ترجمة
أميرة علي عبد الصادق
شيماء طه الريدي
مراجعة
علا عبد الفتاح يس
من أفضل ما قيل عن الكتاب
مجموعة قصصية ساحرة تتميز بالدقة. إن أليس مونرو تخلق لنا عالمًا يبدو مألوفًا ورائعًا على الفور.
ماكسين هونج كينجستون مزجت أليس مونرو في هذا العمل ما بين بنية القصة القصيرة وأسلوب الرواية السردي الشائق لتخرج لنا نوعًا جديدًا من الإمتاع الأدبي؛ فكل قصة من القصص العشر التي يضمها هذا العمل هي كلٌّ قائم بذاته مفعم بالتأمل والجمال؛ كل منها يضم عالمًا ثريًّا بالتعقيدات والإيحاءات، ولها صبغتها وحبكتها الخاصة.
مجلة «نيو ريبابليك» تكمن نقطة القوة في هذا الكتاب في عمق الشخصيات التي نجحت الكاتبة في رسمها، ومن هذا المنطلق نرشح هذا الكتاب لجميع القراء.
صحيفة «كولومبس ديسباتش» هذا الكتاب يتميز بأنه مباشر وقوي ورائع وشديد الواقعية، إنه يصيب عمق تعاملاتنا بعضنا مع البعض.
صحيفة «دالاس نيوز» لست متأكدًا ما إذا كان هذا العمل مجموعة من القصص القصيرة أو نوعًا جديدًا من الرواية، ولكن أيًّا كان تصنيفه الأدبي فإنه عمل رائع. لقد أمتعني كثيرًا ما فيه من تحرٍّ للدقة فيما يخص الجوانب النفسية، كما أن التغيرات المفاجئة المدهشة — القفزات الزمنية غير المتوقعة وتحولات الشخصيات المألوفة — تمنح الكتاب قدرًا من الجموح والغموض، وهو ما يجب أن تكون عليه كل الكتب.
جون جاردنر القصص رائعة بحق؛ فكل كلمة تكتبها أليس مونرو مثيرة للاهتمام.
أليس آدامز أفضل مجموعة قصصية لهذا العام.
مجلة «ذا نيشن»
ضربٌ «ملكيٌّ»
«ضربٌ ملكيٌ … ستنالين ضربًا ملكيًّا»، هكذا كان وعيد فلو.
تهادت كلمة «ملكيٌّ» على لسان فلو، معبِّرةً عما توحي به هذه الكلمة. أرادت روز تخيُّل الأمر، واستكشاف معاني الكلام غير المنطقي. ورغبتُها في تبيُّن ما تعنيه كلمات فلو فاقت حاجتها لتجنب المتاعب. لذا، بدلًا من أن تأخذ هذا التهديد على محمل الجد، أخذت تفكر في «كيف يكون الضرب ملكيًّا؟» فتخيلت مشهدًا لطريق تصطف على جانبيه الأشجار، وحشدًا من المتفرجين بزي رسمي، وبعض الخيول البيضاء، والعبيد السود، وشخصًا جاثيًا على ركبتيه والدم ينزف من جسده بغزارة. تخيلت مشهدًا يجمع بين الوحشية والإبهار في الوقت نفسه. لكن على أرض الواقع، لم تتمتع روز وفلو بمثل هذه المنزلة الرفيعة، وإنما أرادت فلو فحسب الإيحاء بحتمية ما ستلقاه روز من عقاب وضرورة شعورها بالندم. وما حدث بين روز وأبيها بعد ذلك كان بعيدًا كل البُعد عن أي شيء رفيع المستوى.
كان والد روز ملك الضرب الملكيِّ. أما فلو، فلم يرتقِ ضربها إلى هذا المستوى؛ إذ لم يتعدَّ كونه بضع لطمات أو صفعات تمنحها لضحيتها، بينما يكون ذهنها منشغلًا بشيء آخر. وكانت تقول: «ابتعدي عن طريقي!» أو «لا تتدخلي فيما لا يعنيكِ!» أو «فلتغيري تلك النظرة المرتسمة على وجهكِ!»
عاشت أسرة روز خلف أحد المتاجر في هانراتي بأونتاريو، وضمت الأسرة أربعة أشخاص: روز، ووالدها، وفلو، وبراين أخو روز الصغير من أبيها. كان ذلك المتجر، في الواقع، منزلًا اشتراه والد روز ووالدتها عندما تزوجا، وأسسا فيه عملهما المتمثل في إصلاح الأثاث والتنجيد. عملت والدتها بالتنجيد، وكان من المفترض أن ترث روز من والديها المهارة اليدوية، وحب التعامل مع الأقمشة، والعين الثاقبة لاكتشاف أفضل لفات الأقمشة لإصلاحها، إلا أنها لم تفعل؛ وإنما كانت فتاة خرقاء تسرع في كنس حطام أي شيء ينكسر والتخلص منه.
في عصر أحد الأيام، قالت الأم لوالد روز: «أشعر بشيء يصعب عليَّ وصفه، إنه أشبه ببيضة مسلوقة غير مُقشَّرة في صدري.» وتُوفِّيت قبل حلول الليل إثر جلطة دموية على الرئة. كانت روز لا تزال طفلة رضيعة آنذاك، ومن ثم لم يكن بوسعها تذكُّر أي شيء من ذلك، ولكنها سمعت القصة من فلو، التي لا بد أن تكون قد سمعتها بدورها من والد روز. سرعان ما دخلت فلو حياة الأسرة لتعتني بروز الرضيعة، فتزوجت الأب، وفتحت الغرفة الأمامية للمنزل لتصير متجرًا للبقالة. وروز — التي لم تعرف من ذلك المنزل سوى كونه متجرًا، ولم تعرف أمًّا غير فلو — نظرت للأشهر الستة عشر أو نحو ذلك التي قضاها والداها في ذلك المكان كعهد قديم أكثر رقة وجمالًا تخللته بعض لمحات الترف. لم يتبقَّ لروز من تلك الأيام سوى بعض كئوس البيض التي كانت والدتها قد اشترتها، والتي كانت تحمل رسومًا دقيقة باللون الأحمر للكرمات والطيور، كادت تنمحي من عليها وكأنها كانت مرسومة بالحبر الأحمر. لم تتبقَّ أية كتب أو ملابس أو صور لوالدتها. لا بد أن والدها قد تخلص منها جميعًا، أو لعل فلو هي مَن فعلت ذلك. والقصة الوحيدة التي ترويها فلو عن والدتها — وهي قصة وفاتها — كانت بغيضة على نحو غريب. أحبَّت فلو تفاصيل الموت؛ ما يقوله الأشخاص عند احتضارهم، اعتراضهم أو محاولتهم النزول من السرير، سبابهم أو ضحكاتهم (بعضهم فعل هذه الأمور بالفعل). لكن عندما كانت فلو تروي ما ذكرته والدة روز عن البيضة المسلوقة في صدرها، كانت تشير إلى حماقة هذه المقارنة، كما لو كانت والدتها من هؤلاء الأشخاص الذين يصدقون حقًّا أنه بإمكان المرء ابتلاع بيضة كاملة.
كان لوالد روز سقيفة خارج المتجر مارس فيها عمله في إصلاح الأثاث وتجديده؛ فكان ينجد مقاعد الكراسي ومساندها، ويصلح منتجات الخوص، ويملأ الشقوق، ويعيد تركيب الأرجل، وكان يفعل كل ذلك بأعلى درجات المهارة والبراعة وبأبخس الأسعار. فكان ذلك مصدر فخره؛ أن يبهر الناس بعمله الدقيق والمبهر، وبتلك الأسعار البخسة، بل والمضحكة في بعض الأحيان. لعل السبب وراء ذلك هو أن الناس أثناء الكساد لم يمكنهم دفع مبالغ أكبر، لكن والد روز لم يغير هذه الأسعار أثناء الحرب، وأثناء سنوات الرخاء التي تلت الحرب، واستمر في ذلك إلى أن توفي. ولم يتناقش قط مع فلو بشأن ما كان يحصل عليه من أجر مقابل عمله، وما كان يدين به من مال. لذا، كان عليها بعد وفاته فتح السقيفة، وجمع كافة قصاصات الورق وأظرف الخطابات المقطعة من على الخطافات الكبيرة ذات المظهر الموحي بالشر التي كان يجمع عليها أوراقه. والكثير من تلك الأوراق التي عثرت عليها لم تكن حسابات أو إيصالات على الإطلاق، وإنما تدوينات لأحوال الطقس، وبعض المعلومات عن الحديقة، وأشياء أخرى ثمة ما دفعه لتدوينها: تناولت بطاطس جديدة، ?? يونيو. تسجيل. يوم مظلم، العقد الأول من ثمانينيات القرن التاسع عشر، ما من شيء غريب. سُحُب من الرماد من حرق الغابات. ?? أغسطس ????. عاصفة رعدية مهيبة في المساء. برق. الكنيسة المشيخية، مدينة ترنبيري. أهي إرادة الرب؟ تسخين الفراولة لإزالة الحمض. كل الأشياء حية. سبينوزا. ظنت فلو أن سبينوزا نوع جديد من الخضراوات كان ينوي والد روز زراعته، مثل البروكلي أو الباذنجان؛ فقد اعتاد تجربة أشياء جديدة. أطلعت فلو روز على قصاصة الورق، وسألتها إن كانت تعلم معنى كلمة سبينوزا. وكانت روز تعلم بالفعل معناها، أو لديها فكرة عنه (فقد كانت في مرحلة المراهقة آنذاك)، لكنها قالت إنها لا تعلم. بلغت روز في ذلك الوقت مرحلة من العمر لم تعد تتحمل فيها معرفة أي شيء آخر عن والدها أو عن فلو؛ فكانت تغض الطرف عن أي شيء تكتشفه عنهما شاعرة بالتحرج والرهبة.
احتوت السقيفة على موقد، والعديد من الأرفف غير المصقولة تعلوها علب الطلاء والورنيش، وصمغ اللك، والتربنتين، وبرطمانات تحتوي على فرش مغمورة في الطلاء، وبعض زجاجات دواء السعال اللزجة داكنة اللون. ما الذي يدفع رجلًا عاش طوال حياته يسعل ويعاني من تأثر رئتيه بغازات الحرب (المعروفة في السنوات الأولى من طفولة روز بالحرب «الأخيرة»، وليست «الأولى») أن يقضي عمره بالكامل في استنشاق أدخنة الطلاء والتربنتين؟ آنذاك، لم تكن مثل هذه الأسئلة تُطرَح كثيرًا كما هو الحال الآن. وعلى المقعد الموجود خارج متجر فلو، اعتاد الكثير من الرجال كبار السن من سكان الحي الجلوس للثرثرة والنوم الخفيف في الطقس الدافئ، وكان بعضهم يسعل أيضًا طوال الوقت، والحقيقة أنهم كانوا يحتضرون ببطء وسرية بسبب ما كانوا يطلقون عليه — دون أي نوع من التذمر — مرض «المسبوكات المعدنية». عمل أولئك الرجال طيلة حياتهم في سبك المعادن في المدينة، وها هم الآن متقاعدون عن العمل بوجوه ذابلة هزيلة، يسعلون، ويضحكون ضحكات خافتة، وينجرفون في فحش عبثي بتعقب السيدات اللاتي مررن من أمامهم أو أية فتاة تقود عجلتها أمام أعينهم.
لم تقتصر الأصوات الصادرة من السقيفة على السعال فحسب، وإنما كان هناك أيضًا حديث وهمهمة متواصلة، سواء تأنيبية أو تشجيعية. وعادة ما كانت هذه الأصوات خفيضة على نحو يحول دون تمييز سوى بضع كلمات منها. وكان إيقاعها يقل عندما كان والدها يعمل على شيء يحتاج بعض التركيز، في حين يزيد هذا الإيقاع على نحو مبهج عندما كان يؤدي عملًا على درجة أقل من التركيز المطلوب، مثل الصنفرة أو الطلاء. وبين الحين والآخر، كانت بعض الكلمات التي ينطق بها تخترق مسامعها وتبدو دون معنى وحدها، وعندما كان يدرك ذلك، كان يسرع على الفور بإحداث تشويش ما، إما بالسعال، أو الازدراد، كنوع من الإنذار، أو الصمت غير المألوف.
«مكرونة، بيبروني، بوتيتشيلي، حبوب …»
ما الذي قد يعنيه ذلك؟ اعتادت روز تكرار هذه الكلمات مع نفسها. ولم تتمكن من طرح هذا السؤال على والدها قط؛ فالشخص الذي نطق بهذه الكلمات يختلف عن الشخص الذي كان يتحدث معها كوالدها، مع أنهما يسكنان نفس الجسم. ولم يكن من الحكمة على الإطلاق إدراك وجود ذلك الشخص الذي لم يكن من المفترض وجوده؛ فهذا شيء لا يُغتفَر. ومن ثم، واصلت روز التسكع حول المكان والإنصات.
وفي إحدى المرات، سمعته يقول: «الأبراج التي تناطح السحاب.»
«الأبراج التي تناطح السحاب، القصور العظيمة.»
كان وقع الأمر على روز شديدًا، لكنه لم يتسبب في إيلامها، وإنما إبهارها وحبس أنفاسها. شعرت في تلك اللحظة بالرغبة في الركض والهروب بعيدًا، فكانت تعلم أن ما سمعته كان كافيًا، إلى جانب خشيتها من أن يراها والدها. فإن رآها، سيكون العقاب مروعًا.
تشابه ذلك مع الأصوات الصادرة من دورة المياه. كانت فلو قد ادخرت بعض النقود، وأقامت دورة مياه في المنزل، إلا أنها لم يكن لها مكان إلا بأحد أركان المطبخ، حيث الباب لم يكن مثبَّتًا جيدًا، والحوائط مصنوعة من ألواح الألياف الخشبية المضغوطة فقط. وكانت النتيجة أنَّ مَن يعملون أو يتحدثون أو يأكلون في المطبخ كانوا يسمعون أي صوت يصدر من الحمام، مهما كان خفيضًا مثل قطع ورق المناديل، أو أية حركة بسيطة. واعتاد الجميع بعضهم أصوات بعض، ليس فقط في دورة المياه، وإنما أيضًا في التأوهات الحميمة والدمدمات والالتماسات والعبارات. إلا أنهم جميعًا اتسموا بالاحتشام الشديد. فلم يظهر على أحد قط ما يشير إلى سماعه أو استماعه لما يحدث، كما لم يذكر أحد الأمر قط. وكأن الشخص الذي يُصدر الأصوات في دورة المياه ليس هو من يخرج منها.
عاشت الأسرة في الجانب الفقير من المدينة؛ فكانت هناك منطقتان: هانراتي وهانراتي الغربية، يفصل بينهما نهر متدفق. والمكان الذي عاشت فيه الأسرة هو هانراتي الغربية. تدرَّجت البنية الاجتماعية في هانراتي ما بين الأطباء وأطباء الأسنان والمحامين وصولًا إلى عمال سبك المعادن والمصانع وسائقي عربات نقل الأحمال. أما هانراتي الغربية، فتدرَّج سكانها من عمال المصانع وسبك المعادن وصولًا إلى العائلات الكبيرة المفككة التي تضم المتهورين، الذين يعملون في تهريب الخمور، والعاهرات واللصوص الفاشلين. نظرت روز لعائلتها على أنها في المنتصف بين هانراتي وهانراتي الغربية، لا تنتمي لأي منهما وكأنها تقطن النهر. لكن ذلك لم يكن صحيحًا؛ فالمتجر يقع في منطقة هانراتي الغربية، وهناك عاشت أسرتها أيضًا في نهاية الشارع الرئيسي. وعلى الجانب المقابل للمتجر، كان هناك متجر الحداد، الذي غُطيت نوافذه وأبوابه بألواح الخشب مع بداية الحرب تقريبًا، بالإضافة إلى منزل آخر كان متجرًا في السابق. ولم تُنزَل لافتة «شاي سالادا» من على النافذة الأمامية له قط؛ وإنما ظلت تزين المكان كمصدر للفخر والاهتمام، مع أن المكان بالداخل لم يكن يبيع أي شاي بهذا الاسم. أما الرصيف، فكان ضيقًا ومحطمًا ومائلًا على نحو لا يسمح بالتزلج عليه باستخدام الأحذية ذات العجلات. لطالما رغبت روز في اقتناء أحذية تزلُّج، وتخيَّلت نفسها كثيرًا وهي تتحرك بخفة وأناقة في تنورتها مربعة النقوش. كان في الشارع، كذلك، مصباح إضاءة واحد، وزهرة مزروعة في علبة من القصدير؛ وبعد ذلك تختفي وسائل الراحة وتظهر الطرق القذرة والمستنقعات، والقمامة الملقاة في الأفنية الأمامية، والمنازل غريبة الشكل. ما جعل المنازل غريبة الشكل هو محاولات قاطنيها الحفاظ عليها من الانهيار التام، لكن ثمة بعض المنازل الأخرى التي لم يحاول أحد الحفاظ عليها قط، وهي المنازل التي بدت رمادية اللون ومائلة للأمام ونال السوس من أخشابها، تقبع في محيط من الحفر المليئة بالأشجار الخفيضة، والبرك التي تعيش فيها الضفادع، والأعشاب السبخية، وأعشاب القراص. لكن أغلب المنازل رُقِّعت بورق القطران، والقليل من الألواح الخشبية الجديدة، وألواح من الصفيح، ومداخن المواقد المطروقة، بل حتى بالورق المقوَّى أيضًا. كان ذلك، بالطبع، قبل الحرب، وهي الأيام التي أصبحت بعد ذلك تُعرَف بأيام «الفقر الأسطوري». لم تكن روز تتذكر من تلك الأيام سوى المشاهد الكئيبة، مثل درجات السلم الخشبية وكثبان النمل التي تبدو خطرة، والصورة القاتمة والمثيرة والجدلية للعالم.
•••
سادت هدنة طويلة بين فلو وروز في البداية. وأخذت شخصية روز تنمو كثمرة الأناناس الشائكة، لكن ببطء وسرِّية، فتبلورت شخصيتها بحيث صارت تتمتع بدرجة عالية من عزة النفس والنزعة للشك، الأمر الذي جاء مُفاجِئًا، حتى لروز نفسها. وقبل أن تصل إلى سن المدرسة، وبينما كان براين لا يزال في المهد، قضت روز أوقاتها في المتجر مع فلو وبراين، فكانت فلو تجلس على الكرسي المرتفع خلف منضدة الخزينة، وبراين ينام بجوار النافذة؛ بينما تجثو روز على ركبتيها أو تستلقي على ألواح الأرضية العريضة، التي كانت تصدر صريرًا، لترسم بالألوان على قطع الورق البني الممزق أو غير المنتظم الذي لا يصلح للتغليف.
كان أغلب من ترددوا على المتجر من المنازل المجاورة، إلى جانب بعض القرويين المارين على المكان في طريق عودتهم من المدينة إلى ديارهم، فضلًا عن عدد قليل من سكان هانراتي الذين كانوا يعبرون الجسر. وُجد دومًا بعض الأفراد في الشارع الرئيسي، داخل المتاجر وخارجها، كما لو كان من واجبهم الظهور دومًا في الشارع، ومن حقهم أن يُرحَّب بهم؛ ومنهم على سبيل المثال، بيكي تايد.
قفزت بيكي تايد لتجلس على منضدة فلو، مفسحةً مكانًا لنفسها بجوار علبة مفتوحة من البسكويت المحشو بالمربى المتساقط منه بعض الفتات.
سألت بيكي فلو: «هل هذا مذاقه جيد؟» وأخذت تأكل منه بجرأة، واستطردت قائلةً: «متى ستمنحينني وظيفة، يا فلو؟»
فردَّت عليها فلو ببراءة: «يمكنك الذهاب والعمل في محل الجزارة مع أخيك.»
قالت بيكي بنوع من الازدراء المُصطنع: «روبرتا؟ هل تظنين أنه من الممكن أن أعمل معه؟» كان اسم أخيها، الذي يدير محل الجزارة، روبرت، لكنه اشتهر باسم روبرتا نظرًا لأسلوبه المهادن والمتململ. ضحكت بيكي تايد. كانت ضحكتها رنانة ومزعجة كمحرك مزعج.
كانت بيكي قصيرة القامة، كبيرة الرأس عالية الصوت، ذات مظهر خارجي يملؤه الغرور لا يميزها كأنثى، وترتدي قلنسوة مخملية حمراء. كان عنقها ملتويًا، ما أجبرها على تثبيت رأسها في اتجاه واحد، بحيث تنظر دومًا للأعلى وللجانبين. كانت ترتدي حذاء لماعًا عالي الكعب، كان حذاءً يليق بسيدة حقيقية. أخذت روز تحدق في حذائها فقط؛ فكانت تخشى كل ملمح آخر في تلك الفتاة؛ وخاصة ضحكتها وعنقها. علمت روز من فلو أن بيكي تايد أُصيبت بشلل الأطفال وهي طفلة، وهذا ما تسبب في التواء عنقها وقصر قامتها. كان من الصعب التصديق أن تلك الفتاة كانت لها هيئة أخرى غير تلك التي عليها الآن، وأنها كانت طبيعية في يوم من الأيام. ذكرت فلو أنها ليست مخبولة، وإنما عاقلة شأنها شأن أي شخص آخر، لكن بوسعها فعل كل ما يروق لها دون أن تلقى أي عقوبة.
سألت بيكي: «تعلمين أنني كنت أعيش هنا، أليس كذلك يا فلو؟» كانت قد لاحظت آنذاك وجود روز، فنادت عليها: «يا فتاة! ما اسمك؟»
فأجابتها فلو، كما لو كانت تجهل الأمر: «إن فعلتِ، فقد كان ذلك قبل مجيئي إلى هنا.»
«كان ذلك قبل أن يتدهور الحال بالحي على هذا النحو. أستميحك عذرًا فيما أقوله. شيَّد والدي منزله هنا، وأقام المجزر الخاص به، وكنا نمتلك بستانًا بلغت مساحته نصف فدان.»
قالت فلو بصوت مازح مليء باللطف الزائف، بل والتواضع أيضًا: «حقًّا؟ فلِمَ رحلتم إذن؟»
أجابتها بيكي: «لقد أخبرتُكِ للتو، تدهور حال الحي.» كانت بيكي ستضع بسكويتة كاملة في فمها، إذا رغبت في ذلك، وتترك وجنتيها تنتفخان كالضفدع. وبتناولها البسكويت، سكتت عن الحديث، ولم تنطق بأية كلمة أخرى.
كانت فلو على علم بما تتحدث عنه بيكي، الجميع كان على علم بذلك. عرف الجميع ذلك المنزل المشيد بالطوب الأحمر، الذي يحتوي على شرفة وبستان، أو بالأحرى ما تبقى من البستان الذي صار ممتلئًا بالنفايات المعتادة، مثل مقاعد السيارات وغسالات الملابس، وزنبركات الأسرَّة والخردة. وبالرغم مما حدث في ذلك المنزل، لم يبدُ مشئومًا قط، وذلك بسبب كل ما أحاط به من حطام وفوضى.
ذكرت فلو أن والد بيكي كان جزارًا مختلفًا عن أخيها؛ فقد كان رجلًا إنجليزيًّا حادَّ الطباع، ويختلف عن بيكي فيما يتعلق بكثرة الحديث؛ إذ كان صموتًا. كان ربَّ أسرة بخيلًا وطاغية. بعد أن أصيبت بيكي بشلل الأطفال لم يُسمح لها بالذهاب إلى المدرسة، وكانت نادرًا ما تُرَى خارج المنزل، ولم تُرَ قط خارج الفناء. لم يرغب والدها في أن يبدي الناس الشماتة فيها. كان هذا ما قالته بيكي في المحاكمة. كانت والدتها قد توفيت بحلول ذلك الوقت، وتزوجت شقيقتاها، ولم يتبقَّ بالمنزل سواها هي وروبرت. كان الناس يوقفون روبرت في الطريق ويسألونه: «كيف حال أختك؟ هل هي بخير الآن؟»
«نعم.»
«هل تقوم بأعمال المنزل؟ هل تعد لك عشاءك؟»
«نعم.»
«هل يُحسن أبوك معاملتها؟»
شاع عن والد بيكي وروبرت أنه يضربهما، وأنه كان يضرب جميع أبنائه، بل وزوجته أيضًا. وكان يضرب بيكي أكثر بسبب عاهتها الجسدية، التي ظن البعض أنه هو من تسبَّب في إصابتها بها (كانوا يجهلون مرض شلل الأطفال). استمر الناس في حبك القصص عن تلك العائلة والاستفاضة فيها؛ فقيل إن السبب وراء إخفاء بيكي عن الأنظار هو حملها، وأن والدها هو والد هذا الطفل. وقيل أيضًا إنها وضعت طفلها، وتم التخلص منه.
«ماذا؟»
أجابت فلو: «تم التخلص منه. اعتاد الناس القول إن أفضل قطع للحم الحملان يكون بمجزر تايد!» وأضافت بشيء من الأسف: «كان كل ذلك أكاذيب على الأرجح.»
لفتت نبرة الحسرة والشفقة والحذر التي شابت حديث فلو انتباه روز عن مشاهدة تحريك الرياح للظُّلة القديمة المتمزقة. عندما كانت فلو تروي قصة ما — لم تكن تلك القصة الوحيدة التي تعرفها، أو حتى أكثرها بشاعة — كانت تحني رأسها، ويبدو وجهها رائقًا ورصينًا وآسرًا ومحذِّرًا.
«ليس من المفترض أن أتحدث معك عن هذه الأمور.»
واصلت فلو روايتها للقصة.
اجتمع ثلاثة شباب ممن يتسكعون في إسطبلات الخيول المعروضة للإيجار — أو جمعتهم معًا شخصيات أكثر نفوذًا واحترامًا في المدينة — وتأهبوا لضرب تايد العجوز بالسياط، دفاعًا عن الأخلاق العامة. طلا أولئك الشباب وجوههم باللون الأسود، وحصلوا على سياط وربع كأس ويسكي لكلٍّ منهم ليمنحهم الشجاعة. وقد كانوا: جيلي سميث، عدَّاء في سباقات الخيل وسكير؛ وبوب تمبل، لاعب كرة مفتول العضلات؛ وهات نيتلتون، الذي يعمل في نقل الأثقال بالمدينة، وحصل على اسم شهرته «هات» بسبب القبعة المستديرة السوداء التي كان يرتديها من باب الخيلاء والمزاح في الوقت نفسه. كان لا يزال يعمل في نقل الأثقال وظل محتفظًا باسمه، وإن لم يعد يرتدي القبعة، وكان يمكن رؤيته علنًا — بقدر ما يمكن رؤية بيكي تايد — وهو ينقل أكياس الفحم، التي سوَّدت وجهه وذراعيه. من المفترض أن يستدعي ذلك قصة ذلك الرجل، ولكن ذلك لم يحدث؛ فالحاضر والماضي — ذلك الماضي الميلودرامي المبهم لقصص فلو — كانا منفصلين تمامًا، على الأقل بالنسبة إلى روز، فما كان لشخصيات الحاضر أن تتلاءم مع الماضي. بيكي نفسها، أعجوبة المدينة والشخصية المدللة للجميع، المسالمة والخبيثة، لا يمكن ربطها أبدًا بسجينة الجزار، تلك الابنة العاجزة، ذات الوجه الأبيض الذي يطل من الشباك، الصامتة، المقهورة، والمُغتصَبة. شأنها شأن منزل الجزار، لا يمكن ربط ما كان عليه في الماضي بما صار عليه في الحاضر إلا رسميًّا فقط.
وصل الشباب، الذين استعدوا لضرب الجزار العجوز بالسياط، أمام منزله في وقت متأخر من اليوم بعد أن نام الجميع. كان معهم سلاح ناري، لكنهم استنزفوا ما معهم من ذخيرة بإطلاقها في فناء المنزل. أخذوا يصيحون على الجزار كي يخرج لهم، ويطرقون الباب بقوة حتى تمكنوا في النهاية من كسره. استنتج تايد أنهم يريدون المال، فوضع بعض الأوراق النقدية في منديل، وأرسلها مع بيكي، ربما ظنًّا منه أنهم سيتأثرون أو يخافون عند رؤيتهم فتاة صغيرة قصيرة القامة ملتوية العنق أمامهم. لكن ذلك لم يُرضِهم؛ فصعدوا الدَّرَج وجرُّوه من تحت السرير وهو برداء النوم إلى الخارج وأوقفوه وسط الجليد. كانت الحرارة آنذاك أربعًا تحت الصفر، وهو الأمر الذي ذُكِر لاحقًا في المحكمة. اعتزم أولئك الشباب عقد محاكمة صورية لتايد، لكنهم لم يستطيعوا تذكُّر كيفية إجرائها، ومن ثم، بدءوا في ضربه، واستمروا في ذلك إلى أن سقط على الأرض. أخذوا يصرخون في وجهه: «يا لحم الجزار!» وواصلوا الضرب، بينما استحال رداء النوم الذي كان يرتديه والثلج الذي استلقى عليه إلى اللون الأحمر. قال ابنه روبرت في المحكمة إنه لم يشهد الضرب، في حين قالت بيكي إن روبرت شاهد ما حدث في البداية، ثم هرب واختبأ. هي نفسها شاهدت كل ما حدث حتى النهاية، ورأت الرجال وهم يغادرون المكان، ووالدها يتقدم ببطء وسط الجليد والدم ينزف من جسده، حتى صعد درجات الشرفة. لم تخرج بيكي لمساعدته، ولم تفتح الباب حتى وصل إليه. وعند سؤالها في المحكمة عن سبب ذلك، قالت إنها لم تخرج إليه لارتدائها رداء النوم فقط، ولم تفتح الباب لأنها لم ترغب في دخول الصقيع إلى المنزل.
بدا بعد ذلك أن استعاد تايد العجوز عافيته، فأرسل روبرت لإعداد الحصان، وجعل بيكي تسخن بعض الماء ليغتسل. وارتدى ملابسه، وأخذ كل ما معه من مال، وبدون أي شرح لأبنائه عما يفعله، أخذ المركبة وقادها إلى بِلجريف، حيث ترك الحصان مقيدًا في الصقيع، واستقل القطار الذي انطلق في الصباح الباكر إلى تورونتو. وعلى متن القطار، تصرف على نحو غريب، وأخذ يدمدم ساخطًا ويسب كما لو كان مخمورًا. وعُثِر عليه في اليوم التالي في أحد شوارع تورونتو، فاقدًا الوعي ومحمومًا، فنُقِل إلى المستشفى حيث توفي. وكانت لا تزال معه كل أمواله. وشُخِّص سبب الوفاة بالالتهاب الرئوي.
لكن السلطات سمعت بالأمر، وفقًا لرواية فلو. وأُحيلت القضية إلى المحكمة، وحُكِم على الرجال الثلاثة الذين اعتدوا عليه بالسجن مدة طويلة. مسرحية هزلية، هكذا وصفت فلو ما حدث. ففي غضون عام واحد، أُفرِج عنهم جميعًا بعد أن صدر أمر بالعفو عنهم، وكانت هناك وظائف بانتظارهم، وكان السبب في ذلك هو تدخل العديد من علية القوم في هذا الشأن. وبدا كلٌّ من بيكي وروبرت غير مهتمَّيْن بتنفيذ العدالة؛ فقد تركهما والدهما ميسوري الحال، واشتريا منزلًا في هانراتي، وأدار روبرت محل الجزارة، في حين بدأت بيكي — بعد عزلتها التي دامت طويلًا — في الظهور والاندماج الاجتماعي.
انتهت القصة على هذا النحو، فتوقفت فلو عن روايتها كما لو كانت قد سئمت منها، فلم تعد بالخير على أحد.
قالت فلو: «تخيلي!»
كانت فلو آنذاك، بلا شك، في أوائل الثلاثينيات من عمرها؛ امرأة شابة ترتدي ملابس سيدة في الخمسينيات أو الستينيات أو السبعينيات من عمرها: فساتين منزلية كثيرة الألوان وفضفاضة حول الرقبة والأكمام والخصر؛ ومِيدَعَة مطبخ كثيرة الألوان أيضًا كانت تخلعها عند خروجها من المطبخ ودخولها المتجر. كان ذلك الزي هو الشائع آنذاك لسيدة فقيرة، وإن لم تكن معدمة، لكنه كان في الوقت نفسه اختيارًا حرًّا يوحي بالازدراء؛ فكانت فلو تزدري السراويل الفضفاضة، والملابس التي يحاول الناس التأنق بارتدائها، وأحمر الشفاه وتموجات الشعر الثابتة؛ فكانت تقص شعرها الأسود مستقيمًا بحيث يصل طوله إلى خلف أذنيها بالضبط. كانت فلو طويلة القامة، لكنها تمتعت في الوقت ذاته بتنسيق عظمي جيد، فكان عرض معصميها وكتفيها صغيرًا، ورأسها صغير، ووجهها شاحب منمش متقلب يشبه وجه القرد. لو كانت فلو تؤمن بأهمية الاعتناء بالذات، وكان لديها الموارد اللازمة، لكان من الممكن أن تتمتع بنوع من الجمال الرقيق الذي يجمع بين سمرة البشرة وشحوبها، ذلك الجمال الذي يبدو طبيعيًّا؛ هذا ما أدركته روز فيما بعد، لكن كي يتحقق ذلك، كان على شخصية فلو أن تتبدل تمامًا، وأن تقاوم رغبتها في تقطيب جبينها لنفسها وللآخرين.
جمعت ذكريات روز المبكرة عن فلو بين قدر هائل من النعومة والخشونة في نفس الوقت. أما النعومة، فتمثلت في شعرها الناعم، ووجنتيها الطويلتين الشاحبتين الناعمتين، والشعيرات الناعمة التي تكاد تكون غير مرئية أمام أذنيها وفوق فمها. أما الخشونة، فكانت في ركبتيها، وحِجرها، وتسطُّح جبهتها.
عندما غنت فلو:
كم هو جميل طنين النحل في أشجار السجائرونافورات المياه الغازية … أخذت روز تفكر في حياة فلو السابقة لزواجها من والدها، عندما كانت تعمل نادلة في المقهى الموجود في محطة قطار «يونيون ستيشن»، وتذهب مع صديقتيها ميفيس وآيرين إلى جزيرة «سنتر آيلاند»، ويتبعهن الرجال في الشوارع المظلمة. كانت تعلم كيفية عمل المصاعد وهواتف العملة. سمعت روز في صوتها ما يوحي بالحياة الطائشة والخطرة في المدن من خلال إجاباتها الحادة والعصبية.
وعندما غنت:
ثم برفق استيقظَتوبرفق اقتربَت منهولم تنطق إلا بهذه الكلمات،أيها الشاب، أظنك تحتضر! تصورت روز الحياة التي عاشتها فلو لأبعد من ذلك الحد؛ حياة مليئة بالأحداث وأسطورية، مع أغنية «باربارا آلين» ووالد بيكي تايد، بكل ما اختلط فيها من نوبات الغضب والحزن.
•••
الضرب الملكيُّ. كيف بدأ؟
تخيلْ أحد أيام السبت في فصل الربيع؛ أوراق الأشجار لم تنبت بعد، لكن الأبواب مفتوحة ليتخللها ضوء الشمس، والديوك تعلو أصواتها في الأجواء، والمياه تملأ المجاري المائية. طقس يبعث الأمل في النفوس. اعتادت فلو أيام السبت ترك المتجر في رعاية روز — كان ذلك منذ بضعة أعوام من الآن، عندما كانت روز في التاسعة أو العاشرة أو الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمرها — بينما كانت تعبر هي الجسر إلى هانراتي (كانت هانراتي تُسمَّى الجزء الأعلى من المدينة) للتسوق ورؤية الناس والاستماع إليهم. ومن بين الأشخاص الذين استمعت إليهم فلو، السيدة ديفيس زوجة المحامي، والسيدة هينلي سميث زوجة الكاهن الإنجليكاني، والسيدة ماكاي زوجة طبيب الخيول. وعند عودتها للمنزل، كانت تقلِّد أصواتهن الحمقاء. جعلتهن يبدين كوحوش تملؤها الحماقة والزيف والتباهي بالذات.
عندما كانت فلو تنتهي من التسوق، كانت تدخل المقهى الموجود بفندق «كوينز هوتيل» وتتناول الآيس كريم. وعند عودتها للمنزل، يسألها براين وروز: «ما كانت نكهته؟» وكانا يصابان بالإحباط إذا كان بالأناناس أو بحلوى السكر والزبد فقط، ويسعدان إذا كان بشراب الشوكولاتة والفستق أو بالشوكولاتة والفانيليا. وبعد الآيس كريم، كانت تشعل سيجارة. حملت معها بعض السجائر الجاهزة كي لا تضطر للفها أمام الناس. كان التدخين من الأمور التي كانت فلو تفعلها وتطلق عليها تفاخرًا عندما يفعلها أي شخص آخر. اعتادت التدخين منذ أيام عملها في تورونتو، وكانت تعلم أنه يجلب إليها المشاكل؛ ففي إحدى المرات، وقف قس كاثوليكي على يمينها في فندق «كوينز هوتل»، وأشعل الولاعة أمامها قبل أن تتمكن من إخراج الثقاب، فشكرته، لكنها لم تدخل معه في أية مناقشة، خشية أن يحاول هدايتها.
مرة أخرى، وفي طريقها إلى المنزل، رأت فتى يرتدي سترة زرقاء ويبدو أنه ينظر في الماء عند نهاية الجسر من ناحية المدينة. ربما كان في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمره. لم تعرفه فلو من قبل. كان نحيفًا وهزيلًا وبه خطب ما لمحته فلو على الفور. هل كان يفكر في القفز من فوق الجسر؟ ما إن وصلت عنده فلو حتى استدار وأظهر نفسه لها، وقد فتح السترة والسروال. بدا وكأن ذلك من آثار ما عانى منه الفتى نتيجة للبرد في ذلك اليوم، مثل هذا الطقس الذي دعا فلو أن تطوي ياقة المعطف حول عنقها لتدفئ نفسها.
عندما رأت فلو، للوهلة الأولى، ما كان يحمله ذاك الفتى بين يديه، كلُّ ما تمكنت من التفكير فيه هو: «ما الذي يفعله هذا الفتى هنا ممسكًا بقطعة السجق هذه؟»
كان بإمكانها قول ذلك، وعبَّرت عنه كحقيقة وليس مزحة، فلطالما أكدت فلو أنها تكره الكلام البذيء؛ وكانت تخرج من المتجر لتصيح في الرجال كبار السن الجالسين أمامه، قائلةً:
«إذا أردتم البقاء هنا، فعليكم بانتقاء ألفاظكم!»
وفي أحد أيام السبت، قررت فلو لسبب ما عدم الذهاب إلى الجزء العلوي من المدينة، والبقاء في المنزل، وتنظيف أرضية المطبخ. لعل ذلك تسبَّب في تعكُّر مزاجها، وربما كان مزاجها متعكرًا بالفعل بسبب عدم دفع الناس ديونهم المستحقة لها، أو لعل السبب هو تأجُّج المشاعر الذي يصيب الناس في الربيع. كان الشجار قد بدأ مع روز بالفعل، وهو مستمر إلى الأبد، كالحلم الذي يتداخل مرارًا وتكرارًا مع أحلام أخرى، ليظهر من فوق التلال وعبر الأبواب، معتمًا ومزدحمًا، مألوفًا ومحيرًا في نفس الوقت. كانت فلو وروز تُخرِجان جميع الكراسي من المطبخ استعدادًا لتنظيف الأرضية، وكان عليهما أيضًا أن ينقلا بعض مؤن المتجر الإضافية إلى المتجر، وبعض العلب الكرتونية التي تحوي السلع المُعلَّبة، وصفائح شراب القيقب، وعلب زيت الفحم، وبرطمانات الخل. وكانتا تنقلان هذه الأشياء إلى السقيفة الخشبية. وكان براين، الذي بلغ من العمر خمس أو ست سنوات آنذاك، يساعدهما في جر علب الصفيح.
قالت فلو لروز، وهي تواصل حديثها الذي لم يُذكَر هنا: «نعم، وتلك البذاءة التي تعلمينها لبراين.»
«أية بذاءة؟»
«ولا يجيد سواها.»
كانت هناك درجة سلم واحدة للنزول من المطبخ إلى السقيفة الخشبية، وكانت مغطاة بقطعة من السجاد المتآكل، حتى إن روز لا تذكر النقش الذي كان مرسومًا عليه في يوم من الأيام. تسبَّب براين في تفكُّك هذه السجادة بسحبه إحدى العلب الصفيح عليها.
قالت روز بصوت خفيض: «اثنان من فانكوفر …»
كانت فلو في المطبخ. أخذ براين ينظر إلى فلو ثم إلى روز، وروز تكرر بصوت مُشجِّع أعلى قليلًا ولكنه بنفس النبرة: «اثنان من فانكوفر …»
فأكمل براين المقطع، بعد أن فشل في التحكم في نفسه: «مقليَّان في المخاط!»
«مؤخرتان مخللتان …»
«… مربوطتان في عقدة!»
ها هي ذي البذاءة!
اثنان من فانكوفر مقليان في المخاط!مؤخرتان مخللتان مربوطتان في عقدة! عرفت روز تلك الأغنية منذ سنوات عديدة، فتعلَّمتها عند دخولها المدرسة للمرة الأولى، وعند عودتها إلى المنزل آنذاك سألت فلو عن معنى كلمة «فانكوفر».
«إنها مدينة بعيدة للغاية عن هنا.»
«هل لها أي معنى آخر؟»
فسألتها فلو عما تعنيه. ما المعنى الآخر الذي يمكن أن تحمله؟ فردت عليها روز: «أعني كيف يمكن أن تكون مقلية؟» لتصل بذلك إلى اللحظة الخطيرة والمبهجة في الوقت نفسه، وهي اللحظة التي تغنَّت فيها بالأغنية كاملة.
فما كان من فلو إلا أن صاحت فيها بغضب متوقع: «سوف تُضرَبين! كرري ما قلتِهِ الآن، وسوف تُضرَبين ضربًا مبرحًا!»
لم تستطع روز كبح جماح نفسها، فأخذت تدندن بالكلمات بصوت خافت، محاولةً النطق بالكلمات البريئة بصوت عالٍ، والهمهمة بباقي الكلمات. لم يكن ما يمتعها هو كلمتا «مخاط» و«مؤخرتان» فحسب — وإن كانتا تفعلان ذلك بالفعل — وإنما استمتعت أيضًا بالمخلل والربط والاثنين من فانكوفر اللذين لم تستطع تخيلهما. أخذت تتصور شكلهما في عقلها؛ فرأتهما في صورة أخطبوطين ينتفضان في مقلاة. كانت تصورات تداعى فيها المنطق، وانطلقت فيها شرارات الجنون.
ومؤخرًا، تذكرت روز تلك الأغنية، وعلَّمتها لبراين لترى ما إذا كان لها نفس التأثير عليه، وبالطبع كانت كذلك.
عندما سمعته فلو، صاحت: «يا إلهي! لقد سمعتُكَ! وأنا أحذِّركَ!»
كانت تحذِّره بالفعل. وبعد أن تلقَّى براين هذا التهديد فرَّ هاربًا من باب السقيفة الخشبية، ليفعل ما يشاء. فكونه فتى منحه حرية الاختيار بين المساعدة والمشاركة أو لا، فلم يكن ملتزمًا بالمشاركة في أعباء المنزل، ولم تكن الأسرة بحاجة إليه على أية حال، فيما عدا استخدامها له كأداة في صراع بعضهم مع بعض. وكانوا لا يلاحظون اختفاءه؛ ويواصلون صراعهم. فلا يستطيعون منع أنفسهم من المواصلة، لا يستطيع أيٌّ منهم ترك الآخر وشأنه. وحين كان يبدو عليهم الاستسلام، كانت صدورهم تتأجج بالحنق في تأهب للحظة الصراع.
أخرجت فلو دلو التنظيف والفرشاة والممسحة والوسادة التي تجثو بركبتيها عليها، وهي وسادة مطاطية حمراء اللون متسخة. شرعت في تنظيف الأرضية، بينما كانت روز تجلس على طاولة المطبخ، وهي المكان الوحيد المتبقي للجلوس عليه. وأخذت تؤرجح ساقيها. كان بإمكانها الشعور بملمس المشمع البارد تحتها؛ إذ ارتدت بنطالًا قصيرًا. كان ذلك بنطال الصيف الماضي الضيق باهت اللون الذي أخرجته من حقيبة ملابس الصيف، وكانت تفوح منه رائحة كريهة بعض الشيء بسبب فترة التخزين الشتوي.
زحفت فلو على الأرضية لتنظفها بالفرشاة، وتمسحها بالممسحة. كانت ساقاها طويلتين، بيضاوين، وقويتي العضلات، وتملؤهما الشرايين الزرقاء كما لو كان أحد قد رسم عليهما أنهارًا بقلم لا يُمحَى. طاقة غير طبيعية، واشمئزاز ينفث عنفًا ظهرا في احتكاك الفرشاة بمشمع الأرضية وحفيف الممسحة.
ما الذي كان على كلٍّ منهما قوله للأخرى؟ لا يهم حقًّا. فتحدثت فلو عن تحاذق روز، ووقاحتها، وسلوكها غير المسئول، وغرورها، واستعدادها لتحميل الآخرين أعباء واجباتها، وعدم اعترافها بالجميل. وكثيرًا ما كانت فلو تقارن بين براءة براين وفساد روز. في لحظة تقول لها: «لا تظنِّي أنك شخص مهم.» ثم تقول بعدها بلحظات: «مَن تظنين نفسك؟» عارضت روز هذه العقلانية والمهادنة الخبيثة، وأظهرت عدم الاكتراث على نحو متكلف، فتجاوزت فلو الحد المعتاد لازدرائها وضبط أعصابها، وصارت متكلفة في حديثها هي الأخرى؛ فأخذت تقول لروز إنها ضحَّت بحياتها من أجلها، وبأنها رأت والدها وقد تحمل عبء طفلة رضيعة وحده وأخذت تفكر فيما سيفعله؛ لذلك تزوجته، وها هي الآن، جاثية على ركبتيها تنظف في منزله.
في تلك اللحظة، رنَّ جرس المتجر ليعلن قدوم أحد الزبائن، ونظرًا للعراك القائم، لم يُسمَح لروز بالدخول إلى المتجر وخدمة الزبائن، أيًّا كانوا. نهضت فلو، وألقت بالميدعة التي كانت ترتديها، وهي تدمدم في تذمر، لكن بصوت خافت؛ فما عبَّرت عنه من حنق ما كان مسموحًا لروز بسماعه. وذهبت إلى المتجر لتلبي طلب الزبون. سمعتها روز وهي تقول بصوتها المعتاد:
«يا له من توقيت ممتاز حقًّا!»
عادت فلو إلى المطبخ، وارتدت الميدعة، وتأهَّبت لمواصلة العمل.
«إنك لا تفكرين إلا في نفسك! لم تفكري فيما أفعله قط.»
«لم أطلب منك قط فعل أي شيء، بل إنني أتمنى لو أنك لم تفعلي شيئًا قط، فكنت سأكون أفضل حالًا من الآن.»
قالت روز هذه الكلمات بوجه باسم وهي تنظر مباشرة نحو فلو، التي لم تكن قد جثت بعدُ على ركبتيها. رأت فلو الابتسامة على وجه روز، فالتقطت الممسحة التي كانت معلَّقة بجانب الدلو، ورمتها عليها. لعلها قصدت ضربها في وجهها، لكن الممسحة وقعت على ساق روز، فرفعت الفتاة قدمها وأمسكت بها، ملوِّحةً بها دون اكتراث قبالة كاحلها.
فقالت فلو: «حسنًا! لقد تجاوزتِ الحد هذه المرة.»
شاهدت روز فلو وهي ذاهبة إلى باب السقيفة الخشبية، وسمعت وقع خطواتها عبر السقيفة، وتوقُّفها في مدخل الباب حيث لم يُركَّب بعدُ الباب الشبكي، ولا يزال الباب الذي يحمي من العواصف مفتوحًا ومسنودًا بأحد قوالب الطوب. أخذت فلو تنادي على والد روز بصوت مُحذِّر ومُنذِر، كما لو كانت تعدُّه لسماع أخبار سيئة خلافًا لرغبتها. سوف يُعلم السبب وراء ذلك.
احتوى مشمع أرضية المطبخ على خمسة أو ستة نقوش مختلفة، فكان عبارة عن بقايا حصلت عليها فلو مقابل ثمن بخس، وشذبتها ووفَّقت بينها ببراعة، وأحاطتها بإطار من شرائط القصدير والمسامير. بينما كانت روز تجلس على الطاولة منتظرةً ما سيحدث، نظرت إلى الأرضية وللترتيب الجيد للمستطيلات والمثلثات وشكل آخر أخذت تحاول تذكر اسمه. وفي تلك اللحظات، سمعت روز خطوات فلو وهي عائدة على اللوح الخشبي السميك ذي الصرير الموضوع على الأرضية المتسخة في السقيفة الخشبية. تباطأت في خطواتها، وأخذت تنتظر هي أيضًا. لم يعد بإمكانها هي وروز التحمُّل أكثر من ذلك وحدهما.
سمعت روز والدها وهو آتٍ نحوهما، فتسمَّرت مكانها، وسرت قشعريرة في ساقيها، وشعرت بارتجافهما على مشمع الطاولة. بعد أن شُتِّت انتباه والدها عن مهمته التي كان مستغرقًا فيها في سلام، وعن الكلمات التي كانت تدور في رأسه، وعن نفسه، كان عليه قول أي شيء. فقال: «حسنًا. ما الخطب؟»
وفي تلك اللحظة، تغيَّر صوت فلو، فصار قويًّا ومتألمًا وآسفًا. يبدو أنها تمكَّنت من اصطناعه في تلك اللحظة على الفور، فعبَّرت عن أسفها لاضطرارها استدعاء الأب من عمله، وقالت إنها ما كانت لتفعل ذلك لولا أن روز أثارت جنونها. كيف ذلك؟ بردودها الوقحة، وقلة حيائها، وبذاءة ألفاظها. كانت كلمات روز لفلو على قدر من الوقاحة بحيث إنها لو كانت فلو قد قالتها لوالدتها لأوسعها والدها ضربًا.
حاولت روز التدخل لتوضح أن ما يُقال غير صحيح.
ما الذي غير صحيح؟
رفع والدها يده دون أن ينظر إليها، وقال: «فلتصمتي!»
عندما قالت روز إن هذا الكلام غير صحيح، كانت تعني أنها لم تبدأ العراك، وإنما ردًّا منها على ما قيل لها فحسب، وأن فلو هي التي دفعتها إلى ذلك، وهي تتحدث الآن بأبشع الأكاذيب، محرِّفةً كل شيء ليوافق روايتها. تجاهلت روز مؤقتًا علمها بأن أي شيء ستقوله فلو أو تفعله، وأي شيء تقوله هي نفسها أو تفعله، لا يهم على الإطلاق. ما يهم هو الصراع، وهو الأمر الذي لا يمكن إيقافه، لا يمكن ذلك أبدًا، لا سيما بعد المرحلة التي وصلتا إليها في تلك اللحظات.
كانت ركبتا فلو متسختين، بالرغم من الوسادة التي أسندتهما عليها. وكانت ممسحة التنظيف لا تزال معلقة فوق قدم روز.
مسح والدها يديه أثناء استماعه لفلو. لم يتعجل الأمور؛ إذ كان بطيئًا في استيعاب ما يحدث، وضاق ذرعًا مقدمًا. لعله كان على وشك رفض الدور الذي ينبغي عليه ممارسته. لم ينظر إلى روز، ولكن مع أي صوت أو حركة تصدر عنها، كان يرفع يده.
قالت فلو: «حسنًا، لسنا بحاجة بالتأكيد لإطلاع الناس على ذلك.» وذهبت لإغلاق باب المتجر، واضعةً لافتة «سنعود بعد قليل». كانت روز قد صنعت هذه اللافتة لفلو بكثير من الزخرفة للحروف المائلة وتظليل للأحرف باللونين الأسود والأحمر. وعندما عادت فلو، أغلقت الباب المؤدي إلى المتجر، ثم الباب المؤدي إلى السلم، والآخر المؤدي إلى السقيفة الخشبية.
كان حذاؤها قد ترك علامات على الجزء النظيف المبتل من الأرضية.
وعند عودتها قالت بصوت منهك بعد أن وصلت إلى قمة انفعالها: «يا إلهي! إنني لا أعلم ما ينبغي عليَّ فعله معها.» ونظرت إلى أسفل، فرأت ركبتيها المتسختين (متبعةً عيني روز)، فدعكتهما بعنف بيديها المجردتين، ملطخةً المنطقة المحيطة بهما بالوسخ.
«إنها تهينني!» قالت فلو تلك الكلمات وهي تستقيم في وقفتها. لقد كان ذلك هو السبب. أخذت تكرر تلك العبارة في رضا: «إنها تهينني! ولا تحترمني!»
«أنا لا أهينها!»
فقال والدها: «فلتصمتي، أنتِ!»
«لو لم أستدعِ والدكِ، لظللتِ جالسةً حيث أنتِ، وهذه الابتسامة العريضة المستهزئة على وجهك! هل من سبيل آخر لتهذيبك؟»
لاحظت روز بعض الاعتراضات على وجه والدها على حديث فلو المتكلف، وشيئًا من الإحراج والنفور. إنها مخطئة، ويجب أن تعلم أنها مخطئة في ظنها أنه بوسعها الاعتماد على ذلك. فحقيقة أنها تعلم بما يفكر فيه والدها، وأنه يعلم أنها تعلم، لن يغير من الوضع شيئًا، فقد بدأ ينفعل، ورمقها بنظرة بدت في الأول فاترة ومتحدية. عكست لها تلك النظرة حكمه عليها، وانعدام حيلتها. ثم، تبدَّدت تلك النظرة، وبدأت عيناه تمتلئان بشيء مختلف، مثلما يمتلئ ينبوع المياه عندما تنظِّفه من أوراق الأشجار؛ بالكره والبهجة في نفس الوقت. رأت روز ذلك وأدركته. هل هو مجرد تعبير عن الغضب فحسب؟ هل من المفترض أن ترى عينيه وهما تمتلئان بالغضب؟ كلا. الكره حقيقي، والبهجة أيضًا حقيقية. فقد ارتخى وجهه، وتغيَّر، وصار أصغر سنًّا، ورفع يده، لكن هذه المرة لإسكات فلو.
قال: «حسنًا!» وكان يعني أن ما قيل يكفي، بل أكثر مما يكفي، انتهى هذا الجزء ويمكن مباشرة العقاب بالفعل. وشرع في فك حزامه.
كانت فلو قد توقفت عن الحديث بالفعل. كانت تعاني من نفس الصعوبة التي تعاني منها روز، ألا وهي صعوبة تصديق أن ما تعلم بضرورة حدوثه سيحدث بالفعل، وأنه لم يعد هناك وقت للرجعة.
قالت فلو، وهي تتحرك في الأرجاء بعصبية، كما لو كانت تفكر في العثور على سبيل للهروب من المكان: «يا إلهي! لا تقسُ عليها! يا إلهي! لست بحاجة لضربها بالحزام. هل ينبغي عليك استخدامه؟»
لم يجبها. استلَّ الحزام ببطء، وأمسك به كما ينبغي. «حسنًا! أيتها الفتاة.» تقدَّم ناحية روز ودفعها من فوق الطاولة. وجهُهُ وصوتُهُ تغيَّرا تمامًا. كان أشبه بممثل شرير يؤدي دور شخصية مرعبة. بدا كما لو كان من المفترض أن يتلذذ ويصر على فعل كل ما هو مخجل ومشين في هذا الشأن. ولا يعني ذلك أنه كان يتظاهر، أو يدعي، أو لا يعني ما يفعله، وإنما هو ينفذ بالفعل، ويعني ما يفعله. كانت روز تعلم ذلك، كما كانت تعلم كل شيء آخر عنه.
أخذت تفكر منذ ذلك الحين في جرائم القتل والقتلة. هل يجب ارتكاب جريمة القتل في النهاية، لكي تحدث أثرًا، بمعنى أن تثبت للضحية — التي لن تستطيع إبلاغ الآخرين بما تعلمته ولكنها تعانيه فقط — أن مثل هذه الأمور يمكن أن تحدث، وأنه ما من شيء مستحيل، وأن أبشع السلوكيات يمكن تبريرها، ويمكن إيجاد المشاعر التي تتلاءم معها؟
حاولت روز معاودة النظر إلى أرضية المطبخ، والتحديق في ذلك الترتيب الهندسي البارع والمريح، بدلًا من النظر إلى أبيها وحزامه. كيف يمكن لذلك أن يحدث أمام هؤلاء الشهود في وضح النهار، مشمع الأرضية، ونتيجة الحائط المرسوم عليها طاحونة وجدول مائي وأشجار الخريف، والأوعية والأواني القديمة؟
«افتحي يديك!»
ما كانت هذه الأشياء لتساعدها، ما كان بوسع أي منها إنقاذها. فتحولت إلى أشياء تافهة عديمة القيمة، بل ومعادية لها أيضًا. فظهر على الأواني الخبث، ونقوش مشمع الأرضية صارت تنظر إليها شزرًا. الغدر هو الجانب الآخر للحياة اليومية المعتادة.
مع أول شعور بالألم، أو ربما الثاني، تراجعت روز؛ فلن تقبل الأمر. أخذت تركض حول الغرفة محاوِلةً الوصول للأبواب، ووالدها يعيق طريقها. لم يبدُ عليها أي ملمح من الشجاعة أو القدرة على الصمود. أخذت تركض، وتصرخ، وتتوسل، ووالدها يجري وراءها، ضاربًا إياها بالحزام متى سنحت له الفرصة، ثم ألقى به واستخدم يديه. ضربة على الأذن، وأخرى على الأذن الثانية. ضربات متتالية، ورأسها يطن. ضربة على الوجه. تنهض لتقف قبالة الحائط، فتتلقى ضربة أخرى على وجهها. يهزها والدها، ويدفعها نحو الحائط، ويركل ساقيها. أخذت تتلعثم في الكلام، وقد جُنَّ جنونها، وتصرخ: «سامحني! أرجوك، سامحني!»
أخذت فلو تصرخ أيضًا: «كفى! توقف!»
لكن الأمر لم ينتهِ بعدُ في نظره، فألقى روز على الأرض، أو لعلها هي من ألقت بنفسها، وأخذ يركل ساقيها مجددًا. لم تعد تنطق بكلمات، لكنها أخذت تُصدر أصواتًا عالية، الأمر الذي جعل فلو تصيح: «يا إلهي! ماذا إذا سمعها الناس؟» كان صوت المهانة والهزيمة ذلك هو ملاذ روز الأخير؛ إذ يبدو أنه توجَّب عليها لعب دورها في هذا الأمر بنفس الفظاظة والمبالغة التي لعب بها أبوها دوره. فلعبت دور الضحية مع انغماس ذاتي يثير — أو ربما تطمح في أن يثير — ازدراء والدها الأخير.
بدا أنهما سيبذلان كل ما في وسعهما في هذا الأمر، وسيصلان إلى أقصى الحدود الممكنة.
في الواقع، ما كانا ليصلا إلى أقصى الحدود بالفعل؛ فهو لم يتعمد إيذاءها قط، وإن كانت تدعو الرب أحيانًا، بالطبع، أن يفعل ذلك. فكان يضربها بباطن يده، ولم يتمادَ في ركلاته أيضًا.
توقَّفَ الآن عن الضرب؛ إذ أخذ يلهث. سمح لفلو بالتدخل، وأمسك بروز ليرفعها عن الأرض، ودفعها في اتجاه فلو، مُصدِرًا صوت اشمئزاز. تلقَّتها فلو، وفتحت الباب المؤدي للسلالم، ودفعتها لأعلى.
«اصعدي إلى غرفتك الآن! أسرعي!»
صعدت روز السلالم وهي تتعثر، أو بالأحرى تسمح لنفسها بالتعثر والسقوط. لم تغلق باب غرفتها بقوة؛ لأن مثل هذا الفعل قد يجعل والدها يسعى وراءها مجددًا، هذا فضلًا عن أنها ضعيفة بالفعل. استلقت في السرير، وتمكنت من أن تسمع فلو عبر ثقب مدخن الموقد وهي تنتحب بصوت مسموع، وتستنكر ما فعله والدها، في حين قال لها الأب حانقًا إنها كان يجدر بها إذن السكوت، إذا لم ترغب في معاقبة روز كان عليها ألا توصي بذلك. فردت فلو بأنها لم توصِ مطلقًا بمثل هذا الضرب بالحزام.
أخذا يتجادلان حول ذلك، وأخذ صوت فلو الخائف يقوى ويستعيد ثقته مجددًا. وبمرور الوقت ومع استمرار الجدال، عاد كلٌّ منهما لطبيعته؛ فسرعان ما صارت فلو هي التي تتحدث، بينما توقَّف الأب عن الحديث. كان على روز مقاومة نشيجها العالي لكي تتمكن من سماعهما. وعندما فقدت الاهتمام في أن تسمع، ورغبت في النشيج أكثر، وجدت نفسها غير قادرة على ذلك؛ فقد تحولت إلى حالة من الهدوء أدركت فيها أن ما حدث من وحشية قد وصل إلى منتهاه وآخره. وفي هذه الحالة، تأخذ الأحداث والاحتمالات منحًى بسيطًا لطيفًا، وتصير الاختيارات واضحة على نحو رحيم. والكلمات التي تَرِد على الذهن ليست احتجاجية، وقلما تكون شرطية أيضًا. «مطلقًا» كلمة يتصحح بها الوضع فجأة؛ فقررت أنها لن تتحدث معهما مطلقًا، ولن تنظر إليهما مطلقًا فيما عدا نظرات الاشمئزاز، ولن تسامحهما أبدًا. سوف تعاقبهما، وتقضي عليهما. وبعد أن أحاطت نفسها بهذه القرارات النهائية، وفي ظل آلامها الجسدية، شعرت براحة غريبة تجاوزت فيها نفسها، وتجاوزت فيها المسئولية.
ماذا إذا تُوفيت الآن؟ ماذا إذا انتحرت؟ ماذا إذا هربت؟ أيٌّ من هذه الأمور سيكون مناسبًا. الأمر كله متوقف على الاختيار وتصور السبيل. أخذت تسبح في تلك الحالة من التسامي والصفاء كما لو كانت تحت تأثير مخدر ما.
وكما هو الحال بالضبط عندما تعيش لحظة تحت تأثير المخدر تشعر فيها بأنك في أمان وسكينة وبأنك بعيد عن الآخرين، ثم في اللحظة التالية مباشرةً وبدون سابق إنذار تعلم أن كلَّ ما تمتعتَ به من حماية قد تحطم تمامًا، وبالرغم من أن الأمر لا يزال يبدو أنه على ما يرام، مرت بروز الآن مثل هذه اللحظة — وهي اللحظة، في الواقع، التي سمعت فيها فلو وهي تصعد درجات السلم — التي تجمع بين حريتها وسلامها الحالي وتيقنها من الانحدار الكامل الذي ستشهده الأحداث بدءًا من تلك اللحظة.
دخلت فلو الغرفة دون أن تطرق الباب، لكن بتردد يدل على أنها ربما فكرت في طرق الباب قبل الدخول. أحضرت معها برطمان مرهم بارد الملمس. تمسَّكت روز بالميزة التي تمتعت بها قدر الإمكان؛ فاستلقت بوجهها على السرير، رافضةً التعبير عن إدراكها دخول فلو الغرفة، أو الرد عليها.
قالت فلو بتوتر: «بالله عليك! لم يُصِبْكِ سوء، أليس كذلك؟ فلتضعي هذا المرهم على جسدك وستشعرين بتحسن.»
كانت فلو تتظاهر؛ فهي لم تكن متأكدة من الضرر الذي لحق بروز. أزالت فلو الغطاء عن علبة المرهم البارد، وتمكنت روز من شم رائحته؛ تلك الرائحة الحميمية الطفولية المهينة. لن تسمح لها بالاقتراب منها، لكن لكي تتجنب كتلة المرهم التي حملتها فلو في يدها، كان عليها التحرك؛ فأخذت تقاوم وتتصدى لفلو، فخسرت كرامتها بأن سمحت لها برؤيتها وهي بخير ولم يُصِبها سوء.
فقالت فلو: «حسنًا، كما تشائين. سأتركه هنا ويمكنك وضعه متى تشائين.»
في وقت لاحق ظهرت فلو وهي تحمل صينية، ووضعتها دون أن تنبس ببنت شفة، وغادرت الغرفة. كان على الصينية كوب كبير من الحليب بالشوكولاتة ممزوج بشعير «فيتا مالت» الموجود في المتجر. هناك بعض آثار الشعير في قاع الكوب. كان على الصينية أيضًا بعض الشطائر المُعدَّة على نحو منسَّق وفاتح للشهية. كانت محشوة بسلمون أحمر مُعلَّب من الدرجة الأولى الممتازة، والكثير من المايونيز. كان هناك أيضًا بعض كعك الزبد المأخوذ من إحدى عبوات المخبوزات، وبسكويت بالشوكولاتة محشو بالنعناع. كانت تلك الأطعمة المفضلة لدى روز؛ الشطائر والكعك والبسكويت، لكنها أشاحت بوجهها بعيدًا، ورفضت النظر إلى الطعام. لكن ما إن تركتها فلو وحدها مع هذه الأطعمة الشهية حتى أغرتها على نحو بائس، أزعجها، وأبعدها عن أفكار الانتحار أو الهروب بسبب رائحة السلمون، وإغراء الشوكولاتة المقرمشة. فمدت إصبعها لتمرره حول طرف إحدى الشطائر (أزالت فلو القشور!) لتحصل على ما يتساقط منها وتتذوقه، ومن ثم، قررت تناول إحدى هذه الشطائر لتقوى على رفض تناول البقية؛ فلن يُلاحِظ أحد تناولها شطيرة واحدة. لكن بعد أن أفسدت عزيمتها هذه الأطعمة الشهية، تناولت جميع الشطائر، وشربت الحليب بالشوكولاتة، وأكلت الكعك والبسكويت، وأخرجت شراب الشعير من قاع الكوب بإصبعها، كل ذلك بالرغم من نحيبها بصوت مسموع إثر شعورها بالخجل مما فعلت؛ لكن الأوان كان قد فات.
ستأتي فلو وتأخذ الصينية. ربما ستقول لروز: «أرى أنكِ قد استعدتِ شهيتك»، أو «هل أعجبك الحليب بالشوكولاتة؟ هل كان الشراب كافيًا فيه؟» وذلك حسب مدى شعورها هي بالذنب. وفي كافة الأحوال، ستخسر روز ما تمتعت به من ميزة، وستدرك أن مجريات الحياة ستعود لطبيعتها، وأنهم سيجلسون حول المائدة يتناولون الطعام ثانيةً، ويستمعون للأخبار في الإذاعة، وسيكون ذلك في صباح اليوم التالي، أو ربما في المساء. وبالرغم من استبعاد ذلك وعدم ترجيحه، فسوف يشعرون بالإحراج، لكن بقدر أقل من المتوقَّع بالوضع في الاعتبار ما صدر عنهم من سلوك. سوف يشعرون بخمول عجيب، وتراخي المتماثلين للشفاء، مع بعض الرضا.
وفي إحدى الليالي، وبعد مشهد كهذا، كانت الأسرة جميعها في المطبخ. كان ذلك، بلا شك، أحد أيام الصيف، أو على الأقل في أثناء الطقس الدافئ، إذ كان والدها يتحدث عن الرجل العجوز الذي يجلس على المقعد أمام المتجر.
سأل والدها، وهو يلوِّح برأسه ناحية المتجر للإشارة إلى ما يعنيه، بالرغم من عدم وجود أحد في ذلك الوقت المتأخر، إذ عاد الجميع إلى منازلهم مع حلول الظلام: «هل تعلمون ما يتحدثون عنه الآن؟»
قالت فلو: «أتقصد أولئك المسنين المغفلين؟ عم يتحدثون؟»
كانت ثمة أُلفة بينهما، ولم تكن زائفة تمامًا، لكنها كانت متكلفة بعض الشيء عما يكون الحال بينهما في المعتاد وهما بمفردهما.
أخبرهم الأب حينذاك بأن أولئك المسنين قد توصلوا إلى فكرة بأن ما يبدو كالنجم في غرب السماء — ذلك النجم الذي يظهر بعد الغروب مباشرةً، نجم المساء — هو في الواقع منطاد بمحرك يجوب سماء مدينة «باي سيتي» بولاية ميشيجان الأمريكية على الجانب الآخر من بحيرة هورون، وأن هذا المنطاد هو ابتكار أمريكي أُطلِق في السماء لمنافسة الأجرام السماوية. واتفقوا جميعًا على هذه الفكرة، فقد راقت لهم. ويعتقدون أن هذا المنطاد مضاء بعشرة آلاف مصباح كهربائي. اختلف والد روز مع هذه القصة بقوة، مشيرًا إلى أن ما رأوه هو كوكب الزهرة الذي ظهر في السماء قبل اختراع المصباح الكهربائي بسنوات طوال. لكنهم لم يسمعوا من قبل عن كوكب الزهرة.
قالت فلو: «جَهَلة!» وكانت روز تعلم — وتعلم أن والدها يعلم — أن فلو أيضًا لم تسمع من قبل عن كوكب الزهرة. ولإلهائهم عن ذلك، أو حتى للاعتذار عما صدر منها، وضعت فلو فنجان الشاي الذي كانت تشربه، واسترخت برأسها لتسنده على الكرسي الذي كانت تجلس عليه، وألقت بقدميها على كرسي آخر (وتمكنت على نحو ما من دس فستانها احتشاما بين ساقيها في الوقت نفسه)، واستلقت متيبسة كاللوح الخشبي، فصاح براين مبتهجًا: «لتفعليها! لتفعليها!»
تمتعت فلو بأطراف مرنة وقوية للغاية، وفي أوقات الاحتفالات أو الطوارئ، كانت تقوم بحيل باستخدام هذه المرونة.
التزم الجميع الصمت، بينما أدارت فلو جسدها دون أن تستخدم ذراعيها على الإطلاق، وإنما مجرد ساقيها وقدميها، وصاح الجميع في ابتهاج، بالرغم من رؤيتهم تلك الحيلة من قبل.
وبينما كانت فلو تؤدي حيلتها، تخيلت روز صورة ذلك المنطاد ذي المحرك؛ فتخيلته فقاعة شفافة طويلة، وله خيوط من الأضواء الماسية تطفو في سماء أمريكا الرائعة.
قال والد روز وهو يصفق لفلو: «كوكب الزهرة! عشرة آلاف مصباح كهربائي!»
خيَّم شعور بحرية التصرف، والاسترخاء في الغرفة، بل وطغت موجة من السعادة أيضًا على المكان.
•••
بعد ذلك الحين بسنوات طوال، وفي صبيحة أحد أيام الآحاد، قامت روز بتشغيل المذياع. كان ذلك أثناء إقامتها بمفردها في تورونتو.
حسنًا، سيدي.
لقد كان المكان مختلفًا تمامًا في أيامنا عن الوقت الحاضر. اختلف بالتأكيد.
فكانت وسيلة المواصلات آنذاك هي الخيول؛ الخيول والعربات التي تجرها الخيول. وكانت هذه العربات تتسابق في الشارع الرئيسي جيئة وذهابًا في ليالي السبت.
فقال المذيع، أو المحاور، بصوت مشجع وهادئ: «مثل سباقات عجلات الخيول القديمة.»
لم أرَ هذه العجلات من قبل.
«لا، يا سيدي. أقصد سباقات عجلات الخيول الرومانية قديمًا. كان ذلك في قديم الزمان.»
لا بد وأن هذا حدث قبل مولدي بوقت طويل. أنا أبلغ من العمر مائة عام وعامين.
«هذا عمر رائع، يا سيدي.»
إنه كذلك، بالفعل.
تركت روز المذياع مفتوحًا، بينما تجوَّلت في مطبخ الشقة لتعدَّ لنفسها كوبًا من القهوة. بدا الأمر لروز وكأنه لقاء مسرحي؛ أي مشهد من مسرحية ما، وأرادت أن تعرف ما هي. كان صوت الرجل العجوز يوحي بالغطرسة والمشاكسة، في حين بدا المحاور بائسًا ومتخوفًا للغاية، بالرغم مما بدا ظاهريًّا عليه من دماثة وهدوء. فكان للمستمع أن يتصور بالتأكيد حمل ذلك المحاور الميكروفون أمام مُعمِّر متفاخر أهوج عديم الأسنان، متسائلًا عما يفعله في ذلك المكان، وما من المفترض أن يقوله بعد ذلك.
«لا بد أنها كانت خطيرة للغاية.»
«ماذا تقصد؟»
«سباقات العربات التي تجرها الخيول.»
لقد كانت كذلك بالفعل؛ فكانت الخيول المستخدمة في هذه السباقات من الخيول الهاربة، وتقع العديد من الحوادث. وكان البعض يتجرجرون على الحصى وتلحق الجروح بوجوههم، وما كان الأمر يهم كثيرًا إذا ما تُوفوا.
بعض الخيول كانت تستطيع القفز لأعلى، في حين تطلَّب البعض وضع الخردل تحت ذيولها. وبعضها ما كان ليتحرك على الإطلاق. هكذا الحال مع الخيول، بعضها يعمل بكد إلى أن يسقط ميتًا من الإعياء، والبعض الآخر لا يقوى حتى على التزاوج.
كان لقاءً حقيقيًّا بالتأكيد، وإلا ما كانوا ليذكروا تلك الكلمات، فلن يخاطروا بذكرها. لكنها عندما تصدر من رجل عجوز، فإنها توحي بالطابع المحلي. وأي شيء يصدر عن شخص بلغ من العمر مائة عام يبدو مبهجًا ولا ضرر منه.
كانت الحوادث تقع دومًا آنذاك؛ في الطواحين، ومسابك المعادن. لم تكن هناك احتياطات للسلامة.
«لم تكن هناك الكثير من الإضرابات آنذاك، أليس كذلك؟ ولم تكن هناك أيضًا الكثير من النقابات العمالية؟»
يستسهل الجميع الأمور هذه الأيام، أما نحن، فكنا نعمل ونسعد بما نحصل عليه. هذا ما كنا نفعله.
«لم يكن لديكم تليفزيون.»
لم يكن لدينا تليفزيون. ولم يكن لدينا مذياع. ولم تكن لدينا عروض مصورة.
«لقد أعددتم وسائل الترفيه الخاصة بكم.»
نعم، هكذا جرت الأمور.
«لقد تمتعتم بخبرات لن يحصل عليها شباب اليوم أبدًا.»
نعم، خبرات.
«هل يمكنك ذكر أيٍّ منها لنا؟»
لقد أكلت لحم خنزير الأرض ذات مرة. كان ذلك في الشتاء. لا أعتقد أنه بإمكانك تناوله.
توقف الحديث لوهلة للتقدير على ما يبدو، ثم أعلن صوت المذيع أن ما سبق كان لقاءً مع السيد ويلفريد نيتلتون من هانراتي بأونتاريو، أُجري معه في عيد ميلاده الثاني بعد المائة، وذلك قبل وفاته بأسبوعين الربيع الماضي. لقد كان حلقة وصل حية بماضينا. وعُقِد ذلك اللقاء في دار «واواناش كنتري هوم» للمسنين.
هات نيتلتون.
الخبير بشئون الخيل يتجاوز عمره المائة عام. تُلتقَط له الصور يوم عيد ميلاده، وتلتف حوله الممرضات، وتنهال عليه القبلات بلا شك من إحدى الفتيات الصحفيات، وفلاش الكاميرات يومض حوله، ومُسجِّل الشرائط يسجل صوته. أقدم سكان المدينة؛ أقدم خبير بشئون الخيل؛ حلقة الوصل الحية بماضينا.
أطلَّت روز من نافذة مطبخها على البحيرة الموحشة، كانت تتوق لأن تخبر أحدًا بما يدور في ذهنها. كانت فلو ستستمتع على الأرجح بهذا الحديث الذي أُذيع. تذكَّرت قولها: «تخيلي!» على نحو يوحي بأن أسوأ شكوكها قد تأكد بالفعل على نحو رائع. لكن فلو كانت في نفس المكان الذي توفي فيه هات نيتلتون، ولم يكن هناك أية طريقة يمكن أن تصل بها روز إليها. كانت فلو هناك أيضًا عند تسجيل اللقاء مع هات، مع أنها لم تسمعه، ولم تعلم شيئًا عنه بالتأكيد. فبعد أن أودعتها روز نفس دار المسنين بعامين، توقفت تمامًا عن الكلام، وانعزلت عن الآخرين، وقضت أوقاتها جالسة في أحد أركان سريرها، وقد بدا عليها الخبث وسوء الطباع. لم تكن تردُّ على أحد، وإن أظهرت مشاعرها بين الحين والآخر بِعضِّها إحدى الممرضات.
امتياز
ودَّ كثير من معارف روز لو وُلِدوا فقراء؛ لكن الحياة لم تمنحهم ما تمنوه. لذا، لعبت روز دور الفقيه بينهم في هذا الشأن؛ فكانت تقص عليهم العديد من الفضائح وملامح البؤس والفحش التي شهدتها في طفولتها. دورة مياه الصبية ودورة مياه الفتيات؛ السيد بِرنز العجوز في دورة المياه؛ شورتي ماكجيل وفراني ماكجيل عند مدخل دورة مياه الصبية. لم تتعمد روز تكرار ذكر دورة المياه، وكان يدهشها كيف كانت تطرأ تلك الفكرة فجأة على حديثها. كانت تعلم أن هذه الأكواخ القاتمة أو المطلية بالألوان من المفترض أن تبعث على الفكاهة — هكذا كانت دومًا في دعابات القرويين — لكنها رأتها في نظرها مشاهد سافرة من العار والشناعة.
كان لكلٍّ من دورة مياه الصبية ودورة مياه الفتيات مدخل خاص مؤمَّن، ما أغنى عن تركيب باب في أي منهما؛ فكان الثلج يصل، على أية حال، إلى الداخل عبر الشقوق الفاصلة بين الألواح الخشبية وما يتخلل هذه الألواح من ثقوب صُنِعت بغرض التجسس. تكوَّمت الثلوج على مقعد المرحاض وعلى الأرضية؛ الأمر الذي عكس امتناع الناس — على ما يبدو — عن استخدام المرحاض. وفي الثلج المتكوم تحت طبقة الجليد الصقيلة، حيث أخذ الثلج يذوب ويتجمد ثانيةً، وُجِد الغائط مجمَّعًا أو فرادى، محفوظًا كما لو كان تحت طبقة من الزجاج، فاتح اللون كالمستردة أو قاتمًا كالفحم النباتي، وبين هذا وذاك درجات متفاوتة أخرى من اللون. أصاب ذلك المنظر روز بالغثيان، وتملَّك منها الإحباط برؤيته، فوقفت عند المدخل، ولم تستطع إرغام نفسها على الدخول، وقررت أنه بوسعها الانتظار. بللت روز نفسها مرتين أو ثلاث مرات أثناء عودتها للمنزل راكضةً من المدرسة إلى المتجر الذي لم يبعد كثيرًا؛ الأمر الذي أثار اشمئزاز فلو.
أخذت فلو تغني بصوت مرتفع ساخرةً من روز: «طفلة صغيرة تبلل نفسها … تعود للمنزل وملابسها مبللة!»
أسعد ذلك الموقف فلو للغاية؛ إذ كانت تحب أن ترى الآخرين في لحظات بساطتهم، تلك اللحظات التي تفرض فيها الطبيعة سلطانها عليهم. كانت من نوعية النساء اللاتي يستمتعن بانتهاز أية فرصة لفضح الآخرين. شعرت روز بالمهانة، لكنها لم تفصح عن المشكلة. لماذا؟ لعلها خشيت أن تذهب فلو إلى المدرسة حاملةً دلوًا وجاروفًا لتنظيف دورة المياه وتوبيخ الجميع.
اعتقدت روز، أيضًا، أن مجريات الأمور في المدرسة لا مُبدِّل لها، وأن القواعد السارية فيها تختلف عن أية قواعد يمكن لفلو استيعابها، والهمجية بها لا حد لها، واعتبرت أن المفاهيم البريئة مثل العدالة والنظافة كانا مفهومين غائبين في الفترة الأولى من حياتها. وبدأت تركم في ذلك الوقت أول مخزون من الأشياء التي لا يمكنها الإفصاح عنها أبدًا.
فما كان بإمكانها الإفصاح أبدًا عن السيد برنز. بعد أن بدأت روز تذهب إلى المدرسة، وقبل أن تعرف أي شيء عما ستراه — أو عما يمكن أن تراه، بالتأكيد — كانت تركض بمحاذاة سور المدرسة برفقة بعض الفتيات الأخريات، مرورًا بأعشاب الحُمَّاض والقضبان الذهبية، ليربضن خلف دورة المياه التي كان يقضي فيها سيد برنز حاجته، والتي كان ظهرها مواجِهًا لفناء المدرسة. تمكَّن أحد الأشخاص من المرور عبر السور، وانتزع الألواح السفلية من مكانها، ليتمكن أي أحد من النظر خلسة إلى داخل الدورة. سار السيد برنز العجوز — الذي كان شِبه ضرير، ذا كرش، متسخَ الملابس، خفيفَ الحركة — عبر الفناء الخلفي مُحدِّثًا نفسه، ومنشدًا الأغاني، وضاربًا الأعشاب الضارة الطويلة بعصاه. وفي دورة المياه أيضًا، بعد بضع لحظات من الصمت والإجهاد، كان صوته يُسمَع من الخارج وهو يدندن بهذه الكلمات:
عند تل أخضر بعيد،خارج أسوار المدينة،صُلِب يسوع ومات.ليُخلِّص البشرية من ذنوبها. لم يكن غناء السيد برنز تعبديًّا، وإنما تهديديًّا، كما لو كان — حتى في تلك اللحظات — يتوق للشجار. تجلَّى الدين غالبًا في تلك الأرجاء في صورة مشاجرات، فانقسم الناس إلى كاثوليك وبروتستانت متعصبين، وكان الاحتكاك بين هذين الفريقين واجبًا يقتضيه الشرف. تبع الكثير من البروتستانت — أو عائلاتهم — في السابق الكنيسة الأنجليكانية أو المشيخية، لكنهم بلغوا من الفقر حدًّا حال دون حضورهم إلى تلك الكنائس، لذلك انحرفوا إلى جيش الخلاص، أو ما يُعرَف بالحركة الخمسينية. وكان هناك آخرون كفار تمامًا بالمسيحية إلى أن برئوا مما كانوا فيه، والبعض ظلوا على كفرهم، لكنهم كانوا بروتستانت في المشاجرات. وصفت فلو الأنجليكانيين والمشيخيين بأنهم متعجرفون، ومن لم يكن منهم كذلك فهو من المنساقين، أما الكاثوليك، فوصفتهم بأنهم بوسعهم تحمل أي رياء أو فسوق، طالما سيحصلون على المال الذي سيرسلونه إلى البابا. لذا، لم يكن على روز الذهاب أبدًا إلى أي الكنيسة.
جلست جميع الفتيات الصغيرات القرفصاء ليتمكنَّ من المشاهدة، وأخذن يحدِّقن في ذلك الجزء المتدلي من جسم السيد برنز في المرحاض. ظنَّت روز لسنوات أنها رأت خصيتيه، لكن عند تفكيرها في الأمر اكتشفت أنها لم ترَ سوى مؤخرته. كانت أشبه بضرع البقرة، ذات سطح شائك يشبه اللسان قبل أن تسلقه فلو. لذا، أعرضت روز عن تناول اللسان تمامًا. وبعد أن أخبرت براين بما تعرفه، لم يعد يتناوله بدوره. وأثار ذلك غضب فلو؛ فأخبرتهما بأنه بإمكانهما العيش على تناول السجق المسلوق فقط.
أما الفتيات الأكبر سنًّا، فلم يجلسن ليختلسن النظر، وإنما وقفن بالجوار، وسُمعت أصوات قيء متكررة. قفزت بعض الفتيات الصغيرات من مجلسهن لينضممن إلى أولئك الفتيات الأكبر سنًّا، تلهفًا منهن لتقليدهن، لكن روز ظلت تجلس القرفصاء في مكانها، مذهولة، ومستغرقة في التفكير. وودَّت لو تمكنت من الاستغراق أكثر في التأمل، لكن السيد برنز أنهى ما كان يفعله، وخرج من دورة المياه، مغلقًا أزرار بنطاله، وهو يتغنى ببعض الكلمات. تسللت الفتيات بجوار الأسوار لينادين عليه.
«سيد برنز! صباح الخير، يا سيد برنز! لقد رأينا كل شيء سيد برنز!»
فاندفع السيد برنز نحو السور مزمجرًا، وملوحًا بعصاه كما لو كنَّ دجاجًا يهشه من حوله.
تجمَّع الجميع، كبارًا وصغارًا، صبية وفتيات — فيما عدا المعلمة، بالطبع، التي أوصدت الباب في فترة الراحة وظلت في المدرسة، مثل روز التي كانت تقاوم رغبتها في قضاء حاجتها حتى تصل إلى المنزل، مجازفةً بذلك بما يمكن أن يقع من حوادث، ومتحملةً الألم المبرح الذي كانت تشعر به — تجمَّعوا لمشاهدة ما كان يحدث عند مدخل دورة مياه الصبية بعد انتشار شائعة حول مضاجعة شورتي ماكجيل لفراني ماكجيل!
أخ وأخت.
إقامة علاقات.
هكذا وصفت فلو الأمر: إقامة علاقات. تروي فلو أنه في مزارع التلال الريفية التي انحدرت منها، فقد الناس عقولهم؛ فاشتهروا بتناولهم التبن المسلوق وإقامتهم العلاقات مع أقرب أقربائهم. وقبل أن تعي روز معنى هذا الكلام، اعتادت تخيل هذه العلاقات كمسرحية يتبادل فيها الممثلون الأدوار، ويؤدونها على خشبة مسرح متقلقلة منصوبة في إحدى الحظائر القديمة؛ فيصعد عليها أفراد الأسرة ويتغنَّون بأغانٍ وأناشيد سخيفة. كانت فلو تقول في اشمئزاز ودخان السجائر ينبعث من فمها: «كم كان ذلك رائعًا!» في إشارة منها ليس لتصرف واحد فقط، وإنما لكل شيء تشمله مثل هذه العلاقات، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وفي أي مكان في العالم؛ فلطالما أذهلتها انحرافات الناس، مثلما فعلت ادعاءاتهم.
تُرَى مَن كان صاحب فكرة العلاقة بين شورتي وفراني ماكجيل؟ ربما تحدى بعض الفتيان الأكبر سنًّا شورتي لفعل ذلك، أو لعله هو مَن تباهى بذلك وتحداهم. الأمر المؤكد هو أن فراني لم تكن هي صاحبة الفكرة. فكان لا بد من القبض عليها أو محاصرتها لفعل ذلك الأمر. ولا يمكن، في الواقع، وصف الأمر هنا بالقبض عليها؛ إذ إنها ما كانت لتهرب، أو بالأحرى ما كانت لتثق في إمكانية هروبها، لكنها، مع ذلك، أظهرت عدم رغبتها فيما كان يحدث، وكان لا بد من جرِّها ثم دفعها لأسفل حيث أراد المعتدون عليها. هل كانت تعلم ما كان سيحدث؟ كانت تعلم، على الأقل، أن ما يدبره الآخرون لم يكن حسنًا.
عندما كانت فراني ماكجيل طفلة صغيرة دفعها والدها المخمور بقوة قبالة الحائط. هذا ما روته فلو. وثمة رواية أخرى تشير إلى أن فراني سقطت مخمورةً من إحدى العربات، وركلها أحد الخيول. وفي كلتا الحالتين، كانت النتيجة هي تهشم أجزاء من جسدها، لا سيما وجهها الذي تأثر على أسوأ نحو؛ فالتوى أنفها، الأمر الذي جعل من كل نفس تتنفسه خنَّة طويلة قابضة للصدر. هذا فضلًا عن تكوم بعض أسنانها فوق بعض، ما حال دون إغلاقها لفمها ومنعها تمامًا من التحكم في كمية البُصاق الصادر عنها. كانت بيضاء، نحيلة، متثاقلة الخطى، وجِلة كسيدة عجوز. أُودِعت بالصف الثاني أو الثالث في المدرسة، وكان بإمكانها القراءة والكتابة قليلًا، لكنها نادرًا ما طُلِب منها ذلك. ربما لم تكن بالغباء الذي اعتقده الجميع، لكنها كانت مندهشة ومتحيرة دومًا بسبب ما تعرَّضت له دومًا من مضايقات مستمرة. ومع كل ذلك، كان ثمة شيء يوحي بالأمل بداخلها؛ فكانت تتبع أي شخص لا يهاجمها أو يعتدي عليها على الفور؛ وتقدِّم له قطعًا من أقلام الألوان أو كرات من العلكة الممضوغة التي تنزعها من المقاعد والمكاتب. لذا، كان من الضروري على أي أحد تلتقي عيناه بعينيها صدُّها بحزم، والتجهم في وجهها على نحو تحذيري.
«ارحلي يا فراني. ارحلي وإلا لكمتك. سألكمك. أعني ما أقول.»
استمر استغلال شورتي، والآخرين، لفراني. وكانت تحمل، ثم تؤخَذ بعيدًا، ثم تعود وتحمل ثانيةً، ثم تؤخَذ بعيدًا، ثم تعود وتحمل، وهلم جرًّا. أُثيرت الأحاديث حول إعقامها مع تحمل نادي ليونز نفقة العملية، أو حبسها في المنزل، إلى أن تُوفيت فجأة بداء الالتهاب الرئوي لتحل بنفسها تلك المشكلة. راودت روز صورة فراني لاحقًا، كلما مرت بشخصية العاهرة البلهاء طيبة السريرة في أي كتاب أو فيلم سينمائي. يبدو أن مؤلفي الكتب والأفلام لديهم ولع بهذه الشخصية، وإن لاحظت روز أنهم يقدمونها دومًا في صورة نظيفة. واعتقدت روز أن هؤلاء المؤلفين يدلِّسون الواقع بعدم تصويرهم النَّفَس المتثاقل والبصاق والأسنان المشوهة؛ لقد كانوا يرفضون التعبير عن تلك الملامح المقززة المثيرة للشهوة الجنسية، وذلك في ظل تعجُّلهم لمكافأة أنفسهم بفكرة الوجوه الخالية من التعابير، والترحيب الخالي من أي تمييز.
لم يكن ترحيب فراني بشورتي بريئًا للغاية على أية حال؛ فكانت تُصدر أصوات عواء بلغمية متحشرجة بسبب مشكلات التنفس التي كانت تعاني منها. وهي تهز ساقًا واحدة، وإما أن يخرج من قدميها أحد حذاءيها، أو أنها لم تكن ترتدي حذاء في الأساس. كل ما استطاعت روز أن ترى منها هو ساقها البيضاء وقدمها الحافية بأصابعها الموحلة، وهو ما بدا أكثر طبيعية وقوة واحترامًا للذات مما يليق بفراني ماكجيل. كانت صغيرة الحجم، ما سمح بدفع الحشود لها إلى الخلف. أحاط بها الصبية الكبار، وهم يصيحون صيحات تشجيعية، والفتيات الكبيرات كن يحُمن بالخلف أيضًا، وهن يقهقهن. أثار ذلك اهتمام روز، لكنه لم يفزعها؛ فالاعتداء على فراني لم يكن بالأمر المهم، وليس بالأثر نفسه الذي يكون عليه الاعتداء على أي شخص آخر؛ فلم يكن سوى انتهاك آخر من الانتهاكات التي تتعرض لها.
وعندما كانت روز تخبر الناس بهذه الأمور، بعد ذلك الحين بسنوات، كانوا يتأثرون بشدة، وكان عليها أن تقسم بأن ما تقوله صحيح، وأنها لا تبالغ. وقد كان صحيحًا بالفعل، لكن أثره كان مختلفًا في كل مرة. بدت أيام دراسة روز بالمدرسة بائسة، ولا بد أنها كانت تعيسة آنذاك، لكنها لم تكن كذلك؛ فقد تعلَّمت؛ تعلَّمت كيفية التصرف في المشاجرات الكبيرة التي شهدتها المدرسة مرتين أو ثلاث مرات في العام. وكانت تميل للحيادية، الأمر الذي كان خطأً فادحًا؛ إذ كان يمكن أن يثير طرفي النزاع كليهما ضدها. وما ينبغي فعله في هذه الحالات هو التحالف مع أفراد يعيشون بالقرب من المرء كي لا يتعرض لخطر هائل أثناء سيره عائدًا إلى المنزل. لم تعلم روز قط السبب وراء تلك الصراعات، ولم تتمتع بطبيعتها بالقدرة اللازمة للاشتراك فيها، ولم تفهم في الواقع ضرورة ذلك. فكانت تُفاجأ دائمًا بكرة ثلج، أو حجر، أو حصاة تسدَّد إليها من الخلف. علمت روز أن حالها لن يتحسن أبدًا، ولن تصل أبدًا إلى أي موقع آمن — هذا إن كان هناك أي موقع آمن على الإطلاق — في عالم المدرسة الذي كانت تعيش فيه. مع ذلك، لم تكن روز تعسة، فيما عدا ما يتعلق بعدم تمكنها من قضاء حاجتها بدورة المياه. إن تعلُّم مواصلة العيش — بغض النظر عما يصاحب ذلك من جُبْن وحذر، ومن صدمات وهواجس — لا يعني التعاسة، وإنما هو أمر مثير للغاية.
تعلَّمت روز تفادي فراني؛ تعلمت عدم الاقتراب من قبو المدرسة حيث كانت جميع النوافد مكسورة وسوداء، والماء يتقطر من كل جانب كالكهف؛ وتجنُّب المكان المظلم الموجود تحت درجات السُّلم وذلك الموجود بين أكوام الحطب. تعلَّمت روز، أيضًا، ألا تلفت انتباه الصبية الأكبر سنًّا إليها بأي شكل من الأشكال، والذين بدوا في عيونها ككلاب مسعورة؛ إذ كانوا على القدر نفسه من السرعة والقوة والتقلب والاغتباط في هجومهم كهذه الكلاب.
من الأخطاء التي ارتكبتها روز في وقت مبكر من حياتها، وما كانت لترتكبها لاحقًا، إخبارها فلو الحقيقة بدلًا من أن تكذب عليها عندما عرقلها أحد الصبية الأكبر سنًّا من بلدة موري الفرنسية، وأمسك بها أثناء نزولها على سُلم الحريق، ممزِّقًا كُمَّ المعطف الواقي من المطر الذي كانت ترتديه من ناحية الإبط. فما كان من فلو إلا أن ذهبت إلى المدرسة لإثارة زوبعة من الاحتجاجات (على حد تعبيرها)، فسمعت شهودًا يقسمون بأن روز هي التي مزَّقت كُمَّ معطفها بأحد المسامير. كانت المعلمة متجهمة الوجه، ولم تقدِّم نفسها، وأشارت إلى أن زيارة فلو غير مرغوب فيها. فلم يكن أولياء الأمور ليذهبوا إلى المدرسة في هانراتي الغربية؛ إذ اتسمت الأمهات بالتعصب في شجارهن؛ فكن يقفن خلف بوابات المدارس ويصحن، وكان بعضهن يندفعن لشد الشعر ورشق الحصى بأنفسهن، هذا فضلًا عن إساءتهن للمعلمة سرًّا بإرسال أطفالهن إلى المدرسة وتوصيتهم بعدم الاستماع إليها مطلقًا. لكنهن ما كنَّ ليتصرفن على النحو الذي تصرفت به فلو، ما كانت أقدامهن لتطأ أرض المدرسة، وما كن ليرفعن الشكوى إلى هذا المستوى، فما كن ليصدقن أبدًا — مثلما صدقت فلو على ما يبدو (وهنا كانت المرة الأولى التي تراها فيها روز غير مدركة للأمور ومخطئة) — أن المعتدين يمكن أن يعترفوا أو يُسلَّموا للعدالة، أو أن العدالة يمكن أن تتخذ أية صورة أخرى غير تمزيق معطف أحد الصبية الفرنسيين في غرفة إيداع القبعات والمعاطف، كنوع من التخريب.
قالت فلو إن المعلمة لا تدرك مهام وظيفتها.
لكنها كانت تعلم هذه المهام؛ بل وتعلمها جيدًا أيضًا؛ فكانت تغلق الباب في فترات الراحة، وتدع ما يحدث في الخارج يحدث، أيًّا كان. لم تحاول يومًا استدعاء الصبية الكبار من القبو أو من على سلم الحريق، فكانت تأمرهم بتقطيع الحطب اللازم لإشعال الموقد، وملء دلو مياه الشرب؛ وفيما عدا ذلك، كانوا أحرارًا في فعل ما يشاءون. لم يمانع أولئك الصبية في تقطيع الخشب أو ضخ المياه، لكنهم كانوا يحبون غمر الناس بالماء شديد البرودة، وأوشكوا على ارتكاب جرائم قتل باستخدام بلطة تقطيع الخشب. لقد كان السبب وراء وجودهم في المدرسة هو عدم وجود مكان آخر يذهبون إليه. فبالرغم من بلوغهم من العمر السن القانونية التي تسمح لهم بالعمل، لم تكن هناك وظائف متاحة لهم. أما الفتيات الأكبر سنًّا، فكان بإمكانهن الحصول على وظائف، كخادمات على الأقل. لذا، لم تواصل أي منهن دراستها في المدرسة، إلا إذا كن يخططن لخوض امتحان القبول بالمدرسة الثانوية، أملًا منهن في الحصول على وظائف يومًا ما في المتاجر أو البنوك. وبعضهن حقق ذلك بالفعل. في أماكن مثل هانراتي الغربية، كان من الأيسر على الفتيات الترقي في حياتهن على عكس الصبية.
كانت المعلمة تَشغل الفتيات الأكبر سنًّا — غير أولئك اللاتي كنَّ في فصل التأهيل للمدرسة الثانوية — بالتحكم في الأطفال الأصغر سنًّا، بتدليلهم أو صفعهم، وتصحيح أخطاء التهجية لديهم، والتقاط أي شيء قد يكون ذا أهمية في نظر أولئك الفتيات لاستخدامهن الخاص، مثل علب الأقلام الرصاص، وأقلام الألوان الجديدة، والحلي التي يحصلون عليها داخل أكياس كراكر جاك. وما كان يحدث في غرفة إيداع القبعات والمعاطف من سرقة حقائب الطعام، أو تمزيق المعاطف، أو خلع البنطالات لم تعتبره المعلمة من شأنها.
لم تتمتع تلك المعلمة بأي نوع من الحماس أو التخيل أو التعاطف؛ إذ اعتادت عبور الجسر كل يوم من هانراتي حيث كانت تعيش مع زوجها المريض. وقد عادت لمزاولة مهنة التدريس في منتصف العمر؛ ربما لأنها كانت الوظيفة الوحيدة التي تمكنت من الحصول عليها، فوجب عليها المثابرة، وهذا ما فعلته. لم تغطِّ النوافذ بالورق قط، ولم تلصق نجومًا ذهبية في دفاتر الطلاب. لم ترسم على السبورة بالطباشير الملون قط، فلم يكن لديها نجوم ذهبية أو طباشير ملون. ولم تُظهر أي نوع من الحب لما تُدرِّسه، أو لأي أحد. لعلها تمنَّت — هذا إن كانت تمنَّت أي شيء على الإطلاق — أن يخبرها أحد أنه بإمكانها العودة إلى المنزل، وعدم رؤية أولئك الطلاب ثانيةً، وعدم فتح كتاب التهجية أبدًا بعد ذلك.
ومع ذلك، فقد كانت تُدرِّس للطلبة بعض الأشياء، وربما كانت تُدرِّس أيضًا لمَن كانوا سيخضعون لامتحان القبول بالمدرسة الثانوية؛ لأن بعضهم نجح فيه. ولعلها حاولت تدريس كلِّ مَن كان يلتحق بالمدرسة القراءة والكتابة وبعض الحساب البسيط. كان الدرابزين الحديدي للسلالم محطمًا، والمكاتب منزوعة من أماكنها بالأرضية وغير مثبتة، والموقد تنبعث منه الأدخنة، والمواسير مربوطة معًا بالأسلاك. لم توجد بالمدرسة أية كتب بالمكتبة أو خرائط، بالإضافة إلى عدم كفاية الطباشير دومًا. حتى العصا الياردية كانت دومًا متسخة ومتشظية عند أحد طرفيها. الشجارات والجنس والسرقات الصغيرة مثَّلت أهم الأحداث في المدرسة، ومع ذلك، كانت الحقائق والجداول تُشرَح للطلاب. وفي مقابل كل تلك الاضطرابات، والقلاقل، والظروف المستعصية، ظلت هناك لمحة من روتين الفصل الدراسي المعتاد؛ الأمر الذي كان أشبه بعطية تُمنَح للطلاب. فتعلَّم بعضهم التهجية.
اعتادت تلك المعلمة استنشاق النشوق. لم ترَ روز أحدًا من قبل يفعل ذلك، فكانت ترش بعضًا منه على ظهر يدها، ثم ترفعه إلى وجهها، وتصدر صوتًا خافتًا من أنفها، وتميل برأسها إلى الخلف، فيظهر عنقها، ويبدو عليها الازدراء والتحدي للحظة. فيما عدا ذلك، لم يكن بها أي شيء غريب أو غير معتاد. فكانت سيدة ممتلئة الجسم، كئيبة المنظر رثة الملابس.
كانت فلو تقول إنها ربما تسببت في تشوش ذهنها بسبب النشوق؛ فهو أشبه بإدمان المخدرات. أما السجائر، فهي تثير الأعصاب فقط.
ثمة شيء واحد فقط في المدرسة كان ساحرًا وجميلًا؛ رسوم الطيور. لا تعرف روز ما إذا كانت المعلمة قد صعدت وثبتت هذه الرسوم فوق السبورة في موضع أعلى مما يسمح بالوصول إليه وتخريبه؟ وما إذا كانت تلك محاولتها الأولى والأخيرة عندما كان يحدوها الأمل في ذلك المكان؟ أم أن هذه الرسوم يعود تاريخها إلى عهد أقدم من ذلك، عهد أكثر رخاءً في تاريخ المدرسة؟ من أين أتت تلك الرسوم؟ كيف وصلت إلى ذلك المكان، في الوقت الذي لم يصل فيه أي شيء آخر، لتصير نوعًا من الزينة أو الرسم الإيضاحي؟
نقار خشب أحمر الرأس؛ طائر الصافِر، أبو زريق أزرق اللون؛ إوزة كندية. ألوان واضحة وثابتة. خلفيات من الثلج النقي، وغصون الأشجار المُزهِرة، وسماء صيفية مشرقة. ما كانت هذه الرسوم لتبدو غريبة لو وُجِدت في فصل عادي، لكنها في ذلك الفصل، كانت بارزة وواضحة وتعبِّر عن شيء ما، إذ تناقضت مع كل شيء آخر حولها؛ لم تمثل تلك الرسوم الطيور نفسها، أو تلك السماوات والثلج، وإنما عكست عالمًا آخر من البراءة الشديدة، والمعلومات الوافرة، وخلو البال من الهموم على نحو مميز. خلا ذلك العالم من سرقات حقائب الطعام، وتمزيق المعاطف، وخلع البنطلونات، واستخدام العصي المؤلمة، والمضاجعة، ومن فراني.
•••
ضمَّ فصل التأهيل للمدرسة الثانوية ثلاث فتيات كبيرات؛ إحداهن تُدعَى دونا، والأخرى كورا، والثالثة بيرنيس. وقد خلا ذلك الفصل إلا منهن. ثلاث ملكات، لكن مع تدقيق النظر، ستجدهن ملكة وأميرتين. هكذا رأتهن روز. كن يسرن حول فناء المدرسة وأذرعهن متشابكة أو يحيط بعضهن بخصر بعض. تتوسطهن كورا دومًا، وكانت أطولهن. أما دونا وبيرنيس، فكانتا تميلان عليها لدعمها أو تتقدمان أمامها لإفساح الطريق لها.
أحبَّت روز كورا.
كانت كورا تعيش مع جدها وجدتها، وكانت جدتها تعبر الجسر إلى هانراتي للعمل في أعمال التنظيف والكي. أما جدها، فكان يعمل في تنظيف الحمامات. كانت هذه هي وظيفته.
قبل أن تدخر فلو المال لإقامة دورة مياه حقيقية بالمنزل، كانت قد اشترت مرحاضًا كيميائيًّا لوضعه في أحد أركان السقيفة، وكان ذلك أفضل من المرحاض الخارجي، لا سيما في أوقات الشتاء. لكن جدَّ كورا خالف فلو الرأي بشأن ذلك المرحاض، وقال لها: «إن الكثيرين ممن استخدموا تلك المراحيض دخلت المواد الكيميائية أجسامهم، وودوا لو أنهم لم يفعلوا.» كانت لجد كورا لكنة ريفية غريبة.
كانت كورا ابنة غير شرعية. كانت أمها تعمل في مكان ما، أو ربما تكون قد تزوجت. ربما عملت خادمة، وكان بإمكانها إرسال بعض الأشياء المستعملة لابنتها. فكان لدى كورا الكثير من الملابس، وكانت تذهب إلى المدرسة بملابس ساتانية لونها بيج ذات تمويجات من فوق فخذيها؛ أو ملابس مخملية بلون أزرق ملكي وعليها وردة من نفس نوع القماش تتدلى على إحدى كتفيها؛ أو ملابس من الكريب الرقيق ذات لون وردي فاتح ومليئة بالشراشيب. لم تتناسب هذه الملابس مع سنها (لم يكن ذلك رأي روز)، لكنها تناسبت مع جسمها؛ فقد كانت طويلة، قوية البنية، ذات مظهر أنثوي. وفي بعض الأحيان، كانت تصفف شعرها بلفِّه فوق رأسها، وتركه ينسدل فوق إحدى عينيها. اعتادت كورا ودونا وبيرنيس تصفيف شعرهن مثل السيدات، والإفراط في استخدام أحمر الشفاه، وحمرة الخدود. اتسمت ملامح كورا بالحدة. فكانت جبهتها دهنية، وأجفانها بنية متثاقلة. هذا فضلًا عن شعورها بالرضا عن نفسها، الذي سرعان ما سيتحول إلى قسوة ووقار، لكنها كانت رائعة آنذاك، تسير في فناء المدرسة مع وصيفتيها (كانت دونا في الحقيقة هي الأجمل بينهن بما تمتعت به من وجه بيضاوي شاحب وشعر أشقر متجعد بنعومة)، وأذرعهن متشابكة، ويتحدثن على نحو جِدي. لم تضيِّع كورا وقتها في الالتفات للصبية في المدرسة، لم تفعل ذلك أيٌّ من أولئك الفتيات الثلاث؛ فكنَّ ينتظرن الالتقاء برفاق شباب حقيقيين، أو لعلهن التقين بهم بالفعل آنذاك. وكان بعض الصبية ينادون عليهن من باب القبو، مع توجيه بعض العبارات المهينة لهن، فكانت كورا تستدير وتصيح فيهم:
«أكبر من النوم في المهد، وأصغر من النوم في سرير!»
لم تكن لدى روز أية فكرة عما كان يعنيه ذلك، لكنها كانت معجبة للغاية بالطريقة التي أظهرت بها كورا فخذيها، وبصوتها المستهزئ القاسي والمتكاسل في الوقت نفسه، وبمظهرها البراق. وعندما كانت تختلي بنفسها، كانت تقلد ما حدث، المشهد بأكمله، الصبية وهم يصيحون، مع تقمصها شخصية كورا؛ فكانت تستدير، مثلما تفعل كورا، نحو معذبيها المُتخيَّلين، وتتعامل معهم بنفس الاحتقار الاستفزازي.
«أكبر من النوم في المهد، وأصغر من النوم في سرير!»
كانت روز تتجول في أرجاء الفناء الخلفي للمتجر، متخيلةً الساتان المثير وهو يتموج فوق فخذيها، وشعرها ملفوف ومنسدل على إحدى عينيها، وشفتاها حمراوان. أرادت أن تكبر لتصير مثل كورا بالضبط، بل إنها لم ترغب في الانتظار حتى تكبر؛ لقد أرادت أن تكون كورا … الآن.
اعتادت كورا ارتداء الأحذية عالية الكعب في المدرسة، لكنها لم تكن خفيفة في حركتها، فكلما كانت تسير في الفصل، تبدو الغرفة وكأنها تهتز، والنوافذ ترتعد. كان من الممكن أيضًا شم رائحتها؛ رائحة مسحوق الطَلْق ومستحضرات التجميل، رائحة بشرتها الداكنة الدافئة وشعرها.
•••
جلست الفتيات الثلاث أعلى سلم الحريق في أول أيام الطقس الدافئ. كنَّ يطلين أظافرهن. كانت رائحة الطلاء تشبه رائحة الموز، مع نفحة كيميائية غريبة. أرادت روز صعود سلم حريق المدرسة، كما اعتادت، لتجنب التهديد اليومي بالمدخل الرئيسي، لكنها استدارت عندما رأت الفتيات يجلسن أعلى السلم؛ فلم تجرؤ على توقع إفساحهن الطريق لها.
نادت عليها كورا.
«يمكنك الصعود إذا أردتِ. هيا، اصعدي!»
أخذت تثيرها وتشجعها كما لو كانت تفعل مع جرو صغير.
«هل تودين طلاء أظافرك؟»
حينذاك، قالت الفتاة التي تُدعَى بيرنيس، التي اكتشفت روز بعد ذلك أنها صاحبة طلاء الأظافر: «إن فعلتِ، فسيود الجميع طلاء أظافرهن أيضًا.»
فردَّت عليها كورا: «لن نفعل ذلك معهن؛ وإنما هي فقط. ما اسمك؟ روز؟ سوف نطلي أظافر روز فقط. اصعدي هنا يا عزيزتي.»
طلبت كورا من روز مد يدها، وحينها لاحظت روز بانزعاج البقع الملونة التي غطت يدها. كم كانت يداها قذرتين! وكانتا أيضًا باردتين ومرتعشتين. مجرد شيء صغير مثير للاشمئزاز. وما كانت لتندهش لو أبعدت كورا يدها.
«ابسطي أصابعك، وأرخيها. ما هذا؟ يداكِ ترتعشان! لن أعضَّكِ! فلتثبتي مكانك كفتاة صالحة. لا تودين إفساد الطلاء، أليس كذلك؟»
غمست الفرشاة في زجاجة الطلاء. كان لونه أحمر داكنًا، مثل توت العليق. أحبَّت روز رائحته. كانت أصابع كورا كبيرة، وردية اللون، ثابتة، ودافئة.
«أليس ذلك جميلًا؟ ألن تبدو أظافرك جميلة؟»
اتبعت كورا الأسلوب الصعب السائد آنذاك في طلاء الأظافر، ولم يعد مستخدمًا الآن، وهو أن تترك الشكل الهلالي على أطراف الأظافر والمساحة البيضاء بلا طلاء.
«سأطليها باللون الوردي لتتماشى مع اسمك. اسمك جميل يا روز. يعجبني كثيرًا، بل يعجبني أكثر من اسم كورا. فأنا أكره اسم كورا. أصابعك متجمدة بالرغم من دفء الجو اليوم. أليست متجمدة مقارنة بأصابعي؟»
كانت تتغزل في نفسها، وتتدلل، كعادة الفتيات في تلك السن؛ فكن يجربن سحرهن على أي شيء؛ الكلاب أو القطط أو على صورتهن في المرآة. كان تأثير الموقف على روز قويًّا على نحو حال دون استمتاعها بتلك اللحظات. شعرت بالوهن والانبهار، ارتعبت من ذلك المعروف الكبير الذي كانت تسديه لها كورا.
منذ ذلك اليوم، صارت روز مهووسة بكل ما في كورا؛ فقضت وقتها في محاولة السير مثل كورا، والتشبه بها، مكرِّرةً كل كلمة سمعتها منها. حاولت أن تكون هي، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. رأت روز سحرًا في كل إيماءة من كورا، في طريقة غرزها القلم الرصاص في شعرها الكثيف الخشن، في تأوهاتها أحيانًا في المدرسة بسبب الملل الشديد، في لعقها لإصبعها، وصقلها لحاجبيها برفق. فلعقت روز إصبعها مثلها، وصقلت حاجبيها، آملةً في أن يصيرا داكني اللون، بدلًا مما كانا عليه من لون باهت وشكل يكاد يكون غير مرئي.
لم يكن تقليد كورا كافيًا، وإنما فعلت روز ما هو أكثر من ذلك؛ فتخيَّلت أنها مريضة، وتم استدعاء كورا بشكل ما لتتولى رعايتها؛ تمنحها عناقًا قبل النوم، وتمسِّد على جسدها، وتهدهدها. اختلقت، كذلك، قصصًا عن تعرضها للمخاطر وإنقاذ كورا لها، وعن حوادث وامتنان بينهما. في تلك القصص كانت تنقذ فيها روز كورا أحيانًا، وكورا تنقذها في أحيان أخرى، لتسود بينهما بعد ذلك حالة من الدفء والمودة والبوح بالأسرار.
هذا اسم جميل.
اصعدي هنا، يا عزيزتي.
بداية الحب، تزايده، تدفُّق المشاعر. حب جنسي، لم تكن متأكدة بعدُ مما يجب التركيز عليه بالضبط. لا بد أنه كان هناك من البداية، مثل العسل الأبيض المتجمد في الدلو الذي ينتظر الوقت المناسب للذوبان والتدفق. افتقر الأمر إلى بعض الحدة، بعض الضرورة الملحة؛ كانت هناك اختلافات عرضية في جنس من وقع عليه اختيارها عند تفكيرها في ذلك الأمر. لكن فيما عدا ذلك، كان ما يعتريها هو نفس الشيء الذي أخذ يباغتها منذ ذلك الحين؛ المد العالي؛ الحماقة المستعصية؛ الاجتياح الجارف.
مع ازدهار كل شيء في الأرجاء، من أزهار الليلك، وأشجار التفاح، والبعرور البري على طول الطريق، كان يَحُلُّ موعد لعبة الجنائز التي كانت تنظمها الفتيات الأكبر سنًّا. والشخصية التي من المفترض أن تلعب دور المتوفى — وهي فتاة، لأن الفتيات فقط هن من كن يلعبن تلك اللعبة — كانت تستلقي أعلى سلم الحريق. أما باقي الفتيات، فكن يصعدن السلم بتؤدة، وهن يغنين إحدى الترنيمات، ويلقين بالورد الذي ملأن به أذرعهن. كن ينحنين متظاهرات بالبكاء (بعضهن بكى بالفعل)، ويُلقين على المتوفاة النظرة الأخيرة، وبذلك تنتهي اللعبة. كان من المفترض أن تنال جميع الفتيات فرصة لعب دور الشخصية المتوفاة، لكن الأمور لم تَسِرْ على هذا النحو؛ فبعد أن كانت الفتيات الأكبر سنًّا يؤدين ذلك الدور، لم يكنَّ ليزعجن أنفسهن بلعب دور ثانوي في جنائز الفتيات الصغيرات. وبعد مغادرتهن، سرعان ما كانت الفتيات الصغيرات يدركن أن اللعبة قد فقدت أهميتها وسحرها، فيرحلن بدورهن، تاركات بعض العنيدات اللاتي لا أهمية لهن ينهين اللعبة. وكانت روز من بينهن؛ إذ تعلقت بأمل صعود كورا سلم الحريق في جنازتها، لكن كورا تجاهلت الأمر.
كان على الفتاة التي تلعب دور المتوفاة اختيار الترنيمة التي ستتغنى بها الفتيات في الجنازة، فاختارت كورا: «كم هي جميلة السماء!» استلقت كورا وحولها أكوام من الزهور، أغلبها من الليلك، وارتدت فستانها الوردي المصنوع من قماش الكريب الرقيق. كان هناك أيضًا بعض الخرزات، ودبوس زينة منقوش عليه اسمها بالترتر الأخضر، كسا وجهها قدر كبير من المسحوق، الذي ارتعش على الشعيرات الناعمة الموجودة على أطراف فمها. خفقت أهدابها. كان تعبير وجهها يوحي بالتركيز، والعبوس، والموت على نحو صارم. تغنَّت روز بالترنيمة بصوت حزين، ووضعت الليلك من يدها، وكانت على وشك القيام بطقس تعبدي ما، لكنها لم تتوصل إلى أي شيء يمكنها فعله. فما كان منها إلا أن أخذت تجمع التفاصيل للتفكير فيها لاحقًا. لون شعر كورا، لمعة الخصلات الداخلية التي شُدت لتوضع خلف أذنيها، والتي بدت ذات لون عسلي أكثر دفئًا من الخصلات الموجودة أعلاها. كانت ذراعاها مكشوفتين، داكنتي اللون، مسطحتين، أشبه بذراعي امرأة ثقيلتين، والشراشيب منسدلة عليهما. ما كانت رائحتها الحقيقية؟ عمَّ كان حاجباها المشذبان، العابسان الدالان على رضاها عن نفسها، يعبران؟ بذلت روز جهدًا كبيرًا لاحقًا وهي وحدها لاستدعاء تلك التفاصيل، وإدراكها، وتذكُّرها إلى الأبد. ما كان نفع ذلك؟ عندما كانت تفكر في كورا، كانت تشعر ببقعة داكنة مشرقة، بمركز ذائب، برائحة الشوكولاتة المحترقة ومذاقها، الأمور التي لم تستطع نيلها أبدًا.
ما الذي يمكن فعله بالحب عندما يصل إلى هذه المرحلة من الضعف وقلة الحيلة والاهتمام الجنوني؟ لا بد أن يصطدم بشيء ما.
سرعان ما ارتكبت روز خطأً بسرقتها بعض الحلوى من متجر فلو لتمنحها لكورا. كان تصرفًا أحمق وسيئًا وطفوليًّا، الأمر الذي أدركته حينذاك. لم يكمن الخطأ في السرقة فحسب، وإن كان تصرفًا أحمق بالفعل وصعبًا؛ فقد احتفظت فلو بالحلوى في مكان علوي خلف منضدة الخزينة على رف مائل في صناديق مفتوحة، بحيث تكون بعيدًا عن متناول الأطفال، لكن في مرمى بصرهم في الوقت نفسه. وتوجَّب على روز انتظار اللحظة المناسبة لتصعد فوق الكرسي، وتملأ إحدى الحقائب بما تمكنت من الإمساك به، مثل قطع العلكة وحلوى الجيلي والعرق سوس من كل الأنواع، والشوكولاتة، وغيرها. لم تحتفظ بأيٍّ من هذه الحلوى لنفسها، وإنما كان عليها أخذ الحقيبة إلى المدرسة. وهذا ما فعلته بإخفائها للحقيبة أسفل تنورتها مع إدخال الجزء العلوي منها في الرباط المطاطي لسروالها الداخلي. وضغطت بقوة بذارعها على خصرها للحفاظ على الحقيبة في مكانها. فسألتها فلو: «ما الخطب؟ هل تعانين من مغص؟» لكنها، لحسن الحظ، كانت منشغلة للغاية، ولم تتحقق من الأمر.
أخفت روز الحقيبة في مكتبها، وانتظرت الفرصة التي لم تسنح كما توقعت.
حتى لو كانت قد ابتاعت الحلوى، وحصلت عليها بشكل قانوني، كان الأمر برمته سيظل خطأً. كان الأمر على ما يرام في البداية، لكن ليس الآن. ففي تلك اللحظات، أرادت روز الكثير من الامتنان والتقدير، والاعتراف بالجميل، لكنها لم تكن في حالة تسمح لها بقبول أي شيء. أخذ قلبها يخفق بقوة، وفمها مليء بمذاق مرٍّ غريب نابع من شوقها ويأسها، حتى وإن مرت كورا بجوار مكتبها بخطواتها المتثاقلة المميزة، وعبق عطورها الرائع الذي فاح من حرارة جسدها، فما من شيء يمكن أن يعبر عما كانت روز تشعر به، فكان من المحال أن تنال ما أرادت، وكانت تعلم أن ما تفعله مثير للسخرية ومحكوم عليه بالفشل.
لم تقوَ على تقديم الحلوى لكورا، فلم تسنح اللحظة المناسبة قط. لذا، وبعد بضعة أيام، قررت ترك الحقيبة في مكتب كورا. حتى ذلك كان صعبًا. فكان عليها التظاهر بأنها نسيت شيئًا ما بعد الساعة الرابعة، والركض عائدةً إلى المدرسة، مع علمها بأنها ستضطر للخروج منها في وقت لاحق، وحدها، والمرور بالصبية الأكبر سنًّا عند باب القبو.
كانت المعلمة لا تزال في المدرسة، ترتدي قبعتها. كانت ترتدي تلك القبعة الخضراء القديمة التي يلتصق بها بعض الريش كل يوم أثناء عبورها الجسر. كانت دونا، صديقة كورا، تنظف السبورة، حاولت روز إدخال الحقيبة في مكتب كورا، فسقط منها شيء ما. لم تُلقِ المعلمة بالًا لما حدث، لكن دونا استدارت وصاحت في وجه روز: «أنتِ! ماذا تفعلين في مكتب كورا؟»
فأسقطت روز الحقيبة على المقعد، وفرت هاربة.
الأمر الذي لم تتوقعه على الإطلاق هو أن تذهب كورا إلى متجر فلو لتعيد الحلوى إليها، لكن هذا ما فعلته كورا بالفعل. لم تفعل كورا ذلك لتسبب مشاكل لروز، وإنما لتحقق المتعة لنفسها. فكانت تستمتع بالشعور بالأهمية والاحترام، إلى جانب لذة تبادل شيء ما مع شخص كبير.
قالت كورا، أو بالأحرى هذا ما قالت فلو إنها قالته: «لا أعلم لماذا أرادت إعطاءها لي.» لم تحسن فلو التقليد تلك المرة؛ إذ رأت روز أن صوتها لم يبدُ كصوت كورا على الإطلاق. فجعلتها فلو تبدو لينة الحديث وضعيفة.
«رأيت أنه من الأفضل المجيء إلى هنا وإخبارك بما حدث!»
لم تكن الحلوى تصلح للأكل على أية حال؛ فقد هُرِست كلها، وذابت بعضها في بعض، واضطرت فلو للتخلص منها.
أصاب فلو الذهول. هكذا وصفت هي حالها. ولم يكن السبب هو سرقة روز للحلوى؛ فمع أنها كانت ضد السرقة بطبيعتها، لكنها أدركت أن السرقة في هذا الحادث لم تكن هي الجرم الأخطر، بل إن المشكلة أهم وأكبر من ذلك.
«ما الذي كنتِ ستفعلينه بها؟ تعطينها لها؟ لماذا؟ هل تحبينها أو شيء من هذا القبيل؟»
كانت تلك إهانة ومزحة في الوقت نفسه. وأجابت روز بالنفي، لأنها ربطت الحب بنهايات الأفلام السينمائية، والقبلات، والزواج. شعرت في تلك اللحظات بالصدمة وأن مشاعرها قد تعرَّت، وبدأت بالفعل — وإن لم تدرِ — في الانزواء والتقوقع حول نفسها. فكانت فلو أشبه بالعاصفة الهوجاء.
قالت فلو: «بل تفعلين! كم تثيرين اشمئزازي!»
لم تكن فلو تتحدث عن خطر الشذوذ الجنسي في مستقبل روز؛ فلو كانت قد علمت ذلك، أو فكرت فيه، لبدا الأمر في نظرها أشبه بالمزحة، أو الأمر الغريب الذي يستعصي على الفهم، أكثر من كونه سلوكًا غير لائق. لقد كان الحب هو ما يثير اشمئزازها. تلك العبودية، وإهانة الذات، وخداعها. كان هذا ما صعقها. فقد رأت الخطر، والعلة؛ الآمال المتسرعة، والتأهب، والاحتياج.
سألتها فلو: «ما الرائع في تلك الفتاة؟» وأجابت بنفسها عن السؤال في الحال: «لا شيء. فهي أبعد ما تكون عن الجمال. وسوف تصير كومة متحركة من الدهون فيما بعد؛ إنني أرى العلامات الدالة على ذلك. سيكون لها شارب أيضًا؛ بل إن لديها واحدًا بالفعل. من أين تأتي بملابسها؟ لعلها تظن أنها تناسبها.»
لم تُجِب روز عن أيٍّ من هذه الأسئلة. وأضافت فلو إن كورا ليس لها أب، ويمكن لروز التفكير في وظيفة أمها. ومن هو جدها؟ منظف الحمامات!
•••
ظلت فلو تذكر موضوع كورا بين الحين والآخر لسنوات طوالًا.
فكلما رأت كورا تمر بالمتجر بعد التحاقها بالمدرسة الثانوية، كانت تقول: «ها هي معشوقتك!»
وكانت روز تتظاهر بالنسيان.
لكن فلو كانت تواصل مضايقتها: «أنتِ تعرفينها! لقد حاولتِ منحها بعض الحلوى! بل إنك سرقتي الحلوى من أجلها! لقد أضحكني ذلك كثيرًا.»
لم يكن ادِّعاء روز بالنسيان كذبًا محضًا؛ فقد كانت تتذكر الحقائق، لكنها نسيت المشاعر. تحولت كورا إلى فتاة ضخمة البنيان داكنة البشرة متجهمة الوجه مستديرة الكتفين تحمل دومًا كتب المدرسة الثانوية. لم تفدها الكتب كثيرًا، فقد رسبت في المدرسة الثانوية. وكانت ترتدي بلوزات عادية وتنورة لونها أزرق داكن بدت فيها بدينة. لعلها لم تتحمل فقدان فساتينها الأنيقة، فرحلت كورا عن المدينة، وحصلت على وظيفة أثناء الحرب. التحقت بالقوات الجوية، وكانت تظهر في الإجازات بالزي العسكري المهيب. وتزوجت من طيَّار.
لم تنزعج روز كثيرًا بهذه الخسارة، وهذا التحول؛ فالحياة برمتها سلسلة من التطورات المفاجئة، هذا ما تعلمته، لكنها كانت تفكر فقط فيما كانت عليه فلو من رجعية وتخلف؛ إذ أخذت تكرر تذكُّرها لتلك القصة وتجعل كورا تبدو أسوأ وأسوأ، فتصفها بصاحبة البشرة الداكنة، وكثيرة الشعر، والمتبخترة في مشيتها، والبدينة. وبعد ذلك الحين بفترة طويلة، رأت روز فلو وهي تحاول أن تحذرها وتغيرها، الأمر الذي لم يكن مجديًا.
•••
تغيَّرت المدرسة بنشوب الحرب؛ فتضاءل حجمها، وفقدت كل ما بها من طاقة الشر، وروح الفوضى، ونمط الحياة السائد فيها. التحق الصبية الأقوياء بالحرب. تغيرت هانراتي الغربية أيضًا؛ فغادر الناس للالتحاق بوظائف في الحرب. حتى من تخلَّفوا منهم في المدينة، كانوا يعملون، ويحصلون على أجور أعلى مما حلموا به من قبل. ساد الاحترام، فيما عدا الحالات التي اتسمت بأقصى صور العناد. غُطيت أسطح البيوت بالألواح الخشبية بالكامل، بدلًا من الرقع التي كانت تكسوها. وطُليت المنازل، أو غُطيت بألواح تبدو على شكل الطوب. اشترى الناس ثلاجات وتباهوا بها. عندما كانت روز تفكر في هانراتي الغربية أثناء الحرب وأثناء السنوات السابقة لها، رأت الفترتين مختلفتين تمامًا، كما لو كانت قد استُخدِمت إضاءة مختلفة في المرحلتين، أو كما لو كان كل شيء مسجَّلًا على شريط فيلم طُبِع على نحو مختلف في المرتين. فبدا كل شيء نظيفًا ومرتبًا ومحدودًا وطبيعيًّا في مرة، وكئيبًا وغير واضح، ومشوشًا، ومزعجًا في المرة الثانية.
المدرسة ذاتها تحسَّنت أحوالها؛ فتم تبديل النوافذ، وثُبِّتت المكاتب بالأرضيات، واختفت الكلمات البذيئة تحت الطلاء الأحمر الباهت، وهُدِمت دورتا مياه الصبية والفتيات، ورُدِمت الحفر فيهما. رأت الحكومة وإدارة المدرسة أنه من الأفضل وضع مراحيض بصناديق طرد في القبو الذي تم تنظيفه.
تبنَّى الجميع ذلك التوجه. تُوفي السيد برنز في الصيف، ومَن اشتروا منزله أقاموا فيه دورة مياه، وأقاموا كذلك سورًا عاليًا من الأسلاك لمنع أي شخص في فناء المدرسة من الوصول إلى حديقتهم واقتلاع أزهار الليلك الخاصة بهم. أقامت فلو دورة مياه أيضًا آنذاك، وقالت إنهم بإمكانهم هم أيضًا التمتع بتلك الرفاهية التي منحتها الحرب للناس.
لزم على جدِّ كورا التقاعد، ولم يخلُفه في تلك الوظيفة أحد بعد ذلك قط.
نصف ثمرة جريب فروت
خاضت روز امتحان القبول بالمدرسة الثانوية، وعبرت الجسر لتلتحق بالمدرسة في هانراتي.
ضمَّ الحائط بالمدرسة أربع نوافذ كبيرة ونظيفة، فضلًا عن أضواء الفلورسنت الجديدة. تناولت الحصة موضوع «الصحة والإرشاد»؛ وكانت فكرة جديدة آنذاك. اختلط الصبية بالفتيات في الفصل حتى انتهاء فترة الكريسماس لينتقلوا بعد ذلك لدراسة «الحياة الأسرية». كانت المعلمة صغيرة السن ويملؤها التفاؤل. ارتدت بذلة حمراء أنيقة تتسع فوق فخذيها. أخذت تسير جيئة وذهابًا بين الصفوف، مستمعةً إلى إجابات الطلاب عن السؤال الذي طرحته بشأن ما تناولوه في وجبة الإفطار؛ وذلك لكي تتحقق من اتباعهم قواعد «دليل الأغذية الكندي».
سرعان ما اتضحت الفوارق بين الريف والحضر في الإجابات عن هذا السؤال.
«بطاطس مقلية.»
«خبز وشراب ذرة.»
«شاي وعصيدة.»
«شاي وخبز.»
«شاي وبيض مقلي ولحم مملح.»
«فطيرة زبيب.»
علت بعض الضحكات، وأظهرت المعلمة تعبيرات بوجهها توحي بالتوبيخ الذي لا جدوى منه. انتقلت، بعد ذلك، إلى الجانب الذي يجلس فيه الطلاب القاطنون بالمدينة؛ إذ حافَظَ الطلاب بإرادتهم الحرة على نوع من الفصل العنصري في الفصل. وفي هذا الجانب، ادَّعَى الطلاب تناولهم الخبز المحمص ومربى الفواكه، أو اللحم المقدد والبيض، أو رقائق الذرة؛ أو كعك الوافل والشراب المُحلَّى. والقليل منهم قال إنه تناول عصير البرتقال.
أقحمت روز نفسها في نهاية أحد الصفوف التي شغلها الطلاب الذين يقطنون المدينة. لم يكن بالفصل أي طلاب آخَرين سواها من هانراتي الغربية، ورغبت بشدة في التخلي عن أصولها والانضمام إلى صفوف سكان المدينة، والانتماء إلى أولئك الذين يأكلون الوافل ويشربون القهوة، وذوي الاطلاع الواسع ممَّن يملكون ركنًا مخصَّصًا لتناول وجبة الإفطار.
أجابت روز عن سؤال المعلمة بجرأة: «نصف ثمرة جريب فروت.» لم يفكِّر أحد غيرها في هذه الإجابة.
في الواقع، كانت فلو سترى أن تناول الجريب فروت على الإفطار أمر لا يقل سوءًا عن شرب الشامبانيا، بل إنه لا يباع في المتجر من الأساس. لم تهتم أسرة روز كثيرًا في الحقيقة بالفواكه الطازجة، واقتصرت مشترياتهم منها على الموز المرقط، والبرتقال الصغير الرديء الجودة. اعتقدت فلو — شأنها شأن الكثير من القرويين آنذاك — أن أي شيء غير مطهوٍّ جيدًا يضرُّ بالمعدة. وقد اعتادت أسرة روز تناول الشاي والعصيدة في وجبة الإفطار. وفي فصل الصيف، كانوا يتناولون الأرز المنفوخ. وكان أول صباحٍ غُرِفَ فيه الأرز المنفوخ — الأشبه بحبوب اللقاح في خفة وزنه — في صحن الإفطار بمثابة العيد، وسعدت الأسرة به كما تسعد بأول يوم سير على الطريق الوعرة بدون أحذية مطاطية واقية من المطر، أو أول يوم يمكن فيه ترك باب المنزل مفتوحًا في فترة الربيع القصيرة والجميلة التي تفصل بين الشتاء والصيف.
شعرت روز بالرضا عن نفسها لتفكيرها في الجريب فروت، وللكيفية التي أجابت بها عن السؤال بصوت تملؤه الجرأة وبعيد عن التكلُّف في الوقت نفسه. اعتادت روز اختناقَ صوتها دومًا في المدرسة، وخفقانَ قلبها بقوة كما لو أنه يكاد يخرج من حلقها، والتصاقَ ملابسها بذراعيها بسبب التعرق، بالرغم من استعمالها مزيل العرق. كانت أعصابها في حالة كارثية.
بعد بضعة أيام وفي أثناء عبورها الجسر عائدة إلى المنزل، سمعت صوتًا ينادي عليها. لم يذكر اسمها، لكنها علمت أنها المقصودة؛ فأبطأت في خطاها على الألواح الخشبية، وأخذت تنصت. بدا لها أن الأصوات تصدر من أسفل الجسر، لكنها عندما نظرت عبر الشقوق لم ترَ شيئًا سوى الماء المتدفق سريعًا. لا بد أن أحدًا قد اختبأ بالأسفل بجوار الركام. كانت أصواتًا كئيبة، ومموهة على نحوٍ لم يسمح لها بالجزم إذا كانت صادرة عن صِبْية أم فتيات.
«نصف ثمرة جريب فروت!»
ترددت تلك العبارة على سمع روز بين الحين والآخَر، واستمر ذلك لسنواتٍ عِدَّة؛ فكانت تسمعها من أحد الأزقة أو من نافذة مظلمة، ولم تكن تفصح عما تسمعه، لكنها سرعان ما كانت تلمس وجهها، وتمسح العرق من فوق شفتها العلوية. تتسبب ادعاءاتنا في تعرُّق أجسادنا.
كان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ من ذلك؛ فالخزي من أيسر الأمور التي يمكن أن تصيب المرء. والحياة في المدرسة الثانوية كانت محفوفة بالمخاطر، بسبب انتشار كل شيء في الحال، وعدم نسيان أي شيء فيها. كان من المحتمل أن تكون روز هي الفتاة التي نسيت فوطتها الصحية. فمَن فعلَتْ ذلك كانت على الأرجح فتاةً قرويةً تحمل الفوطة الصحية في جيبها أو في نهاية دفتر ملاحظاتها لتستخدمها في وقت لاحق من اليوم، وهو تصرُّف متوقَّع من أية فتاة تعيش بعيدًا عن المدرسة. روز نفسها فعلت ذلك. كانت هناك آلة لصرف الفوط الصحية في دورة مياه الفتيات، تبتلع العملات المعدنية ولا تُخرِج أي شيء في المقابل. اتفقت اثنتان من الفتيات القرويات اتفاقًا شهيرًا على أن يبحثا عن بوَّاب المدرسة في وقت الغداء، ويطلُبَا منه مَلْءَ آلة الصرف. لكن دون جدوى.
سألهما البوَّاب: «مَن منكما بحاجة إليها؟» ففرت الفتاتان، وقالتا إن حجرة ذلك البواب الموجودة تحت السلم احتوت على أريكة قديمة متسخة وهيكل عظمي لِقطَّة، وأقسمتا على ذلك.
لا بد أن تلك الفوطة الصحية قد سقطت على الأرض، ربما في غرفة تعليق القبعات والمعاطف، ثم التُقِطت وهُرِّبت بصورةٍ ما إلى دولاب عرض الجوائز التذكارية الموجود في القاعة الرئيسية، وصارت بذلك على مرأى من الجميع، وقد أفسد الطي والحمل مظهرها الجديد، وتسبَّب في حكِّ سطحها؛ ما رجَّح فكرة كونها فوطةً مستعملة. يا لها من فضيحة! وفي اجتماع عُقِد صباحًا، أشار الناظر إلى ذلك الشيء المثير للاشمئزاز، وتعهَّدَ باكتشاف المتسبِّب في وضعه على هذا النحو، وفضحه، وضربه بالسياط، وفصله من المدرسة. أنكرت كل فتاة في المدرسة معرفتها بهذا الشأن، وتكاثرت الآراء حوله. خشيت روز من توجيه أصابع الاتهام إليها باعتبارها المشتَبَه به الرئيسي في تلك الجريمة؛ ولذلك شعرت بالارتياح عندما أُلقِي باللوم على فتاة قروية أخرى بدينة متجهمة الوجه تُدعَى مورييل ميسون، والتي اعتادت ارتداء فساتين منزلية غير مهندمة من الحرير الصناعي في المدرسة، واتصفت برائحتها الكريهة.
أخذ الصِّبْية يضايقونها بعد ذلك ويسألونها: «هل ترتدين الفوطة اليوم، يا مورييل؟»
سمعت روز إحدى فتيات الصف النهائي تقول لفتاة أخرى على السلم: «لو كُنْتُ مكان مورييل ميسون، لرغبت في الانتحار … بل لانتحرت فعلًا!» لم تكن تتحدث شفقةً على مورييل، وإنما تعبيرًا عن عدم قدرتها على تحمُّل ذلك الوضع.
اعتادت روز عند عودتها كل يوم إخبار فلو عمَّا كان يحدث في المدرسة. استمتعت فلو بقصة الفوطة الصحية، وأخذت تسأل روز عن أية تطورات تطرأ عليها، لكنها لم تسمع قطُّ عن قصة نصف ثمرة الجريب فروت؛ فما كانت روز لتخبرها بأي شيء لا تلعب فيه دورًا عالي الشأن، أو دور المشاهد. المصائب كانت للآخَرين … هكذا اتفقت فلو وروز. كان التغيُّر الذي يطرأ على روز عند ابتعادها عن المشهد المدرسي وعبورها الجسر وتحوُّلها إلى مؤرِّخة إخبارية مذهلًا؛ فكانت تتخلص من توترها، ويعلو صوتها مشوبًا بالشك، وتتحرك بحرية في تنورتها ذات النقوش المربعة الملونة بالأحمر والأصفر، التي تتمايل فوق فخذيها على نحوٍ يشير بوضوح إلى التبختر والاختيال.
بدَّلَتْ فلو وروز الأدوار بينهما؛ فصارت روز الآن هي مَن يجلب القصص إلى المنزل، وفلو هي مَن يتعرَّف على أسماء الشخصيات وينتظر الاستماع إلى ما ترويه روز.
هورس نيكلسون، ديل فيربريدج، رانت تشسترتون، فلورنس دودي، شيرلي بيكرينج، روبي كاروزرس. انتظرت فلو كل يوم أخبارًا عن هؤلاء الأشخاص الذين أسمتهم «المهرجين».
«حسنًا، ماذا فعل أولئك المهرجون اليوم؟»
اعتادت روز وفلو الجلوس في المطبخ، مع فتح باب المتجر على مصراعيه تحسُّبًا لقدوم أي زبون، والباب المؤدي إلى السُّلَّم أيضًا تحسُّبًا لنداء والد روز على أيٍّ منهما. كان والدها طريح فراشه. وكانت فلو تعد القهوة لهما، أو تطلب من روز إحضار علبتين من الكولا من المُبرِّد.
ومن أمثلة القصص التي كانت ترويها روز لفلو عن المدرسة:
كانت روبي كاروزرس فتاةً ساقطةً ذات شعر أحمر تعاني من حوَل سيئ بعينها (أحد أهم الاختلافات بين الماضي والحاضر — على الأقل في الريف وفي أماكن مثل هانراتي الغربية — هو ترك حالات الحول والحول الوحشي، وتراكب الأسنان أو بروزها، دون علاج). عملت روبي كاروزرس لدى آل براينت، الذين عملوا في الأدوات الحديدية والخردوات. تولَّتْ روبي أداء الأعمال المنزلية مقابل الحصول على الطعام والبقاء في المنزل عند رحيل أصحابه — وهو ما كان يحدث غالبًا — لحضور سباقات الخيل أو مباريات الهوكي أو لسفرهم إلى فلوريدا. وفي إحدى المرات التي كانت فيها روبي في المنزل وحدها، ذهب ثلاثة فِتية لرؤيتها؛ وهم ديل فيربريدج، وهورس نيكلسون، ورانت تشسترتون.
عقَّبتْ فلو قائلةً: «لنَيْلِ ما يمكنهم نيله.» نظرت فلو إلى السقف ثم طلبت من روز خفض صوتها؛ فلن يسمح والدها برواية هذا النوع من القصص.
كان ديل فيربريدج فتى وسيمًا ومغرورًا، ويفتقر إلى الذكاء. أخبر صديقَيْه أنه سيدخل إلى المنزل ويُقنِع روبي بممارسة الرذيلة معه، وإن تمكَّنَ من استمالتها لفعل ذلك معهما أيضًا، فسيفعل. ما كان يجهله ديل هو أن هورس نيكلسون كان قد اتفق مع روبي على الالتقاء أسفل الشرفة.
قالت فلو: «توجد عناكب في ذلك المكان على الأرجح، لكنني لا أظن أنهما يأبهان لذلك.»
وبينما كان ديل يتجول في أرجاء المنزل المظلم باحثًا عن روبي، كانت هي أسفل الشرفة مع هورس، ورانت — الذي كان مشتركًا في الخطة من البداية — يجلس على درجات سُلَّم الشرفة حارسًا المكان، ومنصتًا بالتأكيد باهتمام لكل ما كان يحدث بالأسفل.
ما لبث هورس أن زحف من أسفل الشرفة قائلًا إنه سيدخل إلى المنزل للبحث عن ديل، ليس لإعلامه بما يحدث، وإنما ليرى كيف كانت الخدعة تسير. فكان ذلك هو الجزء الأهم فيما يحدث، من وجهة نظر هورس. وعندما دخل إلى المنزل، وجد ديل يأكل حلوى الخطمي في حجرة المؤن، ويقول إن روبي كاروزرس لا تصلح لإقامة علاقة معها، وإنه بوسعه فعل ما هو أفضل من ذلك في أي يوم آخَر؛ لذلك سوف يعود إلى المنزل.
وفي تلك الأثناء، زحف رانت أسفل الشرفة ليستمتع بوقته مع روبي.
فقالت فلو: «يا إلهي!»
خرج بعد ذلك هورس من المنزل، وسمعه كلٌّ من رانت وروبي وهو يسير في الشرفة أعلاهما. قالت روبي: «مَن هذا؟» فأجابها رانت: «لا أحد، إنه هورس نيكلسون.» فردَّتْ روبي: «مَن أنت إذن؟»
يا إلهي!
لم تهتم روز برواية ما حدث بعد ذلك، وهو أن روبي انزعجت لما حدث، وجلست على درجات سُلَّم الشرفة والوحل يغطي ملابسها بالكامل وشعرها. رفضت تدخين سيجارة أو تناول بعض الكعك (كان قد هُرِس على الأرجح آنذاك) مما سرقه رانت من متجر البقالة الذي عمل فيه بعد الدوام المدرسي. أخذ الصِّبْيَة يُلحون عليها بالسؤال عما يضايقها مستهزئين بها، فأجابتهم أخيرًا بقولها: «أظن أنه من حقي معرفة مَن أقيم معه العلاقة.»
علَّقتْ فلو على ذلك تعليقًا فلسفيًّا قائلة: «ستنال ما تستحقه.» واعتقد آخَرون ذلك أيضًا. فجرت العادة على أنه في حال التقاط أي شيء من متعلقات روبي عن طريق الخطأ — لا سيما ملابس الألعاب الرياضية أو حذاء الركض الخاص بها — فيجب غسل اليدين خشيةَ الإصابة بمرض تناسلي.
أصيب والد روز، الذي كان يرقد بالدور العلوي، بنوبة من السعال، واتسمت تلك النوبات بشدتها، لكن الأسرة اعتادت عليها. نهضت فلو، وذهبت إلى أسفل السلم، وأخذت تستمع إليه حتى انتهت النوبة.
قالت فلو: «هذا الدواء لا فائدة منه على الإطلاق، وذلك الطبيب لا يُحسِن حتى وضع الضمادة على الجرح.» ظلت فلو تلقي باللوم دومًا في مرض والد روز على الأدوية والأطباء.
استطردت فلو قائلةً: «لو حدث ذلك بينك وبين أي صبي، فستكون تلك نهايتك. وأنا أعني ما أقول.»
تدفقت الدماء في وجه روز من شدة الحنق، وقالت إنها تتمنى الموت على أن تفعل ذلك.
فردت فلو: «هذا ما أتمناه أيضًا.»
•••
ومن أمثلة القصص التي كانت ترويها فلو لروز:
عندما توفيت والدة فلو، كانت في الثانية عشرة من عمرها، وتخلَّى عنها والدها لأسرة ميسورة الحال تعمل في الزراعة لتعمل لديهم مقابل الحصول على الطعام وإرسالها إلى المدرسة، لكنهم لم يرسلوها إلى المدرسة في أغلب الأوقات؛ إذ كان هناك الكثير من العمل الذي ينبغي الانتهاء منه. كانوا قساةَ القلب.
«إذا كنتِ تقطفين التفاح، وغفلتي عن إحدى الثمرات على الشجرة، كان عليكِ العودة وقطف ثمار جميع الأشجار في البستان بأكمله. وانطبق نفس الشيء على التقاط الصخور الموجودة في الحقل؛ إن غفلتي عن إحداها، فعليكِ تنظيف الحقل بالكامل مجدَّدًا.»
كانت الزوجة أختًا لأحد القساوسة. حرصت دومًا على العناية ببشرتها بدَهْنها بكريم «هيندز هاني آند ألموند». اتسمت تلك المرأة بتعاليها على الجميع، وتهكمها، واعتقادها بأنها تزوَّجَتْ من شخص دون مستواها.
قالت فلو: «لكنها كانت جميلة، ومنحتني شيئًا واحدًا؛ زوجًا طويلًا من القفازات المصنوعة من الساتان. كان لونهما بنيًّا فاتحًا مائلًا للأصفر. كانا جميلين، ولم أُرِدْ فقدانهما أبدًا، لكنني فقدتهما.»
كان على فلو إيصال العشاء للرجال في الحقل البعيد عن المنزل. وعندما نظر الزوج للعشاء ذات مرة، قال لها: «لماذا لا توجد فطيرةٌ في هذا العشاء؟»
فردَّتْ عليه فلو بنفس كلمات سيدتها ونبرتها عند تحدُّثها أثناء رصها علبة العشاء: «إذا أردْتَ فطيرًا، فيمكنكَ إعداده بنفسك.» لم يكن تقليد فلو لسيدتها على نحوٍ بارعٍ بالأمر المُستغرَب؛ فلطالما فعلت ذلك حتى أمام المرآة، لكن ما كان مُستغرَبًا هو الإفصاح عن ذلك في تلك اللحظة.
أصيب الزوج بالذهول، لكنه أدرك تقليد فلو لسيدتها، فسار معها إلى المنزل، وسأل زوجته عمَّا إذا كانت قد قالت ما نقلته فلو بالفعل. كان رجلًا ضخمَ البنيان، وسيئ المزاج للغاية، فأجابت أخت القسيس بأن ذلك ليس صحيحًا، وأن هذه الفتاة ليست سوى كاذبة ومثيرة للمشكلات. واجهته حتى تراجع، وعندما اختلت بفلو ضربتها بعنف لتدفع بها عبر الغرفة نحو إحدى الخزانات؛ فأصيبت بجرح في فروة رأسها شُفِي بمرور الوقت دون غُرَز (فلم تستدعِ أخت القسيس الطبيبَ لعدم رغبتها في أن يعلم أحد بالأمر)، ولا تزال هناك ندبة بفروة رأس فلو إثر ذلك الحادث.
ولم تَعُدْ فلو للمدرسة بعد ذلك قط.
وقبل بلوغها الرابعة عشرة بفترة وجيزة، فرَّتْ من المنزل. كذبت بشأن سنِّها، وحصلت على وظيفة في مصنع القفازات في هانراتي، لكن أخت القسيس تمكَّنَتْ من معرفة مكانها والوصول إليها، وأخذت تزورها بين الحين والآخَر، مردِّدَةً على مسامعها بعض عبارات من قبيل: «نحن نسامحك يا فلو. لقد هربتِ وتركتِنَا، لكننا لا نزال نعتبركِ ابنتنا وصديقتنا. ومرحبًا بقدومك في أي وقت لقضاء اليوم معنا. أَلَا تحبين قضاء يوم في الريف؟ إن مصنع القفازات ليس مكانًا صحيًّا على الإطلاق لشابة مثلك؛ فأنتِ بحاجة للهواء. لماذا لا تأتين لزيارتنا؟ لماذا لا تأتين اليوم؟»
وفي كل مرة كانت فلو تقبل فيها هذه الدعوة تكتشف أن عملًا ما ينبغي إتمامه، مثل حفظ الفاكهة أو صنع الصلصة الحارة، أو تغيير ورق الحائط، أو تنظيف المنزل في فصل الربيع، أو بدء أعمال دَرس الحنطة. واقتصرت مناظر الريف التي كانت تراها على تلك التي كانت تلمحها أثناء تخلُّصها من ماء غسل الصحون من فوق السور. لم تستطع قط فَهْم السبب وراء ذهابها أو بقائها هناك. كان طريق العودة للبلدة طويلًا، فقد كانت تعود سيرًا على قدميها، وكان أولئك القوم لا حول لهم ولا قوة وحدهم. فكانت أخت القسيس تحتفظ ببرطمانات حفظ الأطعمة متسخةً، وعند إحضارها من القبو بعد ذلك، يكون هناك بعض العفن بداخلها، وكتلٌ من الفاكهة النتنة بقعرها. هل يسع المرء سوى الإشفاق على أناس كهؤلاء؟
حين دخلت تلك المرأة المستشفى عند احتضارها، تصادَف وجود فلو في المستشفى أيضًا لإجراء عملية المرارة، الأمر الذي تمكَّنَتْ روز من تذكُّره. علمت أخت القسيس بوجود فلو في المستشفى، وطلبت رؤيتها، فوضعت فلو نفسها على كرسي متحرك، ودفعوها عبر الرواق. وما إن وقعت عيناها على السيدة في سريرها — امرأة طويلة ذات بشرة ناعمة، أصاب جسدها الهزال، وغطت بشرتها البقع، مُخدَّرَة ومصابَة بالسرطان — بدأ أنفها ينزف نزيفًا شديدًا، وكان ذلك النزيف الأول والأخير الذي أُصِيبت به في حياتها. أخذت الدماء الحمراء تتدفق من أنفها بغزارة؛ هكذا وصفت فلو ما حدث.
ركضت الممرضات من كافة الاتجاهات بالرواق لمساعدتها، وبدا كما لو أنه ما من شيء سيوقفه. عندما رفعت السيدة المريضة رأسها، اندفعت الدماء إلى سريرها، وعندما خفضتها، تدفقت الدماء على الأرض؛ لذا انبغى على الممرضات استخدام أكياس الثلج معها في النهاية، ولم تسنح لها الفرصة لتوديع المرأة المحتضرة.
«لم أتمكن من توديعها قط.»
«هل كنتِ ترغبين في ذلك؟»
ردت فلو: «نعم، كنت أرغب في ذلك حقًّا.»
•••
اعتادت روز إحضار كومة من الكتب كل يوم إلى المنزل، وتنوعت تلك الكتب بين اللغة اللاتينية، والجبر، وتاريخ العصور القديمة والوسطى، واللغة الفرنسية، والجغرافيا. كان هناك أيضًا «تاجر البندقية»، و«قصة مدينتين»، و«قصائد قصيرة»، و«ماكبث». عبَّرَتْ فلو عن عدائها لتلك الكتب، كحالها مع جميع الكتب، وبدا أن تلك العدائية كانت تزيد بزيادة وزن الكتاب وحجمه، وقتامة التغليف وكآبته، وطول الكلمات في عنوانه ومدى صعوبتها، فأثار كتاب «قصائد قصيرة» غضبَها؛ إذ عندما فتحتْهُ وجدَتْ قصيدة تمتد لخمس صفحات.
أخطأت فلو في نطق عناوين الكتب، واعتقدت روز أنها تعمَّدَتْ فعل ذلك. ومن أمثلة ذلك نطقها لعنوان «الإلياذة والأوديسة»، والذي يوحي للمستمع بأن بطل الملحمة كان سكِّيرًا أو شيئًا من هذا القبيل.
كان على والد روز النزول على السلم للذهاب إلى دورة المياه؛ فاتَّكَأ على الدرابزين، وأخذ يتحرك ببطء، لكن دون توقف. وكان يرتدي رداءَ حمام من الصوف بنيَّ اللون ذا عقدة مزيَّنَة بالشراشيب. تجنَّبَتْ روز النظر في وجهه. لم يرجع السبب في ذلك إلى ما طرأ على مظهره من تغيُّرات تسبَّب فيها المرضُ، وإنما لما كانت تخشى رؤيته في وجهه من رأيه السيئ فيها. ولا ريب أن والدها كان هو السبب الذي جلَبَتْ من أجله روز الكتبَ إلى المنزل، فأرادت أن تتباهى أمامه. ألقى والدها نظرةً على تلك الكتب بالفعل؛ فما كان بإمكانه المرور بأي كتاب في العالم دون التقاطه والاطلاع على عنوانه، لكنه اكتفى بقوله: «احذري من الذكاء الذي قد يضر بك.»
اعتقدَتْ روز أنه كان يقول ذلك إرضاءً لفلو، تحسُّبًا لاستماعها إليهما أثناء حديثهما. كانت فلو في المتجر آنذاك، لكن روز تصوَّرَتْ أن والدها — بغض النظر عن المكان الذي توجد به فلو — سوف يتحدث كما لو كانت فلو تسمعه؛ إذ كان يحرص حرصًا شديدًا على إرضائها، والتكهن باعتراضاتها. وبدا أنه قد اتخذ قرارًا في هذا الشأن؛ أَلَا وهو أن الأمان يكمن مع فلو.
لم تردَّ روز عليه قط، وعندما كان يتحدث، كانت تحني رأسها تلقائيًّا، وتزم شفتيها في تعبير متحفظ، لكنه غير مُحقِّر في الوقت ذاته؛ إذ التزمت الحذر. لكن لم يخفَ عن أبيها كل ما شعرت به من حاجتها للتباهي، وآمالها العريضة لنفسها، وطموحاتها الباهرة؛ فكان يعلمها جميعًا، وكانت روز تشعر بالخجل لمجرد تواجدها معه في الغرفة ذاتها؛ إذ كانت تشعر بأنها قد خيَّبَتْ ظنَّه على نحوٍ ما منذ يوم ولادتها، وسوف تظل تخيب ظنه بصورة أكبر في المستقبل، لكنها لم تكن نادمة؛ فهي على علم بمدى عنادها، ولم تكن تنوي التغير.
جسَّدت فلو فكرة والد روز عن المرأة كما يجب أن تكون. وقد علمت روز ذلك، وهو أيضًا ردَّده كثيرًا. فعلى المرأة أن تكون مفعمة بالنشاط، عملية، ماهرة في جني الأموال وادخارها؛ عليها أن تكون فطنة، وبارعة في المساومة، وترأس الآخرين، ويمكنها اكتشاف ادعاءاتهم. وفي الوقت نفسه، عليها أن تكون ساذجة معرفيًّا، وطفولية، تحتقر الخرائط والكلمات الكبيرة وأي شيء تتضمنه الكتب، وأن تسيطر عليها المفاهيم المشوشة المبهرة، والخرافات، والمعتقدات التقليدية.
قال لروز ذات مرة في إحدى تلك الفترات التي سادها الهدوء — بل والود أيضًا — بينهما عندما كانت أصغر سنًّا قليلًا، ولعله نسي أن روز كانت ستصبح امرأة ذات يوم: «إن عقليات النساء مختلفة؛ فهن يؤمِنَّ بما ينبغي عليهن الإيمان به. لا يمكنك تتبع أفكارهن.» كان يعلِّق آنذاك على أحد المعتقدات التي كانت تؤمِن بها فلو، وهو أن ارتداء الأحذية المطاطية في المنزل يصيب المرء بالعمى. واستطرد قائلًا: «إلا أن لديهن القدرة على إدارة الحياة بأساليب معينة؛ هذه هي موهبتهن، وهي ليست في عقولهن. ثمة شيء يبرعن فيه أكثر من الرجال.»
لذا، فقد نبع جزء من شعور روز بالخزي من كونها أنثى، مع عدم اتسامها في الوقت نفسه بالسمات التي يجب أن تكون عليها المرأة، لكن كان هناك سبب آخَر أيضًا؛ إذ كانت المشكلة الحقيقية في أنها جمعت وحملت كل ما اعتقد والدها أنها أسوأ خصاله. كل الجوانب التي انتصر عليها وأخفاها بنجاح في نفسه، ظهرت مجدَّدًا في روز التي لم تُظهِر أي إرادة للتغلب عليها، فكانت تستغرق في أحلام اليقظة، واتسمت بالغرور والتوق للتفاخُر؛ تعيش حياتها بالكامل في رأسها. لم تَرِثْ منه الشيء الوحيد الذي مثَّل مصدر فخره واعتمد عليه؛ أَلَا وهو مهارته اليدوية، ودقته، ومراعاة ضميره في أي عمل يقوم به، فكانت، في حقيقة الأمر، خرقاءَ على نحوٍ غير عادي، ومتهورةً، وعلى استعداد دائم لأن تسلك الطرق السهلة. ومن ثم، فإن رؤية والدها لها وهي تنشر المياه أثناء غسيلها للصحون، وفكرها شارد بعيدًا، وأردافها أكبر من أرداف فلو بالفعل، وشعرها أشعث كثيف؛ ورؤيته لطبيعتها الكسولة المستغرقة في التفكير، كان من الواضح أنه يثير غضبه وحزنه، بل واشمئزازه أيضًا.
كانت روز على علم بكل ذلك؛ فكانت تقف ساكنةً إلى أن يعبُر والدها الغرفة، وتنظر إلى نفسها بعينيه. شعرت هي أيضًا بالكُرْه تجاه المساحة التي كانت تشغلها، لكنها سرعان ما كانت تعود لطبيعتها عند مغادرته المكان، فتعود لأفكارها أو إلى المرآة التي انشغلت بها كثيرًا تلك الأيام؛ فكانت تجمع شعرها فوق رأسها، وتلتف قليلًا لتتمكن من رؤية نهدها، أو شد بشرتها لترى كيف ستبدو عند انحنائها انحناءة بسيطة مثيرة.
كانت روز على يقين في الوقت نفسه من أن والدها يكنُّ مشاعر أخرى تجاهها؛ فقد علمت أنه يفخر بها، بالرغم من ذلك الانزعاج والقلق الذي يكاد يكون غير قابل للتحكم فيه. الحقيقة النهائية هي أنه ما كان ليغيِّرها، وأنه يريدها كما هي … أو جزءٌ منه أراد ذلك. وتوجَّب عليه، بطبيعة الحال، إنكار ذلك على الدوام، بسبب خنوعه وضلاله، أو بالأحرى خنوعه الضال. وكان عليه أيضًا أن يبدو متفقًا مع فلو في الرأي.
في الواقع، لم تتمعَّن روز في التفكير في ذلك الأمر، أو لم ترغب في ذلك. لم تكن تشعر بالارتياح — مثل والدها — بشأن العلاقة بينهما.
•••
عند عودة روز من المدرسة في أحد الأيام، قالت لها فلو: «أحسنتِ بوصولكِ الآن؛ فعليك البقاء في المتجر.»
كان والدها سيُنقَل إلى مستشفى المحاربين القُدامَى في لندن.
«لماذا؟»
«لا تسألي … هكذا أمر الطبيب.»
«هل ساءت حالته؟»
«لا أعلم! أنا لا أعلم شيئًا. ذلك الطبيب الذي لا فائدة منه لا يعتقد ذلك. فقد أتى صباح اليوم، وأجرى كشفًا له، وقال إنه سيُنقَل إلى المستشفى، ونحن محظوظون بتواجد بيلي بوب لنقله.»
كان بيلي بوب أحد أقرباء فلو، يعمل في متجر الجزارة، وكان يعيش في السابق في المجزر في غرفتين بأرضية من الأسمنت، وتفوح منه رائحة أحشاء الحيوانات وأمعائها والخنازير الحية، لكنه تمتع بالتأكيد بطبيعة محبة للحياة المنزلية؛ فزرع نبات الغرنوقي في علب التبغ المعدنية القديمة التي وضعها على عتبات النوافذ الإسمنتية السميكة. انتقل بيلي آنذاك إلى الشقة الصغيرة الموجودة فوق المتجر، وادَّخَر المال واشترى سيارة طراز أولدزموبيل، كان ذلك بعد الحرب بفترة وجيزة حينما كان للسيارات الجديدة طابع خاص مبهج. وفي زياراته لأسرة روز، كان يسير نحو النافذة ويُلقِي نظرةً نحو الخارج، ويقول شيئًا ما للفت الانتباه.
افتخرت فلو به وبسيارته.
«انظري! الكرسي الخلفي بسيارة بيلي بوب كبير. سيفيد والدك إذا أراد الاستلقاء.»
«فلو!»
نادى عليها والد روز. عندما صار طريح الفراش في البداية، كان نادرًا ما ينادي على فلو، ثم صار ينادي عليها بصوت كتوم، وأحيانًا يوحي بالاعتذار، لكنه تجاوز تلك المرحلة، وصار ينادي عليها كثيرًا، ويختلق الأسباب — كما قالت فلو — لجعلها تصعد إلى أعلى.
قالت فلو: «كيف سيتدبَّر حاله بدوني هناك؟ إنه لا يدعني وشأني لمدة خمس دقائق.» بدا الأمر وكأنها تفتخر بذلك، رغم أنها كانت تدعه ينتظرها عادةً. وفي أغلب الأحيان، كانت تذهب لتقف أسفل السلم وتجبره على الصياح بمزيد من التفاصيل عن سبب حاجته لها، وكانت تقص على الناس في المتجر عدم استطاعته الاستغناء عنها خمس دقائق فقط، وعن اضطرارها تغيير ملاءات السرير مرتين في اليوم. كان ذلك صحيحًا؛ فقد كانت الملاءات تبتل بسبب العرق. وفي وقت متأخر من الليل، كانت هي أو روز أو كلتاهما تذهبان إلى غسالة الملابس الموجودة في السقيفة الخشبية، وكانت روز ترى، في بعض الأحيان، بقعًا بملابس والدها الداخلية. لم تكن تنظر إليها، لكن روز كانت ترفعها وتلوح بها بالقرب من أنف روز، وهي تصيح: «انظري إلى ذلك ثانيةً!» وتصدر أصواتًا كأصوات الدجاج كنوع من المحاكاة الساخرة المستنكرة.
كرهت روز فلو في تلك الأوقات، وكرهت والدها أيضًا، كرهت مرضه، والفقر أو الاقتصاد في الإنفاق الذي حال دون إرسالهم الملابس إلى المغسلة، وعدم وجود ما يوفر لهم الحماية في حياتهم. وكانت فلو هناك لتتأكد من ذلك.
•••
ظلَّتْ فلو في المتجر. لم يأتِ أحدٌ. كان يومًا عاصفًا ومليئًا بالرمال في الجو، الأمر المعتاد بعد نزول الثلج، رغم أنه لم ينزل أي ثلج. سمعت روز فلو وهي تتحرك بالأرجاء في الطابق العلوي، وتصيح بعبارات موبِّخة ومشجِّعة أثناء مساعدتها والدها في ارتداء ملابسه، وإعدادها لحقيبته أيضًا، وبحثها عن متعلقاته. وضعت روز كتبها المدرسية على المنضدة، ولتجاهل الضوضاء التي ملأت المنزل، أخذت تقرأ قصةً في كتاب اللغة الإنجليزية الخاص بها؛ كانت قصة لكاثرين مانسفيلد بعنوان «حفلة الحديقة». ضمت القصة أشخاصًا فقراء يعيشون في زقاق عند نهاية إحدى الحدائق. عطف عليهم الآخرون. سارت الأحداث على ما يرام، لكن روز شعرت بغضب لم تهدف القصة إلى إشعار القارئ به، ولم تكن تدرك في الواقع سبب غضبها، لكنه تعلَّقَ بحقيقة تيقُّنها من أن كاثرين مانسفيلد لم تضطر يومًا لرؤية ملابس داخلية متَّسِخة، وأن أقاربها ربما كانوا قساة وعابثين، لكن لهجاتهم كانت مقبولة؛ كانت شفقتها قائمة على ما شهدته في حياتها من حظ حسن، وكانت ترثي لحال الفقراء، بلا شك. لكن روز شعرت بالازدراء من تلك الشفقة. اتخذت روز موقفًا متزمتًا من الفقر، وسيظل هذا الموقف ملازمًا لها لفترة طويلة من الوقت.
سمعت روز بيلي بوب وهو يدخل إلى المطبخ ويصيح في بهجة قائلًا: «حسنًا، أظن أنك تتساءلين أين كنتُ.»
لم يكن لكاثرين مانسفيلد أقرباء يتحدثون بتلك اللهجة التي تحدَّث بها بيلي.
كانت روز قد أنهت قراءة القصة، وأمسكت بمسرحية «ماكبث». سبق لها حفظ بعض العبارات من هذه المسرحية، وحفظت أجزاء من كتابات شكسبير وقصائد غير تلك التي من المفترض عليها حفظها في المدرسة. وعند ترديدها تلك العبارات، لم تتخيل نفسها ممثلة تلعب دور ليدي ماكبث على المسرح، وإنما تخيَّلَتْ نفسها ليدي ماكبث.
صاح بيلي بوب إلى أعلى السلم: «لقد جئتُ سائرًا على قدمي؛ توجَّبَ عليَّ إرسالها إلى الميكانيكي.» افترض بيلي أن الجميع يعلم أنه يعني سيارته بهذا الحديث. أكمل حديثه قائلًا: «لا أعلم ما المشكلة. لا يمكنني إيقافها، وتتحرك ببطء. ولم أرغب في الذهاب إلى المدينة، وثمة مشكلة في السيارة. هل روز في المنزل؟»
لطالما أحب بيلي بوب روز منذ أن كانت طفلة صغيرة، واعتاد منحها عشرة سنتات قائلًا لها: «ادَّخِريها لتشتري لنفسك مِشَدًّا نسائيًّا.» كان ذلك عندما كانت نحيلة وهزيلة. هكذا كان يمزح معها.
دخل بيلي المتجر.
«حسنًا روز، هل كنتِ فتاة مطيعة؟»
كان حديثها معه قليلًا للغاية.
«هل تتفقدين كتبَ المدرسة الخاصة بك؟ هل تريدين أن تصبحي معلمة؟»
«ربما.» لم تكن لديها أية نية لأن تكون معلمة، لكن من المدهش حقًّا كيف يتركك الناس وشأنك عندما تعترف لهم بأن لديك هذا الطموح.
خفض بيلي بوب من صوته، وقال لها: «هذا يوم حزين على أسرتك.»
رفعت روز رأسها ونظرت إليه ببرود.
«أعني أن والدك سينتقل إلى المستشفى، لكنهم سيعالجونه هناك؛ فلديهم جميع المعدات اللازمة، ولديهم أيضًا أطباء مَهَرَة.»
فردَّتْ عليه روز: «أشك في ذلك.» كان ذلك من الأمور التي تمقتها أيضًا؛ تلك الطريقة التي يلمح بها الناس إلى أمور ما، ثم يتراجعون. تلك المراوغة. وكان موضوعا الموت والجنس هما أكثر ما يراوغ الناسُ في الحديث عنهما.
«سوف يعالجونه ويعود إلى المنزل بحلول فصل الربيع.»
فردَّتْ روز بحزم: «إلا إذا كان يعاني من سرطان بالرئة.» لم تقل ذلك من قبلُ قطُّ، ولم تفعل فلو ذلك أيضًا بالتأكيد.
نظر بيلي بوب إليها نظرةً بائسةً يلفها الخزي، كما لو أنها قالت شيئًا بذيئًا.
«ليس من المفترض أن تتحدثي على هذا النحو؛ فسوف ينزل والدك الآن، وقد يسمعك.»
ليس من شك أن ذلك الحال كان يسعد روز في بعض الأحيان. كان يسعدها سعادة موجعة، عندما لا تكون جزءًا منه بغسيلها الملاءات أو استماعها لنوبات السعال، فقد عاشت دورها في الموقف كما تراه، ورأت نفسها فطنة وغير مندهشة، رافضة لكل التضليلات، فتاة صغيرة سنًّا، لكنها ناضجة في الوقت نفسه بسبب ما خاضته من تجارب الحياة المريرة. وبهذه الروح، نطقت عبارة «سرطان الرئة».
اتصل بيلي بوب بجراج تصليح السيارات، وقيل له إن إصلاح السيارة لن ينتهي قبل وقت العشاء. وبدلًا من أن يغادر آنذاك، اضطر للمبيت على الأريكة في المطبخ ليذهب مع والد روز إلى المستشفى في الصباح.
«لا حاجة للاستعجال، لن أهرول من «أجله».» عنيت فلو الطبيب بذلك الحديث. دخلت إلى المتجر للحصول على علبة سلمون لصنع شطيرة، وبالرغم من أنها لم تكن ذاهبة إلى أي مكان، ولم تخطِّط لذلك، ارتدت جواربَ طويلة وتنورة وبلوزة نظيفتين.
تحدَّثَتْ فلو مع بيلي بوب بصوت عالٍ في المطبخ أثناء إعدادها العشاء. جلست روز على الكرسي العالي وأخذت تردد في رأسها — وهي تنظر من النافذة الأمامية إلى هانراتي الغربية، والرمال التي تندفع عبر الشارع، وبرك الطين الجافة: تعالوا إلى نهدي، وارتشفوا لبني، أيتها الوحوش القاتلة! لو أنها صاحت بتلك الكلمات في المطبخ لأصابت فلو وبيلي بصدمة مروعة.
أغلقت روز المتجر الساعة السادسة صباحًا، وعندما دخلت إلى المطبخ فوجئت برؤية والدها هناك. لم تسمعه، فلم يكن يتحدث أو يسعل. كان يرتدي بذلته الأنيقة ذات اللون غير المعتاد، كانت بلون أخضر زيتي، لعلها كانت رخيصة الثمن.
قالت فلو: «انظري إليه وهو متأنِّق، إنه يعتقد أنه أنيق، ويسعده كثيرًا عدم اضطراره العودة إلى السرير.»
ابتسم والد روز ابتسامةً متكلفةً خانعةً.
سألته فلو: «كيف تشعر الآن؟»
«على ما يرام.»
«لم تعانِ من أي نوبة سعال على أية حال.»
كان قد حلَقَ ذقنه لتوِّه، ويبدو وجهه ناعمًا ورقيقًا كأشكال الحيوانات التي نحتتها روز في المدرسة من صابون الغسيل الأصفر.
«ربما ينبغي عليَّ أن أنهض وأظل مستيقظًا.»
قال بيلي بوب بنبرة صاخبة: «إليك النصيحة السديدة؛ لا للكسل بعد الآن. انهض وابقَ متيقظًا. عُدْ إلى عملك.»
كانت هناك زجاجة ويسكي على المائدة أحضرها بيلي بوب، شرب الرجلان منها في كوبين صغيرين سبق وأن احتويا على الجبن القشدي، وأكملا الكوبين بمقدار نصف بوصة من الماء أو ما شابه.
دخل في تلك اللحظة براين، أخو روز من والدها، والذي كان يلعب في الخارج في مكان ما. دخل بصوته المزعج وملابسه المليئة بالوحل، ورائحة الجو البارد بالخارج تحيط به.
وعندما دخل براين، قالت روز: «هل لي أن أشرب القليل؟» مشيرةً إلى زجاجة الويسكي.
فأجابها بيلي بوب: «الفتيات لا يشربن ذلك.»
وقالت فلو: «إذا حصلتِ على القليل، فسوف يتذمَّر براين ليحصل هو أيضًا عليه.»
وحينذاك، قال براين متذمرًا: «هل يمكنني الحصول على القليل؟» فضحكت فلو بصوت عالٍ، ومررت كوبها خلف صندوق الخبز، وقالت له: «ها هو ذا، أرأيتِ؟»
•••
قال بيلي بوب على مائدة العشاء: «كان هناك بعض الأشخاص المعالِجين في تلك الأرجاء في السابق، لكننا لم نَعُدْ نسمع عنهم أي شيء الآن.»
فقال والد روز متغلبًا على نوبة سعال كادت أن تبدأ: «من السيئ حقًّا عدم تمكننا من استدعاء أيِّ منهم الآن.»
قال بيلي بوب: «كان هناك معالِج روحاني اعتدت سماع والدي يتحدث عنه. كان له أسلوب مميز في الحديث؛ إذ كان حديثه يشبه الكتاب المقدس. وذات مرة ذهب إليه شخص أصم، فكشف عليه وعالجه، ثم سأله: «هل سمع بها الآن؟»»
عدَّلت روز خطأ بيلي قائلةً: «هل تسمع بها الآن؟» كانت قد شربت ما بقي من كوب فلو أثناء إحضارها الخبز للعشاء، وشعرت بأنها أكثر ميلًا للتحدث مع جميع أقاربها.
«نعم، هذا ما قاله: «هل تسمع بها الآن؟» وأجابه الرجل بالإيجاب، فسأله المعالج الروحاني: «هل تؤمن إذن؟» ولم يفهم الرجل ما كان يعنيه المعالج بسؤاله ذلك وسأله: «أؤمن بماذا؟» فجُنَّ جنون المعالج، وحرمه من سمعه ليعود إلى منزله أصمَّ كما كان.»
روت فلو أيضًا أنه في المكان الذي عاشت فيه عندما كانت فتاة صغيرة، كانت هناك سيدة اشتهرت ببصيرتها الخارقة، حتى إن أعدادًا كبيرة من العربات التي تجرها الخيول، ومن بعدها السيارات، كانت تصطف أمام منزلها حتى نهاية الزقاق في أيام الآحاد؛ إذ كان يوم الأحد هو اليوم الذي يأتي فيه الناس من مسافات بعيدة لاستشارتها، وأغلب استشاراتهم كانت عن أشياء فقدوها.
سألها والد روز: «ألَمْ يرغب أيٌّ منهم في التواصل مع ذويه؟» مشجِّعًا إياها على مواصلة الحديث كعادته دومًا عند روايتها أية قصة، واستطرد قائلًا: «أظن أنه كان بإمكانها الاتصال بالأشخاص المتوفَّين.»
«حسنًا، كان أغلب الناس قد نالوا كفايتهم من أقاربهم وهم أحياء.»
واقتصرت الأمور التي شغلت اهتمامهم على الخواتم والوصايا والمواشي، ومعرفة أماكن اختفاء هذه الأشياء.
«ذهب إليها أحد الأشخاص ممَّن أعرفهم، وقد فقد محفظته. كان ذلك الرجل يعمل في السكك الحديدية. قالت له المرأة: «حسنًا، هل تتذكر ما فعلتَه منذ نحو أسبوع عندما كنتَ تعمل على أحد خطوط السكك الحديدية، ومررتَ بالقرب من أحد البساتين، فأردْتَ التقاط إحدى ثمار التفاح، وقفزت فوق السور للحصول عليها؟ لقد سقطت منك المحفظة هناك بين الحشائش الطويلة، لكن كلبًا مرَّ عليها والتقطها، ثم أسقطها بعيدًا بمحاذاة السور. يمكنك العثور عليها هناك.» كان الرجل قد نسي كل شيء عن البستان وتسلُّقه السور، وأصيب بالذهول لما سمعه منها، ومنحها دولارًا، وذهب إلى حيث أرشدته، ووجد محفظته في المكان الذي وصفته بالضبط. حدث ذلك بالفعل، فأنا أعرف ذلك الرجل، لكن المال كان قد تمزَّق كله بمضغ الكلب له، وعندما اكتشف الرجل ذلك، غضب للغاية وتمنَّى لو أنه لم يمنحها كل هذا المبلغ من المال!»
قال والد روز: «لم تذهبي إليها قطُّ، أليس كذلك؟ فأنتِ لا تؤمنين بمثل هذه الأمور.» عندما كان يتحدث مع فلو، كان يستخدم عادةً عبارات ريفية، فضلًا عن اتباعه أسلوب الإزعاج الذي اتبعه الريفيون بقولهم عكس ما كان صحيحًا، أو ما يُعتقَد أنه صحيح.
أجابت فلو: «لا، لم أذهب إليها قطُّ في الحقيقة لأسألها عن أي شيء، لكنني زرتها في إحدى المرات؛ إذ توجَّبَ عليَّ إحضارُ بعض البصل الأخضر منها. كانت والدتي مريضةً وتعاني من أعصابها، فأرسلت إلينا تلك المرأة رسالةً تخبرنا فيها بأن لديها بعض البصل الأخضر المفيد للأعصاب. كان ما تعاني منه والدتي حقًّا هو السرطان، وليس الأعصاب؛ لذا لا أعلم ما قدَّمَه لها البصل من فائدة.»
علا صوت فلو، وأسرعت في حديثها، خجلًا من إفصاحها عن ذلك.
«لذا، اضطررت للذهاب إليها، والحصول على البصل. كانت قد التقطت الثمار وغسلتها، وحزمتها من أجلي، لكنها طلبت مني عدم المغادرة قبل الدخول إلى المطبخ لرؤية ما أعَدَّتْه لي. لم أكن أعلم ما تريدني أن أراه، ولم أكن أريد الدخول؛ فكنتُ أظنها ساحرةً، كنَّا جميعًا في المدرسة نظن ذلك؛ لذا جلستُ في المطبخ، وذهبَتْ هي إلى حجرة المؤن، وجلبت كعكة شوكولاتة كبيرة، وقطعت منها شريحة، ومنحتني إياها. كان عليَّ الجلوس وتناولها، وجلست هي تشاهدني أثناء تناولي للكعكة. كل ما يمكنني تذكُّره منها هو يداها؛ كانتا يدين ضخمتين حمراوين تبرز فيهما عروق كبيرة، وكانت لا تكف عن وضعهما في حِجرها واعتصارهما. أخذتُ أفكر كثيرًا بعد ذلك في أنها بحاجة لتناول البصل الأخضر؛ إذ لم تكن أعصابها في حالة جيدة أيضًا.
شعرت حينذاك بطعم غريب في الكعكة، لكنني لم أكفَّ عن تناولها حتى انتهيت منها كلها، وشكرت السيدة، وأخبرتها أنني راحلة. قطعتُ ممر المنزل سيرًا لأنني استنتجت أنها تراقبني، وعندما وصلت إلى الطريق، رحت أركض، لكنني ظللت خائفة من أنها ربما كانت تتبعني، بصورة غير مرئية أو شيء من هذا القبيل، أو أنها تستطيع قراءة ما يدور في ذهني، وتخيَّلْتُ أنها ستمسك بي وتحطِّم رأسي على حصى الطريق. عندما عدت إلى المنزل، دفعت الباب بقوة لفتحه، وصحت: «سُمٌّ!» هذا ما ظننته، ظننت أنها قد أطعمتني كعكة مسمومة.
قالت والدتي إن كل ما في الأمر أن الكعكة كانت متعفِّنة بسبب الرطوبة في منزل تلك السيدة، وخلوِّه من الزوَّار لأيام عديدة؛ ومن ثَمَّ لم يكن هناك مَن يتناول الكعكة، رغم الجموع الغفيرة التي يشهدها المنزل في أوقات أخرى. ومن ثم، كان من الممكن أن تبقى الكعكة لديها فترة طويلة لتصاب بالعفن.
لكنني لم أكن أعتقد ذلك، وظننت أنني قد تناولت سُمًّا وسأموت. ذهبتُ وجلست في ذلك الركن الذي اعتدت الجلوس فيه في صومعة الحبوب. لم يكن أحد يعلم بأمر ذلك المكان حيث احتفظت بكافة أنواع النفايات، مثل بعض قطع الأواني الصينية المكسورة، وبعض الزهور المخملية. لا زلتُ أتذكر تلك الزهور، كانت منزوعة من قبعة تساقطت عليها الأمطار. جلست هناك، وانتظرت.»
ضحك بيلي بوب ساخرًا منها، وسألها: «هل أَتَوا لجرِّك وإخراجك من ذلك المكان؟»
«لقد نسيت. لا أعتقد ذلك، أعتقد أنه ربما كان أمرًا صعبًا عليهم البحث عني والعثور عليَّ؛ إذ كنتُ أختبئ خلف أكياس العلف. لا، لا أعلم. أظن أن ما حدث في النهاية هو أنني تعبت من الانتظار، وخرجت من تلقاء نفسي.»
قال والد روز، مبتلعًا آخِر كلمة نتيجة لإصابته بنوبة سعال طويلة: «وظللتِ حيةً لتروي لنا ما حدث.» قالت فلو إنه لا ينبغي أن يظل مستيقظًا أكثر من ذلك، لكنه قال إنه سيستلقي على أريكة المطبخ، وهو ما فعله. نظَّفَتْ فلو وروز المائدة وغسلتا الصحون، ثم جلسوا جميعًا — فلو وبيلي بوب وبراين وروز — حول المائدة للعب الورق، في حين غفا والدها. أخذت روز تفكِّر في فلو وهي جالسة في أحد أركان صومعة الحبوب وحولها قطع الأواني الصينية المكسورة، والزهور المخملية الذابلة، وجميع الأشياء الأخرى العزيزة عليها، منتظرةً الموت في حالة من الرعب الذي تلاشى تدريجيًّا — بالتأكيد كان ذلك شعورها — والشعور بالإجلال والرغبة في معرفة كيف سيأتيها الموت.
كان والدها منتظرًا أيضًا. أُغلِقت سقيفته، ولم تُفتح كتبه ثانية، كان اليوم التالي هو آخِر يوم يرتدي فيه حذاءه. تقبَّلَ الجميع تلك الفكرة، وما كان سيربكهم أكثر هو عدم موته، وليس العكس. لم يستطع أحد سؤاله عمَّا كان يشعر به؛ فكان سيعتبر هذا السؤال نوعًا من الوقاحة، والمبالغة، والتجاوز. هذا ما اعتقدته روز. كانت ترى أنه مستعدٌّ للذهاب إلى مستشفى ويستمنستر، ذلك المستشفى الخاص بالمحاربين القدامى. كان متأهبًا لتلك الأجواء الذكورية الكئيبة، والستائر شاحبة اللون المشدودة حول سريره، والأحواض المليئة بالبقع. كان متأهبًا أيضًا لما سيحدث بعد ذلك. أدركت روز أنه لن تسنح له الفرصة ليكون معها مثلما هو معها الآن، والمفاجأة التالية هي أنه لن يكون معها بعد تلك اللحظة على الإطلاق.
•••
أخذت روز تتجول في أرجاء القاعات الخضراء المعتمة بالمدرسة الثانوية الجديدة وهي ترتشف القهوة. كان ذلك في يوم لمِّ الشمل المئوي بالمدرسة. لم تأتِ روز لهذا الغرض، لكنه تصادَفَ مع زيارتها لمنزلها للتوصُّل إلى حلٍّ بشأن فلو. التقت في ذلك اليوم بأشخاص قالوا لها: «هل تعلمين أن روبي كاروزرس ماتت؟ استأصل الأطباء أحد ثدييها، ثم الثدي الآخَر، لكن المرض كان قد انتشر بجسمها كله، وتُوفِّيت.»
وقال لها آخر: «لقد رأيت صورتك في إحدى المجلات. ما كان اسم تلك المجلة؟ إنها لديَّ في المنزل.»
ضمَّت المدرسة الجديدة ورشةً لتعليم ميكانيكا السيارات لتدريب الطلاب، ومعهدَ تجميلٍ للتدريب على هذه المهارات، ومكتبة، وقاعة مؤتمرات، وصالة ألعاب رياضية، ونافورة دوارة لغسل الأيدي في دورة مياه الفتيات. كانت هناك أيضًا آلة لصرف الفوط الصحية تعمل بكفاءة.
ديل فيربريدج صار حانوتيًّا.
ورانت تشرستون صار محاسبًا.
بينما جنى هورس نيكلسون أموالًا طائلة من عمله في المقاولات، ثم تركها بعد ذلك للعمل في السياسة، وذكر في إحدى خطبه أن ما تحتاج إليه البلاد هو التركيز على الدين في الفصول المدرسية، والاكتفاء بالقليل من اللغة الفرنسية.
البجع البريُّ
حذرتني فلو من تجار الرقيق الأبيض، وأوضحت لي كيفية عملهم؛ وهي أن تتعرف عليك امرأة عجوز أشبه بالأم أو الجَدَّة أثناء جلوسها بجوارك في الحافلة أو القطار، ثم تُقدِّم لك حلوى بها مُخدِّر، وسرعان ما تصابين بالوهن وتبدَئِين في الدمدمة بحيث لا تتمكنين من التحدُّث للتعبير عمَّا بكِ. وفي تلك اللحظة، تصيح المرأة مُدَّعِيَةً أن ابنتها (أو حفيدتها) مريضة، وطالبةً المساعدة في إنزالها من المركبة لتستعيد عافيتها في الهواء الطلق. فيقف رجل مهذب عارضًا المساعدة ومتظاهرًا بأنه لا يعرف تلك المرأة. وفي المحطة التالية، يدفعانك كلاهما بقوة لإنزالك من الحافلة أو القطار، وتكون تلك المرة الأخيرة التي ترين فيها العالم المألوف لك. يُبقِيكِ الخاطفون سجينة في المكان الذي يعيش فيه الرقيق الأبيض (الذي تُنقَلين إليه مُخدَّرة ومُقيَّدة على نحوٍ يَحُولُ دون معرفتك بالمكان الذي توجدين فيه) حتى تصلي إلى مرحلة تعانين فيها من المهانة واليأس التام، ويتمزق فيها جسدك إثر اعتداء الرجال المخمورين عليكِ، وتتعرضين للأمراض الكريهة، ويتلف عقلك بالمخدِّرات، ويتساقط شعرك وأسنانك. يستغرق الأمر ثلاث سنوات حتى تصلي إلى هذه الحالة؛ فلا ترغبين في العودة للمنزل، وربما لا تتمكنين من تذكُّره أو الوصول إليه. عندئذٍ، يدفع بكِ الخاطفون إلى الشوارع.
أمسكتْ فلو بعشرة دولارات، ووضعتها في محفظة صغيرة مصنوعة من القماش كانت قد ثبَّتتها بالحياكة في شريط قميص روز الداخلي؛ فمن الأمور الأخرى التي قد تتعرض لها روز سرقة محفظتها.
حذرتني فلو كذلك ممن يرتدون ملابس رجال الدين؛ فهم الأسوأ على الإطلاق، وقد اعتاد تجار الرقيق الأبيض والسارقون استخدام هذا النوع من التنكُّر.
قالت روز إنها لا تعرف كيف يمكنها تمييز الشخصيات المتنكِّرة.
عملت فلو في تورونتو في السابق نادلةً في أحد المقاهي بمحطة قطار «يونيون ستيشن»، ومن هنا استقت كل معرفتها. لم ترَ أثناء عملها ضوءَ الشمس قَطُّ سوى أيام الإجازات، لكنها رأت أشياء أخرى كثيرة. رأت رجلًا يبقُر بطن آخر بسكين، ثم يهندم قميصه، ويذهب لقَصِّ شعره، كما لو كان ما شقَّه بطيخة وليس بطنًا. والمجني عليه مستلقٍ على الأرض ناظرًا لأعلى مندهشًا، ولم يُسعفه الوقت للاعتراض. وأشارت فلو إلى أن ذلك لم يكن شيئًا يُذكَر في تورونتو. كما رأت كذلك امرأتين سيئتي السمعة (هكذا كانت تصف فلو العاهرات) تتعاركان، ورجلًا يضحك ساخرًا منهما، ورجالًا آخرين يتوقفون ويضحكون ويشجعونهما أثناء إمساك كلٍّ منهما بشعر الأخرى في يديها. وأخيرًا، وصلت الشرطة، وألقت القبض عليهما، وهما لا تَكُفَّانِ عن الصراخ والعواء.
رأت فلو أيضًا طفلًا يُحْتَضَرُ إثر إصابته بنوبة مرضية، وقد استحال لون وجهه أسودَ كالحبر.
قالت روز على نحو استفزازي: «حسنًا، أنا لست خائفة. ففي النهاية هناك شُرطة.»
«نعم، الشُّرطة! إنهم أول مَن سيحاول الاعتداء عليكِ!»
اعتادت روز عدم تصديق أي شيء تذكره فلو عن موضوع الجنس، ومن ذلك على سبيل المثال موضوع الحانوتي.
كان رجلًا أصلع قصير القامة ذا مظهر أنيق للغاية يتردد أحيانًا على المتجر ويتحدث مع فلو على نحو استرضائي.
«لا أريد سوى كيسٍ من الحلوى، وربما بعض العلكة، وقطعة شوكولاتة أو اثنتين. هل يمكنكِ لفُّها من أجلي، من فضلك؟»
كانت فلو تؤكد له بلهجتها الموحِية زيفًا بالاحترام أنها يمكنها ذلك. وكانت تلفُّ المشتريات في ورق أبيض متينٍ لتبدو كالهدايا. كان الرجل يتأنَّى في اختياره لما يشتريه، مدندنًا ومتبادلًا أطراف الحديث، ثم يبدِّد بعض الوقت سُدًى. فيسأل فلو أحيانًا عن حالها، ويسأل روز أيضًا عن حالها إذا كانت موجودة.
فكان يقول لروز مثلًا: «تَبدين شاحبة. الفتيات الصغيرات بحاجة لبعض الهواء المنعش.» في حين كان يقول لفلو شيئًا من قبيل: «إنك تبذُلين جهدًا بالغًا في العمل، وفعلتِ ذلك طوال حياتك.»
وكانت فلو ترد عليه متفقةً معه: «لا راحة للأشرار.»
وعندما كان يغادر المتجر، كانت فلو تركض نحو النافذة لتنظر إلى الخارج حيث تقف عربة نقل الموتى القديمة سوداء اللون ذات الستائر الأرجوانية.
وعندما كانت العربة تسير مبتعدة بتؤدة كخطى الجنائز، كانت فلو تقول: «سوف يذهب لملاحقتهن اليوم!» كان هذا الرجل القصير يعمل حانوتيًّا، لكنه كان قد تقاعد آنذاك، والعربة أيضًا لم تعُد تُستخدَم في نقل الموتى. فتولى أبناؤه العمل، واشترَوْا عربة جديدة، في حين ظل هو يقود العربة القديمة متجولًا في أنحاء البلدة بحثًا عن النساء. هكذا قالت فلو، لكن روز لم تصدقها. وأضافت فلو أنه كان يعطي أولئك النساء العلكة والحلوى. فتقول لها روز إنه ربما كان يأكلها بنفسه، فترد فلو بأنه قد شوهِد وسُمِع أثناء فعله ذلك. وعندما يكون الطقس معتدلًا، كان يقود العربة والنوافذ مفتوحة، ويشرع في الغناء لنفسه أو لشخص آخر غير واضح للعِيان في الخلف:
جبينها أبيض كالثلج.عنقها جميل كالبجعة. قلَّدته فلو في غنائه. وأثناء سيره، كان يباغت برِقَّة أية سيدة تسير في طريق خلفي، أو تستريح عند مفترق طرق. وبعد المجاملة والملاطفة وتقديم الشوكولاتة، يعرض عليها توصيلها. بالطبع، أية امرأة عُرف أنه طلب منها ذلك كانت تقول إنها رفضت طلبه. لم يكن يزعج أيًّا منهن، ويمضي بسيارته بتهذُّب. كان يزور المنازل، وعندما يكون الزوج في المنزل، كان يجلس ويتبادل أطراف الحديث كعادته. وحكت الزوجات أنه لم يفعل سوى ذلك، لكن فلو لم تصدق ذلك.
قالت فلو: «بعض النساء وقعن في شَركِه … عدد منهن فعل.» أحبَّت فلو كذلك التكهُّن بشكل العربة من الداخل. كانت مبطَّنة بالقطيفة … الجدران والسقف والأرضية كلها مبطنة بالقطيفة. ولون الستائر أرجواني فاتح كلون زهر الليلك الداكن.
كلام فارغ! هكذا اعتقدت روز. مَن يمكنه تصديق ذلك عن رجل في مثل هذه السن؟
•••
كانت روز ذاهبة إلى تورونتو بالقطار للمرة الأولى في حياتها بمفردها. سبق لها زيارة تورونتو مرة واحدة من قبلُ، لكن برفقة فلو، وكان ذلك قبل وفاة والدها بفترة طويلة. أخذت فلو وروز معهما الشطائر الخاصة بهما، واشترتا حليبًا من البائع في القطار. كان مذاقه حامضًا؛ حليب حامض بالشوكولاتة. أخذت روز ترتشف رشفات صغيرة منه، رافضةً الاعتراف بعدم رضاها عن شيء كانت ترغب فيه بهذا القدر. أما فلو، فشمَّته، ثم أخذت تبحث بكافة أرجاء القطار إلى أن وصلت إلى الرجل العجوز ذي السترة الحمراء الذي يخلو فمه من الأسنان، والصينية معلَّقة حول عنقه. طلبت منه تذوُّق الحليب بالشوكولاتة، ومن الأشخاص المجاورين شمَّه، فأعطاها بعضًا من جَعَّة الزنجبيل بلا مقابل، وكانت دافئة بعض الشيء.
بعد أن رحل الرجل، قالت فلو وهي تنظر حولها: «ينبغي عليَّ إعلامه بخطئه. ينبغي عليكم جميعًا إعلام أمثاله بأخطائهم.»
وافقتها إحدى السيدات في الرأي، لكن أغلب الركاب أشاحوا بوجوههم للنظر من النوافذ. شربت روز جعة الزنجبيل الدافئة، لكنها تقيَّأت في دورة مياه القطار، سواء أكان السبب في ذلك هو الجعة، أم ما حدث مع البائع، أم المحادثة التي دارت بين فلو والسيدة التي وافقتها الرأي وسؤال الأخيرة حول المكان الذي أتت منه روز وفلو، وسبب ذهابهما إلى تورونتو، والإمساك الذي أصاب روز صباحًا ممَّا تسبب في شحوبها، أم الكمية الصغيرة من الحليب بالشوكولاتة الذي دخل معدتها. وظلت طوال اليوم خائفة من أن يَشُمَّ الناس رائحة القيء على معطفها.
بدأت فلو الرحلة هذه المرة بقولها لمُحَصِّلِ التذاكر: «أرجو أن تشملها بعنايتك؛ فهي لم تبتعد عن المنزل من قبلُ!» ثم نظرت حولها وضحكت لتوضح أن ما قالته كان مزاحًا. تَوَجَّبَ عليها، بعد ذلك، النزول من القطار. بدا على محصِّل التذاكر أنه لم يكن بحاجة إلى أي مزاح، شأنه شأن روز، ولم تكن لديه أية نية لأن يشمل أيَّ أحد بعنايته. فلم يتحدث مع روز إلا عندما طلب تذكرتها. جلست روز بجوار النافذة، وسرعان ما شعرت بسعادة غامرة؛ إذ أدركت أن فلو — وهانراتي الغربية — تبتعدان عنها، وتخلَّصت من إنهاكها بسهولة تُماثِل سهولة تخلُّصها من أي شيء آخر. كانت تحب المدن التي لا تعرفها. رأت سيدة تقف بباب منزلها الخلفي مرتديةً رداء النوم غير عابئة برؤية كلِّ مَن في القطار لها. كان القطار متوجهًا جنوبًا مبتعدًا عن منطقة الحزام الثلجي ومُقبِلًا على ربيع مبكِّر ومناظر طبيعية أكثر رقةً حيث يستطيع الناس زراعة أشجار الخوخ بالفِناء الخلفي لمنازلهم.
استجمعت روز في ذهنها كل الأشياء التي ستبحث عنها في تورونتو؛ أولًا: أشياء من أجل فلو، جوارب خاصة لدوالي الساقين، نوع خاص من الغراء للصق مقابض الأوعية، ومجموعة كاملة من لعبة الدومينو.
أما فيما يتعلق بالأشياء التي رغبت فيها لنفسها، فقد أرادت شراء مزيل للشعر لاستخدامه على ذراعيها وساقيها، وإن أمكن بعض بطانة الملابس القابلة للنفخ التي تهدف للتقليل من حجم الأرداف والفخذين. فكَّرت في احتمال وجود مزيل الشعر في الصيدلية في هانراتي، لكن السيدة التي تعمل فيها كانت صديقة فلو، وكانت تروي لها كل شيء؛ فروت لها من قبلُ عمَّن اشترى صبغة شعر ودواء تخسيس وواقيًا ذكريًّا. أما فيما يتعلق بالبطانة، فكان بوسعها طلب إرسالها إليها، لكن من المؤكد أنه سيكون هناك تعليق في مكتب البريد على ذلك، وكانت فلو تعرف بعض الأشخاص هناك أيضًا. خططت روز كذلك لشراء بعض الأساور وسترة صوفية ذات وبر، وأملت في العثور على أساور فضية اللون وسترة صوفية ذات وبر بلون أزرق فاتح. اعتقدت أن هذه الأشياء ستبدِّل من حالها، وتمنحها قوامًا رشيقًا، وتُصلح التجعد في شعرها، وتجفِّف إبطيها، وتمنح بشرتها مظهرًا براقًا.
حصلت روز على المال اللازم لشراء هذه الأشياء، وللقيام بتلك الرحلة، من خلال جائزة كانت قد فازت بها لكتابتها مقالًا بعنوان «الفن والعلم في عالم الغد». أدهشها آنذاك طلب فلو منها قراءة المقال لها. وبينما كانت تقرؤه، علَّقت فلو بأنهم منحوا روز الجائزة بالتأكيد لالتهامها القاموس، ثم استطردت خجلًا: «إنه مقال مثير للغاية.»
كانت روز ستقضي الليلة في منزل سيلا ماكيني، وهي إحدى قريبات والدها. تزوجت سيلا من مدير أحد الفنادق، واعتقدت أنها قد عَلَا شأنها، لكن زوجها عاد إلى المنزل ذات يوم، وجلس على أرضية غرفة تناول الطعام بين كرسيين، وقال: «لن أغادر هذا المنزل بعد اليوم.» ما من شيء غير طبيعي حدث، لكنه قرَّر فحسب عدم الخروج من المنزل أبدًا مرة أخرى، وهو ما فعله بالفعل، حتى توفي. تسبَّب ذلك في أن أصبحت سيلا غريبة الأطوار وعصبية؛ فكانت تغلق الأبواب عليها في الساعة الثامنة. هذا فضلًا عن بخلها الشديد؛ فكان العشاء لديها عادةً عصيدة الشوفان بالزبيب. كان منزلها مظلمًا وضيقًا وتفوح منه رائحة تشبه رائحة المصرف.
أخذ القطار يمتلئ بالركاب، وعند وصوله إلى برانتفورد، استأذن رجل روز في الجلوس بجانبها.
قال لها: «الجو بالخارج أكثر بردًا مما تتخيلين.» عرض عليها جزءًا من جريدته، لكنها رفضت شاكرةً إياه.
وخشيةً منها أن تبدو وقحة في نظره، قالت له بعد ذلك إن الجو بارد بالفعل، وواصلت النظر من النافذة مستمتعة بالصباح الربيعي. لم تعُد هناك أية ثلوج في المكان الذي كان يمر به القطار. وبدا لحاء الأشجار والأجمة أفتح لونًا من الأشجار والأجمة الموجودة في بلدتها. حتى ضوء الشمس بَدَا مختلفًا؛ فكان مختلفًا كاختلاف ساحل البحر الأبيض المتوسط أو أودية كاليفورنيا.
قال الرجل الجالس بجوارها: «نوافذ متسخة، ألا تعتقدين أنه ينبغي عليهم إيلاؤها قدرًا أكبر من الاهتمام؟ هل تسافرين كثيرًا بالقطار؟»
فأجابت بالنفي.
كانت هناك مياه في الحقول، فأشار الرجل برأسه إليها وقال إنها كثيرة ذلك العام.
«ثلوج غزيرة.»
لاحظت روز رُقي لغته واختياره للكلمات، على عكس أهل بلدتها.
«لقد مررتُ بتجربة استثنائية في أحد الأيام الماضية. كنت أقود سيارتي في الريف متوجهًا لرؤية سيدة تابعة للأبرشية تعاني من مرض بالقلب …»
فنظرت روز سريعًا إلى ياقة قميصه، فوجدته يرتدي قميصًا عاديًّا وربطة عنق وبذلة كحلية اللون.
قال لها: «نعم، أنا قس بالكنيسة المتحدة، لكنني لا أرتدي دومًا زي القساوسة؛ فلا أرتديه إلا عند إلقاء العظات في الكنيسة، وأنا اليوم في إجازة.»
ثم استطرد ما كان يرويه: «وبينما كنت أقود السيارة في الريف، رأيت بعض الأوز الكندي يسبح في إحدى البرك، ودققت النظر، فوجدت بعض البجع يسبح معه أيضًا؛ كان سربًا كاملًا وكبيرًا من البجع. كم كان منظرًا رائعًا! أظن أن تلك الطيور كانت مهاجرة هجرتها المعتادة نحو الشمال في فصل الربيع. منظر خلاب حقًّا لم أَرَ مثله قط في حياتي!»
لم تستحسن روز فكرة التحدُّث عن البجع البري؛ إذ خشيت أن تتحول المناقشة من الحديث عن البجع إلى الحديث عن الطبيعة بوجه عام، ثم عن الرب، على النحو الذي يَشعر أي رجل دين أنه مُلزم به. لكنه لم يتحدث عن تلك الأمور، واكتفى بالبجع.
«منظر غاية في الجمال. لو أنكِ كنتِ هناك لاستمتعتِ به حقًّا.»
تراوح عمر ذلك الرجل بين الخمسين والستين؛ هكذا ظنت روز. كان قصير القامة، وذا مظهر مُفْعَمٍ بالنشاط، ووجه مربع متورِّد، وشعر رمادي لامع ومتموج مصفَّف بدءًا من جبهته. وعندما أدركت روز أنه لن يتحدث عن الرب، شعرت بضرورة تعبيرها عن تقديرها لذلك.
فقالت إنه لا بد وأن ذلك البجع كان جميلًا.
«لم تكن حتى بِركة عادية، وإنما مجرد بعض الماء تجمَّع وسط أحد الحقول. وكان تجمُّع الماء في ذلك المكان، ونزول الطيور فيه، ومروري بالسيارة في الوقت المناسب، كل ذلك محض صدفة؛ صدفة بحتة. أعتقد أن تلك الطيور قد أتت من الطرف الشرقي لبحيرة إيري، لكن لم يحالفني الحظ أبدًا في رؤيتها من قبلُ.»
استدارت روز بعض الشيء نحو النافذة، وعاد هو إلى جريدته. ظلت مبتسمة بعض الوقت لكي لا تبدو وقحة أو رافضة للمحادثة برُمَّتِها. كان الطقس باردًا حقًّا ذلك الصباح، فأنزلت معطفها عن الخُطَّاف الذي علَّقته عليه عند صعودها على متن القطار، وفرشته عليها كغطاء يدفئ الساقين، ووضعت حقيبة يدها على الأرض عندما جلس رجل الدين بجانبها لتُفسح له مكانًا. أما هو، فقد فصل أقسام الجريدة بعضها عن بعض، وأخذ يهزها لتُصدر حفيفًا على نحو متمهل وبه تباهٍ. وبدا لروز أنه من نوعية الأشخاص الذين يفعلون كل شيء بأسلوب متباهٍ؛ أسلوب كهنوتي. أزاح الرجل جانبًا الأقسام التي لا يرغب في قراءتها آنذاك، فلمس طرف الجريدة ساق روز عند حافة معطفها بالضبط.
ظلت روز معتقدة لبعض الوقت أن ما لمس ساقها هو الجريدة، لكنها تساءلت بعد ذلك: ماذا إن كانت يدٌ هي التي لمست ساقها؟ كانت هذه هي الأمور التي يمكنها تخيُّلها؛ فكانت تنظر أحيانًا إلى أيدي الرجال، والشعر يغطي سواعدهم كالزَّغَب، ووجوههم التي يبدو عليها التركيز، وكانت تفكر في كل شيء يمكنهم فعله، حتى الأمور الحمقاء. ومن بين هؤلاء البائع الذي كان يجلب الخبز بعربته إلى متجر فلو، فكانت تلاحظ أسلوبه الدال على النضوج والثقة، والمزيج المستقر بين الخفة والانتباه في التعامُل مع عربة الخبز. ولم تكن ثنية بطنه المرتفعة فوق الحزام لتزعجها. وفي مرة أخرى، لاحظت معلِّم اللغة الفرنسية في مدرستها، لم يكن فرنسي الجنسية على الإطلاق، وكان يُدعَى ماكلارين، لكن روز اعتقدت أن تدريس الفرنسية قد أثَّر عليه، وجعله يبدو كالفرنسيين. كان سريع الحركة شاحب البشرة، أكتافه حادة، أنفه معقوف، وعيناه حزينتان. رأت روز أنه قد أخذ يمهِّد طريقه نحو المتع وكأنه الحاكم بأمره في الملذات. تاقت روز توقًا شديدًا للدخول في علاقة مع شخص ما، تاقت لأن تُمارَس معها القوة، وتستمتع، وتشعر بالإنهاك.
ولكن ماذا إذا كانت يدًا؟ ماذا إذا كانت يدًا حقًّا؟ تحولت قليلًا وتحركت ناحية النافذة قدر الإمكان، ظنت أن خيالها هو الذي صوَّر لها هذه الحقيقة، الحقيقة التي لم تكن مستعدة لها على الإطلاق؛ إذ شعرت بالإنزعاج، وأخذت تركز على ساقها، وعلى ذلك الجزء من بشرتها الذي يغطيه الشراب. لم تستطع إرغام نفسها على النظر. هل كان هناك ضغط على ساقها أم لا؟ تحركت ثانيةً. كانت ساقاها متلاصقتين بقوة، وظلَّتا كذلك. لقد كانت يدًا بالفعل، وما كانت تشعر به هو ضغط تلك اليد على ساقها.
«كلا، أرجوك!» كان هذا ما تحاول أن تقوله. صاغت الكلمات في عقلها، وحاولت أن تنطق بها، لكنها لم تستطع. لماذا؟ أهو الإحراج أو الخوف من أن يسمعها الناس؟ كان الناس يحيطون بهما من كل اتجاه؛ فما كان من مقعد فارغ في القطار.
لم يكن ذلك السبب الوحيد.
تمكَّنت روز من النظر له دون رفع رأسها، وإنما التفتت إليه بحذر، فرأت أنه قد أمال مقعده للخلف وأغلق عينيه، وكُمُّ بذلته كحلية اللون مختفٍ تحت الجريدة. كان قد فرد الجريدة بحيث تتداخل مع معطف روز، ومن تحت الجريدة وضع يده عليها كما لو كان قد مدها دون قصد أثناء نومه.
في تلك اللحظة، كان بوسع روز تحريك الجريدة، وإبعاد معطفها. وإن لم يكن نائمًا، سيُضطر لإبعاد يده، وإن كان نائمًا بالفعل ولم يبعدها، فيمكنها أن تهمس له: «من فضلك!» وتضع يده بحزم على ركبته. إلا أن هذا الحل لم يطرأ على ذهنها، رغم وضوحه الشديد ونتيجته المضمونة. لكنها تساءلت بدلًا من ذلك: «ولِمَ لا؟» لم تكن يد رجل الدين — أو بالأحرى لم تكن حتى تلك اللحظة — مُرَحَّبًا بها على جسدها؛ فقد جعلتها تشعر بعدم الارتياح، والامتعاض، والاشمئزاز بعض الشيء، والمحاصرة، والتحفُّظ. لكنها لم تستطع تحمُّل مسئوليتها أو صدها، لم تستطع التأكيد على أنها موجودة بالفعل، بينما بدا هو مصرًّا على عدم وجودها. كيف يمكنها تحميله المسئولية وهو مستلقٍ في ذلك المكان بمظهر واثقٍ لا يوحي بأي أذى لينال قسطًا من الراحة قبل أن يبدأ يومه المشحون بوجه سليم وراضٍ؟ إنه رجل أكبر من والدها — لو كان لا يزال حيًّا — ومؤكد أنه اعتاد على التبجيل والاحترام، شخص يقدِّر الطبيعة، ويستمتع بالبجع البري. كانت موقِنة أنها إذا قالت له: «كلا، أرجوك!» فسوف يتجاهلها، كما لو كان يتجاهل بعض الحماقة أو سوء الأدب من جانبها. علمت أنها عندما ستنطق بهذه الكلمات ستتمنى ألا يسمعها.
بَيْدَ أن ثمة أمرًا آخر تَدخَّل في قرارها؛ ألا وهو الفضول. كان فضولها أكثر قوةً واستبدادًا من أي شهوة. كان هو الشهوة في حَدِّ ذاته، شهوة تدفعك للتراجع والانتظار طويلًا والمخاطرة بأي شيء في الغالب؛ بغية أن ترى ما سيحدث، ما سيحدث فقط.
بعد عدة أميال قطعها القطار، بدأت اليد تضغط على ساقها وتتفحصها على نحو شديد الرقة والحذر. لم يكن الرجل نائمًا، ولو كان، فإن يده لم تكُن. شعرت روز بالاشمئزاز، والدوار، والغثيان. أخذت تفكِّر في اللحم: كُتَل من اللحم، أنوف وردية، ألسنة كبيرة، أصابع فظة؛ كل هذه الأشياء تسرع وتتسلل وتتثاقل وتفرك بحثًا عن راحتها. تذكرت القطط في الأيام الحارة وهي تفرك أجسادها بالجزء العلوي من الأسيجة الخشبية، وتموء معبِّرة عن شكواها البائسة. كل ذلك الحك والدفع والضغط كان مثيرًا للشفقة وكأنه حركات طفولية. أنسجة إسفنجية الشكل، أغشية ملتهبة، أطراف عصبية معذبة، روائح مخزية، خزي ومهانة.
كل ذلك كان في بدايته. وأخيرًا تمكنت يده — تلك اليد العنيدة الصبورة التي ما كانت روز لترغب أبدًا في الإمساك بها أو الضغط عليها في المقابل — من تحريك غرائز روز وإثارة رغبتها.
رغم ذلك، لم ترغب في حدوث ذلك، وأخذت تردد من النافذة: «أرجوك، أنزل يدك! توقَّف من فضلك!» قالت ذلك لأرومات الأشجار والحظائر. تحركت اليد أعلى ساقها مارةً بالطرف العلوي لجواربها وصولًا إلى بشرتها المكشوفة، ثم انتقلت إلى أعلى لتصل إلى تحت رباط الجوارب، ثم إلى سروالها الداخلي والجزء الأدنى من بطنها. كانت ساقاها حتى تلك اللحظة لا تزالان متقاطعتين ومتلاصقتين. طالما ظلت ساقاها على هذا الحال، كان بمقدورها أن تدَّعي البراءة، وعدم قبولها بأي شيء. فكانت لا تزال معتقدة أن بإمكانها إيقاف كل ذلك في لحظة واحدة. لم يكن سيحدث أي شيء أكثر من ذلك؛ فما كانت ساقاها لتتباعدا أبدًا.
لكنهما كانتا تتباعدان بالفعل. وبعبور القطار جرف نياجرا فوق مدينة داندس، مطلًّا على الوادي الذي يعود تاريخه إلى ما قبل العصر الجليدي، والتلال الصغيرة بما عليها من صخور متناثرة وأخشاب ذات لون فضي، ثم هبوطه إلى سواحل بحيرة أونتاريو، قامت روز بذلك الإعلان البطيء والصامت والمؤكد الذي ربما أحبط صاحب اليد بقدر ما أرضاه. لم يرفع جفنيه، ولم يتبدل وجهه، ولم تتردد أصابعه، لكنه نفَّذ ما أراده بقوة وسرية. اجتياح وترحيب تزامَن مع توهُّج ضوء الشمس في الأفق وسقوطه على مياه البحيرة والبساتين المكشوفة الممتدة لأميال حول بيرلنجتون.
كان الأمر مخزيًا، وكان بمثابة استجداء. لكن ما الضرر في ذلك؟ دومًا نطرح على أنفسنا ذلك السؤال في مثل هذه اللحظات. وما الضرر في أي شيء؟ كلما ساء الأمر، كان أفضل. هذا ما نقوله لأنفسنا عند ركوبنا تلك الموجة اللامبالية من الطمع أو القبول الطامع. يد غريبة، خضراوات جذرية، أو أدوات المطبخ البسيطة التي يمزح الناس بشأنها، العالم مليء بالأشياء ذات المظهر البريء التي تنتظر اللحظة الملائمة للإعلان عن نفسها على نحو مراوغ وملزم. انتبهت روز لأنفاسها، لم تصدق ما كان يحدث؛ ضحية وشريكة في الجرم يحملها القطار مارًّا بمصنع جلاسكو للمربى وأنابيب معامل تكرير البترول الضخمة النابضة بالحركة. انحدر بعد ذلك القطار نحو الضواحي حيث رفرفت في إيحاء خبيث ملاءات الأسِرَّة والمناشف المستخدمة في التخلص من بقع العلاقات الحميمية على حبال الغسيل، وحيث يمرح الأطفال ببذاءة في أفنية المدارس. تجلت أمام عينها كل هذه التصرفات الغريبة الخبيثة والمناظر المألوفة، وظهرت بوابات أرض المعارض وأبراجها، وحلَّقت القباب والأعمدة الملونة بشكل مذهل في السماء الوردية التي رأتها أسفل جفونها، ثم تفرقت معبِّرة عن الاحتفال. يشبه ذلك تجمُّع سرب من الطيور كالبجع البري أسفل إحدى القباب الضخمة، ثم إثارتها فجأة لتندفع محلقةً في السماء.
حاولت روز جاهدة أن تمسك لسانها عن الكلام. وسرعان ما مَرَّ محصل التذاكر عبر القطار لتنبيه الركاب وإفاقتهم.
وفي الظلام الذي خَيَّمَ على القطار بوصوله المحطة، أفاق قس الكنيسة المتحدة، وفتح عينيه، وطوى جريدته، ثم سأل روز إن كانت بحاجة لأية مساعدة في معطفها. عكست كياسته رضًا عن الذات وإبعادًا لروز وكأنه يصرفها عنه. أجابت روز قائلةً: «لا.» بلسان متألم، فنزل من القطار مسرعًا أمامها. لم تَرَهُ في المحطة، ولم تره قَطُّ بعد ذلك في حياتها، لكنه ظل موجودًا في ذاكرتها لسنوات طِوال مستعدًّا للظهور في اللحظات المهمة دون أي احترام، فيما بعد، محلَّ زوج أو حبيب. ما الذي كان يزكيه لديها؟ لم تستطع فهم ذلك أبدًا. ربما بساطته، أو تعجرُفه، أو افتقاره للوسامة على نحو جذاب، بل وللذكورة الناضجة أيضًا. فعندما نهض بجانبها، لاحظت أنه أقصر ممَّا كانت متصورة، وأن وجهه وردي ولامع، وكان به شيء يعلن عن عدائية وفجاجة ولكنه في ذات الوقت شيء طفولي.
هل كان قسًّا حقًّا؟ أم ادَّعى ذلك؟ تحدثت فلو عن رجال ليسوا برجال دين، لكنهم يرتدون ملابسهم، لكنها لم تذكُر شيئا عن رجال دين لا يرتدون ملابس القساوسة، أو الأغرب من ذلك من ليسوا قساوسة حقيقين، لكنهم يدعون أنهم كذلك ولا يرتدون ملابس القساوسة. إلا أن اقترابها بهذه الدرجة ممَّا حذرتها منه فلو جعلها تشعر بالانزعاج. سارت روز في محطة «يونيون ستيشن» شاعرةً بالمحفظة المحتوية على عشرة دولارات وهي تحتك بجسدها، وعلمت أنها ستظل تشعر بها طوال اليوم.
لم تتوقف عن تذكُّر رسائل فلو لها، حتى بعد أن حدث ذلك الأمر. وهي في محطة «يونيون ستيشن»، تذكرت وجود فتاة هناك تُدعَى ميفيس كانت تعمل في متجر الهدايا عندما كانت فلو تعمل في المقهى. عانت ميفيس من بثور في جفنيها بدت وكأنها ستتحول إلى دُمَّل العين، لكنها لم تفعل واختفت. ربما تكون قد أزالتها. لم تسألها فلو عن ذلك. كانت جميلة للغاية بدون هذه المشكلة وأشبه بإحدى نجمات السينما آنذاك، وهي فرانسيس فارمر.
فرانسيس فارمر. لم تسمع روز عن تلك الممثلة قط.
كان ذلك اسمها. اشترت ميفيس لنفسها قبعة كبيرة أمالتها فوق إحدى عينيها، وفستانًا مصنوعًا بالكامل من الدانتيل، وذهبت في إحدى إجازات نهاية الأسبوع إلى خليج جورجيان، وحجزت بالمنتجع باسم فلورنس فارمر لتوحي للجميع بأنها فرانسيس فارمر الحقيقية، لكنها ادَّعت الاسم فلورنس لتستمتع بإجازتها دون أن يتعرف عليها أحد. كان لديها مبسم سجائر صغيرٌ أسود اللون ومصنوعٌ من عرق اللؤلؤ. قالت فلو إنه كان من الممكن إلقاء القبض عليها لجرأتها.
اقتربت روز من متجر الهدايا لترى ما إذا كانت ميفيس لا تزال هناك، وإذا كانت ستتمكن من التعرُّف عليها أم لا. رأت روز ذلك شيئًا لطيفًا حقًّا؛ أن تتحول على هذا النحو، وأن تملك الجرأة على الفعل وتُفلت من العقاب، وأن تدخل عالم المغامرات المنيع بشخصك، لكن تحت اسم جديد تمامًا.
المتسولة
أحب باتريك بلاتشفورد روز، وصار ذلك الحب فكرة مترسخة بداخله، بل ومسيطرة عليه أيضًا. أما في نظر روز، فمثَّل ذلك الحب مفاجأة متواصلة لها. أراد باتريك الزواج بها، وكان ينتظرها لحين انتهائها من المحاضرات، ثم يتوجه إليها، ويسير بجوارها ليدرك وجودَه أيُّ مَن كانت تتحدث معه. وعند وجود أولئك الأصدقاء والزملاء حولها، لم يكن يتحدث، وإنما يحاول لفت انتباهها ليعبِّر بنظرة باردة متشككة عن شعوره إزاء حوارها مع أصدقائها. منح ذلك روز شعورًا بالإطراء، لكنه أصابها بالتوتر في الوقت نفسه. ذات مرة، أخطأت صديقة لها تُدعَى نانسي فولز في نطق اسم «مترنيخ» أمامه، فسأل روز فيما بعد: «كيف تصادقين أشخاصًا كهؤلاء؟»
ذهبت نانسي وروز لبيع دمائهما ذات مرة في مستشفى فيكتوريا، وحصلت كلٌّ منهما على خمسة عشر دولارًا أنفقتا أغلبها على أحذية للمساء، وصنادل فضية اللون تشبه ما تلبسها العاهرات. وتيقنًا منهما بأن التبرع بالدماء سيتسبب في خسارتهما بعض الوزن، تناولتا آيس كريم بالفواكه والمكسرات مزودًا بصوص الشوكولاتة الساخن في بوومرز. تُرى لماذا لم تستطع روز الدفاع عن نانسي أمام باتريك؟
كان باتريك في الرابعة والعشرين من عمره، وكان طالبًا بالدراسات العليا، ويخطط لأن يصير أستاذًا في التاريخ. كان طويلًا ونحيلًا وأشقر ووسيمًا، بالرغم من الوحمة الطويلة ذات اللون الأحمر الباهت التي كانت تتدلى كالدمعة على صدغه ووجنته. اعتذر باتريك عن هذه الوحمة، لكنه قال إنها تتلاشى مع تقدمه في العمر، وعند بلوغه الأربعين ستكون قد اختفت تمامًا. لم تكن تلك الوحمة هي السبب في طمس وسامته من وجهة نظر روز؛ (فثمة أمور أخرى طمستها أو على الأقل انتقصت منها؛ وكان عليها تذكير نفسها دومًا بوجودها.) اتسم باتريك بشيء من العصبية وسرعة الاهتياج والارتباك. كان صوته يتهدج عند توتره — كان على ما يبدو متوترًا دومًا عند وجوده مع روز — فكان يُسقط الأطباق والأكواب من على المائدة، ويسكب المشروبات وصحون الفول السوداني، وكأنه ممثل كوميدي. لكنه لم يكن كذلك؛ وكان ذلك أبعد ما يكون عما ينوي فعله؛ فقد انحدر من أسرة ثرية تعيش في مقاطعة كولومبيا البريطانية.
وصل باتريك ذات مرة مبكرًا لاصطحاب روز إلى السينما. لم يطرق الباب لعلمه بوصوله قبل موعده، فجلس على درجة السُّلم أمام منزل الدكتورة هينشو. كان ذلك في الشتاء، وقد خيم الظلام على المدينة، لكن كان هناك مصباح صغير بجوار الباب.
نادت الدكتورة هينشو على روز بصوت رقيق مبتهج: «يا إلهي، روز! تعالي انظري!» وأطلتا معًا من نافذة غرفة المكتب المظلمة. قالت الدكتورة هينشو بصوت حنون: «يا له من شاب مسكين!» كانت سيدة في السبعينيات من عمرها، عملت في السابق أستاذةً للغة الإنجليزية، واتسمت بدقتها وصعوبة إرضائها وحيويتها. عانت من العرج بإحدى ساقيها، ومع ذلك، كانت تميل برأسها، الذي تلف فوقه جدائل شعرها الأبيض، ميلًا فاتنًا كالفتيات الصغيرات.
وصفت الدكتورة هينشو باتريك بأنه مسكين لأنه كان مغرمًا، أو ربما أيضًا لأنه كان ذكرًا محكومًا عليه بالاندفاع والتخبط. بدا باتريك وهو يجلس في الخارج بهذا الشكل في ذلك الطقس البارد — حتى من تلك النافذة العالية — عنيدًا ومثيرًا للشفقة، حازمًا وتابعًا.
قالت الدكتورة هينشو: «إنه يحرس الباب! يا إلهي، روز!»
وفي إحدى المرات الأخرى قالت منزعجة: «كم أخشى أن يكون اختياره لتلك الفتاة اختيارًا خاطئًا!»
لم تحب روز ما قالته الدكتورة، لم تحب سخريتها من باتريك، لم تحب جلوس باتريك على درجات السُّلم على هذا النحو أيضًا؛ فقد استحق بذلك سخرية الآخرين منه. لقد كان أضعف شخص عرفته روز على الإطلاق، وكان هو من فعل ذلك بنفسه، فلم يكن يعلم أي شيء عن كيفية حماية نفسه. ومع ذلك، فقد كان مليئًا بالأحكام القاسية والغرور في الوقت نفسه.
•••
اعتادت الدكتورة هينشو أن تقول لروز: «أنتِ طالبة يا روز، ستهتمين بذلك»، ثم تقرأ بصوت عالٍ شيئًا ما كان مكتوبًا في الجريدة، أو الأرجح من مجلة «كانيديَن فورم» أو «أتلانتك مَنثلي». ترأست الدكتورة في السابق مجلس إدارة مدرسة المدينة، كما كانت أحد الأعضاء المؤسسين لحزب كندا الاشتراكي، وكانت لا تزال عضوًا في بعض اللجان، وتكتب للجرائد، وتقدم مقالات نقدية عن الكتب. عمل والداها في البعثات الطبية؛ ووُلِدت في الصين. كان منزلها صغيرًا ومثاليًّا؛ أرضيات ملمعة، سجاجيد براقة، صور لمناظر طبيعية وأوانٍ ومزهريات صينية، وحواجز خشبية سوداء منحوتة. لم تستطع روز الإعجاب بكل ذلك آنذاك، فلم يكن بوسعها في الواقع التمييز بين أشكال حيوانات اليشم الصغيرة الموضوعة على رف مدفأة الدكتورة هينشو وأدوات الزينة المعروضة في واجهة متجر المجوهرات في هانراتي، وإن كان بإمكانها الآن التمييز بين أيٍّ من هذه الأشياء وتلك التي كانت فلو تشتريها من متاجر السلع الرخيصة.
لم تستطع روز في الواقع اتخاذ قرار حاسم بشأن مدى إعجابها بالإقامة مع الدكتورة هينشو؛ فكانت تشعر أحيانًا بعدم الرغبة في ذلك؛ إذ كانت ستجلس في غرفة الطعام على مائدة العشاء واضعةً منديلًا من الكتان على ركبتيها لتناول الطعام من أطباق بيضاء أنيقة موضوعة على مفارش زرقاء. كان الطعام المُقدَّم على المائدة غير كافٍ لها على الدوام، ووجب عليها شراء الكعك المحلَّى المقلي وألواح الشوكولاتة، وإخفاؤها في غرفتها. أزعجها كذلك طائر الكناري المتأرجح على محطِّه بنافذة غرفة الطعام، وتوجيه الدكتورة هينشو لدفة الحديث دائمًا. تحدثت عن السياسة والكُتَّاب، وذكرت فرانك سكوت ودوروثي ليفساي، مشيرةً إلى ضرورة قراءة روز لأعمالهما. ينبغي على روز قراءة هذا، ينبغي عليها قراءة ذاك. قررت روز غاضبةً ألا تفعل ذلك؛ فقد كانت تقرأ لتوماس مان وتولستوي.
لم تسمع روز من قبل عن الطبقة العاملة قبل انتقالها للإقامة مع الدكتورة هينشو، وعند معرفتها بها نقلت تلك المعرفة إلى منزلها.
قالت فلو ذات مرة: «سيكون هذا آخر جزء من البلدة يصل إليه الصرف الصحي.»
فردت روز بفتور: «بالطبع، فهذا الجزء هو الذي تعيش فيه الطبقة العاملة.»
قالت فلو: «الطبقة العاملة؟! تتحدثين كما لو كان الناس هنا في يدهم ما يمكنهم فعله للحيلولة دون ذلك.»
كل ما أحدثه منزل الدكتورة هينشو شيئًا واحدًا؛ وهو القضاء على البساطة والأريحية المُسلَّم بهما في بلدة روز، فكانت العودة إلى تلك البلدة بمنزلة العودة لطرق الإضاءة القديمة. كانت فلو قد وضعت مصابيح فلورسنت في المتجر والمطبخ. كان هناك أيضًا مصباح طويل ينتصب على الأرض في أحد أركان المطبخ كانت فلو قد فازت به في لعبة البينجو؛ وكان ظله محاطًا دائمًا بشرائط سلوفان عريضة. أهم ما فعله منزل الدكتورة هينشو ومنزل فلو أحدهما في الآخر هو الانتقاص من قيمة كلٍّ منهما. ففي الغرف الرائعة بمنزل الدكتورة، كانت روز دائمًا ما تتذكر المعرفة غير الناضجة التي جمعتها في منزلها، كان الأمر أشبه بغُصَّة تقف في حلقها على الدوام. وفي منزلها، كان النظام والتغير اللذان شهدتهما في الأماكن الأخرى يكشفان مدى الفقر البائس والمخزي لهؤلاء الناس الذين لم يعتبروا أنفسهم فقراء قط. لم يقتصر الفقر على العوز والحرمان فحسب، كما اعتقدت الدكتورة هينشو، وإنما كان يعني أيضًا امتلاك أنابيب الإنارة القبيحة تلك والافتخار بها؛ يعني التحدث الدائم عن المال والحديث الحاقد عما اشتراه الآخرون من أشياء جديدة وإذا ما كانوا قد دفعوا ثمنها أم لا؛ يعني أيضا الغيرة والفخر بشيء مثل الستائر البلاستيكية الجديدة الشبيهة بالدانتيل التي اشترتها فلو لنافذة المنزل الأمامية؛ يعني أيضًا تعليق الملابس على المسامير خلف الأبواب والتمكن من سماع أي صوت يصدر من دورة المياه؛ يعني تزيين الحوائط بعبارات النصح الورعة والمبهجة، بل والإباحية أحيانًا: الربُّ راعيَّ فلا يعوزني شيءٌ. آمِن بالرب يسوع المسيح فتخلصْ أنت وأهل بيتك. لماذا علقت فلو هذه العبارات بينما لم تكن بالمرأة المتدينة؟ هكذا فعل الآخرون؛ كانوا يعلقون هذه العبارات مثلما الرُزنامات. هذا مطبخي وسأفعل به ما أشاء. أكثر من شخصين في سرير واحد فعل خطير وغير قانوني. كان بيلي بوب هو من جلب هذه العبارات. تُرى ما سيكون رأي باتريك إذا رآها؟ ما سيكون رأيه في قصص بيلي بوب وهو مَن أزعجه النطق الخاطئ للاسم «مترنيخ»؟
عمل بيلي بوب في متجر جزارة تايد، وكان أكثر ما يتحدث عنه حينذاك هو المهاجر البلجيكي الخارق الذي جاء للعمل في المتجر، وتسبَّب في توتر بيلي بوب بسبب غنائه الوقح للأغاني الفرنسية، وأفكاره الساذجة عن تحقيق النجاح في هذه البلدة وشرائه متجر الجزارة الخاص به.
قال له بيلي بوب ذات مرة: «لا تظن أنه بإمكانك المجيء إلى هنا وتحقيق ما لديك من أفكار. فأنت مَن يعمل لدينا. وإياك والظن بأن هذا الوضع سينعكس؛ ونصير نحن من نعمل لديك.» أخرس ذلك البلجيكي، هكذا قال بيلي بوب.
كان باتريك يطلب من روز من وقت لآخر الذهاب إلى بلدتها والالتقاء بأسرتها، خاصة وأنها لا تبعد سوى خمسين ميلًا فقط.
«لا يوجد هناك سوى زوجة أبي.»
«كم أنا سيئ الحظ لعدم تمكني من رؤية والدك.»
اندفعت روز في تقديم والدها لباتريك على أنه قارئ للتاريخ، ودارس هاوٍ. ولم تكذب في ذلك، لكنها لم تقدم صورة صادقة عن الوضع الحقيقي.
«هل زوجة والدك هي الوصية عليكِ؟»
فما كان من روز إلا أن قالت إنها لا تعلم.
«حسنًا، لا بد أن والدك قد حدَّد الوصيَّ عليكِ في وصيته. من يدير أملاكه؟»
أملاكه! ظنت روز أن الأملاك تعني الأراضي كتلك التي يملكها الناس في إنجلترا.
رأى باتريك في ظنها ذلك شيئًا من خفة الظل.
«كلا، أعني ما كان يملكه من أموال وأسهم وما إلى ذلك. ما تركه بعد وفاته.»
«لا أظن أنه ترك أي شيء.»
«بالله عليكِ! لا تكوني سخيفة.»
•••
في أحيان أخرى، كانت الدكتورة هينشو تقول لها: «حسنًا، أنتِ طالبة. لن تهتمي بذلك.» وتقصد غالبًا في هذه الأوقات حدثًا ما مُقامًا في الكلية؛ مثل تجمُّع رياضي، أو مباراة كرة قدم، أو حفل راقص. وتكون الدكتورة محقة عادةً في افتراضها؛ فروز لم تهتم بتلك الأمور، لكنها لم تحرص على الاعتراف بذلك؛ فهي لا تسعى لتعريف نفسها بهذا النحو ولا تستسيغ فعل ذلك.
عُلِّقت على حائط السُّلم داخل المنزل صور التخرج لجميع الفتيات الأخريات اللاتي حصلن على منح دراسية وعشن مع الدكتورة هينشو. صار أغلبهن معلمات، ثم أمهات. صارت إحداهن اختصاصية تغذية، واثنتان أمينتي مكتبة، وواحدة أستاذة للغة الإنجليزية مثل الدكتورة هينشو. لم تهتم روز بهيئتهن، أو امتنانهن المنعكس في ابتسامتهن الخجولة، أو أسنانهن الكبيرة، أو لفائف شعرهن العذراوية. بدا عليهن أنهن يفرضن عليها الورع. لم تكن من بينهن ممثلة، أو صحفية لامعة بإحدى المجلات. لم تصل أيٌّ منهن لنوعية الحياة التي أرادتها روز لنفسها؛ فقد أرادت أن تكون شخصية عامة. فكرت في أن تكون ممثلة، لكنها لم تحاول التمثيل قط، وكانت تخشى الاقتراب من الأعمال المسرحية بالكلية. علمت أيضًا أنها لا تستطيع الغناء أو الرقص، فودت حقًّا العزف على القيثارة، لكنها لم تملك أذنًا موسيقية. رغبت روز في أن يعرفها الناس ويحسدوها، في أن تكون رشيقة وذكية. وقالت للدكتورة هينشو ذات مرة لو أنها كانت رجلًا، لودت أن تعمل مراسلًا خارجيًّا.
فصاحت الدكتورة منزعجةً: «ينبغي عليك إذن تحقيق ذلك! المستقبل كله متاح أمام النساء. يجب عليك التركيز على اللغات، ودراسة العلوم السياسية والاقتصاد. ربما يمكنك أيضًا الحصول على وظيفة في الجريدة في الصيف. لدي بعض الأصدقاء هناك.»
خافت روز من فكرة العمل في الجريدة، وكرهت أيضًا دورة الاقتصاد التمهيدية؛ وبحثت عن وسيلة لإلغاء اشتراكها فيها. من الخطير الإفصاح عن مثل هذه الأفكار للدكتورة هينشو.
•••
كان انتقال روز للإقامة مع الدكتورة هينشو مصادفة؛ فالفتاة الأخرى التي اختيرت للإقامة معها أصيبت بالسل، وانتقلت بدلًا من ذلك إلى المصحة. ذهبت الدكتورة إلى مكتب الكلية في اليوم الثاني لتسجيل الطلاب للحصول على بعض أسماء طلاب السنة الأولى الحاصلين على منح دراسية.
وتصادف وجود روز في المكتب قبل وصول الدكتورة بفترة وجيزة لتسأل عن المكان الذي سيُعقَد فيه اجتماع طلاب المنح الدراسية؛ إذ كانت قد فقدت الإخطار الخاص بها. كان أمين صندوق الجامعة سيتحدث مع طلاب المنح الدراسية الجدد، مُطلِعًا إياهم على سبل جني المال والعيش بتكاليف زهيدة، وموضحًا لهم معايير الأداء العالية المتوقعة منهم لكي يستمر إمدادهم بالمال.
توصلت روز إلى رقم الغرفة، وصعدت السُّلم إلى الطابق الأول. اقتربت فتاة منها، وسألتها: «هل تبحثين عن الغرفة رقم ???? أنت أيضًا؟»
سارتا معًا، وأخبرت كلٌّ منهما الأخرى بتفاصيل منحتها الدراسية. لم يكن لدى روز مكان تقيم فيه بعد، وكانت تقيم في جمعية الشابات المسيحيات. لم تملك في الحقيقة ما يكفي من المال للعيش في ذلك المكان على الإطلاق. لقد حصلت على منحة دراسية لتغطية مصروفات الدراسة، وجائزة الريف لشراء الكتب، ومنحة مالية تبلغ ثلاثمائة دولار لتغطية مصروفات معيشتها؛ ولم تملك شيئًا عدا ذلك.
قالت الفتاة الأخرى: «سيتحتم عليك البحث عن وظيفة.» حصلت تلك الفتاة على منحة مالية أكبر لدراستها العلوم. «حيث يوجد المال، المال كله ينصب في العلوم.» هكذا قالت الفتاة بجدية، لكنها مع ذلك كانت تأمل في الحصول على وظيفة في الكافيتريا. كانت قد حصلت على غرفة في قبو أحد المنازل. أخذت روز تطرح عليها أسئلة من قبيل: «كم تدفعين في الغرفة؟ كم يتكلف طبق الطعام الساخن هنا؟» ورأسها غارق في الحسابات ويعتريها القلق.
كانت الفتاة تلف شعرها فوق رأسها، وترتدي بلوزة من قماش الكريب بهت لونها ولمعت بسبب الغسيل والكي. كان ثدياها كبيرين ومرتخيين. ارتدت على الأرجح صدرية وردية متسخة مثبتة من الجانبين، وكانت هناك رقعة حرشفية على إحدى وجنتيها.
قالت الفتاة: «لا بد أن هذا هو الاجتماع.»
كانت هناك نافذة صغيرة في الباب، تمكنتا من النظر عبرها لتشاهدا الطلاب الآخرين الحاصلين على المنح الدراسية الذين تجمَّعوا بالفعل وانتظروا الاجتماع. بدا لروز أنها رأت أربع أو خمس فتيات يشبهن تلك الفتاة الواقفة بجوارها في الرزانة وانحناء الظهر، وعددًا من الشباب ذوي مظهر صبياني وعيون لامعة وملامح توحي بالرضا عن النفس. بدا لها حينها أن القاعدة السائدة أن تبدو الفتيات الحاصلات على المنح الدراسية كما لو كنَّ في الأربعين من عمرهن والشباب في الثانية عشرة. من المستحيل، بالطبع، أن ينطبق ذلك على الجميع. ومن المستحيل أيضًا أن تتمكن روز بنظرة واحدة عبر الزجاج من ملاحظة آثار الإكزيما، وبقع الإبط، وقشرة الشعر، والرواسب المتعفنة على الأسنان، والغَمَص الجاف بأطراف العيون. فهذا ما تصورته فحسب. ومع ذلك، فلم تكن مخطئة في وجود شيء ما يغشاهم جميعًا؛ لقد غشيتهم بالفعل حالة رهيبة من التلهف والانقياد، وإلا فكيف يمكنهم تقديم كل هذه الإجابات الصحيحة والمُرضية؟ كيف يمكنهم تحقيق التميز لأنفسهم والوصول إلى هذا المكان؟ هذا ما فعلته روز أيضًا.
قالت للفتاة الأخرى: «سأذهب إلى دورة المياه.»
تصوَّرت روز نفسها وهي تعمل في الكافتيريا، وقد بدا جسدها الممتلئ بالفعل أكثر بدانة في الزي القطني الأخضر الموحَّد للكافتيريا، وقد تحوَّل وجهها للحمرة، وقسا شعرها نتيجة للحرارة. تخيلتْ تقديمها صحون اليخنة والدجاج المحمر لمن هم على درجة أقل من الذكاء ومستوى أعلى من الدخل، تصوَّرت نفسها محاصرة بطاولات تقديم الطعام، والزي الموحَّد، والعمل الشاق المحترم الذي لا يجب لأحد أن يخجل منه، ويظهر عليها الذكاء والفقر البادي للجميع. يمكن للشباب التأقلم مع ذلك … بالكاد. أما الفتيات، فهو وضع مهلك لهن. فقر الفتاة ليس بالأمر الجذاب، إلا إذا صاحبه جاذبية جنسية أو غباء. والذكاء ليس جذابًا أيضًا، إلا إذا ارتبط ببعض ملامح الأناقة والمنزلة الاجتماعية الرفيعة. هل كان ذلك صحيحًا؟ وهل كانت روز بالحماقة التي تجعلها تهتم بذلك؟ الإجابة في الحالتين هي «نعم».
عادت روز للطابق الأول حيث ازدحمت القاعات بالطلاب العاديين، الذين لم يحصلوا على منح دراسية ولم يكن من المنتظر منهم الحصول على الامتياز دومًا، والشعور بالامتنان والعيش بتكاليف زهيدة. تجولوا مرتبكين بمظهرهم البريء المثير للحسد حول موائد التسجيل، مرتدين ستراتهم البيضاء والأرجوانية الجديدة، وقبعات الطلاب المستجدين الأرجوانية. أخذوا يصيحون بعضهم لبعض بتذكيرات، ومعلومات ملتبسة، وإهانات حمقاء. سارت روز بينهم وبداخلها شعور مرير بتفوقها عليهم وقنوطها في الوقت نفسه. ظلت تنورة الطقم الأخضر الذي كانت ترتديه والمصنوع من المخمل المضلع تلتصق بساقيها أثناء سيرها. كانت خامة القماش خفيفة؛ ربما كان يجب عليها إنفاق مبلغ أكبر لشراء خامة أثقل. وفي تلك اللحظة، فكرت أيضًا في أن تفصيل السترة كان سيئًا بدوره، مع أنها بدت جيدة في المنزل. الطقم بأكمله صنعته خيَّاطة صديقة لفلو في هانراتي، وقد انصبَّ اهتمامها الأساسي في حياكته على ألا يُظهِر التصميم أي ملامح للجسد. طلبت منها روز تضييق التنورة، فقالت لها: «لا أظن أنك ترغبين في إظهار مؤخرتك، أليس كذلك؟» ولم تُرِد روز البوح بأنها لا تهتم.
من الأمور الأخرى التي قالتها لها الخياطة: «اعتقدتُ أنك بإنهاء المرحلة الثانوية ستحصلين على وظيفة وتساعدين فلو في نفقات المنزل.»
أوقفت إحدى السيدات روز أثناء سيرها في القاعة.
«ألست إحدى فتيات المنح الدراسية؟»
كانت سكرتيرة أمين عام الجامعة. ظنت روز أنها ستوبَّخ لعدم حضورها الاجتماع، وعزمت على القول بأنها شعرت ببعض التوعك. أعدَّت وجهها لتلك الكذبة، لكن السكرتيرة قالت لها: «تعالي معي الآن. ثمة شخص يرغب في لقائك.»
كانت الدكتورة هينشو تُحدِث جلبة محبوبة في المكتب. لقد أحبَّت الفتيات الفقيرات الألمعيات، لكنها كانت تفضلهن جميلات أيضًا.
قالت السكرتيرة لروز وهي تتقدمها في السير: «أظن أن ذلك قد يكون يوم حظك، إذا استطعت رسم تعبير أكثر لطفًا على وجهك.»
كرهت روز أن يطلب منها أحد ذلك، لكنها ابتسمت مطيعةً.
وفي غضون ساعة، نُقِلت إلى منزل الدكتورة هينشو، واستقرت فيه مع الحواجز الخشبية والمزهريات الصينية، وقيل لها إنها طالبة.
•••
حصلت روز على وظيفة في مكتبة الكلية بدلًا من الكافيتريا؛ إذ كانت الدكتورة هينشو صديقة لرئيس أمناء المكتبة. عملت روز بعد ظهيرة أيام السبت في قسم تخزين الكتب حيث تعيد الكتب لأماكنها. وكانت المكتبة تكاد تكون خالية في ذلك التوقيت بفصل الخريف، بسبب مباريات كرة القدم. أطلَّت النوافذ الضيقة للمكتبة على الحرم الجامعي المليء بالأشجار، وملعب كرة القدم، والمدينة الممتلئة طرقاتها بأوراق الأشجار المتساقطة، وتهادت أصوات الأغاني والصيحات إلى المكتبة.
لم تكن مباني الكلية قديمة على الإطلاق، لكنها صُمِّمت لتبدو كذلك؛ فكانت مبنية من الحجارة. وكان لمبنى كلية الآداب برج. أما المكتبة، فكانت نوافذها بابية مصمَّمة ربما لتصويب الأسهم منها. أكثر ما أعجب روز في المكتبة هو المباني والكتب، والنشاط الذي شهدته عادةً، وهو ما تلاشى في ذلك الوقت من العام، وارتكز حول ملعب كرة القدم الذي صدرت عنه تلك الضوضاء التي بدت في نظرها غير لائقة ومشتتة للذهن. كانت الهتافات والأغاني بلهاء، إذا ركز المرء في كلماتها. لماذا شيدوا تلك المباني المهيبة إذا كانوا سيغنون مثل هذه الأغاني؟
كانت روز بالحكمة التي تمنعها من التعبير عن هذه الآراء، وإذا قال لها أي شخص: «كم هو كريه أن تضطري للعمل أيام السبت، وألا تستطيعي حضور المباريات»، كانت توافقه الرأي بشدة.
في إحدى المرات، أمسك رجل ما بساقها العارية بين الجورب والتنورة. حدث ذلك في قسم الزراعة بالجزء السفلي من منطقة أرفف تخزين الكتب بالمكتبة. لم يملك أحد تصريحًا لدخول هذا المكان سوى أعضاء هيئة التدريس، وطلاب الدراسات العليا، والموظفين، لكن قد يستطيع أحدهم الدخول من نافذة الطابق الأرضي، إذا كان نحيلًا. كانت قد رأت رجلًا انحنى وهو يتفحص الكتب في رفٍّ أدنى بعيدًا عن مكانها بعض الشيء، وعندما مدت يدها لدفع أحد الكتب إلى مكانه، مر ذلك الرجل خلفها، وانحنى ليمسك بساقها، كل ذلك في حركة مباغتة سريعة وخفيفة، ثم اختفى. ظلت تشعر لفترة وجيزة بالمكان الذي غرس فيه أصابعه. لم تبدُ لها لمسة جنسية، وإنما كانت أشبه بالمزحة، لكنها مزحة غير ودودة على الإطلاق. سمعته روز وهو يركض هاربًا، أو شعرت به؛ فقد اهتزت الأرفف المعدنية، ثم توقفت عن الاهتزاز. لم يعد له أي صوت يدل عليه، فسارت باحثةً عنه بين أرفف التخزين وأركان القراءة. لكن ماذا إذا رأته، أو تعثرت به في أحد الأركان؟ ما الذي كانت تنوي فعله؟ لم تعرف. لقد شعرت فحسب بضرورة البحث عنه، كما لو كانت في لعبة صبيانية مثيرة. نظرت لربلة ساقها القوية المتوردة. ما أثار دهشتها هو ظهور شخص من حيث لا تعلم يرغب في معاقبتها وإصابتها على هذا النحو.
وُجد عادةً عدد قليل من طلاب الدراسات العليا في أركان القراءة، حتى بعد ظهيرة أيام السبت، لكن نادرًا ما وُجد فيها أساتذة في ذلك الوقت. بحثت روز في كل ركن، فوجدته فارغًا حتى وصلت إلى أحد الأشخاص في أحد أركان القراءة، أطلَّت برأسها بحرية، إذ لم تتوقع وجود أي شخص في ذلك الوقت، لكنها اعتذرت بعد ذلك عن هذا التصرف.
كان هناك شاب يحمل كتابًا على حجره، وحوله الكتب مترامية على الأرض، والأوراق تحيط به من كل جانب. سألته روز إن كان قد رأى أي شخص يركض بجواره، فأجابها بالنفي.
روت له ما حدث، لكن السبب لم يكن شعورها بالخوف أو الاشمئزاز، مثلما اعتقد هو بعد ذلك، وإنما رجع ذلك إلى ضرورة إخبارها شخصًا ما بما حدث؛ فقد كان موقفًا غريبًا. لم تكن متأهبة على الإطلاق لرد فعل ذلك الشاب؛ إذ تحول وجهه وعنقه للون الأحمر ليتداخل مع وحمة على جانب وجنته بالكامل. كان نحيلًا وأشقر. نهض عن كرسيه دون أن ينتبه للكتاب الموجود على حجره أو الأوراق المتناثرة أمامه، فسقط الكتاب بقوة على الأرض، واندفعت حزمة ضخمة من الأوراق عبر المكتب لتحرك زجاجة الحبر.
قال لها: «يا له من تصرف وضيع!»
فنبَّهته: «أمسِكْ زجاجة الحبر!» فمال ليلتقط الزجاجة، لكنها سقطت منه على الأرض. لحسن الحظ، كان الغطاء فوقها، ولم تنكسر.
«هل ألحق بكِ أي أذى؟»
«كلا، لم يفعل في الواقع.»
«تعالي معي إلى الأعلى. سوف نبلغ عما حدث.»
«لا، لا داعي.»
«لا يمكن أن يفلت بفعلته. يجب ألا يُسمَح بذلك.»
فقالت روز بارتياح: «ليس هناك من يمكننا إبلاغه بما حدث؛ فأمين المكتبة ينصرف في ظهيرة أيام السبت.»
فرد عليها بصوت عالٍ ومنفعل: «هذا فعل مثير للاشمئزاز.» ندمت روز في تلك اللحظات على إخبارها له بما حدث، وقالت له إنها مضطرة للعودة إلى العمل.
«هل أنتِ بخير؟»
«نعم.»
«سأكون هنا. فلتنادي عليَّ فقط إذا عاد.»
كان ذلك الشاب هو باتريك. لو أن روز كانت تحاول إيقاعه في غرامها، فما كانت لتختار وسيلة أفضل من تلك. كان يؤمن بالعديد من مفاهيم الشهامة، رغم أنه كان يتظاهر بسخريته منها من خلال نطق بعض الكلمات أو العبارات بنبرة تعجب، مثل: «الجنس اللطيف» أو «آنسة في ورطة». وبذهاب روز إليه في ركن القراءة بهذه القصة، جعلت من نفسها «آنسة في ورطة». ما كانت سخريته لتخدع أحدًا؛ فكان من الجلي أنه يتمنى العيش في عالم الفرسان والسيدات رفيعات الشأن، ونوبات الغضب، والإخلاص.
ظلت تراه في المكتبة كل سبت، والتقت به في كثير من الأحيان أثناء سيرها بأرجاء الحرم الجامعي أو في الكافتيريا. كان يلقي عليها التحية بكياسة واهتمام، متسائلًا عن حالها على نحو يشير إلى احتمال تعرضها لاعتداء آخر أو احتمال كونها لا تزال في مرحلة التعافي من الاعتداء الأول. وكان وجهه يتحول للحمرة الشديدة عند رؤيته لها، الأمر الذي ظنت روز أنه بسبب شعوره بالإحراج عند تذكره ما روته له، لكنها اكتشفت فيما بعد أن السبب وراء ذلك هو أنه كان مغرمًا بها.
توصل باتريك إلى اسمها ومكان إقامتها. اتصل بها هاتفيًّا في منزل الدكتورة هينشو، وطلب اصطحابها إلى السينما. في البداية، عندما قال لها عبر الهاتف: «أنا باتريك بلاتشفورد» لم تستطع تذكره، لكنها سرعان ما تعرَّفت على الصوت العالي المحزون والمرتعد. وافقت روز على طلبه، وكان من بين أسباب موافقتها ما قالته الدكتورة هينشو دومًا عن سعادتها لعدم إهدار روز وقتها في التسكع مع الشباب.
بعد أن بدأت روز في الخروج مع باتريك، سألته: «ألن يكون من المضحك إذا كنت أنت من أمسكت بساقي في المكتبة ذلك اليوم؟»
لكن باتريك لم يرَ ذلك مضحكًا، وأفزعه تفكيرها على هذا النحو.
قالت له إنها لا تقصد سوى المزاح، وإن ما عنته هو أن هذا الافتراض كان سيُحدِث تغييرًا هائلًا في القصة، كإحدى قصص سومرست موم أو أحد أفلام هيتشكوك. كانا قد شاهدا لتوهما فيلمًا له.
«أتعلم، لو كان هيتشكوك قد صنع فيلمًا عن موقف مشابه لذلك، لكنتَ لعبت أنت دور الرجل المتوحش النهم الذي أمسك بساقي، ويكون ذلك جانبًا من شخصيتك، والجانب الآخر هو الطالب الخجول.»
لم يعجبه ذلك أيضًا.
وسألها: «هل هذه صورتي في نظرك … طالب خجول؟» بدا لها أنه خفض صوته، واصطنع بعض نبرات الشكوى، ومال بذقنه إلى الداخل، كما لو كان يمزح. لكنه قلما مزح معها؛ فهو يرى أن المزاح ليس لائقًا عندما يكون المرء مغرمًا.
«لم أقل إنك طالب خجول أو ممسك للسيقان. إنها مجرد فكرة طرأت علي.»
فرد عليها بعد برهة قائلًا: «أظنني أفتقر في نظرك لملامح الرجولة.»
صُعِقت روز بهذه المجاهرة، وشعرت بالغضب. إنه يغامر؛ ألم يمر بأي موقف من قبل يعلِّمه عدم خوض مثل هذه المغامرات؟ لعله لم تبدُ عليه الرجولة بالفعل. علم باتريك أنها ستقول له شيئًا يطمئنه، لكنها لم ترغب في ذلك، وإنما رغبت في أن تقول له بتعقل: «حسنًا، أنت محق في ذلك.»
لكن ذلك سيكون منافيًا للحقيقة؛ فقد بدا ذكوريًّا في نظرها. والسبب هو خوضه مثل هذه المغامرات، والرجال وحدهم هم من يتسمون بهذا القدر من التسرع وكثرة المطالب.
قالت له في موقف آخر: «لقد أتينا من عالمين مختلفين؛ فأهلي فقراء، والمكان الذي يعيشون فيه مقلب نفايات في نظرك.» شعرت بقولها ذلك أنها إحدى شخصيات المسرحيات الدرامية.
بهذا الحديث، صارت روز هي المخادعة؛ إذ تتظاهر بذلك لترمي بنفسها تحت رحمته، لأنها بالطبع لم تتوقع منه التخلي عنها وعن طلب زواجها عندما علم بفقر أهلها وأنهم يعيشون في مقلب نفايات.
فكان رد باتريك عليها: «لكنني سعيد بفقرك. أنتِ جميلة حقًّا … جميلة كالفتاة المتسولة.»
«من؟»
«لوحة الملك كوفيتوا والفتاة المتسولة، ألا تعرفينها؟»
اعتاد باتريك اتباع حيلة، أو بالأحرى أسلوب — ليست حيلة، فباتريك لا علم له بالحيل — للتعبير عن التفاجؤ: ذلك التفاجؤ المشحون بالازدراء عندما يجهل الناس شيئًا يعلمه، وازدراء وتفاجؤ مماثلين عندما يحاولون معرفة شيء يجهله. فكانت كلٌّ من غطرسته وتواضعه مبالغًا فيهما على نحو غريب. أما الغطرسة، فتوصلت روز بمرور الوقت إلى أن سببها هو ثراء باتريك، مع أنه لم يتفاخر أبدًا بهذا الأمر في حد ذاته. وعندما التقت بأختيه، اكتشفت أنهما يتسمان بنفس السمات؛ إذ تحتقران أي شخص ليست لديه معلومات عن الخيل أو الإبحار، كما كان لهما نفس الشعور المزدري حيال أي شخص تنصبُّ معرفته في الموسيقى أو السياسة. فما كان يبرع فيه باتريك وأختاه عند وجودهم معًا هو إظهار الاحتقار والازدراء للآخرين. لكن أليس بيلي بوب بهذا القدر من السوء أيضًا عندما يتعلق الأمر بالغطرسة؟ أليست فلو كذلك؟ ربما. لكن ثمة فارقًا، وهو أن بيلي بوب وفلو لم يتمتعا بالحماية؛ فهناك أشياء تثير استفزازهم مثل المهاجر البلجيكي الفذ ومتحدثي الفرنسية في الراديو، والتغيرات المختلفة. أما باتريك وأختاه، فقد كانوا يتصرفون كما لو أنه من المستحيل استفزازهم بأي شيء. أصواتهم عند شجارهم على المائدة كانت طفولية على نحو مدهش؛ وطلباتهم للطعام الذي يحبونه، وحدة طباعهم عند رؤيتهم أي شيء على المائدة لا يحبونه، كلها سلوكيات أشبه بسلوكيات الأطفال. لم يضطر أيٌّ منهم أبدًا للخضوع لأي شخص، أو التجمل أمام الآخرين، أو انتظار أي استحسان من العالم، ولن يضطروا لذلك أبدًا أيضًا، وذلك لأنهم أثرياء.
لم تكن لدى روز أية فكرة في البداية عن مدى ثراء باتريك. لم يصدق أحد جهلها بذلك؛ فظن الجميع أنها ذكية وأجرت الحسابات عند الارتباط به، لكنها كانت أبعد ما يكون عن هذا النوع من الذكاء، لذلك لم تهتم في الواقع بظنون الآخرين فيها. واكتشفت فيما بعد أن الفتيات الأخريات كن يحاولن الوصول إليه، لكنهن لم يتمكَّن من ذلك مثلها. والفتيات الأكبر منها سنًّا العضوات في نادي الفتيات بالجامعة، اللاتي لم يلاحظنها من قبل قط، بدأن في النظر إليها بنوع من الحيرة والاحترام. حتى الدكتورة هينشو عندما رأت أن الأمور أكثر جدية مما اعتقدت، وجلست مع روز لتتحدث معها في هذا الشأن، افترضت أنها تضع أموال باتريك نصب عينيها.
فقالت لها بنبرة ساخرة وجادة في الوقت نفسه: «إنَّ لفت انتباه وريث إمبراطورية تجارية ليس بالأمر الهين. إنني لا أكره الثروة، بل إنني أتمنى أحيانًا لو امتلكت بعضًا منها.» (هل افترضت حقًّا أنها لا تملك ثروة؟) واستطردت قائلةً: «إنني موقنة بأنكِ ستحسنين استخدامها، لكن ماذا عن طموحاتك يا روز؟ ماذا عن دراساتك وشهادتك؟ هل ستنسين كل ذلك بهذه السرعة؟»
كانت هناك بعض المبالغة في تعبير «إمبراطورية تجارية» الذي استخدمته الدكتورة. امتلكت عائلة باتريك سلسلة من المتاجر الكبيرة في كولومبيا البريطانية، وكل ما قاله باتريك لروز هو أن والده يمتلك بعض المتاجر. وعندما قالت له إنهما ينتميان لعالمين مختلفين، كانت تظن أنه يعيش على الأرجح في منزل كبير مثل منازل الحي الذي تعيش فيه الدكتورة هينشو، وكانت تفكر أيضًا في أكثر التجار ثراءً في هانراتي، ولم تدرك مدى الانقلاب الذي حققته، لأن الانقلاب في نظرها كان أن يقع ابن الجزار أو ابن الصائغ في حبها؛ وكان الناس سيقولون إنها قد حققت نجاحًا إن حدث ذلك.
اطلعت روز على اللوحة بعد أن بحثت عنها في أحد كتب الفن في المكتبة، ودققت النظر في الفتاة المتسولة الوديعة والمثيرة بقدميها البيضاوين الخجولتين، واستسلامها الخنوع وامتنانها. أهكذا رأى باتريك روز؟ أهذا ما يمكن أن تكون عليه؟ سوف تحتاج إلى ذلك الملك بحدته وبشرته الداكنة وما اتسم به من براعة وهمجية، بالرغم من المشاعر الطاغية التي وقع أسيرًا لها. سيمكنه أن يشكِّلها كما يشاء في ظل ما يتمتع به من رغبة عارمة. ولن يكون هناك أي اعتذار معه، أو أي إحجام، أو تشكك مثل ذلك الذي يظهر في جميع التعاملات مع باتريك.
لم تستطع روز خذلان باتريك، لم تستطع فعل ذلك، ليس بسبب مقدار ما يملك من المال، وإنما بسبب مقدار ما يقدِّمه لها من حب لا يمكنها تجاهله. لقد شعرت بالأسف حياله وبضرورة مساعدته في التغلب على ذلك. كان الأمر أشبه بتقدمه نحوها وسط جمع من الناس، حاملًا شيئًا ضخمًا وبسيطًا ومبهرًا — ربما بيضة ضخمة مصنوعة من الفضة الخالصة؛ شيء هائل في وزنه ومشكوك في استخدامه — ويعطيه لها، أو بالأحرى يدفعه نحوها متوسلًا إياها رفع بعض الحمل عنه. وإذا ردَّته إليه، فكيف سيتحمله؟ لكن هذا التفسير أغفل شيئًا ما؛ وهو ما كانت روز تشتهيه، والذي لا يتمثل في الثروة، وإنما الحب إلى درجة العبادة. كان لزامًا أن يبهرها ما قدَّمه لها باتريك من ضخامةِ ووزنِ وبريقِ ما أسماه حبًّا (ولم تشكك هي في ذلك)، مع أنها لم تلتمسه أبدًا. ورأت روز أنها من الصعب أن تحصل على هذا العرض مجددًا. باتريك نفسه، بالرغم من حبه الشديد لها، كان يقر إقرارًا غير مباشر بحظها الحسن في هذه العلاقة.
اعتقدت روز دومًا في حدوث ذلك؛ أي في أن تنال إعجاب شخص ما ويقع في غرامها ويعييه هواها، لكنها في الوقت نفسه، اعتقدت أنه ما من أحد سيفعل ذلك، أو يرغب فيها على الإطلاق، وهذا ما بدا لها بالفعل حتى ذلك الحين. إن ما يجعل المرء مرغوبًا فيه ليس ما يفعله، وإنما ما يملكه، وكيف يمكن لأحد أن يعرف ما إذا كان يملك هذا الشيء أم لا؟ كانت روز تنظر لنفسها في المرآة، وتفكر: «زوجة … حبيبة»؛ تلك الكلمات الرقيقة الجميلة، كيف يمكن أن تنطبق عليها؟ لقد كانت معجزة؛ أو بالأحرى خطأ. كان ذلك ما حلمت به، وليس ما رغبت فيه.
أعياها الإرهاق والضيق والأرق. حاولت التفكير بإعجاب في باتريك. لقد كان وجهه النحيل ذو البشرة الناعمة الشقراء وسيمًا للغاية. لا بد أنه كان يتمتع بقدر من المعرفة أيضًا؛ فقد كان يصحح الأبحاث، ويشرف على الاختبارات، وينهي رسالته. فاحت منه أيضًا رائحة تبغ غليون وصوف خشن أحبَّتها روز. كان يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا. ما من فتاة أخرى تعرفها روز كان لديها صديق في هذا العمر.
وبعد هذه الأفكار، كانت تتذكره فجأة دون أي إنذار مسبق وهو يقول: «أعتقد أنني أفتقر في نظرك إلى ملامح الرجولة»، أو «هل تحبينني؟ هل تحبينني حقًّا؟» وهو ينظر إليها نظرة تدل على الخوف والتهديد. وعندما كانت تخبره أنها تحبه، كان يقول لها كم هو محظوظ، بل كم هما محظوظان! ويذكر أصدقاءه وفتياتهم، مقارنًا علاقات الحب بينهم مع توضيح أن العلاقة بينه هو وروز أفضل من هذه العلاقات. تسبَّب ذلك في ارتعاد روز من الغضب والتعاسة؛ لقد شعرت بالاشمئزاز من نفسها بقدر ما شعرت به منه، وشعرت بالاشمئزاز أيضًا من صورتهما معًا في تلك اللحظة، وهما يسيران عبر أحد متنزهات وسط المدينة المليئة بالثلج، ويدها موضوعة في يده … أو بالأحرى في جيبه. كانت هناك أفكار غاضبة وقاسية تصرخ بداخلها. وجب عليها فعل شيء ما، لئلا تخرج تلك الأفكار وتبدو عليها، فبدأت في مداعبته وتشويقه.
أمام الباب الخلفي لمنزل الدكتورة هينشو، قبَّلته، وحاولت إجباره على فتح فمه، وفعلت أشياء شائنة معه. شعرت عند تقبيله لها بنعومة شفتيه وخجل لسانه. تداعى بجسده عليها بدلًا من أن يمسك بها. لم تشعر بأية قوة فيه.
«كم أنتِ جميلة، وبشرتك جميلة، وحاجباك رائعان! أنت رقيقة جدًّا!»
سعدت روز بسماع هذه الكلمات، كانت أي فتاة ستسعد بذلك، لكن ردَّها جاء تحذيريًّا بأن قالت له: «لست رقيقة حقًّا كما تظن، فأنا ضخمة.»
«أنتِ لا تعلمين مدى حبي لك. ثمة كتاب عنوانه «الإلهة البيضاء»، كلما نظرت إلى عنوانه، تذكرتكِ.»
فابتعدت عنه، ثم انحنت وأمسكت بحفنة من الثلج المنجرف بجوار درجات السلم، ورمت بها على رأسه.
«إلهي الأبيض!»
فهز رأسه لإنزال الثلج، واغترفت هي المزيد منه ورمته عليه. لكنه لم يضحك، وإنما أدهشه التصرف وأزعجه. مسحت بعد ذلك الثلج من على حاجبيه ولعقته من على أذنيه. كانت تضحك رغم شعورها باليأس، وليس المرح. لم تعرف ما دفعها إلى فعل ذلك.
همس باتريك قائلًا لها: «الدكتورة هينشو!» كان من الممكن لصوته الشاعري الحنون الذي استخدمه للتحدث عنها بعاطفة جياشة أن يختفي تمامًا، ويتحول إلى احتجاج وحنق، دون أي درجات متوسطة بين الصوتين.
«سوف تسمعكِ الدكتورة هينشو!»
فقالت له روز على نحو حالم: «تقول الدكتورة هينشو إنك شاب جدير بالاحترام؛ أظن أنها مغرمة بك.» صدقت روز في ذلك؛ فقد كان ذلك هو ما قالته الدكتورة هينشو بالفعل عن باتريك. ولم تخطئ الدكتورة بدورها في هذا الوصف. لم يتحمل باتريك الأسلوب الذي تحدثت به روز. نفخت الثلج في شعره، وقالت له: «لِمَ لا تدخل وتفض بكارتها؟ أنا موقنة أنها لا تزال عذراء. هذه نافذتها. لم لا تذهب؟» فركت شعره، ثم أدخلت يدها في معطفه، وفركت مقدمة بنطاله، وقالت بحماس المنتصر: «أنت قوي! يا إلهي، باتريك! لديك الكثير لتقدمه للدكتورة هينشو!» لم يسبق لها قول شيء كهذا أبدًا، ولم تقترب من هذا النوع من السلوك قط من قبل.
قال باتريك لها منزعجًا: «اصمتي!» لكنها لم تستطع السكوت، ورفعت رأسها، وهمست بصوت عالٍ متظاهرةً بالنداء في اتجاه نافذة علوية بالمنزل: «يا دكتورة هينشو! تعالي وانظري ما يخبئه باتريك لكِ!» ومدت يدها متحرشة إلى سحَّاب بنطاله.
وجب على باتريك مصارعتها لإيقافها وإسكاتها. وضع يده على فمها، ودفعها بيده الأخرى بعيدًا عن سحَّاب بنطاله، فارتطمت أكمام معطفه الفضفاضة الضخمة بها كأجنحة مرفرفة. وما إن بدأ في مصارعتها حتى شعرت بالارتياح؛ فهذا ما أرادته منه، أن يصدر عنه أي فعل. لكن وجب عليها الاستمرار في مقاومته إلى أن أثبت أنه أقوى منها بالفعل. كانت تخشى من ألا يتمكن من ذلك.
لكنه تمكن، وأجبرها على الجثوم على ركبتيها أمامه ووجهها في الثلج. جذب ذراعيها للخلف وفرك وجهها في الثلج، ثم تركها، وكاد يفسد ما فعله.
«هل أنتِ بخير؟ أنا آسف، روز؟»
فوقفت مترنحةً، ودفعت بوجهها المغطى بالثلج في وجهه، فتراجع للخلف.
«قبِّلني! قبِّل الثلج! أنا أحبك!»
فسألها بتأثر: «أحقًّا تفعلين؟» وأزاح الثلج عن جانب فمها، وقبَّلها. سألها باندهاش مفهوم: «هل تحبينني فعلًا؟»
في تلك اللحظة، انعكس ضوء عليهما وعلى الثلج الذي وطأته أقدامهما، وسمعا صوت الدكتورة هينشو ينادي من فوقهما.
«روز! روز!»
نادت عليها بصوت صبور ومشجِّع كما لو كانت روز قد ضلت طريقها وسط ضباب قريب من المنزل وبحاجة لمن يرشدها إلى العودة.
•••
سألتها الدكتورة هينشو: «هل تحبينه يا روز؟ لا، فكري. هل تحبينه؟» كان صوتها مليئًا بالشك والجدية. أخذت روز نفسًا عميقًا وأجابت كما لو كانت روحها مليئة بمشاعر مطمئنة: «نعم، أحبُّه.»
«حسنًا، إذن.»
استيقظت روز في منتصف الليل، وتناولت بعض الشوكولاتة. اشتهت روز الحلوى، وكانت تفكر عادةً أثناء أي حصة دراسية أو فيلم سينمائي في كعك الشوكولاتة، أو البراوني أو أي نوع من أنواع الكعك التي كانت الدكتورة هينشو تجلبها من المخبز الأوروبي، والتي كانت ممتلئة بقطرات الشوكولاتة المرة الغنية التي تنسكب منها على الطبق. وكلما حاولت التفكير في علاقتها بباتريك، أو عزمت على اتخاذ قرار بشأن ما كانت تشعر به في الحقيقة، تدخَّل هذا الاشتهاء للحلوى في أفكارها.
بدأ وزنها يزيد، وظهرت بعض البثور بين حاجبيها.
كانت غرفة نومها باردة؛ إذ كانت فوق الجراج وبها نوافذ من ثلاث جهات. فيما عدا ذلك، كانت غرفة لطيفة، وكانت هناك بعض الصور المعلقة في أُطر أعلى السرير لسماوات وأطلال إغريقية التقطتها الدكتورة هينشو بنفسها أثناء رحلتها إلى بلدان البحر الأبيض المتوسط.
كانت تكتب آنذاك مقالًا عن مسرحيات ييتس، وكان من بين شخصيات إحدى هذه المسرحيات عروس شابة اختطفتها الجنيات بعيدًا مخلِّصةً إياها من زيجة يحكمها العقل لم تتحملها تلك الفتاة.
قرأت روز: «فتلهربي أيتها الطفلة البشرية …» وعيناها مملوءتان بالدموع ابتئاسًا على حالها، كما لو كانت هي تلك الفتاة البتول الخجولة الرقيقة الهاربة من الفلاحين مشوشي الفكر الذين حاصروها. لكن على أرض الواقع، كانت روز هي الفلاحة التي تصدم باتريك ذا المبادئ السامية، لكنه لم يحاول الهرب منها.
التقطت إحدى هذه الصور وشوهت ورق الحائط بكتابة مطلع قصيدة طرأت على ذهنها أثناء تناولها الشوكولاتة في السرير، ورياح متنزه جيبونز ترتطم بحوائط الجراج:
أهوج أحمله في رحميطفل أبوه مجنون … ولم تُضِف أية كلمة لذلك قط، وتساءلت أحيانًا عما إذا كانت تقصد «أحمق»، بدلًا من «أهوج»، لكنها لم تحاول مسح هذه الكلمة أيضًا قط.
•••
عاش باتريك في إحدى الشقق مع طالبَيْن آخرين من طلاب الدراسات العليا. عاش حياة بسيطة، لم يمتلك سيارة أو ينتمي إلى أيٍّ من نوادي الأخوية. واتسمت ملابسه ببعض ملامح ملابس الأكاديميين العادية الرثة. وكان أصدقاؤه من أبناء المعلمين ورجال الدين. وقال لروز ذات مرة إن والده كاد يتبرأ منه لاختياره طريق العلم، وإنه لن يدخل عالم التجارة أبدًا.
عادا معًا ذات مرة إلى تلك الشقة في فترة ما بعد الظهيرة لعلمهما بعدم وجود الطالبَيْن الآخرين فيها. كانت الشقة باردة. خلعا ملابسهما سريعًا، ودخلا في سرير باتريك. تعلَّق أحدهما بالآخر، وهما يرتعشان ويقهقهان. كانت روز هي من تقهقه؛ فقد شعرت بضرورة أن تكون مرحة دائمًا. أفزعتها احتمالية عدم تمكنهما من المضاجعة، ومن تعرضهما لمهانة كبيرة، واتضاح مرير لصور الخداع والغش، لكنها في الواقع هي من اتسمت بهذا الخداع والغش. لم يكن باتريك محتالًا أبدًا. تمكن من مضاجعتها بالرغم من كم الإحراج الهائل والاعتذارات، ومرَّ بمراحل اندهش لها من اللهاث والتخبط إلى شعور بالارتياح والسكينة. أما روز، فلم تساعده؛ فبدلًا من أن تبدي استسلامًا صادقًا، أخذت تتحرك كثيرًا متظاهرةً برغبة زائفة وعاطفة ملتهبة مزيفة. وقد سعدت بإتمام الأمر؛ ما كان عليها أن تزيف ذلك. لقد فعلا ما فعله الآخرون، أو بالأحرى ما فعله المحبُّون. فكَّرت في الاحتفال بالحدث، وما خطر على ذهنها هو تناول شيء لذيذ، ربما آيس كريم بالفواكه والمكسرات في بوومرز، أو فطيرة تفاح بصوص القرفة الساخن. لم تكن متأهبة على الإطلاق لما كان يفكر فيه باتريك، وهو البقاء في مكانهما والمحاولة مرة أخرى.
وفي المرة الخامسة أو السادسة لالتقائهما، انطفأ حماسها ورغبتها تمامًا.
سألها باتريك: «ما الخطب؟»
فأجابته: «لا شيء!» ثم عادت لانتباهها وتوهجها مجددًا، لكنها ظلت تنسى ما كان يحدث بينهما، وتدخلت تطورات جديدة في تفكيرها، واضطرت في النهاية للاستسلام لذلك الصراع بداخلها، متجاهلة باتريك إلى حد ما. وعندما تمكنت من التركيز معه ثانية، غمرته بمشاعر الامتنان. لقد كانت ممتنة الآن فعلًا، ورغبت في أن يسامحها — بالرغم من عدم قدرتها على النطق بذلك — على امتنانها غير الصادق، وعلى سلوكها المتسلط، وشكوكها.
ما الذي يدفعها لهذا القدر من التشكك؟ أخذت تفكر في هذا السؤال بينما كانت مستلقية في السرير، بينما ذهب باتريك لإعداد بعض القهوة الفورية. أليس من الممكن أن تتفق مشاعرها مع ما تتظاهر به؟ إذا كانت هذه المفاجأة الجنسية ممكنة، أليس من الممكن أن يكون أي شيء آخر ممكنًا أيضًا؟ لم يساعدها باتريك كثيرًا؛ فأخلاقه الرفيعة وتحقيره من قدر نفسه، بالإضافة إلى توبيخه لها، كلها أمور كانت تثبط من عزيمتها. لكن أليس العيب الحقيقي فيها هي؟ ألم تفكر في أن أي شخص سيقع في حبها لا بد أن يكون معيبًا على نحو ميئوس منه، وأن يتضح لها في النهاية أنه أحمق؟ الأمر الذي دفعها لملاحظة أي شيء أحمق يتعلق بباتريك، بالرغم من ظنها أنها تبحث عن الجوانب المبهرة التي يبرع فيها. في تلك اللحظة، وهي مستلقية في غرفته وعلى سريره وبين كتبه وملابسه وفرشاة أحذيته وآلته الكاتبة، وصور الرسوم المتحركة المثبتة حولها — جلست في السرير لتنظر إليها، وقد كانت صورًا لطيفة للغاية. لا بد أنه كان يسمح ببعض المرح عندما لا تكون هي موجودة في المكان — رأته شخصًا جديرًا بالحب، وذكيًّا، بل وظريفًا أيضًا. ليس بطلًا، وليس أحمق في الوقت نفسه. ربما يمكنهما أن يكونا شخصين عاديين. تمنَّت فقط ألا يبدأ في شكرها وتحسسها والتغزل فيها عند عودته إلى الغرفة. لم تحب ذلك التغزل في الواقع، فقد كانت تحب فكرة التغزل فقط. على الجانب الآخر، لم تكن تحبه أيضًا أن ينتقدها ويصحح أخطاءها. ثمة أمور كثيرة عزم على تغييرها فيها.
لقد أحبها باتريك، لكن ما الذي أحبَّه فيها؟ ليس لكنتها التي كان يحاول جاهدًا تغييرها، مع أنها كانت تثور عليه وتتصرف على نحو غير عقلاني في كثير من الأحيان، موضحةً أنها تتحدث مثل الجميع، وليس في حديثها أية لكنة ريفية، بالرغم من كل الأدلة التي تثبت عكس ذلك. لم تكن جرأتها الجنسية المتوترة كذلك بالشيء الذي أحبه باتريك (فقد ارتاح لتأكده من عذريتها مثلما ارتاحت هي بتأكده من كفاءته في هذا الشأن). كان باستطاعتها إجفاله بكلمة بذيئة، أو لكنة متشدقة. كانت لا تكفُّ عن الحركة والتحدث، مدمرةً صورتها في نظره، لكنه مع ذلك نظر إلى ما بداخلها، متجاوزًا كل عناصر الإلهاء التي كانت تصنعها حول نفسها، وأحب الصورة المطيعة بعض الشيء فيها، والتي لم تكن هي نفسها تراها. عقد باتريك آمالًا كبيرة على روز؛ فلكنتها يمكن القضاء عليها، وأصدقاؤها يمكن الانتقاص من شأنهم والتخلص منهم، ووقاحتها يمكن إثناؤها عنها.
ماذا عن باقي خصالها؟ النشاط، والكسل، والغرور، والسخط، والطموح؟ لقد أخفتها كلها. لم يكن لدى باتريك أية فكرة عنها. وبالرغم من كل الشكوك التي انتابتها حياله، لم ترغب قط في جعله يكف عن حبه لها.
ذهبا معًا في رحلتين.
كانت الرحلة الأولى إلى كولومبيا البريطانية، واستقلا فيها القطار أثناء عطلة عيد الفصح. أرسل والدا باتريك المال له لشراء تذكرته، ودفع هو تذكرة روز مستهلكًا كل ما لديه من مال في البنك ومقترضًا من أحد زميليه في السكن. وطلب منها ألا تخبر والديه بأنها لم تدفع ثمن تذكرتها، ورأت في ذلك أنه يطلب منها إخفاء فقرها عن والديه. لم يكن باتريك يعلم أي شيء عن ملابس السيدات، وإلا ما كان ليعتقد أن إخفاء فقر روز أمر ممكن، لكنها فعلت كل ما باستطاعتها في هذا الشأن؛ فاقترضت من الدكتورة هينشو معطف المطر الخاص بها والمناسب للطقس الساحلي. كان طويلًا بعض الشيء، لكنه فيما عدا ذلك كان ملائمًا لها بسبب ذوق الدكتورة هينشو الشبابي الأنيق. باعت، أيضًا، المزيد من الدم لتشتري كنزة صوفية ناعمة الوبر بلون الخوخ، كانت غير مهندمة على الإطلاق، وبدت فيها كفتاة ريفية تحاول التأنق. اعتادت روز إدراك هذه الأمور بعد شرائها للملابس، وليس قبله.
عاش والدا باتريك في جزيرة فانكوفر القريبة من سيدني. نحو نصف فدان من المرج الأخضر المُشَذَّب — أخضر في منتصف الشتاء؛ بدا منتصف مارس لروز كمنتصف الشتاء — منحدر نحو حائط صخري وشاطئ ضيق كثير الحصى وماء مالح. كان المنزل نصفه من الحجارة، والنصف الآخر من الجص والخشب. بُني المنزل على الطراز التيودوري، إلى جانب طرز أخرى. كانت جميع نوافذ الغرف كغرفة المعيشة، وغرفة الطعام، والمُختلى، مطلة على البحر. ونظرًا للرياح العاتية التي كانت تهبُّ على الشاطئ أحيانًا، كانت هذه النوافذ مصنوعة من ألواح الزجاج السميك — هذا ما افترضته روز — مثل نوافذ معرض السيارات في هانراتي. وحائط غرفة الطعام المواجه للبحر كان مصنوعًا كله من النوافذ المعقوفة للخارج ببروز بسيط، ما يجعلك تشعر عند الإطلال منها على الخارج بأنك تنظر عبر قعر زجاجة. كان البوفيه أيضًا معقوفًا للخارج ومطليًّا بطلاء لامع، وبدا ضخمًا كالقارب. كانت الضخامة — ولا سيما السُّمك — ملحوظة في كل مكان. المناشف والسجاجيد ومقابض السكاكين والشوك، كلها كانت سميكة. خيَّم، كذلك، صمت مطبق على المكان الذي زخر بقدر هائل من الترف وعدم الارتياح. بعد يوم أو نحو ذلك من وجود روز هناك، أصابها إحباط شديد جعلها تشعر بالوهن في معصميها وكاحليها، فوجدت مشقة في الإمساك بالسكين والشوكة؛ كما صعب عليها للغاية تقطيع اللحم البقري المشوي متقن الصنع ومضغه؛ وشعرت بانقطاع أنفاسها عند تسلقها السلالم. لم تعرف من قبل قط كيف يمكن لبعض الأماكن أن تتسبب في اختناق المرء لدرجة يشعر معها بأنه سيفقد حياته. لم تعرف ذلك بالرغم من كثرة الأماكن السيئة التي دخلتها من قبل.
في صبيحة أول يوم لها في المنزل، اصطحبتها والدة باتريك للتمشية في الأرض المحيطة بالمنزل، وأشارت أثناء ذلك إلى دفيئة النباتات الزجاجية، والكوخ الذي عاش فيه «الزوجان». كان كوخًا ساحرًا تتدلى من فوقه أشجار اللبلاب ويحتوي على نوافذ بمصراعين. كان أكبر من منزل الدكتورة هينشو. وكان «الزوجان» — وهما الخادمان — أكثر رقة في حديثهما، وأكثر تعقلًا واحترامًا من أي شخص يمكن أن تتذكره روز في هانراتي، وبالطبع أرقى في هذه الجوانب من أسرة باتريك.
أرتها والدة باتريك حديقة الزهور المحيطة بالمطبخ. كان هناك الكثير من الحوائط الحجرية المنخفضة.
وقالت لها: «لقد بنى باتريك كل هذه الحوائط.» كانت تشرح كل شيء بنوع من اللامبالاة التي تقترب من النفور.
فردَّت روز بصوت مليء بثقة زائفة، وتلهُّف، وحماس غير لائق: «إذن، فهو اسكتلندي بحق.» كان باتريك اسكتلنديًّا بالفعل، بالرغم من اسمه؛ إذ تعودُ أصول أسرة بلاتشفورد إلى جلاسجو. واستطردت روز قائلةً: «أليس أفضل عمال العمارة الحجرية اسكتلنديين؟» (كانت قد تعلمت مؤخرًا نطق كلمة اسكتلنديين على النحو الصحيح.) «لعل أسلافه عملوا بهذه المهنة.»
انكمشت خوفًا بعد ذلك لتفكر فيما بذلته من جهد، وادعائها السلاسة في الحديث والابتهاج، الأمر الذي تماشى مع الملابس الرخيصة المقلدة التي كانت ترتديها.
قالت والدة باتريك: «لا، لا أظن أن أسلافه كانوا من عمال العمارة الحجرية.» كان يشع منها شيء أشبه بالضباب؛ لقد كان الاستهانة والاستنكار والجزع. ظنت روز أنها ربما تكون قد استاءت مما قالته عن عمل أسرة زوجها بمهنة يدوية، لكنها عندما تعرفت عليها أكثر — أو بالأحرى لاحظتها فترة أطول؛ إذ كان من المستحيل التعرف عليها بشكل أفضل — أدركت أنها كانت تبغض أي شيء تخيُّلي أو تكهُّني أو افتراضي في الحديث، هذا فضلًا بالطبع عن كرهها لثرثرة روز. فأي اهتمام يتجاوز الاعتبار الواقعي للموضوع المعني — مثل الطعام أو الطقس أو الدعوات أو الأثاث أو الخدم — يبدو في نظرها سلوكًا سيئًا وخطيرًا ودالًّا على سوء الخلق. فمن الجيد النطق بعبارات مثل: «الطقس اليوم دافئ»، وليس «هذا اليوم يذكرني بما اعتدنا فعله من …» لقد كرهت تذكر الناس لأي شيء.
كانت الطفلة الوحيدة لأحد أقطاب صناعة الأخشاب الأوائل في جزيرة فانكوفر، وقد وُلِدت في إحدى المستوطنات الشمالية المندثرة، لكن كلما حاول باتريك دفعها للتحدث عن الماضي، وكلما سألها عن أبسط المعلومات — مثل البواخر التي كانت تظهر على الساحل، والعام الذي ترك الناس فيه المستوطنة، وأي طريق كان أول خط سكة حديد لنقل الأخشاب — كانت ترد عليه في حنق: «لا أعلم. كيف لي أن أعلم؟» وكان هذا الحنق أقوى نبرة يمكن ملاحظتها في حديثها.
لم يكترث والد باتريك أيضًا بهذا الاهتمام بالماضي؛ فالكثير من جوانب شخصية باتريك — بل أغلبها — بدا صادمًا له.
صاح فيه على المائدة: «لماذا تريد معرفة كل ذلك؟» كان رجلًا قصيرًا عريض المنكبين متورد الوجه شرسًا على نحو مذهل. كان باتريك يشبه والدته، التي اتسمت بطول القامة والشعر الأشقر والأناقة في أبسط صورها الممكنة، كما لو كان أسلوبها وملابسها وأدوات زينتها منتقاة للتعبير عن الحيادية بشكل مثالي.
قال باتريك بصوت غاضب يوحي بالغرور، لكنه متهدج وعصبي في الوقت نفسه: «لأنني مهتم بالتاريخ.»
فقلَّدته أخته ماريون على الفور ساخرةً منه ومن تهدُّج صوته، وعقَّبت: «لأنني مهتم بالتاريخ!»
كانت الأختان جوان وماريون أصغر سنًّا من باتريك، وأكبر من روز، لكنهما على عكس باتريك، لم تُظهرَا أي نوع من العصبية، أو عدم الرضا عن النفس. وقد سألتا روز في مرة سابقة أثناء تناول الطعام:
«هل تركبين الخيول؟»
«كلا.»
«هل تبحرين؟»
«كلا.»
«هل تلعبين التنس؟ الجولف؟ تنس الريشة؟»
«كلا، كلا، كلا.»
فقال والدهما: «لعلها مثقفة عبقرية مثل باتريك.» فبدأ باتريك في التحدث بصوت عالٍ عن المنح الدراسية والجوائز التي حصلت عليها روز، ما أصابها بالهلع والإحراج. ما الذي كان يطمح فيه؟ هل افتقر لأي نوع من البصيرة، ما جعله يعتقد أن هذا التفاخر سيجعله يتغلب عليهم، ويجلب عليه أي شيء آخر غير الازدراء؟ كان من الواضح أن الأسرة متفقة في اعتراضها على باتريك، وصيحاته المتفاخرة، وبغضه للرياضة والتليفزيون، واهتماماته الثقافية. لكن هذا التحالف كان مؤقتًا فقط؛ فبُغض الأب لابنتيه كان أقل فقط عند مقارنته ببغضه لباتريك. لقد كان ينتقدهما بشدة أيضًا عندما تسنح له الفرصة لذلك. كان يسخر من مقدار الوقت الذي تقضيانه في ممارسة الألعاب، ويشكو من تكلفة المعدات والقوارب والخيول التي تمتلكانها. هذا فضلًا عن التشاجر معًا حول موضوعات ملتبسة متعلقة بالنقاط المحرزة في المباريات والاقتراضات والخسائر. شكا الجميع أيضًا للأم من الطعام، مع أنه كان وفيرًا وشهيًّا. أما الأم، فكان حديثها مقتضبًا قدر المستطاع مع الجميع، ولم تستطع روز لومها في ذلك في الحقيقة؛ فهي لم تتصور قط اجتماع هذا القدر من التشاحن الحقيقي في مكان واحد. كان بيلي بوب متعصبًا ومتذمرًا؛ وفلو كانت متلونة، وظالمة، ومولعة بالنميمة؛ واعتاد والدها في حياته إصدار الأحكام القاسية والاستنكار الدائم، لكن مقارنةً بأسرة باتريك، اتسم جميع قوم روز بالبهجة وخفة الدم.
سألت روز باتريك: «هل هذا حالهم دائمًا؟ هل أنا السبب في ذلك؟ أنا لا أروق لهم.»
فأجابها باتريك بشيء من الرضا: «أنت لا تروقين لهم لأنني اخترتُكِ.»
استلقيا على الشاطئ المليء بالصخور بعد حلول الظلام، وهما يرتديان معطفي المطر. تعانقا وقبَّل أحدهما الآخر، وحاولا ما هو أكثر من ذلك، لكن على نحو غير مريح، ودون جدوى. خلَّفت الطحالب البحرية بعض البقع على معطف الدكتورة هينشو الذي ارتدته روز. قال باتريك: «أعرفتِ لماذا أحتاج إليكِ؟ إنني في أمس الحاجة إليكِ!»
•••
اصطحبت روز باتريك إلى هانراتي، ولم يقلَّ الأمر سوءًا عما تصورت، فتحملت فلو عناء تحضير وجبة من شرائح البطاطس، واللفت، والسجق الريفي الكبير الذي جلبه لها بيلي بوب من متجر الجزارة كهدية خاصة. مقت باتريك الطعام ذا القوام الخشن، ولم يحاول التظاهر بأنه يتناوله. فُرِشت الطاولة بمفرش بلاستيكي، وتناولوا الطعام في إضاءة مصباح الفلورسنت. كانت قطعة الزينة الموضوعة في منتصف الطاولة جديدة، ومنتقاة خصوصًا لهذه المناسبة. كانت عبارة عن بجعة بلاستيكية ذات لون أخضر مائل للصفرة، بها شقوق في الجناحين حُشِرت فيها مناديل ورقية ملونة مطوية. وعند تذكير بيلي بوب بأخذ أحد المناديل، نخر رافضًا. وفيما عدا ذلك، كان سلوكه حسنًا على نحو بائس. فقد وصلت إليه — أو على الأصح وصلت إليه وإلى فلو — أنباء عن الفوز الذي حققته روز، ونقل هذه الأنباء القوم الأعلى منهما شأنًا في هانراتي؛ لولا ذلك، ما كانا ليصدقا هذه الأنباء. فزبائن متجر الجزارة من السيدات — السيدات الرائعات؛ زوجة طبيب الأسنان وزوجة الطبيب البيطري — أخبرن بيلي بوب عن أنهن سمعن أن روز انتقت لنفسها رفيقًا مليونيرًا أو ابن مليونير. وعلمت روز أن بيلي بوب سيعود للعمل في اليوم التالي محملًا بقصص عن المليونير أو ابن المليونير، ستركز جميعها على سلوكه — أي سلوك بيلي بوب — الصريح والجريء في هذا الموقف.
«لقد استضفناه وقدَّمنا له بعض السجق. ولم نهتم من أين أتى!»
علمت روز أيضًا أن فلو سيكون لها تعليقاتها بدورها، وأنها لن تغفل عن عصبية باتريك، وستتمكن من محاكاة صوته ويديه كثيرتي الحركة اللتين تسببتا في سقوط زجاجة الكتشاب أثناء العشاء. لكن في الوقت الحالي وأثناء تناول الطعام، جلس كلاهما منحنيًا بظهره على المائدة على نحو بائس. حاولت روز بدء الحديث؛ فتحدثت بابتهاج وتكلف، كما لو كانت محاوِرة في أحد البرامج وتحاول إقناع بعض الأشخاص المحليين البسطاء بالتحدث. شعرت بالخجل على عدة مستويات لم يمكنها حصرها؛ فقد خجلت من الطعام والبجعة ومفرش الطاولة البلاستيكي؛ خجلت من باتريك، المتغطرس الكئيب، الذي عبس وجهه متفاجئًا عندما مررت له فلو علبة أعواد الأسنان؛ خجلت من فلو لجبنها ونفاقها وادعاءاتها؛ وفوق كل ذلك خجلت من نفسها؛ فلم تستطع حتى التحدث والظهور بمظهر يخلو من التكلف بأي شكل من الأشكال. ومع وجود باتريك، لم تستطع التراجع في لكنتها للتحدث بلكنة أشبه بلكنة فلو وبيلي بوب وأهل هانراتي. لكنها صارت تسمعها بأذنيها الآن. واتضح لها أنها لا تتضمن اختلافًا في النطق فحسب، وإنما أيضًا أسلوبًا مختلفًا تمامًا في الكلام يجعله يبدو كالصياح؛ إذ تبدو الكلمات منفصلة ومُفخَّمة ليتمكن الناس من قذف بعضهم البعض بها. كان حديث الناس أشبه بسطور مقتبسة من الروايات الكوميدية الريفية المبتذلة. وبرؤية ذلك من منظور باتريك، وسماعه بأذنيه، شعرت روز أيضًا بضرورة الاندهاش.
حاولت جذب الحاضرين للحديث عن التاريخ المحلي، وبعض الأمور التي اعتقدت أن باتريك قد يهتم بها؛ فبدأت فلو في التحدث بالفعل، فلا يمكنها أن تظل صامتة كل هذا الوقت، أيًّا كانت هواجسها، واتخذت المحادثة منحًى أبعد ما يكون عن أي شيء نوته روز.
قالت فلو: «الخط الذي عشت به عندما كنت صغيرة السن كان أسوأ مكان على الإطلاق للانتحار.»
أوضحت روز لباتريك: «الخط هو أحد الطرق الريفية.» ساورتها الشكوك بشأن ما سيلي ذلك، وكانت محقة في شكوكها؛ إذ بدأ باتريك يستمع لقصة الرجل الذي شق رقبته بنفسه من الأذن للأذن، والرجل الذي أطلق النار على نفسه، لكنه لم يمت، فأعاد تعبئة السلاح وأطلق النار مجددًا ليتمكن في النهاية من قتل نفسه بالفعل، والرجل الذي شنق نفسه باستخدام سلسلة مشابهة للسلاسل المستخدمة في الجرارات. لذا، كان من العجيب أن رأسه لم ينفصل عن جسده.
أخطأت فلو في نطق بعض الكلمات أثناء حديثها.
واصلت الحديث بعد ذلك عن امرأة لم تنتحر، لكنها توفيت في منزلها، ولم يكتشف أحد ذلك إلا بعد أسبوع من وفاتها. كان ذلك في فصل الصيف. وطلبت من باتريك تصور الأمر. كل ذلك حدث في إطار خمسة أميال فحسب من المكان الذي وُلِدت فيه. كانت تستعرض أدلة على ما تقوله فحسب، ولا تحاول إفزاع باتريك، على الأقل بقدر يتجاوز ما هو مقبول اجتماعيًّا. لم تقصد أيضًا إرباكه. لكن كيف يمكنه إدراك ذلك؟
قال باتريك لروز عند مغادرتهما هانراتي على متن الحافلة: «لقد كنتِ محقة. إنه مقلب نفايات بالفعل. لا ريب أنكِ سعيدة بهروبك من هنا.»
شعرت روز على الفور أنه ما كان ينبغي أن يقول لها ذلك.
أضاف باتريك: «ليست هذه بالطبع والدتكِ الحقيقية. فأنا على يقين أن والديك لا يمكن أن يكونا على هذه الشاكلة.» لم يرُق لروز قول ذلك أيضًا، مع أن ذلك أيضًا هو رأيها. فقد رأت أنه يحاول منحها خلفية اجتماعية أكثر رقيًّا، ربما كمنازل أصدقائه الفقراء: بعض الكتب، صينية شاي، بياضات خضعت للإصلاحات، ذوق جيد في الملابس؛ وأشخاص مثقفون فخورون ومتعبون. فكرت روز غاضبةً في مدى جُبنه، لكنها كانت تعلم أنها أيضًا تتسم بالجبن؛ فهي لا تعرف كيف تتعايش مع قومها أو مطبخ منزلها أو أي شيء آخر ذي صلة. بعد عدة أعوام، ستتعلم كيف تستخدم هذه الأمور، وستتمكن من إمتاع أصحاب التفكير السليم أو ترهيبهم في حفلات العشاء بمنحهم لمحات عن المنزل الذي عاشت فيه قديمًا. لكنها في تلك اللحظة شعرت بالارتباك والتعاسة.
مع ذلك، بدأت روز تشعر بالولاء؛ فبعد أن تيقنت من هروبها من ذلك المكان، تكونت طبقة أكثر قوة من الولاء والحماية حول كل ذكرى لديها، وحول المتجر والبلدة، حول الريف غير المميز ذي الطابع الفاتر والشجيرات الصغيرة. وصارت تقارن هذه الذكريات سرًّا برؤية باتريك للجبال والمحيط وقصره المبني من الحجارة والأخشاب، ووجدت أن ولاءها اتسم بقدر أكبر من الفخر والعناد مقارنة بولاء باتريك.
لكن اتضح لها بعد ذلك أنه لن يتخلى عن أي من هذه الأشياء.
•••
قدَّم لها باتريك خاتمًا ماسيًّا، وصرَّح لها بتخليه عن طموحه في أن يصير مؤرخًا من أجلها، وأنه سوف يعمل مع والده.
قالت له إنها اعتقدت أنه يكره عمل والده. فأجابها بأنه لا يستطيع تحمُّل ما يفرضه هذا الموقف عليه من أعباء بعد أن صار لديه الآن زوجة ينبغي عليه إعالتها.
اعتبر والد باتريك أن رغبة ابنه في الزواج — حتى وإن كانت الزوجة هي روز — علامة على تعقُّله. امتزجت في تلك الأسرة مسحات من الكرم بكل ما لديهم من سوء النوايا؛ فعندما علم والده بقراره، عرض عليه في الحال وظيفة في أحد متاجره، وشراء منزل له ولعروسه. لم يستطع باتريك رفض هذا العرض، شأنه شأن روز في عدم قدرتها على رفض عرض الزواج، وكلاهما كانت أسبابه غير مادية.
سألته روز: «هل سنسكن في منزل مثل منزل والديك؟» إذ شعرت بضرورة بدء حياتهما بعيدًا عن ذلك النمط.
«حسنًا، ربما ليس في البداية. فلن يكون …»
«لا أرغب في منزل كمنزلهما! لا أرغب في العيش بهذا الشكل!»
«سوف نعيش كما تشائين، ونسكن في أي منزل تفضلينه.»
شريطة ألا يكون مقلب نفايات، هكذا فكرت روز بخبث.
كانت الفتيات، اللاتي لا تكاد روز تعرفهن، يوقفنها ويطلبن منها مشاهدة الخاتم، ويبدين إعجابهن به، ويتمنين لها السعادة. وعند عودتها لهانراتي في إحدى عطلات نهاية الأسبوع — لكن وحدها في تلك المرة، الأمر الذي شكرت عليه الرب — التقت بزوجة طبيب الأسنان في الشارع الرئيسي.
«يا إلهي، روز! يا له من أمر رائع! متى ستعودين هنا ثانيةً؟ ترغب السيدات في القرية في دعوتك إلى تناول الشاي معهن!»
لم يسبق لهذه المرأة أن تحدثت مع روز، ولم تعكس أي شيء يدل على أنها تعرفها من قبل. صارت الطرق تتفتح أمام روز الآن، والعراقيل تتلاشى. وأسوأ ما في الأمر وأكثره خزيًا أن روز، بدلًا من أن تقاطع زوجة طبيب الأسنان، تورَّد وجهها وأظهرت خاتمها متململة وهي توافق على دعوة السيدة معبرة عن إعجابها بالفكرة. وعندما كان الناس يتحدثون عن مدى السعادة التي من المفترض أن تشعر بها، كانت تفكر في أنها سعيدة بالفعل. كان الأمر بهذه البساطة؛ إذ تحولت إلى فتاة مخطوبة في الحال دون أي عناء وبريق الألماس في يديها. سألها الناس عن المكان الذي ستسكن فيه، وأجابت: «كولومبيا البريطانية!» فكان ذلك يضفي مزيدًا من السحر على القصة. وكانوا يسألونها: «هل المكان جميل حقًّا هناك؟ ألا يحل الشتاء هناك أبدًا؟
وكانت تجيبهم: «نعم، جميل! لا، لا يوجد شتاء!»
•••
استيقظت روز مبكرًا، وارتدت ملابسها، وخرجت من الباب الجانبي لجراج منزل الدكتورة هينشو. كان الوقت مبكرًا للغاية، ولم تكن هناك أية حافلات، فمشت في المدينة وصولًا إلى شقة باتريك، وعبرت المتنزه. وعند النصب التذكاري للحرب في جنوب أفريقيا، شاهدت كلبين يثبان ويلعبان وامرأة عجوزًا تراقبهما ممسكةً بلجاميهما. كانت الشمس قد أشرقت لتوها، ولمعت أشعتها على جلد الكلبين الشاحبين. بلل الندى العشب، وتفتحت زهور النرجس.
فتح باتريك الباب، أشعث، ناعسًا مقطب الجبين، مرتديًا بيجامته المخططة باللونين الرمادي والكستنائي.
«روز! ما الأمر؟»
لم تستطع النطق. جذبها إلى داخل الشقة، فطوَّقته بذراعيها، وخبأت وجهها في صدره، ثم قالت بصوت مسرحي: «أرجوك يا باتريك … أرجوك لا تتزوجني.»
«هل أنتِ مريضة؟ ما الخطب؟»
فكررت ما قالته، لكن بقدر أقل من اليقين: «أرجوك لا تتزوجني.»
«أنتِ مجنونة.»
لم تلمه على هذا التفكير؛ فقد بدا صوتها غير طبيعي على الإطلاق، ومتملقًا، وسخيفًا. وبمجرد أن فتح لها الباب، ووقفت أمامه على حقيقته بعينيه الناعستين وبيجامته، رأت أن ما أتت لفعله كان أمرًا جللًا ومستحيلًا. كان عليها أن تشرح له كل شيء، لكنها بالطبع لم تفعل. لم تستطع أن تجعله يرى احتياجها لقول ما تريد أن تقوله. لم تجد نبرة الصوت وتعبير الوجه اللذين يساعدانها.
سألها باتريك: «هل هناك ما يضايقك؟ ماذا حدث؟»
«لا شيء.»
«كيف وصلتِ إلى هنا؟»
«سيرًا على الأقدام.»
كانت تقاوم رغبتها في الذهاب إلى دورة المياه؛ إذ بدا لها أنها إذا ذهبت، فسيضعف ذلك من قوة المسألة التي جاءت لمناقشتها، لكنها اضطرت لذلك، بعد أن قالت لباتريك: «انتظر دقيقة، سأذهب إلى دورة المياه.»
وعندما خرجت، وجدت باتريك وقد أعمل الغلَّاية الكهربائية، وصب القهوة الفورية. بدا رقيقًا ومتحيرًا.
قال لها: «لم أَفِق من نومي بعد. والآن، اجلسي. أولًا، هل أنت في فترة ما قبل الحيض؟»
فأجابته بالنفي، لكنها أدركت مرتاعةً أنها كذلك بالفعل، وأن بإمكانه تبين ذلك، لأنهما كانا قلقين الشهر الماضي.
«حسنًا، إذا لم تكوني كذلك، وما من شيء تسبب في إزعاجك، فما سبب كل ذلك؟»
فردت: «لا أرغب في الزواج.» متراجعةً عن العبارة القاسية: «لا أرغب في الزواج منك.»
«متى توصلت إلى هذا القرار؟»
«منذ فترة طويلة. هذا الصباح.»
كانا يتحدثان همسًا. نظرت روز في الساعة التي تخطت السابعة بدقائق قليلة.
«متى سيستيقظ رفيقاك؟»
«الساعة الثامنة تقريبًا.»
توجهت روز إلى الثلاجة قائلةً: «هل هناك من حليب للقهوة؟»
فقال باتريك: «افتحي الباب بهدوء.» لكن تحذيره جاء متأخرًا.
فردت بنبرتها الساذجة الغريبة: «آسفة.»
«لقد خرجنا للتمشية الليلة الماضية، وكان كل شيء على ما يرام. وهذا الصباح، تأتين لتخبريني بأنك لا ترغبين في الزواج. لماذا؟»
«ليست لدي رغبة في ذلك. لا أريد أن أتزوج وحسب.»
«فماذا إذن تريدين؟»
«لا أعلم.»
ظل باتريك يحدق فيها متجهمًا وهو يشرب القهوة. وبالرغم من اعتياده التضرع لها قائلًا: «هل تحبينني؟ هل تفعلين حقًّا؟» فلم يطرح هذا الموضوع الآن.
«حسنًا، أنا أعلم.»
«ماذا؟»
«أعلم من تحدَّث معكِ.»
«لم يتحدث أحد معي.»
«بل هذا ما حدث. إنها الدكتورة هينشو.»
«كلا.»
«إن آراء بعض الناس عنها ليست جيدة؛ فهم يعتقدون أنها تؤثر على الفتيات اللاتي يعشن معها، ولا تحب أن يكون لهن أصدقاء من الشباب، أليس كذلك؟ هذا ما قلتِهِ لي أنتِ أيضًا. إنها لا تحب أن يعشن حياة طبيعية.»
«لا، ليس هذا هو السبب.»
«ما الذي قالته لكِ، يا روز؟»
فأجابت وقد شرعت في البكاء: «لم تقل أي شيء.»
«هل أنتِ متأكدة؟»
«يا إلهي، باتريك! أنصت إليَّ أرجوك. لا يمكنني الزواج بك أرجوك. لا أعرف لماذا، لكنني لا أستطيع. أرجوك، أنا آسفة، صدقني لا يمكنني.» أخذت تهذر أمامه، وتبكي. فطلب منها أن تهدأ: «ستوقظينهما!» ثم رفعها — أو جذبها — من على كرسي المطبخ، واصطحبها إلى غرفته حيث جلست على السرير، وأغلق الباب. وطوت ذراعيها على بطنها، وأخذت تتأرجح جيئة وذهابًا.
«ما الخطب يا روز؟ أأنتِ مريضة؟!»
«يصعب عليَّ إخبارك وحسب.»
«إخباري بماذا؟»
«ما أخبرتُك به لتوي!»
«أعني هل اكتشفتِ إصابتك بالسل أو شيء من هذا القبيل؟»
«كلا!»
سألها مشجعًا لها على الإجابة: «هل هناك شيء في عائلتك لم تخبريني به؟ جنون مثلًا؟»
فأجابته: «كلا!» وأخذت تهتز وتبكي.
«ما الأمر إذن؟»
ردت: «لا أحبك! لا أحبك! لا أحبك!» ثم سقطت على السرير وأخفت رأسها في الوسادة. «أنا آسفة، آسفة حقًّا. الأمر خارج عن إرادتي.»
وبعد لحظات، قال باتريك: «حسنًا، إذا كنتِ لا تحبينني، فهذا أمر واقع. ولن أجبرك على أن تفعلي.» بدا صوته متأزمًا وناقمًا، الأمر الذي ناقض عقلانية حديثه. «إنني فقط أتساءل عما إذا كنتِ تعلمين ما ترغبين فيه حقًّا. لا أظن أنك تعلمين. لا أظن أن لديك أية فكرة عما ترغبين فيه. فأنت فقط تمرين بحالة نفسية سيئة.»
استدارت روز وقالت: «ليس لزامًا عليَّ أن أعرف ما أرغب فيه.» شعرت بالراحة عند قولها ذلك. استدارت واستطردت: «لم أحبك قط.»
«اخفضي صوتك، سوف توقظينهما. يجب أن نتوقف عن ذلك.»
«لم أحبك قط، لم أرغب في ذلك يومًا. لقد كان خطأ.»
«حسنًا، حسنًا. لقد أوضحتِ وجهة نظرك.»
«لماذا ينبغي عليَّ أن أحبك؟ لماذا تتصرف كما لو أنني من المفترض أن أعاني من مشكلة ما إذا لم أحبك؟ أنت تحتقرني. تحتقر عائلتي، والماضي الذي عشته، وتعتقد أنك تقدم لي معروفًا عظيمًا …»
قال باتريك: «لقد وقعتُ في غرامك، ولا أحتقرك يا روز. بل على العكس، أنا أعبدك.»
قالت روز: «بل أنت جبان، ومتفاخر.» نهضت عن السرير والسعادة تملؤها بعد أن قالت ذلك. شعرت بالحماس. ثمة أمور أخرى ستقولها، أمور رهيبة.
«أنت لا تعلم حتى كيف تمارس الحب. لقد أردتُ دومًا التخلص من هذه العلاقة منذ بدايتها، لكنني شعرت بالأسف عليك. لا تنتبه إلى طريقك، ودائما ما تُسقط الأشياء من حولك، لمجرد أنك لا تكترث بملاحظة أي شيء. أنت دومًا مشغول الذهن، ومتفاخر. هذا أمر سخيف للغاية، فأنت لا تعرف حتى كيف تتفاخر على نحو صحيح. وإذا أردت التأثير في الناس، ما كنت لتفعل ذلك أبدًا. فما تفعله يجعلهم يسخرون منك!»
جلس باتريك على السرير ونظر إليها منصتًا لكل ما تقوله. أرادت تسديد اللكمات له، وقول أشياء أكثر سوءًا وقبحًا وقسوة. التقطت نفسًا، وأدخلت الهواء إلى رئتيها لتحول دون التعبير عما كان يعتريها بالداخل.
قالت بشراسة: «لا أرغب في رؤيتك ثانيةً أبدًا!» لكنها استدارت عند وصولها للباب، وقالت بصوت طبيعي نادم: «وداعًا.»
•••
أرسل لها باتريك رسالة قال فيها: «لا أفهم ما حدث في ذلك اليوم، وأرغب في التحدث معك بشأنه، لكنني أعتقد أنه ينبغي علينا الانتظار أسبوعين لا يرى فيهما أحدنا الآخر، ولا نتحدث؛ لنتبين حقيقة مشاعرنا بنهاية تلك الفترة.»
نسيت روز تمامًا إرجاع الخاتم له، وعندما خرجت من المبنى الذي توجد فيه شقته ذلك الصباح، كانت لا تزال ترتديه. لم تستطع العودة إلى الداخل، وأيضًا كان الخاتم قيمًا للغاية بحيث لا يمكن إرساله بالبريد، فاستمرت في ارتدائه ولم تخلعه، وكان السبب الرئيسي في ذلك هو عدم رغبتها في إخبار الدكتورة هينشو بما حدث. وشعرت بالارتياح عند تلقيها رسالة باتريك؛ إذ رأت أن بإمكانها إرجاع الخاتم إليه عندما تلتقيه.
فكَّرت فيما قاله باتريك عن الدكتورة هينشو. لا ريب أن ثمة جانبًا من الحقيقة فيما قاله، وإلا لماذا عزفت تمامًا عن إخبارها بانفصالها عن باتريك، وما هو سبب عدم رغبتها في مواجهة موافقة الدكتورة العقلانية على هذا القرار، وتلقِّي تهانيها المتحفظة التي تكشف ارتياحها؟
فكان ما قالته للدكتورة هينشو أنها ستمتنع عن رؤية باتريك أثناء استعدادها للامتحانات. ولاحظت روز ارتياح الدكتورة هينشو لذلك.
أخفت عن الجميع ما حدث، فلم تكن الدكتورة هينشو وحدها هي من لا ترغب روز في معرفتها بالأمر؛ فلم ترغب روز أن يتوقف الآخرون عن حسدهم لها؛ لقد كانت خبرة جديدة تمامًا عليها.
حاولت التفكير فيما ستفعله، لم يكن من الممكن أن تستمر في الإقامة بمنزل الدكتورة هينشو. كان من الواضح أنها إذا هربت من باتريك، فينبغي عليها الهروب من الدكتورة هينشو أيضًا. ولم ترغب كذلك في الاستمرار بالكلية مع أشخاص يعلمون بانفصالها عن خطيبها، ومع أولئك الفتيات اللاتي سيهنئنها الآن ويخبرنها أنهن علمن من البداية أن علاقتها بباتريك مجرد صدفة. ستضطر إذن للبحث عن وظيفة.
كان رئيس أمناء المكتبة قد عرض عليها وظيفة في فصل الصيف، لكن ربما تكون الدكتورة هينشو وراء هذا الاقتراح، وقد لا يستمر هذا العرض عند تركها المنزل. وعلمت أنها بدلًا من المذاكرة استعدادًا للامتحانات، سيتحتم عليها الذهاب إلى وسط المدينة لتتقدم للعمل كموظفة حفظ الملفات في مكاتب التأمين، أو في شركة التليفونات، أو في المتاجر الكبيرة. أخافتها الفكرة، وواصلت الاستذكار. كان ذلك هو الشيء الوحيد الذي تجيده حقًّا؛ فهي في النهاية طالبة حاصلة على منحة دراسية.
بعد ظهيرة يوم السبت، وبينما كانت تعمل في المكتبة، رأت باتريك. لم تكن مصادفة؛ وإنما ذهبت إلى الطابق السفلي محاوِلةً عدم إحداث أية ضجة عند نزولها على السلالم المعدنية الحلزونية. وجدت لنفسها مكانًا في منطقة تخزين الكتب، في ظلام شبه تام، لتتفقد ركن القراءة الذي اعتاد الجلوس فيه. نظرت، ولم تستطع رؤية وجهه، لكنها رأت عنقه الطويل الوردي، وقميصه القديم المنقوش بالمربعات الذي اعتاد ارتداءه أيام السبت. عنقه الطويل، وكتفاه النحيلتان. لم يعد يزعجها أو يخيفها؛ لقد تحررت منه، وصار بإمكانها النظر إليه مثلما تنظر إلى أي شخص آخر. كان بإمكانها أن تشعر نحوه بالتقدير؛ فقد أحسن التصرف. لم يحاول إثارة شفقتها، ولم يزعجها، ولم يتحرش بها بالخطابات والمكالمات الهاتفية المثيرة للشفقة. لم يذهب إلى منزل الدكتورة هينشو ويجلس أمام الباب. لقد كان شخصًا جديرًا بالاحترام، ولن يعلم أبدًا مدى تقديرها لذلك، وشعورها بالامتنان له. اعتراها في تلك اللحظة شعور بالخجل من كل ما قالته له، فلم يكن صحيحًا، أغلبه لم يكن كذلك؛ فقد كان يعرف كيف يمارس الحب. تأثرت عند رؤيتها له وحزنت، ورق قلبها، وشعرت بالشوق له. أرادت أن تمنحه شيئًا ما، وتمنَّت أن تمحو تعاسته.
تشكَّلت في ذهنها صورة مقنعة لنفسها وهي تركض برقَّة نحو الركن الذي يجلس به باتريك، وترتمي عليه لتطوِّقه بذراعيها من الخلف، معيدةً له كل شيء سلبته منه. لكن هل سيقبل ذلك منها؟ هل لا يزال يرغب في ذلك؟ تخيلتهما وهما يضحكان ويبكيان ويفسران ما حدث ويسامح كل منهما الآخر. «أحبكَ. أحبكَ حقًّا. سيكون كل شيء على ما يرام الآن. ما قلته كان بشعًا، ولم أكن أقصده. كانت نوبة من الجنون. أحبكَ.» كان ذلك إغراءً كبيرًا لها؛ ولا يمكنها مقاومته. شعرت بالرغبة في الاندفاع، بيد أنها لم تستطع أن تحدد ما إذا كان هذا الاندفاع أشبه بالسقوط من أعلى جرف أم الولوج إلى فراش دافئ من الزهور والأعشاب الجميلة.
لم تتمكن روز من مقاومة هذا الإغراء في النهاية، وفعلت ما تخيلته.
•••
عندما عادت روز بذهنها إلى هذه اللحظة من حياتها وتحدثت عنها — إذ مرت بمرحلة يمر بها أغلب الناس في يومنا هذا، يُفصحون فيها بحرية عن أكثر القرارات خصوصية في حياتهم لأصدقائهم أو أحبائهم أو لغرباء تعرفوا عليهم في حفلات وربما لن يروهم ثانيةً مطلقًا، والذين يفعلون ذلك بدورهم أيضًا — قالت إن عاطفة الصداقة تغلَّبت عليها، ولم تستطع مقاومة رؤيته جالسًا أمامها بعنقه المكشوف المنحني. وأوضحت أكثر أنها الرغبة. قالت إنها ركضت نحوه، وتعلَّقت به، وقضت على شكوكه، وقبَّلته، وبكت، وعادت إليه لأنها لم تعلم كيف تعيش دون حبه ودون وعده لها برعايتها؛ لقد كانت خائفة من العالم ولم تستطع التفكير في أي خطة أخرى لحياتها. وعندما كانت تنظر للحياة من منظور اقتصادي، أو كانت مع أشخاص يفعلون ذلك، كانت تقول إن أبناء الطبقة الوسطى فقط هم من يملكون حرية الاختيار، وأنها لو كانت تملك ثمن تذكرة القطار إلى تورونتو، لكانت حياتها قد تغيرت.
لكنها كانت تقول أحيانًا بعد ذلك إن كل ذلك ليس سوى هراء. ولم يكن إحياء باتريك وبث السعادة فيه من جديد سوى ادعاء وخيلاء. كانت تريد معرفة ما إذا كانت ستتمكن من ذلك أم لا. لم تستطع مقاومة هذا الاختبار لقوتها. وأوضحت فيما بعد أنها دفعت ثمن ذلك؛ فقالت إنها تزوجت من باتريك لعشرة أعوام، وطوال هذه المدة، ظلت مشاهد الانفصال الأول والمصالحة بينهما تتكرر على نحو دوري، وبدا أنها تعيد على مسامعه كل ما قالته في المرة الأولى، وكل ما امتنعت عن قوله وقتها، وغير ذلك الكثير مما خطر لها. تمنَّت لو أنها لم تخبر الناس (لكنها تظن أنها فعلت) بأنها اعتادت ضرب رأسها في عمود السرير، وألقت ذات مرة وعاء مرق اللحم من نافذة غرفة الطعام؛ وما كان منها إلا أن شعرت بالخوف والاشمئزاز الشديد مما فعلته واستلقت على السرير مرتعدةً ترجو من باتريك أن يسامحها. وكان يفعل. كانت أحيانًا تهاجمه، وفي أحيان أخرى كان يضربها. وفي الصباح التالي يستيقظان مبكرًا ويعدَّان فطورًا خاصًّا ويجلسان لتناول اللحم المقدد والبيض ويشربان القهوة المصفاة، منهكين ومتحيرين، ويتعامل كل منهما مع الآخر بلطف خجول.
سألها الآخرون: «ما السبب وراء ردود الأفعال هذه في نظرك؟»
«هل تعتقدين أنه ينبغي أن يحصل الزوجان على إجازة؟ إجازة أحدهما من الآخر؟ إجازة يقضيانها وحدهما؟»
وكانت تجيبهم بأنها اكتشفت أن مثل هذه الجهود كانت زائفة ومضيعة للوقت، لكنها محاولات تنجح في وقتها فقط. وبعد أن يهدآ، كانا يقولان إن أغلب الناس يمرون على الأرجح بمثل هذه الأمور في زيجاتهم، وكانا يعرفان بالطبع أغلب من كانوا يمرون بذلك. ولم ينفصلا إلا بعد وقوع قدر كافٍ من الضرر، أو بالأحرى عند الوصول إلى ضرر كاد يكون قاتلًا. وربما كان سبب عدم انفصالهما هو الانتظار حتى حصلت روز على وظيفة، وصارت تجني مالها الخاص، وهو ما يمكن اعتباره سببًا طبيعيًّا في النهاية.
ما لم تفصح عنه لأحد قط وما لم تكشفه لأحد هو أنها فكرت أحيانًا في أن سبب انفصالها عن باتريك لم يكن الشفقة أو الرغبة أو الجبن أو الادعاء، وإنما شيء مختلف تمامًا، كالرغبة في السعادة. لم تستطع الإفضاء بذلك، مقارنةً بكل ما أفصحت عنه من أمور أخرى. بدا الأمر غريبًا؛ ولم تستطع تبريره. لم تكن تعني أنهما تمتعا بأوقات طبيعية مثالية في زواجهما، استمتعا فيها معًا بلصق ورق الحائط والإجازات والوجبات والتسوق والقلق عند مرض ابنتهما، وإنما ما عنته هو أنه في بعض الأحيان كانت تفاجئهما السعادة — أو بالأحرى احتمالية السعادة — دون سبب أو سابق إنذار، وكانا يختلفان كليةً في تلك الأوقات، كما لو كان هناك روز وباتريك آخران يتسمان بالبراءة وطيبة القلب، يكادان يكونان غير مرئيَّيْن، مختبئَيْن خلف شخصياتهما المعتادة. لعل ذلك كان باتريك الذي رأته في ركن القراءة بعد أن تحررت منه؛ تلك الشخصية التي لا يراها باتريك نفسه. كان عليها تركه هناك.
•••
عرفت روز أن تلك كانت نظرتها له؛ وقد عرفتها لأن الموقف تكرر. كانت في مطار تورونتو في منتصف الليل. حدث ذلك بعد تسعة أعوام من طلاقها من باتريك. وقد أصبحت مشهورة آنذاك، وصار وجهها معروفًا للعديد من الناس في هذا البلد. فكانت تقدم برنامجًا تليفزيونيًّا استضافت فيه سياسيين وممثلين وكتَّاب وشخصيات مهمة والعديد من الأشخاص العاديين ممن كانت لهم مشكلات مع الحكومة أو الشرطة أو النقابة، وكانت تستضيف أيضًا أشخاصًا شاهدوا أشياء غريبة، مثل أطباق طائرة، أو وحوش بحرية، أو أشخاصًا حققوا إنجازات متميزة، أو احتفظوا ببعض التقاليد العتيقة.
كانت وحدها في المطار، لم يكن هناك أحد بانتظارها. وقد وصلت لتوها على متن رحلة متأخرة من يلونايف. كانت مرهقة ومتسخة. رأت باتريك واقفًا موليها ظهره عند المقهى. كان يرتدي معطفًا واقيًا من المطر، وبدا أثقل وزنًا من المعتاد، لكنها تعرفت عليه في الحال، واعتراها نفس الشعور بارتباطها بذلك الشخص، وأنه بإمكانهما أن يعثر أحدهما على الآخر ويثق به، بحيلة معينة سحرية، لكنها ممكنة. ولتحقيق ذلك كله، كان عليها التوجه نحوه ولمس كتفه، ومباغتته بما يسعده.
لم تفعل ذلك بالطبع، لكنها توقفت. ظلت متسمرة في مكانها إلى أن استدار باتريك متوجهًا إلى إحدى الطاولات البلاستيكية الصغيرة والمقاعد المنحنية المجمعة أمام المقهى. اختفت منه ملامح النحول والمظهر الأكاديمي الرث والتسلط المفرط. فقد صقل مظهره، وامتلأ جسمه، ليصير رجلًا أنيقًا، ومقبولًا، ومسئولًا، وقانعًا بعض الشيء. اختفت كذلك الوحمة التي كانت على وجهه. أخذت تفكر في مدى الإجهاد والحزن الذي بدا عليها بالتأكيد، وهي ترتدي معطفها المجعد الواقي من المطر، وشعرها الطويل الذي ظهرت به الخصل البيضاء وهو منسدل للأمام حول وجهها، وآثار المسكرة تلطخ أسفل عينيها.
رمقها باتريك بنظرة قطَّب فيها جبينه، نظرة تدل على كره حقيقي وتحذير شرس، نظرة طفولية ومتفاخرة، لكنها مدروسة في الوقت نفسه. كانت انفجارًا موقوتًا من الاشمئزاز والنفور. صعب عليها تصديق ذلك، لكنها رأت ذلك بعينها.
أحيانًا، عندما كانت روز تتحدث مع شخص ما أمام كاميرات التليفزيون، كانت تشعر برغبة مَن أمامها في العبوس. راودها ذلك الشعور مع الناس بكافة صورهم، مع الساسة المهرة، والأساقفة الليبراليين، مع العاملين في المساعدات الإنسانية، ومع ربات البيوت اللاتي شهدن كوارث طبيعية، والعمَّال الذين أجروا عمليات إنقاذ بطولية أو حُرِموا ظلمًا من معاشات الإعاقة الخاصة بهم. كانوا يتوقون لتدمير أنفسهم، أو تقطيب جبينهم، أو التلفظ بكلمة بذيئة. أكان هذا الوجه هو ما أراد الجميع الإفصاح عنه؟ هل كان موجهًا لشخص ما، أو للجميع؟ لكنهم لن يفعلوا ذلك؛ لن تسنح لهم الفرصة. يتطلب الأمر ظروفًا خاصة؛ مكانًا غير عادي، في منتصف الليل، عناء مرتبكًا مشوشًا، وظهورًا هذيانيًّا مفاجئًا لعدوك الحقيقي.
في تلك اللحظة، ركضت مرتعدةً مبتعدة في الرواق الطويل متعدد الألوان. لقد رأت باتريك، وهو أيضًا رآها، وقطب جبينه في وجهها، لكنها لم تتمكن في الواقع من فهم كيف يمكن أن تكون هي عدوته، كيف يمكن لأي شخص أن يكره روز إلى هذا الحد، وهي التي كانت في هذه اللحظة مستعدة للاقتراب بنيتها الصافية، واعترافها بالإرهاق المرتسم على ابتسامتها، وإيمانها المتحفظ بالمكاشفة المتحضرة؟
لقد استطاع باتريك أن يكرهها هذا الكره، استطاع ذلك فعلًا.
عبث
وقعت روز في غرام كليفورد خلال حفلٍ أقامه كليفورد وجوسلين بحضور باتريك وروز. كانا قد مضى على زواجهما في هذا الوقت ثلاث سنوات بينما كان زواج كليفورد وجوسلين قد تجاوز ذلك بعام أو أكثر قليلًا.
كان كليفورد وجوسلين يقيمان لبعض الوقت في منطقة تقع أقصى غرب فانكوفر، في واحد من تلك الأكواخ الصيفية المصطفَّة على الشوارع المتعرِّجة القصيرة الواقعة بين الطريق السريع والبحر، وقد تصادف أن كان مهيئًا لقضاء الشتاء. أقيم الحفل في ليلة ممطرة من شهر مارس، وكانت روز متوترة لحضوره. كانت تشعر بالضيق بينما تمضي السيارة بهما عبر غرب فانكوفر، وراحت تشاهد مصابيح النيون وقطرات الماء تتساقط منها في البِرَك الصغيرة الموحِلة المنتشرة على الطريق، وتُنصت للصوت المَقيت لماسحات الزجاج الأمامي. وبعد ذلك كانت غالبًا ما تنظر للخلف لترى نفسها جالسة بجوار باتريك وهي ترتدي بلوزتها السوداء مكشوفة الصدر وتنورتها المخملية السوداء، وتمنَّت لو أنهما كانتا الرداء المناسب. كانت تتمنى لو كانا في طريقهما إلى السينما. لم يكن لديها أدنى فكرة أن حياتها سوف تتبدل.
كان باتريك متوترًا أيضًا وإن لم يكن ليعترف بذلك؛ فقد كانت الحياة الاجتماعية لغزًا محيرًا، وغالبًا ما كانت شيئًا مَقيتًا لكليهما. ووصلا إلى فانكوفر دون أن يكون لهما معرفة بأحد. كانا يسايران الرَّكب فحسب. لم تكن روز تعلم ما إذا كانا حقًّا يتُوقان لوجود الأصدقاء، أم حتى يعتقدان ببساطة أن وجودهم أمر ضروري. لقد كانا يتأنَّقان ويخرجان لزيارة الآخرين، أو يرتبان غرفة المعيشة في انتظار مَن دَعَوْهُم لزيارتهما. وفي بعض الأحيان كانا يتَّبعان أنماطًا ثابتة للزيارة؛ فكانوا يتناولون بعض كئوس الشراب خلال تلك الأمسيات، وفي حوالي الحادية عشرة أو الحادية عشرة والنصف — وهو الوقت الذي بالكاد كان يأتي سريعًا بما يكفي — تتوجه روز نحو المطبخ وتُعِدُّ القهوة وبعض المأكولات. كانت المأكولات التي تعدها في العادة تقتصر على شرائح الخبز المحمص، تعلوها شريحة من الطماطم، ثم شريحة من الجبن ثم بعضٌ من اللحم المقدَّد، وكانت تقوم بشيِّها وتُمسكها معًا بعود أسنان. لم يكن بوسعها التفكير في أي شيء سوى ذلك.
كان من الأسهل لهما إقامة صداقات مع الأشخاص الذين يحبهم باتريك عن أولئك الذين تحبهم روز؛ لِما كان لروز من قدرة كبيرة على التأقلُم، أو ربما الخداع، بينما كان باتريك بالكاد قادرًا على التأقلُم على الإطلاق. إلا أن الصديقين في هذه الحالة — حالة كليفورد وجوسلين — كانا أصدقاء روز، أو بالأحرى كانت جوسلين صديقة لروز. كانت جوسلين وروز تعرفان أن عليهما ألا تحاولا الترتيب لزيارات زوجية؛ فقد كان باتريك لا يحب كليفورد دون أن يعرفه لأن كليفورد كان عازف كمان، ولا شك أن كليفورد بدوره لم يكن محبًّا لباتريك لأنه كان يعمل في أحد فروع متجر عائلته الكبير. وفي تلك الأيام كانت الحواجز بين الناس لا تزال قوية ووثيقة، الحواجز بين مدعي الفن والعاملين في التجارة، بين النساء والرجال.
لم تكن روز على معرفة بأي من أصدقاء جوسلين، ولكنها أدركت أنهم موسيقيون وصحافيون ومحاضِرون في الجامعة، بل كان من ضمنهم سيدة تعمل كاتبة كان لها رواية تم تشخيصها في الراديو. فتوقَّعت أن يكونوا أذكياء، وظرفاء، وساخرين بلا شك؛ فكان يبدو لها أنها طَوال الوقت تجلس مع باتريك في غرف المعيشة، متبادِلين الزيارات مع الآخرين، وأنهم أناس بارعون ومرحون بحق، يحق لهم النظر إليها بازدراء، يحيون حياة غير تقليدية ويقيمون حفلات غير اعتيادية في مكان آخر. والآن جاءت الفرصة للتواجد مع هؤلاء الناس، ولكن معدتها كانت مضطربة رفضًا لذلك، ويديها تتصببان عرقًا.
•••
التقت جوسلين بروز في عنبر الولادة بمستشفى نورث فانكوفر العام. كان أول شيء رأته روز لدى عودتها إلى عنبر الولادة بعد أن وضعت آنا هو جوسلين جالسة في فراشها تقرأ كتاب يوميات أندريه جيد. كانت روز تعرف الكتاب من ألوانه، حيث كانت قد رأته على حامل الكتب والجرائد في الصيدلية؛ فقد كان جيد على قائمة الكُتَّاب الذين تنوي قراءة أعمالهم؛ فكانت في ذلك الوقت لا تقرأ إلا لكبار الكتاب.
كان الشيء المدهش والمريح الذي لاحظته روز على الفور بشأن جوسلين هو مظهرها الذي بدا وكأنها طالبة؛ إذ إنها لم تسمح لنفسها بالتأثُّر كثيرًا بجو جناح الولادة الذي كانت قابعة بداخله، فقد كان لجوسلين جدائل سوداء طويلة، ووجه شديد الشحوب، ونظارات سميكة، دون أدنى مسحة من الجمال، وهيئتها تنبئ بتركيزها فيما تفعله بارتياح.
في الفراش المجاور لفراش جوسلين كانت هناك امرأة تصف ترتيب خزانة مطبخها لأخريات، ولم تكد تنسى أن تخبرهن أين تحتفظ بشيء ما — كالأرز أو السكر البني — إلا وكانت تضطر لإعادة الكَرَّةِ من جديد، وتتأكد من أن مَن يستمعون إليها يتابعونها جيدًا بقول: «تذكرن على الرف الأعلى إلى اليمين بجوار الموقد أحتفظ بعلب الحساء وليس الحساء المعلب؛ فأنا أحتفظ بالحساء المعلب أسفل المنضدة مع السلع المعلبة بجوار ذلك ا?…»
كانت النساء الأخريات يحاولن مقاطعتها لكي يَصِفْنَ كيف يحتفظن بالأشياء، ولكن دون جدوى، أو لم يستطعن مواصلة الحديث طويلًا. كانت جوسلين جالسة تقرأ وتعبث بطرف إحدى جدائلها بين أصابعها وكأنها جالسة في مكتبة داخل الكلية، أو تعد ورقة بحثية، ولم يستطع عالَم هؤلاء النساء أن يوقفها بتاتًا. وكانت روز تتمنى لو تمكنت من ذلك هي الأخرى.
كانت لا تزال تعاني من الدوار من أثر الوضع، وكلما أغلقت عينيها كانت ترى شيئًا أشبه بالكسوف في شكل كرة كبيرة سوداء يحيط بها حلقة من النار. كان ذلك هو رأس الطفل يعتصره الألم في اللحظة التي سبقت دفعها له إلى خارج أحشائها. ووسط هذه الصورة، تداخلت كلمات أرفف مطابخ النساء الثرثارات أسفل الثقل الرهيب للعُلب والصناديق، ولكنها كانت تستطيع أن تفتح عينيها لترى جوسلين وجدائلها السوداء تنسدل على رداء المستشفى الأبيض وكأنها صورة بالأبيض والأسود. كانت جوسلين هي الشخص الوحيد الذي رأته يبدو هادئًا وجادًّا بما يكفي لمواكبة الموقف.
سرعان ما نهضت جوسلين من فراشها لتكشف عن ساقين طويلتين بيضاوين غير حليقتين، وبطن لا تزال مترهلة من أثر الحمل. ارتدت روبًا للحمام مخططًا، وبدلًا من استعمال رباط له استعانت برابطة عنق رجالية لتُحكمه حول خصرها، وراحت تدب بقدميها الحافيتين على مشمع أرضية المستشفى. فجاءتها إحدى الممرضات مسرعة منبهة إياها أن ترتدي خفًّا.
«ليس معي خف.»
فقالت الممرضة بفظاظة: «أمعك حذاء؟»
«آه نعم، معي حذاء.»
وعادت جوسلين إلى الخزانة المعدنية الصغيرة بجوار فراشها وأخرجت حذاءً جلديًّا كبيرًا بلا كعب كان متسخًا وباليًا، ومشت محدِثة نفس الضوضاء الشنيعة الوقحة كما فعلت من قبل.
كانت روز تتوق للتعرُّف عليها.
في اليوم التالي أخرجت روز كتابها الخاص لتقرأه. كان رواية «البيوريتاني الأخير» للكاتب جورج سانتايانا، ولكن لسوء الحظ كانت نسخة مكتبية، فكان العنوان على الغلاف ممسوحًا وباهتًا؛ ومن ثَمَّ كان مستحيلًا أن تُعجب جوسلين بما تقرؤه روز مثلما أُعجِبت روز بما تقرؤه جوسلين. ولم تعلم روز كيف يمكنها أن تدفعها للحديث معها.
كانت السيدة التي تتحدث عن خزانات مطبخها تتحدث الآن عن كيفية استخدامها للمكنسة الكهربائية، وتقول إن من المهم للغاية استخدام جميع الملحقات؛ لأن لكل منها غرضًا، كما أنه يكفي أنها قد دفعت مقابلها، ولكن العديد من الناس لا يستخدمونها. وراحت تصِف كيف تنظف ستائر غرفة معيشتها، فقالت امرأة أخرى إنها قد حاولت القيام بذلك ولكن القماش كان يتجعَّد. فقالت السيدة المتسلِّطة إن ذلك بسبب أنها لم تقُم بالأمر بالشكل الصحيح.
في تلك الأثناء ضبطت روز عينَيْ جوسلين تنظران صوب زاوية كتابها.
قالت بنبرة هادئة: «أتمنى لو كنت تقومين بتلميع مقابض موقدك.»
قالت جوسلين: «بالتأكيد أفعل.»
«هل تقومين بتلميعها كل يوم؟»
«اعتدت أن ألمِّعها مرتين يوميًّا، ولكن أما وقد جاء المولود الجديد فلا أعرف إن كنت سأجد وقتًا لذلك.»
«وهل تستخدمين ذلك الملمِّع الخاص بمفاتيح الموقد؟»
«بالتأكيد. وأستخدم أيضًا تلك المناشف الخاصة بمفاتيح الموقد التي تأتي في تلك العلبة الخاصة.»
«رائع. بعض الناس لا يفعلون ذلك.»
«بعض الناس يستخدمون أي شيء.»
«مناشف الأطباق القديمة.»
«المناديل القماشية القديمة.»
«المناديل القديمة.»
وسرعان ما تفتحت براعم صداقتهما بعد ذلك. كانت واحدة من تلك الصداقات الحميمة الوارفة كتلك التي تنمو في المؤسسات: كالمدارس، أو المعسكرات، أو في غياهب السجون. كانتا تسيران معًا عبر ردهات المستشفى غير مكترثات لكلام الممرضات، وكانتا مصدر ضيق وحيرة للنساء الأخريات. وقد أصبحتا مثل طالبات المدارس المهووسات من أثر ما كانت تقرؤه بصوت عالٍ إحداهما للأخرى. لم تقرآ لجيد أو سانتيانا، بل كانتا تقرآن نسخًا من «ترو لاف» و«برسونال رومانسيز» وجدتاها في غرفة الانتظار.
قالت روز: «يُذكر هنا أن بإمكانك شراء بطانات للسيقان، ولكن لا أعرف كيف ستخفينها، أعتقد أنك ستربطينها حول ساقيك، أو ربما فقط توضع داخل الجوارب، ولكن ألا تعتقدين أنها ستظهر؟»
فقالت جوسلين: «حول ساقيك؟ تربطينها حول ساقيك؟ تقصدين بطانات لتحسين شكل السيقان؟! ظننتك تتحدثين عن سيقان اصطناعية. سيقان اصطناعية!»
كان بإمكان أي شيء كهذا أن يثير ضحكاتهما.
«سيقان اصطناعية!»
«حلمات اصطناعية، أرداف اصطناعية، سيقان اصطناعية.»
«ترى فيمَ سيفكرون بعد ذلك؟»
كانت سيدة المكنسة الكهربائية تقول إنهما كثيرًا ما تتدخلان في شئون الأخريات وتُفسدان أحاديثهن، ولم تكن تعرف ما المضحك إلى هذا الحد في الكلام البذيء. وقالت إنهما إذا لم تتوقفا عن أسلوبهما هذا في التعامل، فإن حليب الرضاعة سوف يفسد.
قالت جوسلين: «كنت أتساءل إذا كان حليب الرضاعة لديَّ ربما قد فسد، إن لونه مقزز بشكل شنيع.»
تساءلت روز: «ما لونه؟»
«حسنًا، أزرق نوعًا ما.»
«يا إلهي! ربما يكون حبرًا!»
كانت سيدة المكنسة الكهربائية تقول إنها سوف تخبر الممرضة أنهما تتفوهان بالسباب والشتائم. كانت تردد أنها ليست متزمتة ولكنها تتساءل ما إذا كانتا تصلحان لأن تكونا أمَّين. كيف ستتمكن جوسلين من غسل الحفاضات في حين أن بإمكان أي شخص أن يرى أنها لم تقُم قط بغسل ثوبها الخاص؟
قالت جوسلين إنها تنوي استخدام الطحالب للقيام بذلك لكونها من أصول هندية.
فقالت السيدة: «أستطيع أن أصدق هذا.»
بعد ذلك راحت جوسلين وروز تستهلان العديد من التعليقات والملاحظات بعبارة: «أنا لست متزمتة ولكن.»
«أنا لست متزمتة ولكن هلَّا ألقيت نظرة على هذا البودنج!»
«أنا لست متزمتة ولكن يبدو وكأن هذا الطفل أسنانه مكتملة.»
وقالت عنهما الممرضة: ألم يحِن الوقت بعد لكي ينضجا؟
وبينما كانتا تسيران عبر الردهات، روت جوسلين لروز أنها في الخامسة والعشرين من عمرها، وأنها ستُطلِق على مولودها الجديد اسم آدم، وأن لها ابنًا آخر في المنزل يبلغ من العمر عامين يُدعى جيروم، وأن زوجها يُدعى كليفورد، وأنه يتخذ من العزف على الكمان مهنة له. كان يعزف في أوركسترا فانكوفر السيمفوني. كانوا أسرة فقيرة. كانت جوسلين من ماساتشوستس والتحقت بويلسلي كوليدج، وكان والدها طبيبًا نفسانيًّا ووالدتها طبيبة أطفال. فيما أخبرت روز جوسلين أنها قد جاءت من بلدة صغيرة في أونتاريو، وأن باتريك من جزيرة فانكوفر، وأن والديه لم يوافقا على زواجهما.
قالت روز بنبرة مبالغة: «الجميع في البلدة التي جئت منها يقولون Yez بدلًا من You بمعنى أنت؟ «نستخدمها كجمع لكلمة You.» «آه. مثل بروكلين وجيمس جويس. لحساب منَ يعمل باتريك؟»
«في متجر عائلته؛ فعائلته تملك متجرًا كبيرًا متعدد الأقسام.»
«إذن ألستما موسرَيْن الآن؟ أعني ألستما موسرين بالقدر الذي يجعلك في غنى عن التواجد في عنبر للولادة؟»
«لقد أنفقنا كل أموالنا على منزل كان باتريك يرغب فيه.»
«ألم يكن لديك رغبة فيه أنت أيضًا؟»
«ليس بقدر رغبته.»
كان ذلك شيئًا لم تبُح به روز قط من قبل.
ومضتا تتعمقان في مزيد من المكاشفات العشوائية.
كانت جوسلين تكره والدتها؛ فقد أجبرتها والدتها على أن تنام في غرفة ذات ستائر من القماش القطني الخفيف الأبيض وشجعتها على جمع البط. وببلوغها الثالثة عشرة، كانت جوسلين تمتلك — ربما — أكبر مجموعة في العالم من البط المطاطي، والبط المصنوع من الفخار، والبط الخشبي، وصور البط، والمنسوجات المطرزة برسوم البط. وقامت أيضًا بتأليف ما وصفتها بأنها قصة سابقة لأوانها بشكل بشع بعنوان «المغامرات الكبرى الرائعة للبطة أوليفر العظيمة»، والتي قامت والدتها بالفعل بطباعتها وتوزيعها على الأصدقاء والأقارب في أعياد الكريسماس.
«إنها من الأشخاص الذين يغطون كل شيء بنوع من النفاق والتملُّق البغيض وتصبغ به كل شيء؛ فهي لا تتحدث بصوت طبيعي قط، ولَعُوبٌ متصنِّعة الخجل بشكل غاية في البذاءة. وبالطبع تحظى بنجاح عظيم كطبيبة أطفال. إن لديها كل تلك الأسماء الصغيرة المزيَّفة لجميع أجزاء جسدك.»
أدركت روز — التي كانت ستسعد بالستائر التي تحدثت عنها جوسلين — الخطوط الرفيعة، أو طرق الإهانة الموجودة في عالم جوسلين الذي بدا كعالم أقل غلظة وأكثر استدامة من عالمها. كانت تشك فيما إذا كان بإمكانها أن تخبر جوسلين عن هانراتي، ولكنها بدأت في المحاولة. راحت تتحدث عن فلو وعن المتجر بشكل عام دون تطرُّق إلى التفاصيل، وتلقي الضوء على فقرها. في الواقع لم تكن مضطرة لذلك؛ فقد كانت حقائق طفولتها الصحيحة بها من الدهشة ما يكفي بالنسبة لجوسلين، والأهم من ذلك أنها كانت مثار حسد من جانبها.
قالت جوسلين: «يبدو هذا أكثر واقعية. أعلم أنها رؤية رومانسية من جانبي.»
تحدثتا عن طموحات الشباب (فقد كانتا تؤمنان حقًّا بأن الشباب قد ولَّى)، فقالت روز إنها كانت ترغب في أن تكون ممثلةً على الرغم من أنها كانت أجبن بكثير من أن تقف على خشبة مسرح. أما جوسلين، فأرادت أن تكون كاتبة، ولكنها كانت تشعُرُ بالخجل من ذلك على أثر ذكريات قصة البطة العظيمة.
قالت: «بعدها قابلت كليفورد. وعندما رأيت قدر موهبته الحقيقية، أدركت أنني ربما أُهدِر وقتي بمحاولة الكتابة، وأن من الأفضل لي أن أرعاه وأهتم به، أو أي شيء آخر أفعله من أجله. إنه موهوب بحق. أحيانًا ما يكون شخصًا وضيعًا، ولكنه يُفلت بذلك لأنه موهوب حقًّا.»
قالت روز بحزم يشوبه الغيرة: «أظن أن تلك فكرة رومانسية حالمة أن يكون لزامًا أن يُفلت الموهوبون بأفعالهم.»
«حقًّا؟ ولكن الفنانين العظام طالما كانوا يفلتون.»
«ليس النساء.»
«ولكن النساء عادة لَسن فنانات عظيمات، ليس بنفس الدرجة.»
كانت تلك هي أفكار معظم النساء الشابات اللاتي يحظين بمستوى تعليم راقٍ وعلى قدر من الوعي، بل وأولئك غير التقليديات أو المتطرفات سياسيًّا في ذلك الوقت. ولعلَّ من بين أسباب عدم مشاركة روز لهن في الرأي أنها لم تكن على قدر وافر من التعليم والثقافة. وقد قالت لها جوسلين في مرحلة لاحقة من صداقتهما إن من أحد الأسباب التي جعلتها ترى أن الحديث معها مشوِّق من بداية صداقتهما هو أن روز تملك أفكارًا ولكنها غير مثقَّفة. وقد اندهشت روز من هذا؛ ما جعلها تذكر الكلية التي كانت ملتحقة بها في غرب أونتاريو. حينها رأت روز الندم على وجه جوسلين التي تراجعت في ارتباك وغاب عنها فجأة صراحتها البادية دومًا على وجهها — على غير عادتها تمامًا — وأردفت جوسلين أن ذلك هو ما كانت تقصده بالضبط.
بعد اختلاف الآراء بشأن الفنانين، وبشأن الرجال والنساء في مجال الفن، ألقت روز نظرة متأنية على كليفورد حين كان يأتي للزيارة في المساء. رأته إنسانًا شاحب اللون، يطلق العِنان لأهوائه وله مظهر عصابي يوحي بالاضطراب. ومع مزيد من الاكتشافات بشأن ما تبذله جوسلين من براعة، وجهد، وطاقة بدنية بحتة (إذ كانت هي من يتولى إصلاح الصنابير الراشحة، وتسليك البالوعات المسدودة) في هذه الزيجة، أيقنت أن جوسلين تضيع نفسها، وأنها ترتكب خطأً. وراودها شعور بأن جوسلين لم تكن ترى جدوى في زواج روز من باتريك أيضًا.
•••
في البداية سار الحفل بيُسر أكثر ممَّا توقعته روز؛ فقد كانت تخشى أن يكون تأنُّقُها مبالغًا فيه؛ كانت توَدُّ لو ارتدت بنطال مصارع الثيران الخاص بها، ولكن باتريك لم يكن لِيَقبل ذلك مطلقًا. ولكن القليل فقط من الفتيات هن من كُنَّ يرتدين البناطيل الفضفاضة، أما البقية فكن يرتدين الجوارب الشفافة، ويضعن أقراطًا وثيابًا مثلها تمامًا. وكما في أي تجمُّع للنساء الشابات في ذلك الوقت، كانت هناك ثلاث أو أربع نساء ممَّن كان يبدو عليهن الحمل بشكل واضح، وكان معظم الرجال يرتدون بذلات، وقمصان، ورابطات عنق مثل باتريك؛ ما أشعر روز بالارتياح؛ إذ إنها أرادت أن يكون باتريك مندمجًا في الحفل، وأرادته أيضًا أن يتقبل الحاضرين هناك، وأن يقتنع بأنهم جميعًا ليسوا مخلوقات غريبة الأطوار. حين كان باتريك طالبًا، كان يصطحبها لحضور الحفلات الموسيقية والمسرحيات ولم يكن يبدو متشككًا بشكل مفرط فيمن كانوا يشاركون فيها، بل كان في الحقيقة يفضِّل هذه الأشياء؛ لأنها كانت مكروهةً من قبل عائلته، وفي ذلك الوقت — الوقت الذي اختار فيه روز — كان يمر بمرحلة تمرُّدٍ قصيرة ضد عائلته. ذات مرة اصطحب باتريك روز إلى تورونتو وجلسا في قاعة المعبد الصيني بالمتحف يشاهدان رسوم الفريسكو على الجدران، وروى لها باتريك كيف أنها جُلِبَتْ على هيئة قطع صغيرة من إقليم شانشي، كان يبدو في غاية الفخر بما يملك من معرفة، وفي ذات الوقت متواضعًا بشكل مميَّز يذيب القلوب؛ إذ اعترف بأنه قد اكتسب كل هذه المعلومات في إحدى الرحلات. أما الآراء القاسية التي كوَّنها، والاتهامات التي كان يكيلها بالجملة للآخرين، فلم تبدأ إلا منذ أن خرج للعمل؛ فصار الفن الحديث خداعًا، والمسرح التجريبي بذيئًا. وكان لدى باتريك طريقة خاصة متصنعة وازدرائية لنطق تعبير «الفن الطليعي»، جاعلًا الكلمات تبدو مصطنَعة بشكل مثير للاشمئزاز. وقد كانت كذلك بالنسبة لروز؛ فبشكلٍ ما كانت تستطيع أن تدرك ما يعنيه؛ فكان بإمكانها أن ترى جوانب عديدة للأمور، فيما لم يكن باتريك يعاني تلك المشكلة.
وفيما عدا بعض المشاجرات الكبيرة التي كانت تنشب بشكل دوري، كانت في منتهى الوداعة والانصياع مع باتريك؛ إذ كانت تحاول أن تَظَلَّ محبوبةً لديه. ولم يكن ذلك بالأمر السهل؛ فحتى قبل أن يتزوَّجا كان معتادًا أن يعطيها محاضرات من التوبيخ في رَدٍّ على سؤال بسيط أو ملاحظة تافهة. في تلك الأيام كانت أحيانًا ما توجِّه له سؤالًا ما على أمل أن يباهي ببعضٍ من معرفته الفائقة التي قد تثير إعجابها، ولكنها عادة ما كانت تشعر بالندم على السؤال؛ إذ كانت الإجابة تأتي مسهَبة للغاية يشوبها نبرة تعنيف وتوبيخ، إلى جانب أن المعلومات لم تكن فَذَّةً لهذه الدرجة. كانت تريد أن تبدي إعجابها به واحترامها له، فيما كان يبدو أشبه بمغامرة على وشك خوضها.
بعد ذلك فكرت أنها تحترم باتريك بالفعل، ولكن ليس بالطريقة التي كان يريدها هو، وأنها تحبه بالفعل ولكن ليس بالطريقة التي أرادها أن تحبه بها. ولم تكن تعرف ماهية هذه الطريقة، وهي التي كانت تعتقد أنها تعرف شيئًا عنه، وتعتقد أنها تعرف أنه لم يكن يرغب حقًّا في أن يكون على الشاكلة التي يُقحم نفسه إليها بحماس. ربما كان يمكن تسمية تلك الغطرسة احترامًا، وهذا الاستعلاء حبًّا. ولم يكن من شأن ذلك أن يحقق له السعادة.
كان بعض الرجال يرتدون الجينز والكنزات ذات الياقة الضيقة أو القمصان القطنية الواسعة، وكان كليفورد واحدًا من هؤلاء، وكان كل ما يرتديه أسود اللون. كانت تلك هي فترة انتشار ثقافة البِيت في سان فرانسيسكو. كانت جوسلين تتصل بروز عبر الهاتف وتقرأ عليها قصيدة «عواء». كانت بشرة كليفورد تبدو في غاية الاسمرار مع ثيابه السوداء، وكان شعره طويلًا مقارنة بما كان سائدًا في تلك الفترة، ولونه فاتحًا مثل قطعة قطن لم تُبيَّض، فيما كان لون عينيه فاتحًا للغاية، حيث كان لونهما أزرق لامعًا مائلًا للرمادي. وبدا لروز وكأنه ضئيل الحجم وهادئ كالقطط، وبه بعض ملامح الأنوثة، وهو ما جعلها تتمنى ألا يصيب باتريك بإحباط شديد.
كان هناك جعة وكوكتيل نبيذ للشراب، وكانت جوسلين — الطاهية الرائعة — تقلِّب قدرًا من الجمبالايا. توجهت روز إلى المرحاض لكي تفصل نفسها عن باتريك الذي بدا راغبًا في أن يكون ملازمًا لها كظلها (كانت تعتقد أنه يتقمص دور كلب الحراسة، ونسيت أن ذلك قد يكون خجلًا منه). وحين خرجت بدأ في التحرُّك. احتست روز ثلاث كئوس من النبيذ في تتابُع سريع، وتم تقديمها للسيدة التي قامت بتأليف المسرحية التي أذيعت في الراديو. وفوجئت روز حين رأت أن هذه السيدة كانت واحدة من أكثر الأشخاص المتواجدين في الغرفة كآبة وأقل من يبدو عليهم ملامح الثقة.
أخبرتها روز قائلة: «لقد أعجبتني مسرحيتك.» ولكنها في الواقع كانت تجدها غامضة، فيما كان باتريك يراها مقزِّزة ومثيرة للاشمئزاز؛ فقد كانت في ظاهرها تدور حول امرأة التهمت أطفالها. كانت روز تعلم أن ذلك ضرب من الرمزية، ولكنها لم تستطع أن تعرف إلامَ ترمز.
قالت السيدة: «آه، لكن الإنتاج كان في غاية البشاعة!» وفي غمرة حرجها، وحماسها ولهفتها للحديث عن مسرحيتها، أصاب روز منها بعض رذاذ النبيذ. «لقد جعلوها حرفية للغاية. لقد خشيت أن تبدو مخيفة ووحشية وقد كنتُ أقصد أن تكون ذات معنى مرهف، لقد قصدت أن أجعلها مختلفة تمامًا عن الشكل الذي أخرجوها به.» وشرعت تخبر روز بكل خطأ ارتُكِب في الإنتاج، من التوزيع الخاطئ للأدوار، واقتطاع أهم السطور، بل وأكثرها أهمية على الإطلاق. شعرت روز بكبرياء وفخر بينما كانت تستمع إلى هذه التفاصيل، وكانت تحاول أن تزيل آثار رذاذ الخمر دون أن يلحظ أحد.
قالت السيدة: «ولكنك تستوعبين ما قصدته؟»
«آه نعم!»
صبَّ كليفورد كأسًا أخرى من النبيذ وابتسم لها.
«تبدين لذيذة.»
بدت كلمة لذيذة كلمة غريبة الاستخدام بالنسبة لكليفورد. ربما كان ثملًا، أو ربما لكراهيته للحفلات كليةً مثلما قالت عنه جوسلين، أراد أن يتقمَّص دورًا ما؛ ربما أراد أن يقال عنه إنه الرجل الذي يخبر فتاة أنها تبدو لذيذة. ربما كان ماهرًا في التنكُّر وتقمُّص الأدوار، مثلما كانت روز تعتقد أنها نفسها بدأت تجيد ذلك. ومضت تتحدث إلى الكاتبة وإلى رجل يقوم بتدريس الأدب الإنجليزي خلال القرن السابع عشر. ربما كانت هي أيضًا فقيرة وماهرة، متطرفة ووقحة كما يعرف أي شخص.
في الردهة الضيقة كان هناك رجل وفتاة يتعانقان بحرارة، وكلما أراد أحد أن يمر عبر هذه الردهة، يُضطر العاشقان للابتعاد، ولكنهما كانا يواصلان تبادل النظرات فيما بينهما، ولم يكونا حتى يُغلقان فميهما. كان منظر هذين الفمين المفتوحين المبتلَّيْن يجعل روز ترتجف، فلم يسبق أن عانقها أحد بهذا الشكل في حياتها، ولم ينفغر فوها بهذا الشكل من قبل. فقد كان باتريك يرى التقبيل على الطريقة الفرنسية شيئًا مقززًا.
كان هناك رجل أصلع ضئيل الحجم متمركز خارج باب المرحاض يقبِّل أية فتاة تخرج منه قائلًا: «مرحبًا يا عزيزتي، أنا في غاية السعادة لأنك استطعت الحضور، وفي غاية السعادة لرحيلك.»
قالت الكاتبة: «إن سيريل إنسان بشع، إنه يعتقد أن عليه أن يحاول التصرف وكأنه شاعر. ولا يستطيع التفكير في شيء سوى التسكع حول المرحاض ومضايقة الآخرين. إنه يعتقد أنه وقح.»
قالت روز: «هل هو شاعر؟»
قال محاضِر الأدب الإنجليزي: «لقد أخبرني أنه أحرق كل قصائده.»
قالت روز: «يا له من سلوك متفاخر!» وقد سُرَّت من نفسها لقولها هذا، وسرَّت منهم لضحكهم.
وبدأ مُحاضِر الأدب الإنجليزي في التفكير في توريات على طريقة قصص توم سويفتي.
قالت الكاتبة في حسرة: «لا أستطيع التفكير في هذه الأشياء مطلقًا؛ فأنا أهتم باللغة بشكل مبالغ.»
انطلقت أصوات عالية من غرفة المعيشة، وميَّزت روز صوت باتريك يتعالى ويتعالى طاغيًا على أصوات الآخرين جميعًا. فهَمَّت بفتح فمها لتقول شيئًا، أيَّ شيء للتغطية عليه — فقد أدركت أن كارثة ما على وشك الحدوث — ولكن في تلك اللحظة جاء رجل طويل القامة ذو شعر مجعَّد وطلَّة بشوشة يقطع طريقه عبر الردهة، فاصلًا بين العاشقَيْن ذوي العاطفة المشبوبة دون سابق إنذار، ورافعًا يده لجذب انتباه الحضور.
قال الرجل لجميع من في المطبخ: «أنصتوا لهذا. يوجد في غرفة المعيشة رجل لن تصدقوا حديثه قط. فلتنصتوا.»
لا بد أن حوارًا عن الهنود كان دائرًا في غرفة المعيشة، وها هو باتريك الآن قد أخذ دفَّته في الحوار.
قال باتريك: «فلتأخذوهم بعيدًا، فلتأخذوهم بعيدًا عن آبائهم بمجرد أن يُولدوا وضعوهم في بيئة متحضرة وعلِّموهم وسوف يشبُّون صالحين كالبيض يومًا ما.» لا شك أنه كان يعتقد أنه يعبِّر عن آراء متحررة. ولو أنهم كانوا يعتقدون أن ذلك شيء رائع، فقد كان ينبغي أن يستعينوا به يوم إعدام آل روزنبرج، أو محاكمة ألجر هيس، أو في حالات الضرورة في التجارب النووية.
قالت إحدى الفتيات بلطف: «حسنًا، تعلمون، إنها ثقافتهم.»
فقال باتريك: «إن ثقافتهم مكتوب عليها الفناء … ثقافة مفلسة.» كانت تلك كلمة من الكلمات التي كان يُكثِر من استخدامها في الوقت الحالي، وكان بإمكانه استخدام بضع كلمات، وكليشيهات، وعبارات افتتاحية — من بينها عبارة «إعادة تقييم شامل» — باستمتاع وحُجة صاعقة لدرجة تجعلك تعتقد أنه مبتكرها، أو تعتقد على الأقل أن استخدامه لها قد منحها ثقلًا ورونقًا.
قال باتريك: «إنهم يريدون أن يكونوا متحضِّرين. الأشخاص الأكثر ذكاء يرغبون في ذلك.»
فقالت الفتاة بوقار متحفِّظ لم يدركه باتريك: «حسنًا، ربما لا يعتبرون أنفسهم غير متحضرين بالمعنى الدقيق للكلمة.»
«بعض الناس يحتاجون إلى دفعة.»
دفعت النبرات المشوبة بالرضا الذاتي والنقد الناضج الرجلَ المتواجد بالمطبخ للاستسلام وهز رأسه في سرور وعدم تصديق قائلًا: «لا بد أنه من الساسة المؤيِّدين لحزب الائتمان الاجتماعي.»
وفي الواقع أن باتريك قد صَوَّتَ بالفعل لحزب الائتمان الاجتماعي.
كان يقول: «نعم، حسنًا، سواء أعجَبَنا ذلك أم لم يُعجبنا، لا بد وأن يُشَدُّوا إلى القرن العشرين حتى ولو رغمًا عنهم.»
كرر أحدهم: «رغمًا عنهم؟!»
فقال باتريك الذي لا يرى غضاضة في ترديد أي شيء مجددًا: «نعم يُشدُّون رغمًا عنهم للدخول إلى القرن العشرين.»
«يا له من تعبير مثير، وإنساني أيضًا.»
ألن يفهم الآن أنه قد أُحرِج، وتم استدراجه وتَعرَّض للسخرية؟ ولكن باتريك بعد ما تعرض له من إحراج لم يسعُهُ سوى أن يصبح أكثر صخبًا. ولم يعُد بإمكان روز أن تسمع أكثر من ذلك، فتوجهت إلى الممر الخلفي الذي كان مكتظًّا بالأحذية الطويلة، والمعاطف، والزجاجات، وأحواض الاستحمام، ولعب الأطفال التي قامت جوسلين وكليفورد بإزاحتها بعيدًا من أجل الحفل. وحمدًا لله أنه كان خاليًا من الناس. خرجت روز من الباب الخلفي ووقفت غاضبة ترتجف في الليل البارد المطير. كانت مشاعرها مختلطة مثلما يمكن أن يحدث لأي شخص في مكانها. كانت تشعر بالمهانة والخزي من باتريك، ولكنها كانت تعلم أن أسلوبه هو أكثر ما أشعَرها بالمهانة؛ الأمر الذي جعل الشك يتسرَّب إليها في أن بداخلها شيئًا فاسدًا وعابثًا. لقد كان غضبها أيضًا من هؤلاء الآخرين الأكثر براعة ومهارة، أو على الأقل الأسرع بكثير منه. كانت تريد أن تكون أفكارها عنهم سيئة. ما الذي يهتمون به بشأن الهنود حقًّا؟ ربما لو أُتيحت لباتريك الفرصة للتصرُّف بشكل دَمِثٍ نحو أحد الهنود لتفوَّق عليهم. كان هذا احتمالًا بعيدًا، ولكنها كانت مضطرَّةً لتصديقه. لقد كان باتريك شخصًا صالحًا. صحيح أن آراءه ليست سديدة، ولكنه شخص صالح في ذاته؛ فقد كانت روز تعتقد أن باتريك في جوهره بسيط ونقي وجدير بالثقة، ولكن كيف لها أن تكتشفه وتلمسه، لتُطمئن نفسها وبالطبع ليس لكشفه للآخرين؟
سمعت الباب الخلفي يُغلق، وخشيت أن تكون جوسلين قد خرجت تبحث عنها. لم تكن جوسلين بالشخص الذي يستطيع الإيمان بجوهر باتريك؛ فقد كانت تراه متغطرسًا وعنيدًا وسخيفًا في جوهره.
لم تكن جوسلين، بل كان كليفورد. لم تشأ روز أن تخبره بأي شيء. نظرت إليه دون ترحيب وهي ثمِلة بعض الشيء، وكئيبة، ومبللة الوجه من أثر المطر، ولكنه طوَّقها بذراعيه وأخذ يهزها.
«آه يا روز، يا حبيبتي. لا عليك يا روز.»
كان هذا هو كليفورد.
ظلا على مدى خمس دقائق أو نحو ذلك يتبادلان القبلات، ويغمغمان، ويرتجفان، ويتضامَّان، ويتلامسان، ليعودا بعد ذلك إلى الحفل من الباب الأمامي حيث كان سيريل هناك. قال لهما: «أهلا، أين كنتما؟»
أجابه كليفورد بفتور: «نسير تحت المطر.» قالها بنفس الصوت الرشيق وربما العدائي الذي خاطب به روز قائلًا لها إنها لذيذة. لقد توقف استدراج باتريك، وصار الحوار أكثر حرية، وثمالة، واستهتارًا. كانت جوسلين تقدم الجمبالايا، فذهبت روز إلى دورة المياه لتجفف شعرها وتضع أحمر شفاه على شفتيها اللتين جُرِّدَتَا ممَّا عليهما من أحمر الشفاه. لقد تحولت، لتصبح غير قابلة للتأثُّر بأي شيء. كان أول شخص قابلته لدى خروجها هو باتريك. كانت لديها رغبة في أن تُشعِره بالسعادة. ولم تعبأ بما قاله أو ما سوف يقوله.
قالت ذلك بصوت خافت لَعُوبٍ تستخدمه في بعض الأحيان عندما تشعر ببعض التساهل في الحديث معه: «لا أعتقد أننا قد التقينا من قبلُ يا سيدي. ولكن يمكنك أن تقبِّل يدي.»
قال باتريك بحماس قوي: «لصياحي الصاخب.» واعتصرها وقبَّلها بتمطق مرتفع على وجنتها؛ فقد كان دائمًا يتمطق بشفتيه حين يقبِّل. ودائمًا ما كان مرفقاه يتوغلان في مكان ما من جسدها ويؤلمانها.
قالت روز: «أتستمتع بوقتك؟»
«لا بأس، لا بأس.»
وبالطبع ظلت طوال ما تبقى من الأمسية تمارس لعبة النظر إلى كليفورد بينما تتظاهر بأنها لا ترقبه، وبدا لها أنه يفعل نفس الشيء، والتقت أعينهما بضع مرات دون أي تعبير يُذكر، في رسالة واضحة تمام الوضوح تزلزل كيانها. وصارت تراه بشكل مختلف الآن؛ فجسده الذي كان يبدو ضئيلًا وضعيفًا بَدَا في عينيها الآن رشيقًا مفعمًا بالطاقة؛ كان أشبه بجسد حيوان الوشق أو الفهد. لقد اكتسب كليفورد سُمرَته من رياضة التزلج التي يمارسها؛ فقد كان يتسلق جبال سيمور ويمارس التزلج هناك. هواية مكلِّفة، ولكنها هواية شعرت جوسلين أنه لا يمكن حرمانه منها؛ لما كان يعانيه من مشكلات بشأن صورته الاجتماعية؛ صورته الذكورية كعازف كمان في هذا المجتمع، أو هكذا قالت جوسلين. كانت جوسلين قد أخبرت روز بكل شيء عن خلفية كليفورد: والده المريض بالتهاب المفاصل، متجر البقالة الصغير الكائن في بلدة شمال نيويورك، في الحي الفقير المليء بالقسوة. وتحدثت أيضًا عن مشكلاته في طفولته؛ عن الموهبة غير اللائقة، عن والديه اللذين لم يمنحاه العطف، ورفاق المدرسة المتهكِّمين. قالت جوسلين إن طفولته قد خلَّفت بداخله شعورًا بالمرارة، ولكن روز لم تعُد تعتقد أن جوسلين لها الكلمة الأخيرة على كليفورد.
•••
أُقِيمَ الحفل ليلة أحد أيام الجمعة. دق جرس الهاتف في صباح اليوم التالي، بينما كان باتريك وآنا على المائدة يتناولان البيض.
قال كليفورد: «كيف حالك؟»
«بخير.»
«أردت أن أُهاتفك. اعتقدت أنكِ قد تظنين أنني كنت ثملًا فقط أو شيئًا من هذا القبيل. إنني لم أكن كذلك.»
«أوه، كلا.»
«لقد قضيتُ الليل بأَسْرِهِ أفكر فيك، بل كنت أفكر فيك قبل ذلك أيضًا.»
«نعم.» كان المطبخ يدور من حولها، وكان المشهد بأكمله أمامها، مشهد باتريك وآنا على المائدة، وإبريق القهوة الذي تساقطت قطرات منها على جانبه، وبرطمان المربى، كل شيء كاد ينفجر من فرط البهجة والفرصة والخطر. كان فم روز جافًّا تمامًا حتى إنها بالكاد استطاعت أن تتكلم.
قالت: «إنه يوم جميل. ربما نتسلق أنا وآنا وباتريك الجبل.»
«هل باتريك بالمنزل؟»
«أجل.»
«يا إلهي! إنه لغباء مني. لقد نسيت أنني الوحيد الذي يعمل يوم السبت. فأنا هنا في بروفة.»
«أجل.»
«هل يمكنك التظاهر بأن المتصل شخص آخر؟ تظاهري أنها جوسلين.»
«بالتأكيد.»
قال كليفورد: «أحبك يا روز.» ثم أغلق الخط.
قال باتريك: «من كان على الهاتف؟»
«إنها جوسلين.»
«وهل يجب أن تتصل حين أكون بالمنزل؟»
«لقد نَسِيَتْ. إن كليفورد في بروفة لذا نَسِيَتْ أن الآخرين في إجازة اليوم من العمل.» شعرت روز بسعادة وبهجة وهي تنطق اسم كليفورد. يبدو وكأن ممارسة الخداع والكتمان قد أصبحا أمرًا في غاية السهولة والتلقائية بالنسبة لها؛ وقد يكون ذلك متعة في حد ذاته.
قالت روز في محاولة لعدم الخروج عن الموضوع: «لم أكن أعرف أنهم يضطرون للعمل أيام السبت. لا بد أنهم يعملون لساعات طويلة للغاية.»
«إنهم لا يعملون لساعات أطول من الأشخاص العاديين، كل ما في الأمر اختلاف في توزيع وقت العمل. إنه لا يبدو قادرًا على العمل كثيرًا.»
«من المفترض أن يكون جيدًا للغاية، أقصد كعازف كمان.»
«إنه يبدو شخصًا أحمق.»
«أتعتقد ذلك؟»
«ألا تعتقدين ذلك؟»
«أعتقد أنني لم أدرس شخصيته مطلقًا.»
•••
اتصلت جوسلين في يوم الاثنين وقالت إنها لا تعرف لِمَ تقيم الحفلات؛ إذ كانت لا تزال تخوض وسط الفوضى.
«ألم يساعدك كليفورد في التنظيف؟»
«أنت تمزحين. إنني أكاد لا أراه طوال عطلته الأسبوعية؛ فقد كان لديه بروفة يوم السبت وكان يعزف بالأمس. إنه يقول إن الحفلات فكرتي أنا؛ لذا فبإمكاني التعامل مع توابعها. وهذا صحيح. فأنا أصاب بنوبات الشوق للتجمعات، والحفلات هي العلاج الوحيد لها. لقد كان باتريك مثيرًا للاهتمام.»
«نعم، للغاية.»
«إنه نمط ساحر من الشخصيات حقًّا، أليس كذلك؟»
«هناك الكثير والكثير مثله، ربما فقط لا تتاح لك الفرصة للقائهم.»
«تعسًا لي!»
كان هذا الحوار كأي حوار آخر لها مع جوسلين؛ فقد كانت حواراتهما وصداقتهما تسير دائمًا في نفس الاتجاه، ولم تكن روز تشعر بأنها مقيدة بأي قدر من الولاء لجوسلين؛ لأنها قد قسمت كليفورد إلى نصفين؛ فكان هناك كليفورد الذي عرفته جوسلين، وهو نفس الشخص الذي طالما قدَّمته جوسلين إلى روز، وكان هناك أيضًا كليفورد الذي عرفته روز الآن. كانت تعتقد أن جوسلين ربما كانت مخطئة بشأنه، والمثال على ذلك عندما قالت لها إن طفولته قد خلَّفت لديه شعورًا بالمرارة. فما وصفته جوسلين بأنه مرارة بدا لروز شيئًا أكثر تعقيدًا وأكثر اعتيادًا؛ إنه فقط المألوف لأية طبقة، من ضجر، ولين، ومراوغة، ودناءة. وقد كانت تلك أمورًا مألوفة بالنسبة للطبقة التي جاء منها كليفورد وكذا طبقة روز. أما جوسلين، فقد كانت معزولة بطرق ما؛ مما جعلها صارمة وبريئة. لقد كانت تشبه باتريك في عدة نواحٍ.
من تلك اللحظة فصاعدا صارت روز تنظر إلى كليفورد وإلى نفسها باعتبارهما نوعًا واحدًا من الناس، وإلى جوسلين وباتريك كنوع آخر مختلف، رغم ما بدا من اختلافهما بشدة، ورغم نفور كليهما من الآخر. فقد كانا شخصين متكاملين لا يحيط بهما أي غموض، وكانا يأخذان الحياة بجدية مطلقة. وبالمقارنة بهما، كان كليفورد وروز مثالين على نوعية الأشخاص المراوِغة شديدة الدهاء.
لو أن جوسلين وقعت في غرام رجل متزوج، ماذا كانت ستفعل؟ ربما كانت ستطلب عقد مؤتمر حتى قبل أن تلمس يديه، وكانت ستدعو إليه كليفورد، والرجل ذاته، وزوجة الرجل، وربما طبيب جوسلين النفساني (على الرغم من رفضها لعائلتها، كانت جوسلين تعتقد أن الذهاب إلى طبيب نفساني أمر ينبغي على الجميع أداؤه أثناء مراحل التطور أو التأقلُم في الحياة، وكانت جوسلين نفسها تذهب إلى أحدهم مرة واحدة أسبوعيًّا). كانت جوسلين ستفكر في العواقب، وكانت ستواجه الأمور بشكل مباشر؛ فهي لا تحاول أبدًا أن تختلس متعتها؛ إذ لم تتعلم اختلاس الأشياء قط. وكان ذلك ما يجعل وقوعها في حب رجل آخر أمرًا مستبعدًا؛ فلم تكن بالشخص الشَّرِه، ولم يكن باتريك شرهًا كذلك، على الأقل فيما يتعلق بالحب.
إذا كانت مشاعر الحب تجاه باتريك جاءت لإدراكها شيئًا جيدًا وبريئًا بداخله؛ فإن مشاعر الحب تجاه كليفورد كانت شيئًا مختلفًا تمامًا. لم تكن روز مضطرة للاعتقاد بأن كليفورد شخص جيد، وكانت تعلم بالتأكيد أنه لم يكن بريئًا أو ساذجًا. ولم يكن مهمًّا بالنسبة لها أي مصارحة بشأن ازدواجيته أو قسوته تجاه آخرين سواها. إذن ماذا أحبت فيه؟ وماذا كانت تريد منه؟ لقد أرادت الخداع، أرادت سرًّا متوهجًا، أرادت احتفاءات يملؤها الحب والحنان بالرغبة، أرادت تأجُّجًا دائمًا للفجور. كل ذلك بعد خمس دقائق تحت المطر قضتها معه.
•••
بعد نحو ستة أشهر من ذلك الحفل ظلت روز مستيقظة طوال الليل. كان باتريك نائمًا بجوارها في منزلهما المبني من الحجر وخشب الأرز في ضاحية تسمى كابيلانو هايتس بجانب جبل جراوس. وفي الليلة التالية كان مقرَّرًا أن يكون كليفورد هو من سينام بجوارها، في باول ريفر حيث كان يعزف مع الأوركسترا الجوال. لم يكن بإمكانها أن تصدِّق أن هذا سيحدث بالفعل. لقد وضعت كل ثقتها في الحدث، ولكنها لم تستطع أن تضعه وسط ترتيب الأشياء الذي كانت تعرفه.
لم يُقدِم روز وكليفورد على مدار كل هذه الأشهر على ممارسة الحب معًا، ولم يمارسا الحب في أي مكان آخر أيضًا. كان الموقف هكذا: لم يكن جوسلين وكليفورد يملكان سيارة، بينما كان لدى باتريك وروز واحدة، ولكن روز لم تكن تقودها. كان عمل كليفورد يتيح له ميزة العمل لساعات غير منتظمة، ولكن كيف كان له أن يرى روز؟ هل يستطيع استقلال الحافلة عبر جسر لايونز جيت، ثم يسير في وضح النهار عبر شارع الضاحية الذي تقطن فيه مارًّا بنوافذ الجيران؟ هل يمكن أن تستعين روز بجليسة أطفال وتَدَّعِي أنها ذاهبة لزيارة طبيب الأسنان، وتستقل الحافلة إلى البلدة، وتقابل كليفورد في أحد المطاعم، وتذهب معه لغرفة في أحد الفنادق؟ ولكنهما لم يكونا يعرفان لأي فندق يذهبان، ويخشيان إذا ذهبا بدون أمتعة أن يتضح أمرهما في الطريق، أو يتم الإبلاغ عنهما لدى شرطة مكافحة الرذيلة ويُحتجزان في مركز الشرطة بينما يتم استدعاء جوسلين وباتريك للحضور لاستلامهما، إلى جانب أنه لم يكن بحوزتهما مال كافٍ.
غير أن روز قد ذهبت إلى فانكوفر، مستخدمة عُذر طبيب الأسنان، وجلسا في أحد المقاهي جنبًا إلى جنب في سقيفة خلفية وأخذَا يتبادلان القبلات والمداعبات جهارًا في مكان يتردد عليه طلاب وزملاء كليفورد من الموسيقيين، يا لها من مجازفة! وبينما كانت روز تستقل الحافلة في طريقها إلى المنزل راحت تنظر عبر ثوبها إلى قطرات العرق المتقطرة بين ثدييها وكادت يغشى عليها من تألُّقها وبهائها، وكذلك من فكرة المجازفة التي أخذاها. في إحدى المرات الأخرى، بعد ظهيرة يوم شديد الحرارة في شهر أغسطس، انتظرت في أحد الأزقة خلف المسرح الذي كان كليفورد يؤدي فيه البروفة، واختبأت وسط الظلال ثم تشبثت به في هُيام لم يشبعها. رأيا بابًا مفتوحًا فتسللا إلى الداخل. كانت هناك صناديق متراصة في كل مكان حولهما، وكانا يبحثان عن مكان يأويان إليه عندما تحدث إليهما أحد الرجال.
«هل يمكنني القيام بأي شيء من أجلكما؟»
كانا قد دخلا المخزن الخلفي لمحل لبيع الأحذية. كان صوت الرجل باردًا مرعبًا. وأخذت الأفكار المخيفة تتوالى: شرطة الآداب! مركز الشرطة! وكان رداء روز قد انفك حتى الخصر.
ذات مرة كان اللقاء في أحد المتنزهات حيث كانت غالبًا ما تصطحب آنا وتدفعها على الأراجيح. جلسا على أحد المقاعد وقد تشابكت يداهما أسفل تنورة روز القطنية الفضفاضة. كانت أصابعهما متشابكة معًا وراحا يعتصرانها بقوة مؤلمة، إلى أن فاجأتهما آنا حين ظهرت من خلف المقعد وصاحت قائلة: «بوو! لقد أمسكت بكما!» فامتقع وجه كليفورد متحولًا إلى شحوب كارثي. وفي الطريق إلى المنزل قالت روز لآنا: «كان هذا مضحكًا حين قفزت من خلف المقعد. كنت أظن أنك لا تزالين على الأرجوحة.»
قالت آنا: «أعرف ذلك.»
«ماذا قصدت بأنك أمسكت بنا؟»
فقالت آنا: «لقد أمسكت بكما بالفعل.» وضحكت بصوت عالٍ بطريقة بدت لروز متطاولة وذكية بشكل مثير للانزعاج.
قالت روز بنبرة ابتهاج: «هل تَوَدِّين تناول الآيس كريم؟ أنا أود!» وفي خضم أفكار الابتزاز والمساومات التي دارت في عقلها، جال بخاطرها أن آنا سوف تجتر تلك الذكرى السيئة لطبيبها النفسي بعد عشرين عامًا من الآن؛ فقد جعلتها هذه الحادثة مهزوزة وسقيمة وتساءلت إن كانت قد أثَّرت على حب كليفورد لها، لقد حدث ذلك بالفعل، ولكن لفترة مؤقتة فقط.
•••
بمجرد بزوغ أول خيط من خيوط الضوء، نهضت من فراشها لمشاهدة النهار لترى إن كان اليوم مناسبًا للسفر جوًّا. كانت السماء صافية، دون أي أثر للضباب الذي يتسبب غالبًا في الهبوط الاضطراري للطائرات في هذا الوقت من العام. لم يعلم أحد سوى كليفورد بذهابها إلى باول ريفر؛ فقد ظلَّا يخططان للأمر على مدى ستة أسابيع منذ أن عَلِمَا بأنه سيسافر في جولة. كان باتريك يعتقد أنها ستذهب إلى فيكتوريا، حيث كان لها صديقة تعرَّفت عليها في الكلية، وظلت على مدار الأسابيع القليلة الماضية تدَّعي بأنها عادت مجددًا للتواصل مع هذه الصديقة. وقد قالت إنها ستعود ليلة الغد. كان اليوم هو السبت ما يعني أن باتريك كان بالمنزل للاعتناء بآنا.
دخلت إلى غرفة الطعام لمراجعة النقود التي ادَّخرتها من شيكات الإعانات الأسرية التي تحصُل عليها من الدولة. كانت تحتفظ بها في قاع طبق المافِن الفضي. ثلاثة عشر دولارًا. كانت تنوي إضافتها لما أعطاها إياه باتريك للسفر إلى فيكتوريا. طالما كان باتريك يعطيها نقودًا حين تطلب، ولكنه كان يرغب في معرفة المبلغ الذي تحتاج إليه وفيما ستُنفقه. ذات مرة بينما كانا يسيران معًا بالخارج، أرادت الدخول إلى الصيدلية، وطلبت منه نقودًا، فقال باتريك بجِدِّيَّة لم تتجاوز الحد المعتاد منه: «لماذا؟» وبدأت روز في البكاء؛ لأنها كانت ستشتري هُلامًا مهبليًّا. أما الآن، فربما تكون قد ضحكت. وقد تضحك إذا ما حدث معها هذا الموقف الآن، فمنذ أن وقعت في حب كليفورد، لم تتشاجر قَطُّ مع باتريك.
قامت مرة أخرى بحساب النقود التي ستحتاج إليها: تذكرة الطائرة، نقود من أجل حافلة المطار التي ستستقلها من فانكوفر، ومن أجل الحافلة، أو ربما سينبغي عليها أن تستقل سيارة أجرة للذهاب إلى باول ريفر، مع فائض من أجل الطعام والقهوة. وكان كليفورد سيتكفل بنفقات الفندق. ملأتها الفكرة بإحساس من الراحة الجنسية والاستسلام، على الرغم من علمها بأن جيروم كان بحاجة إلى نظارة جديدة، وأن آدم بحاجة إلى حذاء عالٍ من المطاط. راحت تفكر في ذلك الفراش المحايد الناعم الوثير الموجود بالفعل في انتظار قدومهما. منذ زمن طويل حين كانت فتاة صغيرة (هي الآن في الثالثة والعشرين)، كثيرًا ما كانت تذهب بخيالها إلى الأسرَّة المؤجَّرة المملة ذات الألوان الحادة والأبواب المغلقة، بما يتضمنه ذلك من الأمنيات المترفة، وها هي الآن تعاود الكَرَّة مجددًا، على الرغم من أن التفكير في أي شيء يتعلق بالجنس ظل لفترة — فيما بين قبل الزواج وبعده — يثير حنقها، مثلما كان الفن الحديث يثير سخط باتريك.
راحت روز تجول عبر أرجاء المنزل بهدوء تخطط ليومها في سلسلة من الإجراءات. سوف تأخذ حمامًا، ثم تضع الزيت والبودرة، وتضع مانع الحمل والهلام المهبلي في حقيبتها. ولم تنسَ النقود، والماسكرا، وكريم الوجه، وأحمر الشفاه. اعتلت درجتي السلم المؤديتين إلى غرفة المعيشة. كانت جدران غرفة المعيشة خضراء طحلبية، وكانت المدفأة بيضاء، فيما كانت الستائر وأغطية المقاعد مزيَّنة بنقوش حريرية من أوراق الشجر بألوان الرمادي والأخضر والأصفر على خلفية بيضاء. وعلى رَفِّ المدفأة كانت هناك مزهريتان من ماركة ويدجوود بلون أبيض وحلقة من أوراق الشجر الخضراء. وكان باتريك مغرمًا بشدة بهاتين المزهريتين، حتى إنه في بعض الأحيان بمجرد عودته من العمل يتوجه مباشرة إلى غرفة المعيشة ويعدل وضعهما قليلًا على رف المدفأة؛ ظنًّا منه بوجود خلل في التناسق الذي وضعتا به.
«هل عبث أحد بهاتين المزهريتين؟»
«بالطبع. بمجرد أن غادرت إلى العمل هرعت نحوهما وبدلت موضعهما.»
«لقد كنت أقصد آنا. فأنت لا تدعيها تلمسهما، أليس كذلك؟»
لم يكن باتريك يحب أن يسمعها تشير إلى المزهريتين بأي طريقة تهكُّمية؛ فقد كان يعتقد أنها لم تكن تُقدِّر قيمة المنزل. لم يكن يعلم، ولكنه ربما استطاع أن يخمن ما قالته لجوسلين في أول مرة جاءت فيها هنا، وكانتا تقفان حيثما كانت روز تقف الآن تجولان بناظريهما في غرفة المعيشة.
«إنه حلم الأناقة لوريث المتجر الكبير.»
حتى جوسلين بدت خجولة من ذلك الغش؛ فلم يكن ذلك صحيحًا تمامًا. لقد كان باتريك يحلم بالمزيد والمزيد من الأناقة. ولم يكن صحيحًا فيما تضمنه ذلك من إِشارات إلى أن المنزل كان من اختيار باتريك بمفرده، وأن روز لطالما كانت غير آبِهة به. لقد كان اختيار باتريك بالفعل، ولكن في وقت من الأوقات كان هناك الكثير من الأشياء تعجبها؛ فقد اعتادت أن تتسلَّق وتلمع الكريستالات الزجاجية المتدلية من ثُرَيَّا غرفة الطعام، مستخدمة قطعة من القماش مغموسة في محلول من الماء وصودا الخبيز. لقد كانت تحب تلك الثريا؛ إذ كان لكريستالاتها المتدلية ضوء أزرق أرجواني فاتح. ولكن الناس الذين كانوا يحوزون إعجابها لم يكن لديهم نجف في غرف الطعام خاصتهم. وكان من غير المحتمل أن يكون لديهم غرف طعام من الأساس. وإذا كان لديهم، فكانوا يكتفون بشموع بيضاء رفيعة مثبَّتة في حامل للشموع من المعدِن الأسود المصنوع في إحدى الدول الإسكندنافية. أو ربما كانوا ليستعينون بشموع سميكة موضوعة في زجاجات النبيذ محمَّلة بقطرات من الشمع الملون. لقد كان الناس الذين تُكِنُّ لهم الإعجاب أفقر منها لا محالة؛ لذا بدَا من قبيل السخرية غير المقبولة منها — بعد أن قضت طيلة حياتها في مكان يخجل فيه الجميع من فقرهم — أن تكون مضطرة الآن أن تشعر بالأسف والحرج من كونها في الحالة المضادة، في ظل وجود شخص مثل جوسلين، على سبيل المثال، يمكن أن تقول عبارة مثل «رفاهية الطبقة المتوسطة» بنبرة غاية في القسوة والازدراء.
ولكنها لو لم تكن قد احتكَّت بالآخرين، ولو لم تكن قد تعلمت من جوسلين، ترى هل كانت ستظل على حبها للمنزل؟ كلا. كانت حتمًا ستشعر بالسخط والبغض تجاهه على أيَّة حال. فحين كان الناس يأتون لزيارتهما لأول مرة، كان باتريك دائمًا ما يصطحبهم في جولة عبر المنزل، مشيرًا إلى النجفة، ومرحاض الضيوف ذي الإضاءة المخفيَّة، بجوار الباب الأمامي، وخزانات الملابس والأبواب المزودة بفتحات تهوية والمفتوحة على الفناء. لقد كان فخورًا بهذا المنزل وكله لهفة لجذب الأنظار للسمات الصغيرة التي تمنحه التميُّز، وكأن هو من نشأ فقيرًا وليس روز. كانت روز تنزعج من هذه الجولات منذ البداية، وكانت تتبعه في صمت أو تصدر تعليقات استنكارية لم تكن تعجب باتريك. وبعد فترة تمكث في المطبخ، ولكن يظل بإمكانها سماع صوت باتريك، وكانت تعرف مسبقًا كل شيء سوف يقوله. كانت تعرف أنه سيزيح ستائر غرفة الطعام ويشير إلى النافورة الصغيرة المضيئة — التي تتخذ شكل نافورة نبتون مزينة بورقة التين — التي كان يضعها في الحديقة، ثم يقول: «والآن ها هو الحل الذي ابتكرناه لهوس الضواحي بحمامات السباحة.»
•••
بعد أن انتهت من حمامها أخذت زجاجة اعتقدت أنها زجاجة زيت الأطفال لتسكبها على جسدها. سال السائل الشفاف على صدرها وبطنها مصيبًا إياها بحرقة ولسعة، فنظرت إلى الملصق على الزجاجة لتكتشف أنه لم يكن زيت الأطفال، وإنما مزيل طلاء الأظافر؛ فجعلت تزيله وتغمر نفسها بالماء البارد وتجفف باستماتة وهي تفكر في بشرتها وما لحق بها من دمار، والمستشفى؛ راحت تفكر في ترقيع الجلد، في الندوب، في العقاب.
كانت آنا تخربِش على باب المرحاض في نعاس ولكن بإلحاح؛ فقد أغلقته روز من أجل هذه الاستعدادات، على الرغم من أنها كانت عادة ما لا تغلقه حين تأخذ حمامًا. وسمحت لآنا بالدخول.
قالت آنا وهي تحاول الصعود على المرحاض: «إن صدرك أحمر تمامًا.» عثرت روز على زيت الأطفال وحاولت أن تهدئ بشرتها به، ولكنها استخدمت قدرًا كبيرًا منه ما أدى إلى بقع زيتية على حمالة صدرها الجديدة.
•••
كانت تعتقد أن كليفورد قد يكتب لها أثناء رحلته، ولكنه لم يفعل. كل ما فعله هو أنه اتصل بها من برينس جورج وكان يبدو مشغولًا قائلًا:
«متى تصلين إلى باول ريفر؟»
«في الرابعة.»
«حسنًا، استقلِّي الحافلة أو أيًّا ما كان متوافرًا في البلدة. هل ذهبتِ إلى هناك من قبلُ؟»
«لا.»
«ولا أنا. لا أعرف سوى اسم الفندق الذي ستقيمين فيه. لا يمكنك الانتظار هناك.»
«ما رأيك في محطة الحافلة؟ فلكل بلدة محطة للحافلات.»
«حسنًا، عند محطة الحافلات. سوف آخذكِ من هناك في حوالي الخامسة على الأرجح، ويمكننا أن ننقلك إلى فندق آخر. أتمنى من الله أن يكون هناك أكثر من فندق، اتفقنا إذن.»
كان يدَّعي أمام أعضاء الأوركسترا الآخرين أنه سيقضي الليلة مع أصدقاء في باول ريفر.
قالت روز: «يمكنني الذهاب والاستماع إليك وأنت تعزف، أليس كذلك؟»
«بالتأكيد.»
«لن أكون ظاهرة للعيان تمامًا، سوف أجلس في المؤخرة وسأتنكر في شكل سيدة عجوز؛ فأنا أحب أن أستمع إلى عزفك.»
«اتفقنا.»
«هل تمانع؟»
«كلا.»
«كليفورد.»
«أجل؟»
«أما زلت تريدني أن آتي؟»
«أوه روز.»
««أعرف. إن صوتك فقط يوحي لي غير ذلك.»
«أنا في بهو الفندق وهم بانتظاري، ومن المفترض أنني أتحدث إلى جوسلين.»
«حسنًا. أعرف ذلك. سوف آتي.»
«باول ريفر. محطة الحافلات. الخامسة مساء.»
كانت هذه المكالمة مختلفة عن أحاديثهما الهاتفية المعتادة التي عادة ما تكون شجية وسخيفة، أو يثير كل منهما الآخر بحيث لا يستطيعان الحديث على الإطلاق.
«هناك صوت نفَس ثقيل.»
«أعرف.»
«لنتحدث عن شيء آخر.»
«ماذا هناك أيضًا؟»
«هل الجو ضبابي عندكَ أيضًا؟»
«أجل. هل هناك ضباب أيضًا عندكِ؟»
«أجل. أتسمع صوت صافرة الضباب؟»
«أجل.»
«أليس صوتًا مزعجا؟»
«في الواقع أنا لا أنزعج منه. فأنا أحبه نوعًا ما.»
«جوسلين لا تحبه. أتعلمين كيف تصفه؟ إنها تقول إنه صوت ملل كوني.»
كانا في البداية يتجنبان الحديث عن جوسلين وباتريك تمامًا، بعد ذلك صارا يتحدثان عنهما بأسلوب صارم وحادٍّ، وكأنهما أبوان يجب خداعهما والاحتيال عليهما، أما الآن، فصار بإمكانهما الحديث عنهما بأسلوب لطيف يقارب الإعجاب، وكأنهما ابناهما.
•••
لم تكن هناك محطة للحافلات في باول ريفر؛ فاستقلَّت روز ليموزين المطار مع أربعة ركاب آخرين، جميعهم رجال، وأخبرت السائق بأنها تريد الذهاب إلى محطة الحافلات.
«أتعلمين أين تقع؟»
قالت: «كلا.» وشعرت وكأنهم جميعًا يرقبونها.
«أكنتِ تريدين أن تستقلي حافلة؟»
«لا.»
«أتريدين فقط الذهاب إلى محطة الحافلات؟»
«كان مقررًا أن أقابل شخصًا ما هناك.»
قال أحد الركاب: «لم أكن أعلم حتى بوجود محطة للحافلات هنا.»
فقال السائق: «حسب علمي لا يوجد أية محطة هنا. يوجد الآن حافلة تتجه إلى فانكوفر صباحًا وتعود ليلًا وتتوقف عند دار المسنين، أو بالأصح دار جامعي الحطب القدامى. تلك هي المحطة التي تتوقف عندها. كل ما يمكنني فعله هو أن أوصلك إلى هناك. أيوافقك هذا؟»
فقالت روز إن ذلك سيكون رائعًا، ثم شعرت بأن عليها المضي في شرح الأمر.
«لقد رتبت مع صديقتي للقائها هناك؛ لأننا لم يسعنا التفكير في مكان آخر للقاء؛ فنحن لا نعرف باول ريفر مطلقًا، وفكرنا فقط أن كل بلدة لها محطة للحافلات!»
فكَّرت أنها ربما أخطأت بقولها «صديقتي»، ربما كان عليها أن تقول «زوجي»؛ فما قالته قد يجعلهم يتساءلون ماذا تفعل هي وصديقتها هنا إذا لم يكن أي منهما يعرف البلدة.
«صديقتي تعزف في فريق الأوركسترا الذي يقيم حفلًا هنا الليلة. إنها تعزف على الكمان.»
أشاح الجميع بنظرهم عنها وكأن ذلك هو ما تستحقه أية كذبة. كانت تحاول أن تتذكر إذا ما كان هناك عازفات للكمان. ماذا لو سألوها عن اسمها؟
أنزلها السائق أمام مبنى خشبي طويل من طابقين ذوي طلاء متقشر.
«أعتقد أن بإمكانكِ دخول البناية الزجاجية هناك في النهاية؛ فالحافلة تقلهم من هنا على أية حال.»
كانت هناك طاولة بلياردو في البناية الزجاجية ولم يكن هناك أحد يلعب عليها. كان هناك بعض المسنين يلعبون الشطرنج بينما اكتفى آخرون بالمشاهدة. فكرت روز أن تشرح لهم سبب وجودها ولكنها قررت ألا تفعل؛ فقد بَدَوْا غير عابئين بذلك، وكان في ذلك رحمة لها؛ فقد أرهقها ما قدمته من إيضاحات في الليموزين.
كانت ساعة المبنى تشير إلى الرابعة وعشر دقائق، ففكرت أن تضيع الوقت المتبقي حتى حلول الخامسة بالتجول عبر البلدة.
وما إن خرجت من المبنى حتى لاحظت رائحة كريهة، وساورها القلق ظنًّا منها أنها قد تكون مصدر هذه الرائحة، فأخرجت زجاجة العطر ذات الكرة الدوارة التي اشترتها في مطار فانكوفر — منفقة مالًا لا تستطيع توفيره في المعتاد — وجعلت تفرك بها رسغيها وعنقها، ولكن ظلت الرائحة دون أن تزول، وفي النهاية أدركت أنها قادمة من مطاحن لُبِّ الورق. كان من الصعب التجول عبر أنحاء البلدة؛ نظرًا لانحدار شوارعها الشديد، ولعدم وجود أرصفة في الكثير من الأماكن. ولم يكن هناك مكان للتسكُّع وإضاعة الوقت. ظنت أن الناس يحملقون فيها لإدراكهم أنها غريبة عن البلدة، وراح مجموعة من الرجال يستقلون سيارة يصيحون نحوها، بعد أن رأوا انعكاس صورتها على واجهات أحد المحال، وأدركوا أنها تبدو كما لو كانت ترغب في إثارة نظرات الناس وصيحاتهم؛ فقد كانت ترتدي بنطالًا مخمليًّا أسود على طراز بنطال مصارع الثيران القصير، وكنزة سوداء ضيقة ذات ياقة عالية، وسترة باللون البيج تسدلها حول كتفيها على الرغم من الرياح الباردة. صارت تنجذب الآن لارتداء الملابس المثيرة وهي التي كانت يومًا ما لا تختار سوى التنورات الطويلة والألوان الهادئة، والكنزات المصنوعة من الصوف الوبري ذات الطراز الطفولي، وفتحات العنق المطرَّزة بنتوءات مستديرة. وكانت الملابس الداخلية الجديدة التي ترتديها في تلك اللحظة من الدانتيل الأسود والنايلون الوردي. وكانت قد زينت عينيها في غرفة الانتظار بالمطار بالماسكرا الكثيفة، ومحدِّد العيون أسود اللون، وظل العيون الفضي، فيما كان أحمر الشفاه أقرب للأبيض. كان كل ذلك يتماشى مع الموضة السائدة في تلك السنوات؛ ولذلك بدا أقل غرابة مما بدا لاحقًا، ولكنه كان مزعجًا ولافتًا بما يكفي. كانت الثقة التي حملت بها هذا التنكُّر متذبذبة إلى حد كبير؛ فهي لم تكن لتجرؤ على الظهور به أمام باتريك أو جوسلين؛ فعندما كانت تذهب لزيارة جوسلين، كانت دائمًا ما ترتدي أوسع ما لديها من سراويل وكنزات. ومع ذلك عندما كانت جوسلين تفتح لها الباب كانت تقول: «مرحبًا بالسيدة مثيرة!» بنبرة سخرية ودودة. فجوسلين ذاتها كانت قد أصبحت شعثاء المظهر بشكل لافت، فلم تكن ترتدي سوى ملابس كليفورد القديمة؛ فكانت ترتدي سراويله القديمة التي لم تكن تُغلق عليها؛ لأن بطنها لم تعُد كما كانت بعد أن وضعت آدم، وكذا قمصانه القطنية البيضاء المهترئة التي كان كليفورد يرتديها يومًا ما من أجل العُروض. كانت جوسلين فيما يبدو ترى أن مسألة الحفاظ على الرشاقة والتزين بالمساحيق ومحاولة الظهور بمظهر مغرٍ بأي شكل مضحكة إلى حدٍّ مَقيت، ولا تستحق حتى الازدراء؛ كانت بالنسبة لها أقرب لحديث تنظيف الستائر بالمكنسة. كانت تقول إن مشاعر كليفورد لا تختلف على أي حال؛ فقد كان كليفورد، على حد تعبير جوسلين، ينجذب لغياب الحيل ومظاهر التزيُّن الأنثوية؛ فكان يحب السيقان غير الحليقة والإبط المشعر، وروائح الجسم الطبيعية. وراحت روز تتساءل إذا كان كليفورد قد قال هذا حقًّا، ولماذا؟ هل من منطلق الشفقة، أم الود وحسن المعاشرة، أم على سبيل المزاح؟
وجدت روز مكتبة عامة فدخلت وجعلت تتطلع إلى عناوين الكتب، إلا أنها لم تستطع الانتباه إليها؛ فقد كان هناك صوت معوِّق نوعًا ما — وإن لم يكن كريهًا — يسري عبر رأسها وجسدها. وفي الخامسة إلا الثلث عادت إلى المبنى الزجاجي وجلست تنتظر.
كانت لا تزال تنتظر بينما عقارب الساعة تشير إلى السادسة وعشر دقائق. أخذت تعد الدولارات بحقيبتها. كان معها دولار وثلاثة وستون سنتًا. لم يكن بإمكانها الذهاب إلى أي فندق، ولم تكن تعتقد أنهم سيتركونها تقضي الليل في المبنى الزجاجي. لم يكن بوسعها فعل أي شيء إلا الدعاء بأن يستطيع كليفورد الوصول إليها، ولكنها لم تكُن تعتقد أنه سيفعل. ربما تغيَّر الجدول تمامًا، وقد يكون استُدعِيَ للمنزل لأن أحد الطفلين مريض، ربما يكون قد تعرض لكسر في رسغه ولم يستطع العزف على الكمان. كانت باول ريفر مكانًا مقيتًا وليست سوى سراب كريه الرائحة يُستدرج إليه المسافرون من مرتكبي الجرائم لتوقيع عقوبات عليهم. لم تكن مندهشة في الواقع؛ فقد قفزت القفزة التي لم يكن يجب القيام بها، وكان هذا هو ما آلت إليه.
قبل أن يدخل المسنون لتناول العشاء سألتهم عمَّا إذا كانوا قد علموا بأمر حفل موسيقي يقام الليلة في قاعة المدرسة الثانوية، فأجابوا بالنفي على مضض.
«لم نسمع مطلقًا بأنهم يقيمون حفلات هنا.»
أخبرتهم بأن زوجها يعزف في الأوركسترا، وأنه في رحلة قادمة من فانكوفر، وأنها قد سافرت لمقابلته، وكان من المفترض أن تقابله هنا.
هنا؟
فقال أحد المسنين بأسلوب خبيث ذي مغزى: «ربما يكون قد ضلَّ طريقه. ربما يكون قد ضل طريقه، أليس كذلك؟ دائمًا ما يضل الأزواج الطريق.»
كان الظلام قد عَمَّ بالخارج؛ فقد كان ذلك في شهر أكتوبر، وكان المكان أبعد شمالًا من فانكوفر. حاولت أن تفكر ماذا تفعل. كان الشيء الوحيد الذي خطر لها هو أن تتظاهر بأنها قد فقدت الوعي ثم تدَّعي فقدان الذاكرة. ولكن هل كان ذلك لينطلي على باتريك من الأساس؟ سوف تُضطر لأن تقول إنها لا تتذكر ماذا كانت تفعل في باول ريفر، وسوف تُضطر لأن تقول إنها لا تتذكر أيًّا مما قالته في السيارة الليموزين، ولا تعرف شيئًا عن الأوركسترا، وسوف تضطر لإقناع رجال الشرطة والأطباء، وسوف يُكتب عن الحادثة في الصحف. رباه، أين كليفورد؟ لماذا هجرها؟ هل وقع حادث على الطريق؟ فكرت أن عليها تمزيق قصاصة الورق التي احتفظت بها في حقيبتها والتي دوَّنت عليها تعليماته. وفكرت أنه من الأفضل أن تتخلص من مانع الحمل أيضًا.
كانت تتفقد حقيبتها عندما توقَّفت شاحنة بالخارج. فكرت أنها لا بد وأن تكون سيارة الشرطة؛ فقد خطر لها أن المسنين قد اتصلوا بالشرطة وأبلغوا عنها كشخص مشتبه فيه.
ترجَّل كليفورد من الشاحنة وتقدم مسرعًا نحو درجات المبنى الزجاجي. واستغرقت لحظات لتتعرف عليه.
•••
تناولا الجعة والبرجر في فندق غير ذلك الذي أقام فيه أعضاء الأوركسترا. كانت يدا روز ترتعشان ما جعل الجعة تنسكب على الطاولة. قال كليفورد إنه كانت هناك بروفة لم يحسب حسابها، ثم ظل لمدة نصف ساعة يبحث عن محطة الحافلة.
«أعتقد أن فكرة محطة الحافلة لم تكن بالفكرة الذكية.»
كانت يده ممتدة على الطاولة، فجعل يمسح الجعة بفوطة المائدة، ثم وضع يده على يديها، وراحت تفكر في ذلك كثيرًا فيما بعد.
«من الأفضل أن نحجز لكِ هنا.»
«ألن نقيم هنا معًا؟»
«من الأفضل أن تقيمي هنا بمفردك.»
قالت روز: «منذ أن وطأتُ بقدمي هنا وكل شيء يبدو في غاية الغرابة. لقد كان إحساسًا مشئومًا. كنت أشعر بأن الجميع يعرفون بأمرنا.» وشرعت تروي له بأسلوب تمنَّت لو كان ممتعًا عن سائق الليموزين، والركاب الآخرين، والمسنين في دار جامعي الحطب: «كم شعرتُ بالارتياح حين ظهرتَ، يا له من شعور عصيب بالارتياح! لقد كنت ارتعش من الخوف.» وراحت تخبره عن خطتها بتصنُّع فقدان الذاكرة وإدراكها أن من الأفضل أن تتخلص من مانع الحمل الخاص بها. فضحك، ولكنه لم يكن ضحكًا بدافع الابتهاج حسبما رأت؛ فقد بدا لها أنه قد زم شفتيه في اشمئزاز أو نفور عندما تحدثت عن مانع الحمل.
قالت في عجالة: «ولكن كل شيء جميل الآن.» كانت تلك هي أطول محادثة دارت بينهما وجهًا لوجه على الإطلاق.
فقال: «إنها فقط مشاعر الذنب التي بداخلك، وهي مشاعر طبيعية.»
راح يمسِّد على يدها، وحاولت هي أن تفرك بإصبعها على عِرق نبضه كما اعتادا أن يفعلا، ولكنه سحب يده.
•••
بعد نصف ساعة وجدت نفسها تقول: «أما زلتَ لا تمانع ذهابي إلى الحفل؟»
«أما زلتِ تريدين الذهاب؟»
«وهل من شيء آخر للقيام به؟»
وهزَّت كتفيها وهي تقول ذلك. كان جفناها متدليين، وشفتاها ممتلئتين ومضمومتين. كانت تمارس نوعًا من المحاكاة، ربما لباربرا ستانويك في ظروف مماثلة. بالطبع لم تكن تقصد التقليد، بل كانت تحاول إيجاد طريقة ما لتبدو في غاية السحر، بل في غاية الترفُّع والسحر بما يدفعه لتغيير رأيه.
«المشكلة هي أنني مضطر للعودة بالشاحنة؛ لأن عليَّ اصطحاب الزملاء الآخرين.»
«بإمكاني السير. أخبرني فقط بالمكان.»
«أخشى أن المكان مرتفع عن هنا.»
«لن يضيرني ذلك في شيء.»
«روز، ذلك أفضل كثيرًا. أفضل كثيرًا حقًّا.»
«إذا كنتَ ترى ذلك.» ولم تستطع هز كتفيها مرة أخرى. كانت لا تزال تعتقد أن هناك طريقة ما حتمًا لقلب الأمور والبدء من جديد. تبدأ من جديد لتصحِّح أي خطأ ارتكبتْهُ قولًا أو فعلًا، لتمحو حقيقة وقوع أي من ذلك. ولكنها قد وقعت بالفعل في خطأ السؤال عمَّا تكون قد فعلته أو قالته خطأ، وقال لها لا شيء. لا شيء. لقد قال إنها لا علاقة لها بالأمر. كان الابتعاد عن المنزل لمدة شهر هو ما جعله يرى كل شيء بصورة مختلفة: جوسلين، الطفلين، الضرر.
قال: «كان ذلك عبثًا فقط.»
كان قد قصَّر شعره مثلما لم ترَهُ من قبل مطلقًا، وتلاشت سمرة بشرته. كان يبدو حقًّا وكأنه قد انسلخ من جسده، ذلك الجسد الذي كان يتحرق شوقًا لجسدها، ليعود مرة أخرى ذلك الزوج الشاب الشاحب الوفي الذي يشعر بواجباته، برغم عصبيته، الذي رأته في أثناء زياراته لجوسلين في عنبر الولادة.
«أي عبث تقصد؟»
«ما نفعله. إنه ليس بالشيء الكبير المهم، بل مجرد عبث عادي.»
«لقد اتصلتَ بي من برينس جورج.» في تلك اللحظة اختفت باربرا ستانويك، وسمعت روز نفسها تشرع في الأنين.
«أعرف أنني فعلت.» كان يتحدث بنبرة زوج ضاق ذرعًا بالإلحاح والشكوى.
«هل كان هذا شعورك حينذاك؟»
«نعم ولا. لقد وضعنا كل الخطط. ألم يكن الأمر ليصبح أسوأ لو كنتُ قد أخبرتك عبر الهاتف؟»
«ماذا تعني بالعبث؟»
«تبًّا يا روز.»
«ماذا تقصد؟»
«تعرفين ماذا أقصد. لو أننا قد استمررنا في هذا، ما الفائدة التي ستعود على أيٍّ منَّا في ظنك يا روز؟ حقيقةً؟»
قالت روز: «كلينا. كانت الفائدة ستعود على كلينا.»
«كلا. بل كان سينتهي بجلبة كبيرة.»
«لمرة واحدة فقط.»
«كلا.»
«لقد قلت مرة واحدة فقط. قلت إننا سنجعلها ذكرى بدلًا من أن تبقى مجرد حلم في خيالنا.»
«رباه. يبدو أنني قد تفوهت بالكثير من الهراء.»
كان يقول إن لسانها أشبه بحيَّة حارة الدماء، ولكنها حية جميلة، وإن حلمتيها أشبه بثمار التوت. ولم يكن ليعبأ بتذكيره بما قال.
افتتاحية لروسلان ولودميلا: جلينكا.
مقطوعة سيرينادا للوتريات: تشايكوفسكي.
السيمفونية السادسة لبيتهوفن، السيمفونية الرعوية: الحركة الأولى.
المولدو: سميتانا.
افتتاحية ويليام تِل: روسيني.
لم تستطع سماع أيٍّ من هذه المقطوعات الموسيقية لمدة طويلة دون أن تجتاحها نوبة من الخزي، وكان ذلك بمثابة جدار كامل ينهار فوقها وتختنق بركامه.
•••
قبيل مغادرة كليفورد لرحلته، كانت جوسلين قد اتصلت بروز وأخبرتها أن جليسة الأطفال لم تستطع المجيء. كان ذلك هو اليوم الذي كانت تذهب فيه لطبيبها النفساني. فعرضت روز أن تأتي وتعتني بآدم وجيروم، وكانت قد فعلت ذلك من قبلُ، فقطعت الرحلة إلى هناك مستقلة ثلاث حافلات وبصحبتها آنا.
كانت التدفئة في منزل جوسلين تتم عن طريق موقد يعمل بالزيت في المطبخ، ومدفأة حجرية ضخمة في غرفة المعيشة الصغيرة. كان موقد الزيت مغطًّى ببقع الزيت، فيما كانت قشور البرتقال وثفل القهوة والحطب المحروق والرماد متساقطة من المدفأة. لم يكن هناك قبو ولا مجفف ملابس. كان الجو ممطرًا وكانت أرفف السقف والأرفف المتحركة مكسوَّةً بالملاءات المبتلة الضاربة إلى الرمادي والحفاضات والمناشف الخشنة. لم يكن هناك غسالة ملابس أيضًا، وكانت جوسلين قد غسلت تلك الملاءات في حوض الاستحمام.
قال باتريك الذي كانت روز تخبره أحيانًا بأشياء تعرف أنه سيُحب سماعها فيما يبدو عدم وفاء منها: «لا تملك غسالة ولا مجففًا، ولكنها تذهب إلى طبيب نفساني.»
قالت روز: «لا بد وأنها مصابة بالجنون.» ما أثار ضحكاته.
ولكن باتريك لم يكن يحب أن تذهب لرعاية طفلَي جوسلين.
«لا شك أنك طوع بنانها. غريب أنك لا تذهبين لتنظيف أرضيات منزلها.»
والواقع أن روز قد فعلت ذلك بالفعل.
في وجود جوسلين، كان للفوضى التي تعم المنزل طابع خاص مؤثر، ولكن عندما انصرفت أصبحت لا تطاق. بدأت روز العمل وبحوزتها سكين تكشط به طبقات طعام الأطفال المتراكمة على كراسي المطبخ، وتلمِّع قدر القهوة، وتمسح الأرضية. وكانت تخصص بعض الوقت للبحث والتقصي؛ فكانت تدخل إلى غرفة النوم — إذ كان عليها مراقبة جيروم الذي كان طفلًا أكبر من سنه ومثيرًا للإزعاج — وتلقي نظرة على جوارب كليفورد وملابسه الداخلية التي كانت تختلط جميعًا بحمالات الرضاعة القديمة الخاصة بجوسلين وأربطة جواربها المهترئة. كانت تنظر لترى ما إذا كان قد وضع أسطوانة على القرص الدوار، متسائلة إن كان هذا شيئًا من شأنه أن يدفعه للتفكير فيها.
ووجدت أسطوانة لتيليمان. من غير المحتمل أنها تذكره بها، ولكنها أدارتها لتسمع ما كان يسمعه. احتست القهوة ممَّا اعتقدت أنه فنجانه المتسخ الذي احتسى فيه قهوة الصباح. وقامت بتغطية إناء الأرز الإسباني الذي تناول منه عشاءه ليلة أمس. راحت تقتفي كل أثر لوجوده (لم يكن يستخدم ماكينة حلاقة كهربائية، بل كان يستخدم صابون حلاقة تقليدي يوضع في إناء خشبي)، ولكنها كانت تعتقد أن حياته في هذا المنزل، منزل جوسلين، كانت محض تظاهر وانتظار، مثلما كانت حياتها في منزل باتريك.
حين عادت جوسلين إلى المنزل شعرت روز بأن عليها الاعتذار عن أعمال النظافة التي قامت بها، واتفقت معها جوسلين — التي كانت في حاجة ماسة لأن تخبرها عن مشاجرتها مع طبيبها النفساني الذي ذكَّرها بوالدتها — في الرأي في أن ذلك الهوس الذي يجتاح روز بشأن النظافة المنزلية لهو بالتأكيد ضرب من الهوس الوضيع، ويا حبَّذا لو ذهبت هي نفسها إلى طبيب نفساني إذا أرادت أن تتخلص منه. كانت تمزح، ولكن بينما كانت تستقل الحافلة عائدة إلى المنزل، وقد انتابت آنا نوبة غضب ولم تُعِد أيَّ شيء للعشاء من أجل باتريك، راحت روز تتساءل عن السبب وراء أنها تبدو دائمًا على الجانب الخطأ من الأمور؛ فتجد نفسها محل استهجان من الجيران لأنها لا تُولي اهتمامًا كافيًا بالأعمال المنزلية، فيما تؤنبها جوسلين لعدم احتمالها بما يكفي للفوضى الطبيعية ورفضها للحياة. لقد كانت تفكر في الحب، ليس الحب المخلص تجاه الزوج، وإنما الحب الجنوني الداعر، مثلما لم تكن جوسلين وجيرانها. وقد استغلت ذلك لتصالح نفسها على كل شيء: تتصالح على سبيل المثال مع تقلُّب باتريك في الفراش مُصدِرًا صوتًا لغطيط يشبه نقيق الدجاج قليلًا ممَّا كان يعني أنها قد تحللت من كل مثالبها ونقائصها في اللحظة الراهنة؛ إذ كان يفترض بهما أن يمارسا الحب معًا.
•••
لم تؤتِ كلمات كليفورد التي نمت من التعقل والأخلاقيات أيَّ تأثير مع روز على الإطلاق، فكانت ترى أنه قد خدعها. فلم يكن التعقُّل والأخلاق القويمة هما مطلبها منه. راحت تشاهده في قاعة مدرسة باول ريفر الثانوية. شاهدته وهو يعزف على الكمان وقد كسا وجهه تعبير بائس ولكنه منتبه، كانت يومًا ترى أنه موجَّه لها. لم تكن تعرف كيف لها أن تعيش بدونه.
وفي منتصف الليل اتصلت به من الفندق الذي تقيم به.
«أرجوك، تحدث إليَّ.»
قال كليفورد بعد لحظة من الصمت: «لا بأس، لا بأس يا جوس.»
لا بد وأنه كان لديه رفيق في الغرفة ربما يكون رنين الهاتف قد أيقظه؛ فقد كان يتظاهر بأنه يتحدث إلى جوسلين. أو ربما كان في غاية النعاس إلى حد الاعتقاد بأن جوسلين هي من كانت تحادثه.
«كليفورد، إنه أنا.»
قال كليفور: «لا بأس. هوِّني عليك. فلتذهبي للنوم.»
وأغلق الخط.
•••
يعيش جوسلين وكليفورد الآن في تورونتو، إذ غادرهما الفقر؛ فقد صار كليفورد عازفًا ناجحًا وصار اسمه يظهر على أغلفة الأسطوانات ويُسمع عبر موجات الراديو. وظهر وجهه، والأكثر يداه، على شاشة التليفزيون وهو يعزف على كمانه. أما جوسلين، فاتبعت حمية غذائية وصار لها جسد ممشوق، وقامت بقَصِّ شعرها وصار له شكل أنيق؛ فهو مفروق من المنتصف ومرفوع عن وجهها، مع خصلة بيضاء نقية تخرج من كل صدغ.
إنهما يعيشان في منزل كبير من الطوب على حافة أحد الأودية. يوجد في الفناء الخلفي مآكل للطيور، وقاما بتركيب جهاز ساونا، حيث يجلس كليفورد لفترة طويلة من الوقت اعتقادًا منه أنه سوف يَقِيهِ شر الإصابة بالتهاب المفاصل مثل والده؛ فالتهاب المفاصل هو أكثر ما يخيفه في حياته.
اعتادت روز أن تراهما في بعض الأحيان، فكانت تعيش في الريف، بمفردها، حيث كانت تعمل بالتدريس في إحدى الكليات الأهلية، وودت أن يكون لديها مكان للمبيت فيه حتى الصباح حين تأتي إلى تورونتو. وكان يبدو أنهما يسعدان باستضافتها؛ فقد كانا يقولان إنها أقدم صديقة لهما.
في إحدى المرات حين كانت روز في زيارة لهما، روت لها جوسلين قصة عن آدم. كان لآدم شقة في قبو المنزل، فيما كان جيروم يعيش في وسط المدينة مع صديقته. أما آدم، فكان يُحضر فتياته هنا.
قالت جوسلين: «كنت أقرأ في المعتكَف بينما كان كليفورد بالخارج، وإذ بي أسمع صوت هذه الفتاة من شقة آدم وهي تقول لا! لا. إن الجلبة التي تصدر من شقته تصل مباشرة إلى المعتكَف، وقد نبهناه إلى ذلك، واعتقدنا أنه سيشعر بالحرج …»
قال كليفورد: «لم أكن أعتقد أنه سيُحرج.»
«ولكنه اكتفى بقول إن علينا فقط أن ندير مشغِّل الأسطوانات. ومن ثَمَ ظللت أسمع تلك الفتاة المجهولة المسكينة وهي تصرخ وتحتج، ولم أعرف ماذا أفعل. أعتقد أن هذه المواقف جديدة حقًّا، فلا يوجد لها سوابق، أيفترض بكِ أن تمنعي ابنك من اغتصاب إحدى الفتيات إذا كان هذا هو ما يفعله تحت عينيك أو على الأقل تحت قدميك؟ وأخيرًا نزلتُ إلى الطابق السفلي وجعلت أُخرج جميع عصي التزحلق من الخزانة الواقعة في ظهر غرفة نومه، وبقيت هناك أضرب بتلك العصي، معتقدة أنني سأقول إنني سأقوم بتلميعها. ولكننا كنا في شهر يوليو. ولم يقل لي آدم أي شيء. أتمنى لو غادر المنزل.»
حكت روز عما كان لدى باتريك من مال، وكيف أنه قد تزوج امرأة عاقلة تفوقه ثراء، قامت بتجهيز غرفة معيشة مبهرة بالمرايا والمخمل الباهت ومنحوتة من السلك تشبه قفص طيور لعينًا؛ فلم يعد باتريك يعارض الفن الحديث.
قالت روز لجوسلين: «بالطبع لم يعُد نفس المنزل. أتساءل ماذا فعَلت بالمزهريتين الويدجوود؟»
«ربما يكون لديها غرفة غسيل سخيفة. حيث تضع مبيض الملابس في إحدى المزهريتين، ومسحوق الغسيل في الأخرى.»
«إنهما موضوعتان في تناسق رائع على الرف.»
ولكن وخزات الشعور بالذنب القديمة عادت تنتاب روز.
«ما زال حبي لباتريك كما هو.»
قالت جوسلين: «لماذا؟»
«إنه أكثر لطفًا من معظم الناس.»
قالت جوسلين: «هذا سخف. أراهن أنه لا يحبك.»
قالت روز: «هذا صحيح.» وشرعت تخبرهم عن رحلتها على متن الحافلة. كانت تلك واحدة من المرات التي لم تكن تقود سيارتها فيها؛ نظرًا لوجود الكثير من الأعطال بها، ولم يكن باستطاعتها تحمُّل تكاليف إصلاحها.
«راح الرجل الجالس في المقعد المقابل يخبرني كيف أنه اعتاد قيادة الشاحنات الكبيرة، وقال إننا لم نَرَ قَطُّ شاحنات في هذا البلد مثل تلك الموجودة في الولايات المتحدة.» وبدأت تتحدث بلكنتها الريفية: «في «الويلايات» المتحدة لديهم تلك الطرق الخاصة التي نسميها طرقًا رئيسية ذات بوابات لسداد قيمة المرور، ولا يُسمح سوى للشاحنات بالسير عليها. والخدمات متوافرة على هذه الطرق من طرف البلاد إلى الطرف الآخر، وهذا هو ما يجعل معظم الناس لا يرونها قط. وهي ضخمة للغاية حتى إن حجم الكابينة يعادل نصف حجم حافلة، ويكون لها سائق وسائق مساعد وسائق آخر وسائق مساعد آخر يخلدان للنوم. كما يتوافر بها مرحاض ومطبخ وأسرَّة وكل شيء. وهي تسير بسرعة ثمانين أو تسعين ميلًا في الساعة؛ نظرًا لعدم وجود حَدٍّ للسرعة على الطرق الرئيسية المخصصة لها.»
فقال كليفورد: «إنكِ شخص في غاية الغرابة لكونك ما زلت تعيشين هناك.»
قالت جوسلين: «دعكَ من الشاحنات، ودعك من الميثولوجيا القديمة، كليفورد يريد أن يتركني مرة أخرى.»
جلسوا يحتسون الشراب ويتحدثون عمَّا يجب أن يفعله جوسلين وكليفورد. ولم يكن ذلك بالحوار غير المألوف. ما الذي يريده كليفورد حقًّا؟ هل يرغب حقًّا في الانفصال عن جوسلين أم أنه يريد شيئًا بعيد المنال؟ هل يمر بأزمة منتصف العمر؟
قال كليفورد لروز: «لا تكوني سخيفة هكذا.» وكانت هي من قال أزمة منتصف العمر، وأردف قائلًا: «إنني أمر بها منذ أن كنتُ في الخامسة والعشرين؛ فقد كنت أرغب في الخروج منذ أن دخلت.»
قالت جوسلين: «جديد على كليفورد أن يقول هذا.» واتجهت إلى المطبخ لإحضار بعض الجبن والعنب، ثم صاحت من المطبخ قائلة: «جديد عليه أن يفشي ما بداخله ويقول ذلك.» وفي تلك الأثناء تحاشت روز النظر إلى كليفورد؛ ليس لأن بينهما أي أسرار، ولكن لأنه بدَا من التأدب واللياقة تجاه جوسلين ألا ينظر أحدهما إلى الآخر وهي خارج الغرفة.
قالت جوسلين وقد عادت حاملة صحنًا به الجبن والعنب في يد وزجاجة من شراب الجين في اليد الأخرى: «ما يحدث الآن هو أن كليفورد أصبح صريحًا للغاية. لقد اعتاد أن يتذمر ويثور وتخرج منه هراءات أخرى لا علاقة لها بالمشكلة الحقيقية. أما الآن، فها هو يصرح بالحقيقة الكبرى الملتهبة دون أي رتوش. إنها حقًّا مكاشفة شاملة.»
واجهت روز بعض الصعوبة في فهم لهجتها. شعرت وكأن الحياة في الريف قد جعلتها أكثر بطئًا في الفهم. هل كان حديث جوسلين من قبيل السخرية؟ هل كانت تتهكم؟ لا لم تكن كذلك.
قال كليفورد بابتسامة عريضة: «دعيني أخبرك بالحقيقة.» كان يشرب الجعة من الزجاجة؛ فقد كان يعتقد أن الجعة أفضل له من شراب الجين: «حقيقي تمامًا أنني أردت الخروج منذ أن دخلت، وصحيح أيضًا أنني أردت الدخول وأردت البقاء. أردت الزواج منك وأردتك زوجة لي، ولكني لم أعُد أطيق هذا الزواج ولا أن أكون زوجًا لك. إنه تناقض ثابت.»
قالت روز: «يبدو أنك تعيش في جحيم.»
«لم أقل ذلك. أنا فقط أوضِّح أنها ليست أزمة منتصف العمر.»
قالت روز: «حسنًا ربما كان ذلك مبالغة في التبسيط.» ولكن على الرغم من ذلك، مضت تتحدث بلهجة صارمة وبالأسلوب العقلاني الريفي العملي الذي كانت تتبناه في تلك اللحظة، وكان كل ما سمعاه يخص كليفورد. ما الذي يريده كليفورد حقًّا؟ ما الذي كان يحتاج إليه؟ هل كان بحاجة إلى استوديو؟ هل كان بحاجة إلى إجازة؟ هل كان بحاجة للسفر إلى أوروبا بمفرده؟ ما الذي جعله يعتقد — والكلام على لسانها — أنه كان من الممكن أن تظل جوسلين منشغلة بسعادته إلى ما لا نهاية؟ إن جوسلين ليست والدته لتفعل ذلك.
قالت موجِّهة حديثها إلى جوسلين: «وهذا خطؤك؛ لأنك لم تخبريه بأن عليه أن يتحرك في اتجاه تحقيق ما يريد أو يصمت. لا تبالي بما يريده حقًّا. فليرحل أو يصمت. هذا كل ما ينبغي أن تخبريه به.» ثم قالت موجِّهة الحديث إلى كليفورد بفظاظة مستعارة: «فلتصمت أو ترحل. أستميحك عذرًا لصراحتي المفرطة، أو بالأحرى عدوانيتي الصريحة.»
لم يكن في إقدامها على إظهار العدوانية في نبرتها أية مخاطرة على الإطلاق، وكانت تعرف ذلك؛ فقد كانت ستخاطر لو بدت رقيقة وغير مبالية؛ فالأسلوب الذي كانت تتحدث به في تلك اللحظة كان دليلًا على أنها صديقة حقيقية لهما وأنها تأخذهما على محمل الجد. وقد كانت كذلك بدرجة ما.
قالت جوسلين على سبيل التجربة: «إنها محقة أيها الحقير الداعر. فلترحل أو تصمت.»
حين اتصلت جوسلين بروز، قبل سنوات، لتقرأ عليها قصيدة «عواء»، لم تستطع التلفُّظ بكلمة «داعر»، على الرغم من جرأتها المعهودة في الحديث. حاولت أن ترغم نفسها على قولها، ثم قالت: «آه، هذه حماقة، ولكن لا أستطيع قولها. سوف أضطر لقول «وغد» بدلًا منها. سوف تعرفين ما أعنيه حين أقول وغد، أليس كذلك؟»
قال كليفورد: «ولكنها قالت إنه خطؤك. تريدين أن تلعبي دور الأم. تريدين أن تكوني الرشيدة الناضجة. تريدين أنت تكوني الصابرة على المعاناة.»
قالت جوسلين: «اهدأ. ربما. ربما، نعم. ربما أكون كذلك بالفعل.»
قال كليفورد بابتسامته العريضة الناعمة: «أراهن أنكِ عندما كنتِ في المدرسة كنت تتعلقين بأولئك الأطفال ممَّن لديهم مشكلات؛ أولئك الأطفال المساكين، أو الذين يعانون من حَبِّ الشباب، أو يرتدون ثيابًا رثة بشعة، أو يعانون من إعاقات كلامية. أراهن أنكِ كنتِ تضطهدين أولئك الأطفال المساكين بإظهارك المودة والملاطفة نحوهم.»
التقطت جوسلين سكين الجبن ولوَّحت به في وجهه.
«فلتأخذ أنت حذرك. فأنت لم تُصَبْ بحَب الشباب أو إعاقة كلامية، بل تحظى بالوسامة إلى حدٍّ مثير للغثيان. وموهوب. ومحظوظ.»
قال كليفورد بتغنُّج مبالغ: «إن لدي مشكلات شبه مستعصية في التوافق مع دور الرجل الناضج. الطبيب النفساني يقول ذلك.»
«لا أصدقك؛ فالأطباء النفسانيون لا يقولون أي شيء من قبيل كلمة شبه مستعصٍ تلك، ولا يستخدمون هذه الاصطلاحات، ولا يصدرون تلك الأحكام. لا أصدقك يا كليفورد.»
«حسنًا، أنا حقًّا لا أتردد على أي طبيب نفساني، بل أذهب إلى دور السينما القذرة في شارع يونج.»
وانطلق كليفورد للجلوس في الساونا.
شاهدته روز وهو يغادر الغرفة. كان يرتدي بنطالًا من الجينز وتي شيرت كُتب عليه عبارة «أنا أمرُّ من هنا وحسب». كان خصره وفخذاه نحيلين كطفل في الثانية عشرة، وكان شعره الرمادي قصيرًا للغاية بشكل يُظهِر جمجمته. هل كانت هذه التسريحة السائدة بين الموسيقيين هذه الأيام في الوقت الذي كان الشعر الكثيف واللحية سمة الساسة والمحاسِبين، أم كان هذا انحرافًا تفرَّد به كليفورد؟ كانت سمرته تبدو مصطنَعة وكأنها من كريم الأساس التجميلي، على الرغم من أنها كانت طبيعية تمامًا. كان هناك لمحة من التصنُّع والتكلُّف فيه ككل، بما بدا عليه من تألُّق زائف، ونحول، وميل للتهكُّم والاستهزاء. كان هناك لمحة من الخلاعة في نحوله وابتسامته العذبة المصطنعة.
قالت لجوسلين: «أهو بخير؟ إنه يبدو نحيلًا بشكل بشع.»
«يريد أن يبدو بهذا الشكل. إنه لا يأكل سوى الزبادي والخبز الأسمر.»
قالت روز: «لا يمكن أبدًا أن تنفصلا؛ لأن منزلكما غاية في الجمال.» واضطجعت على السجادة المعقوفة. كان لغرفة المعيشة جدران بيضاء، وستائر بيضاء سميكة، وأثاث قديم من خشب الصنوبر، ولوحات كبيرة بألوان مشرقة، وسجاد معقوف. وعلى منضدة قصيرة مستديرة عند مستوى مرفقها وُضع إناء من الأحجار المصقولة لكي يلتقطها الضيوف لتمريرها عبر أصابعهم. كانت هذه الأحجار من شواطئ فانكوفر، ومن ساندي كوف والخليج الإنجليزي وكيتسيلانو وأمبلسايد ودونداريف؛ حيث كان جيروم وآدم قد جمعاها منذ زمن طويل.
•••
غادرت جوسلين وكليفورد كولومبيا البريطانية بعد فترة قصير من عودة كليفورد من جولته الإقليمية، فتوجها إلى مونتريال، ثم إلى هاليفاكس، ومنها إلى تورونتو. كان يبدو أنهما بالكاد يتذكران فانكوفر. ذات مرة حاولا تذكُّر اسم الشارع الذي كانا يسكُنَان فيه، وكانت روز هي من اضْطُرَّتْ لتذكيرهما به. حين كانت روز تعيش في كابيلانو هايتس اعتادت أن تأخذ الكثير من الوقت لتتذكر أسماء الأماكن في أونتاريو حيث عاشت؛ وفاءً منها لذلك المكان القديم الذي ضم المناظر الطبيعية الجميلة. الآن وقد أصبحت تعيش في أونتاريو صارت تبذل نفس الجهد في تذكر أشياء عن فانكوفر، مُمْعِنَةً التفكير لاستيضاح تفاصيل كانت في حَدِّ ذاتها تفاصيل عادية للغاية. فحاولت، على سبيل المثال، أن تتذكر أين كان الراكب ينتظر حافلة باسيفيك ستيدج، حين يكون متوجهًا من شمال فانكوفر إلى غربها، فتخيلت نفسها تصعد على متن تلك الحافلة الخضراء القديمة في حوالي الساعة الواحدة — لنقل، في أحد أيام فصل الربيع — في طريقها إلى منزل جوسلين لرعاية طفليها، وبصحبتها آنا في معطف المطر الأصفر وقبعة المطر. تخيَّلت المطر البارد، والمساحة الممتدة المليئة بالمستنقعات في الطريق نحو غرب فانكوفر حيث تقف الآن المراكز التجارية والبنايات الشاهقة. استطاعت أن ترى بعينَي رأسها الشوارع، والمنازل، وطريق سيفواي القديم، فندق سانت ماوس، أشجار الغابة الكثيفة الملتفة، المكان الذي يترجل منه الركاب من الحافلة عند المتجر الصغير، اللافتة الإعلانية لسجائر بلاك كات، نداوة شجر الأرز بينما كانت تسير عبر الغابة صوب منزل جوسلين، السكون الذي يسود مع بداية فترة ما بعد الظهيرة، وقت القيلولة، النساء الشابات وهن يحتسين القهوة بينما يطللن من النوافذ المطيرة، الأزواج المتقاعدين وهم يقومون بتمشية كلابهم، آثار الأقدام على تراب الأرض السميك، الزعفران، وبراعم زهور النرجس البري، والبصيلات الباردة وهي تتفتح وتزدهر، ذلك الاختلاف الشديد للهواء بالقرب من البحر، النباتات التي تتساقط منها قطرات الندى، السكون، آنا وهي تجذب يدها، منزل جوسلين الصيفي الخشبي بلونه البني يلوح في الأفق، عبء الخوف والغموض الثقيل وهو يتضاءل بينما كانت تقترب من ذلك المنزل.
ثمة أشياء أخرى لم تكن حريصة على تذكرها بنفس الدرجة.
كانت تبكي وهي على متن الطائرة متوارية خلف نظارتها الشمسية طوال الرحلة عائدة من باول ريفر. كانت تبكي أثناء جلوسها في غرفة الانتظار بمطار فانكوفر، ولم تستطع كبح دموعها والعودة إلى باتريك. كان جالسًا بجوارها شرطي بملابس ملكية فتح سترته ليُظهر لها شارته الشرطية، وسألها إذا ما كان بإمكانه القيام بأي شيء من أجلها. لا بد أن أحدًا قد استدعاه. هالها أن تكون لافتة للأنظار إلى هذا الحد، فما كان منها إلا أن فرَّت إلى مرحاض السيدات. لم تفكر في أن تعزي نفسها بكأس من الشراب، ولم تفكر في البحث عن الحانة، فلم تكن آنذاك معتادة على الذهاب إلى الحانات. ولم تأخذ قرصًا مهدئًا؛ فلم يكن معها أية مهدئات، ولا تعرف أي شيء عنها. ربما لم تكن مثل هذه الأشياء متوافرة.
المعاناة. ماذا كانت تعني المعاناة؟ الضياع التام، الذي لا يعكس أية حظوة أو مفخرة. حزن مشين إلى أقصى الحدود. الكرامة المهشَّمة والخيال المحطم على صخرة السخرية. كان الأمر وكأنها قد أخذت معولًا وحطمت به إصبع قدمها الكبيرة عن عمد. هكذا كان اعتقادها في بعض الأحيان. وفي أحيان أخرى ترى أن ما حدث كان ضروريًّا؛ فقد كان بداية الدمار والتغيرات، بداية الطريق الذي أدى بها إلى حيث هي الآن، بدلًا من منزل باتريك. جعجعة بلا طحن، هكذا عادة الحياة.
لم يستطع باتريك أن يتحدث عندما أخبرته، ولم يكن لديه محاضرة وعظية جاهزة ليلقيها عليها. ظل صامتًا لفترة طويلة، ولكنه كان يتعقبها في أرجاء المنزل فيما ظلت هي تُبَرِّر موقفها وتشكو. كان الأمر وكأنه يريدها أن تستمر في الحديث، على الرغم من أنه لم يستطع تصديق ما كانت تقوله؛ لأن الأمر كان سيزداد سوءًا لو أنها توقفت عن الكلام.
لم تخبره الحقيقة كاملة؛ فقد قالت إنها قد «أقامت علاقة» مع كليفورد، ومن خلال هذه المكاشفة منحت نفسها نوعًا من الارتياح الباهت بطريقة غير مباشرة، اخترقته نظرة باتريك وصمته في تلك اللحظة، وإن كان لم يدمَّر تمامًا. بدا مثل هذه الحزن الذي خيَّم على وجهه بكل صراحة وكأنه في غير وقته وغير ملائم وظلم من جانبه.
بعدها دَقَّ جرس الهاتف، واعتقدت أنه سيكون كليفورد وقد تغيرت مشاعره، لكنه لم يكن كليفورد، بل كان رجلًا كانت قد قابلته في حفل جوسلين. قال إنه يقوم بإخراج مسرحية إذاعية، وكان بحاجة إلى فتاة ريفية، وكان قد تذكر لكنتها الريفية.
ليس كليفورد.
لم تكن لتفضل التفكير في أي من هذا؛ فهي تفضل أن ترى بعض المشاهد الصغيرة للحياة اليومية المفقودة من خلال مشاهد أشجار الأرز تتساقط منها حبات الندى، وشجيرات التوت البري الأحمر، والاخضرار القاتم المتزايد للغابات الممطرة التي تطل عليها عبر النافذة ذات الإطارات المعدنية، معطف آنا الأصفر المقاوم للمطر، الدخان المتصاعد من مدفأة جوسلين ذات الرائحة الكريهة.
•••
قالت جوسلين لروز: «أترغبين في رؤية الأشياء السخيفة التي كنت أشتريها؟» واصطحبتها إلى الطابق العلوي، فأرتها تنورة مطرَّزة وبلوزة من الستان الأحمر القاني، وبيجامة من الحرير الأصفر، وفستانًا طويلًا من نسيج محبوك خشن لا شكل له من أيرلندا.
«إنني أنفق أموالًا طائلة. أقصد ما كنت أعتقد يومًا ما أنها أموال طائلة. لقد استغرق مني الأمر وقتًا طويلًا. بل استغرق من كلينا وقتًا طويلًا لكي نستطيع إنفاق المال، فلم نكن نستطيع أن نحمل أنفسنا على ذلك. لقد كنا نحتقر من يمتلكون تليفزيونًا ملونًا. أتعرفين شيئًا، إن التليفزيون الملوَّن رائع! نحن الآن نجلس حوله ونقول: ما الذي نرغب في اقتنائه؟ ربما واحد من أفران التوستر الصغيرة للمنزل الصيفي. ربما أرغب في اقتناء مجفِّف للشعر. كل تلك الأشياء التي عرفها الجميع منذ سنوات، ولكن كنا نعتقد أننا أصلح من أن نقتنيها. لقد صرنا يقول أحدنا للآخر: أتدري ماذا نحن؟ نحن شخصيات استهلاكية! ولا بأس في ذلك!
وليس فقط اللوحات والأسطوانات والكتب، فلطالما كنا نعرف أنها أشياء لا بأس منها. التليفزيون الملوَّن! مجففات الشعر! محمصات الوافل!»
فصاحت روز مبتهجة: «أقفاص طيور بجهاز تحكم عن بعد!»
«تلك هي الفكرة.»
«المناشف الساخنة.»
«يا غبية، تقصدين حوامل المناشف الكهربائية! إنها رائعة.»
«سكاكين تقطيع اللحم الكهربائية، فرش أسنان كهربائية، أعواد أسنان كهربائية.»
«بعض هذه الأشياء ليست بالسوء الذي تبدو عليه. حقًّا ليست سيئة.»
•••
في إحدى المرات الأخرى التي جاءت فيها روز كان كليفورد وجوسلين يقيمان حفلًا، وعندما غادر الجميع جلس الثلاثة؛ جوسلين وكليفورد وروز، على أرضية غرفة المعيشة، وهم ثمالى نوعًا ما، وفي حالة من الاسترخاء الشديد. سار الحفل على ما يرام، وشعرت روز بشهوة سحيقة تدفعها الرغبة تتحرك بداخلها، ربما ذكرى شهوة من الماضي. وقالت جوسلين إنها لا ترغب في النوم.
قالت روز: «ماذا يمكن أن نفعل؟ لا يجب أن نشرب أكثر من ذلك.»
فقال كليفورد: «يمكننا أن نمارس الحب.»
فقالت جوسلين وروز في نفس اللحظة: «حقًّا؟» ثم شبكتا أصابعهما الصغيرة معًا وقالتا: «الدخان ينطلق عبر المدخنة.»
بعدها جردهما كليفورد من ملابسهما. لم ترتعدا من البرد؛ إذ كانت نيران المدفأة تلف الغرفة بالدفء. وظل كليفورد ينقل اهتمامه من واحدة إلى الأخرى بشكل رقيق، وتجرَّد من ملابسه هو الآخر. كانت مشاعر روز تتأرجح ما بين الاستغراب وعدم التصديق، فلم تكن ترغب في ذلك، رغم شعورها بالإثارة، حتى انتهى بها الأمر إلى أن شعرت بالذهول والحزن. وعلى الرغم من أن كليفورد كان يداعب كلتيهما في البداية، سرعان ما وقع اختياره عليها في النهاية ليمارس معها الحب سريعًا على السجادة المعقوفة غير المتساوية. وبدت جوسلين وكأنها ترفرف فوقهما مصدرة أصواتًا تطمئنهم معبرة لهم عن رضاها ومباركتها.
في صباح اليوم التالي اضطرت روز للمغادرة قبل أن تستيقظ جوسلين وكليفورد، واضطرت للذهاب إلى وسط المدينة بواسطة المترو، واكتشفت أنها كانت تنظر للرجال بتلك النظرة الشهوانية، تلك الرغبة الباردة والمؤلمة التي تحررت منها لفترة. وبدأت في الشعور بغضب شديد؛ كانت غاضبة من كليفورد وجوسلين؛ فقد شعرت أنهما قد جعلا منها أضحوكة، وخدعاها، وفتحا عينيها على نقص صارخ لديها لم تكن لِتَعِيَهُ لولا ما حدث، وقررت ألا تراهما مرة أخرى مطلقًا، وأن تكتب لهما خطابًا تعقِّب فيه على أنانيتهما، وبلادتهما، وانحطاطهما الأخلاقي. وما لبث نَصُّ الخطاب أن اكتمل بالشكل الذي يرضيها، في ذهنها، حتى كانت قد عادت إلى القرية مرة أخرى وهدأت، وقررت ألا تكتبه. وفي وقت لاحق قررت أن تستمر في صداقتها مع كليفورد وجوسلين؛ لأنها كانت بحاجة لمثل هذين الصديقين من حين لآخر، في مثل هذه المرحلة من حياتها.
العناية الإلهية
بعد أن رحلت روز تاركة آنا، رأت حلمًا عنها؛ فقد رأت أنها قابلت آنا وهي تسير أعلى تل جونزاليس هيل. كانت تعرف أنها قادمة من المدرسة، فصعدت كي تتحدث معها، ولكن آنا تركتها دون أن تنطق بكلمة. لا غرو. كانت مغطاة بطين بدا وكأن به أوراق شجر أو أفرع، بحيث بدا الشكل وكأنها أكاليل من الزهور الميتة، وكأن الزينة قد تداخلت مع الدمار، ولم يكن الطين أو الوحل جافًّا، بل كانت قطراته لا تزال تتساقط عليها، حتى بدت فظة وحزينة، وكأنها تمثال كئيب غير متقن الصنع.
خاطبتها روز قائلة: «أترغبين في أن تأتي معي؟ هل ترغبين في البقاء مع أبيك؟» ولكن آنا رفضت الإجابة، وبدلًا من ذلك قالت: «لا أريدك أن تذهبي.» وكانت روز قد حصلت على وظيفة في إحدى المحطات الإذاعية في بلدة في جبال كوتيناي.
كانت آنا ترقد في السرير ذي الأربعة أعمدة الذي كان روز وباتريك ينامان عليه، وصار باتريك ينام فيه بمفرده الآن؛ حيث كانت روز تنام في المعتكف.
كانت آنا تذهب للنوم في هذا السرير، ثم يحملها باتريك إلى سريرها. ولم يكن باتريك وروز يعلمان متى أصبح ذلك شيئًا أساسيًّا بعد أن كان شيئًا عارضًا. كان كل شيء في المنزل مضطربًا. كانت روز تعد أمتعتها، وكانت تفعل ذلك خلال النهار في غياب باتريك وآنا. كانت هي وباتريك يقضيان المساء في أجزاء مختلفة من المنزل. وذات مرة دخلت غرفة الطعام ووجدته يضع شريطًا لاصقًا على الصور الفوتوغرافية في ألبوم الصور، وتسبَّب قيامه بذلك في غضبها؛ فقد رأت صورة لها وهي تدفع آنا على الأرجوحة في المتنزه، وصورة أخرى وهي تبتسم ابتسامة مصطنعة بلباس البحر، مجرد أكاذيب.
قالت روز: «لم يكن الحال أفضل وقتئذ. لم يكن أفضل حقًّا.» كانت تعني أنها طالما كانت تخطط في قرارة عقلها للقيام بما تقوم به الآن، حتى في يوم زفافها كانت تعرف أن هذا الوقت سيأتي، وإذا لم يأتِ فقد تكون ميتة. كانت الخيانة قادمة منها.
قال باتريك في غضب: «أعرف ذلك.»
ولكن الحال كان أفضل بالطبع؛ لأنها لم تكن قد بدأت في محاولتها للتعجيل بلحظة الانفصال، إذ ظلت ناسية فترات طويلة أن هذه اللحظة يجب أن تأتي، حتى القول إنها كانت تخطط للانفصال، وإنها قد بدأت في الانفصال بالفعل، كان خطأً؛ لأنها لم تفعل أي شيء عن عمد، لم تفعل أي شيء بذكاء؛ لقد حدث كل شيء بأكبر قدر ممكن من الألم والدمار، وصاحبه كل أشكال التردد والتصالح والتعنيف، وها هي الآن تشعر وكأنها تسير على جسر متأرجح ولا يسعها سوى أن تضع نصب عينيها الألواح التي أمامها، دون النظر إلى أسفلها أو حولها مطلقًا.
قالت مخاطبة آنا بنبرة هادئة: «أيهما تريدين؟» وبدلًا من الإجابة عن السؤال، نادت آنا على باتريك. وعندما جاء جلست منتصبة وجذبتهما ليجلسا على السرير، كل على جانب، وتشبثت بهما وبدأت في النحيب والارتعاد. كانت طفلة مؤثرة بشكل بالغ لدرجة تجعلها أحيانًا كالنصل المكشوف.
قالت: «لستما مضطرَّيْن لذلك؛ فلم تعودا تتشاجران مرة أخرى.»
نظر باتريك نحو روز دون أن تحمل عيناه أي اتهام؛ فقد كانت نظرته المعتادة لسنوات — حتى عندما كانا يمارسان الحب — نظرة اتهامية، ولكنه شعر بألم بالغ بسبب آنا لدرجة محت كل الاتهامات. كان على روز أن تنهض وتخرج تاركة إياه ليواسي آنا؛ لأنها خشيت أن يكون هناك في الطريق دفعة كبيرة وخادعة من المشاعر من جانبها تجاهه.
لقد كان ذلك حقيقيًّا؛ فلم يعودا يتشاجران كثيرًا. كان على رسغيها وجسدها ندوب صنعتها بنصل شفرة (ليس في أخطر المناطق). وذات مرة حاول باتريك أن يخنقها في مطبخ هذا المنزل. وفي مرة أخرى هرولت إلى الخارج وجثت على ركبتيها وهي ترتدي لباس النوم وراحت تمزق حفنة من الحشائش. غير أن هذا النسيج الدموي الذي نسجه والداها من الأخطاء وعدم التوافق، والذي يمكن لأي شخص أن يرى ضرورة أن يُمزَّق ويُلقى بعيدًا، كان لا يزال هو نسيج الحياة الحقيقي في نظر آنا، نسيج الأب والأم، نسيج البداية والمأوى. كانت روز تفكر في معنى الخديعة بالنسبة للجميع؛ فنحن نأتي من ترابطات لا تضم بداخلها أي شيء مما نعتقد أننا نستحقه.
كتبت روز إلى توم لتخبره بما تعتزم فعله، كان توم مدرِّسًا بجامعة كالجاري. كانت روز تشعر بقليل من الحب تجاهه (هكذا قالت لأصدقائها ممن علموا بشأن تلك العلاقة: «قليل من الحب»). كانت قد التقته هنا قبل عام — وهو شقيق السيدة التي تمثل معها أحيانا في المسرحيات الإذاعية — ومنذ ذلك الحين أقامت معه مرة واحدة في فيكتوريا. كانا يتراسلان بخطابات طويلة. وهو رجل لطيف ودمث، يعمل مؤرخًا، واتسمت خطاباته لها بسرعة البديهة وعبارات الحب الرقيقة، وانتابها بعض الخوف من أن يقلل توم من مراسلاته عندما تعلن أنها بصدد الانفصال عن باتريك، أو أن يتوخى فيها مزيدًا من الحذر؛ إذ ربما قد تتمنى منه أكثر مما يرغب هو فيه؛ أي «تأتيه الأفكار». ولكنه لم يفعل؛ فهو لم يكن بهذا الحد من الفظاظة ولا هذا الحد من الجبن؛ وكان يثق بها.
كانت تخبر أصدقاءها أن انفصالها عن باتريك لا علاقة له بتوم، وأن مقابلاتها مع توم على الأرجح لن تزداد عن ذي قبل. كانت تعتقد ذلك، ولكنها كانت تفاضل بين العمل في البلدة الجبلية وبين عمل آخر في جزيرة فانكوفر؛ لأنها أحبَّت فكرة أن تكون أكثر قربًا من توم.
في الصباح كانت آنا في حالة من الابتهاج والمرح، وقالت إن كل شيء على ما يرام. قالت إنها ترغب في البقاء؛ فقد أرادت البقاء في مدرستها مع أصدقائها، وعندما قطعت نصف الممشى أبطأت من سرعتها لكي تلوح لوالديها وصاحت لهما قائلة: «طلاقًا سعيدًا!»
•••
ظنت روز أنها بمجرد أن تخرج من منزل باتريك، سوف تعيش في غرفة جرداء كئيبة، أو مكان متسخ رث، ولكنها لم تكن لتعبأ بذلك، ولم تكن لتشغل نفسها بإعداد مكان لها؛ فقد كانت تبغض كل ذلك. كانت الشقة التي عثرت عليها — وكانت عبارة عن الطابق العلوي لمنزل من الطوب البني يقع ناحية الجبل عند منتصف الطريق — متسخة ورثة، ولكنها سرعان ما بدأت العمل على إصلاحها. تزيَّن الحائط بورق ذي لونين: الذهبي والأحمر، كان قد وُضع على عَجَل (فقد اكتشفت أن هذه الأماكن غالبًا ما تتزين بفكرة أحد الأشخاص عن ورق حائط أنيق)، وكان شكله جميلًا، ولكنه انطوى قليلًا فوق إزار الحائط، فاشترت بعض الغراء وقامت بلصقه، كما اشترت نباتات معلقة وكانت تعتني بها لكي لا تذبل وتموت. وقامت بوضع بعض الملصقات الهزلية في المرحاض، ودفعت أثمانًا زهيدة لقاء غطاء سرير هندي، وبعض السلال والآنية الفخارية والأكواب المزخرفة التي اشترتها من المتجر الوحيد في البلدة الذي تتوافر فيه مثل هذه الأشياء. وقامت بطلاء المطبخ باللونين الأزرق والأبيض، في محاولة للحصول على ألوان الخزف الصيني المنقوش. وقد تعهد صاحب المنزل بدفع تكاليف الطلاء، ولكنه لم يفعل. كما اشترت شموعًا زرقاء، وبعض البخور، وباقة كبيرة من أوراق النباتات والحشائش المجففة ذات اللون الذهبي. وبعد أن انتهت من كل ذلك ظهرت معالم المكان وبدا واضحًا أنه يخص امرأة تعيش بمفردها، ربما لم تعد صغيرة، لها صلة — أو تتمنى أن تكون على صلة — بإحدى الكليات أو بالفنون، مثلما كان المنزل الذي كانت تعيش فيه من قبل؛ أي منزل باتريك، يسهل تمييزه كمنزل يخص رجل أعمال أو مهني ذي إرث من المال والمعايير.
بدت البلدة الواقعة وسط الجبال بعيدة عن كل شيء، ولكن روز أحبتها، وكان بُعدها جزءًا من أسباب هذا الحب. حين تعودُ للحياة في بلدة بعد أن تجرب حياة المدن يكون بداخلك فكرة مفادها أن كل شيء هناك سهل ومفهوم، وكأن مجموعة من الأشخاص قد اجتمعوا معًا وقالوا: «لنلعب لعبة البلدة»، وتعتقد أنه لا يمكن للموت أن يقرب أحدًا هناك.
كتب لها توم قائلًا إنه لا بد أن يأتي لرؤيتها، وفي شهر أكتوبر (ولم تكن تتوقع أن يكون ذلك بهذه السرعة) لاحت فرصة لذلك، تمثلت في مؤتمر عُقد في فانكوفر؛ فقد خطَّط لأن يترك المؤتمر في فانكوفر قبل انتهائه بيوم، ويدعي أنه سيقضي يومًا إضافيًّا هناك حتى يتاح له يومان بلا التزامات، ولكنه اتصل من فانكوفر ليبلغها أنه لن يتمكن من الحضور؛ فقد أصيب بعدوى في أسنانه، وكان يعاني ألمًا مبرحًا، وكان لا بد من خضوعه لجراحة أسنان طارئة في نفس اليوم الذي كان قد خطط لقضائه مع روز. وقال إنه سيأخذ اليوم الإضافي على أية حال، وسألها عما إذا كانت تعتقد أن ذلك بمنزلة حكم أُصدر عليه. قال إنه يتبنى نظرة كالفينية للأمور، وإنه يترنح من الألم والأدوية.
سألتها صديقتها دوروثي ما إذا كانت تصدقه. ولم يكن يخطر ببال روز ألا تصدقه.
قالت روز: «لا أعتقد أنه الشخص الذي يفعل ذلك.» وردت دوروثي بنبرة يغلب عليها المرح واللامبالاة: «إنهم يفعلون أي شيء.»
كانت دوروثي هي السيدة الوحيدة الأخرى في المحطة، وكانت تعمل في برنامج لرعاية كبار السن والمعوزين مرتين في الأسبوع، وتتجول لإلقاء خطب على المجموعات النسائية؛ وكان الإقبال عليها كبيرًا باعتبارها سيدة مراسم الاحتفال في حفلات العشاء التي تقام لتسليم الجوائز للمؤسسات الشبابية، أو شيئًا من هذا القبيل. وقد قامت الصداقة التي نشأت بينها وبين روز في المقام الأول على عزوبيتهما المشتركة نوعًا ما وطبيعتهما المغامرة. وكان لدوروثي حبيب في سياتل، ولم تكن تثق به.
بينما كانت روز ودوروثي تتناولان القهوة في «هول إن وان»، وهو مقهى صغير ومحل لبيع الفطائر المحلاة يقع بجوار المحطة الإذاعية، قالت دوروثي: «إنهم يفعلون أي شيء.» ومضت دوروثي تروي لروز قصة عن علاقة جمعتها بمالك المحطة الذي أصبح عجوزًا الآن ويقضي معظم وقته في كاليفورنيا. كان قد أهداها عقدًا في الكريسماس، وقال إنه من اليشم، اشتراه من فانكوفر، فذهبت لإصلاح المشبك وسألت بكل فخر عن قيمة العقد المادية، فقيل لها إنه ليس من اليشم على الإطلاق، وشرح لها الصائغ كيف حدد ذلك، حاملًا إياه تحت الضوء. وبعد بضعة أيام حضرت زوجة مالك المحطة إلى المكتب مرتدية عقدًا مماثلًا، وقد أخبرها هي أيضًا بنفس قصة اليشم. وبينما كانت دوروثي تخبرها بذلك، كانت روز تنظر إلى شعر دوروثي المستعار الأشقر الضارب إلى الرمادي، ذي اللمعة والمظهر الفاخر لدرجة تجعل من ينظر إليه لا يصدق أنه طبيعي ولو للحظة، ووجهها يكسوه مظهر كئيب كانت باروكتها وظلُّ عيونها الفيروزي تؤكدانه. كانت للوهلة الأولى تبدو خليعة؛ إلا أن الناس في تلك البلدة كانوا يرونها غريبة، ولكنها فاتنة، ومثالًا حيًّا لعالم عصري أسطوري.
قالت دوروثي: «كانت هذه آخر مرة أثق برجل؛ ففي نفس الوقت الذي كان يضاجعني فيه كان يضاجع فتاة كانت تعمل هنا — فتاة متزوجة تعمل نادلة — ويضاجع جليسة أحفاده. ما رأيكِ في هذا؟»
عادت روز خلال فترة أعياد الكريسماس إلى منزل باتريك. لم تكن قد رأت توم بعد، ولكنه أرسل لها شالًا مطرزًا ذا أهداب لونه كحلي كان قد اشتراه خلال إجازة مؤتمر في المكسيك في أوائل شهر ديسمبر، اصطحب خلاله زوجته معه (قالت روز لدوروثي إنه كان قد وعد زوجته بهذا على أية حال). على مدى ثلاثة أشهر زاد طول آنا، ونحفت؛ إذ كانت تفضل شد معدتها إلى الداخل وإبراز عضلاتها للخارج، لتبدو كطفلة من أطفال المجاعات. كانت معنوياتها مرتفعة، وفي غاية الحيوية والنشاط، وتنضح بالتصرفات المضحكة والألغاز. وبينما كانت تسير مع والدتها متجهتين إلى المتجر — حيث عادت روز مرة أخرى لتقوم بمهام التسوق، والطهي، حتى إنها أحيانًا ما كان الخوف يستبد بها من أن تكون وظيفتها وشقتها وتوم كلها أشياء لا وجود لها خارج نطاق خيالها — إذ بها تقول: «دائمًا ما أنسى وأنا في المدرسة.»
«تنسين ماذا؟»
«دائمًا ما أنسى أنكِ لست بالمنزل، ثم أتذكر أنه لا يوجد سوى السيدة كريبر.» كانت السيدة كريبر هي مديرة المنزل التي عيَّنها باتريك.
قررت روز أن تصطحب آنا لتعيش معها، ولم يمانع باتريك في ذلك، بل قال إن ذلك هو أفضل شيء. ولكنه لم يستطع البقاء في المنزل بينما كانت روز تحزم أمتعة آنا.
قالت آنا في وقت لاحق إنها لم تكن تعلم أنها ستذهب لتعيش مع روز، وإنها كانت تعتقد أنها قادمة في زيارة لا أكثر. وكانت روز تعتقد أن عليها أن تقول وتفكر في شيء كهذا حتى لا تتحمل ذنب أي قرار.
أبطأ القطار الجبلي السير بفعل عاصفة ثلجية عنيفة.
•••
كان الماء متجمدًا، ووقف القطار فترة طويلة في المحطات الصغيرة وقد لفَّته سحب من البخار على أثر إذابة الجليد المتراكم على أنابيب البخار، فكانتا ترتديان معطفيهما الثقيلين وتهرولان عبر رصيف المحطة. قالت روز: «سوف أضطر لأن أشتري لك معطف مطر، وأشتري لك بعض الأحذية الطويلة لتدفئك.» ففي شتاء المناطق الساحلية المظلم، كانت الأحذية الطويلة المطاطية ومعاطف المطر المزودة بغطاء للرأس كافية. لا بد أن آنا قد أدركت بذلك أنها ستبقى هناك، ولكنها لم تقل شيئًا.
عند حلول الليل، وبينما كانت آنا نائمة، راحت روز تنظر من النافذة إلى العمق الصادم للثلج وبريقه المتألق. كان القطار يزحف ببطء خوفًا من الانهيارات الثلجية. لم تكن روز قلقة؛ إذ أعجبتها فكرة وجودهما معًا وقد أُغلق عليهما هذا المهجع المظلم، أسفل أغطية القطار الخشنة، وتنطلقان عبر هذه الطبيعة القاسية. كانت تشعر دائمًا أن تقدُّم القطارات في المسير، مهما كان محفوفًا بالمخاطر، آمنٌ ومناسبٌ. فيما كانت تشعر، على الجانب الآخر، بأن الطائرات قد تفزع في أية لحظة مما تفعله، وتهوي عبر الهواء دون همسة احتجاج.
أرسلت روز آنا إلى المدرسة بملابسها الشتوية الجديدة، وكان كل شيء يسير على ما يرام؛ فلم تجفل آنا أو تواجه أية معاناة باعتبارها غريبة عن البلدة. وفي غضون أسبوع صارت تصطحب معها أطفالًا إلى المنزل، وتذهب هي أيضًا إلى منازل أطفال آخرين. وكانت روز تخرج لمقابلتها لتعود بها إلى المنزل في بداية ظلمة الشتاء، عبر الشوارع المحاطة بجدران شاهقة من الثلج. كان القلق يساور روز إذ حدث أن نزل دبٌّ من الجبال ودخل البلدة في الخريف، وتواردت الأخبار بشأن تلك الواقعة عبر الراديو بهذا النص: «زائر غير مألوف، دب أسود يجوب شارع فولتون. يُنصح بإبقاء الأطفال داخل المنازل.» كانت روز تعرف أن من غير المحتمل أن يدخل دب إلى البلدة في الشتاء، ولكن القلق ساورها أيضًا، وكذلك كانت تخشى السيارات في ظل ضيق الشوارع الشديد وصعوبة رؤية النواصي. في بعض الأحيان كانت آنا تعود إلى المنزل من طريق مختلف، بينما تقطع روز المسافة إلى منزل الطفل الآخر حيثما توجد ولا تجدها هناك، فتركض وتركض طوال الطريق إلى المنزل عبر الشوارع شديدة الانحدار، وتصعد درجات السلم الطويل وقلبها يخفق من المجهود ومن الخوف الذي كانت تحاول أن تخفيه عندما تجد آنا هناك.
كان قلبها يخفق أيضًا من عناء جر الغسيل والبقالة؛ فقد كانت المغسلة، والسوبر ماركت، ومتجر المشروبات الكحولية، تقع أسفل التل، وكانت هي مشغولة طوال الوقت، ودائمًا ما كان لديها خطط عاجلة للساعة التالية، من الذهاب لأخذ الأحذية التي تصلحها لأنها تحتاج إلى نعال جديدة، وغسيل وصبغ شعرها، وإصلاح معطف آنا من أجل المدرسة في الغد. إلى جانب وظيفتها التي كانت شاقة بما يكفي، كانت روز تقوم بنفس الأشياء التي طالما كانت تفعلها، وتفعلها تحت ظروف أصعب، إلا أن المدهش في الأمر هو ذلك القدر المذهل من الارتياح الذي كانت تشعر به في هذه الأعمال المنزلية الشاقة.
اشترت روز لآنا شيئين: السمك الذهبي وجهاز التليفزيون؛ إذ لم يكن مسموحًا بوجود القطط أو الكلاب في الشقة، فقط طيور أو أسماك. في أحد أيام شهر يناير، في ثاني أسبوع من قدوم آنا، هبطت روز التل سيرًا لتقابل آنا بعد المدرسة لتصطحبها إلى متجر وولورث لشراء السمك، فنظرت إلى وجه آنا واعتقدت أنه متسخ، ثم أدركت أنه ملطخ بالدموع.
قالت آنا: «سمعتُ اليوم شخصًا ما ينادي على جيريمي، واعتقدتُ أن جيريمي هنا.» كان جيريمي صبيًّا صغيرًا كثيرًا ما كانت تلعب معه في المنزل.
ذكرت روز السمك.
«معدتي تؤلمني.»
«ربما تكونين جائعة. لا أمانع في تناول فنجان من القهوة. ماذا تريدين؟»
كان يومًا عصيبًا؛ كانتا تسيران عبر المنتزه كطريق مختصر إلى وسط المدينة. كان هناك جليد ذائب، ثم تجمَّد، ومن ثم كان الثلج منتشرًا في كل مكان يعلوه ماء أو وحل. كانت الشمس ساطعة، ولكن ضوءها كان ذلك الضوء الشتوي الذي يجعل عينيك تؤلمانك، وثيابك ثقيلة للغاية، ويبرز كل ما تعانيه من اضطراب ومشقة، مثل المشقة التي كانتا تواجهانها الآن في محاولة السير على الجليد. كان كلُّ مَن حولهما مراهقِين غادروا المدرسة للتو، وساور روز شعور بالإحباط جراء صخبهم، وصياحهم، وتزحلقهم فوق الجليد، والطريقة التي جلس بها صبي وفتاة يتبادلان القبلات في تباهٍ.
طلبت آنا حليبًا بالشوكولاتة. ورافقهما المراهقون إلى المطعم. كان مكانًا ذا طراز قديم، مقاعده من ذلك النوع ذي الظهر الطويل على طراز الأربعينيات، وكان مالكه طاهيًا ذا شعر برتقالي يناديه الجميع بدري؛ كان بمنزلة الواقع الرث الذي أدركه الناس بحسٍّ من الاشتياق والحنين من خلال الأفلام، وأفضل شيء أنه لم يكن هناك من شخص يعتقد بوجود أي شيء يمكن الشعور بالحنين تجاهه في هذا المطعم؛ فقد كان دري يدخر لإصلاحه على الأرجح. ولكن في ذلك اليوم راحت روز تفكر في المطاعم التي ذكَّرها بها، حيث كانت تذهب بعد المدرسة، وفكرت أنها في النهاية لم تكن تشعر بالسعادة فيها.
قالت آنا: «أنت لا تحبين أبي. أعلم أنك لا تحبينه.»
قالت روز: «حسنًا، إنني أحبه، إلا أننا لا نستطيع الحياة معًا، هذا كل ما في الأمر.»
ومثل معظم الأشياء التي تقولها وأنت مرغم، كان لحديثها وقع الكذب، إذ قالت آنا: «أنت لا تحبينه، أنت تكذبين.» وبدأ وقع حديثها يبدو أكثر براعة، وبدت تتطلع للنَّيل من والدتها.
«أليس كذلك؟»
كانت روز في الواقع على وشك الإجابة بالتأكيد، والاعتراف بأنها لا تحبه. كانت تود لو قالت لها إذا كان هذا ما تريدين، فلكِ ما أردتِ. وكان هذا ما تريده آنا بالفعل، ولكن هل كان يمكنها أن تتحمله؟ كيف لك أن تقدِّر ما يمكن للأطفال تحمُّله؟ والواقع أن الكلمات من قبيل أحب، ولا أحب، وحتى كلمة أكره، لم يكن لها معنى بالنسبة لروز حين يتعلق الأمر بباتريك.
قالت آنا بنبرة بها بعض الرضا: «لا تزال معدتي تؤلمني.» ثم دفعت بكوب حليب الشوكولاتة بعيدًا، إلا أنها تنبَّهت لعلامات الخطر، ولم تشأ أن يتطور الأمر لأكثر من ذلك، فقالت: «متى سنُحضر السمك؟» وكأن روز قد توانت عن ذلك.
اشترتا سمكة برتقالية، وسمكة زرقاء مرقطة، وسمكة سوداء ذات جسم مخملي الشكل وعينين جاحظتين بشكل رهيب، وحملتاها جميعًا إلى المنزل في كيس بلاستيكي، واشترتا أيضًا حوض سمك، وحصى ملونًا، ونباتًا بلاستيكيًّا أخضر اللون. وعادت كلتاهما إلى طبيعتهما بعد دخولهما لمتجر وولورث، ورؤيتهما للأسماك المضيئة، والطيور المغردة، والملابس الداخلية النسائية بألوانها الوردية والخضراء، والمرايا ذات الإطارات المذهبة، وأدوات المطبخ البلاستيكية، إلى جانب سرطان بحري كبير من المطاط ذي اللون الأحمر البارد.
كانت آنا تحب مشاهدة برنامج «محكمة العائلة» على شاشة التليفزيون، وهو برنامج عن مراهقات كنَّ بحاجة إلى عمليات إجهاض، وسيدات قُبض عليهن لقيامِهن بسرقة بضائع بالمحلات، وآباء يظهرون بعد سنوات طويلة من الغياب لاسترداد أبنائهم بينما يفضل الأبناء دائمًا البقاء مع أزواج أمهاتهم. وكانت تحب برنامجًا آخر يسمى «عائلة برادي بانش». كانت برادي بانش عائلة مكونة من ستة أطفال رائعين ومشغولين، يساء فهمهم أو يسيئون فهم الآخرين بشكل كوميدي ساخر، وأم شقراء جميلة، وأب وسيم ذي بشرة داكنة، ومديرة منزل مرحة. كان برادي بانش يُعرض في السادسة، وكانت آنا ترغب في تناول العشاء أثناء مشاهدته. وسمحت لها روز بذلك؛ لأنها غالبًا ما كانت ترغب في العمل خلال وقت عشاء آنا. وبدأت في وضع الطعام في أطباق حتى تتمكن آنا من تناول الطعام بشكل أسهل، وتوقفت عن إعداد وجبات العشاء المكونة من اللحم والبطاطا والخضراوات؛ لاضطرارها لإلقاء قدر كبير منها؛ فكانت تعد طبقًا من اللحم المفروم الحار مع الفاصوليا البيضاء بدلًا منها، أو البيض المقلي، أو شطائر اللحم المقدد مع الطماطم، أو نقانق لحم الخنزير ملفوفة في عجينة البسكويت. وفي بعض الأحيان كانت آنا ترغب في تناول حبوب الإفطار، وكانت روز تسمح لها بتناولها، ولكنها بعد ذلك بدأت تفكر أنه ربما يكون أمرًا كارثيًّا أن ترى آنا جالسة أمام التليفزيون وهي تتناول حبوب الإفطار في الوقت الذي تجتمع فيه العائلات في كل مكان سواء في المطبخ أو على مائدة غرفة الطعام يستعدون لتناول الطعام والتشاحن والمزاح ومضايقة أحدهم الآخر. فأحضرت دجاجة، وصنعت حساء ذهبيًّا ثخينًا بالخضراوات والشعير. أرادت آنا تناول حبوب الإفطار، فقالت إن الحساء له مذاق لذيذ، وراحت روز تصيح قائلة: إنه حساء رائع، ولم يسبق لكِ تذوُّقه إلا بالكاد يا آنا، من فضلك جربيه.
غريب أنها لم تقل «من أجلي». وشعرت بارتياح بشكل عام حين قالت آنا بهدوء «لا».
في تمام الثامنة بدأت في الإلحاح على آنا لكي تأخذ حمامها ثم تذهب إلى الفراش. ولم تستطع روز أن تستقر وتهنأ بكأس من الشراب أو فنجان من القهوة مضاف إليه بعض الرَّم وتستسلم لمشاعر الرضا والتقدير إلا بعد أن انتهت من إعداد كوب من حليب الشوكولاتة لآنا، ثم جففت دورة المياه، ولملمت الأوراق وألوان الشمع وقصاصات اللباد، والمقص، والجوارب المتسخة، والداما الصينية، وكذا البطانية التي تلف آنا نفسها بداخلها لمشاهدة التليفزيون؛ نظرًا لبرودة الشقة، وأعدَّت غداء آنا لليوم التالي، وأطفأت نور غرفتها وسط احتجاجاتها. كانت تطفئ الأنوار ثم تجلس بجوار النافذة العالية تشاهد هذه البلدة الجبلية التي لم تكد تعرف بوجودها قبل عام واحد، وفكرت أن كل ما حدث كان بمنزلة المعجزة؛ أن تقطع كل هذه المسافة إلى هنا وتعمل، وأن تأخذ آنا، وأن تعول آنا وتعول نفسها. وفي تلك اللحظة كان بإمكانها الشعور بثقل آنا في الشقة بنفس شعورها الطبيعي بثقلها داخل جسدها، ودون الاضطرار لأن تذهب وتنظر إليها، كان بإمكانها النظر بسعادة مذهلة يشوبها الخوف إلى الشعر الأشقر والبشرة الفاتحة، والحاجبين اللامعين، ذلك الملمح الذي إذا نظرتَ عبره عن كثب، يمكنك أن ترى الشعيرات الدقيقة شبه الخفية تبدو لتخطف الضوء. لأول مرة في حياتها تدرك معنى الألفة والحياة الأسرية، وتعرف معنى المأوى والسكن، وتكدُّ من أجل إدارته.
قالت دوروثي: «ما الذي جعلك تنفصلين؟» كانت هي الأخرى متزوجة منذ فترة طويلة.
لم تدرِ روز بأي شيء تبدأ. بالندوب على رسغها؟ أم بالخنق في المطبخ؟ أم النبش في الحشائش وتمزيقها؟ كلها أمور لا صلة لها بالأمر.
قالت دوروثي: «بالنسبة لي شعرتُ بالملل فحسب. ولكي أكون صادقة معك، شعرت بالملل لأقصى درجة.»
كانت نصف ثملة. فأخذت روز تضحك، وقالت لها دوروثي: «علامَ تضحكين بحق الجحيم؟»
«شيء مريح أن تسمعي شخصًا يقول ذلك، بدلًا من الحديث عن عدم تفاهمكما.»
«حسنًا، لم يكن هناك تفاهم بيننا أيضًا. لا، الحقيقة هي أن عقلي كان مشغولًا بشخص آخر؛ فقد كنت على علاقة بشخص يعمل بإحدى الصحف، كان صحفيًّا، ذهب إلى إنجلترا، أقصد الصحفي، وكتب لي خطابًا عبر المحيط الأطلنطي يخبرني فيه أنه أحبني بصدق. لقد كتب لي ذلك الخطاب لأنه كان وراء المحيط وأنا هنا، لكنني لم يكن لدي ما يكفي من الإدراك لكي أعرف ذلك. أتعلمين ماذا فعلتُ؟ تركت زوجي — حسنًا، لم يكن في ذلك أية خسارة — واقترضت ألفًا وخمسمائة دولار من البنك، وطرت إلى إنجلترا وراءه. اتصلت بجريدته، فأخبروني أنه قد غادر إلى تركيا، فجلست في الفندق في انتظار عودته. يا لها من فترة! لم أخرج من الفندق قط، وإذا ذهبت للحصول على بعض التدليك أو لتصفيف شعري كنت أخبرهم أين يجدونني. كنت ألح عليهم بالأسئلة خمسين مرة في اليوم. ألا يوجد خطاب لي؟ ألم تأتني أية مكالمات؟ رباه، رباه، رباه!»
«وهل عاد؟»
«اتصلت مجددًا، وأخبروني أنه سافر إلى كينيا. بدأ الخوف يتمكن مني، ورأيت أنه لا بد أن أتمالك نفسي، وقد فعلت في اللحظة المناسبة، وعدت إلى الوطن وبدأت في سداد القرض للبنك.»
كانت دوروثي تشرب فودكا خالصة من كوب ماء.
«بعد عامين أو ثلاثة قابلته، ترى أين؟ في المطار. لا، في أحد المتاجر الكبيرة. قال لي إنه آسف لأنه لم يلحق بي في إنجلترا. فقلت له لا بأس، فقد استطعتُ الاستمتاع بوقت طيب على أية حال. كنت لا أزال أسدد القرض للبنك. كان يجب أن أخبره بأنه تافه وأحمق.»
كانت روز في العمل تتصفح الإعلانات التجارية وأحوال الطقس، وترد على الخطابات، وتجيب الهاتف، وتطبع الأخبار على الآلة الكاتبة، وتقوم بأداء الأصوات في مسرحيات الأحد التي يكتبها أحد القساوسة المحليين، وتخطط للقيام بمقابلات شخصية. كانت ترغب في كتابة قصة عن المستوطنين الأوائل للبلدة؛ فذهبت وتحدثت إلى رجل كفيف مسن كان يقطن أعلى متجر لبيع العلف، فأخبرها أنه في الزمن القديم كانت ثمار الكرز والتفاح تعلق بأغصان أشجار الأرز والصنوبر، وكان يلتقط لها صورًا وتُرسل إلى إنجلترا. وساعد ذلك في جلب المهاجرين الإنجليز لاقتناعهم بأنهم قادمون إلى أرض تزدهر فيها البساتين. وعندما عادت إلى المحطة بهذه القصة، ضحك الجميع؛ إذ كانوا قد سمعوها كثيرًا من قبل.
لم يكن توم يغيب عن تفكيرها، فكانت تكتب له ويكتب لها، فلولا هذه الصلة التي تربطها بأحد الرجال، ربما كانت قد رأت نفسها كشخص مذبذب ومثير للشفقة؛ فقد كان لتلك الصلة أثرها في استقرار حياتها الجديدة. بدا لفترة وكأن الحظ يحالفهما؛ فقد أقيم مؤتمر في كالجاري عن الراديو في الحياة الريفية، أو شيء من هذا القبيل، وكانت المحطة بصدد إرسال روز، وكان ذلك دون أي تآمر من جانبها. كان روز وتوم متهللين من الفرحة وهما يتحدثان عبر الهاتف، وسألت إحدى المدرسات الشابات عبر الردهة إذا ما كان بإمكانها أن تنتقل للإقامة بمنزلها كي تعتني بآنا خلال سفرها. أبدت الفتاة ترحيبها بالقيام بتلك المهمة. كان للمدرِّسة صديق انتقل أيضًا للإقامة معهما، ما أدى إلى ازدحام المكان بشكل مؤقت. عادت روز إلى المتجر الذي كانت قد اشترت منه مفرش السرير وقدور القهوة واشترت منه روبًا على شكل قفطان طويل مطرزًا بأشكال طيور بألوان تشبه ألوان الأحجار الكريمة. كان هذا الرداء يذكرها بعندليب الإمبراطور. وقامت بغسل شعرها. كان عليها أن تقطع مسافة ستين ميلًا بالحافلة، ثم تستقل الطائرة. كانت على استعداد لتحمل ساعة من الرعب مقابل قضاء مزيد من الوقت في كالجاري. كان العاملون بالمحطة يستمتعون بتخويفها، وأخبروها بأن الطائرات الصغيرة تقلع في خط شبه مستقيم من المطار الجبلي، ثم تتحطم وتتخذ طريقها سقوطًا فوق جبال روكي. كانت تعتقد أنه ليس من الملائم أن تموت بهذه الطريقة، أن تتحطم بها الطائرة في الجبال وهي في طريقها لرؤية توم. كانت تعتقد ذلك على الرغم من لهفتها للذهاب إليه؛ فقد بدت الرحلة أتفه من أن تموت من أجلها. كان خوض تلك المجازفة يبدو خيانة، ليس خيانة لآنا، وبالتأكيد ليس لباتريك، بل ربما خيانة لنفسها، ولكنها كانت تؤمن بأنها لن تموت، لا لشيء سوى أن الرحلة قد عهد بها إليها بشكل عارض دونما تدبير، ونظرًا لأن الأمر برمته لا يُصدق.
كانت معنوياتها في السماء وهي تلعب الداما الصينية مع آنا طوال الوقت، كما كانت تلعب معها لعبة «آسف»، أو أية لعبة أخرى تريدها آنا. وفي الليلة السابقة لسفرها — وكانت قد رتبت لاستقدام سيارة أجرة لتوصيلها في الخامسة والنصف صباحًا — كانتا تلعبان الداما الصينية، حين قالت آنا: «يا إلهي، لا أستطيع أن أرى بهاتين العينين الزرقاوين!» وتراخت على اللوح وهي على وشك البكاء، وهو ما لم تفعله من قبل في أية لعبة. راحت روز تجس جبهتها، وقادتها إلى فراشها وهي متذمرة. كانت درجة حرارتها ???? درجة مئوية. كان الوقت متأخرًا للاتصال بتوم في مكتبه، وبالطبع لم يكن بوسع روز الاتصال به في منزله، فاتصلت بسائق السيارة الأجرة وبالمطار وألغت الرحلة؛ إذ حتى لو تحسنت حالة آنا في الصباح، لم تكن لتستطيع السفر. ومضت لتتصل بالفتاة التي كانت ستأتي للإقامة مع آنا، واتصلت بالشخص المسئول عن ترتيب المؤتمر في كالجاري، فقال: «يا إلهي، نعم. هكذا هم الأطفال!» وفي الصباح، وبينما كانت آنا متدثرة ببطانيتها تشاهد الكرتون، اتصلت بتوم في مكتبه، وأخذ يقول: «أنت هنا، أنت هنا! أين أنت؟»
فاضطرت أن تخبره بما حدث.
كانت آنا تسعل، وكانت حرارتها ترتفع وتنخفض. حاولت روز أن ترفع حرارة الشقة، وراحت تعبث بمنظم الحرارة، ثم قامت لتصفي محلول التبريد من مشعات التدفئة المركزية، واتصلت بصاحب المنزل وتركت له رسالة، لكنه لم يتصل، فاتصلت به في منزله في السابعة من صباح اليوم التالي، وأخبرته بأن طفلتها مصابة بالتهاب شعبي (وهو ما كانت تعتقده في حينها، ولكنه لم يكن صحيحًا) وأخبرته بأنها ستمنحه ساعة ليمنحها بعض التدفئة وإلا ستتصل بالجريدة، وتدين أفعاله عبر الراديو، وتُقاضيه، وأنها ستجد القنوات المناسبة لذلك. فما كان منه إلا أن جاء في التو واللحظة وهو يضع قناعًا مستعارًا (قناع الرجل المسكين الذي يحاول تأمين نفقات المعيشة تغويه نساء في حالة هستيرية)، وفعل شيئًا بمنظم الحرارة في الردهة، ومن ثم بدأت المشعات تسخن. أخبرت المدرِّسات روز أنه قد قام بإصلاح منظم حرارة الردهة بحيث يمكنه التحكم في الحرارة، بالرغم من أنه لم يرضخ أبدًا للاحتجاجات من قبل. شعرت بالفخر، شعرت وكأنها أم شرسة من أحد الأزقة راحت تصرخ وتكيل السباب وتقاتل من أجل ابنتها. نسيت أن أمهات الأزقة والأحياء الفقيرة نادرًا ما يكنَّ شرسات لما يعانينه من تعب وارتباك شديدين. لقد كانت صِلاتها الأكيدة بالطبقة الوسطى التي تنتمي إليها، وتوقعاتها بتحقيق العدالة هما ما منحتاها كل هذه الطاقة وهذا الأسلوب المستبد في القدح والسب، ما تسبب في إخافته.
بعد يومين اضطرت روز للعودة إلى عمل. كانت حالة آنا قد تحسَّنت، ولكن روز كانت قلقة طوال الوقت. لم تكن تستطيع ازدراد فنجان من القهوة، لما كانت تعانيه من غصة في حلقها بسبب القلق. كانت آنا على ما يرام، وتأخذ دواء السعال الخاص بها، وتجلس في فراشها تلون بألوان الشمع. وعندما عادت والدتها إلى المنزل، كان لديها قصة لتحكيها لها، وكانت تدور حول بعض الأميرات.
كان هناك أميرة بيضاء ترتدي ثياب العرس البيضاء وتتحلى باللآلئ والجواهر. كان البجع والنعاج والدببة القطبية هي حيواناتها الأليفة، وفي حديقتها تنمو أزهار الزنابق والنرجس الأبيض. وكانت تأكل البطاطا المهروسة، وآيس كريم الفانيليا، وتغطي فطائرها شرائح جوز الهند والمارينج الأبيض. وكانت هناك أميرة وردية تزرع الأزهار وتأكل الفراولة، وتربط مجموعة من طيور البشروش (كانت تصف شكلها لعدم قدرتها على تذكر الاسم). أما الأميرة الزرقاء، فكانت تقتات على العنب والمداد. أما الأميرة البنية، فكان طعامها أطيب من أية أميرة أخرى على الرغم من أن ملابسها كانت رمادية ضاربة إلى البني؛ فكانت تتناول اللحم المشوي، ومرق اللحم البني، وكعكة شوكولاتة مغطاة بطبقة من الشوكولاتة، وأيضًا آيس كريم الشوكولاتة بصلصة فدج الشوكولاتة. تُرى ماذا كانت تحوي حديقتها؟
قالت آنا: «كانت الأرض مفترشة بأشياء بذيئة على مداها.»
لم يُشِر توم وروز هذه المرة إلى خيبة أملهما بشكل صريح، فكانا قد بدآ في كبح جماحهما قليلًا، ربما لظنهما أن الحظ لا يقف في صفهما، فكانا يتراسلان بأسلوب يملؤه الحب والتروي والدعابة، وكأن الكبوة الأخيرة لم تحدث.
في شهر مارس اتصل ليخبرها بأن زوجته وأبناءه سوف يذهبون إلى إنجلترا، وأنه سيلحق بهما ولكن بعد عشرة أيام، فصاحت روز فرحًا بأن لديهما عشرة أيام كاملة سوف تمحو كل أثر للغياب الطويل الذي سيأتي لاحقًا (إذ كان مزمعًا أن يبقى بإنجلترا حتى نهاية الصيف). وتبين بعد ذلك أنها لن تكون عشرة أيام؛ إذ كان مضطرًّا للتوجه إلى ماديسون بولاية ويسكونسن في طريقه إلى إنجلترا. فقالت له روز إنه يجب أن يأتي إلى هنا أولًا، متداركة ما أصابها من خيبة أمل، وراحت تتساءل: كم يمكنك أن تمكث، أيمكنك أن تمكث أسبوعًا؟ وراحت تتخيل نفسها معه وهما يتناولان إفطارًا طويلًا مرحًا. رأت نفسها في عين خيالها في رداء عندليب الإمبراطور. كانت ستقدم قهوة مفلترة (إذن لا بد من شراء إناء قهوة ذي فلتر)، وتلك المربى اللاذعة ذات المذاق الجيد في البرطمان الحجري. ولم تولِ أي تفكير لمهامها الصباحية في المحطة.
قال توم إنه لم يكن يعلم بذلك، ولكن والدته قادمة لمساعدة باميلا والأطفال في الإعداد للسفر، ولم يستطع أن يحزم حقائب ويتركها هكذا، وقال إنه سيكون من الأفضل كثيرًا إذا استطاعت هي المجيء إلى كالجاري.
ثم غمرته السعادة وقال إنهما سيذهبان إلى بانف، حيث سيأخذان إجازة لمدة ثلاثة أو أربعة أيام، وتساءل عما إذا كان بإمكانها تدبير ذلك، وعما إذا كان بالإمكان أن تأخذ عطلة أسبوعية طويلة. فتساءلت إن كانت بانف مكانًا يصعب الوجود فيه بالنسبة له؛ إذ ربما يلتقي أحدًا ممن يعرفهم. فقال: لا، لا، سيكون كل شيء على ما يرام. لم تكن سعادتها بقدر سعادته الغامرة؛ لأنها لم تكن تفضِّل تمامًا أن توجد في فندق معه في فيكتوريا. ونزل إلى بهو الفندق ليحضر ورقة، واتصل بغرفتهما ليتأكد من أنها لن ترد عليه كما اتفقا، وبالفعل لم ترد عليه، ولكن المناورة سبَّبت لها إحباطًا، ومع ذلك فقد كان جوابها أن الأمر رائع وعظيم، وكان بحوزة كلٍّ منهما على الهاتف تقويم لكي يحددا الأيام التي سيلتقيان فيها. واتفقا على ضم العطلة الأسبوعية إلى أيام الإجازة؛ إذ كان لديها عطلة أسبوعية قادمة، وكانت على الأرجح ستنجح في أخذ يوم الجمعة أيضًا، وجزء من يوم الاثنين على الأقل. كان بإمكان دوروثي أن تقوم مكانها بالمهام شديدة الأهمية؛ فقد كانت دوروثي تدين لها ببعض من وقت العمل؛ إذ سبق لروز أن حلت محلها حين كانت في سياتل؛ إذ قضت ساعة على الهواء تقرأ نصائح منزلية ووصفات لم تكن تعتقد أنها مجدية.
كان لديها نحو أسبوعين للترتيب للأمر، فتحدثت مجددًا إلى المعلمة التي قالت إن بإمكانها المجيء، واشترت سترة. كانت تتمنى ألا يكون متوقعًا منها أن تتعلم التزحلق على الجليد في ذلك الوقت، فلا بد أنهما يستطيعان التمشية هناك. كانت تعتقد أنهما سيقضيان معظم وقتهما في تناول الطعام والشراب والحديث وممارسة الحب، وكانت الأفكار الخاصة بذلك النشاط الأخير تؤرقها بعض الشيء؛ إذ كانت أحاديثهما عبر الهاتف يغلب عليها الاحتشام والخجل إلى حد كبير، ولكن خطاباتهما كانت مفعمة بالوعود الملتهبة، لا سيما وهما الآن على يقين من اللقاء. كانت روز تحب قراءة وكتابة مثل هذه الوعود، ولكن لم يكن بإمكانها تذكُّر توم بالوضوح الذي كانت ترغب به. كان بإمكانها تذكُّر شكله، وأنه ليس طويلًا للغاية، ونحيل، وله شعر رمادي مموج، ووجه طويل حسن، ولكنها لم تستطع أن تتذكر عنه الأشياء الصغيرة المثيرة، كنبرة صوته أو رائحته المميزة. الشيء الوحيد الذي كانت تتذكره جيدًا هو أن وقتهما معًا في فيكتوريا لم يكن موفقًا تمامًا؛ كان بإمكانها أن تتذكر شيئًا ما بين القذع والاعتذار، شيئًا وضعهما على حافة الفشل الخطرة. وقد جعلها ذلك متلهفة بشكل خاص لأن تحاول أن تنجح مرة أخرى.
كان مقررًا أن تغادر يوم الجمعة في الصباح الباكر، مستقلة نفس الحافلة ونفس الطائرة التي خططت لاستقلالهما من قبل.
في صباح يوم الثلاثاء بدأ الثلج في الهطول، ولكنها لم تُعِر الكثير من الانتباه لذلك؛ إذ كان ثلجًا رطبًا جميلًا يتساقط من السماء مباشرة في شكل رقاقات كبيرة، وراحت تتساءل إن كان الثلج سيتساقط أيضًا في بانف. كانت تتمنى ذلك، فقد كانت تحب فكرة الاستلقاء في الفراش ومشاهدة الجليد. ظل الثلج يتساقط بشكل متواصل إلى حد ما على مدى يومين، وفي نهاية مساء يوم الخميس حين ذهبت لاستلام تذكرتها من وكالة السفر، أخبروها أن المطار قد أُغلق. لم تُبدِ أو تستشعر حتى أي قلق؛ بل كانت تشعر بارتياح بعض الشيء لكونها لن تضطر للسفر جوًّا. تساءلت في نفسها عن إمكانية السفر بالقطار، ولكن القطار بالطبع لم يكن يذهب إلى كالجاري؛ إذ كان يتوقف في مقاطعة سبوكان، وكانت تعلم ذلك بالفعل. إذن تبقَّت الحافلة، فقاموا بالاتصال للتأكد من أن الطرق السريعة مفتوحة وأن حركة الحافلات مستمرة. في أثناء تلك المحادثة بدأ قلبها يخفق قليلًا، ولكن كلَّ شيء كان على ما يرام، والحافلات تعمل. أخبروها بأن الرحلة بالحافلة لن تكون ممتعة للغاية؛ فهي تغادر من هنا في الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل، وتدخل كالجاري في حوالي الثانية بعد الظهر من اليوم التالي.
«حسنًا، لا بأس.»
قال الشاب ذو المظهر الرث: «لا بد أنك تريدين حقًّا الذهاب إلى كالجاري.» كانت وكالة السفر تلك متهدمة وخربة إلى أقصى حد، وكانت تقع في بهو أحد الفنادق خارج باب الحانة.
ردَّت روز بصفاقة: «أنا ذاهبة إلى بانف في الواقع. ونعم أريد الذهاب إلى هناك.»
«هل أنت ذاهبة من أجل التزحلق؟»
«ربما.» كانت على قناعة أنه قد خمَّن كل شيء. لم تكن تعرف حينذاك كم كانت مثل هذه الرحلات غير الشرعية للمتعة مألوفة وعادية؛ فقد كانت تعتقد أن هالة الخطيئة تتراقص حولها مثل ألسنة لهب نصف شفافة على موقد غاز.
عادت إلى المنزل وهي تفكر أنه سيكون من الأفضل كثيرًا حقًّا أن تجلس في الحافلة، تقترب أكثر فأكثر من توم، من أن تستلقي في الفراش يجافيها النوم. كل ما كان عليها أن تفعله هو أن تخبر المعلمة لكي تنتقل إلى منزلها في تلك الليلة.
كانت المعلمة في انتظارها تلعب الداما الصينية مع آنا، فقالت لها: «أوه، لا أعرف كيف أخبرك. أنا في شدة الأسف، ولكن حدث شيء ما.»
قالت لها إن شقيقتها قد تعرَّضت للإجهاض وهي في حاجة لمساعدتها. وكانت شقيقتها تلك تعيش في فانكوفر.
«سوف يقلُّني صديقي غدًا بالسيارة إذا استطعنا التواصل معًا.»
كانت تلك هي أول مرة تسمع فيها روز عن وجود صديق لها، وعلى الفور راودها الشك بشأن القصة برمتها. ربما تكون الفتاة قد جاءتها فرصة للسفر مع حبيب ما؛ لعلها قد تنشقت نسيم الحب والأمل هي الأخرى. ربما يكون زوج امرأة ما، أو شابًّا في مثل عمرها. نظرت روز إلى وجه الفتاة الذي كان حَب الشباب يكسوه يومًا ما وقد تحول إلى اللون الوردي من أثر الخجل والإثارة، وأدركت أنها لن تزحزحها عن موقفها أبدًا. مضت المعلمة تزين قصتها بالحديث عن طفلَي شقيقتها، وكان كلاهما صبيين، وأنهما كانا يتوقان لإنجاب طفلة.
بدأت روز اتصالاتها لاستقدام شخص آخر. اتصلت بطالبات، وزوجات الرجال الذين كانوا يعملون معها بالمحطة، اللاتي قد يعطينها أسماء جليسات أطفال، واتصلت بدوروثي التي كانت تكره الأطفال. كل ذلك دون جدوى. اتبعت كل الإرشادات التي أعطاها إياها الآخرون، على الرغم من إدراكها أن هذه الإرشادات كانت بلا قيمة على الأرجح، وأن القصد منها هو التخلص منها. شعرت بالخجل من إصرارها وإلحاحها. وفي النهاية قالت آنا: «بإمكاني البقاء هنا بمفردي.»
«كفِّي عن هذا السخف.»
«لقد فعلتُها من قبل حين كنتُ مريضة واضطررتِ للعودة إلى العمل.»
قالت روز وقد أحست بسعادة حقيقية بشكل مفاجئ لتوصلها لحل في غاية السهولة والرعونة: «ما رأيكِ في أن تأتي معي إلى بانف؟»
وفي عجالة شديدة مضتا تحزمان حقائبهما. ولحسن الحظ كانت روز قد ذهبت إلى المغسلة ذات الخدمة الذاتية في الليلة السابقة. لم تسمح لنفسها بالتفكير بشأن ما سوف تفعله آنا في بانف، ومن سيتكفل بنفقات الغرفة الإضافية، وما إذا كانت آنا ستوافق من الأساس على الإقامة في غرفة مستقلة. راحت روز تلملم كتب التلوين والقصص، وأدوات الزخارف المبعثرة التي تستطيع روز القيام بها بمفردها، وأي شيء اعتقدت أن من شأنه تسليتها. كانت آنا سعيدة بهذا التحول الذي طرأ على الأحداث، ولم تجفل من فكرة ركوب الحافلة. وتذكرت روز أن تتصل بالسيارة الأجرة مبكرًا لتقلهما عند منتصف الليل.
عَلِقت السيارة وسط الزحام في الطريق إلى المحطة، وخطر لروز أن اتصالها بالسيارة قبل نصف ساعة من موعد تحرك الحافلة كانت فكرة سديدة، مع أن الطريق إلى هناك عادة لا يستغرق أكثر من خمس دقائق. كانت محطة الحافلات عبارة عن محطة قديمة لخدمة السيارات، وكانت مكانًا موحشًا. تركت روز آنا على مقعد بالمحطة مع الأمتعة وذهبت لتشتري التذاكر، وعندما عادت كانت آنا قد ارتمت على الحقيبة، بعد أن استسلمت للنوم بمجرد أن استدارت والدتها.
«يمكنك النوم في الحافلة.»
فعدلت آنا جلستها ناكرة شعورها بالتعب. تمنَّت روز لو كان الجو دافئًا داخل الحافلة. ربما كان عليها أن تُحضر بطانية لتلفها حول آنا. لقد فكرت في ذلك، ولكنهما كانتا تحملان ما يكفي من الأمتعة، حيث كانت حقيبة التسوق مكتظة بكتب آنا وأدواتها الترفيهية؛ كان من الصعب تحمُّل فكرة الوصول بها إلى كالجاري شعثاء الشعر، معتلة المزاج ومصابة بالإمساك، إلى جانب أقلام التلوين التي تتساقط من الحقيبة وأيضًا بطانية متدلية من خلفها، فقررت ألا تأخذها.
كان هناك القليل فقط من المسافرين في انتظار ركوب الحافلة: زوجان شابان يرتديان الجينز ويبدو عليهما الشعور بالبرد والهزال؛ وامرأة عجوز مسكينة وقورة ترتدي قبعتها الشتوية، وجدة هندية بصحبتها طفل رضيع؛ ورجل مستلقٍ على أحد مقاعد المحطة يبدو عليه المرض أو الثُمالة. تمنت روز أن يكون هذا الرجل موجودًا في المحطة التماسًا للدفء فقط، وليس انتظارًا للحافلة؛ إذ بدا وكأنه قد يتقيأ، أو أن يتقيأ الآن وليس لاحقًا إذا كان سيصعد على متن الحافلة. كانت ترى أنه من الأفضل لو اصطحبت آنا إلى حمام المحطة، فبالرغم من بشاعته، ربما سيكون أفضل من الحمام المتاح بالحافلة. كانت آنا تجول بناظريها في المكان من حولها، تنظر إلى ماكينة بيع السجائر، وماكينة بيع الحلوى، وماكينة بيع المشروبات والشطائر. تساءلت روز إن كان عليها أن تبتاع بعض الشطائر وبعض الشوكولاتة الساخنة السائلة. فما إن تلبث الحافلة أن تدخل بها وسط الجبال حتى تتمنى لو كانت قد فعلت.
وعلى حين غرة خطر ببالها أنها قد نسيت الاتصال بتوم لتخبره بأن ينتظرها عند الحافلة وليس الطائرة، وعزمت على القيام بذلك حين يتوقفون لتناول الإفطار.
السادة المسافرون منتظرو الحافلة المتجهة إلى كرانبروك، راديوم هوت سبرينجس، جولدن، كالجاري، برجاء الانتباه. تم إلغاء حافلتكم. تم إلغاء الحافلة المزمع مغادرتها من هنا في الثانية عشرة والنصف.
ذهبت روز إلى شباك التذاكر وقالت: ما هذا؟ ماذا حدث؟ أخبرني، هل الطريق السريع مغلق؟ فأخبرها الرجل متثائبًا: «الطريق مغلق بعد كرانبروك. إنه مفتوح من هنا وحتى كرانبروك ولكنه مغلق بعد ذلك، ومغلق غربًا من هنا حتى جراند فوركس، ومن ثم لن يتسنى للحافلة حتى أن تصل إلى هنا الليلة.»
سألت روز في هدوء عن الحافلات الأخرى التي تستطيع أن تستقلها.
«ماذا تعنين بالحافلات الأخرى؟»
«حسنًا، ألا توجد حافلة أخرى إلى سبوكان؟ بإمكاني أن أتوجه من هناك إلى كالجاري.»
وعلى مضض سحب الرجل جداول الحافلات، وتذكر كلاهما أنه لا جدوى من ذلك إذا كان الطريق السريع مغلقًا ما بين هنا وجراند فوركس، إذ لن يتسنى لأية حافلة الوصول إلى هنا. فكرت روز في أن تستقل القطار إلى سبوكان، ثم تستقل الحافلة إلى كالجاري، ولكن لم يكن بوسعها القيام بذلك مطلقًا؛ إذ سيكون ذلك محالًا مع آنا. ومع ذلك سألت عن القطارات، وسألته هل نما إلى علمه أي شي بشأن القطارات؟
«سمعتُ أنها ستعمل بعد اثنتي عشرة ساعة.»
ظلت واقفة عند شباك التذاكر وكأنهم ملزمون بإيجاد حل لها، ولا بد أن يظهر.
«ليس بيدي شيء آخر يمكنني القيام به من أجلك هنا يا سيدتي.»
فانصرفت ورأت آنا عند هواتف العملة تعبث بصناديق استرداد العملات؛ إذ كانت أحيانًا ما تجد قطعة نقود بهذه الطريقة.
أقبلت آنا نحوها دون ركض، ولكنها كانت تسير مسرعة بطريقة متزنة مشوبة بالانفعال على نحو غير طبيعي، وقالت: «تعالَي إلى هنا، تعالَي إلى هنا.» وراحت تجذب روز التي تسمرت في مكانها نحو واحد من هواتف العملة العامة، وأمالت صندوق العملات نحوها. كان مليئًا بالعملات الفضية عن آخره، فشرعت تفرغها في يدها. كانت العملات متنوعة ما بين فئات الربع دولار، والخمسة سنتات، والعشرة سنتات، والمزيد والمزيد من العملات الأخرى. وراحت تملأ منها جيوبها. بدا الأمر وكأن الصندوق يمتلئ مرة أخرى في كل مرة تغلقه، وكأنها في حلم أو حكاية من حكايات الجنيات. إلى أن جرَّدته مما فيه في النهاية ملتقطة آخر قطعة عشرة سنتات به، ثم نظرت إلى روز بوجه شاحب متعب متوهج.
قالت في لهجة آمرة: «لا تقولي أي شيء.»
أخبرتها روز أنهما لن يصعدا على متن الحافلة، واتصلت بنفس السيارة الأجرة لتقلهما إلى المنزل. وتقبَّلت آنا التغيير الذي طرأ على الخطط دونما اهتمام. ولاحظت روز أنها تركب السيارة بمنتهى الحرص حتى لا تصلصل العملات في جيوبها.
وفي الشقة أعدت روز لنفسها شرابًا، أما آنا، فشرعت تنشر العملات على طاولة المطبخ وتفصلها في أكوام لعدها، دون حتى أن تخلع حذاءها الطويل أو معطفها.
قالت: «لا أصدق ذلك، لا أصدق.» كانت نبرة صوتها غريبة وكأنها شخص كبير، نبرة صوت تنم عن دهشة حقيقية تغلفها دهشة مصطنعة، وكأن الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها التحكم في الموقف والتعامل معه هو أن تضفي عليه طابعًا دراميًّا بهذا الشكل.
قالت روز: «لا بد أنها من مكالمة لمكان بعيد. أعتقد أن هذا المال يخص شركة الهواتف.»
قالت آنا بصوت امتزج فيه الشعور بالذنب والانتصار: «ولكن لا يمكننا أن نرده، أليس كذلك؟» وكانت إجابة روز بالنفي.
قالت روز: «هذا جنون.» كانت تقصد فكرة أن المال يخص شركة الهواتف. كانت متعبة ومشوشة، ولكن بدأ يراودها شعور مؤقت وساذج من المرح. كان بإمكانها رؤية العملات تنهمر فوقهما كسيول أو كعواصف ثلجية؛ ما أروع الرعونة التي سادت المكان! ويا لها من نزوة لطيفة!
حاولتا عد العملات، ولكنهما ظلتا ترتبكان في العد، فشرعتا بدلًا من ذلك في اللعب بها، بإسقاطها عبر أصابعهما بتباهٍ وفخر. كان وقتًا متأخرًا من الليل طغى عليه العبث واللهو، في المطبخ المستأجر على الجبال، ذلك المكان الذي وُجدت فيه الوفرة والسخاء حيثما لم تكن لتبحث عنها؛ لتتقاطع خيوط الخسارة مع الحظ. كانت واحدة من المرات القليلة، واحدة من الساعات القليلة، التي استطاعت فيها روز أن تقول بحق إنها ليست تحت رحمة الماضي، أو المستقبل، أو الحب، أو أي شخص. وتمنت أن يكون الأمر كذلك بالنسبة لآنا.
كتب لها توم خطابًا طويلًا امتلأ حبًّا ودعابة وتحدث فيه عن القدر. كان خطاب هجر وانسحاب امتلأ شجنًا وارتياحًا من الألم والعذاب، كتبه لها قبل أن يرحل إلى إنجلترا. لم يكن لدى روز أي عنوان له هناك، وإلا لكان من المحتمل أن تكتب له راجية إياه أن يعطيهما فرصة أخرى. فتلك كانت طبيعتها.
سرعان ما انقضت تلك العاصفة الثلجية الأخيرة لذلك الشتاء، مخلِّفة وراءها بعض الفيضان في الأودية. كتب لها باتريك يخبرها بأنه سيأتي في يونيو، بعد انقضاء الدراسة، وأنه سيأخذ آنا لتقضي معه الإجازة الصيفية. قال إنه يرغب في البدء في إجراءات الطلاق؛ لأنه قابل فتاة يريد أن يتزوجها. كان اسمها إليزابيث، وقال عنها إنها إنسانة رائعة متزنة.
وتساءل باتريك إن كانت روز تعتقد أنه قد يكون من الأفضل لآنا أن تستقر في منزلها القديم في العام القادم، في المنزل الذي طالما عرفته، وأن تعود إلى مدرستها القديمة وسط أصدقائها القدامى (كان جيريمي دائم السؤال عنها) بدلًا من التسكع معها في حياتها الجديدة المستقلة. ألا يكون من المحتمل — وهنا فكرت روز أنها سمعت صوت فتاته المتزنة ينطلق من كلماته — أنها تستخدم آنا لتمنح نفسها بعض الاستقرار والاتزان، بدلًا من مواجهة عواقب الطريق الذي اختارته لنفسها؟ بالطبع، والحديث لباتريك، يجب أن تمنح آنا حقها في الاختيار.
أرادت روز أن ترد على خطابه بأنها كانت تود أن تجعل من هذا المكان منزلًا لآنا، ولكنها لم تستطع القيام بذلك في الحقيقة؛ فلم تعد راغبة في البقاء هنا، فقد تلاشى سحر وصفاء تلك البلدة بالنسبة لها، وكان الراتب هزيلًا، بما لن يمكِّنها من تحمُّل نفقات أي شيء سوى هذه الشقة الزهيدة، وربما لن يتسنى لها الحصول على وظيفة أفضل أو حبيب آخر. كانت تفكر في التوجه شرقًا، إلى تورونتو، لتبحث عن عمل هناك مع إحدى المحطات الإذاعية أو التليفزيونية، وربما حتى بعض الأدوار التمثيلية. أرادت أن تأخذ آنا معها، وأن تستقرا مرة أخرى في مسكن مؤقت. كان الأمر مثلما قال باتريك. لقد أرادت أن تعود من أجل آنا، أن تملأ حياتها بآنا، ولم تكن لتفكر أن آنا لن تختار تلك الحياة لنفسها؛ فالطفولة البائسة غير المعتادة التي تتسم بكثرة التجوال وعدم الاستقرار لا تروق كثيرًا للأطفال على الرغم من أنهم سيدَّعون أنهم يقدرونها كثيرًا، لمختلف أنواع الأسباب، فيما بعد.
نفقت السمكة المرقطة أولًا، تبعتها السمكة البرتقالية، ولم تقترح روز أو آنا الذهاب مرة أخرى إلى متجر وولورث حتى يتسنى للسمكة السوداء أن يكون لها رفيق، فقد بدا وكأنها لا ترغب في أية رفقة؛ فقد فرضت سيطرتها الكاملة على حوض السمك بمفردها بعينيها الجاحظتين الواسعتين، ومظهرها الشرير والارتياح الذي بدت عليه.
أخذت آنا على روز عهدًا بألا تلقي بها في المرحاض بعد رحيلها، ووعدتها روز بذلك، وقبل أن تغادر إلى تورونتو توجهت إلى منزل دوروثي حاملة معها حوض السمك لتقدم لها تلك الهدية غير المرغوبة. تقبَّلتها دوروثي بلطف ودماثة، وقالت إنها ستسميها على اسم الرجل الذي قابلته في سياتل، وهنأت روز على الرحيل.
•••
ذهبت آنا لتعيش مع باتريك وإليزابيث، وبدأت في تلقِّي دروس الدراما والباليه؛ فقد كانت إليزابيث تؤمن بضرورة أن يكون للأطفال إنجازات، وأن يظلوا منشغلين. ومنحاها السرير ذا الأربعة أعمدة، وصنعت له إليزابيث ظُلة شفافة ومفرشًا، وصنعت لآنا رداءً للنوم وقبعة تتلاءم معه.
أحضرا هرة صغيرة لآنا، وأرسلا لروز صورة لها وهي جالسة مع القطة على السرير، تبدو عليها ملامح الرزانة والرضا في وسط كل هذه المنسوجات المزدانة بالورود.
حظ سايمون
كانت الوحدة رفيقة روز في الأماكن الجديدة، وكانت تتمنى لو تلقَّتْ دعوات من الآخَرين. كانت تخرج وتجوب الشوارع وتتطلع في النوافذ المضيئة وإلى حفلات ليلة السبت، وحفلات العشاء العائلية ليلة الأحد. لا جدوى من محاولة إقناع نفسها بأنها لم تكن لتظل بمفردها كثيرًا، تثرثر وتعاقر الشراب، أو تغرف مرق اللحم البني، قبل أن تتمنى لو أن تجوب الشوارع. اعتقدت أن بإمكانها قبول أية دعوات؛ فكان بإمكانها الذهاب إلى حفلاتٍ في قاعات عُلِّقَتْ على جدرانها الملصقاتُ والصورُ، وتنيرها مصابيح عادية وتغطيها مظلات عليها شعار كوكاكولا، وكل ما هو متداعٍ ومائل؛ أو حفلاتٍ في قاعات مهنية تعج بالكثير من الكتب، واللوحات التذكارية النحاسية، وربما جمجمة أو اثنتان؛ أو حتى في غرف ترفيهية، حيث لا يمكنها أن ترى — عبر نوافذ القبو — إلا الأطراف العليا من أكواب الجعة، وأبواق الصيد، وقرون الشراب، والمدافع. كان بإمكانها الذهاب والجلوس على آرائك محاكَة بخيوط لوريكس، أسفل لوحاتٍ معلَّقَة من المخمل الأسود المطرز برسوم الجبال، والسفن الشراعية الضخمة، ودِبَبَةٍ قطبيةٍ مصمَّمة على الصوف الزئبري. كانت تحب كثيرًا أن تأخذ بعضًا من حلوى البودنج الإنجليزية الفاخرة من إناء من الزجاج البلوري في غرفة طعام فخمة، وخلفها يقبع بوفيه ضخم متلألئ، وصورة باهتة لخيول وأبقار ونعاج تأكل على حشائش أرجوانية ملوَّنَة بشكل سيئ، أو الاكتفاء بتناول البودنج في ركن الطعام بمطبخ في منزل صغير مبيَّض بالجص بجوار محطة الحافلات، تزيِّن جدرانه ملصقاتُ الدراق والكمثرى، ويتدلى اللبلاب من أصص نحاسية صغيرة؛ كيف لا وروز ممثلة، يمكنها أن تكيِّف نفسها على أي مكان.
كانت روز تُدعَى لحفلات بالفعل؛ فمنذ حوالي عامين، كانت في حفل في بناية سكنية شاهقة في كينجستون. كانت النوافذ تطل على بحيرة أونتاريو وجزيرة وولف. لم تكن روز تعيش في كينجستون، بل كانت تعيش في إحدى المناطق الداخلية، حيث عَمِلت بتدريس الدراما على مدى عامين في إحدى الكليات الأهلية. أثار ذلك دهشة بعض الناس لإقدامها على ذلك؛ فقد كانوا لا يعلمون مدى قلة ما تتقاضاه الممثلة من مالٍ؛ إذ اعتقدوا أن الشهرة تفضي تلقائيًّا إلى الثراء.
قادت روز السيارة إلى كينجستون من أجل هذا الحفل فقط، الأمر الذي أشعرها بقليل من الخجل. ولم تكن قد قابلت مضيفة الحفل من قبلُ، غير أنها قابلت المضيف في العام الفائت، حين كان يعمل بالتدريس في الكلية الأهلية ويعيش مع فتاة أخرى.
قامت المضيفة، وكانت تُدعَى شيلي، باصطحاب روز إلى غرفة النوم لتخلع معطفها. كانت شيلي فتاةً ذات قوام نحيف وملامح وقورة، وشقراء بكل ما تحمل الكلمة من معنى، بحاجبين يقارب لونهما البياض، وشعر طويل وكثيف وناعم وكأنه مقتطَع من لوح خشبي. بدا وكأنها تأخذ مظهرها الشبابي المائل للنحافة الشديدة على محمل الجد. كان صوتها خفيضًا شجيًّا، ما جعَلَ وَقْعَ صوت روز، الذي كانت قد ألقت به التحية عليها قبل لحظات، مفعمًا بالحيوية والنشاط في أذنيها إلى أقصى حد.
في سلة أسفل السرير، رأت روز قطةً ذات لون مبرقع تُرضِع أربع قطط صغيرة عمياء غاية في الصغر.
قالت المضيفة: «هذه تاشا. يمكننا النظر إلى صغارها ولكن لا نستطيع أن نلمسها، وإلا توقفت عن إطعامها.»
جثت بجوار السلة وهي تدندن، وتتحدث إلى القطة الأم بحب شديد رأته روز مصطنَعًا. كان الشال الملتف حول كتفها أسود اللون تزيَّنَتْ حوافه بخرز أسود، إلا أن بعض هذا الخرز بدا معوجًّا والبعض الآخَر مفقودًا. ورغم أنه كان وشاحًا قديمًا بحقٍّ إلا أنه من نوع أصلي، وليس مجرد وشاح مقلَّد. وكان رداؤها المترهل المائل قليلًا للاصفرار، ذو التطريز المثقب أصليًّا أيضًا، وإن كان من المرجح أنه كان تنورة داخلية في الأصل. كانت مثل هذه الملابس تستغرق وقتًا في البحث عنها.
على الجانب الآخَر من السرير وجدَتْ مرآة كبيرة معلَّقَةً عاليًا بشكل يثير الريبة، ومائلة. حاولت روز أن تلقي نظرة على نفسها في المرآة بينما كانت الفتاة منحنية على السلة. فمن الصعب للغاية على امرأة أن تنظر في المرآة في وجود امرأة أخرى في الغرفة، خاصةً إنْ كانت أصغر منها سنًّا. ارتدت روز رداءً قطنيًّا طويلًا مزيَّنًا بالورود، ذا صدر به ثنايا وأكمام منتفخة، خصره في غاية القصر ويضيق عند منطقة النهد لدرجة يتعذر معها أن يكون مريحًا. كان به لمحة غير مقبولة من التكلُّف والشبابية. ربما لم تَعُدْ بالرشاقة الكافية لارتداء مثل هذا التصميم، كان شعرها البني الضارب إلى الحمرة مصبوغًا في المنزل، وسرت الخطوط الرفيعة في كلا الاتجاهين تحت عينيها، مكوِّنَةً بينها كتلًا من الجلد الداكن.
كانت روز قد أدركت في تلك الفترة أنها حين تجد الناس بهذا التكلُّف والتصنُّع كتلك الفتاة، وغرفهم مزخرفة بهذا الشكل المتواضع، وأسلوب حياتهم بهذا الحد من الإزعاج (تلك المرآة، اللحاف ذو الغطاء المرقع، الرسومات اليابانية المثيرة للغرائز المعلَّقة فوق السرير، الموسيقى الأفريقية القادمة من غرفة المعيشة)، فإن ذلك يرجع عادةً إلى عدم تلقِّيها الاهتمام الذي تريده، وخوفها من عدم تلقِّيه، وعدم اختراقها للحفل، وشعورها بأنها ربما يئول بها المآل للتسكُّع على الهامش وهي تطلق الأحكام.
شعرت بأنها في حال أفضل في غرفة المعيشة، حيث تواجَدَ بعض الأشخاص ممَّن تعرفهم من قبلُ، وبعض الوجوه التي طالتها علامات السن مثلها. تناولت روز شرابها على نحو سريع في البداية، ولم يمر وقت طويل قبل أن تشرع في استخدام الهريرات الوليدة كمدخل لقصتها. كانت تقول إن شيئًا رهيبًا قد حدث لقِطِّها في ذلك اليوم.
قالت: «والأسوأ من ذلك أنني لم أكن أحب ذلك القط كثيرًا؛ فلم تكن فكرتي أن أمتلك قطًّا، كانت فكرته هو؛ فقد تبعني إلى المنزل في أحد الأيام وأصَرَّ على أن آخُذَه للداخل. كان كعاطل ضخم ثقيل الحركة لا يصلح للعمل، يصر على إقناعي بأنني أدين له بإعالته. كان مغرمًا دائمًا بمجفِّف الملابس، ويحب القفز بداخله حين يكون دافئًا بمجرد أن أخرج منه الملابس. عادةً ما يكون لديَّ حمولة واحدة من الغسيل، ولكن اليوم كان لديَّ حمولتان، وعندما مددت يدي لأُخرِج الحمولة الثانية، اعتقدت أنني قد شعرت بشيء غريب. فكرت: ماذا لديَّ من ملابس بها ذلك الفراء؟»
انقسم الحاضرون بين التأسي والضحك، والتعبير عن فزعهم المحفوف بالشفقة. جالت روز بنظرها بينهم وبدت جذَّابة، وتحسَّن شعورها كثيرًا. ولم تَعُدْ غرفة المعيشة، بمشهد البحيرة الذي تطل عليه، وزخرفها الدقيق (جهاز تشغيل الموسيقى بالعملة، مرايا الحلاق، إعلانات من مطلع القرن — «دخان من أجل حلقك» — أغطية مصابيح حريرية قديمة، أطباق وأباريق ريفية، أقنعة بدائية، منحوتات) لم تَعُدْ تبدو على نفس القدر الذي كانت عليه من العدوانية. تناولت كأسًا أخرى من الجين، وأدركت أنه لم يتبقَّ كثير من الوقت قبل أن تشعر بالخفة والترحيب كطائر طنان، وصارت على قناعةٍ بأن الكثير من الموجودين في الغرفة ظرفاء، والكثير منهم يتسمون بالعطف والطيبة، والبعض منهم يجمع بين الصفتين.
«قلت في نفسي: يا إلهي! كلا. ولكنه حدث. كان هناك قتيل في مجفِّف الملابس.»
جاء صوت رجل ذي وجه حاد الملامح قليلًا يجلس بالقرب منها، كانت على معرفة سطحية به لسنوات، يقول: «تحذير لكل الباحثين عن المتعة.» كان هذا الرجل يدرِّس في قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة، حيث كان مضيف الحفل يعمل بالتدريس، وكانت المضيفة طالبة دراسات عليا.
قالت المضيفة بنظرتها المرهفة الثابتة الباردة: «شيء فظيع.» وبدا الخجل والارتباك قليلًا على وجوه مَن كانوا يضحكون، وكأنهم اعتقدوا أنهم قد يبدون عديمي الرحمة. «قطك! شيء فظيع. كيف استطعتِ المجيء الليلة؟»
في الواقع إن الحادثة لم تكن قد وقعت اليوم على الإطلاق، بل وقعت في الأسبوع الماضي. تساءلت روز إن كانت الفتاة قد قصدت أن تضعها في موقف محرج، فقالت بصدق وأسف إنها لم تكن مغرمة كثيرًا بالقط، وهو ما جعل الأمر يبدو أكثر سوءًا بطريقة ما، وإن هذا ما كانت تحاول توضيحه.
«شعرتُ وكأن الخطأ ربما يكون خطئي. ربما لو كنتُ أكثر حبًّا له، لما حدث ذلك.»
قال الرجل الجالس بجوارها: «بالطبع لم يكن ليحدث. كان الدفء هو ما يبحث عنه داخل المجفِّف، الحب. آه يا روز!»
قال صبي طويل القامة لم تكن روز قد لاحظته من قبلُ: «لن تستطيعي أن تلعني القط بعد الآن.» بدا وكأنه قد ظهر فجأةً أمامها دون أن تلحظ. «اللعنة على الكلب، اللعنة على القط، لا أعرف ماذا أنتِ فاعلة يا روز!»
كانت روز تبحث عن اسمه في ذهنها، وأدركت أنه قد يكون طالبًا لديها، أو طالبًا سابقًا.
قالت روز: «ديفيد. مرحبًا ديفيد.» كانت سعيدةً لنجاحها في التوصُّل لاسمه، لدرجةٍ جعلتها بطيئةً في استيعاب ما قاله.
أخذ الصبي يكرِّر منحنيًا عليها: «اللعنة على الكلب، اللعنة على القطة.»
قالت روز: «أستميحك عذرًا!» ورسمتْ على وجهها تعبيرًا جمع بين السخرية والتسامح والسحر، ووجد مَن حولها صعوبةً في التواؤم مع ما كان الصبي يقوله مثلما فعلتْ هي. لم يكن من السهل إيقاف أجواء الألفة والتعاطف وتوقُّع حسن النية؛ فقد استمرت على الرغم من ظهور دلالات على أن هناك الكثير في هذا المكان لن تستطيع هذه الأجواء احتواءه. كانت الابتسامة ما زالت مرتسمة على وجوه الجميع تقريبًا، وكأن الصبي قد ألقى دعابة أو أدَّى دورًا تمثيليًّا، الأمر الذي سيتم توضيحه حتمًا خلال لحظات. خفضت المضيفة عينيها وانسلَّت من وسط الجمع.
قال الصبي بنبرة غاية في الشناعة والقبح: «بل أستميحك أنا عذرًا، تبًّا لكِ يا روز.» كان فاتح البشرة، تبدو عليه الغلظة وصعوبة التعامل، وثملًا إلى حد مميت. ربما يكون قد نشأ في منزل كريم، حيث يتحدث الناس بلطف وأدب عمَّا يريدونه، ويشمِّت أحدهما الآخَر عند العطس.
أمسك رجل قصير القامة قوي البنية ذو شعر أسود مجعَّد الصبيَّ من ذراعه من أسفل كتفه بالضبط.
قال له بلهجة شبه أبوية: «ابتعد من هنا.» كان يتحدث لكنةً أوروبية مختلطة، تغلب عليها الفرنسية كما اعتقدت روز، على الرغم من أنها لم تكن جيدة للغاية فيما يتعلق باللكنات. فقد كانت تميل للاعتقاد بأن مثل هذه اللكنات تنبع من ذكورية أكثر ثراءً وتعقيدًا من الذكورية التي توجد في أمريكا الشمالية وفي أماكن مثل هانراتي حيث نشأت. ومثل تلك اللكنة كانت تبشِّر بذكورية مصطبغة بالمعاناة والرقة والمكر.
ظهر مضيف الحفل مرتديًا ما يبدو كأفرول مخملي، وأمسك بالصبي من الذراع الأخرى، بشكل رمزي إلى حدٍّ ما، مقبِّلًا وَجْنة روز في الوقت ذاته؛ إذ كان لم يَرَها لدى حضورها، وقال لها متمتمًا: «لا بد أن أتحدَّثَ معكِ.» ما كان معناه أنه يتمنى لو لم يضطر للحديث معها؛ لوجود الكثير من المناطق الشائكة بينهما؛ فكانت هناك الفتاة التي عاش معها على مدار العام المنصرم، من ناحية، وليلة كان قد قضاها مع روز قرب نهاية الفصل الدراسي، كان فيها الكثير من الشرب والتباهي والتحسر على الخيانة والغش من ناحية أخرى، إلى جانب أن ممارسة ممتعة للحب بينهما كانت مهينة إلى حدٍّ مستغرب. كان يبدو مهندمًا وأنيقًا للغاية وحسَّاسًا، له شعر انسيابي، وبذلته من المخمل الأخضر الداكن الضارب للرمادي. كان يصغر روز بثلاث سنوات فقط، إلا أنه ترك زوجته، وعائلته، ومنزله، ومستقبله المحبط، وأغدق على نفسه بملابس جديدة وأثاث جديد ومجموعة متوالية من العشيقات من الطالبات. بإمكان الرجال أن يفعلوا هذا.
قالت روز وهي تتكِئ على الحائط: «يا إلهي، ما كل هذا الذي حدث؟»
قال الرجل الجالس بجانبها الذي كان مبتسمًا طوال الوقت وينظر داخل كأسه: «آه، إنه شباب عصرنا المرهف، بجمال لغته، وعمق مشاعره! لا بد أن ننحني له احترامًا.»
عاد الرجل ذو الشعر الأسود المجعد دون أن ينطق ببنت شفة، ولكنه ناوَلَ روز كأسًا جديدة من الشراب وأخذ كأسها.
وعاد صاحب الحفل كذلك.
«روز حبيبتي، لا أعرف كيف دخل. لقد منعتُ دخول الطلاب الملاعين. لا بد وأن هناك مكانًا آمنًا منهم.»
قالت روز: «لقد كان في أحد فصولي العام الماضي.» كان ذلك حقًّا هو كل ما استطاعت تذكره عنه، واعتقدت أنهم يظنون أنه لا بد أن الأمر ينطوي على ما هو أكثر من ذلك.
قال الرجل الجالس بجوارها: «أكان يريد أن يصبح ممثلًا؟ أراهن أنه كان يريد ذلك. أتتذكرون الأيام الخوالي حين كنَّا جميعًا نرغب في أن نكون محامين ومهندسين ومسئولين تنفيذيين؟ يقولون لي إن هذه الأيام بصدد العودة. أتمنى ذلك. أتمنى ذلك من كل قلبي. روز، أراهن أنكِ قد استمعتِ إلى مشاكله. ما كان يجب أن تفعلي ذلك مطلقًا، ولكن أراهن أنك قد فعلتِ.»
«أوه، أعتقد ذلك.»
«إنهم يأتون بحثًا عن بديل لآبائهم. وهذا شيء مبتذَل إلى أقصى درجة. إنهم يقتفون أثرك في كل مكان مبالغين في شعورهم نحوك ومضايقتك، ثم يحدث الانفجار. إنه زمن رفض الوالد البديل!»
احتست روز كأس الشراب، واتكأت على الحائط، وسمعتهم يتناولون الفكرة الخاصة بتوقعات الشباب هذه الأيام، وكيف يقتحمون بابكَ ليخبرونكَ عن الإجهاض، ومحاولاتهم الانتحار، وأزماتهم مع الإبداع، ومشكلات الوزن. كانوا دائمًا ما يستخدمون نفس الكلمات: هوية، قيم، رفض.
قال الرجل الحاد قليلًا، مسترجعًا مواجَهَةً كانت له الغلبة فيها مع واحد من هؤلاء الطلاب: «أنا لا أرفضك أيها التافه السخيف، أنا أسقطك في الامتحان.» ضحكوا جميعًا على ما قال، وعلى السيدة الشابة التي قالت: «شتَّان الفارق حينما كنتُ بالجامعة! لم تكُنْ لتذكُرَ شيئًا عن الإجهاض في مكتب أستاذ جامعي مثلما لم تكُنْ لتقضيَ حاجتكَ على الأرضية.»
ضحكت روز أيضًا، ولكنها شعرت في قرارة نفسها بأنها محطَّمَة. كان من الأفضل، بشكلٍ ما، لو كان هناك شيء وراء ذلك كما كانوا يظنون؛ لو أنها قد ضاجعت هذا الفتى، لو أنها قد وعدته بشيء، لو أنها خانته، لو أنها أذلته وأهانته. لم تستطع تذكُّرَ أي شيء. لقد انشقت عنه الأرض ليكيل لها الاتهامات لا أكثر. لا بد وأنها قد فعلَتْ شيئًا ولم تستطع تذكُّرَه. لم تكن تستطيع تذكُّرَ أي شيء يتعلَّق بطلابها؛ تلك هي الحقيقة. لقد كانت تبدي الاهتمام والعناية، وكانت ساحرة، وكلها دفء ومودة وقبول ورضا، وطالما كانت مُنصِتة ونصوح؛ بعدها لم تكن تستطيع تذكُّرَ أسمائهم بشكل مباشِر، بل لم تكن تستطيع تذكُّرَ شيء واحد كانت قد قالته لهم.
لمست امرأة ذراعها قائلة: «أفيقي.» قالتها بنبرة من الألفة والحميمية الماكرة جعلت روز تعتقد أنها لا بد وأنها تعرفها. لعلها طالبة أخرى. ولكنها لم تكن كذلك؛ إذ قَدَّمَتِ السيدة نفسها.
قالت السيدة: «أنا بصدد إجراء بحث عن انتحار النساء. أقصد انتحار الفنَّانات.» قالت إنها قد شاهدت روز على شاشة التليفزيون وكانت تتوق للحديث معها. وذكرت ديان أربوس، وفيرجينيا وولف، وسيلفيا بلاث، وآن سيكستون، وكريستيان فلوج. كانت على قدر كبير من الثقافة والاطِّلَاع. فكَّرَتْ روز أنها هي نفسها بدت كمرشَّحَة أولى للانتحار، بما كانت عليه من هزال، وافتقار للحيوية، ووساوس. قالت روز إنها جائعة، ومن ثَمَّ تبعتها السيدة إلى المطبخ.
قالت السيدة: «وهناك الكثير والكثير من الممثلات، مثل مارجريت سولافان …»
«أنا مجرَّد معلمة الآن.»
«هراء. أنا واثقة من أنك ممثِّلة حتى النخاع.»
كانت مضيفة الحفل قد صنعت خبزًا؛ أرغفة خبز مغطَّاة بطبقة لامعة، ومجدولة، ومجمَّلة، وتعجَّبت روز من العناء والمشقة التي تتجشمه الفتاة في هذا المنزل. الخبز، وفطائر الباتيه، والنباتات المعلقة، والقطط الصغيرة، وكله في سبيل حياة أسرية غير مستقرة ومؤقتة. تمنَّتْ — بل غالبًا ما كانت تتمنى — لو كان بوسعها أن تتكبَّدَ هذا العناء، أن تقيم احتفالات، أن تفرض نفسها، أن تصنع الخبز.
لاحظت روز مجموعةً من أعضاء هيئة التدريس بالكلية صغار السن — كانت تعتقد أنهم طلاب، لولا أن مضيف الحفل قد قال إن الطلاب غير مسموح لهم بالدخول — كانوا جالسين على المناضد ويقفون أمام الحوض، يتحدثون بأصوات خفيضة جادة. نظر أحدهم إليها، فابتسمت ولكنه لم يردَّ بابتسامة مقابلة. نظر إليها اثنان آخَران منهم وواصلا الحديث. كانت واثقةً من أنهما يتحدثان عنها، وعمَّا حدث في غرفة المعيشة. ألحَّتْ روز على السيدة كي تجرِّب بعض الخبز والباتيه. ربما كان من شأن ذلك أن يثنيها عن الكلام، حتى يتسنَّى لروز أن تسترق السمع لما كان يقال.
«أنا لا آكل في الحفلات مطلقًا.»
كان أسلوب السيدة تجاهها يتجه نحو الغموض والاتهام غير المفهوم. علمت روز أن هذه السيدة زوجة لأحد المسئولين. ربما كانَتْ دعوتُها إلى الحفل حركةً سياسية، وربما وعدوها بأن يُحضِروا لها روز؛ فهل كان هذا جزءًا من تلك الحركة؟
قالت السيدة: «هل أنتِ جائعة هكذا على الدوام؟ أَلَا تمرضين أبدًا؟»
فقالت روز: «أكون جائعة حين يكون هناك شيء طيب كهذا لتناوله.» كانت تلك مجرد محاولة منها لضرب مثال، وبالكاد كانت تستطيع المضغ أو البلع لما كان يعتريها من قلقٍ لسماع ما يقال عنها. قالت: «كلا، غالبًا ما لا أمرض.» وكانت مفاجأةً لها حين أدركت أن ذلك صحيح بالفعل؛ فقد اعتادت أن تصاب بنزلات البرد والأنفلونزا والشد العضلي ونوبات الصداع، وتلك العلل على وجه التحديد قد اختفت الآن، وخفَّتْ حدتها متحوِّلةً إلى ما يشبه طنينًا خفيضًا متواصلًا من الاضطراب، والإجهاد، والخوف.
«إنها مؤسسة لعينة وغيورة.»
سمعت روز ذلك، أو اعتقدت أنها قد سمعته. كانوا يرمقونها بنظرات سريعة مليئة بالازدراء، أو هكذا اعتقدت؛ فلم يكن بوسعها النظر إليهم بشكل مباشر. «مؤسسة». كانت روز هي المقصودة. أليس كذلك؟ هل كانت روز هي المقصودة؟ هل كانت المقصودة بذلك روز التي قبلت بوظيفة تدريس لأنها لم تكن تحصل على أدوار تمثيلية تكفي كي تعول نفسها، ومُنِحت وظيفة التدريس تلك بسبب خبرتها على المسرح والتليفزيون، ولكن كان عليها أن تقبل أجرًا منخفضًا لعدم حصولها على درجات علمية؟ أرادت أن تتجه نحوهم وتخبرهم بذلك. أردات أن تعرض قضيتها. سنوات العمل، الإنهاك، السفر، قاعات المسرح في المدرسة الثانوية، التوتر، الملل، الجهل التام بمصدر دخلك القادم. أرادَتْ أن تدافع عن نفسها بالحجَّة؛ حتى يغفروا لها ويحبوها ويأخذوها إلى صفِّهم. لقد كان صفُّهم هو ما تريده، وليس صف الأشخاص القابعين في غرفة المعيشة الذين تبنَّوا قضيتها. ولكن كان ذلك اختيارًا اتخذته من منطلق الخوف، وليس بناءً على مبدأ. لقد كانت تخافهم. كانت تخاف فضيلتهم القاسية المتحجرة، وجوههم الباردة المزدرية، أسرارهم، ضحكاتهم، بذاءاتهم.
فكرت في ابنتها آنا. كانت آنا في السابعة عشرة، ذات شعر طويل وناعم، تزيِّن عنقَها سلسلةٌ جميلةٌ من الذهب الرقيق. كانت سلسلتها رقيقةً إلى حدٍّ يجبرك على النظر إليها عن كثب للتأكُّد من أنها سلسلة، وليست مجرَّد بريق بشرتها الناعمة اللامعة. لم تكن مثل هؤلاء الشباب، ولكنها كانت بعيدةً عنها بنفس الدرجة. كانت تمارِس الباليه وتمتطي حصانها كل يوم، ولكنها لم تكن تعتزم امتطاءه في مسابقة أو أن تكون راقصة باليه محترفة. ولِمَ لا؟
«لأن ذلك سيكون سخيفًا.»
ثمة شيء في أسلوب آنا، في سلسلتها الرقيقة، في صمتها، جعل روز تتذكَّرُ جدتها، والدة باتريك. ولكن آنا قد لا تكون بهذا الصمت، بهذه الحساسية والصعوبة في الإرضاء، بهذا النفور مع أي شخص سوى والدتها.
كان الرجل ذو الشعر الأسود المجعد واقفًا في مدخل المطبخ، رامقًا إياها بنظرة صفيقة وساخرة.
قالت روز للسيدة التي تكتب البحثَ عن الانتحار: «أتعرفين مَن هذا؟ ذلك الرجل الذي أخذ الصبي الثمل بعيدًا؟»
«هذا سايمون. لا أعتقد أن الصبي كان ثملًا، أعتقد أنه مدمن على المخدرات.»
«ماذا يعمل؟»
«حسنًا، أعتقد أنه طالب أو ما شابه.»
قالت روز: «كلا. أقصد هذا الرجل؛ سايمون؟»
«أوه، سايمون. إنه مدرس في قسم الدراسات الكلاسيكية. لا أعتقد أنه كان يعمل دائمًا بالتدريس طوال حياته.»
قالت روز: «شأني.» ووجَّهَتِ الابتسامة التي حاولت أن تبتسمها لمجموعة الشباب إلى سايمون. وبقدر ما كانت ضجرة وتائهة وحمقاء، فقد شرعت في الشعور بوخزات مألوفة ووعود جامحة: إذا ابتسم، سوف تبدأ الأمور في السير على ما يرام. لقد ابتسم بالفعل، وراحت سيدة بحث الانتحار تتحدث بنبرة حادة: «اسمعي، هل تأتين إلى أي حفلٍ فقط لتقابلي الرجال؟» حين كان سايمون في الرابعة عشرة، اختبأ وشقيقته الكبرى وصبي آخَر كان صديقًا لهما، في شاحنة بضائع بأحد القطارات للانتقال من فرنسا المحتلة إلى فرنسا غير المحتلة. كانوا في طريقهم إلى ليون، حيث كان أعضاء إحدى المنظمات التي تعمل على إنقاذ الأطفال اليهود سيتولَّون رعايتهم وتوجيههم إلى أماكن جديدة آمنة. كان سايمون وشقيقته قد تم ترحيلهما بالفعل خارج بولندا، مع بداية الحرب، للإقامة مع أقارب لهما فرنسيين، والآن صار لزامًا أن يتم إبعادهما مرة أخرى.
توقَّفَتِ الشاحنة، ووقف القطار ساكنًا لا يتحرك، وكان ذلك ليلًا في مكان ما في الريف. كان بإمكانهم سماع أصوات تتحدث الفرنسية والألمانية. ثمة بعض الهرج في القاطرات الأمامية. وسمعوا الأبواب تُفتَح بقوة، وسمعوا وشعروا بوقع أحذية طويلة تدب على أرضيات تلك القاطرات الجرداء. إنها حملة تفتيش على القطار. فاستلقَوا أسفل بعض الأجولة، ولكنهم لم يحاولوا حتى تغطية وجوههم؛ فقد اعتقدوا أنه لا أمل. كانت الأصوات تقترب أكثر فأكثر، وسمعوا وقع الأحذية الطويلة على الحصى المجاور للقضبان، ثم بدأ القطار يتحرَّك مجدَّدًا. تحرك ببطء شديد لدرجة أنهم لم يلاحظوا أنه تحرَّك للحظة أو نحو ذلك، وحتى عندما لاحظوا، اعتقدوا أنه مجرد تحويلة للقاطرات، بل توقَّعوا أن يتوقف، حتى يمكن مواصلة التفتيش، ولكن القطار واصل سيره، وتحرَّك أسرع قليلًا، ثم ازدادت سرعته، حتى وصل إلى سرعته المعتادة وهو ما لم يكن بالشيء الجيد تمامًا. كانوا يتحركون، وتخلَّصوا من التفتيش، حتى تم نقلهم بعيدًا، ولم يَرَ سايمون ما حدث؛ لقد ولَّى الخطر.
قال سايمون إنه عندما أدرك أنهم في أمان، شعر فجأةً أنهم قد اجتازوا مرحلةَ الخطر، وأن ما من شيء يمكن أن يحدث لهم الآن، وأنهم محظوظون ومنعَّمون، وأخذ ما حدث على أنه علامة من علامات حسن الحظ.
سألته روز إذا كان قد رأى صديقه وشقيقته مرة أخرى.
«كلا. لم أَرَهما مطلقًا بعد أن جاوزنا ليون.»
«إذن فقد كانت علامة حسن حظ لكَ أنتَ فقط.»
ضحك سايمون. كانا في الفراش، فراش روز في منزل قديم على أطراف قرية في مفترق طرق؛ حيث اتجها إلى هناك مباشَرَةً من الحفل. كان ذلك في شهر أبريل، وكانت الرياح باردة، وكان منزل روز شديد البرودة. لم تكن المدفأة كافية، فوضع سايمون إحدى يديه على ورق الحائط خلف الفراش، وجعلها تشعر بتيار الهواء البارد.
«إنه يحتاج إلى عزل حراري.»
«أعرف. إن الأمر بشع. لا بد أن ترى فواتير وقودي.»
قال سايمون إنها يجب أن تشتري مدفأة تعمل بالخشب، وأخبرها عن أنواع عديدة من الحطب، وقال إن خشب القيقب من أنواع الخشب الرائعة للحرق، وانطلق يسرد العديد من أنواع العزل الحراري: الستيروفوم، والميكافيل، والفايبرجلاس. ثم نهض من الفراش وراح يتجول عاريًا، ممعنًا النظر في جدران المنزل، بينما كانت روز تصيح وراءه.
«تذكرت الآن. لقد كانت منحة.»
«ماذا؟ لا أسمعكِ.»
فقامت من الفراش ولفَّتْ نفسها في دِثار، وقالت وهي واقفة أعلى السلم: «لقد جاءني ذلك الصبي باستمارة طلب منحة. كان يريد أن يصبح كاتبًا مسرحيًّا. الآن فقط تذكَّرْتُ.»
قال سايمون: «أيُّ صبي؟ آه.»
«ولكنني زكيتُهُ. أنا متأكدة.» الحقيقة أنها كانت تزكِّي الجميع، فإذا لم تستطع أن ترى مميزاتهم، ظنَّتْ أن الأمر هو مجرد مسألة أنهم يمتلكون مميزاتٍ لم تستطع رؤيتها.
«لا بد أنه لم يحصل عليها؛ لذا اعتقدَ أني قد استبعدته.»
قال سايمون وهو ينظر إلى القبو بتفحُّص: «حسنًا، على فرض أنكِ قد فعلتِ. إنه حقك.»
«أعلم. ولكنني أخشى ذلك كثيرًا؛ فأنا أكره رفضهم. إنهم في غاية الطهر والاستقامة.»
قال سايمون: «إنهم أبعد ما يكونون عن ذلك. سوف أرتدي حذائي وأُلقِي نظرةً على مدفأتك. في الغالب تحتاجين لتنظيف المرشحات. هذا هو أسلوبهم فحسب. ليس هناك ما يدعو للخوف منهم، فهُمْ مجرد أشخاص حمقى شأنهم شأن أي شخص آخَر. إنهم يريدون بعض السُّلْطة والنفوذ. وهذا شيء طبيعي.»
«ولكن أيمكن أن تكون حاقدًا إلى هذا الحد؟» واضطرت روز للتوقف وبدأت الكلمة من جديد: «أن تكون بهذا «الحقد» بسبب الطموح فحسب؟»
قال سايمون صاعدًا السلم: «وهل هناك شيء آخَر؟» ثم أمسك بالبطانية ولفَّ نفسه بها معها، وداعَبَ أنفها بأنفه. «يكفي هذا يا روز. أَلَا تستحين؟ أنا شخص مسكين جاء ليتفحص مدفأتك؛ مدفأة قبوك. آسف لاحتكاكي بك بهذا الشكل يا سيدتي.» كانت تعرف بعضًا من شخصياته بالفعل؛ كان في هذه اللحظة يتقمص شخصية العامل المتواضِع، وكان من ضمن شخصياته الأخرى شخصية الفيلسوف العجوز الذي ينحني لها على الطريقة اليابانية، عندما يخرج من المرحاض متمتمًا: «تذكَّر الموتى، تذكَّر الموتى.» وعندما يكون الوقت ملائمًا، يتقمص شخصية «الشهواني المجنون»، فيهمز بأنفه ويثب عليها، ويطبع قبلات بتمطق على بطنها تنمُّ عن البهجة والانتصار.
اشترت من المتجر الواقع في مفترق الطرق قهوة حقيقية بدلًا من القهوة السريعة، وكريمة حقيقية، ولحمًا مقددًا، وبروكلي مجمدًا، وقطعة كبيرة من الجبن المحلي، ولحم كابوريا معلبًا، وأفضل طماطم متوافرة لديهم، وأرزًا طويل الحبة، وسجائر أيضًا. كانت في تلك الحالة من السعادة التي تبدو طبيعية تمامًا ولا يوجد ما يهدِّدها. ولو سُئِلت عن سبب ذلك، لقالت بسبب الطقس — فقد كان اليوم مشرقًا على الرغم من الرياح العاصفة — وبسبب سايمون أيضًا.
قالت السيدة التي تدير المتجر: «لا بد أنكِ قد أحضرتِ رفيقًا بالمنزل.» لم تكن تتحدث بأي نبرة دهشة أو خبث أو استنكار، كان ذلك على سبيل الحسد الودي اللطيف.
قالت روز بينما تضع المزيد من البقالة على النضد: «جاءني دون سابق إنذار. يا لهم من ضيوف مزعجين! ناهيك عن التكاليف. انظري إلى ذلك اللحم المقدد، وتلك الكريمة أيضًا.»
قالت السيدة: «أستطيع تحمُّل ذلك إلى حدٍّ ما.»
•••
أعدَّ سايمون عشاءً رائعًا بالموارد المتاحة، فيما لم تفعل روز شيئًا سوى المشاهدة، وتغيير ملاءات السرير.
قالت: «لقد تغيَّرَتِ الحياة الريفية، أو لعلني قد نسيت. لقد جئتُ إلى هنا ببعض الأفكار عن الكيفية التي سأحيا بها حياتي هنا. ظننت أنني سأذهب في جولات تريُّض طويلة على الطرق الريفية المهجورة. وفي أول مرة خرجتُ فيها للتمشية، سمعتُ سيارة مسرعة قادمة من ورائي على الطريق المفترش بالحصى، وابتعدت سريعًا وكنتُ محظوظة للغاية أن لم يُصِبْني مكروهٌ. بعدها سمعت صوت طلقات نارية ملأني رعبًا؛ فاختبأت بين الشجيرات وجاءت سيارة تعوي بنفيرها وتترنح يمينًا ويسارًا على طول الطريق، وكانوا يطلقون الرصاص من النوافذ. فعُدْتُ عبر الحقول، وأخبرتُ السيدة التي في المتجر أننا يجب أن نبلغ الشرطة، فقالت إن الصبية في العطلات الأسبوعية يحضرون حقيبة من الجعة في السيارة ويخرجون لإطلاق الرصاص على جرذان الأرض. بعدها قالت لي: ماذا كنتِ تفعلين على هذا الطريق على أية حال؟ استطعتُ أن أدرك أنها ترى الخروج للتمشية بمفردك شيئًا أكثر إثارةً للشبهات من صيد الجرذان. وهناك الكثير من الأشياء على ذلك النحو. لا أعتقد أنني سأبقى، ولكن عملي هنا والإيجار رخيص. لا أقصد أن تلك السيدة التي في المتجر ليست لطيفة. إنها تقرأ الطالع بأوراق اللعب وفناجين الشاي.»
قال سايمون إنه أُرسِل من ليون للعمل في إحدى المزارع في جبال بروفينس. كان الناس هناك يعيشون ويعملون بالزراعة بشكل يشبه للغاية مَن كانوا يعيشون في العصور الوسطى؛ فلم يكونوا يجيدون القراءة أو الكتابة أو التحدُّث بالفرنسية. وعندما يمرضون، كانوا إما ينتظرون الموت أو الشفاء، ولم يذهب أحد منهم إلى الطبيب قطُّ، على الرغم من أن هناك طبيبًا بيطريًّا يأتي مرةً في السنة لفحص الماشية. ذات مرة دخلَتْ مِذْراة قمح في قدم سايمون، وتلوَّثَ الجرح وأصيب بحمى، وواجه صعوبة جمة في إقناعهم بالإرسال في طلب الطبيب البيطري الذي كان في ذلك الحين في القرية المجاورة، وأخيرًا فعلوا وجاء البيطري وأعطى سايمون حقنةَ خيولٍ كبيرةً وتحسَّنَتْ حالته. وحار أفراد المنزل وأعجبهم رؤية مثل هذه الإجراءات تُتَّخَذ على صعيد الحياة الإنسانية.
قال إنه بينما كان يتعافى قام بتعليمهم لعب الورق، وتعلمت الأم والأطفال؛ بينما كان الأب والجد بطيئَي التعلم للغاية، ولم يكن لديهما الاستعداد، فيما ظلَّتِ الجدة حبيسة قفص في الحظيرة يتم إطعامها بقايا الطعام مرتين يوميًّا.
«أهذا صحيح؟ هل هذا ممكن؟»
كانا في مرحلة تبادُل الأشياء فيما بينهم مثل المتع، والقصص، والدعابات، والاعترافات.
قال سايمون: «إنها حياة الريف! ولكن الوضع هنا ليس بهذا السوء. هذا المنزل يمكن أن يصبح مكانًا مريحًا للغاية؛ إذ لا بد أن يكون لديك حديقة.»
«كانت هذه من الأفكار الأخرى التي واتتني، وحاولْتُ بالفعل أن يكون لديَّ حديقة، ولكنَّ شيئًا لم يُجْدِ. كنتُ أتطَّلَع لزراعة الملفوف، اعتقدْتُ أنه جميل، ولكن أصابته إحدى الديدان، والتهمت الأوراق إلى أن أصبحَتْ مثل النسيج المخرم، ثم اصفرَّتْ جميعها وسقطت على الأرض.»
«الملفوف من النباتات التي يصعب زراعتها. يجب أن تبدئي بشيء أسهل.» غادر سايمون الطاولة واتجه صوب النافذة. «أشيري لي على المكان الذي كانت به حديقتك.»
«بطول السور. ذلك هو المكان الذي كانت به قبل ذلك.»
«هذا مكان سيئ، فهي قريبة للغاية من شجر الجوز. وأشجار الجوز لها تأثير سيئ على التربة.»
«لم أكن أعلم هذا.»
«حسنًا، هذا صحيح. عليكِ أن تجعليها أقرب للمنزل. سوف أبدأ غدًا في حفر حديقة من أجلك، سوف تحتاجين للكثير من السماد. إن روث الأغنام هو أفضل المخصَّبات الآن. أتعرفين أحدًا هنا لديه أغنام؟ سوف نحصل على عدة أجولة من روث الأغنام، ونرسم خطة لتحديد النباتات التي سنزرعها، وإنْ كان ذلك لا يزال مبكرًا للغاية؛ إذ قد لا يزال هناك صقيع. يمكنكِ أن تبدئي ببعض الأشياء من داخل المنزل، ذات بذور. لتبدئي بالطماطم.»
قالت روز: «ظننت أنك ربما تكون مضطرًّا للمغادرة غدًا في حافلة الصباح.» فقد جاءا بسيارتها.
«يوم الاثنين يوم خفيف. سوف أتصل وألغي ما لديَّ من أعمال، وأخبر الفتيات في المكتب أن يقولوا إنني مصاب بالتهاب الحلق.»
«التهاب الحلق؟»
«شيء من هذا القبيل.»
قالت روز بنبرة صادقة: «من الجيد أنك هنا، وإلَّا لقضيتُ وقتي في التفكير في ذلك الفتى. كنتُ سأحاول ألَّا أفكِّر فيه، ولكن كان سيظل يخطر ببالي في لحظات عدم انشغالي. كنتُ لأصبح في حالةٍ من المهانة.»
«ذلك شيء تافه للغاية ليصيبك بحالة من المهانة.»
«هذا ما أراه أيضًا، ولكني أتأثر بأقل الأشياء.»
قال سايمون: «تعلَّمِي ألَّا تكوني بهذه الحساسية.» كان يتحدث وكأنه يحاول تولِّي مسئوليتها إلى جانب مسئولية المنزل والحديقة، ثم أردف قائلًا: «الفجل، الخس الورقي، البصل، البطاطا. أتحبين البطاطا؟»
وضَعَا معًا خطة للحديقة قبل أن يرحل، وقام بحفر التربة وإعدادها لها، على الرغم من اضطراره للاكتفاء بروث الأبقار. اضطرت روز للذهاب إلى العمل يوم الاثنين، ولكنها ظلت تفكر فيه طوال اليوم. رأته وهو يحفر في الحديقة، رأته وهو يتفحَّص القبو عاريًا، رجلًا قصير القامة بدينًا كثيف الشعر ودودًا، ذا وجه أجعد كوجه الممثلين الكوميديين. كانت تعلم ما سيقول حين تعود إلى المنزل، كان سيقول: «أتمنى أن ينال عملي رضاكِ يا سيدتي.» ويجذب خصلة من شعرها.
وكان هذا هو ما فعله بالفعل، وكانت في غاية السعادة، حتى إنها صاحت تقول: «أوه سايمون، أيها الوغد، أنت رجل حياتي!» غمرتها تلك اللحظات بشعور الحظوة وغطَّتْها بنور كشعاع الشمس، لدرجةٍ جعلتها لا تفكر أنه قد لا يكون من الحكمة أن تقول شيئًا كهذا.
•••
مع انتصاف الأسبوع ذهبت إلى المتجر، لا لشراء أي شيء، ولكن لتقرأ طالعها. نظرت السيدة في فنجانها وقالت: «أوه يا إلهي! لقد قابَلْتِ الرجل الذي سيغيِّر كل شيء.»
«أجل، أظن هذا.»
«سوف يغيِّر حياتك. أوه، يا إلهي! لن تبقي هنا. إنني أرى شهرة، أرى ماءً.»
«لا أعرف شيئًا عن هذا. أعتقد أنه يرغب في تركيب نظام عزل لمنزلي.»
«لقد بدأ هذا التغيير بالفعل.»
«أجل، أعلم أنه قد بدأ. أجل.»
•••
لم تستطع أن تتذكر ما قالتاه بشأن حضور سايمون مرة أخرى، كانت تعتقد أنه قادم في العطلة الأسبوعية. كانت تتوقَّع حضورَه، ومن ثَمَّ خرجت واشترت البقالة، ليس من المتجر المحلي هذه المرة، ولكن من سوبر ماركت على بُعْد عدة أميال، وتمنَّتْ ألَّا تراها سيدة المتجر وهي تحمل حقائب البقالة متجهة إلى المنزل. كانت تريد خضراوات وشرائح لحم طازجة وكرزًا أسود مستوردًا، وجبن كامومبير ودرَّاقًا. كما اشترت نبيذًا، ومفرشين للسرير تكسوهما أطواق أنيقة من الورد الأزرق والأصفر، اعتقدت أن وركيها الشاحبين سوف يظهران بشكل واضح عليهما.
وفي يوم الجمعة ليلًا وضعت المفرشين على السرير، والكرز في إناء أزرق. كان النبيذ باردًا، والجبن يلين. وفي حوالي التاسعة مساءً جاء صوت الطرق العالي، ذلك الطرق الدعابي المتوقَّع على الباب. كانت مندهشة لأنها لم تسمع صوتَ سيارته.
قالت سيدة المتجر: «شعرتُ بالوحدة؛ لذا فكرتُ أن أقوم بزيارتك و… أوه! إنك بانتظار رفيقك.»
قالت روز: «ليس بالضبط.» كان قلبها قد بدأ يخفق في فرح حين سمعت صوت الطرق، وكان لا يزال يدق وكأن صوت دقاته مسموعٌ. وأردفت قائلةً: «لا أعلم متى يصل هنا. ربما غدًا.»
«تبًّا للأمطار.»
بدا صوت السيدة ودودًا وصادقًا، وكأن روز كانت بحاجة إلى إلهاء أو مواساة.
قالت روز: «أتمنى فقط ألَّا يكون الآن قائدًا للسيارة في هذا الطقس.»
«بكل تأكيد لا ترغبين في ذلك.»
مرَّرَتِ السيدةُ أصابعها عبر شعرها الرمادي القصير نافضة عنه قطرات المطر، وأدركت روز أنها ينبغي أن تقدِّم لها شيئًا. ربما كأس من الشراب؟ ربما يجعلها ثملة وثرثارة، وقد ترغب في أن تبقى وتُجهِز على الزجاجة. ها هي شخصية تحدَّثَتْ إليها روز من قبلُ عدة مرات، صديقة نوعًا ما، شخصية كانت ستدعي أنها تحبها، وبالكاد يمكن أن تتعب نفسها في التعبير عن تقديرها لها. لم يكن الموقف ليتغير في تلك اللحظة مع أي شخص بخلاف سايمون؛ فقد كان أي شخص آخَر سيبدو مزعجًا ودخيلًا.
كان بوسع روز أن ترى ما هو قادم. كانت كل مباهج الحياة وتعازيها ومظاهر اللهو فيها ستُطوَى وتُطرَح جانبًا؛ وما تجده من متعة في الطعام، وزهور الليلَك، والموسيقى، وصوت الرعد في الليل كل ذلك سيزول. ما من شيء ليجدي سوى أحضان سايمون، ما من شيء ليجدي سوى الاستسلام للتشنجات والوخزات.
استقرت على أن تقدِّم لها الشاي؛ فقد اعتقدت أنها ربما تستغل ذلك الوقت في جولة جديدة من قراءة طالعها.
قالت السيدة: «ليس واضحًا.»
«أي شيء تقصدين؟»
«لا أستطيع الرؤية بوضوح الليلة. كلا، للأمانة لست قادرة على رصده.»
«لا تستطيعين رصده؟»
«أعني في مستقبلك. أنا متعبة للغاية.»
ظنت روز أنها تقول ذلك من منطلق الحقد والغيرة.
«حسنًا، أنا لستُ مهتمة به على أي حال.»
«ربما استطعتُ أن أفيدك أكثر لو كان لديك شيء يخصه، فقط دعيني أحصل على أي شيء وضع يده عليه، ألديك مثل هذا الشيء؟»
قالت روز: «أنا.» قالتها بتأنف رديء لم تملك العرافة أمامه شيئًا سوى الضحك.
«كلا، أنا جادة.»
«لا أعتقد هذا. فأنا أتخلص من أعقاب سجائره.»
•••
بعد انصراف السيدة، جلست روز تنتظر، وسرعان ما انتصف الليل. كان المطر ينهمر بغزارة. وفي المرة التالية التي نظرت فيها إلى الساعة، كانت قد أصبحت الثانية إلا عشرين دقيقة. كيف يمكن لوقت شاغر كهذا أن يمر بهذه السرعة؟ أطفأت الأنوار لأنها لم تكن تريد أن يرصدها أحد وهي مستيقظة في هذا الوقت. خلعت ملابسها، ولكنها لم تستطع الاستلقاء على المفارش الجديدة، فجلست في المطبخ في الظلام. ومن آنٍ لآخر كانت تعد لنفسها كوبًا من الشاي. اخترق الغرفة بعض الضوء القادم من مصباح الشارع القائم على الناصية، فقد تَمَّ تركيب مصابيح بخار زئبق جديدة مبهرة. كان بإمكانها أن ترى ذلك الضوء، وجزءًا بسيطًا من المتجر، ودرجات سلم الكنيسة عبر الطريق. لم تَعُدِ الكنيسة تخدم الطائفة البروتستانتية الحكيمة والمبجلة التي قامت ببنائها، ولكنها أعلنت نفسها «هيكلًا للناصرة»، وكذلك «مركزًا للقداسة». كانت الأمور أكثر انحرافًا هنا مما لاحظت روز من قبلُ. لم يكن هناك مزارعون متقاعدون يعيشون في هذه المنازل، بل لم يكن هناك مَزارِع للتقاعد عن العمل بها، هناك فقط الحقول الفقيرة المغطَّاة بأشجار العرعر. كان الناس يعملون في المصانع على بُعْد ثلاثين أو أربعين ميلًا، أو في مستشفى المقاطعة للأمراض النفسية، أو كانوا لا يعملون من الأساس، كانوا يعيشون حياة غامضة على أطراف الإجرام أو حياةً من الجنون المنظم في ظل مركز القداسة. كانت حياة الناس بالتأكيد أكثر قنوطًا مما اعتادت أن تكون عليه، وماذا يمكن أن يكون أكثر قنوطًا من امرأة في عمر روز تسهر طوال الليل في مطبخها المظلم في انتظار حبيبها؟ كان هذا موقفًا صنعته روز بيديها، كانت هي مَن صنعته كاملًا بنفسها، وكأنها لم تتعلم أي درس على الإطلاق. لقد حوَّلَتْ سايمون إلى الشماعة التي علَّقَتْ عليها آمالَها، ولم تكن تستطيع الآن أن تعيده مرة أخرى إلى نفسه.
ظنَّتْ أن الخطأ كان في شراء النبيذ، والمفارش، والجبن، والكرز؛ فقد جلبت عليها تلك الاستعدادات كارثة، ولم تدرك ذلك حتى فتحت الباب وتحوَّلَ اضطراب قلبها من ابتهاج إلى هلع، مثل صوت برج مليء بالأجراس تحوَّلَ بشكل كوميدي (ولكن ليس بالنسبة لروز) إلى نفير ضباب يملؤه الصدأ.
ظلت روز ساعة بعد ساعة وسط الظلام والمطر تتنبأ بما يمكن أن يكون قد حدث، واستطاعت أن تنتظر على مدار العطلة الأسبوعية، تؤازر نفسها بالأعذار ويعييها الشك، ولا تغادر المنزل قطُّ خشية أن يدق جرس الهاتف. عندما عادت إلى العمل يوم الاثنين، في حالة من الإعياء، ولكنها ما زالت ملتزمة إلى حد قليل بعالم الواقع، استجمعت شجاعتها لتكتب له خطابًا، وتركته في قسم الدراسات الكلاسيكية ليسلِّموه إياه.
«كنتُ أفكِّر أننا قد يمكننا أن نزرع الحديقة في العطلة الأسبوعية القادمة. لقد اشتريت مجموعة كبيرة من البذور (كانت تلك كذبة، ولكنها كانت ستشتريها إذا وصلها منه رد). أبلِغْني حال قدومك، ولكن لا تقلق إذا وضعتَ خططًا أخرى.»
عندئذٍ سيراودها القلق؛ ألم يكن وقع ذِكْر الخطط الأخرى فظًّا بشكل مبالغ؟ ألن يكون عدم إضافتها إلحاحًا مفرطًا؟ كانت ثقتها بنفسها، ورقَّة قلبها ستتسربان منها، ولكنها ستحاول ادعاءهما.
«إذا كان الجو بالخارج مطيرًا للعمل في الحديقة، يمكننا دائمًا الخروج في نزهة بالسيارة. وربما استطعنا صيد بعض الجرذان الأرضية. مع أطيب أمنياتي. روز.»
بعد ذلك مزيدٌ من وقت الانتظار، ستكون العطلة الأسبوعية بالنسبة لها مجرد اختبار تجريبي عارض، أو مقدمة عشوائية للطقوس الجادة العادية البائسة، ستضع يديها داخل صندوق البريد وتسحب البريد منه دون النظر إليه، وترفض مغادرة الكلية حتى الخامسة، وتضع وسادة عند الهاتف للتأكد من رؤيتها له؛ متصنعة اللامبالاة. كان تفكيرها لا يبرح هذا الأمر، ولكن مَن يراقب طويلًا لا يجد نتيجة. كانت تسهر طوال الليل تعاقِر الشراب دون أن تعييها هذه الحماقة بما يكفي للتخلي عنها؛ لأن الانتظار كان سيتخلله أحلام اليقظة التي تُمنِّيها، تلك الحجج المقنعة المتعلقة بنواياه. كانت هذه الأحلام تصل لنقطة ما تكفي لتجعلها تقرِّر أنه لا بد وأنه كان مريضًا، ولم يكن ليهجرها هكذا لسبب آخَر سوى ذلك. تتخيل أنها تتصل بمستشفى كينجستون للسؤال عن صحته ليخبروها أنه ليس مريضًا لديهم، ربما بعدها يأتي اليوم الذي تدخل فيه مكتبة الكلية لتلتقط نُسَخًا سابقة من صحف كينجستون لتبحث وسط إعلانات النعي لتعرف ما إذا كان قد تُوفِّي بأي شكل من الأشكال. بعدها، وفي استسلام تام، وشعور بالبرد والارتعاد، تتصل به في الجامعة، فتقول الفتاة التي تعمل بمكتبه إنه قد رحل. ربما رحل إلى أوروبا، أو إلى كاليفورنيا؛ فقد كان يدرِّس هناك لفصل دراسي واحد فقط. ربما يكون قد ذهب في رحلة تخييم، أو ذهب لكي يتزوج.
أو قد تقول: «دقيقة واحدة من فضلك.» وتحوِّل روز إليه بشكل غير متوقع.
«أجل؟»
«سايمون؟»
«أجل.»
«إنه أنا … روز.»
«روز؟»
إنه أسوأ ما يمكن أن تتوقعه، بل قد يكون هناك أسوأ من ذلك.
قد يقول: «كنتُ أنتوي الاتصال بك.» أو «روز، كيف حالك؟» أو حتى «كيف حال تلك الحديقة؟»
إذا كان كذلك فمن الأفضل أن تخسره الآن، ولكنها عندما اقتربت من الهاتف، راحت تضع يدها عليه، ربما لترى ما إذا كان لا زال يعمل، أو ربما لِحَضِّه على الرنين.
قبل ظهور أول خيط من خيوط صباح الاثنين، جمعت كل ما اعتقدت أنها ستحتاج إليه في صندوق السيارة، وأغلقت المنزل، بينما كان جبن كامومبير ما زال يسيل كفيض من الدموع على منضدة المطبخ، وانطلقت بالسيارة في اتجاه الغرب. كانت تعتزم الغياب ليومين حتى تستعيد صوابها وتستطيع مواجهةَ المفارشِ الجديدة وقطعةِ الأرض التي تم تجهيزها لزراعة الحديقة، والمكانِ خلف السرير حيث وضعَتْ يدها لتحسُّس تيار الهواء. (لماذا أحضرَتْ حذاءها الطويل ومعطفها الشتوي، إذا كان هذا هو الحال؟) وكتبت خطابًا إلى الكلية — إذ كان بإمكانها إجادة الكذب في الخطابات، على الرغم من أنها لا تجيد ذلك عبر الهاتف — قالت فيه إنها قد استُدْعِيَتْ للسفر إلى تورونتو لأن صديقة لها كانت في مرضها الأخير. (ربما لم تُجِد الكذب هذه المرة على أية حال، وربما قد بالغت.) كانت مستيقظة طوال العطلة الأسبوعية تقريبًا تعاقر الشراب، ليس بشكل مفرط، ولكن على نحو متواصل. وبينما كانت تضع أمتعتها في السيارة، قالت لنفسها بصوت عالٍ وبنبرة جادة وتوكيدية للغاية: «لن أتناول المزيد منه مجدَّدًا.» جلسَتْ بانحناء في مقعد السيارة الأمامي تكتب الخطاب الذي كان يمكنها أن تكتبه في وضع أكثر ارتياحًا في المنزل، وفكرت في كم الخطابات المجنونة التي كتبتها، وكم الأعذار المبالَغ فيها التي أوجدتها، في اضطرارها لترك مكان ما، أو خوفها من ترك مكان ما، بسبب رجل ما. لم يكن أحد يعرف مدى حماقتها، حتى الأصدقاء الذين عرفوها على مدى عشرين عامًا لم يعرفوا نصف الرحلات الجوية التي سافرت على متنها، ولا الأموال التي أنفقتها، ولا المخاطر التي خاضتها.
فكَّرَتْ قليلًا فيما بعدُ في موقفها؛ فها هي ذي تقود سيارةً، مغلِقةً ماسحاتِ الزجاج الأمامي مع انحسار الأمطار أخيرًا في صباح يوم اثنين في العاشرة، وتتوقف من أجل تزويد السيارة بالوقود، ثم تتوقف ثانيةً لصرف حوالة مالية بعد أن فتحت البنوك أبوابها؛ كانت صامدة ومرحة، وتذكَّرَتْ ما يجب أن تفعله، مَن ذا الذي سيخمن ماهية الشهوات المخزية، أو ذكريات الشهوات، أو التنبؤات التي تتضارب في عقلها؟ لقد كان أكثر هذه الأشياء الشهوانية المخزية على الإطلاق هو ببساطةٍ الأملُ، الذي يختبئ بشكل خادع للغاية في البداية، ويخفي نفسه بدهاء ومكر، ولكن ليس لفترة طويلة؛ ففي غضون أسبوع يمكن أن تجده وقد خرج يصدح ويغرد ويتغنى بترانيم على باب السماء، بل إنه منشغل الآن بإخبارها بأن سايمون قد يكون في هذه اللحظة يعرج إلى ممر السيارات الخاص بمنزلها، وقد يكون واقفًا أمام باب منزلها عاقدًا يديه معًا، يتوسل ويتهكم ويعتذر، مردِّدًا عبارته «تذكَّر الموتى».
حتى لو كان ذلك صحيحًا، ما الذي سيحدث يومًا ما، في صباح أحد الأيام؟ في صباح أحد الأيام يمكن أن تستيقظ وتدرك من أنفاسه أنه كان مستيقظًا بجوارها دون أن يلمسها، وأن من المفترض بها ألَّا تلمسه؛ فالكثير من لمسات الأنثى تحمل مطالب (هذا ما كانت ستتعلَّمَه، أو تعلَّمَتْه مرة أخرى منه)، ورِقَّة النساء نهمة، وشهوانيتهن خادعة. كانت ستستلقي هناك متمنيةً لو كان لديها عيب واضح، أو شيء يمكن لشعورها بالخزي أن يتقوقع حوله ويحميه. وعلى هذا الأساس، كانت ستضطر أن تشعر بالخزي من حقيقة جسدها برمته، تلك الحقيقة الممددة العارية المخزية، وتتحمل عبأها. قد يبدو جسدها كالكارثة؛ فهو مسامي وسميك وباهت وتملؤه البقع. أما جسده، فلن يكون محل جدل، لن يكون أبدًا؛ فهو مَن سيكون صاحب الحق في الاستنكار والصفح، وكيف لها أن تعرف إذا كان سيصفح عنها مجدَّدًا؟ فبإمكانه أن يقول لها «تعالَي إلى هنا»، أو «ابتعدي». فمنذ أن تركت باتريك وهي لم تكن بالإنسان الحر، ذلك الإنسان الذي يمتلك تلك القوة التي ربما تكون قد استنزفتها بالكامل، استنزفت كل ما كان يواتيها منها.
أو ربما تسمعه يقول في إحدى الحفلات: «وحينها علمتُ أنني سأكون على ما يرام، وعلمت أنها علامة على حسن الطالع.» راويًا قصته لفتاة عاهرة بلا قيمة، ترتدي رداءً حريريًّا بنقوش جلد النمر، أو — ما هو أسوأ — لفتاة رقيقة ذات شعر طويل في ثوب فضفاض مطرز، ستقوده من يديه، عاجلًا أو آجلًا، عبر باب مؤدٍّ لغرفة أو منظر طبيعي حيث لا تستطيع روز أن تتبعهما.
أجل، ولكن أليس من الممكن ألَّا يحدث أي من هذا، وألَّا يكون هناك شيء سوى العطف، وروث الأغنام، وليالي الربيع الهادئة وسط غناء الضفادع؟ قد يعني عدم مجيئه في أول عطلة أسبوعية لهما، وعدم اتصاله بها، مجرد حدوث تغير في جدول أعماله، وليس هناك أي نذير سوء على الإطلاق. وعلى أثر تفكيرها على هذا النحو، كانت تبطئ كل عشرين ميلًا أو نحو ذلك، بل وكانت تبحث عن مكان لتستدير وتعود مرة أخرى. بعدها تعزف عن ذلك وتسرع خطاها، وهي تفكر أنها ستقود لمسافة أبعد قليلًا للتأكد من صفاء ذهنها، لتنهال عليها مجدَّدًا خيالاتها عن نفسها وهي جالسة في المطبخ، وصور الفقدان والخسارة. وظلت هكذا تقطع الطريق ما بين الرغبة في العودة والمضي قدمًا، وكأن مؤخرة السيارة معلَّقَة بقوة مغناطيسية تتراجع وتقوى، وتتراجع وتقوى، ثم تتراجع وتقوى مرة أخرى، إلا أن تلك القوة لم تكن كافية قط لتجعلها تستدير، وبعد فترة سيطر عليها الفضول بشكل غير شخصي، وصارت تراها كقوة مادية حقيقية وتتساءل ما إذا كانت تزداد ضعفًا بالتدريج بينما تقود السيارة، وما إذا كانت عند نقطة ما على مسافة بعيدة سوف تتحرَّر هي والسيارة من قبضة تلك القوة، وسوف تدرك اللحظة التي ستغادر فيها مجالها.
ومن ثَمَّ استمرت في القيادة. مرت بموسكوكا، وليكهيد، وحدود مانيتوبا. في بعض الأحيان كانت تنام في السيارة، فكانت تتوقف على جانب الطريق لساعة أو نحو ذلك. كان الطقس في مانيتوبا باردًا ولم تستطع أن تنام في السيارة، فحجزت في أحد الفنادق الصغيرة، وكانت تتناول طعامها في المطاعم الواقعة على جانب الطريق. وكانت قبل أن تدخل أي مطعم، تمشِّط شعرها وتزيِّن وجهها وترسم عليه تلك النظرة الشاردة الحالمة القليلة التمييز التي ترسمها النساء حين يعتقدون أن رجلًا ما قد يراقبهن. كان من المبالغة بمكانٍ أن تقول إنها تتوقع أن يكون سايمون هناك بالفعل، ولكن كان يبدو أنها لم تستبعد وجوده بشكل تام.
وبالفعل وهنت تلك القوة مع بُعْد المسافة. كان الأمر بتلك البساطة، على الرغم من أن المسافة يمكن اجتيازها بسيارة، أو بحافلة، أو بدراجة، مثلما فكَّرَتْ بعد ذلك؛ فلم يكن يمكن الحصول على نفس النتائج من خلال الطيران. وفي بلدة تغطِّيها المراعي على مسافة قريبة من سايبرس هيلز، أدركت التغيير. ظلَّتْ تقود السيارة طوال الليل إلى أن بزغت الشمس من ورائها وشعرت بالهدوء وصفاء الذهن مثلما يحدث لك في تلك الأوقات. دخلت إلى أحد المقاهي وطلبت قهوة وبيضًا مقليًّا، وجلست على النضد تنظر إلى الأشياء المألوفة التي توجد خلف نضد المقاهي؛ أباريق القهوة، وقطع الليمون اللامعة والفاسدة على الأرجح، وفطائر التوت، والأطباق الزجاجية السميكة التي يضعون فيها الآيس كريم أو الجيلي، وكانت تلك الأطباق هي ما أخبرها بشأن تغيُّر حالتها. لم تكن تستطيع أن تقول إنها حسنة الشكل، أو أنيقة، من دون تشويه للحقيقة. كل ما استطاعت قوله إنها قد رأتها بطريقةٍ لم يكن لشخص في أي مرحلة من مراحل الحب أن يراها بها؛ فقد استشعرت صلابتها بامتنان ينمُّ عن تعافيها، استقر ثقله في عقلها وقدميها بارتياح، وحينها أدركت أنها قد دخلت إلى هذا المقهى دون أدنى فكرة بعيدة الاحتمال عن سايمون، ومن ثَمَّ بدا العالم وقد توقَّفَ عن أن يكون مرحلةً قد تقابله فيها، وعاد ليكون نفسه. وخلال نصف الساعة شديدة الصفاء تلك — قبل أن يجعلها إفطارها في حالة من النعاس الشديد، حتى إنها قد اضطرت للذهاب إلى أحد الفنادق الصغيرة، حيث خلدت إلى النوم بملابسها والستائر مفتوحة أمام ضوء الشمس — كانت تفكِّر كيف أن الحب يغيِّر لك العالم، ففي اللحظة التي تتأكَّد فيها من أن كل شيء على ما يرام، يمضي هو دون أن تشعر، بنفس القدر تمامًا، في طريق التدهور. لم يكن من المفترض أن يشكِّل ذلك مفاجأةً بالنسبة لها، ولم يكن كذلك بالفعل؛ لقد كانت المفاجأة أنها كانت في أشد الرغبة والحاجة إلى أن يكون كل شيء موجودًا من أجلها، وأن يكون سميكًا وبسيطًا مثل أطباق الآيس كريم، حتى يبدو لها أنها كما تفر من خيبة الأمل، والخسائر والانفصال، فهي تفر أيضًا من أضدادها بنفس القدر تمامًا؛ الاحتفاء بالحب وصدمته، ذلك التغيير المذهل الذي طرأ. حتى لو كان ذلك آمنًا، لم يكن بوسعها أن تتقبَّلَه؛ ففي كلتا الحالتين، يُسلَب منك شيء؛ نابض اتزان خاص، نواة صغيرة جافة من الاستقامة. هكذا كانت تعتقد.
كتبَتْ للكلية تخبرهم بأنها حال وجودها في تورونتو لرعاية صديقتها وهي على فراش الموت، التقَتْ مصادَفَةً بأحد معارفها القدامى وعرض عليها وظيفةً في الساحل الغربي، وأنها ستنتقل إلى هناك على الفور. كانت تعتقد أنهم قد يسبِّبون لها مشكلة، ولكنها افترضت أيضًا — وكان افتراضًا في محله — أنهم لن يشغلوا أنفسهم بذلك، لما كانت شروط تعاقُدِها، لا سيما فيما يتعلق بالراتب، غير قانونية إلى حد كبير. وكتبت إلى الوكالة التي استأجرت منها المنزل، وكتبت لسيدة المتجر تودِّعها وتتمنى لها حظًّا سعيدًا. وعلى طريق هوب برينستون السريع، ترجَّلَتْ من السيارة ووقفت تحت أمطار الجبال الساحلية الباردة. راودها شعور نسبي بالأمان، والإرهاق، والسلامة العقلية، على الرغم من أنها كانت تعلم أنها قد تركت وراءها بعض الأشخاص لم يكونوا ليوافقوا على ذلك.
كان الحظ حليفها؛ ففي فانكوفر التقت برجل تعرفه كان بصدد اختيار ممثلين لمسلسل تليفزيوني جديد. كان مقرَّرًا أن يتم التصوير على الساحل الغربي، وكان يدور حول عائلة، أو مَن يتظاهرون بأنهم عائلة، مكوَّنَة من أفرادٍ غريبي الأطوار ودائمي التجول، يستخدمون منزلًا قديمًا على جزيرة سولت سبرينج كمنزل أو مقر رئيسي لهم. حصلت روز على دور السيدة صاحبة المنزل، أو شبه الأم. تمامًا مثلما قالت في خطابها؛ وظيفة في الساحل الغربي، وربما تكون أفضلَ وظيفة حصلت عليها على الإطلاق. استلزم دورها استخدامَ بعض تقنيات المكياج الخاص على وجهها لإظهارها مُسِنَّة، كان الماكيير يمازحها بقوله إنه إذا نجح المسلسل واستمر عرضه لبضع سنوات، لن يكون هناك ضرورة لاستخدام المكياج.
ثمة كلمة كان الجميع على الساحل يستخدمونها هي كلمة «ضَعْف»؛ فكانوا يتحدثون عن شعورهم بالضعف اليوم، وأنهم في حالة من الضعف. وكانت روز تقول: ليس أنا، فأنا يراودني شعور مميز بأنني مخلوقة من جلد الخيل القديم. فقد كانت الرياح والشمس في المراعي الخضراء قد أكسبت بشرتها لونًا بنيًّا وخشونة، وكانت تصفع عنقها المجعَّد البني لتأكيد كلمة «جلد الخيل»، وكانت قد بدأت بالفعل في تبنِّي بعض تعابير وتصرفات الشخصية التي كانت تلعبها.
•••
بعد عام أو نحو ذلك كانت روز تقف على ظهر أحد القوارب النهرية التابعة لشركة كولومبيا البريطانية، مرتديةً كنزة رثَّة افتقرت إلى اللون ووشاح رأس. كان عليها أن تتسلَّل وسط قوارب النجاة وتراقِب فتاةً جميلة صغيرة متجمدة من البرد ترتدي بنطلونًا قصيرًا من الجينز وصدرية نسائية. وفقًا للسيناريو، كانت السيدة التي تلعب روز دورها تخشى أن تكون هذه الفتاة تنوي القفز من القارب لأنها كانت حبلى.
أثناء تصوير هذا المشهد، تجمَّعَ عدد ضخم من الناس، وعندما توقَّفَ التصوير للاستراحة واتَّجَهوا نحو الجزء المسقوف من القارب لارتداء معاطفهم وتناول القهوة، مدَّتْ سيدة وسط الحشد المتجمهر يدها ملامِسَةً ذراع روز.
قالت السيدة: «لن تتذكريني.» وفي الواقع لم تتذكرها روز بالفعل، فشرعت تلك السيدة في التحدث عن كينجستون، والزوجَيْن اللذين أقاما الحفل، وعن موت قطِّ روز. تذكَّرَتْها روز؛ فهي السيدة التي كانت تعدُّ الورقة البحثية عن الانتحار، ولكنها بدت مختلفة تمامًا؛ فكانت ترتدي حلة باهظة الثمن بلون البيج، يلف شعرها وشاح باللونين الأبيض والبيج؛ لم تَعُدْ تبدو مبهرجة ونحيلة وفظَّة وثائرة. قدمت لها رجلًا باعتباره زوجها، والذي زمجر في وجه روز وكأنه يقول لها لو كانت توقَّعَتْ أن يحدث جلبة كبيرة بشأنها، لفكَّرت مرة أخرى بشأن مجيئها. انصرف الرجل، وقالت السيدة: «مسكين سايمون. تعلمين أنه قد تُوفِّيَ.»
أرادت السيدة أن تعرف ما إذا كانوا سيصورون أية مشاهد أخرى، وكانت روز تعلم السبب وراء سؤالها؛ لقد كانت تريد الدخول في خلفية هذه المشاهد أو حتى أمام الكاميرا حتى تتصل بأصدقائها وتخبرهم بأن يشاهدوها. ولو أنها اتصلت بالأشخاص الذين كانوا في ذلك الحفل، لقالت إنها كانت تعلم أن المسلسل في غاية التفاهة، ولكنهم أقنعوها بالظهور في أحد المشاهد من أجل متعة الظهور في حد ذاتها.
«تُوفِّيَ؟»
خلعت السيدة وشاحها، وطيرت الرياح شعرها أمام وجهها.
قالت: «كان مصابًا بسرطان البنكرياس.» ثم استدارت لتواجه الرياح حتى يتسنَّى لها ارتداء الوشاح مرة أخرى بشكل أفضل. بدا صوتها لروز يفوح دهاءً ومكرًا وهي تقول: «لا أعلم مدى معرفتك به.» هل كان ذلك من أجل دفع روز للتساؤل عن مدى معرفتها به. ربما كان ذلك الدهاء من أجل طلب المساعدة، وكذلك لقياس الانتصارات، ربما كان يمكنك أن تشعر بالأسف لها، ولكن لا يمكنك أن تثق بها مطلقًا. كان ذلك هو ما كانت روز تفكِّر فيه، بدلًا من التفكير فيما أخبرتها به. قالت السيدة بنبرة تحوَّلَت الآن إلى الجدية، بينما كانت تزم ذقنها عاقدة وشاحها: «أمر محزن. كان مصابًا به لفترة طويلة.»
كان أحدهم ينادي على روز، فاضطرت للعودة إلى المشهد. لم تُلْقِ الفتاة بنفسها في البحر. فلم يكن لديهم أشياء كهذه في المسلسل. كانت هذه الأشياء دائمًا ما تمثِّل تهديدًا فحسب، ولكنها لم تكن تحدث، إلا بين الحين والآخَر ولشخصيات ثانوية وغير جذابة. كان المشاهدون يثقون بأنهم سيكونون في مأمن من الكوارث المتوقَّعة، وكذلك من التحولات في التركيز والتي تجعل حبكة القصة عرضة للتساؤل، تلك الاضطرابات التي تتطلب أحكامًا وحلولًا جديدة، وتفتح النوافذ على مشاهد غير لائقة لا تُنسَى.
أحدَثَتْ وفاة سايمون لروز صدمةً مثل ذلك النوع من الاضطرابات. كان من المحال ومن الظلم أن تُهمَل تلك المعلومة، وأن تكون روز حتى هذه اللحظة المتأخرة قد ظنَّتْ نفسها الشخص الوحيد الذي افتقد القوة بشكل خطير.
التهجية
في المتجر، في الأيام الخوالي، اعتادت فلو أن تقول إنها تستطيع أن تحدد عندما تكون إحدى النساء على وشك الانحراف. كانت العلامات الأولى على ذلك ارتداء قبعات للرأس أو أحذية مميزة، ثم تأتي الأحذية المطاطية المفتوحة في الصيف. كن يختلن بالأحذية المطاطية الطويلة، أو أحذية العمل الطويلة التي يرتديها الرجال. قد يقولون إن ذلك بسبب مسمار القدم، ولكن فلو كانت تعرف الحقيقة. لقد كان هذا متعمدًا، كان هناك مقصد من ورائها. بعد ذلك قد تأتي القبعة القديمة المصنوعة من اللباد، ومعطف المطر الممزق الذي يرتدينه في جميع الأجواء، والبنطال المرفوع حتى الخصر بواسطة خيط مجدول، والأوشحة الباهتة الممزقة، وطبقات من الكنزات المنسولة.
غالبًا ما تكون الأمهات والبنات على نفس الشاكلة. فدائمًا ما كانت تلك الخصال بهن، موجات من الجنون، دائمة التصاعد، لا يمكن مقاومتها كالضحكات العالية، وتنبع من موضع عميق بداخلهن تنال منهن تدريجيًّا.
اعتادت النساء المجيء وسرد قصصهن على فلو، وكانت فلو تجاريهن وتتصنع التصديق، فتجدها تقول: «حقًّا؟ أليس ذلك مخزيًا؟»
«لقد ضاعت مَبشرة الخضراوات خاصتي وأنا أعرف من أخذها.»
«هناك رجل يأتي وينظر إليَّ حين أخلع ملابسي ليلًا. أغلق الستارة فينظر عبر الشق.»
«لقد سُرقت كومتان من البطاطا الجديدة، وبرطمان من ثمار الدراق الكاملة، وبعض بيضات البط اللذيذة.»
اقتيدت إحدى هؤلاء النساء أخيرًا إلى إحدى دور المسنين. كان أول ما فعلوه بها، على حد قول فلو، أن أعطوها حمامًا، بعد ذلك قاموا بقص شعرها، الذي كان قد نما حتى صار أشبه بكومة من القش. كانوا يتوقعون أن يجدوا فيه أي شيء، طائرًا نافقًا أو ربما عشًّا من جماجم الفئران الصغيرة. وبالفعل وجدوا أغلفة ثمار خشنة، ونحلة لا بد أنها قد وقعت في الشرك وظلت تطن حتى الموت. وحين اقتطعوا منه جزءًا كافيًا وجدوا قبعة من القماش، كانت قد تعفنت على رأسها وظل الشعر ينمو حتى اخترقها مثلما تخترق الحشائش الأسلاك الشائكة.
•••
اعتادت فلو أن تُبقي المائدة منصوبة من أجل الوجبة التالية لتوفير العناء. كان المفرش البلاستيكي لزجًا، وكان حد الطبق وصحن الفنجان واضحين عليه كوضوح حدود الصور على جدار يغطيه الشحم. كانت الثلاجة مليئة بفضلات الطعام الصلب، والفتات الداكنة، وبقايا الطعام العفنة. مضت روز تنظف، وتتخلص من القمامة، وتنظف الصحون بالماء الساخن. كانت فلو تأتي بين الحين والآخر بخطى متثاقلة على عكازيها. قد تتجاهل وجود روز كلية، وقد تميل إبريق شراب القيقب نحو فمها وتشربه مثلما تشرب النبيذ. أصبحت الآن تحب الأشياء الحلوة إلى حد الاشتهاء؛ فكانت تزدرد حفنًا من السكر البني بالمعلقة، وشراب القيقب، والبودنج المعلب، والجيلي، وكتلًا من الأشياء ذات المذاق الحلو. وكانت قد أقلعت عن التدخين، ربما خوفًا من الحرائق.
قالت ذات مرة: «ماذا تفعلين هنا خلف النضد؟ اطلبي مني ما تريدين، وسوف أحضره لكِ.» ظنًّا منها أن المطبخ هو المتجر.
قالت روز بصوت عالٍ وبطيء: «أنا روز، نحن في المطبخ. أنا أنظف المطبخ.»
كان الترتيب القديم للمطبخ غامضًا، وذا طابع شخصي وغريب الأطوار؛ فكانت هناك مقلاة كبيرة في الفرن، ومقلاة متوسطة تحت وعاء البطاطا على الرف الجانبي، ومقلاة صغيرة معلقة على المسمار بجوار الحوض، وكان هناك مصفاة أسفل الحوض، إلى جانب مناشف للصحون، وقصاصات جرائد، ومقص، وعلب قصديرية لفطائر المافن معلقة على مسامير متعددة. وكانت هناك أكوام من الفواتير والخطابات على ماكينة الحياكة، وعلى رف الهاتف. ربما تعتقد أن أحدهم قد وضعها هناك منذ يوم أو يومين، ولكنها كانت هناك منذ سنوات. وجدت روز صدفة بعض الخطابات التي كانت قد كتبتها بنفسها بأسلوب متكلف ومتسرع. كانت الخطابات بمثابة رسل زائفين، صلات زائفة، تربطها بفترة ضائعة من حياتها.
قالت فلو: «لقد رحلتْ روز.» كانت قد اكتسبت الآن عادة مط شفتها السفلية إلى الأمام حين تكون تعيسة أو حائرة. «تزوجتْ روز.»
في صباح اليوم التالي استيقظت روز لتجد أن المطبخ قد انقلب رأسًا على عقب، وكأن أحدهم قد استخدم ملعقة لتقليبه؛ فوجدت المقلاة الكبيرة وقد استقرت خلف الثلاجة، ومغرفة البيض وسط المناشف، وسكين الخبز في صندوق تخزين الدقيق، ومقلاة التحميص محشورة بين المواسير أسفل الحوض. أعدت روز العصيدة لإفطار فلو، وسألتها فلو: «أنت السيدة التي أرسلوها لكي تعتني بي؟»
«أجل.»
«ألستِ من هذه البلدة؟»
«كلا.»
«ليس لدي مال لأدفع لكِ. هم من أرسلوك، فليدفعوا لك.»
نثرت فلو السكر البني على عصيدتها حتى أصبحت العصيدة مغطاة تمامًا، ثم راحت تسوي طبقة السكر برفق بملعقتها.
بعد الإفطار راحت فلو تمحص لوح التقطيع الذي كانت روز تستخدمه أثناء تقطيع الخبز لإعداد الخبز المحمص لنفسها. قالت فلو بلهجة استبدادية متغطرسة: «ما الذي يفعله هذا الشيء هنا ويعترض طريقنا هكذا؟» ثم التقطته وسارت — مثلما يمكن لأي شخص يسير على عكازين أن ينزل — لتخبئه في مكان ما، في مقعد البيانو أو أسفل السلالم الخلفية.
•••
منذ سنوات، كان لدى فلو شرفة جانبية مغطاة بالزجاج بُنيت كملحق للمنزل. من هناك كان يمكنها مشاهدة الطريق مثلما اعتادت مشاهدته من خلف نضد المتجر (كانت واجهة المتجر الآن مغطاة بألواح خشبية، وطُليت اللافتات الإعلانية القديمة). لم يعد الطريق هو الطريق الرئيسي الممتد من خارج هانراتي مارًّا عبر هانراتي الغربية ليصل إلى البحيرة؛ فقد كان هناك طريق سريع جانبي. وكان ممهدًا الآن، وبه بالوعات تصريف جديدة وواسعة وأعمدة إنارة جديدة تعمل ببخار الزئبق. اختفى الجسر القديم وحلَّ محله جسر جديد واسع وأقل لفتًا للنظر بكثير من سابقه. كان الاختلاف ما بين هانراتي إلى هانراتي الغربية لا يكاد يكون ملحوظًا. أعادت هانراتي الغربية تزيين نفسها بالطلاء وألواح من الألومنيوم لجدران المباني الخارجية، وكان منزل فلو هو المنظر القميء الوحيد المتبقي.
بمَ احتفظت فلو من أشياء لتنظر إليها في شرفتها الصغيرة، حيث ظلت تجلس لسنوات، وقد تصلبت شرايينها ومفاصلها؟
تقويم يحمل صورة جرو صغير وهريرة، وجهان يتجه أحدهما نحو الآخر بحيث تتلامس الأنفان، والمسافة التي بين الجسدين تتخذ شكل قلب.
صورة فوتوغرافية بالألوان للأميرة آن وهي طفلة.
مزهرية بلو ماونتِن فخارية، كانت قد حصلت عليها كهدية من براين وفيبي، وُضع بها ثلاث زهرات زرقاء بلاستيكية، وقد غطت الأتربة التي خلَّفتها عدة فصول موسمية كلًّا من المزهرية والأزهار.
ست صدفات من ساحل المحيط الهادي أرسلتها روز إلى المنزل ولكنها لم تجمعها بنفسها، كما كانت فلو تعتقد، أو كانت تعتقد يومًا ما، بل كانت قد اشترتها من واشنطن بشكل اندفاعي بعد أن وجدتها في حقيبة بلاستيكية بجوار مكتب الصراف في أحد المطاعم السياحية.
لفافة ورقية مقطوعة كُتب عليها «الرب راعيَّ» منثور عليها اللماع، وكانت هدية مجانية من موزع ألبان.
صور فوتوغرافية من جريدة لسبعة توابيت الواحد تلو الآخر، اثنان كبيران، وخمسة صغيرة. كانت لوالدين وأطفالهما، قتلوا جميعًا على يد الأب في منتصف الليل في منزل بمزرعة في الريف لأسباب لم يعلمها أحد. لم يكن من السهل العثور على ذلك المنزل، ولكن فلو شاهدته. كان الجيران قد اصطحبوها إلى هناك في نزهة بالسيارة في أحد أيام الآحاد، حينما كانت تستخدم عكازًا واحدًا فقط. واضطروا للسؤال عن الاتجاهات في إحدى محطات الوقود عبر الطريق السريع، ومرة أخرى في متجر يقع في مفترق طرق. وقد قيل لهم إنه سبق أن سأل كثيرون نفس هذه الأسئلة، وكانوا على نفس القدر من الإصرار، غير أن فلو قد اضطرت للاعتراف بأنه لم يكن هناك الكثير لمشاهدته؛ إذ كان منزلًا كأي منزل آخر، ذا مدخنة ونوافذ وأسقف مكسوة بالألواح الخشبية وباب. وكان هناك شيء ربما منشفة أطباق أو حفاض لم يرغب أحد في التقاطه، وترك ليتعفن على حبل الغسيل.
لم تعد روز لرؤية فلو لما يقرب من عامين، حيث كانت منشغلة بالسفر مع الشركات الصغيرة، وتحصل على تمويل من خلال المنح، لعرض مسرحيات أو مشاهد من مسرحيات، أو لتقرأ مقتطفات من كتب في مدرجات المدارس الثانوية وقاعات الاحتفالات الاجتماعية، عبر جميع أنحاء البلاد. وكان جزءًا من عملها إجراءُ الحوارات في التليفزيون المحلي عن هذه الأعمال، كمحاولة لجذب الاهتمام نحوها، وسرد حكايات طريفة مسلية عن الأشياء التي وقعت خلال الرحلة. لم يكن هناك أي شيء مخزٍ في كل هذا، إلا أن روز في بعض الأحيان كانت تشعر بخزي وخجل عميقين لا مبرر لهما، لكنها لم تكن تدع ارتباكها يظهر للعيان، فحين كانت تتحدث أمام العامة، كانت تنضح صراحة وسحرًا؛ كان لها طريقة محيرة وخجولة لبدء حكاياتها الطريفة، وكأنها قد تذكرتها الآن فقط ولم تسردها مائة مرة من قبل. وعندما كانت تعود لغرفتها في الفندق، غالبًا ما كانت ترتجف وتئن، وكأن نوبة من الحمى قد ألمَّت بها. كانت تعزو ذلك إلى الإرهاق، أو لقرب بلوغها سن اليأس. لم يكن بإمكانها تذكر أيٍّ من الأشخاص الذين قابلتهم، والأشخاص الساحرين المثيرين الذين كانوا يدعونها للعشاء، والذين كانت تخبرهم بأشياء حميمة عن نفسها وسط أقداح الشراب في عدة مدن.
كان الإهمال في منزل فلو قد وصل إلى مستوى مزعج منذ آخر مرة رأته روز. كانت الغرف تعج ببقايا الخِرَق والأوراق والقاذورات. يكفيك أن تجذب إحدى الستائر للسماح بدخول بعض الضوء حتى تتمزق إلى نصفين في يدك، أو أن تهز ستارة حتى تتحول إلى خرق، مطلقة غبارًا خانقًا، أو أن تضع يدك داخل أحد الأدراج فتغرق في شيء ناعم وداكن وقذر.
«لا نحب كتابة الأنباء السيئة، ولكن يبدو أنها قد تجاوزت المرحلة التي يمكنها فيها الاعتناء بنفسها. نحن نحاول زيارتها بشكل سريع للاطمئنان عليها، ولكننا لم نعد صغارًا، لذا يبدو أن الوقت ربما قد حان.»
كان نص هذا الخطاب يتكرر إلى حد ما ويرسل إلى روز وأخيها غير الشقيق براين الذي كان يعمل مهندسًا ويعيش في تورونتو. كانت روز عائدة للتو من جولتها. كانت تعتقد أن براين وزوجته فيبي — اللذين كانت نادرًا ما تراهما — على اتصال دائم بفلو، فقد كانت فلو في النهاية والدة براين، وزوجة والد روز. واتضح أنهما كانا على اتصال بها، أو هكذا كانوا يظنون. فقد ذهب براين مؤخرًا إلى أمريكا الجنوبية، ولكن فيبي كانت تتصل بفلو هاتفيًّا ليلة كل أحد. لم يكن لدى فلو الكثير لتقوله، ولم تكن تتحدث إلى فيبي على أية حال؛ كانت تقول إنها على ما يرام، كل شيء على ما يرام، وإنها قد ورد إليها بعض المعلومات عن حالة الطقس. كانت روز تلاحظ فلو وهي تتحدث عبر الهاتف، منذ قدومها إلى المنزل، ورأت كيف أن فيبي ربما تكون قد خُدعت. كانت فلو تتحدث بشكل طبيعي، فكانت تقول مرحبًا، أنا بخير، كانت عاصفة عنيفة تلك التي هبت علينا الليلة الماضية، نعم، انقطعت الكهرباء هنا لساعات. لو لم تعش في الحي، ما كنت لتدرك أنه لم يكن هناك أية عواصف.
لم تكن روز قد نسيت فلو كليًّا على مدى العامين الماضيين، فقد كانت تواتيها نوبات قلق إزاءها، كل ما في الأمر أن هذه النوبات قد تزايدت في الفترة الأخيرة. في إحدى المرات واتتها النوبة في منتصف عاصفة في شهر يناير، ما جعلها تقود السيارة لمسافة مائتي ميل وسط العواصف الثلجية، متخطية السيارات التي أُجبرت على التوقف بسبب العواصف، وحين توقفت أخيرًا في الشارع الذي تقطن فيه فلو، وتمكنت أخيرًا من الوطء بقدميها على الممشى الذي لم تتمكن فلو من كسح ما به من ثلوج، ملأها شعور بالارتياح إزاء نفسها وشعور آخر بالقلق إزاء فلو، حالة عامة من اضطراب المشاعر جمعت بين القلق والسعادة في ذات الوقت. فتحت فلو الباب وأطلقت صيحة تحذير.
«لا يمكنك أن تتوقفي بالسيارة هناك!»
«ماذا؟»
«لا يمكنك أن تتوقفي هناك!»
قالت فلو إن هناك قانونًا محليًّا جديدًا؛ يمنع التوقف بالسيارات في الشوارع خلال شهور الشتاء.
«سوف تضطرين لكسح الثلج عن مكان ما لتوقفي فيه السيارة.»
بالطبع انفجرت روز غضبًا.
«إذا تفوهتِ بكلمة أخرى الآن، فسوف أستقل السيارة وأعود من حيث جئت.»
«حسنًا، لا يمكنك التوقف بالسيارة …»
«ولا كلمة أخرى!»
«لمَ تقفين هنا وتجادلين والبرد يعصف بالمنزل؟»
فدخلت روز إلى المنزل.
كانت تلك واحدة من القصص التي روتها عن فلو، وقد تحملت فيها جيدًا؛ إرهاقها وشعورها بالفضيلة؛ صياح فلو وتلويحها بعكازها، ورفضها العنيف لأن تكون هدف إنقاذ لأي شخص.
•••
بعد أن قرأت الخطاب، اتصلت روز بفيبي، التي طلبت منها أن تأتي لتناول العشاء، حتى يمكنهما التحدث معًا. كانت روز عازمة على التصرف بشكل جيد، فقد تولَّدت لديها فكرة أن براين وفيبي لديهما شعور مستمر بالرفض والاستنكار نحوها. كانت تعتقد أنهما يستنكران نجاحها، على الرغم من أنه قد يكون محدودًا، ومقلقلًا، ومحليًّا، وأنهما يرفضانها أكثر حين تفشل. وكانت تعلم أيضًا أن من غير المحتمل أنها كانت سترِد ببالهما كثيرًا، أو أنهما يشعران بأي شيء على نحو مؤكد.
ارتدت روز تنورة بلا أي نقوش وبلوزة قديمة، إلا أنها غيَّرت رأيها في اللحظة الأخيرة وبدَّلت ملابسها لترتدي ثوبًا طويلًا مصنوعًا من القطن الرفيع ذي اللونين الأحمر والذهبي والوارد من الهند، الأمر الذي سيوجد مبررًا لقولهما إن روز دائمًا ما كانت متكلفة.
ومع ذلك فقد حزمت أمرها، كما كانت عادة ما تفعل، على أن تتحدث بصوت خفيض، وأن تلتزم بالحقائق، ولا تدخل في أية مجادلات عقيمة وسخيفة مع براين. وكالمعتاد بدا وكأن معظم ما برأسها من صواب ورشد قد طار بمجرد أن وطئت منزلهما بقدميها، ولمست ما في حياتهما من روتين هادئ، وشعرت بتدفق الرضا، أو بالأحرى الرضا عن الذات، ذلك الرضا الذاتي المبرر بشكل رائع وتام، وكأنه كان يشع من الأواني والمفروشات. كانت متوترة حين سألتها فيبي عن رحلتها، وكانت فيبي متوترة قليلًا أيضًا من جلوس براين صامتًا؛ لم يكن عابسًا بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنه كان يشير إلى أن تفاهة الموضوع أمر لا يسره. فقد قال براين في حضور روز أكثر من مرة إنه لا يجد نفعًا للأشخاص الذين يعملون في مجالها، ولكنه في الواقع لم يكن يجد نفعًا لعدد كبير من الناس، ما بين ممثلين، وفنانين، وصحافيين، وأثرياء (تلك الفئة التي لم يكن ليعترف أبدًا بكونه أحد المنتمين إليها)، وجميع أعضاء هيئة التدريس بكليات الآداب بالجامعات. طبقات وفئات كاملة كانت بلا نفع في نظره. كان هؤلاء متهمين في نظره بالعقلية المرتبكة، والسلوك المبهرج الزائف، والكلام غير الدقيق، والكثير من السفاهات والتجاوزات. لم تكن روز تعرف إن كان يقول الحقيقة، أم أن هذا شيء اضطر لقوله أمامها. كان يلقي طُعم الازدراء خفيض الصوت، لتلتقطه هي، فتنشب بينهما مشاجرات، وتترك منزله والدموع تملأ عينيها. كانت روز تشعر بالرغم من كل هذا أن كليهما يحب الآخر، ولكنهما لم يستطيعا قط التوقف عن المنافسة القديمة بينهما: عمن يكون الأفضل منهما، من الذي اختار العمل الأفضل؟ عمَّ كانا يبحثان؟ ربما يبحثان عن وجهة النظر الجيدة لكليهما عن الآخر، التي ربما كان كلٌّ منهما ينوي منحها كاملة للآخر ولكن لم يفعل بعد. كانت فيبي امرأة تتميز بالهدوء والطاعة النابعة من الإحساس بالواجب، وكان لديها موهبة رائعة في تهدئة الأمور (في تناقض شديد مع موهبة عائلة روز في تضخيم الأمور وإشعالها)، وكانت تقدم الطعام وتصب القهوة وهي تنظر إليهما نظرة حيرة مهذبة؛ ربما كان التنافس بينهما، وحساسيتهما، وشعورهما بالجرح والإساءة، يبدو غريبًا عليها مثل التصرفات الهزلية الغريبة لشخصيات القصص الكرتونية الفكاهية التي تضع أصابعها في مقابس النور.
قالت فيبي: «لطالما تمنيت لو أن فلو استطاعت العودة لزيارتنا مرة أخرى.» كانت فلو قد جاءت مرة واحدة، وطلبت إعادتها إلى منزلها بعد ثلاثة أيام. ولكن بعد ذلك بدت تلك الزيارة سارة بالنسبة لها، كي تجلس وتعدد الأشياء التي يمتلكها براين وفيبي، وملامح منزلهما. كان براين وفيبي يعيشان حياة خالية من البهرجة والصخب إلى حد بعيد في دون ميلز، وكانت الأشياء التي ركزت عليها فلو — مثل أجراس الباب، وأبواب المرأب الأوتوماتيكية، وحمام السباحة — ضمن المقتنيات العادية المعتادة في الضواحي. وقد أخبرتها روز بمجموعة من الأشياء، ما دفع فلو للاعتقاد أن روز تشعر بالغيرة.
«لم تكوني لترفضيها لو عُرضت عليك.»
«نعم لم أكن لأفعل.»
كان ذلك صحيحًا، كانت روز تعتقد أنه صحيح، ولكن كيف كان يمكنها أن تشرح ذلك لفلو أو أي شخص في هانراتي؟ لو أنك مكثت في هانراتي ولم تصبح من الأثرياء، فلا بأس في ذلك؛ لأنك تعيش حياتك كما كان مقدرًا لك، ولكنك إذا رحلت عنها ولم تحقق الثراء، أو لم تظل ثريًّا مثل روز، فما الجدوى إذن؟
بعد العشاء جلست روز وبراين وفيبي في الفناء الخلفي بجوار حمام السباحة، حيث كانت صغرى بنات براين وفيبي الأربع تمتطي عوامة على شكل تنين. كان كل شيء يسير في جو من الود حتى تلك اللحظة. وتقرر أن تذهب روز إلى هانراتي وأن تعد الترتيبات اللازمة لإلحاق فلو بدار واواناش العامة للمسنين. كان براين، أو بالأحرى سكرتيرته، قد استعلم عنها بالفعل، وقال إنه يبدو أنها ليست قليلة التكاليف فحسب، بل وتدار على نحو أفضل، وتحوي المزيد من المرافق ووسائل الراحة مقارنة بأي دار مسنين خاصة.
قالت فيبي: «على الأرجح أنها ستلتقي أصدقاء قدامى هناك.»
كانت دماثة خلق روز، وسلوكها الحسن، قائمين بشكل جزئي على رؤيةٍ كانت تعمل على تكوينها طوال الأمسية، ولم تكن لتبوح بها لبراين وفيبي. فقد تصورت نفسها متجهة إلى هانراتي وتعتني بفلو، وتعيش معها، وترعاها طالما اقتضى الأمر ذلك. وظلت تفكر كيف ستنظف مطبخ فلو وتقوم بطلائه وترقع الألواح الخشبية في الأماكن التي تعاني من التسريب (وكان هذا واحدًا من الأشياء التي ذكرها الخطاب)، وتزرع الأزهار في الأصص، وتصنع حساء مغذيًا. لكنها لم تذهب بخيالها بعيدًا لتتصور فلو تتواءم بيسر داخل هذه الصورة، وتستقر في حياتها شاعرة بالامتنان. ولكن كلما صارت فلو أكثر نزقًا، كانت روز ستصبح أكثر حلمًا وصبرًا، حينها من ذا الذي يمكن أن يتهمها بالنرجسية والتفاهة؟
ولم تصمد تلك الصورة حتى في أول يومين لها في المنزل.
•••
قالت روز: «أترغبين في بعض البودنج؟»
«أوه، لا أهتم.»
كانت تُظهر تلك اللامبالاة المسهبة التي يُظهرها بعض الناس عند تقديم كأس من الشراب لهم.
صنعت روز الترايفل، وكان مكونًا من توت، ودراق، وكسترد، وكعك، وكريمة مخفوقة، وشراب الشيري.
أكلت فلو نصف الصحن. راحت تنهل منه بنهم، دون أن تكلف نفسها عناء نقل جزء منه إلى طبق أصغر.
قالت فلو: «كان ذلك رائعًا.» لم تكن روز قد سمعت مثل هذا الاعتراف بالسعادة المشوبة بالامتنان منها من قبل. «رائعًا»، قالتها فلو ثم جلست تتذكر، وتبدي الاستحسان، وتتجشأ قليلًا. الكسترد اللطيف الناعم، حبات التوت اللاذع، قطع الدراق القاسي، الكعك المغموس في شراب الشيري، الكريمة المخفوقة الغنية.
خطر لروز أنها لم يسبق لها أن فعلت شيئًا في حياتها حقق لفلو ولو قدرًا مقاربًا من المتعة مثلما فعل ذلك الترايفل.
«سوف أصنع لك واحدًا آخر قريبًا.»
فاستفاقت فلو قائلة: «أوه حسنًا. افعلي ما تحبين.»
•••
قادت روز سيارتها صوب دار المسنين العامة، متبعة إرشادات الآخرين للوصول إليها. وحاولت أن تخبر فلو بشأنها حين أتت.
قالت فلو: «دار من؟»
«لا، دار المسنين.»
ذكرت روز بعض الأشخاص الذين قابلتهم هناك. ولم تكن فلو لتعترف بمعرفة أي منهم. راحت روز تتحدث عن المناظر الجميلة هناك والغرف المبهجة. بدا الغضب على فلو؛ فاكفهرَّ وجهها، وزمت شفتيها. ناولتها روز مجسمًا متحركًا كانت قد اشترته مقابل خمسين سنتًا من مركز الصناعات اليدوية بدار المسنين. كان عبارة عن أشكال طيور من ورق باللونين الأزرق والأصفر تتمايل وترقص على تيارات هوائية غير مرئية.
قالت فلو: «فلتحتفظي به لنفسك.»
وضعت روز المجسم في الشرفة وقالت إنها قد رأتهم في الدار يحملون صواني الطعام وعليها وجبة العشاء إلى الغرف.
«إنهم يذهبون إلى غرفة الطعام إذا كانوا قادرين، وإذا لم يتمكنوا من ذلك، فإن لديهم صواني في غرفهم. لقد رأيت ما يتناولونه هناك.
شرائح اللحم البقري المشوي، مطهوًّا جيدًا، وبطاطا مهروسة، وفاصوليا خضراء، من النوع المجمد وليس المعلب. أو أومليت. يمكنكِ تناول أومليت المشروم، أو أومليت الدجاج، أو أومليت سادة إذا شئت.»
«ماذا كان هناك للتحلية؟»
«آيس كريم. يمكنك أن تضعي عليه الصوص.»
«ما نوع الصوص الذي كان موجودًا؟»
«صوص الشوكولاتة، أو الزبد الاسكتلندي، أو الجوز.»
«لا أستطيع تناول الجوز.»
«كان هناك خطمي أيضًا.»
•••
كان النزلاء في الدار مقسمين على الأدوار: في الطابق الأول هناك النزلاء المهندمون والمتألقون، وكانوا يتجولون في أنحاء الدار بمساعدة عكاز في العادة، ويتبادلون الزيارات فيما بينهم، ويلعبون الورق. وكان لديهم أغنيات ذات إيقاع رتيب يرددونها ويمارسون الهوايات. وفي مركز الصناعات اليدوية، كانوا يقومون برسم صور، وحياكة اللوحات والسجاد باستخدام الصوف، وصناعة اللُّحُف. وإذا لم تكن لديهم القدرة على القيام بأشياء كهذه، كان بإمكانهم صنع دمى من بقايا القماش، وكذلك المجسمات المتحركة كالتي اشترتها روز، ويصنعون أيضًا مجسمات كلاب بودل ورجل الثلج من كرات الستيروفوم، وكانوا يستخدمون حبات الترتر اللامعة للعيون؛ يصنعون أيضًا صورًا ظلية بوضع دبابيس رسم على رسوم تخطيطية، وكانت تتنوع ما بين فرسان على ظهر حصان، وسفن حربية، وطائرات، وقلاع.
كانوا ينظمون حفلات موسيقية، ورقصات، وكانت لديهم دورات في لعبة الشطرنج.
«يقول البعض منهم إنهم يعيشون هناك في سعادة لم يمروا بها قط في حياتهم من قبل.»
في الطابق التالي، كان هناك المزيد من مشاهدة التليفزيون والمزيد من الكراسي المتحركة. ويقيم في هذا الطابق ذوو الرءوس المحنية، والألسنة المتدلية، وأصحاب الأطراف التي تهتز لاإراديًّا. ومع ذلك كان هناك قدر كبير من الاختلاط الاجتماعي، والعقلانية، إلا أنهم بين الحين والآخر كانوا يتوارون في غرفهم ولا ترى منهم أحدًا.
أما في الطابق الثالث، فقد تقابلك بعض المفاجآت.
فالبعض منهم هناك توقف عن الكلام.
والبعض توقف عن الحركة، فيما عدا بعض الاختلاجات الغريبة واهتزازات الرأس، وتطويح الأذرع، التي بدت جميعًا دون هدف أو تحكم.
أما عن القلق بشأن البلل والجفاف، فقد تركه الجميع تقريبًا.
كان نزلاء الدار يحصلون على الطعام والنظافة الشخصية لأجسادهم، وبعضهم يتم توثيقه في الكراسي، ثم يحل وثاقهم ويوضعون في الأسرَّة للنوم. كان استنشاق الأكسجين وزفر ثاني أكسيد الكربون هو وسيلتهم للاستمرار في المشاركة في الحياة.
كانت هناك امرأة عجوز منحنية في سريرها، ترتدي حفاضًا، بشرتها داكنة مثل ثمرة الجوز، تتدلى من شعرها ثلاث خصلات تشبه خيوط الهندباء، تصدر ضوضاء صاخبة مرتجفة.
قالت الممرضة: «مرحبًا يا خالتي. أنت تتهجين الكلمات اليوم. الطقس جميل بالخارج.» ومالت نحو أذن السيدة العجوز قائلة: «هل تستطيعين تهجية كلمة طقس؟»
كانت هذه الممرضة تكشف عن لثتيها حين كانت تبتسم، وهو ما كانت تفعله طوال الوقت؛ كان بها لمحة من المرح المشوب بالخبل.
قالت السيدة العجوز: «طقس.» كانت تدفع نفسها للأمام بصعوبة، وتصدر أصواتًا كالنخر لتتوصل لهجاء الكلمة، ما دفع روز للاعتقاد أنها ربما تكون على وشك التبرز.
«ط – ق – س.»
وذكرتها تلك الكلمة بكلمة أخرى.
«طقوس. ط – ق – و – س.»
كانت الأمور تسير على خير ما يرام حتى الآن.
قالت الممرضة لروز: «الآن قولي لها شيئًا.»
كانت الكلمات التي خطرت ببال روز في تلك اللحظة إما كلمات بذيئة أو محبِطة.
ولكن دون تلقين خطرت لها كلمة أخرى.
«غابة. غ – ا – ب – ة.»
ثم قالت روز فجأة: «احتفال.»
«ا – ح – ت – ف – ا – ل.»
كان عليك أن تنصت بقوة كي تتمكن من فهم ما كانت السيدة العجوز تقوله؛ لأنها كانت قد فقدت جزءًا كبيرًا من قدرتها على تكوين الأصوات؛ فكان ما يصدر عنها من كلمات لا يبدو قادمًا من فمها أو حنجرتها، بل من مكان عميق في رئتيها وبطنها.
قالت الممرضة: «أليست هذه السيدة معجزة. إنها عاجزة عن الإبصار وتلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا أن نجزم بها بأنها تستطيع السمع. مثلًا إذا قلت: «ها هو عشاؤك»؛ لن تولي أي انتباه له، ولكنها قد تبدأ في تهجية كلمة «عشاء».
فقالت على سبيل الإيضاح: «عشاء»، فما كان من السيدة سوى أن التقطتها وأخذت تتهجى: «ع – ش …» أحيانًا كانت تتخلل الحروف فترة انتظار طويلة. كان يبدو أنها لم تكن تملك سوى خيط رفيع للغاية لتتبعه، تتخبط عبر ذلك الخواء أو التشوش الذي لا يملك أحد على هذا الجانب إزاءه أكثر من التخمين، ولكنها لم تكن تفقده، بل تتبعه حتى النهاية، مهما كانت الكلمة صعبة أو ثقيلة، إلى أن تنتهي منها، ثم تجلس منتظرة وسط يومها الخالي من المشاهد والأحداث إلى أن تقفز كلمة أخرى فجأة من مكان ما، فتحتويها وتسخِّر كل طاقتها من أجل إتقانها. تساءلت روز عن الشكل الذي تكون عليه الكلمات حين تحتفظ بها في عقلها. هل كانت تحمل معناها المألوف؟ هل تحمل أي معنى على الإطلاق؟ هل كانت مثل الكلمات التي تظهر في الأحلام أو في عقول الأطفال الصغار، لكل منها روعتها وتميُّزها وتنبض بالحياة كحيوان صغير؟ هذه رخوة وشفافة، مثل قنديل البحر، وتلك صلبة، ودنيئة، ومتحفظة، مثل حلزون مقرن. قد تكون قاسية ومضحكة مثل القبعات العالية السوداء، أو ملساء وزاهية ومزينة مثل الأشرطة. لعلها أشبه بموكب من الزوار الخصوصيين لم ينتهِ بعد.
•••
ثمة شيء أيقظ روز مبكرًا في صباح اليوم التالي. كانت نائمة في الشرفة الصغيرة، المكان الوحيد الذي كانت الرائحة فيه محتملة. كانت السماء لبنية ولامعة، وكانت الأشجار المطلة على النهر — التي كان مزمعًا قطعها قريبًا لإفساح مكان لإنشاء مرأب للمقطورات — منحنية في اتجاه السماء وقت الفجر وكأنها حيوانات داكنة شعثاء، مثل الجاموس. كانت روز تحلم، وكان حلمها يتعلق بالطبع بجولتها التي قامت بها في الدار في اليوم السابق.
كان هناك شخص ما يقودها عبر مبنى ضخم حيث وُجد أشخاص داخل أقفاص. كان كل شيء باهتًا ومغطى بنسيج العنكبوت في البداية، وكانت روز تحتج على ما بدا من سوء تنظيم. ولكن كلما تابعت روز المسير، كانت الأقفاص تزداد حجمًا وتنميقًا، كانت أشبه بأقفاص طيور ضخمة من الخيزران، تلك الأقفاص ذات الطراز الفيكتوري بأشكاله المزينة وزخارفه الكثيرة. كان الطعام يقدَّم للأشخاص القابعين داخل الأقفاص، وقد تفحصته روز، ورأت أنه فاخر؛ موس الشوكولاتة، ترايفل، كعك البلاك فوريست. رأت روز بعد ذلك فلو في أحد هذه الأقفاص، وقد جلست في تأنق وكبرياء على كرسي أشبه بكرسي العرش، تلفظ الكلمات بصوت واضح وآمر (لم تستطع روز تذكر الكلمات التي نطقت بها عند استيقاظها)، وتبدو سعيدة بنفسها، لإظهارها قدرات كانت تتكتمها حتى الآن.
أنصتت روز لتستمع إلى صوت أنفاس فلو تتحرك كالعاصفة في غرفتها المبطنة بالحصى، ولكنها لم تسمع شيئًا. ماذا لو ماتت فلو؟ لنفترض أنها قد ماتت في نفس اللحظة التي ظهرت فيها بذلك المظهر المتألق المفعم بالرضا في حلم روز؟ هرعت روز من فراشها، وهرولت حافية نحو غرفة نوم فلو لتجد فراشها خاويًا، فدخلت إلى المطبخ لتجد فلو جالسة إلى المائدة وقد ارتدت ملابسها استعدادًا للخروج، حيث ارتدت معطفها الصيفي ذا اللون الأزرق السماوي وقبعة تربان تتماشى معه، كانت قد ارتدتها في زفاف براين وفيبي. كان المعطف جَعِدا وبحاجة إلى التنظيف، والقبعة معوجة.
قالت فلو: «أنا جاهزة الآن للذهاب.»
«الذهاب إلى أين؟»
قالت فلو وهي تهز رأسها: «إلى هناك. إلى بيت الفقراء.»
قالت روز: «تقصدين الدار؟ ولكنكِ لست مضطرة للذهاب اليوم.»
قالت فلو: «لقد استأجروك لتأخذيني، عليك الآن أن تتحركي وتأخذيني إلى هناك.»
«أنا لست مستأجرة. أنا روز. سوف أعدُّ لك كوبًا من الشاي.»
«يمكنك أن تعديه. لن أشربه.»
جعلت فلو خيال روز يجنح إلى امرأة بدأت المخاض، من فرط تركيزها، وإصرارها، وإلحاحها. ظنت روز أن فلو تشعر بأن الموت يقترب منها شيئًا فشيئًا كطفل، يتأهب لتمزيقها، ومن ثم تراجعت عن الجدال معها، وارتدت ملابسها، وأعدَّت حقيبة لفلو في عجالة، واصطحبتها نحو السيارة وأوصلتها إلى الدار، ولكنها كانت مخطئة فيما يتعلق بمسألة الموت الذي سيريح فلو سريعًا.
•••
قبل ذلك بفترة ظهرت روز في إحدى المسرحيات على التليفزيون الوطني، بعنوان «نساء طروادة». لم يكن لها نص، وفي الحقيقة ظهرت في المسرحية لمجرد إسداء صنيع لصديقة حصلت على دور أفضل في مكان آخر. فكر المخرج في إضفاء الحياة على كل البكاء والنحيب في المسرحية بجعل نساء طروادة يسرن عاريات الصدر. كن يظهرن ثديًا واحدًا لكل فتاة؛ الأيمن في حالة الشخصيات الملكية مثل هيكوبا وهيلين، والأيسر في حالة العذارى أو الزوجات من العوام، مثل روز. لم تكن روز تفكر في أن هذا التعري سيحسن من وضعها — فقد كان ثدياها يميلان للتثاقل والترهل — ولكنها اعتادت الفكرة. لم تعتمد على الإثارة التي سيسببها هذا المنظر، فلم تكن تعتقد أن الكثير من الناس سيشاهدونها. كانت قد نسيت تلك المناطق من الريف حيث لا يستطيع الناس ممارسة تفضيلهم لبرامج المسابقات، ومطاردات سيارات الشرطة، ومسلسلات كوميديا الموقف الأمريكية، ويكونوا مجبرين على تحمل الحوارات والأحاديث حول الشئون العامة وجولات المعارض الفنية والإصدارات الدرامية الطموحة. لم تعتقد أيضًا أنهم سيذهلون للدرجة، بعد أن أصبحت الآن أرفف المجلات في كل بلدة تعرض اللحم العاري. كيف كان يمكن لمثل هذه الإهانة أن تعلق بمجموعة نساء طروادة ذوات الأعين الحزينة، اللاتي غضن البرد جلودهن، ثم يجرين وقطرات العرق تتساقط منهن تحت الأضواء، وقد وُضعت لهن مساحيق التجميل بشكل سيئ وباهت، ويبدون جميعًا حمقى دون رفقائهن، بل ومثيرات للشفقة ومتكلفات، مثل الأورام؟
أخذت فلو ورقة وقلمًا وأجبرت أصابعها التي كانت لا تزال متورمة وخارج نطاق الاستخدام تقريبًا بسبب التهاب المفاصل على كتابة كلمة «عار». وكتبت لها خطابًا تقول فيه إنه لو لم يكن والد روز قد توفي منذ زمن طويل، لتمنى الآن لو كان ميتًا. وكان هذا صحيحًا بالفعل. قرأت روز الخطاب، أو بالأحرى جزءًا منه، بصوت عالٍ لبعض أصدقائها الذين استضافتهم على العشاء. قرأته لكي تحدث تأثيرًا كوميديًّا، وتأثيرًا دراميًّا، كي تظهر الهوة القابعة وراءها، على الرغم من إدراكها — إن فكرت بشأنها — أن مثل هذه الهوة لم تكن شيئًا ذا أهمية؛ فقد كان بإمكان معظم أصدقائها — ممن كانوا يبدون لها أشخاصًا كادحين على نحو عادي ومهمومين ومفعمين بالأمل — الادعاء بأنهم مروا بمرحلة من حياتهم شعروا بأن الآخرين قد تبرءوا منهم أو دعوا لهم حينما عاشوا في منزل يسيطر عليه الإحباط وخيبة الأمل.
وفي منتصف الخطاب اضطرت روز للتوقف؛ لم يكن ذلك لأنها فكرت في مدى خسة أن تعرِّض بفلو وتسخر منها بهذا الشكل، فقد فعلت ذلك كثيرًا من قبل ولم يكن في الأمر مفاجأة لها، ولكن ما دفعها للتوقف، في الواقع، هو الهوة، التي تولد لديها إدراكًا جديدًا وجارفًا لها، ولم يكن بالشيء الذي يثير السخرية والضحك. لقد كانت توبيخات فلو بالنسبة إلى روز كمن يحتج على رفع المظلات أو يحذر غيره من تناول الزبيب. ولكنها كانت مقصودة بشكل مؤلم وحقيقي؛ لقد كانت الشيء الوحيد في جعبة حياتها الشاقة. كانت بمنزلة لعنات وخزي على ما أبدته من صدر عارٍ.
في موقف آخر، حصلت روز على جائزة، إلى جانب العديد من الأشخاص الآخرين، وأقيم حفل استقبال لهم في فندق بتورونتو، فأرسلت بطاقة دعوة إلى فلو، مع أن روز لم تكن تعتقد أبدًا أنها ستأتي. كانت تفكر أنه يجب عليها أن تعطي منظمي الحفل اسم شخص ما حين سألوها عن أسماء أقارب لدعوتهم، وبالكاد استطاعت أن تسمي براين وفيبي. من الممكن بالطبع أن تكون بالفعل قد أرادت، سرًّا، أن تأتي فلو. أرادت أن تريها، أن تخيفها، أن تنزع نفسها نهائيًّا من عباءة فلو. وكانت رغبتها تلك ستصبح أمرًا طبيعيًّا.
هبطت فلو من القطار دون سابق إنذار، متجهة نحو الفندق. كان التهاب المفاصل قد نال منها آنذاك، ولكنها كانت لا تزال تسير دون عكاز. كانت ملابسها دائمًا محتشمة ووقورة ورخيصة، ولكن بدا الآن أنها قد أنفقت الكثير من المال واستشارت آخرين. كانت ترتدي بذلة ذات مربعات باللونين الموف والأرجواني، ومطرزة بخرز يشبه خيوطًا من الفشار الأبيض والأصفر. كان تضع باروكة كثيفة باللون الرمادي الضارب إلى الأزرق، تدلت على جبهتها وكأنها قبعة صوفية. ومن فتحة السترة المثلثة وكميها شديدي القصر برز عنقها ورسغاها بلون بني تكسوها الثآليل وكأن لحاء شجر يغطيها. تسمرت في مكانها بلا حراك حين رأت روز. كان يبدو أنها منتظرة؛ لم تكن فقط تنتظر إقبال روز نحوها، ولكنها أيضًا كانت في انتظار تبلور مشاعرها تجاه المشهد الماثل أمام عينيها.
وسرعان ما أقبلت كلتاهما نحو الأخرى.
قالت فلو في صوت خفيض قبل أن تقترب منها روز: «انظري إلى ذلك الرجل الأسود!» كانت نبرتها نبرة دهشة بسيطة مُرضية، وكأنها كانت تحملق في الأخدود العظيم أو ترى البرتقال ينمو على إحدى الأشجار.
كانت تقصد جورج الذي كان يتسلم إحدى الجوائز هو الآخر. استدار ليرى ما إذا كان أحدهم يلقنه عبارة كوميدية. وقد كانت فلو بالفعل تبدو كشخصية كوميدية، فيما عدا أن دهشتها وصراحتها كانتا مزعجتين. تُرى هل لاحظت الضجة التي أثارتها؟ محتمل. فبعد تلك النوبة من الغضب، صمتت تمامًا، ولم تتكلم ثانية إلا بأقصر الكلمات التي تشع غلًّا وكراهية، ولم تأكل أي طعام أو تحتسي أي شراب يقدَّم لها، ولم تجلس، ولكنها ظلت واقفة في دهشة ورباطة جأش في وسط هذا الحشد من الملتحين ومثليي الجنس والوقحاء الذين لا ينتمون للأنجلوساكسون، إلى أن حان الوقت لاصطحابها لقطارها وإرسالها إلى المنزل.
•••
وجدت روز الباروكة أسفل السرير خلال حملة التنظيف الرهيبة التي أعقبت ترحيل فلو، فأخذتها إلى دار المسنين، إلى جانب بعض الملابس التي غسلتها أو أرسلتها للمغسلة، وبعض الجوارب النسائية، وبودرة تلك، وكولونيا، كانت قد اشترتها. أحيانًا ما كان يبدو أن فلو تظن روز هي الطبيبة، فكانت تقول: «لا أريد طبيبة امرأة، يمكنك أن تنصرفي.» ولكن عندما رأت روز تحمل الباروكة، قالت: «روز! ما هذا الذي بيديك. أهو سنجاب رمادي ميت؟»
قالت روز: «كلا، إنها باروكة.»
«ماذا؟»
قالت روز: «باروكة.» وبدأت فلو في الضحك، وشاركتها روز. كانت الباروكة بالفعل تبدو كقط أو سنجاب ميت، على الرغم من أنها كانت قد غسلتها ومشطتها؛ لقد كانت شيئًا بشع الشكل.
«يا إلهي يا روز، كنت أفكر ما الذي تفعلينه ولِمَ تأتين لي بسنجاب نافق! لو أنني ارتديتها، من المؤكد أن أحدهم كان ليصوب بندقيته نحوي ليصيدني لا محالة.»
واستكمالًا للكوميديا، راحت روز تثبتها على رأسها، وظلت فلو تضحك حتى تأرجحت إلى الأمام والخلف في سريرها.
وعندما التقطت فلو أنفاسها قالت: «ما الذي أفعله بهذه الجوانب اللعينة على فراشي؟ هل تحسنين السلوك أنت وبراين؟ لا تتشاجرا، فهذا يثير أعصاب والدكما. هل تعرفين كم حصوة مرارية استخرجوها مني؟ خمس عشرة! الواحدة منها بحجم بيضة الدجاجة الصغيرة. لقد وضعتها في مكان ما. سوف آخذها إلى المنزل.» وراحت تجذب الملاءات بحثًا عنها. «كانت في زجاجة.»
قالت روز: «لقد حصلت عليها بالفعل، وأخذتها إلى المنزل.»
«حقًّا؟ وهل أطلعت والدك عليها؟»
«أجل.»
قالت فلو: «أوه، حسنًا، إذن فهي هناك.» ثم استلقت على الفراش وأغلقت عينيها.
من تظنين نفسك؟
كانت هناك بعض الأشياء التي استطاعت روز وشقيقها براين التحدث بشأنها بأمان، دون التطرق إلى المبادئ أو بيان الآراء، وكان من بين تلك الأشياء ميلتون هومر. تذكر كلاهما حين كانا مصابَيْن بالحصبة وكان هناك إخطار معلَّق على الباب بوضعهما قيد الحجر الصحي؛ كان ذلك منذ زمن، قبل وفاة والدهما وقبل التحاق براين بالمدرسة، جاء ميلتون هومر عبر الشارع وقرأه. سمعاه وهو قادم عبر الجسر، وكالعادة كان يشكو ويتذمر بصوت عالٍ. ولم يكن يغلق فمه عن الشكوى في طريقه إلى البلدة ما لم يحشُه بالحلوى؛ وفيما عدا ذلك كان يصيح في الكلاب ويتحرش بالأشجار وأعمدة الهاتف، وهو يجترُّ الشكاوى والأحزان القديمة.
صاح وهو يضرب سور الجسر: «ولم أفعل، ولم أفعل، ولم أفعل!»
أسدل روز وبراين اللحاف الذي كان معلقًا على النافذة ليحجبا الضوء حتى لا يصيبهما العمى.
قال براين بنبرة امتنان: «ميلتون هومر.»
حينئذ رأى ميلتون هومر الإخطار على الباب، فاستدار وصعد السلم ليقرأه، فقد كان يجيد القراءة؛ كان يسير عبر الشارع الرئيسي ويقرأ جميع اللافتات بصوت عالٍ.
تذكر روز وبراين هذا الموقف واتفقا على أن ذلك الباب كان الباب الجانبي، حيث قامت فلو فيما بعد بتركيب الشرفة المغطاة بالزجاج؛ وقبل ذلك لم يكن هناك سوى رصيف خشبي مائل، وتذكرا ميلتون هومر وهو يقف عليه. فإذا كان إخطار الحجر الصحي هناك وليس على الباب الأمامي، المؤدي إلى داخل متجر فلو، فلا بد إذن أن المتجر كان مفتوحًا؛ بدا ذلك غريبًا ولم يكن له تفسير سوى أن فلو كانت قد تنمرت بمسئول الصحة. لم تستطع روز أن تتذكر؛ كل ما استطاعت تذكُّره كان ميلتون هومر وهو يقف على الرصيف ورأسه الكبير مستند إلى أحد الجانبين وقبضته مرفوعة استعدادًا للنقر على الباب.
قال ميلتون هومر: «حصبة؟ هه.» لم يقرع الباب في النهاية؛ بل اقترب برأسه من الباب وأخذ يصيح: «لا يمكنكم تخويفي!» ثم استدار ولكنه لم يغادر الفناء. اتجه نحو الأرجوحة، وجلس فوقها، وأمسك بالحبال، وبدأ في أرجحة نفسه، وكان متجهمًا في البداية ثم تحوَّل بعد ذلك إلى الابتهاج المتصاعد العاتي.
صاحت روز: «ميلتون هومر على الأرجوحة، ميلتون هومر على الأرجوحة.» وهرعت من النافذة إلى بئر السلم.
جاءت فلو من حيث كانت كي تطل من النافذة الجانبية.
قالت فلو باندهاش: «إنه لن يضرها.» ظنت روز أن فلو ستطارده بالمقشة. بعدها تساءلت: «هل يمكن أن تكون فلو قد خافت؟» ذاك أمر مستبعد. إنها مسألة امتيازات يحظى بها ميلتون هومر.
«لا أستطيع الجلوس على المقعد بعد أن جلس عليه ميلتون هومر!»
«أنتِ! فلتعودي إلى الفراش.»
وعادت روز إلى حجرة الحصبة المظلمة كريهة الرائحة وبدأت في إخبار براين قصة كانت تظن أنها لن تعجبه.
«حين كنتَ رضيعًا، جاء ميلتون هومر وحملك.»
«لا، لم يفعل.»
«بل جاء وحملك وسأل عن اسمك. أذكر ذلك جيدًا.»
خرج براين متجهًا نحو بئر السلم.
«هل جاء ميلتون هومر وحملني وسأل عن اسمي؟ هل قام بذلك فعلًا حين كنت رضيعًا؟»
«أخبِر روز أنه قد فعل الشيء نفسه معها.»
كانت روز تعلم أن ذلك كان احتمالًا واردًا، على الرغم من أنها لم تكن ستذكره. لم تكن تعرف حقًّا إن كانت تتذكر قيام ميلتون هومر بحمل براين، أم أن هناك من أخبرها بذلك. كان ميلتون هومر كلما وُلد طفل في أي منزل، في ذلك الماضي القريب حين كان الأطفال لا يزالون يولدون في المنازل، يأتي بأسرع ما يمكن ويطلب رؤية الوليد، ثم يسأل عن اسمه، ويلقي خطبة معدَّة سلفًا. كان الهدف من الخطبة أن يُرجى للطفل إذا عاش أن يحيا حياة مسيحية، أما إذا مات فيرجى له دخول الجنة مباشرة. كانت نفس فكرة التعميد، ولكن ميلتون لم يكن يدعو باسم الآب أو الابن، أو يفعل أي شيء بالماء. وكان يفعل كل ذلك على مسئوليته الشخصية. كان يبدو أن ثمة لعثمة تداهمه في تلك اللحظة لم تكن لتداهمه في أوقات أخرى، أو كان يتلعثم عن عمد لكي يضفي على عباراته ثقلًا. كان يفغر فاه ويتأرجح جيئة وذهابًا متناولًا كل عبارة بصوت نخر عميق.
«وإذا قدِّر للطفل … قدر للطفل … قدر للطفل … أن يعيش …»
بعد ذلك بسنوات كانت روز تقلد ذلك في غرفة معيشة أخيها، متأرجحة جيئة وذهابًا وهي تغني، وكانت كل «إذا» تخرج منها وكأنها انفجار، لتصل إلى الانفجار الأساسي لكلمة «يعيش».
«سوف يحيا … حياة صالحة … وسوف … وسوف … وسوف … لن يأثم. سوف يحيا حياة صالحة … حياة صالحة … لن يأثم. لن يأثم!»
«وإذا قدِّر للطفل … وإذا قدر للطفل … وإذا قدر للطفل … أن يموت …»
قال براين: «يكفي ذلك الآن. يكفي ذلك يا روز.» ولكنه ضحك. كان يمكنه أن يطيق طريقة روز الدرامية حين تكون عن هانراتي.
قالت فيبي زوجة براين: «كيف يمكنكِ تذكُّر ذلك؟» آملة أن توقف روز قبل أن تتمادى لأطول من اللازم وتثير حنق براين، «هل كنتِ ترينه وهو يفعل ذلك؟ أكنتِ ترينه كثيرًا إلى هذا الحد؟»
قالت روز ببعض الدهشة: «كلا، لم أره يفعله، بل رأيت رالف جيلسبي وهو يقلد ميلتون هومر. كان رالف أحد الصبية في المدرسة.»
•••
كانت الوظيفة العامة الأخرى التي كان ميلتون هومر يشغلها، حسبما تتذكر روز وبراين، هي المشاركة في المسيرات التي تقدم عروضًا. كان هناك الكثير من المسيرات في هانراتي؛ مثل مسيرة أورانج ووك في الثاني عشر من يوليو؛ ومسيرة عرض المدارس الثانوية العسكرية في شهر مايو؛ ومسيرة عرض لأطفال المدارس في يوم العيد القومي للإمبراطورية؛ ومسيرة عرض الكنيسة؛ ومسيرة عرض سانتا كلوز؛ ومسيرة عرض قدامى نادي الليونز. كان من أكثر الأشياء التي يمكن أن تقال عن أي شخص في هانراتي ازدراءً وتحقيرًا أنه مغرم بالمشاركة في المسيرات والعروض، إلا أن كل شخص تقريبًا في البلدة — في قلب البلدة، وليس هانراتي الغربية، كما هو متعارف عليه — كانت ستواتيه الفرصة للمشاركة في المسيرات علنًا في أحد الأحداث المنظمة والمعتمدة. وكان الشرط الوحيد لذلك أنه لا بد ألا يبدو عليك الاستمتاع بذلك؛ فكان عليك أن تعطي الانطباع بأن شيئًا ما دعاك للمشاركة دون سبب معلوم، وأنك على استعداد لأداء واجبك، وأنك منشغل بشكل جاد بالمفاهيم التي يُعلي من شأنها هذا العرض.
كان عرض أورانج ووك هو أروع جميع تلك العروض؛ فكان الملك بيلي يتقدم المسيرة ممتطيًا ظهر حصان أقرب ما يكون للبياض الخالص، والفرسان ذوو الأحصنة السوداء في المؤخرة، بينما يمتطي أنبل رُتب جماعة الأورانج — وهم عادة ما يكونون مجموعة من المزارعين كبار السن نحفاء وفقراء يتسمون بالإباء والتعصب — خيولًا سوداء، ويرتدون قبعات سوداء عالية توارثها الأبناء عن آبائهم، والمعاطف ذات الذيل المشقوق. كانت جميع الرايات عبارة عن مشاهد مجسدة — على حرير رائع ومطرزات باللونين الأزرق والذهبي، أو البرتقالي والأبيض — لانتصار البروتستانت، وأزهار الليلك والأناجيل المفتوحة، وشعارات التُقى والشرف والتعصب الأعمى المتقد. وكانت السيدات يأتين تحت مظلاتهن الواقية من الشمس، وكانت زوجات أفراد جماعة الأورانج وبناتهم يرتدين جميعًا ثيابًا بيضاء دلالة على النقاء. تأتي بعد ذلك الفرق الموسيقية، والمزامير والطبول، والراقصون الموهوبون في رقصة الخطوة ويؤدون عروضًا على عربة قش نظيف تُستخدم كمسرح متحرك.
كان ميلتون هومر يأتي كذلك. كان بإمكانه أن يظهر في أي مكان في العرض، وكان يغير موقعه من آنٍ لآخر، فتراه يخرج من خلف الملك بيلي أو الفرسان السود أو الراقصين أو الأطفال الخجولين ذوي الأوشحة البرتقالية الذين يحملون الرايات. كان يظهر بوجه قاسٍ وصارم خلف الفرسان السود، ويرفع رأسه كما لو أن قبعة سوداء عالية تعلوه؛ أو يظهر خلف السيدات يهز وركيه ويتلاعب بمظلة وهمية. كان مقلدًا ذا مواهب عاتية وطاقة بشعة. كان بوسعه أن يحول عرض الراقصين المنمق الأنيق إلى وثبات مرحة لشخص معتوه، محافظًا على الإيقاع الحركي.
كانت أورانج ووك هي أفضل فرصة له في مسيرات العروض، ولكنه كان يظهر فيها جميعًا. يسير مرفوع الرأس خافقًا بذراعيه، بخطى شامخة خلف الضابط قائد العرض في مسيرة الكنيسة. وفي مسيرة العيد القومي للإمبراطورية، كان يزوِّد نفسه براية حمراء، وعلم الاتحاد الملكي، ويديرها فوق رأسه كلعبة الخيول الدوارة. أما في عرض سانتا كلوز، فكان يخطف الحلوى المعدة للأطفال؛ ولم يكن يفعلها على سبيل الدعابة.
لعلك ستفكر أن أي مسئول في هانراتي كان بوسعه وضع حد لهذا، فقد كانت مساهمة ميلتون هومر في أي عرض مساهمة سلبية تمامًا، معدَّة فقط — إن كان لدى ميلتون هومر القدرة على إعداد أي شيء — لجعل العرض يبدو بمظهر أحمق. لماذا لم يحاول المنظمون والعارضون إبعاده؟ لا بد أنهم قد قرروا أن القول أسهل من الفعل في هذا الصدد. فقد كان ميلتون يعيش مع خالتيه المسنتين اللتين لم تتزوجا، ولأنه كان يتيم الأبوين، لم يكن أحد ليرغب في أن يطلب من السيدتين المسنتين أن تُلزمانه المنزل. لا بد أن الأمر قد بدا وكأن لديهما من الأعباء ما يكفي. كيف يمكنهما إلزامه المنزل بمجرد سماع صوت الفرقة الموسيقية؟ ربما كان عليهما أن يحبسانه في المنزل ويقيدانه. ولم يرغب أحد في جرجرته وإبعاده بمجرد أن تبدأ العروض؛ فقد كانت احتجاجاته ستفسد كل شيء. فلم يكن هناك أدنى شك في أنه سيحتج؛ فقد كان قوي البنية، ذا صوت عميق، وكان رجلًا قويًّا، وإن لم يكن طويل القامة للدرجة. كان في حجم نابليون تقريبًا. كان يركل البوابات والأسوار حين يحاول الناس منعه من دخول أفنية منازلهم. ذات مرة حطَّم عربة أحد الأطفال على الرصيف لمجرد أنها كانت في طريقه. لذا لا بد أن السماح له بالمشاركة كان الاختيار الأمثل تحت هذه الظروف.
لم يكن ذلك يتم لكونه أفضل الخيارات السيئة فقط، فلم ينظر أحد إلى ميلتون بعين السخط في أي عرض؛ فقد كان وجوده معتادًا لدى الجميع، حتى قائد المسيرة كان يسمح له بأن يقلده على نحو ساخر، ولم يكن الفرسان السود بما بهم من أحزان دفينة يلقون له بالًا. كان الناس يكتفون بقول: «أوه، ها هو ميلتون» من الرصيف. لم يكن ليثير الكثير من الضحك عليه، وإن كان الغرباء الموجودون في البلدة — وهم الأقارب القادمون من المدينة ممن يُدعَون لمشاهدة العرض — قد يشيرون إليه ويأخذون في الضحك بشكل هستيري، ظنًّا منهم أنه موجود بشكل رسمي وبهدف الترويح الكوميدي، مثل المهرجين الذين كانوا في الواقع رجال أعمال صغارًا يفشلون في تحريك العجلات.
كان الزائر يقول: «من هذا؟» وكانت الإجابة تأتيه بلامبالاة وبنوع من الكبرياء غير المفهوم: «هذا فقط ميلتون هومر. لن يكون العرض عرضًا بدون ميلتون هومر.»
•••
«أحمق القرية.» هكذا قالت فيبي، محاولة فهم الأمور بأدبها الذي لا ينضب ولا يُحمد، فقال براين وروز إنهما لم يسمعاه يوصف بهذا الوصف من قبل. لم تكن نظرتهما لهانراتي بوصفها قرية، فالقرية في نظرهما عبارة عن مجموعة من المنازل وسط مناظر طبيعية خلابة تحيط بكنيسة ذات برج كتلك المرسومة على بطاقات التهنئة بالكريسماس. والقرويون هم الجوقة في ملابسهم الخاصة في أوبريتات المدارس الثانوية. ولو اقتضت الضرورة وصف ميلتون هومر لأحد الغرباء، كان الناس يقولون إنه «مختل». كانت روز تتساءل، حتى في ذلك الوقت، عن مكمن هذا الاختلال، وكانت لا تزال تتساءل، وتوصلت إلى أن الإجابة الأسهل لهذا السؤال هي العقل. لا بد أن ميلتون هومر كان بلا شك يحظى بمعدل ذكاء منخفض. أجل؛ ولكن كان هذا هو حال الكثير من الناس في هانراتي وخارجها، ومع ذلك لم يكونوا يفضحون أنفسهم مثلما كان يفعل؛ فقد كان يجيد القراءة بلا صعوبات، كما تبيَّن في حالة لافتة الحجر الصحي؛ وكان يجيد عد قطع نقوده الباقية، كما يتضح في العديد من الحكايات عن محاولة الناس الاحتيال عليه. فكرت روز الآن أن ما كان غائبًا هو حس الاحتراز، إنه الضبط الاجتماعي، على الرغم من عدم وجود مثل هذه المسميات في ذلك الوقت. إن أي شيء يفتقده الأشخاص العاديون حال سكرهم، لم يكن لدى ميلتون هومر بالمرة، أو لعله قد اختار ألا يمتلكه — وهذا هو ما يثير اهتمام روز — في مرحلة ما في بداية حياته. حتى تعبيراته، نظراته اليومية، كانت تلك التي يبديها السكارى في أقصى حالاتهم سوءًا من جحوظ العينين، النظرات الشزرة، النظرات النهمة التي بدت جريئة بشكل محسوب، وفي نفس الوقت بدت عاجزة ولاإرادية. هل شيء كهذا ممكن؟
كانت السيدتان اللتان يعيش معهما ميلتون هومر شقيقتَي والدته، كانتا توءمين تُدعيان هاتي وماتي ميلتون، وعادة ما كانتا تُدعيان الآنسة هاتي والآنسة ماتي؛ ربما لصرف الأنظار عن أي وقع سخيف قد يخلِّفه اسماهما. وقد سُمي ميلتون على اسم عائلة والدته، وكان ذلك تقليدًا شائعًا، وعلى الأرجح لم يفكر أحد في ربطه باسمَي اثنين من كبار الشعراء؛ فلم يرد أي ذكر لتلك المصادفة، وربما لم تُلاحَظ. ولم تلاحظها روز إلى أن جاء يوم كانت في المدرسة الثانوية حين نقر الصبي الجالس خلفها على كتفها وأطلعها على ما كتبه في كتاب اللغة الإنجليزية الخاص به. كان قد حذف كلمة «تشابمان» المذكورة في عنوان إحدى القصائد، وكتب بدلًا منها كلمة «ميلتون»، بحيث صار العنوان: «عند النظرة الأولى لميلتون هومر».
كان أي ذكر لميلتون هومر بمنزلة دعابة، ولكن هذا التغيير في العنوان كان بمنزلة دعابة كذلك؛ لما تضمنه من إشارة، ضعيفة نوعًا ما، إلى سلوك ميلتون هومر الأكثر خزيًا. تتلخص القصة في أنه حين كان يقف خلف أحد الأشخاص في طابور أمام مكتب البريد أو دار عرض سينمائي، كان يفتح معطفه ويقدم نفسه، ثم يدفع نفسه للأمام ويبدأ في الاحتكاك. غير أنه بالطبع لم يكن يتمادى كثيرًا؛ إذ كان الشخص ضحية هذا الاحتكاك يبتعد عن طريقه. وقيل إن الصبية كانوا يتحدون بعضهم البعض لكي يجعلوه يتخذ موضعه في الصف، ويبقون أمامه على مسافة قريبة، وفي اللحظة الأخيرة، يقفزون جانبًا ويفضحونه وهو في هذه الحالة.
وعلى أثر هذه القصة — سواء أكانت حقيقية أم لا، وما إذا كانت قد حدثت مرة واحدة فقط بدافع من الاستفزاز أم كانت تحدث طوال الوقت — كانت السيدات يعبرن الشارع بعيدًا حين يرين ميلتون قادمًا، وينبَّه على الأطفال بالبقاء بعيدًا عنه. وكانت فلو تعبِّر عن ذلك بقولها: «لا تدعوا ذلك المعتوه يحوم حولكم.» كان يُسمح له بدخول المنازل في تلك المناسبات التي تشمل طقوسًا وشعائر حين يكون هناك مولود جديد — وهي المناسبات التي تضاءلت مع شيوع الولادات في المستشفى — ولكن في أحيان أخرى كانت الأبواب تُغلق في وجهه؛ فكان يأتي ويطرق الباب، ويركل ألواح الباب بقدمه، ثم ينصرف. ولكن كان مسموحًا له بدخول الأفنية؛ لأنه لم يكن يأخذ الأشياء، وكان بإمكانه إحداث الكثير من التلفيات إذا ما غضب.
بالطبع كان الأمر يختلف تمامًا حين تصطحبه إحدى خالتيه؛ ففي تلك الأوقات كان يبدو بائس المظهر وحسن السلوك؛ كانت كل عواطفه وقدراته، أيًّا كانت ماهيتها، تختفي وتتوارى. كان يأكل الحلوى التي تشتريها له خالته بدون غلافها الورقي، ويقدمها للآخرين حين يؤمر بذلك، مع أن أحدًا لم يكن ليلمس شيئًا قد تكون أصابع ميلتون هومر لمسته، أو بورك بلعابه، سوى أكثر الأشخاص نهمًا على وجه الأرض. رأت الخالتان أنه ينبغي أن يقصِّر شعره؛ فقد كانتا تبذلان أقصى جهدهما لتجعلاه حسن الطلعة، فتقومان بغسل ملابسه وكيِّها وإصلاحها، ويرسلانه للخارج بمعطف المطر والحذاء الطويل المطاطي، أو بقبعة ووشاح من الصوف المغزول، على حسب ظروف الطقس. تُرى هل كانتا على دراية بسلوكه حين يكون بعيدًا عنهما؟ لا بد أنهما سمعتا به، وإذا كانت قد سمعتا، فلا بد أن ذلك سبَّب لهما معاناة لما عرف عنهم من كبرياء وعزة وتمسُّك بالأخلاقيات الميثودية؛ فقد كان جدهما هو من أنشأ مشغل الكتان في هانراتي وأجبر جميع موظفيه على قضاء ليالي السبت في فصل لتعليم الإنجيل يتولى الإشراف عليه بنفسه. كذلك كانت عائلة هومر عائلة كريمة. اعتقد الناس أن بعض أفراد العائلة أيدوا فكرة وضع ميلتون في مصحة علاج نفسي، لكن سيدات عائلة ميلتون لم يكن ليفعلن ذلك، ولم يُشر أحد إلى أن رفضهن كان نابعًا من طيبة القلب.
«إن كبرياءهن ليمنعنهن من أن يضعنه في المصحة النفسية.»
كانت الآنسة هاتي ميلتون تدرِّس اللغة الإنجليزية في المدرسة الثانوية، ولطول فترة تدريسها هناك — إذ تجاوزت مدة جميع المدرسين الآخرين مجتمعين — كانت أهم من المدير نفسه. كانت حادثة تبديل اسم القصيدة الأكثر جرأة وإمتاعًا لأنها حدثت في وجودها. أكثر ما اشتهرت به هو حفظ النظام، وهو ما كانت تفعله دون جهد جهيد، من خلال قوة حضورها المؤثر بصدرها الكبير ونظاراتها ومسحوق التلك الذي يعطرها وبراءة ملامحها، ورفضها إدراك وجود أي اختلاف بين المراهقين (لم تكن تستخدم تلك الكلمة) وبين طلاب الصف الرابع. ذات يوم كتبت قصيدة طويلة على السبورة وطلبت من الجميع نسخها، ثم حفظها عن ظهر قلب، على أن يسردوها غيبًا في اليوم التالي. كان ذلك حين كانت روز في السنة الثالثة أو الرابعة من المرحلة الثانوية، ولم تكن تصدق أن هذه التعليمات يجب أن تؤخذ حرفيًّا؛ فقد كانت تحفظ الشعر بسهولة، ما جعل من المنطقي بالنسبة لها أن تتجاوز عن الخطوة الأولى. فقرأت القصيدة وحفظتها، بيتًا بيتًا، ثم رددتها في عقلها مرتين، وبينما كانت تفعل ذلك، سألتها الآنسة هاتي لماذا لم تقم بنسخها.
فأجابت روز بأنها كانت تعرف القصيدة بالفعل، على الرغم من أنها لم تكن واثقة تمامًا من كون ذلك صحيحًا.
قالت الآنسة هاتي: «أحقًّا تعرفينها. إذن قفي واجعلي وجهك لمؤخرة الفصل.»
فعلت روز ذلك وهي ترتجف جراء ما أبدته من تفاخر.
«الآن رددي القصيدة أمام الفصل.»
كانت ثقة روز في محلها؛ فقد رددتها دون أدنى مشكلة.
ما الذي توقعت أن يحدث بعد ذلك؟ دهشة وإطراءات واحترام غير معهود؟
قالت الآنسة هاتي: «حسنًا، ربما تكونين على دراية بالقصيدة، ولكن هذا ليس عذرًا لعدم تنفيذ ما طُلب منك. اجلسي واكتبيها في دفترك. أريدك أن تكتبي كل بيت ثلاث مرات، وإذا لم تنتهي، فستبقي لما بعد الرابعة.»
واضطرت روز بالطبع للبقاء بعد الرابعة وهي تستشيط غضبًا ومنهمكة في الكتابة بينما كانت الآنسة هاتي تُخرج أدوات الكروشيه الخاصة بها. وحين وضعت روز النسخة المكتوبة على مكتبها، قالت الآنسة هاتي برقَّة كافية مغلَّفة بالحسم: «لا يمكنك أن تمضي وأنت تعتقدين أنك أفضل من الآخرين لمجرد أن بإمكانك حفظ القصائد. من تظنين نفسك؟»
لم تكن تلك هي المرة الأولى في حياتها التي تُسأل فيها روز مَن تظن نفسها؛ بل إن السؤال غالبًا ما يخطر لها كناقوس ذي رنين رتيب ولم تكن تُلقي له بالًا. ولكنها فهمت بعد ذلك أن الآنسة هاتي لم تكن معلمة سادية تتلذذ بتعذيب طلابها؛ فقد أحجمت عن قول ما قالته الآن أمام الفصل. ولم تكن انتقامية؛ فهي لم تكن تنتقم؛ لاعتقادها أن روز قد أثبتت أنها مخطئة. لقد كان الدرس الذي تحاول تلقينها إياه هنا أهم بالنسبة لها من أية قصيدة، وكانت تعتقد حقًّا أن روز بحاجة إليه، ويبدو أن كثيرين آخرين كانوا يعتقدون أنها بحاجة إليه أيضًا.
•••
دُعي جميع طلاب الفصل في نهاية السنة الأخيرة لحضور عرض لشرائح الفانوس السحري في منزل آل ميلتون. كانت شرائح العرض من الصين، حيث كانت الآنسة ماتي، التوءم التي لا تعمل، في بعثة تبشيرية في شبابها. كانت الآنسة ماتي في غاية الخجل، ولذا بقيت في الخلفية تقوم بتشغيل الشرائح، بينما تولَّت الآنسة هاتي التعليق عليها. عرضت شرائح الفانوس صورًا لقرية صفراء، كما كان متوقعًا إلى حد بعيد؛ فكانت التلال صفراء، والسماء صفراء، والناس ذوي بشرة صفراء، والعربات اليدوية، والمظلات، التي كانت جميعًا جافة وذات شكل أشبه بالورق، وهشة، مع خطوط سوداء متعرجة حيث كان الطلاء متشققًا، على المعابد والطرق والوجوه. كانت تلك هي المرة الأولى والوحيدة التي جلست فيها روز في ردهة منزل آل ميلتون، وفي تلك الفترة كان ماو يتولى الحكم في الصين، وكانت الحرب الكورية على أشدها، ولكن الآنسة هاتي لم تقدم أية تنازلات للتاريخ، مثلما لم تقدِّم تنازلات لحقيقة أن أفراد جمهورها كانوا ما بين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من عمرهم.
قالت الآنسة هاتي: «الصينيون وثنيون غير متمدنين، وهذا هو السبب في وجود متسولين لديهم.»
كان هناك متسول يجلس على ركبتيه في الشارع ويمد ذراعيه لسيدة ثرية تجلس في العربة التي يسوقها رجل، دون أن تلقي له بالًا.
قالت الآنسة هاتي: «إنهم يأكلون أشياء لا نستطيع أن نلمسها.» كانت هناك صور لصينيين يغرسون عصيًّا في أطباق. «ولكنهم يتبعون نظامًا غذائيًّا أفضل حين يتحولون إلى المسيحية. فقد كان الرعيل الأول من المسيحيين أطول ببوصة ونصف.»
ظهر في الصور المسيحيون من الرعيل الأول واقفين في صف فاغرين أفواههم، يغنون على الأرجح، يرتدون ثيابًا باللونين الأبيض والأسود.
بعد انتهاء العرض، قُدمت أطباق تحمل شطائر وبسكويتًا وكعكًا، جميعها معدة في المنزل ومذاقها غاية في الروعة. وفي أكواب ورقية صُب كوكتيل من عصير العنب وجعة الزنجبيل. كان ميلتون جالسًا في أحد الأركان مرتديًا سترته الثقيلة الصوفية الخشنة وقميصًا أبيض ورابطة عنق، تساقطت عليها بعض قطرات الكوكتيل وفتات الطعام.
قالت فلو بنبرة يشوبها التهديد قاصدة ميلتون: «يومًا ما سوف ينفجر في وجوههم.» هل كان من الممكن أن يكون هذا هو السبب في قدوم الناس، عامًا بعد عام، لمشاهدة شرائح الفانوس وتناول الكوكتيل الذي كان محور كل الدعابات والنكات؟ ليروا ميلتون بوجنتيه ومعدته المنتفخين وكأنما كان — بسوء قصد — على استعداد لينفث ما في فمه عليهم؟ إن كل ما فعله أنه قد أتخم نفسه بالطعام بكم لا يصدق. بدا وكأنه قد ابتلع مربعات التمر والكعك المحلى وقطع النانيمو وحبات الفاكهة وكعك الزبد، وكعك البراوني معًا، مثلما تلتهم الأفعى الضفادع. كان ميلتون منتفخًا مثلها تمامًا.
•••
كان الميثوديون قومًا يتلاشى نفوذهم في هانراتي، ولكن ببطء؛ فقد ولَّت أيام فصل الإنجيل الإجباري. ربما لم يدرِ آل ميلتون ذلك، وربما كانوا يدرون، ولكنهم كانوا يضعون قناعًا بطوليًّا على انحدارهم؛ فكانوا يتصرفون وكأن شروط التقوى لم تتغير، وكأن صلتها بالرخاء ورغد العيش لم تتغير. كان منزلهم الطوبي، المتخم بالرفاهية، ومعاطفهم بياقاتها ذات الفراء الأنيق الباهت، كلها تصدع بالميثودية، في افتقارها المتعمد للأناقة، وثقلها، وملاءمتها. كان كل شيء يتعلق بهم يبدو وكأن لسان حاله يقول إنهم قد كدُّوا في العمل الدنيوي لأجل الله، وأن الله لم يخذلهم. فلأجل الله كانت أرضية الردهة مصقولة بالشمع حول السجادة الطويلة، والسطور مرسومة بشكل متقن بقلم واضح في دفتر الشيكات، والنباتات الاستوائية مزدهرة، والأموال وجدت طريقها إلى البنك.
لكن وقعت أخطاء في تلك الأيام، وكان الخطأ الذي ارتكبته السيدتان ميلتون يتمثل في صياغتهما عريضة احتجاج تمهيدًا لإرسالها إلى هيئة الإذاعة الكندية تطالبان فيها بحذف البرامج التي تتعارض مع مواعيد الذهاب إلى الكنيسة في ليالي الأحد من خريطة البث: إدجار برجن وتشارلي ماكارثي؛ جاك بيني؛ فريد آلين. وجعلتا الكاهن يتحدث عن عريضتهما في الكنيسة. كان ذلك في الكنيسة المتحدة حيث كانت الطائفة الإنجيلية المشيخية والطائفة الجماعية تفوقان الطائفة الميثودية من حيث العدد، ولم تكن روز قد شهدت هذا المشهد بعينيها، بل وصفته لها فلو. فبعد أن ظلتا منتظرتين، اعتزمت الآنسة هاتي والآنسة ماتي، كلٌّ على أحد جانبي الحشد المُجتَمِع، استقطاب الناس وحملهم على التوقيع على العريضة، التي كانت موضوعة على طاولة صغيرة في رواق الكنيسة. كان ميلتون هومر جالسًا خلف تلك الطاولة. كان لزامًا عليه أن يكون موجودًا؛ فلم تكونا تدعانه يفلت من الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، وكلفتاه بمهمة لتشغلاه؛ فكان مسئولًا عن أقلام الحبر، وكانت مهمته التأكد من أنها ممتلئة ومناولتها للموقعين.
جاء بعد ذلك الجزء البديهي من الخطأ؛ فقد واتت ميلتون فكرة رسم شوارب على وجهه، وقام بذلك بالفعل دون الاستعانة بمرآة، فامتدت الشوارب تلتف إلى وجنتيه الكبيرتين الحزينتين، لأعلى نحو عينيه المحتقنتين بالدم اللتين تطايرت منهما نذر السوء. وكان قد وضع القلم في فمه أيضًا، ومن ثم تلطخت شفتاه بالمداد. باختصار، جعل من نفسه مشهدًا كوميديًّا لدرجة أنه قد صار ممكنًا التعامل مع العريضة التي لم يكن أحد يريدها في الواقع ككوميديا أيضًا، وصار بالإمكان النظر إلى نفوذ الأختين ميلتون، سلالة الميثوديين المؤسسين لمشغل الكتان، كشيء من الماضي. فابتسم الناس وانصرفوا؛ لم يكن هناك شيء يمكن فعله. بالطبع لم تعنفه السيدتان ميلتون أو تحاولا تهذيبه بأي شيء أمام العامة، واكتفتا فقط بتحميله العريضة وأخذتاه إلى المنزل.
قالت فلو: «كانت تلك هي النهاية لاعتقادهما أن بوسعهما التحكم في الأمور.» وكما هو الحال دائمًا، كان من الصعب تحديد أية هزيمة سعدَتْ أكثر برؤيتها؛ هل كانت الهزيمة على الصعيد الديني أم هزيمة التصنع والإدعاء؟
•••
كان الصبي الذي أطلع روز على القصيدة في حصة الآنسة هاتي للغة الإنجليزية في مدرسة هانراتي الثانوية هو رالف جيلسبي، وهو نفس الصبي الذي تخصص في تقليد ميلتون هومر. وحسبما تتذكر روز، لم يكن قد بدأ في مسألة التقليد تلك في الوقت الذي أطلعها فيه على القصيدة، فقد جاءت لاحقًا، خلال الأشهر القليلة الأخيرة له في المدرسة. كان في معظم الحصص يجلس أمام روز أو خلفها، لأن كليهما بدأ اسمه بنفس الحرف. وخلاف ذلك التقارب الأبجدي، كان بينهما شيء أشبه بتماثل عائلي، ليس في الشكل وإنما في العادات أو الميول. وبدلًا من أن يتسبب لهما ذلك في الإحراج، كما كان سيحدث لو كانا أخًا وأختًا بالفعل، جمع بينهما في مؤامرة نافعة. كان كلاهما يفقد جميع الأقلام الرصاص، والمساطر، والمماحي، وسنون أقلام الحبر، والورق المسطر، وأرواق الرسم البياني، والفرجار، والمناقل، اللازمة لحياة مدرسية ناجحة، أو يضعانها في موضع غير موضعها، أو لا يوفران لأنفسهما ما يكفي منها مطلقًا؛ كلاهما كان يلطِّخ نفسه بالمداد، وعرضة لحوادث السكب وتجفيف الحبر؛ كلاهما كان مهملًا في أداء الفروض المدرسية، ولكن يصيبهما الذعر من عدم القيام بها. لذا كانا يبذلان أقصى جهدهما ليساعد أحدهما الآخر، بمشاركة أي موارد بحوزتهما، واستجداء مَن حولهما من الطلاب الأحسن تدبيرًا، والبحث عن الفرض المدرسي لأحد الطلاب لنسخه. نشأت فيما بينهما ما يشبه زمالة الأسرى أو الجنود الذين لا يقوون على الخروج في الحملات، ولا يتمنون سوى البقاء وتجنب المعركة.
لم يكن ذلك هو كل شيء؛ فقد أصبحت أحذيتهما على معرفة وثيقة ببعضها، إذ كانت تشتبك وتتدافع في اشتباكات اتخذت طابعًا وديًّا وخاصًّا، وفي بعض الأحيان كانا يسترخيان معًا للحظات في محاولة للتشجيع المبدئي؛ وكان ذلك العطف المتبادل يعينهما بشكل خاص على اجتياز تلك اللحظات التي كان يتم فيها اختيار طلاب لحل مسائل رياضية على السبورة.
ذات مرة دخل رالف بعد الظهر وقد غطى شعره الثلج، فانحنى للأمام ونفض الثلج على مكتب روز قائلًا: «ألديك مثل تلك القشرة الزرقاء؟»
«كلا، إن قشوري بيضاء.»
بدت تلك لحظة من الألفة في نظر روز، بصراحتها الطبيعية، ودعابات الطفولة المستحضرة. ذات يوم آخر، في ساعة الظهيرة، وقبل أن يدق الجرس، دخلت روز الفصل ووجدته، وسط حلقة من المتفرجين، يمارس تقليده لميلتون هومر. انتابها الدهشة والقلق؛ اندهشت لأن خجله في الفصل دائمًا ما كان يماثل خجلها، وكان من أحد الأشياء التي جمعتهما؛ أما القلق، فكان لخشيتها من أنه قد لا يستطيع النجاح في مهمته ويفشل في إضحاكهم. ولكنه أجاد بشكل رائع؛ فقد اتخذ وجهه الكبير الشاحب الرقيق ملامح اليأس الأحمق الذي كان يظهر على وجه ميلتون؛ وكانت عيناه تجحظان ووجنتاه تهتزان وكلماته تخرج بنبرة رتيبة تنويمية جشاء. كان ناجحًا لدرجة أذهلت روز وأذهلت الجميع أيضًا. ومنذ ذلك الحين بدأ رالف في ممارسة التقليد؛ كان يقلد كثيرين، ولكن ميلتون هومر كان بمنزلة علامته المسجلة. لم تتعافَ روز قط من هاجس ودي فيما يتعلق به، كان لديها شعور آخر أيضًا نحوه، لم يكن حسدًا وإنما نوعًا متقلقلًا من الحنين والتوق. كانت تريد أن تفعل المثل، لا أن تقلد ميلتون هومر؛ إذ لم تكن ترغب في ذلك، وإنما أرادت أن تشبع طموحها بتلك الطريقة السحرية المحرِّرة، أرادت أن تغير نفسها؛ كانت تريد امتلاك الشجاعة والقدرة.
لم يمر وقت طويل على ظهور تلك المواهب علانية قبل أن يترك رالف جيلسبي المدرسة. افتقدت روز قدميه وأنفاسه وأصابعه وهي تنقر على كتفها. كانت تقابله بين الحين والآخر في الشارع، ولكنه لم يكن يبدو نفس الشخص تمامًا. لم يكونا يتوقفان مطلقًا للحديث معًا، فقط يتبادلان التحية وينطلقان مسرعين. ظلَّا سنوات قريبين ويجمع بينهما نوع من التواطؤ، أو هكذا بدا الأمر، واحتفظا طوال تلك المدة بنوع من الألفة الزائفة، ولكنهما لم يكونا يتحدثان معًا قط خارج نطاق المدرسة، ولم يتجاوزا مطلقًا حدود المعرفة بالغة الرسمية أحدهما للآخر، وبدا أنهما لم يستطيعا ذلك الآن أيضًا. لم تُقدِم روز قط على أن تسأله لمَ هجر المدرسة، بل لم تكن تعرف حتى إذا كان قد عثر على وظيفة. كان كلاهما يعرف الآخر كملامح منفصلة، ولكن لم يستطع أحدهما مواجهة الآخر ككيان كامل.
بعد فترة لم تعد روز تراه في الشارع، وسمعت أنه التحق بسلاح البحرية. لا بد أنه كان ينتظر حتى يبلغ السن المناسبة للقيام بذلك. التحق رالف بالبحرية وغادر إلى هاليفاكس. كانت الحرب قد وضعت أوزارها، والقوات البحرية تمارس مهام وقت السلم لا أكثر. وعلى النحو نفسه كان غريبًا بالنسبة لها أن تتخيل رالف جيلسبي في زي البحرية الرسمي، على ظهر مدمرة، وربما يُطلق المدفعيات. كانت روز قد بدأت للتو في إدراك أن الصبية الذين عرفتهم، مهما قد يبدو عليهم من افتقار للكفاءة والمقدرة، سوف يصبحون رجالًا، ويُسمح لهم بالقيام بالأشياء التي كانت تعتقد أنها تتطلب موهبة وصلاحية أكبر بكثير مما لديهم.
في فترة ما قبل أن تهجر المتجر، وقبل أن يسبب لها التهاب المفاصل عجزًا بالغًا، كانت فلو تخرج لمباريات البينجو وفي بعض الأحيان كانت تلعب الورق مع جيرانها في قاعة. حين كانت تعود روز إلى المنزل في زيارة كان الدخول في حديث معها أمرًا عسيرًا، لذا كانت تسأل فلو عن الاشخاص الذين رأتهم في القاعة. كانت تطلب منها أخبارًا عن اثنين من جيلها هما هورس نيكلسون ورانت تشيسترتون، اللذين لم تستطع حقًّا أن تتخيلهما رجالًا ناضجين؛ هل شاهدتهما فلو؟
«هناك شخص أراه هناك طوال الوقت، رالف جيلسبي.»
فقالت روز إنها اعتقدت أن رالف جيلسبي في البحرية.
«كان هناك بالفعل، ولكنه عاد الآن. لقد تعرض لحادث.»
«حادث من أي نوع؟»
«لا أدري. كان ذلك في البحرية. لقد مكث في مستشفى البحرية ثلاث سنوات كاملة. كان عليهم أن يعيدوا ترميمه من البداية. إنه بخير الآن، فيما عدا أنه يمشي بعرج؛ إنه يمشي بصعوبة نوعًا ما.»
«أمر سيئ للغاية.»
«حسنًا، نعم. هذا رأيي أنا أيضًا؛ فأنا لا أحمل أية ضغينة تجاهه، ولكن ثمة بعض الناس في قاعة المحاربين القدماء لديهم شعور سيئ تجاهه.»
«يحملون ضغينة تجاهه؟»
قالت فلو في دهشة وتهكم على روز لعدم وضعها في الاعتبار حقيقة أساسية من حقائق الحياة، وتوجهًا طبيعيًّا للغاية في هانراتي: «بسبب المعاش. إنهم يعتقدون أنه يحصل على ما يكفيه لبقية حياته. أنا أقول إنه لا بد أنه عاني من أجل ذلك. يقول البعض إنه يحصل على الكثير، لكنني لا أعتقد ذلك. إنه لا يحتاج للكثير، فهو يعيش بمفرده. ولكنه لا يعترف إذا كان يعاني ألمًا. مثلي. فأنا لا أعترف. ابكي وسوف تبكين وحدك. إنه لاعب نيشان بارع، كما يبرع في لعب أي لعبة، ويمكنه أيضًا أن يقلد الآخرين ببراعة.»
«ألا يزال يقلد ميلتون هومر؟ اعتاد أن يقلده في المدرسة.»
«نعم يقلده، إنه مضحك للغاية في ذلك. إنه يقلد أشخاصًا آخرين كذلك.»
«ألا يزال ميلتون هومر حيًّا؟ ألا يزال يخرج في العروض والمسيرات؟»
بالتأكيد لا يزال حيًّا، ولكنه هدأ كثيرًا. إنه هناك في دار الرعاية ويمكنكِ أن تريه في يوم مشمس من على الطريق السريع يراقب حركة السيارات ويلعق الآيس كريم. لقد تُوفيت السيدتان.»
«إذن لم يعد يشارك في العروض؟»
«لم يعد هناك عروض ليشارك فيها، لقد تراجعت العروض إلى حد بعيد؛ فجميع أفراد جماعة الأورانج على فُرش الموت، ولن يكون هناك إقبال على أي حال؛ إذ أصبح الناس يفضلون البقاء بالمنزل ومشاهدة التليفزيون.»
•••
في زيارات لاحقة وجدت روز أن فلو قد انقلبت على قاعة المحاربين القدماء.
«لا أريد أن أكون ضمن هؤلاء المعتوهين.»
«أي معتوهين؟»
«هؤلاء الجالسين هناك يروون نفس القصص الحمقاء ويحتسون الجعة. إنهم يصيبونني بالغثيان.»
كان ذلك جزءًا لا يتجزأ من طبيعة فلو؛ فكان الأشخاص، والأماكن، ووسائل التسلية تدخل دائرة التفضيل فجأة وتخرج منها فجأة. ومع السن صارت الانقلابات أكثر حدة وتكرارًا.
«ألم تعودي تحبين أيًّا منهم؟ ألا يزال رالف جيلسبي يتردد على المكان؟»
«أجل، إنه يحبه لدرجة أنه حاول أن يجد لنفسه وظيفة هناك، لقد حاول أن يحصل على وظيفة بدوام جزئي بالحانة. يقول بعض الناس إنه قد قوبل بالرفض؛ لأن لديه معاشًا بالفعل، ولكن أعتقد أنه رُفض بسبب سوء سلوكه.»
«كيف؟ هل يعاقر الخمور إلى حد الثمالة؟»
«لا يمكنك الجزم بذلك، إنه يتبع نفس النهج، التقليد، ولنصف الوقت تجدينه يقلد شخصًا لا يعرف الوافدون الجدد إلى البلدة حتى مَن هو هذا الشخص، ومن ثم يظنون أن رالف يتحامق لا أكثر.»
«مثل ميلتون هومر؟»
«هذا صحيح. كيف لهم أن يعرفوا أنه من المفترض أن يكون ميلتون هومر، وكيف يبدو ميلتون هومر؟ إنهم لا يعرفون. إن رالف لا يعرف متى يتوقف. لقد ظل يقلد ميلتون هومر حتى بدا أحمق مثله ورفض الجميع منحه وظيفة.»
•••
بعد أن اصطحبت روز فلو إلى الدار — لم ترَ ميلتون هومر هناك، وإن كانت قد رأت أشخاصًا آخرين ظنت أنهم قد قضوا منذ زمن — ومكثت بالمنزل لتنظيفه وتجهيزه للبيع، قام جيران فلو — الذين فكروا أنها لا بد وحيدة في ليلة سبت — باصطحابها إلى قاعة المحاربين القدماء. لم تعرف كيف ترفض، ومن ثم وجدت نفسها تجلس إلى طاولة طويلة في الطابق السفلي للقاعة، حيث تقع الحانة، في نفس اللحظة التي كان يعبر فيها آخر شعاع للشمس حقول الفاصوليا والذرة، عبر ساحة انتظار السيارات المغطاة بالحصى، ويخترق النوافذ العالية صابغًا الجدران ذات الخشب الرقائقي. كانت الجدران تعج بصور فوتوغرافية حملت أسماء مكتوبة بخط يدوي لصقت على إطاراتها. نهضت روز لتلقي نظرة عليها. حرب المائة والستة أيام، قبيل الإبحار مباشرة، ????. ثمة صور للعديد من أبطال تلك الحرب، حمل أسماءهم الأبناء وأبناء الأشقاء، ولكن لم يكن وجودهم معروفًا لها. حين عادت إلى الطاولة، كانت مباراة في لعب الورق قد بدأت. تساءلت إن كان النهوض عن الطاولة للنظر إلى الصور قد تسبب في تشويش. ربما لم يسبق أن نظر أحد إليها مطلقًا؛ ربما لم تكن تلك الصور للمشاهدة؛ كانت هناك فحسب، مثل الخشب الرقائقي على الجدران. دائمًا ما ينظر الزوار من الغرباء إلى الأشياء، ويبدون اهتمامًا بها، ويتساءلون من هذا، ومتى كان ذاك، محاولين نفخ الروح في الحوار. إنهم يقدِّمون الكثير، ويرغبون في الخروج بالكثير، وربما كان يبدو الأمر وكأنها تجوب أرجاء المكان طلبًا لاهتمام الآخرين.
جلست سيدة وقدمت نفسها. كانت زوجة أحد الرجال الذين يلعبون الورق. قالت مخاطبة روز: «لقد رأيتكِ على شاشة التليفزيون.» كانت روز دائمًا ما تعمد قليلًا إلى التبرير والاعتذار حين يقول أحدهم ذلك؛ لذا كان عليها أن تُحكِم السيطرة على ما كانت تدركه في نفسها من اندفاع سخيف للاعتذار. وهنا، في هانراتي، كان هذا الاندفاع أقوى من المعتاد. كانت مدركة أنها قد فعلت أشياء لا بد أنها بدت متفاخرة. تذكَّرت أيامها كمحاورة تليفزيونية، وثقتها وسحرها الخادعين؛ وفي هانراتي لا بد أنهم يدركون كم كان ذلك مجرد بهرجة زائفة أكثر من أي مكان آخر. أما عملها بالتمثيل، فذاك شأن آخر. لم تكن الأشياء التي تخجل منها هي تلك التي لا بد أنهم يعتقدون أنها تخجل منها؛ لم يكن الخجل من صدر عارٍ مترهل، وإنما من فشل لم تستطع فهمه أو تفسيره.
لم تكن السيدة التي تتحدث إليها من هانراتي، فقد قالت إنها جاءت من سارنيا حين تزوجت من خمسة عشر عامًا.
«ما زلتُ أجد صعوبة في التعود. والحق أنني أجد صعوبة في التعود عليها بعد الحياة في المدينة. تبدين أفضل في الطبيعة من المسلسل.»
قالت روز: «أتمنى ذلك.» وراحت تحدِّثها كيف كانوا يضعون لها مساحيق التجميل. كان الناس يبدون اهتمامًا بمثل تلك الأشياء، وكانت روز أكثر ارتياحًا بمجرد أن تحولت دفة الحديث إلى التفاصيل الفنية.
قالت السيدة: «حسنًا، ها هو رالف العجوز.» وتحركت لتفسح مكانًا لرجل نحيف أشيب الشعر يحمل بين يديه كوبًا من الجعة. كان هذا الرجل هو رالف جيلسبي. لم تكن روز لتعرفه لو كانت قد قابلته في الشارع، وكان سيبدو غريبًا بالنسبة لها، ولكن بعد أن أنعمت النظر إليه للحظات، لم يبدُ هناك أي تغيير قد طرأ عليه، لم يتغير عن الشخص الذي كان عليه وهو في السابعة عشرة أو الخامسة عشرة، كان شعره الرمادي — الذي كان بنيًّا فاتحًا في الماضي — لا يزال منسدلًا على جبهته، ووجهه لا يزال شاحبًا وهادئًا وكبيرًا بالنسبة لجسمه، تكسو وجهه نفس النظرة الخجولة الحذرة الكتومة. ولكن كان جسده أكثر نحافة، وبدت كتفاه وكأنما انكمشتا معًا. كان يرتدي كنزة ذات أكمام قصيرة بياقة صغيرة وثلاثة أزرار تزيينية؛ كانت زرقاء فاتحة بخطوط طولية باللونين البيج والأصفر. بدت هذه الكنزة لروز تشير إلى أناقة رجل تقدم في العمر، شكل من المراهقة المتحجرة. لاحظت أن ذراعيه هرمتين ونحيلتين وأن يديه ترتجفان بشدة لدرجة أنه كان يستخدمهما معًا لرفع كوب الجعة إلى فمه.
قالت السيدة القادمة من سارنيا: «لن تمكثي هنا طويلًا، أليس كذلك؟»
فقالت روز إنها متوجهة إلى تورونتو غدًا الأحد، ليلًا.
قالت السيدة: «لا بد أن لديك حياة حافلة.» قالتها بتنهيدة كبيرة، لاح فيها حسد واضح كان كفيلًا في حد ذاته بأن يعلن عن أصول صاحبته التي لا تنتمي للبلدة.
كانت روز تفكر أنها ستتجه يوم الاثنين لمقابلة رجل لتناول الغداء وممارسة الحب. كان هذا الرجل هو توم شبرد، الذي عرفته منذ فترة طويلة. في وقت ما وقع في حبها، وكان يكتب لها خطابات غرامية، وفي آخر مرة كانت معه في تورونتو، وبينما كانا معًا في الفراش يحتسيان الجين والتونيك — إذ كانا دائمًا ما يمعنان في الشرب حين يكونان معًا — خطر لروز فجأة، أو علمت، أن هناك شخصًا ما في حياته الآن، امرأة يحبها، وكان يغازلها ويتودد إليها من بعيد، وربما يكتب لها خطابات، وأنه كان هناك حتمًا امرأة أخرى يضاجعها بعنف وقوة في الوقت الذي كان يكتب فيه لها هي الخطابات. كذلك، وطوال الوقت، كانت هناك زوجته. أرادت روز أن تسأله عن هذا؛ عن الضرورة، الصعوبات، الرغبات المشبعة. كان اهتمامها ودودًا وغير انتقادي، ولكن كان لديها من الإدراك ما يكفي لأن تعرف أن السؤال لن يفيد.
تحولت المحادثة في قاعة المحاربين القدماء إلى تذاكر اليانصيب، ومباريات البينجو، والمكاسب. كان الرجال الذين يلعبون الورق — وكان من ضمنهم جار فلو — يتحدثون عن رجل من المفترض أنه قد فاز بعشرة آلاف دولار، ولم يعلن الحقيقة؛ لأنه قد أفلس قبل بضع سنوات ويدين بأموال لكثير من الناس.
قال أحدهم إنه لو كان قد أعلن إفلاسه، لما أصبح مدينًا بأي أموال بعد ذلك.
فقال آخر: «ربما لم يكن مدينًا بها آنذاك. ولكنه يدين بها الآن. والسبب هو أنه قد حصل عليها الآن.»
ولاقى هذا الرأي تأييدًا بشكل عام.
نظرت روز ورالف جيلسبي أحدهما إلى الآخر. كانت هناك نفس الدعابة الصامتة، نفس التواطؤ، الارتياح؛ نفس كل شيء.
قالت روز: «سمعتُ أنك مقلد بارع.»
كان ذلك خطأً؛ لم يكن ينبغي أن تقول أي شيء. فهز رأسه ضاحكًا.
«أوه، هيا. سمعتُ أنك تقلد ميلتون هومر بشكل مثير.»
«لا أعرف شيئًا عن ذلك.»
«ألا يزال موجودًا؟»
«على حد علمي هو موجود في دار المسنين.»
«أتذكُر الآنسة هاتي والآنسة ماتي؟ حين أقامتا عرض شرائح الفانوس السحري في منزلهما.»
«بالتأكيد.»
«لا تزال صورتي الذهنية عن الصين قائمة إلى حد كبير على تلك الشرائح.»
مضت روز تتحدث هكذا، على الرغم من أنها تمنت لو استطاعت أن تتوقف. كانت تتحدث بأسلوب ربما كان سيُعتبر في مكان آخر مسليًا ووديًّا ولعوبًا ولا مغزى من ورائه. لم تتلقَّ استجابة كبيرة من رالف جيلسبي، على الرغم من أنه بدا منتبهًا ومرحِّبًا. وطوال الوقت الذي تحدثت فيه كانت تتساءل عما كان يريد أن يسمعه منها. لقد كان يريد شيئًا بالفعل، ولكنه لم يكن ليقدم على أية خطوة للحصول عليه. وكان لا بد لانطباعها الأول عنه كشخص متملق خجول خجلًا صبيانيًّا أن يتغير. كان هذا هو ظاهره. أما في داخله، فكان مغرورًا، ومستسلمًا لحياة الارتباك والحيرة، ومعتدًّا بنفسه. كانت تتمنى لو تحدث إليها من هذا المستوى، وكانت تعتقد أنه يتمنى ذلك أيضًا، ولكن كان هناك ما يمنعهما.
ولكن حين تذكَّرت روز تلك المحادثة غير المرضية، بدا وكأنها قد استرجعت موجة من الطيبة، والتعاطف، والصفح، على الرغم من عدم التفوه بأية كلمات من هذا القبيل. وبدا ذلك الخزي الذي تحمله معها أينما ذهبت وقد خفَّت وطأته. لقد كان الشيء الذي تخجل منه، في التمثيل، أنها ربما كانت تلفت الانتباه إلى الأشياء الخاطئة، وتجسِّد سلوكيات هزلية تثير الضحك، حينما كان هناك دائمًا شيء أبعد، نبرة، عمق، ضوء، لم تستطع ولم تكن لتستطيع الوصول إليه. ولم تكن شكوكها بهذا الشأن مقتصرة على التمثيل فقط؛ فكل شيء فعلته كان يمكن النظر إليه في بعض الأحيان كخطأ. ولم يكن شعورها بهذا قويًّا مثلما كان حين تحدثت إلى رالف جيلسبي، ولكن عندما فكرت فيه بعد ذلك بدت أخطاؤها غير ذات أهمية. كان لديها من الشجاعة بما يكفي لتتساءل عما إذا كانت مشاعرها نحوه مجرد حميمية جنسية، فضول جنسي؛ لم تكن تعتقد أنه كان كذلك. يبدو أن هناك مشاعر لا يمكن التحدث عنها إلا من خلال ترجمتنا لها؛ وربما لا يمكن التصرف على أساسها إلا من خلال هذه الترجمة؛ لذا فإن عدم الحديث عنها وعدم التصرف على أساسها هو المسار الصحيح الذي يجب اتخاذه؛ لأن هذه الترجمة مشكوك فيها، وخطيرة أيضًا.
لهذه الأسباب لم توضح روز أي شيء آخر عن رالف جيلسبي لبراين وفيبي حين استرجعت احتفال ميلتون هومر مع المواليد أو تعبيره عن سعادة شيطانية وهو على الأرجوحة. بل لم تذكر حتى أنه قد توفي. كانت تعلم أنه قد توفي؛ لأنه كان لا يزال لديها اشتراك في جريدة هانراتي. وكانت فلو قد منحت روز اشتراكًا لمدة سبع سنوات في عيد الميلاد الماضي حين شعرت بأنها مضطرة لتقديم هدية؛ وكعادة فلو كانت تقول إن الصحيفة متاحة لكي يشترك الناس فيها فقط وليس بها ما يستحق القراءة. عادة ما كانت روز تقلِّب صفحات الجريدة سريعًا وتضعها في الموقد، ولكنها رأت الخبر الذي كان في الصفحة الأولى عن رالف:وفاة ضابط سابق في البحرية
أصيب السيد رالف جيلسبي، ضابط صف بحري متقاعد، بإصابات خطيرة في الرأس في قاعة المحاربين القدماء ليلة السبت الماضي. لم يتورط أي شخص في الحادث، ولسوء الحظ لم تُكتشف جثة السيد جيلسبي إلا بعد مرور عدة ساعات. ويُعتقد أنه قد ظن خطأ أن باب القبو هو باب الخروج واختلَّ توازنه، الذي لم يكن مستقرًّا بسبب إصابة قديمة ألمت به خلال عمله بالبحرية وتركته مصابًا بعجز جزئي.
ومضت الصحيفة تسرد أسماء والدَي رالف، اللذين كانا فيما يبدو لا يزالان على قيد الحياة، وأخته المتزوجة. وقد تولَّت رابطة المحاربين القدماء مراسم الجنازة.
لم تخبر روز أحدًا بذلك، وكانت سعيدة لوجود ولو شيء واحد لم تفسده بإخبار الآخرين عنه، على الرغم من أنها كانت تعرف أن عدم وجود مادة هو ما منعها من التحدث بقدر ما منعها ذلك التكتم المشرف. فما الذي كان يمكنها أن تقوله عن نفسها وعن رالف جيلسبي، عدا أنها شعرت أن حياته — القريبة من حياتها، بل الأقرب إلى حياتها من حياة الرجال الذين أحبتهم — أفضل قليلًا من حياتها؟