أسندتُ رأسي إلى وسادة ملأى بالذكريات، والشحنات المتجمّدة في سواقٍ شرَّدها الجفاف، وقهرتها فؤوس الفلاحين، وشوَّهت فضاءاتها "كاسيتات" المطربين، وفضحت أسرارنا الهمسات والرغبات والوصايا، فنضبت مياه الذاكرة، غارت في حَلْق الأرض، ونسيت محبَّتنا وعشقنا لها ولدروبها.
كنتُ ألتقط شذرات باردة، حمقاء، تعصف بلوثات النسيان. وحينما تحضر أمامي صورة وجهها، وتتراقص بغضب تعابيره المتأفّفة، تصعب عليَّ قراءة سرّ أنفها الصغير، وسفحيه المنحدرين إلى غمَّازتيها. أنف صغير شامخ، أبيّ، يرتفع قليلاً نحو الأعلى، فتسمو به ومضة جمالية متأهّبة للانقضاض في أيّة لحظة انسيابية على غُصن مقاوم، لكنّه سَرْعان ما ينحني بخشوع.
حاولتُ ممارسة سياسة الإقناع بمبدأ الحوار، الذي قرأت عنه في الصحف والبيانات. حاولتُ أن أتلو عليها أسئلتي بطريقة سرية جدّاً. وعندما تكتشف ما كنت أُخبّئه، تهزّ كتفيها، غير راضية عن هذا الإعلان. كانت تقول: (كلَّما وجدتُ الوقت المناسب، أخرج معك إلى شارع الصمت). تُطلق رأيها، تبدو في جمال هدوئها رائعة، ساخنة. أخاف عليها من نسمة باردة تلفح وجهها، وتقهر أنفاسها الدافئة، المتصابية.
أقرأ في نفسي قدرتها على التضحية. أعلم أنَّها لا تحرم نفسها من إغفاءة بعد الظهيرة التي لا تُضّحي بها إلاَّ عندما أُهاتفها، فتُسرُّ، وينتفخ وجهها، ويلمع، يُصْدر تموجات مغناطيسية، تجذبني نحوها، فأقيّد الوجع الدَّاخلي، أتأبَّط ذراعها، ونمشي في أقرب شارع يطمئنها على ذكريات طفولتها ومراهقتها، تحت زخَّات المطر. تلتصق بجسدي كلّما حاولت الريح دفعنا إلى الخلف.
قالت: أكره الحوار مع الرجال.
قلت: لماذا؟
أجابت: لأنَّه لا يهمُّني! ولست مسؤولة عن فشل الحوارات.
هذا مبدأ العصر، و"موضة" جديدة ملأت البيوت والمؤسسات والإعلانات والصحف والمنتديات.
كلّ جنس يتحاور مع جنسه... هذا التقابل بين الذكورة والأنوثة، هو تلاقٍ بين جسدين ولذتين فقط، فاترك رؤوسنا فارغة، ولا تُحمّلني أكثر من قدرتي.
توقفتُ عن الهذر. صممتُ أن أُلغي هذا اللغط الاستهلاكي، رغم إيماني الكُلّي بأنّهُ أقصر الطُرق لتحريك العقل، ونقل كلّ ما يختفي من الدَّاخل إلى الخارج، ودون أدنى شكّ بشفافية عصرنا.
هزَّتْ رأسها رافضة بقوّة استمراري بالكلام. وكلَّما حاولتْ الإفلات من يدي، شددتُها نحوي، فتبتسم راضية، ويخرج زفير أنفاسنا الشتائي متهالكاً. أفرح لأنَّ حرارة الحوار تلاشت، وخفَّ توهّجه، بعد أن ردعتني بأجوبتها، فانخفض منسوب الكلام إلى أدناه، وارتفع جبل الصمت، وتسلَّقت ضحكاتنا دروبه الصخرية، بينما كُنَّا نفتّش عن طاولة في أول "كافتريا" قبل أن ينعطف بنا الشارع إلى جهة أخرى.
كعادتي أزحت الكرسي، وكان آخر ما أملك من طقوس الذَّوق والاحترام، فأحسَّتْ بالكبرياء والنشوة. تحوّلتُ بعد أن تقابلنا حول الطاولة إلى رجل بليد. خبَّأت الكلام الجميل، ربّما كنتُ أحوج في هذه الساعة إلى مراجعة لنظريتي "المستوردة" التي عَبرت الحدود واجتازت كلّ المخافر ونقاط التفتيش.
كانت أمل تحترق ببطءٍ، وهي المتشوّفة، الغيورة. وبين لحظتي صمت وقهر، كنت أُعيد النظر إلى أنفها، وتحضر أمامي أنوف عائلتها، وما أعرفه من أعمامها وأخوالها.
توصلتُ في النهاية إلى أنَّ أمل ورثت أنفها من عمّها، علماً أنّها تعرفه بالصورة، فهاجر الرجل وهي طفلة، لا تتذكّر إلاَّ أنّه كان مديراً لأحد المصارف، وقرأت الخبر المنشور في صحيفة محلية، لا يزال والدها يحتفظ بها. وعندما كبرت، وأصبحت في الجامعة، في قسم اللغة الإنكليزية، تفهَّمت ما يدور حولها، وهي ابنة الموظف البسيط في شركة "الكبلات".
عادت ذاكرتها تتحرَّك في دائرة واسعة. لعنت ساعة التخرّج والتدريس وهذا الانسحاق أمام موجة عارمة من القرف والضياع والتقهقر الروحي
بين الناس.
كانت كلّما دار الحوار بينها وبين زملائها، قبيل الولوج إلى المدرَّج، تفطن بذكاء، تستمع بإصغاء إلى عُمر الذي ينطّط مفاتيح السّيارة في كفّه.
تتذكّر سهام صديقتها الوديعة التي انقلبت بين ليلة وضحاها إلى فتاة أخرى. رفعتْ أمل رأسها. ارتشفت قهوتها، رفعتُ رأسي، وارتشفتُ أيضاً ما تبقّى في فنجان القهوة. تقابل الوجهان في هذا الفضاء الضيّق، وفي هذا الزمن المقتطع من مشوارنا، ومن حياتنا، الذي ينبغي أن نستثمر كلّ دقيقة منه.
تنفَّستْ أمل بعمق. خرجت من صمتها. تأفّفت كأنَّها تُمثّل مشهداً. وتعتصر ذكرياتها، بينما كنتُ أفتح لها درباً للحكي.
سألتها: هل تريدين أن تأكلي أيَّ شيء يُذوّب المرارة، ويرطب حلقك؟
لم تكترث لسؤالي. قالت: سأبدأ أولاً ولو أنّني ضلع من أضلاعك، علماً أنَّها، تعرف أنَّ الكذبَ والغشَّ صديقان قديمان، يعودان إلى مستنقع آسن، وكلّما انتهى عقد الصداقة بينهما، يجدّدانه على ورق أبيض ناصع، وحبر من هذا العصر، يُطلق عليه أصحابه "العقد الاجتماعي". ووصل الأمر أنَّ الكذب تحوَّل إلى عادة جميلة، يكتسبها الناس بالتدريج، وتغلِّف الصِّدق بقشور الجوز، وتعفَّن. وكلَّما كسرت غلافاً، ولامس الصِّدق الهواء، تفتَّت قطعاً ونتفاً صغيرة، وتبعثر على الأرض كالبذار، والناس ينتظرون المواسم، والجفاف يزداد، وتنحبس الأمطار، وتتقلَّص الفصول، وتتبدَّل النفوس. وهذه التحوّلات والانقسامات والاصطفافات، هي من صناعتنا، ولم تأتِ عبر الحدود. وبالعكس كلَّما ازداد الكذب، وغاب الصّدق، تراجعت الحقيقة، وذبلت أوراق الحُبّ. وتقابلت الأغصان المُحمَّلة بثمار، تُحقن بالإبر كي تنتفخ، وتتحوَّل بقدرة قادر إلى أصناف من الدرجة الأولى، يصفُّها الباعة في الواجهات، ويرتِّبونها حبَّة حبَّة، وهكذا إنسان هذه الأيام، لا تعرف كذبه من صِدْقه. فعندما يكذب الموظف أمام مديره، يفرح المدير، لأنّه يكذب أمام رئيسه.
وكان عمّي رجلاً كذَّاباً من الدرجة الممتازة، وهو الحاصل على إجازة في إدارة الأعمال من جامعة دمشق منذ ربع قرن، وهو الذي كذب على أبي، ودفعه إلى العمل مُبكّراً بعد حصوله على الشهادة الثانوية العامة، في معمل "الكبلات"، وكان يقدّم لـه كل ما يحتاج إليه من كتب وثياب ومصروف، مُطْمئناً أنّه سيقابله بالمثل، ويُعطيه مقابل ذلك حصَّته من الأرض.
فرح والدي لأنّه سيصبح مالكاً، فهو رجل يحبّ الأرض، وهو الذي وقف في وجه جدّي عندما همَّ ببيعها. مات جدي، وبقيت الأرض، ثمَّ فقدها بلحظة ابتهاج، فباعها عمّي ليكمل دراسته في أوربا. وكان قد حوَّل ثلاثة ملايين ليرة من المصرف التجاري الذي يعمل فيه مديراً إلى أحد البنوك الأوربية.
وجَّهتْ أمل سؤالها قائلة: كيف أبدأ الحوار معك؟ الآن أريد أن أحاورك. أريد أن أعرف مصيري ومصيرك في أجواء تتفحَّم وتزداد غَلَساً ورعونةً.
قلت لها: فكرة واحدة أثارتك إلى هذه الدرجة، لكن أشكرك لأنَّك أعطيتني فرصة صغيرة، أو أنَّكِ فتحتِ كوّة في جدار العبث، وغليان النفوس، وعدم القدرة على إصلاح ما خرَّبه عمُّكِ، وكيف استطاع خلط الأوراق مع والدك، والنفاذ عبر مسامات الكذب. وتحيَّن كلّ الفُرص للفوز به وقهره وتركه ينتظر مشاريع المستقبل التي وعده بها... وتركه يتخبَّط في أحلامه.
كيف تراني أتحاور معكَ على بناء كذبة جديدة! ألا ترى أنَّ كلَّ السلال مملوءة بالفواكه والخضار المغشوشة! ألا ترى أنَّ أجمل التفّاحات وأكبرها تغطّي وجه الصندوق هذا هو الظاهر، المكشوف، وما يختفي تحت أفكارنا الجميلة، كالتفَّاح المصاب بالجرب، فأفسده السَّماد والدّواء، وكبَّر أحجامه، وخلَّصه من المذاق اللَّذيذ.
مذاقاتنا وأفكارنا أصبحت مهووسة بالكلام، في ظلّ فراغ الأمكنة التي أخلاها الصِّدق، وعدم الأمان لهذا الزمان، وما يعتريه من شرذمة وعزلة ويَباس.
لا تعرف أمل أنّني شاب مشتّت الأفكار، تتنازعني في مدٍّ وجزر أمواج صاخبة، فأعتلي موجة، وتهبط أخرى إلى القيعان. ورغم ارتطامها بالشاطئ، لا أصحو من وهج القرف الحاصل في كلّ شيء. فالهواء أُفْسِدَ، وزحف الأسمنت، والتهمَ جمال المدينة. لم أعد أملك القدرة على استيعاب هذه الدفاتر المخزونة في ذاكرة عائلتك، فتثلَّج صدري، وانغسلت مسامات يدي بعرق يدك.
انتفضتْ أمل، وسحبت يدها كأنَّ نَحْلة لسعتها، أو أنَّ أصابعي اللَّجوجة نتفت أرياش إلحاحها المتعاظم، فرشقتها بابتسامة، لأنّني أعرف أنّها تحبّ الابتسامات الخفيفة اللّماحة، وتكره الخشونة.... تعرف مهنتي طبعاً، فما زلنا منذ ثلاث سنوات نُدرِّس في الثانوية نفسها، وشدَّنا خيط التقارب إلى هذا الانسجام الذي يُغطي يومنا ويظهر عدم الانسجام أحياناً، حينما نختلف على قضايا أعدُّها كبيرة. أمّا الأمور الصغيرة، إذا توقفتُ عندها، فسَرْعان ما ننساها بعد فنجان قهوة "سادة". دائماً كانت تؤكّد على مظهري الخارجي. وكنتُ أُراعي شعورها، وأوافق على الألوان التي تختارها. وهذا أحد أبرز نقاط التقاطع والتلاقي والانسجام بيننا. وكانت تتقبّل مشورتي واقتراحاتي، بتبديل أحمر الشفاه، أو لون الحذاء والشَّال، وموديل الثياب، والتخفيف من وزنها، لتظهر أناقتها، ورشاقتها أكثر.
وفي هذا اللقاء الذي تكرَّر كثيراً، بخاصة في أماسي العُطل الأسبوعية والرسمية، حاولتُ قاصداً إثارتها. أردتُ أن أُجرّبها، لعلَّ التجربة تدلّني على اكتشاف مخزونها الدَّاخلي، ودرجة الغضب عندها.
قلتُ: هل تذكرين عندما كنتِ برفقة سهام، وأوصلكما عُمر إلى ساحة "الإطفائية" بسيارته. ونزلتما هناك عند محال "البالة". ومررتُ بجانبك، لكنّك لم تنتبهي إليَّ. وكانت سهام تختار ما يناسبها من القمصان، وكنتِ تقلّبينها بين يديك.
سحبتْ أمل محفظتها بغضب بعد أن استمعت إلى هذا الخبر، كأنّها تريد الانقضاض عليَّ. وازداد غضبها وغيظها حينما لمست أصابعي قميصها الزيتي.
كررتُ إثارتها، وقلت: رائحة البالة تعشّش في القميص. ثمَّ قرَّبتُ طرف معطفها الجلدي من أنفي، وأظهرتُ تقزّزي، وقرفي!
ظلَّ الصمتُ يُمزِّق انسجامنا، وازداد خوفي. أحسستُ أنّني أثقلتُ عليها كلاماً لستُ بحاجة إلى البوح به الآن، وفي هذا الوقت بالذَّات. أنا مثلك تماماً تمتصُّ الأيام العشرة الأوائل من الشهر كلّ راتبي، فلا تحزني... انظري إلى قميصي، وربطة العُنق، وهذا الحذاء اللَّماع، كلّها ابتعتها من دكان أبي قيصر، جارنا الذي كلَّما فتح "بالة"، أوَّل ما يحسب حسابي، فيعزل لي القطع الجيّدة، وكذلك يتعامل مع الجيران، ويتردّد على دكانه زُبُن كُثُر.
ـ 2 ـ
اختلط الفرح بالخوف في تلك الليلة. وكلّما قطع الزمن ساعة، كان يُقَرّب موعد زيارتي لأهل أمل. وفي هذه الزيارة النوعية، سأتعرَّف على والدها، وأطلب يدها منه.
انشغلتُ بالقراءة، وتسجيل مذكّراتي، لعلّ ذلك يخفف ارتباكي. هجستُ بأمور المستقبل، ورتَّبتُ الكلام المناسب حين مواجهته.
كانت البداية الأولى لإعلاني المكشوف عن حُبّ أمل من أصعب الولادات الروحية. وهذا اليوم بالنسبة لي يختلف عن بقية الأيام.
اعتدت أن أفتح النافذة صباحاً، وأستقبل الشمس فرحاً، وأشرب القهوة في الشُرْفة المُطلّة على حديقة صغيرة مهجورة. وفي هذا اليوم "عُطْلة رسمية" استرخيت في سريري. اكتفيت بتكرار الأسئلة الدائرة في رأسي، المتغلغلة في قصص قديمة، تحكي عن الخوف الذي يربكني، فأنا أكره زيارة الأقبية والبيوت التراثية الواطئة. أحاول دائماً أن أتجاهل الأحياء القديمة وزواريبها، وأخالف كلّ الذين يدعون للحفاظ عليها، رغم أنّها واسعة، فسيحة، غرفها كبيرة، وسقوفها عالية، لكنّها تضجُّ بالناس وتعدّد العائلات...
أعود إلى السؤال الذي أرهقني: ماذا سيحصل في مساء هذا اليوم؟ هل يا ترى تكون أمل نهضت من نومها باكراً، وفي الموعد ذاته؟ وهي الأنثى الوحيدة في المنزل تعيش إلى جانب والدها الأرمل منذ عشر سنوات، وأصبحت بالنسبة إليه كظلّه، وكلّ شيء في حياته!
رجل في الثالثة والسّتين من عمره. تقاعد من عمله. يقضي معظم أوقاته في مقهى المتقاعدين. أمَّا أمل المدرّسة لمادة اللغة الإنكليزية، فهي المسؤولة عن نظافة المنزل وترتيبه وغسل الملابس وكيّها، وعن الطّبخ وسواها من الأعمال البيتية. كيف سيتخلَّى عنها، وبهذه السهولة يتقبَّل فكّ هذا الرباط! أتصوّر أنّه سيعقّد الأمور، وسيلزمني بشروطٍ قاسية يمكن أن تدفعني مُكْرهاً إلى الإحجام عن هذه الخطوة أو تأجيلها، علماً أنني أصبحتُ في الثانية والثلاثين، وأملك بيتاً متواضعاً، وراتباً شهرياً، وأعيش وحيداً. وهذه أحد الأسباب الموجبة، لاندفاع أمل نحوي، فلا حماة تناكدها، ولا أخت عانساً تراقبها، ولا أب يحاسبها على كلّ حركة تقوم بها. كل الشروط التي حدّدتها أمل متحقّقة، قبل أن نخطو خطوة واحدة. كنت صريحاً معها، فأنا في سنٍ لا يسمح لي بالتلاعب بعواطف الناس، فهي تريد أن تكون حُرّة، ومن حقّها أن لا يزاحمها أحد في بيتها الزوجي.
دار حوار طويل في لقائنا الثاني حول هذه النقاط، ومسائل أخرى، عن (مفهوم الحرية) مثلاً. اختلفنا من حيث الجوهر، واتفقنا على القشور. وكلّما حاولتُ نزع قشور البصل التي تُغلّف مفهوم الحرية، عادت من جديد، واستعادت موقفها القديم في النقاش الحامي، الذي كان يدور في غرفة المدرّسين. وكانت الآراء تتعدّد وتتباين. منهم مَنْ يقول: يولد الإنسان حُرّاً، لكنَّ الإنسان نفسه هو الذي يفرض القيود على حريته، فيسنُّ القوانين. ويقول آخر: الإشكالية في الأنظمة، وفي الغزو الثقافي. وقالت مدرّسة: الحجاب أفضل حلّ للمرأة، والمرأة مُلك للرجل... مكانها البيت، وينبغي أن تظهر بمظهر لائق، وتتبرّج أمام زوجها فقط، لإغوائه، وإبقائه قريباً منها، وكي لا يلتفت لغيرها، فهو المالك الوحيد لهذا العقار الأنثوي.
كانت أمل الأكثر قُدْرة على استيعاب "الموضة" التي تعدُّها جزءاً هاماً من حرية المرأة، والحرية كما تراها تبدأ من الخارج نحو الداخل. وخالفتها مدرّسة الرياضيات، قائلة: على العكس، تبدأ الحرية من الداخل فهو معقّد جدّاً، لتصل إلى الخارج، أي تبدأ من انفتاح العقل، فهنا القيادة المركزية لكل العمليات، وفي كلّ أوقات الحرب والسلم.
أوضحت أمل أنَّ المسألة الجوهرية هي في القوانين التي تقيّد وتكبّل المرأة، بينما الرجل الذي تكبّله بعض القوانين، والعادات السّيئة، المسكونة فيه، تُحبط كلّ طموح ومسعى للإلغاء أو التعديل، لكنّه، أي الرجل، يظلّ أكثر حرية من المرأة، فيخرج، ويعود، ويتنقّل، ويتحرَّك متى يشاء، بينما ما يحصل للمرأة أسوأ بكثير!
سكتتْ تداعياتي. توقَّفت عن الجريان واستقدام مقطوعات قديمة من حكايات أمل الاستهلاكية، ومواقف الآخرين والمراوغين أصحاب الوجوه المتعدّدة... الشيء المهمّ الآن، والأكثر صعوبة وتعقيداً، هو امتلاك الجُرأة، وتبديد الخجل الذي يعتريني أحياناً، ويمنعني من الإدلاء بموقفي. وهذا ما كان يحرمني من قول رأيي، وقول الحقيقة، عندما تجتاحني الرغبة في منع مَنْ يحاول أن يُدبّج كذبة، ويمرّرها بسهولة، ويدّعي مفتخراً، ويقول: إنَّ الكذب هو الشيء السائد اليوم، كما الشعار الذي يتردّد دائماً (بوس الأيدي ضحك على اللّحى).
أفرغتُ جُعْبة أفكاري الزَّاحفة في فراغ لا نهائي. أقنعتُ نفسي بأنَّ الهدف الرئيس الآن هو إنجاز مهمتي دون عراقيل كبيرة، حتى وإن طلب العمّ عبد الله والد أمل أن أكون "صهر بيت" نسكن معاً في منزل واحد، سأتقبّل الأمر بارتياح وهذا شرط من أبسط الشروط وأسهلها، عندئذٍ سأكلّف مكتباً عقارياً بتأجير بيتي إلى عائلة خليجية، واستثماره كلّ صيف، وبذلك يزداد دخلي، ويتحسَّن مستوى حياتي، وأتخلَّص من ديوني المتراكمة، والمزاحمة على القروض من مصرف التسليف الشعبي، لاستكمال تجهيز غرفة النوم، وتأمين تكاليف الزواج.
تنازعني أمران أحلاهما مُرّ، فمن جهة أخذ القلق يتمشّى بحرية في شراييني، كأنّه يستحمّ في دمائي، ولا أملك القوة على مواجهته، وكان الخوف يكشّر عن أنيابه، يرنُّ نباحه في أُذني، فأكتم أنفاسي، ريثما تتطاير الأوراق الصفراء، وينتهي خريف هذه الزيارة بأقلّ الخسائر من جهة أخرى.
حدثت تبدّلات جريئة، فخفت صوت اضطراباتي، وأنا أغلق الباب، وأنطلق فرحاً إلى الشارع أبحث عن سيارة أجرة للوصول في الموعد المحدّد، وهذا سيخلّصني من تشتتي، والبلبلة التي عصفت بي، ومن أول الطريق سأكون صادقاً. فالمواعيد الدقيقة هي مقدمة صحيحة، للمقولة الدارجة، بأننا لا نحترم الوقت. سأخالف آراء الناس، سأكون دقيقاً وصارماً مع الزمن.
ـ 3 ـ
رَوت لي أمل بعد أن انتهينا من شرب القهوة، وأحضر النّادل كأسين من عصير البرتقال، وتحوَّل الحوار من السخونة إلى البرودة. وتدخّلت العواطف والكلمات الحميمة الدَّافئة.
قالت: أعرف قصَّتك، قرأتها في كتاب التطور التاريخي للمجتمعات البشرية.
دفعتْ شعرها إلى الخلف، وظهر وجهها البلّوري أكثر صفاءً، غابت بعض التجاعيد الخفيفة عن جبينها.
أنتَ في وادٍ، وأنا في وادٍ. أين ذهب ذهنك يا رجل، وليس الأمر كما تتصوَّر إنَّ قصة الطبقات هذه، غير قصة تاريخ الطبقات.
سألتها: ماذا تقصدين من هذه التسمية يا أمل؟
إنّها طبقات الكذب، والكذب كما تعلم لا يشكّل طبقة واحدة، متجانسة مثل الطبقة العاملة، فهو يتعدّد ويتلوَّن، ويترقّى من أدنى درجات السلّم إلى أعلاها. والكذاب الشاطر المحترف، الانتهازي، يحقق النجاح في التسلّق قبل الكذَّاب الجبان، الخائف على ريشه من النتف السريع. وهناك طبقة الكذب المزدوجة، أو الشخصية المزدوجة، التي يتنقّل صاحبها بين طبقتين. فمرّة يحمل صفات هذه الطبقة، ويعدّه "عمّي" ابناً حقيقياً لها، لأنّه سرعان ما اندسَّ في صفوف الحزب، علماً أنّه، كما يروي والدي، كان قبل أن يصبح مديراً لأكبر مصرف تجاري في البلاد، أي عندما كان على مقاعد الدراسة، يدّعي أنّه كجدّه، بعظمه ولحمه، يحمل ملامحه الآسيوية. دخل البلاد مع إحدى القبائل المهاجرة.. هكذا كان يردّد عمّي في جلساته وهو يقرأ أصول وفروعها. شجرة العائلة. وكان يُمازحنا لأنه في الحقيقة لا يعرف أصولنا الحقيقية، لكنَّ الاسم يوحي لنا بأننا من "حرمون".
رجل طويل، يضفي شاربه شيئاً من الهيبة والصرامة، يميل لون عينيه إلى الاخضرار. مرّة كما يقول والدي: (يعكس صورة الأجنبي الذكي، ومرّة تكسو البساطة شكله الخارجي).
وكلّما تمعّنتُ في تفاصيل صورة قديمة لـه، وهو في السنة الدراسية الأخيرة، وقبيل تخرّجه، أتذكّر مدى الدهاء، وحبّ السيطرة والجشع، اللّذين يبدوان أنّهما صفات موروثة، غير مكتسبة، بعكس البساطة والودّ، فهما يشكلان أصالة والدي.
يمكنك ألاَّ تقلق من حديثي، وتتصوّر أنّني أدفعك إلى الحقد على عمّي "عطا". لقد انتهت قصّة العائلة، وما حدث قد أصبح من الماضي. ولا نواجه مشكلة الآن، فالأمور تسير بهدوء، ولا مَنْ يُعكّر صفاءها.
تيقّنت أنَّ أمل لا تكذب. كانت تحاول أن تفلسف درجات الكذب وتماهيها مع الواقع. أتخيّل أنّها تسترشد بوصايا أُمها "المرحومة" لأنّها تكرّر وتُعيد أقوالها كأنها فيلسوف عصرها، ولا تذكر قولاً لأبيها.
وعندما توقفتْ عن الحكي غير المجّاني في معظمه، بدا الحزن يشرب حُمْرة خدّيها، فأمسكتُ يدها، ودلكتها بين كفّيَّ. كانت باردة على الرغم من اعتدال الطقس الربيعي. وشجعتها للتخلّص من أفكارها واستطراداتها المبللة بعبق عتيق، مصاحباً بالتوتر، والبوح بعجالة.
قلتُ مواسياً: كلّ الناس هكذا... الكثيرون يكذبون، ويسوّغون كذبهم، لكنهم يطلقون عليه "الكذب الأبيض".
هل تُصدِّقين أنَّ هناك كذباً أبيض، وكذباً أسود؟
الكذب هو الكذب لا يتغيّر، لكن هناك كذبة صغيرة، وكذبة كبيرة. فعندما كنت طفلاً، وعمري خمس سنوات، وهذا من المؤكّد حصل معكِ، ويحصل مع كلّ الأطفال. مددتُ يدي إلى محفظة أبي، وسرقتُ ليرة سورية. وكانت آنذاك مبلغاً مرموماً، بالنسبة إلى طفل. لاحظت أُمّي أنّني أكرر زياراتي إلى دكان أبي بشير. وحينما اقترب موعد الغداء، استلقيتُ على سريري. أغمضتُ عينيَّ لعلّي أغفو، ففشلت محاولاتي. ورفضتُ نداء أُمّي لتناول الطعام.
تعرّضت مساء إلى مساءلة صعبة، بعد أن خرج والدي مع أحد أصدقائه. ارتبكتُ في الإجابة عن أسئلة أمي، ثم اعترفتُ لها بالذنب الذي اقترفته. وما زلتُ أتذكّر أنّها لم تضربني. ابتسمت أُمّي، ونبهتني، وحذرتني من تكرار ما قمتُ به. قالت: (السارق يا بُني تقطع يده. وإذا كرر السرقة يقطع الشيخ لسانه. أي العين بالعين والـ....).
بلتُ على ثيابي من الخوف. وسال خيط الماء على البلاط. تركتُ أُمّي وأسئلتها ووصاياها وهربتُ مسرعاً إلى غرفتي، ندمتُ على ما قمت به. وتعهدت في نفسي ألاَّ أكرر السرقة ثانية.
كنتِ تريدين أن تقولي إنَّ عمك سرق الأموال، فهو لصٌ كبير، والسرقة كما تلاحظين رافقت الإنسان. ويكذب السارق إذا تعرَّض للمساءلة، وحتماً سيقول: (ورثتُ هذه الأموال من أبي أو عمّي الغني...) ويمكن أن نسمّي هؤلاء (سارقين وكذَّابين)! وعمك كذب كذبة كبيرة... وكلّ شيء لـه حسابه.
أقول لك إنَّ حبل السرقة، كما هو حبل الكذب، قصير جدّاً، لكن عندما تتكاثف وتتضخّم تلال السرقة، تتحوّل إلى قضية كبيرة. ألم تقل لك أُمّك (الذي يسرق إبرة يمكن أن يسرق جملاً).
أشرقت الابتسامة. وكان النُّور الهابط من سقف "الكافتيريا" يعطيها ألواناً برتقالية، بلون العصير..
أكَّدت أمل كلامي. قالت: الحقُّ معك. يجب علينا أن نميّز بين الكذب والسرقة، وبين السرقة الصغيرة والكبيرة، وبين الفساد والإفساد، وما حصل معك عندما نشلت ليرة من محفظة أبيك، حصل معي أيضاً، لكّني سرقت نصف ليرة من محفظة أُمّي، واشتريت بها أحمر الشفاه، فتورَّدت شفتاي.
تضاحكتْ أُمّي وهي تراقبني، وأنا "أَتَغَنْدر" أمام المرآة. رَّبتتْ على كتفي ساخرة (الله يكبِّرك يا بنتي، لاحقة على الغندرة. أنتِ جميلة بدون هذه الصبغة... عمري خمسون عاماً وربيّت كل أولادي، ولم أصبغ شفتيَّ وأتغندر إلاَّ في ليلة زفافي...).
سألتْ أمل: هل تعرف الحكومة كلّ السَّارقين؟ وكيف تسكت عن مثل هذه الجرائم، تشمُّ الحكومة يا حبيبتي تلك الرائحة الكريهة، فأنفها يستنشق كلّ هواء البلاد، ويملأ زفيرها كلّ الأماكن الرسمية والشعبية. والدليل على ذلك ما تنشره يومياً الصحف المحلية، لكّنها تكتم أسرارها عنّا. كلّ دولة من دول العالم لها أسرارها الخاصة. والسرقة الكبيرة هي سرّ كبير، والصغيرة هي سرّ صغير، سَرْعان ما يظهر في أعمدة الصحف. ألم تسمعي، فمنذ أيّام فاحت رائحة شركة "محروقات"، وسرقت إحدى الموظفات أكثر من مليار ليرة، وهربت، لكنَّ الحكومة رأت أنها تسرق دفء المواطنين وتعويضات التدفئة، فلاحقتها وأعادتها إلى البلد، وقرأت السَّارقة قصّتها، وقصص الذين اشتركوا معها، وكلّهم شخوص رئيسة في هذه الرواية.
أية رواية؟
رواية من القطع الكبير، عنوانها "السرقات".
إذا قُدِّر لك أن تسرقي الحُبّ من قلبي، فأين سأحاكمك؟ وفي أية محكمة؟
إذا تمَّ ذلك، ونجحتْ خطّتك، فأين تخبّئين المسروقات؟
وضعتْ أمل يدها على قلبها. قلت: إنّه مكان آمن، مُحصَّن، لا أحد يكتشفه بسهولة، وهذه ثروتنا، علينا ألاَّ نبدّدها، أن نحافظ عليها كي لا تخرج مشوَّهة. والحُبّ المشوّه، مولود مَعوق يعيش حياة ناقصة بين أترابه الذين ينظرون إليه نظرات الشفقة، وأحياناً يسخرون منه، فينفر منهم، ويبتعد عنهم، ينزوي بعيداً في باحة المدرسة، وفي أمكنة اللّعب، خوفاً من تشويهه أكثر.
في هذا اللقاء شعرتُ أنّني في أفضل حال. تطابقتْ آرائي مع آرائها. وهذا إلى حدّ ما يساعد على إعادة تشكيل صيرورتنا وتماهينا، وهو من جانب آخر، وفي تصوّري، إذا استمرَّ هذا الاندماج عن دراية ووعي، سيكون صائباً. وإذا ظهرت بوادر خلافية مع المحافظة على هذه الصيرورة، فهو الأكثر قدرة على الاستمرار والديمومة.
أثنتْ أمل على صحّة هذه الفلسفة التي تسمعها للمرة الأولى، لكّنها عارضت كيفية صياغتها بهذا الشكل. تبلور عندها مفهوم آخر. تحوَّلت إلى امرأة من نوع آخر في نظري، عندما شرحت موقفها من "فلسفة الحُبّ" هذا الكائن الخلاّق الذي وصفته بالتجدّد إذا كانت التربة التي ينمو فيها غير معرضة للتملّح. أمَّا إذا كان الحُبّ سلعة رخيصة في سوق التداول، يبتاعه أيٌّ كان وفي أيّ زمان، فهو مُعرَّض لتشكيل أغشية رقيقة، من السهل خدشها بدبّوس، وتنفيسها. ويحدث هذا دائماً بين البشر الذين يدّعون أنّهم جبلوا من طينة واحدة.
رفعتُ يدها بقدسية، وقبَّلتها بفرح. لم تُمانع، وفهمتُ من نظرتها الوديعة أنّها تذكّرني بموعد زيارة أبيها، كي نستكمل مشروعنا وفلسفتنا، لأنَّ مشروعنا مُكْلف من الناحيتين المادية والروحية، وتحتاج فلسفتنا إلى تفسير وشرح لأركانها، والأعمدة التي سينهض عليها هذا البناء.
تستحقُّ هذه الجلسة التسجيل في "كاسيت"، فقد أمتعتني أمل بجمال حديثها، وهذه القدسية النّورانية، والإلحاح المسحوق تحت أقدام مشاعرنا، المشدود بخيوط من الحرير المقدّس، المكرّس للنذور على جدران مقام السّيد المجهول الاسم.
أحسستُ أنّني في زيارة لأَفي نذوري بدون لهاث وقهر أو ندم. إنَّها تَشْغل تفكيري، وتَدْخل إلى قلبي بعاهاتها. تدسُّ أتفه الأفكار والمشاريع بين زفيري وشهيقي، فيخرج فساد روحي نظيفاً من الغشِّ واللعنات.
طوَّقت ذراعاي عنقها. دسستُ أنفي في شعرها الأسود النّقي، الصافي، فاحترقتُ، واشتعلتُ من الدَّاخل، وهي تشتعل أيضاً، ويتأجّج اللَّهب في جسدها، فعجزتُ رغم مقاومتي، وصبري عن إطفاء حرائقنا. تراجعتُ وتركتها تُصلح ما خرَّبته أناملي.
نَظَرتْ إليَّ بعينين ذابلتين. حفظتُ جيّداً ما أكَّدته عليه، ونحن نترك "الكافيتريا" خلفنا. نترك دفئاً، وجيشاناً، ولهاثاً، ظلَّ أسيراً تحت سقف صدرينا. ولا يمكن أن أنسى ما أوصتني به. سأكون عندها مساءً، وأبدأ ببناء فلسفتنا الجديدة!
ـ 4 ـ
رغبتُ في السَّير على الأقدام. قلتُ: جميل مساء دمشق في هذا الفصل من عام 1990. سأنطلق من بيتي الكائن في آخر شارع هاشم الأتاسي. وعندما أصل الدَّوار. سأتجه نحو اليمين، ثم أنحرف شرقاً، وسأصل إلى حيّ العمارة بعد نصف ساعة.
دارت هواجسي دورة واحدة، ونحن نترك "الكافتيريا" خلفنا ليلة البارحة، ونقطع "ساحة التحرير"، وننحرف بعدها إلى اليمين، وتكون على يسارنا "محطة الجدّ" للمحروقات.
دفعتني أمل، وهي تتأبّط ذراعي، فدخلنا زقاقاً طويلاً مستقيماً، سيلفُّ بنا إلى دمشق القديمة. توقفنا قليلاً عند بائع عرانيس الذُّرة، واشترينا عرنوسين...
قالت أمل: لا تنسَ الموعد غداً، نحن بانتظارك!
قلت: كلّ شيء في كفَّة، وموعدنا في كفَّة... سيحتل مكانة خاصة، فكوني مستعدة لأي طارئ، وأية تبدلات في موقف أبيك.
تركت أمل تلج مدخل بيتها في الساعة التاسعة مساء، عدت إلى منزلي مُحمَّلاً بتباشير الغد، وأحلامه.
أطفأت الأنوار. فتحت النافذة المطلة على الحديقة كعادتي، التي أصبحت مأوى للسكارى والمشردين. أشعلتُ سيجارة. بدأ الفأر يلعب في عُبّي. مزقتُ من ذاكرتي المخطط الأول لبرنامج الزيارة. صححتُ خطّ السير، ونقطة الانطلاق والوصول. وكان همّي الأكبر هو كيف سأواجه العم عبد الله، ومن أين سأبدأ الكلام؟
عادت طقوس البارحة. حضرت طازجة، بكل اختلاطاتها ورونقها وفحيحها وصمتها سمعتُ كلاماً كثيراً عن أبيها، عن طباعه، حياته اليومية، نفسيته، وعن الاحتمالات التي يمكن أن تقف في طريق مستقبلنا... قالت: إنَّ والدها أسرَّ لها ما في أعماقه من أحاسيس... وحاولت بإلحاح ليَقْبل طلبي لأَنّني كما قلت لـه: أحبّه!.
قال والدي: أنتِ تفصّلي وأنا ألبس يا بنتي، لماذا تبكين؟ ومسح دموعي. ثمَّ بدأ يتأمّلني، ويخز روحي بعواطفه. يتساءل: ستتركينني... سأكون وحيداً يا أمل لم يبق لي في الدنيا سواك... لم يبق حولي أحد... أختك تزوجت وهاجرت.. أخوك تزوج وسافر إلى الخليج. لم أره منذ عشر سنوات، وأنت! وأُمُّك رحمها الله تركتني وبكّرت في رحيلها!
تراخت تداعياتي. انتفض شرودي، وبصعوبة لملمتُ أشلاء أفكاري، وتساءلت: أين المشكلة؟ رضي أم لم يرضَ! وافق أم لم يوافق! هي إرادتنا وَحدها... سيوافق حتماً، لأنّه عندما يعرف أنّها تخرج معي، يطمئن عليها، ويُسرّ، فهو إذاً يتابع تفاصيل حياتها اليومية. وأمل أيضاً لا تخبّئ عنه شيئاً، فهي تحترمه وتقدّره وتجلّه، وهكذا تَربّتْ على الصدق، وهي الآن في نهاية العقد الثاني من عمرها، ومدرّسة محترمة، نشيطة، محبوبة من طالباتها ومديرتها، تعي ما تقول. تقرأ الصحف، تتابع بعض الدوريات والروايات العربية والعالمية. أنا أعرف بعض التفاصيل عن يومياتها وسلوكها، ومناقشاتها، وتباين مواقفها في عديد من المسائل مع أبيها وزملائها وزميلاتها. كثيراً ما كانت تلخّص لي مضامين الكتب التي تنتهي من قراءتها، فتسرّني، وتوفّر عليَّ الجهد... علماً أننا نصل بعد المناقشات الطويلة إلى سكَّتين متباعدتين. وتتّهمني بتصلّب موقفي وعنادي، وبأنّني رجل خشن، رغم اعترافها بنضارة شبابي وأناقتي. وفي كلّ مرّة تحاورني، تسمع كلاماً جديداً، وتعترف بأنّها امرأة غيورة، لكنّي لم ألحظ غَيْرتها. وعدتُ إلى ذاكرتي. ألهمتني الفطنة أنَّ ما قالته صحيحاً. تذكرت، ونحن نقطع الشارع في نهايات امتحانات العام الدراسي أنّها تراجعت إلى الوراء خطوتين، عندما سلَّمت عليَّ مدرّسة أقل جمالاً منها. التقينا مصادفة، ونحن ننتظر الإشارة الضوئية لنقطع الشارع وبعد اعترافها بمبدأ الغيرة وعدم التخلي عنه أصبحت أتجنب مثل هذه المواقف المُحْرجة. وعندما انتصف الليل توالدت أفكار جديدة، ظهرت بأشكال وألوان متغايرة عن المألوف. خربشت بطباشيرها على سبورة ذاكرتي وأحلامي، فأنتجت معرضاً تشكيلياً، لم أحسب لـه حساباً بأنَّ لوحاته ستُعرض، بهذه السرعة... اختلاطات هاجسية قَدِمت زاحفة، فضّيعتُ كل حساباتي التي ظلّت تمشي معي وترافقني طوال هذه السنين، ثمَّ تعبر في أضيق ممرٍّ، وفي هذه الليلة، بينما كنت بأمسِّ الحاجة إلى الهدوء، وصفاء الذهن.
أقنعتُ نفسي بأنَّ في الإعادة إفادة. أذهلني انفجار، يبدو أنّه بعيد عنّي، فتسلَّقتُ السُّلّم إلى سطح البناية. كانت ألسنة اللَّهب تتصاعد، تتخلّلها الأدخنة من الجهة الشرقية... تدفعها الرياح القادمة من محطة للمحروقات في منطقة الأزبكية.
بقيتْ أفكاري حبيسة بين جدران الصمت والهدوء المسكون بأنفاس النوم. وكاد النُّعاس يلفظ آخر آهاته، يحثّني على العودة إلى الشاشة الصغيرة.
فتَّشتُ في عديد الأقنية والأقمار. فأنا أوَّلَ مَنْ امتلك "الديجتل" بين جيراني ومعارفي. ومن قناة إلى قناة، وجدتُ فيلماً فرنسياً، سحبني معه من بدايته إلى نهايته. تسمَّرتُ أمام الشاشة كتمثال، وكلّما كانت الأحداث تقترب أو تتقاطع معي ازداد شوقي لمعرفة النهاية.
كانت عشيقة البطل، كأنّها تحكي قصة أمل، قصة تلك الطالبة في جامعة السوربون، القادمة من الريف الفرنسي... الفتاة الحالمة بعالم آخر يخلَّصها من عنف الأب، المتوهج حماقة، والأم الحنون.
قلت بصوت مسموع أخاطب روحي الحائرة: هذه أحوال الدنيا... لكلّ فتاة قصة، ولكلّ حالة خصوصيتها، لكنَّ أمل تختلف بأمور كثيرة عن الفتاة الفرنسية... أنا أعرف أكثر من أبيها حالتها، لقد رافقتها تلك الرحلة التي لم تنتهِ بعد. وأقنعني سفر الحُبّ الطويل، بأنَّ ما يجري في فرنسا، يختلف بمواضع ومواقع عديدة، عمّا يجري عندنا!
الصباح الوردي في هذا اليوم يختلف عن صباحات الأيام السابقة اللَّقيطة، فلا رياح تهزّ نوافذ البيت، وتلقي بأوراق الأشجار في الشرفة، ولا غبار يتسلّل عبر "الأباجورات" إنّه طقس معتدل. تغطي الغيوم جزءاً من السماء، ومن الحي والحديقة... وتختفي تحتها بعض أحلامي، وبعض مفرداتي المكرورة التي لا حاجة إليها الآن. وبين غيمة وغيمة كانت خيوط الشمس ترسل دفأها وحُبّها، ويشرق وجهها أحياناً، يضيء عتمة روحي.
كعادتي حملتُ قهوتي الصباحية. ركّزتُ قعدتي في الشرفة، أنتظر بفارغ الصبر، زوار الأقنعة والقَناعات المتحجّرة. ربّما غشّني المظهر الخارجي لوالد أمل، ربّما هكذا خلقه الله، قشرة متكلّسة، جامدة، جافة، لعلَّه يكون شفافاً.... سأحاول معرفته. أتمنى أن يكون قلبه كقلب طفل، كما قالت أمل عنه، لكنه يقسو عليها يُشْبعها كلاماً قاسياً في ساعة غضبه.
وعندما تكررت هذه الأغلاط، وساءت النوايا، ازدحمت الأسئلة في وجهه، كأنه لم يصدق أنه سيصبح وحيداً! كيف تنقطع هذه النُسغ، ويمرح اليأس والصمت في بيت ظلَّ فترة طويلة يعتزُّ بأُنسه؟ كيف وكيف، ولماذا؟ دفعتْ أمل إلى تجرّع السُّم، ففقد الأب صوابه، غامت أحلامه في أغوار الندم، فاعتذر منها، وهو يصلّي فوق رأسها في المستشفى. حَمَدَ ربّه لأنَّ السّم الذي تجرّعته كان غير كافٍ للموت!
مسح دموعه ودموعها. قبّل جبينها. حاولت أمل ألاَّ تلتقي عيناها بعينيه. أتذكر الآن كيف تركها تسترسل بملذّات الخوف، وخرج وهو يفتّش عن المسوّغات لمواقفه السابقة واللاّحقة، فأرخى ستائر بصره فوق بلاط الممر الطويل، النظيف. حاولتُ ألاَّ أصطدم معه، فلذتُ عنه في زاوية، ودخلت غرفة أمل، أنثر فوقها ورد الكلام. أفتح قلبي لها، علماً أنَّ علاقتنا كانت حديثة العهد، فأسرَّت إليَّ، وفتحت كل النوافذ، وفضحت كل الأسرار، في جعبتها الملأى حتى الطوفان.
لا داعي الآن لنبش الكلام الذي لا يروق لي في هذا اليوم، لكنّي لم أقدر إلاَّ أن أعيد الماضي بلحمه ودمه وعظامه، لأعيد ما عرفته، وما سمعته عن عبد الله، وهي طقوس تتكرر لاهثة، تصطف قبل أن أخطو خطوة واحدة في هذا المساء اللَّعين!...
ـ 5 ـ
قبل أن ينعطف الشارع إلى بيت أمل بمئتي متر، كان مقهى النوفرة يتأجج، كأنّه لوحة مزخرفة من القشّ صنعته فلاحة ماهرة. سيَّاح يتحلَّقون على شكل نصف دائرة. تتشارق أنفاس "المؤركلين"، ثمَّ يسود الصَّمت، بينما كان الحكواتي يتلو بصوته الجَهْوَري قصصاً، سمعتُ بعضاً منها من والدي. حاولت الإمساك ببقية الأجزاء، لكنّها تناثرت كالهبوب.
الذكريات غير مجدية في هذا الوقت. ألقيتُ آخر نظرة. تابعتُ مشواري في زقاق ضيّق. قرأت على الأبواب العتيقة عنوانات المطاعم (ألف ليلة وليلة) ومطعماً آخر أكثر جمالاً، لـه باب واسع، تصعد إليه بوساطة سُلَّم إلى الطابق الثاني. كانت أصوات تخرج منه، وموسيقا وغناء، على الرغم من المادة العازلة التي تغطّي جدرانه من الداخل.
نادلان يقفان يرتديان ثياباً بيضاء، عند زاويتي الباب كأنَّهما تمثالان من الجصين. دعاني أحدهما أن أتفضّل، وهذه عادة متطبّعة في المدينة، ولغة تجارية دارجة، ليس في المطاعم، بل أثناء مرور الناس والسيّاح والغرباء أمام المحال التجارية في سوق "الحميدية". ويسمع هؤلاء كلاماً جميلاً، وترحيباً فائقاً، حتى إنَّ البعض يخجل من كثرة الدعوات المجانية التي تغتصب كلّ الرغبات، لكن الجاهل بأمور المدينة، وحركتها وصخبها، وبالعلاقات التجارية، يغمره الفرح، ويشعر بخلاف ما يسمع، أنَّ أهل المدن كرماء، مثل أهل الأرياف.
وتتغير صورة المدينة في ذهن القروي، ولكن بعد زمن قد يقصر أو يطول، وهو الذي يعرف مُسْبقاً أيضاً أنَّ (ابن المدينة يملك من الشطارة والدهاء، ما يجعل القادم إليها يحسد أهلها، وتبهره الواجهات البلّورية اللّماعة والأنوار الملوّنة والموديلات...).
القادم من أطراف المدن لم يَعْتد على تداخل الأصوات والألحان وروائح العطور. لذلك عندما يعود مساءً إلى قريته يكون مثقلاً بالمشاهد والحكايات والحاجيات، وتكون معدته ملأى بالأطعمة الشّهية والحلوى والشراب وسواها. تتقاذفه الأسئلة، وتعبث بصرره وأكياسه أيدي الأولاد، الذين يفتّشون عن الحلوى والصنادل والثياب المدرسية. وعندما يفشي سرّه إلى زوجته، عن حياة النعيم والعيش الرغيد في المدينة، يشعر أنّه يعيش خلف العالم، بعيداً عن مناطق البهجة والفرح والرفاهية. فالأرض سرقت عمره، وفيها غرس آماله، لكنّها لم تُنتج سوى المتاعب، وانتظار ما بعد سنوات القحط، ونقص الماء، وانحباس المطر. وهذا لا ينطبق على كلّ القرويين، فقد كان بعضهم أكثر معرفة، يزهو مفتخراً بأنه ما يزال يغرس فأسه في أرضه، ويرفض بشكل صارم أن يبيع منها متراً واحداً للتجار وأصحاب العقارات. وآخرون عَلَتْ قاماتهم، ومساكنهم بعد أن كانت واطئة المنحدرات.
وأنا في هذا الوضع، وأثناء مروري في سوق الحميدية الطويل، أتمتّع بجماله وآثاره الصامدة منذ قرون، وأحجاره المتماسكة الرائعة الأخّاذة، بخاصة بعد أن رُمّم السّوق، فكشف عن وجهه الحضاري ـ التجاري الجميل. وفي شماله انفرجت ساحة واسعة، فظهرت القلعة كصرح لـه تاريخ طويل من الصمود، والقدرة على تَحمُّل عاديات الزمن، بسُمْك جدرانها، وارتفاع سورها، وأبوابها وقاعاتها ودهاليزها.
انساقت الذكريات... عادت كأنّها تحدث اليوم، همهمت خيول الدرك الفرنسي في رأسي، وهي تُداهم القلعة وتحاصرها قطعان الفرنسيين، كأنَّ آثار نعالهم، وحذوات خيولهم، ما تزال تختبئ تحت قمصان الأسفلت.
تناسيت كلّ الأشياء الغرائبية في هذا الوقت، ولا أعرف كيف تقادمت ساخنة بهذه السرعة. إنّه المكان الذي يُفجرّ المُخبَّأ، ويدفع المنسي إلى السطح. يفوح بدفء حبيس، مُريح، مهما كان الفضاء ملوَّعاً بأشكال الاغتصاب والاحتراق والتشظّي.
تذكّرتُ حكاية تلك المرأة السّاذجة، الفلاحة القادمة من الجنوب في ستينيات القرن العشرين، عندما خبَّأت صُرَّة الدراهم في عُبّها، ولفتها بقطعة قماش، وخاطتها جيّداً، خوفاً من اللّصوص والنشَّالين، وهي الأرملة التي جمعت قروشها وليراتها، لتوفرها إلى حين الحاجة، والطلب. ومن كثرة ما تلقّت الوصايا والإرشادات من جاراتها اللّواتي أمضينَ عندها سهرة ممتعة، وهُنَّ يتساررنَ. حثثنها على الحرص، وأوصينها بشراء بعض الحاجيات لهنَّ.
دخلت المرأة بشوق إلى السُّوق. شعرت بالراحة. وهي تتفيّأ تحت السقف الطويل المقوَّس، وببرودة منعشة في نهاية صيف قائظ. تبدّلت أساريرها. تيقّظت هواجسها، نابضة، حارة... تمنَّت أن تملك المال بما يكفي لابتياع الأقمشة والثياب، بعد أن لاقت ترحيباً بها من عمال المحال، الواقفين على الرصيف ينتظرون الزُّبُن بفارغ الصبر.
كانت المرأة "الغشيمة" تسلّم عليهم، ولكنَّ بعضهم لا يرد على سلامها. تعجَّبت المرأة من عبث أهل المدن، وسطحيتهم... تندم على تسرّع الحُكم عليهم، تعود إلى بساطتها، وتقول: إنَّهم لطفاء وطيّبون، تتلامح فوق وجوههم علائم الصِدق، وإن كان بعضهم يلوي رأسه عنّي، بحالة قرف واستهتار وتشاؤم.
انتصف النّهار، ولا تزال المرأة تتنقَّل في السّوق من رصيف إلى آخر، ومن واجهة إلى واجهة أخرى، ثمَّ عبرتْ الدخلات المتفرّغة على يمين السوق ويسارها.
لم تبالِ بآلام قدميها ورُكبتيها ووجع ظهرها، لكنَّ موعد انطلاق الحافلة إلى القرية قد حان، وإذا تأخرت ستضطر إلى المبيت في المدينة، وهذا أمر صعب جداً.
حَبَكت المرأة بدهاء، ومراوغة، قصّة رحلتها إلى المدينة. وأصغت الجارات إليها بأذهان صافية، وتشوّق للاستماع إلى أخبار المدينة. وكلّ واحدة تتحرَّق، بل وتشتهي زيارتها، التففنَ حولها، حاولنَ الاستمتاع بكلّ التفاصيل. ضحكنَ طويلاً، وتهاطلت دموعهنَّ، عندما أسرَّت إليهنَّ، بأنّها كانت تُلقي التحية والسلام على مَنْ تراه في طريقها ماشياً، أو في الواجهات البلّورية النظيفة، وأنَّ أحداً من هؤلاء لم يستجب، ويكلّف خاطره، ويردُّ التحية بمثلها. ومازحتهنَّ قائلة: خرج رجل من محلّه، وشدَّني من يدي، ثمَّ من ثوبي، فَمَانعتُ، وصرختُ في وجهه، وتفلتُ عليه، وهَوَت يدي. كدتُ أصفعه، لكنّه تراجع إلى الخلف... وتجمع جيرانه. التفّوا حولي يتساءلون، وكي يُنقذ نفسه من هذه الورطة، اتّهمني بالسرقة وقالت أيضاً: التجار شُطَّار، يعرفون من أين تؤكل الكتف، فينهالون على الضحيّة بعسل الكلام. يعرضون بضائعهم، فاشتريتُ دون أن أدري.
أعلم جيّداً أنّني أُعيد قراءة أشياء من الذاكرة القديمة، لا تخطر على البال. وأكاد أنسى المهمة الشائكة المزمع تنفيذها، والموعد التاريخي الذي سيتقرّر فيه مصيري سأكون مغتبطاً، وفي أوج سعادتي، عندما أصل في الموعد المحدّد، ولا تزال المسافة تحتاج إلى حثّ خطواتي أكثر. ولا أعلم ماذا يُخبّئ لي عمّي من مفاجآت، رُبّما ستكون سارة!
المهمُّ الآن أنَّ ثقتي لا تتزعزع بأمل، وهي كذلك، تملك احتياطاً كبيراً ووافراً من المشاعر الصادقة، والرؤية الواضحة.
سأحصر تفكيري في فضاء ضيّق، سأبعد عنّي الهواجس الضَّارة، فيما تبقّى من أمتار، فالزّقاق يلتوي نحو اليمين واليسار، وأنا أتجنَّب بائعي الخضار الذين يدفعون عرباتهم ويسوّقون بضائعهم، ويلحّنون بأصوات رنّانة، وهم يتقاطرون وراء بعضهم.
ملأتْ أنفي روائح الفول النابت، وجحظتْ عيناي، وأنا أدسُّ بصري تحت ملاءات النسوة اللّواتي يمشينَ خلف أزواجهنَّ.
عاهدتُ نفسي ألاَّ أكرر الزيارة في هذا الوقت، وفي هذه "الزواريب". لا أعلم كيف ستسير الأمور في هذا المساء، لكنّي سأكون متفائلاً مهما كانت دواعي القلق التي تحزُّ سكّينها في روحي، وفي جسدي.
آخر الخطوات يبدو أنها مشوبة بالخوف، وأنا أدلف في نهاية زقاق مغلق. وبينما كانت أمل تشرق، شممتُ رائحة عطرها، وتلقفتُ ابتسامتها بمحبة. كانت تنتظرني على باب المنزل في تمام الساعة السادسة مساء.
* * *
دفعتني أمل أمامها... ودفعتني رغبة بهمّة عالية أن أخطو وراءها. أن أترك لعينيَّ حرية البحث والتجوال فوق جسدها، أن أطلق الحرية لخيوط البصر، تتسلّق كل الأشياء المرئية، ولحرية السمع أن تتلقّف كلّ الهمسات.
خرجت دقات قلبي المرتعبة تتساقط أمامي، مغسولة بحبّات العرق. كانت تحاول أن تخفف من وقع خطواتها فوق البلاط المزخرف ذي الأشكال الهندسية الرائعة.
ينتهي "الإيوان" إلى فسحة الدار الواسعة، ككل البيوت الدمشقية القديمة المحملة بروح التاريخ، ورائحة الياسمين. تتوسط بحيرة أرض الدار, تطلّ السماء عليها ضاحكة نهاراً بشمسها، تسقط النجوم ليلاً متهامسة فوقها، راقصة، وعندما تعطش، تمدّ ألسنتها البلّورية، وتشرب حتى ترتوي.
الوقت الآن لا يسمح بأي حديث مخالف للأعراف السائدة، والتقاليد التي نخرها تسابق الزمن والتقدم الذي يطحن الأفكار والرؤوس كحجر الرَّحى.
لمحته يداعب سُبْحته الأرجوانية. وجهه شاحب، ولا ينمُّ عن خطر أو نيّة للحصار، يحمل شيئاً من البؤس والصرامة والعبوس، المكسو بآثار قديمة متآلفة... ورُغم كل العلامات المميزة، المرئية، لمعت ابتسامة "زرقاء"، خرجت ملتوية من أعماق مكبوتة.
لا يداري في حديثه غير المشوّق أحداً. كان يحاول استنطاقي. يُحدّد الأسئلة بدقة كأنّي في امتحان آخر العام الدراسي.
أحضرتْ أمل صينية القهوة. قلت مدارياً صمته، بعد تواتر أسئلته الملحاحة، وكاد أن يُصدر حُكْماً غير عادل.
تناولت فنجان القهوة. لفت نظري أصيصٌ في زاوية الصالون الجنوبية. تطلّ منه زهرة فوَّاحة بالعطر، قطعتها أمل قبل وصولي بقليل، كما أسرَّت لي، بينما والدها كان يهاتف صديقه، فشكرتها على حُسن صنيعها، وذوقها في الراهن والمؤجل، وتصوّرها لكلّ الاحتمالات الماورائية.
لابُدَّ إذاً أن يتخلّل الحديث كلام أنيس، مثير، خالٍ من الدَّسِّ والوخز، كي أقترب من مُرادي، لأصل إلى غايتي الجليلة.
تشجعتُ، واستغللتُ انفراج ضحكة أنيسة، كانت معتقلة بين أسنانه الجوَّانية. خفت أن يهرسها، فتموت، وأحزن، وتتَّسع الفجوة بيننا، بدلاً من تقليصها، حينذاك يتعاظم ألمي، فأطفئ حرائقي بماء الأمل!
قلت: تفضّل يا عمّ، هذه سيجارة فرنسية. أجاب: لا أُدخّن. تركته منذ سبع سنوات، ولا يمكن العودة إليه، لأنّه لا يناسب قلبي المرهون بالدواء، وأخاف أن يرتفع "السُّكري" فأبتلي بالزعل والدّوخة، وربّما الانهيار السريع. وهذا يا أستاذ يقلق راحتي، ويرفع ضغطي. لذلك أنصحك بأن تترك هذه العادة غير الحميدة, وأنت شاب في مُقتبل العمر فالدخان لا يخفّف عنك الآلام ولا تمزّق هذا الزمن المكحّل بالسواد. أيّامكم أفضل من أيامنا. هذا واقع لا يمكن تجاهله أو القفز فوقه!
طال حديثه المكرور عن الماضي الشحيح بعطائه، فَفقد أنيسته التي وقفت إلى جانبه، طوال سني الجفاف والعطاء، وألحق أخوه ضرراً كبيراً به. وبعد نكوص الفرح، أسند الرجل ظهره إلى الكنبة. تطايرت أنفاسه الواخزة، المتقطّعة.
اكتشف سؤالي وأنا أنظر إلى صورة معلّقة على الجدار لرجل يشبهه. صورة كبيرة في صدر الصالون، على زاويتها اليسرى شريطة سوداء. حسبت أن يكون قريباً أو شهيداً يعتزُّ به.
قال: هذا أخي الذي يصغرني بسنتين فقط، وهو الأخ الوحيد، ولم تُنْجب أُمّي سوانا، وحرمتنا من الأخوات، ثمّ أردف: تمنيتُ، وأقولها بصدق، يا ليته لم يأتِ. كأنه من رحم امرأة أخرى. تمنيتُ أن أظلَّ وحيداً، حُرّاً، طليقاً، لا أحد يُعكّر صفاء حياتي، وعيشي، ولا يزاحمني على قطعة الأرض في أجمل منطقة في المدينة. كان داهية "لَهَط" كلّ ما ورّثه الوالد، فباع الأرض، وتركني أقتات براتب زهيد... لولا هذا البيت الذي سترني وابنتي أمل ماذا يكون قد حلَّ بنا؟
انطلق لسانه، تحرّر من الخوف المزمن. تأسفتُ لمقاطعته. طلبت منه أن يرتاح ويجيب عن أسئلتي: كيف؟ ولماذا؟ وأين نهاية الطريق؟
لم يأبه لاعتذاري، لأنه يعُدُّ أخاه في عداد الأموات. وأخرج ألبوماً من الصّور وقُصاصات جرائد عتيقة، ومجلات مهترئة الأغلفة الخارجية، كان يحشرها في صندوق مكتبه. وطلب منّي أن أقرأ. قرأتُ عديد العنوانات المؤرخة من أيام دراسته الجامعية إلى أن ترك البلد، وهاجر إلى "إقليم الكاب" في إفريقية.
أشار بإصبعه إلى صورة ملوّنة لشركته، يجلس وراء مكتب أنيق، وعنوان آخر بخط عريض (طلبَتْ حكومة الكاب المحلية قرضاً يُقدّر بملايين الدولارات من أكبر تاجر سوري مغترب). ثمَّ فتح صفحة من مجلّة اقتصادية باللغة العربية أيضاً، تهتمُّ بشؤون المال والصناعة، للمغتربين اللّبنانيين والسوريين، الذين يشكلون جالية كبيرة تسيطر على نسبة عالية من الاقتصاد. وكان أخوه "عطا" يترأس مجلس إدارة الشركة، وهي مختصّة في تصنيع الحبيبات البلاستيكية. وصورة أخرى وهو يُلقي كلمة في المجلس المحلّي. كُتب تحتها: (نائب الرئيس الأستاذ عطا حرمون).
قال أبو أمل (عبد الله حرمون): اقرأ هنا. وفتح صفحة جديدة. سأل: هل تعرف هذه الصورة؟
كان الرجل الذي أشار إليه من مشاهير إفريقيا والعالم "نلسن مانديلا"، ومَنْ لا يعرف أو لم يسمع باسمه. كان مانديلا في استقبال أحد الوفود الصناعية التي جاءت للتهنئة بالرئاسة لجمهورية جنوب إفريقيا، ويترأس الوفد (عطا حرمون).
طلبتُ منه أن يتوقف عن تفجير أكبر لغمٍ أرضي، كان عثرة في مشواره الحياتي الطويل. قلتُ: لا تُرهق نفسك، فاترك الماضي مقبوراً، فأنت ونحن أولاد الحاضر.
أنت رجل صبور، أعطيت وقدمت الكثير للناس والوطن، طوال عملك في شركة الكبلات، وبقيت مخلصاً وصادقاً مع نفسك. وراتبك التقاعدي بعد هذه السنين لا يكفي لسدّ الحاجيات الضرورية من دواء وكساء.
ـ إنني رجل كما قلت يطارد الألم... أشار إلى عينيه الذابلتين. كانت يداه ترتجفان..
سمعتُ أنيناً يخرج من جرح عميق في نفسه. وكي أخرجه من هذه الدّوامة حاولتُ مواساته، وتغيير سياق الكلام، واختلاق القصص المُغايرة، التي سمعت بعضاً منها في الحافلة أو من الجيران والأصدقاء.
عطا صورة مُسْتنسخة من عبد الله، مارس كلّ أشكال الإكراه، والاستغلال، مُذْ كان شاباً.
أردف عبد الله: أخطأ والدي "رحمه الله" عندما أعطاه وكالة عامة بأملاكنا، عدا الصفقات التجارية، وأعمال السمسرة مع المكاتب العقارية، وكبار المتنفذين والمسؤولين، فجمع أموالاً لا تأكلها النيران، وهاجر في ليلة مظلمة.
اقتصر دوري على الإصغاء، والحياء، وأحتاج إلى وقت للتفكير مليّاً بهذه المسائل الشائكة ويمكن أن تكون مُخْتلقة من الخيال، أو مبنية على أساس من الحقد والغيرة، والإكراه! لا أعلم إذا كان أخفى أموراً، تركها في الظلّ... سأتأكد من أمل غداً، وأعرف الكذب من الصّح. فهل تعترف بالحقيقة، أم أنّها تكون شاهد زور على كلام أبيها؟ أكثر من ساعة، ونحن نتجاذب الأحاديث. لم يعطِ فرصة للآخرين، كي يُدلي بدلوه، ويبيّن رأيه...
كانت أمل تصغي بمَللٍ للمرّة العاشرة وتسمع قصة عمها وأبيها. لم تتجرأ على التدخل، لإيقاف سَيْل الكلام، وكسر حاجز الاتهامات، لمتحدّث بارع كأبيها، القادر على صناعة حبكة روائية متماسكة.
تنفَّس بعمق... يبدو أنَّه رجل كريم. قال: سنكمل السهرة معاً، ونتعشَّى.
أدامك الله يا عمّ عبد الله، لكن...!
لكن ماذا؟
جئت أطلب يد أمل منك.
أعلم.
أريد نسبكم وحسبكم، والتقرّب منكم.
أنت شاب لطيف يا أستاذ شادي!
شكراً على الاستقبال، وحُسن الضيافة، لكن متى أحصل على الجواب!
أترك هذا الموضوع الآن... سأعطيك الجواب بعد أسبوع.. سأبحثه مع ابنتي!
أعرف أمل منذ أكثر من عام، ونحن زملاء، في مدرسة واحدة... وإذا كان الأمر لأمل، فهي موافقة حتماً!
أعلم.. أعلم، وأنا متيقّن من العلاقة والتفاهم بينكما.. حَكت أمل لي كلّ شيء.
ما المانع إذاً من الحصول على الجواب الآن (اطرق الحديد وهو حام).
هذا تقليد قديم يا بُني، ولا يمكنني تجاوزه بهذه السرعة، والقفز فوق العادات.
ونحن لنا عادات وتقاليد أيضاً، لكنَّ الحُبّ هو الفيصل.
كانت أمل تُجهّز العشاء في المطبخ. سمعت حوارنا كلّه. وعندما هممتُ بالرحيل، أدارت وجهها نحونا، فسقط الصَّحنُ من يدها، وتناثر قطعاً صغيرة... تمتمت متفائلة: "انكسر الشر، فأل خير.."
تركت المطبخ. عادت إلينا، وألحّت عليَّ بالبقاء للعشاء. هذا واجب الضيافة يا شادي أصبحتُ في موقف لا أحسد عليه، وفي موقع بين أمل وأبيها... أُصبتُ بارتباك، واعتراني الخجل، لكنّه من النوع الخفيف...
رافقاني إلى الباب المُطلّ على الزقاق... لم أُصدّق أَنّني خرجتُ، ومشيت الخطوة الأولى في الشارع، فسحبتُ سيجارة من عُلْبة الدخان، وأشعلتها، وبدأت أمتصها بشغف لأشفي غليلي، وأعوّض متحسِّراً، الوقت المهدور الذي ضاع هباءً...
انفتح الفضاء أمامي... تنشقتُ الأوكسجين، مما ساعدني على ممارسة فنّ الاغتصاب الكريه لسيجارةٍ فمزقتُ فلترها، عَصَرتها شفتاي بقوة. لفحني نسيم بارد، جفّف عرقي.. فانتعشتْ روحي، وأنا أجتاز ساحة مثلثة، تطلُّ عليها عشرات النوافذ، وعشرات البيوت، وعادت حكايات عبد الله تدور في رأسي، أزعجني خرير الساقية. بلّل المطر الرعدي جسدي، وتسرَّبت المياه عبر مسامات جلدي إلى روحي، وبقي قلبي يخفق، تعباً، وامتدت سحابة سوداء، خيمّت فوقي، أفرغت جعبتها المطرية دفعة واحدة، فصمدتُ، وأسرعت، أتنقّل تحت الشرفات حائراً، خائفاً...
أعترف أنني أُصبتُ بفشل ذريع، وعاهدت نفسي أن أحجز يوماً كاملاً للبحث بهدوء، في لقاء شفيف، مخملي مع أمل، دون عصبية أو تعصّب لرأيي. سأترك باب الحوار على مصراعيه، وأنتظرُ أسبوعاً كاملاً لتلقّي الخبر من
عبد الله.
ـ 6 ـ
أمْضتْ أمل الليل بطوله ساهرة في سريرها. ليلة عجفاء، كما قالت لي في لقائنا مساء اليوم التالي.
استغلتْ الوقت... رفضتْ بشدّة مرافقة أبيها لبيت خالتها. قالت لـه: لا أريد رؤية أحد من البشر. اذهب واتركني، وعندما تعود بالسلامة، سيكون العشاء جاهزاً.
وجهها منتفخ قليلاً من قلّة النوم، فيه مسحة من القلق والجمال، مشوبة بالإرهاق النفسي. خطفتُ يدها، كعصفور متشوِّق للطيران من قفص صاحبه، وكعصفورة مُتلهّفة للماء!
كالعادة لم نغيّر الطريق، فهو نفسه، اعتدنا على ناسه، وهوائه، وفضائه... الشمس تحاول أن تتمطّى، وتغرب وراء الأبنية العالية في مدينة أرهقها الازدحام.
همستْ بشوق... همستُ لها بدفءٍ ريحانيّ، ومشينا على رصيفنا، الذي أطلقتُ عليه اسم "رصيف الحبِّ". ويحقُّ لنا نحن عُشَّاق المساء أن نمتلك رصيفاً في هذا الشارع، ولا أحد يُزاحمنا، لأننا سَنُشْهِر أوراقنا في وجهه.
كلّ هذه الصفحات، قالت أمل، التي ملأناها، وحبّرناها بالدموع والصرخات والآهات، لا تذهب مع الريح، حتى أصحاب الدكاكين، أصبحوا شهوداً. وقلتُ لها، بعد أن ألقيت السلام على أوّل صاحب دكان، في أوّل الشارع: للمكان يا أمل ذاكرة. تعوّدنا منذ عام أن نمرَّ من هنا، لكن هل تعرفين كم يبلغ طول هذا الشارع، وعُمر هذا الرجل المُسن؟ الرجل الجالس على الكرسي، ينتظر صديقه كلّ مساء، قابعاً في زاوية، اعتاد الجلوس فيها، ولم يغيّرها. فهي (زاوية الرجل المسنّ). لاحظي في المرَّات القادمة، كيف لا يبرحها. هل تتذكرين قبل أسبوع، عندما كُنَّا عائدين من هنا، كيف كان يشدّ يد صديقه ليجلس مكانه، لكنّه رفض، فهو أيضاً اعتاد على الجلوس بجواره!
يتحوّل المكان إلى صديق أليف، حنون، ليس سهلاً إهمال الأمكنة، لأنّها تحتلُّ مساحة في الذاكرة والقلب.
سألتُ أمل: كم متراً يبلغ طول هذا الشارع؟
لماذا تُعدُّ خطواتنا؟ الزمن يشتعل في دواخلنا، ونحن نحترق، وأنتَ تبحث عن الأرقام، التي لا تساوي شيئاً بالنسبة لنا!
ليس المهمّ الأرقام! كلّنا أرقام يُكمّل بعضها بعضاً لا تظهر قيمتها الآن، وبهذه السرعة! وإنَّ للأشياء الصغيرة في حياتنا دوراً كبيراً أحياناً، وتمرُّ الأشياء الكبيرة دون اهتمام كالريح لا تهدأ في مكانٍ واحدٍ كلّ الأشياء الصغيرة والكبيرة أجزاء مُتمّمة لسيرتنا الذاتية ولحياتنا.
***
كافيتريا "أبو أنطون" فارغة من النزلاء، باستثناء شابين وصبيّتين، يركنون في الزاوية الشرقية.
رحب الرجل. نَفرت ابتسامة خفيفة على ثغر النادل الذي أصبح يعرفنا، ويعرف طلباتنا. ابتسامة فيها شيء من الاحترام، وكأنَّ يديه أيضاً تتضاحكان. وبهدوء مُصنّع قال: ماذا تريدان أن تشربا؟
سألتُ أمل عن طلبها ومشروبها. اقترحت، زجاجتَيْ بيرة برازيلية. فهي تحبّ هذا النوع، وتتلذّذ به، عندما تشعر بالقلق، وتريد أن تُخدِّر ما بقي حيّاً في ذاكرتها.
كلّ الأيام الراحلة إلى غير عودة، لم أجرد حسابها، قالت أمل، وهي تعصر عينيها وتزمّ شفتيها، فبرزت بعض التجاعيد فوق حاجبيها... هذا اليوم يا شادي لـه نكهة، ولا أستطيع تقدير وزنه، ويساوي حسب تقديري سنة بكامل فصولها.
لا أُشارككِ رأيك... كلّ أيامنا جميلة، حتى وإن طعنتها رياح السّموم، فأنتِ تبالغين كثيراً أو لا تُقدّرين هذه الجمالية المتعالقة بين روحين يهمسان وحيدين، ولا تعرفين لغة الأرقام!
أنا فرحة جداً، بعكس ما تتصوَّر!
لكن!...
لماذا سكتَّ؟
أعرف الإجابة سلفاً...
أبي يتمسك بالتقاليد التي لا تزال سارية المفعول في مجتمع المدينة، لكنها ستتقهقر أمامنا.
أنتِ فتاة صابرة، تتحمّلين الصدمات ولا تخافين، وعندك تجربة...
أنتَ تستأهل كلّ الاحترام والتقدير.
أنتِ تُجاملين! أو أن كلامك يعبر مسرعاً كالنسيم، كالعلاقات التي يستهلكها الشباب في بداية مشوارهم الطويل... هي خيوط سرعان ما تتقطع إذا لم نغزلها بشكل جيّد.
وإذا كانت هكذا، قالت أمل، فهي جميلة، ونحن بحاجة إلى شيء جديد، يدخل إلى حياتنا اليومية، بحاجة إلى بضاعة أخرى، غير ما تصنعه معاملنا المتخلّفة. أتذكّر الآن كيف كنتَ تفتّش عن القميص الأجنبي!
كي أظهر أمامك شاباً يبحث عن الجديد، ويملك رؤية انفتاحية.
ليست الشفافية في البحث عن الأقمشة الأجنبية، بل في تشجيع الصناعة الوطنية، وعودة الرساميل المهاجرة. ألم تسمع بالمرسوم رقم 10؟
إذا كانت صناعتنا لم تصل إلى العالمية، وتحقق "الإيزو"، وما تزال رديئة، فكيف تريدين منّي أن أرتدي قميصاً أو بنطالاً لا يليق بي.
شربتُ نخبها. تبادلنا الكؤوس. تقاطع ذراعانا، ثمّ مرّت لحظة واجمة... لحظة للتفكير والتأمّل. تقابل وجهانا. كانت الدنيا كلّها تغنّي في ساحتي عينيها. يتهالك وينحني بصري في عتبتيهما. حاولتُ دفع خيوط الحُبّ أكثر في أعماقها، وبين أهدابها، وفي قعرَيْ غمازتيها، وفوق صفحتي وجهها البلّوريتين المتأججتين بالنُّور، والإشعاع السحري.
إشراقة جديدة تسحبني، وتشدّني بسحرها... تألّقت أمل الجميلة أكثر من قبل، وكأنني ألتقيها للمرة الأولى...
أسرَّت إلي، أنّها عرّجت على "الكوافيرا" هندست شعرها على الطريقة الفرنسية، وبَدَت أكثر نضارة، وحضارة. ممشوقة الطول... بيضاء البشرة.. مدوّرة الوجه. خدَّان متورّدان... شفتان رقيقتان، وذراعان مسكوبتان في قالبين من الشمع الأبيض النّقي.
أبسط الأمور تُثيرها، وتغضبها، وأجمل شيء عندي، عندما أُثيرها، فيرتفع صوتها، وتتبدَّل ملامحها، وتتشوَّه آيات الجمال، وتغرق غمازتاها بالدموع.
أتدرين يا أمل إنَّ الصَّبر، يساعدنا على تحقيق النصر على أعدائنا!
مَنْ هو العدو الذي تقصده، وعلى مَنْ سننتصر؟
لا أعداء لنا، سوى مغتصبي أرضنا... لكننا سنتّفق أنَّ العدو الأول هو والدك.
نهضت أمل، واقتربت من النافذة. أزاحت الستارة نحو اليمين. ظهرت الأنوار في الخارج، تُثير في سكون الليل أشجان الناس... ثمَّ عادت واجمة، كصخرة حطّها السيل من علٍ.
إنك تُثيرني، حتى وإن كنت تمازحني! فأبي ليس عدواً لنا، إنّه عطوف وصادق ويعتزُّ بنا. ماذا عمل لك سوءاً، كي تنعته بهذه القباحة؟ إنه رجل مسالم، وضحية جشع عمّي واستغلاله، وتعلم أنّه يعاني السُّكري، وتضخّم القلب! أُداريه كعينيَّ، وإن أغضبني بكلمة أحياناً، تأتي بغير محلّها، فسرعان ما يربّت على كتفي، ويقبّلني معتذراً.
ألَم تلاحظي مواقفه المترجرجة البارحة! كان يكلّمني بتعالٍ وفوقية، كأنّه أحد الباشوات الكبار، وأنا أمامه صعلوك صغير. تصوّرتُ أنَّه يعاني نقصاً ما في شخصيته! أو أنَّه لا يزال يحمل آثار حزنٍ من ترمّله المبكر!
وعلى كلّ الأحوال أظهرت الجلسة الأولى معه، أنّه يطمئن عليك، ويثق بي، لأنه أفرغ ما عنده، ولم يبخل بمكنوناته الداخلية. وكما قلتِ إنَّ بعض الأمور تتكشّف لك الآن ولم تعرفينها من قبل...
بَدَت أمل أكثر سعادة، أراحتها كلماتي الودّية، وأثنت على أقوالي، وشهادتي، بأبيها، وقالت: كنتَ جدياً أكثر من أيّ وقت. وأفهمتني أنّ الخطوبة شيء حتميّ، لكنّي لم أحدس بالاطمئنان، فظلّت المواقف غائمة، وأن أمل تقابل هيجاني وإلحاحي ببرودة.
وعندما سألتها أن تُجيب عن قرار أبيها؟
قالت: انتظر... انتظر حتى تتوقف عن الكلام، فأنت عندما تبدأ لا تعرف كيف تنتهي، هو سؤال واحد، وله جواب واحد!.
أجيبيني بسرعة.
الحقيقة، عندما افترقنا، وذهب كلّ واحد في سبيله. أصختُ السَّمع إلى والدي، وهو يتمتم بعبارات (أنت رجل فهيم "يقصد شادي"، وتدرك أسرار الحياة، ومعاني الحُبّ).
ثمَّ قال قبل أن يضع قدميه في غرفة النوم: (إنّه شاب رائع يحبُّ أمل، وهي تبادله الحُبّ... إنّهما شابان يليقان ببعضهما، لكن! وحرَّك يديه، ثمَّ اتّجه نحو غرفتي. هل...أ.و.ا.ف.ق؟ وزمَّ شَفتيه).
راقبتُ حركاته، ولم أعرف. قالت أمل، شيئاً، حينما أغلق الباب، بعدها ارتميت على سريري كساقية شحَّت مياهها، تنتظر ذوبان الثلوج.
أيقظني أبي صباحاً، أن أنهض كي لا أتخلّف عن المدرسة... هذا ما حصل معي، وما أرويه لك، وما عليك إلا انتظار نهاية الأسبوع، فتمالك أعصابك، ولا تخف، فكلّ شيء سيتمّ كما أرغب أنا، ووالدي كطفلٍ. كلمة تأخذه، وكلمة تُعيده. يريد أن يرضيني ويسعدني، فهو لا يملك في الدُّنيا سواي، فلا تسألني في الأيام الخمسة القادمة، أيّ سؤال. انتظر نهاية الأسبوع، يا شادي، سألحّ عليه عندما يكون هادئاً، مسترخياً، أعتقد أنَّ مسألة ما تشغل أبي، وتشغلني أيضاً.
ماذا تقصدين؟
لا أملك الجواب الآن! لكن!
ينبغي أن تكون الأمور واضحة. وما يهمّك، يهمّني.
راتب والدي التقاعدي لا يكفيه ثمن أدوية وزيارات للأطباء. ماذا تساوي ثلاثة آلاف ليرة زمن الغلاء والفجور وجنون الناس والأسعار؟
هذا أمر بسيط... ووالدك مُحقٌ في التفكير بنفسه، وما تبقّى لـه من سنين.... فهو يحسب المستقبل التائه بالدقائق، وإذا كان ذلك هو المانع الوحيد، فالحل سيكون بسيطاً وسهلاً، ولكلّ حادث حديث... أتمنى أن يكون السبب الوحيد، وألا يكون هناك سبب آخر أكثر عمقاً!
فماذا تريد أن تقول. أعطِ رأيك!
لا أستحقُ أن أكون زوجاً لك... أتصوّر... هذا جانب هام في تفكير أبيك، يبعث على القلق... أو أنّه يريد تحنيطك، والاحتفاظ بك، ويمكن أنه يشكل امتداداً للأسر الفرعونية. وإذا كان يفكّر في اتجاه واحد، وبعد عُمر طويل، سيتركك وحيدة، لا أحد يكون بجانبك، الّلهم إلا إذا هجم النّصيب على كبر، وجاء ابن الحلال، فإمَّا أن يكون قد تجاوز الخمسين، أو ترمَّل وله أولاد. في هذه الحالة ستتجرّعين مرارة العيش، وسيزداد حقدك، ويخفتُ صوتك، ويبهتُ جمالك، وستكرهين الرجال، الآن أنتِ شابة، ناضجة، طموحة، تمتلكين الحياة، فلا تجعلي القطار يفوتك، فاركبي في المقطورة الأولى.
أصغتْ أمل بكلّ حواسها. قالت إنّني بين نارين. أكاد أحترق. أفتّش عن ماءٍ يُطفئ الحرائق، فلا أجد. وعن سلالم تدحرج أفكاري وأحلامي وتخيّلاتي. أنا أعرف أبي أكثر منك، ومن الآخرين، ففي أعماقه خوف مزمن...
عندما كان على رأس عمله، رفض أن يكون في لجنة المبيعات بشركة الكبلات، لكنّ ضغوطا المدير المتتالية اضطرته إلى القبول، فبقي فيها أقل من ستة شهور... يعرف أنّه سيسقط، وإذا ارتدى بذلة جديدة أو حذاء، فستتوجه إليه الأنظار، ويتّهمه زملاؤه بالرشوة، وإذا التقى مصادفة في الشارع بتاجرٍ، يُتَّهم بالخيانة الطبقية والعمالة للبورجوازية. أنتَ تجهل أو تتجاهل أساليب الإغراء والترغيب والمداهنة، وكلّ من اشترك في اللجنة أصبح مالكاً لمنزل أو سيارة، ولم يَعُد يشكو العَوز.
كان حديثاً. طويلاً وشيّقاً، يتدفّق كالنهر المحاصر من الجانبين، وينبض بالصِّدق والصراحة. ومهما درتُ وحرتُ وقرأتُ وسجلتُ ووضعتُ الاحتمالات، فالأيام القليلة القادمة ستكون لصالحنا. الزمن كفيل بتحقيق الأمل، وإشعال شمعة الميلاد، وإحياء طقوسنا.
لقد استهلكنا فوق طاقتنا من الكلمات والمفردات. وستتفتّح زهرة وسط الرمال، وستكذّب عديد العلماء والباحثين في شؤون التربة والزراعة. أراها زهرة، محاطة بأطياف الحُبّ، تزداد طولاً... تنثر غبار طلعها في كلّ الاتجاهات، وحتى إذا كان ما أراه سراباً، فأنا في أفضل حال، وإذا غابت يبقى ظلّها منتصباً أمامي.
زهرة تلقي جسدها بين أنامل النسيم، لا تأبه بالرياح، مهما كانت مثقلة بالرمال، لأنّها غُرست بيدٍ خضراء، وروح عاشقة لأسرار الحياة، لم تقف يوماً ذليلة أمام صرخات العشق، وموجات الاغتصاب، تحميها الطيور والسنونو المهاجرة، تحمل رائحتها وغبار طلعها، تنثرها في السّفوح وعلى الشواطئ، وفي حدائق المدينة.
لم أختر زهرة، فالرمال هي التي تختار، فمرّة تكون حمراء، ومرّة بنفسجية، وثالثة بيضاء، أو برتقالية. تفتح صدرها للعشق، وتنهض أوراقها مع الشروق. تظلّ صامدة تتمتّع بالضوء، وعند الغروب تخلد إلى الراحة. تعانق المساء. تُسامر القادمين من الأشتات، فهي تطرب لأصوات الليل، وتعشق السهر الطويل وسط الرمال، لذلك تكاثرت أعشاش العصافير حولها، وتزاحمت وهي تحمل قطرات الماء والأعواد، تترك بيوضها تحت فيئها، ثمَّ تهاجر، لتعود مرّة أخرى زاهية، فرحة، تتراقص أوراقها، وتتصاعد موسيقاها.
الأزهار يا أمل كالإنسان والحيوان، تغنّي، لها أصواتها الخاصة، وتعزف على أوتار الحياة. تحزن كما نحزن، وتفرح كما نفرح، فهي جسد وروح، وأنتِ جسد وحُبّ وروح وكبرياء، تعالي نلتصقْ معاً، ونصبح جسداً وروحاً، ولا تتركيني وحيداً. أنت وردة تعشق الدُّنيا والرمال، فاحتفظي بخلاصة حُبّنا، والمستقبل كفيل بأن يحتفظ برائحتك وجمالك!
ـ7ـ
تنتظر أمل معرض الكتاب السنوي بفارغ الصبر. هاجسها أن تبني عمارة من الكتب، مثلي تماماً. نحن شريكان. تلتقي رغباتنا. تتجمع هواجسنا، وعلى الرغم من حزنها في هذا اليوم، جمعت المعلومات من الصحف، والتقطت الأخبار من الإذاعات، وهاتفتني، وهي تُطلق ضحكاتها. ألو... ألو... شادي.
أمل! كيف حالك. أتتذكرين هذه المناسبة!
الآن أتذكّر، فقبل دقائق قدّم لي أبي وردتين بمناسبة عيدَيْ الأم والربيع.
لماذا الورود؟
ماذا تعني؟ ألا أستأهل وردة منك أيضاً!
لقد تأجّل فصل الربيع!
هل تتأجل الفصول يا شادي؟
نعم تتأجل، لأنّنا لم نَعُد نملك الربيع...
أنت متشائم.
أبداً! حلّ اليَبَاس، وجُفِفت مستنقعات الروح، ولم تستيقظ ذاكرة الشعوب بعد...
تزخر مفرداتك بالرموز والألغاز دائماً... ولابُدَّ من استخدام المعجم...
لقد طالت التغيرات نفوس البشر، والطبيعة. وتعجز أيّة سُلْطة وحكومة في العالم أن تكبح تطلعات الناس، أو تُحاصر معارفهم.
يبدو أنّك مُرهق لدرجة الهذيان. وأعتذر منك سَلَفاً: إنَّ ذاكرتك بدأت تهترئ، بينما تتفتح الورود، وتتراقص مع كلّ هبّة نسيم، تتسرَّب من نافذة غرفتي.
يبدو أنّكِ سعيدة بوردتَيْ أبيك، ولا تُبصرين أمامك أكثر من متر.
ارتبكت أمل. اهتزّت حنجرتها، وارتجفت يدها... ترجرجت سمّاعة الهاتف. انتابها شعور كريه، بأنّه جادٌ في كلامه. دائماً يُحلّق، ويمدّ حباله إلى أبعد مسافة.
تألّمتْ وهي تفسّر ألغازه، وتعلم جيداً أنّها عندما ودّعته مساء البارحة، كان في أفضل حال... يتسلَّق القمم، ويُحلّق في فضاء صافٍ خلاق، مسكون بالحُبّ والأمل.
أدرك شادي سوء الاتصال، وظهور طقطقات، وخرمشات، وحروف متقطعة، وربَّما بكاء ونحيب، وأنّ السماعة لا تزال تخشَّ وتهتزُّ في يدها.
مرّت الدقيقة الأولى، مشوبة بالصمت والترقّب. وصلت أنفاسها ولهاثها إليه ثقيلة، فعاد إلى مخاطبتها، بلهجة مُريحة، فيها شيء من الدفء والنّدم، وكعادته قال لها: ألا تتحمّلين المزاح... أنت هكذا جديّة أكثر من اللزوم... كلمة واحدةً تُكهربك، وتسحب من أعماقك مخزون الموج المتراكم. أنا غير مسؤول عن ماضيك. أنا أحيط حاضرك بدائرة من المعلومات، وأترك المستقبل يفرش عرائشه فوقنا، وعندما تتدلى العناقيد، وتزداد حلاوةً، علينا أن نواجه الدبابير، وأن نكون حذرين من لسعها، وأن نُراقب الحشرات التي تحرمنا من اللّذة، بكلّ الوسائل الممكنة، كي نقطف ثمراً طيّباً.
اعتدل حكي أمل. أصبحت متوازنة، وجلَّست قعدتها على الكرسي. أبْدت سعادتها ثمَّ أطلقتْ ضحكة من أعماقها. أشارت بيدها إلى أبيها، بأن لا يقترب منها، فهو رجل غيور، لا يستسيغ المحادثة بالهاتف، ويكره المكالمات بين الرجل والمرأة، وتذكرت أمل أنّه كان يفعل هذا مع أُمّها، خوفاً من فاتورة كبيرة تلتهم ثلث الراتب.
انصاع الرجل لوصيّة ابنته. التزم الصمت والهدوء. تركها، وحمل جريدة، وبدأ يُقلّب صفحاتها، وهو العارف بأن أمل هي التي ستدفع فواتير الهاتف والماء والكهرباء.
ابتعد شادي في كلامه. أبحر في مياه أكثر عمقاً. قال: ما زال جهاز التَحكُّم عندك غير دقيق. أحياناً يدغدغك التفاؤل، وهذا من حقّك، لكن عليك رؤية الحرائق. كلّ شيء يا حبيبتي يحترق في هذا الزمن ويتحوّل إلى رماد إلا الكلمة الصادقة، ونُبل الإنسان، فيحوّلان الرماد إلى أزهار وغبار طلع... ألا تلاحظين... انظري ألسنة اللّهب التي تدور وتلفّ حولنا من كل الجهات.
ماذا تقصد بالحرائق أيّها الشادي الجميل؟ كلّ الأمور تُفلسفها، مهما كانت بسيطة وعادية. إنّك تعمل من الحبّة قُبّة، ومن فتيل السِراج حرائق. فَعَن أيّة حرائق، وعن أيّة ألسنة، ونيران تتحدَّث؟!
العالم يحترق.. رؤوسنا تحترق... يعود هولاكو إلينا من جديد... اقرئي صحف اليوم، وتابعي أخبار الفضائيات، فتشاهدي أنَّ مكتبة بغداد تحترق، وتغرق في نهر دجلة... وسرعان ما تبدّل لون مائه، وغرقت أختام العباسيين وتيجانهم عند مصب ديالى والشط العظيم. فماذا ينفع في هذا الزمن الملتهب، شراء الكتب واللوحات التشكيلية؟.
ألا ترين أنَّ ذلك هدر وضياع للعمر؟
لماذا نبني المكتبات في بيوتنا؟ وفّري قروشك لشراء الفساتين والعطور وصباغ الأظافر والشفاه وإكسسوارات المكياج، فهي أكثر فائدة من كلّ الكتب!
الغزو يا أمل... نتعرّض للغزو من كل حدب وصوب. ستعود حروب القبائل من جديد لكن بلا سيوف ومقاليع، فهي أكثر حداثة، تبدأ من تحريك الأزرار، وتنتهي بالكيمياء والقنابل الذّكية.
جاء دوري، لأكشف المغالطات والتباينات في موعظتك على جبل الوهم، فالثلج سيذوب ويجرف معه الأحجار والتربة. وإذا كُنّا نتعرّض منذ سنوات للغزو الثقافي، فكيف تنصحني بعدم اقتناء الكتب، فأنت تُهدّم البناء الذي شيّدته منذ عقدين. متى ولَّفتَ جهاز الإرسال، ودبّجتَ هذه المحاضرة القيّمة، وكتبت رسالتك التي سأحتفظ بها على "كاسيت". وما يهمّنا من الحرائق؟... إنّها بعيدة عنَّا، وإنْ وصلت فسنواجهها بماء تراثنا ونقوشنا وأوابدنا، وهذا لا يُنسينا الحداثة وما بعد الحداثة... إننا سنقابل الحداثة بالحداثة...
انتزع شادي العصا من الدولاب، ووضع الحصان في مقدمة العربة... ليّن عود الكلام، و"درغل" كطفل جائع، قال: تكاد رائحة الحرائق تخنقنا... الدخان يتحرَّك نحونا، فلا تخافي، لأنَّ حدودنا محصَّنة جيداً. المثقفون لا يعانون الاغتراب، إنّهم يدركون اللّعبة الحضارية الجديدة، وهذر الدول العظمى التي يصرخ أصحابها في عالمنا الوضيع، وقد نجحوا نسبياً بأن وضعوا (جنوب العالم) تحت قُبّة هيكل قُدْسية "العسكرياتية" أو ما يطلقون عليها "الليبرالية الجديدة".
لقد تبخرت الأفكار من رأسي التي كنتُ أودّ قولها لكَ!
أجمل من أفكاري!
لا، أبداً... لكن!
لكن ماذا؟
هي في صُلب الموضوع الذي تقرؤه الآن!
قولي ما هي، وسأجيبك فوراً!
إنه معرض الكتاب السنوي. قرأتُ الخبر والبرنامج في صحيفة تشرين. سيضمّ آلاف العنوانات العربية والأجنبية، ومئات دور النشر. وهناك برنامج ثقافي، من محاضرات وأمسيات شعرية، وندوات فكرية، وأفلام سينمائية، سيشارك فيها كُتّاب ومفكرون وباحثون عرب، من أفضل ما قدَّمته أُمتنا.
هذا جميل، وجميل جداً، ولكن ماذا ينفعنا؟
كلّ شيء ينتهي ما دام العالم على كفِّ عفريت. وما أكثر الحكي وتعدّد الأصوات التي تنبح وتهدر من كلّ الجهات، وتدعو إلى السقوط والرضوخ... وفي المقابل هناك أصوات تدعونا إلى النهوض والمواجهة، لما يجري من جعجعة وطحن فارغ...
ازدادت أمل ألماً وغضباً، وَدَعتْ شادي إلى نبذ التشاؤم، وعندما سألته عن دواعي هذا التحليل غير الصائب الذي يفتقر إلى الدّقة، قال لها: إنَّ عديد المثقفين ألقوا سلالهم تحت أشجار الأمريكان، ملؤوها بالثمار، ولم يعرفوا أنّها من فوائد آبار النفط، وتناسوا كلّ الكتابات والتصريحات والمقالات والحوارات والمقابلات الصحفية والتلفزيونية، عبر الفضائيات والأقمار العربية، وكيف كانوا يصدحون على مزابلهم كالديكة، ولكنهم عندما يشمّون رائحة (الأخضر) يسيل لعابهم، وسرعان ما تتبدّل حبال أصواتهم، وتتغير لكناتهم وأناقتهم وهندامهم وربطات أعناقهم وأحذيتهم. كلّ شيء جديد في عالمنا.
كانت أمل حذرة من الغوص في الأعماق، فهي أقلُّ شطارة من شادي، ولكنّها قادرة على سبر أغوار الأحداث في مجالات أخرى، أكثر منه... تصبر عليه، ولا تقاطعه، وفي الوقت نفسه تصوّب أخطاءه، لأنّها أوقفته عند حدوده، وأجابته: ليس كلّهم! إنك تصف شريحة محدودة العدد فقط، والنسبة الكبيرة هي الأفضل. إن الغربال لن يتوقف عن الغربلة ودائماً يأمّل الفلاّح الخير الوفير من الحَبّ الذي يتجمّع فوق الغربال، وما يسقط تحته يحوّل إلى طعام للدجاج والطيور، وعلفٍ للبقر والماعز، لأنّه لا يصلح للبذار. فالأرض المعطاءة، الطيّبة بحاجة إلى بذار معطاء، والأرض ترفض الزؤان، كما يرفض الوطن أمثال هؤلاء لأنَّ جذورهم لا تمتدُّ عميقاً فيها.
ورأيكَ الأخير لم تقله. هل نتّفق على موعد مساء الغد، لزيارة معرض الكتاب. يكفي أننا نتعرّف على دور النشر وعنوانات الإصدارات الجديدة، ونرى الناس، ونلتقي الأصدقاء، ونشرب القهوة، ونتنشّق هواء لطيفاً، نظيفاً، ونشارك في حضور النّدوات ونسمع الشعر الحديث...
وافق شادي على اقتراح أمل، واتّفقا مساء في السادسة تماماً.
ـ8ـ
استغلَّ شادي انشغال أمل في شؤون المنزل، وعودة الصُّداع لرأس أبيها، فنسيتْ العالم كلّه، وما يحيط بها.
امتطى سيارة أجرة، واتّجه إلى مدينة معرض دمشق الدولي. وكان يرغب في التملّص من الموعد، وأن يبقى وحيداً، ويتحرَّر من المواعيد والارتباطات والهواجس، وينطلق بين أجنحة المعرض. قال: (سأتخلّص من العوائق الشائكة، وحتى هذا التاريخ، لم تكتشف أمل ما أضمره في مكامن النفس. ومن المستحيل أن تعرف. وهل هي بسيطة إلى هذا الحدّ؟ وإذا كانت سذاجتها وطيبتها ستقودانها إلى طريق مسدود، فماذا يكون دوري بعد ذلك؟).
وعند باب الجناح اللبناني التقى شادي مصادفة مع "بشير" الشاب المهندس، فكانا صديقين حميمين في المرحلة الثانوية، وقطعا مشواراً طويلاً خلال ثلاث سنوات، ثمَّ استمرَّا على العهد في الجامعة، وكانا يلتقيان مع مجموعة من الزملاء والأصدقاء في المناسبات والأعياد، وحفلات التعارف.
تعانق الصديقان عناقاً طويلاً. تدرَّجا في شوارع مدينة المعرض وساحاتها الفسيحة، ثمَّ اتَّجها إلى المقهى الذي يتوسّط الأجنحة، وإلى جانب المقهى بحرة واسعة، تَنْبجس المياه منها وتتقافز على شكل أقواس، انزويا في ركن بعيد عن الضجيج.
أين أنت يا رجل؟ قال لـه شادي. عندما سألتُ عنك أحد الأصدقاء، علمت أنّك تعمل في شركة إنكليزية بالخليج.
لم تطل سفرتي. أربع سنوات فقط، وانتهى الاستيداع، كنت في الإمارات العربية. الآن... ماذا تعمل؟
عُدت إلى وظيفتي في شركة "الكبلات"، مديراً للصيانة.
إنّه منصب عادي!
ماذا تريدني أن أكون؟
مديراً عاماً.
أنت تحلم!
هل يعقل هذا يا شادي؟
أنت أعرف من غيرك بأنَّ الحكومة لا تزال ملتزمة بتأمين العمل للمهندسين ولولا ذلك لما شَغَلت أيّة وظيفة.
ماذا تقصد؟
ألا تعرف شروط العمل عندنا والواجب توفرها في مدير العمل!
ثلاثة شروط لا غير...
أنت غلطان... أو أنّك تتجاهل الواقع، أو شابت ذاكرتك، ولم تَعُد تفرِّق بين الألوان... أنت يا صديقي تعلم المرحلة الصعبة التي تجتازها بلادنا!
ورغم ذلك، وتصحيحاً لكلامك، لا تزال الوساطة والتحزّب هما السائدين!
وفي أسوأ الأحوال التي يعيشها غيرك، أنت بألف خير، وأوضاعك مستورة، وقد وفّرت قليلاً من المال...
أكيد... فاشتريت منزلاً، وسيارة عمومية، أضمّنها لأحد أقربائي.
هل أنجبت الأولاد؟
لم يحصل أن تزوجت، وليس في نيّتي الزواج.
أصبحنا في الهوا سوا.
وأنت أيضاً؟... أعلم أنّك ستتزوج تلك الطالبة الجميلة التي كنت تطاردها في كلية الآداب.
ـ وقول المدرّسة أمل... فما زالت تشكل محور اهتماماتي، وتحتل معظم مساحة قلبي، لكنَّ الأمور تتعقد يوماً بعد يوم.
اشرح أكثر، ولو كان أمراً داخلياً، فيمكن أن أُقدّم بعض المساعدة.
والدها يا صديقي، يقف عثرة في طريق زواجنا...
ماذا يعمل؟
رجل متقاعد. أمضى ثلاثين عاماً بل أكثر في شركتك.
في الكبلات.
نعم...
قدّم شادي تفاصيل حياة عبد الله. وتبيّن أنَّ بشيراً كان معاصراً لجزء منها.
قبل الحصول على الاستيداع، ولكنها فترة قصيرة. وتذكّر أنّ إشكالية ما قد حصلت مع عبد الله عندما كان في لجنة المبايعات، ولولا تدخّل عطا مدير المصرف التجاري، لكان تحوّل إلى محكمة الأمن الاقتصادي؟
ضرب شادي كفاً بكفٍّ، وقال من اللقاء الأول مع عبد الله، شعرتُ أنّه رجل مختلس، دوّخ رأسي وهو يتلو عليَّ الآيات التي تُسبِّح حياته وإخلاصه وأمانته...
أجاب بشير، وهو واثق من ذلك: هكذا كانوا يتحدّثون عنه... أنا لم أرَ، لكنّي سمعتُ حكايات وقصصاً عديدة عنه...
ماذا تحكي؟
هكذا أقول لك... كلّ الوثائق والبيانات تشير بصريح العبارة إلى الرُّشا بمبالغ مُحْرزة كانت تدخل جيوبه.
أقول لك: بقي عبد الله سنة كاملة في سجن عذرا على ذمّة التحقيق. وقدّم أخوه عطا الوساطات الكبيرة، وعلى أعلى المستويات، للإفراج عنه بكفالة مالية تُقدَّر بمليون ليرة سورية...
إنّه يكذب عليَّ، فقد ادّعى أنّه ناصع كالثلج، وكفّه نظيفة، لم تدنّسها قروش التجار. كان أوّل كذاّب في الشركة. لا تُصدّق أقواله وتصريحاته، وأنَّ اتهاماً باطلاً أدّى به إلى السجن.
وخلال نصف دقيقة أعاد شادي شريطاً طويلاً من قصص الخيال، وحَسَب حسابات أخرى في كشف كلّ الالتباسات. تذكَّر: أقوال أمل، عن الكذبة النَّملية الصغيرة، والكذب الأبيض والأسود.
إنَّ عبد الله لا يستأهل هذه الصّبية الجميلة الصادقة، لكنّي سأدبّره، وسأتجاوز أخلاقياتي ومثاليّتي...
عاد شادي بعد هذا الفيضان، إلى صوابه، عندما وبَّخه بشير قائلاً: ما ذنبها إذا كان والدها لا يكشف عن الحقائق لابنته؟ فهو يكذب عليها وعلى غيرها.
تألّم بشير من هول ما سمع، وتمنّى لو أنّه لم يلتقِ به.
قال شادي: أنقذتني من ورطة كبيرة، دخلت في معمعانها، كأنّي في معركة من المهازل، ولا أعرف كيف سأنفض الغبار اللّعين، كأنَّ سحراً مجبولاً بالخبث والنجاسة، حطَّ بثقله.
لماذا اضطربت يا شادي؟ أنت لا تريد من عبد الله المال، فأمل عندك تساوي أموال الدنيا، فلا تُعلّق على ما تسمعه، و"طنّش"، ففي التطنيش راحة للنفس، فأنتما زوج يعشق الحياة... أنتما عاشقان تتعاركان وتتصارعان، وسرعان ما تتفقان، لأنَّ قلبيكما أنقى من ماء الينبوع. فكُن حريصاً على شمعتك من الذوبان، وجلّس ما اعوج، وأصلح الأمور قبل أن يحلّ الخراب، ولا تنسَ أنّك "تستشعر"، ولا يغيب ظلّها عن خيالك. دائماً تقول: (أمل زهرة في رمال عمري، وأنا زرعتها، وأنا رويتها بماء قلبي ودموعي...).
ودّع الصديقان أحدهما الآخر واتّفقا على لقاء آخر بعد أيام ثلاثة ليكملا جولتهما في معرض الكتاب، ليبتاعا الكتب الجديدة، فهما من المحسوبين على فئة المثقفين في البلد، لأنهما اسمان معروفان في الصحافة المحلية أيضاً، وتعرّض قلماهما في سني اليَبَاس، ومعارك الكلام إلى التكسير، لكنهما بقيا على وضعهما، ولم ينزلق قلم أي واحد، أو يبدلا الحبر. فشادي المدرّس بقي راتبه كما هو إلا أنّه اتجه إلى الدروس الخصوصية، فانتشى قليلاً، وتحسَّن وضعه المادي، وأصبح مالكاً للبيت الذي يسكنه بعد أخذ حصّته من بيت العائلة.
ودّعه بشير. تركه يُقلّب أفكاره، بين ماضٍ تكشَّف على أمور، أصبحت واضحة، كالشمس، وبين زواج يقف على كفِّ عفريت. تركه يُقلّب كتاباً صادراً عن "دار الكنوز الأدبية". توقّف ملياً يحدّق بعنوان الكتاب (ماذا يجري في
إقليم الكاب).
غلاف الكتاب من النوع الفاخر، بمئة صفحة من القطع المتوسط، وإحدى وعشرين صورة لصاحب الكتاب بأوضاع مختلفة... صور ملونة جذّابة، أنيقة. يبدو الرجل أنّه في أواسط عقد الخمسينيات، الشعر الأبيض يصبغ فوديه، مع تسريحة جميلة. تتصدّر صورته الغلاف الأوَّل. قرأ شادي على الغلاف الأخير، تعريفاً بمؤلف الكتاب: (كتاب عن حياة رجل الأعمال السوري، المغترب منذ ربع قرن في إقليم الكاب "عطا حرمون". ربع قرن من العمل الدَّؤوب... اقرأ ماذا حقّق الرجل...).
دفع ثمن الكتاب. قطع تجواله. خرج من الجناح وبين يديه، وتحت بصره عشرات الأسئلة، كأنه وجد لقية من المجوهرات الثمينة، وهو في أمسّ الحاجة إلى المزيد من المعلومات. تمتم بشرود، وذهول: لعن الله الكذب والغش... سار في شارع المتحف يلعن ساعة زيارته، وتعرّفه على عبد الله وعطا وأشباههما. وصف عبد الله بالجبان... سيّئ الصّيت والسُمْعة، لا يساوي فلساً أيام الغلاء... لم يَعُد يسيطر على أفكاره وتصوراته.
وصل إلى ساحة الحجاز، ثمَّ اتّجه متمهّل الخطا في شارع الفردوس، فالسَّبع بحرات، إلى بيته.
كان ليلاً مبللاً بالقهر والخذلان، انتشرت فيه رائحة قاذورات من الحاويات المسجّاة في أطراف الشوارع الفرعية. جلس مرتعداً، مقسوماً، مفتّتاً إلى أجزاءٍ ونتفٍ، في الشرفة التي يعتاد الجلوس فيها، بحث ونقّب في صفحات الكتاب. كان يضحك. امتلأ فمه بالضحك غير المتجانس. وتصاعدت الضحكات المجنونة، صرخت في فضاء مجنون، مصحوبة بالشتم واللّعن والهمس والرفض، والتوعّد بالاغتصاب... وتارة يبتسم، يعود إلى صوابه، فينسى عطا وعبد الله، تبرز أمل في صورة وهي تضاحكه، تظهر على شاشة روحه، تقف أمام بوَّابة فؤاده، متألقة بفستانها الأبيض، تحمل طاقة ورود، ويقف بجانبها ببذلته الجديدة. وسأل نفسه قبل أن يخلد إلى النوم: ما الذي اقترفته أمل من ذنوب؟ قال أيضاً: الآباء يأكلون الحِصْرِم، والأبناء يضرسون.
تقلَّب شادي فوق سرير يئنُّ ويهتزُّ، كلَّما خطرت بباله فكرة أو استفاقت غصّة. عينان ساهرتان، تُرْجَمان بالحجارة النَّارية. تحوَّلتا إلى حجرتين، ومنفضة للسجائر امتلأت بالأعقاب الصفراء... فضاء يُخزّن في جِرابه روائح الأدخنة، وأنفاساً معطوبة، ذاوية، مُحْتقنة، في فوضى التداعيات الملتاعة، الملتوية في أعماق الروح، تضاجع القهر.
معركة جديدة، ستكون في ساحتها مقابلات متضادّة، ولا أحد يتنبّأ بالانتصار!.
(سأنتصر لأنني أمتلك كلّ الأشياء)! نَفَشَ ريشه كديك جاهز للمنازلة، صرخ في وجه الريح بأعلى صوته كأنَّ عبد الله يقف أمامه عارياً، مختلساً، ثمَّ فتح النافذة. تنشَّق هواءً نقيّاً. تابع خطابه: (سأواجه الشرَّ بالشرِّ... ستكون رحلة طويلة، يمكن أن تقودني إلى "الكاب" أو أنّني سأكتفي بقراءة هذا الكتاب. مصيبتان تجمَّعتا في صحن واحد، أحلاهما أمرُّ من الصَّبر، في ليلٍ اقتات منه صَحْوَةً).
أفكار شتّى تنهش رأسه وروحه، رافقته دون أن تبرح سريره حتى لاحت خيوط الصباح، فنهض مُرْهقاً. بدّد جزءاً من هذه الغيمة العقيم التي نفخ فيها رعدٌ أرعن من روحه، فذبلت حبَّات المطر، وتساقطت طيناً ووحلاً، وصَبَغت حُبَّه النَّقي، كما يدّعي بلون الأرض السكنية، السوداء.
ـ9ـ
استمتع شادي بقراءة الكتاب للمرة الثانية أكثر. ساعده هدوؤه على الاستمرار في البحث عن الجذور لعائلة حرمون. تعرّف على السيرة الذاتية لهذه العائلة التي سيكون يوماً صهراً لها.
عندما كان عبد الله وعطا صغيرين، ظهر الحزن على محيّيهما، بعد وفاة أمهما الحنون، فارتديا الثياب السود.
انتابه الخوف، لكنّه في الحقيقة، وكما يعترف بشير، ليس مجنوناً، بل تستفزّه أبسط الأمور. إنّه الآن بكامل عقله ونُضْجه، فألقى الكتاب جانباً، وسرعان ما انقلبت تصوّراته رأساً على عقب. وقف أمام المرآة. تلامحت صور الطفولة، وتراكبت، أعادته إلى سنين تلاشت ملامحها، أو أنّه شعر بأنّها هاجرت ولم تَعُد تعرف طريق العودة إليه، لكنها الآن تعود بقوة، متوهجة طازجة، عندما كانت أُمّه تنهره لكثرة شروده، ومحاكاة نفسه. كانت تصفه بالمجنون، فمنذ صغره كان يرفض الأوامر، يتمرّد، لا ينجز واجباته المدرسية. يظلَّ ملتصقاً بأُمّه، أينما رحلت وأينما ذهبت. أكسبته هذه الرحلات القصيرة، والزيارات إلى بيوت الجيران، معرفة بأسرار النساء، وثرثراتهنَّ عن الأولاد والأزواج... تغيّر مزاجه، وكان يقترب أكثر إلى الأنوثة، ويكره معاشرة أترابه الصبيان ومصادقتهم، وعندما يكون وحيداً، يقلّدهم باللباس، واستخدام أدوات التجميل، يتباهى أمام زملائه، ويتصوَّر أنّه قد أنجز عملاً كبيراً، وبعد أن بلغ سن الخامسة عشرة من عمره، امتنعت جارتهم أُمّ ياسر عن استقباله برفقة أُمّه. قالت لها: أصبح ابنك شاباً يا أمّ شادي... نظراته تبدّلت نحوي. وتردّ عليها أم شادي: لا يزال صغير السن، ولا تخافي، لأنّه لا يقدر على العضّ بعد، وعواطفه تختبئ تحت جلده وأظافره، ولا يثيره جمالك، حتى لو رآك عارية!
رفضت أم ياسر هذا الكلام، علماً أن ملاحظتها في مكانها، فكان هذا الصبي يبادلها النظرات الشبقية.
بدا وجهه العبوس على صفحة المرآة، وهو يستعيد بذبول وشهوة، يوم تركته أُمّه وذهبت إلى السوق، وكان آنذاك في الثانية عشرة من عمره، عند أم ياسر، وحكى الصبي لأمه كيف داعبته، واحتضنته، وأجلسته في حضنها.
تعلم أم شادي أنّ جارتها تكذب، فهي التي تتحمّس لمداعبة ابنها. وتدّعي أنّها تهاب زوجها الغيور عليها، لأنها تكشف وجهها وذراعيها أمام هذا الصبي الذي يجالس النساء، ولا تفارق عيناه صدرها، كما لاحظ مرّة عندما دخل قبل موعده بنصف ساعة، وظهر الغضب وعدم الارتياح، وصبَّر الرجل نفسه، ريثما ينفضُّ لقاء الجارات، وهو الذي يعرف كيف يُحاسب زوجه العاقر...
كرّرت الأُمُّ وصف ابنها بالمجنون، بعد أن تأكّدت أنّه يمارس العادة السرية بكثرة، فبدا أصفر الوجه. عيناه غائرتان. نحل جسمه. خافت أمّه عليه من الانهيار والانحراف، وأصبح صوته أكثر خشونة، أي ظهرت عليه صفات الرجولة، فتضخّمت تقاسيم وجهه، وشمخ طوله، ونبزت شعرات شاربه.
يختلق شادي الحجج كي يلحق بأمّه، وما إن تصل إلى بيت أم ياسر، سرعان ما يتبع خطاها، ويدخل.. عندئذٍ يبدو الارتياح الطافح على وجه أم ياسر... تسأله فيما إذا كان جائعاً، وتناوله ثمن سندويشة فلافل، لكنّه لا يبرح مكانه... يتمعّن في تفاصيل جسدها، عندما تدير ظهرها وتتجه إلى المطبخ، وينتشي حينما تبتسم لـه، فهي امرأة عاقر، تتحرّق شهوة لإنجاب صبيّ مثل شادي، ولم تنجح الأدوية في تحقيق هدفها وأمومتها، وهي ما تزال في الخامسة والثلاثين. تدّعي عكس ما يروي زوجها، فهي ليست عاقراً، بل إنَّ زوجها لا يصلح للنساء، فهو رجل بارد، عظمه هشٌّ، جثّته ضخمة دون فائدة...
ضحكات شادي الملحَّنة، شدّت أعصابه. وكان سطح المرآة يعكس هذه التموّجات والذبذبات الرشيقة، المتزاحمة، التي طحنتها ارتعاشاته...
أصابت أمّه عندما وصفت جنونه، ولم يكن وصفها اتّهاماً مقصوداً، ولم تكن طبيبة نفسية، لكنّها تعرفه وهو لاجئ في رحمها لتسعة شهور، وعلى ذراعيها سنة كاملة إلى أن حَبا، ثمَّ مشى، وأصبح يافعاً...
سأقتنص اللحظات الحرجة في حياة أمل، قال شادي، سأترك كلّ القيم خلفي... إنّها فتاة جميلة، سأمتصّ رحيقها، وأخلّف لها زهرة، تتحوّل إلى شوكة أبدية تسري في لحمها طوال حياتها، وسأتركها لرياح الصحراء... وبصق على المرآة. لوَّثها برذاذه، حتى ظهرت صورته مشوّهة، وتقطّعت إلى أجزاء، ظهرت كلوحة فنّان مبتدئ، نصف فاشل... وبعدها اغرورقت عيناه بالدموع والاكتئاب. وهذه المرّة الأولى التي يصل فيها إلى حدود الخطر!
ألم، وخوف، وندَم... لا يعلم ماذا حلَّ به... روحه تتمزق، تضيع. دقائق أخرى عاد إلى رشده... تمتم بنغم قديم، أطربه حفظه مُذْ كان في المرحلة الابتدائية، وكان يصيخ السّمع لدندنات أم ياسر وهي تقف خلف المجلى في مطبخها، فوضع حجراً ووقف عليه. مدَّ عنقه حتى أصبح رأسه متلبّساً شُبَّاك المطبخ المطلّ على الزقاق، وبصبص عليها، من تلك الزاوية التي لا تطولها عينا أمّ ياسر، وكان يسمع صوتها، ويتابع دخولها إلى الحمام الذي يقع في الزاوية الغربية بجانب المطبخ.
أُمّ ياسر امرأة وحيدة في المنزل... تركت باب الحمام مفتوحاً، وتمَّ رَصْدها بدقّة، وكلما رمت قطعة من ثيابها، يدفع شادي رأسه في النافذة. استفزّه هذا المشهد، وهو الأول من نوعه، وظلَّ راسخاً في ذاكرته... وفي الصباح رافق أُمّه، وكانت المرأة بهيّة، بينما شادي يعصر ذاكرته ليُعيد المشهد إليه بكامله، حاول مراراً، وكانت الصورة غائمة، استعصت بعض التفاصيل، ورفضت العودة، وكلّما اقترب من اقتناص اللّقطة المتوهجة، تلاشت بسرعة، وغابت في شاطئ لا ترحمه الأمواج.
رسم خطّة بلهاء، وهو يجلس على طرف السرير، وبعد أن رأى الفرق بين الكلمات المبهّرة بالكذب، وبين الكتاب، ازداد تصميماً على الزواج من أمل بأسرع وقت ممكن، وبأية وسيلة.
مسح العرق عن جبينه. كانت المشاهد والصور تتبدّل، واحتلت مكانها صور أخرى أكثر إيلاماً. تذكّر ذلك الشرطي النحيف، عندما كان في أحد المتنزَّهات، جالساً على مقعد، يُزيح حقيبته عن ركبتيه، ويفتح سحّاب بنطاله، ويكشف عن "سفيره" الناعظ، لطفلتين لا يتجاوز عمر الواحدة عشرة أعوام، كانتا تجلسان على المقعد المقابل لـه. كان الشرطي يراقبه، فانقضّ عليه، ووضع القيد في يديه، ودفعه أمامه كالكلب المسعور، إلى قسم الشرطة في "المرجة"، وبعد التحقيق دون عقبات، حكى شادي كلّ ما عنده، حُوِّل إلى مستشفى الأمراض النفسية للاستشارة.
جاء في تقرير الطبيب النفسي، أنَّ شادياً كان يمارس البصبصة من نافذة بيت جارتهم أُمّ ياسر، وكعادته يقف صباحاً، أثناء توجه النساء في الحيّ المجاور لمنزلهم، في زاوية بعيدة عن الأنظار، ويُمارس أشكالاً من الشذوذ.
قُدِّم لـه العلاج اللاّزم بوساطة الحُقَن والحبوب، واستقرّ وضعه النفسي، لكنّه، كما قال الطبيب، عليه ألا يتعرّض لأزمات، وإذا حصل أن تعرّض إلى أزمة ما، فستعود إليه الحالة بأشدّ ممّا كانت عليه...
تركت الشمس مساء اليوم، بُقعاً باهتة على الجدران، وتسرَّب نور ضعيف من النافذة. تنبَّه شادي إلى شروده الطويل، وغياب ذهنه، في سرداب من المتاهات المعقّدة، ووجد صعوبة في تجاوز هذه التخيّلات المريرة. لطم خدّه. حاول نسيان هذه التصوّرات والأشجان المخلّعة، والقصص المريعة، المُقزّزة. سأل نفسه: ما الذي أوصلني إلى هذه الحال الرديئة؟ أين أمل الآن؟ زهرتي التي فقدت عطرها. فمنذ ثلاثة أيام لم أتصّل بها، وهي كذلك... عندئذٍ أسرع إلى الجهاز، وهاتفها. كان صوته أجشّ... تلاعب بالمفردات، فلا مَنْ يجيب. ركب سيارة أجرة، واتّجه إلى بيتها.
كان يلهث وهو يصعد الدرجات... قرع الجرس، مرة، ثلاث مرات.. لا أحد في الداخل.. قرع جرس الجيران.
رحّبت أمّ شاهر مبتسمة، فهي تعرفه، وتعلم أنه يتردّد إلى منزل أبي أمل، خاصة في الآونة الأخيرة... ثمَّ أجهشت المرأة بالبكاء، فَنَقزه قلبه، سألها مدهوشاً:
ماذا جرى؟ حصل مكروه لأمل...؟
هزّت أمّ شاهر رأسها بالنفي. قالت: أبو أمل. نُقِل إلى المستشفى منذ يومين، فهو بحالة غيبوبة، ولا رجاء من شفائه... إنّها جلطة دماغية!
ودَّعها. انطلق في سيارة أجرة إلى المستشفى، ستكون أمل بحاجة إليه أكثر من أي وقت، ليشاركها، رُبّما وجوده يخفّف شيئاً من آلامها.
قال وهو يندسُّ بين الزوّار: (إذا خسرت أمل والدها، وخسرت خطيبها. فماذا يتبقّى لها في هذه الدنيا؟).
***
ترك شادي الباب الرئيسي خلفه. صعد إلى الطابق الثاني. فتّش عن أمل. توقف أمام لوحة صغيرة للإعلانات (تبدأ الزيارة من الساعة 12,00 إلى الساعة 13,00).
أشارت عقارب الساعة إلى الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة. جلس على مقعد في بَهو الجناح الطويل المخصص للرجال، إلى جانب امرأة في العقد الثالث من عمرها، ترتدي بذلة سوداء...
أشاحت بوجهها عنه، ولم تكترث بوجوده. تألم وهو يحدّق في معالمها، وبهاء طلّتها ووسامتها، وأناقتها. أخرجت من محفظتها مرآة صغيرة، وأحمر الشفاه، وبدأت "تتغندر"، بينما المرضى، يتألّمون ويئنّون في أسرّتهم... اقتنع وهو يجادل نفسه، بأنّها ليست بحاجة إلى شيء، سوى إلى رجل يدلّلها، ويهبها الوقت الكافي، والحبّ الوفير، فجمالها يطغى على كلّ الأشياء القبيحة المتفجّرة في داخله. امرأة تستحقُّ لمسة من ريشة فنّان، فينتج لوحة تتصدّر أضخم، وأهم معرض فني في العاصمة، يزوره الناس من مختلف الأعمار والأجناس.
فشل في المرة الأولى، عندما حاول أن يتحرّش بها، بسؤاله الجاف، القصير، حول الدّقة في أوقات زيارة المريض. تأخرت عن الإجابة، ثمَّ تقطّعت كلماتها، بلكنة غريبة، مزيج بين العربية والأجنبية، بأن زوجها المريض في المستشفى، بسبب حادث اصطدام شاحنة بسيارته.
اطمأن شادي إلى ابتسامتها الخفيفة، بشيء من الخبث والترقب، وعندما أدارت وجهها نحوه، ابتسم لها أيضاً. أجاب عن سؤالها عن سبب زيارته، فكذب عليها، بأنّ أحد أقربائه مصاب بسُبات منذ أيام. اطمأنت المرأة الجميلة إليه، وعكس الهدوء البادي عليه، انجذابها نحوه، فهو أيضاً لطيف وأنيس وجميل، وخياله أكرم من واقعه، ويبدو الآن أكثر وسامة من الصباح... كلّ شيء يدلُّ على أنّه من سكان المدينة الأصليين.
قدَّم لها سيجارة، فأشارت إلى ملصق على الجدار، وهو عبارة عن لوحة كُتب عليها: (منوع التدخين).
احترم رأيها، ملتزماً بالإعلان. اعتذر قائلاً: لم أنتبه. عدم المؤاخذة، بكل هدوء ولطف وحماقة مستورة! قالت: منذ نصف ساعة لم أتجرَّأ على التدخين، فهنا مشفى، وليس شارعاً! وأنا "خَرْمانة" أكثر منك.
تضاحك الاثنان... وسرعان ما تبادلا العناوين وأرقام الهواتف.
أسرَّ شادي في داخله، أنّه وجد صيداً ثميناً، لا يمكن تأجيله. لماذا الزواج من أمل أو سواها. فهذه صديقة جديدة تُغنيني عن كلّ النساء، ربّما عندها مشاكل مع زوجها، وتريد أن تخرج من هذا الكابوس إلى دنياها.
أوصته قبل الخروج بعد انتهاء الزيارة، أن يرافقها، وأشارت إلى سيارتها في الجهة المقابلة.
هزَّ برأسه موافقاً... وقال: بعد انتهاء الزيارة تماماً، ستجدينني بانتظارك!
انشغل بالمواقف المُستعجلة لهذه المرأة الطارئة، المثقلة بالكبرياء، يبدو أنَّها تعيش في رفاهية وعز. والمصادفة كما قال أفضل من ألف ميعاد، في مشفى أو في حديقة عامة، أو سوبر ماركت وسواها من أمكنة، وحتى في مواقف السيارات والمطاعم والمتنزَّهات. وكثيرون يتعرّفون ويتزوجون دون سابق إشارة أو إنذار.
لا أحد منهما يبحث عن ماضي الآخر، فالماضي لا خلاف حوله، ومعرفة التفاصيل، يمكن أن تؤلم النفس، وتجرح القلب... لا أريد أن تحزني، لأنَّ ما يُحزنك يؤلمني، فأنا رجل حسّاس جداً.
تابعت المرأة خطواتها إلى غرفة في نهاية الممر الطويل، المتعدّد المنافذ، وتوقّف شادي عند موزّع للغرف، فيه أربعة كراسي، وطربيزة فوقها طاقة ورود طبيعية. تأمل في المكان. أخذ نفساً مبللاً بالمتاعب والأمل. اختلطت الأمور في رأسه، جالت في فكره، منها ما هو قاتل، ومنها ما يهيّج الروح... شعر أنَّ هذه المرأة ستفتح لـه طريقاً جديداً.
خطوتان قصيرتان يصل إلى غرفة الممرضات. كانت ممرضة وحيدة تجلس وراء مكتبها، ترتّب الأدوية والشّاش، والحُقن. ترتدي ثياب راهبة، أنيقة، وديعة، يتفجّر النُّور من وجهها، وعندما مدَّ يده لمصافحتها، ووقعت أناملها الرقيقة بين أصابعه اللّجوجة، ضغط عليها بلطف، ثمَّ تراجع إلى الخلف نصف خطوة...
وجهان يتقابلان... عيون تتساقط منها حبّات لؤلؤية، وخيوط بصر تتشابك من جديد، ممتدّة من ماضٍ قديم، فمنذ عشرين سنة لم يلتقيا...
قال شادي:... أليس.. أين أنتِ؟ ماذا تفعلين هنا؟
أنا هنا كما تراني. لقد أصبحتُ راهبة لخدمة الإنسان، وأنت؟
وأنا في خدمة الإنسان، لكنَّ الفرق بيننا يبدو شاسعاً.
لماذا توسّع الدائرة؟
الدائرة كبُرت، وكبرت لتطوّق زمناً مضى وانتهى، وهاهو ذا يعود بقالب آخر.
قالت: تفضَّل... اجلس قليلاً، ثمَّ أرافقك لزيارة قريبك المريض.
موافق حتماً على كلّ الطلبيات، قال شادي، ثمَّ أشعل سيجارة، واستأذن من الراهبة، ولم يُبالِ بموافقتها أو عدم الموافقة.
احكي يا أليس. تكلّمي عن كل شيء. سأستمع إليك بفارغ الصبر، فأنا جائع، وأنتِ أول فتاة سرقتي جزءاً من قلبي، وجزءاً من عقلي.
انتهت الأمور منذ زمن طويل... الآن لكل منا مكانة وموقع... كانت مرحلة عابرة، ورحل كلّ شيء!
تقصدين المرحلة الثانوية!
نعم!
وبعدها لم ألتقط خبراً عنك. كلّ شيء انقطع. بقايا أشياء ظلّت راسخة، تعود الآن، تتفجّر من جديد... الآن يتفجّر الزمن، ويتشظّى في أسلاك كهربائية، يعبر جسدي، ويضيء روحي المطعونة.
هل أكملتَ دراستكَ؟
تخرجت من الجامعة، وأعمل مدرّساً في ثانويات دمشق.
وأنت؟
أرسلني أحد الأديرة بعد حصولي على الثانوية العامة إلى فرنسا، فدرست الأدب الفرنسي، إلى جانب دراسة اللاهوت، وأمضيتُ هناك عشر سنوات، زرت فيها دمشق مرتين، فالدراسة صعبة، والأنظمة صارمة.
لقد نذرت نفسي للمسيح والإنسان... وأنتَ؟
لقد نذرت نفسي للحُبّ والإنسان.
إذاً... قالت أليس: نعمل لهدف واحدٍ!
ولكن ماذا؟
هل يختلف عملنا؟
يجوز!
النتائج واحدة.
أنتَ في واد، وأنا في واد آخر.
الأعماق في الطبيعة، تساوي الارتفاعات.
هذا توازن طبيعي.
كيف؟
تشكل الأرض، نقطة التماس، وهي المقياس لذلك، فما يرتفع فوقها يساوي ما ينخفض، كي يتمّ التوازن.
نحن اثنان متوازنان في معادلة الحياة.
كلّ واحد منّا يعمل من أجل خدمة الإنسان...
قالت: وبعد الموت نفترق. سأكون في راحة تامة إلى جانب المؤمنين، قرب المسيح، هناك في الجنّة، وأنت الخاطئ، تكون في الجانب المظلم، تحترق بنار جهنّم.
قال: لا ينفع هذا الجدل الآن.. فتذكَّر الماضي، وكان بداية التشوُّف والنضج، وانتهى الماضي، وإن كان ما يزال يمدُّ خيوطه، والحاضر أكثر تألّقاً واحتراماً.
يكاد الوقت المخصص للزيارة ينتهي... ولا يزال شادي يتنقّل من مكان إلى آخر، ولم يتعرّف بعد على غرفة عبد الله المُسجَّى في سريره. استدرك تأخره طلب من أليس أن تدلّه على الغرفة رقم (83).
تركته عند باب الغرفة، تأخرت دقائق عن مواعيد توزيع الأدوية للمرضى، انشغلت بصفحات ما زالت مقروءة، وخالدة في ذاكرتها ببراءة طفلة، لكنّ قلبها انفتح على مصراعيه!
أغلقت باب غرفتها... سرحت أفكارها، ودارت في سهوب الزمن المقتول. تحرّكتْ أشجان ونغَّمت ألحان. اهتزّت عواطفها. شعرت أنَّ يداً تضغط على صدرها ورأسها. أطلّت من نافذة طال إغلاقها على عالمها الدّاخلي. أسدلت الستائر، لأنَّ قلبها لا يستسلم بسهولة إلى الخطيئة، عندها تذبل أوراق الحُبّ والإيمان، بل وتموت البراعم خنقاً لو أنّها انجرفت بعواطفها.
رغبت دون إرادتها أن تخلع ثوب الصوفية والزهد، أن تتحرّر منه قليلاً، أن تفتح كوّة تطلّ منها على هذا التوهّج، عندما كانت طالبة، تتأبّط محفظتها المدرسية، مراهقة، في المرحلة الثانوية، وكيف كانت تلتهم نظرات شادي الخضراء، المراهق، المدلّل، الذي كان يجذب الفتيات فيزحفنَ نحوه ويُغرّدن حولـه كالعصافير... كيف رافقته مشت إلى جانبه في أزقة دمشق القديمة، وتعلّمت الطيران... ورغم ذلك لم تتأخر مرّة عن المنزل، فتحضر في الوقت المحدد!
ـ 10 ـ
لم تهتّز مشاعر شادي، ولم يندفع بلهفة، حينما صافح أمل، وهي تجلس على كرسي أبيض، قُرب رأس أبيها المُصاب بغيبوبة، اكتفى بكلمة، أنّه سمع الخبر من أم شاهر.
اضطربت أمل، ولم يرتقِ شادي إلى مستوى المسؤولية، وكان مزاجه في غير مكانه، وهو يردّد على مسامعها أكثر من مرّة قائلاً: متى نفقأ هذه الدُّملة؟ متى نتخلّص من هذا العفن؟ وأشار إلى والدها، فاشمأزّت منه. حاولت ألاَّ تجيب عن أسئلته!
ودّعها، وهبط الدرجات العشرين كالمجنون، مُتَّجهاً إلى الشارع، يبحث عن نازك التي كانت تنتظره وراء مقود السيّارة الفارهة، فجلس إلى جانبها. همست بودٍّ بأن تمهَّل، ريثما تنتهي من استكمال زينتها، فَبَدت متوهّجة. لن تبرح عيناه عينيها بل كانت أكثر جمالاً ممّا كانت عليه قبل قليل. مدّ يده ممازحاً. لامست كفّه كتفها نصف العاري، فابتسمت، واحتضنت يده، وكانت الأحلام نفسها تتقافز في روحيهما، وتُحلّق في هذا الفضاء الضيّق، لكنّها شردت بعيداً، تنفّستْ بوحاً، وَجَد الحرية والوقت المناسب للطيران، وعبور بوابة أُغلِقت منذ زمن طويل، وانفتحت الآن...
كان الاثنان يهجسان بانتهاء هذا اللقاء المفاجئ، وماذا سيحدث بعده؟!
بادرته نازك بسؤال: إلى أيّ مطعم... ماذا تحبّ أن تأكل؟
لم يَعْتد شادي على حفظ أسماء المطاعم والأطعمة، فكان وأمل يترددان إلى "كافتيريا" ـ أبو أنطون ـ انعطفت السيّارة نحو اليمين، تجاوزت دوّار الأمويين، بينما أشارت عقارب الساعة إلى الثانية ظهراً، وما تزال المسافة تطول، وشادي يستغرق في بحر الأحلام، يهجس بالمنافع التي سيجنيها من وراء هذه المرأة، ويوازن بين نازك وأمل، يخطئ أحياناً ويُصيب قليلاً، فعقله لا يتحمّل. إنّه الحظ الذي أنقذه من هذه "الورطة" علماً أنّه متيقّن أنَّ أمل بريئة من الأكاذيب والاختلاقات المرتَّبة التي قصّها عبد الله عليه... فهو رجل يكذب ويبالغ، وعطا إنسان انتهازي، استغلَّ الطيبة الموجودة لدى أخيه، فبلع المال والحلال وجرف كلّ ما تبقّى من أمل، وترك أخاه في عوزٍ وسُترٍ أقذر من الفقر، وهاجر...
هكذا، استعاد شادي الماضي، واستقدم منه ما يسرّه، وبين محطات تفكيره، وتداعياته، كانت نظرات نازك تسترخي على وجهه، تتفحّص عينيه، وتلامس أهدابها.
بهرها صفاء بشرته، وجاذبيته، وهي تحلم منذ صباها أن تُصادق أو تتزوّج رجلاً يحمل هذه الصفات، لكنّها بقيت خائفة، لأنّها لم تكتشف عوالجه الدَّاخلية، فأحياناً يبدو خبيثاً، ولم تعرف نواياه بعد، وأنَّ خيوطاً تتناسج ملتحمة مع بعضها، تفصل بين الكذب والحقيقة والصدق.
أصرّت ألاّ تُسلّمه نفسها بسرعة، ومن اللقاء الأوَّل، وإن شعرت بأنَّ خطأ ما ترتكبه بعد الزواج، مُكْرهة، إلاَّ أنّها تطلب الغفران.
كان شادي يُصغي بكلّ جوارحه إلى حديثها الناعم المدلّل. تسأله: لماذا تصمت؟ تكلّم! أين تسرح؟
تناول يدها، وقبَّلها بشغفٍ. همس لها أنتِ المرأة الأولى في حياتي! كان يكذب، وهي تعرف أنّّه يكذب، وقالت أيضاً: أنت الرجل الثاني في حياتي، فلا تزعل!
تعرَّج الطريق الضيّق بين الهامة ودُمَّر. طلب منها أن تُخفّف السُرّعة خوفاً من طارئ مفاجئ يُميت ما وُلِد بينهما.
أنزل بلّور النافذة. مدَّ ذراعه. فخرجت العطور ساخنة، ممزوجة بالأنفاس، ودخل الهواء النظيف، يتسلّل بين رأسيهما، يطرد دخان سجائرهما. فاضتْ السعادة، وطفحت من قلبين دافئين، وروحين واجمتين، ولحظات من الأُنس والتجاذب.
تباطأت السيارة، ثم توقَّفت بجانب مطعم "أهلاً وسهلاً" المخصّص للعائلات. وفي رُكنٍ يطلُّ على غابة خضراء، تتدرّج على السفوح، تشرف على بردى. جلسا، وتقابلا، وبعد دقائق، كان النادل يحمل دفتراً وقلماً، ويسألهما عن الطلبات من الطعام والمشروبات.
اختار طعاماً خفيفاً، وعصير البرتقال، وأشعل كلّ واحد سيجارة. مائدة عامرة بالمأكولات المتنوّعة... همسات سَكْرَى، وجمال المناظر، يُضفي على المكان بهجة وسحراً.
قالت نازك: لا تبالِ يا شادي، سأخلّصك من الاحتراق الدَّاخلي. وقال لها: كيف عرفتِ أنَّني أحترق؟ يبدو ذلك من وميض عينيك المتسامحتين. نحن من جيل واحد، لكنّك تكبرني بعامين، ولا يمنع أن تتلاقى وتتقارب أفكارنا من بعضها، ويمكن أن تتجانس في أكثر من موقع ومكان، وفي أكثر من محطة.
أنا امرأة مثقفة مثلك، وتخرجت من الجامعة بعدك بعامين، ومن الكلية نفسها... ولن أنسى ملامحك، عندما كنتما (أنت وأمل) التي لم أكن أعرف اسمها، تنتظران نتائج الفصل الثاني... الآن تذكرت تلك الصبية غير الجذابة التي كانت ترافقك.
أخرج شادي كلّ الماضي المصرور في ذاكرته، ويتصوّر أنَّ أحداً لا يضاهيه في تخزين الصور والمشاهد والمعلومات، ولا يمكن أن ينسى الأعوام الدراسية، واللَّمة التي كانت تجمع الأصدقاء والصديقات، لكنّه لن يذكر مرّة أنه التقى بنازك، أو رأى ظلّها.. (إنّها تكذب).
ضغط على جبينه. حاول أن يعود إلى سجلّه، ويقرأ مذكَّراته... بدأت الشّكوك تنهشه. تجاوزت اللقطات المخيفة المتسرّبة من تحت قُبّة رأسه، وجلده، وكانت صورة أمل تحتلُّ أكبر مساحة من ذاكرته.
المفاجأة الكبيرة التي صدمته، وصعقت روحه، هي الكذب المتسلسل الذي بدأ يطعنه من الداخل. فهو رجل يكره الكذب، قبل أن يغرق في هذا البحر، وقبل أن يقرأ كتاب عطا حرمون، ويسمع بإقليم الكاب. يبدو أنَّ نازك، هي المرأة الوحيدة القادرة على محاكاتي، فهي تملك قلباً وعقلاً وكذباً يلوح في أُُفق العلاقة الجديدة. ويبدو أنَّها صاحبة تجربة مع الرجال، ومن أين ابتدعت هذه الأقاويل، وحبكت هذه القصص. لم أبصرها في حياتي. تباً لك يا أمل، فأنتٍ حصني وملاذي... فالأيام هي التي تبدَّلت، أما أنا فمازلت على عهدي وموقفي. وإذا تحوّلت السَّاقية عن مجراها الأصلي، فسأبذل جهدي، كي أُعيدها إلى ما كانت عليه.
ساقية جديدة، تدرُّ الخير عليَّ، وتسقي جسدي وأرضي، سأرافقها إلى ما بعد دُمَّر، وإن وافقت فإلى بيروت. سأستمع إليها بصبرٍ، بلا ردّ فعل وخشونة، أو مُهاترة، إنَّها امرأة جميلة وغنية، فَرَشت صدرها بالذهب. وكما قالت قبل قليل: إنَّ زوجها لا يضاجعها، فهو رجل "عنين"، فترك لها الحرية، بأن تُمارس حياتها كما تشتهي وتريد، فتسافر إلى أوربا وتركيا، وتعود متى ترغب. تغيب عن المنزل، وتعود، تزور صديقاتها، وأصدقاءها متى تشاء!
تفجّرت نظراته في وجهها. تخلّص من حملٍ أرهقه، عندما دسَّتْ قطعة لحمٍ في فمه، فعادت روحه إليه، وقالَ: لم أرَ وجهك من قبل؟ قالت: أنتَ تتنكَّر لأيام الجامعة الحلوة! ألا تعرف الشاب الأسمر، الطويل عُمَر، وصديقته سهام.
أشعل سيجارة، سحب نفساً بقوّة، وامتصّت شفتاه نصفها. قال: عُمر! مَنْ هو هذا اللَّقيط، الغبي، الذي تسألين عنه، وتستقدمينه، ليشاركنا طعامنا وشرابنا، ويُعكّر صَفْونا، ومذاق هواجسنا، ويسرق منّا أوكسجين حُبّنا!
كأنَّ سلكاً كهربائياً مسّه بسوء، فنهضت في داخله الذكريات الرمادية، وتصاعدت ألسنتها، بينما كانت نازك تتلو صيحات رغباتها ونيّتها المبيّتة، كلطمة في وجه شادي، ولا يعلم ماذا تخطط، وتَضْمُر في قلبها، وكيف تستبق الأمور. فاتّصلت بعمر من المستشفى، واعترفت أنّها وجّهت الدعوة لـه، ولزوجه سهام، لتناول طعام الغداء، في مطعم (أهلاً وسهلاً).
التفتَ شادي إلى الجهة الشرقية، محاولاً إبعاد الظّن الذي يساوره، بقدوم عمر في هذا الوقت، ولماذا اتصلت به نازك؟ قال في نفسه: (هذه امرأة عاقر، خَلْطة غريبة ستضع في طريقي رزمة عوائق، ومفاجآت غير سارة!).
أطلَّ عمر وزوجه. أومأت نازك لهما، واتَّجهت نحوهما عدّة أمتار، مُرحّبة، بينما ركَّز شادي هندامه وجلسته.
أزاحت نازك كُرْسياً بجانبها، وقدمته لسهام، وجلس عمر بجانب شادي. قال عمر: ما هذه المفاجأة الكبيرة، انتظرها بفارغ الصبر، وكيف تمّت؟ ومتى؟ وأين؟
تتالت الضحكات. حاول شادي ألاَّ يكشف عن وَضْعه النفسي، ويبيّن لهم أنَّ وضعه طبيعي جداً... وليس من السهل رفع الستارة، وكشف المخبّأ تحتها، وهو رجل يدّعي أنّه لا يسمح لأي كان أن ينهشه بهذه البساطة والسرعة، فحفّز حواسه وبدأ يجمع كلّ المفردات الملغّزة، كي يكون قادراً على نزع الألغام، لأنَّ أي لغم ينفجر يمزّق الورق واللحم والأفكار والمخططات.
عاد شادي إلى أيام الدراسة الجامعية. دقّق.. تأمّل من جديد الروابط التي كانت بينه وبين عمر، وما كان يجمع بين أمل وسهام، كزميلتين تعرفان بعضهما أثناء المحاضرات وفي الاستراحات.
باحتً نازك لعمر، كيف تمَّ التعارف بينها وبين شادي في المستشفى الطلياني، وكيف كانت رغباتهما، لبناء صداقة، ورُبَّما أكثر! وأوضحت لشادي أنَّ عمر يدير شركتها، منذ عشر سنوات، عندما كان طالباً في الجامعة، لأنَّه يدرس الإنكليزية، فهو المسؤول عن العقود والصفقات التجارية، والمبيعات، وتصدير الألبسة الرياضية إلى عديد من دول العالم.
سأل عمر مُتباهياً: كيف حال أمل؟ انقطعت أخبارها بعد التخرّج. التقينا مصادفة منذ ثلاث سنوات ونيّف في معرض الكتاب، وحَكَت لي أموراً عديدة. أمّا أنت أيّها الشَّقي، ففشلت كلّ محاولاتي لتتبّع أخبارك. فها قد بدأ الشّيب يُبشّر في تقدّم العمر. وأنتم المدرّسون سرعان ما تشيبون، وأنتَ لم تسمع نصيحتي، عندما حذّرتك من هذه المهنة الشَّاقة، فهي في المرتبة الثانية بعد عمّال المناجم. وكان جوابك، أنّك تحبّها وتقدّسها، لأنّها مهنة مقدّسة وشريفة، وعلى أساسها ينهض الوطن وتزدهر البلاد!
قاطعه شادي مبتسماً: ما أزال أكره العمل الوظيفي!
ألا ترى أنّها مهنة محدودة الفائدة؟ أتصوَّر أنَّ موقفك لم يتغيَّر أيضاً من الزواج والإنجاب! تدخّلت سهام. تساءلت عن موقف أمل، ومصيرها... وقالت: أنا مثل شادي أحبّ التدريس وتؤيدني أمل كذلك. ونحن الثلاثة مصيرنا واحد. وعلى كلّ حال، يأخذ كلّ واحد نصيبه في هذه الحياة.
تراقب نازك الموقف دون تدخّل في شؤونهم، ولم تجب عن أيّ سؤال لا يعنيها مباشرة إلاَّ أنّها أظهرت كرماً حاتميّاً، وازدحمت الطاولة بالمأكولات، من السمك المشوي، واللحم والسَلَطات والمقبلات والشراب...
قالت: مدّوا أيديكم يا جماعة.. الأكل ينتظركم. هل تريدون أن أُطعمكم بيدي. سيبرد الطعام، ولا يساعد الكلام على هضمه، واشربوا ما طاب لكم، وتبادلوا الأحاديث، كما تريدون.
طمأنهم شادي أنَّ أياماً تفصله عن الزواج، وسيكونون في طلائع المدعوين، لكنَّ أمراً طارئاً (مرض والد أمل المفاجئ) عرقل زواجنا.
قاطعته نازك موضّحة أنَّ أبا أمل في غيبوبة، وهذا هو المانع الوحيد الذي أخّر الزواج. وأشاد شادي بمعرفته بنازك، وأنَّها امرأة جميلة، وصادقة، وفهيمة، علماً أنَّ معرفته بها لا تتعدّى السَّاعات.
انفتحتْ شهيّة الجميع، فأكلوا وشربوا وتحدّثوا بمحبّة، وفتحوا صفحات جديدة في سجّلات ذكرياتهم، وآفاق المستقبل.
تسلَّل الغروب. انحنت الأشجار في هذا المساء الدافئ بالحنان. وَجَّه الجميع أنظارهم إلى قرص الشمس الهابط خلف سلسلة جبال لبنان الشرقية. تسرَّبت نسائم لطيفة، بين الرؤوس والكؤوس والصّحون، ومسحت أطيافهم. عَبَرت بينهم شاردة، لا تعرف كيف، تخرج.
انتهى اللقاء الحميم في الظاهر، المُبطّن في الدَّاخل، فكلُّ واحد كان يضمر للآخر، ما يحقّق طموحاته الذاتية، ومآربه الشخصية.
ركب عمر وزوجه سيارتهما. ودَّعا شادي ونازك حينما كانا يتهامسان. انتظرا دقائق قليلة، ثمَّ انطلقا، لكنهما بعد خمسة كيلو مترات، غيّرا نحو اليسار وسلكا طريقاً فرعية، توزعت قُرى بردى على جانبيه. وعندما سألها شادي: لماذا هذا التبدّل المفاجئ؟ وقرأ اللّوحة على يمين الطريق (منين تُرحّب بكم). كانت إجابتها قصيرة: رغبة في السياحة وأعرف أنّك لم تخرج من المدينة يوماً، ولم تتعرَّف على غوطة بردى!
قال: كما ترتئين. أنتِ سيّدة الموقف، وكلّ المفاتيح بيدك، حتى مفتاح قلبي، أصبه بين أناملك بخشوع!
أدرك بعد أن قطعا مسافة طويلة، أنهما يتّجهان إلى شمالي المدينة. وهناك بيت نازك، وسيكون هذه الليلة ضيفاً محترماً.
في السادسة مساءً توقفت السيّارة بجانب رصيف، أمام بوَّابة رمادية واسعة، وبناء مؤلف من طابقين، كفيلة تشرف على حديقة كبيرة، تتوسط حيّي القصور والتجارة.. بوّابة لها قبضتان نُحاسيتان. وعندما مدَّ يده لوداعها، شدّته من كتفه، قالت لـه: ليس من مهربٍ... الليل لنا..
قال: وزوجك!
مسافر! سيمضي إجازته الأسبوعية في زيارة والدته في مدينة حلب... وإذا علم بما يدور بيننا؟!
له شقة صغيرة في الطرف الغربي من البناء...
ألا يتعكّر مزاجه أو تضرب الغيرة رأسه؟!
قلت لك، إنّه رجل عنين لا ينفع ولا يضر!
كيف؟ أليس زوجك؟
العُصْمة بيدي... الوفاق بالرضا هو الحاكم العادل بيننا...
وافق شادي.. اطمأنَّ... وصعدا معاً يداً بيد، وكتفاً بكتف، ثمَّ سبقته، وفتحت الباب، ودفعته أمامها. وكان يسمع كلمات الترحيب، ورنين حذائها فوق البلاط الإيطالي اللّماع..
ـ11 ـ
وصل شادي إلى منزله في (عين الكرش) متأخراً. أضاء النُّور الخافت في الصالون. خلع ثيابه، وأخذ حماماً دافئاً. غسل جسده. أزال عرق الهموم.
دقّت السَّاعة الجدارية الثانية عشرة ليلاً، ثمَّ أسرع لإسكات الهاتف الجائع للرنين. فرح لأنَّ أَليس تخاطبه من الجهة الأخرى.
لم يكن الاتصال مفاجئاً، لا يزال صوتها يخفق بجناحيه في فراغ مقيت، وذكريات طحنها الزمن، لكنَّها لم تقدر على البقاء، فتسرَّبت كالمياه دون رجعة.
ـ ألو... أليس.
ـ شادي.
ـ نعم شادي.
ـ كيف حالكَ؟
بخير!
أين كنت. لقد اتَّصلت بك عدّة مرّات ولم أجدك!
أشمُّ رائحة الأدوية عبر الأسلاك.
لا تزعل.. لأنَّ...
مات... الله يرحمه..
توفي الرجل قبل أربع ساعات، وأمل وحيدة. أرجوك الحضور لمساعدتها، فهي حزينة جداً تندب أباها، وفي حالة يُرثى لها.
كانت أمل بجانب أليس، سمعت أنّه يطلب محادثتها.. وفعل مُعزّياً بفقيدها الغالي وجاء صوت أمل مجروحاً، مخرَّشاً، فيه بحّة حزينة، كأي بنت تفقد أباها.
قالت لـه: احضر حالاً، فأنا وحيدة، وأنت الوحيد الذي تقف إلى جانبي في هذه اللحظات. ساعدني يا شادي!...
استجاب شادي للنداء، وقال لها: سأكون بأسرع وقت في المستشفى إلى جانبك.
* * *
نجحت خطتي… موت عبد الله، سيخلّصني من هذا الفراغ المتسلّط عليَّ، ومن أقذر رجل عرفته في حياتي. ارتدى ثيابه على عَجلٍ. وقف أمام المرآة. جفّف شعره، وصفق الباب خلفه.
وعندما وصل إلى الشارع يبحث عن سيارة أجرة، راودته أفكار شتّى مرَّغت تداعياته بالشتائم والشرور..
عاد إلى المنزل عَجلاً، وفتح التلفاز، وتابع فيلماً فرنسياً مترجماً إلى العربية، وبقي أمام الشاشة الصغيرة حتى الرابعة صباحاً، ثمَّ استقلَّ سيارة وانطلق إلى المشفى الطلياني.. وكانت أليس وأمل في انتظاره.
* * *
عينا أليس تتفحّصانه بالطول والعرض. ركَّزتا بؤرتيهما على وجهه الذي بدا أكثر توهّجاً. وكانت أمل حزينة جدّاً!
جلس الثلاثة في غرفة التمريض، ينتظرون قدوم الشروق بفارغ الصَّبر، ريثما يبدأ النَّهار. وتكفَّل شادي بإكمال الأوراق، ولصق أوراق النَعْوة في الشوارع المحيطة بالحيّ، وتأمين مسلتزمات الجنازة. بينما كانت أليس تُحضر القهوة. استغلَّ شادي وأمل غيابها.
أمسك شادي يد أمل. شدَّها نحوه، وقبَّل جبينها... قال لها مُعزّياً ومواسياً، خفَّف عنها بعض الأحزان الثقيلة، طمأنها أنّها ليست وحيدة، وسيظلُّ إلى جانبها، إلى أن يأتي الموعد المناسب للزواج.
رنّت هذه الكلمات في أُذن أليس، وهي قادمة، تحمل صينية القهوة، وشكرت الله، أنَّ شادياً لم يَعُد ذاك المراهق، لا همَّ لـه ولا غمّ إلاَّ مطاردة الفراشات، فقد أصبح رجلاً بكلّ ما للكلمة من معنى. وأردفتْ: هذه هي أحوال الدنيا. ولادة وموت، ولا أحد سيخلّد، المحبّة هي الباقية.
أيّة محبّة تقصدين... قاطعها شادي.
محبة المسيح..
ومحبّتنا!
محبّة الأرض غير محبّة الخلاص..
ما الفرق؟
محبة الأرض فانية. أمَّا محبّة المسيح... الإيمان، فهي الباقية.
تركهما شادي. كانت الشمس تطرق النوافذ والأبواب. رافقته أمل إلى الباب الخارجي، ودّعته وهي تقول لـه: اطلب إذناً من مديرك، وجهزّ كلّ الأوراق المطلوبة من المختار، ومكتب دفن الموتى، وارجع إليَّ عندما تنتهي، لننقل والدي إلى المسجد القريب من المنزل للصلاة عليه. ودفن المَيْت رحمة لـه.
مساءً توافد المعزّون من رجال الحيّ. ترحَّموا على أبي أمل. نعتوه بالصفات الحميدة، وعلى مدى ثلاثة أيام متتالية كان شادي يستقبل الناس. وقدَّرت أمل هذا الموقف الذي يُعبِّر عن نُبْله وأخلاقه، وشهامته. وأعاد هذا الموقف الشريف شيئاً من الأمل، وأزال العوائق من طريقهما، ولم يَعُدْ أحدٌ يُعكِّر صفاءهما.
أصبحتْ أمل غُصناً وحيداً مقطوعاً من شجرة. قالت لـه وهي تودّعه في اليوم الثالث للعزاء: ستعود غداً... أنا بانتظارك!
ابتسم لها، وطيَّب خاطرها بكلمات أنيسة أعادتْ إليها قُدسية الماضي الجميل...
وقال: سأعود، ولكن في المساء، فجّهزي نفسك لاستقبال عُمر وزوجه سلمى ونازك صاحبة الشركة التي يعمل فيها عمر...
أعرف عمر وزوجه يا شادي، ولكن مَنْ هي هذه المرأة التي تُسميّها نازك..
لا تقولي لا أعرفها، فعندما تحضر سيكون لنا حديث آخر!
ـ 12 ـ
أصبح الطريق أمام شادي سالكاً، مفتوحاً، والفضاء واسعاً، رحباً، على مداه. تتقافز أفكاره، وتتحرّك في كلّ الاتجاهات كما يشاء.
جلس وحيداً، لا يُعكّر وحدته وصفاءه، سوى زعيق سيارة إسعاف، وجَلَبة في الشارع قرب منزله.
تأسَّف على حادث أليم، في هذا المساء، مكلل برائحة الموت، فعاد الحزن يتربّص به من جديد، أو قُل إنه لم ينقطع سيله..
حادث أليم نفَّذه سائق أرعن، فحطّمت سيارته التي تجاوزت خط سيرها، وصعدت على الرصيف، وهدَّمت زاوية البناء، ونتج عن الحادث وفاة امرأة مُسنّة وابنتها.
اشمأز من المنظر المريع، وعاد إلى بيته. تناول من رفّ مكتبته الكتاب المُحبّب إليه، وقلّب صفحاته، وتمعَّن في صوره.
كان النّهار بطيئاً، ثقيلاً. وكان شادي يروّض أفكاره، ويركّز تصوراته ورؤاه، لكن بعضها كان يفلتُ، ويتطاير كالبخار من رأسه، وتتقاذفه الأفكار، مرّة بشكل متطرّف، ومرّة بشكل معتدل، فكان يتخبَّط كموج هائج، يمدُّ لسانه فوق صخور الشاطئ المتقدّمة في مياه البحر، ثمَّ ينحسر الموج خائباً إلى مكانه في أعماق اليمّ.
هكذا تقطّع الزمن في هذا النّهار، وكانتْ الساعات بطيئة خاوية، لا تكترث بأحد، وبمشاكله وهمومه، تكاد تطحنه، وتثقب عقارب الساعة عينيه، وأشجانه، يدور معها، يحاول تحريكها دون فائدة، وتتقطع الصُّور، المستجيبة أحياناً، والرافضة أحياناً أخرى، المتراكبة، المُصابة بانزياحات شريرة، فيمسح عنها غبار التردّد والكآبة. ينهض مُتحمّساً، يردّد خطاباً متآكلاً، سيواجه فيه أمل، لكنّه يهدس. تتبَحْلق عيناه أمام مرآة فوق المغسلة. يحززها بموسى حادة في الطول والعرض. ويتحوَّل سطحها إلى شبكة من الخطوط، وعشرات المربعات الصغيرة.
خرجت صرخاته مدوّية، متمرّدة من النوافذ. قال: هذا مخطط المدينة. هذا منزلي، وهذا منزل أمل، ونهر بردى، والسبع بحرات، وشارع بغداد، وحي العمارة. من هنا دخل خالد، وفي هذا المكان أصبح بولس قدّيساً. أنا فيلسوف الدنيا. أنا زير نساء مخضرم، ثمَّ قطّع صورة أمل التي كانت تؤنس وحدته، وتتصدّر جدار الصالون. جزَّأها إلى قطع صغيرة.. الرأس... اليدين... الفخذين... القدمين، ووضع كلّ قطعة في مرّبع فوق سطح المرآة.
ثبَّت القطع بلاصق. أغار على صيدلية الأدوية المعلّقة في حائط الممر الذي يصل بين غرفة الجلوس والمطبخ، ووضع حبَّتي مُسكّن من عيار "5 ملغ" في فمه وبلعها. أخذ يغدو ذهاباً وإياباً في الصالون الواسع، وبعد أن أُنهك، لم يعرف ماذا يفعل. تشتت ذهنه بمئات الصور، والتشوّفات، والاحتراقات، والآمال المكسَّرة في جرّة روحه. وفاضت ذاكرته بأشتات المصائب، استلقى على الأريكة، واسترسل في نوم عميق.
صَحا قُبيل الغروب، وكأنَّ أمراً لم يحدث لـه، وجهَّز فنجان القهوة الثقيلة، وعاد إلى الشُرْفة، بينما الغروب الجميل كان يُغطي الشارع الفرعي، والأبنية المجاورة، ويتسلّق الأَشجار.
ابتسم ابتسامة عريضة. قال: إنّها المربعات التي حرّرتني، ثمَّ أحجم عن التفكير بأيّ هاجس يلوّث سعادته، فارتدى بذلته البنيّة، وحذاءه البنّي، وسرَّح شعره. توقّف مليّاً عندما رأى شعرات بيض. حاول إحصاء عددها، ففشل، وتكهَّن خاطئاً أنَّ هذه الشعرات التي غَزَت رأسه وفوديه في حروب الزمن المتتالية، حديثة العهد. جاءت نتيجة للفرح العارم، أو نتيجة للشيخوخة والتفكير الصارخ في أعماقه.
وأثناء تقليبه للصفحات البائسة، كانت سيارة نازك تقف أمام المنزل، فهبط مسرعاً عندما سمع زمورها لمرتين متتاليتين، وغرق في نهر الفرح، وعَام على سطحه، وردّد أهزوجة حفظها منذ الصغر. التقط مفرداتها عندما كانت يتلصَّص على أُمّ ياسر صديقة أُمّه من نافذة المطبخ.
فتحت نازك باب السيّارة. وقفت تنتظر قدومه. كانت القُبلات الحارة والعناق الطويل بينهما. مدَّ شادي يده من النافذة الخلفية، وصافح سلمى وزوجها عمر، وكانت المفاجأة عندما وجد أليس معهم، وهو لا يرغب في وجودها، وفهمت عليه نازك، واستبقته قائلة: رافقت "أليس" زوجي أثناء خروجه من المستشفى، كي تشرف عليه في ظهيرة هذا اليوم، فهي ممرضة ماهرة، تعالج الروح والجسد، وعندما عرفت أليس بزيارتنا لأمل لتعزيتها أصرّت على مرافقتنا، ونحن بحاجة إليها.
أردف شادي مُناصراً، قال متلعثماً بالمفردات: لا مانع من وجودها معنا، فهي صاحبة أخلاق عالية.
ابتسمت أليس، وشكرت اهتمامهم: سأبقى نصف ساعة، وسأعود إلى المستشفى، لأنَّ المرضى بحاجة إليَّ.
فتحت أمل البوَّابة العريضة في شارع قديم مبلّط من الحجر البازلتي. رحّبت بهم. لمع وجهها المدوّر الأبيض. كانت ترتدي ثياباً سوداء. تابعت قامة شامخة، الأبرز بين الضيوف، وقبل أن تسأل عن نازك، همس شادي في أُذنها: هذه معلّمة عمر، صاحبة الشركة، تقدَّمت نحوها وعانقتها، وصافحت عُمر وزوجه الذي طلب منها ألاَّ تحزن، قال: يكفينا حُزْناً، سنموت كلّنا، ولا أحد سيخلّد في هذه الدنيا!
انفرجت أساريرها، عندما ذكّرتها سلمى بأيام الجامعة. هنأتها أمل بزواجها من عمر، ولامست يدها بطن سلمى المنتفخ، تمنّت لها أن تقوم سالمة، وأن تنجب طفلة تشبهها، ويكوّنا أسرة تعيش بودٍّ ومحبّة.
وبعد أن شربا القهوة. قامت أليس وودّعتهم. مُتَّجهة إلى المستشفى، بينما بقي الخمسة في لمّة آسرة.
جلست أمل على كنبة في زاوية تتجمّع فيها أنظار الجميع، وكانت توزع عليهم الابتسامات اللطيفة، وراودتها الشكوك، وهي التي تعرف جيّداً الحالة النفسية لشادي، والتردّد الصاعق الذي يعود إليه بين آونة وأخرى.
وصمّمت في نفسها بأن لا لقاء بعد اليوم مع شادي، عندما أمسكت ببعض الخيوط التي مدّها خارج مساحة حُبهَّما. تذكرت جملة قالها في آخر لقاء تمَّ بينهما في "كافيتريا" ـ أبو أنطون ـ حينما احتدم النقاش بينهما، فاتّهمته بالمراوغة، والكذب، ووضع العصا في دولاب العربة، ولم تنفع حججه غير المقنعة التي رماها مُبرراً موقفه، بأنَّ والدها هو العقبة الكأداء، الوحيدة في طريقهما.
ساد الصمت.. ازدادت نظرات نازك احتجاجاً.. نظرات غير بريئة، مُلطَّخة بالغيرة والحسد، وكأنَّ أمل تتحضّر لاختطاف شادي من قلبها، الذي التصق بنازك حتى تلاحم كتفاهما وفخذاهما.
اخترق صوت شادي الصمت المشوب بالحذر، ونفَّذ إرادة نازك، وأحضر معه الكتاب، ليكشف الزيّف، كما يدّعي الذي يبيّن الحقيقة، كي يعرف كل طرف موقعه، وإحداثياته، كما طبّقّه عملياً، وهو يحزّ سطح المرآة، ويرسم شجرة العائلة "آل حرمون" كما رُسِمت في الكتاب، وأنَّ أمل وعمر لا يدريان بما يحصل، ولا يعرفان ماذا يجري، وكيف تسير الأمور؟ حتى إنَّ عُمر يجهل أيّة صلة قائمة لـه مع آل حرمون. وكانت معرفته بأمل عابرة خلال سني الدراسة الجامعية.
وافترقا في طريقين... والآن كان اللقاء مصادفة.
أصرَّت أمل على ضيوفها أن تُحضّر لهم عشاءً خفيفاً، فرضخوا لقرارها، ورافقتها نازك إلى المطبخ، ولحقت بهما سلمى.
استغلَّ شادي وجوده وعمر، منفردين. تلهّى عمر في تقليب صفحات مجلّة (طبيبك) الشهرية، القديمة. وتعترف أمل بأنّها تقتني كلّ أعدادها.
فتح شادي جعبته الملأى بالحماقات، أغمض عينيه. كان ساهياً في مرابع الليلة الفائتة، وتلاحقت، وتزاحمت المشاهد الرائعة، وظهرت على شاشة الأحلام الوردية، الحبيبة نازك، الرافلة بثوبها الشفيف، الزهري، ويظهر عنقها الحليبي، وصدرها المصقول كحجر الصّوان.. فعندما لمح قامتها الرخامية، تقافز بصره فوق جسدها، تغلغل مخترقاً مسامات جلدها، فقبع بين دفئين ونَهْدين، وخطا نحوها متكالباً، وقحاً، وكانت راضية، فهي التي قادته إلى بيتها، لتكشف عن بهاء ضوئها وجمالها، وقدّمت روحها وجسدها بأقل الأثمان.
وعندما شمَّ رائحة الطعام في مطبخ أمل، تذكَّر أنّه تناول من يد نازك صينية فضّية، ملأى بأطعمة لم يذقها طوال حياته. قال لها آنذاك: أنتِ امرأة بورجوازية، تنعمين بكلّ أطايب الدُّنيا. وجلسا معاً يشربان، ويأكلان. كانت الأضواء تكشف لهما عن قلبين عاشقين وروحين ساهمتين في نفق عميق، بعيداً عن الأضواء والناس.
أزاح شادي قبّة القميص من الجانبين، وكشف عن كتفين مدلوكين رهيفين، وهمس حُبّاً صافياً، وطبع قُبلة طرية على خدّها، ثمَّ قُبلات من الفوضى بشفتين مرتجفتين.
لم يُصدّق ويقنع نفسه أنَّه يعيش لحظات كقصص ألف ليلة، تتحوّّل دون أن يدري إلى مسلسل عشق طويل، ويتأسّف على تلك الأيام الضائعة التي تلاشت قُدسيّتها وطهارتها.
أسرَّ لنازك أنَّه كان راعياً يتيماً في وادٍ سحيق، بين جبال مكلّلة بالثلوج والبرودة القارسة. وأنَّ ليلة واحدة بجانبها تساوي نصف العالم.
وفي المقابل احتضنت نازك رأس شادي الذي استغلَّ لمستها الناعمة، فارتخى على فخذها، ثمَّ تسلّلت أصابعها على خدّه، بينما كان دفء أناملها ينخر عظامه، ووجع مزمن سرق وأطاح بخياله في هاوية جديدة سحيقة.
طوَّقت عنقه، قبّلته بشغفٍ، وقبَّلها بتحرُّق. رَوى يَبَاسه، وهذه التربة المتشقّقة من قلّة المطر، ولم يشبع، فأكل وشرب. ملأ معدته، فاضت روحه. تجمَّدت قريحته، واحترقت أوراقه، وأعشاب الذاكرة. تناثرت كلّ الصُّور التي قال أنَّها ألبوم من الغشِّ الفاحش. تساءل: لماذا صَحَوْتُ متأخراً؟ لماذا ركضتُ دون وعي هذه المسافة الطويلة، وبقيتُ أتلظّى، أتجرَّع لذَّة وهمية، مُشْبعة بالنظريات والنّصوص والمثاليات!
لماذا أُسخرِّ نفسي وسنوات عمري لهذا الانتماء الطبقي؟ لماذا لا أُجّمد أفكاري، وجرعة واحدة من الهواء الجديد المستورد تُخلّصني من خدري؟!
الليلة الفائتة لم يحدث مثيلاً لها في حياة شادي. تمزَّقت المشاهد والرؤى التي كان يحترم قُدسيتها، وينصاع إليها راكعاً، عندما كانت أمل تُقدّمها لـه على طبق من ذهب. كان يقارعها ويجادلها، ويُصوِّب سهامه إلى صدر الكذب والرياء. يتّهمها أحياناً بالمغالاة، وتتّهمه أحياناً بالكذب!
المائدة عامرة بالمأكولات. تقابل عمر وسلمى، ونازك وشادي. بقيت أمل واقفة على رأس الطاولة توزّع ترحيبها عليهم، ثمَّ جلست تُبحْلق بهم. حاولت أن تشاركهم الحديث، ففشلت، بينما شادي يتهامس ونازك وعمر وسلمى، يتبادلون تقديم قطع اللَّحم لبعضهم بعضاً، وتتعالى ضحكاتهم.
رفع شادي رأسه، قال: إنَّ أموراً قد طرأت على المشهد، وحدَّق الجميع رافعين رؤوسهم، وهم يعلمون مسبقاً ما قاله بأنَّ لمّتنا لم تأتِ عن عبثٍ، فقد خطّط لها.
ألقوا الشّوك في الصُّحون، مضغوا ما تبقّى من طعام. نظروا إليه بإعجاب، حثّوه على الكلام، فمدَّ يده إلى مُغلَّفٍ، أخرج منه ورقة من النّوع الصقيل، رُسِمت عليها شجرة وارفة، عرضها عليهم. لها جذع ثخين وأغصان ملوَّنة. ينتهي كلّ فرع منها بمستطيل لـه إطار أسود رفيع، وتظهر بوضوح أسماء الأصول والفروع لعائلة حرمون القادمة من منطقة جبل الشيخ في القرن الثامن عشر. الجدّ الأول اسمه "حرمون"، والجدّ الثاني تكنَّى بـ "فرعون" الذي هَجر المنطقة لشدّة برودتها، واستقر في المدينة.
شرح شادي تسلسل الجدود والآباء والأبناء والأحفاد، إلى أن وصل إلى فروع الفروع وأبناء الفروع.
توقّف عن الحكي ليُجيب عن سؤال نازك التي كانت اطَّلَعَتْ على شجرة العائلة ليلة البارحة: مَنْ هو عطا وعبد الله، أنا أجهل هذه الأسماء؟! قالت: تيقنتُ الآن من أصل أمل، ونَظَرت إليها بازدراء وسخرية، ولم تسمح لها أمل بمتابعة سخريتها وفوقيتها. ردعتها بحزم، وقالت: أنا فخورة بأصلي.. إننا عنيدون، جبليون، رؤوسنا قاسية وصلبة، لكننا أنقياء القلوب، وإنَّ "حرمون" كان وسيظلّ يُغذي جذوره من منابعه. أمّا القادمون من مناطق مجهولة الهوّية، الذين لا يفتّشون عن أصولهم، ولا يعرفون فروعهم، فهم نكرة!
احتدم النقاش بين نازك وأمل. كلّ واحدة تتّهم الأخرى. وفي الحقيقة كانت أمل تقصد صاحب الأفكار الغريبة "شادي"، فواجهته بالحقائق، وقرأت اعترافاته لها وقالت بأنه يجهل أصوله. يعرف نفسه أنّه ولد في هذه المدينة التاريخية القديمة، صاحبة الأوابد والأمجاد. وكانت أُمّه تقول لـه: انحدرنا من الريف بعد تتالي سنوات القحط في مطلع القرن العشرين، وكان والدك بُسْتانياً ماهراً في غوطة دمشق، يعمل مُرابعاً في أرض "الإبش".
كل شيء قابل للتحوّل، قال شادي، في هذه الدُّنيا، فأنا أحتقر نفسي لأنّي أنحدر من طبقة وضيعة، لا همَّ لها إلاَّ توصيف فقرها، وطموحاتها، والوصول إلى مآربها بأية وسيلة. طبقة تنمو على هامش المجتمع في أطراف المدينة، تطوّقها بأحزمة فقيرة، ولولا جهودي وعرقي وعملي الدؤوب لما وصلت إلى هذه المرحلة، وانتقلت إلى قلب المدينة.
لم آتِ بكلمة زائدة، كل ما قرأته في الكتاب، وهي المصادفة التي جعلتنا نتجاذب هذه القصص. كلّنا أولاد آدم وحوّاء... لم أدرِ أنَّ عطا، عمّ أمل، هذا المليونير السوري الإفريقي يضخُّ الأموال، كأنه يضخّ الماء من بئر عميقة..
أخرج مجموعة صور، ووزّعها عليهم. كانت أمل قد رأتها سابقاً. أشار إلى صورة عُمر، الذي صعقته المفاجأة، عندما تأكدّ أنّ أُمَّه التي لا تزال على قيد الحياة, واسمها (هُدى بنت أحمد السوَّاس) هي زوجة عطا حرمون عمّ أمل.
نهض عمر مغتاظاً مشكّكاً بصحّة المعلومات. غضب. أزبد، كاد يغيب عن الوعي، انقلبت السَهرة إلى فضيحة وفاجعة. لطم رأسه، لم يسكت إلاَّ عندما أومأت إليـه نازك بيدها، فهَمَد خوفاً من فقدان عمله في الشركة.
غصَّتْ الكلمات في حلق أمل، من هول المفاجأة، وهجمت على عمر
(ابن عمّها)، تتهاطل دموعها سخيّة، وَجدت مَنْ تستنجد به، وجدت الرجل الذي يحميها من غائِلة الرذيلة والدسائس الموجعة، لكّنه صدّها قائلاً: لا قرابة، لا صلة دم بيننا، أنا من رَحم هدى، وأبي لا أعرف كيف مات! ونهرها بصوت صاعق، فتراجعت إلى مقعدها، بائسة، ملوَّعة، شامتة، مقهورة، مخذولة. هدأت الأجواء المشحونة قليلاً، وتسمَّرت العيون بذهول وغرائبية، كأنَّ كابوساً مرعباً حطّ بحمله الثقيل وحلَّق، ثمَّ هبط كالصقر، ينقضُّ على فريسته، فتهدّلت الأفكار، وتراخت نائحة. اختلفت الأمور الآن، وتباينت الرغبات، ازداد الهمس.. تساءل الجميع: أمن المعقول أن يحدث هذا، أن يكون عطا والد عمر، وله زوجة اسمها هُدى، قبل أن يشقّ طريقه إلى المَهْجر؟ ظلّت الأسئلة تتكرر، وتتكرر، وغادر الجميع منزل أمل في منتصف تلك الليلة، وهم بين النائمين والصّاحين، ولم يحصلوا على الجواب الشافي!
ودّع شادي أمل، طمأنها بأنّه سيتصل بها صباحاً، كي يتّفقا على موعد الزواج، وعندما حاولت تأجيل الموعد لحينٍ آخر، لأنَّ حالتها ووضعها لا يساعدانها على التفكير بهذه المسألة الآن. قالت: اتركني أياماً لأرتاح وأفكّر. قال: أعلم أنّه لا يجوز أن نُعلنِ عن زواجنا في هذه الظروف، ولم يمضِ على وفاة والدك أربعون يوماً.
تركها وحيدة... لحِق بنازك التي كانت تودّع عمر وسلمى، فهما رغبا أن يتمشيا بعد أن اهتزت مشاعرهما.
راقبت أمل من الشرفة المشهد الأخير لنازك وشادي، الذي فتح لها باب السيارة، وجلست وراء المقود، وجلس إلى جانبها، وانطلقت السيارة مسرعة.
أغلقت أمل باب الشرفة، وفتحت قلبها، تدفّقت أفكاره كالسيل. كان العالم يدور حولها، ويخرمش رأسها، فتهتزُّ أعماقها.. تشحنها مئات الوخزات بالدماء، وتدسُّ ألسنتها ورؤوسها الباردة، اللاّذعة، وتعود بعد جولة في جسدها الطّري لتشعل موقد قلبها، ولا تعرف متى ومَنْ يُطفئ هذه الحرائق!!
ـ 13 ـ
التصقت الحكاية الجديدة بألسنة الناس، وانتشرت كالحريق في غابات كاليفورنيا، كالنار في الهشيم. سرعان ما تفهرست في الشارع وفي الدكاكين، وعند الجيران.
أصبحت الأيام القادمة أكثر غَلَساً، فاندفع الأمل موجات ألم سحقت النفوس وأوجعت الرؤوس. انهالت كالمطر الرعدي عاصفية، غزيرة.
ليلة عَكِرة، سوداء رافقت عمر، ورافقها عُمر حتى ساعات الصباح الأولى. جفا النوم عينيه. تركته زوجه سلمى وحيداً، مُحاصراً، وعندما سألته أُمّه: عسى أن يكون القلق لأسباب يمكن حلّها.. لم يجب عمر أو يتفوّه بكلمة. انزوى وراء مكتبه، وبين وقتٍ وآخر، كان يفتح المصنفات، يُقلّب الأوراق التي اصطحبها معه من الشركة، لكنه في حقيقة الأمر لا يمتلك القدرة على تصويب وقراءة الأرقام والحسابات كان يرشف القهوة، ويبلع المُسكّنات.
في تلك الليلة الحمراء، الحمقاء، تغيّر كلّ شيء، واكتُشفت أكبر القضايا المخبأة من ثلاثة عقود ونيّف. عادت الأسئلة المكرورة إليه، قُلْ هجمت بعنف... تذكر أنَّه عندما كان يسأل أُمّه عن أبيه، وكيف مات، ومتى، وفي أي مكان؟ كانت تُجيبه، بأنَّ سيارة دهسته وهو عائد من عمله في مالية دمشق، وهو كطفل يُصدِّق ما تقوله أمّه، ولكنه عندما كبر، وأصبح شاباً أنسته أعباء الدنيا ومتاعبها هذه السيرة المكرورة، وعادت تلحُّ عليه بعد دخوله المدرسة فأصبح اسمه (عمر بن عطا العامري)، هكذا وُجِد اسمه في السجلات الرسميّة، هكذا سجلته أمه..
ثلاثة عقود وعمر يعيش في مستنقع الكذب. قال: كلّنا نكذب. الرجل يكذب على زوجه وأولاده، والأم تكذب على ابنها وعلى الآخرين. المدير يكذب، والتلميذ يغشُّ ويكذب وربّما يسرق وهكذا يدور الدولاب دورته اليومية.
الآن ظهرت الحقيقة بالمصادفة ولكن ماذا يقصد شادي من تعرية الواقع في هذا اليوم بالذَّات، وفي هذا الوقت، وبعد وفاة عبد الله. والأدهى من ذلك أنَّه اتصل في الصباح التالي، وطلب يد أمل منّي لكوني ابن عمّها.
السؤال: ماذا أقول لأصدقائي ولأقربائي وزملائي في العمل؟
لابُدَّ من قول الحقيقة مهما كانت الظروف صعبة ومعقّدة، لأنَّ حبل الكذب قصير جدّاً. ينبغي أن تكون أعصابي باردة، ويكون قلبي مفتوحاً على فضاء الحياة. وهذا هو الواقع الذي يجب التعامل معه منذ هذه اللحظة. وسأكشف لأُمّي كذبتها التاريخية الكبيرة، ولابُدَّ لها أن تُعرّفني على بقايا الحكاية بالتفاصيل المُمّلة.
لم يكن عمر قلقاً فقط، بل وَهن جسده، وتراخت أعصابه، فبقي في المنزل، وغاب عن العمل، وكذلك صاحبة الشركة "نازك خانم". تركته دون أن تسأل عنه، أو تُرسل مَنْ يتعرَّف على سبب غيابه. قالت للسكرتيرة: سأتركه يرتاح يوماً أو يومين، علّه يُجدّد نشاطه، وسأقطع هذا الغياب من إجازته السنوية، لكّني لا أريد أن أحسم عنه قرشاً واحداً!
غسل عمر وجهه بعد ظهيرة اليوم حاول أن يتخلّص من الكسل والوهن وساعات القلق. جلس يُقلّب أفكاراً ملأى بالشوك والدم والحَيْرة... جلس على بساط البحث، ينقّب في جسده العاري. يسبر أغوار الماضي، يفتّش بين طيّات حكاية أمّه، وقصصها، وقصته، فهما حكايتان، وكانا جسداً واحداً... لا يزالان يندمجان بالسرِّ والعلن، بل وينصهران معاً...
ابتسم لأمّه، أشعرها بالحنان.. أحسّت بالدفء، فهي تعبده، وهو يجلّها، ويقدّرها، يعرف أنّها بذلت كل شيء من أجله، واشتغلت في بيوت الناس خادمة، إلى أن علمته، وزوَّجته، فأكرمها، وأغدق عليها حُبّه وماله، أجلسها أمّاً وستّاً محترمة في البيت، وحرَّم عليها العمل في بيوت الناس والأغنياء والميسورين.
ابتسم لأمّه القادمة من المطبخ تحمل صينية الشّاي. رحبَّ بها. عانقها. شدّها من يدها وكتفها، مداعباً حيناً، ومراواغاً حيناً آخر. لا يريد إزعاجها، فهو وحيدها، وهي أمّه الحنون الدافئة. ليس لـه أخ أو أخت.. دائماً تصلّي من أجله. تعترف في داخلها أنها أخطأت، وكانت غلطتها كبيرة، فاحشة، وكان النَّدم يأكل قطعاً وأجزاءً من لحمها وروحها، عندما تتصفّح تاريخها، تصاب بالكآبة، ويظهر الحزن أكثر بريقاً ومَقْتاً على مُحيَّاها.
احكي قصّتك يا أمي.. احكي بلا زخرفة ولا كذب.
ماذا تقول يا عمر؟ أيّة قصة يا بُني؟
هكذا... لقد علمتُ بكل شيء. لا تحاولي أن تُخبّئي شيئاً عنّي أو تلعبي على دولاب الغمز واللّمز أبداً!
ما اسم أبي؟
اسمه رياض العامري!
هل لـه اسمان؟
نعم يا بني! الاسم الرسمي والاسم الشعبي!
لماذا تكذبين عليَّ طوال هذه السنين.
أليسَ اسمه عطا حرمون!
نهضتْ أمّ عمر، والدم يتفجّر من وجهها. أوَّل مرَّة تسمع الاسم الحقيقي لمغتصب أحلامها، وأيَّامها، ومستقبلها. الاسم الذي لم يغادر مخيّلتها وذاكرتها، وذكرياتها.
شدها عمر من كتفها. أجلسها بجانبه، وقدّم لها الشاي السَّاخن. قال: اشربي، واحكي لي قصَّتك. لا تخافي لأنّي ابنك، لكنّي أتشوَّق لمعرفة الأشياء الغامضة في حياتي.
كانت سلمى حاملاً ببكرها. تخطو من غرفة النَّوم متثاقلة. لاذت مختبئة وراء الباب، وسمعتْ نحيب زوجها، فهو لم يبكِ أمامها، ولم تتعرَّف على دموعه... واختلطت دموعه، بدموع حماتها.
نحيبان يتعانقان، والدموع تتهاطل مدرارة. كلّ حبّة منها وكلّ قطرة تشكو وتحكي وتتمرّغ بالمرارة، تبوح بسرٍّ كاد أن ينطمر تحت غشاء الزمن..
كان عمر يحثُّ أمّه على الكلام. يلحُّ بقوة، وبينما كانت تمسح دموعها، أجابته راضية، وأقسمتْ ألاَّ تكذب عليه!
استرخت أم عمر على الأريكة، واسترخى الخوف من الماضي، الذي ابتلع صوتها، ونخر ذاكرتها، وبدَّل لونها. لاحظ عمر ملامح الحزن في عينيها، وأن نظراتها تبدو لـه كأنَّها تفيض بمشاعر ذكريات لا تزال حيّة أو حدثت بالأمس القريب... لا تزال تتحرّك مع الشهيق والزفير في صدر ملتاع، مقهور. ليلة تبدّلت فيها حياتها، وتحوّلت إلى انكسارات. أحدثت شرخاً عميقاً مسنّناً في جسدها.
أنا يا بني فتاة من عائلة فقيرة. توفي جدّك مُبكّراً، فتركتُ المدرسة من الأول الإعدادي، لأعمل خادمة عند امرأة عجوز، غنية. كلّ يوم أنطلق صباحاً من حيّ "القماشة" جنوب العاصمة. أركب في حافلة النقل الداخلي، إلى منزل تلك المرأة في حيّ العمارة بدمشق القديمة.
امتدت السنون، ومدّت ألسنة الفقر والغلاء والحروب، أكلتْ حروف الأمل، ونقاط الصّبا، فتعثَّرت حياتي، وحياة إخوتي، فنحن أربع بنات وصبيّ وجدَّتك أيضاً. لكن خالك مات يافعاً!
كان عمر يصغي. لم يقاطعها.. يصغي إلى قصة، هي عبارة عن مدخل طويل لتاريخ عائلة أُمّه. دخَّن كثيراً، وبشراهة، وشرب إبريق الشاي كلّه. استلقى على الأريكة المقابلة لأمّه، وعندما يلسعه الملل، يمدُّ بصره عبر النافذة إلى الفضاء الخارجي، خوفاً من تقاطع أبصارهما.
يصغي ويشرد ويقارن بين قصّتي أمه وشادي. قال وهو يهزُّ رأسه، مطمئناً إلى صحة ما تقوله، بينما أمّه تدفع الكلمات من حنجرتها دفعاً نحو المحرقة، وقد غسل الخجل وجنتيها: وبعد! ماذا جرى؟ كيف تمَّ التعارف بينكما؟
لا أدري كيف جذبني نحوه. كان مسايراً، لطيفاً، لبقاً، ودوداً، يجزيني كلّما رآني صباحاً بعض المال. ينقدني عشر ليرات سورية. اطمأننتُ إليه، يبدو وسيماً، ويبدو أنّه غشَّني، أو أنّني... لكّني لا أُخفي سرّاً عليك، أنا الصّبية الصغيرة، ابنة الخامسة عشرة، سيطر على قلبي ومشاعري! إنَّ تكرار المشاهدات بحُكم جوار بيته من منزل تلك المرأة، وتكرار الابتسامات والعطاءات، زاد من اشتياقي إليه، وهو الموظف المسؤول في أحد البنوك...
دفعها عمر للتعمّق في الشواطئ، بعيداً عن الضّحالة والزبد الفارغ، وضحك ضحكة طويلة، كمجنون يقف على قمة جبل، ويهوي إلى وادٍ سحيق.. ردّد: هكذا الحياة يا أُمّي، أخذ وعطاء. الإنسان ليس حجراً، هو كتلة من الأحاسيس والعواطف، ربّما لم يتحمّل عقلك الصغير آنذاك! الحياة ملأى بالحُب والمحبّين، تزدحم بالكراهية والفاسدين، وبالصدق والصادقين، وما أكثر الكذب، والكذّابين!. قافلة تسيرُ محمَّلة بكلّ هذه الأشياء، وما علينا إلاَّ حُسن الاختيار. لقد كان اختيارك خاطئاً لأسباب عديدة، منها صغر سنّك، وقلّة وعيك، والفقر الملعون الذي يفتح فمه، متشوّقاً للدفء والحنان الكاذبين، ومن أجل استغلالك من قبل رجل واعٍ، متعلِّم، يغتصب الفتيات والمال والجاه والنهب، فهو كغيره، تعلَّم كيف يتحيّن الفُرص، وكيف ينقضُّ على فريسته، وأنتِ كنتِ ضحيّة سَهْلة الوقوع بشباكه. أنتِ الفاتنة، لا يزال جمالك يضيء الكون، أنت الآن في الخمسين من عمرك تتوهّجين كصبية، وكيف يوم كنت مراهقة كان يفور الجمال من وجهك وصدرك وجسدك، وتفوح رائحة الشباب منك عبقة، مُعطَّرة بأنفاسك!
دفعني الخوف بعد ثلاثة أشهر لأقصّ على جدّتي التي بادرتني مُنْشرحة، بأنَّ صحّتي تتحسَّن، لكّني حكيتُ لها، ما جرى معي ظهيرة ذلك اليوم، وكيف أنَّ هذا الشاب ظلَّ يلاحقني، ويتربّص بي، وكان أحياناً يأتي من عمله قبل نهاية الدوام، ويدقّ باب منزل المرأة التي أشتغلُ عندها، فأخرج لأفتح الباب لـه، فأجده واقفاً مبتسماً في الحرّ والبرد القارس، ثمّ يغافلني ويدخل ويغلق الباب خلفه، فأهرب إلى الداخل، ولم أستسلم لـه بسهولة، ويظلُّ يطاردني داخل البيت من غرفة إلى أخرى، وعندما تحسّ المرأة بأنَّ شيئَاً ما يحصل في بيتها، وهي شكوك في محلّها، ينسلُّ كالفأر، ويمشي على رؤوس أصابع قدميه، ويهرب!
لا تكملي يا أمّي، لا أريد أن أعرف ماذا جرى في تلك الليلة، لكنّ الحقيقة لا تُخبَّأ، فأنا ابن ح..م، ووالدي هو عطا حرمون المهاجر، ومن حقّي إقامة دعوى قضائية ضدّه، كي أسترجع كرامتي وأسترّد حقك... كلّ شيء معنا: الحقُّ والشرع والقانون والناس.. وتكفي شهادتك التي يمكن أن تتحوَّل إلى مسلسلٍ درامي مشوّق للرائي، وقصّتك إذا عرف بها الكُتَّاب، وأصحاب المهارات فسيتسابقون إليها.
لا تكملي، فقصّتك جاءت متأخرة جدّاً، وبعد شهرين ستصبحين جدّة، وسيكون الحفيد (كما قال الطبيب إن المولود صبّي) إلى جانبك، وسأسميه (عطا) كي تظلّ ذكرى جدّه عطرة، وهو عطاء العطاء.
أخرج عمر صورة والده عطا من جيبه. أشاحتْ أمّه ببصرها عنها، تركته باكية، تندب حظَّها العاثر، لكنَّ الأمور خرجت عن إرادتها، فلم تكن واعية، هدر الطيش كرامتها. وهي تعلم جيّداً أنَّه في تلك الليلة أدخلها عنوة إلى بيته بعد فشل محاولات المطاردة في بيت جارته، فدفعها وهي خارجة مساء وحصل ما حصل.
كان الثلج يتساقط، والبرودة قارسة، والصبيّة ترتجف من الخوف والبرد، فأجلسها، قرُب المدفأة إلى أن توهجّت، وتعرَّقت، وسكب لها الشاي في فنجان خزفي، مزخرف، وكلّما رشفت رشفة، دعَت لـه بالخير والتوفيق. وبعد أقلّ من ساعة تزحلقت إرادتها دون أن تدري أنَّ الشرَّ يتربص بها، وشعرت بدوخة، ثمَّ اهتزَّ جسدها هزّة عنيفة، وارتخى مُتهالكاً، ووقعت فريسة بين أنيابه، فنهش لحمها، بل وافترسها!
هكذا كانت أُمّ عمر تهجس في غرفتها، تكمل قصّتها وحيدة. أعادت إليها الذاكرة حِمْلاً ثقيلاً من الأشجان والمنغّصات. قالت وهي ترتمي على سريرها: كيف بي أن أكمل القصة لابني، وأبوح لـه بالحقيقة المُرَّة.
إنَّ قصّتي ليست كذبة بيضاء، بل جمرة حمراء تغطس في حفرة الروح، لكنني سأفقأ هذه الدُّمَّلة الراكنة في قلبه... أتصوَّر أنّه بعد أن سمع نصف الحكاية، وخلد إلى الرَّاحة، هاهو ذا يرتدي ثيابه، ويخرج ترافقه زوجه، سيكمل قراءة النصف الثاني وحده، دون حاجة إلى الشرح والتفسير!
ـ 14 ـ
في الوقت الذي صمَّم شادي على تحديد موعد زواجه من أمل، كان يتردّد على منزلها يومياً، وكان يلتقي نازك مساء كلّ يوم، يمضي الليل بطوله يُعاشرها كزوجة، بينما زوج نازك العنين، لا يهشٌّ ولا ينشُّ، وقالت عنه: (حارس أمين وباب عن الكلاب...)
نازك امرأة تعتزُّ بجمالها، وغناها، وأناقتها، وحُسن إدارتها للرجال والشركة، تعرف كيف تصطاد، وصنَّارتها جاهزة دائماً، تطرد وتفصل مَنْ تشاء من العمل، تضحّي بكل شيء في سبيل نزوة عابرة. قدّمت الإغراءات لشادي المتهافت على الفساد وعلى المال. بدأا يخططان معاً. وهي التي فاجأته في ليلة أُنسٍ صاخبة، نسي فيها شادي نفسه. ضاع في دفءٍ حميم، قلب حياته رأساً على عقب. انقطع عن عمله، وترك التدريس والمدارس لأصحابها، ولم يُبالِ، فهو يعيش أياماً أرجوانية كأمير يتوفر لـه كلّ شيء مُريح.
فوجئ عندما دخل، ووجد شخصاً غريباً في بيت نازك. لم ينتظر منها أن تُعرّفه عليه، فهجم، وحاول ضَرْبه، لكنَّ المأذون بادره بكلمة طيبة، مريحة، بأنّه جاء لغرض شريف.
طيَّبت نازك خاطره. شدّته من قميصه. أجلسته بجانبها، وكان المأذون بينهما، عرف شادي ما تُخبئ لـه من حُبٍّ. وتمَّ عقد الزواج "البَّراني". وعندما سألها عن وضع زوجها الشرعي، وموقفه بعد أن يعلم بما يجري، قالت: هو لا يرفض ما أقوم به، وأخرجت ورقة الطلاق.. ضحك شادي وهو يقرأ (العِصْمة) بيدها.
سيظل الزوج العنين في شقته الصغيرة، وتبقى الحياة كما عهدتها يا شادي، فأنت زوجي فلا يحق للمرأة أن تتزوّج اثنين. قالت: ستسكن هنا في هذه الفيلا لأنك أصبحت زوجي في الشرع والقانون.
منزل كبير، أقرب إلى القصور الملكية، وسأشتري لك سيارة موديل هذا العام وإغراءات كثيرة كان شادي ينتظرها بفرحٍ، ويسجّلها في ذاكرته وقلبه. وشعر بالفخر والعزّة. تدفّقت على قلبه نفحات عطرة من أنفاس نازك، فأحبّها وأحبّته. وعندما غادر المأذون، أصبحا وحيدين، تحت أضواء حُبلى بالجنون والسعادة.
انتصف الليل. أكلا وشربا ورقصا تحت أضواء تتراقص. كان الفرح من كل جهة، اندّسا في سرير يتحرّك كما يشاءان، بشكل دائري، وكان شادي يرى ذلك في الأفلام، أمّا الآن فأصبحت حقائق.
كلّ شيء جديد... عاشقان يتألقان، تحت غطاء حريري مُزيّن بالورد، ومُعطَّر بالأطايب. غرفة نوم تعشقها العين، تسمو فيها الروح.
وبينما كانت أشعة الشمس تندسُّ تحت الستائر، تلج غرفة النوم. تمرُّ كعاشقة فوق السرير، تلامس أناملها شعر شادي، وتهمس بين عيني نازك، نهض شادي بعد ليلة قُدسية، ملتهب المشاعر، تكاد أحاسيسه تتفجر ينابيع حارّة، تفقّد عروسه، فوجد مكانها فارغاً، بارداً. اعتقد أنّها تُحضّر لـه القهوة والحليب وقطرميز العسل من نوع "الزلّوع"؟ انتظر دقائق. لم يسمع أية حركة أو طقطقة الفناجين، أو صوت صنبور الماء في الحمام.. دار في الغرف، وفتّش الحمام والمطبخ. كان الهدوء يتربّع في البيت الكبير.
ساوره الاضطراب، ودخل الهَوَس إلى قلبه، لكنّه صنع قهوته بيده، وشربها وحيداً، ريثما تنجلي الأمور، وتتوضّح أكثر. دخّن ثلاث سجائر، وبقي ينتظر قدومها.
طال الوقت، ففتح التلفاز، وسمع نشرة الأخبار الصباحية، وبعد أكثر من ساعتين دخلت نازك ضاحكة، ترعد من الضحك، ويبرق وجهها، والابتسامة العريضة ترسم أملاً قادماً من وراء الجبال.. وعلى الفور أخرجت من محفظتها ورقة الموافقة على استقالته من التعليم، وأمراً إدارياً بتعينه مديراً عاماً لشركتها بدلاً من عمر.
استاء شادي من هذا الفعل المتسرّع، الذي وصفه مُكْرهاً بالخطأ الكبير، ونفذته دون أن تشاوره، ثم تراجع عن حماقته، لأنه يعلم جيّداً، أنّها تملك كلّ المفاتيح، أمّا هو فلا حول ولا قوة، صورة جديدة تُعلّقها في صدر الصالون.
قال شادي: ما أجمل أن تتحقق الأحلام بهذه السرعة. طوال عمري كنتُ ضحيّة الأحلام. تمنيتُ أن يداهمني حلمٌ ويفترسني كي أموت شهيداً.
عشت زمناً في تقنين وكبت مُريبين مكللين بالشوك والخوف. تخرج الليرة من جيبي ولا تعود، وعندما أصرفها كأنّي أفقدُ جزءاً من طموحاتي، أمّا اليوم، فلا!
فما نفع الكُتب التي اقتنيتها وقرأتها، وهذه المكتبة التي اعتنيتُ بها طوال فترة شبابي، ومازلت أكدّس الورق فوق الورق، امتلأت الرفوف والسقيفة، وماذا بعد؟!
لقد حَدث انقلاب في حياتي، لكني لم أبقَ تحت رحمة امرأة شهوانية لا يهمها إلاَّ لذّة الاغتصاب، سأجعلها عجينة أُقلّبها كما أريد وأرغب.
يعود إلى صحوته. يقول: إنّها داهية، ذكية، لا أقدر على مواجهتها، سأظلُّ أتحمَّل دق المسامير في جسدي، ووخز الأشواك، إلى أن يأتي الوقت المناسب للانقضاض، ولكل حادث حديث!
نسي شادي تهديداته الضمنية، ومشاكساته، وخباثته، بعد الأيام الخمسة الأولى من شهر العسل.. نسي "أمله". لم يتصل بها، وهي أيضاً تابعت عملها بعد انتهاء إجازة الوفاة التي أمضتها تستقبل المُعزّين لمدة خمسة أيام، لكنها لم تكترث لغيابه، ولم تهتم به، لأنّها وصلت إلى الحقيقة دون وساطة!
استغلَّ شادي دخول نازك الحمام، اتَّصل بأمل. سمع صوتها يخفق كعَلَم تداعبه الرياح... صوت بارد، فاقد للحرارة، لم تبادر وتسأله عن غيابه طوال هذا الأسبوع، لقد تجاهلته، وفكّت الأشرعة التي تربط زورقها برصيفه، فالبحر يتسّع لكل الزوارق والسُّفن والبواخر أيضاً!
ظلَّ عمر يتردّد، لم يقطع زياراته لأمل، فهو القريب الوحيد لها. أخبرها بما حصل لـه، وأنه بلا عمل... تآنسا وتعارفا عن قُرب، ومن جهتها طمأنته، وأعلمته بكل السوءات التي سبّبها عمّها لها ولأبيها وللآخرين قبل هجرته.
تشاور الاثنان، فكّرا.. كلّ يوم كانا يفكران، ويتدارسان كيفية الاتصال بعطا، وكيف؟ ظلاَّ يهجسان بهذه المسألة الشائكة، لكّنهما لم يتوصلا إلى حلٍ أو طريقة تختصر المسافات الطويلة!
في ظهيرة اليوم، وقبل العودة إلى الشركة، كانت نازك وشادي يتناولان طعام الغداء في مطعم "أهلاً وسهلاً" قبل دُمّر. كان الطقس لطيفاً. الهمسات حميمة، شجيّة، تشدو على طريقتها الخاصة.. الطعام ساخن، والجوع كافر، فالتهما الأطباق كلّها. وكلّما دسَّ شادي لُقمة في فم نازك، تضربه على يديه فيتناول يدها ويقبّلها، ثمَّ يحتضن يديها، يتوقّفان عن تناول الطعام، ويقبّلها على خدّها مرة، وعلى جبينها مرتين!
وفي هذا المكان كان اللقاء الأول، حينما تعارفا، ومن وراء هذه الطاولة رسمت نازك خطّتها، وتفعل الآن! يكتفي شادي بهزّ رأسه، عندما طلبت إبداء الرأي في فتح فرع جديد للشركة مخصصاً للسياحة في منطقة "البرامكة"...
تشاوره على عمل بعد إنجاز نصفه، فكانت قد أرسلت موظفاً عندها، ليتدّبر الأمر، أمَّا شادي فسيشرف على التنفيذ، في شقَّة في البناء الأرضي، تشرف على الطريق الرئيسي العام... وكانت تُدرك أنَّ المشروع سيحقق نجاحاً باهراً، فهي تثق في قُدْرة شادي وحنكته وإدارته الناجحة، والتجربة أكبر برهان. ودار في ذهنها أنَّ للسياحة مستقبلاً في بلادنا. قالت: ألا تلاحظ أنَّ الحكومة شكّلت لها وزارة خاصة! وأنّ الحكومة تهتمُّ بالدعايات والإعلانات والمهرجانات السنوية.
كلّ ذلك لأنَّ السياحة تُحقّق دخلاً وطنياً كبيراً لولا ما يجري في المنطقة من حروب وأعداء يثيرون الفتن والاقتتال.
وتحقق كل شيء خلال أيام، فالمكتب أصبح جاهزاً (مكتب شادي ونازك للسياحة). وهاهي ذي نازك، تتجوّل في الشقّة، وتمَّ تجهيزها بكلّ المستلزمات الضرورية، ثم تركا المكتب وسارا على الأقدام، ليطّلعا على سوق الحميدية الذي ارتدى حُلَّة جديدة بعد إصلاحه. وكانت نازك لم تزر المنطقة منذ سنوات، فأذهلها السوق، وبرزت الأعمدة والزخارف على أبواب المحال. ظهرت للعيان الآثار المخبأة.
قطعا السوق، عرّجا على الأسواق الفرعية في يمين ويسار الحميدية، حتى وصلا إلى جامع بني أميّة، وخرجا من الفتحة الضيّقة في سوق القباقيب، وتجوّلا في أحياء دمشق القديمة. كانت رائحة المدينة تفوح زعتراً وبهارات وأعشاباً زكية. وتُثير الأزقة الرائعة الشّهية لمتابعة السير، والاطلاع على قُدْسية الحضارة ورسوخها. ما تزال بصمات الأجداد منقوشة على الجدران والأبواب، لكنّ سياسة "الهمبرغر" حوَّلت عشرات البيوت القديمة إلى مطاعم ومرابع ليلية. وكلّما وجدا إعلاناً لمطعم يتوقفان، وتخترق أبصارهما المداخل المرممة، المزينة.
قالت نازك وهي تتأبّط ذراع شادي: لماذا نترك دمشق الأصيلة، ونلجأ إلى المطاعم، والمتنزَّهات خارج دمشق... صحيح هي جميلة ومريحة، لكننا سنُدْمن في الشتاء على ارتياد هذه الأحياء الدافئة بناسها وبيوتها فهي متألقة، تُعيدنا إلى الماضي والتاريخ!
أثنى شادي على رأيها، ولبّت رغبته، عندما دعاها إلى فنجان قهوة في مطعم (ألف ليلة وليلة) فدخلا بحُبّ. جلسا أمام البحرة التي تتوسط صحن الدَّار الكبير. جالا في أركان المطعم، فكان كلّ شيء جميلاً يأخذ الألباب.
شربا القهوة. تمتّعا بالسجائر، ثم شربا عصير البرتقال، وغادرا وكأنهما يقومان بتجربة سياحية، قدما من بلاد بعيدة. توقّفا أمام حمّام البكري الشهير. تذكّر شادي أيام صباه وطفولته عندما كان يرافق أباه ويستحمان في كل يوم خميس. حدّثها عن طقوس الحمَّامات التي لم يَعُد منها إلاَّ الذكريات، فأيام زمان راحت بلا رجعة، بعد أن هجمت الحداثة على السكان والمساكن.
كيف كانوا يتناولون الأطعمة ويشربون الشاي، ويُدخّنون. ونازك تُصغي بكل حواسها إلى هذه القصص والحكايات، وكأنّها ليست ابنة للمدينة العتيقة، علماً أنّه طمأنها بأنَّ للنساء، أياماً مُحدَّدة. قال لها: أنتِ تتأففين من الحكايات الشعبية والأكلات الشعبية الشامية التي نسينا مذاقها، كلّ شيء يبدو غريباً عليك!
إنّه تراثنا وطقوسنا التي تخلّينا عن بعضها، بل عن أكثرها أهمية، ينبغي الحفاظ عليها والافتخار بها لأنَّها عزيزة على قلوب أهلنا وشعبنا.
الجميل في سيران الحمَّامات أنّه يتمُّ بشكل جماعي. الذكور مع الذكور، والإناث مع الإناث، والأكثر جمالاً ورسوخاً في النفوس، صناعة الأكلات الشعبية، الأكثر رواجاً في البيوت الشامية ومنها (المجدّرة ـ الفول ـ اليَبْرق ـ حرَّاق إصبعه ـ وسواها).
تعبت نازك. توقفت عن المشي. قالت: لا أقدر أن أُكمل المشوار سيراً على الأقدام معك، فحذائي لحس أصابع قدميَّ... تمنّت وهي تنفخ من التعب أنها لو أحضرت السيارة، وأوقفتها في منطقة قريبة كأن تكون ساحة "الدوامنة"، فاستقلاَّ سيارة أُجرة، وبعد دقائق كانا في بيتهما.
هاتف شادي أمل، بحضور نازك. اطمأنت إليه، وازدادت ثقتها بزوجها الغيور عليها، وعلى مصالحها.
أكد لأمل أنّه سيلتقيها، واعتذر عن تأخره، لانشغاله بأمور العمل الجديد، وبكون عُمر فُصل من عمله، وخوفاً من ردّة الفعل التي يمكن أن يواجه بها شادي، بعد الفضيحة التي سَببت لـه حالة من القلق والاضطراب والتشويش.
قال شادي مخاطباً: لماذا تحرمينه من العمل؟ ما ذنب الرجل؟ كيف سيتدّبر أمره بعد هذه السنوات؟ وبعد أن كان مديراً ومسؤولاً عن شركتك؟
دبّت الرحمة في قلب نازك، ووعدته بأنّها ستعيده غداً إلى العمل، وأسرعت وهاتفته معتذرة بأنَّها تسرَّعت في اتخاذ القرار، وطلبت حضوره عاجلاً دون تردّد، وعيّنته مديراً للمكتب السياحي، وبمرتب شهري جيد. وتكون قد أكرمت زوجها، وخفّفت عنه حملاً ثقيلاً، وبرَّأت ذمّتها، وبهذا ستعود الثقة بين شادي وعمر إلى حالتها الطبيعية!
وافق عمر بلا تردّد أو ممانعة، وراحت أفكاره تتقلّب من جديد. تتنازعه بقرف هذه القصص وهذا النفاق، وصف شادي بأنه انتهازي خطير أمام أمل التي لم تدافع عنه، علماً أنها بقيت صامتة لم تُعلن عن رأيها، ولم تنسَ أنَّه ملأ قلبها في يوم ما بحبّه، ولم تتصوّر أن يأتي اليوم الذي تتمزّق فيه هذه الأواصر والروابط، وترتفع الحواجز بينهما. كانت تقول: (سيعود يوماً إليَّ راكعاً!).
ـ 15 ـ
عاد عمر إلى العمل، وهو أوّل مَنْ وَطئت قدماه أرض الشركة، عندما كان طالباً في قسم اللغة الإنكليزية، وهو الذي طوَّر الشركة وحقق لنازك أرباحاً طائلة. كان يتباهى بمفاتيح السيّارة التي استلمها من الوكالة على حساب الشركة. نظر إليه زملاؤه بأنّه بورجوازي، كانوا يؤوّلون ويتكهَّنون بأنَّه ابن صاحب الشركة، ولا يعلمون بأنّه يجهل مكان أبيه، ويعيش إلى جانب أمّه!
جلس خلف مكتبه الجديد، بحلّته الناصعة الجديدة. وفي الغرفة المجاورة لمكتبه، تجلس السكرتيرة وراء الحاسوب.
كانت الحكايات والمشاغل والانهيارات، تتشابك في رأسه، وطلّقت ذاكرته لذّة الأيام الجميلة، وقداسة سنوات الحُبّ، فالغيوم تزداد كثافة، والأسئلة تزدحم.. كلّ شيء غائم الآن، وظلّ التفاؤل حُلُماً صغيراً مقيّداً، مسجوناً، ينبت فيه الشوك، يطلُّ أحياناً ضاحكاً، ساخراًُ، فيردعه عمر، ويحرق أصابعه، فيعود إلى قفصه مخذولاً..
جهّز عمر الصّور والبطاقات الملونة "والبروشورات" للمراكز الأثرية والسياحية، وعشرات الصّور لفنانين سوريين من مختلف المدارس والأعمار، وحَضَرت آثار دمشق وبصرى وتدمر، تحوَّل المكتب السياحي إلى معرض أو متحف فنّي، لـه واجهة كبيرة، بلّورية تجذب الأنظار نحوها.
كانت السكرتيرة مشغولة بترتيب ألبومات صور المطاعم والمتنزَّهات والفنادق، ولائحة الأسعار، باللغات العربية والإسبانية والإنكليزية والفرنسية والألمانية، وسواها. أمّا عُمر فاستمرَّ في اتصالاته مع المراكز السياحية، والمكاتب في عديد الدول، ووزعّها بوساطة الفاكسات والإيميلات.
رحَّبَ عمر بالسيّدة نازك. استقبلها في مكتبه، وبيَّن لها التحضيرات والإنجازات السريعة. قالت كلمات دافئة وكان وجهها باشاً ضاحكاً: أنتَ يا عمر مدير هذا المكتب، الذي سيتحوَّل عمّا قريب إلى شركة سياحية، تجذب أنظار العالم إليها، وسيكون شادي المشرف العام عليه، لكّنه لن يتدّخل بعملك مباشرة... ووعدته وهي ترشف القهوة بزيادة الأجر الشهري.
حَبس عمر ابتسامة، بصعوبة رسمتْ خيطاً على شفتيه، لم يُظهر بأنّه كشف مكْرها، ونذالة زوجها وعاشقها الجديد. كَتبَ وخَزَّن في أرشيفه المعلومات والأسرار التي جمعها، وسيُعلن عنها حين اللّزوم، عندما تتراكم الثلوج، وترتفع الحرارة، فتذوب حينئذٍ لتروي الرمال العطشى. كَتَمَ ضَيْمه، وكانت الأفكار ساخنة في رأسه، حُبْلى بالمآسي!
ودَّعها إلى الباب الخارجي... عاد بهواجسه صابراً. جلس على كُرْسيه لإنجاز ما تبقّى من عملٍ.
في تلك الأيام كان الربيع يمدُّ خيوطه الخضر فوق الأرض، وتثير الشمس الدافئة أشعتها، فَرِحتْ سلمى لأنَّ طبيبها حدّد موعد ولادتها في هذا الشهر، واختلفت سلمى وعمر على اسم المولود، واقترحا أكثر من اسم لكنَّهما اتّفقا على أنَّ (القُرْعة) هي الفيصل بينهما.
مساءً بَدَت سلمى مُنهكة. ازداد المغص والألم، وخفقان القلب، واللّهاث، وضاق تنفّسها، فحضر الطبيب في الحال، ونُقلت إلى مشفى التوليد الجراحي.
تأجّج عمر فرحاً، لأنه سيصبح أباً، تفصله عن (الأبوّة) ساعات قلائل، واختلط الخوف والفرح، وانتفخ وجه سلمى، عمَّ صراخها غرف المشفى، ووقفت إلى جانبها، ولم تبرح القابلة "بهيجة" مكانها في غرفة المخاض.
كان الزوجان يعلمان مسبقاً أنَّ المولود صبيّ، وأكثر مَنْ كان مشغولاً هي أليس، التي انتقلت عندما علمت من (الطلياني إلى التوليد الجراحي) لتكون إلى جانب سلمى، بينما يقيس عمر ذهاباً وإياباً غرفة الانتظار الطويلة، ثمَّ يخرج ويتمشَّى في الشارع الفرعي، وكان صراخ سلمى يرافقه، يرنُّ في أُذنه، فازداد ألماً وترقّباً وانتظاراً، ثمَّ اتّكأ في زاوية، أسند ظهره إلى الحائطِ، مدَّ بصره في هذا الفضاء المفتوح، يراقب الناس والسيارات وحالات الإسعاف لنساءٍ يَصِلْنَ تباعاً... تساءل في نفسه: هل كلّ النساء سيلدنَ اليوم؟ كأنَّ الرجال والأزواج يتفقون...!
وقبل أن ينقل عمر زوجه إلى المشفى اتصل بأمل، التي جهَّزت نفسها للالتحاق بهما، لكنّها سمعت صوت مُحرّك سيارة يلفظ أنفاسه الأخيرة، أرادت أن تخرج قبل أن يُداهمها شادي، وتصوَّرت أمل أنَّه سيتلو عليها الخطط والمشاريع، فاضطرت أن تسحب المفتاح من القفل، وترحّب به، وأن تتصنّع ابتسامة باهتة، تتناسب مع الموقف، وكعادته عندما يدخل يفاجئها بطلب فنجان القهوة، وكأنّه مفطوم حديثاً، وطمأنها أنه لن يؤخرها، وسيرافقها إلى المشفى.
قالت: لا حاجة إليك الآن. المشوار للنساء فقط.. اذهب من حيث أتيت، وعمر بحاجة إليَّ الآن أكثر مما هو بحاجة إليك.
أثنى على شعورها الصادق، وصراحتها، واعتذر عن انقطاعه خلال الأسبوعين الماضيين لأنه كان يُحضّر أوراق الزواج، والسفر!
تنهد تنهيدة طويلة، ونفخ أنفاساً حارة.
قالت أمل: أية أوراق، وأي زواج؟!
كما وعدتك، ووعد الحُرّ دين، سنتزوّج ونسافر إلى أي بلد، ونتخلّص من الإشكاليات الدَّائرة في ساحتنا، وفي نفسينا، ولست بقادر على تجاوز الواقع، والحقيقة أكبر منّا. كيف أستطيع نسيان ما بيننا بهذه البساطة، وبهذه السرعة؟!
أنتَ همجي!
أنتِ مُتسامحة!
لا يمكن أن يلتقي الكذب والصدق، كما لا يمكن أن تلتقي الهمجية والتسامح؟!
قلبكِ أكبر وأوسع، لأنّه يستوعب أخطائي وزلاّتي!
قلبي أصغر من نَملْة، وقلبك حجر صوَّان.
لقد تغيّر، وأصابه الوَهن.
أنتَ متردَّد، وسَرْعان ما يَسْهل نزع قشرتك الخارجية، وإخراج البذرة الخشبية.
أعلم ماذا تقصدين! إنّها نزوة عابرة مُجلَّلة بالوهم.. طَلْقة خُلَّبية!
تعيش في فراغ.. وقبل هذا التاريخ قلتُ كلمتي الأولى والأخيرة: أنا في وادٍ، وأنت تغرق في بحر (البنات) أو في بحر النساء الجميلات!
هذا كلام حاسد، لا يغار على مصالحي ومستقبلي.
فتح الحوار بينهما جُرْحاً عميقاً في قلب أمل، ولم تنفع كلّ الخيوط، ظلّ ينزف، لكنهما عادا بعد الجَدل الحامي إلى الهدوء، واتفقا على أن ينطلقا معاً إلى المشفى، وأن لا يتركا عمر وحيداً، فهو بحاجة إلى مَنْ يقف إلى جانبه.
صعدت أمل إلى السيارة.. ركَّزت بصرها في صفحة وجهه، لتراقب النوابض والخطوط الوهمية، والتبدّلات الطارئة، فمرّة يحمرّ من الخجل، ويعود مرّة إلى لونه الطبيعي، لكنها لن تَأْمن جانبه فهو ثعلب ماكر، يُشْعِرها أنه يسترسل في حُلم ما، ثمّ يتلو عليها خطاباً طويلاً عن الأخلاق.
استقبلتهما أليس، وقدّمت لهما الحلوى، وحمد الله على قيامها بالسلامة، ثمَّ استأذنا وعادا إلى بيت أمل. وكان ذلك بداية الطريق، بداية تنفيذ الخطة التي عجنها وطبخها شادي في رأسه في الشهرين الفائتين.
أحضرت طعام الإفطار. خفَّفت عن نفسها بعض الآلام، وأنَّ أمل طيّبة القلب، وهذا ما يعرفه ويتأكّد منه شادي، ويرى أنّها نقطة الضعف الوحيدة التي يمكنه الدخول منها إلى قلبها وعقلها وإقناعها، وهي مزاجية، ما أسرع ما تتعكّر وتغضب، وما أسرع ما تعود إلى صفائهاّ!
تضاحكا معاً. تهامسا. وعندما أمسك يدها، واحتضنها بكفّيه، استعجلت أمل وسحبتها، ولم تتساهل معه، وتراجعت إلى الوراء، واتّجهت إلى المطبخ.
أخرج شادي دواء مخدّراً "عيار 10 ملغ". أسقط واحدة، وأعاد الثانية إلى جيبه، ثمَّ حرّك فنجان الشاي جيّداً، وكانت أمل تحمل صحن البيض المقلي، قادمة من المطبخ، واستمر في تحريك الشاي، وهي تتلفت نحوه.
عشر دقائق، كانت أمل مُخدَّرة تماماً. قالت قبل أن تغمض عينيها، كلاماً غير واضح، لكنّ "شادي" فَهِمَ سؤالها: ماذا عملت في الشاي؟ إنّني بحاجة إلى النوم!
قال: لا.. لا! أنت تعبة، وأعصابك مُرْهقة، فحملها بين ذراعيه إلى غرفة نومها. أغلق الباب، وتأكد من الباب الخارجي، والنوافذ، وأسدل الستائر، بدأ ينزع ثيابها قطعة، وراء قطعة.
كانت أمل غائبة عن الوعي. جسد بلا روح، مُسجّى على السرير، كقطعة بلّور شفافة أو كما كان يُردّد دائماً (ثُريّا كريستالية تشيكية).
أُصيبَ بالحَيْرة والاختناق، تنقل بين جسدين فضيّين (نازك وأمل). بهرتاه، فغرق في دفئها. قلّبها كما يشاء. أمَّا نازك فكانت تتحرَّك في خياله.
شعر بغيرتها وهو يُدنّس قدسية جسد أمل، ويقتنص عفافها. أنشبت أظافرها في لحم ذاكرته وطحنت عظامه بأسنانها... تراجع خطوة. ابتعد عن السرير،
ثمَّ دفعته نازك مُكرهاً نحو أمل، وهكذا كان يتأرجح بين نارين. تارة ينقضُّ على السرير، وتارة ينفرُ منها، يقشعرُّ جسده، فيمسح العرق البارد عن جبينه.
الوقت يمضي بسرعة. تتوقف عقارب الساعة على الثانية عشرة، وينتصف النَّهار. ولم يتخذ شادي القرار النهائي، وكيف سيكمل المشوار، وأنَّ نازك ستحضر إلى المنزل في هذا الوقت، ولا تجده!
أنجز شادي مهمَّته الشنيعة. غطّى أمل بشرشف، وتركها ملَّوثة بالدّماء!
* * *
تململت أمل بعد أن ضعف مفعول المخدر. حرّكتْ رأسها، يديها، رجليها. فتحت عينيها، ثمَّ أغمضتهما. كانت بين النائمة والصّاحية، كأنّها في حُلم. جسدها بارد. يسيطر الوهن والكسل عليها. شعرت كأنَّ أمراً غريباً أو مُصيبة ألّمت بها، أو أن شيئاً لزجاً اندسَّ خلسة في خلاياها. بدأ الوعي يعود إليها، فرفعت رأسها، ورأت ما رأت، فأدركت الفوضى في سريرها، والستائر مُسْدَلة، تحجب أشعة الشمس عنها. الغرفة غائمة، مُعْتمة. تسمَّرت عيناها في الساعة الجدارية، وفي ساعة يدها، كانت الساعتان متطابقتين في توقيتهما. أُصيبت بالذهول والدهشة، وهي تجمع ثيابها الداخلية المبعثرة في أرض الغرفة...
صرخت أمل.. اشتدَّ صراخها، وتناثر في جوّ مخنوق باليأس والإذلال والنخاسة... وتركت كلّ شيء لترد على الهاتف. وكان عمر يسألها عن أحوالها، وماذا تعمل في هذا الوقت. وأنه بغاية، الشوق إليها. قال بفرح: أصبحتُ أباً يابنة عمّي.. تمنّى أن تحضر إلى بيته لتشاركهم الفرح العظيم، وأنَّ الصَّبي يأخذ شيئاً من ملامحها.
أدركتْ أنّه خطا الخطوة الأولى في تنفيذ خطته، وأنَّ مشواره الجديد يبدأ من اغتصابها، ولا تعلم كيف سينتهي به المطاف...
غسلتْ أمل الدَّنس، تلبّسها الخوف، وكيف سيحفظ هذا الوغد سرّها، هكذا كان السؤال الموجع الذي ترنّح بين حناياها، وسترضخ مقهورة بالزواج منه مهما كانت النتائج.
أشعلت سيجارة ـ وهذه المرة الأولى التي تضع سيجارة بين أصابعها ـ من عُلْبة الدُّخَان التي نسيها شادي على الطربيزة. رتَّبت الغرفة. أعادت إليها شيئاً من جمالها. وكانت سحابة الدُخان تعبق بروحها. تنفّست بعمق. صوَّبت أفكارها إلى هذا الحقير، وكان دريئتها التي لا تغيب عن بصرها...
أفكار شتّى تناوشتها، ألهبت قلبها نيران معركة، خرجت منها خاسرة، فاقدة عفّتها التي تُحدّد مصيرها... أقنعت نفسها بأنَّ الزواج سيتمَّ مهما كانت الظروف!
فَطنت أنَّ الشاي لا يزال في الفنجان فسكبته في زجاجة صغيرة، وحملتها إلى أقرب مخبر للتحليل، بعد أن تأكدت من حيلته ونجاسته، ووقعت ضحيّة ذلك.
الشمس تميل نحو الغرب، وأمل تنزف، تتقطّع نتفّاً. يسترخي اليأس، ويفرش بساطه، فوق جسد خذلته الرياح، وعبثت به الرمال، ولم يكن هناك من يحميها أو ينقذها. تمنت أن تنبت لها أنياب ذئبية، كي تُمزّق لحمه، وتفرمه. مرّت على الحدَّاد في طريق العودة، وابتاعت مطرقة صغيرة لتهرس بها رأسه، وموسىً حادة لتقطّع مفاصله، وتجرف عظامه. كانت طرقات الحدّاد، على الحديد الحامي الأحمر كالجمر تلاحقها، تمشي وراءها...
كان شادي برفقة رجل آخر يحمل دفتراً كبيراً وسميكاً، ينتظرها أمام باب البيت. سحبها من يدها جانباً، وهمس في أذنها.
دخل الثلاثة إلى المنزل. قال لها: لا مفرّ من المصير المشترك.. سنتزّوج سرّاً دون أن يعلم أحد بهذا الزواج لظروف خاصة بنا.
سكتتْ أمل، راضية، راضخة لما حصل، لكّنها في قرارة نفسها ستعلن عن الزواج لجيرانها، وأوّل العالمين هو عمر وزوجه وأمه، وزميلاتها في المدرسة، وتساءلت: لمن ألتجئ؟ مَنْ يُصدّق أنْ ما حدث بغير إرادتي؟!
قرأ المأذون، وهو نفسه الذي صادق على زواج شادي ونازك قبل شهرين.
تمَّت الأمور كما رسم لها شادي الذي يتصوَّر أن أمل لا تعلم بزواجه الأول، لكنَّ عمر سرَّب لها الحكاية من أوّلها إلى آخرها، وحذّرها بعدم إفشاء السرّ لأن الضّرر سيطولهما معاً!
وكان شادي قلقاً وخائفاً أن يخرج من (المولد بلا حُمصّ، مثل معايد القريتين!) فأبدى حرصاً، ودقّة في التعامل مع زوجته. فنازك لا تعلم ماذا يجري في بيت أمل، وأمل على علم بزواجه من نازك! هذه معادلة صعبة، لكّنها تحقّقت في الواقع.
تداخلت الأمور، لكنّ الحياة تسير كما يشتهي شادي، الذي طمأن أمل أن راتبه في شركة نازك يعادل أربعة أضعاف، مما كان عليه في التدريس، وسُرّت نازك بأنّها حامل في شهرها الثاني، ولكنها بعد أيام تعرضت لنزيف حاد، وأجهضت!
احتفظت أمل بعقد الزواج، تركها شادي، ووعدها بأنّه سيعود في الصباح، ويضطر الآن للمغادرة، فلم تُمانع.
صوَّرت عقد الزواج أكثر من صورة، خبَّأته في بيت عمر، ووضعت ورقة التحليل معه، التي تُبيّن أنَّ المخدّر كان بنسبة كبيرة، يُنوّم الجَمل!؟.
* * *
كيف سارت حياة شادي الآن، سؤال تُجيب عنه أمل، لأنّه نخر عظام رأسها. كيف يُجزّئ حياته بين زوجتين وبيتين من جهة، والعمل في الشركة من جهة أخرى؟
أصبح عُمر الشاهد الوحيد، ويعرف تفاصيل ما يجري كلها. وكنت وقد استدركتُ الأمر، وأعلمت الناس المحيطين بي، ودخوله وخروجه أصبح عادياً، فهو زوجي قانوناً وشرعاً، والأدهى من ذلك قالت أمل: كلّفتُ عمر بتسجيل الزواج في النفوس، وفعل، وحصل على دفتر العائلة، وهذا ما سيُعكّر صفاء شادي.. الآن سأصنع لـه مخدّراً من النوع الثقيل "عيار 20 ملغ" وسينيخ كالبعير، وسأجعله بغلاً لأحمالي، وإذا طلّقني فالأفضل لي، سيدفع المؤخر وهو مئة ألف ليرة سورية وسأحمل وأنجب وبعدها يُبلِّط البحر!
عندما سأل الجيران أمل عن عدم الإعلان عن الزواج، وطالبوها بالسكاكر والحلويات، أجابت بسبب وفاة الوالد، ولم يمضِ على وفاته أربعون يوماً، وكشفت لجارتها عن عقد الزواج، وهي من النساء الشاطرات في إذاعة الأخبار، ونقلها إلى كلّ الجيران، وأحسنت أمل ما فعلت، وقامت به، وتخلَّصت من القيل والقال، وصبّ الزيت على النَّار.
وفي كلّ يوم خميس كانت تخرج مع شادي، وتتأبّط ذراعه، تتمشَّى في الحيّ، وفي السوق، وكان المعارف والجيران والأصدقاء يعرفونه من سنتين وأكثر، ويشيرون إليه بأنه خطيب أمل. وبادرت أمل، واصطحبته معها لزيارة بعض الجيران. وعندما كانت نازك تسأله عن سبب تأخره، وتشعر أنّه بدأ يهملها قليلاً، ويتغيّب عنها ساعات أو نصف نهار، أو يتأخّر ليلاً، كان يعتذر منها، ويبدو ودوداً ومُحبّاً وطائعاً لأوامرها، يقول لها: إنَّ وضعك الصّحي يتطلب منك الرَّاحة، ويضع يده على بطنها الآخذ بالانتفاخ، فيتضاحكان، لأنّهما سيكونان سعيدين، في استقبال المولود البكر، وهو حُلم كبير، تنتظر نازك تحقيقه بفارغ الصّبر فهي تريد وريثاً لملكها وأموالها المنقولة وغير المنقولة. عندئذٍ باحت لـه بسرٍّ حصرته طويلاً في صدرها، قالت لـه: أنت صاحب الشركة، فقُمْ بعقد الصفقات التجارية ولك حقّ الإشراف على الحسابات، والواردات، وأنا سأتابع التدقيق فيها ريثما تتمّ الولادة، لأنّي لم أعد بقادرة على إنجاز هذه المسؤوليات ووضعي الصحي يُسبب لي حرجاً أمام التجار، وسلّمته مفاتيح الخَزْنة، ودفاتر الشيكات، وأعطته وكالة رسمية من كاتب العدل، بحق التصرّف بنصف أملاكها متى شاء، وأبقت النصف الآخر باسمها، فهي حريصة، ولا تُساوم على مستقبلها ومستقبل الجنين في رحمها.
اطمأنَّ شادي للقرارات الجديدة التي كان يطمح لتحصيلها، فمارس حريته أكثر في التنقّل والغياب، لكّنه بقي حريصاً على استمرار العلاقة مع نازك لآخر لحظة كي يُنجز مخطَّطه كاملاً!
ـ 16 ـ
لم تنقطع أمّ عمر عن العمل، فقد كانت تتردّد ثلاثة أيام في الأسبوع، على ثلاثة منازل في حيّ "التجارة"، دون معرفة ابنها وزوجه، وتغيب عن البيت ساعتين أو ثلاث ساعات. وتختلق الحجج المختلفة لذلك، كأن تبتاع الخضراوات، أو تشتري اللّحم من القصَّاب وسواها من الكذب الأبيض، كزيارة قريبة لها.
وكلّ يوم خميس كانت الشغَّالة أم عمر تنظّف منزل نازك، واستمرت على هذه الحال سنوات. وفي إحدى المرَّات، قالت لها نازك: نظّفي المنزل بشكل جيد يا خالة، وامسحي الغبرة عن الكنبات والنوافذ، وخُزن المطبخ. سأكرمك أكثر. أنت امرأة تستأهلي كلّ خير، وفعلاً قدّمت لها الثياب وضاعفت أجرتها، وفي الوقت نفسه لا تعلم الواحدة منهما أيَّ شيءٍ عن الأخرى.
وفي الساعة العاشرة من هذا الصباح شنّت أمريكا حربها على العراق. من خلال الإعلام المرئي والمقروء والمسموع، وعلى الشاشات. كل شيء في هذه الأيام يُهيّج العواطف والقلوب. وتوقفت أو شُلّت الأعمال، والحركة التجارية في البلاد كلّها، وتجمّدت الحركة في الأسواق.
عندما دخلت أم عمر المنزل، كانت السيدة نازك تُقلّب كتاباً. تتأمّل صفحاته، تتأمل الصّور، والغلاف الجميل الملوّن. تركته فوق الطربيزة في الصَّالون، وطلبت منها فنجان قهوة على الريحة، ثمَّ غادرت المنزل، اشتاقت إلى الشركة، وأرادت أن تُجدّد حياتها وتروّح عن نفسها متاعب الحمل.
فوجئت بعدم مجيء شادي، وسرعان ما دخل المستخدم إلى مكتبها. هذا الرجل (أبو رامي) رافق الشركة منذ تأسيسها، وكان وما يزال العين التي ترصد كلّ حركة فيها، فاستغل وجود صاحبة الشركة الوحيدة، وقدّم لها صورة متكاملة عمّا يجري. ألقى حجراً في المياه الراكدة، وترك نازك، تراقب دوائر الماء التي كانت صغيرة، وكلما اتّسعت الدوائر، شرد ذهنها بعيداً....
عرفت مَنْ يغيب ومَنْ يهرب، ومَنْ ينام أثناء العمل، أي ما يدور أثناء غيابها. وهمس في أُذنها بعد أن أغلق باب المكتب (لقد جلبتُ لك أخباراً غير سارة يا معلّمتي)، وحكى لها تتمة القصة، بأنَّ زوجها الجديد يتردّد على منزل في حيّ "العمارة". وعندما وصفت لـه المنزل، أومأ برأسه. فأمسكت نازك رأس الخيط، وكرَّت حبَّات السُبْحة، حبّة، حبَّة، لكنَّ ملامحها لم تتغير، فبقيت كما كانت عليه طبيعية. قامت وتجوَّلت في الأقسام. وقبل أن تغادر، وتركب سيارتها، دسَّتْ في جيب أبي رامي مئتي ليرة، وحذّرته من الكذب وقالت لـه: إذا كنتَ تكذب، فسأطردك من الشركة وأقطع رزقك ورزق عيالك. وطلبت منه أن يُقدم تقريراً مساء كل يوم خميس!
دفع التطفّل أم عمر، وهي تنظّف البيت، أن تحمل الكتاب، وتقلّبه، علَّها تجد فيه ما يُسلّيها، ويخفّف عنها متاعبها، فجلست على طرف الكنبة، واستراحت، تنفث همّاً. تنفَّست بعمق، واسترخت أعصابها، تعبة، حائرة، فتحت باب الذاكرة، وقامت بجولة طويلة في دروب الماضي، وأزّقة الحاضر، فنهضت القصص حيّة، نشطة، دارت في عالمها المحاصر، ودقّت على أبواب الفقر والعَوْز. دخلت إلى عشرات البيوت التي عملت فيها، وكيف أنّها كرَّست حياتها في سبيل ابنها الوحيد، إلى أن درس وتعلّم وتخرّج من الجامعة، وأصبح أباً. وحمدت ربَّها كيف أنَّها كانت تُدبّر أمورها.
قلَّبت صفحات الكتاب، صفحة، صفحة، وهي امرأة تعرف القراءة والكتابة بشكل جيّد أغرتها الصور الملوّنة، وأدهشتها رائحة الورق.
ارتعشت. مسحتْ عينيها. تراءت لها الصور بأنّها مقلوبة. فتدير الكتاب بالمقلوب، ثمَّ تُعيده إلى وضعه الصحيح. لم تبالِ عندما شاهدت صورة رجل، يشبه زوجها عطا. قالت الناس يتشابهون. لقد نسيت شكله فمنذ ربع قرن تركني، وسافر إلى جهة مجهولة، لم أصَدِّق أنّه في هذه المنطقة "الـ.. كا.. ب" ومَنْ هي هذه "الكاب" وأين تقع؟
تذكَّرت أقوال الناس عن زوجها الذي غرق في النهر ومات، أو أنه هاجر إلى إفريقيا الجنوبية... ولكن مع الزمن تمزّقت ذاكرتها، وتبخّرت الذكريات، وسقطت في وادي النسيان أشلاء، واستمرت الحياة تجري كما هي عادية، رتيبة، باردة، مُحمَّلة بالمتاعب والأوجاع... لكّنها غلطة.. إنَّها غلطتي، وأتحمّل نتائجها، ولن تتكرّر!؟
ما قصة هذا الكتاب؟ قالت أُمّ عمر، ومَنْ أوصله إلى نازك؟ وكيف؟ تثاقلت وهي تنهض، اتّكأت على حافة الكنبة، ورفعت ظهرها، فوقع الكتاب على الأرض.
هدَّأت من روع المفاجأة، واستقرَّ رأيها على الاحتفاظ بالسرّ... استعادت نازك وهي تقترب من البيت بأنّها دوَّنت في آخر "الوكالة" عبارة (لا يتمّ صرف أي مبلغ دون توقيع الموكلة).
فتحتْ عُلْبة بجانب مقود السيارة. أخرجت الوكالة. تأكدت من صحّة الملاحظة.
اطمأنت أنّها لم تتصرف برعونة وعاطفة، بل بعقلٍ يُدرك بحرصٍ أنّ المستقبل أهمّ من الحاضر. أدركت أنّها ستظلّ تمسكه من اليد التي توجعه. أين سيهرب؟ مهما كان مخططاً خبيثاً، فأنا أقدر منه!
يبدو أنّه يحشر نفسه، ويدسُّ أنفه في كلّ صغيرة وكبيرة... يسيل لعابه كلّما لَمَحَ فتاة جميلة، وتعرَّف على امرأة غنيّة. وسيّدة المال والجمال تمتلك الصّفتين.
أدركتْ نازك الحالة العصبية، النفسية لشادي. استعادت حكايته مع الطبيب النفسي وقراءاته في كُتب فرويد ويونغ، واهتمامه بالصّحة النفسية، وخروجه سالماً من وَعْكة مرضية.
نازك امرأة ليست ساذجة وغبيّة إلى هذا الحدّ، فهي ماكرة، ذكيّة، تعرف من أين تأكل، ومن أين تنهش، عندما تُكشّر عن أسنانها اللؤلؤية يضيع جمالها بين الكلمات والمفردات النابية.
هجست وهي تُغْلق باب السيارة، وتصعد الدَّرج: سأتغدَّاه قبل أن يتعشّاني!
نَقدت أُمّ عمر مئة وخمسين ليرة.. أعطتها تفاحتين، وفستاناً، وشحّاطة، ووعدتها أم عمر، بأنّها كعادتها ستعود الخميس القادم. حملت محفظتها وكيس نايلون كبير، وخرجت يدغدغها فرح عظيم لأنّها بعد هذه العقود، تحصل على صورة عطا بسهولة، وهي غنيمة كبيرة في حياتها، ولا تعلم أنَّ عُمر، تلمَّسها قبلها... دقّق في خطوطها، أشبع عينيه منها، وانتهى إلى القول: أنا قطعة مقسومة من عطا!
* * *
لم تُضيع نازك الفُرص المتاحة لها للوصول إلى ما وصلت إليه، وتُقدِّر شادي حقَّ التقدير. أكّدت لـه حين عاد مساء، وهي تُعلّق بذلته في الخزانة، وتحضّر لـه منشفة الحمام: أيّة سعادة تُعشّش في قلبينا يا حبيبي! ستكون أباً وسأكون أُمّاً عمَّا قريب، وهذا طموحنا في الحياة (المال والبنون) نحن زوجان سعيدان عن جدارة، فلا تجعل الأمور الصغيرة عقبة في طريق مشوارنا الطويل! سننجب صبيين وبنتين. هل توافق؟ حصّتي الصبيان، وحصّتك البنات، وضحكا كأنّهما في شهر عسلٍ ثانٍ، ثمَّ صَمتا. استلقى شادي تعباً، يُحاكي روحه. نهض هادئاً. اختار المشي في الصَّالون مُهَدِّئاً لواعج المتغيرات والتبدّلات، المنساقة، التي تفتح لها دروباً جديدة ومعابر ضيّقة، ثمَّ مدَّ رأسه من الشُرْفة، وعاد إلى المرآة، قابل وجهه، وصرخ. غرز أظافره في لحمها، حطّمها بقبضته الحديدية، فتناثر زجاجها. أخرج ورقة من جيبه، دعكها بين أصابعه، ورماها في وجه زوجه، التي وقفت تستطلع سرَ ما يجري. قالت: بعد الهدوء تأتي العاصفة!... حاولت تهدئته، وتليين أوجاعه، مسَّدت على كتفيه، قبّلته، فشلت كلّ الأساليب، فتركته خائفة، يعبث بالأثاث، يفتش عن حبّة مُهدّئة.
ارتمى مُسْترخياً على السّجادة. يملأ فمه الزَبد، ويسيل أسود، أصفر على طرفي شفتيه.. تحوّل إلى جثّة جامدة. تخشَّب جسده، قطعة واحدة صُلْبة.
وقفت نازك فوق رأسه، قلَّبته. دُهِشتْ، بل صُعِقت، وهي تقرأ التقرير الموقع من الطبيب النفسي، وعبارات لم تُدرك معانيها ومقاصدها ودلالتها (رضّة نفسية، صراع عشقي مُزْمن).
كانت تُحاكي نفسها: إنَّ الظَّاهر الخادع ورَّطني، بهذا الزوج. شوَّه حياتي. عكر حُبّي.. إنّه رجل صاحب هوى، تفلسفت نازك. رددت عبارات ومفردات، كانت قد سمعتها وحفظت بعضاً منها: (الُعصاب في كلّ الأزمنة مرتبط ارتباطاً صحيحاً بمشاكل العصر... العُصاب هو الانقسام الوجودي في ذات المرء).
نازك أشبه بطبيبة نفسية، فهي متابعة لبعض الإصدارات الحديثة لعلم النفس. تُميّز بين "الواعية" التي ترغب أن تبقى أمينة لهدفها الأخلاقي، في حين أن "الخافية" تنزع نحو هدفها غير الأخلاقي وتنطبق الأخيرة على شادي.
تذكَّرت، وهي تستعيد قراءة التقرير، الحالات التي مرَّ فيها شادي، والتشوّهات النُطْقية التي كان يبوح بها، وعدم الاستقرار الصحيح للحروف، وحالات الفوران الجنسي، والبرودة الجنسية، المستعجلة التي أوقعته في النّقص، والخوف على ضياع رجولته، وبين الشبق والبرودة، نهضت، بل واشرأبّت أعناق ورقاب التناقضات المكبوتة، فصعقت الحياة الزوجية، علماً أنْ نازك لن تبالي، ولم تكترث كثيراً لفشله ليلة البارحة، عندما تركها على السرير ولم يُلبِّ رغباتها، فهذا أمر عادي بالنسبة لها، وحسبت أنّه مرهق، أو أنَّ حالته النفسية لا تسمح لـه بالقيام بالواجب، وسيعوّض ذلك في الأيام القادمة.
صحا شادي. وقف، والوَهن يُخرمش حياءه، عيناه حمراوان... يميل إلى الاصفرار، انفتح قلبه كقِرْبة تنتقل بين رجلين عطشين، فتدفّق الكلام، كالمياه، انصبَّ على الأشياء، ابتداءً من الطفولة، مروراً بالمراهقة والشباب... سرد حكايته من أوّلها إلى آخرها، بأنماطها اللاّسلوكية... فجّر كلّ شيء كان خامداً، لائذاً، مستوراً، محشواً في أركانه الداخلية.
سجّلت نازك على قَفا التقرير الأسماء التي ذكرها. ستتابع خيوط حكايته خيطاً خيطاً، ستفكّ أسرار هذا العنكبوت المُعشّش في منزلها، الذي يمكن أن يُخرّب لها كلّ البناء الذي شيدته.
وستفتّش عن حلٍّ سريعٍ يخلّصها من هذه الورطة، وأن تكرار الحالة قد يُسبّب لها إخفاقات وتراجعات ووسواساً وقلقاً سيُعكّر حياتها، ويُطفئ أجمل الشّموع ولم تَعُد النذور تنفعها.. أُصيبتْ بالنّدم، لأنّها ألقت زوجها العنين في بركة آسنة، رَمَتْهُ عظمة للكلاب الشاردة، تحوّل إلى دُمية وسخة. تذكّرت إخلاصه، وأخلاقه، وهدوءه، واحترامه لها، وعنفوانه، وهمساته أيام العزّ، لكنّ الذي جرى لـه كان مُفاجئاً لهما، وكيف تحوّل بهذه السرعة، إلى قطعة رثّة، رَمَتْه خارج دائرة رغباتها، فحطّمته...
لا ينفع الندم الآن بعد هذه الجَوْلة العصبية، فتحطّم كلّ شيء فهي تواجه مشكلة شائكة، وفي الوقت نفسه تريد بإخلاص أن تحافظ على الجنين من التشوّه، وأنَّ الزَّعل سيؤثر عليها، فعادت، وطمأنت نفسها، روَّضت روحها المتهالكة، لأنَّها ما تزال قادرة على التحكُّم بمصيرها، والحياة لا تتوقف في هذه المحطة.
ارتمى شادي من جديد فوق سريره جسداً مُنهكاً. دخلت نازك الحمَّام، لتغسل أوجاعها وهمومها، وجسدها.. عاد الظَّنُّ، وبدأت الشّكوك تنهشها. غَدتْ ضعيفة لا تقدر على التمييز، فمن جهة لا تريد التفريط بزوجها، ولا تريد أن تخسر حياتها من جهة أخرى. وأن تستخدم كُمون طاقتها النفسية لإضاءة فضائها، وألاَّ تبقى مُخدَّرة وجامدة في ظلّ المتغيرات التي ستطول مساحة واسعة، وستطغى عليها، وهي الحريصة دائماً على قطع النزف، وتجميد الزّيف، وطرد المعوقات، وحرقها، وإلقاء الرَّماد في أي نهرٍ... لا تريد أن تموت غَرَقاً!
انتعشت وهي تتلوّى بالماء السَّاخن، والبخار يلّفها بعباءته، ويدفع أحلامها عبر سلك كهربائي. كيف تتكشَّف لها الرموز المخيفة تحت ستائر الزمن في أجواء مُبْهمة، غامضة، مُرْبكة، حاقدة!
تصوَّرت أنَّ الطَّبيب سينقذها، وهو المخلّص الوحيد، القادر على شفاء شادي، وإعادته إلى حضنها فحدّدت موعداً في مساء اليوم، في السادسة تماماً، ولاحظت أنَّ حالته تحسَّنت قليلاً، وبشَّ وجهه، وهو يسترخي على سرير الطبيب.
اقترح الطبيب بلطفٍ على نازك، أن تنتظر في غرفة الانتظار، ريثما يجري حواراً نفسياً مع المريض، وهذا أمر طبيعي، كي يتحرر المريض من الإرباكات بوجود آخرين حتى ولو كانت أمه أو زوجته وأقرب الناس إليه. فالتخيّلات التي تصاحب وتُلازم هذا النّوع من المرض، أوّل ما تظهر على شاشة الذّاكرة، منعكسة من مُسبّب المشكلة، الموجود والحاضر المكشوف، والمقابل لـه. ويمكن أن يُعيد هذا الوجه إلى حالته المرضية، ويصبح العلاج دون فائدة كبيرة...
حرّره الطبيب أولاً من الخوف. تركه يتذكّر طفولته ومراهقته، والأعمال الشائنة التي أحدثت خللاً روحياً عنده، وأدّت إلى هذا الانحراف، كالتلصّص على أُمّ ياسر، ومغامراته مع عديد الفتيات، وخياناته المستمرة. فكلَّما شمَّ رائحة عطر فوَّاحة من امرأة، يظلُّ يطاردها إلى أن يُحقّق مآربه، أو يفشل، وينتقل إلى امرأة أخرى، وهكذا...
كان شادي في حالة هذيان وخواء، أُفرِغت روحه، باح بكلّ شيء للطبيب، بكلّ الموبقات... تتالت عشرات الصّور أمامه، وكان صادقاً في ردّه على الأسئلة، لأنّه أحسَّ أنْ خطراً سيواجهه.
دّعا الطبيب نازك، فحَضرت بعجالة. قال لها: يمكن علاجه، لكّنه يحتاج إلى زمن طويل، فوضعه صعب، وهذا النوع من الأمراض النفسية يمسُّ شخصيته وذاته مباشرة، ولها علاقة مع الذنّوب التي اقترفها وشوَّه سمعة الآخرين.
إنَّ مرض "الخافية" كما وصفه الطبيب، يشمل المحتويات والأفاعيل النفسية غير الواعية، أي التي تبقى صلاتها بالأنا غير مُدْركة، ومن الصعب استيعاب هذه المحتويات إلاَّ بالطُرق النفسانية التحليلية.
لم تتفهَّم نازك هذا النّص الذي تلاه الطبيب، وكرّره أكثر من مرَّة، لكنّه في المقابل، وخوفاً من التشويش، طمأنهم بأنّه سيعود إلى حالته الطبيعية، بشرط تنفيذ التعليمات بدقة، وصرامة، من حيث تناول الدواء، والتعامل مع المريض بهدوء.
عاد الزوجان من عيادة الطبيب يغرّدان كعصفورين يتنفسّان بعمق بعد أن أُعفيا من حُكم الإعدام، وخرجا من القفص الطّبي ـ النفسي بحرية، واختلفت نظراتهما إلى الحياة عمّا كانت عليه في السابق. تعاهدا على الالتزام بالأمانة والصدق، وعدم التدخل بشؤون الآخرين، ومراقبة الناس، وأن يعيشا بعيداً عن الجشع والطمع والحسد، مادامت تتوفر لهما كلّ مستلزمات الرفاهية!
تبدّلت أحوال شادي النفسية بعد الجُرعة الأولى للدواء مئة وثمانين درجة، فركن وراء مكتبه في صباح اليوم التالي. تناول كتاباً، وأخذ يُقلّبه. ولم ينزعج حينما عرف عن غير قصد أنَّ صورة عطا نُزعَت من الكتاب. نادى زوجه، وسألها: أجابت: بلا، ولا تعلم مَنْ أخذ الصورة، وأنَّ الكتاب لا يهمها أبداً.
اتجهّت أوّل الشكوك إلى "الشغالة"، ويمكن أنها فعلت ذلك لغاية في نفسها أو أنَّها أُعجبت بها، وأنَّ آثار خطوط أصابعها المبلّلة بالماء تبدو واضحة على الورق وظنَّ أن يد السَّارق كانت ترتجف.
طوى الكتاب. أبدل مكانه، وضعه في دُرجٍ خاص به. وتمتم: لم تنتهِ الأمور هكذا! سأتجاوز زوجتيَّ الجميلتين، وكلّ النَّاس، لأنَّهم جَهلة، يتراكضون خلف غيوم سوداء، تدفعها الرياح، تُبعدها عنهم، ولا يعرفون متى يهطل المطر! أنا الرجل الوحيد الذي يُقدِّر تماماً درجة الحرارة، ويختبر النفوس، والدواخل المسكونة، بالخير والشّر، والكذب والصُّدق.
كلّ شيء يبعث الطمأنينة الآن!. امرأتان تسكنان في منطقتين متباعدتين، في عاصمة تزدحم بالمساكن والأحياء الغنية والفقيرة، تُعاني من نقص المياه، وسوء المجارير، وازدياد التلوّث، وارتفاع أسعار الفواكه والخضراوات والسيارات، وصولاً إلى تزايد الأمية والغرق في الجهل، والوساطات، وروائح الفساد، وتلوّث النفوس والعقول، وكُره وحُبّ أمريكا في آن.
هرطقات سياسية، تتحدَّر مُحملة ببراثن الخبث والقاذورات... سأترك بعد رحيلي، أنا الجاني، زوجتين وابنين وورثة كُثر، لكنّي حتى هذه الساعة، أجهل موعد الرحيل، وكيف، وأين ستحطّ قدماي؟!
ـ 17 ـ
أشرق الصباح، وابتسم شادي. تنفَّس براحةٍ مطمئناً، وهو يرفع الغطاء، عن نازك. يُقلّبها، يشمُّ رائحتها بعد ليلة هانئة، وبينما كانت تهتمُّ بترتيب السرير وغرفة النوم، اتَّجه نحو المطبخ ليصنع القهوة بيده، تراءت نازك إليه شفافة، وهي ترفع الستائر، وتفتح النافذة الشرقية، لتدخل خيوط الشمس ضاحكة. وخيال فخذيها تحت القميص الرقيق، يشكلان بالنسبة إليه إشارات انتصار على المرض والغضب، وحينما تعثّرت قدمه بحافة السّجادة العجمية، نطَّت الصينية بين يديه، لكنَّ كلّ شيء بقي سليماً، فضحك شادي... التفتت نازك إليه ضاحكة أيضاً، وتناولت الصينية منه.
انتقل الزوجان إلى الشرفة الغربية. جلس كلّ واحد على كرسيه. تقابلا، تفصل بينهما طربيزة، وبدأا يرشفان قهوة الصباح. ينتظران... يتحادثان دون أن يُذكّر الواحد الآخر بالآلام المبرحة التي هزّتهما، لأن البارحة أصبح ماضياً. تعاهدا على بناء حياتهما لبنة لبنة، وأن يقفا معاً على رصيف واحد، ويتعاونا تعاوناً مثمراً، ويحافظا على الجنين القادم بعد شهور قليلة.
أسرع شادي. قفز قفزتين كبيرتين، واختطف سمَّاعة الهاتف. وكان في الطرف الآخر عمر قرأ لـه رسالة بالفاكس قادمة من "الكاب". جاء فيها: (إنَّ مجموعة سياحية مؤلفة من إحدى عشرة امرأة وصبيّة، وتسعة رجال وشباب، سيصلون في منتصف الشهر إلى العاصمة السورية).
قال وهو يخطو نحوها فرحاً: دائماً يا نازك يكون نيسان شهراً جميلاً، يتدفّق عطاء وخيراً.
حدَّقت نازك في زوجها. كانت تراقب خيوط الفرح المتشابكة فوق وجنتيه. حاولت أن تزيح الضوء عن غمَّازتيه، وأن تسترسل بألم، متأمّلة التغيير السريع، واقتناص اللحظات الأخَّاذة بالودِّ، فاطمأنت، وارتاحت، غير مبالية بكلّ أوجاع الماضي، وبالهواجس المتخابثة الرعناء. حاولت أن تلتقط بعض الكلمات، وأن تمدّ رأسها، لكّنها سمعت (أنَّ مجموعة سياحية قادمة إلى دمشق). انتظرت، ربّما ينقل شادي الخبر، يبوح إليها. لم تجرؤ على الاستفسار عن بقية الرسالة منه، ومن أين؟
انتظرتْ عودته إلى الشرفة، تركته يرشف قهوته، ويُشعل سيجارته مغتبطاً... صكّت أسنانها. زمَّتْ شفتيها. بحْلَقت عينيها. تناولت فنجانها ودلقت القهوة والحليب دُفعة واحدة، دون اكتراث شادي، لكّنه رَمقها بعينين مُتسائلتين، جَمْريتين، ثمَّ شرد كعادته!
انتظر سؤالاً منها، وكل واحد يُصرُّ على أن يتّخذ موقفاً محايداً من الآخر، خوفاً من أن يتهم أحدهما الآخر بالتدخل في الشؤون الخاصة. فنازك عدَّت سؤالها تدخّلاً في شؤونه، وشادي أراد أن يُشرنق نفسه في هذه الخصوصية، فهو المسؤول عن السياحة، لكّنه في نهاية الأمر، لابُدَّ أن يعترف بأنَّها الحبيبة والزوجة التي رفعته إلى هذا المطاف.
قال وهو يشدّ يدها، ثمَّ يهزُّ كتفها نحو صدره، ويُقرّب رأسها من رأسه، بحنان. شعرت نازك آنذاك، أنَّ حُباً صادقاً يتدفّق من قلبها، ودفئاً أخّاذاً يُخرمش بنعومة عواطفها: اطمئنّي يا زوجتي الحبيبة لأنَّ الشركة السياحية بدأت تُعطي ثماراً طيبة، فسيصل أوّل فوج سياحي من القارة السمراء، وفوج آخر من الجُزر الإسبانية. فالمُغريات السياحية، للأجانب التي نٌقدّمها، بأسعار متهاودة، إضافة إلى ما حققه النشاط الإعلامي، واستخدام الوسائل الحديثة، كل هذه الأمور، هي التي ستجذب السياح إلى بلدنا، وستكون رافداً مالياً لنا، ولاقتصاد البلد، وهذه مهمة وطنية كبيرة لا جدال حولها.
سَخرت نازك من العبارة الأخيرة. قالت: متى كنت تهتمُّ بالاقتصاد، وتفتّش عن المنافع التي تعود على الوطن بالخير؟... ما يهمّني كسب المال، وتحقيق الأرباح الطائلة. إنَّ قسماً لا بأس به من مُدّخراتي هرّبتها إلى بلدان أوربية!
عاد شادي إلى صوابه. نفضَ الغبار عن ذاته. تذكّر مواقفه عندما كان طالباً، وعاشقاً حقيقياً لأمل، وكيف كان يدافع عن الفقراء، والقطاع العام. لم يرفض يوماً من الأيام أن يكون للقطاع الخاص دور في الاقتصاد. فاتخذ موقفاً صُلباً، وتراجعت نازك إلى حدٍّ ما عن موقفها المتشنّج، لأنّها لا ترغب في أن تشوّش العلاقة الزوجية أو أن تعود الحالة العصبية إلى شادي، فأدركت خطأها، وتسرّعها، ومازحته قائلة: لا تغضب يا حبيبي، فنحن نرغب، من قلوبنا أن تزداد غنىً، وأن يزدهر اقتصادنا!
لم يُصدّق شادي هذا الكلام المبلول بالعسل، المغسول بماء الكلام والحياء والمداهنة، المغروس كالشجر الشائك في جسد وفكر هذه المرأة البورجوازية اللئيمة. فحبّ المال، والكسب غير المشروع، يُورق ثمراً وفكراً مسموماً!
متى كانت هذه البورجوازية تُشفق على الوطن والمواطن... إنَّها جشعة، وجشعة جدّاً، لا يهمّها إلاَّ مصلحتها، وتحقيق رغباتها المشبوهة. فلا يمكنني أن أتراجع عن ركائزي الفكرية، ومواقفي المعروفة. صحيح أنّني انتهازي، وأحبّ النساء، ومُتملّق، لكّني عند اتخاذ المواقف الرئيسة، الصعبة، أعود إلى رُشدي، أصحو من وَهْج المال والغرور... تعود إليَّ ذاكرتي الحيّة... أعود إلى ناسي وطبقتي.
ساد صمت مشوب بالحذر كأنّه الحرب الباردة. فتح شادي النافذة الشرقية، وفتحت نازك النافذة الغربية... دخل الهواء من النافذتين، فانتعش الاثنان، تنشَّقا هواء يناسب رئة كلّ واحد... هذا يقول: الأوكسجين أكثر عندي، وذاك يقول: تخلّصت من الآزوت والغبار المعجون برائحة التطرف والديكتاتورية... وجرت معركة طاحنة بين دفتي الهواء.
ركب شادي سيارته. اتجه إلى "البرامكة". كان عمر في استقباله، مُجهّزاً الرسائل والفاكسات القادمة من بلدان بعيدة. سحب شادي الورقة الأولى، التي يعرف ماذا تشكل بالنسبة لـه. احتضنها، وبدأت الشكوك تقرقر في داخل عمر، الذي تساءل عن هذا الاهتمام الزائد بالسيّاح الأفارقة. عصر دماغه. شدّ حبال وخيوط ذاكرته. استعصت كلّ الاحتمالات، وظلّ القلق يساوره، ثمَّ همست الذّات الناعمة، مترجرجة ووشوشته (لا تتسرَّع فالزمن كفيل بأن يكون إلى جانبك، ولصالحك.. راقب، ثمَّ راقب ما يجري، وأنت المنتصر!)
تجاهل عمر الأسئلة التي وجهها شادي إليه، عن مدى معرفته بالأخبار الجديدة. كان يتصوَّر أنَّ عمر يجهل أو يتجاهل الآن، أنَّ ابنة عمّه أمل هي زوجته، لأنَّه لم يُصادف أن رآه عندها أو يكتشف أي أثر لـه من ثياب وغيارات داخلية، ومنامة رجالية مُعلَّقة... كلّ شيء كما تدّعي أمل مُخبّأ في الخزانة.
باح عمر مساء اليوم نفسه إلى أمل بكل الأسرار التي ما زال يحتفظ بها، وبكلّ التفاصيل. تجادلا، وتناقشا مطوّلاً حول ما يجري، وما يدور حولهما. كادا أن يتوصّلا إلى نتيجة واحدة، لكنّ الشكوك، بقيت لهما بالمرصاد. لم تجمح تخيّلاتهما بعيداً. اتّفقا أن تبحث أمل باهتمام شادي بالسيّاح الأفارقة، وتحاول تجنّب الاستفزاز، وهو الذي وعدها أن يقضي عندها ليلة واحدة.
أجابت أمل الحزينة في أعماقها، بأنّها تعرف، وهي متأكّدة أنَّ مستقبلاً غامضاً يتربّص بها، لكنَّها ستكون صابرة، وتتحمّل أوجاع هذا الزمن، وستتحمّل نزف الجروح، وستحافظ على الجنين لأنّه الأمل الباقي لها في هذه الدُّنيا!
ـ 18 ـ
تناول شادي جرعات الدواء بانتظام بعد الغداء، وقبل النّوم. تحسَّنت صحّته. بدا أكثر نضارة، وبشاشة. عرض على نازك الخريطة الجديدة الملوَّنة، لآثار سورية الرئيسة في عديد المناطق، ابتداءً من بصرى وتدمر، وانتهاءً بإيبلا وقلعة الحصن وقلعة دمشق، وأسواقها وحمَّاماتها وأبوابها...
تابع بشغف وهمّة ومثابرة قراءة الكتب الأثرية والتاريخية، لمعرفة كلّ شيء قبل وصول المجموعات السيّاحية. شارك نازك معه، رغم حملها، وتراخي همّتها.. عرَّفها على البرنامج السياحي الأسبوعي، الذي سيبدأ في منتصف شهر نيسان. وفي الوقت نفسه، كان يُخبّئ عنها كلّ شيء هام ورئيسي. فهي عندما تسأله عن السيدة "ماغي" صاحبة الفاكس، يرتبك. يتجاهل سؤالها، كأن يقول: كأي امرأة أجنبية سائحة، تمتلك شعوراً، وحبّاً للإطلاع على آثارنا وحضارتنا، فلماذا تكرّرين الأسئلة؟ أنا مثلك.. سأجرّب مرافقة هذه المجموعة. وكما تعلمين هذا أوّل نشاط لنا، وستكون خطّتنا على الشكل التالي: سأترك عمر لأنه يُتْقِن الإنكليزية مع الكبار في السّن، وستُرافق دليلة سياحية شابة، الفريق الثاني الأصغر سنّاً المؤلف من الصبايا والصبيان.
كلّ شيء مؤمّن، وأصبح جاهزاً يا حبيبتي.. وتضاحك الزوجان، وهما لا يشبعان، وكلّما جمعا أكثر من المال، يزداد فرحهما، كأنَّهما يريدان أن يمتلكا العالم.
لم يكن مفاجئاً لشادي أن يلتقي بعمر في منزل أمل، فهي التي رغبت عن قصدٍ أن يكون الاثنان معاً في بيتها على مائدة الغداء.
قال شادي: ستكون ولادتك سهلة يا أمل! وهذا رأي الطبيب. أكَّدت الفحوص وضع الجنين السليم، ولكن لا تنسي الإكثار من الحركة والمشي في الشهر الأخير من الحمل، فهذا سيكون أكبر مساعد على تسهيل الولادة. قاطعه عمر: لقد اقترب موعد الولادة!
أصرَّت أمل على اسم زهرة لمولودها. قالت: تفقد الحياة بهجتها بدون أزهار وورد. ستكون الطفلة الوحيدة المدلّلة.
ضحك شادي مسايراً: سننجب لها أخاً ونسميّه "ورد"!
يكفينا زهرة واحدة تنثر عَبقها في رمالنا.
لماذا تؤكّدين دائماً على بحار الرمال، كأنّنا نعيش في صحراء!
إنّنا هكذا! ألا ترى حياتنا القاحلة إلاَّ من الأشواك! وأنت قد ساهمت في هذا التصحّر، وقطعت الأشجار لتصنع منها حَطَباً لقلبك!
أخذ الحديث يمتدُّ ويتشعَّب بجدّية اكثر. بدأ بسيطاً، عادياً، ثمَّ ارتقى. أصبح كلّ واحد ينضح بما في إنائه... وصمت الثلاثة، كأنَّهم أُصيبوا بالخَرس، سوى الملاعق تدقُّ في حافات الصّحون.
تأمّل شادي اللّوحة الجميلة التي كان يعتزّ بها، بينما أمل لا ترفع رأسها بوجهه. كان بصرها مركزاً في وجه عمر. وعمر أيضاً يُحدّق بالسَّقف، والفضاء، عَبر النافذة. يتقاطع بصره مع رؤوس الأشجار على جانب الشارع.
تقادمتْ أفكار أمل المخزونة في ذاكرتها. فالحياة فَقدت نورها، وبهجتها، بعد أن طعنها في عُذْريتها، وهي الصَّابرة التي تحمّلت الكذبة الكبيرة "للحبيب"، ولم تكتشف أسراره، إلاَّ متأخرة، فسرق منها الفرح الطفلي، هي الفتاة الحالمة كانت تقول لـه كلَّما فكَّر بالزواج: سيكون شريط الفيديو أرشيفاً وشاهداً صادقاً، فعندما تكبر وتعجز يا شادي، سنعرض هذا الشريط على أولادنا وأحفادنا... لكّنه اغتصبني، وضيّع عليَّ أحلامي، بل وأماتها قبل أن ترى النُّور.. كلّ الأحلام الجميلة السَّاحرة تلاشت.. كيف سأكون مُخْلصة لـه. سأطعنه من الخلف، وسيأتي اليوم الذي أُعيد فيه ضياعي، وأعود من متاهتي ويكون ما يكون...
تعود أمل إلى نقائها وكبريائها... تتذكَّر بأنّها ستنجب طفلة. تُردّد: ما ذنب زهرة؟! هل ينتهي حُلمي قبل ولادتها؟ كيف بها عندما تكبر، وتسأل عن أبيها وعائلة أبيها، عن قصّتها! ماذا أقول لها؟ جئت متأخرة يا بنتي! ستعرفين قصّتك عندما تكبرين. وعلى كلّ الأحوال فهي بريئة، لا ذنب لها، وهي غير مسؤولة، إنّها شاهد على ما حصل. وإذا كانت البداية هكذا، فالنهاية أيضاً كابوس محمول على خشبة الموت.
استأذن عمر، وترك الزوجين، وودّعهما، طمأن شادي، وهو يهبط الدّرجات القليلة مسرعاً. كلّ شيء جاهز لاستقبال السّياح، فكُنْ جاهزاً. مُبكّراً في حضورك إلى المكتب.
حمل شادي بقيّة الصّحون إلى المطبخ، وهذه هي المرّة الأولى التي يُشارك فيها زوجه في عمل المنزل، ممّا بعث السرور في قلبها. ثمَّ جلسا يشربان الشاي، ويتحدَّثان عن المولودة الأولى، عن الشمس القادمة من الشرق، عن تربيتها ودلالها، واختلطت الأحاديث عن الهجرة والسَّفر والرحلات السياحية.
استرخيا على الكنبة المزدوجة شاردين، كأنّهما يقيسان الزمن بمسطرة، ويَعدّان الأيام القادمة.
شعرت أمل بمغص شديد، تصوَّرت أنها أكلت أكثر من حاجتها. لم تُبالِ، ولكن استمرار الوجع حثَّها أن تشدَّ شادي من قميصه، وهو يغفو، فنهض الرجل، وأحضر النعناع، ولم يخف الوجع..
قالت: كيف ستتركني وحيدة؟
لا أتركك وأنت في حالة سيّئة، وهذه علائم الطَّلق، ويمكن أن تستمر طوال الليل!
أصبحت تعرف آلام النساء!
لا، أبداً. لكنَّ الطبيب شرح لي في الزيارة الأخيرة، قبل شهر. قال: عندما تظهر الآلام المغصية" لا تتهاون بالأمر، واتّصل بي!
قلت إنَّ المجموعة السياحية ستصل غداً أو بعد غدٍ. كيف أتدبّر أمري، ومَنْ يقف إلى جانبي!
سأرسل عُمر.
ما دخل عمر! هل هو زوجي؟
إنَّه ابن عمّك، ويملك تجربة أكثر منَّا. عانى، وأصبح أباً قبلنا.
وأنتَ. لماذا لا تحضر. وجودك ضروري جدّاً. يمكن أن تمنعك نازك من الحضور، أو تُحرّضك على إسقاط الجنين! وهي حامل مثلي ويمكن أن نولد في اليوم نفسه.
لا، ستولد...! فهي لا تعلم بأمر زواجنا، لكّنها تشكّ.
همسَ شادي ثمَّ تمتم بمفردات متقطّعة. لا يعرف كيف يتخلَّص من هذا الإحراج. إنّه في ورطة كبيرة، ويملك من الكذب والمراوغة، والقُدْرة على الإقناع ما لا يملكه سواه، وهي تملك من الفهم والطراوة والشفافية، وكشف الزّيف الذكوري والقُدْرة على الإقناع أيضاً.
مواجهة صعبة، مُعقّدة، وموقف حرج. قالت أمل: كيف يسمح ضميرك بأن أبقى وحيدة، ألست زوجتك وحبيبتك، وذكّرته بعشرات الصفحات، وعشرات الأزقة والدروب التي سلكاها، والعشق المديد طوال سنوات وأيام وليال. الآن تتركني في الوقت الذي أنا بأمسّ الحاجة إليك.
قبل أن يعتذر، ردَّ على الهاتف. كان الطبيب يسأله عن أمل، التي بادرت ونزعت السمَّاعة منه، وحَكت عن الآلام التي تزداد. طمأنها الطبيب، وقال: هذه مقدمة للمخاض، وحتماً ستكون ولادتك في الصباح.
لا مهرب يا شادي. أسمعت بأذنك ما قاله الطبيب!
مَنْ قال إنّك تتألّمين؟
لا أدري! إنَّ إحساسه واهتمامه هما اللّذان دفعاه للاتصال.
ألم تتّصلي به؟!
ما زلت بجانبك طوال هذا الوقت.
سأتركك الآن، لكّني سأبقى على اتصال دائم معك، وإذا ما استجدَّ شيء، أخبريني!
حَاكتْ أمل نفسها: الدم لا يمكن أن يتحوَّل إلى ماء. تأكدتُ الآن أنَّ عُمر هو الوحيد الذي أجرى اتصالاً بالطبيب.
فرحت لأنَّ الشكوك في مكانها، وأنَّ ولادتها ستوافق مع مجيء السيّاح من إقليم الكاب. وتنشَّطت ذاكرتها، تدفّقت الصّور، وسرعان ما حَضَر الكتاب، فأعاد قراءة بعض صفحاته، وتلمَّست مقهورة صورة عمّها وعائلته، وقصره وشركته وسيارته الفارهة. ربطت الأجزاء كلّها، والحوادث العابرة، والتي تعبر الآن، ودقّقت حساباتها، ووصلت الحلقات ببعضها.
ودّعته مُجْبرة، وظلّت تكرّر خلفه: وفَّقك الله يا أبا زهرة، فأنت سائح، بل وتائه في مضارب الأرض والعشق والتلاعب بعواطف الناس وقلوبهم ومصائرهم ، والغشّ والنفاق، ولا يمكن إصلاحك، وتقويم اعوجاجك بهذه السرعة، فالزمن كفيل بذلك، ومهمّتي الأولى التي أطمح لتحقيقها هي أن تتم الولادة بسلام، وبعدها أفعل ما تريد فعله!
خرج شادي، فهو ينتظر الفُرصة المناسبة للتهرّب من أسئلتها الجديدة، ولم ينبس بأيّة كلمة، لكنّ روحه الشريرة صرختْ في داخله: لستِ المرأة الأولى ولا المرأة الأخيرة، سأحتضن جسداً آخر، ألذّ وأطيب من نساء العرب كلّها.
فطن أنَّ "ماغي" من أصلٍ عربيّ، فلامَ نفسه على هذا الخطأ الكبير، لكّنه أردف قائلاً: أخوالها من البيض وليسوا أفارقة، وأعمامها من العرب، فهي إذاً "خُِلاسية"، دمها خليط، ومفاصلها مركبة من عدّة بلدان... ويمكن أن تكون الزوجة الأخيرة!
حُلمٌ شائكٌ يحتاج إلى الطيران والتحليق في سماء صافية، بلا غيوم، وبلا نجوم وأقمار، لأنّها ستكون القمر الوحيد في فضائي، لكّني لا أدري إذا كانت بالجمال ذاته، وكما تبدو في الصّورة. ومهما كانت قبيحة فهي أفضل امرأة رأيتها في حياتي.. شدّني توّهجها وتألّقها ونعومتها.. بَشَرة بيضاء كذرَّات السُّكر، كقطعة جُبن طازجة، مشرقة، أكثر من أمل، وأطول وأنحف من نازك، كالخيزران.
وتحافظ المرأة الأجنبية على أناقتها ورشاقتها، بعكس نسائنا، فالمرأة عندنا ينفش جسمها من الولادة الأولى، كأنَّها تُحقن بالهرمونات، كدجاج المزارع المخصصات للتسمين أو كعجول شيكاغو المخصَّصة للتعليب.
ماغي صبيّة غير مخصّصة لفرم البقدونس والبصل ولصناعة التّبولة، سرعان ما تترهَّل! ويختفي جمالها.. إنّها تُزيّن أجمل صفحة من كتاب أبيها، كأنَّها فِلْقَةٌ من أمل، وأوَّل ما تلتقيها أمل ستعانقها، وتحتضنها...
أحلام شائكة يا شادي ـ يُخاطب نفسه ـ ستواجهك، ستنهض من أعماقك. وإذا ما تحقّق نجاحك، فسيفتح العالم الجنوب إفريقي أبوابه لك.
هل يُصدِّق عطا المجنون أن شاباً مجنوناً مثله من سورية سيتزوَّج ابنته؟! وإذا عرف، وطبعاً سيعرف الحقيقة، بأنّي كنت زوجاً لابنة أخيه عبد الله، ماذا سيقول، وكيف يُحدّد موقفه؟
سأشرح لـه الموقف. سأبدع في القصّ، وهو الذي يكنُّ كُرْهاً لأخيه لا مثيل لـه، حتى إنّه شطب اسمه من الكتاب، ولولا شجرة العائلة لما وَرَدَ اسمه مُعلّقاً في أحد الفروع!
ستكون الأيام القادمة ساحرة بجمالها، حافلة بالفرح. وسأكون قنّاصاً ماهراً بجدارة، أتحيَّن الفُرص المناسبة لأصنع زمناً مُحبَّراً بريشة مُذهَّبة. سأجوب العالم رحّالة على درَّاجة نارية، ولا أدري، هل أعود إلى الوطن ثانية، وأجمع أخبار أبنائي وزوجتيَّ... سيحمل عمر ورقتي طلاقهما بيده، سأضعهما في مُغلَّفٍ واحدٍ على مكتبه الأنيق، قبل الرحيل النهائي. لكّنها أحلام يا شادي، تتناسج خيوطها من أوهام أفكاري وتصوّراتي، سأحاول أن أصنع منها بساطاً جميلاً، وخيمة أحفظ فيها أسراري.
ـ 19 ـ
صرخت زهرة عندما شمّت رائحة الحياة. شقّ فرح الأُمّ فضاءً مخنوقاً بالحكايات والسمّوم. وغضب عمر، ازداد حقده على شادي الذي لا يهمّه إلاَّ نفسه، الهارب من مسؤوليته، الذي كان يتمتّع في تلك الليلة في أحد مطاعم "صيدنايا". وكان قاصداً أن يسهر مع زوجه نازك في مطعم "الزهور" لأنه يعلم مسبقاً أنَّ طفلة ستنضمُّ إلى العالم، وستكون إحدى بناته، لكنَّ الفرق كبير بين زهرة والزهور.
أزاح شادي الكرسي. جلست نازك متثاقلة. وَجّهٌ متوردٌ، منتفخ، فهي في شهريها الأخيرين ويعلم الزوجان أنّها ستنجب صبياً، وستفتح أبواب الدنيا لـه، وسيعيش في بحبوحة. كلّ شيء على ما يرام.
قال شادي وهو يتناول أفخر أنواع المشروبات: لا فقر بعد اليوم!
لم يتذكّر أنَّ ساعات عصيبة تتجرَّع فيها أمل الآلام نسي! لكنه لا يدري كيف غطّى الغبش عينيه. تراءت أمامه أمل وزهرة كملاكَيْن، وهما يخرجان من المشفى، يرافقهما عمر... وكيف، عندما سمعت جارة أمل (أم عبده) جَلَبة في مدخل المنزل، خرجت تزغرد، وكان الفرح يتطاير، يملأ الفضاء، فدخلت مهنّئة، وقبّلت أمل واحتضنت زهرة بيديها المرتجفتين.
قالت أمّ عبده: لقد أورق الحُبُّ يا أمل.. أصبحتِ الآن أُمَّا. سأهبها اسمي يا بنتي! رفعت أمل رأسها مبتسمة.. سألتها: ما اسمك يا خالتي؟ أجابت أم عبده: أحقّاً لا تعرفين اسمي حتى هذا التاريخ!
لا... أعرف أم عبده، وكفى!
اسمي سارة.
جميل! لكن... زهرة هو المفضّل عندي.
كما تريدين.. أنتِ أُمّها.
زهرة في زمَن اليَبَاس، ستنهض وسط الرمال، وتُوقف التصحُّر!
تعيش في دلالك.
أنتِ الأم الحقيقية لم تتركيني طوال هذه السنين، وكلما كانت المنافذ تغلق بوجهي، كنت ألتجئ إليك يا خالتي!
أنتِ كابنتي... صبرت وتحمّلتِ الضّيم وعاديات الزمن. ألا يكفيك هماً وغمّاً، لكن. أين زوجك؟ لم أره في البيت!
قال إنّه ينتظر وصول مجموعة سياحية من إفريقية، وأخرى من إسبانيا.
إنه رجل يحبُّ العمل، وجَدّي أكثر من اللّزوم، لكن!
لكن ماذا يا خالتي؟
كيف يتركك وحيدة؟
كان ابن عمّي عمر يرافقني، ولم يتركني لحظة واحدة!
جهّزت أم عبده "المغلي". كانت رائحة التوابل، من قرفة وخولنجان وزنجبيل تملأ فضاء البيت... تنفّست أمل براحة. اطمأنت الآن، وظهر على مُحياها الفرح والانشراح. بينما كان شادي يمضي الوقت بالشُرب والأكل. وكان الليل لطيفاً في صيدنايا، وعندما هبّت النسائم في هذا الطقس الجبلي الصحراوي، نهض شادي، وألقى على كتفي زوجه شالاً قُطنياً.
قال: لا أُحبُّ غيرك يا نازك. لو عرفتك قبل هذا التاريخ، لكان الحُبّ جمراً يتلظّى، وكُنّا أنجبنا البنات والصبيان.
لا تندم يا حبيبي على ما فات، قالت نازك. سيرزقنا الله صبياً جميلاً مثلك.
أنتِ الأجمل بين النساء. هاتان الوردتان الجالستان على كرسي خديّك، يُبْهجان القلب، ويدخلان الأمل إلى روحي.
توقّفتْ ساقية الغزل. تفتّحت عينا نازك. تساءلت: ماذا جرى لك يا حبيبي؟
أكمل مشوار الغزل الرفيع. كلماتك تنسكب دُرراً. تتجمّع في عتبة قلبي، فتنهض النبضات، وتتراقص.
أُنظر يا شادي كيف تتقافز؟! أُنظر كيف يرتفع ويهبط! إنّه الجنين، يطرب على شدوك الجميل، ويحسُّ بدفء وحنين الكلام!
أمسك يدها، ومشيا بجانب مسكب طويل، مزروع بالزهر والورد.
تأبّطت ذراعه. ووضعت يدها الثانية على بطنها. قالت: ما يزال الجنين يتحرَّك!
إنّه فَرح!
يبدو نشطاً، وأعصابه قوية... لا يرغب في البقاء في هذه "المنفردة".
قالت نازك: ليس كأبيه... وضحك الاثنان...
أرخى شادي رأسه. طبع قُبْلَة على خدّها. وقفتْ تنظر إليه، كأنًَّها تملك الدنيا كلّها.
أسرَّت في داخلها: (يبدو أنَّ العلاج كان قوياً وشافياً. إنّه طبيب نفساني شهير. حَمْداً وشكراً لله أنّني تخلّصت من الزوج العنين، وابتليت برجل آخر، كاد ينهار، ويُصاب بانفصام الشخصية.
رفعتْ نازك عينيها إلى الأعلى، تطلب غفران خطاياها. فظهر القمر... تمرَّد على غيمتين، كتلّين، وظلَّ يمشي حُرّاً في فضاء الكون، وهما يقتربان منه. أراد أن يستقبلاه في هذه الليلة القدرية النّقية، ويخطوان بين الأنوار في طريق ضيّقة، مفروشة بالحصى الخشن، ثم رجعا إلى الطاولة، وشربا القهوة.
انتصف الليل ولم يشبعا من رائحته وسكونه، وتركا المطعم، باتجاه المدينة في سيارتهما التي تنهب الطريق المُعبَّد، ولولا حذاقة شادي، ونباهته، ومهارته في القيادة، أثناء الانعطاف الحاد، لكانا تحطَّما، عندما واجها الضوء القوي من حافلة شاحنة مسرعة.
انحرفت السيارة إلى يمين الطريق، أوقفها شادي دون أن يُصابا بالأذى، وكأنَّ كابوساً صاعقاً حطّ بأثقاله عليهما، أراد أن يُحطّم سعادتهما!
اعترف شادي في نفسه دون أن يظهر غضبه (هذه خطيئتي! كيف أترك أمل وحيدة في الساعات الحرجة، وتلجأ إلى عمر أو إلى الجيران؟ ثمَّ عاد يقول، وعيناه حذرتان من الحافلات. لكن لا خوف عليها، فهي في مشفى آمن، وستكون أليس إلى جانبها).
وكانت أليس على لسان أمل دائماً، وحدّثت جارتها أمّ عبده، عن مدى حُبّها للناس، واعتنائها بها طوال الوقت، ورافقتها طوال الليل، وبقيت إلى جانبها حتى خروجها من المشفى!
أُمّ عبده، سألت: مَنْ هذه أليس؟ أوّل مرّة أسمع بهذا الاسم!
إنّها راهبة يا خالتي.. قدّيسة! تخدم المرضى في المشفى الطلياني.
لماذا؟ وكيف؟ الرَّاهبات يَخْدمنَ في الأديرة، ويصلينَ هناك!
هذا صحيح. ولكن بعضهنَّ يُكرِّسنَ حياتهنَّ للرب، وخدمة المرضى هي جزء من هذه العبادة.
عندما تزورك، أريد معرفتها عن قُرب.
يمكن أن تحضر مساء اليوم أو صباح الغد. وعندما تحضر سأعلمك حالاً!
قطعت السيّارة نصف الطريق، ونازك تُصلّي في داخلها، كي يصلا سالمين إلى المنزل.
وأكثر ما كان خوفها على الجنين، فهو ثمرة حياة بكاملها. أما شادي، فيمكن استبدال آخر به، فما أكثر الرجال في زمن العثرات والسقوط، وكُثر يتمنّون أن يلمسوا يدي، ويسمعوا كلمة منّي.
وقالت وهي تُربّت على كتف شادي: تمَّهل يا حبيبي عند المنعطفات. كنت طحنتنا، وأنهيت حياة ثلاثة أرواح في لحظة طيش.. أنا والجنين أصبحنا أمانة في رقبتك، فلا تسرع... أتصوَّر أنّك أكثرت من المشروب، وهذا يجب ألاَّ يحصل! الخمرة والقيادة لا يتّفقان، ولا يلتقيان، ولو كنت في بلد أوربي، لأودعوك السجن.
ابتسم شادي، كأنَّه يُثبت لها أنَّه صاحٍ تماماً، ولم يتأثر بشيء، بينما كانت السيّارة تلفّ الدوَّار الكبير، وتصعد الطريق الذي يبدأ عنده حيّ التجارة، ثم انحرفا بعد وزارة النفط إلى اليسار ودخلا بأمان...
ارتاحت نازك، وعدت نفسها بألا تتأخر في المرّة القادمة، وأن تمنع زوجها الإكثار من المشروبات الروحية، خوفاً من السقوط في الهاوية، فيخسرا كلّ شيء، ولن ينفع النّدم عندئذٍ.
امضتْ أُمّ عبده ليلتها بجانب أمل وزهرة. وضعت فَرْشة صوف سميكة على الأرض، وغطّتها بشرشف ناصع البياض لتنام ليلتها قُرب أمل، فهي أُمّ مُجرِّبة، وربَّت ثلاث بنات وصبيين. وتُدرك وجوب البقاء بجانب المرأة "النُّفَساء"، ولازمتها ثلاثة أيام، وكانت أمل تناديها بأُمّي، ويا أُمّي (تعالي شوفي زهرة حفيدتك، تبكي).
تستجيب أُمّ عبده، بفرح، فتغلي اليانسون، وتغسل الطفلة كل يوم. وكلّ يوم يتفتّح برعم في غصن جديد، وتنمو ورقة خضراء. والفرح يبني عشّه. في المساء امتلأ البيت بالناس، فجاء عمر وسلمى وابنهما. تبرَّعت أم عمر بالبقاء في خدمة أمل، أسبوعاً، إلى أن تقوم بالعافية. ولكن أم عبده ظلّت تتردد في كل يوم وتُقدّم المساعدة، فتذهب إلى السوق وتبتاع الخضراوات واللحمة ومواد التنظيف، وسواها من الحاجيات.
ومع قدوم زهرة تبدّلت أجواء اليَبَاس، وعَبقت في المنزل رائحة تختلف عن روائح الوجع والألم والنّقار والمنغّصات التي كان شادي يطبخها في طنجرته السوداء.
وبعد ثلاثة أيام، أسْتقبل شادي. رحّبت أمل به، كضيف، ابتسمت لـه. وضع ما يحمل من هدايا وحلويات. قبَّل زهرة. أمضى سهرة جميلة، ولم يبرح الكرسي الذي جلس عليه بجانب سرير زهرة. وقدّمت أم عمر الضيافة لـه، شكرها على الاهتمام بزوجه، ودسَّ بيدها وهو يودعهما ألفي ليرة، لكنَّ أُمّ عمر أعادت المبلغ إليه، وأقسمت بأن لا تأخذ قرشاً واحداً، وقالت لـه: أمل ابنتي، وهي ابنة عمّ ابني. وهل المرأة مقطوعة من شجرة؟!
رافقه صوت أمل إلى الباب الخارجي، وهي تقول: لا تتأخر يا شادي. إنَّ زهرة بانتظارك. التفت ضاحكاً:... قال: غداً ستأتي مجموعة سياحية جديدة، سأتأخر أسبوعاً كاملاً، أو أكثر، وسأرافقهم في جولة سياحية طويلة، لأننا سنزور مناطق أثرية عديدة، وسنجني مبلغاً طائلاً من المال، فلا تشغلي فكرك من ناحيتي. ثمَّ توجه بالكلام إلى أم عمر: ستكون حُصَّة عمر يا خالتي "محرزة"، فقد يحصل على نسبة جيدة من الأرباح، إضافة إلى أنّه مترجم ناجح، ويتكلّم الإنكليزية بطلاقة.
شكرته أم عمر، وودّعته، وعادت باشة، مسرورة، وحملت زهرة وأدخلتها إلى الحمَّام، وملَّحتْ جسدها. كانت زهرة كفرخ حمام، طرية. انقلبت بَشَرتها البيضاء إلى لون الشوندر. ولسع الخوف أمل عندما رأتها تتقلّب بين يدي أم عمر. خافت عليها، لكنها سرعان ما عادت إلى هدوئها، مطمئنّة.
رضعت زهرة من ثدي أُمّها، وشبعت. نامت هانئة. تزداد سحراً. تغدو جميلة. أما أمل فتزداد نضارة، و تألّقاً. وتحققت بعض أحلامها.
صحيح أنَّ الكلام لم يتحوَّل كلّه إلى واقع، وصحيح أنّها كانت مغفَّلة، واندمجت باللاّشعور، والأوهام والكذب مع شادي، لكنّها سألت نفسها مراراً: كيف لو عرفت نازك بهذا الزواج، وأنّه أنجب طفلة جميلة، ماذا تفعل يا ترى؟ ماذا يكون موقفها؟ هل تتقبّل الواقع، وأن يكون لها ضُرّة؟ أم تطلب الطلاق؟ علماً أنَّ العصمة بيدها، فهي ساعة ما تريد ومتى ترغب تشحن حُبّها الموهوم بالسُّم، وترفس شادي بقاع قدمها، وتطرده، فكل الأمور سهلة بالنسبة إليها.
تتالت الهواجس. بدأ الهَوَس ينخر آخر خلية في دماغها. وبرز سؤال هام، ألّح وضغط عليها: كيف لو أنجبت نازك صبيّاً، وسيكون الأخ الوحيد لابنتي الوحيدة. ماذا سيكون موقف امرأة بورجوازية؟...
تعود إلى العقل، لأنها تعترف بأنها تبني أوهاماً وأحلاماً في فراغ مقيت.. وتُجيب نفسها: يمكن أن تتحوّل نازك إلى امرأة فاضلة، وترضخ للواقع، عندما يُفرض الواقع عليها. وأنا لا يهمّني ماذا ستكون عليه الحال، فالمستقبل كفيل بنفسه، ولا أُريد أن أتورَّط بقصص، أُشيّد بناءها في خيالي دون مساعدة الأصدقاء. أتوجّس من الأيام القادمة، لكنّي ما دمتّ أنجبت زهرة، فمن السهل قلع الأشواك، وسأدير ظهري لكلّ ما يُعكّر صفائي وعيشي، فمنزلي وابنتي، كفيلان بحمايتي من الشرور، ولست بحاجة إلى أحدٍ. وأينما شرد أو تمرّد هذا الزوج اللَّعين، فسيأتي اليوم الذي يعود فيه إلى رشده وصوابه، ويصحو من سكرته.
استلقت أمل على السرير.. وكانت زهرة إلى جانبها. وقبل أن تغمض عينيها، رشقت حُبّها على خدّيها، قبّلتها قُبلات شفيفة. كانت شفتاها بالكاد تلامسان جبينها وخدّيها، لأنها تخاف عليها من النسيم.
سرح خيالها بين خيوط الضوء العسلي الخافت. وتلاحمت أنفاسها بأهزوجة نابضة لأُمِّ حنون، تعثَّرت في طريق وَعْرٍ للوصول إلى صحراء جرداء...
رددت بصوت ناعم أغنية تعلّمتها من أم عمر... (نامي يا زهرة نامي ولا تخافي).
ـ 20 ـ
أخذت ماغي من أُمّها الإنكليزية لون عينيها، طويلة كوالدها. بَشَرتها حنطية تميل أكثر إلى اللّون الأبيض، ممشوقة القدّ. تُتقن اللغة العربية، وإن كانت بعض المفردات معجونة بالإنكليزية، ويصعب عليها حرف القاف.
كان شادي يحاول أن يشرح لها، ويعدّد المناطق الأثرية التي يجب عليها زيارتها، نظراً لأهميتها التاريخية والحضارية. وكان يُشير إليها على الخريطة التي بين يديها.
الأول من أيار، هو يوم خالد في ذاكرة شادي، عندما وصلت المجموعة السياحية. وشعر عندما هزّته يد نازك في صباح ذاك اليوم، بأنّه وُلِدَ من جديد وبدأت مرحلة جديدة في حياته.
نهض... دلق فنجان القهوة في فمه دفعة واحدة. ودّع نازك. قبّلها على جبينها. قال لها: سأعود بعد أسبوع يا حبيبتي. انتبهي إلى الجنين، ولا تهملي نفسك.
ابتسمت نازك كعادتها.. ردّد شادي في نفسه: (ستكون آخر ابتسامة أراها تلمع على فمك!؟)، وكأنَّ إحساساً ما تسرَّب إلى أعماقها، وشعوراً بالنّدم، يتجول في ذاكرة ملأى بالأحلام، تكاد تفيض بالجنون المحموم، لكنها لا تزال تنبض بحرارة تلك الليلة المجنونة، اللطيفة التي حققت فيها بعض ما تصبو إليه من حنان ودفء، مُعْترفة أنّها سَرقت شيئاً من الذات الشادية، المتقلّبة، المنقسمة على نفسها، الذات المراوغة، المنفصمة أحياناً، المكتئبة في أحيان أخرى، الحالمة بالحُب بعد جرعات الدواء المتكررة. وهي تعرف حقّ المعرفة، ومتيّقنة من آرائها الصائبة أنَّ شادياً يمتلك أسلوباً مغناطيسياً عندما يكون في أوج صحوته، ومستعداً لإطلاق شهوته، حينئذ كانت تحسُّ بأنّه يمارس معها أشكالاً من الإرهاب والاغتصاب، لكنها تعيش حلماً راودها منذ زمن...
يمتلك شادي أسلوباً مغناطيسياً في جذب ضحيته فما إن صافح ماغي، وانطلق الشرر من عينيه، حتى ومضت عينا ماغي، وابتهج قلبها، نَفر وقفز نحوه، وهذا شعور جميل مقدّس عند شادي، مارسه مع صديقاته وحبيباته وزوجاته...
كان عمر يقف بين ماغي الجنوب إفريقية، وشادي، يُترجم بعض الكلمات التي يصعب على شادي فهمها، وكان الخوف ينتاب شادياً من أنّ عمر يُخفي الكلمات التي لا تروق لـه، فسحب ماغي من يدها إلى مكتبه الخاص، ووشوش عمر بأن يقوم (بمرافقة السيَّاح، لأنَّ ماغي ترغب في مرافقته وحيدة في جولة طويلة، وستبقى في دمشق).
انطلق عمر مع المجموعة السياحية صباح ذاك اليوم إلى بصرى الشام، بينما جهّز شادي سيارته، وفحص محرّكها وزيتها وعجلاتها للاطمئنان أكثر على سلامة الجولة، ووضع محفظة ماغي في صندوق السيارة، وانطلق قبيل ظهيرة ذلك اليوم إلى مدينة بلودان غربي دمشق، وحجز غرفة خاصة في فندق "ذهبية" المطلّ على الشارع الرئيسي في آخر الطريق الصاعد، وبعدها يتَّجه الطريق إلى مطعم "أبو زاد" المعروف.
أخرج جواز سفرها، وجواز سفره من محفظة يد صغيرة بنيّة، وقدّمها إلى الموظف في استعلامات الفندق.
ابتسم شادي للموظف، ودسَّ بيده خمسمئة ليرة، فقبلها شاكراً، وسأله: مَنْ تكون؟ قال شادي: زوجتي... إننا في شهر العسل. البارحة كتبنا كتابنا، وأشهر عقد الزواج. ثمَّ مازح ماغي.. أنتِ الآن زوجتي...
أومأت برأسها... موافقة! لكن هذا لم يحصل! قالتها بالإنكليزية.
خرج الزوجان من الفندق إلى مطعم أبو زاد، واحتلاّ مكاناً جميلاً. وكان عدد النزلاء قليلاً. طلب شادي منها أن تُحضر الخريطة السياحية، وفي هذا الجو اللطيف والمكان الأليف، وقبل تناول طعام الغداء، عليهما أن يتدارسا خطة الرحلة، وشربا كأسين من عصير التفّاح، ثمَّ فنجانين من القهوة، وأشرعا سيجارتين من التبغ الفرنسي. وكان شادي مشغولاً بتفسير وشرح المواقع الأثرية.
قالت ماغي: كأنَّك تعرف عن عائلتي كلّ شيء، علماً أنّني أجهل بعض المعطيات والمعلومات عنها.
قال: أنا ابن دمشق... هذه مدينتي، وآل حرمون كانوا جيراننا.
طلبت منه التعرّف على بيت جدّها، وعلى عمّها وأقاربها.
وافق شادي على كل طلباتها! وعندما احتجت على (عقد الزواج) دون مشورتها! قال: أنا أعرفك منذ شهور، وأَفْرجَ عن صورتها التي يحتفظ بها، وهي الصورة التي قصّها من الكتاب. ثمَّ أردف: هذه بداية الخطة.
أعجبها شادي، فهو شاب وسيم، أنيق. وَلَفتَ نظره صراحتها، عندما سألها وأجابت بصدق: إنَّ صديقها الإنكليزي "شابلن" تركها وعاد إلى بريطانيا مع أهله، بعد انتهاء الفصل العنصري وخروج مانديلا من السجن، وتنصيبه رئيساً للبلاد، وإنَّ والد شابلن كان شريكاً لوالدها في أكبر شركة في جنوب إفريقية.
سألها: هل لك صديق آخر؟
أجابت: لا... أبحث عن شاب من موطن أبي، وسأنفّذ نصيحة والدي. وزيارتي إلى بلدي بهدف السياحة, والتعرّف عن قُرب على مدينة أهلي الجميلة، وأشياء أخرى ستعرفها في حينها.
ابتسم شادي، ابتسامة العارف، لكنّه المراوغ كالثعلب وقال: أنا هو مَنْ تبحثين عنه! وشرح لها اهتمامه بآل حرمون، والتقصّي عن شجرة العائلة، ومتابعة أخبار والدها، ونشاطه التجاري في المهجر، فأصاب قلبها بشيء من الرضا والموافقة.
تناول يدها بلطف، وقبّلها، وهذه أصبحت من عاداته التي تعلّمها وأتقنها خلال تعارفه وزواجه من نازك... ثمَّ احتضن يديها الاثنتين.
قالت ماغي: سأخبر والدي بما يحصل!
متى؟
بعد أيام!
حكيت لكِ كل شيء يعتلج في داخلي.
وأنا كذلك!
لماذا التأخر إذاً؟
كي استكمل الصورة عن وطني.
وهذا وطنك، وأنتِ تجلسين في أحد مُدنه الصيفية...
صحيح... ولكن لا أعرف عنه إلاَّ القليل من المعلومات.
فتح شادي الكتاب الذي يرافقه. أشار إلى صورتها وصور عائلتها والشركة.... وو...
قالت: شاركتُ أبي في إنجاز هذا الكتاب بالإنكليزية، ثمَّ تُرجم إلى العربية ولغات أخرى. بعد الغداء... شربا الشاي البلوداني، وعادا إلى الفندق، أمضيا قيلولة في غرفتهما، ثم جلسا في الشرفة. وبعد العشاء، حضرا حفلة ساهرة جميلة في صالة الفندق الكبيرة، حتى الساعة الثالثة صباحاً، وخلدا بعدئذ إلى النوم.
تركته ماغي يغرق في تأمّلاته وأفكاره، ودخلت إلى الحمّام، وأخذت دوشاً دافئاً، وبدأت تُدندن بأغنية، وخرجت ترتدي شورتاً قصيراً، وبلوزة تكشف عن نصف بطنها.
رفع شادي رأسه عن الوسادة، فتح عينيه الغارقتين في دهليز حُبّ كان ينتظره بفارغ الصّبر واللوعة. اقتربت ماغي منه، واستلقت بجانبه، فكّت ربطة عُنقه، وخلع معطفه، وفكّت أزرار قميصه، مسّدت على شعر صدره، واحتضنت كفّاها خدّيه. وكانت قُبلة طويلة، استفزّت مشاعره، وأثارت حنينه لعشق جديد، وطعم آخر، ولذة متوهّجة، ساخنة، استغرقت ساعتين من الروعة والدهشة...
استغرب شادي أنّها ما تزال فتاة عذراء، ولم يتصوّر أنَّ فتاة أجنبية تُحافظ على عُذريتها، قال: صحيح أنَّ والدها عربيّ، لكنّه تغرّب منذ عقدين أو أكثر...
اعترفت لـه أنَّ أحداً لم يمسّها بسوء. وكانت أصابع الاتهام، عندما كانت في الجامعة، تُشير إليها (بالفتاة المتخلّفة) في وسط مجتمع أوروبي، يدّعي بالتفوّق، وممارسة سياسة "الأبارتيد العنصرية"... واعترفت أيضاً أنّ أُمّها إنكليزية محافظة، وجدّها لأُمّها، قّسٌ بروتستانتي، وراعٍ لكنيسة في مدينة "لانكشاير" الصناعية...
حاول شادي أن يضغط عليها بيديه القويتين وهو يُمارس معها الجنس، فتألمت، وعندما كرّر هذه الممارسة، لعنته، فاحتقر نفسه، واعتذر... قال:
(هذه الثالثة الثابتة، فبعد أمل ونازك، تأتي ماغي، وهي المرأة الأخيرة في حياتي، سألاطفها وأسايرها، لأنّها مستقبلي، وهي لقية ثمينة، دُرّة إفريقية، بل ألماسة، لا أريد التفريط بها...).
ظلَّ حبل الذكريات يشدّه إلى الماضي، وكانت الساعات تمرّ جميلة... تتكرّر الصور، تخرج من شريط الذاكرة، كأنّها حبيسة قفص، وهو يحاول إزالة وتكنيس الأوهام العالقة في روحه، وغسل جسده من ذنوب وخطايا هالكة، وينتظر ساعة الرحيل بفارغ الصَّبر.
قبّلها ثانية وتاسعة.. تمتّعت بشفتيه، وكانت شغوفة، متشوّقة لمثل هذه القُبل، لأنّها ملَّتْ من برودة "شابلن" الذي كان أحياناً يودّعها دون أن يلمسها، علماً أنّها كانت تحبّه وتجلّه، وعندما كانا يتشاجران، يقسو شابلن عليها، فهو ذو طباع نزقة، وسريع الغضب، وفي قلبه حنان دفّاق، سرعان ما يرضى ويستعيد مؤانسته، ولكنها كانت تكره رائحة فمه، لكثرة ما يُدخّن، ويشرب الخمر، فاقتنعت بأن يفترقا، وأن يظلاّ صديقين، وأن يتراسلا، ويتبادلا البطاقات في الأعياد والمناسبات. ومنذ أن عاد إلى لندن لم يفِ بوعده، ولم تتنازل هي، وتُرسل لـه بطاقة بمناسبة عيد ميلاده الثلاثين...
واكتفت بإشعال شمعة، لأنَّ هذا التاريخ بالنسبة لها يُشكّل ميلاد حُبّها، فكانا كلّ عام يحتفلان بهاتين المناسبتين معاً ويضيئان شمعتين، ويشربان نخبيهما، وحيدين في حديقة منزله.
ترك شادي خدّه يتنعّم بخدّها، وطوّقتْ ذراعاه خصرها. وكانت ليلة هادئة. كانت فصلاً ثالثاً من فصول عمره. وكان صباحاً ربيعياً خالداً.
استشعر شادي قائلاً: الآن يا حبيبتي ينهض في روحي حُبّ مُقدَّس. أنتظر هذه اللحظة منذ شهور، عندما ابتعتُ كتاب والدك، وأنا لا أزال أرسم على ورق الذاكرة وألوّن مخططاً لأحلامي وهواجسي، لكنها في البداية كانت أحلاماً ورقية، ساذجة. كانت أفكاراً متقلبة على فراش حرير، ورغم ذلك كنتُ أدفعها للتحقق والانتصار على موبقات وسوءات أعمالي وتصرّفاتي ومراراتي اللعينة، التي عندما تمسّها شذرات مدهونة بالقداسة، والرُّعب، أرتعش لها، ثمَّ أدخنها، دون أن أذرف دمعة من عينيَّ...
أريد يا ماغي أن أرحل معكِ إلى تلك البلاد، وأترك رماد حياتي هنا في هذه المدينة, رُبّما تنبت الأزهار. إنني عطش وجائع.
كان أحياناً يُبسّط لها المفردات أو يستعيد معانيها بالإنكليزية الركيكة، فتضحك ماغي، تغرق بسعادة. تقول: ستفرح أُمّي ويفرح أبي. سترافقني إلى الكاب يا شادي، سنكمّل هناك مشوار شهر العسل، وسيكون كلّ شيء جاهزاً... المنزل والسيارة، والحياة الرغيدة، والعيش الهانئ.
دَخلت الشمس عبر أسلاك الحُبّ الشائكة، وضعتهما في قفص ضوئي، وبقيت تراقبهما، وأعلنت محاكمتهما لأنّهما نفَّذا جريمة حُبّ. كشفت أسرارهما، ثمَّ أطلقت سبيلهما بأمر من محكمة حمورابي الشمسية، وأعلنت براءتهما، فخرجا، يتابعان مشوارهما، وما تبقّى من اختلاجات.
تمايلتْ ماغي بدلال وغنج، تعبة. أحبَّ شادي فيها، شعرها المفروش على كتفيها، فأصلح شيئاً من الخراب، ورمّم قُبلْة متيبّسة على شفتيها. وعندما ألّحت بسؤالها: ما الخطة؟ أين سنسير. قال شادي زاهياً، نافشاً ريشه: سأعرّفك على أعتق وأقدم أحياء المدينة... وفي المساء نعود إلى الفندق.
أمضيا نهاراً حافلاً، ساحراً، فزارا الأسواق المسقوفة... عرّفها على الساحات الخالدة، القديمة، وعلى أبواب دمشق السبعة، واستراحا بعض الوقت في مقهى النوفرة، وتجوّلا في حيّ باب توما والعمارة والسوق الطويل وسوق الحميدية والصالحية وحيّ الميدان. ثم كانت المحطّة الأخيرة في البريد المركزي.
أرسلت ماغي برقية مستعجلة بالإنكليزية، تُعلم فيها والدها وأُمّها بأنّها تزوجت قبل يوم من شاب سوري، وشرحت بالتفصيل ما حدث لها، فالتهبتْ مشاعرها. وهي تلصق المغلّف. أمَّا البرقية فستصل مساء اليوم ذاته. ووضعت في المغلّف مجموعة صور لبيت جدها، ولبعض الأمكنة التي كان يرتادها والدها، كالمدرسة التي تخرّج منها، والجامعة القديمة، وأماكن أخرى، كان شادي حريصاً أشدّ الحرص، ودقيقاً في التقاط الصّور لها، لُيثير في روح عطا الذكريات الحميمية التي ألهبت نفسه في يوم من الأيام. ولم ينسَ أن يدسَّ صورة ابنه عمر وأُمّه وابنه وزوجته وكان قد التقطها خفية عنهم، فهو مُخطط بارع وناجح، ورسّام لوحة مستقبلية بدقة، يحسب حساباً لكلِّ صغيرة. وكتب على ظهر الصورة: عمر حرمون ابن عطا... وزوجة كُتب على جبينها الشقاء والانتظار، كأنّها أَمَة هجرها بعلها بعد أن سرق عفّتها واغتصبها، وتركها جثّة محطّمة الأغصان، فتطايرت أوراقها في خريف عمرها.
كتب رسالة على ظهر الصورة بخط ناعم صغير واضح... أراد أن يُفجّر الأشياء المخبوءة، ويكشف لعطا أنّه يعرف عن ماضيه، أكثر مما يعرفه هو، وهذا فخّ لصيد ثمين ينتظره بفارغ الصبر.
وقال: أعلمك كأقرب الناس إليك الآن، لأني زوج ابنتك وصهرك الوحيد، أنّ ابنك أشهر بطاقته أمام الناس، وتوجّه إلى المحكمة بدعوى ضدّك لتحقيق أبوّته، والحصول على نسبه الحقيقي، لكنّي منعته خوفاً من الفضائح، وتلويث سُمْعة العائلة، إذا كان يهمّك ذلك. وهذه أمل ابنة أخيك عبد الله، وحيدة، بعد وفاة أخيك تنتظر خبراً منك أو رسالة.
لم تعرف ماغي بقيّة الأسرار، سأعلن لها بصراحة عن قصص أكثر أهمية بعد أن تترسّخ قدماي في الكاب. وكانت هذه الوثائق دَمْغة مختومة بالشواهد والأدلّة لا يمكن لعطا أن ينكرها، أو التهرّب منها، لكن الزمن ألغاها، وتفجيرها الآن لا يحقّق الفائدة المرجوة. قال شادي (أين المفرّ؟ أنا صهرك الوحيد لابنتك الوحيدة...).
لم يتمالك شادي نفسه، فاتّجه إلى القصر العدلي، وسجّل زواجه، ووضع عقد الزواج في محفظته ومزّق العقد الشكلي، آمناً مطمئناً، راضياً، حالماً بالغد الجميل!.
ثلاثة أيام هي أقصر زمن في حياته، وأيام ثلاثة أخرى ستكون طويلة، لكنها حافلة، تحمل مصيره الأخير... بينما أمل لا تكترث بالنهايات، لأنها وحسب رأيها فَقَدت كلّ حرارة أو توهّج زرعه شادي في قلبها، لأنه شكّل عندها خيبة ومرارة، وتعلم أنَّ مستقبلها توقّف عند هذه الخطوط. أمَّا نازك فهي المرأة الوحيدة التي تتقلّب على جمر الوعود والانتظار، تتحرَّق وتقلّب رزنامة أيام الأسبوع يوماً يوماً. ولم تساورها الشكوك بأنّها لا لقاء لها معه بعد الآن، فشادي كما تتصوّر لم يَعُد ذاك الرجل الطائش.
وفي السابع من شهر أيار، وكان يوم أحد، وصلت بطاقتا سفر إلى القنصلية الجنوب إفريقية... وفي المساء أحضر شادي الهدايا من الثياب المطرّزة، التقليدية، الحريرية من قماش "الدامسكو والموسلين" وعُلْبتين من الحلوى العربية الدمشقية، وقمصان وبيجامات وأرواب نوم وأقمشة وأحذية، وهدايا متنوّعة.
وفي تمام السادسة من صباح يوم الاثنين، ودّع شادي مدينته ونثر طاقة ورود، وترك سيارته مُسجّاة، حزينة أمام المكتب السياحي، ومغلّفاً صغيراً فيه رسالة ودّية، وداعية وورقتا طلاق. شكر فيها نازك. قال لها: احفظي الأسرار، واخلصي لابننا القادم. لقد وجدتُ عملاً مُغْرياً في شركة سياحية، وهأنذا أتركك، وأرحل إلى القارة السمراء..
أشكرك... شادي...
***
عندما حلَّقت الطائرة في فضاء دمشق، لم يتأسَّف شادي على تَرْكته، فأنزل حملاً ثقيلاً، وشرّد أوهامه. أصبح كنسر لا يعرف إلاَّ القمم، ونسي أسرار البيوت والناس والمشاريع والزوجات وحياة الفقر والجمال وكنوز الدلال، وعِشْرَة المجتمع البورجوازي، لقد أفرغ رأسه وقلبه من كلّ عبءٍ ثقيل لم يُريحه..
أصبح قلبه كرأسه فارغاً، مجوَّفاً، مغسولاً. وشدَّ الأحزمة على بطنه، وكانت الطائرة تشقُّ الفضاء، وتترك خلفها أصداءً ملوَّثة، ودخاناً، ثمَّ بدَّلت اتجاهها، وضاعت بين الغيوم في سماء فسيحة تتّسع للعالم. وغارت أحلامه في أثلام جافة، مقهورة... وكانت ماغي تتزاهى، وتتباهى. ضوءها يسرق الدفء من عينيه، فتحوّلتا إلى جمرتين مُطْفأتين، فمالت عليه. اتّكأ خدّها على خدّه، والتصق جانب رأسها برأسه، وبدأا يرشفان الحليب والقهوة.
صباح آخر... صباح جديد، وفضاء تتجمّع فيه الأحلام المنهوبة من بيادر القلوب... خثرات متجرثمة تتسلَّق عروشها، تلتصق بشرايينه.
نظر شادي من شبَّاك الطائرة، من خلف البلّور، في الأعالي. كانت دمشق صغيرة جدّاً، وكلَّما ارتفعت الطائرة، ابتعدت، ضَمُرت المدينة، تحوَّلت بيوتها وأحياؤها إلى نقاط صغيرة سوداء، تتجمّع كفريق نمل يتزاحم على حبّاتِ قمح، أمّا الغوطة فهي بقايا بقع خضراء، تفصل بينها خيوط رفيعة، كالدروب العاشقة لأقدام عُشّاقها.
وبردى صامد في وجه الجفاف، يعوي كذئب فوق الثلج، جائح من الجوع والبرد، وفقدان الأصدقاء. جفَّت ينابيعه. لم يبقَ إلاَّ أشجار السرو والحور على جانبيه، تُلْقي برؤوسها على سفوح الجبال المحيطة به، المطلّة عليه، حزينة على حُزْنه وخاوية مثله، تتدحرج صخورها من قممها، تعبث بها الرياح الجافة.
تراقصت رؤوس الأشجار أثناء مرور الطائرة فوق الهامة ودُمّر. ظلَّ شادي يمدُّ بصره، يبعثه رسالة أو رسائل عشقٍ مكرورة، مموّهة بالأسف الشديد، والألم والفرح والندم... أشياء مخلوطة، ممزوجة كانت تخرج من رأسه وقلبه، مكلّلة بالكآبة أحياناً، وبالسعادة في أحيان أخرى، إلاَّ أنّه رغم ذلك لا يتأسّف على عملٍ يقوم به، فهذه أمور مؤقّتة، تشرئب لفترة قصيرة، ثم تخبو ذابلة في أعماقه، وتتجمّع مصرورة، إلى حينٍ، وإذا مسَّها شريط كهربائي، يلعن الزمن الحاضر والآتي، ويشير متشرّباً آهاتٍ ونزواتِ حقدٍ وطموح، فيجدّد سلالم عمره، ويصعد عليها درجة درجة ليصل إلى نهايتها. وهو نفسه الحالم بالاغتراب، والمتغرّب منذ أن شقَّ الضوء خيوط الليل البهيم، لا يدري متى يعود. أو أنّه لا يفكّر بالعودة أبداً إلى دياره وموطنه.
تشبَّثت صورة زهرة في شرايينه، فلعن ساعة الزواج والميلاد. أحدثت غصّة في مجرى تنفسّه، فبلع ريقه، لكنّها بقيت تُلهب حنجرته، لم يقدر على نسيانها، ظلّت تعبر في خانق ضيّق، تطفو على سطح ذاكرته وروحه بوجهها الصغير، وتقاسيمه الناعمة، فيلامس أنفها أنفه.. يُدير وجهه إلى ماغي، يُقبّلّها على خدّها الوردي، فتحتضن يده، ويرتمي نصفها مرتخياً على فخذيه... يعبت بشعرها، فتتورَّم أصابعه، يتوقف الدم في عروقه وشرايينه.
قال مُخاطباً ربيع عمره وحياته: أَنتِ زهرة اللّوتس، وأنا التربة... جذورك تغرق بين ذراعيَّ. أغرف منك مكيالاً من العطر، وأنتِ تلعقين الرائحة وتسكرين، مزهرة، فوَّاحة... سأضيء شمعة طويلة، مجدولة كضفيرة عاشقة، عندما نصل إلى أوّل محطة، وسأشعل شموع عمري في طريقك كي يبقى مُضاء بوهج روحي إلى الأبد!
رفعت ماغي رأسها. اقترب الوجهان أحدهما من الآخر. قالت: لا أفهم كلّ ما تقولـه! قال لها: أصعب الأشياء أنّني لا أُجيد الترجمة.. الحُبُّ يا ماغي لا يُترجم، لكنّه يتخمّر، ثمَّ ينطلق كحصانٍ جامح..
لا أفهم ما تقوله يا شادي.. كرّر!
أشار إلى قلبه، ورسمه على كفّه.
قالت: فهمت الآن.. ارتعش قلبي... انظر إليه، ألا ترى نبضاته تُحلّق، سأنشد لك نشيداً غرامياً بالإنكليزية، وبدأت تهمس وتدندن، وكان شادي يتأمّلها! الساعات تمضي. الدقائق تتعطّر بمتاعب الرحلة. تتراءى لـه، كأنّها الأيام بعشقها ودفئها، تلوّح لـه بإشارات التفاؤل، وازدادت دقّات قلبه، فرفع كفّها الصغيرة، مسَّدَ أناملها، كاد أن يعجنها ويطحنها بين أصابعه..
أنامل ورقيّة، ناعمة، وضعها ساخنة فوق قلبه، ثمَّ وضعت أُذنها، وهمست.. سألته: بماذا تُفكّر يا حبيبي. أنا القادمة من أقاصي القارة السمراء ألتقيك مصادفة، وأعلم أنّك كنت تبحث عنّي بين الورق والصّور ومعارض الأزياء والكتب. لقد تعبت كثيراً حتى وجدّتني، وهأنذا بجانبك. أصبح جسدي جزءاً منك، وأصبحنا جسداً واحداً، مُمرَّغاً بالحُبّ. وتحقّق حلم أبي، عندما كان يمازحني ويقول: سعيد من يتزوّجك يا بنتي. أتمنّى أن تكوني من نصيب شاب سوري، فأكون سعيداً بأني زرعتُ نُطفة في وطني، لأن هؤلاء (ويقصد الإنكليز) لا أأتمن جانبهم!
أسندا ظهريهما إلى المقعد المُريح. ناما بعمق، ولم يفيقا إلاَّ على صوت المضيفة التي تُعلن عن وصول الطائرة إلى المحطة الأولى في تونس الخضراء، ثم ستستمر الرحلة إلى الكاب دُفعة واحدة، وما هي إلاَّ ساعة ونصف، سيصلان قبل غروب الشمس!
ـ 21 ـ
لم تنتهِ الحياة عند هذه الحدود، فهي واسعة على امتداد الأفق.... تعدّدت الأمكنة، وتفرَّعت الآمال... أصبح سلطان الذات يُهيمن على كلّ شيء.
الزمن يكرُّ على بكرة، و تمشي الأيام منتفخة البطون، تمتلئ بالمفاجآت، والانتصارات، والذهول، والمراهنات، ومن يكسب أكثر يحقّق ذاته، بل ويصاب بلوثة النرجسية والتسلّط.
لم تترك رسالة شادي شيئاً يذكر من الأسف والحزن واللوعة في قلب أمل وذاكرتها المتيبّسة... دخل عمر عليها مكتئباً، لا يعرف كيف يبدأ الكلام، وبيده ورقة. كانت أمل تُسرِّح شعر زهرة التي تتكئ على فخذيها، وعندما قرأ الرسالة، شكرته على هذا الخبر، فهي لا تنتظر غيره، ولا تريد في هذه الدنيا سوى ابنتها من لحمها ودمها، شبيهتها تماماً، وهي متيقنة ومتأكدة من هذه النهاية السوداء، وهي كما كانت تقوله: هناك يا شادي كذب أبيض وكذب أسود، كذب صغير، وكذب كبير... وأنَّ الصدقَ والحُبَّ أصبحا بالنسبة إليها في خبر كان، أصبحا وَهْماً مُخلَّعاً، تكسَّرت أضلاعه منذ زمن بعيد.
طوى عمر الورقة، ودسَّها في جيب قميصه. قالت أمل: أنا الآن في أوج سعادتي، لا تُصدّق الفرح الكبير الذي يملأ روحي، وهذا هو اليوم الذي يَسرُّ خاطري... سأضيء شمعة، وأنذر نذراً، علماً أنّ هذا كان من بقايا وذكريات أُمّي، التي عندما تواجه صعوبة، أو تعترضها قضية شائكة، سرعان ما تحضر نذرها وشمعتها، فيأنس قلبها، ويرتاح فكرها... أنا الآن صيرورة لأُمّي وسأوفي نذري في موعده!
إذا كانت زهرة فلقة مقسومة منّي، فلا يوجد فيها شيء يُشْبهه.. إنها ابنتي من غبار طلعي، وزهرة خرجت من بُرْعم غصني، وهذا شرف كبير لي.. تفتَّحت فيها رؤاي وخرجت من بين أوراقها وأضلاعها أنفاسي، فهي كلّ ما أملك في الحياة.
بعد أسبوعين من غياب شادي، تلظّت نازك بين نارين، فكانت تلهث من مكان إلى آخر، وأجرت اتصالات عديدة مع المكاتب السياحية في طول البلاد وعرضها.. والجواب الوحيد، أنّ عمر مرّ من هنا قبل ساعات أو يوم أو يومين، بمرافقة مجموعة سياحية إفريقية، أما شادي فلم نلمحه!
وعندما علم عمر أنَّ نازك تبحث عن زوجها، عاد إلى دمشق، يحمل الخبر اليقين، وسُرَّ أيضاً كابنة عمه أمل، لأنّه تخلَّص من الشر الأول، ونقل الرسالة إلى نازك، وبَدت أكثر اضطراباً وحماقة، تلعثمت كلماتها، واختلطت بالمسبّات والشتائم، والنواح ومسح الدموع، وكان السُّمُّ يتقطّر مُتخثّراً من وجهها، وأصابعها ترتجف، لكنَّ عمر أشعرها بأنه غاضب مثلها، وذكّرها عندما قال لها وهما في أوج خلافهما: إنّه رجل دسَّاس، غيور، أحمق، نرجسي، صاحب شخصية مريضة، وكنت تقولين: إنكَ تغار منه، وطُردت من العمل بسببه، ولكني الآن لا أشمت بك، سأقف إلى جانبك كصديق جديد يعرف أحدنا الآخر منذ عشر سنوات. وهذا أسلوب اتبعه عمر مع نازك كي يثيرها أكثر، ويسترجع جزءاً يسيراً من عذابه على يد شادي، فرشَّ على الرسالة بهارات هندية، وإذا ما تناولت نازك ذرَّة منها، أُغمي عليها، وأُصيبت حتماً بمكروه، فتخلو الساحة له!
طرق باب منزلها مساء اليوم نفسه، وهو اليوم السادس عشر من تاريخ غياب شادي، من شهر أيار. كانت نازك وحيدة، تعاني شيئاً من الكآبة والإذلال، فأسرعت، وفتحت الباب، ورحبت به. يكاد بطنها يصل إلى أعلى صدرها، فهي في شهرها التاسع، وأصبحت الولادة قريبة.
قالت: أخبرني يا عمر.. هل هناك اتصالات جديدة.. لم يَعُد حولي أحد إلاَّ أنت، وكان عمر ينتظر هذه العبارة، وهذه شهادة من سيدة المجتمع والمال والتعالي، وربّ ضارة نافعة. لقد جاء دوري...
ابق يا عمر بجانبي، فأنا بحاجة إليك... احكِ... تكلَّم... لماذا تصمت؟
قال وهو يتأسَّف: إنَّ زوجك يا معلمتي ترك البلاد وهاجر دون رجعة... هكذا ختم رسالته المشؤومة، لكني احتفظت بهذه العبارة، خوفاً من زيادة أوجاعك وآلامك، وخوفاً على الجنين في بطنك... لقد تزوّج من ماغي، تلك الفتاة الإفريقية وهي ابنة عطا حرمون، أي تكون أُختي من أبي، وابنة عمّ أمل التي هي أيضاً زوجته الأولى، انظري إلى هذه الشبكة، وهذه الخيوط المتقاطعة، التي تزداد تعقيداً.
ارتخت مفاصل المرأة، ارتفع ضغطها واصفرّ وجهها. تشنّجت، ارتمت على الأرض كخشبة سنديان... ازدادت دقات قلبها، ثم بردت أطرافها، وتثلَّجت، ولم يبق إلاَّ نفَس يرتفع، ويهبط، وانتقلت عدوى الخوف إلى عمر، الذي لم يعرف ماذا يعمل، فأسرع بلا وعي، ونقلها إلى المشفى الإيطالي، وهو يعلم أنَّ أليس تلك الراهبة ستقدم لهم المساعدة وتسهِّل أمورهم، وترعاها، وهي تعرفها وكانت قد رافقت زوجها، وأشرفت عليه، ودون مشورة أحد أدخلتها أليس إلى غرفة العناية المشدّدة، وشُكِّلت لجنة طبية من ثلاثة اختصاصيين، للنساء والداخلية والقلب، وأُجريت لها الفحوص والتحليلات اللاّزمة.
بقي عمر طوال نهار اليوم الثاني إلى جانبها. ترك إدارة الشركة إلى السكرتيرة، فهي موظفة قديمة، ولها خبرة في الأمور الإدارية والمالية، فأجرت الحسابات للمجموعتين السياحيتين الإفريقية والإسبانية، وحصلت على مبلغٍ جيّد، وسيكافئها عمر بعد عودته.
أكّد الطبيب النسائي أنَّ حالة نازك مستقرة، وضغطها طبيعي، ولكنّ الأمر يستدعي إجراء عملية قيصرية سريعة قبل الموعد بخمسة عشر يوماً، خوفاً أن يُصاب الجنين بأي مكروه.
وافقت نازك على اقتراح الطبيب، دون نقاش أو سؤال. قالت لـه: لقد خسرت زوجي، وأريد أن أربح ابني، لأنّه كلّ شيء في حياتي.
كان عمر يصيخ السَّمع، ويصغي بانتباه شديد إلى مجريات وتطورات الأمور... قال في نفسه: (إنّها الأمومة... كلام نازك صحيح، يتطابق مع كلام أمل!...).
طمأنها الطبيب بأنَّ الجنين سليم ومعافى، وستكون الولادة سهلة وطبيعية، وما عليها إلاَّ أن تتعاون معه...
أنجبت نازك صبيّاً جميلاً، يزن ثلاثة كيلو غرامات ونصف.. وبقيت في المشفى أربعة أيام إلى أن اطمأنَّ الجميع عليها، وخرجت متعافية، يرافقها عمر وأليس، اللَّذان جلسا في المقعد الخلفي... وكانت نازك تلفُّ "ربيع" في حضنها، ولم تُصدِّق أنّها أصبحت أُمّاً، وعندما وصلوا إلى البيت، أصرَّت نازك على عمر بالبقاء إلى جانبها تلك الليلة، لكنّه قال لها: سأرسل أُمّي، فهي أكفأ منّي، امرأة تفهم عليك، وتفهمين عليها، وسألبّي كلّ طلباتك واحتياجاتك عندئذٍ سلّمته مفاتيح الشركة، وأوكلت إليه إدارتها.
أصبح عمر مديراً لأعمالها والرأس المُدبّر والمشرف العام والمُسيّر لأمور الشركة، وهو إداري ناجح ويمتلك خبرة كبيرة. قال وهو يتوقف عند الإشارة الضوئية: لقد وصلني حقّي. أصبحتُ الوكيل على نازك وابنها وشركتها... سأكون مخلصاً لها، وإذا أخطأت معي، فهذا صار من الماضي.. المُهمّ أنَّ شادياً يُغرّد الآن في بلاد بعيدة، ولم يَعُد لـه مكان في هذا البيت. ودارت في رأسه شجون وأحلام وآمال وطموحات. تزاحمت وتشاجرت أمام بوّابة ذاكرته وأغلقت كل المنافذ، فارتفعت حين ذاك موجة الفرح، تصاعدت، وضربت شواطئ عمره، وسنوات الانتظار المريرة، كادت تفيض، تندلق كالمياه خارج إرادته وروحه وجسده وفكره وأحلامه.
حياة نازك، تلك المرأة الجميلة، الحديدية، تتحوّل بسرعة إلى مفاجآت، لم تتصوّر أن تصل إلى باب المدفع، وتصبح قذيفة رخيصة في يد شادي، يطلقها متى وكيف يرغب ويريد.
استقبلت باكراً أُمّ عمر، تلك المرأة الشغّالة في بيتها وبيوت الناس، ونازك تعرفها معرفة جيدة، فهي المرأة التي كانت تأتي، منذ سنوات، كلّ يوم خميس، وتنظف لها فيلّتها المؤلفة من طابقين، لكنها بعد أن استأذنت منها، ودخلت، قالت: أنا أُمّ عمر يا سيّدتي تحت أمرك، يُسْعدني أن أكون خادمة في بيتك... ألا تعرفينني!
كيف لا أعرفك، فأنت المرأة الوحيدة التي أثق بها، وفضلك على رأسي وعيني... تداخلت المسائل في ذهن نازك. تمتمت وهي تمشي نحوها "هذه أُمّ عمر!" اندفعت نحوها وقبَّلتها القُبلات الحارة..
قالت وكررت... تفضّلي يا خالتي واجلسي...
سأظلّ عندك كما أوصاني ابني شهراً كاملاً، وربَّما سأخدمك طوال عمري.
إنّني بحاجتك الآن، وفي المستقبل.
أنا أم عمر... وأنت زوجة شادي الثانية..
مفهوم...مفهوم.. لقد انكشفت الأمور، وفاض المُخبّأ والمستور من جرَّة العائلة، وكل شيء أصبح عارياً... ومن هي زوجته الأولى؟
ألا تعرفين!
بالطبع لا.. أنا زوجته، ولا أعرف ضُرّة كانت تزاحمني الفراش!
إنّها أمل، وأنجبت طفلة.. سمّتها زهرة، وهي بعمر الزهور..
أمل... أنتِ متأكدة؟!
نعم!
هذه المدرّسة "الصعلوكة"؟!
لا تقولي هكذا... إنّها امرأة فاضلة وصادقة وشريفة. وضحكت أم عمر وتابعت... هذه... مخلصة... وهل سمعت آخر الأخبار؟
حكى لي عمر عن رسالة شادي، وزواجه من ماغي... ربّما سيتحوّل في جنوب إفريقية، إلى راعٍ للنساء الزنجيات!
ومن هي هذه العبدة أو الأَمَة!
ماغي.. ابنة زوجي عطا... الإنكليزية، الشقراء. ألم تقرئي عنها في الكتاب.
كيف يحدث هذا؟ كيف يا خالتي؟
وحكت أُمّ عمر، حكايتها وقصّتها الطويلة. انحنى رأسها كخادمة ذليلة.. قالت: إنّه عطا حرمون يا سيّدتي... الرجل المغترب.. المليونير.. صاحب الشركات والأموال التي تعجز النيران عن التهامها.. إنَّ ميزانيته أكثر من ميزانية الحكومة... أخباره وصلت إلى كلّ الدنيا!
ذرفتْ المرأتان دموعاً سخيّة.. كل واحدة تبكي... تتذكر مُصيبتها.. بكت المرأتان بكاءً مُرّاً، حاراً، مالحاً.. ثمَّ تعانقتا مراراً وتكراراً.
انفرجت أسارير نازك، عبّرت مع دموعها عن هذا اللقاء الحميم... وردّدت: الآن عرفتُ قيمتك الآن عرفت من يقف إلى جانبي، ويشاركني آلامي، وفرحي؟
لا أعرف عنك يا خالتي أشياء كثيرة.. كنتِ مجهولة الهوية كأية امرأة تعمل في البيوت، والعمل شرف لك، فلا تخجلي... كيف لا يخبرني عمر عنك.
إنّه يا سيّدتي، منذ سنوات، وبعد أن كبر وعمل في شركتك منعني من العمل في بيوت الناس، وكنت أجيء إليك كلّ خميس دون معرفته، فأختلق الحجج للخروج من البيت.
لا تفكري في هذا الأمر، إننا صديقتان وقريبتان منذ الآن، وحتى آخر أيامنا. لكنّي أودّ القول بأن لا تذكري اسم شادي واسم عطا بعد هذا التاريخ.
شادي رجل كالحرباء، يغشّ أُمّه، وينكر الحليب الذي رضعه منها.. يغشّ أهله وأصدقاءه وزوجته... أنكر الجميل.. لقد كان أميراً عندي. كلمته نافذة.
وهكذا تشابكت القضايا بالشكل والمضمون، وظهرت خيوط الحكاية، ويمثّل كلّ خيط درباً من الدروب المتقاطعة في سهول حياتنا وبراريها... إنّها تضاريس معقّدة، وعرة، خالية من الممرات. تغصُّ بالتعب والشقاء والمفاجآت والأفراح والأتراح والمسرّات واللّذات...
أحضرت أم عمر القهوة، وتغيّرت رائحة المكان. وتبدّلت الأجواء المسكونة بالذكريات، وبدأ الصَّبَّار يذوب حلاوة، وغاب الصّبر إلى حين، وحلَّ مكانه مذاقٌ سكّريٌ.
مسحت نازك دموعها للمرة الخامسة. تأوّهت. تلفّتت إلى ربيع النائم، فانحنت عليه، وشمّته، وقبّلته... أفرغت كلّ واحدة أسرارها للأخرى.. ورأت نازك أنَّ لا مفر من بقاء أم عمر عندها، لأنّها ستنسيها أوجاعها، فخصَّصت لها غرفة، وكررت قولها: أنتِ أُمّي، وصاحبة هذا البيت، فابقي إلى جانبي طوال حياتك... وسلّمتها مفتاح البيت، ومحفظة النقود لكي تهتمَّ بمصروف البيت، وشراء كلّ الحاجيات، وقدَّمت لها أجمل الفساتين والأحذية، وأرسلتها إلى الحلاّقة القريبة منها، وقصّت شعرها، و"مكيجتها" وعادت كأنّها في ليلة زفافها، عروس، متألّقة. وكان هذا حُلماً، فهي بحاجة أكثر من أية امرأة إلى تغيير نمط حياتها، لأنّها فقدت إنسانيتها، النور طوال خمسة عقودٍ.
نظرت أم عمر في المرآة، وهي تُبدِّل ثيابها في الحمّام.. كانت صورة أنيسة، تساءلت: لمن هذه الصورة.. أنا! أنا لست بهذا الجمال، وهذه الأناقة، فتضاحكت.. إنني امرأة جميلة، ولدت من جديد، لا ينقصني إلاَّ العريس، فسأبحث عنه، وتذكّرت عطا الذي خبّأها في بيت سرّي بعيد عن الأنظار، وحرمها من الخروج منه طوال ثلاثة أشهر، ولم تَعُد بعد هذا التاريخ تعرف مكانه!
ـ 22 ـ
تفتّحت أوراق زهرة، ورقة ورقة. كبرت الطفلة. وكانت أُمّاً حنوناً، أشرفت على تربيتها ورعايتها. تخاف عليها من النسيم، وعندما وَعَت الطفلة ودخلت المدرسة، كَثُرت أسئلتها. وجدت البيت فارغاً من الرجال، وكانت تحبّ الموسيقا، فعلّمتها أُمّها في معهد الموسيقا، وتدرّبت على البيانو والكمان، حتى أصبحت تُجيد العزف والرقص، وكانت في طليعة المتدربين والمتدربات، وحصلت على الجائزة الأولى، وعلى شهادة تؤهلها في المستقبل لأن تكون موسيقية بارعة، واشتركت في الاحتفالات المدرسيّة، وكانت عروس المسرح، وكتبت عنها الصحف المحلية، وظهرت في المقابلات التلفزيونية. وكلما كبرت عاماً، ازدادت أمها شيخوخة، وكبر همّها وغزا الشعر الأبيض رأسها واختلط مع شعرها المائل إلى الشُقّرة، بينما زهرة تزهو نَضِرة، تزداد تألّقاً وشموخاً، تُفَّاحة ناضجة، كغصن أُملود، تنحني، وتميل بدلال وغنج، وشمخ طولها وعرض كتفاها، حتى إنّها عندما تقف إلى جانب أُمّها، تضطر أمل للوقوف على رؤوس قدميها، وتُحدق في عينيها، وتمتدُّ خيوط بصرها، تمرُّ كعاشقة فوق وجنتيها الورديتين، وتباركها، وتقبّلها، وترشدها. وتزداد فرحاً لأنها تتفوَّق على زميلاتها.
كبرت زهرة، وظلّت تجهل قصتها، وقصة أُمّها، وعندما تسأل: أين أبي يا أُمّي؟ كلّ صديقاتي لهنَّ آباء إلاَّ أنا، فلا أرى إلاَّ صورة جدي في صدر الصالون!
تتجاهل أمل الردّ على هذه الأسئلة أحياناً، وتحاول إخفاء الحقيقة عنها، لأنَّ الحقيقة مُرّة، ستسبّب نكسة جديدة... (ستعرف كلّ شيء عندما تكبر، وتستوعب مشقّات الحياة، ومن المبكّر عليها الاستماع إلى حكايتي.... أنا نسيت أجزاء منها، وأجزاء أخرى قد ضاعت في حُفر حزني وعتبات آلامي، لا أريد أن أشعر بالذنب أمامها، أو أظهر بالمرأة الخاطئة)..
والدك يا زهرة هاجر ولم يَعُد!
إلى أين يا أُمّي؟
لا أعرف! المكان مجهول، لا رسالة ولا رقم هاتف، ولا عنوان مدينة. ودّعني وقال لي سأعود بعد أسبوع، ولم يَعُدْ. ومضى على غيابه اثنتا عشرة سنة. لا أعرف عنه شيئاً! صدّقيني... وسالت دموعها.. سنبحث عنه معاً ربّما نعثر عليه؟!
سحبت زهرة محرمة ورقية، ومسحت دموع أُمّها.. قالت تواسيها وتخيط جُرْحاً نازفاً: لا أريد أن تحزني هكذا يا أُمّي.. ليس بالحزن وحده... هو سؤال واحد: ألا يحقّ لي بعد أن كبرت أن أعرف عن والدي ما تعرفينه؟
لم أتعلّم إلاّ الصّدق، لا أُجيد الكذب أبداً!
لك كل الحق أن تسألي، وأنا سأقول لك الحقيقة، بلا مواربة وزخرفة، كي لا تتهمينني في المستقبل بالمراوغة، وأنا كنت السبب، كي لا تقولي لي يوماً إنّ أُمّي تكذب أو تصفينني بالمرأة العاهرة أو خلاف ذلك من صفات لا تليق بأُمّ، تقول شيئاً وتخفي عنّي أشياء أخرى، أو أنّك لقيطة، لممتك من أحد الأرصفة، وأنَّ والدك عابر سبيل، قضى شهوته، وزرع نُطفة في رحمي وتركني أتمرّغ بأوجاعي. أنا يا بنتي قدمت عظاتٍ ونصائح، عن الكذب وفلسفة العقل، وكانت الحوارات الحامية بيني وبين والدك. لو تعلمين كم تناقشنا حول هذه المسألة، وكم اختلفنا وتشنَّجنا.. لقد عشت قصة حُبّ مع والدك، قصة جميلة.. لكنَّ المرض الذي قطع شعرة الحُبّ، دفعه إلى المغامرة، فعذّب نفسه، وعذّبني معه.
فتّشي يا زهرة داخل بيوت الناس، ترَيْ الكذب بعينيك.. حكايتي طويلة، لا أقدر الآن على سردها كلّها دفعة واحدة, ولا تتحملّين تفاصيلها وجزئياتها, وسيأتي زمن لأكملها لك، وأحكيها من ألفها إلى يائها.. وربّما ستبدعين عنها رواية طويلة.
تذكرت أمل عمر ابن عمّها، وكيف أشهر شادي سيفه في وجهه، وأعاده إلى الماضي، عندما أمسك طرف الخيط، وتركه يتلوّى فوق حلبة صلبة، يتصارع مع نفسه، لكنّه شعر بالارتياح لأنَّ أُمّه اعترفت بالحقيقة، وتيقَّن أنّه من نُطْفة رجل حقير، اغتصب أُمّه، ومارس معها عملاً شائناً.. لكنّه قال: ما ذنبي؟ لو كنت أقدر على إيقاف هذا السيل القذر من جرف تقاليدنا وعاداتنا لأوقفته!
نامي الآن يا زهرة.. اخلدي إلى الراحة، وفي الصباح ستكونين مع رفيقاتك في المعسكر الصيفي، وسأزورك في الزبداني، وانتبهي لأنّه معسكر مشترك بين الصبيان والبنات.
لا تخافي يا أُمّي... اطمئني! فقد خصَّصوا لنا جناحاً خاصاً للنوم، ومشرفات يَسْهَرْنَ على راحتنا في الليل، وهناك جناح آخر للصبيان يَبْعُد عنّا أكثر من مئة متر، لكننا سنقوم بأعمال مشتركة أثناء الرياضة والتدريب والنشاطات الاجتماعية والثقافية والمطالعة.
بقيت أمل وحيدة. شعرت أنّها بعد أن ودّعت زهرة وأدارت ظهرها للحافلة متجهة إلى المنزل، بالخواء، حائرة، ملذوعة، منفوخة كالبالون، وأية هبّة ريح تنثر أجزاءها في الفضاء.. وسرعان ما تحوّلت إلى كتلة من الهواجس، وبدأ الهَوس ينخر عظامها كالسوس.
كانت صورة المعسكر عائمة على سطح روحها، غائبة من ذهنها، تصوّرت أنّه في منطقة خالية، صحراوية، وأنَّ ابنتها ستقوم بأعمال شاقة.. أرض ترابية، تحيط بها أكوام الأحجار، والأشواك وأقنية المياه الوسخة.. كل شيء غير مرتّب، وبدون تنسيق، وتصطف الخيام بجانب بعضها أو على شكل مستطيلات ومربعات... هكذا تخيّلت، وأمضت ثلاثة أيام على هذه الشاكلة، وهذا المنوال. تدور وتتحرّك في البيت كالضائعة، كأنّها فقدت جوهرة ثمينة. لكنّ التخيّلات جاءت متغايرة مع الواقع، والطبيعة الموحشة التي أطرتها في ذاكرتها، لم تتطابق مع طبيعة المنطقة التي يقع فيها المعسكر أو تضاريسها.
وعندما أقبلت في صباح اليوم الرابع تحثُّ خُطاها لرؤية المعسكر، انفرجت أساريرها، وتفتّحت كوردة زاهية، سرعان ما أزهرت وتبدّلت ألوانها، وفرحت كأنّها في متنزَّهٍ جميل أخضر.
يقع المعسكر في منطقة مرتفعة قليلاً عن مستوى سطح الأرض، في مدينة تبعد عن دمشق مسافة ساعة بالسيارة، وهي إحدى المدن الصيفية التي يرتادها سكان المدن والسياح العرب والأجانب...
أرضه مُعّبدة، الطرقات واسعة، تفصل بينها أحواض للورود والأشجار، وله سور عالٍ طويل، الأبنية طابقية، نظيفة، مرتّبة... قاعات كبيرة، وصالات، ومسرح، ومكتبة للمطالعة، وأمكنة للنشاطات الأدبية والموسيقية والرياضية، وملاعب للطائرة، والتنس وكُرة اليد وسواها. تحيط به أرتال من الأشجار الكثيفة المتناسقة. من أشجار السرو والكينا، فهي غابة تحمي المعسكر من الرياح الشديدة والغبار.
توقفت أمام الباب الرئيسي، اختلطت مع أهالي التلاميذ والتلميذات. سجّلت اسمها، وقدّمت بطاقتها. وكان الموظف المسؤول يرتدي بذلة زرقاء، وربطة عنق، أنيقاً، وهو مُعلّم في مقتبل العمر لطيفاً. رحَّب بالآباء والأمّهات أجمل ترحيب.
وفي الغرفة الواسعة مقاعد وكراسي جلدية مُريحة للاستراحة.. يعمُّ المكان سكون ومحبّة وألفة، ممّا بعث السرور في قلب أمل، وسرعان ما تبدّلت تصوراتها ورؤيتها فنفضت غبار الصورة المتخيّلة من ذاكرتها، وازداد اطمئنانها على زهرة في هذا المعسكر الآمن، وكان المسؤولون حريصين أشدّ الحرص لتأمين الانضباط والراحة التّامة والأمان.
دخلت مع الزائرين من نساء ورجال وأطفال... الجميع يمدّون أعناقهم وأبصارهم في فضاء المعسكر وطرقاته الواسعة. وكانت الأشرطة الملّونة والعلم الوطني يرفرف على أعمدة، على جانبي الطريق.
قالت أمل وهي تعانق زهرة: هل أنتِ جائعة؟
ابتسمت زهرة. قبّلت أُمّها بشوق وفرح وحميمية... لا يا أُمّي. تناولنا طعام الإفطار في المطعم، في الطابق الأرضي، وهناك مطعم للصبيان في جناحهم الخاص.
ماذا قدّموا لكم؟
الزبدة والجبنة والمُربّى والزيتون والبيض المسلوق والشاي والحليب. وهناك برنامج، إطعام أسبوعي.. لا فرق بين واحدة وواحدة. نأكل الطعام نفسه، لا أحد يتأفّف، ولا دلال هنا أو غنج، فالحياة جماعية، مشتركة حافلة بالروح الجماعية والسعادة.
قدّم النّادل للزائرين الشاي والقهوة والمياه الغازية. واتّسع الصالون الكبير لكل هؤلاء...
أعلن صوت من بوقٍ يستخدمه المدرّبون لجمع الطلبة للاجتماعات الصباحية وسواها، (بأنَّ الزيارة قد انتهت) وعلى الجميع أن يغادروا المكان.
ودّعت أمل ابنتها.. سلّمتها كيساً مملوءاً بالبسكويت والسكاكر والشوكولا، وعادت أدراجها مستقلة حافلة من الزبداني إلى دمشق.
كانت الساعة تدقّ الثالثة والنصف بعد الظهر، عندما وصلت إلى المنزل، فأحضرت طعام الغداء. جلست وحيدة، فقدت الشهيّة، وأجبرت نفسها على تناول عدد من اللُّقيمات المغموسة بالتعب والهمّ لتسدّ جوعها وتُسكت معدتها، ودخلت دون إحساس أو شعور إلى غرفة زهرة. قلّبت ثيابها المعلّقة. شمّت رائحتها، ودعكتها بيديها، وبكت، ثمَّ عادت إلى صحوتها، وهدّأت روحها، وأحضرت القهوة التي تحبّها، وشربت فنجانين، واسترخت مسترسلة على سريرها، ربّما تتخلّص من عبءٍ ثقيل، ومن هموم تكلَّست، لكنَّ هناك تفاؤلاً أزاح الغبش عن عينيها، فغسلت وجهها، تألّقت. تأمّلت بعض التجاعيد التي أخذت تتكاثر على جبينها كلّما تقدَّم العمر. لامست أناملها بَشَرتها، وتغلغلت بين خصلات شعرها المتراخي، ببياضه وشُقْرته. أصلحت حاجبيها، أبدلت ثيابها، ارتدت روباً سماوياً جديداً، كانت زهرة قدّمته هدية لها في عيد الأُمّ قبل ثلاثة أشهر، فتفتّحت وازدهت، وبَدت صبيّة جميلة، متأنّقة. تجوّلت، تختال في غرف المنزل، وأعادت ترتيب الأزهار في الأصص، نقلت هذا الحوض إلى هذه الزاوية، وقدّمت هذا النوع، وأخّرت ذاك، نكشت تربتها، قصّت ما ذبل منها من أوراق وفروع صغيرة، مرتخية لا عمل لها ولا رائحة.
لم تترك يوماً مهما كانت الظروف. الكتاب دائماً إلى جانبها، في غرفة النوم أو في الصالون والمطبخ. وفي هذا الصمت والوجوم والوحدة، تجاذبتها أحلام مكرورة ونفحات محمومة هبّت عليها، بقي بعضها خامداً كالبركان المتفجّر ثمَّ يعود للهدوء، بقيت حبيسة في قلبها وشرايينها، وكلّما تقدّمت الأفكار وهجمت عليها، يعود القلق مُحّملاً بالسوءات يلوِّث استرخاءها وصفاءها. تقف تلملم ما تناثر، وتجمعه من جديد بإرادة جبَّارة، فهي المرأة الصامدة التي قهرت الصعاب، لكنها لن تتخلّى عن هواجسها التي تُريحها. عادت صورة زهرة وأخيها ربيع، فهما ابنان لأب واحد ومن امرأتين. تتصور أنهما سيتعارفان يوماً ما، ويلتقيان، وربّما يتحولان إلى عشيقين أو صديقين، وربّما يعرفان الحقيقة، وينتقمان منّا، أو نتآلف على حساب هذه اللقاءات أو أنهما يظلاّن بعيدين عن بعضهما طوال حياتهما. إنني أحبس المستقبل، قالت أمل، في أعماق روحي مسوّراً بالقلق والخوف على مصيرهما، ومستقبلهما، لكن هذا لن يحصل أن يحدث أي تشويه لهما ولنا... وكما أنَّ زهرة تبحث عن أجوبة عندي عن أبيها الضائع، كذلك سيفعل ربيع مع أمّه نازك، وهذا عمل مشروع، والاثنان يقفان في مكان واحد، ينظران إلى أُمّين حزينتين، لا ذنب لهما بما حصل، لكنهما تتحملاّن المسؤولية أو جزءاً منها، بما سيحصل لهما في المستقبل، وكذلك هناك مسؤولية تقع على كاهل المجتمع.
داهمت أمل فكرة خبيثة، لكنّها ساحرة. حاولت إبعادها عن مُفكّرتها و"روزنامة" حياتها اليومية.
تساءلت أمل قائلة في نفسها: ألا يحقّ لي البحث عن حبيب أو شريك لحياتي، عن رجل يفهمني، ويقدّر وضعي، ويدرسني دراسة واعية، وينقّب عنّي في منجم مظلم، ليخرجني إلى النّور... ويضيء شمعة ولادتنا، يُعيد الفرح المغتصب إليَّ، ويطرد الحزن المتألق دائماً، الواقف لي بالمرصاد، يتبعني، ويعدّ الدقائق والأيام لينزع منّي ما تبقَّى من أمل.
لا أزال امرأة في عقدي الرابع، أحتاج إلى رجل، إلى زوج لا يشترك مع زوجة ثانية، سأظل أُفتّش عنه تكون زهرة كَبُرت ونضجت وتعلّمت وأكملت تعليمها الجامعي، وستتزوج وأعود وحيدة، شائخة، أتذوّق مرارة العيش.
هل تفكّر نازك يا تُرى مثلي؟ إنّها امرأة أقوى منّي.. شخصيتها قوية، ونادرة، لكنها نرجسية، متعالية، متصابية، أنفها يتأفف، دائماً يشير إلى التفوّق والمال الذي تملكه، والشركات المسجّلة باسمها، تستطيع أن تشتري أي رجل وتدفع لـه وتحضنه بسهولة.. وكُثر من يفتّشون عن مثل هؤلاء من النساء، وكُثر من النساء لا يقدر أي رجل أن يوقعهنَّ بفخاخه، ونازك من هذا النوع، يمكن لها أن تنتقي ما يناسبها. هذا كان في الماضي. أمّا الآن وبعد ما حصل معها من مآسٍ، وبعد أن تجرّعت سُمّاً، من ماكرٍ، جرف معه كلّ شيء، لا أعلم كيف تتصرَّف! ولا أدري كيف تفكر؟ وعلى كل حال هي امرأة مثلي. يكون الزمن كفيلاً بأن يُعيدها إلى رشدها، وأن تُقيس درجة حرارتها، وقدرتها على الاختيار، وإن كان عمرها يقارب عمري أو يزيد سنة أو ينقص سنة، فهذا لا يساوي شيئاً في هذا الزمن العاقر، فقوّة المال تفعل فعلها في الأشياء والقلوب والنّفوس. وحياتنا لا تساوي درهماً دون المال، وقد وصلت إلى نتيجة أنَّ الكتاب والثقافة يقفان هزيلين أمام المال. ولم تكن هذه الأفكار أفكاري، ولم يكن المال حُلماً من أحلامي، فأحببتُ شادي، المدرّس مثلي، الفقير أو متوسط الحال مثلي، وهو كذلك، أغرقني بفلسفته، وثقافته واتساع مداركه، وقدرته على التحليل والتجميع والتفكيك، لكنّه تحوّل بين ليلة وضحاها، إلى رجل جائع، لا يشبع، رجل نَهِم، رديء، نفعيّ، انتهازي، مريض، فتسلّق سُلّماً آخر غير سلالمنا، وصعد، ودفعتُ ثمناً باهظاً، ودفع غيري أكثر منّي بكثير... لماذا يحدث كلّ هذا في زمن قصير؟
لماذا تسرح أفكاري في مراعٍ جرداء، حُرِقت أعشابها، ولم يبقَ غير الرّماد؟ لماذا أزجُّ سفينتي في يَمٍّ هائج، تفوح منه رائحة الأسماك الميتة؟ سأقف عند حدود البحر على صخرة عالية، وأقذف روحي في أمواج البحر، أتركها تصارع الموت والحيتان، وما دَخل نازك في هذا التشرّد والشرود، كانت بعيدة عنّي، وكنت بعيدة عنها، وإذا أساءت إليَّ يوماً، فهذا أمر طبيعي أن تقوم بمهمّة أنجزتها بنجاح، ثمَّ هَوَت، وانحنت متصاغرة، وارتمت في أحضان شهوة، وأنجبت صبيّاً، سيرث المال والبيوت والشركات، ويعيش حياة ملأى بالسعادة، سيفيض بالفرح والغنى، ولكن ليس هذا كلّ شيء، سيعرف عندما يصير شاباً أنَّ هذا لا يساوي شيئاً أمام فقدان حنان الأب ووقوفه إلى جانبه.
لها حياتها الخاصة، ويمكن أن تكون الآن، كما أشار عمر، أكثر نضجاً وتجربة، بعد أن تخلّصت من زوج عنين، وبعد أن هَجرها زوجها الثاني، وتركها للريح والبرد، ترك نفاقه متنكّراً للجميل... سرق أثمن شيء، وألقى بهذا الوهج والمال والجمال في وادٍ سحيق، وفي مزبلة متعفّنة، وفرّ يبحث عن سعادة، مع امرأة نصفها عربي، ونصفها الآخر أجنبي، لكني أجهل مكانه بعد هذه السنين الطويلة. ويمكن أن يكون سعيداً مع ماغي وغنياً أكثر وأنجب الصبيان والبنات، وهو الآن زوج ابنة عمّي، وأصبحت ماغي أحد فروعنا، وغصناً أصلياً من شجرة العائلة.
يا الله ما أجمل الهدوء... ما أجمل هذا الصفاء! وهذه الأفكار المُنْسابة في ساقية روحي، وإن كانت مشتتة، تفيض خارج مجراها، تُغرق الأرض بالماء، لكنّها أعادت إليَّ دفئاً، فأحببتُ أن أُحرِّك الرماد، وأكتب فوقها الأسماء والقصص والذكريات والشجون.... أن أُسجّل دقّات قلبي التي لم تتوقف عن القفز والنطّ في ساحات جسدي وروحي...
الآن أنا قوية... الصّبر جعلني أُعيد سلاح التفاؤل إلى مكانه، وأهجم على كلّ مَنْ يحاول أن يمسَّني بسوءٍ أو يعترض طريقي، سأعرف كيف أداويه وأعالجه... وهأنذا أنفض آخر ذرّات الغبار العالقة في جسدي وثيابي وشعري، وتحت أظافري. سأذهب غداً إلى الحلاَّقة، وأُصلح شعري، وأطلي أظافري، وأنتف حاجبيَّ وأقصّ شعري قصة فرنسية، لأعود صبيّة جميلة.. لماذا هذا الإهمال؟ لست نكرة في مجتمع يغوص في مثالب واحتقارات واضطهادات للجنس الآخر لجنسنا.. فأنا امرأة واعية، تفيض علاقاتي مع الناس بالحب...
كانت صورة المدرّس "جميل" تتراءى أمام عينيها، وهي تجلس على كرسي الحلاقة، وتنظر إلى مرآة كبيرة، تعكس وتُعيد نظراته نحوها، فهو مدرّس لمادة الرياضيات، يكبرها بثلاث سنوات، توفِّيت زوجه بمرض عضال منذ عام، وكانت امرأة عاقراً، لم ينفع معها العلاج. وقبل المرض، نصحها الأطباء بالإنجاب بواسطة الأنابيب، فرفض جميل، وكان الموت أقرب من العين إلى الحاجب. وعندما كانت تسأله: ما سرّ نحولي، وتناولي الجرعات الكيماوية؟ كان يُجيبها بأنه مرض عابر. وكلّ يوم يمرّ، كان أجلها يقترب، وعانت كثيراً من الآلام المبرِّحة.
قالت أمل: تألّمت كثيراً هذه المرأة. هل سأحلّ مكانها، وأكون زوجة لجميل، وأعيش معه ما تبقى من حياة ملؤها الفرح، سأخلص لـه وسيخلص لي، يختلف عن شادي، رأيه ثابت، لا يبدو أنّه يراوغ، لكنه يبدو حزيناً مثلي، صارماً، مستقيماً، أنيقاً كشادي!
تلاشى شرود أمل، وهي لا تُصدِّق أنّها سرحت بعيداً في متاهات. قالت وهي تودّع الحلاقة: إنّها أحلام جميلة يا صديقتي، سأكررها. هل تحلمين مثلي، وتبحثين مثلي عن زوج، لكنّك لا تزالين صبية جميلة، فأحلامك أكثر خصباً من أحلام الشيوخ... أنت نبتة صغيرة، وأنا شجرة عارية.. أنتِ تقدرين أن تواجهي الخريف والمطر والبرد والحر والعواصف، أما أنا فجرف السيل أجزاء منّي، وحرمتني الرياح الشديدة من أوراقي، فتكسّرت أغصاني، وذبلت ثماري، مُلْقاة على الأرض، تنقرها العصافير، وتنهشها الكلاب، وتخرّبها الديدان.
كانت الحلاّقة تستمع، وتتمتّع بهذا الكلام الجميل الساحر، أول مرَّة في حياتها تلتهم كلاماً، ولا تشبع. قالت لها: تابعي. أنت امرأة مثقفة، أديبة. أعاني مثلك حرماناً، وأنا مثلك بُليتُ برجلٍ غنيّ سرق الحُبَّ منّي، وقطف ثمري، وتركني، فعدّتُ إلى هذا الصالون... احكي يا أم زهرة... ما أحلى كلامك إنه كالعسل!
افترقتا وفي قلب كلّ واحدة أملٌ يتكرّر. نبتة تُعيد اخضرارها. دموع تسيل.. أشجان تدور في الرؤوس، أحلام تشرئبّ وتقفز في دروب الضياع!
قالت أمل: سأعود إليك يوماً.. تفضّلي، بيتي قريب. في الجادة الثانية، إنه بيت واسع. تعالي نشرب القهوة مساء.
ـ 23 ـ
تذبل أوراق الأيام. يتنامى القهر، يُعطيني دروساً، حفظت بعضاً منها، وتركت ما تبقّى لابنتي زهرة. هكذا قالت أمل في مساء صيفي، بينما كانت راقدة كما ترقد البَحْرة في بيت دمشقي عتيق.
وقالت نازك، وهي تكوي قمصان ابنها: تشتعل حديقة أفكاري بالحرائق. حاولت إطفاءها بدموعي، فهمدت النيران. تركت وراءها دخاناً عسساً، ظلَّ يطاردني، فأحرقت قميص ابني، ومهجتي. وعندما وصلت اللَّسعات النارية إلى أصابعي، سقطت "المكواة" من يدي، و"طرطشتني" المياه السَّاخنة، ولم يتوقف وجعي، فانحدر فوق جدران روحي، لكّنه غسل شيئاً، وبلَّل أشياءً في ذاكرتي كي لا تموت هواجسي فوق حافات الصّبر.
وقال عمر مخاطباً أُمّه الجالسة قبالته، السَّاكنة في رأسه، المُعشّشة كعنكبوت في أحشائه: مهلاً يا أُمّي لقد ازدادت التجاعيد في وجهك، كأنّني أقرأ فيه زمن وجعك، وهذا ما ورّثه لنا رجل غَلَس... وتكاثفت خصلات الشيب في رأسك، ونضجت سنابل القمح في بيدر روحك، وأصبح جسدك مأوى لعصافير الشتات والسنونو المهاجرة، وبدأ قطار العمر ينفذ إلى مهاوٍ سحيقة...
لن أنسى يوم ميلادي، علماً أنّني لا أذكر شيئاً منه، لكنَّ مأساتي التي قرأتها في دفتر مذكراتك، تدفعني إلى البحث عن أكثر الأوجاع والآلام. لن أنسى ساعة ميلادي في عتمة عيادة طبيب أجهل اسمه، لكّنك لا تزالين تتذكرين وجهه، لأنه أنقذك من فضيحة كبيرة، ولن تنسي حتماً أوجاعك، ولذّة اليوم الأول لاغتصابك.
قالوا إننا في أحشاء الظلم، لكل واحد قصة، ولنا جميعاً قصة كبيرة بحجم رواية طويلة، ستخرج إلى النُّور من تنّور أوجاعنا، ورماد حطبنا، ستقرؤونها في هذه الصفحات المكتوبة في نهاية عام 2003، رُبَّما يُصدِّق القُراء ما فيها من احتشاءات ولوثات، وأفراح، وأنسام، وشعور بالذنب، والقهر، وتسلَق لسلالم تكسَّرت درجاتها في الصعود والهبوط، وصعد عليها شادي وعطا وآخرون، أكثر شأناً وحظاً، لكننا نحن البشر نتحمل الضيم، والقهر. وكان مسرح الصَّبر من خشب، وديكوره من بقايا إرث احتفظنا به بالقوة.
حوارات بعيدة عن بعضها. أفكار تهدس في فصول مُتقلبة. عشب ينبت في حديقة نازك، وابنها ربيع... صورتان معلّقتان أمام نازك، متشابهتان. وفي عزلتها، وانكفائها عن العمل والخروج كما اعتادت، جعلها أكثر قُرْباً من ابنها، وأكثر بُعْداً عن الشركة، ومشاغل العمل والعمال والموظفين. راودتها أفكار جديدة ومخططات، وأول فكرة هجمت عليها في ليلة شتائية، أن تبيع الشركة، لكنها تردّدت كثيراً. ساومت روحها. حاولت أن تُجمّع إرادتها، وتتخذ قرارها. رغبت أن تبوح لابنها بما تهجس لأنّه أصبح شاباً وهاهو ذا في نهاية المرحلة الثانوية، وبدأ شاربه يرسم خطين رفيعين.
قالت لـه في مساء يوم عطلة أسبوعية: جَهز نفسك يا ربيع.
إلى أين يا أمّي؟
إلى الربوة
لماذا؟
سنتناول طعام العشاء. فالطقس يسمح لنا بالخروج، بعد أن انكفأت الريح وهدأت.
الأفضل أن نتعشّى في المنزل
لا يا ابني. تراودني أفكار وأفكار. وأنتَ أصبحت شاباً يمكنك أن تصوب الخطأ إذا حصل ويهمني رأيك..
أنت لا تخطئين يا أمّي!
كيف؟ كُلّنا نخطئ.. كلنا أولاد الخطيئة الأولى. مَنْ لا يخطئ لا يصل إلى الحقيقة، لكنَّ خطئي الكبير الذي حصل خارج إرادتي (ابتسمت نازك، وعَرف ربيع أنه حصل بإرادتها) لا يقدر أن يصوّبه أحد.. أنت الذي سيعوضني..
أنت لم تخطئي.. إذا كان أبي انحدر إلى هذا الدَرْك، وهو الذي أحبّك كما قلت لي، فلماذا هَربَ وترك هذا العزّ، ونسي كلَّ شيء جميل، وبصق في الصحن الذي أكل منه؟
اترك أباك، ولا تفتح النافذة كي لا تهزأ الريح منّي!
هيا بنا يا أُمّي، وأنا بحاجة مثلك إلى أجواء وفضاءات أكثر اتساعاً، كي أعود إلى المنزل وأنا أكثر نشاطاً، وأنت بحاجة إلى بث ما يتجوّل، ويعبث برأسك، بحاجة إلى الراحة. ربّما تتخلّصين من هذا القلق المتراكم في روحك.
وبلا إرادة، أوقفت نازك السيارة. أطفأت المحرِّك أمام المطعم الذي اعتادت على ارتياده أيام زمان، عندما أورق وبرعم الحُبُّ، وعندما كانت تلهث بالسعادة ويلسع جمر الحُّب كالنّحل روحها وأطراف قلبها وسكونها وغيرتها وحيرتها.
شدَّها ربيع من يدها، دفعها أمامه كدمية إلى زاوية بعيدة عن النَّاس، تطلُّ على غابة كثيفة، لكنّها اندفعت في اتجاه آخر دون إرادتها، إلى تلك الطاولة، فهناك كانت الذكريات تتصاعد، وتتجمّع في الصحون وفوق الغطاء الأبيض المُطرَّز، وارتخت أعصابها هبطت على الكرسي نفسه. أدارت ظهرها، وتوجّهت إلى الفضاء الواسع، الذي تداعبه الأنوار المسترسلة في أشعتها وأحلامها، المحلّقة فوق أعمدة.. لمبات كروية، كبيرة، بيضاء كالثلج. رؤوس عارية، متناثرة على جانبي المدخل الطويل، مصطفة يحميها "درابزون" مطلي بالأخضر والأصفر.
أراد ربيع أن يشرب البيرة، وهي كذلك لا تخالف رغبته، وأن يأكل اللّحم المشوي والسَّلَطة والمدمّس والمتّبل والجرجير واليَخنة النيلية اللذيذة.
سألها: ابتسمي يا أُمّي. لقد جئنا إلى هنا، كي نخرج من وحدتنا. انظري كيف يتضاحك الناس ويتحادثون، ويتمازحون، وينكّتون..
ـ لا شيء يستأهل يا بني، فتحوّل الضحك إلى رماد، واحترقت الابتسامات في جحورها.. جئت بي، ورافقتك إلى هنا، لأمنحك فُرصة للتفكير بحرية ومسؤولية، بعيداً عن الغرف المُغْلقة، وعن الجدران والأبواب الموصدة.
ـ ماذا تقصدين؟
ـ أقصد أشياء كثيرة تتألّب في داخلي، مرة تكبو وتنام، ومرة تنهض بشراسة، فتصعقني تدور في رأسي كل يوم مئة دورة، وأكثر. وقبل النوم تتكئ معي، تضع رأسها بجانب رأسي على وسادتي التي تتّسع لرأسين، فأحتضنها مُجْبرة، وعندما أغفو، تسترخي أعصابها، قلقة تسهر على راحتي، وتذبل الأسئلة. تنام ولا تفيق إلاَّ في الصَّباح، نشيطة عارية من الأجوبة، وهكذا يا ربيع أنا بحيْرة قاتلة. أتذوَّق شيئاً من المرارة، وشيئاً من الإكراه، أقولها بصريح العبارة لأول مرة لك. ويظلُّ السؤال يتشبَّث، ولا يتركني لحظة واحدة. لماذا كان هذا الحُبّ، ولماذا كان هذا الذلّ؟ أبوك يا ربيع.... ها رب، ولا يوجد رجل يحمينا يا بُني!
لقد كبرت يا أمي، فاحمدي ربّك أنّني أعيش بجانبك، ولم يحملني أبي معه إلى بلاد المهجر والغُربة، ولا أفكر بالهجرة أبداً. لماذا أهاجر؟ ثقي تماماً أنك تمتلكين حريتك الكاملة، وإذا كان هناك رجل في حياتك، ويدق باب قلبك، فتشبثي به، وليكن، وتزوجي، وهذا حقّك الطبيعي!
ـ أنت تقول ذلك!
ـ نعم...! كل شيء يُسعدك، يُسعدني.
ـ ليس هذا هو السبب.
ـ لكن ماذا؟ شركات وفيلا، وسيارة حديثة، تُبدلينها كل عام.. خدم وحشم ورفاهية، نحمد الله، فلا ينقصنا شيء في هذه الدُّنيا!
ـ هذه نصف الأشياء.
ـ والنصف الآخر.
ـ لا يزال في خبر كان... مجهول الهوية!
ـ لابُدَّ أن يظهر هذا الخبر، لا بُدَّ أن نتعرّف عليه يوماً، ولابُدَّ لنا أن نبحث عنه.
ـ لم آتِ بك إلى هنا في هذه الفُسحة، لكي تدلّني على الطريق، فأنا أعرفه عندما كان وعراً، وعندما كان سالكاً مُعبَّداً..
ـ ماذا تقصدين؟
ـ زواجي كما تقول... لقد تحطّمت أحلامي، أصبح حُلُمي الوحيد أنت، وسعادتك!
ـ أليس من حقّك!
ـ صحيح، لكنّي أخذت حصّتي ونصيبي من الحياة مرتين: في الأولى كنت طائشة، مكرهة، وكان زوجي عنيناً، عاقراً، دبّاً، صامتاً، غير قادر على مواجهة المرأة، خجولاً، رتيباً... وفي الثانية، أمضيت سنة بأيامها وفصولها كأنها ساعة من عمري، ساعة واحدة، زرع أبوك نُطْفة، وتركها تنمو، وكانت المفاجأة الكبيرة، والهروب الأبدي، وأنت تطلب منّي الآن، أن أبحث عن رجل ثالث..!
ـ ما الذي يضيركِ؟
هذا أمر سهل.. إنها أسهل مسألة تواجهني، وتعترضني، لكنَّ المُخبَّأ أعظم. لقد انتقيتُ أفضل البذار. نثرته في حقل نظيف، مستوٍ، بلا أحجار، وبلا أشواك. روّيته من شرايين قلبي دماً، ومن دموعي قطرة، قطرة. وسال الأمل ساقية في روحي، فارتويت حتى أُتخمتُ، وتشبَّعتُ حتى ثملتُ، وعانيت حتى أنهكتُ، من عصبيته، ومزاجيته، وغطرسته، ونرجسيته، ومرضه النفسي، وخرجتُ منتصرة، وانتهت المعاناة, وكان العلاج مفيداً، حقق الفائدة، لكن لحظة صاعقة اقتلعت كل ما زرعته، فحصدتُ الخيبة والمرارة، فسرق روحي، وتركني أهزوجة منسية في بيادر الجوع، للجرذان. كان لصّاً، نابهاً، قديراً، مُتمرّساً على الخيانة، كالزئبق سرعان ما يُبدّل مكانه، وموقعه. ونجح مُخطّطه، وقفز من قلبي، وطار بأجنحة، صنعتُ أرياشها وعظامها بيدي.
الحياة تمضي يا أُمّي.. عقد ونصف، وقد مضى زمن الانهيار والجوع، وهذا الهجير، والتمزّق، فلا تندمي على التفاصيل... النسيان هو الدواء، والحاضر دائماً أقوى من الماضي، وإن كان الماضي يتماهى معه، ويتداخل في شرايينه، ونبضاته..هيّا تناولي من يدي هذه القطعة من اللّحم.. كلي وارتوي، فالحياة لن تتوقف هنا، وفي محطة واحدة...
ابتسمتْ نازك.. ضحكت من قلبها.. شدّته من صدره، وقبّلته قبلتين على خدّين طريين، وأدخلت أناملها الكسولة في رأسه، تبحث عن شعرة بيضاء اندسّت خلسة. وقالت في نفسها: (كَبُر ربيع وأصبح رجلاً.. حَكْيه أكبر بكثير من عمره...).
ساعتان انتهتا كدقيقة.. شعرت نازك بسعادة، افتقدتها منذ أعوام. وبدأ كلام ربيع يكرُّ على بكرة روحها، ويغزل شرنقة تُغلّف قلبها، وتحميه من التصدّع والانهيار. كلماته تتدرّج مُختالة، رشيقة، باهرة، متغلغلة تحت جلدها، تخرج مفردة، مفردة من المسامات المُتفتّحة.
سألته.. وطلبت منه الجواب في الحال دون تلكّؤ، فوافق، لكّنه قال: ما السؤال؟ ما رأيك أن نبيع الفيلا، ونترك حي التجارة.. أن نبتعد عن صخب المدينة، والتلوّث، ونشتري بيتاً في هذه الأبراج.. وأشارت إلى أضواء كثيفة، تتسلَّق السفوح، كأنَّها تعانق السماء..
كنت أهمس منذ فترة همساً راكداً دون تَعجُّل، وأحببت هذه المنطقة، ودرتُ في شوارعها، وسوقها الكبيرة، لأنَّ صديقي "ماهر" وتعرفينه جيداً، يجلس بجانبي في مقعد واحد في (معهد الباسل.. الحرية سابقاً)، ويسكن هنا في مشروع دُمّر.. الجزيرة السابعة.
إذاً أنت توافقني!
نعم، بكل سرور.. وسنشتري منزلاً كبيراً، واسعاً، يحتلُّ مساحة شقّتين كاملتين.
هيّا بنا يا ربيع!
لماذا العَجَلة؟ اتركينا نفكّر بمشروعنا الجديد.
هذا ما كنتُ أرغب في بمشورتك به، وتحقق الهدف، لأنّي لم أعد أطيق السَّكن في الفيلا، وكل شيء جميل وقبيح تمَّ فيها، ولم تَعُدْ تُسْعفني إرادتي ورغبتي، البقاء فيها، لأن الصُّور تتحرّك أمامي دائماً، وتتجوّل طليقة في ذاكرتي، رُبّما تبديل السَّكن يكون أحد الحلول، ويُلغي نصف ما يزعجني، وفرحتي بك يوم تتخرج من الجامعة، وتتزوج يُلغي النصف الآخر من المآسي، فأعود إلى ما كنت عليه...
أصبتِ يا أُمّي وتقاطع رأيي مع رأيك، فأنا فلقة منك، أقتطع صورة من وجهك، لم أكّن استعجل الأمر، خوفاً من إزعاجك!
لا، لا أبداً. فالهواء نظيف، والحياة مُخدّمة بشكل جيّد، والمشروع قريب من المدينة وبالنسبة لي يكون أقرب إلى الجامعة في العام القادم..
ـ ما طلبك.. إنك لم تكمل جملتك!
ـ أريد سيارة خاصة بي.. ألا توافقين؟
ـ بكل سرور، لكّني أخاف عليك..
ـ لماذا تخافين؟ ولماذا الخوف؟ لقد أصبحتُ شاباً، وسأحتفل بعد أيام بعيد ميلادي السابع عشر!
ـ أخاف من الحوادث، فالشوارع في العاصمة تزدحم بالسَّيارات، والسائقين الطائشين..
ـ لا تخافي، لأنّني كما تعلمين لا أُحبُّ السرعة، ودائماً أُنجز أعمالي بهدوء.. وأنت التي كنتِ تقولين: لا أطمئن إلاَّ عندما تقود أنت السيارة، وعندما أجلس بجانبك. وقيادتك أفضل من قيادة أبيك، لكنَّ عُمر أفضل منكما، فعيونه تتحرك في كلّ الاتجاهات، ولم تخمش سيارته طوال فترة عمله في الشركة، ولا يزال كذلك حتى الآن، وأنت تعرف هدوءه وبرودة دمه..
ـ لكّنه الهدوء قبل العاصفة.
ـ الذي يسبق العاصفة.
ـ كما تشائين..!
ـ ماذا تقصد بالعاصفة. إنك تُلغم كلامك، ولم أَعُدْ أفهمك!
ـ هو شعور داخلي، كنتُ لا أريد البوح به، لكنَّ الحديث يجرُّ حديثاً آخر، فلا تقلقي. إنّني أُراقب تحركاته، ودفاتره، وسأكتشف أشياء كثيرة، ستعرفينها في حينها ولا تستعجلي. كي لا أظلم الرجل، وأُخوّنه قبل الإمساك برأس الخيط.
ـ أقلقني حديثك يا ربيع. هل ظهرت لك ملامح الغشّ والسرقة.
لا تقلقي أبداً، واتركيني أتصرّف.. يحاول أن يتجاهل وجودي عندما أزوره في المكتب السياحي، أو مساءً في الشركة، وهو كما تعلمين يعمل في النهار في مكتب "البرامكة" ومساء في الشركة.. تنبّه الرجل من تكرار الزيارة، وأخذ حذره، لأنه كان يتصوَّر أنَّ صبيّاً صغيراً يعبث بالأوراق، ويتسلَّى فقط، لكنه وهو يُحدّق في وجهي، لاحظ ملامح الرجولة، وكثرة الأسئلة الدقيقة حول الأسعار وكيفية مسك الدفاتر والواردات والصادرات، وعن السياحة والسيّاح.. وأعتقد أنّه يقول في نفسه: (لقد أصبح شاباً، ولا يريد أنْ يُضيّع مهارة أُمه، فأصبح ماهراً في الحسابات، وهو شاب ذكي وله مستقبل.. سيكون حساب الحقل غير حساب البيدر.. متى أسترد حقّي، لكن والده هو السبب بكلّ هذه المفاجآت والاكتشافات، ولا أعلم إذا كان ربيع يعرف القصة، وهل تكون نازك أمّه أخبرته، أو ألمحت لـه بهذه الحكايات الشائكة..!)
بدأ عمر يا أُمّي يتقرَّب منّي، ويحترمني أكثر. شعر أنَّ مُزاحماً لـه ظهر فجأة، واصبح يستقبلني باحترام أكثر، ولا تزعلي، البارحة أعطيته مكافأة مالية "خمسة آلاف ليرة سورية" وألفي ليرة للآنسة "مها" وهي تستحقُّ وتستأهل أكثر.. تتعب، وتنجز أعمالها، يوماً بيوم، وهي صبيّة أمينة، صادقة، حريصة على أموالنا.. ولم يأت هذا الكلام من فراغ، فجاء بعد عدّة تجارب.
أصبحت يا ربيع شاباً... رجلاً، تتحمّل المسؤولية. ستعوّضني يا حبيبي عن كلّ الخسائر واللّوعات، فاكبر أكثر، كي أُسجّل كلّ الأملاك المنقولة وغير المنقولة باسمك، فأنت كلّ شيء في حياتي سأزوجك أجمل فتاة في المدينة, وأكثر علماً وتهذيباً.
لا تهجسي هكذا.. كلّ شيء يأتي في الوقت المناسب. لا أريد إلاَّ أن تكوني مرتاحة البال، هانئة، وليس بالمال وحده يحيا الإنسان. إنّه وسيلة وليس غاية. وفي مقدمة طموحاتي وآمالي أن أتابع علمي، وأحصل على شهادة الدكتوراه في أشعّة اللاّيزر، وأعود إلى الوطن، وأكمل مشروعاتي التي أخطط لها، وبلدي أجمل بلدان العالم.. اطمئنّي ولا تستعجلي... الحياة غير راكدة، فهي دؤوبة الحركة، ولن يتوقف الزمن، وما علينا إلاَّ استثمار كل دقيقة.
بقيت نازك وحيدة في صباح اليوم التالي، فبعد أن ودّعت ابنها، واطمأنت عليه بجانب السَّائق، وانطلقت السيارة إلى المعهد.. تركت الشرفة، وعادت إلى غرفتها فتحتْ نافذة في جدار ذاكرتها، وأطلقت الحرية لأفكارها، فدخل هواءٌ نقيّ، خالٍ من الغبار، تنشّقت رائحة عطرة، تسرَّبت خفية إلى عالمها الداخلي، كانت لحظات سعيدة. قالت وهي ترشف القهوة، وتتجاذب شفتاها سيجارة لذيذة: (لم أعتد على مثل هذا الكلام. وإذا كان شادي قدّم لي حُبّه، وأعطاني جزءاً منه، رغم سوءاته التي أمطرها وَحْلاً عليَّ في ليلة حالكة، فربيع هو أثمن جوهرة وأقدس ما قدَّمه..).
التهبت من جديد مشاعرها، وغصَّاتها اللولبية، تحلزنت محترقة في مجرى تنفّسها. أخذت وعداً قاطعاً، بأنَّ طليقها المهاجر، لم يَعُدْ يشكّل عثرة في طريقها، أو ثغرة في معالم دروب ذاكرتها.. فالحُبُّ تآكل منذ زمن بعيد.. ونبتت في أرياش حلمها الكبير، أجنحة جديدة، وهي الآن ستظلُّ في قفصها، تفتحه وتغلقه متى تشاء، وسيظلُّ ابنها إلى جانبها فلذة مقسومة منها، وصديقاً، وحليفاً أميناً، رجلاً يحميها من الشرور القادمة، أنيساً يخفّف عنها القهر، ويُبدّد سكونها، ويخرجها من خندق الموت.
سارت فرحة شطبت على كآبتها، جلست على كرسي زينتها، أمام مرآة كبيرة وعريضة، على طول خزانة ثيابها. أنارت الغرفة، فتدلّت أجراس الثُّريا الضخمة، تهيَّجت عواطفها، وخرجت تمرح من رقادها. شعشعت بالأنوار الكريستالية. وكانت صفحة المرآة الملساء النَّظيفة، تعكس بتوهّج بياضها.. كلّ شيء يلمع ويأخذ الألباب بسحره، وجلس خدَّاها، وتربَّعا فوق كرسيين، كأسدين رابضين، مستعدين للانقضاض، ينتظران مَنْ يروّضهما، ولم تمتد إليهما منذ أكثر من خمسة عشر عاماً يدُ رَجُل أو عاشق، فدهنتهما بالكريم، وشبّعت مساماتهما حتى ارتويا بعشق أناملها، ورشّت عليهما البودرة، وحرّكتها بفرشاة ناعمة، ونظّفت حاجبيها، ولوَّنت تحتهما، بلون يقهر البصر. أصبحا كقوسين متناسقين، ثمَّ بخّت من زجاجة عطر على عنقها، ووراء أذنيها، كان ربيع قدّمها هدية لها في عيد ميلادها الثاني والأربعين، وتغلغلت الرائحة في مسامات جسدها وروحها.
خلعت ثوب النّوم النيّلي. طوته كما اعتادت، وسجّته على سريرها، ولم يستر جسدها إلاَّ الثياب الداخلية.. كانت رغبة تحثّها على التعرّي، والكشف عن جسدها، الذي لم تُعكره أنفاس الرجال منذ سنوات، ولم تَعُد هي تبحث عن جمالها، ظلّت عواطفها تتوقّد في لهاث الذكريات والتحسُّرات، كأنَّها تُحضّر أناقتها، وهندامها، وتغسل جسدها برائحة أنوثتها، لليلة زفافها، بقيت نصيحة ابنها، تتقلّب تحت جلدها، عندما طلب منها أن تفتّش عن شريك حياة جديد..
فَرشت نازك شعرها الناعم، المائل للشُقرة على كتفيها، تركته يمتدُّ ويسترخي حُرّاً طليقاً على وسادة عُنقها، يدغدغها، فترتعش، وتغنج بدلال.
بقي الحدّ الفاصل بين ثدييها، يُشكّل ممّراً ضيِّقاً بين تلّين صامدين، يواجهان المستقبل بشجاعة، ومشى إصبعها يحمل أحلامها في هذا الانحدار بين سفحين أملسين مُجرّدين من الأسلاك الكهربائية والحراسات، يمسح في طريقه المُعبَّد العَرق النازل، في دروب مفتوحة على عالم جديد، تنزُّ طريّة بالعشق والأسرار، ويغوص البلل النّدي في مسامات جلدها البضّ..
جلست على زاوية السرير. غرست كوعها في وسادتها الطرية، فخفست، ومالت بجسدها المتحرّق في لُظى نارية مشرئبة من ألسنة القهر والجوع، ثمَّ تناولت عُلْبة جديدة من الكريم المُخصَّص للفخذين والسَّاقين، وابتدأت تدلك أسفل القدمين من الكعبين، وسارت أناملها ترسم وتُسطِّر خطوطاً دائرية، إلى أن وصلت إلى فجوتي الرُّكبتين، ودلكتهما جيداً من الأعلى والأسفل، لأنها عادت إلى إدراك سرّ الجمال بعد هجرة عقيمة، قسرية، لرائحة زوج خانها في نهاية شهر العسل.
ارتدت أجمل الثياب، وكانت عقارب الساعة تُشير إلى الثانية عشرة ظهراً، فاتجهت نحو المطبخ، لتُحضّر طعام الغداء، وهي تعرف وتعوّدت أنه عندما يصعد ربيع الدَّرج مسْرعاً، يتعالى صفيره، وتسمعه يدندن بأغنية شبابية، فتفتح لـه الباب قبل أن يضع قدمه على آخر درجة، وتحتضنه بلهفة الأم على وحيدها.
ـ 24 ـ
كأنَّه يتنبّأ بالفاجعة. نَهَضَ من النّوم مُبكّراً، يحمل رسالة شفوية. قرأ نصفها بصوت مرتفع عندما تبارك جبينه بلمسة من يد زوجه. فتح عينيه. بَدت حالة التشوّش جليّة، وسَرْعان ما تلاشى الاضطراب ومعه غُبار حلم، تجمّع في حُفْرة صغيرة، في تلك الليلة السوداء.. هكذا وَصَفها قائلاً: ما أصعب الحفر في الأرض الصخرية، وفي الأرض الشوكية!
اتَّجه إلى المغسلة، يستعيد الكلمات الغريبة على معجم الأحلام، ومرارتها، فأزاحت هذه المفردات شبه المشلولة، المتّكئة على حروف عرجاء، وفواصل تنحني فوق السطور، صوراً من ذاكرته. حلّت مكانها في قفص الاتهام، صورة كبيرة لشادي، وثُبّتت في مكان بارز، يَسْهُل رؤيتها، كانت تمزّقت منذ زمن، وهاجرت!..
لا تخيفني الصّور الكاملة والممزقة بعد الآن. قال في نفسه... وهاجر الخوف ولن يعود، لأنَّ الحفرة لا تتسع أكثر، فأصاب البضاعة الكساد، ولم يجنِ تاجر الحروف شيئاً يُذكر... على كلّ حال هو حُلم زائر دون موعد مُسْبق، رُبَّما لا تزال رسالته الوحيدة، تترك حِبْر سطورها، وأختامها وشجونها، تطبع آثار أقدام الكلمات، بعد أن تخلع نعالها، تتركها في عتبة قلبي.
تغيّر الزمن. طرأت تبدّلات... وبدأت الحقيقة تسقط من شلاّل ماءٍ ساخن، فأوجعتني، لكنّي عالجت بعض الحرائق... تمنيتُ ألاَّ أعرف سبب وجودي في رحم أُمّ لم يعرف سواي. وألاَّ تنضج ثمرة نازك، وتسقط "ربيعاً" يكبر بسرعة، ويُحاط بهالة... كأنّه دمية، تخيفني عندما تتربّع فوق كرسي. وراء مكتبي، وتنطق.. تُحاسبني، تتدخل في شؤوني. تراجع حساباتي... هذا هو ربيع يشقُّ طريقه نحوي، في أرضي.. يقطف حبَّات عرقي، مستسهلاً، لا يدري كيف جاء إلى الدنيا، لذلك سأكون حذراً جدّاً منه، ولو كانت عيناه تزدادان احمراراً، كلّما قلّب في دفاتري وسجلاّتي، لكنه لا يدري ماذا يفعل؟ يتصوَّر أنه قادر بذكائه وتشوّفه وتعاليه، وهدوئه، وحزمه أن أكون تابعاً لـه، فأنا أعرف الجزئيات والتفاصيل في الشركة وهو وأمّه لا شيء، تهمهم الأرقام والكشوف، وما أسهل معرفتها وترتيبها..
لا يعرف أنّني لم أنسَ أُمّه القرمزية، المشعّة، عندما دعتني بوقاحتها وشبقيتها، وكأنها لا تفعل شيئاً، كانت تتضاحك.. وكان هذا أيام زمان، قبل أن يتكوّن نُطّفة في رحمها، وقبل أن يصبح شادي جزءاً من نسيجها، وغلافاً غبشياً يغلَف قلبها، بهالة كاذبة.. لا يعرف وعودها الوردية التي رسمتها أحلاماً في مخيّلتها، وأننّي كل شيء في حياتها، وأعرف أنها كانت تكذب كذبة كبيرة، لأنني لا أساوي عندها شيئاً، ما يهمها اللّذة الجسدية، وأن تصل كهرباء رجولتي إلى أعماقها.
لن أعود إلى الماضي، الذي أعادني الآن هو الحُلم، هكذا أراد أن يكون إلى جانبي دائماً، فتركت لـه زاوية حجرية، محصَّنة ليقبع فيها دون أن يمتص دموعي، ويتغلغل في جسدي، عليه أن يبقى حُلماً مُحايداً...
لن أعود إلى الماضي، وإلى الخوف الذي تلبَّسني وأمسكني من مكان الوجع.. يومئذٍ كانت نازك تجيش بأحلامها، وكانت الأحلام تشكّل قطيعاً من الغزلان أو الخراف، تدخل إلى حقولها، وتلتهم أعشاب جسدها، تقطف ثمارها قبل أن تونع وتنضج، وعندما تعطش تزحف باتجاه ثدييها، تستلقي نازك هادئة، تُغْلق عينيها، ساهية، والحليب يتقطَّر، ويفيض ويتسرَّب نقاطاً، وبخوراً، يهبط متسللاً إلى أخصب المناطق..
أدركت نازك متأخرة الخطأ الذي ارتكبته عندما اقترنت بشادي، ولكنَّها لم تُصرِّح عن ندمها، لأنها اغتصبت حُلماً شهيّاً، اشتهته منذ صباها ورَفَستْ رجلاً عنيناً بعد أن خلّصته من مالهِ، فأصبح فقيراً، ومات بحادث أليم، وورثت من أبيها وهي وحيدته أموالاً لا تأكلها النيران.
تبدّلت أفكاري وازدهى حُلمي، وشدّني من اليد التي توجعني فخجلتُ من نفسي، وحضرتْ حبيبتي سلمى أُم أولادي، وضَمُرت تلك الوردة التي فقدت رائحتها في ذاكرتي. تيبَّست أوراقها التي لا أزال احتفظ بها في عُلْبة وضعتها تحت وسادتي، كانت تُلقنني دروساً في العربية، والإنكليزية، فأجّجت روحي وأنا أدخل خلفها عنوة، غرفة نومها. أصبحتُ في موقف لا أحسد عليه غرفة نوم كأنها من غرف (ألف ليلة وليلة) وسرْعان ما زال الخوف، بينما كانت تخلع ثيابها وتبعثرها على كنبة تتسع لشخصين، وتبخُّ عطراً كاد أن يزكمني، كرائحة أزهار الربيع الأقحوانية. عطّرت إبطيها، ورقبتها، وبين نَهدْيها..
ثمَّ مدّت أصابعها، ونزعت ثيابي بعصبية وارتباك قالت لي: هل تجرّأت يوماً، وفككت أزرار قميص امرأة، وكشفت عن نهديها، وجسدها؟ كيف كان موقفك، عندما اشرأبّا ونهضا من كسل؟ أُنظر، ورفعتهما بكفّيها البضّين الطريين كأنّهما عجينة ساخنة، تناولتها كَمن يخطف رغيفاً مقمّراً وهو جائع، من يد فلاّحة تخبز على التنور خبزاً بلدياً طيّباً، وأشارت إلى المناطق الدَّافئة، والأكثر توهّجاً، وتغلغل العطر في أنفي. تسرَّب إلى أعماقي. أحسستُ أنَّ قشعريرة زمهريرية تقرأ فوق جسدي رسالة حُبّ في طقس شديد البرودة، عندها صَحَوتُ قليلاً ومسحتُ العرق البارد.
الآن لا أقدر على استعادة كل الأشياء الجميلة في تجربتي الأولى، إلا أنني أتذكّر الغباء في تناول أوّل جُرْعة دواء، لكني أخذت درساً ما زلت أحتفظ بعناوينه الفرعية، وفقراته الهامة، أوّلها، الفرح العارم المتناهي في صُراخه.. فرحت كشاب تخرّج حديثاً من الجامعة وأصبحت جيوبه ملأى بالنقود، وبعد هذه الساعات، وفي اليوم التالي قدّمت نازك مُغلّفاً فيه رزمة من النقود، لها أرقام متسلسلة، جديدة، أوّل مرة في حياتي القصيرة أشمُّ رائحة النقود الجديدة الخارجة توّاً من خزنة لا أعرف كيف تُفتح، وتضاعف راتبي بعد سنة واحدة من بدء العمل، وقدّمت لي بعد يومين من عُرس الطيور العاشقة بطاقة التأمينات الاجتماعية، فزال جزءٌ كبير من الخوف، واطمأنَّ قلبي القابع تحت قفص من العظام، على المستقبل، ودُفن الفقر إلى الأبد، وسأحصل على تقاعد وتعويضات، وهذا لم يحصل مع غيري من الموظفين الأقدم في الوظيفة وبدأت سعادتي تتضاعف، وفرحت أُمي الشغّالة في بيوت الأكابر والأغنياء، حملت لها الحلوى والهدايا من الثياب والأحذية. قلت لها: مكانك منذ الآن يا أُمّي في المنزل، ولن تعود أيام القهر، فاهتمي بابنك وبنفسك، ولا تبالي بعد الآن، فالخير يتدفّق من سيّدة المال والجمال، فهي تفرش سعادتنا أمامنا، وترفض أن أخلع نعليّ... تقول: لا تخلع نعليك، فالسعادة يجب أن تدوسها الأحذية، كي تتحوَّل إلى لذَة مقهورة، والقهر هو الذي يستفزّها ويحوّلها إلى ملكية خاصة. وبالفعل رأيتُ أو تصوّرتُ، لا أدري أي كلمة مناسبة لهذا الموقف، سأقول: شعرتُ أنَّ السعادة تفرش بساطاً مزخرفاً تحت قديمها، تبلّله دموعها، وهجمت عليَّ واحتضنتني، بلّلتني بدموعها النّقية.
أنهيت حلاقة لحيتي. تخلّص وجهي من كابوس أرهقني، وكانت زوجتي سلمى تكرّر دعوتها لشرب القهوة، وتقول: بَرَدتْ القهوة يا عمر هذه عادة سيّئة لا تغيّرها، عندما تقف أمام المرآة تنسى نفسك. أعرف هواجسك وشرودك البهيّ المتدرّج، عندما تعود إلى الذكريات. أعلم أنّك تتذكر أيام عشقنا، فأنت حبيبي، وهؤلاء... وأشارت إلى أبنائها... هم ثمارنا... هيّا أسرع... وفعلاً أسرعت. وغسلت وجهي، وابتسمتُ، جلست بجانبها، وقبّلتها في هذا الصباح، فازددتُ نداوة وإشراقاً. قلت: هكذا أُحبّها دافئة، ورّبتُ على كتفها، طوقت عنقها. رشفنا قهوتنا على عجل، علماً أنَّ حرارتنا كانت ترتفع، لكنَّ الوقت تحدَّانا، فجاهدت متثاقلاً، تقمعني رغبة، وتدفعني رغبة، فاحترت ثمَّ قررت أن أتوجَّه إلى العمل. وظلّت حرارتها تحرق جسدي.. سألتها وطلبت من سلمى عدم الإجابة: ألا تبصرين، أو الأصح ألا تشعرين بألسنة اللّهب تمدُّ أذرعها، وبقايا رماد لا يزال يتوهج؟!..
لا تبتعد كثيراً في مشوار تخيّلاتك... دائماً كلماتك تُثير شعوري. أحسُّ أنها تنهمر كحبّات المطر... وتتقلّص مساحة تفكيري... لن أحاورك الآن، سنتقابل غداً، صباحاً في غرفة الجلوس...
ـ قالت سلمى: أنظر عقارب السَّاعة تُجاهد، لكَّنها تراوح في مكانها... إنّها بحاجة إلى بطارية جديدة.
ـ ضحك عمر. قال: ونحن ماذا نحتاج؟
ـ وضحكت سلمى وقالت: نحتاج إلى ذاكرتنا القديمة... نحتاج إلى حضور الزمن الماضي بثوبه الحاضر.
ـ مَنْ قال ذلك؟!
ـ أنا أقول.. الأعوام تمضي يا عمر، والأولاد يكبرون. البيت يضيق بنا، وأنت صامت. لا تخافي.. فوالدتي لم تترك إلاَّ ثياباً بالية، وصُرة قماشية، ومحفظة مهترئة، وهذا ما ورثته عنها... بقايا ثياب عتيقة، نظيفة، مغسولة بكدّها وتعبها وعرقها، وصورة تتجمرّ في قلبي. وحكاية طويلة كسنديانة في روحي وجسدي، لا أدري كيف أقلّمها وأُخفّف من ثخانة ساقها.
ـ الماضي ولّى يا عمر، ولن يعود كما هو، وإذا عاد، فهو مبعثر في شتات الذاكرة.
ـ لا يُعجبني قولك، لأنه حاضر دائماً، ومَنْ قال لك إن الماضي لن يعود؟ أنا ابن الماضي والحاضر هو الذي دسَّ في قلبي الإبر الواخزة، فأدمتني، وتركت نُدباً من القهر. الماضي يرافقني في نومي، وعملي، وأحلامي.
ـ ماذا تقصد؟
ـ ألا تعرفين؟
ـ لا أبداً!
ـ كيف تريدينني أن أنسى ساعة الاغتصاب.. وموت أُمّي لم يحل المشكلة، ورأسي لم يتكلّس بعد، فهو في تألّقه، وشبابه.
ـ هل تتذكر دعوة أمل، فعيد ميلاد زهرة السابع عشر في هذا المساء؟
ـ أتذكر.. سأحضر لها هدية ثمينة.. هل سيحضر آخرون؟
ـ قالت أمل عندما هاتفتني، ستدعو صديقتها الحلاّقة..
ـ ومَنْ أيضاً؟!
ـ لا أدري!
ـ ألا تتصوّرين أنَّ جميلاً سيحضر!
يجوز، ومن حقّها.. فهما قد اتّفقا على الزواج.
هل وافقت زهرة؟
زهرة هي التي بادرت، وحثَّت أُمّها على الزواج، لتخلّصها من عُقدة الزوج المهاجر..
ـ مازلتِ تقولين زوجها المهاجر... لقد انتهى الأمر، فهو طليقها ولا علاقة تربط بينهما. ولا تنسي أنَّهما نازك في خَلْوتها مع ابنها ربيع، عندما تناولا العشاء في مطعم "أهلاً وسهلاً" قالت لي: إنّه طلب منها أن تتزوّج أيضاً، وقال لها: الأمّهات يأكلنَ الحُصْرم، والأبناء لا يضرسون.
إنك تعكس المثل: "الأباء يأكلون والأبناء يضرسون"
نعم.. لا يضرسون، ووصفي للحالة صحيح. فربيع وزهرة هما أبناء هذا العصر، ولم يعترفا بعد أن عَلِمَا بكل شيء، بمآسي الماضي. وقال ربيع كما قالت زهرة: الماضي ملك الماضي والحاضر ملكنا.. كأنَّهما روح واحدة، فلهما الآراء والمواقف نفسها.. وآخر ما قاله ربيع عندما جاء إلى المكتب: لن نكرّس حياة آبائنا...
وهنا تحفّزت سلمى. حملت الصينية... ونهض عمر.. تقابلا كوردتين في صباح نديّ أليف. رفعا عُنقيهما، ونظرا إلى الفضاء عبر النافذة.
قالت سلمى: من الممكن أن يلتقي يوماً عطا وزهرة حول مائدة واحدة، أو في صالة رياضية أو في مسبح، ورحلة، ومقصف.. أو.. أو...
لماذا تُكثرين من الأسئلة والاحتمالات؟ يمكن أن يتحوّلا إلى حكاية طويلة، ويصبحا حبيبين وصديقين، ثم يفشل الحُبّ، لأنّ الحقيقة ستتكشّف، كما يحدث في المسلسلات المصرية.
يمكن أن يحدث كل شيء غير متوقع...
ويمكن أن نتوقع أنَّ أمل ونازك لن يلتقيا، إذا حدث والتقتا، فلن يقتربا من بعضهما بعد أن حَدث ما حدث... ليس هذا فقط، قال عمر وهو يغلق باب النقاش: أنا أعرف التفاصيل والرغبات، فكل واحدة تحاول ألاَّ تتذكر الأخرى، وأنا أعرف أيضاً كيف تسير حياة كل واحدة!
ـ 25 ـ
كيف يدخل الفرح، كيف يتسَّرب بين مسامات العشق من جديد إلى الروح العَطْشَى؟ هذا ما كان سرّاً من أسرار أمل!
استدرك عمر أن أمل هي ابنة عمّه، وهي أقرب الناس إليه. أراد أن يُكرّمها، وينقلها أو يُرقّي سعادتها قليلاً، درجة واحدة في سلّم حياتها اليومية.
لقد عوّدته في كلّ عام أن تدعوه وعائلته إلى سهرة في بيتها للاحتفال بعيد ميلاد زهرة، فيجتمعون حول قالب الكاتو، ويتناولون "التّبولة" التي تحضرها معها سلمى، ويمكن أن تكون معهم صديقة زهرة، ويغنّون، ثم يشربون القهوة والعصير... وهكذا ينتهي كلّ شيء في ساعة من الزمن، لكنهم في هذا اليوم، وفي هذا الاحتفال الذي تأجّل شهرين، لأنَّ أمل كانت تنتظر بفارغ الصبر نتائج الشهادة الثانوية، كي تكون الفرحة فرحتين، والاحتفال احتفالين.
عندما تفوّقت زهرة، ونجحت نجاحاً باهراً، أصبحت تحتلُّ مكانة كبيرة.. أصبحت صبيّة ناضجة جسدياً وفكرياً وإحساساً بالمسؤولية. وبَدت أمل، تلك الأم الحنون مبتهجة ولا تعطي فرحتها لأحد.. (هاهي ذي زهرة كبُرت.. وأنا نسيت كل الأشياء التي كانت تؤلمني...).
احتضنت ابنتها... قبّلتها... أينما وجدتها، في المطبخ... في الصالون... في سريرها كانت تشمّها.. وكان عمر الذي يُتقن الإنكليزية جيّداً، يلتقط الصور لهنَّ في مواقف وأوضاع مختلفة.
قالت أمل: أصبحتِ الآن يا بنتي في الجامعة، وستختارين الكلية التي تحبّينها، والأفضل لك كلية الطب أو الصيدلة، وهذا يناسبك ويناسبني أكثر... انظري إلى الطبيبات كيف يعملن!..
كانت زهرة مسترخية وهي تجيب عن رغبة أمّها واقتراحها: سأخرج يا أُمّي عن تقاليد المجتمع ورغباته، وهواجس الأهل الذي يوجّهون أبناءهم إلى الطب، وكأنَّ الطبيب هو كل شيء في هذه الدنيا... كان هذا قديماً.. أمّا الآن فالحياة قد تغيّرت، وتبدّلت كثيراً، وأصبحت هناك فروع علمية أكثر أهمية في عصرنا، في قرننا المليء بالتطور، وليس الطبُّ كلّ شيء!..
سأنزع هذا الكابوس من رأسك، ومن رؤوس الأمّهات الغيورات مثلك اللّواتي يحببن أن يكون أبناؤهن أطباء أو صيادلة.
لماذا يا زهرة؟
لأنَّ مُدننا وقُرانا تزدحم بالأطباء والصيادلة يا أُمّي!
هذا مستقبلك يا بنتي... ستكونين طبيبة مرموقة، ناجحة، غنية.
لا يا أُمّي... الزمن يختلف. نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين، وتفهمين ما أقصد. لا أعرف كيف تدخل هذه الأفكار إلى رأسك، وتقلّبينها كما تشائين. ألم توافقي، عندما كنت أقول لك: المستقبل هو الذي يُحدّد رغبات الشباب، وليس الشباب هم الذين يحدّدون مستقبلهم! كنت تسألين: ماذا تحبّين أن تكوني في المستقبل؟
قلتُ لك: طيّاراً.. فضحكتِ كثيراً... لماذا؟ وإجابتك لم تعجبني! هذا كان في زمن الطفولة، عندما كانت الآنسة تسأل التلاميذ عن رغباتهم، فكل واحد يجيب حسب رغبات أهله، وليس عن رغباته.
أنا أُمّك، وأعرف أكثر منك إنك لا تزالين في مرحلة النضج... أنت كرزة حامضة، وعندما يكبر عقلك تزدادين حلاوة... كلمة تأخذك، وكلمة تُعيدك. لقد أثّرت صديقتك على أحلامك وطموحاتك، ووجّهتك كما تريد هي.
علاماتي تؤهّلني لدخول أهّم الكليات، وتنقص عن المجموع العام ثلاث درجات فقط، لذلك سأكون طالبة في أحدث كلية ستفتح أبوابها في هذا العام. ألم تسمعي بالمرسوم الذي أصدره رئيس الجمهورية... هذا هو مستقبلي.. وهذا هو مستقبل الوطن!
تركتها أمل تُناطح رغباتها، وقطعت المناقشة معها، لكّنها تمتمت وسمعتها زهرة وهي تقول: رأسها يابس كالخشب.. سأتركها تختار ما تريد، لتحقيق رغباتها وتطمئن على مستقبلها... يمكن أن يكون رأيها صائباً أكثر من رأيي!
أنقذ زهرة من المساءلة والإحراج الذي وقعت في دائرته بحضور الناس رنين الهاتف، وسرعان ما اندفعت أمل نحو السمّاعة بلهفة، لأنّه لم يسبق أن اتَّصل أحد من زمان في مثل هذا الوقت... رُبَّما هناك أمر مُسْتعجل، ورُبَّما هناك ما يشرح صدري... وربَّما...!
ألو.. ألو
كيف الحال!
في التمام... جيّدة.
أسمع بُحّة في صوتك... ما الذي يجري عندك يا أمل؟
لا شيء... لا شيء، ماذا تريد يا عمر في هذا الصباح؟
كلّ شيء على ما يُرام!
نعم.. وما الشيء المُهمّ الذي ستقوله؟
تأجيل الاحتفال.
لماذا؟
لأنّني حجزتُ مطعماً في باب توما لثلاث ساعات من ليلة يوم الخميس.
ولماذا المطعم يا ابن عمّي؟
احتفاء بزهرة، وفَرحاً بنجاحها وعيد ميلادها، ولم يبقَ لك إلاَّ زهرة واحدة في حديقة روحك، وبعض الأوراق التي تحتضنينها، ونحن هذه الأوراق، ولم يستطع خريف العمر أن يقتلعها من أغصانها... زهرة واحدة يا أمل وبعض الأوراق... كررتها أمل، وكررتها، وهطلت دموعها.. بَكت، وبكت بفرح.. ردّدت: نريد أن نحتفي بها ونُكّرمها.. ستكون زهرة في أوج قداستها، ترفع رأسها، وسيظلُّ مرفوعاً.
قال عمر وهو يُهاتفها: الدعوة مفتوحة لكل صديقات زهرة وأصدقائها وزملائها، وأنت كذلك. لقد حجزت خمسة وعشرين كُرسْيّاً أي ستّ طاولات، فاختاري مَنْ ترغبين!
عادت زهرة من مشوار قصير. كان الخبر ينتظرها، فقفزت، ونطّت كطفلة، وسحبت ورقة بيضاء من دفترها، وبدأت تسجّل أسماء المدعوين والمدعوات، ثمَّ سلّمت القلم لأُمّها، وقالت: سجّلي يا أُمّي أسماء صديقاتك وأصدقائك، مادام عمّو عُمر يُكرّمني هذا التكريم، فلنا حُرية التصرّف بأسماء المدعوين.
صمتت أمل كحجر صوّان في قاع وادٍ سحيق. تكهرب جسدها. تفجّرت دموعها من مَقْلَع عينيها الوامضتين. نثرت مِلحاً ورماداً. لم تتجرَّأ زهرة على متابعة مفرداتها التي تختبئ تحت لسانها كأنَّ أسنانها تقضمها وتأكل حروفها. لم يبق إلاَّ نقاط وإشارات استفهام وتعجّب، فسحبت من يدها الورقة والقلم، وأضافت إلى القائمة اسم "الكوافيرا" وخطيبها مروان، واسم جميل، الأستاذ الودود، الطيّب، وثلاث جارات، قريبات من قلبها. هؤلاء النسوة اللّواتي وَقَفْنَ إلى جانبها في أحلك الظروف. وهاتفت الحلاّقة تُخبرها، وستحضر مع أُمّها وسلمى وبعض الصديقات إلى الصالون، وبلّغتها الدعوة مساء الغد إلى مطعم ألف ليلة. وعليها ألاَّ تنسى مروان... وسمعت هُتاف الحلاقة، التي استقبلتهنَّ بفرح وترحيب لا مثيل لهما، وعانقتهنَّ واحدة، واحدة. قالت: اليوم أشعر أنّني أصبحت إنسانة. أتمنّى بمعرفتكنَّ من زمان. وكل هذه الأعوام وأنا أحمل أدواتي، وأُصفّف شعور النساء وأستنشق رائحة السعادة من بعيد، تتلاشى قبل أن تصل إليَّ... سأعيش أيّامي القادمة بفرح عظيم... سأصنع لنفسي وَلكُنَّ أجمل القصَّات والموديلات، وفتحت ألبوماً ملوّناً.. تفضلنَ.. تفضلنَ. أهلاً وسهلاً... هذه أبسط هدية أُقدّمها لعزيزتي وحبيبتي زهرة الغالية.. اجلسنَ.. سنشرب القهوة أوّلاً ثمَّ...
أجبنَ معاً: لا حاجة للقهوة الآن، فنحن، كما أنت على عجلة من أمرنا!
دَفعتْ زهرة إلى الكرسي، واختلطت الثرثرات وأصوات الأغاني من المسّجل، وصوت مُصفّف الشعر، والروائح مع بعضها، وتعالت ضحكاتهنَّ...
* * *
مازحتْ زهرة "عطا الصغير" هكذا كانوا يدلّلونه، لكنه أصبح شاباً طويلاً في سنته الجامعية الأولى. جلست إلى جانبه في المطعم. قالت: ستعيد الصُّور كلّها.. لا تخبّئ صورتي، إنّني بحاجة إليها.. أفهمت قصدي! وإذا لم تفهم سألقّنك درساً لن تنساه! وتضاحكا..
توزّع المدعوّون حول الطاولات السّت.. عمر وزوجته وابنته التلميذة في الثاني الإعدادي، حول الطاولة رقم 1. زهرة وعطا وابتسام وصديقها حول الطاولة رقم 2.. جميل وأمل ومروان والكوافيرا حول الطاولة رقم 3.. أمّا باقي المدعوين فاختاروا الطاولات رقم 4 و5 و6.
رحبت أمل بالحضور وهي تقف في الوسط، وشكرتهم على تلبية الدعوة، ولما قدّموه من هدايا وورود، لابنتها زهرة بمناسبتين كبيرتين، عيد ميلادها السابع عشر، وتفوّقها في الشهادة الثانوية ـ الفرع العلمي ـ وتقدّمت نحو قالب الكاتو المؤلف من طبقتين، المُزّين بعناية، ورفعت السّكين، بينما كان الحضور يشكّلون حلقة حميمة حولها، وعطا يضيء الشموع السبع عشرة، وخلفه تقف زهرة، تنتظر دورها لإطفاء الشموع.
هتفوا بصوت واحد.. كانت الموسيقا تهتف معهم، وحضر صوت فيروز كما في كلّ احتفال (حبيباتي... وحبيتكم)، ثمّ أخذ كل واحد مكانه، وبدؤوا يتناولون التّبولة والكاتو، والمكسّرات، ويشربون ألوان العصير والكولا.. وأشارت زهرة إلى النادل أن يُشغّل الموسيقا الراقصة لفرقة إنكليزية مشهورة.
ارتفعت وامتدت الأيدي كأغصان أثقلها ثمر الحُبّ والنّدى، فهذا عطا يسحب زهرة، وكذلك فعل والده وسحب سلمى... وراقص جميل أمل، ومروان خطيبته. ونهض كل الحضور، أصدقاء وصديقات، وكانت عقارب ساعات الفرح تتراقص أيضاً في القلوب على أنغام النبضات، والمشاعر الجيّاشة، النَّافرة في سهل منبسط، يموج بالقمح، والسنابل الشقراء.. ساعات مُفْعمة بالسعادة، ومتوّجة بالغار.
وشوشت زهرة عطا، ويدها وراء ظهرها، ويده تطوّق خصرها... سألته: أيمكن أن تتكرّر هذه الفرحة؟
ـ بالطبع يا زهرة! ألا تسمعين بالفرحة الكبرى!
ـ بَلَى.. أسمع، عندما رحل آخر جندي من أرض الوطن، وعندما نُحرّر...
ـ ليس هذا ولا ذاك..
ـ كيف؟
ـ كل شيء لـه طريقه في التحرير.. فتحرير الأرض، أي مَسْحَها أو "تحريرها" ـ معرفة حدودها مع الجيران ـ هكذا يفهم الفلاّح التحرير.. وعالم النفس يفهمها بشكل آخر.. يحاول أن يسبر أغوار الأعماق النفسية لإنسان يعاني صُداعاً في رأسه واضطراباً في معدته، وتقلّبات في آرائه ومواقفه غير المتوازنة... وتحرير الأرض يعني سلمياً أو مسلّحاً.. وهذه أكبر فرحة.. لكن تحريرنا من الداخل أنا وأنتِ، ورفع الستار أو إزاحته لنكشف عن أسرارنا الداخلية، فيظهر الحُبّ.. فأنا أُحبّك. وكُنّا تعاهدنا، ومازلنا!
أَحْنت زهرة رأسها خجلاً... احمرَّت وجنتاها، وقالت: الحُبُّ كالحرب.. إنّه معركة تحسم الموقف، فأنت أقرب الناس إلى قلبي... سنمضي في طريقنا ونُحقّق رغباتنا ورغبات أهلنا...
ـ قال عطا: ستتكرر الفرحة... ستكرر والمستقبل آتٍ لا محالة، لكننا لا نريد تكرار قصّة أهلنا.
ـ سألته: وهي تعلم أنّه على اطلاّع تام.. هل تعرف قصة جدّتك وأبيك؟
ـ سألها: هل تعرفين قصة أُمّك؟
ـ قالت: عطا يكون عَمّ أُمي!
ـ قال: عطا الكبير هو جدّي!
ـ قالا.. وهما يتضاحكان بمرارة.. عطا من لحمنا ودمنا، لكنّنا لا نغفر له!
قالت زهرة، وتغيّر لونها..
سبقها عطا وأدرك. لا يا حبيبتي.. سبق أن قلت لي: إنَّك أقرب إلى أُمّك، ولا تشبهي والدك!
تمنيتُ أن آخذ شيئاً من ملامحه.. فهو أبي الذي لا أعرف إلاَّ صورته، التي أخبّئها عن أُمّي. رقصوا، وتعبوا، وعرقوا، تقاربوا وتباعدوا. كل واحد كان يُغنّي على ليلاه، ويبوح بما ينسج خياله من حُبّ دفين، وبما تجود عليه ذاكرته من كَرم. لا أحد ينظر إلى الآخر بحسدٍ وغيرة، سوى الهواجس تنتقل بين الرؤوس والقلوب. وعندما حاولت أمل وجميل الاقتراب من زهرة وعطا، دفعت أمل جميلاً، وابتعدا عنهما.
همس جميل: الوقت ثمين جدّاً يا أمل!
فرحت أمل وقالت: سنستغلّ هذه الفرصة.
لماذا؟
ألا تعرف!
تكاثفت أنفاسها العطرة في فضاء ضبابي.. ورأى جميل أنَّ سعادته لا تكتمل إلاَّ بالزواج. فالزمن يمضي بسرعة. ورأت أنَّ سعادتها ناقصة بدون الزواج.
أنتِ جميلة!
أنتَ أملي!
قال: الحياة ساحرة بجمالك، ولولا الأمل لدفن الإنسان نفسه قبل موعد الموت.
قالت: الجمال والأمل عقد واحد للحُبّ..
هكذا تهامسا وتوشوشا.. هكذا تقول العيون وتتكلم... يبدو أنّ حفلتنا حقّقت النجاح الأكيد، فأشعلت فتيلاً ذابلاً منسيّاً، غارقاً في زيته القديم.. ويبدو أنَّ الاشتعال أنار زوايا معتمة عديدة.. نحن بحاجة إلى النُّور.. قال عمر هذا الكلام لزوجه، وتساءل في نفسه أسئلة نهضت في زمن ليس رديئاً كما يصوّرونه، بل هو زمن الخصوبة، فكلُّ آلهة الخصب تَحْضُر الآن، وترقص معنا. عاد وهو يتأمّل عيون الفرح التي تطلُّ متوهجة، تتلألأ في هذا الفضاء المشحون بالسعادة.. كرّر الماضي واستقدمه وزجّه في معركة الحاضر.
سألته سلمى: ما سبب شرودك يا عمر؟
قال: عن أي شرود تتحدّثين. هذا ليس شروداً، بل تأمّلات كانت مسحوقة، والآن رمّمت جدرانها وسقوفها.. وكما تقولين: إنّها ومضات ملتهبة، تتوّهج
في الأعماق..
انظري يا حبيبتي. لقد تحققت أُمنياتك وأمنيات أمل، عندما كنتما تقولان (زهرة لعطا وعطا لزهرة) حدّقت سلمى في وجه زوجها وقالت: هذا اتفاق قديم، لكن هذا الجيل يختلف عن جيلنا عاش مرفّهاً، حُرّاً، عصرياً، تربّى على الموسيقا الغربية والهمبرغر والوجبات السريعة.. إنَّه جيل يطبخ بسرعة، ويفكر بسرعة، لا ينتظر حتى تنضج الطبخة، فإمّا أن يحترق، ويكتفي برائحة الشياط، وإمَّا أن يأكل ولا يشبع.
تفلسف عمر: الشباب هم لغة العصر. إذا لم تكن عصرياً يسحبك السَّيل، وإذا لم تكن عصرياً، تقذفك المياه إلى الخلف. هذا عصر الشباب... وختم حديثه: هما يقرّران في النهاية ماذا سيفعلان، يتّحدان أو ينفصلان.. هذا قرارهما... ودفعها أمامه. حاول، وهما يتأبط كل منهما ذراع الآخر أن يحتلا موقعاً متوسطاً بين كلّ من الحلاقة ومروان، وأمل وجميل.
قالت زهرة: اكتمل النصاب.
وقالت الكوافيرا: يوم سعيد، لطيف، ناصع...
اكتفى مروان بأنَّ وزّع الابتسامات عليهم، وهو رجل يعمل حلاّقاً للسّيدات أيضاً، يعرف، بل ويُتقن أصول المجاملات "الإتكيت".. قليل الكلام، مليء بالحُبّ، فأغرق حبيبته بسيل من العواطف وخلَّصها من مسّة جنونية كادت تعصف بها، لكنّها واجهت جنون ومازوشية زوجها السابق بالصبر فهجرته، وطلّقها بعد ستة أشهر من زواجهما..
عادوا إلى الطاولات. ظلّت الموسيقا تتغلغل في أجواء لطيفة، نظيفة.. أجواء ساكنة، ودردشات.. كل اثنين يهمس أحدهما للآخر وأكلوا وشربوا، وكان الوقت يتسارع والأمل يتقافز، محمّلاً بشحنات قديمة، راكمها الزمن، واحتفظت بها الأيام إلى هذا الوقت.
وقفت أمل وابنتها قبل انتهاء الاحتفال بنصف ساعة. تقدّم الحضور وباركوا لهما، تمنّوا لزهرة ميلاداً زاهراً، ونجاحاً باهراً، ومستقبلاً سعيداً، وأحلاماً دافئة، وقدّموا الهدايا من حَلَقٍ وخواتم وملابس وعطور...
استقلّت أمل وزهرة سيارة أُجرة، وصلتا إلى المنزل، بينما كانت عقارب الساعة تُشير إلى الحادية عشرة ليلاً.
كانتا مُرْهقتين، فرحتين.. أخذت كلّ واحدة حمّاماً لغسل جسدها من العَرق والتعب. نامت زهرة وهي تحتضن دُبّها الصغير.. بينما استرخت أُمّها وتمدّدت على الأريكة المواجهة للتلفزيون، وتابعت مسلسلاً في حلقته الرابعة. وما خفّف من حملها الثقيل المُزمن، وأضفى على هدوئها، وبارك ليلتها، وتوّج فرحتها، هو اقتراب زفافها، وزفاف صديقتها الحلاقة في نهاية الصيف، وفرحت وغسلت دموع عينيها عندما رأت في المسلسل العروسين وهما يحجزان غرفة في أحد فنادق المدينة، فنامت قريرة العين، تستعيد كلمات جميل الذي كان ملحاحاً على الزواج ومستعجلاً في تحديد الموعد...
ـ 26 ـ
بينما كانت شمس الكاب تسقط في الجنوب الإفريقي، كان القمر سيّد السماء، يُضيء ليكشف أسراراً اختبأت في جحورها زمناً، وتجنَّست بجنسيات مختلفة، لكّنها رغم اختلاف لغاتها، وهمومها، وتقرّحاتها، توحَّدت، وتلاطفت، ونسجت أثواباً تليق بزمن جديد زاهٍ.
أجابت نازك ابنها ربيع المتمرّد على عنفوانها، الصَّارخ في وجهها في ليلة كانت حُبْلى بالمفاجآت والنقائض لم تحسب حساباً دقيقاً لها.
لم تتساهل معه، ومزّقت صفحة المسايرة والودّ. خاطبته قائلة: لقد خرجت عن طاعتي فغدوت وَغْداً كوالدك، تُبذّر الأموال كأنّي لم أتعب بها، وقبيل تخرجّك من كلية الاقتصاد أراك تجنح كالطير العائد من الهجرة. فلا أراك مرة واحدة في الأسبوع، ولم تستفد من تجربتي ولم تأخذ من والدك إلاَّ صفة الكذب.. أنت ولد عاق، كذّاب.. تدّعي. أنك تتابع الأعمال في الشركة، لكنَّ عمر لا يعلم عن هذا شيئاً... آسفة جداً، متأسفة على هذا الكلام الذي أخاطبك به...
كان ربيع العائد صباحاً من الملهى الليلي في وسط المدينة، يتمايل، رائحته تخنق الأنفاس، كريهة، حامضة، وعندما فتحت أُمّه الباب الخارجي، تدفقّت، وبَدت آثار جروح في صدره، كأنَّ أظافر امرأة راقصة مزّقت جلده.. قميصه ممزّق.. قالت: أنت لست ابني. لا أعرفك، فدخل وارتمى مُنهكاً كالقتيل، لسانه مربوط، نطقه سيئ يتلعثم، ورأسه ثقيل يتحرّك بصعوبة فوق جسد مُبلّل بالرذيلة والمجون.
صفقت نازك كفّاً بكفٍّ قادته إلى سريره، وعادت إلى حُضن صديقها الجديد، الذي اعتبرته إحدى غنائم معاركها الجنسية، وانتصاراتها الداخلية، وحقدها المتراكم على الأزواج والرجال، لكنها مهما دارت وحارت فهي امرأة شبقة لا تقدر أن تنام على وسادة وحيدة، يهمها أن تضع رأسها على ذراع رجل.. عادت إليه وكأنَّ شيئاً لم يكن! خلعت القطعة الأخيرة من ثيابها الداخلية. جلست على طرف السرير، وكان "ناهد" يكشف عن عضلاته المنفوخة، فنظرت إليه مُسْتغربة، متلهّفة لاحتضانه، ثمَّ قوّس ذراعيه فبرزت عضلاته. قالت في نفسها (إنَّه بطل الأبطال) وحملها بين يديه كريشة، تسلّلت ودخلت في حقل شعر كثيف، ورمت برأسها واستراحت. تتأوّه من سخونة جسمه.
حاول ناهد الذي تعرَّف عليها قبل أسبوع في نادي الشرق الرياضي لجمال الأجسام، أن يشرف على تدريبها، فبعد أن شعرت نازك بأنَّ جسمها ترهّل وأنَّ همومها توزّعت في بقاع شتّى، أرادت أن تُقطّع وقتها وتنشّط جسمها، وأحسنت صُنعاً أنها لجأت إلى الرياضة كما نصحها الطبيب. وكان ناهد كما وصفه صديق لـه "زير نساء"، وهي تبحث عن مدرّب عشيق للرياضتين الجسدية والروحيّة، وأصاب حظّها الهدف من أوّل طلقة، فانتعشت روحها، وأفاقت من سكرة همومها، وفعلاً لم يمضِ أسبوع، شعرت أنَّ بنيتها قويت وانخفضت نسبة الشّحوم وتحوّل اللقاء اليومي صباحاً ومساءً إلى صداقة يبدو أنّها وطيدة وراسخة.. تحوّلت إلى حُبّ خالد كما قالت لـه. ونازك امرأة تحبّ الرجال، وناهد يبحث عن امرأة جميلة، وهو الشاب العازب لا يعرف إلاَّ الأكل المغذّي والنساء والرياضة، ولا يُدخّن ولا يتعاطى المشروبات الروحية، وهو ابن تاجر كبير موصوف بصفقاته وملياراته.
قال وهو يقف أمام الكفتريا يتناول العصير: أوّل الرقص حنجلة! حدّق بامرأة قادمة، تنزل من سيارة فارهة جديدة "موديل العام 2000". هبطت متألقة، تتمايل وهو ينظر إليها، يقيسها من تحت إلى فوق وبالعكس... بيضاء.. شقراء، منفوخة الوجنتين. ترتدي أفخر أنواع الثياب. تعلّق محفظتها بكتفها.. تتمايل بغنج ودلال.. قال: يبدو أنَّها ابنة دلال! وكلما اقتربت منه خطوة، استعجل ودلق جرعة من العصير. استقبلها بترحاب، ودخلت إلى قلبه بلا وساطة، هبطت في مطار روحه طائرة حربية مقاتلة..
ـ قالت نازك وهي تقفل باب السيّارة: كأنّي على موعد!..
ـ سألته وهي تصافحه: أين مدير النّادي أو صاحبه؟
ـ قال: أنا..! هذا النادي ملكي... أخذها بلطف، ودوّرها في أقسامه، وزار الصالات كلها والملاعب، وعرّفها على أنواع الرياضات والآلات. كان خيالهما فوق البلاط اللاّمع الرّخامي ينقل بهجتيهما وسرورهما... أعطاها فكرة واضحة عن التمارين التي تناسب جسمها وعمرها، وقال: تخرجت من أوربا...
ـ سألته: متى؟
ـ قال: منذ خمسة عشر عاماً!..
ـ لك أولاد وزوجة!
ـ أكره الارتباط بالنساء. وأنت؟
ـ سأحكي لك قصّتي لاحقاً... الوقت غير مناسب الآن!
ـ ثمَّ انطلقا نحو المسابح.. واحد للنساء، وآخر مختلط، وثالث للرجال.
فأيهما ترغبين السباحة فيه؟
أحبُّ المسابح المغلقة، المختلطة..
وأنا كذلك.. المسابح الذكورية والأنثوية..
هكذا هي أسرار الكون.. ذكور وإناث، لا أحد يستطيع العيش دون الآخر!
وابتسمت لـه. قالت: يبدو أنّني حصلت على ما أريد، ويبدو أنَّ دمك خفيف كظلّي..
قال: وأنت كذلك، قد أصبتِ الهدف بصنّارتك..أنت جميلة.. ساحرة..
لماذا لم تتزوج؟
كي لا أبتلي بامرأة حمقاء تُعكّر صفاء حياتي.
ألا تعرف كيف تنتقي امرأة تناسبك؟
أعرف، ولكن!
ولكن ماذا يا ناهد؟
الظاهر غير الباطن!
إذاً أنت صاحب تجربة، وأمضيت سنوات من عمرك في بلاد الغرب..
بالتأكيد.. وأنتِ!
تجربتي مُرَّة كالحنظل.. وكالدود امتصَّ دمي، ونهش لحمي.. خرّش جسدي..
يعني امرأة مطلّقة..
أصبت! أنا مطلّقة، وابني شاب أقصر منك قليلاً..
وزوجك!
حكايتي طويلة مع شادي.. طلّقني دون سبب، وهاجر في ليلة مظلمة، وله عدّة زوجات!
كان اللقاء دافئاً استكملاه في مكتبه الأنيق، كمكتب وزير.
تقدّم ناهد. حمل فنجان القهوة، وجلس بجانبها احتراماً لها. تكلّم ببرودة أعصاب وترك لهفته لساعات أخرى. وهو يعرف كيف يتصرَّف بلباقة وهدوء، ولا يستعرض تدفّق شوقه فوراً، كما يستعرض عضلاته، وابتساماته، ولم يبخل عليها بتقبيل يدها. أحسّت نازك بأنّها سيّدة مجتمع، وبأنّه يعرف أصول المجاملة المدنية، ويعرف كيف يتكلم لغة التجار، ومخاطبة الجنس الآخر.
وهي كذلك، امرأة متمرّسة طبقياً، نبتت في تربة برجوازية، وأصبحت اللغة مشتركة بينهما، فتآنسا وتحابا، وتقاربت رؤيتاهما، وقلباهما ولغتهما، وكما تبيّن أنّهما متقاربان في السنّ.. وصاحبا تجارب!
هذا هو اليوم السعيد يا سيدة نازك الذي به سُررت، فمتى نلتقي؟
مساءً!..
ـ أين؟
ـ في منزلي.
ـ وربيع...!
ـ لا يتدخّل في شؤوني الخاصة، فأنت صفقة تجارية.. وكل يوم يزورني كُثر من التجار ورجال الأعمال، وهو تعوّد منذ صغره أن يجالس الرجال. وكما أعطيته حريته، فهو كذلك لا يمسّ حريتي بسوء، ويهمّه المال.. المال كل شيء في حياته!
ـ وماذا غير المال؟
ـ إتمام دراسته الجامعية.. وتسليمه إدارة الشركة، لأنها في النهاية لـه.
* * *
نهض ربيع عند الفجر بحالة أفضل. صحا من سُكْرِه.. اتجه نحو الحمّام، وبعد خطوتين تلفّت إلى الوراء، فكان النّور يشعُّ من غرفة أُمّه. والباب موارب، فصوّب بصره من خلال الشَّق الطولاني، ورأى شبحاً جالساً على سرير أُمّه، عاري الصّدر، يغطّي نصف جسده الأسفل بشرشف زهري. قال: غير معقول، فأنا لا أزال في غيبوبة مجوني! لا..لا! إنّهما جسدان يتقلّبان على السرير.. كأنَّ أُمّي تحتضن وسادتها الزهرية الطويلة، كعادتها.. إنّها تلمع.. الوسادة لا تلمع... فهذا لحم آدمي.. ها.. ها.. قال مقهقهاً بسخرية كالمجنون، وهو يتقدّم نحو الباب: ها.. ها.. إنّه رجل، لكّني لم أرَ وجهه، لا أعرفه.. يمكن أنَّ بَصَري غشَّني.. يمكن أن تكون امرأة، وأني غير متأكّد.. غير متأكّد!
اختلطت الأمور على ربيع.. حسبها امرأة، لأن شَعر نازك كان يغطي وجه ناهد، وبقي ربيع يفركُّ عينيه، ويتأفّف ساخراً من نفسه، والنوم لا يزال عالقاً بعينيه، ولن يبالي.. فدخل الحمَّام وغسل جسده، وظلَّ يدندن بأغنية، ويُكرّرها..
استدركت نازك الموقف، بعد أن سمعت هسيس مفردات لقيطة في أجواء حميمة، فأغلقت الباب وقفلته، وأطفأت الأنوار..
لن تبرح تلك الصّورة ذاكرة ربيع، لكنه في نفسه، بَرَّأَ أُمّه من عمل فاحش لم تُقدم عليه طوال حياته.. قال: لا أعرف أنّها قامت بمثل هذا العمل في الخفاء أنا يهمني المكشوف وكلّ شيء مستور هو ملك لصاحبه، ولو تعرف أُمّي بأفعالي الناقصة وشذوذي، وتهوّري لكانت طردتني من البيت منذ ثلاثة أعوام، هي لا تعرف ماذا أعمل في الخفاء، وأنا لا أعرف، ولا أريد أن أعرف، كي لا أُصاب بلوثة دموية، وأُقدِم على أمر كبير يودي بي إلى السجن. أَطْمَئِن على أُمّي عندما تكون صديقتها عندها، وأحياناً تنام معها، وتسلّيها ليلة أو ليلتين، وهي المرأة الوحيدة التي تزورها..
كانت نازك تدعو صديقتها بعد أن لاحظت تمرّد ابنها وغيابه عن البيت وتشرّده مع أصدقائه وصديقاته... فتدعو صديقتها، وهي مُطلَّقة مثلها، لكنّها أكثر جمالاً وفتنة، ولم تُنجب الأولاد، وكما تدّعي أنَّ زوجها عقيم..
ناما بعمق في تلك الليلة أو ما تبقّى من ساعات، همدا كجمرتين، وأطفأا في لحظة خوف، من أن ينكشف سرّهما. ولاحظت نازك التي نهضت قبل ناهد أنّه في نوم عميق، لم يهتم بما جرى.. قال لها، وكان ابنها قد غادر المنزل، وهما يشربان القهوة والحليب: إذا نفخت عليه أُطيره!
لا يا ناهد. لا أريد أن تُطيّر فلذة كبدي، لكنّي لا أسمح لـه، فيما إذا قبض علينا بالجرم المشهود، أن يُعكّر صفاءنا..
أجاب مازحاً: أحترم شعورك وقدسية جسدك وحُبّك.
تركها ريثما تُجهّز نفسها، وتلحق به إلى النادي. قالت وهي تودّعه: اليوم للسباحة يا ناهد. هزَّ برأسه... السباحة.. السباحة جميلة.
كانت الشمس في هذا اليوم الصيفي حارة مؤذية. كادت نازك تخرج من جلدها. يتفصّد العرق من مساماتها. لم "تتغندر" كعادتها، وسمعت نصائحه عندما أرشدها إلى نوع من المراهم الخاصة بالبَشَرة دون أن تستخدم أي نوع من الصباغات. هذا قبل السباحة.. وبعد السباحة هناك دهان خاص لا مثيل لـه في البلاد... فسمعت منه ونفذت تعاليمه، ودلكت جسمها ووجهها. وقفت أمام المرآة عارية، ودهنت ذراعيها وصدرها وبطنها وفخديها. غدت كالعجينة، طرية كالخسّ البلدي، ثم ارتدت قميصاً حريرياً ناعماً، استرخى فوق قالب من الشمع الناصع.. قالت: (سأدوّخه اليوم، كما دوّخني البارحة، وتركني ذابلة كزهرة انقطعت المياه عنها. لم يترك بقعة في جسدي إلاّ بلّلها بلعابه، وامتصَّ رحيقي، لكنّه رواني من مائه فشبعت، وأصبحت وردة باسقة).
انتظرها بفارغ الصبر. أجرى تمرينات مُجْهدة، وظلَّ يرفع الأثقال حتى نفَرت ونهضت شرايينه كالجذور في أرض صخرية، ودلك جسمه بالزيت البلدي. تركه يتشبّع، ثم حمّمه بالماء الفاتر، وأمضى لحظات الانتظار السعيدة مسترخياً.
أغلق ناهد باب المسبح ونبّه الحارس قائلاً: اليوم المسبح محجوز لشخصين، وعندما أشير إليك بالرحيل، ترحل وتذهب إلى بيتك..
يوصف ناهد كمحضّر الأرواح في خلواته مع النساء من متزوجات ومطلّقات وعانسات، وطالبات جامعيات، يتصيّدهنَّ بصنّارته، أو من طالبات المرحلة الثانوية، المراهقات، فكان يمنع الدخول إلى هذا المسبح حتى إنَّ الحارس أطلق عليه "مسبح ناهد" وحارسه يمنع الذباب من الطيران فوقه أو قربه.. أمَّا اليوم التموزي فهو كإله الخصب بحضور عشتار، لأنه يتصوّر كما اعترف لها، ستكون آخر امرأة في حياته، لكنّها لا تصدّق هذه الدسائس وكانت قد جرّبت قبله رجالاً وكذبوا، وآخرون رحلوا، ومارس غيرهم كثيراً من الدسائس والتحرّقات ولم تحترمهم، وطردتهم.. فناهد كغيره وسيلبس قُبعه ويلحق ربعه..
نسي ناهد كلّ شيء ثمين في حياته. قال لها قبل أن يغوصا تحت الماء: أنتِ يا قوتة ساحرة.. عبَّدت كلّ الطرقات الوعرة ونظفتها من الحجارة والأشواك كي تصلي إلى قلبي سليمة.
كيف أنساك؟ فأنا أحمل شهادة دولية بالجنس وأنت صاحبة تجربة طويلة مع الرجال وكيف دار وحار، وقلّبها. كانت تبدو أكثر جدارة وإثارة.. جسدها مثير للغاية، وستعيد الرياضة إليه توهجّه وأصالته..
كان يحلم في غفوته، أيقظه زمور سيّارتها، فنهض عابساً، حازماً. وعندما قدَّمت يدها، رفعها وقبَّلها، وتحول عبوسه إلى مرعى للعشق، يمتلأ خصوبة وخُضرة.. ومشت بجانبه كدمية،. وديعة كالحمل، داهية، تخرج الكلمات مفردات وجملاً من فمها الصغير، كفم إجاصة مدُلَّلة، تستلقي على غُصن أُملود.
فتح الحارس باب المسبح وغادر، فانحنينا معاً، ونهضنا معاً... أصبح كلّ شيء آمناً! كان ناهد بالمايو.. صدره ينفر، يتقدّم كبطل يستعدُّ للمصارعة، يمشي في سهل مستوٍ. مدَّ أصابعه الثخينة، وحضنت أناملها كأعواد الزّلّ، عاجيّة. فتح أزرار قميصها الحريري، وشدّه من الأعلى إلى الأسفل، فشرَّع دفّتيه، وظهر نَهْدان بارزان ككرتي ثلج ألبيّ، لا تذيبهما إلاَّ حرارة الصَّيف الآسيوي.
خلعت نازك حذاءها الصيفي، وبقي لباس السباحة الوردي، ينوّر المشهد، ويطفو خيالاهما فوق سطح الماء، ولم ينتظرا، فغطسا معاً في مياه دافئة قطعا المسبح طولاً وعرضاً، ذهاباً وإياباً. حاول ناهد أن يضع كفّه على وركها، ويدفعها أمامه، لكنَّ قدمها وهي تخبط الماء لطمته على وجهه، فضحك وسُرَّ من هذه الضربة، وهجم كنسر، ورفعها بين ذراعيه، فاستلقت على صدره كفراشة. قبًّلها بنهمٍ، وقبَّلته بنهم، دَلقت جوعها عليه..
اثنان نهمان في زمن يتدفّق الخير فيه من كلّ جهة.. اثنان لا يرتويان، ولا يشبعان، وبعد جهد خرجا، واستلقيا على سرير مطّاطي، تحيط بهما الورود الطبيعية. فوقهما مظلّة تحميهما من لظى الشمس، وفعلا ما يشتهيان. مارسا الحبُ كما يريدان، وكانت لذّة عمياء لا تبصر طريقها، تقهرهما، ولم يقاوما، فسكرا كأنّهما في غيبوبة، ولم يدريا كيف يتسارع الزمن، وكيف يهبط قرص الشمس وراء ذبول المساء التموزّي، وخلف سور أشجار السرو والصفصاف، وما تبقى من خيوط ضوء تسرّبت بين سوق الأشجار، وأوراقها، ووصلت إلى جسديهما بعد جهود كبيرة، وتفرّعت براعم وأزهاراً.
وماذا بعد أيتّها الغافية في روحي وبين جدران قلبي.. اتركي وردة قلبي تَسْكَر تحت فيئك، وتنمو على رأس غصن من أغصاني. اجعلي سحرك شمعة لا تطفئها الرياح، وبخوراً تدفعه الأنسمة.
كلّ شيء يشتعل ويحترق، هكذا قال، والحُبُّ في حالة تأهُبّ للانقضاض على ما تبقى، وقطف آخر ثمرة. سآكل كل الثمار والتفّاح... سأكون أول مَنْ يتحمّل عبء الخطيئة. أحنُّ إلى جدّي الأول.. فماذا ستفعلين، سأعطيك ضلعين بدلاً من واحد.. قال، وقال، وهي تتلفّت نحوه، وتُداعب شعر رأسه وصدره، وتفتّش عن الكلمات الشعرية في جسده، ولم تجد سوى عضلات كأنّها أثقال من حديد.. تفتش عن مفردات ساحرة، لتدغدغه، فقالت بعد أن ألهمها إله الشعر، وزقزق عصفور شارد فوق الخيمة: أنت رياضي وشاعر ومثقف وبورجوازي. بَنَت كلماتك عمارة من الصفحات والدفاتر، يليق السكن فيها بجانبك. هذا أوّل حُلم يعيش في داخلي، وينمو ويزغرد ويغني تحتَ قُبَّة ذاكرتي، وشغاف قلبي.. تعال نُبلّل ما تبقى من حياتنا برحيق أزهار نائمة.
تنتظر مَنْ يُحركها لتنهض منتشية زاهية، فأنت ذكر النّحل، وأنا الملكة، فانثر غبار طلعك ولا تبخل عليَّ، وامتصّ رحيقي، قطرة قطرة، ففتح فمه، وتباعدت شفتاه، وثغثغ مهووساً كطفل يقترب، ملهوفاً يشدّ ثدي أمّه، ويعضّه، لأنّها عادت من حقل الذرة، وكان وحيداً جائعاً لكنّه لم يجد ما يروي عطشه، ويُسكت جوعه.
في هذا الجو الشاعري، ومع غروب الشمس، لم يبقَ إلاّ النسيم يتحرّك بحرية، لم يبقَ إلاّ العطر، فيدسُّ ناهد أنفه بين ثدييها. يتلذّذ برحيقهما ونداوتها، وهي تتلوى، سكرى، تتفتّح جمالاً أخّاذاً، كلّما زاد عمرها عاماً، أصبحت أكثر فتوةُ ونضارة.. لم تَعُد حقلاً مهجوراً، تعبث به الرياح، مُصاباً باليباس، والتشرّد، فالساقية تغوص في أرضها، وتهسهسُ، وتركض المياه مسيلات، تنحدر إلى الأودية، تتغلغل بين أعشاب القلب وحشائش الذاكرة، وتحفر في غمازتيها دروباً للعشق الأبدي...
هكذا... بقي الغزل الرفيع طليقاً، في فضاء تسكنه الفراشات والعصافير، وبقيا يتغازلان، ويذوبان في الطريق الطويلة الممتدّة من المسبح إلى مطعم غربي المدينة، وصعدا عشرين درجة، فجلسا، وتنفّسا بعمق، وكانا جائعين، فأكلا وشربا وكان الليل، وكانت الهمسات تتأجج، خلاّقة، معرورقة، تدفعهما للرحيل!
ـ27ـ
توزعت الكراسي والنفوس والرؤوس والفؤوس في أمكنة متباعدة. ومتقاربة.. ومعها كل الأشياء المُعلنة والمخبّأة.
كلّ من هؤلاء الشخوص يتحرّك في دائرة خاصة به. قال عمر وهو يُعيد قراءة دفاتر الحسابات، وعندما حمل دفتر الشيكات وسحب من البنك ربع مليون، كانت نازك بحاجة إليها لترميم ما تهدّم من عمارة روحها... قال لها وهو يشرب الشاي: كل الأموال المسجّلة باسم شادي نُقلت إلى الكاب.. وكل الصفقات التجارية والسياحية سيطر عليها يا سيدّتي الكريمة، وهي تساوي عشرة ملايين وأكثر.. لم تُبالِ السّيدة، فردّت عليه بإجابة مقتضبة: أعلم.. أعلم... ولكن!...
تركها... انسلَّ بهدوء، يتعثّر بالماضي وبسني القحط والخصب، والخير والشرّ، يستعيد القصة.. الأسطورة، في زمن لم يَعد فيه للخزعبلات والشعوذات مكانةً، لكن البشرّ، أصبحوا أكثر ذكاء وأكثر غدراً.. لقد غدروا بي... كلّهم غدروا بي، وتركوني أسبح في بساطتي وسذاجتي، لا أُحرك المياه الساكنة... سأبقى رغم الفاجعة كما أنا. حَمد وشكر ومشى إلى سيارته التي تكرّمت نازك وسجّلت الميكانيك باسمه. قال: هذه مُلكية لي، هي الوحيدة التي أكسبتني شرعية قيادتها، وتفحَّص كفّيه. شعر بسعادة لأنهما لا يزالان نظيفين. مَسح الخطوط والتجعُّدات المرسومة فوقهما، وحدّق مليّاً فيهما، فلا غبار عليهما.. إنهما نظيفان.. نظيفان، فزالت الأخطار المغبَّشة، واطمأنَّ أكثر، وتزاحمت الحكايات والأحاديث. وكان الماضي خالداً في ذاكرة أمل لأنه يشكل نسيج حياتها وكما قالت: لا تكسّره الرياح العاصفة، ولا تُحطّم صخوره المطارق المصنوعة من خشب صلب، وحديد مفولذ، وحاضر تتحوّل فيه الانتهاكات إلى جزء منه، يصعب يا عمر إزالته بسهولة فهو يشكل طبقات شحمية من الدهون لا تذيبها من شرايين الروح والدم إلاّ مكاشط حادة، وهذه غير موجودة يا بن عمّي، فقد انتصر شادي وكانت مبارده المخرّشة، تزيل وتُرحّل وتدفن آمالنا... هل هي لعبة الكراسي؟
* الكرسي الأول: هو الكرسي الوحيد الباقي الذي كانت تجلس عليه أمُّ شادي قبل موتها.. كرسي من قشّ مجدول يُسجَّى في شرفة مهجورة.. كرسي في فضاء مفتوح لا يتحرّك، لكنه ينتظر مَنْ يجلس عليه ويُحاكيه، سخيَّا في عطاءاته، كريماً، تحمّل انتهاكات صاحبه طوال عقد من الزمن وبقي صامداً، يتعرض للشمس والمطر والغبار والرطوبة..
لم يصبر شادي، فتركه وانغمس في لذّة متناهية بشراهتها وتركه، وترك زوجتين جميلتين، ورضيعين وهاجر، ولعن كل الأشياء الجميلة، وساعة تزوّج فتسلّق كما كان يدّعي سُلّم المجد اللاّنهائي. فاض جسداً وروحاً وخيالاً، ولم تَعُد الدنيا تتّسع لـه. لطم الجمال بحذائه... لطم رأسه، وأغلق كل الثقوب، وشطب النظريات والأفكار التي كان يقرؤها ويؤمن بها...
كرسي في شرفة منزل مهجور في (عين الكرش) قرب السبع بحرات، عندما داهمته دورية مسلّحة من الأمن الجنائي، كان الغبار يغطي الباب والنوافذ. وعندما سأل رئيس الدورية الجيران: قالوا لـه: لم يطرق الباب أحد منذ أكثر من عقدين، ولكن... منذ فترة ليست قصيرة بدأ يتردد إلى المترل امرأة ورجل وأحياناً نساء ورجال، قالت المرأة: وعندما سألهم زوجي، أخرجوا عقداً للإيجار مذيّلاً بتوقيع شادي.. فسكت زوجي، وظلّ يراقب الداخلين والخارجين إلى أن بدأت تفوح من المكان روائح شواء، وتخرج أصوات، فكان يتلصص، واكتشف أنَّ المترل أصبح مكاناً للرذيلة، فأعلمكم، وهو الذي اتّصل بكم...
قالت المرأة: إنّه رجل مهووس. نظر إليها رئيس الدورية وقال: مَنْ هو. قالت شادي، صاحب المنزل.
ـ أين هو؟
ـ مهاجر... مسافر... لا أحد يعلم...
ـ ماذا كان يعمل؟
ـ مدرساً... تاجراً... مهرّبا... لا أحد... يعلم عن عمله... ولكن...!
ـ ماذا؟... ولكن!
ـ سرعان ما ظهر عليه الغنى... وأصبح يقود سيارة.. و.. و.. يقال إنه يتعامل بالدولار في السوق السوداء... ويقال أشياء كثيرة، هكذا كُنّا نسمع، لكن أحداً من الجيران لا يتعامل معه.. الجميع قاطعوه في السنين الأخيرة.
ـ لم تكن مفاجأة بالنسبة للدورية، لأنه ليس البيت الأول الذي تكتشفه، وكلّ يوم يحصل ما يحصل، وما أكثر هؤلاء.
وعندما طرقوا الباب، تجاهل مَنْ في الداخل الطرقات، أو كانوا في نشوتهم وممارساتهم، فاضطر الجنود للدخول بعد أن خلعوا الباب...
الجدران مغطاة بصور نساء عاريات، وفي المنزل كان أكثر من جهاز تلفاز وفيديو.. روائح تعشّش في فضاء البيت. توزَّعت المجموعة في ثلاث غرف وصالون: أربع نساء وأربعة رجال، مُخدَّرون يُهَلْوسون. أنوار ضعيفة. دُخان سجائر وأراكيل... فضاء ضيّق يختنق.
كما خلقهم ربّهم... يسترخون أمام الشاشات، يتفرجون على أفلام جنسية، ويمارسون.. وسيرنكات وإبر واخزة، وأدوات للوشم، وفناجين قهوة وبخور ومشروبات روحية، وأطعمة طازجة من لحوم ومتبلات وسلطات ومكسّرات ولوازم سهرة طويلة، وآلة لتزوير العملة وجوازات السفر، وصوراًً ونقوداًً أمريكية وأوربية وجنيهات إنكليزية ومصرية وسويسرية، صحيحة ومزوّرة.
أربعة ذكور، وأربع نساء، يتقاربون في الأعمار والأشكال، فشعور بعض الرجال طويلة، يربطونها خلف الرؤوس بمطاطات، وبعضهم رؤوسهم حليقة "زيرو" كانت تلمع تحت الضوء وبين النساء، حسب التقرير الأوّلي والمشاهدة الأولى للضابط رئيس الدورية الذي وصف المشهد في إحدى المقابلات التلفزيونية: كما في أسواق العُراة تماماً... عصابة لها امتدادات، كما بيّنت اعترافاتهم، حتى خارج البلاد، لكنها قبل أن تستفحل وتتفشى جاءنا أكثر من خبر من الجيران، ومن المخبرين الشعبيين والمراسلين في الأحياء، فحواها (تتردّد جماعة مشبوهة على بيت في منطقة سكنية راقية وسط المدينة، وبعض الأفراد انتقلوا من أطراف المدينة).
بقي كرسي القشّ في الشرفة فارغاً. كان شاهداً على ما يجري خلال ثلاث فترات زمنية" أم شادي.. شادي.. البيت المهجور..."
وهكذا انتشر الخبر في الصحافة، وتناقله الناس بصيغ متباينة، منهم من ألّف وزاد، وبعضهم طوّره أكثر وجعله كالأخطبوط لـه جذور وامتدادات، وهناك من اكتفى بما قرأ في الصحافة، التي نشرت صورهم أيضاً، وأظهرتهم الشاشات أمام الملأ.
كانت صورة شادي بارزة في زاوية، واضحة بالألوان. كنتُ تحتها (رئيس العصابة، المهاجر، صاحب البيت..) وذكرت الصحف عمله السابق وسَلْْسَلت حياته منذ طفولته، وحققت مع أصدقائه المقربين، ودرست ذاتيته في الثانوية التي كان يُعلّم فيها. وجمعت المعلومات من الجيران وأصحاب الدكاكين، ومن "الكافتريا" التي كان يتردد عليها... وألحقت الريبورتاج في حلقة ثانية بتحقيق مع عمر وأمل ونازك وأليس وبعض العناصر العاملة في المشفى الإيطالي، وصاحب مطعم أهلاً وسهلاً في دُمّر... وكل مَنْ لـه صلة من قريب أو بعيد معه..
قال بعض أصدقائه: إنهم يعرفونه على مقاعد الدراسة، مثال الطالب والأخلاق، وبعد المرحلة الثانوية لم يلتقوا معه.
قال آخرون: نَقي كالثلج... متابع الأخبار والصحافة والإصدارات الجديدة. سليم الجسم والعقل..
صاحب أخلاق رفيعة، هكذا نعرفه... ولا نُصدق الإشاعات... إن الصحافة مُغْرِضة، وإنَّ الصحافيين يستخدمون لغةً للشهرة والتسويق الإعلامي!..
قال أصدقاء علّموا معه: كان مزاجياً. تتباين مواقفه بين ساعات وأخرى، كأن هستريا تنتابه، وعندما يشعر بها يتناول حبّة مورفين (عيار 5 ملغم)، ويقول: صُداع.. صداع يا جماعة يأكل رأسي. قال الأطباء: هذا الألم سببه الشقيقة، وقال طبيب اختصاصي، وهو الذي عالجه طويلاً: أعصاب.. أعصاب شادي لا تتحمّل... يُعاني الرجل من لوثة نفسية فهو نرجسيّ،خياله جامح، وأحلامه كبيرة، وأفعال تحققها قاصرة، عرجاء. يجب مراعاته، ومراجعتي كلّ شهر كحد أدنى، لأتوقف على النتائج، لا تتركوه وحيداً، فهو بحاجة إلى رعاية يومية.
آخرون من معارفه، ظلّوا صامتين، خوفاً أن تطولهم المساءلة في المستقبل، لكنّهم كانوا يراقبون النتائج بحذر شديد.
* كرسي التحقيق:
حضر في الصباح كل من تبلّغ للشهادة، إلى مقر الشعبة الجنائية، وعندما وصل المهندس بشير، دخل إلى صالون واسع، وكان قد سبقه عمر وأمل ونازك.
جلس بشير على كرسي من الجلد الأسود، مقابل الضابط المحقق، ولم يدر سبب دعوته.
تقلّبت في رأسه أسئلة وأسئلة. هل يا ترى لأنّي عاكست المدير العام، أم التحقيق بشأن لجنة المشتريات، لكنّه اطمأنَّ، عندما رأى وجه المحقق البشوش. وطلب لـه فنجان قهوة.. سأله المحقق: كيف قهوتك يا مهندس. أجابه: على الريحة. وبدأ يوجه الأسئلة، وبجانبه كاتب يسجّل أقواله.
حكى بشير كل ما يعرفه عن الرجل إلى أن وصل إلى قصة حُبّه، وعلاقته مع أمل وأبيها، والمشاكل الناتجة، وقال: منذ أعوام لا أذكر عددها خمسة.. عشرة.. أكثر، لم أرَ وجهه..
دقّق المحقق كثيراً في العلاقة بين أمل وشادي. وكتب ملاحظة على هامش الإضبارة...
وقال لـه: عندما، نُحتاجك، نُعلمك عن موعد الحضور... وودّعه...
دخلت زوجة شادي أم زهرة, استقبلها المحقق ورحبّ بها... دعاها... تفضلي اجلسي.. وتكررت الأسئلة.. سَردت أمل قصتّها مع شادي.. قصة حبّها... زواجها... وركزت على حالته النفسية، وهذا ما يريده المحقق...
قال المحقق: ستدخل نازك، فلا تتحركي من مكانك...
لقد انتهيت سيدي...
ستستمعين إلى شهادة ضرَّتك!
أعرف ماذا ستقول...
ودخلت نازك، وكان ناهد ينتظرها في سيارته في الشارع.
جلست على كرسي يقابل كرسي أمل...
لم تنظر إليها. بقي وجهها مشدوداً إلى أسئلة المحقق، وأجابت إجابات مختصرة، وأشهرت ورقة زواجها، وورقة طلاقها...
وخرجت الزوجتان المطلقتان، ودخل عمر، وهو أكثر معرفة بشادي. وعندما جلس للتحقيق، قال للمحقق: سأتكلم كلّ شيء بدون أسئلة. وفتح كتاب
" الكاب" وقدّم صورة لشجرة العائلة، مشيراً إلى عطا، وهو سبب رئيس لكل ما حصل ويحصل الآن... وقال لـه: إنّ عطا رأس الحربة، وهو الزعيم الأول لهذه الشبكة... وكشف عن الاتصالات السرّية بين عطا وشادي، وهو يكشف عنها للمرة الأولى، ولا أحد يعرف بها. وأبرز الرسائل التي كانت تصل إلى الشركة... أبرز صوراً عنها.. موثّقة، مؤرَّخة، واضحة... وقال أخيراً: أفرغت لكم سيدي جُعْبة ملأى بالمعلومات، وهي الحقيقة كاملة دون زيادة أو نقصان!
* هامش أوّل:
احتفلت نازك على طريقتها بهذه الأخبار التي شرحت صدرها، فانطلقت في صباح اليوم إلى الشاليه الذي تملكه في الشاطئ الأزرق، ورافقها حبيبها ناهد. وكانت وليمة حافلة بالانتصار، وليلة حمراء قرب البحر، حضر فيها ملائكة الحبّ والسحر، وقرّرا موعداً للزفاف.
* حاشية على هامش الحدث:
كانت أمل وجميل أكثر هدوءاً وحكمة من غيرهم. استقبلا الخبر بذهول، لكنهما صمّما على عدم التسّرع بالُحكم، وانتظار التحقيقات.. اكتفيا بدعوة زهرة. جلسوا ثلاثتهم في تلك الليلة يتدارسون الموضوع، وما سينتج عنه من مضاعفات..
قالت أمل: عرفت مصيري. أنا أوّل من اكتشف هستيريا الجنون، والعَظمة المجنونة والغرور الذي كان يعصف بروحه وبفكره. أعترف أنّني للمرة الأولى أقول هذا الكلام الذي خبّأته عن المحقق، خوفاً من اتّهامي بالسكوت عن الخطأ، وحصول ما لم يكن بالحُسبان، فوجدت في جيبه كبسولة من الحبوب، ومرّة ثارت أعصابه وبدأ يهلوس، ونحن في الكفتريا في ليل ماطر جميل، فارتبكتُ، واحترتُ ماذا أعمل، لكنّه حلّ المشكلة وانزوى في زاوية في المغاسل، وكنت أتابعه، وعاد أكثر هدوءاً... لكني تركته يشعل سيجارة وبحجة مقنعة، وهو أصلاً لا يسأل، دققتُ في سلّة المهملات، فوجدت "سيرنكاً"... عرفت آنذاك سرّ هدوئه، ولم أقتنع بما ادّعى أنّه تناول مُسكّناً للصُّداع، وظلّ الشكُّ والظنُّ ينخران في رأسي إلى هذا اليوم!
* حاشية ثانية:
بكت زهرة بكاءً مُرّاً. تجمرَّت عيناها واحترق فؤادها. قالت: أنا خائفة يا أُمّي... خائفة جدّاً أن أكرّر تجربتك... هذه العائلة أصبحت تُرْهبني.
احتضنتها أمل وشاركتها في البكاء، قائلة: ليس كلّ آل حرمون يا بنتي. لو تعرفين بساطة جدّك وإخلاصه وحبّه للعمل، وتضحيته الكبيرة، لما كنتِ تقولين هذا الكلام... عمّي عطا هو سبب المشاكل، رضع الشر، ونفث السُّم. تركنا نغمس عواطفنا في صحن طعامه، وهرب، وورّثنا لنا الشرور والمصائب، إنه يستحقّ اللعنة.
استطاعا (أمل وجميل) أن يواسياها، ويخلّصاها من هذه الدفقة الحزينة التي نزلت عليها كالصاعقة. استطاعا أن يُخفّفا عنها صدْمة الخبر، وسمحا لها أن تكمل حديثها. قالت: لن أغفر لـه، ولن أغفر لعطا عمّ ماما. لن أغفر لهما، سنقاضيهما في المحاكم المحلية والدولية، لما عملاه، وما فعلاه فينا، وأنا حصيلة تشويههما. أنا حصيلة هذا الخطأ الكبير، وهذا العمل الإجرامي، لكنّني لن أستسلم...
* حاشية ثالثة:
وصلت الأخبار متأخرة إلى الكوافيرا ومروان، فهما أصبحا يعملان في صالون واحد. ولم يُدقّقا في الأمر كثيراً، رغم ما أثارته هذه القضية على كل الأصعدة من حركات وتفاعلات وأقاويل وحكايات. وهما يجهلان الأسباب والأفعال، لكنهما كانا خائفين، وحسبا ألف حساب، بأنَّ لهذه العصابة السوداء، امتدادات أخرى، خارج حدود الحيّ، وفي الوقت نفسه، طمأنا نفسيهما بأنَّ المدينة آمنة، هادئة، وهذه كما قال مروان: حالة شاذة عن القاعدة.
* هامش ما قبل الأخير:
نقل عمر وهو يجلس على كرسيه كالعادة، ويُحرّك جسده في اتجاه الدوران. تقابله زوجته سلمى، وعطا الصغير وابنته... قال: هل سمعتم آخر الأنباء؟
ضحكت سلمى: أوجز.. لا تمطّها، فنحن بغنى عنها الآن!
سأوجز كما ترتئين: لا أتجاوز رغباتك. لكنَّ الأخبار ستسرك.
ردَّدوا معاً: نعرفها! شادي وعصابته، ومفاتيح شقّته التي سلّمها للحكومة. ونعلم أن عناصر الجنائية فتحت الشًقة، ثمَّ ختمتها بالشمع الأحمر، وتركت كل الموجودات فيها، ولا يزال التحقيق جارياً...
هذا صحيح، وأنتم تتابعون كلّ ما يجري...
وماذا ستقول؟
هذا ما نُشر في الصحافة، وظهر في التلفزيون، ولكن الخبر الهام.. وسكت.. حاول أن ينهض عن الكرسي..
لا تتحرك يا عمر قالت الزوجة!
وقف الأولاد، وشدّوه من منامته وأعادوه مخفوراً إلى مكانه.. نريد أن نسمع.. لا تتكلّموا... أصغوا جيداً...
قال عمر:
الأنتربول يبحث عنهما...
وعن جدّي، قالوها باستهجان!
نعم! جدّكم هو سبب كلّ هذا! ونقلت هذا الخبر صباح اليوم جريدة (الحياة) وجريدة (الشرق الأوسط). وكتب افتتاحية "المحرّر"، صاحبها ورئيس تحريرها "نهاد الغادري"، تحت عنوان عريض (رئيس عصابة يُكتشف بعد عشرين عاماً... وراءها دوافع استخباراتية عالمية... المهاجر المليونير وصهره... ارتباطات خارجية!)
وتريدون ألاَّ تسمعوا أنباءً طازجة!... قال عمر، وغداً سأزور قبر جدّتكم وأضع عليه الورود والغار، لأنها كانت مغفّلة، مراهقة، ولا تدري، ومن أين لها أن تعرف بهذه الأمور، وهي المرأة الجاهلة، الشغّالة في بيوت النّاس! لقد غدر بها وغدر بنا!
صمتت الكراسي... بقيت في أمكنتها، فارغة، تعبث في قشّها وجلودها وبلاستيكها وتتطاير الأفكار العائدة من وهج الذكريات، تلك الأفكار المنسيّة الهائمة في فضاءات كانت مخنوقة، وأصبحت مشرّعة الأبواب.
صمت الجالسون عليها.. تحرّكت هواجسهم، ونهضت من تحت فرِاء ذاكراتهم، انبجست من مسامات جلودهم، فرحة، متألقة، ضاحكة...
ردّد بعضهم: ذاب الثلج وبان المرج...
قال آخرون: ظهر الحقًّ وزهق الباطل...
وآخرون قالوا: لا يصح إلاَّ الصحيح...
انطلقوا بعد هذه الأيام الملأى بالأحداث والأخبار المفاجئة، وبعد أن ارتاحوا من عبءٍ كبير، وحمل ثقيل، أرهق النفوس، وخرّب الرؤوس.
وصمّموا... تعهّدوا لأنفسهم تصحيح الأخطاء إن وقعت في وقتها، وعدم تركها تنساب في جريانها، وتفيض، فتهدم كل ما بني بعرق الجبين...
عادوا إلى أعمالهم، ومواعيدهم، وبيوتهم، لحفظ ما تبقّى من أسرار عائلية... عادوا إلى شرفاتهم وقهوتهم، وإلى ذاكرتهم، وتنشيطها، وعاشوا في حُبّ، نفضوا غبار الكسل واتجهوا إلى الجدّ في مسارب الحياة... وكانوا ينهضون مبكّرين يشربون القهوة في شرفاتهم، وملؤوا الكراسي الفارغة، فأصبحت، عامرة بأهلها وأحبابها وأبنائها.
وتسمو الأجواء، تُخيّم حُبّاً وسحراً... كانت الفرصة سانحة الآن لعودة العصافير إلى أقفاصها، تطير متى تشاء وتعود كما تشاء لأنَّ الأبواب تُرِكت مفتوحة، ولم تُغلق النوافذ بعد الآن!
ونُزِعت الأشواك الواخزة، الدامية من القلوب التي عادت إلى تألّقها.
قالت أمل وهي تودّع خطيبها جميل: رُبَّ ضارة نافعة. واقتربت من سرير زهرة، فوجدتها تُخرِج صورة شادي من تحت الفراش، وتنتّفها، وكانت أمل مواسية لها، وساعدتها فجمعت النُّتف وألقتها في سلّة المهملات. وابتسمت لها، وأثنت على ما قامت به: لقد أصبح شوكة في جسدينا، وها نحن أولاء نسحبها بسهولة، ونلقيها في القمامة.
بدأت أمل تنتقل وتتمشّى في المنزل، تقيس طوله وعرضه، ثمَّ تقف في صدر الصالون، كأنها على خشبة مسرح القبّاني، تظهر في آخر مشهد من مسرحية بعنوان "رمال فوق الرمال".
وينتهي الفصل الثالث منها، وينجح الممثلون نجاحاً كبيراً. وقبل أن يُسدل الستار، حملت أصيصاً من الشرفة من النوع الفخاري، مملوءاً بالرمل الناعم، وفي وسطه تفتّحت توّاً، واشرأبّت. وكانت الزهرة تكبر وتكبر، وهجمت على أمِّها واحتضنتها، وتشابكت الأيدي، وتعانقتا طويلاً في روعة الحُبّ الأمومي، وروعة المساء، والليل الهاطل كالمطر يضيئه قمر ونجوم، وتُحطّم زرقة السماء أكثر المناطق غَلَساً وعتمة، فتبدّدت المخاوف، وانتصر المسحور على الساحر، وتمزّقت الأحجيات والتعاويذ والحُجب، إنها أسطورة جديدة تدخل في أعماق الأحداث، ورثوها من أصولها الهوميروسية...
وانتصبت بينهما زهرة حمراء في أصيص فخّاري... ستقول لهما الشمس في الصباح: صباح الخير أيها العاشقان. صباح الخير يا مساءات حيّ العمارة العتيق، ويا أيتها المدينة الغارقة في أوابدها ومشاعلها. ما أجمل هذا الدفء، وهذا الحنان!..
قالت زهرة: أراه يا أّمِّي يتدفّق من خدّ الشمس، وينزل علينا سلوى وثلجاً وخيراً... يتقطّر ندى وبخوراً ومسكاً وضوءاً... فأنسَيْ يا أُمي... انسى يا حبيبتي أوجاعك، فأنا أحبّك وأنا متيقنة أنَّ حُبَّكِ لي عظيم...
كوني سعيدة يا أُمّي، واتركي قلبك قرب قلبي. اتركيهما يفرحان معاً ويتعانقان معاً نهاراً وليلاً، فهما حارسانا، والشمس قد اختارت هذا الصباح من بين كل الصباحات لتشرق علينا...
علينا فقط. انظري إلى أشعتّها كيف تتسلّل بشوق وغيرة ومحبة، تسقط كخيوط الذهب، تدخل من النوافذ، ومن كلّ الجهات، كأنها تدور حولنا وحول الأرض... أرى الأرض ثابتة لا تتحرك بعكس ما قرأت في كُتب الجغرافية. دوري معي يا أُمّي، فأنت الشمس وأنا الأرض. باركيني.
إلعني الظلام. إنها كعاشق يسرق همساتنا ويخبّئها عنَّا، ولا يُطلق حرّيتها إلاّ عندما نحتاج إلى مؤانستها ونداها...
كانت أمل مُفعمة بالحبّ... أزالت زهرة بخطابها المتدفق من وجدانها وقلبها، الطبقات الكلسية الجاثمة منذ سنين على صدرها. قالت: تعالي يا حبيبتي.. تعالي اقتربي منّي...
وجلستا تتعانقان من جديد، وتتابعان نشرة أخبار الحادية عشرة ليلاً وكانت المُذيعة السمراء، الجميلة، توجز نشرة الأخبار. قال المذيع: بعد هذا الموجز ستتابعون أخبارنا بالتفصيل!
ـ 28 ـ
قبل شروق الشمس بقليل، وقبل أن توزع وشوشاتها على المعامل والبيوت كان الحلم يحفر بأنامل شائكة في ذاكرة شادي، علّه يصحو، لكنه لم يستجب للنداء.. وعندما طَرَق بقوة على باب قلبه، نهض مرتبكاً، لاهثاً.
أول مرة منذ عقدين في اغترابه، ينهض مشمئزاً، كارهاً كلّ النداءات، والصيحات الداخلية، وكأنّ شعوراً ما ينبّهه، ويستفزّه، فأصدر صوتاً غائماً، يُنبّئ عن خوف دفين، فتعرَّق، وتبدّلت ملامحه، عندئذٍ نهضت زوجه "ماغي". قفزت من السرير، كأنَّ أفعى لدغتها، وبدأت تمسح عرقها أيضاً، وسرعان ما أحضرت الماء، وتهامس الزوجان.. تمتما، ولا يزالان في قلق مشوب بالحَيْرة.
حكى لها حلمه، وحدثته عن حلمها، وما يجول في داخلها.. حلم واحد كحبّة الفول، المقسومة.. حلمان يكمل أحدهما الآخر.
قالت ماغي: أقف على صخرة عالية، تطلُّ على جرف عميق، وأنا أطير في الهواء، وأهوي.. سأحضر آلة الضغط، وأقيس دقات قلبي.. إنها ليلة هوجاء، ساخنة.
وبصعوبة نزعت ماغي الكلام من فم زوجها.. كان صامتاً. الصور حيّة، معرورقة، محمولة على أجنحة السرعة، عائدة من الماضي تتراكض من دمشق، طوَّقته بدائرة من الفُُجر والعُهر، كما قال لزوجه، ولم تفهم قصده من عودة الماضي بعد عقدين مشحونين بالفرح والاستقرار والإنجاب، والنسيان، وموت الهواجس بعد هذا الثراء والعيش الرغيد.
التصقت ماغي بزوجها. قبّلته قُبلة الصباح كعادتها.. ارتاح الرجل. تنفَّس الصعداء، ثمَّ تركته، وبعد عشر دقائق، جاءت تحمل صينية القهوة، والحليب والعسل.
أطلّ شادي من النافذة.. ترك الحُرية لبصره، يتقافز فوق رؤوس الأشجار، ويتغلغل في الحديقة المجاورة لقصره القرميدي. كان يراقب خيوط الشمس، وهي تزحف ببطٍ، وتعكس ألوانها...
همست ماغي بحبّ، ولاصق وجهها وجهه، وقالت: منذ زمن لم تقف هكذا.. إنها تأملات شاعر كهل، يستعيد مجداً، ويبث حلماً.. وضعت يديها على كتفيه.. سايرته ودفعته، وبينما هما على هذه الحال، رضي الرجل استرخى، وندت منه ابتسامة خرساء. كررت أسئلتها، فاضطر للإجابة، لإسكات دهشتها من هذا الصمت..... الذي ينمُّ عن قلق عميق.
لم يكن يدري أنّها بدَّلت ثيابها، فظهر جمالها، وفاحت رائحة طيبة من عنقها فاستغرق، بل غرق في دفئها وصباها..
هل الحلم مزعج يا حبيبي إلى هذه الدرجة؟
أنت تقهر الأحلام. لا أعرفك بهذا الصَّمت، وبهذا القَدر من الرضوخ لحلم أحبُّ أن يُجرّبك، وأن يختبر رجولتك وشجاعتك.
قطع أسئلتها، وحديثها شريط طويل من الأسرار والأفكار المكرورة... سرح شادي في بطون أودية المال، ومخادع النساء، وخصوبته التي تراجعت.
قال: لا تبالي، فهو حلم عابر، مشحون برغبات دفينة، وأقاويل مهزوزة.. ارتخى رأسها وانحنى، وهي تدلق القهوة.. قالت لـه: كل الأحلام متشابهة، تأتي أحياناً في ساعات القلق، ولا يجهضها إلاَّ النسيان والقفز فوقها دون مشورة أحد، لكنّي أرى قلقاً آخر، من نوع جديد. أشعر أنَّ أمراً مدهشاً، غريباً، لا نتقبّله، سيلوث حياتنا، وينسينا ما نحن فيه من اطمئنان وسعادة.
ومهما تلوّنت الأحلام، وارتدت ثياباً من موضة هذا العصر، فهي لا تتقبّل جسداً مهتزاً، تتلبّسه قشعريرة سوداء، مازحها شادي عندما أدرك جدّيتها وإلحاحها، ومتابعتها، كأنها تحفر دواخله بإزميل، وتردم حُفراً تركها خلفه في دمشق... قال في نفسه: (إنّه حلم متوعِّك، ارتفعت، حرارته، فنقز، وخرج من مخبئه. أطلّ برأسه من نافذة الماضي كي يذكّرني.. فقط، بأنه فيضان من الذاكرة ولم يقدر أن يّدْرأ هذا الخطر، وكلّ السدود والحواجز الترابية والأسمنتية التي وضعتها في مجرى النهر لا جدوى منها..)
أُفضل أن أموت بعد هذا الجموح، كالحصان، فعندما لم يَعُد قادراً على الحركة، كأن تُكسر إحدى قوائمه، يطلق صاحبه عليه طلقة الرحمة.. هكذا أنا يا ماغي.. أنا حصان جامح.
كنت سادياً. عذبت نفسي، وعذبتُ الآخرين معي. نجحت كصياد جرذان الحقل، فكانت فخاخي تقبض على النساء، تعطب أجسادهنً، وتُحاصر أرواحهنَّ بين يديَّ. فتحققت أحلامك النارية. سرعان ما أنجزتِ مهمّتك، ونجحتِ في التسديد على الدريئة في حقل الرماية. أما أنا فتحوّلت من المكر إلى الذئبية، وكنتِ الزوجة الثالثة في حياتي.
ليس هو الحلم المتوحش الذي سارع لإزعاجي في هذه الليلة.. لقد جاء مشحوناً، يودّ إركاعي، وإذلالي.. إنهم يا زوجتي الحبيبة يبحثون عنّي منذ شهور، ويترصدون تحركاتي، يجمعون المعلومات عني، لكنهم لم ينجحوا لتشابه الأسماء، لكني لا أريد الاستسلام بسهولة. أصبحتُ في حماية رجل داهية في إفريقية السمراء لـه من النفوذ ما يُرهب الحكومة نفسها.
أدركت ماغي صعوبة الموقف، وجدّيته، وظهرت حقيقة هذه الأحلام المُختَلقة، تغير الموقف جذرياً، عندما دخل والدها، مبكراً، وليس من عادته زيارتهم في مثل هذه الأوقات...
نهض الزوجان. استقبلاه بترحاب. كان مُتجهّم الوجه. يقطر السُّم من أنفه، يتلبّسه عبوس مارد أسود.
حاول عطا أن يُضفي على الموقف لوناً آخر، وأن يُقلّل من أهميته، وفعلاً حقّق شيئاً من هذا، فابتسمت ماغي، وانشرح شادي. شعر بأنّ عمّه أفرج عن همومه...
باح لهما بصراحة، وقال: زارني في هذا الصباح في مكتبي رسول من "الأنتربول" وهذه الزيارة الثالثة، لكنّي كنتُ أحتفظ بهذا السرّ، وفي الوقت نفسه أُجهّز البديل لإنقاذ صهري من هذه الورطة التي أصبحت على مستوى "الأنتربول الدولي"...
في هذه المرّة بلَّغني الرسول بشكل رسمي، دون أسئلة كثيرة، لإحضارك موجوداً، وترحيلك فوراً إلى دمشق، فأكثر من دعوى ضدّك، وأكثر من شكوى من قبل زوجتيك المصونتين، حتى إنّ الأمر وصل إلى ابنة أخي أمل، وابني عمر.. لا أعلم شيئاً عنهم، وكنتُ ألتزم الصمت عندما كشفتَ قسماً من أسراري القديمة، لكنّي اليوم سأقف إلى جانبك لأنك والد أحفادي، وزوج ابنتي الوحيدة الغالية، والأخطر ما وجّه إليك من اتهامات أخرى في تجارة المخدرات وإيواء نساء عاهرات في منزلك، لكنّك استطعت أن تهرب بجلدك قبل اصطيادك مخفوراً.
سأله شادي: ما العمل يا عمّي؟ كيف سأواجه هذا الموقف الخطر في حياتي؟ لا يهمني نفسي الآن تماماً، فأنا أتحمّل مسؤولية الأعمال التي قمتُ بها، لكنّ الأمر أعقد من ذلك، فماغي وأولادي هم الذين يشغلون أفكاري.
كانت ماغي تتلقى الصفعة تلو الصفعة. ردّت ممقوتة، ظهر الخواء والجفاف في كلماتها وأسئلتها، وكانت مُحرْجة أمام والدها، واكتشفت مكر الرجلين، فهما كما عرفت الآن وجهان لعملة واحدة، لكن ليس باليد حيلة بعد دهر من المشاركة الجسدية والروحية والإنجاب... ماذا تعمل؟ قالت: لماذا تخبئان عنّي كل هذه السنين صفحات أقرؤها الآن في عيونكما وسلوككما. لماذا تطمسان الحقيقة. هل أصبحتُ غريبة عن أبي وزوجي وآخر مَنْ يعلم؟
اعتقدتُ أنَّ حُلماً مؤقتاً هزَّ كيان زوجي، أوصله إلى هذا التردّي، وسيزول حتماً بعد فنجان القهوة وكوب الحليب.. أتعجّب كيف انطفأ وميضه، واختفى شروقه، وغابت ابتسامته بهذه البساطة، كأني في غيبوبة، في عالم آخر، أجهل ما يدور حولي.
انطلقت سيارة "الرولزرايز". جلس شادي بجانب عمه، وقبل أن يودّع زوجه همس في أذنها: سأعود.. لا تفكري! انتبهي إلى حياتك وإلى أولادك.
توقفت السيارة بعد أن قطعت أكثر من عشرين كيلو متر، أمام بيت ريفي، مُنمنم في وسط مزرعة يملكها عطا.
تسابق رجال سُمر، يعملون في المزرعة. ومن البعيد كانت البيوت المتناثرة من القصب وسط سهل واسع، وأصوات قادمة من هناك.
كلمة واحدة قالها عطا لزنجي ضخم الجثة، لـه عضلات مفتولة، فهزَّ رأسه ومشى أمام شادي، ودخل قبله إلى البيت، عرّفه على الغرف، كأنه في قصر منيف..
كان عطا يكلّم نفسه (هذه لعبة كبيرة وخطيرة، ليست بسيطة أبداً، لكنّني سأتدبر الأمر، قضايا عدّة، غريبة في هذه البلاد، فككت عقدها، وتجاوزتها.. كلّهم يقفون إلى جانبي.. لماذا هذا المال، وهذه الثروة الطائلة؟ لا تخف يا عطا كلّ مسألة لها حلّها في هذا العالم، حتى القضايا النووية، وأسلحة التدمير الشامل أصبح لها قوانينها وحلولها).
عندما سمعت ماغي صوت السيارة، خرجت تستقبل آخر الأخبار، وكانت ابتسامة والدها، علامة على إيجاد الحل السريع، وهي لا تعلم أن والدها يفكر بهذه الحلول منذ أكثر من شهر، وأنَّ الأمور مرتبة ترتيباً جيّداً..
قال عطا: الأوراق جاهزة يا بنتي، وهي أيام قليلة، ستكونين في أحسن حال.. أشْهرَ أوراقه من مغلّف. كلّها أوراق رسمية، موقّعة حسب الأصول، تبيّن أنّ شادي ترك المدينة منذ عامين، وهاجر، نتيجة خلافات ونزاعات واتهامات، ثم أعطى ابنته صورة عن ورقة طلاقها، فأصيبت بالدهشة وشعرت أنها أصغر من نملة يدوسها طفل..
أدرك عطا سر الخوف. طمأنها، بأنها لعبة.. قال: أنتِ لا تعرفين أصول اللّعب، فعادت روحها إليها، أصاخت السمع إلى قصة أو قصص جديدة. قالت: أنا الآن في بداية فيلم هوليودي، قرأتُ عنواناته، ورأيت صورة على واجهات الصالات، لكني لا أعرف نهايته، والمكتوب يُقرأ من عنوانه.
أول عنوان في صحيفة عمري، أتوقف عنده مليّاً... إذا كانت الأحلام هكذا، فكيف يكون الواقع؟
سأطمئن أكثر لأنّي أعرف والدي، فهو من أثرياء البلاد يُدبّر الأمور، ويجهّزها على أكمل وجه في أيام. ولم يفعل بما قام به إلاّ على خطة بدأت تُحقق النجاح.
تسارعت الأيام كأنها قطرات ماء تتساقط من صنبور مُعطّل، مثل وجع الأضراس، كل نقطة تقابل وخزة ألم.
عاش شادي الأسابيع الثلاثة في مزرعة عمّه، حُجر عليه، فاستغل الوقت في مراقبة أخبار الشاشة الصغيرة، والأكل والنوم والمطالعة. تضيق أنفاسه وهو يبحث عن الحلول الناجعة، لا يدري ماذا كان يعمل عمّه.
دارت أفكاره في أزقة دمشق. عادت الروايات التي كان ينسجها بأبهى صورها، محمّلة بالأحلام والسوءات، والدهاء، والمكر، لكنها اليوم جاءت معاكسة محمولة على أعواد قصب، من السهولة كسرها.
لا يعلم أنَّ عمّه جهّز جوازات السفر، وغيّر الأسماء، وفي أقرب فرصة، ستحمله طائرة خاصة في رحلة جديدة إلى الشرق، ولا يعلم أنّ عمّه يستثمر جزءاً من أمواله في بيروت، ويملك فيلاّ من طابقين في منطقة جبلية. تبعد عن بيروت عشرة كيلو مترات، وهي في منطقة يُطلق عليها (قصور الخليج).. أشياء كثيرة لا تُعدّ ولا تحصى يجهلها. تنفّس الزوجان والأولاد الصعداء، وهم يصعدون سُلّم الطائرة مغادرين الكاب إلى بيروت. فضاء جديد، وسماء صافية، ترتعش فيها سحابات من الضباب. أدهشهم منظر السماء، ومنظر البحر، كأن الحياة أصبحت كلها زرقاء، فهدأت النفوس، وتعالت الضحكات، وفرشت الابتسامات أشعتها على الثغور.
قالت ماغي: إنه لفرح عظيم، أن نتجاوز الصعوبات في فترة قصيرة..
أجاب شادي، وهو يهزّ رأسه من الفرح: بفضل والدك. لولاه لاختنقنا. ولا أحد يدري ماذا يخبّئ لـه المستقبل.
تهامس الأولاد، وهما صبيّان وبنتان، أصبحوا شباباً.. بعضهم تخرج من الجامعة، وبعضهم على وشك التخرّج. أما البنتان فلا تزالان في المرحلة الثانوية.
مدَّ شادي بصره، في سماء بيروت! كانت الجبال والوديان، وغابات الصنوبر والأرز تملأ الأرض. فتح عينيه، وشدَّ عنقه أكثر، ورأسه يضرب في زجاج النافذة، يريد أن يملأ رئتيه من هواء الشرق.. شمّ رائحة زهرة وربيع. تحركت الأبوة في داخله، نَبَضت بالشوق، والملامة المخدّرة تفجَّرت، دون أن تُحدث أثراً، لأنّ المحبة ماتت، وتفتّتت جثّتها، تحولت إلى تراب، ومهما استنجد بآلهة العالم السفلي، لا ينجو من الإدانة، ولن تقبل "عشتروت" أعذاره، واعترافاته.
وفي مساءٍ حليبيٍّ صافٍ، أدرك شادي، رغم الخوف الذي يكرر زياراته، أنه أصبح خارج دائرة الخطر، وهذه آخر تجربة من تجاربه، وما عليه الآن إلاّ تفقّد زوجتيه وابنيه، وعمر وعطا الصغير، والسؤال عن الديار والمعارف، والبحث عن أزقة دمشق القديمة، وتلمّس آثار أقدامه... لكن! كيف؟ سينجز ذلك؟ وهو لاجئ إلى بيروت باسم جديد. لا أحد يعرفه. أصبح اسمه "سامر بن عمار الحسيني"...
في مساء رائق، يصلح للمشاوير والتنزُّه على شاطئ البحر، دفع زوجه والأولاد برحلة إلى الشاطئ، للتمتّع بالروشة، وزيارة أسواق بيروت، وبقي وحيداً لا همَّ لـه إلاّ أن يهاتف دمشق، ويحكي مع مَنْ يجده في مثل هذا الوقت من يوم عمل...
كان صوتها ناعماً قادماً من مكتب الشركة السياحية... قال: ليس هذه التي أعرفها، وعندما سألها عن اسمها، ردت بجفاء.. وطلبت منه معرفة الغرض الذي يريده من الشركة، اعتذر شادي، وذكّرها باسم السكرتيرة الأولى. هنا ارتاحت الفتاة، وقالت: تَركتْ العمل منذ خمس سنوات بعد أن تزوجتْ وسافرت مع زوجها إلى الخليج العربي...
أغلق الجهاز، تنقَّل في أركان البيت حائراً، يدور كفراشة، تفتش عن زهرة ذابلة، وعن حلم تفجّر في لحظات شائكة، وبائسة، وتحديات، ومخاطر، يمكن أن تُنهي الموقف...
جرّب شادي الأرقام التي يحفظها، حاول الاتصال بنازك وأمل، لكنّه كلما وصل إلى الرقم الخامس يتوقف.. يعود إلى رشده. يفطن أنَّه مطلوب، وأن حبل المشنقة، أو السجن المؤبد في انتظاره، فيغتصب رشفة من القهوة الباردة ويشعل سيجارة من التبغ الأمريكي. يضع رجلاً فوق رجل، ويتأمل الطبيعة والبيوت على السفوح المنحدرة والقصور الرخامية والقرميدية، يرسل أحلامه في زوارق، يطلق ألسنتها، يعطيها الحرية، فلا قانون يقيّدها، ولا أرض ترفض أن تجلس أحلامه فوقها فالحياة كما قال: تُجدّد نفسها بنفسها.
ـ 29 ـ
توزَّعت أشعة الشمس في هذا اليوم على مكانين. باركت المدن والقرى والناس. كان الصباح يختلف عن كل الصباحات لا بشيء، بل لأنَّ ما يجري من أمور رئيسية وهامشية يُعيد جزءاً من الحياة إلى طبيعتها، جزءاً آخر لا أحد يدري كيف سيحدث. وهذه هي المفارقة بعينها.
أصرَّ أولاد شادي. الصَّبيَّان والبنتان على العودة إلى الكاب. اشتاقوا إلى المدينة، وإلى جدّيهما. كل واحد ترك وراءه عشيقاً أو عشيقة... وصداقات وزمالات لا مهرب منها. ف "أنس وسامي" يديران مؤسستين كبيرتين لجدهما عطا. و"روعة وبارقة" في نهاية المرحلة الثانوية، لا تحبذان الابتعاد، والإقامة في بيروت، رغم جمالها كما كانتا تقولان، أكثر من نهاية شهر آب لأن المدارس ستفتح أبوابها في الأول من سبتمبر أيلول.
كان شادي شديد الحرص لإرضاء أبنائه وبناته. وحاولت ماغي، بلطفها ومسايرتها أيضاً ألاَّ تُعكّر صفاء العائلة.
تجاذب أفراد الأسرة الحديث في نقاشات عديدة، صباح، مساء، بخاصة عندما يحتسون الشراب البارد أو الساخن وهم يتجمّعون بشكل دائري حول مائدة الطعام.
اتفق الوالدان أنهما سيودعان الأبناء بأسرع وقت ممكن. سيبقيان وحيدين يواجهان ما يخبئ لهما الغد، علَّهما يبحثان وضعهما بشيء من الحكمة والصبر، وكانا يحسبان بخوف كل الحوادث التي يمكن أن تحصل، وتُعكر حياتهما.
كانت الأمور جاهزة تماماً في صباح اليوم التالي... وكان الفرح يغطي الوجوه، كالفراشات التي تُحلّق في حديقة الفيلا. تحاول الدخول من النوافذ المفتوحة على شمس الشرق، فيأتي نسيم الأرز نقياً، منعشاً، ينشط النفوس ويُصحّي الرؤوس، بينما الخادمة تلك الفتاة الآسيوية التي لا تهدأ طوال النهار تجهّز محافظ السفر، واللوازم، وعُلب الحلويات اللبنانية، والثياب التي أحضرتها ماغي هدية لوالديها، وتنفذ الطلبيات والأوامر والتعليمات.
لا شيء في هذا الصباح بقي كما هو، سوى أنَّ الأبوين كانا يغصّان باللوعة، والفراق، لكن الأحباء الجاهزين على أهبة السفر، كانوا يتضاحكون، ويسخرون من دموع الأم التي لم تعتد وتتحمل مثل هذا الفراق. كيف بها كما قالت: أن أبقى وحيدة... لا أرى إلاّ الخادمة وشادي والجدران، وهذا الفراغ. ورغم السحر والجمال والطبيعة الذي يحيط بفضاء حياتنا، إلاّ أنَّ نكهة الحياة قد تختلف، ويتحوّل يومنا إلى "عطالة" كاملة، فسيتوقف التفكير، وتتجمّد الرغبات، ويضمحل الأمل، وتضمر الأحلام.
تصوَّر شادي منذ أن حطّت أقدامه على أرض لبنان، أنَّ هناك من يتابع تنقلاتهم وحركاتهم. وعبّرت عن هذا الشعور ماغي أكثر من مرة، وكانت بدايته من مطار الكاب. بادلها زوجها الشعور نفسه، ورأى أنَّ هذا الأمر بسيط لا مجال لإعطائه أكثر مما يستحق. قال: لا تخافي. نحن هنا بأمان. اطمئني. كل شيء يسير بالكمال والتمام.
وعندما عاد الزوجان بعد أن ودّعا أولادهما، كانا في حالة صعبة. توقفا عن الكلام. ماغي تُحدّق في المرآة الجانبية في جهة اليمين، وشادي مثلها يتقافز بصره تارة فوق الأسفلت، وتارة في المرآة في جهة اليسار.
السيارة نفسها لم تتغير التي رافقتهم من وسط بيروت إلى المطار، وتوقفت قريبة من سيارتهم.. رمادية اللون.. حديثة.. نمرتها لا شك في أرقامها.
أكّد الزوجان الملاحظات نفسها، وتذكرا الأوصاف الخارجية لصاحبها، وهو شاب في مُقْتَبل العمر، ملامحه شرقية، طويل القامة، يضع نظارات سوداء على عينيه، ويرتدي قميصاً قطنياً، وحذاءً لامعاً، وبنطال "جينز" أزرق. صدره مندفع إلى الأمام.. انتابت الشكوك ماغي، بأنه رياضي. يبدو من مشيته وحركاته، وعندما همست في أذن شادي قائلة: إنه شخصية مرموقة، لا يمكن أن يراقبنا. هذا الكلام استفزّه، لأنه تعوّد على مثل هؤلاء الرجال.. فلم يجبها. بقي ساكتاً، ربما تقتنع من تلقاء نفسها، وهو أدرى بأموره!
أجابها بعد صمت، والحروف تتآكل تحت لسانه. بدا أكثر رُعباً من السابق، مؤكداً لها أنه من البوليس السرّي... وقال: تابعي... راقبيه بنفسك، تأكّدي... وقرأ لها أكثر من نمرة سيارة.
اتفق الاثنان أن ثلاث سيارات، وثلاثة رجال من أعمار مختلفة كانوا خلال فترة إقامتهم في لبنان، يتناوبون المراقبة، في فترات متقاربة أحياناً، ومتباعدة في أحيانٍ أخرى منذ أن هبطت الطَّائرة في مطار بيروت.
سألت ماغي: كيف ستكون نهايتنا يا شادي؟
ـ اطمئني! سأقتل من يعترض طريقنا! وأخرج مسدّسه، ولقَّمه، وألقاه بينه وبينها.
ماغي كانت خائفة.. فهي امرأة لا يهمها إلاَّ عائلتها، وعملها، ونشاطها الاجتماعي، ولم تعتد على مثل هذا الأسلوب البوليسي، ولم تعرف خفايا زوجها خلال أكثر من عقدين، أنه بهذه الشجاعة، فقد كانت تصفه بالبلادة... وكيف به يتحوّل إلى رجل شجاع.. من أين جاءت الجرأة.
ـ لا تتركني يا زوجي العنيد. رُبّما تصوراتك تخونك.. لا تشوّشنا وتهزّ أعماقنا، وقناعتنا، فلا أحد يراقبنا.. من نحن كي نخضع للمراقبة؟ وأدركت بينها وبين نفسها أنّ شادياً يملك جزءاً من الحقيقة...
هزّها شادي من كتفها، وهو يقول: انظري كيف يُدقق في ملامحنا، كأنه يهزأ منّا ويخفف السرعة عندما يكون قريباً منّا، ثمَّ يتجاوزنا كأننا في سباق معه، ومع الزمن. انظري إلى وجهه في المرآة إنها تعبّر عن أمر ما... عن شيء ما سيحدث!
يتّسع الأوتوستراد لعديد السيارات، وهو الطريق الجديد التي دشنها رئيس الجمهورية منذ شهور...
أشار شادي إلى زوجه للتوقف في استراحة شعبية قُبيل بيروت، وأن يتناولا شراباً بارداً أو قهوة.
ونزلاً من السيارة وهما يتفحصّان المكان بدقة ومراقبة أي خطوة لهذا الشاب الذي أوقف سيارته بعد خمس دقائق من وصولهما...
ساورتهما الشكوك كأنه ليس هو.. فهذا أكبر.. يبدو أقل أناقة، وأقصر قليلاً، وصعدا الدرجات الخمس وهما يتطلعان نحوه بحجج واهية.
أكدت ماغي أنَّ الشخص نفسه، وهذا رقم سيارته التي سجلها شادي في دفتره الصغير. تمعّنا في وجه الرجل، وخطواته، وهما يدخلان إلى المقهى. كانا خائفين منه ولا يريدان أن يسجّل أية ملاحظة.. الوقت غير مناسب الآن، فهما شخصان هاربان من إفريقيا السمراء إلى لبنان، وأي أمر أو مشكلة يتورطان فيها ستعود عليهما بالسوء.
اهتزت معنويات الزوجين، علماً أنَّ الرجل لم يكترث بهما، وبدورهما حاولا نسيان الأمر، مادام لا يتحرش بهما، فسيكونان بأمان.
كان شادي دقيق الملاحظة، وتجربته أكبر من تجربة زوجه. جلس بجانب الواجهة الزجاجية المقابلة لمكان وقوف السيارات.. ظلَّ يراقب... يدقق في كل صغيرة وكبيرة، ويسجل أرقام بعض السيارات التي يشك فيها، وبوجودها، وبأصحابها. يدرس مظهرهم الخارجي، وهو المطّلع على كتب "فرويد" يستطيع بحواسه، وتنبؤاته أن يكتشف بعض الأسرار الداخلية، وأحياناً كانت شكوكه صحيحة، وفي محلّها تماماً.
نهض.. التصق بالواجهة. وقفت ماغي أيضاً وكأنَّ الوجهين أصبحا وجهاً واحداً، بأربع عيون وأنفين وفمين وأربع غمازات، وشعرين بلونين متقاربين، وبدون ابتسامات أو همسات.. ساد الصمت، وحُبّ الاستطلاع للتأكد من صحة الحاسة السادسة...
في النهاية أكد شادي أن هذا الرجل ليس كهلاً كما تصوّرت زوجه، بل هو شاب من جيل ابنه الكبير، ينتزع شيئاً منه... وبقي يلتهم سيجارته ويتابع بأكثر صوابية وهاجسية... ويرتشف القهوة، بينما ماغي كانت تلتهم قطعة كاتو وتحتسي الشراب..
الآن تأكد شادي كما قال، أنه من البوليس السرّي، لأنه سرعان ما أبدل اللوحة، وقالت ماغي: لقد تبدّل لون السيارة أيضاً! ألا تلاحظ ذلك!
صرخت المفاجأة في أعماقهما.. تعددت الأسئلة.. أكثر الشاب من الحركة. كان بصره يتجوّل في المطعم، وأحياناً تلتقي خيوط البصر، وتتسمّر عيونهم، متقابلة، حادة النظر فيها سخرية، وتحدٍّ..
تأكدا أن عينيه تتحرشان فيهما..
احتجت ماغي على الارتباك الذي اقتحم شادي، كان مفاجئاًَ لها. بدا الخوف يتغلغل بين تجاعيده القليلة، وتميل بَشَرته إلى الاصفرار، وعبّر عن هذه الحالة بالإكثار من التدخين، وأحرق أربع سيجارات في نصف ساعة، وسيحرق الكثير، الكثير.. حاولت أن تبدو أكثر شجاعة من زوجها، ولم تكن قادرة أن تُخبّئ الخوف المتسرّب من مسامات وجهها، رغم أنَّ أناملها المتناسقة كانت تمسح خدّيها، فيتغيّر لونها مؤقتاً، وسرعان ما يتجهّمان ويُعكّران صفاء هذه الجلسة الانتقامية، لتصبح أكثر ارتباكاً مع ارتجافات واهتزازات تخرج من أعماقها صريحة، واضحة، مشوبة بالقرف، فأخرجت من محفظتها مرآة دائرية صغيرة، ومسحت شفتها بصبغة وردية، تتناسب مع لون فستانها وحذائها ومحفظتها.
استعادت ماغي في هذه اللحظات الشائكة صورتها، عندما كانت أكثر شباباً، وأكثر فطنة وهيبة وحركة ونشاطاً. حاولت ألاًّ تكترث بما يجري ولم تقدر. ولم تكن قادرة على التبديل والتغيير.
أراد الزوجان أن يغيّرا خطّتهما، فانطلقا باتجاه السوق الرئيسية في بيروت.. اعتقدا أنهما سيضيّعان هذا الشاب، ولم يتصوّرا أن كاميرته الحديثة تتابعهما متراً متراً، وحركة حركة فأينما اتّجها كان خَلْفهما في شارع مُزدحم بالناس والسيارات فاضطرَّ شادي لإيقاف السيارة بعيداً عن السوق ودفع أجرة الوقوف لساعتين سلفاً، بإضافة إلى "البخشيش" الذي نقده للحارس.
سارا على الرصيف الأيمن، فتّشا واجهات عشرات المحال التجارية، وكانا يبديان الملاحظات على الموديلات لهذه السنة. يتشاوران.. يختاران، ثمَّ يُصابان باليأس عندما يفطنان أنَّ هناك مَنْ يتابع خطواتهم وأنفاسهم...
فجأة نظر شادي خلفه. كان الشاب نفسه يقف وراءه. كاد يلتصق به لكنّه وجه عينيه إلى شابة جميلة. ابتسم لها. لم تكترث به. تابعت طريقها، وبقي عطرها يفوح فوق رؤوسهم.
قال الشاب وهو يُربّت على كتف شادي: أعرفك منذ زمن أيّها الصّديق!
أنا لا أعرف شكلك. لم أرك قط في يوم من الأيام! ماذا تريد؟ ومَنْ أنت؟ لماذا تلاحقنا، قالت ماغي وهي تحاول أن تفصل بين جسديهما.
لا تبتسم يا شادي.. لأنك لن تراني بعد اليوم، أو بعد هذه اللحظة!
ـ أنت غريب.. ماذا تريد منّا؟ قال شادي مكرّراً!
ـ لا أريد منك سوى أنّني أحببت التعرّف بك.. رُبّما تعود إلى صوابك، رٌبّما تعود إلى مكانك الأصلي.. وتركهما.. استأذن منهما، وترك الحَيْرة تفور وتغلي في قلبين متوجسين، وأحلام مشتتة، لقيطة...
وبعد ساعة ونصف وهما يتجولان في السوق الطويلة المزدحمة، حملا ما ابتاعاه وأسرعا، واستقلاّ السيارة.. توجها إلى المنزل.
وفي الطريق عادت الصور المتلاحمة.. وعادت الهواجس والارتباكات والروائح والذكريات العَكِرة تتنازعهما، شامتة، مقهورة، ملذوعة، لا تملك القدرة للخروج من قفص الاتهام.
قالت ماغي: في الأمر أشياء تتكرر معنا في الكاب وبيروت.. أشياء أجهلها، خبّأها عنّي شادي.. أشياء تطارد أرواحنا.. تلاحقنا.. تنزُّ مرارة وأشجاناً تلوّعنا، تُحذّرنا.. أنا غير مرتاحة يا زوجي العزيز!
وقال وهو يدفعها نحوه: وأنا مثلك، تساورني الأفكار الغريبة، تشوّش حياتي تدوّخني. لم أعد أطيق ما يجري في داخلي، وما أراه في الخارج يُعكر صفائي وحياتي لا تُطاق، سأبحث عن حلٍّ سريع للمشكلة، الدنيا تعود بي إلى الوراء، كأنَّ هناك من يفتح دفاتره ويكتشف عن أسرار عتيقة... يُمزّق صُرّة أتلفها الزمن.. لكنهم غابوا في طي النسيان.. لا أمل، ولا نازك.. لا زهرة ولا عمر ولا ربيع... كلهم يعيشون حياتهم وأنا أحطّ على كومة من نار.. أحترق.. سأحترق.. إنّها الأيام الأخيرة.. هكذا أشعر. ولم تخب حساباتي أبداً.
أعادت ماغي السؤال نفسه: ماذا يقصد هذا الشاب من تحدّيه؟ لم نر خلقته من قبل، لكن ملامحه كما قال شادي ليست غريبة.. كأنه رآه من قبل.. ملامحه تسري في جسدي وروحي وعروقي..
قال: انظري إلى الشامة التي تقف، بل وتتربع على كوز خدّه.. انظري إلى شامتي أيضاً، كأنهما توءمان أو شريكان في جمال الوجوه، تزينان وجهينا، وتدفعان الصبايا نحونا..
كانت أمل تقول: أجمل ما في وجهك هذه الشامة.. ورأت نازك فيها سحراً، وأنت يا ماغي كم مرّة هجمت وقبلتها. كدتِ تقلعينها من جذورها.
تبادَل الزوجان بعض الغزل وبعض الشجون وشيئاً من الأمل وبعض الخوف الممزوج بالكآبة والعتمة. حاول كل واحد أن يُبرّر خوفه للآخر..
أن يتأمل الآخر..
اطمأنا أنَّ الأولاد وصلوا إلى الكاب، ويحصل ما يحصل..
أعاد شادي المسدس إلى مكانه، وأفرغه من الطلقات، ووضع المخزن في جيبه وكانت السيارة تقطع الشارع بنهم وبسرعة كبيرة. تصعد شامخة الطريق المرتفعة، وتتجاوز التقاطعات الخطرة والأكواع الحادة، وعقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهراًَ.
وفي آخر المنعطفات ينحدر الطريق قليلاً، ويخفف شادي السرعة،لأنه يقترب من المنزل، فاحتضن المقود.. تمهّل.. تنفّس براحة وأكثر اطمئناناً من قبل.. وبهدوء وأناة وفرح وامضٍ مؤقتٍ، وشموخ بارد، وبسخرية تتخللها أوهام، وكبرياء يضيع بين الشهيق والزفير، وأنفاس ماغي الموهومة، الحُبلى بالعتمة والرُّعب القادم المجهول، والنسيان والتلذّذ بمتاهات وأحلام مُفرّغة من اليوتوبيا. توقفت السيارة أمام المنزل.. نزلت ماغي.. أسرعت الخادمة وحملت الأكياس، فلحقت ماغي بها.
أدخل شادي السيارة إلى الكراج. اتجه إلى الباب الرئيسي. تطلّع حوله.. المكان خالٍ البيت المنعزل الوحيد وسط حديقة غنّاء في سفح الجبل الواطئ. أنسام هابة تدسُّ أنفها بين الأشجار الكثيفة، وتحمل معها عطراً وأملاً.
وقبل أن يدخل شادي إلى المنزل ويصل إلى الدرجة العاشرة، كان الشاب يقف مواجهاً لـه. يُشهر مسدسه. يضع يداً على فمه، والمسدس في جبينه.
قال الشاب: أنا ربيع يا أبي.. ابنك الذي تركته نطفة في رحم زوجك.. فتيلة تحترق.. وهاجرت، وتركت ورقة طلاق أُمّي.. أنا ربيع، وهكذا تأكد من هذه الشامة السوداء التي تحتل شامتك المكان نفسه.
كانت ثلاث طلقات تخترق رأس شادي، وتخرج ملوثة بدمائه ودماغه...
أنا ربيع يا أبي أوفي دَيْني الآن. بينما كان شادي يُسجَّى على الأرض..
سلّم ربيع كما جاء في محضر الشرطة نفسه للعدالة!
* * *
نشرت الصحافة اللبنانية في اليوم التالي تفاصيل الحادث، وصفته بالأليم، وأنه نتيجة لاختلافات عائلية، وهو حادث ثأري، وسيُنْشر على حلقات بعد استكمال التحقيقات..
دخل "ناهد" العشيق، مفتول العضلات، يحمل صحيفةً وخبراً. التهمته نازك بألم وحزن. خسرت ابنها، لكنّها لم تندم على ما فعل. قالت لـه: أحسن صُنعاً.
وبعد أيام تحررت أمل وزهرة وجميل والكوافيرا وعمر وعائلته من عقدة شادي.
انكشفت الأمور، لكن أمل أصرَّت بعناد أنَّ الفرح سيتمّ في الموعد المحدد، وسيكون يوم الخميس أجمل أيامي، ونقطة فاصلة بين طرفي معادلة حياتي.. محطة، وخطوة إلى الأمام بعد أكثر من خطوتين سحبتا آمالي وأحلامي إلى متاهات مأجورة.
كانت أمل تتفاخر، تتنقل بين أركان البيت.. تُقبّل زهرة التي اعتذرت من أمها، لأنّها على موعد مع الكوافيرا، كي تظهر غداً أكثر جمالاً وأناقة في احتفال زفافها على شاب يكبرها بثلاث سنوات...
وبينما كانت تخاطب أُمّها، وتذكّرها بأسماء المدعوين، دخل العريس "أصيل" خريج كلية التجارة، ومدير شركة والده في "نيقوسيا" وقف بجانب زهرة. فهما فلقتان كحبة الفاصولياء، وقلبان في قالب واحد، وجسدان في
جسد واحد.
وعندما جلسا على الأريكة، أخذت لهما أمل عدّة صور...
الجميع يستعد لحضور حفلة الزفاف، ونشرت الصحافة الخبر الميمون...
وكان المساء جميلاً.. اكتسى حلّة بيضاء. زيّنت الصالة بالزهور والورد. حضر المدعوون أزواجاً وفرادى.
وقفت زهرة وأصيل.. استقبلا الناس.. وقفت ترتدي حُلّة بيضاء، وبيدها باقة من الزهور. أصبح الحلم واقعاً، وتحوَّلت الحياة خصوصاً في هذه الساعات إلى باقات فرح..
تقدّمت أمل من العروسين.. هنأتهما بالقُبلات والدموع، وقدّمت الشكر للأصدقاء والصديقات.
وخرجت مع آخر المدعوين هبطت الدرجات الأخيرة، وهي تتأبّط ذراع جميل. اتّفقا على أن يسيرا على الأقدام في مساء جميل وسكون أليف، وقلبين محمولين على أجنحة الفرح. إنهما عاشقان حالمان، وستكون الأيام القادمة أكثر بهاء ونضارة ودفئاً.. سيملأان فراغ الروح ويَعُبَّان من العشق والوجد ما يكفيهما بقية العمر عادا في تآلف عميق مع الحياة الجديدة، ولم يحضر الماضي أبداً، لأنه أصبح مُلكاً منسياً.
تشبَّثا بعُنق الحاضر. تدارسا معاً دون صكوك أو شروط، كيف يزرعان بذرة الحياة في تربة جسديهما، ويرويانها بالحب بلا كلل أو ملل، بل بشغف مسحور..
قالت أمل: سأُخرج زهرة من الرمال، وسيكون أصيل فلاَّحاً ماهراً يعرف كيف يرويها بماء قلبه!.