الكتاب: شرح زاد المستقنع
المؤلف: أحمد بن محمد بن حسن بن إبراهيم الخليل
عدد الأجزاء: 6
[الكتاب مرقم آليا]
= القول الثاني: أن نصاب الذهب معتبر بالفضة. ففي الحقيقة نصاب الذهب هو ما يبلغ قيمته مائتي درهم سواء كان أقل أو أكثر من عشرين ديناراً.
واستدل هؤلاء:
- بأن الله ورسوله أوجبا في الذهب ومع ذلك لم يأت عنهم ما يدل على النصاب فدل على أنهم أرادوا ربطها بالفضة وأنه يعتبر نصاب الذهب بنصاب الفضة.
وإلى هذا القول - الثاني - ذهب عدد من السلف.
وأنا أرى أنه هو القول الراجح وأن نصاب الذهب يعتبر بالفضة وأنه لهذا المعنى لم يأت في السنة ما يدل على نصاب الذهب ليرتبط بالفضة.
أضف إلى هذا أن ربط الذهب بالفضة في الغالب هو من صالح الفقير.
فإذا تقرر هذا تبين أن الأصل في اعتبار القيمة في باب الزكاة هو الفضة لا الذهب. هذا إذا رجحنا القول الثاني فدل هذا على أن الأصل أن نعتبر القيمة في الفضة لا بالذهب.
فإذا بلغت قيمة الريالات بالفضة زكاة ولم تبلغه بالذهب فهل فيها زكاة أو ليس فيها زكاة؟
الجواب: فيها زكاة. لأن المعتبر هو الفضة.
هذا إذا رجحنا القول الثاني وهو قول وجيه جداً كما ترى.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وفي الفضة: إذا بلغت مائتي درهم، ربع العشر منهما.
نصاب الفضة دل عليه النص والإجماع.
فقد أجمع العلماء على أن نصابه مائتي درهم.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة).
والأوقية الواحد أربعين درهماً. فالمجموع: مائتي درهم.
وهي تساوي في موازيننا المعاصرة: خمسمائة وخمس وتسعين جراماً.
وأما الذهب - ولم نذكره في محله - يساوي خمس وثمانون جراماً.
فمن ملك خمس وثمانين جرام وجبت عليه الزكاة.
ومن ملك من الريالات ما قيمته خمس وثمانون جراماً وجبت عليه الزكاة.
ومن ملك من الريالات ما قيمته خمسمائة وخمس وتسعين جراماً وجبت عليه الزكاة.
وهذا كما هو معلوم يختلف باختلاف سعر الجرام.
فإذا أراد الإنسان أن يعرف هل ملك نصاباً من الريالات أو من العملة أي نوع من أنواع العملة المعاصرة فعليه أن يسأل عن سعر الجرام ثم يضرب السعر بالذهب بخمس وثمانين وبالفضة بخمسمائة وخمس وتسعين.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب.
يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب في كل منهما.
(2/390)
________________________________________
فإذا كان عنده نصف نصاب من الفضة وعنده من الذهب ما قيمته مائة درهم صار مجموع ما عنده مائتي درهم وهو نصاب الفضة.
إذاً يضم نصاب الذهب إلى الفضة في التكميل - يكمل الذهب من الفضة والفضة من الذهب.
الدليل:
- أولاً: قالوا: الدليل على ذلك: أن المقصود من الذهب والفضة واحد وجهة الانتفاع منهما واحدة لأن كلا منهما يعتبر ثمناً للأشياء.
- ثانياً: أن الذهب والفضة كل منهما يقيم ويضم في عروض التجارة. يعني: الذهب يضم إلى عروض التجارة والفضة تضم إلى عروض التجارة فدل على أنهما واحد.
= القول الثاني: أن لكل منهما نصاباً مستقل فلا يضم نصاب الذهب إلى الفضة ولا نصاب الفضة إلى الذهب.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة). قالحديث نص على أن الإنسان إذا ملك من الفضة دون خمس أواق أو دون مائتي درهم فإنه لا يجب عليه أن يزكي ولم يشر الحديث لا من قريب ولا من بعيد إلى التكميل بالذهب بالنسبة للفضة.
وهذا القول هو الصواب إن شاء الله.
والسبب في ترجيحه أن مال المسلم الأصل فيه العصمة في الحقيقة فما دام لا يوجد دليل صحيح في الضم نبقى على الأصل وهو عدم الوجوب.
وإن كان ما ذهب إليه الجنابلة وجيه جداً في الحقيقة لأن الذهب والفضة وعروض التجارة سيأتينا أنها شيء واحد لكن الذي سبب ترجيح القول الثاني هو عصمة مال المسلم وأن الأصل عدم الوجوب وبراءة الذمة.
ـ مسألة: هل المعتبر بالفضة الوزن أو العدد؟
اختلف الفقهاء:
= فذهب الجماهير والجم الغفير إلى أن المعتبر الوزن لا العدد.
فإذا ملك الإنسان أقل من مائتي رهم لكن وزنها خمس أواق فتجب عليه الزكاة.
واستدلوا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيما دون خمس أواق صدقة.
= القول الثاني: أن المعتبر في الدراهم في تافضة العدد لا الوزن.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا بلغ مائتي درهم وجبت فيه الزكاة فنص على العدد.
والحديثان صحيحان.
وإلى هذا القول - الثاني - ذهب شيخ الاسلام ابن تيمية.
واستدل على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب في مائتي درهم زكاة مع العلم أن الدراهم في وقته تختلف أوزانها فدل على أن المعتبر العدد لا الوزن.
(2/391)
________________________________________
والأقرب: أنه ينظر في ذلك إلى مصلحة الفقير فإذا وجبت الزكاة باعتبار الوزن أو باعتبار العدد وجبت الزكاة.
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب الزكاة باعتبار الوزن تارة وباعتبار العدد تارةة فمتى وجبت الزكاة بأي منهما وجبت الزكاة.
فإذا ملك مائتي درهم تساوي أربعة أواق:
= فعند الجمهور: لا تجب.
= وعلى القول الثاني: تجب.
وإذا ملك الإنسان مائة درهم وزنها خمس أواق:
= فعند الجمهور: تجب.
= وعلى القول الثاني: لا تجب.
= وعلى القول الثالث: في المسألتين: تجب.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتضم قيمة العروض إلى كل منهما.
يعني: يكمل النصاب في قيمة عروض التجارة من:
- الذهب.
- ويكمل أيضاً من الفضة.
- ويكمل من الذهب والفضة.
الأول والثاني واضح.
وأما الثالث فمثاله: لو ملك عروض تجارة قيمتها خمسين درهماً وعنده خمسين درهم وعنده ذهب بقيمة مائة درهم.
فكم قيمة المجموع؟
مائتي درهم. وهو النصاب.
فالآن أكملنا العروض بالذهب والفضة.
وإلى هذا ذهب العلماء كلهم وهي محل إجماع.
والدليل على هذا:
- أن عروض التجارة تقوم بالذهب تارة وبالفضة تارة. فدل على أنه يكمل منهما النصاب جميعاً.
وهذا واضح جدا لأن عروض التجارة أحياناً نعتبرها بالفضة وأحياناً نعتبرها بالذهب.
بناء على هذا: نكمل النصاب من الذهب ومن الفضة. وهذه ليست محل خلاف.
وقبل الدخول في مسألة ما يباح للذكر وما لا يباح:
- ذكرنا أنه الأقرب أنه لا يكمل نصاب الذهب من الفضة ولا نصاب الفضة من الذهب:
ـ مسألة: تضاف إلى هذا: مع ذلك الصواب أنه يجوز أن يخرج زكاة الذهب من الفضة وزكاة الفضة من الذهب خلافاً للحنابلة.
الدليل:
- لأن الغرض يحصل بإخراج الزكاة من أي منهما. وإذا حصل مقصود وغرض الشارع فأي مانع من أن نخرج الزكاة من الذهب عن الفضة أو العكس.
بشرط أن لا يضر ذلك بالفقراء.
(((الأذان))).
انتهى الدرس
(2/392)
________________________________________
توقفنا بالأمس عند الكلام عن حكم الفضة عند قوله - رحمه الله -: ويباح للذكر.
• فقال المؤلف - رحمه الله -:
ويباح للذكر من الفضة: الخاتم وقبيعة السيف وحلية المنطقة ونحوه.
ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - عندما قال: (ويباح للذكر). أن الأصل في الفضة التحريم. إلا ما دل الدليل على جوازه مما سيذكره المؤلف - رحمه الله -.
= وإلى هذا ذهب الجمهور.
= والقول الثاني: أن الأصل في الفضة الإباحة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الاسلام - رحمه الله - وعدد من المحققين.
لدليلين:
- الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أما الفضة فالعبوا بها لعباً).
- الثاني: عدم وجود دليل صريح صحيح يدل على تحريم الفضة مطلقاً.
وهذا القول أقرب للدليل.
• قال - رحمه الله -:
ويباح للذكر من الفضة: الخاتم وقبيعة السيف
عرفت أن هذا التفصيل إنما هو على القول بالمنع المطلف للفضة.
فإذا قلنا: تمنع مطلقاً فيجوز منها:
ــ الخاتم: فيجوز للإنسان أن يتخذ خاتماً من فضة.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه في الصحيحين أنه اتخذ خاتماً من وَرِقٍ.
فدل هذا على جواز أن يتخذ الذكر المسلم خاتماً من وَرِقٍ.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اتخذه تارة باليمين وتارة بالشمال ولم يخص إحدى اليدين بوضع الخاتم فيها.
وهذا يدل على أن ما يلبس في اليدين مما هو من جنس الخاتم ليس هناك سنة فيه: أن يكون في اليمين أو أن يكون في الشمال لأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جعله تارة في اليمين وتارة في الشمال.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وقبيعة سيف.
قبيعة السيف هي: ما يجعل على طرف المقبض من السيف. فهذا يجوز أن يكون من الفضة.
بعبارة أخرى: يجوز أن نحلي السيف بالفضة.
الدليل من وجهين:
- الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ سيفاً وفي طرف قبضته فضة. وهذا الحديث حكم الأئمة بالإرسال وله شواهد.
- الثاني: أن الزبير بن العوام وعروة - رضي الله عنهما - اتخذوا سيوفاً محلاة بالفضة.
فدل هذا على الجواز.
• ثم قال - رحمه الله -:
وحلية المنطقة.
المنطقة هي: ما يشدها الرجل على وسطه ليضع فيها ما يشاء من أشيائه.
فهذه المنطقة يجوز أن نحليها بالفضة.
والدليل على هذا:
- ما اشتهر بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم فعلوا ذلك. يعني: حلوا المناطق التي يشدونها بأوساطهم بالفضة فدل هذا على الجواز.
(2/393)
________________________________________
• ثم قال - رحمه الله -:
ونحوه.
المقصود بنحوه: في هذا السياق يعني: آلات الحرب والملبوسات.
فيجوز في هذين الأمرين أن نحليها باليسير من الفضة كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه.
وقد سمعت الخلاف في الأصل من حيث حكم الفضة.
ولما انتهى المؤلف - رحمه الله - من الفضة انتقل إلى الذهب.
•
قال - رحمه الله -:
ومن الذهب: قبيعة السيف.
= يعني: أنه يجوز أن نحلي قبيعة السيف أو أن تكون قبيعة السيف من الذهب.
وقوله قبيعة السيف: يعني فقط دون غيره من آلات الحرب.
- لأنه جاة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم اتخذوا السيوف المحلاة بالذهب. يعني: التي كانت يوضع في طرفها شيء من الذهب.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن نحلي كل آلات الحرب السيف وغيره وأن الحكم لا يختص بالسيف.
- إذ لا يوجد معنى يخصص الحكم بالسيف.
= والقول الثالث: أنه يجوز اليسير من الذهب في آلات الحرب وفي الملبوسات جميعاً. بشرط أن يكون يسيراً.
والدليل على ذلك:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس قباءً أزراره من ذهب. وهذا الحديث ثابت في صحيح البخاري.
فدل هذا على جواز لبس اليسير من الذهب سواء كان في آلات الحرب من السيف والرمح والسهم وغيرها أو في الملبوسات بشرط أن يكون يسيراً كما جاء في هذا الحديث الأزرار ونحوها.
وهذا القول الأخير: اختيار شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -.
والأقرب أن يسير الذهب جائز فإن فيه نص في البخاري.
• ثم قال - رحمه الله -:
وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه.
- لأن عرفجة بن أسعد - رضي الله عنه - قطع أنفه في الجهاد فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن ثم اتخذ أنفاً من ذهب.
فدل على أنه يجوز أن نضع من الذهب ما دعت ليه الحاجة.
ويدل على ذلك أيضاً:
- النصوص العامة الدالة على رفع الحرج.
- وأن الضروران تبيح المحرمات.
ويدل عليه أيضاً:
- ما اشتهر عن عدد كبير من السلف - رضي الله عنهم - أنهم شدوا أسنانهم بالذهب.
فإذاً: مجموع هذه النصوص يدل دلالة أشبه ما تكون بالقطعية على جواز استخدام الذهب للضرورة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويباح للنساء من الذهب والفضة: ما جرت عادتهن بلبسه ولو كثر.
يجوز للنساء أن تتحلى بالذهب.
(2/394)
________________________________________
وهذا أمر مجمع عليه. ودلت عليه النصوص.
فمن ذلك:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب يوم العيد ثم انتقل إلى النساء وأمرهن بالصدقة صرن يتصدقن بحليهن والنبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ذلك بقبول.
فدل على أن اتخاذ المرأة للحلي جائز.
- الدليل الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الذهب والحرير. أحل لإناث أمتي وحرم على ذكورها.
- والإجماع: فقد أجمعوا على جواز لبس الذهب بالنسبة للنساء.
ولو كان كثيراً: - لأن النصوص عامة.
ويستثنى من هذا إذا كانت الكثرة تدخل في حد الإسراف. فإنه حينئذٍ يعتبر محرم.
مسألة / دَلَّ عموم كلام المؤلف - رحمه الله - أن الذهب يجوز بجميع أنواعه سواء كان محلق أو غير محلق.
وهذه المسألة في الحقيقة أشبه ما تكون متفق عليها بين أهل العلم أن الذهب المحلق يجوز ولك تزل نساء الصحابة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسن الذهب المحلق وأكثر ما يتخذ الذهب إنما يتخذ محلقاً ووجد الخلاف عند بعض المعاصرين المتأخرين فذهب إلى المنع من الذهب المحلق متمسكاً بظواهر بعض النصوص والصواب الذي لا إشكال فيه إن شاء الله وعليه عامة السلف ولا أذكر الآن خلاف أصلاً بين السلف أن الذهب بجميع أنواعه جائز سواء كان محلق أو غير محلق.
وربما يوجد عن واحد أو اثنين - أنا لا أذكر الآن لكن أقول ربكا نقل عن رجل أو اثنين من السلف: المنع من المحلق.
لكن هذا القول أصبح كالمهجور واستقر أهل الرأي وأهل الفتوى من علماء المسلمين وأقصد بذلك المتقدمين بالقرون الأولى والثانية والثالثة والرابعة أن المحلق جائز ولا إشكال فيه.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ولا زكاة في حليهما المعد للإستعمال أو العارية.
أفادنا المؤلف - رحمه الله - أنه لا زكاة في الحلي المعد للاستعمال أو العارية: يعني الذي يعار ويقاس عليه كل ذهب مباح. كل ذهب أبيح اتخاذه واستعماله.
وهذه المسألة مسألة كبيرة وهي هل في الذهب - الحلي المعد للاستعمال زكاة أو لا؟
فيه خلاف كبير: على أقوال:
- القول الأول: الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وجماهير الصحابة وعلمة العلماء أنه ليس في الذهب إذا اتخذ حلياً زكاة.
(2/395)
________________________________________
واستدل هؤلاء بأدلة:
- الدليل الأول: صح عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت لا تخرج الزكاة عن الذهب إذا اتخذ حلياً.
- الدليل الثاني: صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه لا يرى في الذهب الذي اتخذ حلياً زكاة.
- الدليل الثالث: أن الذهب إذا اتخذ على هيئة الحلي أن هذا الذهب يشبه أدوات القنية أكثر منه الأموال النامية فهو يشبه الملبوس والمركوب والسكن وآلات القنية أكثر منه شبهاً بالأموال الزكوية الأخرى باعتبار أن المناط المشترك أو القاسم المشترك بين الأموال الزكوية قبولها للنماء وهذا الذهب غير قابل للنماء باعتبار أنه يعد للاستعمال.
فهذه ثلاثة أدلة تدل على عدم وجوب الزكاة في الحلي وسيأتي إتمام لهذه الأدلة وتأكيد عندما نذكر الراجح.
= القول الثاني وهو مذهب الأحناف ومال إليه ونصره بقوة ابن حزم وكثير من المتأخرين. أن الزكاة تجب في الحلي المعد للاستعمال.
واستدل هؤلاء بنوعين من الأدلة:
1 - أدلة عامة.
2 - وأدلة خاصة.
ــ النوع الأول: الأدلة العامة. استدلوا:
- بقوله تعالى { ... والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة/34]. ولاشك أن الحلي ذهب أو فضة.
والجواب على هذا الدليل: أن الكنز في لغى العرب واستعمال الشارع لا يطلق إلا على الدراهم والدنانير دون الحلي فإن الحلي لا يسمى في اللغة ولا في العرف: كنزاً.
ويدل على هذا المعنى أنه سبحانه وتعالى قال: { ... ولا ينفقونها .. } والتي تنفق هي الدراهم والدنانير لا الحلي المعد للإستعمال فإن الحلي المعد للإستعمال لا ينفق وإنما يبقى للإستعمال.
فهذا الدليل الأول وجوابه.
- الدليل الثاني: استدلوا أيضاً بالعمومات من السنة: ــ كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وفي الرقة ربع العشر).
ــ وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها ... ) الحديث.
والجواب عليه: أن الرقة والفضة تطلق في العرف والاستعمال على المضروب دون الحلي.
(2/396)
________________________________________
فما أجبنا به عن الآية هو الجواب عن نصوص السنة العامة وهو أنه يقصد بالذهب والفضة في هذه النصوص الدراهم والدنانير التي تتخذ للإنفاق والتنمية دون الحلي فإنها لا تدخل في منطوق هذه النصوص.
ــ النوع الثاني: الأدلة الخاصة. واستدلوا بعدة أدلة:
- الدليل الأول: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يدها مسكتان من ذهب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أتؤدين زكاة هذين). قالت: لا. قال: (أيسرك أن يطوقك الله بهما طوقين من نار يوم القيامة).
- الدليل الثاني: حديث عائشة - رضي الله عنها - نحو حديث عمرو بن شعيب تماماً.
- الدليل الثالث: حديث أم سلمة - رضي الله عنها - وهو أيضاً نحو حديث عائشة وعمرو بن شعيب.
فإن ألفاظ هذه الأحاديث الثلاثة متقاربة.
وهذه الأحاديث الثلاثة: عمرو وعائشة وأم سلمة هي أقوى الأدلة في الباب. يوجد أدلة أخرى لكن لا نشتغل بها لضعف أسانيدها.
نبقى في هذه الأدلة التي تنص على وجوب الزكاة في الحلي.
أجاب الجمهور عن هذه الأدلة بجوابين:
ــ الجواب الأول: أن المقصود في هذه النصوص: العارية وأن هذا فهم الصحابة فإن الصحابة فهموا أن زكاة الحلي بإعارته.
ــ الجواب الثاني: أن هذه الأحاديث ضعيفة. وممن ضعف هذه الأحاديث جميعاً الحافظ الترمذي فإنه قال في السنن: ولا يصح في هذا الباب شيء. وممن ضعف هذه الأحاديث ابن حزم فإنه قال: إنه في وجوب زكاة الحلي آثار ضعيفة. فهو رحمه الله يرى وجوب الزكاة لكن مع ذلك يضعف جميع الأحاديث فهو يعتمد في الوجوب على العمومات حتى لا يشكل على الإخوان كيف يضعف الأحاديث ويقول بوجوب زكاة الحلي.
وممن أشار إلى ضعفها أيضاً الإمام الكبير الشافعي فإنه أشار إلى أنه لا يثبت في وجوب زكاة الحلي شيء.
فهؤلاء ثلاثة من الأئمة وهذه الأحاديث لا تخلو أسانيدها من ضعف ولا تخلو متونها من بعض النكارة. فكل متن من هذه المتون فيه نوع نكارة والكلام عن كل واحد من هذه الأحاديث من حيث المتن يطول جداً فإن متون هذه الآثار أعلت كل واحد منها بأكثر من وجه.
(2/397)
________________________________________
والذي يظهر والله أعلم أن هذه الأحاديث لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الجواب الثاني هو الأقرب ولا يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر تلك المرأة أو عائشة أو أم سلمة بزكاة ما عليها من حلي.
- الدليل الأخير لهم: ثبت عن ابن مسعود أنه يرى وجوب الزكاة في الحلي. ونقل عن غيره. والصواب أنه لا يثبت القول بوجوب الزكاة عن أحد من الصحابة إلا عن ابن مسعود فقط. وقد صرح بهذا عدد من الحفاظ. وابن مسعود سكن الكوفة وفقهاء الكوفة أخذوا عنه هذا القول ولذلك تجد أن أبا حنيفة وروي أحد القولين عن الثوري يرون وجوب الزكاة في الحلي لأنهم أخذوا فقه هذه المسألة عن الصحابي الفقيه الجليل الكبير ابن مسعود - رضي الله عنه -.
الراجح:
الراجح والله أعلم بالصواب: أنه لا تجب الزكاة في الحلي.
لماذا؟
أولاً: لأن المنقول عنهم من الصحابة القول بعد الوجوب فيهم امرأتان عائشة وأختها. ومن المعلوم لكل إنسان أن أكثر الناس عناية بحكم الحلي هم النساء لا سيما هذه المرأة الفقيهه العارفة الفاهمة عائشة - رضي الله عنها - فإنه يبعد جداً أن لا تعرف حكم زكاة الحلي. كيف وهي بيت النبوة وتأخذ العلم عنه - صلى الله عليه وسلم - فهذا بعيد كل البعد أن لا تعرف حكم زكاة الحلي.
أضف إلى هذا أن الغالب أن ابن عمر - رضي الله عنه - أخذ حكم هذه المسألة عن حفصة أخته - رضي الله عنها - وهي أيضاً نشأت في بيت النبوة ويبعد جداً أن لا تعرف حكم زكاة الحلي.
فإذا كان ثبت عن زوجتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم وجوب زكاة الحلي ففي الحقيقة المصير إلى قول هاتين الفقيهتين أشبه ما يكون بالمتعين.
ثانياً: أن هذا هو قول جمهور الصحابة قال الإمام أحمد - رحمه الله - عن خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا تجب الزكاة في الحلي وعرفنا أن الذي نقل عنه الوجوب هو ابن مسعود فقط أما خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بإثبات الإمام أحمد - رحمه الله - يرون عدم الوجوب فنستطيع أن نقول جمهور الصحابة وجمهور الأئمة يرون عدم الوجوب.
(2/398)
________________________________________
ثالثاً: لو كانت زكاة الحلي واجبة لما خفي هذا على المسلمين فكل بيت من بيوت المسلمين فيه حلي فلو كانت الزكاة واجبة لعرف ونقل واشتهر كيف وقد نقل عن خمسة من الصحابة منهم عائشة عدم الوجوب.
أما الخلفاء الراشدون فإنه لم ينقل عنهم شيء في هذه المسألة. فلم يصح عن الخلفاء الراشدين شيء في هذه المسألة. فإذا وجدت أحداً ممن يسوق الخلاف ينسب إلى أحد من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنه - أنهم يرون وجوب زكاة الحلي أو عدم وجوب زكاة الحلي فهو ليس بصحيح فلن يثبت عنهم شيء.
والخلاصة: أن الأقرب للآثار وللمعنى المفهوم من الزكاة عدم وجوب زكاة الحلي.
ولعلك عرفت من خلال سياق الخلاف والنصوص أن الاحتياط في مثل هذه المسألة جيد ووجيه بسبب وجود بعض النصوص التي اختلف الفقهاء في تصحيحها وتضعيفها وبسبب وجود آثر عن ابن مسعود وكل هذا يستدعي أن الإنسان يحتاط بإخراج الزكاة.
أما الوجوب فأنا أرى أنه لا يجب على المرأة أن تخرج زكاة الحلي.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا زكاة في حليهما المعد للإستعمال أو العارية.
يقاس على هذا: ما أبيح استعماله للرجل فلا زكاة فيه أيضاً.
فلو كان عند الإنسان مائة سيف وفي مقابض هذه السيوف ذهب يبلغ نصاباً فإنه لا زكاة فيه لأنها معدة للاستعمال.
ولو اتخذ الإنسان - مثلاً - أنفاً من ذهب واحتاج إلى سن من ذهب فلو فرضنا أنه بلغ مجموع ما احتاج إليه إلى نصاب وهذا بعيد لم تجب الزكاة عليه فيه لأنه استعمله استعمالاً مباحاً.
إذاً: أي ذهب يستعمل استعمالاً مباحاً للرجل أو للمرأة فلا زكاة فيه.
فقولهم: زكاة الحلي. هذا خرج مخرج الغالب لأن الغالب في استعمال الذهب أن يكون على شكل حلي.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وإن أُعد للكرى أو النفقة أو كان محرماً: ففيه الزكاة.
إذا أعدت المرأة الحلي للإيجار: تؤجره أو أعدته للنفقة أو كما يصنع الآن كثير من النساء للإدخار أو بضابط أعم: إذا اتخذت الحلي لا للاستعمال. وإنما للنفقة أو للإيجار أو للادخار أو لغيرها مما قد يطرأ فإنه تجب فيه الزكاة.
لماذا؟
لأن الحلي المستعمل استثنيناه من وجوب الزكاة لكونه خرج من المعنى وهو أن يكون مالاً نامياً إلى أن يكون مالاً مستعملاً.
(2/399)
________________________________________
فإذا لم يكن مستعملاً رجع إلى الأصل وهو وجوب الزكاة.
وهذا ما لا يتفطن له كثير ممن يعتمد القول بعدم وجوب الزكاة إذا اتخذ الحلي لا للاستعمال.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو كان محرماً: ففيه الزكاة.
إذا كان الذهب محرماً كأن تسرف المرأة أو وهو الذي يقع الآن كثيراً: تتخذ حلياً على شكل حيوان فهذا محرم.
فلو اتخذت حلياً على شكل حيوان فإن هذا محرم وتجب فيه الزكاة.
لأنه بالتحريم لم يصبح مستعملاً لأن هذا استعمالاً محرماً.
وأخذنا: أن هذا الحلي إذا فقد خاصية الاستعمال رجع إلى الأصل وهو وجوب الزكاة في الذهب والفضة.
إذاً:
- عرفنا أنه يستثنى ما أعد للإجارة أوالنفقة وما كان محرماً.
- وعرفنا القاعدة في هذه المستثنيات وهو أنه إذا لم يعد مستعملاً أو استعمل استعمالاً محرماً فإنه يرجع إلى الأصل.
فما يتخذه بعض الرجال الآن من أنواع الحلي - ذهب - تجب فيه الزكاة ولو كان حلياً مستعملاً لأن استعمال الرجل له محرم.
باب زكاة العروض.
• ثم قال - رحمه الله -:
باب زكاة العروض.
العروض: جمع عرض.
والعرض: هو ما عدا الأثمان من الأموال. كالأواني والثياب والمنازل وكل ما عدا الأثمان. فإنه يعتبر من العروض.
هذا في اللغة.
في الاصطلاح الخاص في باب الزكاة العروض هي: كل ما أعد للبيع أوالشراء بقصد الربح ولو كان من الأثمان. فإن هذا يدخل في زكاة عروض التجارة.
• قوله - رحمه الله -:
إذا ملكها بفعله بنية التجارة وبلغت قيمتها نصاباً: زكى قيمتها.
زكاة العروض فيها خلاف:
انقسم العلماء فيها إلى قسمين:
ــ القسم الأول: وجوب الزكاة في عروض التجارة.
وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وعامة التابعين وجمهور الصحابة وحكي إجماعاً وكأنه قول جميع أهل العلم إلا من سنذكر فكلهم ذهب إلى وجوب الزكاة في عروض النجارة.
واستدلوا بأدلة:
- الأول: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ... } [البقرة/57]. والكسب هنا بتفسير عدد من السلف: التجارة.
- الثاني: حديث سمرة - رضي الله عنه -: كنا نؤملا بإخراج الزكاة مما نعد للتجارة. وهذا الحديث ضعيف: ففي إسناده ضعف. ولو صح لكان فيصلاً في الباب.
(2/400)
________________________________________
- الثالث: صح عن عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم: عمر وابنه وابن عباس وهؤلاء من فقهاء الصحابة.
- وصح عن عدد من التابعين: كعطاء والنخعي وغيرهم من أئمة السلف.
ولا يعلم للصحابة القائلين بالوجوب ولا للتابعين القائلين بالوجوب لا يعلم لهم مخالف فليس لهم مخالف.
ــ القسم الثاني: أنها لا تجب زكاة عروض التجارة. وإلى هذا ذهب ابن حزم وبعض المعاصرين.
واستدلوا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقه. وهذا الحديث عام يشمل ما إذا اتخذت للتجارة أو لغير التجارة.
- الدليل الثاني: أنه لم يثبت في حديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بزكاة عروض التجارة.
والقول الراجح هو وجوب زكاة عروض التجارة بل الذي اعتقده ما قاله شيخ الاسلام - رحمه الله - أن القول بعدم الوجوب: شاذ. وأشار إلى الشذوذ عدا شيخ الإسلام بن تيمية أبو عبيد فإنه قال: والقول بعدم الوجوب ليس من أقوال أهل العلم عندنا.
ففي الحقيقة هذا القول شاذ خارج عن قول جماهير الفقهاء أهل الفقه وعن فتاوى الصحابة وعن ما جرى عليه عمل المسلمين من القديم ثم أحياناً غالب الأموال تكون من عروض التجارة.
فعدم إخراج الزكاة عنها يؤدي إلى عدم إخراج الزكاة عن جملة كبيرة من الأموال.
ثم يبعد جداً في حكمة الشارع والله أعلم أن يفرق بين المتماثلات فكف يأمر إنسان يملك عشرة آلاف ريال بالزكاة ولا يأمر إنساناً يملك ملايين من عروض التجارة لا يأمره بالزكاة مع أنه لا مقارنة بينهما في الغنى والغنى هو مناط وجوب الزكاة.
• ثم قال - رحمه الله -: مبيناً شروط وجوب زكاة العروض.
إذا ملكها بفعله.
يشترط لوجوب زكاة العروض عند الحنابلة أن يملكها بفعله سواء مكلكها بثمن - بعوض كالبيع أو بغير ثمن كقبول الهبة.
ففي الصورتين يتحقق الشرط وهو أنه ملكهعا بفعله.
وخرج بقوله: (ملكها بفعله). ما إذا صارت إليه عن طريق الإرث.
واستدلوا على هذا:
- بأن الإرث ليس من طرق الكسب. والتجارة تتعلق بالكسب.
فإذاً الإرث ليس من التجارة فلا زكاة فيه. وسيأتينا الخلاف في هذه المسألة.
•
ثم قال - رحمه الله -:
بنية التجارة.
(2/401)
________________________________________
مقصوده بقوله: (بنية التجارة). أن ينوي التكسب بها. هذا معنى بنية التجارة.
ومراد الحنابلة بقولهم: بنية التجارة أن ينوي التجارة بها من حين اشتراها - من أول الشراء.
فإن اشتراها لغير التجارة ثم نواها للتجارة لم تجب فيها الزكاة.
الدليل:
الدليل على ذلك:
- قالوا: النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الأعمال بالنيات). والزكاة عبادة والعبادات يجب أن تقترن فيها النية من أول العبادة فإذا لم تقترن نية التكسب من أول الشراء لم يتحقق الشرط.
= والقول الثاني: في هذين الشرطين:
1 - إذا ملكها بفعله.
2 - أو بنية التجارة:
أنه لا يشترط لا أن يملكها بفعله ولا أن ينوي التجارة بها من حين اشتراها.
والدليل على هذا من وجهين:
- الأول: أن الآثار المروية عن عمر وابنه وغيرهما من الصحابة - رضي الله عنهم - عامة لم تشترط هذه الشروط فكل من ملك مالاً ونوى به التجارة وجبت عليه الزكاة.
- الوجه الثاني: عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات). وهذا المال نويت به التجارة والتكسب فصدق عليه أنه من عروض التجارة.
وهذا القول الثاني هو الصواب وممن اختاره من المحققين ابن عقيل وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -.
• ثم قال - رحمه الله -:
وبلغت قيمتها نصاباً: زكى قيمتها.
قوله: (بلغت قيمتها نصاباً). هذا في الحقيقة لا يعتبر من الشروط الخاصة بعروض التجارة.
إذاً: كم هي الشروط الخاصة بعروض التجارة؟
شرطان فقط.
أما هذا فهو شرط في جميع الأموال.
فكل مال زكوي لا تجب فيه الزكاة إلا إذا بلغ النصاب.
لكن يفهم من قوله: (إذا بلغت قيمتها نصاباً). أن يشترط أن يستمر النصاب في كل الحول. = فإن نقصت قيمة عروض التجارة في بعض الحول استأنف الحول من جديد.
= ومنهم من قال: بل إذا نقصت قيمة عروض التجارة في أثناء الحول فإنه لا يضر فإنه من عادة التجار أن ترتفع القيم وتنزل.
والصواب أنه يشترط أن يبقى النصاب على مدار الحول أخذاً بالعمومات الدالة على اشتراط النصاب في جميع الحول.
• ثم قال - رحمه الله -: مفرعاً على الشرطين:
فإن ملكها بإرث أو بفعله بغير نية التجارة ثم نواها: لم تصر لها.
(2/402)
________________________________________
كما تقدم معنا مفصلاً في اشتراتط هذين الشرطين وهذا ما ذكره المؤلف - رحمه الله - هو ثمرة هذين الشرطين.
وهو: أنه إذا ملك المال بإرث فلا زكاة وإذا اشترى المال لغير التجارة ثم نوى بها التجارة فلا زكاة وتقدم معنا الخلاف وأن الصواب عدم اشتراط ذلك.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتقوّم عند الحول: بالأحظ للفقراء من عين أو ورق.
عروض التجارة تقوم بالأحظ للفقراء.
فإن كان الأحظ لهم: الذهب أي تبلغ نصاباً إن قومت بالذهب. فتقوم بالذهب.
وإن كانت إن قومت بالفضة بلغت النصاب وجي أن تقوم بالفضة.
والدليل على هذا:
- أن التقويم أصلاً إنما شرع مراعاة لحظ الفقراء فعندما نقوم فيجب أن نراعي فيه حظ الفقراء.
مسألة / إذا كانت عروض التجارة تبلغ النصاب بالذهب وبالفضة فبأيهما يقوم؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
= القول الأول: أنه مخير إن شاء بالذهب وإن شاء بالفضة.
- لأنه إن قومه بالذهب أو بالفضة حصل المقصود وهو إخراج الزكاة.
= القول الثاني: أنه إذا بلغ نصاباً بالذهب وبالفضة: فيجب أن نقومه بالأحظ لهما.
- قياساً على أصل الوجوب.
- ومراعاة لحال الفقراء.
وهذا القول الثاني هو الأقرب ومال إليه الشيخ الفقيه المجد - رحمه الله -.
فهذا القول أقرب.
وفي الحقيقة قيمة العروض سيعتبرها التاجر بالأغلى بالأكثر فكذلك في حق الفقراء.
المقصود أن الراجح أنها تقوم بالأحظ وإن بلغن نصاباً بالنقد الآخر.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ولا يعتبر ما اشتريت به.
لا يعتبر ما اشترتيت به لا قدراً ولا جنساً.
فإذا اشترى بالدراهم سلعة ثم لما تم الحول صارت تبلغ النصاب بالدنانير دون الدراهم: فإننا نعتبر الدنانير ونترك الدراهم.
وهنا نعتبر لم ننظر لما اشترتيت به: جنساً أو قدراً؟ جنساً. لم ننظر إليه جنساً.
وأما قدراً: إذا اشترى سلعة بمائة ألف وأصبحت بعد نهاية العام تساوي مائة وخمسين فلا ننظر لما اشترتيت به قدراً وهو المائة وإنما ننظر إلى المائة وخمسين وهو قيمتها بعد الحول.
إذاً: لا ننظر إليها لا قدراً ولا جنساً.
الدليل:
قالوا الدليل على ذلك:
- أنه لولا ذلك لذهبت فائدة التقويم على الفقراء.
(2/403)
________________________________________
يعني: لولا أنا نقدرها بقيمتها بعد الحول لذهبت فائدة التقدير على الفقراء.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمان أو عروض: بنى على حوله.
إذا اشترى عرضاً يعني عروضاً للتجارة في أثناء الحول فإنه لا يستأنف الحول بل يستمر على حوله ويبني على الأول.
والدليل على هذا:
- أن من شأن التجار تقليب الأموال والبضائع والسلع تارة تكون سلع وتارة تكون نقود. ولو اعتبرنا أنها إذا كانت نقوداً انقطع الحول وإذا كانت سلعاً انقطع الحول لم يتم حول على تاجر.
فإذاً يبني التاجرل على نصابه إذا قَلَّبَ الأموال التي عنده بين النقود والسلع.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وإن اشتراه بسائمة: لم يبن.
إن اشتراه بسائمة لم يبن:
- لأن السائمة تختلف عن عروض التجارة في النصاب وفي الواجب. وما كان كذلك لا يمكن أن يبنى بعضه على بعض بل يستأنف الحول من جديد.
مسألة / وهي مهمة جداً: إذا اشترى إنسان سائمة من الماشية ونوى بها التجارة: جعلها ترعى الحول كله ونوى بها التجارة فهل يخرج الزكاة منها باعتبارها من السائمة أو باعتبارها من عروض التجارة؟
فيه خلاف:
= فالمذهب: باعتبارها عروض تجارة. إلا في حالة واحدة إذا بلغت النصاب إذا لااعتبرناها سائمة دون إذا اعتبرناها عروض تجارة فحينئذ نزكيها باعتبار أنها سائمة. وإلا فالأصل عند الحنابلة أن تعتبر بأنها عروض تجارة.
= القول الثاني: أنها تزكا باعتبارها سائمة.
- لأن هذا مجمع عليه - يعني: إخراج الزكاة باعتبارها سائمة - وفيه النصوص بخلاف عروض التجارة.
= القول الثالث: أنها تخرج بالأحظ للفقراء. وفي الغالب الأعم أن الأحظ لهم أن تعتبر: عروض تجارة.
وبهذا يقترب القول الأخير من مذهب الحنابلة.
لكن نقول: الأصل والقول الراجح أن نعتبرها بالأحظ للفقراء.
فنقول: انظر: هل الأحظ للفقراء أن تزكيها باعتبارها عروض تجارة أو تزكيها باعتبارها سائمة.
باب زكاة الفطر.
• ثم قال - رحمه الله -:
باب زكاة الفطر.
يعني: باب لبيان الأحكام التي تتعلق بالزكاة التي سببها الفطر.
• قال - رحمه الله -:
تجب.
أجمع الفقهاء على أن زكاة الفطر واجبة.
وَدَلَّ على الوجوب:
(2/404)
________________________________________
- قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على الحر والعبد والصغير والكبير والذكر والأنثى من المسلمين). وهذا حديث متفق عليه.
فدل على الوجوب النص والإجماع.
• وقوله - رحمه الله -:
وتجب على كل مسلم.
يعني ولو كان صغيراً ولو كان من أهل البادية ومهما كانت صفته فتجب عليه زكاة الفطر.
- لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (على الحر والعبد والصغير والكبير والذكر والأنثى .. ).
فإذاً الزكاة واجبة على جميع المسلمين ولهذا لم يشترط إلا أن يكون مسلماً:
• فقال - رحمه الله -:
على كل مسلم.
فلم يقل كبير ولا صغير ولا عاقل ولا مكلف ولا غير مكلف وإنما تجب على كل مسلم.
• ثم قال - رحمه الله -:
فَضَلَ له يوم العيد وليلته: صاع عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية.
يعني: أن زكاة الفطر تجب على كل مسلم ملك صاعاً يوم العيد فاضل عن ثلاثة أمور:
1 - قوته. 2 - وقوت عياله. 3 - وحوائجه الأصلية.
فإذا ملك هذا الصاع بهذه الشروط الثلاثة وجبت عليه الزكاة.
وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يشترط أن يملك نصاباً. بل تجب على من ملك صاعاً واحداً فقط.
وهذا هو الصحيح خلافاً لم خرج عن ظاهر نص ابن عمر واشترط أن يملك نصاباً فإن هذا القول ضعيف.
بناء على هذا: من ملك متاعاً خارجاً عن حاجته الأصلية وجاء يوم العيد وهو من أهل الوجوب كما سيأتينا متى يكون وقت الوجوب؟ وجب عليه أن يبيع هذا المتاع ويشتري صاعاً ليخرجه عن زكاة الفطر بشرط أن يكون هذا المتاع زائداً عن حاجته الأصلية.
ومن الحوائج الأصلية:
1 - ما لا يستغني عنه الإنسان في البيت.
2 - وآلة العمل.
3 - وكتب طالب العلم التي لا يستغني عنها. فإن كتب طالب العلم من حاجاته الأصلية. بشرط أن لا تكون زائدة وإنما نقتصر على ما يحتاجه طالب العلم في المذاكرة ومراجعة المسائل.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا يمنعها الدين إلاّ بطلبه.
الدين لا يمنع زكاة الفطر بخلاف الزكاة التي تتعلق بالمال فهو يمنعها كما تقدم معنا.
الدليل:
الدليل على ذلك:
- أن زكاة الفطر آكد باعتبار أنها تتعلق بالبدن لا بالمال.
(2/405)
________________________________________
فهي آكد من هذه الجهة. فتقدم على الدين ولا يمنع الدين وجوبها.
إلا في حالة واحدة وهي التي قال عنها المؤلف - رحمه الله -:
إلا بطلبه.
يعني: إذا طلب الدائن الدين فحينئذ يقدم على زكاة الفطر.
والدليل:
- أنه إذا طلبها الدائن صارت آكد من الزكاة. لأنها تتعلق بحق الآدمي. فوجب أن تقدم.
وهذا صحيح.
فإذا كان عند الإنسان صاع وهو مدين بصاع فالواجب أن يخرج هذا الصاع إلا إذا جاء الدائن يوم العيد وطلب هذا الدين فحينئذ يخرج الدين ولا يخرج زكاة الفطر لأن الدين الذي له مطالب يوم العيد مقدم على زكاة الفطر.
•
ثم قال - رحمه الله -:
فيخرج: عن نفسه.
يجب أن يخرج الزكاة أول ما يخرجها عن نفسه.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: في سياق الكلام عن النفقات: (ابدأ بنفسك).
وسيأتينا مراراً وتكرارً أن زكاة الفطر تشبه إلى حَدٍّ كبير أحكام النفقات - كما سيأتينا.
- الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (على كل حرٍّ وعبد وصغير وكبير ... الخ. وأول من يدخل بهذا اللفظ نفس الإنسان.
• ثم بين - رحمه الله - القاعدة العامة فيمن يجب على الإنسان أن يخرجها عنهم بقوله - رحمه الله -:
ومسلم يمونه.
(2/406)
________________________________________
من الأسئلة:
= ما حكم اتخاذ سن من الذهب للزينة؟
- لا يجوز اتخاذ سن من الذهب للزينة لأنه تقدم معنا أنه يجوز للضرورة والسن الذي للزينة ليس من الضرورة في شيء ثم هو ليس باليسير.
(((الأذان))).
قال شيخنا حفظه الله:
أسألكم سؤالاً: ما هي المناسبة أن المؤلف - رحمه الله - ذكر ما يجوز اتخاذه من الذهب والفضة دون ما لا يجوز؟
لأنه يترتب على هذا مسألة الزكاة.
(2/407)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
• باب زكاة الفطر
بين المؤلف رحمه الله في الدرس السابق أنه يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه وتحدثت عن أدلة هذا الحكم.
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - في هذا الدرس إلى الكلام عن الذين يلزم الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عنهم:
• فقال - رحمه الله -:
ومسلم يمونه.
عني: ويجب أن يخرج زكاة الفطر عن كل مسلم يقوم هو بالنفقة عليه من الأبناء والزوجات والعبيد ... إلخ.
فهذه هي القاعدة العامة عند الحنابلة.
والدليل على هذا:
- رواية في حديث ابن عمر أنه قال: (وعمن يمونون).
والذين يخرج الإنسان الصدقة عنهم ثلاثة أصناف:
- الصنف الأول: الزوجات.
- الصتف الثاني: العبيد.
- الصنف الثالث: الأقارب.
(2/408)
________________________________________
نبدأ بالصنف الأول: - الزوجات.
= ذهب جماهير أهل العلم إلى أنه يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عن زوجته وأنه لا يجب عليها هي أن تخرج ذلك.
واستدلوا بأمرين:
- الأول: الرواية السابقة: (وعمن يمونون) والزوجة ممن يجب على الإنسان أن ينفق عليها.
- الثاني: أن صدقة الفطر تقاس على النفقة لأن كلاً منهما يتعلق بالبدن.
= والقول الثاني: للأحناف واختاره من المحققين ابن المنذر - رحمه الله - أنه يجب على الزوجة أن تخرج هي بنفسها الزكاة ولا يجب على الزوج أن يخرج زكاة الفطر عنها إلا إذا أراد أن يتبرع.
واستدلوا على هذا:
- بقوله - صلى الله عليه وسلم -: - في حديث ابن عمر: (فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير قال على الحر والعبد والذكر والأنثى) وهو بعمومه يتناول الزوجة.
وسيأتينا الراجح بعد أن نستكمل الحديث عن الأصناف الثلاثة.
- الصنف الثاني: العبيد. والعبيد يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عنهم بالنص والإجماع فهي مسألة لا إشكال فيها.
- أما النص فقواه - صلى الله عليه وسلم -: (ليس على الإنسان صدقة في فرسه ولا في عبده إلا زكاة الفطر) وهذا الحديث في صحيح مسلم.
- والإجماع: فقد أجمع أهل العلم على أنه يجب على الإنسان أن يخرج الزكاة عن عبده.
- الصنف الثالث: الأقارب. وهو أنواع:
- النوع الأول: الأبناء. - الصغار: فقد أجمع أهل العلم على أنه يجب على الأب أن يخرج زكاة الفطر عنهم.
- النوع الثاني: الأبوين: كذلك أجمع أهل العلم ولم يخالف إلا أبو حنيفة في أنه يجب على الإنسان أن يخرج الزكاة عن أبويه.
- والنوع الثالث: بقية الأقارب: فيهم خلاف.
والراجح والله أعلم. أنه:
- يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عن كل شخص يجب عليه أن ينفق عليه من الزوجات والأبناء والأقارب والآباء.
(2/409)
________________________________________
والدليل على هذه القاعدة والتي تشمل الأصناف جميعاً:
- أولاً: قوله: (وعمن يمونون) وهذا اللفظ ضعيف لكنه يصلح للإستدلال به لأنه صح موقوفاً. فهو فتوى من صحابي.
- ثانياً: عرفنا فيما سبق أنه فيث بعض المواضع - في ثلاثة مواضع - أجمع أهل العلم على وجوب إخراج زكاة الفطر عنهم وهم: العبيد والأبناء الصغار والآباء مع خلاف أبي حنيفة في الآباء فقط. وإذا نظرت في المواضع التي أجمع عليها أهل العلم لم تجد قاسماً مشتركاً بينها ولا معنى تخرج عليه إلا وجوب النفقة.
فتبين أن من وجبت نفقته وجب إخراج زكاة الفطر عنه.
- ثالثاً: ما تقدم معنا: أن زكاة الفطر في الحقيقة تتعلق بالبدن وليست تتعلق بالمال. فهي تشبه من هذه الجهة النفقة وتأخذ أحكامها.
فهذا القول هو الراجح فيما ظهر لي بعد تأمل في النصوص والأدلة:
أن الإنسان يجب عليه أن يخرج زكاة من وجب عليه أن ينفق عليهم.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولو شهر رمضان.
قصده في قوله: (ولو شهر رمضان): أنه يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عمن تبرع بالنفقة عليه كما إذا قدم ضيف سكن عنده في رمضان فإنه إذا جاء وقت زكاة الفطر وهذا الضيف الذي تبرع بالنفقة عليه لكونه ضيفاً يجب أيضاً عند الحنابلة أن يخرج زكاة الفطر عنه على سبيل الوجوب.
بناء على هذا: الضيوف الذين يأتون عادة في العشر الأواخر من روضان إذا بقوا عند الإنسان في بيته ينفق عليهم فإنه يجب عليه وجوباً أن يخرج زكاة الفطر عنهم. = عند الحنابلة.
= القول الثاني: أنه لا يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عمن أنفق عليه تبرعاً.
وهذا القول اختاره عدد من المحققين المتقدمين.
واستدلوا:
- بأن الأصل براءة الذمة وعدم الوجوب ولا دليل على إخراج الصدقة عمن لا تجب نفقته.
وهذا القول الثاني: هو الصواب. وقوة هذا القول ظاهره ولله الحمد.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإن عجز عن البعض.
يعني: إذا لزمته زكاة الفطر عن عدد من أقاربه بما فيهم الزوجات والآباء والأبناء والعبيد ولكنه لا يستطيع أن يخرج زكاة الفطر عن الجميع فيرجع إلى الترتيب الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -:
• قال - رحمه الله -: - أولاً:
بدأ بنفسه.
أول ما يبدأ بنفسه:
(2/410)
________________________________________
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم معنا: (ابدأ بنفسك) وهو في سياق الكلام عن النفقة.
- الدليل الثاني: أن نفقة الإنسان نفسه مقدمة على غيره فكذلك زكاة الفطر.
ثم في المرتبة الثانية:
• قال - رحمه الله -:
فامرأته.
وأتت المرأة في النرتبة الثانية لـ: تأكد النفقة. والإجماع على وجوبها في حق الزوجة فتكون هي في المرتبة الثانية.
• ثم قال - رحمه الله -:
فرقيقه.
يأتي الرقيق في المرتبة الثالثة لأمرين:
- أولا ً: أن وجوب زكاة الفطر على السيد متفق عليه ومحل إجماع كما تقدم.
- ثانياً: أنه يجب على الإنسان أن ينفق على العبد الذي يملكه سواء كان السيد موسراً أو معسراً فإن النفقة لا تسقط.
المرتبة الرابعة:
• قال - رحمه الله -:
فأُمه.
الأم تأتي في المرتبة الرابعة:
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عن أوجب الناس برا فقال: أمك ثم أمك ثم أمك وقال في الرابعة قال ثم أبيك.
فدل الحديث على أن الأم مقدمة على الأب في البر.
• ثم قال - رحمه الله -:
فأَبيه.
- للحديث السابق حيث أنه يأتي في البر بعد الأم.
• ثم قال - رحمه الله -:
فولده.
يعني: أنه يجب بعد هؤلاء وفي الأخير: الولد. - لأنه محل إجماع بالنسبة للصغير. في زكاة الفطر وأيضاً محل إجماع في وجوب النفقة فجاء مقدماً على بقية الأقارب.
= والقول الثاني: أن ابن الإنسان مقدم على أبويه وزوجته.
والراجح مذهب الحنابلة.
•
ثم قال - رحمه الله -:
فأقرب في ميراث.
بعد هؤلاء: يرتب الأقارب حسب قربهم باعتبار الميراث.
والتعليل:
- لأن من كان أقرب فهو أولى.
وإنما يتصور أن يكون عند الإنسان كل هؤلاء أبناء وآباء وأقارب وعبيد، يتصور غالباً في أحد حالين: - إما في المجاعات والكوارث العامة حيث يمتليء البيت من العائلة الواحدة.
- أو في الحروب. فإنه في الحروب يجتمع في البيت الواحد من الأقارب عدد كبير.
ففيما سوى هاتين الحالتين يندر أن يجتمع عند الإنسان مثل هذا العدد من الأقارب حتى يحتاج إلى أن يرتبهم حسب الترتيب الفقهي الذي ذكره الحنابلة.
على كل حال: هذا هو الترتيب إذا فرض أنه وجب على الإنسان أن ينفق على كل هؤلاء.
• ثم قال - رحمه الله -:
والعبد بين شركاء عليهم صاع.
(2/411)
________________________________________
مقصوده: أنه إذا كان العبد مملوكاً لأكثر من شخص فإن الصاع يجب على الملاك جميعاً لكن يقيد ذلك بأنه بحسب الملك.
فمن ملك ثلثي العبد وجب عليه أن يخرج ثلثي الصاع وهكذا.
وحكي على هذه المسألة الإجماع ولم يخالف إلا أبو حنيفة فإنه قال ليس عليهم شيء.
وعن الإمام أحمد روية أنه على كل مالك صاع ولو كثر الملاك.
- مسألة: كيف نقول: أن المسألة إجماع ثم نذكر رواية أخرى عن الإمام أحمد؟
الجواب: أن الإمام أحمد رجع عن هذه الرواية وقوله الأخير هو الموافق للإجماع فلما رجع عن هذه الرواية أجمعو ولم يوجد مخالف إلا ما ذكرت عن أبي حنيفة.
والصواب مع الجماهير أن عليهم صاع بحسب ملكهم.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ويستحب عن الجنين.
أي ولا يجب.
فيستحب للإنسان إذا كان الجنين في بطن زوجته أن يخرج عنه صاعاً على سبيل زكاة الفطر.
وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن استحباب زكاة الفطر عامة سواء كان هذا الحنين نفخت فيه الروح أو لم تنفخ فيه الروح.
وسواء كان في أول الحمل أو بعد التخليق.
وبعبارة أخرى في كل مراحل الحمل.
دليل الاستحباب:
- أنه روي أن عثمان - رضي الله عنه - أمر بإخراج زكاة الفطر عن الحمل.
= والقول الثاني: أن إخراج زكاة الفطر عن الحمل واجب.
= والقول الثالث: أنه يجب أن يخرج زكاة الفطر عن الحمل إذا نفخت فيه الروح.
والصواب أنه مستحب. إذ لادليل على الوجوب والجنين في البطن لا تتعلق به الأحكام إلا في موضعين: - الإرث. - والوصية.
أما ما عداهما فلا تتعلق به الأحكام.
فالصواب والله أعلم أنه يستحب.
لكن كما أشرت مراراً وتكراراً أنك إذا عرفت الخلاف في هذه المسألة عرفت أن الاحتياط أن الإنسان إذا كان مستطيعاً أن يخرج عن الحمل صاعاً زكاة فطرة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا تجب لناشز.
يعني لا يجب على الزوج أن يخرج زكاة الفطر عن زوجته الناشز.
التعليل:
- لأنه لا تجب نفقتها وسبيل زكاة الفطر سبيل النفقة.
لذلك نقول أن قول المؤلف - رحمه الله - ولا تجب لناشز. إنما هو على سبيل التمثيل ومثل به لأنه هو الغالب.
والقاعدة: أن كل زوجة لا يجب على الزوج أن ينفق عليها فلا يجب تبعاً لذلك أن يخرج زكاة الفطر عنها.
كالزوجة التي لم يدخل بها.
•
(2/412)
________________________________________
ثم قال - رحمه الله -:
ومن لزم غيره فطرته فأخرج عن نفسه بغير إذنه: أجزأت.
إذا أخرج الإنسان عن نفسه زكاة الفطر وهي تجب على غيره فينقسم إلى قسمين:
- الأول: أن يكون بإذن الغير. الذي يجب عليه أن يخرجها عنه فهذا مجزئ بالإجماع.
- الثاني: وهو الذي ذكره المؤلف: أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه بغير إذن من تجب عليه:
كأن تخرج الزوجة زكاة الفطر بغير إذن الزوج أو الابن الصغير بغير إذن أبيه. فالحنابلة يرون أن هذا مجزئ ولو لم يأذن من تجب عليه الزكاة.
واستدلوا على هذا:
- بأن المخرج أخرج الزكاة عن نفسه والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: على كل حر وعبد فدخل في الحديث.
= والقول الثاني: أنه لا تجزئ عنه.
- لأنه فعل ما يجب على غيره بغير إذنه.
- وقياساً على زكاة المال.
والصواب إن شاء الله أنها تجزئ.
لكن لا ينبغي للإنسان أن يصنعى هذا الأمر بأن يخرج الزكاة وهي تجب على غيره إلا بعد أن يستأذن هذا الغير خروجا من الخلاف.
ثم انتقل - رحمه الله - إلى مسألة مهمة وهي: وقت الوجوب:
• فقال - رحمه الله -:
وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر.
نقل عن الإمام أحمد - رحمه الله - أربع روايات. لكن أصول الأقوال قولان فقط وهما روايتان:
- الأولى: هي المذهب: أنه بغروب الشمس ليلة العيد تجب زكاة الفطر. وهو مذهب الجمهور.
واستدلوا على هذا القول:
- بقول ابن عمر - رضي الله عنه -: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر) فأضاف الزكاة إلى الفطر.
قالوا: والإضافة تقتضي التخصيص والسببية. وأول وقت يحل فيه الفطر هو غروب الشمس من آخر يوم من رمضان.
= والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد: أن الوجوب يتم بطلوع الفجر الثاني يوم العيد.
واستدلوا:
- بنفس الحديث: فقالوا: قوله: (فرض رسول - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر) يعني: زكاة يوم الفطر ويوم الفطر يبدأ من طلوع الفجر الثاني.
- وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون) فأطلق على يوم العيد أنه يوم الفطر.
والأقرب القول الأول. - لأن ليلة العيد يحصل بها الفطر وتترتب عليها الأحكام من مشروعية التكبير وغيره مما يتعلق بالفطر فدل على أنه زمن الوجوب.
(2/413)
________________________________________
ولا يخفاكم أن ثمرة الخلاف في الليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني. فمن ولد أو مات ... الخ كما سيذكره المؤلف في هذا الوقت صار محل خلاف.
• يقول - رحمه الله -:
فمن أسلم بعده، أو ملك عبداً، أو تزوج، أو ولد له ولد: لم تلزمه فطرتهم.
لأنهم وقت الوجوب ليسوا من أهل الوجوب بالنسبة للمنفق.
فإذا ولد للإنسان مولود بعد مغيب الشمس فإنه لا يجب عليه أن يخرج فطرته.
وكذا لو اشترى عبداً وتزوج زوجة.
= وعلى القول الثاني: تجب عليه.
أما لو ولد للإنسان مولود بعد طلوع الفجر الثاني فإنه بالإجماع لا يجب عليه أن يخرج زكاة الفطر عنه لأنه وقت الوجوب ليس من أهل الوجوب.
• ثم قال - رحمه الله -:
مقرراً لما تقدم وهو أمر واضح:
وقبله تلزم.
قبل هذا الوقت: يعني: إذا أسلم قبل غروب الشمس أو ملك أو تزوج أو ولد قبل غروب الشمس فإنه تلزم الإنسان نفقة هؤلاء.
أي تلزمه زكاة الفطر عنهم.
وقد عرفت الخلاف في هذه المسألة.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ويجوز إخراجها: قبل العيد بيومين فقط.
= يجوز عند الحنابلة أن نخرج زكاة الفطر قبل يوم العيد بيوم أو يومين.
- لما صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: (كانوا يخرجون زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين) وهذا الحديث ثابت في الصحيح وهو نص في المسألة.
= القول الثاني: أنه يجوز أن نخرج زكاة الفطر قبل العيد بثلاثة أيام.
= القول الثالث: أنه يجوز أن نخرج زكاة الفطر من أول الشهر.
واستدل هؤلاء:
- بأن سبب الوجوب مركب من أمرين: الصوم والفطر. فإذا وجد أحد السببين جاز إخراج الزكاة.
- وبأن في هذا توسعة على المسلمين لا سيما إذا كان أهل الزكاة يحتاجون إلى مشقة في الوصول إليهم.
والصواب مع الحنابلة لأن معهم نصاً ظاهراً صريحاً واضحاً أنهم كانوا يخرجون الزكاة قبل العيد بيوم أو يومين فقط والتقييد بثلاثة أو بأول الشهر قول ضعيغ مخالف للنص الصريح.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويوم العيد قبل الصلاة أفضل.
يعني أن أفضل الأوقات لإخراج الزكاة هو ما بين طلوع الفجر إلى صلاة العيد.
وهذه الأفضلية محل إجماع ويدل عليه:
- ما في حديث بن عمر أنه - رضي الله عنه - قال: وكانوا يأمرون بها أن تخرج قبل صلاة العيد.
(2/414)
________________________________________
= - ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة).
فإذاً اعتبار الوقت هو أفضل الأوقات دل عليه النص والإجماع فلا إشكال فيه.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتكره في باقيه.
يتركب هذا من قولين - هذه العبارة تدل على مسألتين بعبارة أخرى:
- أنه يجوز أن نخرج الزكاة بعد الصلاة ولكنه مكروه.
أما دليل الكراهة فهو: - مخالفة السنة فإنهم كانوا يخرجونها قبل الصلاة.
وأما دليل الجواز:
- فعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم). يعني بزكاة الفطر.
والإغناء يحصل ولو بعد الصلاة.
= والقول الثاني: أنه يجوز بلا كراهة أن يخرج الزكاة بعد الصلاة.
= والقول الثالث: أنه يحرم ولا يجزئ أن يخرج الزكاة بعد الصلاة.
واستدل هؤلاء بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أخرجها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أخرجها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات). فنص الحديث على أنها إذا أخرجت بعد صلاة العيد لا تعتبر زكاة فطر فدل على أن هذا محرم وأنه لا يجزئ.
وهذا اختيار شيخ الاسلام وابن القيم وهو في الحقيقة الذي يتوافق مع النصوص وإن كان يخالف مذهب أكثر أهل العلم.
ويستثنى من هذا: إذا كان التأخير له سبب مقبول. وعذر واضح فإنه حينئذ يرجى أنه إن شاء الله تجزئ عنه ولا يأثم بهذا التأخير كأن لا يجد من يعطيه أو يضيع المال أو - وهو أكثر الأعذار انتشاراً - أن يوكل شخصاً ولا يخرج هذا الموكل الزكاة فإنه من أكثر أسباب التأخر كأن يفرط الموكل فإن الموكل لا حرج عليه وله أن يخرج بعد الصلاة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويقضيها بعد يومه آثماً.
يعني أنه إذا لم يخرج في كل اليوم فإنه آثم وعمله محرم ويجب عليه أن يتوب ولكن مع ذلك يجب أن يخرج الزكاة وتصبح قضاء.
واستدلوا على هذا:
- بأن زكاة الفطر تعلق بها حقان:
- الأول: حق الآدمي.
- والثاني: حق الله سبحانه وتعالى.
فحق الله بين الإنسان وربه سبحانه وهو آثم ويحتاج إلى توبه.
أما حق الآدمي فهو دين في ذمة الذي يجب عليه إخراج الزكاة ولا يسقط بمضي الوقت قياساً على دين الآدمي فيجب أن يخرج الزكاة بعد العيد.
(2/415)
________________________________________
هذا القول: الذي فيه وجوب إخراج الزكاة بعد العيد = مذهب الجماهير وحكاه بعضهم إجماعاً.
لكن الذين حكوا الإجماع هم من المتأخرين فلم أر أحداً من المتقدمين - حسب ما وقفت عليه - حكى الإجماع. ولكن هذا الإجماع يدلك على أن هذا القول هو قول عامة أهل العلم.
= والقول الثاني: أنه لا يجزئ ولو أخرجها فلا قيمة لها لا أداء ولا قضاء ولا ينظر إليها وهو أيضاً اختيار الشيخين: ابن تيمية وابن القيم وتمسكوا بالحديث.
- وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ومن أخرجها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات).
واختيارهم قوي. ومذهب الجماهير أحوط. فنقول للإنسان: مهما أخرت الزكاة أخرجها لأنها كالدين في ذمتك.
وما استدل به الجمهور فقوي وهو أن هذا دين يتعلق به حق الفقراء فمهما أخر فيجب أن يخرج قياساً على زكاة المال. فإن زكاة المال لها موعد إذا أخر عنه أثم من أخره كما سيأتينا على الخلاف في تحديد هذا الموعد.
ومع ذلك نقول: مهما أخرت وأثمت وارتكبت هذا المحرم فيجب أن تخرج الزكاة فكذلك هنا نقول. مهما أخرت وأثمت فيجب أن تخرج الزكاة.
فصل
[في قدر الواجب ونوعه ومستحقه وما يتعلق بذلك]
• ثم قال - رحمه الله -:
(فصل).
المقصود بهذا الفصل بيان القدر الواجب وما يتعلق بالأجناس وما يجزئ منها وما لا يجزئ. وهو مبحث مهم جداً.
• قال - رحمه الله -:
ويجب صاع.
الصاع: مكيال معروف. والمقصود بالصاع هنا: صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أربع أمداد. فهذا هو المقصود بقول الفقهاء: يجب صاع.
• قال - رحمه الله -:
يجب صاع من بر أو شعير ..... إلى آخره ..
= ذهب الأئة الثلاثة إلى أنه لا يجزئ من جميع الأصناف إلا إخراج صاع كامل سواء كان المخرج بر أو شعير أو تمر أو إقط أو زبيب أو أي نوع مما سيأتينا.
واستدلوا على هذا:
- بقول ابن عمر - رضي الله عنه -: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر.
- وبحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نخرج الزكاة إذ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا صاعاً من طعام أو شعير أو إقط أو زبيب أو تمر. وهذه أربعة أصناف.
(2/416)
________________________________________
ففي الحديثين لم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين نوع وآخر.
= القول الثاني: أنه يجوز في البر خاصة نصف صاع. وإلى هذا ذهب الأحناف وبعض اليلف على رأسهم الإمام الكبير سعيد بن المسيب وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية.
واستدلوا بعدة أدلة:
- الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صاع من بر يكفي عن اثنين). وهو حديث إما ضعيف أو ضعيف جداً.
- الدليل الثاني: أن المسلمين استمروا على هذا العمل من زمن معاوية إلى أزمان متأخرة بعده. فما زال عمل المسلمين على هذا.
- الدليل الثالث - والأخير -: أن هذا القول مروي عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والراجح والله أعلم القول الأول وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد.
- لأن أبا سعيد الخدري وهو أعرف الناس بهذه المسألة قال: كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا صاعاً من تمر أو شعير أو إقط أو زبيب حتى إذا قدم معاوية قال: أرى نصف صاع من سمراء الشام تكفي عن صاع من هذا التمر قال: فأخذ الناس بذلك.
وسمراء الشام: هو القمح الدمشقي. والمقصود به: البر. قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنا نخرجه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومع كون القول بوجوب إخراج الصاع هو الراجح إلا أنه لا يخفى أبداً قوة القول الثاني. لا سيما وقد عمل به نحو خمسة من الصحابة فكلهم يرى هذا الرأي ولا سيما أن معاوية خطب بهذا على المنبر وأخذ الناس به والناس في زمن معاوية هم الصحابة والتابعون. فهذا القول قوي ولهذا اختاره شيخ الاسلام بن تيمية لهذه الاعتبارات.
لكن القول الراجح هو القول الأول باعتبار أن في المسألة نص وباعتبار أن أبا سعيد الخدري لم يرض بهذا القول وإنما رأى أنه يلزمهم أن يستمروا على إخراج صاع مهما كان نوع المخرج.
• قال - رحمه الله -:
ويجب صاع من بر.
البر لم يذكر في النصوص لكن أهل العلم أجمعوا على أنه يجزئ لأنه أولى مما ذكر من الشعير وغيره.
• قال - رحمه الله -:
أو شعير.
الشعير مذكور في جميع الأحاديث. أنه من الأصناف التي يجزئ إخراجها في زكاة الفطر: في حديث ابن عمر وفي حديث أبي سعيد الخدري.
•
قال - رحمه الله -:
(2/417)
________________________________________
أو دقيقهما.
يعني: أنه يجوز أن نخرج دقيق القمح أو دقيق الشعير. لأن الدقيق هو عبارة عن القمح والشعير مطحون فهو أجزاء لما يشرع إخراجه. فدقيق القمح أجزاء للقمح ولذلك جاز إخراجه.
لكن يشترط:
1 - أن يكون بالوزن.
2 - وأن يحتاط إذا كان ثقيلاً بالزيادة. فيحتاط إذا كان وزنه ثقيل بأن يزيد عليه.
لأن الصاع مكيال وليس ميزان.
والصاع بالميزان الحديث اختلفوا فيه:
= منهم من قال: كيلوين وربع.
= ومنهم من قال: كيلوين ونصف.
= ومنهم من قال: كيلوين وأربعين جرام.
هذه ثلاثة أقوال. الوسط منها هو اختيار شيخنا - رحمه الله - وهو الأقرب لكون الشيخ - رحمه الله - بيده قد قاس هذا الأمر فنحن نرى أن هذا أدق شيء.
فكيلوين وأربعين جرام إذا كان البر ثقيل صار كمية قليلة من البر تزن كيلوين وأربعين جرام بينما لو وضعنا هذه الكمية في المكيال لكانت أقل من صاع لأن المكيال يعتمد على الحجم والميزان يعتد على الوزن. فإذا كان ثقيلاً فيجب أن نحتاط بالزيادة.,
والفقهاء - رحمهم الله - كلهم يقولون: إذا أردت أن تخرج دقيق فيجب أن يكون بالوزن حتى ينضبط ويجب أن تحتاط إذا كان ثقيلاً.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو سويقهما.
يعني سويق الشعير والبر.
والسويق هو: ما يحمص من هذه الأشياء ثم الطحن.
فهو في الحقيقة قريب من الدقيق لكنه قبل أن يطحن يحمص فالحكم واحد.
•
ثم قال - رحمه الله -:
أو تمر أو زبيب أو أقط.
هذا مذكور في حديث أبي سعيد الذي ذكرته لك آنفاً فقد ذكر فيه: التمر والزبيب والإقط. فزاد الزبيب والإقط.
هذه الخمسة أصناف هي التي نص عليها الفقهاء - رحمهم الله -:
1 - البر.
2 - والشعير.
3 - والتمر.
4 - والزبيب.
5 - والإقط.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإن عدم الخمسة: أجزأ كل حب وثمر يقتات ... إلخ.
= أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة أنه لا يجوز أن نخرج من غير هذه الأصناف الخمسة إذا كانت موجودة فإذا وجدت وأخرج الإنسان غيرها ولو كان هذا الغير من قوت البلد فإنه: لا يجزئ.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على هذه الأصناف.
- والصحابة اتفقوا على البر.
فهي أصناف منصوص عليها ومتفق عليها لا يخرج عنها إلا إذا لم توجد.
(2/418)
________________________________________
= والقول الثاني: أنه يجوز أن نخرج من أي نوع من الطعام بشرط أن يكون قوتاً للبلد.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نص على هذه الأصناف لأنها في وقتهم هي قوت البلد. بدليل: أنه لم يذكر البر مع أنه أعلى هذه الأصناف لأنه لا يوجد في المدينة بكثره.
فنص على الأقوات المعروفة في المدينة.
بناءً عليه: يجوز للإنسان أن يخرج أي نوع من أنواع الطعام إذا كان قوتاً ولو لم يكن من هذه الأصناف المنصوص عليها.
ووقتنا هذا يؤكد رجحان هذا القول:
لأن من الأصناف الآن: الشعير وهو صنف لا يقتات أبداً ولا ينتفع منه الفقير ولا أظن أحداً يقول أنه يخرج شعيراً ولو كان منصوصاً عليه لأن الفقير لا ينتفع منه مطلقاً.
وبالإجماع المقصود من زكاة الفطر إغناء الفقير وأن ينتفع بها فكيف نعطيه ما لا ينتفع به.
فدل هذا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد أن ينص على الأقوات فمهما كان الطعام قوتاً جاز أن يخرج.
بل من الممكن أن نقول: كما ذكرت الآن: أنه إذا كان بعض هذه الأنواع أصبح ليس من الأقوات فإنه لا يشرع أن نخرجه:
- لأنا نجزم أن العلة هي القوت فإذا خرج عن أن يكون قوتاً صار لا يجزئ.
• ثم قال - رحمه الله -:
أجزأ كل حب وثمر يقتات.
لما تقدم من أن القاسم المشترك بين الأصناف أو العلة المعتبرة فيها هي: الاقتيات.
• ثم قال - رحمه الله -:
لا معيب.
يعني: لا يجوز أن يخرج الإنسان لا من هذه الأصناف ولا من غيرها إذا لم توجد شيئاً معيباً.
- لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ... } [البقرة/267]
- ولأن نفع الفقير يقل أو ينعدم إذا أخرج المعيب.
والمعيب:
كـ: المبلول وكالذي تغيرت رائحته وطعمه من طول البقاء وكأي عيب يعرفه الناس.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا خبز.
لا يجوز أن يخرج الإنسان في زكاة الفطر خبزاً.
لأمرين:
- الأول: أنه لا يمكن أن نعرف بالدقة وزن هذا الخبز؟
- الثاني: أن هذا الخبز لا يبقى.
وبناءً على هذا يتضرر الفقير من تلفه ولا ينتفع به على الوجه الأكمل.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن نخرج الخبز في حال واحدة: إذا عرف عن أهل هذا البلد أنهم يأكلون الطعام يوم العيد.
فإنه في هذه الحالة لا يفسد لأنه سيؤكل يوم العيد.
(2/419)
________________________________________
وإلى هذا القول - الثاني - ذهب الحافظ ابن القيم.
والأقرب والله أعلم: أنه لايجزئ الخبز. لأنه لا ينضبط الوزن فمهما قيل حتى لو وزنت ثم خبزت فإنه سيختلف الوزن والإنسان مطالب إبراءً لذمته أن يخرج صاعاً كاملاً. هذا من جهة.
من جهة أخرى: أنه لا شك أن البر أنفع بمراحل. لأنه وإن كان البر يخبز لكنهم يخبزونه على مراحل حسب الحاجة وأيضاً يدخر وينتفع به بشتى الوسائل بخلاف الخبز.
فالأقرب والله أعلم أنه لا يجزئ ولو كان أهل البلد يأكلون يوم الفطر.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويجوز أن يعطي الجماعة: ما يلزم الواحد.
أي: يجوز أن نعطي الجماعة من الفقراء ما يلزم الواحد يعني: الصاع. صاع واحد.
فيجوز أن نفرق الصاع بين جماعة من الفقراء.
ولكن ينبغي أن نخبر الفقير أنه أقل من صاع حتى لا يخرجه ظاناً أنه صاع.
الدليل على هذا الحكم بالنسبة لهذه الصورة:
- الإجماع. فإنه لا يوجد مخالف أن هذا جائز. فيجوز أن نعطي الجماعة صاعاً واحداً.
• ثم قال - رحمه الله -:
وعكسه.
عكس هذه الصورة: يعني يجوز أن يعطي الجماعة فقيراً واحداً.
الدليل:
- قالوا الدليل: أن الواجب إخراج صاع وقد حصل ولم ينص الشارع على تعداد الأصواع على الفقراء أو تفريق الأصواع على الفقراء بل الواجب إخراج صاع وقد حصل.
وهذا كما ترون صحيح ووجيه.
إذاً: يجوز أن يعطي الإنسان عدة فقراء ويجوز لعدة أناس أن يعطوا فقيراً واحداً.
باب إخراج الزكاة
• ثم قال - رحمه الله -:
باب إخراج الزكاة.
يعني: هذا باب خصص لبيان أحكام إخراج الزكاة.
فالحكم الأول:
• قال - رحمه الله -:
يجب على الفور مع إمكانه.
يحرم على الإنسان أن يؤخر إخراج الزكاة بعد تمام الحول.
فإن أخر فهو آثم.
الدليل:
الدليل على ذلك من وجوه:
- أولاً: أن الأصل في الأوامر أنها على الفور. وستأتيكا هذه المسألة مبسوطة أتم البسط في باب الأوامر والنواهي في أصول الفقه في الورقات.
- ثانياً: أن التأخير يؤدي إلى ضياع حق الفقير بالنسيان والإتلاف والتقصير والتفريط.
- ثالثاً: أن المأمور إذا تأخر في التنفيذ استوجب العقوبة شرعاً وعرفاً. والعقوبة تكون على المحرم.
إلا أن الحنابلة يقولون: يجوز التأخير اليسير للحاجة.
(2/420)
________________________________________
وحد بعض الحنابلة هذا اليسير:
- بيوم أو يومين.
- والمصلحة بما إذا أراد أن يعطي قرابته فأخر بعض الشيء ليتمكن من ذلك.
- أو إذا أراد أن يعطي من هو أشد فقراً فأخر ليتمكن.
- أو أراد أن يعطي من هو أورع وأقرب إلى الله.
وقد نصوا على هذه الأمثلة الثلاثة ليقاس عليها ما يشبه هذه الأمثلة الثلاثة.
= القول الثاني: أنه يجوز التأخير لمدة شهر فقط فإن زاد عن الشهر أثم.
وإلى هذا ذهب ميمون بن مهران.
= القول الثالث: أنه يجوز التأخير بلا حد.
- لأن الأمر المطلق لا يستوجب وقتاً معيناً بل يحصل الامتثال مهما صنع ولو تأخر. أو بعبارة أوضح: يحصل الامتثال إذا صنع ولو تأخر.
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة - رحمه الله -.
وهو أضعف وأبعد الأقوال عن روح الشرع والنصوص العامة. لأن الافراط في السماح بالتأخير يؤدي غالباً إلى ضياع حق الفقير ودخول الشهوات بأن يقصد المؤخر الانتفاع بالمال لا تحقيق مصلحة معينة.
الراجح القول الأول.
وفي المسألة: = قول آخر أنه لا يجوز التأخير ولو لحاجة ولو لشي يسير.
وهذا رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -: أنه لا يجوز التأخير مطلقاً إلا في حالة واحدة فقط: للضرورة ففي ما عدا هذه الصورة لا يجوز التأخير.
وهذا القول الأخير الذي هو رواية عن الإمام أحمد أضيق من مذهب الحنابلة.
لكن الأقرب والله أعلم مذهب الحنابلة أنه يجوز للإنسان أن يؤخر تأخيراً يسيراً لتحقيق مصلحة معتبرة.
مسألة / بناء على ما تقدم: لا يجوز للإنسان أن يصنع ما يصنعه بعض الناس اليوم: أن يجعل الزكاة عنده ويعطي قريبه الفقير أقساط شهرية فإن هذا لا يجوز لأن الأقساط المؤخرة مؤخرة والزكاة تجب على الفور.
والأنفع للفقير في مثل هذه الحالة وهي: أنه إذا رأى أن الفقير لا يحسن التصرف ولا يمكن أن يعطى جميع المال فبدل أن يقسط عليه الزكاة ويدخل في هذا المحذور يجعل الفقير يوكل المخرج أو غيره في شراء أعيان وأشياء ينتفع بها الفقير على مدار السنة.
فيشتري له قوتاً أو مسكناً أو فراشاً أو كتباً إن كان من طلاب العلم - كما سيأتينا - المهم يشتري له بها ما تقوم به حاجته في السنة فإن هذا الحل خير من التقسيط.
(2/421)
________________________________________
وقد نص الإمام أحمد في رواية أن جمع الزكاة وإخراجها مقسطة على القريب لا يجوز.
• ثم قال - رحمه الله -:
إلا لضرر.
إذا كان إخراج الزكاة الآن يسبب ضرراً على المخرج: جاز له التأخير.
وذكر الفقهاء - رحمهم الله - مثالين:
- المثال الأول: أن يكون صاحب ماشية فيبادر بإخراج الزكاة ويخشى أن يأتي السعاة فيأخذوا الزكاة منه مرة أخرى. فحينئذ فإن له أن يؤخر إلى أن يأتي عمال الصدقة فيعطيهم الزكاة.
- المثال الثاني: أن يخشى أنه إذا أخرج الزكاة لا سيما إذا كانت من الذهب والفضة: أن يجترئ عليه اللصوص. فحينئذ له أن يؤخر إلى أن يكون في مأمن.
وهذا مثالان. والقاعدة أنه ((إذا ترتب على إخراج الزكاة ضرر فله أن ينتظر)) لأن هذا من دفع الضرر. والضرورات تبيح المحرمات.
•
ثم قال - رحمه الله -:
فإن منعها جحداً لوجوبها كفر عارف بالحكم.
يعني: أن من لم يخرج الزكاة بسبب أنه يجحد وجوب الزكاة ... (الأذان).
إذاً: من تركها جاحداً لوجوبها فهو - نتم هذه المسألة فقط -: فهو كافر بشرط أن يكون عالماً بالحكم. فإن كان من البادية الذين نشأو في الصحراء ولا يعرف الحكم فإنه لا يكفر حتى يعلم أن الزكاة ركن من أركان الإسلام وأن الجاحد لوجوبها يكفر.
والجاحد لوجوبها يكفر ولو أخرجها فلو جاءنا إنسان وقال: أنا لا أرى أن الزكاة واجبة لكن سأخرج الزكاة. فنقول: أنت كافر لأن الزكاة واجبة.
الدليل على كفره:
- أنه مكذب لله مكذب لرسوله مخالف لإجماع المسلمين.
ولهذا أصبح كافراً.
والقرآن - كما قال الفقهاء - رحمهم الله - مليء بإيجاب الزكاة فلال عذر بعد ذلك لمن أنكر الوجوب فهو كافر.
(2/422)
________________________________________
من الأسئلة:
قال شيخنا حفظه الله: يسأل عن مسألة إخراج القيمة بدلاً من الأصناف المذكورة في زكاة الفطر وهي مسألة كثر البحث فيها في وقتنا هذا: والصواب باختصار أنه: لا يجوز.
والدليل على ذلك:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراجها من هذه الأصناف وحدد هذه الأصناف.
وبناء على هذا لا يجوز أن نخرجها مالاً لأنه يؤدي إلى ذهاب هذه الشعيرة.
فإن قيل: أنه أنفع للفقراء:
فالجواب: أن الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أيضاً فقراء جداً حتى أن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - كان لا يجد ما يأكل أحياناً وعدد من الصحابة فقراء وأصحاب الصفة فقراء فمعلوم أن وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشتهر فيه الفقر والإعواز ومع ذلك لم تخرج من الأموال وإنما أمر بإخراجها من هذه الأصناف المذكورة في الحديث.
(2/423)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا الكلام عن حكم من أنكر وجحد وجوب الزكاة وأنه يكفر ولو أخرجها لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.
• وتوقفنا على قول المؤلف - رحمه الله -:
وأخذت.
يعني إذا حكمنا عليه بالكفر فإنه مع ذلك تؤخذ منه الزكاة فيأخذها الإمام قهراً.
- لأن الزكاة وجبت في ذمته قبل أن يكفر فلا بد من إخراج هذه الزكاة لأنها حق للفقراء ولا يسقط هذه الزكاة كونه كفر.
• ثم قال - رحمه الله -:
وقتل.
وهذا هو الحكم الثالث.
إذاً يترتب على إنكار وجوب الزكاة أنه:
1 - يكفر.
2 - وتؤخذ منه.
3 - ويقتل.
يجب أن يقتل وجوباً لدليلين:
- الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا إن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة). وهذا لم يؤت الزكاة.
- الثاني: لأنه مرتد والمرتد حكمه القتل.
ولكن الفقهاء - رحمهم الله - قالوا: أنه يستتاب ثلاثة أيام قبل أن يقتل. وهذا الحكم لا يختص بجاحد الزكاة بل بكل مرتد. لأنه نقل عن بعض الصحابة أنهم أمهلوه ثلاثة أيام وسيأتينا إن شاء الله في باب حكم المرتد الكلام حول هذه المسألة.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو بخلاً. أُخذت منه وعزر
هذا هو السبب الثاني لمنع الزكاة وهو: البخل.
ومقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: أو بخلاً. يعني: مع الإقرار بالوجوب.
فإذا كان مقراً بالوجوب ومنعها بخلاً ترتب على ذلك الأحكام التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -.
• أولاً: قال - رحمه الله -:
أخذت منه.
(2/424)
________________________________________
أجمع الفقهاء على أن الإمام يأخذ الزكاة قهراً من منعها بخلاً.
والحكم الثاني: ما أشار إليه بقوله - رحمه الله -:
وعزر.
وفهم من قوله: وعزر: أنه لا يكفر وهذا هو الصحيح من قولي أهل العلم أنه لا يكفر إذا كان السبب في منعه إخراج الزكاة هو البخل لا إنكار الوجوب.
إلى هذا ذهب الجماهير والجم الغفير وهو المنقول عن الصحابة أن من منع إخراج الزكاة بخلاً لا يكفر.
إذاً قال: وعزر: فهو لا يكفر ولا يقتل وإنما يعزر.
- لأن القاعدة عند أهل العلم أن كل ذنب لم يرتب الشارع عليه حداً ولا كفارة ففيه التعزير.
والمقصود بقوله: التعزير. هنا أي: يعزره حسب ما يراه الإمام كافياً في ردعه وردع أمثاله الذين يمتنعون عن إخراج الزكاة.
= وذهب بعض أهل العلم إلى أن التعزير هنا يكون بأخذ شطر ماله.
- لأن رجلاً امتنع عن إخراج الزكاة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنا آخذوها وشطر مالك). وهذا الحديث اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه.
والصحيح إن شاء الله أنه صحيح. وممن صححه الإمام أحمد - رحمه الله - ولكن مع ذلك الجماهير وأكثر أهل العلم لم يأخذوا بهذا الحديث.
وممن لم يأخذ بهذا الحديث الإمام أحمد - رحمه الله - مع أنه صححه لكنه - رحمه الله - صححه وقال: لا أدري ما وجهه.
والسبب الذي جعلهم لا يعملون بهذا الحديث:
- أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يأخذوا ممن منع الزكاة شطر ماله هذا أولاً.
- ثانياً: ما حكاه بعض الفقهاء بقوله: انعقد الإجماع على عدم العمل بهذا الحديث.
فلهذين السببين لم يأخذ الجمهور بهذا الحديث.
= والقول الثاني: العمل بمقتضى هذا الحديث.
واختلف الذين رأوا أن يعملوا بهذا الحديث: هل مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم -: (شطر ماله) يعني شطر ماله الزكوي أو شطر ماله كله؟ فإذا كان عنده مائة من الإبل ولم يخرج زكاتها نأخذ الزكاة ونصف المائة أو المقصود أن تؤخذ الزكاة وشطر كل ماله فلو كان عنده مائة من الإبل ومائة من الغنم ومائة من البقر وما يقدر بمائة ألف من عروض التجارة ... إلخ. ومنع الزكاة في شيء واحد - في الإبل مثلاً - فنأخذ زكاة الإبل ونصف جميع هذه الأموال.؟
= الذي عليه الجمهور أن المقصود: شطر ماله الزكوي.
(2/425)
________________________________________
- قال الصنعاني: قوله: (وشطر ماله) يعني: بعض ماله. وهذا يشعر أنه يميل إلى قول الجمهور.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتجب: في مال صبي ومجنون، فيخرجها وليهما.
تقدم معنا في أول الباب الكلام عن حكم زكاة مال الصبي وحكم زكاة مال المجنون وأن الجماهير من أهل العلم رأوا وجوب إخراج الزكاة من مال الصبي وأن من عليه أن يخرج هو: الولي. وأن هذا مذهب أكثر الصحابة.
وتقدم معنا الكلام عن هذه المسألة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا يجوز إخراجها إلاّ بنية.
المقصود بالنية هنا: أن ينوي أن هذا المال زكاة.
والدليل على وجوب النية في إخراج الزكاة:
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات).
- والدليل الثاني: أن الزكاة عبادة بل من أعظم العبادات فهي ركن من أركان الإسلام وأي عبادة لا تصح إلا بنية.
يستثنى من هذه المسألة - وجوب النية -: مسألة واحدة وهي: إذا أخرج الإمام الزكاة قهراً لمن ترك الإخراج سواء كان جحداً أو بخلاً. فهنا يكتفي بنية الإمام عن نية المزكي.
وتجزيء مانع الزكاة وليس له الأجر.
- ومعنى قول الفقهاء: تجزئ: يعني لا يجوز أن يطالب بها مرة أخرى.
- ومعنى: أنه ليس له أجر: أي لا يؤجر عليها وإنما تبرأ ذمته فقط مع الإثم.
فهو - نسأل الله العافية والسلامة - يخرج الزكاة ولا أجر له وعليه الإثم.
•
ثم قال - رحمه الله -:
والأفضل: أن يفرقها بنفسه.
الأفضل في الزكاة سواء كانت زكاة مال أو زكاة الفطر فالأفضل أن يخرجها بنفسه.
وسواء كانت الزكاة من الأموال الظاهرة أو من الأموال الباطنة.
وسواء كان المزكي صغيراً أو كبيراً بشرط أن يتمكن من الإخراج إذا كان صغيراً.
الدليل على أن هذا هو الأفضل من وجهين:
- الأول: ليباشر أداء العبادة. فإن مباشرة أداء العبادة فضل في حد ذاتها.
- الثاني: ليستيقن من وصول الزكاة لمستحقيها على الوجه المطلوب ليحصل له اليقين من وصول الزكاة إلى مستحقيها على الوجه المطلوب.
فإن الإخلال يقع أحياناً في إعطاء الزكاة لغير مستحقها ويقع أحياناً في أعطاء الزكاة لمستحقها لكن يكون الخلل في كيفية الإعطاء.
مثال ذلك: تقدم معنا أن الفقراء والمساكين يجب أن يملكوا الزكاة ولا يجوز أن يعطوا عروضاً.
(2/426)
________________________________________
فمن الخطأ أن نشتري بالزكاة مؤونة للفقير فهذا خطأ في كيفية الإخراج وإن كان صواباً من حيث المستحق للزكاة.
الخلاصة: أنه ينبغي أن يفرق الإنسان بنفسه ليأمن من الخطأ فيها - في الكيفية وفي المستحق.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد.
يعني ويستحب أن يقول الدافع ماورد والآخذ ما ورد.
فالدافع: يستحب أن يقول: اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً. وهذا الحديث ضعيف.
والصواب أنه لا يوجد دعاء فيما أعلم خاص نصت عليه السنة يقوله من أراد أن يخرج الزكاة.
أما الآخذ: فثبت في صحيح البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا أخذ الزكاة من أربابها صلى عليهم.
ولما جاء بزكاة آل أبي أوفى قال: اللهم صل على آل أبي أوفى.
- مسألة: هل يختص هذا الدعاء بما إذا أخذ الإمام الزكاة أو يقوله من أخذها ولو كان هو الفقير مباشرة؟
الأقرب والله أعلم - كما هو ظاهر كلام المؤلف أنه يشمل الفقير والإمام فكل من أخذ الزكاة يشرع له أن يدعو لمن أعطاه بهذا الدعاء وهو أن يصلي عليه.
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى مسألة أخرى:
• فقال - رحمه الله -:
والأفضل إخراج زكاة كل مال: في فقراء بلده.
مقصود بقوله: بلده يعني: بلد المال لا بلد الرجل أي في فقراء بلد المال.
وقوله: الأفضل: يعني ويجوز أن يخرج الزكاة في غير بلده بشرط: أن يكون بين بلده والبلد الذي أخرج فيه الزكاة دون مسافة القصر.
والدليل:
- أن البلد الذي لا يبعد مسافة قصر حكمه حكم بلد المال.
إذاً فقول المؤلف: الأفضل يتعلف بالبلد الذي لا يبعد مسافة قصر ولا يريد المؤلف مطلقاً أن توزيع المال في البلد أفضل ويجوز في غيره. إنما هو أفضل ويجوز في غيره فقط إذا كان دون مسافة القصر.
أما إذا كان مسافة قصر فبين المؤلف حكمها:
• فقال - رحمه الله -:
ولا يجوز: نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة.
نقل الزكاة إلى خارج بلد المال الذي يبعد مسافة قصر محل خلاف لكن قبل أن نذكر الخلاف نذكر محل الوفاق:
(2/427)
________________________________________
- اتفق أهل العلم كلهم على أنه يجوز إخراج الزكاة من بلد المال إذا استغنى كل الفقراء فيها وفاض منها فائض جاز أن نخرجها إلى البلدان الأخرى وسيأتينا في كلام المؤلف أنه يخرجها حسب الأقرب فالأقرب.
إذا بقي في البلد فقراء فهذا محل خلاف بين أهل العلم:
= فذهب الأئمة الثلاثة والجماهير إلى أنه لا يجوز للإنسان أن يخرج الزكاة من بلده إلى بلد آخر ذهب إلى هذا: مالك والشافعي وأحمد.
واستدلوا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) فأمر برد الزكاة في فقراء البلد.
- والدليل الثاني: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنكر على معاذ لما أرسل له زكاة اليمن فبين له معاذ - رضي الله عنه - أنه لم يرسلها إلا بعد أن استغنى الفقراء.
= القول الثاني: للأحناف. أن إخراج الزكاة عن بلد المال مكروه فقط وترتفع الكراهة إذا أخرج المال لقريب أو لأشد حاجة أو لأكثر ورعاً. ففي هذه الثلاثة أحوال يجوز بلا كراهة وفي غير هذه الثلاثة أحوال يجوز لكن مع الكراهة.
= القول الثالث: أنه يجوز إخراج الزكاة إذا كان الإخراج لمصلحة شرعية معتبرة وهو قول لبعض الفقهاء اختاره شيخ الاسلام - رحمه الله -.
= القول الرابع: أنه يجوز إخراج الزكاة مطلقاً. وإلى هذا ذهب الإمام البخاري - رحمه الله -.
واستدل بدليلين:
- الأول: قوله تعالى: - (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ... ) -[التوبة/60] يعني: في أي بلد. فالآية مطلقة عامة.
- والثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) يعني: في فقراء المسلمين كما قال - رحمه الله - لا في فقراء البلد.
والراجح: القول الثالث فإنه وسط بين الأقوال وبه تجتمع الأدلة وتدل عليه آثار الصحابة.
وفهم من هذا: أنه من الخطأ أن يتساهل الإنسان بإخراج الزكاة عن بلده بلا مبرر شرعي فإن هذا أقل ما يقال فيه أنه مكروه.
(2/428)
________________________________________
إن لم نجزم كما هو مذهب الجمهور بالتحريم بسبب إنكار عمر على معاذ مع العلم أن أهل المدينة كانوا فقراء بل قد يكونوا أشد حاجة من أهل اليمن باعتبار أن أهل اليمن كانوا يأتيهم مدد من جهتين: بلد تجارة وبلد زراعة فكانوا أحسن حالاً من أهل المدينة ومع ذلك أنكر عمر - رضي الله عنه - على معاذ لما أرسل له زكاة اليمن.
الخلاصة: أنه ينبغي على الإنسان إذا لم يكن هناك مبرر شرعي واضح وحاجة ظاهرة يقدرها أهل العلم ينبغي أن لا يخرج الزكاة عن بلده.
ومن أشهر المبررات: شدة الحاجة فشدة الحاجة لا شك ولا ريب أنها مبرر فإذا كان بلد آخر يكاد أهله أن يموتوا من الجوع فليس من المنطق ولا من الأخوة أن نحصر الزكاة في بلد غني ونترك ذلك البلد الفقير لا سيما إذا كانت الزكاة تصرف فيما هو محل ضرورة كالأكل واللباس والسكن والعلاج فهذه الأمور الأربعة من أهم ما يدعم به الفقير.
•
ثم قال - رحمه الله -:
فإن فعل أجزأت.
يعني: إذا تقرر أن الإخراج محرم وأن المخرج آثم لكن إن فعل فهل تجزئ أو لا تجزئ.
= ذهب الجماهير وأكثر أهل العلم إلى أنه إن فعل أثم وأجزأت.
واستدلوا على ذلك:
- بأن هذا الرجل أخرج الزكاة لمستحقها فلا يوجد ما يدل على بطلانها.
= والقول الثاني: أنه آثم والزكاة باطلة ولا تجزئ.
واستدلوا:
- بأن هذا الرجل أخرج الزكاة في غير أهلها لأن أهلها شرعاً هم فقراء البلد.
وهذا القول - الثاني - ضعيف بل الصواب أنها تجزئ إن شاء الله لأنه لا يوجد دليل شرعي واضح يدل على البطلان إنما غاية ما تدل عليه النصوص تحريم النقل أما البطلان فلا دليل عليه ويصدق عليه أن أخرج الزكاة في أحد الأصناف الثمانية.
• ثم قال - رحمه الله -:
إلاّ أن يكون في بلد لا فقراء فيه: فيفرقها في أقرب البلاد إليه.
إذا لم يكن في البلد فقراء: تقدم معنا حكاية الإجماع على جواز إخراجها.
وقولهم: أنها في أقرب البلدان. لأنها الأولى. ولأن البلدان التي دون مسافى القصر لا يحرم إخراج الزكاة إليها عند الحنابلة.
(2/429)
________________________________________
والإخراج إذا اغتنى البلد عمل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فإن النصوص والآثار التي فيها أنه جيء إلى المدينة بالزكاة والصدقات تحمل على أن أهل البلد الذي أخرجت منه الزكاة اكتفوا.
وهذا الحمل صحيح. توفيقاً بين النصوص ولأثر معاذ السابق لما أنكر عليه عمر قال: لم أرسل لك منها شيئاً حتى اكتفى أهل البلد.
فإذاً يحمل ما نراه من النصوص التي تفيد إحضار الزكوات إلى المدينة على هذا المحمل: أن أهل البلد الذي أخرجت منه اكتفوا.
وفي هذه الحالة: في حال النقل: تكون أجرة النقل على المزكي = عند الحنابلة.
- لأنه الذي يجب عليه أن يخرج الزكاة ومن وجب عليه شيء وجب عليه مؤونته.
= والقول الثاني: أنها إذا أخرجت فمؤونة النقل على بيت المال.
والراجح: الأول. وهو: أنه يجب على المزكي أن يدفع من غير الزكاة أجور نقلها لأنه يجب عليه أن يخرج الزكاة لمستحقها وهي لا تصل إلى مستحقها إلا بذلك وهذه الأجور - أجور نقل الزكاة - تشبه ما إذا ذهب هو داخل البلد وتكلف مالاً ليصل إلى الفقير فهنا نفس الشيء. إلا أن هذا قريب وذاك بعيد فالأجرة على المزكي.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإن كان في بلد وماله في آخر: أخرج زكاة المال في بلده.
يعني: في بلد المال: إذا كان الشخص في بلد وماله في بلد وهذا يقع كثيراً فإن الزكاة تخرج في البلد الذي فيه المال وهذا يتعلق بزكاة المال دون زكاة الفطر كما سيأتينا.
والدليل على هذا:
- أن البلد الذي فيه المال تتعلق أنظار الفقراء فيه بهذا المال. فناسب أن تخرج فيه.
- ثانياً: أن سبب وجوب الزكاة: المال. فوجب أن تخرج الزكاة حيث وجد سبب الوجوب.
وإذا كان الإنسان في بلد وأمواله متفرقة بين البلدان كما يحصل الآن عندنا كثير أن يكون الإنسان يملك محلات معروفة فله في كل بلد فرع فيجب أن يخرج زكاة كل فرع في بلده.
لما تقدم: من تعلق أنظار الفقراء بها وأن سبب الوجوب وجد في هذا البلد.
• ثم قال - رحمه الله -:
وفطرته في بلد هو فيه.
يعني: ويجب أن يخرج زكاة الفطر في البلد الذي هو فيه سواء كان هذا البلد بلد إقامة أو بلد سفر فحيث ما كان الإنسان يخرج زكاة الفطر.
والدليل على هذا:
(2/430)
________________________________________
- أن زكاة الفطر تتعلق بالبدن لا بالمال فحيثما وجد سبب الوجوب وهو البدن وجب إخراج الزكاة.
والأظهر والله أعلم: أن إخراج زكاة المال في بلد المال وزكاة الفطر في بلد البدن على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب.
فإن أخرج وخالف فلا يأثم وزكاته مجزأة إلا أن الأولى أن لا يفعل.
• قال - رحمه الله -:
ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل.
يجوز أن يعجل الإنسان زكاة ماله لحولين فأقل. ولكن بشرط أن يكتمل النصاب حال التعجيل. لأنه يجوز إنفاذ الحكم بعد وجود السبب ولو قبل وجود الشرط.
فاكتمال النصاب سبب في الوجوب والحول شرط للوجوب.
بناء عليه: لا يجوز أن يعجل الإنسان زكاته قبل وجود النصاب.
المسألة الثانية: = ذهب الجمهور إلى أنه يجوز تعجيل الزكاة لحولين فقط.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجل الزكاة من العباس لحولين.
وهذا الحديث فيه ضعف لكن مال الحافظ ابن حجر إلى تقوية متنه بمجموع الطرق والشواهد.
وهذا صحيح إن شاء الله.
= والقول الثاني: أنه يجوز تعجيل الزكاة مطلقاً. وهو مذهب الأحناف. يعني: لسنتين وثلاث وأربع ... .
والصواب: مع الجمهور لأن النص ورد بسنتين فقط والأصل أن لا تخرج الزكاة إلا بعد الحول. فمذهب الجمهور هو الصواب.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا يستحب.
يعني: مع جواز التقديم إلا أنه لا يستحب ولا ينبغي أن يقدم.
دليل عدم الاستحباب:
- أن الأصل في الزكاة أنها عبادة مؤقتة بالحول والخروج عن هذا الأصل لا يستحب.
= والقول الثاني: أن مسألة التقديم - تقديم الزكاة - ترجع إلى المصلحة فإذا اقتضت المصلحة التقديم قدم وإلا فلا.
وإلى هذا مال ابن مفلح والمرداوي وهو لا شك قول صحيح. ولا يحسن بالإنسان أن يطلق عدم الا ستحباب على عمل قام به النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإنه - صلى الله عليه وسلم - تعجل الزكاة.
لكن الجمع. هو ما ذكره ابن مفلح: أن نقول: إذا اقتضت المصلحة فالأحسن التقديم وإلا فلا.
(2/431)
________________________________________
وبهذا تجتمع النصوص: لأن الأصل في عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يأخذ الزكاة إلا عن كل حول بحوله ولكن وجدناه مرة أخذ واستسلف حولين فدل على أنه يرجع للمصلحة ولا نقول أنه كطلقاً لا يستحب فكأنا نحكم على عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يستحب.
باب أهل الزكاة
• ثم قال - رحمه الله -:
باب أهل الزكاة.
مقصود المؤلف - رحمه الله - بهذا الباب بيان من يجوز أن تصرف لهم الزكاة وما يتعلق بهذا من تفصيلات.
• قال - رحمه الله -:
ثمانية.
مقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: ثمانية. أي: ولا يجوز أن تصرف لغيرهم مهما بلغت الجهة المصروف إليها من الفضل والإغراق في العبادة.
فلا يجوز في بناء المساجد ولا في طباعة المصاحف ولا في شق الطرق ولا في إقامة الجسور ولا في أي عمل مهما بلغ من الفضل إلا في هؤلاء الثمانية.
الدليل على ذلك:
- أن الله سبحانه وتعالى قال: {إنما الصدقات للفقراء ... }. وإنما: عند الأصوليين جميعاً تقتضي الحصر. ومعنى الحصر عند الأصوليين: إثبات الحكم فيمن ذكر ونفيه عما عداه.
فالآية أثبتت الحكم وهو جواز دفع الزكاة في الأصناف الثمانية ونفته عما عداهم.
وحصر الزكاة في الأصناف الثمانية محل إجماع فلم يخالف فيه إلا الحسن - رحمه الله - فجوز إعطاء الزكاة في الطرق والجسور. ولكن لم يوافقه - رحمه الله - العلماء على هذا ورأوا انحصار الزكاة في الأصناف الثمانية.
لكن هذه الفتوى عن الحسن تفيد طالب العلم مقدار فضل بناء الجسور أو تعبيد الطرق وأنه من العبادات المهمة في الإسلام مما جعل الحسن يدخل هذه العبادة في أصناف الزكاة.
والصحيح والراجح خلاف قوله - رحمه الله - لكن مع ذلك يدل على أن هذا من أعظم الطاعات.
•
ثم قال - رحمه الله -:
(1) الفقراء: وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية (2) والمساكين: يجدون أكثرها أو نصفها.
في مسألة الفقراء والمساكين عدة مسائل:
- المسألة الأولى: أن الفقراء والمساكين صنفان في باب الزكاة وصنف واحد في غيره من الأبواب.
- المسألة االثانية: أن الفقير على الصحيح أشد حاجة من المسكين. لأن الله بدأ به ولا يبدأ سبحانه وتعالى إلا بالأهم.
(2/432)
________________________________________
- المسألة الثالثة: الفرق بين المسكين والفقير هو ما ذكره المؤلف.
فالفقراء عند المؤلف هم: هم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية.
وقوله: (أو يجدون بعض الكفاية.) ينبغي أن يقيد بما دون النصف.
والمساكين هم: (يجدون أكثرها أو نصفها.).
فالفقير من يجد من الكفاية دون النصف.
والمسكين من يجد الأكثر أو النصف فأكثر.
وبعبارة أدق: النصف فأكثر يعتبر مسكين. وأقل: يعتبر فقير. والنصف بالذات: مسكين.
وبهذا يصح ما تقدم من أن الفقير أشد حاجة من المسكين.
عرفنا الآن من هو الفقير؟ هو: من لا يجد كفايته أكثر السنة.
وأن المسكين: هو من لا يجد كفايته النصف فأكثر.
فأي إنسان ما يجد كفايته من الأشياء المهمة والضرورية هذا المقدار فهو إما مسكين أو فقير وكلاهما من أصناف الزكاة.
- المسألة الرابعة: يرتفع اسم الفقر والمسكنة بأحد ثلاثة أمور:
= الأمر الأول: أن يجد مالاً يكفيه مهما كان نوع المال. سواء كان من الأثمان أو من المتاع.
فإذا وجد الإنسان مبلغاً من المال يكفي مؤونته وحاجاته فإنه ليس بفقير ولا يجوز له أن يأخذ من الزكاة.
وإن وجد من الأعيان ما يكفيه لو باعه وجب عليه أن يبيع هذا الشيء وينفق من ثمنه على نفسه. إلا أن يكون هذا الشيء من الحاجات الأصلية له كمسكنه ووسيلة التنقل التي لا يستغني عنها.
أما ما زاد عن حاجاته الأصلية فيجب عليه وجوباً أن يبيعه وينفق على نفسه منه ولا يجوز أن يأخذ من الزكاة.
فإن كان الفقير يسكن في بيت تقدر قيمته بخمسمائة ألف ويستطيع أن يسكن في بيت تبلغ قيمته ثلاثمائة ألف وجب عليه أن يصنع ذلك: أي أن يبيع ويشنري ما يناسبه من المنازل وينفق الباقي على نفسه ومن تجب عليه نفقتهم.
إلا أن يكون البيت الذي يبلغ قيمته خمسمائة ألف لا يعتبر من يسكنه مسرفاً أو مبالغاً بل يتناسب مع وضع عامة الناس فإنه يجوز له أن يسكن فيه.
وكذلك لو كان بيع هذا البيت يسبب ضرراً كبيراً عليه بحيث لو باع هذا البيت لم يتمكن من إيجاد مسكن بنصف قيمته مناسب لمثله أن يسكن فيه.
الأمر الثاني: - الرافع لاسم الفقر والمسكنة -: أن يوجد من يجب عليه أن ينفق على الفقير ويستطيع. كالأب بالنسبة للإبن والزوج بالنسبة للزوجة.
(2/433)
________________________________________
فإذا كان الإنسان فقير لكن يوجد من يجب عليه أن ينفق عليه فلا نعطيه من الزكاة بل نقول: يجب على وليك أن ينفق عليك.
مسألة: فإذا امتنع ولي الأمر من النفقة فهو آثم لأنه ترك ما وجب عليه لكن يجوز أن نعطي الفقير من الزكاة لأنه يصدق عليه حينئذ أنه لا يجد كفايته.
الأمر الثالث: - الذي يرفع اسم الفقر والمسكنة - أن يوجد للإنسان مرتب يكفيه أو صنعة يتكسب منها. ولو لم يكن هو مالكاً للمال الآن وإنما يأتيه تباعاً فإنه لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة.
مسألة: لا يجوز أن نعطي من الزكاة من كان قادراً على التكسب ولو ترك التكسب تفرغاً للعبادة بل يقال له إعمل واكسب وأنفق على نفسك.
ويجوز أن نعطي الزكاة من ترك التكسب تفرغاً للعلم ولا ينبغي له أن يصنع ذلك. لا ينبغي له أن يترك التكسب ويبقى على زكوات الناس لكن إن صنع فيجوز أن نعطيه. لأنه يعمل في مصلحة المسلمين فإن العلم نوعى من الجهاد.
• ثم قال - رحمه الله -:
(3) والعاملون عليها: وهم جباتها وحفاظها.
العمال على الصدقة هم الذين يبعثهم الإمام ولي الأمر - لجمع وتحصيل الزكوات والقدوم بها عليه.
مسألة: ويدخل فيهم كل من لا يتم العمل إلا به كالرعاة والذين يحسبون والذين يكتبون وكل من لا يقوم العمل إلا به يدخل في العاملين عليها.
مسألة: ما يعطى هذا العامل من الأجر من المال يعتبر أجرة مقابل عمله تصرف من الزكاة.
بناء على تقرير هذا المبدأ: يعطى أجرة نظيره - أجرة المثل.
فإذا قررنا أن ما يعطى هذا العامل هو أجره فيرجع في تقدير هذه الأجرة إلى نظيره ومثيله فيرجع إلى أهل العرف من عمل نظير هذا العمل فكم يعطى؟ فيعطى من الزكاة بهذا المقدار.
وعرف مما تقدم - من التعريف - أن الذين يجتهدون في جمع الزكاة ممن لم يرسلهم ولي الأمر لا يعتبرون في عرف الفقهاء من العاملين عليها وإنما يختص هذا بمن يرسله الإمام.
وسهم العاملين عليها محل إجماع. ودل عليه: الإجماع والكتاب والسنة.
- فالإجماع: حكاه غير واحد من أهل العلم.
- والكتاب: الآية.
(2/434)
________________________________________
- والسنة: ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل العمال لإحضار الصدقة ويعطيهم وممن أرسل - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرسل غيره أيضاً.
• ثم قال - رحمه الله -
(4) الرابع: المؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامه أو كف شره، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه ,
المؤلفة ينقسمون إلى قسمين:
- من المسلمين.
- ومن الكفار.
والمؤلفة من الكفار ينقسمون إلى قسمين:
- القسم الأول: من يعطى رجاء إسلامه.
- والقسم الثاني: من يعطى لكف شره ولو لم يرجا أن يسلم.
- القسم الثاني: المؤلفة من المسلمين وهم أنواع:
- النوع الأول: من يعطى ليسلم نظرائه. ولو كان هذا الشخص الذي يعطى ممن أسلم وحسن إسلامه. فإنه يعطى ليسلم نظرائه.
بدليل: أن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أسلم وحسن إسلامه ومع ذلك أعطي من هذا السهم ليتألف من هم على شاكلته.
- النوع الثاني: من يعطى ليزداد إيمانه وليثبت في الإسلام.
بدليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الأقرع بن حابس وأعطى مسلمة الفتح تقوية لإيمانهم.
- النوع الثالث: من يكون من المسلمين في أطراف البلاد فيعطون ليكفوا الشر عمن دونهم.
- النوع الرابع والأخير: من إذا أعطي سعى بجمع الزكاة ممن حوله وتحصيلها للإمام.
مسألة: نص الحنابلة في أكثر الكتب أن سهم المؤلفة يتعلق بمن كان رئيساً في قومه وسيداً مطاعاً. أما غير الرئيس والسيد فإنه لا يعطى فإذا رجي إسلام شخص من عامة الكفار فإنه لا يعطى.
= والقول الثاني: أنه يعطى.
وهذه المسألة: نريد أحد الإخوة يتبرع ببحثها وهي مسألة مهمة وفيها أقوال وأدلة ونحن لن نعين شخصاً لكن نقول إذا أحد نشط لبحثها فهي مسألة مهمة لا سيما من الإخوة الذين ليس عندهم اختبارات في الوقت القريب.
• ثم قال - رحمه الله -:
(5) الخامس: الرقاب وهم المكاتبون، ويفك منها الأسير المسلم.
في الرقاب: يتناول صنفين: وعلى ما ذكر المؤلف ثلاثة:
(2/435)
________________________________________
- الصنف الأول: المكاتبون. فيجوز أن نعطي المكاتب ليكمل المكاتبة ويتحرر. لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. ولا يجوز أن نعطي المكاتنب القادر على تسديد ما عليه من الأقساط ولا يجوز أن نعطيه أكثر مما يحتاج إليه في تسديد دين المكاتبة إنما يقتصر على ما يحتاج إليه بشرط أن لا يتمكن هو من تسديد ماعليه.
- الصنف الثاني: أن نشتري عبداً من مال الزكاة ثم نعتقه. = وذهب إلى جواز ذلك الجمهور. وذهب إليه الإمام أحمد ثم صار في آخر أمره يتردد في جواز ذلك. وسبب التردد عن الإمام أحمد أنه إذا جاء زيد ممن يخرج الزكاة واشترى العبد وأعتقه صار الولاء لمخرج الزكاة فصارت الزكاة تجر على المخرج نفعاً فلهذا تردد فيها الإمام أحمد - رحمه الله -.
والأقرب والله أعلم ما ذهب إليه الجمهور من جواز إعتاق العبيد من الزكاة لأن الآية عامة بل المتبادر إلى الذهن في قوله: (وفي الرقاب) هم الذين يشترون ويعتقون.
فالأقرب والله أعلم الجواز لا سيما إذا كان العبد له غناء في الإسلام كأن يكون من العلماء أو من المجاهدين أو يحسن صنعه لا يحسنها غيره فالمهم أن يكون فيه صفة مرغوب فيها فينبغي أن يتبارى الناس في إعتاق مثل هذا الشخص وفي المقابل إذا كان العبد ممن يحسن صنعة محرمة كأن يكون مغنياً فإنه لا ينبغي أولا يجوز أن يعتق من مال الزكاة فاحتمال أنه لا ينبغي أو أنه لا يجوز. لأن اعتاق مثل هذا الشخص مفسدة في الحقيقة.
الصنق الثالث: هم من أشار إليهم المؤلف - رحمه الله -: (ويفك منها الأسير المسلم).
= ذهب الإمام أحمد في رواية اختارها المجد وحفيده أنه يجوز أن نعتق الأسير.
- أولاً: لأن هذا فك رقبة الأسير من الأسر.
- ثانياً: لأنه أولى من المؤلف فهو مسلم مأسور فيكون أولى من المؤلفة.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز أن نفك الأسير بمال الزكاة وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد لأنه لا يدخل في عموم: (وفي الرقاب).
والصواب الأول إن شاء الله - وهو جواز فك الاسير من الزكاة.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ....
مسألة: تلحق في الكلام عن المؤلفة قلوبهم.
سؤال: ألم يسقط سهم المؤلفة قلوبهم؟
(2/436)
________________________________________
الجواب: = من الفقهاء من ذهب إلى أن سهم المؤلف سقط ولا يشرع الآن أن نعطي أحداً من المؤلفة.
- لقوة الإسلام واستقراره.
- ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يعطوا هذا السهم في خلافتهم.
= والقول الثاني وهو الذي عليه الجماهير أن هذا السهم باق كما هو.
- لأن آية حصر الزكاة في الأصناف الثمانية من آخر القرآن نزولاً ولم يثبت لها ناسخ لا في السنة ولا في صريح فتاوى الصحابة.
وهذا القول الثاني - هو الصواب.
والجواب عن أن الصحابة - الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - لم يعطوا هذا السهم لأصحابه: أنهم لم يحتاجوا إلى ذلك لقوة الإسلام.
فنحن نقول إذا لم يحتنج ولي الأمر إلى هذا السهم فإنه لا يخرجه. وإذا احتاج إليه يخرجه.
أما أنه ينسخ ونقول لا يجوز فهذا قول مرجوح.
انتهى الدرس
(2/437)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
انتهى المؤلف رحمه الله من الكلام عن خمسة من الذين يستحقون الزكاة بنص كتاب الله وانتقل إلى السادس:
• فقال - رحمه الله -:
باب أهل الزكاة
(6) السادس: الغارم لإصلاح ذات البين.
قوله: (الغارم). الغارم يقصد به هنا المدين.
والغارم الذي يستحق الزكاة ينقسم إلى قسمين - ذكرهما المؤلف:
- - القسم الأول: هو الغارم لإصلاح ذات البين.
وتعريفه هو: من يتحمل في ذمته مالاً لإصلاح الخصومة التي تقع بين فئتين في مال أو دم.
فهذا الرجل الذي يتحمل هذا المال في ذمته للإصلاح بين المتخاصمين يستحق أن يعطى من الزكاة.
والدليل على هذا من وجهين:
- الوجه الأول: عموم الآية فإن هذا الرجل يصدق عليه أنه غارم.
- الوجه الثاني: ما ثبت في الصحيح أن فبيصة - رضي الله عنه - تحمل حمالة بين فئتين متخاصمتين ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب أن يساعده فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمكث عندنا فإن الصدقة تأتي ونعطيك). ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة ثم قال في تعريف الأول: (إلا لثلاثة: من تحمل حمالة فيسأل حتى يقضيها).
(2/438)
________________________________________
فهذا الحديث نص لقوله: (من تحمل حمالة فيسأل حتى يقضيها).
فإذاً: أخذ الغارم دل عليه في الحقيقة الكتاب والسنة وعرفنا من هو الغارم لإصلاح ذات البين؟
•
ثم قال - رحمه الله -:
ولو مع غنى.
يعني يجوز لمن تحمل حمالة للإصلاح أن يأخذ من الزكاة ولو كان غنياً.
الدليل على هذا أيضاً من وجهين:
- الوجه الأول: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) وذكر منهم الغارم.
- الوجه الثاني: - أو الدليل الثاني لجواز أخذه مع غناه - أنه إنما يأخذ لمصلحة المسلمين لا لمصلحة نفسه فجاز أن يأخذ ولو كان غنياً. كالعامل والمؤلفة قلوبهم.
مسألة: فهم مما تقدم أن المصلح لو تحمل مالاً بين الناس ودفعه نقداً ولم يلتزمه في ذمته فإنه لا يجوز له أن يأخذ من الصدقات.
التعليل:
- أنه بعد أن دفعه نقداً لا يسمى مديناً والغارم هو المدين. والله سبحانه وتعالى إنما أجاز للمدين أن يأخذ دون من دفع نقداً.
= والقول الثاني: أنه يجوز له أن يأخذ ولو دفع نقداً.
- لأن لا ينسد باب الإصلاح.
- ولأن لا يدخل الضرر على المصلحين.
ويشترط لأخذه على هذا القول أن: - ينوي الرجوع: أي حال الدفع نقداً.
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - للقسم الثاني: وهو الغارم لنفسه مع الفقر.
• فقال - رحمه الله -:
أو لنفسه مع الفقر.
- - فالقسم الثاني - من الغارمين -: الغارم لإصلاح نفسه.
وتعريفه هو: الفقير الذي يستدين لينفق على نفسه ومن يعول أو ليعالج نفسه أو نحو هذا من المهمات.
فهذا يجوز له أن يأخذ من الزكاة ويقضي الدين الذي عليه بإجماع العلماء. فلم يخالف فيه أخد.
ودل على مشروعية أخذه: - عموم الآية.
ويشترط ليأخذ شرطان:
- الشرط الأول: أن لا يكون اقترض الدين لمعصية فإن كان اقترض الدين ليعصي الله فإنه لا يجوز أن يسدد عنه من الزكاة إلا إذا تاب.
- الشرط الثاني: أن لا يوجد عنده من المال ما يتمكن به من السداد مهما كان نوع المال سواء كان هذا المال أثمان كالذهب والفضة أو عروض منقولة أو ثابتة. المهم أنه يشترط أن لا يكون عنده أي مال يستطيع أن يسدد به هذا الدين سواء كانت التسديد مباشرة أو بأن يبيع العرض ويسدد دينه.
(2/439)
________________________________________
فإن أخذ مع وجود ما يمكن أن يسدد به الدين فقد أخذ مالاً محرماً عليه.
• ثم قال - رحمه الله -:
(7) السابع: في سبيل اللَّه.
السابع من مصارف الزكاة: في سبيل الله.
ويقصد به: المجاهد. وهذا عند الحنابلة.
فإن المجاهد في سبيل الله يجوز له أن يأخذ من الزكاة.
واختلف العلماء في تحديده:
= فذهب الجماهير من الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف وعامة العلماء إلى أن المقصود بسبيل الله هو: المجاهد في سبيل الله فقط.
واستدلوا على هذا بأدلة:
- الدليل الأول: أن مصطلح في سبيل الله يراد به في الشرع المجاهد. فإن كلمة في سبيل الله جاءت في كتاب الله في جميع المواضع - إلا شيئاً يسيراً -: يقصد بها المجاهد.
وإذا كان يقصد بها المجاهد فإن العلماء قرروا قاعدة وهي: ((أن حمل اللفظ على معناه المتبادر المعروف المنتشر أولى من حمله على غيره من المعاني)).
- الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لاتحل الصدقة لغني إلا لخمسة: ثم قال: (لغاز في سبيل الله). فنص على الغازي. والغازي هو: المجاهد.
- الدليل الثالث: أن القول بأن مصرف في سبيل الله يقصد به: جميع أوجه البر والخير يؤدي إلى إلغاء الحصر الموجود في الآية فيصبح كأنه لا معنى له.
= القول الثاني: وهو قول لبعض الأحناف وقول لبعض المعاصرين أن فس سبيل الله يقصد به جدميع أوجه البر.
واستدلوا بدليلين:
- الأول: أن سبيل الله لفظ عام يقصد به جميع أنواع رالطاعات والبر والخير. فحصر مدلول اللفظ على شيء واحد - وهو الغازي - بلا دليل لا يجوز.
والجواب: نقول: تقدمت الأدلة الواضحة على هذا الحصر.
- الثاني: قالوا: أنه روي عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - أنهما قالا: الحج من سبيل الله. والحج نوع من الطاعات يختلف كما هو معلوم عن الجهاد.
والجواب: أن الحج من سبيل هذا صحيح. لكن لا يقصد به السبيل الذي ذكر في الآية بل يقصد به السبيل العام.
وبهذا أجاب الجمهور. وبكل حال لا يمكن لفتوى ابن عباس وابن عمر أن يعارض بها النص الصريح وأنا أعتبر أن الآية صريحة بأن المقصود المجاهد لأنه لا معنى للحصر لو جعلنا المقصود بها جميع أنواع الطاعات.
(2/440)
________________________________________
ثم يكون التنصيص على الفقير والمسكين والعامل والمؤلفة والغارم لا معنى له مطلقاً لأن هذه جميعاً تدخل في سبيل الله وغيرها من بناء الجسور وتمهيد الطرق والحج وغيره فصارت الآية لا معنى لها ولا مفهوم ولذلك لم يذهب إلى هذا القول أحد من الأئمة المتقدمين سوى بعض الأحناف وأولع به بعض المعاصرين وصار يتبناه وهو قول فيما أرى ضعيف بل ضعيف جداً.
• ثم قال - رحمه الله -:
وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم.
قوله: (وهم الغزاة) يدل على أنه يجب أن نعطي المجاهد في سبيل الله المال مباشرة ولا يجوز أن نشتري له فرساً أو آلة حرب.
الدليل:
- أنا إذا أعطيناه الفرس فقد أعطيناه فرساً ولم نعطه الزكاة. قال الإمام أحمد: آتاه فرساً ولم يؤته الزكاة. والواجب أن يؤتيه الزكاة.
= القول الثاني: أنه يجوز للإنسان أن يشتري بماله الزكوي ما يتعلق من آلاته ووسائل النقل الخاصة به التي تستعمل فيه أي في الحرب ثم يعطيها المجاهدين أو يرسلها للثغور.
واستدلوا على هذا:
- بأن من اشترى بزكاته آلة الحرب فقد صرف الزكاة في سبيل الله أي في الجهاد.
وهذا القول الثاني إن شاء الله هو الأقرب وإن كان القول الأول أحوط. لكن القول الثاني هو الراجح.
ومن أسباب ترجيحه أن الله تعالى قال: - (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ).
فعبر بفي ولم يعبر باللام.
واللام: هي التي تقتضي التمليك.
وفي: تقتضي أن يبذل مال الزكاة في هذه الجهة.
ومن اشترى آلة حرب وأرسلها للمجاهدين فقد بذل هذا المال في هذه الجهة.
ولهذا نقول أن الثاني إن شاء الله أرجح لكن الأول أحوط باعتبار أنه إذا أعطى المجاهد المال مباشرة فقد أخرج الزماة في مصرفه بإجماع أهل العلم.
وقوله: (وهم الغزاة المتطوعة) قوله وهم الغزاة لم يقيد هذا بأن يكونوا فقراء فيجوز أن تعطي المجاهد ولو كان غنياً ولو كان يستطيع أن يجهز نفسه.
= وإلى هذا ذهب الجماهير: أنه يجوز أن نعطي المجاهد ولو كان غنياً.
واستدلوا على هذا:
- بأن الآية عامة: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) ومن أعطاها مجاهداً غنياً فقد بذلها في سبيل الله.
(2/441)
________________________________________
- واستدلوا بدليل آخر: وهو: أن المجاهد إنما يأخذ الزكاة لمصلحة المسلمين لا لمصلحة نفسه وكل من أخذ الزكاة لمصلحة المسلمين جاز أن يأخذ مع غناه كالعامل كما تقدم.
= وذهب الأحناف إلى أنه لا يجوز أن نعطي المجاهد زكاة إلا إذا كان فقيراً.
- لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم.
والصواب اتلقول الأول: - لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - فترد في فقرائهم مخصوص بالنصوص العامة. هذا أولاً.
- وثانياً: لأن اشتراط الفقر في المجاهد يلغي مصرف في سبيل الله مستقلاً يعني: يصبح مصرف في سبيل الله غير مستقل فيصير تبعاً للفقير فيكون لا حاجة لذكره.
والقول الذي يؤدي إلى إلغاء مصرف من المصارف الثمانية دليل على ضعفه ولذلك لم يذهب إليه أحد من الأئمة الأربعة إلا أبو حنيفة فقط وأما الجماهير من الأئمة الثلاثة وغيرهم من السلف فيرون جواز إعطاء المجاهد ولو كان غنياً.
• ثم قال - رحمه الله -:
المتطوعة أي - وفي نسخة - (الذين) لا ديوان لهم.
ونسخة الذين أوضح.
وقوله: (الذين لا ديوان لهم) أي: فإن كان لهم مرتب من الديوان فإنه لا يجوز أن نعطيهم من الزكاة لاستغنائهم بما يأخذون من بيت المال عن الزكاة.
إلا في حالة واحدة: إذا كان الذي يأخذون من بيت المال لا يكفي فيجوز أن نعطيهم كمال الكفاية من الزكاة.
•
ثم قال - رحمه الله -:
(8) الثامن: ابن السبيل.
وعرف ابن السبيل بقوله:
المسافر المنقطع به.
ابن السبيل: تعرفه: هو المسافر الذي ليس له ما يرجع به إلى بلده.
فإذا وجدنا رجلاً فقيراً انقطع ولم يستطع الرجوع إلى بلده جاز أن نعطيه من الزكاة ولو كان غنياً في بلده كما سيأتينا في كلام المؤلف - رحمه الله -.
مسألة: تبين من هذا التعريف أنه لا يعتبر داخل في مفهوم ابن السبيل من أراد أن يسافر من بلده إلى بلد آخر ولو كان فقيراً.
ويجب أن تفهموا أنه إذا قيل المسافر إذا أراد أن يسافر من موطنه لا نعطيه من الزكاة ولو كان فقيراً أنا لا نعطيه بسبب ابن السبيل لكن إذا أردنا أن نعطيه لكونه فقير فهذا باب آخر وإنما البحث الآن في مصرف ابن السبيل.
(2/442)
________________________________________
فالإنسان الذي في بلده يريد أن يسافر ولو كان فقيراً ولو كان سيسافر لحاجة مهمة فإنه لا يجوز أن عطيه.
الدليل: الدليل: - أن المتبادر من إطلاق ابن السبيل: الغريب. ومن كان في وطنه فهو في وطنه وليس غريباً.
- ثانياً: أن قوله: (ابن السبيل) تعني: من يلازم السبيل أي الطريق ومن كان في بلده فليس كذلك.
مسألة: علم من التعريف أن من كان مسافراً ويريد أن يسافر إلى بلد غير بلده ثم يرجع إلى بلده فإنه لا يعطى من الزكاة إنما الذي يعطى من أراد أن يرجع إلى بلده.
فإن كان يريد أن يذهب من البلد التي هو فيها إلى بلد آخر ثم يرجع إلى بلده فإنه لا يعطى.
= وإلى هذا ذهب بن قدامة ونصره.
واستدل على هذا:
- بأن النص إنما جاء بإعطاء من يريد أن يرجع إلى بلده لحاجته أما من يريد أن يذهب إلى بلد آخر ثم يرجع إلى بلده فلا يدخل في هذا المصرف.
= القول الثاني: - وهو وجه للحنابلة - أنه يجوز أن نعطي من كان هذا شأنه ليذهب إلى البلد التي يريد ثم يرجع إلى بلده إلا إذا كان ذهابه لتلك البلد على سبيل النزهة.
الدليل:
- لأن هذا الرجل يصدق عليه أنه ابن السبيل وكونه سيذهب إلى بلده أو سيذهب إلى بلد آخر ثم يرجع إلى بلده لا يرفع عنه أنه ابن سبيل لا سيما وأن سفره سيكون لحاجة لأنه اشترطنا أن لايكون سفره سفر نزهة.
ويبدو لي والله أعلم أن هذا القول - الثاني - أقرب لمقصود الشارع وهذا فيما يبدو لي مع العلم أن المسألة تحتمل البحث وما ذكره ابن قدامة قوي.
لأنا نقول: إذا كنت فقير إذهب إلى بلدك مباشرة وخذ من الزكاة لكن الذي يجعل الإنسان يرجح القول الثاني أنه قد يحتاج الإنسان إلى الذهاب إلى بلد آخر قبل أن يذهب إلى بلده إما لحاجة العلاج أو لأي حاجة لابد له منها فيعطى وحتى لا تكون المسألة شكلية لأنه إذا ذهب إلى البلد الآخر ثم أراد أن يرجع إلى بلده فسنعطيه عند جميع المذاهب.
فبقينا فقط في ذهابه من البلد الآخر إلى البلد الذي سيذهب منه إلى بلده فما دام أنه محتاج وفقير ولا يستطيع أن يسافر وهو منقطع الآن ولن يصل إلى بلده ويريد أن يذهب إلى بلد آخر ثم بلده فالأقرب والله أعلم أنه يعطى.
• ثم قال - رحمه الله -:
فيعطى قدر ما يوصله إلى بلده.
(2/443)
________________________________________
يعني: ولو كان غنياً فيه.
- لأن المال الذي في بلده لا قدرة له عليه فوجوده كعدمه.
وفهم من هذا - بطبيعة الحال - أنه إذا كان له مال في بلده وهو بلد آخر لكن يتمكن من الحصول على هذا المال كما في وقتنا هذا ببساطة وسهولة فإنه يحرم عليه أن يأخذ من الزكاة وليس مصرفاً من مصارف الزكاة.
فإن أخذه فقد أخذ مالاً محرماً.
• ثم قال - رحمه الله -:
دون المنشئ للسفر من بلده.
هذه تحدثنا عنها ...
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - للكلام عن قدر ما يعطى الفقير.
•
فقال - رحمه الله -:
ومن كان ذا عيال: أَخَذَ ما يكفيهم.
يعني أن الفقير يجوز له أن يأخذ ما يكفيه ويكفي من يعول سواء كان من يعول من عياله أو من أقاربه الذين يجب عليه أن ينفق عليهم.
التعليل:
- لأن مقصد دفع الزكاة كفايته وكفاية من يعول.
فإذا كان مع الرجل في منزله عشرة أنفس فإنه يعطى من الزكاة قدر ما يكفي عشرة ولا يعطى قدر ما يكفيه هو فقط.
عرفنا الآن أنه يجوز أن نعطي الفقير كفايته وكفاية من يعول.
ننتقل إلى مسألة أخرى وهي: كم يعطى؟ وما هي الكفاية؟
اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافاً طويلاً:
= فالجمهور ومنهم الحنابلة: أنه يعطى ما يكفيه لسنة واحدة فقط.
واستدلوا:
- بأن الله سبحانه وتعالى شرع الزكاة حوليه فيأخذ ما يكفيه لسنة فإن استغنى فبها ونعمت وإلا أخذ من الزكاة للسنة القادمة.
= القول الثاني: أنه يأخذ ما يغنيه لفتح متجر أو لشراء آلة عمل. يعني: يعطى من المال ما يكون سبباً في غناه عن طريق فتح متجر أو اشتراء آلة عمل.
وإلى هذا ذهب الشيخ ابن قاضي الجبل - وقد تقدم معنا أن له اختيارات قوية.
= القول الثالث: أنه يعطى من المال دفعة واحدة ما يكون به غنياً ولو كثر.
وهذا قول لبعض الحنابلة ونسب إلى شيخ الاسلام اختياراً.
= القول الرابع: أنه يعطى مقدار النصاب فقط. يعني يعطى مقدار مائتي درهم فقط فاضلاً عن مسكنه وفرشه وخادمه.
يعني: يعطى ما يتمكن به من السكن واللباس والأكل والخادم ثم يعطى فوق ذلك النصاب مائتي درهم.
استدلوا:
- بأن من ملك نصاباً فهو غني لقوله: (تؤخذ من أغنيائهم). ومن ملك نصاباً فعليه زكاة.
(2/444)
________________________________________
= [القول الخامس] وقيل: يعطى من المال ما يكفيه العمر كله حسب الغالب في سنه.
= [والقول السادس] وقيل: أنه لاحد لذلك. فليس لما يعطى حد معروف بل يرجع فيه إلى رأي ولي الأمر حسب ما تقتضيه الحال.
وإلى هذا ذهب ابن حزم - رحمه الله -. لأنه ليس في الباب أدلة.
وذكرنا ستة أقوال في المسألة.
والأقرب والله أعلم القول الأول وهو رأي الجمهور إلا في حالة واحدة إذا كثرت الزكاة واتسع الأمر فإنه يعطى ما يصير به غنياً مما يتمكن به من التجارة. يعني القول الثاني.
يعني ما نعطيه نقداً ما يكون به غنياً كما هو القول الثالث ولكن نعطيه ما يتمكن به من الشراء شراء ما يتاجر به ويصبح غنياً وينتفع المجتمع به.
فالحقيقة هذا القول جيد جداً ويكاد يكون هو الراجح.
لكن لابد من تقييده أنه في حال السعة فليس من المعقول ولا من المقبول أن يبقى رجل فقير لا يجد ما يأكل ونعطي الفقير الآخر ما يشتري به حانوتاً أو يشتري به آلة ليتاجر بها.
لكن في حال السعة إخراج هذا الفقير من فقره إلى حد الغنى عن طريق التجارة ونفع المسلمين أمر مقصود للشارع بهذا القيد.
ولعل هذا القول الأخير يكون جامعاً بين القول الأول والثاني وهو الأقرب.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويجوز صرفها إلى صنف واحد.
إذا أراد الإنسان أن يخرج الزكاة فإما أن يخرج الزكاة إلى جميع الأصناف أو إلى صنف واحد.
فإن أخرج الزكاة إلى جميع الأصناف فهو المستحب ويجزيء بالإجماع. فهو خارج محل النزاع.
وإن أخرجها - وهو القسم الثاني - إلى بعض الأصناف ففيه خلاف:
= القول الأول وهو مذهب الحنابلة والجمهور: أنه يجوز أن تدفع الزكاة إلى صنف واحد بل إلى رجل واحد من صنف واحد.
أي فلا يجب أن نقسم الزكاة بين المستحقين من صنف واحد.
واستدل هؤلاء:
- بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم). فنص على صنف واحد.
- وقوله: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة/271]. ونص على صنف واحد.
= القول الثاني: وهو للإمام مالك أنها تصرف حسب الحاجة الأولى فالأولى مهما كان الصنف.
= القول الثالث: وهو للشافعية: أنه يجب أن نقسم الصدقة على الأصناف الثمانية وجوباً.
(2/445)
________________________________________
- لأن الله سبحانه وتعالى عطف الأصناف بالواو مما يدل على التشريك بينهم حال التوزيع.
والراجح والله أعلم: أنه يجوز أن تصرف لصنف واحد وتعطى الأولى فالأولى على سبيل الاستحباب لا الوجوب.
- لأن من أعطى الزكاة صنفاً ولم يعطه آخر أو أعطى شخصاً مع وجود من هو أولى منه يصدق عليه أنه أخرج الزكاة لمستحقها.
والقول بأنه يجب استيعاب الأصناف الثمانية بل والقول بأنه يتحتم إعطاء الأولى فالأولى يتعذر العمل به ولا تكاد تجد أحداً يعمل بهذا القول: - أولاً: لصعوبة التقصي ومعرفة حال الناس.
- وثانياً: لتوزع الأصناف واختلافها ووجود بعضها في منطقة دون بعض فلا شك أن هذا متعذر العمل به.
فنقول: نجمع بين القول الأول والثاني. أنه يجوز صنف ويستحب فقط أن نعطيها الأولى فالأولى.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويسن إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم.
يعني: يسن أن يقدم الإنسان من هذه الأصناف قريبه. يسن وليس ذلك من المحابات في شيء
بشرط: أن لا يلزم المخرج نفقة الفقير.
والدليل على استحباب هذا الأمر من وجهين:
- الأول: الإجماع. وحكاه المجد. وقال - رحمه الله -:إجماعاً.
- الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الصدقة على القريب صدقة وصلة).
فلاشك أنه ينبغي للإنسان أن يعطي قريبه ويقدم هذا القريب على غيره من الناس مادام من أهل الزكاة.
فصل
• ثم قال - رحمه الله -:
(فصل).
المقصود بهذا الفصل:
- بيان الأصناف الذين لا يجوز أن نعطيهم من الزكاة ولو كانوا في الجملة من الأصناف الثمانية.
- وليبين مسألة صدقة التطوع وما يتعلق بها من أحكام.
• قال - رحمه الله -:
ولا يدفع: إلى هاشمي.
الهاشمي هو من كان من سلالة: هاشم جد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فلا يجوز لمن كان هاشمياً أن يأخذ من الصدقة. ولا يجوز لمن أراد أن يدفع الصدقة أن يعطيها من يعلم أنه من بني هاشم.
والدليل على هذا أيضاً من وجهين:
- الأول: الإجماع. فقد أجمعوا - في الجملة - على أن الهاشمي لا يأخذ من الصدقات. أجمعوا - في الجملة - ففي بعض المسائل فيها خلاف لكن في الجملة أن الهاشمي لا يجوز أن يأخذ من الزكاة.
(2/446)
________________________________________
- الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس).
- الثالث: ما صح أن الحسن - رضي الله عنه - أراد أن يأخذ تمرة من الصدقة فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد).
فلم يبق شك ولا إشكال بعد هذه النصوص والإجماع أن الصدقة أي الزكاة لا تحل لآل النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومطلبي.
= يعني أيضاً: لا يجوز أن نعطي المطلبي من الزكاة.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بنو المطلب بنو هشام شيء واحد).
- الثاني: أنه ثبت في السنة أن المطلبي له حق في الخمس كما للهاشمي فاستووا في استحقاق الخمس فيستوون في منع الزكاة.
= والقول الثاني: أنه يجوز دفع الزكاة للمطلبي.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على المنع في آل محمد وليسوا من آله.
وأما أن الخمس يستحقه المطلبي فلأن هذا مرجعه إلى النصرة لا إلى القرب بدليل: أن الذين يساوونهم في القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - كبني عبد شمس ليس لهم من الخمس شيء فدل على أنهم استحقوا الخمس بالنصرة والوقوف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بالقرابة.
وهذا القول الثاني هو الصواب.
بناء على هذا: يحصر المنع في الهاشمي فقط.
مسألة/ هل يجوز أن يأخذوا من الصدقة التي ليست واجبة؟
فيه خلاف:
= القول الأول: أنه لا يجوز.
- لأنها تسمى صدقة.
= القول الثاني: أنه يجوز.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل بأنها أوساخ الناس وصدقة التطوع ليست من أوساخ الناس بل من فضائل الناس.
مسألة / هل يجوز للهاشمي أن يأخذ من زكاة الهاشمي؟
فيه خلاف:
والأقرب والله أعلم في مسألة هل يجوز للهاشمي أن يأخذ من زكاة الهاشمي؟ - أنه لا يجوز.:
- لأن النص عام.
- ولأن الزكاة سواء كانت من بني هاشم أو من غيرهم إنما هي أوساخ الناس. مهما كان المخرج.
ففي المسألة الثانية وهي: صدقة الهاشمي: لا يجوز أن يأخذ.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومواليهما.
يعني مولى الهاشمي ومولى المطلبي.
مولى الهاشمي ومولى المطلبي: لا يجوز له أيضاً أن يأخذ.
(2/447)
________________________________________
- أما مولى الهاشمي: فلا يجوز له أن يأخذ. ولا إشكال: لأن أبا رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يخرج مع عامل الصدقة ليأخذ معه فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (إن مولى القوم من أنفسهم).
فحكم مولى بني هاشم حكم بني هاشم.
- وأما مولى المطلبي فإذا كان الراجح في المطلبي أنه يأخذ فمولاه من باب أولى.
ولو رجحنا أن المطلبي لا يأخذ لكان المولى أيضاً لا يأخذ.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا إلى فقيرة تحت غني منفق.
لا يجوز للفقيرة أن تأخذ إذا كانت تحت غني منفق سواء كان هذا الغني المنفق زوج أو أب أو أي قريب ممن يجب عليه أن ينفق عليها.
والتعليل:
- أنها مستغنية بهذه النفقة. والمستغني بالنفقة لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة. وهذا الحكم معلوم مما تقدم معنا حين بحثنا مسألة: متى يرتفع اسم الفقر؟ وأخذنا أنه يرتفه بثىثة أمور منها: وجود المنفق.
فتلك المسألة توضح هذه ولكن نص المؤلف - رحمه الله - عليها لكزيد الإيضاح.
فنقول: من وجد من ينفق عليه فإنه لا يجوز أن يأخذ من الزكاة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا إلى فرعه وأصله.
لا يجوز للانسان أن يدفعه الزكاة إلى فرعه ولا يجوز أن يدفع الزكاة إلى أصله.
والمقصود بالأصل: الوالد وإن علا.
وبالفرع: الولد وإن نزل.
والكلام حول هذا الموضوع ينقسم إلى قسمين:
ــ القسم الأول: من تجب عليه نفقتهم: سواء كان والد أو ولد.
= فهذا لا يجوز أن يدفع الزكاة لهم بالإجماع.:
- لأن دفعه الزكاة فيه وقاية لماله.
- ولأن حقيقة هذه الزكاة تعود إليه. ولأن فائدة هذه الزكاة تعود إليه لأنه يوفر على نفسه في النفقة.
ــ القسم الثاني: من لا تلزمه نفقته: - إما أنه لا يرثه كابن البنت. - أو لأن ماله لا يتسع له. فهذا فيه خلاف.
= القول الأول: للحنابلة أن أيضاً هذا لا يجوز أن ندفع الزكاة له.
- لدخوله في عموم مسمى الابن ولو لم يرث.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن نعطي من كان هذه حاله من الزكاة.
- لوجود المقتضي السالم من المعارض.
المقتضي للزكاة: هو أنه فقير. وهذا المقتضي لا يجوز له معارض أو دافع لأنه ليس هو الذي ينفق عليه.
(2/448)
________________________________________
بناء على هذا: إذا كان شخص عنده عائلة ويخرج الزكاة ولا يستطيع أن ينفق إلا على من في بيته وله ابن بنت فقير:
= فعند الحنابلة: لا يجوز له أن يعطيه من الزكاة.
= وعلى القول الصواب يجوز أن يعطيه من الزكاة.
وهذا القول الأخير اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو اختيار قوي ومسدد لأن لا يدفع الإنسان زكاته للغريب مع حاجة القريب لأن هذا الابن بكل حال لن ينفق عليه فدفع الزكاة للبعيد مع بقاء حاجة القريب.
مسألة / يجوز أن يدفع الزكا للوالد وإن علا والولد وإن نزل إذا كانت الزكاة تعطى لمصلحة المسلمين لا لمصلحته الخاصة: كأن يكون مجاهداً أو عامل أو من المؤلفة أو كل من يعطى الزكاة لمصلة المسلمين. أو أن يكون غارماً لإصلاح ذات البين.
فإذاً إذا كان الإنسان ابن مجاهد أو ابن لأحد العاملين عليها أو من المؤلفة قلوبهم أو غارم لإصلاح ذات البين فيجوز أن يعطيه من الزكاة ولو كثرت.
حتى لو كان هو الذي ينفق عليه.
مسألة / يجوز للوالد أن يعطي ابنه وللابن أن يعطي أباه من الزكاة في كل ما لا يجب عليه أن يقضيه عنه.
مثاله: الدين.
فإذا كان الأب مديناً فإنه لا يجب على الابن أن يقضي دين أبيه.
كذلك العكس: لو كان الابن مديناً فإنه لا يجب على الأب أن يقضي دين الإبن.
بل يجب عليه فقط أن ينفق أما قضاء الديون فليس بواجب.
فإذا كان لا يجب عليه جاز أن يعطيه من الزكاة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا إلى عبد.
- لأن العبد مستغني بنفقة سيده.
- ولأن حقيقة الأمر أن المال سيذهب إلى السيد فسيكون ملكاً للسيد.
بناء على هذا التعليل: يجوز أن نعطي العبد إذا كان السيد يستحق الزكاة. لأن إعطاء العبد هو بمثابة إعطاء السيد.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وزوج.
لا يجوز للمرأة أن تعطي زوجها: = عند الحنابلة.
وعللوا ذلك:
- بأنها تنتفع من الزكاة. لأن الزوج سينفق على الزوجة.
= والقثول الثاني: أنه يجوز للزوجة أن يعطي الزوج.
واستدلوا:
- بحديث ابن مسعود لما ذهبت زوجه زينب تستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ان تعطيه من الصدقة أولا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (زوجك وولدك أحق من تصدقت عليه).
(2/449)
________________________________________
فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يجوز بل هم أحق من غيرهم.
وهذا القول هو الصحيح لأن الحديث فيه نص.
مسألة / هل يجوز أن تعطي زوجها ولو كان لها أولاد منه وهو وهم فقراء؟
فيه خلاف قوب:
= اقول الأول: أنه لا يجوز.
- لأنه سينفق المال على الأولاد الفقراء. وهؤلاء الأولاد الفقراء إذا كانوا لا يجدون كفايتهم يجب على الأم أن تنفق عليهم.
= والقول الثاني: أنه يجوز أن تعطي زوجها ولو كان لها منه أولاد فقراء.
لدليلين:
- الأول: أنه لا يجب على الأم أن تنفق على الأبناء بوجود الأب. كما قال الحافظ بن حجر - رحمه الله -.
- الثاني: - وهو الدليل الأقوى - أن حديث ابن مسعود عام ولم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل لك منه أولاد أو لا؟ وإنما أمرها بدفع الصدقة له بلا تفصيل.
فإن قيل: الصدقة في حديث ابن مسعود هي صدقة التطوع لا الواجبة.
فالجواب: من وجهين:
- الأول: أنه لا دليل على تخصيص الصدقة للتطوع بل الحديث شامل التطوع والواجبة لأنه لا يوجد ما يدل على التخصيص وتخصيص اللفظ بلا دليل لا يجوز.
- والثاني: أنه في صدقة التطوع أيضاً لا يجوز أن ترجع المصلحة للمتصدق أو المتطوع ولو كانت صدقة تطوع. وذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشتري الإنسان ما تصدق به مع أنه سيأخذه بالثمن ومع ذلك نهاه.
فالأقرب والله أعلم أنه يجوز للزوجه أن تعطي زكاتها للزوج مطلقاً بلا تفصيل كما جاء في الحديث فتعطيه ولو كان لها منه أولاد.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن أعطاها لمن ظنه غير أهل فبان أهلاً ... لم يجزئه.
يعني لم تجزئ عنه.
لماذا؟
لأنه أعطى وهو شاك. والعبادة يجب أن يؤديها الإنسان وهو جازم على يقين. هذا شيء.
الشيء الثاني: ان من أعطى زكاته لرجل يظن أنه ليس أهلاً للصدقة فهو إما متساهل أو متلاعب.
ولا نقول دائماً أنه متلاعب. بل الغالب أنه متساهل. ولا يجوزأن يتساهل الإنسان في إبراء ذمته حين إخراج الزكاة.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو بالعكس. لم يجزئه. إلاّ لغني ظنه فقيراً.
يعني: لايجوز ولا تجزئ الزكاة إذا أعطاها لمن يظن أنه أهل ثم بان أنه ليس من أهل الزكاة إلا الغني إذا ظنه فقيراً.
(2/450)
________________________________________
إذاً: = عند الحنابلة إذا أعطى الزكاة لمن يظنه أهلاً للزكاة ثم تبين أنه ليس من أهل الصدقات فإنه لا يجزئه إلا في صورة واحدة إذا أعطاها غنياً يظنه فقيراً.
الدليل على أنها لا تجزئه:
- أن بالإمكان لنخرج الزكاة أن يتثبت بالعلامات الظاهرة من حال الفقير أو من حال المستحق. فإذا لم يفعل لم يجزئه لأنه ترك ما يستطيع فعله أثناء أداء الواجب.
وأما استثناء الغني:
- فلما ثبت في الصحيح أن رجلاً قال: لأتصدقن وفي رواية الليلة ثم خرج ووضع الصدقة في يد فقير ثم لما أصبحوا تحدثوا أنه تصدق البارحه على غني فقال على غني: الحمد لله ثم أتي أي في المنام وقيل له قد قبل الله صدقتك.
فاستدلوا بهذا الدليل على استثناء الغني فقط من بين أصناف أهل الزكاة.
= والقول الثاني: أن من دفع إلى من يظن أنه من أهل الزكاة فبان من غيرهم أجزأته مهما كان الصنف سواء كان غنياً أو غير هذا الصنف.
- قياساً على الغني: لأنه لا يوجد ما يدل على تخصيصه بالحكم وإنما هذه حادثة عين.
- والدليل الثاني: أن معن بن يزيد - رضي الله عنه - أخذ صدقة والده ظاناً أنه يريده هو بالصدقة فقال والده: والله ما أردتك. فاختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لك ما أخذت يا معن ولك ما نويت يا يزيد).
فصحح الصدقة مع العلم أن الأب ما كان ناوياً الابن فدل على أن الإنسان إذا وضع الزكاة في غير محلها أو أخطأ في مراده فإن صدقته تجزئ وتجوز.
وهذا القول هو الصواب أنه مادام اجتهد ثم وضعها في غير أهلها تجزئ عنه.
فائدة:/ ظاهر مذهب الحنفية: التفصيل التالي:
- أنه إن اجتهد وبذل الوسع أجزأت عنه.
- وأن لم يجتهد وفرط لم تجزئ عنه.
وقالوا: الاجتهاد يكون بالنظر إلى المظاهر الخارجية للفقير ومعرفة أحواله التي يمكن للإنسان أن يعرفها من مظهره فهذا هو الاجتهاد.
فإن اجتهد أجزأت وإن لم يجتهد لم تجزئ.
هذا تفصيل عند الأحناف.
والقول الثاني: الذي ذكرت أنه هو الراجح هو الأقرب.
(2/451)
________________________________________
أما مسألة: اجتهد أو لم يجتهد إذا لم يجتهد وفرط فهو آثم بكل حال وفي كل مناسبة فلا نحتاج أن نقيد في مثل هذا السياق مسألة أنه اجتهد أو لم يجتهد لكن الأصل أن من أراد أن يخرج الزكاة أن يجتهد في وضعها في أهلها فإن لم يجتهد فهو آثم بل ربما نقول: لو أن الإنسان لم يجتهد ووضعها في أهلها فإنه لا يسلم من الإثم مع أنها تجزئ عنه لأنه فرط لأن الواجب على من أراد أن يخرج أن يجتهد في إيقاعها في الأصناف التي نص الله عليها في كتابه.
والله أعلم.
(2/452)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(نقص من التسجيل)
وإلا فقد يعرض لصدقة العلانية ما تكون به أفضل من صدقة السر. لكن الأصل أن صدقة السر أفضل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... وذكر منهم رجل تصدق بصدقة قال في الحديث فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ففي قوله: أخفاها وفي قوله: حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. تأكيد على أن السر أفضل من العلانية.
وصدقة التطوع: مستحبة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وفي رمضان. يعني: أفضل.
أي أن هذا الوقت المحدد وهو شهر رمضان الصدقة فيه أفضل من الصدقة في سائر الشهور.
ويدل على هذا عدة أمور:
- الأول: أن الحسنات تضاعف في هذا الشهر الكريم.
- الثاني: أنه يستعان بالصدقة في هذا الشهر بالذات على أعمال البر والخيرات. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من فطر صائماً فله مثل أجره).
- الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أجود ما يكون في رمضان. وكونه - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في إخراج الصدقة في رمضان ما لا يجتهده في سائر الشهور دليل على فضل هذا الشهر.
• ثم قال - رحمه الله -:
وأوقات الحاجات: أفضل.
أوقات الحاجات الإطعام فيها أفضل من غيرها من أوقات السعة. فإذا تصدق الإنسان على الناس الفقراء في أوقات الحاجة فهو أفضل.
(2/453)
________________________________________
وكذلك يقال: أن الصدقة على الأشد حاجة أفضل من الأقل حاجة ولو كانت الحاجة ليست عامة لقوله تعالى: - (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) -[البلد/14] فنص على أن الإطعام في اليوم الشديد أحب إلى الله ولأن حاجة المسكين أشد في هذه الأحوال سواء كان حاجة خاصة كما قلت أو حاجة عامة كأن تنزل بالمسلمين نازلة عامة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتسن: بالفاضل عن كفايته ومن يمونه.
يعني أن الصدقة تكون سنة ومحبوبة إلى الله إذا تصدق الإنسان بما يزيد عن نفقته ونفقة من يمونهم. فحينئذ تكون مستحبة.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً وابدأ بمن تعول).
ففي هذا الحديث دليل على أن الصدقة المستحبة إنما تكون بما زاد عن نفقته ونفقة من يمونهم ولا يريد المؤلف في هذه العبارة أن يبين حكم النقص من النفقة للصدقة فإن هذا سيذكره بالعبارة التالية لكنه يريد أن يبين أن الصدقة إنما تستحب في هذه الحال بأن تكون بالزائد عن حاجته ونفقته.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويأثم بما ينقصها.
يُنَقِّصُهَا أو: ولعله الأقرب: يُنْقِصُهَا كما ضبطها شيخنا - رحمه الله -.
والمعنى قريب إن شاء الله.
إن تصدق بصدقة أدت إلى النقص في نفقته أو نفقة من يمونهم فهو آثم.
- لأنه قدم المستحب على الواجب. فإن نفقة الإنسان على نفسه وعلى من يجب عليه أن ينفق عليهم واجبة ولا يجوز للإنسان أن يقدم المستحب على الواجب.
- ويستدل لهذا أيضاً بما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول).
فهذا الحديث دليل على أنه لايجوز للإنسان أن يضيع من يعول بأن ينفق نفقة تنقص من الواجب لهم.
- ويدل على ذلك أيضاً أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عنده دينار يريد أن يتصدق به فقال: (تصدق به على نفسك) فقال عندي آخر فقال: (على ولدك) فقال عندي آخر فقال: (على زوجك) فقال عندي آخر فقال: (على خادمك) فقال عندي آخر فقال: (أنت أبصر). يعني ضعه حيث تشاء. فجعل الصدقة في المرتبة الرابعة أو الخامسة مما يدل على وجوب تقديم النفقات المذكورة في الحديث على صدقة التطوع.
- - مسألة: هل يجوز للإنسان أن يتصدق بكل ماله؟
(2/454)
________________________________________
الجواب: أن هذا فيه تفصيل:
- فإن كان يصبر على شظف العيش وقلة المؤونة هو وأهله ولا يترتب على هذا مفاسد فإنه يجوز له أن يتصدق بكل ماله وقد صنعه أبو بكر الصديق أكثر من مرة.
- وإن كان لا يتحمل شظف العيش ولا نقص المؤونة فإنه يحرم عليه أن يتصدق بكل ماله لما يترتب على هذا من الضرر عليه وعلى من يعول.
وفي الحقيقة حال غالب الناس هو هذا: أنهم لا يتمكنون من الصبر على شظف العيش.
فإذا كان الإنسان يعلن من نفسه هذا فإنه لا يجوز له أن يتصدق بكل ماله.
وبهذا انتهى ولله الحمد الكلام على كتاب الزكاة.
وقبل أن ننتقل إلى كتاب الصوم أريد أن أتكلم عن مسألة الهاشمي والمطلبي لأني لا حظت أن بعض الإخوان لم تتضح لهم من حيث النسب تماماً.
فسأذكر ما يتعلق بالشجرة الشريفة من كان منهم من المسلمين ويلحق ما سأذكره الآن (بالنسبة لأخينا الذي يكتب) بالكلام عن الهاشمي.
نقول: جد النبي - صلى الله عليه وسلم - الثالث هو عبد مناف بن قصي بن كلاب.
عبد مناف هذا ولد له أربعة:
1 - هاشم.
2 - والمطلب.
3 - وعبد شمس.
4 - ونوفل.
هؤلاء أربعة.
1 - هاشم - والذي هو جد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد له عبد المطلب.
وعبد المطلب ولد له أولاد هم:
1 - أبو طالب. وهو والد: علي، وجعفر. كما هو معلوم.
2 - وعبد الله: والد نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
3 - والعباس: كما هو معروف.
4 - وحمزة.
5 - والحارث بن عبد المطلب.
تقدم معنا عند قول المؤلف: (ولا يدفع إلى هاشمي ومطلبي).
وذكرنا الآن أن عبد مناف له من الولد: هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل.
- فالمقصود بقوله: (مطلبي). هو هذا: المطلب بن عبد مناف أخو هاشم وهو يختلط بعبد المطلب عند كثير من الطلاب يخلطون بين عبد المطلب والمطلب.
فعبد المطلب ابن لهاشم وأما المطلب فعمه.
وهاشم هذا اسمه: عمرو. وهو أول من سافر إلى الشام واليمن - رحلة المشرق والمغرب وهذا الرجل - هاشم - تزوج من بني النجار ولهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتبرهم أخواله.
هذا بالنسبة لهاشم.
(2/455)
________________________________________
بالنسبة لعبد المطلب فإن هاشم لما تزوج من بني النجار اشترطوا عليه أن تبقى زوجته في المدينة فبقيت في المدينة وولدت له عبد المطلب وهو جد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعبد المطلب اسمه شيبة الحمد كما هو معروف وسمي بعبد المطلب لأن هاشم لما تزوج ودخل بزوجته سافر إلى الشام وتوفي فالمطلب صار هو الذي يرعى عبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - فظنه الناس عبد للمطلب فسموه عبد المطلب وإلا فاسمه شيبة الحمد وهو أول من خضب بالسواد.
المهم عبد المطلب كما تقدم أتى له من الأبناء أبو طالب وعبد الله والعباس ... إلخ.
فالمطلب الآن وهاشم أخوين والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما بنوا هاشم وبنوا المطلب شيء واحد) وبني المطلب لهم الخمس كما أن لهاشم خمس.
بينما عبد شمس ونوفل وهم في درجة واحدة ليس لهم شيء.
وعبد شمس من أحفاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان.
ونوفل من أحفاده جبير بن مطعم.
فعثمان بن عفان وجبير بن مطعم أتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قالوا: أنت تعطي بني المطلب من الخمس ولا تعطينا ونحن وهم سواء - يعني من حيث النسب.
فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بني هاشم والمطلب شيء واحد.
الخلاصة: الذين لهم ذرية من بني هاشم من الذين لا تجوز لهم الصدقة هم هؤلاء الذين سأذكرهم فقط وأما الباقي فليس لهم ذرية.
: - آل علي بن أبي طالب. - وآل جعفر. - وآل عقيل. كلهم أبناء أبي طالب.
: - وآل العباس. - وآل أبي لهب. - وآل الحارث بن عبد المطلب.
هؤلاء هم الذين لهم نسل ويوجد إلى الآن وهم الذين لا يجوز لهم أن يأخذوا الصدقة. فكل إنسان من قريش عدا هؤلاء الذين ذكرت تجوز له الصدقة.
إنما الذي تحرم عليه الصدقة هؤلاء الذين بقي لهم ذرية توجد إلى عصرنا هذا.
(2/456)
________________________________________
كتاب الصيام
قال شيخنا حفظه الله:
• قال - رحمه الله -:
كتاب الصيام.
الصيام في لغة العرب: الكف والإمساك سواء كان عن الطعام أو عن الكلام أو عن العمل أو عن أي شيء.
وفي الاصطلاح: هو الإمساك بنية عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق - الثاني - إلى غروب الشمس.
وهذا التعريف ذكره بعض الفقهاء. وهو أوضح من أن يقال: إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن أشياء مخصوصة. فإن هذا التعريف ما يفيد كثيراً لكن التعريف الذي ذكرت وذكره بعض الفقهاء أوضح في بيان المقصود.
• يقول - رحمه الله -:
يجب صوم رمضان.
صيام رمضان مفروض بالكتاب والسنة والإجماع. ولم يختلف أهل العلم في فرضيته.
وهو مما يعلم وجوبه من الدين بالضرورة.
فمن أدلة فرضيته:
- في الكتاب: قوله تعالى: - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) -[البقرة/183].
- وأما من السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (بني الإسلام على خمس) وذكر منها صيام رمضان.
- وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون علماء وعوام وكل من يعقل الأحكام من الإسلام أن صيام رمضان واجب متحتم.
ورمضان فرض في السنة الثانية.
وصام - صلى الله عليه وسلم -: تسع رمضانات بإجماع الفقهاء.
•
يقول - رحمه الله -:
يجب صوم رمضان برؤية هلاله.
يجب الصوم بثلاثة أسباب:
- السبب الأول: رؤية الهلال: فإذا رأى المسلمون الهلال وجب عليهم الصيام لدليلين:
- أولاً: الإجماع. فإنه لم يختلف المسلمون أنه إذا رؤي الهلال وجب الصوم.
- ثانياً: ما صح عن ابن عمر في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا).
- السبب الثاني: إتمام عدة شعبان ثلاثين يوماً. وهذا أيضاً مما أجمع عليه الفقهاء. أنه إذا أتم المسلمون شهر شعبان ثلاثون يوماً وجب عليهم الصيام.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً).
(2/457)
________________________________________
- السبب الثالث: إذا كانت ليلة الثلاثين فيها غيم أو قتر. فيجب الصيام حينئذ عند الحنابلة وسيأتينا الآن قريباً تفصيل هذه المسألة وذكر الخلاف والراجح فيها. لكن المقصود الآن أن يتصور الإنسان الأسباب الثلاثة عند الحنابلة التي توجب على المسلمين الصيام وأن السبب الأول والثاني محل إجماع وأن الثالث محل خلاف سيأتي الكلام عليه.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإن لم ير مع صحوٍ ليلة الثلاثين: أصبحوا مفطرين.
وذلك لعدم استنادهم على ما يوجب الصيام شرعاً. لأنه إذا لم ير مع الصحو إذاً لم يهل ولا يجوز للإنسان أن يصوم إلا بموجب شرعي.
وإذا تأملت تجد هذه الصورة التي ذكرها المؤلف تخرج عن الأسباب الثلاثة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن حال دونه غيم أو قتر: فظاهر المذهب يجب صومه.
إذا حال بين الناس وبين رؤية القمر غيم أي: سحب أو قتر يعني: غبار وذلك ليلة الثلاثين من شعبان فإنه:
= يجب عند الحنابلة أن يصوم الناس.
واستدل الحنابلة لهذا الحكم بأدلة:
- الأول: أنه يجب الصيام احتياطاً.
- الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فإن غم عليكم فاقدروا له). قالوا ومعنى (فاقدروا): يعني: ضيقوا وإذا ضيقنا شعبان صار تسعة وعشرين يوماً. فنصوم بناء على هذا من الغد.
- الثالث: أنه صح أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يصوم في يوم الغيم.
إذاً استدل الحنابلة بثلاثة أدلة.
= القول الثاني: أنه لا يجب الصيام. بل إما أن يكون مباحاً أو مستحباً. لكنه لا يجب.
والقول: بأنه لا يجب. وهو إما مباح أو مستحب: كل هذه الأقوال نسبت لشيخ الإسلام أنه - رحمه الله - قال: مباح وأنه قال مستحب. فكأن له في هذه المسألة أكثر من قول.
واستدل:
- بأنه لم ينقل عن الصحابة أبداً الوجوب ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
= القول الثالث: أن الصيام في هذا اليوم محرم. لدليلين:
- الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من صام يوم الشك فقد عصا أبا القاسم) ويوم الشك هو ليلة الثلاثين من إذا حال بين الناس وبين رؤية القمر سحاب أو قتر.
- الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين). ومن صام هذا اليوم فقد تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين حسب الواقع.
(2/458)
________________________________________
= القول الرابع - الأخير -: أنه لا يستحب. وهذا أيضاً نسب لشيخ الاسلام - رحمه الله -.
فصارت الأقول: يجب، يباح، يستحب، لا يستحب، يحرم.
والأقرب أنه يحرم مع قوة القول بالإستحباب.
وسبب قوة القول بالإستحباب: أنه مروي عن الصحابة.
وسبب ترجيح التحريم: وضوح النصوص لأن معصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بصوم يوم الشك تؤدي إلى التحريم.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن رؤي نهاراً: فهو لليلة المقبلة.
المقصود بهذا: أنه لا أثر لرؤية الخلال في النهار.
أما بالنسبة لليلة السابقة فلا إشكال في أنه لا أثر له.
وأما بالنسبة لليلة القادمة فكذلك لا أثر له. إلا إن رؤي بعد غروب الشمس.
الدليل على هذا:
- أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: إذا رأيتموه في النهار فلا تصوموا حتى تروه في العشية.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وإذا رآه أهل بلد: لزم الناس كلهم الصوم.
هذه مسألة مهمة وهي من المسائل التي يكثر فيها الخلاف والأخذ والعطاء.
= ذهب الحنابلة والأحناف والمالكية. يعني: الأئمة الثلاثة. إلى أنه إذا رؤي القمر في بلد لزم جميع الناس الصوم.
واستدلوا على هذا بأدلة:
- الدليل الأول بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا. والخطاب في قوله: رأيتموه لجميع المسلمين.
- الدليل الثاني: قوله سبحانه وتعالى: - (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... ) -[البقرة/185] وشهادة الشهر لا يمكن أن تكون من جميع الناس بل يصدق عليها أنها شهادة ولو من بعض الناس.
= القول الثاني: وهو للشافعية واختيار شيخ الاسلام - رحمه الله -. أنه إذا رؤي الهلال في بلد وجب عليهم الصيام وعلى كل بلد يوافقهم في مطلع القمر.
واستدل هؤلاء:
- بأن مطالع القمر تختلف باتفاق أهل الفلك. وإذا كانت تختلف فقد يطلع على قوم دون آخرين.
- وبحديث كريب أنه قدم من معاوية من الشام إلى ابن عباس فقال: له ابن عباس متى رأيتم القمر قال ليلة الجمعة فقال: ابن عباس إنا لم نره إلا ليلة السبت فلا نزال صائمين حتى نراه أو نكمل العدة ثلاثين.
وجه الاستدلال: أن ابن عباس لم يعتد برؤية أهل الشام.
(2/459)
________________________________________
= القول الثالث: أنته لكل بلد رؤية خاصة به. فإذا رؤي في بلد لزم أهله الصيام دون سائر البلدان.
= القول الرابع - الأخير -: أنه يرجع إلى رأي الحاكم. فإذا أمر بالصيام وجب على من تحت ولايته أن يصوموا ولو كانوا في بلدان مختلفة المطالع.
والراجح والله أعلم القول الأول: أنه إذا رآه أحد من المسلمين وجب على الجميع الصيام.
- أولاً: لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا رأيتموه فصوموا) هذا الحديث لا يوجد عنه جواب صحيح وهو عام: إذا رأيتموه فصوموا: للجميع.
- ثانياً: أن اختلاف المطالع الذي قال به شيخ الاسلام - رحمه الله - يشكل عليه أن كثيراً من الناس لا يحسن ولا يعرف مسألة اختلاف المطالع وتقدم معنا مراراً من القواعد التي قررها أهل العلم ومنهم شيخ الاسلام: ((أن الشارع لا يربط الحكام بما لا يحسنه كثير الناس وإنما يربطه بالأشياء الواضحة التي يشترك جميع الناس في معرفته)). كطلوع الشمس وغروبها والزوال فكل الناس يحسن هذه الأشياء.
- ثالثاً: لم يأت في النصوص أبداً الإشارة إلى اعتبار اختلاف المطالع.
- رابعاً - وأخيراً: أنا نجد نظير هذا في الأحكام الشرعية الأخرى ومنها: أن يوم الجمعة في الدنيا كلها يوم واحد يتقدم ويتأخر لكنه يوم واحد عند جميع الأمصار. مما يدل على أن قضية تأخر طلوع الشيء أو تقدمه وإنما يوم الجمعة بكل ما تترتب عليه من أحكام سواء كانت أحكام العبادات أو المعاملات يحل في الدنيا كلها بيوم واحد يتقدم ويتأخر لكنه هو يوم واحد في زمن واحد.
كذلك نقول رمضان في جميع البلدان والأمصار هو شهر واحد يبدأ بوقت واحد وينتهي بوقت واحد وإن تقدم وإن تأخر لكنه من حيث اليوم واحد.
المهم: أن الراجح إن شاء الله هذا القول الأول ومع ما ذكرت من أدلة وتعليلات يضاف إليه شيء يستأنس به وإن كان لا يعتمد عليه ما يحصل بسبب هذا القول من اتفاق الكلمة واتحادها والبعد عن الاختلاف لأنه بناء على هذا القول إذا رؤي في أي بلد من البلدان رؤية شرعية صحيحة مستوفية الشروط وجب على جميع المسلمين أن يصوموا.
وبهذا يتحدوا اتحاداً تاماً في مسألة دخول الشهر وخروجه.
• ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً شروط الرؤية:
(2/460)
________________________________________
ويصام: برؤية عدل ولو أُنثى.
يعني: أن وجوب صيام شهر رمضان يكتفى به برؤية عدل واحد ولو أنثى ولا يشترط أن يشهد بذلك اثنان.
= وهو مذهب الحنابلة والشافعية.
واستدل هؤلاء بنصوص واضحة:
- أولاً: بحديث ابن عباس أن أعرابياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأي الهلال فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أتشهد أن لا إله إلا الله فقال: نعم. فأمر الناس بالصيام.
فهذا الأعرابي رجل واحد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - شهادته.
وهذا الحديث يصححه بعض المتأخرين. والصواب أنه مرسل كما قال الإمام النسائي.
- ثانياً: ما صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن يتراؤوا الهلال قال: فرأيته وأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصامه وأمر الناس بصيامه. - أي: الشهر.
وهذا الحديث الصواب أنه ليس له علة وهو صحيح ثابت إن شاء الله وهو نص في قبول شهادة الرجل الواحد.
= القول الثاني: أنه تقبل شهادة الرجل الواحد إذا قدم من خارج البلد وترد إذا شهد وهو في البلد.
- لأنه إذا شهد قادماً من الخارج فيحتمل أن يرى ما لا يراه الناس لكونه في موقع يتمكن من الرؤية دون الناس. وأما إذا كان في وسط البلد مع الناس وزعم أنه رآه ولم يره الناس فترد شهادته لأنهم يتمكنون من رؤية ما يرى.
- ولأن الأعرابي الذي شهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم من الخارج.
= والقول الأخير - وهو الثالث - أنه يشترط في ثبوت دخول الشهر شهادة اثنان.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا شهدا شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا).
والصواب: القول الأول.
• قوله - رحمه الله -
: (ولو أنثى).
يعني خلافاً للشافعية الذين يشترطون أن يكون الرائي من الرجال.
والدليل على صحة مذهب الحنابلة:
- أن هذا خبر ديني يقبل به قول الرجل والمرأة كرواية الحديث وكالإخبار بمواقيت الصلاة فإن هذه الأخبار الدينية لا يشترط فيها أن يكون المخبر رجل بل تقبل من النساء.
وهذا هو الصواب بلا شك.
- - مسألة: خروج الشهر - بل نقول رؤية شهر شوال وغيره من الشهور فيما عدا رمضان لا يقبل في إثباتها إلا شهادة رجلين ولا يكتفى بالواحد.
(2/461)
________________________________________
وحكي على هذا الإجماع - حكاه أكير من واحد من أهل العلم ولم يخالف فيه إلا فقيه واحد وهو أبو ثور.
فمن الفقهاء من حكى الإجماع ولم يشر إلى خلاف أبي ثور ومنهم من حكى الإجماع وقال: خالف أبو ثور فقط.
وهذا هو الصواب لأنها محل إجماع أنه يشترط في إثبات دخول سائر الشهور عدا رمضان أن يشهد اثنان.
•
قوله - رحمه الله -
: (ويصام برؤية عدل).
اشتراط العدالة دل عليه الحديث السابق: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا شهدا شاهدان ذوا عدل).
فيشترط لقبول الشهادة أن يكون الشاهد عدل مستقيم تارك للكبائر لقوله تعالى: - (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) -[الحجرات/6] فالفاسق لا يقبل قوله في الأخبار العادية فكيف بدخول شهر رمضان.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال .... لم يفطروا.
قوله: (لم يفطروا): لأنه لا يمكن أن يخرج الشهر بشهادة واحد إذا تقدم معنا الآن أنه يشترط في إثبات خروج الشهر شهادة اثنان.
وإذا أخرجنا الشهر بتمام الثلاثين نكون اعتمدنا على شهادة رجل واحد وهو الذي شهد بإدخال الشهر. وذلك لا نقبل هذا ويشترط شهادة شاهدان.
= القول الثاني: أنه إذا تم ثلاثون يوماً أفطر الناس ولو كان الشهر دخل بشهادة رجل واحد.
- لأن الإفطار هنا إنما هو بإتمام الشهر ثلاثين لا بشهادة الرجل الأول. والقاعدة المتفق عليها: (يثبت تبعاً ما لايثبت استقلالاً). فإتمام الثلاثين تبع لشهادة الرجل ولكن يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
فنثبت الآن الفطر بثلاثين تبعاً لشهادة الرجل الواحد لا أصلاً.
وهذا القول لا شك أنه هو الراجح إن شاء الله: أنه إذا تم الشهر ثلاثون يوماً أفطر الناس ولو كان دخول الشهر بشهادة رجل واحد.
وعلى هذا عمل الناس.
• قال - رحمه الله -:
أو صاموا لأجل غيم: لم يفطروا.
تقدم معنا أن الحنابلة يرون أنه إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان عليها غيم أو قتر وجب الصيام فإذا صام الناس بناء على هذا القول فإنهم لا يفطرون بإتمام الثلاثين يوماً لأن الصيام في أول الشهر إنما وجب احتياطاً والاحتياط في آخر الشهر أن الأصل بقاء رمضان.
وهذه المسألة مفروضة عند الحنابلة.
(2/462)
________________________________________
وعلى القول الراجح لا إشكال لأنه لا يجب أن يصام بل يحرم فلا ترد هذه المسألى على هذا القول.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ومن رأى وحده هلال رمضان وردّ قوله ... صام.
إذا رأى الإنسان هلال رمضان وحده ولم يره الناس وجب عليه أن يصوم وحده باتفاق الأئمة الأربعة.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا رأيتموه فصوموا) وهذا رآه.
- وبقوله تعالى: - (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... ) -[البقرة/185] وهذا شهد الشهر.
- وبأن هذا الذي رأى الهلال يعلم قطعاً أن هذا اليوم من رمضان فلا يجوز له أن يفطر.
= القول الثاني ك رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الاسلام: أن من رأة هلال رمضان وحده فإنه لا يجب عليه أن يصوم.
واستدلوا بدليلين:
- الدليل الأول: أن هذا اليوم محكوم عليه شرعاً أنه من شعبان. لأنه عند الناس من شعبان فهو شرعاً من شعبان فكيف يصوم يوماً من شعبان.
- الدليل الثاني: - وهو الدليل القوي - قوله - صلى الله عليه وسلم - (فطركم يوم تفطرون وصومكم يوم تصومون) ومعنى الحديث أن الفطر المعتبر وكذلك الصيام المعتبر ما وافق فيه المسلم جماعة المسلمين.
واختيار شيخ الاسلام هو الاقرب. ومذهب الأئمة الأربعة لا يخفاكم أنه هو الأحوط لكن مع ذلك إذا صام الإنسان فينبغي أن يصوم سراً.
والسبب في ذلك: لأن لا يدخل بين الناس النزاع والخصومة بسبب أنه صائم فإنه مافي شك أنه إذا رؤي أنه صائم في يوم يعتبره من رمضان صار بينه وبين الذين لم يصوموا مخاصمة وهذا لاشك يقع كثيراً فإذا أراد أن يحتاط ويصوم يصوم سراً.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو رأى هلال شوال: صام.
يعني: أنه إذا رأى الإنسان هلال شوال وحده دون الناس فيجب عليه أن يصوم.
(= على المذهب: إذا رأى هلال شوال لا يجوز له أن يفطر وهومذهب الجمهور واختيار شيخ الاسلام.
واستدلوا:
- بالحديث السابق: (فطركم يوم تفطرون وصومكم يوم تصومون).
- ولأن - وهذا دليلهم الأقوى - خروج رمضان لا يثبت إلا بشهادة اثنان والذي رآه الآن واحد فهو شرعاً لم يخرج الشهر - وإن كان هو رآه.
إذاً ذهب الجمهور كلهم بمن فيهم شيخ الاسلام إلى أنه إذا رأى هلال شوال وحده لا يفطر.
(2/463)
________________________________________
= القول الثاني: وهو قول للشافعية: ونصره ابن حزم ومن المتأخرين الصنعاني أنه يجوز له أن يفطر.
واستدلوا:
- بالحديث (وإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا).
والصواب مع الجمهور أنه لا يجوز له أن يفطر بل يبقى إلى أن يفطر الناس.
- - مسألة: يستثنى من المسائل السابقة إذا رآه وحده سواء رأى هلال رمضان أو هلال شوال يستثنى إذا رآه منفرداً كأن يكون في البر فرأى الهلال أو كان محبوساً لا يتمكن من الكلام مع الناس ورأى الهلال من النافذة لو فرضنا وقوع مثل هذا الشيء فإنه حينئذ يجب عليه أن يعمل برؤيته.
وهذا اختيار شيخ الاسلام بن تيمية.
- لأن هذه الرؤية لا تتعارض مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صومكميوم تصومون وفطركم يوم تفطرون).
إذاً عرفنا الآن أن الإنسان إذا رأى الهلال وحده منفرداً عن الناس - أثناء سفر أو في أي ملابسات أخرى فيجب عليه أن يصوم ويعمل بقوله: (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطرو).
• ثم قال - رحمه الله -:
ويلزم الصوم: لكل مسلم مكلف قادر.
هذه شروط وجوب الصيام.
فيشترط لوجوب الصيام أن يكون مسلماً وبالغ وعاقل والشرط الرابع: قادر. لكن المؤلف جمع المسلم العاقل بقوله: مكلف.
اشتراط هذه الشروط محل إجماع في الجملة.
نأتي إلى التفصيل:
- الشرط الأول: أن يكون مسلماً. فيشترط في وجوب الصيام أن يكون مسلماً.
لأن الصيام عبادة والعبادة تحتاج إلى نية والنية لا تتأتى من الكافر.
وتقدم معنا في الزكاة أن معنى قول الفقهاء لا يجب عليه يعني: لا يطالب بها ولا بقضائها إذا أسلم وليس المراد أنه لا يعاقب على تركها.
- الشرط الثاني: أن يكون مكلفاً. يعني: بالغ وعاقل.
والدليل عليه: قوله - صلى الله عليه وسلم - (رفع القلم عن ثلاثة الصغير حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق).
فهؤلاء لا يجب عليهم الصيام وسيأتينا تفصيل أحوال الصبي والمجنون لكن من حيث الأصل لا يجب عليهم الصيام.
- الشرط الثالث - الأخير - أن يكون قادراً.
والدليل على اشتراط هذا الشرط: - أولاً: الإجماع. فإنه أجمع العلماء أنه لا يجب على من لا يستطيع الصيام أن يصوم.
- ثانياً: قوله تعالى: - (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) -[التغابن/16].
(2/464)
________________________________________
- ثالثاً: قوله تعالى: - (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ... ) -[البقرة/286].
- الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
وترك الصيام لغير القادر لمرض أو غيره ينقسم إلى قسمين:
- الأول: أن لا يستطيع في الوقت ويستطيع بعد الوقت كالمريض الذي يرجى برؤه فهذا يجوز له الفطر. وعليه القضاء فقط.
- الثاني: من لا يستطيع في الوقت ولا بعد الوقت. والمقصود بالوقت هنا: شسهر رمضان. فهذا يجوز له الفطر وعليه الإطعام. ومثاله: الشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه.
وسيأتي تفصيل أكثر لأحكام المريض الذي يرجى والذي لا يرجى برؤه.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإذا قامت البينة في أثناء النهار: وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه.
في الواقع المؤلف - رحمه الله - في هذه العبارة كأنه خلط بين مسألتين ولذلك لو رجعت للمقنع أو لكشاف القناع أو لأي كتاب من كتب الحنابلة ستجد أنه فصل بين المسألتين:
- المسألة الأولى: إذا قامت البينة في أثناء النهار.
- والمسألة الثانية: من صار أهلاً للوجوب في أثناء النهار ..
نبدأ بالمسألة الأولى: إذا قامت البينة في أثناء النهار: وجب الإمساك والقضاء.
إذا قامت البينة في أثناء النهار: يعني عرف في وسط النهار أن هذا اليوم من رمضان فيترتب على هذا: وجوب أمرين:
- الأول: وجوب الإمساك. - والثاني: وجوب القضاء.
أما الأول: وهو وجوب الإمساك: فهومحل إجماع. فيجب على من علم بأن هذا اليوم من رمضان في أثناء النهار أن يمسك.
والدليل على هذا:
- أولاًِ: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فاتقوا الله ما استطعتم) وهذا يستطيع أن يتقي الله في باقي اليوم بامتثال الأمر.
- ثانياً: لحرمة اليوم فإن هذا اليوم من رمضان لا يجوز للإنسان أن يأكل فيه.
- ثالثاً: لما صح عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى قوم أكلوا أول اليوم من عاشوراء أن أمسكوا وأتموا الصيام. مع أنهم أكلوا أول اليوم بنص الحديث.
وكما قلت المسألة محل إجماع.
وأما الثاني: وهو وجوب القضاء. يجب على المسلمين إذا أمسكوا مع ذلك أن يقضوا هذا اليوم.
والدليل:
(2/465)
________________________________________
- أن هؤلاء الناس لم يصوموا يوماً شرعياً كاملاً ولم يأتوا بشروط الصيام الصحيحة.
إذاً اختل الصيام من جهتين: أنه لم يصوموا يوماً كاملاً وأنهم لم يأتوا بشروط الصيام: كالنية من الليل.
= وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم. أنه: يجب مع الإمساك القضاء.
= والقول الثاني: أنه يجب الإمساك دون القضاء. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية.
واستدل بدليلين:
- الأول: أن الذين أكلوا أول اليوم في عاشوراء وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإمساك لم يأمرهم بالقضاء مع أن صيام عاشوراء كان واجباً في صدر الإسلام.
- الثاني: أن الوجوب وجوب العبادة فرع العلم. فقبل العلم لم يجب أصلاً. فالإمساك على هؤلاء يجب من حين علموا إلى آخر اليوم دون صدر اليوم ولا يجب على الإنسان أن يقضي ما لا يجب عليه.
والراجح. القول الثاني. وهذه المسألة إن كانت تقع في القديم فإنها لا يتصور أن تقع في وقتنا هذا إذ لا يتصور أن يرىحد الهلال ثم لا يستطيع أن يخبر المختصين والمختصون بدورهم يخبرون الناس لكن في القديم يقع كثيراً أن يراه في مكان بعيد ثم لا يصل إلا في منتصف النهار ثم يشهد وتقبل شهادته ويؤمر الناس بالصيام فهذا كان يقع.
أما اليوم فهي ولله الحمد لا تقع أو يندر جداً أن تقع مثل هذه المسألة.
•
ثم قال - رحمه الله -:
على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه.
من صار أهلاً للوجوب في أثناء اليوم أيضاً يجب عليه أن يمسك وأن يقضي.
مثاله: أن يسلم الكافر. أو يبلغ الصبي. أو يفيق المجنون.
فإذا بلغ الصبي في أثناء اليوم أو أسلم الكافر ترتب على هذا:
- أنه يجب عليهم أن يمسكوا.
- وأيضاً يجب أن يقضوا.
وهذه المسألة فيها عن الإمام أحمد روايتان وقيل ثلاثة لكن تشككوا في إثبات الرواية الثالثة.
= فالرواية الأولى: وجوب الإمساك والقضاء. وهو المذهب. .
أما وجوب الإمساك فلما تقدم أنه احتراماً للزمن ولأنهم أفطروا لعذر فزال هذا العذر فوجب أن يمسكوا.
= القول الثاني: لا يجب لا الإمساك ولا القضاء وهو رواية عن الإمام أحمد وهي الثانية.
أما أنه لا يجب الإمساك: فاستدلوا بأن من أفطر في أول اليوم ظاهراً وباطناً جاز له أن يفطر في آخر اليوم.
(2/466)
________________________________________
والصبي قبل أن يبلغ يجوز له أن يفطر في صدر اليوم ظاهراً وباطناً.
بخلاف الذين لم يبلغهم الخبر إلا في أثناء اليوم فهؤلاء يجوز لهم أن يفطروا ظاهراً فقط.
أما هؤلاء فإنه يجوز لهم أن يفطروا ظاهراً وباطناً.
إذاً هذا الدليل على عدم الإمساك.
وأما الدليل على عدم القضاء فلأن هؤلاء حال التلبس بالعبادة ليسوا من أهل العبادة.
((الأذان))
(نتم هذه المسألة فقط).
= والقول الثالث: ما قال عنه الزركشي: أظنه رواية عن الإمام أحمد: أنه يجب الإمساك دون القضاء.
والزركشي يقول: أظن أن شيخ الاسلام جعله رواية.
يعني: في إثبات هذه الرواية عن الإمام أحمد شك.
وهذا القول الأخير هو الصواب أنه يجب الإمساك دون القضاء.
أما عدم وجوب القضاء فلما تقدم: من أنهم لم يدركوا وقتاً يتمكنوا فيه من العبادة. أي أنهم في صدر النهار لم يكونوا من أهل العبادة.
وأما وجوب الإمساك فلحديث عاشوراء حيث أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإمساك فكذا هؤلاء نأمرهم بالإمساك بقية النهار ولا يجب عليهم أن يقضوا.
انتهى الدرس
(2/467)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
• قال - رحمه الله -:
وكذا حائض ونفساءُ طهرتا، ومسافر قدم مفطراً.
هؤلاء ثلاثة:
1 - الحائض إذا طهرت.
2 - والنفساء إذا طهرت.
3 - والمسافر إذا قدم.
ويلحق بهم شخص رابع وهو: 4 - المريض إذا شفي.
فهؤلاء أيضاً يأخذون الحكم السابق وهو وجوب القضاء ووجوب الإمساك.
- فنبدأ بالأول:
وهو: وجوب القضاء بالنسبة لمن كان يمنعه مانع من الصيام كالحيض والنفاس أو كان يجوز له الفطر كالمريض والمسافر فهؤلاء يجب عليهم القضاء إجماعاً.
- لقوله تعالى: - (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) -[البقرة/184].
فمسألة القضاء لا إشكال فيها بنص الكتاب وإجماع أهل العلم.
- والمسألة الثانية:
الإمساك: فيجب على هؤلاء أن يمسكوا إذا زال العذر في أثناء النهار.
= واستدل الحنابلة على ذلك:
(2/468)
________________________________________
- بأن العذر المبيح للفطر زال فيجب أن يزول حكمه وهو الإفطار ويمسك هذا الشخص.
= والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أنه لا يجب على هؤلاء الأربعة أن يمسكوا.
واستدلوا بأدلة:
- الأول: أن الله سبحانه وتعالى إنما فرض على المسلم صيام يوم ولا يجوز أن نلزمه بصيام يوم وصيام بعض يوم. لأنا نوجب عليه أن يقضي. فإذا أوجبنا عليه أيضاً أن يمسك صرنا أوجبنا عليه أن يصوم يوماً أو بعض يوم وهذا لا يدل عليه دليل من الشرع.
- الثاني: أنهم أفطروا في صدر النهار ظاهراً وباطناً بإذن الشارع الذي لا شك فيه فكذلك في آخر النهار. لأن الصوم الشرعي: الإمساك يوماً كاملاً.
وهذا القول الثاني هو الراجح إن شاء الله.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤهُ: أطعما لكل يوم مسكيناً.
أي جاز له أن يفطر وعليه أن يطعم.
فالشيخ الكبير - الرجل الكبير السن - ومن كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه إذا لم يستطيعوا الصيام جاز لهم الفطر وعليهم فقط الإطعام.
= وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم: الشافعية والحنابلة والأحناف والجماهير.
واستدلوا:
- بما صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: الشيخ والشيخة الكبير يفطرون ويطعمون. واستدل بقوله تعالى: - (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) -[البقرة/184].
= القول الثاني: للإمام مالك وهو أنهم يفطرون ولا شيء عليهم.
واستدل:
- بأنهم أفطروا بعذر شرعي ومن أفطر بعذر شرعي فإنه لا يلزم بالفدية.
وقول الإمام مالك ضعيف والصواب مع الجمهور لما استدلوا به عن ابن عباس ولا يعلم له مخالف من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
• ثم قال - رحمه الله -:
أطعما لكل يوم مسكيناً.
لم يبين المؤلف - رحمه الله - المراد بالإطعام هنا ولا مقداره.
= ومقصود الحنابلة هنا هو ما يجزئ في الكفارات وهو مد بر أو نصف صاع من غيره من الأطعمة.
واستدلوا على ذلك:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب في فدية الحج بالحديث الصحيح - نصف صاع.
وأما أن البر مد: - فلأنه أغلى ثمناً وأنفس فهو يساوي مدين من غيره من الأطعمه من الشعير أو التمر.
= والقول الثاني: أن الواجب نصف صاع من أي طعام كان.
(2/469)
________________________________________
واستدلوا: - بنفس الدليل: قياساً على ما جاء في فدية الحج وقالوا: لا دليل على التفريق بين البر وغيره من الأطعمة.
= والقول الثالث: أنه مد من كل الأطعمة.
واستدلوا: - بأنه روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
= والقول الرابع: أنه لاحد ولا قدر لما يطعمه الإنسان.
- لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالإطعام ولم يذكر حداً ولا مقداراً.
- وليس في السنة تحديد لمقدار ما يطعم.
فالواجب في الإطعام هنا كالواجب في كفارة اليمين (من أوسط ما تطعمون أهليكم). فيخرج الإنسان طعاماً يكفي شخصاً واحداً ويبرأ بذلك.
وعلى القول بالتقدير فالأقرب أن يكون نصف صاع كما جاء في فدية الحج. فإن فدية الحج تشابه هذه الفدية. والتقدير النبوي خير من التقدير بالرأي إذا أردنا أن نقدر.
ولكن الصواب أنه لا تقدير فيه.
بناء على هذا: إذا أراد الإنسان أن يطعم:
- فإما أن يصنع طعاناً يكفي لثلاثين شخص من الفقراء ويدعوهم ليأكلوا في منزله.
- أو يدفع من الطعام ما يكفي ثلاثين مسكيناً.
وبذلك تبرأ ذمته.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويسن لمريض يضره.
يعني: يسن له أن يفطر.
فإن صام مع حاجته للفطر فقد أتى مكروهاً.
ونحتاج في هذا الموضوع إلى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: ما هو المرض؟
المرض هو: خروج البدن عن حد الصحة إلى الاعتلال. فإذا خرج البدن عن حد الصحة إلى الاعتلال فهو مريض.
- المسألة الثانية: ضابط المرض الذي يجوز أن يفطر من أصيب به:
هو: كل مرض يتسبب الصيام في تأخير شفائه أو زيادة المرض.
بناء على هذا: كل مرض لا يكون للضيام تأثير عليه فإنه لا يجوز لصاحبه أن يفطر. كما إذا أصيب الإنسان بألم في الضرس أو جرح في الإصبع ونحو هذه الأمور التي لا دخل للصيام بها لا زيادة ولا نقصاً.
فإن صاحب هذا المرض إن أفطر فقد ارتكب محرماً.
- المسألة الثالثة - الأخيرة -: يجوز للصحيح الذي لم يمرض أن يفطر إذا خشي أنه لو صام مرض. لأن هذا بمعنى زيادة المرض. بل هو أبلغ من زيادة المرض لأنه حدوث للمرض.
(2/470)
________________________________________
والفطر بالمرض محل إجماع في الجملة بين أهل العلم: للآية. - (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) -[البقرة/184] فهي نص في جواز فطر المريض.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولمسافر يقصر.
يعني: ويسن لمسافر يقصر أن يفطر. والفطر للمسافر جائز بإجماع أهل العلم.
ويجوز له أن يصوم على الصحيح:
- لما أخرجه البخاري ومسلم عن أنس أنه قال: كنا في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر ولم يعب أحدنا على الآخر.
وينقسم الصيام في السفر إلى قسمين:
- القسم الأول: ما يترتب عليه مشقة.
فالسنة في السفر الشاق أن يفطر.
فإن صام فقد ارتكب مكروهاً أو محرماً بحسب الأذى الذي يلحق البدن من الصيام.
والدليل على هذا التفصيل:
- أولاً: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس من البر الصيام في السفر).
- وثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفطر في سفر فقيل له إن قوماً ما زالوا صائمين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أولئك العصاة، أولئك العصاة).
- القسم الثاني: أن لا يترتب على الصيام في السفر مشقة.
فهذا فيه خلاف بين أهل العلم:
= فذهب الحنابلة: الإمام أحمد - المذهب الإصطلاحي والشخصي - إلى أنه يسن للمسافر أن يفطر ولو لم يجد مشقة.
واستدل - رحمه الله -:
- بالنصوص السابقة وبالآثار التي نقلت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي تدل على كراهية الصيام في السفر ولو بلا مشقة.
= القول الثاني: للأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي أن الصيام أفضل في السفر إذا لم يترتب عليه مشقة.
واستدل الجمهور بدليلين:
- الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر في يوم حار فصام هو وابن رواحة. فدل صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه إذا لم يجد مشقة فالأفضل الصيام لأنه لا يصنع إلا الأفضل.
- الثاني: أن في الصيام في السفر إسراع في إبراء الذمة.
والجواب على حديث: (أولئك العصاة):أنه ثبت في هذا الحديث أن الصيام شق على أصحابه.
ونحن نقول: أنه إذا شق الصيام فهو مكروه أو محرم. وإنما البحث مفروض فيما إذا لم يجد مشقة.
والذي يظهر والله أعلم أن مذهب الأئمة الثلاثة أحسن وأقوى وأقرب للجمع بين النصوص.
(2/471)
________________________________________
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن نوى حاضر صوم يوم ثم سافر في أثنائه: فله الفطر.
يعني: إذا صام الإنسان في بلده ونوى الصيام وصام ثم سافر في أثناء اليوم وخرج عن البلد فإنه يجوز له عند الحنابلة أن يفطر. ولو كان في أول النهار مقيماً صائماً.
واستدلوا:
- بأنه ثبت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يفطرون في أثناء اليوم في السفر.
= والقول الثاني: للأئمة الثلاثة أنه إذا أصبح صائماً في بلده ثم خرج مسافراً فإنه لا يجوز له أن يفطر.
- لأنه شرع في عبادة واجبة فوجب عليه أن يتمها.
ومذهب الأئمة الثلاثة في هذه المسألة ضعيف أو ضعيف جداً. لأنه مخالف للمنقول والمعقول.
فالمنقول عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أفقه الناس أنهم كانوا يفطرون.
وأما المعقول: فلأن المعنى المناسب الذي أباح الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يفطر فيه وهو السفر موجود في هذه الصورة ولا يقدح في ذلك أنه كان في أول النهار مقيماً فإن هذا المعنى لا يقدح في وجود علة جواز الفطر وهي السفر.
فالراجح في هذه المسألة مذهب الحنابلة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما: قضتاه فقط.
الحامل والمرضع إذا أفطرتا فعليهما القضاء إذا كان الفطر بسبب الخوف على أنفسهما لا بسبب الخوف على الجنين.
فإن كان الفطر بسبب الخوف على الحنين فهي المسألة الثانية التي ستأتي الآن معنا.
وجواز الفطر وأنه لا يجب عليهما إلا القضاء كلاهما محل إجماع. حكى الإجماع ابن قدامة وابن مفلح وغيرهما وأشار إليه شيخ الإسلام بن تيمية.
إذاً إذا أفطرتا خوفاً على نفسيهما لا على الجنين فعليهما فقط القضاء دون الإطعام.
•
ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً النوع الثاني:
وعلى ولديهما: قضتا وأطعمتا لكل يوم مسكيناً.
هذه المسألة وهي إذا أفطرت الحامل والمرضع خوفاً على الجنين محل إشكال بين أهل العلم واختلفوا فيها اختلافاً كثيراً ونحن إن شاء الله نلخص هذا فنقول:
= ذهب الحنابلة والشافعية إلى ما ذكره المؤلف - رحمه الله - أنه عليهما أن يقضيا وأن يطعما.
واستدلوا على ذلك:
- بما صح عن ابن عباس وابن عمر: أنهما أفتيا المرضع والحامل بذلك: بأن يطعما.
(2/472)
________________________________________
وأما القضاء: - فقياساً على المريض. لأن الحامل والمرضع تشبه من حيث الحقيقة المريض.
= القول الثاني: أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا بسبب الجنين لا يجب عليهما إلا الإطعام فقط.
واستدلوا:
- بأنه صح عن ابن عمر وابن عباس أنه ليس على المرأة المرضعة والحامل إذا أفطرت إلا الإطعام دون القضاء ونصوا رضي الله عنهم بالفتوى أن الواجب الإطعام دون القضاء.
وهذا صحيح وإسناداً ثابت صححه الدارقطني وغيره.
وأما مارواه البيهقي عن ابن عمر أنه قال لها: - أي المرأة السائلة - أطعمي واقضي فهو أثر منكر.
فالثابت عنهما الإفتاء بالإطعام دون القضاء.
= القول الثالث: أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا فإنه لا يجب عليهما لا إطعام ولا قضاء. وهذا مذهب ابن حزم - رحمه الله -.
واستدل على هذا:
- بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع عن المسافر والحامل والمرضع الصيام. قال ابن حزم فإذا أجاز الشارع لها أن تفطر فلا يترتب على هذا لا قضاء ولا إطعام.
= والقول الرابع - والأخير -: وهو مذهب الجمهور وأكثر أهل العلم وحوب القضاء دون الإطعام.
أما وجوب القضاء: - فقياساً على المريض.
وأما عدم وجوب الإطعام فلدليلين:
- الأول: أنه ليس في السنة الصحيحة ما يدل على وجوب الإطعام.
- الثاني: أنه في قول ابن عباس وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسافر والمرضع والحامل الصوم لم يذكر وجوب الإطعام.
والراجح والله أعلم. وجوب القضاء والإطعام. قال شيخ الاسلام - رحمه الله -: صح الإطعام عن ثلاثة من الصحابة لا يعلم لهم مخالف وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس.
وإذا صح عن ثلاثة من فقهاء الصحابة إلزام المرأة بالإطعام فإنه يصعب الخروج عن هذا.
وهذا القول اختيار شيخ الاسلام في أكثر من كتاب من مصنفاته.
وهو مذهب الإمام أحمد الاصطلاحي والشخصي وهو مذهب الإمام الشافعي.
وهذا القول قوي بسبب الآثار الصحيحة الثابتة التي ليس لها مخالف ولا دافع سواء:
- قلنا أن هذه الفتوى مما لا مدخل للرأي فيها وهذا محتمل لأنه قد يقال أنه يبعد أن ابن عباس وابن عمر يلزمون المرأة بالإطعام بلا دليل ولا مستند عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2/473)
________________________________________
- أو قلنا أنه فتوى صحابي ليس له مخالف فيشبه أن يكون إجماع ثلاثة من الصحابة يفتون بهذا الأمر فأيضاً هذا كافي في أن يذهب الإنسان إلى هذا المذهب.
فنقول: يجب على المرأة إذا أفطرت بسبب الجنين أن تقضي هذا اليوم وأن تطعم.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومن نوى الصوم ثم جن، أو أُغمي عليه جميع النهار ولم يفق جزءاً منه: لم يصح صومه.
أي أذا نوى الصوم من الليل ثم جن أو أغمي عليه في جميع النهار: يعني: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فإن الصيام باطل ولا يصح:
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -[أن الله تعالى يقول - في الحديث القدسي]: (كل عمل ابن له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي).
ومن أغمي عليه أو جن لا ينسب إليه أنه قصد ترك الطعام ولا الشراب. فلا يعتبر من الصائمين.
وفهم من عبارة المؤلف أن المغمى عليه لو استيقظ في أي جزء من النهار صح صومه وكذلك لو أفاق المجنون في أي جزء من النهار صح صومه سواء أفاق - المجنون أو المغمى عليه - من أول النهار أو من آخره.
- لأنه قصد الإمساك في جزء من وقت العبادة فصحت عبادته.
•
ثم قال - رحمه الله -:
لا إن نام جميع النهار.
أي فيصح صومه.
وصحت صوم النائم في جميع النهار محل إجماع لأمرين:
- الأول: أن النوم عادة فلا تبطل الصيام.
- والثاني: لأن النائم لا يفقد الإحساس بالكلية كما في الإغماء والجنون.
وللإجماع الذي ذكرته فلا إشكال إن شاء الله في مسألة النائم. فلو نام الإنسان من قبل أن يطلع الفجر الثاني إلى أن غابت الشمس ولم يستيقظ أبداً فصومه صحيح.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويلزم المغمى عليه: القضاءُ فقط.
فقط: أي دون المجنون.
فالمسألة الأولى: أن المغمى عليه يجب عليه أن يقضي الصيام: أي في الحال التي لا يصح فيها صومه كما إذا أغمي عليه جميع النهار.
- لأن زوال العقل بالنسبة له ليس زوالاً كلياً فلا يرفع التكليف.
- ولأنه لا يتأخر عادة أي لا يطول.
فإذاً المغمى عليه يجب عليه أن يقضي إذا استيقظ.
المسألة الثانية: المجنون. المجنون ينقسم إلى قسمين:
(2/474)
________________________________________
- الأول: أن يكون مجنوناً طول النهار: أي من أول اليوم إلى آخره: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فهذا لا يجب عليه أن يقضي هذا اليوم.
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة) قال: (والمجنون حتى يفيق).
والمرفوع عنه القلم ليس من المكلفين فلا يجب عليه أن يقضي لأنه لم يثبت في ذمته وجوب العبادة أصلاً.
- الثاني: أن يصحو في جزء من النهار ويجن في جزئه الآخر. فهذا يجب عليه عليه أن يقضي.
لأنه أدرك جزءاً من العبادة فوجبت في ذمته.
فإذاً المجنون فيهه هذا التفصيل الذي ذكرته.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ويجب تعيين النية من الليل: لصوم كل يوم واجب لا نية الفريضة.
يعني: أنه يجب: = عند الحنابلة أن يعين الإنسان النية في الليل.
ومقصود الحنابلة بالتعيين: أن ينوي أنه يصوم من رمضان أو من قضائه أو من نذره وإنما الواجب أن يعين ما هو الصيام الذي سيصومه؟
وإذا نوى نية التعيين فلا يجب عليه أن ينوي نية الفريضة لقوله - رحمه الله -: (لا نية الفريضة).
والتعليل: - أن نية التعيين تغني عن نية الفريضة.
فلو نوى الإنسان أنه غداً سيصوم قضاء عليه أو من نذره أو من رمضان فلا يشترط مع ذلك أن ينوي أنه يصوم فريضة من فرائض الله. بل يكتفي بالتعيين.
- الدليل:
- الدليل على وجوب التعيين والنية - في الجملة:
- الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) أي: أن الأعمال إنما تعتبر وتصح وتقبل بالنية.
- الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل). وهذا الحديث فيه خلاف في إثباته وتعليله. ولعل الأقرب إن شاء الله أنه موقوف.
لكن كما هو ظاهر: أن مثل هذا الحكم يبعد جداً أن يقوله الصحابي من تلقاء نفسه بل يجزم الإنسان أن له حكم الرفع لأن فيه جزماً بإبطال عبادة مع تعيين وقت محدد لنية هذه العبادة وهو الليل فالغالب أنه مرفوع.
= القول الثاني: أن الصيام إذا كان متتابعاً سواء كان صيام رمضان أو كفارة الجماع في نهار رمضان أو كفارة قتل الخطأ أو أي صيام يشترط فيه التتابع أنه يكتفى فيه بالنية في أوله ولا يجب أن ينوي في كل يوم.
واستدل هؤلاء:
(2/475)
________________________________________
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا المسام نوى أن يصوم كل رمضان حين دخل الشهر.
والفقهاء متفقون على أن الواجب استمرار النية حكماً لا حقيقة. وهذا استمرت نيته حكماً وإن لم تستمر في بعض المواضع حقيقة فيما لو نسي أو نام.
ويشترط على هذا القول: أنه إذا جن أو أغمي عليه أو عرض له أي عارض أن يجدد النية.
وكذلك لو أفطر بسبب لا يقطع التتابع فيجب عليه أن يجدد النية لأن النية الحكمية انقطعت هنا.
وهذا القول الثاني: أقرب إن شاء الله.
وثمرة الخلاف تقريباً في مسألة واحدة: وهي: في الشخص الذي ينام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. أي الذي ينام في كل الليل فإن هذا لم يبيت الصيام من الليل فهذا:
= عند الجمهور: صيامه باطل. لأنه لم ينو في الليل.
= وعلى القول الثاني: صيامه صحيح.
ومن هنا تعلم خطورة ما يصنعه بعض الشباب من النوم طيلة الليل فإن هذا يعرض صيامه للبطلان عند جماهير أهل العلم الذين يستندون على نص صحيح عند المتأخرين وحكم بعضهم عليه بالوقف وهو: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) ففي عمله هذا خطورة عظيمة جداً.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويصح النفل: بنية من النهار
هذه المسألة كالتقييد للمسألة السابقة: وهي:
أنه يجوز للإنسان أن يصوم ولو في أثناء النهار إذا كان الصيام نفل.
واستدل الحنابلة على هذا:
- بما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة فقال: (أعندك طعام قالت لا:. قال: إني إذاً صائم). فصام - صلى الله عليه وسلم - في أثناء النهار لما كان الصيام نفلاً.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز صيام النفل إلا بنية.
- لعموم حديث: ((لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل).
والراجح مع الحنابلة. لأن حديثهم مخصص لعموم هذا الحديث.
مسألة: = ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأجر يترتب من النية فقط. وما سبق من اليوم فإنه لا أجر له عليه.
واستدلوا على هذا:
- بأن الأجر يترتب على العبادة والعبادة لا يمكن أن تصح إل بنية والنية لم تأت إلا في أثناء اليوم.
= والقول الثاني: أنه إذا صام في أثناء النهار فإن له أجر يوم كامل.
(2/476)
________________________________________
- لأن الصيام في الشرع لا يكون في بعض النهار وإنما يكون في يوم كامل. فإذا صححنا صيامه فله الأجر كاملاً. والصواب مع القول الأول: وهو مذهب الإمام أحمد. لأنه لا يمكن أن يثاب الإنسان بلا نية.
مسألة: يشترط لصحة صيام التطوع في أثناء اليوم أن لا يأتي بمفسد للصيام في صدر النهار سواء كان أكل أو شرب أو جماع أو أي مفسد من مفسدات الصيام. فإن أتى به فلا صيام له ولو نواه في أثنائه.
•
ثم قال - رحمه الله -:
قبل الزوال وبعده.
يعني: أنه يصح أن يصوم في أثناء النهار سواء كانت النية جاءت بعد الزوال أو قبل الزوال.
واستدل الحنابلة على هذا:
- بعموم حدبث عائشة. فإنه لم يفصل بين أن تكون هذه النية بعد أو قبل الزوال.
= والقول الثاني: أنه إن كان بعد الزوال لم يصح صيامه.
واستدلوا على هذا:
- بأن غالب النهار ذهب. وإذا ذهب غالب العبادة لم تحتسب. بدليل أن الإنسان إذا أدرك ركعة من الصلاة حسبت له هذه الركعة وإذا أدرك ما بعد الركعة لم تحسب له هذه الركعة. فدل على هذا التفصيل.
وهذا القول الثاني ك مجرد رأي لا قيمة له - من وجهة نظري - في مقابلة النص الصريح الذي لم يفرق بين أن يكون بعد الزوال أو قبل الزوال. نعم. ليس في حديث عائشة ما يدل على أن دخوله - صلى الله عليه وسلم - كان قبل أو بعد لكن هذا لا يؤثر في قوة الاستدلال بعموم الحديث.
ثم أيضاً المعنى: إذا كان الشارع صحح الصيام في أثناء النهار وسيحسب له الأجر من حين النية فما الفرق بين أن يكون قبل أو بعد الزول؟ إلا تعليلات عقلية لا قيمة لها.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرضي: لم يجزئه.
يعني: إذا قال الإنسان إن كان غداً من رمضان فهو فرضي وإلا فهو نفل ثم صار من رمضان فإنه لا يجزأه = عند الحنابلة.
ومعلوم أن هذا يتصور في اليوم الأول.
واستدل الحنابلة:
- بأنه في هذه الصورة فقد شرط التعيين الجازم لأن هذا الرجل متردد.
وتقدم أنه يشترط أن يعين جازماً.
= والقول الثاني: أن صيامه صحيح ويجزأه عن رمضان.
- لأن التردد في هذه الصورة ليس في النية وإنما في الواقع. يعني: أنه يتعلق بالواقع لا بالنية.
أما هو فهو جازم إن كان من رمضان فهو صائم.
(2/477)
________________________________________
وهذا القول الثاني هو الصواب إن شاء الله. فإذا فعله الإنسان فإنه يجزئ عنه من رمضان إن شاء الله.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومن نوى الإفطار: أفطر.
من نوى الإفطار أفطر ولو لم يأكل.
والدليل على هذا:
- أن استصحاب النية حقيقة أو حكماً شرط لصحة العبادة وهذا قطع النية فبطلت العبادة.
فإذا نوى الإنسان أنه أفطر فقد أفطر وبطل صيامه.
مسألة: ليس من ذلك أن ينوي أنه سيفطر. وهذه تقع كثيراً عند الناس ولا يفرقون بين نية الفطر ونية أنه سيفطر.
فإذا نوى أنه سيفطر فإن صيامه صحيح إلى أن يفطر لأنه لم ينوي الفطر وإنما نوى أنه سيفطر كما لو قال: سأفطر إذا جاء زيد. أو سأفطر بعد ساعة. فهذا صيامه صحيح لأنه لم يقطع النية.
وإذا قال: سأفطر بعد ساعة فإذا مضت الساعة فإن نوى الفطر أو أفطر حقيقة بطل صيامه وإلا فهو صحيح ويبقى على نيته الأولى ولا يؤثر أنه نوى أنه سيفطر.
باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة.
• ثم قال - رحمه الله -:
باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة.
هذا الباب مخصص لمفسدات الصيام.
ومفسدات الصيام هي: كل ما ينافي الصيام ويبطله. فهو من المفسدات.
وما يفسد الصيام ينقسم إلى قسمين:
- الأول: ما يبطل الصيام مع كونه مجزأ وهو بهذا المعنى يذهب بالأجر علن الصائم.
ومثاله: من يتعاطى الشتم والسب ولا يتأدب بآداب الصيام وهوصائم.
فهذا صومه مجزيء لكن يصح أن نقول لاصيام لك يعني: لا أجر لك.
- الثاني: المفسد للصيام أي المبطل الذي يترتب عليه وجوب القضاء. وهو المقصود في هذا الباب.
• قال - رحمه الله -:
من أكل أو شرب ... إلى أن قال: فسد صومه.
الأكل والشرب مفسد للصيام إذا كان مغذياً بإجماع أهل العلم.
- أولاً: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يدع طعامه وشرابه). فدل على أن من شأن الصائم أن يدع الطعام والشراب وإلا فليس بصائم.
- ثانياً: قوله تعالى: - (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) -[البقرة/187]
القسم الثاني: ما يؤكل مما لا يغذي فهذا يبطل الصيام: = عند الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف.
كأن يبلع حصانة أو درهماً أو تراباً أو نجو ذلك مما لا يغذي.
(2/478)
________________________________________
= والقول الثاني: وهو مذهب لبعض المالكية والحسن بن صالح ونصره شيخ الاسلام: أن من أكل ما لا يغذي فإنه لا يفطر.
واستدلوا بدليلين:
- الأول: أن الأكل والشرب إذا أطلق في اللغة وفي العرف وفي الشرع ينصرف إلى الأكل المعروف الذي يتغذى به الجسد. ولا ينصرف إلى ما لا يؤكل عاجة ولا يغذي.
ولذلك: لما أراد الخليل بن أحمد أن يعرف الأكل قال: والأكل معروف.
يعني: الذي يطعم وينتفع الجسم منه.
- الثاني: أن علة التفطير التي تعقل من نصوص الشارع هي ما يتقوى به الجسد ويستمد منه الطاقة والنشاط دون ما ليس كذلك. فإن هذا هو المعى المعقول الذي يناسب أن يكون علة للنصوص.
وهذا القول الثاني من حيث الأدلة هو القول الصحيح. وهو قول قوي جداً ويتناسب مع نصوص الشرع.
بناء على هذا إذا بلع الإنسان حصاة فإن صيامه باطل عند الجماهير وصحيح عند من ذكرت.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو استعط.
السعوط هو ما يصل إلى الجوف من خلال الأنف فإذا وصل إلى الجوف ماء أو غيره مما يغذي من طريق الأنف بطل الصيام.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بالغ في الا ستنشاق إلا أن تكون صائماً). فدل الحديث على أن الأنف من المنافذ التي إذا وصل المعدة من خلالها ما يطعم أبطل الصيام.
وهذا لا إشكال فيه وهو واضح.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو احتقن.
الاحتقان لغة: هو الاحتباس.
واصطلاحاً: هو تعاطي الدواء في الدبر بالحقنة.
= وذهب الجماهير إلى أن الحقنة تفطر الصائم.
- لأنها إدخال مادة إلى الجوف.
= والقول الثاني: أن الاحتقان لا يفطر وإليه ذهب بعض أهل العلم ونصره شيخ الاسلام - رحمه الله -
واستدل بدليلين:
- الأول: أن ما يحصل بالحقنة الشرجية هو استفراغ ما في البدن لا إدخال القوة والنشاط إليه فكيف يفطر الصائم بذلك؟
وهذا عكس ما يقوله الجمهور الذين يقولون هو إدخال مادة إلى الجوف.
- الثاني: أن الاحتقان في الدبر لا يفيد الجسم وليس من الغذاء لا لغة ولا شرعاً. فلا يسمى المحتقن آكل ولا شارب لا عرفاً ولا شرعاً.
والصواب التفصيل وهو:
(2/479)
________________________________________
- أنه إذا احتقن الإنسان في الأمعاء الغليظة وانت المادة المحقونة فيها ماء أو مواد غذائية فإنه يفطر لأن الأمعاء الغليظة من الأماكن التي يمتص فيها الماء والغذاء.
فإذا امتصت الماء أو الغذاء تقوى الجسد وهذا سبب الفطر.
- وإن حقن في الدبر أدوية ليس فيها ماء ولا غذاء: إن تصور هذا - فإنها لا تسبب الفطر.
هذا القول هو الصواب وأظن أن شيخ الاسلام لو علم من خلال الطب الحديث أن الأمعاء الغليظة محل لامتصاص الماء لم يتوقف في التفطير - أظن هذا - وعاى كل حال سواء صار هذا أو لم يصر فالصواب أنه إذا دخل ماء أو مواد غذائية أن الإنسان يفطر.
وفي الغالب لن يخلو من ماء لأن المقصود من الحقنة الشرجية التنظيف أو خفض الحرارة أو غيره من الأغراض.
وفي الغالب مع ذلك إلى الماء فلابد من الماء.
فإذا حقن بماء فهو يفطر وعليه أن يقضي هذا اليوم لأن الأمعاء ستمتص هذا الماء.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو اكتحل بما يصل إلى حلقه.
إذا اكتحل بما يصل إلى حلقه يعني: بما يستطعم حلقه فإنه يفطر.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الإثمد للصائم.
وهذا الحديث ضعيف جداً.
= واالقول الثاني: أن الكحل لا يفطر ولو وجد الإنسان طعمه في حلقه.
- لأن الاكتحال ليس بأكل ولا شرب ولا يحصل للجسد منه أي نوع من أنواع النشاط والتقوية فلا سبب شرعي للتفطير به.
وهذا هو الصواب. أن الكحل لا يفطر. لعدم وجود المقتضي الدال على التفطير به.
•
ثم قال - رحمه الله -:
أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير إحليله.
أراد المؤلف - رحمه الله - في نهاية المسائل التي يفطر بها الإنسان أن يقعد قاعدة وهي تتعلق بما يوجب الفطر من الأشياء التي تدخل البدن.
لو لاحظت معي: فإن المؤلف - رحمه الله - قسم المفطرات إلى قسمين:
- مفطرات تدخل البدن.
- ومفطرات تخرج من البدن.
فالقسم الأول: المفطرات التي تدخل البدن - لاحظ معي في المتن -: الأكل والشرب والاستعاط والاحتقان والاكتحال فهذه تدخل البدن.
والقسم الثاني: المفطرات التي تخرج من البدن وهي في قوله: استقاء استمنى باشر أنزل ... الخ.
فالمؤلف يريد الآن أن يقرر قاعدة للأشياء التي تفطر إذا دخلت:
(2/480)
________________________________________
• فقال - رحمه الله -:
أو أدخل إلى جوفه شيئاً.
إذاً قاعة المذهب: أن كل ما يدخل إلى الجسد إلى جوف فيه يصل إلى المعدة فإنه يفطر. سواء دخل من المدخل المعتاد كالفم أو من غير المعتاد كما ذكر الأنف والعين أو الجاحات والجروح الغائرة أو من أي منفذ.
وسواء كان هذا الداخل مما يتغذى به الجسم أو مما لا يتغذى به الجسم. ففي الجميع يجب على من دخل إلى جوفه مما يصل إلى المعدة شيء أن يقضي ذلك اليوم.
هذه هي قاعدة المذهب.
= والقول الثاني: - من حيث القاعدة - أنه لا يفطر شيء مما يدخل البدن إلا ما يدخل إلى المعدة أو إلى موضع يمكن أن تمتص منه المواد الغذائية والماء سواؤ كان من المدخل الطبيعي وهو الفم أو من غيره من المداخل بشرط أن يكون الداخل مغذياً.
((إذاً مرة أخرى كل ما يدخل إلى ما ينتفع به الجسم أو يمكن أن يمتص فيه مما يغذي)).
وفي الحقيقة ما يمكن أن ينتفع به الجسم هما موضعين فقط: المعدة والأمعاء الدقيقة والغليظة فقط. وباقي الأشياء التي في البدن مما يدخلها مواد لا يمكن أن ينتفع بها الإنسان من حيث القوة والنشاط.
يضاف إلى مسألة المعدة والأمعاء الغليظة والدقيقة فقط مسألة المغذيات التي تدخل للدم. فهذه تفطر لأنها في معنى الطعام والشراب وفيما عدا الإبر المغذية الضابط: ما يدخل إلى المعدة أو الإثنا عشر الغليظ أو الدقيق مما ينتفع به الجسم فهذا هو الضابط.
•
ثم قال - رحمه الله -:
غير إحليله.
= ذهب الجمهور. إلى أن ما يدخل الإحليل فإنه لا يسبب الفطر.
واستدلوا على هذا:
- بأنه ليس بين الإحليل والجوف منفذ.
وما ذهب إليه الجمهور هو الصواب لأنه أولاً ليس بين الإحليل والجوف منفذ.
ثانياً: أن ما يوضع في الإحليل لا يمكن أن يسبب نشاطاً ولا قوة للجسم.
- ثم هو ليس في معنى الطعام ولا في معنى الشراب.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو استقاء.
استقاء يعني: قاء عمداً.
فمن قاء عمداً وجب عليه أن يقضي هذا اليوم.
وحكى عدد من أهل العلم الإجماع على هذا الحكم منهم الخطابي وغيره - عدد من أهل العلم حكوا الإجماع.
واستدلوا على هذا الحكم:
(2/481)
________________________________________
- بحديث: أبي هريرة: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء) وهذا الحديث معلول والصواب أنه موقوف. ((الأذان)).
والصواب ما عليه الجماهير الذي حكي إجماعاً أن من استقاء عمداً فعليه القضاء:
- أولاً: للإجماع المحكي.
- وثانياً: للآثار الموقوفة عن أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهما -.
ومن ذهب إلى أنه لا يفطر فقوله ضعيف بمقابل ما عليه جماهير أهل العلم أو حكي إجماعاً.
انتهى الدرس
(2/482)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
مازال المؤلف - رحمه الله - في سياق الكلام عن الأشياء التي إذا خرجت من البدن سببت فساد الصوم فذكر منها من استقاء عمداً وتحدثنا عنها في الدرس السابق.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو استمنى.
الاستمناء هو: استدعاء المني باليد أوم بغيره مما يستدعى به المني.
فإذا استدعى المني بأي طريقة كانت فهو ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: أن لا ينزل. فإن لم ينزل فعمله محرم وصيامه صحيح.
- القسم الثاني: أن ينزل. فإن أنزل فإن صومه يفسد.
واستدل العلماء على فساد الصوم بالإستمناء بدليلين:
- الأول: أنه إذا كان الصوم يفسد بالقبلة التي تؤدي إلى الإنزال فبالإستمناء من باب أولى.
- الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يدع شرابه وطعامه وشهوته) وهذا لم يدع شهوته.
= والقول الثاني: أن الصيام لا يفسد وإليه ذهب الظاهرية. وذكروا أنه لادليل على فساد الصوم.
والصواب أن الصوم يفسد وسيأتينا مزيد إيضاح في مسألة المباشرة. لأنهم قاسوا الإستمناء على المباشرة - كما سمعتم -.
• قال - رحمه الله -:
أو باشر فأمنى ... فسد.
المباشرة يقصد بها: أن يباشر امرأته بما دون الفرج.
فالمباشرة والتقبيل واللمس حكم هذه الثلاث مسائل واحد.
= فذهب الجماهير من السلف والخلف وحكي إجماعاً أن الإنسان إذا باشر أوقبل أو لمس فأنزل فإن صيامه يفسد.
واستدلوا على هذا بأدلة:
- الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يدع شرابه وطعامه وشهوته) فإنه لم يدع شهوته.
(2/483)
________________________________________
- الثاني: ما أخرجه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه. يعني يملك نفسه وشهوته عن الإنزلاق إلى المحرم.
وجه الاستدلال: أن مفهوم حديث عائشة أن من لا يملك نفسه فإنه لا يجوز له أن يقبل أو يباشر لأن هذا يؤدي إلى الإنزال الذي يؤدي إلى فساد الصوم.
- الثالث: القياس على الجماع. ووجه القياس: أن غاية ما يطلب في الجماع الإنزال. وقد حصل له بالمباشرة أو التقبيل.
وقد حكى ابن قدامة الإجماع فيصلح أن نجعله أيضاً دليلاً.
ولم يخالف إلا الظاهرية وهم أصحاب:
= القول الثاني: فذهبوا إلى أنه لا يفسد الصيام إلا بالجماع لعدم الدليل. وقد سمعت الأدلة.
- - مسألة: فإن باشر أو قبل أو لمس ولم ينزل فالصواب أن هذا جائز إذا أمن نفسه.
وفي المسألة - مسألة مباشرة الصائم أقوال هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه مفهوم حديث عائشة المتقدم.
واعلم أن هذه المسألة كالأصل لمسائل الإنزال والمباشرة. فأخذنا قبل قليل أن مسألة الاستمناء باليد أو بغيرها تقاس على مسلة التقبيل والآن هذه المسائل - المباشرة والتقبيل واللمس - وهذا الخلاف الذي حكيناه في المباشرة يعتبر كالقاعدة لمسائل التعامل مع الزوجة فيما يتعلق بالشهوة.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو أمذى.
إن باشر فأمذى ولم ينزل فسد صيامه أيضاً.
والدليل على ذلك:
- القياس على المني. ووجه القياس: أن في كل منهما خروج السائل بشهوة.
= والقول الثاني: أن المذي لا يوجب فساد الصوم.
- لأن المذي ليس كالمني , بدليل وجوب الغسل في المني دون المذي فلا يصح أن نلحق المذي به.
وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم. وهو الصواب إن شاء الله.
فإذا باشر الإنسان فأمذى فإن صومه صحيح. إلا عند الحنابلة فإن صومه فاسد على ما سمعت من الخلاف والترجيح.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو كرر النظر فأنزل.
= ذهب الحنابلة إلى أن الصائم إذا كرر النظر على سبيل الشهوة فأنزل فإن صيامه يبطل.
واستدلوا على هذا:
- بأن تكرير النظر يشبه المباشرة في استدعاء المني. فأفسد الصيام كالمباشرة. ولهذا قلت لكم أن المباشرة أصل في مسائل هذا الباب.
(2/484)
________________________________________
= القول الثاني: أن تكرير النظر وإن أدى الإنزل فإنه لا يفسد الصيام.
- لأنه ليس منه مباشرة فيقاس على من تفكر فأنزل.
والجواب: أن هناك فرق كبير بين من تفكر وبين من كرر النظر فإنه من كرر النظر قصد النظر إلى المحرم وكرر ذل على سبيل الشهوة حتى أنزل وأما من تفكر فإن التفكر يخرج عن إرادة الإنسان فهو شيء يخطر بالبال يصعب دفعه فاختلفا من هذه الجهة.
ولذلك الراجح إن شاء أن من كرر النظر وأنزل فإنه يفسد صيامه كما قلنا في المباشرة تماماً وفيمن استمنى.
وعلم من كلام المؤلف أن من نظر نظرة واحدة فأنزل: أن صيامه صحيح. لأنه قيد الذي يفسد بأن يكرر. والسبب في أن صيامه صحيح: أن النظرة الأولى: جائزة. ولا يترتب على المأذون محذور.
وتبين أيضاًَ من كلام المؤلف أن من كرر النظر فأمذى فإن صيامه صحيح حتى عند الحنابلة.
فتبين أن الحنابلة يفرقون بين المذي الذي يكون سببه المباشرة وبين المذي الذي يكون سببه تكرار النظر.
فالمذي الأول: يفسد الصيام. والمذي الثاني: لا يفسد الصيام وهذا مما يضعف القول بإفساده في مسألة المباشرة.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو حجم أو احتجم وظهر دم.
قال: أو حجم أو احتجم. وقيد ذلك بقوله: وظهر دم.
إذا حجم أو احتجم فإن الحجامة تفسد الصيام.
= وهذا مذهب الإمام أحمد. ونصره شيخ الاسلام بن تيمية بقوة.
واستدلوا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أفطر الحاجم والمحجوم). وهو حديث صحيح فقد صححه عدد من الأئمة.
وهذا الحديث هو عمدة القائلين بإفساد الصيام بالحجامة.
وذهب إلى هذا الإمام أحمد وكثير من فقهاء أهل الحديث كإسحاق لابن راهويه - رحمه الله -.
= القول الثاني: وإليه ذهب جماهير العلماء من اليلف والخلف. أن الحجامة لا تفسد الصيام.
واستدلوا على هذا بأدلة:
- الدليل الأول: ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم.
وأجاب شيخ الاسلام - رحمه الله - عن هذا الحديث: بأنه منسوخ بحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم).
- الدليل الثاني: ما ثبت في حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة. قال الداقطني: رجاله ثقات.
(2/485)
________________________________________
- الدليل الثالث: حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على جعفر بين أبي طالب وهو يحتج فقال: أفطر هذان يعني الحاجم والمحجوم. قال أنس: ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجامة وكان أنس يحتجم.
قال الداقطني: لا أعلم له علة.
والراجح والله أعلم: أن الحجامة لا تفطر والسبب في ترجيح هذا القول: ما ذكره ابن حزم - رحمه الله - أن قول الصحابي رخص لا يكون إلا بعد منع.
فتبين من هذا أن آخر الأمرين من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يفطر من احتجم. وكما قلت أن لفظ الترخيص الذي جاء في حديث أنس وفي حديث أبي سعيد الخدري صريح في أن آخر الأمرين من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحجامة لا تفطر.
أما حديث: أفطر الحاجم والمحجوم فهو صحيح لكنه يعتبر منسوخاً بهذه الأدلة.
لأنه لا نعقل من كلمة رخص إلا هذا وما ذكره ابن حزم صحيح وقوي. وهو أقوى مما ذكره شيخ الاسلام على قوة كلامه - رحمه الله - في العلة التي من أجلها يفطر الصائم إذا احتجم لكن مع وجود هذه الأحاديث الصحيحة فإنه لا مفر من القول بها ولعله بهذا ذهب إليه الجماهير من الصحابة فمن بعدهم فهم لا يرون التفطير بالحجامة.
•
ثم قال - رحمه الله -:
عامداً ذاكراً لصومه: فسد.
هذه الشروط ترجع إلى المفطرات السابقة جميعاً.
ولذلك لو أن المحقق وفقه الله جعل عامداً ذاكراً لصومه في سطر مستقل لتشمل جميع ما تقدم من المفسدات.
يشترط في الإفساد بهذه المفطرات:
1 - أن يكون الإنسان عالماً.
2 - وأن يكون ذاكراً.
3 - وأن يكون عامداً.
فإن اختل أحد هذه الشروط فإنه لا يبطل الصيام.
والدليل على هذا النصوص العامة والنصوص الخاصة.
- فالنصوص العامة:
كقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا} [البقرة/286]
وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: (عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
- والنصوص الخاصة:
كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نسي فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه).
(2/486)
________________________________________
فإذاً دل على هذه القاعدة نصوص عامة ونصوص خاصة مما لا يدع مجالاً للشك أن من أكل أو شرب أو تعاطى أي مفطر من المفطرات المذكورة فإن صيامه صحيح إذا كان ذلك تم منه جهلاً أو نسياناً أو إكراهاً.
ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بتعداد الأشياء التي لا تفطر عند الحنابلة.
• فقال - رحمه الله -:
لا ناسياً أو مكرهاً.
تقدم معنا. فإن هذا كالتأكيد للشرط السابق. فإن الأدلة الدالة على اشتراط أن يكون عامداً ذاكراً هي الأدلة الدالة على أن الناسي والمكره لا يبطل صيامهما.
•
ثم قال - رحمه الله -:
أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار.
هاتان مسألتان حكمهما واحد. إذا إلى حلقه غبار أو ذباب أو نحو هذه الأشياء فإن صيامه صحيح.
- لأنه فعل هذا من غير قصد. فإذا فعله من غير قصد بقي صيامه صحيحاً لما تقدم من اشتراط العمد في تناول هذه المفطرات.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو فكر فأنزل.
إذا فكر الإنسان فأنزل فإن صيامه = عند الحنابلة صحيح ولا يفسد ولو أنزل بالتفكر.
واستدلوا على هذا:
- بأن التفكر أمر خارج عن الإرادة لا يستطيع الإنسان أن يدفعه. وإذا كان كذلك لم يؤاخذ الإنسان بما يترتب عليه.
= والقول الثاني في هذه المسألة: أن الإنسان إذا فكر حتى أنزل فإن صيامه فاسد.
واستدلوا على هذا:
- بأن الله سبحانه وتعالى أثنى على الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ولا يثني الله على عمل إلا وهو داخل في الإرادة فدلت الآية على أن التفكر ممكن من بني آدم وأنه في مقدورهم أن يتفكروا أو أن لا يتفكروا.
= والقول الثالث: وهو مذهب الإمام مالك وهو جميل جداً: وهو الراجح: أنه إن تفكر فانساق وراء هذه الأفكار ولم يمنع نفسه أفطر وإن تفكر فمنع نفسه وصرفها واشتغل بغيرها ولم يستطع دفع هذه الأفكار فأنزل فإن صيامه لا يفسد.
فإنه في الحقيقة بهذا التفصيل تجتمع الأدلة وتنسجم وتتوافق. وأيضاً من جهة المعنى واالنظر فإنه تفصيل دقيق وجميل من الإمام مالك - رحمه الله -.
وهو كما قلت - إن شاء الله - الراجح.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو احتلم.
أي: فإنه لا يفسد صيامه إذا احتلم.
وتعليل ذلك: يشبه التعاليل السابقة وهو:
(2/487)
________________________________________
- أن الاحتلام أمر خارج عن الاختيار والإرادة ولا يملك الإنسان دفعه.
فإذا احتلم صح صيامه ولو كان في وسط النهار.
وأمر الاحتلام واضح وهو محل إجماع.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو أصبح في فيه طعام فلفظه.
إذا استيقظ الإنسان من النوم ووجد في فيه طعام فإنه ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: الطعام اليسير المختلط بالريق. فإن هذا لا يفسد الصيام ولو ابتلعه. وقد حكي الإجماع على هذا الحكم.
- القسم الثاني: أن يكون الطعام كثيراً فإنه ينقسم إلى قسمين:
- إن أخرجه ولفظه صح صيامه. لأن الفم في حكم الظاهر لا في حكم الباطن.
- وإن ابتلعه بطل صيامه. وتعليل البطلان: أنه أكل طعاماً عامداً ففسد صيامه.
وبهذا التفصيل يكمل حكم هذه المسألة التي قد تكثر عند بعض الناس بسبب أنه يتسحر ثم ينام مباشرة فإذا استيقظ اكتشف أن في فمه بقايا طعام فحكمه على هذا التفصيل الذي ذكرت.
ثم قال - رحمه الله - في مسائل لها حكم واحد:
أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر.
• قال رحمه الله:
أو اغتسل ... فدخل الماء حلقه.
أو تمضمض .. فدخل الماء حلقه.
أو استنثر .. فدخل الماء حلقه.
هذه المسائل حكمها واحد لكن من الظاهر أن المؤلف رحمه الله وهم بقوله: أو استنثر. وأن الصواب: أو استنشق.
ولذلك جاءت على الواب في المقنع الذي هو أصل هذا الكتاب وفي غيره من كتب الحنابلة جاءت على الصواب ولعل المؤلف - رحمه الله - جاء في ذهنه الاستنثار فكتبه والمعنى ولله الحمد واضح.
إذا اغتسل أو تمضمض أو استنشق فدخل إلى حلقه الماء وابتلعه فإن صيامه صحيح
- لأن هذا وقع منه بغير إرادة.
وتقدم معنا أن الإنسان إذا شرب أو أكل بغير إرادته فإن الصيام صحيح.
•
ثم قال - رحمه الله -:
أو زاد على الثلاث، أو بالغ ((يعني في الاستنشاق)) فدخل الماءُ حلقه: لم يفسد.
هاتان مسألتان لهما حكم واحد.
فالمسألة الأولى: زاد على الثلاث.
والمسألة الثانية: إذا بالغ في الاستنشاق.
فإذا زاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق فإن صيامه:
= عند الحنابلة صحيح.
- لأن الماء ذهب إلى حلقه من غير إرادة ولا قصد فلم يؤاخذ عليه.
(2/488)
________________________________________
= والقول الثاني: أنه إذا زاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق ثم دخل إلى حلقه الماء فسد صومه ولو كان بغير قصد منه.
وعللوا هذا:
- بأن دخول الماء كان بسبب تعد منه للأحكام الشرعية فضمن ما ترتب على ذلك.
فإن الإنسان منهي في الوضوء أن يزيد على ثلاث ومنهي في الوضوء إذا كان صائماً عن أن يبالغ. فهو خالف الأمر وأدت هذه المخالفة
إلى دخول الماء ففسد صومه.
والراجح والله أعلم الأول. لأن كون المتوضيء يخطيء ويزيد عن الحد الشرعي فهذه مسألة يحاسب عليها وعمله محرم أو مكروه لكن مسألة أخرى وهي صيامه يبقى صحيحاً لأنه دخل الماء بغير قصد والربط بين المسألتين ليس بصحيح فيما أرى.
فنقول: زيادتك وتعديك للحكم الشرعي تأثم عليها. ومسألة دخول الماء بغير قصد لا يترتب عليه حكم فيبقى صيامك صحيحاً.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر: صح صومه.
يعني: إذا شك الإنسان هل طلع الفجر أو ما زال في الليل ثم أكل فإن صيامه صحيح.
وتعليل ذلك: - أن الأصل بقاء الليل.
ومع ذلك لا يكره أن يأكل ويشرب ولا يفسد صومه. - لأن الأصل بقاء الليل وإذا كان الليل باقياً جاز للإنسان أن يأكل ويشرب بلا كراهة لقوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة/187] فأجاز الله سبحانه وتعالى إلى طلوع الفجر.
ولا دليل مع من قال بالكراهة إذا شك. وهذه المسألة - وهذا مما ينبغي أن تتنبه إليه - مفروضه فيما إذا لم يتبين له بعد ذلك أن الفجر طلع. فإن تبين له فهي المسألة بعد الثالية.
فنحن الآن نتكلم على شخص شك ولم يتبين له. فصيامه صحيح لأن الأصل بقاء الليل ولدلالة الآية.
• ثم قال - رحمه الله -:
لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس.
إذا أكل وهو يشك بغروب الشمس فإن صيامه باطل عند جميع الأئمة.
- لأن الأصل بقاء النهار وعدم دخول الليل. فهو أفطر في حال لا يجوز له أن يفطر فيها.
- - فإن أكل شاكاً في غروب الشمس ثم تبين أنها قد غابت فعلاً.
فالحكم: أنه آثقم وعليه التوبة وصيامه صحيح. - لأنه حين أكل أكل متعدياً للأحكام الشرعية فهو آثم وصيامه صحيح لأنه تبين من الواقع أن عمله وافقه المشروع حيث لم يأكل إلا بعد غروب الشمس.
(2/489)
________________________________________
• ثم قال - رحمه الله -:
أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً.
هذه العبارة تشمل مسألتين:
- - المسألة الأولى: إذا أكل يظن غروب الشمس فبانت لم تغرب.
- - والمسألة الثانية: إذا أكل يظن عدم طلوع الفجر فبان طالعاً.
فعبارة المؤلف - رحمه الله - تشمل المسألتين.
= فعند الحنابلة: أن من صنع ذلك بطل صيامه.
واستدلوا على ذلك:
- أولاً: بأنه ثبت عن عمر أنه قضى. حيث أنه - رضي الله عنه - أفطر وكان يظن أنم الشمس قد غابت ثم تبين أنها لم تغب.
- وثانياً: قياساً على من أكل وهو شاك بغروب الشمس.
= والقول الثاني في هذه المسألة التي تكثر جداً بين الناس: أن صيامه صحيح في المسألتين.
واستدلوا بأدلة:
- أولاً: أنه جاء عن عمر - رضي الله عنه - أيضاً أنه فعل ذلك ولم يقض. فيكون المنقول عن عمر - رضي الله عنه - روايتين. ولا أعرف أيهما أصح لأني لم أنظر في أسانيد هذين الأثرين لأن في المسألة نصوص فلا نحتاج في الحقيقة إلى هذه الآثار.
- ثانياً: حديث أسماء - رضي الله عنها - أنهم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلبدت السماء بالغيوم فأفطروا ظانين أن الشمس غربت فلما انكشف الأمر خرجت الشمس. وليس في الحديث أنه أمرهم بالقضاء. فلو كان القضاء واجباً لبين لهم - صلى الله عليه وسلم - وجوبه.
- ثالثاً: حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما سمع الآية: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة/187] جعل تحت وسادة عقالاً أسود وأبيض ثم صار ينظر إليه ولا يمسك حتى يتبين له الأبيض من الأسود فلما ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: إن وسادك إذاً لعريض الأبيض والأسود بياض الليل وسواد النهار ولم يأمره بالقضاء.
وهذا القول: الثاني: هو الأقرب إن شاء الله والذي تدل عهليه النصوص.
فإذا أخطأ الإنسان فإن صيامه صحيح وعليه بعد أن يتبين له أن يمسك إلى أن تغرب الشمس.
فصل
[فيما يتعلق بالجماع في نهار رمضان]
• قال - رحمه الله -:
(فصل) ومن جامع.
خص المؤلف - رحمه الله - أحكام الجماع في نهار رمضان بفصل خاص لأمرين:
- الأول: كثرة الأحكام المتعلقة بهذا المفطر.
(2/490)
________________________________________
- الثاني: للدلالة على أنه من أعظم الذنوب التي يقترفها الصائم.
• قال - رحمه الله -:
من جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر.
المقصود بقوله: في قبل أو دبر. أي لا بد أن يكون في فرج أصلي سواء كان من حي أو من ميت.
فإن لم يكن فرجاً أصلياً فإنه لا تترتب عليه الأحكام المذكوة في هذا الفصل.
فلو افترضنا أن خنثى أو لج في امرة أو رجل أولج في خنثى فإنمها لا تترتب أحكام الجماع في نهار رمضان لاحتمال أن يكون هذا العضو زائداً وليس بأصلي.
وإذا كان زائداً فإنها لا تترتب عليه الأحكام المذكورة في النمصوص.
إذاً عرفنا الآن أن قصده لافي قبل أو دبر يعني أن يكون أصلياً.
ومفهوم قوله: في قبل أو دبر: أي: سواء كالن هذا القبل أو الدبر محرم أو مباح أي من زوجة أو من أجنبي أو من رجل فإن هذه البارة عامة تشمل الجميع.
• ثم قال - رحمه الله -: مبيناً ما يترتب على الجماع في نهار رمضان:
فعليه القضاءُ.
إذا جامع الإنسان في نهار رمضان فعليه:
= عند الجماهير القضاء. يجب عليه مع الكفارة التي سيذكرها المؤلف أن يقضي ذلك اليومن.
واستدلوا بدليلين:
- الأول: أن الأمر العام بهذا اليوم ما زال قائماً وهو في ذمته لابد أن يؤديه.
- الثاني: أنه في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث الأعرابي المجامع والذي سيأتينا في بعض ألفاظه: (وأمره أن يقضي يوماً مكانه). وهذه الفظة شاذة وإن حاول بعضهم تصحيحها فإنها في الحقيقة الصواب فيها أنها ضعيفة لأنها مخالفة لرواية الثقات.
= القول الثاني: وإليه ذهب الإمام الشافعي ونصره ابن حزم: أن المجامع في نهار رمضان عليه الكفارة دون القضاء.
واستدلوا على ذلك:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المجامع أن يقضي.
- وبأن المجامع أفطر عمداً وسيأتينا أن من أفطر عمداً لا يقبل منه القضاء وعليه بالتوبة والاستغفار والإكثار من العمل الصالح.
وهذا القول الثاني هو الأقرب إن شاء الله.
• ثم قال - رحمه الله -:
والكفارة.
دلت عبارة المؤلف على أن من جامع في نهار رمضان فعليه الكفارة أنزل أو لم ينزل. فبمجرد أن يجامع تجب عليه الكفارة والقضاء على المذهب.
(2/491)
________________________________________
والدليل على ذلك: ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد أن رجلاً دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسزول الله هلكت فقال وما أهلكك قال وقعت على امرأتي في رمضان فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - هل تجد رقبة قال لا قال هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا قال هل تجد ما تطعم به ستين مسكيناً قال لا.
فجلس ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذهاب ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مكتلاً فيه تمر فقال خذه وتصدق به فقال على أفقر مني يا رسول الله فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أطعمه أهلك.
وقوله: أطعمه أهلك أيضاً في الصحيحين.
فدل هذ الحديث على وجوب الكفارة وهو نص في وجوبها. وستأتينا إن شاء الله في كلام المؤلف - رحمه الله - أحكام الكفارة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن جامع دون الفرج فأنزل. .. أفطر ولا كفارة.
المجامعة دون الفرج هي المباشرة. وتقدم معنا أن المباشرة فيها القضاء فقط.
فإذا جامع الإنسان بما دون الفرج كأن يكون بين الفخذين أو أن يستمتع بأي جزء من أجزاء زوجته فإن الواجب عليه أن يقضي هذا اليوم فقط دون الكفارة ولو أنزل.
والدليل على هذا:
- أن النص إنما جاء بكفارة في الجماع فقط وهذا لا يسمى جماعاً في الشرع إنما الجماع ما يصير فيه إيلاج أما المباشرة فيما دون الفرج فإنها لا تسمى جماعاً في الشرع فلا يجب بناء على ذلك كفارة.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو كانت المرأة معذورة.
يعني إذا كانت المرأة معذورة بجهل أو نسيان فإنه لا يجب عليها الكفارة = عند الحنابلة ويجب عليها القضاء.
= والقول الثاني: أنه لا قضاء ولا كفارة ما دامت معذورة بجهل أو نسيان أو إكراه.
وهذا القول - الثاني - هو الصواب لأنه تقدم معنا أنه يشترط للمفطر أن يتم مع الذكر والعمد وهذه نفترض أنها معذورة بجهل أو نسيام أو إكراه.
وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن المرأة إذا لم تكن معذورة فيجب عليها هي أيضاً كفارة.
واستدلوا على ذلك:
- بحديث أبي هريرة فإنه دل على أن من جامع في نهار رمضان فعليه الكفارة ما دام عمداً قصداً.
(2/492)
________________________________________
= والقول الثاني: أن المرأة ليس عليها كفارة. أو أن كفارة الرجل عنه وعنها ومؤدى القولين واحد أنه ليس على المرأو كفارة.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المرأة أن تكفر ولم يرشد السائل لذلك.
والجواب عليه من وجهين:
- الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سأله الرجل دون المرأة. فأفتى من سأل وسكت عمن لم يسأل.
- الثاني: أن الظاهر في قصة الرجل - من بعض الألفاظ - أنها مكرهة يدل عليه أمران:
- الأمر الأول: ما رواه الداقطني أنه قال: يارسول الله هلكت وأهلكت. فقوله: أهلكت دليل على أنها مكرهة.
- الأمر الثانمي: أن الرجل لما طلب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصيام قالا لا أستطيع وفي لفظ وهل أوتيت إلا من الصيام فيدل هذا اللفظ على أن الرجل لا يصبر عن الجماع وأن هذا ربما كالن مسوغاً لإجبار الزوجة على الجماع.
فدل هذا اللفظان على أن ظاهر الحال أن المرأة مكرهة. ونحن لا نجزم بهذا لكن كما قال بعض الفقهاء: ظاهر الحال أن المرأة كانت مكرهة فلم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفارة.
وبكل حال عدم ذكر الكفارة بالنسبة للمرأة لا يدل على عدم الوجوب. وهذا هو القول الراجح إن شاء الله.
= ومفهوم عبارة المؤلف أن الرجل لو طكان ناسياً فإنه يجب عليه أيضاً الكفارة.
- لأنه نص على عذر المرأة دون الرجل.
= والقول الثاني: أن الرجل إذا كان ناسياً أو مكرهاً فإنه أيضاً لا كفارة ولا قضاء عليه.
- لما تقدم في حق الزوجة. فما ذكرناه من تعليل في عدم وجوب الكفارة والقضاء بالنسبة للزوجة المكرهة أو المعذورة هو نفس التعليل بالنسبة للرجل.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو جامع من نوى الصوم في سفره: أفطر ولا كفارة.
إذا نوى المسافر الصوم أو نوى المريض الذي يجوز له الفطر الصوم ثم جامع فلا كفارة.
والدليل على هذا:
- أن إتمام الصوم بالنسبة لهؤلاء لا يجب. وإذا لم يجب الإتمام لم يجب في إفساده كفارة.
فمعلوم أن المسافر لا يجب عليه أن يتم الصيام وكذا المريض الذي يجوز له أن يفطر.
وعليه القاء: فتقدم معنا أن المسافر والمريض يجب القضاء عليهما بالإجماع.
(2/493)
________________________________________
= والقول الثاني: أنه لا يجوز له أن يجامع - المسافر والمريض -.
- لأنه شرع في صوم واجب.
والأقرب كما هو ظاهر القول الأول وهو مذهب الحنابلة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن جامع في يومين .... فعليه كفارتان.
يعني إذا جامع الإنسان في اليوم الأول من رمضان ثم جامع في اليوم الثاني من رمضان فإنه يجب عليه كفارتان.
وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: أن يجامع في اليوم الأول ويكفر. ثم يجامع في اليوم الثاني فهذا بالإجماع عليه كفارتان ولا إشكال وأمره واضح.
لكن الإشكال والذي يريده المؤلف:
-[في القسم الثاني] إذا جامع فيب اليوم الأول ولم يكفر ثم جامع في اليوم الثاني فيجب عليه كفارتان = عند الحنابلة.
الدليل: قالوا: الدليل على هذا:
- الأول: أن كل يوم من أيام رمضان يعتبر يوماً مستقلاً. وهو عبادة مفردة تترتب عليها الأحكام فإذا جامع في يومين وجبت عليه كفارتان.
- الثاني: وهو قوي إذا تأملت قياساً على ما إذى جامع في يومين من رمضانين ولم يكفر. فمثلاً لو أن أحدهم جامع في رمضان سنة 1400 ولم يكفر ثم جامع في رمضان من سنة 1401 فإنه يجب عليه كفارتين.
= القول الثاني: في هذه المسألة بعد أن حكينا الإجماع في القسم الأول ونحن نتكلم في القسم الثاني.
أنه تجب عليه كفارة واحدة.
- لأنهما كفارتان من جنس واحد فاكتفي بأحدهما.
وهذا القول الثاني: - الاكتفار بكفارة واحدة - فيما أرى ضعيف جداً ليس له حظ من النظر ولذلك نجد أن الشيخ الفقيه المجد بن تيمية رجح القول الأول ونصره مما يدل على أنه قوي عنده وهو كذلك في الحقيقة فإني لا أعلم وجهاً مقنعاً للاكتفاء بكفارة واحدة مع كونه انتهك حرمة يومين من رمضان. هذا فضلاً عن أن المناسب في حق مثل هذا الشخص أن يؤدب بإيجاب كفارتين ونحن لا نقول بوجوب كفارتين من باب التأديب فإن الأحكام الشرعية لا تنبني فقط على مسألة التأديب بل الأدلة تدل أن عليه كفارتان ومع ذلك هو من باب التأديب.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو كرره في يوم ولم يكفر: فكفارة واحدة في الثانية وفي الأُولى اثنتان.
لو أن المؤلف - رحمه الله - جعل حكم كل مسألة بجوارها.
(2/494)
________________________________________
وإن جامع في يومين فعليه كفارتان أو كرره في يوم واحد فكفارة واحدة.
لكنه فصل بينهما وليس له مبرر من وجهة نظري.
المهم: إذا كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية. يعني: لو جامع في أول النهار في رمضان ثم جامع في آخر النهار في رمضان قبل أن يكفر فعليه كفارة واحدة.
- لأنه انتهك حرمة يوم واحد. فعليه كفارة واحدة.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه: فكفارة ثانية.
هذا القسم الثاني: للمسألة السابقة.
رجل جامع في يوم الأول من رمضان مثلاً ثم كفر ثم جامع فهذا الرجل اختلف فيه الفقهاء:
= فمنهم من يقول: عليه كفارتان. وإلى هذا ذهب الإمام أحمد في رواية. قال: لأنه انتهك المحرم مرتين فوجبت عليه كفارتان.
= والقول الثاني: وهو للجماهير بل حكاه ابن عبد البر إجماعاً أنه إذا جامع ثم كفر ثم جامع فلا تجب عليه كفارة أخرى.
واستدلوا:
- بأن هذا الذي جامع وكفر فسد صومه وأصبح من المفطرين فلا تجب عليه كفارة أخرى فإنه الآن مفطر. ولا يوجد دليل على إيجاب كفارة أخرى عليه.
وربما نستدل بالإجماع الذي حكاه ابن عبد البر.
وهذه الإجماعات كما أشرت مراراً يستأنس بها ويستدل بها فإن كانت محكمة فهي دليل مستقل وإن كانت غير محكمة بأن يوجد مخالف فلا أقل من أن يستأنس بها ويقوى القول التي هي معه.
لأنه لا شك أنه يحكى إجماع في قول فإن هذا يقويه.
• ثم قال - رحمه الله -:
وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع.
من يلزمه الإمساك في رمضان ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: من يلزمه الإمساك لكون البينة جاءت في وسط النهار أو لكونه صار أهلاً في وسط النهار.
- والقسم الثاني: من يلزمه الإمساك من نحوحائض طهرت ومريض صح ومسافر قدم.
ففي القسم الأول: إن جامع وجبت عليه الكفارة ولا إشكال إن شاء الله. - لأنه انتهك حرمة اليوم. وهويجب عليه الإمساك.
والقسم الثاني: تقدم معنا ذكر الخلاف في أنه: هل الحائض إذا طهرت والمريض إذا صح والمسافر إذا قدم وما أشبه هؤلاء هل يجب عليهم أن يمسكوا أو لا يجب؟
فإن قيل بوجوب الإمساك فعليهم كفارة.
وإن قيل أن الإمساك لا يجب غلا كفارة عليهم.
(2/495)
________________________________________
وتقدم معنا أن الراجح أنه لا يجب عليهم أن يمسكوا وبناء على هذا فالراجح أنه لا كفارة عليهم.
إذاً الخلاف في وجوب الكفارة يرجع إلى الخلاف في وجوب الإمساك.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومن جامع وهو معافى، ثم مرض أو جن أو سافر: لم تسقط.
يعني: رجل مقيم مكلف يجب عليه الصيام جامع ثم لما جامع زال عنه التكليف. بأن سافر لا حيلة أو جن أو بأي سبب يزول معه التكليف.
= فقال الحنابلة: تجب عليه الكفارة ولو ارتفع عليه التكليف في أثناء اليوم.
واستدلوا على هذا:
- بأن وجوب الكفارة سابق لزوال التكليف.
= والقول الثاني: أن مثل هؤلاء لا تجب عليهم الكفارة.
- لأنه تبين أنهم ليسوا من أهل الصيام في ذلك اليوم.
فأي القولين أرجح؟
الجواب: أن هذا يرجع إلى مسألة متى تجب الكفارة في الذمة؟ هل يشترط مضي وقت أو بمجرد الجماع؟
الجواب: بمجرد الجماع.
ولذلك لو جامع. ومات أخرجنا الكفارة من تركته.
فالأقرب والله أعلم الوجوب.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا تجب الكفارة: بغير الجماع في صيام رمضان.
الكفارة الكبرى لا تجب إلا بشرطين:
- أن يكون الفطر بالجماع.
- وأن يكون هذا الجماع في نهار رمضان.
فإن تخلف أي شرط من هذه الشروط لمتجب الكفارة.
والدليل على هذا:
- أن حديث أبي هريرة الذي فيه ذكر المجامع نص على وجوب الكفارة فيمن أفطر في نهار رمضان وما عدا هذه الصورة لا نص فيها ولا إجماع.
= والقول الثاني: أنها تجب الكفارة فيمن جامع في قضاء رمضان.
= والقول الثالث أنها تجب الكفارة بأي مفطر من المفطرات ولو بغير الجماع.
فالقول الثاني: أخل بشرط نهار رمضان.
والقول الثالث: أخل بشرط أن يكون الفطر بالجماع.
والصواب القول الأول وعليه الجماهير وعليه تدل النصوص أنه لا يجب عليه الكفارة إلا بهذين الشرطين.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وهي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت
دل كلام المؤلف - رحمه الله - على أن الكفارة تجب على الترتيب لا على التخيير.
= وإلى هذا ذهب الجماهير والجم الغفير ورأوا أنه لا ينتقل من خصلة إلى أخرى إلا إذا يستطع الأولى.
واستدلوا:
(2/496)
________________________________________
- بأنه في حديث أبي هريرة رتب الكفارات بقوله: فإن لم تجد أو أتجد ولم ينتقل عن واحدة إلى أخرى إلا إذا قال لا أستطيع.
= والقول الثاني: وهو مذهب لبعض الفقهاء أن الكفارة على التخيير.
- لما جاء في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث أبي هريرة عليك عتق رقبة أو صيام أو إطعام. وأو تأتي بلغة العرب للتخيير ولا تدل على الترتيب.
الصواب أن الترتيب واجب وأن الرواية الصحيحة فيها الترتيب ولذلك نقل بعض الحفاظ أن الزهري روى عن ثلا ثين راوياً أنهم نقلوا الترتيب فالترتيب المذكور في االصحيحين هو اللفظ الصحيح وهو يدل على وجوب عدم الانتقال من واحدة إلى أخرى إلا عند العجز.
المسألة الثانية: قوله: وهي عتق رقبة فإن لم يجد:
• قوله
: فإن لم يجد:
أي فإن لم يجد الرقبة ولا ثمن الرقبة فإنه حينئذ ينتقل إلى النوع الثاني من الكفارة.
• قال:
فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
المرتبة الثانية في الكفارة أن يصوم شهرين.
ويشترط في هذين الشهرين أن يكونا متتابعين.
وإذا شرع في الصيام ثم وجد الرقبة فإنه لا يجب عليه أن ينتقل إلى الصيام نص عليه الإمام أحمد - رحمه الله -.
والدليل على ذلك:
- أنهى شرع في الكفارة المجزأة فلا يجب عليه أن ينتقل إلى غيرها. فإن انتقل فهو الأولى. وقد أحسن وأجاد.
•
ثم قال - رحمه الله -:
فإن يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
إطعام ستين مسكيناً. الخلاف الذي ذكرناه في السابق حول الإطعام لمن أفطر من حيث المقدارهو نفسه الخلاف هنا فيكرر كما تقدم تماماً هل هو نصف صاع أو مد وهل هو من البر أو من غيره وهل يقدر أو لايقدر؟ على الأقوال الثلاثة. التي ذكرتها في الدرس قبل السابق.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإن لم يجد سقطت.
= ذهب الحنابلة إلى أنه إذا لم يجد جمبع أنواع الكفارات فإنها تسقط.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه المكتل من التمر أعطاه للرجل وأمره أن يتصدق فلما قال على أفقر مني قال خذه وأطعمه أهلك وإطعام هذا الرجل التمر لأهله عند الحنابلة ليس على سبيل الكفارة ونصر هذا من العلماء المحققين اثنان: ابن دقيق العيد والصنعاني.
(2/497)
________________________________________
أي أن هذا الأعرابي أخذ الطعام لا على أنه كفارة وإنما على أنه صدقة لأهله.
وإذا كان الرجل أخذ هذا الطعام لا على أساس أنه كفارة ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكفر لا حقاً دل هذا على سقوط الكفارة.
والحنابلة يرون والإمام أحمد أن الكفارة التي تسقط هي فقط كفارة الجماع في نهار رمضان دون الكفارات الأخرى - ككفارة القتل وكفارة الحج - فهذه الكفارات وغيرها لا تسقط عند العجز إنما الذي يسقط فقط هذه الكفارة لأنها التي دل النص فيها على السقوط.
= والقول الثاني: أن الكفارة تبقى في ذمته وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل له كفر فقد اكتفى بكونه قال له في صدر الحديث أعتق رقبة صم شهرين أطعم ستين مسكيناً فهذا الأمر يكفي في بقاء الكفارة في ذمته وكونه أعطاه هذا التمر صدقة لأهله لحاجته لا يعني أنه لا تجب عليه الكفارة.
- - مسألة: قوله: فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
كيف يكون هذا الأعرابي لا يستطيع وهويصوم رمضان؟
الجواب على هذا: أن هذا الأعرابي قال كما تقدم: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام وهل أوتيت إلا منه - الالفاظ مختلفة.
فدل على أن هذا الرجل لا يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين بدون أن يقع في الجماع فاعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا عذراً.
فنقول لمن لا يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين خشية الوقوع في الجماع أن هذا عذر كما عذر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأعرابي ويجوز له بناء على هذا أن ينتقل إلى الخصلة الثانية وهي الإطعام.
وفي مثل هذه الأمور يدين الإنسان فلو قال لا أستطيع أن أصوم لمرض أو لشدة الرغبة في الجماع فهذا شيء بينه وبين الله سبحانه وتعالى يدين فإن كان صادقاً سلم وإن كان كاذباً أثم.
انتهى الدرس
(2/498)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
انتهينا من الفصل السابق ما عدا مسألة بقيت في من أراد أن يكفر بالصوم فسيصوم شهرين متتابعين.
والمسألة التي بقيت هي: كيفية هذا الصيام:
نقول: كيفية هذا الصيام تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: إذا بدأ الصيام من أول الشهر فإنه يصوم شهرين كاملين سواء تم الشهران ثلاثين يوماً أو نقص. وسواء نقص أحدهما أو نقص كلاهما فإنه إذا انتهى الشهر الثاني فإنه يعتبر قد أدى ما عليه من الكفارة ما دام أنه بدأ من أول الشهر.
وهذا واضح ولا إشكال في لأن الشهر في الشرع تارة يكون ثلاثين يوماً وتارة يكون تسعة وعشرين يوماً.
- القسم الثاني: أن يبدأ من وسط الشهر فسيصوم بعض الشهر الأول وكل الشهر الثاني وبعض الشهر الثالث.
(2/499)
________________________________________
وسيصوم من الشهر الثالث ما يكمل به عدد الأيام التي صامها من الشهر الأول.
فالشهر الثاني لا إشكال فيه أنه هلالي. لأنه سيبدأ من الأول فيصوم حسب عدد أيام ذلك الشهر سواء تم أو نقص.
بقينا إذا أراد أن يكمل من الشهر الثالث فإنه الفقهاء - رحمهم الله - قد اختلفوا في هذه المسألة على قولين:
= القول الأول: أنه يتم ثلاثين يوماً فإذا كان صام من الشهر الأول عشرة أيام فسيصوم من الشهر الثالث عشرين يوماً. لأنهم قالوا: لا يمكن اعتبار هذين شهرين بالأهلة لأنهما مفترقان فوجب الرجوع إلى العدد. والأحوط فيه ثلاثين يوماً.
= القول الثاني: أن يصوم بحسب الشهر الأول:
- فإن كان الشهر الأول تاماً أكمل من الشهر الثالث ثلاثين يوماً.
- وإن كان الشهر الأول ناقصاً أكمل من الشهر الثالث تسعة وعشرين يوماً.
والراجح والله أعلم:
- أنه إن كان الشهر الأول والثالث كلاهما ناقص صام تسعة وعشرين يوماً.
- وإن كان أحدهما تاماً أكمل ثلاثين يوماً احتياطاً.
وبهذا القول إن شاء الله تجتمع الأقوال ويحصل الاحتياط في مسألة أداء الكفارة.
باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء
• ثم قال - رحمه الله -:
باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء
خصص المؤلف - رحمه الله - هذا الباب كما قال لبيان:
- الأشياء التي يكره للصام أن يأتيها.
- والأشياء التي تستحب.
- وكيفية القضاء.
• وقوله - رحمه الله -:
باب ما يكره.
إنما ذكره تغليباً وإلا فإنه - رحمه الله - سيذكر أشياء محرمة.
• قال - رحمه الله -:
يكره: جمع ريقه فيبتلعه.
قوله: فيبتلِعُهُ. شيخنا - رحمه الله - ضبط هذه الكلمة بالفتح والمحقق هنا ضبطها بالضم ولعل الأقرب ما ذكره شيخنا - رحمه الله -.
(2/500)
________________________________________
= على المذهب: يكره بلا نزاع عند الحنابلة أن يجمع ريقه ويبتلعه. فإذا فعل هذا الأمر فقد فعل شيئاً مكروهاً.
= والقول الثاني: أن جمع الريق ثم ابتلاعه لا يكره بل هو جائز مباح بلا كراهة لأمرين:
- الأمر الأول: أن هذا مما يعتاد ويفعله الصائمون ولم يأت شيء في الشرع يدل على النهي عنه.
- والأمر الثاني: أن الكراهة حكم شرعي تحتاج إلى دليل.
وإذا تأملت فستجد كل واحد من الأمرين يكمل الآخر.
والأقرب والله أعلم القول الثاني. لكن الاحتياط في عدم فعل ذلك جيد بسبب أن هذه المسألة عند الحنابلة لا خلاف فيها كأن دليلها واضح عندهم.
وفهم من قول المؤلف - رحمه الله -: (يره جمع ريقه) أنه إذا ابتلع الريق بلا جمع فإنه جائز بلا كراهة ولا يفطر وهذا مما أجمع عليه الفقهاء.
فإذا بلغ ريقه بلا جمع فلا حرج عليه ولا كراهة ولا إفطار بإجماع أهل العلم لعدم وجود مقتضي الكراهة أو التحريم.
•
قال - رحمه الله -:
ويحرم: بلع النخامة.
النخامة. وأحياناً تسمى النخاعة: هي ما يخرجه الإنسان من حلقه من مخرج الخاء سواء كانت هذه النخامة أو النخاعة نازلة من الأعلى أو صاعدة من الجوف.
فبلعها لا يجوز عند المؤلف - رحمه الله - لأنه مستقذر والأشياء المستقذرة لا يجوز للإنسان أن يبتلعها.
وظاهر عبارة المؤلف: أن بلع النخامة أو النخاعة محرم على الصائم وعلى المفطر. لأنه لم يقيد بل قال: (ويحرم بلع النخامة).
وهذا هو الصواب أنه يحرم بلع النخامة لا ستقذارها سواء كان الإنسان صائم أو مفطر.
= والقول الثاني: أن بلعها مكروه.
والذي يتوافق مع قواعد الشرع التحريم. فإذا استطاع الإنسان أن يخرج هذه النخامة وأن يلفظها فهو الواجب وإذا غلبه الأمر فإن شاء الله لا حرج عليه لأنه في هذه الحالة أن يخرجها.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويفطر بها فقط إن وصلت إلى فمه.
يعني: أنه يفطر ببلع النخامة دون بلع الريق ولو جمعه وهذا معنى قوله فقط: يعني لإخراج الريق.
فدل كلام المؤلف - رحمه الله - على أن الإنسان إذا بلع النخامة فإنه آثم وقد أفطر.
والدليل على أنه أفطر:
- أنه بلع شيئاً من خارج الفم يمكنه التحرز منه فأشبه الأكل.
= والقول الثاني: أن بلع النخامة لا يفطر.
(3/1)
________________________________________
- أولاً: لأنه مما يعتاد فأشبه بذلك الريق. ووجه الشبه أن كلاً منهما معتاد.
- وثانياً: أن هذا مما تمس حاجة الناس إليه ويكثر فيهم ولو كان من الفطرات لبينه الشارع.
والقول الثاني أقرب.: أنه لا يفطر إن شاء الله.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ويكره: ذوق طعام بلا حاجة.
ظهر من كلام المؤل - رحمه الله - أن ذوق الطعام ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: أن يكون بلا حاجة:
= فحكمه عند الحنابلة مكروه. وليس بمحرم.
ودليل الكراهة: - أنه بذلك يعرض صومه للفساد. إذ ربما ذهب شيء إلى جوفه.
- القسم الثاني: أن يكون لحاجة. فحينئذ يجوز بلا كراهة.
والدليل على هذا: - أن الإمام أحمد والبخاري ذكروا أن ابن عباس أفتى بذلك. فدل على أنه يجوز بلا كراهة.
وهذا التفصيل هو الراجح. التفريق بين أن يكون بحاجة وبغير حاجة وأن الذي ليس بحاجة لا يصل إلى أن يكون محرماً بل هو مكروه.
• ثم قال - رحمه الله -:
(ويكره) مضغ علك قوي.
العلك القوي: هو العلك الذي إذا مضغ لا يتفتت إلى أجزاء وإنما يزيده المضغ صلابة.
فهذا النوع من العلك يكره.
ودليل الكراهة تعليلان:
- الأول: أن مضغ هذا العلك يؤدي إلى العطش وإلى تجمع الريق. وتقدم معنا: أن تجميع الريق ثم بلعه حكمه: مكروه.
- الثاني: أنه يؤدي إلى اتهام الماضغ لأن من رآه ظن أنه مفطر.
= القول الثاني: أن مضغ هذا العلك إذا أمن بلع أي جزء منه فجائز بلا كراهة.
- لأن الفم في حكم الظاهر فما وصله لا يعتبر من المفطرات.
فإذا أمنا عدم نزول شيء إلى الجوف لم يبق دليل على الكراهة.
والراجح أنه مكروه. لأدلة الحنابلة. وأدلتهم وجيهه لا سيما وأنه يؤدي في الغالب إلى الاستهانة بالصيام وذهاب حرمة اليوم فلا شك أنه ليس من صفات الصائم الجاد.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وإن وجد طعمهما في حلقه: أفطر.
= يعني: إن وجد طعم العلك أو وجد طعم الطعام الذي ذاقه في حلقه فإنه يفطر.
- لأنه أوصل إلى جوفه شيئاً فأفطر كما لو أكل.
= والقول الثاني: أن مجرد وجود الطعم في الحلق لا يؤدي إلى الفطر.
(3/2)
________________________________________
- لأن وجود الطعام في الحلق لا يستلزم نزول الشيء إلى المعدة. بدليل: أن الإنسان لو وطئ حنظلة برجله لوجد كعمها في حلقه مع أنه قطعاً لا يوجد في الحلق شيء نزل إلى المعدة.
وهذا القول الثاني هو الراجح إذا لم يعلم قطعاً أنه وصل إلى معدته شيء.
وإنما كان هذا القول راجح لما ذكرت من الأدلة ولأنه غالباً نزول الطعان الذي ذاقه بغير إرادة ونحن أخذنا أن أي شيء يصل إلى المعدة بغير قصد لا يكون من المفطرات.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويحرم: العلك المتحلل إن بلع ريقه.
العلك المتحلل هو: عكس العلك القوي وهو الذي يزيده المضغ تفتتاً.
فهذا النوع من العلك يحرم إجماعاً.
- لأنه يؤدي إلى إفساد الصيام. إذ الإنسان إذا علك ما يتفتت فإن هذه الأجزاء المتفتتة من العلك ستنزل إلى المعدة وهو يعلم بذلك فصار مفسداً لصومه عمداً فهو محرم.
ويستثنى من هذا إذا علك العلك ولم يبلعه بل لفظه.
استثنى هذه الصورة عدد من أهل العلم من الحنابلة ومن غيرهم.
والصواب والله أعلم أن هذه الصورة لا تستثنى لأن الإنسان لا يمكن أن يلفظ جميع أجزاء العلك المتفتت بل سيبقى بغير إرادته شيء في الفم.
فالأقرب والله أعلم أن العلك المتفتت غير القوي لا يجوز أن يعلك في نهار رمضان وهو محرم.
فإن ذهب شيء إلى حلقه: أفطر.
وإلا فلا.
فالتحريم شيء والفطر شيء آخر.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وتكره: القُبلة لمن تحرك شهوته.
القبلة بالنسبة للشخص الذي تحرك القبلة شهوته: = تكره عند الحنابلة فقط.
وتعليل الكراهة:
- أن هذا العمل ربما أدى إلى فساد الصوم بخروج المني.
وهذه المسألة فيها خلاف. فمع وجود النصوص فيها إلا أن أهل العلم اختلفوا فيها اختلافاً كثيراً جداً.
= فالقول الأول: للحنابلة: أنها تكره لمن خشي على نفسه وتباح لغيره.
= القول الثاني: أنها تكره مطلقاً.
= القول الثالث: أنها تحرم.
= القول الرابع: أنها مستحبة. وهذا مذهب ابن حزم - رحمه الله -.
= القول الخامس: أنها مباحة. وتحرم إن علم من نفسه الإنزلاق في شهوته. وتكره إن ظن ذلك.
إذاً هي إما أن تكون مباحة أو مكروهه أو محرمة.
وهذا القول الخامس هو القول الصواب إن شاء الله.
(3/3)
________________________________________
وأما القول بالتفريق بين الشيخ والشاب فهو أضعف الأقوال.
والدليل على رجحان القول الخامس:
- حديث عائشة الذي تقدم معنا في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل ويباشر وهو صائم قالت: ولكنه كان أملككم لإربه.
فعللت عائشة - رضي الله عنها - فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان من الذين يملكون أنفسهم.
- الدليل الثاني: ما ثبت في الصحيح أن رجلاً قبل امرأته ثم قال: اسألي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أفعله أنا وهذه). فلما رجعت إلى زوجها. قال زوجها: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رجل غفر له ذنبه. فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضباً شديداً وقال: (إني لأخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي).
فدل هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يبين أن التقبيل جائز ما دام أن الإنسان يملك نفسه.
وإذا جمعت بين حديث عائشة وحديث الرجل الذي قَبَّل خرج معك التفصيل المذكور في القول الخامس.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ويجب: اجتناب كذب وغيبة وشتم.
قوله: (ويجب) مراده ويتأكد الوجوب. لأن اجتناب هذه الأشياء واجب للصائم ولغير الصائم.
الكذب هو: الإخبار بخلاف الواقع. سواء كان عن أمر سلف أو سيأتي.
والغيبة: ذكرك أخاك بما يكره. وقول العلماء: ذكرك: لا يعني تقييد الغيبة بالذكر فقد تكون الغيبة بالإشارة أو بالغمز أو بأي وسيلة تؤدي إلى ذكر أخاك بما يكره.
فهذه الأشياء محرمة على غير الصائم ويتأكد التحريم في حق الصائم.
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه).
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفض ولا يفسق وإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم).
فدل الحديثان صراحة على أنه يتأكد في حق الصائم أن يدع هذه الأشياء وما هو من جنسها.
• ثم قال - رحمه الله -:
وسن لمن شتم قوله: ((إِنِّي صَائِمٌ)).
يسن لمن شتم أن يقول للشاتم: إني صائم.
والدليل على هذا:
- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق حيث نص على أنه إذا سبه أحد أو قاتله يقول: إني صائم.
(3/4)
________________________________________
ولم يبين المؤلف - رحمه الله -: هل يقول هذا الشيء جهراً أو سراًَ؟ وهل يفرق بين صوم الفرض أو النفل؟
وهذا التقسيم هو خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال:
= القول الأول: أنه يقول هذا القول - إني صائم - جهراً في صوم رمضان وفي غيره يعني في الفرض والنفل. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -.
واستدل على هذا القول:
- بأن القول في الشرع في اللغة لا يصدق إلا على المنطوق المسموع ولا يصدق على ما إذا تحدث به الإنسان في نفسه. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عفي لأمتي عن ما حدثت به أنفسها) فسمى حديث النفس حديثاً فهو مقيد بحديث النفس. يعني: لا يمكن أن يأتي الحديث والقول الذي لا يراد به النطق إلا مقيداً كما في حديث عفي عن أمتي.
= القول الثاني: أنه يقوله جهراً في رمضان وسراً في النفل. وإلى هذا ذهب المجد وذلك: - بعداً عن الرياء.
إذاً يجهر فيه في رمضان لأنه لا رياء لأن الجميع صائم. وسراً في النفل خشية الوقوع في الرياء. وكما قلت لك إلى هذا ذهب المجد جد شيخ الإسلام.
= والقول الثالث: يقوله سراً في النفل والفرض.
واستدلوا:
- بأن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث أن يقول الصائم ذلك وعظاً لنفسه وتذكيراً لها لا للآخرين. فوعظ النفس وتذكيرها يحصل بحديث النفس.
والأقوال مرتبة حسب القوة فأقواها الأول ثم الثاني وأضعفها الثالث.
والراجح من حيث الدليل كما قلت الأول أن الإنسان يقول ذلك القول سواء كان في رمضان يعني في الفرض أو في غيره يعني في النفل.
• ثم قال - رحمه الله -:
وتأخير سحور.
السُحور: بالضم. يعني: نفس فعل الأكل.
والسَّحور هو نفس الأكل.
فبالضم الفعل وبالفتح ما يؤكل.
والسَّحُور هي أكلة آخر الليل.
وفي السَّحور مسألتان:
- الأولى: حكمه: هو مستحب بإجماع أهل العلم.
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تَسَحَّرُوا فإن في السَّحُوْرِ بركة).
- الثانية: أنه يستحب تأخيره إلى قبيل الأذان.
لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتَسَحَّرُ ثم يقوم للصلاة. قيل للصحابي: كم كان بينهما؟ قال: قدر خمسين آية.
(3/5)
________________________________________
وقراءة خمسين آية من الآيات المتوسطة لا يأخذ وقتاً طويلاً مما يدل على قرب الأكل من الأذان.
وتأخير السحور محل إجماع.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وتعجيل فطر.
يعني: ويستحب أن يعجل الفطر إذا تيقن أو غلب على ظنه غروب الشمس.
والدليل على استحباب ذلك:
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر).
- ولأن مسروق - رحمه الله - جاء إلى عائشة - رضي الله عنها - وقال: رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدهما يعجل الفطر والصلاة والآخر يؤخر الفطر والصلاة.
قالت: أيهما الذي يعجل. قال: عبد الله. يعني: ابن مسعود. قالت - رضي الله عنها -: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولم تسأل عن الآخر وهذا من الأدب أدب عائشة - رضي الله عنها - ولم يذكر اسمه مسروق وأيضاً هذا من أدبه - رحمه الله -.
إذاً التعجيل ثابت بالنص: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) , وبالإجماع. فدل عليه النصوص والإجماع.
ثم بين ما يفطر عليه الصائم:
• فقال - رحمه الله -:
على رطب فإن عدم فتمر فإن عدم فماء.
السنة: أن يفطر الإنسان إذا كان يجد ويتيسر له: على رطب.
فإن لم يجد فعلى تمر. وهو اليابس من ثمر النخيل.
فإن لم يجد فعلى ماء.
والدليل على هذا التفصيل:
- حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليفطر أحدكم على رطب فإن لم يجد فعلى تمر فإن لم يجد حسا حسوات من ماء). وهذا الحديث صحيح إن شاء الله وممن صححه الإمام الكبير الدارقطني. فهو حديث ثابت وهو نص في سنية هذا الترتيب:
أن يكون أولاً على رطب.
ثم على تمر.
ثم على ماء.
(((وهل تتحقق السنية بإخراج الرطب من الثلاجة؟ أو لابد من أن يكون مجتنى حديثاً من النخلة؟
هذه المسألة ترجع لأي شيء؟ يعني: كيف نرجح بناء على ماذا نرجح؟
ننظر في اللغة. يعني: هل التمر الذي يخرج من الثلاجة رطب أو تمر؟
الجواب: رطب لأن الرطب هو التمر اللين من ثمرة النخيل. إذاً تتحقق به السنة.
ولعل بعض الناس يذهب ذهنه إلى أن الرطب هو الذي يجنى حديثاً من النخلة. ولا يظهر ذلك بل متى أخرجه من الثلاجة وصدق عليه أنه رطب فهو رطب وتتحقق به السنة.
• ثم قال - رحمه الله -:
وقول ماورد.
(3/6)
________________________________________
يعني: ويشرع له أن يقول ماورد في السنة مما يشرع للصائم عند فطره أن يقوله:
- كقوله: (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت).
- وكقوله: (ابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله). وله ألفاظ.
والأحاديث التي رويت في دعاء الإفطار كلها ضعيفة لا يثبت منها حديث.
لكن بعض العلماء يرى أن هذه الأحاديث بمجموعها تصبح صحيحة.
وبعضهم يقول: لم يثبت في دعاء الفطر حديث.
ومما يشكل في الحقيقة على ثبوت هذه الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان يقول هذا الذكر في كل يوم من رمضان لمدة تسع رمضانات لنقل. ولنقل بإسناد صحيح.
والسبب في أنه يفترض في مثل هذا أن ينقل بإسناد صحيح كثرة وقوعه وحاجة الناس إليه لأنه يومياً يفطر - صلى الله عليه وسلم - هذا عدا أنه - صلى الله عليه وسلم - ثبت في الأحاديث الصحيحة كما سيأتينا أنه يصوم ثلاثة أيام ويصوم الإثنين والخميس وعاشوراء وعرفة إذا لم يحج وأشياء كثيرة مما يصومه - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقل بإسناد صحيح أنه قال هذه الأذكار. مما يرجح عدم ثبوتها.
وبعض العلماء يقول: أنها أذكار أسانيدها ليست ضعيفة ضعفاً شديداً فتقبل ويقوي بعضها بعضاً.
0 وفيها تردد.
ومما يلحق بهذا مسألة إجابة الدعاء فإنه جاء في الحديث أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن دعوة الصائم عند فطره مجابة.
وهذا الحديث أيضاً ضعيف والأحاديث التي فيها إجابة الدعاء عند الفطر أيضاً ضعيفة وما قيل في أذكار الافطار يقال تماماً في أن دعوة الصائم مجابة عند الفطر.
•
قال - رحمه الله -:
ويستحب: القضاء متتابعاً.
يعني: ويستحب أن يقضي ما عليه من أيام متتابعة. أي: ولا يجب.
= وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة: أن قضاء مافات الإنسان ما أفطره في رمضان متتابعاً سنة وليس بواجب.
واستدلوا:
- بقوله تعالى {فعدة من أيام أخر} [البقرة/184] وليس في الآية ما يدل على تقييد ذلك بأن تكون متتابعة.
وأما الدليل على أنه يستحب أن تكون متتابعة:
- فالقاعدة المتفق عليها: (أن القضاء يحكي الأداء).
ولولا الآية لكان الأصل وجوب قضاء هذه الأيام متتابعة.
ثانياً: دلت الآية وفتاوى الصحابة على أن القضاء يجوز ولو لم يكن متتابعاً.
(3/7)
________________________________________
= وذهب ابن حزم إلى أنه يجب أن نقضي ما علينا من أيام رمضان متتابعة.
واستدل:
- بقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ... } [آل عمران/133] وفي قضائها متتابعة مسارعة في تحصيل الرحمة والمغفرة.
والصواب مع الجماهير الذين معهم ظاهر القرآن وفتاوى الصحابة.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا يجوز إلى رمضان آخر من غير عذر.
يجوز للإنسان أن يؤخر القضاء. بشرط: أن لا يدركه رمضان الثاني قبل أن يقضي ما عليه من رمضان الأول.
فإن أَخَّر فهو آثم ويجب عليه أن يتوب وسياتينا هل يلزمه شيء آخر أو لا؟
والدليل على أنه يحرم تأخيره إلى بعد رمضان الآخر:
- حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان يكون عليَّ القضاء من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان وذلك لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني.
فدل أثر عائشة على أنها كانت تقول أنه كان يكون عليَّ من رمضان وأؤخر رمضان إلى درجة أن أقضي في آخر الوقت الممكن وهو شعبان.
هذا الذي يفهم من الأثر وهذا الفهم الذي يفهم من هذا الأثر فهمه جمهور الأئمة: فقد فهموا من الحديث عدم جواز تأخير رمضان إلى ما بعد رمضان التالي.
= وذهب بعض المحدثين إلى أن الحديث لا يدل على التحريم وهو قول ضعيف جداً ودلالة حديث عائشة على التحريم واضح جداً.
• ثم قال - رحمه الله -:
فإن فعل: فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم.
فإن فعل: أي أَخَّرَ بلا عذر فعليه مع القضاء أن يطعم عن كل يوم أَخَّرَهُ مسكيناً.
= وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة: أحمد والشافعي ومالك.
واستدلوا على هذا:
- بالآثار الصحيحة الثابتة عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم:
1 - ابن عباس.
2 - وابن عمر.
3 - وأبو هريرة. رضي الله عنهم أجمعين وهم من علماء الصحابة ولا يعلم لهؤلاء مخالف لا من الصحابة ولا فيما أعلم من التابعين.
أما من الصحابة فلا شك. وأما من التابعين فهذا الذي يظهر لي الآن أنه ليس لهم منهم مخالف فتلاميذ هؤلاء الأئمة أخذوا بفتاويهم.
= والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة واختاره عدد من المحققين أنه لا يجب على الإنسان إلا أن يقضي.
واستدلوا على هذا:
(3/8)
________________________________________
- بأنه ليس في السنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على الوجوب والأصل براءة الذمة وحرمة مال المسلم.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن مات ولو بعد رمضان آخر.
قوله: (وإن مات). أي: إذا مات وقد ترك صيام رمضان فليس عليه إلا الإطعام.
وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين:
ــ القسم الأول: أن يترك الإنسان القضاء بعذر ويستمر هذا العذر إلى الموت فهذا: لا يجب عليه شيء لا إطعام ولا غيره.
والدليل على ذلك:
- أن الصيام من الواجبات التي تجب لله فإذا عجز عنها ثم مات سقطت كالحج.
وهذا لا إشكال فيه: أن من ترك القضاء لعذر ثم مات فإنه لا شيء عليه ولا يجب على الورثة أن يخرجوا من التركة ما يطعمون به إطعام مساكين عن هذا الميت.
ــ القسم الثاني: أن يترك الصيام بلا عذر ثم يموت. فهذا على الورثة أن يطعموا.
ومقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (وإن مات) يعني: أنه يجب أن يطعموا ولا يشرع أن يصوم الأولياء.
ففهم من كلام المؤلف أنه لا يشرع أن يصوم أحد عن أحد فرض الصيام إذا مات وعليه صيام.
= وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة وعامة أهل العلم.
واستدلوا:
- بأن هذا مذهب عائشة وابن عباس الصحيح الثابت عنهما - رضي الله عنهما - مع أن عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس - رضي الله عنه - هما اللذان رويا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه).
فدل على أنهما فهما أن هذا الحديث في صوم النذر دون صوم الواجب.
- الدليل الثاني: أن حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في صحيح البخاري فُسِّرَ في رواية: بأنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل نذر أن يصوم ثم مات. فقال: صُمْ عنه.
فدلت هذه الرواية على أن الصيام الذي يقوم به الولي عن الميت صيام النذر دون الواجب بأصل الإسلام.
- الثالث: قول ابن عباس - رضي الله عنه - لا أحد يصوم عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: وقد ضَعَّفَ بعض الناس هذا القول ولم يعرف غوره وهو قول الصحابة.
= والقول الثاني: أنه إذا مات الإنسان وعليه صيام صام عنه وليه ولو كان من رمضان. وإلى هذا ذهب بعض الشافعية وأبو ثور وكثير من المتأخرين.
واستدلوا:
(3/9)
________________________________________
- بعموم حديث عائشة - رضي الله عنها -: (من مات وعليه صيام صام عنه وَلِيَّه). والحديث عام ليس فيه تخصيص صيام دون صيام.
واستدلوا:
- بحديث ابن عباس. وهو كحديث عائشة في اللفظ الأول في الرواية الأولى أنه أمره بأن يصوم عنه ولم يقيد ذلك بالنذر.
والأقرب والله أعلم قول الأئمة الأربعة.
وليس من المناسب في مثل هذه المسألة فيما أرى - ليس من المناسب أن نقول العبرة بما روى لا بما رأى.
وجه ذلك: أن عائشة وابن عباس من أكابر الصحابة وأكثرهم علماً وفقهاً بالذات عائشة وابن عباس فيبعد جداً أن يخالفا الحديث بمجرد الرأي بل الأقرب أنهم فهموا أن هذا مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من دلالة الحال. وليس لعائشة ولا لابن عباس أن يخصصوا هذا الحديث برأيهم المجرد فإن هذا يبعد جداً.
ولهذا: لعل هذا الذي أقول - لعله - هو الذي يشير إليه شيخ الإسلام - رحمه الله -.
وكذلك هكذا فهم الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين - فهموا أن هذا الحديث يحمل على النذر دون ما وجب بأصل الإسلام وهو صيام رمضان.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولو بعد رمضان آخر.
يعني أنه لا يجب عليه إذا ترك القضاء إلى الرمضان التالي ثم تركه أيضاً إلى الثاني أو إلى الثالث أو إلى الرابع أو إلى أكثر لا يجب عليه إلا إطعام مسكين واحد عن كل يوم.
واستدلوا على هذا:
- بأن ما وجب بسبب التأخير لا يزيد مع زيادة التأخير. كما إذا أَخَّرَ الحج سنين فليس عليه إلا أن يحج مع أنه آثم في كل سنة يؤخر فيها الحج إذا كان مستطيعاً.
كذلك هنا نقول: الواجب عليك إطعام مسكين ولا يزيد هذا الواجب ولو أَخَرْتَهُ إلى أكثر من رمضان.
• ثم قال - رحمه الله -:
وإن مات وعليه صوم ... استحب لوليه قضاؤه.
إن مات وعليه صوم يعني: منذور. فإن مات وعليه صوم منذور فصام عنه وليه.
= وإلى هذا ذهب الإمام أحمد وكثير من فقهاء الحديث.
واستدلوا:
- بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وعليه صيام صان عنه وليه). وإذا لم نحمل هذا الحديث على صيام النذر ولا على صيام الفريضة بقي لا معنى له. ولا يمكن أن يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام لا معنى له فوجب حمله على النذر.
(3/10)
________________________________________
- الدليل الثاني: أنه صح عن عائشة وابن عباس أنه إذا نذر الإنسان ومات قبل أن يفي بلا عذر صام عنه وليه.
قالوا: والفرق بين: الصيام الواجب بالنذر والصيام الواجب بأصل الإسلام أن الأصل في الصيام الواجب بالنذر أنه لا يجب وإنما أوجبه المكلف على نفسه وبهذا أشبه الدين فصار مما تدخله النيابة.
وهذا كلام جيد وصحيح: أن الصيام الواجب بالنذر الأصل عدم وجوبه إنما وجب بإيجاب الإنسان له على نفسه فأشبه بذلك الدين وإذا أشبه الدين صارت النيابة تدخله.
بالإضافة إلى تفريق الصحابة وهو في الحقيقة العمدة. فالعمدة أن الصحابة فرقوا بين النذر وغير النذر.
وهذا القول الأول: من مفردات الحنابلة.
= القول الثاني: وهو مذهب الأئمة الثلاثة أنه لا يقضي أحد عن أحد صيام النذر وإنما يطعم فقط.
- لعموم قوله تعالى: { ... ولا تزر وازرة وزر أخرى ... } [الأنعام/164].
- وعموم قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النازعات/35].
- ولعموم أثر ابن عباس: (لا يصم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد) وهذا يشمل الواجب بالنذر وبغيره.
والراجح مذهب الإمام أحمد لصحة حديث عائشة - رضي الله عنها -.
ومن العجائب أن الأئمة الثلاثة - رحمهم الله - لم يأخذوا بحديث عائشة لا بالنذر ولا بما وجب بأصل الشرع أما الإمام أحمد - رحمه الله - فعمله ليس بعجيب لأنه وافق الصحابة فأخذ بأقوالهم وفهم النصوص كما فهموها.
بينما الإمام مالك والشافعي وأبو حنيفة لم يأخذوا بحديث عائشة وابن عباس جملة وتفصيلاً لا في النذر ولا فيما وجب بأصل الإسلام وهو رمضان وهو غريب وأنا أتعجب من أنه الأئمة الثلاثة لم يأخذوا بهذا الحديث مع صحته ووضوحه فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه). فهو نص صريح في المسألة.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو حج.
يعني: إذا نذر الإنسان أن يحج ثم مات حج عنه وليه.
- لما ثبت في الصحيح: أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت إن أمي نذرت أن تحج وماتت ولم تحج أفأحج عنها فقال - صلى الله عليه وسلم -: (حجي عن أمك).
وبالنسبة للحج يجوز للإنسان أن يحج عن غيره سواء كان الحج واجباً بالنذر أو كان حجة الإسلام.
(3/11)
________________________________________
- لأن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حج عن أبيك).
فدل الحديثان على أن النيابة تدخل الحج فيما كان منذوراً وما كان واجباً وهو حجة الإسلام.
•
ثم قال - رحمه الله -:
أو اعتكاف.
يعني: يجوز للإنسان أن يعتكف عن غيره إذا نذر هذا الغير أن يعتكف ثم مات قبل أن يعتكف.
والدليل على ذلك:
- القياس على الصيام. فقط هذا هو الدليل: كما أنه يجوز ذلك في الصيام كذلك يجوز في الاعتكاف.
• ثم قال - رحمه الله -:
أو صلاة نذر.
فإذا نذر اإنسان وقال: لله عَلَيَّ نذر أن أصلي ثم مات ولم يصلي:
= فعند الحنابلة وهو الرواية الأول عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه يصلي عنه.
واستدلوا:
- أيضاً: بالقياس على الصيام.
والجامع بينهما أن كلاً منهما عبادة.
= والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه لا يشرع أن يصلي أحد عن أحد ولو نذر الصلاة ومات ولا نقول: ولو فنحن نتكلم الآن عن الصلاة المنذورة أصلاً.
إذاً القول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد أنه لا يصلي أحد عن أحد الصلاة التي نذرها.
واستدلوا على ذلك:
- بأنه يوجد فرق بين الصلاة والصيام وهذا الفرق هو أن الصلاة عبادة بدنية محضة لا يدخلها المال بخلاف الصوم فإنه عبادة بدنية قد يدخلها المال فيما إذا لم يستطع أن يصوم فإنه يمكنه أن يطعم.
فافترقا من هذه الجهة.
والفرق الثاني: بين الصلاة والصيام: أن الصلاة أجمع الفقهاء على أن الصلاة المفروضة لا يصليها أحد عن أحد بينما الصيام تقدم معنا أن الصيام المفروض فيه خلاف فدل على أن بينهما فرقاً.
وفي الحقيقة فيها إشكال: مسألة الصلاة: يعني لو أن إنساناً قال لله عليَّ نذر أن أصلي ثم مات فيها إشكال فالأقوال فيها متقاربة.
والأقرب والله أعلم: أنه لا يصلي لأنه لم يعهد من الشارع أبداً النيابة في الصلاة بينما تنجد الحج فيه نصوص والصيام فيه نصوص واضحة أما الزكاة فأمرها أوضح من هذا بكثير.
(3/12)
________________________________________
فإذا وجدنا النصوص في الصيام وفي الحج ولك نجد في الصلاة أي دليل يدل على عدم النيابة مع وجود أثر ابن عباس: (لا يصلي أحد عن أحد) يجعل الإنسان يميل إلى أنه لا يصلي أحد عن أحد لا النذر ولا الفريضة.
باب صوم التطوع.
• ثم قال - رحمه الله -:
باب صوم التطوع.
• قال بعده - رحمه الله -:
يسن صيام أيام البيض.
أيام البيض ... (((الأذان))) ...
بعد الأذان))).
قال الشارح حفظه الله:
• قال المؤلف - رحمه الله -
باب صوم التطوع.
أراد المؤلف - رحمه الله - أن يبين أحكام صيام التطوع بهذا الباب وما يتعلق بأيهم أفضل؟ وما يكره من الصيام. وما يتعلق بهذه الأحكام.
يقول - رحمه الله -
يسن صيام أيام البيض.
صيام أيام البيض سنة = عند الجمهور.
والأيام البيض هي: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
وسميت بهذا الاسم لشدة ضوء القمر.
وصيام أيام البيض نتكلم عنه في مسألتين:
ــ المسألة الأولى: صيام ثلاثة أيام بغض النظر عن أن تكون في البيض أو في غيرها.
فهذا سنة بالإجماع والنصوص المستفيضة تدل على أنه ثابت:
- كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: (أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - أن أوتر قبل أن أنام وأن أصلي سبحة الضحى وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام).
- وأيضاً ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام.
- وأيضاً ثبت في الصحيح من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام قيل لها - رضي الله عنها - في أي الأيام يصوم؟ قالت كان - صلى الله عليه وسلم - لا يبالي أي الأيام صام.
فهذه الأحاديث تدل دلالة صريحة على أنه يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
ــ المسألة الثانية: أن يجعل الإنسان هذه الأيام الثلاثة توافق البيض وهي اليوم: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
وجاء في هذا الباب وهو استحباب صيام البيض أحاديث كثيرة نحو أربعة أحاديث منها:
- حديث أنس - رضي الله عنه -.
- ومنها حديث جرير - رضي الله عنه -.
وكل الأحاديث المروية في صيام الأيام البيض - كلها ضعيفة.
لكن ضعف هذه الأحاديث ضعف يسير وليس بالضعف الشديد:
(3/13)
________________________________________
= فمن العلماء من يصححها وهم عامة المتأخرين بمجموع الطرق والألفاظ والشواهد يصححون مشروعية صيام ثلاثة أيام.
ومنهم من يرى أن هذا الباب لا يثبت فيه حديث لضعف الأحاديث.
وفي الحقيقة صيام ثلاثة أيام - صيام البيض أحاديث البيض تقبل التقوية إلا أنه يشكل عليها حديث عائشة - رضي الله عنها - وهي أنها ذكرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يبالي أي الأيام يصوم. يعني: لم يكن يحرص على موافقة البيض.
فهذا الحديث يشكل على الأحاديث التي في الباب.
فإما أن يقال أنها لم تقف - رضي الله عنها - على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب أن يوافق الأيام البيض أو أن مشروعية صيام الأيام البيض جاء متأخراًَ أو أي جواب ممكن أن يجاب به عن حديث عائشة متى أردنا أن نصحح أحاديث الأيام البيض.
والأمر في هذا يسير لأنه ما دام ثابتاً فإنه - صلى الله عليه وسلم - يصوم ثلاثة أيام فكون الإنسان يجعل هذه الثلاثة أيام توافق الأيام البيض لا يضر ويحصل على فضيلة موافقة هذه السنة من غير ضرر.
•
ثم قال - رحمه الله -:
والاثنين والخميس.
أولاً: الاثنين: صيام يوم الاثنين ثابت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم الاثنين ويقول: هو يوم ولدت فيه.
وأشار الإمام مسلم في صحيحه إلى أن رواية كان يصوم الاثنين والخميس في هذا الحديث ضعيفة.
ثانياً: صيام يوم الخميس: يوم الخميس جاء فيه أحاديث كثيرة منها: حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم الاثنين والخميس ويقول هما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم.
وهذا الحديث يقبل أنه حديث حسن إن شاء الله بمجموع طرقه وبشواهده الكثيرة يقبل التحسين.
لكن يجب أن تعلم أن حديث الاثنين في مسلم بينما حديث الخميس في السنن وهو صحيح بشواهده وطرقه.
فثبت بهذا أن صيام يوم الاثنين والخميس مشروع إن شاء الله.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ...
انتهى الدرس،،،
(3/14)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
• قال المؤلف - رحمه الله -:
وست من شوال.
صيام الست من شوال سنة استحبها جماهير أهل العلم.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر).
وفضيلة صيام الست تحصل سوتء صامها متتابعة أو متفرقة في أول الشهر أو في آخره لإطلاق الحديث إلا أن عدداً من السلف استحب أن يبادر بها لأن لا يشتغل عنها فتفوته.
- - مسألة: اختلف أهل العلم هل يشترط في صيام الست أن يكون أتم صيام رمضان؟
اختلفوا فيها على قولين:
= القول الأول: أنه لا يصوم الست إلا إذا أتم رمضان.
- لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من صام رمضان) , ومن أفطر بعض رمضان لا يصدق عليه أنه صام رمضان بل صام بعض رمضان.
= والقول الثاني: أنه لا يشترط بل إذا صام الإنسان رمضان جملة وإن أفطر بعضه جاز له أن يؤخر القضاء وأن يبدأ بصيام الست.
واستدلوا على ذلك:
- بأن من صام رمضان وأفطر منه يوماً أو يومين فإنه يصدق عليه بأنه صام رمضان.
- وبحديث عائشة الذي تقدم معنا وهو قولها - رضي الله عنها - كان يكون علي قضاء من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان. ووجه الاستدلال أنه يبعد أن عائشة - رضي الله عنها - لم تكن تصوم الست من شوال فإذا كانت تصوم الست من شوال فهي تصوم قبل القضاء.
والأقرب لظاهر الحديث أن الإنسان لا يصوم إلا بعد القضاء.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وشهر المحرم.
يعني: ويسن أن يصوم الإنسان شهر الله المحرم.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم).
فدل هذا الحديث على أن صيامه مندوب إليه مستحب.
• ثم قال - رحمه الله -:
وآكده العاشر.
أي آكد أيام الشهر المحرم اليوم العاشر وهو يوم عاشوراء.
فتعريف عاشوراء أنه اليوم العاشر من الشهر المحرم.
ودليل (الاستحباب):
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) وهو حديث صحيح.
والسنة أن يصوم الإنسان اليوم العاشر ويوماً قبله ويوماً بعده وإلا يصوم العاشر ويوماً قبله أو بعده ويجوز أن يفرد العاشر بالصيام.
(3/15)
________________________________________
وجواز إفراد العاشر بالصيام = مذهب الحنابلة فيجوز بلا كراهة واختاره شيخ الاسلام وابن القيم - رحمهما الله -.
- لعموم الحديث حيث فيه أن من صام العاشر فإنه يغفر له السنة التي قبله.
• ثم قال - رحمه الله -:
ثم التاسع.
صيام اليوم التاسع من شهر المحرم متأكد يأتي في المرتبة الثانية بعد العاشر.
بناء على هذا من أراد أن يصوم العاشر ويوماً فقط فالأحسن أن يصوم التاسع بدل أن يصوم الحادي عشر لأن اليوم التاسع يأتي في الأفضلية والآكدية بعد اليوم العاشر.
والدليل على استحباب اليوم التاسع:
- ما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صام عاشوراء قالوا له: إنه يوم تعظمه اليهود فقال: لأن عشت إلى قابل لأصومن التاسع. يعني مع العاشر.
فهذا دليل على أنه يستحب للإنسان إذا أراد أن يصوم العاشر أن يجمع إليه التاسع.
فإن جمع معهما الحادي عشر فهو أطيب وأكمل.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وتسع ذي الحجة.
يعني: ويسن أن يصوم الإنسان تسع ذي الحجة أي من اليوم الأول إلى اليوم التاسع من شهر ذي الحجة.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من العشر قالوا: يا رسول الله ولا المجاهد في سبيل الله قال ولا المجاهد في سبيل الله إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشء).
فقوله: (ما من أيام العمل الصالح) دليل على أفضلية الصيان في هذه الأيام لأن الصيام من جملة العمل الصالح.
= وإلى مشروعية الصيام ذهب الجماهير.
فإن قيل: أنه ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت ما صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشر قط.
فالجواب: أن الإمام أحمد - رحمه الله - سلك مسلكين في الجواب عن هذا الحديث:
- الأول: قال - رحمه الله -:أن حديث عائشة هذا فيه اختلاف ورواه بعضهم مرسلاً وروي عن حفصة إثبات الصيام.
فكأن الوجه الأول يشير فيه الإمام أحمد إلى نوع ضعف ولا يظهر من عبارة الإمام أحمد أبداً أنه يضعف الحديث لكن يشير إلى أنه فيه ضعف.
(3/16)
________________________________________
- الثاني: قال الإمام أحمد - رحمه الله - أن المراد في حديث عائشة نفي استغراق العشر في الصيام: يعني: أنه لم يصم جميع العشر - صلى الله عليه وسلم - فأرادت نفي جميع العشر. والمثبت في حديث حفصة صيام بعض العشر.
وبهذا يكون - رحمه الله - جمع بين حديث حفصة وبين حديث عائشة.
بناء على هذا - على الجمع الأخير: نقول لا ينبغي استغراق العشر صياماً. فلا ينبغي أن يستغرق الإنسان جميع أيام العشر بالصيام.
هذا إذا أردنا أن نجمع بالجمع الثاني وأنا أرى أنه وجيه وجيد وهو أقوى من الوجه الأول الذي ذكره الإمام أحمد - رحمه الله -.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ويوم عرفة لغير حاج بها.
يشرع للإنسان الذي لم يحج أن يصوم يوم عرفة.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم عرفة: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده).
فدل الحديث على مشروعية الصيام بالنسبة لغير الحاج وأنه يوم أحب الشارع فيه أن يصبح الإنسان صائماً.
• ثم قال - رحمه الله -:
لغير حاج بها.
أي: لا يشرع أن يصوم الإنسان في يوم عرفة.
والدليل على هذا:
- ما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي بقدح من لبن في يوم عرفة فشربه والناس ينظرون.
- - مسألة: الحكمة من النهي عن صيام يوم عرفة للحاج: اختلفوا فيها:
- الأول: ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى أن الحكمة أن يوم عرفة عيد وكل عيد لا يصام.
- الثاني: أن العلة في النهي عن صيام يوم عرفة ليتقوى الحاج على عبادة الله والدعاء والابتهال والتضرع.
والأقرب والله أعلم أن الحكمة مركبة من الأمرين ولا مانع. فهو لا يصام لأنه عيد وليتقوى فيه الحاج.
- - مسألة: حكم الصيام: اختلفوا في حكم الصيام - بعد أن عرفنا أنه ليس بمشروع اختلفوا فيه:
= [القول الأول]: فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يستحب أن يصوم الإنسان يوم عرفة.
= والقول الثاني: أنه جائز بلا كراهة.
= والقول الثالث:
أنه مستحب ما لم يضعف الحاج.
= والقول الرابع: أنه مكروه.
والقول بالكراهة قريب من القول من أنه لا يستحب وهو مذهب الحنابلة - مسألة: أنه لا يستحب هو مذهب الحنابلة.
(3/17)
________________________________________
عرفنا من الخلاف أن الجماهير لا يرون أن الصيام محرم فليس في الأقوال أنه محرم فلم يذهب إلى التحريم إلا عالم واحد من السلف وهو يحيى بن سعيد الأنصاري فقال: لا يجوز أن يصوم الإنسان يوم عرفة ,
أما عامة علماء الأمة فأقوالهم تدور بين الكراهة والإباحة.
والراجح والله أعلم. أنه يدور بين الكراهة والتحريم.
• ثم قال - رحمه الله -:
وأفضله: صوم يوم وفطر يوم.
أفضله: الضمير يعود إلى: صوم التطوع.
فأفضل الصوم الذي للتطوع أن يصوم الإنسان يوماً ويفطر يوماً.
والدليل على هذا:
- ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً).
وصيام يوم وإفطار يوم هو أفضل أنواع صيام التطوع من حيث الأصل وقد تصبح مفضولة عند بعض الناس كمن يعوقه الصيام عن أداء الواجبات أو عن أداء عبادة هي أفضل من الصيام يوماً والإفطار يوماً.
كأن تتعلق به مصالح عامة أو يتعلق به بيان الناس وإرشادهم ووعظهم.
ولعله لهذا الأمر لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
أي لأنه يقوم بما هو أفضل وأعظم من صيام يوم وإفطار يوم.
وربما أن السبب في عدم صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم وإفطار يوم لكي لا يدخل المشقة على الناس لأنه لو كان يفعل ذلك لحرص كثير من الناس على الاقتداء به فدخل عليه المشقة.
لأن الناس يحبون الاقتداء بما فعله - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما قاله ولم يفعله.
وبعد أن بين الأيام التي يسن ويحب الشارع أن تصام انتقل إلى المكروهات وبعدها سيذكر المحرمات.
• فقال - رحمه الله -:
ويكره: إفراد رجب ... بصوم.
يكره للإنسان أن يفرد شهر رجب بالصوم لأمرين:
- الأول: أن في هذا تشبهاً بالجاهليين لأنهم كانوا يعظمون هذا الشهر.
- والثاني: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان ينهى عن ذلك.
- والثالث: أنه لم يثبت في حديث صحيح ولا حسن أن الشارع حث على صومه وجميع الأحاديث التي في الباب ضعيفة جداً أو موضوعة.
- - مسألة: وتزول الكراهة بأحد أمرين:
- الأول: أن لا يستكمل شهر رجب بالصيام. يعني: أن يصوم بعض الأيام ويفطر بعض الأيام فتزول الكراهة.
(3/18)
________________________________________
- الثاني: أن يصوم مع شهر رجب شهراً آخر سواء كان هذا الشهر الثاني يلي رجب أو هو شهر بعيد عن رجب فلا يشترط فالمهم أن لا يفرد شهر رجب من بين شهور السنة بالصيام.
إذاً تلخص عندنا أن الكراهة تزول بأن يصوم ويفطر في شهر رجب أو أن يصوم رجب كاملاً ويصوم معه شهراً آخر.
- - مسألة: لم يتطرق المؤلف إلى غير شهر رجب هل يكره أن يصوم الإنسان جميع الشهر في غير شهر رجب؟
اتفق الفقهاء أنه لا يكره إلا في شهر رجب. أما ما عداه من الشهور فإنه يستحب ولا يكره أن يصوم الإنسان جميع الشهر لأن هذا الصيام يدخل في العمومات التي تحث المسلم على الصيام مالم يعتقد أن للشهر الفلاني الذي صامه مزية معينة شرعية فحينئذ يحرم الصيام لأنه يكون بدعة.
وعرفنا من هذا التفصيل أن الإنسان يحرم عليه أو يكره له أن يصوم جميع شهر رجب ولو بدون اعتقاد فهذا الشهر لايستكمل صياماً لما فيه من التشبه.
• ثم قال - رحمه الله -:
والجمعة.
يعني: ويكره أن يفرد الإنسان الجمعة بالصيام.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده).
- وقوله في صحيح مسلم: (إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم). يعني: إذا وافق الجمعة صيام أيام اعتاد الإنسان أن يصومها فلا بأس أن يصومها.
وتزول الكراهة بأن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده.
- - مسألة: فهم من الأحاديث أن المنهي عنه هو تقصد الجمعة بالصيام. فإن صام الجمعة لا قصداً وإنما لأنه هو المتيسر فقد أفتى الإمام أحمد أن من صام الجمعة بلا قصد فلا بأس.
وفي الحقيقة أن هذا يفهم من الأحاديث لأن الشارع الكريم أجاز أن يصوم الإنسان الجمعو مفرداً إذا كان في صوم يصومه الإنسان مما يدل على أن الإنسان إذا صامه لا قصداً له وإنما لكونه صادف وقتاً متيسراً له أو صادف صوماً هو اعتاد أن يصومه فلا بأس بذلك.
بناء عليه: الذين يشتغلون طيلة أيام الأسبوع في دوام لا يتمكنون معه من الصيام لمشقة العمل أو لأي أمر آخر فإنه لا حرج عليهم فيما أرى أن يصوموا يوم الجمعة لكونه هو المتيسر لا لأنه يوم الجمعة.
بدليل: - أن إجازة هذا الموظف لو وافقت غير الجمعة لصامه أيضاً مما يدل على أنه لم يتقصد يوم الجمعة.
(3/19)
________________________________________
ففي هذه الصورة لا بأس إن شاء الله أن يصوم ولا حرج عليه.
= القول الثاني: أن صيام يوم الجمعة محرم.
- لقوله: (لا تصوموا). والأصل في النهي التحريم.
وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام - رحمه الله - أخذاً بظاهر الحديث. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على بعض أزواجه وهي صائمة في يوم الجمعة فقال أصمت بالأمس قالت لا ثم قال أتصومين غداً قالت لا قال إذاً أفطري.
فأمرها بالفطر وقطع العبادة.
وهذا هو الراجح: أنه لا يجوز أن يتقصد الجمعة لأن هذا فيه محادة للشارع. فإن الشارع ينهى عن تقصد صيام يوم الجمعة وهو يتقصد صيام يوم الجمعة فالأقرب ما قاله شيخ الاسلام - رحمه الله - أنه محرم.
• ثم قال - رحمه الله -:
والسبت.
يعني: ويكره إفراد السبت بالصيام.
والدليل على كرهية إفراد السبت بالصيام:
- ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم).
وتزول الكراهة بأن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده.
بدليل: - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن صيام يوم الجمعة أمر بأن يصام معه يوم قبله أو يوم بعده واليوم الذي بعده هو السبت.
= والقول الثاني: وإليه ذهب جماهير علماء المسلمين: أن صيام السبت على سبيل الإفراد أو التبع جائز ولا حرج فيه.
وإلى هذا ذهب عدد من المحققين الأفذاذ منهم شيخ الاسلام بن تيمية - رحمه الله -.
وأجابوا عن الحديث الذي فيه: لا تصوموا يوم السبت. بأنه حديث شاذ منكر ولا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن ثبت فهو منسوخ.
لكن الجواب الصحيح عندي أنه حديث ضعيف ضعفه عدد كبير من الحفاظ منهم: الإمام أحمد والإمام مالك والإمام النسائي وغيرهم من الحفاظ.
وقد أبعد جداً من صحح هذا الحديث من المعاصرين وخالف ما عليه جمهور الأئمة من تضعيف هذا الحديث.
فالراجح بناء على التقرير جواز إفراد السبت بالصيام.
فلو أراد الإنسان أن يصوم السبت فقط تطوعاً لله وتقرباً فلا حرج عليه.
• ثم قال - رحمه الله -:
والشك.
يعني: يكره أن يفرد الإنسان صيام يوم الشك.
ونحتاج إلى مسألتين: الأولى: ما هو يوم الشك؟. والثانية: الدليل.
(3/20)
________________________________________
- فالمسألة الأولى: ما هو يوم الشك: = عند الحنابلة هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء صحو ولم ير الهلال.
فحكم صيامه: أنه مكروه.
= القول الثاني: أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كان على السماء غيم أو قتر أو غبار.
والراجح هو القول الثاني: - لأن يوم الثلاثين إذا كانت السماء صحواً ولم ير الهلال فلا يوجد شك بل الأمر متضح أن شهر رمضان لم يدخل.
- والمسألة الثانية: الدليل على الكراهة.
- الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين).
ومن صام يوم الشك فقد تقدم رمضان إما بيوم أو بيومين.
- والثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -:من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصا أبا القاسم.
وصيام يوم الشك مكروه عند الحنابلة.
= والقول الثاني: أنه محرم.
- لأن المعصية في لفظ الشارع لا تكون على المكروه بل على المحرم.
ويقصد بالنهي عن صيام يو م الشك إذا صامه الإنسان احتياطاً لرمضان.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويحرم: صوم العيدين ولو في فرض.
يعني: ويكره إفراد العيد للكفار بصوم.
يكره للإنسان أن يفرد يوماً من أيام السنة يوافق عيداً من أعياد الكفار بالصيام.
والدليل على الكراهة:
- الأول: أن في إفراد هذا اليوم تعظيماً لشعائر المشركين والكفار ولا يجوز للمسلم أن يعظم شعائر الكفار.
- والثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من تشبه بقوم فهو منهم). وهذا قد تشبه بهم بتعظيم يوم يعظمونه.
والذي يظهر من الأدلة أن إفراد يوم من أيام الكفار بالصيام محرم وليس بمكروه فقط لأن مقتضى الأدلة التي استدلوا بها أن هذا العمل محرم وليس بمكروه.
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى الأيام التي يحرم على الإنسان أن يصومها:
• فقال - رحمه الله -:
ويحرم صوم العيدين ولو في فرض.
المقصود بالعيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى.
فلا يجوز للإنسان أن يصوم عيد الفطر ولا عيد الأضحى.
- لأنه ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيان يوم الفطر ويوم الأضحى.
فإن صام: فإن صيامه باطل. - لأنه منهي عن الصيام في هذين اليومين فصيامه فيها محادة للشارع.
قوله: ولو في فرض.
(3/21)
________________________________________
لأن الحديث عام لم يستثن أن يكون هذا الصيام قضاء لفرض معين أو لنذر معين أونفل أو أي نوع من أنواع الصيام.
• ثم قال - رحمه الله -:
وصيام أيام التشريق.
صيام أيام التشريق محرم.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله.
بناء على هذا:
من وجبت في ذمته كفارة صيام شهرين متتابعين فإنه يجب أن يفطر في أيام التشريق وهذا الفطجر لا يقطع التتابع لأنه لعذر شرعي.
كما أنه أيضاً يفطر في يوم العيد تماماً لأن صيام هذه الأيام محرم بنص الحديث. فقد جعلها الشارع من أيام الأكل والشرب فكيف يجعلها الإنسان من أيام الإمساك عن الأكل والشرب.
إذاً يحرم على الإنسان أن يصوم أيام التشريق.
يستثنى من هذا ما ذكره المؤلف - رحمه الله -:
• بقوله:
إلاّ عن دم متعة وقران.
إذا وجب على الإنسان في الحج دم متعة أو قران. يعني: من تمتع بالحج أو حج قارناً ووجبت عليه ذبيحة - دم - ولم يجد فإنه يجب أن يصوم فإذا وجب عليه الصيام جاز له أن يصوم في أيام التشريق.
- لقول عائشة رضي الله عنها لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي.
فهذا الحديث هودليل على تحريم صيامها وجوازه لمن لم يجد الهدي لأنها قالت لم يرخص. وتقدم معنا أن الرخصة تأتي في الأمر المحرم.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومن دخل في فرض موسع: حرم قطعه.
الفرض الموسع يقصد: بالموسع: يعني ك من جهة الوقت.
كالصلوات المفروضة في أول أوقاتها أو قضاء رمضان قبل أن يتضايق الوقت أو النذر المطلق فكل هذه الأشياء واجبة وجوباً موسعاً.
فإذا دخل الإنسان في هذا الواجب الموسع حرم عليه أن يقطعه.
والدليل على هذا:
- أنه شرع في الواجب فلا يجوز له أن يقطعه.
- ولقوله تعالى: - (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) -[محمد/33].
فإذا بدأ الإنسان بالصيام حرم عليه أن يقطعه إذا كان قضاء أو نذر وإذا بدأ الإنسان بالصلاة وشرع فيها وكبر تكبيرة الإحرام فإنه يحرم عليه أن ينفتل من صلاته بل يجب عليه وجوباً أن يتم هذه الصلاة فإن قطعها فهو آثم لأن قطع العبادة الواجبة إذا شرع فيها الإنسان محرم ومن فعل محرما أثم.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا لايلزم: في النفل.
(3/22)
________________________________________
أي ولا يلزم الإنسان إذا شرع في النفل أن يتمه.
فقوله: (ولا يلزم) يعني: الإتمام.
سواء كان هذا النفل صلاة أوصيام أو صدقة أو ذكر أن تسبيح أو أي نوع من أنواع العبادات.
والدليل على ذلك:
- ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة فقالت أهدي لنا حيس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أرنينيه فقلد أصبحت صائماً.
ففي هذا الحديث دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد عزم على صيام النفل ومع ذلك أفطر وأكل من هذا الطعام الذي أهدي لهم - صلى الله عليه وسلم - فدل هذا الحديث على أن الإنسان إذا بدأ بالنفل لا يجب عليه أن يقطعه.
وهذا الحديث وإنكان في الصيام إلا أنه يقاس عليه كل العبادات.
لكن ذهب الحنابلة إلى أن من شرع في نفل فيستحب له أن لا يقطعه مع الجواز.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ولا قضاءُ فاسده.
أي لا يجب قضاء فاسد العبادة التي دخل فيها الإنسان على سبيل التنفل.
فلا يجب أن يتمها زلا يجب أن يقضيها إذا فسدت.
والدليل على هذا:
- أن ما كان أصله ليس واجباً فلا يجب قضاء فاسده.
• ويستثنى من هذا الحج كما قال المؤلف - رحمه الله -:
إلاّ الحج.
ويستثنى الحج في المسألتين:
فيجب إتمام نفله.
ويجب قضاء فاسده.
إذاً الاستثناء بالنسبة للحج يرجع إلى المسألتين: الإمام والقضاء.
وسيأتي مفصلاً في الحج إن شاء الله.
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى الكلام عن ليلة القدر:
• فقال - رحمه الله -:
وترجى ليلة القدر: في العشر الأواخر.
ترجى ليلة القدر في العشر الأخير من رمضان لما
- صح في البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تحروا ليلة القدر في العشر الأخير من رمضان).
- ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم العشر الأول ثم الوسطى ثم في سنة لما صام الوسطى وكان في معتكفه رفع الستر عن خباءه وتحدث مع الناس حتى اجتمعوا ثم قال: إنه قد أوحي إليًّ أن أتحراها في العشر الأخير فمن اعتكف في الوسطى فليعتكف معنا إن شاء في الأخيرة).
فهذا الحديث نص مع الأحاديث السابقة على أن ليلة القدر يتحراها الإنسان في العشر الأخيرة من رمضان.
•
ثم قال - رحمه الله -:
وأوتاره آكد.
(3/23)
________________________________________
الأوتار من العشر الأخيرة: هي خمس ليال: وهي اللبالي الأوتار: ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين.
هذه الليالي أرجاها: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - تحروا ليلة القدر في الأوتار من العشر.
وهذا أيضاً حديث صحيح ثابت.
وعلى هذا جماهير الأمة أن ليلة القدر أرجى في الآحاد منها في غيرها من الليالي في الأشفاع من ليالي العشر.
ثم بعد أن خصص من رمضان العشر وخصص من العشر الأوتار خصص أيضاً أكثر من ذلك:
• فقال - رحمه الله -:
وليلة سبع وعشرين أبلغ.
قوله هنا: أبلغ: يعني: أرجى ولو أنه - رحمه الله - عبر كما عبر هو نفسه في الإقناع بقوله: أرجى فلو عبر بنفس تعبيره الآخر لكان أوضح وأسهل من قوله: أبلغ.
وعلى كل المعنى واضح: أن ليلة سبع وعشرين أبلغ.
والدليل على هذا:
- أنها أرجى ما ثبت في الحديث الصحيح أن أبي بن كعب - رضي الله عنه - كان يحلف ولا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين قيل له: ما علامة ذلك؟ قال: علامة ذلك: ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها تطلع الشمس صبيحة ليلة القدر بلا شعاع.
- وأيضاً ثبت عن ابن عباس أنها ليلة سبع وعشرين.
- وعن غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
= والقول الثاني: أنها ليلة إحدى وعشرين.
- لما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أريت أني أسجد في ماء وطين صبيحة ليلة القدر فلما أصبح من ليلة إحدى وعشرين سجد بعد أن أمطرت السماء فصار في جبهته وأنفه ماء وطين.
= والقول الثالث: أنها في ليلة ثلاث وعشرين.
- لما ثبت في الصحيح أيضاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أريت أني أسجد في صبحها بماء وطين فلما أصبح ليلة ثلاث وعشرين أمطرت السماء فسجد في الماء والطين - صلى الله عليه وسلم - فخرج وأثرهما على جبهته.
هذه الأقوال الثلاثة.
وفي تحديد ليلة القدر أقوال كثيرة جداً اكتفيت بثلاثة لوضوح الأحاديث فيها.
والصواب من هذه الأقوال أنها: تتنقل. فليست في ليلة واحدة دائماً بل كل سنة تكون في ليلة مختلفة.
والدليل على هذا:
(3/24)
________________________________________
- أنه لا يمكن الجمع بين النصوص الصحيحة الثابتة التي تعين ليلة القدر في أكثر من ليلة - دع عنك الضعيفة - إلا بهذا القول. فهي إذاً تتنقل.
وهذا القول من محاسنه أن الإنسان لا يجتهد في ليلة واحدة معينة بل يجتهد في جميع الليالي.
- - مسألة مهمة: يتحتم على الإنسان وينبغي ويتأكد أن يجتهد في كل العشر.
والسبب في ذلك: أن الليالي الآحاد أو الأفراد - الأوتار - تختلف بتمام الشهر ونقصانه.
فإذا تم صارت ليلة إحدى وعشرين هي ليلة إحدى وعشرين.
وإن نقص تغيرت فصارت الشفع هي ليلة الآحاد.
إذاً يختلف الأمر بين أن يتم الشهر وبين أن ينقص.
ولذلك قال شيخ الاسلام - رحمه الله -: ينبغي أن يجتهد الإنسان في جميع الليالي.
إذاً تبين من مسألتين: أن الإنسان ينبغي أن يجتهد جداً في جميع ليالي رمضان:
- الأولى: أنها تتنقل.
- والثانية: أن الآحاد تختلف بتمام أو نقصان الشهر.
فعلى الإنسان أن يجتهد في كل ليلة اجتهاده كأنها هي ليلة القدر.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويدعو فيها بما ورد.
مما ورد:
- ما جاء في حديث عائشة رضي اللهى عنها أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أقول إن وافقت ليلة القدر؟ فقال لها: قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني). فهذا الدعاء مما ينبغي أن يتحراه الإنسان في ليلة القدر.
وبهذا الكلام انتهلا الكلام عن ليلة القدر.
وتبين من خلال النصوص كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ذنبه). تبين من هذه النصوص أن المندوب في ليلة القدر الصلاة والدعاء والاستغفار.
وأنه لم يأت نص صحيح ولا ضعيف يدل على استحباب العمرة في ليلة القدر بالذات سواء قلنا أنها ليلة سبع وعشرين أو غيرها من الليالي.
وقد نبه شيخنا - رحمه الله - هذا التنبيه المهم جداً وهو أن تحري ليلة القدر بالعمرة قد يكون بدعة. لأنه تخصيص بما لم يأت دليل من الشارع يدل على تخصيصه.
العمرة خصت في شهر رمضان. (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) ىما في ليلة القدر فليس في النصوص ما يدل على أنها مستحبة أو مندوبة فإذا رأى الإنسان أنه يستحب تخصيص هذه الليلة بالعمرة فقد ابتدع.
(3/25)
________________________________________
فهذه من المسائل المهمة في الحقيقة لا سيما في وقتنا هذا مع تيسر الوصول إلى الحرم والتي ينبغي على طالب العلم أن ينبه الناس إليها.
باب الإعتكاف.
• ثم قال - رحمه الله -:
باب الإعتكاف.
ذكر المؤلف رحمه الله باب الاعتكاف بعد أحكام الصيام وجعله ضمن كتاب الصيام لأمرين:
- الأول: أنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتكف إلا في رمضان فيما عدا سنة واحدة سيأتي الحديث عنها.
- الثاني: أن بعض أهل العلم اشترط للإعتكاف الصيام.
فناسب لهذا أن يجعل باب الاعتكاف ضمن كتاب الصيام.
قوله: باب الاعتكاف.
الاعتكاف لغة: هو لزوم الشيء وحبس النفس عليه.
سواء كان هذا اللزوم أو الحبس على جهة بر أو على جهة مباحة أو على جهة معصية.
فمن حيث اللغة لا يختلف الأمر.
وأما اصطلاحاً: فقد عرفه المؤلف:
• بقوله - رحمه الله -:
هو لزوم مسجد لطاعة اللَّه تعالى.
وقد انتقد شيخ الاسلام - رحمه الله - هذا التعريف ورأى أن الصواب أن يقول: لزوم مسجد لعبادة الله بدل لطاعة الله.
وعلل ذلك: بأن الطاعة قد تنصرف لغير العبادة المحضة كالأعمال التي تكون عبادات بالنية كمن نام وقد نوى التقوي أو أكل وقد نوى التقوي. فهذا النوم والأكل والاستراحة تعتبر عبادة بالنية.
فأراد شيخ الاسلام أن يقول أن الاعتكاف ليس لهذا النوع من العبادات وإنما هو للعبادة المحضة التي هي التذلل والخضوع لله.
فيكون الصواب في التعريف أن نقول هو لزوم مسجد لعبادة الله.
•
ثم قال - رحمه الله -:
مسنون.
أي أن الاعتكاف مسنون ومستحب ومشروع.
ودل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.
- أما الكتاب: فقوله تعالى: - (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) -[البقرة/187]. فدل هذا النص على أن الاعتكاف مشروع في الجملة.
- أما من السنة: فأحاديث كثيرة وأعظمها ما ثبت وتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في رمضان في العشر الأخير منه.
- وأما الإجماع: فقد حكى أكثر من واحد أن الاعتكاف مسنون مندوب مستحب.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويصح بلا صوم.
يعني أن الاعتكاف يصح ولو لم يكن معه صوم.
(3/26)
________________________________________
=وهذا مذهب الحنابلة - كما ترون - والشافعية واختاره ابن حزم - رحمه الله -.
واستدلوا على هذا بأدلة:
- الدليل الأول: ما جاء في الصحيح أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. زالليل ليس وقتاً للصيام.
- الدليل الثاني: صح عن ابن عباس أنه قال: ليس بلازم على المعتكف أن يصوم.
- الدليل الثالث: أنه لا دليل على اشتراط الصيام للاعتكاف. فالأصل صحة العبادة ومن اشترط شرطاً فعليه الدليل.
= والقول الثاني: أنه لا يصح الاعتكاف إلا بصيام. فمن أراد أن يعتكف فلا بد أن يصوم وإلا بطل اعتكافه.
وإلى هذا ذهب شيخ الاسلام - رحمه الله -.
واستدل:
- بأنه لم يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتكف قط وإلا وهو صائم ولا عن أصحابه أنهم اعتكفوا إلا وهو صائمون.
- والدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قرن بين الصيام والاعتكاف في كتابه بقوله: - (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) -[البقرة/187].
والصواب مع الحنابلة ورجحان هذا القول بين وظاهر.
والجواب عن قول شيخ الاسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف: أنه اعتكف فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما اعتكف في سنة من السنوات اعتكف معه أزواجه كلهن فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ورأى الأخبية منتشرة في المسجد قال: آلبر أردن. فأكر بخبائه أن يزال وبأخبيتهن أن تزال وخرج من معتكفه ثم قضا الاعتكاف في شوال. فاعتكف العشر الأول من شوال.
ومن المعلوم أن العشر الأول من شوال أولها عيد والعيد لا يجوز صيامه فتبين أنه اعتكف بلا صيام.
إذاً هذا القول الذي مشى عليه المؤلف - رحمه الله - وهو مذهب الشافعية واختيار بن حزم هو الصواب إن شاء الله.
• ثم قال - رحمه الله -:
ويلزمان بالنذر.
يعني: أن الصوم والاعتكاف يصبحان واجبان على من نذر ذلك.
- لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نذر أن يطيع الله فليطعه). وهذا يشمل أي عبادة ومن ذلك الصيام والاعتكاف.
• ثم قال - رحمه الله -:
ولا يصح: إلاّ في مسجد يُجْمَّع فيه.
شمل كلام المؤلف - رحمه الله - مسألتين:
(3/27)
________________________________________
- - المسألة الأولى: أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد. وهذا القدر: أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد محل إجماع فقد أجمع العلماء أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد.
واستدلوا على ذلك:
- بقوله سبحانه وتعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) -[البقرة/187]. فربط الاعتكاف بالمسجد
- وبأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا في مسجد.
- وبما ثبت في حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اعتكف لم يدخل داره إلا لحاجته أي التي لا بد منها.
هذه هي المسألة الأولى وهي محل إجماع.
- - المسألة الثانية: قوله: (إلا في مسجد يجمَّع فيه).
يعني: يشترط في المسجد أن يجمَّع فيه أي تقام فيه الجماعات دون الجمعة فلا يشترط.
= فالحنابلة يرون أنه يشترط في المسجد الذي يعتكف فيه الانسان أن تقام في الجماعات.
الدليل:
قالوا: الدليل على ذلك:
- أنه يلزم من عدم ذلك: إما أن يترك صلاة الجماعة وهي واجبة. أو أن يخرج لها فيتكرر خروجه مما يقدح في اعتكافه لأنه يستطيع أن يتحرز عن هذا الخروج بأن يعتكف في مسجد فيه صلاة جماعة. هذا الدليل الأول.
- الدليل الثاني: أنه روي عن ابن عباس وعائشة وغيرهما أنه يشرع الاعتكاف في المسجد الذي تقام فيه الجماعة.
= القول الثاني: أنه يشترط للمسجد الذي يعتكف فيه الإنسان أن تقام فيه الجمعة.
واستدلوا على هذا:
- بقولهم: لأن لا يخرج مع إمكان التحرز من هذا الخروج.
= والقول الثالث: وهو أخص الجميع: أنه لا يصح الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة. فإن اعتكف في غيرها بطل اعتكافه.
واستدلوا على هذا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة).
ويقصد بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى.
(3/28)
________________________________________
والجواب عن هذا القول ودليله: أن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من قول حذيفة فقد دخل حذيفة - رضي الله عنه - على مسجد الكوفة الكبير فوجد الناس فيه معتكفين فقال: من أمركم بهذا فقالوا: ابن مسعود وأبو موسى فذهب منكراً وقال: لابن مسعود أعتكاف في غير المساجد الثلاثة فقال ابن مسعود: لعلك أخطأت وأصابوا. ولعلك نسيت وتذكروا.
فأخذنا من هذه القصة أن رأي ابن مسعود وأبو موسى الأشعري جواز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة.
الراجح من هذه الثلاثة أقوال: المذهب.
- أولاً: لقوة ما استدلوا به.
- ولأنه مروي عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز الاعتكاف في غير مسجد الجمعة واشتراط مسجد الجماعة.
- ولأن حديثهم - أصحاب القول الثالث - ضعيف.
واجتهاد ابن مسعود لا شك أنه أحب إلينا من اجتهاد حذيفة مع علو وفضل كلاً منهما - رضي الله عنهما - إلا أن ابن مسعود من أعلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
•
ثم قال - رحمه الله -:
إلاّ المرأة ففي كل مسجد.
يعني إلا المرأة فيجوز أن تعتكف في كل مسجد ولو في مسجد لا تقام فيه الصلوات الخمس.
ويقاس على المرأة: كل من لا تجب عليه صلاة الجماعة: كالمريض وسائر أصحاب الأعذار. فكل هؤلاء يجوز لهم أن يعتكفوا في غير مسجد جماعة.
لكن لابد في مسجد أيضاً. فيجوز لهم أن يعتكفوا في مسجد ولو كان هذا المسجد لا تقام فيه الجماعة لسبب أو لآخر.
• ثم قال - رحمه الله -:
سوى مسجد بيتها.
أي: فلا يجوز أن تعتكف فيه.
ومسجد البيت هو: المكان الذي خصصته المرأة للصلاة في بيتها.
فهذا المسجد لا يجوز أن تعتكف فيه لأمرين:
- الأول: أن المسجد عند الاطلاق ينصرف إلى المسجد المبني الذي تقام فيه الجماعة بنداء وإمام.
- الثاني: أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يعتكفن في المسجد ولو كان الاعتكاف في البيت جائز لاعتكفن في البيت لأنه أستر وأحفظ.
فبهذين الدليلين: تبين بلا شك أن المرأة لا يجوز لها أن تعتكف ببيتها وإنما تعتكف في المسجد.
• ثم قال - رحمه الله -:
(3/29)
________________________________________
ومن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة - وأفضلها الحرام فمسجد المدينة فالأقصى -: لم يلزمه فيه.
معنى هذه العبارة التي أدخل المؤلف فيها المسائل بعضها ضمن بعض.
- المسألة الأولى: وهي المقصودة الآن: أن من نذر أن يصلي أو يعتكف في مسجد من المساجد فإنه لا يلزمه أن يعتكف في هذا المسجد المنذور. بل له أن يعتكف في مسجد آخر.
- المسألة الثانية: غير الثلاثة: يعني أن هذا الحكم يستثنى منه المساجد الثلاثة فإذا نذر أن يعتكف في المساجد الثلاثة فلا بد وستأتي في كلام المؤلف.
ونبقى إذاً في هذه المسألة: من نذر أن يعتكف أو أن يصلي في مسجد غير المساجد الثلاثة فلا يلزمه أن يصلي ولا أن يعتكف في هذا المسجد بل له أن يصلي أو أن يعتكف في أي مسجد.
استدلوا على هذا:
- بأن الشارع الحكيم لم يعين موضعاً خاصاً للعبادات فلا تتعين .... ((الأذان)).
(بعد الأذان): قال شيخنا حفظه الله:
- الدليل الثاني على عدم اللزوم: أنه لو ألزمناه بما نذر للزم من ذلك أن تشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فلو نذر أن يعتكف في مسجد خارج بلدته للزمه أن يشد الرحال إلى هذا المسجد. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
= القول الثاني في هذه المسألة:
أن من نذر أن يعتكف في مسجد معين فإنه يلزمه أن يعتكف في هذا المسجد إلا إذا لزم من ذلك شد الرحال فلا يلزمه.
= والقول الثالث: أن من نذر الاعتكاف في مسجد معين فلا يلزمه إلا إذا كان نذر ذلك لمزية شرعية في المسجد ككثرة الجماعة أو قدم المسجد أو أي مزية شهد لها الشارع بالاعتبار.
وهذا اختيار شيخ الاسلام بن تيمية.
والصواب والله أعلم القول الثاني: أن من نذر أن يعتكف في مسجد معين لزمه أن يعتكف في هذا المسجد إلا إذا ترتب على ذلك شد الرحال.
والدليل على ترجيح هذا القول:
- عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نذر أن يطيع الله فليطعه).ووجوب الوفاء بالنذر يشمل أصل النذر ووصف النذر وهذا النذر موصوف بأنه في مسجد معين.
إذاً هذا القول الثاني هو الصواب.
بقينا في مسألة وهي:
• قوله - رحمه الله -:
(وأفضلها المسجد الحرام ثم النبوي ثم الأقصى).
الدليل على هذا الترتيب:
(3/30)
________________________________________
- ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة مما سواه إلا المسجد الحرام).
- وجاء في حديث جابر وصححه بعض العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة إلا المسجد الحرام فهي بمائة صلاة من مسجدي هذا وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة).
فصار الترتيب حسب دلالة هذا الحديث:
- المسجد الحرام: مائة ألف صلاة.
- والمسجد النبوي: ألف صلاة.
- والمسجد الأقصى: خمسمائة صلاة.
فهذا الترتيب في الفضل ومضاعفة الأجر في الصلاة دليل على أن المسجد الحرام هو أفضل البقاع ثم يليه المسجد النبوي ثم يليه المسجد الأقصى.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.
انتهى الدرس،،،
(3/31)
________________________________________
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بالأمس انتهينا من مسألةإذا نذر الاعتكاف والصلاة في المسجد فإنه عند الحنابلة لا يلزمه أن يعتكف أو أن يصلي قي هذا المسجد وله أن يصلي في أي مسجد شاء مع الخلاف والترجيح.
واليوم نبدأ ب:
• قوله - رحمه الله -:
وإن عين الأفضل: لم يجز فيما دونه.
قوله: وإن عين الأفضل: لم يجز فيما دونه. هذه العبارة تتعلق بالمساجد الثلاثة فقط.
وإن عين الافضل من المساجد الثلاثة لم يجز فيما دونه.
بناء على ذلك: لو نذر أن يعكتف بالمسجد الحرام فلا يجوز ولا يفي بنذره لو اعتكف بالمسجد الأقصى أو في المسجد النبوي.
ولو نذر أن يعتكف في المسجد النبوي فلا يجوز ولا يفي بنذره لو اعتكف في المسجد الأقصى.
• ثم قال - رحمه الله -:
وعكسه بعكسه.
الدليل على المسألة الأولى:
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من نذر الله فليطعه). وتقدم معنا أن هذا الحديث يوجب الوفاء بالنذر من حيث الأصل والوصف.
والوصف هنا هو: أن يعتكف في مكان معين وهو: المسجد.
• وقوله - رحمه الله -:
وعكسه بعكسه.
يعني إذا نذر أن يعتكف في المفضول جاز في الفاضل.
فلو نذر أن يعتكف في الأقصى جاز في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي.
(3/32)
________________________________________
ولو نذر أن يعتكفق في المسجد النبوي فيجوز له أن يعتكف في المسجد الحرام ولا يفي بنذره لو اعتكف في المسجد الأقصى.
والدليل على هذا:
- أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة فقال يارسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المسجد. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هاهنا فصل). فأعاد الرجل السؤال فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرة الثانية: (هاهنا فصل) فأعاد الرجل السؤال غفال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (شأنك إذاً). وهذا حديث صحيح فيه دلالة على أن الإنسان إذا نذر أن يصلي في مسجد من المساجد الثلاثة جاز له أن يصلي فيما هـ أفضل منه كما في هذه القصة.
وفي هذا الحديث دليل على أن عدم الانقياد للأحكام الشرعية والتمسك بالظاهر قديم من عهد الصحابة وإن كان هذا ليس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الملازمين له وكأنه من الذين جاءوا في فتح مكة.
المهم: الحكم الذي يهمنا الآن أنه إذا نذر الإنسان شيئاً أن يصلي أوم أن يعتكف في مسجد من الثلاثة جاز له أن يصلي في غيره.
وإنما قلنا أن هذا البحث الذي نتكلم عنه خاص بالمساجد الثلاثة لأنه تقدم معنا أن المؤلف - رحمه الله - يرى أن من نذر الاعتكاف في مسجد يجوز له أن يعتكف في مسجد آخر.
• ثم قال - رحمه الله -:
ومن نذر زمناً معيناً: دخل معتكفه قبل ليلته الأُولى.
إذا نذر الانسان أن يعتكف زماناً معيناً كالعشر الأخيرة من رمضان أو العشر الأولى من شوال أو العشر الوسطى من محرم أي زمن محدد فإن هذا الزمن يبدأ في الاعتكاف لكي يصدق عليه أنه أوفى بنذره بأن يدخل قبل ليلته الأولى.
ولنجعل المثال الذي نوضح به المسألة: أن ينذر الاعتكاف في العشر الاخيرة من رمضان فيجب عليه ليوفي نذره أن يدخل قبل مغيب الشمس من اليوم العشرين بقليل قبيل مغيب الشمس ليصدق عليه أنه من أول ليلة الواحد والعشرين موجود في المسجد.
واستدل الحنابلة على هذا الحكم بدليلين:
- الدليل الأول: أن العشر الاخيرة من رمضان تبدأ بمغيب الشمس لليوم العشرين.
(3/33)
________________________________________
- الدليل الثاني: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتكف العشر الاوسط قال للناس من اعتكف معي فليعكتف في العشر الاخيرة.
وجه الاستدلال بهذا الدليل من وجهين:
ــ الأول: أن كلمة العشر بدون الهاء هي عدد لليالي. ولا تكون الليالي عشر إلا بإدخال ليلة الواحد والعشرين.
ــ الثاني: أنه قال لهم هذا - صلى الله عليه وسلم - قبيل ليلة الواحد والعشرين.
ــ ثالثاً: هذا الدليل خاص بالعشر من رمضان ولا يصدق في غيرها من الاوقات وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما اعتكف في العشر ليوافق ليلة القدر وليلة القدر ربما تكون ليلة إحدى وعشرين فلزم من هذا أن يبقى ويعتكف في هذه الليلة ليوافق ليلة القدر.
= والقول الثاني: أن الدخول يكون في النذر الواجب بعد طلوع الفجر منم اليوم الواحد والعشرين أو في نذر العشر النفل بعد صلاة الفجر.
إذاً القول الثاني: أن يدخل إذا كان نذراً واجباً بعد طلوع الفجر مباشرة يعني قبيل طلوع الفجر يكون بالمسجد ليصدق عليه أنه من أول الفجر موجود في المسجد.
وإذا كان يعتكف تنفلاً في العشر الاخيرة فمن بعد صلاة الفجر.
والدليل على هذا القول المركب:
- أن عائشة - رضي الله عنها - قالت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل معتكفه لما صلى الفجر من اليوم الواحد والعشرين.
والجواب على هذا الحديث:
أن المقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بعد صلاة الفجر المكان الذي خصصه للاعتكاف أي اعتزل الناس واختلا بنفسه وإلا فهو في المسجد من الليل , وإنما حملنا هذا الحديث هذا المحمل للنصوص الاخرى الدالة على أن العشر تبدأ من مغيب الشمس من اليوم العشرين.
والقول الراجح إن شاء الله هو القول الاول وهو مذهب الحنابلة.
لما بين المؤلف - رحمه الله - البداية وهي قبل ليلته الاولى بين النهاية:
•
فقال - رحمه الله -:
وخرج بعد آخره.
المقصود بخرج بعد آخره يعني: بعد مغيب الشمس من آخر يوم من الايام التي نذر أن يعتكفها.
فإذا خرج في هذا الوقت فقد صدق أنه نذر أو صدق عليه أنه أوفى بنذره باعتكاف عشرة أيام.
(3/34)
________________________________________
= إلا أنه يستحب عند الحنابلة بالنسبة للعشر من رمضان أن يبيت ليلة العيد في المسجد ويخرج من المسجد إلى المصلى مباشرة ولا ينام عند أهله تلك الليلة.
واستدلوا على استحباب هذا الامر:
- بأنه مروي عن بعض الصحابة وعن جماعة من السلف.
وعللوا هذا بالاضافة إلى الآثار المروية:
- بأن في هذا القرن بين العبادتين الاعتكاف وصلاة العيد.
= القول الثاني: أنه يخرج إلى بيته إذا غابت الشمس ويذهب إلى مصلى العيد من بيته.
والقول الثاني أقرب وليس في السنة ما يدل بوضوح على استحباب بقاء المعتكف إلى أن يخرج إلى صلاة العيد فليس في السنة هذا الامر مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف مراراً ولم يأت في حديث صحيح أنه خرج من المسجد إلى مصلى العيد مباشرة.
وإن كان القول الأول وجيه ولذلك نص عليه الامام أحمد وأفتى به: أنه ينبغي ويستحب للإنسان أن يخرج من المسجد إلى مصلى العيد مباشرة وأن يبيت تلك الليلة يعني ليلة العيد في المسجد.
واعتمد الامام أحمد على الآثار المروية عن جماعة من السلف.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ولا يخرج المعتكف: إلاّ لما لابد منه.
شرع المؤلف - رحمه الله - في بيان أحكام خروج المعتكف.
وخروج المعتكف من المسجد ينقسم إلى أقسام:
ــ القسم الأول: ما ذكره المؤلف - رحمه الله - نصاً وهو قوله: (لما لابد منه) وهوأن يخرج المعتكف لأمر لابد له منه. فخروج المعتكف لأمر لا بد له منه جائز بالاجماع ولا يبطل الاعتكاف.
- لما صحة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذات اعتكف لم يخرج إلا بيته إلا لحاجته التي لابد منها.
فهذا الحديث نص على أن الانسان يخرج لحاجته التي لابد منها.
ومن أمثلة هذه الحاجة: قضاء الحاجة. إذا لم يكن في المسجد مكان لها.
الاغتسال الواجب إذا لمخ يكن في المسجد مكان له.
الطعام والشراب أذا لم يتهيأ من يحضره له وما جرى مجرى هذه الأمور كأن يحتاج إلى تناول دواء لا يمكن أن يتناوله في المسجد.
وهذه أمثلة والقاعدة أن يخرج لأمر لابد له منه ولا يستطيع أن يبقة بدنه.
فهذا هو القسم الأول وهو محل إجماع.
• ثم قال - رحمه الله -: مشيراً إلى: القسم الثاني:
ولا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة.
(3/35)
________________________________________
ــ القسم الثاني: خروج المعتكف إلى قربة إلى عبادة كزيارة مريض وشهود جنازة يعني إلى عبادة ليست واجبة.
فاختلف الفقهاء - رحمهم الله - في حكم خروج المعتكف لعبادة ليست واجبة:
= فذهب الحنابلة إلى أنه لا يجوز له أن يخرج إلا بالشرط.
واستدلوا:
- بحديث عائشة السابق.
واستدلوا أيضاً:
- بأن عائشة - رضي الله عنها - كانت إذا اعتكفت وخرجت إلى بيتها لما لابد لها منه قالت فكنت لا أسأل عن المريض إلا وأنا مارة.
فهذان نصان على أن للمعتكف لا يخرج للقرب بدون شرط.
= والقول الثاني: أن المعتكف له أن يخرج ولو لم يشترط إلى كل قربة محبوبة إلى الله سواء كانت شهود جنازة أو عيادة مريض أو صلة رحم أو أي عبادة محبوبة إلى الله.
واستدل هؤلاء:
- بأن هذا مروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن للمعتكف أن يخرج لقربة ولو لم يشترط.
والصواب كما هو واضح وظاهر مع الحنابلة لصراحة الأدلة التي تدلع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخرج إلا لأمر ضروري يحتاج إلى الخروج له.
ثم أشار المؤلف - رحمه الله - إلى القسم الثالث بـ:
• قوله - رحمه الله -:
إلاّ أن يشترطه.
وهو خروج المعتكف بالشرط.
وهذه المسألة فيها فرعان:
ــ الأول: مشروعية الشرط من حيث هو:
= ذهب الجمهور إلى أن الشرط مشروع - اشتراط المعتكف مشروع. وتنبني عليه آثاره وهي عدم بطلان الاعتكاف إذا خرج لما اشترط.
واستدلوا:
- بالقياس على الشرط في الحج. ووجه القياس: أن اللزوم في الحج أعظم منه في الاعتكاف بدليل: أن فاسد الاعتكاف لا يجب عليه قضائه وفاسد الحج يجب قضائه فاللزوم في الحج أعظم ومع ذلك جاز فيه الشرط ففي الاعتكاف من باب أولى.
= والقول الثاني: أن الشرط لا أثر له ولا يشرع فإن خرج بطل اعتكافه ولو اشترط.
واستدلوا:
- بأنه ليس في الشرع ما يدل على مشروعية الاشتراط في الاعتكاف مع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتكفوا ولم يأت عنهم ما يدل على مشروعية الاشتراط.
والصواب بإذن الله مع الجمهور الذين أجازوا الاشتراط وأما أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلعله أنه لم يحتج إلى الاشتراط. ولذلك لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله.
(3/36)
________________________________________
فالراجح هو مشروعية الاشتراط وتأثيره في الاعتكاف.
ــ الفرع الثاني: ما حدود الاشتراط.
= ذهب الحنابلة إلى أنته يجوز أن يشترط الخروج لكل قربة ولكل أمر مباح لا يتنافى مع حقيقة الاعتكاف.
أما القربة فذكرنا الامثلة فيما تقدم.
وأما الأمر المباح الذي لا ينافي الاعتكاف ف:
- كاشتراطه أن يتعشى كل ليلة عند أهله.
- أو أن يخرج ليمكث عندهم ساعة.
وأما المثال للأمر المباح الذي ينافي الاعتكاف فكاشتراط الجماع أو مباشرة الزوجة أو - وهذا المهم - أو الخروج للتجارة.
فهذه ثلاثة أمثلة على الأمر المباح الذي ينافي الاعتكاف.
فالحنابلة يرون جواز اشتراط العبادة - القربة والأمر المباح الذي لا ينافي الاعتكاف.
= القول الثاني: وهو أضيق من الأول: أنه لا يشرع الاشتراط إلا للعبادات فقط دون الامر المباح وإلى هذا ذهب الشيخ المجد بن تيمية.
والأقرب القول الأول إن شاء الله وهو مذهب أكثر العلماء لأنه ما دام أننا صححنا مشروعية الاشتراط فتضييقه يحتاج إلى دليل.
وفهم من الخلاف الذي ذكرت أنه لا قائل بجواز اشتراط التجارة.
بناء عليه: أرى أن الذين يشترطون الخروج للدوام أن اعتكافهم باطل.
لماذا؟
لأن الدوام هو نوع من التكسب والتجارة فهو عمل يدر على صاحبه مكسب سواء كان هذا العمل وظيفياً أو أخذ صبغة التجارة فإن هذا التفريق حادث يعني لا أثر إنما المقصود أن يخرج للتكسب بأي وسيلة.
بناء عليه: نقول للذين لا يستطيعوع ترك الوظائف أنه لا يشرع لكم الاعتكاف لا ينفعكم الشرط لكن الانسان إن شاء الله يبلغ الاجر بنيته وينتظر إلى أن تبدأ الإجازة ثم يشرع في الاعتكاف ولو من وسط العشر.
ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بذكر مبطلات الاعتكاف:
•
فقال - رحمه الله -:
وإن وطئَ في فرج: فسد اعتكافه.
الجماع مبطل للإعتكاف بالنص والإجماع.
- أما النص فقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة/187].
= وذهب الجمهور وعامة المفسرين إلى أن المباشرة فيث هذه الآية هي الجماع.
وممن اختاره من المحققين الذين لأقوال أثر وثقل ابن جرير الطبري - رحمه الله -. اختار أن المقصود بالمباشرة في الآية هو الجماع.
إذاً الجماع لا إشكال فيه.
(3/37)
________________________________________
المسألة الثانية: المباشرة. المباشرة: مباشرة الزوجة محرمة بالإجماع ولكن اختلفوا هل تفسد أو لا تفسد؟
= فمن الفقهاء من قال تفسد قياساً على الجماع.
= ومنهم من قال: المباشرة محرمة ولكنها لا تفسد الاعتكاف.
واستدلوا على هذا:
- بأن المباشرة لا تفسد الصيام فمن باب أولى أن لا تفسد الاعتكاف. لأن عبادة الصيام أعظم وألزم من الاعتكاف فإذا لم يبطل الصيام المباشرة فكذلك في الاعتكاف.
وعرفنا من المسألة الثانية أن هناك فرقاً كبيراً بين المباشرة في الصيام والمباشرة في الاعتكاف.
- المباشرة في الاعتكاف محرمة بالإجماع.
- بينما المباشرة في الصيام فالصواب أنها جائزة إلا إذا خشي على نفسه. هي: والقبلة واللمس كما تقدم معنا.
بقينا في:
مسألة / الاستمناء.
إذا استمنى ثم أنزل فاختلف الفقهاء هل يفسد أو لا يفسد.
= والجمهور رأوا أن الاعتكاف يفسد.
= والقول الثاني: أنه لا يفسد.
- قياساً على المباشرة التي لا تفسد إذا كانت بدون إنزال.
والأحوط للمعتكف الذي صنع هذا الصنع أن يجدد نية الاعتكاف. لأن الأقرب بطلانه في مثل هذا العمل.
أيضاً نضيف من المبطلات: وهو أشار إليه المؤلف ولذلك لم نذكره مع المبطلات:
- الخروج: إذا خرج الإنسان من الاعتكاف في الحال التي لا يجوز له أن يخرج فيها على التقسيم السابق بطل اعتكافه.
والدليل على بطلان الاعتكاف:
- حديث عائشة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج إلا لحاجته ففي هذا دليل على أن الخروج يبطل.
- كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت له حاجة ليست شديدة فإنه لا يخرج كما في الحديث الصحيح أن عائشة كانت تمشط له شعره - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد.
واختلف الفقهاء في المقدار الذي إذا خرجه المعتكف بطل اعتكافه:
= فذهب الجمهور إلى أن خروج المعتكف خروجاً لا يجوز له يبطل الاعتكاف ولو قل.
فإذا خرج فعليه أن يستأنف الاعتكاف.
= وذهب الأحناف إلى أن الخروج الذي بطل هو الذي يكون نصف يوم فأكثر.
واستدلوا على هذا:
- بأن ما دون نصف اليوم يسير واليسير لا حكم له.
وكأن الاحناف كأنهم يتكلمون عن من أراد أن يعتكف عشرة أيام لأن الإمسان إذا اعتكف عشرة أيام صار نصف اليوم يسيراً.
(3/38)
________________________________________
لكن من أراد أن يعتكف يوماً فنصف اليوم في حقه كثير.
فأنا لم أر أنهم صرحوا أن مقصودهم إذا اعتكف في العشر لكن فيما يظهر أن هذا مرادهم.
وعلى كل حال الراجح مذهب الجمهور. لأن النصوص عامة. وهي تفيد أن الخروج يبطل والتخصيص بأي مخصص وتحديد أي مقدار بلا دليل ظاهر لا يمكن المصير إليه.
•
ثم قال - رحمه الله -:
ويستحب: اشتغاله بالقرب.
يستحب للمعتكف أن يشتغل أثناء الاعتكاف بالقرب ويتأكد في حقه جداً لأن هذا هو الغرض من الاعتكاف.
والقر ب يقصد بها بالدرجة الأولى: - قراءة القرآن. - والتبتل. - والالحاح في الدعاء. - والتفكر في آيات الله. وما جرى مجرى هذه العبادات التي تسبب خضوع القلب والخشوع.
مسألة / واختلف الققهاء: هل من ذلك تدريس العلم أو لا؟
= فذهب الإمام مالك - رحمه الله - والإمام أحمد - رحمه الله - إلى أنه لا يستحب أن يشتغل المعتكف بتدريس العلم.
= وذهب الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي إلى أن هذا مستحب.
والراجح بوضوح القول الأول وهو أنه لا يستحب الاشتغال بالعلم أثناء الاعتكاف وإنما يجعل المعتكف اعتكافه للعبادة ونفع القلب.
والدليل على هذا:
- أن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ومن أرسل ليعلم الناس لم يكن يشتغل بالتعليم في الاعتكاف وإنما كان يخلو بنفسه ويبتهل ويجتهد في الدعاء.
• ثم قال - رحمه الله -:
واجتناب ما لا يعنيه.
يستحب لكل أحد أن يجتنب ما لا يعنيه ويتأكد هذا في حق المعتكف.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
ومما يتأكد جداً تركه في الاعتكاف المراء والنقاش والجدال فإن هذه الأمور تؤدي إلى ضد المقصود من الاعتكاف فهي تقسي القلب وتبعده عن الله.
وسواء كان الجدال والمراء في العلم أو في غيره وسواء قلنا يستحب الاشتغال بالعلم أو لا يستحب فعلى جميع هذه الأقوال فإن الجدال مذموم وهو مما يقسي القلب ومثله المراء وما جرى مجرى هذه الألفاظ مما يشغل ويقسي القلب.
وبهذا المقدار انتهى الكلام على باب الاعتكاف وبه ولله الحمد انتهى الكلام على كتاب الصيام ونبدأ بالكلام على كتاب المناسك.
يتبع الدرس = كتاب المناسك.
(3/39)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (1)
كتاب المناسك
- قال - رحمه الله -:
كتاب المناسك.
جعل المؤلف - رحمه الله - المناسك في آخر العبادات:
- لتتوافق مع حديث: "بني الإسلام على خمس" فإنه جعل الحج آخر الأركان. هذا من جهة.
- ومن جهة أخرى: أن الأركان الأخرى تتكرر في كل سنة بينما الحج فيجب في العمر مرة واحدة فناسب أن يؤخر.
- وقوله - رحمه الله -:
كتاب المناسك.
المناسك: جمع منسك. والمنسك ينطق: بالفتح وبالكسر.
- فإن نطقته بالفتح: فالمقصود المصدر أي التعبد لله.
- وإن نطقته بالكسر: فالمقصود مكان العبادة.
والمناسك مأخوذة من: الذبيحة. ويقصد بالذبيحة: النسيكة - يقصد بها هنا -: التي تذبح تقرباً إلى الله.
ثم توسع مدلول هذا اللفظ ليشمل جميع العبادات، ولذلك يسمى العابد ناسكاً، ثم أصبح هذا الاسم علماً على الحج:
- لكثرة الأعمال والعبادات فيه.
- ولكثرة ما يراق فيه من الدماء.
فإذاً: هذا هو معنى المناسك.
• وأما الحج فهو:
- في اللغة: قصد ما يعظم.
وإنما عرفنا الحج:
- لأن بعض أهل العلم يقول: كتاب الحج.
- وبعض أهل العلم يقول: كتاب المناسك.
- وبعض أهل العلم - وكلهم من الحنابلة - يقول: كتاب الحج والمناسك.
والأمر واحد لكن لما اختلف التعبير رأيت أن أذكر تعريفاً لكل منهما، فالحج هو: قصد ما يعظم.
ومن القصور أن نقول: الحج هو القصد فقط، فإن القصد المطلق لا يسمى حجاً فلابد أن يقصد الإنسان شيئاً معظماً، بل إن بعضهم قال لا يسمي الحج حجاً إلا إذا قصدت شيئاً معظماً مكرراً، يعني إذا صار يعتاد المجيء إلى هذا المعظم سمي حجاً، وهذا في اللغة.
- أما في الاصطلاح:
فهو: قصد مكة لأداء المناسك في وقت مخصوص.
- ثم قال - رحمه الله -:
الحج والعمرة واجبان.
الحج واجب في: الكتاب والسنة والإجماع.
- أما الكتاب فقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}
- وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. إلى أن قال .. وحج بيت الله الحرام).
(3/40)
________________________________________
- وأما الإجماع فحكاه عدد من أهل العلم بأن الحج واجب.
والحج أعظم وأكبر من أن يكون واجباً بل هو ركن من أركان الإسلام.
والحج مفروض في السنة التاسعة. والقول بأنه مفروض في السنة التاسعة هو مذهب الجمهور واختاره من المحققين ابن القيم - رحمه الله -.
والدليل على ذلك:
- أن الآية الدالة على وجوب الحج نزلت في صدر سورة آل عمران. وصدر سورة آل عمران أيضاً جاء فيها إيجاب الجزية وهي متوافقة مع الوفود الذين وفدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل ذلك كان في السنة التاسعة.
- ثم قال - رحمه الله -:
والعمرة: واجبان.
= ذهب الحنابلة إلى أن العمرة أيضاً واجبة.
واستدلوا بأدلة:
- الدليل الأول: قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله}.
والجواب عليه: أن الآية أمرت بالإتمام ولم تأمر بأصل الفعل. فهناك فرق بين إتمام الفعل بعد الشروع وبين إيجاب الشروع به.
- الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سأله النساء هل على النساء من جهاد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة). وجه الاستدلال: أن على - كما قال الأصوليون - تأتي للوجوب - وهو يقول: (عليهن).
والجواب عليه: أن لفظة: (والعمرة) شاذة ولذلك أخرج البخاري - رحمه الله - هذا الحديث بدون قوله: (والعمرة)، وإنما قال: (عليهن جهاد لا قتال فيه: حج مبرور). ولم يذكر العمرة.
- والدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (العمرة حج أصغر أو الحج الأصغر). وهو لفظ جاء في كتاب عمرو بن حزم وهو كتاب تلقته الأمة بالقبول.
- والدليل الأخير: قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي رزين: (حج عن أبيك واعتمر).
= القول الثاني: أن العمرة واجبة على الآفاقي ولا تشرع للمكي.
ومنهم من قال: واجبة على الآفاقي وليست بواجبة على المكي.
واستدلوا على هذا:
- بأن ابن عباس كان يرى وجوب العمرة وكان يقول لأهل مكة ليس عليكم عمرة.
- والدليل الثاني: أن الركن الأعظم للعمرة هو الطواف وأهل مكة يكثرون من الطواف.
= والقول الثالث: أن العمرة ليست بواجبة بل مندوبة.
واستدل هؤلاء بأدلة:
(3/41)
________________________________________
- الدليل الأول: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر وجوب الحج لم يذكر معه وجوب العمرة فقال: {ولله على الناس حج البيت}. ولم يذكر العمرة بينما لما كان إتمام العمرة واجبة ذكرها فقال {وأتموا الحج والعمرة لله}. فكونه تعالى يذكر العمرة في الإتمام دون الوجوب دليل على أنها لا تجب.
- الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج وحج معه أمم لا يحصون كلهم لأداء الفريضة: ومنهم المفرد. ومع ذلك لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المفردين:
- لا بأن يعتمروا بعد الحج.
- ولا بأن يرجعوا بعد ذلك ليؤدوا العمرة وقد انصرفوا وهم يرون أنهم قد أدوا فرض الله فهذا دليل على أن العمرة ليست بواجبة.
- الدليل الأخير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر وجوب الحج ولم يذكر وجوب العمرة كما في حديث: (بني الإسلام على خمس).
وأوضح منه في الدلالة:
- الرجل الذي جاء يسأله - صلى الله عليه وسلم - عن شعائر الإسلام فأمره بالصلاة والزكاة والحج فقال الأعرابي: لا أزيد على ذلك. ولم يأمره بالعمرة.
بناء على هذه الأدلة التي أرى أنها قوية جداً وواضحة وهي تنصرف للأصول:
أرى أن القول بعدم الوجوب هو الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام بن تيمية وذلك:
- لوضوح الأدلة الدالة على عدم الوجوب.
- وأن الأصل براءة الذمة.
- ثم قال - رحمه الله -:
على المسلم الحر المكلف القادر.
يريد المؤلف - رحمه الله – أن يبين شروط الوجوب، فإنه لما بين أن الحج واجب أراد أن يبين: شروط الوجوب.
- فقال - رحمه الله -:
على المسلم.
يشترط لوجوب الحج أن يكون: الشخص مسلماً.
- لأن العبادة لا تقبل من غير المسلم.
- ولقوله تعالى: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله}.
فدلت الآية على: أن المانع من قبول النفقة وهو نوع من العبادة: الكفر. والحج عبادة بدنية مالية.
وشرط الإسلام:
- شرط وجوب وصحة.
وتقدم معنا المقصود بقول الفقهاء - رحمهم الله -: أنه لا يجب على الكافر العبادة الفلانية أو العبادة الأخرى.
وأن المقصود ليس عدم المؤاخذة أو عدم التأثيم أو عدم المحاسبة يوم القيامة، وإنما المقصود عدم المطالبة بالأداء أو القضاء.
(3/42)
________________________________________
- ثم قال - رحمه الله -:
الحر.
الحرية شرط لوجوب الحج وإجزائه وليست شرطاً لصحته.
الدليل على اشتراط هذا الشرط:
- - أن العبد منافعه مملوكة لسيده فالزمن ليس له وإنما لسيده.
- - ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه ابن عباس: (أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام).
واختلفوا في هذا الحديث:
= فمنهم من حكم عليه: بالوقف.
= ومنهم من حكم عليه: بالرفع.
وبكل حال هو حجة لأنا لو حكمنا عليه بالوقف فهو فتوى صحابي ليس لها مخالف وتحتمل بقوة حكم الرفع.
بناء على هذا: نقول إذا حج العبد ثم عتق: فيجب عليه أن يحج حجة الإسلام، وكذلك الصبي.
- ثم قال - رحمه الله -:
المكلف.
المكلف هو: البالغ العاقل، فهذا لا يجب عليه أن يحج.
والتكليف: شرط وجوب وإجزاء دون الصحة.
والدليل على اشتراط هذا الشرط:
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة: - وذكر منهم - المجنون حتى يفيق والصغير حتى يبلغ).
بناء عليه:
• إذا أفاق المجنون وقد حج فنقول له: عليك حجة الإسلام.
• وإذا بلغ الصبي وقد حج فنقول له: عليك حجة الإسلام.
وهذا مبني على تصحيح حج المجنون:
= فمن الفقهاء من قال: المجنون لا يصح منه الحج. لا منه ولا من وليه فلا يصح منه مطلقاً.
= ومنهم من قال: المجنون يشبه تماماً الصبي غير المميز. فإذا صح حج الصبي غير المميز فيصح أن يحج المجنون وينوي عنه وليه، وهذا القياس جلي وواضح.
والراجح إن شاء الله: أن حج وعمرة المجنون إذا تولاه الولي صحيح وله الأجر يوم القيامة أي: للمجنون. كما أن الصبي غير المميز له الأجر يوم القيامة.
- ثم قال - رحمه الله -:
القادر.
من شروط وجوب الحج: القدرة.
وشرط القدرة من الشروط الذي سيفصل فيه المؤلف - رحمه الله - تفصيلاً طويلاً لكن اشتراط القدرة من حيث هو: مجمع عليه.
- لقوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلا}.
فإذا لم يستطع لأي سبب مما سنذكره إذا تعرض المؤلف - رحمه الله - لتفصيل هذا الشرط فإنه لا إثم عليه إن شاء الله.
- ثم قال - رحمه الله -:
في عمره مرة.
اتفق الفقهاء: على أن وجوب الحج في العمر مرة وأن من أدى فرضه فلا يجب عليه أن يحج مرة أخرى.
(3/43)
________________________________________
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الناس وبين وجوب الحج قال له رجل: أفي كل عام هي يا رسول؟ الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا. ولو قلت نعم لما استطعتم).
فهذا الدليل نص على: أن الحج يجب في العمر مرة واحدة.
- ولقوله فيما يروى عنه - صلى الله عليه وسلم -: (من حج مرة فما زاد فهو تطوع).
وعلى كل حال كون الحج يجب في العمر مرة واحدة: محل إجماع. ودل عليه الحديث الصحيح الذي ذكرت.
-
ثم قال - رحمه الله -:
على الفور.
يعني: أن من استطاع أن يحج ولم يحج فهو آثم لأن الحج يجب على الفور.
والدليل على أن الحج يجب على الفور من وجهين:
- الوجه الأول: أن الصواب في مسألة الأوامر أنها على الفور.
وهي مسألة أصولية ستأتيكم مطولة وهي مهمة جداً، فالأصل: أنه إذا أمر الإنسان بأمر فإن المقصود به أن يأتي به على الفور.
- الوجه الثاني: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (من وجد يسراً ثم لم يحج فلا عليه إن شاء أن يموت يهودياً أو نصرانياً).
وفي الباب آثار كثيرة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على أن الحج واجب على الفور.
- ثم قال - رحمه الله -:
فإن زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة ... صح فرضاً
إذا زال المانع في عرفة صح حجه فرضاً.
والدليل على صحة حج الصبي إذا بلغ والمجنون إذا أفاق [والعبد إذا أعتق] من وجهين:
- الوجه الأول: أنه أتى بالمناسك وبركن الحج وهو عرفة وهو على صفة الكمال. وصفة الكمال هنا البلوغ والحرية.
- الوجه الثاني: أن ابن عباس أفتى من بلغ أو أفاق من الجنون أنه إن أفاق بعرفة صح حجه فرضاً وإن أفاق ليلة جمع بقي نفلاً.
فإذاً الدليل: أثر عن ابن عباس والتعليل الذي ذكرت.
ويلحق بما ................ ((انقطاع في التسجيل)).
.... لأنه تبين أن إحرامه كان على جهة الفريضة وهذا الخلاف لا أثر له على صحة النسك وأنه يجزئ عنه فريضة، إنما الخلاف فيما قبل يوم عرفة هل يبقى نفلاً؟ أو ينقلب إلى فرض، والأمر يسير.
وثمرة الخلاف أكثر ما تكون في الأجر فإن ثواب الفرض أعظم من ثواب النفل.
انتهى التسجيل ......
(3/44)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (2)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا في درس الأمس الكلام عن: إذا زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة والأحكام التي تتعلق بهذه المسألة.
- ثم قال - رحمه الله -: في المسألة التالية:
وفي العمرة قبل طوافها: صح فرضاً.
أي إن زالت هذه الموانع بعد الإحرام بالعمرة وقبل الشروع في الطواف أيضاً: صحت فرضاًَ، فإن شرع في الطواف أو طاف وانتهى: ثبتت نفلاً ولم تنقلب فرضاً، فيشترط لصحة وقوع العمرة فرضاً أن يزول المانع قبل البدء بالطواف.
- لأن طواف العمرة هو الركن الأكبر فيها وغالب أعمالها كما تقدم معنا في الدرس السابق.
- وقوله - رحمه الله -:
صح فرضاً.
هذا بناء على المسألة السابقة وهي: أن العمرة واجبة.
- ثم قال - رحمه الله -:
وفعلهما من الصبي والعبد: نفلاً.
قوله: وفعلهما من الصبي ... : نفلاً.
يعني: ويصح حج الصبي وأن يعتمر ويصبح نفلاً.
والصبي ينقسم إلى قسمين:
1 - مميز. 2 - وغير مميز.
- فالمميز ينوي هو بنفسه. ويأتي بما يستطع من واجبات وأركان الحج.
وما لا يستطيع منها يؤديه عنه وليه.
- وأما: غير المميز: فغير المميز: لا نية له ويؤدي النية عنه الولي. ثم يؤدي الصبي ما استطاع من الأعمال ويقوم الولي بما لم يستطع من الأعمال.
* * مسألة/ وهي مهمة وتكثر الحاجة إليها:
* إذا كان الصبي غير المميز لا يستطيع أن يطوف *
- فالحكم: أن يطوف به وليه. فإن كان الولي محرماً أيضاً: فإن الولي سيحمل الطفل ويطوف به. ونحن نتكلم عن الطفل غير المميز لأنا انتهينا من الكلام عن الطفل المميز.
* فإذا حمل الولي الطفل غير المميز وطاف به:
فاختلف أهل العلم في هذا الطواف هل يكون للحامل؟ أو للمحمول؟ أو لهما؟
= فالقول الأول: أن هذا الطواف: لهما. فيجزئ عن الولي الحامل وعن الصبي المحمول.
واستدل هؤلاء:
- بأن المرأة التي رفعت صبياً وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - ألهذا حج؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نعم ولك أجر).
(3/45)
________________________________________
ولم يبين أنها إذا حملته وهي محرمة فإنه لابد أن تأتي بطواف لها وبطواف له. فإن هذا القدر لم يذكر في الحديث.
=والقول الثاني: أنه يكون للحامل دون المحمول. يعني: للولي دون الصبي.
واستدلوا على هذا:
- بأن العمل الواحد لا يكفي عن واجبين إذا كان بنية واحدة.
فالآن الناوي والطائف هو: الولي. وليس من الصبي: عمل ولا نية ولا يمكن أن يكون العمل الواحد يكفي عن فرضين بنية واحدة.
= والقول الثالث: أنه يصح عن الصبي - عن المحمول دون الحامل وهو الولي.
- وقالوا: أنه في هذه الصورة صار الحامل كالآلة والحكم للمحمول.
والقول الصواب إن شاء الله: أن الطواف عن الصبي غير المميز إذا نوى عنه الولي يصح عنه وعن الولي. يعني: الراجح القول الأول.
وسبب الترجيح:
- أن المسلمين ما زالوا يطوفون بأطفالهم وبصبيانهم ولم يأت في الشرع قط ما يدل على أن الولي يحتاج أن يطوف أولاً عن نفسه ثم عن الصبي أو يطوف عن الصبي أولاً ثم عن نفسه بل ما زال الناس يطوفون طوافاً واحداً وهم يحملون الأطفال.
وهذا التعليل يتوافق مع عموم حديث المرأة التي استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حج الصبي.
وممن رجح هذا القول: أنه يجزئ عنهما:
- الشيخ الفقيه ابن المنذر - رحمه الله -.
- وأيضاً الفقيه الحافظ ابن حزم - رحمه الله -.
- وأيضاً مال إليه ابن قدامة - رحمه الله -.
وما ذهب إليه هؤلاء في الحقيقة قوي جداً وواضح.
- ويضاف إلى الأسباب التي ذكرت: ما في هذا القول من التيسير على كثير من الناس الذين يحتاجون أن يطوفوا بأبنائهم وهم محرمون.
- ثم قال - رحمه الله -:
والعبد.
يعني: ويصح حج العبد وعمرته. وتكون كما تقدم معنا نفلاً ويحتاج إذا عتق أن يأتي بحجة الإسلام.
والدليل على صحة حج العبد:
- أنه أهل للعبادة ويخلو من الموانع. فصحت عبادته.
ولكن يشترط بالنسبة للعبد: أن يأذن السيد. لأنه تقدم معنا أن منافع العبد مستحقه للسيد.
- ثم قال - رحمه الله -:
والقادر: من أمكنه الركوب ووجد زاداً ومركوباً صالحين لمثله.
بدأ المؤلف - رحمه الله - بتفصيل الشرط الخامس الذي تقدم معنا وهو: القدرة على الحج.
- فبدأ بقوله - رحمه الله -:
والقادر: من أمكنه الركوب.
(3/46)
________________________________________
من أمكنه الركوب هو: القادر.
- ومن لم يستطع الركوب لأي سبب من الأسباب: سواء كان لمرض عارض أو لصفة جسدية دائمة إذا كان لا يستطيع أن يركب: فإنه لا يجب عليه أن يحج: لأنه لن يستطيع أن يصل إلى المشاعر إلا بالركوب.
وهذا الشرط:
• يتعلق بالشخص البعيد عن مكة.
• أما بالنسبة للقريب الذي يستطيع أن يصل عادة وهو ما كان دون مسافة القصر فإنه لا يشترط له ذلك إذا كان يستطيع أن يمشي إلى مكة.
ثم بين الشرط:
- فقال - رحمه الله -:
ووجد زاداً ومركوباً.
= ذهب الحنابلة والجماهير إلى أن الاستطاعة تحصل بملك الزاد والراحلة.
الحنابلة والشافعية والأحناف وجماعة كبيرة من السلف ذهبوا إلى أن الاستطاعة المذكورة في الآية هي: أن يجد الزاد والراحلة.
بناء على هذا:
مناط الوجوب عند هؤلاء أن يجد مالاً. وهو ما صرح به الإمام أحمد - رحمه الله -، فإن لم يجد مالاً يشتري به الزاد والراحلة أو لم يوجد عنده أصلاً الزاد والراحلة فإنه لا يجب عليه أن يحج ولو كان قادراً ببدنه.
إذاً: يجب أن تفهم أن مناط الوجوب عند هؤلاء وجود المال الذي يستطيع به أن يحج بواسطة الزاد والراحلة.
الدليل على هذا:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَ قوله تعالى {من استطاع إليه سبيلا}. فقال: (السبيل: الزاد والراحلة).
وهذا الحديث جاء عن جماعة من الصحابة بطرق كثيرة موصولة، ومرسلة مرفوعة وموقوفة ضعيفة وضعيفة جداً وجاء من طرق كثيرة جداً وأفتى به الحسن البصري ناسباً إياه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - واحتج به الإمام أحمد.
فالأقرب والله أعلم أن أحاديث الزاد والراحلة: تصلح للاحتجاج بمجموعها وبكثرتها واختلاف المخارج وإفتاء السلف بها فكل هذه الأمور تدعم وتقوي أن حديث الزاد والراحلة يصلح للاحتجاج.
بناءً على هذا:
• من ملك زاداً وراحلة وجب عليه أن يحج.
• ومن لم يملك الزاد والراحلة فإنه لا يجب عليه أن يحج ولا يأثم بذلك.
= القول الثاني: وهو للمالكية فقط قالوا - رحمهم الله - أن الاستطاعة هي أن يتمكن من الوصول إلى الحرم بلا مشقة زائدة عن السفر المعتاد ولو مشياً.
• فلا يشترط الراحلة إذا كان يستطيع أن يصل ببدنه.
(3/47)
________________________________________
• ولا يشترط الزاد إذا كان يستطيع أن يتكسب أثناء الطريق وفي مكة بأي وسيلة كان التكسب.
واستدلوا على هذا:
- بأن هذا الشخص يصدق عليه أنه مستطيع.
- وأن أحاديث الزاد والراحلة ليست صحيحة.
والصواب إن شاء الله وبوضوح مع الجمهور.
سبب الترجيح: أن الله سبحانه وتعالى في الحج خاصة اشترط الاستطاعة: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران/97]. ولم نجد أن الله سبحانه وتعالى اشترط الاستطاعة في الزكاة أو في الصيام أو في الصلاة أو في سائر العبادات. مع العلم أن شرط الاستطاعة موجود في كل العبادات.
ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً).
فإذا وجدنا أن الله سبحانه وتعالى نص على اشتراط الاستطاعة في الحج دون سائر العبادات عرفنا أن هذا الشرط هو قدر زائد عن المشترط في العبادات الأخرى ولا يكون إلا بالمال.
بالإضافة كما لا يخفاكم إلى حديث: الزاد والراحلة وأنه يصلح للاحتجاج وأفتى به جماعة من الفقهاء.
بناءً على هذا: من لم يجد الزاد والراحلة لا يجب عليه أن يحج. ففي وقتنا هذا إذا لم يتمكن من الحصول على وسيلة نقل يصل من خلالها إلى مكة أو لم يجد مالاً يكفيه للأكل والشرب من خروجه من بيته إلى رجوعه فإنه لا يجب عليه أن يحج وقد سقط عنه الفرض ويصدق عليه أنه لا يستطيع.
- ثم قال - رحمه الله -:
صالحين لمثله.
يعني: يجب أن تكون:
- الراحلة صالحة لمثله.
- والزاد صالحاً لمثله.
والراحلة التي تصلح لمثله: يتحقق هذا بوجهين:
- الوجه الأول: أن يكون الشخص لا يستطيع أن يركب على الراحلة إلا بوجود المحمل فإن ركب في غير محمل سقط. فالراحلة التي ليست لها محمل لا تصلح لمثله.
- الوجه الثاني: أن يكون نوع المركوب لا يصلح لمثله لكونه كان من الشرفاء أو من الأغنياء أو من الوجهاء ممن لا يناسب معه أن يركب هذا المركوب.
إذاً: فسرت مسألة أن يكون المركوب صالحاً لمثله بهذين الأمرين.
بالنسبة للزاد: فكذلك:
- الأمر الأول: أن لا يجد زاداً يصلح لمثله مما اعتاد على أكله وهو مناسب لمستواه المادي.
(3/48)
________________________________________
- الأمر الثاني: أن لا يجد زاداً يصلح لمثله من حيث مرضه. يعني: لا يجد - مثلاً لو افترضنا أنه لا يجد - في الحج أكلاً يناسب واقعه الصحي ولا يجد إلا أكلاً لو أكله لتضرر به كمرضى السكر والضغط على سبيل المثال.
فهذا لم يجد زاداً يصلح لمثله.
= القول الثاني: أنه لا يشترط أن تكون الراحلة والزاد تصلح لمثله بل متى وجد أي راحله أو أي زاد وجب عليه أن يحج سواء كانت من المستوى المناسب لحاله أو من المستوى الذي لا يناسب حاله.
والراجح والله أعلم. أنه يشترط أن تكون الراحلة والزاد مناسبة لحاله بالمعنى الأول دون المعنى الثاني.
يعني:
• يشترط في الأكل أن يناسبه من حيث المرض والصحة.
• ويشترط في الراحلة أن يستطيع أن يركبها بأن لا يسقط أو يتضرر.
أما المعنى الثاني: وهي أن تكون مناسبة لمثله من حيث الشرف والغنى والوجاهة فهذا غير معتبر.
- ثم قال - رحمه الله -:
بعد قضاء الواجبات.
= يعني: أن الشرط يتحقق: إذا وجد المال الزائد عن قضاء الواجبات فإن كان لا يملك إلا مالاً يقضي به الواجبات فليس بمستطيع للحج.
ويقصد بالواجبات هنا: الديون الحالة أوالمؤجلة التي لله أو للآدمي. ويقصد بها الزكاة التي لم تخرج من ذمته ويقصد بها الكفارات مهما كان نوع الكفارة.
فهذه ثلاثة أنواع: - الديون. - والزكوات. - والكفارات.
- فمن كان عليه دين يستغرق ما بيده من المال لم يجب عليه الحج.
= والقول الثاني: أن الدين إذا كان مؤجلاً ويتمكن من أداء الدين بعد رجوعه من الحج من تكسبه بصنعة معينة أو بوجود راتب وظيفة يأتي منتظماً فإنه يجب عليه أن يحج ويعتبر مستطيعاً.
- لأن هذا الدين لا يطالب به حالاً وهو يتمكن من الأداء بعد الحج.
ولعل هذا القول أقرب والله أعلم.
بناء عليه: الذين عليهم أقساط سواء كانت هذه الأقساط للسيارات أو للبيوت، والذين عليهم أقساط للبنك العقاري والذين عليهم ديون لأناس يمهلونهم ويقبلون بالسداد المقسط فكل هؤلاء يجب عليهم أن يحجوا إذا وجدوا مالاً يكفي لحج هذه السنة، بشرط كما تقدم: أن يكونوا من الذين يستطيعون قضاء الديون إذا رجعوا.
- ثم قال - رحمه الله -:
والنفقات الشرعية.
(3/49)
________________________________________
يشترط في المال الذي يجب أن يحج الإنسان إذا وجد عنده: أن يكون زائداً عن النفقات الشرعية.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول).
ويقصد بالنفقات: نفقة الرجل ونفقة جميع من يعول. أي نفقة الرجل ومن يجب عليه أن ينفق عليه.
* * مسألة/ هل يشترط أن توجد النفقة من ذهابه إلى رجوعه فقط؟ أو يجب أن توجد النفقة على الدوام؟
= من الفقهاء من قال: يجب أن توجد النفقة على الدوام.
فلا يجب عليه أن يحج إلا وقد أمن نفقته ونفقت أولاده على الدوام. إما بصنعة أو بإيجار أو بأي طريقة.
= والقول الثاني: أن الواجب أن يؤمن نفقته ونفقة من يعول إلى أن يرجع من الحج فقط. ثم إذا رجع سعى في تحصيل النفقة.
وهذا القول الثاني: هو الأقرب والله أعلم. أنه لا يجب عليه تحصيل النفقة على الدوام.
وقال بعض المحققين أن هذا القول: (يشترط النفقة على الدوام)، يؤدي إلى عدم وجوب الحج على عامة الناس لأن كثيراً من الناس لا يملك النفقة على الدوام - يعني: نفقته لمدة سنين - فكثير من الناس لا يملكها في هذا الوقت الحاضر، وهذا يؤدي إلى عدم وجوب الحج على كثير من الناس وهذا من أوجه ضعف هذا القول.
- ثم قال - رحمه الله -:
والحوائج الأصلية.
أي: يجب أن يكون المال الذي يحج به زائداً عن الحاجات الأصلية وإلا لم يجب عليه الحج.
والحاجات الأصلية هي: التي لا يستغني عنها الإنسان ويحتاج إليها ولو لم تكن من الضروريات: كالمسكن والملبس والمركب والخادم وآلة العمل والكتاب الذي يقرأ فيه ونحو هذه الأمور التي يحتاج الإنسان إليها حاجة ملحة ولو لم تكن ضرورية.
فإن كان عند الإنسان متاعاً زائداً عن حاجته الأصلية وجب عليه أن يبيعه وأن يحج به، مثل: أن يكون عند الإنسان أكثر من بيت أو أكثر من سيارة أو أكثر من أرض أو أن يكون عنده داخل البيت أغراض كثيرة لا تمس الحاجة إليها.
بل إن الفقهاء - رحمهم الله - مثلوا بمن يجد أو بمن يوجد عنده كتابان - يعني: نسختين من كتاب واحد - فيجب أن يبيع إحدى النسختين ليحج.
وهذا تدقيق منهم - رحمهم الله - أن الإنسان لا يجوز له أن يترك الحج وهو يملك من المتاع ما يستطيع أن يبيعه ويؤدي به فريضة الحج.
(3/50)
________________________________________
- ثم قال - رحمه الله -:
وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه: لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا.
معنى هذه العبارة: أن الإنسان إذا اكتملت فيه جميع شروط الوجوب السابقة - وهي خمسة إلا أنه لا يستطيع لكونه مريضاً أو لكونه شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يحج ففي هذه الحالة يجب عليه وجوباً أن ينيب من يحج عنه الفريضة.
وهذا الذي يسميه الفقهاء: المستطيع بغيره، فهو لا يستطيع بنفسه لكنه يستطيع بغيره.
ويشترط لوجوب الإنابة على هذا الشخص: أن يجد مالاً ونائباً وإلا لم يجب عليه أن ينيب.
• فإن وجد نائباً ولم يجد مالاً: لم يجب عليه الحج بالإجماع.
• وإن وجد مالاً ولم يجد نائباً: لم يجب عليه الحج.
لكن اختلفوا في هذه المسألة:
هل إذا وجد المال ولم يجد النائب تخلف في حقه شرط الوجوب أو شرط الأداء؟
والفرق بينهما:
- أن شرط الوجوب إذا تخلف لم يجب في ذمته شيء أصلاً.
- بينما شرط الأداء تكون العبادة واجبة في ذمته لكن لا يجب عليه أن يؤديها الآن، فإن مات وجب على الورثة أن يخرجوا من ماله من يحج عنه. يعني تبقى في ذمته.
والصواب إن شاء الله: أن تخلف النائب أو عدم وجود النائب يعتبر إخلال بشرط الوجوب لا بشرط الأداء: لأنه يصدق عليه أنه لا يستطيع.
بناء عليه: من مات وهذه حاله فلا يجب على الورثة أن يخرجوا من التركة من يحج عنه لأنه لم يجب عليه أصلاً.
وعلى القول الثاني: يثبت في ذمته وجوب الحج فإن مات قبل أن يتمكن من وجود النائب وجب على الورثة أن يقيموا من يحج عنه.
= القول الثاني: - في أصل المسألة - أن من لم يستطع بنفسه واستطاع بماله لا يجب عليه أن ينيب ولو ملك مالاً كثيراً. وإلى هذا ذهب الإمام مالك - رحمه الله -.
واستدل:
- بقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران/97]. وهذا لا يستطيع إليه سبيلاً. فهو بنفسه لا يستطيع إليه سبيلاً فسقط الوجوب.
والراجح والله أعلم مع الجمهور وهو القول الأول:
- لما ثبت في الصحيح أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع الثبوت على الراحلة. أفأحج عنه؟ قال: (حج عنه).
(3/51)
________________________________________
فدل هذا الحديث على: أن هذا الشيخ الكبير الذي يجد المال لكنه لا يستطيع أن يثبت على الراحلة يجب أن يقيم الابن من يحج عن أبيه بمال أبيه.
- ولحديث أبي رزين أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبيه وأنه لم يستطع الحج فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حج عن أبيك واعتمر).
فهذه الأحاديث صريحة وواضحة في وجوب إقامة النائب لمن كان مستطيعاً بماله دون بدنه.
- قوله - رحمه الله -:
من حيث وجبا.
يعني يجب إنابة النائب من حيث وجب الحج على هذا الذي لا يستطيع ببدنه ويستطيع بماله.
ولم يقل المؤلف - رحمه الله -: (من بلده). لأن مكان الوجوب قد يكون البلد وقد يكون مكان ((الإيسار)).
فمثلاً: لو كان الإنسان فقيراً لا يستطيع الحج وهو من سكان الكوفة ثم سافر إلى المدينة وفي المدينة وجد مالاً كسبه وأصبح يستطيع الحج.
فهو الآن وجب عليه الحج في الكوفة أو في المدينة؟ في المدينة: فيجب أن ينيب عنه من يحج من المدينة لا من مدينته الأصلية وهي الكوفة، ولهذا قال المؤلف - رحمه الله -: (من حيث وجبا). ولم يقل: (من مدينته أو من بلدته) فيجب أن يقيم النائب أو أن يكلف النائب من حيث وجب عليه الحج.
واستدلوا على هذا:
- بأن المنيب إنما وجب عليه الحج من مكان الوجوب فكذلك النائب.
- وبأن القضاء يحكي الأداء.
- وببعض ظواهر الآثار عن الصحابة. فقد روي عن بعض الصحابة آثار ظاهرها وجوب الحج من البلد.
= والقول الثاني: وهو مذهب الشافعي: أن الواجب الإنابة من من ميقات هذا المنيب.
واستدل الشافعي على هذا القول:
- بأن الإحرام إنما يجب من الميقات ولا يجب قبل الميقات بل لا يشرع. فإذا كان الإحرام وهو النسك يجب من الميقات فيجب أن نقيم النائب من الميقات لا من البلده، لأن المسافة بين بلدة المنيب والميقات لا دليل على وجوب قطعها.
والراجح والله أعلم القول الثاني: لأن قطع المسافة من البلد إلى مكة مطلوب لغيره لا لذاته. يعني: مطلوب لأن يصل الإنسان إلى مكة وليس هو بنفسه مطلوباً.
(3/52)
________________________________________
على أن بعض العلماء قال: بل قطع المسافة من البلد إلى مكة مطلوب بذاته لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى الحج جهاداً بالنسبة للنساء وكذلك الرجال والجهاد من المقصود فيه قطع المسافات.
لكن الأقرب قول الشافعي لعدم وجود دليل واضح على وجوب إقامة النائب من بلد الذي لا يستطيع الحج ببدنه ويستطيع بماله.
علم مما تقدم من الخلاف:
أنه لم يقل أحد من الفقهاء فيما أعلم أن يكون النائب من مكة، يعني: جواز إنابة الشخص من مكة، فبعد البحث حسب ما تيسر لي لم أجد من صرح بجواز إقامة النائب من مكة وإنما قالوا: إما من بلده أو من الميقات. اختلفوا على هذين القولين.
لكن لعله يلتمس قول ثالث ويبحث ويتأكد من عدم وجود قول ثالث: أنه يجوز إقامة النائب من داخل مكة.
أما الآن فلم أجد من صرح على الأقل بجواز إقامة النائب من مكة.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام.
إذا أنا الإنسان شخصاً يحج مكانه فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
ـ القسم الأول: أن يعافى المنيب قبل أن يشرع النائب بأعمال الحج، ففي هذه الحال لا يجزئ حج النائب عن فريضة الإسلام قولاً واحداً.
ـ القسم الثاني: أن يشفى ويعافى الذي لا يستطيع ببدنه بعد أن يأتي النائب بجميع مناسك الحج.
ففي هذه الصورة خلاف:
= فالمذهب أنه يجزئه.
- لأن الذي أناب قد أتى بما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الشرعي فبرئت ذمته.
= والقول الثاني: أنه لا يجزئه.
- لأنه تبين أنه ليس من أهل الإنابة فقد برئ.
والصواب مع الحنابلة.
ـ القسم الثالث: أن يعافى ويشفى أثناء أداء الحج.
فأيضاً في هذه الصورة خلاف:
= فالحنابلة يجزئه.
- لأنه شرع في العبادة. قياساً على من شرع في خصلة من خصال الكفارة ثم قدر على التي أعلى منها.
= والقول الثاني: أنه لا يجزئه، بل يكون حج النائب نفلاً، وإلى هذا مال ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله -.
- - قياساً على من صلى بالتيمم ثم حضر الماء أثناء الصلاة. فتقدم معنا أن الأقرب في هذه المسألة أنه يستأنف بعد الوضوء.
وكذلك هنا الراجح أنه لا يجزئه إن عوفي في أثناء الحج بل تكون نفلاً له. ويلزم بحجة الإسلام من العام القادم.
(3/53)
________________________________________
- ثم قال - رحمه الله -:
ويشترط لوجوبه على المرأة: وجود محرمها.
يشترط في المرأة خاصة وجود المحرم:
= وهذا مذهب الحنابلة.
والعلماء اختلفوا في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
= القول الأول: أن وجود المحرم بالنسبة شرط وجوب.
فإن لم تجد محرماً ولو كانت غنية فلا يجب عليها الحج وإن ماتت لا يجب على الورثة أن ينيبوا من يحج عنها.
واستدل هؤلاء:
- بالأحاديث الصحيحة الصريحة المشهورة المتواترة التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكثر من وجه أنه قال: (لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم) فقال رجل يا رسول: إن امرأتي انطلقت حاجة وقد اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (انطلق فحج مع امرأتك).
فهذا الحديث فيه وجوب المحرم في الحج خاصة، وهو في الصحيح.
- وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث التي لم تنص على الذهاب مع المرأة في الحج أحاديث كثيرة جداً تشترط المحرم ومخارجها متعددة، ومنها ما قيد بثلاثة أيام ومنها ما قيد بيوم وليلة ومنا ما قيد ببريد وحمل الفقهاء - رحمهم الله - هذه الاختلافات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ترجع إلى اختلاف السائل - بحسب اختلاف السائل.
= القول الثاني: أن شرط المحرم شرط أداء لا وجوب.
يعني: يشترط لوجوب الحج وجود المحرم لكنه شرط أداء لا وجوب فلا يجب على المرأة إذا لم تجد المحرم أن تحج في وقتها هذا لكنها إن ماتت قبل أن تحصل المحرم وجب على ورثتها أن يخرجوا من يحج عنها من تركتها.
= القول الثالث: أن المحرم بالنسبة للمرأة إذا أرادت أن تحج لا يشترط مطلقاً.
ويجب أن تفهم: أننا نتحدث عن المحرم في الحج لا المحرم في سائر الأسفار، وهذا القول الثالث الذي لا يشترط المحرم مطلقاً هو مذهب مالك والشافعي.
واستدلوا على هذا:
- بأن المرأة إذا وجدت فيها جميع الشروط وهي قادرة ببدنها وتجد الزاد والراحلة والمال فهذه مستطيعة ولو تخلف المحرم فيجب عليها أن تحج.
ولكن مع ذلك اشترطوا:
- أن تحج مع رفقة مأمونة. فهذا من شروط المالكية والشافعية. أن تحج مع رفقة مأمونة: إما مع جماعة النساء أو مع امرأة مأمونة مسلمة ثقة.
(3/54)
________________________________________
ولذلك شيخ الإسلام - رحمه الله - يقول: أجمع العلماء على أن المرأة إذا أرادت أن تحج يجب أن توجد سبل الأمان لها لكن اختلفوا: فمنهم من قال المحرم، ومنهم من قال جماعة النساء، ومنهم من قال امرأة ثقة.
إذاً القول بأنه يجوز أن تحج بدون محرم مطلقاً هذا يخالف كلام الأئمة الذين لم يشترطوا المحرم، فإنهم اشترطوا أن تكون في سفر مأمون، ونصوا على: إما أن تكون مع مجموعة من النساء الثقات أو على الأقل امرأة واحدة ثقة تباشر حاجات هذه المرأة.
واستدل هؤلاء:
- بما تقدم.
- وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك أن تخرج الضعينة من الكوفة إلى مكة ليس معها أحد).
فدل الدليل على أن المرأة - الضعينة - يمكن أن تخرج وتسافر بلا محرم.
والجواب على الاستدلال بهذا الحديث: من وجهين:
- أولاً: أن هذا الحديث ليس خاصاً في المحرم والاستدلال بالخاص مقدم على الاستدلال بالعام.
- ثانياً: أن هذا الحديث ليس من مقصوده بيان حكم سفر المرأة بدون محرم وإنما سيق لبيان أو لضرب المثل على وجود الأمن في آخر الوقت.
والراجح والله أعلم القول الأول وهو أنه شرط وجوب.
ومن العجب أن يترك الإمام الشافعي والإمام مالك الأحاديث الصحيحة الصريحة المصرحة بجواز اشتراط المحرم للمرأة في الحج خاصة. وأيضاً الأحاديث الأخرى التي اشترطت وجود المحرم للمرأة في السفر لم تفرق بين سفر وسفر.
ومن المعلوم أن سفر المرأة لا سيما في القديم للحج لأنه ليس من شأنها التجارة فغالب أسفارها ستكون في الحج فسفر الحج من أوائل ما يدخل في السفر الذي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تسافره إلا مع محرم.
وأما شيخ الإسلام - رحمه الله - فجاء عنه قولان في هذه المسألة:
= القول الأول: أنه يشترط فقط وجود صحبة من النساء الثقات.
= والقول الثاني: أنه يشترط محرم. وبهذا أفتى لما كان بمصر - رحمه الله -.
وعلى كل حال سواء كان اختيار شيخ الإسلام أنه يجب أو لا يجب الراجح بلا شك وبوضوح أنه يجب على المرأة أن لا تسافر إلا مع محرم وأنها إن سافرت ولو لقربة كالحج بلا محرم فقد ارتكبت إثماً وعرضت نفسها للانتهاك.
* * مسألة / فإن سافرت بلا محرم وحجت: فهي آثمة والحج صحيح.
-
ثم قال - رحمه الله -:
(3/55)
________________________________________
وهو زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد: بنسب أو سبب مباح.
يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين بهذه العبارة من هو المحرم؟
والمحرم على ثلاثة أنواع:
- النوع الأول: الزوج.
- النوع الثاني: من يحرم على التأبيد بنسب.
- النوع الثالث: من يحرم على التأبيد بسبب مباح.
وجميع الأنواع الثلاثة ذكرها المؤلف - رحمه الله -. فالزوج واضح.
- الثاني: من يحرم على التأبيد بنسب: وهم الأب والابن والأخ وابن الأخ وابن الأخت والخال والعم. فهؤلاء سبعة.
- الثالث: من يحرم على التأبيد بسبب مباح: وهو ينقسم إلى قسمين:
ـ الأول: الرضاع.
ـ والثاني: المصاهرة.
- فالذين يحرمون بالرضاع هم: نفس السبعة الذين يحرمون بالنسب.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). فصار سبعة بالنسب وسبعة بالرضاع.
- من يحرم بالمصاهرة أربعة:
1 - أبو الزوج.
2 - وابن الزوج.
3 - وزوج الأم.
4 - وزوج البنت، فهؤلاء الأربعة يجوز للمرأة أن تحج معهم وهم يحرمون: بالمصاهرة.
وعلم من كلام المؤلف - رحمه الله -
- وهو من قوله: (بنسب أو بسبب مباح) أن السبب المحرم لا يجوز معه السفر ولا يعتبر محرماً.
السبب المحرم كالزنا: فأم المزني بها وابنة المزني بها لا يعتبر الزاني محرماً لهما ولا يجوز أن يسافروا معه لأن هذا سبب محرم.
- وكذلك قول المؤلف - رحمه الله - هنا -: (من تحرم عليه على التأبيد). أما من تحرم عليه لكن ليس على التأبيد فليس بمحرم في السفر.
ومثال من تحرم عليه - ليس على التأبيد أخت زوجته فإنها تحرم على الزوج لكن ليس على التأبيد. فهو ليس محرماً لها وإن كانت تحرم عليه.
-
ثم قال - رحمه الله -:
وإن مات من لزماه: أُخرجا من تركته.
يعني: وإن مات من استوفى شروط الحج والعمرة ولم يحج فهو آثم إذا كان بغير عذر ويجب أن يُخرج من تركته من أصل المال - من رأس المال - من يحج عنه.
وسواء في هذا أوصى هذا الميت أو لم يوص، فهي دين في ذمته وهي دين لله فيجب أن يخرج الورثة من تركته من يحج عنه.
وبهذا انتهينا من الباب الأول من كتاب المناسك ونقف عند هذا الحد سائلين المولى أن يعين على باقيه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ...
(3/56)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (3)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في السنة السابقة انتهينا من الباب الأول من كتاب الحج وتوقفنا على باب المواقيت، فنبدأ إن شاء الله ومستعينين به تعالى.
باب المواقيت.
- قال - رحمه الله -:
باب المواقيت.
المؤلف - رحمه الله - خصص هذا الباب لبيان مواقيت الحج.
والميقات في لغة العرب هو: الحد.
فالموقت هو: المحدد.
والأصل في لغة العرب: أن المواقيت تتعلق بالزمان لكن اتسع الاصطلاح ليشمل المواقيت المكانية، وإلا فالأصل أن الميقات يتعلق فقط بالزمان.
ومواقيت الحج تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: المواقيت الزمانية.
- والقسم الثاني: المواقيت المكانية.
والمواقيت الزمانية ستأتينا.
والمواقيت المكانية تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: من كان سكنه دون الميقات.
- والقسم الثاني: من كان سكنه قبل الميقات.
وسيأتينا في كلام المؤلف حكم كل واحد من النوعين.
والمؤلف - رحمه الله - بدأ بالمواقيت المكانية والسبب - والله أعلم - في أنه - رحمه الله - بدأ بها:
- أن الأحكام التي تعلق بالمواقيت المكانية أكثر والحاجة إليها أمس.
- قال - رحمه الله تعالى -:
ميقات أهل المدينة ذو الحليفة.
ميقات أهل المدينة: ذو الحليفة. وسيأتينا النص الدال على أن هذا هو ميقات أهل المدينة.
وذو الحليفة هو أبعد المواقيت من مكة. ويسمى الآن: أبيار علي، وسمي بهذا الاسم: لأنه واد تكثر فيه أشجار الحلفة.
ويبعد عن مكة نحو: 420 كيلو، ولذلك اعتبر أبعد المواقيت من مكة.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة.
الجحفة هو ميقات: أهل الشام.
والجحفة في الأصل قرية كبيرة عامرة في طريق الحجاج من الشام إلى مكة لكنها الآن قرية خربة. وسبب خراب هذه القرية: أن السيول اجتحفتها فأصبحت خرابة ولذلك سميت الجحفة، ولما صارت خراباً انتقل الناس إلى الإحرام من رابغ.
- وقول المؤلف - رحمه الله -:
أهل مصر والمغرب.
(3/57)
________________________________________
لأن أهل مصر والمغرب كانوا يأتون إلى الحرمين عن طريق البر وذلك قبل حفر قناة السويس، فكانوا هم وأهل الشام يلتقون في هذا الميقات.
ويقصد بالمغرب: لا يقصد البلد وإنما يقصد جميع الدول التي في جهة المغرب، فمصر ودول المغرب كانت كلها تحرم من الجحفة، والجحفة تلي ذي الحليفة في البعد، فأبعد المواقيت ذو الحليفة ثم يليه الجحفة. وتبعد نحو 190 كيلاً.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وأهل اليمن يلملم.
يلملم: وادي في طريق القادم من اليمن إلى مكة.
ويبعد عن مكة نحو 120 كيلاً.
وفي هذا الوادي بئر يسمى السعدية كانوا يحرمون منه قديماً وهو يقع على الخط القديم الذي يصل ما بين الجنوب ومكة، وأما الآن فقد وضعت الدولة خطاً جديداً مهيئاً وهو أحسن من الخط الأول فصار الميقات على الخط الجديد بدل الخط القديم، فقد أوجدوا مسجداً على الخط الجديد محاذٍ ليلملم وصار الناس يحرمون من هذا الميقات الذي هو على الخط الجديد بدل السعدية الموجودة على الخط القديم.
ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وأهل نجد قرن.
القرن في لغة العرب: هو الجبل الصغير المنفصل عن الجبال الكبيرة القريبة منه.
وقرن المنازل وادٍ معروف يسمى الآن: السيل الكبير، وهو: أقرب المواقيت إلى مكة إذ يبعد نحواً من 75 كيلاً تقريباً، وهو ميقات لأهل نجد، وذكر بعض الفقهاء أن الحكمة من كونه قريباً من مكة: أن أهله بعيدين عن مكة فإن نجداً بعيدة عن مكة.
(3/58)
________________________________________
* * مسألة/ الميقات الذي يوجد الآن على طريق النازل من الطائف على طريق الهدى والذي يسمى وادي محرم هو نفسه السيل الكبير لأن هذا الوادي يمتد إلى أن يصل إلى تلك المنطقة فهو أعلى هذا الوادي الذي ينزل إلى قرن المنازل - المعروف الآن - ولذلك فإن أهل نجد مخيرون في إحرامهم سواء كان من السيل الكبير أو من وادي محرم فهم بالخيار، فإذا كانت طائرة الإنسان مثلاً: تأتي من الرياض إلى الطائف مباشرة فلا شك أن وادي محرم أهيأ له وأقرب ليحرم منه أثناء نزوله من الطائف إلى مكة، والذي يعنينا الآن أن نعرف أن وادي محرم هو امتداد لهذا الوادي الذي جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - محرماً والإحرام منه يجوز أو من السيل الكبير الذي هو قرن المنازل فالأمر فيه سعة.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وأهل المشرق ذات عرق.
العرق: هو الجبل الصغير.
وذات عرق: هي ميقات لأهل العراق، وهي محاذية للجحفة، وكانت مكاناً عامراً يحرم منه أهل العراق ثم لما وجدت الطرق السريعة المعاصرة لم يكن هذا الميقات على أحد من هذه الطرق فأصبح الآن مهجوراً لا قيمة له بسبب عدم مرور أي من الطرق السريعة على هذا الميقات.
فهذه المواقيت هي المواقيت التي حددها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والدليل على هذه المواقيت - ولله الحمد - صحيح صريح وهو:
- ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم".
فالترتيب الموجود في الحديث يخالف الترتيب الموجود عند المؤلف فإنه ذكر ميقات أهل المدينة ثم ميقات أهل الشام ثم ميقات أهل اليمن ثم ميقات أهل نجد ولو أنه قدم ميقات أهل نجد على ميقات أهل اليمن لكان كلامه متوافق مع ترتيب الحديث.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة).
وقوله: (هن لهن) أي: لمن سكن في هذه البلدان، يعني: لأهل هذه البلدان.
ففي هذا الحديث: التوقيت لأهل الشام واليمن ونجد والشام ومصر وليس فيه التوقيت لأهل العراق.
(3/59)
________________________________________
واختلف العلماء: من هو الذي وقت ذات عرق لأهل العراق؟ على قولين:
= القول الأول: أنه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واستدلوا على هذا:
- بما أخرجه أصحاب السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق.
=والقول الثاني: أن الذي وقت لهم هذا الميقات هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
* * والصواب * * مع القول الثاني:
- لأن الحديث المرفوع الذي فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وقت ذات عرق: حديث ضعيف معلول ولا يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك ذكر البخاري هذا الحديث موقوفاً عن عمر وأعرض عن الحديث المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذاً صار الذي وقته هو عمر ب الخطاب - رضي الله عنه -.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وهي لأهلها ولمن مرّ عليها من غيرهم.
أي: أن هذه المواقيت لمن حددت له من الأمصار، وهي ميقات لمن مر عليها ولو من غير أهل تلك الأمصار، وهذه العبارة من المؤلف فيها عدة مسائل مهمة:
o المسألة الأولى: هل يجوز الإحرام قبل المواقيت المكانية؟
كما لو أحرم أهل العراق من البصرة - مثلاً - أو من بغداد قبل أن يصلوا إلى ميقاتهم، أو لو أحرم أهل الشام من دمشق أو من عمان قبل أن يصلوا إلى الجحفة ... إلخ ..
الجواب: أجمع أهل العلم أنه يجوز أن يحرم قبل الميقات المكاني وأنه ينعقد لكن مع الكراهة - ونحن نتكلم في المواقيت المكانية وسيأتينا الحديث عن الإحرام قبل الموقيت الزمانية -.
إلا أن ابن حجر ذكر أن إسحاق بن راهويه وداود الظاهري خالفوا الجماهير وحرموا ومنعوا أن يحرم الإنسان قبل الميقات المكاني.
* * والصواب * *: مع قول الجماهير والذي حكي إجماعاً.
والسبب في ترجيح مذهب الجماهير:
- أنه مروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بعضهم أحرم قبل الميقات المكاني، فإذا كان هذا القول مروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحكي إجماعاً وهو مذهب الجماهير ولم يخالف إلا داود وإسحاق فلاشك - إن شاء الله - أن الراجح مع الجماهير وهو: الجواز مع الكراهة، وأن من فعل ذلك فقد خالف السنة.
(3/60)
________________________________________
o المسألة الثانية: من كان في طريقه إلى مكة ميقاتان: فهل يجب أن يحرم من الميقات الأول؟ أو يجوز أن يؤخر الإحرام إلى الميقات الثاني؟ إذا كان الميقات الثاني هو الميقات الأصلي له.
إذاً المسألة مفروضة فيمن مر على ميقاتين الثاني هو الميقات الأصلي له.
مثاله: كأن يسافر رجل من أهل نجد إلى مكة ويمر بميقات أهل المدينة فأمامه ميقات أهل نجد وهو الآن مر بميقات أهل المدينة فهل يجب عليه أن يحرم من هذا أو ذاك؟ فيه خلاف:
= القول الأول: للجماهير والجم الغفير من أهل العلم - أنه يجب أن يحرم من أول ميقات يمر عليه ولا يجوز أن يؤخر إلى الميقات الثاني ولو كان هو ميقاته الأصلي.
واستدلوا على هذا القول:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بين هذه المسألة فقال: (هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن).
ويكاد يكون الحديث نص في المسألة، أن الميقات الأول هو ميقات له، وإذا كان ميقات لهذا الذي مر فالميقات لا يجوز لإنسان أن يتجاوزه بلا إحرام.
= القول الثاني: - لبعض المالكية واختاره شيخ الإسلام - أنه يجوز أن يؤخر الإحرام إلى الميقات الثاني إذا كان هو ميقاته الأصلي.
واستدلوا أيضاً بأدلة فيا وجاهة:
- الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه لما أرادوا أن يحرموا من ميقات أهل المدينة: (من أراد أن يستمتع بثيابه إلى الجحفة فليفعل).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لهم أن يؤخروا الإحرام إلى الميقات الثاني.
والجواب عليه: أن هذا لحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه يصح مرسلاً إلى محمد بن علي - رضي الله عنه -، فهو صحيح مرسلاً ضعيف مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- الدليل الثاني: روي أن عائشة - رضي الله عنها - أحرمت مرة من ذي الحليفة ومرة من الجحفة وهي من أهل المدينة فأخرت إحرامها إلى الجحفة.
والجواب عليه: أن هذا الأثر فهم من عائشة - رضي الله عنها - وهو يخالف منطوق حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(3/61)
________________________________________
- الدليل الثالث - والأخير -:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ميقات أهل الشام الجحفة) فالحديث جعل الجحفة ميقاتاً للشام سواء مر قبل ذلك بذي الحليفة أو لم يمر.
والجواب عليه: أن آخر الحديث ينقض الاستدلال بأوله فإن آخر الحديث بين أن هذه المواقيت مواقيت لأهل تلك الأمصار ولمن مر عليها من غير أهل تلك الأمصار.
وهذه المسألة: أصبحت في وقتنا المعاصر غاية في الأهمية لسهولة السفر وكثرة الذين يمرون بالمواقيت القريبة من الحرم.
فصار سؤال الناس عن هذه المسألة كثير جداً لأنه يسهل عليهم أن يمروا بالميقات القريب من مكة وهو كما تقدم معنا: السيل.
* * الراجح * * في هذه المسألة إشكال - وقلت لكم أن القول الثاني هو لبعض المالكية وأيضاً اختاره شيخ الإسلام بن تيمية، لكن يظهر لي أن هذا القول ضعيف وأن الأقرب - إن شاء الله - مذهب الجماهير وهو: أنه يجب أن يحرم من أول ميقات.
على أني أقول كما نبهت مراراً إلى أن المسألة الخلاف فيها قوي وأدلة أصحاب القول الثاني فيها وجاهة وتحتمل القبول وأن يرجح القول لأجلها.
لكن لما كان الجمهور معهم نص صريح صحيح وواضح وهو أحوط فرأيي أن هذا القول أوفق للحديث وأحوط لدين الإنسان.
o المسألة الأخيرة: حكم تجاوز الميقات بدون إحرام لمن أراد الحج أو العمرة.
- أجمع أهل العلم بلا خلاف على:
- تحريم تجاوز الميقات بلا إحرام لمن كان مريداً للنسك.
- وأنه إذا تجاوز الإحرام فهو آثم إذا كان عمداً بعلم وعليه أن يتوب ويستغفر.
- ثم: إن رجع إلى الميقات قبل أن يحرم فإنه يسقط عنه الدم على الصحيح من قولي أهل العلم.
- وإن أحرم بعد أن تجاوز الميقات فإنه يثبت عليه الدم رجع أو لم يرجع لا كما يفهم بعض إخواننا أنه إذا رجع ولو بعد الإحرام سقط عنه الدم بل إذا أحرم بعد أن تجاوز الميقات فإنه يثبت عليه الدم رجع أو لم يرجع ما دام أنه أحرم.
ولا نريد الآن أن ندخل في مسألة: الدم المترتب على ترك الواجب لأنه سيأتينا في منطوق المؤلف أو نصه ونتحدث عن هذه المسألة.
المهم: أن تجاوز الميقات لمن أراد النسك محرم بالإجماع: فإن رجع قبل أن يحرم سقط عنه الدم وبقي أن يتوب. وإن رجع بعد أن يحرم فالدم يثبت في ذمته.
(3/62)
________________________________________
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
ومن حج من أهل مكة: فمنها.
تقدم معنا أن الناس على قسمين:
منهم من هو دون المواقيت. سواء كان من أهل مكة أو من غير أهل مكة ممن هو دون المواقيت كأهل جدة وبحرة وغيرهم، فهؤلاء يقول المؤلف - رحمه الله - عنهم: (ومن حج من أهل مكة: فمنها) فالإحرام لأهل مكة: من مكة بالإجماع.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حتى أهل مكة من مكة). ونحن نتحدث عن الحج وسيأتينا الكلام عن العمرة.
ومقصود المؤلف - رحمه الله - بقوله: (أهل مكة) من كان في مكة عند إرادة النسك سواء كان مقيماً في مكة أو غير مقيم، فكل شخص في مكة نوى أن يحج فإنه يحرم من مكة.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وعمرته من الحل.
يعني أنه إذا أراد المكي أن يعتمر فيجب عليه وجوباً أن يحرم من الحل ولا يجوز أن يعقد الإحرام من مكة.
وهذا القول الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - هو:
= مذهب الأئمة الأربعة. بل مذهب الجماهير من أهل العلم من فقهاء التابعين وغيرهم بل حكاه الطبري إجماع أهل العلم: أن المكي لا يجوز له أن يعقد إحرام العمرة من مكة.
واستدلوا على هذا بدليلين:
- الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالخروج بعائشة - رضي الله عنها - إلى التنعيم لتحرم بالعمرة في قصتها المشهورة لما حاضت وفاتها أن تأخذ عمرة مع الحج - كما سيأتينا حديثها مفصلاً.
- والثاني: أنه مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المكي إذا أراد أن يحرم فإنه يجب أن يخرج إلى الحل.
- والدليل الثالث: أن المعهود في الشرع أن الإحرام لابد أن يجمع فيه الإنسان بين الحل والحرم. ففي الحج سيجمع الإنسان بين الحل والحرم بأن يخرج إلى عرفة وفي العمرة لن يخرج إلا إذا أحرم من خارج الحرم من الحل فوجب عليه أن يخرج.
= والقول الثاني: جواز الإحرام بالعمرة من مكة. وإلى هذا ذهب الصنعاني - رحمه الله - ولا أعلم أن أحداً من أهل العلم تابع الصنعاني على هذا القول - أعني من المتقدمين إلا أن البخاري قال: باب مهل أهل مكة للحج والعمرة.
الراجح من القولين إذا اعتبرنا القول الثاني قولاً يعتد به:
(3/63)
________________________________________
الراجح هو القول الأول الذي حكي إجماعاً، بل نستطيع أن نقول أن هذا القول قول شاذ ويحكم على هذا القول بأنه من الأقوال الشاذة. فإن الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - يقول: لا أعلم أن أحداً رأى العمرة من مكة.
وانطلاقاً من حكاية الإجماع الذي حكاه الطبري ومن هذه العبارة من الإمام مالك: نستطيع أن نقرر أن هذا القول قول شاذ مخالف لأقوال أهل العلم.
ولذلك لا ينبغي في الحقيقة - ومن وجهة نظري - التعويل عليه أو الفتوى به لمخالفته ما عليه جمهور أهل العلم أو إجماع أهل العلم.
ثم بدأ المؤلف بالمواقيت الزمانية:
- فقال - رحمه الله تعالى -:
وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
أشهر الحج:
= عند الحنابلة: هذه التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -. شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
واستدل الحنابلة:
- بأن هذا التحديد مروي عن ابن عمر - رضي الله عنه - وليس مما يقال من قبيل الرأي.
= والقول الثاني: أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كاملاً.
واستدل هؤلاء بدليلين:
- الدليل الأول: أن هذا القول صح عن عمر وابنه وابن عباس - رضي الله عنهم -
- الدليل الثاني: أن الله تعالى قال: {الحج أشهر معلومات .. } [البقرة/197] وأشهر جمع، والجمع في لغة العرب لا يصدق إلا على ثلاثة فصاعداً.
فدل على أن المواقيت الزمانية ثلاثة أشهر.
فهذا القول هو القول الصحيح إن شاء الله، لو لم يكن في الباب إلا أن هذا رأي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فضلاً عن أنه يتوافق مع ظاهر الآية، فضلاً عن أنه يتوافق مع فتوى اثنين من علماء الصحابة: ابن عمر وابن عباس، فإذا نظر الإنسان في هذه الأدلة تبين له بوضوح أن القول بأن أشهر الحج ثلاثة هو القول الصواب إن شاء الله.
ونختم هذا الباب بمسألة مهمة:
- وهي: حكم الإحرام بالحج قبل ميقاته الزماني:
= ذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى إلا أنه يجوز وينعقد مع الكراهة الإحرام بالحج قبل ميقاته الزماني.
= والقول الثاني: وهو مذهب الجماهير - الأئمة الثلاثة وغيرهم أن الإحرام بالحج لا ينعقد قبل ميقاته الزماني، فإذا لبى بالحج قبل أشهره انقلب إلى عمرة.
(3/64)
________________________________________
- لأن الله تعالى وقت للحج ميقاتاً زمانياً معيناً ولا يعلم بهذا فائدة إلا منع الإحرام في غير هذا المقت المحدد.
وكما ترون مذهب الحنابلة في هذه المسألة: ضعيف، ومذهب الأئمة الثلاثة قوي ومتوافق مع النصوص.
ويؤيد هذا: - أنه لم يرو عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب ماروي عنهم في باب الميقات المكاني، فلم يرو عن أحد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - أنه أحرم بالحج قبل ميقاته الزماني فيما أعلم.
وهناك فارق آخر بين الميقات الزماني والمكاني ذكره بعض الفقهاء - وهو حسن - فقال: مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - من الميقات المكاني أن لا يتجاوز الإنسان هذا المكان إلا بعد الإحرام فإذا أحرم قبله بمراحل فهو لم يخالف هذا الغرض بل إن الأحناف بالغوا ورأوا أن الإحرام بالحج أو العمرة قبل ميقاته المكاني مستحب بينما ذهب الجمهور إلى أنه مكروه مع الجواز والصحة.
المهم أن هذا الفارق بين الميقات الزماني والمكاني يؤكد صحة ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة وهو أن الإحرام بهذه المواقيت لا ينعقد.
باب في الإحرام والتلبية وما يتعلق بهما.
- قال - رحمه الله -:
باب في الإحرام والتلبية وما يتعلق بهما.
أي باب لبيان أحكام الإحرام من الواجبات والسنن وغير ذلك مم يتعلق بتفاصيل أحكام الإحرام.
- قال - رحمه الله -:
الإحرام: نية النسك.
تقدم معنا مراراً أن المؤلف - رحمه الله - ممن لا يعتنون ببيان معاني المفردات في لغة العرب لكونه من المختصرات.
o ففي لغة العرب:
الإحرام هو: نية الدخول في التحريم.
ومعنى التحريم: أن يحرم الإنسان على نفسه ما كان حلالاً أياً كان نوع هذا التحريم، فإذا قال الإنسان: عزمت على أن أتكلم، فقد أحرم الآن يعني: دخل في التحريم أي التحريم على نفسه جنس الكلام، ومعنى الإحرام يعني: الدخول في التحريم كما تقول: أمسى يعني دخل في المساء، وأصبح يعني دخل في الصباح، فأحرام يعني دخل في التحريم، إذاً الآن تبين لنا معنى هذه اللفظة في لغة العرب.
o أما في الاصطلاح:
فالإحرام هو: نية الدخول في النسك.
(3/65)
________________________________________
وأصبحت هذه اللفظة (الإحرام) في الشرع علم على إحرام مخصوص وهو نية الدخول في أعمال الحج والعمرة فقط، فالمعنى الشرعي ضيق وحدد المعنى اللغوي، إذاً عرفنا الآن معنى الحرام في لغة العرب وفي الشرع.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
سن لمريده: غسل.
كل الأشياء التي سيذكرها المؤلف سنن وليست بواجبات.
1 - فالسنة الأولى الغسل.
ومراد الفقهاء بهذا الاغتسال يعني اغتسال خاص للإحرام، ولذلك يسن للرجل وللمرأة وللمرأة الحائض والطاهر وللمرأة النفساء وغير النفساء.
بدليل:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عميس أن تغتسل وتحرم مع أنها نفساء.
- وأمر عائشة أن تغتسل مع أنها حائض.
فدلت هذه النصوص على أن الاغتسال سنة من سنن الإحرام.
ودل عليه أيضاً:
- حديث زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل.
وهذا الحديث: حديث ضعيف ولا تقويه كثرة الطرق بل هو حديث ضعيف لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اغتسل.
ومع ذلك ذهب الجماهير إلى أن الاغتسال سنة اعتماداً على حديث أسماء وعلى حديث عائشة ولا أظن أن في هذه المسألة خلاف - فلم أطلع على خلاف في استحباب الاغتسال للإحرام.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
أو تيمم لعدم.
فيسن لمن أراد الإحرام أن يغتسل فإن لم يستطع فإنه يسن له أن يتيمم.
والدليل على ذلك:
- أن الشارع الحكيم أقام التيمم بدلاً عن الاغتسال، فإذا لم يتمكن من الاغتسال تيمم.
= القول الثاني: أنه لا يشرع التيمم في غسل الإحرام بل لا يشرع في جميع الأغسال المستحبة بل الواجبة فقط.
واستدلوا على هذا:
- - بأن المقصود في التيمم في الأغسال الواجبة استباحة ما يمنع بلا الاغتسال من صلاة وغيرها. بينما المقصود بالاغتسال المستحب النظافة والتطهر، والتيمم يناقض النظافة لأن فيه ضربا على التراب.
وهذا القول وهو عدم مشروعية التيمم في جميع أنواع الاغتسال المستحب اختيار شيخ الإسلام وهو قول قوي راجح كما ترون، بناء عل ذلك: إذا أراد الإنسان أن يحرم فإما أن يغتسل فإن لم يستطع فإنه يتيمم.
-
ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وتنظف.
(3/66)
________________________________________
إذا جمع الفقهاء بين الاغتسال والتنظف صار معنى التنظف ينحصر في تقليم الأظافر وحلق العانة والإبط باعتبار أن الاغتسال يتناول مسألة تعميم الجسم بالماء.
ليس في النصوص الشرعية ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أن أحداً من أصحابه كان يتقصد التنظف بهذا المعنى عند الإحرام لكن الجمهور استدلوا بدليلين:
- الدليل الأول: وهو الأقوى - أن إبراهيم النخعي - رضي الله عنه - قال: كانوا يفعلون ذلك.
وأنا قلت لكم: أن مثل هذه العبارة عن مثل هذا التابعي عبارة مهمة جداً وللإنسان أن يعتمد عليها في تقرير الحكم أو على أقل تقدير يستأنس بها، لأن معنى قوله - رضي الله عنه -: (كانوا) إما أن ينصرف إلى الصحابة أو على أقل تقدير إلى كبار التابعين، وإذا كان هذا المعنى معروفاً في تلك الطبقة التي هي خير القرون صار هذا أمراً يمكن للإنسان أن يتمسك به في إثبات استحباب التنظف.
- الدليل الثاني: قالوا: أنه يستحب أن يفعل ذلك لأن لا يحتاج إلى أخذ هذه الشعور أثناء الإحرام ولن يتمكن من ذلك بسبب الإحرام فإن الأخذ من الشعر من محظورات الإحرام.
تبين معنى الآن أن الاغتسال والتنظف نقول: أنه مستحب ولا نقول سنة، فهو مستحب وليس بسنة.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وتطيب.
يعني ويستحب لمن أراد أن يحرم أن يتطيب.
ومقصود الحنابلة هنا بقولهم يتطيب: يعني في جسده دون ثياب الإحرام فالسنة أن يضع الطيب على الجسد لا على ثياب الإحرام.
واستدلوا على ذلك:
- بقول عائشة - رضي الله عنها - كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف.
واستدلوا على أن التطيب يكون في البدن دون الثياب:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى في الحديث الصحيح عن لبس ثوب زعفر أو مسه ورس، والورس والزعفران من أنواع الطيب.
فدل مجموع الحديثين على أن الطيب يكون في البدن دون الثوب.
* * مسألة: حكم وضع الطيب على ثياب الحرام:
= عند الحنابلة: مكروه مع الجواز. لكن قالوا: إذا وضع الطيب على الثياب ثم أحرم ثم خلع هذه الثياب لأي غرض من الأغراض فإنه حينئذ لا يجوز له أن يرجع فيلبس هذا الإحرام.
(3/67)
________________________________________
= والقول الثاني: أن وضع الطيب في لباس الإحرام لا يجوز من الأصل.
(((الأذان))) ....
والراجح من القولين: مع الجمهور الذين يرون عدم جواز وضع الطيب في ثياب الحرام من الأصل.
وسبب الترجيح: أن القاعدة الفقهية تقول: ((أنه متى أمكن إعمال الأحاديث جميعاً فهو أولى من إعمال بعضها وتعطيل بعضها الآخر))
وإذا أخذنا بمذهب الحنابلة فقط عطلنا الحديث الذي ينهى عن لبس المزعفر والذي مسه ورس.
ولهذا نقول: أن القول الصواب هو أنه لا يجوز وضع الطيب إلا في البدن دون الثياب.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وتجرد عن مخيط.
التجرد عن المخيط:
= سنة عند الحنابلة وليس بواجب.
فيجوز للإنسان أن يحرم بثيابه، لكن قالوا: إذا أحرم بثيابه فإنه لا يجوز له أن يستديم لبس الثياب ولو للحظة واحدة بعد الزمن الذي يمكن له أن يخلع الثياب.
إذاً يجوز للإنسان أن يحرم بثيابه عند الحنابلة والتجرد عندهم سنة لكن لا يجوز له أن يستديم هذا اللبس إلى أكثر من مدة خلع الثياب فإن استدامه بزيادة ولو لحظه واحدة فإنه يأثم وعليه الفدية.
= والقول الثاني: أن التجرد للإحرام واجب وهو مذهب المالكية وغيرهم.
وهذا هو الصواب وعليه عمل المسلمين من قديم وحديث.
ويدل على ترجيح هذا القول أن: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ويمكن للإنسان أن يكون متجرداً من المخيط طيلة وقت الإحرام إلا إذا خلع الألبسة المخيطة قبل الوقت - قبل دخوله في الإحرام. ولذلك نقول: هذا القول الثاني هو الراجح ...
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،،،
(3/68)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (4)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
توقفنا في الشرح عند قوله - رحمه الله -: (وتجرد عن مخيط) وذكرنا أن التجرد سنة وما يتعلق بهذا من الأحكام.
وبقينا في مسألة: ما هو المخيط الذي يجب على المحرم أن يتجرد عنه؟
المخيط الذي يجب على لمحرم أن يتجرد عنه: هو كل لباس مفصل عل قدر الجسم أو على قدر عضو منه.
وليس المراد بالمخيط كل ما دخلته الخياطة. بل المراد: كل ما فصل على قدر الجسم كله كالثوب أو على قدر جزء منه كالفانيلة والجوارب وأشياء أخرى كثيرة.
إذاً هذا هو الذي يجب أن يتجرد عنه المحرم وسيأتينا تفصيل لمسألة لبس المخيط ما يترتب عليه في باب الفدية إن شاء الله.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
في إزار ورداء.
يعني: يسن للإنسان أن يحرم في إزار ورداء.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين).
- ولأن السنة استفاضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه هو وأصحابه أحرموا بهذه الألبسة.
وعلم من قول المؤلف - رحمه الله -: (في إزار ورداء) أنه سواء كان هذا الإزار أو الرداء من قطن أو من خيوط أو من صوف أو من أي مادة كانت، فما دام أنه إزار ورداء فيجوز: لأنه يقول: (إزار ورداء) ولم يعين نوع المادة التي خيط منها هذا الإزار والرداء.
-
ثم قال - رحمه الله تعالى -:
أبيضين.
يسن أن يحرم الإنسان بالأبيض.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير ثيابكم البياض).
- ولأن المعروف في السنة أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم برداء أبيض.
وأيضاً علم من كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يسن أن يكون الرداء والإزار أبيضين: جواز الإحرام بالأحمر والأصفر والأخضر وبأي لون، إلا أن الأحمر تقدم معنا الخلاف في حكم لبس اللباس الأحمر الخالص وأن الصواب أن لبس الأحمر الخالص لا يجوز وأن لبس الأحمر المشوب في السنة ما يدل على جوازه.
المهم: أنه أي لون من الألوان عدا الألوان التي نهى عنها الشارع وهو الأحمر يجوز أن يحرم به الإنسان ولا حرج عليه.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وإحرام عقب ركعتين.
أي ويسن لمن أراد النسك أن يحرم عقب ركعتين.
= واتفق الأئمة الأربعة على أن للإحرام سنة خاصة به.
وأنه يسن للإنسان قبل أن يحرم أن يصلي ركعتين إذا لم يصادف فريضة.
واستدلوا على هذا الحكم:
(3/69)
________________________________________
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه أحرم بعد أن صلى الظهر وكأن الأئمة الأربعة يرون أن ذلك كان مقصوداً من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحرم إلا بعد هذه الصلاة.
- وبقوله في الحديث القدسي أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة).
فقوله: (صل ثم قل) دليل على أن النسك يستحب الشروع فيه بعد صلاة: سواء كانت فريضة بأن صادف الوقت فريضة أو بعد نافلة.
= والقول الثاني: أنه ليس للإحرام سنة خاصة به.
فإن صادف الإنسان فريضة صلاها ثم أحرم فإن لم يصادف فليس للإحرام سنة خاصة، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية وتابعه عدد من أهل العلم.
واستدلوا:
- بأنه ليس في السنة الصحيحة ما يدل على أنه من مقصود الشارع أن يقع الإحرام بعد صلاة فريضة أو نفل.
ولكل من القولين حظ من النظر وما ذكره الأئمة الأربعة فيه قوة ويؤيده هذا اللفظ (صل في هذا الوادي المبارك وقل) فكأن الحديث رتب الإحرام على الصلاة، ففي الحقيقة ينبغي للإنسان أن لا يحرم إلا بعد صلاة، والأمر في هذه المسألة سهل ولكنه يرجع إلى الاعتقاد، فهل يعتقد الإنسان أنه يستحب ويسن له أن لا يحرم إلا بعد صلاة أو لا؟
أنا أرى أنه يسن أن يعتقد وأن يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صنع ذلك قصداً كما فهم الأئمة الأربعة وكما قلت لكم النصوص التي ذكرت تؤيد هذا الفهم.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
ونيته شرط.
نية الإحرام شرط لصحة وانعقاد الإحرام.
أي: فلا يكتفي الإنسان بمجرد التجرد من المخيط أو التلبية بل لابد مع ذلك من أن ينوي الدخول في النسك.
واختلف الفقهاء: هل يدخل الإنسان في النسك بمجرد النية؟ أو يشترط مع النية شيء آخر.
=فالجمهور: على أن النية فقط هي التي تشترط ولا يشرط لدخول الإحرام شيء آخر.
واستدلوا على ذلك:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات).
(3/70)
________________________________________
= والقول الثاني: وهو قول لبعض الفقهاء: أن الإنسان لا يدخل في النسك إلا إذا انضاف إلى النية أحد أمرين: 1) إما أن يسوق الهدي، 2) أو أن يلبي. فإن لم يسق الهدي ولم يلبي فإنه لا يدخل في الإحرام بمجرد النية بل لابد أن يضاف إليه أحد هذين الأمرين، وكأن شيخ الإسلام - رحمه الله - يميل إلى هذا القول.
والراجح والله أعلم: أنه لا يشترط للدخول في الإحرام: أن يسوق الهدي ولا أن يلبي بل بمجرد أن ينوي أنه دخل في النسك: لزمته أحكام النسك ولو لم يلبي أو يسق الهدي.
وما ذكره شيخ الإسلام من وجهة في هذه المسألة ضعيف وسبب الضعف أنه ليس في السنة دليل واضح يدل على اشتراط هذا الأمر وهذا أمر تمس الحاجة إليه والمسلمون ما زالوا يعتمرون ويحجون فلو كان هذا الشرط اعتبره الشارع لبينته السنة بشكل واضح على أن الخطب في هذه المسألة سهل لأنه ليس أحد من المسلمين اليوم يحرم إلا مع التلبية بل إن بعض الناس يظن أن الإحرام هو التلبية فلا إشكال من حيث الواقع في هذه المسألة.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
ويستحب قوله: (اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيْدُ نُسُكَ كَذَا فَيَسِّرْهُ لِي وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي).
هذه العبارة اشتملت على مسألتين:
- المسألة الأولى: أنه:
=يستحب عند الحنابلة: النطق بالنية عند إرادة الإحرام سواء أراد الإحرام بالحج أو بالعمرة.
وتقدم معنا أن الحنابلة لا يرون مشروعية النطق بالنية عند إرادة الإحرام بالصلاة، وفرقوا بينهما: لأن نية النسك تطول على الإنسان وتكثر فيها الأعمال فناسب لذلك أن يصرح أو أن ينطق بالنية ليتصور العمل بخلاف الصلاة فإن وقتها وجيز ولا يدخل الإشكال على المصلي في ضبط نيته.
= والقول الثاني: أن النطق بالنية لا يشرع ولا يستحب وليس له أصل في السنة وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عمراً وحجوا ولم ينقل عنهم أنهم نطقوا بالنية.
فالأقرب والله أعلم: أن النطق بالنية لا يشرع إن لم نقل إنه بدعة.
والنطق بالنية شيء والتلبية التي ستأتينا شيء آخر.
(3/71)
________________________________________
- المسألة الثانية: - التي اشتملت عليها عبارة المؤلف - رحمه الله -: أنه يستحب للمحرم أن يشترط فيقول: (اللهم محلي حيث حبستني).
= ومذهب الحنابلة: أن الاشتراط سنة مطلقاً.
واستدلوا على هذا:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على ضباعة بنت الزبير وهي على وشك الإحرام وقد كانت تشتكي مرضاً فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني).
فقالوا: هذا دليل يدل على أنه يستحب للإنسان إذا أراد أن يحرم أن يشترط خشية أن يقع في مانع من إتمام النسك.
= القول الثاني: أن الاشتراط لا يشرع مطلقاً.
واستدلوا على هذا:
- بأن الصحابي الجليل والفقيه الكبير ابن عمر - رضي الله عنه - سأل عن الاشتراط: فقال: حسبكم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. وقد كان ابن عمر ينهى عنه، فهو - رضي الله عنه - يرى أن الاشتراط لا يشرع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط هو ولا أصحابه وأن حادثة ضباعة حادثة عين.
=القول الثالث: أن الاشتراط يشرع فقط لم خشي على نفسه من عدم إتمام النسك.
فإذا خشي الإنسان أن لا يستطيع أن يتم النسك لمرض أو لحيض بالنسبة للنساء أو لأي سبب من الأسباب فإنه والحالة هذه يشرع له أن يشترط.
وصاحب هذا القول رأى أنه بذلك جمع بين الأقوال. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط هو ولا أصحابه وأمر ضباعة أن تشترط فجمع بين الأدلة: بأنه يشرع لمن كانت حاله تشبه حالة ضباعة - رضي الله عنها - من حيث خشية عدم التمكن من إتمام النسك.
= والقول الرابع: أن الاشتراط واجب فإن لم يشترط فهو آثم. وإلى هذا ذهب الشيخ الفقيه ابن حزم - رحمه الله -. وهو لاشك أنه قول ضعيف وفيه شذوذ.
والراجح والله أعلم الذي تجتمع به الأدلة القول الثالث لكونه أخذ بجميع النصوص. وأما مذهب ابن حزم فضعفه واضح إن شاء الله.
ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بالأنساك:
- فقال - رحمه الله -:
وأفضل الأنساك (1) التمتع.
الأنساك في الحج ثلاثة:
1 - التمتع.
2 - والقران.
3 - والإفراد.
(3/72)
________________________________________
وقول المؤلف - رحمه الله -: (وأفضل الأنساك التمتع) دليل على أنه يجوز للإنسان إذا أراد أن يحرم أن يحرم بأي من الأنساك الثلاثة فإن أراد أن يتمتع يتمتع وإن أراد القران أو الإفراد فعل.
وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم:
= فالقول الأول: هو ما ذهب إليه المؤلف - رحمه الله - وهو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء وعامة التابعين والفقهاء كلهم طبقة عن طبقة: أنه يجوز للإنسان أن يتخير ما شاء من الأنساك.
واستدلوا على هذا:
- بحديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بعمرة وحج وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج.
- وذكر جابر - رضي الله عنه - في الصحيح كما ذكرت عائشة - رضي الله عنها - تماماً.
- وذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضاً في الصحيح كما ذكرت عائشة تماماً.
فدلت هذه الأحاديث الثلاثة على أن من أراد الحج فهو مخير بين هذه الأنساك الثلاثة.
= والقول الثاني: وإليه ذهب ثلاثة على رأسهم الصحابي الجليل الفقيه الكبير - رضي الله عنه -: ابن عباس ثم تابعه ابن حزم ثم تابعهم ابن القيم.
فهؤلاء يرون أنه يجب على من أراد الحج أن يحرم متمتعاً.
واستدلوا - رحمهم الله -:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ساق الهدي ووصل إلى مكة أمر جميع الصحابة الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا الحج وأن يقلبوه إلى عمرة ويتمتعوا.
- كما أنه - صلى الله عليه وسلم - تحسر وتمنى أنه لم يسق الهدي لكي يحرم متمتعاً.
فقالوا هذا أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يحرم الإنسان بالعمرة متمتعاً والأمر يدل على الوجوب بل أن هذا الأمر أكد بالغضب وتعنيف الصحابة من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا القول - الثاني - قول فيما يظهر لي ضعيف جداً وهو قول كما قال الشيخ الشنقيطي - رحمه الله -: (قول مهجور) لم يعمل به ربما من عهد الصحابة إلى اليوم إلا من قبل قائليه.
كيف نقول أنه يجب على الإنسان أن يحرم بالتمتع وعروة بن الزبير - رضي الله عنه - يقول: إن الخلفاء الثلاثة والمهاجرين والأنصار كانوا يحجون مفردين؟
(3/73)
________________________________________
كيف للإنسان أن يقول: يجب على الحاج أن يحرم متمتعاً ونحن نرى أفضل خلق الله - الخلفاء الثلاثة والمهاجرون والأنصار يحرمون مفردين؟
ولهذا أقول إن هذا القول على جلالة قائليه وعظم شأنهم أنه قول ضعيف جداً وهو قول مهجور.
إذاً الراجح إن شاء الله أنه يجوز للإنسان أن يتخير من الأنساك ما شاء.
- قال - رحمه الله -:
وأفضل الأنساك: التمتع.
= ذهب الحنابلة وهو من المفردات إلى أن أفضل الأنساك التمتع.
= وفي رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهي أيضاً من المفردات: أن أفضل الأنساك التمتع لكن لمن لم يسق الهدي، وذهب إلى هذا القول عدد من أهل العلم من المحققين أن أفضل الأنساك التمتع.
واستدلوا:
- بالحديث السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بالتمتع وأقل درجات الأمر أنه هو المسنون والمقدم.
= القول الثاني: أن أفضل الأنساك الإفراد وربما نقول أن هذا قول الجمهور.
واستدل هؤلاء بعدة أدلة:
- الدليل الأول: ما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحين - كما تقدم معنا - أنها قالت: وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج.
- والدليل الثاني: أنه ثبت عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج. بل ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن ستة عشر صحابياً رووا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج مفرداً.
- واستدلوا بما ذكرته سابقاً عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - أن الخلفاء الثلاثة - رضي الله عنهم - والمهاجرين والأنصار كانوا يحجون مفردين، والظن بهؤلاء أنهم يختارون أفضل الأنساك.
= القول الثالث: أن أفضل الأنساك القران.
واستدل هؤلاء بأحاديث أيضاً صحيحة:
- الحديث الأول: عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً وجمع في نسكه بين الحج والعمرة.
- وأيضاً أنه روي عن عدد كبير - وذكرت لكم أن ابن القيم أن ستة عشر صحابياً رووا القران وليس الإفراد ولذلك يقول الإمام أحمد - رحمه الله -: (لا أشك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً).
إذاً العدد الكبير من الصحابة الذين رووا نسك النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رووا القران لا الإفراد - فصح هذه المسألة.
(3/74)
________________________________________
قالوا: والله سبحانه وتعالى إنما يختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنساك لا سيما وهو سبحانه وتعالى يعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - لن يحج إلا في سنة واحدة.
= القول الرابع: أن التمتع هو أفضل الأنساك إذا كان الإنسان سيأتي بالعمرة والحج في سفر واحد، أما إذا كان سيأتي بالعمرة في سفر وبالحج في سفر آخر فالأفضل له الإفراد.
وصاحب هذا القول لم يفرق بين أن تكون سفرة العمرة في أشهر الحج أو في غيرها من الأشهر ما دام السفران في سنة واحدة.
وهذا القول هو القول الذي نصره شيخ الإسلام وأيده بالآثار وذكر أن به تجتمع النصوص. وقال: لذلك كان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يحجون مفردين، ويقوي هذا القول: صنع الصحابة حيث كان الصحابة يحرمون مفردين، ومع ذلك نقول: الأولى والأحسن أن يحرم الإنسان متمتعاً ليكون أتى بأفضل الأنساك على كل حال.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وصفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج من عامه.
صفة التمتع: أن يحرم بالعمرة في عامه ثم يفرغ منها ثم يحرم بحج.
وهذه الأشياء الثلاثة التي ذكرها المصنف - رحمه الله - هي شروط التمتع:
- أن يحرم بالعمرة في أشهر. هذا هوالشرط الأول.
- الشرط الثاني: أن يفرغ منها.
- الشرط الثالث: أن يحرم بالحج في عامه.
- قوله - رحمه الله -:
أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
هذا الشرط الأول من شروط التمتع: أنه لو لم يحرم بالعمرة في أشهر الحج لم يكن جمع بين نسكين في عام واحد.
فيشترط لصحة التمتع: أن تقع العمرة والحج كلاهما في أشهر الحج. فإن اعتمر في رمضان وحج في أشهر الحج فهو مفرد فلابد أن تكون العمرة في أشهر الحج.
الشرط الثاني:
- قوله - رحمه الله -:
ويفرغ منها.
معنى قوله: يفرغ منها: يعني يتحلل.
(معنى الفراغ في عبارة المؤلف - رحمه الله - أي أن يتحلل التحلل الشرعي بأداء جميع مناسك العمرة).
والدليل على ذلك:
- أنه لو أحرم بالحج قبل أن يفرغ من العمرة لصار قارناً وليس متمتعاً لأنه أدخل الحج على العمرة حيث أحرم بالحج وهو ما زال في إحرام العمرة وهذه صورة من صور القران.
(3/75)
________________________________________
إذاً هذا هو الدليل على اشتراط أن يفرغ من العمرة كما أنني لا أعلم خلافاً في اشتراط هذا الشرط فيمكن أن نقول: إجماع. الإجماع على اشتراط هذا الشرط، إذاً يشترط أن يفرغ من العمرة قبل أن يحرم بالحج للمعنى الذي ذكرت وللإجماع.
الشرط الثالث:
- قال - رحمه الله -:
ثم يحرم بالحج في عامه.
يجب أن يحرم بالحج في نفس العام الذي أخذ فيه العمرة، وهذا صرحوا فيه بالاتفاق، أي أنه شرط متفق عليه.
- ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة/196].
فإنه يدل على أنه يجب أن يتوالى النسكان فيأتي نسك الحج متوالياً مع نسك العمرة فلابد فيهما من الموالاة وأن يكونا في سنة واحدة.
وهذا كما قلت لكم - الشرط الثالث - محل اتفاق.
ثم لما فرغ الشيخ - رحمه الله - من شروط التمتع وهي ثلاثة انتقل إلى شروط وجوب الدم في التمتع، وكثير من إخواننا يخلط بين شروط التمتع وشروط وجوب الدم في التمتع وهما موضوعان منفصلان، لذلك يتصور أن يكون الإنسان من المتمتعين ولا يجب عليه دم لأن شروط التمتع انطبقت عليه وشروط الدم لم تنطبق عليه، فنقول: أنت متمتع ولا يجب عليك دم، لكن مع ذلك ينبغي أن يلاحظ الإنسان أن شروط التمتع وشروط وجوب الدم في المتعة متقاربة وأحياناً تكون متطابقة لكن يجب أن يعلم الإنسان أن بينهما فرق في الفقه وفي الثمرة بحيث ربما يكون الإنسان متمتعاً ولا يجب عليه دم.
بدأ بشروط الدم.
- فقال - رحمه الله تعالى -:
وعلى الأفقي دم.
ذكر المؤلف - رحمه الله - شرط واحد من شروط وجوب الدم وهو: أن يكون المتمتع من غير حاضري المسجد الحرام وهو معنى قوله: (وعلى الأفقي) فالأفقي من لم يكن من حاضري المسجد الحرام.
واشتراط أن يكون الإنسان ليس من حاضري المسجد الحرام ليجب عليه الدم في المتعة هذا شرط متفق عليه.
لكن اختلفوا في من هو الذي ليس من حاضري المسجد الحرام؟ أما أنه شرط فهذا متفق عليه. إذاً اتفقوا على اشتراط هذا الشرط واختلفوا في حد الأفقي أو في حد من ليس من حاضري المسجد الحرام.
= فمذهب الحنابلة وهو القول الأول: أن حاضر المسجد الحرام هم أهل الحرم ومن كان منه دون مسافة قصر.
واستدلوا على هذا:
(3/76)
________________________________________
- بأن الله تعالى قال: - (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) -[البقرة/196] ومن قرب من الشيء أخذ حكمه. والذين هم على مسافة دون مسافة القصر هم قريبون من أهل الحرم فيأخذون حكم أهل الحرم. بدليل أن من كان دون مسافة قصر يأخذ أحكام أهل مكة في السفر فدل على أن لهم نفس الأحكام بسبب القرب.
= القول الثاني: أنهم أهل مكة فقط وهو مذهب المالكية.
فإذا كان الإنسان يسكن في الحرم ولكنه خارج مكة إذا تصورنا وقوع هذا فإنه يجب عليه الدم عند المالكية.
واستدلوا على هذا:
- بأن المقصود بقوله - (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) -[البقرة/196] أن المقصود بالمسجد الحرام في الآية مسجد الكعبة فقط. ومن كان حول مسجد الكعبة هم فقط أهل مكة. فكل من كن خارج مدينة مكة ولو كان في الحرم فإنه يجب عليه الدم.
= القول الثالث: أنهم أهل الحرم فقط وهو مذهب ابن حزم ومال إليه ابن القيم.
ما هو الفرق بين هذا القول ومذهب الحنابلة؟
الفرق بينهما هو: أن من كان على مسافة قصر من أهل الحرم لا يدخل على هذا القول ضمن حاضري المسجد الحرام فيجب عليه دم، إذاً هذا هو الفرق فابن حزم يضيق ويجعله الحرم فقط دون من كان على مسافة قصر.
واستدل على هذا:
- بأن الله سبحانه وتعالى نص على أن المقصود بالأفقي هو من كان حاضر المسجد الحرام فقط. من كان في الحرم هو المقصود ومن كان خارج الحرم فليس بالمقصود بالآية بنص الآية.
= والقول الرابع والأخير: أن المقصود بحاضري المسجد الحرام هم أهل مكة والحرم:
o فإن كان من أهل مكة خارج الحرم دخل في الآية.
o وإن كان من أهل الحرم خارج مكة أيضاً دخل في الآية.
وإلى هذا القول ذهب شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - وهو قول إذا تأمله الإنسان وجده متين جداً في الحقيقة وفيه جمع بين أقوال أهل العلم.
ولكن ينظر فيمن سبق الشيخ - رحمه الله - في هذا القول فإني لم أجد مع العلم أن البحث غير موسع لكني لم أجد من سبقه - رحمه الله - بهذا التفصيل.
(3/77)
________________________________________
لكنه في الحقيقة قول جيد جداً وقوي. وهو أن المقصود أهل مكة وأهل الحرم لأن الآن يوجد من أهل مكة من هو خارج الحرم ويوجد من أهل الحرم م هو خارج مكة، فهذا القول قول وجيه.
وإذا تأملت وجدت أن هذا القول يكاد يتوافق مع قول الحنابلة. لأن الحنابلة عندهم: أن الأمر يشمل كل الذين على مسافة قصر من مكة فسيشمل أهل الحرم الذين هم خارج مكة لأنهم وإن كانوا خارج مكة لأن ليس بينهم وبين مكة مسافة قصر، فهو قول يقرب من قول الحنابلة لكن بهذا التفصيل وهو أن يشمل الأمر أهل مكة وأهل الحرم، وهو تفصيل قوي وسديد.
إذاً أخذنا الشرط الأول من شروط وجوب الدم في التمتع.
الشرط الثاني: أن لا يسافر بين النسكين - وهو شرط لم يذكره المؤلف.
وهذا الشرط اتفق عليه المذاهب الأربعة.
لكن اختلفوا في حد السفر المسقط للدم، وسيأتينا الخلاف في هذه المسألة.
= القول الثاني: أن المتمتع يبقى متمتعاً ولو سافر. وإلى هذا ذهب الفقيه الحافظ ابن المنذر فرأى - رحمه الله - أن الإنسان ولو سافر ورجع إلى بلده فإن دم المتعة لا يسقط عنه ويبقى متمتعاً.
واستدل:
- بالعمومات. فإن من سافر يصدق عليه أنه أخذ العمرة والحج في سنة واحدة فهو متمتع ويصدق عليه أنه تمتع بين الإحرامين.
واستدل الجماهير: وهم الأئمة الأربعة وغيرهم كفقهاء التابعين وغيرهم من فقهاء المسلمين:
- بأثر عمر بن الخطاب أنه قال: (من تمتع بالعمرة إلى الحج إن بقي في مكة فهو من المتمتعين وإن سافر أو رجع فليس من المتمتعين) , فاستدل الجمهور بهذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - على أن السفر يقطع أحكام التمتع.
واستدلوا على ذلك:
- بتعليل: وهو أن المتعة إنما سميت بذلك لأنه يترفه بترك أحد السفرين في أداء النسك أي أنه يأتي بالنسكين في سفر واحد، وهذا لا يصدق على من سافر بين النسكين فاستدلوا بالعلة التي من أجلها وجب هذا الدم وهو دم شكران.
الراجح: من حيث الأصل مع الجمهور لاستدلالهم بهذا الأثر الصحيح عن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -.
نأتي إلى المسألة الثانية: الاختلاف في حد السفر المسقط لدم المتعة.
فاختلف الأئمة الأربعة في هذه المسألة على أقوال:
(3/78)
________________________________________
= القول الأول: أنه إذا خرج مسافة قصر سقط عنه الدم مباشرة.
= القول الثاني: أنه إذا خرج ورجع إلى مصره أو إلى أبعد منه سقط عنه الدم وإلا فلا.
= القول الثالث: أنه إذا رجع إلى مصره سقط الدم وإلا فلا.
الفرق بين القول الثاني والثالث: الفرق بينهما يتصور في شخص سافر إلى مدينة أبعد من مدينته فعلى القول الثاني سقط عنه الدم وعلى القول الثالث لم يسقط عنه الدم لأن أصحاب القول الثالث يشترطون في سقوط الدم أن يرجع فقط إلى ((مصره)) فإن رجع إلى غير مصره سواء كان هذا المصر أبعد أو أقرب من مصره فإن الدم لا يسقط.
والأقرب والله أعلم - على أن هذه المسألة ليس فيها نصوص ولذلك كثر فيها الأقوال وتشعبت لأنه ليس في الباب نص يرجع إليه - لكن الأقرب هو أنه إذا رجع إلى بلده سقط عنه الدم وإن رجع إلى غير بلده لم يسقط عنه الدم.
ووجه الترجيح:
• أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: فإن رجع. والرجوع المطلق إنما هو في رجوع الإنسان إلى بلده لا في رجوعه إلى بلد آخر، يوضحه ما يحصل الآن من كثير من الحجاج فهو في الحقيقة يوضح أثر أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -.
فإذا جاء أهل المغرب مثلاً إلى مكة وأخذوا العمرة ثم ذهبوا إلى المدينة قبل أن يحرموا بالحج هل يصدق عليهم أنهم رجعوا أو سافروا؟ هل يمكن أن نقول أنهم رجعوا؟ وإذا سافروا إلى المغرب هل نقول رجعوا؟ إذاً لعل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - يشير بكلمة رجع إلى هذا المعنى فيكون سبب الترجيح هو ورود لفظة رجع في أثر أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -.
• كما أن هذا القول فيه توسعة على الناس لأن الحجاج إذا قيل لهم ذهبت العمرة أو سقطت العمرة شق عليهم هذا الأمر جداً وكثير منهم يرغب بأن يرجع بنسك التمتع لأنه أفضل الأنساك.
ويشترط لوجوب الدم أن ينوي التمتع عند الإحرام بالعمرة:
- لأنه أراد أيجمع بين نسكين فوجب أن ينوي قبل أن يشرع في الأول منهما.
- وقياساً على الجمع بين الصلاتين.
= والقول الثاني: أنه لا يشترط أن ينوي التمتع عند إحرامه بالعمرة. بل لو أحرم بالعمرة بلا نية تمتع ثم أحرم بالحج في عامه فهو متمتع نوى أو لم ينوي.
(3/79)
________________________________________
المثال الذي يبين الخلاف: لو أن رجلاً جاء إلى مكة في أشهر الحج واعتمر ولم ينو الحج أصلاً ولا التمتع ولم يخطر بباله بل كان ناوياً الرجوع إلى أهله ثم يسر له أن بقي في مكة إلى الحج ثم أحرم بالحج.
فـ:
o على القول الأول لا يعتبر متمتعاً.
o وعلى القول الثاني يعتبر من المتمتعين. وهو القول الراجح إن شاء الله.
الشرط الرابع:
= عند الحنابلة -:
أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده لأنه بذلك يحصل له الترفه بترك أحد السفرين بينما إذا أحرم بالعمرة من مكة أشبه حاضري المسجد الحرام.
=والقول الثاني: أنه لا يشترط للإنسان أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده بل لو أحرم من أدنى الحل ثم أحرم بالحج بعد ذلك فهو متمتع ويجب عليه الدم وله أجر المتعة إن شاء الله.
والفرق بينهما يتصور في رجل سافر إلى مكة لا يريد العمرة ولا الحج في أشهره فلما وصل إلى مكة حضرته النية وأراد أن يحرم بالعمرة والحج.
o فعلى القول الأول: يشرط أن يرجع إلى ميقات بلده فإن أحرم من الحل فليس من المتمتعين.
o وعلى القول الثاني: وإن أحرم من الحل فهو متمتع له أحكام المتعة.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،،،
(3/80)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (5)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
انتهينا بالأمس من بيان صفة التمتع والشروط الخاصة بالتمتع والشروط الخاصة بدم المتعة وبيان أنه لا يلزم من توفر شروط أحدهما توفر شروط الآخر، أي: أن شروط دم المتعة تختلف عن شروط التمتع، بمعنى أنه قد تصدق على شخص شروط الدم دون شروط التمتع وقد يقع العكس.
والمؤلف - رحمه الله - ذكر التمتع لكونه أفضل الأنساك ولكنه لم يذكر - رحمه الله - ما يتعلق بصفة الإفراد والقران.
o فالإفراد:
هو: أن يحرم الإنسان بالحج وحده ويمضي في الأنساك إلى أن يتحلل ويتم نسكه.
والإفراد ليس له عند أهل العلم إلا صورة واحدة فقط كما في التمتع فالإفراد والتمتع لكل منهما صورة واحدة فقط.
(3/81)
________________________________________
نأتي إلى القران.
o القران:
وله عند أهل العلم ثلاث صور:
- الصورة الأولى المعروفة والمتبادرة إلى الذهن: أن يحرم بالحج والعمرة في وقت واحد من الميقات ويتم الأنساك إلى أن يفرغ من حجه. ويقول عند إرادة الإحرام: لبيك حجاً وعمرة، أو يقول: لبيك عمرة وحجا. والأفضل أن يقول: لبيك عمرة وحجة ليتوافق لفظه مع لفظ الحديث. وهذه الصفة مشروعة باتفاق أهل العلم بل تقدم معنا أن عدداً كبيراً من أهل العلم يرون أنها أفضل الأنساك.
- الصورة الثانية: أن يحرم الإنسان بالعمرة أولاً ثم يدخل عليها الحج.
والدليل على جواز هذه الصفة:
- حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها أحرمت بالعمرة ثم لما حاضت وخشيت فوات الحج أدخلت الحج على العمرة.
- والدليل الثاني: الإجماع وقد حكاه شيخ الإسلام بن تيمية وابن القيم - رحمهما الله -.
* * مسألة/ وظاهر عبارات أهل العلم - رحمهم الله - أنه لا يشترط لهذه الصفة أن تكون بعذر بل يجوز للإنسان أن يدخل الحج على العمرة ولو بلا عذر.
والإجماع الذي حكاه الشيخان أيضاً مطلق لم يشترط أن يكون هناك عذر.
وهذا هو الصحيح: أنه يجوز مطلقاً.
ويشترط:
= عند لحنابلة للصورة الثانية وهي أن يدخل الحج على العمرة - أن يكون إدخال الحج على العمرة قبل بداية طواف العمرة.
- لأنه إذا بدأ بالطواف فقد بدأ بالتحلل.
= والقول الثاني: أنه يجوز للإنسان أن يدخل الحج على العمرة ولو بعد الشروع في الطواف.
- لأن صورة القران تصدق عليه حينئذ ولو كان شرع في طواف العمرة.
والأقرب والله أعلم: القول الثاني وهو أنه يجوز إدخال الحج على العمرة ولو بعد الشروع في طواف العمرة.
وفهم مما تقدم أنه لا يجوز لإنسان أن يدخل نسك الحج على العمرة بعد الشروع في السعي، إنما الخلاف فيما إذا أدخل الحج على العمرة بعد الشروع بطواف العمرة فقط.
- الصورة الثالثة: أن يحرم الإنسان بالحج مفرداً ثم يدخل عليه العمرة.
وهذه الصورة ممنوعة:
= عند الحنابلة. فإن فعل فإن إحرامه بالعمرة ملغي لا قيمة له وهو ما زال مفرداً.
واستدلوا على هذا بأمرين:
- الأول: أنه روي عن علي - رضي الله عنه - النهي عن هذه الصورة. وبهذا الأثر استدل الإمام أحمد - رحمه الله -.
(3/82)
________________________________________
- والثاني: أنه لا ينتفع بعمله هذا زيادة إذ عمل المفرد والقارن واحد.
وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله -.
= القول الثاني: جواز إدخال العمرة على الحج.
واستدلوا بدليلين:
- الدليل الأول: قياساً على العكس: فإذا جاز إدخال الحج على العمرة فيجوز إدخال العمرة على الحج.
- الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم أولاً بالحج ثم أدخل عليه العمرة.
وهذا الحديث يستدل به بعض الفقهاء وتتبعت أحاديث الحج تتبعاً لا بأس به فلم أجد في الأحاديث التصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج أولاً ثم أحرم بالعمرة إنما فيه قوله في الحديث القدسي: (صل في هذا الوادي وقل عمرة في حجة).
فالفقهاء وشراح الأحاديث قالوا: لا يوجد - وهذا هو الأمر المهم - لا يمكن التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض إلا أن نفترض أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج ثم أدخل عليه، وما دام لا يمكن التوفيق بين النصوص إلا بهذا القول صاروا يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة وإلا لا أعلم أنه يوجد حديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا صنع، ومن أدلة عدم الوجود أن الحفاظ المتأخرين من الشراح صرحوا أن اعتمادهم في إثبات هذه الطريقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أنه لا يمكن الجمع بين النصوص إلا إذا حملنا عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا المحمل.
* * مسألة: أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج. - هكذا هذا لفظه في البخاري.
وظاهر هذا اللفظ عكس ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني. وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالعمرة أولاً ثم أدخل عليه الحج.
(3/83)
________________________________________
ولكن مع ذلك الشراح ذكروا أنه لا يمكن أن نحمل هذا الحديث على ظاهره بل نقول: أراد ابن عمر - رضي الله عنه - بهذا الكلام أن يبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً بغض النظر عن الصورة التفصيلية لكيفية نسكه فحملوه على هذا المحمل وإن كان الفظ صريحاً لكنهم لم يرتضوا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالعمرة أولاً وحملوا هذا اللفظ على أنه أراد الصورة العامة لا الصورة التفصيلية والذي دعاهم إلى هذا الحمل هو أنه لا يمكن التوفيق بين الأحاديث إلا إذا قلنا بهذا القول.
والراجح - والله أعلم - الجواز:
- لأنه وإن استدل الإمام أحمد - رحمه الله - بأثر علي إلا أن أصحاب القول الثاني معهم ظاهر السنة - وليس صريحها - فهذا يجعل الإنسان يركن إلى هذا القول، ثم إذا أحرم الإنسان بالحج ثم أدخل عليه العمرة استفاد سقوط نسك العمرة عنه وتقرب إلى الله بالهدي لأن القارن يجب عليه الهدي، فبين أن لهذا العمل فائدة كبيرة.
-
ثم قال - رحمه الله تعالى -:
وإذا حاضت المرأة فخشيت فوات الحج: أحرمت به وصارت قارنة.
هذه إحدى صور القران وهي الصورة الثانية.
ودليلها:
- حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي تقدم معنا أنها أحرمت بالعمرة ثم خشيت فوات الحج لأنها حاضت فأدخلت الحج على العمرة.
إذاً من خشي فوات الحج وهومحرم بالعمرة تمتعاً فإنه يدخل الحج على العمرة سواء كانت خشية الفوات بسبب الحيض بالنسبة للنساء أو بأي سبب بالنسبة للرجال، فما دام خشي أن يفوت الحج فالحل أن دخل الحج على العمرة.
= والقول الثاني: أن من أحر بالعمرة ثم خشي فوات الحج ولن يتمكن م إتمام العمرة كالحائض فحكمه أن يرفض العمرة وهو معذور بهذ الرفض لأنه لا يستطيع إتمام النسك.
وهذا مذهب الأحناف.
وهو غاية في السقوط والضعف: - لأنه مخالف لنص السنة الصريحة فإن هذه المسألة أفتى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرها أن تحرم بالحج فكيف نقول بأن الحل أن ترفض العمرة ويكون رفضها مقبولاً في هذه الصورة لأنها معذورة.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
(3/84)
________________________________________
وإذا استوى على راحلته قال: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ)).
يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين الوقت الذي يشرع فيه التلبية، فهنا يريد المؤلف - رحمه الله - أن يتكلم عن التلبية وسبق أنه تكلم عن نية الإحرام وذكرت لك أن الحنابلة يفرقون بين نية الإحرام وبين التلبية فيجعلون وقت استحباب نية الإحرام بعد الصلاة وقت استحباب التلبية إذا استوت به راحلته، إذاً يفرقون بين وقت النية ووقت التلبية.
= والقول الثاني: أن وقت النية وقت التلبية واحد.
واستدلوا:
- - بأن هذا هو ظاهر السنة أنه - صلى الله عليه وسلم - نوى ولبى في قت واحد.
وهذا القول الثاني ظاهر القوة وهو الصواب إن شاء الله.
نأتي الآن إلى مسألة: متى يشرع للإنسان أن يلبي؟
= عند الحنابلة إذا استوى على راحلته. والمؤلف - رحمه الله - خالف في هذه المسألة المشهور من مذهب الحنابلة، فالحنابلة في المشهور عندهم يرون أن وقت التلبية بعد الإحرام أي بعد الصلاة.
إذاً ما مشى عليه المؤلف - رحمه الله - هنا هو أنه يحرم إذا ستوت به راحلته واستدل الحنابلة على هذا الحكم - يعني ما ذكره المؤلف - رحمه الله - هنا:
- - بحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استوى على راحلته أهل ولبى - صلى الله عليه وسلم -.
= القول الثاني: أن التلبية تكون بعد الصلاة فإذا صلى نوى ولبي.
واستدلوا على هذا:
- - بحديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بعد الصلاة.
وهذا الحديث على شهرته وكثرة الاستدلال به إلا أنه لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نُقِلَ عنه نَقْلٌ صحيح أنه لبى بعد الصلاة.
= والقول الثالث: أنه إذا استوى على البيداء - يعني إذا على هذا المرتفع. والبيداء مكان معروف قريب من ميقات أهل المدينة.
واستدلوا على ذلك:
- - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استوى على البيداء أهل بالتلبية.
- وكان ابن عمر - رضي الله عنه - ينكر هذا القول إنكاراً شديداً ويقول: ما أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لما استوى على راحلته.
(3/85)
________________________________________
والأقرب والله أعلم من هذه الأقوال أنه بعد الصلاة وإن كان حديث ابن عباس ضعيف لمن هذا ظاهر السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نوى ولبى في وقت واحد وذلك يكون بعد الصلاة.
ويؤيد ذلك أن ضعف حديث ابن عباس ليس ضعفاً شديداً وإنما ضعف بالإمكان أن يستأنس به.
الإضافة إلى أن عدداً من المعاصرين صح هذا الحديث.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
يصوت بها الرجل.
يعني: أن المشروع في حق الرجل أن يرفع صوته قدر ما يستطيع.
وهذا معنى قوله: يصوت.
والدليل على ذلك:
- ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرني جبريل أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال.
- والدليل الثاني: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرفعون أصواتهم حتى تبح من شدة رفع الصوت.
ولما بين ما يتعلق بالرجل انتقل إلى المرأة:
- فقال - رحمه الله -:
وتخفيها المرأة.
أي أن السنة في حق المرأة أن تلبي بصوت منخفض.
والراجح أن المراد بالانخفاض هنا: أي بحيث تسمع من بجوارها من النساء لا أن تلبي بصوت لا يسمعه من بجوارها - يعني لا تلبي ي نفسها وإنما تلبي بصوت منخفض يسمعه من بجوارها من النساء.
هذه هي السنة لأن التلبية نوع من الشعائر وإنما أمرنا المرأة بخفض الصوت خشية الافتتان ولأن صوت المرأة غالباً يؤدي إلى انشغال أذهان الرجال فلذلك أمرت بخفض الصوت وإلا فإن الأصل أن هذه شعيرة تحتاج إلى إعلاء.
فإذاً لا تتجاوز المرأة إسماع من بجوارها ولو كانت في مكان منعزل خاص بالنساء فإنها لا تعدى هذا الحد وهو أن تسمع من بجوارها.
باب محظورات الإحرام
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
باب محظورات الإحرام.
الحظر في لغة العرب: المنع.
والمقصود بمحظورات الإحرام: ما يحرم على المحرم فعله بسبب الإحرام.
فالكذب يحرم على المحرم فعله لكن ليس بسبب الإحرام إنما بالتحري الأصلي.
إذاً المحظورات المقصودة في هذا الباب فقط ما يكون سبب المنع منه الإحرام وهي كما قال المؤلف - رحمه الله -: تسعة.
- قال - رحمه الله -:
(1) حلق الشعر.
حلق الشعر من محظورات الإحرام.
وحلق الشعر ينقسم إلى قسمين:
(3/86)
________________________________________
- القسم الأول: حلق شعر الرأس. وهو من محظورات الإحرام: بالنص والإجماع.
- أما النص فقوله تعالى: - (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) -[البقرة/196]. فهذه الآية نص في تحريم حلق شعر الرأس أثناء الإحرام.
- والثاني: الإجماع فقد حكى الإجماع أكثر من واحد ولا يعلم في هذه المسألة مخالف لصراحة النص في النهي عنه.
- القسم الثاني: ما عدا شعر الرأس من شعر البدن.
وفيه خلاف بين أهل العلم - رحمهم الله - على قولين:
= القول الأول: وإليه ذهب الأئمة الأربعة والجماهير والجم الغفير من الفقهاء أنه من محظورات الإحرام.
قال الإمام أحمد لا أعلم أحداً فرق بين الرأس والإبط.
واستدلوا بدليلين:
- الدليل الأول: القياس على شعر الرأس. بجامع ترك الترفه أي أن الشارع إنما نهى المحرم عن أخذ شعر الرأس لأن لا يترفه والترفه حاصل بأخذ الشعور الأخرى.
- - الدليل الثاني: قوله سبحانه وتعالى - (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) -[الحج/29].
قضاء التفث فسره ابن عباس - رضي الله عنه - بأخذ شعر العانة والإبط وتقليم الأظافر.
وجه الاستدلال بالآية: أنه تعالى قال: {ثُمَّ لْيَقْضُوا} والآية معطوفة على نحر الهدي.
فمعنى الآية أن الإنسان لا يقضي تفثه إلا بعد أن ينحر الهدي وما دام لم ينحر فهو محرم ويمنع من أخذ هذه الشعور وهو استدلال غاية في القوة كما ترى لا سيما وأن هذا التفسير مروي عن ابن عباس ولا يعرف له مخالف.
= القول الثاني: أن أخذ باقي الشعور جائز ولا يترتب عليه فدية وأن الممنوع فقط شعر الرأس.
وإلى هذا ذهب ابن حزم - رحمه الله -.
واستدل على ذلك كما هي طريقته:
- - بأنه ليس في النصوص مطلقاً المنع من أخذ باقي الشعور وإنما نص الله سبحانه وتعالى فقط على شعر الرأس.
وهو قول ضعيف جداً مخالف لظاهر الآية وللآثار عن الصحابة ولما عليه جماهير الفقهاء بل إن عبارة الإمام أحمد يفهم منها الإجماع حيث يقول - رحمه الله -: لا أعلم أحداً فرق بين شعر الرأس والإبط.
إذاً الراجح أن باقي الشعور كشعر الرأس وهي من محظورات الإحرام.
(3/87)
________________________________________
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى المحظور الثاني من محظورات الإحرام:
- فقال - رحمه الله -:
(2) وتقليم الأظافر.
تقليم الأظافر من محظورات الإحرام.
فإن قلم المحرم أظافره فعليه فدية كما سيأتي تفصيل أحكامها.
وليس في النصوص ما يدل على أن تقليم الأظافر من محظورات الإحرام. ولذلك الخلاف الذي سمعت في الشعر غير شعر الرأس وجد تماماً في حكم تقليم الأظافر سواء من حيث الأدلة ومن حيث القائلين فلا يختلف بشيء.
والراجح كذلك في هذه المسألة كالراجح في المسألة السابقة وهي أن تقليم الأظافر بمقتضى ظاهر الآية وفتاوى الصحابة من محظورات الإحرام وأن اختيار ابن حزم في هذه المسألة ضعيف.
ثم لما بين - رحمه الله - المحظور الأول والثاني انتقل إلى الضابط الذي تجب فيه الفدية في الشعور والأظافر:
- فقال - رحمه الله -:
فمن حلق أو قلم ثلاثة: فعليه دم.
إذا حلق الإنسان ثلاث شعرا فصاعداً: فعليه دم.
فإن حلق شعره ففيه: طعام مسكين.
وإن حلق: شعرتين: فيه طعام مسكينين.
وإن حلق بعض شعرة: فيه ما في حلق الشعرة.
واستدلوا:
- بأن الثلاثة أقل الجمع.
= القول الثاني: لأبي حنيفة - رحمه الله - أن الفدية تجب إذا حلق ربع الرأس فصاعداً. فإن حلق أقل من ذلك فلا فدية فيه.
= القول الثالث: للمالكية وهو أن الحلق الذي تجب فيه الفدية هو ما اتصف أحد صفتين إما أن يون فيه ترفه أو أن يكون فيه إزالة للأذى.
فإن حلق شعر يحصل به الترفه أو يحصل به إزالة الأذى: وجبت الفدية وإلا فلا.
ومعنى هذا القول: أن لا تجب الفدية إلا - في الحقيقة - عمم شعره بالحلق.
أما إذا حلق بعض الرأس فلا فدية فيه.
وهذا القول هو القول الصحيح.
فإن حلق الرأس أو أغلب الرأس ففيه الفدية.
وإن حلق دون ذلك ففيه طعام مسكين.
* * مسألة/ والفقهاء الذين يقولون حلق ما دون الثلاث شعرات مثلاً ليس فيه فدية يرون مع ذلك أنه: محرم.
فهو محرم وإن ل تكن فيه فدية.
إذاً: الحديث الآن لا عن حكم الحلق وإنما عن متى تجب الفدية وقد سمعتم الخلاف والراجح إن شاء الله مذهب المالكية.
-
ثم قال - رحمه الله تعالى -:
(3) ومن غطى رأسه بملاصق: فدى.
تغطية الرأس من محظورات الإحرام.
وهي في الجملة: محل إجماع.
(3/88)
________________________________________
- - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي سيأتينا: (ولا العمائم ولا البرانس) - فيما ينهى المحرم عن لبسه.
- - ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي وقصته ناقته: (ولا تخمروا رأسه).
إذاً من حيث الجملة دل على المنع منه النص والإجماع فلا إشكال فيه.
لكن من حيث التفصيل ففيه خلاف.
فتغطية الرأس تنقسم إلى قسمين:
- إما أن تكون بملاصق. - أو أن تكون بغي ملاصق.
القسم الأول: أن تكون بملاصق.
يعني أن يغطي رأسه بما يلاصق الرأس هذا ينقسم إلى قسمين:
- إما أن يغطي بملاصق معتاد. كالعمامة والطاقية أو الشماغ وما أشبه ذلك من الألبسة المخصصة للرأس.
- أو أن يغطيه بغير معتاد. كأن يضع عليه قرطاس أو أن يضع عليه خرقه ليست مما أعد لستر الرأس.
والنوعان ممنوعان. فإن غطى رأسه بملاصق معتاد أو غير معتاد فهو محرم وعليه الفدية.
القسم الثاني: أن يغطي رأسه بغير ملاصق. وهو ينقسم إلى قسمين:
- الأول: أن يكون غير الملاصق غير تابع للمحرم، والتابع هو الذي يتحرك بحركة المحرم وغير التابع هو الذي لا يتحرك بحركة المحرم.
مثاله: أن يستظل تحت سقف مبني أو أن يستظل تحت خيمة فهذه لأمور ليست تابعة تحرك بحركة المحرم فهذه لا إشكال أنه لا فدية فيها لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربت له خيمة بنمرة.
- الثاني: أن يكون غير ملاصق ولكنه تابع للمحرم.
كأن يستظل بمظلة شمسية أو بالسيارة أو بما أشبه هذه الأمور مما تحرك بحركة المحرم.
فهذه: = عند الحنابلة لا تجوز وفيها فدية.
واستدلوا على هذا:
- بأثر عن ابن عمر - رضي الله عنه -
وبأنها تابعة لهذا المحرم.
= والقول الثاني: أنه لا بأس بالاستظلال بغي الملاصق ولو كان تابعاً.
- - لما ثبت في الحديث الصحيح أن بلالاً وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر يستره بثوب إلى أن رمى جمرة العقبة.
(3/89)
________________________________________
فهذا الثوب الذي ستر به النبي - صلى الله عليه وسلم - تابع له ويتحرك بحركته بل إن الصحابي الجليل إما أن يكون بلال أو أسامة ولعله أسامة كان يقصد أن يتحرك إذا تحرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستمر الظل فوق رأسه - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا الحديث نص في المسألة.
ويجزم الإنسان ويقطع أن ابن عمر لم يعلم أن أسامة صنع هذا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلا لم يكن ليخالف أو أن يكون الإسناد إلى ابن عمر لا يثبت.
المهم أن هذا الأثر ليس مما يتمسك به في مقابل الحديث الصحيح.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
(4) وإن لبس ذكر مخيطاً: فدى.
لبس المخيط من محظورات الإحرام.
والمقصود بالمخيط: هو كل ما فصل على قدر عضو أو على قدر الجسم جميعاً.
فكل ملبوس فصل على قدر عضو من أعضاء الجسم أو على قدر الجسم كله فهو من محظورات الإحرام في باب اللباس.
والدليل على هذا:
- ما أخرجه في الصحيح عن ابن عمر أن الني - صلى الله عليه وسلم - سئل: ما يلبس المحرم؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يلبس القميص ولا العمائم ولا البرانس ولا السراويلات ولا الخفاف إلا من لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ثم نهى أن يلبس المحرم ثوباً مسه زعفران أو مسه ورس).
هذا الحديث: قاعدة في مسألة لبس المخيط والنهي عنه وتفصيل ما يجوز أن يلبس وما لا يجوز أن يلبس.
فكل ماذكر في الحديث وما يستوي معه في العلة فهو مما لا يجوز للإنسان أن يلبسه في الإحرام.
* * مسألة/ لبس الإزار المخيط. هذه المسألة الخلاف فيها طويل واشتهرت في هذا الوقت ولذلك سنفرد لها كلاماً خاصاً وربما يكون مكتوباً. والراجح في هذه المسألة والله أعلم أنه لا يجوز لإنسان أن يلبس هذا اللباس ومن أقوى الأدلة أن هذا اللباس إذا فصل على هذه الهيئة فقد فصل على قدر جزء من البدن وهو: الجزء الأسفل.
(3/90)
________________________________________
وكما أن الثوب الذي يفصل على قدر الدن كله ممنوع كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (القميص) كذلك ما فصل على قدر الجزء الأسفل من البدن فهو ممنوع لكن هذه المسألة: الخلاف فيها قوي والذين قالوا: أنه يجوز لبسه فقهاء كبار وأدلتهم قوية جداً وقولهم معتبر وليس هناك إجماع على المنع من هذه اللبسة وإنما هي لبسة خلافية وإن شاء الله نحن نلخص لكم جميع الأدلة والأقوال في مجلس آخر وأرجو أن تكون مكتوبة لأن الناس بحاجة إليها ويتبين الأمر لكن مع ذلك من الخطأ البين المغالاة في هذه المسألة وكثرة النقاش وإخراجها عن أن تكون من مسائل العلم إلى أن تكون مسألة من المسائل التي يكثر فيها النقاش والخلاف.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
(5) وإن طيب بدنه أو ثوبه، أو ادهن بمطيب، أو شم طيباً، أو تبخر بعود ونحوه: فدى.
التطيب من محظورات الإحرام بالإجماع في الجملة وبالنص.
- - أما النص فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يلبس ثوباً مسه رس ولا زعفران).
واختلف أهل العلم في الحكمة التي من أجلها نهي المحرم عن لبس الثوب الذي فيه زعفران وورس: هل هو لطيب رائحة الزعفران؟ أو لأن الزعفران ممايتجمل بلونه؟ اختلفوا على قولين في هذه المسألة:
= الجمهور على أن النهي لأجل الطيب لا لأجل الزينة وهذا هو الصواب. ويحتمل أن يكون النهي لأجل الأمرين.
لكن الذي يعنينا الآن ولاشك أنه داخل في النص: مسألة الطيب.
- الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الذي وقصته الناقة: (ولا تحنطوه). وفي لفظ صحيح إن شاء الله (ولا تطيبوه).
فدلت هذه النصوص على أن الطيب من محظورات الإحرام فإن تعطر المحرم أو مسه فإنه ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
أو شم طيباً.
= ذهب الحنابلة إلى أن شم الطيب أيضاَ من محظورات الإحرام.
واستدلوا على هذا:
- - بقولهم: وهل يقصد من الطيب إلا الشم.
فإذا شم المحرم الطيب فقد وقع في محظورات الإحرام.
وما استدل به الحنابلة وجيه: هل يقصد من الطيب شيء غير الشم؟ ولا يعترض على قول الحنابلة بأن المقصود من الطيب التجارة مثلاً لأن عندنا قاعدة وهي:
(3/91)
________________________________________
((أنه لا يمكن القول أنه يقصد من أي سلعة بيعها)).
لأن هذا القصد موجود في جميع السلع. فالمطعومات مثلاً المقصود منها الأكل وهو المقصود الأصل منها لا التجارة.
فمسألة البيع والاتجار ليست من مقاصد السلع الأساسية لأنها توجد في جميع السلع.
إذاً لا يعترض على الحنابلة بمثل هذا.
= القول الثاني: أن الشم ليس من محظورات الإحرام ولا حرج فيه وأن من شم طيباً فقد فعل أمراً مباحاً.
واستدلوا على هذا:
- - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من الطيب عند الإحرام في جسده وهذا يستلزم ولابد أنه سيشم الطيب أثناء أداء النسك.
فدل هذا على أن الشم ليس من محظورات الإحرام إذ يلزم من تطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشمه، ولوازم أقوال وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - معتبرة شرعاً.
= القول الثالث: أن المحظور تقصد الشم فإن تقصد أن يشم فقد فعل محظوراً وإن شم عرضاً من غير قصد فإنه لا يقع في محظور.
وهذا القول مال إليه ابن القيم وهو في الحقيقة قريب من مذهب الحنابلة بل إن بعض الحنابلة صرح أن مقصودهم (شم الطيب) يعني إذا تقصد.
القول الثالث وجيه لكن الإشكال ما يزول وظاهر كلام شيخ الإسلام أنه يميل لمذهب الحنابلة وأن الشم من محظورات الإحرام.
والحقيقة المسألة فيها إشكال ولذلك الأحوط أن لا يتقصد شم الطيب، فإذا لم يتقصد شم الطيب فلا إشكال أنه لم يقع في المحظور، فإن اعتبار شم الطيب من المحظورات مطلقاً ولو بغير قصد هذا خطأ لأننا نكاد نجزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شم الطيب الذي وضعه لا سيما وأنه كان يضع من أطيب الطيب كما في الحديث يعني من أحسن أنواع الطيب، فمثل هذا النوع لابد أن يشمه الإنسان، فالقول بأن شم الطيب من محظورات الإحرام مطلقاً ضعيف ويتنافى مع صنع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالراجح إما القول الثاني أو القول الثالث.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
أو تبخر بعود.
إذا تبخر بعود فقد وقع بمحظور من محظورات الإحرام، لأن العود هكذا يصنع به، إذاً لا يلزم أن يضع الإنسان الطيب لكن حتى لو تبخر بعود فقد وقع في المحظور لأن العود هكذا يوضع.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
(3/92)
________________________________________
(6) وإن قتل صيداً مأكولاً برّياً أصلاً ....
قوله: (وإن قتل) يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين أن قتل الصيد من محظورات الإحرام.
وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن المحظور هو القتل.
والصواب أن المحظور هو القتل وملك الصيد بأي طريقة سواء كان بالشراء أو بالهبة أو بأي طريق من الطرق فإنه من محظورات الإحرام، فليس المقصود في الحقيقة القتل فقط وإنما أن يتملك المحرم الصيد بأي طريق من الطرق، وإنما يعبر الفقهاء كثيراً بالقتل لأنه الغالب في الحصول على الصيد.
والدليل على تحريم الصيد:
- قوله تعالى: - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) -[المائدة/95].
فهذا النص صريح بأن الصيد من محظورات الإحرام.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
مأكولاً برّياً أصلاً.
الصيد الذي يحرم قتله له شروط اختصرها المؤلف - رحمه الله -:
ـ الشرط الأول: أن يكون مأكول اللحم، فإن قتل غير مأكول اللحم فلا شيء عليه.
واستدلوا على ذلك بأمرين
- الأول: أن الصيد عند الإطلاق يتناول مأكول اللحم لأن الناس يصيدون مأكول اللحم.
- الثاني: قوله تعالى - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) -[المائدة/95].
وجه الاستدلال: أن الآية منعت المحرم من قتل الصيد الذي يجوز له أن يقتله بدون إحرام وينتفع من هذا القتل وهو المأكول فقط، وهذا الاستدلال وجيه.
= والقول الثاني: أن المحرم ممنوع من قتل المأكول وغير المأكول، لعموم الآية.
والصواب مع القول الأول.
ـ الشرط الثاني: أن يكون متوحشاً أصلاً، ومقصوده أصلاً: أي أن الصيد المتوحش لو تأهل فلا يجوز أن نقتله والأهلي لو توحش يجوز أن نقتله. لماذا؟
لأن الفقهاء يقولون: العبرة بالأصل لا بالوصف الطارئ، فالوصف الطارئ لا يؤثر في الحكم، فإذاً لو تأهل واستأنس حيوان بري فإنه لا يجوز أنقتله وكذلك العكس، فلو توحش حيوان أهلي فيجوز للمحرم أن يقتله فإذاً العبرة بالأصل لا بالوصف الطارئ.
ـ الشرط الثالث: أن يكون برياً لا بحرياً.
(3/93)
________________________________________
- لقوله تعالى: - (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) -[المائدة/96].
فصيد البحر بالنسبة للمحرم جائز ولا حرج فيه.
إذاً يشترط في الصيد ليمنع هذه الشروط الثلاثة.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
ولو تولد منه ومن غيره.
تغليباً للحظر، فإذا اجتمع مبيح وحاظر غلب الحاظر.
وهي قاعدة شرعية صحيحة وفيها مؤلفات وأظن بعض إخوانا المعاصرين ألف فيها رسالة طيبة في تقرير قاعدة: ((إذا اجتمع مبيح وحاظر غلب الحاظر)).
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
أو تلف في يده: فعليه جزاؤه.
إذا تلف الصيد في يد المحرم ولو لم يصطده فعليه الضمان:
- لأن يده يد اعتداء وكان الواجب إما أن يطلقه أو أن يرده إلى المالك.
-
ثم قال - رحمه الله تعالى -:
ولا يحرم: حيوان إنسي ولا صيد البحر ولا قتل محرّم الأكل.
هذا تصريح بمفهوم الكلام السابق، تصريح بمفهوم الشروط السابقة، وأخذنا الكلام حول الإنسي وصيد البحر والخلاف في قتل المحرم محرم الأكل.
- ثم قال - رحمه الله تعالى -:
ولا الصائل.
الصائل: يجوز للإنسان أن يقتله ولو اجتمعت فيه الشروط:
- لأنه لما صال صار من جنس الدواب التي أمر الشارع بقتلها لأنها مؤذية.
فإذاً إذا دخل في زمرة الحيوانات المؤذية التي أمر الشارع بقتلها صار له نفس الحكم ولو كان مأكولاً وحشياً وانطبقت فيه الشروط.
* * مسألة/ فإذا قتله لأنه صال عليه فهو ميتة ولو كان مأكول اللحم:
- لأن القاتل الآن ليس من أهل الصيد ولا من أهل التذكية فيجوز له أن يقتله ولكن لا يجوز له ولا لغيره أن يأكله.
(3/94)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (6)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بدأ المؤلف - رحمه الله - بالمحظور السابع وهو عقد النكاح:
- فقال - رحمه الله -:
(7) ويحرم عقد النكاح.
وعقد النكاح من محظورات الإحرام التي اتفق الفقهاء عليها.
- لدلالة السنة الصريحة على ذلك في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب).
والمقصود بالمنع هم ثلاثة:
1. الزوج.
2. والزوجة.
3. والولي.
- وأما الشاهد فلا يدخل في الحديث لكن ذكر الفقهاء أنه يكره له أن يشهد وهو محرم.
فإذا عقد المحرم عقد النكاح فإن العقد يبطل.
والدليل على ذلك:
- - أن النهي في الحديث يعود إلى ذات العقد: (لا ينكح). وإذا عاد النهي إلى ذات العقد فهو باطل.
وعليه فإنه يلزم الزوج والزوجة إعادة العقد إذا عقداه أثناء الإحرام.
إذاً: الخلاصة أن عقد النكاح من المحظورات المتفق عليها على التفصيل الذي سمعت.
-
قال - رحمه الله -:
ولا فدية.
يعني: مع كون النكاح من المحظورات إلا أنه إذا وقع المحرم فيه فلا فدية عليه بل عليه الإثم والتوبة وفساد العقد دون الفدية.
والدليل على هذا:
- أنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل على وجوب الفدية على المحرم الذي عقد نكاح في أثناء الإحرام، والأصل براءة الذمة وحرمة مال المسلم لذلك قرروا أنه لا فدية.
ثم لما ذكر المؤلف - رحمه الله - النكاح ذكر الرجعة:
- فقال - رحمه الله -:
وتصح الرجعة.
الرجعة هي: أن يراجع المطلق زوجته الرجعية.
وسيأتينا في كتاب النكاح من هي الرجعية وغير الرجعية؟ وما هي الرجعة؟
والرجعة: = عند الحنابلة تجوز.
واستدلوا على جواز المراجعة بدليلين:
- - الأول: أن الحديث نهى عن النكاح والرجعة ليست نكاحاً.
- - الثاني: أن الأصل الجواز والمنع يحتاج إلى دليل.
= والقول الثاني: أن الرجعة أثناء الإحرام لا تجوز ولا تصح وعليه أن يراجع بعد الإحرام.
واستدلوا على هذا:
- بأن الرجعة أثناء الإحرام غالباً ما تؤدي إلى وقوع الوطء وما أدى إلى محظور فهو محظور.
والصواب إن شاء الله مع القول الأول، فيجوز للإنسان أن يراجع زوجته ولا حرج عليه والمنع من مثل هذا بدون دليل مذهب ضعيف.
ثم انتقل المؤلف بعد أن انتهى من المحظور السابع إلى المحظور الثامن.
- فقال - رحمه الله -:
(8) وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول: فسد نسكهما، ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام.
(3/95)
________________________________________
الثامن من محظورات الإحرام هو: الجماع.
والجماع من أعظم المحظورات والله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - كما سيأتينا في فتاويهم - عظموا قضية الجماع والوطء وما يتعلق به، وعظموا تحريمه وعظموا فيه الفدية، لذلك سيأتينا في بعض المسائل أن الراجح في بعضها التشديد انطلاقاً من ملحظ وهو أن الشارع في جنس الوطء في الحج شدد الأمر من حيث التحريم والفدية، ولذلك تجد أن الصحابة - رضي الله عنهم - وعلى رأسهم ابن عباس - رضي الله عنه - شددوا في هذا الباب في أكثر من مسألة ستأتينا الآن.
نبدأ بالمسألة الكبيرة وهي:
ـ الجماع قبل التحلل الأول: فهو أعظم محظورات الإحرام.
والجماع قبل التحلل الأول محرم بإجماع الفقهاء لم يخالف فيه أحد.
- لقوله تعالى: - (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ) -[البقرة/197] قال ابن عباس - رضي الله عنه - الرفث: الجماع ومقدماته.
والجماع قبل التحلل الأول ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: أن يكون قبل الوقوف بعرفة.
فإذا جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه بإجماع الأمة، فقد أجمعوا على أن الحج فاسد.
واستدلوا على فساده:
- بالآثار الصحيحة الثابتة المروية عن عمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- القسم الثاني: أن يكون بعد الوقوف بعرفة.
= وأيضاً ذهب إلى فساده الجماهير والجم الغفير من أهل العلم ولم يخالف في هذه المسألة إلا:
= الأحناف: فهم يرون أن الجماع بعد الوقوف بعرفة لا يفسد الحج.
واستدلوا على هذا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الحج عرفة).
والصواب مع الجمهور:
- - لأن الآثار التي رويت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تفرق بين أن يقع قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة.
ولذلك تكون الخلاصة أن الجماع قبل التحلل الأول مفسد للحج مطلقاً بالإجماع قبل عرفة وعلى الصواب الذي عليه الجماهير: بعد عرفة.
ثم لما بين المؤلف - رحمه الله - مسألة حكم الجماع قبل الحلل الأول ذكر ما يترتب على هذا الحكم:
فالأثر الأول:
- قال - رحمه الله -:
فسد نسكهما.
وتحدثنا الآن عن أقسام فساد النسك.
(3/96)
________________________________________
الأثر الثاني:
- قال - رحمه الله -:
ويمضيان فيه.
يعني أن من جامع قبل التحلل الأول: فسد نسكه ويجب عليه وجوباً أن يمضي في هذا النسك الفاسد.
ولا يعلم لهذا الحكم نظير في الشرع بأن يمضي الإنسان في عبادة فاسدة وهذا يؤكد ما ذكرت لكم سابقاً أن الشارع وفتاوى الصحابة تعظم هذا الأمر في الحج بشكل لافت للانتباه.
والدليل على وجوب المضي:
- الآثار: ذات الآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - التي دلت على الفساد فإنها دلت على وجوب المضي.
لكن وقع في هذه المسألة خلاف وهو وجوب المضي:
= فالجماهير: ذهبوا - كما ذكرت لك - وحسب ما ذكره المؤلف إلى وجوب المضي.
= والقول الثاني: أن الحج يفسد ولا يمضي فيه بل ينصرف إلى أهله، وإلى هذا ذهب الفقيه ابن حزم - رحمه الله -.
واستدل على ذلك:
- بأن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا رسوله (أي المضي في الحج الفاسد).
والجواب على ما استدل به ابن حزم - رحمه الله -:
أن هذا المضي إن كان الحج فاسداً فعليه أمر الله ورسوله بدلالة الآثار ولا يعلم مخالف بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
= القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - أن من أفسد نسكه بالجماع قبل التحلل الأول فإنه يتحلل بعمرة ويمضي إلى أهله.
والصواب: القول الأول:
- لصراحة الآثار ووضوحها في مسألة وجوب المضي.
والأثر الثالث (الأخير):
- قال - رحمه الله -:
ويقضيانه ثاني عام.
وجوب القضاء ثاني عام محل اتفاق بين الفقهاء ودلت عليه الآثار، ويجب أن يقضي هذا النسك الفاسد من حيث أحرم به عام أول، وهذا أيضاً نوع من التشديد في جنس هذا المحظور.
وحكم هذا الحج الثاني - القضاء - وحكم الحج الذي مضى فيه: حكم الحج الصحيح في كل شيء.
فإذا أفسد المحرم نسكه ومضى فيه وألزمناه أن يمضي فيه فهذا الحج الذي مضى فيه له نفس أحكام الحج الصحيح من وجوب الكفارات ولزوم أداء الأركان والواجبات وأنه لو أفسده بجماع آخر فعليه أن يمضي فيه وأن يقضيه، وكذلك حجة القضاء تأخذ نفس الأحكام - أحكام الحج الصحيح.
إذاً بين المؤلف - رحمه الله - ثلاثة آثار للجماع:
- الأول: فساد النسك.
- والثاني: وجوب المضي.
(3/97)
________________________________________
- والثالث: عليه أن يحج من العام المقبل.
وبقي أثران: وهما الرابع والخامس:
- فالأثر الرابع: الإثم العظيم ووجوب التوبة.
- والخامس والأخير: وجوب الفدية كما سيأتينا مفصلاً في باب الفدية.
فترتب على الجماع قبل التحلل الأول كل هذه الآثار.
بَيَّنَ المؤلف - رحمه الله - حكم الجماع قبل التحلل الأول ولم يتطرق إلى حكم الجماع بعد التحلل الأول.
فالجماع بعد التحلل الأول: محرم بالإجماع. ولا يفسد النسك عند:
= الجماهير.
= والقول الثاني: أنه يفسد النسك:
- قياساً على الوطء قبل التحلل، بجامع أن الوطء قبل وبعد التحلل الأول كلاهما وقع في إحرام، والمقصود في إحرام بالنسبة لما بعد التحلل الأول، يعني: فيما تبقى من الإحرام.
إذاً هذا الحكم الأول وهو أنه محرم بالإجماع، والحكم الثاني: وهو أنه لا يفسد على الصواب الحج، والحكم الثالث:
ـ إن كان الجماع بعد التحلل الأول قبل طواف الزيارة: فسيأتينا تفصيله.
ـ وإن كان بعد طواف الزيارة: فلا يلزمه إلا المضي وإكمال النسك مع التوبة والفدية التي ستأتينا في باب الفدية لكن لا يلزمه شيء آخر.
إذاً: إذا جامع الإنسان بعد التحلل الأول بعد طواف الزيارة الذي هو طواف الركن فإنه لا شيء عليه إلا الإثم ويلزم منه التوبة والفدية وستأتينا في باب الفدية.
ـ وإن جامع قبل طواف الزيارة بعد التحلل الأول:
= فعليه عند الحنابلة: أن يخرج إلى الحل ويحرم من جديد ليطوف طواف الزيارة في إحرام صحيح:
- لأن هذا الجماع أفسد ما تبقى من إحرامه بعد التحلل الأول.
وقبل أن ندخل في تفصيلات القول الثاني يجب أن يستوعب الحكم: فالإنسان إذا تحلل التحلل الأول لم ينته من الإحرام كله وإنما بقي عليه من الإحرام ما يتعلق بالوطء فهو ما زال محرماً في هذا المحظور فقط هذا الإحرام المتبقي يفسد بهذا الوطء الذي وقع بعد التحلل الأول، إذاً عليه عند الحنابلة أن يخرج ويحرم ليأتي بالطواف وقد أحرم إحراماً صحيحاً بدل الذي أفسده بالوطء.
(3/98)
________________________________________
=القول الثاني: أن عليه أن يخرج إلى الحل ويحرم إحراماً جديداً بالعمرة ويطوف ويسعى ويحلق ثم يطوف للزيارة، وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة وهو منصوص الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام.
واستدل هؤلاء جميعاً:
- أن ابن عباس - رضي الله عنه - أفتى بهذا لمن وقع منه الوطء بعد التحلل الأول وقبل طواف الزيارة.
وهذا القول الثاني هو الصحيح وأنه لا يكتفى من الذي وقع منه الوطء مجرد الإحرام بل عليه أن يأتي بعمرة كاملة كما أفتى ابن عباس ولا يكتفى بالإحرام كما يصنع بعض الناس اليوم بناء على شهرة القول بالاكتفاء بالإحرام فقط بل يجب أن يأتي بعمرة كاملة ونستطيع أن نقول أن هذا مذهب الأئمة الأربعة وإن كان خلاف المشهور من مذهب الحنابلة لكن هو منصوص الإمام أحمد - رحمه الله -.
إذاً الآن تبين معنا كل ما يتعلق بحكم الجماع بعد التحلل الأول.
-
ثم قال - رحمه الله -: في المحظور التاسع:
وتحرم المباشرة، فإن فعل فأنزل: لم يفسد حجه وعليه بدنة، ولكن يحرم من الحل لطواف الفرض.
المحظور الأخير وهو المحظور التاسع المباشرة، المباشرة محرمة وهي من محظورات الإحرام.
- لقوله تعالى: - (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَث) -[البقرة/197] وتقدم معنا أن الرفث فسره ابن عباس - رضي الله عنه - بالجماع ومقدماته، فالمباشرة لا تجوز للمحرم.
ـ فإن باشر فأنزل: فيترتب على هذا أحكام ذكرها المؤلف - رحمه الله -:
* الحكم الأول: أنه لا يفسد حجه. ولو كان قبل التحلل الأول.
- لأن إفساد الحج جاء في الآثار بالوطء فقط.
- ولأن الوطء يختلف في أحكام كثيرة عن المباشرة منها: الحد فالحد يجب بالوطء دون المباشرة (حد الزنى يجب بالوطء دون المباشرة).
= والقول الثاني: أنه إذا باشر فأنزل فسد حجه.
- قياساً على الصيام فإن في الصيام الوطء والمباشرة كلاهما يفسد الصيام.
والجواب على هذا: أن هذا قياس مع الفارق الظاهر والواضح، ووجه النقض: أن محظورات الصيام الخاصة به (الأكل والشرب وما يتعلق بالصيام بالذات) كلها تفسده، بينما محظورات الحج ليس منها شيء يفسد الحج إلا واحد وهو: الوطء فامتنع لذلك القياس.
- ثم قال - رحمه الله -:
وعليه بدنه.
(3/99)
________________________________________
إذا باشر فأنزل فعليه: بدنه.
= وهذا هو مذهب الحنابلة.
واستدلوا على هذا:
- بالقياس: على الوطء، بجامع: حصول الإنزال في كل منهما.
يعني: يقيسون المباشرة على الوطء. والجامع بينهما: حصول الإنزال.
= والقول الثاني: أنه لا تجب فيه إلا شاة.
- قياساً على: ما إذا باشر ولم ينزل، والجامع بينهما: أن كلاهما مباشرة.
يعني: الأول والثاني كلاهما مباشرة وليست وطء.
قال الفقيه ابن مفلح: والقياسان ضعيفان.
إذاً: الآن:
= القول الأول: وجوب بدنه.
= والقول الثاني: وجوب الشاة فقط.
وعرفت دليل القول الأول ودليل القول الثاني.
والراجح والله أعلم وجوب بدنه، والدليل:
- هو ما قاله الإمام أحمد - رحمه الله -: ابن عباس جعل عليه بدنه، هكذا يقول - رحمه الله -، وإذا كان القياسان ضعيفين بقي معنا الأثر، فتأخذ بالأثر ونترك الأقيسة الضعيفة.
إذاً نقول: إذا باشر الإنسان فأنزل فعليه بدنه كاملة. وهذا كما قلت لك يحقق القاعدة التي ذكرتها وهو: ((أن الشارع عظم أمر الجماع وما يتعلق به)).
لوم يذكر المؤلف - رحمه الله - حكم ما إذا باشر ولم ينزل، ونحن عرفنا حكم المباشرة من حيث هي وحكم إذا باشر وأنزل. بقي لنا: إذا باشر ولم ينزل، فإذا باشر ولم ينزل:
= فالجمهور: على أن عليه شاة فقط. يعني: فدية أذى.
وهذا هو القول الصواب: أن عليه شاة:
- لأنه بدون إنزال لا يمكن أن نقيس المباشرة التي ليس معها إنزال لا على الوطء ولا على المباشرة التي معها إنزال للفرق الواضح جداً بين الإنزال وعدمه وهو فرق مؤثر في الحكم بشكل واضح بحيث تكون الفدية بدل بدنه: شاة.
- ثم قال - رحمه الله -:
لكن يحرم من الحل لطواف الفرض.
(3/100)
________________________________________
ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن من باشر فأنزل عليه أن يخرج إلى الحل ويحرم ليطوف بإحرام صحيح، وهذا الظاهر الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - مخالف لكلام جميع الأصحاب فإن أحداً من الحنابلة لم يجعل على المباشر إذا أنزل أن يخرج إلى الحل ويحرم ليطوف طواف الزيارة محرماً إحراماً صحيحاً وإنما ذكروا هذا الحكم فيمن جامع قبل طواف الزيارة بعد التحلل الأول، فهذا الحكم من أحكام الجماع بعد التحلل الأول ولذلك يذهب كثير من الشراح إلى أن ما ذكره المؤلف - رحمه الله - هنا من قبيل الوهم أو سبق القلم.
-
ثم قال - رحمه الله -:
وإحرام المرأة: كالرجل إلاّ في اللباس، وتجتنب: البرقع والقفازين وتغطية وجهها، ويباح لها التحلي.
لما انتهى المؤلف - رحمه الله - من بيان كل ما يتعلق بمحظورات الإحرام بالنسبة للرجل انتقل ليفصل الكلام عن المرأة.
فذكر القاعدة العامة في المرأة وهي: (أن إحرام المرأة كإحرام الرجل في كل ما سبق ذكره) فكل ما ذكر من محظورات الإحرام فهي تنطبق على المرأة كما تنطبق على الرجل إلا ما سيستثنيه المؤلف - رحمه الله - وهو قد استثنى:
- فقال - رحمه الله -:
إلا في اللباس.
المرأة تختلف عن الرجل في شيئين فقط:
- الأول: تغطية الرأس. فهو محظور بالنسبة للرجل وليس بمحظور بالنسبة للمرأة.
- الثاني: لبس المخيط. فالمرأة تختلف عن الرجل في لبس المخيط ولا يجوز للرجل.
واستثناء هذين الأمرين بالنسبة للمرأة محل إجماع، وفيما عدا هذين الأمرين فالمرأة كالرجل في كل شيء.
ولما بين المؤلف ما هو محظور بالنسبة للرجل دون المرأة انتقل إلى الأشياء المحظورة بالنسبة للمرأة:
- فقال - رحمه الله -:
وتجتنب البرقع.
البرقع في لغة العرب في كتب اللغة هو: النقاب، فهم يفسرون البرقع بالنقاب تماماً بدون فارق بينهما عندهم، والنقاب هو: هو ما تلبسه المرأة على وجهها مفتوح ما قبل العينين للنظر، حتى أنهم ينصون أنه للنظر وليس للزينة، فإذاً كل لباس تلبسه المرأة على الوجه يكون مفتوح مقابل العينين للنظر فهو النقاب، والنقاب من محظورات الإحرام بالنسبة للمرأة:
(3/101)
________________________________________
- لما رواه ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين).
وإلى المنع من النقاب وجعله من محظورات الإحرام للمرأة:
= ذهب جماهير أهل العلم.
= والقول الثاني: أن النقاب ليس من محظورات الإحرام بل يجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت نقاباً أو غطاء بلا فتحة، وهو مذهب الأحناف.
واستدلوا على هذا:
- أنه ليس في السنة الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النقاب.
- وأما حديث ابن عمر هذا فهو موقوف عليه ولا يصح رفعه، قالوا: وقد أعله بالوقف عدد من الحفاظ، والحديث في صحيح البخاري.
والجواب عن هذا الدليل: أن حديث النقاب: صحيح أنه قد أعله بعض الحفاظ بالوقف وجعلوه فتوى لابن عمر لكن ذهب آخرون من الحفاظ من المحققين إلى تصحيح رفعه وأنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأس الذين صححوه مرفوعاً الإمام البخاري بل أورده في صحيحه، وتصحيح الحديث مرفوعاً هو الصواب فما ذهب إليه البخاري هو الصحيح إن شاء الله.
وبذلك يثبت صحة مذهب الجمهور: وهو أن النقاب من محظورات الإحرام.
- ثم قال - رحمه الله -:
والقفازين.
هما ما يلبس في اليدين مفصلاً، وهو من محظورات الإحرام:
= عند الجماهير.
= والقول الثاني: أن القفازين ليسا من محظورات الإحرام.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إحرام المرأة في وجهها)، فدل الحديث على حصر المحظور في الوجه.
والجواب عليه: أن هذا اللفظ لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – مطلقاً، وفي مقابل هذا: استدل أصحاب القول الأول بالسنة الصحيحة.
لذلك الراجح أن القفازين من محظورات الإحرام بالنسبة للمرأة.
(3/102)
________________________________________
وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن الجوارب والخفاف ليست من محظورات الإحرام بالنسبة للمرأة لأنه نص على القفازين فقط فلا يجوز للمرأة أن تلبس ما يلبس في اليدين ولكن يجوز لها أن تلبس ما يلبس في الرجلين ونحن الآن عندما نقول يجوز لا نريد الحديث عن حكم تغطية الرجلين هل هي من العورة أو لا؟ فإن هذا البحث سيأتينا في كتاب النكاح. فالبحث الآن في هل هو من محظورات الإحرام أو لا؟ فإذا قال الإنسان: يجوز فلا يعني أنه لا يجب، فربما أنه يجوز وأيضاً يجب.
إذاً لبس ما فصل على قدر القدم من خف أو جورب لا بأس به للمرأة وهو جائز لأن الحديث نص على شيء واحد وهو القفازين.
- ثم قال - رحمه الله -:
وتغطية وجهها.
تغطية المرأة وجهها أثناء الإحرام من محظورات الإحرام وهو محل إجماع وحكاه أكثر من واحد من أهل العلم: أنه لا يجوز للمرأة أثناء الإحرام أن تغطي وجهها.
ويستثنى من هذا عند الفقهاء جميعاً إذا مر الرجال الأجانب فإنه يجب على المرأة أن تسدل الغطاء لتستر وجهها عن الرجال الأجانب.
* * مسألة/ يفهم من كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - وابن القيم - رحمه الله - أن المحظور بالنسبة للمرأة هو لباس معين وهو النقاب وليس المحظور هو تغطية الوجه، فهم يقولون: النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع المرأة من ستر الوجه، لا وإنما منعها من ستر الوجه بشيء معين وهو النقاب، والجمهور لم يفهموا من حديث (لا تنتقب المرأة) هذا الفهم، وإنما فهموا من حديث لا تنتقب المرأة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النقاب لا لأجل النقاب وإنما لأجل أنه يغطي الوجه.
ويؤيد هذا الفهم - ويشكل في نفس الوقت على مذهب شيخ الإسلام وابن القيم - الإجماع الذي حكاه ابن حجر وغيره أن تغطية الوجه محظور عند جميع أهل العلم، فهذا الإجماع يسند فهم الجمهور للحديث وهو أن المراد من الحديث منع المرأة من تغطية الوجه سواء كان بغطاء معين وهو النقاب، أو بغير هذا الغطاء مما يستر به الوجه.
فإن قيل: إذا كان المقصود النهي عن تغطية الوجه فلماذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعاً معيناً من غطاء الوجه وهو النقاب؟
(3/103)
________________________________________
فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يذكر غالب حال الناس، وكأن الغالب في ذلك الوقت لبس النقاب لا سيما أثناء السفر والحج يؤدى في سفر فلذلك نص على المنع منه.
وعلى كل حال: منع المرأة من تغطية الوجه محل إجماع ليس فيه خلاف فلا ينبغي للمرأة مطلقاً أن تغطي وجهها أبداً إلا في حال واحدة وهي إذا مر الرجال الأجانب قريباً منها أو أمامها لتستر وجهها عنهم، فيما عدا هذه الصورة فإنه يجب أن تبقى المرأة كاشفة للوجه، والفتاوى المنقولة عن عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين تفيد هذا المعنى لأنها كانت تقول: أنا نكشف حتى إذا مر الرجال الأجانب سدلنا، ويفهم من هذا أنهم كانوا يتحرون كشف الوجه ويغطونه إذا مر الرجال الأجانب.
* * مسألة أخيرة/ ذهب بعض الحنابلة إلى أن المرأة إذا أرادت أن تستر وجهها لمرور الرجال الأجانب فإنه ينبغي أن تضع ما يبعد الغطاء عن الوجه. لأنهم يرون أن المماسة مماسة الغطاء للوجه أيضاً هو من محظورات الإحرام.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: وهو خطأ على المذهب وعلى القول الصواب.
يعني خطأ على قواعد وأقوال المذهب وأيضاً خطأ من حيث النصوص لأنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل على وجوب مجافاة المرأة الغطاء عن وجهها إذا أرادت أن تسدل الغطاء بسبب مرور الرجال الأجانب بل في النصوص ما يدل على خلاف ذلك لأن ما جاء عن عائشة وغيرها من أنهن يسدلن عند مرور الرجال الأجانب لم يذكر فيه قضية المجافاة فهو قول ضعيف جداً.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويباح لها التحلي.
يعني: يباح للمحرمة أثناء الإحرام أن تتحلى وأن تلبس الحلي لدليلين:
- الأول: أن هذا مروي عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- الثاني: أنه لا يوجد في النصوص المنع من التحلي، والأصل بالنسبة للمرأة جواز التحلي وليس في النصوص ما يدل على أنه من محظورات الإحرام.
لكن مع ذلك مع كون التحلي جائزاً إلا أنه لا ينبغي أبداً أن تستعمل المرأة الحلي من ذهب أو فضة أو التزين أثناء الإحرام. لا ينبغي. لا نقول: مكروه ولا أي حكم شرعي لكن نقول لا ينبغي لأمرين:
(3/104)
________________________________________
- الأول: أن شأن الحج ترك الترفه وهذا مفهوم من النصوص العامة ومما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل حتى عن الأنبياء من قبله.
- الثاني: خشية أن يكون هذا التحلي والتزين سبباً في وقوع المحظور بالنسبة للمرأة المتزوجة.
فتفادياً لهذين الأمرين لا ينبغي مطلقاً أن تتحلى أو تتزين المرأة أثناء الإحرام.
باب الفدية
- ثم قال - رحمه الله -:
باب الفدية.
الفدية مصدر فداه ومعناه: دفع فدية عنه، هذا من حيث اللغة.
ومن حيث الاصطلاح الفقهي: هو ما وجب بسبب إحرام أو حرام.
فكل ما يجب على الإنسان بسبب الإحرام أو بسبب الحرم فهو فدية سواء كان طعام أو صيام أو ذبح.
والفدية تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: الفدية التي على سبيل التخيير. وهو نوعان:
1 - فدية الأذى.
2 - وفدية جزاء الصيد.
- القسم الثاني: ما هو على الترتيب وهو ثلاثة أنواع:
1 - دم المتعة والقران.
2 - ودم الوطء.
3 - ودم الإحصار.
فهذه ليست على التخيير وإنما على الترتيب.
- قال - رحمه الله -: مبيناً تفصيل الأحكام:
يخيّر بفدية حلق وتقليم وتغطية رأس ...... الخ.
أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة مسألتين:
- المسألة الأولى: التخيير.
- والثانية: وجوب الفدية في هذه الأمور التي ذكرها.
إذاً: تجب فيها فدية وأيضاً هي على سبيل التخيير.
- الأول: وجوب الفدية. أما وجوب الفدية في حلق شعر الرأس. فدليله:
- - النص. - والإجماع. وتقدم معنا.
فإذا حلق الإنسان شعر رأسه وجبت عليه الفدية بالنص والإجماع لم يخالف في هذا أحد من أهل العلم:
- لحديث كعب الذي سيأتينا وصريح الآية.
الثاني: سائر محظورات الإحرام المذكورة في هذا القسم: من الطيب وتغطية الرأس ولبس المخيط وأخذ الشعور عدا شعر الرأس.
= فالجماهير يرون أن الفدية تلزم في هذه المحظورات.
- قياساً على فدية شعر الرأس.
= والقول الثاني: أنه لا فدية في هذه الأمور وإنما عليه التوبة والإنابة والإقلاع.
- لعدم وجود دليل خاص يدل على وجوب الفدية في هذه المحظورات.
والراجح مع جماهير فقهاء المسلمين الذين رأوا صحة قياس هذه المحظورات على شعر الرأس.
إذاً انتهينا الآن من المسألة الأولى: وهي وجوب الفدية.
(3/105)
________________________________________
المسألة الثانية: التخيير.
فدية هذه الأشياء التي ذكرها المؤلف على التخيير وليست على الترتيب بل الإنسان مخير فيختار ما شاء مما سيذكره المؤلف - رحمه الله - والدليل على ذلك:
- ما أخرجه البخاري ومسلم أن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - لما تأذى من هوام رأسه شكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو انسك شاة) وعبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (أو) في الحديث.
وفي بعض الألفاظ التي في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً قال له (أتجد شاة) ثم قال له بعد ذلك وأمره بالصيام والإطعام، وهذا اللفظ يحمل على الألفاظ الأخرى التي بينت أن النبي - صلى الله عليه وسلم –خيره، لكنه يدل على أنه ينبغي للإنسان إذا استطاع أن يبدأ بالذبح.
- قال - رحمه الله -:
بين صيام ثلاثة أيام.
الأول: من أنواع الفدية صيام ثلاثة أيام. وصيام ثلاثة أيام لا يشترط فيه أن تكون هذه الأيام متتالية:
- لعدم وجود دليل على اشتراط هذا الشرط. هذا أولاً.
ثانياً: يجوز أن يصوم في أي مكان في الحرم وخارج الحرم بإجماع أهل العلم. فليس للصيام مكان خاص:
- للإجماع.
- ولأن منفعة الصيام خاصة للصائم ولا تتعداه إلى غيره.
- ثم قال - رحمه الله -:
أو إطعام ستة مساكين. لكل مسكين: مدُّ بُر أو نصف صاع من تمر أو شعير.
تقدم معنا أن: الحنابلة يرون أن الكفارات مد من البر أو نصف صاع من غيره من الأطعمة، وذلك لنفاسة البر بالنسبة لغيره من الأطعمة.
= والقول الثاني: أن عليه نصف صاع مهما كان نوع الطعام. بدليل:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع) وهذا في البخاري ولم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين البر وبين غيره من الأطعمة.
(3/106)
________________________________________
فإذاً تبين أن الصواب أنه نصف صاع فمجموعها سيكون ثلاثة آصع على من وقع في محظور من المحظورات واختار أن يطعم أن يخرج ثلاثة آصع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم -،وهي تقدر بالكيلوات المعاصرة - بالأوزان المعاصرة - = (ستة كيلوات ومائة وعشرون جرام)، ومعلوم أن إخراج ستة كيلوات ومائة وعشرون جرام من أي نوع من الأطعمة مهما ارتفع فسيكون أقل من الذبح بكثير، لأن ستة كيلو سواء كان من الرز الجيد أو من البر أو من أي نوع من الأطعمة أو من التمر فلن يكون بقيمة ذبيحة مهما كان، ولذلك من الرفق بالحاج الفقير أن يرشد إلى هذا الأمر، ولعل من حكمة الشارع التخيير لأجل هذا. ((((الأذان)))).
قال الشارح حفظه الله:
نتم قبل أن نأخذ الأسئلة مسألة الأنواع المخير فيها.
- قال - رحمه الله -: بعد أن بينا الصواب في مقدار كفارة إطعام ستة مساكين:
أو ذبح شاة.
يشترط في هذه الشاة التي تذبح أن تتوفر فيها شروط الأضحية.
والشاة في لغة العرب: تطلق على الذكر والأنثى وعلى الماعز وعلى الضأن.
فالعرف الآن الموجود عندنا يختلف عن اللغة لأن العرف أن الشاة تطلق على الضأن لكن في لغة العرب يطلقون الشاة حسب ما وقفت عليه تصريحاً في كتب اللغة أنها على الماعز والضأن والذكر والأنثى.
إذاً: الخيار الثالث أن عليه ذبح شاة إذا اختار هذا الخيار من الأنواع الثلاثة.
وهل هذا التخير على سبيل المصلحة أو على سبيل التشهي؟
الصواب: أنه على سبيل التشهي وليس على سبيل المصلحة.
يعني: لا ننظر إلى مصلحة الفقير أو نقول يجب عليك أن تنظر إلى مصلحة الفقير وإنما يختار من وقع في أحد هذه المحظورات ما شاء من الأنواع الثلاثة التي هي الإطعام والصيام والذبح.
انتهى الدرس،،،
(3/107)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (7)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
باب الفدية
تقدم معنا أن الفدية على قسمين:
- فدية تجب على الترتيب. - وفدية تجب على التخيير. وأن المؤلف - رحمه الله - بدأ بالفدية التي تجب على التخيير وأخذنا أنواعاً من الفدية التي تجب على التخيير وبقي النوع الأخير من محظورات الإحرام التي تجب فيها الفدية على التخيير.
- فيقول - رحمه الله -:
وبجزاء صيد: بين مثل إن كان، أو تقويمه.
الصيد تقدم معنا أنه من محظورات الإحرام والمؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين كيفية جزاء الصيد، وذكر - رحمه الله - الترتيب الذي يجب على من قتل الصيد.
ودليل الترتيب:
- - قوله تعالى: - (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) -[المائدة/95].
فبينت الآية الترتيب الذي يجب على من كَفَّرَ في جزاء الصيد.
- يقول - رحمه الله -:
وبجزاء صيد: بين مثل إن كان ... الخ ..
الصيد ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: المثلي.
والمقصود به: ما له شبيه ونظير من النعم.
والمقصود بالنعم: البقر والغنم والإبل.
والتشابه المقصود في هذا القسم هو: التشابه في الشكل والصورة لا بالثمن.
- القسم الثاني: ما ليس له نظير من الصيد. وهو ما ليس له نظير ولا شبيه من النعم.
هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية: كيفية تحديد المثل:
إذا قتل المحرم الصيد فكيف نحدد المثل؟
تحديد المثل: على أنواع:
- النوع الأول: أن يحكم به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
كما ثبت في الحديث الصحيح الذي صححه البخاري وأحمد وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في الضبع كبشاً.
فإذا وجدنا أن الصيد حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يجوز أن نخرج عن حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإجماع.
- النوع الثاني: أن يحكم به الصحابة - رضي الله عنهم -.
فإذا حكم الصحابة ثم قتل محرم شيئاً نظير ما حكم به الصحابة فاختلف الفقهاء على قولين:
= القول الأول: أنه يجب المصير إلى مثل ما قدرت به الصحابة هذا الصيد.
= والقول الثاني: أنه يجتهد اجتهاداً جديداً.
والصواب مع الذين قالوا: نكتفي بحكم الصحابة.
(3/108)
________________________________________
- النوع الثالث: أن لا يحكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة - رضي الله عنهم - وحينئذ نرجع إلى قول عدلين عارفين بصفات الصيد ليحكما بالمثل من النعم.
إذاً عرفنا الآن كيف نعرف المثل بالنسبة للصيد إذا صاده المحرم.
- قال - رحمه الله -:
وبجزاء صيد: بين مثل إن كان، أو تقويمه.
إذا قتل المحرم الصيد فنقول: أنت مخير:
- إما أن تخرج المثل.
- أو تقوم المثل - سيأتينا الخلاف في مسألة التقويم - فإذا قومت المثل فتشتري به طعاماً وتطعم المساكين لكل مسكين - على المذهب - مد أو تصوم بقدر هذه الأمداد أياماً.
في هذه المسائل خلاف سيأتينا لكن المقصود الآن أن يتصور الإنسان كيف يكون جزاء الصيد.
إذاً نقول: أنت مخير إذا عرفنا المثل فإما أن تخرج المثل - تذبح المثل - أو تقيم المثل وتشتري به طعاماً فتطعم كل مسكين مد أو تصوم بقدر هذه الأمداد، فإذا قدرنا أن قيمة المثل يستطيع أن يشتري بها صاعاً من طعام واختار الصيام فكم سيصوم؟
أربعة أيام. لأن الصاع أربعة أمداد.
إذاً الآن تصورنا، ونأتي إلى الخلاف الذي في تفصيل المسائل.
- قال - رحمه الله -:
وبجزاء صيد: بين مثل إن كان، أو تقويمه.
التقويم عند الحنابلة يكون للمثل لا للصيد.
واستدلوا على ذلك:
- بقوله تعالى: - (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) -[المائدة/95] والإشارة في الآية إلى المثل لا إلى الصيد. فإذاً الحنابلة يرون أنه يقوم المثل.
= القول الثاني: أن التقييم يكون للصيد.
- لأنا إنما عدلنا إلى المثل بدل، فإذا سقط البدل رجعنا إلى الأصل والأصل الصيد.
والصواب مع الحنابلة: لظاهر الآية.
- ثم قال - رحمه الله -:
بدراهم يشتري بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً.
= الحنابلة: يرون أنه يطعم عن كل مسكين مدا إذا كان من البر، أو مدين إذا كان من غيره من الطعام، كما تقدم معنا في الصيام والزكاة.
= والقول الثاني: أنه يطعم كل مسكين نصف صاع.
واستدلوا:
- بأن ابن عباس - رضي الله عنه - هكذا حكم جعل في الطعام نصف صاع.
- واستدلوا أيضاً بالقياس على كفارة فدية الأذى وفيه حديث أبي بن كعب وهو صحيح وقد مر معنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (أو تطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع).
(3/109)
________________________________________
وهذا القول الثاني هو الصواب: أنه نصف صاع مطلقاً.
ومما يستأنس به لترجيح هذا القول: أنه أيسر من جهة الصيام، - فأيهم أكثر أن يصوم على قول الحنابلة أو أن يصوم بعدد الأيام على القول الثاني؟
على القول الثاني بلا إشكال لأنا إذا قدرنا أن قيمة الطعام يشترى بها صاع فعند الحنابلة سيصوم بدل الصاع أربعة أيام وعلى القول الثاني الذي يعضده أثر ابن عباس سيصوم يومين فقط، وهذا مما يستأنس به وليس من المرجحات وإنما رجحنا هذا القول لأثر ابن عباس.
- ثم قال - رحمه الله -:
أو يصوم عن كل مد يوماً.
- لقوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} -[المائدة/95].
* * مسألة/ إذا قدر المثل بقيمة وأراد أن يشتري طعاماً فلم يجد طعاماً يستغرق جميع الثمن فهل يجوز أن يشتري بهذا المال بعض الطعام ويصوم عن الباقي؟ أو يجب أن ينتقل إلى الصيام ولا يجمع بين الصيام والإطعام.
الجواب: ذهب الإمام أحمد واختاره ابن المنذر وغيره من المحققين إلى أنه لا يجمع في مثل هذه الصورة بين الإطعام والصيام، بل ينتقل مباشرة إلى الصيام إن لم يجد يكفي ليشتريه، نص الإمام أحمد على هذا واختاره ابن المنذر وهذا هو الصواب.
وتكاد هذه المسألة في وقتنا أن لا تقع وذلك لوفرة الطعام ولله الحمد وتتالي النعم ولكنها في القديم قد يتصور بحيث لا يجد الإنسان في منى ولا في عرفة ولا في مكة طعاماً يشتريه.
- ثم قال - رحمه الله -:
وبما لا مثل له: بين إطعام وصيام.
إذا لم يكن للصيد مثل بأن أتينا بأهل الخبرة العدول وقالوا: بأن هذا الصيد ليس له نظير من بهيمة الأنعام فحينئذ هو مخير بين الإطعام والصيام، وفي مثل هذه الصورة سيكون التقويم بلا شك لأنه لا يوجد مثل نقومه أصلاً، لكن هل نقوم الصيد وننظر في ثمنه - إذا اختلفت القيمة - في محل الصيد أو في مكة؟
الجواب: أنا ننظر إلى قيمة الصيد في مكان الصيد الذي صيد فيه لا في مكة مهما اختلف الثمن:
- لأن مكان الصيد هو المكان الذي وقع فيه المحظور ففيه يقوم الصيد.
- وقوله - رحمه الله -:
وبما لا مثل له: بين إطعام وصيام.
(3/110)
________________________________________
كما سبق على التفصيل السابق في كيفية حساب الطعام: لكل مسكين نصف صاع وعلى المذهب مد. وفي كيفية الصيام على ما تقدم تماماً.
وبهذا انتهى المؤلف من الكلام عن الفدية التي على التخيير وانتقل إلى الكلام عن الفدية التي هي على الترتيب.
- ثم قال - رحمه الله -:
وأما دم متعة وقران: فيجب .... الخ.
تقدم معنا أن هذا الباب يتكلم فيه عما وجب بسبب الحرم أو بسبب الإحرام، ودم المتعة والقران وجبا بسبب الإحرام وهما دم شكران، يعني: شكر على نعمة إتمام النسك لا جبران: يعني: بسبب الإخلال بالنسك.
فدم المتعة والقران يجبان:
أولاً: دم المتعة يجب على المتمتع أن يهدي بإجماع المسلمين بلا خلاف.
- لقوله تعالى: - (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) -[البقرة/196].
فوجوب الهدي في المتعة دل عليه النص من القرآن وإجماع أهل العلم والسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- ثم يقول: وقران.
= ذهب الجماهير - وحكي إجماعاً - إلى وجوب الدم على القارن.
واستدل الجمهور - رحمهم الله - بدليلين:
- الأول: ما استفاض واشتهر ونقل عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يدخلون القارن في مسمى المتمتع. فدل ذلك على استوائهما في وجوب الهدي.
- الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح عن عائشة بقرة وقد كانت قارنة.
- الثالث: أن كلاً من المتمع والقارن ترفه بترك أحد السفرين والإتيان بالنسكين في سفر واحد فإذا استويا في هذه الجهة استويا في وجوب الهدي.
= والقول الثاني: وينسب لداود الظاهري أنه لا يجب على القارن هدي.
- لأن الآية نصت على المتمتع.
وهو قول غاية في الضعف مخالف لفقه الصحابة وهي ظاهرية وجمود غير محمود في هذه المسألة لأنه خالف الجمهور - أو الإجماع كما حكي - ثم خالف ما روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم.
-
قوله - رحمه الله -:
وأما دم متعة وقران: فيجب الهدي.
يجب الهدي بالآية وبالنصوص الأخرى بالنسبة للقارن، وفي وقت وجوب الهدي خلاف بين أهل العلم سيأتينا في صفة الحج، والقول الأقرب الذي يذكر الآن أنه فجر يوم العيد فإذا طلع الفجر فقد وجب الهدي.
(3/111)
________________________________________
- ثم قال - رحمه الله -: مبيناً الترتيب - لأننا قلنا أنه بدأ ببيان ما يجب ترتيباً:
فإن عدمه.
أي أنه لا يجوز الانتقال عن الهدي والذبح إلا إذا لم يستطع سواء كان لم يستطع لعدم وجود الأضاحي والهدي أو لم يستطع لعدم وجود المال بحوزة الحاج أو لم يستطع لأي سبب كان فإذا لم يستطع فإنه ينتقل إلى المرتبة الثانية.
- قال - رحمه الله -
فإن عدمه: فصيام ثلاثة أيام.
صيام ثلاثة أيام هذا منصوص عليه في الآية - (.فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) -[البقرة/196].
فوجوب صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لأهله محل إجماع إذا عدم الهدي أو إذا لم يستطع أن يذبح المتمع أو القارن لكن تتعلق بهذه الثلاثة أيام بعض المسائل:
- المسألة الأولى: متى يجوز للحاج الذي عدم الهدي أن يشرع في الصيام؟
الجواب: وقت جواز بداية الصيام ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون قبل الإحرام بالعمرة - ونحن نتكلم عن المتمتع والقارن - فقبل الإحرام بالعمرة لا يجوز بالإجماع أن يصوم الإنسان الثلاثة أيام التي بدل هدي التمتع إلا رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - وهي خطأ قطعاً على الإمام أحمد ولذلك يقول ابن قدامة: نزه الله الإمام أحمد عن هذه الرواية - وصدق لأن هذه الرواية خطأ وهو قول خطأ مخالف للإجماع إذ كيف يشرع بأعمال الحج وهو لم يحرم بالعمرة أصلاً فالخطأ من الذي نقل هذه الرواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -.
إذاً تكون المسألة إذا زيفنا هذه الرواية: إجماع.
القسم الثاني: بعد العمرة.
فاختلف الفقهاء في هذه المسألة: في متى يجوز بداية الصيام بعد العمرة على أقوال:
= القول الأول: أنه من بداية الإحرام بالعمرة، وهذا مذهب الحنابلة واختاره شيخ الإسلام.
واستدلوا على هذا:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) فإذا دخلت العمرة في الحج صارت الأعمال الخاصة بهما تفعل من حين الإحرام بالعمرة.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز البداية بالصيام إلا بعد إتمام نسك العمرة.
= والقول الثالث: أنه لا يجوز أن يبدأ الإنسان بالصيام إلا إذا شرع في أعمال الحج.
واستدلوا:
(3/112)
________________________________________
- بالآية: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ). فالآية صريحة أن الصيام لهذه الثلاثة أيام يكون في الحج لا في العمرة.
والراجح بلا إشكال إن شاء الله مع الحنابلة وهو أنه من حين يحرم بالعمرة التي يريد أن يتمتع بها إلى الحج فإنه يجوز له أن يبدأ بصيام ثلاثة أيام لأن العمرة دخلت في الحج ولأنه بدأ في نسك الحج متمتعاً، فمذهب الحنابلة والذي اختاره شيخ الإسلام هو القول الصواب.
ثم انتقل المؤلف - رحمه الله - لبيان ما هي الأيام التي يستحب تخصيصها بالصيام فـ
- قال - رحمه الله -:
والأفضل كون آخرها يوم عرفة.
الأفضل:
= عند الحنابلة أن يصوم الحاج اليوم السابع والثامن والتاسع فيبدأ الصيام من اليوم السابع، ويستحب على هذا عندهم أن يحرم بالحج استحباباً من اليوم السابع:
- خروجاً من الخلاف في متى يجوز البداية بصيام الثلاثة الأيام؟.
= القول الثاني: أنه يبدأ باليوم السادس فيصوم اليوم السادس والسابع واليوم الثامن.
واستدلوا:
- بأن هذه الأيام هي أفضل الأيام لأن لا يصوم في اليوم التاسع والشارع الحكيم لا يحب الصيام في اليوم التاسع بل نهى عنه ولكن في حديث ضعيف، لكن كون الشارع لا يحب الصيام في هذا اليوم هذا بالإجماع ولا إشكال فيه، وعلى هذا استحب أصحاب هذا القول أن يبدأ بالإحرام في اليوم السادس ليخرج من الخلاف السابق.
= القول الثالث: أن المستحب للحاج أن يصوم في أيام التشريق.
- لقول عائشة - رضي الله عنها - لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، وإلى هذا القول مال شيخنا - رحمه الله - ورأى أن هذا القول متوجه إن قيل به.
والأقرب والله أعلم: القول الثاني وهو البداية في اليوم السادس بالصيام لا بالإحرام لأن المعروف والمشهور عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة أنهم أحرموا في اليوم الثامن.
(3/113)
________________________________________
وإذا كان الراجح أنه يجوز للإنسان أن يبدأ بالصيام من بعد إحرامه بالعمرة فيصوم في اليوم السادس ولو لم يحرم وفي اليوم السابع ولو لم يحرم وفي اليوم الثامن وهو محرم، ويكون هذا القول هو أرجح الأقوال وهو أنه يستحب أن يبدأ في السادس ولو لم يحرم بل ربما نقول يستحب أن يصوم في اليوم السادس وأن لا يحرم إلا في اليوم الثامن لأن الظاهر من آثار الصحابة أنهم صنعوا كذلك لأن عدداً كبيراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرموا متمتعين وكثير منهم لم يكن واجداً للهدي فالظاهر من حالهم أنهم - رضي الله عنهم - أنهم صاموا في اليوم السادس والسابع والثامن، وعلى هذا يدل أثر ابن عمر وعائشة وغيرهما من الآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصيام يكون في اليوم السادس والسابع والثامن، فهذا القول هو الراجح.
وأما القول الذي ذكره شيخنا - رحمه الله - فالذي يظهر لي أنه ضعيف من جهتين:
- الجهة الأولى: أنه لا قائل بهذا القول فلا أعلم أن أحداً من الفقهاء قال باستحباب الصيام في أيام التشريق بل اختلفوا على القولين الذين ذكرتهما لك.
- الثاني: أنه يفهم من حديث عائشة أن صيام أيام التشريق رخصة وليس بعزيمة فهي تقول: (لم يرخص) والأصل في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب وذكر لله، فكأنه رخص لبعض الصحابة الذين لم يصوموا في اليوم السادس والسابع والثامن أن يصوموا أيام التشريق وفرق بين أن نقول هذا رخصة وبين أن نقول أنه هو الأفضل.
وقد أشار شيخنا - رحمه الله - في الممتع إلى أنه يقول: إن قيل بهذا القول أو إن كان قيل بهذا القول فكأنه هو أيضا - رحمه الله - لم يمر عليه أحد قال بهذا القول.
وعلى كل حال الراجح هو القول الثاني وأن الأفضل صيام السادس والسابع والثامن لوجود الآثار الصحيحة الدالة على هذا الأمر ولأنه يفهم من حديث عائشة عدم استحباب الصيام.
-
ثم قال - رحمه الله -:
وسبعة إذا رجع إلى أهله.
(3/114)
________________________________________
السبعة يصومها الحاج إذا رجع إلى أهله، والآية صريحة في ذلك: - (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) والفقهاء أجمعوا على أن هذا هو المندوب بأن يصوم سبعة إذا رجع إلى أهله، واختلف الفقهاء: هل الشارع العظيم أمر بصيام السبعة عند الأهل تخفيفاً أو هو نسك مقصود؟ اختلفوا على قولين:
= القول الأول: أنه سبحانه وتعالى أمر بهذا تخفيفاً.
وبناء عليه: إذا أراد الحاج أن يصوم سبعة أيام في مكة قبل أن يرجع إلى أهله فلا حرج عليه ويكون بريء الذمة من هذه السبعة الأيام.
= والقول الثاني: أن هذه الأيام السبعة لا يجزئ صيامها إلا إذا رجع إلى أهله.
واستدلوا على ذلك:
- بالآية.
- واستدلوا عليه أيضاً: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم – (من لم يجد الهدي فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) وهو حديث صحيح.
والصواب والله أعلم أن الصيام يجوز في مكة وإذا رجع إلى أهله:
- لأن الظاهر من النصوص أن هذا الحكم شرع تخفيفاً على المسلمين.
- ويدل عليه أيضاً كما سيأتينا قريباً أن أهل العلم أجمعوا على أن الصيام في كفارات المحظورات يجوز في أي مكان من الحل والحرم، فإجماعهم على تلك المسألة يعطي تصوراً أن الصيام في الحج أمر شرع فيه التخفيف والمطلوب من الحاج أن يصوم هنا أو هناك، لكن الشارع خفف عليه بتأخير سبعة أيام إلى أن يرجع إلى أهله.
- ثم قال - رحمه الله -:
والمحصر إذا لم يجد هدياً: صام عشرة أيام ثم حلّ.
دلت عبارة المؤلف - رحمه الله - أن المحصر عليه هدي: وهذا بإجماع أهل العلم.
- ودلت عيه الآية: - (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) -[البقرة/196].
- ودل عليه الإجماع ولا إشكال فيه ثبوته.
ثم إذا لم يتمكن فعليه أن يصوم عشرة أيام على مذهب الحنابلة وهذا وجه الترتيب، إذاً: عليه أن يذبح إذا أحصر فإن لم يستطع فعليه أن ينتقل إلى المرتبة الثانية وهي الصيام، وسيفرد المؤلف - رحمه الله - باباً خاصاً بحكم الإحصار وسنذكر الخلاف في مسألة وجوب الصيام على من لم يجد الهدي في بابه إن شاء الله.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويجب بوطء في فرج: في الحج بدنة.
(3/115)
________________________________________
إذا وطء الإنسان في الحج فعليه بدنه، ومقصود المؤلف - رحمه الله - إذا كان قبل التحلل الأول.
والدليل على وجوب البدنة:
- الآثار المستفيضة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم معنا: عمر وابنه وابن عباس وأبو هريرة وعدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذه البدنة تذبح في القضاء لا في سنة ارتكاب المحظور، فإذا حج من قادم ذبح هذه البدنة ولا يذبحها في سنة ارتكاب المحظور.
والدليل على ذلك:
- آثار الصحابة - رضي الله عنهم -.
- فإن كان الوطء بعد التحلل الأول: فالواجب عليه:
= عند الحنابلة: شاة.
- لأن الوطء بعد التحلل الأول أخف من الوطء قبل التحلل الأول فلا يقاس عليه.
= القول الثاني: أنه يجب عليه بالوطء بعد التحلل الأول بدنه.
والدليل على ذلك:
- أثر ابن عباس - رضي الله عنه - حيث أفتى أن من وطئ ولو بعد التحلل الأول فعليه بدنه، قال شيخ الإسلام ولا يعلم لابن عباس مخالف، يعني من الصحابة
وهذا القول الثاني هو الراجح، وإذا كنا أوجبنا على المباشر الذي باشر وأنزل بدنه على القول الصواب فكيف بمن وطئ ولو بعد التحلل الأول.
* * مسألة/ - مهمة جداً -:
مقصود الفقهاء بقولهم: التحلل الأول: أي بعد رمي جمرة العقبة سواءً قلنا أن التحلل يحصل بالرمي وحده أو يحصل بالرمي ومعه شيء آخر فعلى القولين المقصود به هو رمي جمرة العقبة، وهذا تنبيه مهم جداً قد يغفل عنه من يفتي في هذه المسألة، وهذا هو مذهب الحنابلة واختيار شيخ الإسلام.
-
ثم قال - رحمه الله -:
وفي العمرة شاة.
إذا وطئ الإنسان في العمرة فعليه شاة:
= وإلى هذا ذهب الجمهور: سواء كان الوطء قبل الطواف، أو بعده، وقبل السعي، أو بعد الطواف والسعي وقبل التحليق، في أي موضع من مواضع العمرة فعليه شاة.
= والقول الثاني: أن عليه بدنه وهو وجه للشافعية.
والصواب أن عليه شاة:
- لأن ابن عباس أفتى من وطئ في العمرة أن عليه شاة فقط وكما أخذنا قوله في البدنه نأخذ قوله في الشاة بالنسبة للعمرة.
* * مسألة/ يجب بالوطء بالعمرة ما يجب بالوطء في الحج من:
- فساد النسك.
- ووجوب المضي.
- وأن عليه الإثم.
- وأن عليه الفدية وهي على الصواب شاة كما تقدم معنا.
(3/116)
________________________________________
وإلى هذا ذهب الجماهير - الأئمة الأربعة - على خلاف بينهم في مسألة أخرى، لكن من حيث فساد العمرة بالوطء فقد اتفق الأئمة الأربعة على أن فيه ما في إفساد الحج.
* * مسألة /
- فإن كان الوطء قبل الطواف والسعي فهو بإجماع الأئمة الأربعة أنه يترتب عليه ما ذكرنا.
- وإن كان بعد الطواف والسعي فيفسد عند الحنابلة فقط ولا يفسد عند الحنفية ولا عند المالكية.
- وإن كان بعد الطواف وقبل السعي فسد عند الجميع إلا الأحناف.
وأضعف الأقوال مذهب الأحناف.
وأقوى الأقوال وألصقها بفقه الحج والعمرة مذهب المالكية وهو أنه إذا كان بعد الطواف والسعي ولم يبق عليه إلا التحليق فإنه لا يفسد النسك لأنه في الحقيقة شرع في التحلل وانتهى من جملة الأنساك بالنسبة للعمرة فلم يبق إلا التقصير، وإذا أردنا أن نقارنه بالحاج نجد أن الحاج يحصل له التحلل الأول بعد الرمي مع بقاء مناسك كثيرة، فهنا من باب أولى، ولا أذكر في هذه المسألة - أنه مر علي - آثار , نعم. أفتى الصحابة في العمرة لكن أنه يفسد بعد الطواف أو بعد الطواف والسعي بهذ التفصيل فلا أذكر الآن آثار لكن من حيث النظر مذهب المالكية هو أقوى الأقوال.
- ثم قال - رحمه الله -:
وإن طاوعته زوجته لزمها.
إذا طاوعت الزوجة الزوج فعليها مثل ما على الزوج تماماً، جميع الأحكام الخمسة ..
= والقول الثاني: أنها وإن طاوعته فالفدية على الزوج دون الزوجة لأنه جماع واحد فلا يوجب كفارتين.
والصواب مع الجمهور الذين يرون أن عليها كفارة إذا طاوعته.
- وإذا أكرهها فإن على الزوج كفارة وليس على الزوجة كفارة وليس على الزوج أن يخرج كفارة أخرى عن زوجته التي أكرهها، لأن هذا يقال فيه جماع واحد لا تجب فيه كفارتان.
(فصل)
يعني في بيان بعض الأحكام التفصيلية للفدية.
- يقول - رحمه الله -:
ومن كرر محظوراً من جنس ولم يفد: فدى مرة.
إذا كرر الإنسان محظوراً من جنس واحد كأن يتطيب ثم يتطيب مرة أخرى ثم يتطيب مرة ثالثة سواء كان هذا الطيب في عضو واحد أو في أعضاء فهو ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: أن يفدي قبل أن يكرر.
(3/117)
________________________________________
فحينئذ يجب عليه فدية أخرى لأنه سبب آخر كما لو أقسم يميناً ثم حنث وكفر وأقسم يمينا آخر، وكما لو اقترف حداً ثم أقيم عليه العقوبة ثم اقترف هذا الحد مرة أخرى.
- القسم الثاني: أن يكرر المحظور الذي من جنس واحد قبل أن يكفر.
فحينئذ تجب عليه كفارة واحدة فقط. لأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس فدية واحدة مطلقاً ولو تكررت فيؤخذ من الآية أن هذه الفدية تجب ولو تكرر المحظور.
إذاً عرفنا الآن الحكم إذا كرر المحظور الذي هو من جنس واحد سواء كرره قبل أو بعد أن يفدي.
- ثم قال - رحمه الله -:
بخلاف صيد.
فالصيد يجب بعدده كفارات ولو كثر.
- لقوله تعالى: - (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ) -[المائدة/95].
كل ما تقتل ففيه جزاء ولو كان القتل الجماعي للمصيد تم بإطلاق واحد فإنه يجب بعدد المقتول كفارات، وهذا لا إشكال فيه لأن الآية صريحة بأنه يجب في كل مقتول من الصيد فدية خاصة، ولا يستثنى من هذه القاعدة وهي ارتكاب محظور من جنس واحد عدة مرات إلا في الصيد فقط.
- ثم قال - رحمه الله -:
ومن فعل محظوراً من أجناس: فدى لكل مرة.
إذا فعل محظوراً من أجناس فهو ينقسم إل قسمين:
- القسم الأول: أن يكون لكل جنس كفارة مختلفة: كأن يلبس المخيط ويجامع.
فهذان المحظوران لكل منهما كفارة وحينئذ يجب عليه أن يكفر بعدد المحظورات قولاً واحداً عند الحنابلة، ولا إشكال.
- القسم الثاني: أن يكرر محظوراً من أجناس لكن كفارته واحده كأن يغطي رأسه ويلبس المخيط ويتطيب ويحلق شعره، هذه الأفعال لها كفارات من جنس كفارة واحدة ففي هذا القسم الأخير خلاف:
= فالمذهب: أنه يجب عليه بعدد المحظورات فإذا غطى رأسه وتطيب فعليه كفارتان.
واستدلوا:
- بالقياس على إقامة الحد في المعاصي التي فيها حدود وعلى كفارة اليمين إذا تكررت.
= والقول الثاني: أنه إذا فعل محظورات من أجناس لها كفارة واحدة فتكفيها كفارة واحدة ولو تعددت فإذا غطى وتطيب ولبس فكفارة واحدة.
والصواب مع القول الأول مع الحنابلة:
- لأن هذه أجناس تختلف.
(3/118)
________________________________________
- ولأن الاتحاد في الكفارة لا يعني أن تتداخل ولذلك لو أقسم الإنسان أن لا يسافر وأن لا يكتب وأن لا يقرأ ثم خالف في الجميع فالكفارة واحدة ومع ذلك يجب عليه الكفارة في كل يمين فاتحاد جنس الكفارة لا أثر له.
لذلك نقول أن الراجح إن شاء الله مع الحنابلة وهو أنه يجب أن يكفر كفارات بعدد ما ارتكبه من المحظورات.
- ثم قال - رحمه الله -:
رفض إحرامه أو لا.
رفض الإحرام هو نية الخروج من النسك بلا مبرر شرعي، ولا يستطيع الإنسان أن يخرج من النسك أبداً في الشرع إلا بثلاث طرق:
- أن يتم أعمال النسك.
- أن يحصر فيتحلل.
- أن يشترط في أول الإحرام ثم يقع ما اشترط منه فيتحلل.
فيما عدا هذه الثلاثة الأنواع لا يمكن للإنسان أن يخرج من الإحرام مطلقاً.
فإذا رفض المحرم الإحرام فإنه لا يقبل منه إجماعاً، ويترتب على هذا: أن ما فعله من محظورات الإحرام تبقى فيها الفدية ولو كان رفض الإحرام لأن رفضه للإحرام مرفوض إجماعاً، إذاً عرفنا الآن معنى رفض الإحرام وكيف ينتهي الإنسان من النسك وماذا يجب على من ارتكب محظورات الإحرام بعد أن رفض الإحرام.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويسقط بنسيان: فدية.
المقصود بالنسيان هنا: الأعذار سواء كانت نسياناً أو جهلاً أو إكراهاً أو أي عذر معتبر شرعاً.
يريد المؤلف - رحمه الله - أن يبين هنا الأشياء التي تسقط بالأعذار الشرعية من كفارات محظورات الإحرام والأشياء التي لا تسقط.
الحنابلة يقسمون محظورات الإحرام إلى قسمين:
- القسم الأول: ما ليس فيه إتلاف وهو الذي بدأ به المؤلف - رحمه الله -.
- القسم الثاني: ما فيه إتلاف وهو الذي ثنى به المؤلف - رحمه الله -.
نأخذ القسم الأول: إذا ارتكب الإنسان محظوراً ليس فيه إتلاف كاللبس والطيب وتغطية الرأس فقد:
= ذهب الجماهير: أنه لا فدية عليه إذا كان ارتكبه بعذر من نسيان أو جهل أو إكراه.
- لقوله تعالى: - (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) -[البقرة/286].
- ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
= القول الثاني: أنه لا يعفى عن كفارة محظورات الإحرام ولو فعلت نسياناً.
((الأذان)).
(3/119)
________________________________________
قال الشارح حفظه الله:
نتم ما ليس فيه إتلاف ونترك ما فيه إتلاف إلى الدرس القادم.
إذاً القول الثاني: أنه إذا فعل الإنسان ما ليس فيه إتلاف ولو كان معذوراً فعليه الفدية.
واستدل هذا:
- بأن قال: أن الشارع الحكيم رفع عن المعذور الإثم دون على ما يترتب
(3/120)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (8)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تقدم معنا بالأمس الكلام عن سقوط فدية محظورات الإحرام إذا كان هناك عذر وأخذنا الخلاف والراجح.
واليوم نبدأ بالمحظورات التي فيها إتلاف كالصيد والحلق وتقليم الأظافر وكل محظور فيه إتلاف، ففدية هذه المحظورات فيها خلاف بين أهل العلم - رحمهم الله -:
= القول الأول: ذهب إليه الأئمة الأربعة فقد اتفق الأئمة الأربعة على أن هذا النوع من المحظورات لا تسقط فديته بالعذر.
واستدلوا:
- بأن ما ذهب بسبب هذا المحظور ذهب على وجه لا يمكن استدراكه فإذا حلقالإنسان شعره فلا يمكنه أن يستدرك هذا المحظور بأن يعيد الشعر - مثلاً، بينما إذا لبس المخيط فيمكن أن يستدرك هذا المحظور بأن ينزع هذا المخيط، فعرفنا الآن أن الأئمة الأربعة يرون أن المحظور لا يسقط ولو بالعذر في ما فيه إتلاف.
= القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد نصرها شيخ الإسلام - رحمه الله - أن المحظورات وإن كان فيها إتلاف فإن الفدية تسقط بالعذر سواء كان العذر جهلاً أو نسياناً أو خطأً.
واستدلوا:
- بقوله تعالى: - (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا) -[المائدة/95].
وهذه الآية في جزاء الصيد واشترطت التعمد مع أن الصيد من محظورات الإحرام التي فيها إتلاف، والآية نص في العذر غير المتعمد كالناسي والمخطئ والجاهل والمكره بأنه لا يدخل في الآية، ولا يمكن أن نستدل الآن بحديث يعلى بن أمية لأن المحظورات التي فيه ليس فيها إتلاف.
والأقرب والله أعلم هذه الرواية الثانية: - لظاهر القرآن.
(3/121)
________________________________________
والأحوط بلا شك ولا إشكال أن من اقترف محظوراً فيه إتلاف أن يفدي احتياطاً لاتفاق الأئمة الأربعة على هذا المذهب وعامة أهل العلم وإنما هي رواية عن الإمام أحمد كما قلت، لكن من حيث الدليل فالراجح إن شاء الله الراجح عدم وجوب الفدية إذا كان ارتكاب المحظور خطأ.
- ثم قال - رحمه الله -:
دون وطء وصيد وتقليم وحلاق.
هذه المحظورات التي فيها إتلاف وتقدم معنا الكلام عليها مفصلاً.
ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بالكلام على مكان الهدي يريد أن يبين مكان الهدي:
- فيقول - رحمه الله -:
وكل هدي أو إطعام: فلمساكين الحرم.
مقصود المؤلف - رحمه الله - (وكل هدي أو إطعام): يعني: وكل هدي أو إطعام وجبا بسبب الحرم أو الإحرام فمكانه في الحرم كفدية الأذى إذا كانت في الحرم وكفدية ترك الواجب وكهدي المتمتع وكهدي القارن وكفدية جزاء الصيد ونحو ذلك، فهذه يجب أن تكون في الحرم.
وقول المؤلف - رحمه الله - (وكل هدي أو إطعام: فلمساكين الحرم): يشمل مسألتين يجب أن نفرق بينهما:
- المسألة الأولى: مكان الذبح.
- المسألة الثانية: بالنسبة للهدي والإطعام -: مكان التوزيع.
ـ ونبدأ بالمسألة الأولى: وهي مكان الذبح.
اتفق الأئمة الأربعة وحكي إجماعاً أن الذبح لا يجزئ إلا في الحرم فإن ذبح في الحل لزمه أن يذبح هدياً آخر.
واستدلوا بعدة أدلة:
- منها قوله تعالى: - (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) -[البقرة/196] يعني: الحرم.
- وبقوله سبحانه وتعالى: - {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} -[المائدة/95] في جزاء الصيد.
- وبقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن جابر: (نحرت ههنا ومنى كلها منحر).
فهذه الأدلة من الكتاب والسنة تدل على أن النحر لا يجزئ إلا في الحرم.
= القول الثاني: وهو لبعض الشافعية: أن النحر خارج الحرم يجزئ بشرط أن يوزع في الحرم.
واستدل هؤلاء:
- بأن المقصود من الذبح والنحر هو إطعام الفقراء فإذا حصل هذا المقصود أجزأ الذبح ولو كان خارج الحرم.
والجواب على هذا الاستدلال:
(3/122)
________________________________________
- أن المقصود من الهدي ليس توزيع اللحم فقط وإنما الذبح تقرباً إلى الله في المناسك فالذبح مقصود كما أن التوزيع مقصود ولكن قصد الذبح أكبر وأعظم وأهم.
وعرف من سياق هذا الخلاف أنه إذا ذبح خارج الحرم ووزع خارج الحرم فبإجماع العلماء لا يجزئه وعليه أن يذبح هدياً آخر.
ـ المسألة الثانية: توزيع لحوم الأضاحي:
توزيع لحوم الأضاحي اختلف فيه الفقهاء على قولين:
= القول الأول: أنه لا يجزئ إلا في الحرم.
واستدلوا على هذا:
- بأن المقصود من الإلزام بذبح الهدي في الحرم التوسعة على فقراء الحرم فإذا وزع خارج الحرم ذهب هذا المقصود وذهبت الفائدة التي من أجلها أوجب الشارع الذبح في الحرم.
= والقول الثاني: جواز التوزيع في أي مكان من الحل أو الحرم. إنما الشرط عند هؤلاء أن يذبح أما التوزيع ففي أي مكان.
واستدلوا على هذا:
- بأنه لا يوجد دليل صريح على وجوب توزيع الهدي في الحرم.
والراجح: القول الأول وهو مذهب الحنابلة:
- لأن الظاهر والله أعلم من الإلزام من الذبح في الحرم أن من مقاصده التوسعة على فقراء الحرم.
وعلم من الخلاف: أن إيقاع الذبح في الحرم أهم من التوزيع أما الخلاف في التوزيع فهو خلاف متكافئ حتى من حيث العدد بين الفقهاء فمنهم من ذهب إلى الجواز ومنهم من ذهب إلى وجوب توزيعه داخل الحرم.
- ثم قال - رحمه الله -:
وفدية الأذى واللبس ونحوهما.
يعني حيث وجد سببه، ففدية الأذى واللبس ونحو هذه الأشياء التي فيها الفدية التي تقدمت معنا حيث وجد السبب سواء وجد السبب في الحل أو في الحرم.
استدل الحنابلة على هذا:
- بأن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - لما اشتكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يفدي وكانت القصة وقعت في الحديبية ولم يأمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يذهب إلى الحرم لأداء الفدية وإنما وقعت الفدية خارج الحرم، فدل الحديث على أن الفدية تكون حيث وجد السبب ولو في الحل.
= والقول الثاني: أنه يلزم من فعل محظوراً خارج الحرم أن يفدي داخل الحرم.
لنفس العلة السابقة وهي:
- أن ينتفع فقراء الحرم.
والراجح بلا إشكال إن شاء الله مع الحنابلة:
(3/123)
________________________________________
- لأن معهم حديثاً صحيحاً صريحاً وهو إذنه - صلى الله عليه وسلم - لكعب أن يذبح في الحديبية وهي من الحل.
- ثم قال - رحمه الله -:
ودم الإحصار: حيث وجد سببه.
دم الإحصار يعني: الدم الواجب بسبب الإحصار وهو المنع من دخول مكة لأداء النسك يجب حيث وجد سببه.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أحصر ذبح في الحديبية وتقدم معنا أن الحديبية من الحل، فدل هذا على أنه يجوز ذبح دم الإحصار في المكان الذي وجد فيه الإحصار.
= وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يجب عليه أن يسير الهدي إلى داخل الحرم إن استطاع.
والراجح مع القول الأول: - لصريح السنة التي استدلوا بها.
لكن مع ذلك كما قلت: يستحب للإنسان خروجاً من الخلاف في فدية الأذى والإحصار أن يرسل الهدي والكفارة إلى الحرم ليوزع على فقرائه خروجاً من الخلاف وأيضاً توسعة على فقراء الحرم.
-
ثم قال - رحمه الله -:
ويجزئ الصوم بكل مكان.
الصوم الواجب كفارة والصوم الواجب بدل هيي التمتع: يجوز أن يكون في كل مكان وهذا محل إجماع بين الفقهاء بين أهل العلم فلم يختلفوا في هذا.
والسبب والعلة في جواز الصيام في كل مكان أن فائدة الصيام تقتصر على الصائم ففي أي مكان صام أجزأه.
- ثم قال - رحمه الله -:
والدّم: شاة أو سُبع بدنة، وتجزئ عنها بقرة.
قوله: (والدم) يعني والدم المذكور في هذا الباب هو إما شاة أو سبع بدنه أو سبع بقرة.
والدليل على هذا:
- أن ابن عباس لما قرأ - (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) -[البقرة/196]. قال: شاة أوشرك في دم.
بناء على هذا من وجب عليه ذبح سبع شياه أجزأت عنه بدنه واحده أو بقرة.
إذاً المؤلف - رحمه الله - يريد أن يبين ما المقصود بالدم وما هي الأشياء التي تجزئ وبين أنها شاة أو سبع بدنه أو سبع بقرة.
والدليل على البقرة أنها تجزئ عن البدنة:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبحها بدل البدنة.
- وأيضاً عموم أثر ابن عباس وهو قوله: (شرك في دم) يشمل دم البدنة ودم البقرة.
وبهذا انتهى الباب وانتقلنا إلى باب جزاء الصيد.
باب جزاء الصيد
(3/124)
________________________________________
جزاء الصيد هو: ما يجب على من أتلفه سواء كان الإتلاف بمباشرة أو بتسبب وهذا الواجب يشترط فيه كما تقدم معنا المماثلة والمشابهة في الصورة لا في الثمن.
وتقدم معنا أيضاً أن معرفة المثل ينقسم إلى قسمين:
- إما أن يكون بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم الآن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم في حديث صحيح إلا في الضبع وقد تقدم معنا أن الإمام أحمد والإمام البخاري صححا هذا الحديث وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في الضبع شاة.
وأما فيما عدا الضبع فجميع المروي في الباب هو عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. والذين كثرت فتواهم في جزاء الصيد هم أربعة: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهم -، فهؤلاء الأربعة هم أكثر من روي عنهم التقدير والتمثيل وروي أيضاً عن ابن مسعود لكن شيء قليل وروي عن ابن عمر لكن شيء قليل، أما عمر وعثمان وعلي وابن عباس فروي عنهم التقدير كثيراً.
- يقول - رحمه الله -:
في النعامة بدنة.
يعني: يجب على من قتل النعامة أن يذبح بدنة بدلاً عنها، والذي حكم بهذا الحكم هم الأربعة: عمر وعثمان وعلي وابن عباس - رضي الله عنهم -.
والشبه بين النعامة والبعير ظاهر من حيث الخلقة لا من حيث الثمن، فشكل النعامة يشبه شكل البعير ولذلك حكم به الصحابة - رضي الله عنهم -.
- ثم قال - رحمه الله -:
وحمار الوحش وبقرته والإيِّل والثَّيْتَل والوَعْل: بقرة.
هذه خمسة أشياء:
- الثلاثة الأول: حمار الوحش وبقرته والأيل: هذه حكم بها الأربعة الذين تقدم ذكرهم من الصحابة، فقد حكموا أن في هذه الحيوانات بقرة والشبه بينها وبين البقرة واضح وجلي.
بقينا في:
- الثيتل والوعل: وهما من أنواع الأيل. فيدخلان في فتوى الصحابة في نفس المسمى وليس قياساً. فلا نقول قياساً لكن في نص فتوى الصحابة لأن الأيل ما هو إلا نوع من أنواع الوعل يختلف هذا عن هذا بالشكل.
وقيل: في القرون وقيل فيه أقوال أخرى.
والمهم أنه اتفق أهل اللغة أن هذه الثلاثة حيوانات حيوان واحد بينها اختلاف في الشكل والهيئة ومكان الحياة .. إلخ، فالمهم أنها شيء واحد وقد حكم الصحابة في الأيل يشمل الثيتل والوعل.
(3/125)
________________________________________
- ثم قال - رحمه الله -:
والضبع كبش.
حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: أن في الضبع كبش، والكبش هو الذكر من الضأن.
ووجه الشبه أيضاً ظاهر بين الكبش والضبع من حيث الخلقة الخارجية - من حيث الشكل والحجم عموماً، فيجب على من قتل ضبعاً أن يذبح كبشاً.
- ثم قال - رحمه الله -:
والغزالة عنز.
الغزال فيها عنز، والذي حكم بهذا الحكم هم: عمر وعلي وابن عباس دون عثمان فلم نجد لعثمان فتوى في قتل الغزال، فهؤلاء الثلاثة حكموا أن الغزال فيه عنز والشبه أيضاً بينهما ظاهر في شيئين:
- الشيء الأول: شكل الشعر الخارجي.
- والشيء الثاني: شكل الذنب والذيل.
فقال الفقهاء أن العنز والغزال يتشابهان في هذين الأمرين ولذلك حكم الصحابة في الغزال بعنز.
- ثم قال - رحمه الله -:
والوبر والضب جدي.
كان ينبغي أن يقول المؤلف - رحمه الله - والضب والوبر جدي لا والوبر والضب جدي، يعني: كان ينبغي أن يقدم الضب، والسبب: أن الضب هو الذي فيه فتاوى والوبر مقيس عليه، فالضب أفتى فيه: عمر وزيد بن ثابت أن فيه جدي، فإذاً حكموا عليه بهذا الحكم، ولا يوجد تشابه ظاهر في الشكل بين الضب والجدي ومع ذلك جعل الصحابة الجدي يقارب للضب لعله من جهة كمية اللحم.
وبعد التأمل لم يتبين لي وجه الشبه بين الجدي والضب فإن الحيوانات التي تقدمت وجه الشبه فيها واضح لكن بين الجدي والضب لا أدري لماذا حكم عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت بهذا الحكم، وتقدم معنا أن الصحابة إذا حكموا بحكم فإن الصواب أن من جاء بعدهم ليس له أن يجتهد فلو جاءنا رجل يجتهد فإنه على الصواب اجتهاده مرفوض ويجب أن نجعل في الضب جدي، والجدي هو ما بلغ ستة أشهر من الماعز خاصة، فيجب على من قتل ضباً أن يذبح هذا الجدي جزاء عن الصيد، والوبر قاسه الفقهاء على الضب.
-
ثم قال - رحمه الله -:
واليربوع جفرة.
الجفرة: هي ما أتمت أربعة أشهر من الماعز. ففي اليربوع جفرة. والشبه بينهما واضح وهو أن اليربوع - وهو الذي تسميه العامة الجربوع - يجتر كاجترار الماعز تماماً فتشابها في هذا الشيء والذي حكم بهذا الحكم هم: عمر بن الخطاب وابن مسعود.
- ثم قال - رحمه الله -:
والأرنب عناق.
(3/126)
________________________________________
العناق هو ما فوق الجفرة ودون الجدي، وقال بعض الفقهاء بل هو ما تحت الجفرة، يعني ما هو أصغر من الجفرة من الماعز، لكن الصواب أن العناق أكبر من الجفرة.
- بدليل: أن الأرنب أكبر من اليربوع فالمناسب أن نذبح فداء الأرنب عنزاً أكبر مما نذبح فداء لليربوع.
والذي حكم في الأرنب هو - حسب ما وقفت عليه - هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
- ثم قال - رحمه الله -:
والحمامة شاة.
الحمامة فيها شاة، والذين حكموا فيها هم: عمر وابنه وابن عباس، فهؤلاء رأوا أن في الحمامة شاة.
واختلفوا في الحمامة هل يقصد بها الحمامة المعينة أو كل طير يشبه الحمامة؟ وهذا الاختلاف لا يضر في حكم المسألة، فنقول: المقصود بالحمامة هنا كل ما عب الماء من الطير وهدر، فكل طير يعب الماء عبا ويهدر بصوت كصوت الحمامة فيأخذ نفس حكم الحمامة، وعب الماء هو أن يكرع الطير فيه تكريعاً ولا يشرب كشرب الدجاج نقطة فنقطة، فإن الحمام لا يشرب كشرب الدجاج إنما يكرع في الماء ويشرب، بينما الدجاج يأخذ من الماء نقطة نقطة، فنجد أن شرب الحمام يشبه شرب الشياه، ولهذا جعل الصحابة في الحمامة شاة، ونقول كل طائر يشبه الحمامة سواء سمي حمامة أو لم يسمى بهذا الاسم فمادام يشرب بهذه الطريقة ويصدر صوتاً يشبه صوت الحمامة فله نفس الحكم: أن فيه شاة. سواء أدخلنا باقي الطيور في مسمى الحمام أو قلنا الحمام اسم لطير خاص ونقيس عليه باقي الطيور فالأمر واضح، وبهذا انتهى المؤلف - رحمه الله - من بيان ما حكم به الصحابة، ثم: أي حيوان أو طير لم يحكم به الصحابة فإنه يندب إليه عدلان من أهل الخبرة وينظر ماذا يشبه من الحيوانات من بهيمة الأنعام خاصة كما تقدم معنا فإن لم نجد له شبيهاً وحكم أهل الخبرة أنه لا شبيه له انتقلنا إلى قيمة الصيد على ما تقدم معنا في الباب السابق.
باب صيد الحرم
المقصود بالحرم هنا حرم مكة وحرم المدينة، أي أن المؤلف - رحمه الله - سيبين في هذا الباب حكم صيد وحشائش وشجر مكة والمدينة، وبطبيعة الحال سيبدأ - رحمه الله - بمكة لعظمها ورفع قدرها.
- يقول - رحمه الله -:
يحرم صيده: على المحرم والحلال.
الصيد داخل الحرم: محرم بالنص والإجماع لم يختلف الفقهاء في تحريمه.
(3/127)
________________________________________
واستدلوا على تحريمه:
- بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا البلد حرمه الله منذ خلق السموات والأرض فهو حرام بتحريم الله إلى قيام الساعة لا يختلا خلاه ولا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف)).
فقال العباس يا رسول الله: إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم. - والقين: هو الحداد أو الصائغ - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا الإذخر).
فهذا الحديث نص في تحريم الصيد وتحريم الحشيش وتحريم الشجر وتحريم تنفير الصيد ولو للجلوس مكانه.
يعني يحرم على من في داخل الحرم أن ينفر الصيد ولو كان بغير قصد اصطياده بل بقصد الجلوس مكانه لأنه سيجلس في الظل مثلاً فإنه يحرم عليه أن يفعل هذا فإن الأشجار والحشائش والحيوانات آمنة بأمن الله داخل الحرم، إذاً هذا الحكم حكم مجمع عليه ودلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة.
- ثم قال - رحمه الله -:
وحكم صيده كصيد المحرم.
حكم الصيد داخل الحرم كحكم صيد المحرم فيه المثل وهو مخير بين الصيام والإطعام فإن لم يجد قوم الصيد وهو أيضاً مخير بين الصيام والإطعام على الترتيب والأحكام التي تقدمت معنا في جزاء الصيد تماماً.
وإلى هذا: أي إلى وجوب جزاء صيد الحرم:
= ذهب الجماهير من أهل العلم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من فقهاء الإسلام ذهبوا إلى وجوب الجزاء في صيد الحرم.
واستدلوا على هذا:
- بأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حكموا بهذا الحكم لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حكموا بوجوب جزاء الصيد على من صاد في الحرم.
= وذهب الأحناف إلى أنه لا يجب جزاء الصيد بل عليه التوبة والاستغفار.
واستدلوا على هذا
- بأنه ليس في النصوص الصحيحة الصريحة ما يوجب جزاء الصيد داخل الحرم.
والجواب: أن الآثار المروية الصحيحة في هذا الباب كافية في إثبات هذا الحكم فهي إجماع من الصحابة إذ لا يعلم مخالف للفتاوى التي أفتى فيها الصحابة بوجوب جزاء الصيد داخل الحرم.
ثم لما بين المؤلف - رحمه الله - حكم الصيد انتقل إلى الشجر:
- فقال - رحمه الله -:
ويحرم: قطع شجره وحشيشه الأخضرين.
قطع الشجر والحشيش الأخضرين محرم بالإجماع:
(3/128)
________________________________________
- لدلالة الحديث السابق. والذي يدل على اشتراط كونه أخضراً أنه قال: (الكلأ) والكلأ في لغة العرب لا يطلق إلا على الحشيش الرطب.
بقينا في أمور أخرى تخرج عن الشجر الأخضر والحشيش الأخضر:
- الأول: ما زرعه الآدمي. وهو ينقسم إلى قسمين:
ـ القسم الأول: الزرع.
ـ والقسم الثاني: الشجر.
- فالزرع: أجمع الفقهاء بلا خلاف أن يجوز لمن زرع في الحرم أن يحصد ولا فدية عليه.
- والشجر: فيه خلاف: لكن مع ذلك ذهب الجماهير إلى جواز قطع الشجر الذي زرعه الآدمي قياساً على الزرع المجمع عليه.
وهذا القول هو الصواب، والقول الآخر الذي يمنع من الشجر ضعيف.
- المسألة الثانية: حكم قطع الشجر الميت اليابس والحشيش اليابس، اتفق الأئمة الأربعة على جواز قطع ما يبس من الشجر والحشيش:
- لأن هذا اليابس في حكم الميت فجاز أخذه والانتفاع به.
- الثالث والأخير: ما قطع من الشجر بغير فعل الآدمي وسقط أو ظل متعلقاً بالشجرة بعد كسره. فهذا يجوز عند الجماهير أن ينتفع به الإنسان وأن يأخذه لأن مآل هذا الساقط إلى اليبس والموت ومآل الذي سقط وبقي متعلقاً أن ييبس ويموت أيضاً فله أخذ كل منهما، وأما إن كان هذا السقوط بفعل آدمي:
= فمن الفقهاء من قال: يجوز له أن ينتفع به.
= ومنهم من قال: لا يجوز أن ينتفع به. وقالوا: لا يجوز أن ينتفع به نظير الصيد فإن الصيد إذا صاده المحرم أصبح ميتة فكذلك هذا لا يجوز الانتفاع به.
والأقرب والله أعلم: أنه يجوز الانتفاع به ولو كان بفعل آدمي والآدمي آثم لكن نحن الآن نتحدث عن الانتفاع بما قطعه الآدمي.
- والدليل على ذلك: أن بين الذبيحة والشجر فارق كبير. لأن الذبيحة يشترط فيها أن يكون الذابح من أهل الذكاة فإن أهلية المذكي من شروط جواز أكل الذبيحة بخلاف الحطب وكسره فإنه لا يشترط له ما يشترط للذبائح والأطعمة، فافترقا من هذه الجهة فجاز الانتفاع بما قطعه الآدمي من الشجر ولم يجز بما قتله الآدمي من الصيد.
ـ ويستثنى أيضاً: الرعي:
= ذهب الجمهور إلى جواز الرعي. جواز أن يجعل الإنسان بهائمه ترعى في الحرم. واستدلوا على هذا:
(3/129)
________________________________________
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - دخلوا الحرم في هديهم ولم ينقل أنهم كانوا يكممون أفواه ابهائم حتى لا تأكل من حشيش الحرم. فدل هذا على الجواز وهذا ظاهر.
- واستدلوا أيضاً بحديث ابن عباس لما أتى إلى الصف على أتان ثم تركها ودخل الصف وصارت الأتان ترعى من الأرض وهم في الحرم.
= والقول الثاني: أنه لا يجوز أن يمكن الإنسان بهائمه أن ترعى في الحرم.
- لأن هذا الرعي يستلزم الإتلاف والإتلاف من محظورات الحرم.
وهو قول ضعيف جداً مصادم لظواهر النصوص، فإنه يجوز للإنسان أن يبذل المرعى لبهائمه ولو كان في الحرم فهو أمر مستثنى.
ـ المسألة الأخيرة: الفدية.
o يجب في الشجر الكبيرة والمتوسطة: بقرة.
o وفي الشجرة الصغيرة: شاة.
بهذا حكم بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
= والقول الثاني: أنه ليس في إتلاف الشجر والحشيش فدية لأنه لا يوجد دليل يدل على وجوب الفدية في الشجر أو الحشيش. وإلى هذا ذهب المالكية.
والصواب والله أعلم مع الجمهور:
- لأنا نحكم في كل باب الجزاء بفتاوى الصحابة ثم إذا وصلنا إلى جزاء الشجر توقفنا عن الأخذ بفتاوى الصحابة فهذا لا شك تناقض وعدم اضطراد في قواعد الترجيح، فما دام قبلنا آثار الصحابة هناك نقبلها هنا ولا يوجد فارق أو مانع يمنع من الأخذ بفتاوى الصحابة في هذا الباب.
- ثم قال - رحمه الله -:
إلاّ الإذخر.
الإذخر مستثنى بالإجماع:
- لأن حديث ابن عباس فيه التصريح باستثنائه من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم انتقل المؤلف إلى حرم المدينة:
- فقال - رحمه الله -:
ويحرم: صيد المدينة.
صيد المدينة محرم:
= عند الجماهير وهو الأئمة الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي.
واستدلوا:
- بما أخرجه مسلم عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المدينة حرم ما بين عير إلى ثور).
- وبالحديث الصحيح الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرَّم ما بين لا بتي المدينة.
= وذهب الأحناف وهو القول الثاني: إلى أن المدينة ليست حرماً. فيجوز للإنسان أن يختلي خلاها وأن يقطع شجرها وأن يقتل صيدها.
واستدلوا على هذا:
(3/130)
________________________________________
- بأن المدينة فيها حرم حكم كبير يحتاج لإثباته إلى نقل عام لا إلى نقل خاص.
والجواب على هذا الدليل من وجهين:
- الوجه الأول: أن تحريم المدينة نقل نقلاً عاماً فقد نقله عدد من الصحابة.
- الوجه الثاني: أن هذه القاعدة قاعدة منكرة إذ لا يشترط في ثبوت الأحكام أن تنقل نقلاً عاماً بل يكتفى فيها بالنقل الخاص ولذلك نجد أحكاماً مهمة لم تنقل لنا إلا نقلاً خاصاً فيكون الذي رواها من الصحابة واحد أو اثنان ورواها عنه عدد قليل من التابعين إلى أن وصلت إلى أصحاب الكتب الستة أو التسعة، فهذا شرط غير صحيح ويخالفه عمل علماء المسلمين.
بناء على هذا: الراجح: إن شاء الله ما ذهب إليه الأمة وهو أن المدينة لها حرم صحيح وثابت وكيف نرد الأحاديث الصريحة والصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم أنه حرم المدينة في مثل هذه الأقيسة والتعليلات.
- ثم قال - رحمه الله -:
ولا جزاء فيه.
= ذهب الحنابلة واختاره ابن قدامة وذكر عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه ليس في قتل صيد المدينة جزاء وإنما فيه التوبة، قال الإمام أحمد: لا أعلم أن فيه جزاء.
= والقول الثاني: أن فيه جزاء. والجزاء هو سلب قاتل الصيد أو قاطع الشجرة.
واستدلوا على هذا:
- بما أخرجه مسلم عن سعد - رضي الله عنه - أنه رأى عبداً يقطع شجراً في حرم المدينة فأخذ سلبه. فجاء قومه إليه فقالوا: أرجع سلب العبد فقال - رضي الله عنه -: ما كنت أرد شيئاً نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا الحديث صريح بأن سعد يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في قطع شجر الحرم أو قتل صيده سلب المعتدي، والمقصود بالسلب: على هذه الرواية هو: ثياب المعتدي دون دابته، فالسلب في هذا الباب يختلف عن السلب في الجهاد، والدليل:
- أن السلب في باب الجهاد إنما جاز فيه أخذ الدابة لأن لا يتقوى بها الكافر ولأجل أن يتقوى بها المجاهد المسلم وهذا المعنى مفقود في حرم المدينة.
- والشيء الآخر أنه لم ينقل أن سعداً رضي الله عنه أخذ دابة العبد.
(3/131)
________________________________________
وهذا القول: هو الظاهر من اختيار شيخ الإسلام وابن القيم فإنهم ضربوا أمثلة على التعزير المالي في الشرع وذكروا عدة أمثلة ومنها أخذ سلب من قطع شجر المدينة، فظاهر هذا أنهم يرون أنه يؤخذ السلب وأن في صيد المدينة وأخذ الشجر جزاء.
وهذا القول هو الصواب.
بقينا في إشكال كبير جداً وهو قول الإمام أحمد - وهو من هو -: أنه لا يعلم أنه نقل إيجاب الجزاء فهذا في الحقيقة، مشكل فمثل الإمام أحمد إذا نفى بعلمه وورعه وسعة اطلاعه فيكون إشكال: وأنا لم أجد جواباً على هذه الكلمة من الإمام أحمد والذي يظهر لي أن الإمام أحمد - رحمه الله - وقف على هذا الأثر لكن كأنه - رحمه الله - يرى أنه ليس بصريح في وجوب الجزاء وإلا فإن الإمام أحمد لا يخالف مطلقاً سنة مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يكون يرى ضعف الحديث لكن ما يبدو لي أن الإمام أحمد يرى ذلك فإن الحديث في مسلم وإسناده قوي.
(3/132)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (9)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
باب دخول مكة
- قال - رحمه الله -:
باب دخول مكة.
يعني: باب يوضح فيه الأحكام المتعلقة بدخول مكة، وذكر - رحمه الله - أن أول سنة في دخول مكة أن يدخل من أعلاها وفاته - رحمه الله - بعض السنن التي تسبق هذه السنة، فمما فات المؤلف - رحمه الله -:
- استحباب الاغتسال: = فقد ذهب الأئمة الأربعة والجماهير وحكي إجماعاً أنه يستحب للإنسان إذا أراد أن يدخل مكة أن يغتسل.
- ويستحب أيضاً: أن يدخل نهاراً.
- ودليل ذلك: أن ابن عمر - رضي الله عنه - لما أراد أن يدخل مكة توقف وبات فيها واغتسل نهاراً وقال: هكذا كان يصنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(3/133)
________________________________________
والأئمة - رحمهم الله - أخذوا من هذا الحديث وفهموا استحباب الاغتسال وأن يدخل نهاراً. وأما الدخول في الليل: فهو أيضاً جائز ولم يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً إلا مرة واحدة. وهو دليل الجواز، فيجوز أن يدخل ليلاً ويستحب أن يدخل نهاراً وهو أمر مقصود كما فهم الأئمة وليس أمراً عرضياً وقع صدفة بل ينبغي ويستحب للإنسان أن يتقصد أن يغتسل وأن يدخل مكة نهاراً.
ثم نأتي إلى السنة التي ذكرها المؤلف:
- فقال - رحمه الله -:
يسن: من أعلاها.
استحباب دخول مكة من أعلاهاً من حيث الجملة لا أعلم فيه خلافاً.
لكن ذهب بعض الشافعية إلى أنه يستحب الدخول من أعلى مكة لمن كان طريقه يمر بأعلى مكة وإلا فلا.
ويفهم من هذا الخلاف أن جميع أهل العلم يرون استحباب الدخول من أعلى مكة إذا كان طريق الإنسان يمر بأعلى مكة، وكما قلت: الجماهير يرون الاستحباب مطلقاً فقط بعض الشافعية يرون أنه مستحب في حال واحدة: إذا كان طريقه يمر بأعلى مكة.
وهذا القول الراجح وهو أرجح من القول بأن هذا الدخول وقع لأنه الأسهل أو لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما طريقه من هذا الطريق فإن الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد كلهم يرون أن هذا أمر مقصود وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقصد الدخول من أعلاها.
واستدلوا:
- بما ثبت في حديث ابن عمر وحديث عائشة وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: دخل مكة من أعلاها.
بل نستطيع أن نقول: أن هذا فهم حتى الصحابة فإنا لا نعلم فائدة من قول عائشة أو ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل من أعلا مكة إلا أن هذا أمر مستحب أو أنه أمر مقصود.
فإذاً هذه سنة ثابتة نستطيع أن نقول بالإجماع لمن كان طريقه يمر بأعلى مكة وعند الجماهير لمن كان طريقه يمر بغير هذا الطريق يعني: من غير أعلى مكة.
- ثم قال - رحمه الله -:
والمسجد من باب بني شيبة.
يعني: ويستحب أن يدخل المسجد الحرام من هذا الباب.
والدليل على استحباب هذه السنة:
- ما أخرجه البيهقي في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد من هذا الباب.
(3/134)
________________________________________
- وأيضاً ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يحكم بين قريش في وضع الحجر دخل من باب بني شيبة.
وحديث البيهقي نسبه بعضهم خطأ إلى مسلم وهو في البيهقي وليس في مسلم: يعني دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب بني شيبة، وهذا الباب لا وجود له الآن بعد العمارة الحديثة للحرم لكن اشتهر أن الدخول من باب السلام أن من دخل من باب السلام ثم اتجه إلى الكعبة فإنه سيمر من باب بني شيبة وإلا فإن الباب نفسه لم يعد موجوداً الآن.
- قال - رحمه الله -:
فإذا رأى البيت: رفع يديه وقال ما ورد.
يعني: ويستحب عند رؤية البيت أن يرفع الإنسان يديه ويدعو بما ورد.
والدليل على هذا العمل:
- ما رواه ابن جريج - رحمه الله - مرسلاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصنع ذلك، ومراسيل بن جريج ضعيفة أو ضعيفة جداً لا تصلح للاستدلال.
= القول الثاني: أنه لا يشرع للإنسان أن يصنع ذلك بأن يرفع يديه ويدعو. وإلى هذا ذهب الإمام مالك - رحمه الله -.
واستدل على ذلك:
- بأن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنكر ذلك وقال: لم يكن يصنعه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وآراء هذا الصحابي الجليل في الحج لها أهمية والسبب في ذلك أنه اعتنى عناية خاصة بحج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هنا كان لفتاويه وآرائه ورواياته منزلة كبيرة عند الترجيح في مسائل الحج والعمرة.
- ثم قال - رحمه الله -:
ثم يطوف مضطبعاً.
الاضطباع هو أن يضع وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، والاضطباع سنة لثبوته في الأحاديث الصحيحة.
وينبغي أن يعلم أن:
- الاضطباع إنما يسن عند إرادة الطواف لا عند الإحرام، فإذا أوشك أن يبدأ الإنسان بالطواف اضطبع لا من حين يحرم من الميقات.
- الأمر الثاني: أن الإضطباع سنة في طواف القدوم فقط دون غيره من طوافات الحج.
-
ثم قال - رحمه الله -:
يبتدئ: المعتمر بطواف العمرة، والقارن والمفرد للقدوم.
- طواف القدوم: سنة بإجماع أهل العلم لم يختلفوا في أنه سنة مندوب إليها.
(3/135)
________________________________________
وقول الماتن - رحمه الله -: (يبتدئ). مقصود. لأنه يسن - عند أهل العلم من الحنابلة وغيرهم -:لمن دخل المسجد الحرام ليطوف يسن أن يبدأ بالطواف وأن لا يشتغل بأي عبادة أخرى حتى ولا بتحية المسجد.
واستثنوا من هذا مسألة واحدة وهي: أنه إذا دخل وصادف إقامة الفريضة فإنه يصلي معهم الفريضة. فيما عدا هذه الصورة فإنه يشرع له أن يبدأ بالطواف.
وطواف العمرة بالنسبة للمتمتع يغني عن طواف القدوم. وعلى هذا يدل كلام المؤلف - رحمه الله - لأنه جعل طواف القدوم خاصاً بالقارن والمفرد. وهذا صحيح. فلا يشرع للمتمتع أن يطوف أولاً للقدوم ثم يطوف ثانياً للعمرة.
والدليل على ذلك:
- أن ظاهر حال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين قدموا متمتعين أنهم اكتفوا بطواف واحد وهو طواف العمرة وقد أجزأهم عن طواف القدوم.
- ثم قال - رحمه الله -:
فيحاذي الحجر الأسود: بكله.
يشترط لصحة الطواف: أن يحاذي الطائف إذا أراد أن يبدأ: الحجر بكله.
ويجوز أن يحاذي بكله بعض الحجر.
ولا يجوز أن يحاذي ببعضه الحجر أو بعض الحجر.
إذاً: الشرط هو أن يكون كل الجسم محاذي لكل أو لبعض الحجر.
الدليل على هذا:
- قالوا: الدليل على هذا: أن ما شرط استقباله وجب أن يستقبل بكل الجسم كما في استقبال القبلة في الصلاة. كأنها قاعدة عندهم.
بناء على هذا: إن بدأ الطواف وبعض جسمه من جهة باب الكعبة ولو استقبل بالبعض الآخر الحجر فإن الطواف لا يصح لأنه لم يستقبل بجميع جسده الحجر.
= القول الثاني: أنه يجوز أن يقابل ببعض جسده بعض الحجر، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -.
والدليل على ذلك:
- أن الظاهر من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحال الصحابة أنهم لم يكونوا ينتصبون انتصاباً تاماً كاملاً أمام الحجر بحيث يكون جسد المعتمر أو الحاج مقابل بكله للحجر الأسود.
- كما أن في هذا الشرط لا سيما في هذه الأزمان مشقة ظاهرة وزائدة وهو أن نوجب أن يستقبل الإنسان بكل جسده كل الحجر ففي هذا مشقة عظيمة لا سيما في المواسم.
- كما أنه لا دليل على هذا الشرط. إنما الواجب أن يبدأ الإنسان من الحجر إلى الحجر سواء استقبل الحجر ببعضه أو بكله وسواء استقبل بعض الحجر أو كل الحجر.
(3/136)
________________________________________
وهذا القول الثاني هو القول الراجح إن شاء الله وهو الذي يسع العمل به ولو اشترطنا ما اشترط الحنابلة لدخل مشقة عظيمة على الناس.
- قال - رحمه الله -:
ويستلمه ويقبله.
الاستلام هو: المسح باليد. وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يستحب الاستلام والتقبيل وأن الدرجة الأولى من مراتب استلام الحجر هو أن يجمع بين الاستلام وهو المسح باليد والتقبيل.
وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم أن السنة: الاستلام مع التقبيل.
ولكني بحثت في جميع الأحاديث بحثاً كثيراً فلم أجد أي حديث فيه الجمع بين الاستلام والتقبيل إلا في حديثين صريحين في سنية الجمع بينهما ولكن فيهما ضعف، أما الأحاديث الصحيحة الصريحة فهي تشير إلى الاستلام أو التقبيل.
- ففي حديث جابر - رضي الله عنه -: الاستلام بلا تقبيل.
- وفي حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قبل الحجر وقال لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. وفيه التقبيل ولم يذكر الاستلام.
لذلك الأظهر والله أعلم أن:
- المرتبة الأولى: التقبيل بدون استلام. بحيث يضع الإنسان فمه على الحجر بلا إظهار صوت عند الحنابلة وإنما يضع شفتيه على الحجر وضعاً بدون تقبيل بصوت وينقلون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا صنع ولأن هذا فيه نوع من التأدب عند بيت الله وهذا بخلاف ما يصنعه كثير من الناس اليوم حيث يقبلون بطريقة تخالف هذه الطريقة.
إذاً الأقرب والله أعلم أن المرتبة الأولى: التقبيل بلا استلام. هكذا ظهر لي لأنه لا يوجد حديث يجمع بينهما. وهذه الأمور تعبدية.
- المرتبة الثانية: الاستلام مع تقبيل اليد. ودل على هذا: الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استلم الحجر بيده وقبل يده.
- ثم قال - رحمه الله -:
وإن شق قبّل يده.
(وإن شق) يعني: الاستلام مع التقبيل (قبل يده) تقدم معنا أنه إذا شق عليه فإنه يستلم الحجر يعني يمسح عليه ويقبل يده وأن هذا ثابت في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك.
- ثم قال - رحمه الله -:
فإن شق اللمس أشار إليه.
(3/137)
________________________________________
ترك المؤلف - رحمه الله - مرتبة من مراتب الاستلام وهي: أن يستلم الحجر بشيء مع ويقبل هذا الشيء.
- لما صح في الحديث الذي رواه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استلم الحجر بمحجن وقبله.
ثم المرتبة الأخيرة: (فإن شق اللمس أشار إليه). يعني: بيده بلا تقبيل، فيشير الإنسان إلى الحجر بدون أن يقبل يده.
فصارت المراتب:
- التقبيل مجرداً عن الاستلام.
- ثم الاستلام مع التقبيل.
- ثم استلام الحجر بشيء من عصا أو نحوه مع تقبيله.
- ثم الإشارة بلا تقبيل.
فهذه هي مراتب استلام الحجر.
وكما لا يخفى أن هذه المراتب ما عدا الأخير نستطيع أن نقول أنها في مواسم الحج المعاصرة غير مشروعة لكثرة الزحام وما يؤدي إليه هذا الأمر - وهو الاستلام أو التقبيل - من شقاق ونزاع ومدافعة لا يأتي الإسلام بمثلها لا سيما وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يزاحم ليقبل وسواء صح هذا الحديث أو لم يصح لاشك أن قواعد الإسلام تقتضي أنه في مثل هذه المواسم - مواسم الحج والعمرة في رمضان أنا نستطيع أن نقول أن التقبيل لا يشرع لما يترتب عليه من زحام شديد وإضرار بالآخرين.
وذهب الجمهور إلى أن التقبيل لا يشرع للمرأة وبنو هذا على أن التقبيل يؤدي إلى اختلاط المرأة بالرجال وكثرة المساس بين المرأة والرجل مما تأباه النصوص العامة الدالة على وجوب محافظة المرأة على جسدها من الاختلاط بالرجال.
ثم نقول: ما يقع اليوم من تقبيل النساء للحجر الأسود اليوم في الزحام في الحج أو في العمرة في رمضان لا يشك أي إنسان أنه محرم وأن المرأة آثمة بهذا التقبيل لما يلحظه الإنسان من تعرض المرأة لشيء عظيم من ذهاب الحياء والمساس بالرجال والاختلاط على وجه يحرمه الشرع بلا إشكال فإن التقبيل غاية ما هنالك أنه سنة بينما اختلاط المرأة بالرجال مع الالتصاق والمساس محرم بإجماع الفقهاء بإجماع أهل العلم وهذا الذي تقتضيه النصوص ولذلك ينبغي على طالب العلم أن يشير على المرأة أو على ولي المرأة أن التقبيل في الزحام محرم.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويقول ما ورد.
(3/138)
________________________________________
- ثبت في حديث جابر وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يبدأ بالطواف واستقبل الحجر كبر.
فالتكبير ثابت في الأحاديث الصحيحة، وليس في الأحاديث الصحيحة المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء يثبت عند بداية الطواف إلا التكبير فقط، لكن صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يبسمل فيقول: (بسم الله، والله أكبر) عند بداية الطواف، فإن أخذ الإنسان بهذا الأثر فقد أخذ بأثر عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن تركه فهو عندي أولى لأن الحج أمر مضبوط منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان هذا الذكر مشروعاً لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما مع شدة عناية أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجه الأخير وأما أثر ابن عمر فلا يمتنع أن يكون اجتهاداً منه - رضي الله عنه - لكثرة بداية الأعمال بالبسملة في الشرع. كما عند الوضوء إن صح وهو ضعيف. وكما عند الأكل وعند قراءة القرآن وغيره فقد جاء في الشرع في مواضع كثيرة أن الإنسان إذا شرع في العبادة يبسمل فلعل ابن عمر - رضي الله عنه - قاس على عبادة الطواف على غيره من العبادات.
والأقرب والله أعلم فيما يظهر لي أنه لا يشرع للإنسان إلا أن يقول: (الله أكبر)، تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويجعل البيت عن يساره.
دل النص والإجماع: على أن الطائف إذا بدأ بالطواف فإنه يجب أن يجعل الكعبة عن يساره فإذا استقبل الحجر وكبر انصرف عن يمينه.
والدليل على ذلك:
- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (خذوا عني مناسككم) وقد طاف كذلك - صلى الله عليه وسلم -.
وذكر أهل العلم حكماً كثيرة لكون الطواف يكون على هذه الهيئة أي أن يجعل الإنسان البيت عن يساره، أما الدليل فهو السنة المستفيضة، وهذه الحكم استنباطات من أهل العلم:
(3/139)
________________________________________
- منها: ونقتصر عليه: أن الطائف إذا جعل البيت عن يساره فإنه يعتمد على الشق الأيسر وبذلك يكون الشق الأيمن أرفع شأناً ومن المعلوم أن الشارع كرم الشق الأيمن للإنسان، هذا أقوى الحكم المذكورة. وفيه ما فيه من التكلف. وما ذكر من التعليلات الأخرى والحكم أيضاً فيها تكلف أكثر من هذه الحكمة فالواجب أن يقتصر الإنسان في مثل هذا على ما جاء في النصوص لا سيما في الحج فإنه يكثر في الحج الأعمال التي قد يصعب تعليلها وطلب الحكمة عدا أن الحكمة هي امتثال الأوامر وتعظيم الله وذكره في هذا الحج، هذا هو الذي يظهر وواضح من النصوص كما سيأتينا، أما التماس بعض الحكم في الحج ففيها تكلف ظاهر.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويطوف سبعاً.
أي: أن عدد الأشواط في الطواف سبعة ولا يجوز له أن يزيد على هذا المقدار فإن زاد تعبداً فهو مبتدع ولا يجوز له أن ينقص فإن نقص متعبداً فهو مبتدع بالإضافة إلى بطلان الطواف لأنه نقص منه ركناً وهذا الأمر مجمع عليه بين أهل العلم.
- ثم قال - رحمه الله -:
يرمل الأفقي.
الرمل هو: مقاربة الخطى مع الإسراع، وهو سنة باتفاق الأئمة.
قوله: (الأفقي) هذا يدل على أن الرمل سنة خاصة بغير المكي، فالأفقي يسن له أن يرمل والمكي لا يسن له أن يرمل.
والدليل على ذلك:
- ما ثبت عن ابن عمر وابن عباس أنهم قالوا: ليس على المكي رمل، فثبت بهذه الفتاوى أنها سنة خاصة بمن قدم من خارج مكة.
- كما أنه يدل على ذلك: الآثار المروية عن حال الصحابة أن الذين كانوا يرملون هم الذين يقدمون من خارج مكة دون المكيين.
- ثم قال - رحمه الله -:
يرمل الأفقي في هذا الطواف ثلاثاً ثم يمشي أربعاً.
أفاد المؤلف - رحمه الله - أن الرمل سنة خاصة بطواف القدوم وأنه يختص بالأشواط الثلاثة.
والدليل على ذلك:
- ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل مكة طاف في قدومه ثلاثاً سعياً وأربعاً مشياً.
(3/140)
________________________________________
ففي حديث ابن عمر النص على أن الرمل كان في قدومه. يعني: في طواف القدوم، وعلى أنه كان في الثلاثة الأشواط الأولى لأنه يقول (سعى ثلاثاً ومشى أربعاً) فالحديث نص في تخصيص طواف القدوم وتخصيص الأشواط الثلاثة فإذاً لا يشرع ولا يسن أن يستمر الإنسان في الرمل إلى نهاية الطواف.
* * مسألة / فإن لم يستطع أن يأتي بهذه السنة إلا بالابتعاد عن الكعبة:
= فمن الفقهاء من قال: القرب من الكعبة أولى من هذه السنة.
- لأن الطواف إنما كان حول الكعبة لتعظيم الكعبة. وكلما قرب الإنسان من الكعبة كان أولى في الإتيان بمعنى الطواف.
- كما استدلوا: بفتاوى لبعض التابعين. وليست بدليل. - الفتوى من التابعي ليست بدليل - لكن اعتاد أهل العلم أن يذكروا في سياق إثبات الحكم الفتاوى التي تأتي عن التابعين.
= والقول الثاني: أنه يأتي بالسنة ولو كان بعيداً عن الكعبة ولو أد الإتيان بالسنة إلى البعد عن الكعبة.
- للقاعدة المشهورة أن السنة المتعلقة بذات العبادة أولى ومقدمة على السنة التي تتعلق بمكان العبادة.
وهذا القول الثاني هو الصحيح.
-
ثم قال - رحمه الله -:
يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة.
- ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستلم الحجر الأسود والحجر اليماني.
وهذا يدل بمفهومه أن الركنين الشاميين لا يشرع للإنسان أن يستلمهما.
وأطبق أهل العلم واستقر الأمر على هذا وهو أنه لا يستلم من البيت إلا الحجر الأسود والركن اليماني، إلا أن الركن اليماني يشرع الاستلام فيه دون التقبيل. لأنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه إلا الاستلام دون التقبيل، كذلك لا يشرع في الحجر اليماني الإشارة إذا لم يستطع الإنسان أن يستلم، وتبين من هذا أن مرتبة الحجر اليماني بالنسبة للاستلام والتقبيل وغيره مرتبة واحدة وهي الاستلام فقط فإن استطاع أن يستلم وإلا ينصرف.
والسنة: أنه إذا استلم الحجر اليماني يدعو فيقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، وهذا ثابت في حديث عطاء بن السائب - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح ثابت.
(3/141)
________________________________________
ولا يشرع بين الركنين أن يدعو بأي دعاء آخر على سبيل التعيين والقصد، وله أن يدعو بما شاء على سبيل الدعاء المطلق، كذلك: لا يشرع أنه يدعو الإنسان بين الحجر الأسود والركن اليماني. ونحن تحدثنا عن الدعاء بين الركن اليماني والحجر الأسود - الآن لا يشرع له أن يدعو بدعاء معين بين الحجر الأسود والركن اليماني. يعني: تكملة الدورة فلا يشرع في هذا أن يتقصد دعاء معيناً فإن تقصد دعاء معيناً رأى أنه خاص بهذا المكان فإنه مبتدع وإن دعا بدعاء عام فهذا هو الواجب، وينبغي للإنسان أن لا يطوف وهو صامت فإما أن يدعو أو أن يقرأ القرآن لأن هذا مكان عبادة وخضوع يناسب أن يبتهل الإنسان إلى الله فيه إما بالدعاء أو بقراءة القرآن غير المعين والمقصود وإنما بدعاء عام مطلق.
- ثم قال - رحمه الله -:
ومن ترك شيئاً من الطواف ... لم يصح.
من ترك شيئاً من الطواف ولو يسيراً فإن الطواف باطل.
والدليل على هذا:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استغرق في طوافه ما بين الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ولم يترك منه شيئاً، فإذا نقص الإنسان عن هذا المقدار فقد عمل عملاً ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيبطل طوافه.
-
ثم قال - رحمه الله -:
أو لم ينوه ...
إذا طاف الإنسان بلا نية: فطوافه: = عند الحنابلة غير صحيح.
والطواف بلا نية ينقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: أن يطوف بلا نية مطلقاً. كمن يطوف حول الكعبة بقصد إتباع رجل من الرجال أو لحاقه لأي سبب من الأسباب، فهذا لاشك أن طوافه باطل ولا يعتبر طوافاً ولو كان محرماً، ولو كان بصدد أن يطوف للعمرة أو للقدوم، لأنه لم ينو الطواف مطلقاً وإنما نوى أن يتبع هذا الرجل، وهذا قد يقع اليوم كثيراً فيمن تطوف أو يطوف للبحث عن طفل فهذا الطواف لا يجزئ لأنه إنما يطوف حول الكعبة لكن بقصد البحث عن طفل لا بقصد التعبد لله بالدوران حول الكعبة.
- القسم الثاني: أن يطوف ناوياً الطواف العام بلا تخصيص فلم ينو أنه طواف قدوم أو طواف إفاضة أو طواف نفل وإنما يطوف طوافاً عاماً:
= فعلى المذهب لا يصح أيضاً.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنما الإعمال بالنيات).
(3/142)
________________________________________
= والقول الثاني: أن الطواف مع وجود نية التعبد لله صحيح ولو لم ينو العبادة المخصصة، ويكتفى بالنية العامة لعبادة الحج.
- قياساً على من ركع وسجد وقرأ في الصلاة بنية الصلاة العامة بدون أن ينو أنه سيركع الآن أو سيسجد الآن فنكتفي بنية الصلاة العامة وهي تغني عن النية الخاصة لمفردات وأجزاء العبادة.
والأحوط: القول الأول. وينبغي للإنسان إذا أراد أن يطوف أن يعلم أنه سيطوف قدوماً أو عمرة أو حجاً أو إفاضة فيحدد ما الذي سيطوف الآن، والسبب أن بين الصلاة والحج فروقاً منها: أن الصلاة وقتها قصير ومجتمع بخلاف الحج فهو متباعد وأعماله كثيرة فقد ينسى الإنسان أن يستحضر نية خاصة للعبادة الجزئية داخل الحج، ولذلك الأحوط لاشك أن الإنسان إذا أراد أن يطوف أن يعين نوع الطواف، والغالب على المسلمين الآن أنهم يطوفون بتعيين هذه النية.
-
ثم قال - رحمه الله -:
أو نكسه.
تنكيس الطواف هو أن يجعل الكعبة عن يمينه، فإذا جعل الكعبة عن يمينه وطاف سبعة أشواط فإن الطواف باطل، والسبب: أن هذا الطواف مخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابتداع في هيئة وصفة الطواف، وهذا بحث نظري. وهو بحث نظري من وجهين:
- الوجه الأول: أنه لا يقع. فلم نر أحداً فعله ولا من الجهال، لأنه يرى الطواف الصحيح يجري أمامه فيجري معه.
- والوجه الثاني: هو طواف نظري من حيث: عدم المقدرة. فإن الإنسان بالكاد يستطيع الطواف الآن فكيف بمن يطوف بالعكس.
فهو نظري من هذين الوجهين. وعلى كل حال إن طاف فطوافه باطل.
يقول هنا (أو نكسه) وفي نسخة: (نسكه). ونحن شرحنا النسخة المعتمدة (أو نكسه) أما على النسخة الثانية (نسكه) يعني أو لم ينو نسكه بأن أحرم إحراماً مطلقا ولم يعين قبل أن يبدأ بالطواف: فهذا الطواف باطل وملغى لأنه لا يوجد شيء يبني عليه باقي نسكه لأن هذا الطواف لم يعين فيه نسكاً معيناً. وهذا صحيح أنه إذا أحرم إحراماً مطلقاً ولم يعين قبل أن يبدأ بالطواف فإن هذا الطواف لا يصح.
(3/143)
________________________________________
وهذا يقع اليوم كثيراً من الجهال فإذا جاء الحاج إلى الميقات تجد أنه لا يعرف الأنساك الثلاثة ولا كيفية الأنساك فيحرم بالحج إحراماً مطلقاً لا يعين لا الإفراد ولا التمتع ولا القران ثم يأتي ويطوف قبل أن يحدد فمثل هذا طوافه لا يصح إلا أنه إذا كان الإنسان لما أحرم يقول أنا أحرمت بالحج أقصد الحج فحينئذ يعتبر مفرداً. لكن إذا أحرم إحراماً مطلقاً ولم يعين شيئاً تقول له: هل تقصد أنك معتمر أو حاج أو حاج ومعتمر؟ ويقول لم أقصد شيئاً فهذا يجب أن يعيد الطواف أما إذا قال أنا أقصد الحج ولا أقصد شيئاً آخر فهذا مفرد ولا إشكال فيه.
- ثم قال - رحمه الله -:
أو طاف على الشاذَروان.
فإنه لا يصح طوافه، لأن هذا الجزء يعتبر من الكعبة، والشاذروان هو: الجزء الزائد في أصل الكعبة، وهو معروف، وكان هذا الجزء مربعاً بحي يستطيع الإنسان أن يطوف عليه ثم إن الذين بنوه فلا أدري هل هي الحكومة السعودية وفقها الله أو الذين قبلهم بنوه مائلاً بحيث لا يستطيع الإنسان أن يمشي عليه وبهذا انتهت هذه المشكلة من أصلها وهي أنه لا يستطيع الإنسان أن يطوف أصلاً وملاحظ الآن أنه مائل وبالإضافة إلى أنه مائل أيضاً هو ناعم فلا أحد يستطيع أن يطوف على هذا الجدار لأنه يتعذر على الإنسان المشي عليه إلا إنسان يتكلف أن يمشي عليه متكأ على من بجواره وهذا تكلف ولا أظنه يقع الآن، المهم: أنه إذا طاف الإنسان على هذا الشاذروان فطوافه لا يصح.
= والقول الثاني: أن الطواف عليه صحيح ويجزئ وأنه ليس من الكعبة ولا يدخل في مسماها وإنما وضعه من وضعه دعامة لجدار الكعبة.
وهذا القول فيه وجاهة لأن الظاهر أن الكعبة هي الكعبة المربعة بدون هذه الزوائد لكن في الحقيقة الترجيح في هذه المسألة يستدعي أولاً معرفة تاريخ البناء وهل هذا الجزء هو من مسمى البيت الكعبة أو أنه ليس من مسمى البيت. فالترجيح في هذه المسألة يرجع إلى معرفة بناء الكعبة وما الذي يدخل فيه وما الذي يخرج منه.
- ثم قال - رحمه الله -:
أو جدار الحِجر.
- لأن الحجر من الكعبة.
فإذا طاف عليه الإنسان فقد طاف في الكعبة وليس حول الكعبة، والواجب الطواف حول الكعبة ولذلك يكون طوافه باطلاً وعليه أن يعيد.
(3/144)
________________________________________
- فإن علم أثناء الطواف أعاد هذا الشوط فقط.
- وإن علم فيما بعد أعاد الطواف كاملاً.
- ثم قال - رحمه الله -:
أو عريان.
إذا طاف الإنسان عرياناً: فإن الطواف لا يصح:
- لما رواه ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام).
- ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وأمره أن يأمر الناس أن لا يطوف بالبيت عريان ولا مشرك.
فهذان دليلان على بطلان طواف من طاف بلا سترة.
-
ثم قال - رحمه الله -:
أو نجس: لم يصح.
إذا طاف الإنسان نجساً فطوافه باطل.
والدليل على هذا:
- الحديث السابق: (أن الطواف بالبيت صلاة).
- وأيضاً أن الطواف للمتنجس ربما يؤدي إلى تنجيس المسجد والله تعالى أمر بتطهيره للطائفين.
= والقول الثاني: أن الطواف طاهراً بلا نجاسة ليس شرطاً في الصحة فإذا طاف وهو متنجس فالطواف صحيح.
واستدل هؤلاء:
- بأنه لا يوجد دليل على اشتراط على اشتراط الطهارة من النجاسة في الطواف، وهذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا القول هو الصواب: والحاجة إلى مثل هذه المسألة كثيرة فإنه قد يطوف الإنسان وعليه نجاسة إما عالماً بها ولم يتمكن من الغسل أو أن لا يعلم بها، فقد يكون الإنسان تنجس إحرامه بالدم بسبب جرح أو غيره وعلم به ولا يتسنى له ولا يتهيأ أن يغسل هذه النجاسة قبل أن يطوف، فعلى الصحيح إن شاء الله أن طوافه صحيح، وعلى المذهب عليه أن يعيد.
- ثم قال - رحمه الله -:
ثم يصلي ركعتين خلف المقام -
يستحب للإنسان أن يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -.
- لقوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).
- ولما تواتر في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما طاف ذهب إلى المقام وصلى خلفه ركعتين.
= والجمهور على أن الركعتين: سنة.
- لعدم الدليل على الوجوب.
= والقول الثاني: أن الركعتين واجبتان إذا كان الطواف في نسك واجب. وسنة إذا كان الطواف لنسك مسنون.
= والقول الثالث: أن ركعتي الطواف واجبة مطلقاً. وإلى هذا القول مال الفقيه ابن مفلح - رحمه الله -.
(3/145)
________________________________________
واستدل هؤلاء:
- بقوله تعالى) وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (. فالآية فيها الأمر الصريح.
- كما أنه لا يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه مطلقاً أنه طاف بلا صلاة.
وهذا القول هو الراجح بالنسبة لي بلا إشكال. لوضوح النصوص الآمرة به ولأن هذه صلاة معتبرة مقصودة من النسك فكيف نقول أنها سنة، فالأقرب ما اختاره ابن مفلح وه, وجوب ركعتي الطواف.
المسألة الأخيرة: إذا ترك الصلاة خلف المقام فيجوز له أن يصليها في أي مكان من مسجد الكعبة ويجوز له أن يصليها في أي مكان من الحرم ويجوز له أن يصليها في الحل.
- لأن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - لم يصل إلا بذي طوى.
وفي هذه المسائل خلاف لكن هذا هو الراجح الذي تعضده الآثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يجوز أن يصلي الركعتين في أي مكان من الحل أو الحرم.
(3/146)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (10)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
انتهى الكلام بنا في الدرس السابق إلى نهاية الطواف، ثم بدأ المؤلف - رحمه الله - بالكلام عن ما يتعلق بالسعي:
- فقال - رحمه الله -:
ثم يستلم الحجر.
- ثبت في صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى من ركعتي الطواف استلم الحجر قبل أن يذهب إلى الصفا.
فهذه سنة ثابتة في صحيح مسلم لا إشكال فيها، لكن اختلف الفقهاء: هل هذه السنة تختص بطواف القدوم أو هي عامة لكل طواف أو تختص بشيء ثالث؟ على قولين:
= القول الأول: الذي عليه الجمهور أن الرجوع إلى الحجر لاستلامه بعد صلاة ركعتي الطواف إنما يشرع فقط بعد طواف القدوم فقط، إلى هذا ذهب النووي - رحمه الله - وغيره من أهل العلم.
= القول الثاني: أنه يشرع بعد كل طواف بعده سعي.
(3/147)
________________________________________
والصحيح القول الأول، وهو أنه مشروع بعد طواف القدوم فقط، وهذه السنة: سنة مهجورة. ولا أقصد أنها مهجورة بسبب الزحام بل حتى في أيام السعة قل أن تجد أحداً يصلي ركعتي الطواف ثم يذهب ليستلم الحجر مع أنها سنة ثابتة.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويخرج إلى الصفا من بابه: فيرقاه حتى يرى البيت.
- ثبت أيضاً في حديث جابر - رضي الله عنه - في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى من الطواف خرج إلى الصفا من بابه فلما دنى قرأ - (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) -[البقرة/158] أبدأ بما بدأ الله به ثم رقى الصفا واستقبل القبلة ووحد الله وكبره.
فاشتمل الحديث على السنن التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -.وهي: - الصعود على الجبل. - واستقبال القبلة. - والتوحيد. – والتكبير، وهذه الأشياء كلها سنن. فإن فعلها فقد اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن تركها فقد ترك سنة لا حرج عليه فيها، إلا أن كثيراً من الفقهاء أو الجماهير منهم ولم أقف على خلاف وأيضاً لم أقف على حكاية إجماع أن سنة صعود الجبل خاصة بالرجال، وأما باقي السنن فهي عامة للرجل وللمرأة.
- قال - رحمه الله -:
ويكبر ثلاثاً.
في مسلم: وحد الله وكبره وذكر بعضهم أن الإمام أحمد زاد في مسنده: وحد الله وكبره ثلاثاً. واستدلوا بهذه الزيادة على أن التكبير عند الصفا ثلاثاً، واجتهدت أن أجد هذه الفظة في مسند الإمام أحمد فلم أجدها من خلال البحث اليدوي وغير اليدوي لم أجد هذه اللفظة في مسند الإمام أحمد، ويغلب على ظني أنها لا تثبت وأنها من الزيادات الشاذة، لكن الإشكال هو أني لم أجد هذه اللفظة حتى ينظر الإنسان في الإسناد ويحكم عليها بما يقتضيه من حيث الشذوذ لكن بداية فإن مسلماً تركها ولم يذكرها وهذا بحد ذاته يشعر الإنسان أنه هذه الزيادة تفرد بها راوي مما يشير إلى شذوذها وضعفها.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويقول ما ورد.
(3/148)
________________________________________
الذي ورد هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كي شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) فهذا الذكر مشروع ويقال على الصفا، ولا أعلم في السنة ذكر خاص يقال عند الصفا سوى هذا الذكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذا الدعاء ثم دعا الله بدعاء عام ثم كرر هذا الدعاء ثم دعا دعاء عاماً ثم كرر هذا الدعاء فعل ذلك ثلاثاً، ومعنى هذا أن هذا الدعاء سيكرر ثلاثاً والدعاء العام سيكون مرتين، هذا ظاهر السنة أن الإنسان يصنع هذا العمل إذا كان على الصفا.
- ثم قال - رحمه الله -:
ثم ينزل ماشياً إلى العلم الأول، ثم يسعى شديداً إلى الآخر، ثم يمشي.
أفادنا المؤلف - رحمه الله - بأمرين:
- الأمر الأول: أن السنة بين العلمين: هي السعي الشديد.
- والأمر الثاني: أن السن فيما عدا ذلك أن يمشي بهدوء.
والأمران مسنونان.
والدليل على السعي:
- أن جابر - رضي الله عنه - قال: فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى - صلى الله عليه وسلم -.
واختلف العلماء: متى يبدأ السعي:
= فالمذهب أنه يبدأ بالسعي الشديد قبل العلم بستة أذرع.
= والقول الثاني: وهي منصوص الإمام أحمد رحمه الله أنه من العلم إلى العلم فقط ولا يبدأ قبل العلم بستة أذرع.
والراجح إن شاء الله أنه من العلم إلى العلم، قال الإمام أحمد - رحمه الله -: السعي من العلم إلى العلم، ولا أدري ما هو دليل الحنابلة فقد بحثت لهم عن دليل: لماذا يرون أن الإنسان يتقدم قبل العلم بستة أذرع؟ فلم أجد لهم دليلاً وهم لم يذكروا دليلاً لكن لعلهم يستدلون بهذا الوادي أنه لما انصبت قدماه في بطن الوادي فلعلهم يرون أنه لن يتمكن الإنسان من السعي الشديد إلا إذا تقدم وسعى بقوة قبل أن يصل إلى العلم حتى يستكمل المسافة التي بين العلمين اجتهاداً وسعياً فربما هم يستدلون بهذا، على كل حال: الأمر على ما قال الإمام أحمد - رحمه الله - أنه من العلم إلى العلم.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويرقى المروة ويقول ما قاله على الصفا.
(3/149)
________________________________________
يصنع عل المروة كما صنع على الصفا وظاهر الحديث أنه بما في ذلك قراءة الآية (إن الصفا والمروة). في أول مرة.
- لقول جابر - رضي الله عنه -: وصنع على المروة كما صنع على الصفا.
فالسنن المذكورة على جبل الصفا تفعل على المروة.
- ثم قال - رحمه الله -:
ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا.
وهذا واضح. والدليل عليه:
- ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سعى على هذه الصفة. فما كان يصنع من الصفا إلى المروة هو نفس الشيء الذي يصنعه من المروة إلى الصفا تماماً. فالدليل على التشابه هو السنة.
-
ثم قال - رحمه الله -:
يفعل ذلك سبعاً: ذهابه سعية ورجوعه سعية.
= ذهب الجماهير من أهل العلم وحكاه بعض الفقهاء إجماع العلماء أن الذهاب يعتبر واحدة والإياب واحدة.
= والقول الثاني: وهو لبعض الشافعية ونقل عن ابن جرير - رحمه الله - أن الذهاب والإياب واحدة.
قال ابن قدامة - رحمه الله - معلقاً على هذا القول: (وهذا خطأ) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان ذهابه وإيابه واحدة لانتهى بالصفا وهو - صلى الله عليه وسلم - انتهى في الصحيحين بالمروة، فدل انتهاؤه بالمروة على أن هذا القول كما قال ابن قدامة: خطأ، ثم هذا القول ترك: وربما نقول حصل الإجماع على خلافه.
- ثم قال - رحمه الله -:
فإن بدأ بالمروة: سقط الشوط الأول.
إن بدأ بالمروة سقط الشوط الأول. لأن الواجب أن يبدأ بالصفا.
- - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أبدأ بما بدأ الله به).
ذوفي لفظ: (نبدأ). وفي لفظ (ابدأوا) وهذه الألفاظ كلها تدل على وجوب البداية بالصفا، فإذا خالف وبدأ بالمروة فإن هذا الشوط يسقط ويستأنف بداية جديدة من الصفا.
- ثم قال - رحمه الله -: - مبيناً السنن -
وتسن فيه: الطهارة.
الطهارة من سنن السعي ليؤدي العبادة على طهارة وليست من الواجبات بإجماع العلماء.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة - رضي الله عنها - (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت).
وإذا كانت الحائض يجوز لها أن تسعى ففي هذا دليل على أنه يجوز لمن لم يكن على طهارة أن يسعى ولا يعتبر من شروط السعي كما يقوله الجمهور في الطواف.
(3/150)
________________________________________
هذا الحكم بالنسبة للطهارة الصغرى لا إشكال فيه مطلقاً. فإذا لم يكن الإنسان على طهارة بأن أحدث حدثاً أصغر فلا إشكال في صحة السعي مطلقاً، وفي القديم قبل أن يوسع الحرم هذه التوسعة لما كان المسعى خارج الحرم وكان الناس يخرجون من باب الحرم ويدخلون في باب المسعى في ذلك الوقت لا إشكال أيضاً في هذا الحكم وهو أن الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر سنة، لكن الإشكال: والذي يحتاج إلى وقفة وتحرير وأنا أذكره الآن مذاكرة لأنها مسألة تحتاج إلى وقت أكبر: أن الفقهاء - رحمهم الله - يرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع الحائض من الطواف. ثم اختلفوا في ما هو السبب في المنع:
= فمن العلماء من قال: أن سبب المنع هو أنها ليست على طهارة وأن الطواف بذاته من شروطه الطهارة.
= ومن العلماء من قال: بل السبب في منع الحائض من الطواف هو أنه فقط أنه لا يجوز لها أن تدخل المسجد.
وإلى هذا القول الثاني ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - فإنه يرى أن سبب المنع هو تحريم دخول الحائض للمسجد والمنع من ذات الطواف لمن لم تكن طاهرة.
فإذا كان السبب في منع الحائض من الطواف هو دخول المسجد نأتي إلى البحث الآخر: هل المسعى الآن يعتبر ضمن حدود المسجد ودخل في حكم المسجد الآن من حيث الصلاة واتصال الصفوف ودخول الحائض ومن حيث جميع الأحكام أو إلى الآن لا يعتبر من المسجد؟ هذه المسألة أيضاً: الثانية محل خلاف:
= فمن الفقهاء المعاصرين من يرى أن المسعى إلى الآن لم يدخل المسجد فبناءً عليه يجوز للحائض أن تسعى ولا يأخذ أحكام المسجد فمن دخل إلى المسعى مباشرة لا يجب عليه أن يصلي تحية المسجد ويجوز للحائض التي يصلي أهلها في المسجد أن تمكث في المسعى، ويترتب على هذا أحكام كثيرة، والمهم أنه ليس من المسجد.
=والقول الثاني: أن المسعى الآن من المسجد. وأن الجدار الفاصل بين المسعى والسرحة الخلفية يدل على أن المسعى من ضمن حدود المسجد. كما أن التوسعة الخلفية للمسجد التي تلي المسعى دلت على أن المسعى دخل ضمن المسجد.
(3/151)
________________________________________
والترجيح في هذه المسألة يحتاج إلى نظر أكثر وتأني واستفسار من القائمين على المسجد هل هم يرون أن التوسعة التي من قبل المسعى توسعة ضمن المسجد؟ وهذا هو الظاهر أو لا يرون ذلك، والمهم هو أن الترجيح في هذه المسألة يحتاج كما قلت لكم إلى مزيد عناية وتأمل وتأني لكثرة ما يترب عليها من أحكام، لكن الذي يظهر لي بداية وأميل إليه الآن ويحتاج - كما قلت - إلى تحرير أنه من المسجد، بدليل أن الناس يصلون في التوسعة ولو لم تتصل الصفوف، وبدليل أن البناء الخاص بالتوسعة يشبه الخاص بالمسجد مما يدل على أنهم أرادوا أن يكون من المسجد توسعة على المصلين وحتى يتسع لهم في المواسم، وإذا كانت التوسعة من المسجد فمن باب أولى أن المسعى يكون من المسجد، فالذي يظهر الآن أن المسعى من المسجد، وكما قلت لكم: أنه يترتب عليه مسائل كثيرة جداً فيحتاج إلى نظر آخر وتلمس لأدلة أخرى.
-
ثم قال - رحمه الله -:
والستارة.
يعني: ليس من شروط صحة السعي أن يستر الإنسان عورته، بل هو مستحب، وستر العورة واجب من حيث هو لكن هو الآن يتكلم عنه في السعي.
واستدلوا على عدم اشتراط السترة في السعي:
- بأنه إذا سقط شرط الطهارة وهو أعظم فالستر من باب أولى أن يسقط.
- ثم قال - رحمه الله -:
والموالاة.
الموالاة بين أشواط السعي، عند المؤلف سنة، = والمذهب أنه شرط لصحة السعي، فالمؤلف - رحمه الله - خالف المذهب في هذه المسألة.
واستدل الحنابلة على اشتراط الموالاة:
- بالقياس على الطواف فقط.
= والقول الثاني: وهو مروي عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه سنة كما قال المؤلف - رحمه الله -. قال الإمام أحمد: السعي أهون. يعني من الطواف.
ودليلهم:
- أنه لا يوجد في النصوص نص واضح على وجوب الموالاة بين أشواط السعي. هذا أولاً.
- وثانياً: أنه ثبت عن ابنة ابن عمر أنها سعت في ثلاثة أيام لأنها كانت امرأة ثقيلة لم تتمكن من السعي المتواصل فكانت تسعى القدر الذي تستطيعه ثم تذهب للراحة وترجع واستمرت هكذا لمدة ثلاثة أيام حتى أتمت السعي.
وفي هذا دليل على أنه لا تشترط له الموالاة. لا سيما وأنه لم ينقل عن المعاصرين لها الإنكار عليه رضي الله عنها.
(3/152)
________________________________________
* * مسألة/ هل تشترط الموالاة بين الطواف والسعي؟ وبعبارة أخرى: هل يشترط أن يقع السعي بعد الطواف؟
= ذهب الجماهير من أهل العلم. بل حكاه الماوردي - رحمه الله - إجماع أهل العلم: إلى أن السعي لا يصح إلا إذا كان بعد الطواف. مطلقاً في العمرة والحج.
= والقول الثاني: أن هذا لا يشترط مطلقاً لا في العمرة ولا في الحج.
= والقول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -: أنه شرط إلا للمعذور.
والراجح: هو القول الأول المحكي أجماعاً. وأن من سعى قبل أن يطوف فإن سعيه لا يجوز.
لكن نحتاج إلى تأني في فهم هذا القول: لذلك سنورد إيراداً ليتضح هذا القول:
- فإن قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل يوم العيد عن رجل سعى قبل أن يطوف فقال: (افعل ولا حرج).
فالجواب: أن هذا السعي الذي وقع يوم العيد تقدمه طواف وهو طواف القدوم أو طواف العمرة، وبهذا أجاب الخطابي والنووي عن هذا الحديث وهو جواب صحيح، وبهذا نعلم أنه يجب لمن أراد أن يفتي بجواز تقديم السعي على الطواف يوم العيد أن يعلم أن هذا مشروط بأن يتقدم هذا السعي طواف ولو قبل يوم العيد كما قال الأئمة، وأن ما يذكره بعض الفقهاء من أن تقديم السعي على الطواف يجوز وأن هذا الجواز خاص بيوم العيد ليس بصحيح، إذاً هذا الجواز لا يتعلق بيوم العيد وإنما سببه أن هذا السعي تقدمه في الأصل طواف، ولذلك لابد أن ينتبه الإنسان إلى أن الحجاج الذين يأتون إلى منى أو عرفة مباشرة ولا يتقدم يوم العيد لهم أي طواف ولا عمرة أنه لا يجوز لهم أن يقدموا السعي وأن هذا الجواز خاص بمن تقدم منه الطواف قبل يوم العيد، فهذه مسألة يجب أن ينتبه إليها طالب العلم ويفهمها وينبه الذين يقدمون السعي على الطواف بدون تقديم طواف لأن السعي سيأتينا أنه ركن من أركان الحج وأن من صنع ذلك ثم رجع إلى أهله يجب عيه أن يأتي ويسعى وأنه لم يتحلل التحلل الكامل إلى الآن، ولذلك مسائل الحج بعضها ينبني على بعض ويجب أن ينتبه الحاج إلى هذا التسلسل حتى لا يقع في نسك خطأ.
((سؤال: لو أن إنساناً ذهب من الصفا إلى المروة ثم رجع مع نفس طريقه فهل هذا يعتبر إخلال؟
(3/153)
________________________________________
الجواب: لا يعتبر إخلالاً لأن الواجب هو أن يسعى بين الصفا والمروة أما الذهاب والإياب الموجود الآن فهو محدث وضعوه أخيراً لتسهيل الزحام فلو أن الإنسان ذهب مع الإياب ورجع مع الذهاب لصح نسكه.
* * مسألة أخرى/ وهي الواجب الذي يتأدى به هذا ركن (السعي) هو: أن يستكمل ما بين الجبلين ذهاباً وإياباً، وهذا يؤكد ما قلته لكم أن الصعود عل الجبل سنة ولو أنه سعى ما بين الجبلين بدون صعود على الجبل لكان سعيه صحيحاً، قال شيخنا - رحمه الله -: والواجب الآن يتوافق مع ممر العربات، وهذا كلام جيد منه - رحمه الله - يسهل المسألة ويوضح المقصود، فلو أن الإنسان بمجرد ما ينتهي من ممر العربات يعطف ويبدأ بالشوط الثاني لكان شوطه صحيحاً وكل ما فوق ذلك زيادة وهو من الجبل، إذاً عرفنا الآن حدود السعي.
-
ثم قال - رحمه الله -:
ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه: قصر من شعره وتحلل.
أفادنا المؤلف - رحمه الله - أمرين:
- الأول: أن السنة للمتمتع أن يقصر ولا يحلق ليبقى من شعره شيء لنسك الحج.
وعلم من هذا أن الحاج لو أخذ العمرة في وقت مبكر وعلم أنه سينبت له من الشعر ما يقوم بنسك الحج فإن السنة له أن يحلق ولا يقصر، لكن عبارة المؤلف - رحمه الله - خرجت مخرج الغالب وهو: قرب نسك العمرة من نسك الحج عند كثير من الناس.
- الثاني: أن المتمتع الذي لم يسق الهدي: السنة في حقه إذا طاف وسعى أن يحلق ويتحلل:
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتم السعي وصار على المروة أمر أصحابه أن يقلبوا النسك إلى متعة.
وتقدم معنا: هل هذا القلب واجب أو سنة؟ وأن الراجح: أنه سنة.
(3/154)
________________________________________
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر أصحابه على المروة أن يتحللوا تحلل بعضهم وذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكانه ثم تحدث الصحابة في استغرابهم من أن يأمروا بجعل هذا النسك عمرة وهم لا يعرفون العمرة في أشهر الحج وقد أتوا للحج. فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - إما من أحد الصحابة أو أبلغه الله سبحانه وتعالى أن الصحابة صاروا يتحدثون ويستغربون من هذا الأمر وأن بعضهم لم يمتثل الامتثال الكامل فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطبهم. وأمرهم وشدد عليهم أن يتحللوا فتحلل كل الصحابة الذين لم يسوقوا الهدي.
ولهذا نقول كما قال المؤلف: أن السنة أن الإنسان إذا طاف وسعى ولم يسق الهدي أن ينوي هذا النسك عمرة إذا لم ينوه ويقصر ويتحلل.
- ثم قال - رحمه الله -:
وإلاّ حلّ إذا حج.
(وإلا) أي: وإلا يكن متمتعاً بأن كان مفرداً أو قارناً أو كان متمتعاً لكنه ساق الهدي فهؤلاء الثلاثة كلهم لا يحلون إلا بعد الحج، أي إلا بعد استكمال المناسك ورمي جمرة العقبة كما سيأتينا، إذاً: السنة للقارن والمفرد والمتمتع إذا ساق الهدي أن لا يحلوا إلا بعد رمي جمرة العقبة. وهذا معنى قول الشيخ (إذا حج).
-
ثم قال - رحمه الله -:
والمتمتع إذا شرع في الطواف: قطع التلبية.
المتمتع إذا شرع في الطواف قطع التلبية أي ولا يشرع أن يقطع التلبية قبل ذلك.
واستدلوا على هذا:
- بأنه مروي بإسناد صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنه -.
واستدلوا بدليل آخر وهو:
- أن من تتبع المناسك علم أن التبية تنقطع إذا أخذ الحاج في التحلل. بدليل: أن الحاج أيضاً يقطع التلبية إذا رمى جمرة العقبة يعني إذا بدأ في التحلل فكذلك بالنسبة للمتمتع إذا شرع في طواف العمرة فقد شرع في التحلل فيشرع له أن يقطع التلبية.
وكل هذه التعليلات تعليلات قوية وتفيد أن من علل بها قد استند على مقصود الشارع.
= القول الثاني: أن الإنسان يقطع التلبية من حين يدخل حدود الحرم. وليس الحرم الذي هو المسجد.
واستدلوا على هذا:
- بأن ابن عمر ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقطع التلبية إذا دخل الحرم ويقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك.
(3/155)
________________________________________
وفي الترجيح بين القولين إشكال والخلاف قوي لأن كلاً من القولين معه دليل وجيه ويصلح للاستناد إليه، فالترجيح فيه إشكال، وليس في هذه المسألة احتياط. فلو أن الإنسان قال: سأحتاط وأستمر في التلبية إلى أن أبدأ بالطواف أو أن أدخل المسجد الحرام فهذا عند أصحاب القول الثاني يكون قد خالف السنة لأن تلبيته من حدود الحرم إلى دخول المسجد تلبية خلاف السنة عند أصحاب القول الثاني، فليس في هذه المسألة احتياط لأن الحقيقة الخلاف فيها قوي.
باب صفة الحج والعمرة
- يقول - رحمه الله -:
باب صفة الحج والعمرة
يعني: باب يذكر فيه تفصيل صفة الحج والعمرة، وهذا الباب يعتبر أهم الأبواب، وكما قلنا في باب صفة الصلاة نقول في هذا الباب: أنه خلاصة فقه كتاب الحج.
- ثم قال - رحمه الله -:
يسن للمحلين بمكة: الإحرام بالحج يوم التروية.
يسن للمحلين: أي المتمتعين، أن يحرموا بالحج يوم التروية.
- لقول جابر - رضي الله عنه -: فلما كان يوم التروية أهلوا من الأبطح أو من البطحاء.
وهو المكان الذي يسمى الآن المعابدة وهو مكان معروف وفي ذلك المكان نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأحرموا بالحج منه.
- قال - رحمه الله -:
الإحرام بالحج يوم التروية قبل الزوال.
إذاً: يسن أن يحرموا بالحج في هذا اليوم وأن يكون الإحرام قبل الزوال.
والدليل على هذا:
- أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرموا بالحج وذهبوا إلى منى وصلوا فيها الظهر.
وهذا دليل على أنهم أحرموا في الضحى قبل الزوال لأنهم صلوا في منى محرمين إذاً لاشك أنهم تقدم الإحرام بالنسبة لهم في ضحى هذا اليوم الثامن.
لكن في أي وقت من الضحى؟ ليس في السنة شيء واضح وهو أمر فيه سعة: من طلوع الشمس إلى قبيل الزوال فكل هذا وقت إحرام.
-
ثم قال - رحمه الله -:
منها.
يعني: أن السنة لمن أراد أن يحرم أن يحرم من مكة، وهذا - أي استحباب الإحرام من مكة - بلا نزاع بين الحنابلة:
- ليدرك فضل مكة بالإحرام منها.
= والقول الثاني: أن السنة أن يحرم الإنسان حيث كان نازلاً.
- لما ثبت في الأحاديث الصحيحة الثابتة أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرموا من المكان الذي كانوا فيه نازلين وهو الأبطح.
(3/156)
________________________________________
وهذا اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - هو الذي تدل عليه النصوص، فإذاً السنة أن يحرم الإنسان في مكانه الذي هو نازل فيه في أي جهة من مكة، فالمشروع له أن يتقصد الإحرام من هذا المكان ليأتي بالسنة في هذا الأمر.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويجزئ من بقية الحرم.
يعني: وله أن يحرم من أي مكان من الحرم، ولا يختص الإحرام ببقعة معينة لا المسجد الحرام ولا غيره.
= ويفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن من أحرم خارج الحرم فإنه لا يجزئ إحرامه وعليه دم.
- لأنه ترك واجباً وهو الإحرام من الحرم.
= والقول الثاني: أن للإنسان أن يحرم بالحج في اليوم الثامن من أي مكان كان فيه من حل أو حرم.
وهذا هو الصواب: - لأنه ليس في النصوص ما يدل مطلقاً على تعين الحرم للإحرام للحاج في اليوم الثامن بل النصوص مطلقة، فإذا أحرم من الحل أو من الحرم من قريب من مكة أو من بعيد منها فالأمر فيه سعة وهو جائز، بل ربما نقول أن الإنسان ينبغي أن يحرم من المكان الذي هو نازل فيه ولو كان خارج الحرم لأنا إذا رجحنا أن السنة أن يحرم الإنسان من المكان الذي هو نازل فيه فيستوي في هذا أن يكون الإنسان في الحرم أو خارج الحرم، فإذا نزل عند أقاربه في مكان خارج حدود الحرم فلا ينبغي له أن يتقصد الدخول للحرم والإحرام بل يحرم من مكانه ثم يأتي إلى إكمال المناسك.
-
ثم قال - رحمه الله -:
ويبيت بمنى.
يخرج الحاج إلى منى ويصلي فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ويقصر هذه الصلوات بلا جمع فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر فيها الصلاة بدون جمع.
والمبيت في منى: = سنة عند الجماهير وحكى بعضهم الإجماع على: أن المبيت فيها سنة فإذا خرج الإنسان إلى عرفة مباشرة فإن حجه صحيح ولا يلزمه أي فدية، وهذا القول: وهو أن المبيت في منى سنة هو الصحيح إن شاء الله.
= والقول الآخر: قد نقول إن فيه شذوذاً لأنه مخالف لفقه الصحابة والسلف والتابعين ومن بعدهم الذين أطبقوا على سنية المبيت في منى.
- ثم قال - رحمه الله -:
فإذا طلعت الشمس: سار إلى عرفة.
ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أن السنة للحاج إذا طلعت الشمس أن يذهب مباشرة إلى عرفة، وأنه لا يسن له أن ينزل في نمرة.
(3/157)
________________________________________
= والقول الثاني: أن النزول في هذا الوادي - نمرة - سنة مقصودة. فينبغي على الحاج إذا خرج أن ينزل في هذا الوادي.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون كلهم نزلوا في هذا المكان. والأصل في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - التأسي.
((الأذان)).
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الذين لهم سنة متبعة - رضي الله عنهم - نزلوا في نمرة فهذا يدل دلالة واضحة جداً أن هذا أمر مقصود وسنة يجب أن تتبع وتفعل، هذا إذا تيسر: وكل سنن الحج إذا تيسر. لا سيما مع وجود الزحام فقد لا تتيسر بعض السنن بل قد يكون من الأنسب والأوفق شرعاً عدم فعل السنة إذا ترتب عليها ضرر أكثر على الآخرين أو على من أداها، لكن المقصود الآن تقرير السنن وأن هذه السنة وإن استطاع الإنسان أن يجلس ولو بجانب الطريق ولو في أي مكان في هذا الوادي فإنها سنة، وذكر بعض السلف أنه جرب أن من نزل في نمرة فإنه يشعر بالراحة الزائدة والانبساط وسعة الصدر وهذا ذكره بعض السلف وهذا أمر مجرب وربما يكون هذا صحيح ويكون هذا من ثمرات إتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -،ونترك باقي أبحاث عرفة للدرس القادم إن شاء الله.
((انتهى الدرس)).
(3/158)
________________________________________
من الأسئلة:
- الموالاة بين الطواف والسعي: فيه خلاف. والراجح إن شاء الله أن الموالاة بينهما سنة. وأفتى الإمام أحمد رحمه الله بهذا مراراً، وأنه سنة إن والى بينهما فمستحب وإلا فلا حرج عليه.
- لم يذكر في النصوص تماماً ماذا كان يصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيمته في نمرة. لكن الأصل أن هذه المناسك وهذه الأوقات مكان للدعاء والاستغفار، لكن قطعاً ليست في الدعاء كالدعاء الذي بعد الزوال وقصده بل يغلب عليها طابع الاستعداد لما بعد الزوال
- التكبير: الظاهر أنه في كل شوط يكبر وليس في الشوط الأول (فقط).
- الشرب من ماء زمزم: جاء فيه حديث وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استلم ذهب إلى ماء زمزم وشرب منه وفي بعض الروايات أنه أكثر من الشرب. لكن في الحقيقة لم أتمكن من النظر في إسناده هل هو ثابت أولا؟.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ...
(3/159)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (11)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قبل درس أو درسين ذكرت لكم أنه لا يشرع للإنسان إذا رأى الكعبة أن يرفع يديه وأن جابر - رضي الله عنه - أنكر هذا الفعل وهذا كله صحيح. لكن أحضر لي اثنان من الطلبة فائدة: أن الترمذي أخرج في سننه أن جابر قال: كنا نفعله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه بوب للحديث بقوله: (لا يشرع رفع اليدين) فظهر بهذا أنه بين الترجمة - التبويب - وبين المتن تعارض كما أنه يخالف ما ذكرت من أن جابر نفى الرفع.
وفي الحقيقة أن في هذه النسخة إشكال ثم لما رجعت لبعض النسخ الأخرى وجدت أنه سقط من المطبوعة حرف واحد وهو (همزة الاستفهام) التي للإنكار. وصواب العبارة: (أفكنا) وهي: كنا. فسقوط هذه الهمزة قلب المعنى رأساً على عقب ولذلك ذكرت هذه الفائدة حتى يعلم الإنسان أهمية العناية بتصحيح النسخ لما يترتب عليه من اختلاف المعنى.
وتقدم معنى الكلام عن عرفة وأن النزول في نمرة مختلف فيه بين أهل العلم: فمنهم من قال سنة، ومنهم من قال هو منزل نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكرت أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما الخلفاء كانوا ينزلون وأن الصواب أن النزول في هذا المكان سنة مقصودة لذاتها متى استطاع الإنسان أن يأتي بها، وتقدم معنا الحديث عن هذه المسألة وكانت هي آخر مسألة تحدثت عنها.
- قال - رحمه الله -:
فإذا طلعت الشمس: سار إلى عرفة.
تقدم معنا أنه ترك ذكر النزول في نمرة، وظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه لا يشرع للإنسان أن يخرج إلى عرفة إلا في هذا الوقت. يعني: بعد طلوع الشمس، وعلم من كلامه - رحمه الله - أن الذهاب إلى عرفة ليلة عرفة أنه خلاف السنة، فإن كان ذهب إلى عرفة تعبداً فهو مبتدع، وإن كان ذهب إلى عرفة ليستعد أو ليأتي بأعمال تخصه فغاية ما هنالك أنه خالف السنة.
-
ثم قال - رحمه الله -:
وكلها موقف إلاّ بطن عُرَنَة.
(3/160)
________________________________________
وادي عرنة: هو الوادي الذي يفصل بين عرفة ومزدلفة وهذا الوادي ليس من عرفة.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل عرفة موقف وارفعوا عن وادي عرنة - أو عن بطن عرنة).
فهذا الوادي ليس بموقف إجماعاً.
لكن اختلفوا في مسألة أخرى وهي: هل هذا الوادي من عرفة أو ليس من عرفة؟
= فمن الفقهاء من قال: هو من عرفة ولا يجزئ الوقوف فيه.
- لأنه في هذا الحديث استثني من عرفة فهو منها.
= ومنهم من قال: بل هو ليس من عرفة.
وهذا الخلاف لا طائل تحته لأن الجميع يتفق على المسألة المهمة وهي: أن الوقوف في هذا الوادي لا يجزئ سواء اعتبرناه من عرفه أو لم نعتبره من عرفه.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر.
يسن للإمام وللناس أن يجمعوا الظهر والعصر جمع تقديم، ويصلي خلف الإمام: الآفاقي والمكي وكل حاج، ومسألة الجمع هذه - التي ذكرها المؤلف - رحمه الله -:
حكي الإجماع حتى بالنسبة لأهل عرفة أنهم يجمعون خلف الإمام.
والمسألة التي فيها خلاف: القصر. ولن نتحدث عنها الآن: إنما الذي يعنينا في سياق كلام المؤلف - رحمه الله – الجمع، والجمع: سنة وحكي الإجماع عليه، أما القصر ففيه خلاف والأقرب والله أعلم بالنسبة لعرفة أن المكي يقصر فيها ولعله تأتي مناسبة لذكر الخلاف في ذكر القصر بالذات، أما الجمع فلا إشكال فيه إن شاء الله، والسبب في أنه لا إشكال في الجمع وفيه إشكال في القصر:
- أن الجمع متفق عليه. والقصر مختلف فيه. هذا أمر.
- والأمر الآخر: أن القصر يتعلق بالسفر فقط. بينما الجمع يتعلق بوجود سبب ومن الأسباب في هذا الموقف العظيم أن يتفرغ الحاج لدعاء الله والابتهال إليه لئلا ينشغل بإقامة كل صلاة في وقتها.
فهذا الجمع لا إشكال فيه من هاتين الجهتين: - الإجماع. - ووجود سبب. بخلاف القصر.
-
ثم قال - رحمه الله -:
ويقف راكباً.
يعني: أنه يستحب للإنسان في عشي عرفة أن يقف راكباً وهو أفضل من أن ينزل إلى الخيام ويجلس فيها.
واستدل الحنابلة على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف راكباً. والظاهر من صنيعه أنه فعل ذلك قصداً. والأصل في أفعاله التأسي لا سيما في الحج.
= والقول الثاني: أن الوقوف يستحب على الأرض لا راكباً.
(3/161)
________________________________________
واستدلوا على ذلك:
- بأن هذا أهيأ للدعاء وأرفق بالدابة.
= والقول الثالث: أن هذا يختلف باختلاف حال الشخص. فإن كان الشخص إذا ركب اقتدي به وانتفع بعمله أو كان الركوب أهيأ للراكب فهو حينئذ أفضل. وإن كان النزول أهيأ للحاج فهو أفضل، وهذا اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله -، وشيخ الإسلام - رحمه الله - دائماً يحاول أن يوفق بين الأقوال ويجمع بينها لتنسجم الأدلة سواء كانت من النصوص أو من التعليلات، والقول بأن الوقوف راكباً سنة: قوي ووجيه. وهو الآن في وقتنا الحاضر متهيئ أكثر من السابق لسهولة الركوب والراحة التي يجدها الإنسان في السيارات هذا من جهة، ومن جهة أخرى: أن الراكب لاشك أنه ينقطع عن الاختلاط ويتفرغ للعبادة والابتهال أكثر منه مختلطاً مع الناس في المخيم، فربما نقول اليوم أن الوقوف راكباً على القول الأول وعلى القول الثالث: يستحب. لأنه أهيأ. ثم أن الذي يقف راكباً يتمكن من إرشاد الناس وتوجيههم أكثر منه داخل الخيام، وعلى كل حال هي مسألة أفضلية وليست مسألة تتعلق بركن الوقوف.
* * مسألة/ وهذا الخلاف نفسه في أقواله يأتينا في مسألة الحج ماشياً وراكباً ففيه ثلاثة أقوال كهذه الأقوال تماماً: أنه يستحب ماشياً - ويستحب راكباً - وأنه يختلف باختلاف حال الشخص.
-
ثم قال - رحمه الله -:
عند الصخرات وجبل الرحمة.
يعني: يستحب أن يقف في هذا الموطن.
- لأن جابر - رضي الله عنه - أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف في هذا الموقف وجعل يدعو - صلى الله عليه وسلم -.
والسنة: أن يقف في هذا الموقف مستقبل القبلة، واستقبال القبلة في هذا الموطن أهم من أن يقف عند الصخرات والجبل، فإذا دار الأمر بين أن يستقبل القبلة أو يستقبل الصخرات فإنه يستقبل القبلة ولو استدبر الجبل أو الصخرات، وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن قصد الوقوف في هذا المكان: سنة، ومن الفقهاء من قال: إنما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموقف لا قصداً وإنما لأنه مكان قريب منه.
(3/162)
________________________________________
* * مسألة/ ولا يسن الصعود على الجبل. بل هو بدعة لا أصل له. كما أنه يذهب الوقت على الحاج ويسبب التشويش والضيق والزحام ومنكرات أخرى. فهو مكروه أو محرم: أي الصعود على الجبل.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويكثر الدعاء مما ورد.
يعني: ويستحب أن يكثر من الدعاء حال وقوفه.
والدليل على هذا من وجهين:
- الوجه الأول: أن هذا الموطن موطن إجابة. فقد عهد الشارع استحباب كثرة الدعاء والعبادة في مواطن الإجابة.
- والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا صنع أي أكثر من الدعاء وقال: (خذوا عني مناسككم).
وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن أفضل أنواع العبادات في ذلك الوقت الدعاء وهو أفضل من قراءة القرآن ومن الفتوى ومن تعليم العلم ومن سائر أنواع العبادات، ومع ذلك نقول: ينبغي للإنسان إذا تعب من الدعاء أن ينصرف إلى نوع آخر من العبادات وأن لا يخرج عن إطار العبادات مهما كان، لكن كلما كانت العبادة قريبة من الدعاء كقراءة القرآن أو الابتهال أو تعداد أسماء الله وصفاته فهو خير من العبادات الأخرى ولو كانت مذاكرة علم أو غيره، فإذا لم يستطع ذهب إلى مسألة مذاكرة العلم لأنه أثر عن الصحابة على الأقل أنهم يتداولون المسألة، فهذه ثلاث مراتب:
- الدعاء. - ثم ما يقرب من الدعاء: من قراءة القرآن وتدارس أسماء الله وصفاته. ... - والثالث: مسألة تدارس العلم.
- ثم قال - رحمه الله -:
ومن وقف ولو لحظة.
قوله: (ومن وقف). يقصد - رحمه الله -: الحصول في عرفة، أن يوجد في عرفة. فلو كان واقفاً أو مضطجعاً أو جالساً أو على أي هيئة كان، فالمقصود بالوقوف هنا: هو أن يوجد ويحصل في عرفة.
- قال - رحمه الله -:
ولو لحظة من فجر يوم عرفة.
بين المؤلف - رحمه الله - في قوله: (من فجر يوم عرفة) بداية وقت الوقوف.
= فذهب الحنابلة وهو من المفردات. إلى أن الوقوف يوم عرفة يبدأ من فجر يوم عرفة.
واستدل الإمام أحمد - رحمه الله - على هذا الحكم:
- بحديث عروة بن مضرس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف في عرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه).
(3/163)
________________________________________
فقوله: (ليلاً أو نهاراً) يشمل من طلوع الفجر. لأن النهار يطلق على الوقت من طلوع الفجر.
= والقول الثاني: أن الوقوف لا يبدأ إلا من بعد الزوال. فإن وقف قبل الزوال ثم خرج من عرفة ولم يرجع إليها: بطل حجه، وإلى هذا ذهب: مالك والشافعي وأبو حنيفة، واختاره عدد من المحققين منهم شيخ الإسلام - رحمه الله -.
واستدل هؤلاء:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقف في عرفة لا هو ولا الخلفاء الراشدين إلا بعد الزوال.
وأجابوا عن حديث: عروة بن المضرس - رضي الله عنه - بأن قوله: (ليلاً أو نهاراً) أن كلمة نهاراً يقصد بها ما بعد الزوال جمعاً بين الأخبار.
والراجح والله أعلم: مع الإمام أحمد - رحمه الله.
وسبب الترجيح: أن كون الصحابة والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقفوا قبل الزوال لا يعني أنه ليس موقفاً يعتد به بدليل: أن الليل يعتبر موقفاً صحيحاً وزمناً صحيحاً للوقوف بالإجماع ولم يقف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يصعب جداً أن نبطل حج شخص وقف الصبح من ضحى يوم عرفة ثم خرج من عرفة مع وجود هذا الحديث الصريح أن الإنسان إذا وقف من فجر يوم عرفة إلى فجر ليلة مزدلفة أن حجه صحيح (وقد وقف في عرفة ليلاً أو نهاراً)، فالحديث يساعد الإمام أحمد بوضوح وتأويلهم للحديث وتخصيصهم له بما بعد الزوال بمجرد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لا يكفي، لكن: إذا سمعت هذا الخلاف عرفت أن من لم يقف إلا قبل الزوال فقد خاطر وعرض حجه للفساد لقوة الخلاف جدا وأن ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة وجيه وقوي ويتعين الاحتياط في مثل هذا الأمر.
- ثم قال - رحمه الله -: مبيناً نهاية الموقف:
إلى فجر يوم النحر.
يستمر الوقوف إلى فجر يوم النحر وهذا بالإجماع. فهم اختلفوا في البداية ولم يختلفوا في النهاية.
والدليل على استمرار الوقوف إلى الفجر:
- حديث عروة بن المضرس - رضي الله عنه -.
- وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الحج عرفة. فمن وقف قبل أن تذهب ليلة جمع صح حجه). وهو حديث إن شاء الله حسن.
- والإجماع.
فلا إشكال إن شاء الله أن من وقف في الليل فحجه صحيح.
- ثم قال - رحمه الله -:
وهو أهل له.
(3/164)
________________________________________
يعني: وهو أهل للوقوف، والحاج الذي هو أهل للوقوف: هو من اتصف بثلاث صفات:
- أن يكون مسلماً.
- عاقلاً.
- محرماً بالحج.
فإذا اتصف بهذه الثلاث فهو أهل للوقوف، وشمل كلام المؤلف - رحمه الله - من وقف في عرفة وهو يعلم أن هذه هي عرفة ومن وقف فيها وهو يجهل أن هذه عرفة. فكلاهما حجه صحيح.
واستدل الجماهير على هذا الحكم:
- بأن عروة بن المضرس - رضي الله عنه - أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وقف في كل جبل وتل متحرياً عرفة ولم يخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن وقوفه بلا تعيين لا يجزئ.
وهذا لا إشكال فيه، فإذاً: من وقف في جبل يتحرى يوم عرفة ولم يعلم أنه من عرفة فإن حجه صحيح ما دام في عرفة، وهذا إن تصور في السابق فلا يتصور الآن أبداً لوضوح المعالم وكثرة الناس فإنه لا يخطئ الإنسان أن هذه من عرفة أو من خارج في الجملة.
* * مسألة/ دخل تحت كلام المؤلف - رحمه الله - عدة صور:
ـ الصورة الأولى: النائم. فلا إشكال أن النائب وقوفه صحيح. وإلى هذا ذهب الجماهير والجم الغفير وفيه خلاف ضعيف ضعفه يغني عن سياقه.
ـ الصورة الثانية: المغمى عليه. وهي مسألة مشكلة. فالمغمى عليه محل خلاف بين أهل العلم:
= القول الأول: أن المغمى عليه لا يصح وقوفه. أي: إذا أغمي على الحاج من فجر عرفة إلى فجر مزدلفة ولم يستيقظ أبداً فإن حجه باطل.
واستدل هؤلاء:
- بأن الوقوف عبادة، بل هو ركن الحج. والعبادة يشترط لها النية ولا تتأتى من المغمى عليه.
= القول الثاني: أن وقوف المغمى عليه صحيح.
- لأن أجزاء الحج لا تحتاج إلى نية خاصة كما تقدم معنا. كما نقوله في أجزاء الصلاة.
= والقول الثالث: التوقف. ولعلها الرواية الثانية. وهي رواية عن الإمام أحمد لكن يبدو لي أنها الرواية الثانية.
في المسألة إشكال. ويتردد الإنسان في صحة حج المغمى عليه أو بطلانه لتعارض الأدلة ولعله توقف الإمام أحمد، لكن من المحققين الذين نصروا صحة الحج الشيخ الشنقيطي - رحمه الله - فإنه يرى صحة حج المغمى عليه.
ـ الصورة الثالثة: السكران. والخلاف في السكران كالخلاف في المغمى عليه.
- ثم قال - رحمه الله -:
صح حجه وإلاّ فلا.
(3/165)
________________________________________
إذاً: ذكرنا النائم وأن الخلاف فيه ضعيف وأيضاً المغمى عليه ثم السكران، وأما المجنون فلا خلاف في عدم صحة وقوفه وممن حكى الإجماع: المرداوي بقوله: (لا أعلم فيه خلافاً) لا بقول: لا نزاع فيه فكأنه ينفي الخلاف بين المذاهب الأربعة، وعلى كل حال: المجنون لا إشكال في عدم صحة وقوفه إنما الخلاف في المغمى عليه والسكران وهو خلاف قوي، والنائم لا إشكال في صحة وقوفه.
-
قوله - رحمه الله -:
صح حجه وإلا فلا.
يعني: إذا تحققت فيه الشروط صح حجه وإلا فإن حجه غير صحيح.
- ثم قال - رحمه الله -:
ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله: فعليه دم.
إذا وقف الإنسان قبل الغروب ثم دفع قبل أن تغرب الشمس ثم رجع:
= فالجمهور أنه إذا رجع فلا دم عليه.
- لأنه رجع قبل أن يتقرر في حقه الدم.
= ومنهم من قال: بل يجب عليه الدم بمجرد الدفع قبل الغروب.
والقول الأول: هو المذهب وهو الصواب.
ـ الصورة الثانية: إذا دفع قبل الغروب ولم يرجع إلا بعد الغروب فيجب عليه دم ولو رجع.
- لأنه رجع بعد ثبوت الدم ولأن الواجب أن يوجد في عرفة حال الغروب.
وهذا هو الصواب ويدل على رجحانه: القياس على من تعدى الميقات ثم أحرم ثم رجع كما تقدم معنا: أن من تعدى الميقات ثم أحرم ثم رجع فإنه يثبت الدم في حقه بخلاف من تعدى الميقات ثم رجع قبل أن يحرم.
- قوله - رحمه الله -:
ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله: فعليه دم.
أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن الوقوف في عرفة إلى غروب الشمس واجب، ونحن الآن نريد أن نذكر الخلاف في مسألتين قد يخلط بينهما بعض الناس:
ـ المسألة الأولى: حكم الوقوف في عرفة قبل إلى غروب الشمس.
ـ المسألة الثانية: ماذا يترتب على الخروج من عرفة قبل غروب الشمس.
فإن عدداً من الناس يحكي الخلاف فيهما بمساق واحد وهما مسألتان.
ـ المسألة الأولى: الوقوف في عرفة إلى غروب الشمس:
= ذهب الجماهير إلى أن الوقوف في عرفة إلى غروب الشمس واجب. فإن تركه فعليه دم وسيأتينا الكلام عن هذا الدم، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد ومالك والشافعي في المشهور وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء والجم الغفير من أهل العلم: على أن من خرج من عرفة قبل غروب الشمس فعليه دم.
(3/166)
________________________________________
استدل هؤلاء:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظر إلى أن غربت الشمس ثم دفع. وقد أكد جابر - رضي الله عنه - هذا المعنى تأكيداً بليغاً فقال: حتى إذا غربت الشمس وذهبت الصفرة وغاب القرص. كأنه يؤكد - رضي الله عنه -: دفع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولو كان يجوز الخروج من عرفة قبل غروب الشمس ولو للضعفة لرخص لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رخص في ليلة مزدلفة مع العلم أن المشقة الحاصلة في الانتقال من عرفة إلى مزدلفة أكبر من المشقة الحاصلة في الانتقال من مزدلفة إلى منى. وهذا معلوم.
= والقول الثاني: أن الوقوف إلى غروب الشمس ركن من أركان الحج فإن خرج قبل غروب الشمس: بطل حجه. وهو مروي عن الإمام مالك، فالركن عند الإمام مالك يتركب من أمرين: - الوقوف. - وأن تقف إلى أن تغرب الشمس. ليجمع بين الليل والنهار في عرفة.
= والقول الثالث: وهو قول للشافعية: أن الوقوف إلى غروب الشمس: سنة. فإن دفع قبل الغروب فلا حرج عليه.
واستدلوا على ذلك:
- بأنه لا يوجد نص صريح يمنع من ذلك كما أن الوقوف الذي هو الركن تحقق بالوقوف السابق.
والراجح إن شاء الله: مع الجماهير. لظهور السنة في ذلك ظهوراً بيناً. فإن الإنسان إذا طالع الأحاديث جزم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف قصداً وأراد أن لا يخرج أحد من عرفة إلا بعد غروب الشمس.
ـ المسألة الثانية: ماذا يترتب على الخروج من عرفة قبل غروب الشمس.
هذا أيضاً اختلف فيه الفقهاء على ثلاثة أقوال:
= القول الأول: أن في الخروج دم. شاة تذبح وتوزع على الفقراء.
- لأنه ترك واجباً من واجبات الحج ومن ترك واجباً من واجبات الحج فعليه شاة.
= القول الثاني: أن عليه بدنة، وهو قول محكي عن بعض التابعين.
= والقول الثالث: أنه لا شيء عليه. وهو رواية عن الإمام أحمد وقول عند الشافعية، فالإمام أحمد - رحمه الله - مع كونه يرى وجوب البقاء إلى غروب الشمس مع ذلك يرى أن من خرج فقد ترك واجباً ولا دم عليه.
والراجح: أن عليه دم. وهو القول الوسط الذي يدل عليه فتوى الصحابة.
-
ثم قال - رحمه الله -:
ومن وقف ليلاً فقط فلا.
(3/167)
________________________________________
المؤلف - رحمه الله - يريد أن يتحدث هنا: عمن لم يدرك أي جزء من النهار في عرفة وإنما جاء إليها ليلاً، فإذا جاء إليها ليلاً فلا شيء عليه.
واستدلوا على ذلك بدليلين:
- الأول: القياس على من كان منزله دون المواقيت. فهذا سيحرم دون المواقيت ولا دم عليه لأنه لم يدرك المواقيت أصلاً.
كذلك الذي يدرك عرفة ليلاً لا دم عليه لأنه لم يدرك جزأ من النهار أصلاً.
- والثاني: أن وجوب الوقوف في عرفة إلى الغروب يتناول من أدركها نهاراَ.
وهذا الدليل إذا تأملت تجد أنه استدلال بنفس القول. فهو يقول: (لا يجب على من وقف ليلاً) لأنه لم يدرك النهار، والدليل: أن من لم يدرك النهار لا يجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس، فهو استدلال بنفس القول.
إذاً العمدة على التعليل الأول وهو تعليل وجيه. وهو أن من لم يدرك النهار لا يجب عليه أصلاً الوقوف لأنه ليس من أهل وجوب الوقوف كما نقول فيمن مكانه ومنزله دون المواقيت.
- ثم قال - رحمه الله -:
ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة.
قوله: (ثم يدفع بعد الغروب) يعني: وجوباً.
- لما تقدم في حديث جابر - رضي الله عنه - أنه لا يجوز للإنسان أن يدفع من عرفة إلا بعد غروب الشمس وذهاب القرص تماماً.
فهذه العبارة مستندها النص الصريح.
- ثم قال - رحمه الله -:
إلى مزدلفة بسكينة.
يعني: أنه يسن للإنسان في ذهابه من عرفة إلى مزدلفة أن ينتقل بسكينة.
- لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (السكينة السكينة) يعني عليكم أو الزموا السكينة، وظاهر الحديث وظاهر كلام الفقهاء أن الانتقال بسكينة سنة مطلقاً ولو بدون زحام، وهذا صحيح.
والسكينة لا تنافي الإسراع أحياناً، لأن السكينة كما تقدم معنا من صفات أعضاء البدن. والإسراع من صفات البدن جملة. فيستطيع الإنسان أن يسرع ببدنه مع السكينة.
- ثم قال - رحمه الله -:
يسرع في الفجوة.
النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف أسامة فأخبر أسامة في قوله في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم – (كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص).
ومعنى قوله: (نص) أي أسرع. (العنق) يعني بسهولة وتؤده.
(3/168)
________________________________________
الحديث نص في أن الإنسان إذا وجد مجالاً وفجوة فإنه يسرع الإسراع المعتدل وإذا لم يجد فإنه يمشي ببطء، والسنة في حال انتقاله من عرفة إلى مزدلفة أن يكثر من ذكر الله.
- لقوله تعالى: - (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) -[البقرة/198].
هكذا ذكر بعض الفقهاء. لكن الاستدلال بهذه الآية فيه نظر ظاهر لأن في الآية: - (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) -[البقرة/198].فالمقصود بالآية الذكر عند المشعر الحرام لا أثناء الانتقال، وإذا لم يصح الاستدلال بالآية فإنه لا يوجد في السنة شيء صريح في ماذا يصنع الإنسان أثناء الانتقال من عرفة إلى مزدلفة. والذي يظهر لي أن المستحب الإكثار من الاستغفار، ودليل ذلك: أن قاعدة الشرع. (الاستغفار في نهاية الأعمال)، وعرفة ركن الحج الأعظم فإذا انتهى منه فينبغي أن يستغفر لما وقع فيه من تقصير أو إخلال أو خطأ.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويجمع بها بين العشائين.
يفهم من كلام المؤلف أن السنة أن يؤخر الإنسان صلاة المغرب إلى أن يصل إلى مزدلفة، فإن صلى قبل أن يصل إلى مزدلفة فقد خالف السنة مخالفة ظاهرة، ولكن صلاته عند الجماهير وعامة العلماء صحيحة.
والسنة أيضاً أن الحاج إذا وصل إلى مزدلفة فإنه يبادر بصلاة المغرب قبل أن يحط الرحال ثم إذا انتهى من المغرب حط الرحال ثم صلى العشاء. كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع ذلك.
بقينا في مسألة مشكلة وهي:
هل المشروع في حقه أن يؤذن ويقيم أو أن لا يؤذن ولا يقيم مطلقاً أو ماذا يصنع؟
هذا فيه خلاف بين أهل العلم:
= القول الأول: أن المشروع في حقه أن يؤذن أذاناً واحداً ويقيم لكل صلاة. وهذا ما ذكره جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأذان وإقامتين.
= القول الثاني: وهو القول الذي استقر عليه قول الإمام أحمد أن المشروع أن لا يؤذن وأن يقيم إقامتين.
واستدل على ذلك:
(3/169)
________________________________________
- - بأن أسامة - رضي الله عنه - أخبر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤذن وإنما أقام إقامتين. وأسامة أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من جابر فهو رديفه - رضي الله عنه - فهو أعلم بالحال من جابر - رضي الله عنه -.
= القول الثالث: أنه يقيم إقامة واحدة للصلاتين.
- وهذا ثابت في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام إقامة واحدة للصلاتين.
قال بعض الفقهاء أي: مع الأذان، الحديث الذي في مسلم ليس فيه أنه أذن وأقام إقامة واحدة ولكن فيه أنه أقام إقامة واحدة لكن الفقهاء قالوا: يقصد مع أذان. فيؤذن ويقيم إقامة واحدة.
= والقول الرابع: أنه يؤذن لكل صلاة ويقيم لكل صلاة. والقول الرابع: أضعف الأقوال إذ ليس له دليل.
وأقوى الأقوال القول الذي استقر عليه الإمام أحمد - رحمه الله - والقول الذي ذكره جابر - رضي الله عنه -.
وكما ترون: المسألة مشكلة: فجابر - رضي الله عنه - يثبت وأسامة - رضي الله عنه – ينفي، فهل نقول: المثبت مقدم على النافي؟ أو نقول: إن أسامة أقرب كما قال الإمام أحمد وأعلم بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نفى عن علم. ولعل جابر - رضي الله عنه - ذكر الأذان باعتبار الغالب من حاله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جمع الصلاة يؤذن أذاناً واحداً ويقيم لكل صلاة فجرى على غالب حال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا عن سماع ورؤية. ففيه احتمال كبير، لكن الأقرب أن لا ننسب جابر إلى الوهم وأن نقول أن أسامة - رضي الله عنه - مع قربه من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسمع الأذان لأي عارض.
وإذا عرفنا الخلاف عرفنا أن بعض الناس الذين ينكرون على الذين يصلون بلا أذان أنهم ينكرون بجهل لأن الصلاة بلا أذان مجرد الإقامتين قول قوي وهو الذي استقر عليه رأي الإمام أحمد وهو قول وجيه جداً كما ترون.
لكن مع ذلك الأقرب إن شاء الله أن الإنسان يؤذن أذاناً واحداً ويقيم لكل صلاة.
-
ثم قال - رحمه الله -:
ويبيت بها.
أي في المزدلفة. المبيت في مزدلفة واجب = عند الحنابلة.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بها وقال: (خذوا عني مناسككم).
(3/170)
________________________________________
= والقول الثاني: أن المبيت في مزدلفة سنة. فإذا مر بها وخرج فلا شيء عليه.
= والقول الثالث: أن المبيت في مزدلفة ركن وإلى هذا ذهب عدد من المحققين منهم: ابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم رحمهم الله.
واستدلوا:
- بحديث عروة بن المضرس فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: علق تمام الحج على إدراك الصلاة والوقوف عند المشعر الحرام.
- واستدلوا: بقوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) -[البقرة/198] فأمر به نصاً.
والراجح: هو القول الوسط بين القولين أنه واجب.
لكن كما نبهتكم مراراً أن حكاية الخلاف تثمر عند طالب العلم الاحتياط وأنتم سمعتم الآن أن بعض أهل العلم من المحققين: كابن المنذر والذي اختياراته غاية في الدقة وهو يرى أنه ركن. فمثل هذا الخلاف والسياق يثمر عند الإنسان الاحتياط الواجب وأن يعلم أنه يأمر بحجه إذا ترك الوقوف جملة.
* * مسألة/ ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - وقرر هذا بأدلة كثيرة وانتصر له كثيراً أن الوقوف في مزدلفة لا ينتهي بطلوع الفجر وإنما يستمر إلى قرب طلوع الشمس.
وذكر لهذا عدة أدلة كثيرة: منها:
- أن المقصود الأعظم هو الوقوف والدعاء فكيف نخرج وقت الوقوف والدعاء من جملة المبيت أو من جملة الوقوف بمزدلفة.
وهذا القول هو الراجح.
بناء على هذا القول: الحجاج الذين لا يدركون ليلة مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر فلا حرج عليهم: - لأنهم جاءوا إلى مزدلفة قبل خروج وقت الوقوف بينما على المذهب إذا جاءوا بعد الفجر كما سيأتينا فعليهم دم.
وعلى هذا القول الذي اختاره الشيخ - رحمه الله - لا شيء عليهم وهو قول قوي ووجيه.
- ثم قال - رحمه الله -:
وله الدفع بعد نصف الليل، وقبله فيه دم: كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله.
لما بين المؤلف - رحمه الله - حكم النزول في المزدلفة والمبيت بها وأخذنا الخلاف في حكم هذه المسألة انتقل إلى المسألة الأخرى وهي:
ـ القدر الواجب من المبيت. وبين المسألتين فرق ظاهر.
اختلف الفقهاء في القدر الواجب من المبيت في مزدلفة:
= القول الأول: وهو مذهب الحنابلة والجمهور أن القدر الواجب إلى نصف الليل.
(3/171)
________________________________________
فإن خرج بعد نصف الليل فلا حرج عليه سواء خرج بعذر أو بغير عذر.
واستدل الحنابلة على هذا القول بثلاثة أحاديث:
- الأول: حديث أسماء حيث كانت تأمر من يرقب القمر فإذا غاب دفعت. وقالت: رضي الله عنها: أذن للضعن - وهو جمع ضعينة وهي: المرأة -. فتخبر أن هذا الخروج كان بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- الثاني: حديث ابن عمر أنه كان يرخص لبعض أهله ويقول - رضي الله عنه - أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- الثالث: أن سودة - رضي الله عنها - استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت امرأة ثقيلة فأذن لها ,
- والرابع: حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ...
(الأذان).
- حديث ابن عباس وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص له أن يخرج بليل.
وهذه الأحاديث التي ذكرت كلها صحيحة في الصحيح، ففي هذه الأحاديث جواز الخروج من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الفجر.
وأما التحديد بالنصف: فقالوا: أن قول ابن عباس: (بليل) وقول أسماء (بعد غروب القمر) أقرب ما يحد به نصف الليل.
وعلمنا من هذا التعليل أنه ليس مع الحنابلة دليل واضح لهذا التحديد.
= القول الثاني: أن الواجب هو الوقوف بعد طلوع الفجر ولو للحظه إلى قبيل طلوع الشمس. وأما الليل فليس وقتاً للوقوف ولا يجب وإنما شرع النوم فيه للتقوي لهذا الموقف الذي هو بعد طلوع الفجر.
= والقول الثالث أن هذا الوقوف ليس بواجب ولا سنة ولا مشروع وإنما هو منزل نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - بين عرفة ومنى، وهو من عجائب الأقوال.
= والقول الرابع: أن الواجب المكث في مزدلفة قدر تنزيل الرحل فإذا خرج بعد ذلك فلا حرج عليه.
= والقول الأخير: وهو الذي مال إليه ابن المنذر وغيره من المحققين أن الوقت للضعفة إلى غروب القمر فإذا غرب القمر خرجوا. والوقت بالنسبة للأقوياء إلى طلوع الفجر ..
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
(3/172)
________________________________________
شرح كتاب المناسك الدرس رقم (12)
قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
- قال - رحمه الله -:
باب دخول مكة.
تقدم معنا تقرير مذهب الحنابلة وأنه يجوز الخروج من مزدلفة بعد منتصف الليل، وأن من وصل إلى مزدلفة بعد منتصف الليل فلا دم عليه، وأما من خرج قبل المنتصف ولم يعد أو جاء بعد خروج الفجر فإن الدم يستقر عليه، هذا خلاصة مذهب الحنابلة. إذاً هذا التقسيم الذي ذكرته لك الآن ذكره المؤلف - رحمه الله - بنصه في المتن، ثم ذكرت لكم في الدرس السابق الأقوال في مسألة الخروج من مزدلفة ومذاهب الأئمة وهي:
= أن الحنابلة والشافعية يرون الجواز بعد منتصف الليل.
= وأن الأحناف يرون أن الوقوف يبدأ من بعد طلوع الفجر إلى قبيل طلوع الشمس وأن المالكية يكتفون بحط الرحل ثم بعد ذلك له أن يخرج من المزدلفة.
= وأن القول الرابع: أن الضعفة ومن في حكمهم لهم أن يخرجوا بعد غروب القمر والأقوياء لا يجوز لهم أن يخرجوا إلا بعد طلوع الشمس.
وتوقفنا عند هذا الحد.
وبقينا في الراجح: الراجح في هذه المسألة وهي مسألة كبيرة والحاجة إليها ماسة وكثيرة والذي يظهر من تتبع النصوص وفتاوى الصحابة أن الأقرب مذهب ابن المنذر وهو: التفريق بين الضعفة وغيرهم. وأخذ رجحان هذا القول من استخدام كلمة الترخيص في الأحاديث التي ذكرت والترخيص معناه نقل الحكم من العزيمة إلى الرخصة وهذا النقل نقل للضعفة بموجب الحديث وبقي الأقوياء على أصل الحكم وهو وجوب البقاء إلى طلوع الشمس.
على أني أريد أن أنبه إلى بعض المسائل:
ـ من خلال ذكر الأقوال عرفت أن الأئمة الأربعة في الجملة لا إشكال عندهم في الخروج بعد منتصف الليل. (الأئمة الأربعة إذا أردنا أن نستقرئ الأقوال تجد أن المحصلة أن الأئمة الأربعة كلهم لا إشكال عندهم في الخروج بعد منتصف الليل. هذا شيء.
ـ الشيء الثاني: أن القول الذي قلت أنه الراجح ذهب إليه نفر قليل من أهل العلم فهو اختيار ابن المنذر وظاهر عبارة ابن القيم وترجيحه واختاره نفر يسير من الفقهاء المتقدمين.
(3/173)
________________________________________
والإنسان - كما قلت - يجب أن يكون واعياًَ عند دراسة الخلاف، فعرفت الآن أن مذاهب الأئمة الأربعة وهي مذاهب الناس اليوم في الأقطار الإسلامية يرون جواز الخروج فلا تثريب على من أفتاهم ولا على من خرج بعد منتصف الليل لأنه أخذ بفتوى الجمهور, بل إن المالكية يرون أنه لو وصل ووقف بالسيارة لمدة عشر دقائق ونزل الرحل وأصلح له شيئاً يسيراً مما يطعم أو يشرب ثم ركب وخرج فلا حرج عليه عند الإمام مالك، فالمسألة فيها سعة. وكون الطالب يعرف الراجح شيء وكونه يعرف الخلاف بين أهل العلم ومذاهب الناس مما يعذر به من يفتي به أو من يطبقه من العوام.
- ثم قال - رحمه الله -:
فإذا صلى الصبح.
فيه دليل على مشروعية صلاة الصبح في مزدلفة والسنة أن يبادر بصلاة الصبح ويصليها بغلس - والغلس: ظلمة آخر الليل -.
والدليل على هذه المبادرة:
- قول جابر - رضي الله عنه -: فلما خرج الفجر صلى صلاة الفجر. مما يدل على أنه بادر بالصلاة بعد طلوع الفجر.
إذاً: من يؤخر الصلاة فقد خالف السنة الظاهرة لا سيما في هذا اليوم.
- ثم قال - رحمه الله -:
فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام، فيرقاه أو يقف عنده.
المشعر الحرام: هو جبل صغير يسمى قزح، وهذا الجبل كما هو معلوم أزيل الآن ومكانه المسجد الموجود في مزدلفة. فالمسجد الموجود أقيم في مكان الجبل الصغير الذي يسمى المشعر الحرام.
واختلف العلماء بالمراد بالمشعر الحرام:
= فقال بعضهم: المراد بالمشعر الحرام هذا الجبل فقط. والمتبقي من مزدلفة لا يسمى مشعراً حراماً بل يسمى مزدلفة.
= والقول الثاني: أن مزدلفة كلها مشعر حرام.
والراجح والله أعلم أن المشعر الحرام هو هذا الجبل فقط وباقي المنطقة تسمى المزدلفة وليست مشعراً حراماً. فهي مزدلفة ويجوز الوقوف فيها لكن المشعر الحرام هو هذا الجبل فقط.
والدليل على ذلك:
- أن جابر - رضي الله عنه - قال: فلما صلى الفجر ركب إلى المشعر الحرام.
فكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يركب إلى المشعر الحرام دليل على أنه لم يكن في المشعر الحرام وإلا لو قلنا أن مزدلفة كلها مشعراً حراماً لكان نتيجة هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان خارج مزدلفة ثم دخل مزدلفة. وهذا كله خطأ.
(3/174)
________________________________________
إذاً الأقرب والله أعلم أن المشعر هو هذا المكان بالذات فإن تيسر للإنسان أن يأتي إلى هذا المكان ويقف فيه فهذا جيد واقتداء بالسنة وإن لم يتيسر فإنه يقف في المكان الذي هو نازل فيه، ومن المعلوم اليوم أنه يكاد يتعذر على الإنسان أن يذهب إلى المشعر الحرام. والذهاب إليه يكاد يكون متعذراً بسبب المواصلات، ثم نقول: إن الذهاب إلى المشعر الحرام إذا أدى إلى ضياع الوقت وتشتت ذهن الإنسان وعدم تركيزه بالدعاء فإنه لا يستحب فقد أخذنا القاعدة التي تكررت معنا مراراً: ((أن الفضيلة التي تتعلق بذات العبادة مقدمة على الفضيلة التي تتعلق بمكان أو بزمان العبادة)).
فهنا كذلك الذهاب إلى هذا المكان اليوم يسبب زحاماً على الناس ويشتت ذهن الداعي فالأقرب أنه يبقى في مكانه لكن إن تيسر أو كان مكان نزوله في السيارة بسبب وصوله مبكراً قريب من المسجد فالذهاب إلى المسجد فيه اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويحمد اللَّه ويكبره.
ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى استقبل القبلة ووحد الله وهلله وكبره ودعا.
والتهليل الحمد والتكبير مما يغفل عنه كثير من الناس مع أنه في حديث جابر هذا الذي معنا يكثر - رضي الله عنه - من قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحد الله وكبره ففي الصفا ذكر أنه كبر ووحد وهنا قال كبر ووحد وهلل. فهذا دليل على أنه ينبغي للإنسان في الدعاء في مناسك الحج أن يكثر مع الدعاء الذي هو بمعنى الطلب من الدعاء الذي هو بمعنى تقديس الله سبحانه وتعالى وحمده وشكره وتهليله والثناء عليه بما هو أهله كما هو ظاهر حديث جابر - رضي الله عنه -.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويقرأ: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} الآيتين.
- ليس لهذا العمل سنة صحيحة ولعلهم قاسوا هذا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله) فقالوا يقرأ هنا أيضاً (فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ).
(3/175)
________________________________________
والصواب أن قراءة هاتين الآيتين عند الوقوف بالمشعر الحرام لا أصل له وينبغي على الإنسان أن يتحرى أن لا يقول هذا الدعاء لأن في تركه اتباعاً للسنة وقد أخذنا مراراً أن شيخ الاسلام - رحمه الله - قرر قاعدة مفيدة وهي: ((أن السنة في المتروك في العبادة أن يترك)) وفي هذا فائدة وهي أنه إذا نوى الإنسان أن يترك ما لم يفعل من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذه النية في حد ذاتها سنة كأنه فعل سنة موجبة فالسنة التركية كالسنة الفعلية.
- ثم قال - رحمه الله -:
ويدعو حتى يسفر.
لو قال المؤلف - رحمه الله -: حتى يسفر جداً لكان أقرب إلى لفظ الحديث. لقول جابر - رضي الله عنه - فدعا حتى أسفر جداً، والسنة أن يدعو الإنسان حتى يسفر وأن يخرج من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس.
والأقرب والله أعلم أن الخروج قبل طلوع الشمس واجب: - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس. فهذه سنة فعلية ولأنه فعل ذلك مخالفاً للمشركين الذين كانوا لا يخرجون من مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس ومخالفة المشركين واجبة.
فالأقرب والله أعلم وجوب الخروج إذا تمكن الإنسان وتهيأت له الأمور قبل أن تطلع الشمس.
- ثم قال - رحمه الله -:
فإذا بلغ محسراً: أسرع رمية حجر.
وادي محسر هو وادي بين مزدلفة ومنى، واختلف العلماء فيه:
= فقيل ليس منهما: لا من مزدلفة ولا من منى.
= وقيل: بل ليس من مزدلفة لكنه من منى.
وأيضاً هذا الخلاف لا فائدة عملية تحته سواء قلنا هو من منى أو من منى فإن الأحكام التي تترتب على وادي محسر هي هي فإنها لا تختلف.
- قال - رحمه الله -
فإذا بلغ محسراً: أسرع رمية حجر.
السنة أن الإنسان إذا بلغ هذا الوادي أسرع ومقدار هذه السرعة: رمية حجر.
- لقول جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء وادي محسر حرك قليلاً.
والإسراع في هذا الوادي محل إجماع بين الفقهاء إنما اختلفوا في الحكمة من الإسراع، لكن أن يسرع ويقصد ذلك فهذه سنة لا إشكال فيها، ومقدار رمية الحجر قدرت بنحو (545 ذراع) فيسرع الإنسان في أثناء قطع هذا الوادي ومدة السرعة هذه المسافة.
(3/176)
________________________________________
وهذه السنة: معلوم أن ترجع إلى إمكانية الإسراع من عدمه باعتبار أن ازدحام السيارات اليوم قد لا يمكن الإنسان من أن يطبق هذه السنة فإذا تمكن فبها ونعمت وإلا فتكفي النية في حصول الأجر.
- ثم قال - رحمه الله -:
وأخذ الحصى.
أخذ الحصى فيه مسائل:
- المسألة الأولى: أن الأئمة الأربعة اتفقوا على أنه يجوز أخذ الحصى من أي مكان شاء وأنه لا إشكال إذا أخذه من أي بقعة مر بها.
- المسألة الثانية: بعد الاتفاق على الجواز اختلفوا في الاستحباب.
= فذهب الجمهور إلى أنه يستحب أن يلتقط الحصى من مزدلفة.
واستدلوا على ذلك:
- بأن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يلتقط الحصى من مزدلفة وكان رجلاً يحب إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- الثاني: ما روي عن سعيد بن جبير - رضي الله عنه - أنه قال: كانوا يستحبون أخذ الحصى من مزدلفة وتكلمنا مراراً عن قول التابعي المبرز في العلم: (كانوا) وعن أهمية هذه اللفظة وأنه يقصد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- الدليل الثالث: أن الأخذ من مزدلفة يساعد على المبادرة في الرمي والمبادرة في الرمي كما سيأتينا: سنة.
والأقرب: أن مقصودهم بقولهم: (من مزدلفة) يعني بعد صلاة الصبح لا في الليل لأن السنة في الليل أن يرتاح الإنسان ويستعد لأعمال الغد.
= القول الثاني: أن المستحب أن يأخذ الإنسان الحصى من أي مكان شاء. هكذا قالوا: ولم يقولوا: (من منى). وهذا يعني: أن المستحب أن لا يقصد مكاناً معيناً فيأخذ منه مع أن الاستدلال الذي استدلوا به يدل على أن الاستحباب ينصب على منى لكن هم قالوا هكذا - أصحاب القول الثاني ومنهم ابن قدامة - رحمه الله -.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة قال لابن عباس: القط لي. فأمره بلقط الحصى صبح اليوم العاشر مما يدل على أنهم أخذوها من غير مزدلفة من خارج مزدلفة.
(3/177)
________________________________________
والاستدلال بهذا الحديث محتمل لأن الغداة تصدق حتى على بعد صلاة الفجر وتصدق على بعد طلوع الشمس. فتعيين أنها أخذت من منى من لفظ الحديث لا يتأتى. لكن وجه الاستدلال أن ابن قدامة قال: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن عباس هذا اللفظ في منى) والظاهر والله أعلم أنه أخذ هذا الاستنباط لا من قوله (غداة العقبة) ولكن من ألفاظ أخرى فلهذا الحديث ألفاظ في سنن الترمذي وفي سنن النسائي وفي سنن أبي داود تفيد أن هذا الأمر كان بعد أن تجاوز النبي - صلى الله عليه وسلم - وادي محسر، فلعل ابن قدامة استدل بهذ.
= فيه قول ثالث: أشار إليه النسائي ولم أر أحداً نص عليه لكن في الحقيقة هو قول جميل جداً. وأشار إليه من خلال التبويب فهو يرى: أن السنة أن يلتقط الإنسان الحصى بعد مجاوزة وادي محسر مباشرة. يعني في أول منى. لقول ابن عباس - رضي الله عنه -: (فلما جاوز محسراً قال القط لي الحصى) ففي هذا اللفظ دليل على أنه يستحب الإنسان أن يلقط الحصى أول ما يدخل منى.
وإذا تأملت وجدت أن هذا القول يجمع بين القولين فهو لم يلقط عند الجمار ليتأخر وإنما في أول منى ولم يشتغل عن الدعاء الذي في فجر مزدلفة بلقط الحصى فهذا القول في الحقيقة وجيه وقوي مع العلم أنه لا يمكن أن نعمل به اليوم لأن الإنسان لا يستطيع أن يتوقف بعد وادي محسر وينزل ويأخذ حصى مع الزحام.
لكن تقدم معنا أن تقرير القول الراجح أو السنن شيء وإمكان الإتيان بها شيء آخر.
- ثم قال - رحمه الله -:
وعدده سبعون.
عدد الجمار سبعون يعني مع جمار العقبة.
وظاهر عبارة المؤلف - رحمه الله - أن السنة أن الإنسان أن يلقط في هذا الوقت الجمار المتعلقة بجمرة العقبة والجمار المتعلقة بأيام التشريق.
والأقرب والله أعلم: أن المقصود بالآثار أخذ جمار العقبة وأما جمار أيام التشريق فإنها تلتقط أيام التشريق من منى أو من غير منى مما يتيسر للإنسان، أما في هذا اليوم فالمستحب أن يعتني الإنسان فقط بجمار العقبة فقط، ففي قوله المؤلف - رحمه الله - (وعدده سبعون): فيه نظر بل السنة التقاط السبع فقط.
- ثم قال - رحمه الله -:
بين الحمص والبندق.
(3/178)
________________________________________
يعني: أن المستحب أن تكون بهذا المقدار، وهي ما يقارب حجم النواة: نواة التمر وما يقارب أيضاً أنملة الأصبع طولاً وعرضاً.
والدليل على ذلك:
- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص في حديث ابن عباس وفي حديث جابر أن لقط الحصى يكون للحصى التي تستعمل في الخذف يقول - صلى الله عليه وسلم -: (كحصى الخذف) وحصى الخذف هو الذي كان العرب يخذفون به غيرهم بالأصبع ومقداره هذا المقدار.
واعلم أن هذا التحديد على سبيل الوجوب فإن أخذ أكبر من هذا المقدار بكثير أو أصغر من هذا المقدار بكثير فإنه لا يجوز أن يرمي به لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بهذا الحجم وحذر من الزيادة عليه. وقال: (إياكم والغلو) وفي هذه الألفاظ دلالة على الوجوب.
واعلم أيضاً أن أخذ الحجر الأكبر أشد من أخذ الحجر الأصغر لأن الحديث أشار إلى الغلو والغلو إشارة إلى الزيادة لا إلى النقص ولأن أكثر مخالفات الناس هي أخذ الحجر الكبير لا بأخذ الحجر الصغير.
لكن على كل حال قد يوجد من الناس من هو متساهل فيأخذ الصغير فالواجب أن يتوسط الإنسان وأن لا يتقعر ويتشدد على نفسه وإنما يأخذ هذا الحجم أو ما هو أصغر منه قليلاً أو أكبر منه قليلاً.
أما أخذ الحجر الكبير فهذا لا يجوز ولا يجزئ وعلى من رمى به أن يرمي مرة أخرى لأنه رمى بحجر لم تتوفر فيه الشروط الشرعية.
-
ثم قال - رحمه الله -:
فإذا وصل إلى منى - وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة - رماها.
في هذه العبارة عدة مسائل:
ـ المسألة الأولى: أن السنة أن الحاج إذا وصل إلى منى أن يبادر بالرمي وأن لا يشتغل بغير الرمي. لأن الرمي هو تحية منى.
- ويدل على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من منى سلك الطريق التي توصل إلى الكبرى مما يدل على أنه بادر إلى الرمي ولم يشتغل بشيء غير الرمي.
ـ المسألة الثانية: يفهم من قوله: (رماها). أنه إن وضعها وضعاً فإنها لا تجزئ. وهذا صحيح.
- لقول جابر - رضي الله عنه -: (ثم رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة). فقوله: (ثم رماها) يدل على أن الوضع لا يجزئ لأن الرمي في لغة العرب لا يصدق على الوضع، فإذاً يشترط أن يرميها.
(3/179)
________________________________________
ـ المسألة الثالثة: أن يكون الرمي متتابعاً. فإن رماها جملة واحدة فلا يصح الرمي. وتحتسب واحدة.
- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها هكذا. والعبادات توقيفية والرمي جملة واحدة مخالفة للصفة النبوية.
ـ المسألة الرابعة: أنه يجب أن يوالي بين الرمي. فإذا رمى الحجر الأول ثم بعد نصف ساعة رمى الثاني فالرمي باطل.
وفي هذه المسألة خلاف وهي: حكم الموالاة في الرمي بين حصى الجمار التي ترمى بها جمرة العقبة أو أيام التشريق:
= فالجمهور على أن الموالاة: سنة.
- لأنه لا يوجد دليل على اشتراط الموالاة. فإن من رمى واحدة ورمى الست بعد نصف ساعة يصدق عليه أنه رمى سبعاً.
= والقول الثاني: أن الموالاة شرط للصحة وإليه ذهب نفر قليل بعض الفقهاء من الشافعية.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها متوالية وهذه العبادة توقيفية والتفريق بين الحصى يخالف صفة رمي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولا شك إن شاء الله أن القول الراجح مع القول الثاني وأن من رمى حجراً ثم رمى بعد ساعة باقي الأحجار أن عليه أن يعيد الرمي من جديد لأن هذه عبادة واحدة تؤدى في وقت واحد.
لكن تقدم معنا: أن شيخ الإسلام له قاعدة مفيدة وهي: (أن العبادات التي يشترط فيها الموالاة تسقط عند العذر فإذا كان هناك عذر لا بأس بالإخلال بشرط الموالاة في الحج والوضوء وفي كل شيء). وهذه قاعدة مفيدة دلت عليها نصوص كثيرة.
- ثم قال - رحمه الله -:
بسبع حصيات متعاقبات.
سبع:
- لما في حديث جابر - رضي الله عنه - أنه رماها بسبع.
ومتعاقبات: يعني لابد أن يرمي واحدة بعد أخرى ولا يرميها جملة واحدة.
وأيضاً تأتي معنا مسألة الموالاة وتقدم معنا ذكر الخلاف في الموالاة، فلابد أن يكون الرمي متتابعاً كما قال المؤلف - رحمه الله -، إذاً تقدم معنا شرح قوله: (متعاقبات).
- ثم قال - رحمه الله -:
يرفع يده اليمنى حتى يرى بياض إبطه.
يعني: يسن للإنسان: = عند الحنابلة: أن يتقصد صنع هذه الصفة وهي أن يرفع يده إذا أن يرمي إلى أن يرى بياض إبطه.
واستدلوا على استحباب هذه الصفة:
- بأن في هذا إعانة على إيصال الحجر إلى مكانه.
(3/180)
________________________________________
وتلمست قولاً آخر للحنابلة فلم أجد شيئاً يسند هذا القول .... فبعض التابعين لما سئل عن الرمي قال: هكذا تصنع. ثم أمر أن يرفع يده إلى أن رأى بياض إبطه لكنها فتوى تابعي لم تصل ولا إلى أن تكون قول صحابي.
فالأقرب والله أعلم أن هذه الصفة إن احتاج إليها صنعها وإن لم يحتج إليها فلا حاجة لفعلها.
فإذا كان يستطيع أن يوصل الحجر بدون رفع اليد إلى هذه الدرجة فلا بأس أن لا يرفع، لأن هذه الكيفيات في العبادات تحتاج إلى نصوص وليس في هذا الباب أي نص، كما أن هذا الرفع اليوم غالباً ما يؤدي إلى فقع عين من خلفه. لأن كثيراً من الحجاج يرفع يده فيعمي من خلفه وهذا كثير، فاليوم مع كثرة الجهل بعض السنن ربما نقول بتهوينها عند بعض الناس - إذا فرضنا أن رفع اليد سنة - حتى لا يقع الضرر، وهذا الضرر ليس ضرراً متوقعاً أو نادراً بل كثير وأثناء الرمى نرى كثرة المخالفات المتعلقة بكيفية الرمي وهي كثيرة جداً.
-
ثم قال - رحمه الله -:
ويكبر مع كل حصاة.
- لما في حديث جابر - رضي الله عنه - أنه قال: يكبر مع كل حصاة.
- ثم قال - رحمه الله -:
ولا يجزئ الرمي: بغيرها.
= ذهب الجماهير والجم الغفير من أهل العلم: إلى أنه لا يجزئ الرمي إلا بالحصى فقط.
والحصى في لغة العرب هي الحجارة الصغيرة.
واستدلوا على هذا:
- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلقط الحصى فقط مع وجود أعيان أخرى على الأرض. ومع ذلك لم يرم إلا بهذا الشيء.
فإن رمى بغير الحجر فإن رميه باطل.
= القول الثاني: جواز الرمي بما هو من جنس الأرض فقط كالطين بالإضافة إلى الحصى. وهذا مذهب الأحناف وخالفوا فيه الأئمة الثلاثة.
(3/181)
________________________________________
والراجح مع الجمهور لأن هذه عبادات توقيفية فيجب أن نصير فيها إلى ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم من سياق الخلاف أن الرمي بما ليس من جنس الأرض لا يجوز بالإجماع. كاللرمي بالخرسانة أو الاسمنت المتحجر ولو كان متحجراً كتحجر الحجر أو أشد فإنه لا يجوز أن يرمى به لأنه ليس من جنس الأرض وإنما هو مصنع فضلاً عن الرمي بالأشياء الأخرى كالرمي بالنعال أو بالأشياء المعدنية المصنعة فهذه بالإجماع لا يجزئ الرمي بها وإذا اعتقد أنه يفعل ذلك تقرباً وتعبداً إلى الله فهو آثم.
إذاً عرفنا: أن الخلاف ينحصر في: ما هو من جنس الأرض. أما ما ليس من جنس الأرض فلا يجزئ الرمي به.
فإن قيل: أنه ثبت أن سكينة بنت الحسين - رضي الله عنها - كانت تتناول الحجر من مولاها وترمي فانتهى الحجر من يده في الخامس أو السادس فأخذت الخاتم ورمت به في المرمى تعبداً لله؟
فالجواب: أن رميها - رضي الله عنها - غير صحيح وأن سكينة عملها لا يحتج به إذ ليست مع فضلها وعظيم قدرها - رضي الله عنها - لا من الفقهاء وهذا العمل لا يستدل به.
ولذلك أعرض الأئمة عن الاستدلال بهذا لأنها ممن يستدل بعملها وإنما هي أرادت - رضي الله عنها - تعظيم شعائر الله وهي مثابة في هذه النية لكن عملها ليس بصحيح وكان عليها أن ترمي بحجر.
إذاً: يبقى أن الراجح أنه لابد من الرمي بحجر.
- ثم قال - رحمه الله -:
ولا بها ثانياً.
يعني لا يجوز للإنسان أن يرمي بالحجر مرة أخرى، وإلى هذا ذهب عدد كبير من الفقهاء أنه لا يجوز أن نرمي بما رمي به من الأحجار.
واستدلوا على هذا:
- بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بلقط الحصى لا أخذه من المرمى.
- الثاني: أن هذا الحجر استعمل في عبادة فلا يستعمل مرة أخرى.
وهذا القول كما قلت لكم مذهب الجمهور واختاره شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -.
= القول الثاني: جواز الرمي بما رمي به.
- لأنه لا دليل على المنع من الرمي بما رمي به.
- ولأن من رمى بما رمي به يصدق عليه أنه رمى الجمرة بسبع حصيات.
والأحوط والله أعلم أن لا يرمي الإنسان بما رمي به. ويتأكد جداً أن لا يرمي الإنسان بما رمي به. أن لا يأخذ من المرمى.
(3/182)
________________________________________