عنوان الكتاب الأصلي
LA SOMBRA DELVTENTO
Carlos Ruiz Zafon
المؤلف: كارلوس رويث زافون
عنوان الكتاب: ظل الريح
ترجمة: معاوية عبد المجيد
تقديم: أحمد مجدي همام
تدقيق: شوقي العنيزي
خط الغلاف: الفنان سمير قويعة
تصميم الغلاف: الشاعر محمّد النبهان
الناشر: مسكيليانى للنشر والتوزيع
15 نهج أنقلترا تونس- تونس العاصمة
الهاتف: 21512226(216+) أو 537090811(966+)
الإيميل: mascilliana_editions@yahoo.Com
ردمك: 8-63-833-9938-978
الطبعة الأولى: 2016
________________
جميع الحقوق محفوظة للناشر
________________
على سبيل التقديم، لرواية لا تحتاج إلى تقديم
"على كل من يملك القدر الكافي من الجنون ليستمر اليوم في كتابة الروايات، أن يكتبها بطريقة تجعل اقتباسها متعذراً، وبعبارة أخرى، عليه أن يكتبها بطريقة تجعلها غير قابلة لأن تروى»، هذا ما يراه الروائي التشيكي/ الفرنسي ميلان كونديرا. إذن، وفق هذا الروائي المثير للجدل، فإن الروايات الجيدة يصعب تلخيصها، إذ كيف توجز آلاف الكلمات، وما واكب قراءتها من انفعالات، في عدة أسطر، وإذا افترضنا جدلاً أن تلخيص الحبكة الدرامية ممكن، كما هو الحال مع بعض أفلام السينما والسيناريوات، فكيف يمكن تلخيص براعة اللغة شعرية كانت أم تقريرية، وكيف يمكن أن نلخص فرادة البناء وجدّته، أو تميّز الأسلوب، وغيرها من عناصر الرواية الجيدة؟
عموماً، إن كان تلخيص الروايات الجيدة أمراً متعذراً، فإن محاولة مقاربتها، عن طريق التشبيه، قد تكون فكرة معقولة.
مثل لوحات الفنان الهولندي المعروف بيتر بروغل (1525 - 1569)، تطل علينا رواية وظل الريح، للكاتب الإسباني كارلوس زافون (1964)، في نسختها العربية الأولى، محتشدة بشخصياتها، والدراما الخاصة بها، ومتشابكة كدغل أمازوني لا تصل الشمس إلى أرضه، أو تكاد لا تصل، لذا يحتاج أي مستشكف حقيقي، يحمل معدّاته، إلى قنديل للإضاءة ومنجل لتفادي الأغصان المتشابكة، وقبل ذلك كلّه، يحتاج إلى جرعة وقائية تحسُباً لأي مضاعفات قد تُسبّبها المنعطفات الدرامية لهذه اللوحة الساحرة.
لماذا نقول بروغل؟
تحتشد لوحات الرسام الهولندي بعشرات الشخصيات، دون أن تكون أية واحدة منها مجرّد خلفية، أو عنصرا مساندا فحسب لعنصر آخر رئيسي، بل يتجلى كل شخص في لوحات بروغل، بطلاً منفردًا بذاته، ومشاركا -2 بطولة جماعية -2 الوقت نفسه.
يمكننا ملاحظة ذلك في لوحات "المعركة بين المهرجان ويوم الصيام", و"ألعاب الأطفال"، و"الطريق إلى جلجثة"، حيث يستطيع المشاهد – باستخدام عدسة مكبرة - رصد تفاصيل كل شخصية ضمن عشرات الشخصيات الموجودة في اللوحة، دون أن يكون أحدهم مهملا أو مبتوراً أو ناقصاً على أي نحو، ويمكنه أيضاً – باتخاذ مسافة أبعد من اللوحة، وبالعين المجرّدة- رصد القرية بأكملها، بجموع بشرها وحيواناتها وزرعها وسمائها ومياهها، بوصفها وحدة فنية أكبر وأشمل.
كذلك تبدو "ظل الريح"، هذه الرواية الكرنفاليّة الفريدة، شبيهة بلوحات بروغل وحشوده، حيث سيقابل القارى شخصيات عديدة، تبدو كل واحدة منها جديرة بالانفراد بملف روائي كامل، كما تبدو كل واحدة منها مستكينة في موقعها الصحيح، ضمن شبكة درامية كبيرة، كبيرة فعلاً، ومثيرة للحسد حيال براعة زافون في الحفاظ على خيوط اللعبة، دول أن تضل الشخصية طريقها أو تشتبك بغيرها بشكل عشوائي لتكوّن عقدة أو نتوءًا في السرد قد يقودان إلى ضياع القارئ ويفقدانه بوصلته. فلا واحدة من تلك الشخصيات جاءت زائدة عن الحاجة، أوكانت بمثابة ترهلات في جسد الحكاية، وإنما جاءت بوصفها ضرورة فنية، سينتبه لها القارئ حتمًا، لا سيّما وأن الرواية تتناول حياة كاملة، ومساحة كبيرة من حيوات الأبطال، تمتد لسنوات.
الحس البوليسي - هذا التابل الكفيل بمنح أي قصة بعداً تشويقياً كبيراً - حاضر في "ظل الريح" كنكهة رئيسية. ثمّت جريمة، أو جرائم إن شئنا الدقة، ثمّت محاولات لإماطة اللثام عن مساحات كبيرة من الغموض. عناصر الشرطة حاضرون - -الفاسدون منهم والشرفاء - السرقات، محاولات النصب، الاختطاف، التهديد، التعذيب، الأسلحة النارية.. كافة عناصر الحبكة البوليسية حاضرة بسخاء.
الصبغة الرومانسية أيضاً عنصر رئيسي لهذا الطبق، فقصص الحب كثيرة تتناسل ضمن خيط الدراما، ويتداخل بعضها ببعض، فلا تعرف أين تقف حدود العلاقة وأين تنتهي، وتلك لعبة الماكر زافون، تظنه أراحك من لهاث الركض وراء الأحداث في الحبكة البوليسية، فتجد نفسك تركض على مضمار آخر لا تدري متى يُعيدك إلى الأول، وفي الحالتين معًا أنت مستسلم لهذه التقاطعات والمنعطفات ومستمتع تظن نفسك تركض وراء الشخصيات والأحداث، فيضعك أمام لوحات ولوحات، ويوقظ فيك حاسة النظر، ومن هذه الزاوية، تصبح الرواية بفضاءاتها المكانية المتنوّعة متحفا للصور، حيث تطالعك القصور المزدانة بتماثيل الملائكة والقديسين، تتوسط جنائنها الفسقيات وتعلوها سماء برشلونة الرمادية باستمرار. وفي ذلك تجسيد الفضاء مكاني قوطي، فنحن هنا أمام عودة للأدب القوطي، وإن في صيغة عصرية، تنتظم حقبة زمنية من تلك التي طالتها الأعين بالتوثيق البصري. فكيف يمكن لرواية ما أن تكون ذات نزعة قوطية في العصر الحديث؟ الإجابة كاملة في جعبة كارلوس زافون.
ستدهشك وسط هذا الطوفان، وفي غمرة انهماكك في فرز الألوان والمذاقات والشخوص، قدرة زافون على منح كل شخصية لسانها وأسلوبها، سترى بنفسك الجمل المقتضبة لخوليان كاراكس، وستندهش أمام الجمل الخطابية الوعظية المتحاذقة لفيرمين دي توريس، أو اللغة المميزة من باقي السرد. فهل نحن إزاء سنفونية من الأصوات المتنافرة المتلاحمة في آن واحد، هل نحن أمام مايسترو لا يفوّت صوتا إلا ويستدرجه بلطف إلى مقطوعته الموسيقية الضخمة؟ لقد أقرّ زافون نفسه في إحدى المقابلات التي أجريت معه بأن مقاطع موسيقية كثيرة كانت تتناهى إلى ذهنه وهو يؤلف "ظل الريح"، فيجلس ويدوّنها، أو يقوم بعزفها.1 فهل نحن إزاء قطعة موسيقية تصويرية؟ الإجابة مرّة أخرى في جعبة زافون.
ما يجدر التنويه به في هذه المقدّمة، هو الأسلوب الساحر لكارلوس زافون الذي اجترح هذا العمل في الأصل باللغة الإسبانية، فهو يمتلك لغة انسيابية بشكل آسر، في الوصف التقريري أو التشبيه والمجاز أو حتى في اختيار المفردة. الأسلوب هو شرف الكاتب كما تنص القاعدة الشهيرة، ومن هذه الناحية، فنحن أمام كاتب يتمتع بصوت منفرد ومميز وعذب، عدا عن كونه طيعا وقابلا للتوظيف في مستويات عدّة، ينزلق في الحس الساخر، ويبدو متأملاً وحكيماً حال جنوحه لإدراج خلاصات حياتية شعرية، كما يرتكز عند نقطة الخصفر بمرونة في الجانب الوصفي التقريري. باختصار، يمكن القول إن لكارلوس زافون بصمة مميزة، يمكن تشبيهها بشيء من التجاوز ببصمة بيتر بروغل في لوحاته. وحري بنا هنا الإشارة إلى المجهود الجبار الذي بذله المترجم معاوية عبد المجيد في ترويض نص بهذا التنوّع والثراء. فتشابك خيوط الحكاية مدهش، تتناسل الحكايات وتتكاثر انشطارياً، وتتفرّع عن الحبكة المركزية حبكات أخرى، بالطريقة التي أسماها الروائي البيروفي ماريو برجاس يوشا (1936) في كتابه «رسائل إلى روائي شاب» ب «الأواني المستطرقة» آلة دقيقة تتكوّن من البراغي والأذرع والتروس والإسطوانات وأنابيب الضغط، حتى الهامشيّون لهم نصيب من تسليط الضوء، وهكذا تكتمل اللوحة. وستتكفل الألغاز المبثوثة على امتداد الرواية بجعلك مشدودا كقوس، لكن تأكد أن كل تخميناتك وتوقعاتك ستبوء إلى الخيبة، لأن المنعطفات الدرامية هنا كثيرة، مع كل فصل، ومقطع، وقسم.
في "ظل الريح" سيجد القارئ نفسه متردّدا إزاء حشد من الصفات يمكن خلعها على الكاتب: أهو حيال رشام حقيقي، يستطيع أن يضاهي المناظر الطبيعية وأن يمنحها عمقا أكبر من ذاك الذي تتمتع به في الواقع، أم هو قبالة موسيقار ما ينفك عن توليف الأصوات والإيقاعات، موسيقار يعرف وحده متى يجعل الإيقاع عاليا محتدا، ومتى يكون متقطعا، ومتى يكون ساكنا مثل بحيرة راكدة. ولعله سيضيف إلى الصفتين صفة الساحر الذي لا يتوقف عن مفاجأة الصبيان وكسر آفاق انتظارهم، وليس استدعاء صورة الساحر والصبيان هنا من قبيل الإسقاط، فلقد بدأ كارلوس زافون وهو من مواليد 1964 حياته الأدبية بالكتابة للناشئة، مصدرا في هذا المجال أربع روايات: "أمير الضباب" التي نال عنها جائزة Edebé لأدب الناشئين والأطفال سنة 1993، و«قصر منتصف الليل»، و"أضواء سبتمبر", و«مارينا». ولم يصدر روايته الأولى خارج هذا النوع الأدبي ونعني بذلك: "ظل الريح"، إلا سنة 2001. فهل انتقل زافون من سحر الصغار إلى سحر الكبار؟ وهل في نزوعه إلى كتابة سيناريوهات الأفلام إضافة إلى ذلك محاولة لجعل المكتوب مرئيا ومسموعا في السينما، مثلما جعل المرئي والمسموع مكتوبا في هذه الرواية؟ وهل تكمن براعة الرجل في استدراج القارى إلى الرواية وتوريطه في أحداثها فحسب؟ ألا تطرح "ظل الريح" من القضايا ما يجعل الحكي نفسه وسيلة لقول شيء آخر؟ أي قيمة للكتب في عالم يلفه الصمت والنسيان؟ وأي معنى للحرب؟ ما الذي أفرزته الحداثة غيركائن استهلاكي لا يتوقف عن الأكل وهو لا يعرف أنه المأكول في النهاية؟ وهل في الكتاب حياة أخرى غير التي نعيشها؟ أليس الأدب ما يبقى بعد زحف النسيان على كل شيء؟ هل قبرت الكتب فعلا، وأخذتها الريح، أم لا خيار لنا غير تعقب "ظل الريح" تلك هي بعض التساؤلات التي أثارتها الرواية، أمّا الأجوبة فتطلب من كل واحد منكم أن يتعقب بنفسه " ظل الريح"
أحمد مجدي همام
القاهرة 23-01-2016
إلى خوان رامون بلاناس
خوان الذي يستحق شيئا أفضل من هذا بكثير
مقبرة الكتب المنسية
لن أنسى أبدًا ذلك الصباح الذي اقتادني فيه والدي إلى «مقبرة الكتب المنسية». حدث الأمر في أوائل صيف العام 1945. كنا نمشي في شوارع برشلونة التي ادلهمت فوقها سماوات من رماد، وانصبّت الشمس من بين الضباب مثل إكليل نحاسي سائل على حي رامبلا دي سانتا مونيكا. وإياك أن تخبر أحدًا بماستراه اليوم يا دانيال، قال والدي. وحتى لوكان صديقك توماس.» «ألا أخبر أمي أيضا؟» سألته هامسا.
تنهد والدي، وارتدى قناع الابتسامة الأليمة التي كانت تتبعه كظله في الحياة.
"بالتأكيد" أجابني مطأطأ الرأس "ليس لدينا أسرار نخفيها عن أمك يا دانيال. بوسعك أن تخبرها بكل شيء".
ما إن وضعت الحرب الأهلية أوزارها حتى اجتاحت الكوليرا البلاد وسلبت منا والدتي. دفناها في مونتويك، تحت وابل من المطر، ما انقطع ليل نهار، في ذات اليوم الذي أتممت فيه عامي الرابع. لن أنسى كيف ضاقت أنفاس والدي عندما سألته عمّا إذا كانت السماء تبكي رحيل والدتي. وبعد ستة أعوام مازال غيابها حاضرًا بقوة كصرخة خرساء مدوية، كفراغ تعجز الكلمات عن غمره. كنا، أنا ووالدي، نسكن في شقة صغيرة في زقاق سانتا آنا، قرب ساحة الكنيسة، فوق مكتبة جدّي المتخصصة في بيع الكتب النادرة والمستعملة. كانت المكتبة أشبه بازار سحري, سيصبح ملكي في يوم من الأيام، كما كان أبي يكرّر دائما.
لقد نشأت بين الكتب، وبصحبة أصدقاء خياليين يسكنون صفحات الكتب الذابلة ذات الرائحة الاستثنائية. وعندما كنت صغيرًا، كنت أروي لوالدتي، قبل أن أغفو، ما أتعلمه في المدرسة والطريقة التي تجري بها الأمور أثناء النهار. لم يكن بوسعي سماع صوتها أوتحسس لمسات يديها، لكن النور الذي يشع من طيب ذكراها كان يدفئ كل أركان البيت. وكنت واثقا من أنها سوف تسمعني، أينما كانت، ما إن أغمض عيني وأتكلم معها. كنت على إيمان بهذا كأي طفل مازال يعدّ أعوامه على أصابع يديه. وكان والدي، في بعض الأحيان، يسمعني وهو جالس في الصالة ويبكي في سرّه. أذكر أنني استيقظت وأنا أصرخ في ذلك الصباح من شهر يونيو. كان قلبي ينبض كأنما أراد أن يفتح ممرا في صدري ليهرب منه. هرع والدي فزعا نحو غرفتي وضمّني بين ذراعيه كي يهدئ من روعي.
"لم أعد اذكر وجه أمي. لم أعد اذكر وجه أمي" قلت بما تبقى لي مر صوت.
ضمّني والدي إليه بشدة أكثر.
"لا تقلق يا دانيال. أنا سأذكر وجهها نيابة عني وعنك".
نظر كل منا في وجه الآخر، تحت ظل ممتدّ بين الفجر والغسق، ونحن نبحث عن كلمات لا وجود لها. فلاحظت للمرة الأولى أن والدي يشيخ وأن عينيه الكئيبتين تركزان صوب الماضي. نهض على قدميه وحرّك الستار كي يدخل ضوء الفجر الفاتر. «قم يا دانيال وارتد ثيابك. أود أن أطلعك على شيء ما». «الآن؟ في الخامسة فجرا؟»
"ثمّت أشياء لا نستطيع رؤيتها إلا في الظلام" أجابني وافتعل ابتسامة غامضة لابدّ أنه استعارها من إحدى روايات دوماس.
كان الشارع خاليًا من أي صوت عدا خطوات عناصر الشرطة الليلية.
وكانت أعمدة الإنارة في لاس رامبلاس تخفت شيئا فشيئا بالتوازي مع استيقاظ المدينة بكسل وهي تتأهب لخلع قناع الألوان الشاحبة. وعند مدخل أركو دل تياترو اتجهنا نحو الرافال تحت الأقواس الغارقة في الضباب، ومشينا في ذلك الدرب الذي يشبه الجرح. وما إن ابتعدنا عن أنوار لاس رامبلاس حتى بدأ الفجر ينير شرفات المنازل وتيجان المباني. توقف والدي عند بوابة خشبية ضخمة ومنقوشة بانت عليها آثار الرطوبة والزمان. فظهر قبالتنا ما بدا لي جثة بناء مهجور، أو ضريحا لأصداء وظلال بعيدة.
«إياك أن تخبر أحدًا بما ستراه اليوم يا دانيال. حتى لوكان صديقك توماس.»
فتح لنا البوابة رجل له وجة طير جارح وشعر فضي. رمقني بنظرة لم يحذها عني قيد أنملة. "صباح الخير يا إسحاق. هذا ابني دانيال" قال له والدي. «سيتم عامه الحادي عشر عمّا قريب، وسوف يتولى شؤون المكتبة يوما ما. أرى أن سنه مناسبة للتعرف إلى هذا المكان.» دعانا إسحاق للدخول بهزة خفيفة من رأسه. كانت الردهة مسكونة بظل لازوردي يتمايل بين النور والظلمة، ومن هناك تظهر أدراج رخامية وممر عميق يزدهي سقفه برسومات لوجوه ملائكة وكائنات خيالية. لحقنا بالحارس إلى أن وصلنا إلى صالة دائرية تشرف عليها قبة تنهمر منها لآلئ الضوء. كان البناء كمعبد غارق في ظلام دامس، متاهة من الأروقة والرفوف العالية المكتظة بالكتب، خلية نحل هائلة مشيدة من أنفاق وسلالم ومنصات ودعائم: مكتبة ضخمة معجزة في هندستها وبنيانها. نظرت إلى أبي وفمي مفتوح من شدة الذهول بينما كان يبتسم ويغمز.
« أهلا بك في مقبرة الكتب المنسية يا دانيال.»
لاحظت وجود عشرات من الأشخاص على منصات المكتبة ودعائمها. التفت بعضهم إلينا لإلقاء التحية، فعرفت بعض زملاء والدي: بائعو كتب وأثريّات مثله. بدوا لمخيلتي البريئة حينها كأنهم جماعة سرية من الخيميائيين يتآمرون على شيء ما في غفلة من العالم. انحنى والدي نحوي ونظر في عيني، وحدّثني بنبرة راقية تصلح لإطلاق الوعود وتمتين الثقة بين الاشراف.
«هذا المكان سرّ يا دانيال، إنه معبد، حَرم خفي. كل كتاب أو مجلد هنا تعيش فيه روح ما. روح من ألفه وأرواح من قرؤوه وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله. وفي كل مرة يغيّر الكتاب صاحبه، أو تلمس نظرات جديدة صفحاته، تستحوذ الروح على قوة إضافية. عندما جاء بي والدي إلى هنا للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة، كان هذا المكان قديما مثلما تراه الآن تماما، ربما كان أقدم شيء في المدينة. لا أحد يعلم بدقة كم عمر هذه المكتبة أو من الذي بناها. وكل ما يسعني قوله لك هو أن أكرر على مسامعك ما قاله لي والدي: عندما تغلق إحدى المكتبات أبوابها أو تتلاشى، ويضيع كتاب ما في غياهب النسيان، نحن، الأمناء على هذا المكان، نجد له طريقة كي يصل إلى هنا, كل الكتب التي لا يذكرها أحد، أو التي يختفي أثرها بفعل الزمن، تعيش هنا أبدا في انتظار اليوم الذي تعود فيه إلى يدي قارىء جديد، وروح جديدة, نحن نبيع الكتب ونشتريها ولكنها في الحقيقة لا تنتمي إلينا أبدا, كل كتاب هنا كان أفضل صديق لشخص ما, أما الآن فليس لهم غيرنا يا دانيال. هل ترى أنك قادر على كتمان السر؟», تاهت نظراتي في زوايا ذلك المكان الشاسع وفي سحر أنواره الخارق.
أومأت بالقبول فابتسم والدي. «وهل تعلم أجمل ما في الأمر؟»
هززت رأسي بصمت.
"جرت العادة على أن من يأتي إلى هنا للمرة الأولى عليه أن يختار كتابا ويتبناه ويجتهد في الحفاظ عليه دائما فيبقى حيا. إنه عهد اية الأهمية» شرح والدي. «واليوم حان دورك.»
تجولت في تلك المتاهة واستنشقت عبق الصفحات القديمة والسحر والغبار لنصف ساعة. وتركت يدي تلامس ظهر الكتب المرتبة في صفوف طويلة، متكلا في خياري على حاسة اللمس, رأيت كلمات في لغات أعرفها وأخرى في لغات لم أستطع حتى أن أميزها، بين عناوين باتت لا تقرأ وأخرى بهتت حبرها, رحت أنتقل بين الرفوف والأروقة التي تحتوي على مئات بل آلاف المجلدات التي تشعرني بأنها تعرف عني أكثر مما أعرف عنها, ولمع في رأسي أن كل غلاف يخفي وراءه عالما لا نهاية له، عالما يحفز النفس على استكشافه، بينما يُهدر الناس في الخارج أوقاتهم بمتابعة مباريات كرة القدم والمسلسلات على الراديو وينفقون المال على جهلهم أيضا. لست أدري إن كان الأمر يتعلق بتلك التأملات، أم بالصدفة أم بأبيها النبيل (القدر)، ولكنني في تلك اللحظة كنت على يقين بأنني وجدت الكتاب الذي سأتبناه، أو بالأحرى الكتاب الذي سيتبناني. كان خجولا بظهوره من أحد الرفوف، غلافه من جلد قرمزي، والعنوان مطبوع على ظهره بحروف مطرزة. تلمست تلك الكلمات برؤوس أصابعي وقرأتها بصمت.
خوليان كاراكس
ظل الريح
لم أكن أعرف الكتاب ولا المؤلف، ولم يكن هذا يهمني. كان القرار حاسمًا، من كلا الطرفين. أخذت الكتاب وتصفحته بحذر، إذ كانت صفحاته ترتجف كجناحي فراشة استردت حريتها، أو كسحابة من غبار ذهبي خرجت للتو من السجن. أرضاني الخيار فعدت على نفس الخطى التي أدخلتني في تلك المتاهة، والكتاب تحت إبطي وابتسامتي ترقص على شفتي. ولعلني سكرت من جو المكتبة الساحر، لكنني كدت أجزم أن ذلك الكتاب كان ينتظرني منذ أعوام، وأغلب الظن من قبل أن أولد.
في عصر ذلك اليوم، بعد عودتنا إلى البيت، انعزلت في غرفتي كي أتعرّف إلى صديقي الجديد. جذبتني القصة بأسرع مما توقعت: قصة رجل يبحث عن أبيه الحقيقي بعد أن عرف أنه موجود بفضل أمه التي أخبرته بذلك قبيل وفاتها بلحظات. وسرعان ما تتحول القصة إلى ملحمة معقدة: البطل يناضل بحثا عن طفولته الضائعة وشبابه المفقود حيث تتجلى شيئا فشيئا ظلال حب ملعون تلاحقه حتى آخر يوم من عمره. أما بنية الرواية فقد ذكرتني بالدمية الروسية التي تحتوي على عدد لا يحصى من الدمى المتشابهة. والسرد متشظ إلى ألف حكاية، وكأن القصة تدخل في معرض للمرايا فتنقسم إلى عشرات الانعكاسات، ولكنها تظل محافظة رغم ذلك على وحدة بنيتها. شدّتني الرواية، ومرّ الوقت بسرعة كما يمر الحلم. فلم أنتبه إلا لأجراس منتصف الليل بعد عدة ساعات وهي تتناهى إلى مسامعي من نواقيس الكاتدرائية في البعيد. صفحة وراء صفحة، تحت نور نحاسي يرسله القنديل، كنت أستسلم لدوامة من المشاعر المبهمة، وأغوص في عالم عجيب تسكنه شخصيات أكثر واقعية من الهواء الذي أتنفسه. تركت نفسي تنصاع لذلك الإغراء حتى بللت نسائم الفجر زجاج النافذة واستقرت عيناي المتعبتان على الصفحة الأخيرة. حينها فقط استلقيت على السرير، واستلقى الكتاب على صدري، فسمعت أصوات المدينة الغافية ترتفع فوق السقوف المزوقة بالأرجوان. دق النعاس والأرق على بابي مرارا لكنني قاومت، لأنني لم أشأ أن أقطع سيل تلك الحكاية الساحرة ولا أن أودع شخصياتها الفريدة.
ذات يوم كان أحد زبائن المكتبة يقول: «لا شيء قادر على التأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذي يمس قلبه حقا. إذ أن صدى الكلمات التى نظن بأننا نسيناها يرافقنا طوال الحياة، ويشيد في ذاكرتنا منزلا سنعود إليه عاجلا أم آجلا. لا يهمّ حشد الكتب الأخرى التي سوف نقرؤها، ولا عدد العوالم التي سوف نكتشفها، ولا حتى مقدار الأمور التي سوف نتعلمها ثم ننساها". أما بالنسبة إلي، فسيبقى ذلك هو الكتاب الذي أنقذته من ظلمات مقبرة الكتب المنسية.
أيام الرماد: 1945-1949
1
يقاس حجم السرّ بقيمة الشخص الذي نخفيه عنه، لذلك اجتاحتني حالما استيقظت رغبة عارمة في الذهاب إلى صديقي المفضل وإطلاعه على وجود مقبرة للكتب المنسية.. كان توماس آغويلار رفيقي في المدرسة، يستنفد كل ذكائه ووقته الضائع باختراع أدوات لا قيمة عملية لها كالرمح المتوازن أو محرك الدوارة الخشبية. لمن كنت سأبوح بذلك السر إن لم يكن لتوماس؟ رأيت في حلم اليقظة أننا، أنا وهو، نحمل مصباخا وبوصلة وقد قررنا استكشاف خفايا ذلك السرداب المليء بالكتب. لكنني قررت أن أكون وفيا لعهدي، وأن أتبع ما يسمّى في الروايات البوليسية ب "moduS Operand" أي أن أحقق في الموضوع مليا. فعندما حانت الثانية عشرة ظهرا، نزلت إلى المحل كي أسأل أبي عن بعض المعلومات عن الكتاب وخوليان كاراكس، وقد ظننت أنه كاتب مشهور في العالم أجمع. كنت أرغب في الحصول على أعماله الأخرى كي أقرأها كلها في غضون أسبوع. ولذا فوجئت بأن أبي، وهو بائع الكتب الخبير والمطلع على لوائح النشر، لم يسمع يوما بالكاتب ولا بـ«ظل الريح». راح يتفحص زاوية الناشر بعد أن اعتراه الفضول.
«على ما يبدو أنها واحدة من الألفين وخمسمائة نسخة التي أصدرتها دار كابيستاني للنشرفي برشلونة في ديسمبر عام 1935.»
«وهل تعرف دار النشر هذه؟»
«لقد أغلقت منذ عدة سنوات. لكن هذه ليست بالطبعة الأصلية، فتلك قد صدرت في باريس في نوفمبر من العام نفسه عن دار النشر غاليانو ونيوفال. ثمت شيء غير مفهوم.»
«هل هي نسخة مترجمة إذن؟» سألت حائرًا.
«ليس مذكورا هنا أنها مترجمة. ولا يبدو أنها كذلك للوهلة الأولى.» «أليس غريبا أن تكون الرواية مكتوبة بالإسبانية وتصدر طبعتها الأولى في فرنسا؟»
«لم لا؟ لقد حصل هذا أكثر من مرة في الماضي نظرًا إلى مصاعب عديدة، أكد والدي. ولعل بوسع برسلوه أن يساعدنا».
كان جوستابو برسلوه صاحب مكتبة عتيقة في شارع فرناندو. له كاريزما تمنحه لقب زعيم باعة الكتب القديمة والنادرة بلا منازع. ودائما ما كان الغليون المطفأ، الذي تفوح منه أزكى النكهات الشرقية، يتدلى من شفتيه. ويفضل أن يعرّف نفسه بالرومانسي الأخير ويتباهى بأنه من نسل الشاعر اللورد بايرون رغم أن أصوله تنحدر من كالداس دي مونتبوي. ولعله كان يرتدي زي الداندي الرائج في القرن التاسع عشر كي يبرر نسبه البريطاني: إذ كان يختال بشال حريري وحذاء ملمّع بالطلاء الأبيض ونظارة مفردة لا معنى لها، أشاعت الأقاويل بأنه لا ينزعها حتى لو ذهب إلى الخلاء. وفي الواقع فإن والده هو القريب الوحيد ذو الشأن الكبير إذ كان صاحب مصنع وقد بلغ الثراء بوسائل شبه مشروعة في نهاية القرن السابق. قال لي أبي إن بوسع جوستابو برسلوه أن يعيش برفاهية دون أن يعمل شيئا فالمكتبة بالنسبة إليه مجرد تسلية لقضاء الوقت. كان شغوفا بالكتب أكثر من شغفه بالحياة. يقال عنه، رغم نفيه لذلك مرارًا، إنه لو دخل أحد الزبائن محله وكان مولعًا بكتاب لا يقوى على شرائه، فإن برسلوه يخفض السعر حتى يستطيع الزبون أن يحصل على مراده، بل وربما يُهديه إياه حالما يشعر بأنه قارئ حقيقي وليس هاويا أودعيًا. كما كان يحظى بذاكرة فيل، وادعاء بالمعرفة لا يطاق. ولكنه في اختصاصه كان مرجعًا موثوقا عن أي تساؤل.
بعد أن أغلقنا المحل في عصر ذلك اليوم، اقترح علي والدي أن نمرّ بمقهى إلسل كواتري غاتس، في حي مونتسيو، حيث يجتمع برسلوه ومريدوه ليتناقشوا في شأن الشعراء الخائبين واللغات الميتة وروائع الفن المهملة أمام فيالق العث.
كان المقهى قريبًا من بيتنا مسافة خطوتين وهو أكثر الأماكن المحببة إلى قلبي في برشلونة. فهناك، تعرّف أبي على أمي عام 1932، وأنا كنت أعزو حياتي، في جزء كبير منها، إلى فتنة ذلك المقهى القديم. يحرس تنينان حجريان واجهته المخفية في تعاقب مستمر للظلال، وتجمّد قناديل الغاز الوقت والذكريات. والجو في الداخل يوحي بزمان آخر: محاسبون وحالمون وطلاب طموحون يجلسون على الطاولات بصحبة طيف بابلو بيكاسو وإسحاق ألبينيز وفيديريكو غارثيا لوركا وسلفادور دالي. حتى الشحاذون أنفسهم بوسعهم أن يشعروا في ذلك المحل بأنهم أبطال التاريخ، طالما كان سعر القهوة في غاية الزهد.
«ها قد عاد سيمبيري، الابن الضال» هتف برسلوه وهويرى أبي يدخل المقهى. "ترى ما الذي شرّفنا بمجيئك؟"
«الفضل لابني دانيال يا دون جوستابو. لقد اكتشف لتوه كنزا ثمينا.»
«جيد. تفضلا بالجلوس. لا يسعنا إلا أن نحتفل بهذا الحدث التاريخي.»
"حدك تاريخي؟" همسات في أذن والدي.
"السيد برسلوه يحب استخدام العبارات البليغة" أجابني أبي بصوت منخفض. «تظاهز بأنك لم تسمع شيئا وإلا اغتاظ منا.»
وسّع تلاميذه لنا الجلسة بينما أصر برسلوه على أن يعرض شيئا نشربه وهو الذي كان متمسكا بإظهار جوده وسخائه.
«كم عمر ولي العهد؟» سأل برسلوه بنبرة ممازحة.
«أحد عشر عاما تقريبا» صارحته.
فابتسم مستهزئا "يعني عشرة أعوام. لا تزد في سنك أيها الطفل، ستتكفل الحياة بهذا لاحقا".
بانت على الحاضرين علامات الاستحسان. ونادى برسلوه النادل الذي كان عجوزا إلى درجة تجعلك تظنه نصبًا أثريا.
«اجلب لصديقي سيمبيري كأس كونياك فاخر، وللفتى كأس فرابيه فهو ما يزال صغيرا. واجلب أيضا طبقا منوعا من اللحوم المقددة، ولكن ليس كهذا الذي أتيتنا به منذ قليل. واضح؟ لو كنا نرغب في تناول المطاط الذهبنا إلى شركة بيريللي للعجلات» استشاط بائع الكتب غيظا.
أومأ النادل برأسه واتجه نحو المطبخ وهو يسحل قدميه.
"كيف يمكن للمرء أن يجد عملا في هذا البلد إن كانوا لا يفكرون حتى في تسريح الأموات من أعمالهم؟" علق برسلوه. "انظر إلى هذا المسن الغابر. يا لها من معضلة."
مص من الغليون المطفأ بينما كان يصوب أنظاره الثاقبة كالصقرعلى الكتاب الذي أحمله بيدي. فعلى الرغم من حركاته الهزلية كان برسلوه يطارد فريسته بمهارة كما يشتم الذئب رائحة الدماء.
"ترى بم أتيتموني؟" قال متصنعا عدم الاهتمام.
رمقت والدي فأومأ موافقا. أعطيت الكتاب لبرسلوه دون تردد، فأمسكه بائع الكتب بيدين خبيرتين وراحت أصابعه التي اعتادت على عزف البيانو، تنزلق على الغلاف لتقيم سماكته وصحته. ثم نظر إلى زاوية الناشر بعناية بوليسية وابتسامة محايدة حوالي دقيقة كاملة. وكان الحاضرون ينظرون إليه بترقب، كمن ينتظر معجزة أو الإذن بالتقاط الأنفاس.
«كاراكس. مهم جدا.»
مددت يدي لأستعيد الكتاب، فقوّس حاجبيه وأعطاني إياه بابتسامة فاترة.
"أين عثرت عليه أيها الفتى؟"
"إنه سرّ", أجبته وقد رأيت أبي يرسم على شفتيه ابتسامة ماكرة.
قطب برسلوه جبينه ونظر إلى والدي.
«عزيزي سيمبيري. بما أنني أحترمك للغاية وبما أننا أصدقاء حتى الأخوّة، سأعطيك مائتي بيزيتا ونغلق الموضوع.»
«بنبغي أن يتم الاتفاق مع ابني» أكد والدي «فالكتاب كتابه.»
التفت برسلوه إلي بابتسامة خبيثة. "ما رأيك يا فتى؟ مائتا بيزيتا رقم جيد جدا تفتتح به نشاطك التجاري... إن ابنك سوف يضارب عليك يا سيمبيري"
ضحك الحاضرون، ونظر إلي برسلوه بارتياح وأخرج محفظة الجلد من جيبه. أخذ يعدّ المال، مائتا بيزيتا في تلك الحقبة كانت مبلغا ضخما. أعطاني الأوراق المالية، فاقتصرت على الرفض بهز رأسي فتفاجأ برسلوه من جديد.
"تذكر أن الطمع من المحرمات الكبرى" أضاف. «ثلاثمائة هيا. بوسعك أن تفتح حسابا في مصرف التوفير, على المرء في عمرك أن يبدأ التفكير في المستقبل»
هززت برأسي ثانية فنظر برسلوه إلى والدي والشرر يقدح من النظارة المفردة. "لا تنظر إلي هكذا" قال له «إنني هنا بصفة مرافق فقط.»
تنهد برسلوه بعمق ونظر إلي متفحصا.
«حسنا، قل لي ما الذي تريده يا صغيري؟»
«أريد أن أعزف من هو خوليان كاراكس وأين بوسعي العثور على أعماله الأخرى.»
أرجع برسلوه المحفظة إلى جيبه وأعاد الاعتبار بخصمه حينها.
«تبا, يوجد بيننا بروفسور إذن, ماذا تطعم ابنك يا سيمبيري؟» قال.
انحنى بائع الكتب نحوي ورأيت في عينيه نظرة احترام لم أرها من قبل.
"فلنبرم اتفاقا" قال لي. "غداء يوم الأحد, تعال إلى مكتبة الجامعة واسأل عني. واحمل معك الكتاب فهكذا يتسنى لي تفخصه بشكل أفضل, وسأخبرك بما أعرفه عن خوليان كاراكس Qudd Pro quO"
« ماذا؟»
«واحدة بواحدة, إنها اللاتينية أيها الفتى, لا توجد لغات ميتة بل عقول في غيبوبة تامة. بمعنى آخر لا شيء بالمجّان, ولكنني أراك ظريفا وأريد أن أسدي لك معروفا»
كانت حذلقة ذلك الرجل تؤهله لاصطياد الذباب في الهواء. ومن ناحية أخرى كان علي أن أعبّر عن تقديري له إذا ما أردت اكتشاف شيء ما عن خوليان كاراكس. فابتسمت له باحترام متظاهرًا بأنني أبجّل إتقانه المطلق للاتينية.
"لا تنس لقاءنا غدا في الجامعة" نوّه برسلوه. "اجلب معك الكتاب، وإلا لن نتمكن من فعل شيء."
"حسنا".
تحولت المحادثة إلى غمغمات راح عشاق الكتب فيها يتناقشون عن بعض الوثائق التي عُثر عليها تحت متحف الإيسكوريال. وبحسب هذه الوثائق فإن ميغيل دي ثربانتس كان اسمًا أدبيًا مستعارًا لامرأة مشعرة من طليطلة. لم يدلّ برسلوه بدلوه في ذلك الموضوع واقتصر على مراقبتي من خلف نظارته المفردة بابتسامة مرتبكة، أو ربما كان يمعن النظر في الكتاب الذي أحمله بيدي لا غير.
2
في يوم الأحد ذاك، أطبقت على المدينة موجة من القيظ الخانق فارتفعت على إثرها عقارب ميزان الحرارة. دخلت إلى شارع كانودا بعد الظهيرة تحت حرارة تفوق الثلاثين درجة، متأبطا الكتاب وجبيني مرصع بحبات العرق. كانت الجامعة، وما تزال، مكانا من أماكن المدينة الكثيرة التي توقف فيها الزمان عند القرن التاسع عشر. هنالك سلالم حجرية تبدأ من الباحة الداخلية لتفضي إلى شبكة من الممرات وصالات القراءة حيث تبدو السرعة والهاتف وساعات اليد كأنها هلوسات مستقبلية. لم يعر الحارس أي انتباه لقدومي، كأنه كان تمثالا يرتدي بزة رسمية. ثم وصلت إلى الطابق الأول فاستأنست لسماع حفيف شفرات إحدى المراوح وهي تنعش القراء الغافين قبل أن يذوبوا كقطع الجليد على الكتب والجرائد. وجدت جوستابو برسلوه تحت أقواس الإيوان المطل على الحديقة الداخلية. ورغم ذلك المناخ شبه الاستوائي، فإن بائع الكتب كان بكامل هندامه الأنيق والمعتاد بينما كانت نظارته المفردة تلمع في الظل كعملة حديدية في عمق بئر. وإلى جانبه كانت هنالك امرأة ترتدي فستانا ناصع البياض حتى بدت لي كأنها ملاك منحوت في الضباب. وحالما سمع برسلوه خطواتي استدار وأشار إلي بالاقتراب منه.
«دانيال، أليس كذلك؟» سألني. «هل أحضرت الكتاب؟»
هززت برأسي مرتين ثم أجلسني على مقعد بقربه وبقرب رفيقته الغامضة. ولدقيقتين كاملتين لم يقم بشيء سوى ابتسامة مريحة وعدم اكتراث لحضوري. وانقطع الأمل في أن يقدّمني لتلك السيدة التي ترتدي الأبيض، كان يتصرف كأنها ليست موجودة أو كأن أحدًا منا لا يراها. فخطفت عيني إليها وأنا أخشى من أن تتقاطع نظرتي بنظراتها التي تحدّق في مكان ما. كانت بشرتها نقية ووجهها مصقولاً ومحدّدًا بدقة، محاطا بشعر كثيف قاتم السواد، ولامعا كالجمر. لابدّ أن عمرها في العشرين، لكن شيئا ما في ملامحها وتصرفاتها، المحبطة كأغصان صفصافة، يعيد إلى الذهن كائنا لا عمر له يتمتع بشباب أبدي مثل دمى المحلات التجارية. كنت أمعن النظر في عنقها الشبيه بعنق الإوزة، عندما انتبهت إلى أن يرسلوه يركز نظره علي.
"والآن,هلاً قلت لي أين عثرت على هذا الكتاب؟"سألني.
«ليتني أستطيع. لقد وعدت والدي أن أحفظ السرّ" أجبته.
«آه فهمت، فهمته سيمبيري وأسراره» قال برسلوه. في كل الأحوال أدرك الوضع تماما. لقد كنت محظوظا أيها الفتى. لا بد أن مقولة "وجد الإبرة في كومة التين" محقة إذن. "هل لي بالكتاب"؟
أعطيته إياه فأخذه بين يديه بعناية دقيقة. «أعتقد أنك قرأته, أليس كذلك؟»
«أجل يا سيدي».
«كم أحسدك يا فتى. لطالما فكرت أن اللحظة المناسبة لقراءة كتاب لكاراكس تحين عندما يكون قلب المرء صافيا وأيام العمر كلها أمامه, هل تعلم أن هذه هي الرواية الأخيرة التي كتبها؟»
هززت رأسي نافيا بصمت.
«وهل تعلم كم نسخة مثل هذه توجد في السوق يا دانيال؟»
«أظن أنها بالآلاف.»
«ولا واحدة»أوضح برسلوه. «باستثناء نسختك, كل النسخ الأخرى
تعرضت للحرق.»
"تعرضت للحرق؟!"
ابتسم برسلوه دون أن يجيب وهويتصفح الكتاب ويتلمس الصفحات كأنها من حرير نادر في الكون كله. التفتت المرأة البيضاء بهدوء. كانت شفتاها مواربتين على ابتسامة مفعمة بالخجل والحيرة. أما عيناها اللتان تلتحفان بجفنين من مرمر، فقد كانتا تطوفان في الفراغ. جحظت عيناي وابتلعك ريقي. إنها عمياء.
«لم أعرّفك بعد إلى قريبتي كلارا, أليس كذلك؟، سألني برسلوه.
أومأت بالنفي ولم أستطع أن أزيح نظري عن ذلك المخلوق الذي يشبه الدمية وعينيها البيضاويين، أكثرعينين حزنا رأيتهما في حياتي.
"في الحقيقة إن كلارا هي الخبيرة بخوليان كاراكس، ولهذا دعوتها للمجيء إلى هنا" قال برسلوه.
«بل وإنني أستأذنكما بالذهاب إلى القاعة الأخرى لكي أتفحص الكتاب جيدا بينما تتحدثان في أموركما. هل أنت موافق؟، نظرت إليه مشدوها بينما ربّت ذلك القرصان العجوزعلى كتفي واختفى والكتاب بين يديه.
"هل تعلم أنه معجب بك جدًا؟" سمعك صوتا ما من خلفي.
التفت ورأيت ابتسامة فاتنة على وجه قريبة بائع الكتب، ونظراتها الهائمة في الفراغ. كان لها صوت مؤثر وواهن مثل البلور، ما جعلني أتردد في الإجابة.
"أخبرني العم جوستابو بأنه عرض عليك مبلغا طائلا من المال في كتاب كاراكس وأنت رفضت" أضافت كلارا. «لكنك كسبت احترامه.» "يبدو لي ذلك أيضا" تنهدتٌ.
كانت كلارا تتبسم ورأسها محني قليلا وأصابعها تداعب خاتما من الياقوت.
"كم عمرك؟" سألتني.
"أحد عشر عاما تقريبا"أجبتها. "وحضرتك؟"
وجدت كلارا سذاجتي مدعاة للتسلية.
«ضعف عمرك تقريبًا، لكن هذا لا يمنع من خفض الكلفة بيننا.»
"حضرتك تبدين أصغر من عمرك" قلت محاولاً أن أصلح ما أفسدته وقاحتي.
"سأثق بك طالما أنني لا أعرف هيئتي" ردت بتلك الابتسامة المطفأة دوما.
«وبما أنني بل وبثته أصفر من عمري فيجدر بك إذن أن تخفض الكلفة بيننا.».
«كما تفضِلين يا آنسة كلارا»
لاحظت باهتمام يديها وهما تنفتحان على حضنها كالأجنحة، وخصرها الممشوق في ثنايا فستانها، لاحظت منحنى كتفيها، عنقها ناصع البياض وشفتيها المرسومتين على وجهها. ولكم تمنّيت أن ألمسها، فأنا لم أحظ بإمكانية النظر إلى امرأة قريبة إلى هذا الحد دون أن تراني مطلقا.
«إلام تنظر؟» سألتني كلارا بنبرة مخاتلة.
«يقول الدون جوستابو إنك خبيرة بخوليان كاراكس» ارتجلت إجابة
ما.
«العمّ قادر على أن يقول أي شيء شرط أن يقضي الوقت وحيدا وهو
يعاين كتابا أعجبه» ردت كلارا. «ولكنك ربما تتساءل كيف يمكن
لأعمى أن يكون خبيرا بالكتب مع أنه لا يستطيع قراءتها.»
«أقسم أنني لم أكن أفكر في هذا.»
«كم أنت بارع في صنع الأكاذيب، إذا أخذنا بالحسبان أنك لم تتم
الحادية عشرة من عمرك بعد. حذار أن تصبح مثل العم جوستابو.»
خشيت أن يزل لساني بكذبة أخرى فاقتصرت على البقاء ساكتا أتأملها بذهول.
«هيا. اقترب مني» قالت.
«ماذا؟»
« اقترب مني. لا تخف، لن آكلك»
نهضت من الكرسي واقتربت منها فمدت يدها اليمنى تبحث عني بإحساسها. مددت يدي إليها مترددا، فأخذتها باليسرى ووضعت فوقها اليمنى بكل هدوء. فأدركتُ حينها ماذا تريد ورفعتُ يديها نحو وجهي. كان لها ملمس دقيق ومرهف في الوقت نفسه. اكتشفتْ أصابعها عظام وجنتي، وبقيت جامدًا أحبس أنفاسي بينما كانت تفك طلاسم ملامحي وهي تبتسم راضية وتحرك شفتيها بخفة. تلمستْ اناملها جبيني وشعري وجفني واقتربت على مهل نحو فمي وهي تتبع ثنايا شفتي بالبنصر والسبابة. كانت رائحة القرفة تفوح من بين أصابعها، وقلبي يرفرف كالطير. لقد حمدت العناية الإلهية على غياب الشهود لأن اللهيب الذي كان يحرق خدي كاف لإشعال سيجارعلى بعد ذراع مني.
3
في ذلك العصر الحار الذي تساقطت فيه زخّات المطر، سلبت مني كلارا برسلوه النوم والقلب والأنفاس. طبعت يداها على وجهي، تحت ذلك الظل الذي يحوم في تلك الصالة، لعنة كادت تلاحقني إلى الأبد. وبينما كنت أتأملها منبهرا كالأطفال، روت لي قصتها وكيف التقت، عن طريق الصدفة هي الأخرى، بصفحات خوليان كاراركاس. حدث هذا في إحدى بدت البروفانس الفرنسية. فحالما اندلعت الحرب الأهلية أرسل والد كلارا، وهو محام المع ذو صلة بحكومة الرئيس كومبانيس، أرسل زوجته وابنته عند أخته التي تعيش في فرنسا. وقد قيل عنه حينها إنه يبالغ في حذره، فكان الجميع على يقين بأن برشلونه سوف تكون في معزل عن تلك الأحداث وبأن البربرية في إسبانيا، مهد الحضارة المسيحية، محصورة في حركة الأناركيين2 الذين لن يؤثروا كثيرا طالما أنهم يمتطون دراجات هوائية ويرتدون ثيابا رثة. وكان والد كلارا يقول إن الأمم لا تنظر إلى نفسها في المرآة، ولاسيما إذا أرادت خوض حرب ما. كان هذا المحامي يعرف التاريخ جيدا ويعرف أن المستقبل يقرأ بوضوح في الشوارع والمصانع وثكنات الجيش أكثر مما يقرأ على صفحات الجرائد. ظل يراسل عائلته كل أسبوع من مكتبه الواقع في شارع ديبوتاثيون في بادئ الأمر، ثم راح يمحو عنوانه كي يتوارى عن الأنظار. وفي النهاية راسلهم من إحدى زنازين سجن قلعة مونتويك مثلما انتهى الأمر بالكثيرين، ومثلهم أيضا لم يره أحد وهويدخل هناك ولا وهو يخرج بعدها إلى الأبد. كانت والدة كلارا تقرأ تلك الرسائل بصوت مرتفع وهي تشهق وتتخطى بعض المقاطع كي لا تزيد في قلب الفتاة لوعة. لكن كلارا كانت تقنع ابنة عمتها كلاوديت، في وقت متأخر حوالي منتصف الليل، بأن تعيد عليها قراءة الرسائل. هكذا كانت تزاول القراءة، بأن تستعيرعيون الآخرين. لم يرها أحد تذرف دمعة أبدا، لا حين توقفت رسائل المحامي عن الوصول ولا حين بدا أن أخبار الحرب تنبئ بحدوث الأسوأ. «كان أبي على علم بما سيجري» قالت. «ظل قريبا من أصدقائه بدافع الواجب ثم قتل لأنه كان وفيا لمن خانه في اللحظة الحرجة. لا تثق بأحد يا دانيال، خصوصا بأولئك الذين يعجبونكي. سيكونون أول من يطعنك غدرا.»
بينما كانت كلارا تبوح بتلك الكلمات بقسوة تشكلت عبر سنوات من الألم المكبوت، كنت أتوه في نظراتها التي تشبه الدمية الخزفية، وأضيع في تيْنك العينين اللتين لا تدمعان، وأصغي إليها تحدّثني عن أمور لم أكن لأفهمها. كانت تصف أشخاصًا وأجواءً وأشياء لم ترها يوما بدقة خالصة وتفاصيل غنية لا يوازيها إلا الرسامون الفلامنديون. كانت لغتها مصبوغة بشتى الألوان، وذكرياتها كنسيج شفاف تحيكه برنة الأصوات ووقع الخطى. وضحت لي بأنها كانت تدرس في أيام المنفى الفرنسي رفقة ابنة عمتها كلاوديت عند معلم خصوصي يناهز الخمسين عاما، عاشق للنبيذ المعتق وله مطامح أدبية. ويزعم بأنه يحفظ إنياذة فرجيل عن ظهر قلب، باللاتينية ودون أي أثر للهجة.
كانت الفتاتان تسميانه روكفورت3 نسبة إلى الرائحة الكريهة التي تنبعث منه رغم حمّام الكولونيا وباقي العطورات التي يرشها على جسمه المترهل. وكان السيد ركفورت معتدا بسلوكه الرفيع رغم بعض مسلماته الغريبة (من بينها يقينه التام بأن اللحوم المقددة، لاسيّما أمعاء الخنزير المملحة التي تصل إلى كلارا وأمها من أقاربهما الإسبانيين، بمثابة الدواء الشافي لأمراض المفاصل والدورة الدموية). كان يقصد باريس مرة في الشهر منذ أيام شبابه لينمّي آفاقه الأدبية بالاطلاع على جديد الأدب وزيارة المتاحف، ويشاع أنه كان يضاجع مومسنا هناك يسميها مدام بوفاري مع أنها تدعى هورتينس التي يملأ الزغب وجهها. وأثناء تلك النزهات الثقافية، كان السيد روكفورت يشبع فضوله على إحدى عربات باعة الكتب المتجولين قبالة كنيسة نوتردام حيث وقعت بين يديه رواية لكاتب مغمور يدعى خوليان كاراكس، في إحدى أمسيات العام 1929. حصل روكفورت على الكتاب وقد جذبه العنوان وذلك لأنه اعتاد على قراءات خفيفة يقضي بها رحلة العودة في القطار. كان عنوان الرواية "المنزل الأحمر" وعلى غلافها الخلفي ثمت صورة للكاتب غائمة المعالم، لعلّها صورة فوتوغرافية أورسم بورتريه على الفحم. وبحسب النبذة عن المؤلف فإن خوليان كاراكس كان يبلغ السابعة والعشرين من عمره، ولد في برشلونة في أوائل القرن ثم انتقل إلى باريس، يكتب بالفرنسية ويحصل على قوت يومه بالعزف على البيانو في أحد بيوت الدعارة. كان هذا التقديم، ذو الأسلوب المسهب وفقا لمفاهيم ذلك العصر، يبرز عملا أدبيا استثنائيا لمؤلف متعدد المواهب، ويكشف عن كاتب واعد في مستقبل الآداب الأوروبية دون أي مجال للمقارنة بينه وبين الأدباء الأحياء حينئذ. والملخص يوحي بأجواء غريبة وغامضة وشخصيات شبيهة بأبطال الروايات المسلسلة، وهذا ما بدا على قدر من الأهمية بالنسبة إلى السيد روكفورت الذي كان يفضل أدب الإثارة والتشويق بقدر ولعه بالمؤلفات الكلاسيكية الكبرى.
تتحدث رواية "المنزل الأحمر" عن شخص غريب الأطوار يسرق الدمى من المتاحف ومحلات لعب الأطفال ثم يفقأ عينيها ويحملها معه إلى كوخه المظلم الموحش على إحدى ضفاف نهر السين. وفي إحدى الليالي يدخل إلى منزل فاخر لواحد من كبار الشخصيات الاقتصادية يقع في حي فوا. كان صاحب المنزل قد اغتنى بنشاطات غير مشروعة أثناء الثورة الصناعية، وأراد اللص أن يحطم الدمى التي جمعها ذلك الرجل بشغف كبير. فتقع ابنته في غرام اللص، وهي سيدة مثقفة وراقية من الطبقة الباريسية النبيلة. وخلال قصة حبهما التي تشوبها احداث معقدة وشائكة، تكتشف البطلة اللغز الخفي وراء إقدام البطل الغامض الذي لا تعرف اسمه على فقء عيون الدمى. تتسارع المجريات حتى تكتشف الفتاة السر الفظيع الذي يدفع والدها على اقتناء تلك الدمى الخزفية فتخرّ ميتة في نهاية تراجيدية رومانسية ومرعبة على الطريقة الأدبية القوطية. كان السيد روكفورت يعرف اسم دار النشر المتواضعة التي أصدرت الرواية، والتي اشتهرت، على نطاق ضيق، بإصدار كتب لتعليم الطبخ والتطريز والفنون المنزلية الأخرى. كيف لا وهو المنظر الأدبي الذي لا يشق له غبار، والفخور بكونه صاحب أكبر عدد من رسائل الرفض التي رد بها الناشرون الباريسيون على أعماله الشعرية والنثرية. أخبره بائع الكتب المتجول أن تلك الرواية كان قد صدرت لتوها ولم تحظ إلا بقراءة أو اثنتين في زاوية فرعية على صفحة الوفيات في إحدى المجلات الريفية. هاجم النقاد الرواية بعنف لا يتجاوز السطرين ونصحوا الكاتب الغرّ بأن يلتفت لعمله كعازف بيانو لأنه كاتب نكرة. أما السيد روكفورت الذي كان سخي العواطف فقد قرر أن يستغني عن نصف فرنك ليشتري رواية كاراكس وطبعة فاخرة لإحدى روايات فلويير العظيم الذي لطالما اعتبر نفسه خليفته المظلوم. كان القطار المتوجه إلى ليون مكتظا بالمسافرين، وهو ما أرغم السيد روكفورت على مشاطرة المقصورة في الفئة الثانية مع اثنتين من الراهبات. وما إن انطلقت القافلة من محطة أوسترلتز حتى بدأتا بالتمتمة وإطلاق نظرات الإعجاب. وهذا ما جعل السيد روكفورت يخرج رواية كاراكس من حقيبته ليختبئ وراء صفحاتها وينأى بنفسه عن تغزل الراهبتين به. وسرعان ما تفاجأ بأنه، بعد مائة كيلومتر من الرحلة، كان قد انعزل تماما عن الراهبتين وحشرجة القطار والمنظر الطبيعي الذي يمرّ عبر النافذة مثل كابوس قض مضجع أحد الأخوين لوميير. بل قرأ خلال الليل كله غير آبه بشخير الراهبتين ولا بالوقوف على المحطات الغارقة في الضباب. وطلع الفجر حالما أدار روكفورت الصفحة الأخيرة ولاحظ أن عينيه تغرورقان بالدموع وقلبه أسير الحسد والإعجاب. وفي يوم الاثنين نفسه، هاتف دار النشر الباريسية كي يستفسر عن الكاتب. ألحّ طويلا قبل أن يحصل على إجابة سفيهة من صوت سيدة مصابة بالربو. قالت تلك الموظفة إن السيد كاراكس لم يترك لديها أي عنوان وإن الناشر قد قطع علاقته به إذ أن مجمل مبيعات رواية "المنزل الأحمر" لم يتجاوز سبعة وسبعين نسخة اقتنتها العاهرات على أغلب الظن وزبائن بيت الدعارة حيث يدندن الكاتب المقطوعات الليلية البولونية. فيما أرسلت النسخ التي لم يشترها أحد إلى مزبلة الورق لإعادة تدويرها وتحويلها إلى كتيبات دينية وبطاقات يانصيب ومخالفات مرورية. أعجب السيد روكفورت بالحظ العاثر الذي مني به ذلك الكاتب الغامض، فما كان منه إلاً البحث في كل محلاًت الكتب المستعملة عن أعمال كاراكس الأخرى في كل رحلة إلى باريس خلال السنوات العشر اللاحقة. ولكن هيهات، لم يعثر على شيء. لم يكن أحد يعرف شيئا يذكر عن الكاتب. رأى بعضهم أن كاراكس كان قد أصدر بعض الروايات الأخرى، من دور نشر صغرى أيضا وبنسبة تداول ضئيلة جدا. وكان من شبه المستحيل العثور على تلك الروايات. لقد قال له أحد الباعة ذات يوم إن رواية لكاراكس بعنوان «لص الكاتدرائيات» كانت قد مرّت بين يديه في الماضي لكنه ليس متأكذا تماما. وفي نهاية العام 1935 بلغ خبر إلى مسامع روكفورت يفيد بأن رواية جديدة لكاراكس بعنوان «ظل الريح» قد صدرت للتو من دار نشر صغيرة في باريس. وسرعان ما راسل الناشر ليحصل على عدة نسخ لكنه لم يستلم أية إجابة. وفي مطلع صيف العام اللاحق، سأله صديقه القديم بائع الكتب على عربة عند نهر السين إن كان ما يزال مهتما بكاراكس. فأجابه بأنه لم يستسلم أبدا، إذ باتت مسألة شرف: كلما أصر العالم على دفن كاراكس في النسيان ازداد تصميما على بعث الروح فيه ثانية. فأخبره صديقه بشيوع بعض الأقاويل عن كاراكس منذ عدة أسابيع تنبئ بأن الحياة قد ابتسمت أخيرا في وجه الكاتب. إذ كان سيتزوج من سيدة ميسورة الحال وقد صدر له كتاب بعد سنوات من العزلة حاز على قراءة إيجابية في صفحات اللوموند. ولكن ما إن بدا أن الحظ السعيد وقف في صفه حتى دُعي كاراكس إلى مبارزة في مقبرة بيرلاشيز. كانت التفاصيل متضاربة، والمؤكد أن المبارزة قد وقعت في فجر يوم زواجه وأن العريس لم يأت إلى الكنيسة قطعا. وتضاربت التخمينات أيضا. تكهن بعضهم أن المبارزة أدت إلى مصرع كاراكس وأنه دفن في قبر دون شاهدة، بينما توقع أكثرهم تفاؤلا بأنه أقحم نفسه في عمل قذر اضطره إلى هجر عروسته عند مذبح الكنيسة ليفر من باريس عائدا إلى برشلونة. لم يعثر أحد على ذلك القبر دون الشاهدة وبعد حين شاعت حكاية أخرى تُفيد بأن البؤس والتعاسة المصيرية لحقا به إلى مسقط رأسه ليموت هناك، وهذا ما دعى بنات بيت المتعة، حيث كان يعزف، إلى لم بعض النقود كي يدفعن له ثمن قبر يليق به. ولكن المبلغ وصل إلى برشلونة متأخرا وكانت الجثة قد دفنت في حفرة جماعية تضم جثث الشحاذين والغرقى المجهولين عند المرفأ والميتين جوعا على سلالم الميترو.
ومع هذا لم يستطع روكفورت العنيد أن ينسى خوليان كاراكس.فبعد عشرة أعوام من اكتشافه له المنزل الأحمر، قرر أن يعير الرواية لتلميذتيه الشابتين آملا أن يجذبهما بهذا الكتاب الغريب إلى حب القراءة. وكانت كلارا وكلاوديت في سن الخامسة عشرة يمران بأعتى العواصف الهرمونية ويتحسسان من أي مغازلة تمطر على نوافذ الغرفة التي يدرسان فيها. ورغم مساعي المعلم الخصوصي، فقد حاولت الفتاتان حتى تلك اللحظة أن تبقيا محصنتين بتأثير الكلاسيكيات وحكايات إيسوب وأشعار دانتي الخالدة. ولأنه خشي من إمكانية تخلي والدة كلارا عن خدماته حين تكتشف أن دروسه كانت مفيدة في تكريس الجهل والغباء في رأس الشابتين لا غير، فقد قرّر إذن أن يعيرهما رواية كاراكس قائلا بأنها قصة حب من النوع الذي يشغل العيون بالبكاء. وكان محقا في هذا نسبيا.
4
«لم يحدث أبدا أن رواية سحرتني وجذبتني وحركت مشاعري كما فعلت بي رواية لمنزل الأحمر» قالت لي كلارا. "لطالما اعتبرت القراءة واجبا أو صدقة تمنح للأساتذة والمعلمين دون أن نعرف سببها الحقيقي. كنت أجهل طبيعة المتعة التي تهبنا إياها الكلمة المكتوبة، المتعة في ولوج أسرار الروح والاستسلام لنزوات الخيال وألغاز الإبداع الأدبي. أعترف بأن لتلك الرواية الفضل في هذه الاكتشافات. هل سبق وأن قبلت فتاة يا دانيال؟»
صعقني السؤال وانعقد لساني. «حسنا. لا أنكر أنك مازلت صغيرا، لكن الإحساس مشابه لما مررت به. ومثلما لا يمكن للذاكرة أن تنسى لهيب القبلة الأولى، فإن الخلود هومصير الرعشة التي تنتابنا من متعة القراءة. نحن نعيش في عالم من الظلال يا دانيال، والخيال من الخيرات النادرة. لقد علّمني ذلك الكتاب أن القراءة تمنحني فرصة العيش بكثافة أكبر وأنني قادرة على الإبصار بفضلها. وهذا ما يفسر كيف غير حياتي كتاب اعتبره الأخرون بلا جدوى.»
لم أستطع أن أقول شيئا إذ كنت أرزح تحت رحمة ذلك المخلوق الذي يفتني بصوته فلا أقوى عليه ولا أريد أن أقاوم سحره. بل وددلك ألاً تكف كلارا عن الكلام لكي أبقى أسيرا لصوتها، وألاً يعود عمّها أبدا كي لا يبدد لحظة الإغراء تلك التي شعرت بأنها لي وحدي. «بحثت لسنوات عن كتب أخرى لخوليان كاراكس» تابعت كلارا. كنت أقصد المكتبات وباعة الكتب والمدارس دون جدوى. ما من أحد سمع بالكاتب ومؤلفاته ولم يكن بوسعي أن أصدّق هذا. وذات يوم وصلث إلى مسامع السيد روكفورت إشاعة مفادها أن شخصا ما كان يجول بين المكتبات بحثا عن أعمال كاراكس، فإن وجدها إما اشتراها أو حصل عليها بعنف أو سرقها وذلك كله لكي يحرقها وحسب. لم يكن أحد يعرف من هو ولماذا يفعل هكذا، كأن شخصية كاراكس ينقصها غموض جديد يضاف إلى سيرته الغامضة أصلا. وبعدها بزمن قصير، أصاب المرض والدتي فقررت العودة إلى إسبانيا، إلى دارها وعالمها في برشلونة. وكنت أقتات في سريّ على الأمل في اكتشاف أي شيء عن كاراكس بما أنه ولد هنا واختفى من هنا مع بداية الحرب. باءت محاولاتي بالفشل رغم مساعدات عمي وجهوده. حتى محاولات أمي بالبحث باءت بالفشل أيضا. إبان عودتها لم تجد برشلونة التي كانت تعرفها، لقد تحولت إلى مدينة أشباح وفي كل زاوية وشارع يتراءى لها ظل أبي. ثم قصدتْ أحدهم كي تعرف كيف مات وكأنها لم تكن تعاني ذكراه بما فيه الكفاية. وبعد أشهر من البحث عثر المحقق على ساعة يد والدي المحطمة فقط، كما عرف اسم الرجل الذي قتله في دهاليز قلعة مونتويك. يدعى فوميرو، خافيير فوميرو.
قالوا لنا إن هذا الرجل، وكان عدد أمثاله لا يحصى، بدأ يتسلق سلمه الوظيفي كقاتل مأجور لصالح الحركة الأناركية اللاسلطوية ثم راح يتعامل مع الانفصاليين والشيوعيين والفاشيين ويبيع خدماته القذرة لمن يقدّم عرضا ماديا أكبر. وبعد سقوط برشلونة انحاز إلى جانب المنتصرين ودخل في سلك الشرطة. واليوم أصبح محققا معروفا وعُلقت على صدره النياشين. وأما والدي فلا يذكره أحد. ولك أن تتخيل كيف توفيت والدتي حسرة في غضون أشهر قصيرة. وقال الأطباء إن قلبها لم يكن يحتمل أي أعباء وأظن أنهم كانوا محقين ولو لمرة واحدة. وبعد وفاتها انتقلتُ للعيش عند العم جوستابو إذ كان قريبنا الوحيد في برشلونة. كنت أكن له المودة لأنه كان يهديني الكتب في كل مرة يأتي خلالها لزيارتنا. وأثناء هذه السنوات غدا عائلتي وصديقي المفضّل. قد يبدو متعجرفا لكنه ودود، يقرأ علي شيئا ما كل مساء حتى لواشتدّ عليه النعاس.
« بوسعي أن أقرأ عليك أنا إن أحببت» اقترحتُ وسرعان ما ندمت على جسارتي لأنني ظننت أن صحبتي ستزعجها أو أن تعتبرها حكاية مضحكة تتسلى بها مع صديقاتها.
"من دواعي سروري. شكرا يا دانيال" أجابتني.
"إنني بخدمتك متى أردت" أومأتُ بخجل وأنا أبحث عن نفسي في ابتسامتها.
«لم تعد عندي تلك النسخة من رواية «المنزل الأحمر لسوء الحظ» قالت. «لم يشأ السيد روكفورت أن يتخلى عنها. لعلني قادرة على روايتها للك بإيجاز ولكنها ستبدو شبيهة بوصف كاتدرائية بأنها جمع من الصخور يقوم على نسق هرمي.»
«إنني واثق من أنك قادرة على إيجازها بأفضل من هذا بكثير» غمغمتُ.
بإمكان النساء أن يدركن على الفور ما إذا كان أحد الذكور متيما بهن ولاسيما إذا كان قاصرا أحمق. كانت المقدمات كافية لكي تهملني كلارا برسلوه كليا، غير أنني توهمت بأن العمى قد يضمن لي هامشا آمنا أتحرك فيه. خلت أن تعلقي الرومانسي بامرأة تكبرني ضعف عمري وتفوقتي ذكاء وطول قامة قد يمر دون أن تلحظه عين أحد. ومن يدري ما الذي وجدته في لكي تمنحني صداقتها، ربما كنت انعكاسا جليا لنفسيتها أو صدى يؤنس ظلمة وحدتها. كانت المراهقة تمن علي بالأحلام لأرى أننا عاشقان نمتطي ظهر كتاب ونهرب نحو عالم خيالي مبني على ركام أوهام مستعملة.
ظهر برسلوه ثانية بابتسامة مخادعة بعد ساعتين مرّتا علي كأنها دقيقتان. أعاد لي الكتاب وهو يغمز. "تفخصه جيدا أيها الفتى. لا أريدك أن تتهمني بأنني استبدلته بكتاب آخر"
«إنني أثق بك يا سيدي.» «أحسنت أيها الماكر! تصوّر أن سائحا أمريكيا كان آخر ضحية وقعت بين براثني. كان مقتنعا بأن ال"فابادا" طبق ابتكره همنغواي للاحتفال بالقديس فيرمين. فاحتلتُ عليه وبعته نسخة من كوميديا فوينتيه أوبيخونا"4 بعد أن جلدتها بعناية وزعمت بأنها مُمضاةٌ من لوبي دي فيغا بقلم حبر جاف. اعلمْ أن في مهنة بيع الكتب لا يمكنك الوثوق حتى بالفهارس. »
كان قد حل الظلام حين خرجنا إلى الشارع. هب نسيم بارد فنزع برسلوه سترته ووضعها على كتفي كلارا. وقبل أن أنصرف، وبحيادية ىمطلقة جدّدت عرضي بالمجيء إلى بيتهم في اليوم التالي كي أقرأ على كلارا بعض الفصول من «ظل الريح». رمقني برسلوه بنظرة غائرة وافتعل ضحكة قصيرة. «أراك متحمسا يا فتى !» تمتم بصوت منخفض ونبرة محترمة.
«إن لم يكن بإمكاني المجيء في الغد، فبوسعي المرور في يوم آخر أو...»
«إنها كلارا من عليه ان يقرر» قال بائع الكتب. "لدينا سبع قطط وببغاوان. ماذا يضير لوزادت هذه الحيوانات واحدًا؟"
«سأنتظرك غدا حوالي السابعة إذن" أنهت كلارا النقاش. "هل تعرف أين بيتنا؟".
5
في طفولتي المبكرة، كنت أحلم بأن أصبح كاتبا وبأن أعيش كبطل قصة ميلودرامية مثيرة، ربما لانني نشات بين الكتب وباعتها. إلا ان هذه التخيلات الصبيانية كان مردّها الأساسي تحفة مصنوعة يدويا ومعروضة للبيع في أحد محلات حي أنسيلموكلافيه خلف مبنى الحكومة العسكرية تماما. وكان هذا الغرض الذي يجذبني عبارة عن قلم حبر أسود سائل في غاية الروعة مزوّق بالزخارف الباهرة، ويتألق من خلف زجاج المحل كالمجوهرات التي تشع على التاج. وكنت أرى ذلك القلم أعجوبة في حدّ ذاته، أراه أشبه بدوّامة فنية تهتاج بنسيج من الذهب والفضة متقن الحياكة ولا تضاهي بريقه سوى منارة الإسكندرية. وعندما كنت أخرج للنزهة مع والدي، لم يكن يهدأ لي بال إلا إذا أخذني لرؤية القلم الذي كان ملكا لإمبراطور ما على حدّ قوله، وكنت في سرّي واثقا من أن تلك المعجزة قادرة على كتابة أي شيء، من رواية إلى موسوعة ورسائل ليست في حاجة إلى ساعي بريد. كنتُ بريئا إلى درجة الاعتقاد بأن أي رسالة تكتب بذلك القلم سوف تصل إلى وجهتها لا محالة حتى لوكانت الوجهة ذلك المكان البعيد حيث توجد أمي مثلما يزعم والدي.
وذات يوم قررنا أن ندخل المحل لنكتشف أن القلم من أفخر النوعيات بلا منازع، مونتبلانك مينسترستوك النادر، وصاحبه، على ذمة البائع، فيكتور هوغو تحديدا. أخبرنا بأن من هذا القلم الذهبي تدفقت رواية «البؤساء».
«تماما كما تنبثق مياه الفيشي الكتالونية من ينابيع الكالداس» أضاف.
قال لنا إنه حصل عليه من أحد الباريسيين المولعين بجمع المقتنيات الفاخرة، بعدما تأكد من أنه أصلي.
«وهلا أعلمتنا بسعر هذا الينبوع العجيب من فضلك؟» سأله والدي.
جحظت عيناي عندما سمعت بالرقم ولكنني كنت قد همت حبا به وقضي الأمر. ولعل البائع ظن أنه يتعامل مع اثنين من العلماء، فراح يمدنا بمعلومات لم نكن لنفهمها عن الخيوط المعدنية باهظة الثمن وأصباغ الشرق الأقصى، ثم أخذ يشرح لنا نظرية ثورية في عالم السدادات والأواني المستطرقة وعناصر أخرى من ذلك الفن التوتوني الغابر، الفن الذي يسمح لتلك الأعجوبة التقنية بأن تعبّر عن خطها المذهل. والحق يقال إن البائع، ورغم مظهرنا البائس، ملأ القلم بالحبر وسمح لي بكتابة اسمي على الرّق. وهكذا افتتحت سيرتي الأدبية التي لا تقل أهمية عن سيرة فيكتور هوغو. وبعد أن لمع تلك التحفة بقطعة قماش أعادها إلى عرشها المشرّف.
«ربما نعود لاحقا» غمغم والدي.
وحين خرجنا قال لي إن وضعنا المادي لا يسمح لنا بشراء القلم، فعائدات المكتبة تكاد لا تكفي معيشتنا ودفع أقساط المدرسة. وبذلك كان التأجيل مصير قلم فيكتور هوغو العظيم. لم أنبس ببنت شفة لكن خيبة الامل المريرة لاحت على وجهي.
« سنفعل هكذا» اقترح والدي "حين تشرع بالكتابة، نعود إلى هنا ونشتريه"
«فلنفترض أنهم باعوه خلال هذا الوقت»
"لن يشتريه احد. كن مطمئنا. ولو حدث ذلك سنتطلب من الدون فيديريكو أن يصنع لنا واحدا مشابها. أنت تعلم أن لذلك الرجل الموهوب يدين سحريتين، أليس كذلك؟"
كان الدون فيديريكو ساعاتي الحي وزبونا عرضيا لمكتبتنا وواحدا من أكثر الأشخاص لطفا وتهذيبا في غرب الكرة الأرضية. وكانت شهرته كحرفي ماهر تمتد من حي ريبيرا حتى سوق نينوت. كما كان ينعم بسمعة من نوع آخر، أقل شأنا بكثير، تعود إلى ولعه الذي لم يستطع كبته بالشبان شديدي العزم من البروليتاريا الرثة، وميوله التي تجنح به ليرتدي ثيابا كثياب المغنية إيستريلا كاسترو.
«وإن كان الدون فيديريكو منشغلا بما هو أهم من صناعة قلم؟"
تجهم وجه والدي، ربما لأنه خشي أن تكون أقاويل الناس قد وصلت إلى اذني البريئتين. «الدون فيديريكو مطلع على كل المنتجات الألمانية، ولو أراد لصنع لك سيارة فولكس فاجن أيضا. ثم إنّ لي فضولاً كبيرًا بمعرفة وجود أقلام الحبر السائل أصلاً خلال أيام فيكتور هوغو. هنالك الكثير من النصابين حولنا يا دانيال.»
تأثرت باعتراضات والدي لأنه برّرها من زاوية تاريخية. إلأ أنني لم أعترض على فكرة أن يصنع الدون فيديريكو قلما مشابها رغم إيماني العميق بأسطورة القلم الأصلي. وكان الوقتُ ما يزال لدي لمنافسة فيكتور هوغو. وكما أسلف والدي، فإن القلم العريق ظل لأعوام خلف زجاج المحل وكنا نذهب كي نراه كل صباح يوم سبت.
«ما يزال هناك» كنت أهتف مندهشا.
«ما يزال ينتظرك» كان والدي يجيبني. «كما لو أنه يعرف بأنه سيصبح ملكا لك في يوم من الأيام وستكتب به رائعة أدبية.»
«أنا أريد أن أكتب رسالة لأمي كي لا تشعر بالوحدة.»
"أمك ليست وحدها يا دانيال" يرد والدي هادىء الأعصاب. «إنها برفقة الله وتعلم بأننا قريبان منها حتى لو لم نكن نراها.»
لقد كانت النظرية نفسها للأب فيثنتي، وهو معلمٌ يسوعيٌّ عجوز في مدرستي قادر على تفسير أي سرّ غامض في هذا الكون، من المذياع إلى ألم الأسنان، بذكر آيات من إنجيل متى. ولكن هذه الحقائق لم تكن تقنعني جدا حين تخرج من فم والدي.
"ولماذا يريدها الله أن تكون عنده؟"
«لست أدري لماذا. سوف نسأله عن هذا إذا التقينا به يوما ما.»
تخليت عن فكرة الرسالة في نهاية المطاف، وفكرت أن لحظة تأليف الرائعة الأدبية قد حانت. أعارني والدي قلم رصاص ستيدلر2 ورحت أخربش به على أحد الدفاتر، نظرا إلى عدم وجود قلم حبر. وللمفارقة، كان بطل قضتي قلم حبرٍ فاخرًا يشبه إلى حد بعيد ذالك الذي كان في المحل. وتعيش في القلم العجيب روح صاحبه السابق، وقد كان كاتبا مات بردا وجوعا. وحين وصل القلم إلى يد أحد المبتدئين، انصبت منه على الأوراق آخر مؤلفات الكاتب، تلك التي لم يستطع أن يتمّها وهو حي. لم أعد أذكر من أين اقتبست الفكرة، لكنها كانت الفكرة الأكثر لمعانا في حياتي كلها. ومع هذا، كان الفشل ينتظر جميع محاولاتي بتكوين شكل معين للقصة. كنت ضحية العجز في الإبداع، إذ استخدمت أسلوبا ومجازات شبيهة بدعايات حمّام الأقدام التي كنت أقرؤها عند مواقف الترام. كنت ألقي اللوم على قلم الرصاص وأتوق إلى ذالك القلم الذي كان من شانه أن يحولني إلى كاتب كبير. وكان والدي يتابع جهودي بمزيج من الفخر والقلق.
|«كيف حال قصتك يا دانيال؟»
«لا أعرف. لواشتريت ذلك القلم لتغير كل شيء.»
كان يقول لي إنني أفكر كأديب في بداية عهده.
«عليك أن تستمر في الكتابة وحالما تجهز القصة سوف أشتري لك القلم.»
«هل تعدني بذلك؟»
فيجيبني بابتسامة. ولحسن حظه أن تطلعاتي الأدبية لم تدم وقتا طويلا واقتصرت على طموحات عامة، ولعل السبب يكمن في أنني اكتشفت لعب الأطفال التركيبية والمتنوعة في سوق لوس إنكانتيس وبأسعار تناسب ميزانيتنا. إن الشغف الذي يرافق الطفولة يشبه عاشقة غدارة ومتقلبة الأهواء، فسرعان ما احتلّني الولع بتركيب القوارب الصغيرة وكففت عن تذكير والدي بأن يصحبني لرؤية القلم وكف هو عن ذكره أيضا. ومن جهة أخرى نقشتُ في مخيلتي صورة عن أبي: رجل هزيل يلبس رداء قديما وطويلا وقبعة مستعملة اشتراها من حي كوندال بسبعة بيزيتا، ولا يستطيع أن يهدي ابنه قلما خارقا للعادة وعديم الجدوى بالمقابل.
في ذلك المساء كان ينتظرني وهو جالس في صالة الغداء بمزاجه المضطرب كالعادة. «كدت أظن أنك تهت» قال. "جاء توماس آغويلار يبحث عنك. هل نسيت أنه كان بانتظارك اليوم؟» «برسلوه رجل ثرثار» بررت تأخري. «حاولت عبثا أن أقول له بأنني مشغول وعلي الرحيل.»
«يبدو مملا في بعض الأحيان، لكنه شخص رائع. لابد أنك جائع. لقد أحضرت مرسيديتاس قليلا من الحساء الذي أعدّته لأمها. يا لها من شابة طيبة حقا.»
جلسنا لنأكل من صدقات مرسيديتاس، ابنة جارتنا في الطابق الثالث. كان الجميع يتوقع أن تصبح هذه الفتاة راهبة أو قديسة، ولكنني رأيتها في أكثر من مناسبة وهي تخنق بقبلاتها بحّارا مخاتلا كان يرافقها حتى باب البناية أحيانا.
«أراك منشغل البال» قال والدي.
«ربما بسبب الرطوبة التي توسع الدماغ كما يدّعي برسلوه.»
«لا أعتقد ذلك. ما الأمر يا دانيال؟»
«لا شيء. كنت أفكر في موضوع ما.»
«ما هو؟»
«كنت أفكر في الحرب.»
هز أبي برأسه وتابع طعامه. كان رجلا هادئا ولم يكن يتحدث في الماضي مع أنه يعيش على ذكرياته. وأنا نشأت على اقتناع بأن الكآبة التي رسختها الحرب، إضافة إلى البؤس والآلام المكتومة، من الأشياء الطبيعية تماما كتعاقب الفصول. بل وكنت مقتنعا بأن التعاسة التي تقطر من الجدران تعبر عن روح المدينة الجريحة. من إحدى مكائد الطفولة أنك لا تفهم بالضرورة ما تعانيه، وحين تبلغ سن الرشد يفوت الأوان على مداواة جراحك. في ذلك المساء من الصيف، وفي غروب برشلوني لا يوثق فيه، فكرت بكلام كلارا عن مصرع والدها. كنت في ذهني البريء أتخيل الموت كأنه يدٌ لشخص مجهول ومباغت، كمندوب مبيعات يقتحم البيوت فيخطف الأمهات والمتسولين والجيران الطاعنين في السن كأنه في دورة يانصيب جهنمية. كم بذلت جهدا كي أتقبل فكرة أن الموت يمشي إلى جانبي، وله وجهُ رجل وقلب مسمّمٌ بالحقد، وكيف يرتدي بزة أو سترة مطرية ويقف في الصف كي يدخل السينما ويتردد إلى البارات، ويتنزه في الصباح مع أولاده في حديقة ثويداديلا، فيما يغيّب شخصا ما عند المساء في إحدى زنازين قلعة مونتويك أو في حفرة جماعية دون شاهدةولا جنازة. خطر في بالي أن هذا الكون الذي أعيش فيه قد لا يكون في النهاية سوى واجهة من ورق مقوى. كانت تلك السنوات تمضي ببطء ثقيل، بل إن نهاية الطفولة مثل القطارات الوطنية تصل عندما تصل. أكلنا ذلك الحساء من بقايا الطعام مع قليل من الخبز، بينما كانت همهمات مسرحية إذاعية تصدر من نافذة الجيران المطلة على ساحة الكنيسة.
«وكيف كان لقاؤك مع الدون جوستابو؟»
«تعرفت إلى قريبته كلارا.»
«الفتاة العمياء؟ يقال إنها جميلة جدا.»
«ربما. لم أنتبه إلى ذلك.»
«هذا أفضل.»
«غدا بعد المدرسة علي أن أذهب إليهم كي أقرأ عليها شيئا ما وأجالسها لبعض الوقت، إن سمحت لي بذلك.»
رنا إلي والدي بنظرة تخفي تساؤلا عمّا إذا كان هو الذي يشيخ قبل الأوان أم أن ابنه يكبر بسرعة. قررت أن أغيّر الموضوع، فما خطر في بالي إلا ما كان يشتعل في سريرتي.
«هل صحيح أنهم أثناء الحرب كانوا يقتادون الناس إلى قلعة مونتويك ثم لا يعرف مصير أي أحد منهم؟»
"هل أخبرك برسلوه بذلك؟" سأل بنبرة جدية.
«لا. بل صديقي توماس. يروي بعض القصص الغريبة بين الحين والاخر.»
هز والدي رأسه ببطء.
"في الحروب تحدث أشياء فظيعة للغاية يصعب شرحها يا دانيال. من الأفضل أحيانا الأنحفر في الماضي."
تنهد وأنهى حساءه على مضض فيما كنت أراقبه بصمت.
« طلبت مني والدتك، قبل أن تتوفى، بأن أعاهدها على عدم الحديث معك عن الحرب. ينبغي ألأ أخبرك بأي شيء ممّا مضى.»
لم أعرف كيف أردّ عليه. رأيته يرفع عينيه إلى السماء كأنه يبحث عن شيء ما في الفراغ، نظرة توحي بسكوت والدتي الراضية عن كلامه.
«ربما أخطأتُ في أنني عاهدتها على ذلك. لا أدري.»
«لا يهم يا أبتي.»
«بل إنه يهمّ يا دانيال. كل شيء يتغير بعد الحرب، وصحيح أن الكثير من الناس دخلوا إلى تلك القلعة ولم يخرجوا منها أبدا.»
تلاقت نظراتنا لوهلة ثم نهض والدي عن الطاولة وذهب إلى غرفته وقد جرحته أظفار النسيان الذي امتدّ طويلا، نظفت الطاولة وغسلت الأطباق على المغسلة الصغيرة في المطبخ. وعدت إلى الصالة، أطفأت الضوء وجلست على أريكة والدي القديمة حين هبّت نسائم خفيفة حرّكت الستائر. لم يغالبني النعاس ولم تكن لي رغبة في النوم، فأطلت من الشرفة ونظرت صوب أضواء بويرتادل أنخل (باب الملاك). هنالك ملامح رجل ثابتة في سياق من الظل. كان لمعان جمرة السيجارة ينعكس في عينيه، ويرتدي لباساً غامقا وإحدى يديه في جيب السترة والأخرى تحمل السيجارة التي ترسم شبكة من الدخان المائل إلى الزرقة على جانب من وجهه. كان يراقبني وقد حجبه ارتداد الضوء، وظل واقفا حوالي الدقيقة على قدميه وهو يدخن ويركز نظراته علي. وما إن دقت نواقيس الكاتدرائية منذرة بمنتصف الليل حتى ثنى رأسه بخفة وأوماً بتحية تلمح بابتسامة خفية. وددت أن أبادله التحية لكنني كنتك متسمّرا من الخوف. وبينما كان الرجل يبتعد رأيت أنه كان يعرج قليلا. فضاقت أنفاسي وتصبب العرق البارد على جبيني. كنت قد قرأت توصيفا لمشهد مثل هذا في رواية «ظل الريح»: يخرج البطل إلى الشرفة كل ليلة عند منتصف الليل، ويلاحظ أنه مراقب من رجل مجهول يدخن في الظلام وعيناه تلمعان كجمرتين. يبقى الرجل هنالك قليلا ويده اليمنى في جيب سترته السوداء، ثم يغادر وهو يعرج. قد تكون الشخصية الغامضة، في المشهد الذي عشته حقا، واحدا من المسرنمين لا غير، أما في رواية كاراكس فكان الرجل المجهول هو الشيطان.
6
لولا انشغالي بموعد كلارا الذي مهد لنوم هانئ لما تيقنت أن ما رأيته مجرد صدفة عابرة. وربما لم تكن تلك الرؤى سوى تنبيه على التحول المنشود الذي يرتقي بي إلى مرحلة الشباب متقد العنفوان في أضعف الاحتمالات كما تؤكد جاراتنا. في تمام السابعة مساء وجدتني واقفا على عتبة منزل الدون جوستابو برسلوه، مرتديا أفضل ما عندي من ثياب ومستحما بعطر فاروون داندي الذي سرقته من والدي. فأنا على عتبات مستقبلي الأدبي كمندوب قراءات ومرافق للأميرات. وكان بائع الكتب وقريبته يسكنان في الطابق الاول من بناية في الساحة الملكية بلازا ريال. استقبلتني خادمة ترتدي زي المئزر والقبعة، تشبه الجندي إلى حدّ ما. قابلتني باحترام وقالت بنبرة متكلفة ولهجة كاثيراس الفظيعة:
«لابد أن حضرتك السيد دانيال. إنني برناردا، في خدمتك.» اصطحبتني إلى الداخل بلباقة واحتراف رفيع لمهنتها. كانت الشقة التي تشغل الطابق الأول كله متعددة الممرات والصالات والشرفات الفسيحة حتى بدت لي، وأنا المعتاد على بيتنا المتواضع، كنسخة مصغّرة عن متحف الايسكوريال. كما بدا واضحا أن الدون جوستابو مولع بجمع التماثيل واللوحات الفنية والدينية وحتى النباتات والحيوانات، ناهيك عن الكتب والمخطوطات العريقة وأي نوع من المنشورات النادرة. تبعتُ برناردا مرورا بإيوان مليء بالنباتات المورقة والأزاهير الاستوائية يبدو كحقل زراعي حقيقيّ تتسلل من ثناياه أضواء مزركشة، وفي أجوائه تطوف أنغام بيانو واهنة الوقع. كانت الخادمة تتقدم بين الأوراق الكثيفة وتحرك ذراعيها كمنجل في يدي فلاح صبور. وأنا كنت أتبعها وأنظر حولي، رأيت نحو ست قطط وببغاوين كبيرين تخطف ألوانهما الأبصار، وقالت لي الخادمة إن برسلوه أسماهما أورتيغا وغاسيت. وجدتُ معذبتي بانتظاري في صالة عند حدود تلك الغابة الاصطناعية، ترتدي فستانا ضبابيا من قطن سماوي وتجلس قبالة بيانو تحت نور قنديل خافت. كان في أدائها شذوذ عن اللحن وخطأ في الوزن لكنني أعجبت حقا بتلك السيريناد التي عزفتها. بدت كلارا كإحدى التجليات السماوية بابتسامها المثيرة ورأسها المحني وظهرها المنتصب. ولم يكن من داع أن أقول أو أفعل أي شيء لإثبات وجودي، إذ سبقني شذى العطر بالتعبير عن غايتي. لذا توقفتْ عن العزف وابتسمت بحياء.
"لوهلة ظننت أنك العم جوستابو" قالت. «لقد منعني من عزف أي مقطوعة لمومبو لأنني أشوهها كليا.»
كنت أعرف شخصا واحدا يدعى بهذا الاسم وهو الراهب النحيل الذي يعاني من حموضة في المعدة ويدرّسنا الفيزياء والكيمياء، فبدا لي الربط بينه وبين الموسيقى في غاية الغرابة. «أعتقد بأنك تجيدين العزف حقا.» صرّحت لها.
«كلا. العم جوستابو مهووس بالموسيقى وقد وجد لي أستاذا كي يتحسن عزفي. وهو مؤلف موسيقي شاب وواعد. يدعى أدريان نيري، درس في باريس وفيينا. ينبغي أن أعرفك عليه. إنه الآن مشغول بتأليف سيمفونية لأوركسترا مدينة برشلونة، بما أن عمّه يعمل في المجلس الإداري. إنه عبقري حقا.»
«من العبقري؟ هو أم عمه؟»
«لا تهزاً يا دانيال. سوف ترى كم يعجبك.»
أجل، بل يعجبني ان أرى آلاته الموسيقية تسقط من الطابق السابع" قلت في سري.
«هل ترغب في تناول شيء ما؟» اقترحت كلارا. «برناردا تحضّر أشهى بسكويت بنكهة القرفة.»
أكلْنا مثل الباشاوات كل خيرات اللّه التي حضرتها الخادمة. لم أكن أعرف كيفية التصرف في لحظات كهذه، لكن كلارا وقد قرأت ما يجول في خاطري طلبت مني قراءة «ظل الريح» على الفور.
وانطلقتُ في قراءة ثانية بشغف كبير لتلك الرواية مع أنني حاولت أن أقلد أصوات الممثلين وهم يلقون الهتافات الوطنية على راديو ناثيونال. واطمأن صوتي بعد أن كان متشنجا في بداية الأمر. ونسيت أنني كنت ألقي الرواية لأنني سحرت ثانية بها فوقعت في سكتات مفاجئة ولعثمات بسبب شرودي في بعض الدلالات التي فاتتني في القراءة الأولى. كأن الرواية تجلت تحت ضوء جديد مثل بناء تشكيلي يمكن ملاحظته من زوايا مختلفة. قرأت خمسة فصول حتى جف حلقي ورن رقاص الساعة أربع أو خمس مرات كأنه أراد أن يذكرني بتأخر الوقت. أغلقتُ الكتاب ونظرت إليها فوجدتها تبتسم مرتاحة البال.
"تذكّرني بالمنزل الأحمر، نوعا ما" علقت. "لكن القصة أقل وحشة"
«لا تنخدعي بالبدايات» قلت. «سوف تتعقد الأمور تباعا.»
«عليك أن تذهب، أليس كذلك؟» سألتني.
«أخشى أنه حان الوقت. لو رجع الأمر إلي لبقيت ولكن...»
«بإمكانك المجيء غدا إن لم تكن مشغولا» اقترحت كلارا.
«ولكنني لا أريد أن الهيك عن...»
"في السادسة مساء، ما رأيك؟ هكذا يكون لدينا وقت أطول."
وقع هذا اللقاء في صيف العام 1945، وكان الأول من سلسلة طويلة استمرت حتى السنوات اللاحقة. بعد بضعة أسابيع بات وجودي في شقة برسلوه حدثا يوميا باستثناء الثلاثاء والخميس حين تجري كلارا دروس الموسيقى مع ذلك الشخص، أدريان نيري. كنت أمضي ساعات طويلة في ذلك المنزل، وتعرفت على كل غرفة وممر ونبتة من غابة الدون جوستابو. شغلتنا رواية «ظل الريح» مدة أسبوعين، ولم يكن من الصعب العثور على شيء نقرؤه، إذ كان لدى برسلوه مكتبة حائط مذهلة. رحت أقرأ عليها من الأدباء الكلاسيكيين قليلي الأهمية وبعض الأعمال التافهة نظرا إلى عدم وجود روايات أخرى لكاراكس. وفي بعض الأمسيات كنا نفضل الدردشة أو التنزه في الساحة أو المشي حتى الكاتدرائية. وكانت كلارا تعشق الإصغاء إلى غمغمات الناس في ساحة الدير وأصداء وقع الخطى في الأزقة المبلطة. وتطلب مني أن أصف لها الأبنية والأشخاص والسيارات وواجهات المحلات والسوق والأضواء. وغالبا ما كانت ترفق ذراعها بذراعي فأقودها في برشلونة السرية التي لم يكن أحد غيرنا ليراها. وكنا نتوقف دوما لنتذوق القشدة المحلاة ورغوة الشوكولاطة في إحدى محلات شارع بيتريكسول. ولطالما كنا هدفا لفضول الناس، وحدث أكثر من مرة أن يحسبها الخادم «أختي الكبرى». ولكنني لم أعر اهتماما لمن يلمح أويفتعل خفة الدم. وفي بعض الأحيان كانت كلارا تبوح لي بأمور في غاية الغرابة، ولا أعلم إن كان مردّ هذا لتأجج العواطف أم لرغبة في الغنج. حدثتني مرارا عن رجل له صوت أجش يقترب منها أحيانا عندما تكون وحدها خارج البيت. كان ذلك المجهول يوجّه لها أسئلة عن الدون جوستابو وعني أيضا. وذات مرة تلمس عنقها. كانت هذه الخصوصيات الحميمة تنزل بي العذاب المرير. إذ أعلمتنني كلارا ذات يوم أنها طلبت منه أن تتلمس وجهه. فظل الرجل في سكوت ظنت انه علامة قبول. ولكن ما إن دنت بيدها على وجهه حتى ابعدها عنه، إلا أنها استطاعت أن تشعر بجلد جاف يحف أناملها الرقيقة.
«كأن له قناعا من جلد» كانت تقول لي.
«قناع من جلد. يا لخصوبة خيالك يا كلارا.»
لكنها كانت تقسم وتحلف بأن إحساسها حقيقي وأنا كنت أصدّقها ويشتعل قلبي غيظا من هذا الغريب الذي يلمس عنقها الطويل في حين لم أكن لأتجرّأ على فعل ذلك. لو أنني تمعنت في الأمر قليلا لأدركتُ أن هيامي المطلق كان نبعا من الألم لا ينضب، وربما كنت أعشقها لأنني أتعذب في الغرام لا غير، أتعذب لأكون أنموذجا خالدا لتلك المقولة السخيفة: «العاشق يلهث خلف من يعذبه». وطوال عطلة الصيف كنت أفكر بحرقة في ذلك اليوم الذي أعود فيه إلى المدرسة ولا أخصص كل وقتي لها.
وكانت برناردا تتمتع بحس أمومي دافي رغم هيئتها الحادة، ودخلت إلى قلبها لكثرة ما رأتني وقررت أن تتبناني على طريقتها.
«واضح من على بعد ميل أن هذا الولد قد فقد أمه» كانت تقول
لبرسلوه. «إنني أشفق عليه كثيرا. كم هو مسكين.»
كانت قد وصلت إلى برشلونة بعد انتهاء الحرب بقليل، هربا من الشقاء ومن أب ظالم يعنفها ويشتمها وينعتها بالبليدة عندما لا يرغب في جرّها إلى حظيرة الخنازير ليتحرش بها وهو سكران حتى تنفجر في البكاء من شدة الخوف فيتركها وهويصرخ بأنها منافقة غبية مثل أمها. رآها برسلوه خلف بسطة لبيع الفواكه في سوق بورني وعرض عليها العمل كخادمة منزلية دون أن يفكر مرتين في الأمر.
"سيحدث كما جرى في مسرحية بجماليون" قال.«أنت ستكونين
إليزا الخاصة بي وأنا البروفسور هيجنز.»
نظرت إليه برناردا باستغراب وهي التي كان نهمها للقراءة لا يتعدى تصفح المجلات المصورة.
"ربما كنك فقيرة وجاهلة، لكنني امرأة مخلصة ووفية" ردّت عليه.
والحق أن برسلوه لم يكن على مستوى جورج برنارد شو تماما لكنه نجح في تعليم تلك اليتيمة أسلوبا راقيا ولغة رفيعة لتبدو سيّدة قادمة من الضواحي وذلك رغم فشل مساعيه في تزويدها بخطابة مانويل آزانيا5 المغرية. كان عمرها ثمانية وعشرين عاما ولكنها تبدو أكبر من سنها بعشرة أعوام. وكانت مؤمنة جدا ولديها هوس في التقوى والتضرع لعذراء مدينة لورد الفرنسية، تذهب للصلاة في كنيسة سانتا ماريا دل مار كل صباح عند الثامنة، وتعترف ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل. وهذا ما يستغربه الدون جوستابو الذي يصرّح بأنه من اللاأدريين (أو مصاب بمرض تنفسي كالربو ولكن بنسخة معدّة للأغنياء، بحسب برناردا) فكان يعتبر حاجة الخادمة إلى كل هذا الغفران أمرًا مستحيلا من ناحية حسابية. "قلبك أطيب من رغيف الخبز يا برناردا" كان يقول مستاء. «إن من يرى الحرام في كل مكان له روح مريضة، وبصراحة أكبر، لديه مشاكل معوية. وبالفعل فإن كل القديسين الإيبيريين كانوا يعانون من إمسالك مزمن.»
وحالما تسمع برناردا هذا التجديف الفظيع حتى تتعوذ بإشارة الصليب خمس مرات. ثم تصلي قبل أن تغفو ليغفر الرب زلات السيد برسلوه. فهو رجل طيب وقلبه من ذهب ولكنه اضاع عقله من كثرة القراءة، مثلما حدث لسانشوبانزا. ومن حين لآخر كانت تخرج مع أحد الشبان الذين كانوا، على اختلاف أسمائهم، يضربونها ويسرقونها ثم يهجرونها، حتى تقوقعت برناردا على نفسها وانعزلت في غرفتها تنوح لأيام بأكملها وهي تهدد بأن تنتحر بسم الفئران أو مبيض الغسيل. وبعد أن جرّب برسلوه كل الوسائل لإقناعها بالخروج، خشي عليها ونادى الحداد ليخلع الباب، وطبيبه الخاص ليزودها بدواء مهدى. وحين استفاقت المسكينة
بعد يومين رأت بائع الكتب يهديها الأزهار وحبات الشوكولاطة والثياب الجديدة ويأخذها إلى السينما لتشاهد كاري جرانت الذي تعتبره أوسم رجل في العالم، بعد أنطونيوبريمو دي ريفيرا. ويقال إن كاري جرانت له ميول جنسية شنيعة، همهمت وهي تأكل حبة شوكولاطة. «هل هذا صحيح؟»
"أباطيل" قال الحكيم برسلوه. «إن الكذابين في خانة الأغبياء، يموتون من الحسد.»
"ما أجمل طريقة كلامك يا سيدي. من الواضح أنك درست في جامعة السلمون"
"السوربون، السوربون" يصحح لها عن طيب خاطر.
من الصعب ألا يكن المرء المودة لبرناردا. كانت تهم بالطبخ دون أن يطلب منها أحد ذلك. كانت تطبخ لي أيضا، وترتب ملابسي وتلمّع حذائي وتقص شعري وتشتري لي الفيتامينات ومعجون الأسنان. وذات مرة أهدتني قلادة وكرة زجاجية مليئة بماء مدينة لورد المقدسة، جلبته أختها التي حجّت إلى سان أدريان دل بيزوس بالحافلة، على بعد بضعة أميال من برشلونة. وبينما كانت تنظف شعري بحثا عن القمل أو الطفيليات كانت تحدثني بصوت هامس.
«الآنسة كلارا فتاة أصيلة، وعسى أن أموت قبل أن أهتكُ غيابها بالنميمة. ولكن من الأفضل يا سيدي ألا تعلق نفسك بالأوهام. لا اعلم إن كان كلامي واضحا.»
«كوني مطمئنة يا برناردا. نحن صديقان ليس إلا.»
« ممتاز.» ولكي تدعم نظريتها روت لي خرافة عن غلام وقع في الخطيئة حين هام غراما بمعلمته، ثم نزل عليه العذاب وتساقط شعره وتكسرت أسنانه وانطبعت البقع المقززة على وجهه ويديه الشبيهتين بعضات الشهوة.
"والشهوة من الخطايا السبع المميتة" أنهت برناردا موعظتها. "خذ مني الحق"
إلا أن الدون جوستابو، رغم استهزائه المبطن، كان يجد صحبتي مع كلارا أمرا جيدا ويعجبه دوري كوصيفة. وكنت أعزو تسامحه معي لأنه أمن جانبي أغلب الظن. وبين الحين والآخر يلمح عن عرض مغر لرواية كاراكس، ويقول بأنه ناقش بعض باعة الكتب النادرة الذين يوافقونه الرأي بأن كتاب كاراكس أثمن من ورقة يانصيب رابحة وخصوصا لو بيع في فرنسا. كنت أرفض فيكتفي بابتسامة المرء الذي يصل دوما إلى مناله وقتما يشاء. أعطاني نسخة عن مفاتيح بيته كي أستطيع الدخول والخروج دون الرجوع إليه أو إلى برناردا. أما والدي فلم تكن الأمور تجري معه على قدم وساق هكذا. مع مرور السنين استطاع أن يتجاوز قلقه الفطري في مواجهة المواضيع الشائكة ومن إحدى نتائج هذا التغير كان عدم رضاه الواضح عن علاقتي مع كلارا.
«يجدر بك أن تخرج مع فتيان بعمرك، مثل توماس أغويلار، وليس مع امرأة في سن الزواج.»
«وما أهمية فرق العمر إن كنا مجرد أصدقاء؟» أزعجني كثيرا أنه لمح إلى توماس، لأننا لم نعد نخرج سويا منذ أشهر بعد أن كنا لا نفترق في السابق. رمقني والدي بنظرة تأنيب.
«يا دانيال أنت لا تعرف شيئا عن النساء، وتلك تلهو معك كما القطة مع الفأر.»
"أنت الذي لا يعرف شيئا عن النساء" أجبته باستياء شديد.
«ولا أي شيء عن كلارا.» لم تكن المشادات بيننا تذهب أبعد من تبادل نظرات التنديد. كنت أساعده في المحل عندما لا أكون في المدرسة أو مع كلارا، أرتب المجلدات في المستودع، أسلم الطلبيات، أستعجل العمولات وأبيع الزبائن المعتادين. فكان يشتكي بأنني لا أضع جل التزامي وشغفي في العمل، وكنت أرد أنني أقضي حياتي في تلك المكتبة ولم اكن افهم ما الذي يدعوه للملامة. وفي الأمسيات التي لا يغلبني خلالها النعاس كنت أتحسرعلى عالمنا الصغير الحميم اللاحق لوفاة والدتي، وسنوات اللهفة لقلم فيكتور هوغو والألعاب التركيبية. كنت أذكر تلك الحقبة على أنها كئيبة ورمادية وبدأت تتبدد في اليوم الذي أخذني فيه إلى مقبرة الكتب المنسية. وعندما اكتشف والدي أنني أهديت كتاب كاراكس لكلارا استشاط غضبا وغيظا.
«لقد خيبت أملي يا دانيال» قال: «كنت تعرف الشروط حين اخترت ذلك الكتاب. كنت تعرف أنه شيء فريد والتزمت بالعناية به والحفاظ عليه طوال الحياة»
«كان عمري عشرة أعوام حينها يا أبي وقد بدالي الأمر لعبة، شيئا ما يناسب الأطفال.»
نظر إلي كأنني طعنته غدرا.
«والآن عمرك أربعة عشر عاما ولست طفلا فقط، بل مازلت طفلا مغرورا وتحسب نفسك رجلا. سوف تعاقبك الحياة يا دانيال. وفي القريب العاجل أيضا.»
كنت أحبذ لوكان حانقا لأنني أقضي أكثر الوقت عند برسلوه في عالم مخملي لا يجرؤ حتى على تصوّره. وظننت أنه متأسف بأن خادمة برسلوه تؤدي دور والدتي فيما كان يشعر بالإهانة لأنني وعدته بشيء ثم خذلته. ذات مرة، بينما كنت غارقا في المستودع الخلفي وأنا أحضر الطرود للتسليم، سمعت أحد الزبائن يمازح والدي.
«سيمبيري يا صديقي عليك أن تجد امرأة صالحة، وخصوصا الآن وقد أزهرت أرامل الحرب في ربيع أعمارهن. إنك تفهمني بالمحصلة. امرأة طيبة كما ينبغي، تغيّر حياتك يا صديقي وتعيدك شابا فتيا. لا يستطيع فعل هذا إلا نهد ناعم فقط».
لم يكن أبي يرد بأية كلمة على تلك الترهات ولكنني كنت أجدها نصائح مهمة في كل يوم يمضي. ذات مرة على العشاء الذي لطالما بدا مبارزة لتبادل النظرات الصامتة، قررت أن أطرح الموضوع. كان والدي رجلا وسيما أنيقا ويعتني بمظهره وكنت أتوقع أن أكثر من امرأة في حيّنا وضعت عينها عليه.
«بالنسبة إليك كان استبدال الوالدة أمرا سهلا » قال بمرارة. «لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلي ولاسيما أنني لا أنوي البحث عن امرأة.»
مع مرور الوقت نالت تنويهات أبي وبرناردا، وحتى برسلوه، ما تصبو إليه: هاتفني صوت في داخلي بأنني وضعت نفسي في مأزق حرج دون مخرج منه، أما كلارا فسأظل أصغرها بعشرة أعوام. وقد بات وجودي قربها والشعور بأناملها على وجهي والتنزه معا ذراعا على ذراع أمرا غير مقبول. بدأت أحس بألم ملموس كلما وجدت نفسي قريبا منها. وكانت هي أكثر الذين انتبهوا للموضوع.
«علينا أن نتحدث يا دانيال» قالت لي. «ربما لم أكن واضحة معك...»
لم أكن أسمح لها بأن تكمل حديثها أبدا، بل أسارع بالخروج من الغرفة بعد ارتجال بعض الأعذار وألوذ بالفرار. كنت أشعر بأنني أركض عكس الزمن وأدرك أن العالم الوردي الذي بنيته حول كلارا كان يتهاوى شيئا فشيئا، وأن تلك المرحلة من حياتي باتت في نهاياتها. ولكنني لم أكن أتخيل ولوللحظة بأن عذاباتي كانت قد بدأت لتوها.
الأسى والصديق: 1950-1952
7
في عيد ميلادي السادس عشر وضعتُ قيد التطبيق أسوأ خطة فكرت فيها في حياتي حتى ذلك اليوم. إذ أنني قررت، على مسؤوليتي الشخصية، أن أنظم حفل عشاء كي أدعو إليه برسلوه وبرناردا وكلارا. وحاول والدي أن يقنعني بالعدول عن ذلك.
«إنه عيد ميلادي» أجبته بفظاظة.
«إنني أعمل لأجلك كل يوم. كل يوم. دعني أقوم بما أحب لمرة واحدة على الأقل.»
«افعل كما يحلو لك.»
في الأشهر السابقة وصلت علاقتي الغامضة بكلارا إلى حدّ في غاية التعقيد. لم أعد أقرأ عليها شيئا، وكانت تطرق كل السبل كي لا أختلي بها. فكلما ذهبت إليها وجدت عمّها يتظاهر بتصفح جريدة ما أو تتجلى برناردا من العدم إما لتعمل حولنا وإما لتستجويني. وفي أحيان أخرى أجدها محاطة بصديقاتها العفيفات اللواتي كنت أسميهن بالشريفات. كن مدججات بالكتيبات الدينية لحراسة كلارا ويصوّبن سهام نظراتهن إلي كتعبير واضح عن استيائهن لوجودي في ذلك البيت، كأنني عار على كلارا والعالم برمّته. ولكن وجود أستاذ الموسيقى صاحب السيمفونية الملعونة التي لم تنجز بعد، كان من أكثر الحاضرين إزعاجا بالنسبة إلي. إذ كان متعجرفا بهندامه مفرط الأناقة ويظن نفسه خليفة لموزارت، بينما كان يذكرني بكارلوس جاردل بالأحرى لكثرة ما يلمع جلده بالعطور والدهون. وإضافة لذلك كان يبدو لي أن العبقرية لم تمنحه سوى جوانبها السيئة. فكان يتملق للدون جوستابوبشكل وقح ومكشوف ويتغزل ببرناردا في المطبخ وهي تتضاحك بغنج لأنه يهديها حلوى اللوز ويطبطب على مؤخرتها. بمعنى آخر، كنت أكرهه بكل احترام، وكان شعور الاحتقار متبادلا. كان يصل بكل ما أوتي من عنجهية، حاملاً مدوّناته الموسيقية فيعاملني وكأنني خادم، ويصطنع أي حجة ليتخلص مني.
«هل أنهيت واجباتك المدرسية يا ولد»؟ ”وهل أتممت السيمفونية يا مايسترو؟»
كان يقضي على وجودي بسبب أو بآخر، فأتراجع مقهورا مطأطأ الرأس ومتمنيا لو كانت لدى ملكة الدون جوستابو في الخطابة كى أرد على ذلك الدعيّ.
في يوم ميلادي اشترى والدي أشهى قوالب الحلوى من الفرّان ورتب المائدة بأفخر الأدوات الفضية. أشعل الشموع وحضر ما كان يفترض أنها أطباقي المفضلة. ولم نتجاذب أطراف الحديث طوال اليوم. وحينما أقبل المساء دخل إلى غرفته وارتدى أكثر ثيابه أناقة ثم ظهر وهو يحمل علبة ووضعها على الطاولة. هديتي. جلس وصبّ كأسا من النبيذ الأبيض وراح ينتظر. كانت الدعوة عند الثامنة والنصف، وانقضت ساعة ومازلنا بانتظار المدعوين. كان والدي يراقبني بحزن عميق دون أن يقول شيئا. أما أنا فكنت في ثورة من الغضب.
«ألست راضيا؟» قلت. «ألم تجر الأمور كما أردت؟»
"كلا".
وصلت برناردا حوالي العاشرة بكآبة جنائزية تلوح على وجهها. سلمتني رسالة من كلارا: كانت تتمنى لي أطيب الأمنيات، ولسوء حظها أنها لا تستطيع تلبية الدعوة إلى العشاء وحفل عيد الميلاد. السيد برسلوه كان خارج المدينة لالتزامات في العمل وكلارا غيرت موعد درس الموسيقى مع الأستاذ نيري. أما برناردا فجاءت لأن عطلتها في اليوم التالي.
«كلارا مشغولة في درس الموسيقى؟» سألتها مستغربا.
أخفضت برناردا عينيها وأعطتني علبة صغيرة ثم قبّلت خدي وكادت تهم بالبكاء.
«بوسعك أن تغيّر الهدية إن لم تعجبك» قالت.
بقيت وحيدا برفقة والدي أنظر إلى تلك المائدة العامرة بأدوات من الفضة والشموع وهي تذوب بهدوء.
"يؤسفني ما حصل يا دانيال" تمتم والدي فأومأت معبّرا عن عدم اكتراثي.
«ألا تفتح الهدية التي أتيتك بها؟» سألني.
فأجبته بصفع باب البيت. ركضت على السلالم وخرجت إلى الطريق البارد الخالي، والأضواء الزرقاء تكاد لا تقوى على إنارته، لاحظت أنني أسدّ سيلا من دموع الغضب. كان قلبي ينبض بالغيظ وقد أغشى الضباب على بصري. هممت بالمشي دون أن ألحظ الشخص الذي كان يراقبني وهو واقف عند بويرتا دل أنخل. كان يرتدي ثيابا غامقة اللون ويده اليمنى في جيب السترة وعيناه تلمعان على جمر السيجارة الواهنة، ويطاردني وهو يعرج. وبعد أن تسكعت قليلا وجدت نفسي عند تمثال كريستوفر كولومبس فجلست على المدرجات الغاطسة في مياه الميناء الكدرة، قرب منصة الزوارق السياحية. لابدّ أن أحدهم قد نظم جولة ليلية إذ لاحت الأضواء المتناثرة من البعيد ومعها بعض الأصداء والضحكات. تذكرت حين كان والدي يأخذني حتى حاجز الأمواج كي نرى مقبرة تلة مونتويك، مدينة الأموات الشاسعة. وكنت في بعض الأحيان ألوّح بيدي تحية إلى أمي ظنا مني أنها ما تزال تعيش هناك وترانا نمرّ بها، فيقلدني والدي. انقضت سنوات طويلة منذ آخر مرة ركبنا فيه زورق الفولوندرينا لكنني كنت أعلم أنه كان يركبها بمفرده من حين لآخر.
«يا لها من ليلة مثالية للتحسر على الماضي يا دانيال» انبثق صوت من الظلمات. «هل ترغب بسيجارة؟»
نهضت مرتعشا على حين غرة، فرأيت يدا تخرج من العتمة لتعطيني سيجارة.
«من أنت يا سيدي؟» تقدّم المجهول خطوة إلى الأمام دون أن تظهر تقاسيم وجهه التي غشيتها سحابة من دخان السيجارة المائل إلى الزرقة. عرفت الرداء الأسود واليد المغموسة في جيب السترة، وكانت عيناه تشعان كجواهر الكريستال.
«إنني صديق» قال: «أو أطمح أن أكون كذلك على الأقل. هل تريد سيجارة؟»
«لا أدخن.»
«أحسنت. ولكن لسوء الحظ ليس عندي شيء آخر أعرضه عليك يا دانيال. »
كان يتحدث بصوت أجش ونبرة مجرّحة، ولكلماته رنين طفيف وبحّة قديمة تذكرني بأقراص المذياع الأثرية التي كان برسلوه يتلهف لجمعها.
«كيف عرفت اسمي؟»
«أعرف عنك الكثير من الأمور، والاسم هو أقلها أهمية.»
«وماذا تعرف غير ذلك؟»
«بوسعي أن أجعلك تحمرّ خجلا ولكن ليس لدي الوقت ولا الرغبة في إثارة هذه الأمور. عليك أن تعلم بأنك تحتفظ بغرض يخضني. وإنني مستعد لدفع أي مبلغ تفكر فيه.»
«لدي انطباع بأنك أخطأت الشخص.»
«أنا لا أخطئ الشخص أبدا. ربما ارتكبت أخطاء في أشياء أخرى، أعترف بذلك. ولكنني لا أخطئ الشخص أبدا. كم تريد؟»
"بم"؟
بـ«ظل الريح»
«وفيم يقينك أنها عندي؟»
«لا تتحايل علي يا دانيال، إنها مسألة ثمن فقط. أعرف جيدا أن الرواية عندك، لقد بلغني ما يقوله الناس»
"لابدّ أنه سوء فهم إذن. ليس عندي ذلك الكتاب، ولن أبيعه إن كان عندي. »
«كم أنا معجب بمنطقك ولاسيما في عالم يغص بالمنافقين والمتسلقين. ولكن هذه الحيل لا تنطلي علي. كم تريد؟ خمسة آلاف بيزيتا؟ النقود لا تهمّني. حدّد أنت السعر»
«سبق وأعلمتك أن الكتاب ليس للبيع، وليس عندي.» أجبته. «أكرر على مسامعك: لقد أخطأت.»
ظل المجهول ساكنا لا يتحرك، يطوّقه دخان سيجارة لا تنطفئ. لم تكن ثيابه مشبعة برائحة التبغ، بل برائحة الورق المحروق، ورق من أجود الأنواع، كالذي يستخدم في صنع الكتب. "لعلّك أنت الذي أخطأ" قال معترضا.
"هل تهددني؟"
«ربما.»
ابتلعت ريقا، كان الجزع ينهش كبريائي الذي أظهرته ضد ذلك الشخص. «هل لي أن أعرف لماذا يهملك أمر ذلك الكتاب إلى هذا الحد؟»
«هذا شأني.»
«وشأني أنا أيضا طالما أنك تهددني كي أبيعك غرضا ليس عندي أساسا.»
«كم أراك ظريفا يا دانيال. قلبك صلد وذهنك متفتح. خمسة آلاف؟ هكذا تستطيع أن تشتري ما أردت من روائع الكتب، وليس كتلك الرواية السخيفة التي ترغم نفسك على إخفائها. هيا، خمسمة آلاف بيزيتا ونعود صديقين كالسابق.»
«أنا وأنت لسنا صديقين.»
«بل نحن كذلك لكننك لم تعر انتباها. وليس ذنبك فرأسك مشغول بمسائل عديدة، كصديقتلك كلارا مثلا. ومن لا يجن عشقا بامرأة مثلها؟»
تجمّد الدم في عروقي.
«وما الذي تعرفه عن كلارا؟»
«أكاد أجزم أنني أعرف عنها أكثر مما تعرف أنت. وأعتقد أنك تحسن صنعا لو نسيتها حتى لو أنني متيقن من أنك لن تقوى على ذلك. فأنا أيضا مررت بسن السادسة عشرة...» اجتاحني اليقين كجلد السوط. كان هذا المجهول هو الرجل الذي يقترب من كلارا في الطريق. كانت صادقة بقولها ولم تكن تكذب. اقترب الشخص، فتراجعت إلى الوراء إذ لم أخف في حياتي كلها مثل تلك اللحظة.
«الكتاب ليس عند كلارا، عليك أن تعرف هذا. وإياك أن تمسسها بسوء»
«لا تهمّني صديقتك في شيء يا دانيال. وسيأتيك يوم لا يهملك أمرها أيضا. أنا أريد الكتاب وأفضل أن أحصل عليه بالتي هي أحسن دون إيذاء أحد. واضح؟»
لم تسعفني أية فكرة مناسبة فكذبت كجبان خسيس. «الكتاب عند موسيقي يدعى أدريان نيري. هل يذكرك الاسم بشيء؟»
«لم أسمع به البتة وهذا أسوأ ما يمكن أن يقال عن موسيقي ما. أليس من صنع خيالك؟» «ليته كان كذلك.»
«حسنا. ما إن تلقاه قريبا ستسترد منه الكتاب. هذه الأمور محلولة بين الأصدقاء. أم أنك تفضل أن أسأل عنه كلارا؟»
هززت رأسي بانفعال شديد.
"سوف أتحدث مع نيري ولكنني أشك في أن يعيده إلي. لست على يقين حتى من أن الكتاب ما يزال عنده" قلت. «ولكن لماذا تريد ذلك الكتاب؟ لا تقل لي إنك تريد أن تقرأه فحسب.» «كلا. لقد حفظته عن ظهر قلب.»
«هل أنت مولع بجمع الكتب النادرة؟»
«فلنقل إنني كذلك.»
«هل لديك كتب أخرى لكاراكس؟»
«كان لدي في الماضي. إنني خبير بخوليان كاراكس وأطوف العالم بحثا عن رواياته.» «وماذا تفعل بها إن لم تكن تقرؤها؟»
أصدر المجهول حشرجة خفيفة، وأدركت بعد ثوان أنه كان يضحك. «شيء واحد ينبغي فعله يا دانيال» أجابني.
أخرج من جيبه علبة ثقاب وأخذ منها عودا وأشعله. فأضاءت الشعلة وجهه وبقيت متسمرا من الخوف، إذ كان وجهه بلا أنف ولا شفتين ولا جفنين. كان وجهه كقناع من جلد خشن وداكن كأن النيران قد أتلفت سماته. كان ذلك هو القناع الجاف الذي تلمسته كلارا بأناملها. «أحرقها». همس بصوت ونظرة تتقدان بالحقد والضغينة. أطفأت نسمة عابرة عود الثقاب فتبدّد وجهه في الظلام.
«سوف نلتقي ثانية يا دانيال. إنني لا أنسى الوجوه أبدا وأعتقد أن الأمر يصحّ عليك أيضا من بعد هذه الليلة» قال بثقة كبيرة. «إنني متأكد من أنك ستتخذ القرار الأسلم لك ولصديقتك كلارا، وستوضح المسألة مع نيري هذا الذي يبدو من اسمه أنه متعجرف. لن أثق به لو كنت محلّك.»
استدار الرجل دون أن يضيف شيئا، وقهقه حينما ابتلعه ظلام الميناء.
8
كانت السحب التي تضج بالكهرباء تتقدم بسرعة فائقة من جهة البحر. كنت أود أن أهمّ بالركض لتفادي مفاجأة تلك العاصفة، لكن كلمات ذلك الرجل كانت تنفجر في رأسي فثبطت من عزيمتي. نظرت إلى السماء. كانت الزوبعة تتسلل بين الغيوم كبقعة دم سوداء، وتغيّب وجه القمر وتغطي بمعطف الظلمات سطوح البنايات وواجهاتها. حاولت أن أهرول لكن الكآبة كبلت ساقي بأثقال فولاذية. لذتُ تحت سقيفة أحد الأكشاك كي أرتب أفكاري وأتخذ قرارًا ما. جاء دوي الرعد من جهة الميناء كزئير التنين فهز الأرض تحت قدمي. ثم انطفأت الأضواء وهي ترتعش كالشموع على الرصيف المليء ببرك الماء. أقفر الشارع من البشر، ولم تبق سوى بقبقة الأنابيب التي تصب المياه الأسنة في قنوات الصرف. كان ظلام الليل حالكا كالنفط والمطر كرذاذ البخار«ومن لا يجنّ عشقا بامرأة مثلها؟» صعدت ساحة الرامبلا راكضا وفي ذهني يجول خاطر واحد: كلارا. قالت برناردا إن برسلوه كان خارج المدينة ليتابع بعض الأعمال، وكانت هي تقضي ليلة إجازتها في بيت خالتها ريمي وبناتها في سان أدريان دل بيزوس. فقد كانت كلا ارا بمفردها في تلك الشقة الضخمة في بلازا ريال، تحت رحمة مجهول لا وجه له ولا اسم، مجهول يطوف المدينة الفارغة بنوايا خطيرة وغامضة. وبينما كنت أعدونحو بلازا ريال فكرت بندم شديد أنني وضعت كلارا في مرمى الخطر عندما أهديتها كتاب كاراكس. وصلت إلى تلك الساحة وأنا مبلل كليا. تحت أقواس حي فرناندو كانت هنالك ظلال مستترة تنزلق على الجدران. بعض المتسولين، لابأس فباب البناية مقفل. بحثت عن المفاتيح التي أعطاني إياها برسلوه وكنت أضعها مع مفاتيح بيتي. اقترب أحد الصعاليك ليطلب مني أن أسمح له بقضاء تلك الليلة القاسية في بهو البناية، فصفعت الباب في وجهه قبل أن ينهي جملته.
كان صعود السلالم مثل الهبوط في بئر من الظل، ينيره وميض البرق بين حين وآخر. تقدمت وأنا أتلمس الحيطان وكدت أتزحلق على العتبة الأخيرة. أمسكت السياج بشدة وبلغت الفناء. تحسست الجدران الرخامية الباردة والمتصلبة، ووجدت طيف المدخل الضخم والمقبض النحاسي. ثم بحثت عن القفل وأدخلت فيه المفتاح فانفتح الباب على مصراعيه. استقبلني انعكاس الضوء أزرق وهبوب محبب لهواء دافئ. كانت غرفة برناردا تقع في آخر الشقة قرب المطبخ. انطلقت نحو ذلك الاتجاه رغم معرفتي بأن الخادمة لم تكن هناك. طرقت على بابها وبما أن أحدا لم يرد تجرأت ودخلت. كانت غرفتها بسيطة: فراش كبير وخزانة خشبية عليها مرآة داكنة ودرج حشدت برناردا فوقه كتيبة من القديسين والقديسات وبعض اللوحات الدينية. أغلقت باب الغرفة واستدرت فكدت أموت بسكتة قلبية، إذ رأيت حوالي عشرة من العيون الزرقاء والمحمرة تتقدم نحوي من آخر الممر. كانت قطط برسلوه التي تعرفني ولا تعترض على وجودي، وسرعان ما وجدت نفسي محاطا بجوقة مواء مذعن. وحالما وجدت أن ثيابي المبللة لا تصدر الدفء ابتعدت عني.
أما غرفة كلارا فتقع في الطرف الآخر من الشقة، بجانب المكتبة وصالة الموسيقى. تبعتني خطى القطط الخافتة على طول الممر. كم بدت لي شقة برسلوه موحشة في تلك العتمة التي يمزقها البرق، بعدما كنت أعتبرها ملاذا آمنا وبيتا ثانيا. وصلت إلى الغرف التي تطل على الساحة ووجدت نفسي في غابة برسلوه. وبينما كنت أفتح منفذا بين الأغصان ساورني شك مؤرق: إذا دخل المجهول الذي لا وجه له إلى الشقة فلن يجد مكانا أفضل من هذه المزرعة ليدبر لي كمينا محكما فيها. بت أشتمّ رائحته تحوم حولي، ورقا محروقا. كلا. كلا. إنه تبغ بنكهة ما. انتابني الإعياء، إذ لم يكن أحد يدخن في ذلك البيت وغليون برسلوه، المطفأ دوما، كان مجرد لعبة سخيفة. البيانوكان مرفوعا. اجتزت الصالة وفتحت باب المكتبة. فانتابني شعور بالراحة من الضياء الذى ينفذ من الشرفة. وكانت الجدران، المطلية برفوف مليئة بالكتب، على شكل كروي تقع في عرش مركزه طاولة قراءة وأريكتان لماريشال مبجّل. كنت أعلم أن كلارا وضعت رواية كاراكس في إحدى الخزائن الزجاجية قرب قوس الشرفة، فاقتربت دون إحداث أية ضجة. إذ كنت أنوي استرداد الكتاب لتسليمه لذلك المجنون كي أغلق القضية. ولم يكن أحد ليدري بفقدان الكتاب سواي. كان كتاب كاراكس بانتظارى، كعادته، عند آخر الرفا. ضممته إلى صدري كانني أعانق صديقا قديما أوشكُ على خيانته. إنني غدار مثل يهوذا، قلت لنفسي. سأخرج خلسة هكذا كما دخلت. كنت سأحمل الكتاب معي وأختفي من حياة كلارا برسلوه إلى الأبد. خرجت من المكتبة ونظرت صوب غرفتها في آخر الممر. تخيلتها غافية على فراشها، وتخيلت أنني أداعب عنقها الطويل وأنني أكتشف برؤوس أصابعي ذلك الجسد الذي عذّبني طوال مراهقتي. كدت أمضي تاركا وراءي ستة أعوام من الوهم عندما سمعت بعض الغمغمات. ثمت صوت عميق يهمس ويضحك في غرفة كلارا. دنوت ببطء وأمسكتك بمقبض الباب، ويداي ترتعشان. لا رجوع عن هذه الخطوة. تشجعت أكثر وفتحت الباب.
9
كانت كلارا مستلقية على الغطاء الأبيض الذي يتلألأ تحت جسدها العاري كالحرير الناعم، ويدا الأستاذ نيري تداعب شفتيها وعنقها وصدرها. كانت عيناها المطفأتان تحدقان في السقف وجسمها يتلهف على هجمات يديه بين فخذيها الأبيضين المرتعشين. أناملها التي كانت تكتشف وجهي في ظلام المكتبة الجامعية، باتت حينها تتلمس مؤخرة الأستاذ التي تتصبب عرقا، وتغرس أظفارها في لحمه لتستجيب لشهوة متأججة غريزية. ضاقت أنفاسي وأنا أمعن النظر فيهما لأكثر من نصف دقيقة حتى حطت أنظار نيري علي بدهشة أتبعها بغضب ملتهب. توقف عن ممارسته وأنفاسه تعلو بشدة فيما تلتحم كلارا بجسد عشيقها وتلعق عنقه.
«ما بك؟» همسات. «علام توقفت؟» كانت عيناه تقدحان شررا.
«انتظري» تمتم. «سأعود على الفور.»
نهض نيري عن الفراش وهرع بسرعة نحوي. لم ألحظ مجيئه إلي لأنني لم أستطع أن أزيح نظري عنها، وهي تتصبب عرقا وتشهق وعظام صدرها ناتئة على جلدها ونهداها يتلظيان من المتعة. حملني الأستاذ من رقبتي إلى خارج الغرفة بيد واحدة. وفشلت في التخلص من قبضته رغم الهياج الذي قمت به، فكان يجرني على طول الممرات كأنني كيس قمامة. "سأكسر عظامك أيها الأحمق" استشاط غيظا. فتح الباب ورماني عند الفناء، ووقع مني كتاب كاراكس فأمسك به ورماه على وجهي.
«حذار أن أراك في هذا المكان أو يصل إلى مسامعي أنك اقتربت من كلارا في الطريق. أقسم أنني سأحطم وجهك وأرسلك إلى المستشفى، ولن تأخذني رأفة بصغر سنك» قال.
«هل فهمت»؟
نهضت بشق الأنفس، بعد أن تمزقت سترتي وأهينت كرامتي.
«كيف استطعت الدخول؟»
لم أحرّك ساكنا، فتنهد نيري وهز رأسه.
«أعطني المفتاح، هيا» صرخ.
«أي مفتاح؟» ضربني بكف يده فهويت على البساط. ونهضت مجددا بفم دام وطنين مزعج في أذني اليسرى كصفارة الشرطي. تلمست وجهي وانتبهت إلى الشرخ في شفتي حين رأيت خاتما يشع دما على بنصر الأستاذ.
«قلت لك هات المفتاح.»
«اذهب بدبرك إلى الجحيم.» بصقت.
لم أر جمع يده، لكنني شعرت باللكمة مثل هراوة تنقض على بطني. تجمعت على نفسي كدمية لا حول لها ولا قوة وتزحلقت على حافة الجدار. شدّني نيري من شعري إلى أعلى وغاص في جيوبي ليفتش كالمجنون عن المفتاح. فوقعت أرضا وأنا أمسك بطني بيدي وأتأوه من الألم والغضب ربما.
«قل لكلارا إنني...» صفع الباب في وجهي وبقيت في عمق الظلام. بحثت عن الكتاب وضممته إلي ثم نزلت السلالم مستندا إلى الحائط. وما إن صرت خارج البناية حتى تقيأت دمي وتنفست الصعداء. وجالت رياح الليل البارد في ثيابي المبللة والتهبت شفتي المشروخة. «هل أنت على ما يرام؟» سألني صوت ما في الظلام. كان الصعلوك الذي رفضت مساعدته قبل قليل.
طمأنته عني وأنا أشعر بالخجل الشديد. ثم قمت لأنصرف.
«انتظر حتى يتوقف المطر على الأقل» نصحني الصعلوك.
أسندني إليه بذراعه وقادني إلى زاوية تحت الأقواس حيث وضع صرته وكيسا مليئا بالثياب المتسخة.
«لدي نبيذ لابأس به. اشرب منه قليلا كي يدفئك. وقد يوقف النزيف في شفتيك أيضا.» شربت من القنينة التي أعطاني إياها. كان طعم النبيذ كالوقود الممزوج بالخل، لكن حرارة الكحول أرخت أعصابي وهدأت معدتي. وصلت بعض القطرات على الجرح واستطعت أن أرى النجوم في أسوأ ليلة من حياتي.
«لذيذ أليس كذلك؟» ابتسم المشرّد. «تحل بالصبر واشرب مزيدا، فهذا الخليط يحيي الموتى.»
«لا شكرا. تفضل.» غمغمت.
شرب الرجل حتى تبلل وجهه. كان يبدو موظفا وزاريا لم يغيّر لباسه منذ خمسة عشر عاما. مدّ يديه فصافحته.
«اسمي فيرمين روميرودي توريس، عاطل عن العمل حاليا. تشرفنا.»
«دانيال سيمبيري. أحمق كليا، تشرفت بك أيضا.»
«لا تقلل من شأنك يا سيدي. في ليلة كهذه تبدو الأمور أسوأ مما هي عليه في الحقيقة. انظر إلي، إنني متفائل رغم كل شيء. وإنني متيقن من أن أيام النظام باتت معدودة، وبحسب المعطات التي أطلع عليها فإن الأمريكيين لن يتأخروا في تحريرنا وسينفون فرانكو هذا إلى مليلية كي يفتتح كشكا ويبيع فيه المشروبات المنعشة. وهكذا سأعود إلى عملي ومكانتي المرموقة وأستعيد هيبتي.»
« ماذا كنت تعمل؟» «عميل في الاستخبارات. تجسس على أعلى المستويات» صرّح فيرمين روميرو دي توريس. "بوسعي أن أبوح للك فقط بأنني كنت واحدا مر رجال ماثا في هافانا." وها أنذا أمام مجنون آخر. كم كانت ليالي برشلونة سخية بمنح الحياة مثل هؤلاء المجانين، ناهيك عن كمّ الحمقى أمثالي.
"اسمعمي يا سيدي، هذا الجرح خطير جدا، حالتك متردية بالفعل، أترى؟"
تلمست شفتيّ وكانتا تنزفان.
"هل هذا العراك بسبب امرأة؟» سألني. «كان بوسعك أن تتجنب ذلك فالنساء في هذا البلد مجحفات ومستشرفات، اسمع مني فأنا جبت العالم طولا وعرضا. إن الأمر كذلك حقا، لوفكرت بتلك اللعوب التي تركتها في كوبا... إنها مستحيلة. مستحيلة، في الكاريبي تخطفلك الأنثى وهي تراقصك، تحضنك وتهمس في أذنك «هاي بابيتو، هيا أمتعني هيا أمتعني» فلا يسع الرجل الحقيقي الذي تغلي الدماء في عروقه إلاً أن...»
بدا لي أن السيد دي توريس يرغب بجليس صبور كما هو في حاجة ماسة إلى حمّام ساخن وطبق من اللحم والبقول وثياب نظيفة. أصغيت إلى كلامه قليلا وأنا بانتظار أن تهدأ آلامي، ولم يكلفني كثيرا لأن ذلك الرجل البائس كان في حاجة إلى أحد يتظاهر بالإصغاء إليه لا غير. فكان على وشك أن يروي علي التفاصيل التقنية لخطة تؤدي إلى اختطاف زوجة فرانكو عندما انتبهت للعاصفة وهي تتحرك ببطء نحو الشمال.
«الوقت يداهمنا» قلت وأنا أنهض.
أذعن فيرمين روميرو دي توريس بحزن وساعدني على الوقوف وهو ينفض عن ثيابي غبارا لم يكن موجودا.
«نكمل حديثنا في المرة المقبلة» خلص إلى القول. «إنني أثرثر كثيرا، أبدأ حديثي ولا أنهيه... اسمع، بخصوص عملية الخطف. يبقى الأمر سرا بيننا، موافق؟»
«كن مطمئنا. سأحفظ السرّ. وأشكرك على النبيذ.»
انطلقت باتجاه الرامبلا وعند مدخل الساحة التفت لأنظر إلى نوافذ بيت برسلوه المعتمة. كان بوذي أن أحقد على كلارا ولكن هيهات. إن الحقد الحقيقي إحساس نكتسبه مع مرور الوقت. لكنني أقسمت لنفسي أنني لن أعود للقائها ولا ذكر اسمها، وأنني سأمحوها من أوراق ذاكرتي. وللمفارقة، كنت أشعر أنني بأفضل حال، إذ تبدد الغضب الذي دفعني للخروج من البيت في الليل. خشيت أن يزورني الطيش مرة ثانية في اليوم اللاحق ويصطحب معه رفاقه الأعزاء كالعنف والتهور. خشيت أن تسحقني الغيرة ويذلني اليأس حينما تترسب تلك التجربة في أعماق فؤادي. لم يبق للفجر إلا سويعات ومازال علي القيام بشيء آخر قبل أن أعود إلى المنزل مرتاح الضمير.
كان شارع أركودل تياترو يشق الظلام، وفيه جدول صغير تمرّ عبره المياه الآسنة وسط حي الرافال كموكب جنائزي. عثرت على البوابة القديمة والواجهة الباروكية حيث اقتادني والدي قبل سبعة أعوام. لجأت من المطر تحت ردهة البوابة التي تنبعث منها رائحة البول والخشب الرطب. كانت رائحة الموت تفوح من مقبرة الكتب المنسية أكثر من أي وقت مضى. لم أذكر أن مقبض البوابة على شكل شيطان صغير، أمسكت بقرنيه وطرقت مرتين، فسمعت أصداء الطرق في الداخل. طرقت ست مرات أخرى، بشدة أكبر حتى تشنجت يدي. مضت عدة دقائق هكذا، فرحت أفكر أن أحدا لم يعد يشغل ذلك المكان. استندت إلى البوابة وأخرجت كتاب كاراكس من سترتي، وفتحته وقرأت سطوره الأولى.
أمطرت السماء في كل يوم من ذلك الصيف. واعتقد الكثيرون أنها بمثابة عذابإالهي بسبب افتتاح كازينو بجانب كنيسة السلالة، لكنني كنت على يقين بأن الذنب ذنبي أنا فحسب. إذ أنني تعلمت الكذب وفمي ما زال يحفظ آخر كلمات والدتي: لم أكن أحب الرجل الذي تزوجته، بل كنت مغرمة بآخر. لقد خدعوني وأخبروني بأنه سقط ميتا في الحرب. ابحث عنه وقل له: «لقد مت وأنا أفكر فيه». إنه والدك الحقيقي.
ابتسمت لذكرى القراءة الماجنة في تلك الليلة الصيفية البعيدة. أغلقت الكتاب ونويت أن أطرق الباب للمرة الثالثة والأخيرة. وما إن وضعت يدي على المقبض حتى انفتحت البوابة قليلا وظهر نصف وجه البواب الذي ينيره مصباح على الزيت.
«مرحبا»، همست.
«أنت إسحاق، أليس كذلك؟»
ظل يحدّق فيّ ونور المصباح يبرز ملامحه الحادة ليجعله يشبه الشيطان على المقبض إلى حد لا ريب فيه.
«أنت سيمبيري الابن» قال.
«يا لقوة ذاكرتك يا سيدي.»
«ويا لانعدام أخلاقك يا فتى. ألا تعلم كم هي الساعة الآن؟»
حددت نظراته الثاقبة معالم الكتاب من تحت السترة، فهز رأسه مستفسرا. أريته الكتاب. «كاراكس» قال.
«الأشخاص الذين يعرفونه أو قرؤوا هذا الكتاب يُعدّون على أصابع اليدين.» «لكن واحدا منهم ينوي أن يحرق هذا الكتاب. لا أتصور أن هنالك مكانا أكثر أمنا وخفاءً من هذا.»
«هذه مقبرة وليس مخزنا.»
«تماما. علي أن أدفن هذا الكتاب حيث لا يعرف مكانه أحد.»
نظر إسحاق من حوله وأشار إلي بالدخول. كانت رائحة الشمع المحترق والرطوبة تحلقان في البهو المعتم بحكم العادة، وكنت أسمع الماء يقطر متقطعا في مكان ما. طلب مني إسحاق أن أحمل المصباح ريثما يخرج من معطفه الفضفاض حزمة من المفاتيح يحسده عليها السجانون. وبكل يقين وجد المفتاح الصحيح وأدخله في متراس محصّن بدرع خفي مليء بالعجلات والمسننات ليبدو كأنه بوابة ناقوس عظيم. فتحرّكت الدواليب مثل الروبوت وأصدرت طقطقة مدوية انصاعت على إثرها مجموعة من البكرات التي تدافعت برقصة ميكانيكية عجيبة لتتقاطع مع شبكة من القضبان الفولاذية المركبة على سسلسلة من الفتحات في الجدار.
«ياه. يفوق مصرف إسبانيا أمانا» علقت بذهول. ويبدو اختراعا مقتبسا من خيال جول فيرن.»
«بل من كافكا» وضّح إسحاق بينما كان يستعيد المصباح ويتجه داخل المبنى. "حين تدرك أن الكتاب خير صديق لكنه يسبب الأسى، وتقرر أن تنهب أو تؤسس مصرفا، لا فرق، تعال إلي كي أشرح لك بعض الأمور عن الأقفال والمتاريس."
تبعته على طول الممرات المطلية بالملائكة والوجوه الأسطورية. وكان المصباح يسلط ضوءه الخافت المائل إلى الحمرة. إسحاق يعرج قليلا، ومعطفه المخملي المنسوج يعيد إلى الأذهان ذاك الحرير الجنائزي. خطر في ذهني أن هذه الشخصية، التي تتراوح بين خارون6 وأمين مكتبة الإسكندرية، سيطيب لها المقام بين صفحات إحدى روايات خوليان كاراكس. «ما الذي تعرفه عن كاراكس» سألته.
توقف إسحاق في عمق الممر ورمقني بنظرة محايدة.
«ليس الكثير. أعرف ما حدّثني عنه الآخرون.»
«من؟»
«شخص كان يعرفه جيدا. أوكان يظن ذلك على الأقل»
انقبض قلبي. « متى حدث هذا؟»
«عندما كان شعري ما يزال فوق رأسي، وأنت كنت حديث الولادة. وبصراحة، لا يبدو لي أنك كبرت كثيرا. انظر إلى نفسك جيدا. انظر كيف ترتجف كأوراق الشجر.»
«ثيابي مبللة والطقس بارد هنا في الداخل. »
«أنذرني بقدومك في المرة القادمة كي أوقد المدفأة وأستضيفك بما يليق بمكانتك الرفيعة مادمت ضعيفا إلى هذا الحدّ. هيا. فلنذهب إلى مكتبي فهنالك مدفأة صغيرة وسأعطيك ما تضعه عليك ريثما تجف ثيابك. سأعطيك مطهر الجروح أيضا، لأنك تبدو خارجا للتو من فرع شرطة فيا لايتانا»
«لا تقلق لأمري، حقا.»
«لن أقلق. إنني أفعل هذا لأجلي وليس لأجلك. فهنا في الداخل أنا من يفرض القواعد والموتى الحقيقيون هم الكتب. لا ينقصني سوى أن تصاب بالتهاب رئوي فأضطر لاستدعاء صانع التوابيت. سوف نرى أمر الكتاب لاحقا. بوسعه أن ينتظر، إذ لم أر خلال ثمانية وثلاثين عاما كتابا يطير. »
«لا تعلم كم أنا ممتن لك...»
«لا تكثر من الكلام السخيف. لقد أدخلتك هنا لأنني أكن احتراما لأبيك والالتركتك عند البوابة. اتبعني من فضلك، وإن ظلت مهذبا ربما أبوح لك بما أعرفه عن صديق خوليان كاراكس.»
انتبهت حينها لابتسامة شرسة تبرق على شفتيه حين ظن أنني لا أستطيع رؤيته في ذلك الظلام. كان إسحاق يستمتع بأداء دور الحارس الصارم غريب الأطوار. بت علي يقين إذن: وجه الشيطان على المقبض كان وجهه.
10
وضع إسحاق على كتفيّ غطاءين خفيفين وعرض علي مشروبا ساخنا له طعم الشوكولاطة وسائل الراتافيا الروحي.
«كنت تحدّثني عن كاراكس...»
«ليس في جعبتي الكثير لأرويه. أول شخص أخبرني عنه يدعى طوني كابيستاني، الناشر، منذ عشرين عاما أي منذ أن كانت دار النشر على قيد الحياة. كلما عاد كابيستاني من رحلة إلى لندن أو باريس أو فيينا، كان يأتي لزيارتي لندردش قليلا. ترمّلنا في الوقت نفسه تقريبا وكان هو يشتكي من أننا غدونا أزواجا للكتب. أنا زوج الكتب القديمة وهو زوج الكتب الحديثة. كنا صديقين وفيين. ذات مرة أخبرني بأنه حصل بأبخس الأثمان على حقوق نشر روايات أحدهم ويدعى خوليان كاراكس، برشلوني يقيم في باريس. أعتقد أن هذا حدث بين عامي 1928 و1929. وكان كاراكس، على ما يبدو، يعزف في الليل على البيانو في أحد بيوت الدعارة في حي بيجال الباريسي، و في النهار يكتب الروايات في علية متردية الحال في حي سان جيرمان. باريس هي المدينة الوحيدة في العالم التي يعدّ فيها الموت جوعا مفخرة للفنانين والأدباء. أصدر كاراكس في فرنسا روايتين منيتا بفشل كبير من الناحية التجارية. وكان كاراكس في باريس شخصية مهمة لكنها مغمورة بسبب بخل كابيستاني.»
«هل كان كاراكس يكتب بالإسبانية أم بالفرنسية؟»
«ومن يدري. من الوارد أنه كان يجيد الاثنتين معا. أمه فرنسية، معلمة موسيقى على ما أظن، وهو انتقل للعيش في باريس منذ أن بلغ التاسعة عشرة أو العشرين من عمره. كانت المخطوطات تصل إلى دار النشر بالإسبانية، لا فرق إن كانت مترجمة أو أصلية. فاللغة التي كان كابيستاني يفضلها هي لغة النقود، وما تبقى لا أهمية له عنده. توهم أنه قادر على بيع آلاف النسخ في السوق الإسبانية.»
«وما الذي حصل؟» قطب إسحاق جبينه وصب لي قدحا آخر من ذلك المشروب المنشط. «أكثر رواياته مبيعا المنزل الأحمر، ربما وصلت إلى حدود التسعين نسخة. »
"واستمر في نشر رواياته رغم أنها خاسرة؟"
«تماما ولست أدري السبب. لم يكن كابيستاني رومانسيا حتما لكنه كأي إنسان تحيطه الأسرار بالغموض ... بين 1928 و1936 نشر له ثماني روايات وفي الواقع كان كابيستاني ينمّي رأسماله بالكتيبات الدينية والروايات العاطفية المسلسلة التي تثير غريزة المراهقات وتحقق نسبة مبيعات باهظة في الأكشاك كقصة البطلة فيوليتا لافلور الريفية. أما كتب كاراكس فكان ينشرها بهدف المتعة المحضة وتفنيدا لنظريات داروين.»
"وما الذي حل بالسيد كابيستاني؟"
تنهد إسحاق رافعا أبصاره نحو السماء. «كالعادة، أخذ تقدّم العمر نصيبا من حياته. أصابه المرض وعانى من بعض المشاكل الاقتصادية. عام 1936 حل ابنه الأكبر محله في إدارة الدار، لكنه كان واحدا من أولئك الذين لا يعرفون قراءة شعار الملابس الداخلية، فأفلست المؤسسة في أقل من عام. وشاءت الأقدار، لحسن الحظ، أن السيّد كابيستاني لا يشاهد كيف يبذر ورثته شقاء عمره وكيف تدمر الحرب بلاده. لقي حتفه بجلطة في ليلة عيد جميع القديسين حينما كان يدخن سيجار الكوهيبا وعلى حضنه فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها. وكان ابنه من طينة أخرى، لا يضاهيه أحد في الحماقة والعنجهية. قبل كل شيء، حاول أن يبيع بقايا لوائح الكتب لتحويلها إلى مادة السيلولوز أو شيء ما من هذا القبيل. فجاءه صديقه الذي يتفوق عليه بالغطرسة إذ لديه فيلا في كالديتاس وسيارة بوغاتي، وأقنعه أن الروايات المصورة وكتاب «كفاحي» لهتلر قد تباع كالخبز، وهكذا سيكون في حاجة لكميات كبرى من السيلولوز ليرضي الطلبات.»
«وبعد؟»
«لم يحصل على الوقت ليحقق ذلك المشروع. ذات يوم تقدم إليه رجل ما وعرض عليه عرضا سخيا. أراد أن يشتري كل روايات كاراكس التي لم تصدر في الأسواق وعرض أن يدفع ثلاثة أضعاف قيمتها.»
«لا تكمل. لكي يحرقها.» غمغمت.
ابتسم إسحاق مستغربا. «أجل. ليس صحيحا أنك لا تعرف عنه شيئا إذن. »
«من هوهذا الرجل؟»
«رجل يدعى أوبرت أو كوبرت، لا أذكر بدقة.»
«لايين كوبرت؟»
"هل تعرفه؟"
«إنه اسم إحدى شخصيات «ظل الريح»، آخر رواية كتبها كاراكس.»
قوس إسحاق حاجبيه. «شخصية خيالية؟»
" في الرواية، لايين كوبرت هو الاسم الذي يستخدمه الشيطان" قلت.
«أرى أنه استعراضي بما فيه الكفاية. أيًا يكن، لا يمكن أن ننكر أن لديه حس فكاهة ملحوظ» أكد إسحاق.
تذكرت لقاءي الأخير مع ذلك المجهول ولم أستطع أن أجد فيه أية سمة بارزة، لكنني لم أشاً أن أناقض إسحاق.
«ذلك الرجل، كوبرت، أو أيا كان اسمه، هل كان وجهه محروقا أو مشوها؟» سألته.
صوّب إسحاق إلي نظرة بين الهزل وعدم الاطمئنان. وليس عندي ادنى فكرة عن هذا. الشخص الذي نقل إلي القصة لم يره في حياته ولم يتعرف عليه أبدا لأن ابن كابيستاني في اليوم اللاحق أخبر السكرتيرة بالعرض. لم أسمع قط بوجوه محروقة. ذلك الرجل يبدو حقا أنه خارج من صفحات إحدى الروايات العاطفية المسلسلة.
طأطأت رأسي محاولا إثارة الشفقة. «وكيف انتهت القصة؟ هل باع ابن الناشر الكتب لكوبرت؟» سألته.
«أراد ذلك الأحمق المغرور أن يتحايل. طلب سعرا أكبر من ذلك الذي عرضه كوبرت فرفض الأخير. بعد عدة أيام أثناء الليل أضرمت النيران في مستودع دار النشرفي بويبلو نويفو حتى جذوره. ومجانا»
تنهدتُ «وما الذي حل بكتب كاراكس؟ هل أحرقت جميعها؟»
«تقريبا كلها. لحسن الحظ أن سكرتيرة كابيستاني، عندما عرفت بالعرض، اتبعت حدسها وسحبت من المستودع نسخة عن كل رواية لكاراكس بمبادرة منها. كانت هي التي ظلت على تواصل مع الكاتب، ومع مرور الأيام ولدت بينهما صداقة ودية. اسمها نوريا ولعلها الوحيدة في دار النشر، إن لم تكن في برشلونة كلها، من قرأ روايات كاراكس. لكن نوريا هاوية للقضايا الخاسرة. كانت في طفولتها تجلب إلى البيت حيوانات تائهة. ثم راحت تتبنى مؤلفين حلّت عليهم اللعنة، ربما لأن والدها أراد أن يكون مثلهم ولم يفلح في ذلك أبدا.»
«تتكلم عنها وكأنك تعرفها.»
أرخى إسحاق ابتسامته الشيطانية.
«أكثر مما تتوقع. إنها ابنتي.»
تملكتني الدهشة وحملتني بعيدا.
«حسب علمي، عاد كاراكس إلى برشلونة عام 1936. ثمت من يدّعي بأنه مات هنا. هل ما يزال لديه أقارب في المدينة؟ هل بوسع أحد أن يمدّني ببعض المعلومات؟» سألته.
«أظن أنه بلا أقارب. وأعتقد أن والديّ كاراكس انفصلا منذ زمان بعيد. غادرت أمه إلى أمريكا الجنوبية وتزوجت من رجل آخر هناك. وعلى حد علمي أن خوليان قطع اتصاله بوالده منذ أن سافر إلى باريس. »
«لماذا؟»
"وما أدراني؟ يروق لبعض الناس أن تتعقد حياتهم زيادة عن تعقيداتها الأساسية".
«هل تعرف إن كان ما يزال حيا؟»
«أتمنى ذلك من كل قلبي، فهو أصغر مني عمرا. وأنا أخرج نادرا ولم أعد أقرأ صفحة الوفيات منذ سنين، لأن الذين تعرفهم يموتون كميتة الذباب وهذا ما يشعرك بالأسى. والحق يقال إن كاراكس هي كنية الأم، أما والده فيدعى فورتوني. وكل ما أعرف عنه أنه كان صاحب محل لبيع القبعات في روندا دي سان أنطونيو ولم يكن على وفاق مع ابنه.»
«أليس واردا أن كاراكس استعاد علاقته مع ابنتك نوريا عند عودته إلى برشلونة، مادام تربطه بها صداقة ودية وله مشاكل عائلية مع والده؟»
أطلق إسحاق ضحكة مريرة. «لعلني لست مخولا للإجابة عن هذا. فالبنات لا يطلعن آباءهن على بعض الأمور. أعرف أن نوريا ذهبت إلى باريس ذات مرة عام 1932 أو 1933 لتتابع شؤون كابيستاني ونزلت ضيفة عند كاراكس مدة أسبوعين. وهذا ما عرفته من كابيستاني، لأنها أخبرتني أنها نزلت في فندق ما. في تلك الفترة كانت ابنتي بكرا، ولا شك أن كاراكس وقع في شرك الغرام بها. نوريا من النساء اللواتي يصعق المرة بحبّهن من النظرة الأولى.» «هل تقصد أنهما كانا عاشقين؟»
«تعجبك الروايات العاطفية إذن، ها؟ لم أقحم أنفي في حياة نوريا أبدا، ربما لأن حياتي أيضا، والحق يقال، لم تكن منزهة عن الأخطاء. إن شاءت لك الأيام أن ترزقك بابنة، وهي نعمة لا أتمناها لأحد كائنا من كان، وبما أن المنطق يفرض عليها أن تحطم قلبك عاجلا أم آجلا، ماذا كنت أقول؟ نعم، في الخلاصة، إن رزقت بابنة في يوم ما فسوف تقسّم الرجال تلقائيا إلى صنفين: العاشق القوي من جهة وجميع الآخرين من جهة أخرى. من ينكر ذلك يكون كاذبا وهو على علم بأنه يكذب. لدي الانطباع بأن كاراكس كان من الصنف الأول، ورغم هذا سواء كان عبقريا أم مجرد أبله مسكين فإنني لطالما اعتبرته صعلوكا مشاكسا.»
«ربما كنت مخطئا.»
«لا تشعر بالإهانة فأنت ما تزال شابا في مقتبل العمر وخبرتك بالنساء توازي خبرتي في صنع حلوى اللوز.»
«هذا صحيح أيضا » اقتنعت. "وماذا حل بالنسخ التي أخذتها ابنتك من المستودع؟"
«إنها هنا.»
«هنا؟»
«ومن أين جاء الكتاب الذي اخترته عندما أتيت مع أبيك، برأيك؟»
«لم أفهم.»
«المسألة بسيطة. ذات ليلة، إثر احتراق مستودع كابيستاني، جاءت ابنتي نوريا إلى هنا. كانت متوترة الأعصاب، وقالت إن ذلك الشخص، كوبرت، كان يلاحقها لهوسه الخطير بجمع تلك الكتب ومن ثم إحراقها. ففكرت نوريا بأن تخبئ روايات كاراكس هنا. دخلت إلى القاعة الكبرى واختفت في دهاليز تلك المتاهة كما لو أرادت أن تدفن كنزا ما. ولم أسألها أين أخفتها ولم تخبرني هي بذلك. قبل أن تنصرف وعدتني بالعودة لاسترداد تلك الكتب ما إن تلتقي ثانية بكاراكس. تولد لدي الانطباع حينها بأنها ما تزال تعشق ذلك الرجل، وسألتها إن كانت قد رأته أو تلقت أخباره في الآونة الأخيرة. فأجابتني بأنها لم تسمع عنه شيئا منذ أشهر، أي منذ أن أرسل إليها تصحيح مخطوط الرواية الأخيرة عمليا. لا أعرف إن كانت صادقة أم لا، لكنني متأكد من أنها لم تتلق أي خبر عنه منذ ذلك اليوم وأن الكتب بقيت هنا ليلهو بها الغبار ليس إلا.»
«هل تعتقد بان ظروف ابنتك حاليا تسمح لها بالحديث عن تلك القصة؟»
«إن كان الأمر يقتصر على مجرد الحديث فأعتقد أنها مستعدة لذلك»
لكنني أتساءل إن كان لديها ما تقول أكثر مما رويت لك أنا. لقد مرّ زمان طويل، وأعترف لك بأن علاقتي بها مجمدة منذ حين. نلتقي مرة واحدة في الشهر، نتناول الغداء بالقرب من هنا ثم تغادر هكذا كما أتت. لقد تزوجت منذ عدة سنوات شابا لطيفا، يعمل كصحفي. وهو متهور بعض الشيء، والحق يقال، من أولئك الصحفيين الذين يقحمون أنفسهم في المصاعب من أجل السياسة، لكنه كان كريما جدا. تزوجت زواجا مدنيا دون أن تدعو أحدا. ووصلني الخبر بعد شهر كامل. زوجها يدعى ميغيل أو شيئا ما من هذا القبيل. أفترض أنها ليست فخورة بوالدها ولا ألومها على ذلك. لقد تغيرت كثيرا في هذه الأيام. تصوّرْ أنها تعلمت الحياكة ولم تعد ترتدي مثل سيمون دو بوفوار. ولا أستغرب إن عرفتُ بأنني أصبحت جدًا. إنها تعمل في المنزل، تترجم من الفرنسية والإيطالية. ومن يدري ممن ورثت هذه الموهبة، ليس مني بالتأكيد. حسنا سوف أعطيك عنوانها ولكن من المحبذ ألا تقول لها بأنني أرسلتك.
لطخ إسحاق ورقة من جريدة ببعض الكلمات وأعطاني إياها.
« أشكرك. لعلها تتذكر شيئا ما...»
ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيه. «في طفولتها كانت تتذكر كل شيء. ثم إن الأطفال يكبرون ويصبح من الصعب معرفة ما يفكرون فيه ويشعرون به. وربما من الإنصاف أن تجري الأمور هكذا. لا تناقشها في الشؤون التي أخبرتك بها، مفهوم؟»
«كن مطمئنا يا سيدي. هل تعتقد أنها ما تزال تفكر في كاراكس؟»
أخذ إسحاق نفسا عميقا وأخفض أنظاره. «كيف لي أن أعرف هذا؟ إنني لا أعلم إن كانت مغرمة به حقا أم لا. إن الحب شأن حميم لا يباح بسرّه لأحد، ونوريا الآن "امرأة متزوجة. عندما كنت في عمرك، كانت لي عشيقة تدعى تيريزا باوداس، تخيط المآزر لمنسوجات سانتا ماريا في شارع كوميرثوه كانت تبلغ من العمر ستة عشر عاما وتصغرني بسنتين، وكانت قصة حبي الأولى. لا تحدّق إلي هكذا، إني أعلم أنكم أيها الشباب لا تصدقون أن كبار السن عرفوا الحب في شبابهم. كان والد تيريزيتا يبيع الجليد في سوق بورني وكان أخرس منذ ولادته. ليس بوسعك أن تتخيل كيف أحاطني الخوف يوم طلبت يد ابنته وهويحدّق في عيني لخمس دقائق طويلة، حاملا بيده المثقب. كنت أوفر المال لسنتين كي أشتري الخواتم وانتكست حالة تيريزيتا الصحية. أصابتها عدوى السل أثناء العمل على ما يبدو وتوفيت بعد ستة أشهر. مازلت أذكر عويل والدها الأخرس خلال الجنازة في مقبرة بويبلونويفو.»
صمت إسحاق، ولم أجرؤ حتى على التقاط أنفاسي. وبعد هنيهة رفع بصره وابتسم في وجهي.
«كأننا نتحدث عن أمر جرى قبل خمسمائة عام. ولكن بصراحة لا يمر علي يوم دون أن أفكر في تيريزيتا وأتذكر نزهاتنا بين أطلال المعرض الدولي لعام 1888 وكيف كانت تسخر مني عندما ألقي عليها الشعر الذي ألفته في مستودع صيدلية عمي ليوبولدو، أذكر حتى وجه غجرية قرأت كفينا عند شاطئ بوجاتيل وأكدت بأننا لن نفترق أبدا. كانت محقة من زاوية معينة. ماذا يسعني أن أقول؟ أجل، أعتقد أن نوريا ما تزال تفكر في كاراكس ولهذا لن أستطيع أن أغفر له ما حييت. مازلت صغيرا لتعرف أن هذا العذاب يترك جرحا لا يندمل. وإن أردت رأيي فإن كاراكس رجل غاو وإنه قد أخذ قلب ابنتي وحمله معه إلى القبر أو إلى الجحيم. أطلب منك معروفا واحدا: إن استطعت أن تلتقي بنوريا وتكلمت معها أعلمني كيف تقضي أيامها وإن كانت سعيدة... أو سامحت والدها.»
قبيل مطلع الفجر، دخلت مقبرة الكتب المنسية للمرة الثانية وبيدي المصباح. كنت أتخيل أن ابنة إسحاق كانت تمشي في نفس الممرات التي ليست لها نهاية، ويدفعها المقصد نفسه الذي يدفعني الأن: حماية الكتاب. في البداية حسبت أنني أقدر على تذكر الدرب الذي سلكته في ذلك الصباح مع والدي، وقد أمسك بيدي واقتادني إلى ذلك المكان الغامض، ولكنني سلمت باستحالة التوجّه الصحيح في عقدة تلك الممرات المتداخلة. عاندتُ على سلك الدرب نفسه لثلاث مرات، مدعيا بأنني أعرفه كما أعرف راحة يدي، فإذا بي أعود إلى نقطة الانطلاق حيث كان إسحاق ينتظرني وهو يبتسم مستهزئا.
«هل تعتقد أنك ستعثر على الطريق ولوبعد حين؟، سأل. «بوسعك الاستعانة بحيلة ما»
«أية حيلة؟»
"يبدولي أن دماغك متكلس يا صغيري. فكر بالمينوتور7 مثلا !"
استغرق الأمر معي دقائق حتى فهمت ما يصبو إليه. أخرج إسحاق سكينا صغيرا من جيبه وأعطاني إياه.
«أحدث خدشا كلما دخلت في ممر ما، أو علامة لا يفهمها إلا أنت. فهذه الأخشاب عتيقة ومليئة بالثقوب والنقوش التي لا يلاحظها إلا من كان يبحث عنها.»
اتبعت نصيحته وانطلقت مجددا صوب مركز البناء. وكلما غيرت اتجاهي نقشت حرف الكاف على حواف الرفوف الموجودة عند تقاطع الممرات. وبعد عشرين دقيقة، في باطن المبنى، حددت المكان الذي سأدفن فيه الرواية. على يميني لاحظت وجود سلسلة طويلة من المجلدات عن تحويل الملكيات بإشراف القدير خوفيانوس والتي كانت ستعمي عيون الشكاكين حسب رأيي، غيرت مكان بعض تلك المجلدات وفحصت الكتب في السلسلة الثانية. فوق سرير من الغبار كانت عدة مسرحيات لموارتين وطبعة فاخرة لكوريال غويلفا مستلقية بجانب «رسالة في اللاهوت والسياسة» لسبينوزا. وفي النهاية أدخلت كتاب كاراكس بين نشرات الدعاوى القضائية وبعض روايات خوان فاليرا، أنطولوجيا الشعر «سجل الذهب» والذي قررت أن أبعده كي أكسب المساحة. ودّعت الكتاب بتحية خاصة ثم أرجعت أعمال خوفيانوس على الرف كي أغطي الكتاب من الوراء. وعدت أدراجي متبعا العلامات التي نقشتها. وبينما كنت أتقدم في ذلك الظلام انقض علي إحساس بالإحباط. إن كنت حقا قد اكتشفت عالما بأكمله في كتاب واحد، فكم ابتلع الإهمال من تلك العوالم التي تحتويها هذه المقبرة؟ شعرت أنني مطوّق بملايين الصفحات وآلاف الأرواح والأكوان الهائمة تتساقط في لجّة هاوية سحيقة لا قرار لها، بينما يسهو الجنس البشري في الخارج مغرورا بحكمته وهو يتأرجح على شفا حفرة من العدم والنسيان.
عدت إلى المنزل عند الفجر. فتحت الباب بهدوء ودخلت دون أن أنير الأضواء، نظرت من المدخل إلى صالة الغداء ورأيت المائدة المجهزة للعشاء احتفالا بيوم ميلادي. مازال قالب الحلوى ينتظر من يقضه، وأدوات الطعام تنتظر من يستخدمها. كان والدي جالسا على الأريكة وينظر من النافذة. مازال مستيقظا بثيابه الأنيقة، وبين أصابعه سيجارة ترسل خيوط الدخان بكسل شديد. لم أره يدخن منذ سنين طويلة.
"صباح الخير"
همس بينما كان يطفئ السيجارة في منفضة تغض باعقاب السجائر التي لم يدخن إلا ربعها. رنوت إليه دون أن أجيبه. كانت غشاوة من الأسى تغطي ناظريه.
«اتصلت بك كلارا أكثر من مرة بعد خروجك بساعتين مساء أمس» قال. «كان القلق جليا في صوتها. وأوصت بأن تتصل بها مهما كان الوقت متأخرا.»
"لست أنوي سماع صوتها ولا رؤية وجهها" صرّحت.
اكتفى والدي بهز رأسه صامتا. واستلقيت على كرسي أنظر إلى الأرض.
«أين كنت؟»
"أتسكع هنا وهناك"
«أرهقني الخوف عليك.»
لم يكن يعاتبني، بل كان في صوته ما يشبه التعب الشديد.
«أعلم. ويؤسفني هذا.»
«ما الذي جرى لوجهك؟»
«تزحلقت على الرصيف المبلل ووقعت.»
«لابدّ أن لذالك الرصيف يد طاحنة. علينا أن نداوي جراحك.»
«لم يحدث شيء. لا أشعر بالألم »كذبت. «أريد أن أنام وحسب، فلم أعد أستطيع الوقوف على قدمي.»
«هلا فتحت هديتك قبل أن تغفو على الأقل؟» قال أبي. أشار إلى العلبة الأنيقة التي كان قد وضعها على المائدة مساء أمس. ترددت قليلا ثم أمسكت بالعلبة تنازلا لنظرته المفعمة بالمودّة. عاينت ثقلها وأعطيته إياها دون أن أتكلف عناء فتحها.
«ربما من الأفضل أن تعيدها من حيث أتيت بها. فأنا لا أستحق الهدايا.»
«الناس يتبادلون الهدايا حبا بذلك، وليس لأن أحدهم يستحقها والآخر لا» قال. «ثم إنني لم أعد أستطيع إرجاعها. افتحها.»
نزعت الغلاف الرفيع تحت ضوء الصباح الشاحب. كانت العلبة خشبية منقوشة ومتألقة بحواف مذهبة. فتحتها فأصدرت رنينا محببا يشبه رنين معادن الساعة الأصيلة. وفي الداخل المبطن بالمخمل الأزرق، كان قلم مونتبلانك مينسر ترستولك لفيكتور هوغو يغفو بكل بهائه وضيائه كاللؤلؤ المكنون. أمسكته وأمعنت النظر فيه تحت انعكاس الضوء. قرأت
اسمي محفورا على ملقط الغطاء الذهبي:
دانيال سيمبيري 1953.
نظرت إلى والدي حين انتزعني الذهول من فتنة الصدمة. لم أره سعيدا كما كان تلك اللحظة. نهض عن أريكته وعانقني فلم أقوَعلى نطق أية كلمة وأوكلت للصمت والدهشة أمر مشاعري الجياشة.
المظهر والجوهر: 1953
11
في ذلك العام حلّ الخريف كمعطف من وريقات يابسة على الطرق كدوامات تشبه جلد الأفعى. تحجّر قلبي من ذكرى ليلة عيد ميلادي أو ربما أبرمت الحياة هدنة مع آلامي، بكل بساطة، كي ترغمني على البلوغ. حتى أنا فوجئت بأنني لم أعد أفكر أبدا بكلارا برسلوه أوخوليان كاراكس أو ذلك المجهول المتغطرس بلا وجه الذي كانت رائحة الورق المحروق تنبعث من ردائه ويستخدم اسم شخصية مرّت في كتاب ما. وفي نوفمبر كان قد مرّ شهر دون أن أذهب إلى بلازا ريال كي أراقب نافذة كلارا. وعلي أن أعترف بأن الفضل لا يعود كله إلى قوة إرادتي بل لأن المكتبة كانت تفرض علينا من العمل أكثر مما نستطيع أنا ووالدي القيام به وحدنا.
«أرى أننا مضطرين للبحث عن أحد يساعدنا في البحث عن الكتب للزبائن، كان والدي يتأمل.«ويجدر به أن يكون شخصا مميزا، وشاعرا إلى حد ما، بل ومحققا يتقصى في الصغيرة والكبيرة، وأن يكون له طموح اقتصادي ومستعدا للانغماس في مهمات مستحيلة. » «أعتقد أنني أعرف الشخص المناسب» قلت.
وجدت فيرمين روميرودي توريس في مكانه المعتاد، تحت أقواس شارع فرناندو. وكان يرتب أجزاء الصفحة الأولى لجريدة هوخادل لونيس التي جمعها من حاوية النفايات. كان المقال يتحدث عن أعمال شعبية والتنمية -2 مكان ما.
«رائعا سيبنون سدا جديدا !» سمعته يهتف. «هؤلاء الفاشيون يريدون
أن يحولوا الوطن إلى بلد من المتزمتات والبطارقة.»
«صباح الخير، همسات. «أما زلت تذكرني؟»
رفع المتشرد أنظاره وابتسم ابتسامة عريضة.
« أهلا بك! كيف حالك يا صديقي؟ أترغب في ارتشاف النبيذ؟» «اليوم أنا من يعرضه عليك» قلت. «هل أنت جائع؟»
«حسنا لن أقول كلا على طبق من الأصناف البحرية، لكنني مستعد لسماع عروض أخرى.»
وبينما كنا متجهين نحو المكتبة، استعرض دي توريس حصيلة مفصلة عن تنقلاته في الأسابيع الأخيرة، وعن الأشخاص الذين يتملصون من رقابة قوى أمن الدولة التي تتجسد، بطبيعة الحال، في محقق يدعى فوميروإذ بدا أن لديه حسابات مؤجلة مع فيرمين دي توريس. «فوميرو؟» قلت مندهشا.
كان اسم المحقق الذي أطلق النار على والد كلارا برسلوه في قلعة مونتويك في بداية الحرب. فأجابني الرجل مكتفيا بهزة من رأسه. لقد كان الجوع والشحوب باديين عليه، وكان متسخا ورائحته كريهة كمن يعيش لسنوات مشردا في الطرقات. لم تكن لديه أدنى فكرة عن المكان الذي كنت أقوده إليه، وانتبهت لرعشة خوف في نظراته وقلق متصاعد يحاول جاهدا أن يخفيه دون انقطاع. وحين وصلنا أمام المحل، رمقني بنظرة متوترة.
«هيا ادخل. لا تخف. إنها مكتبة والدي وأود أن أقدّمه إليك.»
التفت الصعلوك بكفن من الفزع والارتباك.
«كلا. كلا. لست في هيئة لائقة لتقديم نفسي. هذا امتحان عالي المستوى ولا أريد أن أتسبب لحضرتك بمشاكل أنت في غنى عنها...»
ظهر أبي على الباب، وتفخص المتشرد بنظرة خارقة ثم رمقني بطرف عينه.
«هذا هو فيرمين روميرودي توريس يا أبي.»
«تحت امرك يا سيدي» قال المتشرد بحياء جليل.
فابتسم له والدي ومدّ يده، لكن الآخر لم يجرؤ على مصافحته إذ شعر بالعار لمظهره المتردي وللعفن الذي يكسو جلده.
«من الأفضل أن أنصرف» غمغم متلعثما.
فأمسك والدي ذراعه بلطف. «مطلقا. لقد أخبرني ابني بأنك ستتناول معنا الغداء.»
حدّق فيه دي توريس مشدوها ومرتعدا.
«لماذا لا تصعد إلى الأعلى وتستحم بماء دافئ ريثما يجهز الغداء؟» قال له أبي، «وقد نذهب إلى مطعم خان سوليه إن أردت.»
هذر فيرمين دي توريس بكلمات غير مفهومة فيما كان والدي يصعد به إلى البيت جرّا دون أن تُمسح ابتسامته، وكنت أغلق باب المحل. وبعد عدة مفاوضات نجحنا في نزع ثيابه المتسخة وإدخاله إلى الحمّام. وكان البائس يرتعش مثل الدجاجة منتوفة الريش، وبعد أن تعرّى كليا بدا أنه خارج من صورة التقطت أثناء ويلات الحرب. كانت الخدوش العميقة محفورة على معصميه وكاحليه، والشقوق والندوب الرهيبة تملأ صدره وظهره. تبادلت ووالدي نظرة فزع دون أن نقوى على قول شيء. راح الصعلوك يستحم كالأطفال، وهو يرتجف خوفا. وبينما كنت ابحث عن ثياب نظيفة سمعت والدي يتحدث إليه. وجدت رداء لا يلبسه أحد وقميصا قديما وبعض الملابس الداخلية. أما ثياب المتسول فكانت كلها غير صالحة للاستعمال بما فيها الحذاء، ولذا اخترت زوجا من احذية والدي التي لا ينتعلها بسبب ضيق مقاسها. جمعت ثيابه العفنة، بما فيها سرواله الداخلي الذي ذكرني بلحم الخنزير المقدد نظرا إلى لونه وصلابته، ولففتها بجريدة قديمة ثم رميتها في سلة القاذورات. وعندما عدت إلى الحمّام وجدت والدي يحلق شعر روميرودي توريس في الحوض. ظهر الرجل أصغر بعشرين عاما على الأقل بعد أن لمعته النظافة وفاحت عطور الصابون من بدنه. وبات والدي ودي توريس صديقين على ما يبدو، وربما تأثر الأخير بفعل المنظفات فشرع يحرق المراحل.
«صدّقني يا سيد سيمبيري، لو لم يشأ القدر أن ألعب دورا حساسا في مجال التجسس الدولي لانكببت على دراسة الآداب، وإني جاد في ما أقول. فمنذ نعومة أظفاري شعرت بميولي تجاه الشعر وحلمت أن أصبح مثل سوفوكليس أوفرجيل، لأنني مولع بالتراجيديات واللغات القديمة، لكن والدي رحمه الله كان رجلا محدود الأفق وكان يريد أن يدخل أحد أبنائه سلك الشرطة المدنية ولم تكن لأي واحدة من أخواتي الإناث أحقية العمل في هذا المجال رغم الزغب الكثيف الذي يغطي وجوه النساء في عائلتي، وهي سمة ورثتها عن جدتي أم والدتي. وعلى فراش الموت جعلني الوالد أقسم له بأن أرتدي القبعة المثلثة أو أصبح على الأقل موظفا ذا شأن في الدولة وأن أتجنب كل طموحاتي الأدبية. ولا أخفيك أنني شخص تربى على الطريقة التقليدية التي تفرض أن يطاع الوالد حتى لو كان حمارا، وأنت تفهمني يا سيدي. ومع هذا، لم أتجاهل القيم الفكرية في أيام شبابي، فقرأت كثيرا وبوسعي أن ألقي عليك ممّا حفظت مقاطع كاملة من مسرحية «الحياة حلم».»
«استرخ الآن والبس هذه الثياب وكن مطمئنا فهنا لن يدخل أحد معك في جدال حول مواهبك الثقافية» قلت محاولا أن أخفف العبء عن والدي.
كان العرفان يصب من عيني فيرمين دي توريس. خرج من الحوض فلفّه أبي بالمنشفة. كان يضحك وهو يستمتع بتلمس جلده للقماش النظيف. وساعدته على ارتداء الملابس التي كانت أكبر من حجمه بقليل، فخلع والدي نطاقه وأعطاني إياه كي أدخله في بنطال فيرمين دي توريس.
«الآن تبدووسيما جدا، قال والدي. «أليس كذلك يا دانيال؟، «يبدو كأنه واحد من نجوم السينما.»
"لا تبالغ، لم أعد كما كنت ذات مرة. لقد خسرت جسمي المكتنز بعضلات هرقل في السجن ومنذئذ لم..."
"حسنا. من الواضح في كل الأحوال أن لديك مظهرًا جميلاً يشبه شارل بوير" ردّ والدي.
«والآن أرغب في أن أقترح عليك عرضا ما.» ومن أجلك يا سيد سيمبيري أنا مستعد لأي شيء بما في ذلك ارتكاب جريمة بحق أحدهم. يكفي أن تقول لي اسمه فأقتله دون أن أجعله يتألم.»
«ليس هذا ضروريا. أردت أن أعرض عليك العمل معنا. كل ما في الأمر أنك سوف تبحث عن كتب نادرة تثير اهتمام زبائننا. فلنقل إنه كعمل المنقب عن الآثار في المجال الأدبي، وهذا ما يتطلب إلماما واسعا بالأعمال الكلاسيكية وبشروط السوق الأسود. ليس بوسعي أن أقاضيك أجرا كبيرا في هذه المرحلة، ولكنك سوف تأكل معنا وبوسعك البقاء في بيتنا ريثما نعثر لك على نزل مناسب. فهل أنت موافق؟»
نظر المتشرد إلى أبي متعجبا ثم التف نحوي.
«ما رأيك؟، سأله والدي. «هل تريد الانضمام إلى فريقنا؟»
بدا لي أنه كاد يقول شيئا ما، ولكنه في تلك اللحظة تماما انفجر باكيا.
في أول راتب استلمه فيرمين، اشترى قبعة لائقة بنجوم السينما وحذاء متينا لمنع البلل وأراد أن يدعونا أنا ووالدي لتناول صلصة الخضار بذيل الثور، الطبق الذي يحضره مطعم على بعد خطوات من ساحة مومنتال بعناية فائقة. ووجد له والدي غرفة في نزل في حي خواكين كوستا حيث استطاع فيرمين، بفضل الصداقة التي تربط جارتنا مرسيديتاس بصاحبة النزل، أن يسكن دون إملاء استمارة التعريف وهكذا صار في مأمن من براثن المحقق فوميرو وأزلامه. وبين الحين والآخر كنت أتذكر ما رأيت من الرضوض والندوب التي تغطي جسمه وكنت أتلهف لأسأله عنها كي أشبع فضولي إذ اكتويت بالشك إن كان للمحقق فوميرو أي شأن بالموضوع، ولكن شيئا ما في نظراته حال دون أن أفاتحه في الأمر، ثم إنه كان سيروي علي قصته عاجلا أم آجلا ومن تلقاء نفسه. كان فيرمين بانتظارنا قبالة المكتبة في تمام السابعة من كل صباح، وهو يزهو بهندام أنيق وابتسامة براقة، متأهبا للعمل اثنتي عشرة ساعة متواصلة وقابلة للتمديد دون أن ترجف له عين. لقد تلبّسه شغف عارم بالشوكولاطة وحلوى المعجنات يوازي حماسه لكتاب التراجيديا الإغريقية الكبار، وزاد وزنه بضعة كيلوجرامات. كان حليق الذقن دوما، ويسرح شعره إلى الخلف ويلمعه بالدهن ويطلق شاربيه على نمط الصرعة الجارية. وبعد ثلاثين يوما من خروجه من حوض حمّامنا تحوّل إلى شخص آخر لا يمت إلى المتشرد السابق بصلة. لكن المفاجأة الكبرى كانت في نضاله داخل ساحة المعركة. حين كلمني عن تاريخه التجسسي ظننت أنه يبالغ ويشط في خياله، إلا أن فطرته الاستقصائية كانت لا تخطئ أبدا. فما أوكلنا إليه أكثر الطلبيات ندرة إلا ووجدها خلال أيام قليلة، وخلال ساعات أحيانا. لم يكن يفوته عنوان أي كتاب، وكانت الحيلة تسعفه في أي وقت ليحصل على كتاب ما بأدنى الأسعار. وبفضل موهبته في الإقناع كان يندس في المكاتب الخاصة للعائلات الدوقية في شارع بيارسون للمولعين بسبق الأحصنة، وهو يقدّم نفسه في كل مرة تحت مسميات واهية بغية أن يهدوه الكتب أويبيعوه إياها بأبخس الأثمان. كان تحوله من صعلوك إلى مواطن مثالي يبدو كمعجزة أو كخرافة اخلاقية يستند إليها القساوسة ذوي المناصب الكنسية المتدنية كي يبرهنوا على رحمة الله الواسعة، خرافات في منتهى الكمال من المستحيل أن تكون حقيقية، مثل دعايات الدهن المستعمل لإطالة الشعر والمعلقة على شبابيك الترام.
في الثانية صباحا من ليلة الأحد، بعد ثلاثة أشهر ونصف منذ مباشرته العمل في المكتبة، رن الهاتف في بيتنا: كانت صاحبة النزل الذي يقيم فيه. قالت لنا إن السيد فيرمين روميرودي توريس أقفل على نفسه باب الغرفة وراح يصرخ كمن تلبّسه الجن ويضرب الحيطان بجمع يديه ويهدد بالانتحار بقص عنقه بقنينة مهشمة إذا حاول احدهم الدخول.
«لا تتصلي بالشرطة، أرجوك. سوف نصل على جناح السرعة.»
هرعنا صوب حي خواكين كوستا. كانت ليلة حالكة الظلام، يجلدها البرد بالصقيع والريح المتجمدة. مررنا قبالة بيت الرحمة وبيت الشفقة، متجاهلين العروض الفظيعة التي تأتينا من تحت الأقواس المظلمة، حيث تفوح رائحة الزبالة والفحم. التففنا عند زقاق فيرلاندينا لندخل إلى حي خواكين كوستا الذي لم يكن أكبر من شق بين خليتي نحل سوداوين في ظلام الرافال. كان نجل صاحبة النزل ينتظرنا على قارعة الطريق.
«هل اتصلتم بالشرطة؟، سأله والدي.
"ليس بعد. "
وبصعوبة كبرى صعدنا السلالم المتسخة سيئة الإضاءة بأنوار صفراء معلقة على حبل هش. كان النزل يقع في الطابق الثاني. وكانت السيدة أنكارنا، أرملة عنصر في الشرطة المدنية، تنتظرنا على عتبة الطابق، وهي تلف نفسها بوشاح سماوي ورأسها مليء بلفافات الشعر. «إن هذا النزل محترم يا سيد سيمبيري، ولا ينقصني الزبائن، ولا يوجد أي سبب يجعلني أتجاهل مسرحيات من هذا النوع» قالت وهي تتبعنا على طول الممر القميء الذي ينبعث، منه غاز النشادر.
«أتفهمك جيدا يا سيدتي» غمغم والدي.
كان عويل فيرمين الموجع يصدر من الغرفة الأخيرة، وقد أطل النزلاء برؤوسهم الضامرة، كالفقراء والمتقاعدين، من الأبواب المواربة.
«اللعنة عليكم. اذهبوا إلى أسرّتكم. هذا ليس عرضاً مسرحيا» صرخت السيدة انكارنا بغضب.
عندما وصلنا أمام باب فيرمين، طرق والدي بهدوء. «فيرمين. هل أنت هنا؟ أنا سيمبيري.» أطلق فيرمين عويلا اخترق الجدران وجمّد مهجتي من الخوف. حتى السيدة أنكارنا فقدت هيبتها ووضعت يديها على قلبها الغارق تحت شحوم ثدييها المتضخمين.
طرق والدي مرة أخرى. «هيا افتح الباب يا فيرمين.» فأطلق فيرمين عويلا آخر وهويرمي بنفسه على جدار الغرفة ويصرخ بكلمات شنيعة حتى بحّ صوته.
تنهد والدي. «هل لديك مفتاح الغرفة؟»
«بالطبع.»
«أعطني إياه.» ترددت السيدة آنكارنا وأطل النزلاء بوجوههم الخزفية ثانية من أبواب الممر. لابدّ أن ذلك العواء كان يصل حتى مبنى قيادة أركان الجيش.
«اذهب يا دانيال واستدع الدكتور باروه. إنه يسكن بالقرب من هنا في ريرا ألتا رقم 12.» «أليس من الأفضل أن نستدعي راهبا؟» اقترحت السيدة آنكارنا. «يبدو لي أن الشيطان قد تلبّس هذا الرجل.»
«لا. إنه في حاجة إلى طبيب. هيا بسرعة يا دانيال، استعجل. وأعطني المفتاح من فضلك يا سيدتي. »
كان الدكتور باروه رجلا أعزب يسهر الليل وهو يقراً زولا ويشاهد صورا لفتيات شبه عاريات كي يقضي على الملل. كان زبونا اعتياديا لمكتبتنا ويعرّف نفسه على أنه طبيب من الدرجة الثالثة لكنه كان يصيب في تشخيصه لبعض الحالات أكثر من أي طبيب بارز، في عيادته في حي مونتانير. كان زبائنه يتألفون على وجه الخصوص من عاهرات الحي المسنات اللواتي لا يستطعن دفع الأجر أحيانا لكنه يكشف عليهن في كل الأحوال. كان يرى أن العالم عبارة عن بالوعة قذرة، وآماله تقتصر على أن ينال نادي برشلونة صدارة الدوري، بمحالفة الحظ، كي يموت مرتاح البال. فتح لي الباب بلباس النوم، وكان منتشيا قليلا، والسيجارة المطفأة معلقة على شفتيه.
«ما الأمر يا دانيال؟»
«أرسلني إليك والدي. لدينا حالة إسعاف.»
عندما وصلنا إلى النزل وجدنا السيدة أنكارنا تشهق بالدموع وبقية النزلاء شاحبين مثل الخرق البالية وأبي يسند فيرمين إلى ذارعيه في إحدى زوايا الغرفة. وكان فيرمين عاريا كما ولدته أمه، ويبكي ويرتجف بعد أن خرّب الغرفة ولطخ الجدران بدمائه. استوعب الدكتور باروه الحالة بنظرة واحدة وأشار إلى أبي أن يمدد فيرمين على السرير. ساعده ابن صاحبة النزل الذي كانت أقصى تطلعاته أن يصبح ملاكما. كان فيرمين يتأوه ويتلوى كأن حيوانا مفترسا يلتهم أحشاءه.
«ما الذي جرى لهذا المسكين؟ ما الذي جرى له؟ ارحمه يا الله.» كانت السيدة آنكارنا تبكي على العتبة وتهز برأسها.
أمسك الطبيب بمعصمه، تفخص عينيه بمصباح صغير ودون أن يدلو بأية كلمة جهز الحقنة وسحب السائل من قنينة أخرجها من حقيبته الصغيرة.
«احجزوه جيدا. هذه الحقنة سوف تساعده على النوم. ساعدنا يا دانيال. »
وبالكاد استطعنا نحن الأربعة تثبيت فيرمين الذي انتفض مضطربا بمجرّد أن أحسن برأس الإبرة يُغرس في ردفه. وتشنجت عضلاته كقطع الفولاذ وسرعان ما انحسرت عيناه وهوى على السرير.
«حذار أن تبالغ في الجرعة أيها الطبيب، قد تتسبب في موته لشدة نحافته» قالت السيدة. «اطمئني يا سيدتي. إنه نائم ليس إلا»
هدّأ الطبيب من روعها بينما كان يعاين الخدوش والندوب التي تعوم على بدن فيرمين الهزيل. رأيت الطبيب يهز رأسه بصمت. «يا أبناء العاهرة » غمغم.
«ما هذه الشقوق؟» سألته. «هل هي جراح؟» هز الطبيب برأسه ثانية دون أن يرفع أبصاره. بحث عن غطاء بين حطام الغرفة وغطى به المريض.
«بل إنها حروق. هذا الرجل تعرّض للتعذيب» شرح الطبيب. «إنها ندوب ناشئة عن لهيب مؤكسد.»
نام فيرمين مدة يومين وعندما استيقظ لم يتذكر أي شيء، كان ينتابه الشعور بأنه ظل محبوسا في زنزانة انفرادية ومظلمة. جثم على ركبتيه يتوسل المغفرة من السيدة أنكارنا. وتعهد أن يطلي جدران الغرفة، ووعدها بأن يدعي الله من أجلها عشر مرات خلال صلاته القادمة في كنيسة بيلين لأنه كان يعرف مستوى إيمانها.
«فكر في أن تستعيد عافيتك وألا تسبب لي الرعب فإنني كبرت على مثل هذه المشاهد.»
دفع أبي ثمن الأضرار وطلب من صاحبة النزل أن تعطي فيرمين فرصة أخرى. فوافقت على الرحب والسعة، لأن أكثر نزلائها من الفقراء المستضعفين، أفراد وحيدون في هذا العالم، مثلها تماما. وبعد أن زالت مخاوفها عاملته بحنان أكبر وجعلته يقسم بأنه سوف يتناول الدواء الذي وصفه الدكتور باروه.
«من أجلك يا سيدة أنكارنا مستعد أن أبتلع قطعة قرميد كاملة.»
ومع مرور الوقت، تظاهر جميعنا بنسيان ما حدث، ولكنني منذ تلك الليلة لم أعد أستخف بما يشاع عن المحقق فوميرو. بعد تلك الواقعة، كنا نصطحبه كل عطلة يوم الأحد لتناول العصرية في كافيه نوفيداديس، ثم نذهب إلى سينما فيمينا، على الزاوية بين حي ديبوتاثيون وبازيو دي غراثيا، كي لا نتركه بمفرده. كان أحد القائمين على بيع التذاكر صديقا لوالدي ويدعنا ندخل إلى الصالة من مخرج الطوارئ عند الشاشة في منتصف عرض الأخبار، تماما عندما يقص الجنرال فرانكو الشريط المعتاد احتفالا ببناء سد ما، وهذا ما كان يخرج فيرمين عن طوره.
«يا للعار!» يصيح باستياء.
«ألا تعجبك السينما يا فيرمين؟»
«بكل صراحة، أعتقد أن الفن السابع محض احتيال، مجرد وسيلة لتغطية خداع العامة المسحوقة ولتجهيلهم أكثر بحقائق الأمور، أسوأ من كرة القدم ومصارعة الثيران. تم اختراع السينما لخلق حشود من الأميين، ولم تتغير نواياها كثيرا حتى بعد خمسين عاما من ولادتها.» إلا أن اعتقاداته الراسخة تهاوت بأكملها حين اكتشف كارول لومبارد.
«يا لروعة ما أرى، تبارك المسيح ويوسف والعذراء يا لروعة ما أرى»
هتف في منتصف العرض. «هذه ليست أثداء، بل إنها بارجتان! ياإلهي!»
«اخرس أيها القذر وإلا ناديت المسؤول» صرخ صوت غريب كأنه خارج من حجرة الاعتراف بعدنا بصفين. «اخجل من نفسك. يا لهذا البلد المريع!»
«ربما كان من الأفضل أن تخفض صوتك يا فيرمين.» اقترحت عليه.
لكن فيرمين لم يكن يصغي إلي، بل كان مأخوذا بحسن قوام تلك الممثلة وفتحة صدرها الفتانة وابتسامتها البريئة ونظراتها المسروقة من سحر تقنية الألوان. بعد ذلك، وبينما كنا نتمشى على طول بازيو دي غراثيا، لاحظت أن صاحبنا الشغوف كان في حالة تصوف وانعزال عن الواقع.
«ينبغي علينا أن نجد لك امرأة، قلت.«امرأة تدخل البهجة إلى حياتك يا فيرمين.»
شهق فيرمين، وهو مازال مأخوذا ببراهين قانون الجاذبية اللذيذة.
«هل تتحدث عن سابق تجربة يا دانيال؟» سأل بنبرة بريئة.
فاكتفيت بالابتسام بينما كان والدي يراقبني بطرف عينه. منذ ذلك اليوم، غدا فيرمين متعصبا للسينما. أما والدي فكان يفضل أن يقضي يوم الأحد في البيت ليقرأ كتابا ما. وراح فيرمين يشتري كميات مهولة من حبات الشوكولاطة ويجلس ليجترّها في الصف السابع عشر، بانتظار ظهور إحدى النجمات. لم يكن يعير اهتماما للقصة بل يظل يثرثر حتى تظهر امرأة حسناء على الشاشة.
«فكرت في ما نصحتني به ذلك اليوم، أي أن أبحث عن امرأة» قال فيرمين. «أعتقد أنك محق. في النزل ثمّت زبون جديد، طالب أندلسي سابق في معهد اللاهوت، يصطحب كل مرة فتاة جميلة. يا للهول، حقا إن نسل أمتنا تحسن. أستغرب من قدراته، فهو ليس بذالك الشاب الخارق. لكنه يبهرهنّ بقوة القديسين ربما. تقع غرفته جانب غرفتي، وعلي أن أعترف بأن الراهب فنان، وفقا لما يصلني من أصوات. ربما يكمن السر في فتنة قميص الرهبان. وأنت يا دانيال كيف تعجبك النساء؟»
" في الحقيقة لست خبيرا بارزا في هذا المجال. »
«لا رجل يفقه شيئا في النساء، بما فيهم فرويد. حتى النساء يجهلن أنفسهن. لكن الامر يشبه الدارة الكهربائية: ما من داع لتصعقك حتى تفهم كيف تعمل. هيا تشجع وقل لي كيف تعجبك النساء؟ بالنسبة إلي لابدّ أن تكون المرأة ذات لحم مكتنز لكنك تبدو لي أنك تفضل النحيفات. إنني احترم أذواقك، إياك ان تسيء فهمي.»
«بصراحة ليس لدي خبرة كبيرة مع النساء. بل ليس لدي أية خبرة. »
راقبني فيرمين باهتمام مستغربا من تصريحي الزاهد. «ظننت أن تلك الليلة... اللكمات على وجهك. فهمت قصدي...»
«ليتنا نستطيع اختصار آلامنا بصفعة كف واحدة...»
بدا أن فيرمين يقرأ أفكاري ويبتسم كي يشد من عزيمتي. «هوّن عليك يا صديقي. أجمل ما في النساء اكتشافهن. المرة الأولى هي الحد الأقصى: لا يعرف الرجل قيمة الحياة قبل أن يعزي امرأة للمرة الأولى، زرا زرا، كأنه يقشر حبة كستناء في ليلة شتوية، آه...»
وبعد لحظات ظهرت فيرونيكا ليك على الشاشة فانقلب فيرمين في واقع آخر. وفي لحظة معينة استغل مشهدا لا تظهر فيه النجمة، فقرر الذهاب إلى بار السينما كي يشتري مزيدا من المأكولات. صبر على الجوع كثيرا ولم يعد يحتمل. كان يحافظ على مظهره الهزيل الذي يوحي بسوء التغذية بعد الحرب وذلك بفضل الهضم الغذائي المتسارع. بقيت وحدي، أنظر بشرود إلى المشهد على الشاشة. أكذب إن قلت إنني كنت أفكر في كلارا، بل كنت أفكر في جسمها العاري الذي تبرق فوقه حبات العرق ويهزه جماح الشهوة تحت لمسات أستاذ الموسيقى. أبعدت نظري عن الشاشة فلاحظت مشاهدًا دخل لتؤه. رأيته يتقدم حتى منتصف الخشبة أمامي بستة صفوف ليجلس على مقعد. ففكرت أن صالات السينما مليئة بالأشخاص الوحيدين، وحيدين مثلي. حاولت جاهدا أن أركز في الفيلم. البطل، محقق ماجن ومرهف الحس، يشرح لإحدى الشخصيات الثانوية أن كيد النساء اللواتي مثل فيرونيكا ليك يدمر الرجال الحقيقيين، ورغم هذا فمن المستحيل ألا نهيم بحبهن وألا نموت لأجلهن ضحايا لخياناتهن ومكرهن. كان فيرمين روميرو دي توريس، وقد أصبح ناقدا بارزا، يعرّف هذا ا لنوع من القصص بـ«أقصوصة السرعوف للأطفال»، وهي خرافات معادية للمرأة ومصممة لموظفين بخلاء أو لمتديّنات مملات يحلمن بالاستسلام للشهوات والحياة كوصيفات. ابتسمتُ للتعليقات التي كان من الممكن لصديقي الناقد أن يعبّر عنها لو لم يذهب ليملأ جعبته بالحلويات. ثم رأيت ذلك المشاهد الذي دخل لتوّه يلتفت ليصوّب أنظاره إلي. استطعت، بفضل ضوء الشاشة الذي يشع على ومضات، أن أميّز الرجل الذي لا وجه له... كوبرت. جحظت عيناي اللتان لم ترمشا وابتلع الظل ابتسامته التي بلا شفتين. ضاق صدري بما لا يطاق. واندفعت موسيقى الأوركسترا من على الشاشة فسمعت صيحات وصفيرًا، ثم تلاشت الصورة. ظلت الصالة في ظلام دامس للحظات ولم أسمع سوى نبضات قلبي في أذنيّ. وعندما أضاءت الشاشة مجددا كان الرجل بلا وجه قد اختفى. التفتُ ورأيت طيفا يبتعد على طول ممر الصالة واصطدم بفيرمين الذي كان يدخل ثانية من رحلة السافاري التي خاضها بحثا عن الغذاء. نظر إلى صفنا وعاد إلى مقعده وعرض على حبة من شوكولاطة البرالين ولاحظ اضطرابي.
«وجهك شاحب أكثر من مؤخرة راهبة. هل أنت بخير يا دانيال؟»
فاحت رائحة شاذة في كل الصالة.
«يا لهذه الرائحة المقززة.» قال فيرمين. «رائحة ضراط، أو رائحة ضمير وكيل نيابة.» «كلا. إنها رائحة ورق محروق.»
«خذ واحدة من سكاكر السوغوس بنكهة الليمون وسوف ترى كيف يتحسن حالك.»
«لا يروق لي الآن.»
«خذها بكل الأحوال. ربما تشتهيها لاحقا.»
وضعت حبة السكاكر في جيب سترتي وتابعت باقي الفيلم بشرود، دون أن أتحمس لجمال فيرونيكا ليك الفتاك ولا لمصير ضحاياها. أما فيرمين فكان منجذبا كليا للعرض ولحلوياته. عندما أنيرت الأضواء شعرت بأنني أستيقظ من كابوس مريع. ولوهلة ظننت أن حضور ذلك الرجل إلى الصالة كان محض هلوسات أوزلة من زلات الذاكرة. لكن نظراته التي وجهها نحوي كانت كافية لتصلني الرسالة: لم يكن قد نسيني ولا نسي اتفاقنا.
12
حمل فيرمين بمجيئه قدرا كبيرا من الفوائد، من بينها أنه صار عندي متسع من الوقت. عندما لم يكن غارقا في البحث عن مجلد صادر في بلاد بعيدة، كان يدرس السبل المتاحة لينمي من حجم المبيعات في الحي، وينظف الشارة والواجهة، ويمر بقطعة قماش معقمة على ظهر الكتب فيجعلها أكثر بريقا ولمعانا. فانتهزت هذه الفرصة لأشغل وقتي الضائع بنشاطين كنت قد أهملتهما في السنوات الماضية: التأمل في لغز كاراكس، وقضاء مزيد من الوقت مع صديقي توماس آغويلار الذي كنت قد اشتقت إليه كثيرا.
كان توماس شابا جديا وانطوائيا يخشاه الجميع بسبب هيئته الشرسة. له قامة فارس وكتفا مصارع روماني ونظرة صارمة ثاقبة. تعرفت إليه منذ سنوات بعيدة في المدرسة اليسوعية في كاسبي في أول أسبوع من الدوام. جاء والده ليأخذه بصحبة طفلة غليظة القلب وهي أخت توماس. فقلت عنها نكتة لعينة فأمطرني توماس، وأنا في غفلة من أمري، بوابل من اللكمات التي آلمتني طيلة أسابيع. كان توماس أضخم مني وأقوى بمرتين. وفي تلك المعركة في الباحة، وأنا محاط بثلة من الغلمان المتعطشين للدماء، خسرت سنا وكسبت مفهوما جديدا عن كيفية التعامل في حالات معينة. ورفضت أن أفصح للخوري ولأبي عن اسم الفاعل خصوصا وأن أباه كان يحثه على الاعتداء علي مع باقي التلاميذ.
"الذنب ذنبي" قلت كي أنهي الجدال. وبعد ثلاثة أسابيع، التقى بي توماس خلال الاستراحة. كدت أتغوط على نفسي من شدة الفزع. الآن سوف يلقنني بقية الدرس، قلت في سرّي.
تمتم بشيء ما ثم لاحظت أنه أراد الاعتذار مني لأنه نزل في مبارزة ظالمة وغير متكافئة. «أنا من عليه الاعتذار. لم يكن من حقي أن أسيء لأختك» أجبته. «أردت أن أعتذر منك في ذلك اليوم لكنك وثبت فوقي قبل أن أفتح كمي»
شعر توماس بالندم وأخفض عينيه. نظرت إلى ذلك العملاق الخجول كيف يمشي بين الصفوف والممرات وروحه مكبلة بالاسف. كان كل الصبية، بما فيهم أنا، يخافون منه، وهذا ما أدى لعزلته فلا أحد يجرؤ على الحديث معه أو النظر إلى وجهه. سألني إن كنت أوافق على أن أصبح رفيقا له وهو يمدّ يده. كانت المصافحة معبّرة لما سببته من ضيق على كفي لكنني تحملت الألم. وفي ذلك اليوم، دعاني إلى بيته لتناول العصرية معه وأراني مجموعة غريبة من التشكيلات المركبة من قطع بالية وحطام أغراض مكدّسة في إحدى زوايا الغرفة. «لقد صممتها بنفسي» قال لي وهو يشعر بالفخر. لم انجح في فهم كينونة هذه الخزعبلات ولا الفائدة من ورائها، لكنني اكتفيت بالإيماء عن تقديري وإعجابي. كان يبدو أن ذلك الفتى الضخم والوحداني قد صمم أصدقاء من خشب وكنت أنا أول شخص يقدّمني إليهم. كان سرّه يكمن في هذه الأشياء. حدّثته عن أمي وكم كنت أحن إليها. وحين غلبتني الدموع ضمني توماس دون أن ينبس ببنت شفة. كان عمره عشرة أعوام ومنذ ذلك اليوم غدا كل واحد منا صديق الاخر المفضل. رغم ملامحه الانفعالية التي ترعب الصبية الآخرين، فإن توماس كان طيب القلب. يتلعثم قليلا وخصوصا عندما لا يتحدث مع أمه وأخته أو معي، وهذا ما كان نادر الحدوث. كان ولعه بالابتكارات الغريبة والأدوات الميكانيكية كبيرا، وسرعان ما اكتشفت أنه يشرّح أي غرض يقع بين يديه، من المذياع إلى الآلات الحاسبة. وعندما لا نكون معا أو لا يعمل مع أبيه، يقفل توماس على نفسه الغرفة لينشغل بالشيء الوحيد الذي يقضي به الوقت. كان ذكيا بقدر ما كان يفتقد إلى الحس العملي: إذ يهتم ببضع سمات خاصة من العالم الحقيقي، كدقة إشارات المرور في غران فيا، وألغاز النوافير المضاءة في مونتويك والروبوت في مدينة الملاهي الواقعة في تيبيدابو.
كان توماس يعمل كل عصر في مكتب والده وبين الحين والآخر يأتي إلينا في المكتبة. يبدي والدي اهتماما كبيرا باختراعاته ويهديه مجلات عن الميكانيكا وسير أعظم المهندسين مثل إيفل وإديسون اللذين كانا بمثابة قدوة له في الحياة. كان يكن المودة لوالدي ويخطط لأجله، بنتائج متواضعة، نظاما آليا لأرشفة اللوائح المكتبية، مستعينا بقطع مروحة قديمة. كان يعمل في ذلك المشروع منذ أربعة أعوام لكن والدي يتظاهر بحماسه الشديد على أي تقدم مهما كان بسيطا، كي لا تثبط عزيمة توماس. في البداية أقلقني كيف استقبله فيرمين.
«لابدّ أنك المخترع صديق دانيال. إني سعيد جدا بالتعرف إليك. أدعى فيرمين روميرو دي توريس مستشار ثقافي في مكتبة السيد سيمبيري، إنني في خدمتك»
"توماس آغويلار" تلعثم صديقي وهو يبتسم ويصافح فيرمين.
«على رسلك، فهذه ليست يدا إنما معصرة هيدروليكية. وأنا علي أن أحافظ على نعومة أناملي كي أعمل جيدا.»
اعتذر توماس وأطلق يد فيرمين.
«بالمناسبة، ما هو رأيك في مبرهنة فيرما؟» سأل فيرمين وهو يدلّك اصابعه. وبعد لحظات انغمس الاثنان في نقاش ممتع عن الرياضيات السرية، وكان الموضوع بالنسبة إلي مبهما كأنهما يتحدثان بالصينية. كان فيرمين يرفع الكلفة معه دائما أويلقبه بالأستاذ متظاهرا بأنه لا ينتبه إلى لعثمات توماس. فيردّ الأخير، ثناء على صبر فيرمين الواسع، بإهدائه علبا من الشوكولاطة السويسرية المغلفة بصور البحيرات والأزرق الفيروزي، والأبقار في المراعي النضرة وساعات الوقواق.
«إن صديقك توماس موهوب جدا لكنه محروم من الذوق الرفيع وينقصه القليل من الاندفاع وهو شرط أساسي للتفوق» أعرب فيرمين عن رأيه. «العلماء هكذا. خذ مثلا ألبرت إينشتاين: انكب بكل ما أوتي من علم وجهد على ابتكار الفرضيات الخارقة، وأول نظرياته التي حصلت على تطبيق عملي كانت بهدف صناعة القنبلة الذرية، ودون إذنه علاوة على ذلك. واعلم أن صديقك الذي يشبه الملاكم لن يكون مقبولا في الأوساط الأكاديمية، لأن الأحكام المسبقة هي آخر من يتعرض للفناء في هذا العالم.»
بعد أن قرر فيرمين أن ينقذ توماس من سوء الفهم، راح يحث طاقاته الخطابية الكامنة وينهض بجانبه الاجتماعي.
«بما أن القرد هو أصل الإنسان فهو حيوان اجتماعي ويعتبر الواسطة والمحسوبية والمقايضة والنميمة نماذج جوهرية للسلوك الأخلاقي »
كان يفكر«إنها قوانين البيولوجيا.»
«ألا ترى أنك تبالغ؟»
«يا لك من ساذج يا دانيال.»
ورث توماس هيئته الصارمة من أبيه، مدير مكتب العقارات في شارع بيلايو، بجانب مخازن السيجلو. وينتمي السيد آغويلار إلى ذلك الصنف المميز من الناس الذين يعدّون أنفسهم على صواب دوما. ورغم أن ابنه نسخة عنه، فقد كان مقتنعا بأن توماس جبان ومتخلف عقليا. ولكي يعالج هذه الغباوة المؤسفة، كان يكلف معلمين خصوصيين في كل المجالات كي يجعلوا من نجله إنسانا طبيعيا.
«أريدك أن تعامل ابني كما لو كان مغفلا، هل فهمت؟» سمعته يقول في أكثر من مناسبة. وكان المعلمون يضعون جل ما عندهم ويجربون كل المحاولات، بما فيها التوسل كي يكف توماس على مخاطبتهم باللاتينية، وهي لغة يتقنها بطلاقة كالبابا ودون أن يتلعثم أيضا. فيقدّم المعلمون الخصوصيون استقالاتهم، بعد حين، جراء الإحباط أو الخشية من أن هذا الشاب قد مسته الجن وربما يلعنهم باللغة الآرامية. فلم يبق للسيد آغويلار من آمال سوى الخدمة العسكرية التي ستحوّل ابنه إلى رجل حقيقي. أما أخت توماس فتكبرنا بسنة واحدة وتدعى بياتريز. وكان لها الفضل في صداقتي مع أخيها، فلو أنني لم أرها في ذلك اليوم البعيد برفقة والدها الذي يمسك بيدها، ولو أنني لم أطلق عليها تلك النكتة السخيفة، لما كان صديقي ليضربني وما كنت لأجرؤ على التحدث إليه. كان وجه بياتريز آغويلارنسخة عن وجه أمها، وورثت نظرة عينيها من أبيها. كانت صهباء وبشرتها ناصعة البياض، وترتدي دوما ثيابا باهظة الثمن من حرير أو كتان. لها جسد عارضة أزياء وتمشي منتصبة القامة، وتزهو بكبرياء يقنعها بأنها أميرة الخرافات التي تحب أن تقرأها. لون عينيها أخضر مائل إلى الزرقة لكنها تصر على تعريفه بـ«لون الزمرد والياقوت». ورغم أنها كانت تتردد إلى مدارس الراهبات التيريزيات، أو ربما لأنها تتردد إلى تلك المدرسة، كانت بيا تتجرع كؤوسا من مشروب اليانسون الروحي خلسة عن أبيها، وترتدي جوارب من حرير وتتزين كنجمات السينما اللواتي يقتحمن أحلام صديقي فيرمين. لم أكن أستطيع النظر إليها حتى لو كانت جمادا، وكانت تشاطرني عدائي الصريح بنظرات باهتة ومزدرية. أما خطيبها، الذي التحق بالخدمة العسكرية برتبة ملازم ثان في مرسية، فكان مواليا لحزب الفالانخ (الكتائب)8 ويطلي شعره بالدهن ولا يردّ على نداء أحد إلا إذا ناداه باسمه الكامل، بابلوكاسكوس بوينديا. ينحدر من عائلة نبيلة تملك مجموعة من المؤسسات التي تشيد السفن في غاليسيا. وكان الملازم كاسكوس بوينديا يحصل على الإجازات الطويلة بفضل عمه الموظف في الحكومة العسكرية. ومن بين عاداته مثلا أن يتجرع خطابات عن السمو العرقي والروحي للأمة الإسبانية وعن قرب انهيار الإمبراطورية البلشفية.
«ماركس مات» كان يصرّح بنبرة مستعلية.
«عام 1883 للدقة» كنت أضيف.
«اخرس أنت أيها الأحمق، وإلا هشمت وجهك وأرسلتك إلى لاريوخا.»
رأيت ابتسامة بيا اللعوب أكثر من مرة بينما تستمع إلى ترهات خطيبها. وحينها كانت تبحث عن نظراتي وتركز النظر في عينيّ. فكنت أبتسم لها باحترام مزيف لعدؤ وقع لتوّه على الهدنة وأزيح عينيّ إلى مكان آخر. ليتني مت قبل أن أعترف: تلك الفتاة تزرع الرعب في قلبي.
13
في بداية العام قرر توماس وفيرمين أن يوحدّا ذكاءهما ليفكرا في مكيدة تحول بيننا، أنا وتوماس، وبين الالتحاق بالخدمة العسكرية. إذ أن فيرمين، على وجه الخصوص، لم يكن يشاطر السيد آغويلار حماسه فيما يتعلق بالتجربة العسكرية .
«الخدمة العسكرية تفيد في ترسيخ نسبة الغباء والفظاظة التي رشحت عن الإحصاء الوطني» كان يؤكد. «ولهذا فإن أسبوعين منها فقط كافيان، وليس سنتين. الجيش والزواج والكنيسة والمصرف هم بمثابة فرسان رؤيا يوحنا الأربعة. أجل، أجل، اضحك، هيا» ستتداعى مسلمّات فيرمين الفوضوية التحررية في مساء من شهر أكتوبر حين تلقينا دعوة من صديقة قديمة، أوفدها القدر حتما. اتجه والدي إلى أرخينتونا ليثمن مجموعة من الكتب وأخبرنا بأنه سيعود متأخرا. وكنت منشغلا مع الزبائن بينما يرتب فيرمين آخر طابق من الرفوف متسلقا مثل لاعب الحبل على بعد شبر عن السقف. بعد مغيب الشمس، ظهرت برناردا قبالة الواجهة. كان ترتدي أزهى ثيابها كعادتها في يوم عطلتها يوم الخميس. حيتني بيدها، فملأتْ رؤيتها قلبي بالسعادة وأشرتُ إليها بالدخول.
«كم كبرت يا صغيري» قالت وهي تطأ عتبة المحل. «كدت أحسبك شخصا آخر... لقد صرت رجلاً»
ضمّتني بحنان وذرفت بعض الدموع وتلمست رأسي، لعلها ظنت أنني حطمت دماغي في غيابها.
"في البيت نشعر بغيابك جدا يا سيدي الصغير" قالت وهي تخفض أنظارها.
«وأنا أيضا اشتقت إليك يا برناردا. أعطني قبلة هيّا» لثمتني بحياء وبادلتها قبلتين على وجنتيها فضحكت.
قرأت في عينيها أنها كانت تنتظر أن أسألها عن أخبار كلارا. لكنني لم أكن أنوي هذا ابدا. «يا لأناقتك يا برناردا !ها قد مررت لزيارتنا أخيرا. أي رياح حميدة حملتك إلينا؟»
" في الحقيقة كنت أود زيارتكم منذ وقت طويل، ولكنني مشغولة دوما كما تعرف، فالسيد برسلوه، على غزارة علمه، يظل دائما مثل الأطفال في حاجة إلى كثير من الصبر والعناية. ولكنني جئت اليوم خصيصا لأن غدا عيد ميلاد ابنة أختي، تلك المقيمة في سان أدريان، وأرغب أن أقدّم لها هدية معتبرة. فكرت في كتاب جيد فيه الكثير من الكلمات والصور، ولكن نظرا إلى جهلي وبما أنني لا أفهم في هذا...»
اهتزت الأرض قبل أن أستطيع أن أرد عليها: سقطت بعض كتب بلاسكو إيبانييز المجلدة من أعلى الرفوف. ارتعدنا، أنا وبرناردا، وشخصت أبصارنا. كان فيرمين ينزل من على السلم كالبهلوان ووجهه منير بابتسامة الزنادقة وعيناه تشعان بشهوة جمالية.
«أعرفك على...»
«فيرمين روميرو دي توريس، مستشار ثقافي في مكتبة سيمبيري ونجله. إنني في خدمة قدميك يا سيدتي» قال فيرمين وهويقبل يدها.
وسرعان ما اشتعلت وجنتاها خجلا كقرن الفليفلة الحمراء. «إنك مخطئ يا سيدي فأنا لست بسيدة. إنني... »
«ماركيزة على الأقل» قاطعها فيرمين.
«اسمعي مني فأنا أتردد إلى الأوساط الاجتماعية النبيلة في حي بيارسون. اسمحي لي أن أرافقك إلى قسم روائع أدب الأطفال واليافعين حيث تجدين، بكل طمأنينة، مختارات من أفضل أعمال إيميلو سالغاري وقصص ساندوكان الحماسية. »
«أفضل أن أتجنب قصص القديسين، فأبو الفتاة كان من مؤيدي الأناركية قلبا وقالبا.» «اطمئني يا سيدتي فما لدينا هنا ليس أقل من «الجزيرة الغامضة، لجول فيرن، كتاب عن المغامرات التي تحتوي على مغزى أخلاقي رفيع، بكل ما يتضمنه عن الابتكارات التكنولوجية.»
«إن كنت أنت من ينصحني...»
كنت أراقبهما دون أن ألفظ شيئا. كان فيرمين في كامل نشوته وبرناردا في كامل حيائها وهي تحت رحمة ذلك المخلوق الذي يحاصرها بأحاديثه كالداعية، وينظر إليها باهتياج لطالما خص به شوكولاطة النستلي.
«وأنت يا سيد دانيال، ما رأيك؟»
«الخبير هو السيد فيرمين روميرودي توريس. ثقي به.»
« سآخذ كتاب الجزيرة إذن. هلا غلفته لي؟ كم ثمنه؟»
«هدية من محلنا.»
«آه لا. لا أستطيع أن أوافق.»
"اسمحي لي يا سيدتي بأن أكون أكثر الناس سعادة في برشلونة. هلا قبلت الكتاب هدية من فيرمين روميرودي توريس؟» نظرت إلينا برناردا بارتباك.
«انظر يا سيدي. إنني أدفع دائما ثمن ما أشتري، ثم إنها هدية لابنة اختي... »
«اسمحي لي إذن، على سبيل المبادلة، أن أدعوك لتناول مشروب ما»
اقترح فيرمين وهو يمرر يده على شعره.
«هيا يا برناردا!» شجعتها.
« سوف تستمتعين كثيرا. وبينما يجد فيرمين سترته أكون قد انتهيت من تغليف الكتاب.» اندفع فيرمين باتجاه المستودع ليسرّح شعره ويضع العطر ويرتدي السترة. مرّرت إليه بعض النقود كي يتسنى له أن يقدّم لها شيئا.
«أين آخذها؟» سألني هامسا بانفعال كالمراهقين.
«لو كنت محلك لاصطحبتها إلى مقهى السل كواتري غاتس» قلت. «إنه أفضل مكان كي يستبشر القلب خيرا في الحب.» أعطيت الكتاب مغلفا إلى برناردا وغمزت بعيني ناظرا إلى فيرمين.
«كم ثمنه يا سيدي دانيال؟»
«لا أعرف فالثمن ليس موضوعا على الكتاب. علي أن أسأل والدي وأخبرك لاحقا) » كذبت.
وبينما كانا يبتعدان بأيديهما المتشابكة في زقاق سانتا آنا، تراءى لي أحد في السماء وهو يظلهما بجناحيه سامحًا لهذين الاثنين، لمرة واحدة فقط، بفتات من السعادة.
علقت لافتة "مغلق" على زجاج واجهة المكتبة وذهبت إلى المستودع كي أتحقق من اللائحة التي سجل والدي عليها الطلبيات. وعندما سمعت الجرس المعلق على الباب ظننت أن فيرمين
قد نسي شيئا ما أو أن أبي قد عاد من أرخينتونا.
"مر هنالك؟" انتظرت الرد بلا جدوى فواصلت التحقق في لائحة الطلبيات. سمعت صدى خطوات خفيفة.
«فيرمين؟ أبي؟» بدا لي أنني سمعت صوت ضحكة خافتة فأغلقت اللائحة. لعله كان زبونا لم ينتبه للافتة الإغلاق. ثم ارتعدت ركبتاي لصوت بعض الكتب التي تساقطت من احد الرفوف. امسكت بقاطعة الورق واقتربت بحذر إلى باب المستودع. ثم سمعت خطى تبتعد وجرس الباب ايرن مجددا. أشرفت برأسي من عتبة المستودع فلم أجد أحدا. ركضت نحو الباب وقفلته. التقطت عميق أنفاسي وشعرت بأنني جبان ومثير للسخرية. وكنت سأعود إلى المستودع لولا أنني لمحت بطاقة كرتونية على المصطبة. كانت صورة فوتوغرافية - من تلك التي كانوا يطبعونها في الماضي على الورق المقوى، وحوافها محترقة وتبدو عليها بعض البصمات المتسخة من الفحم. تفحصتها تحت ضوء القنديل. ثمت شابان يبتسمان للمصور. هو، يبلغ السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، شعره فاتح اللون وهيئته أرستقراطية والتعب باد عليه. أما هي، فتبدو أكبر منه بقليل بسنة أو سنتين كحد أقصى، بشرتها ناصعة البياض ووجهها كامل الأوصاف، شعرها المنثور أسود داكن اللون ومغاير لنظراتها المنيرة والمشعة فرحا. هو يلف ذراعه على خصرها وهي تبدو كأنها تهمس في أذنه شيئا يثير البهجة. اختطفت مني الصورة ابتسامة كأنني تعرفت فيها على صديقين قديمين. كان خلفهما واجهة محل مليئة بالقبعات التي ولى عصرها. ويبدو من طراز زيهما أن الصورة التقطت قبل خمس وعشرين سنة أو ثلاثين عاما على الأقل. كانت الصورة تعبر عن التفاؤل والأمل الذي يهل من نظرات الشاب والشابة. هشمت ألسنة اللهب حواف الصورة، ولكن خلف تلك الواجهة القديمة هنالك شارة لولبية مخيفة تتجلى من بين الحروف المكتوبة:
أبناء أنطوني فورتوني
شُيّد البناء عام 1888
في الليلة التي ذهبت فيها إلى مقبرة الكتب المنسية روى لي إسحاق أن كاراكس كان يستخدم كنية أمه. وكان والده يدعى فورتوني، ولديه محل لبيع القبعات في روندا دي سان أنطونيو. تمعنت جيدا في الوجه فأدركت أن الفتى هو خوليان كاراكس، يبتسم لي من الماضي البعيد، غير مدرك لألسنة اللهب التي تداهمه من كل جانب.
مدينة الظلال: 1954
14
في صباح اليوم التالي، جاء فيرمين إلى العمل يختال فرحا وينشد بعض أهازيج البوليرو الشعبية. كان بودي أن أسأله كيف جرت الأمور مع برناردا لكن مزاجي لم يكن ليحتمل الأقاصيص الرومانسية. فكان على والدي أن يؤمن بعض الكتب للبروفسور خافيير فيلازغيز. وعرضت نفسي لحمل الكتب إليه في الجامعة بما أن فيرمين أصيب بالحساسية من مجرد ذكر اسم البروفسور الأكاديمي.
«هذا الرجل متحذلقٌ وفاسق، وفاشي متسلق » ثار فيرمين ولوّح بجمع يده في الهواء، كما كان يفعل عندما يقوم بانتقاده اللاذع لأهواء المجتمع. «لو رجع الامر إليه لفرض الخدمة العسكرية حتى على الإناث، بذريعة منصبه فيالجامعة والامتحانات.»
«لا تقل الأباطيل يا فيرمين. فيلازغيز زبون محترم، ويدفع سلفا على الدوام ويقوم بالدعاية لمكتبتنا في كل مكان» ذكّره والدي.
«إنه مال ملطخ بدم العذارى البريئات» اعترض فيرمين. «يشهد عليّ اللّه بأنني لم أختل يوما بقاصر، وبالتأكيد ليس لأنه لم يعرض علي أو كنت بلا رغبة في ذلك. ففي الماضي كنت مغوارا وذا بأس أما الآن فخارت قواي. ومع هذا لو انتابني شك واحد بأن الفتاة دون سن الرشد لتحققت من بطاقتها الشخصية أو طلبت تصريحا خطيا من ولي أمرها، كي لا انتهك الاعراف والمبادى الاخلاقية.» رفع والدي نظره إلى السماء.
«من المستحيل أن يناقشك المرء يا فيرمين.»
«بالطبع، عندما أكون على حق.»
أخذت الطرد الذي حضّرته مساء أمس، كتابين لريلكه ودراسة منسوبة لأورتيغا عن وجبة التاباس والشعور العميق بالوطنية، وتركت فيرمين يجادل أبي عن الأعراف والتقاليد. كان النهار في غاية الروعة: السماء صافية والنسائم تنشر رائحة البحر والخريف في الجو. إنني أفضّل برشلونة في شهر أكتوبر، فالمدينة تظهر أجمل وجوهها ومن الممتع أن يروي المرء ظمأه من نوافير كانتيلاس، والغريب أن هذه النوافير ليس لها طعم الكلور في هذه الفترة من السنة. كنت أتقدم كأن الريح تحملني متجنبا المرور أمام ماسحي الأحذية وبائعي اليانصيب والباعة الذين يدخلون إلى محلاتهم بعد استراحة لاحتساء القهوة. تركت خلف ظهري مجموعة من عاملي النظافة الذين كانوا ينظفون المدينة بدقة وهدوء، وهم يستخدمون المكنسة كأنها ريشة رسم. وكانت السيارات تجول في المدينة بكثرة منذ ذلك الزمان. عندما وصلت إلى مستوى إشارة المرور في شارع بالميس لاحظات حشدا من الموظفين الذين يبتلعون بأعينهم سيارة ستادبيكر كما لو أنها عارضة مسرحية ترتدي ثيابا خليعة. واصلت السير حتى جران فيا بعد عبور التقاطعات حيث يمر الترام والسيارات والدراجات بسرعة كبيرة. ثمت إعلان لشركة فيليبس معروض على واجهة أحد المحلاًت يبشر بوصول المخلّص الجديد، التلفزيون، الذي كان سيغير حياتنا ويحوّلنا إلى إنسان المستقبل لنصبح مثل الأمريكيين. وكان فيرمين، الذي لطالما استبق الزمن، قد نطق بتنبؤاته.
«التلفزيون يا عزيزي دانيال هو المسيح الدجال. لن يعود بوسع الناس أن يضرطوا دون الاستعانة بأحد في غضون ثلاثة أجيال أو أربعة، وسوف يتقهقر الكائن البشري إلى العصر الحجري، سيتقهقر إلى بربرية العصور الوسطى، بل إلى مرحلة تخطاها الحلزون في نهاية العصور الجليدية. لن يفنى العالم بسبب قنبلة نووية كما تقول الصحف، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة التي ستحوّل الواقع إلى نكتة سخيفة. »
كان مكتب البروفسور فيلازغيز يقع في الطابق الثاني من كلية الآداب، في آخر الممر المبلط كرقعة الشطرنج والذي يطل على الباحة الجنوبية. وجدت البروفسور يتظاهر بالإصغاء إلى طالبة لها جسد يحبس الأنفاس، وترتدي فستانا مفتوحا وضيقا على الخصر لتبدو عضلات ساقيها كمنحوتة إغريقية تغطيها جوارب حريرية شفافة. كان البروفسور مشهورا بلقب الدون جوان، ويشاع بأن الفتيات اللواتي ينحدرن من عائلات عريقة لا تكتمل تربيتهن قبل أن يقضين نهاية أسبوع في نزل صغير على شاطئ "سيتغس" حيث ينشدن الأشعار برفقة ذلك الأستاذ البارز. فرضت عليّ فطرة البائع ألا أقاطع المحادثة بينهما، وهكذا رحت أنظر إلى الطالبة بهدوء. ولعل هذا بسبب النزهة الطويلة التي قمت بها، أو لأعوامي الثمانية عشر بل ربما للعادة بقضاء الوقت بصحبة الحسناوات اللواتي يسكن بين صفحات الكتب بدلا من فتيات بلحمهن وعظمهن (فتيات يتخلّفن عن كلارا برسلوه بأعوام ضوئية). ولكنني شعرتُ بالدوار بعد أن شرّحتُ تلك الفتاة نقطة نقطة، وقد كنت أراها من الخلف فقط لكنني أتخيلها بأبعادها الثلاثة.
«يا لها من مفاجأة طيبة يا دانيال »هتف البروفسور فيلازغيز. «حمدا للسماء أنك جئت بدلا من ذلك المضحك مصارع الثيران الذي جاء المرة الماضية. بالنسبة إلي إما أنه سكير أو مجنون من الواجب تقييده. تصوّر أنه سألني إن كنت أعرف مصدر كلمة "برعم" بنبرة ساخرة وغير لائقة. »
«هذا لأنه يتناول أدوية قوية جدا. لديه مشاكل في الكبد.»
«هذا لأنه سكير» انفجر غاضبا. ولو كنت محلّكما لاستدعيت الشرطة. أجزم أن له سوابق. ويا لرائحة قدميه الكريهة! هؤلاء اليساريون لا يستحمون منذ ان سقطت الجمهورية. »
كنت على وشك أن أخترع كذبة مقبولة كي أبرّئ فيرمين حين استدارت الطالبة وأوقعتني في هول المفاجأة.
«مرحبا يا دانيال» قالت بياتريز أغويلار.
أجبتها بهزة من رأسي، بعد أن انعقد لساني من بعض الأفكار التي راودتني بحق أخت صديقي العزيز.
«هل تعرفان بعضكما؟» سأل فيلازغيز بفضول.
«دانيال صديق العائلة » أجابت بيا. «الوحيد الذي امتلك الشجاعة ووصفني بفظّة القلب»
نظر إلي فيلازغيز باستغراب.
"مرّت على هذا عشرة أعوام" حددت. "وكنت أمزح"
«حسنا. مازلت أنتظر أعذارك.» انفجر فيلازغيز ضاحكا وأخذ الطرد من يدي.
«أشعر بأن وجودي غير مناسب هنا» قال البروفسور وهو يفتح الطرد. «جيد جدا. قل لأبيك يا دانيال إنني مازلت أبحث عن كتاب «ماتاموروس: رسائل أيام الشباب من سبتة، لفرانشسكو فرانكو باهاموندي، من تقديم وشرح بيمان.»
«دون شك يا سيدي. سنعلمك في غضون أسبوعين كحد أقصى.»
«أنت ملزم بما قلت. والآن سأترككما، فهناك اثنان وثلاثون دماغا فارغا ينتظرونني داخل القاعة. » غمزني البروفسور بعينه ودخل إلى القاعة، وتركني وحدي مع بيا.
ولم أعرف أين أهرب بأنظاري. «اسمعي يابيا. بخصوص تلك الإساءة، لابدّ أن تعرفين بأنني...»
«كنت أمزح معك يا دانيال. فقد كنا صغارا. ثم إن توماس لقنك الدرس.»
«ومن ينسى ذلك الدرس؟»
|كانت بيا تبتسم بلطف كمن يريد إحلال السلام، أو الهدنة على الأقل. «ولم تكن مخطئا على كل حال. فأنا غليظة القلب أحيانا» قالت بيا. «أنت لا تستلطفني كثيرا، أليس كذلك؟»
باغتني سؤالها وأربك في خاطري ذلك النوع من السعادة حين يتجرد عدوك من السلاح. «كلا. ليس صحيحا.»
«بالنسبة إلى توماس، أنت تكره والدي ولكنك تعاديني لأنك تخاف منه. ولست وحدك فالجميع يهاب والدي.»
شحب وجهي كقطعة قماش بالية، ثم ابتسمت في سري بعد قليل ورأيت أنها محقة في ما تقول. «هل ترين أن توماس يعرفني أكثر مما أعرف نفسي؟»
«لا تستغربا فأخي لا تفوته فائتة، مع أنه لا يتكلم مطلقا. ولكن إن قرر ذات يوم أن يتحدث فسوف تهتز الجدران. أتعرف أنه يعزك كثيرا؟» انتابني الحياء وأنا أخفض أنظاري. «لا يفعل شيئا سوى الحديث عنك وعن أبيك وعن المكتبة وعن ذلك الصديق الذي يعمل معكم... توماس يعتبره عبقريا مظلوما. بعض المرات اشعر انكم عائلته الحقيقية. »
كانت نظراتها صارمة وجسورة وشجاعة. لم أعرف كيف أجيبها فالتزمت الابتسامة. شعرت أننى مكبل بصراحتها فرحت أنظر إلى السقف.
«لم أكن أعرف أنك تدرسين هنا.»
«إنني في السنة الأولى.»
«آداب؟»
«أبي يعتقد أن الفرع العلمي ليس مناسبا للجنس اللطيف.»
«فعلا. ثمت الكثير من الأرقام.»
«لا يؤسفني ذلك في الواقع. أحب القراءة وهنا أتعرف على أشخاص
مثيرين للاهتمام.» «مثل البروفسور فيلازغيز؟» ابتسمت بيا بما يدعي للسخرية.
«رغم أننى في السنة الأولى، فإنني أعرف كيف أصدّ هذا النمط من
البشر. »
سألت نفسي من أي نمط بشري أكون بالنسبة إليها.
«البروفسور فيلازغيز صديق والدي. إنهما عضوان في المجلس الإداري لجمعية تقوم على إحياء الزارزيولا9 والأوبريت الإسبانية»
تظاهرتُ بأنني مهتم جدا بالموضوع.
«كيف حال خطيبك، الملازم كاسكوس بوينديا؟» ضحكت بيا.
«بابلوسوف ينهي الخدمة خلال ثلاثة أسابيع.»
«وانت سعيدة بهذا.»
«جدا. إنه شاب رائع، مع أني أتخيل أن لك نظرة مختلفة فيه.» ساورني الشك حول ما قالت، فحرصتْ على أن تأخذ حذرها. كنت أريد أن أغيّر الموضوع لكن الكلمات خانتني وفرّت من بين شفتيّ.
«قال لي توماس بأنكما سوف تتزوجان وتنتقلان للعيش في الفيرول.» هزت برأسها مؤكدة. «ما إن يحصل بابلو على نهاية الخدمة.»
« سوف تفقدين صبراك» قلت بنبرة خبيثة كنت أول من تفاجأ بها.
«لا فرق عندي. لدى عائلته أملاك ومؤسسات لتشييد السفن في غاليسيا، وربما يدير بابلوواحدة منها، فله سمات القائد. »
«واضح. »
تجهمت بيا. «ثم إنني أعرف برشلونة كراحة يدي وعشت فيها زمنا طويلا. »
لاحظت الحزن يطوف على عينيها.
"يبدو أن الفيرول مدينة آسرة. ويهتمون بتحضير القشريات اللذيذة وعلى رأسها سرطان البحر" قلت.
هزت بيا برأسها وتنهدت، كأنها كادت تنفجر باكية من الغضب، لكن عزة نفسها دفعتها إلى الابتسام بهدوء.
«مرت عشرة أعوام ومازلت تستمتع بالإساءة إلي، أليس كذلك؟ هيا، أفرغ غليلك فإنني أستحق هذا، ظننت أنه بوسعنا أن نصبح صديقين، أو نتظاهر بذلك على الأقل، ولكنني لست على مستوى أخي ربما. اعذرني إن ضيعت وقتلك.»
استدارت واتجهت نحو الممر الذي يفضي إلى المكتبة. رأيتها تبتعد على البلاط الأسود والأبيض، يلفها الضوء الذي يدخل من زجاج النوافذ.
«بيا، انتظري» لحقت بها وأنا ألعن طباعي السيئة.
وصلت إليها في منتصف الممر وأمسكت بذراعها. فأطلقت علي سهام نظراتها.
«اعذريني. الذنب ذنبي. هذا انا الذي لا يصل مستواه إليك ولا لأخيك. لو كنت قد أسأت إليك فلأنني أحسد خطيبك الأحمق، ويبدولي من غير الممكن أن فتاة مثلك تغادر إلى الفيرول أو إلى أي مكان آخر للحاق به.»
«دانيال...»
«أنت مخطئة، بوسعنا أن نكون صديقين إن كانت رغبتك ما تزال قائمة الآن وقد عرفت كيف أكون. وأنت مخطئة أيضا بالنسبة إلى برشلونة، تظنين أنك تعرفينها كراحة يدك لكنني على ثقة بأن هذا ليس صحيحا.وإن سمحت لي سأثبت لك ما أقول.»
ازدان وجهها وهي تمسح دمعة بطيئة تنساب على وجنتها.
«آمل أن تكون صادقا» قالت: «والا سيهشم أخي رأسك كما يفعل
بدمية صغيرة»
مددت يدى. «موافق. أصدقاء؟»
صافحتني.
"في أي ساعة تنتهي دروسك يوم الجمعة؟» سألتها.
ارتبكت لوهلة. " في الخامسة. »
«نلتقي هنا في الباحة في تمام الخامسة. قبل أن يهبط المساء سأكون قد عرّفتك على بعض زوايا برشلونة التي لا تعرفينها. وهكذا ستدركين أنك لن تستطيعي الذهاب إلى إل فيرول مع ذلك الأحمق الذي لا أجرؤ حتى على التصديق بأنك مغرمة به. أما إذا غادرت فإن ذكرى هذه المدينة سوف تلاحقك حتى القبر. »
«تبدو واثقا جدا من نفسك يا دانيال. »
نا الذي لم أكن واثقا من أي شيء، ولا حتى من اسم ذلك اليوم، هززت راسي بعجرفة المرء الجاهل. بقيت انظر إليها وهي تبتعد في ذلك الممر الذي لا نهاية له حتى تلاشى طيفها في ظل عميق. وحينها تساءلت عمّا أدخلني في هذه الورطة.
15
كان محل بيع القبعات لصاحبه فورتوني، أو ما بقي من أطلاله، يقع في الطابق الأرضي من مبنى جليل اسود بفعل رواسب الدخان، في روندا دي سان أنطونيو، بجانب بلازا غويا. كانت شارة الاسم ما تزال واضحة واللافتة المزحومة على شكل قبعة إنكليزية أيضا رغم الوسخ الذي حل بالزجاج. اللافتة ناتئة عن الواجهة وتعرض إعلانات عن الموديلات والقياسات وأحدث الصرعات الباريسية. كان الباب مغلقا بقفل يبدو أنه وضع منذ ما لا يقل عن عشرة أعوام. التصق أنفي بالزجاج بغية استراق النظر إلى الداخل.
"إن أتيت هنا كي تستأجر فقد وصلت متأخرا" قال أحد ما من ورائي. « مدير البناية قد انصرف منذ زمن.»
كانت امرأة تناهز الستين عاما وترتدي بزة وطنية للأرامل المخلصات. تظهر بعض مجعدات الشعر من تحت شال زهري، وتنتعل خفا بلاستيكيا مطرزا ينسجم مع لون الجوارب البشري. وكنت شبه متيقنا من أنها ناطورة البناية.
«هل المحل للإيجار؟»
«ألم تأت لهذا؟»
«ليس من أجل هذا بالتحديد، ولكن ربما يهمني الأمر.»
تجهم وجه الناطورة في محاولة لتتخذ قرارا بشأني إن كنت أضيع وقتها أم أستحق أن يشك في أمري. فابتسمتُ كالملائكة في وجهها.
«هل المحل مغلق منذ أمد بعيد؟» «منذ عشرة أعوام على الأقل، منذ أن توفي العجوز.» «السيد فورتوني؟ هل كنت تعرفينه؟»
«إنني أعيش هنا منذ أربعة وأربعين عاما أيها الفتي.»
«إذن فأنت تعرفين ابن السيد فورتوني أيضا.»
«خوليان؟ بالتأكيد.»
أخرجتُ من محفظتي الصورة محروقة الحواف وأريتها إياها.
«هل بإمكانك أن تقولي لي ما إذا كان الصبي الذي في الصورة هو خوليان كاراكس؟» نظرت إلي بعدم ارتياح. ثم أخذت الصورة وأمعنت النظر فيها.
«هل هو خوليان كاراكس؟»
«كاراكس كنية أمه قبل الزواج » حددت الناطورة، بنيرة تأنيب. «هذا هو خوليان، نعم. كان أشقر حتى لوبدا شعره في الصورة قاتما.»
«هل بإمكانك أن تقولي لي من هي تلك الفتاة؟»
«ألا تقول لي من أنت بالأحرى؟»
«معك حق. أنا دانيال سيمبيري. أبحث عن معلومات عن السيد كاراكس، خوليان كاراكس.» «خوليان ذهب إلى باريس عام 1918 أو 1919. كان والده يريد أن يرسله إلى الجيش فاخذته امه بعيدا كي تجنب المسكين من التجنيد، أتفهم؟ وهنا بقي السيد فورتوني بمفرده وكان يعيش في الطابق الأخير.»
«وهل تعرفين إن كان خوليان قد عاد إلى برشلونة؟» نظرت إلي متأثرة.
«ألا تعلم أن خوليان توفي في باريس في ذلك العام نفسه؟»
«وكيف عرفت ذلك؟»
«قلت لك إنه مات في باريس بعد أن غادر بقليل. وكان من الأفضل لو تجند في الجيش.» «هل بوسعي أن أسألك كيف عرفت ذلك؟»
«وكيف تريدني أن أعرف ذلك؟ أخبرني والده بالأمر.»
هززت رأسي ببطء. «أفهم ذلك. وهل قال لك كيف مات؟»
"في الحقيقة لم يخبرني العجوز بالتفاصيل. ذات يوم، بعد أن غادر خوليان بمدة قصيرة، وصلته رسالة، وحينما أعطيتها لوالده قال لي إن ابنه قد مات وإنه ينبغي أن أرمي أي غرض يمت له بصلة. لماذا أنت مستغرب هكذا؟»
«لقد كذب السيد فورتوني عليك. خوليان لم يمت عام 1919.»
«هل أنت جاد في ما تقول؟» «لقد عاش في باريس حتى العام 1935 ثم عاد إلى برشلونة.» جحظت عيناها. «خوليان في برشلونة إذن؟ أين؟»
انتظرت آملا أن تمدّني المرأة بمعلومات أخرى.
"حمداللعذراء يا لروعة ما تنقله إلي من أخبار، إن كان ما يزال حيا طبعا... كان فتى ودودا جدا وخصب الخيال كما تعلم. كان غريب الأطوار، لا أنكر ذلك، لكنه يأسر القلوب. لم يكن لينجح في خدمة الجيش وكان هذا الامر في غاية الوضوح. كانت ابنتي إيزابيليتا تحبه كثيرا، حتى ظننت أنهما سوف يتزوجان، ولكنها كانت شقاوة الصبا كما تعلم... هل لي أن أرى الصورة ثانية؟»
أعطيتها إياها. كانت الناطورة تمعن النظر فيها كأنها تحاول فك طلامسها، كأنها تذكرة عودة إلى أيام شبابها.
«لدي إحساس كأنني أراه أمامي في هذه اللحظة... تصوّر، وذلك المقيت قال لي إنه ميت. يا لدناءة بعض الناس. وما الذي قام به خوليان في باريس؟ لعله أصبح غنيا. لطالما فكرت أنه سوف ينجح في هذا.»
«ليس تماما. لقد أصبح كاتبا.»
«يكتب القصص؟»
«تقريبا. كان يكتب الروايات.»
«لنشرها في الإذاعة؟ لا أستغرب ذلك أبدا. حين كان طفلا لم يكن يقوم بشيء آخر سوى قص الحكايات على أطفال الحي. وفي بعض الأحيان من الصيف كانت ابنتي إيزابيليتا وبنات عمومتها يصعدن إلى الشرفة ليصغين إليه. يقلن إنه لم يكن يكرر القصة ذاتها مرتين. لكنها قصص مليئة بالأشباح والأموات دوما. كان فتى غريب الأطوار فعلا، غير أنه استطاع ألا ينتهي في المصحة النفسية مع أنه ابن لوالد مثل السيد فورتوني. ومن المنطقي جدا أن تكون زوجته قد هجرته. أنا لا أتدخل في هذه الأشياء، فليكن واضحا، لكن ذلك الرجل كان شريرا للغاية. في البنايات لا يُخبّاً سرّ. هل تعلم أنه كان يضربها؟ كنا غالبا ما نسمع صرخاتها وجاءت الشرطة أكثر من مرة. أتفهم أن على الرجل أن يستخدم الأساليب القاسية بعض الأحيان كي يفرض هيبته واحترامه، الآن لم تعد النساء خاضعات لسلطة الزوج بالمطلق كما كن سابقا، لكنه كان يضربها دون سبب، أتفهمني؟ كانت الجارة بيثينتيتا الصديقة الوحيدة لتلك المسكينة، تعيش في الطابق الرابع، وكانت أم خوليان تلجأ إليها أحيانا، وتطلعها على بعض أسرارها...»
(مثلا؟)
أخفضت الناطورة صوتها، وقوست حاجبيها وراحت تنظر ذات اليمين وذات الشمال.
«بأن الفتى ليس ابن بائع القبعات.»
«خوليان؟ أتقصدين أن خوليان لم يكن ابن السيد فورتوني؟»
«هذا ما كانت الفرنسية تبوح به لجارتها بيثينتيتا، ولا أعلم إن كانت تقول ذلك بغرض النكاية أم لغايات أخرى. أخبرتني الجارة بهذا الأمر بعد عدة سنوات، عندما لم يعد خوليان ولا أمه يسكنان هنا.»
«ومن كان والد خوليان الحقيقي إذن؟»
«لم ترغب الفرنسية أن تبوح بذلك أبدا. وربما كانت تجهله هي أيضا. وأنت تعرف طباع الأجانب.»
«ألهذا كان زوجها يضربها؟»
«ومن يدري. أسعفوها إلى المستشفى ثلاث مرات، وليست واحدة. كان وقحا حتى أشاع بين الناس أن زوجته تقع على الأثاث لأنها دائمة الثمالة. ثم إنه كان كثير الجدال. ذات مرة اتهم زوجي رحم الله بأنه سرق من محله شيئا ما، بالنسبة إليه كل القادمين من مرسية هم صعاليك ولصوص بينما نحن من آبدة...»
«قلت لي إنك تعرفين الفتاة التي تظهر في الصورة.» عادت الناطورة لتركز في الصورة. «لم أرها في حياتي. وجهها جميل حقا.»
"يبدو من الصورة أنها خطيبته" افترضت، كي أنشط ذاكرتها.
«لا أفهم شيئا في الصور. حسب علمي فإن خوليان لم تكن لديه خطيبة، وحتى لو كانت لديه فلم يكن ليقول لي طبعا. وقد كذلك لا ألحظ أن إيزابيليتا ابنتي كانت ترافقه... أنتم الشبّان لا تقولون شيئا أبدا. ونحن العجائز لا نعرف كيف نلتزم الصمت.»
«هل كان لديه أصدقاء، صديق معين يتردد إليه؟»
«لقد مرّ زمن بعيد ولم أعد أذكر. ثم إنه كان نادرا ما يأتي إلى هنا في سنواته الاخيرة. كان لديه صديق في المدرسة، شاب من عائلة راقية، آل آلدايا، هل سمعت بهم؟ لم يعد أحد يذكرهم، ولكنهم كانوا في غاية الأهمية حينئذ كالعائلة الملكية. مترفون جدا. وأنا أعرف هذا لأنهم كانوا يبعثون سيارة لاصطحاب خوليان أحيانا. كان عليك أن ترى تلك السيارة ياإلهي، لا يجرؤ حتى فرانكو على شراء مثلها. كان يقودها سائق وقد كانت دائمة البريق. ابني باكو يفهم في مجال السيارات وقال لي إنها روزروي أو شيء ما من هذا القبيل.»
«هل تذكرين اسم صديقه؟ »
«لا اذكر الاسم ولكن الكنية شبيهة ب «الدايا»، أتفهمني؟ وكان ثمت شاب آخر، غريب جدا، يدعى ميغيل ربما. وهو رفيقه في المدرسة أيضا على ما يبدولي. لا أذكر كنيته ولا وجهه.» وصلنا إلى حائط مسدود، فقررت أن أتبع فطرتي كي لا أشتت ذهن الناطورة.
«هل يسكن أحد في شقة فورتوني؟» «لا. لقد مات العجوز قبل أن يكتب وصيته، وزوجته على حد علمي ما تزال مقيمة في بوينوس آيرس ولم تأت إلى جنازته.»
«أجل، لقد غادرتْ إلى أبعد مكان ممكن. وخيرا فعلت. أوكلت كل أمورها إلى محام غريب الأطوار. لم أره أبدا، ولكن ابنتي إيزابيليتا التي تعيش في الطابق الخامس تحتهم مباشرة تقول إن المحامي بين الحين والآخر يدخل البيت لأنه يملك المفاتيح ويطوف فيه لساعات ثم ينصرف. ذات مرة سمعت صوت كعب نسائي أيضا. فتخيل! »
«ربما كان صوت العكازة. » حدّقت فيّ لتفهم أكثر.
كانت الناطورة تتعامل مع القضية بكل جدية. «ألم يدخل أحد إلى هنا طوال كل تلك السنوات؟»
«ذات يوم جاء شخص قميء وبشع، من أولئك الذين يضحكون دوما ولا يعرف أحد بما يفكرون. قال إنه من فريق التحقيق بالجرائم وأراد ان يرى الشقة. »
«هل قال لك لماذا؟» هزت الناطورة رأسها نافية.
«ألم يقل لك اسمه؟»
«المحقق كذا. لم أصدّق أنه شرطي. كانت العملية تبدو قذرة، أتفهمني؟ كأنها مسألة شخصية. لكنني أنهيت الأمر قائلة إن مفتاح الشقة ليس معي وإن عليه أن يتجه إلى المحامي إن كان في حاجة إلى شيء ما. قال لي إنه ربما يعود لكنني لم أره بعدها. وهذا أفضل.»
«هل تستطيعين أن تخبريني أين بوسعي أن أجد ذلك المحامي؟»
«عليك أن تطلب ذلك من مدير البناية، السيد مولينس. مكتبه قريب من هنا، رقم 28 شارع فلوريدا بلانكا، في الطابق الأرضي. قل له بأن السيدة أورورا هي التي أرسلتك.»
«شكرا جزيلا. هل شقة فورتونى فارغة في هذه اللحظة يا سيدة أورورا؟»
«كلا، ليست فارغة فبعد وفاة العجوز لم ينقلوا شيئا من هنا. بعض الأحيان تصدر رائحة كريهة... ربما توجد بعض الفئران.»
«هل تعتقدين أنه بإمكاني إلقاء نظرة؟ لعلنا وجدنا شيئا يساعدنا
على فهم ما الذي جرى لخوليان حقا... »
«آه. ليس لدي الصلاحية لذلك. عليك أن تتحدث مع السيد مولينس،
المديره »
«لكنني أفترض أن لديك مفتاخا عامًا، حتى لو قلت لذلك الرجل الغريب عكس ذلك... إنني واثق أنك لا تمانعين من معرفة ماذا يوجد في الداخل. »
نظرت إلى السيدة أورورا وعيناها تقدحان شررا. «أنت شيطان»
انفتح الباب بصرير يشبه نزع الغطاء عن الضريح، وفاحت رائحة نتنة وفاسدة. دفعت الباب نحو الداخل فوجدت ممرا يغوص في الظلام. كانت الرائحة بسبب الرطوبة والإغلاق الطويل. هنالك أكوام من الوسخ، وشِباك العناكب تتدلى من زوايا السقف كضفائر الشعر. والغبار السميك، الشبيه بالرماد، يغطي بلاط الأرضية حيث انتبهت إلى بصمات أحذية في أنحاء الشقة.
«يا سيدتنا العذراء» هتفت الناطورة.
«المكان هنا أكثر قذارة من قن الدجاج.»
«أدخل وحدي إن أردت» اقترحت عليها.
«أنت من يريد ذلك. هيا ادخل كي أتبعك.»
أغلقنا الباب خلفنا، وبقينا عند العتبة للحظات حتى اعتادت عيوننا على الظلام. كنت أسمع أنفاسها المتلهفة وأشتم رائحة عرقها. شعرت كأنني لص قبور جشع ومضطرب.
«ما هذا الصوت؟» سألتني الناطورة بارتباك.
اأثار وجودنا ضرب أجنحة في ذلك المكان المعتم، ولمحت شكلا قاتما لطائر يرفرف في آخر الممر. « إنه حمام» أكدت لها. «ربما دخل من إحدى النوافذ المكسرة وبنى عشه هنا.»
«هذا الطائر يثير اشمنتزازي» قالت الناطورة.
«لا يقوم سوى بالبراز.» « اهدئي يا سيدة اورورا، فقد يهاجمنا إذا ما كان جائعا.»
تقدّمنا في الممر ودخلنا إلى صالة الغداء المفتوحة على شرفة مؤثثة بطاولة مغطاة بوشاح مهشم يشبه الكفن، وأربعة كراسي ودرجين صغيرين بزجاج غليظ متسخ وفيه كؤوس متعددة وأدوات الشاي. وكان البيانو القديم القائم لصاحبته السيدة كاراكس يوجد في إحدى الزوايا، وقد اسودت مفاتيحه وقهرها الغبار. قبالة الشرفة ثمت أريكة مخلوعة وبقربها طاولة صغيرة وضعت عليها نظارة للقراءة بجانب الكتاب المقدس ذي الغلاف الجلدي الفاتح والزخرفات الذهبية، واحد من تلك التي تهدى في المناولة الأولى. وثمت رباط أحمر مازال يدل على حدّ القراءة.
«هنا عثروا على العجوز ميتا، على هذه الأريكة. قال الطبيب إنه توفي قبل يومين من وصولهم. يا للتعاسة أن يرحل المرء هكذا. كان يستحق ميتة كهذه لكنني تألمت جدا رغم ذلك.»
اقتربت من أريكة الموت. قرب الكتاب المقدس كانت هنالك علبة تضم صورا بالأبيض والأسود، وفيها وجوه قديمة في وضعية الجلوس. جثوت على ركبتي كي أتفحصها وقلبي ينتفض فزعا: كان لدي الانطباع بأنني أدنس ذكريات رجل تعيس الحظ، لكن الفضول كان أقوى مني. في الصورة الأولى ثمت عاشقان شابان مع طفل يبلغ قرابة الأربع سنوات. «ها هما، السيد فورتوني شابا برفقة زوجته.»
«ألم يكن لخوليان إخوة ولا أخوات؟»
أبدت الناطورة عدم اهتمامها وتنهدت. «يقال إنها أجهضت بسبب ضربات زوجها. الناس تعشق الأقاويل. ذات مرة، روى خوليان على أطفال البناية أن له أختا لا يراها أحد سواه، وأنها كانت تخرج من المرايا كنفث البخار وتعيش مع إبليس شخصيا في قصر تحت بحيرة. ابنتي إيزابيليتا رأت عدة كوابيس شهرا كاملا. كان الفتى مضطرب العقل أحيانا.»
ألقيت نظرة على المطبخ. كان زجاج النافذة التي تشرف على الباحة الداخلية محطما وهنالك يضرب الحمام باجنحته.
«هل كل الشقق متشابهة؟» سألت.
«الشقق المشرفة على الشارع، أي الواقعة على يمين السلالم، أجل. ولكن هذه في الطابق الأخير مختلفة قليلا »شرحت لي الناطورة.
"ذلك الجانب يوجد المطبخ ومخزن للمهملات يشرف على الباحة الصغيرة. وفي ذلك الممر ثمت ثلاث غرف، والحمّام في آخر الممر. إنها شقة واسعة وموزعة بشكل جيد كما ترى. إنها شبيهة بشقة ابنتي إيزابيليتا مع أنها تثير الشفقة."
«أين تقع غرفة خوليان؟»
«الباب الأول لغرفة الوالدين، ثم توجد غرفة صغرى. أتصور أنها غرفته»
كان طلاء جدران الممر مقشرا، وباب الحمّام في آخر الممر مواربا. في المرآة هنالك وجه ما يراقبني: لابد أنه وجهي أو وجه الأخت الخيالية التي تعيش في مرايا الشقة. حاولت أن أفتح الباب الثاني.
« إنه مقفل» فلت.
جحظت عيناها مستغربة. «الأبواب هنا ليس لها أقفال.» «أما هذه فبلى.» «ربما أضافه العجوز لاحقا، ففي الشقق الأخرى...»
أخفضت أنظاري فلاحظت أن البصمات على الغبار تنتهي عند الباب المقفل.
«أحدهم دخل إلى هذه الغرفة مؤخرا.» قلت.
«لا تخفني!»
ذهبت إلى الباب الآخر فوجدته دون قفل، وحين فتحته أصدر جعجعة صدئة. كان سرير تالف يقبع في وسط الغرفة، أغطيته مصفرة مثل الأكفان، ويغفو عليه صليب. وكانت هنالك خزانة مواربة ودرج بمرآة صغيرة، وكأس وسطل وكرسي. ثمت صور أجداد ونشرات وفاة وبطاقات يانصيب تحت زجاج الدرج، وفوقه توجد علبة أنغام خشبية منقوشة وساعة جيب متوقفة عند الخامسة وعشرين دقيقة. عدّلتُ علبة الأنغام لكنها تعطلت بعد أن أصدرت نغمتين. فتحت صندوق الدرج ووجدت حافظة نظارات، ومقص أظفار وعلبة عطور وقلادة عذراء لورد.
«لابد أن نجد مفتاح تلك الغرفة في إحدى هذه الجوانب» قلت.
«إنها عند المدير. اسمعني، ربما من الأفضل أن ننصرف من هنا.»
وقع نظري على علبة الأنغام ثانية. رفعت الغطاء فوجدت مفتاحا مذهبا يعرقل الدورة الميكانيكية. سحبت المفتاح وسرعان ما أخذت علبة الأنغام تصدر الرنين وتعرفت إلى ألحان رافيل.
«لابد أن هذا هو المفتاح » قلت للناطورة.
«إن كانت الغرفة مقفلة فهذا لسبب معين. ولعله احتراما لذكرى
الفقيد الذي... »
«بوسعك أن تنتظريني في الأسفل إن أردت يا سيدة أورورا.»
«أنت شيطان. فلنفتح الباب، هيأ.»
16
بينما كنت أدخل المفتاح في القفل شعرت بصفير الريح الباردة على أصابعي. لقد وضع السيد فورتوني على باب غرفة ابنه قفلا عنيدا أكبر من قفل باب الشقة. كانت السيدة أورورا تراقبني بارتباك كأننا نفتح صندوق باندورا10.
«هل تشرف هذه الغرفة على الشارع؟» سألت.
«كلا. النافذة تطل على الباحة الصغيرة. »
دفعت الباب نحو الداخل، فانفتح أمامنا بئر من الظلام الدامس يصعب ولوجه. وسبقنا الضوء الخافت الذي كان خلفنا كأنه شهيق بالكاد يتمكن من الدخول إلى تلك المتاهة المعتمة. وكانت النافذة التي تطل على الباحة مغطاة بصفحات جريدة مصفرّة. نزعت تلك الأوراق فتسلل خيط من الضوء الضبابي إلى الداخل.
«رحمتك يا عيسى ويوسف ومريم» همهمت الناطورة بقربي.
كانت الغرفة تكتظ بالصلبان. بعضها تتدلى بأوتار مزوقة من السقف، وأخرى معلقة بالمسامير على الحيطان. كان هنالك حوالي العشرة صلبان. بعضها محفور بالمثقاب في الزوايا وعلى الأثاث والصفائح، وبعضها الآخر مرسوم باللون الأحمر على المرايا. كانت الخطى التي لاحظت بصماتها على العتبة قد تركت آثارها على الغبار المحيط بسياج السرير الذي يبدو كهيكل عظمي من حديد وخشب تالف. وفي إحدى زوايا الغرفة، تحت النافذة، ثمّت منضدة مزودة بغطاء مغلق وعليها ثلاثة صلبان معدنية. فتحت الغطاء بحذر وخمّنت أنه قد فتحه أحدهم مؤخرا طالما أنني لم أجد أثرا للغبار على مفاصل المصراع. كانت أدراجه الستة الصغيرة مخلوعة الأقفال بقوّة. عاينتها واحدة واحدة، فوجدتها فارغة كلها. جثوت على ركبتي أمام المنضدة ومررت أصابعي على خدوش الخشب.
تخيلت يدي خوليان كاراكس وهي تخطط تلك البقع الهيروغليفية التي ضاعت معانيها. في عمق المنضدة رأيت عدة مذكرات وإناء لأقلام الحبر والرصاص. أخذت واحدة من المذكرات وتصفحتها: كانت مليئة بالرسوم والجمل المبعثرة والتمارين الحسابية والتأملات والاقتباسات والمسودات الشعرية. تبدو كل تلك الكراسات متشابهة. وفيها بعض الرسوم مكررة باختلافات طفيفة صفحة بعد صفحة. تأثرت برسم لرجل يبدو مخلوقا من ألسنة اللهب، وفي رسم آخر ما يشبه الملاك أو الحيوان الزاحف الذي يبرم حول صليب. لاحظت خطوطا أولية لبيت كبير فيه العديد من الأبراج الحصينة والأقواس الضخمة، تشبه كاتدرائية ما. كانت ملامح البناء واضحة، وتعبّر عن اتجاه معين للرسم بأكمله، لكن الصور لم تكن سوى مسودات. كنت على وشك أن أعيد الكراس الأخير دون النظر إليه حين انزلق شيء ما من بين الصفحات ووقع على الأرض. كانت صورة تظهر فيها نفس الفتاة التي كانت في الصورة محروقة الحواف الملتقطة أمام محل القبعات. الشابة في حديقة بهية وبين جذوع الأشجار تبرز جوانب بيت رأيته للتو في رسوم المراهق كاراكس. عرفته على الفور: إنها فيلا الفرار بلانكا، في شارع تيبيدابو وعلى خلف الصورة مكتوب: بينيلويب، مع حبي.
وضعت الصورة في جيبي، وأغلقت غطاء المنضدة وابتسمت للناطورة.
«هل انتهيت؟» سألتني والحيرة بادية على وجهها تريد الانصراف.
«على وشك» أجبتها. «قلت لي: بعد انطلاق خوليان إلى باريس بقليل وصلته رسالة وإن والده قال لك أن ترميها بعيدا...»
أومأت الناطورة برأسها بعد لحظة من التردد.
«لقد وضعت الرسالة في صندوق الأثاث في مدخل الشقة، إذ ظننت أن الفرنسية ستعود عاجلا أم آجلا. لابدّ أن الرسالة مازالت في محلها»
فتحنا صندوق الأثاث الأول. فوجدنا ظرفا أصفر وسط كمية هائلة من الساعات المتوقفة والأزرار والنقود التي عفى عليها الزمن منذ ما لا يقل عن عشرين عاما.
«هل قرأتِ الرسالة؟»
"أتظن بي السوء يا فتى؟"
«لا أقصد الإساءة يا سيدتي. يبدو لي الأمر طبيعيا نظرا إلى
الظروف، خاضة أنك كنت تحسبين خوليان المسكين ميتا...»
أخفضت الناطورة ناظريها وأرخت كتفيها واتجهت صوب باب البيت. فانتهزت الفرصة كي أضع الظرف في جيب سترتي الداخلي وأغلقت الدرج.
«لا أود أن تأخذ فكرة سيئة عني» قالت المرأة.
«اطمئني يا سيدتي. ما الذي كان مكتوبا فيها؟»
«كانت رسالة حب، كتلك التي نسمعها على الراديو، لكنها أكثر حزنا
بالتأكيد، لأنها تبدو حقيقية. تخيل أن عيني اغرورقتا بالدمع حين
كنت أقرؤها. »
«قلبك طيب جدا يا سيدة أورورا.»
«وأنت شيطان.»
في تلك الظهيرة، وبعد أن وعدت السيدة أورورا أن أحيطها علما بتحرياتي عن خوليان كاراكس، ذهبت إلى مدير البناية. السيد مولينس، الذي عاش زمانا أفضل، كان يمكث في مكتب بلا طلاء في طابق أرضي في شارع فلوريد ابلانكا. كان مولينس رجلا يبحث عن اللهو ويتحدث وعقب السيجار في فمه. لم يكن واضحا إن كان مستيقظا أم نائما لأن انفاسه مزعجة كالشخير. شعره مطلي بالدهن ويتدلى على جبينه، وعيناه غائرتان، يرتدي طقما لا يزيد سعره عن عشرة بيزيتا في سوق الثياب المستعملة، ويزينه بربطة عنق ذات ألوان استوائية صارخة. وإذا حكمنا على المظاهر، فإن شباك العناكب هي التي باتت تدير ذلك المكتب الشبيه بدهاليز برشلونة قبل حقبة الترميم.
«اعذرني على الفوضى، نحن نجدد المكان» قال مولينس.
ولكي أحطم الجليد، لفظت اسم السيدة أورورا كأنها صديقة قديمة للعائلة.
«آه كم كانت حسناء في شبابها» علق مولينس.
«ولكن مع مرور الزمن بهت جمالها. حتى أنا لم أعد كما كنت ذات مرة. لن تصدقني إن قلت لك إنني كنت أجمل من الإله أدونيس عندما كنت في عمرك. كانت الصبايا يركعن عند قدمي ويتوسلن أن أضع في أرحامهن طفلا. ولكن القرن العشرين كارثة. حسنا لا يهم. كيف بإمكاني أن أساعدك أيها الشاب؟»
اخترعت قصة معقولة بعض الشيء عن قرابتي البعيدة بآل فورتوني. استمع مولينس إلى قصتي لخمس دقائق، ثم راح يبحث في اللائحة ليعطيني عنوان المحامي المعني بشؤون صوفي كاراكس، والدة خوليان.
«فلنر قليلا... خوسيه ماريا ريغويخو، شارع ليون الثالث عشر رقم 59. أما المراسلات فنبعثها كل ستة أشهر إلى صندوق المكتب البريدي المركزي في فيا لايتانا.»
«هل تعرف السيد ريغويخو؟»
"حصل وتحدثت مع سكرتيرته على الهاتف. من الغريب أن تجري كل معاملاتهم عبر البريد وتتابعها الموظفة عندي. لكنها ذهبت اليوم إلى الحلاق. المحامون في هذه الأيام ليسوا جادين كما كانوا ذات مرة، إنهم على عجلة من أمرهم دوما. والنبلاء منهم يعدّون على أصابع اليد الواحدة. »
كان يبدو أنني لن أتمكن من الوثوق حتى بالعناوين. فألقيت نظرة خاطفة على القائمة التي يضعها المدير على مكتبه وتأكدت من شكوكي: كان عنوان المحامي ريغوخيو خاطئا. فقلت ذلك للسيد مولينس الذي تلقى الخبر كأنه نكتة.
«يا للجنون» قال ضاحكا. «ألم أقل لك إنهم أنذال؟» استند المدير إلى مسندة الأريكة وأصدر واحدا من أنفاسه الغليظة.
«ألا تملك رقم صندوق البريد؟»
«ربما كان 2837 إن لم أقرأ بشكل سيئ، فالسكرتيرة عندي تكتب الأرقام بقدميها. ومن جهة أخرى فالنساء لا يصلحن للرياضيات، أما ما ينفعن فيه حقا فهو...»
«هل يمكنني أن أرى القائمة؟»
أعطاني القائمة. كانت الأرقام مكتوبة بشكل واضح: الرقم البريدي 2321. فخشيت على حال سجلات المحاسبة في ذلك المكتب.
«هل كنت تعرف السيد فورتوني جيدا؟» سألته.
«بما فيه الكفاية. كان رجلا جادا. عندما وصل إلى مسامعي بأن الفرنسية هجرته، اقترحت عليه أن يتردد إلى العاهرات، مع مجموعة من الأصدقاء، في مكان أعرفه جيدا في نواحي لابالوما، كي أرفع معنوياته. ألست محقا؟ ومن يومها لم يعد يكلمني ولا يرد التحية حين نلتقي في الطريق، وكأنني صرت شفافا. فتصوّر.»
«إنني متعجب فعلا. وهل لديك تفاصيل أخرى عن عائلة فورتوني؟»
«كان زمانا مختلفا. وقد عرفت أباه أيضا الذي أسس محل القبعات. ولا أعرف الكثير عن ابنه. أما هي فكانت امرأة جميلة جدا. وكانت امرأة صالحة رغم كل الشائعات التي صدرت بحقها...»
«كأن يقولوا إن خوليان ليس ابن السيد فورتوني؟»
«وكيف عرفت ذلك؟»
«لقد قلت لك إن قرابة بعيدة تصلني بهم. والشائعات تنتشر بسرعة.»
«لم يتأكد أحد من هذا.»
«ولكن هذا كان يقال. » ضغطت عليه.
«الناس تقحم منقارها في ما لا يعنيها. الإنسان لا ينحدر من سلالة القردة بل من فصيلة الدجاج.
«وما الذي كان يشاع أيضا؟ »
«هل يطيب لك كأس رم؟ إنه من إيغوالادا، لكن الطعم يذكّر بالرم الكوبي قليلا.»
«لا شكرا. ولكن إن أردت أن تشرب فما من مشكلة. وحدّثني عن آل فورتوني لو سمحت. »
تعرّف أنطوني فورتوني، الشهير بـ"بائع القبعات"، على صوفي كاراكس عام 1899، في فسحة كاتدرائية برشلونة. كان قد قدم نذرا للقديس أويستاكيو الذي تخصّه التقاليد، دون سائر القديسين الكبار، بمعجزات الحب. أنطوني فورتوني، الذي كان يبلغ من العمر ثلاثين عاما ويخاطر بالبقاء أعزب طوال عمره، كان يريد زوجة، ويريدها على الفور. وكانت صوفي فتاة فرنسية، تقيم في نزل للفتيات في حي ربيرالتا وتدرس القراءة الموسيقية وآلة البيانو لأبناء الطبقة النبيلة في برشلونة. كانت يتيمة ولا تملك سوى بهاء صباها ومؤهلاتها الموسيقية التي ورثتها عن أبيها عازف البيانو في أحد مسارح نيم والذي أصابه السل وتوفي عام 1886. أما أنطوني فورتوني فكان ميسور الحال نوعا ما، إذ ورث محل أبيه، محل القبعات الشهير في روندا دي سان أنطونيو حيث تعلم المهنة التي كان يحلم أن يعلمها لابنه عاجلا أم آجلا. بدت له صوفي كاراكس غضة وجميلة ومرهفة ومطيعة وامرأة ودودا، فالقديس أوفيستاكيولا يخلف وعده أبدا. وبعد أربعة أشهر من المشاورات المضنية وافقت صوفي على عرض الزواج. وكان السيد مولينس، صديق فورتوني الأب، قد أحاط أنطوني علما بأن الشابة تبدو جادة في قرارها، لكنها قد ترى في الزواج مصلحة ولذا يستحسن الانتظار سنة على الأقل. فأجابه أنطوني بأنه يعرف خطيبته بما فيه الكفاية ولا تهمه الأمور الأخرى. أقيم الزفاف في كنيسة البينو، وكان شهر العسل عند أحواض مونفات الكبريتية لمدة ثلاثة أيام. وقبل أن يغادرا بيوم، راح أنطوني يسأل السيد مولينس عن كيفية التصرف على سرير الحب. فأجابه الأخير متهكما أن يسأل زوجته عن ذلك. عاد العريسان بعد يومين فقط ولاحظ الجيران أن صوفي كانت تبكي حين دخلت البيت. وبعد عدة أعوام أقسمت بيشينتيتا أن صوفي أطلعتها على أن بائع القبعات لم يلمس جسمها أبدا وأنه عاملها كعاهرة واشمئز منها حين حاولت أن تغويه. وبعد ستة أشهر، صارحت صوفي زوجها بأنها تنتظر مولودا من رجل آخر. أنطوني فورتوني الذي لطالما رأى والده يعنّف أمه، اتبع الطريقة ذاتها بالنتيجة. ولم يكن يتوقف عن ضربها إلا حين يشعر أنها على وشك مفارقة الحياة. ورغم هذا امتنعت صوفي عن البوح باسم أب المخلوق الذي كان في رحمها. سلم أنطوني، وفق منطقه الخاص، أن الشيطان وراء ذلك لا محالة، لأن الطفل ابن حرام والحرام أب واحد: إبليس. وحالا اقتنع أن الحرام دخل منزله وقبع بين فخذي زوجته، اعتاد على نصب الصلبان في كل مكان على الجدران، في كل ركن وزاوية بل وحتى على السقف. وأصاب الذعر قلب صوفي عندما رأته يملأ بالصلبان تلك الغرفة التي أقصاها فيها، وسالته إن كان قد أصابه مس أو جنون. فغضب منها وراح يصفعها على وجهها. "أنت عاهرة مثل الأخريات" صرخ في وجهها، ثم أخرجها من المنزل رفسا وركلا بعد أن سلخ جلدها بالحزام، وعندما فتح انطوني باب البيت في اليوم التالي لينزل إلى المحل، وجد صوفي ما تزال في البهو ملطخة بدمائها المخثرة وترتجف من البرد. فقام الأطباء بما أمكن لتجبير الكسر في يدها اليسرى، وكان واضحا بأن صوفي كاراكس لم يعد بوسعها العزف على البيانو. لكنها وضعت مولودا وأسمته خوليان، تخليدا لذكرى والدها التي خسرته مبكرا مثلما خسرت كل الأشياء في حياتها. فكر أنطوني أن يطلقها في بداية الأمر لكنه أدرك أن الفضيحة لن تساعد نشاطه التجاري. فلن يشتري أحد القبعات من رجل تناطح قرناه السماء. انتقلت صوفي إلى غرفة مظلمة وباردة في آخر الشقة، حيث وضعت مولودها بمساعدة اثنين من جاراتها. وحين عاد أنطوني إلى البيت بعد ثلاثة أيام. قالت له صوفي "هذا هو الولد الذي وهبك إياه الله فإن كنت تود أن تعاقب أحدا فعاقبني أنا، وليس هنا المخلوق البريء. الطفل يحتاج إلى بيت ووالد، ولا يحتمل خطاياي. أرجوك أن ترحمنا وتشفق علينا." مرت الأشهر الأولى بصعوبة شديدة. إذ حطّ أنطوني من قدر زوجته إلى مستوى الخادمة، لا يتشاركان السرير ولا المائدة ونادرا ما يتبادلان بعض الكلمات التي لا تتناول مواضيع منزلية. كان أنطوني يدخل إلى غرفة صوفي عند الضجر، مرة واحدة في الشهر، تدفعه لذة هائجة وخبرة ضحلة. فتنتهز هي تلك اللحظات الحميمة النادرة وتحاول أن تطيب خاطره وتداعبه وتهمس في أذنيه كلمات عن الحب. لكن بائع القبعات كان يبدي عدم اكتراثه بهذه السخافات وتتبخر رغبته المتأججة في غضون دقائق. فلم تؤت تلك اللقاءات الساخنة أكلها، وبعد عام كف أنطوني عن دخول غرفتها وفضل أن يبحث عن المتعة في قراءة النصوص المقدسة. وبمساعدة الأناجيل تحركت أحاسيس بائع القبعات بجهد جهيد تجاه ذلك الطفل ذي النظرة الشرسة الذي يعيش في عالمه الخاص ويتخيل ظلالا لم تكن موجودة على أرض الواقع. إلا أن التزامه بالتقرب من الصغير لم يشعره بأي رابط يصله به ولم يتمكن من التعرف إلى نفسه في ذلك الطفل. ومن جهة أخرى لم يظهر الولد اهتماما خاصا بالقبعات ولا بتعاليم العقائد الدينية. وفي أعياد الميلاد كان خوليان يلهو بتحريك التماثيل الصغيرة في مشهد ميلاد ليسوع ويؤلف قصصا تهدف لتصوير عيسى وقد اختطفه المجوس الثلاثة11 لغايات مبهمة. ثم خطر في باله أن يرسم ملائكة لها أنياب ذئب وأن يبتكر أقاصيص عن أشباح ترتدي غطاء على الرأس وتخترق الجدران وتتغذى على أفكار الناس النائمين. ومع مرور الوقت فقد بائع القبعات أي أمل بتعديل طباع الصبي أو هدايتته إلى الصراط المستقيم. فذلك الطفل لا ينحدر من آل فورتوني ولن يكون كذلك أبدا. كان يضجر في المدرسة ويعود إلى المنزل بدفاتر مليئة بالخربشات: كائنات مرعبة، ثعابين مجنحة وأبنية حية تمشي وتلتهم المارة الآمنين. كان واضحا منذ البداية أنه يعيش في عالم يحلّ الخيال فيه مكان الواقع اليومي السخيف. وكل الانكسارات التي تعرض لها أنطوني في مسيرته لا تعادل في عذابها وجود ذلك الطفل الذي أرسله إليه الشيطان ليقضي على حياته.
في سن العاشرة صرّح خوليان بأنه يريد أن يصبح رساما، مثل فيلازغيز العظيم، كي يحقق اللوحات التي لم يستطع أستاذه أن يرسمها إذ كان مرغما على رسم تلك الوجوه البليدة لأفراد العائلة الملكية. وكأن كل ما سبق لا يكفي، خطر في بال صوفي أن تعلّمه العزف على آلة البيانو، كي تصارع العزلة وتشرّف ذكرى والدها. وسرعان ما تعلم الصبي قواعد التناغم الأساسية، كيف لا وهو المتيّم بالموسيقى والرسم وباقي الفنون التي يعتبرها الكثيرون عديمة الجدوى. بل شرع يؤلف المقطوعات بدل أن يتدرب على تلك المدونات المملة التي يحتويها كتاب التمرينات. وكان فورتوني منذ ذلك الوقت يعزو عدم كفاءة الصبي لنظامه الغذائي المتأثر بمطبخ أمه الضرنسي، على حد قوله. فالزيادة في الدهون تسبب الانحلال الأخلاقي وتعرض القوى الذهنية للتلف، لذا حرّم على صوفي الطهي بالزبدة دون نقاش. ولم تأت هذه الطريقة بالنتائج المرجوة. عندما بلغ خوليان الثانية عشرة من عمره، انخفض حماسه للرسم ولفيلازغيز، لكن أوهام بائع القبعات لم تدم طويلا. فخوليان كف عن الطموح بأن تعلّق لوحاته في متحف البرادو لأنه تعرّف على عادة شنيعة وأشد خبثا: اكتشف المكتبة العامة في شارع كارمن وبدأ يقضي في معبد الكتب وقته الضائع الذي كان مخصصا للعمل في محل القبعات، ليلتهم مجلدات الأدب والشعر والتاريخ. وفي عشية عيد ميلاده السادس عشر، أخبر خوليان والده بأنه يريد أن يصبح مثل روبرت لويس ستيفنسون، كاتبا مغمورا وأجنبيا علاوة على ذلك. فأجابه بائع القبعات بأنه لا يراه أكثر من حمال حجر، واقتنع حينها أن الولد كان في غاية الغباوة حقا.
في الليل، كان أنطوني فورتوني يتقلب في سريره يمينا شمالا كأنه فريسة العذاب وتأنيب الضمير. كان يكن المودة لذلك الصبي في أعماق قلبه، ولتلك العاهرة أيضا مع أنها لا تستحق ذلك وهي التي خدعته منذ اليوم الأول. كان يحبهما على طريقته، والتي كان يراها الطريقة الصحيحة. توسل إلى الله أن يوجهه إلى السبيل الأفضل كي تعم السعادة قلوب ثلاثتهم، وكان من الأفضل أن تكون السعادة على طريقته. ناجى الرب أن يرسل له علامة، أوهمسة، كبرهان على وجوده. لكن الله، في حكمته اللا متناهية، وربما لكثرة الطلبات التي تصله من الأرواح المعذبة التي لا حصر لها، لم يكن يجيبه. وبينما كان فورتوني يتألم من الحسرة والندم كانت صوفي في الغرفة الأخرى تشعر بالتعاسة وهي ترى حياتها تغرق في بحر الضلال والهجران والخطايا. لم تكن تعشق الرجل الذي كانت تخدمه، لكنها تشعر بالانتماء إليه، ولم تكن ترى من القيول أن تهجره حاملة معها الصبي. كانت تفكر بمرارة في والد خوليان الحقيقي واستطاعت مع الوقت أن تحقد عليه وتمقت كل شيء يذكرها به، أوبما كان يجعلها تلهث خلفه. وبعد أن تعذر النقاش بينها وبين زوجها، راحا يتبادلان الصراخ والشتائم، فتتطايرالاتهامات كالسكاكين لتطعن أي أحد يقع في مرماها، أي خوليان في كثير من الأحيان. ولم يبق لبائع القبعات سوى ذكرى غامضة عن الأسباب التي كانت تدفعه ليضرب زوجته، فما كان يذكر سوى الغيظ والعار. ويتعهد في قرارة ذاته بالأ يضربها ثانية وإلا سلم نفسه للسلطات، إن توجبت الضرورة، كي تقفل عليه باب السجن. كان أنطوني فورتوني واثقا من أن الرب سوف يعينه ليصبح أفضل من أبيه. وسرعان ما بينهال باللكمات على جسد صوفي الأعزل، حتى قرر أنهما سيصبحان جلادا وضحية مادام ليس من الممكن أن يبقيا زوجا وزوجة. وهكذا كان. مرت السنوات على عائلة فورتوني بكبت الأفكار والعواطف. نسيا الكلمات التي تعتبر عن الأحاسيس وتحولا إلى غربيين لا يعرف واحدهما الآخر ويعيشان تحت السقف نفسه، شأنهم شأن الكثيرين في تلك المدينة الشاسعة.
كانت الساعة الثانية والنصف أو يزيد عندما عدت إلى المكتبة لتستقبلني نظرة فيرمين المتهكمة وهو جالس كالدجاجة على أحد السلالم يلمع مجموعة عن «الأحداث الوطنية» للكاتب القدير بينيتو بيريز جالدوس.
«مصير الأحياء أن يلتقوا. توقعنا أنك ضعت يا دانيال. »
«أضعت الوقت في الطريق. أين والدي؟»
«لقد قرر أن يسلم الكتب المطلوبة للزبائن شخصيا. لكنه أوصاني بأن أخبرك بأنه سيذهب في العصر إلى تيانا ليثمن سعر مكتبة خاصة لإحدى الأرامل. إنه يأسر قلوب السيدات كلهن بشخصيته الملائكية. قال إنه بإمكانك إغلاق المكتبة دون انتظار عودته.»
«هل كان غاضبا؟»
نزل فيرمين من السلم برشاقة قطة.
«تخيل أن يغضب. إن أباك قديس يا دانيال. ثم إنه كان سعيدا لأنك عثرت على فتاة.»
« ماذا؟»
غمز فيرمين بعينيه ولعق شفتيه بلسانه.
«أيها المحتال. كنت تخفيها عنا إذن، ها؟ إنها دمية عاجية فتاكة. من الصنف الممتاز. واضح من أنها تتلمذت في أفضل المدارس، مع أنها تخفي امرأة لعوبا في نظراتها... آه لو أن برناردا لم تنتزع قلبي. لم أحدثك بعد عن نزهتنا... لقد اشتعلنا معا باللهيب، وكأننا في ليلة القديس يوحنا.»
«فيرمين» قاطعته. «عم تتحدث؟»
«عن خطيبتلك.»
«ليس لدي خطيبة يا فيرمين.»
«حسنا، أنتم الشباب تستخدمون مصطلحات أخرى... غيرل فريند او...»
«فلنبدأ منذ البداية يا فيرمين. عم تتحدث؟"
نظر إلي مشتت الذهن، وشبك رؤوس أصابعه بعضها ببعض وراح يحركها على الطريقة الإيطالية.
«حسنا. منذ نصف ساعة جاءت إلى هنا شابة حسناء تسأل عنك. كان أبوك حاضرا وأنا أيضا. وبوسعي أن أضمن بأن الشابة لم تكن شبحا أو طيفا. إنني مستعد لأصف لك حتى عطرها. عطر لافاندا، لكنه مائل إلى الحلاوة. مثل حلوى الشامبيلا التي خرجت للتو من الفرن.»
"وهل قالت تلك الشامبيلا بأنها خطيبتي يا ترى؟"
«ليس بهذا الشكل الصريح. لكنها رسمت ابتسامة رغيدة على شفتيها، بوسعك أن تتخيلها، وقالت إنها في انتظارك مساء يوم الجمعة. فكان استنتاجنا بديهيا.»
«إنها بيا.» غمغمت.
«إذن هي موجودة» حدد فيرمين وهو يشعر بالانشراح.
« اجل ولكنها ليست خطيبتي» أجبته.
«وماذا تنتظر للتقدم بالعلاقة؟»
«إنها أخت توماس آغويلار.»
«صديقك المخترع؟»
هززت رأسي مؤكدا.
«هذا أفضل بكثير. اسمعني قليلا. لا ينبغي أن تستسلم للشكوك حتى لو كانت أخت جل روبلس. إنها ضربة حظ. لو كنت محلك لقفزت فرحا.»
«بيا مخطوبة لشاب آخر. إنه ملازم ملتحق بالخدمة العسكرية.»
كحّ فيرمين وهو يشعر بالقرف.
«آه الجيش، مغارة يلوذ بها قطيع من القردة. هذا أفضل. هكذا تركّب له قرنين دون أن تشعر بتأنيب الضمير. »
«إنك تهذي يا فيرمين. بيا سوف تتزوج ما إن ينهي الملازم خدمته العسكرية. »
أطلق فيرمين علي سهام نظراته.«عجل بالأمر قبل أن تتزوج الفتاة.»
«وما الذي تعرفه أنت؟»
«أعرف أكثر منك بكثير في ما يتعلق بالنساء والمسائل الدنيوية. وكما يعلمنا فرويد، فالمرأة ترغب بعكس ما تفكر به أو تأكد عليه. وهذا يعني أنه لا توجد أية مشكلة إطلاقا، إذا تمعنا في الأمر جيدا، أما الرجل، كما يعلم الجميع، فيخضع لتنبيهات جهازه التناسلي والهضمي.» «ضع علم النفس جانبا يا فيرمين، فهمت قصدك. إن كان عندك ما تقول فاختصر»
«سأشرح لك بإيجاز: لا توحي شخصية تلك الفتاة بأنها سوف تتزوج بجندي."
«حقا؟ وما الذي توحي به إذن؟»
«إنها فتاة آسرة" قال فيرمين وقوس حاجبيه كأنه وجد حلا للغز معقد.
«واعتبر كلامي تهنئة.»
كان محقا، كالعادة. وقرّرت أن أرمي الكرة داخل ملعبه. «بالمناسبة، حدثني كيف جرت الأمور مع برناردا. هل تبادلتما القبلات؟»
«أنت تهينني يا دانيال. أذكرك بأنك تتحدث مع خبير في الشبق، والقبلة في اللقاء الأول أمر لا يقوم به إلا الهواة. يجدر بالخبير أن يستحوذ على قلب النساء الحقيقيات رويدا رويدا. إنها استراتيجية سيكولوجية، تشبه نقلات مصارع الثيران.»
«لقد رفضتلك كليا إذن.»
«ما من امرأة ترفض فيرمين روميرو دي توريس. كل ما في الأمر أن الرجال، بالعودة إلى فرويد، يسخنون - معذرة عن التعبير - مثل القنديل: يشتعل في لحظة ما ويبرد في اللحظة اللاحقة فورا. أما النساء، وهذه حقيقة مثبتة علميا، يسخنّ مثل حديد المكواة، أتفهمني؟ شيئا فشيئا، على نار هادئة، مثل حساء الايسكوديلا باللحم والقرنبيط والحمّص. ولكنهن حين يشتعلن لا يستطيع أحد أن يطفئهن. يصبحن مثل الأفران اللافحة في بيسكاي.»
قلبتُ نظريات فيرمين الديناميكوحرارية للحظات.
«وهل هذه هي الاستراتيجية التي تحاول اتباعها مع برناردا؟» سألت. «أن تضع الحديد على النار؟»
غمز فيرمين بعينه.
«تلك المرأة عبارة عن بركان يوشك على نفث النيران، لها شبق متأجج وقلب قديسة» قال. «وفي الحقيقة تذكرني بعشيقتي الجميلة في هافانا التي كانت شديدة الإيمان بقديسيها الأفارقة. ولكنني لم أستغل ذلك بما أنني رجل نبيل وعلى مستوى عال من الأخلاق، ورضيت في البداية بقبلة عفيفة على الخد. لست على عجلة من أمري. إن كنا نريد نتيجة أفضل فما علينا سوى التريّث. يعتقد بعض المغفلين أنهم أنجزوا الجزء الأصعب حين يلمسون مؤخرة امرأة دون أن تبدي اعتراضا. يا لهم من مبتدئين. إن قلب المرأة آلة معقدة، لا يهتز لطيش الصبيان الجلفين. إن أردت أن تحظى بقلب امرأة حقا، فعليك أن تتعلم كيف تفكر مثلها. وما تبقى من مداعبات ناعمة تسلب عقلك وشرفك تأتي تباعا.»
صفقت لأبهة خطابه. «يا لك من شاعر يا فيرمين.»
«كلا. إنني أعتبر نفسي براغماتيا بالأحرى مثل أورتيغا. رغم أن الشعر محبّب إلى قلبي فإني أراه مصطنعا بالمحصلة. أما الكلام فهو أكثر واقعية من الخبز والطماطم. وليس من قبيل الصدفة أن يقول المعلّم: آتني بزير النساء كي أخرج لك من داخله رجلا منيوكا. أنا خُلقت للعلاقات التي تدوم طويلا. فلتشهد يا دانيال بأنني سوف أصنع من برناردا امرأة سعيدة على الأقل، إن لم تكن صالحة وهي كذلك أصلا.»
وافقت على كلامه بابتسامة. كان حماسه معديا وفصاحته لا تقاوم. « اعتن بها يا فيرمين فبرناردا طيبة جدا وقد خاضت عددا من التجارب التي خيبت آمالها.»
"هل تظن أنني لم أنتبه لذلك؟ كأنه كتب على جبينها مثلما كانوا يطبعون بطاقات مؤسسة أرامل الحرب. يقوله لك رجل يتحول إلى عفريت وابن عاهرة إذا أراد. سأجعل تلك المرأة تغرق في السعادة حتى لو كان ذلك آخر ما أقوم به في هذه الحياة.»
«هل هي كلمة شرف؟»
مد يده بجدية كأنه فارس من العصور الوسطى. فصافحته.
«كلمة من فيرمين روميرو دي توريس.»
في أول العصر دخل فضولي أو اثنان فحسب إلى المحل، لذا قلت لفيرمين إنني أستطيع العمل بمفردي.
«هيا اذهب إلى برناردا وخذها إلى السينما أو للتنزه في سوق بويرتافيريزا، فإنها تحب القيام بذلك جدا.»
لم يفكر فيرمين مرتين وركض ليزين نفسه في المستودع، حيث كان قد ترك طقما احتياطيا كاملا، كما وضع عدة زجاجات عطور مختلفة ومجموعة من الدهن في علبة تحسده عليها كونشا بيغير. عندما بات مستعدا بدا كأنه بطل فيلم تخلص من ثلاثين كيلوجراما من وزنه. كان يرتدي طقما قديما لوالدي وقبعة من لباد أكبر من قياس رأسه بمرتين على الأقل، وهي مشكلة حلها بحشو أوراق جريدة في الضمادة الداخلية.
«قبل أن تذهب يا فيرمين، أود أن أطلب منك معروفا.»
«اعتبر أمره مقضيا. أنت تأمر وأنا أطيع.»
«أرغب ألا تفاتح أبي بالموضوع.»
ابتسم ابتسامة عريضة. «أيها الماكر. هل يتعلق الأمر بتلك الفتاة الجميلة؟»
«كلا. الأمر يتعلق بقصة معقدة للغاية. إنه لغز يروق لك.»
«حتى بموضوع النساء لي خبرة كبيرة. سأمدك بالنصح إن احتجت إلى استشارة تقنية. بصراحة إنني أعتبر نفسي طبيبا في بعض المسائل. دول مجاملات.»
«سأحيطك علما إن احتجت. أما الآن فأريد أن أكتشف من يكون صاحب صندوق البريد هذا في شارع لايتانا. رقمه 2321. وإن كان بالإمكان معرفة من يستلم المراسلات. هل بوسعك أن تساعدني؟»
سجل فيرمين الرقم بقلم حبر على أعلى حذائه تحت الجورب.
«مسألة في غاية البساطة. لا يوجد مكتب بريدي بوسعه أن يتملص من تحرياتي. امنحني بضعة أيام لأعطيك تقريرا كاملا.»
«اتفقنا إذن: لا تقل شيئا لوالدي.»
«كن مطمئنا، واعلم أن سرك في بئر عميق.»
« أشكرك. والآن اذهب واستمتع»
أدى تحية عسكرية ونظرت إليه بينما كان يبتعد وهو يختال كالديك. وبعد خمس دقائق سمعت رنين الجرس المعلق على الباب فرفعت أنظاري عن الجداول المليئة بالأرقام والشطب من سجل الطلبيات. دخل رجل ما بسترة مطرية رمادية اللون وقبعة من لباد. كانت عيناه زرقاوين لا تعبران عن شيء، وله شاربان ناعمان وابتسامة مزيفة كبائع متجول. تأسفت لغياب فيرمين الذي خرج لتوه إذ كان ماهرا بصرف باعة النفتلين والأغراض التافهة الذين يقتحمون مكتبتنا من حين لآخر. توجه إليّ الزبون بابتسامة منافقة، وقد اختار مجلدا بشكل عشوائي من صندوق الكتب التي تنتظر دورها لإلصاق السعر عليها. كانت نظراته تخلف الانطباع بالاحتقار العميق لكل ما يحيط به. لن تستطيع أن تبيعني ولا حتى دبوسا واحدا، قلت في سرّي.
«يا لكثرة الكلمات» قال. «إنه كتاب ومن الطبيعي أن يحتوي على عدد معين من الكلمات. كيف يمكنني أن أساعدك سيدي»
أعاد الكتاب إلى الصندوق، متجاهلا سؤالي.
«هكذا تماما. القراءة نشاط يقوم به أولئك الذين ليس لديهم أي شيء يقومون به. مثل النساء. فمن يعمل كي يحصل على قوت يومه لا يهدر وقته بقراءة الأقاصيص. على المرء أن يشقى في هذه الحياة. ألست محقا؟»
«إنها وجهة نظر. هل تبحث عن شيء معين؟»
«ليست وجهة نظر، إنه الأمر الواقع. بل إنها المشكلة في هذا البلد، الناس لا يريدون أن يعملوا. يوجد الكثير من الكسالى، ألا يبدو لك ذلك؟»
«لا أعلم. ربما. هنا كما ترى نكتفي ببيع الكتب.»
اقترب الرجل من المصطبة، بينما تنقب عيناه في كافة أرجاء المحل وتتقاطع بعيني بين الفينة والأخرى. كان لهيئة ذلك الشخص وأسلوبه طابع مألوف بشكل عام، ولكنني لم أفهم بأي شيء كان يذكرني. يعيد إلى الذهن ما يشبه الأشكال على أوراق اللعب العتيقة أو كأنه شخصية فرّت من أولى المخطوطات المطبوعة. كان حضوره يسبب القلق، مثل لعنة ترتدي ثوب الاحتفال.
«هلا قلت لي كيف يمكن لي أن أساعدك...»
«في الحقيقة إنني هنا كي أساعدك أنا. هل هذا محلك يا سيدي؟»
«لا. إنه ملك والدي.»
"والاسم؟"
«اسمي أنا أم والدي؟»
افتعل الرجل ابتسامة ما. ففكرت أنه من أولئك الذين يتبسمون دوما.
«على الشارة مكتوب سيمبيري، وأبناؤه يعني أنت.»
«بالضبط. هل لي أن أسألك عن سبب وجودك هنا، إن لم تكن مهتما بالكتب؟»
«سبب وجودي هنا زيارة بدافع الاحترام فقط، وكي أحميك. وصلني خبر بأنك تتردد إلى أشخاص غير أكفاء، منحرفين وشواذ على وجه الخصوص.»
نظرت إليه متعجبا. «عفوا؟»
«أتحدث عن لصوص وشواذ. أنت تعرف من أقصد، أليس كذلك؟»
«ليس عندي أدنى فكرة ولا يهمني أن أستمع إلى ما تقول أيضا.»
أومأ الرجل بتعبير حاد. «بل عليك أن تهتم بما أقول. أتصور أنك على علم بأخلاق السيد فيديريكوفلافيا الدنيئة.»
«الدون فيديريكو ساعاتي الحي، وهو شخص رائع. أشك حقا بأنه لص.»
«كنت أقصد الشواذ. يتهيأ لي بأنه أشهر الشواذ جنسيا وأنه يتردد إلى محلكم ليشتري روايات عن الحب وإعلانات إباحية على ما يعتقده»
«وما شأنك أنت؟»
وبخطف النظر أخرج محفظته وفتحها على المصطبة. وجدت بطاقته الأمنية وصورته عندما كان أصغر سنا. لم أستطع أن أقرأ إلا «المحقق فرانشسكوخافيير فوميروآلمونييز».
«كلمني باحترام يا فتى وإلا لقنتك درسا لن تنساه، أنت ووالدك، بتهمة أنكما تبيعان القذارات البلشفية. واضح؟»
رغبت أن أرد عليه لكن الكلمات تجمدت على شفتي.
"على كل حال، لست هنا من أجل ذلك الشاذ. فسوف ينتهي في المخفر عاجلا أم آجلا، ككل أولئك الذين يشبهونه، وسأعتني به بنفسي كي أخلصه من بعض الشهوات. ما يقلقني في الحقيقة أنكم وظفتم صعلوكا سوقيا قميئا من أنذال أنواع البشر.»
«ليس لي علم بما تقصد يا سيدي المحقق.»
ضحك فوميرو بطريقته المتملقة. «اللّه أعلم أي اسم يستخدم في هذه الأيام. منذ سنوات أطلق على نفسه اسم ويلفريدو كاماجواي، راقص المامبو، وادعى أنه خبير بعقائد الفودو وتقاليدها، وأنه أستاذ في رقصة الدون جوان بوربون وعشيق ماتا هاري. وفي مناسبات أخرى، استخدم اسم دبلوماسيين وفنانين وممثلين ومصارعي ثيران. بتنا غير قادرين على حصر تجاوزاته.» «أنا آسف. لا أعرف أحدا يدعى ويلفريد كاماجواي.»
«لا أشك في هذا. لكنك تعرف عمّن أتحدث، أليس كذلك؟»
«لا. »
افتعل ضحكته القميئة مجددا. تلك الضحكة الخسيسة كانت هويته وجوهره.
«أنت تستمتع بتعقيد الأمور، ها؟ لقد جئت إلى هنا بطريقة ودية كي أنذركم بأن من يرافق أشخاصا غير مرحب بهم سيكتوي بالنار، وأنت تعاملني كما لو أنني محتال.» «
كلا، مطلقا. بل إنني أشكرك على زيارتك ونصائحك، لكنني أؤكد لك بأننا لا...»
«لا تتحايل عليّ. فإن تكدر مزاجي ضربتك بجمع يدي وأغلقت هذه الحظيرة، مفهوم؟ لكن مزاجي اليوم معتدل لذا سأعطيك الوقت الكافي للتفكير. مادمت ترافق لصوصا وشواذا فلابد أن يكون هنالك سبب. إنني أحب الوضوح في التعامل: إما أن تكون بجانبي أو أن تكون ضدي. هل كلامي واضح؟»
بقيك صامتا.
هز فوميرو رأسه وهويضحك مرة أخرى. «جيد جدا يا سيمبيري. فلتفكر في الأمر. لقد بدأنا علاقتنا بشكل سيئ. ومادمات تبحث عن الويلات فسوف تقع فيها. الحياة ليست رواية، وعليك أن تختار في أي صف تقف. ومن البديهي أنك اخترت صف الخاسرين.»
«أطلب منك أن تنصرف فورا.»
اتجه نحو الباب بتلك الضحكة المثيرة للاشمئزاز. «سوف نلتقي ثانية. وقل لصديقك بأن المحقق فوميرو يراقبه ويرسل إليه اطيب الامنيات.»
رحت أطوف ذهابا وإيابا خلف المصطبة لربع ساعة، ثم أغلقت المحل قبل انقضاء الوقت كي أتنزه قليلا وأروّح عن نفسي. لم أتمكن من تناسي تلميحات ذلك الجزار المحترف وتهديداته. سالت نفسي إن كان علي إخبار أبي وفيرمين، لكنني فكرت ألاً أقع في شرك لعبته القذرة طالما أنه ينوي فرض الشكوك والقلق والخوف. ومن جهة أخرى أقلقني التعريض بماضي فيرمين. وشعرت بالندم لأنني أخذت اتهامات ذلك المحقق على محمل الجد، ولوللحظة واحدة. وفي النهاية، بعد أن تمعنت طويلا، قررت أن أتمهل آملا ألا يحدث أي شيء. وفي عودتي إلى المنزل، مررت أمام محل الساعات فحيّاني الدون فيديريكو من خلف المصطبة وأشار إلي بالدخول. كان الساعاتي لطيفا ودمثا لدرجة أنه لا ينسى أية مناسبة، ويمد يد العون للجميع دوما. ارتعشت حين فكرت بأنه موجود على لائحة المحقق فوميرو السوداء. وتساءلت عمّا إذا كان الوقت مناسبا لإنذاره بذلك، مع أنني لم أقرر بعد كيف أتصرف لأنني لم أشاً أن أكون متطفلا. دخلت إلى المحل في حيرة من أمري وابتسمت في وجهه.
«وجهك شاحب يا دانيال.»
«كان يوما عصيبا» قلت. «كيف حالك يا دون فيديريكو؟»
«بأحسن حال. جودة الساعات في هذه الأيام متردية للغاية، ولا ينقصنا العمل أبدا. إن استمرت الأمور هكذا علي أن أستعين بموظف ما. فكرت في صديقك المخترع الذي يعشق الميكانيك. أترى أنه مهتم للعمل هنا؟»
تخيلت ردة فعل والد توماس إذا عرف أن ابنه وافق على عرض العمل في محل الدون فيديريكو، المثلي الرسمي في الحي كله. وسوف أحدّثه بالعرض،
«بالمناسبة يا دانيال، لدي هنا منبه الساعة الذي جاءني به والدك لإصلاحه منذ أسبوعين. لا أعرف ما الذي جرى له، لكنه برأيي لا يساوي ثمن تصليحه. ربما كان من الأفضل أن يشتري واحدا جديدا.»
تذكرت أن والدي كان ينام في الشرفة عندما ترتفع حرارة الليالي الصيفية إلى درجة الاختناق.
«لقد وقع على الشارع» قلت.
«كنت شبه متأكد من ذلك. أخبراني بما علي أن أفعل. بوسعي أن أبيعه منبه راديانت بسعر معقول. بل خذه الآن، فهكذا تضعانه قيد التجريب. إن وافقه دفع لي ثمنه وإلا أعاده إلي.» «ألف شكريا دون فيديريكوي»
غلف الساعاتي ذلك المنبه.
«إنه متطور التقنية» أكد.
«لقد أعجبني الكتاب الذي باعني إياه فيرمين مؤخرا. كتاب لجراهام جريين. كان توظيف ذلك الرجل ضربة موفقة»
«أجل، إنه بارع فعلا.»
«لاحظت أنه لا يحمل ساعة أبدا. قل له أن يمر إلي كي أنتقي له واحدة مناسبة.»
«دون شك يا دون فيديريكو. شكرا جزيلا.»
وبينما كان يعطيني المنبه، نظر إلي وقطب جبينه. «هل أنت متأكد من أنك بخيريا دانيال؟ هل كان النهار سيئا فحسب؟»
أكدت له ذلك بابتسامة. «طبعا يا دون فيديريكو، كن مطمئنا.»
وجدت أبي في البيت غافيا على الأريكة والجريدة على صدره. وضعت المنبه على الطاولة وكتبت على ورقة ما: «يقول الدون فيديريكون ارم ذلك المنبه القديم»
وذهبت بهدوء إلى غرفتي. وما إن استلقيت على السرير، في الظلام، حتى غفوت وأنا أفكر بالمحقق وفيرمين والساعاتي. استيقظت في الثانية صباحا. ذهبت إلى الممر ورأيت أن أبي قد هجع إلى غرفته مع المنبه الجديد. كان الظلام يستولي على البيت وبدا لي العالم، في الخارج، أكثر عتمة وغدرا من ليال أخر. وفي الواقع لم آخذ فكرة أن يكون المحقق فوميرو رجلا بعظم ولحم على محمل الجد قبل أن أراه. ذهبت إلى المطبخ لأشرب كأسا من الحليب البارد، آملا أن يكون فيرمين في مأمن في النزل.
عدت إلى السرير، وحاولت جاهدا أن أنتزع صورة المحقق من ذهني وجرّبت أن أغفو دون جدوى. أشعلت الضوء، ونويت أن أفتح الظرف الموجه إلى خوليان كاراكس الذي أخذته معي ذلك الصباح من البيت الواقع في روندا دي سان أنطونيو بعد أن أدخلته في جيب سترتي. وضعته على المنضدة، تحت ضوء القنديل. كان الظرف مصنوعا من الرق بحواف خشنة. وموسوما بختم بريدي يكاد لا يُرى، ويرجع إلى تاريخ 18 أكتوبر 1919. وكان الصمغ منزوعا، بفضل السيدة أورورا بلا شك. بقيت بقعة ما حمراء على الحاشية، تشبه أثر قبلة مُمضاة بأحمر الشفاه عند اسم المرسل:
بينيلوب آلديا
شارع تيبيدابو 32، برشلونة
فتحت الظرف الذي كان يحتوي على ورقة صفراء مثنية على نصفها بعناية. كانت الكلمات المكتوبة بالحبر الأزرق تتتابع بانفعال، في البدء شاحبة نوعا ما لكنها تتضح جدا بعد ذلك. كان فحوى الرسالة يذكر بحقبة بعيدة: حالة الخط المتعلقة بالدواة، الحروف المنقوشة على الورقة برأس القلم، تجاعيد الورقة. وضعت الورقة على خشب المنضدة وقرأت
الرسالة.
خوليان العزيز
هذا الصباح أكد لي خورخي بأنك غادرت برشلونة لتلحق أوهامك. لطالما خشيت أن تخطفك أحلامك مني أو من أي شخص آخر. وكم رضيت في أن أراك للمرة الأخيرة، وأن أنظر في عينيك لأقوال لك ما لا أستطيع أن أبوح به على هذه الورقة. كل مشاريعنا باءت بالفشل. إنني أعرفك جيدا وأعرف انك لن تراسلني، ولن تعطيني عنوانك، وأعرف أنك تنوي أن تصبح شخصا اخر. أعلم انك سوف تكرهني لأنني لم آت حيث وعدتك أن أكون. سوف تظن أنني خدعتك، أو أنني لم أتحل بالشجاعة.
غالبا ما تخيلتلك في ذلك القطار، وحيدا، تفكر في خيانتي لك. ما هي الأكاذيب التي قصّوها على مسامعك عني يا خوليان؟ ولماذا صدّقتهم؟
الآن وقد فقدتك، أشعر بأنني أضعت كل شيء. ورغم هذا لن أسمح بأن تختفي من حياتي إلى الأبد وأن تنساني دون أن تعرف أنني لا أكن لك الكراهية، وأنني منذ البداية كنت أشعر بأنني سأفقدك وبأنك لن ترى فيّ ما كنت أراه فيك. أريدك أن تعرف بأنني أحببتك منذ اليوم الأول وأنني مازلت أحبك، الآن أكثر من أي وقت مضى، حتى لولم تكن تريد أن تسمع مني ذلك.
إنني اكتب للك خفية.، لقد أقسم خورخي أنه سيقتلك إذا ما رآك ثانية. لا يسمحون لي بالخروج من البيت ولا أن أطل برأسي من النافذة. إنني متاكدة أنهم لن يغفروا لي أبدا. لقد وعدني شخص موثوق بأنه سوف يرسل إليك هذه الرسالة. لن أذكر اسمه كيلا أضعه في دائرة الخطر. لا أعرف إن كانت كلماتي ستصل إليك، ولكن إن حدث هذا وقررت أن تعود إلي فسوف تجد الطريقة لفعل ذلك. بينما اكتب لك، أتخيل أنك في ذلك القطار، مع حقيبة أحلامك وقلبك المحطم، تهرب من الجميع ومن نفسك أيضا. ما أكثر الأشياء التي لا أستطيع أن أخبرك بها يا خوليان. أشياء كان كلانا يجهلها ومن الأفضل أن تبقى خافية.
أمنيتي الكبرى أن تكون سعيدا يا خوليان، وأن تحقق كل طموحاتك، وسوف تدرك يوما ما كم كنت أحبك حتى لونسيتني.
حبيبتك الأبدية
بينيلويب
17
استطاعت كلمات بينيلوب آلدايا، التي قرأتها في تلك الليلة حتى حفظتها عن ظهر قلب، أن تمحو الكرب الذي تسببت به زيارة المحقق فوميرو. خرجت من المنزل عند الفجر بعد أن قضيت الليلة ساهرا وأنا أفكر في تلك الرسالة وأتخيل صوت بينيلوب. ارتديت ثيابي بهدوء وتركت ورقة على الدرج عند المدخل كي أنذر والدي بأنني سوف أصل إلى المكتبة حوالي التاسعة والنصف. كانت الطرقات، تحت ضوء الفجر الفيروزي، خالية من الناس ومليئة ببرك الماء لأنها أمطرت أثناء الليل. شددتُ أزرار المعطف حتى عنقي واتجهت بخطى سريعة صوب بلازا كاتالونيا. كان الضباب الفاتر الكثيف يسكن سلالم المترو صباحا. اشتريت تذكرة درجة ثالثة من مكتب الحجز وصعدت في عربة مكدسة بقاطعي التذاكر وخادمات البيوت والعمال الحرفيين الذين يتناولون الشطائر الثخينة كقطع القرميد والملفوفة بأوراق الجرائد. أسندت رأسي إلى النافذة وواربت عيني قليلا كي أبحث عن ملاذ في ظلام الأنفاق حينما كان القطار يعبر تحت المدينة كي يتركني عند تخوم شارع تيبيدابو. عندما صعدت إلى السطح، وجدتني في برشلونة أخرى: طلع الصباح وكانت أشعة الضوء تمزق السحب وتنير واجهات المباني والمنازل الراقية التي تقع على جانبي شارع تيبيدابو. وكان خط الترام الأزرق الصغير يبدأ رحلته كسولا بين الضباب. ركضت خلفه وقفزت على الحافة ثم دخلته تحت أنظار بائع التذاكر. كانت العربة الخشبية القديمة شبه خاوية: لا أحد سوى راهبين وامرأة شاحبة مكفهرة ترتدي ثياب الحداد. كان الركاب غافين يتمايلون مع تمايل العربة التي تجرها أحصنة غير مرئية.
«سوف أنزل على الفور، عند الرقم 32» قلت لبائع التذاكر بابتسامة عريضة.
«عليك أن تدفع سواء نزلت هنا أم في فيستيرا» ردّ. «لقد دفع الجميع هنا بما فيهم جنود الله. إما أن تخرج النقود أوتمشي سيرا. وسوف أتغاضى عن الطريقة التي صعدت بها.»
أكد الراهبان ما يقوله بائع التذاكر وأظهرا تذكرتيهما، وكانا يرتديان لباس الرهبنة الفرانشسكاني البني المتقشف وينتعلان الصندل.
«سأنزل إذن»، قلت. «فليس معي نقود حديدية.»
«كما تريد، ولكن انتظر الموقف القادم. فلا أريد أن أرى حادثا أليما.»
كان الترام يصعد التلة على مهل، ويلمس ظلال الاشجار الكبيرة التي تتفرع من حدائق تلك المنازل الشبيهة بالقلاع، والتي كنت أتخيلها مسكونة بالتماثيل والنوافير واصطبلات الخيول والمعابد السرية. أظهرت رأسي من النافذة فرأيت فيلا ال فراري بلانك من بين تلك النباتات. وعلى التقاطع مع رومان ماكايا أبطأ الترام مسيره حتى توقف تقريبا.
|ضرب السائق على الجرس فنظر إليّ بائع التذاكر غاضبا.
«هيا استعجل أيها الماكر، الرقم 32 قبالتك تماما.»
تابع الترام الازرق رحلته وابتعد صريره البهيج في ضباب الصبح. كان مقام آل الدايا يقع في الجانب الآخر من الشارع، خلف سياج من الحديد المطاوع المظلل بأوراق اللبلاب المتسلق. هنالك باب صغير أيضا. يبرز الرقم 32 من فوق القضبان أسيرا لثعبانين من حديد أسود. كان القصر متخفيا ولم تكن أقواس البرج الكئيب واضحة تماما. نظرت من ثقب القفل الذي تحيط به كتلة من الصدأ، فلم أر غير أعشاب ضارة وحوض نافورة تبرز منها يد تمتد نحو السماء. بقيت لدقائق حتى أدركت أنها يد حجرية وفي الحوض شكل ما يصعب تحديده. وفي الخلف، بين الأعشاب الضارة، رأيت ما يشبه السلم الرخامي بعتبات محطمة يسودها التفتت والأوراق اليابسة. لقد أفل نجم آل الدايا منذ وقت طويل إذ بدا ذلك المكان كاللّحد. قررت أن ألقي نظرة على خلفية المبنى فانعطفت من زاوية الشارع. وهناك رأيت واحدا من الأبراج بوضوح أكثر. وفجأة، لاحظت بطرف عيني رجلا هزيلا يلبس مئزرا أزرق، ويراقبني بعدم ارتياح. كان الرجل يكنس الأوراق اليابسة التي وقعت على الرصيف بمكنسة على ضربات متتابعة. تخيلت أنه حارس لأحد المنازل القريبة فابتسمت له باحترام، كما اعتاد أي بائع أن يقضي ساعات وساعات خلف مصطبة في محل ما.
«صباح الخير» قلت. «هل بإمكانك أن تؤكد لي إذا ما كان منزل آل الدايا مقفلا منذ زمن طويل؟»
نظر إلي الرجل الهزيل كأنني سألته عن شكل تربيع الدائرة وتلمس ذقنه بأصابعه المصفرة، كدلالة واضحة على شغفه بسجائر ثيلتاس الخالية من الأعقاب. ولم يكن معي سجائر أعرضها عليه لسوء الحظ. بأي حال، فتشتت في جيوب سترتي بحثا عن أي شيء قد يرضيه.
«ربما مر أكثر من عشرين أو خمسة وعشرين عاما. ونأمل أن يستمر الوضع هكذا» قال الحارس بنبرة مذعنة لمن قضى حياته كلها كعبد مأمور.
«هل تعيش هنا منذ وقت طويل؟»
«ألا تعلم ما الذي حل بآل الدايا؟»
«لقد خسروا كل شيء تقريبا مع قيام الجمهورية» قال: «لا بأس، فمن يزرع الريح يحصد العاصفة ... لاأعرف عنهم أكثر مما سمعته من آل ميرافيل الذين كانوا أصدقاءهم. الابن الأكبر، خورخي، يبدو أنه هاجر إلى الأرجنتين. ربما كانت لديهم مصانع هناك. فأولئك يقعون دوما على أقدامهم. هلا أعطيتني سيجارة؟»
"يؤسفني أنني لا أدخن. لكنني أعرض عليك من سكاكر السوغوس التي تحتوي، كما أثبت العلم، على نفس الكمية من النيكوتين التي تحتويه سيجارة مونتيكريستو والكثير من الفيتامينات أيضا.»
قطب الحارس جبينه مستعجبا، ثم وافق على العرض.
أعطيته السوغوس بنكهة الليمون الذي كان فيرمين قد أعطاني إياها منذ وقت بعيد وكنت قد وضعتها في ثنايا جيبي. وتمنيت بأنها ما تزال صالحة للتناول.
«لذيذة» هتف الحارس وهو يمضغ الحبة المنتفخة.
«أنت الآن تتذوق فخر صناعة السكاكر الوطنية. الجنرال فرانكو يلتهمها كأنها ملبس اللوز. قل لي من فضلك، هل سمعت شيئا عن بينيلوب آلديا»
«أنت تخطئ يا سيد. آل الدايا لم يكن لديهم إناث، وكانوا كلهم ذكورا.»
«هل أنت متأكد؟ تبين لدي أن هناك فتاة تدعى بينيلوب الدايا كانت تسكن هنا في عام 1919. لابد أنها أخت خورخي.»
«لا أستبعد هذا، لكنني باشرت عملي هنا عام 1920.»
«ومن يملك هذا القصر الآن؟»
«على حد علمي، ما يزال برسم البيع، وقيل إن الدولة أرادت هدمه كي تبني محله مدرسة. وهذا أفضل شيء يفعلونه. فليهدم هذا المنزل وتقتلع جذورها »
«لماذا؟»
ارتسمت ابتسامة ثقة على وجه الحارس. كان فكه العلوي ناقصا أربعة أسنان على الأقل. «كان لدى آل آلدايا سر يخفونه. لا أعرف إن كان كلامي واضحا.»
«ليس واضحا بصراحة. ما الذي كان يشاع عنهم؟»
«الأشياء المعتادة. لك أن تتخيل. انتبه. أنا لا أصدق كل شيء، ولكن يبدو أن أكثر من شخص تغوط ذعرا في الداخل.»
«لا تقل بأن المنزل تسكنه الأشباح» سألته وأنا أخفي ابتسامتي.
«اضحك، اضحك... هذا ما يُشاع.»
«هل رأيت شيئا؟»
«كلا. لكنني سمعت. »
«وماذا سمعت؟»
«ذات ليلة منذ عدة أعوام رافقت خوانيت داخل البيت - انتبة جيدا - لأنه ألح وليس لأنني أضعت شيئا هناك... كنت أقول... لقد سمعت صوتا غريبا، كأن أحدا ما يبكي.»
قلد الحارس الصوت الذي كان قد سمعه، وقد بدا لي أحد المصابين بالسل يدمدم أغنية ما. «ربما كان صوت الريح» افترضت.
«ربما، لكنه كان كلعنة مخيفة. هلا أعطيتني حبة أخرى من السكاكر»
«خذ حبة خوانولا. إنها منعشة بعد الحلوى.»
«فلنجرب» قال الحارس.
أعطيته العلبة بأسرها. فجففت حموضتها لسانه.
«فليبق الأمر سرا بيننا. يوجد لغز ما في الداخل. ذات مرة سمع خوانيت، ابن السيد ميرافيل، وهو ضخم أكثر منك بمرتين، تخيل أنه يلعب في المنتخب الوطني للكرة الطائرة... كنت أقول... لقد سمع معارف السيد خوانيت بعض الأقاويل عن منزل آلدايا وأقنعوه بالدخول. ثم أقنعني هو بمرافقته، لأنه كان ثرثارا دعيًا لكنه لم يكن شجاعا بما يكفي ليدخل وحده. لا بأس، صبي مدلل. أصر على الذهاب ليلا كي يغوي خطيبته وكاد يتبول على نفسه. لا يغرنك القصر في النهار لأنه مختلف في الليل كليا. بالمحصلة، يقول خوانيت إنه صعد حتى الطابق الثاني – وأنا انتظرته عند الباب لأنني لا أريد مخالفة القانون مع أن المنزل مهجور منذ ما لا يقل عن عشرة أعوام حينها - وسمع صوتا غريبا. تهيّأ له سماع صوت في غرفة ما، وعندما حاول الدخول انغلق الباب في وجهه. ما رأيك؟»
«ربما كان مجرى الهواء» افترضت.
«وربما كان شيئا آخر» حدد الحارس بصوت منخفض.
«قالوا في الراديو قبل أيام: الكون مليء بالألغاز. يبدو أنهم عثروا على كفن المسيح الأصلي في ساردانيولا، وخيطوه خلف شاشة سينما كي يخفوه عن المسلمين الذين يريدون أن يستخدموا الكفن كحجة ليؤكدوا ادعاءاتهم بأن المسيح كان أسود البشرة. ما رأيك؟»
«لا تعليق حقا.»
«بالضبط. إنها ألغاز. عليهم أن يهدموا هذا المنزل وأن يغمروا الأرضية بالحصى.»
شكرت السيد ريميخو لمعلوماته ورحت أنزل على طول الطريق. نظرت إلى تلة تيبيدابو المحاطة بسحب بخارية صباحية. أغوتني فكرة أن أركب القطار الجبلي لأصل إلى القمة وأهيم على وجهي في حلقات صالات الملاهي القديمة وألعابها، لكنني وعدت والدي بالمجيء إلى المكتبة قبل التاسعة والنصف. وبينما كنت متجها نحو محطة المترو فكرت في خوليان كاراكس الذي كان يمشي على الرصيف نفسه ويبدي إعجابه بواجهات المباني السامية، المباني التي ظلت على حالها كما كانت حينئذ بسلالمها وعتباتها المليئة بالتماثيل، ربما كان مثلي ينتظر ذلك الترام الذي يحدث الضجيج ويصعد نحو السماء على رؤوس أصابعه. وعند أول الطريق أخرجت من جيبي صورة بينيلوب الدايا التي كانت تبتسم في حديقة قصر العائلة. كانت عيناها تعكسان صفاء روحها وآمالها بمصير عجيب. "مع حبي، بينيلوب".
تخيلت خوليان كاراكس في عمري، وتلك الصورة بين يديه، تحت ظل الشجرة نفسها حيث كنت موجودا. كأنني كنت أراه سعيدا وواثقا من نفسه، ينظر صوب مستقبل واعد وعظيم مثل تلك الطريق. فكرت لوهلة أن الأشباح الوحيدة هي أشباح الغياب والفقدان، وأن ذلك الضوء الذي يبتسم لي كان مجرد ضوء عابر. ليته يظل لبعض الثواني فقط، علّني استطيع التمسك به.
18
في العودة، وجدت مكتبتنا مفتوحة فانتهزت الفرصة وصعدت إلى البيت كي أتناول الفطور. ترك والدي على المائدة الخبز المحمص والمربى وحافظة القهوة. بعد عشر دقائق، نزلت إلى المحل عبر المستودع. فتحت الخزانة وارتديت مئزر العمل كي أحمي ثيابي من غزو الغبار. كنت قد أودعت مجموعة من الأشياء التي لا قيمة لها، والتي لم أقرر يوما أن أرميها، داخل علبة من صفيح معدة لبسكويت الكامبرودون في عمق الخزانة. ساعات، أقلام حبر مكسورة، عملات نقدية قديمة، صور مشاهير مصفرّة، كرات زجاجية صغيرة، علب رصاص فارغة عثرت عليها في حديقة لابيرينتو وبطاقات سياحية لبرشلونة في بداية القرن. وفي وسط هذه الكومة وجدت ورقة الجريدة التي كتب عليها إسحاق مونفورت عنوان ابنته نوريا، في تلك الليلة حين ذهبت لأخفي «ظل الريح» في مقبرة الكتب المنسية. أمعنت النظر فيها تحت ذلك الضوء الغباري بين الرفوف والصناديق المتكدسة. أغلقت علبة الصفيح، وضعت العنوان في محفظتي وخرجت من المستودع وقد نويت أن أنشغل بشيء آخر مهما كان الثمن.
«صباح الخير، هتفت.
كان فيرمين يفرّغ بعض الصناديق الكبرى التي وصلتنا من أحد المولعين بجمع الكتب من شلمنقة، وكان والدي منشغلا بفك طلاسم لائحة مكتوبة بالألمانية لأسفار لوثرية مشكوك بصحتها كان اسمها يشبه نوعا من اللحوم المقددة عالية الجودة.
«وسوف يكون المساء أروع» كان فيرمين يدمدم، ملمحا إلى موعدي مع بيا.
لم أعر له اهتماما بل رحت أواجه العمل الشهري الذي لامناص منه: أي تحديث سجل الحسابات وفحص الفواتير واستمارات الإرسال والديون والرصيد. كان الراديو يبث مختارات من أجمل ألحان أنطونيو ماشين، مغنّ ذائع الصيت في ذلك العصر، كي يخفف من رتابة يومنا الهادىء. وكانت الإيقاعات الكاريبية تزعج والدي لكنه كان يتغاضى عنها لأنها تذكر فيرمين بكوبا الحبيبة. يتكرر ذلك المشهد كل أسبوع: أبي يتظاهر بأنه لا يصغي لفيرمين الذي يتقد حماسه ويرقّص رِدفيه بطريقة مثيرة على إيقاع الموسيقى، ويملأ وقفات الإعلانات بقص مغامراته في هافانا.
تسللت رائحة القهوة والخبز الطازج، التي تبعث على التفاؤل، من باب المحل المفتوح. وبعد لحظات أطلت جارتنا مرسيديتاس برأسها وهي عائدة من سوق بوغويريا.
«صباح الخير يا سيد سيمبيري» قالت وهي تزقزق كالعصافير.
أجابها والدي بابتسامة مرتبكة. كان لدي الانطباع بأنه معجب بمرسيديتاس، لكن أخلاقه الشبيهة بأخلاق الرهبان الزاهدين تحول دون خروجه من عزلته المستعصية. كان فيرمين يتمعن رِد يها المتمايلين بشهوانية كأن الفتاة قالب حلوى بالقشدة. فتحت مرسيديتاس كيسا ورقيا، وأخرجت منه تفاحا لامعا وعرضته علينا. من الوارد أنها كانت ما تزال تتوهم بأننا سوف نستدعيها للعمل في مكتبتنا إذ لم تكن قادرة على إخفاء ازدرائها لفيرمين الذي سلب منها الفرصة.
« انظر كم هي شهية. رأيت التفاح ففكرت بأنها للسادة سيمبيري» قالت. «أعرف بأنكم أنتم المثقفين تحبون التفاح، مثل إسحاق بيرال.»
«إسحاق نيوتن يا عزيزتي» صحح لها فيرمين الذي لا يشق له غبار.
جرحته مرسيديتاس بطرف عينها.
«ها هو المثقف الذكي. عليك أن تشكرني بالأحرى لأنني لم آتيك بليمون حامض.»
«تلك النعمة، فاكهة الخطيئة الأولى، تأتيني بها يداك الطاهرتان فتشعل في داخلي الـ...» «أرجوك يا فيرمين» قاطعه والدي.
«حاضر يا سيد سيمبيري» قال فيرمين.
كانت مرسيديتاس على وشك أن تجيبه بأشنع ما عندها لولم يُحدث المارة في الطريق بعض الضجيج. توقف جميعنا عن الكلام لننتظر. راحت الأصوات تتضح فإذا هي إهانات ترافقها غمغمات تتعالى. أطلت مرسيديتاس برأسها من خارج الباب. ورأينا بعض الباعة يمرون ويطلقون اللعنات بصوت منخفض. وبعد قليل دخل إلينا آناكليتو ألمو، جارنا والناطق الرسمي باسم الأكاديمية الملكية للغات في بنايتنا. كان الدون آناكليتو يعيش مع سبع قطط في شقته في الطابق الثاني، وكان من خريجي كلية الثقافة الإسبانية وآدابها، كما كان استاذا في المدرسة. وفيوقته الفارغ كان راتبه يزيد إذ يكتب حواشي الأغلفة لدار نشر عريقة ويقال عنه إنه يؤلف أشعارا إباحية ويوقع باسم رودولفو بيتون المستعار. لا شك أن الدون آناكليتو رجل بسيط، لكنه في الملأ يشعر بأنه مرغم على أداء دور الشاعر الملحمي، فيستخدم لغة أكاديمية قد يستحق عليها لقب الفويفورنيو12 .
في ذلك الصباح، كان الاستاذ محمرا من النقمة فيما ترتجف يداه اللتان تمسكان بقبضة عكازه العاجية. فنظرنا إليه نحن الاربعة مرتبكين.
«ما الذي حدث يا دون آناكليتو؟» سأله والدي.
«اشف غليلي وقل لي أن فرانكو مات» هتف فيرمين متلهفا.
«اخرس أيها السوقي» قاطعته مرسيديتاس. «دع الأستاذ يتكلم.»
تنفس الدون آناكليتو عميقا وبعد أن استعاد وقاره أخبرنا بما حدث بفصاحته المعتادة. "أعزائي إن الحياة خبط عشواء. لقد كتب على عباد الله الصالحين أن يذوقوا مرارة ما يخبئه الغيب. هذه الليلة، وبينما كان سكان المدينة ينعمون بنوم هادى ومستحق، تم اعتقال الدون فيديريكو فلافيا اي بوخاديس، على أيدي عناصر أمن الدولة. أجل، جارنا العزيز الذي يساهم بالخير في عمله كساعاتي هذا الحي، والذي يمارس مهنته على بعد ثلاثة أبواب من هذه المكتبة.»
ساورني الخوف.
«بسم الأب والابن والروح القدس.» هتفت مرسيديتاس.
تأفف فيرمين باستياء، فزعيم البلاد كان ما يزال في صحة جيدة. التقط الدون آناكليتو أنفاسه ثم تابع.
«وفقا لما وصلني من حصيلة معلومات مؤكدة جمعتها من مصادر مقربة من مخفر الشرطة، فإن عنصرين رفيعي المستوى من فرقة التحقيق بالجرائم قد باغتا الدون فيديريكو على حين غرة، بعد منتصف ليلة البارحة بقليل، وهو يرتدي ثيابا نسائية بينما كان ينشد أغنيات خليعة على خشبة مسرح صغير في زقاق ايسكودييرس أمام جمهور من المتخلفين عقليا على ما يبدو. وكان أولئك الفتية، الذين لم يكافئهم الله بالذهن الرشيد، قد هربوا عصر البارحة من معهد ديني. لقد أشعل العرض حماسهم، فنزعوا بناطيلهم وراحوا يرقصون وأعضاؤهم منتصبة ولعابهم يسيل من أفواههم.»
صلّت مرسيديتاس بإشارة الصليب حين اتخذت الحكاية مسارا اخر.
«بعض أمهات أولئك الأبرياء المساكين، حالما عرفن بالخبر الصاعق، قدمن شكوى على فضيحة علنية وجريمة أخلاقية موصوفة. ولم تتأخر الجرائد في فضح الخبر، يا لهم من ضباع تتغذى على الفظائع والكوارث. إذ تولت صحيفة إل كازو هذه المهمة القذرة، وهي المعروفة بضخ الهراء والأباطيل. كان مراسلهم حاضرا في ذلك المكان بصفة جاسوسية بعد أقل من أربعين دقيقة من المداهمة، باسم كيكو كالابويغ. استعجل هذا اللعين بتسليم تقريره عن الفضيحة في الوقت المناسب للطبعة الصباحية التي وصفت العرض في الصفحة الاولى بأنه مشهد من مشاهد الجحيم.»
«أكاد لا أصدق» قال والدي. «كان يبدو أن الدون فيديريكو قد هدأ وعزف عن هذه الأمور.»
هز الدون آناكليتو رأسه بفطرة الواعظ. «أجل ولكن لا تنس حكمة الأمثال التي تشهد عن أحاسيسنا العفوية وتعبّر عنها بحكمة. «ذنب الكلب أعوج» و«ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». لكنك لم تسمع بعد بالأسوأ.»
«هات الخلاصة يا سيدي. لقد أرغبتني في الخروج إلى الخلاء بعد هذا الكم من الاستعارات» صرخ فيرمين.
«لا تعر اهتماما لعديم الأخلاق هذا يا أستاذنا. إنني أعشق طريقتلك في الكلام. كأنني أصغي إلى الأخبار» تدخلت مرسيديتاس.
«شكرا يا عزيزتي، لكنني لست إلا مربيا متواضعا. كنت على وشك أن أعلمكم، دون مقدمات أخرى وبلا استطراد، أن الساعاتي، الذي أطلقوا عليه في لحظة اعتقاله اسما فنيا «الحسناء الطائشة»، كان قد تم اعتقاله مرتين في ظروف مشابهة، وسجلت الحالتان في لوائح الدولة العتيدة.))
«بل سمّها بالدولة العربيدة.»
«فلندع السياسة جانبا. بوسعي أن أقول لكم إن العنصرين، بعد أن ألقيا المسكين من على الخشبة برمية قنينة موفقة، جرّاه إلى مخفر فيالايتانا. وكان من الممكن أن تمرّ الفعلة بتعذيب وجيز وصفعتين على الوجه وغرامة لا قيمة لها. لكن الحظ العاثر شاء أن يظهر المحقق فوميرو سيئ السمعة من العدم.»
«فوميرو» غمغم فيرمين الذي كان يرتجف حالما يسمع ذلك الاسم.
"هو بعينه. كنت أقول لكم إن مدير الأمن المدني، العائد ظافرا من مهمة سرية في مكان ينظم سباقات للصراصير في زقاق فيجاتانس، علم بما حدث من أم أحد أولئك الفتية، السيدة غوارديولا أم الفتى الذي يفترض أنه العقل المدبر للهروب من المعهد. وحينها قرر المحقق أن يتدخل، وبدا أنه شرب أكثر من اثني عشر فنجان قهوة مكثفة"
"فقدرّوا بأنفسكم تداعيات الوضع الخطيرة. أعلم فوميرو عريف الحرس أن هذا اللوطي المثالي (أقتبس المفردة حرفيا رغم وجود سيدة بيننا تود أن تطلع على الأحداث) يستحق قصاصا مثاليا. وهذا ما كان ينقص الساعاتي، الدون فيديريكوفلافيا اي بوخاديس، الأعزب من مواليد ريبوليت. وقال فوميرو إن القصاص سوف يصب في مصلحته أولا ولأولئك الفتية الأبرياء المنغوليين الذين كان وجودهم سطحيا ولكن نظرا إلى ما حدث، أصبح وجودهم أساسيا. وأمر أن يقضي الليل في زنزانة جماعية مع مجموعة مختارة من المنحرفين. وكما تعلمون، تلك الزنازين مشهورة بانتقائها للمذنبين وتردي شروطها الصحية. إضافة إلى أن إدخال مواطنا مدنيا بين النزلاء الدائمين كأنه دعوة لإحداث الجلبة الناجمة عن التسلية
بضيف جديد. وهكذا يهدم السجناء رتابة حياتهم داخل السجن.» وحينها قام الدون آناكليتو بوصف ودي للضحية التي كان جميعنا يعرفها حق المعرفة.
"ما من داع لأن أذكركم بأن لسيد فيديريكو كان على خلق رفيع، خفيف الظل وقلبه فياض بالمحبة والرحمة المسيحية. لو دخلت ذبابة إلى محله لفتح الباب والنوافذ على مصراعيها كي تستطيع الحشرة التي خلقها اللّه أن تعود إلى النظام البيئي، بدل أن يسحقها بخفيه. إن الدون فيديريكو رجل مؤمن ومخلص لتعاليم الله وملتزم بنشاطات الكنيسة مع أنه كان مجبرا على التعايش مع نفسه الخطاءة وميوله الضالة التي نادرا ما تدفعه للتجول بلباس نسائي. كانت مهارته في تصليح ميكانيك أي آلة مضربا للمثل، من ساعات المعصم حتى آلات الخياطة. وكان إنسانا يحظى باحترام جميع الذين يعرفونه ويترددون إلى محله، بما فيهم أولئك الذين لا يروق لهم خروجه الليلي النادر بالشعر المستعار ومروحة اليد والثياب الخليعة. »
«تتحدث عنه كما لو أنه قد مات» قال فيرمين فزعا.
«لم يمت بعد حمدالله.» تنفستُ الصعداء.
كان الدون فيديريكو يعيش مع أمه التي تناهز الثمانين عاما، صماء بالكامل، ومعروفة في الحي بأنها جدة الجميع ومشهورة ببطنها المنفوخة بأعاصير من الغازات القادرة على أن تسبب الدوار حتى للعصافير التي تقفز على حافة نافذتها. «
وبالطبع لم يكن للجدة أن تتخيل» أكمل الأستاذ كلامه. «أن الدون فيديريكو يقضي الليل في زنزانة قميئة، حيث تتلاعب به شرذمة من المنحرفين والضالين كما لو كان عاهرة يشبعون من لحمها ثم يشبعونها ضربا بينما يبتهج المساجين الآخرون بنظم قواف مبتذلة من النوع: «يا ذا الارداف الكبيرة، انت يا شبيه المراة المثيرة»
هبط علينا صمت مدقع. مرسيديتاس تشهق باكية فاقترب منها فيرمين ليواسيها ويضمها بين ذراعيه، لكنها أبعدته عنها على الفور.
19
«لكم أن تتخيلوا المشهد» ختم الدون آنا كليتوحديثه وسط الذعر العام.
ولم تكن نهاية الواقعة أقل ضراوة. ففي منتصف الصباح، تركتْ إحدى العربات الرمادية التابعة للشرطة الدون فيديريكو أمام بوابة بيته، ملطخا بدمائه وثيابه المهشمة، مسلوبا من شعره المستعار ومن مجوهراته الكريمة. لقد تبولوا عليه وكان وجهه مليئا بالخدوش والرضوض. هكذا
وجده ابن الفرانة، يبكي ويرتجف مثل الأطفال.
«هذه كارثة» صرحت مرسيديتاس، على مسافة من براثن فيرمين.
«المسكين. إن قلبه طيب كرغيف الخبز ولا يؤذي أحدا. يحب أن يتشبه بالنساء وأن تسلط عليه أضواء المسرح وما العيب في هذا؟ يا للشر الذي ملأ قلوب الناس»
كان الدون آناكليتو ساكتا ويحدّق إلى الأرض.
«ليسوا أشرارا»رد فيرمين. «بل إنهم أغبياء. الفرق مختلف جدا. فالشر يستلزم وجود عمق أخلاقي، وقوة إرادة وذكاء. أما الغبي لا يستعمل عقله للحظة، بل يذعن لغرائزه كأي حيوان في الحظيرة، مقتنعا بأنه يتفاعل باسم الخير وبأنه دوما على صواب. إنه يفتخر بنفسه لقدرته على إزعاج جميع أولئك الذين يراهم مختلفين عنه بانتماءاتهم وألوان جلدهم وآرائهم ولغاتهم، أو لمجرد أهوائهم كما في حالة الدون فيديريكو. هذا العالم في حاجة إلى مزيد من الأشرار وإلى اقل عدد ممكن من الاغبياء.»
«لا تتفوة بالترهات. هذا العالم في حاجة إلى إحسان مسيحي، وليس إلى الشر. يبدو أنك كنت تعيش بين الحيوانات» أنّبته مرسيديتاس. «هنالك بعض الناس لا يتغيبون عن الصلاة في الكنيسة، لكن تعاليم سيدنا المسيح لم تعد تلقى آذانا صاغية.»
«لا تروجي لبضاعة الكتب الدينية يا مرسيديتاس، فهي جزء من المشكلة وليست الحل. » «ها هو الملحد. هل يمكن أن تقول لنا ما الذي فعله الدين بحقك؟»
«هيا، لا تتعاركا» قال والدي. «وأنت يا فيرمين، اذهب عند الدون فيديريكو واسأله إن كان يحتاج إلى شيء من الصيدلية أو اشتر له الاغراض من السوق.»
«حاضر يا سيد سيمبيري. على الفور. أنت تعرف كم أحب أن أضيع وقتي في النقاش.» «ضياعك في وقاحتك وتطاولك» حددت مرسيديتاس. «يا لك من كافر. عليك أن تطهر روحك بالكلور.»
«انظري يا مرسيديتاس. أنت شخص طيب، مع أنك محدودة التفكير وأكثر جهلا من الماعز. ولو لم نكن في طارئ اجتماعي يرغمنا على توحيد قوانا، للقنالك الدرس جيدا. »
«فيرمينا» صده والدي.
فسكت فيرمين وتعجل في الانصراف.
تابعت مرسيديتاس انتصارها بنظرة فخورة. «اسمعوني، هذا الرجل سيسبب لكم المتاعب عاجلا أم آجلا. أكاد أجزم أنه من أتباع الأناركية على الأقل، إن لم يكن ماسونيا أو ربما كان يهوديا. فلديه أنف...»
«لا تعيريه اهتماما. إنه معاد لرأي الأكثرية ليس إلا.»
هزت مرسيديتاس رأسها غاضبة. «حسنا سوف أترككم الآن فلدي الكثير من الالتزامات والوقت قصير. إلى اللقاء.» ودعناها باحترام ونحن ننظر إليها وهي تخرج، منتصبة القامة وتتقدم باستقامة خطواتها الواثقة على الرصيف. تنهد والدي عميقا، كأنه أراد أن يستحوذ على السلام المستعاد. أما الدون آناكليتوالذي كان واقفا أمامه فكان شاحب الوجه مضطرب البال. «نحن نعيش في بلد خرائي» استنتج وهو يتخلى عن لغته الخطابية المؤدبة.
"تحل بالصبر يا دون آناكليتو. الأمور تجري دوما هكذا، هنا وفي أي مكان آخر. عندما تنزل علينا المصائب نتشاءم في كل شيء. اطمئن فالدون فيديريكو سيستعيد قواه باكرا. إنه اقوى مما نتخيل. »
أخفض الأستاذ رأسه محبطا. «إنها مثل المد والجزر البحري» قال. «أقصد البربرية. تبتعد حتى يظن المرء أنه بمأمن منها ثم تعود، تعود دوما... وتفرقنا. هذا ما أراه في المدرسة كل يوم. يا إلهي. إنهم قردة، في الصف ليس عندي سوى القردة. داروين كان متوهما، صدقني. أي تطور وارتقاء يا رجل ! لواستخدم المرء دماغه لكان عليه أن يحارب جيشا من القردة بمفرده»
أومأنا أنا ووالدي موافقين باستسلام.
ودّعنا الأستاذ وخرج مطأطأ الرأس من المحل، أكبر بخمسة أعوام مما كان عليه حين دخل. تبادلنا أنا ووالدي نظرة تساوي ألف كلمة. لماذا لم أخبره بزيارة المحقق فوميرو إلى المحل؟ فمصيبة. الدون فيديريكو كانت مجرد إنذار. استغل فوميرو ضعف ذلك المسكين كي يوصل إلينا رسالة.
«ما بك يا دانيال؟ وجهك شاحب كخرقة بالية»
أخفضت عيني. ثم رويت على مسامعه اللقاء المريع مساء الأمس مع المحقق فوميرو وتلميحاته. أصغى إلي محاولا أن يكظم غيظه، «الذنب ذنبي» قلت. «كان علي أن أخبركم بالأمر.»
«لا يا دانيال. لم يكن بمقدورك أن تحسب التداعيات.» «ولكن...» «ولا عليك حتى أن تفكر في الأمر. ولا تخبر فيرمين أبدا. الله وحده يعلم ما الذي قد يحل بفيرمين إذا علم أن ذلك الشخص يتتبع خطاه.»
«أليس علينا أن نفعل شيئا ما على أي حال؟»
«سنجنبه الوقوع في الويلات.»
أومأت وأنا لست على اقتناع تام وعدت إلى العمل وحلَلت محل فيرمين. وعاد أبي لينشغل بالمراسلات، وبين مقطع وآخر يخطف أنظاره إلي.
«كيف جرت الأمور البارحة مع البروفسور فيلازغيز؟» سأل كي يغير الموضوع.
«بشكل جيد، كان راضيًا جدا عن الكتب. وطلب مني أن أدبر له مراسلات فرانكو »
«ماتاموروس؟ إنه نص مشكوك في صحته، مزحة من مادارياجا. وبم أجبته؟»
«بأننا سوف نرد عليه خلال أسبوعين كحد أقصى.»
«أحسنت. سوف نكلف فيرمين بالبحث عن الكتاب وسوف نطلب به ثمنا باهظا.» عدنا لما كنا قد انشغلنا فيه. لكن والدي مازال ينظر إلي. حانت اللحظة، ربما.
«البارحة جاءت إلى هنا فتاة لطيفة جدا. يقول فيرمين إنها أخت توماس آغويلار، هل هذا صحيح؟»
«أجل.» أومأ والدي بتعبير عن دهشة محببة.
سمح لي بدقيقة هدنة ثم عاود الهجوم، هذه المرة بنبرة من تذكّر شيئا ما. «بالمناسبة يا دانيال، اأوقع أن اليوم ليس لدينا عمل كثير في المحل، لذا إن أردت الاستراحة عصرا فلك ذلك. يبدو لي أنك تعمل كثيرا.»
«إنني بخير، شكرا.»
«تصوّر! لقد قلت ذلك لأنني كنت أفكر أن يبقى فيرمين في المكتبة فربما أذهب إلى المسرح مع برسلوه. هذا المساء يتم عرض (تانهاوزر) وقد دعاني لأن لديه أكثر من بطاقة لدخول المسرح.»
تظاهر أبي بأنه يقرأ المراسلات، كان ممثلا رديئا.
«ومنذ متى يعجبك فاجنر؟» أبدى عدم اهتمامه. «طالما أنها دعوة مجانية... ثم إن برسلوه لا يهتم بأي عرض يقدّمون، ولا يفعل شيئا سوى نقد الأوركسترا وأداء المطربين والأزياء... غالبا ما يسألني عنك. بوسعك أن تذهب لزيارته في المحل في الأيام المقبلة.))
«سندع فيرمين هنا، ونذهب لنروح عن أنفسنا قليلا إن أردت، فنحن نستحق ذلك. وإن كنت في حاجة إلى بعض النقود...»
«بيا ليست خطيبتي يا أبي.»
«ومن تحدّث عن خطيبة؟ أنت من تظن ذلك. خذ النقود من الصندوق إن احتجت، وسجّلها في الدفتر، فهكذا لا يفزع فيرمين عندما يغلق حساب النهار. »
بعد أن قال وفرغ ممّا عنده، اختفى في المستودع. نظرت إلى الساعة: كانت العاشرة والنصف صباحا. علي أن ألتقي بيا عند باحة الجامعة في الخامسة مساء ونظرا إلى المقدمات، كان اليوم يخاطر بأن يكون أطول من رواية «الإخوة كارامازوف».
عاد فيرمين بعد قليل من بيت الساعاتي بأخبار مطمئنة: اتفقت بعض الجارات على التناوب في العناية بالدون فيديريكو المسكين. وجد الطبيب كسراً في ثلاثة من عظام صدره وعدّة رضوض وتمزقا معويا يصلح درسا في الجراحة.
«هل اشتريت له شيئا؟» سأله والدي.
«كان في البيت من الأدوية والدهون ما يكفي لافتتاح صيدلية، وهكذا سمحت لنفسي بأن آتي له بالأزهار، وزجاجة عطر نينوكو وثلاث علب من مربى الدراق التي يفضلها الدون فيديريكو.»
«خيرا فعلت. قل لي لاحقا كم علي أن أعطيك» قال والدي.
«كيف وجدته؟»
«محطما بصراحة، الكذب لا يفيد. كان منكمشا على نفسه فوق السرير، يتأوه ويصرخ متمنيا الموت. حين رأيته بتلك الحالة، انتابني غضب حيواني ورغبت في أن أتسلح حتى بأسناني وأذهب إلى قسم التحقيق كي أقتل عشرة عناصر على الأقل، بدءًا بتلك البلية القذرة فوميرو»
«لا تعقد الأموريا فيرمين. أحرّم عليك أن تبادر بأي شيء.»
«تحت أوامرك يا سيد سيمبيري.» «وكيف تلقت الجدة الخبر؟»
«بحضور مثالي للفكاهة. خدرنها الجارات بمشروب البراندي. عندما رأيتها كانت غافية على الديوان، تشخر مثل البوق وترسل ضراطها الذي يكاد يمزق الإسفنج.»
«يا للفرق بين المظهر والجوهر.. اسمع يا فيرمين ستبقى مساء اليوم في المحل. سأمرّ قليلا بالدون فيدريكو ثم أخرج مع برسلوه. ودانيال لديه ما يقوم به ايضا.»
رفعت بصري كي أفاجأ بفيرمين ووالدي وهما يتبادلان النظرات.
«يا لكما من متملقين» هتفت.
وظل ضحكهما يتناهي إليّ بعدما خرجت، غاضبا، من المحل. كانت الريح الباردة تجلد شوارع برشلونة والشمس تحرق بانعكاساتها الفرعية أحجار القرميد ونواقيس الباريو غوتيكو. مازال الوقت مبكرا للذهاب إلى الجامعة، إلى موعد بيا، لذا قررت أن أجرّب حظي وأذهب عند نوريا مونفورت، آملا أنها ما تزال تسكن في ذلك العنوان الذي أعطاني إياه والدها منذ وقت مضى. كانت ساحة سان فيليب نيري مثل كوة الضوء في متاهة أزقة الباريو غوتيكو، بجانب الأسوار الرومانية العتيقة، حيث ماتزال آثار طلقات الرصاص التي تعود إلى حقبة الحرب الأهلية، تخدش جدران الكنيسة. كانت هناك مجموعة من الأولاد، في ذلك الصباح، يلعبون لعبة الحرب، غير مبالين بذاكرة الحجر. وهنالك امراة شابة شعرها مصبوغ باللون الفضي تراقبهم وهي جالسة على أحد المقاعد، وفي حضنها كتاب ما وعلى شفتيها ابتسامة شاردة. كانت نوريا مونفورت تعيش في مبنى قديم عند مدخل الساحة، وتاريخ تدشينه عام 1801 ما يزال واضحا على قوس البوابة الحجري الذي اغبرّ بفعل الزمان. وفي عمق الردهة المظلمة يوجد سلم حلزوني. بحثت في صناديق البريد عن أسماء السكان المكتوبة على بطاقات مصفرة حتى قرأت:
ميغيل مولينر ونوريا مونفورت
3/1 2
صعدت تلك العتبات الصغيرة كأنني في مسكن للأقزام وأنا أخشى أن يتهاوى المبنى بفعل خطوة ثقيلة. عند كل فناء كان هنالك بابان، ولكن لم تكن توجد أي دلالة على الرقم ولا لافتة الاسم. وصلت إلى الطابق الثالث واخترت بابا بشكل اعتباطي وطرقت بهدوء. كانت رائحة الرطوبة تحوم على السلالم، من الأحجار القديمة والصلصال. قررت أن أطرق الباب الآخر فطرقت بقوة ثلاث مرات. كنت أسمع الراديو يبث بصوت مرتفع برنامج «لحظات من التأمل مع الراهب مارتين كالزادو». فتحت الباب امراة ترتدي لباسا منزليا مخططا بمربعات فيروزية، وتنتعل خفا بقدميها ولفافات الشعر على رأسها. بدت لي في الظلام كالغواص. وكان صوت مارتين كالزادو الناعم يصدح خلفها وهو يذكر ممول البرنامج ومنتجات أورورين للتجميل التي يفضلها حجاج معبد لورد ويتباركون بها من ضراوة الدمل المتورم. "مرحبا. إنني أبحث عن السيدة مونفورت."
«نوريا؟ لقد أخطأت الباب يا فتى. إنها تعيش قبالتنا.»
«أعتذر يا سيدتي. لقد طرقت ولم يجبني أحد.»
«لست بدائن أليس كذلك؟» سألتني الجارة وقد حركها شك فجائي وله جذوره بطبيعة الحال. «لا. لقد أرسلني والد السيدة مونفورت إليها.»
«آه حسنا. ربما كانت نوريا تقرأ في الساحة. ألم ترها وأنت تصعد؟»
نزلت الأدراج ثانية وتأكدت من أن المرأة بشعرها المصبوغ بالفضي والكتاب بين يديها ما تزال جالسة على المقعد في الساحة. راقبتها بحذر. كانت نوريا مونفورت تفتن الأنظار بملامحها الشبيهة بملامح عارضات الأزياء على صفحات المجلات. إلا أن حلاوة الصبا بدت وكأنها هربت من نظراتها. في جسدها الهزيل شيء يذكر بأبيها. تخيلت أن عمرها يناهز الأربعين عاما بسبب الخصلات الفضية وبعض التجاعيد على وجهها الذي يبدو تحت الظل أصغر بعشرة اعوام.
«السيدة مونفورت؟»
نظرت إلي دون أن تراني، كأنها تمارس طقسا بوذيا.
«أدعى دانيال سيمبيري. منذ وقت خلا أخذت عنوانك من والدك. قال لي يمكن أن تمديني بأخبار خوليان كاراكس.»
اكفهرت معالم ذلك الوجه على وقع كلماتي. لم يكن ذكر اسم والدها خطوة ذكية.
«ماذا تريد؟» سألتني بارتياب.
أدركت أنني لن أستطيع الحصول على شيء ما لم أكتسب ثقتها على الفور. بقيت لدي بطاقة واحدة ألعبها: الحقيقة.
«اسمحي لي أن أشرح لك يا سيدتي. منذ ثمانية أعوام عثرتُ، عن طريق الصدفة، على رواية لخوليان كاراكس، الرواية التي أخفيتها أنت في مقبرة الكتب المنسية للحيلولة دون وقوعها بيد رجل، يدّعي بأن اسمه لايين كوبرت، فيحرقها» قلت.
ركّزت أنظارها في عيني دون أن تحيد عنهما قيد أنملة. كانت تبدو كأنها تخشى أن يتداعى بنيان هذا العالم فوق رأسها.
«سآخذ من وقتك عدة دقائق فقط» أضفت. «أعدك بهذا. »
فوافقت بهزة متعبة من رأسها.
«كيف حال والدي» سألتني وتجنبت النظر إلى وجهي.
«إنه بخير، بغض النظر عن تقدّم العمر. لا يشعر إلا بالاشتياق إليك.»
سمحت نوريا لنفسها بتنهيدة قصيرة لم أستطع أن أفهم معناها. «لا أريد التحدث بخصوص هذا في الطريق. فلنصعد إلى البيت.»
20
كانت نوريا مونفورت تعيش في الظلام. رأيت غرفة نومها بلا نوافذ وأنا أمشي في الممر الضيق الذي يفضي إلى صالة الغداء، والتي تشغل بدورها وظيفة المطبخ والمكتبة والمكتب أيضا. لا يوجد أي شيء آخر، باستثناء حمام صغير، لا يوجد فيه دش، وتصدر منه روائح متعددة الطبائع، من رائحة المطبخ الكريهة للبار المجاور إلى قنوات الصرف الصحي والأنابيب القديمة منذ قرن. كان البيت غاطسا في عتمة أبدية. الجدران مقشرة والجو مكبل برائحة التبغ والبرد والعزلة. وكانت نوريا مونفورت تراقبني بينما كنت أتصنع عدم ملاحظتي لفقر مسكنها.
«إنني اقرأ في الساحة لأن البيت لا يصله سوى القليل من الضوء» قالت. «وعدني زوجي بأن يهديني قنديل منضدة حالما يعود إلى البيت.»
«هل زوجك مسافر؟»
« ميغيل في السجن.»
«اعذريني، لم أكن أعرفه...»
«وكيف كان لك أن تعرف؟ أنا لا أخجل من هذا، فزوجي ليس مجرما. اعتقلوه آخر مرة لأنه طبع منشورات لنقابة العاملين في مجال الفلزات. حدث هذا منذ سنتين. يظن الجيران أنه في أمريكا. حتى والدي ليس له علم بالأمر، وأفضل ألا يعلم بذلك أيضا.» \
«اطمئني يا سيدتي. لن اخبره بهذا.»
سكن الصمت في الغرفة. افترضت أنها تعتبرني جاسوسا من قبل إسحاق.
«لابد أنك تواجهين المصاعب في تدبير أمور البيت وحدك» قلت جملة غبية لملء ذلك الفراغ الخانق فقط.
«ليس الأمر سهلا. أتقاضى أجرا من ترجمة بعض الأشياء، ولكن المال لا يكفي أبدا طالما ظل زوجي غائبًا وراء القضبان. لقد امتص المحامون دمي وتراكمت علي الديون. فالترجمة أجرها قليل، مثل الكتابة. »
رمقتني كأنها تنتظر مني إجابة، لكنني اكتفيت بابتسامة ناعمة.
«هل تترجمين الكتب؟»
«كنت أترجم الكتب، أما الآن أترجم كتيبات الإعلانات والعقود ووثائق. الجمركة، فأجرها أعلى. أجر الروايات منخفض جدا، ولكن على كل حال، أجر الترجمة أعلى من أجر الكتابة. حاول الجيران طردي من البيت مرتين، ليس بسبب التأخر في دفع الإيجار والضرائب فحسب بل لأنني امرأة تتكلم اللغات وترتدي البنطال أيضا... وثمت من يتهمني بأنني أمارس الدعارة هنا. تصوّر لو قمت بهذا لكان وضعي أفضل بكثير.»
تمنيت ان يغطي الظل حيائي.
«اعذرني. لست أعي لماذا أقص عليك هذه الأمور. إنني أشعرك بالإحراج. »
«الذنب ذنبي. فأنا من سألك عن أمورك الشخصية.» ابتسمت نوريا مونفورت بعصبية. كانت تلك المرأة تبث إحساسا عميقا بالعزلة.
«إنك تشبه خوليان» قالت على حين غرة.
«بنظراته وحركاته، وتصرفاته أيضا. يراقبك بصمت قادر على إخفاء ما يفكر فيه،
|ويجعلك تستطرد في حديثك فتقص عليه كالغبي أشياء من الأفضل أن تسكت عنها... هل لي أن أقدّم لك شيئا تشربه؟ فنجان قهوة بالحليب مثلا؟»
«لا شكرا، لا أريد إزعاجك.»
«لا إزعاج. سأحتسي فنجانا أنا أيضا.»
ربما كان ذلك المشروب الساخن بمثابة غدائها. رفضته مجددا، لكنها ذهبت نحو زاوية في الغرفة حيث يوجد فرن كهربائي صغير.
«خذ راحتك» قالت دون أن تستدير.
نظرت حولي وتساءلت كيف لي أن آخذ راحتي. فمكتب نوريا مونفورت كان عبارة عن منضدة موضوعة بجانب الشرفة، وعليها آلة كاتبة اندروود وبجانبها قنديل الغاز ورف مليء بالقواميس وكتب القواعد اللغوية، ما من صورة عائلية، لكن الجدار المقابل كان مفروشا ببطاقات المعايدة التي يظهر في جميعها جسر أذكر أنني رأيته في مكان ما، ولا أعرف أين يكون، ربما في باريس أو روما. كانت المنضدة نموذجا عن الهلوسة في الترتيب والدقة: أقلام الرصاص المبرية ببراعة مصفوفة بشكل متكامل، والأوراق والملفات مرتبة على ثلاثة أنساق. عندما التفتُ رأيت أن نوريا كانت تراقبني من الممر بصمت كأنها تنظر إلى غريب في الطريق أو في قطار الأنفاق. أشعلتْ سيجارة. كانت امرأة جذابة شاءت أم أبت، من اللواتي قد يذهلن فيرمين إذا ما ظهرن من ضباب محطة برلين، وعلى رأسهن هالة من الضوء. لكنها تبدو جاهلة بما يمكن أن تفعله بسحر جمالها.
«ليس عندي الكثير لأقوله» صرّحت. «عرفت خوليان منذ عشرين عاما، في باريس. كنت أعمل في دار نشر كابيستاني الذي اشترى حقوق نشر رواياته بدرهمين. بدأت العمل عنده كمحاسبة، وما إن اكتشف السيد كابيستاني أنني أتحدث الفرنسية والقليل من الألمانية حتى أوكل إلي شؤون المكتسبات ورفعني إلى مستوى سكرتيرة شخصية. وكانت إحدى مهماتي أن أعتني بالمراسلات مع المؤلفين والناشرين الأجانب. وهكذا دخلت في تواصل مع خوليان كاراكس.»
«قال لي والدك بأن صداقة قوية جمعت بينكما.»
«لعل والدي أخبرك بأننا خضنا مغامرة أو شيئا ما كهذا، أليس كذلك؟ إنه يظن أنني ألهث خلف أي رجل كأنني كلبة شهوانية.»
سلبت مني صراحتها الكلام، وحاولت عبثا أن أعطي ردا معقولا بينما كانت نوريا تخفض رأسها وهي تتبسم.
«لا تعرّه اهتماما. لقد اغتاظ أبي من خوليان بعد أن ذهبت إلى باريس عام 1933 كي أتابع بعض العقود الموقعة بين السيد كابيستاني وغاليمار. بقيت هناك مدة أسبوع، ضيفة عند خوليان، لالشيء سوى لأن السيد كابيستاني كان يفضل توفير نفقات الفندق. يا له من لقاء رومانسي أليس صحيحا؟ كانت علاقتي بخوليان، حتى تلك اللحظة، تقوم عبر المراسلات لتحديد بعض التفاصيل المتعلقة بحقوق المؤلف وتصحيح المسودات ونشر الاعمال. كل ما كنت اعرف عنه او اتخيله كان راجعا لقراءتي مخطوطاته.»
«هل روى عليك شيئا من حياته في باريس؟»
«لا. لم يكن يحب أن يتكلم عن نفسه أو عن كتبه. ولم يبدُ لي أنه كان سعيدا في باريس، إذ أعطاني الانطباع بأنه من أولئك الأشخاص الذين لا يشعرون بالسعادة أينما وجدوا. وفي الواقع لم أعرفه جيدا، فهو لا يسمح لأحد بذلك. كان كتوما جدا وأحيانا يبدو أنه فقد أي صلة تربطه بالعالم والبشر. وكان السيد كابيستاني يراه مفرط الخجل ومتقلب المزاج، لكنني أعتقد أن خوليان عاش في ماضيه أسيرا لذكرياته. كان خوليان يعيش لأجل نفسه ولأجل كتبه، ويحيا في قصص رواياته مثل سجين في زنزانة فاخرة. »
«يبدو وكأنك تحسدينه على ذلك.»
«ثمت سجون أسوأ من الكلمات يا دانيال.»
اكتفيت بالموافقة دون أن أفهم المعني بكلامها ولا المقصود به.
«ألم يحدثك أبدا عن سنواته في برشلونة؟»
«القليل جدا. نوّه عن عائلته ذات مرة خلال الأسبوع الذي حللت فيه ضيفة عنده. أمه فرنسية ومعلمة موسيقى، وأبوه صاحب محل قبعات أو شيء من هذا القبيل. وعرفت أن والده كان متدينا جدا وقاسي القلب.» «
هل كانا متوافقين؟»
«لا. لم يكونا على وفاق منذ البدء. خوليان ذهب إلى باريس في الحقيقة كي لا يجبر على التطوع في الجيش بناء على قرار والده. أقسمت أمه أنها ستنفصل عن ذلك الرجل، كي تجنبه مصيرا كهذا.»
«هل كان ذلك الرجل والده؟» ابتسمت نوريا بالكاد، وحجب الحزن شفتيها ونظراتها المتعبة. «بغض النظرعن هذا، لم يكن ذلك الرجل يتصرف أبدا على أنه أب، وخوليان لم يكن يعتبره كذلك من جهة أخرى. قال لي إن أمه، قبل الزواج، كان لديها علاقة مع شخص رفضت أن تكشف عن اسمه. وهو الوالد الحقيقي لخوليان.»
«تبدو كأنها مقدمة «ظل الريح». هل قال لك الحقيقة؟» أومأت نوريا مونفورت.
« حين كان طفلا كان يتابع تلك المشاهد العنيفة التي يقوم بها بائع القبعات، كما كان يسميه، وهو يهين زوجته ويضربها ثم يدخل إلى غرفته كي يذكّره بأنه ابن سفاح وأنه ورث طباعه السيئة عن أمه وأنه سوف يبقى مغفلاوفاشلا إلى الأبد.»
«هل كان خوليان يكن الحقد لأبيه؟،
«الزمن يخفف من قسوة الخلافات. لم يبدّ لي بأنه يكرهه، ولعل هذا تصرّف جيد. لكنني أعتقد أنه فقد أي احترام تجاهه بسبب رؤيته لتلك المشاهد. خوليان يتحدث عنه بحيادية مطلقة كانه شيء من الماضي البائد والمدفون، لكن تلك الذكريات لا تمحى. الكلمات التي تحقن قلب الطفل بالغل، سواء قيلت عن جهل أو عن سابق إصرار، تترسب في الذاكرة وتترك جرحا لا يندمل.»
تساءلتُ إن كانت تتحدث عن خبرة، وفكرت بصديقي توماس الذي كان يحتمل بصبر أيوب خطاب والده المبجل.
«كم كان عمر خوليان حينذاك؟»
«ثماني سنوات أو عشر على ما أظن. ما إن بلغ سن التجنيد حتى أخذته أمه معها إلى باريس. لا أعتقد أنهما ودّعا بائع القبعات، وهو لم يفهم أبدا لماذا هجراه.»
«ألم يذكر خوليان على مسامعك اسم بينيلوب؟»
«بينيلوب؟ لا يبدو لي ذلك، وإلا تذكرته.»
«كانت عشيقته عندما كان لا يزال في برشلونة. »
أخرجت صورة خوليان وبينيلوب الدايا وأعطيتها إياها. أضاء وجهها حين رأت خوليان في سنين مراهقته. لا شك أنها كانت مصابة بداء الشوق والعزلة.
«كم كان شابا... هل هذه هي بينيلوب؟»
أومأتُ بنعم.
"جميلة جدا. كان خوليان ناجحا في لم الفتيات الجميلات حوله"
" مثلك" قلت في سري.
«هل تعرفين إن كان لديه الكثير من...»
«العشيقات؟ الصديقات؟ لا أعلم. والحق يقال إنني لم أسمعه أبدا يتحدث عن امرأة على وجه الخصوص. ذات مرة سألته عن الأمرلاستفزازه. هل تعلم أنه كان يحصل على قوت يومه بعزف البيانو في بيت دعارة؟ سألته إن كان يقاوم الإغواء مادام محاصرا بالغانيات المستعدات لهذه الدرجة. لم تعجبه النكتة. أجابني بأنه لم يكن لديه الحق بأن يعشق أحدا وأنه يستحق أن يظل وحيدا.»
(هل قال لك لماذا؟»
«خوليان لم يكن يقدم التوضيحات أبدا.»
«ومع ذلك، قبل أن يعود إلى برشلونة بزمن قصير، كان خوليان على وشك الزواج. » «هكذا كان يقال. »
«ألا تصدقين ما يقال؟»
أخفضت رأسها وساورتها الشكوك. وكما قلت لك، خوليان لم يشر أبدا إلى امرأة على وجه الخصوص، ولا حتى لواحدة كان ينوي الزواج بها. علمت عن زواجه المفترض لاحقا. نويفال، آخر ناشر لكاراكس، قال لكابيستاني إن الخطيبة امرأة تكبره سنا بعشرين عاما، أرملة غنية ومريضة يبدو أنها تبنته لسنوات طويلة. افترض الأطباء أن تعيش ستة أشهر أخرى، أو سنة كحد أقصى، ويدّعي نيوفال بأن خوليان إنما أراد أن يستحوذ على كامل ثرواتها حالما تموت.» «لكن حفل الزفاف لم يحصل. » «هذا إذا افترضنا أن مشروعا كهذا قد رأى النور بالأساس، أو أن تلك الأرملة كان لها وجود أصلا.»
«قيل إن كاراكس دعي لمبارزة في فجر يوم زفافه. هل تعلمين من الذي تحداه أولماذا؟» «بحسب أقوال نيوفال كان الأمر متعلقا بشخص من أقارب الأرملة الذي لم يتصور أن تقع التركة في أيد غريبة. لكن نيوفال كان ينشر روايات مسلسلة وعاطفية ولعلّه تأثر بذلك النمط الأدبي.»
«يبدو لي أنك تشككين بقصة الزواج وقصة المبارزة.»
«لم أصدق هذا أبدا.»
كيف كانت نهاية كاراكس بالنسية إليك إذن؟ لماذا عاد إلى برشلونة؟»
جاوبتني وموج الحزن يغمرها. «لقد طرحت على نفسي هذا السؤال منذ سبعة عشر عاما.» أشعلت نوريا سيجارة أخرى وعرضت علي واحدة. كنت على وشك أن أوافق لكنني رفضت. "تساورك بعض الشكوك على الأقل" قلت.
«ما أعرفه أن دار النشر، في صيف العام 1936 بعد نهاية الحرب بقليل، تلقت اتصالا من موظف يعمل في شؤون الموتى في البلدية. بلغنا الرجل أنه، قبل ثلاثة أيام، وصلت إليه جثة رجل يدعى خوليان كاراكس. وجدوه ميتا في أحد أزقة الرافال مرتديا ثيابا رثة، وقلبه مثقوب برصاصة. كان بحوزته كتاب، نسخة عن «ظل الريح»، وجواز سفره. فهم من الأختام أنه عبر الحدود مع فرنسا قبل شهر، ولا يعلم أحد أين كان طوال تلك الفترة. أخطرت الشرطة والده، لكنه رفض التعرف إلى الجثة، مدعيا بأنه بلا أبناء، فلم يطالب أحد بها بعدئذ. ووري خوليان الثرى بعد يومين في قبر جماعي من مقبرة مونتويك. لم يتسن لي حتى حمل الأزهار إلى قبره، لأنهم لم يذكروا أين دفنوه. وبعد عدة أيام، قرر الموظف، الذي وجد الكتاب في سترة خوليان، أن يُعلم دار النشر. وهكذا عرفت بموته، ولم أتمكن من العثور على أي تفسير حتى اللحظة. إن كان لخوليان أصدقاء يطلب منهم المساعدة فلم يكن ليجد غيري. كان بإمكانه أن يتوجه إلى السيد كابيسستاني ايضا، فنحن اصدقاؤه الوحيدون. ولم نعلم بعودته إلا بعدما توفي...»
«هل استطعت أن تكتشفين شيئا آخر بعد خبر وفاته؟»
«لا. في الأشهر الأولى من الحرب اختفى الكثير من الأشخاص دون أن يتركوا أثرا وراءهم. والآن يتجنب الجميع التحدث عنهم، والقبور الجماعية كتلك التي دفن فيها خوليان كثيرة. فأن تنطح الجدار برأسك أفضل من أن تسأل عنهم. قدمتُ بلاغا للشرطة بمساعدة السيد كابيستاني الذي كان مريضا حينها، وتواصلتُ مع كل شخص بوسعه أن يملك ولو يسيرا من المعلومات. وفي النهاية نصحني أحد المحققين الشباب، وهو شخص حقير ومغرور، بعدم تكرار السؤال وأن أكون متعاونة ومتفهمة، فالبلاد كانت تخوض حربا صليبية، هكذا قال بالتحديد. كان اسمه فوميرو، لا أذكر أي شيء آخر. والآن يبدو أنه أصبح شخصية بارزة وغالبا ما تتكلم عنه الصحف.»
أصابتني نوبة قصيرة من السعال.
«يا للغرابة.» «ولم أعد أسمع أي شيء عن خوليان إلى أن اتصل شخص ما بدار النشر بغية الحصول على نسخ رواياته التي لم تبع»
«لايين كوبرت؟»
أومأت نوريا مؤكدة.
«هل لديك فكرة عمّن يكون هذا الرجل؟»
«لدي شك وحيد. في شهر مارس من عام 1936 - أذكر التاريخ جيدا لأننا كنا نعمل على نشر «ظل الريح» - اتصل أحد ما بدار النشر كي يطلب عنوان كاراكس، قائلا بأنه صديق قديم يريد التوجه إلى باريس كي يفاجئه. أوصلوني به فأجبته بأنني لست مخولة لإعطائه هذه المعلومة. »
«هل قال لك ما اسمه؟»
«أحد ما يدعى خورخي.»
«خورخي الدايا؟»
«ربما. لقد سمعت خوليان يذكر هذا الاسم غالبا. ربما كان من رفاقه في مدرسة سان جبريل. كان يتكلم عنه كأنه صديقه المفضل.»
«هل تعلمين أن خورخي الدايا أخ بينيلوب؟»
تقطب جبينها واندهشت.
«وهل أعطيته عنوان خوليان في باريس بعد ذلك؟» سألتها.
«كلا. لم أكن لأثق فيه.»
«وماذا قال خورخي؟»
«سخر مني، وأكد بأنه سيحصل عليه بأية حال وأغلق السماعة.»
كان شيء ما يعذب أساريرها. بدأت لا أفهم في أي منحى تمضي محادثتنا.
«ولكنك سمعت عنه بعدها، أليس كذلك؟» فأومأت بعصبية.
« كما قلت لك، بعد وفاة خوليان بوقت قصير جاء ذلك الرجل إلى دار النشر. لم يعد السيد كابيستاني يدير أعماله فتسلم نجله المهمة. تقدّم ذلك الرجل، لايين كوبرت، باقتراح بأن يشتري كل النسخ غير المباعة من روايات كاراكس. فكرتُ أنه يقوم بمزحة ثقيلة: لايين كوبرت كان شخصية في رواية «ظل الريح».
«الشيطان.»
هزت نوريا رأسها.
«هل رأيت هذا الذي يدّعي بأنه لايين كوبرت؟»
أشعلت السيجارة الثالثة.
«لا. لكنني سمعت جزءا من المحادثة مع نجل السيد كابيستاني فيمكتب أبيه القديم.»
تركتْ الجملة معلقة، كأنها خافت إنهاءها أو كأنها لم تتمكن من إنهائها. كانت السيجارة ترتجف بين أصابعها.
«الصوت» قالت.
«كان نفس الصوت لذلك الرجل الذي اتصل مدعيا بأنه خورخي الدايا. حاول نجل كابيستاني أن يمتص منه أكبر قدر من النقود لكن كوبرت دعاه للتفكير بالعرض. في تلك الليلة نفسها، أحرق مستودع دار النشر في بويبلونويفو وفيه كل كتب خوليان.» «ما عدا تلك النسخ التي أخذتها ووضعتها في مأمن داخل مقبرة الكتب المنسية. »«تماما.»
«ولكن لماذا كان أحد ما يريد إحراق كتب خوليان كاراكس؟»
"لماذا تُحرق الكتب برأيك؟ إما عن غباوة، أو جهل أو حقد... ومن يدريه"
"وما الفكرة التي كوّنتها أنت يا سيدتي؟" ألححت في السؤال.
((خوليان كان يعيش في صفحات رواياته. الجسد الذي رقد في تلك الحفرة كان جزءا منه فقط. أما روحه فتسكن في الحكايات التي قصّها. ذات مرة سألته عن الوحي الذي يلهمه الشخصيات، فأجابني بأن كل الشخصيات مجرد إسقاطات عن نفسه.»
«فإذا فكر أحدهم في إيذائه حقا فلابد أن يمحو تلك القصص وشخصياتها. أليس كذلك؟» فارتسمت مجددا تلك الابتسامة لامرأة منهكة ومقهورة.
«أنت تذكرني بخوليان» قالت. «قبل أن يفقد الثقة.»
«الثقة في أي شيء تحديدا؟» " في كل شيء."
اقتربت مني وأخذت بين يديها يدي المرتجفة، وداعبت كف يدي وهي ساكتة كأنها أرادت أن تقرأ مستقبلي. شعرت بالدوار، كنت أتخيل انحناءات جسدها المخفية تحت ثيابها البالية، ورغبت أن ألامسها وأسمع أهات نشوتها. لكنني اكتفيت بالنظر إليها كي أعرف إن كانت على علم بما أفكر. بدت لي وحيدة أكثر من ذي قبل، لكن عينيها كانتا في غاية الصفاء. «خوليان مات وحيدا، ومقتنعا بأن لا أحد سيذكره أويتذكر كتبه. مات وهو يفكر في أن حياته كانت بلا جدوى» قالت.
"لعله كان سيسرّ لو عرف أن أحدا يلملم ذكرياته. فهو الذي قال: إننا موجودون طالما يذكرنا الاخرون. "
شعرت بالرغبة الأليمة بلثم تلك المرأة. قلق لم أجربه من قبل، حتى مع كلارا برسلوه. قرأتْ أفكاري.
«تأخر الوقت يا دانيال» همست.
كان جزءا مني يحبذ البقاء كي يذوب في حميمية ذلك الظلام بجانب تلك المجهولة التي رأت في حركاتي وصمتي ذكرى خوليان كاراكس.
«أجل» تلعثماتُ.
رافقتني إلى الباب دون أن تتكلم، وبدا لي الممر طويلا جدا. فتحت نوريا مونفورت الباب فوجدت نفسي عند الفناء.
«إن قابلت والدي قل له إنني بخير. اكذب عليه.»
ودّعتها بصوت هامس وأنا أشكرها لأنها فرّغت من وقتها لأجلي، ومددت يدي. فتجاهلت تلك الحركة الرسمية، وأمسكت ذراعيّ بيديها، وحنت رأسها وقبلت وجنتي. بحثتُ عن فمها.
بدت لي شفتاها مواربتين وأصابعها تنبسط على وجهي. ثم دفعتني عنها برفق.
«من الأفضل أن تنصرف يا دانيال» همستْ. أغلقتْ الباب، ربما كي لا أرى دموعها. انتظرت بضع لحظات عند الفناء، وكنت أراقب وجودها من خلف الباب. رأيت الباب المقابل يتحرك. رفعت يدي لتحية الجارة ونزلت مسرعا على السلالم. لقد انحفر وجهها وصوتها على روحي، ورافقتني ذكرى فمها وعطر جسدها في الطرق المزدحمة بالناس المجهولين الخارجين من المكاتب والمحلات. وما إن خرجتُ على شارع كانودا حتى دهستني ريح باردة، ريح منعشة عانقت وجهي فمشيت منتشيا صوب الجامعة. اجتزت لاس رامبلاس ودخلت قوقعة شارع تاليرس المظلمة وأنا أفكر في نوريا مونفورت، جالسة في تلك الغرفة المعتمة وتعتني بترتيب أقلامها وملفاتها وذكرياتها بصمت أصم وعيون محترقة بفعل الدموع الملتهبة.
21
هبط المساء غدرا. واستباحت الريحُ الشوارع، وصبغ اللون الأرجواني كل زاوية في المدينة. أسرعت الخطى حتى رأيت واجهة الجامعة، بعد عشرين دقيقة، كأنها سفينة صفراء تفنى في ظلام الليل. كان حارس كلية الاداب في مكتبه يقرأ جريدة ال موندو ديبورتيفو المسائية، والتي تستضيف أهم الأقلام البارزة في تلك الحقبة. لم يبق سوى القليل من الطلبة، وصدى خطاي يصدح في الممرات التي تنيرها بعض الاضواء الواهنة. خشيت أن تكون بيا قد احتالت علي وأعطتني موعدا في وقت غير اعتيادي كي تنتقم من عنجهيتي. كانت الباحة ملعبا لحفيف شجر البرتقال وخرير النافورة الذي يدغدغ أقواس البوابة. نظرت حولي وأنا أحضر نفسي على خيبة الأمل أو ارتياح الجبناء. كانت بيا هناك، جالسة بجانب النافورة، ونظراتها تتجه صوب المبنى. بدت لي لوهلة مثل نوريا مونفورت التي كانت تحلم بعينين مفتوحتين على مقعد في الساحة. حين رأيت بيا دون كتب ودفاتر، تخيلت أنه لم يكن لديها دروس في ذلك المساء وأنها كانت هنالك لتلتقي بي وحسب. تشجعت ودخلت. سمعتْ بيا صوت خطاي، فالتفتت وابتسمت في وجهي متفاجئة كأنني كنت هنالك بفضل الصدفة.
«ظننت أنك لم تأت» قالت بيا.
«وأنا أيضا ظننت أنك لن تأتي» أجبتها.
كانت جالسة تضم ركبتيها وتحط يديها على حضنها. تساءلت كيف يُعقل أن نشعر بوجود مسافة تفصلنا عن بعض الأشخاص ونكون قادرين على تفسير نظراتهم في الوقت نفسه.
«لقد أتيت لأبرهن لك أنك مخطئ يا دانيال. سوف أتزوج بابلو، ولن تتمكن من أن تغير فكرتي مهما أظهرت لي من مفاتن هذه المدينة اليوم. سأذهب معه إلى الفيرول حالما ينهي خدمته العسكرية.»
حدّقت فيها وأخذ وجهي ملامح من فاته القطار توا. طيلة يومين لم أكن أفكر إلا بوهم والآن أشهد على انهيار العالم فوق رأسي.
«ظننت أنك أتيت لأنك قد تسرين برؤيتي» أجبتها بابتسامة جريحة.
تأججتْ أمام هذا الاعتراض الأعزل.
«كلا. كنت أمازحك. ولكنني كنت جادا بحديثي عن وجوه لهذه المدينة لا تعرفينها. هكذا لن تستطيعي نسياني ولا نسيان برشلونة أينما ذهبت.»
ابتسمت بيا بحزن وتجنبت النظر نحوي.
«أتعلم أنني كنت أود الذهاب إلى السينما كي لا أراك؟» قالت.
«لماذا؟»
أرخت كتفيها ورفعت عينيها إلى السماء، كأنها أرادت اصطياد كلماتها التي أوشكت على لفظها.
«لأنني خشيت أن تكون محقا.» اعترفتْ.
تنهدتُ. وأحاطنا الظلام وذلك الصمت المهمل الذي يوحّد الغرباء. شعرت بأنني قادر على قول أي شيء حتى لو كان للمرة الأخيرة.
«هل تحبينه أم لا؟»
أهدتني ابتسامة ولم تفلح في تثبيتها على ثغرها.
«هذا ليس من شأنك.»
«حقا» وافقت. «الأمر متعلق بك وحدك.»
احتدّت نظراتها.
«وما الذي يعنيك؟»
«هذا ليس من شأنك» أجبتها.
زالت ابتسامتها وارتجفت شفتاها.
«الجميع يعلم أنني أود بابلو. عائلتي...»
«ولكنني لست من أفراد العائلة» قاطعتها. «يطيب لي أن أسمعه منك.»
«ماذا؟»
أنك تحبينه. وألاً تتزوجيه لكي تغادري المنزل وتبتعدي عن برشلونة
وعن عائلتك. ألاً تتزوجيه لكي تهربي حيث لا يستطيعون أن يضغطوا
عليك. أن ما تتخذينه قراراً وليس فراراً. »
لمعت عيناها بدموع غاضبة.
«ليس لك الحق في أن تكلمني هكذا يا دانيال. أنت لا تعرفني.»
وقولي لي إنني مخطئ فأنصرف على الفور.
"هل تحبينه؟"
نظر كل منا في عيني الآخر، دون أن ننطق بكلمة واحدة.
«لا أعرف» همستْ في النهاية. «لا أعرف.»
«قال أحدهم: مادمت تنفقين لحظة للإجابة عن حبّك لرجل من
عدمه، فأنت قد أجبت وقضي الأمر.» قلتُ.
بحثت بيا عن أي شيء يثير الفكاهة في وجهي.
«ومن قال ذلك؟»
«أحدهم يدعى خوليان كاراكس.»
«هل هوصديقك؟»
«تقريبا» أجبت بدهشة معينة.
«عليك أن تعرّفني عليه.»
«هذا المساء، إن أردت.»
خرجنا من الجامعة تحت سماء داكنة ومشينا في الطرقات دون وجهة محددة، وهمّنا أن يعتاد كل واحد منا على خطوة الآخر وليس الوصو إلى مكان بعينه. لجأنا إلى الموضوع الوحيد الذي يجمع بيننا: أخوها توماس. كانت تتحدث عنه كما لو أنه شخص محبوب لكنها لا تعرفه جيدا. وتتجنب النظر في عيني وتبتسم بعصبية. لقد ندمت على كشف شكوكها في باحة الجامعة وراحت تتمعن في كلماتها بحذر.
«اسمع، بخصوص ما قلته لك من قبل» قالت كي توضح الأمور. "لن تخبر توماس بذلك، صحيح؟"
«لا لتوماس ولا لأي شخص آخر. » هربت من بين شفتيها ضحكة رنانة.
«لا أفهم ما الذي حدث لي. اعذرني، ولكن في بعض الأحيان من السهل أن يثق المرء بشخص غريب. ومن يدري السبب.»
«ربما لأن الغريب يرانا كما نحن على حقيقتنا، وليس كما نريد نحن أن يرانا الآخرون.» «هل هذه عبارة أخرى لصديقك كاراكس؟»
«لا، هذه ابتدعها توا لكي أذهلك.»
«وأنت، كيف تراني؟»
«أراك كأنك لغز.»
«إنها مجاملة غريبة من نوعها. أغرب مجاملة حصلت عليها في حياتي.»
«ليست مجاملة. إنها تهديد. »
«ما الذي تعنيه؟»
«الألغاز موجودة كي نكتشفها.» «ربما سأحبطك.» «أوربما تفاجئينني. وهو ما سوف يفاجئك أنت أيضا.»
«لم يقل لي توماس بأنك وقح نوعا ما.»
«لدي قليل من الوقاحة وضعتها كلها لأجلك.»
«لماذا؟»
"لأنني أخاف منك" قلت في نفسي.
دخلنا مقهى قديما بجانب مسرح بوليوراما وجلسنا على طاولة صغيرة منزوية وطلبنا شطائر اللحم المقدد وفنجانين من القهوة بالحليب كي تدفئ أرواحنا. بعد قليل، اقترب النادل من طاولتنا، وكان شخصا غريبا بلباس عمله ومظهره كشيطان أعرج.
«هل أنتما من طلب شطائر اللحم المقدد؟»
أومأ كلانا بنعم.
«باسم إدارة المقهى أتأسقف لإعلامكما بأن اللحم المقدد نفد كله ولم تبق منه أية قطعة. بوسعنا تحضير شطائر النقانق السوداء أو البيضاء أو كليهما معا. كلها أنواع عالية الجودة وطازجة جدا. لدينا أيضا السردين المغطس بالصلصة إن كنتما لا تودان تناول اللحوم لأسباب دينية فاليوم جمعة و...»
«بالنسبة إلي أكتفي بالقهوة» أجابت بيا.
أما أنا فكنت أتضور جوعا. «اجلب لنا من فضلك علبتين من البطاطا والقليل من الخبز والقهوة لي أيضا.»
«حالا يا سيدي. واعذراني مرة أخرى على قلة الأنواع الغذائية. في العادة يتوفر لدينا كل شيء، حتى الكافيار البلشفي. ولكن هذا المساء أقيمت مباراة نصف نهائي كأس أوروبا وكان لدينا الكثير من الزبائن. إنها مباراة العصر»
انصرف النادل بعد أن انحنى احتراما. وكانت بيا تنظر إليه باستمتاع.
«يا للهجته الغريبة. هل هو من خايين؟»
«من سانتا كولومادي غرامانيت» حددتُ. «واضح من أنك لا تستقلين المترو كثيرا. »
«أبي يقول إن المترو مليء بالرجال المشاكسين وعندما تصعد امرأة بمفردها تتطاول أيادي الغجر على حقيبتها.»
لم أعلق على كلامها فانفجرث هي في ضحكة طويلة. وما إن أتوا لنا بالقهوة والبطاطا حتى أخذتُ ألتهم الطعام. لم تتذوق بيا ولا حبة بطاطا واحدة، بل كانت تحمل الفنجان الساخن بين يديها وترمقني بنظرة فضول واستغراب.
«علام أردت أن تطلعني؟»
«على الكثير من الأشياء. في الحقيقة ما أردت أن أطلعك عليه هو جزء من قصة. ألم تقولي لي ذلك اليوم إنك تهوين القراءة؟»
أومأت بيا مقوسة حاجبيها.
«حسنا. الكتب هم أبطال تلك القصة.»
«الكتب؟»
"إنها كتب ملعونة تكوّن لغز الرجل الذي ألفها، وهنالك شخصية غامضة خرجت من إحدى رواياته كي تحرقها، عطفا على الخيانة والصداقة المهدورة. قصة حب وحقد وأحلام نمت في ظل الريح."
«يبدو هذا حاشية غلاف رواية رديئة يا دانيال.»
«إنني أعمل في مكتبة وليس هذا اعتباطا. لكن هذه قصة حقيقية. حقيقية مثل هذا الخبز الباهت منذ ثلاثة أيام على الأقل. ومثل كل القصص الحقيقية تبدأ وتنتهي في مقبرة، مع أنها في غاية الروعة.»
ابتسمت بيا مثل طفل يسعى لحل أحجية معقدة. «كلي آذان صاغية.»
شربتُ آخر رشفة من القهوة وركزت النظر فيها بضعة لحظات. وددت أن أموت غريقا في بحر نظراتها الفتاكة الشفافة العدمية. وفكرت في الاكتئاب الذي ينتظرني ما إن يتلاشى تأثير السحر الذي كنت سأدهش به تلك الفتاة لتقع في حبي. فكرت في القليل الذي سوف أقدّمه لها وفي الكثير الذي أردت أن أكسبه منها.
«هل فقدت عقلك يا دانيال؟» قالت. «هل تخطط لمكيدة كبرى؟»
بدأت من ذلك الفجر البعيد الذي استيقظت فيه باكيا، حين لم أعد أذكر وجه أمي، وانتهيت حين ألمّ بي الحنين الغامض صباح ذلك اليوم نفسه في بيت نوريا مونفورت. كانت بيا تصغي إلي بتركيز. قصصت عليها أول زيارة لمقبرة الكتب المنسية وقراءتي المتقدة الأولى لظل الريح. حدثتها عن لقائي الأول مع الرجل الذي لا وجه له، وعن رسالة بينيلوب آلدايا التي كنت ما أزال أحملها معي دون أن أدري لماذا. بحت لها بأنني لم ألثم كلارا برسلوه أبدا ولا أي امرأة أخرى، وأطلعتها على اضطرابي عندما كادت شفاه نوريا مونفورت تلامس شفاهي منذ ساعات قليلة. لم أدرك إلا حينها أنني اقتحمت قصة أشخاص غلبتهم الوحدة وابتلعهم الغياب وطعن الفقدان قلوبهم، وأن هذا ما دفعني للبحث عن أي ملاذ فيها حتى امتزجت حياتي بتلك القصة. أخبرتها أنني كنت أشعر كمن يهرب في رحاب رواية لأن موضوع الحب فيها ما هو إلأ ظلال تعيش في روح شخص مجهول.
«لا تضف شيئا» غمغمت بيا. «فلنذهب حالا. »
أطبق الليل حين وصلنا إلى مقبرة الكتب المنسية في زقاق آركو دل تياترو. أمسكت بالمقبض على شكل الشيطان وطرقت ثلاث مرات. هنالك ريح باردة تطوف وتحمل معها رائحة فحم. وقفنا أنا وبيا تحت سقف البوابة. التقيتُ بنظرتها على بعد سنتمترات من نظرتي. وكنت أسمع خطى خفيفة الوطء من الجانب الآخر للبوابة ونبرة الحارس الكَسلى وهو يسأل عن الطارق. «أنا دانيال سيمبيري يا إسحاق.»
سمعته يطلق اللعنات بصوت منخفض ثم بدأت معزوفة القرقعة وصرير متراس كافكا. وفي النهاية انفتحت البوابة بضعة سنتمترات وظهر وجه إسحاق مونفورت، ينيره ضوء المصباح. عندما رآني، تأفف ورفع عينيه إلى السماء.
«كان بوسعي أن أوفر السؤال» قال: «ومن غيرك قد يأتي في مثل هذه الساعة؟»
كان إسحاق يلبس رداء فريدا من نوعه، حلٌّ وسط بين لباس الغرفة ومعطف الجيش الروسي. وينتعل خفا من مخمل وقبعة صوف تتخللها قطع من الجلد الناعم.
"اتمنى الا تكون قد سقطت عن السرير" قلت.
«كلا. كنت قد بدأت للتو في تلاوة الصلوات.» نظر إلى بيا كأنه رأى قنبلة موقوتة بين قدميه. «أتمنى أن أكون مخطئا» قال بنبرة تهديد.
«إسحاق، هذه صديقتي بياتريز. أود أن أطلعها على المكان لوسمحت. كن مطمئنا، إنها تكتم السر جيدا. »
«لم أر غلاما ينافسك على السذاجة يا بن سيمبيري.»
«لن نأخذ من وقتك إلا دقائق.»
راح إسحاق يستجوب بيا، وكان أكثر شكا من شرطي مخضرم.
«هل أنتِ على علم بأنك ترافقين واحدا من المتخلفين عقليا؟» ابتسمت بيا باحترام.
«بدأت أعتاد على ذلك.» «يا لهذه البراءة الإلهية. هل تعرفين القواعد؟» هزت بيا رأسها. فأطلق إسحاق بعض اللعنات بصوت منخفض مجددا وأشار إلينا بالدخول، وهو يتأكد كعادته من أن الشارع خال من المارة.
«التقيت ابنتك نوريا» قلت بعدم اهتمام. «إنها بخير. تعمل بكدّ لكنها بخير. وتتمنى لك أطيب المنى.»
«أجل وبعض الخناجر السامة أيضا. أنت يا سيبميري لا تجيد الكذب ، لكنني أقدّر نواياك الحسنة. هيا ادخل.»
وحالما كنا في الردهة أعطاني المصباح وأغلق المتراس.
«عندما تنتهيان تعرف أين تجدني. »
كانت متاهة الكتب الطيفية تتجلى من بين الظلمات. والمصباح يرسل بقعة من الضياء البخاري على أقدامنا. كانت بيا ودهشتها تتقصيان، من عند العتبة، ذلك التيه من الرفوف والأروقة. ابتسمتُ حين رأيت على وجهها ما رآه والدي على وجهي منذ أعوام مضت. تقدمنا في ظلال تلك الأعجوبة الهندسية، ونحن نتبع العلامات التي كنت قد نقشتها أثناء زيارتي الأخيرة.
«تعالي، أريد أن أطلعك على شيء ما» قلت.
أضعت الوجهة أكثر من مرة وكنا مجبرين على العودة على درب خطواتنا بحثا عن آخر علامة. كانت بيا تراقبني بقلق وذهول. أعلمتني بوصلتي الذهنية أننا تهنا في تشابك لولبي يتداخل نحو قلب المكتبة. وفي النهاية نجحت في تحديد الممر الصحيح الذي يشبه منصة معلقة في الظلام. جثوت على ركبتي عند الرف الأسفل ووجدت صديقي القديم حيث تركته، مختبئا خلف جدار من المجلدات المغبرة التي تلمع على ضوء المصباح كحبات الصقيع. أخذت الكتاب وأعطيته لبيا.
«أقدّم إليك خوليان كاراكس.»
«ظل الريح» قرأت بيا وهي تتلمس الحروف الكالحة على الغلاف.
«هل بوسعي استعارته؟» سألتْ.
«أي كتاب تريدين عدا هذا.»
«ليس عدلا. أنا أريد هذا الكتاب. لقد شوّقتني بكل ما رويت لي عنه.»
"في مرة لاحقة ربما. ولكن ليس اليوم"
سحبته من بين يديها وأرجعته إلى مخبئه.
«سأعود إلى هنا بمفردي وسأخذه دون أن تعلم» قالتْ.
«لن تستطعي العثور عليه أبدا.»
«هذا ما تظنه أنت. لقد رأيت العلامات على الخشب وأعرف أنا أيضا أسطورة المينوتور.»
«لن يدعك إسحاق تدخلين.»
«أنت مخطئ. فهو يراني أخف ظلا منك.»
«وكيف عرفت ذلك؟»
«أقرأ النظرات.»
صدقتها على الرغم مني وأخفضت أنظاري.
« اختاري واحدا اخر. انظري، هذا يبدو مثيرا للاهتمام. خنازير ميزيتا: دراسة في جذور اللحوم المقددة في شبه الجزيرة الإيبيرية» لأنسيلمو توركويمادا. لقد باع بالتأكيد نسخا أكثر من أي رواية لخوليان كاراكس. فالناس تأكل الخنزير بأكمله ولا تلقي من أجزائه شيئا.»
«هذا الكتاب الآخر يشدني أكثر "تايس اف ذا دوربرفيل" إنها النسخة الأصلية. هل لديك القدرة على قراءة توماس هاردي بالانكليزية؟»
رمقتني بنظرة متجهمة.
«ستأخذينه إذن.»
«ألا ترى كيف يبدو كأنه بانتظاري وهو مدفون في هذا المكان من قبل أن أولد؟»
«ما بك؟ ما الذي قلته أنا؟» سألتني.
ودون أن أفكر في خطورة ما أقوم به، لثمتُ ثغرها بقبلة. عندما وصلنا أمام بيت بيا كانت الساعة تقارب منتصف الليل. قطعنا كل تلك المسافة دون أن ننبس ببنت شفة، إذ كان كل منا غارق في ما يفكر فيه. وكانت بيا تمشي وكتابها تحت إبطها وكنت أتبعها منتشيا بنكهة فمها. وفكرت بنظرة إسحاق الاستقصائية حين خرجنا من مقبرة الكتب المنسية. كم كانت شبيهة بنظرة والدي حين يتساءل إن كنت أعي ما أقوم به. قضيت ساعات ذلك النهار الأخيرة في عالم آخر يقوم على التواصل العابر والنظرات التي زعزعتني من جذوري ولم أكن أفهم معناها. وحين عدت إلى الواقع بين ظلال ناحية اينسانش، كان السحر يترك محله لحيرة أليمة، لرغبة لا اسم لها. اكتفيت بالنظر إلى بيا لأفهم أن هواجسي كانت مجرد نسمة في تلك الزوبعة التي تعصف في فؤادها. ركز كل منا النظر إلى الاخر امام البوابة، دون ان نتظاهر باننا نخفي ما كنا نحس به. وقد مرّ الحارس الليلي وهي يصفر البوليرو على إيقاع قلادة مفاتيحه الرنانة.
«هل تريدين ألا نلتقي بعد اليوم؟» قلت لها مترددا.
«لا أعلم يا دانيال. إنني مشوشة الذهن. هل هذا ما تريد؟»
«كلا مطلقا. وأنتِ؟»
شدت كتفيها، وتفشت ابتسامتها المنهكة على وجهها.
«ما الذي تفكر فيه أنت؟» سألت. ولقد كذبت عليك في باحة الجامعة،
أتعلم؟»
«بخصوص ماذا؟»
«ليس صحيحا أنني لم أكن أريد رؤيتك.».
كان الحارس المعتاد على وداعات العشاق التي لا تنتهي، يطوف في المكان بابتسامة ونظرة من كان له باع طويل في الغرام.
«خذا وقتكما» قال. «سأذهب لأدخن سيجارة.»
انتظرتُ حتى يبتعد.
«متى بوسعنا اللقاء ثانية؟»
«لا أعلم يا دانيال.»
"في الغد؟"
«أرجوك يا دانيال. لا أعرف.»
هززت رأسي. فداعبتْ وجهي.
«من الأفضل أن تنصرف الآن.»
«تعلمين أين تجدينني على الأقل. صحيح؟»
أومأت بنعم.
«سأنتظر.»
«وأنا أيضا.»
ابتعدت عن بيا دون أن أحيد نظرتي عن عينيها.
وكان الحارس قد هرع ليفتح لها البوابة،«أيها الشقي» همس في أذني بنبرة إعجاب. «لديك ذوق رفيع حقا.»
انتظرت حتى تنغلق البوابة العملاقة كلها خلف بيا، وابتعدتُ وأنا التفت كل هنيهة إلى الوراء. وبينما كنت أتمشى في الليل، بدا لي أن كل شيء ممكن وأن الشوارع الخالية والريح القارصة تضوعان بعطر الأمل. في ساحة كاتالونيا تجمع سرب من الحمام في وسط الفسحة، ليكسوها بمعطف متموج من الأجنحة البيضاء. كان في نيتي اجتناب السرب لكنه انفتح ليمهد لي الطريق دون أن يطير ومن ثم عاد لإغلاق الموجة مجددا. رنت أجراس الكنائس لتنذر بحلول منتصف الليل تماما حينما كنت قد وصلت إلى منتصف الساحة. استنتجت أن ذلك النهار كان أجمل يوم في عمري، وأنا أجتاز ذلك المحيط من الريش الفضي.
22
وحين مررت قبالة واجهة المكتبة رأيت أن النور ما زال مضاءً. شككت أن والدي وجد حجة ليسألني كيف مضى لقائي مع بيا حتى لو اضطر لانتظاري واقفا على قدميه. كان ثمت طيف لرجل هزيل يرتب صندوقا من الكتب. طرقت على الزجاج، فرفع فيرمين نظره متفاجئا. أشار إلي بالدخول والمرور من المستودع. «
أمازلت تعمل يا فيرمين؟ لقد تأخر الوقت كثيرا.»
"في الواقع كنت سأذهب فورًا لدى الدون فيديريكو. علي أن أعطي المقابل لإيلوي، صاحب محل البصريات. ومن جهة أخرى فأنا لا أنام إلا قليلا، ساعتين أو ثلاثا كحد اقصى. ولكنك إن كنت عائدا بعد منتصف الليل فهذا يعني أن لقاءك بالفتاة كان ناجحا للغاية.»
أرخيت كتفي. «لا أعلم.»
«هل مددت يدك؟»
«لا.»
«دلالة جيدة. لا تثق أبدا بالفتيات اللواتي يسمحن لك بلمسهن منذ الموعد الأول، ولا بالمنافقات اللواتي يحتجن إذنا من الراهب. اللحم اللذيذ يوجد في وسط الدابة، اعذرني على هذه المقاربة الغذائية. إن سنحت لك المناسبة لا تتردد. ولكن إن كنت جادا، مثلي أنا مع برناردا، فتذكر تلك القاعدة الذهبية. » «
وهل أنت جاد مع برناردا؟»
«بل وأكثر من ذلك. أنا أحبها رومانسيا. وهذه بياتريز كيف هي؟ لا شك أنها جميلة حقا ولكن السؤال: هل تنتمي لصنف النساء اللواتى تحبّهن أم هي من أولئك اللواتي يسبين صداعا في الرأس فقط؟»
«ليس لدي فكرة» أجبت. «ربما كانت من كلا الصنفين»
«انظر يا دانيال، إن الأمر يشبه اضطراب المعدة قليلا. يعطي تنبيها بالإعياء هنا، على رأس المعدة. هل كان شعورك أنك ابتلعت قرميدة أم بارتفاع الحرارة فقط؟»
«أميل إلى القرميدة» قلت حتى لو أنني لم أستبعد الفرضية الثانية.
«فالمسألة جدية إذن. أعانك اللّه. هيا، اجلس كي أحضر لك البابونج.»
جلسنا على الطاولة في المستودع والكتب تحيطنا في سكون الليل. كانت المدينة قد غفت والمكتبة تبدو كزورق يحمله التيار إلى عرض محيط من ظلال الطمأنينة. وبينما كان فيرمين يعطيني الفنجان الساخن، افتعل ابتسامة فيها حياء معين. كأن شيئا ما يجول في رأسه.
«هل لي أن أطرح عليك سؤالا شخصيا يا دانيال؟» «أرجو أن تجيبني بصراحة» قال وهو يجمع صوته.
«هل تعتقد أنني من الممكن أن أصبح أبا ؟»
لاحظ الذهول الذي اعتلى وجهي فاستعجل في تحديد فكرته.
«لا أقصد الأبوّة البيولوجية. أعترف أنني كنت فظيعا في أغلب الأوقات ولكن ولله الحمد أمدّتني الطبيعة بفحولة ثور مستنفر. إنما كنت ألمح إلى نوع آخر من الأبوّة. الأب الطيب، أنت تفهمني.»
«الأب الطيب؟»
«أجل، مثل أبيك. رجل ذكي ومرهف الحس وقادر على الإصغاء والتربية واحترام أي شخص حتى لو كان خطاءً. أب يعجب به ابنه ويود ان يصبح مثله.»
«لماذا تسألني أنا يا فيرمين؟ كنت أراك لا تؤمن بالزواج ولا بالعائلة. النظام العبودي وباقي ما تبقّى. ألا تذكر؟»
وافق فيرمين بإيماءة. «صحيح، إنها أغراض للهواة. الزواج والعائلة عبارة عن قوقعة فارغة وعلينا أن نملأها بالمعاني، ليس لها مغزى سوى أنها مسابقة في النفاق. إنها مجرد ثرثرة ونشاط عفا عنه الزمن. ولكن مادام الحب أصيلا ومبنيا على الأفعال، وليس كذاك الحب الذي يتبدد ما إن تهب نسمة هشة... »
«تبدو رجلا آخر يا فيرمين.»
«إنني رجل آخر. برناردا جعلتني أرغب في أن أكون أفضل مما أنا عليه»
«لماذا؟»
«كي أستحقها. ليس بوسعك أن تعي ما أقول لأنك ما تزال صبيا. ولكنك سوف تلاحظ مع مرور الوقت أن التفاني أثمن من العطاء. لقد تحدثنا أنا وبرناردا طويلا. إنها ولدت كي تكون أما، وأنت تعلم هذا جيدا. فرحتها الكبرى، كما أرى، أن يكون لديها أولاد. وهي تطيب لي أكثر من شراب الدراق. تصور أنني من أجلها مستعد أن تطأ قدمي الكنيسة، بعد اثنين وثلاثين عاما من الصيام عن الدين، كي اتلو مزامير القديس سيرافين او اي قديس اخر. » «أنت تستعجل يا فيرمين. مازلتما في البداية بالكاد...»
«إن كانت أفكارك ليست واضحة، وأنت في عمري، حلت عليك اللعنة لا محالة. تستحق الحياة أن نعيشها لسببين أو ثلاثة، وباقي ما تبقى هراء. في الماضي أقدمت على الكثير من التصرفات الغبية، ولكنني الآن لا أرغب إلا بإسعاد برناردا والموت بين ذراعيها عندما تحين الساعة. إنني أسعى لأن أكون رجلا محترما مرة ثانية. ليس لأجلي، فأنا لا أنتظر احتراما من قطيع القردة الذي يدعى بالجنس البشري، ولكن لأجلها. لأن برناردا تؤمن بالبرامج الفكاهية الإذاعية وبالقساوسة وبالكرامة وبعذراء اللورد. لقد خلقت هكذا وأنا أود لها الخير كما هي، ولن أرغمها على نتف شعرة واحدة من الزغب الذي ينمو على ذقنها. ولهذا أرغب أن تكون فخورة بي. أريدها أن تقول: حبيبي فيرمين يا له من رجل عظيم، مثل كاري جرانت، هيمنغواي أو مانوليتي13 »
شبكت ذراعي على صدري وتأملت القضية.
«هل حدثت برناردا بالأمر؟ بفكرة أن تضع لك مولودا؟»
«ومن تظنني لأفعل ذلك؟ هل تتخيل أنني أتجول في الشوارع كي أقترح على النساء أن يحملن مني؟ إياك أن تظن أنني لا أملك الشهوة لفعل ذلك. لوعاد الأمر إلي لكانت تلك اللعينة مرسيديتاس حاملا بثلاثة توائم وكنت لأعيش كأنني ملك ولكنني...»
«هل قلت لبرناردا أنك تود أن تكوّن معها أسرة؟»
«ليس ضروريا يا دانيال. ما من داع للكلام في بعض الأمور.»
أومأت موافقا. «حسنا، إن كان رأيي مهما فإنني أعتقد أنك ستكون والدا وزوجا مثاليا، حتى لو كنت لا تؤمن بالمعتقدات، بل لأجل هذا فقط لن تهمل أي تفصيل.»
كانت السعادة تنهمر من كل مسامات فيرمين. «هل تعتقد ذلك حقا؟»
«بالتأكيد.»
«آه. إن هذا يخفف عني كثيرا. فما إن أفكر بأنني قد أصبح مثل والدي حتى تنتابني الرغبة في أن أكون عقيما.»
«كن مطمئنا يا فيرمين. أما في ما تبقى فإنني أشك أن عملية جراحية قادرة على لجم شهوتك.»
«صحيح» اعترف.
«هيا اذهب واسترح. ليس قصدي أن أهدر وقتك.»
"لست تهدر وقتي يا فيرمين. ثم إنني أشعر بأنني لن تغمض لي عين هذه الليلة"
«تألم مادمت بحثت بنفسك عن الآلام... بالمناسبة، هل تتذكر الصندوق البريدي؟»
«هل اكتشفت شيئا؟»
«ألم أقل لك أن تترك الأمور على عاتقي؟ البارحة، في ساعة الغداء، مررت بالبريد المركزي ودردشت قليلا مع واحد من معارفي القدماء الذي يعمل هناك. الصندوق 2321 باسم محام يدعى خوسيه ماريا ريغويخو، ومكتبه في شارع ليون الثالث عشر. وسمحت لنفسي بالتحقق من العنوان واستطعت أن أتثبت، دون أن أتفاجأ، بأنه مزيف. ولكنني أعتقد أنك تعلم هذا مسبقا. منذ أعوام لم يتغير الشخص الذي يستلم المراسلات الموجهة إلى هذا الصندوق. عرفت ذلك لأن بعض الرسائل من مكتب إدارة العقارات كانت مرسلة بنصف توصية، وكي يستطيع استلامها عليه أن يوقع على وصل ويظهر بطاقة شخصية.»
«من يستلمها؟ موظف في مكتب ريغويخولا؟.» سألت.
«لم أتأكد من هذا بعد لكنني أشك في ذلك، وأظن أن ريغويخوهذا ليس له وجود مثل عذراء فاطمة 14،ولكنني عرفت اسم الشخص الذي يستلم المراسلات: نوريا مونفورت.»
«ماذا؟! نوريا مونفورت؟! هل أنت متأكد يا فيرمين؟»
«لقد رأيت توقيعها على أكثر من وصل بأم العين. وبجانب التوقيع يوجد رقم البطاقة الشخصية أيضا. أرى أن الاسم فاجأك.»
« جدا.»
«ومن هذه الـ «نوريا مونفورت،؟.» الموظف الذي التجأت إليه يذكرها جيدا لأنها استملت البريد منذ أسبوعين فقط وبرأيه إنها أجمل من عذراء ميلو، بنهديها البارزين. وليس لدي سبب يجعلني أشك في كلامه، لأنه كان أستاذا في علم الجمال قبل اندلاع الحرب. ونظرا إلى قرابته البعيدة بلارغو كاباليرو فقد انخفض مستواه إلى لصق الطوابع بلعابه الذي لا يساوي شيئا...»
«اليوم كنت عند تلك المرأة، في بيتها.» غمغمت.
نظر إلي فيرمين غير مصدّق.
«عند نوريا مونفورت؟ لقد كنت أحط من شأنك يا دانيال. لقد أصبحت مثل كازانوفا.»
«لا تفكر بالسوء يا فيرمين.»
«وما العيب في هذا؟ أنا في عمرك كنت مثل كازينو الطاحونة، أفتح مساء وظهرا وصباحا.»
نظرتُ إلى ذلك الرجل النحيل ذي الأنف الكبير والجلد المائل إلى السمرة، فأدركت أنه أصبح صديقي المفضل.
«هل بوسعي أن أبوح لك بسرّ يا فيرمين؟ ثمّت أمر يستعصي في دماغي منذ وقت طويل.» «طبعا. وخصوصا إذا كان أمرا فريدا من نوعه وله علاقة بتلك الحسناء التي تستلم البريد.» تلك الليلة، وللمرة الثانية، قصصت حكاية خوليان كاراكس الملغزة. كان فيرمين آذانا صاغية، يسجّل ملاحظاته على دفتر صغير ويقاطعني بين حين وآخر ليحصل على توضيحات عن بعض التفاصيل التي فاتني أهميتها. كلما خضت في ثنايا الحكاية ازددت إلماما بزواياها الأكثر غموضا. قررت إذن أن أركز في فهم السبب الذي دفع نوريا مونفورت لتكذب علي. لماذا كانت تستلم بريدا موجها إلى مكتب محام ليس له وجود، ظاهريا على الأقل، يدير شقة عائلة فورتوني-كاراكس في روندا دي سان انطونيو؟ وصفتُ شكوكي بصوت مرتفع دون إرادة مني.
«لا يمكننا أن نعرف الآن لماذا كذبت عليك تلك المرأة» قال فيرمين. «ولكن بإمكاننا أن نخمّن أنها قد كذبت عليك في أشياء أخرى، إن كانت قد خدعتك في هذا الخصوص.»
تنهدتّ محتارا. «ما الذي تقترحه يا فيرمين؟» سألت.
تنهد فيرمين روميرو دي توريس كالفلاسفة. «ها هو ما نستطيع فعله. الأحد القادم، إن لم يكن لديك التزامات، نذهب كأن شيئا لم يكن إلى مدرسة سان جبريل ونتقصى عن جذور الصداقة بين كاراكس وذالك الشاب الآخر، الغني...»
«الدايا.»
« سوف ترى. أنا أعرف التعامل مع الرهبان، ربما بسبب مظهري الذي يوحي بناسك هزلي. ليست إلا دردشة بسيطة وأضعهم في جيبي.»
« أهكذا ترى؟»
"بإمكتنك أن تثق بي،، سأجعلهم يغنّون مثل جوقة الأصوات البيضاء في مونسيرات".
23
قضيت يوم السبت في حالة تصوف، خلف مصطبة المكتبة، آملا أن تظهر بيا كالسحر. كنت أهرع للرد على كل رنة هاتف فأخطف السماعة من يد والدي أو فيرمين. في العصر اتصل أكثر من عشرين زبونا وأنا مازلت أنتظر أي اتصال من بيا بلا جدوى. فاستسلمت لنفاد الفرص الطيبة. انتهز فيرمين غياب، والدي، الذي ذهب إلى سنان جيرفازيو ليثمن مجموعة كتب خاصة، ليلقنني الدرس المعتاد عن أسرار الحب ومكائده.
"حاول أن تهداً وإلا انفجر كبدك" نصحني. «الاستحواذ على قلب المرأة يشبه رقصة التانغو: مشهد عجيب. لكن الرجل هو أنت وعليك أن تأخذ زمام المبادرة. »
أخذت القصة منحى سيئا.
«المبادرة؟ أنا؟»
ماذا تظن؟ إنها ضريبة ندفعها نحن الرجال على نعمة التبول واقفين.»
«لكن بيا أخبرتني بأنها قد تتصل بي.» «لا تعرف النساء يا دانيال. أراهن على مكافأة أعياد الميلاد إن لم تكن الفتاة في هذه اللحظة تطل من الشرفة ذابلة كسيدات الكاميليا وهي في انتظار أن تأتي لانتشالها من مخالب والدها الفظ وجرّها إلى لولب لا ينتهي من خطايا الشهوة»
«هل أنت متأكد؟»
« متأكد كما أراك أمامي.»
«وإن كانت قد قررت ألا تراني مجددا؟»
«اسمع يا دانيال، النساء أذكى منا، باستثناءات نادرة كجارتك مرسيديتاس، وهن أكثر صدقا مع أنفسهن إزاء ما يرغبن فيه. أما أن يظهرن لك ذلك فهذا شيء آخر كليا. الأنثى يا دانيال لغز الطبيعة. إنها مثل برج بابل، إنها متاهة. إن تركت لها الوقت للتفكير في الأمر فقد خسرت كل شيء. تذكر: قلب ساخن وعقل بارد. هذا هو سر زير النساء.»
كان فيرمين على وشك أن يعلمني تقنية فن الإغواء عندما قاطعنا الجرس المعلق على الباب ورأينا توماس آغويلار يدخل المكتبة. أحسست بوخزة في قلبي، فالعناية الإلهية تحظر عليّ بيا وترسل إلي أخاها، نذير شؤم، فكرت. وتوماس لم يكن على ما يرام.
«وجهك شاحب يا توماس» قال فيرمين. «هل أحضر لك القهوة؟»
«لم لا؟ »أجاب توماس باختصار كالعادة.
صب له فيرمين من المزيج الذي كان يخزنه ساخنا في حافظة القهوة التي فاحت منها نكهة نبيذ الشيري.
«هل هناك مشكلة؟» سألت. شد توماس كتفيه.
«لا جديد. مزاج والدي اليوم متكدر، فخرجت لألتقط هواء منعشا.»
«ولماذا؟»
«اذهب واسأله. مساء البارحة عادت بيا إلى البيت في وقت متأخر. وكان أبي ينتظرها واقفا على قدميه، بمزاجه المضطرب كالعادة. وهي رفضت أن تقول أين كانت ومع من، فاستشاط والدي غضبا. أخذ يصرخ وكأن جنا قد تلبّس به حتى الرابعة صباحا، ويتهمها بأنها فاجرة. بل وأكثر، هدد أن يطردها من المنزل وأن يحجزها في الدير إن كانت حبلى.»
نظر إلي فيرمين متوترا، فسالت قطرات من العرق البارد على طول ظهري.
«وصباح اليوم، أضاف توماس «أقفلت بيا على نفسها باب غرفتها ولم تخرج منها طوال اليوم. وقبع والدي في صالة الغداء يقرأ الجريدة ويسمع الزرزيولا على الراديو بصوت مرتفع جدا. وفي فاصل لويزا فرناندا الإشهاري، قررت أن أخرج قبل أن يصيبني الجنون.»
«ربما كانت أختك تتنزه مع خطيبها، أليس كذلك؟» قال فيرمين بنية استفزازه «وهذا طبيعي.»
ركلته من خلف المصيطبة فتملص من الركلة برشاقة هرة.
"خطيبها في خدمته العسكرية» حدد توماس. «ربما يحصل على تسريح في غضون أسبووعين. ثم إنها تخرج معه وتعود في الثامنة كحد أقصى.»
«وليس لديك أية فكرة أين كانت ومع من؟»
"لا. لكنه أقسم أنه سيكتشف من يكون وسيهشم وجهه وساقيه"
اغبرّ وجهي.
صب لي فيرمين في الفنجان من مزيجه قبل أن أطلب منه. فشربته في رشفة واحدة. كان طعمه مثل الكاز الفاتر. توماس يراقبني بصمت، بنظرة متجهمة لا تفسر.
«هل سمعتما؟» صرح فيرمين. «قرع طبول. »
«لا» «إنها أحشائي. إنني جائع... سأذهب إلى الفرّان لأشتري بعض المعجنات لوسمحتما. وربما أدردش مع البائعة الجديدة التي وصلت للتو من ريوس، وهي واحدة تؤكل مع الخبز أو أي شيء آخر. تدعى ماريا فيرتوديس، ولكننى أخمّن أن لهذه الطفلة عادات شنيعة... سوف أترككما، هكذا بوسعكما التحدث في أشيائكما.»
اختفى فيرمين في عشر دقائق، وهو يحلم مسبقا بالعصرية ومحاسن تلك الفتاة. بقينا أنا وتوماس وحدنا في صمت أكثر ثباتا من الفرانك السويسري.
«توماس» قلت. «أختلك كانت معي البارحة» تصلبت نظراته، فابتلعتك ريقي.
«قل شيئا» صرخت.
«يا لك من مجنون»
مرت دقيقة ونحن نسمع الضجيج في الشارع كان توماس يمسك فنجان القهوة المليء بين يديه.
«هل الأمر جدّي؟» سأل.
«تقابلنا مرة واحدة فقط.»
«هذه ليست إجابة.»
«هل يؤسفك ذلك؟» أبدى عدم اهتمامه.
«أنت تعرف ماذا تفعل. هل تكف عن اللقاء بها إن طلبت منك ذلك؟»
«أجل» كذبت. «ولكن لا تطلب مني ذلك »
طأطأ توماس رأسه.
«أنت لا تعرف بيا» غمغم.
ابتلعني السكوت. ومرت لحظة أخرى لم ننبس فيها ببنت شفة. كنا ننظر إلى الأطياف الرمادية التي تتحرك قبالة الواجهة، آملين أن يدخل أحد لينتزعنا من ذلك الصمت المدقع. وبعد قليل، وضع توماس فنجان القهوة على المصطبة واتجه نحو الباب.
«هل تنصرف؟»
هز رأسه.
«هل نلتقي غدا؟» قلت. «بوسعنا الذهاب إلى السينما، مع فيرمين، مثلما كنا نفعل في الماضي»
توقفَ عند العتبة.
«سأقول لك لمرة واحدة فقط يا دانيال: لا تتسبب لأختي بالأذى.»
وفي خروجه تقاطع مع فيرمين الذي كان عائدا من عند الفران محملا بالمعجنات. نظر إليه كيف يختفي في المساء وهويحرك رأسه. وضع الإناء على المصطبة وأعطاني حبة شامبيلا ما تزال ساخنة. لم يكن بوسعي أن أمضغ شيئا.
«اطمئن يا دانيال، سوف ترى كيف تمر هذه الأزمة. من الطبيعي أن يحصل بعض الخلاف بين الأصدقاء.»
«لا أعرف» همهمت.
24
في السابعة من صباح يوم الأحد كنا جالسين في مقهى كاناليتاس، حيث شربت قهوة بالحليب سيئة التحضير وتناولت المعجنات الباهتة وكأنها خالية من الزبدة تماما. كان النادل ذو الشاربين على طريقة كلارك جابل، ورمز الكتائب على ثنية سترته، يقدّم لنا الفطور وهو يدمدم أغنية ما. عندما سألناه عن سبب هذه البهجة، أجاب أنه أصبح أبا منذ أربع وعشرين ساعة. فباركنا له قدوم المولود وأراد منا أن نقبل السجائر كي ندخن تحت أي ثمن تشريفا لنجله. كان صديقي ينظر إليه بطرف عينه، ومن يدري ما الذي كان يجول في خاطره. ما إن انصرف النادل حتى افتتح فيرمين النهار الاستقصائي بإعادة بناء الحكاية.
«القصة تبدأ بالصداقة النزيهة بين شابين، خوليان كاراكس وخورخي الدايا، رفيقان في الصف منذ الطفولة، مثلك أنت وتوماس. وتمضي السنون الأولى على ما يرام: الصديقان لا يفترقان وينتظرهما مستقبل مزهر. ولكن، في لحظة ما، يبرز خلاف على السطح ليهدم الصداقة بينهما. والخلاف، كما قد يخمّن أي مؤلف مسرحي، يحمل اسم امرأة: بينيلوب. إنه إسقاط هوميري بلا منازع. هل أنت معي؟»
كانت كلمات توماس آغويلار مساء أمس لا تزال تطن في أذني.
«لا تتسبب لأختي بالأذى». انتابني الإعياء.
"في عام 1919 خوليان كاراكس ينطلق إلى باريس كأنه يسترجع الاوديسة بشكل مبتذل" تابع فيرمين. «رسالة بينيلوب، التي لم تصله أبدا، توضح لنا أن الشابة كانت في إقامة جبرية في بيتها، أسيرة عائلتها لأسباب مبهمة، وأن الصداقة بين آلدايا وكاراكس انتهت إلى الأبد. وتقول بينيلوب في رسالتها أن أخاها خورخي أقسم أنه سوف يقتل صديقه السابق إذا ما التقى به. هذا كلام أثقل من أن يكون متعلقا بنهاية صداقة. وما من داع ليكون المرء بذكاء باستور كي يستنتج أن الخلاف نشب بسبب علاقة بينيلوب بخوليان. »
انساب العرق البارد على جبيني. شعرت بأن القهوة بالحليب والمعجنات التي ابتلعتها كانت تصعد إلى حلقي.
«ومع ذلك، علينا أن نفترض أن كاراكس لا يعرف أبدا ما هو حال بينيلوب مادام لم يستلم الرسالة. خوليان يهيم على وجهه في ضباب باريس، حيث يعيش حياة بائسة وهو يعزف البيانو في بيت دعارة ويكتب روايات لم تلق النجاح. ولا يبقى من سنواته الباريسية الملفوفة بالشقاء سوى إنتاج أدبي منسي وليس له أثر تقريبا. وإضافة إلى ذلك، نعرف أنه في لحظة ما يقرر أن يتزوج سيدة غامضة وميسورة الحال تكبره بضعف عمره. وهذا الزواج، إن طابقنا بين الشهادات، يبدو شفقة أوهبة كبيرة من صديقة في نهاية حياتها، أكثر من كونه زواجا عن حب. وهذه المرأة التي تذود عن الفنون تقرر بالفعل أن تترك ورثتها وكل أملاكها لذلك الكاتب المفلس وأن تنتزعه من الحياة الدونية كحسنة تقدمها لعالم الفنون والآداب. الباريسيون هكذا فعلا»
«ربما كان حبا صادقا،» صرّحت بصوت مشروخ.
«مابك يا دانيال؟ ألا تشعر بخير؟ وجهك أبيض مثل الكفن وتتصبب عرقا مثل أهل النار.»
«إنني بخير» كذبت.
«حسنا. كنت أقول... الحب مثل الكيس: ثمت اللحم المقدد وتوجد المرتديلا. لكل شيء معنى ولكل شيء الحق في أن يكون موجودا. كاراكس كان يصرّح بأنه لا يستحق الحب من أحد، وبالفعل ليس لدينا ادلة على وجود علاقة مثيرة اثناء إقامته في باريس. من الوارد أنه كان يتبرع بزيادة الراتب، أو بمكافأة أعياد الميلاد، كي يرضي دوافعه الأولية، لأنه يعمل في بيت دعارة، بفضل الألفة التي تجمع بين الموظفين في مؤسسة ما. ولكننا نقوم بفرضيات ليس إلا. فلنعد إذن إلى اللحظة التي يعلن فيها زواج كاراكس بمنقذة الفنانين. في هذه اللحظة تماما يظهر شبح خورخي الدايا مجددا ويضع نفسه في تواصل مع ناشر كاراكس في برشلونة لكي يحصل على عنوان الكاتب. بعد فترة، في فجر يوم الزفاف، خوليان كاراكس يضطر لمنازلة رجل مجهول في مقبرة بير لاشيز ويختفي. الزفاف لا يقام ابدا ويتلخبط كل شيء انطلاقا من هذه اللحظة.»
سكت فيرمين ورمقني بنظرة عميل سري. «من المحتمل أن كاراكس مر بالحدود وعاد إلى برشلونة عام 1936، بسرعة ملحوظة، عند اندلاع الحرب الأهلية. ليس واضحا ماذا يفعل وأين يعيش في تلك الأسابيع. بوسعنا أن نفترض أنه بقي شهرا في المدينة دون أن يتواصل مع أحد، لا مع أبيه ولا مع صديقته نوريا مونفورت. بعد وقت قصير يجدونه ميتا في الشارع، مقتولا بالرصاص. وهكذا يدخل في المشهد شخص قذر يدّعي بأنه لايين كوبرت، مثل تلك الشخصية في آخر رواية لكاراكس، التي تمثل دور أمير ملاك الجحيم. هدف هذا الشيطان أن يمحو عن وجه الأرض ذلك القليل الذي تبقى من ذكرى كاراكس. كيف؟ بإحراق كتبه. ولوضع اللمسات الأخيرة على هذه القصة الميلودرامية، فقد تشوّه وجه الرجل بفعل النار. نحن أمام مخلوق ملعون، هرب من صفحات رواية قوطية، وتعرّفت فيه نوريا مونفورت على صوت خورخي الدايا، كي تزيد الطين بلة.»
|«أذكرك بأن نوريا مونفورت كذبت علي» قلت.
«طبعا. ولكنها كذبت ربما لا لشيء سوى أنها غفلت أو لم تشأ إقحام نفسها في الأحداث. الأسباب التي تدفع الإنسان لقول الحقيقة قليلة جدا، بينما لا تعدّ أسباب الكذب ولا تحصى. قل لي. هل أنت متأكد من أنك على مايرام؟ إنك شاحب كجثة.»
هززت رأسي وهرعت نحو الحمّام.
تقيأت الفطور كله، والعشاء وجزءًا لا بأس به من الغضب الذي كان يعترك في صدري. غسلت وجهي بمياه المغسلة الباردة ونظرت إلى المرآة المخضرّة والتي كتب عليها أحدهم بعجينة الشمع: «جيرون الدّيوث». عدت إلى الطاولة، ورأيت أن فيرمين يدفع الحساب ويناقش كرة القدم مع النادل الذي خدمنا.
«هل تحسن حالك؟» سأل.
أومأت مؤكدا.
« انخفاض في الضغط» قال فيرمين. «خذ. امضغ حبة سوغوس. سترى كيف تتحسن بسرعة. »
وحالما أصبحنا في الشارع، أصر أن نأخذ سيارة أجرة حتى سان جبريل وأن نترك المترو لمناسبة أخرى. كان الصباح جميلا جدا، كما يدّعي فيرمين، ولم نكن مضطرين إلى التكدّس في فخاخ الفئران، يقصد الانفاق.
«سيارة أجرة حتى ناحية ساريا ستكلفنا الكثير»اعترضت.
«يدفع صندوق تقاعد الأغبياء» قاطعني فيرمين. «لقد أخطأ الوطني الأبله في إرجاع الباقي وهكذا كسبنا ثمن رحلتنا. ثم إنك لست في حالة تسمح لك بالسفر تحت الأرض.»
وبسبب تلك الأموال غير المشروعة، بقينا ننتظر مرور سيارة أجرة عند بداية لاس رامبلاس دي كاتالونيا. ومرت الكثير من سيارات الأجرة ولم نأخذها، إذ أن فيرمين الذي لم يكن يستقل السيارة في حياته أصرّ أن يركب سيارة فاخرة وأنيقة، ستودباكر على الأقل. مرت أكثر من ربع ساعة والكثير من السيارات قبل أن يرى عربة تناسب أذواقه فأوقفها بحركة مسرحية. ركب من الأمام وبعد ثوان معدودة كان قد انخرط في مشادة عنيفة عن كنوز موسكو وجوزيف ستالين، الرمز والأب الروحي لسائق السيارة.
«أعظم شخصيات هذا القرن هم ثلاثة: دولوريس إيبارروري15، مانوليتي وستالين» أعرب الرجل الذي كان مستعدا لقرع دماغنا بمناقب الرفيق الفذ.
أنا كنت مرتاحا على المقعد الخلفي، لا أبالي بالمجادلة، مستمتعا بالهواء المنعش الذي يدخل من النافذة. كان السائق يتحدث عن الزعيم السوفييتي بينما فيرمين، المسرور بركوبه سيارة ستودباكر، يقاطعه بشكوك ذات طابع تاريخي.
«سمعت من يقول إن ستالين يعاني من مشاكل في البروستات منذ أن ابتلع بندق الزعرور، وإنه لا يستطيع التبول ما لم ينشدوا أمامه نشيد الأممية» رمى فيرمين بما عنده.
«هذه بروباغاندا فاشية» رد السائق وبات أكثر إيمانا مما مضى.
«الرفيق يتبول مثل الثور المقدام، وبغزارة كبيرة يحسده عليها نهر الغولجا.»
استمر النقاش على طول شارع أوغوستا حتى المنطقة المرتفعة من المدينة. كان النهار صافيا والنسمات المنعشة تلبس ثوب السماء الأزرق البراق. انعطف السائق على يمين التقاطع مع شارع غادوكسر، وراح يصعد بازيو دي لا بونانوفا. كانت مدرسة سان جبريل تتوسط حديقة كبيرة في نهاية شارع ضيق ووعر ينطلق من البونانوفا. شيّد البناء على الطراز القوطي بقرميد أحمر وزجاج نوافذ مخروطي كالسكاكين، تحمله الأقواس الضخمة وتبرز من جنباته الأبراج عند أشجار الدلب على نسق هرمي كالكاتدرائية. ودّعنا سائق الأجرة ودخلنا في الحديقة حيث توجد النوافير وتماثيل الملائكة التي يكسوها العفن وممر يتلوى كدرب الحصى. وبينما كنا نمشي، أفادني فيرمين بواحد من دروسه في التاريخ الاجتماعي الذي لا يقدّر
"فيالماضي كانت مدرسة سان جبريل، التي تبدو اليوم كضريح راسبوتين، إحدى اعظم المدارس في برشلونة. بدا عصر انحدارها في حقبة الجمهورية عندما قرر محدثو النعمة حينها، وهم من أصحاب المصانع والمصارف الذين لا تساعدهم أنسابهم حديثة البروز على دخول مثل هذه المدرسة، قرروا أن يشيدوا مدارسهم الخاصة كي ينالوا احترام الناس وكي يمنعوا بدورهم أبناء العائلات الأخرى من التسجيل فيها. إن المال وباء: بعد أن يسمم نفوس الأثرياء، يبحث عن ضحايا جدد كي ينقل إليهم عدوى الفساد. ولهذا السبب لا يدوم اسم العائلة طويلا، وسرعان ما يفسد مثل قرص الحلوى. كانت مدرسة سان جبريل في حقبتها الذهبية، فلنقل بين 1880 و1930، تستضيف أبناء أنيل النبلاء على مقاعدها. لذا يتردد آل الدايا ومن لف لفيفهم إلى هذا المكان البغيض ليتآخوا مع أشباههم ويصغوا إلى الصلوات ويكرروا دروس التاريخ المخدرة حتى الإعياء.»
«لكن خوليان كاراكس لم يكن واحدا منهم» قلت.
«حسنا. توفر بعض المدارس الفاخرة أحيانا منحة أو اثنتين لأولاد العاملين في حدائقهم أو لمن يلمع أحذيتهم كي يبرهنوا على ادعاءهم بالسخاء والمحبة المسيحية» شرح فيرمين. «إن أفضل طريقة لتفادي تمرّد الفقراء هي السماح لهم بتقليد الأغنياء. وهذا هو نفس السم الذي يعمي رأس المال بـ...»
«فلننس الخطابات الانقلابية يا فيرمين. لا أود أن يكون أحد هؤلاء القساوسة ينصت لك فيرمينا خارجا بالركل على مؤخراتنا»قاطعته.
كان اثنان من الرهبان ينظران إلينا باستغراب وعدم ترحيب. كانا واقفين أعلى السلالم التي تفضي إلى ردهة المدرسة. اتجه واحد منهما نحونا بابتسامة آنية ويداه متشابكتان على صدره، كما لوكان أسقفا. ربما كان يناهز الخمسين عاما، هزيل للغاية وأصلع الرأس بما يعطيه ملامح الطير الجارح. نظراته ثاقبة وتفوح منه رائحة العطور الطازجة والانفتالين. «صباح الخير. أنا الأب فرناندو راموس» قال.«هل بوسعي أن أساعدكما؟»
مد فيرمين يده مصافحا، لكن الراهب نظر إلى يده للحظة قبل أن يصافحه بابتسامة فاترة.
«فيرمين روميرو دي توريس، مستشار ثقافي في مكتبة سيبميري وأولاده. سعيد جدا بالتعرّف إلى سعادتكم. هذا مساعدي وصديقي دانيال، شاب له مستقبل واعد وفضائل مسيحية جلية. »
نظر إلينا الأب فرناندو برباطة جأش. وكنت مرتبكا على وشك السقوط.
«وأنا أسعد يا سيد روميرودي توريس» أجاب باحترام. «هل بإمكاني أن أسلكما عن سبب مجيئكما غلى مددرستنا المتواضعة؟»
قررت أن أتدخل قبل أن يتفوه فيرمين بهرطقة أخرى تجبرنا على الفرار لاهثين.
«أبانا فرناندو، إننا نبحث عن تلميذين سابقين في مدرسة سان جبريل: خورخي الدايا وخوليان كاراكس.»
شد الأب فرناندو شفتيه وقوس واحدا من حاجبيه.
"خوليان توفي منذ خمسة عشر عاما وآلدايا هاجر إلى الأرجنتين" أجاب مكتئبا.
«هل كنت تعرفهما؟» سأل فيرمين.
توقفت نظرة الراهب الحادة على كل واحد منا قبل أن يجيب. «كنا رفاقا في الصف. هل بإمكاني معرفة سبب اهتمامكما؟»
كنت أبحث عن إجابة مقبولة لكن فيرمين سبقني إليها. «لابدّ أن نخبركم بأننا عثرنا على بعض الأغراض التي تعود - أو كانت تعود، فالقانون مازال حائرا حيال هذا التعريف - لهذين الشخصين.»
«ما هو نوع الأغراض، لو سمحت لي بهذا السؤال؟»
«أتوسل لعنايتكم بأن تتفهموا تكتمنا، فالله وحده العارف كم من عذاب الضمير نحمل على عاتقنا ونحن نجاهد في الحفاظ على أسرار الآخرين. واعلموا يا أبانا أن هذه المسؤولية لا تمس ثقتنا العمياء بجلالتكم وجلالة المرتبة التي تشغلونها بتواضع وعزيمة» قال فيرمين بسرعة فائقة.
كان الأب فرناندو ينظر إليه متعجبا. فتدخلت من جديد، قبل أن يلتقط فيرمين أنفاسه «الأغراض التي يتحدث عنها السيد روميرو دي توريس هي من ذكريات العائلة ولها قيمة حميمية جدا. أما ما نرغب فيه يا أبانا فهو أن تحدثنا عن خوليان والدايا حين كانا تلميذين، لو سمحت.»
نظرإلينا الأب فرناندو بعدم ارتياح. كان واضحا أن تبريرنا لم يقنعه. خطفت نظرة إلى فيرمين متوسلا ان يستنبط حيلة تستعطف الراهب.
«أنت تشبه خوليان قليلا حين كان شابا، أتعلم ذلك؟» قال الأب فرناندو فجاة .
فاصطادها فيرمين وهي تطير. ها هو، قلت في سري، إما استطاع حلها أوزادها تعقيدا.
«يا لنظراتكم الثاقبة يا صاحب السعادة. لعمري إن الصقور تحسسدكم على حاسة النظر هذه» تظاهر فيرمين بالدهشة. «لقد قضيتم علينا بفطنتكم ودهائكم دون رحمة. أراهن أنكم سوف تصبحون كاردينالا على أقل تقدير، أو بابا دفعة واحدة.»
«عم تتحدث؟»
«أليس واضحا ما أقول يا سمو الراهب؟»
«كلا، ليس واضحا»
«هل بإمكاننا أن نعتمد على سر الاعتراف؟»
«هذه حديقة وليست كنيسة.»
«يكفينا وجودكم بيننا.»
«موافق.»
التقط فيرمين نفسا عميقا ورمقني بنظرة بائسة. «دانيال، لم يعد بوسعنا أن نكذب على جندي المسيح هذا.»
«فعلا» أكدت دون أن أفهم إلى أين يريد أن يصل.
اقترب فيرمين من الراهب وهمس في أذنه: «يا أبانا المبجل، لدينا أدلة موثقة تؤكد أن دانيال هذا هو الابن السري للمرحوم خوليان كاراكس. ولهذا أردنا أن تحدثنا عنه، كي يستطيع هذا الفتى المسكين أن ينتزع من النسيان ذكرى والده الذي حرمه القدر من رؤية ابنه البريء.» ركز الأب فرناندو النظر إلي مشدوها.
«هل هذا صحيح؟» هززت برأسي.
ربت فيرمين على كتفي متأثرا. «انظروا إليه. يا له من مسكين. إنه في رحلة بحث خائبة عن والد هام في ضباب الذاكرة. هل هنالك أسوأ من هذا؟ قولوا لي يا سعادة الراهب.»
«هل لديك دليل على ما تقول؟»
أمسك فيرمين بذقني وراح يقلب وجهي كشاهد على ما يدّعي. «وهل من دليل دامغ أكثر من هذا الوجه الصغير الصامت برهانا على أنه ابن المرحوم؟»
كان الراهب مشتت الذهن كليا.
«هلا ساعدتني يا أبانا؟» توسلت مستعطفا.«أرجوك...»
تنهد الأب فرناندو بعدم اطمئنان. «لا بأس، سأفترض أن هذا صحيح» قال: «ما الذي تريدان معرفته؟»
«كل شيء» هتف فيرمين.
25
كان الأب فرناندو يستحضر ذكرياته بنبرة الواعظ، ويبني عباراته بعفة ودقة ويزوّدها بلمسة المغزى الضائع الذي لا يتبلور أبدا. أعوام طويلة من التدريس أثرت في تشكيل ذلك الأسلوب البياني الجليل الذي من الصعب أن يتحلى به رجل لم يعتد على مخاطبة جمهور عريض، ويتساءل في لوقت نفسه إن كانت رسالته تصل بالوضوح المنشود.
«خوليان كاراكس، إن لم تخني الذاكرة، التحق بمدرسة سان جبريل عام 1914. أصبحنا على الفور صديقين لأننا كنا ننتمي إلى طبقة البائسين الذين لا ينحدرون من عائلات نبيلة. كانوا يدعوننا مجموعة الأموات جوعا، وكانت لكل واحد مناقضة: أنا تسجلت بفضل منحة لأن والدي كان قد عمل لخمسة وعشرين عاما في مطابخ المدرسة، بينما كان خوليان قد حصل على قبول عبر وساطة السيد آلدايا زبون والده فورتي في محل القبعات. كان ذلك الزمان مختلفا كليا، حيث تتركز السلطة في أيادي بعض العائلات والأسر المالكة آنئذ. إنني أتحدث عن عالم ولى وزالت معالمه بواسطة الجمهورية لحسن الحظ. ولم يبق من تلك الحقبة سوى أسماء دون وجوه على لافتات المصانع والمصارف والجمعيات الزراعية. وبرشلونة كومة من الحطام مثل أي مدينة قديمة. أمجاد الماضي التي يفتخر بها الناس، القصور، المصانع، الآثار، والرموز التي تمثلنا، ما هي إلا جثث هامدة. نحن رفات حضارة مندثرة. » صمت الأب فرناندو سكتة رزينة، كأن مجمع المؤمنين عليه أن يرتل جملة باللاتينية أو أن يردد الصلوات.
«آمين. آمين يا أبانا المبجل. كلماتك مقدسة» قال فيرمين كي يكسر جليد الصمت.
«كنت تتكلم عن العام الأول لأبي في هذه المدرسة،» ذكرته بلباقة.
هز الأب فرناندورأسه. «منذ ذلك الزمان كان أبوك يسمي نفسه كاراكس، رغم أن فورتوني اسم العائلة. في البدء راح بعض التلاميذ يزدرونه على هذا ولأنه واحد من الأموات جوعا بالطبع. كانوا يهزؤون بي أيضا لأنني كنت ابن الطباخ. مراهقون كما تعرف. قلوبهم تنبض بالطيبة لكنهم يكررون ما يسمعونه في البيت.»
«ملائكة» قال فيرمين.
"ماذا تذكر عن والدي؟"
«لقد مر زمن طويل... صديق والدك المفضل لم يكن خورخي آلدايا، إنما فتى آخر يدعى ميغيل مولينر. ميغيل ينحدر من عائلة غنية مثل عائلة آلدايا ومن الوارد أنه كان أكثر التلاميذ غرابة في هذه المدرسة. كان المدير يقول إن الشيطان يتلبسه لأنه كان يلقي عبارات لماركس بالألمانية أثناء الصلاة.»
«دليل قاطع على الشيطنة لا ريب فيه.» أكد فيرمين.
«كان ميغيل وخوليان على وفاق عظيم. أحيانا كنا نجتمع نحن الثلاثة خلال استراحة الظهر وخوليان يروي علينا القصص، ويحدثنا عن عائلته وعائلة آلدايا في بعض الأحيان...» بدا الراهب مرتبكا. «وفي نهاية دراساتنا، أنا وميغيل بقينا على تواصل لبعض الوقت. كان خوليان قد غادر إلى باريس وميغيل يشعر بوحشته. وغالبا ما يتحدث عنه ويذكر بعض أسراره بين الحين والآخر. وعندما التحقت بمعهد القساوسة، قال ميغيل إنني انتقلت إلى صف العدو. قالها مازحا ولكننا تباعدنا بعدها فعلا.»
«هل تعرف أن ميغيل تزوج بسيدة تدعى نوريا مونفورت؟ »
«وهل ميغيل تزوج؟»
«وهل يفاجئك هذا؟» «كلا ولكن... لا أعرف. لا تصلني أخباره منذ أعوام. منذ ما قبل الحرب.»
«هل حدثك عن نوريا مونفورت؟»
«لا، أبدا. لم يكلمني حتى إن كان على نية الزواج أو الخطوبة... اسمعا، لا أعرف إن كان من الصواب أن أقص عليكما هذه الأشياء. إنها أسرار خوليان وميغيل وكنا قد اتفقنا على أن تبقى هكذا.»
«وهل تقفون في وجه طفل يبحث عن أي شيء يعرّفه بأبيه الذي لم يره يوما؟» سأل فيرمين. استسلم الأب فرناندو بين الريبة والرغبة مطلقا العنان لذكرياته.
"في الواقع لقد انقضى وقت طويل لم يعد له أهمية. مازلت اذكر اليوم الذي قص علينا خوليان كيف تعرّف على آل الدايا وكيف غير هذا اللقاء حياته دون أن ينتبه...»
ذات مساء من شهر أكتوبر عام 1914، توقفت مركبة عجيبة، يشبهها البعض بالبانثيون، أمام محل قبعات فورتوني في روندا دي سان أنطونيو. خرج من المركبة رجل ضخم مهيب يدعى الدون ريكاردو آلدايا، وهو واحد من أكثر الرجال ثراء، ليس في برشلونة وحسب، إنما في إسبانيا كلها. صاحب إمبراطورية النسيج التي تمتد على نطاق واسع من أرجاء المقاطعة الكاتالونية. كان بينه اليمنى مصير المصارف والملكيات العقارية في الضواحي، وباليسرى، المشغولة دوما، يحرك خيوط المجلس المحلي والاقليمي وعدة وزارات وهيئة الكنيسة والجمارك البحرية. كان الجميع يخرون ساجدين أمام ذلك الرجل أصلع الرأس ذي الشاربين الكثيفين والسالفين العريضين. دخل إلى محل الدون أنطوني فورتوني لأنه كان يريد شراء قبعة. نظر حوله بعدم اهتمام، رأى بائع القبعات ومساعده، الفتى خوليان، فقال:
«قيل لي إن هذا المحل، بغض النظرعن سوء مظهره، يصنع أفضل القبعات في برشلونة. إن الخريف ينبئ بشتاء قارص وسوف أحتاج إلى ست قبعات عالية، واثنتي عشرة قبعة كلاسيكية، وعدة أكمام صيد وشيء مميز كي أضعه على رأسي في كورتيس مدريد. هل تذكر ما أقول أم أعيد؟». وهكذا بدأت حقبة التعاون الناجح بين الولد والابن اللذين وحدا الجهود إرضاءًا لطلبات الدون ريكاردو آلدايا على أتم وجه. قال خوليان في سره، وقد كان يقرأ الجرائد ويعرف مكانة ذلك الزبون الاجتماعية، إنه لم يكن ليغدر بأبيه في ظروف حساسة كهذه. منذ أن دخل ذلك الرجل اللامع إلى المحل، ظل بائع القبعات متوترا وفي حيرة من أمره. لقد وعده آلدايا بأنه سيوصي أصدقاءه بمحل قبعات فورتوني إذا طابت له النتيجة. فكان ذلك المحل المتواضع سيصبح مقصدا للنبلاء، وينذر بتحضير القبعات للرؤوس الكبيرة الناعمة للنواب والعملات والكاردينالات والوزراء. انقضى الأسبوع بعمل دؤوب: لم يذهب خوليان إلى المدرسة وعمل ما بين الثماني عشرة ساعة والعشرين يوميا في المستودع. واعتدل مزاج أبيه، وراح يعانقه من حين لآخر بل وذات مرة قبّله دون أن ينتبه. وأهدى صوفي، للمرة الأولى منذ أربعة عشر عاما، فستانا وحذاء جديدين. كان بائع القبعات يبدو رجلا آخر. نسي حتى أن يذهب لصلاة الأحد في الكنيسة، وفي المساء عانق خوليان بذراعيه وعينيه الجاحظتين وقال له: «سيفخر جدك بك».
كان أخذ المقاييس من أكثر العمليات حساسية في علم القبعات الزائل، من حيث التقنية والدبلوماسية. فجمجمة الدون ريكاردو الدايا مثلا، والمليئة بالبثور، لها أبعاد بطيخة كبيرة. لقد انتبه بائع القبعات إلى هذه المصاعسب حالما دخل الزبون إلى المحل. قال له خوليان في المساء، إن تلك الرأس تذكره ببعض الصخور العملاقة في مونتسيرات، وهنا ما أكده فورتوني أيضا.
"مع كامل احترامي يا أبي، إنني أكثر كفاءة منك في أخذ المقاييس لأنك تنفعل وتتوتر بسرعة. دعني أقوم بهذه العملية."
فسمح له بائع القبعات بفعل ذلك باعتدال ملحوظ في المزاج. وفي اليوم التالي، انتظر خوليان أن يصل آلدايا بسيارته، المرسيدس بينز، كي يصطحبه إلى المستودع، وعندما أدرك الشخص البارز أن فتى صبيا غض العظام سيأخذ مقاساته، ثار كالبركان: «ما هذا؟ طفل رضيع؟ هل تسخرون مني؟»
لم ترتعش شعرة من خوليان بل أجابه: «يا سيد الدايا، ليس في نيتنا أن نسخر من حضرتكم، لكن رأسكم، بتسريحة الكهنة هذه، تبدو كأنها ساحة اريناس، وإن لم نستعجل في تسليمكم هنذ العدد الكبير من القبعات، فسوف يمتد الصلع على مساحة أكبر من سييردا عاجلا أم آجلا.» شعر فورتوني بدنوّ أجله عندما سمع ابنه يتفوه بهذا الكلام، أطلق آلدايا سهام نظرته إلى خوليان ثم انفجرضاحكا كما لم يضحك منذ أعوام.
"لهذا الفتى مستقبل واعد يا فورتوناتو" علق آلدايا الذي لم يتعلم بعد شهرة بائع القبعات.16
في الحقيقة، كان الصلع في رأس الدون ريكاردو الدايا كبيرا حتى خاف الجميع من هيبته، وهم يتملقونه ويزحفون أمام حضرته مثل البساط. وقد كان هويحتقر لاعقي الأحذية والخوافين وأي امرئ ضعيف الجسد والعقل والأخلاق. عندما سخر منه ذلك المساعد الصغير اللماح وخفيف الظل ذو اللسان السليط، اقتنع آلدايا أنه وجد محل القبعات المثالي فضاعف الطلبية. ولم يتغيب عن أي موعد طوال الأسبوع كي يأخذ خوليان مقاساته ويجرّب الطرازات. وكان أنطوني فورتوني يتفاجأ في كل مرة يضحك فيها الرجل المنحدر من أعلى الطبقات الاجتماعية الكاتالونية بنكات الولد الذي كان يراه غربيا وانطوائيا ولا يملك أدنى حس فكاهي. في اليوم الأخير، أخذ الدايا بائع القبعات على انفراد. «اسمع يا سيد فورتوناتو، ابنك فتى مشير للاهتمام. لا يجدر بك أن تحبسه في هذا المحل البائس لينظف الزوايا من الغبار وشباك العناكب.»
"لك كل احترامنا أيها الدون ريكاردو. لهذا الفتى ميول لا بأس بها للعمل رغم أنه عديم الخبرة."
«هذا هراء. في أي مدرسة يدرس؟"
« إنه يتردد إلى المدرسة الحكومية في... »
"إنها مصنع للبؤساء. على الموهبة والعبقرية أن تحظيا بالعناية والتنمية منذ الصغر وإلا فسدتا وتسبببتا لصاحبهما في الشقاء على المدى البعيد. هل تفهمني يا فورتوناتو؟ »
"لعلك أخنت فكرة خاطئة عن ابني. فهو ليس عبقريا البتة. نتائجه في مادة الجغرافيا متردية... ويرى الأساتذة أن لديه مشاكل في رأسه. إنه متمرد، مثل أمه. ولكن بوسعه أن يتعلم حرفة مشرفة هنا على الأقل و...»
"كم أنت ممل يا فورتوناتو. هذا اليوم سأقابل المجلس الإداري لمدرسة سان جبريل وسأقترح أن يقبلوا ابنك في صف نجلي خورخي. واعلم أن تجاهل هذا الأمر جريمة بحد ذاتها.» جحظت عينا بائع القبعات. كانت مدرسة سان جبريل مخصصة لتربية أبناء أعظم العائلات في الطبقة العليا من المجتمع.
«ولكنني لا أقوى على تحمل الأقساط يا سيدي...»
«لن تنفق قرشا واحدا. ساهتم انا بإعداد خوليان. سوف تكون مجبرا على الموافقة فقط بما أنك والد الفتى.»
"من البديهي أن هذا يسعدني ولكنني...»
"لا تعترض إذن. سينفّذ اقتراحي حالما يوافق عليه خوليان طبعا"
«سيفعل ما يؤمر به، تصور!»
في تلك اللحظة، خرج خوليان من المستودع بطراز قبعة بين يديه.
"هلا تفضلت أيها الدون ريكاردو...»
«قل لي يا خوليان، هل لديك التزامات هذا المساء؟» سأل الدايا.
ارتبك خوليان ونظر إلى والده ثم إلى رجل الأعمال.
«حسناء علي أن أساعد أبي هنا في المحل.»
«وبعد؟»
«كنت أفكر في الذهاب إلى المكتبة العامة.»
«أنت تحب الكتب أليس كذلك؟»
"أجل يا سيدي.».
"هل قرأت كونراد؟«قلب الظلام؟»
«ثلاث مرات»
احمرّ وجه بائع القبعات ولم يحتمل الصمت.
«هل يمكنني أن أعرف من هذا الـ كونراد؟» أخرسه آلدايا بحركة صارمة من يده.
"لدي في بيتي مكتبة تحتوي على أربعة عشر ألف كتاب يا خوليان. كنت أقرأ كثيرا في صغري، ولكنني الآن لا أمتلك الوقت الكافي لنالك. تذكرت للتو أنني حصلت في السابق على ثلاث نسخ ممضاة من كونراد شخصيا. ابني خورخي لا يدخل المكتبة حتى ولو كان مرغما. أما ابنتي بينيلوب فهي الوحيدة التي تقراً وتفكر في البيت. ستتعرض كل تلك الكتب للهلاك إذا أهملت. هل يسعدك أن ترى تلك المكتبة؟» وافق خوليان بهزة من رأسه، واضطرب بائع القبعات من ذلك النقاش وتلك الأسماء الأجنبية. فالروايات، كما يعلم الجميع لتسلية الإناث وأولئك الكسالى الذين لا يعملون. وكان ذلك العنوان، "قلب الظلام" تصدر منه رائحة الخطيئة الكبرى.
«سيأتي ابنك معي يا فورتوناتو. أريد أن أعرفه على ابني خورخي. ولا تقلق، ساعيده إليك سالا غانما. قل لي يا فتى، هل ركبت سيارة مرسيدس بينز قبل اليوم؟»
تخيل خوليان أن هذا اسم البانثيون الخارق الذي يستخدمه رجل الأعمال للتنقل، فهز رأسه نافيا.
«جيد. لقد حانت اللحظة إذن. سوف تشعر أنك تصعد إلى السماء حيا»
رأى أنطوني فورتوني ابنه والسيد الدايا يبتعدان في تلك السيارة الفاخرة فساورته كآبة خانقة. وبينما كان يتعشى في ذلك المساء مع صوفي -التي كانت ترتدي الفستان والحذاء الجديدين وقد أخفت شحويها بالكحل والزينة- تساءل أنطوني أين أخطأ بالضبط هذه المرة.
|فما إن أعاد الله إليه الولد حتى ظهر آلدايا وخطفه منه.
«اخلعي هذا الفستان. تبدين فاجرة. ولا تضعي هذا النبيذ باهظ الثمن على المائدة أبدا فذلك الممدد بالماء أفضل بكثير، ما من شيء نحتفل به الليلة. »
لم يكن خوليان قد اجتاز شارع دياغونال في حياته أبدا. إذ كان ذلك الشارع العريض، الذي تحدّه الحدائق وبيوت المستقبل والقصور التي تقع عند مداخل المدينة، حدّا محرما. خلف الدياغونال، تمتد القرى والهضاب وأماكن الأثرياء الغرائبية والأسطورية. وخلال الرحلة، تحدث آلدايا عن مدرسة سان جبريل، ووصف لخوليان أصدقاءه المستقبليين، وجعله يفكر في مصير لم يكن ليحلم فيه قبل ساعات.
«ما الذي تود أن تفعله في حياتك يا خوليان؟»
«لا أعرف. يسعدني أن أصبح كاتبا. روائيا.»
«مثل كونراد؟ أنت ما تزال صبيا وهذا مفهوم. قل لي، ألا تغريك فكرة أن تعمل في المجال المصرفي؟» ل
"لا أعرف يا سيدي. لم أرى كثرمن ثلاثة بيزيتا في حياتي كلها. إنني أرى وزارة المالية لغزا كبيرا.» انفجر آلدايا في ضحكة مرتفعة. «بوسعي أن أفككه بكلمتين يا خوليان. اللغز يكمن في تراكم النقود ليس ثلاثا ثلاثا، بل ثلاثة ملايين دفعة واحدة. والحال هذه، لن يقف اللغز ولا حتى الثالوث المقدس في طريقك»
وبينما كانت السيارة تصعد شارع تيبيدابو، وتمر بتلك القصور الشبيهة بالكاتدرائيات، كان خوليان يشعر بأنه يدخل الجنة. انعطف السائق عند منتصف التلة، واجتاز بوابة أحد القصور حيث كان جيش من الخدم يستعد لاستقبال الرجل المعظم. كل ما أدركه خوليان أنه أمام منزل فاخر من ثلاثة طوابق. لم يكن ليتخيل أن بشرا من لحم وعظم يسكنون في مكان كهذا. وفي الداخل، اجتاز رواقا يفضي إلى صالون رخامي تسدله ستائر ثقيلة من المخمل، ثم دخل إلى صالة كبيرة تملأ الكتب جدرانها.
"ما رأيك بها؟" سأله الدايا.
لم يسمعه خوليان من شدة ذهوله.
«يا داميان قولي لخورخي أن ينزل إلى المكتبة حالا.»
التقط الخدم الأوامر من صاحب البيت، وكانوا بلا سمات واضحة أو حضور يذكر، وهرعوا إلى مهماتهم بهزيمة وخضوع مثل فريق من الحشرات المدربة جيدا
"أنت في حاجة إلى ثياب جديدة يا خوليان. ثمت بعض الجهلة الذين يعطون أهمية كبيرة للمظاهر... ستهتم بك خلثيناتا، كن مطمئنا. ولا تحدث أباك بالأمر، فهنا أفضل. لا أريد أن يشعر بالاحراج، هاهو، خوليان فورت...»
«خوليان كاراكس» حدد هو.
"خوليان كاراكس" أعاد الدايا وهو مبتهج. "وقع الاسم رنان. هذا ابني خورخي"
مد خوليان يديه فصافحه خورخي الدايا بفتور.
كان وجهه ناعما وشاحبا بما يليق بأبناء الأكابر. حتى ثيابه وحذاؤه أشعرت خوليان بأنه يصافح أميرا ثريا. لكن سلوكه المتعالي لم يخدع خوليان الذي أدرك عدم الأمان خلف درع اللباقة الشكلي.
"أحقا أنك لم تقرأ أي كتاب من منه الكتب؟» سأله.
"الكتب مملة"
«الكتب مرايا تعكس ما في داخلنا» أجاب خوليان.
فانفجر الدون ريكاردو الدايا ضاحكا مرة أخرى.
«حسنا سوف أدعكما فهكذا تتعارفان. سوف ترى يا خوليان أن خورخي رغم هيئته التي توحي بأنه طفل مدلل، ليس غبيا كما يبدو. فلابد أنه ورث شيئا ما عن أبيه.»
هوت كلمات آلدايا على ابنه كضرب المطارق لكن ابتسامته لم تتزحزح مليمترا واحدا. ندم خوليان عن إجابته الفلسفية وشعر بالشفقة على خورخي.
"لا شك أنك ابن بائع القبعات" قال، دون خبث. "أبي يتحدث عنك غالبا في الآونة الأخيرة" "حقا؟ إنني حديث العائلة إذن. أرجو ألا يؤسفلك هذا. ورغم أنني قد أبدو متحنذقا وعالما بالأمور ولكنني لست غبيا كما أبدو أنا أيضا.»
ابتسم خورخي بامتنان. إنها ابتسامة فتى ليس لديه أصدقاء، فكر خوليان.
"تعال معي كي أريك بقية البيت."
انطلقا نحو البوابة الرئيسسة ليذهبا إلى الحديقة. وبينما كانا يجتازان الرواق، وقعت أنظار خوليان على ظل يصعد السلم مستندا إلى السياج. بدت له كأنها رؤية. كان عمر الفتاة ما بين اثني عشر وثلاثة عشر عاما، ترافقها امرأة ناضجة، نحيلة وموردة اللون، لا شك أنها المربية. كانت الفتاة ترتدي فستانا أنيقا من الساتان الأزرق الذي يكشف عن كتفيها وعنقها الطويل ناصع البياض. لوهلة، تقاطعت نظراتهما فأومات له بابتسامة. ثم وضعت المربية ذراعها على كتف البنت واختفيا في ممر الطابق العلوي. نظرخوليان إلى خورخي.
«تلك بينيلويب، أختي، ستعرفها. إنها سارحة دوما بين الغيوم، لا تفعل شيئا سوى القراءة. تعال أريك قبة الطابق الأول. تقول الطباخات إن القبة مسحورة»
لحق به خوليان بانقياد، وهو يشعر بأن العالم يهوي على رأسه. فمنذ أن ركب تلك المرسيدس لم يدرك إلا حينذاك أنه صار ألعوبة بيد القدر. كان يحلم بها من قبل أن يراها بما لا يحصى من المرات، وهي ترتدي ذلك الفستان الأزرق وتعتبر بلون عينيها الرمادي المتلألئ، دون أن يعرف من تكون ولماذا تبتسم في وجهه. ابتعد مع خورخي في الحديقة حتى الموقف وملعب التنس. ثم التفت وكانت هناك، شبيهة بظل خلف نوافذ الطابق الثاني. ولكنه أحس بأنها تبتسم في وجهه وأنها تعرفت إليه هي أيضا، ومن يدري لماذا.
بقيت صورة بينيلوب آلدايا على السلم معششة في رأسه خلال الأسابيع الأولى من التحاقه بمدرسة سان جبريل. كان يرى واقعه الجديد مليئا بالتناقضات ولم يكن يعجبه بالمجمل. إذ يتصرف التلاميذ كأنهم أمراء والأساتذة المثقفون كأنهم عبيد أذلاء. كان فرناندو راموس أول تلميذ يصبح صديقا لخوليان، إضافة إلى خورخي. فرناندو، ابن أحد الطباخين في المدرسة، لم يكن ليتخيل أنه سيرتدي ثياب القساوسة يوما وأنه سوف يُعَلمّ في نفس تلك القاعات. فرناندو، الذي لقبه التلاميذ فورنوليتو، ويعاملونه كالخادم المنزلي، كان نبيها وذكيا وله صديق واحد فقط، ميغيل مولينر، وهو فتى غريب الأطوار سيصبح صديق خوليان المفضل لاحقا. ميغيل مولينر موهوب بحدة الفطنة ونفاد الصبر، كان يستمتع باستفزاز الأساتذة حين يناقض أي شيء يؤكدون عليه ويضعه على محك النقد اللاذع. كان رفاقه يخشون لسانه المسلول ويعتبرونه مخلوقا هابطا من المريخ، وكانوا محقين نوعا ما. رغم طبعه البوهيمي، فإن ميغيل كان ابن رجل أعمال وثروات مهولة بلغ الثراء الباذخ بفضل
صناعة السلاح.
«أنت كاراكس، صحيح؟ يقال إن أبالك يصنع القبعات» قال عندما قدمه إليه فرناندو راموس.
"الأصدقاء ينادونني خوليان. يقال إن والدك يصنع المدافع»
"يبيعها فحسب. عمله الوحيد تجميع النقود.،أصدقائي قليلون، من بينهم نيتشه والرفيق فرناندو، واسمي ميغيل.»
كان ميغيل مولينر شابا سوداويا يهتم اهتماما كبيرا بأي شيء يعنى بالموت وأي موضوع له طابع جنائزي، وكان يفرغ لهذه المادة جل وقته وموهبته. توفيت أمه قبل ثلاث سنوات في حادث منزلي غريب من نوعه وتجرأ أحد الأطباء الجهلة على تعريفه بالانتحار. وكان ميغيل هو الذي وجد الجثة في بئر الفيلا الصيفية للعائلة في أرخينتونا. بعد أن انتشلوا المرأة اكتشفوا أن جيوب سترتها مليئة بالحصى. وثمت رسالة مكتوبة بالألمانية، لغتها الأم التي لم يجتهد السيد مولينر في دراستها. حرق الزوج الرسالة مباشرة دون أن يسمح لأحد بأن يقرأها. وصار ميغيل مولينر يصادف الموت في كل مكان، بين وريقات الشجراليابسة، وبين العصافير التي تقع من أعشاشها، وسط العجائز وتحت الأمطار الغزيرة. كان متيما بالرسم وغالبا ما يصادفونه أمام ورقة بيضاء حاملا قطعا من الفحم بيديه، ليرسم امرأة على خلفية ضبابية لساحل فارغ دوما. وكان خوليان يخمن أنها أم ميغيل.
«ما الذي ستفعله عندما تكبريا ميغيل؟»
أنا لن أكبر، كان يجيب.
وإضافة إلى الرسم وهواية المعارضة، كان يجد شغفه الحقيقي في كتابات طبيب نمساوي مغمور أصبح مشهورا فيما بعد: سيجموند فرويد. كان لديه كل أعمال ذلك الطبيب الكاملة، فهو يقرأ الألمانية ويكتبها بطلاقة، بفضل أمه المتوفية. كان يحب أن يفسر أحلام أصدقائه ومعارفه كي يتابع بعدها التحليل النفسي. ويقول دوما إنه سيموت شابا ولن يهتم لهذا البتة، ما جعل خوليان يتوصل إلى أن ميغيل، لكثرة تفكيره في الموت كان يراه أكثر إغراء من الحياة.
"كل ما أملك سيكون لك غداة موتي يا خوليان" كان يقول. «ما عدا أحلامي.»
وإضافة إلى فرناندوراموس وميغيل مولينر وخورخي آلدايا، أصبح خوليان صديقا لخافيير. كان الفتى انطوائيا وفظا، وهو الابن الوحيد لحراس مدرسة سان جبريل ويعيشون في بيت صغير قريب الحديقة. ولطالما عامله باقي التلاميذ على أنه عبد، مثل فرناندو. كان يتسكع في وحدته بين باحات المدرسة دون أن يعقد علاقة مع أحد. ويعرف كل دهاليز المبنى كراحة يده، ناهيك عن المخازن والممرات التي تحمل الأبراج والمخابئ والمتاهات التي لا يذكر أحد أنها موجودة. كان ذلك عالمه السري، كان ملاذه. ما مر يوم إلا وحمل ابن الحارس سكينه الصغير الذي سرقه من إحدى خزائن البيت، ونقش به وجوها على ألواح الخشب التي يحتفظ بها في برج الحمام. وكان أبوه الحارس رامون عائدا من الحرب في كوبا، حيث خسر يده وخصيته اليمنى يطلقة رصاص من تيودور روزفلت شخصيا حسب ما يشاع. كان ذو الخصية الواحدة (كما بلقبه التلاميذ) يجبر ابنه على وظيفة جمع الأوراق اليابسة في زاوية الصنوبر وباحة النوافير، وذلك لاقتناعه بأن الكسل أصل كل العادات السيئة. ورغم مهارته فإنّ رامون غليظ القلب، وكان حظه العاثر يدفع به لمعاشرة رفاق السوء، والأسوا بين هؤلاء هي زوجته. تزوج ذو الخصية الواحدة ربة منزل متخلفة عقليا وكانت لها طموحات أميرة رغم أن لها سمات الطباخة حصرا، ولها عادة سيئة تتمثل في الظهور عارية أمام ابنها وتلاميذ المدرسة مثيرة موجة من النكات والتعليقات الشنيعة. اسمها الرسمي ماريا كرابونيكا، ولكنها تسمي نفسها إيفونا إذ يبدو لها أرق وأنعم. كانت إيفونا تعذّب ابنها وهي تنتزع منه معلومات عن علاقاته المفترضة بأبناء زبدة المجتمع البرشلوني، الأمر الذي كانت تراه ضروريا ليزيد طموحاتها الاجتماعية أرقا. كانت تحسب كل النفقات وتحلم بأن تتردد إلى العالم الجميل وهي تقفز مثل قردة، وتقتنع يوما بعد يوم بأنها سوف تدعى لتناول الشاي والبسكويت في أفضل الصالات. وكان خافيير يتجنب قدر المستطاع ألا يبقى في المنزل ويقبل على الرحب أي مهمة يكلفه بها والده مهما كانت صعوبتها. وينتهز أية فرصة كي يبقى بمفرده ويلوذ بعالمه السري لينحت أشكالا على الخشب. وكلما رآه بعض التلاميذ استهزؤوا به ورموه بالحجر. وذات يوم أصابوا جبينه ووقع أرضا، فأشفق عليه خوليان وهرع يسعفه ويمنحه صداقته. حين رآه خافيير يقترب ظن أن خوليان سيطلق عليه رصاصة الرحمة، بينما كان الآخرون يتألمون من شدة الضحك.
"أُدعى خوليان" قال وهو يمد يه. "كنت ذاهبا إلى غابة الصنوبر لألعب الشطرنج مع الأصدقاء فتساءلت إن كان يسعك الانضمام إلينا"
«لا أعرف لعب الشطرنج»
"وأنا أيضا لم أكن أعرف قبل أسبوعين. لكن ميغيل معلم ماهر.»
كان الفتى ينظر إليه بعدم ارتياح، منتظرا أن يهزأ به ويضربه بين لحظة وأخرى.
"لست متأكدا من أن أصدقاءك سيقبلون رفقتي"
«كانت الفكرة فكرتهم، والآن، هاا أتيت معي؟»
ومنذ ذلك اليوم بات خافيير ينضم شيئا فشيئا إلى المجموعة، بعد أن ينهي أعماله، حتى لوكان يظل ساكنا. خشي آلدايا جانبه بينما حاول فرناندو أن يعامله بلطف، لأنه كان يعرف جيدا ما معنى المنزلة بسبب التباين الطبقي. أما ميغيل مولينر فكان من أقل المقتنعين بصداقته، وكان يعلمه قواعد لعبة الشطرنج ويحل شخصيته بعين طبيب نفسي.
«إنه مجنون. يصيد القطط والحمام، يعذبها بالسكين لساعات ثم يدفنها في الغابة. أي متعة هذه»
«ومن قال لك ذلك؟»
«هو الذي روى علي هذا منذ أيام حين كنت أعلمه نقلة الحصان. وقال لي إن أمه تنام في سريره وتلمس عصفوره.»
"كان يمازحاك."
"لا أعتقد. هذا الفتى ليس طبيعيا يا خوليان ومن الوارد أن الذنب ليس ذنبه"
ومع أن خوليان كان يستخف بنصائح ميغيل، فإنه اعترف بعدم قدرته على بناء علاقة صداقة مع ابن الحارس. ومن جانب آخر لم تكن إيفونا تطمئن لخوليان ولا لفرناندو راموس فهذان من أفقر السادة الصغار. والد خوليان مجرد بياع وأمه معلمة موسيقى مسكينة.
«هؤلاء ليس لديهم مال ولا حسب ولا أذواق يا بني» كانت أمه تؤنّبه. «عليك أن تصادق الدايا لأنه ينتمي إلى عائلة نبيلة».
«حسنا يا أمي» كان يجيبها. "سأفعل ما تشائين."
أصبح خافيير شخصا أليفا نوعا ما مع مرور الوقت: يلفظ كلمة من حين لآخر وينحت رقعة الشطرنج كي يهديها لميغل مولينر شكراً له على دروسه. وذات يوم، اكتشف الأصدقاء ما لم يصدقوا حدوثه: خافيير يضحك أيضا وله ضحكة بريئة تشبه كركرة الأطفال.
" أرأيت؟ إنه مثلنا" أكد خوليان.
لكن ميغيل مولينر بقي على رأيه يراقب ذلك المراهق الجفول بتفاصيل شبه علمية.
«خافيير متعلق بك يا خوليان» قال له ذات مرة. "إنه مستعد أن يفعل أي شيء ليحصل على ثنائك"
«ما هذا الهراء؟ لديه أب وأم يشجعانه، وما أنا إلا بصديق.»
"أنت لا تعي حتما. أبوه أحمق بائس يتزحلق على حافة المرحاض وأمه خبيثة لها عقل قملة تقضي نهارها شبه عارية وتتمنى أن يراها أحد، وهي مقتنعة بأنها ممثلة كبيرة وما خفي كان أعظم. الفتى يبحث عن بديل وأنت الملاك المخلّص، تهبط من السماء وتمد يدك لمصافحته.
أنت قديسنا سان خوليان دي لا فوينته، شفيع المسحوقين.»
" لقد سلب منك الدكتور فرويد عقلك يا ميغيل. كلنا في حاجة إلى أصدقاء. حتى أنت."
"إنه ليس في حاجة إلى أصدقاء. له روح خبيثة كالعنكبوت. وإن لم تكن تصدقني فالأيام بيننا. ومن يدري بأي شيء يحلم...»
كان ميغيل مولينر بتصور أن أحلام فرانشسكو خافيير قريبة جدا من أحلام صديقه خوليان. وذات يوم قبل شهر من التحاق خوليان بالمدرسة، وبينما كان ابن الحارس يجمع الأوراق اليابسة في الباحة، وصلت سيارة الدون ريكاردو آلدايا المغرية. لم يكن صاحب العزّ وحده ذلك اليوم بل كان يرافقه ملاك يلبس ثياب الحرير ويمشي الهوينى على الأرض. نزلت الفتاة بينيلوب من المرسيدس وذهبت نحو النافورة، وهي تلهو بتدوير المظلة. وكانت المربية خاثينتا ترافقها كالعادة، وتعتني بكل حركاتها. لكن خافيير لم يتمكن من أن يزيح أنظاره عنها ولوكان يحرسها جيش من العسس. كان يتجنب أن يغمض جفنيه خشية أن تتبدد تلك الرؤية، وتمعن محاسنها وهو مسمر حابسا أنفاسه. بعد لحظة، رفعت بينيلوب أبصارها كأنها انتبهت لوجود الصبي. كان جمال ذلك الوجه لا يرحم. وظن خافيير أنه رأى ابتسامة غامضة على شفاه الفتاة. ارتعد قلبه فهرع يختبئ خلف برج الحمام، ملاذه الفضل، ويداه ترتجفان وهو يمسك بالأدوات لينحت ملامح ذلك الوجه على لوح من الخشب. عندما عاد إلى المنزل ليلا، متأخرا أكثر من المعتاد، كانت أمه تنتظره غاضبة بشعرها الأشعث. أخفض الفتى أنظاره كيلا ترى أمه في عينيه انعكاس الفتاة وتقراً أفكاره.
"أين كفت أيها الحقير المشاكس"؟
"اعذرنيي يا أمي. لقد ضعت.»
"أنت أضعت اليوم الذي ولدت فيه.»
وبعد سنوات، وكلما أدخل المسدس في فم سجين وضغط على الزناد تذكر المحقق فرانشسكو خافيير فوميرو كيف رأى جمجمة أمه تفلق مثل بطيخة يانعة قرب ديرلاس بلاناس وأنه لم يشعر بشيء سوى ذلك التقزز الذي تثيره الأشياء الميتة. وجدته الشرطة المدنية، التي استدعاها أحد الباعة، جالسا على صخرة وبحضنه مسدس لا يزال ساخنا، ولا تحيد نظراته عن الجسد مقطوع الرأس لماريا كرابونشيا، المسماة إيفونا، وتحوم فوقه الحشرات. عندما رأى الشرطة اكتفى بهز كتفيه، وكان وجهه ملطخا بالدماء كأنها بثور داء الجدري. عثرت الشرطة على رامون ذي الخصية الواحدة متواريا بين الأعشاب الضارة قرب شجرة، على بعد ثلاثين مترا من مسرح الجريمة. كان يرتجف كالطفل ويغمغم بكلمات غير مفهومة. وبعد رسم العديد من الفرضيات، توصل قائد الدورية إلى أن الحادث كان مروعا، وكتب ذلك في المحضر. وعندما سألوا الصبي إن كان بوسعهم أن يفعلوا شيئا لأجله، طلب فرانشسكو خافيير فوميرو أن يحتفظ بذلك المسدس القديم، لأنه كان يتمنى أن يصبح جنديا...
«هل تشعر بخير يا سيد روميرو دي توريس؟»
جحظت عيني من الدهشة وكان لظهور فوميرو غير المتوقع في قصة الأب فرناندو راموس، عواقبه الواضحة على فيرمين. اصفرّ لون وجهه وارتجفت يداه.
«إنه انخفاض في الضغط» ارتجل إجابة بصوت واهن. «نحن أهل الجنوب لا يناسبنا الجوالكاتالوني كثيرا.»
«هل تريد كأس ماء؟» سأله الراهب مرتبكا.
«إن كان ذلك لا يزعج سيادتكم. وحبذا بقطعة شوكولاطة. فأنا بحاجة إلى الكلوغوزيوم كما تعلم...»
صب الراهب كأس الماء فشربه فيرمين دفعة واحدة.
«لدي سكاكر الكينا. هل توافقك؟»
«عوّضك الله بأفضل منها.»
ازدرد فيرمين العشرات منها بلقمة واحدة. وبعد دقائق عاد لونه الطبيعي تدريجيا.
«هل أنت متأكد يا أبانا أن ذلك الولد، ابن الحارس الذي ضحى بخصيته كي يدافع عن المستعمرات الإسبانية، اسمه فوميرو، فرانشسكو خافيير فوميرو؟»
« متأكد جدا. هل تعرفه؟»
«لا» أجبنا معا.
قطّب الأب فرناندو جبينه.
«لا أستغرب. فرانشسكو خافيير أصبح مشهورا مع الأسف.»
«لسنا متأكدين من أننا فهمنا قصدك...»
"بل فهمتما قصدي جيدا. فرانشسكو خافيير فوميرو اليوم محقق وقائد فرقة التحقيق بالجرائم في برشلونة. يعرفه جميع أبناء هذه المدينة للأسف. وأنت، عندما لفظت اسمه، كاد يغمى عليك.»
«الآن تذكرت. ذلك الاسم مألوف لي بشكل عام.» نظر إلينا الأب فرناندو بقسوة.
«قولا الحقيقة، هذا الفتى ليس ابن خوليان كاراكس»
«إنه ابنه الروحي يا أبانا، وهذا أكثر أهمية من الجانب الأخلاقي.»
«ما هذه الحيلة؟ من أرسلكما إلي؟»
كان لدي حدس عميق بأننا سنطرد بأسوأ الطرق بين لحظة وأخرى، لذا قررت أن ألعب ورقة الصراحة.
«معك حق يا أبانا. لستُ ابن خوليان كاراكس، ولكن لم يرسلنا أحد إليك. منذ عدة سنوات قرأت إحدى رواياته عن طريق الصدفة، كتاب يصعب العثور عليه. وهكذا حاولت أن أعرف عنه أكثر وأتحقق من ظروف موته. وعرض السيد روميرودي توريس نفسه لمساعدتي».
«أي رواية هى؟»
««ظل الريح» "هل قرأتها؟"
«أنا قرأت كل روايات كاراكس.»
«وهل ما تزال تحتفظ بها؟»
هز الراهب رأسه.
«هل بإمكاني أن أسألك أي نهاية منيت بها رواياته؟»
«منذ بضعة أعوام دخل أحدهم غرفتي وحرق الروايات.»
«ومن الفاعل يا ترى؟»
«فوميرو بالطبع، أليس لأجل هذا جئتم إلي؟»
تبادلنا نظرة الارتباك أنا وفيرمين.
«المحقق فوميرو؟ ولماذا من الممكن أن يحرق تلك الكتب؟»
«ومن يمكن أن يكون غيره ؟! في آخر سنة في المدرسة، حاول فرانشسكو خافيير أن يقتل خوليان ببندقية والده لولم يوقفه ميغيل...»
«لماذا حاول أن يقتله؟ ألم يكن خوليان صديقه الوحيد؟»
«كان فرانشسكو خافيير متيما بينيلوب الدايا. لم يكن أحد قد انتبه لذلك، حتى بينيلوب نفسها التي من المحتمل ألا تكون على علم بوجوده أصلا. خباً فوميرو سره لأعوام. وعلى ما يبدو أنه كان يتجسس على خوليان. وذات يوم رآه يقبّلها ربّما. لا أدري. كل ما أعرفه أنه حاول قتله أمام الجميع. قفز عليه ميغيل مولينر، الذي كان متأهبا، وحجزه. وما يزال ثقب الرصاصة موجودا إلى الان بجانب المدخل. وكلما مررت من هناك تذكرت ذلك اليوم.» «وما الذي حصل لفوميرو؟»
"طرد مع عائلته من سان جبريل. أفترض أن فوميروقضى وقتا لا بأس به في سجن القاصرين. عدنا نسمع أخباره بعد عدة أعوام، عندما توفيت أمه بما أشيع أنه حادث صيد. كان ميغيل محقا منذ البداية: فرانشسكو خافيير فوميرو مجرم.»
«آه لوتعرف معاناتي...» غمغم فيرمين.
«حسنا سأكون ممتنا لوقصصتما علي شيئا، أقصد شيئا حقيقيا.»
«بوسعنا أن نضمن لك أنه ليس فوميرو من حرق كتبك.»
«فمن كان إذن؟» «إنه رجل بوجه مشوه من النيران ويسمي نفسه لايين كوبرت.»
«أليس هو...؟ »
«أجل، إنه اسم شخصية لكاراكس. الشيطان.»
أرجع الأب فرناندو ظهره على مسند الأريكة، مشوش الذهن مثلنا.
«يبدو دور بينيلوب آلدايا في هذه القصة مهما أكثر فأكثر، وهي الشخص الذي لا نعرف عنه شيئا» قال فيرمين.
«أخشى أنني لن أستطيع مساعدتكما. أنا رأيتها عن بعد، مرة أو اثنتين. كل ما أعرفه عنها أخبرني به خوليان، وليس بالشيء الكثير. الشخص الوحيد الذي مازال يلفظ اسمها هي خاثينتا كونورادو.»
«ومن تكون هي؟»
«المربية. هي التي اعتنت بابني الدايا وكانت تعشقهما وبالاخص بينيلوب. في بعض الأحيان كانت تأتي لتأخذ خورخي من المدرسة، لأن الدون ريكاردو لم يكن يفضل أن يمضي أبناؤه ثانية واحدة من الوقت دون أن يراقبهما شخص موثوق به. وخاثينتا ملاك فعلا. كانت تعرف أنني، مثل خوليان، أنحدر من عائلة متواضعة فتأتينا دوما بالمأكولات الشهية وهي مقتنعة بأننا نتضور جوعا. شرحت لها بأن والدي طباخ المدرسة، ولدينا ما يكفي ويزيد من الطعام، لكنها كانت تتكرم علي بأية حال. كنت أنتظرها عند المدخل أحيانا وندردش قليلا. إنها أطيب امرأة عرفتها في حياتي. لم يكن لديها أبناء ولا حتى عشيق حسب ما أعرف. كانت تكرّس نفسها روحا وجسدا في خدمة خورخي وبينيلوب وما زالت إلى الآن تتحدث عنها...»
«هل بقيت تتواصل مع خاثينتا؟»
«أذهب لزيارتها في مأوى العجزة في سانتا لوسيا عندما لا أكون ملزما بشيء. بلغت خاثينتا من العمر عتيا وهي وحيدة في هذا العالم. ليس لها أحد. لحكمة نجهلها، لا يكافئنا الرب دوما في هذه الحياة.»
تبادلنا أنا وفيرمين نظرة خاطفة. «وبينيلوب؟ لم تذهب لزيارة مربيتها القديمة أبدا؟» تجهمت نظرات الأب فرناندو.
«لا أحد يعلم ماذا حل بينيلوب. فخاثينتا كانت تعتبر تلك الفتاة كل ما لديها. عندما هاجر ال الدايا إلى القارة الأمريكية لم تعد تجد معنى لحياتها.»
«ولماذا لم يأخذوها معهم؟ وبينيلوب هل غادرت إلى الأرجنتين مع بقية العائلة؟» سألت.
(لا أعلم. لم يعد أحد يرى بينيلوب ولا يعرف عنها شيئا منذ العام 1919 م)
«العام الذي سافر فيه خوليان إلى باريس» لاحظ فيرمين.
«أرجو ألاً تذهبا لمضايقة تلك العجوز المسكينة فتثقلا عليها أحزانها وجراح ذكرياتها.» «وهل ترانا بهذه الحقارة لنفعل ذلك يا أبانا؟» رد عليه فيرمين.
عندما أدرك الأب فرناندو أنه لن يصل إلى أبعد مما وصل، انتزع منا وعدا بإعلامه عن كل النتائج التي ترشح عن تحرياتنا. وراح فيرمين يُطمئنه ويقسم على الكتاب المقدس الذي كان الراهب يضعه على المنضدة.
«دع الإنجيل جانبا. تكفيني كلمتك.»
«لا يفلت منه شيء. كم أنت عظيم يا أبانا.»
«تعالا. سأرافقكما إلى الخارج.»
تركنا في الحديقة وتوقف على بعد مترين من البوابة. نظر الأب فرناندو إلى ذلك الجانب من الدرب الملتوي الذي يفضي إلى العالم الخارجي كأنه يخشى أن يتبدد إذا اقترب منه خطوة واحدة. سألت نفسي متى كانت المرة الأخيرة التي ابتعد فيها الأب فرناندو عن أسوار سان جبريل.
«لقد غمرني الأسى عندما سمعت بخبر وفاة خوليان» قال بنبرة مخنوقة.
«رغم أن الوقت والأحداث باعدت بيننا فإننا كنا أصدقاء أوفياء، ميغيل وخورخي وخوليان وأنا. وفوميرو أيضا. كنت على اقتناع بأننا لن نفترق يوما، لكن الحياة تعدّ لنا المفاجآت دوما. لم يعد لدي أصدقاء مثلهم ولن يكون عندي أبدا. أتمنى أن تعثر عمّا تبحث عنه يا دانيال.»
26
أشرف منتصف الصباح عندما عدنا إلى بازيو دي لا بونانوفا. وكنا غارقين في تفكير عميق، وفيرمين على وجه الخصوص إذ لم يكن ليتخيل ظهور المحقق فوميرو من العدم في هذه الواقعة. أسدلت الغيوم الداكنة ستارها وتمددت كنزيف الدماء فيما انبثقت من بينها شظايا الضوء بلون الأوراق اليابسة.
«فلنستعجل. سيصل الطوفان بعد قليل» قلت.
«أي طوفان. هذه الغيوم مثل الليل الطويل، ليست مستعجلة.»
«لا تقل لي إنك خبير بالأحوال الجوية أيضا.»
«إن العيش متسكعا في الشوارع يعلمك أكثر مما تطمح لمعرفته. اسمع، إنني أتضور جوعا كالذئاب لما سمعت عن فوميرو. لم لا نذهب إلى بار ساحة دي ساريا ونطلب شطيرتين بالبصل المقلي؟»
اتجهنا صوب الساحة التي اجتاحها سرب من الحمام وبعض الجدات اللواتي تحدّين الطقس برمي لب الخبز إلى الطيور. جلسنا بجانب باب البار. والتهم فيرمين شطيرته وشطيرتي، في غضون دقائق، وحبّتي شوكولاطة وزجاجة بيرة وكأس رمّ مقطر. كما ابتلع حبة سوغوس، فيما كان هنالك رجل يجلس على طاولة بجانبنا يراقبه من خلف صفحات الجريدة، ومن الوارد أنه يتساءل بما كان يصعقني أنا أيضا.
«أين تضع كل هذا الطعام يا فيرمين؟»
«نحن، آل روميرو دي توريس، لدينا نظام هضمي متسارع. أختي خيزوزا تغمدها الله برحمته كانت تأكل ست بيضات مقلية مع الثوم والدم المخثر في العصرية، وعلى العشاء تأكل مثل شعوب القوقاز. كانوا ينادونها بذات الكبد، لأنها تعاني من رائحة الفم الكريهة. يا لها من مسكينة. كنا متشابهين إلى درجة قصوى، في شكل الوجه وهزال الجسد. ذات مرة قال طبيب البلدة لأمي إن آل روميرودي توريس هم الحلقة الناقصة بين الإنسان وسمك قرش المطرقة، لأن أجسامنا مكونة من الغضاريف بنسبة تسعين بالمائة، تتركز في الأنف والصيوان الأذني. في بلدتنا كان الجميع يخطئ بين المسكينة خيزوزا وبيني، لأنها كانت مسطحة مثل الطاولة وبدأت تشيخ باكرا. توفيت بمرض السل في عمر الثانية والعشرين، وكانت بكرا وعشيقة سرية لراهب عديم الثقة، كلما رآها في الطريق قال لها: «مرحبا يا فيرمين لقد شببت بسرعة، يا لسخرية القدر. »
«هل أنت مشتاق إليهم؟»
«إلى من؟ عائلتي؟»
أرخى فيرمين كتفيه وابتسم لموجة من الحنين تعتلي وجهه.
|«الذكريات خداعة يا صديقي. فكر بالأب فرناندو مثلا... وأنت يا دانيال، هل تشتاق لأمك؟» « جدا.»
«أتعلم ما هو أكثر شيء أذكره عن أمي؟» قال فيرمين. «عطرها. كانت رائحتها دوما توحي بالنظافة، بالخبز الذي يخرج توا من الفرن. كانت لها رائحة كل الأشياء الطيبة في العالم حتى لو كانت تعمل في الحقل كل اليوم أو ترتدي المئزر لأسبوع. وضعْ في بالك أنها فلاحة وجاهلة، تجدف بالآلهة كحمّال المرفأ، لكنها تشذو بعطر الأميرات. أو هذا ما كان يبدو لي على الأقل. وأنت يا دانيال، ما هي أجمل ذكرى تحتفظ بها من أمك؟»
ترددت قليلا وأنا أتلعثم بالكلمات التي تفر من بين شفتيّ.
«لم أعد أذكر شيئا عن أمي لا وجهها ولا صوتها ولا رائحتها. اختفت ذكرياتها عن مخيليتي منذ أن وجدت كتاب كاراكس.»
«ليس لديك صورة لها؟» سألني بعد قليل من الصمت.
«لقد رفضت دوما أن أنظر إليها»قلت.
«لماذا؟» كان الأمر سرا لم أبح به لأحد من قبل، لا لأبي ولا حتى لتوماس. «لأنني أخاف. أخاف أن أبحث عن صورة لوالدتي ثم أكتشف أنه لا يربط بيني وبينها شيء. ربما يبدو لك الأمر في غاية الغباء.»
هز فيرمين برأسه متفهما.
«وهل تعتقد أنك سوف تذكر وجه أمك إذا نجحت في انتشال خوليان كاراكس من النسيان؟» نظرت إليه صامتا. لم تكن نظراته تلمح بأي حكم أو تهكم. بدا لي فيرمين حينها الرجل الأكثر حكمة في الكون.
«ربما» أجبته.
عند منتصف النهار صعدنا إحدى الحافلات للذهاب إلى مركز المدينة. جلسنا في المقاعد الأمامية ليدردش فيرمين مع السائق عن التطور التكنولوجي الملحوظ وجماليته في مجال النقل العمومي، وفي أدوات الإشارات بالأخص، بالمقارنة مع آخر مرة استقل فيها حافلة حوالي العام 1940. كانت هنالك لافتة في الحافلة: «ممنوع البصق واستعمال الكلمات المخلة بالآداب».
قرأها فيرمين بطرف عينه وقرر أن يثني عليها بإصدار بلغم مدوٍّ أثار الذعر والاحتقار لدى ثلاث نساء متزمتات يقران كتيبات دينة فيذيل الحافلة.
«يا لك من بربري»همهمت واحدة منهن، وكانت تشبه الجنرال ياغوي بشكل يثير الدهشة. «ها هن هناك» قال فيرمين.
«قديسات إسبانيا الثلاث: القديسة اضطهاد، القديسة تزمت، والقديسة اشمئزاز. هذا البلد بات مجرّد نكتة»
«معك حق،» قال السائق. «كان الوضع أفضل في فترة حكم آزانيا. ناهيك عن ازمة السير. إنه وضع مقرف.»
انفجر أحد الرجال الجالسين قرب النساء ضاحكا. عرفته: إنه جارنا على الطاولة الأخرى في البار. كان يعطي انطباعا أنه منحاز لفيرمين، كأنه يتمنى أن يراه يتعارك مع المترهبنات. تبادلت وإياه النظرات فابتسم لي باحترام وعاد إلى جريدته. وعند شارع جراندوكسير رأيت أن فيرمين كان يغفو، ملتحفا سترته المطرية، وفمه مفتوح والهناء جلي على تعابير وجهه. كانت الحافلة تجتاز حي سان جيرفازيو الراقي عندما فز فيرمين من غفوته فجأة.
«حلمت بالأب فرناندو» قال لي. " كان يرتدي زي ريال مدريد ويرفع كأس البطولة التي تلمع مثل الذهب."
«ماذا يعني هذا؟»
«إن لم يخني فرويد فهذا يعني أن الأب فرناندو أدخل هدفا في مرمانا.»
«لكنه بدا لي شخصا نزيها.»
«ولي أيضا. لكنهم يوفدون الرهبان الصادقين في مهمات بعيدة حيث ينهشهم البعوض وأسماك البارانيا.»
«أنت تبالغ.»
«بل أنت ساذج يا دانيال. أراهن أنك مازلت تؤمن بخرافة فأر الأسنان. هل تريد مثالا؟ لقد صدقت أكاذيب نوريا مونفورت عن ميغيل مولينر. تلك المرأة، ويا للمفارقة، تزوجت صديق طفولة الدايا وكاراكس، وحكت لك خرافات لا تخطر على بال رئيس تحرير «مرصد الفاتيكان». والآن تطفو على السطح قصة المربية الفاضلة التي ربما تكون حقيقية ولكنها عاطفية أكثر من مسرحيات أليخاندر وكازونا. ولن نتحدث عن مشاركة فوميرو الخارقة في دور المجرم السفاح.»
«هل تظن أن الأب فرناندو كذب علينا؟»
«كلا. إنني أوافقك الرأي، فملامحه تكشف عن حسن نواياه، لكنه رغم هذا يلبس رداء الكهنة وهؤلاء... حسنا لنبق في الموضوع، أظن أنه روى نصف الحقيقة فقط. إذا كذب علينا فقد فعل هذا تحسبا، فلا أظنه قادرا على اصطناع قصة كتلك من بنات أفكاره. لو كان دجالا لترقى في الأسقفية، بدل أن يعطي دروس الحساب واللاتينية، ولكان له مكتب يليق بالكرادلة ومليء بسكاكر اللوز لتحلية القهوة.»
«ما الذي تقترحه إذن؟» «علينا أن نحيي المومياء، الملاك العجوز، من كل بدّ، ثم نرى ماذا يحدث. وحتى ذلك الحين سأحاول جمع المعلومات عن ميغيل مولينر. ربما من المناسب أن نراقب نوريا مونفورت أيضا، فهي امرأة كالمياه الراكدة، مثلما كانت أمي تقول رحمها الله.» «أنت تخطئ بنظرتك إليها» أجبت.
«أنت يا دانيال تصدّق بسذاجة أي امرأة لها نهد ساحر حتى لوقالت لك إنها التقت بسانتا تيريزا دل جيزو. وهذا ما أجد له عذرا مقبولا في عمرك. دع الأمر لي يا دانيال فأنا تعلمت أن أقاوم مكائد الأنثى الخداعة. في عمري، يتدفق الدم إلى الرأس أكثر مما يمر بباقي الأعضاء.»
«كم أنت واضح بحديثك يا فيرمين.»
أخرج فيرمين محفظته وراح يحسب المضمون بسرعة.
«لا بأس» قلت.
«هل هذا ما تبقى من المرتجع الخاطئ صباح اليوم؟»
«بل جزء منه فقط. اليوم أخرج مع برناردا ولا أستطيع أن أكون مع هذه المرأة إلا سخيا. إنني مستعد لسرقة مصرف إسبانيا لأرضي نزواتها. وأنت ما الذي تخطط لفعله اليوم؟»
«لا شيء محدد.»
«والفتاة؟»
"أية فتاة؟"
«تلك الفتاة اللعوب. أخت توماس.»
«لا أعرف.»
«بل أنت تعرف، أنت تعرف. أقول لك بوضوح إنك في حاجة إلى الشجاعة فقط كي تمسك بالثور من قرنيه وتحكم سيطرتك عليه.»
اقترب منا مراقب التذاكر، الذي كان يدور وفي فمه نكاشة أسنان بمهارة بهلوان، وقال لنا بنبرة محايدة: «المعذرة، تسألك السيدات في مؤخرة الحافلة أن تستخدم لهجة مهذبة.»
«ما هذا الخراء؟» أجابه فيرمين بصوت مرتفع.
استدار المراقب نحو النساء الثلاث ورفع كتفيه، فقد قام بما في وسعه ولم يكن مستعدا للعراك من أجل مسألة رصانة لغوية.
«يشعر التافهون ببهجة كبرى حين يقحمون أنوفهم في حياة غيرهم» علق فيرمين.
«عمّ كنا نتحدث؟»
«عن عدم شجاعتي.»
«بالفعل، نحن بصدد حالة مرضية. اسمعني جيدا: ابحث عن الفتاة التي تحبها. فالحياة قصيرة، وجزؤها الأفضل يمضي سريعا. ألم تسمع ما قاله الراهب؟»
«لكنها ليست فتاتي.»
«فلتتحرّك على عجل قبل أن ينهبها أحد آخر، كذلك الجندي الصغير. »
«بيا ليست غنيمة.»
«صحيح. إنها نعمة» قال فيرمين. « اسمعني يا دانيال. القدر يتربص بنا في إحدى الزوايا، كلص الحقائب، كالعاهرة، أو كبائع تذاكر اليانصيب. هذه هي تجلياته الأكثر شيوعا. لكنه ليس مندوب مبيعات، ولا يقوم بزيارات منزلية. علينا أن نذهب ونبحث عنه بأنفسنا»
فكرت أثناء الرحلة، بجواهر فيرمين الفلسفية بينما كان يخوض غفوة أخرى. كان يكرّس كل مواهبه في النوم بشكل يحسد عليه. نزلنا من الحافلة عند التقاطع بين جران فيا وبيزيو دي غراثيا تحت سماء رمادية تسفك بالضوء وتنذر بالوعيد. ضمّ فيرمين أزرار سترته المطرية حتى عنقه وقال إنه لابدّ أن يسرع نحو النزل كي يتزين ويستعد لموعده مع برناردا.
«أحتاج إلى تسعين دقيقة على الأقل كي أبدو بمظهر متواضع. قيمة المظهر توازي قيمة الجوهر. هذا هو الواقع المرير في حقبة الدجل التي نعيشها: الانحلال يغري البشر.»
ابتعد في شارع جران فيا، مثل فزاعة ترتدي سترة مطرية رمادية ترفرف كراية بائدة. تمشّيت صوب البيت، وقررت أن أختار كتابا ما وأنعزل عن العالم، ولكنني ما إن انعطفت عند زاوية شارع سانتا آنا حتى شعرت بصعقة في القلب. كان فيرمين محقا. رأيت القدر يتربص بي قبالة المكتبة، بثياب من صوف رمادي وحذاء جديد وجورب حريري، ويرتب مظهره على زجاج الواجهة.
«أبي يظن أنني في الكنيسة للصلاة» قالت بيا دون أن تزيح نظراتها عن انعكاس وجهها. «لم تكذبي. على بعد عشرين مترا من هنا يقيمون صلاة كل ساعة في كنيسة سانتا آنا.» كنا نتحدث كشخصين لا يعرف أحدهما الآخر وتوقفا بالصدفة قبالة الواجهة نفسها ولا تبادل للنظرات بينهما.
«ليس هذا وقت المزاح. لقد تدبرت صفحة من الخطبة. من المؤكد أنه سيسألني عن موضوع خطبة اليوم.»
«أبوك كثير الشكوك.»
«لقد أقسم أن يكسر ساقيك.»
«عليه أن يكتشف أولا من أكون. وما زالت قدماي في مكانهما حتى الآن وبوسعي أن أركض فلا يلحق بي أبدا.»
كانت بيا تلقي نظرات متوترة على المارة الذي يمشون مستعجلين في صباح رمادي تغزوه الرياح.
«ما الذي يضحكك؟» قالت. «أبي يتحدث جديا.» «
"من ضحك؟ إنني أموت من الخوف، ولكنني سعيد برؤيتك أيضا." فرّت من شفتيها ابتسامة. «وأنا أيضا» أقرّت.
«تقولين ذلك كاعترافك بأن مرضا ما قد أصابك.»
«بل أسوأ من هذا. ظننت أنني إذا رأيتك في وضح النهار سيعود لي رشدي.»
تساءلتُ ما إن كانت تقول مجاملة أم تهمة.
«يجب ألا يرَونا معا في الطريق يا دانيال.»
«إذا أردت بوسعنا الدخول إلى المحل. في المستودع توجد حافظة قهوة و... »
«لا. يجب ألا يرونني داخلة أو خارجة من هنا. إن لاحظ أحد وجودي الآن، سأقول إنني التقيت بصديق أخي المفضل. أما إذا رأونا معا مرتين فسوف تساورهم الشكوك.»
تنهدتُ.
«ومن قد يرانا؟ من سوف يهتم بهذا الأمر؟»
«ليس لديك فكرة عن حب الناس للنميمة. وأبي يعرف نصف برشلونة. »
«لماذا جئت إذن؟»
"جئت للصلاة في الكنيسة، ألا تذكر هذا؟ بل أنت من قال ذلك أيضا. على بعد عشرين مترا من هنا..."
«أنت تثيرين مخاوفي يا بيا. تكذبين أفضل مني.»
«أنت لا تعرفني يا دانيال.»
«قال ذلك أخوك أيضا.» التقت نظراتنا في زجاج الواجهة.
«أريتني شيئا فريدا تلك الليلة» همست بيا. «واليوم حان دوري.»
قطبتُ جبهتي مستغربا.. فتحت بيا محفظتها، أخرجت بطاقة مثنية وأعطتني إياها»
«لست الخازن الوحيد لاسرار برشلونة يا دانيال. لدي مفاجاة لك. سأنتظرك في هذا العنوان اليوم عند الرابعة مساء. لا تخبز أحدا.»
«كيف سأعرف أنه المكان الصحيح؟»
« سوف تعرف.»
نظرت إليها بارتباك، وأنا أخشى من أنها تسخر مني.
«إن تغيّبت عن موعد اليوم سأفهم، قالت. سأفهم أنك لا تريد أن تراني"
ودون أن تعطيني الوقت لأجيبها، استدارت وابتعدت بخطوة سريعة باتجاه لاس رامبلاس. بقيت هنالك والبطاقة في يدي والكلمات على شفتي، أتبعها بنظرتي حتى اختفت في ظل الإعصار الرمادي الذي كان يتقدم مستعجلا. فتحت البطاقة فوجدت العنوان مكتوبا بالحبر الازرق. كنت أعرف العنوان جيدا: شارع تيبيدابو32.
27
لم ينتظر الإعصار طويلا كي يثور. فاجأتني أولى ضربات البرق حين ركبت في حافلة الخط 22. ولم تقم الحافلة بالدوران حول ساحة مولينا، حتى أطبقت سيول الظلام على كل المدينة في حين كنت أحمل مظلة بائسة.
«هيا تشجع » قال لي السائق حين رآني أهم بالنزول.
تركتني العربة عند الرابعة وعشر دقائق، في نقطة منعزلة آخر شارع بالميس، تحت رحمة الإعصار. وقبالتي، كان شارع تيبيدابو يختبئ خلف سراب من مطر غزير يهطل من سماوات سوداء. التقطت أنفاسي وشرعت أركض. توقفت بعد قليل، وقد بلني المطر حتى أخمص قدمي، واصطكت أسناني بردا، عند إحدى البوابات كي أستجمع قواي وأحسب المسافة التي مازال علي اجتيازها. كانت الأمطار الباردة تنهمر وتخفي الجوانب اللولبية لبيوت الأكابر التي يهيمن فوقها برج قصر الدايا، والريح تعصف برؤوس أشجار الحديقة. أبعدت عن عيني خصلة من شعري المبلل وواصلت الركض في الشارع الخالي باتجاه القصر. كان باب المدخل يتحرك، فمررت في الدرب الملتوي الذي يفضي إلى المبنى. كانت قواعد التماثيل المحطمة تظهر بين تلك الأعشاب. وأدهشني أحد تلك التماثيل: ملاك الانتقام يستريح في النافورة وسط الحديقة، والرخام المغبرّ يلمع تحت سطح الماء الذي يفيض من الحوض، ويد الملاك تغرق في الماء وسبابته، التي تمتد مثل الحربة، تشير إلى المدخل الرئيسي. وكان الباب الكبير، المقتص من شجرة بلوط، مواربا. دفعته وخطوت في مدخل كهفيّ تقفز على جدرانه أضواء شمعة.
«ظننت أنك لن تأتي» قالت بيا.
كانت ملامحها تتناثر في الممر الذي مهده الظلام، وضياء الإيوان المحتضر يطوّق طيفها. كانت تجلس على كرسي، قبالة الحائط، والشمعة تحت قدميها.
« اقفل الباب» قالت لي دون أن تتحرك. «المفتاح في القفل.»
طاوعتها. وأصدر القفل صريرا كأنه قبرٌ يغلق إلى الأبد. سمعت خلفي خطواتها الرشيقة وشعرت بلمسة أناملها على ثيابي المبللة.
«إنك ترتجف. خوفا أم بردا؟»
«لم أقرر بعد. لماذا نحن هنا؟»
ابتسمَتْ في الظلام وأمسكت بيدي.
«لا تعرف؟ ظننت أنك خمّنت سبب وجودنا هنا...»
«ما أعرفه أننا في بيت آل الدايا. كيف عرفته وكيف دخلت إلى هنا...؟»
«تعال. سنشعل نارا فهكذا تدفأ.»
قادتني حتى الإيوان المفتوح على الردهة الداخلية. كانت صالة واسعة فيها أعمدة نحيلة رخامية تتلوى حتى السقف المقعر المليء بالزخارف التي تتساقط أجزاء منها على الأرض. وعلى الجدران أطلال لوحات كانت تزين المكان، وعلى البلاط الرخامي ماتزال آثار الأثاث حاضرة. والمدفأة الضخمة في إحدى الزوايا مليئة بالحطب وبعض الجرائد القديمة وأداوت لإضرام النار. اشتممت رائحة فحم ونار قد أضرمت مؤخرا. جثمت بيا على ركبتيها، وأدخلت كرتونا مقوى بين الكومة وقربت منها عود كبريت، وسرعان ما اشتعلت هالة من اللهب. كانت يداها تتحركان بخفة ومهارة. وكنت أفترض أنها تظنني متشوقا ونافد الصبر، ولهذا رحت أتصرف ببرود كي تعرف أن المباراة لن تكون سهلة إذا أرادت منافستي على من بحوزته ألغازا أكثر من الآخر. كانت تختال بابتسامة الظافرين، ويداي ترتجفان وهذا ما أبطل قراري.
«هل تأتين غالبا إلى هنا؟» سألتها.
«هذه هي المرة الأولى. أنت متلهف إذن؟»
جلست متربعة أمام المدفأة ومدّدت على البلاط غطاء نظيفا أخرجته من حقيبة جلدية. كانت رائحة الغطاء زكية كأنها خرجت من الغسالة للتو.
«هيا، تعال واجلس هنا، قرب النار، لا أريد أن تصيبك الحمّى بسببي»
أعاد الدفء إليّ الحياة. وكانت بيا تنظر إلى ألسنة اللهب بصمت كأنها منومة مغناطيسيا.
«هل تفكرين في أن تروي علي سرّك؟، سألك. قامت لتجلس على أحد الكراسي، وبقيت أنا قرب النار، أنظر إلى البخار الذي يهب من ثيابي كأرواح تهيم على وجوهها.
«الاسم الحقيقي لما تسميه أنت قصر آل آلدايا هو «ملاك الضباب»، لكن هذا الاسم لا يعرفه أحد» قالت بيا.
«تحاول مؤسسة والدي أن تبيع هذا المبنى منذ ما لا يقل عن خمسة عشر عاما. ذلك اليوم،
|عندما حدثتني عن خوليان كاراكس وبينيلوب الدايا، لم أربط بين القضيتين. ولكنني عندما عدت إلى المنزل تذكرت أنني قد سمعت أبي يتكلم عن هذه الأسرة غير مرة، وعن هذا البيت بالتحديد. ذهبت إلى مكتبه البارحة وروى لي كازاسوس، سكرتير والدي، قصة هذا القصر. هل تعلم أنه لم يكن منزل إقامتهم الرسمية، بل واحدا من منتجعاتهم الصيفية؟»
هززت رأسي نافيا.
«كان آل الدايا يقيمون رسميا في أحد المباني الواقعة عند نقطة تلاقي شارع بروش بشارع مايوركا وقد تم هدمه عام 1925 لتشييد مجمع سكني جديد. تم تخطيطه عام 1896 من قبل بويغ اي كادا فالش، وبتفويض من سيمون الدايا، جدّ بينيلوب وخورخي، عندما كانت المنطقة سهلا من الأراضي المهجورة. حصل الدون ريكاردو الدايا، نجل البطريرك سيمون، على «ملاك الضباب» من شخص أقل ما يوصف به أنه غريب الأطوار، وبسعر مضحك لأن سمعة البيت كانت سيئة. قال لي كازازوس إن هذا البيت تسطو عليه لعنة عمياء، حتى أن تجار العقارات يختلقون الأعذار من كل نوع كي لا يتورطوا في عرضه على الزبائن...»
28
وبينما كنت في ذلك المساء ألتمس الدفء قبالة المدفأة، شرحت لي بيا كيف صار «ملاك الضباب» من أملاك أسرة آلدايا. كانت القصة تستحق أن يكتبها خوليان كاراكس، لما تحتويه من عناصر ميلودرامية مؤثرة. شيّد القصر عام 1899 بإشراف المهندسين ناولي ومارتوريل وبيرجادا بتفويض من الممول الكاتالوني البارز سلفادور خاوسا، والذي عاش فيه لعام واحد فقط. تيتّم خاوسا في سن السادسة وكان من أسرة فقيرة، لكن الحظ حالفه في كوبا وبورتوريكو. قيل إنه من كبار المخادعين والمسؤولين عن سقوط كوبا والحرب مع الولايات المتحدة التي خسرت فيها إسبانيا آخر مستعمراتها. عاد من العالم الجديد بثروة هائلة وزوجة أمريكية ذات حسب ونسب تنتمي إلى أعلى طبقات المجتمع في فيلادلفيا ولم تكن تجيد الإسبانية مطلقا، إضافة إلى خادمة منزلية هجينة تعمل عنده منذ أن كان في كوبا. كان يسافر دوما بسبع حقائب ضخمة ويصطحبه قرد المكاك في القفص وقد ألبسوه ثياب البهلوان. وغداة وصولهم إلى برشلونة، حجز هذا الثلاثي جناحا في فندق كولون في ساحة كاتالونيا بانتظار أن ينتقلوا إلى مكان يناسب أذواق خاوسا ورغباته. لم يكن أحد يشك بأن الخادمة كانت عشيقته، وهي الخلاسية الحسناء بعينيها الفتانتين ومؤخرتها التي تحبس الأنفاس، كما تخبرنا الأنباء آنئذ. وكانت توصف بأنها ساحرة وملهمة الملذات الضالة والرذيلة بلا ريب، وسرعان ما بات جمال ماريزيلا، كما كان سيذها يدعوها، وهيئتها العجائبية موضوعا مفضلا لنساء الطبقة النبيلة اللواتي يجتمعن لالتهام المعجنات هربا من الملل والحر الخريفي. وشاعت الأقاويل عن الأنثى الإفريقية ذات القوى الجهنمية الغامضة إنها تمارس الفحشاء على الطريقة الأمازونية17، أي أنها تمتطي قضيب الرجل كالحصان، وترتكب خمس خطايا أو سنا مميتة دفعة واحدة. بل وكتب أحدهم إلى الأسقف كي يأتي ويبارك نفوس العائلات البرشلونية السامية من تأثير مشؤوم كهذا. وكأن كل هذا لا يكفي، كان خاوسا يخرج في كل صبيحة أحد بالعربة مع زوجته وعشيقته ليقدّم هذا العرض الإباحي على أعين الأولاد البريئة الذاهبين إلى الصلاة صباحا في شارع اليونان. حتى الجرائد تحدثت عن خيلاء تلك الزنجية التي تنظر إلى أهالي برشلونة كما تنظر «ملكة الغابة إلى قبيلة من أقزام إفريقيا».
ورغم أن برشلونة أصيبت بحمّى الحداثة، فإن خاوسا طلب من المهندسين أن يخططوا لمنزل جديد يكون له طابع مختلف. وكانت كلمة « مختلف» في قاموسه الخاص تعتبر ملكة الصفات بلا منازع. فهو الذي كان يمرّ أمام المساكن النيوقوطية التي شيّدها كبار الصناعيين الأمريكان في كوينتا سترادا على الجانب الشرقي من السنترال بارك. وحين انتشى بأحلامه الأمريكية، رفض الممول أن يسمع آراء أو استثناءات تحول دون بناء منزل بأقصى معايير الحداثة، كما رفض أن يأخذ شرفة في مسرح الأوبرا بعد أن اتهمه باستضافة الحمقى والمغفلين ولا يتردد إليه سوى المقرفين من أبناء برشلونة. كان يريد أن يكون بيته بعيدا عن المدينة في منطقة تيبيدابو التي كانت منعزلة نسبيا في تلك الحقبة. كان يريد أن يرى برشلونة عن بعد، في مكان لا تجاوره فيه إلا حديقة خلابة فيها تماثيل لملائكة تتموضع في مخطط يشكل نجمة بسبع رؤوس (حسب تعليمات ماريزيلا) لا أكثر ولا أقل. قرر سلفادور خاوسا أن يحقق مشروعه بأي ثمن، وأوفد المهندسين ثلاثة أشهر إلى نيويورك كي يدرسوا فنون العمارات التي يسكنها عميد البحر فاندرفيلت وأحفاد جون جاكوب أستر وأندريه كارنيجي والخمسين عائلة التي تمتلك ثروات الولايات المتحدة. أوصاهم بأن ينسخوا أسلوب المعماريين وتقنياتهم أمثال ستاندفورد ووايت ان ماكيم. وحذرهم أن يعودوا بمخططات تناسب أذواق من كان يسميهم باحتقار وبائعي لحم الخنزير ومصنعي الأزرار».
بعد عام، عاد المعماريون الثلاثة إلى قاعة فندق كولون الفاخرة كي يعرضوا عليه المشروع. أصفى إليهم خاوسا وماريزيلا الهجينة بتأن ثم سألهم عن تكلفة تحقيق المشروع في ستة أشهر. سعل فريدريك مارتوريل، العضو المؤسس في مكتب العمارة، وكتب له الرقم على ورقة. فوقع الباشا دون رفّة رمش على المبلغ الإجمالي وأوقف الرحلة الاستكشافية. بعد سبعة أشهر، في يوليو عام 1900، حاز خاوسا وزوجته وخادمته ماريزيلا على البيت. وفي أغسطس من العام نفسه وجدت الشرطة جثة المرأتين معا، وسلفادور خاوسا يحتضر عاريا ومشدود الوثاق على ديوان مكتبه. كتب الضابط في المحضر أن الجدران كانت ملطخة بالدماء، والملائكة في الحديقة مشوهة برسوم على وجوهها كأنها ترتدي أقنعة قبلية وقد وجدوا آثار شمع أسود على قواعدها. دام التحقيق ثمانية أشهر فقد خاوسا أثناءها القدرة على الكلام تدريجيا. افترضت الشرطة أن خاوسا وزوجته تسمما بخلاصة نباتية حضرتها ماريزيلا التي عثر في غرفتها على آثار من تلك الخلاصة. وقاوم خاوسا السم، ضد ما يستوجبه المنطق لكنه غدا أصم وأبكم وشبه مشلول الجسد حتى ظل يتعذب لاخر عمره من آلآم ثاقبة. ووجدوا زوجته عارية على السرير، بكل جواهرها الثمينة حول رقبتها. وافترضوا أن ماريزيلا، بعدما نفذت الجريمة، قطعت شرايينها بالسكين وراحت تتجول في البيت ودماؤها تلطخ الجدران حتى سقطت على الأرض ميتة في غرفة من الطابق الأعلى. وربطوا الجريمة بدافع الغيرة، إذ أن زوجة الباشا كانت حبلى على ما يبدو. كما قيل إن ماريزيلا رسمت جمجمة بالشمع الأحمر الساخن على بطن سيدتها. تأرشفت الحالة بعد عدة أشهر وأغلقت إلى الأبد مثل شفتي سلفادور خاوسا. ورأت الطبقة البرشلونية الرفيعة، التي لم تذكر فضيحة مشابهة كهذه، أن الذنب متعلق بأولئك المهندسين الأوباش الذين عادوا من أمريكا كي يدنسوا هوية الوطن الأخلاقية. وابتهج الكثيرون في سرّهم على نهاية سلفادور خاوسا الخارجة عن المألوف. لكنهم كانوا مخطئين طبعا، فتلك لم تكن إلا البداية. لم يستسلم خاوسا رغم أن الشرطة والمحامين قرروا أرشفة الملف.
في تلك الحقبة تعرف على الدون ريكاردو الدايا الصناعي ميسور الحال وذائع الصيت كزير نساء وأعظم مواليد برج الأسد من حيث الفطرة. كان الدايا يطمح للحصول على العقار لأن قيمة الأراضي كانت تتهاوى في تلك المنطقة. رفض خاوسا العرض لكنه دعا ريكاردواالدايا لزيارة القصر كي يطلعه على تجربة علمية استثنائية كما عرّفها. اندهش الصناعي، إذ أن خاوسا قد فقد عقله حقا. لم يطأ أحد المنزل منذ نهاية التحقيقات. وكانت بقع دم ماريزيلا السود ما تزال تعربد على الجدران، وقد جند الممول ذو الشأن الكبير طليعة الحداثة التكنولوجية في ذلك العصر، مثل السينمائي فروكتوس جيلابرت الذي وافق على مشروع فني يموّله خاوسا ويهدف إلى تحقيق بعض الدراسات السينمائية، لاقتناعه بأن الصور المتحركة ستحل محل الأديان الوضعية خلال القرن العشرين. كان خاوسا يعتقد أن شبح الزنجية ماريزيلا ما زال يطوف في البيت ويؤكد أنه يشعر بوجودها وصوتها ورائحتها وحتى بلمساتها في الظلام، ما أدى إلى هروب الخادم بحثا عن عمل أكثر طمأنينة في ضاحية ساريا القريبة حيث يصل الكسل بالعائلات إلى عدم ملء السطل أوترقيع الجوارب. وسرعان ما بات خاوسا وحيدا في مخاوفه وأوهامه حتى بلغ به الظن أن مفتاح اللغز يكمن في إعطاء الفرصة للأشباح أن يصبحوا مرئيين. كان قد حضر عدة عروض سينمائية في نيويورك مع ماريزيلا، وكان مقتنعا بأن عدسة السينما تمتص أرواح الممثلين والمشاهدين على حدّ سواء. فأوكل إلى فروكتوس جيلابرت مهمة تدوير أمتار لا حدّ لها من الأشرطة السينمائية في ممرات القصر عله ينجح في اصطياد بعض الإشارات والكينونات الميتافيزيقية. ولكن المحاولات باءت بالفشل حتى تلك اللحظة، رغم اسم التقني اللامع.
وتغير كل شيء عندما تلقى جيلابرت مادة جديدة وحساسة تم تحضيرها في مصنع توماس إديسون في مينلوبارك في نيوجيرسي، والتي تسمح بالتصوير السينمائي تحت أضواء خافتة. وخلال إحدى العمليات العادية، صب مساعد جيلابرت قليلا من شمبانيا بينيديس في حوض التحميض فظهرت على الشريط أشكال غريبة. كان هذا هو الشريط الذي أراد خاوسا عرضه على أنظار الدون ريكاردو الدايا في المساء الذي دعاه فيه إلى ذلك القصر اللولبي، رقم 32 في شارع تيبيدابو.
فكر الدايا أن جيلابرت يتحايل على خاوسا لخشيته من تجفيف الدعم المادي. لكن خاوسا لم يكن لديه أدنى شك بصحة النتيجة، بل بينما كانت الظلال الغامضة تتراءى للآخرين، كان هو متأكدا من رؤية أرواح. وكان يقسم أنه يرى وجه ماريزيلا وهو يتجلى في البدء على هيئة كفن ثم على هيئة ذئب يمشي على أرجله الخلفية. توصل ريكاردو الدايا، الذي لم ير في الشريط سوى بقع مشوشة، إلى أن رائحة النبيذ ومشروبات كحولية أخرى تفوح سواء من الفلم أم من صانعه. لكن هذا لم يمنع رجل الأعمال المخضرم من التفكير في كسب فوائد كبرى من هذه المسرحية. فما كان هذا المليونير، المخبول الوحيد المهووس باصطياد كائنات خيالية، إلا ضحية مثالية. لذا قرر أن يساعده ويشجعه على المثابرة. وراح جيلابرت ومساعدوه يدورون أميالا من الشرائط لأسابيع ثم يحمضونها في حاويات متعددة باستخدام محاليل كيميائية خالصة ومذوبة بآروماس دي مونسيرات، نبيذ أحمر مبارك في أسقفية نينوت، وأنواع متعددة من الشمبانيا من مزارع العنب في تيراغونا. وبين العرض والآخر، كان خاوسا يحوّل الأملاك ويوقع على التفويضات ويصرّح بإعطاء السيد ريكاردو الدايا السماح بمراقبة كل ثروته. اختفى سلفادور خاوسا في هوّة العدم ذات ليلة من نوفمبر 1900 أثناء الإعصار. على ما يبدو أنه كان يعاين إحدى وشائع جيلابرت الخاصة عندما حدث شيء ما. فوّض الدون ريكاردو ذلك التقني بجمع الشريط، وبعد أن عاينه على انفراد مرر عليه ومضة نار. ثم اقترح على جيلابرت أن ينال شيكا سخيا شرط أن ينسى ما جرى. سطا الدايا حينذاك على كل أملاك خاوسا. وتوهم بعض الناس أن ماريزيلا عادت من الجحيم لتحمله معها إلى هناك، وظن آخرون أن متسولا يشبه المليونير كان يتسكع طوال أشهر في منطقة ثيوداديلا حتى دهسته عربة غامضة سوداء في وضح النهاردون أن تتوقف. لكن هذا تحصيل حاصل، إذ امّحت أسطورة القصر الفظيع وإيقاعات سون مونتونو الراقصة من ذاكرة المدينة. بعد عدة أشهر من اختفاء خاوسا انتقل الدون ريكاردو آلدايا مع عائلته إلى ذلك القصر في شارع تيبيدابو حيث ستولد ابنته بينيلوب. وسمّى آلدايا المنزل ب«فيلا بينيلوب» احتفالا بالمولودة، لكن هذا الاسم لم يدم طويلا. إذ كان للبيت شخصيته الخاصة وقد أبدى حياديته أمام أصحابه الجدد الذين كانوا يشتكون من أصوات ليلية مستمرة، وروائح كريهة تفوح فجأة وتيارات ريح باردة لا مسبب لها تهب على حين غرة وتطوف كدوريات الشرطة المسرعة. في المخزن السفلي ثمت ما يشبه السرداب الفارغ، وفي المخزن الأعلى هنالك قبة يتربع فيها مسيح ضخم على صليب متعدد الألوان عثر فيه الخدم على شبه غريب مع راسبوتين، شخصية شعبية جدا تلك الحقبة. كانت الكتب تغير محلها على الرفوف أو يجدونها مقلوبة على الخلف. وفي الطابق الثالث كانت الأزهار النضرة تذبل في غضون دقائق، وينبري صوت ذباب حوام لا تراه العين، في غرفة نوم غير صالحة للاستعمال بسبب بقع الرطوبة غير المبررة التي تبدو كوجوه البشر. ولطالما أكدّت الطباخات أن السكر وبعض الأنواع الغذائية الأخرى تختفي كالسحر من الخزانة، ومع طلوع الهلال شهريا تتفشى في سطل الحليب صبغة حمراء اللون. ومن حين لآخر يجد الخدم عصافير أو قوارض صغيرة ميتة أمام باب بعض الغرف، وتختفي بعض الأشياء لاسيّما الجواهر وأزرار الثياب المرتبة في الخزائن والصناديق. ونادرا ما كان يحدث أن تظهر الأغراض المختفية ثانية، بعد مرور عدة أشهر، مركونة في إحدى زوايا المنزل أو مدفونة في الحديقة. أما الدون ريكاردو فكان يقول إنها خرافات يعتاد عليها الأثرياء الكسالى، ويكفي أسبوع من الصيام للشفاء من هذه اللوثة. لكنه لم يكن يتفلسف في مسألة اختفاء مجوهرات زوجته، إذ سرّح على الأقل خمس خادمات من عملهن متهما إياهن بسرقة المجوهرات الثمينة، وسط اعتراضهن باكيات على هذا الإجحاف. ويرجح الدهاة تلك القرارات إلى عادته السيئة بالغطس في غرف الخادمات اليانعات تحت جنح الليل. كانت جسارته في الغرام ملحوظة مثل ثرائه الواضح، حتى قيل إن عدد أولاده من الزنا كاف لتأسيس نقابة. ولكن في البيت لم تكن تختفي المجوهرات فقط مع الأسف، بل كانت العائلة تفقد البهجة في الحياة كلمّا مرّ الوقت. لم يهنأ آل الدايا ولو ليوم واحد في ذلك القصر الذي حصلوا عليه بدهاء الدون ريكاردو. وكم توسلت زوجته إليه ليعرضه للبيع كي يعودوا إلى المنزل الذي أمر البطرك سيمون ببنائه أو ينتقلوا للعيش في وسط المدينة. لكن ريكاردو لم يعر الأمر انتباها لأنه كان يقضي جل وقته خارج البيت. وذات يوم، اختفى الصغير خورخي لثماني ساعات وقلبت أمه والخدم الدار عاليها أسفلها بحثا عنه دون جدوى. وعندما ظهر الطفل مصفرّ الوجه وخائر القوى، قال إنه كان في صالة المكتبة برفقة زنجية أطلعته على صور قديمة وتنبأت له بأن الموت سيخطف كل إناث العائلة في ذلك القصر كبش فداء على خطايا ذكورهن. وأخبرته السيدة الغامضة بيوم وفاة أمه أيضا: 12 أبريل 1921. لم يعثروا على أثر لتلك المرأة بالطبع، لكن السيدة الدايا توفيت بالفعل على سريرها فجر ذلك اليوم آنف الذكر. واختفت كل مجوهراتها. وحين تم تجفيف البئر في الفناء وجد أحد الخدم المجوهرات في وحل القاع إضافة إلى دمية للصبية بينيلوب.
بعد أسبوع قرر الدون ريكاردو الدايا التخلص من القصر وقد تعرّضت إمبراطوريته المالية لأزمة خانقة. أرجع البعض السبب إلى اللعنة التي كانت تكبل القصر وتحمل الشؤم لمن يقطن فيه أيا كان، بينما رجّح آخرون، وكانوا أكثر فطنة، أن الدايا تصرّف باستخفاف مع تغيرات السوق ودمّر في أيام ما بناه والده سيمون طوال سنوات. صرّح ريكاردو بأنه سوف يهجر برشلونة بصحبة عائلته إلى الأرجنتين حيث تزدهر صناعات النسيج. وقال الكثيرون إنه إنما أراد الإفلات من الكارثة الاقتصادية المشينة التي ألمت به. في عام 1922 تم عرض "ملاك الضباب" للبيع بسعر مضحك، وأثار انتباه الكثيرين في بادئ الأمر بفضل روعته وتصاعد الطلب على تلك المنطقة الراقية. ولكن المستثمرين الكبار أداروا ظهورهم للعرض بعد أن زاروا القصر. فتم إغلاقه عام 1923 وانتقل صك الملكية لشركة عقارات كان على الدايا أن يوفيها بعض المستحقات، علّها تتمكن من بيعه أو هدمه أو تفعل به ما تراه مناسبا. ثم بقي القصر معروضا للبيع أعواما، وأفلست شركة لا بوتيل وليوفريه، عام 1939 حين دخل صاحباها السجن بتهمة لم يعرف أحد بشأنها شيئا. وتوفي كلاهما في حادث غامض وقع في سجن سان فيثينس عام 1940، فصفيت الشركة لصالح مؤسسة مالية في مدريد، كان من بين أعضائها المصرفي السويسري والمدير التنفيذي السيد آغويلار، والد توماس وبيا. أخفق وكلاء السيد آغويلار في بيع القصر أيضا، رغم وضعه بسعر أدنى من قيمته. ولم يدخل أحد القصر منذ ما لا يقل عن عشرة أعوام.
"... حتى يومنا هذا" أنهت بيا وانغمست مجددا في إحدى لحظاتها.
كنت سأعتاد على هذه الحالة مع الوقت وأنا أراها تنكمش على نفسها بنظرة تائهة وصوت مبحوح.
«كنت عازمة على أن أريك هذا المكان، ووددت أن أقدّمه لك كمفاجأة. شعرتُ بلزوم أن آتي بك إلى هنا بعد ما رواه علي كازاسوس. فهذا القصر جزء من حكايتك وحكاية كاراكس وبينيلوب. أخذت المفاتيح من مكتب أبي. ولا أحد يعلم أننا هنا: هذا هو سرّنا. أردت أن أشاركك إياه، ولكني لم أكن أظنك ستأتي.»
«بل كنت واثقة من هذا.»
وافقت بابتسامة.
«لا شيء يحدث عن طريق الصدفة، أتوافقني؟ كل شيء في النهاية يخضع لطاقة مبهمة خارقة الذكاء. ليس بالصدفة أنك وجدت رواية خوليان كاراكس في مقبرة الكتب المنسية ولا أننا هنا أنا وأنت في بيت كان يملكه آل الدايا. كل شيء ليس إلأ جزءًا من شيء ما، لا نستطيع إدراكه لكننا ننصاع لمشيئته.»
بينما كانت تتحدث، وضعتُ يدي بفظاظة على كاحل قدمها وصعدُ بها حتى ركبتيها. نظرت بيا إلى يدي كما لوكانت حشرة. فسألت نفسي ما الذي قد يفعله فيرمين لو كان محلي. أين مني الحنكة وأنا في أمس الحاجة إليها؟
«توماس يقول إنك لم تحظ يوما بعشيقة» قالت بيا، وذلك ما شعرت بأنه يفسّر كل شيء. أرجعت يدي وأخفضت عيني بإذعان. بدا لي أنني رأيت ابتسامة على ثغرها، لكنني فضلت أن أتظاهر بأنني لم أر شيئا.
«أخوك ليس كتوما كما يبدو. هل يشيع عني أمورا أخرى؟»
«يقال إنك بقيت لأعوام متيما بغرام امرأة تكبرك سنا وإن تلك التجربة مزقت فؤادك.»
«بل مزقت شفتيّ كي لا أتحدث عن كرامتي التي تعرضت للإهانة.»
«وتوماس يقول أيضا إنك لم تخرج مع فتيات أخريات لأن ما من واحدة بوسعها ملء الفراغ الذي تركته تلك المرأة.»
يا لتوماس الطيب ونميمته.
"تدعى كلارا" اعترفتُ
«أعرف. كلارا برسلوه.»
«هل تعرفينها؟»
«ومن لا يعرف كلارا برسلوه؟ اسمها لا يخفى على أحد.»
طغى بيننا الصمت لبعض اللحظات بينما كنا نتأمل ألسنة اللهب التي تفرقع في المدفأة. «البارحة ليلا، بعد أن افترقنا، كتبت رسالة إلى بابلو» قالت.
«خطيبك الملازم؟ لماذا؟»
أخرجت بيا ظرفا من جيب سترتها وأرتني إياه. كان مغلقا ومختوما.
«كتبت له بأنني أريد الزواج بأسرع وقت ممكن، حبذا لو بعد شهر، وأنني أرغب في مغادرة برشلونة إلى الأبد.»
واجهتُ نظراتها الثابتة وأنا أرتجف قليلا.
«ولماذا تطلعينني على ذلك؟»
«لأنني أريد أن أعرف منك إن كان علي إرسالها أم لا. ولهذا طلبت منك المجيء إلى هنا اليوم يا دانيال.»
ركزت النظر في الظرف الذي كان بين يديها.
"انظر إلي" قالت.
فطاوعتها لكنني لم أقوَ على الإجابة.
نهضت بيا وذهبت إلى آخر الصالون وفتحت إحدى النوافذ. فلحقت بها وأوقفتها وانتزعت الظرف من بين يديها. كان المطر يجلد وجهها فيمحو عن خدّيها دموع الغضب. حملتُ الظرف واتجهت نحو المدفأة الموقدة. كانت تتجنب النظر نحوي. رميتُ الظرف في النار وسرعان ما تلاشت الرسالة في هوجة اللهب.
جثمت بيا على ركبتيها بجانبي وعيناها تغرورقان بالدموع. فعانقتها وشعرت بأنفاسها تكوي عنقي.
«لا تتركني يا دانيال» همست.
ذات يوم شرح لي أكثر الرجال حكمة عرفته في حياتي، يدعى فيرمين روميرو دي توريس، بأنه ما من شيء يضاهي الإحساس الذي يتملكنا حين ننزع الثياب عن امرأة للمرة الأولى. لم يكن كاذبا لكنه أخفى عني جزءا من الحقيقة. لم يخبرني عن الرعشة الوحشية التي تحوّل كل زر وكل مفصلة إلى عملية شاقة تحتاج إلى جهد العمالقة. لم يخبرني عن إغواء الجسد المرتجف ولا عن سحر القبلة ولا عن ذلك السراب الذي راح يشتعل في كل مسام جلدي. كان يعرف أن المعجزة تحدث مرة واحدة في الحياة وتصنعها عقدة من القصص السرية التي ما إن يكشف أمرها حتى تتلاشى إلى الأبد. ألف مرة حاولت أن أستعيد مشاعري مع بيا في ذلك المساء في الصالة الكبرى في شارع تيبيدابو، عندما مسح هطول المطر هذا العالم. ألف مرة وددت أن أغرق في تلك الذكرى التي لم يبق لي منها سوى صورة مسروقة من حرارة اللهب: بيا، عارية وحبات المطر براقة على جسمها، مستلقية بجانب النار، وتركز علي نظراتها الصادقة التي لم أنسها يوما. انحنيت عليها وداعبت بطنها برؤوس أصابعي. أغمضَتْ عينيها وابتسمت بثقة وطمأنينة.
«افعل بي ما تشاء» همست.
كان عمري سبعة عشر عاما والحياة تصدح كأهزوجة الربيع على شفتيّ.
29
عندما خرجنا من القصر، بعدما خيمت عليه الظلال اللازوردية، كان الإعصار قد تحوّل إلى رذاذ مطر بارد. أشارت إلي بيا بنظرة كي آخذ المفاتيح. ومشينا في سكوت مطبق، يدا في يد حتى بازيو دي سان جيرفازيو، بحثا عن سيارة أجرة أو حافلة.
«لن نتمكن من اللقاء قبل الثلاثاء» قالت بنبرة مرتجفة كأنها تشك في رغبتي بلقائها ثانية. «سأنتظرك هنا» قلت.
كان واضحا بأننا سنلتقي هناك، في ذلك القصر القديم، لأن باقي المدينة لم يكن يعنينا. وكان ثباتها يتناقص شيئا فشيئا كلما ابتعدنا عن شارع تيبيدابو، يف طريق يخلو من البشر.
«لن نجد شيئا هنا» قالت بيا. «من الأفضل أن ننزل عند شارع بالميس»
تابعنا بخطوات مسرعة ونحن نمشي تحت الأشجار كي نلوذ من المطر الناعم، وربما كي يتجنب أحدًنا النظر إلى الآخر. كانت بيا تسرع من مشيتها بين الفينة والأخرى وأحسست لوهلة بأنني لو تركتها وشأنها لراحت تركض. كنت ما أزال أهذي بعطر جسمها وأتلظى من الرغبة في لثم ثغرها، وأود أن أقول لها بحرا من الأشياء التافهة حتى لو كلفني ذلك أن أبدو مضحكا. لكن بيا كانت غائبة في صمت يدوي كصرخة رهيبة صمّاء.
"ما بك؟" سألتها.
كانت ابتسامتها تتسم بالخوف ومشاعر الوحدة. رأيتُني في عينيها مجرد صبي لا طائل من ورائه وقد توهم أنه سيد العالم منذ قليل ويجازف بخسارة كل شيء بين اللحظة والأخرى. تابعت المشي دون أن أنتظر ردًا. وبعد قليل سمعنا ضوضاء السير وراجت الأضواء في الأجواء كجدارية لا تراها العين.
«فلنفترق هنا» قالت وهي تسحب يدها من يدي.
كانت أضواء سيارات الأجرة المركونة في زاوية الشارع تبدو كصف طويل من اليراعات المضيئة.
«كما تفضلين.»
لثمت خدّي وكان لشعرها رائحة الشمع.
«بيا» قلت بصوت مبحوح. «أنا أحبك...»
وضعتْ أناملها على فمي كي لا أستمرّ في كلام قد يجرحها.
«الثلاثاء في السادسة. موافق؟» سألتني.
فأومأت موافقا بإشارة سريعة من رأسي. ورأيتها تركب في إحدى سيارات الأجرة وتختفي في الظلام، مثل أي شخص مجهول لا أعرفه. وكان أحد السائقين يراقبني بفضول، وقد ظل يحدّق فينا.
«هل نذهب إلى البيت أيها الفتى؟» ركبت السيارة دون أن أفكر.
وظل السائق يتلضص علي بنظراته من المرآة العاكسة فيما كنت أشاهد أضواء كل سيارة من السيارات المقابلة وكأنها نقطتان مضيئتان تسقطان في بئر مظلم. لم أتمكن من النوم إلا عندما بزغ الفجر من نافذة غرفتي وتسرّبت معه مائة درجة من اللون الرمادي تبثُّ الكآبة. وبعدها، أيقظني فيرمين برمي الحصى على زجاج نافذتي من ساحة الكنيسة. ارتديت أقرب الثياب إلى ناظرتي ونزلت كي أفتح له. كان يحلق في أعالي المرح كعادته في صباح أيام الاثنين. رفعنا غلق المكتبة ووضعنا لافتة «مفتوح» على الواجهة.
«يا الجفنيك الذابلين يا دانيال. تبدو كالأرض المحروثة. أستنتج من هذا انك أصبت الهدف.» وحين دخلنا المستودع ارتديت مئزري الأزرق ورميت إليه مئزره بحركة استفزازية. فامسك به وهويبتسم بسخرية.
«بل ربما اصاب الهدف كلينا معا. »
"وفر أقوالك المأثورة لرامون غوميز دي لا سيرنا، فهي تثير الشفقة. هيا، حدّثني.»
"عن أي شيء؟"
"قرر أنت. عن عدد الوكزات أم عدد الجولات في الحلبة."
« مزاجي ليس ملائما للحديث يا فيرمين.»
«يا لعنفوان الشباب! لا تصب علي جام غضبك يا دانيال، فإني أتيتك بأخبار طازجة بشأن تحقيقنا عن صديقك خوليان كاراكس.»
«كلي آذان صاغية.»
أصابني بسهام نظراته البوليسية وقوّس واحدا من حاجبيه.
«مساء أمس، بعد أن أوصلت برناردا إلى منزلها، بعفة لا تخلو من لمس مؤخرتها، انتهزت هجمة الأرق التي أصابتني بسبب العشاء. ووجدت نفسي في واحد من أكثر النوادي أهمية في حياة اللهو والضلال البرشلونية، أو بالأحرى في خمارة حقيرة لإيليودورو سالفومان، المعروفة بـ بيتشافريدا، وتقع في مكان موبوء لكنه حيوي جدا، في زقاق سانت جيروني، قلب الرافال النابض والممجد.»
« اختصر لو سمحت.»
«سأختصر. حين كنت هناك، وبعدما اكتسبت ثقة بعض الزبائن الدائمين، وكانوا زملائي القدامى، قمت بالتحرّي عن ميغيل مولينر، زوج معذبتك نوريا مونفورت، السجين السياسي المزعوم.»
«المزعوم؟»
«بالضبط، المزعوم. لم تُستخدم بعد هذه الكلمة بشكل أفضل من هذا. أكد لي الزملاء في الحانة، وهم الذين يحوزون على كم هائل من المعلومات الحديثة والموثوقة أكثر من مخبري قصر العدل بفضل ألفتهم لظلام السجون، أكدوا لي بأنه لا وجود لرجل يدعى ميغيل مولينر في سجون برشلونة منذ عشرة أعوام.»
«ربما كان في سجن آخر.»
"في آلكاتراز، في سينغ سينغ أو في الباستيل. يا دانيال تلك المرأة كذبت عليك.»
«ربما كنتَ على صواب.»
«لا تقل ربما. اعترف بذلك.»
«ماذا تقصد؟ هل ميغيل مولينر معلومة كاذبة؟»
«كاذبة مثل نوريا التي تكنّ لها الاحترام.»
«وبم تنصحني؟»
«علينا أن نسلك دروبا أخرى. وفي البدء، لابدّ أن نقوم بزيارة للمربية العجوز في القصة التي أتحفنا بها أبونا صباح أمس.»
«ألا تشك بأنها توفيت؟»
«لا، ولكن اللحظة حانت لتبديد الشكوك. ليس علينا بعد الآن أن نطرق الأبواب مثل المتسولين، بل أن نتسلل من المدخل الخلفي. هل توافقني؟»
«على كل شيء ولكل شيء يا فيرمين.»
«إذن حضر بدلة الصبي خادم الكنيسة لأننا في هذا المساء حالما نغلق المحل سنقوم بزيارة مودّة للعجوز في مأوى سانتا لوسيا. والآن حدثني كيف جرت الأمور البارحة مع الحسناء. إياك أن تخفي عني شيئا وإلا أصابتلك الدمّل الفظيعة.»
وحينها عزفت عن العمل وفتحت له قلبي. وعند نهاية الاعتراف، أدهشني فيرمين بعناق مباغت معبّرا عن معاضدته لعذاباتي الوجودية في مرحلة المراهقة والتي كان جزءا منها. «أنت مغرم بها» همس متأثرا وهو يربت على كتفي. «كم أشفق عليك يا فتى. »
في ذلك المساء خرجنا من المحل على عجلة من أمرنا. نظر إلينا والدي مستغربا: كان قد شم رائحة مؤامرة مثيرة للشكوك بمجيئنا وذهابنا.
تلعثم فيرمين بحجة غير معقولة معللا بأنه علينا أن نسلم بعض الطلبات العاجلة. قطعت العهد ذاته على نفسي، كنت سأبوح لوالدي بكل القصة بين حين وآخر. وعلى طول الطريق وصف لي فيرمين غايتنا بخطوط عريضة وبأسلوب سوداوي، ربما بسبب ولعه بالروايات العاطفية المسلسلة. كان مأوى سانتا لوسيا مبعث شؤم ويقع في بناية قديمة على وشك الانهيار في حي مونكادا. كان مكانا لولبيا يتراوح بين حجرة الموتى وواد في جهنم. وتاريخه في منتهى العجب، وهذا أقل ما يمكن أن يقال فيه. إذ استضاف هذا المبنى بعض الأسر البرشلونية النبيلة بدءا من القرن الحادي عشر، ثم أصبح سجنا، ثم بيت دعارة، ثم مكتبة للأسفار المحرمة، فثكنة عسكرية، فورشة نحت، فمنفى للمصابين بالوباء والأمراض المعدية، حتى غدا ديرا. وعندما أمسى حطاما قرابة منتصف القرن التاسع عشر، تحول إلى متحف للفظاعة والشذوذ البهلوانيين لمقاول غريب الأطوار يسمّي نفسه لاسزلودي فيشيرني، ويدّعي أنه دوق مدينة بارما وخيميائي خاص لآل بوربون، بينما كان اسمه الحقيقي بالتازارديولوفيو كارايوت، المولود في إيسباراغويرا، ويعمل في الحقيقة مشعوذا وقوّادا. ك
ان المقاول المحتال يتفاخر بأنه صاحب أكبر مجموعة في العالم لأجنة من أشباه البشر في مراحل مختلفة من التشوه، ناهيك عن تحصيله لمجموعة أخرى أكبر بكثير تتألف من أحكام اعتقال أصدرتها بحقه كل دولة في أوروبا وأمريكا. وكان «سرداب الظلام» (هكذا كان ديولوفيو يسمّي مسرح ابتكاراته) فضاء لجلسات روحانية ونكرومانسية، ومصارعة الديكة والفئران والكلاب والنساء المسترجلات، والمكائد الخارجة عن المألوف، وحلقات ترويج الإشاعات والقمار والمراهنات. كان عبارة عن مبغى عام متخصص في الأذلاء والظواهر الغريبة، وكازينو ومكتب قانوني ومالي، وكان ملتقى يمنح فرص الحب، وخشبة تستضيف
عروض الفلكلور الكاتالوني ومسرحا للعرائس وملهى للراقصات الأجنبيات. ويحكى أن جوقة الميلاد الدورية، التي يمثل فيها أعضاء باحة المعجزات هذه، باتت مشهورة خارج حدود المنطقة أيضا. استمر النجاح المذهل والذائع الصيت لـ"سرداب الظلام" قرابة الخمسة عشر عاما، حين اكتشف أن ديولوفيو كان قد أغوى زوجة الحاكم العسكري وابنته وكنّته في غضون أسبوع واحد. فأعلن الأخير حربا للأخذ بالثأر على مركزه الإبداعي لم يشهد التاريخ مثيلا لقساوتها. وقبل أن يهرب ديولوفيو مستعيدا هويته الحقيقية، راحت عصابة من الرجال الملثمين تطارده في أزقة حي سانتا ماريا وأمسكت به عند فانوس السيوداديلا. ثم أحرقوا جثته وقدّموها وليمة للكلاب الضارية. وبعد عشرين سنة تقريبا، ودون أن يهتم أحد بالحصول على مقتنيات لاسزلو دي فيشيرني القيّمة، أصبح «سرداب الظلام» مؤسسة خيرية عامة ومعروفة بالتقوى والتدين.
«راهبات الرمق الأخير، هكذا يسمّون المؤسسة» قال فيرمين. «للأسف لا يسمحن لأحد بالدخول، عن سوء نية كما أرى. علينا أن ندبر حيلة ما إذن.»
في السنوات الأخيرة، حدّد مأوى سانتا لوسيا نزلاءه بين محتضرين وعجائز مهجورين ومختلين عقليا ومعدمين وبؤساء قاع المجتمع البرشلوني. ولحسن حظهم، لا يعيش أولئك التعساء طويلا حالما يسعفون إلى هنالك، نظرا إلى الظروف الصحية المتردية وبشاعة المكان الذي لا يعد بعمر مديد. ويقول فيرمين إنهم يخرجون الجثث من هناك قبل الفجر بقليل لتقوم برحلة صوب المقبرة الجماعية على عربة تبرعت بها شركة هوسبيتاليت ديليوبريجات المتخصصة في صناعة اللحوم وإنتاج المقددات، وهى شركة لها شهرتها لكنها دخلت في فضيحة شنيعة بعد أعوام.
«أنت تخترع كل شيء» احتججت بعد أن صدمني هذا السيناريو الدانتويّ18.
« خيالي لا يصل إلى هذا المستوى يا دانيال. انتظر فتر. لقد زرت المبنى في مناسبة حزينة منذ عشرة أعوام تقريبا، ولعمري كأنهم عيّنوا صديقك خوليان كاراكس كمصمم للديكور. كان علينا أن نأتي بأوراق الغار كي نحمي أنفسنا من العفونة. سنكون محظوظين إذا نجحنا في تخطي العتبة» .
دخلنا حي مونكادا بتلك المعنويات، وكان الظلام قد هبط على الأبنية القديمة التي تحولت إلى مخازن ومكاتب صغيرة. وسرنا على إيقاع ضرب النواقيس في كنيسة سانتا ماريا دل مار. وفجأة اجتاحت رائحة غريبة وثاقبة ذلك الجو الشتوي البارد.
«ما هذه الرائحة الكريهة؟»
«لقد وصلنا» أعلن فيرمين.
30
كانت البوابة الخشبية شبه المهشّمة تفضي إلى باحة تثيرها بعض فوانيس الغاز الخافتة وتتهالك معالم الملائكة على حجرها القديم. هنالك سلم يقود إلى المدخل الرئيس الذي ينساب منه نور مائل إلى الصفرة. وقد كان الضياء الذي يتحرر من ذلك المثلث يصبغ بخار العفونة باللون البني. لمحنا في الأعلى طيفا مكفهرًا يتبع خطواتنا بنظرة داكنة كالثوب الذي يلبسه. كانت الراهبة تحمل سطلا خشبيا بيديها وتصدر منه عفونة لا توصف.
«رحمالك يا مريم العذراء الطاهرة رحمالك» كان فيرمين يتلو.
(«والتابوت؟» ردّ صوت ثقيل ومخنوق من الأعلى. «ألستما من مكتب تنظيم الجنائز» ؟لم أفهم إن كانت تعلق على مظهرنا أم أنها تطرح سؤالا بسيطا.
انتهز فيرمين الفرصة على الفور.
«التابوت في الشاحنة. ولكن قبل ذلك أردنا أن نلقي نظرة على الزبون. مسألة تقنية. » انتابني الغثيان وكدت أتقياً.
"في العادة يأتي السيد كويباتوشخصيا" قالت الراهبة.
«السيد كويباتو يستأذنكن أن تعذرنه، فهو ملتزم بعملية تحنيط في
غاية التعقيد لرجل قوي البنية كان يعمل في السيرك.»
«هل تعملان عند السيد كويباتو؟»
«نحن بمثابة يديه اليمنى واليسرى. ويلفريدو فيلودو في خدمتك يا سيدتي وهذا سانسون كاراسكو معاوني الموثوق. »
«تشرفت سيدتي» قلت. ن
ظرت إلينا الراهبة بشرود وأومأت برأسها.
« أهلا بكما في سانتا لوسيا. أنا الأخت هورتينسيا. أنا من اتصل بكم. تعالا. »
تبعنا الراهبة بخشوع ديني في ممر كانت له نفس الرائحة الكريهة التي تفوح في أنفاق المترو. عبرنا صالات واسعة ليس لها أبواب وتنيرها القناديل، وكانت مليئة بالأسرّة الموضوعة عند الجدران والمزودة بأغطية تشبه الأكفان. كنا نسمع نواحا وأنينا ونرى وجوها بشرية تتشح بالأغطية.
«من هذا الجانب» قالت الراهبة هورتينسيا التي تسبقنا ببضعة أمتار.
دخلنا قاعة كبيرة في سقفها قبة، من المحتمل أنها كانت صالة «سرداب الظلام» المسرحية. تبدّى لي في الظلام ما يشبه التماثيل الشمعية المهملة في زاوية القاعة، وقد جُسّمت بأعين زجاجية تعكس لهب القناديل وكأنها عملات حديدية. ظننتها في البداية من بقايا المتحف البائد، لكنني انتبهت لها بعد ذلك وهي تتحرك، ولو ببطء شديد ودون ضجيج. وقد كانت تعلوها الخرق الرمادية البالية بشكل يستحيل معه تمييز جنسها أوتحديد عمرها.
«أوصانا السيد كويباتو بألا نمسن المتوفى» قالت الراهبة كأنها تعتذر. «فاكتفينا بوضعه في أول صندوق وجدناه قبل أن تتفسخ جثته.»
"حسنا فعلتنّ. درهم وقاية خير من قنطار علاج» قال فيرمين.
وجهتُ إليه نظرة يائسة لكنه طمأنني بحركة من يده. وقفت الأخت هورتينسيا أمام ما يشبه زنزانة مظلمة وخالية من التهوية في نهاية ممر ضيق. نزعتْ من الحائط أحد فوانيس الزيت المعلقة هناك وأعطتنا إياه.
«هل سيستغرق الأمر وقتا طويلا؟ أنا لدي التزامات.»
«كوني مطمئنة. بوسعك الذهاب إلى أعمالك يا أخت فسوف نتدبر أمرنا بأنفسنا. كوني مطمئنة.»
«إن احتجتما شيئا تجداني في الطابق الأرضي، في عنبر المجبرين على التزام السرير. احملاه إلى الخارج من المدخل الخلفي كي لا يراكما الاخرون، إن كان ذلك ممكنا.»
"دعي الأمر لنا يا أخت"همستُ بصوت رفيع.
حدقت إلي الراهبة بفضول غامض بضع لحظات. وقد كانت تبدو عن قرب عجوزا مثل نزلاء المأوى. «ألا يبدو أن مساعدك ما يزال صغيرا على مزاولة عمل كهذا؟»
«قسوة الحياة لا تعرف عمرا يا أختاه» أجابها فيرمين.
فابتسمتْ في وجهي بعطف وهي تهز رأسها. لم تكن نظراتها توحي بالالتباس إنما بشفقة وحزن غامضين.
4 «افهم هذا... » همستْ.
وغابت في الظلام وهي تحمل السطل وظلها يزحف خلفها كثوب الزفاف. دفعني فيرمين داخل الحجرة، وكانت عبارة عن محراب مجوف ورطب كالكهوف، وفي سقفها سلاسل معلقة بدعامات إلى حدودها القصوى، ومن أرضيتها منزوعة البلاط تبرز شبكة أنابيب. ثمت صندوق شحن خشبي على صفيحة من رخام رمادي في الوسط. رفع فيرمين الفانوس فرأينا جثة المتوفى ترقد وسط كومة من القش. كانت ملامحه قاسية وجامدة لا حياة فيها، وجلده منفوخا مائلاً إلى البنفسجي، وعيناه الجاحظتان بلون قشر البيضة. شعرتُ بالإعياء في بطني وأزحت نظري.
«هيا إلى العمل» قال فيرمين.
«هل جننت؟» «
أقصد أنه علينا البحث عن المربية خاثينتا قبل أن يكتشفوا سرنا.»
«كيف؟»
«نسأل عنها هنا.»
بعد أن تأكدنا أننا لم نكن على مقربة من الراهبة هورتينسيا، عدنا إلى الصالة الواسعة التي مررنا بها. كانت الأشباح البشرية التي تعيش هناك تتبع خطوتنا أولا بأول بأعين يسيل منها الخوف والفضول بل وربما الحسد.
«احذر يا دانيال، هؤلاء الضباع لو كان بوسعهم أن يمتصوا دمك كي يعودوا شبانا لفعلوها بلا رحمة» قال فيرمين.
«رغم أنهم يبدون كالحملان الوديعة بسبب تقدم العمر، فإن بينهم انذالا مثل الانذال في الخارج تماما. بل إن هؤلاء أشد خطرا لأنهم دفنوا كل الآخرين وظلوا وحدهم على قيد الحياة. لا تشفق عليهم. هيا ابدأ بأولئك الذين يبدون بلا أسنان.» أراد فيرمين أن يمدّني بالشجاعة فإذ بالرعب يدب في قلبي. نظرت إلى تلك الأطلال البشرية وهي تذبل في إحدى زوايا الصالة. كانوا مثالا حيا على انعدام أخلاق هذا الكون، وعلى وحشية البشر في التخلص من أي كائن لا فائدة ترجى من وجوده. هز فيرمين راسه معترفا وكانه قرا أفكاري. «
فلنقل الحقيقة، أمنا الطبيعة عاهرة وفاحشة، هذه هي الحقيقة المرة» أكد. «هيا فلنرم أنفسنا في التيار.»
أّيت دور المحقق للمرة الأولى ولم أجن سوى نظرات سفيهة وعنينا وتجشؤا وكلاما لا معنى له. وبعد ربع ساعة عدت إلى فيرمين آملا أن يكون حظه أوفر مني، ولكن هيهات.
«كيف سنجد خاثينتا كورونادو هنا؟»
«لا أعلم. هذا قفص للمجانين. جربت أن أستخدم السوغوس أيضا لكنهم ظنوها تحميلة. » «ما رأيك أن نسأل الأخت هورتينسيا؟ نقول لها الحقيقة وكفى.»
«الحقيقة هي الحل الأخير يا دانيال لاسيما حين يتعلق الأمر براهبة. علينا أن نلعب كل الأوراق الممكنة أولا. انظر إلى تلك المجموعة من العجائز، يبدون أكثر حيوية من غيرهم. ربما لم يفقدوا صوابهم كليا. اذهب إليهم واستجوبهم.»
«وأنت ما الذي تفكر بفعله؟»
«أنا سأقوم بتغطية ما تفعله في حال ظهر الغول. هيا إلى العمل.» اتجهت إليهم بآمال ضئيلة، إن لم تكن معدومة، وكانوا يشغلون حيزا من الزاوية.
«مساء الخير» قلت وسرعان ما شعرت بالندم بما أن الزمن هناك في الداخل مسائي على الدوام.
«أبحث عن السيدة خاثينتا كورونادو. كورونادو. هل يعرفها أحد منكم أوبإمكانه أن يقول لي أين بوسعي العثور عليها؟»
كانت قبالتي ثماني أعين قبّحها الحسد. لابدّ أنهم ما يزالون أحياء، قلت لنفسي، ولم يخسروا كل شيء بعد.
«خاثينتا كورونادو» كررت على مسامعهم.
تبادل العجائز الأربعة النظرات. وكان يبدو على واحد منهم أنه زعيم المجموعة، كان بدينا وأملس تماما، ويبدو أنه مختلف عن نزلاء ذلك المأوى المرعب: يعيد إلى الأذهان مشهد نيرون وهوراض ومسرور، يدندن على القيثارة فيما تحترق روما تحت قدميه. ابتسم الإمبراطورفي وجهي على طريقة النبلاء المتهكمة، فبادلته الابتسامة أملا أن يجيبني. أشار إليّ العجوز بالاقتراب كأنه أراد أن يحدّثني على انفراد. ترددت في بادئ الأمر، ولكنني أطعت أوامره.
«هل تعلم أين أجد السيدة خاثينتا كورونادو يا سيدي؟» سألته مرة أخرى.
قرّبت أذني إلى فمه ولفحتني رائحة قاتلة. لم يعضني لكنه أطلق ضراطا بنغمة ساخرة فانفجر أصحابه بالضحك وهم يصفقون، عدت إلى الخلف لكنني تقززت من تلك الرياح السامة على أية حال. وحينها انتبهت لوجود كهل يثني جذعه ويتكئ على عكازه ولحيته طويلة كأنه نبي وشعر رأسه خفيف وعيناه تلمعان وهو ينظر إلى أولئك العجائز باحتقار واضح.
« انت تهدر وقتك يا فتى. خوانيتو لا يعرف إلا الضراط ليضحك الآخرون ويشتمون الرائحة المقيتة. هذا المأوى الاجتماعي لا يختلف كثيرا عن العالم الخارجي كما ترى.» كان الفيلسوف العجوز يعبّر بنبرة متوازنة ولغة فصيحة. راح يحدق في وهو يفحصني.
«أنت تبحث عن خاثينتا إن لم أسئ الفهم.» لم أصدق ما سمعته أذناي. إنه تجسيد حقيقي لكائن حي لم يفقد رشده في ذلك الكهف المخيف.
«لماذا تبحث عنها؟»
«أنا حفيدها.»
«أتحسبني غبيا؟ أنت كاذب كبير هذه هي حقيقتلك. قل لي لماذا تبحث عنها وإلا تظاهرت بالجنون. فهذا ليس صعبا هنا ولا تتوهم بأنك ستحصل على معلومات من هؤلاء المهابيل.» كان خوانيتو ومريدوه ينثنون من الضحك. وجاد علينا العازف المنفرد بقطعة ثانية مطلقا عيارا أقل ضجيجا وطولا من الأول، عيارا أشبه بالأزيز الذي يرافق ثقب الإطار المطاطي. وقد كان تحكمه في تلك الغازات موهبة حقيقية، علي أن أعترف. استسلمت للصراحة.
«هذا صحيح. لست قريبها ولكنني في حاجة إلى التحدث إليها. إنها مسألة في غاية الأهمية.» دنا الكهل مني. كانت له نظرة هرّ ماكروابتسامة طفل في غاية الدهاء.
«هل بوسعك أن تساعدني؟» توسلت إليه. «هذا إذا أسديت لي معروفا أنت أيضا.»
«بكل سرور إن كان بإمكاني. هل تريدني أن أحمل رسالة إلى عائلتك؟»
ضحك الكهل بمرارة. «عائلتي هي التي أدخلتني إلى هنا. إنهم كالعلق الذي يمتص الدماء، أوغاد يسرقون الموتى إن تسنى لهم ذلك دون أن تهتز ضمائرهم. كم سأكون سعيدا لو رأيتهم يدخلون الجحيم او يدفنون في مقبرة جماعية. لقد ساندتهم وتحمّلتهم سنوات من العمر. كلاً. إنما أريد امراة.»
«ماذا؟» نظر إلي فاقدا صبيره. «عمرك الصغير لا يبرر غباءك يا فتى. قلت لك إنني أريد امرأة. أنثى، مهرة أصيلة. شابة تحت الخمسين من عمرها تتمتع بصحة تامة دون جروح أوكسور.»
«لست متأكدا من أنني فهمت...»
«بل فهمت قصدي جيدا. قبل أن أرحل إلى العالم الآخر أريد أن أنكح امرأة لم تسقط أسنانها ولا تتبول على نفسها. لا يهم إن كانت قبيحة فأنا شبه أعمى بطبيعة الحال. في أرذل العمر نرى في أي أنثى مكتنزة صورة فينوس وقد قامت من جديد. هل كان كلامي واضحا؟» «واضح ككتاب مفتوح. ولكنني لا أعلم أين بوسعي أن أجد لك امراة...»
"في زمني كانت الدولة تقدّم فرص عمل للغانيات. أعلم جيدا أن العالم تغير اليوم، ولكن من المستحيل أن تتعرض عناصره الجوهرية إلى التبدل. جد لي واحدة مكتنزة يملؤها الشبق وننهي الصفقة. وإن كنت تراني عاجزا عن مضاجعة امرأة، فاعلم أنني سأكون في غاية السعادة لو تلمست مؤخرتها أوتمعنت في مزاياها فقط. وهذا بفضل الخبرة. »
«وفر علي التفاصيل. لست قادرا على إيجاد امرأة فورا.»
«ربما كان اللعاب يسيل من فمي لكنني لم أفقد عقلي. أعلم جيدا. يكفيني وعدك. »
«وإن تظاهرت بأنني سأوفي به كي أعلم أين أجد خاثينتا كورونادو فقط؟»
ابتسم الكهل ابتسامة خبيثة.
«أعطني وعدا ودعني أّعذب ضميرك.»
نظرت حولي: كان خوانيتو على أتم الاستعداد لإطلاق سيمفونية أخرى. فلم أجد لدي خيارًا آخر. ومن جهة أخرى فإن هذا الطلب أكثر شيء له معنى في ذلك الجحيم.
«أعطيتك وعدي. سأفعل ما بوسعي»
ابتسم الكهل ابتسامة عريضة تتأرجح من أذن إلى أخرى وتكشف عن ثلاثة أسنان فقط. «شقراء، أو صهباء لا يهم. نهدان بارزان، ذات صوت رنان إن أمكن، فحاسّة السمع هي الوحيدة التي تعمل عندي.»
«سأحاول أن أرضيك. ولكن قل لي الآن أين أجد خاثينتا كورونادو.»؟
31
«ما الذي وعدت به جدّ نوح هذا؟»
«ألم تسمع؟»
«آمل انك كنت تمزح.»
«لم أكن لأخدع كهلا بائسا على حافة قبره، حتى لوكان قليل الحياء.»
«هذا شرف لك يا دانيال، ولكن كيف تفكر بأن تدخل إليه عاهرة وهو في هذا الفندق العفيف؟»
«بأن أدفع ثلاثة أضعاف الأجر، كما أظن. ستتكفل أنت بالتفاصيل.» استسلم فيرمين وأنهض كتفيه.
«حسنا، وعد الحر دين. سيخطر في بالنا شيء ما. ولكن في المرة القادمة حين تباشر مفاوضات من هذا النوع دعني أتحدث.»
« موافق.»
وكما فصّل لي الكهل المضحك بالضبط، كانت خاثينتا كورونادو تقيم في العلية الموصولة بسلم كبير في الطابق الثالث. كان ذلك المكان، وفقا لمزاعم الكهل، ملاذا للنزلاء القلائل الذين لم يتفضل عليهم القدر بفقدان الرشد أو الصواب، ولكنه يخصّهم بنعمة تقليص أعمارهم. في قديم الزمان كان ذلك الجناح المنعزل يحتوي على غرف بالتازار ديولوفيو، المشهور بلاسزلو دي فيشيرني، للقيام بنشاطات « سرداب الظلام». هناك حيث يجمع المشعوذ أرقى التقنيات الجنسية الآتية من الشرق من أبخرة وزيوت معطرة. ولم يبق من عنفوان تلك الحقبة الغامضة إلا الشذى والعطور، حتى لوكانت من طبيعة مختلفة كليا. كانت خاثينتا كورونادو غافية على كرسي الخيزران متشحة بالغطاء.
«السيدة كورونادو؟» قلت بصوت مرتفع مفترضا بأنها صماء أوفاقدة رشدها أوكلا الأمرين معا.
نظرت إلينا العجوز بحذر وشك. كانت نظراتها ضبابية ورأسها مشتعل بخصلات شيباء. لاحظت أنها تنظر إلي بغرابة كأنها قد رأتني سابقا ولم تعد تذكر أين. خشيت أن يقدّمني فيرمين بوصفي ابن خوليان كاراكس أو شيئا كهذا، لكنه جثم على ركبتيه بقربها وصافح يدها المرتجفة التي أتلفتها التجاعيد. «
خاثينتا، أنا أدعى فيرمين وهذا الفتى دانيال. أرسلنا إليك صديقك الأب فرناندو راموس لأنه لم يستطع المجيء اليوم لزيارتك فعليه أن يقيم اثنتي عشرة خطبة وصلاة وأنت تعلمين ضيق وقته بكل القديسين الذين يملؤون التقويم. لكنه يرسل إليك أحرّ تحياته. كيف حال:؟»
ارتسمت ابتسامة عذبة على شفتيها. وداعب فيرمين وجهها وجبينها فأغمضت عينيها كالقطة. لم أستطع أن أبتلع ريقي.
«يا لهذا السؤال الغبي، أليس كذلك؟» تابع فيرمين. «إنني متأكد أنك في هذه اللحظة تودين أن تذهبي للرقص حقا. فلديك ساقا راقصة وأعتقد أنني لست أول من يلاحظ ذلك.»
لم أره أبدا يتعامل مع أحد بهذا الحنان، حتى مع برناردا نفسها. كان مجرّد كلام لكن صدقه معبّر ونبرته مقنعة.
«يا لكثرة المجاملات» همست العجوز بصوت متردد لمن لم يعتد على الكلام أوليس لديه ما يقول.
«تستحقين أكثر مما قلت يا سيدة خاثينتا. هل بوسعنا أن نطرح عليك بعض الأسئلة؟ كتلك التي يطرحونها في منافسات الراديو، هل سمعت بها؟»
حرّكت العجوز رأسها كردّ ليس متوقعا.
«أفهم من هذا أنك موافقة. هل تذكرين بينيلوب يا خاثينتا؟ بينيلوب الدايا. نود أن نسألك عنها.»
أشرقت نظراتها.
«ابنتي » غمغمت وأوشكت على البكاء.
«بالضبط. تذكرينها أليس كذلك؟ نحن أصدقاء خوليان كاراكس. الشاب الذي كان يكتب قصص الرعب. تذكرينه هو أيضا، صحيح؟»
كانت عيناها تلمعان: يبدو أن كلمات فيرمين ولمساته الحنونة تمدّها بالقوة شيئا فشيئا.
«قال لنا الأب فرناندو في مدرسة سان جبريل إنك تكنين خالص المودة لبينيلوب. إنه يعزك كثيرا يا خاثينتا ويذكرك كل يوم كما تعلمين. إن كان يتغيّب عن زيارتك غالبا فهذا لأنه الأسقف الجديد. يثير الشفقة فهو يقيم الخطب والصلوات حتى يبحّ صوته.»
«هل أنت تأكل بما فيه الكفاية؟» سألته العجوز.
«إنني أكل بنهم شديد يا خاثينتا ولكنني أهضم بسرعة. بأية حال ثيابي تخفي جسما مدججا بالعضلات. تلمسيها إن أردت. إنني مثل شارلز أتلاس، ولكنني مشعر أكثر منه.» بدت خاثينتا مطمئنة. كانت تنظر إلى فيرمين حصرا وكأنها نسيت وجودي.
«ما الذي يمكنك أن تخبرينا به عن بينيلوب وخوليان؟» قال.
كنت على وشك أن أتدخل لكنه أوقفني بنظرة .
«السيد» قالت وهي ترفع عينيها إلى السماء كأنها تخشى أن يسمعها أحد ما. لحقت نظراتُ فيرمين بنظراتها.
«هل تقصدين بالسيد الله عز وجل رب السموات والأرض أم السيد ريكاردو الدايا والد بينيلوب؟»
«كيف حال فرناندوة، سألتْ.
«الراهب؟ إنه بأحسن حال كأزهار الربيع. ويرسل إليك أطيب الأمنيات. قد يصبح بابا بين عشية وضحاها وينقلك للسكن في الفاتيكان.»
«إنه الوحيد الذي يأتي لزيارتي. ويعلم أنني أمسيت وحيدة في هذه الدنيا.» نظر إلي فيرمين بطرف عينه ففهمتُ أن الفكرة ذاتها تجول في رأسينا معا. كانت خاثينتا عاقلة أكثر مما كنا نتصور. لاشك أن جسدها كان ينطفئ لكن قلبها وذهنها لم يفقدا القدرة على الألم حتى تلك اللحظة. ومن يدري كم يحتوي ذلك الجحيم على سجناء من العجائز مثلها ومثل ذلك الشهواني الذي دلنا على مكانها.
«إنه يعزك ولهذا يأتي لزيارتك يا خاثينتا لأنه مازال يذكر الوجبات التي كنت تحضرينها له عندما كان تلميذا. لقد قص علينا هذا. هل تذكرين يا خاثينتا؟ هل تذكرين عندما كنت تأخذين خورخي إلى المدرسة، وتلتقين بفرناندو وخوليان؟»
«خوليان...» اتسم صوتها بالعذوبة في حين خذلتها البسمة الهنيئة.
«هل تذكرين خوليان كاراكس؟»
«أذكر اليوم الذي قالت لي بينيلوب بأنها قد تتزوج به... »
صُعقت أنا وفيرمين وتبادلنا نظرة حائرة.
«تتزوج به؟ متى حدث ذلك يا خاثينتا؟»
"في المرة الأولى التي رأته. كان عمرها ثلاثة عشر عاما ولم تكن تعرف بعد من هو ولا اسمه حتى."
«وكيف لها أن تعرف بأنها ستتزوج به إذن؟»
«لأنها رأته... في الحلم.»
في طفولتها كانت ماريا خاثينتا كورونادو على اقتناع بان أبواب طليطلة هي حدود العالم، ولا شيء بعد تلك الأبواب إلا الظلمات والسراب وبحار الجحيم، جاءتها هذه الفكرة في الحلم عندما كان عمرها أربعة أعوام خلال نوبة حمى قاسية كادت تتسبب في مصرعها. وبدأت أحلامها بعد ذلك المرض الغامض الذي نسبه البعض إلى لدغة عقرب أحمر ضخم ظهر ذات يوم في البيت ثم اختفى في المدمر، بينما عزاه الآخرون إلى راهبة شريرة كانت تدخل البيوت ليلا كي تسمم الأطفال وماتت بعد عدة أعوام إعداما بالخنقة19، وهي تتلو الصلاة الربّية بالمقلوب20 وعيناها تخرجان عن مساربهما بينما تتلبس السحب الحمراء فوق المدينة ويهطل عليها وابل من الصراصير الميتة. كانت خاثينتا في أحلامها ترى الماضي والمستقبل وفي بعض الأحيان تصلها أسرار أزقة طليطلة القديمة وألغازها. ولطالما تراءات لها شخصية غامضة تدعى زكريا، ملاك يلبس وشاحا أسود ويرافقه دوما قط داكن اللون بعينين صفراوين وتفوح منه رائحة الكبريت. كان زكريا يعرف كل شيء. تهيأ لها بموعد وفاة عمها فينانسي وباليوم والساعة، فينانسيو البائع المتجول الذي يبيع المراهم والمياه المباركة. وأظهر لها المكان التي تخفي فيه أمها الورعة رسائل طالب الطب الفقير صاحب المعارف التحليلية الثابتة، في غرفة من زقاق سانتا ماريا حيث تذوقت أسرار النعيم. صرّح لها زكريا بأن روحا ميتة وخبيثة تقيم في بطنها، وبأنها ستجرب الحب مع رجل واحد فقط وسيكون حبا أنانيا يحطم فؤادها. قال لها إنها ستشهد موت أغلى شخص على قلبها وانها قبل أن تبلغ السماء كانت ستمر من جهنم لا محالة. وعندما جاءتها أولى دوراتها الشهرية اختفى الملاك زكريا وقطه الكبريتي من أحلامها، لكنها ظلت تذكر زيارات الملاك الأسود لأن كل تنبؤاته وقعت بالفعل لسوء الحظ. ولهذا لم تستغرب البتة عندما أخبرها الأطباء بأنها لن ترزق بأولاد. ولم تستغرب حتى عندما هجرها زوجها بعد ثلاثة أعوام من الزواج، مع أنها تألمت كثيرا، ليعاشر غيرها وهو يعتها بأنها ليست امرأة بل شجرة بخيلة لا تهب الفواكه. وفي غياب زكريا (الذي كانت تراه رسولا من السماء وملاكا مبارك رغم أنه يرتدي اللون الأسود، بل كان أوسم رجل رأته وحلمت به)، كانت خاثينتا تناجي الله في وحدتها دون أن تراه أو تنتظر منه ردا. فالحياة واد من الدموع، ودموعها في نهاية المطاف ليست سوى قطرة في محيط. كان لمونولجها الخاص موضوع واحد: خاثينتا تريد أن تصبح أما.
ذات يوم، وبينما كانت تصلي في الكاتدرائية، اقترب منها رجل تعرفت في ملامحه إلى زكريا. وكالعادة، كان يلبس اللون الأسود ويحمل بين ذراعيه قطه الشيطاني. لم يكن قد شاخ مطلقا بل كانت أظفاره رائعة طويلة ومبرومة كأنها أظفار أميرة. أخبرها الملاك بأن الله لم يكن ينوي أن يجيب على توسلاتها ولهذا أرسله ليقول لها إنها سوف تحصل على المخلوق التي لطالما رغبت فيه كثيرا بطريقة أوأخرى. انحنى عليها وهمس في أذنها كلمة "تيبيدابو" ولثم ثغرها برقة. وما إن لثمتها تلك الشفاه الناعمة بنكهة الكراميل حتى تجلت أمام خاثينتا رؤية ضبابية. سترزق بنت دون حاجة إلى التزوج برجل (وهذا ما يبعث على الارتياح إذا ما فكرت فيه زوجها المصاب بالربو وهو يغطي رأسها بالمخدة ويقول لها لا تنظري أبيها القحبة) ، وسوف تستلم تلك الهبة في مدينة بعيدة جدا تزدان بين جبال شاهقة وبحر متلألئ، مدينة تلمع فيها واجهات الأبنية بهاء وزهواء لم تكن خاثينتا لتحدد إن كان زكريا قد ظهر في الحلم أم أنه اقترب منها فعلا في كاتدرائية طليطلة مع قطه وأظفاره القرمزية. ولكنها لم تكن لتشك فيحقيقة تنبؤاته. في ذلك المساء نفسه استجوبت شماس الكاتدرائية وهو رجل متعلم ويعرف العالم (يقال إنه وصل حتى أندورا ويجيد الباسكية). أصغى الشماس باهتمام إلى رؤى خاثينتا، مع أنه لم يذكر وجود ملاك يدعى زكريا. وبعد أن فكر مطولا، معتمدا بالأخص على وصف كاتدرائية غريبة تبدو كقالب مرتفع من الشوكولا، كما قالت المرأة، قال لها: «يا خاثينتا لقد رأيت برشلونة المدينة الفتانة الأسرة، وتلك الكنيسة هي كاتدرائية العائلة المقدسة». انطلقت خاثينتا إلى برشلونة بعد أسبوعين، حاملة معها صرة كبيرة وكتيبا دينيا وابتسامة هي الأولى منذ خمسة أعوام، انطلقت وهي على يقين بأن نبوءة الملاك سوف تتحقق.
وبعد أشهر من الحوادث العصيبة وجدت خاثينتا عملا في أحد محلات شركة آالدايا، قرب أروقة العرض الدولي في سيوداديلا. وأثناء ذلك باتت ناقمة على برشلونة التي كانت تحلم بها، إذ رأت فيها المباني مكدسة وموصودة بحواجز منيعة والمصانع تنفث الكربون وغاز الكبريت فتفسد الأجواء. ومنذ اليوم الأول، أدركت خاثينتا أن هذه المدينة لها طباع المرأة، مفرورة ومستبدة، فتعلمت أن تخشى جانبها ولا تتحداها. كانت تعيش وحيدة في نزل رديء في ربييرا حيث يكاد معاشها لا يسمح لها بان تدفع إيجار غرفة بلا نوافذ وتضيئها بقناديل سرقتها بنفسها من الكاتدرائية، تتركها موقدة طوال الليل كي ترصعب الجرذان بعد أن التهمت أذني ابن رامونيتا العاهرة التي تعيش في الغرفة المجاورة وهي الوحيدة التي بنت معها صداقة خلال أحد عشر شهرا من وصولها إلى برشلونة. كانت السماء تمطر كل يوم في ذلك الشتاء، أمطارا سوداء من رواسب الدخان والزرنيخ. وخشيت خاثينتا أن يكون زكريا قد خدعها إذ كادت تموت من البرد والجوع والوحدة في تلك المدينة المريعة.
وكي تحصل على كفاف يومها، كانت تذهب إلى العمل قبل الضجر ولا تخرج إلا بعد حلول الليل. وكان الدون ريكاردو يراها بينما ترعى ابنة أحد مدرائه التي أصيبت بالهزال. أثارت حركاتها الفائضة بالحنان مشاعره فقرر أن ياخذها إلى بيته كي تخدم زوجته الحامل بأول ولد سيأتيه. تحققت دعوات خاثينتا إذن. وفي تلك الليلة ظهر الملاك زكريا في الحلم ثانية. لم يعد يتشح بالسواد بل كان عاريا وجلده مليئا بالحراشف. لم يظهرقطه بل ثمت أفعى بيضاء تتدلى على كتفيه. طال شعره حتى خصره وزالت ابتسامته الرغيدة، بنكهة الكراميل التي لثمتها في كاتدرائية طليطلة، وكشف عن مجموعة من الأسنان المثلثة كأسنان السمك في أعالي البحار وهو يحرك ذيله على صناديق السوق. بعد عدة أعوام، أرادت خاثينتا أن تحكي رؤاها لفتى في الثامنة عشرة من عمره، يدعى خوليان كاراكس، دون أن تنسى أنها، عندما تركت الغرفة ينزل ربيبيرا كي تنتقل إلى قصر آلدايا، علمت بمقتل صديقتها طعنا في تلك الليلة أمام البوابة ومات الصغير بردا بين ذراعي الجثة. وعندما ذاع الخبر، تقاسم النزلاء أملاك المرحومة القليلة. الغرض الوحيد الذي لم يأخذه أحد كان بمثابة كنزها الأغلى على قلبها: كتاب.
وكانت خاثينتا تعرفه جيدا لأن رامونيتا الأمية كانت تطلب منها بين الحين والآخر أن تقرأ عليها صفحة منه أو اثنتين. وبعد أربعة أشهر ولد خورخي الدايا وأدركت خاثينتا بانه ليس المخلوق الذي وعد به زكريا، لكنها أقسمت أن تمنحه كل المحبة التي لا تعرف أمه كيف تمنحها لطفلها، فهي مجرد سيدة متيمة بانعكاس وجهها في المرآة. ومنذ تلك اللحظة تركت خاثينتا أيام شبابها خلف ظهرما وأصبحت امرأة لا تذكر من ماضيها إلا اسمها ووجهها. فخاثينتا الأولى ماتت في نزل ربييرا مع رامونيتا. أما الآن فهي خاثينتا أخرى تعيش تحت جناح الدايا المترف وبعيدة عن المدينة القاسية، المدينة التي كرهتها إلى درجة أنها لا تقضي فيها يوم عطلتها الوحيد في الشهر. تعلمت أن تعيش عبر الاخرين، مع تلك العائلة التي حالفها الحظ الذي لم تكن تفهم آلية عمله. ولكنها كانت تعيش في انتظار الطفلة، الأنثى كالمدينة، الطفلة التي ستغمرها بفائض حنانها. وبين الحين والآخر تتساءل خاثينتا ما إذا كانت السعادة شيئا آخر غير السكينة التي نعمت بها خلال تلك الأيام الوديعة، وتتوهم أن الله في رحمته الواسعة يسمعت ضرعاتها.
ولدت بينيلوب آلدايا في ربيع عام 1902. وكان الدون ريكاردو قد أصبح مالكا للقصرفي شارع تيبيدابو، وتهامس الخدم عن القصر كيف يبدو فريسة للعنة شريرة. لكن خلثينتا لم تكن تخاف لأنها تعرف كيف تفسر كل شيء بما كانت هي وحدها القادرة على رؤيته: ظلُّ زكريا بعد أن فقد سمات الملاك وبات أشبه بذئب يمشي على أرجله الخلفية.
كانت بينيلوب طفلة ناعمة، هزيلة، غضة العود. فقضت خاثينتا السنوات الطوال وهي تسهر على نومها، وتطبخ شخصيا كل أطباقها وتخيط ثيابها. كانت بجانبها بما لا يعد ولا يحصى من المرات التي اعتلّت فيها المسكينة، بجانبها حين لفظت كلماتها الأولى، وبجانبها حين أصبحت شابة يانعة. ولم تكن السيدة الدايا إلا واحدة من الزخرفات الكثيرة التي تملأ القصر. فكل مساء، قبل أن تخلد للنوم، تذهب إلى غرفة بينيلوب كي تقول لها إنها تحبها أكثر من أي شيء في العالم. ولم تكن المربية تقول للطفلة أبدا إنها تحبها لأنها كانت تعرف أن المودة بلا صوت، بل تظهر من تلقاء نفسها، بالفعل وليس بالقول. وكانت خاثينتا في سرها تحتقر السيدة الدايا لأنها امرأة حمقاء يتقدم بها العمر على ثقل الحلي والمجوهرات التي يشتري بها زوجها سكوتها حين يرسو في موانىء أخرى. كانت تحقد عليها لأن الله اختارها من بين النساء لتلد بينيلوب بينما بطنها، بطن الأم الحقيقية، كان فارغا وقاحلا. وأخذت خاثينتا تخسر جسدها شيئا فشيئا، حتى شكل الأنثى خسرته، وكأن كلام زوجها السابق كان نبوءة. ضمر جسمها وصارت معالمها توحي برجل متقشف أنهاك الزمان جلده وأرخى عظامه. وتسطح ثديها حتى استويا بعظام صدرها، وبدت مؤخرتها مؤخرة شاتب نحيف وصار لحمها خشن اللمس تزدريه نظرات الدون ريكاردو الذي كان خبيرا بشؤون النساء، الأمر الذي تعرفه حق المعرفة كل الخادمات في قصره وخادمات أصدقائه وأقاربه. هكذا أفضل، تقول خاثينتا لنفسها. فلم يكن لديها الوقت للهو والشقاوة. كانت بينيلوب تأخذ كل اهتمامها ووقتها. تقراً لها وترافقها في أي مكان، تغسّلها وتلبسها الثياب وتنزعها عنها وتمشط شعرها وتأخذها للتنزه وتضعها على السرير وتوقظها، ولكن أهم شيء كانت تفعله هو الحديث إليها. كان الجميع يعتبرها مربية غربية الأطوار، عانسا ليس لديها في الحياة غير عملها ولا أحد كان يعرف حقيقتها: لم تكن خاثينتا أم بينيلوب فحسب بل كانت أفضل صديقاتها أيضا. منذ اليوم الذي بدأت فيه الصغيرة في الكلام والتعبيرعن أفكارها، وهنا ما حدث مبكرا جدا، كن يتبادلن الأسرار والأحلام ويتقاسمن الحياة. ومع الوقت اشتد الرابط بينهما وعندما بلغت بينيلوب سن المراهقة باتتا رفيقتين لا تفترقان. راحت الطفلة الوريمة في صغرها تشب لتصبح امرأة مشعة الجمال. بل كانت جميلة كشعاع الشمس. إلا أن وصول ذلك الشاب الغامض، خوليان، إلى قصر الدايا، وضع خاثينتا في حيرة من أمرها. وسرعان ما أدركت أن بينه وبين بينيلوب ومضة مغناطيسية ورباطا مميزا يشبه ذلك الذي يصلها هي ذاتها بالفتاة لكنه مختلف في الوقت نفسه. كان أكثر كثافة، وأكثر خطورة أيضا. فكرت في البدء أن تدخل في نزاع عميق مع ذلك الفتى، ولكنها سرعان ما فطنت إلى أنها لا تكن له البغضاء مطلقا، ولم تكن لتستطيع أن تكرهه في يوم من الأيام أبدا. كانت بينيلوب تقاوم سحرخوليان كاراكس وخاثينتا تسمح لنفسها بدخول تلك القصة لتشارك الفتاة رغباتها ليس إلا. لم يفطن أحد لما كان يجري، لكن القدر كالعادة كان يحيك أحداثه في الخفاء، وعندما بدأت القصة كانت النهاية قد كتبت مسبقا. لقد مضت أشهر كثيرة بين تبادل النظرات وحبس الأنفاس قبل أن ينجح خوليان كاراكس في لقاء بينيلوب الدايا على انفراد. كانت لقاءاتهما من صنع الصدفة. يتلامسان في الممرات وينظر أحدهما إلى الآخر على المائدة، ثم يحلم كل منهما بالآخر. تحدثا للمرة الأولى في صالة مكتبة البيت في مساء عاصف تتوهج فيه أنوار الشمعسدنات المرتجفة في فيلا بينيلوب. اختلس خوليان لحظة من الزمان كافية ليرى في عينيها ذلك اللهيب الذي يضرم النار بمهجته. ولم ينتبه أحد لهذا أيضا، لا أحد سوى خاثينتا التي كانت تشاهد بقلق متصاعد لعبة النظرات بينهما وتخشى أن يصيبهما مكروه. في الليل، كان خوليان يؤلف قصصا من وحي غرامه بينيلوب. ثم يخترع حجة ما كي يعرج إلى القصر في شارع تيبيدابو وينتظر الفرصة لينسل إلى غرفة خاثينتا ويوصيها بأن تنقل أوراقه التي كتبها إلى الفتاة. وكانت المربية أحيانا تسلمه بطاقة من بينيلوب يظل الفتى يقرؤها ويقرؤها إلى ما لا نهاية. وامتدت تلك اللعبة شهورا بينما كان القدر يتآمر خلف ظهرهما، فيسلك خوليان دروبا وعرة ليتقرب من بينيلوب وتساعده خاثينتا لتسعد قلب ابنتها حبيبة قلبها. قرر خوليان، من جهة أخرى، أن يضحي بشخصيته على مذبح المنفعة. وشرع يكذب على الدون ريكاردو في ما يخص مشاريعه المستقبلية، ويظهر اهتماما بالعمل في المصارف وعالم الأموال، وتصنع مودة زائفة لصديقه خورخي الدايا كي يبرر وجوده المستمر في بيتهم. وصار يقول ما يحلو للآخرين أن يسمعوا وحسب، فيتماهى مع آرائهم وتوقعاتهم. كان يشعرباأه يبيع روحه ويخشى أن يتحقق حلمه فلا تجد بينيلوب إلا أطلال خوليان الميت. وكان النهار يدفعه إلى التفكير في الصراخ أمام العالم بحقيقة أحاسيسه فيواجه الدون ريكاردو ليقول له إنه لا يهتم لكل ثرواته ومشاريعه ورفقته، بل يريد بينيلوب فقط ليأخذها معه إلى أبعد مكان ممكن عن ذلك العالم الفارغ الذي بات أسيرا له. لكنه يفقد كل شجاعته حالما تطلع الشمس.
ومن حين لآخر كان يبوح لخاثينتا التي تتعاطف معه أكثر فأكثر دون تحكم في مشاعرها. وعندما كانت تصطحب خورخي إلى المدرسة، كانت تعطي خوليان رسائل من بينيلوب. وهكذا تعرفت إلى فرناندو، الوحيد الذي سيتذكرها بعد أعوام طويلة وهي تنتظر الموت في جحيم سانتا لوسيا، طبقا لتنبؤات الملاك زكريا. وفي بعض الأحيان كانت المربية تصطحب بينيلوب لتنغمس مع الفتى في لقاء قصير، وهي تشهد على حب تتفتح براعمه ولم تكن قد عرفت مثله يوما ولم يسمح لها القدر بأن تجربه. ولاحظات خاثينتا أيضا وجود الفتى الانطوائي، فرانشسكوخافيير، ابن أحد حراس سان جبريل. وفوجئت في أكثر من مناسبة بأنه يتجسس على العاشقين وهو يرمق الفتاة بعينين جاحظتين. وما انفكت خاثينتا تحمل معها صورة التقطها ريكاربيس، المصور الرسمي لآل الدايا: صورة بريئة تجمع خوليان وبينيلويب، التقطت على عتبة محل القبعات في رونسا دي سان أنطونيو بحضور الدون ريكاردو وصوفي كاراكس. وذات يوم بينما كانت تنتظر خورخي في باحة المدرسة، نسيت، المربية حقيبتها قريب النافورة. وعندما عادت لتأخذها رأت أن الشاب فوميرو يطوف حولها بلا غاية. في تلك الليلة بحثت خاثينتا عن الصورة ولم تجدها، وأدركت أن الفتى سرقها. وبعد عدة أسابيع، اقترب فرانشسكو خافييرفوميرومن المربية ليتوسل إليها أن توصل إلى بينيلوب هدية منه. سألته خاثينتا عن الغرض فأخرج الصبي علبة تحتوي على شكل منحوت على خشبة أرز. رأت خاثينتا فيها قسمات بينيلوب فأصابتها القشعريرة. ابتعد الفتى دون أن ينتظر إجابة. وفي طريق عودتها، رمت خاثينتا المنحوتة الصلبة من نافذة السيارة كما لو أنها جيفة كريهة الرائحة. ومنذئذ راحت خاثينتا تستضيق من نومها عند الفجر، وهي تستحم بعرقها إثر كابوس كدر قلبها: ذلك الفتى بنظراته المتجهمة يندفع نحو بينيلوب بدم بارد كأنه حشرة. وعندما كان خورخي يتأخر في الخروج من صفه، تبقى خاثينتا في انتظاره وهي تدردش مع خوليان. حتى هو أحس بدفء تلك المرأة الهزيلة حد التقشف، وصار يثق فيها أكثر من ثقته بنفسه. وكلما ألمّ به ضيق لجأ إليها أو إلى ميغيل مولينر ليكونا أول من يعلم بالأمر بل ويبقى الأمر سرّا عندهما. ذات مرة، أسرّ خوليان لخاثينتا بأنه رأى أمه تتحدث مع الدون ريكاردو الدايا في باحة النوافير وهما ينتظران انصراف التلاميذ. وكان الدون ريكاردو مستمتعا برفقة صوفي على ما يبدو. وذلك ما تنبه له خوليان فهو يعرف درجة افتتان ذلك الرجل بمحاسن النساء جميعهن، مهما كانت طبقتهن الاجتماعية، عدا زوجته المصون.
"كنت أقول لأمك إن المدرسة الجديدة تعجبك كثيرا."
كان الدون ريكاردو يودعهما بحركة متآمرة ويعتمد ضاحكا. ظلت أمه ساكتة، طوال طريق الم\عودة إلى المنزل، تشعر دون شك بالإهانة من المجاملات الشهوانية التي لابد للدون ريكاردو أن يتلفظ بها. وكانت صوفي تستنكر علاقاته الوثيقة مع آل آلدايا، لأنه بات لا يعير اهتماما لرفاقه القدامى في الحي ولا لعائلته، لكنها لا تنبس بينت شفة. أما بائع القبعات فلا يخفي أوجاعه، وسرعان ما تبدد حماسه للحصول على زبائن من كبا ربرشلونة ونبلائها. وكان نادرا ما يلتقي بابنه واضطر أن يعين أحد فتيان الحي مساعدا له، وهو كويميت، رفيق خوليان القديم. كان أنطوني فورتوني يشعر بأنه في أحسن حال حين يتحدث عن القبعات فقط، ويخبئ مشاعره في حجرة مظلمة من قلبه حتى تفسد. صار جلف الطباع بسبب اضطرابه المتزايد، فالريح تأتي بما لا تشتهي السفن، لا ترضيه جهويد كويميت المسكين الذي وضع كل طاقته ليتعلم المهنة، ولا محاولات صوفي في التقليص من ضراوة النسيان الندي شملهما به خوليان.
"الله أعلم ماذا يظن ابنك نفسه كي يصطحبه محدثو النعمة معهم كقرب السيرك»
كان يقول بنبرة عابسة والعذاب يكوي قلبه.
وفي أحد الأيام، بعد حوالي ثلاث سنوات عن أول زيارة قام بها الدون ريكاردو إلى محل القبعات، أمرفورتوني مساعده أن يبقى في الحل لأنه سيذهب ولن يعود قبل منتصف النهار. ثم اتجه إلى شركة الدايا في بازيوني غراثيا وسأل عن الدون ريكاردو.
«ومن حضرتك يا سيدي؟.» ساأه موظف متعجرف.
"صانع قبعاته الشخصي.»
استقبله الدون ريكاردو. فاجاأه الزيارة لكنه رحب به عموما، معتقدا أن فورتوني جاء يسلمه بعض الفواتير. هيهات أن يتعلم صغار الكسبة اللياقة في عالم الاموال، قال لنفسه.
"ما الذي جئت به يا فورتوناتو العزيز؟"
ودون مقدمات شرح له أنطوني فورتوني إحباطه من خوليان وخيبة
أمله.
«ابني يا سيد الدايا فتى كسول، جاهل، عديم الموهبة وفاشل مثل أمه. سيبقى طائشا، صدّقني. ليس لديه شخصية ولا طموح. حضرتك لا تعرفه جيدا، لكنني أؤكد لك أنه بارع في خداع الغرباء وإيهامهم بقدرته على فعل أي شي وهولا يعرف شيئا. إنه منافق. أعرفه أكثر من أي شخص آخر ورأيت أنه من واجبي إخبارك يا سيدي.»
أصغى الدون ريكاردو إلى كلام بائع القبعات جيدا.
«هل أنهيت ما عندك يا فورتوناتو؟ »
ضغط التاجر الكبير على زر فيه منضدته وبعد ثوان معدودة ظهر الموظف الذي استقبل الرجل.
«السيل فورتوناتو سيينصرف يا بالسيلس.» قال: «هلا رافقته إلى المخرج؟.»
احتقن بائع القبعات من لهجة الدايا المتكبرة.
"لوسمحت يا سيد الدايا، أدعى فورتوني وليس فورتوناتو.»
"لا فرق، فأنت في غاية التعاسة يا فورتوني. أرجو ألا تريني وجهك بعد اليوم.»
عندما صار مرة أخرى في الشارع، شعر فورتوني بانه وحيد طعنه الجميع غدرا وهجرانا. كان ضحية مؤامرة ما. بدأ الزبائن الذين وصلهم به الدايا بيرقون الرسائل في الأيام اللاحقة، واحدة تلو الأخرى لإلغاء الطلبيات وتصفية الحسابات. وفي غضون أسبوع أرغم على تسريح كويميت فلا ضرورة لوجوده بعد اليوم، ثم إن التخلي عن هذا الفتى ليس خسارة، فهو كسول، ومنافق أيضا مثل الآخرين. ومنذ ذلك اليوم انتبه الناس للسيد فورتوني وهو يشيخ وينعزل شيئا فشيئا وينفضّ الجميع من حوله. لم يكن يتكلم مع أحد، ويقضي الأيام في المحل ينظر إلى المارة بمزيج من الشوق والازدراء. ويواسي نفسه بالقول إن الأزياء تغيرت واستغنى الشباب عن القبعة، وأولئك الذين ما زالوا يلبسونها كانوا يتوجهون إلى محلات تبيع أغطية رأس رديئة وأقل سعرا وتناسب الأذواق المعاصرة. ويوما بعد يوم، راح محل قبعات فورتوني ينزلق في سبات من ظلال وسكون.
"كلكم تنتظرون موتي" كان يهني باستمرار. "ربما يسعدكم أن أموت"
ورغم أنه لم يكن على علم بذلك، فإنه كان يموت منذ وقت سابق حقا. بات خوليان يعيش في عالم الدايا بجانب بينيلوب، وهذا هو المستقبل الوحيد الذي يطمح إليه. تحابّا في السر قرابة السنتين، وكان هذا السر معرضا للانكشاف في أية لحظة. بيد أن زكريا أحاط خاثينتا علما بنالك على طريقته الخاصة: فالظلال التي تهدد كلاً من خوليان وبينيلوب كانت تضيق خناقها. حصلت على أول علامة في يوم من أبريل 1918. كان خورخي يتم عامه الثامن عشر وقرر الدون ريكاردو أن ينظم (أو بالأحرى أعطى أوامره بتنظيم) حفلة عظيمة لم يكن ابنه يرغب فيها ولم يكن أبوه ليحضرها بسبب مؤتمر اقتصادي لا يؤجل، وهو في الحقيقة لقاء في الجناح الأزرق من موتيل كولون مع امرأة فتانة قادمة من سان بطرسبرغ، أنيرت حديقة القصر بمئات الفوانيس تحضيرا للمناسبة وازدحمت بأعلام الزينة والأكشاك المتنقلة لاستقبال المدعوين. كان من الوارد أن يحضر كل رفاق خورخي في المدرسة إلى الحفلة. وبناء على طلب خوليان تمت دعوة فرانشسكو خافيير فوميروأيضا رغم أن ميغيل مولينر أنذرهم بأن ابن حارس سان جبريل لن يكون سعيدا في جو كهذا. وبالفعل، بعد أن تلقى فوميرو دعوة رسمية، رفضها. وحين علمت أمه السيدة إيفونا بما فعل خرجت عن صوابها. أليست فرصة مناسبة لتدخل في تلك الطبقة الاجتماعية كما كانت تتوهم دوما؟ ومن الطبيعي ان تكون الخطوة التالية دعوة خاصة من السيدة الدايا لاحتساء قدح من الشاي مع المعجنات اللذيذة. قررت السيدة إيفونا إذن أن تستثمر الأموال القليلة التي يدخرها زوجها من راتبه الشحيح كي تشتري لابنها طقم البحّار. كان فرانشسكو خافيير يبلغ سبعة عشر عاما من عمره. وبدا بذلك الطقم ذي البنطال الأزرق القصير، الذي يعكس أذواق السيدة إيفونا الرفيعة، في مظهر غريب ومخزٍ. قبِل فرانشسكو خافيير الدعوة بعدما أجبرته أمه وقضى أسبوعا كاملاً وهو ينحت قاطعة ورق خشبية كهدية لخورخي. وفي يوم الحفلة، أخذت السيدة إيفونا على عاتقها أن تصطحب الولد حتى عتبة قصر آلدايا. كانت تريد ان تتنفس هواء نيبيلا وتشهد عن كثب كيف يدخل فلذة كبدها ظافرا إلى تلك القاعات الملكية التي ستنفتح لأجلها عما قريب. وعندما حانت لحظة ارتداء طقم البحار، انتبه فرانشسكوخافيير أن القياس ضيق عليه. فارتجلت أمه بعض التعديلات كانت كافية لتأخر وصولهما إلى الحفلة. وفي تلك اللحظات، تبع خوليان بينيلوب إلى المكتبة حيث يستحيل أن يصادفهما أحد من ممثلي الطبقة الرفيعة الأنيقة والمثقفة، لينتهز الجلبة وغياب الدون ريكاردو (الذي كان يحتفل على طريقته في مكان آخر وهو يثني على أفضل ما أنجبه العرق السلافي). كانا في عجلة من أمرهما وتبادلا أكبر عدد من القبلات فلم ينتبها إلى الثنائي الذي كان يقترب من القصر، فرانشسكو خافيير مرتديا زي البحار الصفغركانه ذاهب لأداء المناولة الأولى في الكنيسة وقد احمرّ وجهه خجلا برفقة السيدة إيفونا التي فتشت في خزانتها عن قبعة كبيرة مزركشة بشرائط تليق بلون الفستان المليء بالثنايا والأكاليل ما يجعلها تبدو مثل بسطة حلويات شعبية أو كالجاموس البيسوني متنكرا بشخصية مدام ريكامييه، على حد تعبير ميغيل حين رآها. كان هنالك اثنان من الخدم ليستقبلان الضيوف عند المدخل. انتفخ صدر السياسة إيفونا وصرحت بوصول ابنها الدون فرانشسكو خافيير روميرو ليسوتوسيبايوس. لم يتعجب الرجلان وأجاباها بتهكم أن هذا الاسم لا يعني لهما شيئا. أبدت السيدة إيفونا انفعالها وطلبت من ابنها أن يظهر بطاقة الدعوة. ولكن لسمء الحظ، خانتهما العجلة في ترتيب الطقم ونسيا البطاقة على طاولة الخياطة. حاول فرانشسكو خافيير أن يشرح سوء الفهم لكنه تلعثم واشتدّ حياؤه مع قهقهات الخدم الساخرة. طلبا من الأم وابنها أن يتنحيا عن الصف. فوبختهما السيدة إيفانا قائلة إنهما لا يعرفان مع من يتعاملان، فقال لها الرجلان إن وظيفة غسل الأطباق لم تكن شاغرة. رأت خاثينتا الفتى خافيير، من نافذة غرفتها، وهويبتعد ثم تفاجأت به يتوقف على حين غرة، ويعود أدراجه غير مكترث لفضيحة أمه وهي تملأ الدنيا صراخا بالشتائم المهدورة على أولئك الخدم المتعجرفين. لقد رآهما: كان خوليان يقبّل بينيلوب أمام واجهة المكتبة الزجاجية. وكانت قبلاًتهما قبلات عاشقين مقيمين ولا يعيران انتباها للعالم بأسره.
وفي اليوم التالي، خلال استراحة منتصف النهار، وصل فرانشسكو خافيير إلى الباحة فجأة. شاعت فضيحة أمه في المدرسة كلها وسخر التلاميذ منه بتأليف النكات على طقم البحار الذي ارتداه أمس. لكن البهجة العامة تبددت على حين غرة حين لاحظوا أن الفتى يحمل بندقية والده بين ذراعيه. حل السكوت وتزحزح الكثيرون عن المكان عدا مجموعة الأصدقاء المؤلفة من الدايا ومولينر وفرناندو وخوليان. ودون أن يدلو بكلمة، رفع فرانشسكوخافيير البندقية وصوب نحو الهدف. أفاد الشهور بأن وجهه كان مكفهر مثلما يكون عادة وهو يجمع الأوراق اليابسة في الحديقة. لامست أولى الطلقات رأس خوليان. وكادت الثانية تخترقى حلقه لو لم يقفز ميغيل على ابن الحارس وينتزع البندقية من بين يديه. انصعق خوليان وتجمد في مكانه. إذ توقع الجميع أن يكون الهدف خورخي الدايا، المسؤول غير المباشر عن المذلة التي مني بها في اليوم السابق. ووصلت الشرطة فيما بعد وتم طرد الحارس وعائلته، فاقترب ميغيل من خوليان وقال له بكل تواضع إنه أنقذ حياته. لكن خوليان لم يكن يتصور أن تلك المرحلة من حياته كانت في نهاياتها. كان خوليان ورفاقه سيتركون مدرسة سان جبريل عما قريب. وكان كل واحد منهم قد درس مشاريعه للعام المقبل أوتدبر أمره مع عائلته. فخورخي يعلم أن أباه سيوفده للدراسة في بريطانيا، وميغيل سيسجل في جامعة برشلونة.
أما فرناندو راموس فأعرب عن رغبته في الدخول إلى المعهد الديني، ورحب جميع الأساتذة بهذا القرار ورأوه خيارا عقلانيا يناسب مع وضعه الخاص. أما فرانشسكو خافيير فوميرو فلم يعرف عنه إلا دخوله سجن القاصرين في فالي دي أران، بشفاعة الدون ريكاردور الدايا، لإعادة تأهيله هنالك حيث كان ينتظره شتاء طويل. تساءل خوليان عن مصيره حين رأى رفاقه يختارون دروبهم. فكانت أحلامه وتطلعاته الأدبية تبدو له هشة يوما تلو يوم. ولم يكن يرغب في شيء إلا العيش وبينما كان خوليان يفكر في مستقبله، كان الآخرون يخططون له نيابة عنه. فقد خصص له الدون ريكاردو وظيفة في أحد مصانعه. وقرر أنطوني فورتوني ألا يعيش ابنه على عاتقه إذا كان لا ينوي العمل في محل القبعات. بل وكان يخطط سرا لتجنيده في الجيش عسى أن يشفيه شقاء بعض السنيين من طاعون الكبرياء. وكان خوليان يجهل كلا المشروعين، وحين اطلع عليهما كان الوقت متأخرا جدا. إذ لم يكن يفكر إلا في بينيلوب ولم تعد تلك القاعات السرية تكفيه، بل كان لإلحاحه على رؤيتها ينمو ويتشعب كل مرة أكثر، غير آيه بالمخاطر. وكانت خاثينتا تساعدهما بشتى الوسائل، متبعة لأجل ذلك كل الحيَل، وهي تعتقد أن كل دقيقة تمر عليهما لا تزيدهما إلا شغفا وولعا. عرفت ما معنى التحدي وكبرياء الرغبة في نظراتهما: إرادة عمياء لا تبالي بأن يكشف الناس أمرهما، وتوق للكشف عمّا يفعلانه سرا فلا يرغمان على التستربعدها. وفي بعض المرات كانت بينيلوب تبكي من الإحباط، بينما تغطيها خاثينتا قبل النوم.
وتعترف لها بنيّتها الهرب مع خوليان، وبانهما سيستقلأن أول قطار يحملهما إلى مكان لا يعرفه أحد. فينتاب الفزع قلب خائثينتا، وهي أدرى بقسوة العالم خلف بوابة القصر، وتنصحها بالعدول عن غايتها. فتسلم بينيلوب أمرها للقدر وتتراجع عن قرارها حالما ترى الخوف يفترس وجه مربيتها. لكن المسألة كانت تتعقد بالنسبة إلى خوليان. في آخر ربيع من الفصل الدراسي، اكتشف خوليان أن الدون ريكاردو وأمه صوفي بلتقيان خلسة من حين لآخر. ساورته الشكوك وخشي، في بادئ الأمر، أن صاحب المصانع يريد إضافة اسم شهي إلى قائمة خانياته، لكنه سرعان ما أدرك أن تلك اللقاءات في إحدى مقاهي قلب المدينة كانت تنضوي على محادثات بسيطة، وان صوفي كانت تتكتم على تلك اللقاءات. فقرر خوليان أن يواجه الدون ريكاردو بالموضوع، وسأله عما يجري بينه وبين أمه. ولكن رجل الأعمال انفجرضاحكا.
«لا يخفى عليك شيء أيها المحتال، ها؟ وأنا أيضا أردت أن أفاتحك بالموضوع. أنا وأمك نتناقش في مستقبلك. لقد بحثت عني منذ عدة أسابيع، وكانت متوترة لأن أباك يريد إرسالك إلى الجندية في العام اللاحق. وهي تتمنى لك الأفضل من حيث المنطق، فطلبت مساعدتي لأجد حلا. كان مطمئنا، كلمة شرف من ريكاردو الدايا: لن تكون لحما طريا في مجزرة. أنا وأمك فكرنا في مشاريع ضخمة لأجلك. ثق بنا.»
كان خوليان يتمنى أن يثق به حقا لكن الثقة أبعد ما تكون عن الدون ريكاردو.
كان يبوح بمرارته لميغيل مولينر الذي أثنى على مشروعه بالهرب.
"إن كنت تفكر حقا بالهرب مع بينيلوب فتوسل إلى الله وتدبر بعض الأموال."
لكن خوليان لم يكن يملك قرشا واحدا. "الحل موجود» قال ميغيل. «وما فائدة الأصدقاء الأثرياء إذن؟»
وهكذا بدأ ميغيل يساعد العاشق وحبيبته على الهرب. لابد أن تكون باريس هي الغاية، بناء على اقتراح مولينر. فقد كان يقول إن مصير خوليان أن يصبح فنانا بوهيميا أو ميتا من الجوع بالأحرى، وباريس هي المكان المثالي للقيام بذلك. وكانت بينيلوب تتحدث قليلا من الفرنسية ، وخوليان، بفضل دروس أمه، يعتبر الفرنسية لغته الثانية.
"ناهيك عن كون باريس مدينة كبيرة ومن السهل أن يتوارى فيها المرء عن الأنظار، وهي صغيرة بما فيه الكفاية من جهة أخرى لتعرض عليك فرصا مناسبة للعمل" كان ميغيل يفسر. أعطاه مبلغا معتبرا وزاد عليه مدخرات السنوات الماضية ونجح في ابتزاز أبيه بادعاءات خيالية. كان ميغيل وحده الذي يعرف أين سيذهبان.
«وسأخيط فمي حالما يطلق القطار من المحطة.»
وذلك المساء، بعد أن رتب بعض التفاصيل مع مولينرعلى أكمل وجه، عرج خوليان إلى القصر في شارع تيبيدابو ليشرح الخطة لبينيلوب.
"إياك أن تطلعي أحدا على ما سأخبرك به. أيا يكن. حتى خاثينتا" قال خوليان.
أصغت إليه الفتاة مصعوقة ومندهشة. كان ميغيل قد حضّر لكل شيء، سيشتري التذاكر باسم مريض ويكلف شخصا مجهولا بالذهاب لأخذها من المحطة. وإن عرفت الشرطة بأمره عن طريق الصدفة، فإن الرجل سيخبرعن شخص لا يشبه خوليان مطلقا. وكان خوليان وبينيلوب سيلتقيان على متن القطار كي لا يراهما أحد على مقاعد الانتظار. سيتم الهرب في منتصف النهار من يوم الأحد. وسيتجه خوليان بمفرده إلى محطة فرنسا حيث يجد ميغيل بانتظاره ليسلمه التذاكر والنقود. أما أخطر مرحلة من الخطة فتتعلق بينلوب. إذ كان عليها أن تخدع خلثينتا وتطلب منها أن تخترع حجة لتخرج مسبقا من الصلاة في الكنيسة صباحا وترجعها إلى البيت. وخلال الطريق، ستتوسل إليها كي تتركها تذهب لموعد خوليان، وتعدها بالعودة إلى المنزل قبل عوية باقي أفراد العائلة، ثم تتجه إلى المحطة. كانا يعلمان جيدا بان خاثينتا لم تكن لتتركها تغادر إذا عرفت الحقيقة، فهي مدمنة على مودتها.
"إنها خطة متكاملة يا ميفيل" هتف خوليان.
هز ميغيل رأسه حزينا.
«ماعدا أمر واحد فقط: الألم الذي ستسببانه للكثير من الأشخاص
بالهروب هكذا إلى الأبد»
فكر خوليان بأمه وخاثينتا، ولم يتصور أن ميغيل يتحدث عن نفسه في هذا الخصوص.
لكن الصعوبة تكمن في إقناع بينيلوب بضرورة إخفاء الأمر عن خلثينتا. سينطلق القطار المتوجه إلى باربيس في الواحدة ظهرا، وسيعبران الحدود قبل أن يلحظ أحد غيابهما. وفي باريس سينزلان في فندق متواضع بأسماء مزيفة، كزوج وزوجة. وحينها فقط يرسلان إلى ميغيل مكتوبا موجها إلى عائلتيهما يعترفان فيه بحبهما ويطمئنانهما بعبارات تستدرّ عواطف الوالدين، ويعلنان عن موعد الزفاف في الكنيسة ثم يطلبان المغفرة والتفهم. سيضع ميغيل الرسالة في ظرف آخر ويرسلها من موقع في الضواحي.
«متى؟.» سألت بينيلوب.
"بعد ستة أيام " أجاب خوليان. "الأحد المقبل"
كان ميغيل يفضل ألأ يلتقي خوليان بالفتاة منعا لإثارة الشبهات. إذ عليهما أن يتفقا أولا، واألا يلتقيا بعد ذلك إلا على متن قطار باريس مباشرة. لكن العناب الأبي أرحم عند خوليان من عدم رؤيتها أولمسها لستة أيام كاملة. لذلك حين أمضى العاشقان على اتفاقية العرس السري بقبلة ماجنة، اقتاد خوليان الفتاة إلى غرفة خاثينتا في الطابق الثالث، ظنا منه بأنه في مأمن طالما كان بعيدًا عن الأنظارفي طابق ليس فيه سوى غرف الخدم، نزعت الشهوة الهوجاء عنهما الشياب. وكان كلاهما عليما بخفايا جسد خليله. ثم راحا يقتلعان، بالعرق واللعاب، مرارة أسبوع قادم لن يلتقيا خلاله ولو مرة. أسندها إلى الأرض وبدأ يلجها، فيما كانت مستسلمة له تماما بعينين مشرعتين وساقين مضرجين وشفتين مواربتين. لقد امّحى أي أثر للبراءة أو الطفولة في نظراتها المشتعلة، وجسمها متوقد يطلب المزيد. وسرعان ما أدرك خوليان أن عليه الرحيل، بعد أنثنـى وجهه على بطنها ناصعة البياض ويداه تلاعب نهديها. نهض وإذ بباب الغرفة يفتح ببطء لتظهر امرأة على العتبة. ظن خوليان لوهلة أنها خاثينتا، لكنه رأى السيدة الدايا. نظرت إليهما بمزيج من الدهشة والنفور. وكادت لا تتمكن من النطق، لولم يخرج سؤالها متلعثما " أين خاثينتا9".؟ ثم استدارت على الفور وانصرفت بهدوء في حين انكمشت بينيلوب على نفسها أرضا وأحسس خوليان بأن العالم يتداعى فوق رأسه.
"اهرب يا خوليان. اهرب قبل أن يصل والدي.»
«ولكن...»
«اهرب.»
وافق خوليان.
«سانتظرك يوم الأحد على متن القطار مهما حدث.»
علت وجهها ابتسامة.
«سأكون هناك، ولكن الآن عليك أن تنجو بروحك. أرجوك.»
كانت بينيلوب ما تزال عارية عندما خرج هو من الغرفة ونزل من سلم الخدمة حتى المستودعات كي يلوذ بالفرار في ليلة من أشد ليالي حياته بردًا..
غدت الأيام اللاحقة عذابا خالصًا. وقد قضى خوليان ليلته فريسة للسهاد وهو ينتظرأن يصل قتلة الدون ريكاردو بين لحظة وأخرى. وفي اليوم التالي لم يلاحظ أي تغيرات في أسلوب خورخي الدايا. قصّ ما حدث على ميغيل بعد أن أضناه الألم. فهز الأخيررأسه ببرودة أعصابه المعتادة
"أنت مجنون يا خوليان وهذا ليس بالشيء الجديد. ما يدهشني أن القيامة لم تقم بعد في بيت الدايا. وما الغريب في الأمر إن فكرنا مليا ؟ ربما ما تزال السيدة الدايا مترددة في قرارها بعد أن كشفتكما. لقد تحدثت إليها ثلاث مرات فقط وتوصلت إلى نتيجتين: أولا، عمرها الذهني يكاد لا يتجاوز الثانية عشرة. ثانيا، إنها مصابة بنرجسسية مزمنة ولا تأخذ بالحسبان إلا ما يناسب راحتها."
«دعنا من تحليلاتك النفسية الآن يا ميغيل.» «من الوارد جدا أنها ما تزال تقلب الأمر كيف تروي ما رأت ومتى ولمن، هذا ما قصدت قوله. لاسيّما أنها مضطرة لدراسة تداعيات المسألة عليها بالنذت: الفضيحة المتوقعة، غضب زوجها إلخ... أما باقي ما تبقى فلا يهمها في شيء مطلقا.»
"ههل تعتقد أنها لن تخبر أحدا بذلك؟"
«ربما ستنتظر يومين أوثلاثة. لا أراها قادرة على كتمان سر كهذا على زوجها. وماذا عن خطة الهرب؟ هل غيرت الفكرة؟»
«جيد. بات من المستحيل التراجع قيد أنملة.»
انقضت أيام الأسبوع كموت بطيء. وما انفك خوليان، رغم قلقه المتصاعد، يذهب إلى المدرسة ويتظاهر بأنه يتابع الدروس، ويتبادل النظرات المتوترة مع ميغيل مولينر الذي كان قلقه يتصاعد أضعافا. أما خورخي فكان لطيفا كالعادة. لكن خاثينتا لم تعد ترافق سائق الدون ريكاردو الذي يمر كل ظهيرة ليعيد خورخي إلى البيت. لذلك كان خوليان يرتعد خوفا ويتمنى أن تحدث بلبلة كبرى تضع حدا لهذا الترقب. وبعد نهاية الدروس في يوم الخميس توهم خوليان بأن القدر حالفه ولو لمرة واحدة. فالسيدة الدايا لم تتحدث بالأمر بعد، خوفا من العار، بسبب غبائها أولأي سبب آخر من الأسباب الكثيرة التي حددها ميغيل. لا فرق. ما يهمه أن تحفظ بينيلوب السر حتى يوم الأحد. فاستطاع خوليان أن ينام تلك الليلة بعد أيام طوال. صباح الجمعة وجد الأب رومانونيس ينتظره أمام بوابة المدرسة.
«علي أنأتكلم معك يا خوليان.»
"تفضل يا أبانا."
"لطالما توقعت أن يحين هذا اليوم ولا أخفيك مدى سعادتي بأنني أنا الذي سأطلعك على الخبر."
«أي خبريا أبانا؟»
لم يعد خوليان كاراكس تلميذا في مدرسة سان جبريل. ولم يعد حضوره في الباحة والصفوف وحتى في الحدائق مرحبا به. وقد أصبحت أدواته وكتبه المدرسية ملكا للمدرسة. المصطلح الرسمي هو الطرد المباشرة لخص الأب رامونونيس.
"هل بوسعي أن أسأل عن السبب؟"
"تخطر في ذهني عشرة أسباب على الأقل، ولكنني متأكد من أنك ستختار أفضلها بنفسك. صباحا سعيدا يا كاراكس. وحظا موفقا، فأنت في أشد الحاجة إليه."
هنالك مجموعة من التلاميذ ينظرون إليه في باحة الشوافير على بعد ثلاثين مترا خلف البوابة. كان بعضهم يضحكون ويلقون عليه تحية الوداع بأياديهم، وآخرون ينظرون إليه باندهاش، وشفقة. ثمت واحد فقط، بيتسم بحزن صديقه ميغيل، الذي حرك يديه وشفتيه بكلمتين: " نلتقي الاحد".
في عودته إلى البيت، رأى خوليان سيارة المرسيدس للدون ريكاردور الدايا مركونة أمام محل القبعات. توقف عند زاوية الشارع وانتظر. خرج الدون ريكاردو من المحل بعد قليل وركب السيارة ثم انطلق. اختبأ خوليان خلف إحدى البوابات. ثم صعد السلالم راكضا ودخل إلى البيت. وجد أمه تنذرف دموعا غزيرة.
"ماذا فعلت يا خوليان؟" غمغمت دونن غب.
"اعذريني يا أمي...» عانقت صوفي ابنها.
كانت قد هرمت وهزلت كأنهم سلبوها صباها على حين غرة. "بل ربما كنك أنا السبب في تعاستها" فكرخويان.
«اسمعني يا بنّي. اتفق أبوك والدون ريكاردو على إلحاقلك بالجيش. إنها مسألة أيام والدايا لديه معارف كثيرة... عليك أن تهرب يا خوليان. عليك أن تذهب حيث لا يعثر أحد عليك.» رأى خوليان في نظرات أمه ظلّ عذاب يهب!ّ من وجدانها.
"هل هنالك شيء آخريقلقك يا أمي؟ هل تخفين عني شيئا؟»
حلقت صوفي إليه وشفتاها ترتجفان.
"عليك أن تهرب. علينا أن نهرب أنا وأنت إلى الأبد.»
عانقها خوليان بشدة وهمس في أذنها: "لا تقلقي علي يا أمي لا تقلقي.»
قضى خوليان يوم السبت في غرفته بين كتبه ودفاتره. كان بائع القبعات قد نزل إلى المحل فجرا ولم يعد إلا في وقت متأخر من الليل. "ليس لديه الشجاعة ليفاتحني في الأمر" فكر خوليان. في تلك الليلة الأخيرة، والدموع تطفح من عينيه، رمى خوليان وراء ظهره السنوات التي قضاها داخل تلك الغرفة الباردة والمظلمة ورأى أحلاما كان متأكدا حينها أنها لن تتحقق أبدا. وفي فجر يوم الأحد، وضع بعض الثياب والكتب في حقيبته، قبل جبين أمه النائمة في صالة الغداء ملتحفة بالأغطية، وانصرف. كانت الشوارع غاطسة في ضباب سماوي اللون ولمعان نحاسي يثب من فوق شرفات المدينة القديمة. مشى ببطء وهو يوزع كل باب وشارع ويتساءل إن كان الزمان سيمحو النكريات الأليمة ويجعله قادرا على تجاوز الوحدة... الوحدة التي رافقت خطواته طويلاً في تلك الطرقات. كانت محطة فرنسا خالية من الناس، والسكك تبدو كالسيوف الفولاذية اللامعة. جلس خوليان على مقعد في البهو وفتح كتابا. طارت الساعات بينما كان غارقا في سحر الكلمات، كان يغير اسمه وجلده ويتقمص أحلام الشخصيات الخيالية إذ باتت مصدر راحته الوحيد. وكان حدسه يحدّثه بأن بينيلوب لن تستقل ذلك القطار معه. وحوالي منتصف الظهر وصل ميغيل مولينر وأعطاه التذكرة وما نجح في جمعه من نقود، ثم تعانق الصديقان بصمت مؤلم. لم يكن خوليان قد رأى الساعة تبتلع الدقائق الهاربة. "فلننتظرقليلا" قال ميغيل وهو يفحص مدخل المحطة.
في الواحدة وخمس دقائق نادى مديرالمحطة للمرة الأخيرة المسافرين المغادرين إلى باريس. بداً القطار يتحرك عندما التفت خوليان ليودّع صديقه. كان ميغيل مولينر ينظر إليه من على الرصيض ويداه غارقتان في جيبيه.
" اكتب " قال له.
:حالما أصل سأكتب إليك رسالة" أجاب خوليان.
"لا، ليست لي. اكتب الروايات، اكتبها لأجلي ولأجل بينيلوب.»
هز خوليان رأسه وأدرك حينها كم سيشتاق إلى صديقه.
"وحافظ على أحلامك" قال ميغيل. "سوف تحتاج إليها يوما ما."
«دوما» صرخ خوليان لكن زئير القطار ابتلع كلماته.
" روت لي بينيلوب ما حدث في اليوم نفسه حين باغتتهما أمها في غرفتي. وفي اليوم التالي، استدعتني السيدة وسألتني عمّا أعرفه عن خوليان. قلت لها إنه كان صبيا رائعا وصديقا مخلصا لخورخي... أمرتني بألا تخرج بينيلوب من غرفتها. كان الدون ريكاردو مسافرا في أعماله إلى مدريد. وعندما عاد يوم الجمعة، أخبرته السيدة بما جرى. كنت حاضرة على ذلك. قفز الدون ريكاردو من الأريكة وصفع السيدة بكف يده فسقطت أرضا. ثم راح يصيح كالمجانين ويجبرها على إعادة كل ما قالته لتوها. كانت ترتعد خوفا. لم نر السيد في تلك الحالة من قبل. بدا كأن الشياطين تلبّسته. احتقن وجهه من شدة الغضب، وذهب إلى غرفة بينيلوب، أمسك بها من شعرها ورماها عن السرير. حاولتُ أن أوقفه ولكن هيهات أن تواجه رجلا مثله. أبعدني عنه برفسة واحدة. وبعدها اتصل مباشرة بطبيب العائلة كي يعاين بينيلوب. وعندما انتهى الطبيب تحدث إلى السيد على انفراد. أقفلوا الباب عليها في غرفتها وقالت لي السيدة أن أبقى لحراستها. لم يسمحوا لي برؤيتها ولا بتوديعها. هددني السيد بأن يشكوني إلى الشرطة إذا فتحت فمي بكلمة عن الحادث. وطردني في الليلة نفسها. رماني في الشارع، بعد ثمانية عشر عاما في خدمته دون انقطاع. وبعد يومين، جاء ميغيل لزيارتي في نزل في حي مونتانير. شرح لي أن خوليان هرب إلى باريس وأراد معرفة ما الذي حل بينيلوب، وما الذي منعها عن المجيء إلى المحطة. ظللت أطرق أبواب ذلك القصر أسابيع وأسابيع وأنا أتوسل إليهم بأن يسمحوا لي برؤيتها، لكنهم منعوني من اجتياز البوابة. وبقيت جالسة في زاوية الشارع لأيام متواصلة آملة أن أراها. لكنني لم أرها أبدا إذ لم تكن تخرج من المنزل. ثم اتصل السيد بالشرطة وادخلني في مصحة هورتا النفسية، مدعيا بأنني كنت مجنونة لا يعرفونها تلاحق العائلة والأولاد. بقيت هناك عامين، حبيسة مثل الحيوان في القفص. وحالما سرحوني ذهبت إلى القصر في شارع تيبيدابو لرؤية بينيلوب.»
«وهل رأيتها؟» سأل فيرمين.
«تم وضع القصر برسم البيع. قالوا لي إن آل الدايا انتقلوا للعيش في الأرجنتين. راسلتهم على العنوان الذي حصلت عليه، لكن الرسائل كانت تعود إلي مغلفة... .»
«وما الذي حل ببينلوب؟ هل تمكنت من اكتشاف ذلك؟»
حركت خاثينتا رأسها وانهمر الدمع من عينيها كالنوافير.
ضمها فيرمين بين ذراعيه وراح يهدهدها. كان جسدها المتشنج يبدو كطفلة إلى درجة أن فيرمين بدا عملاقا بالمقارنة بها. وكم من سؤال خطر في بالي، لكن صديقي أفهمني أن الزيارة انتهت. ألقى نظرة على الكوخ المتسخ والبارد الذي كانت خاثينتا تقضي فيه آخر أيامها.
«فلنرحل يا دانيال. اسبقني وسألحق بك حالا.»
أطعته. وعندما التفتُ للحظة واحدة، رأيت فيرمين يجثم على ركبتيه أمام العجوز ويقبل جبينها. نظرت إليه بابتسامة ليس لها أسنان.
«أصدقيني القول يا خاثينتا.» سمعته يسألها. «ألا تحبين سكاكر السوغوس؟»
وفي مغامرة رحلتنا صوب المخرج اصطدمنا بصاحب التوابيت ومساعديه. كان لديهما أنف كمنخار الخنزير ويحملان أدوات المهنة: تابوت من خشب الصنوبر، وحبل وبعض الأغطية القديمة. كان مظهرهما بشعا للغاية، وتنبعث منهما رائحة الفورمالين المختلط بالعطر المائل إلى الحلاوة من كولونيا متردية القيمة. أشار فيرمين إلى الحجرة حيث يرقد المتوفى وبارك الثلاثة الذين كانوا يحنون رؤوسهم ويصلّون بحركة الصليب.
«فلترقدوا بسلام» قال فيرمين وهويجرّني نحو المخرج وكانت إحدى الراهبات تحمل فانوس الزيت بيدها وتمطرنا بنظرات اتهامية.
وحين صرنا خارج ذلك المكان، بدا لي حي مونكادا المعتم مفعما بالأمل والتفاؤل. كان فيرمين بجانبي يتنفس ذلك الهواء المسائي المنعش بطمأنينة. لكن لقاءنا بخاثينتا هز عواطفنا أكثر مما توقعنا.
«ما رأيك يا دانيال في أن نلتهم بعض قطع اللحم ونشرب المياه الغازية في شامبانيت؟ إنه على مرمى حجر من هنا، فهكذا نعدّل مزاجنا.»
«بكل سرور. »
«أليس لديك موعد مع الفتاة؟.»
« غدا.»
«آه أيها العفريت. أراك تتكبر قليلا ها؟ أنت تتعلم على عجل.»
اتجهنا صوب تلك الحانة الصاخبة وإذ بثلاثة رجال يعترضون طريقنا. التف اثنان منهما خلفنا وكادا يلتصقان بنا حتى سمعنا أنفاسهما. أما الثالث فقد تسمّر أمامنا وكان أقلهم اكتنازا لكن مظهره يثير الشؤم أكثر. كان يرتدي السترة المطرية نفسها ويتخفى وراء الابتسامة الدنيئة والمتملقة ذاتها في اخر لقائي به.
«يا لمحاسن الصدف. صديقي القديم، ذو الألف وجه» قال المحقق فوميرو.
تنهد فيرمين متشنجا وكأنني سمعت مفاصله تقرقع من الفزع. وقام العميلان بلي أذرعنا خلف ظهرينا، ومن المرجح أنهما من فرقة التحقيق بالجرائم.
«أتظن أنك قادر على الإفلات مني؟ لا يمكن أن تكون غبيا حتى تستسهل الخروج من القمامة لتنتحل صفة مواطن مثالي. أنت غبي لكن ليس إلى هذه الدرجة. ثم إنك تقحم انفك في شؤون لا تعنيك، وأنفك ضخم جدا للمفارقة. وهذه علامة سيئة... ماذا كنت تفعل عند الراهبات؟ هل كنت تنكح إحداهن؟ كيف يتلذذن به في هذه الأيام؟»
«إنني أحترم أدبار الآخرين يا سيدي المحقق، خصوصا إذا كانوا يقيمون الصلوات. وإذا فعلت مثلي، فلن تنفق اموالك على البنسلين وستحافظ على صحة بدنك.»
كان الغيظ يتسرب من ضحكة فوميرو.
"هكذا تعجبني. صلد كالثور. لو كان كل اللصوص الأوباش مثلك، لكان عملي مجرد نزهة. قل لي، أي اسم تطلقه على نفسك الآن؟ جاري كووبر؟ هيا، قل لي ماذا كنت تفعل في مأوى العجزة وأدعك تذهب برضوض طفيفة فقط. هيا تكلم. ماذا كنتما تفعلان هنالك؟"
«شؤون خاصة. جئنا لزيارة قريب»
«أجل، أمك الطيبة. احمد اللّه أن مزاجي هادئ اليوم والا كنت سحلتك إلى المخفر كي أشويك باللهيب المؤكسد. هيا أيها الشاطر قل الحقيقة لصديقك المحقق. ما الذي كنتما تفعلانه هناك؟ أرجو أن تكون متعاونا فهكذا توفر علي جهد تغيير ملامح هذا الفتى الذي اخترته حاميا للفنون.»
«جرّب أن تمسّه بأذى وأقسم أنني...»
«اسمعوا ماذا يقول. أكاد أتغوط في بنطالي من الخوف.»
رفع فيرمين صوته متحليا بما بقي في رصيده من شجاعة.
«بنطالك المدرسي الذي اشترته أمك العاهرة الشهيرة؟ أرجع لها البنطال فقد قيل إنه يليق بها.» تجهم وجه المحقق فوميرو.
«ماذا قلت أيها النذل؟»
«قلت إنك ورثت أذواق السيدة إيفونا سوتوسيباييلوس المنحطة. يا لها من امرأة ذات حسب ونسب.» لم يكن فيرمين مكتنز الجسم ولم يحتمل أول لكمة أوقعته أرضا. سقط في بركة مياه وراح فوميرو ينهال عليه بالرفس على بطنه وكليتيه ىووجهه. أضعتُ العدّ مع الرفسة الخامسة. تكور فيرمين على نفسه ولم يعد قادرا على صدّ تلك النوبة الهمجية. قهقه أحد العميلين غصبا أو رياء، وأحكم الثاني قبضته علي.
«أنت لا تتدخل» همس في أذني. «لست أرغب في كسر ذراعك.» تلويتُ ورأيت وجه العميل الذي حدثني. كان ذاك الذي يرتدي السترة المطرية منذ أيام ويقرأ الجريدة في بار ساحة ساريا، هونفسه الذي لحق بنا في الحافلة وضحك على نكات فيرمين.
«لا أطيق الناس الذين ينبشون في الخراء والماضي،.» صرخ فوميرووهو يدور حول فيرمين. «عليك أن تكف عن هذا، فهمت؟ وهذا ينطبق عليك وعلى رفيقك الغبي. احذر يا غلام وتعلم الدرس والا أتاك الدور. »
بقيت أنظر بينما يشبع المحقق تلك الجثة ركلا تحت نور قنديل الشارع الخافت. كان للركلات وقع منقبض وهمجي وهي تنهال بلا رحمة على فيرمين، وما يزال وقفها يوجعني حتى هذه اللحظة. لذتُ بين ذراعي العميل وأنا أذرف الدمع الجبان. عندما تعب فوميرو من رفس ذلك الجسد فتح سترته وأخفض بنطاله وتبول على فيرمين الذي بات كجثة هامدة أو ككومة من الخرق البالية في مستنقع مياه قذرة. مازلت ألتزم الصمت حين اتجه المحقق نحونا، لاهثا ويتصبب عرقا. أعطاه أحد العناصر منديلا كي ينشف وجهه ورقبته. اقترب مني فوميرو حتى صار وجهه على بعد شعرة من وجهي وركز أنظاره في عيني.
«أنت لا تستحق عناء أن أضربك يا صبي. مشكلة صديقك أنه اختار الاصطفاف دوما إلى الفريق الخاسر. في المرة القادمة سأؤذيه حقا وأنا متأكد أن الذنب سيكون ذنبك» قال.
ظننت أنه حان دوري وأنه كان سيصفع وجهي. بل كنت آمل ذلك.
|تمنيت أن تمسح الضربات عار جبيني لأنني لم أحرك ساكنا كي أساعد فيرمين بينما كان كالعادة يحاول حمايتي.
لكنه لم يؤذني إلا بشرارة عينيه الحقيرتين، واكتفى بقرص وجنتي.
"اطمئن يا فتى. أنا لا ألوث يدي بالجبناء".
أظهر العميلان إعجابهما بمقولة فوميرو وسرى الارتياح في عيونهما بعدما انتهى العرض وأحسست برغبتهم في الانصراف. ابتعد الثلاثة وهم يضحكون في الظلام. هرعت نحو فيرمين الذي كان يحاول النهوض ليجد بعض أسنانه في بركة المياه. وكان الدم ينزف من فمه وأنفه وأذنيه وجفنيه. وحين رآني سالما ابتسم لكنه بدا اقرب إلى الموت منه إلى الحياة. جثمت على ركبتي بقربه وساعدته. إنه أكثر خفة من بيا، قلت في نفسي.
«علينا أن نذهب إلى المستشفى حبا بالله يا فيرمين.»
أشار بـ«لا».
«خذني إلى بيتها.»
"مر هي؟"
«برناردا. إن جاءني ملاك الموت فأريد أن يجدني بين ذراعيها.»
32
عدت في تلك الليلة إلى الشقة في بلازا ريال حيث أقسمت أنني لن أعود. ساعدني اثنان من زبائن شامبانييت الذين حضروا الاعتداء في حمل فيرمين حتى مرآب سيارات الأجرة في شارع برينسيسا، بينما اتصل النادل بالرقم الذي أعطيته إياه ليعلن عن قدومنا. بدت لي الرحلة طويلة جدا: فقد فيرمين وعيه قبل أن تنطلق السيارة وكنت أضمه بين ذراعي محاولا أن أمدّه بدفء جسمي. كنت أقول له همسا بصوت مرتجف إننا على وشك الوصول وإن كل شيء سيجري على ما يرام، بينما يجلدنا السائق بنظراته الخاطفة من المرآة العاكسة.
«أنا لا أريد المشاكل. إن فطس هذا الرجل سأنزلكما عنوة من السيارة. »
«أغلق فمك وأسرع.»
وجدنا جوستابو برسلوه وبرناردا بانتظارنا أمام باب البناية مع الدكتور سولديفييا. وما إن رأتنا برناردا ملطخين بالدماء حتى أصابتها نوية هستيرية. أمسك الدكتور بمعصم فيرمين وطمأننا بأنه ما يزال على قيد الحياة. صعدنا السلالم ونحن نحمله على أكتافنا ومددناه على السرير في غرفة برناردا. نزعت الممرضة التي جاءت مع الطبيب ثيابه. وطلب منا الدكتور سولديفييا الخروج وأغلق الباب قائلا: «سيعيش.»
كانت برناردا تنوح من الخيبة في الممر لأنها ما إن وجدت رجلا طيبا حتى قضى اللّه أن يقتلوه ركلا. أخذها الدون جوستابوإلى المطبخ وأمدّ المسكينة بقنينة براندي. وعندما راحت الخادمة تهذي ببكلام غير مفهوم، ازدرد بائع الكتب جرعة سخية من مشروب روحي في رشفة واحدة.
«إنني متأسف. لم أكن أعرف أين أذهب» تلعثمت.
«بل خيرا فعلت. سولديفيا أفضل خبير في الكدمات في برشلونة.» قال دون أن يوجه كلامه إلى أحد على وجه الخصوص.
«شكرا.» قلت.
تنهد برسلوه بعمق وصب لي كأس براندي. رفضته فانتهى الكأس بيدي برناردا التواقة للثمالة وأفرغته في ثانية.
«استحم وارتد ثيابا نظيفة» قال لي برسلوه. «سيصاب والدك بذبحة
قلبية لورالك متهالكا هكذا.»
«لا داعي، إنني بخير. »
«تخلص من هذه الرعشة إذن. هيا. استخدم السخان في حمّامي ريثما أتصل بوالدك وأقول له إن... حسنا لا أعرف. سيخطر في بالي شيء ما.»
وافقت.
«أنت في بيتك يا دانيال» قال برسلوه بينما كنت أبتعد في الممر.
«لقد اشتقنا إليك.»
وجدت الحمّام لكنني لم أعثر على قاطع الضوء. كنت أفضل أن أستحم هكذا بالضياء الواهن الذي يتسلل من النافذة الصغيرة. نزعت ثيابي المبقعة بالدم والوحل ودخلت في حوض برسلوه الملكي. كانت المياه تغلي وتتراشق علي بما يشبه حمّام فندق فاخر، ولم أكن قد دخلت إليه مسبقا. وبقيت طويلا تحت مياه الدوش الغزيرة.
كان دويّ الركلات التي انهالت على فيرمين، وكلمات فوميرو، ووجه العميل الذي كان يقيدني، تتردّد جميعا بقسوة في أذني ولم أتمكن من تناسي المشهد. وعندما فترت المياه توقعت أنني استهلكت السخان كله، فاستغليته حتى القطرة الأخيرة وأغلقت الصنبور. ومن وراء الستارة لاحظتُ وجود امرأة تقف عند الباب ونظراتها الفارغة تلمع كعيني قط.
"تفضّل بالخروج يا دانيال. رغم كوني شريرة فإنني لم أستعد نظري حتى الان.»
«كلارا، مرحبا.»
أعطتني منشفة غطيت بها خصري مثل فتاة عفيفة تربت في الدير، بينما كانت كلارا تبتسم بمكر في الظلام وهي تشعر بحركاتي.
«لم أنتبه لدخولك.»
«لم أطرق الباب. لماذا تستحم في الظلام؟»
«وكيف عرفت أن الضوء مطفأ؟.»
«لا أسمع طنين المصباح» قالت. «لم تعد لزيارتي أبدا.»
بل عدت وكيف لا،أردت أن أجيبها، لكنك كنت مشغولة بأمر أهم. تبددت الإجابة على رأس لساني مع الإحساس بالنقمة والمرارة الذي عشت عليه طويلا. وبدا فجأة أن كل ما مضى مثير للسخرية.
«أعرف. اعذريني.»
خرجت من الحوض وأسندت قدمي إلى البساط الإسفنجي الصغير. نظرتُ إلى كلارا في تلك الغرفة المفعمة بالبخار. كانت تشبه تلك التي تسكن ذكرياتي، فاستعدتُ القليل من أعوام الغياب.
«تغير صوتك يا دانيال» قالت. «هل تغيرت كليا؟»
«مازلت ذلك الأحمق، إن كان هذا ما تودين معرفته.»
بل ومازلت جبانا، فكرتُ
كانت ابتسامة كلارا الأليمة هي نفسها تحت الظلام أيضا. مدت يدها وأدركت ماذا كانت تريد، مثلما حدث أثناء لقائنا الأول في مكتبة الجامعة. اقتدتُ أناملها نحو وجهي المبلل وتركتها تكتشف ملامحي بينما تتحرك شفتاها كأجنحة فراشة.
«لم أكن أقصد إيذاءك يا دانيال. سامحني.» قبلت يدها في الظلام.
« سامحيني أنت.»
قاطع وصول برناردا حميمية المشهد الميلودرامي. ومع أنها كانت ثملة فإنها رأتني عاريا وأقطر بللا بينما أقبل يد كلارا.
«يا لقلة الحياء يا سيد دانيال. رحمالك يا عيسى ويوسف ومريم ما من أسوأ من...»
استدارت وتركتنا بمفردانا. تمنيت أن يختفي ما رأته من ذهنها كحلم عابر إذا تبدد أثر السكر. أعطتني كلارا الثياب التي وضتعها على ذراعها الأيسر.
«أعطاني العم أحد طقومه عندما كان شابا. يقول إنه سيليق بك. والآن أتركك كي ترتدي براحتك. ما كان علي الدخول دون استئذان.» ارتديت الملابس الداخلية الطرية والمعطرة ثم قميص القطن الزهري والجوارب والسترة الخفيفة فالبنطال والمعطف. رأيت في المرآة سمسارا تنقصه الابتسامة وحسب. كان الدكتور سولديفييا يتكلم في المطبخ عن وضع المريض.
«لقد تخطى مرحلة الخطر.» قال. «لا داعي للقلق. هذا النوع من الجروح يبدو أخطر مما هو عليه حقيقة. كُسرت ذراع صديقك الأيسر وعظمتان من صدره، وفقد ثلاثة أسنان، وثمت بعض الخدوش والرضوض المضاعفة. ولكن لحسن الحظ لا يوجد نزيف داخلي ولا أضرار دماغية. فالجرائد التي يرتديها صديقك تحت الثياب درءا للبرد، وليبدو أكثر ضخامة على حد قوله، أدت دور الدرع وقلصت من قوة الضربات. منذ لحظات استعاد وعيه وتوسل إلي أن أنقل لكم أنه يشعر بكامل قدراته كأنه فتى في ربيعه العشرين وأنه يريد شطيرة من الدم المخثر وحبة شوكولاطة وسكاكر السوغوس بنكهة الليمون. لا أعترض مبدئيا ولكن من الأفضل أن ينتهج حمية من عصائر الفاكهة واللبن وقليل من الرز الأبيض حتى اللحظة. وكي يثبت أنه سالم معافى، طلب مني أن أقول لكم إنه شعر بانتصاب كجبال الجليد بينما تحقنه الممرضة آمباريتو في ساقه.»
«هذا بفضل فحولته» غمغمت برناردا كأنها تعتذر.
«هل بإمكاننا رؤيته؟»
«مازال الوقت باكرا. ربما بعد ساعة. من الأفضل أن يستريح الليلة ففي الغد سأدعوه إلى المستشفى كي اضعه تحت فحص تخطيط الموجة الدماغية، وبذلك نقطع الشك باليقين. بأية حال لابد أن أؤكد أن السيد روميرو دي توريس سيستعيد كامل عافيته في غضون أيام. وبالنسبة إلى الخدوش فقد تعرّض هذا الرجل لما هو أسوأ ونجا. إن أردتم نسخة عن المحضر للشكوى...»
«ما من داع» قاطعته.
«كانت العواقب وخيمة جدا يافتى. لابدّ أن نبلغ الشرطة.» رمقنى برسلوه ملتبسا، وطلبت مساعدته بنظرة.
"لدينا الوقت الكافي لتقديم الشكوى أيها الطبيب، لا تقلق" قال برسلوه. «فلنتأكد أولا أن المريض بخير، وسأذهب بنفسي إلى المخفر فجر الغد. فحتى السلطات يحق لها الحصول على قسط من الراحة الليلية. »
لم ير الطبيب اقتراحي بإخفاء الحادث عن الشرطة بعين راضية طبعا، ولكنه اطمأن بما أن برسلوه تبوأ المسؤولية، وعاد إلى المريض. أشار إلي برسلوه باللحاق به إلى المكتب. وكانت برناردا تشهق وهي جالسة على كرسي صغير تملؤها الدهشة بفعل الفزع والبراندي.
"تشجعي يا برناردا وتنشطي. حضري لنا فنجان قهوة مكثفا من فضلك".
«على الفور يا سيدي.»
دخلنا أنا وبرسلوه إلى مكتبه الذي بدا ككهف تفوح منه رائحة تبغ الغليون الذي يحلق دخانه بين أعمدة الكتب وصناديق الأوراق. وبين الحين والآخر تصلنا نغمات بيانو كلارا الناشزة. لا يبدو أن دروس المايسترو نيري أتت أكلها بما فيه الكفاية... في الجانب الموسيقي على الأقل. أشار إلي بائع الكتب بالجلوس وراح يجهز الغليون.
«اتصلت بأبيك. قلت له إن فيرمين تعرض لحادث بسيط وإنك جئت به إلى هنا.»
«وهل انطلت عليه؟»
«لا أعتقد.» أشعل برسلوه غليونه وأسند ظهره إلى الأريكة كأنه مفستوفيليس المسرور بأدائه، حين كانت كلارا تضطهد ديبوسي في الجانب الآخر من الشقة. رفع بائع الكتب أنظاره إلى السماء.
«ما الذي حل بأستاذ الموسيقى؟، سألتُ
«سرّحته. لأنه أساء استخدام منصبه.»
«آه.»
«هل أنت متأكد من أنك لم تتعرض للكمات أنت أيضا؟ ما بك تتحدث بشكل متقطع؟ كنت أكثر فصاحة في طفولتلك.»
انفتح باب المكتب ودخلت برناردا وهي تعرج وتحمل طبقا فيه علبة سكر وفنجانان ينفثان البخار. خشيت أن ترمي الفنجان الساخن على صدري.
«بالإذن. هل تفضل إضافة البراندي يا سيدي؟»
«لا، من الأفضل أن نوفر قنينة الليبانتو هذه الليلة. هيا يا برناردا اذهبي للنوم. أنا ودانيال سنبقى مستيقظين لأي طارئ. وبما أن فيرمين في غرفتك، بوسعك أن تنامي في غرفتي.» "لا أحلم بهذا يا سيدي."
«إنها أوامر يا برناردا. لا تناقشي. أريدك تحت الغطاء بعد دقيقتين كحد أقصى.»
«ولكن يا سيدي...»
«أنت تجازفين بمكافأة أعياد الميلاد يا برناردا.»
«كما تشاء يا سيد برسلوه. ولكنني سأنام فوق الغطاء. وهذا كثير علي.»
انتظر برسلوه أن تنصرف برناردا، ثم وضع سبع ملاعق من السكر في فنجانه وحرك القهوة وهو يبتسم خلف سراب الدخان المنبعث من التبغ الهولندي.
« أحكم البيت بقبضة حديدية كما ترى.»
«أجل. لقد أصبحت غولا يا دون جوستابو.»
«وأنت فتى طائش. الآن لا يسمعنا أحد يا دانيال. هلا قلت لي لماذا لم تبلغ الشرطة؟.»
«لأنهم على علم بالموضوع.»
«هل تقصد أنهم...»
هززت راسي.
"في أي مصيبة كنتما؟ إن كان من حقي السؤال"
تنهدت.
«هل بوسعي أن أساعدكما؟»
أعطى برسلوه هدنة قصيرة لسخريته وابتسم بودية.
«هل الأمر متعلق بكتاب خوليان كاراكس الذي رفضت بيعي إياه عندما كان عليك فعل ذلك؟»
كانت حيرتي واضحة.
«أنا بوسعي مساعدتكما» صرّح. «عندي ما ينقصكما: المال والقليل من العقل. »
«صدقني يا دون جوستابو، لقد أدخلت في هذه المسألة الكثير من الأشخاص.»
«وما الذي يضير إدخال شخص آخر؟ هيا احك لي. تظاهر بأنني الراهب الذي تعترف عنده.»
«منذ سنين لم أعترف.»
«واضح.»
33
أصغى إلي جوستابو برسلوه بطريقته الحكيمة التي تشبه طبيب رسول بابوي. كان مشبكا يديه تحت ذقنه، مسندا مرفقيه إلى المنضدة، ومن حين لآخر يهز رأسه، وكأنه حدّد خطاياي في حكايتي ويبني رأيه عن الأحداث شيئا فشيئا وأنا أفرّغ ما في جعبتي. وحين أتوقف لوهلة، يقوس حاجبيه ويحثني على متابعة الكلام بحركة من يده. وبين الحين والآخر يطلب مني أن أتوقف قليلا ليسجل ملاحظة أو يركز نظره في الفراغ كما لو أنه يقيم تداعيات ما أروي. وغالبا ما يرطب شفتيه المواربتين بابتسامة ماكرة عزوتُها لسذاجتي أو لغباوة افتراضاتي. «إن كنت ترى أنني أروي عليك السخافات فقل لي كي أكف.»
"على العكس. الكلام مسلك الحمقى، السكوت حجة الجبناء، والإصغاء زينة العقلاء."
«من قال ذلك؟ سينيكا؟»
«لا. إنه براوليو ريكولونس، صاحب محل اللحوم في حي أفينيون، هوايته صياغة الأقوال المأثورة. تابع من فضلك. كنت تحدثني عن الفتاة الحسناء...»
«تدعى بيا. لكن هذا من شؤوني الخاصة ولا شأن له بالقصة.» ضحك برسلوه.
وظهر الدكتور سولديفييا على عتبة المكتب منهكا، وقطع علي القصّة.
« اعذراني، لقد انتهيت. المريض بصحة جيدة جدا. هذا الرجل سيدفنكم جميعا قبل أن يموت. الآن يدّعي أن المهدئات أوجعت رأسه، وهو مضطرب في الواقع. لا يريد أن يستريح ويلح أن يناقش السيد دانيال على انفراد ببعض المسائل التي لم يشأ أن يطلعني عليها، لأنه لا يثق بقَسَم أبقراط، أو أبقريط21 كما يقول هو.»
«فلنذهب إليه حالا. اعذره يا دكتور فلابد أنها من تداعيات الصدمة التي حلت به.»
«ربما، ولكنني لا أستبعد أنه متهور نوعا ما. لا يحلوله فعل شيء سوى لمس مؤخرة الممرضة ونظم أبيات المديح في فخذيها المصقولين.»
رافقنا الطبيب والممرضة حتى الباب وشكرناهما بحرارة. وفي غرفة برناردا اكتشفنا أن الخادمة كانت تغط في نوم عميق على السرير بجانب فيرمين وقد هدّها الخوف والبراندي والتعب. وكان هو مضمدا بأكمله وذراعه تحت رقبته ويحنوعلى شعرها بلمسات ناعمة. لم يكن يتضح من قسمات وجهه سوى أنفه الضخم وأذنيه غير المتوازنتين وعينيه الغائرتين كأعين الفئران، ناهيك عن الرضوض الخطيرة. استقبلنا بابتسامة بلا أسنان، ورفع علامة النصر بإصبعيه.
«كيف تشعر الآن؟» سألته.
«كأنني شاب» همس كي لا يوقظ برناردا.
«لا تكذب فأنت تبدو في حالة مزرية. هل أنت واثق من أنك بخير؟ ألا تشعر بدوار في الرأس؟ ألا تسمع أصواتا غريبة؟»
«الآن يبدو لي أنني كنت أسمع همهمات ناشزة، كأن قردا يحاول العزف على البيانو.»
عبس برسلوه،كانت كلارا تدمّر مفاتيح البيانو.
«لا تقلق يا دانيال. لقد احتملت أسوأ من هذه الظروف. فوميروهذا لا يقوم بعمله على أكمل وجه.»
«آه. كان فوميرو شخصيا من أرداك هكذا إذن» قال برسلوه.
«أرى أنكما تناطحان المستويات العليا.»
«لم أصل في الحديث إلى تلك النقطة من القصة» برّرت.
«اطمئن يا فيرمين. كان دانيال يحيطني علما بتلك المصيبة التي دخلتما فيها. علي أن أقول إنها قضة مؤثرة. وأنت يا فيرمين منذ متى لم تقم بالاعتراف؟ لا يخفى عليك أنني درست سنتين في معهد القساوسة. »
«بدت لي ثلاثا يا دون جوستابوه »
«كل الأشياء مآلها الفناء، وأولها الحياء. تدخل إلى هذا البيت للمرة لأولى وتنام مع الخادمة على سريرها.»
«انظر إليها المسكينة. إنها ملاكي. أعلم أن نواياي حسنة يا دون جوستابوه »
«نوايالك تخصك وتخص برناردا التي لم تعد طفلة. هلا شرحتما لي ما الذي تقومان به؟» «إلى أي نقطة وصلت يا دانيال؟»
«إلى الفصل الثاني: دخول المرأة الفتانة إلى المشهد» حدد برسلوه.
«نوريا مونفورت؟» سأل فيرمين.
لحس برسلوه شفتيه.
«وهل يوجد أكثر من امرأة؟ تبدو لي القصة شبيهة بسبي نساء سابين.»
«أرجوك أن تخفض صوتك فنحن في حضرة خطيبتي.»
«لا تقلق، خطيبتلك ازدردت نصف قنينة براندي ليبانتو. لن تستيقظ حتى على دوي المدافع. قل لدانيال أن يقص عليّ الباقي، فثلاثة رؤوس تفكر أفضل من اثنين، لاسيّما أن الرأس الثالث هورأسي.»
شد فيرمين كتفيه بقدر ما تسمح له الضمادات واللصاقات. «أنا لا أعارض يا دانيال. لكن القرار يعود إليك.»
استسلمت حتى أدخلت الدون جوستابو في تلك المتاهة، وواصلت السرد حتى اعترض طريقنا فوميرو وتابعُوه في حي مونكادا منذ بضعة ساعات. وحينها راح برسلوه يروح ويجيء في الغرفة، بينما كنا أنا وفيرمين ننظر إليه بترقب مثل السناجب.
«يا له من ملاك» همس فيرمين.
«ثمت شيء لا أستطيع فهمه» نطق بائع الكتب أخيرا. «أن يكون المحقق فوميرو متورطا في المسألة حتى أذنيه فهذا طبيعي، ولكننا لا نعرف كيف ولماذا. ثم يوجد تلك المرأة...»
«نوريا مونفورت.»
«دون أن ننسى عودة خوليان كاراكس إلى برشلونة، ولا أحد يعرف عنها شيئا، ومقتله في شوارع المدينة بعد شهر. من الواضح أن اللعوب تكذب، حتى في زمنية الأحداث.»
«لقد قلت هذا مرارا» قال فيرمين. «ولكن الشاب عنيد وساذج بما لا يطلاق.»
«انظر من يتكلم، القديس يوحنا الصليب.»
«هدوء! فلنحاول أن نتمعن في الأحداث. في قصة دانيال ثمت شيء يهزني أكثر من الباقي، ولا أقصد طبيعة المغامرة في القصة، بل تفصيلا جوهريا ذا مظهر سخيف» تدخل برسلوه. «نوّرنا يا دون جوستابو.»
«لستُ مقتنعا بأن بائع القبعات رفض التعرف إلى جثة خوليان مدعيا أنه بلا أولاد. أرى أن هذا السلوك يناقض الفطرة. فلا يوجد أب في العالم يتصرف على هذا النحو رغم كل العداء الذي قد يتراكم بين الوالد وولده. إن الموت يبرز حساسية الإنسان وصدق عواطفه. وأمام النعش لا تخطر في بالنا سوى الذكريات الحميدة ولا نرى سوى ما يعجينا.»
«يا لروعة العبارة يا دون جوستابوه» هتف فيرمين. «
هل يؤسفك أن أضيفها إلى قاموسي الشخصي؟»
«من الممكن دوما أن يوجد استثناء» اعترضتُ. "وما نعرفه عن السيد فورتوني أنه كان شخصية استثنائية."
«نحن نؤسس فرضياتنا على نميمة رديئة» قال برسلوه. «فعندما يصف الجميع أحدا على أنه غول، فهناك احتمالان: إما أنه قديس أو أنهم يزيفون الحكاية.»
«أليس من الممكن أن يكون بائع القبعات ظريفا بالنسبة إليك لأنه كان ديوثا»؟ سأل فيرمين. «أنا لا أثق بشهادة ناطورة، مع فائق احترامي لتلك المهنة.»
«ليس بوسعنا أن نثق بشيء إذن. كل معلوماتنا نخب ثان أو ثالث بالنسبة إليك.»
«لا تثق بمن لديه ثقة بالجميع أبدا» أوضح برسلوه.
«يا لفطنتك يا دون جوستابو» قال فيرمين. «أنت صندوق من الجواهر. يا لألمعيتك»
«النقطة الوحيدة الواضحة هو أنكما في حاجة إلى مساعدتي اللوجستية والمادية، إن أردتما مخرجا من المعضلة قبل أن يحجز لكما المحقق فوميرو جناحا في سجن سان سيباس. موافق يا فيرمين؟»
«أنا تحت أوامر دانيال. إن كان موافقا فأنا معه.»
«ما قولك يا دانيال؟»
«أنتما تقولان كل شيء. أنت ماذا تقترح؟»
«هذه خطتي: ما إن يتعافى فيرمين، ستقوم بزيارة إلى نوريا مونفورت يا دانيال وتكشف الأوراق على الطاولة. عليها أن تفهم بأنك تعرف أنها تخفي عنك شيئا ما، قليل الأهمية أم لا هذا سنراه لاحقا.»
«لماذا؟» سألتْ\ُ
«كي نرسوعلى برّ كحدّ أدنى. من البديهي أنها لن تعترف بذلك بل ربما تصطنع أكاذيب أخرى. عليك أن تغرس السيف في الرأس، إن استخدمنا مصطلحا من مصارعة الثيران، ثم ترى أين يأخذك الثور أو البقرة في هذه الحالة. بعدها مباشرة تدخل في المشهد أنت يا فيرمين. وبينما يرمي دانيال الطعم تراقب المتهمة ببصيرة ثاقبة وتنتظر حتى تبلع الطعم. ثم تتبعها.»
«أنت واثق جدا من أنها ستذهب إلى مكان ما» أجبت.
«يا للإنسان وشكوكه! ستفعلها عاجلا أم آجلا. لدي الانطباع بأنها ستفعلها دون تسويف. هذا مألوف في علم نفس المرأة.»
«وماذا ستفعل أنت يا دكتور فرويد أثناء ذلك؟» سألته.
«لا يعنيك. ستعرف الأمر حين وقوعه وسوف تشكرني.»
بحثت عن أنظار فيرمين لكن المسكين قد غفا وبرناردا بين ذراعيه. كان يبتسم هانئا يثني رأسه على صدره ويسيل من فمه خيط لعاب، في حين تشخر برناردا مثل البوق.
«فلنأمل أن يكون الرجل المناسب هذه المرة »همس برسلوه.
"فرمين رجل مميز" فلت.
«هو هكذا رغما عنه، فلا أظن أنه حصل على البنت ببراعته. هيا فلنذهب» أطفأنا الضوء وخرجنا دون أن تحدث ضجة، لنترك الحمامتين في نومهما المستحق. ومن زجاج الممر رأيت الفجر يتنفس.
«فلنفترض أنني رفضت مساعدتك» قلت بصوت منخفض.
«وأني طلبت منك أن تنسى الأمر برمّته.» ابتسم برسلوه.
«لقد تأخرت جدا يا عزيزي. كان عليك أن تبيعني الكتاب منذ عدة سنوات عندما اقترحت عليك ذلك.»
رجعت إلى البيت مع شروق الشمس، وأنا أرتدي تلك الثياب الغريبة وأشعر بأنني نجوت من غرق محقق في ليلة لا تنتهي على طول الطرقات المبللة والمتلألئة بالقرمزي. وجدت والدي غافيا على الأريكة وكتابه المفضل في حضنه، «كانديد» لفولتير: كان يعيد قراءته مرتين في السنة ولا أسمعه يضحك من كل قلبه إلا حينها. نظرت إليه: كان يتقدم في السن وجلد وجنتيه يرتخي. في الماضي كان يبدو ذا عزم لا يلين، أما الآن فيبدو في لحظات ضعفه الكبرى: رجلا محطّمًا دون أن يعي ذلك. وربما كان كلانا هكذا. غطيته بلحاف كان ينوي أن يهبه لمؤسسة خيرية منذ سنوات. وقبّلت جبينه كي أحميه من الأفكار السيئة التي تحاول إبعاده عني وعن تلك الشقة المتواضعة وعن ذكرياتي. كنت أود أن تخدع تلك القبلة الزمن وتجبره على التوقف والعودة بنا إلى يوم آخر وإلى حياة أخرى.
34
لم أنم لكنني حلمت بعينين يقظتين طيلة الصباح، وأنا أستذكر خصر بيا الممشوق وأريجها اللذيذ كأنها حلوى تخرج لتوها من الفرن. كنت أذكر بدقة غير عادية كل تفاصيل جسمها، لمعان لعابي على شفتيها، زغبها الأصهب شبه الشفاف وهو يهبط على بطنها. تذكرت أن صديقي فيرمين، في محاضراته عن اللوجستية الجسدية، يسمّي ذلك الجزء الجميل بـ«الدرب إلى الأندلس». نظرت إلى الساعة للمرة المائة وتأكدت أن علي انتظار كثير من الوقت لأراها وألمسها ثانية. حاولت أن أرتب فواتير الشهر، لكن حفيف الورق ذكرني باللباس الداخلي ينزلق على ردفيّ السيدة بياتريز أغويلار
«أراك سارحا يا دانيال. هل بالك مشغول بفيرمين؟» سأل والدي.
أومأت مؤكدا وأنا أشعر بالعار مثل لص. فقبل عدة ساعات فقط تكسرت عظامه لحمايتي بينما كنت أفكر بحمّالة صدر امرأة.
«ها قد وصل... ذكرناك للتوّ...»
رفعت بصري فرأيت فيرمين روميرو دي توريس يدخل شامخا إلى المحلل بابتسامة ظافرة وزهرة قرنفل ندية في عروة سترته.
«هل فقدت رشدك؟ أليس عليك أن تكون في البيت لتستريح؟»
«سأرتاح في القبر بعد أن أموت. إنني رجل عملي، لن تبيعا شيئا إن لم أكن موجودا.» لم يتبع تعليمات الطبيب، وعزم على مباشرة عمله. كان وجهه شاحبا ومتورما، ويعرج بوضوح ويتحرك مثل دمية مكسورة.
«عد مباشرة إلى السرير يا فيرمين حبا بالله» هتف والدي.
«لن نتحدث في هذا الأمر. إنها معطيات إحصائية: يموت أكثر الناس في السرير وليس في الخندق»
راحت كل نصائحنا هباء منثورا. واستسلم والدي في النهاية: ثمت شيء ما في نظرة فيرمين يوحي بأن أكثر معاناة كان يخشاها هي العزلة في غرفة النزل. «حسنا ولكنك لن تحمل أثقل من قلم رصاص.»
«تحت أمرك. أعدك بذلك. سأنزع عني شكوكي الثقيلة أيضا.»
ومثلما قال فعل. ارتدى المئزر وأمسك بقطعة قماش أغرقها بالكحول وجلس خلف المصطبة كي يلمع أغلفة خمس عشرة نسخة مستعملة من «القبعة بثلاث رؤوس: قصة الشرطية بأبيات شعرية» وهوعمل لفولخنسيو كابون الكاتب الشاب الذي حاز إعجاب النقاد في إسبانيا بأسرها. وكان فيرمين من حين لآخر يغمز لي بعينه مثل الشيطان الأعرج تماما.
«أذناك محمرتان مثل الجمبري يا دانيال.»
«هذا لأنني أسمع نكاتك.»
«ربما بسبب عذاب الروح. متى سترى الفتاة؟»
«ليس من شأنك.»
«آه، آه. تجنب الأغذية الحارة فهي توسع الأوعية الدموية بشكل رهيب.».
«دعني بسلام.»
وكما يحدث غالبا في الآونة الأخيرة، يخف العمل ما بعد الظهيرة. دخل زبون له صوت رمادي مثل سترته، وطلب كتبا لزوريلا مقتنعا بأنها تروي مغامرات عاهرة شابة في مدريد تحت ظل حكم آل هابسبورغ. انذهل أبي وتردد في الإجابة فهرع فيرمين ليساعده وكان بليغا ومختصرا لمرة واحدة في حياته.
«زوريلا كان مؤلف مسرحيات. ولكن ربما يثير الدون جوان اهتمامك، فهنالك الكثير من الحبكات الغرامية ويرتبط البطل بعلاقة ماجنة مع راهبة»
"أشتريه على الفور".
كانت الشمس تغيب عندما تركني المترو على سفح تلة تيبيدابو. رأيت الترام الأزرق الذي يصعد إلى الشارع تحت ذلك الضباب المائل إلى البنفسجي، لكنني قررت ألا أنتظر حلول الظلام فمشيت نحو غايتي ووصلت إلى «ملاك الضباب» بعد بضع دقائق. فتحت البوابة بالمفتاح الذي أعطتني إياه بيا، ودخلت إلى الحديقة وتركته مواربا من أجلها. مازال الوقت مبكرا، ووفقا لحساباتي، كانت بيا ستصل بعد نصف ساعة على الأقل. أردت أن أبقى وحيدا بعض الوقت في ذلك القصر قبل أن يفيض بحضور بيا. وقفت أنظر إلى النافورة ويد الملاك التي تظهر من الماء مصبوغة بالقرمزي. كانت سبابته مسلولة كخنجر كأنها تتهم أحدا ما. اقتربت من الحوض ولاحظت الوجه الحجري يرتج تحت سطح المياه بلا روح أو نظرة مميزة. صعدت على العتبات ولاحظت أن الباب كان مواربا بضعة سنتمترات. ويبدو أن القفل لم يمسسه أحد، فافترضت أنني نسيت أن أقفله قبل يومين. دفعت الباب بخفة فإذ برائحة القصر تجتاحني، مزيج من الخشب المحترق والرطوبة والأزهار الذابلة. أخرجت علبة الثقاب التي أخذتها معي قبل أن أخرج من المكتبة وجثمت على ركبتي لأشعل إحدى الشموع التي تركتها بيا في المرة السابقة. أنارت الشمعة هالة من الضوء بنكهة العنبر فرأيت الرطوبة تعتلي الجدران والسقف المهشم والأبواب المخلوعة. أشعلت كل شموع بيا واحدة تلو الأخرى، كأنني في قداس. فتوسعت الهالة الرقيقة كشباك العنكبوت التي يحيطها الظلام من كل جانب، وراح ظلها يرفرف في الفراغ. جلست أمام مدفأة الصالون بجانب أغطيتنا المتسخة بالرماد.
كنت آمل أن يعم الهدوء في القصر فإذ بألف صوت يخرج من العدم: خشخشة الخشب، صفير الريح بين فتحات السقف، وأنواع لا حصر لها من القطرات تتساقط من الجدران إلى الارض. وبعد نصف ساعة قررت أنهض وأنا أرتجف بردا وأشعر بالنعاس. فرحت أمشي ذهابا وإيابا كي أستمدّ الحرارة. لمحتُ بقايا جمرة في المدفأة، ففكرت كم سيكون الطقس باردا حين تصل بيا مما قد يلهمني الصفاء والعفة رغم شبق تخيلاتي في الأيام الأخيرة. دفعتني حاجة غريزية، تخلو من الشاعرية، إلى التمعن في طريقة لقضاء ذلك الوقت. فأخذت شمعة وقمت إلى مغامرة البحث عن مادة قابلة للاحتراق كي أدفئ بها الصالة وتلك الأغطية التي لم تحتفظ بحرارة ذكرياتنا عليها.
قادني اطلاعي على الأدب الفكتوري باكتشاف الطابق السفلي مبدئيا حيث يرجّح أن يحتوي على المطبخ ومخزن الفحم. كان علي أن أجد بابا يفضي إلى الطابق السفلي، فدخلت في ممر عميق ينتهي بباب خشبي منقوش. كان عملا فنيا جديرا بالتقدير رسمت عليه وجوه ملائكة تطوّق صليبا ضخما في الوسط وكان المقبض تحت الصليب بالضبط. حاولت أن أديره لكنه لم يتحرك. لابدّ أن القُفل معطل أو ضدى. لم يكن أمامي سبيل لفتح ذلك الباب إلا خلعه بفأس أو هدمه برافعة، وهي بدائل غير عملية. نظرت بانتباه شديد فاكتشفت أنه أقرب إلى الناووس منه إلى الباب، وتساءلت ما الذي يوجد في الجهة الأخرى. وبعد أن أمعنت النظر في الملائكة المنقوشة قررت أن أنسى الأمر وابتعد، فإذ بي أجد بابا صغيرا على الجانب المعاكس من الممر، ظننته للوهلة الأولى باب خزانة. أدرت المقبض بسهولة فوجدت نفسي أمام سلم وعر ومظلم. واقتحمتْ رائحة الأرض المبللة منخري بقوة. كانت تلك الرائحة مألوفة بشكل غريب حتى أيقظ ذلك البئر الدامس إحدى ذكريات طفولتى المدفونة في خوفٍ عميق.
في الجانب الشرقي من مقبرة مونتويك، كان الإعصار يدمي الظهيرة بوابل من المطر الغزير، بينما كنت أنظر نحو البحر الممتد خلف غابة من الأضرحة والصلبان والشواهد النقوشة بوجود أطفال بلا شفاه أوعيون، ورائحة الموت تحبس أنفاس عشرين مراهقا لا أذكر سوى ثيابهم السوداء التي بللتها حبات المطر، ويد والدي تشد على يدي بقوة كأنه أراد أن يلجم سيل دموعي، وصلوات القسيس الضارعة تهوي في قبر رخامي فيه ثلاثة رجال لا وجوه لهم يُنزلون نعشا رماديا كادت قطرات المطرتغّلفه كالشمع السائل، وشعرت بأنني ضمن هذا الضجيج أسمع صوت أمي تتوسل أن نحررها من ظلمة ذلك السجن الصخري، فهمستُ في سري ألا يشد أبي قبضته كثيرا، فقد كان يؤلمني وأنا أرتجف بردا وتخنقني رائحة الأرض النضرة، أرض الرماد السرابية التي كانت تبتلع كل شيء في ظلال من رائحة الموت والفقدان.
نزلت أدراج الظلام، وحين وصلت رفعت الشمعة ونظرت حولي:
لم يكن من أثر لمطبخ أو مخزن فحم. هنالك ممر ضيق ينتهي بغرفة شبه دائرية، وثمت رسم لرجل حاد النظرات وتنهال على وجهه دموع من دماء. كان يفتح ذراعيه كالجناحين، ويلتفُّ على رأسه تاج من الشوك. اقشعر بدني. أدركت بعد ثوان أنني أمام مسيح خشبي معلق على جدار القبة. وفي الزاوية الأخرى عدد كبير من مجسمات نسائية، ليس لها أذرع أو رؤوس، مثبتة بحمالة على ثلاثة أقدام. كانت قياساتها تختلف من واحدة إلى أخرى كأنها لأجساد نساء بأعمار متفاوتة ومحددة باسم مكتوب بالفحم على البطن: إيزابيل، إيوجينيا، بينيلوب.
أسعفتني ذاكرتي الأدبية لأفهم أنني أمام عادة خرجت عن الاستعمال، إذ كانت العائلات النبيلة تستخدم دمى المحلات لأخذ مقاسات النساء وتجهيز ملابسهن وفساتين أعراسهن. ورغم الوعيد الذي يقطر من نظرات المسيح فإنني لم أتمكن من مقاومة دمية بينيلوب الدايا حتى تلمست خصرها الناعم. وفي تلك اللحظة سمعت صوت خطوات في الطابق الأعلى فتخيلت أن بيا قد وصلت وتبحث عني. خرجت من القبة كي أعود إلى الصالة، وحينها لاحظت وجود مدفأة وجهاز تسخين بحالة جيدة كما يبدو. تذكرت ما قالته لي بيا عن تعديل بعض الأثاث لتشجيع المشترين الكبار. عاينت الجهاز، وكان عبارة عن آلة تدفئة على نظام المشعاع المركزي الموصول بسخانة صغيرة. وهنالك أيضا سطول الفحم والحطب وصفائح قد تحتوي على سائل الكيروسين. فتحت زجاجة السخانة، كانت على ما يرام، لكن تشغيلها بدا أمرا مستحيلا. ومع ذلك ملأت الفرن بالفحم والحطب ورششت الكيروسين. سمعت قعقعة ما فاستدرات واثبا كي أتحرّى في الظلام. كم أرّقني خيالي برؤية المسامير النازفة دما تنبثق من الصليب وذلك المسيح الشنيع يتقدم نحوي بابتسامة شريرة. اشتعلت السخانة على تماس لهيب الشمعة فأصدرت برقا ودويا معدنيا. أغلقت الزجاجة وابتعدت قليلا. بدا لي ذلك الجهاز يعمل ولو بصعوبة فقررت العودة إلى الأعلى. كنت أتوقع ظهور بيا لكنها لم تأت بعد. مضى على وصولي قرابة الساعة فتزايد خوفي من أن مشبعة رغباتي لن تأتي. ورحت أبحث كي أهدّىء من روعي عن أدلة على حياة السخانة، ولكن الوشائع التي وجدتها كانت باردة كالجليد. عدا وشيعة واحدة. في غرفة صغيرة بمساحة خمسة أمتار مربعة. حمّام صغير يقع فوق السخانة بالضبط يوحي بدفء فريد من نوعه. جثمت على ركبتي مسرورا كي أتأكد من أن البلاط كان فاترا. فوجدتني بيا في تلك الوضعية على أرجلي الأربعة، وانطبعت ابتسامة بلهاء على وجهها.
لا يسعني أن أبرّر ما وقع ذلك المساء سوى بالقول إن نقص الخبرة في سن الثامنة عشرة واستثنائية الظروف بوسعهما أن يحوّلا حمّاما قديما إلى جنة نعيم. لم يكن من الصعب إقناع بيا أن نحمل الأغطية وشمعتين كي نلوذ بتلك الغرفة الصغيرة التي تحتوي على شمعدان يليق بالمتاحف. تغلبت عليها الأجواء المثيرة وربطت رغبتها بدوافعها فاستسلمت إزاء الدفء الذي يصعد من البلاط. أما أنا فقد كنت أخشى أن تضرم لنيران المبنى كله. وبعد لحظات كنت أنزع ثيابها تحت الظلام بحركات هزلية وهي تحدق إلي بابتسامة كي تظهر لي أنها فكرت مسبقا في أي شيء كنت أفكر حينها، وعلى الدوام.
كانت جالسة مُسندة ظهرها إلى باب الغرفة، وذراعاها مرتخيان ويداها تتجهان نحوي. مازلت أذكر عنقها الخزفي ونظراتها المتحدية بينما كنت أداعب وجهها برؤوس أصابعي. أذكر أنها أمسكت بيدي ووضعتهما على نهديها. وأذكر شفتيها وهما تنتفضان كلما قرصت حلمتيها، وانزلاقها أرضا حين أغرقت وجهي بين ساقيها وهي تفرج فخذيها الأبيضين لأجلي.
«هل مارست سابقا يا دانيال؟»
"الحلم",
«أتحدث جديا.»
«لا. وأنت؟»
«لا. وكلارا برسلوه؟»
ضحكتُ، ربما كنت أسخر من نفسي.
«وما الذي تعرفينه أنت عن كلارا برسلوه؟»
«لا شيء.»
«وأنا مثلك وأكثر.»
«لا أصدق.»
انحنيت عليها ونظرت في عينيها.
«لم أمارس مع أي فتاة من قبل. »
ابتسمت بيا. داعبت فخذيها وبحثت عن شفتيها وبتّ مقتنعا بأن أكل لحوم البشر ما هو إلا خلاصة الحكمة.
«دانيال؟» قالت.
«نعم؟» سألت.
لم يتسن لها إكمال حديثها حتى شعرنا بهبوب ريح زمهرير. وعرفنا أن سحر تلك اللحظة قد تبدد في لحظة لا تنتهي سبقت انطفاء الشموع، وأدركنا أن خلف الباب شخصًا يتربص بنا. رأيت الرعب يفتك بوجه بيا. طغت لحظة الظلام. ثم أعقبها صفق على الباب بهمجية كأن قبضة فولاذية تحاول اقتلاعه.
قفزت بيا فعانقتها. تحركنا إلى زاوية الغرفة قبل ثوان من صفقة أخرى دفعت الباب بقوة فظيعة على الحائط. صرخت بيا وعانقتني بشدة. وفي جزء من الثانية، بين لوالب دخان الشموع التي انطفأت، تراءى لي ملامح رجل واقف على العتبة.
أخرجت رأسي من الباب خائفا، أوربما راغبا في رؤية رجل مجهول عله يكون متسكعا يندس في تلك الدار المهجورة كي يلوذ من البرد القمطرير. لكنني لم أر أحدا عدا انعكاسات الضوء اللازوردية التي تتسرب من بين الستائر، همست بيا باسمي وكانت ترتجف وهي منكمشة على نفسها في إحدى زوايا الحمام.
«لا يوجد احد» قلت. «ربما كان ضرب الرياح.»
«الريح لا تلكم الأبواب يا دانيال. فلننصرف من هنا.»
|عدت إلى الحمّام وجمعت ثيابنا. «خذي ثيابك وارتديها. سألقي نظرة. »
«أنا أفضّل الانصراف من هنا»
«دعيني أتفقد شيئا واحدا.»
ارتدينا ثيابنا تحت الظلام على عجل. وصارت أنفاسنا بخارا مجمدا في غضون ثوان. أخذت شمعة من الأرض وأشعلتها. في القصر ثمت تيار ريح صرصر كما لو أن أحدا فتح النوافذ والأبواب على مصراعيها.
"أترين؟ إنها الريح" اكتفت بيا بتحريك رأسها.
اتجهنا صوب الصالون نحمي لهيب الشمعة بأيدينا. كانت بيا تمشي ملتصقة بي وبالكاد تتنفس. «عم نبحث يا دانيال؟»
«أمهليني دقيقة واحدة.»
«لا، بل فلننصرف بعيدا.»
«حسنا.» وما إن وصلنا إلى الردهة حتى انتبهت إلى أن الباب الخشبي المنقوش في عمق الممر، ذلك الذي حاولت فتحه عبثا منذ ساعة أو اثنتين، كان مواربا.
«ماذا هنالك؟»
« انتظريني هنا.»
«أرجوك يا دانيال...»
دخلت في الممر وأنا أحمل الشمعة بين يدي. تبعتني بيا على مضض. وجدت خلف الباب صمتا مهيبا وسلما رخاميا يهبط في قاع مظلم. بدأت أنزل بينما تحمل بيا الشمعة على العتبة والخوف يزلزل ركبتيها. «أرجوك يا دانيال فلنذهب من هنا...» نزلت عتبة تلو الأخرى حتى القعر. كانت الشمعة بالكاد تضيء غرفة مثلثة تسود الصلبان جدرانها الحجرية. وكان البرد شديدا هنالك في الأسفل. بدا لي أنني وجدت شيئين متشابهين بأحجام متباينة في وسط الصالة. وتخيلت أنهما مطليان برخام أبيض لأنهما يعكسان ضياء الشمعة بكثافة كبيرة مقارنة بباقي الأغراض في الغرفة. تقدمت خطوة ففهمت أنني كنت أمام قبرين. كان قياس الأول أكثر من المتر بقليل. انقضت الرعشة الجليدية على ظهري. كان قبرا لطفل. كأنني في اسفل كنيسة إذن.
ودون أن أفكر بما كنت أقدم عليه، اتجهت صوب البلاطة الرخامية وتوقفت على بعد ذراع منها. كان القبران مكسوين بلحاف من غبار رمادي. وضعت يدي على القبر الأكبر ومسحت عنه الرماد ببطء. وقرأت على ضوء الشمعة:
بينيلوب الدايا
1902-1919
تسمرت من الخوف. ثمت شيء يتحرك في الظلام. سمعت أنفاس هواء بارد فتراجعت خطوتين.
«اخرج من هنا» نطق الصوت من أعماق الظلام.
عرفته فورا. لايين كوبرت. صوت الشيطان.
هرعت صوب السلم وأنا أتدحرج حتى صعدت فأمسكت بذراع بيا ورحت أجرها نحو باب الدار. وقعت الشمعة منا ونحن نركض في الظلام. ولم تفهم بيا الخائفة ما سبب فزعي المفاجئ، لأنها لم تر أو تسمع أي شيء. لكن تلك اللحظة لم تكن مناسبة لتوضيح الأسباب إذ كنت أنتظر أن يخرج أحد من الظلمات ويعترض طريقنا بين ثانية وأخرى. فكان الباب الكبير ينتظرنا في آخر الممر مزدانا بظلال نور بعيد.
"إنه مقفل" صرخت بيا.
تلمست جيوبي بحثا عن المفتاح. استدرت فأدركت أن نقطتين مشعتين تتقدمان ببطء من عمق الممر نحونا... عينان... وجدت المفتاح أخيرا وأدخلته في القفل فاقدا صبري. فتحت الباب فوثبنا إلى الخارج أنا وبيا. لابد أنني أصبتها بعدوى الخوف لأنها اجتازت الحديقة راكضة ولم تتوقف إلا على رصيف شارع تيبيدابو بأنفاس ملتهبة وعرق متصبب.
«ما الذي حدث يا دانيال؟ هل كان هنالك أحد؟»
«لا.»
«وجهك مصفرّ.»
(وجهي أصفر دوما. هيا فلنذهب.»
«والمفتاح؟»
تركت المفتاح في القفل. ولم أكن في حالة تسمح لي بالعودة لاسترجاعه.
«لقد فقدته في العجلة. سنبحث عنه في المرة القادمة. »
ابتعدنا مهرولين واجتزنا الشارع حتى ابتعدنا مائة متر عن القصر على الأقل. خففنا من سرعتنا، وانتبهت أن يدي ما تزال متسخة بالرماد وحمدت ظلام الليل الذي أخفى دموع الفزع التي انهمرت على خدي.
مشينا في حي بالميس حتى ساحة ثيينتو حيث وجدنا سيارة أجرة منعزلة. نزلنا حتى كونسخو دي ثيينتو دون أن نتبادل كلمة واحدة. أمسكت بيا يدي ولاحظت أنها ترمقني بنظرة جدية. انحنيت كي ألثم ثغرها لكنها لم تفتحه.
« متى سنلتقي؟»
«سأتصل بك غدا أو بعد غد.»
«أتعدينني بذلك؟»
هزت رأسها مؤكدة.
«سأكون في البيت أو المكتبة. الرقم نفسه، وهو عندك أليس كذلك؟»
هزت رأسها مرة أخرى. قلت للسائق أن يتوقف عند تقاطع مونتانير بالديبوتاثيون وعرضت أن أرافقها حتى بوابة بنايتها لكنها رفضت. ابتعدث دون أن ألمس يدها. ورأيتها من السيارة تركض نحو البيت. وكانت أضواء شقة آغويلار موقدة وصديقي توماس واقف على قدميه خلف نافذة غرفته التي قضينا فيها أوقاتا سعيدة ندردش أو نتبارز في لعبة الشطرنج. حييته بيدي وابتسامة متشنجة لم يكن ليلحظها. لم يرد علي التحية وظل متسورا خلف الزجاج ينظر إلي بعدم اكتراث. وما هي إلا ثوان حتى اختفى وأطفئت الأضواء.
كان ينتظرنا، قلت لنفسي.
35
عندما عدت إلى البيت، وجدت بقايا العشاء لشخصين على المائدة. كان والدي نائما وتمنيتُ أن يكون قد قرر دعوة مرسيديتاس أخيرا. دخلت غرفتي دون أن أشعل الأضواء وجلست على ظهر السرير. فانتبهت أن هنالك جثة تحت اغطية السرير، أحد ما تشتبك يداه على صدره. توقف قلبي عن النبض لوهلة، ثم سرعان ما سمعت شخيرا قويا ورأيت شكل أنف مميز ليس له مثيل. أضأت القنديل على الدرج، وها هو فيرمين يبتسم هانئا ويصدر مواء كأنه قط مستمتع. فتنفست الصعداء وحينها فتح جفنيه وبدا مستغربا من رؤيتي. كان ينتظر صحبة من نوع مختلف طبعا. مسح عينيه ونظر حوله مشتتا.
«أرجو ألا أكون قد أخفتك. برناردا تقول إنني أشبه بوريس كارلوف عندما أنام.»
«ماذا تفعل في سريري يا فيرمين؟» أغمض عينيه متأثرا.
«كنت أحلم بكارول لومبار. كنا معا في طنجة داخل حمّام تركي أمسح كامل أنحاء جسدها بالزيت الذي يستخدم لمسح مؤخرات الرضع. هل سبق وأن دلكت جسد امرأة بالزيت رويدا رويدا؟»
«الساعة منتصف الليل ونيف يا فيرمين وأكاد أموت من النعاس.»
«اعذرني يا دانيال ولكن أباك ألح أن نتعشى معا. ثم غلبني النعاس لأن لحم العجل يفعل بي هذا التأثير واقترح والدك الطيب أن أتمدد على فراشك قائلا إن هذا يسعدك.»
«وهذا لا يؤسفني فعلا. كدت أموت من الفزع ليس إلا. ابق هنا واحلم بكارول لومبار قبل أن ينفد صبرها بانتظارك. ولكن تغط جيدا فالبرد قارص لا تحتمله الذئاب ولا أريد أن يصيبك المرض. سأنام في الصالة. »
أومأ فيرمين برقة. كان لون الكدمات على وجهه غامقا، ويبدو رأسه الحليق والمحفوف بلحية نامية كفاكهة ناضجة سقطت لتوها عن الشجرة. أخذت غطاء من الخزانة وأعطيت واحدا لفيرمين أيضا، ثم أطفأت النور وذهبت إلى الصالة حيث تنتظرني أريكة والدي. التحفت الغطاء وبحثت عن وضعية مريحة وكنت على يقين من أنني لن أنام. فقد كانت صورة النعشين الأبيضين تحت الظلام تلاحقاني. أغمضت عيني وأجهدت نفسي في تذكر بيا العارية وهي مستلقية على الأغطية في الحمّام تحت ضوء الشموع. وبينما كنت أغط في تلك الخيالات سمعت صوت ضجيج بعيد عن البحر وكنت أستسلم للنعاس دون أن أنتبه. لعلي كنت أبحر صوب طنجة. لكنني فطنت أنه ليس سوى شخير فيرمين المنتظم. وبعد لحظة تلاشى العالم. لم أنم عميقا في حياتي كلها كما نمت في تلك الليلة.
في الصباح التالي كانت السماء تمطر بغزارة. وباتت الشوارع سيولا والمطر يدك السطوح غاضبا. رن الهاتف في السابعة والنصف. فوثبت لأردّ وقلبي يخفق خوفا. كان فيرمين يرتدي المنشفة والخفين ووالدي يمسك إبريق القهوة. تبادلا نظراتهما المتآمرة كالعادة.
«بيا؟» همست بالسماعة بعد أن أدرت ظهري لهما.
كنت أسمع تنهيدات عميقة من الجانب الآخر.
«بيا، أهذه أنت؟» لم يجبني أحد وانقطعت المكالمة بعد لحظات. بقيت أنتظر على السماعة دقيقة كاملة آملا أن يرن الهاتف مجددا.
«ستعاود الاتصال مهما تأخرت يا دانيال. تعال وتناول فطورك» قال والدي.
ستتصل لاحقا، قلت لنفسي أنا أيضا، ربما باغتها أحد وهي على الهاتف. إذ لم يكن من السهل تحاشي حظر التجول الذي يفرضه السيد أغويلار، ولم يكن ثمت داع للقلق. جلست على الطاولة. كان للطعام ألف طعم، ربما بسبب المطر.. فتحنا المكتبة وانقطعت الكهرباء عن الحي كله بسبب تماس كهربائي حتى منتصف اليوم.
«هذا ما كان ينقصنا» قال والدي.
في الثالثة ظهرا بدأت المياه تتسرب إلى المحل. اقترح فيرمين أن يذهب ليستعير من مرسيديتاس بعض السطول والأوعية الضرورية، لكن والدي منعه عن ذلك فالطوفان لم يكن ليتوقف. ولكي أقضي على الملل رويت على فيرمين ما حدث مساء أمس وتجنبت أن أقص ما رأيته في تلك المقبرة المنزلية. أصفى إلي فيرمين باهتمام وأصرّ أن أصف له صدر بيا لكنني رفضت. وما زالت السحب تمطر حتى المساء. بعد العشاء راح أبي يقرأ، فقرّرت الذهاب نحو بيت بيا بحجة تحريك ساقي. وعند زاوية الشارع وبينما كنت أنظر إلى نوافذ الشقة، سألت نفسي ما معنى ذهابي إلى هناك. للتجسس أوللفضول أولاسوداد وجهي، كانت تلك بعض الأجوبة التي خطرت في ذهني. ورغم هذا لجأت إلى بوابة على الجانب المعاكس من الشارع هربا من الريح، إذ كانت كرامتي مغيبة ولباسي لا يقيني ضراوة الطقس. بقيت واقفا نصف ساعة دون أن أحيد نظري عن نوافذ الشقة. رأيت أطياف السيد آغويلار وزوجته تمرّ من خلف الستائر. ولا أثر لبياتريز.
عدت إلى البيت حوالي منتصف الليل وأنا أتجمد من البرد والهم. ستتصل في الغد، كنت أكرر على نفسي محاولا أن أغفو. لكنها لم تتصل في اليوم التالي ولا باللاحق ولا بكل أيام ذلك الأسبوع الأطول والأخير في حياتى.
بعد سبعة أيام كدت ألتحق في عداد الموتى.
36
لا يهدر المرء وقته كما فعلت أنا في تلك الأيام إلا إذا تبقى أمامه أسبوع واحد كي يرحل عن الحياة. كنت أقضي ساعات وساعات بجانب الهاتف، وأنا أستهلك عنفواني وأخضع لعمى البصيرة حتى كدت أستوعب حماقة القدر. عند منتصف يوم الاثنين، ذهبت إلى كلية الآداب آملا أن أصادف بيا. كنت أعلم أنها لا تفضل أن يرانا الآخرون معا لكنني فضلت أن أحتمل سخطها على أن تطحنني الشكوك. سألت أحد الموظفين عن قاعة البروفسور فيلازغيز وانتظرت. وبعد عشرين دقيقة فتحت الأبواب ورأيت الأستاذ يمر بأبهة وأناقة معتادة، وتتبعه ثلة من المعجبين. انتظرت خمس دقائق أخرى: بيا ليست هناك. قررت أن أدخل القاعة. وجدتُ ثلاث فتيات - يبدو عليهن التأثر بدروس المبادئ المسيحية – يدردشن ويطلعن على الملخصات. رمقتني إحداهن بنظرة متحرية وكانت تبدو زعيمة المجموعة.
«المعذرة، كنت أبحث عن بياتريز آغويلار. هل تعرفن إن كانت ترتاد هذا الصف؟». تبادلت الفتيات النظرات ورحن يتفحصنني بعناية.
«هل أنت خطيبها؟» سألتني إحداهن. «الملازم؟» فسّرن ابتسامتي الغامضة على أنها تأكيد. وردّث واحدة منهن الابتسامة بمثلها على حياء، فيما بقيت الاثنتان ترمقانني بجسارة.
«كنت أتخيلك غير ذلك» قالت الجنرالة. «وأين بزتك العسكرية؟» سألت اللواء الثانية وهي تراقبني.
«لقد تسرحت، هل تعلمن إن كانت قد عادت إلى البيت؟»
«بياتريز لم تأت إلى دروس اليوم، أكدت الزعيمة بنبرة متحدية»
«كلا» أكدت وصيفتها. «ولو كنت خطيبها حقا لعرفت ذلك.»
«إنني خطيبها ولست شرطيا.»
«فلنذهب من هنا. هذا ليس إلا مهرجا يهدر وقتنا» قالت القائدة. مررن بجانبي بكبرياء وابتسامة فاترة. لكن الفتاة الثالثة التي بقيت خلفهما بخطوتين، همست قبل أن تخرج من القاعة وبعد أن تأكدت أن زميلتيها لا يشاهدانها:
«بياتريز لم تأت يوم الجمعة أيضا.»
«وهل تعلمين لماذا؟»
«أنت لست خطيبها صحيح؟»
«لا. أنا مجرد صديق»
«أعتقد أنها مريضة.»
« مريضة؟»
«هكذا قالت زميلتنا التي اتصلت بها إلى البيت. علي أن أذهب الآن.» ووصلت إلى رفيقتيها اللتين كانتا بانتظارها بفارغ الصبر في الباحة وأعينهن ترمي كالسهام.
«ربما حدث شيء ما يا دانيال. ربما توفي عم أبيها، أو أصابتها حمى البرد بعد أن ركنت مؤخرتها على أرضية الحمّام... لا تستغرب إذا كانت المجرّة لا تدور حول غرائز قضيبك يا عزيزي، فهنالك عوامل أخرى تؤثر في مسيرة البشرية.»
«وهل تظنني لا أعرف هذا؟ ربما أنت لا تعرفني جيدا يا فيرمين.»
«لوكان اللّه قد منحني رحما مناسبا لأنجبتك يا دانيال، فأنا أعرفك جيدا. اسمعني، وحاول ألا تفكر في الأمر واخرج لتعديل مزاجك. القلق صدأ الروح.»
«هل أبدو مثيرا للسخرية؟» «لا بل مشوش الذهن. في عمرك يسعى المرء لتضخيم بعض العوائق التي يواجهها ولكن لكل شيء حدوده. هذا المساء سنذهب أنا وأنت كي نروح عن أنفسنا في حانة عظيمة لبيع الهوى في حي بلاتيريا، يشاع عنها العجب العجاب. وقد بلغني مؤخرا وصول غانيات من ثيوداد ريال تلهبن مهجة القلب. وسأتكفل أنا بالنفقات.»
«وماذا عسى برناردا تقول؟»
«سأتصفح المجلات وأترك لك الفتيات وأستمتع بمحاسنهن عن بعد ريثما تنتهي. فإنني اعتنقت ديانة الارتباط بامرأة واحدة تطبيقيا على الأقل إن لم يكن فكريا أيضا.»
«أشكرك جزيل الشكريا فيرمين ولكنني...»
«شاب في الثامنة عشرة يرفض عرضا كهذا يعني أنه لا يتمتع بكامل قواه العقلية. ومن الضرورة أن يخضع لعملية عاجلة. خذ.»
فتش في جيويه وأعطاني بعض النقود. وتساءلت إن كان مقصد المال متعلقا بإيفادي إلى شاطىء الحوريات هذا.
«لن يردّوا علينا التحية بهذه القروش يا فيرمين.»
«يا لك من أبله يا دانيال. هل تصدّق أنني سآخذك إلى بيت دعارة لتعود إلى أبيك، أقدس رجل في العالم، وأنت مصاب بداء السيلان؟ لقد اخترعت قصة العاهرات كي أنبه العضو الوحيد الذي يعمل في جسدك فأرى إلى أي مدى يتفاعل. ستستخدم هذه القروش الحديدية في الهاتف العمومي، هكذا بوسعك أن تتحدث مع حبيبتك بحميمية اكثر»
«بيا قالت لي إنها هي التي ستتصل بي.»
«قالت لك أيضا إنها ستتصل الجمعة، ونحن في يوم الاثنين. كما تشاء. ولكن ضع في حسبانك أن الوقوع في غرام امرأة لا يعني بالضرورة أن تصدّقها في أي شيء.»
أقتعني فيرمين حتى وجدت نفسي بعد هنيهة في كابينة هاتف عمومي. ضغطت رقم آل آغويلار، وعند الرنة الخامسة رفع أحدهم السماعة دون أن ينطق شيئا. مرت خمس ثوان كاملة.
«بيا؟» همستُ، "أهذه أنتِ؟"
فانبثقت إجابة لها أثر المطرقة على البطن.
«يا ابن القحبة، سأضربك حتى تلفظ روحك.»
كان الغضب متماسكا في ذلك الصوت، هادئا وبارد الأعصاب. وهذا ما أخافني على الخصوص. كنت أتخيل السيد آغويلار يمسك بسماعة الهاتف نفسه الذي استخدمته مرارا كي أنذر والدي بأنني سوف أتأخر بعد يوم طويل أقضيه بصحبة توماس. وبقيت أصغي إلى أنفاس والدها اللاهثة وشككت بأنه عرف صوتي.
«ألا تقول شيئا أيها الوضيع؟ لو كنت رجلا لتشجعت لمواجهتي على الأقل. بيا شجاعة أكثر منك بكثير. لقد رفضت الكشف عن اسمك ولن تقوله أبدا. أعرفها جيدا. لكنها ستدفع هي ثمن أفعالك نظرا إلى جبنك وسفالة شخصيتك.»
كانت يداي ترتجفان حين أغلقت السماعة. وكنت مصدوما لأنني لم أتوقع أن تزيد مكالمتي من خطورة ما تتعرض له بيا. كنت أفكر في نفسي فقط وهكذا خذلت من أحب. وقد حصل هذا مسبقا عندما كاد المحقق فوميرويردي فيرمين صريعا، وها أنا أترك بيا تواجه مصيرها بمفردها. وسوف أفعل ذلك كلما وقعت في ظرف مشابه، مشيت عشر دقائق محاولا أن أهدى من روعي. وسألت نفسي إن لم تكن الحكمة تقتضي بمعاودة الاتصال والاعتراف بكل شيء للسيد آغويلار، والإفصاح عن هيامي بابنته. ولم أكن لأعترض لوهشم وجهي وهو يرتدي بزته العسكرية. فليفعل ما يشاء. لقد كان محقا. وفي عودتي إلى المكتبة رأيت رجلا يراقبني من الرصيف المقابل. للوهلة الأولى حسبته الدون فيديريكو الساعاتي، لكن ذلك كان أطول قامة وأكثر اكتنازا. وما إن نظرت إليه حتى أثنى رأسه، كأنه أراد أن يحييني ولم يكن يعنيه أنني اكتشفت أمره. كان ضوء الشارع ينير جانبا من وجهه فبدت لي تلك الملامح مألوفة. تقدم خطوة إلى الأمام وابتسم في وجهي بينما يشبك أزرار سترته المطرية، ثم اتجه نحولاس رامبلاس وغاب في الزحام. تذكرته حينها: كان العميل الذي احتجزني بينما كان فوميرو يعذب فيرمين المسكين. وعندما وصلت إلى المكتبة، رمقني صديقي بنظرة استجوابية.
«ما لوجهك شاحب؟»
(لدينا مشكلة يا فيرمين.)
قررنا ذلك المساء أن نباشر الخطة التي اتفقنا عليها مع الدون جوستابو برسلوه.
«يجدر بنا أن نتحقق أولا من أنهم يراقبوننا فعلا. سوف نذهب الآن إلى مقهى السل كواتري جاتس وكأن شيئا لم يكن، فنرى إن كان ما يزال في مكانه. ولا تخبر والدك بالموضوع وإلا انهارت أعصابه.»
«وبأي حجة أتذرع هذه المرة؟ سيكشف سرنا قريبا.»
«قل له إنك ذاهب لتشتري حبوب اليقطين أو حلوى الشوكولا.»
«ولماذا السل كواتري جاتس بالتحديد؟»
«كي ندردش قليلا. ثم إنهم هناك يحضرون أفضل الشطائر باللحوم المقددة في المدينة كلها. لا تكثر من الأسئلة وافعل ما أقول يا دانيال.»
كنت مستعدًا لفعل أي شيء كي أتخلص من الأفكار التي كانت تؤرقني. خرجت من المكتبة بعد أن وعدت والدي بالعودة في ساعة العشاء. وعندما أدركت فيرمين على زاوية بويرتادل أنخل، أشار إلي بالمتابعة.
«لا تلتفت. فالجاسوس خلفنا بعشرين مترا.»
«هو نفسه؟»
«لا أعتقد، اللهم إلا إذا قلصته الرطوبة. وهذا يبدو ساذجا. يتجول بجريدة رياضية تعود إلى أسبوع مضى. فوميرو بات يجند المبتدئين في مخفر المجانين الذي يرأسه.»
وفي المقهى، جلس العميل المجهول على طاولة غير بعيدة عن طاولتنا، يتظاهر بقراءة أخبار مباريات الأسبوع الفائت. ويلقي علينا نظرة كل عشرين ثانية «يا له من مسكين، انظر كيف يتصبب عرقا» قال فيرمين وهو يهز رأسه. «أراك مرتبكا يا دانيال. هل تمكنت من التكلم مع الفتاة؟»
«أجاب والدها.»
« مكالمة ودية ومحترمة؟»
«بل أشبه بمونولج بالأحرى.»
«أفهم أنه لا يعاملك كصهر.»
«قال لي حرفيا إنه سيضربني حتى ألفظ روحي.»
«ربما كان مجازا أدبيا.»
وصل النادل ليأخذ طلباتنا. وراح فيرمين يحك يديه ويطلب طعاما لجيش عرمرم. «وأنت ألا تطلب شيئا يا دانيال؟»
نفيت بإيماءة من رأسي. وعاد النادل بطبقين من اللحوم والشطائر والبيرة. دفع فيرمين الحساب وأخبره بأن يأخذ الباقي.
«سيدي، أترى ذلك الرجل الجالس بجانب النافذة؟ ذاك الذي يرتدي ثيابا تليق بصرصور ناطق ورأسه غارق في الجريدة مثل الكستناء الملفوف فيالورقة؟»
هز النادل رأسه بحركة تآمرية.
«هلا أبلغته بأن المحقق فوميرو يبرق إليه رسالة عاجلة؟ عليه أن يتجه مباشرة إلى سوق بوكويرا ليشتري حمّصا مسلوقا بقيمة مائة بيزيتا ويأخذها إليه بأسرع ما يمكن إلى المخفر، ولو بسيارة أجرة إن لزم الأمر، والا فقد خصيتيه. هل أكرر ما قلت؟»
تكرّم عليه بمزيد من البقشيش.
«بارك الله فيك.»
انحنى النادل باحترام وذهب لينقل الرسالة إلى ذلك الأبله. جحظت عينا العميل وترجرج خمس عشرة ثانية ثم هرع نحو الشارع فيما ينظر إليه فيرمين بحيادية تامة. كنت سأرى المشهد هزليا جدا لو حصل في لحظة أخرى لكني لم أنجح في نزع بيا من بالي.
«أين سرحت يا دانيال؟ علينا أن نتناقش في العمل. غدا ستذهب إلى نوريا مونفورت كما اتفقنا.»
«وماذا أقول لها؟»
«لن تنقصك المواضيع. يكفي أن تتبع خطة السيد برسلوه. قل لها إنك اكتشفت كذبتها بخصوص كاراكس، وإن زوجها ميغيل مولينر ليس في السجن، وإنها كانت تستلم المراسلات الموجهة إلى شقة فورتوني كاراكس القديمة باستخدام صندوق بريدي باسم محام ليس له وجود. احصرها في الزاوية وتكلم بنبرة درامية واطرح سيناريوهات كارثية ثم انصرف في اللحظة المناسبة واتركها تغلي على نار الشكوك.»
«وأثناء ذلك...»
«أثناء ذلك سأكون هناك لألحق بها. واعلم أنني سأكون متنكرا.»
«لن تنجح الخطة يا فيرمين.»
«ثق بالخطة تنجحْ. ماذا قال والد تلك الفتاة حتى تغير حالك؟ هل بسبب التهديدات؟ لا تنصدم!»
«أتريد معرفة الحقيقة؟»
«الحقيقة بحسب القديس دانيال الشهيد. »
«اسخر مني. أستحق ذلك.»
«لا أسخر منك يا دانيال، إنما يؤسفني أن أراك مهموما هكذا كما لو أنك ترتدي تاج الشوك في رأسك. أنت لم تقم بأي خطأ. هذا العالم مليء بالسجانين فلا يجدر بنا أن نهدر وقتنا في جلد ذواتنا كما فعل توركويمادا المازوخي.»
«هل تتحدث عن سابق تجربة؟» شدّ فيرمين كتفيه.
«لم تقل لي يوما كيف اصطدمت بفوميرو» ضغطت عليه.
«هل تريد أن تسمع قصة نموذجية؟»
«إن كنت ترغب في روايتها طبعا.»
سكب فيرمين لنفسه كأسا من النبيذ واحتساه في رشفة واحدة.
«حسنا،» قال.
«الجميع يعرف من هو المحقق فوميرو. في المرة الأولى التي سمعت باسمه كان المحقق الواعد قاتلا مأجورا لصالح الأناركيين. ذاع صيته على نطاق واسع لأنه لا يماطل في أي مهمة توكل إليه. يكفيه اسم الشخص ليغتاله بطلقة وجها لوجه في وضح النهار وعلى مرأى الناس جميعا. كان واحدا من أولئك الرجال الذين يعلو شأنهم في الفترات العصيبة. ناهيك أنه لا يعرف معنى الوفاء والإخلاص للقيم، ولا يهتم بالقضية التي يخدمها بقدر ما كانت تخدمه. إن الأرض تكتظ بالشرسين أمثاله لكن قلة منهم تمتلك مواهبه. فيما بعد وضع نفسه في خدمة الشيوعيين ومنهم إلى الفاشيين برفة عين. كان يقوم باللعبة المزدوجة ويتقاضى الأموال من الجميع. كلفتُ بمراقبته منذ زمن حيث كنت أعمل لصالح حكومة كاتالونيا المستقلة في تلك الآونة. وفي بعض الأحيان كانوا يخطئون بيني وبين شقيق كومبانيس البشع وهذا ما كنت أفخر به.»
«وماذا كنت تعمل؟»
«الكثير من الأشياء. اليوم تعرّف نشاطاتي على أنها تجسس، ولكننا في زمن الحرب نتحول جميعنا إلى جواسيس. كان جزء من عملي يتمحور على مراقبة الأشخاص الأشد خطورة مثل فوميرو. إنهم أفاع وكائنات بلا أخلاق، يتكاثرون في زمن الحروب. وفي زمن السلم يرتدون القناع. لكن طباعهم لا تتغير، وتعدادهم بالآلاف. على أية حالة ستكتشف أدوارهم عاجلا أم آجلا. أما أنا، والحق يقال، فاكتشفتها متأخرا. ما إن سقطت برشلونة حتى صرت مجرما في نظر القانون وأجبر رفاقي الضباط الأعلى مني رتبة على التخفي كالفئران. وطبعا ترقى فوميرو لإدارة العمليات «الأمنية». كانت الإعدامات، رشقا بالرصاص، تحدث في الشوارع أو في قلعة مونتويك. اعتقلوني في الميناء حين كنت أؤمن فرار بعض الضباط على باخرة يونانية. وساقوني إلى مونتويك وسجنوني في زنزانة مظلمة اليومين، وعلقني فوميرو بالمقلوب بمساعدة رجل آخر يتحدث الألمانية حصرا. نزع الألماني ثيابي وأحرقها بلهيب مؤكسد. وكان يبدو أنه خبير بما يقوم. وحين بنت عاريا والحروق تظهر على جلدي، قال لي فوميروإن الحفلة سوف تبدأ إن لم أخبره عن مكان اختباء رفاقي الضباط. وأنا لست بطلا يا دانيال. ولم أكن كذلك يوما، لكنني تحليت بالقليل من الشجاعة لأشتم والدته وكل سلالته. فحقنني الألماني، بأمر من فوميرو، بسائل في فخذي وانتظر عدة دقائق. وبينما كان الآخر يدخن وينظر إلي مبتسما، راح الأول يشويني باللهيب المؤكسد. وقد رأيت الكدمات بأم عينك.»
هززت رأسي.
كان فيرمين يتحدث بنبرة حيادية تخلو من العواطف. «ولا تعد تلك الجراح شيئا أمام الجراح التي لا تراها العين. قاومت لساعة كاملة، وربما لدقيقة واحدة، لا أعرف. ولكنني في النهاية أفشيت بأسمائهم وكنياتهم وحتى بقياسات قمصانهم. ثم ألقوا بي في زقاق من حي بويبلوسيكو، والحروق واضحة على جسدي العاري. فاستقبلتني سيدة طيبة في بيتها وعالجتني لمدة شهرين. كان الشيوعيون قد قتلوا زوجها وولديها على باب البيت، دون أن تعرف السبب. وعندما أصبحت قادرا على النهوض، بلغني أن فوميرو قد ألقى القبض على جميع الضباط، وتم إعدامهم بعد ساعات قليلة من خيانتي.»
«فيرمين إن كنت تفضل عدم المتابعة في...»
«لا لا. من الأفضل أن تعرف الشخص الذي أمامك... عندما عدت إلى البيت، اكتشفت أن الحكومة صادرته مثلما صادرت كل أملاكي. فغدوت صعلوكا متسكعا على غفلة مني. بحثت عن عمل لكن أحدا لم يمنحني إياه. أسهل شيء تمكنت من تدبيره غالبا هو النبيذ الرديء، فسعره لا يتعدى القروش. إنه عبارة عن سم بطيء ينخر أحشاءك مثل الأسيد وكنت أتمنى أن يقوم بتأثيره سريعا. توهمت أيضا أنني أستطيع العودة إلى كوبا عند عشيقتي لكنهم اعتقلوني مجددا في اليوم الذي حاولت فيه الإبحار بباخرة شحن إلى هافانا. ولم يعد بوسعي عدّ الزمن الذي قضيته في ظلام السجن. بعد العام الأول، أدركت أنني كنت أفقد كل شيء، حتى الوعي. وحين خرجت من السجن بدأت أعيش في الطرقات حيث عثرت علي أنت منذ عدة أعوام. وكان هنالك الكثيرون مثلي، رفاق سجن أو عفو عام، أكثرهم حظا من كان يجد أحدا ينتظره في البيت، أو أي شيء يستحق العودة لأجله. أما الآخرون، أمثالي، زادوا في أعداد المستضعفين. تقف في طابور طويل ويعطونك بطاقة اشتراك في ذلك النادي لتصبح فيه عضوا مدى الحياة. كنا غالبا ما نتجول في الليل حصرا كي لا نثير الشبهات. وتعرفت على كثيرين ممن عانوا مثلي، لكنني نادرا ما التقيت بهم مرة أخرى. إذ لا يعيش المتسكعون طويلا، فالناس تنظر إليهم باشمئزاز بما فيهم أولئك الذين يقدّمون الصدقة. لكن ازدراء الآخرين لا يقارن بالقرف الذي تشعر به تجاه نفسك: جثة تمشي وتشعر بمعاناة الجوع، رائحتها كريهة وتعاند كي لا تموت. وظل فوميرو وأزلامه يعتقلونني بين حين وآخر بتهم متنوعة: سرقات أو مضايقة البنات اللواتي ينصرفن من مدارس الراهبات. فأرزح في سجن موديلو مدة شهر وأُعذب بالعصي ثم اخرج إلى الشتات مرة أخرى. لم أفهم أبدا ما سبب تلك المعاملة، ولكنني أجزم أن الشرطة تحتاج دوما إلى لائحة من المشكوك في أمرهم فتغترف منهم حين تشتد الضرورة. وأثناء إحدى لقاءاتي الكثيرة مع فوميرو، الذي علا شأنه مع الوقت، سألته لماذا لا يقتلني مثلما فعل بالآخرين. فأجابني ضاحكا إن هنالك أنواعًا من القصاص أسوأ من الموت. كان يقول إنه لا يقتل الخونة، بل يتركهم للعفن.»
«لست خائنا يا فيرمين. فلم تكن أمامك خيارات. أنت صديقي المفضل. »
«لا أستحق صداقتك يا دانيال. أنت ووالدك أنجيتماني وحياتي الآن معلقة بأيديكما. في اليوم الذي انتشلتني فيه من الشوارع، ولد فيرمين روميرو دي توريس من جديد.))
((هل هذا اسمك الحقيقي أم أنا مخطئ؟»
هز رأسه نافيا.
«قرأته على إحدى اللافتات في ساحة لاس اريناس. لقد تخليت عن اسمي الحقيقي منذ أعوام مضت. فالرجل الذي كان يسكن هذا الجسد مات، مع أنه مازال يراودني أحيانا في الكوابيس. أنت يا دانيال علمتني كيف أستعيد الثقة بنفسي مجددا وأعطيتني دافعا للاستمرار في الحياة: برناردا غاليتي.»
«فيرمين... »
«لا تقل شيئا يا دانيال. بل سامحني إن استطعت.»
عانقته بصمت وتركته يبكي. كان الزبائن ينظرون إلينا ثم تجاهلونا فيما بعد. وبينما كنت أرافقه إلى النزل توسّل إلي:
«اسمعني... لا تقل شيئا لبرناردا مما رويت عليك.»
«لا لبرناردا ولا لأي شخص آخر. سرّك في بئر يا فيرمين.»
تصافحنا وتودعنا.
37
قضيت الليلة ساهرا مستلقيا على السرير والنور موقد، انظر إلى قلم مونتبلانك الذي لم أكتب به سطرا واحدا منذ أعوام. كنت أراه كزوج من القفازات الفاخرة تمنح هدية لشخص مبتور اليدين. فكرت في الذهاب إلى آل آغويلار والاستسلام لوالد بيا نظرا إلى انعدام البدائل. ولكنني، وبعد تمعّن عميق، توصلت إلى أن مداهمة ذلك المنزل ليلا لن تزيد الطين إلا بلة. بزغ الفجر وأنا منهك فرأيت أن الحل الأفضل هو انتظار ما ستؤول إليه الأمور، مستندا بذلك إلى أنانيتي الضيقة. كانت الصبيحة في المكتبة هادئة فانتهزت الفرصة لأنام واقفا بتوازن يعجز عنه الحصان، على حد وصف والدي. وفي منتصف النهار، اخترعت حجة للخروج كما اتفقنا في المساء السابق، وتذرع فيرمين بالذهاب إلى الطبيب كي ينزع اللصاقات. لم يشك والدي في شيء لكنني كنت أكذب عليه بشكل ممنهج وهذا ما كان يزعجني. أطلعت فيرمين على هواجسي.
«يا دانيال إن العلاقة بين الولد والوالد تقوم على كذبات صغيرة لا تنتهي وغاياتها حميدة. الهدايا التي يحملها يسوع الطفل، فأر الأسنان وخرافات أخرى كثيرة... لا تشعر بالذنب.»
خرجت متعجلا في اللحظة المناسبة متجها صوب نوريا مونفورت، وقلبي يخفق لأنني سألقاها ثانية. وكانت ساحة سان فيليب نيري مرتعا لسرب كسول من الحمام. تمنيت أن أجد نوريا جالسة على المقعد مع كتابها، لكن الساحة خاوية من الناس. اجتزتها تحت أنظار العشرات من الطيور، وأنا أنظر حولي بحثا عن فيرمين المتخفي في مكان لا يعرفه غير الله. دخلت الردهة وتحققت أن اسم ميغيل مولينر ما يزال على صندوق البريد. كان هذا من أولى المغالطات التي سأطلع نوريا عليها. وبينما كنت أصعد السلم المعتم تمنيت ألاً أجدها في البيت، ومن ينتمي إلى فصيلتي يتعاطف مع المخاتلين أمثالي. تمهلت قليلا في الفناء كي أجمع شجاعتي وأفكر في حجة معقولة لزيارتي. كان راديو الجارة يبث «قديس في الجنة»، برنامج مسابقات في المواضيع الدينية، يشدّ إسبانيا كلها للتجمع حول الراديو في منتصف النهار من كل ثلاثاء.
والآن سؤال موجه إلى بارتولوميه بقيمة خمسة وعشرين بيزيتا: يتجلى الشيطان لحكماء قبة العهد بحسب الملاك جبريل وسفر يوشع بين نون متسترا في أ) عنزة. ب) تاجر خزفيات. ج) مهرج بصحبة قرد.
وبعد أن سمعت تصفيق الجمهور الحاضر في استديوهات راديو ناثيونال طرقت بدقة على باب نوريا مونفورت. وتوهمت لوهلة أنها ليست موجودة، وكنت على وشك الانصراف حين سمعت خطوات خفيفة ولمحت دمعة ضوء تلمع في كوة الباب. دار المفتاح في القفل والتقطتُ أنفاسي بعمق.
38
«دانيال» قالت مبتسمة في انعكاس الضوء.
كان دخان السيجارة اللازوردي يستر وجهها فيما تزدان شفتاها الرطبتان بصبغ قرمزي داكن يترك أثر الدماء على عقب السيجارة التي تحملها بين الوسطى والسبابة. بعض الأشخاص يخطرون في بالنا بفضل الذكريات، وآخرون يتجسدون في أذهاننا كالأحلام المعقدة. كنت أعتقد أن لنوريا مونفورت سمات المعجزة: لا أشك بوجودها إنما أتخيل أنها قد تتلاشى بين لحظة وأخرى. تبعتها إلى الصالة الصغيرة الغارقة في الظلام حيث كانت منضدتها وكتبها وأقلام الرصاص المبرية بإتقان.
«ظننت أنني لن ألقاك ثانية.»
«المعذرة، لقد خيبت ظنك.»
جلست على كرسي المنضدة ووضعت ساقا على ساق وأسندت ظهرها. نزعت بصري عن ذلك العنق الشهي وركزت النظر في بقعة رطوبة على الحائط. اقتربت من النافذة وألقيت نظرة خاطفة على الساحة. لم أجد فيرمين. كنت أصغي إلى أنفاس نوريا خلف ظهري، وأفكر في كثافة نظراتها. بدأت حديثي دون الالتفات إليها.
«منذ بضعة أيام اكتشف أحد أصدقائي الأعزاء أن مدير شقة فورتوني القديمة كان يبعث المراسلات البريدية إلى مكتب محام ليس له وجود على ما يبدو. وعلِم صديقي نفسه ان احدا كان يستلم المراسلات من صندوق البريد في السنوات الأخيرة مستخدما
اسمك، السيدة مونفو... »
«اخرس.»
لجأت إلى الظل بينما كنت ألتفت نحوها.
«أنت تحكم علي دون أن تعرفني.»
|«ساعديني كي أعرفك بشكل أفضل إذن.»
«مع من تحدثت بالأمر؟ من يعلم به الآن؟»
«أكثر من شخص. والشرطة تراقبني منذ مدة.»
«فوميرو؟»
أومأت مؤكدا فارتجفت يداها.
«أنت لا تعي ما تفعل يا دانيال.»
«اشرحي لي أنت يا سيدتي» أجبتها بقسوة كنت أول المستغربين منها.
"هل تحسب أن عثورك على كتاب بالصدفة يعطيك الحق في اقتحام حياة أشخاص لا تعرفهم؟ هل تظن أنك قادر على توريط نفسك بشؤون لن تفهمها ولا تخك أصلا"؟
«الآن باتت هذه الأمور تخصني شئت أم أبيت.»
«أنت لا تدري ما تقول.»
«كنت في قصر الدايا. أعرف أن خورخي يختبئ هناك. أعرف أنه هو الذي اغتال كاراكس.»
حدقت إليّ طويلا.
«وهل يعلم فوميروبهذا؟» سألتني.
«ليس لدي فكرة. »
«من الأفضل أن تتحقق من الأمر. هل لاحقك حتى هناك؟»
كانت عيناها تقدحان شررا من شدة الغيظ. فأنا دخلت بيتها كي أتهمها وأقاضيها وأحكم عليها في حين كنت الجاني تحديدا.
«لا أعتقد. هل كنت تعلمين ذلك؟ هل كنت على علم بأن الدايا هو قاتل خوليان وأنه يختبئ في ذلك القصر...لماذا لم تقولي لي هذا؟»
كانت تتصنع ابتسامة مرّة.
«لم تفهم الأمر، أليس كذلك؟»
«لم أفهم سوى أنك كذبت علي كي تدافعي عن مجرم قتل رجلا تسمّينه صديقك، وتسترت على هذه الجريمة لأعوام، وحميت مجنونا كان هدفه الوحيد أن يمحو أي أثر لخوليان كاراكس بإحراق كتبه. كذبت في خصوص زوجك، إذ لا وجود له في السجن ولا في هذا البيت على ما يبدو. هذا ما فهمته.»
«اغرب عن وجهي يا دانيال. انصرف ولا تعد إلى هنا أبدا. لقد ارتكبت بما فيه الكفاية من الحماقات.»
اتجهت صوب الباب ثم توقفت وعدت أدراجي. كانت نوريا مونفورت تجلس على الأرض وتستند بكتفيها إلى الحائط. لقد تبددت ثقتها الظاهرية. اجتزت ساحة سان فيليب نيري وأنا أشعر بالألم الذي كان يعذب تلك المرأة، وأشعر بأنني مجرد أداة من أدوات التواطؤ في تلك المعاناة.
«أنت لا تعي ما تفعل يا دانيال.» كنت أرغب في الابتعاد عن ذلك المكان بأي ثمن. وحين مررت قبالة الكنيسة لمحتُ راهبا هزيلا كالمسمار، وأنفه كبير، يباركني من العتبات وهو يحمل بيديه كتيبا دينيا ومسبحة.
39
عدت إلى المكتبة متأخرا ثلاثة أرباع الساعة. نظر والدي بنفاد صبره إلى الساعة.
«ألا يبدو لك أنك تأخرت؟ تعرفان أنه علي الذهاب إلى سان كوجات لألتقي بزبون فتتركاني وحيدا هكذا.»
«ألم يعد فيرمين من عند الطبيب؟»
أجابني بإشارة مستعجلة تذكرني بمزاجه المكدّر.
«آه، انظر وصلتك رسالة. تركتها قرب الصندوق.»
«اعذرني يا أبي فإنني...»
ارتدى سترته وقبعته وخرج دون أن يودّعني. كان غيظه سيفتر قبل أن يصل إلى المحطة، فقد كنت أعرفه جيدا. لكنني انشغلت باختفاء فيرمين. لقد رأيته بزي الراهب في ساحة سان فيليب نيري ينتظر نوريا مونفورت أن تقوده إلى مخارج السرّ العظيم. لم أكن أثق جدا بتلك الخطة وكنت أعتقد أن نوريا إن خرجت من المنزل فإنها لن تذهب أبعد من الفرّان أو الصيدلية عند زاوية الشارع. يا لها من خطة محكمة. اقتربت من الصندوق وألقيت نظرة على الرسالة التي وصلتني. كان الظرف، بشكله المثلث ولونه الأبيض، يبدو كشاهدة قبر يحل فيها العنوان الفظيع بدلا من الصليب.
حكومة برشلونة العسكرية
مكتب التجنيد
"هللويا" هتفت.
كنت أعرف مسبقا ما الذي يحتويه الظرف. ومع ذلك فتحته بدافع الغرق حتى القاع. كانت السطور موجزة، مقطعان من نثر معقد، تخبرني بأنه ينبغي علي، أنا دانيال سيمبيري مارتين، أن أستعد لأداء واحد من أكثر الواجبات تقديسا على الذكر الإيبيري: خدمة الوطن وارتداء الزي العسكري ذودًا عن القيم الروحية للغرب المسيحي. تمنيت أن ينجح فيرمين في إضحكانا بهجائه لـ «فشل المؤامرة اليهودية الماسونية». عليّ أن ألتحق في غضون شهرين. أي ثمانية أسابيع. يعني ستين يوما. وكنت سأظل أقسّم الوقت حتى الوصول إلى رقم ضوئي مكون من خمسة ملايين ومائة وأربعة وثمانين ألف ثانية من الحرية. ومن يدري إن كان بوسع الدون فيديريكو، القادر على تصنيع فولكس فاجن كما يقول والدي، أن يصنع لي ساعة مجهزة بالمكابح كي أخفف من إهدار الزمن. وكم كنت في حاجة إلى من يشرح لي ماذا أفعل كي لا أفقد بيا إلى الأبد. وفجأة رن الجرس المعلق على الباب، فجهزت نفسي لرؤية فيرمين يعود بخفيّ حنين.
«من أرى؟! ولي العهد في عرينه المستحق، ولكن بوجه شاحب.»
قال جوستابو برسلوه وكان يرتدي معطفه الطويل الأنيق ويتكئ على عكاز، بمقبض عاجي، ليس له لزوم كأنه راع.
«أين أبوك يا دانيال؟»
«المعذرة يا دون جوستابو. والدي ذهب إلى أحد الزبائن.»
«جيد جدا. لم آت إلى هنا من أجله. من الأفضل ألا يعلم شيئا ممّا ساقوله للك.»
نزع قفازيه وألقى نظرة عامة على المحل.
«وزميلنا فيرمين؟»
«إنه يناضل على الجبهة.»
«أتخيل أنه يضحي بنفسه لحل لغز كاراكس.»
«إنه يكرّس نفسه للمسألة جسدا وروحا. كان يرتدي زي الرهبان في آخر مرة رأيته فيها ويلقي خطبة الفاتحة البابوية.»
«أفهم ذلك... الذنب ذنبي. لم يكن من الضروري أن أقترح عليكما هذه الخطة»
«تبدو لي محتارا. هل طرأ شيء ما؟»
«لا لا. بل أجل.»
«قل لي يا دون جوستابوه »
ابتسم بائع الكتب برقة. تراجعت طباعه المتغطرسة وحل مكانها حذر مشوب بالاضطراب.
«هذا الصباح تعرفت على مانويل غوتييريز فونسيكا، وهو سيد يناهز التاسعة والخمسين عاما، اعزب وموظف في حجرة الموتى في بلدية برشلونة منذ العام 1924. ثلاثون عاما من الخدمة على أعتاب العدم والظلمات. أقتبس جملته كما هي. الدون مانويل رجل نبيل من الطراز العتيق، وهو أنيق ومهذب وشهم. يعيش منذ خمسة عشر عاما في غرفة لا أثاث فيها في شارع لاسينيزا، مع اثني عشر خوريا صغيرا يتعلمون تصفير المرش الجنائزي. كما أنه مشترك في مسرح الأوبرا ويعشق فيردي ودونيزيتي. يدّعي بأن الإذعان للنظام عنصر جوهري في عمله، لاسيما في المواقف التي لا يكون فيها للمرء حول أو قوة. منذ خمسة عشر عاما، حدث أن فتح الدون مانويل حقيبة جلدية سلمته إياها الشرطة فوجد فيها رأس صديق طفولته الغالي على قلبه. وكان باقي الجسد في كيس منفصل. ومنذئذ أذعن مانويل للنظام.»
«هل ترغب بفنجان قهوة يا دون جوستابو؟ لقد اصفرّ وجهك.»
« أشكرك.» أخذت حافظة القهوة وسكبت ما فيها بالفنجان ووضعت فيه ثمانية
ملاعق من السكر. فازدردها برسلوه برشفة واحدة.
«هل تشعر بتحسن؟»
«أجل شكرا. إذن، الحال أن الدون مانويل كان في عمله حين أتوا بجثة خوليان كاراكس إلى حجرة الموتى، في آب 1936. وما كان الدون مانويل ليذكر الاسم طبعا لولا إنعاش ذاكرته بتحرّ سريع في الأرشيف وإكرامية مادية مني من شأنها أن تدعم راتبه التقاعدي الشحيح. هل أنت معي؟»
حرّكت رأسي.
«يذكر الدون مانويل ذلك النهار جيدا لأنه أقر لي بأنه تجاوز النظام يومها وهو نادرا ما يرتكب غلطة كهذه. قالت الشرطة إنهم عثروا على الجثة في زقاق من حي الرافال قبل الفجر بسويعات. وصل الرفات إلى حجرة الموتى في منتصف الصباح. وكان الميت لا يحمل معه سوى كتاب وجواز سفر يعرّف بأنه خوليان كاراكس، المولود في برشلونة عام 1900. ويشهد ختم حدود لاخونكويرا على جواز السفر بأن كاراكس قد دخل إلى إسبانيا قبل شهر. ولقي مصرعه بسبب سلاح ناري ظاهريا. دون مانويل ليس طبيبا لكنه تعلم الكثير من الأشياء بفضل الخبرة. فهو يرى أن العيار الناري، بمحاذاة القلب، قد أطلق من مسافة قريبة جدا. سمحت المعلومات على جواز السفر بالوصول إلى السيد فورتوني، والد كاراكس، الذي حضر إلى حجرة الموتى في مساء اليوم نفسه كي يتعرف على الجثة. »
« حتى هنا كل شيء يتطابق مع رواية نوريا مونفورت.»
"صحيح. لكن نوريا مونفورت لم تقل لك بأن الدون مانويل، حين شك بجدية الشرطة في الكشف عن الجريمة ولاحظ أن الكتاب الموجود في سترة الجثة كان من مؤلفات المغدور، اتصل بدار النشر في الظهيرة قبل أن يصل السيد فورتوني.»
« مونفورت تؤكد أنه اتصل بدار النشر بعد ثلاثة أيام من وصول الجثة فقط، أي بعد دفنه في حفرة جماعية. »
«أما الدون مانويل فيؤكد أنه اتصل في اليوم الذي وصلت فيه الجثة إلى حجرة الموتى. يقول إنه تحدث مع سيدة شابة لطيفة جدا شكرته على اتصاله، ويذكر أنه ظل مشدوها من نبرة صوتها لأنها بدت كأنها تعرفه مسبقا، كما يدّعي.»
«وماذا قال عن السيد فورتوني؟ هل صحيح أنه رفض التعرف إلى جثة ابنه؟»
«هذا هو التفصيل الذي لفت انتباهي وأردت التحقق منه. يروي الدون مانويل أن رجلا عجوزا جاء إليه بصحبة عنصرين من الشرطة قبل مغيب الشمس بقليل وهو السيد فورتوني. تتركز صعوبة ذلك العمل على إقناع أحد أفراد العائلة بضرورة التعرّف إلى جثة أحد أبنائهم، الأمر الذي لا يستطيع الإنسان الاعتياد عليه. إنها لحظة عذاب شاق، لكن العذاب الأكبر إذا كان الميت شابا وعلى والديه أو شريكه أن يقوم بهذه المهمّة الصعبة. الدون مانويل لم ينس السيد فورتوني: وقف الأخير على عتبة الحجرة والعنصران على يمينه وشماله وأصدر نواحا يعجز اللسان عن وصفه وهويكرر: ماذا فعلوا بابني؟ ماذا فعلوا بابني؟»
«هل رأى الجثة؟»
«رغب الدون مانويل في أن يقترح على الشرطة أن تعفي فورتوني من ذلك. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يشذ فيها عن الإذعان للنظام وتطبيق القوانين بحذافيرها. كانت الجثة في حالة يرثى لها، فالرجل مات قبل أكثر من أربع وعشرين ساعة عندما جاؤوا به إلى الحجرة، وليس في الصباح كما تدّعي الشرطة. كان يخشى أن يصاب العجوز بلوثة نفسية إذا رأى جثة نجله. رفض فورتوني الخضوع للواقع، وظل ينوح غير مصدّق أن ابنه خوليان قد مات... في تلك اللحظة رفع الدون مانويل الكفن وطلبوا من العجوز أن يتعرّف على جثة ابنه.»
«وماذا بعد؟»
«أمعن السيد فورتوني النظر في الجثة بصمت مطلق حوالي الدقيقة. ثم استدار وانصرف »
«انصرف هكذا؟»
«تماما.»
«ولم تمنعه الشرطة عن ذلك؟ ألم يكونوا هناك للتحقق من الجثة؟»
«بلى، نظريا. لكن الدون مانويل يذكر أن هنالك شخضا آخر في المكتب، شرطيًا ثالثًا دخل بينما كان العميلان برفقة السيد فورتوني أمام الجثة. ظل يتابع المشهد عن قرب، مسندا ظهره إلى الحائط والسيجارة في فمه. مازال الدون مانويل يذكره لأنه عندما حاول تذكيره بأن القانون يمنع التدخين في حجرة الموتى منعا باتا، أشار إليه أحد العنصرين بإغلاق فمه. وما إن انصرف السيد فورتوني حتى دنا الشرطي الثالث وألقى نظرة خاطفة على الميت وبصق في وجهه. ثم وضع جواز السفر في جيبه وأمر بإرسال الرّفات إلى ضاحية تونس22 ليوارى الثرى في حفرة جماعية صباح اليوم التالي.»
«أجل، وقد فكر فيه الدون مانويل أيضا، لاسيما أن هذا الإجراء لا يتوافق مع النظام والقانون. اعترض متسائلا «كيف ونحن لا نعرف من يكون؟». تجاهله الشرطيان فتحداهما الدون مانويل: «إنكم على علم تام بالمسألة. من الواضح أن هذا الرجل ميت منذ يوم على الأقل». كان الدون مانويل مصابا بحمى اتباع القوانين واحترام النظام، لكنه لم يكن غبيا. فعندما نظر إليه الشرطي الثالث بشراسة قل مثيلها، وسأله إن كان يرغب في مرافقة تلك الجيفة إلى الدرك الأسفل من جهنم، ارتعد الدون مانويل حقا. كانت نظرة ذلك الرجل تدب الرعب في القلوب وتوحي بأنه عصابيّ ولا يمزح أبدا. برر الدون مانويل قائلا إنه إنما أراد مجاراة القوانين المتبعة، والتي تمنع دفن مواطن مجهول بهذه السرعة. «أنا سأقرر من هو هذا الرجل» ردّ الشرطي. أمسك بالسجل ووقع تحت اسم الميت. يدّعي الدون مانويل أنه لن ينسى ذلك الإمضاء ما بقي حيا، لأنه صادفه عشرات المرات، خلال الحرب الأهلية وما بعدها، على صفحات سجلات المقتولين، قرب جدول الجثث مجهولة الهوية إذ كان لا أحد يعرف من أين تصل ولم يكن بمقدور أحد التعرف عليها.»
«المحقق فرانشسكو خافيير فوميرو.»
«القائد الممجد في سلك الشرطة. هل تعلم ما معنى هذا يا دانيال؟»
«هذا يعني أننا خلطنا عمرا بزيد منذ البداية.»
أمسك برسلوه بعكازه وحمل قبعته واتجه نحو الباب مكتئبا.
«هذا يعني أن الحكاية بدأت توَّا.»
40
لم أنشغل خلال المساء إلا بالتفكير في التحاقي الوشيك بالجندية وفي انتظار فيرمين. بقي القليل على إغلاق المكتبة ولم يظهر صديقي بعد. اتصلت بالنزل في حي خواكين كوستا وأخبرتني السيدة أنكارنا بصوتها التالف أن فيرمين خرج في الصباح ولم يعد حتى الساعة.
« سيجد العشاء باهتا إن لم يعد خلال نصف ساعة. هذا ليس فندق ريتز باريس. هل أصابه مكروه؟»
«اطمئني يا سيدة انكارنا. لابد أنه استغرق في سمسرة بعض المبيعات فتأخر. بأية حالة، إن رأيته قبل أن تنامي سأكون ممتنا لك لو أخبرته بأن يتصل بي. أنا دانيال سيمبيري، جار صديقتك مرسيديتاس.»
«دون شك. ولكنني أحيطك علما بأنني أنام في الثامنة والنصف.»
اتصلت برسلوه مباشرة، آملا أن يمرّ به فيرمين كي يفرّغ جعبته أو ليخرج مع برناردا إلى مكان ما. ولم أتوقع أن تجيبني كلارا.
«دانيال، يا للمفاجاة.»
وأنا فوجئتُ مثلك، قلت في سرّي. وبعد أن قمت بخطبة مختصرة تليق بالدون آناكليتو، أفصحت عن سبب اتصالي دون اهتمام.
«لا. لم يأت فيرمين اليوم. كنت مع برناردا طيلة الظهيرة وكنت سأنتبه لوجوده. أتعرف أننا تحدثنا عنك؟»
«كانت محادثة مملة. »
«برناردا تقول إنك شاب وسيم، بل قد أصبحت رجلا.»
«أتغذى على الفيتامينات.»
هيمن الصمت طويلا.
«هل تعتقد أننا سنعود يوما أصدقاء يا دانيال؟ كم سيمضي من الوقت كي تغفر لي؟»
«نحن أصدقاء يا كلارا، ولم تخطئي كي أغفر لك. تعلمين هذا.»
"عمي يقول إنك ما تزال تستقصي عن خوليان كاراكس. لم لا تأتي لزيارتي وتروي علي المستجدات؟ أنا أيضا لدي ما أخبرك به."
«حسنا. في بحر هذا الأسبوع.»
«سوف أتزوج يا دانيال.»
شعرت بالغثيان يصعد إلى رأسي ليسقطني أرضا، أو بأنني أصبحت قزما على حين غرة. «هل ما زلت على الخط يا دانيال؟»
«نعم. »
«هل فوجئت ؟»
حاولت أن أظهر مهذبا رغم التشنج الذي أصابني.
«بل فوجئت بأنك لم تتزوجي بعد. فطابور الراغبين في خطوبتك بازدياد. من هو سعيد الحظ؟»
«لا تعرفه. يدعى يعقوب، وهو صديق العم جوستابو، ويعمل في إدارة مصرف إسبانيا. تعارفنا خلال حفلة نظمها عمي. فهو مولع بالموسيقى الأوبرالية، ويكبرني سنا ولكننا خير أصدقاء. وهذا هو الأهم أليس كذلك؟»
خطرت إحدى النكات اللعينة في بالي لكنني وفرتها.
« طبعا... تهانينا إذن.»
«لن تغفر لي أبدا، أليس كذلك؟ سأبقى في نظرك كلارا الشريرة. »
"ستبقين كلارا وحسب. وهذا ما تعرفينه جيدا أيضا."
طغى صمت ثقيل يصلح لجس النبض.
«وأنت يا دانيال؟ فيرمين يقول إن لديك عشيقة في غاية الجمال.»
«اعذريني علي أن أغلق يا كلارا. لقد دخل أحد الزبائن. سأتصل بك بعد عدة أيام لنتفق على موعد. وتهانينا مجددا.»
أغلقتكُ السماعة وتنهدتُ عميقا.
عاد والدي بملامح متجهمة وبرغبة قليلة في الكلام. راح يحضّر العشاء بينما كنت أعد المائدة، ولم يسألني عن أخبار فيرمين ولا كيف أمضيت النهار في المحل. تعشينا وأبصارنا مركزة في الطعام، ونحن نصغي بعدم اكتراث إلى الترهات التي يبثها الراديو. بالكاد لمس الطعام واكتفى بتحريك ذلك الحساء بلا نكهة، كما لو أنه يبحث عن قطع ذهبية في عمق الزبدية.
«لم تأكل شيئا.»
نهض ليُطفئ الراديو.
«ماذا تقول رسالة الجيش؟ » سألني.
«علي أن ألتحق في غضون شهرين.» شاخ والدي عشر سنوات في لحظة واحدة.
«سيتكلم برسلوه مع بعض أصدقائه، وبعد دورة الأغرار يرسلونني إلى القيادة العسكرية في برشلونة. بوسعي أن أنام في البيت بعض الليالي» قلت.
لم يكن يبدو أنني أقنعته بكلامي. نهضت كي أنظف الطاولة حين فشلت في مواساة نظراته المتألمة. ظل جالسا يحدق في الفراغ، وأصابع يديه تتشبث بذقنه. وبينما رحت أغسل الأطباق سمعت صدى لبعض الخطوات تصعد السلالم. خطوات واثقة وعصبية تنتقل بقوة من عتبة إلى أخرى ولا توحي بحسن النوايا. تبادلنا أنا ووالدي نظرة مرتبكة. توقفت الخطوات عند فنائنا. نهض أبي عن الطاولة مضطربا. فطرق أحدهم الباب وصرخ بصوت حادّ ومألوف. «افتحوا! الشرطة!»
اخترقتني بعض الأفكار السلبية كالرماح. ارتج الباب إثر موجة سريعة من الضربات. رفع أبي الكوة ليرى.
«ماذا تريدون في هذه الساعة؟»
«افتح الباب والا خلعته رفسا يا سيد سيمبيري. لا تجعلني أكرر ما قلت.. »
عرفت صوت فوميرو وانتابني الفزع. استجوبني والدي بنظرة وفتح الباب بإشارة مني. ظهر فوميرو على العتبة في انعكاس الضوء، يرافقه عميلان من أزلامه خلف كتفيه. ثلاث دمى ترتدي ثلاث سترات مطرية بألوان الرماد.
«أين هو؟» صرخ فوميرو وهويدفع والدي جانبا ويتجه نحو الصالة. حاول أبي أن يعيق تقدّمه لكن أحد العميلين منعه وأمسك بذراعه ودفعه إلى الحائط. هو العميل نفسه الذي كان يراقبني أنا وفيرمين، هو نفسه الذي لوى ذراعي قرب مأوى سانتا لوسيا ولاحقني منذ مسائين. نظر إلي نظرة محايدة. دنوت من فوميرو متصنعا ما استطعت من الهدوء. كانت عيناه محقونتين بالدماء وثمّت خدش طازج على خدّه الأيمن.
«أين هو؟»
«من هو؟»
أثنى رأسه وهو يجدّف بالإلهة بصوت منخفض. وحين رفع رأسه ثانية طبعث على وجهه ابتسامة شريرة. وحينها فقط تفطنتُ أنه يحمل مسدسا في قبضة يده. ودون أن يزيح أنظاره عني، كسر إناء مليئا بالأزهار الذابلة على الطاولة بعقب السلاح، فارتمى كل ما فيه أرضا. أرهبتني الحركة رغما عني، وكنت أسمع صراخ والدي المكبل بقبضة العميل الفولاذية، لكن كلماته كانت تبدو آتية من مكان بعيد. ضغط بقصبة الريفولفير الباردة على وجنتي حتى شممت رائحة البارود.
"إياك أن تغضبني أيها الصبي الحقير، وإلا جمع والدك أشلاء رأسك من الأرض. واضح؟» لم أنبس ببنت شفة في حين كاد المسدس يمزق صدغي.
«أسألك للمرة الأخيرة. أين هو؟»
|رأيتني في حدقة عينيه وكانتا في شرر متصاعد بينما كان يرفع صمام الامان.
«ليس هنا. لم أره منذ منتصف النهار. هذه هي الحقيقة.»
ظل فوميرومتسمرا لنصف دقيقة وهو يلعق شفتيه.
«يا ليرما» صرخ. «ألقي نظرة. »
راح العميل يفتش المنزل بينما يناضل والدي كي يتخلص من قبضة الآخر.
«إن كذبت علي ووجدناه، أقسم أنني سأبتر ساقي أبيك» صرّح فوميرو.
«والدي لا يعلم شيئا. دعه وشأنه.» «
وأنت لا تعي ما تقوم به. ولكن هذه اللعبة القذرة سوف تنتهي ما إن أمسك بصديقك. لن يكون هنالك قضاة ولا تعذيب ولا مستشفيات. هذه المرة سأستمتع بقتله ولن تكون ميتة رحيمة. بوسعك أن تنقل إليه كلامي حين تلتقيان. سوف أخرجه من وكره حتى لوكان مختبئا تحت جبل. ثم يأتي دورك.»
عاد العميل ليرما إلى الصالة وأشار إلى فوميرو بحركة نافية. نزع إصبعه عن الصمام وأخفض المسدس.
«للأسف» قال فوميرو.
«ما هى تهمته؟ لماذا تبحث عنه؟» ا
لتفّ فوميرو ووصل إلى عميليه اللذين تركا والدي.
"ستندم على كل هذا" بصق والدي.
تموضعت عينا المحقق عليه فتراجع والدي فطريا. وخشيت ألا تطول زيارة فوميرو. فما كان منه إلا أن قهقه دون أن يضيف شيئا وخرج. تبعه ليرما على عجلة بينما تمهل الثالث، الذي يراقبني، على العتبة وهو يرمقني كأنه أراد أن يخبرني بشيء.
!«بالاثيوس» صرخ فوميرو ورجع الصدى على السلالم.
انصرف بالاثيوس، فخرجتُ إلى الفناء. كانت أوجه الجيران الخائفين تطل من الأبواب القريبة. نزل الثلاثة المرعبون على السلالم وكان صدى خطواتهم العنيفة وهي تبتعد مثل ارتداد الموجة المحمومة تاركة وراءها أطياف التوتر والظلام. في منتصف الليل سمعنا طرقا على الباب ثانية، لكنها كانت طرقات ضعيفة، بل كأنها مذعورة. كان أبي يعقم صدغي بالكحول، فنهض على قدميه ونظر كل منا إلى الآخر. تتابعت الطرقات. لعله فيرمين، قلت لنفسي، ربما كان يتابع المشهد وهو مختبئ على السلالم.
«من بالباب؟» سأل والدي. «أنا الدون آناكليتويا سيد سيمبيري.»
فتح أبي الباب وتنفس الصعداء، وكان الأستاذ شاحب الوجه بشكل لا يوصف.
«ما بك يا دون آناكليتو؟ هل أنت بخير؟»
كان البروفسور يحمل جريدة مثنية بين يديه وأعطانا إياها. وكانت أوراق الصحيفة دافئة وما يزال حبرها طازجا.
«هذه نشرة الغد» غمغم الدون آناكليتو. «الصفحة السادسة.»
وقعت عيني على الصورتين تحت العنوان. في الأولى يظهر فيرمين أكثر سمنة وأطول شعرا، ربما تعود إلى خمسة عشر عاما أوعشرين. وفي الثانية وجه امرأة لها بشرة من مرمر وعينين مغمضتين. لم أعرفها على الفور لأنني كنت معتادا على رؤيتها في عتمة منزلها.
صعلوك يقتل امرأة بعة وضح النهار
برشلونة / خبر من الوكالة (تحرير)
الشرطة تبحث عن صعلوك متسول قام هذا المساء بطعن السيدة ميغيل مونفورت ماسديديو، البالغة ثلاثة وأربعين عاما من العمر والمقيمة في برشلونة. حدثت الواقعة في حي سان جرفازيو ظهرا، حيث اعتدى الصعلوك على الضحية دون أسباب واضحة. المعلومات الصادرة عن مركز الشرطة تؤكد بأنه كان يلاحقها لأسباب مجهولة حتى الآن. المجرم أنطونيو خوسيه غوتييريز آلكاخيتي، البالغ من العمر واحدا وخمسين عاما من مواليد فيلا إييمونيلا 42 ضاحية كاسيريس، يبدو أنه مختل عقليا وصاحب سوابق. كما أنه فارمن سجن موديلو منذ ستة أعوام، ونجح في التملص من السلطات بانتحاله لهويات مختلفة في كل مرة. كان يرتدي زي راهب حين أقدم على الجريمة. تنوه الشرطة بأن المجرم مسلح وتؤكد أنه خطير جدا. لم يتضح بعد إذا ما كانت الضحية تعرف قاتلها مسبقا، مع أن المصادر الأمنية تدعم هذه الفرضية. كما لم تتضح بعد دوافع الجريمة. منيت الضحية بست طعنات بسلاح أبيض على بطنها وعنقها وصدرها. وهنالك عدة شهود على الاعتداء الذي وقع قريب إحدى المدارس، وهم تلاميذ أعلموا أساتذتهم حالا وقام هؤلاء بدورهم بإبلاغ الشرطة واتصلوا بسيارة الإسعاف. هذا ويرشح من تقرير قوى الأمن أن جروح الضحية بالغة الخطورة، ما جعلها تفارق الحياة في مستشفى بوليكلينيكو في برشلونة الساعة 18:15.
41
لا خبر عن فيرمين طوال اليوم. قرّر أبي أن يبقي المحل مفتوحا ليُظهر أن الأمور تجري كعادتها. خصص الأمن عميلا أمام بوابة المبنى وآخر يراقب في ساحة سانتا آنا عند باب الكنيسة كأنه قدّيس الساعة الأخيرة. كانت أسنانه تصطك من شدة البرد تحت أمطار غزيرة لم تنقطع منذ الفجر، وكان بخار أنفاسه يلفح وجهه ويداه غارقتان في جيوب سترته المطرية. تجنب الجيران الاقتراب منا واكتفوا بإلقاء نظراتهم من زجاج الواجهة ولم يجازف أي زبون بالدخول إلينا.
«لابد أن الإشاعة انتشرت» قلت.
هز والدي رأسه ولم يطرح علي أي سؤال. وكانت تلك الجريدة على المصطبة وهويعيد قراءة الخبر كل عشرين دقيقة. كان يبدوهادئا ولكنه مستاء كما تبين لي.
"بوسعك أن تقرأ الخبر إلى ما لانهاية، ففي المحضلة كلها أكاذيب"
«هل كنت تعرف تلك المرأة؟» سألني.
«رأيتها مرتين.»
خطر في بالي وجه نوريا مونفورت الجميل وكان التكتم يمارس علي أشنع حالات الإعياء. عاد إلي أريج جلدها وملمس شفتيها، تذكرت تلك المنضدة المرتبة بانتظام قل مثيله. تذكرت ملامحها الممزوجة بالحكمة والكآبة.
"مرتين". «ولماذا؟»
«كانت صديقة قديمة لخوليان كاراكس. ذهبت إلى بيتها لأطلب منها أن تحدثني عنه. هذا كل ما في الأمر. إنها ابنة إسحاق. وهو الذي أعطاني عنوانها.»
«وهل كان فيرمين يعرفها؟»
«لا. »
«وكيف تكون متأكدا من هذا؟»
"وكيف تشك به وتثق بأباطيل كلها زور وبهتان؟ فيرمين كان يعرف عنها ما رويته له أنا له حصرا.»
«وهل لهذا السبب كان يتبعها؟»
«أجل.»
«هل طلبت منه أنت ذلك؟»
«المسألة شائكة ولن تفهم الأمر برمّته يا أبي»
«فعلا. لا أفهمك ولا أفهم فيرمين ولا...»
«أبي. نحن نعرف فيرمين جيدا. إنها محض أكاذيب.»
«هذا رأيك؟ نحن لم نكن نعرف حتى اسمه الحقيقي.»
"أنت مخطئ بحقه"
«لا يا دانيال، أنت من يخطئ. من أعطاك الحق في اقتحام حياة الآخرين؟»
«إنني حرّ في الحديث مع من أشاء.»
«دون أن تضع العواقب في الحسبان؟»
«هل تلمح إلى أن تلك المرأة ماتت بذنبي؟»
«تلك المرأة كان لها اسم وكنية، وأنت كنت تعرفها.»
"ليس من الضرورة أن تذكرني بهذا" أجبت وأنا على وشك البكاء.
حدق إلي والدي بحزن عميق وهويحرّك رأسه مهموما.
«يا إلهي من يدري كم يعاني إسحاق الآن» غمغم والدي.
«ليس ذنبي أنها ماتت» همست آملا أن أقنع نفسي أيضا.
ذهب والدي إلى المستودع دون أن يكف عن تحريك رأسه.
«آمل أن تصل إلي معرفة ما الذي يترتب عليك من مسؤوليات. أكاد أحسبك غريبا عني بعض الأحيان.»
ارتديتُ السترة المطرية وخرجت إلى الطريق حيث لا أحد يعرفني ولا أحد يستطيع أن يرى ما أخبئ في قلبي.
تجولت تحت المطر البارد بلا غاية. كنت أتمشى وأفكر في نوريا مونفورت وهي ملقاة على بلاطة رخامية باردة وقد هشمت الطعنات جسدها. في كل خطوة كانت المدينة تتبدد من حولي. وعند تقاطع شارع فونتانيلا نزلت من على الرصيف دون أن أنظر إلى الإشارة والضوء الشاسع الذي كان يسرع كالسهم. فإذ بأحد ما يشدّني من الخلف قبل فوات الأوان. مرّت الحافلة على بعد سنتمترات من وجهي ولو اكتملت أجزاء الثانية كلها لانتهيت شرّ نهاية. وحين استفقت من الصدمة كان من أنقذني يبتعد عن الرصيف بسترته الرمادية. ثم عبر الشارع وتوقف لينظر إلي. فعرفته رغم غزراة الامطار: إنه بالاثيوس، العميل الثالث. حال بيننا جمع من زحمة السير والمارّة، وحين فرغت الطرقات مرة اخرى كان قد اختفى.
مشيت نحو منزل بيا بكامل قلقي وحيرتي. لم يعد بوسعي الانتظار أكثر من ذلك. كنت في حاجة إلى استعادة الثقة وهي كانت نجاتي الوحيدة. صعدت السلالم بشق الأنفس، طرقت ثلاث مرات على باب آغويلار وشحذت همتي وشجاعتي. فلم يعد بالإمكان التراجع. لو ظهر السيد آغويلار وكان مستعدا لتحطيم وجهي فليفعل. هذا أفضل. طرقت ثانية. انتبهت إلى أنني كنت أقطر بللا فسرّحت شعري. كانت هنالك عين داكنة تفحصني من كوة الباب.
«من بالباب؟»
عرفت صوت سيسيليا، إحدى خادمات آل آغويلار.
«إنني دانيال سيمبيري يا سيسيليا.»
انسحبت العين، ثم صدح صرير القفل والمقبض. انفتح الباب ببطء لتظهر سيسيليا بقبعتها ومئزرها وهي تحمل بيدها شمعدانا. فهمتُ أنني في حالة يرثى لها بعدما رأيت انطباعها المتوجس.
«مساء الخير يا سيسيليا. هل بيا موجودة؟»
نظرت إلي بارتباك. إذ أن مجيئي إلى ذلك البيت، في الآونة الأخيرة، كان شبه نادر ومتعلقا بتوماس رفيق مدرسة الطفولة.
«الآنسة بياتريز ليست هنا.»
«هل خرجت؟»
هزت سيسيليا رأسها مؤكدة بأقل ما تمتلك من شجاعة.
«هل تعرفين متى تعود؟»
شدّت الخادمة كتفيها.
«لقد ذهبت إلى الطبيب مع سيدي وسيدتي منذ ساعتين.»
«إلى الطبيب؟ هل هي مريضة؟»
«لا أعلم.»
«إلى أي طبيب ذهبوا؟»
«لا أعلم يا سيدي.»
لم يكن الوضع يسمح بتعذيب سيسيليا كما أن غياب والديّ بيا كان مشجعا.
«وهل توماس في البيت؟»
«أجل. تفضل. سأخبره بقدومك حالا.»
دخلك إلى الردهة وانتظرت. كنت في الماضي أدخل إلى غرفة توماس مباشرة، ولكن انقضى كثير من الوقت على آخر مرة جئت فيها إلى ذلك البيت. بت أشعر بنفسي غريبا. تركتني سيسيليا وحيدا في الظلام. وسمعت صوت توماس في البعيد ثم وقع خطوات تقترب من جديد. كنت اخترع حجة لتلك الزيارة المباغتة فإذ بالخادمة تعود بوجه محتقن. تبددت ابتسامتها الفاترة كما يذوب الثلج تحت الشمس.
«السيد توماس مشغول جدا ولا يستطيع أن يستقبلك.»
«هل قلت له من أنا؟ دانيال سيمبيري.»
«أجل. وقال لي أن أخبرك بأن تتصرف»
شعرت بالبرد يجتاح بطني.
«أنا متأسفة» أضافت سيسيليا.
لم يخطر في بالي أي جواب. فتحت الخادمة لي باب البيت الذي كنت أعتبره -حتى لحظات معدودة- كبيتي الثاني.
« هل تريد مظلة؟»
«لا شكرا»
«أنا متأسفة» كررت.
«لا عليك يا سيسيليا»
انغلق الباب خلف ظهري. وانتظرت بعض اللحظات ثم نزلت متعبا على السلم. مازال المطر ينهمر. ابتعدت مشيا في الطريق. وحين وصلت إلى الزاوية التفت: كان توماس ينظر إلي من نافذة غرفته بثباته المعهود. حييته بيدي لكنه لم يردّ التحية واختفى على الفور. رجوت أن يعود ولكن هيهات، ثم مشيت بعد دقائق تحت مطر لا ينقطع حاملا معه دموعي.
42
في العودة إلى البيت، مررت أمام سينما كابيتول حيث كان بعض العمال جالسين على إحدى الدعامات وينظرون إلى لافتة علقت للتو وكانت ترتخي تحت المطر. لمحت العميل الذي حان دوره في مراقبتي، ثابتا مثل أبي الهول قبالة المكتبة. مررت أمام محل الساعات فظهر الدون فيديريكو على عتبة المحل ينظر إلى السماء. وعلى وجهه ماتزال آثار إقامته القصيرة في المخفر. كان يرتدي طقما رماديا أنيقا ويحمل بين أصابعه سيجارة لم يشعلها. حييته فابتسم لي باحترام. «ما مشكلتلك مع المظلات يا دانيال؟»
«وهل هناك أجمل من المشي تحت المطر يا دون فيديريكو؟»
«أجل، الحمّى. ادخل لقد أصلحتها.»
لم أفهم قصده. كثف نظرته علي دون أن تغيب البسمة عن وجهه.
وحين دخلت إلى بازاره السحري أعطاني كيسا ورقيا صغيرا. «اخرج الآن. حذار من ذلك الرجل فإنه لم يزح أنظاره عنا للحظة.»
نظرت في الكيس. كان يحتوي على كتيب مجلد: موجز الصلوات. رافقني إلى الخارج وهو يهز برأسه اتقاء لبعض الأسئلة المحتملة. وعندما صرنا في الشارع قال لي بصوت مرتفع: «تذكر ألا تضغط كثيرا على المسننات حين تشحنها» فهمته.
«حسنا يا دون فيديريكو، شكرا.»
اقتربت من المكتبة تحت أنظار العميل الذي يرتدي الزي المدني، وحين مررت بجانبه حييته بيدي التي أحمل فيها ذلك الكيس. ألقى العميل نظرة إلى الكيس باهتمام. دخلت إلى المحل. وكان أبي واقفا خلف المصطبة ويبدو أنه لم يتحرك قيد أنملة منذ أن خرجت.
« اسمع يا دانيال، بخصوص ما تحدثنا به اليوم...»
«لا يهم. أنت على صواب.»
«إنك ترتجف.»
لم أجبه بشيء وذهب ليجلب حافظة القهوة. انتهزت الفرصة لأختلي بنفسي في مرحاض المستودع وألقي نظرة على الكتيب. هوت من بين صفحاته ورقة صغيرة تتأرجح في الهواء مثل الفراشة. أمسكت بها وهي تطير. كانت رسالة من فيرمين مكتوبة على لفافة سيجارة بحروف لا تراها العين المجردة. وتمكنت من فك طلاسمها حين رفعتها عكس الضوء.
عزيزي دانيال
إبالك أن تصدق كلمة واحدة مما تقوله الصحف حول مقتل نوريا مونفورت. إنها مجرد تلفيقات كالعادة. إنني بخير وأنا في مأمن أيضا. لا تبحث عني، ومزق هذه السطور بعد أن تقرأها. ليس من الضروري أن تبتلع الورقة، بإمكانك أن تحرقها أو تفتتها. سأجد طريقة لأبقى على تواصل معك، بفضل دهائي ومساعدة أحد أصدقائي. أرجوك أن ترسل فحوى هذ المكتوب إلى حبيبتي برناردا، بكل أمانة. ولا تقسم على فعل أي شيء.
صديقك، الرجل الثالث.
ف. ر. د.ت.
أردت أن أقرأ الرسالة ثانية لكن أحدهم طرق باب المرحاض بخفة.
«هل أستطيع الدخول؟» قال صوت مجهول.
شعرت بصعقة في القلب. ثنيت الورقة ورفعت البنطال وابتعلتها منتهزا الضجة التي أحدثتها. كان لطعمها نكهة كراميل السوغوس. فتحت الباب فوجدت العميل الذي يقوم بالمراقبة قبالة المكتبة.
«اعذرني. أكاد أتبول على نفسي كي لا أقول شيئا آخر... ربما بسبب المطر»
«تفضل» قلت وتنحيت.
«المرحاض تحت خدمتك يا سيدي. »
« أشكرك.»
رمقني العميل بعينين تشبهان عيون الفئران الصغيرة. ووقعت أنظاره على الكتيب في يدي.
«لا أستطيع التغوط دون قراءة» بررت.
«وأنا أيضا لدي نفس العادة. ثم يقولون إن الإسبان شعب لا يقرأ. هلا
أعرتني إياه؟»
«على الخزان يوجد الكتاب الذي حاز على جائزة النقد الأخيرة»
أجبت. «كتاب رائع.»
ابتعدت حتى بلغت والدي الذي كان يحضر لي فنجان قهوة بالحليب.
«لماذا أدخلت هذا الرجل؟»
«قال لي إنه يكاد يتغوط في ثيابه. هل أتركه يفعلها على قارعة
الطريق؟»
«أجل، فهكذا يشعر بالدفاء على الأقل.»
تجهم والدي.
«هل يؤسفك أن أصعد إلى البيت؟»
«لا مشكلة. ارتد ثيابا غير مبللة كي لا تصيبك الحمّى»
كانت الشقة باردة وهادئة. أطللتُ من نافذة غرفتي: كان العميل الثاني لا يزال هناك على أعتاب كنيسة سانتا آنا. نزعت ثيابي وارتديت ملابس النوم ورداء كان لجدي في الأصل. أطفأت الضوء واستلقيت على السرير أفكر في بيا فيما حبات المطر تنقر على الزجاج. وسرعان ما غفوت لأنني لم أنم جيدا في الليلة السابقة. حلمت بزورق تغطيه الأشرعة فيبدو مثل كائن لولبي يتأرجح في سماوات برشلونة ويجر خلفه مئات التوابيت البيضاء الصغيرة ويتناثر حولها جمع من أزاهير سوداء نقش عليها بالدم اسم نوريا مونفورت.
استيقظت في فجر رمادي أضْنته الرطوبة. ارتديت ثيابا ثقيلة وانتعلت الجزمة وخرجت دون أن أحدث ضجة. كانت أضواء الأكشاك تلمع في لاس رامبلاس. وصلت إلى كشك عند أول شارع تايرس واشتريت إحدى الجرائد اليومية. وتصفحتها حتى وصلت إلى زاوية الوفيات. كان اسم نوريا مونفورت يقبع تحت صليب كئيب: سيقام الجناز عند الرابعة عصرا في مقبرة مونتويك. تركت أضواء لاس رامبلاس فريسة لحزن عميق وعدت إلى البيت وأنا أقوم بدورة طويلة. كان أبي ما يزال نائما.
دخلت غرفتي، وجلست إلى المنضدة وأخذت ورقة بيضاء وقلمي السحري مونتبلانك. وددت لو أن الكلمات تنساب بمفردها من القلم لكنني أخفقت في كتابة سطر واحد كإهداء مستحق لطيف نوريا مونفورت. حاصرني الخوف الشنيع من ذلك الفراغ الذي ورثته من حياة تعيسة سُلبت بعنف همجي. كنت على بيّنة من أنني سألقاها يوما ما، وأنني سأحافظ إلى الأبد على ذكراها وظلها الذي لم يكن يخصني ولا أستحق أن أقرنه بظلي. لقد رحلتْ بصمت، تماما مثلما عاشت.
43
حوالي الثالثة ظهرا ركبت الحافلة المتوجهة من بازيو دي كولون إلى مقبرة مونتويك. ومن خلف الزجاج رأيت غابة كثيفة من الصواري والبيارق التي تزين السفن الراسية على المرفأ.. التفّت الحافلة حول تلة مونتويك وتقدمت مباشرة إلى المدخل الشرقي لأكبر مقابر المدينة. وسرعان ما غدوت الراكب الوحيد على متن الحافلة.
"في أي ساعة تنطلق الدورة الأخيرة؟" سألت السائق.
«في الرابعة والنصف.»
أنزلني السائق عند مدخل المقبرة. كنت أرى من هناك كيف تتسلق مدينة الموتى الشاسعة سفوح التلة حتى تصل إلى القمة. مدينة حقيقية تتكون من دروب القبور والشواهد، وأزقة بين اللحود المتوجة بمنحوتات الملائكة، ومجمعات عدمية تزداد اتساعا. كانت مدينة الموتى أشبه بمتحف للغياب يحتوي على أضرحة أثرية تحرسها فيالق من التماثيل التي غزتها الطحالب الفاسدة تحت الطين. تنفستُ عميقا ودخلت متاهة الموت التي كنت أعرفها جيدا، كانت أمي ترقد على بعد مائة متر مني حيث أقف. مشيت بين القبور متوخيا النظر إلى صور أولئك السجناء المحبطين في ذلك المعتقل الأبدي حتى يكاد الهلع الأخرس ينفجر من وجوههم الحالكة والمطوقة بأزهار ذابلة وشموع صغيرة. لمحت في البعيد قناديل غاز واهنة ترتج ثم رأيت أطياف ستة أشخاص على خلفية السماء الرمادية. تقدمت قليلا وتوقفت حيث استطعت سماع كلمات الراهب. كان النعش، المصنوع من خشب الصنوبر الخام، يجثم على الأرض الموحلة، وبقربه يستند حفاروا القبور إلى معاولهم. لم يأت إسحاق العجوز، حارس مقبرة الكتب المنسية، إلى جنازة ابنته. تعرّفت إلى جارة نوريا التي كانت تشهق خلف رجل عريض المنكبين. ربما يكون زوجها، قلت لنفسي. وثمّت سيدة في الأربعين من عمرها بجانبها، تتشح باللون الرمادي، وتحمل بيدها باقة من الأزهار. كانت تبكي بصمت، مضمومة الشفتين ولا تنظر إلى الحفرة. لم أكن قد رأيتها من قبل. ثم لمحت بالاثيوس، العميل الذي أنقذ حياتي في اليوم السابق، يقف على انفراد، بسترته المطرية المعتادة الداكنة، ويحمل القبعة بيديه خلف ظهره. رفع عينيه وصوّب أنظاره نحوي لعدة ثوان. تفصل بيننا هاوية من صمت ضبابي مهيب تتخلله كلمات الراهب الفارغة. نظرت إلى النعش المتسخ بالوحل، وتخيلت نوريا تستلقي في الداخل. وكدت أذرف الدمع حين أعطتني المجهولة ذات الزي الرمادي زهرة من باقتها. انتظرت حتى ينفض الجمع بعدما أمر الراهب الحفارين بالقيام بعملهم تحت ضوء القناديل. وضعت الزهرة في جيب سترتي وابتعدت دون أن أجرؤ على كلمة وداع واحدة. بدأ المساء يهبط رويدا عندما خرجت من المقبرة. فاتتني الحافلة الأخيرة وكان علي أن أمشي طويلا في الشارع الذي يحاذي المرفأ، قرب مدينة الموتى. هنالك سيارة سوداء مركونة على بعد عشرين مترا من مدخل المقبرة وأضواؤها موقدة. وخلف المقود رجل يدخن سيجارة. عندما مررت بقربه، فتح بالاثيوس الباب وأشار إلي بالركوب.
«تعال. سأوصلك. لا يوجد نقل عمومي في هذه الساعة.»
ترددت لوهلة.
«أفضل الذهاب مشيا.»
«لا تتفوه بالترهات. هيا اصعد.»
كان يتضح من نبرته أنه اعتاد إلقاء الأوامر فينصاع إليه الآخرون فورا.
«من فضلك» أضاف.
ركبت السيارة فضغط العميل على المحرك.
« إنريكوي بالاثيوس» مد يده مصافحا.
"بوسعك أن تنزلني في بازيودي كولون" لم أصافحه.
انطلقت السيارة بعنف. ولم نتحدث لبضع دقائق.
«يؤسفني ما حصل للسيدة مونفورت.»
كانت تلك الكلمات تبدو كإهانة إذا لفظها شخص مثله.
«إنني ممتن لك على إنقاذ حياتي في الأمس، ولكن عليك أن تعلم بأنني لا أعير أدنى اهتمام لمشاعرك المتأسفة يا سيد إنريكوي بالاثيوس.»
«ليس الأمر كما تظن يا دانيال. أنا بودي أن أساعدك.»
"إن كنت تظنني سافشي عن مخبأ فيرمين فبوسعك أن تنزلني هنا. "
«لا يهمني أين يختبئ صديقك. إنني خارج العمل الآن.»
لم أرد.
«أدرك عدم ارتياحك ولكن عليك أن تسمعني. الأمور أخذت أكبر من حجمها. ولم يكن على تلك المرأة أن تموت. انس قضية كاراكس إلى الأبد.»
«لا شأن لي بما حدث، فلست إلا مشاهدا. قائدك هو الذي أخرج المسرحية، وبمساعدتكم.» «لقد سئمت من الجنازات يا دانيال. ولا أتمنى أبدا أن أحضر جنازتك»
«هذا أفضل فأنت لست مدعوا لجنازتي بالأصل.»
«لست أمزح.»
«ولا أنا. أنزلني من فضلك.»
« سنصل بعد دقيقتين.»
«لا يهم. لم أعد أحتمل رائحة الموت التي تفوح في سيارتك. أنزلني.»
أبطأ بالاثيوس حتى توقف. نزلت وصفعت الباب متجنبا نظراته. وانتظرت أن ينطلق مجددا لكنه لم يشغل المحرك بعد. عندما استدرت نحوه أخفض زجاج النافذة. كان وجهه يعبّر عن ألم صادق لكنني لم أثق به.
«نوريا مونفورت توفيت بين ذراعي يا دانيال» قال:
«وأعتقد أن آخر كلماتها كانت موجهة لك.»
«ماذا قالت؟» سألته متجمدا من الرهبة. «هل ذكرت اسمي؟»
«لا ولكنني أعتقد أنها كانت تقصدك. قالت إن هنالك سُجونًا أفظع من الكلمات ثم طلبت مني قبل أن تلفظ آخر أنفاسها أن أخبرك بأن تحررها.»
نظرت إليه محتارا.
«أحرر من؟»
«واحدة تدعى بينيلوب. توقعت أنها خطيبتك.»
شفل بالاثيوس المحرك ثانية. ونظرت ببلادة إلى أضواء السيارة الخلفية وهي تختفي في غروب من لازورد وقرمزه ومشيت نحو بازيو دي كولون وأنا أفكر في آخر كلمات نوريا غير المترابطة. وفي ساحة بورتال دي لاباز توقفت أمام مرسى الزوارق السياحية. جلست على العتبات التي تغرق في مياه الميناء الراكدة حيث رأيت لايين كوبرت، الرجل الذي لا وجه له، في ليلة قبل عامين من الزمن.
«هنالك سجون أفظع من الكلمات» كنت أغمغم.
فهمت رسالة نوريا مونفورت حينذاك. ليس أنا من عليه تحرير بينيلوب. بل كانت كلماتها الأخيرة موجهة إلى الرجل الذي أحبته بصمت طيلة خمسة عشر عاما: خوليان كاراكاس.
44
خيّم الظلام عندما وصلت إلى ساحة سان فيليب نيري، وأضواء الشارع تنير المقعد الذي كانت نوريا مونفورت تجلس عليه في أول لقاء لنا، وتكسوه العبارات المنقوشة بالشفرة: أسماء عشاق وكلمات مسيئة ووعود بالإخلاص الأبدي. رفعت أبصاري فوجدت ضوءا نحاسي اللون يرتجف من نوافذ الطابق الثالث... ضوء شمعة. صعدت السلالم كالأعمى، ورأيت الضوء الخافت يتسلل من باب الشقة الموارب. وضعت يدي الراجفة على مقبض الباب. وسمعت صوت شهقات وأنفاسا معذبة. توهمت لوهلة أن نوريا كانت في انتظاري، منكمشة على نفسها أرضا وتستند إلى الجدار كما تركتها آخر مرة. دخلت على حذر كأنني لا أريد إزعاجها. الستائر تتمايل بقلق متصاعد، وهنالك شخص يجلس بجانب النافذة ويمسك شمعة بين يديه... إسحاق مونفورت. دموعه تتلألأ كقطرات الندى. التفتَ إلي بوجه مزقته الفجيعة.
«لم أرك في المقبرة» قلت.
حرك رأسه وهو يمسح دموعه بكم معطفه.
«حتى نوريا لم تكن هناك» أجابني.
«الأموات لا يشاركون في جنازاتهم.»
نظر حوله كأنه يشير إلى أن ابنته تجلس معنا تحت الظلام وتسمع كلامنا.
«هل تعلم أنني لم آت إلى هنا أبدا؟» قال: «كانت نوريا هي التي تأتي لزيارتي دوما. «هذا مريح لك يا ابتي» كانت تقول. «لا يجدر بك أن تعاني من صعود السلالم»
وأنا أقول لها: «طالما أنك لا توجّهين الدعوة إلي فأنا لا أجيء»،
وهي ترد: «الغرباء وحدهم من يتلقون الدعوة يا أبي. أنت مرحب بك دائما، طوال أكثر من خمسة عشر عاما لم آت إلى زيارتها ولا لمرة واحدة. ولطالما كنت أعارض أن تسكن في هذا الحي. «المبنى قديم ولا يدخله الضوء جيدا يا ابنتي». كانت تراني على صواب دوما حتى عندما كنت أؤنبها على اختيارها حياة بلا مستقبل وزوجا بلا حرفة. من السهل أن نحكم على الآخرين ولكننا نندم على أحكامنا عندما نفقدهم أو حين يسرقهم أحد منا. أجل، لأننا نشعر أنهم ملك لنا...»
كانت الحسرة الدامية تعوم على نبرة العجوز التي فقدت حسها الفكاهي، حسرة تكتنف نظرته التي انطفأت على حين غرة.
"نوريا كانت تجلك يا إسحاق. إنني متأكد مما أقول. وكانت تشعر بأنك تحبها، حتى لولم تكن تتحدث عن هذا" ارتجلت.
حرك العجوز رأسه ثانية. كان يبتسم لكن دموعه اليائسة تسيل على خديه دونما انقطاع. «ربما كانت تحبني على طريقتها كما أحببتها أنا أيضا على طريقتي. لكن واحدنا لم يتعرف على الآخر كما ينبغي، ربما لأنني لم أسمح لها بذلك أو لم أقم بأي جهد كي أتعرف عليها. لقد أصبحنا غريبين، نتبادل التحية باحترام مطلق كما تقتضي العادة. وأجزم أنها توفيت دون أن تسامحني.»
«أؤكد لك يا إسحاق أنها...»
« مازلت صبيا يا دانيال وقلبك مليء بالنوايا الحسنة. لكنك لن تستطيع خداع عجوز بائس حتى لو أفرط في الشرب وصار يهذي في كلامه.»
«الشرطة تتهم صديقك بقتلها» قال إسحاق.
«الشرطة تكذب.»
"أعلم".
«أؤكد لك...»
«ما من داعيا دانيال. أعلم أنك تقول الحقيقة» قال إسحاق وهويأخذ ظرفا من جيب معطفه. «قبل ساعات على مصرعها جاءت نوريا لزيارتي كما كانت تفعل في السابق. أذكر كيف كنا نتناول الغداء في مقهى في شارع غوارديا حيث كنت أصطحبها حين كانت صغيرة. كنا ندردش عن الكتب، عن الكتب القديمة. وتحدثني أحيانا عن عملها، تفاصيل سطحية لا أهمية لها، كما يفعل المرء مع جليسه في الحافلة... ذات يوم أعربت عن أسفها لأنها خيبت آمالي. فسألتها من أين أتتها هذه الفكرة السخيفة. «من عينيك يا أبي» أجابت. حتى البارحة لم أكن أضع في الحسبان أنني قد أكون سبب إحباطها الأكثر سوءا. نحن نعتبر الناس مثل بطاقات اليانصيب ونتمنى بكل أنانية أن يحالفنا الحظ من خلالهم.»
«معذرة يا إسحاق، واضح أنك أسرفت في الشرب وتتفوه بخرافات لا أصل لها.»
«الخمر يجعل الحكيم غبيا والغبي حكيما. إنني واع بما فيه الكفاية لاستيعاب أن ابنتي لم تكن تثق في. كانت تثق فيك أكثريا دانيال، رغم أنها التقتك مرتين فقط.»
«أنت مخطئ يا إسحاق.»
"قبل أمس أعطتني نوريا هذا الظرف. وكانت متوترة للغاية لكنها لم تفصح لي عن السبب. طلبت مني أن أحتفظ بالظرف، وأوصتني أن أعطيك إياه في حال حصل لها أي مكروه.»
" حال حصل لها مكروه؟"
"هكذا بالضبط. كانت مضطربة حتى عرضتُ عليها أن أرافقها إلى المخفر، علهم يساعدونها. فأجابتني أن الشرطة أقل جهة موثوقة في هذه الحالة. توسلت إليها أن تقص علي ما حدث لكنها قالت إنها مستعجلة وطلبت مني أن أعدها بتسليمك الظرف يا دانيال مالم تعد نوريا لاسترجاعه في غضون يومين. وطلبت مني ألا أفتحه.»
أعطاني إسحاق الظرف. كان مفتوحا.
«كذبتُ عليها كما كنت أفعل دوما» قال. نظرت داخل الظرف. كان يحتوي على مجموعة من الأوراق المكتوبة باليد.
«هل قرأتها؟» سألت. هز رأسه مؤكدا.
«وما المكتوب فيها؟»
كانت شفتاه ترتجفان. لقد شاخ مائة عام منذ آخر مرة رأيته فيها.
«إنها القصة التي تبحث عنها يا دانيال. قصة امرأة لم أعرفها أبدا، مع أنها تحمل نفس اسمي وفي عروقها تجري دمائي. الآن هي لك.»
أدخلت الظرف في جيب السترة.
«والآن أرجوك أن تتركني وحيدا برفقة نوريا. منذ قليل، بينما كنت أقرأ هذه الصفحات شعرت بوجودها. لا أقوى إلا على تذكرها وهي صغيرة. هل تعلم أنها كانت طفلة متكلّمة وكثيرة التأمل؟ كانت تراقب كل شيء ولا تضحك البتة. تعشق الأقاصيص وتطلب مني أن أقرأ لها قصة تلو الأخرى حتى تعلمت قص الحكايات بمفردها. لم أرَ في حياتي طفلا مثلها تتفتح براعمه بتلك السرعة. كانت تحلم أن تصبح كاتبة كي تؤلف الموسوعات وكتب التاريخ والفلسفة. وكنت أنا المسؤول عن طموحاتها الغريبة وفقا لرأي أمها: كانت نوريا تحبني جدا.
ولأنها كانت ترى أن والدها يعشق الكتب وحسب، كانت تتمنى أن تؤلف الكتب كي تحظى بحب والدها.»
«من المستحسن ألا تبقى وحيدا هذه الليلة يا إسحاق. لم لا تأتي معي؟ نذهب إلى بيتنا ونجلس مع أبي فهكذا تشعر بالأنسة.»
هز إسحاق رأسه.
«لدي ما أقوم به يا دانيال. والآن اذهب واقرأ هذه الأوراق. فهي لك.»
حاد إسحاق بنظراته عني بينما كنت أتجه نحو الباب. وحين كدت أطأ العتبة قال لي بصوت الهامس.
«دانيال.
«أجل؟»
«خذ أقصى حذرك.»
حاولت ألا أفكر بأنني مطارد من المجهول في الطريق. رحت أمشي بسرعة، بل أكاد أهرول. وكان أبي ينتظرني وهو مستلق على أريكته الحنونة، وألبوم الصور في حضنه. وعندما رآني، انتشى وانفتحت أساريره.
«كنت قلقا عليك» قال وهو ينهض.
«كيف جرت الجنازة؟» لم أجبه.
هززت رأسي متناقلا، فغيروالدي الموضوع.
«إذا كنت جائعا أسخن لك العشاء.»
«لا شكرا. لقد تعشيت.»
نظر في عيني وهز رأسه مجددا. راح ينزع الأطباق عن المائدة. وفي تلك اللحظة، ودون أن أدري لماذا، اقتربت منه وضممته بين ذراعي. فبادلني العناق تحت هول الدهشة.
«ما بك يا دانيال؟» عانقته بشدة أكثر.
«أحبك يا أبتى» همسـت.
طرقت نواقيس الكاتدرائية حين شرعت بقراءة مخطوط نوريا مونفورت. كان خطها الأنيق الدقيق يذكرني بمنضدتها المرتبة. ويبدو أنها بحثت في الكلمات عن الطمأنينة التي لطالما حرمتها منها الحياة.
نوريا مونفورت ذاكرة الأطياف: 1955-1933
1
لا شيء يحظى بفرصة أخرى كالندم. لقد عرفت خوليان كاراكس في سبتمبر عام 1933. كنت أعمل لدى طوني كابيستاني، الناشر الذي اكتشفه عام 1927 خلال إحدى رحلاته «الاستقصائية في مجال النشر» إلى باريس. كان خوليان يحصل على قوت يومه بالعزف على البيانو في بيت دعارة، ويكتب في الليل. وكان لدى صاحبة المبغى، وتدعى إيرين مارسو، صلات بعدة ناشرين فتمكنت من نشر روايات خوليان عبر التوسلات أو التهديد بإفشاء الأسرار، ولم تلق النجاح المتوقع بأية حال. حصل كابيستاني منها على حقوق النشر في إسبانيا وأمريكا الجنوبية بسعر مضحك يتضمن الترجمة إلى الإسبانية بقلم الكاتب نفسه الذي ألفها بالفرنسية. وكان قد تهيأ لنشر ثلاثة آلاف نسخة من كل رواية، لكن أول روايتين صدرتا في إسبانيا باءتا بفشل ذريع إذ لم تتجاوز مبيعات كل منها مائة نسخة على أقصى تقدير. إلا أننا كنا نتلقى مخطوطا جديدا من خوليان كل سنتين، وكان كابيستاني ينشره دون تردد مؤكدا أنه قد أعطى كلمته للكاتب وأن المال ليس كل شيء وعلينا أن نروّج الأدب الرفيع أيضا. ذات يوم، دفعني الفضول لأسأله عن سبب استمراره في نشر روايات كاراكس رغم علمه بأنها لا تدرّ الأرباح. فما كان منه إلا أن سحب كتابا لخوليان من مكتبة الحائط واقترح علي قراءته. فالتهمت جميع رواياته في غضون أسبوعين. وبعدها سألته عن سبب فشلها في السوق.
«ليس لدي أدنى فكرة» أجاب كابيستاني. «ولكننا سنظل نحاول.»
لم يكن ذلك القرار النبيل يتوافق مع الفكرة التي كونتها عن كابيستاني. ومن يدري، ربما كنت مخطئة بالحكم على طباعه المادية الجشعة. أثناء ذلك كانت هالة الغموض التي تكتنف خوليان تجعلني فضولية أكثر فأكثر. وكان أحدهم يتصل بدار النشر مرتين في الشهر ليحصل على عنوانه، الشخص ذاته يقدّم نفسه في كل مرة باسم مختلف. وكنت أجيبه أن خوليان يعيش في باريس، كما يتضح جليا على حواشي أغلفة رواياته. ثم كف الرجل عن الاتصال، ولكنني قررت على أي حال أن أمحو عنوان كاراكس من أرشيف دار النشر. كنت الوحيدة التي تراسله وأعرف العنوان عن ظهر قلب. بعد عدة أشهر، وبمحض الصدفة، وقعت بين يدي فواتير المطبعة. أدركت بنظرة واحدة أن إصدار روايات خوليان كان يموله شخص لم أسمع به من قبل: ميغيل مولينر. ناهيك عن أن ثمن الطباعة والتوزيع كان أقل مما يدفعه السيد مولينر. الأرقام تتحدث بوضوح: كانت دار النشر تربح من روايات كاراكس رغم أنها تتلف في المستودع. لم أجرؤ على محادثة كابيستاني بالأمر خشية أن أفقد عملي، لكنني سجلت عنوان ميغيل مولينر على دفتر الملاحظات. وانقضت عدة أشهر حتى انتصر تأنيب الضمير على مخاوفي فقررت أن أتجه إلى السيد مولينر لأطلعه على احتيال السيد كابيستاني. فأجابني وهويضحك أنه على علم بذلك. «كل امرى يتصرف بما يملي عليه ضميره.» سألته إن كان هوالذي يتصل للحصول على عنوان كاراكس. فأجابني بــلا، ثم أوصاني بقلق ملحوظ ألاً أعطي عنوانه لأحد مهما كان. كان ميغيل مولينر رجلا غريب الأطوار. يسكن وحيدا في مبنى متهالك في حي بويرتافيريزا وقد ورثه عن أبيه الذي بلغ الثراء من بيع الأسلحة وإشعال الحروب كما كان يقال. لكن ميغيل كان يعيش حياة زاهدة ويستثمر المال الملطخ بالدم في ترميم الآثار والكنائس والمدارس والمكتبات والمستشفيات، وفي نشر أعمال صديق صباه خوليان كاراكس في برشلونة مسقط رأسه.
«لدي الكثير من المال، ما ينقصني هوصديق مثل خوليان» كان يبرر.
كانت علاقته سيئة بإخوته وباقي أفراد العائلة، حتى بات يعتبرهم غرباء. لم يكن متزوجا ونادرا ما يخرج من ذلك المبنى الذي لا يشغل منه إلا الطابق الأعلى. هناك حيث يقع مكتبه الذي يؤلف فيه الموادّ والمقالات لجرائد برشلونة ومجلات مدريد، يترجم نصوصا تقنية من الألمانية والفرنسية ويحضر لطباعة موسوعات وكتب مدرسية. كان ميغيل مولينر يعاني من إفراط النشاط فيالعمل ورغم احترامه بل وحسده لخمود الآخرين فإنه كان ينفر من ساعات الراحة كالفرار من الطاعون. ويتباهى بأخلاقياته في العمل وهو يسخر من تلك الحالة المرضية ويراها شكلاً من أشكال الجين.
«عندما نعمل لا يتسنى لنا الوقت للنظر إلى الحياة بأعيننا.» بدأنا نكثر من لقاءاتنا ونصبح خير أصدقاء. وكان لدينا الكثير من الأمور المشتركة حقا. إذ لاينفك يحدثني عن الكتب وعن محبوبه الدكتور فرويد، وعن الموسيقى، ولكن بالأخص عن صديقه القديم خوليان الذي كان رفيقه في مدرسة سان جبريل. أراني الكثير من الصور وأطلعني على بعض قصص خوليان التي كتبها عندما كان طفلا. ظل ميغيل متعلقا بذكرياته مع خوليان وبفضلها تعرفت على هذا الكاتب. بعد عام من لقائنا الأول، اعترف لي ميغيل مولينر بأنه مغرم بي. لم أشاً أن أجرح مشاعره لكنني لم أشأ خداعه أيضا. إضافة إلى أن ميغيل يستحيل أن يقع في الخديعة. أجبته بأنني أكن له فائق التقدير وأنني أعتبره صديقي العزيز، لكنني لا أبادله الحب. فقال إنه يعرف ذلك مسبقا. «أنت مغرمة بخوليان لكنك لم تستوعبي هذا بعد.» في أغسطس عام 1933 أعلمني خوليان بأنه وضع لمساته الأخيرة على رواية جديدة «لص الكاتدرائيات». وكان كابيسستاني قد تعرض لوعكة صحية جعلته أسيرا للفراش يعاني من داء النقرس، في حين كان عليه التوجه إلى باريس في شهر سبتمبر لتوقيع بعض العقود مع غاليمار. فقرر أن يوفدني إلى فرنسا بدلا منه كثناء على انغماسي في العمل، وكي آتي برواية كاراكس الجديدة أيضا. راسلتُ خوليان كي أعلمه بوصولي في منتصف سبتمبر وطلبت منه أن يحجز لي غرفة في فندق اقتصادي. فأجابني أنه سيكون مسرورا إذا نزلت ضيفة في بيته، فهكذا أستخدم نفقات الفندق في مصاريف أخرى. وقبل انطلاقي بيوم سألت ميغيل إن كان يحب أن يحملني رسالة إلى صديقه خوليان. ففكر طويلا ثم قال لا. رأيت خوليان للمرة الأولى في محطة أوسترليتز. كانت مظاهر الخريف تهيمن على باريس، والمحطة غارقة في الضباب. نزلت من القطار وانتظرت على الرصيف بينما كان الركاب الآخرون يتوجهون نحو المخرج، وسرعان ما وجدت نفسي وحيدة. لفتت انتباهي رجل يرتدي سترة سوداء، على بعد أمتار مني، يراقبني وهويدخن سيجارة. كنت أتساءل خلال الرحلة كيف بوسعي التعرف إلى خوليان وأنا التي رأيته بصور قديمة التقطت قبل ثلاثة عشر عاما أو أربعة عشر. بقيت أنا وذلك الرجل فقط على الرصيف. لم يكن من المعقول أن يكون هو. إذ كان خوليان يبلغ اثنين وثلاثين عاما بينما يبدو ذلك الرجل أكبر بكثير: شعره أبيض ووجهه يفيض بسمات التعاسة والحزن والكآبة، بليغ الشحوب وهزيل إلى درجة تثير الشفقة. ولعل انطباعي عائد إلى كثافة الضباب أو الإرهاق الذي رافق رحلتي، بل لاعتيادي على تصوّر خوليان مراهقا. اقتربت من ذلك المجهول وركزت أنظاري في عينيه. «خوليان؟» ابتسم الرجل وهز رأسه. كان لخوليان كاراكس ابتسامة هي الأجمل في الدنيا، وهي كل ما يملك. كان خوليان يعيش في حي سان جيرمان، في علية تتألف من غرفتين. الصالة وفيها مطبخ صغير ولها شرفة صغيرة تطل على أسطح كنيسة نوتردام وأبراجها، وغرفة فيها سرير لفرد واحد. ويقع الحمام المشترك مع الجيران، في نهاية ممر الطابق السفلي. خلاصة الأمر: كان يسكن في مكان أصغر من مكتب السيد كابيستاني. تظاهرتُ بإعجابي بالمنزل، فخوليان فعل كل ما بوسعه كي يبدو منزله قابلا للاستضافة، بل ولمّع البلاط الذي كانت رائحة الشمع ما تزال تفوح منه. وكانت الأغطية جديدة وعليها رسوم القلعة والتنين، تليق بالأطفال. لكن خوليان قال إن جودة الأغطية عالية، وإن تلك التي لا تحتوي على الرسوم سعرها مضاعف وأكثر سخفا. يقتصر أثاث الصالة على منضدة خشبية قديمة، مسندة باتجاه أبراج الكاتدرائية، وعليها آلة كاتبة من طراز أندروود، اشتراها بسلفة من دار كابيستاني، ورزمتان من الأوراق، الأولى فارغة والأخرى فيها كتابات على الوجهين. وثمت قط أبيض كبير يعيش مع خوليان ويدعى كورتز، كان ينظر إلي بعدم ارتياح وهو يلحس أطرافه قرب صاحبه. وفي الغرفة كرسيان فقط، ومشجب الثياب والقليل من الأشياء الأخرى، في حين كانت الكتب تحتل باقي المساحة وتملأ الجدران على نسقين من الأرض حتى السقف.
وبينما كنت أنظر حولي، تنهد خوليان.
«يوجد فندق قريب من هنا. نظيف واقتصادي ومحترم. حجزت لك...» لم تكن الفكرة سيئة لكنني خشيت أن يشعر بالإهانة.
«سأكون بخير هنا إن كان ذلك لا يزعجكما أنت وكورتز.» ن
ظر خوليان إلى هرّه، ثم حرّك رأسه نافيا ففعل مثله القط. وحينها لاحظت كم كانا متشابهين. اختار خوليان أن يترك لي غرفة النوم فهو ينام قليلا جدا وكان ينظم أموره على سرير مطاطي استعاره من جاره السيد دارسيو، الساحر العجوز الذي يقرأ يد الفتيات مقابل قبلة حارة.
كنت أشعر بالإنهاك فنمت عميقا تلك الليلة. وعندما استيقظت فجرا لم أجد خوليان بينما كان كورتز ينام على الآلة الكاتبة. كان يشخر مثل كلب ضخم. لمحت على المنضدة مخطوط الكتاب الذي جئت من أجله.
لص الكاتدرائيات
وكباقي روايات خوليان، كان الإهداء مكتوبا بخط اليد:
إلى ب.
أغراني المخطوط أن أقرأ بعضا من صفحاته، لكنني انتبهت لكورتز يراقبني. فهززت رأسي كما فعل خوليان قبل حين فإذ بالقط يهز رأسه مثلي وأكثر. أعدت الأوراق إلى المنضدة. وبعد قليل عاد خوليان يحمل خبزا طازجا وحافظة قهوة وقطع جين، وتناولنا الفطور قرب النافذة. كان خوليان يتحدث دون توقف، متجبنا أن ينظر إلي. كان يبدو تحت ضوء الضجر طفلا هرما. لقد حلق ذقنه بعناية وارتدى طقما قطنيا جميلا فاتح اللون ومستهلكا بعض الشيء. روى لي عن ألغاز النوتردام، وعن عوامة شبحية تشق نهر السين ليلا لتجمع أرواح العاشقين التعساء الذين ألقوا بأنفسهم في المياه المتجمدة، وقصصا أخرى لا تحصى. كنت أراقبه بسكوت، وأنا أبحث في عينيه عن مؤلف الكتب التي حفظتها عن ظهر قلب، وعن الفتى الذي وصفه لي ميغيل مرات كثيرة.
«كم ستبقين في باريس؟» سأل.
كنت سأبقى يومين أوثلاثة حسبت التزاماتي مع غاليمار. وكان الموعد الأول في عصر ذلك اليوم. قلت له إنني كنت أرغب في قضاء يومين قبل المغادرة علني التمتع بزيارة المدينة. «باريس تتطلب أكثر من يومين» أكد خوليان.
«لا أريد استغلال كرم السيد كابيستاني.»
«كابيستاني قرصان، وهو يعلم جيدا أن يومين لا يكفيان لزيارة باريس، ولا شهرين ولا حتى سنتين.»
«لا أستطيع المكوث سنتين في باريس يا خوليان.»
نظر إلي طويلا ثم سألني وهو يبتسم: «ولم لا؟ هل ثمت أحد ينتظرك؟»
استمرت المعاملات مع غاليمار والزيارات الشرفية لدور النشر الأخرى ثلاثة أيام، كما كنت أتوقع. دبّر لي خوليان دليلا سياحيا، فتى في الثالثة عشرة من عمره يدعى هيرفي، يعرف المدينة كراحة يده. دلني هيرفي على بعض المطاعم الاقتصادية ونصحني بتجنب بعض الطرقات، كما نصحني بزيارة بعض الأوابد الباريسية. كان ينتظرني لساعات قبالة مكاتب الناشرين، وهو يبتسم دوما، ورفض أن يتقاضى قرشا واحدا كبقشيش. وكان يتحدث بمزيج محبب من الإسبانية والإيطالية والبرتغالية.
«السنيور كاراكس أعطاني أجر خدماتي مقدّما يا سيدتي...»
كان هيرفي فتى يتيما لإحدى العاملات لدى إيرين مارسو ويعيش في آخر طابق من بيت البغاء. علمه خوليان القراءة والكتابة والعزف على البيانو، وكان يصطحبه كل يوم أحد إلى المسرح أو إلى حفلة موسيقية. لذلك فهو يعبد خوليان وقد يتكفل بمرافقتي حتى القطب الشمالي بكل سرور إرضاء له. في اليوم الثالث الذي قضيناه معا سألني إن كنت خطيبة السنيور كاراكس. فأجبته أنني كنت صديقة عابرة ليس إلا فبدا لي محبطا بما فيه الكفاية. كان خوليان يقضي الليل جالسا أمام المنضدة وكورتز في حضنه، يراجع المخطوط أو يتأمل أبراج الكاتدرائية فقط. وفي إحدى الليالي لم أتمكن من النوم من طرق المطر على الأسطح، فذهبت إليه في الصالة. خيّم الصمت علينا قليلا، ثم حين توقف الإعصار سألته عن هوية ب. «بينيلوب» أجاب.
رجوته أن يحدثني عنها وعن أعوامه الثلاثة عشر التي قضاها في منفاه الباريسي. فقال لي هامسا إن بينيلوب هي الأنثى الوحيدة التي أحبها في حياته.
في ليلة شتوية من عام 1921 صادفت إيرين مارسو شابا يتسكع في شوارع باريس ويتقيأ دما في حالة يرثى لها. كان يحمل بعض القروش ورزمة من الأوارق المكتوبة باليد. وحين قرأتها إيرين ظنت أنها أمام أديب شهير مدمن على الكحول. وفكرت أيضا أنها ستربح كثيرا إن عرّفته على ناشر كريم يعيد هذا الأديب إلى رشده. هكذا كانت تقول هي، أما خوليان فكان مقتنعا أنها أنقذته بدافع الشفقة. بقي ستة أشهر في غرفة من الطابق الأخير في محفل إيرين. وأنذرها الأطباء بأن هذا الشاب لن يجد دواء يبقيه على قيد الحياة إن عاد لتجرّع ذلك السم. فقد تضررت معدته وكبده بشكل كبير، وسيظل يتغذى على الحليب والجين والخبز الناعم حتى آخر يوم في عمره. وحين صار خوليان في حالة تسمح له بالكلام سألته إيرين من يكون.
«لا أحد» أجابها خوليان.
«أحيطك علما بأن لا أحد يعيش على حسابي. ماذا تجيد؟»
قال خوليان إنه يجيد العزف على البيانو.
«فلنستمع إذن.»
جلس أمام بيانو الصالون وخلفه جمهور مكون من خمس عشرة مراهقة عاهرة. أدى مقطوعة من ليليات شوبان وحظي بتصفيق الجميع، لكن إيرين وصفت تلك الموسيقى بالجنائزية بينما كانت تدير عملا يناسب الأحياء. فعزف قطعة راقصة من الراجتايم ومقطوعتين لاوفينباخ.
«هكذا افضل.»
كان ذلك العمل يوفر له راتبا ومأوى ووجبتين ساخنتين يوميا.
قاوم خوليان في باريس بفضل إحسان إيرين مارسو الوحيدة التي كانت تشجعه على الكتابة مع أنها ليست معجبة برواياته التعيسة، فهي تقرأ الروايات الرومانسية وسير الشهداء على وجه الخصوص. ووصلته، رغم تحفظاتها، بالناشر الذي أصدر أولى رواياته، وبحثت له عن عليّة باتت ملاذه. وكانت تشتري له الملابس وتجبره في بعض الأحيان على الخروج ليروّح عن نفسه ويرافقها إلى صلاة يوم الأحد والتنزه في حديقة التويلري. وكانت هي التي تشتري له الكتب أيضا. ولم تكن إيرين تطلب منه مقابلا على ذلك سوى الصداقة والوعد بألا ينقطع عن الكتابة. ثم أعطته الضوء الأخضر باصطحاب من يشاء من فتياتها إلى العليّة، لا لشيء إنما لينعم بالعناق أثناء نومه، ولأنهن تعانين مثله من الوحدة والحاجة إلى الحنان.
«جاري السيد دارسيو يعتبرني أكثر الرجال حظا في الكون.»
سألته لماذا لم يعد إلى برشلونة ليبحث عن بينيلوب. فدخل في حالة صمت طويل وعندما لمحت وجهه تحت الظلام، لاحظت أنه كان يذرف الدموع. فجثمت بقربه على ركبتي وضممته إلى صدري. وبقينا هكذا حتى طلع علينا الفجر. ولم أعد أذكر من بدأ بلثم الآخر. لا أذكر سوى أنني استسلمت حين تلامست شفاهنا وكانت الدموع تسيل على وجنتي أنا أيضا. مضى ذلك الصباح بصمت، مثل الأسبوعين الذين قضيتهما مع خوليان. وعندما كنا نجلس في أحد المطاعم أو نتنزه في طرقات باريس، كنت أنظر في عينيه لأتأكد أنه ما زال يحب بينيلوب، حتى بت أكره تلك الفتاة، التي لم تتجاوز السبعة عشر عاما بالنسبة إلي، وصارت تزورني في أحلامي. أبرقت لكابيستاني بحجة كي أؤجل عودتي. لم يكن يهمني إن خسرت العمل أو الحياة الرتيبة التي كنت أعيشها في برشلونة. وربما كنت غير راضية لأنني وقعت بين ذراعي كاراكس مثل فتيات إيرين مارسو، اللواتي يرتضين بفتات الحنان. ولكنني شعرت بوجودي للمرة الأولى والوحيدة في حياتي، وعرفت أنني لن أحب رجلا آخر كما أحببته.
ذات يوم غفا خوليان بين ذراعي متعبا. في مساء اليوم الماضي، وبينما كنا نمر أمام محل للأغراض المستعملة، أطلعني على قلم حبر سائل يزدان به زجاج المحل منذ أعوام، قلم لفيكتور هوغو شخصيا كما يدّعي البائع. لم يكن خوليان يقدر على شرائه، لكنه كان يتوقف هنالك ليتمعن في محاسنه كل يوم. لبست ثيابي دون ضجيج وذهبت إلى المحل. كان سعر القلم باهظا جدا ولم يكن معي كل ذلك المبلغ. لكن البائع قال لي إنه يقبل التعامل بالشيكات إذا استطاع سحب المبلغ من فرع أي مصرف إسباني في باريس. قبل أن تموت والدتي كانت قد وفرت لي مبلغا لشراء ثوب الزفاف، فحل قلم فيكتور هوغو محل فستان الفرح. كنت أعرف أنني أرتكب حماقة كبرى ولكنني لم أشعر بالسعادة في إنفاق المال في حياتي كلها كما شعرت يومها. عندما خرجت من المحل وبيدي القلم الرهيب، اقتربت مني سيدة في غاية الأناقة وشعرها رمادي اللون يحيط بكثافة الزرقة اللامعة في عينيها. دنت مني وقدمت نفسها. كانت إيرين مارسو، منقذة خوليان. حدّثها رفيقي هيرفي عني كثيرا، وأرادت أن تتعرف على الأنثى التي يعيش خوليان كمدا في انتظارها طوال تلك السنوات. لم يكن من الضروري أن أجيبها، إذ ابتسمت إيرين بعذوبة وتسلقت علي لتقبل خدي. فأدركت في تلك اللحظة أن خوليان لن يكون من نصيبي أبدا، وأنني كنت أخسره قبل أن أعرفه جيدا. وفي عودتي إلى منزله والقلم في حقيبتي، كان خوليان قد استيقظ. نزعت ثيابي بصمت ومارسنا الحب للمرة الأخيرة، وسألني عن سبب بكائي فأجبته بأنها دموع السعادة. وبعد قليل، ذهب ليشتري شيئا نأكله، فجهزتُ حقائبي ووضعت القلم في علبته على الآلة الكاتبة ومخطوط الرواية في الحقيبة ثم خرجت. وفي البهو التقيت بالسيد دارسيو، الساحر العجوز الذي يقراً المستقبل للبنات مقابل قبلة. أخذ يدي اليسرى ونظر إلي بحزن. «قلبك يؤلمك يا اآسة.»
وحين أردت أن أدفع له أجره المعتاد، كان هو من قبل يدي.
وصلت إلى محطة أوسترليتز قبل أن ينطلق قطار الثانية عشرة المتجه إلى برشلونة بدقائق. باعني المراقب البطاقة وسألني إن كنت بخير، فطمأنته وجلست في مقصورة خالية. وعند انطلاق القطار نظرت من النافذة فرأيت خوليان جالسا على المقعد. أغمضت عيني وفتحتهما حين غادر القطار المحطة وتلك المدينة الممسوسة التي لم أعد إليها أبدا. ووصلت إلى برشلونة في فجر اليوم التالي. في ذلك النهار بلغت أربعة وعشرين عاما وكنت أعرف أنني تركت خلفي أجمل سنين عمري.
2
في عودتي إلى برشلونة، انتظرت مرور بعض الوقت قبل أن أذهب لزيارة ميغيل مولينر. كنت أود نسيان خوليان فلا أكذب على ميغيل إذا ما سألني عنه. ولكن حين التقينا، لم يكن من الضروري أن أقول شيئا. إذ نظر ميغيل في عيني وفهم كل شيء. كان هزيلا وشاحبا أكثر مما تركته حين انطلقت إلى باريس، بسبب وتيرة عمله المتصاعدة. اعترف لي بأنه أنفق كل أملاكه تقريبا في تبرعات خيرية. وكان محامو إخوته يحاولون طرده من تلك البناية في بويرتافيرزا، لأن أباه كان قد أوصى أن يبقى ميغيل فيها إذا حافظ على الورثة، وفي حالة مغايرة فإن مقام العائلة يوضع تحت تصرّف إخوته.
«رغم أن والدي كان على شفا حفرة من الموت، فإنه كان يعلم جيدا بأنني سأتبرع بكل ثروته حتى القرش الأخير في أكثر شيء يكرهه.»
ولم تكن عائدات النشر والترجمة لتسمح له بالحفاظ على بناية كبيرة كتلك. «ليس من الصعب الحصول على النقود» قال. «ولكن علينا أن نقوم بما هو نافع أولا كي نستحق النقود.»
كانت يداه ترتجفان وساورني الشك في أنه بدأ يدمن على الكحول. كنت أذهب لزيارته في كل أيام الأحد وأحثه على الخروج لينفصل قليلا عن المنضدة والموسوعات. وكنت أعرف أن وجودي يسبب له الحزن، حتى لو لم يعد يحدثني بشأن الزواج. وكان بين الحين والآخر يرميني بنظراته المليئة بالشهوة، لكنني أتجنب القساوة في الرد بسبب الأنانية، فهو الوحيد الذي كان يعلم شيئا قد يطلعني عليه بشأن حقيقة العلاقة بين خوليان وبينيلوب.
وخلال الأشهر التي قضيتها بعيدة عن خوليان، كان شبح بينيلوب الدايا يقتحم نومي وأفكاري. لم أتمكن من نسيان النفور الذي راود وجه إيرين مارسوعندما أدركت بأنني لست من كان خوليان ينتظرها طويلا. بينيلوب الدايا، في غيابها المطلق، كانت منافسة لا أستطيع أن أهزمها، كانت كالضوء الذي يعرّيني فأظهر سوقية ودونية بالمقارنة معها. لم أكن أتصور أن الضغينة قد تستحوذ علي على الرغم مني تجاه شخص لم أكن قد رأيته في حياتي. وكنت متأكدة من أنني لوصادفتها شخصيا، وجها لوجه، فسوف أقضي على ذلك السحر وأحرر خوليان وأتحرر من سطوتها أنا أيضا. واسيت نفسي بالصبر، فميغيل سيقصّ علي الحقيقة عاجلا أم آجلا.
ذات يوم، وبينما كنا نتنزه في باحة الكاتدرائية، افهمني ميغيل انه ما يزال مغرما بي. كان وحيدا لا يعلق على الحياة آمالا. وأنا كنت أعي ما أفعله عندما أخذته إلى بيتي. كنت أعلم أنني أخدعه وأنه كان على علم بذلك هو أيضا، لكن لم يكن لديه أحد غيري. وهكذا أصبحنا عاشقين، بفضل الإحباط. كانت نظراته تشتعل بالوله الذي لطالما وددت رؤيته يلمع ولو بومضة في عيني خوليان. وكنت أتهيأ له كي أنتقم من خوليان وبينيلوب، ومن الحب الذي لم يحالفني. وكان ميغيل يعلم ذلك لكنه لا يشاء التخلي عني. كان إدمانه على الشرب يزداد حتى لم يعد قادرا على ممارسة الحب. فيسخر بمرارة قائلا إننا سرعان ما أصبحنا شريكين متقدمين في السن برقم قياسي. كنا ندمّر أنفسنا على وقع الخسة والضغينة. ذات ليلة بعد عام عن رحلتي إلى باريس، طلبت منه أن يحدثني عن بينيلوب. كان قد شرب كثيرا وبات عصبيا، فعيّرني بأنني لم أحبه يوما واتهمني بالعهر. نزع عني ثيابي بالقوة فعرضت جسدي عليه دون امتناع وأنا أذرف دموعا صامتة، فعاد إلى رشده وتوسل إلي أن أسامحه. كيف كنت سأحبه وأكون سعيدة بقربه! طلبت منه تحت الظلام أن يسامحني عن كل الأذى الذي تضررت به. وقال إنه يود أن يقص علي حقيقة بينيلوب الدايا، بما أنني كنت حريصة جدا على ذلك. ولكنني كنت مخطئة حتى 2 هذا.
في ذلك الأحد البعيد من عام 1919، عندما اتجه ميغيل إلى محطة فرنسا ليسلم خوليان التذاكر ويودعه، كان يعرف مسبقا أن بينيلوب لم تكن لتستقل ذلك القطار. قبل يومين أعلمت السيدة الدايا زوجها الدون ريكاردو، الذي كان عائدا لتوه من مدريد، بأنها فاجأت خوليان وبينيلوب في غرفة خاثينتا. كان خورخي من أطلع ميغيل على ما حصل في قصر الدايا، وطلب منه أن يقسم على كتم السرّ. الدون ريكاردو انفجر من الغضب، وراح يصرخ كمجنون ممسوس، وذهب إلى غرفة بينيلوب التي ارتعدت وأقفلت على نفسها الباب. فخلعه والدها برفسة واحدة بينما كانت تتوسل إليه بالمغفرة وهي جاثمة على ركبتيها، فضربها بكف يده لتسقط أرضا وهو ينهال عليها بأشنع الأوصاف. كان أفراد العائلة والخدم ينتظرون في الطابق السفلي، خانعين لا حول لهم ولا قوّة. ركض خورخي ليختبئ في غرفته تحت الظلام، لكن صراخ أبيه وصل إليه هناك. طردت خاثينتا من عملها دون سابق إنذار وترفع الدون ريكاردو حتى عن مقابلتها. أمر الخدم أن يرموها خارج القصر وهدد أن يفعل الشيء نفسه مع أي أحد يظل على تواصل معها. نزل الدون ريكاردو إلى المكتبة حوالي منتصف الليل. أغلق على البنت في غرفة خاثينتا السابقة وحرّم على أي كان أن يتحدث إليها. سمع خورخي والديه يصرخان كالمجانين في الطابق السفلي. ووصل الطبيب عند الفجر ورافقته السيدة الدايا إلى بينيلوب. وعندما أنهى عيادته، اكتفى الطبيب بهز رأسه ووضع النقود في جيبه. نصحه الدون ريكاردو أن يغلق فمه إن أراد أن يستمر في مزاولة مهنته. وخورخي أيضا فهم مقصد والده. لكنه ظل منشغل البال من أجل بينيلوب وخوليان بطبيعة الحال. لم يكن قد رأى أباه يخرج عن طوره إلى هذه الدرجة. ورغم العار الذي لحق بالأسرة فإن ذلك الغضب المسعور كان أبلغ من المصيبة نفسها. ثمت سر ما، قال لنفسه، ثمت سرّ ما.
استطاع الدون ريكاردو أن يستبعد خوليان عن مدرسة سان جبريل وأوصى بائع القبعات أن يرسله إلى الجيش دون تأخير. وقرر ميغيل ألا يطلع خوليان عمّا جرى. فلو كشف له أن الدون ريكاردو قد حبس بينيلوب وأنها كانت حبلى منه فما كان خوليان ليركب ذلك القطار إلى باريس، وبقاؤه في برشلونة يعني موتا محققا. فضل أن يخفي الحقيقة عن صديقه ويجعله يغادر آملا أن تلحق به بينيلوب عاجلا أم آجلا. وعندما ودّعه في ذلك اليوم في المحطة، عقد ميغيل اماله بإيجاد حل ما قريبا. وبعد عدة أيام، حينما شاع اختفاء خوليان، قامت القيامة. جرّ الدون ريكاردو خلفه الشرطة دون تردد. كان وجهه مضرجا بالحقد، واتهم بائع القبعات بإفساد الخطة وهدده أن يذبحه في المحل. فراح أنطوني فورتوني، الذي يجهل خفايا الأمر، يتهم صوفي بأنها خططت لهروب ذلك الولد العاق وهدد أن يرميها في الطريق إلى الأبد. أما خورخي فكان الوحيد الذي أدرك أن ميغيل هو العقل المدبر لفرار خوليان المفاجئ، فذهب بعد أسبوعين إلى بيته. لم يعد خورخي ذلك الفتى الخجول والمهموم كما كان في الأيام السابقة، بل فقد براءته وأصبح راشدا على حين غرّة. كان خورخي سيكتشف سبب الغضب الأعمى الذي اعترى والده، لكنه كان يقصد شيئا آخر من الزيارة. فهو يعلم علم اليقين فعلة ميغيل، لذا أخبره بانقطاع الصداقة بينهما إلى الأبد وهدده بالموت إن خطر في باله أن يذيع أسرار آل آلدايا.
بعد أسبوع، تلقى ميغيل رسالة من باريس. كان خوليان، تحت اسم مزيف، ينبئه بعنوانه ويطمئنه عن صحته ويعرب عن اشتياقه إليه ويطلب منه أخبارا عن أمه وبينيلوب. وكان الظرف يحتوي على رسالة أخرى موجهة إلى الفتاة كي يرسلها ميغيل بطريقته من برشلونة، وكانت تلك أولى الرسائل الكثيرة التي لم تقرأ بينيلوب منها حرفا واحدًا. انتظر ميغيل مرور بعض الوقت احترازيا. وراح يراسل خوليان أسبوعيا ويقض عليه ما يراه مناسبا وما كان قليلا بطبيعة الحال. وكان يرسل إليه النقود والكتب ودفء صداقتهما. وكانت كل رسائل خوليان تحتوي على رسالة إلى بينيلوب فيرسلها ميغيل كل مرة من صندوق بريدي مختلف وهو يعلم أنه لا جدوى من ذلك. وكان خوليان يلخ لمعرفة أي شيء عن بينيلوب لكن ميغيل لم يقص عليه أي شيء. عرف من خاثينتا أن الفتاة لم تعد تخرج من قصر تيبيدابو بعد أن حبسها والدها في غرفة من الطابق الثالث.
ذات ليلة ظهر أمامه خورخي على بعد أمتار عن بيته.
«هل جئت لتقتلني؟» سأله ميغيل.
فأجابه خورخي بأنه يريد أن يسدي معروفا له ولصديقه. سلمه ظرفا كي يرسله إلى خوليان أينما كان مختبئًا.
«لصالحهما معا» أضاف. كان الظرف يحتوي على بطاقة مكتوبة من بينيلوب الدايا.
عزيزي خوليان
في هذه السطور القليلة أرغب أن أعلملك بزواجي وأطلب منك ألا تكتب إليّ بعد الآن، أن تنساني وتلتفت إلى حياتك. لا أحقد عليك ولكنني أود أن أكون صادقة معك.. لقد أخفيت عليك الحقيقة فانا لم أكن أحبك يوما ولن أستطيع مستقبلا.
أتمنى لك السعادة أينما كنت.
بينيلوب
قرأ ميغيل الرسالة مرة واثنتين وألفا. كان خط بينيلوب بلا شك لكنه لم يصدق ولوللحظة بأنها كتبت الرسالة بكامل إرادتها. «أينما كنت...» بينيلوب كانت تعلم أين خوليان: كان في باريس ينتظرها. فاستنتج أنها تصنعت جهلها بمكانه كي تحميه. ولهذا السبب تحديدا لم يفهم ما الذي أوصلها لتكتب هذه السطور. أي نوع من العقاب كان والدها يمارسه عليها وهو الذي يحبسها منذ أشهر؟ وكانت هي، أكثر من أي شخص آخر، تعرف أن تلك الرسالة ستقضي على خوليان... فتى في الثامنة عشرة من عمره، يعيش وحيدا في مدينة بعيدة، تخلى عنه الجميع، وأمله الوحيد أن يتزوج عشيقته. فلماذا كانت تريد أن تبعده عنها؟ قرر ميغيل في النهاية ألا يرسل البطاقة دون أن يكتشف لماذا كتبتها بينيلوب. لم يكن ليغرس الخنجر في قلب صديقه. أثناء ذلك، نجح الدون ريكاردو، بفضل علاقاته المتشعبة، أن يعزل خاثينتا في مصحة نفسية بعد أن بقيت شهورا تقصد القصر وتستجدي رؤية البنت. وعندما ذهب ميغيل لزيارتها، شرح له طبيب شاب ومهذب أن على المريضة أن تبقى معزولة لثلاثة أشهر كي تستطيع التواصل مع الناس مجددا. فقرر ميغيل أن يتجه إلى النزل الذي أقامت فيه خاثينتا بعد أن طردوها. تذكرت صاحبة النزل أن المرأة تركت له رسالة ولم تدفع إيجار ثلاثة أسابيع. دفع ميغيل الحساب دون أن يناقش وعرف من تلك الرسالة أن لاورا، إحدى الخادمات في قصر الدايا، طردت عندما اكتشفوا بأنها أرسلت خلسة مكتوبا من بينيلوب إلى خوليان. ولم يكن أمام تلك الفتاة عنوانا ترسل إليه المكتوب إلا بيت والد خوليان في روندا دي سان أنطونيو، في حال أرسلوه إلى ابنهم. عرج ميغيل إلى بيت فورتوني كي يتحدث مع صوفي، ويحصل على ذلك المكتوب. لكن المرأة لم تعد تسكن هناك، صوفي كاراكس هجرت زوجها منذ بضعة أيام، أو هذا ما كان الجيران يتهامسون به على الأقل. فاتجه ميغيل إلى بائع القبعات الذي كان يقضي أيامه محبوسا في المحل يحرق أعصابه. وسأله إن كان قد رأى رسالة وصلت إلى خوليان منذ بضعة أيام.
"ليس لدي أولاد" أجابه بائع القبعات
لم يفطن ميغيل مولينر إلى أن تلك الرسالة وقعت في يدي الناطورة والتي حصلتَ عليها أنت يا دانيال بعد سنوات طويلة وقرأت كلماتها التي كتبتها بينيلوب، بصدق هذه المرة، ولم يتسن لخوليان أن يقرأها أبدا. بينما كان ميغيل يخرج من محل القبعات، نادته إحدى الجارات، قالت إنها تدعى بيثينتيتا، وسالته إن جاء يبحث عن صوفي.
«أجل. إنني صديق خوليان» أجاب ميغيل.
باحت له بيثينتيتا بأن صوفي انتقلت إلى نزل رديء خلف مكتب البريد العام في انتظار أن تبحر بباخرة إلى أمريكا. فذهب ميغيل إلى هناك. صعد سلما متداعي العتبات، ووجد صوفي كاراكس في غرفة رطبة ومظلمة في الطابق الرابع. كانت أم خوليان تنظر من النافذة، وتجلس على السرير، وبقربها حقيبتان تشبهان التابوت تحتوي على ما بقي لها من اثنين وعشرين عاما قضتها في برشلونة. بعد أن قرأت البطاقة التي سلّمها خورخي من بينيلوب إلى ميغيل، أجهشت صوفي بدمع مالح كالخوف.
"إنها تعرف إذن" غمغمت. «إنها تعرف... يا للمسكينة إنها تعرف... »
«ماذا تعرف؟» سأل ميغيل.
«الذنب ذنبي» قالت صوفي. «الذنب ذنبي أنا وحدي.»
لم يفهم ميغيل وراح يشدّ بيديه على يديها، ولم تجراً صوفي على النظر في عينيه.
« بينيلوب وخوليان إخوة ».
3
قبل أعوام كثيرة على استعباد أنطوني فورتوني، كانت صوفي كاراكس تقتات من موهبتها. لقد وصلت إلى برشلونة حين اتمت عامها التاسع عشر بحثا عن فرصة عمل لم تتحقق أبدا. قبل أن توافي المنيّة والدها استطاع بمعارفه أن يدخلها في خدمة آل بينارين، وهي عائلة ميسورة من تجار الألماس كانت تعيش في تلك المدينة. «
عندما أموت اذهبي إليهم» قال لها. «سيعاملونك كابنة لهم.»
وفعلا استقبلها السيد بينارين بحفاوة كبيرة. أما السيدة بينارين فأعطتها مائة بيزيتا بدافع الشفقة الخالصة وطردتها من على الباب.
"مازال المستقبل أمامك يا فتاة، أما أنا فليس لي سوى هذا الزوج الأحمق"
وجدت صوفي عملا في مدرسة الموسيقى في شارع ديبوتاثيون كمعلمة خصوصية على البيانو والقراءة الموسيقية. وكان رائجا في تلك الحقبة أن تحصل الفتيات من العائلات النبيلة على تعليم موسيقي يكفيهن لعزف قطعة بولونية في الصالون ويبقين بعيدات عن النقاشات الخطيرة والمجادلات حول بعض القراءات. بدأت صوفي كاراكس تطوف من قصر إلى آخر، حيث تستقبلها الخادمات الخرساوات والجلفات ويرافقنها إلى صالة الموسيقى ويكون بانتظارها أفراد الأسرة الأرستقراطية القبيحة، من أصحاب المصانع، كي يسخروا من لكنتها وحيائها ومستواها الاجتماعي المتدني. فتعلمت مع الوقت أن تنسى الآخرين وتركز على التلاميذ القلائل الذين يتميزون عن تلك الحظيرة الحيوانية ذات الرائحة الزكية.
وفي تلك الحقبة تعرفت صوفي على الشاب أنطوني بائع القبعات (كما كان يسمي نفسه مفتخرا بحرفته) وقرر أن يتقرب منها بأي ثمن. طلب منها الزواج وكان يعيد عليها الطلب مرة واحدة في الشهر على الأقل. وبعد كل موعد، تقطع صوفي عهدا على نفسها بألا تلقاه ثانية لأنها لا تريد أن تسبب له عذاب الحب، لكن بائع القبعات كان يعاود الكرّة ويدعوها إلى الرقص أو التنزه أو تناول الشوكولا بالبسكويت في حي كانودا. وكان من الصعب عليها، وهي وحيدة في برشلونة، أن تقاوم شراهة أنطوني فورتوني، رغم أنها تكتفي بالنظر إليه لتستوعب أنها لا تحبه، أو أنه ليس الرجل الذي حلمت بحبه على الأقل. ومن جهة أخرى يروق لها أن ترى في نظراته المرأة التي أحبّت أن تكون. وما لبثت ترضخ لغزل بائع القبعات، سواء بسبب العبث أو الضعف، فقد كان دواء مسليًا ضد الوحدة والحنين، وكانت متأكدة أنه سيهجرها ما إن يصادف امرأة تناسبه أكثر منها. كانت تلتقي بفورتوني كل أيام الأحد بعد الصلاة، وفي باقي الأسبوع تشرف على دروس البيانو. فلديها آنا فايس، أكثر تلميذة محببة إلى قلبها لأنها في منتهى الذكاء. أنا ابنة أكبر المنتجين لآلات النسيج، بلغ الثراء بعدما قدّم تضحيات عظيمة، وبالأحرى بعدما سلب الآخرين تضحياتهم. وكانت آنا تتطلع لتصبح موسيقية مشهورة وتؤدي على مسامع صوفي مقاطع وجيزة تؤلفها بنفسها، ومستوحاة من موسيقى غريج وشومان، وتعد بمستقبل مشرق. أما السيد فايس، ورغم قناعته بأن النساء قادرات على التطريز فقط، فكان يقف إلى جانب ابنته في تطلعاتها ويأمل أن يزوّجها بأقصى سرعة من وريث ذي كنية مهمة، ومن المعلوم أن الأكابر يقدّرون الفتيات في سن الزواج خصوصا إذا تميّزن بمواهب خارجة عن المألوف.
وحدث في ذلك القصر أن تعرفت صوفي كاراكس على أهم شركاء السيد فايس: الدون ريكاردو الدايا، بطل واعد من الطبقة الثرية ذات النفوذ في كاتالونيا نهاية القرن. قبل عدة أشهر تزوج الدون ريكاردو من وريثة في غاية الجمال واسمها عصي على اللفظ، وكان يشاع بأن خطيبها لا يجد فيها جمالا يذكر ولا يجهد نفسه بلفظ اسمها. كان زواجا بين المصارف وليس حبا من النظرة الأولى، كما يقول السيد فايس الذي يعتقد أنه لا ينبغي على البشر الخلط بين مشاريع الغرام والمشاريع العابرة..
ما إن التقت صوفي بنظرة الدون ريكاردو حتى فهمت أنها هامت به. كانت عيناه ثاقبتين ومتعطشتين للدماء كعيون الذئاب، تركزان على الفريسة وتعرفان من أين تؤكل الكتف. قبّل يدها بعذوبة، ولامست شفتاه أناملها. وإن كان بائع القبعات لطيفا وجسورا فإن الدون ريكاردو كان الرجل الذي يحصل دوما على ما يريد. فهمت صوفي أنه قرأ أفكارها من ابتسامته القاسية وتكهن برغباتها، وأنه سيتلاعب بها. وشعرت بذلك الازدراء الغامض الذي يراودنا إزاء بعض الأمور دون أن نعرف أسبابه الحقيقية. قالت لنفسها إنها ستستغني عن تلميذتها المفضلة كي لا تلتقي به ثانية، لأنه تجلّى أمامها كوحش مفترس يلبس الحرير مما أوقد غريزة الفرار في صدرها. اصطنعت حجة كي تنصرف أمام حيرة السيدة فايس وقهقهة الدون ريكاردو ونظرة حزينة من آنا الصغيرة التي كانت تفهم البشر أكثر من فهمها للموسيقى وتدرك أنها خسرت آنسة الموسيقى.
بعد أسبوع، انتظر الدون ريكاردو صوفي أمام مدرسة ديبوتاثيون، وهويتصفح جريدة. تبادلا النظرات، ودون أن يقول كلمة واحدة حملها معه إلى بناية النبلاء على بعد مسكنين من هناك. كان المكان جديدا ولا يزال فارغا. فتح الدون ريكاردو باب الشقة على مصراعيه وأفسح لها المجال. فدخلت صوفي في متاهة من الممرات والشرفات بجدران عارية وسقوف مرتفعة. لم يكن ثمت أثاث ولا لوحات ولا فوانيس، لا شيء يجعل من ذلك المكان صالحا للسكن. أغلق الدون ريكاردو الباب وراءه وتبادلا النظرات مجددا.
«فكرت فيك طوال الأسبوع كله» قال ريكاردو. «إن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إليك فقولي كي أدعك تذهبين ولا أبحث عنك بعد.» سكتت صوفي.
استمرت اللقاءات غير الشرعية بينهما ستة وتسعين يوما. كانا يتقابلان في الشقة الفارغة على تقاطع «الديبوتاثيون» بـ«رامبلا كاتالونيا» كل ثلاثاء وخميس في الثالثة ظهرا، ولا يدوم اللقاء أكثر من ساعة. وكانت صوفي تظل هناك بعض الأحيان بعد انصراف الدايا، لتبكي في إحدى زوايا الغرفة. ثم تحاول في يوم الأحد أن تجد في عيني بائع القبعات بقايا صوفي القديمة. فلم يكن أنطوني فورتوني يري الشحوب والشطوب والكدمات على جلدها، ولا اليأس في ابتسامتها. إنه لا يرى شيئا أبدا. وربما لهذا السبب قبلت صوفي طلبه بالزواج. كانت تحمل في رحمها ابن الدايا لكنها تخاف أن تخبره بذلك بقدر خشيتها من فقدانه، ونجح الدايا مرة أخرى في التقاط ما لم تستطع هي الاعتراف به. أعطاها خمسمائة بيزيتا وعنوانا في شارع بلاتيريا وأمرها أن تتخلص من الجنين. وحين رفضت صفعها حتى أدمى أذنيها وهددها بالقتل إن فضحت علاقته بها أو ادعت أن الولد ابنه. وعندما قالت لأنطوني إن المنحرفين اعتدوا عليها في ساحة بينو، صدّقها. وعندما قالت له إنها ستكون سعيدة بالزواج منه، صدّقها. ويوم الزفاف وصلتهما باقة كبيرة من الأزهار الجنائزية إلى الكنيسة. وتسبب خطأ حامل الأزهار في ضحك الحاضرين. لكن صوفي لم تضحك، فالدون ريكاردو تذكرها في يوم عرسها.
4
لم تكن صوفي كاراكس تتوقع أن يعود الدون ريكاردو، بعد أعوام كثيرة غدا خلالها رجلا ناضجا يقود إمبراطورية مالية شاسعة وأبا لراشدين، كي يتعرف على ابنه الذي أراد أن يتخلص منه ذات مرة بخمسمائة بيزيتا.
«ربما لأنني أتقدم في العمر» برر ريكاردو. «أريد أن أتعرف على ذلك الفتى وأعرض عليه كل الفرص الذي يستحقها أي أحد تجري في عروقه دمائي. لم أفكر فيه أبدا أثناء تلك السنين ولكنني اليوم لا أفكر إلا فيه.»
كان نجله خورخي ولدا خجولا ومنزويا لم يرث شيئا من أبيه سوى الكنية. ذات يوم استيقظ الدون ريكاردو في سرير إحدى الخادمات بإحساس غريب: لم يعد يشعر بأنه الدون ريكاردو. نظر إلى نفسه في المرآة عاريا ورأى رجلا آخر، فانتابه الغثيان. وهكذا قرر أن يعثر على ريكاردو الماضي. تذكر ابن بائع القبعات ولم يكن قد نسي صوفي، شأن سلوكه المعتاد في تناسي حريمه. وفي الحقيقة لم يكن الدون ريكاردو ينسى شيئا. وعندما تعرف إلى الصبي وجد فيه ما كان يرجو: ذكر لا يخشى هيبته ويجرؤ على تحديه بل ويسخر منه أيضا. وجد في خوليان ذلك العنفوان والطموح والجسارة الخفية التي لا يراها الحمقى حتى تقضي عليهم من الداخل. أعاد الله إليه شبابه. ولم تكن صوفي، شبح المرأة التي يتذكرها، قادرة على صدّ توغله، أما بائع القبعات فكان مجرد أضحوكة، جلفا بغيضا وخسيسا. قرر أن يسلب خوليان من ذلك الجو الملوث كي يشرع أمامه أبواب الجنة المالية. فكان سيدرس في سان جبريل، ويتمتع بكل الميزات المحصورة في طبقته، وسيبدأ في التمرن على نشاطات والده الحقيقي: كان الدون ريكاردو يستحق خلفا صالحا. إذ أن خورخي سيبقى دوما غير كفء، وبينيلوب الجميلة الغالية على قلبه كان عيبها الوحيد أنها أنثى وليست على درجة من خلافته. أما خوليان فكانت تسكنه روح شاعر، أي روح مجرم في النهاية، ويجمع في شخصيته الصفات الضرورية. مسألة وقت ليس إلا، فكر الدون ريكاردو، سوف تستغرق العملية عشرة أعوام على الأقل كي يظهر ذلك الولد على صورة شبيهة به. وخلال كل الأعوام التي قضاها خوليان عند آل الدايا كأنه واحد منهم - بل ومميزا عنهم – لم يشك ريكاردو أبدا بأن الفتى يبتغي منه شيئا آخر... بينيلوب. لم يخطر في باله يوما أن خوليان كان يحتقره وأنه يؤدي ذلك الدور ليتقرب أكثر من بينليوب ليس إلا. كي يستحوذ عليها كليا. وفي هذا الطبع كان يشبهه جدا.
عندما باحت له زوجته بأنها اكتشفت خوليان يختلي بابنتها، تهاوى الكون فوق رأسه. غاب عقله نتيجة الرعب والتقزز من ذلك الانتهاك، وشعر بأنه ساذج مخدوع وأحسّ بطعنة في الظهر من ذالك الفتى الذي علق عليه كل آماله. وعندما أكد الطبيب أن بينيلوب فقدت بكارتها ومن المحتمل أنها حبلى، سقط الدون ريكاردو في هؤة الحقد الأعمى. وكان اليوم الذي حبس فيه بينيلوب في غرفة الطابق الثالث أول أيام احتضاره البطيء والخفي، أول خطوة نحو التحطم الذاتي. اتجه إلى بائع القبعات، ولطالما احتقر ذلك البائع، وأمره بإرسال خوليان إلى الجيش فورا حيث سيصادفه الموت لا محالة. وحرّم على أي شخص، عدا زوجته، من لقاء بينيلوب خلال الوقت الذي قضته الفتاة سجينة في غرفة لها نكهة الموت والمرض والخطيئة. وفي تلك الأثناء، كان شركاؤه يجردونه من سلطاته باستهلاك رأسماله نفسه، وراحت إمبراطورية آل الدايا تتهاوى على ضرب جلسات سرية تعقد في قصور مدريد ومصارف جنيف. ولاذ خوليان بالفرار، فأعجب به الدون ريكاردو كثيرا مع أنه كان يتمنى رؤيته ميتا. لقد تصرّف تماما كما كان سيفعل هو في حالة مماثلة. ولابد أن يدفع أحد ما ثمن أخطائه.
في 26 سبتمبر 1919 وضعت بينيلوب الدايا مولودا بلا روح. لو كان لطبيب أن يزورها، لكان انتبه إلى أنها في خطر وأنها في حاجة ماسة إلى عملية قيصرية. لوكان لطبيب أن يشهد المخاض، ربما كان بوسعه إيقاف النزيف الذي قتل بينيلوب بينما كانت تطرق الباب الموصد وفي الجانب الآخر يبكي أبوها بصمت وتنظر أمها إليه مرتعدة. لو كان لطبيب أن يحضر هذا كان سيتهم الدون ريكاردو بارتكاب جريمة قتل، وهو المصطلح الوحيد الذي يصلح لوصف ما حدث في تلك الزنزانة المنزلية. عندما فتحوا الباب ووجدوا بينيلوب ميتة في بركة من دمها، مع مخلوق داكن بين ذراعيها، لم يتجرّاً أحد على نطق كلمة واحدة. دفنت الجثتان في قبو القصر، بلا جنازة ولا شهود، وأضرمت النيران في الاغطية واغلق القبو بجدار من القرميد.
كان خورخي آلدايا من أطلع ميغيل مولينرعلى هذا، وهو يبكي من الشعور بالذنب والعار. فقرر الأخير أن يرسل بطاقة بينيلوب إلى خوليان، تلك التي تقر فيها بأنها لم تكن تحبه وتطلب منه أن ينساها وتخبره بزواجها. رأى من الأفضل لخوليان أن يصدق تلك الكذبة ويلتفت لبناء حياته على أن يكتشف الحقيقة. وبعد عامين، عندما توفيت السيدة الدايا، راجت الشائعات عن شؤم ذلك القصر الملعون، لكن خورخي كان يعلم أنها قتلت في ظل الحسرة وأصداء صراخ بينيلوب الممزق وطرقها المتكرر على الباب الموصد دون جدوى. وكانت العائلة، في تلك الحقبة، قد وقعت في كارثة وتهاوت حظوظ الدايا مثلما تمحو الأمواج قصر الرمال، ضحية الحسد والثأر وحتمية التاريخ. نظم الموظفون خطة الهروب إلى الأرجنتين حيث كانوا سيعاودون نشاطاتهم على أسس أكثر تواضعا. كان لابد من الفرار بعيدا، بعيدا عن إسبانيا وعن الاشباح التي تطوف في ممرات قصر الدايا.
انطلقوا فجر يوم من عام 1926 وسافروا تحت أسماء مزيفة على متن سفينة تجتاز المحيط الأطلسي لتحملهم إلى بوينوس آيريس. تقاسم خورخي ووالده المقصورة، وكان العجوز الدايا يكاد لا يقف على قدميه. ولم يجرؤ الأطباء الذين منعهم من عيادة بينيلوب، أن يخبروه بالحقيقة، لكنه كان يعلم ان الموت قد استقل تلك السفينة. وخلال الرحلة الطويلة، بينما ينظر إلى الأفق ملتحفا بالأغطية، أدرك أنه لم يكن ليرى اليابسة ثانية. وكان في بعض الأحيان يجلس في مؤخرة السفينة ويراقب أسماك القرش تلحق بالسفينة منذ أن غادروا تنريف23. سمع أحد البحارة يقول إن تلك الجوقة المشؤومة كانت ظاهرة طبيعية في مسارات السفن في أعالي المحيط، فهذه الأسماك تتغذى على نفايات البواخر التي ترميها في البحر. لكن الدون ريكاردو كان يعلم علم اليقين أن تلك الشياطين تلاحقه شخصيا. " إنكم تنتظرونني " كان يقول في سرّه بينما رأى فيهم وجه الله الحقيقي. وحينها أخذ وعدا من خورخي، نظرا لانعدام البدائل، انه سيحقق إرادته الاخيرة.
«سوف تعثر على خوليان كاراكس وسوف تقتله. عددْني بذلك.»
ذات صباح، قبل يومين من الوصول إلى بوينوس آيريس، استيقظ خورخي ولم ير أباه في السرير. صعد إلى السطح ليبحث عنه، لكنه وجد منشفته الفاترة فقط عند مؤخرة السفينة. وكان خط السفينة يشق عباب المحيط الراكد ويتلاشى في الأجاج الواسع. ولاحظ أن أسماك القرش لم تعد تلاحق السفينة وتراءت له في البعيد مجموعة من الأسماك تدعى إلى وليمة طازجة. ومنذ ذلك الحين لم يلاحظ أي مسافر سمكة واحدة من أسماك القرش، وحين نزل خورخي الدايا في ميناء بوينوس آيريس سأله ضابط الجمارك إن كان بمفرده، فأجاب بنعم. منذ وقت طويل وهو يسافر بمفرده.
5
بعد عشرة أعوام، تعقب خورخي الدايا ظله، وعاد إلى برشلونة. في الأرجنتين تضاعفت التحديات التي دمرت إمبراطورية العائلة في العالم القديم. فوجد نفسه مرغما على مواجهة المصاعب المريرة بمفرده، وكان تحمّل تركة أبيه أكبر من جهوده. لقد وصل إلى بوينوس آيريس بروح تغص بالتعاسة أصلا. وكان يتذرع بان أمريكا حلم خدّاع، ويرثيها بوصفها أرض الضباع، وهو معتاد على طراوة أوروبا فلم يقاوم. وفي غضون أعوام قليلة خسر كل شيء، بدءًا بالسمعة الحسنة. ولم يبق بحوزته سوى الساعة الذهبية التي أهداه إياها والده في المناولة الأولى، فباعها ليشتري ثمن تذكرة العودة إلى برشلونة. وكان الرجل الذي عاد إلى إسبانيا يحمل صفات المتسول الصعلوك، وغدا ذليل الأوجاع والخسائر ومهووسا بالحسرة على أمجاد الماضي ومليئا بالغل ممن يعتبره المسؤول عن شتاته: خوليان كاراكس.
لم يينس الوعد الذي قطعه على أبيه إذن. ما إن وطات قدماه برشلونة حتى شرع بتتبع آثار خوليان. إلا أن صديقه السابق تبخر والمدنية باتت مختلفة جدا عن تلك التي يتذكرها. وفي تلك الحقبة، وجد رفيق صباه القديم، عن طريق المصادفة التي يعدّها القدر. بعد دورة طويلة بين المخافر وسجون الدولة، كان فرانشسكو خافيير فوميرو قد تجند في القوى المسلحة، وحصل بذلك على رتبة مقدم، وكان سيترفع إلى رتبة جنرال لو لم يطرد من الجيش بعد فضيحة لم تكشف خفاياها أبدا. لكنه كان قد بنى اسمه بطبيعة الحال وصار رجلا ذا هيبة. وأصبح المراهق المنزوي، الذي كان يجمع أوراق الخريف اليابسة في باحة سان جبريل، مجرما دمويا. ويقال إنه أعدم رجالا بارزين من أجل المال، وانه يصفي شخصيات سياسية بالوساطة، بل وإنه كان الموت بعينه.
سرعان ما تعرف خورخي على فوميرو في صالة المدخنين في مقهى نوفيداديس. وكان الدايا قد استعاد عافيته من حمى يرجح سببها إلى حشرة أمريكية برية."حتى البعوض قحاب هناك" كان يقول. أصغى إليه فوميرو باهتمام يتخلله الازعاج. إذ كان يحسب جميع أنواع الحشرات، ويعشق تصرفاتها المدروسة وقوتها وقدرتها المنظمة. كائنات لا تعرف الكسل أو التمرد أو المثلية الجنسية ولا حتى الانقراض. لكنه كان يفضل فصيلة العنكبيات، لقدرتها على حياكة المصائد التي تنتظر فيها الفرائس بصبر جميل، فتنتهي وسط الشباك بسبب الغباوة أو الشرود. ومن جهة أخرى كان الدايا مثالا واضحا للانحطاط الجسدي والأخلاقي. لقد شاخ باكرا وأهمل جسده الخالي من أي لفتة عضلية. وكان فوميرويكره المترهلين الضعفاء ويتقزز منهم حتى التقيؤ.
"إنني متعب يا خافيير هلا ساعدتني لبضعة أيام؟" توسل إليه الدايا.
فقرر فوميرو أن يستضيفه في بيته. وكان يقيم في شقة صغيرة في شارع كاديا في الرافال، برفقة العديد من الحشرات المتكدسة في أوعية صيدلانية، وحوالي ستة كتب. فوميرو يكره الكلمة المكتوبة بقدر عشقه للحشرات على الأقل. لكن تلك لم تكن كتبا اعتباطية، بل كانت روايات خوليان كاراكس الصادرة عن دار كابيستاني. دفع ميلفا للعاهرتين اللتين تعيشان بالشقة المجاورة - أّم وابنتها ينصاعان لأوامره حين يندر الزبائن لاسيما في نهاية الشهر- كي يعتنيا بخورخي لأنه كان مشغولا بالعمل. لم يكن نيوي أن يقتله حينها. كان فوميرو قد تطوع ضمن فرقة التحقيق في الجرائم حيث يوجد دائما مكان شاغرلمحترف قادرعلى مواجهة أصعب المسائل وحلها بدقة فيتمكن المواطنون المحترمون من متابعة حياتهم الترعة بالأوهام، كما قال له قائده النقيب دووران ذات مرة.
«الشرطة ليست مهنة، إنما مهمة» صرح دووران.. «إسبانيا في حاجة ماسة إلى رجال ذوي باس يكثرون من الأفعال ولا يكتفون بالأقوال.»
ولسوء الحظ، كان النقيب دووران سيفقد حياته لاحقا بسبب حادث وقع خلال عملية تمشيط في برشلونيتا.24
كانوا هناك لاعتقال بعض الأناركيين وفي الجلبة انزلقى دووران وهو يقع من عمود الإنارة. قيل إن إسبانيا فقدت رجلا حكيما ومفكرا ينغمس في الحدث. فحلّ فوميرو محله بكامل كبريائه وهو يهنىء نفسه على دفع دووران من الأعلى إذ كان طاعنا في السن ولم يعد يصلح لمثل هنا العمل. كان العجائز-- والمشوهون والغجر والمثليون - يثيرون اشمئزازه حتى لو كانوا يتحلون بالقوة. فالله أحيانا يرتكب بعض الأخطاء، ومن واجب أي إنسان طيب أن يعالجها كي يبقي العالم محافظا على أبهى صوره.
بعد بضعة أسابيع من لقائه بفوميرو في مقهى نوفيلاديس، مارس 1936، بدأ خورخي الدايا يستعيد عافيته. اعتذر له عن معاملته السيئة في الماضي، وقص عليه حكايته بالتفصيل. كان فوميرو كله آذانا صاغية، ويهز رأسه من حين لآخر متسائلا إن كان عليه أن يقتله حالا أم يعطيه وقتا إضافيا. وتساءل مرارا إن كان نصل السكين قادرا على قتل ذلك الكائن المنحط وعلى اختراق لحمه ذي الرائحة الكريهة والمترهل بسبب الخمول. لكنه قرر أن يؤجل الاختبار الحي فتلك القصة تهمه وبالأخص الجزء الذي يتناول كاراكس. كان يعرف أن كاراكس يعيش في باريس. ولكن لا أحد يعرف عنوانه عدا موظفة في دار النشر، سيدة تدعى مونفورت، وترفض أن تمده بالعنوان. وقد لاحقها فوميرو مرتين حين خروجها من المكتب. كان على بعد خطوات منها في الترام، ولم تكن النساء تعيره أي انتباه، بل يستدرْن إلى الطرف الآخر إذا تقاطعت نظراته بعيونهن ويتظاهرن بعدم رؤيته. وذات مساء بعد أن تبعها حتى بوابة البناية، عاد فوميرو إلى شقته واستمنى متخيلا أنه يدخل نصل سكينه في لحمها بعمق ثلاثة سنتمترات دفعة واحدة، وببطء مدروس، وهو يركز النظر في عينيها. ومن يدري إن كانت ستعطيه عنوان كاراكس وهي في تلك الحالة وتعامله باحترام يستحقه أي ضابط في الشرطة. كان خوليان كاراكس الشخص الوحيد الذي أراد فوميرو قتله ولم يفلح، لأنه أول فريسة تاق لاصطيادها ولكنه كان عديم الخبرة. وعندما لفظ خورخي الدايا ذلك الاسم القبيح، ابتسم المحقق بطريقة تخيف جاراته كثيرا، بتمرير لسانه على شفته العليا. لا تزال أعصابه تحترق كلما دوت في رأسه ذكرى كاراكس وهو يقتل بينيلوب الدايا في قصر شارع تيبيدابو. بينيلوب الحبيبة. كان يحبها هيام شديد وعشق طاهر، كقصص الحب التي يعرضونها في الأفلام حسب فوميرو. فهو يتردد إلى السينما مرتين في الأسبوع على الأقل، هنالك حيث اكتشف أن بينيلوب كانت الحب الكبير الذي عرفه في حياته. فكل الأخريات عاهرات بما فيهن والدته. وحين انتهى خورخي من قصته قرر الشرطي ألا بقتل ذلك الحقير فهذا ليس من صالحه حاليا، بل وشكر القـدرالندي جعلهما يلتقيان. وراودته رؤية مباغتة كما يحدث في الأفلام كان الدايا سينفعه في اجتذاب الآخرين على طبق من فضة. وسيقع الجميع في شباكه قريبا.
6
في شتاء 1934 تمكن إخوة ميغيل من طرده من تلك البناية التي ما تزال مهجورة إلى اليوم. كانوا ينوون حرمانه من ذلك القليل الذي بقي عنده، من كتبه وحريته وفكره الذي يشعرهم بالتهديد والإهانة. لم يحتج أبدا ولم يطلب مساعدتي. أخبرني أحد المحامين الأنذال أنه كان يعيش متسولا في حين كان إخوته يصنفون أملاكه القليلة بهدف تصفيتها. نام ميغيل عدة ليال في حجرة رديئة بلا نوافذ أشبه بالقبر، على سرير يليق بالسجناء.
فقررت أن أستضيفه في بيتي. كان حزينا جدا ويسعل باستمرار. وما لبث يقول إنها مجرد حمى عابرة كتلك التي تصيب العجائز العزاب وسيشفى منها قريبا، فإذ بأحواله تزداد سوءا بعد مرور أسبوعين. لم ألحظ بقع الدم على كمّ سترته باكرا لأنه كان يرتدي اللون الأسود دوما. وأنبني الطبيب الذي زاره على عدم استدعائه من قبل: ميغيل مصاب بداء السل. كان مريضا ومفلسا ويعيش على الذكريات والحسرات. كان الرجل الأضعف والأطيب الذي عرفته في حياتي، الصديق الوحيد الذي عرفته. تزوجنا في البلدية في صباح من فبراير واقتصر شهر العسل على صعود تلة تيبيدابو بالقطار الجبلي كي نستمتع بمنظر المدينة الغارقة في لازورد الضباب. لم نخبر أحدا بزواجنا، لا كابيستاني ولا أبي ولا أهل ميغيل الذين كانوا يتعاملون معه على أنه ميت. بل كتبتُ رسالة إلى خوليان لكنني لم أرسلها. بعد عدة أشهر طرق بابنا رجل بشع بنظرات مضطربة وجلد يتصبب عرقا، وقال إن اسمه خورخي الدايا، وابتسم بمرارة قائلا:
«لقد حلّت علينا اللعنة جميعا يا ميغيل. أنت، خوليان، فوميرو وأنا». كان ينوي أن يطوي صفحة مع ميغيل ويتواصل مع خوليان كاراكس كي ينقل إليه رسالة مهمة جدا من والده المتوفى الدون ريكاردو الدايا. فأجابه ميغيل بأنه لا يعرف مكان خوليان.
«لم نتراسل منذ أعوام» شرح. «كان في إيطاليا حين كتب لي آخر مرة. »
كان الدايا ينتظر هذه الإجابة.
«أنت تخيب آمالي يا ميغيل. ظننت أنك ازددت حكمة بعد مرور هذا الزمن ومآسيه.»
"رُبّ خيبة تشرف صانعها.»
فانفجر خورخي ضاحكا، بكل الوهن الذي كان باديا على وجهه.
«فوميرويرسل إليكما أطيب تهنئاته بزواجكما» قال ثم انصرف.
|ضعقت بتلك الكلمات الأخيرة، بينما لم يعلق عليها ميغيل. وفيما بعد، حين كنا نتظاهر بالنوم، اقتنعت بأن الدايا كان على صواب. فنحن قد حلت علينا اللعنة حقا. ولم نسمع أخبار خوليان ولا الدايا طوال أشهر عديدة. كان ميغيل منشغلا ببعض المقالات الثابتة في صحافة برشلونة ومدريد، ويعمل دون توقف على الآلة الكاتبة كي يجهز ما يسميه "طعام القرّاء في الترام" وأنا كنت أعمل دوما في دار نشر كابيستاني، ربما لأنني أردت أن أكون قريبة من خوليان. أرسل إلي بضعة أسطر قائلا إنه يستعد لرواية جديدة "ظل الريح" ويتمنى أن ينهيها في غضون بضعة أشهر. لم يشر إلى ما حصل بيننا في باريس، بل كانت نبرته باردة أكثر من المعتاد. ورغم هذا لم أكرهه. بل بدأت أشك في أن خوليان تحوّل عندي إلى مرض. ولم يكن ميغيل يعوّل على طبيعة مشاعري. كان يحبني بعمق وفي المقابل لا يطلب مني سوى الصحبة والقليل من الاهتمام. لم يكن يشتكي ولم يعاتبني أبدا. بل تولد في قلبي مع الوقت شعور لا متناهٍ بالحنان، شيء مختلف عن الصداقة والشفقة التي كانت تثقل ظلها علينا كتهمة كبرى. فتح ميغيل دفتر توفير باسمي وكان يضع فيه أجره المتواضع من النشر. لم يكن يرفض أي عمل ويستخدم ثلاثة أسماء مستعارة، مكرسا ما بين أربع عشرة وست عشرة ساعة في اليوم. وعندما كنت أسأله عن سبب هذه التضحية بنفسه إلى هذه الدرجة، يجيبني مبتسما بأنه قد يشعر بالضجر إن توقف عن الكتابة. لم يعرف الكذب مكانا بيننا أبدا ولا حتى تلك الأكاذيب الخرساء. فقد كان يعرف أنه مريض جدا وأنه سيعيش لأشهر قليلة. «إن حدث لي أي شيء، عديني بأنك ستأخذين هذه الأموال وتتزوجين ثانية وتنجبين أطفالا وتنسيننا جميعا، وعلى رأسهم أنا.»
«ومن علي أن أتزوج يا ميغيل؟ كف عن قول الترهات أرجوك.»
في بعض الأحيان كنت ألتفت إليه فجأة لأراه يرمقني من إحدى الزوايا بابتسامة شاردة، كأنني كنزه الأغلى على قلبه. كان يأتي ليصطحبني كل مساء عندما أخرج من دار النشر، في فترة استراحته الوحيدة خلال النهار كله. يمشي محدودب الظهر، وسعاله لا يهدأ وكلما حاول أن يشفى منه استتب الضعف في جسده. كان يأخذني إلى أحد المقاهي أو للاطلاع على زجاج المحلاًت في جادة فرناندو، ثم نعود إلى المنزل ليستمر في العمل حتى الفجر. وكنت أنعم بكل دقيقة نمضيها معا، وفي الليل ننام متعانقين، وتتعذب روحي تأنيبا لأنني لم أكن قادرة على مشاطرته الحب ولم أستطع أن أمنحه ما منحته لخوليان. كنت أتمنى لو أنساه كي أجعل ميغيل سعيدا، لكنني بقيت عشيقة خوليان لمدة أسبوعين وزوجة ميغيل لبقية حياتي. لو قرأت هذه الصفحات يوما وحكمت علي كما فعلت أنا بينما كنت أكتبها وأسلك الدرب المحفوف بالحسرة والندم، تذكرني هكذا يا دانيال. ما إن وصل مخطوط رواية خوليان الأخيرة إلى دار النشر حتى أرسلته إلى المطبعة دون أن أقرأه، نكاية أوخوفا. موّل ميغيل إصدار الرواية بآخر ما تبقى له من مدخرات، أما كابيستاني، الذي راحت صحته تتدهور، فلم يكن ليهتم بالأمر. في ذلك الأسبوع، جاءني طبيب ميغيل إلى مكتبي، وكان مضطربا بشأنه جدا وقال لي إن أدوية السل القليلة لم يكن لها أي جدوى إذا لم يخفض من وتيرة العمل ويأخذ فترة نقاهة. «عليه أن يغادر برشلونة وينتقل للعيش في الجبال. ليس لديه سبعة حيوات كالقطط وأنا لست مربية. حاولي أن تجعليه يفكر في الأمر. أنا حاولت ولكنه لا يصغي إلي.» في ساعة الغداء مررت بالبيت كي أحدّثه بهذا الشأن. وحين فتحت الباب سمعت ميغيل يخاطب أحدا ما، فظننت أن أحد زملائه في الجريدة جاء يطمئن عليه، حتى انبرى اسم خوليان في أذني. سمعت صوت الخطى تقترب من الباب فركضت لأختبئ خلف منشر الغسيل. ورأيت الضيف.
رجل يرتدي ثيابا سوداء، وملامحه غامضة وشفتاه ناعمتان كأنهما خدش قديم. وعيناه لا تعبّران عن شيء، كأعين السمك. قبل أن ينزل السلم توقف عند الفناء، فحبست أنفاسي والتصقت بالجدار. كان يلحس شفتيه بابتسامة خبيثة، كأنه شم رائحتي. انتظرت أن يبتعد صدى خطواته قبل أن أدخل إلى المنزل. فقد ترسبت رائحة الكافور في جوّ البيت. وحين دخلت وجدت ميغيل جالسا قرب النافذة وقد ارتخت ذراعاه على خصره، وارتجفت شفتاه. فسألته من كان ذالك الرجل وما الذي يريده.
«إنه فوميرو. جاء بأخبار عن خوليان.»
«وما شأنه هو بخوليان؟»
نظر إلي ميغيل بنظرة منهكة.
"خوليان سوف يتزوج"
انعقد لساني حين سمعت الخبر. وسقطت على الكرسي فشبك ميغيل يديه بيدي. ثم قص علي ما قاله فوميرو. إذ نجح المحقق، بفضل اتصالاته مع شرطة باريس، في اكتشاف مكان خوليان وأوصى بوضعه تحت المراقبة. أخبرني ميغيل بأن الحادثة قد بدأت منذ أشهر، وربما قبل أعوام. لم يكن ميغيل يقلق من تمكن فوميرو من تتبع كاراكس، فذلك سيحدث عاجلا أم آجلا، بل لأنه اختار تلك اللحظة كي يخبره بزواج خوليان المفاجئ. كان الزفاف متوقعا في مطلع صيف العام 1936 وكان يعرف عن الزوجة اسمها فقط: إيرين مارسو، صاحبة بيت الدعارة حيث يعزف خوليان على البيانو منذ أعوام طويلة.
«لا أفهم» قلت متلعثمة. «خوليان سوف يتزوج المرأة التي أنقذته؟»
«تماما. هذا ليس زواجا، إنما عقد.»
كانت إيرين مارسو تكبره بخمسة وعشرين عاما أو يزيد وقررت، كما يرى ميغيل، أن تتزوجه كي تورثه أملاكها وتضمن له مستقبلا آمنا.
«لكنها تساعده أصلا. ولطالما ساعدته.» «ربما استوعبت أنها سترحل يوما ما،» أكد ميغيل. لقد أثر فينا ذلك الكلام كثيرا. فجثمتُ على ركبتي وعانقته وأنا أجم دمعي.
" خوليان لا يحب تلك المرأة يا نوريا» قال دون أن يفهم أنني كنت أبكي لأجله.
«خوليان لا يحب أحدا، إلا نفسه وكتبه اللعينة» همهمت.
ركز ميغيل النظر في عيني كأنه طفل حكيم. «أتساءل ما مصلحة فوميرو في الكشف عن هذا الخبر الآن؟.» ولم نتأخر في اكتشاف السبب. بعد عدة أيام جاء خورخي لزيارتنا، مصعوقا اكثر وأكثر. أعلمه فوميرو بزواج خوليان من سيدة غنية جدا وبمراسم احتفالية. وكان الدايا حانقا لتصوّر المسؤول الأساسي عن مآسيه يعيش حياة هنيئة ويتمتع بالثراء الذي تربى عليه هو وحُرم منه بسببه فيما بعد. وتجنب فوميرو أن يخبره بأن إيرين مارسو كانت صاحبة بيت دعارة وليست أميرة نمساوية. بل وأخفى عنه أن العروس تكبره بثلاثين عاما وأن ذلك الزواج ما كان إلا صدقة. لم يقل له لا أين ولا متى سيقام الزفاف، اكتفى برش بذار الحقد في خياله كي يحترق قلبه ويزيد من سطوة الحمّى التي كانت تفتك بجسده المتعب ذي الرائحة القبيحة.
«فوميرو كذب عليك يا خورخي» قال ميغيل.
«وأنت يا أكذب الكاذبين طعنتني غدرا وأنا صديقك » صرخ الدايا.
كانت نية القتل واضحة عند خورخي الذي تحول إلى هيكل عظمي. وفهم ميغيل استراتيجية المحقق. ألم يكن هو من علمه لعبة الشطرنج عندما كانا طالبين؟ فوميرو يتمتع بوحشية الجراد وصبر الآلهة. أرسل ميغيل إلى خوليان فورا كي يحيطيه علما بالتطورات. وعندما حانت اللحظة، قال فوميرو لألدايا إن خوليان سيتزوج في غضون ثلاثة أيام ولكنه لا يستطيع التدخل فهو عميل في الشرطة. أما الدايا فكان بوسعه الذهاب إلى باريس كي يهدم ذلك الزواج. كيف؟ سأل الدايا فاقدا صبره. فاقترح عليه فوميرو أن يتحدى خوليان بمنازلة في يوم الزفاف. ودبر له سلاحا ظنه خورخي قادرا على اختراق قلب اللعين الذي دمر مملكة العائلة. وقد رشح من تقرير شرطة باريس أن السلاح المعلق على قدم خورخي كان معطلا وليس من المستغرب أنه انفجر في وجهه. لقد سلمه فوميرو ذلك السلاح مغلفا، على الرصيف في محطة باريس، وكان يعلم جيدا كيف ستجري الامور. كان يعرف ان الحقد الأعمى وفقدان الصبر سيمنعان هذا المراهق خورخي من قتل خوليان في مبارزة شرف. لم يكن لذلك المسدس وظيفة إلا قتل حامله. إذ لم يحبذ أن يقتل كاراكس هناك، بل آلدايا. لقد استفاد من وجوده الفارغ، جسدا وروحا، بضعة أشهر لاستدراج خوليان إليه. كان فوميرو يعرف جيدا أن خوليان لم يكن ليصطدم بصديقه القديم وهو بتلك الحالة، ولذا علم الدايا كيف يتصرف. عليه أن يعترف لخوليان بأن الرسالة التي كتبتها له بينيلوب منذ سنوات بعيدة، والتي تخبره فيها بزواجها وتطلب منه أن ينساها، لم تكن سوى خدعة. لابدّ أن يخبره بأنه هو الذي أرغم أخته على كتابة تلك الأكاذيب في حين كانت تغرق في دموعها وتصرّح بحبها لخوليان. لابد أن يفهم خوليان أن بينيلوب تنتظر عودته وقد تعذبت روحها في غيابه. وهذا كاف كي يضغط كاراكس على الزناد ليقتل خورخي، وينسى مشروع الزواج لينشغل بالعودة إلى برشلونة بحثا عن بينيلوب وإحياءً لشبح حلم ألقاه أدراج الرياح. وفي برشلونة، وسط شبكة العنكبوت الكبيرة التي كان يحيكها بصبر وتأن، كان خوليان سيجد فوميرو بانتظاره.
7
اجتاز خوليان الحدود الفرنسية قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب الأهلية وبعد أسبوعين من صدور الطبعة الأولى والأخيرة من «ظل الريح» لتواجه مصير سابقاتها في التجاهل وعدم الاهتمام. لم يعد ميغيل يستطيع مزاولة عمله ولا الجلوس خلف الآلة الكاتبة أكثر من ثلاث ساعات في اليوم. بلغت الحمّى أشدها واستفحل فيه الهوان. فخسر الكثير من فرص النشر بسبب التأخير في تسليم المقالات، ناهيك عن أن بعض المجلات فضلت عدم نشر مواده بعد أن تلقت تهديدات من مصادر مجهولة. ولم يتبق له سوى زاوية يومية في صحيفة دياريودي برشلونة، ينشرها باسم مستعار: أدريان مالتيس. إذ كانوا يفضلون عدم التمرغ في المخاطر في زمن يشهد قرع طبول الحرب الأهلية. قلّت فرص العمل أمامه وازدادت آلامه حتى بات ينوح من الوجع، وكان ينزل إلى الساحة أو يمشي إلى شارع الكاتدرائية حاملا معه أحد كتب خوليان، كأنه يحمل جالب الحظ. انخفض وزنه حتى الستين كيلوغراما في آخر مرة زاره فيها الطبيب. وكنا معا نستمع إلى الراديو حين تلقينا خبر التمرد العسكري في المغرب وبعد عدة ساعات أخبرنا أحد زملائه الصحفيين أن كانسينوس، رئيس التحرير، لقي مصرعه بعيار ناري في رقبته قبالة مقهى كاناليتاس. لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه وبقيت الجثة على قارعة الطريق مضرجة بالدماء. ولم ننتظر كثيرا لخوض أيام الرعب التي كانت قصيرة من جهة وكثيفة من جهة أخرى. زحفت فصائل الجنرال جوديد على شارع الدياغونال وبازيودي غراسيا باتجاه مركز المدينة حيث سمعت أولى الطلقات. حدث هذا في يوم الأحد يوم يخرج الناس للتنزه وتناول المشروبات في باحات كاريتيرا دي لاس بلاناس. ولم يكن ذلك سوى أول الغيث: ففي العامين اللاحقين أصبحت فظاعات الحرب رفيقتنا اليومية. بعد بضع ساعات، استسلمت فصائل الجنرال جوديد بفضل معجزة أم لعدم التنسيق بين الضباط. وبدا أن حكومة لويس كومبانيس تستعيد السيطرة على الوضع حتى أثبتت الأسابيع اللاحقة أنها لم تكن سوى مناوشات تستهل بداية لعبة الموت.
استولى النواب الأناركيون على زمام السلطة في برشلونة. وبعد بضعة أيام من حرب الشوارع، أشيع عن تصفية الجنرالات الأربعة المتمردين في قلعة مونتويك. كان أحد أصدقاء ميغيل، وهو صحفي بريطاني، شاهدا على المجزرة وقال إن منصة الإعدام تكونت من سبعة رجال، وفي اللحظة الأخيرة انضم عشرة من رجالات المليشيا إلى تلك الحفلة. تغربلت الجثث من غزارة الرصاص. وظن البعض أن الحدث سيكتب نهاية الصراع، وأن الفصائل الفاشية لن تقتحم برشلونة أبدا وسيوضع حل للتمرد. ولكن هيهات، إذ لم تكن تلك سوى تباشير حرب طاحنة.
علمنا أن خوليان كان في برشلونة يوم استسلم الجنرال جوديد. كتبت لنا إيرين مارسو قائلة إن خوليان قتل خورخي الدايا خلال مبارزة شرف في مقبرة بيرلاشيز. وقبل أن يموت الدايا، اتصل مجهول بشرطة باريس وأخبرهم بما حصل في حين لاذ خوليان بالفرار. ولم يكن لدينا أدنى شك في هوية فاعل الخير. ترقبنا بحذر أن يتواصل معنا خوليان كي ننذره بالخطر ونجنبه الوقوع في كمين أسوأ من كل مصائد فوميرو: اكتشاف حقيقة بينيلوب. مرّت ثلاثة أيام ولم يلمّح خوليان بأي علامة على وجوده. وكنت أعلم جيدا ما الذي كان ميغيل يفكر فيه: لقد عاد خوليان من أجل بينيلوب وليس من أجلنا.
«ما الذي سيحدث حين يعلم بالحقيقة؟» سألته.
«سنفعل ما بوسعنا كي نمنع حدوث ذلك» أجابني ميغيل.
وسرعان ما أدرك خوليان أن عائلة الدايا اختفت دون أن تترك أثرا وأنه ليس من السهل العثور على بينيلوب. سجّلنا جدولا بكل الأماكن التى من الممكن أن يتجه إليها خوليان وبدأنا نجول بينها بحثا عنه. كان يصعب دخول القصر في شارع تيبيدابو، بسبب السلاسل وشجرة اللبلابب المتسلق، وبات مهجورا منذ أعوام. تذكر بائع الأزهار والقرنفل على زاوية الشارع أنه رأى أحد الأشخاص مؤخرا يقترب من المنزل فعلا، رجلا بعمر متقدم ويعرج قليلا. «تصور أنني حين عرضت عليه قرنفلة ليضعها في عروة سترته أجابني بكلمة بذيئة وقال إن الأزهار لا تباع ولا تشترى في زمن الحرب.» ولم يلحظ وجود أحد آخر. اشترى منه ميغيل بعض الأزهار الذابلة وأعطاه رقم هاتف صحيفة «دياريو دي برشلونة» كي يخبره حالما يرى رجلا بصفات خوليان. الهدف الثاني كان مدرسة سان جبريل حيث التقى ميغيل ثانية بفرناندوراموس صديق المدرسة القديم. صُعق فرناندو، الذي أصبح راهبا ويعلم الإغريقية واللاتينية، من رؤية ميغيل مريضا إلى هذه الدرجة. وقال لنا إن خوليان لم يكن عنده لكنه تعهد بأن يتواصل معنا في حال طلب منه مساعدة وسيحاول أن يستبقيه إلى جواره. ثم أقر متوجسا بأن المحقق فوميرو، كما كان يسمي نفسه حينها، قد سبقنا إلى زيارته ونصحه بأن يأخذ حذره. «في الحرب يسقط الكثير من الناس قتلى، والرصاص لا يفرّق بين بزة جندي أو رداء خوريّ.»
لم تتضح لفرناندو راموس ميول فوميرو، ولا لأي فريق ينتمي، ولم يجرؤ على طرح السؤال أيضا. من المستحيل أن أصف أولى أيام الحرب في برشلونة يا دانيال. كان الحقد والخوف يقدحان في نظرات الناس، والصمت المقيت يهيمن على الشوارع بما يخنق المعدة. وتصل الأنباء ساعة تلو أخرى ويوما بعد يوم بما لا يطاق من التوجس والاضطراب. أذكر ذات مساء أنني كنت أتمشى مع ميغيل في لاس رامبلاس باتجاه المنزل، والفراغ يغتال الحياة من حولنا، ونظرات الناس من النوافذ تنهال بسهام شكوكها علينا، حتى قال ميغيل لكأنه يسمع شحذ السكاكين في المطابخ.
في اليوم التالي ذهبنا إلى محل قبعات فورتوني دون أن نعقد آمالا كبيرة في العثور على خوليان. قال لنا أحد الجيران إن بائع القبعات قد أرهبته التطورات في الأيام الأخيرة، أغلق على نفسه في المحل. طرقنا طويلا، لكنه رفض أن يفتح لنا. كان هنالك تبادل لإطلاق النار ذلك المساء على بعد بيتين من هناك، ورأينا بقع الدماء أمام المحل. وكانت الكلاب الضارية تنهش جيفة حصان وبعض الأولاد يلقون عليها الحصى. استطعنا أن نرى الخوف على وجه بائع القبعات فقط من خلف شباك الباب. عندما قلنا له إننا نبحث عن خوليان، أجابنا بأن ابنه قد مات وأنه سيتصل بالشرطة إن لم نرحل مباشرة.
ولأيام طويلة سألنا عن خوليان في البارات والمحلات، في الفنادق والخانات، في محطات القطار والمصارف التي قد يسحب منها بعض المال... لم ير أحد رجلا يحمل تلك الصفات. وحين توجس ميغيل بأنه ربما قد وقع في براثن فوميرو، سأل صديقه الصحفي ذا العلاقة الطيبة بأقسام الشرطة، عله يتحقق من اعتقاله، فلم نحصل على شيء يدعم هذه الفرضية. كان خوليان يبدو، بعد أسبوعين من عودته إلى برشلونة، أنه صار هباء منثورا.
وكان ميغيل لا يستطيع النوم. ذات مساء، عاد إلى البيت ومعه قنينة بورتو أهداها له نائب رئيس التحرير قائلا إنهم لم يعد بوسعهم أن ينشروا مقالاته.
«لا يريدون مشاكل وأتفهم هذا.»
«وماذا ستفعل؟»
«في البدء، لابدّ أن أسكر.»
ولم يتمكن من إكمال نصف كأس من النبيذ بينما شربتُ القنينة كلها شيئا فشيئا على معدة خاوية. وهويت على الأريكة حوالي منتصف الليل، وحلمت بأن ميغيل يقبل وجنتي ويغطيني باللحاف. استيقظت ورأسي يكاد ينفجر من الدوار حتى لعنت ميغيل وفكرة المشروب من أساسها. لكنني انتبهت لنفسي وحيدة في المنزل. ترك ميغيل رسالة على الآلة الكاتبة يخبرني فيها بألاً أشعر بالقلق وبأن أبقى في انتظاره إذ سيعود إلى البيت ومعه خوليان بأسرع وقت ممكن. وختم رسالته قائلا إنه يحبني. وقعت الورقة من بين يدي وحينها انتبهت إلى أن ميغيل حمل أغراضه من المنضدة كأنه كان يعرف أنه لن يستخدمها بعد ذلك، وأدركت أنني لن أراه بعدها أبدا.
8
في ذلك المساء، اتصل بائع الأزهار بجريدة لادياريودي برشلونة، وترك رسالة لميغيل. فقد رأى الرجل الذي وصفناه يطوف كالطيف حول القصر. وفي منتصف الليل وصل ميغيل إلى رقم 32 من شارع تيبيدابو وكان يخلو من البشر وينيره القمر من بين رؤوس الأشجار. ورغم أنه لم يقابل خوليان منذ سبعة عشر عاما، فإنه تعرف إلى خطواته الناعمة كالهرة. كان قد دخل إلى الحديقة واثبا من السور واختبأ بجانب النافورة مثل الحيوان المطارد. أراد ميغيل أن يناديه لكنه فضل ألا يثير انتباه أحد الشهود، إذ انتابه الإحساس بأن أحدهم يختلس النظر من نوافذ البيوت المجاورة تحت جنح الليل. جال حول القصر، وقرب ملعب التنس القديم لاحظ خدوشا في حجارة السور لعل خوليان استخدمها للتسلق عليها. صعد السور والألم يعتصر صدره ويكدّر عليه النظر. استلقى على قمة السور وهمس باسم خوليان. فتوقف الرجل الذي كان يتحرك حول النافورة فجأة. ولمح ميغيل لمعان عيني صديقه وتساءل إن كان قد عرفه أم لا. اقترب الرجل بحذر، وكان يقبض في يده اليمنى على غرض طويل ولامع. قطعة زجاج ربما.
«خوليان...» تمتم ميغيل.
تسممّر الرجل. وسمع ميغيل صوت تكشر الزجاج على الحصى ورأى وجه خوليان يطفو على سطح الظلام. كانت عظام وجهه ناتئة وتحيطها لحية طويلة.
«ميغيل؟»
مدّ ميغيل ذراعه إذ كان في حالة صحية لا تسمح له بالقفز على الأرض أو العودة إلى الرصيف. فتسلق خوليان السور وتشبث بيد صديقه وتلمس وجهه بالأخرى. وهيمن الصمت على تبادل النظرات الطويل بينهما.
«علينا أن نذهب من هنا يا خوليان. فوميرو يراقبك. المنازلة مع
الدايا كانت مجرد طعم.»
«أعلم» قال خوليان بلا مبالاة.
«هذا القصر مهجور منذ أعوام» أضاف ميغيل. «هيا ساعدني كي
أنزل ونذهب حالا.»
قفز خوليان إلى الجانب الآخر من السور، وأمسك بذراع صديقه مستغربا من خفة وزنه المبالغ فيها. لا شيء سوى كومة عظام تحت ثياب فضفاضة جدا. ابتعدا في شارع رامون ماكايا. واتكأ ميغيل على خوليان فحمله ونهض به.
«ما بك؟»
«لا شيء. حمّى عابرة. إنني أستعيد قواي.»
فضل خوليان ألا يكثر من الأسئلة، مشيا نزولا في شارع ليون الثالث عشر حتى التقاطع مع بازيودي سان جرفازيو حيث لمحا أضواء مقهى مشرعة. جلسا على طاولة في العمق بعيدا عن المدخل وواجهة الزجاج. هنالك زبونان على الكونتوار يدخنان ويصغيان إلى الراديو. جاء النادل، شاحب اللون وعيناه تركزان في الأرض، ليأخذ الطلب. براندي، قهوة ووجبة طعام. لم يلمس ميغيل الطعام، أمّا كاراكس الذي كان يتضور جوعا فقد أكل نيابة عنه وعن نديمه على ما يبدو. كان الصديقان يتعارفان مُجدّدا تحت ضوء المقهى الواهن، وهما يتتبعان الذكريات البعيدة. لقد كانا مراهقين في آخر لقاء. أما الآن، فالأول فاز والثاني يحتضر. وكل منهما يتساءل إن كان حظه سيئا أم أنه أخفق في التعامل مع الطالع.
«لم أشكرك على كل مساعداتك أبدا يا ميغيل.»
«لا ينبغي عليك أن تشكرني. لقد فعلت ما يمليه عليّ واجبي ورغبتي.»
«كيف حال نوريا؟»
«كما تركتها.»
أخفض كاراكس عينيه.
«تزوجنا منذ عام. ألم تخبرك؟»
شعر خوليان بشفتيه تتجمدان، وأومأ برأسه ببطء.
«ليس من حقك أن تلومها يا خوليان.»
«أعلم. لا أستحق أي شيء وكفى.»
«لماذا لم تبحث عنا؟»
«لا أريد توريطكما في الأمر. »
«لم يعد الأمريخصك وحسب، أين كنت؟ لقد ظننا أن الأرض انشقت
وابتلعتك.»
«ظنك في محله. كنت في البيت عند والدي.»
حدق إليه ميغيل مشدوها. فروى عليه خوليان أنه اتجه إلى عنوان والده حين وصل إلى برشلونة وضاقت به السبل. كان يحسب أن البيت مهجور منذ زمن، لكنه وجد محل القبعات مشرعا أبوابه، وخلف المصطبة رجل عجوز أصلع في حالة كئيبة. عندما نظر إليه العجوز فورتوني بحيرة، أراد خوليان أن يهرب لكنه تسمّر على عتبة المحل. ودون أن ينبس بائع القبعات ببنت شفة، أدخل ابنه وأغلق الباب ولجّ في البكاء.
أوضح له بائع القبعات أن الشرطة كانت هناك منذ يومين. استجوبه عنصر إمعة يدعى فوميرو، الذي كان من بين مرتزقة المتمردين ثم التحق بالأناركيين. وأعلمه بعودة وشيكة لكاراكس إلى برشلونة، وقال إن ابنه قتل خورخي الدايا بدم بارد في باريس، وكان ملاحقا بجرائم أخرى، لكن فورتوني لم يكن ليصغي إلى حقير مثله. إذ كان فوميرو مقتنعا أن بائع القبعات لن يتردد في إعلام الشرطة بعودة الابن الضال إن تمت. فأجابه فورتوني بأنه سيفعل ذلك، لكنه شعر بالذل من أن ثعبانا كهذا يثق في عمالته إلى تلك الدرجة. وما إن خرج ذلك الخبيث من المحل حتى اتجه هو إلى الكاتدرائية، حيث تعرف على صوفي، وتوسل إلى القديسين لحماية خطى ابنه وإعادته سالما إلى البيت قبل أن يحصل المكروه.
«أيا كان السبب الذي عاد بك إلى برشلونة، اسمح لي بأن أساعدك يا بنيّ. ستبقى مختبئا في المنزل. فغرفتك كما تركتها وبوسعك أن تبقى قدر ما تشاء.»
قال خوليان بأنه عاد من أجل بينيلوب الدايا فوعده بائع القبعات بأنه سيعثر عليها ويساعدهما على الفرار إلى مكان آمن بعيد عن مخالب فوميرو والماضي وكل شيء. بقي خوليان في البيت في روندا دي سان أنطونيو بينما كان أبوه يمشط المدينة بحثا عن أي خبر عن بينيلوب. كان يقضي النهار في غرفته القديمة التي حافظت على سابق عهدها مع أن كل شيء فيها يبدو أصغر من حجمه. ولعل الحياة هي التي ضيقت عليه الآفاق. وجد دفاتره القديمة، وأقلام الرصاص التي براها قبيل رحيله إلى باريس، والكتب التي تنتظر من يقرؤها مكدسة في الخزانة. أخبره بائع القبعات بأن صوفي هجرته بعد هروبه فورا ولم يتلق أخبارها لأعوام طويلة، حتى أرسلت إليه مكتوبا من بوغوتا ذات يوم. كانت قد استقرت في الجانب الأخر من العالم وتعيش مع رجل آخر، ومنذئذ شرعا يتراسلان بانتظام.
«نتحدث عنك دوما» أقر بائع القبعات «إذ لم يعد لدينا ما يجمع بيننا غيرك يا بني.» اعتقد خوليان أن أباه وقع في غرام أمه في اللحظة التي فقدها إلى الأبد.
«نحن نحب لمرة واحدة في الحياة يا خوليان، حتى لو لم ننتبه لذلك.» وأخذ أنطوني فورتوني على عاتقه الخوض في عكس الزمان عسى أن يصلح ما أفسد الدهر، وكان على اقتناع بأن بينيلوب هي حب خوليان الحقيقي والوحيد، وعلى أمل كبير بأن يجدها، عله يملأ الفراغ الذي أثقل عليه حياته كأنه لعنة مستبدة. وبذل قصارى جهده حتى رضخ للأمر الواقع. لا أحد يعرف شيئا عن الفتاة، ولم تعد برشلونة تذكر آل الدايا أساسا. كان ريكاردو ينحدر من أصول متواضعة، وقد أرغم على العمل كي يعيش لكنه توهم أن المال والحسـب يضمنان الخلود، ولم يكن ليتخيل أن خمسة عشر عاما من الخسائر المالية كافية لتمحو قصوره ومصانعه واثار عائلته البارزة عن وجه الأرض. كان الكثيرون يذكرون اسم الدايا لكن لا أحد منهم يربطه بعائلة تتمتع بنفوذ واسع. وفي اليوم الذي طرق ميغيل ونوريا باب المحل بحثا عن خوليان، ظن فورتوني أنهما عميلان موفدان من قبل فوميرو. لن يسمح لأحد أن يخطف ابنه ثانية من بين يديه، حتى لوكان الله بجلالة شأنه وهو الذي لطالما تجاهل دعواته. لوحاول أحد، مجرد محاولة، أن يفرّقه عن خوليان لفقأ عينيه دون تردد. وكان فورتوني هو الرجل الذي صادفه بائع الورد قرب قصر الدايا. وكان بائع الورد هو الذي استخف بعزم رجل بات عنده هدف في الحياة يسعى إليه بعناد يتحدى الزمن. ولسوء الحظ لم يكترث الله لآخر دعوات فورتوني المتضرعة، فلم ينجح في تحقيق ما يصبو إليه: خلاصه وخلاص ابنه متجليا في فتاة لا يذكرها أحد. كم من الأرواح الخائبة تلزمك ياإلهي كي تروي ظمأك؟ كان بائع القبعات يناجي ربّه، والله ينظر إليه ولا يردّ عليه.
«لا عليك يا أبتي. دع الأمر لي. لقد ساعدتني بما فيه الكفاية.»
في تلك الليلة، قرر خوليان أن يخرج إلى الطريق ليبدأ بحثه عن بينيلوب.
كان ميغيل يصغي إلى قصة صديقه وهويشعر بنفسه فريسة هواجس متضاربة. ولم ينتبه للنادل الذي كان يتحدث إلى الهاتف همسا ولا لنظراته المتوجسة المصوّبة نحو المدخل وهو يغسل الكؤوس بهمة لا داعي لها في محل تسوده القذارة. كان عليه أن يتخيل أن فوميرو قد مر بهذا المقهى، وبعشرات مثله، على بعد خطوتين من قصر الدايا، كي يكون على اطلاع مسبق بحضور كاراكس. عندما توقفت سيارة الشرطة قبالة المقهى، ودخل النادل إلى المطبخ، استسلم ميغيل لحتمية المصير. ورأى كاراكس ذلك فيعيون صديقه، فالتفت كلاهما في اللحظة نفسها. ثلاث سترات مطرية من اللون الرمادي تتجه نحو المدخل. لم يكن فوميرو بينهم، فقد اكتفى بإرسال أتباعه الأوباش قبل مجيئه.
«فلننصرف حالا»
«لا مجال للفرار» قال خوليان بنبرة هادئة جدا.
كان في يده مسدس من طراز ريفولفر ونظراته تنضح بالثقة والتصميم. غطى طنين الجرس المعلق على الباب صوت الراديو. فسحب ميغيل المسدس من بين يديه وحدق في عينيه.
«أعطني وثائقك يا خوليان.»
جلس العملاء الثلاثة على الكونتوار. وكان أحدهم ينظر إليهما ريثما يفتش الآخران في جيوب سترتهما عن شيء ما.
«هات وثائقك يا خوليان هيا.»
هز خوليان رأسه مستنكرا.
" يتبق لي في هذه الحياة أكثر من شهر أو اثنين إن حالفني الحظ. على واحد منا أن يخرج من هنا حيا يا خوليان. وأنت لديك إمكانيات أكبر. لا أعلم إن كنت ستجد بينيلوب، لكن نوريا تنتظرك"
«نوريا زوجتك.»
«ألا تتذكر اتفاقنا؟ عندما أموت سترث مني كل شيء...»
«... ما عدا الأحلام.»
تبادلا ابتسامة للمرة الأخيرة. أعطاه خوليان جواز سفره، فوضعه ميغيل في جيبه، بجانب نسخة من «ظل الريح» كان يحملها معه دوما منذ أن تسلمها.
«إلى اللقاء» همس خوليان.
«لا داعي للعجلة. بوسعي الانتظار»
ما إن استدار رجال الأمن نحوهما، حتى نهض ميغيل واتجه صوب الكونتوار. رأى الثلاثة رجلا على شفير الموت، ويتقدم نحوهم بخطوات متأرجحة وابتسامة متعبة على شفتيه البيضاوين اللتين ينسل منهما خيط دم. ولم ينتبهوا إلى المسدس إلا حين كان على بعد خطوات قليلة منهم. ولم يتسن لأولهم أن يصرخ حتى اخترقت الرصاصة فكه، فخرّ الجسد على ركبتيه ثم استوى عند قدمي ميغيل. أشهر العميلان الآخران سلاحيهما حين اخترقت الرصاصة الثانية بطن أكبرهما سنا فهشمت عموده الفقري وتطايرت أحشاؤه على الكونتوار. ولم يحالفه عامل الزمن لإطلاق الثالثة. إذ غرس العميل الثالث قصبة المسدس بين عظام صدره.
«توقف يا بن اللعينة وإلا أقسمت أن أرديك قتيلا.»
وبابتسامته المعهودة، رفع ميغيل الريفولفر ببطء وصوّيه على وجه العميل. لم يكن يتجاوز عمره الخامسة والعشرين والخوف باد من رجفة
«قل لفوميروإن كاراكس مازال يذكر طقم البخار. » لم يشعر بالألم. طرحته الرصاصة على الزجاج بعنف هيمن على بقية الأصوات والألوان. وتكثف البرد كطوق حول عنقه، وتناثر النور كالغبار. حاول بالكاد أن يلتفت نحو صديقه ليراه يهرب في الشارع. كان ميغيل مولينر يناهز ستة وثلاثين عاما، وقد عاش أكثر ممّا كان يأمل. وقبل أن يهوي على الرصيف المكسو بشظايا الزجاج المدمى، كان قد سلّم الروح.
9
في تلك الليلة، وبينما كان خوليان يلوذ بمكان آمن، هرعت شاحنة بلا رقم حكومي على اتصال قاتل ميغيل. لا أعلم ما اسمه ولا أعتقد أنه كان على دراية بهوية ضحيته. فالحروب الشخصية، كالحروب الأخرى، لا فرق بينها ما دامت كلها عرضا في مسرح العرائس. أخذ رجلان جثتي العميلين ونصحا صاحب المقهى ان ينسى ما حدث. لا ينبغي ان نستخف أبدا بالميول إلى النسيان التي تولدها الحروب يا دانيال. ظلت جثة ميغيل مرمية في زقاق من حي الرافال اثنتي عشرة ساعة كي لا يتم الربط بين موته وموت العميلين. ولم تصل الجثة إلى مرقد الموتى في البلدية إلا بعد يومين. وكان ميغيل قد ترك وثائقه في البيت، فوجدوا في جيبه جواز سفر باسم خوليان كاراكس، وصورة شخصية مهشمة وكتاب «ظل الريح». توصلت الشرطة إلى الخلاصة المنطقية أن المقتول هو كاراكس بعينه، ويبدو أن مكان إقامته ما يزال باسم آل فورتوني في روندا دي سان أنطونيو. وصل الخبر إلى فوميرو على جناح السرعة، فاتجه إلى حجرة الموتى. وكان بائع القبعات هنالك كي يتعرف على الجثة. لم يكن قد رأى ابنه منذ يومين فتوقع الأسوأ، وعندما وجد الجثة للرجل الذي طرق باب محله منذ أسبوع بحثا عن خوليان (الرجل الذي ظنه عميلا لفوميرو)، التزم الصمت وانصرف. ففسرت الشرطة ردة فعله كتأكيد على الاعتراف. كان فوميرو يراقب المشهد، فاقترب من الجثة. لقد مرّت سبعة عشر عاما لم ير فيها خوليان كاراكس. وعندما تعرف على ميغيل مولينر ابتسم ووقع ضبط الطبيب الشرعي مؤكدا أن الجثة كانت لخوليان كاراكس وأمر بدفنها حالا في حفرة جماعية في مقبرة مونتويك. ولطالما تساءلت لماذا تصرّف فوميرو على هذا الشكل. لكن ردة فعله كانت منطقية. فبموته بهوية خوليان، قدّم ميغيل الفوميرو هدية العمر دون أن يدري: خوليان كاراكس لم يعد موجودا ولا شيء سيدين فوميرو حين يعثر على ذلك الرجل، عاجلا أم آجلا، ويقتله. إذ كانت الحرب قد اندلعت ولن يطرح أحد التساؤلات على موت مجهول. وهكذا تحوّل خوليان إلى ظل. بقيت في المنزل مدة يومين بنفاد الصبر، أنتظر عودة ميغيل أو خوليان. كنت على شفا حفرة من الجنون. وفي يوم الاثنين، ذهبت إلى المكتب. وكان السيد كابيستاني قد أسعف إلى المستشفى قبل بضعة أسابيع، واستلم آلفارو ابنه الأكبر عنان المؤسسة. لم أقل شيئا لأحد. ولم يكن من أحد أطلعه على ذلك السرّ. وفي ذلك المساء، اتصل موظف الحجرة، السيد مانويل جوتيريز فونسيكا، ليعلمني أنه تلقى جثة المدعو خوليان كاراكس، كما يظهر اسمه كمؤلف لكتاب كان في جيب سترته، وشعر من واجبه أن يخبر دار النشر. وأضاف أنه لم يكن راضيا عن الإجراءات التي قامت بها الشرطة في سبيل التعرف إلى الجثة. وحينها أحسست بالرعب، وظننت للوهلة الأولى أنه فخ يحيكه فوميرو كالعادة. ولكن صوت السيد فونسيكا، الذي كان يعبر بدقة بيروقراطية، كان يحتوي على قلق حقيقي. ولحسن الحظ أنني أنا من أجاب على الاتصال حين كنت بمفردي في مكتب السيد كابيستاني بينما كان آلفارو خارجا للغداء، وإلا لما استطعت أن أبرّر دموعي ورعشة يديّ شكرت السيد فونسيكا بكل احترام وأغلقت السماعة. وأغلقت باب المكتب وعضضت على يدي كي لا أصرخ. ثم غسلت وجهي وانصرفت، وقلت إنني أشعر بالإعياء وسأصل صباح الغد قبل المعتاد. وفي الطريق التزمت السكينة كي لا أركض فألفت الانتباه. وعندما وصلت إلى البيت وأدخلت المفتاح في القفل، فوجئت بأن القفل كان مخلوعا. عدت خطوتين إلى الوراء. رأيت المقبض يدور، وتوقعت أن ساعتي قد حانت. فحزنك لأنني سأموت هكذا، على سلم مظلم، دون أن أعرف ما الذي حل بميغيل. لكن الباب انفتح ليتجلى أمامي خوليان كاراكس. سامحني يا الله في تلك اللحظة أحسست أنني أولد من جديد وشكرت السماء لأنها أعادت إلي خوليان بدلا من ميغيل.
تعانقنا طويلا، ولكنه أبعد وجهه عندما حاولت أن أقبله. أغلقت الباب وشددت على يده. واستلقينا على السرير بعناق صامت بينما تأفل الشمس على وقع تبادل النيران في البعيد كما كان يحدث كل مساء منذ اندلاع الحرب. كان خوليان يبكي بين ذراعي، وهاجمتني نوبة غثيان هوجاء. وبالتواطؤ مع الظلام، خلعنا ملابسنا التي تبلت تحت وطأة الرعب وأصداء الردى. كان علي أن أتذكر ميغيل لكن الشهوة غيبت خجلي ومأساتي. ورغبت في أن أتوه بلا عودة رغم يقيني أننا، في مطلع الفجر، سنتبادل نظرات الاحتقار.
10
أيقظني طرق المطر. كان السرير فارغا والرطوبة تجتاح الغرفة المعتمة. وجدت خوليان يداعب أزرار آلة ميغيل الكاتبة. انتزعت ابتسامته البعيدة مني أي وهم. وأغرتني الرغبة في إيذائه بكشف الحقيقة. كان بوسعي أن أخبره بأن بينيلوب كانت ميتة، وأنه كان يعيش في أوهام، وأنني أنا وحدي من تبقى له في الدنيا.
«لم يكن علي أن أعود إلى برشلونة أبدا.» قال.
جثمت على ركبتي بقربه.
«لن تجد ضالتلك هنا يا خوليان. فلنرحل بعيدا عن هذه المدينة ما دام
الوقت لصالحنا.»
نظر إلي. «ما الذي تخفينه عني؟» سأل.
هززت رأسي نافية وأنا أبتلع لعابي.
فاكتفى خوليان بهز رأسه أيضا.
«هذا المساء سأذهب إلى هناك.»
«أصغ إلي يا خوليان...»
«علي أن أفعل ذلك.»
«سآتي معك إذن.»
«لا.»
«لا أريد أن أبقى هنا في انتظارك.»
«هذا الأمر يخصني أنا وحدي يا نوريا.»
تساءلت إن كان يشعر بقسوة كلماته.
أراد أن يداعب خدي لكنني أدرت وجهي.
«عليك أن تكرهيني يا نوريا، فهذا يجلب لك الحظ.»
«أعلم.»
قضينا طوال النهار خارج البيت، بعيدا عن رائحة أجسادنا التي امتصّها السرير. كان خوليان يريد أن يرى البحر. فرافقته إلى برشلونيتا وتمشينا على الشاطئ الخاوي من البشر إلا قليلا، والريح ترقص مع غبار الرمل تحت الضباب. جلسنا عند مضرب الأمواج، كما يفعل الصغار والعجائز. كان خوليان يبتسم، سارحا في ذكرياته.
وحين غربت الشمس صعدنا شارع لايتانا بالترام حتى بازيو دي غراسيا، عبرنا بلازا ليسيبس واجتزنا شارع الجمهورية الأرجنتينية حتى آخر خط الترام. كان خوليان يراقب الطرقات كأنه يخشى أن تتبدد المدينة خلفه. وفجأة شدّ على يدي والثمها دون أن يقول كلمة واحدة. وكان ثمت رجل عجوز برفقة طفلة ترتدي ثيابا بيضاء، ينظر إلينا متأثرا، وسألنا إن كنا مرتبطين. هبط الليل حين وصلنا إلى شارع تيبيدابو. تسلقنا السور من جهة ملعب التنس. وكان رذاذ المطر يصبغ حيطان القصر باللون الفضي. عرفت القصر فورا لأنني كنت قد صادفته أكثر من مرة في كتب خوليان. في رواية «البيت الأحمر، كانت أبعاد القصر تتغير، وتتعدد فيه الممرات والشرفات والأروقة والسلالم التي لا حصر لعتباتها وتفضي إلى غرف تختفي وتظهر لتبتلع أي مغفل يغامر بدخولها. كانت البوابة مغلقة بالسلاسل الموصولة إلى قفل أكبر من قبضة اليد، وعلى زجاج الطابق الأول ثمّت محاور خشبية تغطيها شجرة البلاب. وكانت رائحة الأرض المبتلة والأوراق اليابسة تحوم في الأرجاء، والصخور اللزجة والداكنة تتلألأ تحت المطر مثل هيكل ثعبان عملاق.
أخرج خوليان قارورة صغيرة من جيب سترته حين وصلنا أمام الباب العظيم كمدخل السجن. نزع الغطاء فانطلقت رائحة فتاكة لسعت أنفي. امسك بالقفل وسكب فيه الأسيد، فانصهر المعدن مثل الحديد في النار، ونفث بخارا أصفر. ترك خوليان الأسيد يتفاعل للحظات ثم أخذ حجرة كبيرة من الأرض وضرب بها القفل ورفس الباب فانفتح ببطء كغطاء القبر. لفحتنا رائحة الرطوبة الآتية من داخل ذلك المكان المغلق. أخرج خوليان ولاعة فقدحها ورفعها كشعلة وتقدم خطوة في الظلام. لم يكن في القصر أي أثر للأثاث. وكنا نمشي فوق بساط من الغبار لا أثر عليه سوى أقدامنا. كانت الجدران العارية والأبواب بلا مقابض تهتز من ضياء الشعلة. نظر خوليان صوب الأعلى. أردت أن أبتسم له لكنني رأيت لمعان الاندفاع في عينيه تحت الظلام. لحقت به على أدراج السلم هناك حيث تبدّت له بينيلوب للمرة الأولى. كنت أعرف أين كنا ذاهبين، فاجتاحني البرد الذي لا يمت بصلة إلى رطوبة ذلك المكان الفاسد.
صعدنا إلى الطابق الثالث ودخلنا في ممر يفضي إلى الجناح الجنوبي بسقفه المنخفض وأبوابه الصغيرة. كان ذلك طابق الخدم، وكنت متأكدة من أن الغرفة الأخيرة هي غرفة خاثينتا كورونادو، هناك حيث التقى خوليان بالفتاة للمرة الأخيرة وهناك طارحها الغرام، وهناك قدّر عليها أن تموت نازفة، سجينة لتلك الجدران الأربعة. سبقني خوليان إلى عتبة الغرفة. وحين وصلت، وجدت الغرفة فارغة بالكامل. وتتضح من غبار الأرض آثار سرير قديم ذي محاور خشبية وبقع داكنة اللون في وسط الغرفة. حدّق خوليان فيها وشرد في ذلك الفراغ لأكثر من دقيقة. كان يعرف الغرفة شبرا شبرا وربما كان يتألم من سخرية القدر. فأمسكت بذراعه وجذبته نحو السلالم.
«لا يوجد شيء هنا يا خوليان» همسك. ولقد باعوا كل شيء قبل أن يغادروا إلى الأرجنتين.»
هز رأسه بشرود ونزلنا إلى الطابق الأرضي. اتجه خوليان إلى المكتبة ولم يجد إلاً جدرانا فارغة وموقدا متهالكا. اهتزت الجدران الشاحبة على لهيب الشعلة. كان المقاولون والممولون الكبار قد سلبوا العائلة كل ذكرياتها وملؤوا بها أسواق الخردة.
«لقد عدتُ إلى لا شيء.»
هذا أفضل، قلت في نفسي بينما كنت أعد الخطى التي تفصلنا عن المخرج. مازال عندي بصيص أمل إن خرج من القصر بإحساس أليم من الخذلان. أعطيته الوقت لكي يمتص الضربة.
«الآن وقد رأيت أنه لا يوجد شيء. لا شيء سوى حطام قصر قديم. فلنذهب إلى البيت» قلت.
هز رأسه منزعجا. أمسكت بيده وقد ته نحو الباب. وكان الضوء ينسل من الباب الموارب على بعد متر منا. وعندما وصلنا إلى العتبة أفلت خوليان يده من يدي.
«ما بك؟»
لم يجبني. ركز نظره إلى ممر المطبخ الصغير. أنار لهيب الولاعة الواهن أحد الأبواب في الجدار، وكان الجدار غريبا من قرميد أحمر مثبت بالجص. انتابتي رعشة باردة على ظهري. كانت كل الأبواب الأخرى مشرّعة بلا أقفال ولا مقابض عدا الباب في ذلك الجدار في نهاية الممر. تحسسه خوليان بكف يديه.
«فلنذهب من هنا أرجوك يا خوليان.»
أصدر الجدار دويًا أصم. وضع خوليان الولاعة على الأرض وأشار إلي بالتراجع بضعة خطوات.
« خوليان...»
أثارت الرفسة الأولى غبارا أحمر. وشعرت أن عظامه تتكسر لكنه راح يضرب الحائط بيديه وقدميه كسجين ثائر يفتح منفذا نحو الحرية. وحين انهارت الطبقة الأولى من القرميد وهوت من الطرف الآخر كانت يداه وذراعاه تنزفان دما. فضاعف خوليان قواه ليوسّع الكوة بإرادة وحشية. فتداعت الأحجار واحدة تلو الأخرى حتى سقط الجدار. توقف حينها بعد أن تصبب عرقه وانسلخ جلد يديه، ورفع الولاعة فوق القرميد. خلف الجدار الساقط ثمت باب خشبي مزركش بصور الملائكة. راح خوليان يتلمسها كأنه يقرأ الهيروغليفية، ثم فتح الباب.
انبثق الظلام اللازوردي المتماسك من سلم من الصخرالأسود. التفت خوليان نحوي بنظرة من يتنبا بسوء الطالع. توسلت إليه ألا ينزل لكنه استدار يائسا وغطس في الظلماء. أطلت برأسي من كوة القرميد ورأيته ينزل السلم وهو يتأرجح. ارتجت الشعلة وصارت وميضا من الأزرق الفاتح.
« خوليان؟»
لم يجبني.
كنت ألمح ظله الثابت في قاع السلم، فنزلت إليه. وقفنا في حجرة مثلثة باردة وحيطانها مليسة بالرخام. كانت الشاهدتان تتشحان بشباك العناكب التي انحلت من حرارة الولاعة كخيوط الحرير الناعم.
وآثار العفن السوداء تطوّق الأحرف المنقوشة على شاهدة القبرين المتجاورين، لا يفترقان، وهما يغفوان في حضن اللعنة.
بينيلوب آلدايا (1902-1919) ،، دافيد آلدايا (1919)
11
جرّبت أن أعيش ذلك المشهد ألف مرة كي أتخيل آلام خوليان بعد أن قضى سبعة عشر عاما يحلم بحب مستحيل ليجد حبيبته في عداد الموتى وقد لحق بها ابنه، ثمرة عشقهما. وغالبا ما يحالفنا الحظ أو التعاسة كي نشهد تدهور حياتنا رويدا رويدا دون أن نشعر بذلك أصلا. ولكن ما حصل لخوليان لم يتعدّ الدقيقة الواحدة. خشيت أن يهرب من ذلك المكان الملعون وألاً أراه بعدها. وربّما كان هذا أفضل بكثير.
انطفأت الولاعة. وكان خوليان يرتجف لا إراديا تحت الظلام. تقوقع في زاوية الغرفة دون أن يتكلم، دون أن يبكي. عانقته وقبّلت جبينه. كنت على قناعة أنه لطالما توقع ذلك وظننت أن تلك الرؤية المريعة ستحرره منها إلى الأبد. لم يعد شيء يربطه ببرشلونة. وتوهمت أن مصيرنا كان سيتغير وأن بينيلوب ستسامحنا.
أخذت الولاعة وأضأت وجهه وأرغمته على النظر إلي. كانت عيناه تحدّقان إلى الفراغ، والحقد يجري في عروقه كالسم. كان يكرهني لأنني خدعته. ويكره ميغيل لأنه أعطاه فرصة ليعيش حياة أليمة كجرح نازف. لكن جل ضغينته ينصب على الرجل الذي يعتبره أساس الكارثة وأصل البلاء: هو نفسه. كان يكره الكتب التي كرّس حياته لتأليفها ولم يقرأها أحد. كان يكره حياته المليئة بالخداع والأكاذيب. كان يكره كل لحظة وكل تنهيدة تبعدانه عن الموت.
|راح يرمقني دون أن يرف له جفن، كما ينظر إلى غريب أو إلى شىء مجهول. كنت أهز برأسي نافية وأبحث عن يديه. فانتفض واقفا، وحين حاولت أن أعانقه دفعني عنه بقوة وانصرف دون أن يقول شيئا. صار رجلا آخر، فخوليان الذي أعرفه مات. بحثت عنه في أرجاء القصر والحديقة ولم أجده. تسلقت السور وصرخت باسمه على طول الطريق الخاوي. وحينما عدت إلى البيت حوالي الرابعة صباحا، وجدت الشقة مليئة بالدخان ورائحة الحريق تعمّ أجواءها. كان خوليان هناك. فتحت النوافذ على مصراعيها. وعلى المنضدة وجدت علبة قلم الحبر السائل الذي اشتريته في باريس، قلم فيكتور هوغو. وكان الدخان يصدر من موقدة خشبية. حين فتحت زجاج الموقدة وجدت خوليان قد ملأها برواياته التي سحبها من على الرفوف. بعض العناوين كانت لا تزال واضحة فيما تلتهم النيران الكتب وتحولها إلى رماد.
وحين ذهبت إلى العمل في ذلك اليوم، استدعاني ابن كابيستاني إلى مكتبه. قال لي ألفارو إنه استقبل في الصباح رجلا يدعى لايين كوبرت أبدى رغبته في شراء كل روايات خوليان كاراكس المكدسة. فأجابه آلفارو بأن مستودعنا في بيويبلونويفو مليء بها لكنه طلب سعرا أعلى من عرض كوبرت، بحجة أن تلك النسخ كانت مطلوبة جدا في السوق. فرفض الرجل وانصرف مستاء. وحينها تحسر كابيستاني الابن، وطلب مني أن أبحث عن المدعو لايين كوبرت وأقبل اقتراحه. فقلت له إن لايين كوبرت ليس له وجود، بل كان شخصية خيالية من روايات كاراكس، وإنه لم يكن يريد شراء الكتب إنما اكتشاف مكانها. وتذكرت أن السيد كابيستاني يضع نسخة من كل عنوان ينشره، بما فيها روايات كاراكس، في مكتبته. فدخلت إليها خلسة وأخذت نسخة من كل روايات خوليان.
وفي ذلك المساء ذهبت عند والدي، في مقبرة الكتب المنسية، وخبأتها حيث لا يسع أحد أن يجدها، لاسيما خوليان. وعندما خرجت كان قد هبط الليل. فمشيت حتى برشلونيتا ووقفت على الشاطى حيث كنت أتامل البحر مع خوليان. ونظرت صوب المدينة، فرأيت أعمدة الدخان تنهض في البعيد، ووهج النار يصبغ البحر. كان مستودع الدار في بويبلو نويفو يحترق. عندما نجح رجال الإطفاء في إخماد الحريق، قبل الفجر بقليل، اتضح أننا خسرنا كل ما في المستودع الذي لم يتبق منه سوى هيكل القرميد والمعدن. تحدثت مع لويس كاربو الذي كان يعمل في المستودع منذ عشرة أعوام كحارس ليلي. احترق زغب ذراعيه وحاجبيه واحمرّ جلده، وكان ينظر متعجبا إلى الركام. أخبرني بان الحريق اشتعل بعد منتصف الليل بدقائق وأن ألسنة اللهب التهمت عشرات الالاف من الكتب. كان يضم إلى صدره الكتب الوحيدة التي استطاع إنقاذها، بعض المجلدات من أشعار فيرداغوير ومجلّدين من «تاريخ الثورة الفرنسية». هرع بعض النقابيين ليلقوا نظرة على مكان الحادث، وقال لي أحدهم إن رجال الإطفاء وجدوا جسدا متفحما ولكنه لا يزال يتنفس فأسعفوه إلى مستشفى دل مار. عرفته من عينيه. سلخت النيران جلده ويديه وشعره، وكان جسده ملفوفا كليا بالضمادات. لقد عزلوه في غرفة في آخر الجناح من جهة البحر، وحقنوه بالمورفين وكان ينتظر الموت. أردت أن أمسك بيده لكن إحدى الممرضات أنذرتني أن لحمه كان هشا للغاية. حرقت النار جفنيه وكانت عيناه ترنوان إلى الفراغ بشكل مستمر. سألتني الممرضة التي وجدتني على الأرض إن كنت أعرفه فقلت إنه زوجي. وعندما وصل الراهب ليقوم بالمسحة الأخيرة علا صراخي وطردته من الغرفة. وبعد ثلاثة أيام كان خوليان لا يزال على قيد الحياة. وكان تبرير الأطباء أن رغبته اليائسة في البقاء هي التي تبقيه حيا. وكانوا مخطئين. فالحقد هو ما جعله يتشبث بالحياة. وبعد أسبوع، سجّل ذلك الجسد الذي يأبى الموت باسم ميغيل مولينر. وكان سيبقى في المستشفى أحد عشر شهرا.
أحد عشر شهرا من الصمت والنظرات المسمومة. كنت أذهب لزيارته كل يوم. رفعت الممرضات الكلفة معي وصرن يدعونني إلى وجبة الغداء معهن. كنّ نساء وحيدات وقويات ينتظرن عودة رجالهن من الجبهات. وكان أحدهم يعود بين الحين والآخر. علمنني كيف أعقم جراح خوليان، وأستبدل الأدوية وأغيّر أغطية ذلك الجسد الهامد الملقى على السرير. وحضّرنني أيضا على تقبل أنني لن ارى ذلك الرجل كسابق عهده. بعد ثلاثة أشهر نزعن الضمادات من على وجهه. كان وجه خوليان قناعا من جلد متفحم، جمجمة تبدو فيها مدارات العين أكثر ضخامة. لم تقل الممرضات شيئا لكن الرعب دب في قلوبهن. ورجّح الأطباء أن بشرته ستصبح قشرية وبنفسجية اللون حالما تزول الجراح. ولم يجرؤ أحد على التنبّؤ بحالته العقلية. كانوا يفترضون أن خوليان (ميغيل) ربما فقد عقله، وقد يعيش بفضل عناية مشددة من زوجة صالحة. كنت أنظر إليه فأدرك أنه مازال واعيا ويتهالك في الانتظار. لم تعد له شفتان لكن الأطباء اعتقدوا أن حباله الصوتية لم تتضرر وأن الحروق على اللسان والحنجرة تعدّت مرحلة الخطر. كان الخرس الذي تعرّض له يعود برأيهم إلى ظاهرة شيطانية.
ذات مساء، بعد ستة أشهر عن الحادث، وبينما كنا وحدنا في الغرفة، انحنيت نحوه وقبّلت جبينه.
«أحبك» قلت له.
فأصدر نواحا من فمه الذي غدا كالخدش الذليل. واغرورقت عيناه بالدموع. أردت أن أمسح دموعه بالمنديل لكنه أعاد ذلك الصوت اليائس.
«دعيني وشأني» قال لي.
أغلقت دار النشر بعد شهرين من حريق المستودع في بويبلو نويفو. وقبل أن يموت كابيستاني العجوز، تكهن بأن ابنه سيفشل في غضون ستة أشهر، وكان متفائلا جدا. فرحت أبحث عن عمل في دور نشر أخرى، لكن الحرب كانت على أشدّها وفرص العمل معدومة. كنا نظن أن النزاع لن يدوم طويلا وأن الأمور ستتحسن قريبا. غير أن الحرب امتدت سنتين إضافيتين وكان ما تلاها أسوأ. بعد عام عن الحريق قال لي الأطباء إنه من غير المجدي أن تطول إقامة خوليان. فالبلاد تمر بلحظات عصيبة وكانوا في أمس الحاجة إلى الغرفة. نصحوني بأن آخذه إلى مستوصف مثل مأوى سانتا لوسيا لكنني رفضت. وفي شهر أكتوبر من 1937 أخذته
إلى البيت. ولم ينطق بأية كلمة أبدا بعد تلك الجملة: «دعيني وشأني».
كنت أقول له كل يوم إنني أحبه، وكان يبقى جالسا على أريكة أمام النافذة متشحا بأغطية كثيرة. كنت أغذيه بعصائر الفواكه والخبز، والحليب إذا كان متوفرا. وراح خوليان يستعيد القليل من وزنه شيئا فشيئا. وكنت كل يوم أقرأ له ساعتين من بلزاك وزولا وديكنز... وأخذ يستعيد صوته تدريجيا. وبعد وقت قصير بدا يحرك يديه وذراعيه ورقبته. وفي بعض الأحيان، عندما أعود إلى البيت، كنت أجد الأغطية وبعض الأغراض مرمية هنا وهناك. ذات يوم وجدته يزحف على الأرض. وذات ليلة، بعد عام ونصف على الحريق، أيقظني هزيم الرعد، فرأيته جالسا بقربي على السريرويداعب شعري. مسحتُ دموعي وابتسمت له. استطاع أن يعثر على إحدى المرايا التي كنت قد خبأتها وقال لي بصوت متراخ إنه تحول إلى أحد تلك الوحوش التي يصنعها خياله، إلى لايين كوبرت. أردت أن أقبّله كي يفهم أنني لا أشمئز منه لكنه ابتعد عني ولم يعد يسمح لي بمسه منذئذ. عندما كنت أخرج لشراء بعض الحاجيات، كان خوليان يطوف في البيت بعد أن استعاد قواه. نفدت مدخرات ميغيل وأرغمت على بيع بعض الأغراض، من ضمنها مجوهراتي. وفي النهاية أجبرت على التضحية بقلم فيكتور هوغو الذي اشتريته من باريس.
|أخذته إلى محل يبيع هذا النوع من المقتنيات، خلف مبنى الحكومة العسكرية. ولم يصعق صاحب المحل حين عرف أن هذا القلم للكاتب الفرنسي الكبير، لكنه اعترف بانه قطعة فنية عظيمة وعرض فيه مبلغا منصفا نظرا إلى ضيق تلك المرحلة. اعترفت لخوليان بأنني بعت القلم. وكنت أخشى أن يغضب لكنه قال لي إنني أحسنت صنعا لأنه لم يستحقه أبدا. وفي يوم من تلك الأيام الكثيرة التي كنت أبحث فيها عن عمل، لم أجد خوليان في المنزل حين عودتي. وعندما عاد مطلع الفجر سألته أين كان فاكتفى بتفريغ جيوب معطفه (معطف ميغيل القديم) ووضع مبلغا من المال على الطاولة. وبعدها راح يخرج كل ليلة تقريبا. تحوّل إلى ظل، تحت الظلام، مرتديا تلك السترة المطرية الغامقة، والقفازين والشال والقبعة. لم يكن يبوح لي بوجهته وغالبا ما يعود محمّلا بالمال والمجوهرات. ينام في الصباح جالسا على الأريكة بعينين مفتوحتين. وذات مرة وجدت في جيبه سكينا بقفل يدوي. وكان على حده المزدوج بقع داكنة. وفي تلك الآونة أشيع في المدينة عن رجل غريب الأطوار يكسر زجاج المكتبات ليلا ويحرق الكتب. ونجح المخرب المريب في دخول بعض المكتبات العامة وبيوت بعض المولعين باقتناء الكتب النادرة. وكان في كل مرة ينهب كتابين أو ثلاثة ويحرقها. في فبراير 1938 سألت صاحب مكتبة للكتب النادرة إن كان من الممكن سحب جميع روايات خوليان كاراكس من السوق. فأجابني بلا، إذ هنالك مجهول تكفل بسحقها عن بكرة أبيها. وقد باع هو نفسه النسخ القليلة التي كانت عنده لرجل لا يبعث على الطمأنينة، يخفي وجهه ويتحدث بصوت أجش.
«منذ زمن قريب، كان من الممكن العثور على نسخ عند بعض هواة تجميع الكتب هنا وفي فرنسا، ولكن الآن يفضل الكثير من المشترين ألا يدخلوا في الموضوع. يخافون وأرى أنهم على صواب» قال لي.
صارت غيابات خوليان تطول لتصل إلى أسابيع أحيانا. يتحرك ليلا ولا يعود بأيد فارغة أبدا. لم يكن يقدّم توضيحات أو يقص قصصا صادمة. ذات يوم قال لي إنه كان في باريس وليون ونيس. وبين الحين والآخر كنت أتلقى بعض الرسائل من فرنسا موجهة إلى لايين كوبرت. وكانت كلها من باعة كتب أو مقتنين صادفوا نسخة لإحدى رواياته. فيختفي لبضعة أيام ثم يعود منتشيا، ورائحة الحريق والغل تفوح من ثيابه.
وخلال إحدى غياباته صادفت أنطوني فورتوني وهو يتسكع في باحة الكاتدرائية كالمختلين عقليا. وسرعان ما عرفت ملامحه لأنني ذهبت إليه منذ سنتين مع ميغيل لنسأل عن أخبار خوليان. جلسنا في إحدى الزوايا. وقال لي بائع القبعات إنه متأكد من أن ابنه لم يمت وأنه مختبئ في مكان ما، لكنه لا يستطيع أن يتواصل معنا لأسباب غامضة.
«لابدّ أن لفوميرو الشرير يدًا في الموضوع.»
قلت له إنني أشاطره مخاوفه. فالحرب مثل المن والسلوى بالنسبة إلى ذلك المحقق السافل. كان يغير حلفاءه كل شهر، فيتهمونه بأنه جاسوس، عميل، مجرم، متواطئ، مخادع. ويرى فيه البعض بطلا، مخلصا، وإلها. لكن الجميع كان يهابه ويبتغي صداقته. ولعله نسي خوليان لانشغاله بمكائد الحرب، أو ربما كان مثل بائع القبعات يتخيل أنه في مكان بعيد جدا.
سألني السيد فورتوني إن كنت صديقة قديمة لابنه فأجبته بنعم. وتوسل إلي أن أحدثه عنه بعد أن اعترف بأنه لا يعرفه حق المعرفة. «الحياة فرّقت بيننا كما تعلمين». قال لي إنه نقب في كل مكتبات برشلونة عن رواياته دون أن يجد أي نسخة منها. وقصّوا له عن مجنون يسعى لحرقها كلها. وكان فورتوني لا يشك بأنه فوميرو، فلم أخالفه الرأي شفقة مني أو بسبب تأثير غامض. بل جعلته يصدّق أن خوليان عاد إلى باريس وأنه بخير وكذبت عليه قائلة إنه كان معجبا بأبيه جدا وسيلتقي به ما إن تسمح الظروف.
«كله بسبب هذه الحرب الملعونة» قال.
ألح علي أن يترك عنوانه وعنوان زوجته السابقة أيضا، والتي استعاد التواصل معها بعد فترة طويلة من « سوء الفهم». كانت صوفي قد انتقلت إلى بوغوتا وتعيش مع طبيب ميسور، قال لي. وافتتحت مدرسة للموسيقى وكانت تراسله بانتظام كي تسأل عن خوليان.
«ذكراه تبقينا على تواصل. نحن نرتكب أخطاء كثيرة في الحياة يا آنسة، وعندما نستوعب ذلك يكون قد فات الأوان. هلاً أخبرتني، هل أنت مؤمنة؟»
انصرفت بعد أن وعدته بإخباره هو وصوفي، حالما أتلقى أنباء جديدة عن خوليان.
«سيسرّ قلب أمه بذلك. فأنتن النساء تهتممن بالمشاعر أكثر من أي شيء آخر، ولهذا السبب تعشن طويلا» أكد بائع القبعات مهموما.
كم أثّر في ذلك العجوز، رغم كل القصص المريعة التي سمعتها عنه. كان يأمل أن يعوّض القديسون زمانه المفقود، فيكثر من زيارتهم في الكاتدرائية بإيمان عميق. وكم بالغوا بوصفه دنيئا وذا طبع انتقامي، فقد بدا لي رجلا طيبا، غير أنه مشوش الذهن مثل باقي الرجال. وغمرني إحساس العطف بحاله، ربما لأنه ذكّرني بوالدي الذي يخفي أسرار قلبه عن نفسه والآخرين أيضا. كنت غالبا ما أذهب لزيارته، على غفلة من ابنه، في شقة روندا دي سان أنطونيو، إذ كف بائع القبعات عن العمل.
«لقد فقدت حيوية الشباب، والبصر والزبائن...» كان يقول.
كنا نلتقي كل خميس تقريبا، فيعرض علي القهوة والبسكويت والمعجنات التي يتناول منها القليل. ويحدثني لساعات عن طفولة خوليان في البيت والمحل، ويظهر لي صورا قديمة. كان يأخذني إلى غرفة ابنه التي بدت لي كالحرم حيث يحفظ اللوحات القديمة والأغراض التي يقدّسها لكونها أطلال حياة هنيئة عاشها في خياله فقط. ثم ينسى بأنه أراني إياها مسبقا وأنه روى لي القصص ذاتها منذ بضعة أيام. وفي يوم خميس ما، صادفت طبيبه على السلالم. فسالته عن وضع السيد فورتوني.
«هل أنت قريبته؟» أجبته بأنني الشخص الوحيد الذي يهتم به.
فقال لي الطبيب حينها إن فورتوني لن يعيش طويلا.
«ما به؟»
«إنه مصاب بمرض القلب ولكنه في الواقع يموت من الوحدة. الذكريات لا تغيب عن باله.» أما أنطوني فورتوني فأخبرني بأنه لا يثق في الطبيب، لأن الأطباء كانوا سحرة مشعوذين. لقد ضخمت الشيخوخة من وساوسه الدينية، وراح يلمح يد الشيطان أينما قلب أنظاره متأهبا ليحمل الإنسان إلى هلاكه.
«انظري إلي. إنني الآن عجوز بريء ولكنني في شبابي كنت فظا وغليظ القلب.» وأضاف أنه يتهم الشيطان بسلبه خوليان من بين يديه.
«اللّه يخلق الكون ويمنحنا الحياة، لكن الشيطان هو الذي يحكم العالم...»
كنا نقضي المساء هكذا، بين البراهين الدينية والمعجنات الزنخة. وكنت أقول لخوليان إنه إذا أراد أن يرى والده حيا فعليه أن يستعجل. وفي الواقع كان غالبا ما يذهب لرؤيته دون أن ينتبه بائع القبعات. ينظر إليه من زاوية بعيدة كيف يهرم، عند المغيب، جالسا على مقعد في الساحة. وكان خوليان يفضل أن يحفظ والدده عنه ذكراه الطيبة ولا يحبذ أن يطلعه على حالته المزرية.
«هذا امتياز تحرمني منه» قلت له وسرعان ما ندمت.
لم يقل شيئا، ولكنه بدا أنه عاد إلى رشده لينتبه إلى الجحيم الذي كنا نعيش فيه. أصاب الطبيب في توقعاته، ولم يشهد فورتوني نهاية الحرب. اغتالته الذكريات، ووجدوه ميتا على الأريكة، والصور القديمة لصوفى وخوليان بين يديه.
وكلما اقترب الصراع من نهايته اشتدّت رحى الحرب دورانا. فحتى تلك اللحظة، كانت المعارك تقع على بعد مسافة من المدينة، كجرح لايندمل لكنه تحت التخدير. وطالت أشهر القصف والجوع. وخنق الموت العنيف والنزاع والدسائس روح المدينة خلال أعوام، بينما آثر الكثيرون الظن بان الحرب كانت في مكان اخر، كصرير بعيد لزوبعة صيفية. وزاد الانتظار من مأسوية النهاية، وهاجرت الرحمة قلوب الجميع. ورغم ذلك لا شيء يشجع على النسيان كما تفعل الحرب يا دانيال. إذ يهيمن علينا الجنوح إلى الصمت ونقنع أنفسنا بأن ما عشناه وفعلناه وعرفناه ما كان إلا كابوسا. الحروب تعطل الذاكرة وتثنينا عن تقصي جذورها حتى ينطفئ صوت من يقوى على سردها. وحينها تعود الحروب، باسم آخر وقناع جديد، لتهدم القليل الذي أبقت عليه سابقاتها.
لم يبق أمام خوليان سوى القليل من الكتب ليحرقها، بعد أن أصبح محترفا في هدر الوقت كيفما أراد. وحوّله موت أبيه، الذي لم يكن يتحدث عنه أبدا، إلى عاجز وخفف من غلواء حقده. كنا نعيش مثل المهمشين دون أن نخفض من مستوى الحذر. وعرفنا أن فوميرو خان أصدقاءه وركب موجة الظافرين. وأشيع أنه كان يعدم حلفاءه القدامى شخصيا رشقا بالنار بغتة في زنازين قلعة مونتويك. عادت آلة النسيان إلى العمل مجددا حالما هدأ ضجيج السلاح، فما من شيء يثير خوفهم أكثر من بطل يجرؤ على كشف ما يخشى الآخرون على البوح به. في الأسابيع اللاحقة على سقوط برشلونة، أريقت الدماء أكثر من كل أعوام الخرب، ولكن في السرّ بعيدا عن الأنظار. وعندما وصل السلام أخيرا، كئيبا كشحوب المقابر، لم تعد هنالك أياد أو نظرات بريئة. ومنذ ذلك الحين غرقنا في ضباب الصمت وظلمات العار. وكل الذين عايشوا تلك السنوات سيحملون أسرارهم إلى قبورهم. أنفقنا أنا وخوليان كل مدخراتنا وإيراد السرقات الليلية التي كان يقوم بها لايين كوبرت، ولم يعد في البيت أي شيء للبيع. وكنت لا أنفك أبحث عن عمل في الترجمة، في التنضيد، أو حتى في غسل الصحون. لكنهم كانوا يتعاملون مع عملي السابق في دار نشر كابيستاني على أنه تهمة. إذ التقيت ذات مرة بممول وضيع، يطلي شعره بالدهن وله شاربان مضحكان ويرتدي طقما جديدا، أفهمني أن فتاة جميلة مثلي ليست بحاجة إلى عمل. وحين اقتنع الجيران أنني أعتني بزوجي ميغيل المسكين، العائد من الحرب بإعاقة مزمنة، راحوا يتبرعون لنا بما تيسر من الجبن والحليب والخبز، وأحيانا حتى السمك الناشف واللحوم المقددة التي يتلقونها من أهلهم. وبعد أشهر من العوز والفقر المدقع، قررت أن أستخدم مكيدة استوحيتها من إحدى روايات خوليان. راسلتُ صوفي المقيمة في بوغوتا، منتحلة صفة محام اتجه إليه السيد فورتوني ليرتب حساباته. وأعلمتها في الرسالة أن أملاك بائع القبعات المتوفى دون وصية، بما فيها الشقة والمحل في المبنى نفسه، ستكون من نصيب ابنه خوليان الذي من المفترض أنه يعيش منفيا في باريس. وبما أن انتقال الميراث لم يتم، بسبب إقامتها في المهجر، فإن المحامي – الذي أسميته خوسيه ماريا ريغويخوعلى اسم أول شاب لثم ثغري – يلتمس إذنها كي يباشر المعاملات الضرورية لنقل الملكية إلى خوليان حالما يعرف مكانه عبر السفارة الإسبانية في باريس، وكي يتولى الشؤون آنيا بأجر متكامل. ويطلب منها المحامي أيضا أن تتواصل مع مدير البناية كي يتمكن من إرسال الوثائق الضرورية والأجر المستحق إلى مكتبه. فتحت صندوقا بريديا باسم المحامي ريغويخو وصرّحت بعنوان مزيفف، مأوى سيارات قديم وفارغ على بعد بيتين عن قصر الدايا. وكنت آمل أن صوفي، التي تتمنى العثور على ابنها ومساعدته، لن تشغل بالها بتلك التفاصيل القانونية المغلوطة، وكانت سترسل المال دون تسويف نظرا إلى حالتها الاقتصادية الميسورة التي تتمتع بها في كولومبيا البعيدة. وبعد شهرين، استلم مدير البناية أول حوالة شهرية كي تغطي أجور الشقة في روندا دي سان أنطونيو. كما تسلم أجور المحامي خوسيه ماريا ريغويخو، موصية أن تُرسل إلى مكتبه بشيك على الصندوق البريدي 2321 في برشلونة. وسرعان ما فطنتُ أن المدير كان يختلس نسبة من المبلغ المرسل من السيدة صوفي. لكنني لم أعترض، فذلك المربح السهل سيمنعه عن طرح الاسئلة. وكنا أنا وخوليان نعيش بتلك النقود في تلك الأعوام الفظيعة ولكنني نجحت أخيرا في إيجاد عمل في الترجمة. لم يعد أحد يذكر كابيستاني وكانت المقاصد تتجه إلى سياسة الغفران وتناسي العداوات القديمة. وكنت أخاف دوما أن يعاود فوميرو ملاحقة خوليان، وآمل أن يحسبه ميتا أو أن ينسى أمره كليا. لقد أصبح فوميرو شخصية عامة وترقى في مناصب النظام، وكنت أعتقد بأنه لم يكن ليسمح لنفسه بالتفتيش عن شبح خوليان كاراكس. ولكنني غالبا ما كنت أستيقظ في قلب الليل، مستحمّة بعرقي، ظنا أن بعض عملائه المسلحين يطرقون الباب. وكنت أخشى أن يرتاب الجيران من زوجي المريض، الذي يراوح مكانه في البيت ويبكي ويصفع الجدران كالمجانين أحيانا، فيشون بنا للشرطة. كنت أخشى أن يختفي خوليان من جديد، وأن يعود لاصطياد ما نجا من الكتب ليحيلها إلى رماد فيمحو آخر آثار مروره بهذه الدنيا. وهكذا أهملت نفسي، ونسيت أنني أتقدم في السن بعد أن أهدرت صباي في حب رجل محطم، كائن بلا روح... طيف سقيم... ظل... إلا أن الأعوام اللاحقة اتسمت بالهدوء وانقضت بسرعة. فالحياة الفارغة مثل القطار الذي لا يتوقف على محطتك. وأثناء انتظارك يتكفل الزمن برأب الجراح التي خلفتها الحرب. وجدت عملا في دار نشر وكنت أقضي أغلب النهار خارج البيت. صار عندي عشاق بلا أسماء، وجوه خائبة أقابلها في السينما وفي المترو أشاركها وحدتي. ثم أشعر بالذنب دون تفسير، وأنظر إلى خوليان فيروادني البكاء، وأقسم في سرّي أنني لن أخونه بعدها. كنت أراقب النساء اللاتي يصغرنني سنا، في الحافلات والطرقات، يمسكن بأيادي أطفالهن. وكان يبدو أنهن سعيدات أو راضيات على الأقل، كأن أولادهن يضيفون المعنى إلى حياتهن. وأنا أيضا كنت أسرح بخيالي أحيانا لأراني أحمل طفلا على ذراعي، طفلا كنت سأنجبه من خوليان. ثم أتذكر الحرب وأخلص إلى أن من خاضها كان طفلا في يوم من الأيام. ذات يوم تلقينا زيارة من شاب في مقتبل العمر، وجهه الأملط مليء بالبثور، ويحمرّ خجلا عندما ينظر في عيني. كان يستعلم عن السيد ميغيل مولينر ليحدّث أرشيف الصحفيين. وقال لي إن السيد مولينر بوسعه أن يتقاضى مبلغ إعانة شهريا ولذا تلزمه بعض المعلومات. أجبته بأن السيد مولينر هاجر البلاد إبان الحرب. فتأسف وانصرف بابتسامة مزيفة كمخبر مُبتدئ. لم يعد هنالك من وقت نضيعه، على خوليان أن يختفي تلك الليلة نفسها. كان يبدو أنه عاد طفلا، ويعيش من أجل تلك اللحظات التي عشناها معا ذلك المساء، ونحن نصغي إلى موسيقى الراديو، بينما يشد على يدي ويداعبها بصمت. في تلك الليلة، رافقت خوليان إلى البيت الذي نشأ فيه، باستخدام مفاتيح الشقة التي أرسلها المدير إلى المحامي الخيالي. تركته في غرفته ووعدته بأن أعود إليه في اليوم اللاحق، وأوصيته أن يأخذ كامل احتياطاته.
«فوميرو يبحث عنك مجددا» قلت له.
هز خوليان رأسه بلا مبالاة كأنه لا يذكر شيئا عن فوميرو. ومضت عدة أسابيع. كنت أذهب إليه بعد الثانية عشرة من كل ليلة، وأسأله عمّا فعل خلال النهار. ينظر إلي خوليان مشدوها، كأنه لا يفهم كلماتي. فننام متعانقين، ثم أخرج في الصباح وأعده بالعودة باكرا ما أمكنني وأقفل عليه باب البيت. لأنه لا يملك نسخة عن المفتاح. فأن يكون سجينا خير من أن يغدو جثة.
لم يأت أحد ليسأل عن زوجي فأشعتُ أن ميغيل كان في فرنسا. وكتبت رسالتين للقنصلية الإسبانية في فرنسا أؤكد فيهما بأنني على دراية بوجود المواطن الإسباني السيد خوليان كاراكس في تلك المدينة وبأنني أطلب مساعدتهم في البحث عنه. كنت أفترض أن الرسالة ستصل إلى الأيادي الأمينة عاجلا أم آجلا. وأخذت كل احتياطاتي وأنا على ثقة بأنها مسألة وقت ليس أكثر. فالبشر مثل فوميرو لا يكفون عن الحقد أبدا. وحقدهم ليس له سبب: يكرهون هكذا كما يتنفسون.
كانت الشقة في روندا دي سان أنطونيو تقع في الطابق الأعلى وفي الردهة ثمّت باب يفضي إلى السطح. وكانت كل شرفات المبنى، التي تستخدمها ربات البيوت لنشر الغسيل، تشكل لولبا من الفناءات التي تعزلها حواجز لا تتخطى المتر. حددتُ إحدى البنايات في شارع خواكين كوستا، على الطرف الآخر من المبنى، أستطيع من خلاله الوصول إلى السطح، ثم أصل إلى شرفة فورتوني بالقفز على الحاجز دون إثارة انتباه أحد إلى دخولي أو خروجي من بوابة المبنى. وذات يوم كتب لي المدير ليعلمني بأن بعض الجيران سمعوا ضجيجا في شقة فورتوني. فأجبته باسم المحامي أن بعض العاملين في المكتب دخلوا يبحثون عن بعض الوثائق وما من داع للقلق حتى لو كان الضجيج ليليا. وختمت رسالتي بالتنويه إلى أن الأسرار الحميمة بين الرجال أكثر قداسة من أية مناسبة دينية. فأجاب المدير بأنه ما من داع للقلق، فحسه الذكوري يدفعه إلى التعاون وغض الطرف.
في تلك السنوات، كان تقمص دور المحامي يشغل كل وقتي. وكنت أذهب لزيارة أبي في مقبرة الكتب المنسية مرة كل شهر. لم أره راغبا في معرفة زوجي الخفي ولم أقترح عليه ذلك. كنا نتجنب الموضوع كما يتجنب البحارة الخبراء الصخور الناتئة. سألني بعض المرات إن كنت في حاجة إلى مساعدة، وإن كان بوسعه فعل شيء. ومن حين لآخر، في فجر يوم السبت، كنت أرافق خوليان ليرى البحر. كنا نخرج من السطح ونمر على الشرفة المقابلة ثم ننزل في شارع خواكين كوستا ونصل إلى المرفأ مشيا بين أزقة الرافال. لا أحد كان يقترب منا أبدا، فخوليان كان يسبب الرعب من مسافة بعيدة. وأحيانا كنا نصل حتى كاسر الأمواج. كان خوليان يحب الجلوس على الصخور ليشاهد المدينة. ونقضي هكذا ساعات طويلة، دون أن نتكلم بشيء. وفي المساء نذهب إلى السينما أحيانا، وندخل إلى صالة بدأ فيها العرض لتؤه. كنا نعيش في الليل، وفي صمت مطبق. ومع الوقت تعلمت أن أمزج رتابة الأيام باعتياديتها حتى اعتقدت أنني صاحبة خطة محكمة. يا لي من مسكينة بلهاء.
12
كان عام 1945 عام الرماد. وضعت الحرب أوزارها منذ ستة أعوام، ولم يكن هناك خيار سوى التغاضي عن ذكرها رغم أن ذكراها ما تزال حية. ولكننا كنا بصدد حرب أخرى في تلك الآونة، حرب عالمية، ملأ طاعونها الأرض بأسرها، ولم يكن من السهل التخلص منه. كانت أعوام الحرمان، يتخللها سلام غريب يشبه الشفقة التي يتطلع إليها الخرسان والمعوقون. وبعد أن بذلت جهودا في البحث عن عمل كمترجمة، وجدت فرصة للعمل في تدقيق المسودات في دار نشر بيدرو سانمارتي، رجل أعمال من الجيل الأخير. شيّد المؤسسة بأموال حميه ثم نقله إلى مأوى للعجزة على بحيرة بانيالوس، لينتظر أن يمن عليه البريد برسالة تحتوي على شهادة وفاته. كان سانمارتي يتباهى بكونه عصاميا، وهو مفهوم حظِي برواج على مستوى واسع في تلك الحقبة. وكان كل همه مغازلة الفتيات اللاتي تصغرنه سنا، ويتحدث الإنكليزية بشكل مريع، فهي لغة المستقبل، بلكنة واضحة من فيلانوفاجيلترو، ولابد أن ينهي كلامه دوما بـ"أوكي".
أسمى دار النشر «إنديميون» إذ كان يبدو له الاسم أكثر أبهة، وراح ينشر كتبا جوفاء، وإرشادات في الحب، وسلسلة روايات تافهة أبطالها راهبات في مسرحيات تجارية وممرضات متطوعات في الصليب الأحمر وموظفون جشعون بإيمان ديني راسخ. وكنا نصدر أيضا سلسلة من القصص المصورة للجنود الأمريكيين، «كوماندوفالور» حظيت باهتمام كبير من الشبان خاضة وأنهم في أشد الحاجة إلى أبطال يأكلون اللحم كل يوم. أصبحت صديقة لسكرتيرة سانمارتي، مارسيديس بييترو، وكانت أرملة حرب، تعيش وحيدة مع طفل بلغ ربيعه السابع مصابا بنقص التغذية العضلية. وكنا امرأتان يحملنا التيار، الأولى يرافقها رجل ميت والأخرى رجل متوارٍ عن الأنظار. كانت تبلغ من العمر اثنين وثلاثين عاما فقط، لكن شقاء الحياة بدا جليًا على وجهها. وخلال تلك الأعوام كانت مارسيديس الوحيدة التي أغوتني بفتح قلبي لها. وهي التي قالت لي إن سانمارتي كان صديقا مقربا من المحقق البارز فرانشسكو خافيير فوميرو، وينتمي كلاهما إلى شرذمة، ما إن انتهت الحرب حتى أحكمت قبضتها على المدينة كشبكة عنكبوت عملاقة. كانت بمثابة النخبة الجديدة. ذات يوم مرّ فوميرو ليصطحب صديقه سانمارتي لتناول الغداء معا. فاختبأتُ في قاعة الأرشيف ريثما يخرجان. وعندما عدتُ إلى منضدتي، رمقتني مارسيديس بنظرة فصيحة. ومنذئذ صارت تنذرني كلما جاء فوميرو.
وما مرّ يوم إلا ودعاني السيد سانمارتي للعشاء أو المسرح أو السينما. كنت أجيبه بأن زوجي في انتظاري وأن زوجته ستقلق عليه إن لم يعد باكرا. وفي الحقيقة لم تكن السيدة سانمارتي تصل إلى أهمية سيارة البوغاتي الفاخرة في هرميات المحبة عند زوجها المهتم بسلب حميّه كامل ثروته على وجه الخصوص. وقد أحاطتني مارسيديس علما بذلك. إذ أن صاحب العمل يحتاج إلى التجديد دوما، فيقع كل انتباهه على آخر الواصلات، وقد كنت الفريسة المنشودة. فكان يستثمر أي حجة
"عرفت أن هذا ميغيل، زوجك كاتب... لم لا يؤلف كتابا عن صديقي فوميرو؟ يخطر العنوان في بالي (فوميروقاهر المجرمين أو قانون الشارع) ما رأيك يا عزيزتي نوريا؟"
"أنت لطيف جدا يا سيد سانمارتي، لكن ميغيل مشغول في رواية ولا أعتقد أنه قادر في هذه اللحظة على...»
يقهقه سانمارتي.
"رواية؟ حبا بالله يا نوريا... الرواية ماتت ودُفنت. هنا ما يؤكده أحد أصدقائي الذي عاد توا من نيويورك. الأمريكان يقومون بصناعة آلة تدعى التلفزيون، تشبه السينما لكنها تعرض في المنزل مباشرة. لن نعود في حاجة إلى الكتب ولا إلى الصلوات. قولي لزوجك أن ينسى الروايات. لوكان مشهورا على الأقل، لاعب كرة قدم أو مصارع ثيران... اسمعي. لم لا نذهب إلى كاستيلديفيس بسيارة البوغاتي ونتحدث بهذا الشأن ونحن نتناول البايللا عليك أن تتحلي بحسن النوايا يا نوريا... تعلمين جيدا أنني أود أن أساعدك أنت وزوجك. في هذا البلد لا يمكنك الحصول على شيء دون عراب يقوم بتزكيتك.»
بدأت ألبس ثيابا مثل أرملة لا يواسيها العزاء، من أولئك اللواتي يخلطن ضوء الشمس بالخطايا القاتلة. كنت أذهب إلى العمل بشعر معقود كليا ولا أضع أي كحل أو أحمر شفاه، لكن سانمارتي يضغط باقتراحاته ويطلق ابتسامة مزيفة ومستخفة كالمخصيين أصحاب النفوذ الذين غالبا ما يعتلون عروش السلطة. تقدمت إلى مقابلات عمل ولكننى في كل مرة أصطدم بنسخة أخرى عن سانمارتي. كان ذلك الصنف ينتشر بسرعة، تدعمه أرضية خصبة. اتصل أحدهم به فورا ليخبره بأن امرأة تدعى نوريا مونفورت جاءت تبحث عن عمل دون علمه. فاستدعاني إلى مكتبه. داعب خدي بأصابعه التي تفوح منها رائحة التبغ والعرق. فتسمرت في مكاني.
«ما عليك سوى أن تخبرنيي إن كان العمل هنا لا يطيب للك. ما الذي بوسعي فعله لأجلك؟ إنني أحترمك كثيرا ولك أن تتخيلي كم شعرت بالمرارة حين عرفت من الآخرين أنك تريدين أن تتركينا. اسمعي، سآخذك إلى العشاء فهكذا نضع الأمور على نصابها.»
أبعدت تلك اليد عن وجهي وأنا أبدي اشمئزازي.
"إنك تخيبين أمالي يا نوريا. أرى أنك تفتقدين روح العمل الجماعي وليست لديك ثقة في هذه المؤسسة"
أنذرتني مارسيديس بأن شيئا ما من هذا القبيل لابدّ أن يحدث. بعد عدة أيام، أخذ سانمارتي، وقد كانت له كفاءة لغوي تليق بقرد، يعيد كل المخطوطات التي أدققها مدعيا أنها مليئة بالأخطاء. فأبقى في المكتب كل مساء حتى العاشرة أو الحادية عشرة ليلا وأنا أعمل على تلك الصفحات التي تعج بتعليقات سانمارتي.
«يوجد كثير من الأفعال في صيغة الحاضر. تبدو كتابة عفا عليها الزمن. تفتقد الإيقاع... الأسماء المشتقة لا تستخدم بعد الفاصلة أو النقطة، هذه قاعدة بديهية يعرفها الجميع.."
وغالبا ما كان يبقى هو أيضا في مكتبه حتى وقت متأخر. وكانت مارسيديس تحاول أن تبقى ما أمكنها، ولكنه يرسلها إلى البيت أكثر من مرة. وحين تغادر، يأتيني.
"لا تبالي يا نوريا. العمل ليس كل شيء، علينا أن نستمتع أيضا. مازلت شابة والشباب يمضي بسرعة"
كان يجلس على حافة منضدتي ويحط أبصاره علي. وأحيانا يقف خلفي فأشتم رائحة فمه الثقيلة، وبعض المرات يضع يديه على كتفي.
"أنت متوترة جدا. استرخي"
كان بودي لوصرخت أوهربت بعيدا دون عودة، لكنني كنت في حاجة إلى ذلك الراتب التعيس. ذات مساء، بعد التدليك المعتاد، كان سانمارتي هائجا، وراح يبالغ في لمساته ويتوغل كثيرا.
"ستخرجيني عن طوري بين يوم وآخر يا نوريا" كان يهمس.
فنهضت على حين غرة وهرعت مسرعة نحو المخرج، ممسكة بالمعطف وحقيبة اليد، فيما كان هويقهقه. وعلى السلم قابلت رجلا كأنه يمشي دون ان تطأ قدميه الارض.
"كم يسعدني لقاؤك يا سيدة مولينر"
كان المحقق فوميرو وابتسامته الكريهة.
"أنت تعملين عند صديقي سانمارتي. هو مثلي، الأفضل في مجاله. كيف حال زوجتك؟" شعرت أن ساعتي قد حانت. في الصباح اللاحق شاع في الدار أن نوريا مونفورت سحاقية لأنها لا تعير اهتماما لسحر الدون بيدرو سانمارتي ورائحة فمه البشعة، فتلهث خلف مارسيديس بييترو. وأقسم أكثر من موظف متسلق أنه رآنا نتبادل قبلات الغرام في قاعة الأرشيف. وفي المساء طلبت مني مارسيديس أن نتحدث على انفراد. فاتجهنا إلى مقهى في زاوية الشارع، قال لها سانمارتي بأنه لا يرحب بصداقتنا وبأن الشرطة تدعي أنني ذات ماضي في النضال الشيوعي المسلح.
«لا أستطيع أن أخسرهذا العمل يا نوريا. علي أن أفكر بابني..» قالت وهي تبكي، وقد آلمها الذل والخجل.
«لا عليك يا مارسيديس. أفهم وضعك.»
«فوميرو هذا مستاء منك. لست أدري لماذا؟ لكنه واضح من جبينه...»
"أجل أعلم."
يوم الاثنين التالي، وجدت على منضدتي رجلا كثير الأناقة ويصبغ شعره بالدهن. عرّف نفسه بأنه سلفادور بيناديس، المدقق الجديد.
«وأنت من حضرتك؟»
لم يجرؤ أي زميل على النظر في وجهي حين كنت أجمع أغراضي. ركضت مارسيديس خلفي على السلم وسلمتني ظرفا. كان يحتوي على رزمة من النقود الورقية والحديدية.
«شارك الزاملاء كل حسب طاقته. خذيها يا نوريا أرجوك. افعلي هنا
لأجلنا.»
ذهبت إلى شقة فورتوني تلك الليلة. كان خوليان بانتظاري جالسا كالعادة تحت الظلام. قال إنه قد كتب قصيدة لأجلي، وهي أول شيء يكتبه منذ تسعة أعوام. فانهارت أعصابي وحدثته عما جرى لي وكنت أخشى أن يقبض عليه فوميرو. أصغى إلي خوليان بهدوء، وضمني بين ذراعيه وداعب شعري، وللمرة الأولى منذ سنين شعرت أنني أستطيع الاعتماد عليه. أردت أن أقبّله لكن الحريق سلب شفتيه. نمت بين ذراعيه، وانكمشت على نفسي فوق سرير طفولته. وعندما استيقظت لم أجده. سمعت صوت خطى على الشرفة فجرا وتظاهرت بالنوم. ولاحقا سمعت الخبر في الراديو. على مقعد في بازيو ديل بورني تم العثور على جثة رجل جالس ويداه متشابكتان على صدره، يوجه أنظاره نحو كنيسة سانتا ماريا دل مار. ولو لم يفقاأ الحمام عينيه لما انتبه أحد سكان الحي، فأبلغ الشرطة. كانت رقبة الرجل مخلوعة. تعرفت السيدة سانمارتي إلى جثة زوجها، بيدرو سانمارتي مونيغال. وعندما وصل النبأ إلى مأوى
العجزة في بانيالوس، شكر حمو المتوفى السماء وقال لنفسه إنه سيموت سعيدا الآن.
13
ذات مرة كتب خوليان إن المصادفات جراح على وجه القدر. ليس للمصادفات وجود يا دانيال: نحن لسنا إلاً دمى تتحرك دون وعي على مسرح العرائس. توهمت طيلة سنوات أن خوليان، أو ما تبقى منه، لا يزال الرجل الذي أحببته، ورجوت أن يعود لايين كوبرت شخصية في كتاب. فالبشر مستعدون للإيمان بأي شيء عدا الحقيقة. ساعدني مقتل سانمارتي على فتح عيني. كان لايين كوبرت حيا أكثر من أي وقت مضى. لاذ بجسد خوليان المحروق وشرع يتغذى من ذكرياته. عرفت أنه اكتشف طريقة لدخول شقة فورتوني والخروج منها عبر نافذة المنور، دون الحاجة إلى خلع الباب الذي كنت أقفله عندما أخرج. وعرفت أيضا أن لايين كوبرت، الذي يتقمص خوليان، كان يذهب ليلا إلى قصر الدايا بعد ان يتسكع في المدينة، ولقد نزل مجددا إلى القبو الذي يضم المقبرة، وهتك الشواهد وفتح قبري بينيلوب وابنها.
«ماذا فعلت يا خوليان؟»
جاءت الشرطة إلى البيت لاستجوابي عن مقتل الناشر سانمارتي. أخذوني إلى المخفر. وتركوني لخمس ساعات في مكتب مظلم، ثم جاء المحقق فوميرو وهو يرتدي اللون الأسود. عرض علي سيجارة.
:بوسعنا نحن الاثنين أن نصبح خير أصدقاء يا سيدة مولينر. رجالي يقولون لي إن زوجاك ليس في البيت."
«زوجي تركني. ولا أعلم أين يكون.»
صفعني بكفه فوقعت من على الكرسي. جررت نفسي إلى زاوية دون أن أرفع نظراتي. قرفص فوميرو بقربي وشد شعري.
"أصغ إلي جيدا أيتها العاهرة الشمطاء. سأجده وأقتل كليكم. وسأبدأ بك أنتِ كي يرى أشلاءك، ثم أقتله هو. ولكن ليس قبل أن أخبره بأن تلك القحبة التي قتلها بغبائه كانت أخته.» «سيقتلك، هو يا ابن العاهرة. »
بصق فوميروفي وجهي. كنت أظن أنه سيمزقني إربا لكنني سمعت خطواته تبتعد في عمق الممر. كنت ارتجف، نهضت مجددا والدم ينزف من وجهي. وفاحت مني رائحة يديه المقرفة، ممزوجة برائحة الخوف. أبقوا علي في تلك القاعة تحت الظلام ودون ماء لستِّ ساعات أخرى. وعندما أطلقوا سراحي أخيرا كان ظلام الليل دامسا والسماء تمطر بغزارة. وجدت البيت في فوضى عارمة إذ دخله رجال فوميرو. وعلى الأرض، بين الأثاث والأدراج المقلوبة والرفوف المنزوعة، وجدت ثيابي وكتب ميغيل مهشمة. ووجدت قذارتهم على السرير، وكتبوا بالغائط على الجدار"عاهرة". ذهبت إلى الشقة في روندا دي سان أنطونيو، بعد أن درت طويلا كي أفلت من مراقبتهم. دخلت إلى المبنى من شارع خواكين كوستا، صعدت على الأسطح ووصلت إلى مخباً خوليان من جهة الشرفات المبتلة بالمطر. تنفست الصعداء حين رأيت الباب غير مخلوع. دخلت بحذر. لم أجد خوليان هناك. انتظرت عودته في الصالة تحت الظلام أستمع لقطرات المطر حتى الفجر. وحينها خرجت من الشرفة ونظرت إلى المدينة التي ترزح تحت سماء رصاصية اللون. لن يعود خوليان إلى ذلك البيت. لقد فقدته إلى الابد.
تلاقينا بعد شهرين. كنت ذاهبة إلى السينما كي أهرب من جو الوحشة الذي يعربد في بيتي. في منتصف الفيلم الذي يحكي قصة حب مملة بين أميرة رومانية تحب المغامرات ومحقق أمريكي قوي البنية تظل تسريحة شعره ثابته، جلس رجل بجانبي. لم تكن المرة الأولى. يحدث غالبا أن تمتد الأيادي المقرفة، في صالات السينما البائسة التي تفوح منها رائحة البول والعطر الرخيص ورائحة الوحدانيين التعيسة، بحثا عن صحبة قصيرة الأجل. كنت على وشك النهوض لأخبر المراقب فإذ بي أتعرف على وجه خوليان المشوه. شدّ يدي بقوة وبقينا وقتا قصيرا بلا حراك نتظاهر بأننا نتابع الفيلم.
«هل أنت من قتل سانمارتي؟» همست.
«هل شعر أحد بغيابه؟»
كنا نتحدث بصوت خافت تحت أنظار الكثير من القلوب الوحدانية المبعثرة في الصالة، يحسدون ذلك المنافس الضبابي على نجاحه. سألته أين كان يختبئ فلم يجبني.
«توجد نسخة أخرى من ظل الريح» قال هامسا. «هنا في برشلونة.»
«أنت مخطئ يا خوليان. لقد أحرقتها كلها.»
«كل النسخ عدا واحدة. يوجد شخص أذكى مني خبأها في مكان مبهم على ما يبدو. أنت.» وكانت المرة الأولى التي سمعت فيها الحديث عنك. بائع كتب مدّع، اسمه جوستابو برسلوه، كان يتباهى على بعض مقتني الكتب بأنه وجد نسخة من «ظل الريح». شاع الخبر بسرعة الريح في أجواء بائعي الكتب النادرة. وفي غضون شهرين حصل برسلوه على الكثير من العروض من جامعي الكتب في برلين وباريس وروما الذين كانوا مهتمين بالحصول على الكتاب. كان هروب خوليان الغامض من باريس بعد منازلة شرف دامية، وموته الملغّز خلال الحرب الأهلية الإسبانية، يمدّ أعماله بقيمة ملحوظة. وأكثرت أسطورة الرجل بلا وجه، الذي يتعدى على المكاتب والمكتبات والمجموعات الخاصة ليضرم النيران في روايات كاراكس، من الفضول ورفعت المزاد. «نحن شعب يجري السيرك في دمائنا» كان برسلوه يدّعي. وسرعان ما وصل الخبر إلى خوليان أيضا، وهو المصمم دوما على إسكات صدى كلماته. وهكذا اكتشف أن الكتاب ليس ملكا لجوستابو برسلوه بل لفتى وجده صدفة وكان يرفض ان يبيعه لإعجابه بالقصة ولغز مؤلفها الغريب. ذلك الفتى أنت يا دانيال.
"حبا باللّه يا خوليان، لن تؤذي فتى صغيرا» كنت أهمس بقلق واضح.
شرح لي خوليان أن كل النسخ التي أحرقها كانت مسلوبة ممن لا يعير اهتماما بالغا لأعماله، أو يسعى مجرّد السعي للاستفادة منها، مسلوبة من جامعي كتب دجالين، ومن فئران المكاتب العامة. في حين كنت أنت ترفض أي عرض يُقدّم لك في الكتاب، كنت تريد إحياء كاراكس من ركام الماضي. ولذلك وجدك مختلفا تماما وحظيت باحترامه. فصار يتبعك ويراقبك على غفلة منك.
«حين يعلم من أنا وماذا فعلت، ربما سيحرق الكتاب بنفسه.» كان يقول وعيناه تبرقان كأولئك المجانين المحضنين من رياء الواقع.
«من هوهذا الفتى؟»
«يدعى دانيال، ابن أحد باعة الكتب في شارع سانتا آنا، وكان ميغيل زبونا له. يعيش مع والده فوق المحل. وفقد أمه مذ كان طفلا صغيرا.»
«كأنك تتحدث عن نفسك يا خوليان.»
«ذلك الفتى يشبهني»
«دعه بسلام يا خوليان. ما هو إلا صغير. ذنبه الوحيد أنه معجب بك»
«ليس ذنبا بل إنها خطيئة السذاجة. لكنه سيشفى منها. حين يفهمني ويكف عن الإعجاب ربما يعيد إليّ الكتاب.»
قبل أن ينتهي الفيلم بدقيقة، نهض خوليان وانصرف. وكنا التقينا هكذا لأشهر عديدة، في صالات السينما الدخانية وفي الأزقة المعتمة ليلا. كان خوليان يعرف دائما أين يجدني، وكنت أشعر بوجوده الصامت دون أن أراه. كلما ذكر اسمك ازدان صوته بالعذوبة، وانتابه إحساس لم أكن أعتقد أنه قادر عليه. عرفت أنه كان يعيش في قصر الدايا كمتسول صعلوك، كالأشباح، سجينا لحطام حياته، وحارسا لرفاة بينيلوب وابنيهما. كان ذلك المكان الوحيد في العالم الذي لا يشعر أنه سيطرد منه. ثمت سجون أسوأ من الكلمات يا دانيال. كنت أذهب إليه مرة في الشهر، أتسلق السور شبه المدمّر، كي أطمئن على أنه ما يزال حيا. ولا أجده أحيانا، فأترك له قليلا من الطعام والنقود وبعض الكتب... كنت أنتظره لساعات حتى يهبط المساء. ورحت أستطلع البيت في أكثر من مناسبة. وحينها عرفت أن خوليان قد خلع شواهد القبر وانتزع النعشين. لم يبد لي الحدث تدنيسا، إنما خطوة صحيحة مع الأسف. عندما كنت أجده، نبقى نتحدث طويلا، أمام نار المدفأة. كان خوليان يتذكر كتبه بشكل عام كأنها مؤلفات رجل آخر، وقال إنه يحاول أن يكتب ثانية، وكلما أخفق رمى بالصفحات إلى ألسنة اللهب. ذات يوم، أردت استغلال غيابه فقمت بانتزاع رزمة من الأوراق من بين رماد النار الهامدة. كانت الأوراق تتحدث عنك. قال لي ذات مرة إن السرد هو رسالة يكتبها المؤلف إلى نفسه ليعرّي روحه. وكان خوليان يشك في صحته الذهنية منذ وقت قصير. هل المجنون يعرف أنه مجنون؟ أم أن المجانين هم أولئك الذين يريدون إقناعه بأنه مجنون كي يحافظوا على وجودهم الذي لا معنى له؟ كان خوليان يراقبك وأنت تكبر، ويعتبرك هبة من السماء، ويظن أنك ستمنحه فرصة للحرية، إن نجح في تنبيهك على عدم اقتراف خطاياه. حتى أنني شككت أنك، في ذهنه المتخبط، حللت أنت مكان ابنه المفقود، كصفحة بيضاء ينقش عليها القصة التي لم يتمكن يوما من كتابتها. تضاعف اهتمامه بك مع مرور السنوات. كان يحدثني عن أصدقائك، وعن فتاة تدعى كلارا كنت متيما بها، عن أبيك الرجل الذي يحترمه، عن فيرمين وعن صبية كان يرى فيها ظل بينيلوب، بيا حبيبتك. يتحدث عنك كأنك ابنه. لقد كان كل منكما يبحث عن الآخر يا دانيال. وكان مقتنعا بأن براءتك ستنقذه من شرور نفسه. لم يعد يجول لاصطياد كتبه، لم يعد يريد أن يدمر آثار وجوده. كان يتعلم أن ينظر إلى العالم بعينيك، ليجد فيك الفتى الذي كان. وفي أول مرة جئت فيها إلي أحسست بأننى كنت أعرفك مسبقا. تعاملت معك ببلادة كي لا تفهم أنني كنت أخاف منك ومما اتيت تبحث عنه. كنت أخشى ان يكون خوليان محقا في قوله إننا نتوحد بفعل القدر والصدفة مثل اللؤلؤ في الطوق. أخشى أن أرى فيك خوليان الذي فقدته. وكنت أعرف أنك تنقب برفقة أصدقائك في ماضينا وأنكم ستكتشفون الحقيقة عاجلا أم آجلا، ولابد أن يحدث هذا في اللحظة المناسبة، عندما تكون مستعدا لها. كنت واثقة أنك ستلتقي بخوليان مهما تأخر اللقاء. وهذا خطئي. فأنا متيقنة من أن فوميرو على علم بذلك، وأنه ينتظر بفارغ الصبر أن تقوده أنت إلى خوليان. استوعبت خطورة الظرف عندما بات من المستحيل العودة إلى الوراء، لكنني توهمت بأنك ستنسانا وأن الحياة ستأخذك بعيدا لتكون في مأمن. علمني الزمن ألا أفقد الأمل أبدا، وألا أعتمد على الأمل كثيرا لأنه قاس وواهم وجاهل. فوميرو يراقبني منذ زمن. ويعرف أنني سأقع في مصيدته يوما ما. إنه يتصرف هكذا لانه ليس مستعجلا. إذ لا يجد لحياته مغزى دون الانتقام من الآخرين ومن نفسه أيضا. فوميرو يعرف أنك ستقوده برفقة أصدقائك إلى خوليان. ويعرف أيضا أنني بلا حول أو قوة بعد هذه السنوات الخمس عشرة الطويلة. كان يشاهد احتضاري البطيء وينتظر الفرصة ليطلق علي رصاصة الرحمة. ولطالما عرفت أنني سأموت على يديه، وقد حانت هذه اللحظة. سأعطي هذه الأوراق لوالدي وسأطلب منه أن يسلمك إياها في حال حدث لي مكروه. وأرجو اللّه الذي لم أعرفه يوما أن لا تكون مضطرا لقراءتها، لكن مصيري – بغض النظر عن إرادتي وخيبة أمالي- أن أطلعك على هذه القصة. أما مصيرك، بغض النظر عن براءتك وصغر سنك، أن تعيد لها الحرية.
إن قرأت هذه المذكرات، المذكرات التي أراها أقرب إلى السجن المتين من الذكريات، فذلك يعني أنني لن أستطيع أن أودعك كما كنت أريد لأرجوك أن تسامحنا كلنا، خوليان على وجه الخصوص، وأن تحميه ما استطعت. ليس لي الحق في أن أطالبك بشيء، إن لم يكن التفكير في نجاتك. لعل هذه الصفحات تقنعني بأنني كسبت فيك صديقا أبديا، مهما سيحدث، هذا رجائي الوحيد. عثرتُ في كتب خوليان على فكرة لطالما شعرت أنها فكرتي: نحن نستمر في الحياة في ذاكرة من يحبّنا. أشعر بأنني أعرفك وأنني أثق فيك، كما حدث لي مع خوليان قبل أن ألتقي به. اذكرني دوما يا دانيال حتى لو في سرّك، في إحدى زوايا قلبك. حافظ علي في قلبك إلى الأبد.
نوريا مونفورت
ظل الريح: 1955
1
استسلم الليل حالما انتهيت من قراءة مخطوط نوريا مونفورت. هذه قصّتي. بل قصّتنا جميعا. ففي مسيرة كاراكس المفقودة تعرّفتُ إلى أثر خطواتي التي كان من الصعب استعادتها. رحت أطوف في الغرفة ذهابا إيابا مثل الحيوان في القفص. كنت خائر القوى، أشعر بالندم والحيرة، ورغم هذا لم أكن أنوي التراجع قيد أنملة عن مواقفي. فارتديت معطفي ووضعت مخطوط نوريا في الجيب الداخلي وخرجت. كان الثلج ينهمر والطقس باردًا. والسماء تذرف دموعا مكثفة من الضوء فتقع على أنفاسي ثم تتلاشى. في وسط ساحة كاتالونيا هنالك عجوز شائب الشعرفي عزلة تامة، يبدو كالملاك الهارب، ملفعا بدفء معطفه الرمادي الفضفاض. في نظرته المتجهة إلى السماء، كان أمير الفجر يحاول الإمساك بحبات الثلج بيديه العاريتين وهويضحك. حين مررت بجانبه، ابتسم لي بمرارة كأنه يقرأ أفكاري. وعيناه تلمعان كعملة حديدية في عمق البئر.
«حظا سعيد ا» بدا لي أنه قال ذلك.
كنت ممتنا لدعائه وأسرعت خطاي آملا أنني لم أتأخر وأن بيا، ياقوتة حياتي، ماتزال في انتظاري.
توقفت حين بلغت واجهة بيت أغويلار وأنا ألهث، فيما يطلي الثلج الرصيف بلونه الأبيض. وساتورنو موييدا، حارس المبنى، والشاعر السوريالي المقنّع حسب مزاعم بيا، في الخارج يتأمل مشهد الثلج الاستثنائي، والمكنسة في يده، كان ينتعل جزمة كبيرة ويلف عنقه بثلاث شالات على الأقل.
«هذه قشرة الشعر تتساقط من رأس الله» هبط عليه الوحي لمديح
الثلج بشعر لا مثيل له.
«إننى ذاهب إلى بيت السيد آغويلار.»
"إن في الصباح رباحًا، ولكن ألا تظن أنك تبالغ أيها الشاب؟"
«جئت لأمر طارىء. إنهم في انتظاري.»
«وإنني أطلق سراحك»
صعدت السلالم بسرعة. إن حالفني الحظ ستفتح لي إحدى الخادمات ولا بأس في هذا. وربما أجد نفسي، في أسوأ الأحوال، أمام والد بيا، بما أن الوقت باكر جدا. كنت آمل أنه لا يحمل السلاح داخل منزله الحميم، أو على الأقل ليس قبل أن يتناول الفطور. انتظرت بضع لحظات لألتقط أنفاسي، ثم أعلنت الزحف. طرقت الباب بتصميم. وعاودت المحاولة بعد خمس عشرة ثانية، غير آبه بنبضات قلبي الخرساء والعرق البارد الذي يتصبب على جبيني. انفتح الباب.
«ماذا تريد؟»
نظر إليّ صديقي توماس برباطة جأش.
«أريد أن أرى بيا. لك أن تهشم وجهي إن أردت، ولكنني لن أنصرف قبل أن أتحدث إليها.» كانت نظراته ثابتة ومركزة. فتساءلت إن كان ينوي أن يمزقني إربا في حينها.
«أختي ليست هنا.»
«توماس...»
«بيا ذهبت.»
لم يكن غضبه قادرا على إخفاء اضطرابه.
«أين ذهبت؟»
«كنت آمل أنك على علم بهذا.»
«أنا؟» تجاهلت قبضة يده المتأهبة وملامحه القاسية، وتجاوزت العتبة.
«بيا» صرخت. «أنا دانيال يا بيا.»
توقفت في منتصف الممر. وكان صوتي يدوي في الشقة الفارغة. لم يجب أحد على ندائي: لا السيد اغويلار ولا زوجته ولا الخادمات.
«قلت لك لا أحد هنا» رد توماس. «والآن اخرج من هنا ولا تريني وجهك. فأبي أقسم أنه سيقتلك ولن أقف في وجهه.»
"حبا بالله يا توماس قل لي أين أختك"
«بيا هربت من المنزل. أبي وأمي يبحثان عنها منذ يومين كالمجانين. والشرطة أيضا.»
«ولكن.. »
«قبل يومين، عندما عادت إلى المنزل بعد أن كانت معك، صفعها والدي على وجها. اطمئن، لم تفشِ باسمك. لأنك لا تستحقها.»
«توماس... »
«اخرس. في اليوم التالي أخذها والدي إلى الطبيب.»
«لماذا؟ أهي مريضة؟»
«مريضة بحبك أيها الأحمق، بيا حامل، لا تقل لي إنك تجهل الأمر.»
نظرت إليه بفم مفتوح، ومنعني الشعور بالغثيان عن الكلام، اتجهت صوب الباب فأمسك توماس بذراعي وألصقني بالحائط.
«لماذا فعلت بها؟»
«توماس أنا...»
أخفض جفنيه. قطعت اللكمة الأولى أنفاسي. فانزلقت أرضا، وكتفي على الحائط وركبتيّ ترتجفان. بقيت واقفا على قدمي أختنق باللعاب في حلقي.
«ماذا فعلت بها يا ابن العاهرة؟» حاولت أن أفلت منه لكنه ألقاني على الأرض بلكمة على وجهي. طرحتني لكماته على أرضية الممر الخشبية والتهب رأسي من شدة الألم.
فأمسك بي من ياقة المعطف وجرني إلى الردهة مثل كيس النفايات.
«قسما إنني سأقتلك لوحصل لبيا أي مكروه»
لم يعطني الوقت لألتقط أنفاسي وأشرح له الأمر. أغلق الباب. كانت أذني اليسرى تطن بينما ينزف نهر من الدماء من رأسي المتألم. نهضت بصعوبة. وكانت عضلات بطني، التي استقبلت أولى لكمات توماس، تشتعل بألم عظيم. نزلت السلالم مترنحا. وحين وصلت إلى الأسفل، كان الدون ساتورنو يهز رأسه.
«تعال، ادخل إلى مكتب الحراسة واستعد عافيتك... »
كنت أمسك بطني بيدي، وأشعر بالنبض يدوي على الجانب الأيسر من رأسي وكأن الدماغ يودّ أن ينبثق من الجمجمة.
«إنك تنزف» قال ساتورنو مضطربا.
«ليست المرة الأولى.»
«ولكن إذا تابعت بهذا الشكل فلن تحظى بمناسبة أخرى لتكرار التجربة. ادخل إلى المكتب أرجوك. سأتصل بطبيب من أجلك.» نجحت في الوصول إلى البوابة والهروب من إرادة الحارس الطيبة. كان الثلج ينهمر بكثافة ويغطي الأرصفة، والريح الجليدية تنهش عظامي وتلحس جرح وجهي النازف. لا أعرف إن كنت أبكي ألما، غضبا أم خوفا. محا الثلج دموعي الجبانة بلا مبالاة، وابتعدت تحت ضوء الفجر كظل بين الظلال الكثيرة التي تفتح معبرا في قشرة رأس الله.
2
قرب شارع بالميس لاحظت أنني ملاحق من سيارة تسير بقرب الرصيف. كان رأسي يدور وأنا أمشي متكئًا على حيطان البيوت. توقفت السيارة ونزل منها رجلان. أصابني الطرش من شدة الطنين ولم أسمع صوت المحرك ولا كلام الرجلين اللذين يرتديان ثيابا سوداء حين أمسكا بإبطي وحملاني نحو السيارة. تقوقعت على المقعد الخلفي ينتابني الإعياء. كنت أرى الأضواء كتدفق المدّ البحري الذي يغشي الأبصار. انطلقت السيارة بينما كانت أيادي الرجلين تجسُ وجهي ورأسي وعظام صدري. وعندما وجد أحدهما مخطوط نوريا مونفورت، أخرجه من جيبي. حاولت أن أمنعه لكن ذراعي كانتا ترتخيان. انحنى أحدهم، وشعرت بأنه كان يحدثني حين أحسست بحرارة فمه. كنت أتوقع أن أرى وجه فوميرو وهو يسفح عنقي بحدّ سكينه. تموضعت عيناه نحوي، وقبل أن يغمى عليّ رأيت ابتسامة بلا أسنان لفيرمين روميرودي توريس.
استيقظت في حمّام من العرق، لمحتُ فيرمين على يميني بينما كانت يداه تحاولان إجباري على الاستلقاء على منضة محاطة بالشموع مثل الجناز. ابتسم لي، ولكنني أدركت أنه مضطرب بعض الشيء. وقد كان الساعاتي، الدون فيديريكو فلافيا، يقف بقربه.
«إنه يستيقظ يا فيرمين» قال الدون فيديريكو. «ما رأيك أن أسخن له الحساء؟»
«لا بأس. هلّا حضّرت لي شطيرة بأي شيء تجده؟ لقد تسبب لي هذا الجوع الأسود بالقلق.» تركنا فيديريكو وحدنا، بلباقته المعتادة.
«أين نحن يا فيرمين؟»
"في مأمن يا دانيال. نحن في ضاحية انسانش، في شقة صغيرة لأصدقاء الدون فيديريكو الذي ندين له بأرواحنا وأشياء أخرى أيضا. يُسمّيها العارفون بملتقى العشاق، لكن هذه الشقة معقل خفي بالنسبة إلينا.»
حاولت أن أنهض، فشعرت بأذنيّ تنبضان بشدة نارية.
«هل سأصبح أطرش؟»
«لا أعلم ولكنك أصبحت شبه مجنون. ذلك الحيوان آغويلار ضربك بعنف»
«لم يكن السيد آغويلار. بل توماس»
«توماس؟ صديقك المخترع؟»
هززت رأسي مؤكدا. «ولماذا؟»
«بيا هربت من المنزل... » قلت.
«تابع»
«إنها حامل.»
لم يصدق فيرمين ما سمع. رأيت تعبيرا جديا يكسو وجهه للمرة الأولى منذ تعارفنا.
«لا تنظر إليّ هكذا يا فيرمين.»
«وماذا تريدني أن أفعل؟ هل أفتح قنينة شمبانيا احتفالا بهذا النباً الفظيع؟»
حاولت النهوض ثانية فمنعني الوجع ويدا فيرمين عن ذلك.
«علي أن أبحث عنها يا فيرمين.»
«لا تتحرك. لا يمكنك الذهاب إلى أي مكان وأنت في هذه الحالة. قل لي أين هي وأذهب بنفسي إليها.»
«لا اعلم.»
«حبذا لو كنت أكثر دقة.»
ظهر الدون فيديريكو على العتبة بوعاء من الحساء. وتوشحتْ ابتسامته بالحنان. «كيف تشعر يا دانيال؟»
«أفضل بكثير. شكرا يا دون فيديريكو»
«تناول الحساء. وخذ هاتين الحبتين أيضا.»
نظر إلىّ فرمين فهز الأخير رأسه موافقا.
« إنه دواء مُهدّىء»
ابتلعت الحبتين وارتشفت من حساء بنكهة النبيذ. خرج الدون فيديريكو بحياء وأغلق الباب. وحينها لمحت مخطوط نوريا على حضن فيرمين. وكانت الساعة على الدرج تشير إلى الواحدة. الواحدة ظهرا على الأرجح.
«هل ما تزال تثلج؟»
«تتلج كلمة قليلة بحق ما يحدث. إنه عذاب إلهي.»
«هل قرأت المخطوط؟» هز فيرمين رأسه.
"علي أن أجد بها قبل أن يفوت الأوان. أظن أنني أعرف أين تختبئ"
جلست على السرير وأنا أتكئ على فيرمين. راحت جدران الغرفة وسقفها تتموّج مثل الأعشاب في عمق مستنقع، وانتابني الدوار. مددني فيرمين على المنصة.
«لن تذهب إلى أي مكان يا دانيال.»
«ما تانك الحبَّتان؟»
«إنه منوّم. ستنام مثل الدب.»
«كلا. لا استطيع الآن...»
نطقت كلمات غير مترابطة ثم تثاقل جفناي وغططت في نوم عميق، كنوم المذنبين.
استيقظت من ذلك السبات بعد الغروب. وكان لهيب الشموع الموضوعة عند الدرج يُضيء الغرفة. وفيرمين ينام على أريكة ويشخر مثل الكير، وصفحات نوريا مبعثرة على الأرض مثل الدموع. انخفض ألم الرأس إلى نبض خفيف عند الصدغين. خرجت من الغرفة على رؤوس أصابعي، فوجدت نفسي في صالة صغيرة لها شرفة وباب يبدو كأنه مدخل الشقة. كان معطفي وحذائي على الكرسي. والضوء القرمزي يلج من النافذة المرقطة بانعكاسات متعددة الألوان. نظرت إلى الخارج فوجدت الثلج مايزال ينهمر، وسطوح برشلونة كلها مكسوّة بالبياض، فيما أبراج المدرسة الصناعية مرتفعة في الأفق. كتبت بإصبعي على الزجاج المغطى بالبخار: سأذهب لأبحث عن بيا. لا تتبعني. سأعود باكرا.
كنت قد فهمت ذلك حينما استيقظت وكأن أحدهم همس في حلمي. خرجت إلى الطريق. كان شارع أورجل يختبئ تحت بساط ناصع تنتأ منه النباتات وأعمدة الإنارة كصواري السفن تحت الضباب. ألقت الريح الثلج على وجهي. ومشيت حتى موقف المستوصف الطبي ونزلت في أنفاق المترو الساخنة بحرارة رديئة. كان الناس يتناقشون في تلك الظاهرة الجوية الغريبة، والنباً يستولي على الصفحات الأولى للجرائد المسائية، بالخط العريض "أثلوجة القرن"، مزودا بصور ساحة لاس رامبلاس تحت الثلج ونافورة كاناليتاس المكسوّة بالصقيع. جلست على مقعد واستنشقت الهواء الكثيف الذي يثيره مجيء القطارات وذهابها. وعلى جدار السكة المعاكسة رأيت لافتة إعلانية كبيرة لملاهي تيبيدابو، تظهر فيها أضواء الترام الأزرق الصغير وخلفه تهيمن ظلال قصر آلدايا. تساءلت إن كانت بيا قد لاحظت تلك الصورة، وهي تائهة في برشلونة المهمّشين، وإن أدركت بأنها لا تملك مكانا آخر تلوذ به.
3
حل الظلام حين خرجت من المترو. وكان شارع تيبيدابو خاليا ومعتما، يشبه عبور الجنازة بين القصور وأشجار الأرز. سمعت الجرس الذي يعلن انطلاق الترام الأزرق من أول الخط. فصعدت به الترام بينما كان يباشر السير، وأخذ مني مراقب التذاكر نفسه العملات وهو يهمهم. جلست داخل العربة بعيدا عن الثلج والبرد. وكانت القصور تعبر في الظلماء ببطء خلف الزجاج المتجمد. نظر إلي مراقب التذاكر بفضول وعدم ارتياح.
«الرقم 32 أيها الفتى.»
التفتُ، فرأيت جانب قصر آلدايا قبالتي كمقدمة سفينة شبحية. توقف الترام بهزة عنيفة ونزلت متجنبا النظر إلى المراقب.
« حظا سعيدا» قال.
رأيت الترام يبتعد على طول التل حتى سمعت صدى جرسه. وكان الظلام يحاصرني، فاستدرت بحثا عن السور الحجري في مؤخرة القصر. وبينما كنت أتسلق سمعت صوت خطوات واهنة تقترب على الرصيف الموازي. بقيت متسمّرا لوهلة وأنا أمتطي السور ولم أسمع شيئا بعدها. اجتزت الحديقة. كان برد القبور يستلقي على الأعشاب الضارة وتماثيل الملائكة المهدمة، ومياه النافورة تشكل قشرة صقيع سوداء تبرز منها أصابع الملاك الغاطس في المياه كسيف مصنوع من حجر السبج. وكانت قطرات الندى تتجمد قبل سقوطها من سبابته التي تشير صوب الباب الموارب. رجوت السماء ألا أكون قد وصلت متأخرا. كان النور يقود خطواتي عبر الرواق نحوعتبات السلم الكبير: إنها شموع بيا، وقد كادت تنطفئ. كان صف الشموع يتقدم حتى الطابق الأول. صعدت الأدراج فيما كان ظلي يتراقص على الجدران. وفي الأعلى، عند أول الممر، رأيتُ شمعة ترتج أمام غرفة بينيلوب. فاقتربت وطرقت الباب.
«خوليان؟» همس صوت مضطرب من الداخل.
أدرت مقبض البابا على مهل والرعب يسحق أنفاسي. فوجدت بيا، ملتفة بالأغطية، وجالسة في إحدى زوايا الغرفة. ركضت إليها وعانقتها فانهالت عليّ بالدموع.
«لم أكن أعرف أين أذهب» همست. «هاتفتُك في البيت أكثر من مرة ولم يجبني أحد. لقد خفت...»
مسحت بيا دموعها بكفيها وحدقت إلي. فاكتفيت بهز رأسي، إذ لم يكن من الضروري أن أقول شيئا.
«لماذا ناديتني بخوليان؟»
أشارت بيا إلى الباب الموارب.
«إنه هنا في هذا القصر. فوجئت به البارحة بينما كنت أحاول الدخول. لم يكن من داع لأخبره بهويتي، كان يعلم مسبقا. أرشدني إلى هذه الغرفة وجاء لي بالطعام والشراب. وأوصاني أن أبقى في انتظاره، فالأمور أوشكت على خواتمها، وأخبرني بأنك ستأتي. لقد روى لي الكثير من الأشياء في الليلة الماضية، حدثني عن بينيلوب وعن نوريا... وعنك تحديدا، وعنا نحن الاثنين. يريد أن يعلمك أن تنسى...»
«وأين هو الآن؟»
"في الأسفل، في المكتبة. ينتظر أحدا ما، قال لي ألا أخرج من هذه الغرفة؟» «
ينتظر من؟»
«لا أعلم. شخص سيأتي معك، أو أنك ستأتي به إلى هنا...»
عندما أطللت برأسي من الممر سمعت خطوات ثقيلة في عمق السلالم. فرأيت ظلا يستطيل على الحائط، وسترة سوداء، وقبعة على الرأس، والمسدس في قبضته يلمع كالمنجل المسنن. فوميرو. لطالما ذكرني بأحد ما، أو بشيء ما، ولكنني حينها فقط أدركت من يكون.
4
أطفأت الشموع بأصابعي وأشرت إلى بيا بكبت أنفاسها، أمسكت بيدي واستجوبتني بعينيها، فيما كانت خطوات فوميرو تتقدم ببطء في الأسفل. فأومأت لها بأن تختبئ خلف الباب دون حركة.
«لا تخرجي من هنا مهما حدث» همست.
«لا تدعني وحيدة يا دانيال أرجوك.»
« عليّ أن أخبر كاراكس.»
تجاهلتُ نظرات بيا المتوسلة، وعدت إلى الممر ووصلت إلى الصالون. لم أعد أرى ظل فوميرو. لابد أنه يختبئ في زاوية ما تحت الظلام، يراقب بصبر شديد. نظرت إلى الخارج من زجاج إحدى الواجهات. فرأيت أربعة أضواء زرقاء مشوشة كمياه المستنقع تنسل من بين الصقيع. كانت أضواء السيارة السوداء المركونة أمام البوابة الخارجية. لابد أنها سيارة المساعد بالاثيوس. لمحتُ داخل السيارة وميض جمر سيجارة. وعدت متمهلا نحو الصالون ثم نزلتُ الأدراج واحدا واحدا محاولا عدم إثارة الضجة. وفي منتصف الطريق وجدت ظلمات الطابق الأرضي. ترك فوميرو الباب مفتوحا، فأطفأت الريح الشموع وغطت البلاط بالثلج. وكانت الأوراق اليابسة تحوم في دوامة عند الرواق في وهج البياض. نزلت أربع درجات أخرى، ملتصقا بالجدار، وتوقفت حين رأيت انعكاس الضوء الخارجي على زجاج المكتبة. ربما نزل فوميرو إلى الطابق السفلي أو إلى القبو حيث المقبرة. وشاء الثلج الذي دخل بغزارة من الباب المفتوح أن يمحو آثاره. وعندما وصلت إلى عمق السلم أخيرا، نظرت نحو المدخل فلسعت الريح الزمهرير وجهي. كنت أرى أصابع الملاك الغارق في النافورة تحت الظلام. وكان باب المكتبة على بعد عشرة أمتار مني، والظلام يكتنف الغرفة السابقة. تنفست عميقا وأنا أفكر في أن فوميرو يتربص بي، ثمّ تقدمت لا أبصر شيئا وأكاد لا أرفع قدمي عن الأرض. وكانت جدران صالة المكتبة البيضوية مرقطة بظل حبات الثلج التي تتراكم خلف الزجاج. ربما كان فوميرو مختبئ خلف الباب. رأيت شيئا يدب على الحائط على بعد مترين من يميني، وبدا لي أن هذا الشيء يتحرك لوهلة، لكنه كان مجرد انعكاس للقمر على حد السكين. كان ذو النصلين يغرس قطعة ورقية على الجدار. اقتربت فوجدتُ صورة محروقة الحواف، مطابقة لتلك التي دستها لي أحدهم على مصطبة المكتبة. خوليان وبينيلوب في سن المراهقة، يبتسمان لمستقبل مستحيل، دون دراية بما كانت الحياة تدبر لهما. وكان نصل السكين يخترق قلب خوليان. ففهمت أنه ليس لايين كوبرت، أو خوليان كاراكس، من أمدّني بتلك الصورة، إنما فوميرو. كانت الصورة بمثابة دعوة. أردت أن أخلع السكين من الحائط عندما أحسست بشيء بارد على رقبتي.
«رب صورة خير من ألف كلمة يا دانيال. لولم يكن والدك بائع كتب خرائي لكان علّمك هذا.»
استدرت على مهل، فاشتممت رائحة البارود تفوح من فوهة المسدس، لابد أنه استعمله منذ فترة قصيرة جدا. كانت ابتسامة فوميرو مثل تكشيرة تسبب الذعر.
«أين كاراكس؟»
«ليس هنا. لقد عرف أنك جئت تبحث عنه فانصرف.»
كان يراقبني بثبات.
«سأقتلك أيها القذر. »
«لن يجدي هذا. كاراكس ليس هنا.»
«افتح فملك» أمرنى فوميرو
«لماذا؟»
« افتح فمك والا فتحته بنفسى»
انصعت لأوامره. أدخل فوميرو قصبة المسدس في فمي. انتابني التقيؤ. رفع الصمام.
«والآن أيها النذل، هل تريد أن تموت؟»
|«قل لي إذن أين كاراكس.»
حشرجت. فأخرج القصبة من فمي شيئا فشيئا.
«أين هو؟»
"القبو حيث المقبرة"
«اسبقني. أريدك أن تكون حاضرا حين أقص على ابن العاهرة كيف كانت نوريا تتأوه حين أدخلت المسدس في... »
ظهر ظل من العدم. رأيت شيئا في الظلام يلوح خلف فوميرو، ثم انجلى الرجل بلا وجه، بنظرة متأججة، يتقدم في صمت مطبق كأن أقدامه لا تمس الأرض. لمح فوميرو حركة في عيني المليئتين بالدموع فاستدار ببطء.
أطلق النار دون تصويب، ولكن قبضة فولاذية التفت حول عنقه، يدان سوداوان خشنتان كالحديد العتيق. دفعه خوليان إلى الحائط، وحاول المحقق أن يوجه المسدس نحو رأسه، ويضغط على الزناد فإذ بكاراكس يمسك بمعصمه ويلكمه حتى ألصقه بالحائط. انطلق عيار ناري من السلاح فهشمت الطلقة أحد الألواح الخشبية. وانهال وابل من الشظايا واللهيب الحارق على وجه المحقق وحامت في الصالة رائحة لحم محروق.
حاول فوميرو أن يتخلص من تلك القبضة التي تطوّق عنقه وتمسك بيده على الحائط، لكن كاراكس كان مصمما. وحينها، زأر فوميرو من الغضب، وأثنى وجهه وعض يد كاراكس. سمعت صك أسنانه التي نهشتت ذلك الجلد الميت ورأيت الدماء على شفتيه. وربما لم يحس كاراكس بالألم ونزع السكين من على الحائط وغرسه في معصم فوميرو الأيمن وثبت يده على الجدار بضربة موفقة فلم يصدّق فوميرو ما رأى. دخل السكين في لوح خشبي حتى مقبضه، فأطلق الشرطي صرخة وحشية وسقط المسدس من بين يديه، فركله كاراكس بعيدا.
لم يستغرق ذلك المشهد غير ثوان قليلة. أصابني الهلع، ولم أفكر في ما عليّ فعله. التفتَ كاراكس نحوي ونظر في عيني. فنظرت إلى هيأته بتلك الملامح التي لطالما تخيلتها وأنا أشاهد الصور وأستمع إلى القصص القديمة.
«خذ بياتريز بعيدا من هنا يا دانيال. هي تعلم ما الذي ينبغي فعله. كن بقربها. ولا تسمح لشيء ولا لأحد أن يسلبها منك. واعتن بها أكثر من نفسك» قال لي.
استطاع فوميرو أن يخرج السكين من معصمه وسقط على ركبتيه بذراع تنزف دما على صدره.
«هيا اذهب حالا» همس كاراكس.
كان فوميرو ينظر إلينا بعينين جاحظتين والسكين الدامي في يده اليسرى. اتجه كاراكس نحوه. سمعنا صوت خطوات وتخيلت أن بالاثيوس، وقد سمع إطلاق النار، جاء ليساعد زعيمه. وقبل أن يتمكن كاراكس من نزع السكين من يد فوميرو، دخل الشرطي الثاني حاملا مسدسه.
«إلى الخلف» أمرنا.
ألقى نظرة خاطفة على فوميرو الذي كان يعاود النهوض، ثم نظر إلينا، إليّ أولا ثم إلى كاراكس. كان الرعب والقلق يكدران عليه البصر.
«قلت ارجعا إلى الخلف.» تراجع كاراكس إلى الوراء.
كان بالاثيوس يحدق إلينا ليقيم الوضعيّة. وركز أنظاره نحوي.
«أنت لا شأن لك بالموضوع. اذهب بعيدا. هيا.»
«لن يذهب أحد من هنا» قال فوميرو. «أعطني مسدسك يا بالاثيوس.»
«كلا، ردّ بالاثيوس. امتلأت عينا فوميرو الممسوستان بالاحتقار. انتزع المسدس من يد بالاثيوس ودفعه جانبا. لم يكن لدي أدنى شك بما كان سيحدث. رفع فوميرو السلاح الملطخ بالدم على مهل. وتحرك خوليان ليختبئ تحت الظلام لكن قصبة المسدس كانت تتبع حركاته. شعرت بالغضب يتصاعد وأنا ارى ابتسامة فوميرو الساخرة تتلذذ بالثار الذي طال انتظاره. نظر إليّ بالاثيوس وحرك رأسه متأسفا، بينما وقف خوليان في وسط الصالة ينتظر الرصاصة. لم يكن فوميرو يراني، إذ لم يكن هناك وجود لشيء سوى كاراكس، واليد الدامية التي تحمل المسدس. قفزت عليه بغتة. ولم أعد اذكر إلا قدمي وهما ترتفعان عن الأرض ثم توقف كل شيء في تلك اللحظة. سمعت صوت الطلقة الناعم كهزيم الرعد في البعيد. ولفحني حر فريد كأن هراوة معدنية تنهال علي بغضب وحشي لترميني في الفراغ. لا أذكر دوي الصدمة، إنما الإحساس بانهيار السقف وتداعي الجدران انحنى خوليان علي وجس نبض عنقي بيده. رأيت وجهه الشاب كما كان قبل الحريق. رأيت في عينيه يأسا لم أفهم سببه. وضع يده على صدري فاستغربت من السائل الفاتر الذي يبل أصابعه. حينها فقط شعرت بحرارة كبيرة في بطني، ووددت أن أصرخ لكن صرختي انطفأت في دم متدفق. رأيت الدهشة تكسو وجه بالاثيوس الذي قرفص بجانبي. ثم رأيت بيا تقترب، ووجهها العابس غارق في خضم الذعر، وأناملها ترتجف على شفتيها. وددت أن أناديها لكن البرد طوّقتي وسرق صوتي. كان فوميرو يكيد خلف الباب، وحين نهض كاراكس فجأة والتفتت بيا بفزع، كان يصوّب حقده نحوها. ألقى بالاثيوس بنفسه لإيقافه لكن كاراكس سبقه. سمعت صرخة في البعيد تنادي باسم بيا. ثم انفجر برق الرصاصة في الصالة، وأصابت يد كاراكس اليمنى. وبعد لحظة هبت ريح هوجاء كادت تقتلع القصر من جذوره، وظهر الرجل بلا وجه ليرمي فوميرو على الأرض، وجلست بيا بجانبي لم يمسسها الأذى. بحثت عن كاراكس فلم أجده، استطاع كائن آخر أن يحكم قبضته على فوميرو: لايين كوبرت، الشيطان الذي كنت أخشاه وأنا أقرأ كتابا منذ عدة سنوات. وحينها كانت أظفار كوبرت تغوص في عيني فوميرو كالخطاف. رأيت المحقق يتلوى بينما يجرّه كوبرت بلا رحمة صوب الباب، وركبتاه تضربان بعتبات السلم الرخامي والثلج يجلد وجهه. ثم أمسك برقبته ورفعه كألعوبة وقذفه بعنف إلى النافورة. فانغرست يد الملاك في صدره، وفارقت روحه الآثمة جسده، وتلطخ الصقيع بدمائه الملعونة، بينما أغمض جفنيه إلى الأبد.
وحينما انتهى ذلك المشهد المرعب، فقدت وعيي. شقت الأضواء الظلام، وانحلّ وجه بيا في الضباب. شعرت بحرارة يدها تلامس وجهي وهي ترجو الله، مجهشة بالبكاء، ألاً يقتلني وتقول إنها تحبني ولن تسمح بأن أتركها. لا أذكر سوى أنني انفصلت عن تلك الرؤية المنيرة والباردة. انتابني سلام فريد يمحو كل آلامي، ورأيتني أمشي مع بيا في شوارع برشلونة السحرية يدا بيد وقد نالت الشيخوخة من كلينا. رأيت أبي ونوريا مونفورت يضعان باقة من الأزهار البيضاء على قبري. رأيت فيرمين يبكي بين ذراعي برناردا وصديقي توماس وقد نال منه الخرس لشدة الندم. تتابعت وجوههم أمام عيني كأنهم أغراب أراهم من نافذة قطار مسرع. في تلك اللحظة، رأيت وجه أمي جليا لأول مرة منذ أن نسيته قبل أعوام كثيرة، كأنني أعثر على زهرة بين صفحات كتاب. ورافقني نورها الباهر طوال الطريق.
27 نوفمبر 1955: بعد الموت
كانت الغرفة تطضح بالإنارة ومكسوة بالبياض الناصع كعشّ منسوج من الستائر القطنية في أفق من البخار والشمس الساطعة. والنافذة تطل على بحر كثيف الزرقة. لكنهم أخبروني لاحقا أن مستشفى كوراكان لا يطل على البحر نهائيا، وأن الغرفة لم تكن بيضاء ولا السماء صافية، وأن البحر في ذلك الشهر البارد من نوفمبركان رصاصي اللون وثائر الأمواج، وأن الثلوج تراكمت في ذلك الأسبوع حتى خشي فرمين، وهو المتفائل دوما، أن أموت مرة أخرى.
كنت قد متّ سابقا في سيارة الاسعاف، بين ذراعي بيا والعميل بالاثيوس الذي تلوثت سترته بدمائي. وقال الأطباء، ظنا منهم بأنني لا أستطيع سماعهم، إن الطلقة ثقبت قصبتين من القفص الصدري وهشمتهما، وخرجت بسرعة جنونية آخذة معها كل ما اعترض طريقها. توقف قلبي عن النبض لأربع وستين ثانية. قالوالي إنني فتحت عيني بعد أن عدت من تلك الرحلة القصيرة في العالم الآخر، وابتسمت، ثم فقدت وعيي كليا من جديد. استيقظت بعد ثمانية أيام، فوجدت الصحف قد نشرت نبأ مقتل المحقق في الشرطة، فرانشسكو خافييرفوميرو، إبان نزاع وقع مع عصابة من المنحرفين، وكانت السلطات تمشط الطرقات والازقة كي تلقي القبض عليهم. عثروا على جثته فقط في قصر الدايا القديم، ولم ينتبهوا إلى جثة بينيلوب وابنها أبدا. استيقظت في الفجر. أذكر الضوء المنقوش على الأغطية. توقف الثلج واستبدل أحدهم البحر من خلف النافذة بساحة صغيرة تعج فيها المراجيح. كان أبي جالسا قرب السرير، رفع عينيه ونظر إلي صامتا. ابتسمت في وجهه فانفجر باكيا. هرع فيرمين، بعد أن كان نائما بعمق على أرض الممر مستندا إلى ركبتي بيا التي لحقت به إلى الغرفة. وجدته مصفر الوجه وهزيلا مثل عود الخيزران، وذلك لأن الدم الذي يجري في عروقي كان دمه كما عرفت لاحقا. لقد فقدت دمي كله، وبات فيرمين منذ أيام يتغذى على اللحوم في مقصف المستشفى كي ينتج الكريات الحمر في حال كانوا مضطرين لتبرع ثان. ولعل هذا ما جعلني أشعر بأني كنت أكثر حكمة. لدي ذكرى ضبابية من ذلك النهار. إذ كنت مطوقا بغابة من الأزهار والغرفة تغص بالناس جوستابو برسلوه وقريته كلارا، برناردا وصديقي توماس الذي لم يجرؤ على النظر في عيني. أذكر أيضا الدون فيديريكو الذي جاء مع مرسيديتاس والدون أناكليتو. ولكنني أذكر بيا على وجه الخصوص، فقد كانت ترمقنـي بصمت بينما يتبادل الجميع التهنئة ويشكرون السماء، وأبي الذي لم يراوح الكرسي طوال سبعة أيام بلياليها، يصلي لله الذي لم يكن يؤمن به. عندما أرغم الأطباء الضيوف على الخروج وأجبروني على الراحة، اقترب أبي من السرير ليعطيني دفترا وقلم فيكتور هوغو، في حال رغبت أن أكتب شيئا. وأخبرني فيرمين ببهجة، بعدما استشار الفريق الطبي في المستشفى، بأنني سأعفى من الخدمة العسكرية. قبّلتني بيا على جبيني ورافقت والدي ليستنشق الهواء إذ لم يخرج من الغرفة أسبوعا كاملا. بقيت وحيدا، منهكا، وسرعان ما غلبني النعاس، وأنا أنظر إلى علبة القلم الموضوعة على الدرج. استيقظت على وقع الخطى. بدا لي أنني رأيت والدي عند السرير، أو ربما الدكتور ميندوزا الذي كان يأتي لمعاينتي عشر مرات في اليوم لاقتناعه بأنني معجزة. طاف الزائر حول السرير وجلس على كرسي والدي. كان فمي جافا ولم أتمكن من الكلام. فقرب خوليان كاراكس كأس الماء إلى شفتي ورفع رأسي بينما كنت أشرب. رأيت في عينيه نظرة وداع، لكنني فهمت أنه لم يكتشف حقيقة بينيلوب.لا أذكر كلماته بدقة ولا نبرة صوته، لكنني أذكر أنه شدّ على يدي وطلب مني أن أعيش لأجله. قال لي إننا لن نلتقي بعدها، لكنني لم أنس كلماته. طلبت منه أن يستعيد ذلك القلم، الذي لطالما كان صاحبه، وأن يعاود الكتابة.
وعندما استيقظت، كانت بيا تدلك صدغي بخرقة مرطبة بالعطر. سالتها بفزع عن كاراكس. فنظرت إلي بارتباك، وقالت لي إن كاراكس اختفى منذ ثمانية أيام في الزوبعة، تاركا وراءه خيطا من الدم على كومة الثلج. واعتقد الجميع أنه مات. أخبرتها أنه كان معي هنا منذ قليل. فتنازلت بيا بابتسامة، وأكدت لي الممرضة التي تقيس ضغطي بأنني نمت ست ساعات متتالية بينما بقيت هي جالسة خلف الطاولة قرب باب الغرفة ولم يدخل أحد أبدا.
قيل أن أغفو في ذلك المساء، أدرتُ رأسي على الخدة ورأيت أن العلبة مفتوحة ولا وجود فيها للقلم.
1956: غيث الربيع
تزوجنا أنا وبيا بعد شهرين في كنيسة سانتا آنا. وهذا بعد أن سمح لي السيد آغويلار بيد ابنته، وفضل أن يتجاهلني لآخر يوم في عمره بعد أن استحال عليه تهشيم رأسي. فقد أجبره هروب بيا على اتباع طرق أكثر سلمية، وأذعن لفكرة أن يكون حفيده ابنا لذلك الفاجر الآثم، ذي الوجه المليء بالكدمات، ليخطف المرأة التي بقيت طفلة في عينيه رغم نظارتيه المقعرتين. قبل أسبوع عن الزفاف، جاء السيد آغويلار إلى مكتبتنا وصافحني وأهداني قلادة ذهبية توضع على ربطة العنق ورثها عن أبيه.
«بيا أثمن ما لدي في هذه الحياة» قال. «فاعتن بها.»
رافقه والدي إلى الباب وتبعه بنظراته المتضامنة الحزينة التي تجمع بين المتقدمين سنا. «ليس شخصا شريرا يا دانيال» علق. «للمودة أشكال مختلفة.»
أوصاني الدكتور ميندوزا ألاا أقف على قدمي أكثر من نصف ساعة، وأن تحضيرات الزفاف لم تكن علاجا مناسبا لمريض في حالة نقاهة.
«لا تقلق يا سيدي» طمأنته.
«لا يسمحون لي بفعل شيء.»
وهذه هي الحقيقة. إذ عيّن فيرمين روميرو دي توريس نفسه قائما على شؤون الحفل. وعندما اكتشف راهب الكنيسة أن العروس حامل رفض أن يكمل الاحتفالية نهائيا، متوعدا بلعنة تضاهي إجراءات محاكم التفتيش. فقد فيرمين صبره وجرّه إلى الخارج وهويصرخ على الملأ بأن الراهب لا يستحق رداءه ولا منصبه الديني، وأنه كان سيفضحه عند الهيئة الكنسية حتى يرسلوه إلى جبل طارق كي يبشر القردة بالرسالة بما أنه كان تعيسا إلى ذلك الحدّ. صفق المارّة لمرافعة فيرمين، وأهداه بائع الأزهار في الساحة قرنفلة بيضاء بدت أكثر بهاء في عروة سترته لتطابق لونها مع لون القميص. ونظرا إلى انعدام البدائل، توجه فيرمين إلى مدرسة سان جبريل ليلتمس العون من الأب فرناندوراموس الذي لم يبارك أي حفل زواج في حياته، واقتصر اختصاصه على تعليم اللاتينية وهندسة المثلثات والتمارين الرياضية السويدية.
«يا أبانا لقد نجا العريس لتوّه من موت محقق ويعز علي أن أتركه في هذه الورطة. إنه يراك تجسيدا لكل آباء الكنيسة، كالقديس توماس أو القديس أغسطين أو عذراء فاطمة. والإيمان يطفح من قلبه، مثلي تماما. إنه متصوف. إن لم تساعدنا سيتحول الفرح إلى مأتم.»
«إن كان الأمر كذلك فلا بأس...» وعرفتُ لاحقا ماذا جرى، فأنا لم أنتبه لتفاصيل العرس وعادة ما يهتم المدعوون بها. تنفيذا لاقتراح فيرمين، قام جوستابو وبرناردا قبيل الحفل بجعل الراهب المسكين يتجرع من مشروب الموسكاتيلو كي ينتشي. وخلال المراسم، قام الأب فرناندو بحركة استثنائية ومميزة: إذ حضر بابتسامة هنيئة وخدين مشتعلين، وبدل أن يقرأ رسالة الرسول بولس الأولى، ألقى قصيدة حب لشاعر يدعى بابلو نيرودا وجد فيها الكثير من ضيوف السيد آغويلار إيحاءات شيوعية خطيرة، بينما كان الآخرون يبحثون في الكتيب عن تلك الأشعار الوثنية نادرة الروعة، متسائلين إن كانت دعوة للتسامح الأبدي.
عشية الزواج، أخبرني فيرمين بأنه حضر حفل وداع للعزوبية، لي وله
«ولكن يا فيرمين أنا لا...»
«ثق بي»
تبعته طواعية إلى وكر موبوء في حي ايسكودييرس حيث تختلط روائح البشر المتنوعة برائحة زيت القلي التي تستخدمه أسوأ المطابخ المتوسطية. استقبلتنا بعض الفتيات ذوات الخبرة الضعيفة بابتساماتهن التي يحلم بها طلبة كلية الأسنان.
«جئنا نبحث عن روخيتو» قال فيرمين لقوّادة ذات شعر كثيف.
«لا يا فيرمين» تلعثمت مصعوقا. "حبا بالله..."
«ثق بي.»
ظهرت روخيتو ذات التسعين كيلوغراما بكامل رونقها، تلتف بشال شعبي معقود على لباس أحمر ناري متوهج.
« أهلا يا جميل. لم أكن أتوقع أنك شاب إلى هذه الدرجة، قالت بعد أن تفحصتني.
«ليس هو الزبون» أفصح فيرمين.
فهمت أخيرا، وتنفست الصعداء. لا ينسى فيرمين وعدا أطلقه ابدا، وبالأخص إن كنت أنا المعني بالأمر. ركبنا سيارة أجرة لنذهب إلى مأوى العجزة في سانتا لوسيا، ومنحني فيرمين المقعد الأمامي نظرا إلى حالتي الصحية، والاجتماعية بما أنني مقبل على الزواج. ولم يقم بشيء سوى التغزل بمحاسن روخيتو التي جلست قربه في الخلف.
«أنت قوة الطبيعة والشبق الفتان يا روخيتو. مؤخرتك كانت ستلهم بوتيشيلي. »
«آه يا سيد فيرمين، لقد تناسيتني منذ أن ارتبطت.»
«أنت مرتبطة بالكثير من الرجال ياروخيتو، وأنا سقيم بحبي لامرأة واحدة.))
«سأتكفل أنا بشفائك من هذا السقم، باستخدام البنسلين.»
وصلنا إلى حي مونكادا منتصف الليل، ونحن نطوّق آلهة الحب. أدخلناها إلى المأوى من الباب الخلفي الذي كانوا يخرجون منه الجثث، وينفتح على زقاق كأنه ممر إلى الجحيم. وتحت عتمة "سرداب الظلام" كان فيرمين يزود روخيتو بتعليماته الأخيرة بينما رحت أبحث عن الكهل الذي وعدته برقصة أخيرة مع إيروس قبل أن يقبض ثاناتوس روحه.
«تذكري ياروخيتو أن الكهل شبه أطرش وعليك أن تخاطبيه بصوت مرتفع وتطريبه بكلمات مثيرة. لاشك أنك بارعة بذلك ولكن حذار أن تبالغى وإلا مات قبل أوانه.»
"لا عليك يا عزيزي. أنا محترفة"
وجدت الولهان الذي ينتظر ذلك الحب الطائش في إحدى زوايا الطابق الأول. كانت له ملامح حكيم زاهد يشيّد جدارية الوحدة بينه وبين العالم. نظر إليّ مرتبكا.
"هل أنا ميت؟"
«كلا بل أنت حي ترزق. هل تذكرني؟»
«بالتأكيد، كما أذكر أول حذاء لبسته في طفولتي يا فتى، لكن ثيابك الرديئة أشعرتني بأنك جئتني من العالم الآخر. لا تأخذني إلى هناك. ففي هذا المكان لا يوجد ما تسمونه في الخارج بالقدرة على التمييز. هل أنت متأكد من أنها ليست رؤية؟» «
الرؤية تنتظرك في الأسفل، إن أردت المجيء معي.»
أخذته إلى حجرة نظفها فيرمين وروخيتو ووضعا فيها الشموع ونثرا العطور. عندما رأت عيناه قسمات تلك العذراء الشعبية، أضاء وجهه.
«بارك اللّه فيكما.»
«استمتع» قال فيرمين وهو يشير إلى الحورية لكي تباشر عملها.
أخذت العاهرة الكهل من يده وقبلت الدموع التي انهمرت على خديه. فخرجنا أنا وفيرمين من الحجرة كي ينعم ذلك الثنائي الغريب بالخصوصية المستحقة. وبينما كنا ندور في كهف اليأس ذالك اصطدمنا بالأخت إيميليا، إحدى الراهبات اللاتي يدرن المأوى. نظرت إلينا عابسة. «وصلني أنكما جئتما بامرأة والعياذ بالله تبيع الهوى والآن كل النزلاء يريدون مثلها.»
«ومن تظننينا يا أختاه؟ إنما جئنا هنا بدوافع خيرية. هذا الفتى سيتزوج غدا في سانتا ماريا، فأتيت به ليبُثّ هذا الخبر السعيد للسيّدة خاثينتا كورونادو.»
قوست الأخت إيميليا حاجبها.
«هل أنتما أقرباؤها؟»
«روحيا.»
«خاثينتا وافتها المنية منذ خمسة عشر يوما. وقبلها بيوم جاء رجل لزيارتها. هل هو قريبكما؟»
«تقصدين الأب فرناندو؟»
«لا، ليس راهبا. قال لي إن اسمه خوليان. لا أذكر كنيته.»
"خوليان، إنه صديقي" قلت.
هزت الأخت رأسها.
«بقي بقربها وقتا طويلا. لم أسمعها تضحك هكذا منذ أعوام. وعندما انصرف قالت لي خاثينتا إنهما تحدثا عن الأزمنة القديمة حين كانا شابين. لعله جاءها بخبر عن ابنتها بينيلوب. لم أكن أعلم أن خاثينتا لديها طفلة. أذكر جيدا أنها في ذلك الصباح ابتسمت لي وعندما سألتها عن سبب سعادتها أجابتني أنها ستلتقي بابنتها بينيلوب قريبا. فماتت فجرا وهي نائمة. »
بعد أن انتهى طقس الغرام، وضعت روخيتو الكهل في حضن مورفيوس25. وقاضاها فيرمين ضعف الأجر، لكنها بعد أن تأثرت بمنظر الحطام البشري الذي نسيه اللّه والبشر، قررت أن تتبرع بإكراميتها للأخت إيميليا كي توزع فنجان الشوكولا والبسكويت على كل النزلاء. كانت أميرة العاهرات ترى هذه الوجبة كأفضل مضاد لشقاء الحياة.
"مع تقدّم العمر نصبح عاطفيين يا سيد فيرمين. تصور أن ذلك المسكين أراد بعض العناق واللمسات فقط. فكيف لا تتحرك مشاعري؟»
وضعنا روخيتوفي سيارة أجرة مع بقشيش سخي، ووصلنا إلى شارع برنسيسا الغارق في الضباب والخالي من البشرفي تلك الساعة.
«ربما حان وقت النوم» قال فيرمين.
«لا أعتقد أنني سأتمكن من ذلك.»
تمشينا باتجاه برشلونيتا حتى وصلنا إلى كاسر الأمواج خطوة تلو خطوة. كان الصمت يلف المدينة التي تبرز من مياه المرفأ الراكدة كالمعجزة. جلسنا على رصيف الميناء نتمعن في ذلك المشهد البهي. وعلى بعد عشرين مترا ثمت طابور طويل من السيارات المتوقفة، وزجاجها مغطى بأوراق الجرائد.
«هذه المدينة ساحرة يا دانيال. تسري في عروق دمك، وتستولي على روحك.»
«بت تتكلم مثل روخيتو يا فيرمين.»
«لا تسخر. فأمثالها هم الذين يجعلون هذا العالم المقرف مكانا صالحا للعيش»
« العاهرات؟»
«كلا. كلنا عاهرات نوعا ما. أقصد الأناس الطيبين. لا تنظر إليّ هكذا. ليس ذنبي إن كانت الأعراس تؤجج مشاعري.»
بقينا جالسين هناك ننعم بهدوء فريد وننظر إلى انعكاس وجهينا على سطح الماء. وبعد قليل، صُبغت برشلونة بضوء مزدهر. وفي البعيد، رنت أجراس كنيسة سانتا ماريا دل مار، وتمايل الضباب بين الكنيسة والميناء.
«هل تعتقد أن كاراكس ما زال مختبئا في هذه المدينة؟»
«اسألني عن أي شيء آخر أرجوك.»
«هل اشتريت الخواتم؟»
«فلنذهب يا دانيال. هيا فالحياة في انتظارنا.»
كان يرتدي بزة عاجية اللون، ونظرته تستضيف العالم بأسره. أكاد لا أذكر كلمات الراهب في ذلك الصباح من شهر مارس حيث غصّت الكنيسة بوجوه المدعوين المتأثرين. كل ما أذكره هوشفاه كل واحد منا وهي تطبق على شفاه الآخر، والقسم السري الذي قطعته على نفسي وكنت ملتزما به حتى آخر يوم في حياتي.
1966: المآلات
ينهي خوليان كاراكس روايته «ظل الريح» بخاتمة موجزة تبلغ القارئ بمصير الشخصيات مستقبلاً. قرأت عددا لا حصر له من الكتب بعد تلك الليلة الطويلة في عام 1945، وما تزال رواية كاراكس الأخيرة هي المفضلة لدي. ومن الصعب أن أغيّر رأيي الآن وقد ناهزت الثلاثين عاما. بينما أكتب هذه الأسطر على مصطبة المكتبة، يقف ابني خوليان، الذي سيتم ربيعه العاشر غدا، ليراقبني بابتسامة، وهو مشدوه من كومة الأوراق التي تزداد يوما بعد يوم. ومن يدري، ربما كان مقتنعا بأن أباه مصاب هو أيضا بداء الكتب والكلمات الغامض. ورث خوليان عينيه وذكاءهُ من أمه، ويطيب لي أنني أورثته سذاجتي، ولكن أبي لا يوافقني الرأي. أبي في المنزل، فوقنا، بات يستصعب قراءة العناوين على ظهر الكتب. أتساءل إن كان حضورنا يسعده ويخفف عليه كآبته أم مازال يعيش على ذكرياته برفقة الحزن الذي لا يتركه بسلام. أعمل في المكتبة بمساعدة بيا في هذه الأيام. أنا أهتم بالإدارة، وهي تهتم بالعائدات وتخدم الزبائن الذين يفضلونها علي. أتفهم ذلك.
لقد متّن الزمن عزيمتها وحكمتها. تكاد لا تتحدث عن الماضي أبدا، ولكنني غالبا ما أراها ساكتة ومستغرقة في التفكير، متوحدة مع ذاتها. خوليان متعلق بأمه كثيرا. يكفي أن تنظر إليهما لتفهم أن رباطا خفيا يصل بينهما. ويسعدني أنني أعيش على جزيرتهما، وأعتبر نفسي محظوظا. تعطينا المكتبة كفاف يومنا، ومن جهة أخرى لا أرى نفسي صالحا لمزاولة مهنة أخرى. مبيعاتنا تنخفض سنة تلو أخرى، لكنني أظل متفائلا وأفكر في أنها سترتفع يوما ما. بيا، في المقابل، تعتقد أن القراءة فن في طريقه للاندثار وأن الكتب ليست سوى مرآة نرى فيها ما نمتلكه في دواخلنا، وأن القراءة تحتم علينا إعمال القلب والعقل وهما عملتان نادرتان في أيامنا هذه. لا يمرّ شهر إلا ونتلقى عروضا ممن يرغبون في شراء المكتبة ليفتتحوا في مكانها محلا لبيع التلفزيونات أو الملابس الداخلية النسائية أو الأحذية. ولكننا لن نتخلى عن المكتبة مادمنا على قيد الحياة. تزوج فيرمين ببرناردا عام 1958 وأنجبا حتى الآن أربعة ذكور، ورثوا أذنيّ أبيهم وأنفه الكبير. أنا وفيرمين لم تعد نلتقي كثيرا مثلما كنا من قبل، ولكننا ما نزال نقوم بنزهاتنا الليلية المعتادة بين الحين والاخر حتى كاسر الأمواج ونتخيل أننا نغير العالم. ترك فيرمين عمله في مكتبتنا منذ عدة أعوام، وبعد وفاة إسحاق مونفورت استلم حراسة مقبرة الكتب المنسية. دُفن إسحاق بجانب نوريا في مقبرة مونتويك. أذهب غالبا لزيارتهما. نتحدث. وعلى قبر نوريا أجد أزهار نضرة دوما. صديقي توماس آغويلار انتقل إلى ألمانيا. أصبح مهندسا يعمل في مؤسسة تنتج الآلات الصناعية ويقدّم مبتكراته واختراعاته المذهلة التي عجزت عن فهم آليتها. تزوج منذ عامين وخلف بنتا لم نرها حتى الآن. يراسلنا بين الحين والآخر، مُوجّها الرسائل إلى أخته دوما. لا ينساني من تحياته الطيبة بالطبع لكنني أعلم أن ما حدث منذ عدة سنوات فرق بيننا. ولعل الحياة تقتضي ان يفترق أصدقاء الطفولة دوما دون ان يدركوا السبب. بقي الحي على حاله، بل يبدو لي أن الضوء صار أكثر وضوحا، وأنه يعود إلى برشلونة كي يعفو عنا بعد أن حاولنا طرده منها. الدون آناكليتو ترك التعليم ليكرّس نفسه لكتابة الشعر الإباحي وتحرير أغلفة كتب أثرية.
الدون فيديريكوفلافيا ومرسيديتاس يعيشان معا منذ أن توفيت أم الساعاتي، ويشكلان ثنائيا رائعا مع أن الشائعات تؤكد أن ذنب الكلب أعوج وأن الدون فيديريكو يتنكر أحيانا بزي فرعونة ويختلس من الليل فرصة لمغامرة ما.
الدون جوستابو برسلوه أغلق مكتبته وترك لنا مستودعه. قال إنه لم يعد يقوى على العمل فيها وإنه يرغب في مواجهة تحديات جديدة. وكان التحدي الأول والأخير إنشاء دار نشر أعادت طباعة أعمال خوليان كاراكس في كتاب يحتوي على رواياته الثلاث (بعد أن حصل على مسوداتها من المخزن الذي تؤوي فيه عائلة كابيستاني أثاثها القديم). وباع الكتاب ثلاثمائة واثنتين وأربعين نسخة، وكان ثاني أكثر الكتب مبيعا بعد أنطولوجيا القديسين المصوّرة للكاتب كوردوبيس. والآن يطوف الدون جوستابو القارة الأوروبية برفقة سيدات طاعنات في السن من الطبقة الراقية، ويرسل لنا بطاقات من كاتدرائيات المدن التي يزورها.
قريبته كلارا تزوجت من المصرفي المليونير لكن زواجهما استمر عاما واحدا فقط. ومازال طابور عشاقها طويلا رغم أنه يتقلص تدريجيا، وجمالها ينضب شيئا فشيئا. حاليا تعيش وحيدة في الشقة نفسها ونادرا ما تخرج. ذهبتُ لزيارتها بعض المرات، بإلحاح من بيا
التي تذكرني بأنها تحيا -في فراغ مأسوي. ولاحظت مرارة عميقة تُضني روحها على الرغم من أنها تتقنع بالمرح وعدم الاكتراث. ربما ما تزال تنتظر أن يأتيها فتى مثل دانيال ذي الخمسة عشر عاما لعبادتها تحت الظل. صار حضور بيا، أو أي امرأة أخرى، يزعجها. في آخر زيارة رأيتها تتلمس وجهها برؤوس أصابعها بحثا عن تجاعيد جديدة. وعرفتُ أنها من حين لآخر تستقبل أستاذ الموسيقى القديم، أدريان نيري، الذي ما تزال سيمفونيته قيد الإنجاز. ويقال إنه حقق نجاحا كزير للنساء اللاتي يترددن إلى مسرح الأوبرا حيث حصل بفضل بهلوانياتة الغرامية على لقب «الناي السحري».
لم يكن الوقت كريما مع ذكرى المحقق فوميرو. ولا يبدو أنه خلُد في ضمير من يكرهه أو من يخشاه على حدّ سواء. ذات يوم، صادفت العميل بالاثيوس في بازيودي غراثيا، بعد عام من آخر لقاء جمعني به، وكان قد استقال من الشرطة وبدأ يعلّم الرياضة البدنية في مدرسة بونانوفا. قال لي إنهم علقوا شهادة فخرية على شرف المحقق في الطابق السفلي من مخفر حي لايتانا، وسرعان ما غطاها موزع المرطبات الالي. أما قصر آلدايا، فقد خذل جميع التوقعات، وبقي واقفا على قدميه. استطاعت مؤسسة السيد آغويلار أن تبيعه في النهاية. وتم ترميمه كليا فيما سوّيت تماثيل الملائكة بالحصى لفتح الطريق على المرآب الذي حل مكان الحديقة. وأصبح الآن مقرا لوكالة إعلانات تروّج لمحلاًت بيع الثياب، ومساحيق الحلوى الجاهزة، وسيارات رياضية للمسؤولين من المستوى الرفيع. أعترف أنني تذرعت بحجّة ما وطرقت الباب ذات يوم وطلبت أن أزور المبنى. تحوّلت صالة المكتبة القديمة، حيث خاطرت بحياتي، إلى قاعة اجتماعات بجدران مليئة بإعلانات تجارية عن البخاخات المضادة للتعرّق والمنظفات العجيبة. أما الغرفة الصغيرة التي شهدت على تكوين خوليان في رحم بيا، فقد صارت حمّام المدير العام.
في ذلك اليوم نفسه، وصلني إلى المكتبة طرد مختوم من باريس. كان يحتوي على رواية بعنوان « ملاك الضباب» والمؤلف يدعى بوري لوران. تصفحات الكتاب بسرعة، مستمتعا باستنشاق عبير الكتب حديثة الطباعة، واستوقفتني إحدى الجَمل بالصدفة. وسرعان ما عرفت من ألف تلك الرواية، ولم أفاجأ حين عدت إلى الصفحة الأولى وقرأت الإهداء المكتوب بقلم حبر سائل لطالما عشقته في طفولتي:
إلى صديقي دانيال الذي أعاد لي الصوت والقلم.
وإلى بياتريز التي أعادت الحياة إلى كلينا.
شابٌّ متقدّم في العمر، شعره قليل الشيب، يمشي في شوارع برشلونة التي تدلهم فوقها سماوات من رماد وتنصبّ الشمس من بين الضباب مثل إكليل نحاسي سائل على حي رامبلا دي سانتا مونيكا.
يمسك بيد طفل ذي عشرة أعوام عيناه تلمعان باهتياج غامض إثر الوعد الذي تلقاه من أبيه عند الفجر، وعد بزيارة «مقبرة الكتب المنسية».
وإياك أن تخبر أحداً بماستراه اليوم يا خوليان، أبدا.
«ألا أخبر أمي أيضا؟» يسأله الطفل هامسا.
يتنهد الوالد، ويرتدي قناع الابتسامة الأليمة التي تتبعه كظله في الحياة.
«بالتأكيد» يجيبه. «ليس لدينا أسرار نخفيها عر أمك. بوسعك أن تخبرها بكل شيء.»
وبعد قليل، يتلاشى طيفهما، ويغيب الأب وابنه في زحام لاس رامبلاس، بينما تذوب أصداء خطواتهما إلى الأبد في ظل الريح.
كلمة المترجم
في نهاية هذه الرواية، يتنفس الصّعداء كلّ من القارئ والمترجم على وجه سواء. فلقد كان العمل على نقلها إلى العربية لا يقل صعوبة عن فك ألغازها وبذل التركيز المكثف في قراءتها. لكن المكافأة الثمينة تكمن في المتعة التي يمنحنا إياها الكتاب، إضافة إلى معارف متعددة يستحيل حصرها هنا.
ترجمتُ هذا العمل متنقلا بين مدن أوروبية مختلفة لأسباب قاهرة، وواظبن على العمل دون انقطاع. واستخدمت نظرية "الترجمات المقارنة" حيث اعتمدتُ على النص الإسباني الأصلي اعتمادا كليّاً، كما استندتث إلى الترجمة الإيطالية بنسبة كبرى ولجأتتُ مرارا إلى الترجمة الفرنسية واطلعتُ جيدا على الترجمة الإنكليزية. وكان انشغالي كبيرا في الإلمام بهذا النص السردي المتشابك ونقله إلى القارئ العربي بأفضل ما يمكن. فوضعت الملاحظات اللازمة لإضاءة بعض الجوانب دون تشتيت القارئ أو حرمانه من متعة التشويق والغموض اللذين برع فيهما زافون خلال حبكه لقصة هذه الرواية. وهذا ما جعلني أعود إلى مراجع نقدية متعدّدة كي أحافظ على نكهة التعبير، وإلى أخرى في تاريخ الثقافة الإسبانية. فضلا على الإفادة من أبحاثي في دراسة الترجمة الأدبية والثقافة الأدبية الأوروبية بما أن الرواية تحمل أبعادا أوروبية في المجال الأدبي والسياسي والاجتماعي.
ولابد لي أن أشكر الأصدقاء الذين تحمّلوني أثناء عملي على هذه الترجمة. وأشكر الأستاذ أحمد مجدي همّام على تقديمه الموفق، والشاعر شوقي العنيزي الذي اختار الرواية ودقق نصها العربي وتكفل بإصدارها في دار مسكلياني للنشر والتوزيع.
معاوية عبد المجيد
نبذة عن المترجم
معاوية عبد المجيد: مترجم سوري من مواليد دمشق عام 1985. درس الأدب الإيطالي في جامعة سيينا الإيطالية. علّم اللغة الإيطالية في كلية الآداب في جامعة دمشق. حصل على درجة الماجستير في الثقافة الأدبية الأوروبية عن قسم الترجمة الأدبية من جامعة بولونيا الإيطالية وجامعة مولوز الفرنسية. نشر عدة مقالات عن الشعر الإيطالي في عدد من المجلات. ترجم إلى العربية:
ضمير السيد زينو، إيتالوسفيفو. دار أثر، السعودية 2013
تريستانو يحتضر، أنطونيو تابوكي. دار أثر، السعودية 2013.
بيريرا يدعي، أنطونيو تابوكي. دار أثر، السعودية.2014
اليوم ما قبل السعادة، إري دي لوكا. دار أثر، السعودية 2014.
آخذك وأحملك بعيدا، نيكولوأمانيتي. دارمسكيلياني للنشر، تونس-بيروت 2016.
ظل الريح، كارلوس زافون. دار مسكيلياني للنشر، تونس-بيروت 2016.
1 قام زافون بتنزيل هذه المقطوعات الموسيقية التي ألفها على موقعه، ويمكن لمن يرغب أن يعود إليها زيارة الموقع على الرابط التالي: http://www.carlosruizzafon.co.uk/the...w-of-the-wind/
2 الأناركيون Anarchism: حركة سياسية فلسفية تدعو إلى إحلال الفوضى كأداة حتمية لتنظيم
المجتمع مرة أخرى. فضلنا تسميتها حرفيا كي لا تخلط بصفة والفوضوية. (المترجم)
3 روكفورت Roquefort: نوع من الجين الفرنسي المعفن يشتهر به المطبخ الفرنسي. ولذا فإن إطلاق صفة «روكفورت» على السيد، له دلالة ساخرة على رائحته الكريهة. (المترجم)
4 «فوينتيه أوبيخونا FuenteOvejuna: مسرحية تاريخية شهيرة في الأدب الإسباني تتكون من
ثلاثة فصول وصدرت عام 1619. وتدور أحداثها 2 بلدة فوينتيه أوبيخونا قرب مدينة قرطبة. (المترجم)
5 مانويل آزانيا (1880-1940) a DiazقManuel Aza: رجل سياسي إسباني شهير، تسلم السلطة في البلاد مرارا وكان يعرف بخطابته البليغة. (المترجم)
6 خارون Charon: شخصية خيالية من الأسطورة الإغريقية، يستقبل الموتى الواصلين إلى باب جهنم ويعبر بهم في قارب إلى العذاب الأبدي. وتم ذكره في الأسطورة الرومانية وجحيم دانتي حتى شاع في عموم آداب القارة الأوروبية. (المترجم)
7 المينوتور MinotaurOS مخلوق مرعبة الميثولوجيا الإغريقية، نصفه ثور ونصفه إنسان. يعيش في متاهة بالغة التعقيد، ويرهاب البشر، إلى أن يتمكن ثيسيوس من دحره والخروج من المتاهة باستخدام كرة من الخيطان مسترشدا بها على طريق العودة. (المترجم)
8 Falange Espano;a حزب الكتائب النقابية ذو النزعة الفاشية، تشكل عام 1933 وكان له دور حاسم في الحرب الأهلية (1936-1939). ثم بات الحزب الأوحد في إسبانيا بزعامة الجنرال فرانكو الذي حكم البلاد بقبضة حديدية حتى وفاته عام 1975. (المترجم)
9 الزارزيولا Zarzuela من فنون المسرح الغنائي الفلكلوري في إسبانيا. (المترجم)
10 باندورا، هي المرأة الأولى التي خلقها زيوس ليعاقب البشرية حسب الميثولوجيا الإغريقية. وصندوق باندورا، وفقا للأسطورة، يحتوي على كل شرور الكون. (المترجم)
11 في المعتقدات المسيحية، وفقا لإنجيل متى، يصل ثلاثة من كهنة المجوس (أو حكماء الشرق) إلى القدس كي يؤمنوا بيسوع المسيح إبان ميلاده المعظم. (المترجم)
12 يستخدم هذا اللقب للدلالة على أتباع المدرسة الجمالية الإسبانية التي أسّس لها الشاعر لويس
دي غونفورا (1561-1627) وتقوم على المغالاة في التأنق اللفظي والغزارة في استخدام التعابير الأسطورية. (المترجم)
13 مانوليتي (1917–1947) ManOlete: مصارع إسباني شهير يعدّ الأفضل على مرّ الزمان، وقد اشتهر بحركاته الأنيقة وتميّزه بالوثب في مواجهة الثور وطعنه. (المترجم)
14 عذراء فاطمة Nossa Senhora de Fatima: يحكى أن مريم العذراء تجلت في سحابة تهبط من السماء على مراعي بلدة «فاطمة» البرتغالية، عام 1917، وقد اعتمدت الكنيسة الكاثوليكية رسميا هذه الرؤية فيما بعد. ونود الإشارة إلى أنه ليست هناك علاقة بينها وبين فاطمة الزهراء بنت الرسول الكريم. (المترجم)
15 دولوريس إيبارزوري (1895-1989) rruriةDolores Tb. ناشطة سياسية مناوئة للفاشية، ومن أشهر المناضلات في الحزب الشيوعي الإسباني على الإطلاق. (المترجم)
16 إشارة ساخرة من الروائي إلى أن الكنية «فورتوني" تكاد تطابق صفة Afortunado التي تعني « محظوظ" باللغة الإسيانية. (المترجم)
17 الأمازونيات هن النساء المقاتلات في الميثولوجيا الإغريقية، اللواتي يمتطين الحصان ويشاركن في الحروب. فسمّيت تلك الطريقة الجنسية باسمهن. وحين اكتشف الإسبان أمريكا اللاتينية صادفوا نساء محاربات يقاتلن بجانب الرجال ذودا عن القبيلة التي تعيش قرب نهر عظيم. فأطلق الإسبان على النهر "الأمازون» نسبة إلى الأسطورة القديمة. (المترجم)
18 نسبة إلى دانتي أليجييري، الشاعر الإيطالي العظيم صاحب الكوميديا الإلهية، والذي بات أسلوبه مرجعا ومضربا للمثل عن البلاغة والتشويق في جميع الآداب الأوروبية. (المترجم)
19 المخنقة Garrote Vil: كرسي مخصص لتنفيذ الإعدام في إسبانيا، يقيّد عليه المذنب ويوضع على عنقه طوق حديدي قابل للضغط تدريجيا حتى تصعد الروح خنقا. يذكر أن المخنقة ألغيت بموجب الدستورعام 1975 بعد نهاية حكم الديكتاتور فرانكو، الذي طبقها مرارا ضدّ معارضيه، وتم إلغاء عقوبة الإعدام كليا. (المترجم)
20 خرافة كانت شائعة في أزجاء أوروبا تقوم على استحضار الشيطان بتلاوة الصلاة الربية «أبانا الذي -ة السماوات...» بالمقلوب وأمام المرآة غرفة مظلمة وبيدك شمعة مشتعلة. (المترجم)
21 في اللغة الإسبانية، يكاد اسم أبقراط (Hipécrates) يعادل صوتيا صفة (Hipécrita) والتي تعني «المنافق». وهذا تلاعب لغوي هدفه سخرية فيرمين من الأطباء. (المترجم)
22 "ضاحية تونس» المحاذية لقلعة مونتويك التي يوجد أسفلها السجن وعلى أطرافها المقبرة. (المترجم).
23 تنريف Tenerife: إحدى جزر الكناري الخالدة، وهي خاضعة للتاج الملكي الإسباني، وتقع -2 المحيط الأطلسي قرب الشواطئ المفربية. (المترجم)
24 برشلونيتا Barceloneta: إحدى ضواحي مدينة برشلونة، وتقع على الشاطئ البحري تماما. (المترجم)
25 في الميثولوجيا الإغريقية، كان مورفيوس يدعى بإله النوم والأحلام. إشارة إلى النوم العميق، يستخدمها جميع الأوروبيين في آدابهم. (المترجم).
---------------