الكتاب: أبكار الأفكار في أصول الدين
المؤلف: علي بن محمد بن سالم التغلبي، أبو الحسن، سيف الدين الآمدي (المتوفى: 631 هـ)
تحقيق: أ. د. أحمد محمد المهدي
عدد الأجزاء: 5
الناشر: دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة
الطبعة: الثانية / 1424 هـ -2004 م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
أعده للشاملة: //محمود الجيزي - عفا الله عنه//
ملاحظة: [هذا الكتاب من كتب المستودع بموقع المكتبة الشاملة]
ومنهم من قال- إنها عبارة عن الشكل الخاص، والتخطيط.
وأما من قال إنها جوهر: فمنهم من قال: إنها جوهر مركب؛ فيكون جسما.
ومنهم من قال: إنها جوهر بسيط، لا تركيب فيه.
فأما من قال: إنها جسم فقد اختلفوا:-
فمنهم من قال: إنها عبارة عن هذه الجثة الخاصة المركبة من الجواهر، والأعراض القائمة بها، وهى ما يشير كل أحد إليها بقوله نفس، ولا إشارة إلى غير الجثة الخاصة، وهذا هو مذهب جماعة من المتكلمين «1».
[مذهب الفلاسفة اليونانيين، ومن تابعهم من فلاسفة الإسلاميين، وأرباب التناسخ]
وأما قدماء الفلاسفة: فمنهم من قال: إنها جسم فى داخل هذه الجثة. ثم اختلف هؤلاء.
فمنهم من قال: إنها جسم مركب من العناصر، مصيرا منه إلى أن النفس مدركة للمركبات، وإنما يدرك الشيء بشيء يشبهه «2».
ومنهم من قال: إنها عبارة عن مجموع الأخلاط الأربعة مع تناسب مخصوص بينها فى كمياتها، وكيفياتها؛ ولذلك فإنه لا بقاء للنفس/ مع اختلال هذه الأمور، أو بعضها.
ومنهم من قال: إنّها الدم؛ اذ هو أشرف أخلاط البدن «11» //؛ ولأن الإنسان يموت عند خروجه، ولا يوجد منه شيء فى أبدان الأموات «3».
ومنهم من قال: إنها عنصر من العناصر «4»، مصيرا منه إلى أن من يدرك غيره فإنما يدركه؛ لأنه من جوهره، والنفس مدركة للأشياء العنصرية؛ فيجب أن تكون من جوهرها. ثم اختلف هؤلاء.
فقال «فلوطرخس «5»» إنها النار السارية فى هذا الهيكل؛ لأن خاصية النار الحركة والإشراق؛ وذلك متحقق فى النفس.
________________
(1) انظر المغنى للقاضى عبد الجبار 12/ 311 فقد نصر هذا الرأى.
(2) انظر: فى الفلسفة الإسلامية للدكتور مدكور 1/ 155 فقد نسب هذا القول لأنبياذوقليس صاحب العناصر الأربعة.
(11) // أول ل 113/ أ.
(3) يعرف هذا الرأى للفيلسوف كرتيساس انظر كتاب النفس لأرسطو ص 15 وتاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم.
(4) كأنكمانس وتاليس وغيرهم: انظر الفلسفة الاغريقية د. محمد غلاب 1/ 33 وما بعدها، ص 47 وما بعدها.
(5) انظر عنه كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى ص 257 فقد قال عنه إنه فيلسوف مذكور فى عصره له تصانيف مهمة منها كتاب الآراء الطبيعية وكتاب النفس وغيرهما.
(4/275)
________________________________________
وقال ديوناس: إنها الهواء المستنشق المتردد فى مخارق البدن؛ ولذلك تزول الحياة بزواله.
وقال تاليس «1»: إنها الماء؛ إذ هو سبب النشوء، والنمو، والنفس كذلك؛ فكانت هى الماء.
وذهب الأطباء: إلى أن النفس هى الروح، وهى جسم لطيف بخارى، ناشئ من التجويف الأيسر من القلب، مثبت فى جميع البدن؛ هو منبع الحياة، والنفس والنبض.
وقد أشار القاضى «2» إلى ما هو قريب من هذا القول، وهو أن قال: النفس عبارة عن أجسام لطيفة، ومشتبكة بالأجسام الكثيفة أجرى الله العادة بالحياة مع بقائها.
ومنهم من قال: إنّ النفس عبارة عن الروح الكائنة فى الدماغ «3» الحاملة للقوى الحساسة الباطنة، وهى الحس المشترك، والصورة، والمخيلة، والوهمية والحافظة.
ومن المتكلمين من قال: النفس هى الأجسام الأصلية فى كل بدن من الأبدان دون الأجزاء الفاضلة. كما حققنا فى الفصل الّذي قبله «4».
وأما من قال: إنها جوهر بسيط فقد اختلفوا:
فمنهم من قال: إنها جوهر فرد متحيز، وهذا هو مذهب طائفة من الشيعة، ومعمر من المعتزلة «5»، والإمام الغزالى من أصحابنا «6».
ومنهم من قال: إنها جوهر بسيط معقول غير متحيز مجرد عن المادة دون علائقها، وهذا مذهب الفحول من الفلاسفة اليونانيين «7» ومن تابعهم من فلاسفة الإسلاميين «8»، وأرباب التناسخ.
________________
(1) تاليس: انظر ترجمته فيما مر فى هامش ل 85/ أ.
(2) هو القاضى أبو بكر الباقلانى، راجع ترجمته فى هامش ل 2/ ب من الجزء الأول.
(3) كجالينوس الطبيب انظر الأربعين فى أصول الدين للإمام الرازى 269.
(4) راجع ما مر فى الفصل الثانى ل 198/ أ وما بعدها.
(5) راجع ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 182/ ب. وراجع مذهبه فيما سيأتى فى القاعدة السابعة ل 245/ ب وما بعدها. وانظر المغنى 11/ 311 لتوضيح رأيه.
(6) راجع ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 122/ أ. وراجع رأيه فى كتابه معارج القدس ص 71.
(7) كأفلاطون وأرسطو. انظر النفس لأرسطو الكتاب الثانى ص 34.
(8) كابن مسكويه وابن سينا وابن رشد. انظر فى الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه 1/ 129.
(4/276)
________________________________________
وقد احتجوا على ذلك بحجج.
الأولى: أنّهم قالوا: إنه من البيّن الّذي لا شكّ فيه على ما يجده كل عاقل من نفسه أن فيه، وفى ذاته شيئا به إدراك المعقولات البسيطة التى لا تركيب فيها كالإله: تعالى، ومبادى المركبات.
قالوا: يجب ألا يكون المدرك لها جسما، ولا قائما بالجسم قيام الأعراض بموضوعاتها والصور الجوهرية بموادها، وإلا كان متجزئ، لأن كل جسم متجزئ على ما سبق، وما قام بالمتجزئ يكون متجزئا، ولو كان متجزئا لما كان محلا/ لانطباع المعقولات التى لا تجزئ لها فيه، وإلا فانطباعه فى جزء واحد منه دون باقى أجزائه [أو فى كل واحد من أجزائه] «1».
لا جائز أن يكون الانطباع فى جزء واحد منه فإن فرض جزء من الجسم، أو ما قام به غير متجزئ، محال؛ لما سبق «2».
والتقسيم بعينه يكون لازما إلى ما لا يتناهى، ولا جائز أن يكون الانطباع فى كل واحد من الأجزاء، وإلا فالمنطبع فى كل واحد من الأجزاء إما أن يكون هو نفس المنطبع فى الجزء الآخر، أو غيره.
فإن كان الأول: فيكون الشيء الواحد فى حالة واحدة، معلومات كرات غير متناهية؛ وهو محال.
كيف وإن ما من جزء يفرض إلا هو متجزئ إلى غير النهاية، والتقسيم بعينه وارد لا محالة.
وإن كان الثانى: فيلزم أن يكون المعقول المفروض متجزئا. وقد فرض غير متجزئ؛ وهو محال.
فإذن ما هو محل انطباع المعقولات الغير المتجزئة متجزئ، وإلا كان ما لا يتجزأ منطبعا فى ما هو متجزئ، وهو محال، ويلزم أن لا يكون جرما، ولا قائما بالجرم؛ وذلك هو المطلوب.
________________
(1) ساقط من أ
(2) راجع ما مر فى الفصل الثالث فى تجانس الأجسام ل 25/ ب وما بعدها.
(4/277)
________________________________________
الثانية: أنا قد نتعقل صورا مجردة عن الأوضاع والمقادير: كصورة الإنسان الكلى ونحوه.
وعند ذلك فلا يخلوا: إما أن يكون تجردها عن ذلك لذاتها، أو لما أخذت عنه، أو لنفس الآخذ، وهو المحل القابل لها.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا لما عقلت إلا وهى مجردة عنه، وليس كذلك كما فى الأشخاص.
ولا الثانى: إذ ليس كل صورة معقولة مجردة عن الوضع مأخوذة عن شيء، وذلك كالذى يتصوره الإنسان من الصور التى لا وجود لها فى الخارج؛ ولأن ما أخذت عنه قد لا يكون مجردا عن الوضع: كأشخاص الإنسان، وإن كان الثالث: فما به التعقل ليس جسما، ولا جسمانيا، وإلا لما خلا عن ذلك.
الثالثة: أنه لو كانت النفس مدركة بآلة جرمانيّة: لما أدركت نفسها كما فى الحواس الخمس؛ إذ ليس بينها، وبين نفسها، ولا بين آلتها آلة. وإلا فإدراكه لآلتها: إما بآلة، أو لا بآلة.
فإن كان الأول: فإما أن يكون إدراكها بآلتها بعين تلك الآلة، أو بغيرها.
فإن كان بعين تلك الآلة: فإما أن يكون ذلك لوجود «11» // صورة آلتها تلك فى آلتها، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها.
فإن كان الأول: فيلزم أن تكون عاقلة لآلتها دائما؛ إذا كانت تعقل بوجود صورة المعقول فى الآلة، وصورة آلتها فى آلتها دائمة الوجود؛ وهو محال خلاف المعقول.
وإن كان الثانى: فباطل أيضا، فإن الصورة إذا دخلت الجوهر العاقل إنما تجعله عاقلا؛ لما تلك الصورة صورته، لا لصورة غيره، إلا أن يكون مضايفا له، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك.
وإن كان أدركها لآلتها بغير تلك الآلة:/ فالكلام فى تلك الآلة كالكلام فى الأولى؛ ويلزم من ذلك التسلسل، أو الدور الممتنع.
________________
(11) // أول ل 113/ ب.
(4/278)
________________________________________
وإن كان إدراكها لآلتها لا بآلة: فليكن مثله فى غيرها؛ إذا القول بالفرق تحكم غير معقول.
الرابعة: أنها لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة؛ للزم كلالها عند المواظبة على الإدراك كالحواس، فإن من واظب على إبصار شيء، أو سماع صوت كلت آلته، والتالى باطل فإن إدراك النفس يقوى بكثرة ما تدركه من المعقولات، ويستمر عليه «1».
الخامسة: أنها لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة: لما أدركت الأخفى بعد إدراك، الأظهر؛ أو لقلّ إدراكها له كما فى الحواس، فإن من أدرك الأصوات الهائلة: كأصوات البوقات، ونقر الطبول؛ فإنه قد لا يدرك الهمس من الأصوات كإدراكه له قبل ذلك، وكذلك من أدرك ضوء الشمس قد لا يدرك بعده الأشياء الصغيرة كالذرة، ونحوها. وكمن أدرك الحرارة أو البرودة الشديدة فإنه لا يدرك ما هو أضعف منها بخلاف إدراك النفس.
السادسة: أنها لو كانت داركه بآلة جرمانيّة؛ لوقفت، وعجزت عند بلوغ الأربعين؛ إذ هى كحال النشوء كسائر أجزاء البدن بالحواس الظاهرة، وليس كذلك.
السابعة: أنها لو كانت داركة بآلة جرمانيّة؛ لضعفت بضعف البدن واستضرت بضرر موضوعها بالآلام، والأمراض، وليس كذلك، فإن النظر، والفكر مؤلم للدماغ، ومضر به، ومكمل للنفس.
الثامنة: أنّها لو كانت دراكة بآلة جرمانيّة؛ لأمكن أن يكون البعض من تلك الآلة مدركا للشيء، والبعض غير مدرك له؛ فيكون الشخص الواحد عالما بالشيء الواحد وجاهلا به فى حالة واحدة؛ وأنه محال.
التاسعة: أنه لو كانت دراكة بآلة جرمانيّة؛ لما كانت مدركة للمتضادات معا؛ لتوقف إدراكها على انطباع صورة الشيء المدرك فى آلتها، وانطباع صورتى المتضادين معا فى جزء واحد محال، كما فى الحواس الظاهرة والباطنة؛ ولهذا فإنا لا نجد فى حواسنا إمكان إدراك كون الشيء الواحد أسود، أبيض، حارا، باردا معا، ولا كذلك عند كونها مدركة للمتضادات بغير آلة جرمانيّة؛ لأنّ إدراكها لا يكون على سبيل صورتى المتضادين
________________
(1) قارن ما ورد هنا بما أورده الإمام الغزالى فى تهافت الفلاسفة الدليل السابع على تجرد النفس الناطقة ص 226.
(4/279)
________________________________________
فى آلتها؛ بل على سبيل التصور لحقيقتيهما؛ ولا يلزم من استحالة انطباع الصورتين المتضادتين فى الجسم الواحد، استحالة تصور الحقيقتين لا التصديق بالجمع بينهما.
العاشرة: أنّ النفس الإنسانية تقوى على إدراك ما لا يتناهى/ من الصّور المعقولة، فقوتها غير متناهية، فلو كانت مدركة بآلة جرمانيّة؛ لكانت متناهية قابلة للتنصيف؛ ضرورة تناهى محالها، وقبوله للتنصيف.
الحادية عشرة: أنّ الأجسام وقواها تعقل بما يتصور فيها من الصّور العقلية: فهى فاعلة منفعلة، والنفس الإنسانية تفعل ذلك، حيث تستخرج النتائج من المقدمات، وتعقل حكم التصديق بها من ذاتها. فهى بذلك فاعلة لا منفعلة، فالنفس ليست جسما، ولا قوة فى جسم.
الثانية عشرة: أن الأجسام وقواها إنّما تتخلص ممّا يؤذيها بالحركة المكانيّة هربا عنه، وليست القوة العاقلة فى هربها عما يؤذيها لذلك؛ بل بالرأى، والرؤية، فالنّفس ليست جرما، ولا قوة فى جرم.
الثالثة عشرة: إنّ بدن الإنسان مؤلّف من أضداد، تأليفا لا يقع به ممانعة بين أجزائه فى أفعالها الصّادرة عنها من الحركات إلى الجهات.
والنفس العاقلة إنّما تقوى على أفعالها بمغالبة ما يمانعها من القوى: كالغضب والشّهوة، ونحو ذلك؛ فالنّفس ليست جسما.
الرابعة عشرة: أنّ كل واحد يعلم من نفسه علما ضروريّا أنّه الّذي كان «11» // من حين ولادته، ويعلم أنّ ما كان من أجزائه الجسمانية قد تبدلت، وتغيرت بالتحليل، والتبدّل بالحرارة الغريزية المحللة، والقوة الغاذية الموردة بدل ما يتحلل، وذلك الباقى المستمر وهو الّذي لا يتغير، ولا يتبدل هو النفس؛ فلا يكون هو الجسم، ولا ما هو حال فيه.
الخامسة عشرة: أن القوى التى هى مصدر الأفعال المختلفة: كالغضب والشهوة وغيرهما لا ينفصل بعضها عن بعض، ولا يشغل بعضها بعضا؛ لعدم الاشتراك بينها فى الآلة، وهى غير متحركة، بذاتها، ولا معطلة بذواتها، وقد يشاهد مع ذلك البعض معطلا، والبعض غير معطل.
________________
(11) // أول ل 114/ أ من النسخة ب.
(4/280)
________________________________________
فلا بد لها من جامع يجمعها، ويكون هو المتصرف فيها، وليس ذلك شيء من أجزاء البدن، ولا ما هو قائم به.
فإذن هو ما يشير كل واحد إليه أنه هو ذاته، مع قطع النظر عن جميع الأجزاء البدنية الظاهرة، والباطنة، وذلك هو النفس الإنسانية «1».
ثم اختلف هؤلاء فى أربعة مواضع:
الأول: فى قدم النفس الإنسانية، وحدوثها.
الثانى: فى وحدتها، وتكثّرها.
الثالث: فى أنها هل تفوت بفوات البدن، أم لا؟
الرابع: فى أنها هل تنتقل إلى بدن آخر، أم لا؟
الموضع الأول: اختلفوا فى قدمها، وحدوثها.
فقال أفلاطون، «2» ومن تابعه: إنها قديمة.
وقال أرسطاطاليس «3»، ومن تابعه: إنها حادثة بحدوث/ بدنها.
وقد احتج القائلون بقدمها بحجتين:
الحجة الأولى: أنهم قالوا لو كانت حادثة بعد أن لم تكن؛ لكان لها فاعل يحدثها، وذلك الفاعل: إما أن يكون قديما، أو حادثا.
لا جائز أن يكون حادثا؛ وإلا فالكلام فيه كالكلام فيما عند حدوثه، ويلزم منه التسلسل، أو الدور؛ وهما ممتنعان.
فلم يبق إلا أن يكون قديما، أو مستندا إلى القديم، ويلزم من قدم العلة قدم معلولها؛ لاستحالة انفكاكه عنها.
________________
(1) انظر ما استدل به الفلاسفة على تجرد النفس الإنسانية فى تهافت الفلاسفة للامام الغزالى ص 250، وتهافت التهافت لابن رشد القسم الثانى: 82 - 85.
(2) راجع ترجمته فى هامش ل 50/ ب من الجزء الثانى.
وانظر رأيه فى محاورات أفلاطون- فيدون- ترجمة د. زكى نجيب محمود ص 209.
(3) راجع ترجمته فى هامش ل 85/ أ من الجزء الثانى. وراجع رأيه فى الفلسفة الإغريقية للدكتور محمد غلاب 2/ 80.
(4/281)
________________________________________
فإذن النّفس قديمة؛ لقدم ما وجبت عنه، غير قابلة للكون.
اللهم إلا أن يقال بتوقف أعمال العلة القديمة فى معلولها على شيء معين من قابل، أو فاعل، أو أن فعل الفاعل ليس بالذات، والطبع؛ بل بالإرادة والاختيار.
لا جائز أن يقال بالمعين من القوابل الهيولانية؛ إذ النفس غير هيولانية كما سبق.
ولا فاعل آخر فإن مثل هذا إنما يكون فى مفعول متجزئ يكون لكل واحد من الفاعلين منه جزء، وإن لم تتميز الأجزاء. والنفس ذات واحدة لا تتجزأ كما سبق.
ولا جائز أن يكون وجود النفس غير الإرادة؛ [إذ ليست الإرادة] «1» جوهرا، وما ليس بجوهر لا يكون مؤثرا فى إيجاد الجوهر، ولا الجوهر يكون متوقفا فى حدوثه عليه؛ إذ الجوهر أشرف مما ليس بجوهر؛ فلا يكون الأشرف مفتقرا إلى الأخس.
الحجة الثانية: أنهم قالوا: النفس جوهر قائم بنفسه غير قائم بالأجسام، وهو متصل بها وهى مخالفة بذلك لسائر القوى، والصور العرضية التى تبطل عند مفارقة موضوعاتها؛ فلا تكون قابلة للكون، والفساد؛ إذ القابل لذلك ليس إلا ما كان من الموجودات قائما بالأجسام، وما يرجع حدوثه إلى الحركات المتحددة المنصرمة، وما يحدث فيه بذلك من القرب والبعد، والتجزؤ، والانفصال، والاتصال، والاستحالة بالأضداد التى يفسر بعضها بعضا. أما ما هو برئ عن ذلك كله فلا.
وأما القائلون بحدوث النفس فقد احتجوا بثلاث حجج.
الحجة الأولى: أنهم قالوا النفس الإنسانية من نوع واحد كما سيأتى «2».
فلو كانت قديمة سابقة الوجود على حلولها فى البدن، لم يخل إما أن تكون متحدة، أو متكثرة [لا جائز أن تكون متحدة، وإلا فعند تكثر الأبدان لا يخلوا: إما أن تبقى متحدة، أو متكثرة] «3».
لا جائز أن يقال ببقائها متحدة؛ وإلا فنسبتها إلى بدن واحد، أو إلى كل الأبدان.
/ فإن كان الأول: فيلزم خلو باقى الأبدان عن الأنفس؛ وهو محال.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) انظر ما سيأتى فى الموضع الثانى: اختلفوا فى وحدة النفس وتكثرها، ل 204/ ب وما بعدها.
(3) ساقط من (أ).
(4/282)
________________________________________
وإن كان الثانى: فيلزم أنها إذا علمت شيئا، أو جهلته أن يشترك الناس كلهم فيه؛ لاتحاد النفس، والشيء المدرك؛ وهو محال.
هذا كله إن قيل باتحادها قبل مقارنة الأبدان.
ولا جائز أن يقال بأنها متكثرة «11» // قبل الأبدان «إذ التكثر، والتغاير فيما اتحد نوعه دون مميز محال.
وما به التمايز والتغاير، إما أن يكون ثابتا لها لذاتها، أو أن ذلك لها بالنسبة إلى غيرها.
لا جائز أن يقال بالأول: إذ هى من نوع واحد. فما ثبت لواحد منها لذاته ليس أولى من ثبوته لغيره.
وإن كان الثانى: فكل تكثر يفرض مما به تكثير أشخاص الماهية المتحدة الغير مقتضية للتكثر بذاتها فليس إلا بالنسبة إلى المواد وعلائقها؛ فلا تكثر فيه.
وهذه المحالات: إنما لزمت من فرض وجود الأنفس سابقة على الأبدان؛ فلا سبق «1».
الحجة الثانية: أنه لو كانت الأنفس الإنسانية موجودة قبل وجود الأبدان؛ لكانت إما فاعلة متصرفة، أو معطلة عن الفعل، والانفعال.
لا جائز أن تكون معطلة؛ إذ لا شيء من فعل الطبيعة معطلا.، وإن كانت متصرفة بالفعل، والانفعال. فتصرفها لا يعدو أحد الأمرين:
إما إدراك عقلى، وإما تحريك جسمانى مقرونا بإدراك حسى، وكل واحد من الأمرين- فلن يتم لها قبل وجود الأبدان التى هى حاكمة فيها، والآلات التى بها يتوصل إلى إدراك مدركاتها.
فإذن لا وجود للأنفس قبل وجود الأبدان.
________________
(11) // أول ل 114/ ب من النسخة ب.
(1) راجع ما ورد فى معارج القدس للإمام الغزالى ص 86.
(4/283)
________________________________________
الحجة الثالثة: أنها لو كانت قديمة موجودة قبل وجود البدن، لقد كانت توجد فيه، وهى من القوة والكمال على حد واحد من غير زيادة، ولا نقصان؛ والتالى باطل بما نشاهده من ضعفها فى ابتداء حدوث البدن، وانتقالها معه من ضعف إلى قوة، ومن عجز إلى قدرة، وعلى حسب انتقال البدن من ضعف إلى قوة، ومن صغر إلى عظم، ومن نقص إلى كمال «1».
الموضع الثانى: اختلفوا فى وحدة النفس الإنسانية وتكثرها.
فقال بعضهم: إنها فى جميع الأشخاص واحدة بالشخص، وأن نفس زيد هى نفس عمرو، وأن نسبتها فى أفعالها المختلفة مع اتحاد جوهرها إلى الموضوعات المختلفة من أشخاص الأبدان الإنسانية كنسبة الشمس مع اتحادها فى اختلاف تأثيراتها عند إشراقها على زجاجات مختلفة الألوان فى الألوان الحادثة/ عنها محتجين على ذلك بأن قالوا: قد ثبت أن النفس قديمة بما سبق «2».
وعند ذلك: فإما أن تكون متحدة لذاتها، أو متكثرة. والقول بالتكثر محال؛ لما سبق «3».
وإن كانت متحدة لذاتها، فالمتحد بذاته يمتنع تكثره؛ وذلك هو المطلوب.
ومنهم من قال: بأن النفوس الإنسانية متعددة متكثرة «4» بتكثير أبدانها رادين على من تقدم، بأنه لو كانت النفس واحدة بالشخص مع تعدد أبدانها؛ لكان كل ما يوجد من الفعل، والانفعال، وينتج من العلوم والأحوال منسوبا إلى نفس شخص واحد معين، منسوبا إلى غيره من الأشخاص حتى لا يعلم وهم يجهلون، ولا يجهل وهم يعلمون، ولا يكون مريدا، وهم كارهون، ولا كارها، وهم مريدون، وبالجملة لا يكون متميزا عنهم بحال من الأحوال، ولا فعل من الأفعال؛ ضرورة أن ما فرض من الأفعال، والأحوال؛ فإنما هى
________________
(1) قارن ما ورد هنا بما ورد فى الإشارات لابن سينا ص 120 والنجاة له أيضا ص 183، 184 والروح لابن القيم ص 211.
(2) راجع ما مر فى ل 204/ أ وقد احتج القائلون بقدمها بحجتين:
(3) راجع ما مر فى ل 204/ أ، ب.
(4) يعرف هذا القول لأفلاطون (فقد كان يقول بوجود ثلاثة نفوس: النفس العاقلة، والنفس الغضبية، والنفس الشهوانية). [تاريخ الفلسفة اليونانية د. يوسف كرم].
(4/284)
________________________________________
للنفس وللبدن من جهة النفس، وأن اختلاف التابع لا يؤثر فى اختلاف المتبوع، وهذا كله فخارج عن الإمكان، ومخالف للحس والعيان؛ فإذن النفس متعددة لا متحدة.
ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من زعم أن الاختلاف بين النفوس الإنسانية بالنوع والحقيقة.
ومنهم من زعم: أنها متحدة بالنوع مختلفة بالشخصى، والعرض.
وقد احتج الأولون بأنا قد نجد فى الناس العالم والجاهل، والقوى والضعيف، والخسيس والنفيس والخير، والشرير، والغضوب والحمول، والصبور والملول. إلى غير ذلك من الاختلافات فى القوى، والهمم، والأخلاق. وذلك: إما أن يرجع إلى غرائز نفوسهم الأصلية وفطرتها الأولية، وإما أن يكون ذلك كله اكتسابيا، عرضيا، مأخوذا من اختلاف أمزجة الأبدان.
لا جائز أن يقال بالثانى: فإنا إذا اعتبرناه أدّانا الاعتبار أن بدن الإنسان قد يتغير مزاجه من جهة أخلاق النفس حيث يغضب؛ فيسخن مزاجه ويغتم فينحف، ويهزل، ويفرح فيطرب ويخصب، ولم تكن الحرارة فى مزاج بدنه أوجبت فى نفسه الغضب؛ بل حالة الغضب الطارئة على نفسه، أوجبت حر مزاجه؛ فكانت بعض أحوال البدن لازمة عن أحوال النفس.
ولهذا كان تغير أحوال النفس بالعادات، مغيرا لأحوال الأبدان، وناقلة «11» // لها من شأن إلى شأن، حتى أنها تتبدل مع تبدل الأمزجة والأشكال؛ فتنقل خلقة الشرير إذا صار خيرا إلى خلقة الأخيار، وكذلك بالعكس وهذا كله يشهد بأن هذا الاختلاف ليس إلا لاختلاف جواهر الأنفس، لا لاختلاف أمزجة الأبدان.
وأيضا: فإنا قد نشاهد اختلاف النفوس/ بأمور لا تعلق لها بالأبدان، وأمزجتها، والأجسام، وأشكالها: كمحبة الصنائع، والعلوم، والميل إلى فنون منها، دون فنون.
وأيضا: فانه لو كان ذلك الاختلاف لاختلاف المزاج؛ لما بقى الإنسان على خلق واحد نفسانى عند تبدل مزاجه، وانتقاله من ضدّ إلى ضدّ من حار إلى بارد، ومن بارد:
________________
(11) // أول ل 115/ أ.
(4/285)
________________________________________
إلى حار، ومن رطب إلى يابس، ومن يابس إلى رطب؛ بل كان يتبدل، وينتقل من خلق: إلى ضده على حسب ما يقع الانتقال فى المزاج من ضد إلى ضد.
وأيضا فإن من سلف من الحكماء- قد حكموا فى الأنواع المختلفة من ذوات النفوس بأن اختلاف أمزجتها، وأشكالها، لاختلاف نفوسها فى طبائعها وخواصها حتى كانت حرارة مزاج الأسد مقصودة، لموافقة نفسه فى الشجاعة والحرارة، وبرودة مزاج الأرنب: لموافقة نفسه فى الضعف والجبن.
فما بال الاختلاف بين الأنفس الإنسانية لا لذواتها؛ بل لا لاختلاف أمزجة أبدانها.
وربما احتجوا [على ذلك أيضا] «1» بحجج خطابية «2» مأثورة عن الأسلاف منهم وذلك ما نقل عن أرسطاطاليس «3» أنه قال: «الحرية ملكة نفسانية حارسة للنفس حراسة جوهرية لا صناعية» وكقوله: «إن الحرية طباع أول جوهرى، لا طباعا ثانيا اكتسابيا.
فلو كانت جواهر النفوس الإنسانية، وطبائعها متفقة؛ لزم أن يكون الناس كلهم أحرارا، وهو خلاف المشاهد.
وأما أرباب المذهب الثانى: فقد احتجوا بأن قالوا: النفوس الإنسانية وإن كانت متعددة فهى مشتركة فى خاصية، هى القوة النظرية، والعملية، كما قد بين ذلك فى الحكميات، وهو دليل اتحادها فى النوعية.
الموضع الثالث: اختلفوا فى أن النفس الإنسانية هل تفوت بفوات بدنها، أم لا؟
فذهب كثير من الأقدمين «4» إلى أنها لا تبقى بعد مفارقة بدنها.
محتجين على ذلك بحجتين:
الأولى: أنه قد ثبت أنه لا وجود للنفس قبل وجود بدنها؛ بما سبق ذكره «5» وهو بعينه مساعد فى امتناع وجودها بعد مفارقة البدن.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) راجع المبين للآمدى ص 91 فقد قال: وأما القياس الخطابى: فما كانت مادته من المقبولات، والمظنونات.
(3) راجع ترجمته فيما سبق فى هامش ل 50/ ب من الجزء الثانى.
(4) انظر كتاب النفس لأرسطو 6، 44، 45 ترجمة الدكتور الأهوانى.
(5) راجع ما سبق ل 204/ أو ما بعدها.
(4/286)
________________________________________
الحجة الثانية: أنها بعد مفارقة بدنها لا تفعل، ولا تنفعل، وكل ما لا يفعل، ولا ينفعل فوجوده معطل، ولا معطل فى الوجود الطبيعى «1».
وذهب فريق آخر إلى التفصيل. وهو أن قال: أفعال النفس منها ما يكون بالبدن والآلة. كالإدراكات الجزئية بالحواس الخارجية، ومنها ما يكون لها لذاتها: كالتعقلات الكلية، والتصورات العقلية.
فما كان لها من الأفعال الأولى؛ فلا يبقى بعد مفارقة البدن. بخلاف ما كان لها من الأفعال الثانية، وعلى هذا إن/ كانت مفارقتها للبدن قبل تصور المعقولات، وتجريد الكليات من الجزئيات؛ فإنها لا تعاد؛ إذ ليس لها فعل يقتضي لها البقاء، والانفعال.
وإن كان تكملت بما حصل له أمن التصورات الكلية، والتصديقات العقلية فى حالة اتصالها بالبدن؛ فإنها تبقى، وإن فارقت البدن.
وذهب أرسطاطاليس ومن تابعه من فحول «2» الحكماء: إلى لزوم بقائها بعد مفارقة البدن، وسواء أ كانت التعقلات التى هى كمالها الممكن لها قد حصلت حالة المفارقة، أو لم تكن حاصلة، محتجين على ذلك بحجج ثلاث:
الحجة الأولى: أن ما يعدم بعد وجوده، لا يجوز أن يكون انعدامه لذاته؛ وإلا لما وجد؛ فانعدامه: إما أن يكون لعدم علته الفاعلة المقتضية لبقائه واستمراره، كما فى انعدام ضوء المصباح عند انطفائه.
وإما لوجود مزاحم يبطله، ومضاد يعدمه: كانعدام برودة الماء بالحرارة الطارئة عليه، الغالبة له، فلو انعدمت النفس، لكان انعدامها لأحد هذين الأمرين، وكل واحد منهما باطل.
أما أنه لا يجوز أن يكون انعدامها لانعدام علتها؛ إذ العلة الفاعلية للنفس الناطقة إنما هو العقل الفعال؛ وهو غير قابل للكون، والفساد «11» // على ما قرر فى الحكميات.
________________
(1) قارن بما قاله أرسطو فى النفس ص 44، 45 د. الأهوانى ط: الحلبى.
(2) تابع أرسطو من فلاسفة الاسلام. الكندى: فى رسائله الفلسفية ص 280، وابن سينا: فى النجاة ص 185 والإشارات والتنبيهات 2/ 429، 430 تحقيق د. دنيا.
والإمام الغزالى: تهافت الفلاسفة ص 307 - 309 ومعارج القدس ص 131 - 134.
(11) // أول ل 115/ ب من النسخة ب.
(4/287)
________________________________________
وأما أنه لا يجوز أن يكون انعدامها لوجود مضاد يعدمها؛ لأن ذلك لا يتصور إلا مع قيام الضدين بموضوع واحد [فى محل واحد] «1» مع استحالة الجمع بينهما فيه، وإلا فلا تمانع، ولا مزاحمة. وليس وجود النفس فى البدن على نحو وجود الشيء فى محله، أو فى موضوعه؛ إذ لا موضوع لها؛ لكونها جوهرا، ولا هى حالة فى محل كما سبق؛ بل إنما وجودها فيه على سبيل التعلق به بالتصرف فى أحواله كما سبق.
الحجة الثانية: أنه لو لزم فوات النفس من فوات بدنها؛ لكانت متعلقة به تعلق المتقدم، أو المتأخر، أو المكافئ، وإلا لما كان هذا اللزوم.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا فالنفس متقدمة على البدن، تقدما بالذات؛ ضرورة أن غير هذا النوع من التقدم، لا يوجب الفوات من الفوات. ولو كان كذلك؛ لكان فوات البدن لازما عن فوات النفس، لا أن فوات النفس، لازم عن فوات البدن؛ إذا العلة لا تبطل لبطلان معلولها، وإنما المعلول هو الّذي يبطل ببطلان علته.
ولا جائز أن يقال بالثانى: وإلا فالبدن للنفس إما علة فاعلية، أو مادية، أو صورية، أو غائية؛ ضرورة أن ما يفوت بفوات ما هو متقدم عليه، لا يخرج عن هذه الأقسام.
وليس هو فاعلية: وإلا كان الأشرف مستفادا/ من الأخس.
وليس علة مادية لها؛ لما سبق من أن النفس غير قائمة بمحل. وليست علة صورية ولا غائية، إذ الأولى أن يكون فيها بالعكس، ولا جائز أن يقال بالثالث؛ وهو تعلق التكافؤ؛ وإلا فهما حقيقتان، أو غير حقيقتين، لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كانت النفس والبدن عرضا لا جوهرا.
وإن قيل بالثانى: فغاية ما يلزم من فوات أحدهما فوات العارض للذات لا نفس الذات المعروضة.
الحجة الثالثة: لو كانت النفس قابلة للفساد؛ لكان فيها قوة قابلة للفساد، وكل ما له قوة أن يفسد، فقبل الفساد، له قوة أن يبقى بالفعل، وليس بقاؤه بالفعل هو نفس قوة أن يبقى بالفعل.
________________
(1) ساقط من أ.
(4/288)
________________________________________
فالنفس قبل الفساد لها قوة أن تبقى، فالنفس مركبة من صورة؛ وهى ما بها تكون النفس موجودة وباقية بالفعل، ومن مادة: وهى الذات التى لها هذه القوة أعنى قوة أن يبقى.
والنفس بسيطة غير مركبة على ما سبق؛ فهى غير قابلة للفساد.
الموضع الرابع: [اختلفوا فى أنها هل تنتقل إلى بدن آخر أم لا؟]
اختلف القائلون ببقاء النفس بعد مفارقة بدنها فى تناسخ الأبدان لها، وانتقالها من بدن إلى بدن.
فمنهم: من أثبت ذلك، ومنهم من نفاه.
فأما المثبتون: فمنهم من أوجب ذلك، وأحال بقاء النفس غير متعلقة ببدن آخر غير بدنها الّذي فارقته.
محتجين على امتناع عزوها عن البدن بعد المفارقة بمثل احتجاجهم على امتناع وجودها قبل البدن كما سبق «1».
ومنهم من جوز عليها الأمرين حتى أنها تكون مفارقة للبدن تارة، ومقارنة له تارة، ومقارنة بعد المفارقة، ومفارقة بعد المقارنة، ولم يلتزم فى ذلك قانونا معينا، ولا نظاما مخصوصا.
ثم من أوجب المقارنة بعد المفارقة: فمنهم من يرى أنها لا بد وأن تكون حافظة للصورة النوعية فى الأشخاص، حتى انها لا تنتقل من شخص الإنسان إلا إلى شخص إنسانى، وسمى هذا الانتقال نسخا «2»، ومنهم من يرى أنها غير حافظة للنوع فى الأشخاص، بل قد تستبدل صورة الانسان بصورة أخرى.
ثم أختلف هؤلاء:
فمنهم من جوز الانتقال إلى غيره من أبدان الحيوان، وسمى ذلك مسخا «3» ومنهم من جوزه إلى النبات، وسمى ذلك فسخا «4». ومنهم من جوزه إلى الجمادات، وسماه:
________________
(1) راجع ما مر ل 204/ أ، ب من الجزء الثانى.
(2) النسخ: هو الانتقال من شخص الإنسان إلى شخص انسانى.
(3) المسخ: هو الانتقال من شخص الإنسان إلى أبدان الحيوان.
(4) الفسخ: هو الانتقال من بدن إنسان إلى النبات.
(4/289)
________________________________________
رسخا «1».، ومنهم من يرى أن النفس عند ابتدائها تبتدئ من أضعف الصور وأخسها، كصورة الدود، والذباب، وتتردد إلى الأقوى والأفضل/ حتى تنتهى إلى صورة الإنسان، وحينئذ إن سعدت بفعل ما يسعد، ارتقت فى كل دور إلى مزاج أفضل، وقوة أكمل، حتى تبلغ أقصى الكمال، وإن شقيت بفعل ما يشقى ويردى عادت إلى العكس والقهقرى وكذا لا تزال تتردد فى كل دور إلى ما فارقته، أو أفضل، أو أنقص.
ثم منهم من يرى «11» // أن ذلك يدوم، ويتكرر دورا بعد دور، لا انقضاء لأمده، ولا انتهاء لعدده. ومنهم من يرى انتهاء ذلك، وأن النفس قد يتفق لها سعادة ناقلة لها فى مرة أو مرات إلى أجلّ حالاتها، وأكمل كمالاتها؛ فينقطع تعلقها بالأبدان، ويلتحق بالمبادئ الأولى صائرة عالما عقليا، مجردة عن المواد، وعلائقها؛ فلا تعود إلى التعلق بالأبدان أبدا.
[و الّذي عليه المحققون من الفلاسفة امتناع القول بالتناسخ]
وأما الّذي عليه المحققون من الفلاسفة «2»: امتناع القول بالتناسخ، واستحالة انتقال النفس بعد مفارقة بدنها المقارن وجودها لوجوده، إلى بدن آخر، محتجين على ذلك بحجتين:
الأولى: أن وجود النفس مع وجود البدن إنما كان لشوق جبلى، وميل طبيعى من الأنفس إلى الأبدان [للاهتمام به، والتصرف فى أحواله كما سبق.
وعلى هذا: فكل بدن فإنه يستحق لذاته نفسا تدبره، وتتصرف فيه، وليس ذلك لبعض الأبدان] «3» دون البعض؛ إذ كلها من نوع واحد، فلو قيل بتناسخ بدنين لنفس واحدة؛ لأدى ذلك إلى اجتماع نفسين فى بدن واحد، وهى النفس المستحقة له لذاته، والنفس المنتقلة إليه من غيره، وهى محال.
الحجة الثانية: أنه لو انتقلت النفس فى بدن إلى بدن آخر؛ لتذكرت ما كان لها من الأحوال حالة كونها فى البدن الآخر؛ ضرورة اتحاد النفس فيها، والأمر بخلافه كما تقدم «4».
________________
(1) الرسخ: هو الانتقال من شخص الانسان إلى جسم جماد.
(11) // أول ل 116/ أ.
(2) انظر الإشارات لابن سينا 3/ 779 وما بعدها وشرح الطوسى لها وانظر النجاة أيضا ص 189. ثم قارنها بما ذكر الآمدي هاهنا وفى غاية المرام ص 278.
(3) ساقط من (أ).
(4) راجع ما مر ل 204/ ب و205/ أ.
(4/290)
________________________________________
ثم قالوا: لا شك أن سعادة كل شيء، ولذته إنما هو بحصول ما له من الكمالات الممكنة له، وذلك كحصول الإبصار للقوة الباصرة، والسمع للقوة السامعة، وكذلك فى كل قوة بحسبها، وكذلك شقاوة كل شيء وتألمه؛ إنما هو بعدم ما له من الكمالات الممكنة له.
فعلى هذا سعادة النفس الناطقة إنما هو فيما يحصل لها [الكمالات الممكنة لها] «1»، وكمالها الخاص بها، وهو مصيرها، عالما عقليا منطبعا فيها صورة المعقولات، وكذلك شقاوتها، وتألبها: إنما هو بانتفاء كمالاتها عنها وعندئذ فالنفس الناطقة بعد مفارقة بدنها إما أن تكون قد استعدت لقبول كمالها أو لم تستعد. فإن كانت قد استعدت لكمالها وتنبهت له ومالت إليه باشراف العقل الفعال عليها؛ فلها أحوال أربعة.
الحالة الأولى: أن تكون قد حصلت شيئا من كمالاتها بالبحث عنه والتفكر فيه «2» وانسلخت عن عالم الضلال، وتركت الاشتغال بالرزائل، والاهتمام بالبدن وعلائقه؛ فقد سعدت وحصلت لها اللذة، والنعيم/ الدائم.
وعلى حسب زيادة حصول الكمال يكون زيادة الالتذاذ. وليس ما يحصل للنفس من اللذة بحصول كمالها، كالتذاذ البهائم، والحيوانات بمطاعمها ومشاربها «3». فإن كان الالتذاذ بالشيء، وزيادته على حسب كمال الملتذ به وبهائه، وقوة الإدراك له، ودوامه.
ولا يخفى أن كمال النفس، بالنسبة إلى سائر كمالات باقى القوى أشرف وأجلّ، وأن إدراك النفس لما تدركه أعظم وأشدّ من إدراك غيرها لكماله من حيث إن إدراك، النفس للماهية بخلاف إدراك غيرها من القوى.
فإذن التذاذها أشد، وسعادتها أكمل. ولا خفاء بأن ما يحصل لها من الالتذاذ بكمالها قبل مفارقة البدن بالنسبة إلى ما يحصل لها بعد مفارقته كنسبة الالتذاذ برائحة المطعوم إلى لذة آكله، وذلك قدر يسير وإنما كان كذلك من حيث إن النفس قبل المفارقة مشغولة بالبدن وعلائقه، والانغماس فى الشهوات والرذائل.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) (و التفكر فيه) ساقط من ب.
(3) قارن بما ذكره ابن سينا فى الإشارات 3/ 749 وما بعدها وبما ذكره الإمام الغزالى فى تهافت الفلاسفة ص 283 وما بعدها وفى معارج القدس ص 127.
(4/291)
________________________________________
وكل ذلك فمضاد ومانع يمنعها من تمام الالتذاذ بحصول كمالها. فإذا زال ذلك المانع، حصلت اللذة التامة، والسعادة الدائمة التى لا يشاكلها شيء من أنواع الملاذ فيكون حالها بالنسبة إلى اللذتين كنسبة اللذة الحاصلة بأكل الشيء الحلو للمريض بالنسبة إلى لذة أكله بعد الصحة، وزوال المانع.
وهذه اللذة العظيمة وإن لم يدركها فى حالة مقارنة البدن على ما هى عليه ولا يتشوقها غاية التشويق؛ لكونها مشغولة بعوائق البدن؛ لكنا نقطع بوجودها فحالنا بالنسبة إليها كحال الأكمه «1» بالنسبة إلى الالتذاذ برؤية الصور الجملية، فإنه يقطع بها وإن لم يكن حاله فى التشوّق إليها كحال من عرفها بالنظر إليها وكحال عنين بالنسبة إلى لذة الجماع؛ لكن هذه اللذة العظيمة إنما هى لمن استكملت نفسه بالعلوم، وحصلت لها كمالاتها فى الدنيا «2»، وكانت متجردة عن الأمور الدنيوية.
الحالة الثانية: أن تكون قد حصلت ما لها من الكمالات فى الدنيا؛ لكنها مع ذلك ظالمة، فاجرة، مشتغلة بالرزائل، والشهوات البهيمية، فبعد المفارقة «11» // وإن حصلت لها اللذة بما لها من كمالها، فما استقر فيها من صور تلك الأمور الدنيوية، يجذبها إلى الملأ الأسفل، وما حصل فى جوهرها من الكمالات، يجذبها إلى الملأ الأعلى، فيحصل لها بسبب هذا التجاذب والتضاد، ألم عظيم؛ لكنه لا يدوم؛ لكون النفس كاملة فى جوهرها وأن تلك الأمور الأخر عارضة، والعارض قد يزول/ على طول الزمان، وعلى حسب رسوخ تلك الهيئات العارضة فى النفس يكون بعد زوال هذا العذاب والألم، وما مثل هذه النفس تسمى المؤمنة الفاسقة «3».
الحالة الثالثة: أن لا تكون النفس قد حصل لها شيء من الكمالات؛ لكنها مع ذلك زكية طاهرة مشتغلة عن الرذائل، والشهوات، بالنسك والعبادات: كأنفس الزهاد والصلحاء من العامة؛ فغير بعيد أن تنتقل نفوسهم بعد المفارقة إلى جرم فلكى يتخيل به صور ما كانت تسمعه فى دار الدنيا من أنواع الملاذ من المأكولات، والمشروبات، والمنكوحات على نحو ما كانت تتخيل بالحواس الباطنة حالة المقارنة.
________________
(1) قارن ما ذكره الآمدي عن الأكمه، والعنين بما ذكره ابن سينا فى الإشارات 3/ 762، والنجاة ص 292. وبما ذكره الغزالى فى معارج القدس ص 126 وما بعدها والمقصد الأسنى ص 26.
(2) قارن بما ورد فى غاية المرام ص 269، وبما ورد فى تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص 283.
(11) // أول ل 116/ ب.
(3) راجع ما ورد فى تهافت الفلاسفة ص 286، ومعارج القدس للإمام الغزالى ص 132، وقارن بما ورد فى غاية المرام ص 270.
(4/292)
________________________________________
وعند ذلك: فتجد من اللذة والنعيم ما لا كانت تجده حالة المقارنة للبدن. وهذا الالتذاذ لا يتقاصر عما يجده النائم من اللذة حالة منامه فإنه قد يتضاعف على ما يجده فى حالة يقظته لقلة الشواغل «1».
الحالة الرابعة: أن لا يكون قد حصل لها شيء من كمالها وهى مع ذلك منغمسة فى الرذائل، منهمكة فى الشهوات البهيمية، بحيث ترسخت فيها صورها، واشتدت القوة النزوعية إليها، فعند مقارنة البدن، وزوال العائق تحس بما فاتها من كمالها، وتتألم بمفارقته فيحصل لها بسبب ذلك، وبسبب ما استقر من هيئات الرذائل الحادثة لها، عذاب وألم عظيم على نحو ما يحصل للنفس الكاملة الذكية من اللذة والنعيم؛ بل أشد عذابا من هذا العذاب من كانت نفسه مع ذلك قد أكبت على اعتقادات فاسدة، وركنت إلى نقيض الحق وجحدت الرأى الصدق، فحالها كحال من يرجح لفساد مزاجه الأشياء الكريهة، على الأشياء المستلذة.
فإذا زال عنه العائق والمانع حصل له التألم بالمستكره، ومفارقة المستلذ؛ بل أسوأ حالا من هذه الحال، حال من كان مع اشتغاله بالرذائل، قد طالع شيئا من المبادئ الموصلة إلى المعلومات النظرية، واشتد شوقه إليها، ثم تركها، واشتغل بما سواها من الرذائل؛ فإن تألمه بعد المفارقة يكون أشد؛ لأن الشوق إلى المعشوق فى حق من عرف مباديه، وتنبه له يكون أشد ممن لم يحصل له ذلك، وحسرته على فواته تكون أعظم.
كمن حصلت له مبادئ شهوة الجماع أو الأكل، ثم منع منه؛ فإن تألمه يكون أشد من تألمه قبل ذلك.
ولا يبعد أن تكون أيضا هذه الأنفس الجاهلة، الفاجرة، بعد المفارقة تتصل ببعض الأجرام الفلكية؛ فتتخيل به صور ما كانت تسمعه من النار والأغلال، وغير ذلك مما كانت تتواعد به على الأفعال القبيحة؛ فيحصل لها بسببه من الألم، والعذاب ما لا يقاس به/ غيره من أنواع العذاب.
هذا كله إن كانت النفس الناطقة قد استعدت لقبول كمالها، وتهيأت له.
________________
(1) انظر: تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ثم قارن بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص 271.
(4/293)
________________________________________
وأما إن لم يكن قد حصل لها ذلك: كانفس الصبيان، والمجانين، وغيرهما من الأنفس الساذجة؛ فهى لا تتألم ولا تلتذ؛ لعدم اشتياقها إلى كمالها، ولعدم استعدادها لقبوله «1».
وإذ أتينا إلى شرح المذاهب فى النفس الناطقة بالبيان الموجز، الشّامل لمعانيها، فلا بد من التنبيه على ما فيها، وما هو المختار منها إن شاء الله- تعالى-.
فنقول: أما من قال من أصحابنا: إنها عرض «2» فهو مطالب بالدّلالة على ذلك.
قوله: كل مخلوق لا يخرج عن كونه جسما، أو عرضا.
فلقائل أن يقول: أولا لا نسلم الحصر، وما المانع أن يكون جوهرا فردا كما قاله الغزالى وغيره «3»؟ أو أن يكون جوهرا غير متحيّز مجردا عن المادّة دون علائق المادة كما قاله الفلاسفة «4»؟ وقد بينا أن إبطال ذلك صعب جدا.
وإن سلمنا الحصر فيما ذكر؛ ولكن ما المانع أن تكون النفس جسما كما قاله الغير؟
قوله: لأن الأجسام متجانسة.
فقد بينا ضعف هذه المقالة فى تجانس الأجسام «5» وأن ذلك مما لا سبيل إلى الدلالة عليه.
وإن سلمنا تجانس الأجسام، ولكن ما المانع أن تكون النفس جسما مع «11» // عرض خاص، يخلقه الله فيه، كما قاله بعض المخالفين كما تقدم «6»؟
فلا يكون جسما فقط، ولا عرضا مجردا.
وإن سلمنا دلالة ما ذكر على أن النفس عرض، غير أنا قد بينا فيما تقدم امتناع بقاء الأعراض، وأنها متجددة «7» فلو كانت النفس عرضا؛ لكانت متجددة غير باقية.
________________
(1) لمزيد من الايضاح ارجع إلى: الإشارات والتنبيهات لابن سينا 3/ 737 وما بعدها، 3/ 777 وما بعدها، وتهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص 282 وما بعدها فمنها يتضح أن الآمدي قد اعتمد عليهما فى العرض، والنقد.
(2) كالإمام الهراسى. انظر عنه ما مر فى هامش ل 201/ ب.
(3) راجع مقالتهم ل 201/ ب.
(4) راجع ما مر ل 201/ ب.
(5) راجع ما سبق فى تجانس الأجسام ل 25/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 117/ أ من النسخة ب.
(6) راجع ما سبق ل 201/ ب
(7) راجع ما تقدم ل 44/ ب وما بعدها.
(4/294)
________________________________________
وعند ذلك: فالأعراض المتجددة من أول حياة الإنسان، إلى مماته: إما أن يكون كل واحد منها نفسا، أو أن النفس واحد منها دون الباقى، أو أن النفس جملتها، أو أنها جملة من جمل تلك الأعداد.
فإن كان الأول: فهو ممتنع لوجهين:
الأول: أنه يلزم من ذلك أن من علم شيئا بالاكتساب والنظر فى حالة أن لا يكون عالما به فى الحالة التى تلى تلك الحالة؛ لفوات ذلك المدرك منه إلا بنظر ثان، وكذلك فى كل حالة متجددة؛ وهو محال خلاف المعقول من أنفسنا.
الثانى: أنه يلزم من ذلك أن من كان كافرا فى بعض الأحوال، ومؤمنا فى بعض الأحوال: أن تكون نفسه المؤمنة غير الكافرة؛ ضرورة التجدد، وأن تخلد نفسه الكافرة فى النار، والمؤمنة فى الجنة، ويكون الشخص الواحد معذبا، منعما باعتبار ما له من النفسين، ولم يقل به قائل.
وإن كان الثانى: فهو ممتنع لوجهين:
الأول: أنه ليس البعض بأن يكون هو النفس منها دون/ الباقى، أولى من العكس؛ ضرورة التماثل.
والثانى: أنه يلزم من ذلك خلو الإنسان عن النفس قبل ذلك الجزء وبعده، وهو المحال.
وإن كان الثالث: فيلزم من ذلك أن لا تكون له نفس قبل بلوغ تلك الجملة؛ وهو أيضا محال، وبمثل هذا يبطل القسم الرابع أيضا.
وأما القول بأن النفس هى المزاج: فهو مبنى على القول بوجود المزاج؛ وقد أبطلناه بالوجوه الكثيرة المتعددة عند الرد على الفلاسفة فيه.
وبتقرير تسليم المزاج جدلا؛ فهو عرض متجدد كما سبق «1».
فلو كان هو النفس: فنحن نعلم أن من لمس شيئا متكيّفا ببعض الكيفيّات الملموسة، أنه يكون مدركا له، والمدرك منه: إما المزاج المتقدم، أو المتجدد بعد اللمس الأول محال؛ لعدم المدرك.
________________
(1) راجع ما مر ل 37/ أ وما بعدها.
(4/295)
________________________________________
والثانى محال؛ لتجدده بعد اللمس.
وربما قيل فى إبطاله وجوه أخرى ضعيفة أبطلناها فى كتاب دقائق الحقائق «1».
والقول بفوات النفس عند فوات ذلك المزاج، لا يدل على كونه هو النفس؛ لجواز أن يكون غيرها وهو ملازم لها ثم إنه كما أن النفس تفوت بفوات المزاج؛ فقد تفوت بفوات واحد من الأخلاط، والأخلاط عند هذا القائل ليست نفسا. ثم لو كان كل ما تفوت النفس بفواته يكون نفسا؛ لكان للشخص الواحد نفوس كثيرة، وهى ما تفوت بها النفس من الأخلاط وصفة الحياة.
وما قيل من أن النفس من جملة القوى الفعالة «2»، فليس أولى من قول القائل أنها المزاج، ثم إن القوى عرض، والنّفس لا تكون عرضا؛ لما تقدّم فى المزاج، وبه يبطل القول بأنّ النّفس هى الحياة.
والقول بأنّها الشّكل الخاص، والتخّطيط باطل بما بعد الموت، فإنّ النّفس مفارقة للبدن بالإجماع مع بقاء الشكل الخاص، والتخطيط.
والقول بأن النّفس هى الجثّة الخاصة المركبة من الجواهر والأعراض، القائمة بها؛ فيلزم به أن تكون الأعراض القائمة بها مأخوذة فى حقيقة النفس ووجودها والأعراض متجددة؛ فتكون النفس متجددة؛ ويلزم عليه المحالات السّابقة «3».
والقول بأن النفس جسم مركب من العناصر فى داخل هذه الجثة الخاصة؛ فليس أولى من غيره من الأقوال «4».
قولهم: بأن النفس مدركة للمركبات، وإنما يدرك الشيء بشيء يشبهه، فيلزم أن لا تكون النفس مدركة لما تركب من العناصر، وطبيعته مخالفة لطبيعتها فى التركيب وأن لا تكون نفس الإنسان مدركة للفرس، والحمار، ونحوه من أنواع المركبات فإنها وإن شابهتها فى كونها مركبة من العناصر عند هذا القائل، فغير شبيهة لها فى نفس التأليف والمزاج.
________________
(1) راجع مؤلفات الإمام الآمدي فى قسم الدراسة ص 94 - 98 ففيه معلومات وافية عن كتاب دقائق الحقائق.
(مكتبة كلية أصول الدين).
(2) راجع ما مر ل 201/ ب.
(3) راجع ما مر ل 44/ ب.
(4) راجع ما مر ل 201/ ب.
(4/296)
________________________________________
وإلا كان/ فى تأليف النفس الإنسانية جميع أمزجة هذه الأنواع، وهو محال، ويلزم منه أيضا أن يكون كل جسم من الأجسام المدركة، مدركا لما هو من نوعه غير مدركة لما هو مخالف له فى نوعه، وأن لا تكون قوة واحدة تدرك الأضداد؛ بل كان يجب أن البصر إذا أدرك البياض «11» // مثلا أن يدركه بجزء من البصر أبيضا، وكذلك فى السواد ونحوه تحقيقا للمشابهة، وكان يجب أن يكون البصر مستعدا بأجزاء غير متناهية الألوان، والأشكال؛ لإدراك الألوان، والأشكال المختلفة؛ وهو محال.
والقول بأن النفس هى الأخلاط الأربعة، مع التناسب المخصوص فيما بينها على ما ذكر، فليس هو أيضا أولى من غيره من الأقوال.
وما قيل بأنه لا بقاء للنفس مع اختلال هذه الأمور فقد سبق إبطاله «1».
والقول بأن النفس هى الدم «2» ممنوع.
قولهم: إن الدم أشرف أخلاط البدن.
لا يدل على أنه النفس؛ بل جاز أن تكون النفس غير الدم، وأشرف من الدم.
قولهم: إن النفس تبطل عند سفح الدم.
قلنا: وكذلك عند زوال غيره من الأخلاط، وليست أنفسا عند هذا القائل.
والقول بأن النفس عنصر من العناصر، ممنوع «3».
وما قيل من أن المدرك للشيء، يجب أن يكون من عنصر، والنفس مدركة للعناصر؛ فيلزم أن لا تكون النفس إذا كانت عنصرا أن تدرك ما ليس بعنصرى- كإدراكنا أنه. لا واسطة بين النفى، والإثبات، أو أن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية؛ وهو محال، ثم إنه ليس القول بأنها بعض العناصر المعينة أولى من غيره، والقول بأنها عنصر النار، غير مسلم «4».
________________
(11) // أول ل 113 ب
(1) راجع ما مر ل 208/ أ.
(2) راجع ما مر ل 202/ أ.
(3) راجع ما مر ل 202/ أ.
(4) راجع ما مر ل 202/ أ.
(4/297)
________________________________________
قولهم: لأن خاصية النار الحركة، والإشراق، وذلك متحقق فى النفس فغايته الاشتراك فى هذه الصفات ولا يمتنع اشتراك المختلفات فى عارض واحد، وبما ذكرنا هاهنا تبطل الدلالة على ما قيل: إن النفس هى الهواء المستنشق، أو الماء.
والقول بأن النفس هى الروح «1» على ما ذكره الأطباء؛ فليس أولى من غيره من الأقوال.
قولهم: إنها منبع الحياة، والنفس، والنبض [إن أرادوا به أنها سبب للحياة والنفس والنبض] «2»؛ فممنوع وغايته الملازمة بينهما، وليس فى ذلك ما يدل على أن الروح هى النفس الانسانية.
وبتقدير تسليم كونها سببا لما ذكر، فليس فيه أيضا دلالة على أن الروح هى النفس؛ بل أمكن أن تكون النفس غير الروح كما قاله الغير.
وبهذا يبطل القول بأنها الروح الكائنة فى الدماغ أيضا.
[و القول بأن النفس هى الأجسام الأصلية فى كل بدن، فليس أولى من غيره من الأقوال ولا يخفى أن الدلالة على ذلك صعب جدا] «3».
والقول بأن النفس جوهر فرد «4»، كما ذهب إليه/ الإمام الغزالى، وغيره فلا يخفى أن الجواهر على أصله متماثلة.
فلو جاز أن يكون بعض الجواهر الفردة نفسا إنسانية؛ لجاز ذلك فى غيره من الجواهر، ثم ليس اختصاص بعض الجواهر بأنه النفس، أولى من غيره؛ ضرورة التماثل.
وأما مذهب الفلاسفة: فمبنى على وجود جوهر غير متحيز، وهو ممنوع على ما تقدم فى الجواهر «5».
قولهم: كل واحد من أشخاص الناس فيه شيء به إدراك المعقولات البسيطة «6».
مسلم.
________________
(1) راجع ما مر ل 202/ أ.
(2) ساقط من أ.
(3) ساقط من أ.
(4) راجع عن هذا القول ما سبق ل 201/ ب.
(5) راجع ما تقدم ل 2/ أ وما بعدها.
(6) الرد على الشبهة الأولى للفلاسفة ومن وافقهم- الواردة فى ل 202/ أ.
(4/298)
________________________________________
قولهم: يمتنع أن يكون المدرك لذلك جسما، أو ما هو قائم بالجسم. ممنوع.
قولهم: لأنه يلزم أن يكون متجزئا.
لا نسلم ذلك. وما ذكروه فمبنى على أن المعلوم لا بد وأن يكون منطبعا فى المدرك وحالا فيه، وهو غير مسلم على ما سبق فى الصفات «1».
وإن سلمنا أن العلم لا يكون إلا بانطباع صورة المعلوم فى المدرك؛ ولكن لا نسلم أن انطباع ما لا يتجزأ فيما يتجزأ يكون موجبا لتجزؤ المنطبع «2».
وما ذكروه فى تقريره، فهو منتقض على أصلهم؛ بالإضافة فإنها عرض موجود قائم بالجسم: كقيام الأبوة بذات الأب، والبنوة بذات الابن. وذات الأب، وذات الابن متجزئة؛ لكونها جسما، ونفس الإضافة وهى الأبوة غير متجزئة؛ لتجزأ محلها؛ فإنه لا يصح أن يقال إن الأبوة ذات أبعاض وكل بعض منها قائم ببعض من ذات الأب، وكذلك فى البنوة بالنسبة إلى ذات الابن.
وكذلك فإن القوة الوهمية عندهم من القوى الجسمانية، وهى مدركة من الصورة المحسوسة للذئب المعنى الموجب لنفرتها «3» عن الذئب؛ وهو غير محسوس، ولا متجزئ وانطباعه عندهم فيما هو متجزئ.
وإن سلمنا امتناع انطباع ما لا يتجزأ فيما يتجزأ. فما المانع أن يكون الانطباع فى جزء من «11» // الجسم؟.
قولهم: كل جزء من الجسم متجزئ، إلى غير النهاية فقد أبطلناه فيما تقدم.
قولهم: إنا نتعقل صورا مجردة عن الأوضاع، والمقادير إلى آخر الحجة «4»؛ فهو مبنى على أن المدرك محل للشيء المدرك، وليس كذلك كما تقدم تحقيقه «5».
وإن سلمنا أنه محل له فما ذكروه إنما يستقيم بعد صحة الحصر فى الأقسام الثلاثة وما المانع من وجود قسم رابع وهو مما لا سبيل إلى الدلالة على نفيه؟
________________
(1) راجع ما تقدم ل 3/ ب من الجزء الأول.
(2) راجع ما سبق ل 3/ ب من الجزء الأول.
(3) قارن بما ورد فى النجاة لابن سينا ص 159 وما بعدها، ورسالة ابن سينا فى القوة الإنسانية ضمن تسع رسائل ص 6 وما بعدها.
(11) // أول ل 118/ أ من النسخة ب.
(4) راجع ما تقدم ل 202/ ب.
(5) راجع ما تقدم ل 202/ ب. وفيه الرد على الشبهة الثانية للفلاسفة. [الحجة الثانية].
(4/299)
________________________________________
وإن سلمنا الحصر فيما ذكروه؛ ولكن ما المانع أن يكون تجرد ذلك المعنى المعقول عن الوضع والمقدار، لا لذاته ولا لذات ما أخذ عنه، بل لذات الأخذ/، ولا يلزم من كون الأخذ هو الموجب لتجريد الصورة المعقولة عن الوضع والمقدار، أن يكون هو متجردا فى نفسه عن ذلك.
قولهم: لو كانت النفس مدركة بآلة جرمانيّة لما أدركت نفسها، ولا آلتها كما فى الحواس الخمس؛ فهو تمثيل من غير دليل جامع «1».
قولهم: إنّ إدراكها لآلتها: إمّا بآلة، أو لا بآلة.
ما المانع أن يكون ذلك بآلة؟
قولهم؛ إما أن يكون بعين تلك الآلة، أو بغيرها.
ما المانع أن تكون بعين تلك الآلة؟
قولهم: إما أن يكون ذلك لوجود صورة آلتها تلك فى آلتها، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها.
فهو مبنى على القول بأن الإدراك لا يكون إلا بجهة حلول المدرك فى المدرك؛ وهو باطل بما سبق «2».
قولهم: لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة؛ للزم كلالها عند المواظبة على الإدراك كما فى الحواس؛ فهو تمثيل من غير دليل جامع «3».
ثم ما المانع أن تكون القوّة المدركة النّفسانية مع كونها مدركة بآلة جرمانيّة أقوى، وأثبت من القوى المدركة الحساسة؛ فلذلك لا تكل، وإن كلت الحواس.
وبه يبطل ما ذكروه من الشبهة الخامسة، والسادسة، والسابعة أيضا «4».
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 39/ أ وما بعدها (و فيه الرد على الشبهة الثالثة).
(2) راجع ما تقدم فى الجزء الأول ل 99/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما مر في الجزء الأول- القاعدة الثالثة: الدليل الثالث ل 39/ أ وما بعدها. وفيه الرد على الشبهة الرابعة للفلاسفة الواردة فى ل 203/ أ.
(4) راجع ما مر ل 203/ أ.
(4/300)
________________________________________
قولهم: لو كانت داركة بآلة جرمانيّة؛ لأمكن أن يكون البعض من تلك الآلة مدركا لشيء، والبعض الآخر غير مدرك له «1»، فيكون الشخص الواحد عالما بشيء، وجاهلا به عنه جوابان:
الأول: أن مثل هذا على أصولنا غير ممتنع.
الثانى: أن ما ألزموه فى التعقل لازم عليهم فى القوى الجسمانية: كالشهوة والغضب، وكل ما هو جواب لهم فيها؛ فهو جواب لنا فى محل النزاع.
قولهم: لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة؛ لما كانت مدركة للمتضادات «2».
عنه جوابان:
الأول: أن ما ذكروه مبنى على أنّ التّعقل إنّما يكون بالحلول، والانطباع، وهو ممتنع؛ لما سبق.
الثانى: أنّ ما ذكروه لازم عليهم عند كون النفس ليست جسما، وما ذكروه فى الجواب عنه؛ فهو الجواب فيما نحن فيه.
قولهم: إن قوى النفس الإنسانية غير متناهية، ولو كانت مدركة بآلة جرمانيّة؛ لكانت متناهية «3».
فمندفع؛ إذ لا معنى لكون قوة النفس الإنسانيّة غير متناهية غير صلاحيتها لإدراك ما لا يتناهى من الصّور المعقولة صورة بعد صورة ومعقول بعد معقول، ومثل ذلك متحقق فى القوة الخالية «4» والقوى الحساسة الجسمانية، وما لزم من ذلك فى القوى الخيالية «4» والحواس الظاهرة أن لا تكون مدركة/ بآلة جرمانيّة، فكذلك فى النفس.
قولهم: إن الأجسام وقواها فاعلة منفعلة، والنفس فاعلة غير منفعلة كما قرروه «5» غير صحيح؛ إذ أمكن أن يقال إن القوى الجسمانية فاعلة بإدراكها غير منفعلة فى نفسها؛ بل المنفعل: إنما هو هيولاها، وكذلك فى القوى النفسية.
________________
(1) الرد على الشبهة الثامنة [الحجة الثامنة للفلاسفة الواردة فى ل 203/ أ]
(2) الرد على الشبهة التاسعة [الحجة التاسعة للفلاسفة الواردة فى ل 203/ أ].
(3) الرد على الشبهة العاشرة للفلاسفة [الحجة العاشرة الواردة فى ل 203/ أ].
(4) من أول: (و القوى الحساسة الجسمانية وما لزم من ذلك فى القوى الخيالية) ساقط من ب.
(5) راجع الحجة الحادية عشرة ل 203/ ب [الرد على الشبهة الحادية عشر].
(4/301)
________________________________________
قولهم: إن الأجسام وقواها إنما تتخلص عما يؤذيها بالهرب عنه، والحركة المكانية بخلاف القوى العاقلة «1»؛ فهو باطل؛ فإنه إن ادعى ذلك فى كل قوة جسمانية؛ فهو عين المصادرة على المطلوب، وإن ادعى ذلك فى بعض الأجسام وقواها؛ فهو غير مفيد للمطلوب، وبهذا يبطل ما ذكروه من الشبهة الثالثة عشرة «2».
قولهم: إن كل واحد يعلم من نفسه علما ضروريا أنه الّذي كان من حين ولادته مع علمه بتبدل أجزائه الجسمية «3».
قلنا: أما الأول: فمسلم.
وأما الثانى: فممنوع. وما المانع أن يقال بأن كل إنسان مشتمل على أجزاء أصلية لا يتصور عليها التبدل والتغير، من أول الحياة إلى آخرها كما سبق «4»؟
وتلك الأجزاء جسم لطيف مشابك للبدن كما ذكره الأطباء، والقاضى أبو بكر «5».
قولهم: القوى الجسمانية التى هى مصدر الأفعال المختلفة لا بد لها من جامع يجمعها، ويتصرف «11» // فيها، وذلك هو النفس. مسلم.
ولكن لا نسلم أن ذلك الجامع الحاكم لا يكون جسما، وما المانع أن يكون جسما لطيفا فى داخل هذه الجثة، وإن لم يكن شيئا من أجزاء الجثة؟. ولا دليل لهم على إبطال ذلك «6».
وعلى هذا فلا سبيل إلى القطع «7» فى شيء مما قيل من المذاهب فى حقيقة النفس الإنسانية المدركة العاقلة، وإن كان الحق غير خارج عنها فعليك بالاجتهاد فى تعيينه، وإظهاره.
هذا ما عندى فى ذلك. لعل عند غيرى غيره.
________________
(1) راجع الحجة الثانية عشرة ل 203/ ب [الرد على الشبهة الثانية عشر].
(2) راجع ما مر ل 203/ ب.
(3) راجع الحجة الرابعة عشرة ل 203/ ب [الرد على الشبهة الرابعة عشر].
(4) راجع ما مر ل 202/ أ.
(5) راجع رأى الأطباء والقاضى أبى بكر ل 202/ أ.
(11) // أول ل 118/ ب.
(6) راجع ما مر ل 203/ ب الحجة الخامسة عشرة للفلاسفة. [الرد على الشبهة الخامسة عشرة].
(7) بعد هذه المناقشة العميقة للآراء المختلفة فى حقيقة النفس الإنسانية المدركة العاقلة. قرر الآمدي بأنه لا سبيل إلى القطع فى شيء منها. ثم قرر أن الحقّ غير خارج عنها، وطلب من طلاب العلم الاجتهاد فى تعيينه واظهاره والاستدلال عليه بالحجج القاطعة. والبراهين الساطعة. ولأنه من طلاب الحق؛ فلا يقلقه أن يظهر الحق على يد غيره فيقول «هذا ما عندى فى ذلك، ولعل عند غيرى غيره» رحمه الله. آمين.
(4/302)
________________________________________
وإذ أتينا على ما أردناه من إيراد المذاهب فى حقيقة النفس وتتبعها؛ فلا بد من الإشارة إلى إبطال ما قيل من التفريعات على كون النفس جوهرا بسيطا، وتتبعها كالجارى من عادتنا.
أما التفريع الأول «1»: فى القدم، والحدوث.
[الرد على القائلين بقدم النفس]
فنقول: أما من قال بقدم النفس «2»؛ فلا بد له من دليل.
قولهم فى الحجة الأولى «3»: لو كانت حادثة فالفاعل لها إما قديم، أو حادث.
ما المانع أن يكون قديما.
قولهم: يلزم أن تكون قديمة لقدمه؛ فهو مبنى على القول بأن الموجب، موجب بالذات؛ وهو باطل بما سبق.
وبتقدير أن يكون الموجب موجبا بالذات جدلا؛ فلا نسلم أنه يلزم من قدمه قدم معلوله.
وما المانع على أصلهم من توقف فعل الفاعل بذاته، وتأثيره فى معلوله على تهيئ القابل/ للمعلول: استعداده له، كما قالوه فى الصّور الجوهرية العنصرية فإنها وإن كانت معلولة لجوهر قديم هو العقل الفعّال، وأنه فاعل لها بذاته، فليست قديمة بقدمه؛ لتوقّف تأثيره فيها على تهيئ القابل لها على أصولهم.
فلئن قالوا: ذلك إنّما يتصوّر فيما يكون وجوده وجودا ماديا، والنفس ليست كذلك؛ فهو مبنى على اعتقادهم كون النفس غير ماديّة، وكل ما يذكرونه فى الدّلالة على ذلك فقد أبطلناه «4».
وإن سلمنا أن النفس ليست مادّية، ولكن بمعنى أنّها ليست موجودة فى المادة، أو بمعنى أنّها غير متعلقة الوجود بوجود المادة.
الأول مسلم، والثانى ممنوع.
________________
(1) راجع ما مر ل 203/ ب.
(2) الرد على أفلاطون ومن تابعه.
(3) الرد على الشبهة الأولى من شبه أفلاطون ومتابعيه. (راجع ل 204/ أ الحجة الأولى).
(4) راجع ما مر ل 208/ ب.
(4/303)
________________________________________
وعلى هذا: فما لم تكن المادة موجودة؛ فلا وجود للنفس وإن كان الفاعل لها بذاته موجودا.
وعلى هذا: فما ذكروه من لزوم قدم النفس، لقدم علتها: إنما يصح أن لو لم تكن النفس متعلقة بالمادة، وإنما لا تكون متعلقة بالمادة؛ أن لو لزم قدمها، لقدم علتها؛ وهو دور ممتنع وعلى ما حققناه هاهنا؛ فلا يخفى الوجه فى إبطال الحجة الثانية على قدم النفس أيضا «1».
[الرد على القائلين بحدوث النفس ومناقشة حججهم]
وأما القول بحدوث النفس «2»، وإن كان قولا حقا، غير أنه لا بد من تتبع حجج قائليه.
أما الحجة الأولى: فهى باطلة «3»؛ أما أولا فلا نسلم أن النفوس الإنسانية من نوع واحد، وما المانع أن تكون مختلفة بالنوعية؟ وسيأتى إبطال كل ما يذكرونه على ذلك «4».
وإن سلمنا اتحاد نوعيتها، فما المانع من قدمها على قولهم: بجواز قدم الممكنات؟.
قولهم: لأنها إما أن تكون متحدة، أو متكثرة. مسلم.
ولكن ما المانع من اتحادها.
قولهم: لأنه يلزم منه اشتراك جميع الأشخاص فيما علمه الواحد، أو جهله إنما يلزم أن لو لم تكن نسبة النفس إلى بدن كل شخص شرطا فى شعوره فلم قالوا بعدم هذا الاشتراط؟
وإن سلمنا امتناع اتحادها، فما المانع من تكثرها؟
قولهم: لأن تكثير المتحد بالنوع يستدعى ما به يقع التمايز: مسلم؛ ولكن لم قالوا بامتناعه؟
قولهم: لأن التمايز إما أن يكون [بين الأنفس لذواتها] «5»، أو لأمر خارج.
________________
(1) الرد على الشبهة الثانية لأفلاطون ومتابعيه. (راجع ل 204/ أ الحجة الثانية).
(2) الرد على شبه أرسطو ومن تبعه:
(3) الرد على الشبهة الأولى لأرسطو ومن تبعه. (راجع ل 204/ أ الحجة الأولى).
(4) انظر ما سيأتى ل 212/ أو ما بعدها.
(5) ساقط من (أ).
(4/304)
________________________________________
قلنا: ما المانع أن يكون لازما لها لأمر خارج؟
قولهم: لأن ذلك إنما يكون بسبب المادة، ولا مادة قبل وجود الأبدان إنما يصح ذلك؛ إذا لم يكن الموجب لتخصيص كل نفس بعارضها فاعلا مختارا.
وما المانع منه على ما سبق تحقيقه «1»؟
وإن سلمنا أن ذلك لا يكون إلا سبب المادة ولكن ما المانع من ذلك؟
قولهم: لأنه لا مادة قبل وجود الأبدان [إنما يصح أن لو تصور خلو النفس عن البدن] «2»، وما المانع على أصولهم أن تكون النفس قديمة، والأبدان لم تزل تتناسخها من الأزل/ إلى الأبد، وما يذكرونه فى إبطال التناسخ على أصولهم فسيأتى إبطاله «3».
«11» // وإن سلمنا امتناع التناسخ، وأن الأبدان حادثة لها أول؛ ولكن يلزم على ما ذكروه امتناع التعدد فى أشخاص العنصر الواحد؛ وهو محال مخالف للحسّ، والعيان.
وبيان اللزوم أن يقال: لو تعددت أشخاص العنصر الواحد؛ فلا بد من تمايزها.
وما به التمايز: إما أن يكون لازما لذات العنصر، أو لعارض خارج، الأول محال؛ لما ذكروه «4».
والثانى يلزم منه أن يكون ذلك بسبب المادة، والمادة إما مادة العنصر أو غيرها، الأول محال؛ ضرورة اتحاد نوعها، والثانى يلزم منه أن تكون المادة مادة؛ وهو تسلسل محال.
وأما الحجة الثانية «5»: فمبنية على القول بأن الطبيعة لها فعل، وهو ممتنع على ما سبق «6»، وبتقدير التسليم لذلك جدلا، فلا نسلم أنه لا شيء من فعل الطبيعة معطلا.
وإن سلمنا أنه لا شيء من فعل الطبيعة معطلا؛ ولكن دائما، أو فى بعض الأوقات، الأول ممنوع، والثانى مسلم.
________________
(1) راجع ما مر ل 218/ أ وما بعدها.
(2) ساقط من (أ).
(3) انظر ما سيأتى ل 214/ ب.
(11) // أول ل 119/ أ.
(4) راجع ما مر ل 204/ ب وما بعدها.
(5) الرد على الشبهة الثانية لأرسطو ومتابعيه. (راجع ل 204/ ب الحجة الثانية).
(6) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 220/ ب وما بعدها فى الرد على الطبيعيين.
(4/305)
________________________________________
وعلى هذا تفعل الطبيعة للنفس قبل وجود البدن، وإن كان معطلا؛ فلا يكون معطلا بتقدير المقارنة للبدن،
وإن سلمنا امتناع تعطيل فعل الطبيعة دائما؛ ولكن إنما يلزم ذلك أن لو خلت النفس عن البدن، وذلك مبنى على امتناع التناسخ على أصولهم؛ وسيأتى إبطاله.
ثم يلزم على من قال منهم ببقاء أنفس الأطفال بعد المفارقة أن لا يبقى؛ لأنها تكون معطلة عن الإدراك والتحريك الجسمانى كما ذكروه.
وأما الحجة الثالثة: فباطلة أيضا «1»؛ إذ ليس يمتنع أن يقال إن ما وجدنا النفس عليه من الحال عند ابتداء وجود البدن هو حالها، وكمالها فى العدم قبل حدوث البدن، وما يتجدد لها من الأحوال، والانتقالات وأنواع التغيرات: فإنما هو لها بسبب البدن.
وأما التفريع الثانى: فى وحدة النفس الإنسانية وتكثرها.
فنقول-[أما] «2» حجة من قال بوحدتها: فمبنية على القول بقدمها، وامتناع تكثرها قبل وجود الأبدان، وقد أبطلناه «3».
وأما القول بتكثرها وإن كان هو الحق: غير أن بناء ذلك على ما قيل من الحجة وهو فاسد بما أسلفناه «4» من جواز أن يكون ما اختص به كل واحد من أشخاص الناس من العلم، والجهل، وغيره مما قيل مشروطا باتصال تلك النفس المتحدة ببدنه.
وعلى هذا: فقد بطل التفريع على ذلك بأنها متكثرة بالنوع والشخص، وبتقدير التسليم لأصل التكثر؛ فلا بد من تتبع حجج المذهبين.
أما الحجة على القول بتكثرها بالنوع ففاسدة؛/ فإنه لا مانع من أن يكون اختلاف النفوس فيما فرض من الأحوال المذكورة لتخصيصها بها مستندا ذلك إلى فعل فاعل مختار كما سبق تحقيقه «5».
وبتقدير أن لا يكون المخصص لها بذلك فاعلا مختارا، فلا مانع أن يكون ذلك، بسبب اختلاف أمزجة أبدانها، لا لاختلافها فى جوهرها.
________________
(1) الرد على الشبهة الثالثة لأرسطو ومتابعيه. (راجع ل 204/ ب الحجة الثالثة).
(2) ساقط من (أ).
(3) راجع ما مر فى ل 211/ أ.
(4) راجع ما مر فى ل 205/ أ.
(5) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 211/ ب وما بعدها.
(4/306)
________________________________________
وليس ذلك إلا كما قيل من نسبة اختلاف أحوال النار فى لهبها فى الكمية والكيفية وطول الزمان، وقصره إلى المواد التى فيها الاشتعال من الحطب، والقصب واللطيف والكثيف مع اتحاد جوهر النار وصورتها النوعية، وكذلك اختلاف الألوان الحادثة بسبب مطرح شعاع الشمس على ما قبلها من الزجاجات المختلفة الألوان، بسبب اختلاف الزجاجات المقابلة، وإن كان الشعاع المتصل بها واحدا فى نوعه.
وهذه الأحوال وإن كان منها ما قد يعرض للبدن بآليته للنفس، وبسبب عوارض النفس كما قيل، إلا أنها غير مستعينة فى عروض ذلك العارض لها عن البدن ومزاجه ويكون البدن معينا فى عروض ذلك العارض لها، أولا بالفعل، ويكون على حسب مزاج ذلك البدن، وحاله، حتى أنه لو كان على مزاج غير ذلك المزاج، لم يعرض لها إلا ما عرض، وتكون هى بعد ذلك متعينة، وسببا لعروض ما يعرض للبدن ثانيا.
كيف لا يكون كذلك، واختلاف ما قيل من أحوال الأنفس للأشخاص المتعددة لا يزيد على اختلاف حال النفس الواحدة لبدن واحد، حتى أنها تكون تارة عالمة، وتارة جاهلة، وتارة قوية، وتارة ضعيفة إلى غير ذلك من الاختلافات الكائنة من الأنفس المتعددة، فلو كان ذلك يدل «11» // على اختلاف الأنفس فى جوهريتها، ونوعيتها عند تعددها بتعدد الأشخاص؛ لدل على اختلافها بالجوهرية مع اتحاد الشخص؛ وللزم من ذلك إما اجتماع نفسين فى بدن واحد؛ وهو محال على ما تقدم «1».
أو أن يكون ما كان العارض الأول لها قد فسدت، ولم يقولوا بذلك. وإذا لم يلزم من اختلاف هذه الأحوال اختلاف جوهرية النفس مع اتحاد الشخص، لم يلزم مع تعدد الاشخاص.
وعلى هذا: إذا كانت على خلق عند كون بدنها على مزاج مخصوص، ثم انتقل عنه إلى مزاج آخر يضاد الأول: كالانتقال من الصحة إلى المرض، والحرارة إلى البرودة، والرطوبة إلى اليبوسة، وبالعكس، فقد لا يبقى خلق النفس على حالة واحدة، بل ينتقل إلى خلق/ آخر مضاد للأول، وهذا كما نشاهده من تبدل الخلق السيئ بالحسن، والبخل بالكرم، والعلم بالجهل، وبالعكس فى الكل عند اختلاف أمزجة الأبدان، وانتقالها من
________________
(11) // أول ل 119/ ب.
(1) راجع ما مر ل 205/ أ.
(4/307)
________________________________________
المرض إلى الصحة، وبالعكس إلا أنه ربما لا يؤثر على أى انتقال قدر، وأى اختلاف اتفق، حتى يكون اختلاف خلق النفس تابعا لاختلاف مزاج البدن مهما كان ووقع؛ بل يكون ذلك متوقعا على حد محدود، واختلاف معين فى المزاج البدنى عند الطبيعة على نحو ما قالوه فى كون الصور العنصرية، وفسادها عند استحالة عوارض موادها، وانتقالها من حالة إلى حالة، نعم لا يبعد أن تكون الطبيعة قد اقتضت وضع البدن، أو بعضه على مزاج مخصوص قابل للنفس من حيث هى نفس إنسانية، أو غيرها، ويكون اقتضى ذلك مع اقتضاء كون النفس، أو قبله حتى لو فسد، أو تغير عن ذلك الحد المحدود الّذي يتوقف عليه اتصال النفس بالبدن؛ لفارقت النفس البدن، وما مثل هذا المزاج لا يتصور أن يخالف فيه بدن بدنا من الأبدان الإنسانية.
وأما ما وراء ذلك من الامتزاجات التى تتوقف عليها العوارض النفسية الخارجة عن جوهرية النفس فمما لا يبعد تبدلها، والقول بانتقالها من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن.
وعلى هذا فما احتجوا به من أقوال أسلافهم من أن الأنواع المختلفة ذوات النفوس إنما اختلفت أمزجتها، وأشكالها؛ لاختلاف طبائعها فى أنفسها؛ فقول غير موثوق به، ولا هو حجة فى نفسه.
وبتقدير أن يكون حجة؛ فيجب حمله على الأمزجة التى بها قبول البدن للنفس من حيث هى نفس مخصوصة، إما نفس إنسان، أو فرس لا على غيرها من الأمزجة.
وأما قول أرسطو فى الحرية فليس بحجة.
وإن كان حجة؛ فلا يمتنع أن يكون المراد من قوله الحرية ملكة نفسانية، ومن قوله إن الحرية طباع أول جوهرى- أن ذلك من توابع النفس مشروطا بمزاج البدن؛ وذلك لا يلزم منه عموم الحرية لكل إنسان، وإن اتحدت طبيعة أنفسهم.
وأما الحجة على القول باتحاد نوع الأنفس الإنسانية، فمبنية على اشتراك الأنفس فى أصل القوة العملية والنظرية، وإنما يلزم؛ أن لو كان اشتراكها فى هذه القوى لذاتها.
وما المانع أن يكون ذلك لها من فاعل مختار؟
وبتقدير أن تكون تلك القوى من لوازم ذاتها؛ فلا مانع من اشتراك المختلفات فى لازم عام لها.
(4/308)
________________________________________
وأما حجج التفريع الثالث: وهو أن النفس هل تفوت بفوات البدن أم لا؟ فمدخولة.
أما الحجة الأولى: على امتناع/ بقائها: فمبنية على امتناع وجود النفس قبل وجود بدنها، وقد سبق إبطال حججهم على ذلك «1»، وبتقدير امتناع سبق النفس على البدن فى الوجود، فالقول بامتناع وجودها بعد مفارقتها لبدنها؛ لامتناع وجودها [قبله تمثيل من غير دليل وما هو المساعد فى امتناع وجودها] «2» قبل وجود البدن غير متحقق بعد المفارقة وذلك لأن امتناع وجودها قبل البدن إنما كان عندهم؛ لاستحالة وجودها متحدة ومتكثرة على ما قرروه «3»؛ وهو غير مساعد بعد المفارقة إذ أمكن القول بتكثرها، بسبب نسبتها إلى ما كان لها من أبدانها؛ وذلك غير متحقق قبل وجود الأبدان؛ فافترقا.
«11» // وأما الحجة الثانية: فمبنية على أن النفس من فعل الطبيعة، وأن وجود النفس قبل البدن يكون معطلا، وقد سبق إبطاله «4».
وأما حجة القول بالتفصيل؛ وهو القول ببقاء الأنفس الكاملة دون غيرها؛ ففاسدة أيضا.
قولهم: لأن أفعال النفس منها ما يكون بالبدن والآلة، ومنها ما يكون للنفس لذاتها؛ فهو باطل.
أما القسم الأول؛ فلأنه مبنى على أن النفس فى بعض أفعالها تفتقر إلى آلة وبنية مخصوصة، وأما الثانى فمبنى على أن النفس قد تعقل بذاتها، وقد أبطلناهما، وبينا أن كل الأفعال للأنفس وغيرها ليس إلا عن فاعل قديم مختار كما سبق «5».
وبتقدير التسليم لما ذكروه من القسمين، غير أنه يمتنع القول بوجوب عدم النفس إذا لم يكن قد تكملت بالعلوم ولا بقيت فاعلة بالآلة؛ إذ هو مبنى على امتناع وجود النفس معطلة عن الأفعال، وقد أبطلناه فيما تقدم.
وأما حجج القول بوجوب بقاء النفس بعد المفارقة مطلقا، فمدخولة أيضا.
________________
(1) انظر ما مر ل 204/ أ.
(2) ساقط من أ.
(3) قارن بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص 273.
(11) // أول ل 120/ أ.
(4) قارن بما ورد فى غاية المرام ص 243.
(5) راجع ما مر ل 210/ أ.
(4/309)
________________________________________
أما الحجة الأولى القائلة بأن ما انعدم بعد وجوده إما أن يكون انعدامه لعدم علته، الفاعلة له؛ أو لوجود مضاد يعدمه- فباطلة.
أما أولا: فلا نسلم الحصر، وما المانع أن يكون انعدامه فى الحال الثانى من وجوده لذاته كما تقرر فى الأعراض؟، وبتقدير تسليم امتناع عدم ما وجد لذاته، فما المانع أن يكون انعدامه لفاعل مختار أعدمه، أو لفوات شرط بقائه، وانقطاع وجود ما لا بد لوجوده منه بأن لا يخلقه الله- تعالى- كما سبق فى الفناء «1».
وإن سلمنا الحصر فى القسمين، ولكن ما المانع من عدم النفس على أصولهم لعدم علتها؟
قولهم: لأن علتها العقل الفعال، وهو غير قابل للفساد.
قلنا: لا نسلم وجود العقل الفعال فضلا عن كونه علة كما سبق تحقيقه.
وإن سلمنا وجوده؛ فلا نسلم أنه العلة للنفوس الإنسانية.
وإن سلمنا أنه/ علة النفوس الإنسانية؛ فلا نسلم أنه غير قابل للفساد، بل النزاع فيه كالنزاع فى النفس.
وإن سلمنا امتناع انعدامها لانعدام علتها؛ فما المانع أن يكون ذلك بسبب وجود مضاد لها؟
وأما قولهم: لأن ذلك إنما يتصور مع قيام الضدين «2» بموضوع واحد، أو محل واحد لا نسلم ذلك وما المانع أن يكون ضدا لها، بمعنى أنه يمتنع وجودها مع وجوده وإن لم يجتمعا فى موضوع ولا محل، وهو أعم من كونه ضدا مانعا فى المحل.
وإن سلمنا أن ذلك لا يكون إلا كما ذكروه، ولكن لا نسلم أن النفس ليست موجودة فى موضوع، وإنما لا يكون فى موضوع أن لو كانت جوهرا، ودليله غير يقينى.
وإن سلمنا امتناع وجودها فى موضوع؛ فلا نسلم امتناع وجودها فى محل. وما المانع من قيامها بالمحل على نحو قيام الصور الجوهرية بموادها؟ وما ذكروه فى إحالة ذلك فقد أبطلناه.
________________
(1) انظر ما مر فى الأصل الخامس: فى فناء الجواهر والأعراض ل 103/ أو ما بعدها.
(2) الضدان: صفتان وجوديتان تتعاقبان فى موضع واحد، يستحيل اجتماعهما: كالسواد، والبياض. والفرق بين الضدين، والنقيضين: أن النقيضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان: كالعدم، والوجود. والضدين: لا يجتمعان، ولكن يرتفعان: كالسواد، والبياض، [التعريفات للجرجانى ص 155].
(4/310)
________________________________________
وأما الحجة الثانية القائلة بأنه لو لزم فوات النفس من فوات بدنها؛ لكانت متعلقة به تعلق المتقدم، أو المتأخر، أو المكان؛ فباطلة أيضا «1».
فإنه ما المانع أن يكون انعدامها عند انعدام البدن، ومفارقتها له بإعدام فاعل مختار لهما؛ لا لما بينهما من التعلق؟
وإن سلمنا الحصر فيما ذكر من الأقسام؛ فما المانع أن تكون النفس متقدمة؟
قولهم: لأنه يلزم أن تكون متقدمة بالذات.
لا نسلم؛ وما المانع من تقدمها عليه بغير هذه الجهة؟
قولهم: لأن غير هذا النوع من التقدم، لا يوجب الفوات من الفوات، لا نسلم، فإن التقدم بالطبع غير التقدم بالذات كما سبق تحقيقه «2» كما فى تقدم الواحد على الاثنين، ومع ذلك فإنه يلزم من فوات الواحد، فوات الاثنين.
قولهم: لو كان كذلك للزم فوات البدن من فوات النفس، لا فوات النفس من فوات البدن؛ إذ المعلول لا يوجب فواته فوات علته.
[قلنا: المعلول] «3» من حيث هو معلول، وإن لم يوجب فواته فوات علته، فلم قلتم إنه لا يوجب فوات علته من جهة أخرى؟ ولا سبيل إلى نفى ذلك.
وإن سلمنا امتناع كونها متقدمة على البدن، فما المانع من تقدم «11» // البدن عليها؟
قولهم: يلزم من ذلك أن يكون البدن علة للنفس. ممنوع.
وما المانع من تقديمه عليها بالذات؛ لكونه شرطا فى وجودها لا علة؟
وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون علة لها، فما المانع من ذلك؟
قولهم: إما أن تكون علة فاعلية، أو مادية، أو صورية، أو غائية؛ مسلم؛ ولكن ما المانع أن تكون علة فاعلية؟
قولهم: يلزم/ منه استفادة الأشرف من الأخس.
________________
(1) قارن بما ذكره فى غاية المرام ص 275.
(2) راجع ما مر فى الأصل الثالث- الفصل الثامن: فى معنى المتقدم والمتأخر ومعا ل 81/ أ وما بعدها.
(3) ساقط من (أ).
(11) // أول ل 120/ ب.
(4/311)
________________________________________
فهو مبنى على أن النفس جوهر بسيط عقلى، كما هو مذهبهم؛ وهو غير مسلم كما سبق إبطاله «1».
وعند ذلك فإما أن يكون جسما، أو جوهرا فردا، أو عرضا.
فإن كان الأول: فلا نسلم التفاوت بين الأجسام فى الشرف، والخسة؛ إذ هى متجانسة على ما عرف من أصلنا، وإن كانت جوهرا فردا فالبدن أيضا [مؤلف] «2» من جواهر فردة، وإنما يلزم التفاوت فى البدن أن لو لم تكن الجواهر متجانسة؛ وهو غير مسلم.
وإن سلمنا امتناع كونه فاعلا لها؛ فما المانع أن يكون قابلا؟ [و ما ذكروه فى إبطاله فقد عرف ما فيه.
وإن سلمنا امتناع التقدم والتأخر فما المانع من التكافؤ] «3».
وما ذكروه فى تقرير امتناعه، فإنما يلزم أن لو كان كل متكافئين متضايفين بحيث يتوقف تعقل كل منهما على تعقل الآخر، وليس كذلك، بل التكافؤ أعم من ذلك، وذلك بأن يكون كل واحد من الأمرين بحيث يلزم من وجوده، وجود الآخر ومن عدمه عدمه، فى نفس الأمر لا فى التعقل.
وأما الحجة الثالثة: القائلة بأن النفس لو كانت قابلة للفساد؛ لكان فيها قوة قابلة للفساد؛ فأظهر فى الفساد «4».
وذلك أنهم [إن] «5» أرادوا بقوة قبول البقاء، وقوة قبول الفساد، إمكان بقائها وفسادها؛ فمسلم. وقد بينا أن الإمكان صفة عدمية لا وجودية. وعلى هذا؛ فلا يلزم التركيب فى النفس كما ذكروه.
وإن أرادوا بالقوة غير ذلك؛ فهو غير مسلم، ولا دليل عليه.
وإن سلمنا أن قوة قبول البقاء والفساد، أمر وراء الإمكان، فإنما يلزم التركيب فى النفس أن لو كانت هذه القوى داخلة فى حقيقة النفس، وهو غير مسلم.
وما المانع أن تكون من الصفات العرضية للنفس مع بساطتها، والنفس قابلة لها؟
________________
(1) راجع ما مر ل 210/ أ.
(2) ساقط من أ.
(3) ساقط من أ.
(4) قارن بما ذكره فى غاية المرام ص 275.
(5) ساقط من (أ).
(4/312)
________________________________________
ولا تكون هذه القوى من قبل الصورة المقومة للنفس، ثم يلزم على ما ذكروه؛ امتناع قبول الصور الجوهرية العنصرية للفساد؛ ضرورة بساطتها، وعدم التركيب فيها، ولم يقولوا به «1» وكل ما هو جواب لهم فى الصور العنصرية؛ فهو جواب فى النفوس الإنسانية.
وإن سلمنا أن ذلك يفضى إلى التركيب فى النفس، ولكن لا نسلم امتناعه، وما ذكروه فى تقرير امتناعه؛ فقد أبطلناه، فيما تقدم «2».
وأما التفريع الرابع: المتعلق بالتناسخ:
أما حجة القائلين بوجوب التناسخ: فمبنية على أن النفس باقية بعد فوات البدن، وقد بينا إبطال أدلتهم على ذلك «3».
وبتقدير بقائها بعد مفارقة بدنها؛ فلا نسلم امتناع قيامها بنفسها مجردة عن الأبدان، وما ذكروه من دليل امتناع وجود النفس قبل وجود بدنها؛ فقد سبق «4» إبطاله.
وإن سلمنا امتناع/ وجودها سابقة على وجود بدنها؛ ولكن لا نسلم مساعدة دليل ذلك بعد مفارقة البدن على ما سبق تحقيقه «5»، ثم لو وجب التناسخ؛ امتنع بقاء النفس دون بدن تتصل به؛ فلا يخلوا: إما أن يكون كل بدن اتصلت به قد اتصلت قبله ببدن آخر إلى غير النهاية، أو يقف الأمر على بدن لم تتصل قبله ببدن آخر.
فإن كان الأول: لزم منه وجود أبدان كائنة متعاقبة غير متناهية؛ وهو محال كما سبق فى إثبات واجب الوجود «6».
وإن كان الثانى: فذلك البدن لا يخرج عن أن يكون نفيسا، أو خسيسا. وأى الأمرين قدر؛ فهى لم تستحقه؛ بناء على فعل لها سابق عليه؛ وهو خلاف أصل هذا القائل.
وأما حجج القائلين بامتناع التناسخ: فضعيفة أيضا.
________________
(1) قارن بما فى غاية المرام ص 275.
(2) راجع ما مر ل 205/ أ.
(3) انظر ما مر ل 213/ ب.
(4) راجع ما مر ل 211/ أ وما بعدها.
(5) راجع ما مر ل 211/ ب.
(6) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول- المسألة الأولى: فى إثبات واجب الوجود لذاته ل 41/ أ وما بعدها.
(4/313)
________________________________________
أما الحجة الأولى: فهى مبنية على أن كل بدن، فإنه يستحق لذاته نفسا تدبره وهو غير مسلم، وما المانع أن يكون وجود النفس للبدن بفعل فاعل مختار، لا أنه يكون مستحقا لها لذاته؛ لما بيناه من إبطال الاقتضاء الطبيعى، ووجوب إسناد جميع الكائنات إلى الله «1» - تعالى-؟
وإن سلمنا جدلا أن كل «11» // بدن فانه يستحق لذاته نفسا تدبره؛ ولكن ما المانع أن تكون هى ما انتقلت إليه من البدن الآخر؟
وعلى هذا: فلا يفضى إلى اجتماع نفسين فى بدن واحد كما ذكروه.
أما الحجة الثانية: فإنما يلزم أن لو لم يكن اتصالها بالبدن الأول شرطا فى تذكر تلك الأحوال الموجودة معه [و با عانته] «2» ولعله شرط وقد انتفى، ويمتنع وجود المشروط مع انتفاء شرطه.
فإن قيل: فما ذكرتموه وإن دل على إبطال مآخذ الفريقين؛ فما مذهبكم فى التناسخ؟
قلنا: إما أن تكون النفس فى نفس الأمر عرضا، أو جوهرا.
فإن كانت عرضا فلا يمتنع إعادتها عقلا فى بدنها، أو غيره.
وإن كانت جوهرا، فلا يمتنع عقلا أن ينقله الله- تعالى إلى جسم آخر، أو يعدمه، ويعيده فى غير ذلك البدن الأول؛ وقد ورد السمع بذلك حيث قال عليه السلام «إن أرواح المؤمنين فى حواصل طيور خضر فى الجنة» «3» وروى عنه أيضا أنه قال «أرواح المؤمنين فى قناديل معلقة تحت العرش» «4».
غير أن الأمة من المسلمين متفقة على امتناع التناسخ؛ فوجب اتباعه.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى- فى أنه لا خالق إلا الله تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه. الفرع الثالث: فى الرد على الطبيعيين ل 220/ ب.
(11) // أول ل 121/ أ.
(2) ساقط من (أ).
(3) رواه مسلم فى كتاب الإمارة: بلفظ: أرواح الشهداء، ورواه أحمد: نسمة المؤمن فى طائر تعلق فى شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة. راجع التذكرة للقرطبى 175 - 185.
(4) رواه أحمد عن ابن عباس رضى الله عنهما- وراجع معارج القدس للغزالى ص 95.
(4/314)
________________________________________
[الرد على الفلاسفة الإلهيين]
وأما ما ذكره الفلاسفة الإلهيون من أحوال النفس، ونعيمها، وعذابها بعد مفارقة البدن على ما وصفوه «1».
فلقائل أن يقول: وإن سلمنا وجود الأنفس الإنسانية على وفق ما يعتقدونه وأنها لا تفوت بفوات الأبدان، وأن الأبدان لا يتناسخها/ مع ما فى كل واحد من الأشكال على أصولهم كما تقدم «2»، غير أن القول بسعادة النفس وشقاوتها بعد مفارقة بدنها على ما ذكروه فمتوقف على كون النفس عالمة بمعنى انطباع صور المعقولات فيها؛ وهو غير مسلم على ما سبق.
وإن سلمنا أن العلم عبارة عن انطباع صورة المعلوم فى النفس؛ ولكن ما ذكروه إنما يستقيم أن لو أمكن انطباع صور المعقولات فيها بعد المفارقة.
وما المانع أن يكون اتصالها بالبدن شرطا فى دوام الانطباع وحصول العلم لها كما كان شرطا فى الابتداء، أو أن تكون المفارقة مانعة من ذلك؟.
وقولهم: غير بعيد أن تتصل النفس بعد مفارقة بدنها ببعض الأجرام الفلكية يتخيل به صورا يلتذ بها، أو يشقى؛ فهو اعتراف بعين التناسخ الّذي أبطلوه، ولم يقولوا به.
كيف وأن ما يتخيل بالقوى الجسمانية عندهم غير خارج عن الأمور الجزئية، والنفس الناطقة غير مدركة للأمور الجزئية عندهم.
هذا ما يتعلق بالمعاد النفسانى «3».
________________
(1) راجع ما مر ل 207/ أ وما بعدها.
(2) انظر ما مر ل 207/ أ.
(3) لمزيد من البحث والدراسة انظر ما ذكره ابن سينا فى النجاة 189 وقارن بما ذكره عبد الجبار فى المغنى 13/ 405 - 430 وأصول الدين للبغدادى ص 235 وما بعدها وغاية المرام للآمدى ص 278.
(4/315)
________________________________________
الأصل الثانى: فى السمعيات.
ويشتمل على أربعة فصول:
الفصل الأول: فى الدليل السمعى وأقسامه وأنه هل يفيد اليقين أم لا؟
الفصل الثانى: فى خلق الجنة والنار.
الفصل الثالث: فى عذاب القبر، ومساءلة منكر ونكير.
الفصل الرابع: فى الصراط، والميزان، والحساب، وقراءة الكتب، والحوض المورود، وشهادة الأعضاء.
(4/317)
________________________________________
الفصل الأول فى الدليل السمعى، وأقسامه، وأنه هل يفيد اليقين، أم لا؟
وقد كنا بينا فى مبدأ الكتاب انقسام الدليل: إلى عقلى، وسمعى. وبينا الدليل العقلى، وأقسامه «1».
وهذا أوان بيان الدليل السمعى، وأقسامه.
[تعريف الدليل السمعى فى العرف وعند الفقهاء]
والدليل السمعى فى العرف هو الدليل اللفظى المسموع.
وفى عرف الفقهاء: الدليل السمعى، هو الدليل الشرعى.
وهو عندهم منقسم إلى: الكتاب «2»، والسنة «3»، وإجماع «4» الأمة والقياس «5» والاستدلال «6».
وذلك لأن الدليل الشرعى: إما أن يكون وروده وظهوره، من جهة النبي- صلى اللّه عليه وسلم- أو من جهة غيره.
فإن كان الأول: فإما أن يكون من قبيل المتلو، أو غيره.
فإن كان من قبيل المتلو: فهو الكتاب.
________________
(1) انظر ما سبق فى القاعدة الثالثة: فى الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية- الباب الثانى: فى الدليل- الفصل الأول: فى حد الدليل وانقسامه إلى: عقلى، وغير عقلى. (ل 32/ ب وما بعدها). ولمزيد من البحث والدراسة:
انظر الإحكام للآمدى 1/ 8، منتهى السئول 1/ 4 له أيضا. وشرح الطوالع ص 25، 26، وشرح المواقف 1/ 153، وشرح المقاصد 1/ 39.
(2) الكتاب: هو القرآن المنزل. [انظر الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 1/ 137].
(3) السّنة: «و هى فى اللغة عبارة عن الطريقة». «و أما فى الشرع: فقد تطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي- عليه السلام-. وقد تطلق على ما صدر عن الرسول من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو، ولا هو معجز، ولا داخل فى المعجز. وهذا النوع هو المقصود بالبيان هاهنا. ويدخل فى ذلك أقوال النبي- عليه السلام- وأفعاله وتقاريره» [أنظر الإحكام للآمدى 1/ 145].
(4) الإجماع: «عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- فى عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع» [المصدر السابق 1/ 168].
(5) القياس: قال الآمدي: «و المختار فى حد القياس أن يقال: إنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل فى العلة المستنبطة من حكم الأصل». [المصدر السابق 3/ 170، 171].
(6) الاستدلال: قال الآمدي: «أما معناه فى اللغة: فهو استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب».
وأما فى اصطلاح الفقهاء: «فإنه يطلق تارة بمعنى ذكر الدليل، وسواء كان الدليل نصا أو اجماعا، أو قياسا أو غيره. ويطلق تارة على نوع خاص من أنواع الأدلة وهذا هو المطلوب بيانه. وهو عبارة عن دليل لا يكون نصا ولا إجماعا ولا قياسا.» [المصدر السابق 4/ 361].
(4/319)
________________________________________
وإن كان من قبيل غير المتلوّ: فهو السّنة. ويدخل فيه أقوال النبي- صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وأقاريره.
وإن كان الثانى: فإما أن يشترط فيه عصمة من صدر عنه، أو لا يشترط.
فإن كان الأول: فهو الإجماع.
وإن كان الثانى: فإما أن تكون صورته ونظمه يحمل على معلوم مجمع عليه من/ الأمة، أو منصوص عليه من الشارع، أو لا يكون كذلك.
فإن كان الأول: فهو القياس.
وإن كان الثانى: فهو الاستدلال. وقد عرفنا حقيقة كل واحد فى غير هذا من كتبنا «1».
«11» // وأما فى عرف المتكلمين:
فإنهم إذا أطلقوا الدليل السمعى: فلا يريدون به غير الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة «2».
ولا بد من النظر فى متنه وسنده، أما النظر فى متنه: أى فى دلالته «3»: فهو ينقسم إلى ما يدل بمنظومه: أى بصريح دلالته اللفظية. وإلى ما يدل لا بجهة المنظوم.
فإن كان الأول: فلا يخلو إما أن يتحد مدلوله بحيث لا يحتمل اللفظ غيره. أو لا يتحد، بل هو متكثر.
فإن كان الأول: فهو الدلالة النصية القاطعة من جهة اللفظ: وذلك كدلالة لفظ العشرة على معناها مع الاقتصار عليه، فإنه لا يحتمل لغة عند الاقتصار عليه أن يحمل على ما هو أزيد، أو أنقص من ذلك.
________________
(1) راجع الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى (أربعة أجزاء) طبع دار الكتب العلمية بيروت- لبنان. ومنتهى السئول فى علم الأصول (مختصر الإحكام) طبع محمد على صبيح بمصر.
(11) // أول ل 121/ ب.
(2) ذكر الآمدي فى الجزء الثانى من كتابه الإحكام فى أصول الأحكام: الأصل الرابع: فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع: وهو نوعان: يتعلق أحدهما بالنظر فى السند، والآخر بالنظر فى المتن.
النوع الأول: النظر فى السند. وهو الأخبار عن المتن. ويشتمل على ثلاثة أبواب.
الباب الأول: النظر فى السند. وهو الأخبار عن المتن. ويشتمل على ثلاثة أبواب.
الباب الأول فى حقيقة الخبر وأقسامه. من ص 247 - 257.
الباب الثانى فى المتواتر. من ص 258 - 272.
الباب الثالث: فى أخبار الآحاد. من ص 273 - 355.
النوع الثانى: فيما يتعلق بالنظر فى المتن وفيه بابان:
أولهما: فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع.
وثانيهما: فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون ما عداهما من الأدلة.
(3) الدلالة: هى كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. والشيء الأول: هو الدال والثانى: هو المدلول. [كتاب التعريفات للجرجانى ص 116].
(4/320)
________________________________________
وهو إما مطلق كقولك: عشرة. وإما مقيد: كقولك هذه العشرة، أو عشرة رجال.
وإن كان الثانى: فلا يخلوا: إما أن يكون حقيقة فى كل واحد من مدلولاته، أو هو حقيقة فى البعض دون البعض.
فإن كان الأول: فإما أن تتحد جهة دلالته، أو تختلف.
فإن اتحدت فهو العام. وهو سبعة أقسام:
الأول: ما كان من أدوات الشرط والجزاء كقوله عليه السلام «من أحيا أرضا ميته فهى له» «1»
الثانى: النكرة المنفية كقولهم: لا رجل فى الدار.
الثالث: أسماء الجموع المعرفة: كالرجال.
الرابع: اسم الجنس إذا دخله الألف واللام: كالرجل.
الخامس: الألفاظ المؤكدة مثل: كل، وجميع، وأجمعون.
السادس: من: فيمن يعقل كقوله- تعالى-: ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ «2».
السابع: ما: فيما لا يعقل كقوله- تعالى-: إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «3» الآية
وإن كان الثانى: فهو المشترك: وذلك كدلالة: لفظ العين، والقرء، والجوف، ونحوه.
وإن كان الثانى: فهو المجازى: وذلك كدلالة الأسد عن السبع، وعلى الإنسان الشجاع ونحوه.
وإن كان الثانى: وهو الدال لا بجهة المنظوم [فلا يخلوا: إما أن تكون جهة دلالته مقصودة للمتكلم، أو لا تكون مقصودة له.
________________
(1) أخرجه أبو داود فى سننه 3/ 178 (كتاب الخراج والإمارة والفيء- باب إحياء الموات).
(2) سورة الرعد 13/ 15.
(3) سورة الأنبياء 21/ 98.
(4/321)
________________________________________
فإن كانت مقصودة له فلا يخلو] «1»: إما أن يكون ما فهم من دلالته فى محل النطق، أو فى غيره.
فإن كان مفهوما منها فى محل النطق: فهو ينقسم إلى: ما يسمى دليل الاقتضاء، وإلى ما يسمى دليل التنبيه والإيماء.
أما دليل الاقتضاء «2»: فينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما يفهم من اللفظ ضرورة صدق المتكلم، كفهم نفى الصحة، أو الكمال من قوله عليه/ السلام «لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل «3»».
الثانى: ما يفهم من اللفظ ضرورة وقوع الملفوظ به شرعا: كفهم حصول الملك لمن قال لغيره اعتق عبدك عنى على ألف قبيل العتق «4».
الثالث: ما يفهم من اللفظ ضرورة وقوع الملفوظ به عقلا: كفهم الوطء من قوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ «5».
وأما دليل التنبيه والإيماء «6»: وذلك كفهم كون الوصف علة للحكم المرتّب عليه بفاء التعقيب كما فى فهم كون السرقة علة للقطع من قوله- تعالى-: والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «7». أو من ذكره مع حكم لو لم يقدر التعليل به؛ لكان ذكره عبثا: كفهم كون الطوف فى الهرة علة طهارتها من قوله عليه السلام: «إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات» «8». والأقسام كثيرة ذكرناها فى كتبنا المخصوصة بهذا الفن «9».
وأما إن كان المفهوم من دلالة اللفظ فى غير محل النطق فلا يخلوا: إما أن يكون المفهوم منه فى غير محل النطق مماثلا للمفهوم منه فى محل النطق، أو مخالفا له.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) دلالة الاقتضاء: ما كان المدلول فيه مضمرا: إما لضرورة صدق المتكلم وإما لصحة وقوع الملفوظ به (الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 3/ 61).
(3) رواه أبو داود عن حفصة أم المؤمنين- رضى الله عنها (كتاب الصيام- باب النية فى الصيام 2/ 329). وراجع الإحكام للآمدى 3/ 56 المسألة الرابعة.
(4) قال الآمدي فى الإحكام 3/ 6: «فإنه يستدعى تقدير سابقة انتقال الملك إليه ضرورة توقف العتق شرعا عليه».
(5) سورة النساء 4/ 23.
(6) دلالة التنبيه والإيماء: ما كان التعليل لازما من مدلول اللفظ وصفا لا أن يكون اللفظ دالا بوضعه على التعليل، وهو ستة أقسام (الإحكام 3/ 224 وما بعدها).
(7) سورة المائدة 5/ 38.
(8) رواه ابن ماجة (1/ 131) كتاب الطهارة- باب الوضوء بسؤر الهرة: والرخصة فى ذلك. وأخرجه الدارمى (1/ 153) كتاب الصلاة والطهارة- باب الهرة إذا ولغت فى الإناء.
(9) انظر: الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 3/ 224 وما بعدها.
(4/322)
________________________________________
فإن كان مماثلا له: فيسمى مفهوم الموافقة وفحوى الخطاب «1»: وذلك كفهم تحريم شتم الوالدين، والضرب العنيف من تحريم التأفيف لهما من قوله- تعالى-: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ «2»
وإن كان المفهوم من اللفظ فى غير محل النطق مخالفا له فى محل النطق فيسمى مفهوم المخالفة ودليل الخطاب «3». وهذا النوع على أقسام ثمانية متفاوته فى الرتبة.
الأول: الاستثناء من النفى، والإثبات كقوله: لا عالم فى البلد إلا زيد.
الثانى: ما ورد بلفظ إنّما كقوله عليه السلام «إنما الولاء «11» // لمن أعتق» «4».
الثالث: ذكر الاسم العام [مقترنا] «5» بالصفة الخاصة كقوله- عليه السلام- «فى الغنم السائمة زكاة» «6».
الرابع: ذكر الحكم مقترنا بشرط كقوله- تعالى-: وإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ «7» الآية.
الخامس: مد الحكم إلى غاية كقوله- تعالى-: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ «8».
السادس: تخصيص الحكم بالوصف الطارئ كقوله عليه السلام «السائمة فيها الزكاة».
السابع: ذكر الاسم المشتق الدّال على الجنس كقوله عليه السلام «لا تبيعوا الطعام بالطّعام» «9».
________________
(1) مفهوم الموافقة: ما يكون مدلول اللفظ فى محل السكوت، موافقا لمدلوله فى محل النطق. ويسمى أيضا: فحوى الخطاب، ولحن الخطاب (الإحكام للآمدى 3/ 63 وما بعدها).
(2) سورة الاسراء 17/ 23.
(3) مفهوم المخالفة: هو ما يكون مدلول اللفظ فى محل السكوت مخالفا لمدلوله فى محل النطق. ويسمى دليل الخطاب أيضا (الإحكام للآمدى 3/ 67 وما بعدها).
(4) رواه مسلم (2/ 1141) كتاب العتق- باب إنما الولاء لمن أعتق.
(11) // أول ل 122/ أ.
(5) ساقط من أ.
(6) رواه أبو داود (2/ 96) كتاب الزكاة- باب زكاة الغنم.
(7) سورة الطلاق 65/ 6.
(8) سورة التوبة 9/ 29.
(9) رواه مسلم: كتاب البيوع- باب ما يذكر فى بيع الطعام.
(4/323)
________________________________________
الثامن: مفهوم اللّقب: وهو تخصيص المذكور باسمه ولقبه، كما فى قوله عليه السلام «لا تبيعوا البر بالبر، ولا الشّعير بالشّعير» إلى آخر الحديث «1».
وأما إن لم تكن جهة دلالة اللفظ مقصورة للمتكلم؛ بل هى واقعة بطريق اللزوم، والاستتباع فيسمى دليل الإشارة، وذلك كفهم كون أكثر الحيض/ وأقل الطهر خمسة عشر يوما من قوله عليه السلام «النساء ناقصات عقل ودين» «2» حيث إنه فسر نقصان الدين بكون المرأة تمكث شطر دهرها لا تصلى. فإنه وإن كان المقصود إنما هو بيان نقصان الدين، غير أن فهم كون أقل الطهر وأكثر الحيض خمسة عشر يوما وقع لازما من ذلك تابعا.
وأما السّند: فينقسم إلى مقطوع، ومظنون.
أما المقطوع [فهو] «3»: مما أفاد اليقين بمخبره: وذلك كخبر النبي الصادق، أو الواحد إذا احتفت به القرائن، أو التواتر.
وأما المظنون: فهو ما أفاد الظن، ويسمى خبر الآحاد.
وهو منقسم إلى: مستفيض، وغير مستفيض، وأما أن الدليل السمعى هل يفيد اليقين أم لا؟ فقد اختلف فيه.
فذهبت الحشوية «4»: إلى أنه يفيد اليقين حتى بالغوا وقالوا: لا يعلم شيء بغير الكتاب والسنة.
وذهب آخرون إلى أنه غير مفيد لليقين؛ لأنه موقوف على أمور ظنية، وما يتوقف على الأمر الظنى؛ فظنى.
أما المقدمة الثانية فظاهرة، وأما المقدمة الأولى فبيانها:
أن التمسك بالدليل السمعى موقوف على معرفة مفهوم اللفظ لغة، وذلك غير معلوم قطعا؛ بل غايته أنه معلوم بطريق الآحاد، والآحاد؛ فلا يفيد غير الظن.
________________
(1) رواه البخارى- كتاب البيوع- باب ما يذكر فى بيع الطعام والحكرة فتح البارى 4/ 408 عن عمر رضي اللّه عنه.
(2) رواه مسلم (1/ 86) - كتاب الإيمان- بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات.
(3) ساقط من (أ).
(4) الحشوية: هم المشبهة، والمجسمة، وأهل الظاهر الذين لا يسلكون سبيل التأويل للمتشابه من القرآن (الملل والنحل للشهرستانى 1/ 110) قيل إن الّذي سماهم بالحشوية الحسن البصرى عند ما قال عن جماعة من الرواة حضروا مجلسه يوما، ولما تكلموا عنده قال: ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة فسموا بالحشوية.
(4/324)
________________________________________
وبتقدير معرفة أصل الوضع قطعا، فيحتمل أن يكون اللفظ مشتركا، وتعيين أحد محامله لا يكون مقطوعا به.
وبتقدير أن لا يكون مشتركا؛ فيحتمل أن يكون مطلقا بإزاء معنيين، هو فى أحدهما حقيقة وفى الآخر مجاز، وحمله على جهة الحقيقة، وإن كان هو الأصل؛ لكنه ليس بقطعى؛ بل ظنى؛ لاحتمال إرادة جهة المجاز.
والحمل على جهة المجاز فغير قطعى، وما يساعد عليه إما قرينة لفظية: والكلام فيها، كالكلام فى الأولى، وإما قرينة حالية؛ وهى غير يقينية؛ لاضطرابها وتعارض القرائن. وبتقدير أن لا يكون مجازا أصلا غير أن دلالة اللفظ على المعنى قد تختلف بالحذف، والإضمار، والتقديم، والتأخير، وكل ذلك فالطرق الموصلة إليه ظنية غير يقينية.
وبتقدير أن لا يتوقف على ذلك غير أنه متوقف على معرفة نقله من جهة الشارع وأكثر سنده الآحاد.
وبتقدير أن يكون منقولا عن الشارع تواترا، إلا أنه يتوقف العمل به على نفى المعارض، ولا سبيل إلى معرفة ذلك بغير البحث والسبر. مع عدم الاطلاع؛ وهو غير يقينى كما سبق «1».
وبتقدير عدم المعارض فالعمل به يتوقف على عدم نسخ ما يدل عليه؛ فطريقه أيضا ظنى.
والحق فى ذلك أن يقال: أما قول الحشوية «2»: أنه لا طريق/ إلى العلم واستدراك مطلوب من المطلوبات إلا بالكتاب والسنة. ففى غاية البطلان؛ فإنا لو قدرنا عدم ورود السمع والأدلة السمعية؛ لقد كنا نعلم وجود الرب- تعالى- وحدوث العالم وما يتعلق بأحكام الجواهر، والأعراض، وغير ذلك من المسائل العقلية، وليس مدرك ذلك كله غير الأدلة العقلية.
________________
(1) انظر ما سبق ل 39/ ب وما بعدها الجزء الأول- القاعدة الثالثة- الباب الثانى: فى الدليل. الفصل السابع: فيما ظن أنه من الأدلة المفيدة لليقين وليس منها. الدليل الثالث: قياس التمثيل- السبر والتقسيم.
(2) قارن بما أورده الآمدي فى الإحكام فى أصول الأحكام 3/ 63.
(4/325)
________________________________________
وأيضا فيقال لهم: فبما ذا عرفتم أن هذا كتاب الله وسنة رسوله؟.
فإن قالوا عرفناه به؛ كان «11» // دورا. وإن قالوا عرفناه بغيره؛ فهو المطلوب.
وأما ما قيل فى بيان أن الدليل السمعى ظنى؛ فإنما يصح أن لو لم تقترن به قرائن مفيدة للقطع وإلا فبتقدير أن تقترن به قرائن مفيدة للقطع فلا. ولا يخفى أن ذلك ممكن فى كل نقلى غير ممتنع.
وإذا عرفت ذلك: فاعلم أن الدليل: إما أن يكون عقليا محضا: كأدلة حدوث العالم ووجود الصانع ونحوه، وإما سمعيا محضا: كأدلة وجوب الصلاة، والزكاة، وغير ذلك.
وإما مركب من الأمرين: بأن تكون بعض مقدماته عقلية، والبعض سمعية: وعلى هذا:
فالمطلوب منه ما لا يعرف بغير الدليل العقلى: كحدوث العالم، ووجود الصانع قبل ورود السمع.
ومنه ما لا يعرف بغير الدليل السمعى: كالأحكام الشرعية: من وجوب الصلاة، وتحريم الخمر ونحوه.
ومنه ما يمكن معرفته بكل واحد من الطريقين: كخلق الأفعال، وروية الله- تعالى- على ما سبق تحقيقه «1».
________________
(11) // أول ل 122/ ب.
(1) راجع الجزء الأول ل 32/ ب وما بعدها.
(4/326)
________________________________________
الفصل الثانى فى خلق الجنة والنار «1»
[مذهب الأشاعرة، وأكثر المتكلمين:
أن الجنة، والنار] «2» اللتان هما دار الثواب والعقاب، مخلوقتان فى وقتنا هذا. ووافقهم على ذلك من المعتزلة الجبائى، وبشر بن المعتمر، وأبو الحسين البصرى «3». ثم اختلف هؤلاء:
فمنهم من قال: إنهما تفنيان. ومنهم من قال: بأنهما لا تفنيان.
وذهب عباد الصيمرى، وضرار بن عمرو، وأبو هاشم، وعبد الجبار «4»: إلى أنهما غير مخلوقتين فى وقتنا هذا، غير أن عباد: زعم أنه يستحيل فى العقل ذلك قبل حلول المكلفين فيها.
وخالفه أبو هاشم فى ذلك: وزعم أن خلقهما فى وقتنا، غير ممتنع عقلا، وإنما هو ممتنع سمعا «5»:
والمعتمد فى المسألة: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
أما الكتاب:
فقوله- تعالى-: وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ والْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ «6» وقوله- تعالى-: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ «7» ووجه الاحتجاج من الآيتين: وصفه- تعالى للجنة، والنار بالإعداد،
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما أورده الآمدي هاهنا: راجع كتاب الإرشاد لإمام الحرمين الجوينى ص 377 وما بعدها. وأصول الدين للبغدادى ص 237 وما بعدها. وشرح المواقف للجرجانى- الموقف السادس تحقيق الدكتور أحمد المهدى- المقصد الرابع: ص 195 وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 161 وما بعدها. وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفى ص 484 وما بعدها.
(2) ساقط من (أ).
(3) لتوضيح مذهب الجبائى ومن وافقه: انظر شرح المواقف- الموقف السادس ص 195. وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 161.
(4) قارن بما ورد فى شرح المواقف- الموقف الساد ص 195 حيث قال: «و أنكره أكثر المعتزلة كعباد الصيمرى، وضرار بن عمرو، وأبى هاشم وعبد الجبار. وقالوا: إنهما يخلقان يوم الجزاء».
(5) قال شارح المواقف ص 196 من الموقف السادس: «و أما المنكرون فتمسك عباد فى استحالة كونهما مخلوقتين فى وقتنا هذا بدليل العقل. وأبو هاشم بدليل السمع؛ إذ ليس عنده للعقل دلالة على ذلك». قال عباد: لو وجدنا: فاما فى عالم الأفلاك، أو العناصر، أو فى عالم آخر، والثلاثة باطلة. واحتج أبو هاشم بوجهين: الأول:
قوله تعالى:- أُكُلُها دائِمٌ مع قوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فلو كانت مخلوقة؛ وجب هلاك أكلها. (شرح المواقف 6/ 196، 197. بتصرف.
(6) سورة آل عمران 3/ 133.
(7) سورة البقرة 2/ 24.
(4/327)
________________________________________
واعدادهما يدل/ ظاهرا، على وجودهما؛ لاتفاق أهل اللغة على أن إعداد الشيء، ينبئ عن وجوده، وثبوته، والفراغ منه.
[و لهذا لو قال القائل لغيره: لقد أعددت لك طعاما؛ فإنه يتبادر إلى الفهم وجود الطعام، والفراغ منه] «1».
وأيضا. ما ورد فى حق آدم وحواء من إسكانهما الجنة وإهباطهما منه بقوله-: اسْكُنْ أَنْتَ وزَوْجُكَ الْجَنَّةَ «2» وقوله- تعالى-: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً «3» وهذا يدل على كون الجنة مخلوقة.
وأيضا. قوله- تعالى-: ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى 13 عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى 14 عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى «4» أخبر- تعالى- عن وجود جنة المأوى، وعن موضعها؛ فدل على كونها مخلوقة.
وأما السنة:
فأخبار صحاح رواها مسلم فى صحيحه. منها ما يخص الجنة.
ومنها ما يخص النار، ومنها ما يعم الأمرين:
أما ما يخص الجنة: فمنها ما روى عنى النبي- صلى اللّه عليه وسلم- أنه قال: «سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل كل من أنهار الجنة» «5»، وذلك يدل عن وجودها.
وأيضا ما روى عنه- عليه السلام- أنه قال حكاية عن ربه «أعددت لعبادى الصّالحين: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» «6».
والإعداد يدل على الوجود على ما سبق؛ وذلك لا يكون إلا فى الجنة.
وأيضا ما روى عنه: عليه السلام- أنه قال «إنّ فى الجنّة شجرة يسير الرّاكب تحتها مائة عام» «7» ولو لم تكن الجنة موجودة لما قال فيها؛ بل سيكون: وقد أجمع المفسرون على أن المراد بلفظ الجنة فى هذه الأحاديث الجنة التى كان آدم فيها وأهبط منها- وأنّها هى دار الثّواب؟
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) سورة البقرة 2/ 35.
(3) سورة البقرة 2/ 38.
(4) سورة النجم 53/ 13، 14، 15.
(5) رواه مسلم- كتاب الجنة- باب ما فى الدنيا من أنهار الجنة 40/ 2183.
(6) رواه مسلم- كتاب الجنة- 4/ 2174، 2175.
(7) رواه مسلم 4/ 2175. كتاب الجنة.
(4/328)
________________________________________
وأما ما يخص النار فمنها: ما روى أبو هريرة أنه قال: كنّا مع رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- إذ سمع وجبة فقال النبي- صلى اللّه عليه وسلم-: «أ تدرون ما هذا؟ «11» // قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر رمى فى النار منذ سبعين خريفا؛ فهو يهوى فى النار إلى حين انتهى إلى قعرها «1»، وهذا من أدلّ الدّلائل على وجود النّار.
وأيضا قوله- عليه السلام-[«رأيت عمرو بن عامر «2» الخزاعى فى النار «3».
وأما ما يعم الجنة والنار] «4» فقوله- عليه السلام- «احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلنى الجبارون، والمتكبرون، وقالت هذه يدخلنى الضعفاء، والمساكين. فقال الله عز وجل: لهذه: أنت عذابى أعذب بك من أشاء، وقال لهذه: أنت رحمتى أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها «5» وذلك أيضا دليل على وجود الجنّة والنّار حيث إنه أضاف المحاجة إليهما بصيغة الماضى.
وأما الإجماع:
فهو أن الأمة قاطبة، كانت مجمعة قبل ظهور المخالفين: على وجود الجنة، والنار التى هى دار الثواب، والعقاب، ولم يسمع من أحد نكير، إلى حين ظهور المخالفين؛ فكان حجة عليهم «6».
فإن قيل: إنما يمكن العمل/ بظاهر ما ذكرتموه: أن لو أمكن ذلك عقلا، وليس كذلك.
وبيانه: هو أن أفعال الرب- تعالى- لا تخلو عن فائدة، وحكمة كما سبق «7».
________________
(11) // أول ل 123/ أ.
(1) رواه مسلم- كتاب الجنة- باب فى شدة حر نار جهنم، وبعد قعرها 4/ 2184، 2185.
(2) عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن عدنان جد جاهلى من أشراف الجاهلية- من أحفاده: خالد، وحرملة الصحابيان (الأعلام 5/ 80).
(3) رواه مسلم. كتاب الجنة- والنار 4/ 2191.
(4) ساقط من (أ).
(5) رواه مسلم- كتاب الجنة- باب والنار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء 4/ 2186.
(6) لمزيد من البحث والدراسة راجع رأى أهل السنة والقائلين بوجود الجنة والنار فى مقالات الإسلاميين للأشعرى 2/ 549 والإرشاد للجوينى ص 319، والفصل لابن حزم 4/ 70، وأصول الدين للبغدادى ص 237، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 197، 198 وشرح الطحاوية ص 484 - 499.
(7) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الأول- المسألة الثالثة ل 186/ ب وما بعدها.
(4/329)
________________________________________
والفائدة فى خلق الجنة والنار: إنما هو المجازاة بالثواب، والعقاب، وذلك غير متحقق قبل يوم القيامة بإجماع المسلمين؛ فلا يكون خلق الجنة، والنار فى وقتنا هذا مفيدا؛ فكان ممتنعا عقلا.
وإن سلمنا الإمكان العقلى: غير أن ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مقتضاه، وبيانه من وجهين:
الأول: أن الجنة لو كانت موجودة؛ لكانت دائمة؛ لقوله- تعالى-: أُكُلُها دائِمٌ وظِلُّها «1» ودوام أكلها وظلها، مع عدم دوامها؛ محال. وليست دائمة بدليل قوله- تعالى-: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «2» الآية دالة على فناء كل مخلوق؛ فيدخل فيه الجنة، ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم؛ فدل على أنها غير مخلوقة الآن، وإنما تخلق بعد فناء كل مخلوق.
الثانى: قوله- تعالى-: وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ والْأَرْضُ «3» ووجه الاحتجاج أن الآية دلت على أن أقطار السموات والأرض، لا تسع الجنة الموعودة لمستحقى الثواب، وهو دليل ظاهر على عدمها، فى وقتنا هذا. وعند تعارض الأدلة، فليس العمل بالبعض، أولى من البعض؛ فيحتاجون إلى الترجيح.
والجواب:
قولهم: إنّ ذلك غير ممكن عقلا:
قلنا: دليل الإمكان العقلى: أنّا لو فرضنا أنّ الله- تعالى- خلقهما فى الآن لم يعرض عنه المحال لذاته، ولا معنى للممكن العقلى إلا هذا:
وما ذكروه فى تقريره: فمبنى على فاسد أصولهم فى رعاية الغرض، والحكمة فى أفعال الله- تعالى- وقد أبطلناه «4»، وبتقدير التسليم لوجوب رعاية الحكمة فى أفعاله لا يبعد أن يكون له فى ذلك حكمة قد أستأثر بعلمها وحده، ولا يخفى أنّ نفى ذلك مما لا سبيل إليه بطريق قطعى.
________________
(1) سورة الرعد 13/ 35.
(2) سورة القصص 28/ 88.
(3) سورة آل عمران 3/ 133.
(4) انظر فى الجزء الأول من أبكار الأفكار ل 186/ وما بعدها.
(4/330)
________________________________________
قولهم: لو كانت الجنّة مخلوقة: لكانت دائمة. لا نسلم ذلك، وقوله- تعالى-: أُكُلُها دائِمٌ وظِلُّها «1» فالمراد بالأكل: إنّما هو المأكول: وهو ثمر الجنة باتفاق المفسرين، وذلك غير دائم ضرورة فنائه عند أكل أهل الجنة له.
فإذن ما هو الظاهر من دوام الأكل غير معمول به، فتعين حمل دوام الأكل على تجدده، من غير انقطاع؛ وذلك لا ينافى عدم الجنة.
وان سلمنا أنّها لو كانت موجودة؛ لكانت دائمة، ولكن لا نسلم أنها غير دائمة.
وقوله- تعالى-/: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «2» لا نسلّم العموم على ما عرف من أصلنا.
وإن سلّمنا العموم لغة، غير أن المراد بقوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ كلّ حي ميّت: على ما قاله ترجمان القرآن: وهو ابن عباس كما سبق تحقيقه «11» // فيما سلف «3»، وقوله- تعالى-: وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ والْأَرْضُ «4» إنما يدل على عرضهما؛ أن لو وجب كون الجنة فى حيز السموات والأرض، وليس كذلك، بل أمكن أن تكون خارجة عن حيزهما، ويكون المراد من قوله- تعالى-: وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ والْأَرْضُ مثل السموات والأرض، لا أنها عينها، ويدل عليه ما روى «أن الدرجة السفلى من الجنة فوق السماء السابعة وإليه الإشارة بقوله- تعالى-: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى «5» «11» // وسدرة المنتهى فوق السماء السابعة، ولذلك سميت سدرة المنتهى؛ لانتهاء أوهام الناس إليها، وأنّها لا تتعداها.
________________
(1) سورة الرعد 13/ 35.
(2) سورة القصص 28/ 88.
(3) راجع ما سبق ل 218/ أ وما بعدها.
(4) سورة آل عمران 3/ 133.
(5) سورة النجم 53/ 14، 15.
(11) // أول ل 123/ ب من النسخة ب.
(4/331)
________________________________________
الفصل الثالث فى عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير
[آراء الفرق المختلفة]
وقد اتفق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، وأكثرهم بعد ظهوره: على إثبات إحياء الموتى فى قبورهم، ومسألة الملكين لهم، وتسمية أحدهما منكرا، والآخر نكيرا، وعلى إثبات عذاب القبر للمجرمين، والكافرين «1».
وذهب أبو الهذيل، وبشر بن المعتمر: إلى أن من ليس بمؤمن. فإنه يسأل، ويعذب فيما بين النفختين أيضا «2».
وذهب الصالحى «3» من المعتزلة: وابن جرير الطبرى «4»، وطائفة من الكرامية إلى تجويز ذلك على الموتى فى قبورهم من غير إحياء لهم «5».
وذهب بعض المتكلمين «6» إلى أن الآلام تجتمع فى أجساد الموتى، وتتضاعف من غير حس بها فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة.
وذهب ضرار بن عمرو، وبشر المريسى، وأكثر المتأخرين من المعتزلة إلى إنكار ذلك كله «7».
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة: انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى 2/ 147. وانظر كتاب الإرشاد للجوينى ص 375 وما بعدها، وأصول الدين للبغدادى ص 237 وما بعدها، وشرح المواقف للجرجانى- الموقف السادس ص 224 وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 162 وما بعدها ومطالع الأنظار ص 227 وما بعدها، والروح لابن القيم ص 72 وما بعدها وشرح العقيدة الطحاوية ص 451 وبعدها.
ومن كتب المعتزلة: انظر شرح الأصول الخمسة ص 730 وما بعدها.
(2) انظر رأيهم فى أصول الدين للبغدادى ص 246. والروح لابن القيم ص 80 حيث نسب هذا القول للعلاف، والمريسى.
(3) راجع ترجمته فى الجزء الأول هامش ل 89/ أ.
(4) ابن جرير الطبرى محمد بن جرير بن يزيد الطبرى (أبو جعفر): المفسر المؤرخ، المحدث، الفقيه، الأصولى. ولد فى آمل طبرستان سنة 225 ه وطوف الأقاليم، واستوطن بغداد وتوفى بها فى شوال سنة 310 ه من تصانيفه:
جامع البيان فى تأويل القرآن، وتاريخ الأمم والملوك وتهذيب الآثار واختلاف الفقهاء.
وفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 577، 578، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى 2/ 162 - 169).
(5) راجع شرح المواقف- الموقف السادس ص 225، فقد حكم على رأى الصالحى، وابن جرير الطبرى، وطائفة من الكرامية بأنه خروج على المعقول.
(6) قارن بالروح لابن القيم ص 81. فقد نقل هذا القول. ووضح أنه لبعض المعتزلة وقارن بشرح المواقف ص 225.
(7) وقد رفض القاضى عبد الجبار هذه التهمة. فقال «و جملة ذلك أنه لا خلاف فيه بين الأمة، إلا شيء يحكى عن ضرار بن عمرو، وكان من أصحاب المعتزلة، ثم التحق بالمجبرة. ولهذا ترى ابن الراوندى يشنع علينا؛ ويقول:
إن المعتزلة ينكرون عذاب القبر، ولا يقرون به» شرح الأصول الخمسة ص 730 وما بعدها.
(4/332)
________________________________________
وأنكر الجبائى، وابنه، والبلخى تسمية الملكين: منكرا، ونكيرا؛ مع الاعتراف بهما وإنما المنكر: ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل، والنكير: تقريع الملكين له.
[الدليل على إحياء الموتى فى قبورهم]
والدليل على إحياء الموتى فى قبورهم قبل الإحياء للحشر قوله- تعالى-: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ «1» والمراد بالإماتتين: الموتة التى قبل مزار القبور، والموتة التى بعد مساءلة منكر ونكير، والمراد بالحياتين: الحياة الأولى، والحياة لأجل المساءلة على ما قاله المفسرون «2».
فإن قيل: لا نسلم أن المراد بالإماتتين، والحياتين ما ذكرتموه، وما ذكرتموه عن المفسرين: فهو معارض بما يناقضه من قول غيرهم من المفسرين أيضا: فإنه قد قيل إن المراد بالإماتتين: الموتة الأولى: فى أطوار النطفة قبل نفخ الروح فيها، والثانية: التى قبل مزار القبور، والمراد بالحياتين: التى قبل/ مزار القبور، والحياة لأجل الحشر.
وليس أحد القولين أولى من الآخر؛ بل هذا القول أولى؛ لأنه لو كان كذلك فيكون على وفق المفهوم من قوله- تعالى- وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ حيث إنه يدل بمفهومه على نفى حياة ثالثة، وما ذكرتموه يلزم منه أن يكون الإحياء ثلاث مرات: الإحياء الأول:
الّذي قبل مزار القبور. والإحياء للمسائلة، والإحياء للحشر: وهو خلاف المفهوم من الآية «3».
قلنا: ما ذكرناه أولى لوجهين:
الأول: أنه الشائع المستفيض بين أرباب التفسير، وما ذكرتموه فقول شذوذ لا يؤبه لهم.
الثانى: أن حمل الإماتة على حالة أطوار النطفة مخالف للظاهر. فإن الإماتة لا تطلق إلا بعد سابقة الحياة وما ذكرناه، فعلى وفق الظاهر؛ فكان أولى.
قولهم: يلزم مما ذكرتموه مخالفة مفهوم الآية. لا نسلم أن المفهوم حجة.
________________
(1) سورة غافر 40/ 11.
(2) راجع تفسير القرطبى، وشرح المقاصد 2/ 162. وقارن بتفسير الطبرى 24/ 32، وتفسير الرازى 27/ 38 وما بعدها.
(3) انظر الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم 4/ 55 وما بعدها والروح لابن القيم ص 60.
(4/333)
________________________________________
وإن سلمنا أنه حجة؛ ولكن لا نسلم مخالفة المفهوم فيما نحن فيه. وبيانه من ثلاثة أوجه:
الأول: أنهم إنما ذكروا الحياة بعد الموت، والحياة بعد الموت لا تزيد على اثنتين ولهذا قالوا قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ.
[الثانى: أنهم إنما ذكروا الإحياء الماضى بدليل قوله- تعالى-: وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ بصيغة الماضى، والإحياء الماضى لا يزيد على اثنتين] «1».
[الثالث] «2»: أنهم إنما ذكروا الإحياء الّذي عرفوا الله- تعالى- به، وذلك لا يزيد أيضا على اثنتين، وهو الإحياء للمسائلة، والإحياء للحشر بخلاف الإحياء الأول؛ فإنهم لم يعرفوا الله- تعالى- به.
وإن سلمنا مخالفة المفهوم: غير أن ما ذكروه يلزم منه مخالفة ما ذكرناه من الظواهر؛ وهو ظاهر متفق على العمل به بخلاف المفهوم؛ إذ هو مختلف فى صحته والعمل بالمتفق عليه أولى.
كيف وأن ما ذكرناه على وفق ما روى مسلم فى صحيحه عن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- أنه ترك قتلى بدر ثلاثا: ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال: يا أبا جهل بن هشام «3»، يا أمية بن خلف «4»، يا عتبة بن ربيعة «5»: أ ليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا؟ «فسمع عمر قول النبي- صلى اللّه عليه وسلم- فقال عمر: يا رسول الله: كيف «11» //
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) فى (أ) الثانى. والصحيح الثالث كما ورد فى ب.
(3) أبو جهل بن هشام: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومى القرشى أشد الناس عداوة للنبى صلى اللّه عليه وسلم- فى صدر الإسلام قال صاحب عيون الأخبار: سوّدت قريش أبا جهل ولم يطر شاربه فأدخلته دار الندوة مع الكهول. كان يقال له (أبو الحكم)؛ فدعاه المسلمون أبا جهل كان فرعون هذه الأمة. يؤذى المسلمين ويكيد لهم حتى هلك فى غزوة بدر الكبرى، وأراح الله المسلمين من شره.
[عيون الأخبار 1/ 230 والأعلام للزركلى 5/ 87].
(4) أمية بن خلف بن وهب، من بنى لؤى: أحد جبابرة قريش فى الجاهلية، أدرك الإسلام ولم يسلم، وهو الّذي عذب بلالا رضي اللّه عنه فى بداية الإسلام. أسره عبد الرحمن بن عوف يوم بدر؛ فرآه بلال؛ فصاح بالناس يحرضهم عليه؛ فقتلوه. [الكامل لابن الأثير 2/ 48 والأعلام للزركلى 2/ 22].
(5) عتبة بن ربيعة بن عبد شمس: أبو الوليد. كبير قريش وأحد ساداتها فى الجاهلية. أدرك الإسلام، وطغى وشهد بدرا مع المشركين، وخرج للمبارزة؛ فقتل: قتله حمزة رضي اللّه عنه وقصة ابنته هند بنت عتبة فى انتقامها من سيد الشهداء بعد استشهاده مشهورة. [نسب قريش 152، 153 والأعلام للزركلى 4/ 200].
(11) // أول ل 124/ أ.
(4/334)
________________________________________
يسمعون، وأنى يجيبون وقد جيفوا؟ فقال رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم-: والّذي نفسى بيده: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا» «1».
وأيضا ما روى عنه عليه السلام أنه قال «إن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم «2»» وذلك بدون الحياة غير متصور.
والدليل على إثبات عذاب القبر. الكتاب، والسنة.
أما الكتاب فآيات:
الآية الأولى: قوله- تعالى:- النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا ويَوْمَ تَقُومُ/ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «3» ووجه الاحتجاج بها من ثلاثة أوجه:
الأول: أنها صريحة فى العذاب قبل يوم القيامة، وذلك لا يكون إلا قبل الانتشار من القبور.
الثانى: أن عذاب يوم القيامة يكون أبدا [سرمدا] «4»، غير مفتّر، وما أثبته من العذاب فليس دائما؛ بل بكرة وعشيا على ما قاله- تعالى- النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا وإذا لم يكن هو عذاب يوم القيامة، تعين أن يكون هو عذاب القبر، إذ الآية إنما وردت فى حق الموتى.
الثالث: هو أن الآية قد فرقت بين العذابين، ووصفت عذاب يوم القيامة بأنه أشدّ العذاب على ما قال- تعالى-: ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ والعرض على النار غدوا، وعشيّا؛ ليس هو أشدّ العذاب؛ فلا يكون هو عذاب يوم القيامة فتعيّن أن يكون هو عذاب القبر.
الآية الثانية: قوله- تعالى:- فى حق قوم نوح أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً «5» والفاء فى اللغة للتعقيب من غير مهلة، وذلك ظاهر فى عذاب القبر.
________________
(1) رواه مسلم 4/ 2203 كتاب الجنة.
(2) رواه البخارى 3/ 188 - 189 فى الجنائز: باب ما جاء فى عذاب القبر، وباب الميت يسمع خفق النعال.
(3) سورة غافر 40/ 46.
(4) ساقط من (أ).
(5) سورة نوح 71/ 25.
(4/335)
________________________________________
الآية الثالثة: قوله- تعالى:- ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «1» وقد اختلف أهل التفسير فى ذلك:
فمنهم من حمل المعيشة الضّنك على عذاب القبور، ومنهم من حملها على سوء الحال، ونكد العيش حالة الحياة؛ غير أن الأول أولى، وأقرب إلى الظاهر، وذلك لأن من أعرض عن ذكر الله- تعالى- قد يكون فى الدنيا فى أنعم عيش وأرغده، والمؤمن على الضد منه على ما هو المشاهد المحسوس، ولهذا قال عليه السلام «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» «2».
فلو كان المراد بالمعيشة الضنك: المعيشة فى حالة الحياة؛ لكانت هذه الأمور على خلاف ظاهر الآية.
وأما السنة:
فأخبار صحيحة فى صحيح مسلم منها ما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه مر بقبرين فقال: إنهما ليعذّبان وما يعذّبان فى كبير أمّا أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الثانى فكان يمشى بالنّميمة» «3».
وأيضا ما روى عنه عليه السلام أنه قال «استنزهوا [من البول] «4» فإن عامة عذاب القبر من البول» «5».
وأيضا قوله عليه السلام فى سعد بن معاذ «لقد ضغطته الأرض ضغطة اختلفت لها ضلوعه «6»».
وأيضا ما روى عنه عليه السلام «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» «7» وقد حمله المؤولون على ما إذا وصى بذلك.
________________
(1) سورة طه 20/ 124.
(2) رواه الترمذي عن أبى هريرة، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) متفق على صحته: رواه البخارى 1/ 273 فى الوضوء باب من الكبائر.
ورواه مسلم 3/ 200 وما بعدها- كتاب الطهارة- باب الدليل على نجاسة البول، ووجوب الاستبراء منه- عن ابن عباس رضي اللّه عنه.
(4) ساقط من (أ).
(5) رواه مالك فى الموطأ- كتاب الطهارة 1/ 18.
(6) رواه مسلم- كتاب فضائل الصّحابة- باب فضائل سعد بن معاذ رضي اللّه عنه 4/ 1925.
(7) رواه مسلم- كتاب الجنائز- 6/ 228 «حدثنا نافع عن عبد الله أنّ حفصة بكت على عمر فقال مهلا يا بنيّة أ لم تعلمى أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «إنّ الميت يعذّب ببكاء أهله عليه».
(4/336)
________________________________________
[و أيضا ما روى عنه- عليه السلام- أنه كان يكثر من قوله «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنه المسيخ «1» الدجال] «2».
وأيضا ما روى عنه- عليه السلام- أنه خرج بعد غروب الشمس فسمع صوتا فقال يهود تعذب فى/ قبورها «3»، والأخبار المأثورة، والآثار المشهورة فى ذلك أكثر من أن تحصى.
والدليل على مساءلة الملكين ما روى مسلم فى صحيحه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فى أثناء حديث مطول «إن ملكين يدخلان القبر ويجلسان الميت ويقولان:
أنت فى البرزخ؟ فمن ربك ومن نبيك؟ فإن كان كافرا قال: لا أدرى فيقولان لا دريت ولا اهتديت. وإن كان مؤمنا قال: آمنت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فيفسح له فى قبره ويرى موضعه من الجنة، ويقال له أرقد رقدة العروس» «4».
[تسمية أحد الملكين منكرا والآخر نكيرا]
وتسمية أحد الملكين منكرا، والآخر نكير؛ فمأخوذ من إجماع السلف من الأمة وأخبار مروية عن النبي- صلى الله عليه وسلم-.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الظواهر فى عذاب «11» // القبر، ومسائلة منكر ونكير، إنما يمكن العمل بها أن لو لم تكن مخالفة للمعقول، وليس كذلك، ودليل مخالفتها للمعقول [هو: أنا قد نرى شخصا يقتل ويصلب ويبقى على صلبه إلى أن تذهب «5»] أجزاؤه، ولا نشاهد منه حياة، ولا مسائلة، والقول بذلك مع عدم مشاهدته منه مخالف للمعقول.
وأيضا: فإنّ من افترسته السّباع الضّوارى، وتفرقت أجزاؤه فى بطون السّباع وحواصل الطّيور؛ بل أبلغ من ذلك من أحرق بحيث تفتت أجزاؤه، وصارت هباء، وذريت فى
________________
(1) رواه مسلم 5/ 87 وما بعدها- كتاب المساجد- باب استحباب التعوذ من عذاب القبر وعذاب جهنم عن أبى هريرة رضي اللّه عنه.
(2) ساقط من (أ).
(3) متفق عليه- صحيح مسلم 17/ 203 وما بعدها- كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها- باب عرض مقعد الميت عليه وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه. عن أبى أيوب رضي اللّه عنه.
(4) رواه مسلم: صحيح مسلم- كتاب الجنة- باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه 4/ 2200.
(11) // أول ل 124/ ب من النسخة ب.
(5) ساقط من (أ).
(4/337)
________________________________________
الرياح العواصف؛ فإنا نعلم استحالة عذابه، ومسائلته فى تلك الحالة؛ لأنه إن كان ذلك من غير حياة؛ فهو محال؛ وان كان مع الحياة. [فالحياة] «1»، لا تقوم بالأجزاء الفردة دون تأليف خاص؛ وإلا لجاز أن يقال بأن ما من جوهر [يوجد «2»] إلا وهو حي، عالم، قادر، مريد، مكلف، والقول بذلك مما لا يرتضيه لنفسه محصل.
وإن سلمنا الإمكان العقلى غير أن ما ذكرتموه من الظواهر معارض بمثلها
الأول: منها قوله حكاية عن الكفار إذا حشروا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «3» وهو دليل ظاهر على أنهم لم يكونوا [معذبين] «4» قبل ذلك.
الثانى: قوله- تعالى-: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «5» وهو خلاف قول من يقول بأن الميت يحيى للمسألة ثم يموت.
الثالث: قوله- تعالى-: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «6» فإنه يدل على الإحياء ابتداء ثم الإماتة، ثم الإحياء للحشر من غير مزيد، ومن قال بالإحياء للمسألة وبالموت بعدها، فقد زاد على مدلول الآية.
الرابع: قوله- تعالى-: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «7» وقوله- تعالى-: وما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «8» وهو خلاف القول بالمساءلة/ لاستدعائها، السمع، والإسماع.
والجواب:
أما ما ذكروه من الشبهة الأولى؛ فقد اختلف المتكلمون فى جوابها.
فمنهم من قال: بالتزام الثّواب والعقاب، فى حق الموتى، من غير حياة، كما حكيناه عن الصالحى، وابن جرير الطبرى، وبعض الكرامية «9»، وهو مكابرة للمعقول.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) ساقط من (أ).
(3) سورة يس 36/ 52.
(4) ساقط من (أ).
(5) سورة الدخان 44/ 56.
(6) سورة البقرة 2/ 28.
(7) سورة النمل 27/ 80.
(8) سورة فاطر 35/ 22.
(9) انظر رأيهم فيما سبق ل 219/ أ.
(4/338)
________________________________________
وأما أصحابنا: فقد اختلفوا فى صورة المصلوب، وكذا كل ما نشاهده من الميت بعد موته، وهو على هيئته مددا متطاولة.
فمنهم من قال: ترد الحياة إلى بعض أجزاء البدن، واختصاصها بذلك والمساءلة، والعذاب، وإن لم يكن ذلك مشاهدا لنا.
وأما القاضى أبو بكر «1»: فقد قال: لا يبعد أن ترد الحياة إلى المصلوب وإن كنا نحن لا نشعر بها: كما فى صاحب السكتة، ويسأل، ويعذب، ويكون ذلك خفيا عنا مستورا منا، ولا بعد فيه، كما لا بعد فى رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم- جبريل؛ وهو بين أظهر أصحابه، مع ستره عنهم.
وأما الصورة الأخرى: فجوابها: بمنع اشتراط البنية المخصوصة فى الحياة، وعند ذلك: فلا مانع أن يرد الله- تعالى- الحياة إلى كل جزء من البدن، أو إلى أجزاء مخصوصة منه كما سبق ويسأل، ويعذب، وإن كان ذلك مستورا عنا، وغايته أنه من الخوارق للعادة وهى غير ممتنعة فى مقدور الله- تعالى- كما سبق تحقيقه.
وأما قوله- تعالى-: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا «2»؟ فهو دليل على حياتهم؛ لأن المفهوم من المرقد: هو موضع الاضطجاع للرقاد، والرقاد من صفات الأحياء.
فإثبات المرقد لهم يدلّ على كونهم أحياء فى قبورهم، وليس فيه ما يدل على عدم العذاب؛ لجواز أن يكونوا فى مراقدهم معذبين.
ولهذا فإنه يصح أن يقول المريض المدنف «3» الّذي استولت عليه الآلام: تعذبت فى مرقدى، وأنا على غاية الألم والقلق؛ فدل أن المرقد يكون مع الراحة تارة، ومع مقابلها أخرى. ويحتمل أن يقال: بأن ما يلقونه من عذاب القبر بالنسبة إلى ما يلقونه من عذاب يوم القيامة يكون كالروح والراحة «4»، حالة كون الانسان راقدا فى مرقده، فلذلك قالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا: أى ما كنا فيه من الروح والراحة بالنسبة إلى هذا العذاب.
________________
(1) انظر شرح المواقف- الموقف السادس ص 228 فقد وضح قول القاضى أبو بكر.
(2) سورة يس 36/ 52.
(3) المدنف: الدنف بفتحتين: المرض الملازم. وقد دنف المريض من باب طرب: أى ثقل ... وأدنفه المرض يتعدى ولا يلزم فهد مدنف ومدنف. (مختار الصحاح للرازى).
(4) الروح: الاستراحة وكذا الراحة- مختار الصحاح للرازى.
(4/339)
________________________________________
وإن سلمنا منافاة المرقد للعذاب «11» // مطلقا؛ غير أن بعثهم من مرقدهم لا يدل على انتفاء عذاب القبر مطلقا لوجهين:
الأول: أن عذاب القبر غير دائم فى بعض الأوقات دون البعض على ما قال- تعالى-: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا «1» وفيما بين ذلك فالعذاب/ يكون مفتّرا، وقيام الساعة إنما يكون عند ارتفاع النهار على ما وردت به الأحاديث ولعل ذلك يقع مصادفا لوقت الفترة فى مرقدهم.
الثانى: أنه قد ورد فى الروايات الصحاح عن النبي عليه السلام «أن عذاب القبر يرتفع فيما بين النفختين: نفخة الصعقة، ونفخة الحشر «2»؛ فلا تقوم الساعة إلا وهم فى مرقدهم غير معذبين. وبه الرد على الصالحى وموافقيه «3».
وأما قوله- تعالى-: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «4» فهو وارد فى حق أهل الجنة، وعند ذلك فيحتمل أن يكون المراد من قوله إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى جنس الموت، وإن كانت الصيغة صيغة الواحدان كما فى قوله- تعالى-: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «5».
والمراد به جنس الناس، وليس فى ذلك ما يدل على انتفاء كثرة الموت فى نفسه.
وإن سلمنا ظهور اللفظ فى الموتة عن الحياة الأولى؛ غير أنه يحتمل أنه أراد بذلك تعريف أنهم لا يذوقون فيها ألم الموت كما لقوه فى الموتة الأولى، [و ليس فى ذلك ما يدل على انتفاء موتة أخرى؛ لجواز أن لا يذوقون فيها ألم الموت، وشدته كما لقوه فى شدة الموتة الأولى] «6» ولا يلزم من انتفاء وصف الموتة الأولى عن غيرها، انتفاء أصل الموت.
ويحتمل أنه أراد بذلك بيان دوام نعيمهم، وعدم انقطاعه فقال لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ: أى لا ينقطع نعيمهم بالموت: كانقطاع نعيم أهل الدنيا بالموت، وليس فى
________________
(11) // أول ل 125/ أ.
(1) سورة غافر 40/ 46.
(2) وقد أورده ابن القيم بمعناه فى كتابه الروح ص 123.
(3) راجع قول الصالحى، وابن جرير الطبرى، وبعض الكرّاميّة ل 219/ أ.
(4) سورة الدخان 44/ 56.
(5) سورة العصر 103/ 2.
(6) ساقط من (أ).
(4/340)
________________________________________
ذلك أيضا: ما يدل على انتقاء موتة أخرى بعد المسألة؛ إذ لم ينقطع بها نعيمهم ويجب الحمل على ما ذكرناه جمعا بينه، وبين ما ذكرناه من الأدلة.
وأما الآية الثالثة: فالمراد من قوله- تعالى-: وكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ الحياة الأولى: وقوله ثُمَّ يُمِيتُكُمْ الموتة الأولى وقوله ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إحياء المساءلة، وأما إحياء النشر، والموت قبله؛ فهو مستفاد من قوله- تعالى-: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «1».
فالآية دالة على ما منعوه من الزيادة، لا أنها نافية له.
وإن سلمنا دلالة الآية على الإحياء الأول والموت منه، والإحياء للنشر؛ فليس فيه ما يدل على نفى الزيادة على ذلك إلا بطريق المفهوم، وليس بحجة، وبتقدير أن يكون حجة غير أن العمل بما ذكرناه أولى؛ لأنه منطوق.
وأما قوله- تعالى-: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «2» تشبيه للكفار بالموتى، ونحن لا ننكر أن الميت لا يسمع، وليس فى ذلك ما يدل على أن الميت لا يحيى فى قبره ولا يسمع بتقدير إحيائه.
وقوله تعالى وما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «3» معناه: بتقدير أن يكونوا موتى، ونحن نقول به. وإلا فبتقدير أن يكونوا أحياء؛ فلا امتناع فى إسماعهم إجماعا.
________________
(1) سورة البقرة 2/ 28.
(2) سورة النمل 27/ 80.
(3) سورة فاطر 35/ 22.
(4/341)
________________________________________
الفصل الرابع فى الصراط/ والميزان، والحساب، وقراءة الكتب والحوض المورود، وشهادة الأعضاء «1»
أما الصراط «2»:
فمذهب أكثر المتكلمين إثبات الصراط على متن جهنم. وهو كالجسر الممدود عليها.
وعليه يعبر جميع الخلائق المؤمنين، وغير المؤمنين.
وأما المعتزلة:
فقد اختلفوا:
فذهب أبو الهذيل، وبشر بن المعتمر إلى جوازه دون الحكم بوقوعه، وتردد الجبائى فى نفيه، وإثباته، فأثبته مرة، ونفاه أخرى.
وذهب أكثر المعتزلة إلى نفى الصراط بهذا المعنى «3».
واحتج أهل الحق: بأن إثبات الصّراط بهذا الاعتبار ممكن؛ إذ لو فرض لم يلزم عنه لذاته محال، ونصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة دالة عليه؛ فوجب إثباته.
أما الكتاب: فقوله- تعالى-: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ* وقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ «4».
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا:
انظر: الإرشاد للجوينى ص 379 وما بعدها وأصول الدين للبغدادى ص 245 وما بعدها، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 231 وما بعدها، وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 163، وشرح العقيدة الطحاوية ص 473 وما بعدها ومن كتب المعتزلة شرح الأصول الخمسة ص 734 وما بعدها.
(2) الصراط: هو جسر على جهنم إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف إلى الظلمة التى دون الصراط كما قالت عائشة- رضى الله عنها: إن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم- سئل أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ «هم فى الظلمة دون الجسر». [شرح العقيدة الطحاوية ص 477].
(3) يقول القاضى عبد الجبار فى شرح الأصول الخمسة ص 737، 738: «و من جملة ما يجب الإقرار به واعتقاده:
الصّراط وهو طريق بين الجنة والنار. يتسع على أهل الجنة، ويضيق على أهل النار إذا راموا المرور عليه. وقد دل عليه القرآن، قال الله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ 6 صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ سورة الفاتحة 1/ 6، 7 فلسنا نقول فى الصراط ما يقوله الحشوية».
(4) سورة الصافات 37/ 23، 24.
(4/342)
________________________________________
وأما السنة: فإنه قد روى أن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- أخبر عنه ووصفه بأنه «أدق من الشعرة وأحد من غرار السيف» وعلى جنبتيه خطاطيف وكلاليب، وأن الكلّوب منها يحتوى على عدد ربيعة ومضر، ويهوى بهم إلى قعر جهنم «1».
وروى عنه عليه السلام: «أنه قيل له إذا طويت السموات، وبدلت الأرض أين يكون الخلق يومئذ؟ فقال «11» // إنهم على جسر جهنم «2».
وروى عنه عليه السلام أنه سأله بعض أصحابه أين نطلبك فى عرصات القيامة؟
فقال صلى اللّه عليه وسلم «عند الصراط، أو عند الحوض، أو الميزان «3».
وروى عنه عليه السلام أنه وصف العابرين على الصراط فقال: من الجائزين عليه من هو كالبرق الخاطف، ومنهم من هو كالريح الهابة، ومنهم من هو كالجواد، ومنهم من تجور رجلاه، وتعلق يداه، ومنهم من يخر على وجهه. إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المأثورة الخارجة عن العد فى ذكر الصراط، وصفته «4».
________________
(1) أخرجه البيهقى فى شعب الإيمان من حديث أنس. وروى عن زياد والنميرى عن أنس مرفوعا «الصراط كحد الشعرة- أو كحد السيف» وقال: وهى رواية صحيحة.
(11) // أول ل 125/ ب.
(2) رواه مسلم. كتاب صفه المنافقين وأحكامهم- باب فى البعث والنشور وصفة يوم القيامة 4/ 2150
(3) رواه مسلم.
(4) وأرى من المفيد ذكر هذا الحديث فهو يصف حال العابرين على الصراط وصفا دقيقا:
روى البيهقى بسنده عن مسروق، عن عبد الله قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة» إلى أن قال: «فيعطون نورهم على قدر أعمالهم».
فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه.
ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك.
ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه.
ومنهم من يعطى دون ذلك. حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدمه، يضئ مرة ويطفأ مرة. فإذا أضاء؛ قدم قدمه. وإذا طفئ قام.
قال: ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف، دحض مزلة.
فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم.
فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب. ومنهم من يمر كالريح. ومنهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كشد الرجل يرمل رملا. فيمرون على قدر أعمالهم.
حتى يمر الّذي نوره على إبهام قدمه، تخر يد، وتعلق يد، وتخر رجل، وتعلق رجل وتصيب جوانبه النار. قال:
فيخلصون، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الّذي نجانا منك بعد الّذي أراناك، لقد أعطانا الله ما لم يعط أحدا» الحديث. [رواه الحاكم فى «المستدرك» 2/ 376 - 377 قال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبى] انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 477 - 478.
(4/343)
________________________________________
وأما الإجماع: فهو أنّ الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين على إثبات الصراط بهذا المعنى؛ فكان حجة على المخالف.
فإن قيل: خلق الصراط على ما وصفتموه من كونه أدق من الشعرة وأحد من غرار السيف مما يستحيل العبور عليه عقلا، وقد قلتم بأن عليه عبور الخلائق كلهم، فيمتنع، وبتقدير إمكان العبور عليه غير أنه يلزم من ذلك. إتعاب المؤمنين، ولا تعب عليهم يوم القيامة ولا نصب؛ إذ هو نوع من العذاب، والمؤمن غير معذب.
وعند ذلك: فنقول: لفظ الصراط وإن كان قد يرد بمعنى الإسلام، وبمعنى كتاب الله، وبمعنى طريق الجنة «1»، وبمعنى الدين القويم إلا أنه قد يطلق ويراد به/ الطريق إلى الشيء، وعند ذلك: فيجب حمل قوله تعالى «فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ» على الطريق إليها؛ لتعذر حمله على ما سواه من الاعتبارات الأخرى.
وعلى ذلك يجب تأويل الأخبار من السنة أيضا:
والجواب:
قولهم: بأن ذلك مما يستحيل العبور عليه، ليس كذلك؛ فإنه غير بعيد أن يقدر الله- تعالى بعض عباده على ذلك كما أقدر بعض مخلوقاته على الطيران فى الهواء، وبعضهم على السباحة فى الماء. وغايته: أن ذلك من خوارق العادات، وغير مستبعد أن يخصص الله- تعالى- به بعض عباده، كما حققناه فى المعجزات «2».
قولهم: فيه إتعاب المؤمنين- ممنوع. وما المانع من إقدار الله- تعالى- لهم على ذلك من غير تعب، ولا نصب؟
وبتقدير إتعابهم فهو غير ممتنع على أصول أهل الحق، فإن ذلك مما لا يزيد فى الحرج والمشقة على ما ينال الأنبياء، والأولياء من زفرة جهنم على ما روى فى صحيح الحديث «إن جهنم تزفر زفرة لا يبقى عندها ملك مقرب، ولا نبى مرسل إلا جثا على ركبتيه «3»، وإليه الإشارة بقوله- تعالى-: وتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً «4» ولا على ما ينالهم
________________
(1) من أول هنا نهاية ل 222/ أ- ل 224/ أ من النسخة (أ) محذوف من النسخة ب. [و بمعنى طريق الجنة// بمقتضى العقل] هكذا فى نسخة ب منتصف ل 125/ ب.
(2) راجع ما مر ل 130/ أ وما بعدها من القاعدة الخامسة.
(3) أورده القرطى فى التذكرة ص 441: باب ما جاء أن النار لما خلقت فزعت الملائكة حتى طارت أفئدتها. عن ميمون بن مهران قال: لما خلق الله جهنم أمرها فزفرت زفرة، فلم يبق فى السموات السبع ملك إلا خرّ على وجهه. التذكرة ص 441.
(4) سورة الجاثية 25/ 28.
(4/344)
________________________________________
من الورود على جهنم على ما قال- تعالى-: وإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1». وإذا جاز ذلك، جاز ما هو مثله فى المشقة أو أدنى، وما ذكروه فى تأويل الصراط فهو مدفوع بإجماع الأمة السالفة قبل ظهور المخالفين على تفسيره بما ذكرناه: من أنه جسر على متن جهنم، وأن عبور الخلائق كلهم عليه «2».
كيف وفى الأخبار ما يدل على امتناع حمله على الطريق إلى جهنم، حيث أنه وصف المؤمنين بسرعة العبور، دون غيرهم.
ولو كان الصراط طريقا إلى جهنم، لا أنه جسر على جهنم؛ لكان الأمر بالعكس.
وأما الميزان «3»:
فقد أثبته الأشاعرة، والسلف، وأكثر المسلمين؛ وأنكره المعتزلة. لكن منهم من أحاله عقلا، ومنهم من جوزه عقلا، وإن لم يقض بثبوته كالعلاف، وبشر ابن المعتمر.
وقد أحتج أهل الحق فى ذلك- بأن نصب الميزان ممكن، والنصوص دالة عليه؛ فوجب إثباته.
أما الجواز العقلى: فإثباته بما تقدم.
وأما النصوص الدالة عليه: فمنها قوله- تعالى-: ونَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً «4» وقوله- تعالى-: والسَّماءَ رَفَعَها ووَضَعَ الْمِيزانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ «5» وقوله- تعالى-: والْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ «6» وقوله- تعالى-:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* ومَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ «7» الآية
________________
(1) سورة مريم 19/ 71.
(2) راجع مقالات الإسلاميين 2/ 146 وأصول الدين للبغدادى ص 246 وشرح المواقف- الموقف السادس ص 231، وشرح المقاصد 2/ 164.
(3) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا انظر: الإرشاد لإمام الحرمين الجوينى ص 380، والاقتصاد للغزالى ص 125. نهاية الأقدام للشهرستانى ص 469، 470. وأصول الدين للبغدادى ص 246 وغاية المرام للآمدى ص 305، 306 ومن كتب المعتزلة: انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 735، 736.
وانظر شرح المواقف- الموقف السادس ص 229 وشرح المقاصد 2/ 164 وشرح الطحاوية ص 479 - 483.
(4) سورة الأنبياء 21/ 47.
(5) سورة الرحمن 55/ 7، 8.
(6) سورة الأعراف 7/ 8 والآية ساقطة من (أ).
(7) سورة المؤمنون 23/ 102، 103.
(4/345)
________________________________________
فإن قيل: حمل لفظ الميزان، والموازين «11» // على ما يوزن به أعمال/ العباد، ممتنع؛ إذ الأعمال أعراض، والأعراض مما لا بقاء لها كما تقدم، ولا هى مما يمكن إعادتها على ما سلف «1» وبتقدير بقائها، أو إمكان إعادتها؛ فهى أعراض، والأعراض ممتنع وزنها؛ فإنها لا توصف بثقل، ولا خفة؛ بل إنّما ذلك من صفات الجواهر.
وبتقدير إمكان وزنها: فلا فائدة فى الوزن؛ إذ المقصود إنما هو العلم بتفاوت الأعمال، والله- تعالى- عالم بذلك، فلا فائدة فى نصب الميزان، وما لا فائدة فيه ففعله يكون قبيحا، والرب- تعالى- منزه عن فعل القبيح.
وعند هذا: فيجب حمل لفظ الميزان على العدل، والإنصاف، وبتقدير الحمل على ما يوزن به، فالنص قد دلّ على موازين وهو قوله- تعالى-: ونَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ «2» وقوله- تعالى-: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ «3» وأنتم لا تقولون إلا بميزان واحد.
والجواب: أما ما ذكروه فى بيان تعذر وزن الأعمال، فمندفع، بقول النبي- صلى اللّه عليه وسلم- لما سئل عن وزن الأعمال «إنما توزن الصحف»
قولهم: لا فائدة فى وزن الأعمال؛ فهو مبنى على أصولهم فى وجوب رعاية الحكمة وقد أبطلناه «4» وبتقدير تسليم ذلك لهم فلا مانع أن يكون له فى ذلك حكمة قد استأثر بعلمها وحده.
وعلى هذا: فيتعذر حمل الميزان على العدل، والإنصاف، [لما فيه من مخالفة الظاهر من غير دليل. كيف: وأنه يمتنع حمل الميزان على العدل، والإنصاف] «5» إذ الموازين موصوفة بالخفة، والثقل في قوله- تعالى-: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وقوله- تعالى-: ومَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ والعدل، والإنصاف لا يوصف بثقل، ولا خفة.
________________
(11) // أول ل 127/ أ من النسخة ب.
(1) راجع ما مر فى الجزء الثانى- الفرع الرابع، فى تجدد الأعراض، واستحالة بقائها ل 44/ ب.
(2) سورة الأنبياء 21/ 47.
(3) سورة المؤمنون 23/ 102.
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 186/ أ وما بعدها.
(5) ساقط من (أ).
(4/346)
________________________________________
وقوله: النص قد دل على إثبات موازين.
قلنا: نحن لا ننكر ذلك، غير أنه قد ثبت فى الأخبار أن الميزان ليس إلا واحدا فيجب حمل الجمع عليه؛ إذ لا تعذر فيه، كما في قوله- تعالى-: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ «1». وأراد بقوله الذين قال لهم الناس واحدة.
وأما الحساب، وأخذ الكتب، وقراءتها، ونصب الحوض، وشهادة الأعضاء؛ فهو ممكن عقلا على ما تقدم، والنصوص دالة على ذلك؛ فوجب اتباعها.
أما الحساب:
فيدل عليه قوله تعالى فى وصف يوم القيامة بيوم الحساب وقوله تعالى-: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً «2».
وأما أخذ الكتب:
فيدل عليه قوله- تعالى-: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ «3».
وأما قراءة الكتب: فيدل عليه قوله- تعالى-: اقْرَأْ كِتابَكَ «4».
وأما شهادة الأعضاء:
فيدل عليه قوله- تعالى-: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «5».
وأما نصب الحوض:
فيدل عليه ما روى عنه- عليه الصلاة والسلام- لما سأله بعض أصحابه: أين نطلبك فى/ عرصات القيامة أنه قال: «عند الصراط، أو الحوض، أو الميزان» «6» وللظواهر من الآيات، والأخبار فى ذلك متسع.
________________
(1) سورة آل عمران 3/ 173.
(2) سورة الانشقاق 84/ 8.
(3) سورة الانشقاق 84/ 7.
(4) سورة الإسراء 17/ 14.
(5) سورة النور 24/ 24.
(6) رواه مسلم 4/ 2150.
(4/347)
________________________________________
الأصل الثالث فى أحكام الثواب والعقاب. ويشتمل على خمسة فصول:
الفصل الأول «1»: فى استحقاق الثواب والعقاب.
الفصل الثانى: فى أن ثواب أهل الجنة، وعقاب الكفار غير واجب الدوام عقلا؛ بل سمعا.
الفصل الثالث: فى استحقاق عصاة المؤمنين العقاب على زلاتهم، وجواز الغفران عنها عقلا.
الفصل الرابع: فى أن عقاب العصاة من المؤمنين غير مخلد.
الفصل الخامس: فى الإحباط والتكفير.
________________
(1) فى النسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية أ ب ج للدلالة على ترتيب الفصول.
(4/349)
________________________________________
الفصل الأول فى استحقاق الثواب والعقاب
[مذهب أهل الحق. لا يجب على الله- تعالى- شيء]
قد بينا فى التعديل والتجوير أنه من مذهب أهل الحق أنه لا يجب على الله- تعالى- شيء «1».
وأنه إن أنعم فبفضله، وإن انتقم فبعدله.
ووافقهم على ذلك البلخى من المعتزلة.
[و ذهب معظم المعتزلة: أنه يجب على الله إثابة المطيع، وعقاب العاصى]
وذهب الباقون من المعتزلة إلى أنه يجب على الله- تعالى- عقلا أن يثيب المطيع على طاعته، إذا لم يقارنها محبط.
وأن يعاقب العاصى على معصيته إن مات من غير توبة «2».
محتجين على ذلك بقولهم: إنّا نعلم بقضية العقل أنّ المطيع المحسن مستوجب للتعظيم، ورفع الدرجة، وأن العاصى مستوجب لضد ذلك.
وأيضا: فإن الرب- تعالى قد أوجب الطاعات على المكلفين، فإما أن يكون ذلك لفائدة، أو لا لفائدة.
لا جائز أن تكون لا لفائدة؛ إذ هو عبث، وسفه.
وإن كان لفائدة: فإما أن تعود إلى الخالق، أو إلى العبد.
لا جائز أن تعود إلى الخالق «11» //؛ إذ هو يتعالى ويتقدس عن الأغراض والضرر، والانتفاع، وإن عادت إلى العبد: فإما أن تعود إليه فى الدنيا، أو فى الأخرى.
لا جائز أن يقال بالأول؛ لأنّ العبادة محض عناء، وتعب، وكلفة، ونصب، وقطع النفس عن الشّهوات، وأنواع الملاذ؛ ولا نفع فيها فى الدّنيا ولا فائدة.
وإن كان الثانى: فهو المطلوب.
وأيضا فإنّ اللّه- تعالى- قد خلق فى المكلّف شهوة المعاصى، والقبائح.
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 186/ أ.
(2) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا: ارجع إلى الإرشاد للجوينى ص 331 وما بعدها، وشرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 611 وما بعدها. وشرح المواقف للجرجانى- الموقف الخامس ص 324، والموقف السادس ص 199 وما بعدها وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 165 وما بعدها.
(11) // أول ل 127/ ب.
(4/351)
________________________________________
فلو لم يعلم المكلف استحقاقه للعقاب على تقدير فعلها؛ لكان ذلك من الله- تعالى- إغراء للمكلف بفعل القبيح؛ فيكون قبيحا، وهو على الله- تعالى- محال.
وبالجملة؛ فحاصل إيجابهم للثّواب، والعقاب على الله- تعالى- مبنى على التّحسين والتّقبيح العقلى، ووجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله- تعالى.
ومن حقّق ما أسلفناه فى التّعديل والتجوير «1»؛ لم يخف عليه بطلان مثل هذه الحجج هاهنا غير أنه لا بدّ من تتبعها، وزيادة الكشف فى إبطالها.
[الرد على المعتزلة]
فنقول: أما إيجاب الثواب على فعل الطاعة بناء على كونه/ مقتضى العقل فمبنى على التحسين والتقبيح العقلى، وقد أبطلناه «2».
وبتقدير التسليم لذلك جدلا.
ولكن لا نسلم أن ذلك من مستحسنات العقول، وبيانه من أربعة أوجه:-
الأول: أنّ ما يأتى به العبد من الطّاعات فهى عندهم واجبة عليه، شكرا لما أنعم الله عليه من النّعم الدنيوية، ومن أدى واجبا؛ فإنه لا يستوجب به بمقتضى العقل ثوابا، ولا جزاء؛ ولهذا فإنّ السيّد منّا إذا أحسن إلى عبده ومن هو فى رقه وملكه، وأفاض عليه النعم، وأزاح عنه النّقم، فإنه يستحقّ بمقتضى العقل خدمة العبد له، وطاعته إياه، وما يفعله العبد من ذلك بطريق الاستحقاق، والشكر لإحسان سيده إليه، لا يكون بمقتضى العقل موجبا لمجازاة السيد إياه على ذلك الفعل «3».
الثانى: أنه لو استوجب العبد بمقتضى العقل الثّواب الأبدى على فعل الواجب؛ لاستوجب الرب- تعالى- الشكر الأبدى على العبد بالنعم السابقة؛ بل أولى، واللازم ممتنع.
وبيان الملازمة: أن عبادة العباد مع الآباد. لا توازى نعم الله- تعالى عليهم فى دار التكليف ساعة من نهار فإذا جاز بمقتضى العقل إيجاب الثّواب الأبدى على الله- تعالى- بطاعة العبد، مع كونها واجبة شكرا لما أنعم الله به عليه ابتداءً؛ فالقول بإيجاب الشّكر الأبدى لله- تعالى- على العبد بما أنعم الله تعالى- عليه به أولى، واللازم ممتنع؛ لما فيه فى لزوم التكليف فى دار الخلود؛ وهو محال.
________________
(1) انظر ما سبق ل 186/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 174، ب وما بعدها.
(3) قارن بما ورد فى الإرشاد للجوينى ص 321، وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 166.
(4/352)
________________________________________
الثالث: أنه لو استوجب العبد بطاعته الواجبة عليه الثواب على الله- تعالى «1» بمقتضى العقل؛ لاستوجب الرب- تعالى- بمقتضى العقل شكرا آخر بإثابته للعبد وإن كانت الإثابة واجبة، بل أولى؛ لأنّ الرب- تعالى- أولى بالاستحقاق؛ لابتدائه بالنعم؛ وذلك يجرّ إلى التّسلسل الممتنع.
الرابع: أنه لو وجب الثّواب على الله- تعالى- لما وجد عنه محيدا؛ وذلك يوجب كون الرب- تعالى- مضطرا فى فعله غير مختار؛ وهو محال.
قولهم: إيجاب الطاعة لا بدّ وأن يكون لفائدة، فمبنى على وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله تعالى وقد أبطلناه «2».
ثم وإن سلّمنا وجوب رعاية الحكمة جدلا، فما المانع أن يكون ذلك لحكمة غير الثواب.
قولهم: إما أن يعود إلى العبد فى الدنيا، أو فى الآخرة، ما المانع من كونها دنيوية؟
قولهم: لا فائدة له فيها دنيويا.
دعوى من غير دليل، وعدم الوجدان لذلك مع البحث، والسبر غير يقينى «3»، لما علم.
وأما استحقاق العقاب، وايجابه على الله- تعالى فهو أيضا/ ممتنع؛ لأنّه إمّا أن يكون ذلك لفائدة، أو لا لفائدة.
لا جائز أن يكون لا لفائدة؛ إذ هو عندهم قبيح.
وإن كان لفائدة، فإما أن تعود إلى الرّبّ- تعالى، أو العبد.
الأول محال؛ لما سبق «4».
وإن عادت إلى العبد؛ فلا يخفى أنه لا فائدة للعبد فى تحتم عقابه، ولزوم عذابه على ما أسلفناه فى التعديل والتّجوير «5».
________________
(1) الى هنا انتهى المحذوف من النسخة ب (و بمعنى طريق الجنة// بمقتضى العقل).
(2) راجع ما سبق ل 186/ أ.
(3) راجع ما سبق ل 29/ ب.
(4) راجع ما سبق ل 186/ ب.
(5) انظر ما سبق ل 174/ ب وما بعدها.
(4/353)
________________________________________
قولهم: إنّ اللّه تعالى- قد خلق فى العبد شهوات المعاصى، فلو لم يعلم العبد استحقاقه للعقاب بالمعصية؛ لكان ذلك إغراء للعبد بالمعصية.
ليس كذلك؛ بل لو قيل: إنّ خلق الشّهوة مع المنع باستحقاق العقاب يكون إغراء.
كان أولى، على ما قيل المرء حريص على ما منع.
وإن سلّمنا أنّ المنع ليس بإغراء، لكن إن اعتبر فى المنع من الإغراء بالمعصية منع المكلف بأبلغ الطرق فكان من الواجب أن لا يقدر العبد على المعصية؛ إذ هو أبلغ من التمكين مع استحقاق العقاب بالفعل، وإلّا كان ذلك إغراء بالمعصية، وإن لم يعتبر فى ذلك أبلغ الطرق فقد أمكن دفع الإغراء بعلم العبد؛ بجواز عقابه، وإسقاط ثوابه من غير إيجاب.
كيف وأنه يلزم على ما ذكروه أن يكون الرب- تعالى- مغريا بالمعصية للعبد حالة جهل العبد بالله- تعالى- وباستحقاقه للعقاب بمعصية حيث لم يخلق الله- تعالى له العلم الضرورى بذلك، ولم يقل به قائل «1».
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة فى قضية الثواب والعقاب.
انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 700 وشرح المواقف الموقف الخامس ص 323 وما بعدها، والموقف السادس ص 199 وما بعدها، وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 165 وما بعدها.
(4/354)
________________________________________
الفصل الثانى فى أن ثواب أهل الجنة، وعقاب الكفّار غير واجب الدّوام عقلا، بل سمعا
[مذهب أهل الحق]
قد بيّنا أن مذهب أهل الحق: أن أصل الثواب والعقاب على الطاعة والمعاصى غير واجب عقلا على ما تقدم فى الفصل الّذي قبله «1». وكذلك الحكم فى دوامه؛ إذ يستحيل أن يكون دوامه واجبا عقلا، وأصله غير واجب؛ بل وجوب دوامه إنما وقع مستفادا من السمع؛ إذ القرآن «11» // والسنة مشحونان بخلود نعيم أهل الجنّة، وعذاب الكفّار.
[مذهب المعتزلة]
وأما المعتزلة: فإنهم قالوا بوجوب دوام نعيم المؤمنين، وعذاب الكفار عقلا، ونقل عن الصاحب بن عباد «2» أنه قال: إنّما يجب خلود نعيم من علم الله- تعالى- منه أنه لو أبقاه فى دار الدّنيا؛ لبقى على إيمانه، وكذلك إنّما يجب خلود عذاب من علم الله- تعالى- منه أنّه لو أبقاه فى الدّنيا أبدا؛ لبقى على كفره أبدا، ولا يخلد من لم يعلم منه ذلك. وسنبين بعد الفراغ من حكاية شبه المعتزلة على مذهبهم، وإبطالها، ضعف مقالة ابن عباد على أصول المعتزلة، وتناهيها فى الفساد.
[حجج المعتزلة]
وقد احتج المعتزلة على مذهبهم بحجج، منها ما يعمّ الخلودين، ومنها ما هو خاص بأحدهما دون الآخر.
أما الحجة العامة: فهو أنهم قالوا/ الموجب لاستحقاق الثّواب؛ هو الموجب لاستحقاق الثناء والمدح، وكذلك الموجب لاستحقاق العقاب؛ هو الموجب لاستحقاق الذّم والتّوبيخ.
________________
(1) راجع ما سبق فى الفصل الأول ل 227/ أ.
(11) // أول ل 126/ أ.
(2) هو إسماعيل بن عباد بن العباس أبو القاسم الطالقانى: ولد فى الطالقان (من أعمال قزوين) وإليها نسبته سنة 326 ه وتوفى بالرى ونقل إلى أصبهان فدفن بها سنة 385 ه استوزره مؤيد الدولة ابن بويه، ولقب بالصاحب لصحبته مؤيد الدولة من صباه؛ فكان يدعوه بذلك. كان من نوادر الدهر علما وفضلا وتدبيرا وجودة رأى له تصانيف جليلة، وشعر جيد (له ديوان مطبوع) وكتبت عنه كتب وطبعت [معجم الأدباء لياقوت الحموى 2/ 273 - 343 والأعلام للزركلى 1/ 316].
(4/355)
________________________________________
والثناء والمدح، وكذلك اللّوم والتّوبيخ غير مقيّدين بزمان دون زمان، بمقتضى العقل؛ بل هو دائم؛ فكذلك الموجب الآخر، وهو الثواب والعقاب «1».
وأما الحجج الخاصة بخلود الثواب: فثلاث.
الأولى: هو أن الثّواب نفع محض لا يشوبه ضرر. وبيانه من وجهين:
الأول: هو أنّ التفضّل بمنافع خالية عن الضّرر حسن فى العقل، وجائز، فلو لم يكن الثواب مجردا عن الضرر؛ لكان الفضل أحسن منه؛ وذلك مما يبطل حسن التكليف.
الثانى: هو أنّ الله- تعالى- قد رغّب المكلّفين بتكليفهم ترك المنافع المشوبة بالاضرار إلى الثّواب، فلو كان الثّواب نفعا مشوبا بالأضرار؛ لما حسن التكليف، والتّرغيب بترك نفع إلى مثله؛ وإذا ثبت أن الثواب نفع محض لا يشوبه ضرر، فلو علم المكلفون فى دار الثّواب، تصرّم نعيمهم، وأنّ ما هم عليه من النّعيم سينقطع؛ لتنغّصت عليهم لذاتهم، وخرج الثواب عن تمحّض النفع؛ وذلك ممتنع.
الحجة الثانية: أنّه لو كان الثواب منقطعا؛ لكان التّفضّل أحسن منه؛ لجواز دوامه، ويلزم من ذلك أن لا يكون التكليف حسنا؛ وهو محال.
الحجة الثالثة: أنّه لو كان الثواب غير دائم لم يخل: إمّا أن يعتبر فيه التقدير بالأوقات، أو لا يعتبر ذلك.
فإن كان الأول: فليس ثبوت الاستحقاق فى بعض الأوقات أولى من البعض؛ ضرورة تشابه الأوقات.
وإن كان الثانى: أمكن حصوله فى حالة واحدة؛ ضرورة عدم اعتبار الأوقات ثم يقطع عن المثاب، وذلك مما لا يحسن الترغيب فيه بالتزام المشاق الدائمة، وترك المنافع الدائمة بدوام أوقات الحياة فى الدنيا، وذلك يمنع من حسن التكليف. وإذا بطل كل واحد من اللازمين؛ لزم بطلان الملزوم.
وبمثل هذه الحجة يستدل على خلود العقاب أيضا.
________________
(1) لتوضيح رأى المعتزلة بالإضافة لما ورد هاهنا انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 611 وما بعدها، والمختصر فى أصول الدين له أيضا ص 26 ضمن رسائل التوحيد والعدل.
(4/356)
________________________________________
وذلك بأن يقال: لو لم يكن العقاب دائما؛ لم يخل: إمّا أن يعتبر فيه التقدير بالأوقات، أو لا يعتبر.
فإن كان الأول: فهو محال؛ لما تقدّم.
وإن كان الثانى: أمكن وصوله إلى المكلف دفعة واحدة كما فى أقرب زمان.
وعند ذلك: فلا يحسن أن يكون زاجرا عن الملاذ، والمنافع المحرّمة، المستمرة باستمرار الحياة؛ لما فيه من التزام أضرار مستمرة؛ خوفا من أضرار غير مستمرة، وذلك مما يمنع من حسن التكليف بالمنع من المعاصى؛ وهو محال.
[رد أهل الحق عليهم]
والجواب عن الحجة الأولى: لا نسلم استحقاق الثّناء، ولا الذّم دائما وإن سلمنا ذلك فما ذكروه تمثيل من غير دليل؛ فلا يصح/.
وعن الحجج الخاصة: أما الحجة الأولى: لا نسلمّ امتناع ثبوت الثّواب بالضّرر.
قولهم: إنّه يجوز التفضل بما لا يشوبه الضرر، وذلك يمنع من حسن التّكليف؛ فهو مبنى على التّحسين، والتّقبيح، ورعاية الحكمة فى أفعال اللّه؛ وهو باطل كما سبق «1».
ثم إن سلّم لهم هذا الأصل جدلا؛ فما المانع على أصلهم أن يكون حسن التكليف بما فيه من تعظيم المثاب، بكونه مكرما عالى الرتبة باستيفاء حقه، بخلاف المتفضل عليه؛ لكونه ممنونا عليه.
قولهم: إن اللّه- تعالى- قد رغّب المكلفين بتكليفهم المنافع المشوبة بالأضرار إلى آخره، إنّما يلزم أن لو وقع التساوى فى «11» // أصل منفعة الثواب والمنافع المكلف بتركها، وليس كذلك؛ إذ جاز أن تكون منفعة الثّواب أكثر، وبتقدير التساوى فى أصل المنفعة فإنّما يمتنع الترغيب أن لو وقع التساوى [فى ثبوت الضّرر، وما المانع من أن يكون ثبوت الضّرر فيما كلف بتركه أكثر؟ وبتقدير التساوى] «2».
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 174/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 126/ ب.
(2) ساقط من (أ).
(4/357)
________________________________________
فلا يمتنع حسن التكليف؛ لاختصاصه بالتّعظيم كما سبق.
كيف وأن ما ذكروه فمبنى على التحسين، والتقبيح العقلى؛ وهو باطل «1».
وإن سلمنا امتناع ثبوت الضرر للثّواب، ولكن ما المانع من أن لا يخلق الله- تعالى- لأهل الجنان العلم بانقطاع النّعيم؛ بل يلهيهم عن ذلك إلى حين انتهائه.
وعلى هذا فيكون نعيمهم خالصا عن شوب الكدر.
فلئن قالوا: النّعيم لا يتم دون كمال العقل. والعاقل لا يخلو عن خطور ذلك بعقله إذا كان جائزا.
قلنا: إذا كان خطور ذلك بعقله من مقدورات اللّه- تعالى- كما سبق، جاز أن لا يخلقه له.
وعن الحجة الثانية: ما سبق فى الوجه الأول من تقرير الحجة التى قبلها.
وعن الحجة الثالثة: ما المانع أن يكون الثّواب مقدورا بالأوقات.
قولهم: ليس تقديره ببعض الأوقات، دون البعض، أولى من العكس ممنوع.
قولهم: الأوقات متشابهة.
قلنا: إلا أنّ مقادير الأوقات غير متشابهة، فلا يلزم من تقدير الثّواب ببعض أعداد الأوقات تقديره بغيره.
وإن سلمنا جواز حصول الثّواب فى حالة واحدة فما المانع منه؟.
وما ذكروه فى تقريره فإنّما يلزم بتقدير التّساوى فى مقدار المنفعة.
وما المانع أن يكون مقدار منفعة الثّواب أكثر بأضعاف مضاعفة، وبتقدير التّساوى فإنما يمتنع حسن التكليف أن لو لم يختص بالتعظيم على ما تقدم.
وبتقدير أن لا يختص بما يوجب حسنه عقلا فما ذكروه مبنى على التحسين والتقبيح العقلى، وقد عرف إبطاله «2».
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 174/ ب وما بعدها.
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 174/ ب وما بعدها.
(4/358)
________________________________________
وعلى هذا: فقد خرج الجواب عما ذكروه فى الاحتجاج على وجوب دوام العقاب أيضا.
وأما ما ذهب إليه ابن عباد: فحاصله: يرجع إلى إيجاب الثواب الأبدى، والعقاب الأبدى فى مقابلة ما كان يجوز أن/ يقع، وإن لم يقع، وفيه ايجاب الثواب والعقاب، من غير طاعة ولا معصية، وهو خلاف أصول المعتزلة. ثم يلزم من ذلك أن من مات على كفره، وقد علم اللّه أنه لو أحياه لآمن، وأطاع طول دهره أن يثيبه على ذلك، وكذلك من مات على إيمانه وقد علم اللّه أنّه لو أحياه لكفر أن يعاقبه، ويخلده فى النار، وكل ذلك خبط وتخليط خارج عن أصول القوم.
(4/359)
________________________________________
الفصل الثالث فى استحقاق عصاة المؤمنين العقاب على زلاتهم، وجواز الغفران عنها عقلا
[أجمع المسلمون على أن من مات على كفره؛ فهو مخلد فى النار أبدا]
والّذي عليه إجماع المسلمين أنّ من مات على كفر؛ فهو مخلد فى النار أبدا.
وقد اختلفوا فى أهل الكبائر من المؤمنين إذا ماتوا عنها من غير توبة.
فالذى عليه إجماع المسلمين: أنهم ماتوا على الإيمان. خلافا للخوارج كما سيأتى تفصيل مذاهبهم، والرّدّ عليهم فى الأسماء والأحكام «1».
[مذهب المرجئة]
ثم اختلف القائلون بإيمانهم، فذهب بعض المرجئة «2»: إلى أن المؤمن لا يستحق على زلته عقابا أصلا، عاجلا، ولا آجلا. وأنّه كما لا يستحق مع الشرك باللّه- تعالى- بفعل الطّاعة ثوابا؛ فلا يستحق مع الإيمان بالمعصية عقابا.
ومنهم من قال بأن المؤمن لا يعاقب على زلّاته فى العقبى، وإنّما يعاقب عليها فى الدّنيا بالآلام، والغموم، والهموم، والنقص فى الأموال، والأنفس، والثّمرات.
وذهب هؤلاء على قياس هذا القول: إلى أنّ ما يفعله الكفار من الخيرات وأنواع الطاعات، مثابون عليها؛ لكن فى الدنيا، لا فى الأخرى، فثواب الكافر، وعقاب المؤمن معجّل.
وذهب أهل الحق: إلى جواز استحقاق المؤمن العقاب فى الأخرى على زلاته. ثم اختلفوا فى جواز غفرانه:
فذهبت الأشاعرة إلى جواز ذلك عقلا، وسمعا «3».
وذهب البصريون «4»، وبعض البغداديين «5» من المعتزلة: إلى جواز ذلك عقلا،
________________
(1) انظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة- الفصل الثالث ل 241/ ب وأيضا فى الفصل الرابع: فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل 252/ أو ما بعدها.
(2) أنظر آراء المرجئة فى الفصل الثالث من القاعدة السابعة: فى أن العاصى من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل 241/ ب.
وأيضا فى الفصل الرابع: فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل 254/ ب وما بعدها.
(3) راجع الإرشاد لإمام الحرمين 329 وشرح المواقف- الموقف السادس ص 206 - 209 وشرح المقاصد 2/ 173.
(4) البصريون هم الذين نشئوا بالبصرة، وقد تحدثت عن أشهر رجال فرع البصرة فى هامش ل 14/ ب من الجزء الأول.
(5) البغداديون هم الذين نشئوا ببغداد، وقد تحدثت عن رجالهم فى هامش ل 14/ ب من الجزء الأول.
(4/360)
________________________________________
وامتناعه سمعا. وذهب بعض البغداديين من أتباع الكعبى: إلى امتناع ذلك عقلا وسمعا. هذا تفصيل المذاهب.
وأما الرد على المرجئة:
فمن ثلاثة أوجه:
الأول: هو أنّ الزّلات الصّادرة عن المؤمن محرمات منعوتة بالقبح. ملام على فعلها، مذموم عليها بالإجماع من المسلمين ومن المرجئة، وما هذا شأنه فلا يمتنع فى العقل التواعد عليه، واستحقاق العقاب به؛ ولهذا كانت مقتضية لذلك قبل الإيمان بالإجماع، ووجود الإيمان معها إن لم يكن مؤكدا لذلك؛ فلا يكون مانعا، فإنّ زلة العالم باللّه- تعالى- المختص بكمال نعم الإيمان عليه تكون أفحش فى العرف والعقل، من زلّة غيره، فكانت أولى باستحقاق العقاب، وإليه الإشارة بقوله تعالى-: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ «1» وليس ذلك إلا لاختصاصهنّ بالمعرفة، وكمال النّعمة بالقرب من النبي- صلى اللّه عليه وسلم-.
الوجه الثانى: ويخصّ المنكرين لاستحقاق العقوبة فى الدّنيا، والأخرى، وهو أن يقال: المسلم إذا زنى، أو سرق، أو شرب الخمر؛ فإنّه يقام عليه الحدّ بالإجماع.
وعند ذلك: فإما أن يقال إنّ الحدّ عقوبة على ما صدر عنه، أو لا يقال بذلك.
لا جائز أن يقال بالثانى؛ لأنه على خلاف إجماع المسلمين، ونصوص الكتاب، والسنّة؛ وذلك كما فى قوله- تعالى-: والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ «2» وكقوله- تعالى فى حقّ الزّناة ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «3».
فإن كان الأول: فهو المطلوب.
الثالث: وهو أيضا يخص مذهب المنكرين لاستحقاق العقوبة مطلقا:
أنّه ملام، مذموم على المعصية بالإجماع، والذم، واللوم نوع من العقوبة؛ إذ لا معنى للعقوبة إلا ما يتضرر بها، واللوم، والذّمّ ممّا يتضرر به كل عاقل؛ فكان عقوبة.
________________
(1) سورة الأحزاب 33/ 30.
(2) سورة المائدة 5/ 38.
(3) سورة النور 24/ 2.
(4/361)
________________________________________
فإن قيل: ما ذكرتموه، وإن دلّ على استحقاق العقوبة غير أنّه معارض من جهة السمع بما يدلّ على عدمه، ودليله قوله- تعالى-: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ* قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ «1» وذلك يدل على أنّ كلّ من يدخل النار؛ فإنه يكون مكذّبا للرّسول، والمؤمن غير مكذب للرسول؛ فلا يدخل النّار.
وأيضا قوله- تعالى-: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وتَوَلَّى «2» والمؤمن غير مكذب؛ فلا يكون معذبا.
وأيضا قوله- تعالى-: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى* لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلَّى «3» والمؤمن غير مكذّب فلا يدخل النّار.
وأيضا قوله- تعالى-: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «4» غير أنّه قد خص بالكافر، فيبقى فيما عداه على العموم.
وأيضا: قوله- تعالى-: وهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ «5» دلّ على أنّ المجازاة لا تكون إلا للكفور، وصاحب الكبيرة، ليس بكافر «13» بدليل قوله- تعالى-: وإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي «6» سماهم مؤمنين حالة كونهم بغاة.
وأيضا فإنّ صاحب الكبيرة وإن لم يتب عنها مؤمن؛ لما ذكرناه فلو دخل النار، كان مخزيا لقوله- تعالى-: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ «7» والمؤمن غير مخزى لقوله- تعالى-: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ/ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ «8» وقوله- تعالى-: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ والسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ «9» ولقوله- تعالى-: حكاية عن المؤمنين ولا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ «10» وقوله- تعالى-: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ «11».
وأيضا قوله- تعالى-: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ* ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ* تَرْهَقُها قَتَرَةٌ* أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ «12». حكم على أرباب الوجوه
________________
(1) سورة الملك 67/ 8، 9.
(2) سورة طه 20/ 48.
(3) سورة الليل 92/ 14، 15، 16.
(4) سورة الزمر 39/ 53.
(5) سورة سبأ 34/ 17.
(6) سورة الحجرات 49/ 9.
(13) أول ل 128/ ب.
(7) سورة آل عمران 3/ 92.
(8) سورة التحريم 66/ 8.
(9) سورة النحل 16/ 27.
(10) سورة آل عمران 3/ 194.
(11) سورة آل عمران 3/ 195.
(12) سورة عبس 80/ 38 - 42.
(4/362)
________________________________________
المغبرة المقترة؛ بأنهم أرباب العذاب بالكفر، وصاحب الكبيرة ليس كافرا؛ لما تقدّم «1»؛ ولما يأتى فيما بعد «2».
وأيضا: قوله تعالى وإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ «3» فإنّه يعمّ كلّ ظالم، سواء تاب، أو لم يتب؛ غير أنه قد خصّ بالكفار؛ فوجب العمل به فيما سواهم.
[الرد على المنكرين لجواز الغفران عقلا]
والجواب: هو أن ما ذكروه إنما يصحّ الاستدلال به، أن لو ثبت لهم العموم فى كل واحد من النصوص المذكورة، وهو غير مسلم، وبتقدير التسليم لذلك؛ فيجب اعتقاد التّخصيص فى كل واحد منهما جمعا بينه، وبين ما ذكرناه من الدليل.
كيف: وأن ما ذكروه من النّصوص معارضة بنصوص أخرى تدلّ على مناقضة ما ذكروه من جهة الكتاب، والسنة.
أما من جهة الكتاب:
فقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ* ومَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ومَأْواهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ الْمَصِيرُ «4».
وقوله تعالى:- إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيى «5» وقوله تعالى:- وقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً «6» وقوله تعالى:- ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها «7» وقوله تعالى:- فَأَمَّا مَنْ طَغى * وآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى «8» وقوله تعالى:- ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «9» وقوله تعالى:- ونَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً «10» وقوله تعالى:- ونَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا «11» وقوله تعالى:- ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ولكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى «12» وذلك يدل على وقوع عقابهم فى الجملة.
________________
(1) انظر ما سبق ل 226/ أ من هذا الفصل
(2) انظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ل 240/ ب وما بعدها.
(3) سورة الرعد 13/ 6.
(4) سورة الأنفال 8/ 15، 16.
(5) سورة طه 20/ 74.
(6) سورة طه 20/ 111.
(7) سورة الأنعام 6/ 160.
(8) سورة النازعات 79/ 37 - 39.
(9) سورة الزلزلة 99/ 8.
(10) سورة مريم 19/ 86.
(11) سورة مريم 19/ 72.
(12) سورة فاطر 35/ 45.
(4/363)
________________________________________
وقوله تعالى:- وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «1» الآية. وقوله تعالى:- إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «2» إلى غير ذلك من الآيات.
وأما من جهة السنة:
فلقوله عليه السّلام: من غصب شبرا من أرض طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة «3».
وقوله عليه السلام «من كان ذا لسانين، وذا وجهين كان فى النّار ذا لسانين وذا وجهين «4»» إلى غير ذلك من الأخبار،
وإذا تعارضت النصوص، سلم لنا ما ذكرناه من المعقول.
وأما الردّ على المنكرين لجواز الغفران عقلا: فمن جهة السمع، والعقل:
أما من جهة العقل:
فهو أن العفو والصفح عن مستحق العقوبة محمود بين/ العقلاء، ومعدود من المكارم، والمعالى، وصفات الكمال، والمدح، ولذلك ندب الشارع إليه بقوله تعالى:- وإِنْ تَعْفُوا وتَصْفَحُوا وتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «5» وقوله تعالى:- وأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «6»، وإذا كان ذلك من مستحسنات العقول، والشّرع ممن ينتفع، ويتضرّر ويحصل له التشفي، والانتقام، ودفع أضرار الغيظ بالعقوبة، واستيفائها، فاستحباب ذلك من اللّه- تعالى- مع تعاليه عن الضّرر، والانتفاع، والتّشفى، والانتقام أولى، وما هذا شأنه فكيف يكون ممتعا؟
وأما من جهة السمع:
فلقوله تعالى:- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «7» وهو صريح فى المطلوب.
________________
(1) سورة المطففين 83/ 1.
(2) سورة النساء 4/ 10.
(3) رواه مسلم فى صحيحه 11/ 48 وما بعدها- كتاب المساقاة- باب تحريم الظلم، وغصب الأرض، وغيرها.
بروايات متعددة منها: عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضى الله عنه: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوّقه الله إيّاه يوم القيامة من سبع أرضين».
(4) ورد فى كتاب الترغيب والترهيب للمنذرى 3/ 604 باب ترهيب ذى الوجهين، وذى اللسانين.
(5) سورة التغابن 64/ 14.
(6) سورة البقرة 2/ 237.
(7) سورة النساء 4/ 48.
(4/364)
________________________________________
وقوله تعالى:- وما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «1» وقوله تعالى:- وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ «2» وقوله تعالى:- إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «3» وقوله تعالى:- وهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «4» وقوله تعالى:- وإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ «5» وقوله تعالى:- غافِرِ الذَّنْبِ «6» وقوله تعالى:- ورَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ «7» «12» وقوله تعالى:- اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً «8» وقوله تعالى:- إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «9».
وأيضا: فإنّ الأمة مجمعة على ثبوت الشّفاعة للنّبي صلى اللّه عليه وسلم والنّصوص دالّة عليه كقوله عليه السلام: «ادخرت شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى» «10».
وقوله عليه السلام فى أثناء حديث مطول: «إذا كان يوم القيامة أخرّ ساجدا بين يدى ربّى فيقول لى يا محمد: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع.
فأقول يا رب أمتى أمتى: فيقول لى انطلق فمن كان فى قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأخرجه؛ فانطلق وأخرجه، ثم أسجد ثانية، وثالثة فإذا كانت الرابعة، قلت يا رب أ تأذن لى فيمن قال لا إله إلا الله:؟ فيقول الرب تعالى: «و عزتى وجلالى لأخرجن منها كل من قال لا إله إلا الله «11»» وذلك كله دليل على جواز العفو، والغفران من الله تعالى.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الدليل العقلى على جواز الغفران مما يمتنع العمل به لوجهين:
________________
(1) سورة الشورى 42/ 30.
(2) سورة الشورى 42/ 25.
(3) سورة البقرة 2/ 173.
(4) سورة يونس 10/ 107.
(5) سورة الرعد 13/ 6.
(6) سورة غافر 40/ 3.
(7) سورة الكهف 18/ 58.
(8) سورة نوح 71/ 10.
(12) أول ل 129/ أ.
(9) سورة الزمر 39/ 53.
(10) هذا الحديث صحيح بطرقه، وشواهده. رواه الإمام أحمد فى المسند 3/ 230 وأبو داود رقم (4739) فى السنة- باب فى الشفاعة، وصححه ابن حبان فى صحيحه رقم (2596)، والحاكم فى المستدرك 1/ 69.
(11) هذا الحديث متفق عليه رواه البخارى، ومسلم فى صحيحيهما عن أبى هريرة رضى الله عنه- وقد ذكر الآمدي بعضه فقط للاستشهاد والحديث بتمامه فى البخارى ومسلم، وكثير من كتب الحديث. فتح البارى بشرح صحيح البخارى 8/ 247 كتاب: التفسير- باب: ذرية من حملنا مع نوح. وصحيح مسلم- كتاب الإيمان- باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها حديث رقم 194 والترمذي رقم (2436) فى صفة القيامة: باب ما جاء فى الشفاعة.
ومسند أحمد بن حنبل 2/ 435، 540 من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(4/365)
________________________________________
الأول: أنّه لو جاز العفو. فما من أحد إلا ويحدث نفسه بجواز العفو عنه، والصفح عن ذنبه؛ وذلك مما يسهل عليه الإقدام على المعصية، وهو إغراء من الله- تعالى- للعبد بالمعصية. والإغراء بالمعصية قبيح؛ وهو مستحيل فى حق الله- تعالى.
الثانى: أنّه إذا جاز العفو. فإما: أن يدخله الجنّة، أو لا يدخله الجنة- الثانى/ خلاف الإجماع وإن أدخله الجنة؛ فيلزم من ذلك أن يكون التفضل، مساويا للثّواب؛ وهو ممتنع لما سبق.
كيف وأن ما ذكرتموه ينتقض بوصف الذّم فإنه عقوبة، ومع ذلك فإنه لا يسقط بإسقاط المستحق، وينتقض بكثير من الحقوق الثابتة؛ فإنها لا تسقط بإسقاط المستحق لها: كالثواب المستحق للعبد.
فإنه لا يسقط بإسقاطه، وكذلك شكر المنعم؛ فإنه حق له، ولا يسقط بإسقاطه.
وأما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1».
لا نسلم صيغة العموم فى قوله تعالى: ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ولهذا يصح أن يقال كل ما دون ذلك أو بعضه، فلو كانت للعموم؛ لما حسن هذا الاستفسار.
وإن سلمنا العموم، غير أنه يجب حمله على حالة التوبة، على الصغائر وهو إن كان على خلاف الظاهر؛ غير أنه محتمل، وقد تأيد بالدليل العقلى على ما ذكرنا «2»، وبما سيأتى من الأدلة السمعية عن قرب «3».
سلمنا تناوله للكبيرة فى غير حالة التوبة، غير أنه لا يدل على ذلك مطلقا؛ بل مشروطا بالمشيئة لقوله تعالى لِمَنْ يَشاءُ وذلك يتوقف على وجود المشيئة؛ فلم قلتم بوجودها فيما نحن فيه؟.
سلمنا وجوب وجود المشيئة غير أن المغفرة قد تطلق بمعنى إسقاط العقوبة، وقد تطلق بمعنى تأخير العقوبة؛ وليس الحمل على الإسقاط أولى من التأخير، وبيان إطلاق المغفرة بمعنى: تأخير العقوبة.
________________
(1) سورة النساء 4/ 116.
(2) انظر ما سبق ل 227/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما سيأتى ل 228/ ب.
(4/366)
________________________________________
قوله تعالى: ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ «1» والمراد بالمغفرة هنا إنما: هو تأخير العقوبة لا إسقاطها؛ لأن الآية وردت فى حق الكفار، والعقوبة غير ساقطة عنهم إجماعا.
ويدل عليه أيضا: قوله تعالى: ورَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ «2» وهو صريح فى المغفرة بمعنى: تأخير العقوبة.
سلمنا أن المغفرة ظاهرة فى إسقاط العقوبة، غير أنه قد اقترن بها ما يدل على إرادة الغفران بجهة تأخير العقوبة.
ودليله قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «3».
ووجه الاحتجاج به أنه خاطب الكفار، وحذرهم من تعجيل العقوبة على ترك الإيمان بالشرك ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أى لا يؤخر عقوبة الشرك؛ بل يعجلها.
وقوله: ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ مقابل لقوله/ تعالى: لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فإذا كان معنى سلب الغفران: تعجيل العقوبة، فالغفران المقابل له، يكون بتأخير العقوبة.
سملنا دلالة الآية على المغفرة بمعنى: إسقاط العقوبة. غير أنه أراد به «11» // إسقاط كل واحد واحد من أنواع العقوبة، أو جملة العقوبات، أو بعض أنواعها،
لا سبيل إلى الأول؛ لعدم دلالة اللفظ عليه،
وإن كان الثانى: فلا يلزم من كونه لا يعاقب بكل أنواع العقوبة أن لا يعاقب ببعضها.
وإن كان الثالث: فلا يلزم من إسقاط بعض أنواع العقوبة إسقاط البعض الآخر.
وأما باقى النصوص؛ فلا نسلم العموم فيها.
________________
(1) سورة الرعد 13/ 6.
(2) سورة الكهف 18/ 58.
(3) سورة النساء 4/ 47، 48.
(11) // أول ل 129/ ب.
(4/367)
________________________________________
وبتقدير التسليم: فيجب حملها على حالة التوبة والصغائر؛ لما سبق فى النص الأول.
وأما ما ذكرتموه من إثبات الشفاعة؛ فهو معارض بما يدل على عدمها، ودليله قوله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ يُطاعُ «1» وقوله تعالى: واتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ولا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ «2» وقوله تعالى: ولا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «3» والفاسق غير مرتضى، وقوله تعالى: أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ «4» وقوله تعالى: وما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ «5» وقوله تعالى:
ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ «6» وقوله عليه السلام: «لا ينال شفاعتى أهل الكبائر من أمتى» «7».
سلمنا وجود الشفاعة؛ غير أنه ليس فى ذلك ما يدل على إسقاط العقوبة، فإن الشفيع قد يكون فى طلب الخيرات، كما يقال شفع فلان إلى الملك فى إعطاء بلدة لفلان.
وقد تكون فى طلب دفع السوء، وإزاحة الضرر: كما يقال: شفع فلان إلى الملك فى إطلاق فلان من الحبس، والأصل فى الإطلاق الحقيقة. كيف وأن الشفيع مأخوذ من الشفع، وهو الشبيه، والشفيع فى الصورتين يصير شفيعا للمشفوع له، فكان إطلاق اسم الشفيع فى الصورتين حقيقة، وبتقدير كونه شفيعا فى طلب الخيرات، وزيادة النعم لا يلزم منه إسقاط العقوبة.
________________
(1) سورة غافر 40/ 18.
(2) سورة البقرة 2/ 123.
(3) سورة الأنبياء 21/ 28.
(4) سورة الزمر 39/ 19.
(5) سورة البقرة 2/ 270.
(6) سورة يونس 10/ 27.
(7) راجع سنن الترمذي- كتاب صفة القيامة- باب ما جاء فى الشفاعة 4/ 625 وقد رد الآمدي على هذه الشبه فيما يأتى ل 231/ أ.
(4/368)
________________________________________
سلمنا أن الشفاعة لا تكون إلا لطلب دفع الضرر، غير أنه يجب حمل ذلك على الصغائر، وحال التوبة لما سبق «1».
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على العفو والغفران بالنسبة إلى أهل الكبائر من غير توبة؛ غير أنه معارض بما يدل على نقيضه وهو ما ذكرتموه من نصوص الوعيد، فى معارضة المرجئة، والترجيح لآيات الوعيد. من وجهين:
الأول: أن أكثرها خاص بالكبائر، وآيات الوعيد فعامة/ للصغائر، والكبائر.
والثانى: أن أكثر طباع الناس مجبولة على الشر، والظلم دون الخير، فكان احتياجهم إلى شرع الزواجر أولى.
والجواب:
قولهم «2»: ما ذكرتموه يلزم منه أمر ممتنع.
لا نسلم.
قولهم: يلزم منه الإغراء بالمعصية فهو مبنى على التحسين والتقبيح العقلى «2».
وقد أبطلناه «3».
وإن سلمنا ذلك: لكنه يلزم منه تقبيح العفو شاهدا؛ وهو خلاف إجماع العقلاء.
ثم هو منقوض بالتوبة، فإنهم قالوا بوجوب قبولها، ولا يخفى أن ذلك مما يسهل على العاصى الإقدام على المعصية أيضا؛ ثقة منه بالتوبة حسب وثوقه بالغفران؛ بل أبلغ من حيث إن التوبة مقدورة بخلاف الغفران؛ فكان يجب أن لا تقبل توبته؛ لما فيه من الإغراء؛ وهو خلاف الإجماع.
فلئن قالوا: هو غير واثق بالإمهال إلى التوبة؛ فهو أيضا غير واثق بالعفو.
قولهم: يلزم أن يكون التفضل مساويا للثواب؛ فقد سبق جوابه.
قولهم: إنه منقوض بالذم، ليس كذلك؛ فإن الذم إما أن لا يكون مستحقا للمسقط، أو يكون مستحقا له.
________________
(1) راجع ما سبق ل 228/ أ.
(2) من أول (قولهم: إلى والتقبيح العقلى) ساقط من ب.
(3) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 174/ ب وما بعدها.
(4/369)
________________________________________
فإن كان الأول: فلا نقض.
وإن كان الثانى: فإما أن يكون من قبيل ما يمكن سقوطه بالإسقاط، أو لا يكون كذلك.
فإن كان أول: فهو خلاف الفرض.
وإن كان الثانى: فلا يرد نقضا على إسقاط العقوبة؛ لإمكانه عقلا.
قولهم: ينتقض بالثواب المستحق للعبد على الله- تعالى- فهو مبنى على إيجاب الثواب على الله- تعالى- وقد أبطلناه «1». وبتقدير استحقاق العبد للثواب غير أن إسقاطه غير نافع عمن يسقطه عنه وهو الله- تعالى-؛ إذ هو متعال عن الإضرار، والانتفاع بخلاف إسقاط العقوبة عن العبد؛ نافعة له ولا يلزم من تحسين إسقاط حق نافع للمستحق عليه، تحسين إسقاط حق غير نافع له.
قولهم: ينتقض باستحقاق الشكر.
ليس كذلك، فإنه إن أريد بالشكر المستحق إظهار النعمة بالتلفظ، أو غيره.
فلا نسلم أنه لا يمكن إسقاطه، وإن أريد به اعتقاد كون المشكور منعما متفضلا؛ فذلك مما لا سبيل إلى إسقاطه؛ إذ هو معلوم بالضرورة.
وإن أريد به غير ذلك فلا بد من تصويره، والدلالة عليه.
قولهم: فى الاعتراض على الآية الأولى لا نسلم صيغة العموم.
قلنا: نحن وإن أنكرنا صيغة العموم، فلا نمنع من فهم العموم من القرائن كما أسلفنا «2» وقرينة التعميم هاهنا ظاهرة؛ لأنه لو لم يكن «11» // قوله ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ «3» عام فيما عدا الكفر، بل كان بعضه مما لا يغفر؛ لما كان لتخصيص الشرك بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «4» دون غيره مما لا يغفر فائدة.
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 186/ أ وما بعدها.
(2) انظر ما سبق ل 228/ أ.
(11) // أول ل 130/ أ.
(3) سورة النساء 4/ 48.
(4) سورة النساء 4/ 48.
(4/370)
________________________________________
قولهم: يجب حمله على/ حالة التوبة فهو خلاف الظاهر، وما ذكروه من الدليل العقلى؛ فقد أبطلناه «1»، وما يذكرونه من الدليل السمعى؛ فسيأتى إبطاله «2».
كيف وأنه يمتنع حمله على حالة التوبة عن الذنب لثلاثة أوجه:
الأول: هو أن العفو، والغفران حالة التوبة عندهم واجب، وذلك مما يمتنع تعليقه بالمشيئة عرفا وعادة، وإن كان واقعا بالمشيئة.
والثانى: أنه فرق فى الآية بين المعصية بالكفر، وغيره حيث قال تعالى: لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ وفى حالة التوبة، فالفرق غير متحقق لا محالة.
الثالث: هو أن المراد من قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إنما هو غفران التفضل؛ لأن غفران التوبة واجب عندهم، فلو كان قوله تعالى: ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ محمولا على حالة التوبة؛ لكان الغفران واجبا، لا تفضلا، ولا يكون الكلام منتظما كما لو قال القائل: فلان لا يتفضل بدينار، ولكنه يعطى ما دونه لمستحقه. وهذا بخلاف ما لو قال: فلان لا يتفضل بدينار؛ لكنّه يتفضل بما دونه.
قولهم: إنه مشروط بالمشيئة.
قلنا: المشروط بالمشيئة نفس الغفران، أو المغفور له.
الأول ممنوع، والثانى مسلم.
ولهذا: فإنه لو قال القائل: إنى معط هذا الدينار لمن شئت من هؤلاء الجماعة، فإن إعطاء الدينار، يكون مقطوعا به، غير معلق بالمشيئة بخلاف المعطى.
سلمنا أن المعلق بالمشيئة هو الغفران؛ غير أن ذلك يدل على جوازه، وإلا فلو كان ممتنعا لما كان للفرق بينه، وبين الشرك معنى.
قولهم: المغفرة قد تطلق بمعنى تأخير العقوبة، وقد تطلق بمعنى إسقاط العقوبة.
قلنا: الحمل على إسقاط العقوبة أولى؛ لثلاثة أوجه:
________________
(1) راجع ما سبق ل 228/ أ وما بعدها.
(2) انظر ما سيأتى ل 230/ أ وما بعدها.
(4/371)
________________________________________
الأول: أن المتبادر إلى الأفهام من إطلاق لفظ العفو، والمغفرة [إسقاط العقوبة] «1» دون تأخير العقوبة، فإن حمله عليه أظهر، وأولى،
الثانى: أنه لو حمل لفظ المغفرة فى الآية على تأخير العقوبة؛ للزم منه تخصيص قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «2»؛ لأن عقوبة الشرك مؤخرة فى حق كثير من المشركين؛ بل ربما كانوا فى أرغد عيش، وأطيبه بالنسبة إلى عيشة المؤمن. كما سبق تقريره وألا يفرق فى مثل هذه الصور بين الشرك وما دون الشرك؛ بخلاف الحمل على إسقاط العقوبة.
الثالث: أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين، لم يزالوا مجمعين على حمل لفظ المغفرة فى الآية على سقوط العقاب/، وما وقع عليه إجماع الأمة؛ فهو الصواب، وضده لا يكون صوابا، على ما قاله عليه السلام: «أمتى لا تجتمع على الخطأ». وقد قررنا ذلك فيما تقدم «3».
وعلى هذا فقد اندفع قولهم: إن لفظ المغفرة فى الآية قد اقترن به ما يدل على إرادة المغفرة بمعنى تأخير العقوبة.
قولهم: أراد به إسقاط جملة العقوبات، أو كل واحد، واحد، من أنواعها، أو البعض دون البعض.
قلنا: بل المراد إسقاط كل واحد واحد، وبيانه أن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ سلب الغفران. فإذا كان المفهوم من الغفران، إسقاط العقوبة؛ فسلب الغفران سلب السلب؛ فيكون إثباتا ومعناه إقامة العقوبة.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) سورة النساء 4/ 48.
(3) عن الإجماع وحجيته، وعصمة الأمة عن الوقوع فى الخطأ وإجماعها عليه، تحدث الآمدي عن هذا الموضوع بالتفصيل فى الأبكار وأستدل على صحة قوله بأكثر من عشرة أحاديث وقال «و هذه أخبار مروية فى الكتب الصحاح منقولة على لسان الثقات لم يوجد لها نكير (انظر ما سبق فى الجزء الأول ل 27/ أ وما بعدها) كما ذكر هذه الأحاديث فى كتابة الإحكام ص 162 وما بعدها مقدما لها بقوله: «و أما السنة: وهى أقرب الطرق فى إثبات كون الإجماع حجة الخ» انظر هامش ل 27/ أ وما بعدها من الجزء الأول.
(4/372)
________________________________________
وعند ذلك: فإما أن يكون المفهوم [من] «1» قوله: لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إقامة كل أنواع العقوبات، أو بعضها، لا سبيل إلى الأول، لاستحالة الجمع بين العقوبات المتضادة، ولأن ذلك غير مشروط فى حق الكافر إجماعا، فلم يبق إلا الثانى، ويلزم من ذلك أن يكون الغفران فيما دون الشرك بإسقاط كل عقوبة، وإلا لما تحقق الفرق بين الشرك، وما دونه.
وأما ما ذكروه على باقى النصوص من منع العموم، فمندفع فإنها: إما أن تكون عامة فى نفس الأمر، أو لا تكون عامة.
فإن كان الأول: فهو المطلوب، [و إن كان الثانى: فيحتمل أن يكون مدلولها هو نفس محل النزاع، ويحتمل «11» // أن يكون غيره] «2»، وغير محل النزاع لا يخرج عن حالة التوبة، والصغائر، والعفو، والغفران فى ذلك واجب عندهم، ومحل النزاع الكبائر من [غير] «3» توبة وهو متفضل بالغفران فيه، واحتمال دلالتها على محل النزاع أولى من غيره؛ لأنها إنما وردت فى معرض الامتنان، والإنعام بالعفو والغفران؛ وذلك أولى بحالة التفضل من حالة الوجوب على ما لا يخفى، وبه يبطل التأويل أيضا.
وأما ما ذكروه من المعارضات لدليل الشفاعة فمندفعة، أما قوله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ يُطاعُ «4» فلا نسلم أن صيغة الجمع للعموم فإنها قد ترد تارة للاستغراق، وتارة للخصوص، وليس جعلها حقيقة فى أحد الأمرين أولى من الآخر؛ بل جعلها ظاهرة فى البعض أولى؛ لتيقنه، والشك فيما زاد؛ ولأنه يحسن الاستفسار عنها، هل المراد بها الكل، أو البعض؟ ولو كانت للعموم، لما حسن الاستفسار.
________________
(1) ساقط من (أ).
(11) // أول ل 30/ ب.
(2) ساقط من (أ).
(3) ساقط من (أ).
(4) سورة غافر 40/ 18.
(4/373)
________________________________________
وعلى هذا: فأمكن أن يكون المراد من الظالمين الكفار؛ فإن الكفار ظلمة على ما قال- تعالى: والْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1».
وإن سلمنا العموم غير أنه/ يجب حمله على الكفار؛ ضرورة الجمع بينه، وبين ما ذكرناه من الدليل، وربما قيل بموجب هذه الآية من حيث إنها نفت أن يكون فى الآخرة شفيع مطاع، ولا يلزم من نفى الشفيع المطاع؛ نفى الشفيع مطلقا، وهو بعيد من جهة أن الطاعة فى اللغة عبارة عن فعل مراد الطالب.
وسواء كان الطالب مساويا، أو أعلى أو أدنى، ولذلك قال عليه السلام لابن عباس: «إن أطعت الله أطاعك»: أى إن فعلت ما أراد؛ فعل ما تريد، وقد حققنا ذلك فيما تقدم «2»، ولو لم يكن فى الآخرة شفيع مطاع؛ لما كان مراده حاصلا من شفاعته، وهو خلاف مطلوبنا، وقوله تعالى: واتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ولا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ «3».
فنحن وإن سلمنا جدلا أن العموم له صيغة غير أن الضمير فى قوله تعالى: ولا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ إنما هو عائد إلى النفس المذكورة ثانيا، وهى نكرة، والأصل فى النكرات الخصوص، إلا إذا كانت منفية كقولهم: لا رجل فى الدار، أو نفى عنها شيء كقولهم: ما جاءنى أحد. والنفس المذكورة ثانيا غير منفية، ولا نفى عنها شيء فتبقى على الخصوص.
وعلى هذا: فيمكن أن يكون المراد منها النفس الكافرة، ويجب الحمل عليها جمعا بين الدليلين.
فإن قيل: النكرة وإن لم تكن منفية، ولا نفى عنها شيء إلا أنها إذا كانت متعلقة بما نفى عنه شيء، فتكون عامة كما لو قال القائل: والله لا شربت ماء من إداوة «4»، فإن المنفى: هو الشرب، والماء محله، والإداوة عمل المحل، ومع ذلك فإنه يعم كل إداوة، حتى أنه يحرم الشرب من أى إداوة كان.
________________
(1) سورة البقرة 2/ 254.
(2) راجع ما تقدم ل 227/ ب.
(3) سورة البقرة 2/ 123.
(4) الإدواة: إناء صغير يحمل فيه الماء (ج) أداوى. [المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية- الطبعة الثالثة- باب الهمزة. 1/ 10].
(4/374)
________________________________________
قلنا: هذا يدل على كون الإداوة مطلقة لا عامة، وإلا فلو كان اللفظ مقتضيا للعموم فى كل إداوة، لحرم الشرب من باقى الإداوات، بعد شربه من واحدة منها، وليس كذلك.
وقوله تعالى: ولا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1» فهو حقيقة فى ذات المشفوع له.
والرضى غير متعلق بذاته؛ ولهذا فإنه لا يقال رضيت ذات فلان؛ فلا بد من التجوز، فكما يمكن التجوز بذلك عمن ارتضى أفعاله، فيمكن التجوز به عمن ارتضيت الشفاعة له؛ وليس أحد المجازين أولى من الآخر.
وبتقدير أن يكون المراد منه، من ارتضيت الشفاعة له؛ لا يدل على نفى الشفاعة إلا بتقدير عدم الرضا بالشفاعة، ولا سبيل إلى بيانه فى محل النزاع.
وإن سلمنا وجوب حمل الآية على من ارتضى فعله/ فلا نسلم وجوب حمله على كل الأفعال؛ فإن حمل اللفظ على الفعل؛ إنما كان ضرورة العمل باللفظ؛ فيكون حجة فى أقل ما تندفع به الضرورة، ولا يعم.
وعلى هذا، فيكون الفاسق المؤمن، مرضيا بعمله من جهة إيمانه؛ فلا يكون خارجا عن صورة الاستثناء.
وقوله تعالى أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ «2».
دليل أن من حقت عليه كلمة العذاب أنه لا شفاعة «11» // فى حقه، ونحن نقول به؛ فإن المراد من قوله: حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أنه قطع بعذابه، وذلك عندنا غير متصور فى حق غير الكافر الّذي مات على كفره.
وقوله تعالى: وما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ «3». فجوابها ما سبق فى جواب الآية الأولى، ويخصها جواب آخر، وهو القول بالموجب، فإن المفهوم من النصرة: المدافعة بجهة القهر والغلبة، ومن الشفاعة: الطلب من جهة الخضوع، ولا يلزم من نفى
________________
(1) سورة الأنبياء 21/ 28.
(2) سورة الزمر 39/ 19.
(11) // أول ل 131/ أ.
(3) سورة البقرة 2/ 270.
(4/375)
________________________________________
أحدهما، نفى الآخر، وقوله تعالى: ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ «1» فالمفهوم من العاصم هو المانع على طريق القهر والغلبة، ولا يلزم من نفى ذلك، نفى الشفيع؛ لما عرف، وقوله عليه السلام: «لا تنال شفاعتى أهل الكبائر من أمتى».
فقد قيل: إنه مرسل؛ فلا يكون حجة، وإن كان حجة؛ غير أنه أمكن حمله على من كفر من أمته، وكون تسميته من أمته بطريق المجاز باعتبار ما كان عليه، كما فى تسمية المعتق عبدا، ونحوه ويجب حمله عليه جمعا بينه، وبين ما ذكرنا من الأخبار «2».
فلئن قالوا: أ ليس تأويل هذا الخبر بحمله على من كفر من أمته ضرورة إجراء ما ذكرتموه على ظاهره؟.
قلنا: فهذا ممتنع؛ فإن من تاب عن الكبيرة من المؤمنين؛ فالعفو عنه واجب عندهم؛ فلا يحتاج فى كبيرته إلى شفاعة، وكذلك أن لو حملوه على الصغائر.
قولهم: سلمنا الشفاعة ولكن ليس فى ذلك ما يدل على إسقاط العقوبة.
فقد قيل فى جوابه: إن الشفيع حقيقة فى طالب دفع الضرر بالإجماع، وليس حقيقة فى طالب جلب النفع؛ إلا لصح تسمية الواحد من أمة النبي صلى اللّه عليه وسلم شافعا للنبى عند سؤاله- تعالى- فى زيادة كرامته ورفع درجته؛ وليس كذلك بالإجماع؛ فوجب حمله على الحقيقة دون المجاز؛ وليس بحق؛ فإنه إن امتنع إطلاق اسم الشفيع على الواحد من أمة النبي صلى اللّه عليه وسلم عند ما إذا سأل الله- تعالى/ الزيادة فى كرامته. فعند ما إذا سأل الله- تعالى- دفع الضرر عنه: إما أن يقال له شفيع، أو لا يقال له ذلك.
فإن كان الأول: فالفرق تحكم غير مقبول.
وإن كان الثانى: فكما دل امتناع إطلاق الشفيع على الواحد من الأمة عند طلب الزيادة فى كرامة النبي صلى اللّه عليه وسلم على أن الشفيع ليس حقيقة فى طالب النفع.
________________
(1) سورة يونس 10/ 27.
(2) رد الإمام الباقلانى على من استشهد بهذا الحديث ووضح أنه من شبه الخصوم فقال: «فصل نذكر فيه شبها لهم يرومون بذلك دفع الأخبار الصحاح المجمع على صحتها فى صحة الشفاعة ... فإن قالوا: هذه الأخبار تعارض بمثلها فإنه قد روى الحسن البصرى وغيره عن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- أنه قال: «لا تنال شفاعتى أهل الكبائر من أمتى».
فالجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا عن الحسن لم يصح، ولم يرد فى خبر صحيح ولا سقيم، وإنما هو اختلاق وكذب» [انظر الإنصاف للباقلانى ص 168 - 176 فقد وضح الموضوع ورد على المخالفين بالتفصيل].
(4/376)
________________________________________
فامتناع إطلاق الشفيع على طالب دفع الضرر عنه- عليه السلام- يدل على أن الشفيع ليس حقيقة فى طالب دفع الضرر، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
كيف وأنه أمكن أن يقال: بأن حق الشفيع فى العرف أن لا يكون دون المشفوع له فلذلك لم يكن الواحد من أمة النبي شافعا للنبى، وسواء كان طالبا بجلب نفع، أو دفع ضرر.
فالحق فى الجواب: أنه وإن كان اسم الشفيع حقيقة فى طالب جلب النفع، وطالب دفع الضرر غير أن ما ذكرناه من النصوص الدالة على كونه شفيعا صريحة فى كونه شفيعا بمعنى كونه طالبا لإسقاط العقوبة، ودفع الإضرار؛ فكانت أولى.
وأما ما ذكروه من المعارضات بآيات الوعيد السابق ذكرها «1»؛ فلا نسلم عمومها وبتقدير التسليم، فما ذكرناه من آيات الوعد راجحة على آيات الوعيد، وبيان الترجيح من ثمانية أوجه «2».
الأول: أنّا قد بينا الدليل على أن آيات الوعد، يجب أن تكون خاصة بمحل النزاع.
وما ذكروه من آيات الوعيد، فمتناولة لمحل النزاع بعمومها، والخاص مقدم على العام على ما لا يخفى.
الثانى: أن آيات الوعد أكثر؛ فكانت أغلب على الظن.
الثالث: هو أن آيات الوعد، أكثرها مرتب على الحسنات، والحسنات أرجح من السيئات، والمرتب على الراجح راجح، وبيان أن الحسنات أرجح من السيئات قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «3»، فدل [على] «4» أنها أرجح وأقوى، وأيضا قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «5». وربما زاد على ذلك بدليل قوله تعالى: واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «6» ولا كذلك السيئات.
________________
(1) راجع ما سبق ل 226/ ب وما بعدها.
(2) قارن بما ورد فى شرح المواقف- الموقف السادس ص 216، 217 وشرح المقاصد 2/ 173، 174.
(3) سورة هود 11/ 114.
(4) ساقط من أ.
(5) سورة الأنعام 6/ 160.
(6) سورة البقرة 2/ 261.
(4/377)
________________________________________
الرابع: أن «11» // أكثر آيات الوعد مؤكدة كما فى قوله تعالى: والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ومَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا «1» بخلاف آيات الوعيد.
الخامس: هو أن الخلف فى الوعد قبيح، والخلف فى الوعيد كرم، وهو من مستحسنات العقول ولهذا قال الشاعر:
وإنى إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادى ومنجز موعدى «2»
/ فتأويل آيات الوعيد يكون أولى، من آيات الوعد.
السادس: أن آيات الوعد دالة على الرحمة، وآيات الوعيد دالة على الغضب، والرحمة أقوى وأسبق، لقوله عليه السلام حكاية عن ربه تعالى: «رحمتى سبقت غضبى» «3».
السابع: أن المقصود الأصلي من خلق الخلق، أن يكونوا رابحين لا خاسرين ودليله قوله: «خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم» وفى ترجيح آيات الوعد تقرير هذا الأصل، وفى ترجيح آيات الوعيد مخالفته؛ فكانت آيات الوعد أولى.
الثامن: أن ما ذكروه من الظواهر، منهم من قيدها بفعل الكبائر دون الصغائر، ومنهم من زادها تقييدا، حتى اشترط فى ذلك زيادة مقدار الكبيرة على ما له من الحسنات.
وبالجملة فلا ريب فى تخصيصها بما بعد التوبة، ولم يوجد شيء من ذلك فيما ذكرناه من آيات الوعد؛ فكان العمل بها أولى.
________________
(11) // أول ل 131/ ب
(1) سورة النساء 4/ 122.
(2) قائله: عامر بن الطفيل. انظر ديوان عامر بن الطفيل ص 58 ط: صادر بيروت- لبنان. وهو: عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر العامرى، من بنى عامر بن صعصعة فارس قومه وأحد شعراء العرب وساداتهم فى الجاهلية. ولد بنجد سنة 70 ق. الهجرة وتوفى سنة 11 ه وهو ابن عم لبيد الشاعر. كان عامر يأمر مناديا فى «عكاظ» ينادى هل من راجل فنحمله؟ أو جائع فنطعمه؟ أو خائف فنؤمنه؟ [خزانة الأدب للبغدادى 1/ 471 - 474 والأعلام للزركلى 3/ 252].
(3) رواه مسلم: كتاب التوبة- باب فى سعة رحمة الله- تعالى- وأنها سبقت غضبه 4/ 2108.
(4/378)
________________________________________
الفصل الرابع فى أن عقاب العصاة من المؤمنين غير مخلد
هذا هو مذهب أهل الحق «1».
وذهبت المعتزلة، والخوارج: إلى أن من مات من أرباب الكبائر من المؤمنين من غير توبة؛ فهو مخلد فى النار؛
لكن منهم من أوجب ذلك عقلا، وسمعا. ومنهم من أوجبه سمعا، لا عقلا. كما سبق إيضاح مذهبهم فى الفصل الثالث «2». وقد سبق تحقيق المأخذ العقلى من الجانبين نفيا وإثباتا، فى الفصل الثانى «3» فعليك بنقله إلى هاهنا.
وأما المسلك السمعى من جانب الخصوم فى تحقيق خلود العقاب فقوله- تعالى:- مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ «4» وأيضا قوله- تعالى: ومَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها «5» وأيضا قوله- تعالى: ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها «6» وأيضا قوله- تعالى: وإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ* وما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ «7» وذلك يدل على أنهم لا يخرجون منها؛ وإلا كانوا غائبين عنها؛ وهو بخلاف دلالة الآية.
[الرد عليهم]
وطريق الاعتراض أن يقال: أما قوله- تعالى:- مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ «8» فلا نسلم وجود صيغة العموم فى الأشخاص على ما عرف من أصلنا.
سلمنا العموم فى الأشخاص، ولكن مشروطا بعدم العفو، أو لا مشروطا به.
________________
(1) أهل الكبائر من أمة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- فى النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين، وهم فى مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ... وإن شاء عذبهم بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته» [شرح الطحاوية ص 413].
(2) انظر ل 226/ أ وما بعدها.
(3) انظر ل 224/ ب وما بعدها.
(4) سورة البقرة 2/ 81.
(5) سورة النساء 4/ 14.
(6) سورة النساء 4/ 93.
(7) سورة الانفطار 82/ 14 - 16.
(8) سورة البقرة 2/ 81.
(4/379)
________________________________________
الأول مسلم، والثانى ممنوع؛ وذلك لأنه يستحيل أن يكون العاصى معاقبا مع فرض العفو، وعند ذلك فيتوقف العموم لمحل النزاع على عدم العفو، وعدم العفو متوقف/ على العموم؛ وهو دور ممتنع.
سلمنا العموم فى الأشخاص؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من العموم فى الأشخاص العموم فى الأحوال، وعلى هذا: فلا يلزم من العموم فى كل من عمل سيئة العموم فى كل سيئة.
ولهذا: فإنه لو قال القائل لزوجاته: من دخلت منكن الدار؛ فهى طالق، فإنه وإن عم جميع الزوجات؛ فلا يعم كل دخول، ولهذا فإن كل واحدة تطلق بالدخول أول مرة، ولا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول. وإذا كان لفظ السيئة، والخطيئة غير عام؛ فلا يكون متناولا لكل سيئة وخطيئة، حتى يندرج فيه محل النزاع، وغايته أن يكون مطلقا، والمطلق إذا عمل به فى صورة فقط؛ بطل وجه الاحتجاج به، وقد عمل به فى الكفر؛ فلا يبقى حجة.
سلمنا العموم فى كل سيئة وخطيئة؛ ولكن لا نسلم أن الخلود عبارة عن اللبث الدائم، الّذي لا آخر له، حتى يصح ما ذكروه؛ بل الخلود عبارة عن طول اللبث فى اللغة، ومنه يقال: قد خلد فلان، إذا طال عمره، ويقال خلد الله ملك الأمير: أى أطاله، ومنه يقال فى الوقف وقفا مؤبدا «11» // مخلدا.
وعلى هذا: فنحن نقول بموجب الآية، وهو أن أهل الكبائر مخلدون فى العذاب بهذا المعنى، ولا نزاع فيه.
فلئن قالوا: الخلود حقيقة فى الدوام؛ ومجازا فى غير المؤبد، ودليله من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه حقيقة فى الدّوام المؤبد بالإجماع؛ فلو كان حقيقة فى غير المؤبد؛ لكان اللفظ مشتركا، والاشتراك على خلاف الأصل؛ لأنّه يخلّ بالتفاهم الّذي هو مقصود أهل الوضع فى وضعهم، والمجاز وإن كان أيضا على خلاف الأصل، إلا أن محذور
________________
(11) // أول ل 132/ أ من النسخة ب.
(4/380)
________________________________________
الاشتراك أعظم من محذور التجوز؛ للزومه فى جميع محامل اللفظ بخلاف المجاز؛ ولذلك كان استعمال المشترك فى اللغة أقل من المجاز.
الثانى: أنه يصح تأكيده بالتأبيد، بدليل قوله- تعالى:- خالِدِينَ فِيها أَبَداً «1» ولو لا أن معنى الخلود التأبيد؛ لما صح تأكيده به.
الثالث: قوله- تعالى:- وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ «2» فلو كان الخلود عبارة عن طول اللبث من غير تأبيد؛ للزم منه الخلف فى الآية؛ لأن من كان قبله قد خلد بهذا الاعتبار.
سلمنا أن الخلود حقيقة فى مطلق اللبث المتطاول؛ غير أنه قد فهم الخلود بمعنى الدوام من هذه الآيات فى حق الكفار؛ فكذلك فى غيرهم؛ لأن الدلالة غير مختلفة.
قلنا: وإن سلمنا أن الخلود حقيقة فى اللبث الدائم فأمكن أن يكون باعتبار ما فيه من طول اللبث، وهو أولى، حتى لا يلزم منه الاشتراك، ولا التجوز فيما ذكرناه من الصور، وعلى هذا: فقد بطل ما ذكروه من الترجيح الأول.
/ قولهم: إنه يصح تأكيده بالتأبيد. لا نسلم أنه للتأبيد؛ بل للتمييز؛ ضرورة انقسامه إلى مؤبد، وغير مؤبد.
وقوله- تعالى-: وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ إنما حملناه على الخلود المؤبد؛ ضرورة وجود المخلدين قبله؛ بالاعتبار الغير مؤبد، لا لأن اللفظ اقتضاه دون غيره.
قولهم: إن الآيات قد دلت فى حقّ الكفار، على الخلود بمعنى التأبيد؛ فكذلك فى غيرهم. فإنما يصح أن لو كان مستفادا فى حق الكفار من الآيات المذكورة، وليس كذلك، وإنما استفدناه من دليل، وهو الإجماع. وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الآية الثانية، والثالثة.
________________
(1) جزء من آيات كثيرة منها على سبيل التمثيل لا الحصر. الآية رقم 57 من سورة النساء. الآية رقم 132 من سورة النساء. الآية رقم 169 من سورة النساء الآية رقم 119 من سورة المائدة.
(2) سورة الأنبياء 21/ 34.
(4/381)
________________________________________
وأما قوله- تعالى:- وإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ «1» لا نسلم العموم فى الألف واللام فيه.
وإن سلمنا العموم فيه؛ ولكن لا نسلم أن قوله- تعالى:- وما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ «2» للتأبيد.
ولهذا يصح أن يقال: فلان لا يغيب عنى، إذا كان غالب أحواله كذلك، وإن غاب عنه فى بعض الأوقات، ولو كان ذلك للتأبيد حقيقة؛ لكان هذا الإطلاق تجوزا، ولا يخفى أن الأصل فى الإطلاق الحقيقة، ولا يلزم منه الاشتراك؛ لإمكان أن يكون المدلول هو الملازمة فى الغالب، والدائم مشتمل على الغالب وزيادة.
سلمنا دلالة ما ذكروه من الآيات على الخلود بمعنى التأبيد، غير أنه يجب حملها على الكفار جمعا بينها، وبين ما ذكرناه من الدليل العقلى؛ ثم إنها معارضة بما سبق من آيات الوعد؛ وبما القرآن مشتمل عليه من آيات الوعد بالثواب كما فى قوله- تعالى:- فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «3» وقوله- تعالى:- ويَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «4» وقوله- تعالى:- هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ «5» إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وقوع الثواب.
وعند ذلك: فإما أن يقال: بأنه لا منافاة بين استحقاق الثواب والعقاب، أو يقال بالمنافاة.
فإن كان الأول: فهو خلاف مذهبم.
وإن كان الثانى: فليس إدراج ما نحن فيه تحت آيات الوعيد، أولى من إدراجه تحت آيات الوعد- وعند تقابل السمعيات يسلم لنا ما ذكرناه من الدليل العقلى. كيف وأن الترجيح لآيات الوعد؛ لما سبق فى الفصل الّذي قبله «6».
________________
(1) سورة الانفطار 82/ 14.
(2) سورة الانفطار 82/ 16.
(3) سورة الزلزلة 99/ 7.
(4) سورة النجم 53/ 31.
(5) سورة الرحمن 55/ 60.
(6) انظر ما سبق ل 226/ أ وما بعدها.
(4/382)
________________________________________
الفصل الخامس فى الاحباط، والتكفير
[رأى أهل الحق]
وقد اختلف أهل الإسلام فى المؤمن إذا اجتمع له طاعات، وزلات، فالذى عليه إجماع أهل الحق من الأشاعرة، وغيرهم: أنه لا يجب على الله تعالى ثوابه، ولا عقابه؛ بل إن أثاب فبفضله، وإن عاقب فبعدله، وله إثابة العاصى، وعقاب المطيع على ما سلف «1».
وذهبت المرجئة؛ إلى أن الإيمان محبط للزلات، ولا عقاب على زلة مع الإيمان كما عرف من/ مذهبهم، فيما تقدم «2».
[مذهب الخوارج والمعتزلة]
وذهبت الخوارج، وجماهير المعتزلة «3» إلى أن من اقترف كبيرة واحدة؛ فإنها تحبط ثواب جميع طاعاته، وإن زادت الطاعات على زلته.
وذهب الجبائى، وابنه فى الإحباط إلى رعاية الكثرة فى المحبط، وزعما أن من زادت طاعاته على زلاته [أحبطت عقاب زلاته، وكفرتها، ومن زادت زلاته على طاعاته، أحبطت ثواب طاعاته، ثم اختلفا:
فقال الجبائى: من زادت طاعاته على زلاته، أحبطت عقاب زلاته] «4» من غير أن تنقص زلاته من ثواب طاعاته شيئا، وتنزل منزلة من أتى بتلك الطاعات من غير زلة.
وقال أبو هاشم: لا بد وأن ينقص من ثوابه بمقدار ما حبط عنه من العقاب، وأن تنزل رتبته فى الثواب عن ثواب من أتى بتلك الطاعات من غير زلة.
وكذلك، اختلفا فى عكس ذلك عند ما إذا زادت زلاته على طاعاته «5» من العقاب، وأن تنزل رتبته فى الثواب عن ثواب من أتى بتلك الطاعات «5».
واتفقا على امتناع وقوع المساواة بين الطاعات، والزلات. لكن اختلفا.
________________
(1) انظر ما سبق ل 223/ ب وما بعدها. وقارن بما ورد فى شرح المواقف- الموقف السادس ص 210 وما بعدها. وشرح المقاصد 2/ 170.
(2) راجع عنهم ما سبق ل 226/ أ. ولمزيد من البحث والدراسة راجع: مقالات الإسلاميين للأشعرى 1/ 197 والفصل لابن حزم 4/ 37، 155، والإرشاد للجوينى ص 324. وشرح المواقف ص 210.
(3) لمزيد من البحث والدراسة انظر من كتب المعتزلة التى فصلت القول فى الإحباط والتكفير شرح الأصول الخمسة ص 624 وما بعدها. ومن كتب الأشاعرة التى ناقشت المعتزلة والخوارج- انظر كتاب الإرشاد للجوينى ص 385 وما بعدها وشرح المواقف ص 210 وما بعدها، وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 166 وما بعدها.
(4) ساقط من (أ).
(5) من أول (من العقاب إلى قوله: تلك الطاعات) ساقط من ب.
(4/383)
________________________________________
فقال الجبائى: بامتناع ذلك عقلا.
وقال أبو هاشم: بامتناع ذلك سمعا، لا عقلا، وهل المحابطة بين الثواب والعقاب، عند القائلين بالمحابطة، أو بين الطاعات، والزلات؟. فقد اختلفوا فيه أيضا.
[حججهم]
وإذ أتينا على إيضاح المذاهب بالتفصيل، فلا بد من الإشارة إلى مآخذ المخالفين، ومناقضاتهم فيها.
أما المرجئة: فقد بينا مآخذهم وإبطالها فى الفصل الثالث «1».
وأما من قال بإحباط الطاعات، وثوابها بالكبيرة الواحدة زادت على الطاعات، أو نقصت عنها، فقد احتج بحجج:
الحجة الأولى: أنهم قالوا: الطاعة، والمعصية صفتان متقابلتان، ومرتكب الكبيرة عاص؛ فلا يكون مطيعا، وإذا لم يكن مطيعا؛ فلا يستحق الثواب بالطاعة.
الثانية: أن استحقاق الثواب يستدعى تعظيم المستحق، واستحقاق العقاب يستدعى إهانته، وتعظيم الشخص الواحد، فى حالة واحدة، من شخص واحد واهانته له محال، ومرتكب الكبيرة مستحق العقاب؛ فلا يكون مستحقا للثواب.
الثالثة: أنهم قالوا: قد دللنا فيما تقدم، على أن الثواب المستحق لا بد وأن يكون مؤبدا، وأن العقاب المستحق لا بد وأن يكون مؤبدا، فاستحقاقهما معا يكون محالا.
ومرتكب الكبيرة مستحق للعقاب؛ فلا يكون مستحقا للثواب. ويدل على تحقيق هذه الحجج قوله- تعالى:- لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والْأَذى «2»، وقوله- تعالى:- لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «3» وذلك يدل على تعذر استحقاق الثواب، مع الموجب لاستحقاق العقاب.
وأما حجة الجبائى: على أن المعصية القاصرة عن الطاعة غير موجبة لتنقيص شيء من ثواب الطاعة. أن موجب الطاعة الثواب، وموجب المعصية العقاب، فإذا كثرت الطاعات على المعاصى، وربت عليها كانت موجبة لاستحقاق الثواب الدائم، ويمتنع مع
________________
(1) راجع ما سبق ل 226/ أ وما بعدها.
(2) سورة البقرة 2/ 264.
(3) سورة الزمر 39/ 65.
(4/384)
________________________________________
ذلك أن تكون المعصية موجبة لاستحقاق العقاب؛ وإلا لما كان ثواب الطاعات الكثيرة دائما/، وإذا خرجت المعصية عن كونها موجبة لاستحقاق العقاب، فينبغى أن لا يؤثر فى تنقيص الثواب؛ لأن الشيء إذا لم يرتبط به حكمه المختص به، فما لا يكون مختصا به أولى.
وعلى هذا يكون الحكم فى عكس هذه الصورة عند ما إذا ربت زلاته على طاعاته.
وأما حجة أبى هاشم على التنقيص أنه قال: لو لم يكن بالتنقيص؛ لأفضى ذلك عند ما إذا ربت الطاعات على الزلات أن يكون حال من أطاع الله- تعالى- طوال دهره من غير زلة: كحال من أطاع وعصى، وكذلك إذا ربت زلاته على طاعاته أن يكون حاله كحال من عصى الله- تعالى- أبدا من غير طاعة؛ وذلك ظلم وخروج عن الحكمة، والعدل.
وأما حجة الجبائى: على استحالة التساوى بين الطاعات، والزلات عقلا- أن ذلك يفضى إلى المحال؛ فيمتنع. وبيان «11» // إفضائه إلى المحال: أنهما لو تساويا؛ فلا بد من تقدير ثواب، أو عقاب؛ لاستحالة الجمع بين النفى والإثبات؛ وليس اعتبار أحد الأمرين، وإحباط الآخر به مع التساوى، أولى من العكس.
وأما حجة أبى هاشم: على جواز ذلك عقلا، وإحالته سمعا: فهو أن قال: ليس فى العقل ما يحيل استواء الطاعات، والزلات فى الدرجة، فإنه ما من مرتبة تنتهى إليها الطاعة، إلا ويجوز فى العقل انتهاء المعصية إليها، وكذلك بالعكس غير أنه لما علمنا سمعا أن كل مكلف فهو إما من أهل الجنة، أو النار، وأنه لا بد من أحد الخلودين، ووقوع أحد الخلودين، دون الآخر مع التساوى فى الموجب ممتنع، ولا بد من التنبيه على باقى هذه الحجج:
أما الحجة الأولى: لمن قال بكون الكبيرة محبطة للطاعات مطلقا، فظاهرة البطلان، فإن التقابل بين الطاعة، والمعصية: إنما يتصور فى فعل واحد، بالنسبة إلى جهة واحدة. بأن يكون مطيعا بعين ما هو عاص من جهة واحدة، وإما إن يكون مطيعا
________________
(11) // أول ل 133/ أ.
(4/385)
________________________________________
فى شيء، وعاصيا بغيره، فلا امتناع فيه. كيف وأن هؤلاء وإن أوجبوا إحباط ثواب الطاعات بالكبيرة الواحدة، فإنهم لا يمنعون من الحكم على ما صدر من صاحب الكبيرة من أنواع العبادات: كالصلاة، والصوم، والحج، وغيره بالصحة، ووقوعها موقع الامتثال، والخروج عن عهدة أمر الشارع؛ بخلاف ما يقارن الشرك منها، وإجماع الأمة دل عليه أيضا. وعلى هذا: فلا يمتنع اجتماع الطاعة والمعصية، وأن يكون مثابا على هذه، ومعاقبا على هذه.
وعلى هذا: يخرج الجواب عن الحجة الثانية أيضا، فإن التعظيم، والإهانة إنما يمتنع اجتماعهما من شخص واحد لواحد؛ أن لو اتحدت جهة التعظيم والإهانة، وإلا فبتقدير أن يكون معظما من جهة، مهانا من جهة، معظما/ من جهة طاعته، مهانا من جهة معصيته؛ فلا مانع فيه.
وأما الحجة الثالثة: القائلة بتأبيد الثواب، والعقاب؛ فمبنية على التحسين والتقبيح، ووجوب رعاية الحكمة، والثواب، والعقاب للمطيع، والعاصى على الله- تعالى، وقد أبطلناه «1». وبتقدير التسليم لهذه الأصول جدلا، فما المانع من تأبد الثواب، والعقاب على فعل الطاعة، والمعصية، وذلك بأن يجمع الله- تعالى- له بين النعيم، والعذاب أبدا سرمدا. كما يجمع للواحد منا فى الدنيا بين الغموم، والهموم والأفراح باجتماع الأسباب الموجبة لها، حتى أنه يكون فرحا بأمر، ومغموما مهموما بأمر، أو بأن يعاقبه تارة، وينعمه أخرى إلى ما لا يتناهى.
وهذا هو الأولى فى العقل، من تعطيل أحد السببين، واعتبار الآخر.
فلئن قالوا: القول بذلك مما يبطل الثواب والعقاب معا؛ إذ النعيم هو الّذي لا يشوبه كدر، والعذاب المقيم هو الّذي لا يشوبه راحة.
قلنا: وما المانع من قسم أخر، وهو نعيم مشوب بكدر، وعذاب مشوب براحة، ويكون المتمحض من النعيم، لمن تمحضت طاعاته غير مشوبة بالزلات، والمتمحض من العذاب، لمن تمحضت زلاته غير مشوبة بالطاعة، والمشوب لمن شاب الطاعات بالزلات، والزلات بالطاعات، إذ هو أولى وأقرب، إلى العدل على أصولكم.
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 174/ ب وما بعدها.
(4/386)
________________________________________
وإن سلمنا امتناع الجمع بين الثواب الدائم، والعقاب الدائم، فما المانع أن تكون الطاعة محبطة للمعصية كما قاله المرجئة؛ بل وهو الأولى؛ إذ هو أقرب إلى العفو، والصفح المستحسن عقلا، وشرعا.
فلئن قالوا: إنما أسقطنا الثواب بالعقوبة لوجهين:
الأول: أن استحقاق العقاب، أقوى من استحقاق الثواب؛ وذلك لأن استحقاق من خالف الأعلى للعقاب، أشد من استحقاق من خالف الأدنى، على ما لا يخفى عرفا، وفى الطاعة بالعكس، فإن استحقاق مطيع الأعلى؛ لكونه أولى باستحقاق الطاعة للثواب يكون أدنى من استحقاق مطيع الأدنى للثواب.
وعلى هذا فاستحقاق مخالف الله- تعالى- للعقاب يكون أشد من استحقاقه للثواب بطاعته.
الثانى: هو أن الردة محبطة للطاعات وفاقا، والردة من الكبائر فكان فى حكمها كل كبيرة.
قلنا: أما قولهم: إن استحقاق من خالف الأعلى للعقاب أشد من استحقاق من خالف الأدنى.
لا نسلم، وما المانع أن يقال: بأن استحقاق «11» // العقاب إنما يكون أشدّ عند ما إذا كان تضرّر المخالف بالمخالفة أكثر، والرب- تعالى- مقدّس عن الإضرار والانتفاع، فكان استحقاقه للعقاب أدنى من استحقاق غيره؛ فكان أولى بالعفو والصفح؟
وقولهم: إن استحقاق مطيع الأعلى للثواب أولى من استحقاق مطيع الأدنى.
لا نسلم./ وما المانع أن يقال: بأن مطيع الله- تعالى- أولى باستحقاق الثّواب، من المطيع لغيره، نظرا إلى ما يلحقه فى طاعة الله- تعالى- من المكابد، والمشاق فى النظر، والاستدلال ودفع الوساوس، والشّبهات، ومغالبة الشّهوات، وقهر النّفس الأمّارة بالسوء؛ بخلاف طاعة غيره، وقد قال عليه السلام «ثوابك على قدر نصبك» «1» والّذي يدل على ترجيح الطاعات على الكبيرة الواحدة أمور ثلاثة:
________________
(11) // أول ل 133/ ب
(1) حديث صحيح- رواه البخارى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: يا رسول الله يصدر الناس بنسكين، وأصدر بنسك. فقيل لها: «انتظرى فإذا طهرت فاخرجى إلى التنعيم فأهلى، ثم ائتينا بمكان كذا؛ ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك». صحيح البخارى- كتاب العمرة- باب أجر العمرة على قدر النصب 3/ 605
(4/387)
________________________________________
الأول: أنهم حكموا بأن الصغائر محبطة بالطاعات إذا تجردت عن فعل الكبيرة، وذلك يدل على ترجيح جانب الطاعة على المعصية.
الثانى: أن أكثر المعتزلة جوزوا غفران الكبيرة عقلا، إذا مات مقارفها من غير توبة، ولم يجوز أحد منهم إحباط الطاعات إذا تجردت عن الزلات؛ فدل على ترجيح العبادة على المعصية.
الثالث: أن السمع قد دل على الترجيح بقوله- تعالى:- مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها «1».
قولهم: إن الردة محبطة للطاعات؛ فكذلك غيرها من الكبائر. فهو مبنى على كون الردة محبطة للطاعات عقلا، وهو غير مسلم، على ما عرف من أصلنا فى امتناع وجوب الثواب والعقاب على الله- تعالى.
وبتقدير التسليم لذلك، فلا يلزم من كون الردة محبطة للطاعات، أن يكون غيرها من الكبائر كذلك؛ لجواز اختصاص ذلك بالردة دون غيرها، ولهذا فإن المرتدّ لا يساهم المسلمين فى استحقاق الفيء «2»، والغنيمة «3»، وحضور المساجد، ولا يدفن فى مقابر المسلمين، ولا يصلى عليه، بخلاف أرباب الكبائر.
سلمنا صحة إحباط الطاعة بالمعصية عقلا؛ لكن مع المساواة، أو مع كون الطاعة أزيد من المعصية.
الأول مسلم: والثانى ممنوع، وبيانه من وجهين:
الأول: أن ذلك يفضى إلى المساواة بين من عبد اللّه- تعالى طول دهره، وكان عالما بالله- تعالى- وصفاته، وما يجوز عليه، وما لا يجوز عليه، وبين فرعون، وهامان، ومن لم يطع الله تعالى طرفة عين، وذلك خلاف مقتضى الحكمة وتحسين العقول، وتقبيحها.
________________
(1) سورة الأنعام 6/ 160.
(2) الفيء: ما رده الله على أهل دينه من أموال من خالفهم فى الدين بلا قتال: إما بالجلاء، أو بالمصالحة على جزية أو غيرها. [التعريفات للجرجانى ص 192].
(3) الغنيمة: اسم لما يؤخذ من أموال الكفرة بقوة الغزاة، وقهر الكفرة على وجه يكون فيه إعلاء كلمة الله- تعالى- وحكمه أن يخمس، وسائره للغانمين خاصة. [المصدر السابق ص 185].
(4/388)
________________________________________
الثانى: هو أن ذلك من مستقبحات العقول، وذلك أن من أحسن إلى غيره طول دهره، ولم يأل جهدا فى طاعته، وبذل مهجته فى مرضاته، فإنه لا يحسن فى العقل بتقدير إساءته إليه مرة واحدة، ولا سيما إن كان المساء إليه ممن لا يتضرر بتلك الإساءة أن يحبط ما مضى له من طاعته، ويعاقبه على تلك الزلة أبد الآبدين. وقوله- تعالى:- لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والْأَذى «1» فالمراد به أن يكون قاصدا بالصدقة المن، والأذى، والطاعة؛ فغير متحققة مع ذلك.
أما أن يكون المراد به إبطالها بالمن بعد تحققها عبادة؛ فلا. وإن سلمنا أن المراد بها الإبطال بعد التحقق، فغايته الدلالة على الإحباط بالسمع، ونحن لا ننكر ذلك سمعا، وإنما/ ننكره عقلا.
وعلى هذا يخرج الجواب عن قوله- تعالى:- لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «2».
وأما حجة الجبائى: على أن الطاعة لا تنقص عقاب المعصية، وأن المعصية لا تنقص ثواب الطاعة؛ فيلزمه منها أن يكون حال من أطاع الله- تعالى- من غير معصية، كحال من أطاعه مع المعصية. وأن يكون حال من عصى الله- تعالى- مع الطاعة، كحال من عصى الله- تعالى- من غير طاعة؛ وهو خلاف الحكمة، وما يقتضيه التعديل.
وعلى هذا: فلا يلزم من كون المعصية إذا نقصت عن الطاعة ألا تنقص [من ثواب الطاعة. وإن لم يعاقب عليها، ولا من كون الطاعة إذا نقصت عن المعصية ألا تنقص من] «3» عقاب المعصية، وإن لم يثب عليها.
وأما حجة أبى هاشم: فيلزمه عليها أن ينقص ثواب التائب عن المعصية بقدر عقاب المعصية؛ وإلا كان حال من أطاع مع المعصية: كحال من أطاع من غير معصية.
وهو خلاف الإجماع. فما هو الجواب له فى صورة التائب، هو الجواب فى غيرها.
وأما حجة الجبائى: على امتناع التساوى بين الطاعة، والمعصية عقلا، فهى مبنية على وجوب الثواب «11» // والعقاب، وهو ممنوع على ما عرف، وبتقدير وجوبه، لكن مع التساوى بين الطاعة، والمعصية، أو مع التفاوت.
________________
(1) سورة البقرة 2/ 264.
(2) سورة الزمر 39/ 65.
(3) ساقط من أ.
(11) // أول ل 134/ أ.
(4/389)
________________________________________
الأول ممنوع، والثانى: مسلم.
وعلى هذا: فما المانع أن يقال: إن حالة التساوى كحال من لم يصدر منه طاعة، ولا معصية؛ لضرورة التعارض؛ والتساقط وصار حاله كحال من مات دون البلوغ من حيث إنه لا يستحق ثوابا، ولا عقابا؟
وأما ما ذكره أبو هاشم فى إبطال الامتناع العقلى؛ فهو حق، غير أن ما ذكره من الامتناع السمعى باطل؛ فإنا لا نسلم ورود السمع بأنه لا بد لكل مكلف من أن يكون من أهل الجنة، أو النار؛ بل من استوت طاعاته، وزلاته، فهو من أهل الأعراف بين الجنة، والنار كما وردت به الأخبار الصحيحة.
وإن سلمنا ذلك، ولكن إنما يمتنع أن يكون من أهل الجنة، أو النار؛ أن لو اشترط رجحان الحسنات على السيئات، أو بالعكس، وهو غير مسلم؛ بل يجوز عندنا أن يثيب الله- تعالى- من غير طاعة، ويعاقب من غير معصية كما سبق تحقيقه «1».
وأما الاختلاف فى أن التحابط بين الطاعة والمعصية، أو بين الثواب والعقاب، وإن كان مبنيا على القول بوجوب التحابط، وهو باطل على ما حققناه «2» غير أن القول بالتحابط [بين الثواب والعقاب «3»] على مذهب القائلين به، أولى من التحابط بين الطاعات، والمعاصى؛ إذ الأمة مجمعة على أن من ارتكب كبيرة، وصام، وصلى، وتزكى، أن عبادته صحيحه واقعة موقع الامتثال؛ كما سبق «4».
________________
(1) راجع ما سبق ل 223/ ب وما بعدها.
(2) راجع ما تقدم ل 223/ ب وما بعدها.
(3) ساقط من (أ).
(4) راجع ما سبق ل 226/ أ وما بعدها. ولمزيد من الدراسة ارجع إلى المراجع التالية: الفصل لابن حزم 4/ 47، والإرشاد للجوينى ص 324، وشرح المواقف ص 210 وما بعدها من الموقف السادس، وشرح المقاصد 2/ 170 وما بعدها. ومن كتب المعتزلة: شرح الأصول الخمسة ص 625 وما بعدها.
(4/390)
________________________________________
فهرس موضوعات الجزء الرابع من كتاب أبكار الأفكار فى أصول الدين للإمام سيف الدين الآمدي
القاعدة الخامسة فى النبوات وتشتمل على ستة أصول: 5 - 243
الأصل الأول فى بيان معنى النبوة والنبي 7 - 13 أما فى وضع اللغة 7
وأما فى إصلاح النظار 7
قول الفلاسفة 7
أقوال أخرى 9
رد الآمدي على هذه المذاهب 10
مذهب أهل الحق من الأشاعرة، وغيرهم 12
الأصل الثانى فى تحقيق معنى المعجزة وشرائطها ووجه دلالتها على صدق النبي ويشتمل على ثلاثة فصول 15 - 16
الفصل الأول: فى تحقيق معنى المعجزة 17
الفصل الثانى: فى شرائط المعجزة 18
شرائط المعجزة عند الأشاعرة 18
اختيار القاضى أبو بكر 20
رأى المعتزلة 22
الحق فى ذلك 23
الفصل الثالث: فى وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول 24
رأى الأشاعرة 25
(4/391)
________________________________________
الأصل الثالث فى جواز البعثة عقلا 27 - 66
مذهب أهل الحق 27
مذهب الفلاسفة 27
مذهب المعتزلة 27
رأى المانعين 28
أدلة أهل الحق على الجواز العقلى 29
وأما القائلون بإحالة البعثة فقد تشبثوا بأربعين شبهة 30 - 47
وقد رد الآمدي على هذه الشبه بالتفصيل 47 - 66
الأصل الرابع فى إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم 67 - 142
الدليل على رسالته 68
الدعوى الأولى: أنه كان موجودا مدعيا للرسالة 68
الدعوى الثانية: أنه ظهرت المعجزات على يده 68
من جملتها القرآن الكريم 68
وجه إعجازه 69
من معجزاته- صلى الله عليه وسلم- انشاق القمر 74
ومنها: كلام الجمادات 75
ومنها: كلام الحيوانات العجماوات 77
ومنها: حركات الجمادات إليه 80
ومنها: اكتفاء الجمع الكثير من قليل الطعام 81
ومنها: نبع الماء من بين إصبعيه 82
ومنها: إخباره بالغيب 82
الدعوى الثالثة: أنه تحدى بالقرآن، وتعجيز الخلائق عن الإتيان بمثله 85
الدعوى الرابعة: أنه لم يوجد لمعجزاته معارض 86
واعلم أن كل ما يتجه من الشبه على جواز البعثة عقلا فهو متجه هاهنا. ويختص بما نحن فيه هاهنا شبه 86
شبه الخصوم على رسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- 87 - 112
الرد على هذه الشبه بالتفصيل 112 - 142
(4/392)
________________________________________
الأصل الخامس فى عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 143 - 213
أما قبل النبوة: 143
الآراء فيها: 143
وأما بعد النبوة: 144
الآراء فيها: 144
العصمة عن الصغائر 147
الطرف الأول: فى جواز النسيان على الأنبياء عليهم السلام 147
الأقوال فى قصة الغرانيق 147
الطرف الثانى: فى بيان عصمة الأنبياء عن تعمد المعاصى التى لا يلحق فاعلها بالإخساء الأراذل ويشتمل على عشرين حجة 149
الحجة الأولى: أن آدم عصى وارتكب الذنب 150
الحجة الثانية: قوله- تعالى- (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) 156
الحجة الثالثة: قوله- تعالى- (وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ) 161
الحجة الرابعة: قوله- تعالى- حكاية عن إبراهيم عليه السلام (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) 164
الحجة الخامسة: قوله- تعالى- حكاية عن إبراهيم عليه السلام لما قال قومه وقد كسر الأصنام (أَ أَنْتَ فَعَلْتَ) 166
الحجة السادسة: قوله- تعالى- حكاية عن إبراهيم عليه السلام (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) 168
الحجة السابعة: قوله- تعالى- أيضا عن إبراهيم عليه السلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى 169
الحجة الثامنة: قوله- تعالى- حكاية عنه أيضا (وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) 171
الحجة التاسعة: قوله- تعالى- حكاية عنه أيضا (وَ اجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) 171
الحجة العاشرة: قوله- تعالى- حكاية عنه أيضا (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومِنْ ذُرِّيَّتِي) 172
الحجة الحادية عشرة: قوله- تعالى- حكاية عن يوسف عليه السلام وامرأة العزيز (وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها) 172
الحجة الثانية عشرة: قوله- تعالى- حكاية عن يوسف وأبيه واخوته (وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) 180
الحجة الثالثة عشرة: قوله- تعالى- حكاية عن موسى عليه السلام (وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) 181
الحجة الرابعة عشرة: قوله- تعالى- حكاية عن موسى عليه السلام (وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) 184
(4/393)
________________________________________
الحجة الخامسة عشرة: قوله- تعالى- فى قصة داود عليه السلام (وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) 186
الحجة السادسة عشرة: قوله- تعالى- (وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) 190
الحجة السابعة عشرة: قوله- تعالى- حكاية عن يونس عليه السلام (وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) 195
الحجة الثامنة عشرة: ما روى الثقات من أهل التفسير كابن عباس والحسن وغيرهما 197
الحجة التاسعة عشرة: قوله- تعالى- مخاطبا لمحمد (ص): إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ) 202
الحجة العشرون: قوله- تعالى- مخاطبا لنبيه عليه السلام (أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) 204
وعند ذلك فلا بد من الإشارة إلى شبه الخصوم والتنبيه على وجه الانفصال عنها 205
الشبهة الأولى: وهى العمدة الكبرى للخصوم 205
الجواب عنها: 206
الشبهة الثانية: 207
الجواب عنها: 208
الشبهة الثالثة: 211
الجواب عنها: 212
الشبهة الرابعة: 212
الجواب عنها: 212
الشبهة الخامسة: 213
الجواب عنها: 213
الأصل السادس فيما قيل من عصمة الملائكة، والتفضيل بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام ويشتمل على فصلين: 215 - 243
الفصل الأول: فيما قيل من عصمة الملائكة عليهم السلام 217 - 224
حجج القائلين بنفى العصمة: 217
الحجة الأولى: 217
الحجة الثانية: وذلك من أربعة أوجه 217
الرد عليهم بالتفصيل 219
الفصل الثانى: فيما قيل فى التفضيل بين الملائكة والأنبياء عليهم السلام 225 - 243
(4/394)
________________________________________
مذهب أكثر الأشاعرة، والشيعة وأكثر الناس أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة 225
وذهب الفلاسفة والمعتزلة إلى أن الملائكة أفضل 225
أدلة الأشاعرة ومن وافقهم 225
أدلة المخالفين القائلين بتفضيل الملائكة على الأنبياء 226
أما من جهة المعقول: 226
وأما من جهة المنقول؛ فمن خمسة عشر وجها 227 - 231
الرد على المخالفين 232 - 243
وهذه المسألة ظنية لاحظ للقطع فيها لا نفيا، ولا إثباتا
القاعدة السادسة فى المعاد، والسمعيات، وأحكام الثواب والعقاب وتشتمل على ثلاثة أصول: 245 - 390
الأصل الأول فى المعاد ويشتمل على ثلاثة فصول: 247 - 315
الفصل الأول: فى جواز إعادة ما عدم عقلا 249 - 260
رأى الفلاسفة والتناسخية. المنع من ذلك 249
رأى أكثر المتكلمين. الجواز 249
احتج الأشاعرة على جواز ما عدم مطلقا بحجتين: 251
الحجة الأولى: 251
الحجة الثانية: 251
شبه الخصوم 252
الرد عليهم 255
الفصل الثانى: فى وجوب وقوع المعاد الجسمانى 261 - 273
ذهب الفلاسفة والتناسخية ومن وافقهم إلى المنع من ذلك 261
وذهب أهل الحق من المتشرعين إلى وجوب ذلك 261
الأدلة من الكتاب الكريم 262
(4/395)
________________________________________
الأدلة من السنة 266
شبه الخصوم: 269
الرد عليهم: 272
الفصل الثالث: فى المعاد النفسانى 274 - 315
اختلاف الناس فى معنى النفس الإنسانية 274
مذهب الفلاسفة اليونانيين، ومن تابعهم من فلاسفة الإسلاميين، وأرباب التناسخ 275
احتجوا على ما ذهبوا إليه بخمسة عشر حجة 277
ثم اختلفوا فى أربعة مواضع 281
الموضع الأول: اختلفوا فى قدم النفس وحدوثها 281
الموضع الثانى: اختلفوا فى وحدة النفس وتكثرها 284
الموضع الثالث: هل تفوت النفس بفوات البدن أم لا؟ 286
الموضع الرابع: اختلفوا فى أنها هل تنتقل إلى بدن آخر أم لا؟ 289
والّذي عليه المحققون من الفلاسفة امتناع القول بالتناسخ 290
الرد على القائلين من الأشاعرة بأن النفس عرض 294
الرد على القائلين بقدم النفس 303
الرد على القائلين بحدوث النفس ومناقشة حججهم 304
وأما التفريع الثانى: فى وحدة النفس وتكثيرها 306
وأما حجج التفريع الثالث: وهو أن النفس هل تفوت بفوات البدن أم لا؟ فمدخوله 309
وأما التفريع الرابع: المتعلق بالتناسخ 313
الرد على الفلاسفة الإلهيين 315
الأصل الثانى فى السمعيات ويشتمل على أربعة فصول: 317 - 347
الفصل الأول: فى الدليل السمعى، وأقسامه، وأنه هل يفيد اليقين، أم لا؟ 319 - 326
تعريف الدليل السمعى فى العرف 319
وعند الفقهاء 319
فى عرف المتكلمين 320
الفصل الثانى: فى خلق الجنة والنار 327 - 331
مذهب الأشاعرة وأكثر المتكلمين 327
(4/396)
________________________________________
المعتمد فى المسألة: الكتاب والسنة وإجماع الأمة 327
أما الكتاب 327
وأما السنة 328
وأما الإجماع 329
الفصل الثالث: فى عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير 332 - 341
آراء الفرق المختلفة 332
الدليل على إحياء الموتى فى قبورهم 333
الدليل على إثبات عذاب القبر من الكتاب والسنة 335
أما الكتاب: 335
أما السنة: 336
تسمية أحد الملكين منكرا والآخر نكيرا 337
وللمخالفين شبه ومعارضات 337
الجواب عن شبههم، ومعارضاتهم 338
الفصل الرابع: فى الصراط والميزان والحساب وقراءة الكتب والحوض المورود وشهادة الأعضاء 342 - 347
أما الصراط 342
وأما الميزان 345
وأما الحساب 347
وأما أخذ الكتب 347
وأما شهادة الأعضاء 347
وأما نصب الحوض 347
الأصل الثالث فى أحكام الثواب والعقاب ويشتمل على خمسة فصول: 349 - 390
الفصل الأول: فى استحقاق الثواب والعقاب 351
مذهب أهل الحق. لا يجب على الله- تعالى- شيء 351
وذهب معظم المعتزلة: أنه يجب على الله إثابة المطيع، وعقاب العاصى 351
الرد على المعتزلة 352
الفصل الثانى: فى أن ثواب أهل الجنة، وعقاب الكفار غير واجب الدوام عقلا؛ بل سمعا 355
مذهب أهل الحق 355
(4/397)
________________________________________
مذهب المعتزلة 355
حجج المعتزلة 355
رد أهل الحق عليهم 357
الفصل الثالث: فى استحقاق عصاة المؤمنين العقاب على زلاتهم، وجواز الغفران عنها عقلا 360 - 378
أجمع المسلمون على أن من مات على كفره؛ فهو مخلد فى النار أبدا 360
وأجمع المسلمون على أن من مات مؤمنا ولو كان من أهل الكبائر؛ فماله إلى الجنة خلافا للخوارج 360
مذهب المرجئة 360
الرد على المرجئة 361
الرد على المنكرين لجواز الغفران عقلا 364
أما من جهة العقل 364
وأما من جهة السمع 364
الأمة مجمعة على ثبوت الشفاعة للنبى صلى اللّه عليه وسلم 365
اعتراضات للخصوم 366
الجواب عنها 369
الفصل الرابع: فى أن عقاب العصاة من المؤمنين غير مخلد 379
مذهب المعتزلة والخوارج إلى أن من مات من أرباب الكبائر من غير توبة؛ فهو مخلد فى النار 379
الرد عليهم 379
الفصل الخامس: فى الإحباط والتكفير 383 - 390
رأى أهل الحق 383
مذهب الخوارج والمعتزلة 383
حججهم 384
الرد عليهم 385
فهرس موضوعات الجزء الرابع 391 - 398
(4/398)
________________________________________
[الجزء الخامس]
القاعدة السابعة في الأسماء والأحكام وتشمل على ستة فصول:
الفصل الأول: فى تحقيق معنى الإيمان، وأنّه هل يقبل الزيادة والنّقصان، أم لا؟
الفصل الثانى: فى تحقيق معنى الكفر.
الفصل الثالث: فى أن العاصى من أهل القبلة/ هل هو كافر، أم لا؟
الفصل الرابع: فى أن مخالف الحقّ من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟
الفصل الخامس: فى أنّ الكفّار هل هم معذورون، أم لا؟
وفى حكم المصيب فى الاعتقاد من غير دليل.
الفصل السادس: فى معنى التّوبة وأحكامها؟
(5/5)
________________________________________
الفصل الأول فى تحقيق معنى الإيمان، وأنّه هل يقبل الزّيادة والنقصان، أم لا؟ «1»
وقد اتفق أهل الإسلام على أن مفهوم لفظ الإيمان لا يخرج عن أعمال القلب والجوارح، وما تركب منهما.
لكن اختلفوا:
فمنهم من قال: إنّه لا يخرج عن أعمال القلب.
ومنهم من قال: إنّه لا يخرج عن أعمال الجوارح.
ومنهم من قال: لا يخرج عن المركّب منهما.
فأمّا من قال: بأنّه لا يخرج عن أعمال القلب؛ فقد اختلفوا:
فمنهم من قال: الإيمان هو تصديق القلب. وهو مذهب الشيخ أبى الحسن والقاضى أبى بكر، والاستاذ ابى إسحاق، وأكثر الأئمة، ووافقهم على ذلك الصالحى، وابن الراوندى من المعتزلة «2».
ومنهم من قال: الإيمان بالله- تعالى- معرفته، وهو مذهب جهم بن صفوان «3» وبكر ابن اخت عبد الواحد بن زيد «4» والإمامية.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة. يرجع إلى المراجع التالية بالإضافة لما ورد هاهنا: اللمع للإمام الأشعرى ص 122 وما بعدها. والإنصاف للباقلانى ص 54 وما بعدها. والإرشاد للجوينى ص 396 وما بعدها.
وأصول الدين للبغدادى ص 247 وما بعدها.
والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص 141 وما بعدها. وفيصل التفرقة. وكله فى مسألتنا. وغاية المرام فى علم الكلام للآمدى ص 309 وما بعدها.
ومن كتب المعتزل: شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 797 وما بعدها ومن كتب المتأخرين عن الآمدي:
شرح المواقف للجرجانى: الموقف السادس ص 234 وما بعدها تحقيق الدكتور أحمد المهدى.
وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 181 وما بعدها.
والايمان لابن تيمية. (كله فى هذا الموضوع وما يتعلق به) وشرح الطحاوية لابن أبى العز الحنفى ص 360 وما بعدها.
(2) ابن الراوندى انظر ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 231/ أ
(3) انظر عنه ما مر فى الجزء الأول فى هامش ل 5/ أ
(4) انظر عنه ما مر فى الجزء الأول فى هامش ل 192/ ب.
(5/7)
________________________________________
ومنهم من قال: الإيمان معرفة الله، ورسله، وما جاءت به الرسل على الجملة؛ وهو منقول عن بعض الفقهاء.
وأما من قال: إنه لا يخرج عن أعمال الجوارح:
فمنهم من قال: هو إقرار اللسان بالشهادتين لا غير. وهذا هو مذهب الكرّامية «1».
ومنهم من قال: هو الطاعة لكن اختلفوا:
فمنهم من قال: كل طاعة إيمان سواء كانت فرضا، أو نفلا. وهو مذهب الخوارج والعلاف، وعبد الجبار من المعتزلة.
ومنهم من قال: الإيمان هو الطاعات المفترضة، دون النوافل منها. وهذا هو مذهب الجبائى، وأكثر البصريين من المعتزلة.
ومنهم من قال: الإيمان هو الإقرار باللسان، والمعرفة. وهو مذهب الغيلانية «2» وهو أيضا محكى عن أبى حنيفة «3»، وعبد الله بن سعيد بن كلاب «4».
ومنهم من قال: هو الإقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان؛ وهذا هو مذهب القلانسى «5» من أصحابنا، والنجار «6» من المعتزلة.
________________
(1) راجع ما مر عن الكرامية فى الجزء الأول ه ل 65/ أ. وما سيأتى فى هذه القاعدة ل 256/ ب وما بعدها.
(2) الغيلانية: أصحاب غيلان بن مروان الدمشقى. انظر عنه ما سيأتى فى هامش ل 244/ أو الفرقة الرابعة من المرجئة ل 255/ أ.
(3) أبو حنيفة: الإمام الأعظم: النعمان بن ثابت، التيمى بالولاء الكوفى: إمام الحنفية، الفقيه المجتهد المحقق، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. قيل أصله من أبناء فارس. ولد بالكوفة سنة 80 ه ونشأ بها. وكان يبيع الخز ويطلب العلم فى صباه، ثم انقطع للتدريس والإفتاء. طلبه بن هبيرة (أمير العراقين) من قبل الأمويين للقضاء، فرفض ورعا، وأراده المنصور العباسى قاضيا للقضاة فرفض؛ فحبسه إلى أن مات فى محبسه سنة 150 ه. وكان قوى الحجة ومن أحسن الناس منطقا. قال عنه الإمام مالك: رأيت رجلا لو كلمته فى هذه السارية أن يجعلها ذهبا؛ لقام بحجته. وقال عنه الإمام الشافعى: «الناس عيال فى الفقه على أبى حنيفة» كتبت عنه وعن مناقبه وسيرته وآرائه وفقهه كتب كثيرة. رحمه الله ورضى عنه آمين.
[تاريخ بغداد 13/ 323 - 423، أبو حنيفة: حياته وعصره وآراءه وفقهه. للشيخ محمد أبو زهرة].
(4) عبد الله بن سعيد بن كلّاب راجع ما كتب عنه فى هامش ل 82/ ب من الجزء الأول.
(5) القلانسى: انظر ترجمته فى هامش ل 124/ أ من الجزء الأول.
(6) النّجار: انظر ترجمته فى هامش ل 64/ ب من الجزء الأول.
(5/8)
________________________________________
وأما من قال: بأنه لا يخرج عن المركب من أعمال القلب والجوارح قال:
هو المعرفة بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان. وهو مذهب أكثر أهل الأثر، وابن مجاهد «1»
وإذ أتينا على تفصيل المذاهب؛ فلا بد من تحقيق الحق، وإبطال الباطل منها.
[الحق فى المسألة]
والحق فى هذه المسألة غير خارج عن مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى: وهو أن الإيمان بالله- تعالى- هو تصديق القلب به.
فإن التّصديق من أحوال النفس. ومن ضرورته المعرفة شرعا. ولا بد من تحقيق ذلك، وإيراد مآخذ الخصوم فى معرض الشبه، والانفصال عنها فنقول:
[تعريف الإيمان]
أما أن الإيمان هو// التصديق شرعا:
فهو أن الإيمان فى اللغة: هو التصديق/ المعدى بالباء، باتفاق أهل اللغة ومنه قوله- تعالى- وما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «2» [أى بمصدق لنا] «3»، ومنه قولهم:
فلان يؤمن بالحشر، والنشر: أى يصدق به.
وإذا ثبت أن معنى الإيمان فى اللغة هو التصديق. وجب حمل كل ما ورد من ألفاظ فى الكتاب والسنة عليه. إلا ما دلّ دليل على مخالفته. وإنما قلنا ذلك لوجهين:
الأول: هو أن خطاب الشارع للعرب إنما كان بلغتهم؛ فيجب حمل كل ما كان من ألفاظهم على معانيهم.
________________
(1) ابن مجاهد: أحمد بن موسى بن العباس التميمى أبو بكر بن مجاهد كبير العلماء بالقراءات فى عصره. من أهل بغداد ولد سنة 245 ه وتوفى سنة 324 ه [الفهرست لابن النديم 1/ 31 والأعلام للزركلى 1/ 261].
قال شارح العقيدة الطحاوية: «اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافا كثيرا: فذهب مالك والشافعى وأحمد والأوزاعى واسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان» [شرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الدمشقى المتوفى سنة 792 ه ت: بشير محمد عون- الناشر: مكتبة دار البيان بدمشق].
// أول ل 134/ ب
(2) سورة يوسف 12/ 17
(3) ساقط من «أ».
(5/9)
________________________________________
ويدل على أن خطاب الشارع لهم إنما كان بلغتهم قوله- تعالى-: وما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «1» وقوله- تعالى- فى صفة القرآن، ونزوله بلسان العرب وهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «2» وقوله- تعالى- إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «3» وقوله- تعالى- بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «4».
والثانى: أنه لو كان لفظ الإيمان فى الشرع معبرا عن وضع اللغة مع غلبة مخاطبة الشارع لبين للأمة نقله، وتغييره بالتوقيف، كما عرف سائر الأحكام الشرعية وإلا فالمقصود من الخطاب لا يكون حاصلا؛ لأنهم لا يحملون ما يخاطبون به من ألفاظهم، إلا على مصطلحهم، ولا يخفى ما فيه من الخلل ولو ورد فيه توقيف؛ لكان متواترا؛ إذ الحجة لا تقوم بالآحاد.
ولو كان كذلك؛ لاشترك الناس فى معرفته، كاشتراكهم فى معرفة ما ورد به من الأحكام الشرعية.
وأما أن الإيمان مختص بالقلب. فيدل عليه الكتاب، والسنة.
أما الكتاب: فقوله- تعالى- قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ولَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ «5» وقوله- تعالى- ولَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ «6» وقوله- تعالى- إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ «7» وقوله تعالى أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «8» وقوله- تعالى- فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «9»
وأما السنة: فما روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم- أنه كان يقول: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبى على دينك) «10».
________________
(1) سورة إبراهيم 14/ 4.
(2) سورة النحل 16/ 103.
(3) سورة يوسف 12/ 2.
(4) سورة الشعراء 26/ 195.
(5) سورة الحجرات 49/ 14.
(6) سورة المائدة 5/ 41.
(7) سورة النحل 16/ 106.
(8) سورة المجادلة 58/ 22.
(9) سورة الانعام 6/ 125.
(10) رواة الترمذي في القدر 4/ 448، 449 عن انس- رضى الله عنه- وهو حديث حسن.
(5/10)
________________________________________
وأيضا: ما روى عنه- عليه السلام- أنه قال لأسامة. وقد قتل من قال لا إله إلا الله «هلّا شققت عن قلبه» «1».
وذلك كله يدل على اختصاص القلب بالإيمان.
فإن قيل: سلمنا أن الإيمان فى اللغة عبارة عن التصديق؛ ولكن لا نسلم أنه فى الشرع كذلك.
قولكم: إنّ الشارع يخاطب العرب بلغتهم؛ مسلم.
ولكن لا نسلم امتناع خطابه لهم بغير لغتهم.
وأما النصوص الدالة على كون القرآن عربيا.
فليس فيه ما يدل على امتناع اشتماله على غير العربية، ولا يخرجه ذلك عن كونه عربيا، وعن اطلاق اسم العربىّ عليه.
فإنّ الشّعر الفارسىّ. يسمى فارسيا. وإن كان فيه آحاد من كلمات العرب والّذي يدلّ على ذلك اشتمال القرآن على كلمات ليست عربية. فإنّ المشكاة «2» هندية، والإستبرق «3»: فارسية.
وقوله- تعالى- وفاكِهَةً وأَبًّا «4» قال أهل الأدب (الأبّ) «5» ليس من لغة العرب.
[لا نسلم امتناع استعمال الألفاظ العربية فى غير موضوعها لغة، ويدلّ على ذلك النص، والإلزام.]
وإن سلمنا:/ امتناع مخاطبة العرب بغير ألفاظ العربيّة، ولكن لا نسلم امتناع استعمال الألفاظ العربية فى غير موضوعها لغة، ويدلّ على ذلك النص، والإلزام.
أما النّص: فمن جهة الكتاب، والسنة.
أما الكتاب: فقوله- تعالى- وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «6»: أى صلاتكم إلى بيت المقدس.
________________
(1) رواه الامام مسلم فى صحيحه.
(2) (المشكاة): كوّة فى الحائط غير نافذة يوضع فيها المصباح. وفى التنزيل العزيز (كمشكاة فيها مصباح) - المعجم الوسيط- باب الشين)
(3) (الإستبرق): الديباج الغليظ (المعجم الوسيط- باب الهمزة)
(4) سورة عبس 80/ 31.
(5) (الأبّ) العشب رطبه ويابسه. وفى التنزيل العزيز وفاكِهَةً وأَبًّا.
وتقول: فلان راع له الحب، وطاع له الأبّ، زكا زرعه واتسع مرعاه. (المعجم الوسيط. باب الهمزة)
(6) سورة البقرة 2/ 143.
(5/11)
________________________________________
وأما السنة: فقوله- عليه السلام- «نهيت عن قتل المصلين» «1» وأراد به المؤمنين.
وأيضا: قوله- عليه السلام-: «الإيمان بضع وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» «2». وكل ذلك خلاف الوضع.
وأما الإلزام: فمن خمسة عشر وجها:
الأول: هو أن الصلاة في اللغة: عبارة عن الدّعاء «3»، وفى الشرع؛ عبارة عن الأفعال المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، وكذلك الزكاة فى «4» اللغة، عبارة عن النمو والزيادة وفى الشرع عبارة عن وجوب أداء مال مخصوص، وكذلك الحج «5» فى اللغة: عبارة عن القصد مطلقا، وفى الشرع عبارة عن القصد مطلقا إلى مكان خاص.
الثانى: أنه لو كان الإيمان فى الشرع: هو التّصديق؛ فالتصديق لا يختلف ولا يزيد، ولا ينقص، ويلزم من ذلك أن يكون إيمان النبي- عليه السلام- كإيمان الواحد من العوام الأغبياء؛ وهو ممتنع.
الثالث: هو أن الفسوق يناقض الإيمان، ولا يجامعه. ولو كان الإيمان هو التصديق فى الشرع// لما امتنع مجامعته للفسوق، ويدل على امتناع الجمع بينهما قوله- تعالى-: ولكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ والْفُسُوقَ والْعِصْيانَ «6» ووجه الاحتجاج به أنه ذكر الإيمان، وقابله بالكفر، والفسوق؛ فدل على أن الفسوق يناقض الإيمان.
________________
(1) أخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير عن أنس رضى الله عنه.
(2) متفق عليه أخرجه البخارى ومسلم فى صحيحيهما.
(3) (الصّلاة): الدّعاء. يقال: صلى صلاة، ولا يقال: تصلية. و- العبادة المخصوصة المبينة حدود أوقاتها فى الشريعة [المعجم الوسيط (باب الصاد)].
(4) (الزّكاة): البركة والنماء. و- الطهارة. و- الصّلاح. و- صفوة الشيء.
و- (فى الشرع) حصة من المال ونحوه يوجب الشرع بذلها للفقراء ونحوهم بشروط خاصة [المعجم الوسيط (باب الزاى)].
(5) (حجّ) إليه حجا: قدم. و- المكان: قصده. و- البيت الحرام: قصده للنّسك. و (الحجّ): أحد أركان الإسلام الخمسة. وهو القصد فى أشهر معلومات إلى البيت الحرام للنسك والعبادة. [المعجم الوسيط (باب الحاء)].
// أول ل 135/ أ.
(6) سورة الحجرات 49/ 7.
(5/12)
________________________________________
الرابع: هو أن فعل الكبيرة مما ينافى الإيمان، ولو كان الإيمان فى الشرع هو التصديق، لما كان فعل الكبيرة مناقضا له، وبيان مناقضة فعل الكبيرة للإيمان قوله- تعالى- وكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «1». وقوله- تعالى- فى حق مرتكب بعض الكبائر: ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ «2» فدلّ مجموع الآيتين علي أن مقارف الكبيرة ليس مؤمنا.
الخامس: أن المؤمن غير مخزى لقوله- تعالى-: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ «3». وقد قال- تعالى- فى حق قطاع الطريق: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ولَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ «4» ومجموع الآيتين يدل على أن قاطع الطريق ليس مؤمنا مع أنه مصدق بالله- تعالى-، وهذا دليل على أن الإيمان فى الشّرع ليس هو التصديق.
السادس: أن المستطيع إذا ترك الحجّ من غير عذر؛ فهو كافر لقوله- تعالى- ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «5» ولو كان الإيمان فى الشرع هو التصديق؛ لما كان كافرا؛ لكونه مصدقا.
السابع: هو أن من لم يحكم/ بما أنزل الله؛ [فهو كافر لقوله- تعالى- ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ] «6» فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «7». ولو كان الإيمان فى الشرع هو التصديق؛ لما كان كافرا؛ لكونه مصدقا.
الثامن: أن الزّانى ليس بمؤمن لقوله عليه السلام: «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» «8». ولو كان الإيمان هو التصديق؛ لما كان الزّانى غير مؤمن؛ لكونه مصدقا.
________________
(1) سورة الأحزاب 33/ 43.
(2) سورة النور 24/ 2.
(3) سورة التحريم 66/ 8.
(4) سورة المائدة 5/ 33.
(5) سورة آل عمران 3/ 97.
(6) ساقط من أ.
(7) سورة المائدة 5/ 44.
(8) الحديث متفق عليه أخرجه البخارى ومسلم. (صحيح البخارى: الحديث رقم 6772 (كتاب الحدود) عن أبى هريرة- رضى الله عنه-، وأخرجه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة أيضا (كتاب الإيمان) 1/ 76.
(5/13)
________________________________________
التاسع: أن من مات ولم يحج؛ فهو كافر لقوله- عليه السلام- «من مات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا» «1»، ولو كان الإيمان هو التصديق؛ لما كان كافرا؛ إذ هو مصدق بالله- تعالى.
العاشر: أنّ من ترك الصّلاة متعمدا؛ فهو كافر لقوله عليه السلام: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» «2» ولو كان الإيمان هو التّصديق؛ لما كان كافرا؛ لكونه مصدقا.
الحادى عشر: أنه لو كان الإيمان هو التصديق بالله- تعالى- فى الشرع، لما كان من قتل نبيا، أو استخفّ به، أو سجد بين يدى صنم مع كونه مصدقا؛ كافر؛ وهو خلاف اجماع الأمة.
الثانى عشر: أن فعل الواجبات هو الدين لقوله- تعالى- وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ «3» والإشارة فى قوله- تعالى- وذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ راجعة إلى جملة المذكور السابق والدين هو الإسلام لقوله- تعالى- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «4». والإسلام هو الإيمان؛ لأنه لو كان غيره لما قبل من مبتغيه لقوله- تعالى- ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «5» ولو كان الإيمان فى الشّرع هو التصديق؛ لما كان الإيمان هو فعل الواجبات.
الثالث عشر: أنه لو كان الإيمان فى الشرع هو التصديق؛ لما صح وصف المكلف به حقيقة إلا فى وقت صدوره منه كما فى سائر الأفعال، ولو كان كذلك لما وصف النائم فى حالة منامه، والغافل فى حالة غفلته بكونه مؤمنا حقيقة؛ وهو خلاف الاجماع؛ وذلك يدل على تغير الوضع فى لفظ الإيمان.
الرابع عشر: أنه لو كان الإيمان باقيا على وضعه فى الشّرع؛ لصحّ أن يقال فى الشرع لمن صدق بألوهية غير الله- تعالى- مؤمنا؛ وهو خلاف الإجماع.
________________
(1) أخرجه الإمام الترمذي فى سننه 3/ 167 كتاب الحج- عن على بن أبى طالب رضى الله عنه- قال عنه الترمذي- حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفى اسناده مقال.
(2) رواه ابن ماجه فى سننه عن أبى الدّرداء 1/ 1339 - كتاب الفتن- ضمن حديث طويل بلفظ «و لا تترك صلاة مكتوبة متعمدا، فمن تركها متعمدا؛ فقد برئت منه الذمة».
(3) سورة البينة 98/ 5.
(4) سورة آل عمران 3/ 19.
(5) سورة آل عمران 3/ 85.
(5/14)
________________________________________
الخامس عشر: أن الله- تعالى- قد وصف بعض المؤمنين بالله- تعالى- بكونه مشركا بقوله- تعالى- وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ «1»، ولو كان الإيمان بالله تعالى- فى الشرع هو التصديق به؛ لامتنع مجامعته للشرك.
سلمنا أنّ الإيمان فى الشّرع هو التصديق؛ ولكن ما المانع أن يكون هو التّصديق باللّسان كما قاله الكرامية «2».
كيف وأن ذلك هو الأولى؛ لأنّ أهل اللّغة لا يفهمون من التّصديق غير التّصديق/ باللسان
[آراء المخالفين والرد عليهم]
والجواب: قولهم: لا نسلّم امتناع مخاطبة الشّارع للعرب بغير لغتهم.
قلنا: دليله ما ذكرناه من الوجهين.
قولهم: ما ذكرتموه من النصوص لا يدلّ على امتناع اشتمال القرآن على غير العربية؛ لأن ما بعضه عربى، وبعضه، غير عربى؛ فلا يكون كله عربيا، وظاهر// ما ذكرناه من النّصوص يدل على أن القرآن بجملته عربى.
قولهم: إنّ الشّعر الفارسىّ لا يخرج عن كونه فارسيا باشتماله على كلمات من العربية؛ فكذلك الكلام العربى، لا يخرج عن كونه عربيا، باشتماله على كلمات ليست عربية.
قلنا: إن قيل بأن ما هو العربى منه، لا يخرج عن كونه عربيا؛ فهو مسلم.
وإن قيل إن الجملة الكائنة من العربى، وغير العربى، انها تكون عربية؛ فهو مباهتة للمعقول والمحسوس.
نعم غايته إطلاق اسم العربى عليها؛ لغلبة الكلام العربى فيها؛ لكنّه بطريق المجاز دون الحقيقة. والأصل فيما نحن فيه، إنّما هو حمل الكلام على جهة حقيقته دون مجازه.
________________
(1) سورة يوسف 12/ 106.
(2) ذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط. فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملوا الإيمان، ولكنهم يقولون: بأنهم يستحقون الوعيد الّذي أوعدهم الله به. وقولهم ظاهر الفساد. (شرح العقيدة الطحاوية ص 360).
// أول ل 135/ ب.
(5/15)
________________________________________
قولهم: القرآن مشتمل على كلمات غير عربية لا نسلم ذلك. وما ذكروه من الكلمات فلا نسلم أنها ليست عربية، وإنما استعملها غيرهم من أرباب اللغات مع نوع تغيير، كما غير العبرانيون الإنسان: ناسوت، والإله لا هوت.
قولهم: لا نسلم امتناع استعمال الألفاظ العربية فى غير موضعها لغة-
قلنا: لأنها إذا استعملت بإزاء معانى غير معانيها لغة، كاستعمال لفظ الغنى:
بإزاء الفقير، والفقير: بإزاء الغنى؛ فلا يكون لغويا: أى لا يكون من لسان العرب أهل اللغة. وعند ذلك فيمتنع مخاطبة الشرع به للعرب؛ لما سبق.
وقوله:- تعالى- وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «1». لا نسلم أن المراد به الصلاة؛ بل المراد به التصديق بالصلاة، وإنما سمى التصديق بالصلاة، صلاة على سبيل التجوز؛ لدلالة الصّلاة على التصديق، والمجاز من لغة العرب؛ لا أنه خارج عنها.
وقوله عليه السلام: نهيت عن قتل المصلين «2» ... فالمراد به المصدقين على سبيل التجوز أيضا، وتسمية إماطة الأذى عن الطريق إيمانا، إنما كان بطريق المجاز أيضا؛ لدلالتها على الإيمان.
قولهم: الصلاة فى اللغة عبارة عن الدعاء، والزكاة عبارة عن النمو، والحج عبارة عن القصد، وفى الشرع لغير هذه المحامل.
قلنا: لا نسلم التغيير فى هذه الألفاظ؛ بل هى مستعملة فى الشرع بإزاء ما كانت مستعملة بإزائه فى اللغة، غير أن الشارع اعتبر فيها شروطا لصحتها فى الشرع من غير أن تكون الشروط، داخلة فى المسمى؛ فالشرع تصرف بوضع الشروط للصحة الشرعية لا فى نفس الوضع بالتغيير.
قولهم: لو كان الإيمان فى الشرع هو التصديق؛/ لكان إيمان النبي النبي صلى اللّه عليه وسلم كإيمان العامىّ الغبىّ.
قلنا: التّصديق الواحد بالشّيء، وإن استحال فيه الزيادة، والنقصان بين النبي، والواحد منا، غير أن الإيمان عرض، والعرض متجدّد على ما أسلفناه «3».
________________
(1) سورة البقرة 2/ 143.
(2) سبق تخريجه فى هامش ل 237/ أ.
(3) راجع ما مر فى الاعراض: الفرع الرابع: فى تجدد الأعراض ل 44/ ب وما بعدها.
(5/16)
________________________________________
وعند ذلك: فلا يمتنع التفاوت بين إيمان النبي، وإيمان الواحد منا بسبب كثرة تخلل الغفلة، والفتور بين أعداد الإيمان المتجدّدة للواحد منا، وقلّة تخللها بين الإعداد المتجدّدة من إيمان النبي- صلى اللّه عليه وسلم-، أو بسبب ما يعرض لنا من الشّبه والتّشكيكات التى يفتقر فى دفعها إلى الاجتهاد بالنّظر، والاستدلال بخلاف النبىّ صلى اللّه عليه وسلم.
قولهم: إنّ الفسوق يقابل الإيمان، ولا يجامعه؛ ممنوع.
وقوله تعالى: ولكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ والْفُسُوقَ والْعِصْيانَ «1». ليس فيه ما يدل على كون الفسوق مقابلا للإيمان، ولهذا فإنه لو قال- تعالى- إن الله تعالى حبّب إليكم العلم به، وكرّه إليكم الفسوق؛ فإنه لا يدلّ على المناقضة بين العلم به، والفسوق.
وكون الكفر مقابلا للإيمان، لم يكن مستفادا من الآية؛ بل من ضرورة التّضاد بينهما عقلا.
وإن سلمنا دلالة ما ذكروه على مناقضة الفسوق للإيمان، غير أنه معارض بما يدل على عدمه، ودليله قوله- تعالى-: الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «2» فإنه يدل على مقارنة الظلم للإيمان.
وأيضا قوله- تعالى- ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ «3». وذلك يدلّ على مجامعة الظّلم لمن اصطفاه الله- تعالى-؛ والمصطفى لا يكون إلا مؤمنا.
قولهم: إنّ فعل الكبيرة مما ينافى الإيمان؛ لا نسلّم ذلك.
قولهم: المؤمن مرحوم؛ لما ذكروه من النّص. مسلم أيضا؛ ولكن ليس فيه ما يدل على منافاة الكبيرة للإيمان.
وقوله- تعالى- فى حقّ مرتكب الكبيرة، ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ «4».
ليس فيه ما يدلّ أيضا «11» // على كون المؤمن غير مرحوم من الله- تعالى- ولا سيما مع
________________
(1) سورة الحجرات 49/ 7.
(2) سورة الأنعام 6/ 82.
(3) سورة فاطر 35/ 32.
(4) سورة النور 24/ 2.
(11) // أول ل 136/ أ
(5/17)
________________________________________
قوله- تعالى- ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «1»؛ بل المراد من الآية أنكم لا تحملكم الشفقة ورأفة الجنسية على إسقاط حدود الله- تعالى- بعد وجوبها. والّذي يدلّ على ذلك أن مرتكب الكبيرة، إذا تاب فإنّه مؤمن بالإجماع، ومرحوم وإن أقيم عليه الحدّ.
كيف وأن ما ذكروه معارض بما قدّمناه، من النصوص الدّالة علي نفى الممانعة بين الإيمان وفعل الكبيرة.
قولهم: إنّ المؤمن لا يخزى، وقاطع الطريق مع كونه مصدّقا مخزى؛ لما ذكروه من الآيتين.
قلنا: ليس فيما ذكروه دلالة؛ وذلك لأنّ آية نفى الخزى، دلّت على نفى الخزى فى الآخرة، وآية القطّاع دالّة على الخزى فى الدّنيا، ولا يلزم من منافاة الخزى، فى يوم القيامة للإيمان، منافاته للإيمان/ فى الدنيا
كيف وأن آية نفى الخزى قاصرة علي النبي وصحابته؛ فلا تعم.
قولهم: المستطيع إذا ترك الحجّ من غير عذر كافر. لا نسلم ذلك، وقوله تعالى:
وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وإن دلّ على وجوب الحج لقوله- تعالى- ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «2». ليس فيه ما يدلّ على الكفر بترك الحجّ الواجب؛ بل هو ابتداء كلام آخر، والمراد به من لم يصدّق.
وإن سلمنا أن المراد به الكفر، بترك الحج الواجب، فالمراد به أنه من لم يصدق بمناسك الحجّ، وجحدها اعتقادا؛ وذلك لا يتصور معه التّصديق.
قولهم: إنّ من لم يحكم بما انزل الله فهو كافر.
فقد قال المفسرون: المراد به من لم يعتقد التزام أحكامه، ولم يستسلم لاحكام الإسلام؛ وذلك لا يتصور معه التصديق.
وقوله عليه السلام: «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» «3» لا نسلم أن قوله: وهو مؤمن فى هذا الحديث، مأخوذ عن الإيمان؛ بل من الأمن، ومعناه لا يزنى الزّانى حين يزنى وهو مؤمن- أى على أمن من عذاب الله تعالى.
________________
(1) سورة الأعراف 7/ 156.
(2) سورة آل عمران 3/ 97.
(3) سبق تخريج هذا الحديث فى ل 237/ ب.
(5/18)
________________________________________
وإن سلمنا أنه مأخوذ من الإيمان، غير أنّه يجب حمله على الإيمان؛ بمعنى التّصديق؛ لما فيه من موافقة الوضع اللّغوى، وأن يحمل قوله: «لا يزني الزانى حين يزنى وهو مؤمن». على حالة الاستحلال لزناه، ويكون تقديره- لا يزنى الزانى حين يزنى مستحلا لزناه وهو مؤمن- أى مصدق ويمكن أن يكون المراد من قوله: «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» أى على صفات المؤمن، من اجتناب المحظورات، وهو وإن لزم منه التأويل، غير أنا لو لم نحمله على ذلك؛ للزم منه حمل الإيمان على غير موضوعه اللغوى.
ولا يخفى أن تأويل الظّواهر أولى من مخالفته الأوضاع اللّغوية لوجهين:
الأول: أن تأويل الظّواهر متفق عليه، بخلاف مخالفة الأوضاع، ومخالفة ما اتفق على جواز مخالفته، أولى من مخالفة ما لم يتفق على مخالفته.
الثانى: أن مخالفة الظواهر فى الشّرع، أكثر من مخالفة الأوضاع اللّغوية عند القائلين بمخالفة الأوضاع، فإن أكثر الظواهر مخالفة، وأكثر الأوضاع مقرّرة؛ وذلك يدل على أن المحذور فى مخالفة الأوضاع أعظم منه فى مخالفة الظواهر؛ فكانت مخالفة الظواهر أولى.
وعلى هذا يجب حمل قوله عليه السلام: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا» «1»، وقوله عليه السلام: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» «2» على حالة الاستحلال، وإنكار الوجوب؛ لما ذكرناه من الترجيح.
قولهم: لو كان الإيمان هو التصديق؛ لما كان من قتل نبيا، أو استخف به، أو سجد/ بين يدى صنم كافرا- إذا كان مصدّقا.
قلنا: نحن لا ننكر جواز مجامعة هذه الكبائر مع الإيمان عقلا، غير أن الأمّة مجمعة على تكفيره؛ فعلمنا انتفاء التّصديق عند وجود هذه الكبائر سمعا، ويجب أن يقال بذلك جمعا بين العمل بوضع اللّغة، وإجماع الأمّة على التّكفير؛ وهو أولى من إبطال أحدهما.
قولهم: فعل الواجبات هو الدّين- لا نسلم ذلك؛ بل الدّين هو التصديق بالواجبات، وقوله- تعالى- وذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ «3». ليس فيه ما يدلّ على أنّ إقامة
________________
(1) تم تخريج هذا الحديث فى هامش ل 237/ ب
(2) سبق تخريج هذا الحديث فى هامش ل 237/ ب.
(3) سورة البينة 98/ 5.
(5/19)
________________________________________
الصّلاة، وفعل الزكاة من الدّين؛ فإن الآية قد فرّقت بين الدّين، وفعل الصلاة، والزّكاة، حيث قال- تعالى-: وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. ثم قال بعد ذلك:
حُنَفاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ «1»؛ وذلك دليل المغايرة بين الدّين وما ذكر من الواجبات.
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكروه على أنّ الدّين هو فعل الواجبات، وأن الدّين هو الإسلام؛ ولكن لا نسلم أن الإسلام هو «11» // الإيمان، ويدل عليه قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ولَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ «2»؛ وذلك يدل على المغايرة بينهما.
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكروه على أنّ الإيمان هو فعل الواجبات، غير أنه معارض بما يدل على المغايرة بينهما، وبيانه من جهة النّص، والإجماع، والمعقول:
أما النصّ: فقوله- تعالى- ومَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويَعْمَلْ صالِحاً «3»؛ فإنه يدل على المغايرة بين الإيمان، والعمل الصّالح؛ حيث عطف العمل الصالح، على الإيمان والظّاهر أنّ الشيء لا يعطف على نفسه.
وأيضا قوله- تعالى- لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وآمَنْتُمْ بِرُسُلِي «4» عطف الإيمان، على الصّلاة، والزكاة؛ وهو دليل المغايرة بينهما.
أما الإجماع فمن وجهين: الأول: هو أن الأمّة من المسلمين قبل ظهور المخالفين؛ مجمعة على امتناع إطلاق القول على أنّ من ترك طاعة، وواجبا، أنه ترك الإيمان، وذلك يدلّ على المغايرة.
الثانى: أنّ الأمة من السّلف، مجمعة على أنّ الإيمان شرط فى صحة أفعال الواجبات من الطّاعات، والشّرط «5» غير المشروط.
________________
(1) سورة البينة 98/ 5.
(11) // أول ل 136/ ب.
(2) سورة الحجرات 49/ 14.
(3) سورة التغابن 64/ 9.
(4) سورة المائدة 5/ 12.
(5) الشرط فى اللغة: عبارة عن العلامة. والمشروط: هو تعليق شيء بشيء.، بحيث إذا وجد الأول وجد الثانى.
وقيل: ما يتوقف ثبوت الحكم عليه (التعريفات للجرجانى ص 143).
(5/20)
________________________________________
وأما من جهة المعقول فمن وجهين: الأول: أنه لو كان الإيمان هو فعل الطاعات؛ للزم أنّ من زادت طاعاته على طاعات النبيّين عددا؛ أن يكون إيمانه أكثر من إيمان الأنبياء؛ وهو ممتنع.
الثانى: أنه لو كانت الطاعات إيمانا؛ لكانت المعاصى كفرا؛ لأن الإيمان ضدّ الكفر، والطاعة ضد المعصية؛ فإذا حكم على أحد الضدّين بحكم؛ وجب الحكم بضد ذلك الحكم على الضد الآخر. وهذا الوجه الضعيف، من حيث أنه لا يمتنع اشتراك المتضادات فى حكم واحد، ولو لزم من الحكم على أحد الضّدين بحكم، أن يحكم بضد ذلك الحكم على الضدّ الآخر، لما تصور الاشتراك بين/ الضدّين فى حكم من الأحكام.
وإن سلمنا امتناع الاشتراك بينهما فى حكم أحدهما؛ فغايته ثبوت الحكم لأحدهما وانتفاؤه عن الآخر، أما أن يكون ضد ذلك الحكم، واجب الثبوت للضدّ الآخر، فلا.
وعلى هذا: فغاية ما يلزم من الحكم على الطّاعة بكونها إيمانا، أن لا يحكم على المعصية بكونها إيمانا، أما أنه يحب أن يكون كفرانا؛ فلا.
قولهم: لو كان الإيمان هو التصديق؛ لما صحّ وصف المكلّف به حقيقة فى حالة نومه، وغفلته؛ فهو لازم عليهم فى كل ما يفسرون الإيمان به، غير التصديق.
والجواب: إذ ذاك يكون متحدا.
قولهم: لو كان الإيمان هو التصديق؛ لصحّ تسمية المصدّق بإلهيّة غير الله تعالى- مؤمنا.
قلنا: يصح تسميته بذلك؛ نظرا إلى الوضع اللّغوى، ولا يصح نظرا إلى العرف الاستعمالى، وهو تخصيص العرف بالإيمان، بإطلاقه على بعض مسمياته، ولا يوجب ذلك تغير الوضع، كتخصيص اسم الدّابة فى العرف بذوات الأربع، وقوله تعالى: وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ «1».
________________
(1) سورة يوسف 12/ 106.
(5/21)
________________________________________
قلنا: الإيمان شرعا ضدّ الشّرك بالاجماع، وما ذكروه؛ فهو لازم لهم على كلّ مذهب من المذاهب المتقدم ذكرها، وإذا كان ذلك لازما على الكلّ، ولا بد من العمل بلفظ الإيمان فى واحد منها؛ فلا يخفى أنّ ما فيه موافقة الوضع يكون أولى.
قولهم: ما المانع أن يكون الإيمان هو التّصديق باللّسان؟
قلنا: لما ذكرناه من الأدلة الدالة على اختصاص الإيمان بتصديق القلب.
قولهم: أهل اللّغة لا يفهمون من التصديق غير ذلك، دعوى مجرّدة من غير دليل؛ فلا تقبل.
كيف وانّا نعلم من حال النّبيّ- صلى اللّه عليه وسلم- عند إظهار المعجزة أنّه لم يكتف من الناس بمجرد الإقرار باللّسان، ولا بالعمل بالأركان مع تكذيب الجنان؛ بل كان يسمى من كانت حاله كذلك كاذبا، ومنافقا ومنه قوله- تعالى- تكذيبا للمنافقين عند قولهم للرسول- عليه الصلاة والسلام- نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ «1»
وقال- تعالى- ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «2» كيف: وأنه لا يخفى إبطال القول بأن الإيمان هو مجرد الإقرار باللسان من جهة إفضائه إلى تكفير، من أبطن التصديق بالله تعالى، ولم يعلن الإقرار باللسان لمانع، والحكم بإيمان من أقر بلسانه، وأبطن التكذيب باللّه ورسوله.
وإلى ما انتهينا إليه- هاهنا- بالبحث المستقصى، نعلم صحّة مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى- رحمه الله- وبطلان جميع مدارك ما عداه من المذاهب الواهية المحكيّة، فإنّا لم نأل جهدا فى استقصائها، وتحريرها، والتنبيه على إبطالها.
وأما أن الإيمان هل يزيد «11» // وينقص؛ فقد اختلف فيه:
________________
(1) سورة المنافقون 63/ 1.
(2) سورة البقرة 2/ 8.
(11) // أول ل 137/ أ.
(5/22)
________________________________________
[الآراء المختلفة فى زيادة الإيمان ونقصانه]
فمنهم من قال:/ بزيادته، ونقصانه «1».
ومنهم من قال: بأنه لا يزيد، ولا ينقص «2».
ومنهم من فصّل وقال: إن إيمان الله- تعالى- الّذي أوجب اتّصافه بكونه مؤمنا لا يزيد، ولا ينقص.
أما إيمان الأنبياء والملائكة؛ فإنه يزيد، ولا ينقص.
وأما إيمان من عداهم، فإنه يزيد، وينقص.
الحق فى ذلك:
أن إيمان الرّب تعالى- لا يزيد، لا ينقص، وإلا كان ما يتصف به من زيادة الإيمان ونقصانه حادثا، والرب- تعالى- ليس محلا للحوادث كما سبق «3».
وأما إيمان غيره، فمن فسر الإيمان بالطّاعات؛ فإنه يزيد، وينقص؛ لإمكان الزيادة، والنقصان فى الطاعات «4».
________________
(1) هم السلف ومن تبع طريقتهم: قالوا: الإيمان يزيد، وينقص. يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخله النار. وقد استدلوا على صحة ما ذهبوا إليه بأدلة كثيرة من الكتاب الكريم، والسنة النبوية المطهّرة والآثار السلفية. (انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفى ص 374 - 378 فقد ذكر عشرات الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه).
(2) هم الاحناف ومن قال بقولهم: إن الإيمان هو التصديق. لأن التصديق فى نفسه مما لا يتزايد، وما لا يتزايد؛ فلا نقصان له إلا بالعدم. ولا زيادة عليه إلا بانضمام مثله إليه؛ فلا زيادة إذن للإيمان بانضمام الطاعات إليه ولا نقصان بارتكاب المعاصى؛ إذ التصديق فى الحالين على ما كان قبلهما (انظر بالإضافة إلى ما ورد هاهنا: تبصرة الأدلة لأبى المعين النسفى الحنفى ص 858. تحقيق الدكتور محمد الأنور، رسالة دكتوراه بكلية أصول الدين).
(3) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 146/ أ وما بعدها.
(4) يرى السلف أن الإيمان يزيد، وينقص. يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخله النار. أما زيادة الإيمان من جهة الإجمال، والتفصيل: فمعلوم أنه لا يجب فى أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله.
وأما الزيادة بالعمل، والتصديق، المستلزم لعمل القلب، والجوارح: فهو أكمل من التصديق الّذي لا يستلزمه، فالعلم الّذي يعمل به صاحبه، أكمل من العلم الّذي لا يعمل به. والأدلة على زيادة الإيمان، ونقصانه من الكتاب، والسنة، والآثار السلفية كثيرة جدا. منها: قوله- تعالى- وإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الانفال: 2] ويَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم: 76] ويَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً [المدثر:
31] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً [الفتح 4]. ومن السنة: قوله صلى اللّه عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده، ووالده، والنّاس أجمعين» والمراد نفى كمال الإيمان. وحديث شعب الإيمان «الإيمان بضع وسبعون شعبه أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». وفى هذا أعظم دليل على زيادة الإيمان ونقصانه. أما الآثار المروية عن الصحابة فمنها: قول أبى الدّرداء- رضي اللّه عنه- «من فقه المرء أن يتعهد إيمانه، وما نقض منه، ومن فقه العبد أن يعلم أ يزداد هو، أم ينتقص». وكان عمر- رضي اللّه عنه يقول لأصحابه: «هلموا نزدد إيمانا، فيذكرون الله عز وجل». وفى هذا ما يدل على أن الإيمان يزيد وينقص (انظر شرح الطحاوية ص 365 - 377).
(5/23)
________________________________________
ومن فسره بخصلة واحدة من تصديق، أو غيره؛ فإنه لا يقبل الزيادة والنقصان من حيث هو خصلة واحدة، اللهم إلا أن ينظر إلى كثرة اعداد أشخاص، تلك الخصلة، وقلتها فى آحاد الناس؛ فإنّه يكون قابلا للزّيادة، والنقصان على ما حققناه من قبل.
(5/24)
________________________________________
الفصل الثانى فى تحقيق معنى الكفر شرعا
والكفر فى اللّغة:
مأخوذ من الكفر وهو السّتر، ومنه تقول العرب: كفر درعه بثوب: أى ستره، ومنه قولهم: للرماد مكفورا. إذا اسفت عليه الريح التّراب، وللزّارع كافر؛ لأنه يستر البذر بالتّراب عند حراثته، ويقال للّيل كافر: لستره ما يكون فيه، ويقال للبحر كافر: لانه إذا طمى ستر الجزائر وغطّاها، وقد يطلق الكفر فى اللّغة على ضدّ الإيمان، حتى أنه يقال: لمن كذب بشيء، كفر به، كما يقال لمن صدق بشيء آمن به «1».
وأما فى اصطلاح المتكلمين:
فقد اختلفوا فيه على حسب اختلافهم فى الإيمان: فمن قال الإيمان بالله هو معرفته؛ قال الكفر هو الجهل بالله- تعالى- وهو غير منعكس على المحدود، وشرط الحدّ: أن يكون مطردا منعكسا حتى لا يكون الحدّ أعمّ من المحدود، ولا المحدود أعم من الحد كما سبق تعريفه «2».
وبيان أنه غير منعكس: أن جحد الرسالة، وسبّ الرسول عليه السلام، والسجود للصنم، وإلقاء المصحف فى القاذورات، كفر بالإجماع، وليس هو جهلا بالله- تعالى-؛ فإنه قد يصدر ذلك من العارف بالله- تعالى- والجاهل بالدلالة على العلم، بامتناع هذه الأمور، أو مع المعرفة بها؛ فلا يكون فعل هذه الأمور دالا علي الجهل بالله- تعالى-.
[رأى المعتزلة والخوارج]
ومن قال الإيمان هو الطاعات: كالمعتزلة. وبعض الخوارج قال: الكفر هو المعصية لكن اختلفوا: فقالت الخوارج: كل معصية كفر.
________________
(1) انظر المعجم الوسيط باب الكاف ص 791 وما بعدها. ففيه معلومات مهمة تؤكد صحة ما أورده الآمدي قارن ما ذكره الآمدي عن معنى الكفر بما ورد عن كل من: الشهرستانى فى نهاية الاقدام ص 472. وأصول الدين للبغدادى ص 248 وشرح المواقف- الموقف السادس ص 251 وما بعدها.
(2) انظر ما مر ل 32/ أ من القاعدة الثالثة.
الباب الأول: فى الحد- الفصل الثالث: فى شرط الحد، وما يجتمع جملة أقسام الحدود فيه، وما لا يجتمع.
قال الآمدي: «و شرط الحد على اختلاف أقسامه: أن يكون جامعا: لا يخرج عنه شيء من المحدود. مانعا:
لا يدخل فيه ما هو خارج عن المحدود. فإنه إذا لم يكن جامعا: كان المحدود أعم من الحدّ. وإذا لم يكن مانعا: كان الحد أعم من المحدود. وعلى كلا التقديرين: لا يكون الحدّ مميزا للمحدود، ولا معرفا له»
(5/25)
________________________________________
وأما المعتزلة: فإنهم قسموا المعاصى إلى:
معصية هى كفر: وهى كل معصية تدل على الجهل بالله- تعالى- كسبّ الرسول- عليه السلام- والقاء المصحف فى القاذورات.
وإلي معصية لا توجب اتصاف فاعلها بالكفر، ولا بالفسوق، ولا يمتنع معها الاتصاف بالإيمان: كالسفة، وكشف العورة، إلى غير ذلك.
وإلى/ معصية توجب الخروج من الإيمان، ولا توجب الاتّصاف بالكفر؛ بل بالفسوق والفجور: كالقتل العمد العدوان، والزنا، وشرب الخمر، ونحوه فصاحبها فى منزلة بين المنزلتين: أى ليس بكافر، ولا مؤمن. وأول من أحدث هذا المذهب واصل بن عطاء «1» وعمرو بن عبيد «2». وطريق الرد على هؤلاء إنما هو ببيان أن كل معصية لا تدل على تكذيب الرسول فيما جاء به؛ فإنها لا تكون كفرا على ما سيأتى تحقيقه فى الفصل الّذي بعده «3».
وربّما قالت المعتزلة: الكفر عبارة عن فعل قبيح، أو إخلال بواجب يستحق عليه أعظم العقاب؛ وهو فاسد.
[الرد عليهم]
أما أولا: فلأنه مبنى على فاسد أصولهم، فى استحقاق العقاب على المعاصى وهو باطل كما سبق «4»
وأما ثانيا: فلأن انواع الكفر متفاوتة فى العقوبة، فعقوبة الشّرك بالله تعالى، وسبّه، أعظم من عقوبة إنكار الرسالة، وعقوبة إنكار الرّسالة أعظم من عقوبة الاستخفاف بالرّسول، وهذا يوجب أن لا يكون إنكار الرسالة، والاستخفاف بالرسول كفرا، إذ لا يستحق عليه أعظم العقاب؛ لأن عقاب الشّرك بالله- تعالى-، وسبّ الله- تعالى- أعظم منه.
________________
(1) انظر عنه وعن آرائه ما سيأتى ل 244/ أ وما بعدها.
(2) انظر عنه وعن آرائه ما سيأتى ل 244/ ب وما بعدها.
(3) ولمزيد من البحث انظر شرح المواقف- الموقف السادس ص 251 وما بعدها. شرح المقاصد للتفتازانى 2/ 251 وما بعدها. ومن كتب المعتزلة: شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 695 وما بعدها وللمقارنة انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفى، فقد ذكر آراء الفرق، وناقشها، ورد عليها بالتفصيل ص 413 وما بعدها.
(4) انظر ما مر ل 223/ ب وما بعدها.
(5/26)
________________________________________
فلئن قالوا: الكفر هو الّذي يستحق عليه عقابا، أكثر من عقاب الفسق؛ فلا يصحّ؛ لأن «11» // الفسق أعم من الكفر؛ فكل كفر فسوق، وليس كل فسوق كفرا.
وعند ذلك: فلا يتميز عقاب الكفر عن عقاب الفسوق.
فلئن قالوا: أعظم من عقاب الفسوق الّذي ليس بكفر، فقد أخذوا الكفر فى حد الكفر، وتعريف الشيء بنفسه محال.
ومن قال الإيمان هو الإقرار باللّسان لا غير، قال: الكفر هو ترك الإقرار؛ وهو باطل من حيث أنه يوجب الحكم بالكفر على المصدق بالله- تعالى- بقلبه، وما جاءت به رسله مع عدم تصريحه بالإقرار لفظا؛ لمانع يمنع منه؛ وهو خلاف قاعدة الدين، واجماع المسلمين.
ومن قال الإيمان هو المعرفة بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان.
قال: الكفر هو الإخلال بأحد هذه الأمور الثلاثة، فمن لم يكن عارفا بالله- تعالى- وإن أقر باللسان، وعمل بالأركان؛ فهو كافر، وكذلك من كان عارفا بالله- تعالى- ومقرا بلسانه غير أنه غير عامل بالأركان؛ فهو كافر.
وعلى هذا النحو- وهو خطأ- فإن من كان مصدقا بالله وما جاءت به رسله، وان أخلّ بشيء من الإيمان بالأركان، أو بجملتها تهاونا، وكسلا، لا بطريق الجحود لها؛ فإنه لا يكون كافرا.
ولهذا فإن السلف من الأمة مجمعة على أنّ مثل هذا الشّخص لو أتى بعبادة من العبادات؛ لصحت منه، وأنه يساهم المسلمين فى الغنيمة، وشهود المشاهد، وأنه يغسّل، ويصلى عليه، ويدفن فى مقابر المسلمين، ولو كان كافرا؛ لما كان كذلك بإجماع الأمة.
ومن قال الإيمان هو التصديق بالقلب بالله- تعالى-/ وما جاءت به رسله قال:
الكفر هو التكذيب بشيء مما جاء به الرّسول. وهذا هو اختيار الإمام الغزالى «1»؛ وهو باطل بمن ليس بمصدق، ولا مكذب لشيء مما جاء به الرّسول.
________________
(11) // أول ل 137/ ب.
(1) انظر قواعد العقائد ص 129. وراجع ترجمة الغزالى فيما مر فى هامش ل 122/ أ من الجزء الأول.
(5/27)
________________________________________
فإنه كافر بالاجماع، وليس بمكذب، ويبطل أيضا بأطفال الكفار، ومجانينهم، فإنهم كفار وليسوا مصدّقين، ولا مكذبين، لما جاء به الرّسول.
والأقرب فى ذلك أن يقال:
الكفر عبارة عما يمنع المتصف به من الآدميين عن مساهمة المسلمين، فى شيء من جميع الأحكام، المختصة بهم، وذلك كالقضاء، والإمامة، وحضور المشاهد، وقسمة الغنيمة، والصلاة علي الجنازة، والدفن فى مقابر المسلمين، وصحّة العبادة إلى غير ذلك من الأحكام، وهو مطرد منعكس، لا غبار عليه، وكل ما سواه مما قيل فلا يخلو عن ناقض، ومفسد، يرد عليه كما حققناه.
(5/28)
________________________________________
الفصل الثالث فى أن العاصى من أهل القبلة هل هو كافر، أم لا؟
وقد اختلف المسلمون فى ذلك.
فذهبت المرجئة «1»:
إلى أن مقارف الكبيرة مؤمن وليس بكافر، وهل يسمى فاسقا، اختلفوا فيه.
فمنهم من قال: إنه ليس بفاسق أيضا. وأن الإيمان بالله- تعالى- يمحص كل ذم، ولائمة، والوصف بالفسق من أعظم وجوه الذّم، واللّوم.
ومنهم من قال: إنه يسمّى فاسقا.
ومنهم من فصل وقال: يسمى فاسقا ما دام ملابسا لكبيرة؛ ولا يسمى بذلك بعد تصرّمها.
ومنهم من قال بتسميته فاسقا فى الدنيا، دون الأخرى، وسواء تاب عنها، أو لم يتب.
واختلفوا فى جواز الارتداد عليه: فمنهم من جوزه، ومنهم من منعه.
وأما الخوارج «2»:
فلقد اتفقوا على أن مقارف الكبيرة كافر؛ لكن اختلفوا.
فذهبت البكرية منهم إلى أنه منافق، وهو أشد من الكافر، وقد نقل هذا المذهب عن الحسن البصرى أيضا.
وذهبت طائفة منهم إلى أنه كافر، لا بمعنى أنه مشرك؛ بل بمعنى أنه كافر بأنعم الله- تعالى- غير مؤد لشكره.
________________
(1) عن المرجئة وفرقها ورأيهم فى هذا المسألة بالتفصيل راجع ما سيأتى فى الفصل الرابع من هذه القاعدة ل 254/ ب وما يأتى بعدها.
(2) عن الخوارج وفرقهم ورأيهم فى هذه المسألة بالتفصيل انظر ما سيأتى فى الفصل الرابع من هذه القاعدة ل 252/ أ وما يأتى بعدها.
(5/29)
________________________________________
وأما المعتزلة «1»:
فإنهم قسموا المعصية إلى ما يكفر المكلف بها، وإلى ما يخرجه عن الإيمان من غير اتصاف بكفر؛ بل بالفسق، وإلى ما لا يخرجه عن الإيمان، ولا يستوجب فاعلها مع تجنب الكبائر سمه الفسق.
وأما أصحابنا فإنهم قالوا:
من ارتكب كبيرة من أهل الصلاة، أو داوم على صغيرة؛ فهو مؤمن، وليس بكافر؛ بل فاسق. ومن فعل صغيرة واحدة؛ فهو عاص؛ وليس بفاسق.
وإذ أتينا على شرح المذاهب بالتفصيل؛ فلا بد من إبطال مذاهب المخالفين.
أما الرد على المرجئة:
فى قولهم: إنّ مرتكب الكبيرة ليس بفاسق: فهو أنّ ما ذكروه على خلاف إجماع الأمة من السّلف، والخلف على تسمية مرتكب الكبيرة فاسقا، واتفاقهم على المنع من قبول شهادته واخباره/ كيف وأنّ الفسق لا معنى له غير الخروج «11» // عن الطّاعة ومنه قوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «2»: أى خرج عن طاعة أمره. ومرتكب الكبيرة خارج عن الطاعة، وسواء كان ذلك بترك واجب، أو فعل محظور.
قولهم: إن الإيمان بالله- تعالى- يمحص كل ذم ولائمة؛ فهو باطل بما سبق فى القاعدة السادسة «3».
قولهم: إنّ من صحّ إيمانه لا يصحّ عليه الرّدة؛ ليس كذلك. ودليله العقل والنص، والإجماع.
أما العقل:
فهو أنه لا يلزم من فرض ردة المؤمن محال فى ذاته، ونفسه؛ ولا معنى لصحة الرّدّة إلا هذا.
________________
(1) قال القاضى عبد الجبار: موضحا رأى المعتزلة فى هذه المسألة: «صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين. لا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسمه اسم المؤمن وإنما يسمى فاسقا.
وكذلك فلا يكون حكمه، حكم الكافر، ولا حكم المؤمن؛ بل يفرد له حكم ثالث، وهذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين. فإنّ صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان؛ فليست منزلته منزلة الكافر، ولا منزلة المؤمن؛ بل له منزلة بينهما».
(شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 697).
وانظر آراء فرق المعتزلة بالتفصيل فى الفصل الرابع من هذه القاعدة ل 244/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 138/ أ.
(2) سورة الكهف 18/ 50.
(3) راجع ما مر ل 268/ ب وما بعدها. (القاعدة السادسة- الفصل الثالث: فى أحكام الثواب والعقاب).
(5/30)
________________________________________
أما النص: فمن جهة الكتاب، والسنة.
أما الكتاب: فقوله- تعالى- حكاية عن المؤمنين رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا «1» ولو لا أن ذلك جائز لما سألوا دفعه.
وأما السنة: فما روى عن النبي- صلّى اللّه عليه وسلم- أنه قال: يصبح المرء مؤمنا، ويمسى كافرا» «2».
وأما الإجماع: فهو أن الأمة لم تزل خلفا وسلفا يسألون الله- تعالى- أن يثبت قلوبهم على الإيمان، وان لا يقدّرهم على الكفران، ولو لم يكن ذلك جائزا؛ لما سألوه دفعه عنهم.
[الرد على الخوارج والمعتزلة]
وأما الرد على القائلين بكون مرتكب الكبيرة كافرا «3»: فمن جهة المعقول، والمنقول، والحكم.
أما المعقول:
فهو أنّ مرتكب الكبيرة مؤمن، وبيان كونه مؤمنا، أنه متّصف بالإيمان. وبيان اتصافه بالإيمان. أنه متصف بالتصديق بالله- تعالى- ولا معنى للإيمان بالله تعالى غير التصديق به؛ على ما تقدم. وإذا كان مؤمنا؛ فلا يكون كافرا؛ إذ الكفر ضد الإيمان وضد الإيمان؛ لا يكون مجامعا للإيمان.
وأما المنقول: فمن جهة: النّص، والإجماع:
أما النص: فما ذكرناه من النصوص الدالة على نفى الممانعة بين الإيمان، وفعل الكبيرة
وأما الاجماع: فهو أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين مجمعة على إيمان من صدرت عنه الكبيرة، وعلى دخوله فى زمرة المؤمنين.
________________
(1) سورة آل عمران 3/ 8.
(2) أخرجه الحاكم فى المستدرك 4/ 440 (كتاب الفتن- باب لا تقوم الساعة إلا على شرار من خلقه) والحديث بتمامه «إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح المرء فيها مؤمنا، ويمسى كافرا ويمسى مؤمنا، ويصبح كافرا». عن أبى موسى الأشعرى، رضى الله عنه.
(3) هم فرقة الخوارج: انظر عنهم ما سيأتى ل 252/ أ وما بعدها من الفصل الرابع من هذه القاعدة.
(5/31)
________________________________________
وأما الحكم:
فهو أنّه تصح صلاته، وزكاته، وكل ما يأتى به من العبادات بالإجماع من المسلمين، ولو كان كافرا؛ لما صحت عبادته.
فإن قيل: الدليل على أن مرتكب الكبيرة منافق بالنص، والمعقول:
أما النص: فمن جهة الكتاب، والسنة.
وأما الكتاب: فقوله تعالى ومِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إلى قوله تعالى فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ «1»
ووجه الاستدلال بالآية أنه- تعالى- وصف من نقض عهد الله بالنفاق، وأيضا قوله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «2» دلّ على أن غير المنافق؛ لا يكون فاسقا حيث أنه ذكر الفاسقين بصيغة الجمع المعرّف، وهى لحصر الجهة فى المبتدأ، ومرتكب الكبيرة فاسق. فلو لم يكن منافقا، لكان من ليس/ بمنافق، فاسقا، وهو خلاف ظاهر الآية.
وأما السّنة: فما روى عن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- أنه قال: «علامة المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف» «3»، وهو تصريح بأن من صدرت عنه هذه الخصال، منافق.
وأما المعقول: فهو أنّ من وقر الإيمان بالله- تعالى- فى صدره، وصدّق بوعده ووعيده، وثوابه على الطاعة، وعقابه على المعصية، وعلم أنّ عذاب لحظة من عذاب الآخرة، يزيد بأضعاف مضاعفة على نعيم الدّنيا؛ فيعلم أنه لا يفعل لمقتضى نقيض ما يعلمه، فإذا رأينا شخصا منهمكا على المعاصى، متماديا على ارتكاب حرمات الله- تعالى-؛ فنعلم أنه ما وقر الإيمان فى صدره، وأنه غير مصدق بوعد الله، ووعيده؛ فلا يكون مؤمنا حقا، وإن كان متشبها بالمؤمنين؛ فيكون منافقا، وان سلمنا أنه غير منافق ولكنّه كافر. ويدل عليه النص من الكتاب، والسنة:-
________________
(1) سورة التوبة 9/ 75 - 77.
(2) سورة التوبة 9/ 67.
(3) رواه الإمام مسلم فى صحيحه (كتاب الايمان- باب خصال المنافق 2/ 47 عن أبى هريرة رضى الله عنه ونصه «علامات المنافق ثلاثة: إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».
(5/32)
________________________________________
أما الكتاب: فقوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً «1». ومرتكب الكبيرة، ليس بشاكر؛ فيكون كفورا.
وبيان أنه غير شاكر، أنّ الشّكر إما كثرة التّحدث بنعم الله- تعالى- على ما قال الله- تعالى- وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «2» وإما بإعمال الجوارح فى طاعة الله- تعالى- على ما قال الله- تعالى- اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «3» معناه اعبدونى؛ ولتكن عبادتكم شكرا لى.
وأما الاعتراف بأنّ كل ما به من نعمة فمن الله على ما قال الله- تعالى- وما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ «4» والمنهمك على المعاصى لا يكون شاكرا بأحد هذه الاعتبارات؛ فكان كافرا.
وأيضا قوله- تعالى- ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «5» وقوله تعالى ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «6» وقوله تعالى وهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ «7». ومرتكب الكبيرة مجاز؛ لما تقدّم؛ فيكون كفورا، وقوله- تعالى- أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وتَوَلَّى «8» ومرتكب الكبيرة معذب؛ لما تقدم؛ فيكون مكذبا. والمكذب كافر، وقوله- تعالى- فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلَّى «9» ومرتكب الكبيرة ممن يصلى النّار، فكان مكذبا، والمكذب كافر، وقوله- تعالى- ومَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ إلى قوله: أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ
________________
(1) سورة الانسان 76/ 3.
(2) سورة الضحى 93/ 11.
(3) سورة سبأ 34/ 13.
(4) سورة النحل 16/ 53.
(5) سورة المائدة 5/ 44.
(6) سورة آل عمران 3/ 97.
(7) سورة سبأ 34/ 17.
(8) سورة طه 20/ 48.
(9) سورة الليل 92/ 14 - 16.
(5/33)
________________________________________
بِها تُكَذِّبُونَ «1» ومرتكب الكبيرة ممن تخفّ موازينه؛ فيكون مكذبا والمكذّب كافر، وقوله- تعالى- ومَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «2» ووجه الاحتجاج به كما سبق فى الآية الأولى.
وقوله- تعالى- إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «3» والفاسق ييأس من روح الله؛ فيكون كافرا، إلى غير ذلك من الآيات التى سبق ذكرها.
وأما السنة: فقوله- عليه الصلاة والسلام-: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» «4»، وقوله عليه السلام- «بين العبد والكفر ترك الصلاة» «5»، وقوله عليه السلام/:
من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا» «6»، وقوله- عليه السلام- «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» «7».
والجواب عن الآية الأولى: أنّه ليس فيها، ما يدل على مذهب الخصم.
فإنّ مذهبه أن مرتكب الكبيرة حالة ارتكابه لها، منافق، والآية دالة على تعقب النفاق؛ لنقض العهد، واخلاف الوعد، والمتعقب للشيء؛ لا يكون حالة وقوع الشيء، وقوله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «8» دليل على أنّ كل منافق فاسق، ولا ينعكس؛ فلا يلزم أن يكون كل فاسق منافقا.
قولهم: إنه ذكر الفاسقين بصيغة الجمع المعرف، وهى تحصر الخبر فى المبتدأ؛ فهو مبنى على جوب صيغة العموم، وهو غير مسلم؛ على ما عرف من أصلنا.
وإن سلّمنا أن صيغة الجمع المعرف للتعميم، غير أن الفسق ينقسم إلى: كامل:
وهو فسق النفاق، وإلى ما هو دونه: كفسق غير النفاق.
________________
(1) سورة المؤمنين 23/ 103 - 105.
(2) سورة النور 24/ 55.
(3) سورة يوسف 12/ 87.
(4) اخرجه ابن ماجه فى سننه- عن أبى الدرداء- رضى الله عنه (كتاب الفتن باب الصبر على البلاء) 1/ 1335 بلفظ مقارب.
(5) أخرجه مسلم فى صحيحه (كتاب الايمان- باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة). 2/ 69 عن جابر ابن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة».
(6) الحديث سبق تخريجه فى هامش ل 237/ ب.
(7) الحديث متفق عليه رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما. البخارى فى الحدود- باب الزنا وشرب الخمر 12/ 50؛ ومسلم رقم 57 فى الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي، ونفيه عن المتلبس بالمعصية. كما رواه أبو داود (رقم 4689) فى السنة- باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه.
(8) سورة التوبة 9/ 67.
(5/34)
________________________________________
وعند هذا: فيجب حمل الآية على الفسق الكامل، جمعا بينه، وبين ما ذكرناه من الأدلة، ويكون تقدير الآية: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «1» بالفسق الكامل، وما ذكروه من الخبر؛ فقد قال علماء الأخبار: إنما ورد فى المنافقين فى زمن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- ويجب الحمل عليه جمعا بينه، وبين ما ذكرناه من الأدلّة.
قولهم: إنّ من وقر الإيمان فى صدره، لا يكون منهمكا على فعل المعاصى- ليس كذلك؛ فإنّه لا يبعد ممّن وقر الإيمان فى صدره، وعلم أنّ عذاب لحظة من الآخرة يزيد على نعيم الدنيا، أن يقدم على المعصية اغترارا منه بما يتوقعه من كرم ربه، وعفوه وصفحه عنه وإقلاعه عن المعصية بالتوبة، والإنابة إلى الله- تعالى- على ما هو معلوم من حال كل عاص من المؤمنين؛ ويدل عليه: فعل الصغائر؛ فإنها وان دلت على مخالفة أمر الله- تعالى- ونهيه، وتقديم اللّذات العاجلة على طاعة الله تعالى، فلا تدل على أنّ فاعلها ليس بمؤمن بالإجماع، وليس ذلك إلا لما ذكرناه فى فعل الكبيرة،
كيف .. ؟ وأن اسم النفاق مخصوص لمستبطن الكفر، ومظهر ضدّه باجماع المسلمين، وهو مشتق من النّافقاء «2»، وهو جحر من جحر اليربوع فى الأرض، قد أعدّه للخروج منه إذا أتى عليه من الحجرة الظّاهرة، ومرتكب الكبيرة، غير مستبطن للكفر ولا معتقد لنقيض الحقّ؛ فلا يكون منافقا.
فإن قيل: قد روى عن عمر- رضى الله عنه- انه سأل حذيفة بن اليمان «3» لما عرفه رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- المنافقين وأسماءهم، وقال له: هل عدنى رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- فى المنافقين ولو كان النفاق عبارة عن استبطان الكفر؛ فعمر- رضى الله عنه- كان يعلم من نفسه أنّه لم يكن مستبطنا للكفر، فكيف تشكّك فى نفسه؟
قلنا: إنما سأل عن ذلك نظرا إلى المآل، وخاتمة العمل علي ما جرت به العادة من وجل الأولياء/ والصالحين من سوء العاقبة، وما جرى به القلم فى السابقة، امّا أن يكون ذلك لتشككه فى حال نفسه، فى الحالة الرّاهنة؛ فلا.
________________
(1) سورة التوبة 9/ 67.
(2) (المنافق) من يخفى الكفر، ويظهر الإيمان ومن يضمر العداوة ويظهر الصداقة. (النافقاء) احدى جحرة اليربوع يكتمها، ويظهر غيرها. وهو أصل النفاق. [المعجم الوسيط- باب النون]
(3) هو أبو حذيفة بن حسل بن جابر العبسى- كان صاحب سرّ رسول الله فى المنافقين أعلمه بهم، ولم يعرفهم لأحد غيره توفى سنة 36 ه (تهذيب التهذيب لابن حجر 2/ 219)
(5/35)
________________________________________
وأمّا ما ذكروه من النّصوص: أما قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً «1» إنّما يلزم أن لو لم يكن مرتكب الكبيرة شاكرا؛ وهو غير مسلم. ولا مانع مع ارتكابه الكبيرة أن يكون شاكرا، بمعنى التحدّث بنعم الله تعالى عليه، واعتقاده أنّ كل ما به من نعمة فمن الله، على ما ذكروه.
وأما باقى النصوص: فقد سبق جوابها فيما تقدم والله أعلم.
________________
(1) سورة الإنسان 76/ 3.
(5/36)
________________________________________
الفصل الرابع فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟
[المسلمون قبل ظهور الفرق]
وقبل النظر فى تحقيق الحق، وإبطال الباطل من ذلك، لا بد من الإشارة إلى فرق المخالفين، وأرباب المقالات من الملّة الإسلامية، والتنبيه على مقالة كل فريق، وفى خلال ذلك يلوح الكفر من الإيمان.
فنقول: اعلم «1» أن المسلمين كانوا عند وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم ملة واحدة، وعلى عقيدة واحدة، غير من كان يبطن النفاق، ويظهر الوفاق- ثم نشأ الخلاف فيما بينهم.
[نماذج من الاختلافات التى استطاع المسلمون التغلب عليها]
أولا: فى أمور اجتهادية، كان غرضهم منها، إقامة مراسم الشّرع، وإدامة مناهج الدين، لا توجب إيمانا، ولا تكفيرا: وذلك كاختلافهم عند قول النبي- صلى اللّه عليه وسلم- فى مرض موته: (آتونى بداوة وقرطاس اكتب لكم كتابا لا تضلوا .. ) حتى قال عمر- رضي اللّه عنه- إنّ النبي- صلى اللّه عليه وسلم- قد غيبه الوجع حسبنا كتاب الله وكثر اللغط فى ذلك حتى قال النبي- صلى اللّه عليه وسلم-: «قوموا عنى لا ينبغى عندى التنازع» «2». وكاختلافهم بعد ذلك فى التخلف عن جيش أسامة، وقد قال النبي- صلى اللّه عليه وسلم-: «جهزوا جيش أسامة لعن من تخلف عنه» «3».
حتى قال قوم بوجوب الإتباع، وقال قوم بالتخلف، انتظارا لما يكون حال رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- فى مرضه.
________________
(1) جرت عادة المتكلمين وكتاب الفرق على ذكر أسباب افتراق الأمة، ومنشأ الخلاف بينها وقد استفاد الآمدي ممن سبقه، وأثّر فيمن أتى بعده. انظر: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ص 34 وما بعدها. الفرق بين الفرق للبغدادى ص 4 وما بعدها. والملل والنحل للشهرستانى 1/ 21 وما بعدها فقد اختصر الآمدي ما كتبه الشهرستانى فى الملل والنحل فى هذه المقدمة وانظر أيضا اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازى (كله فى هذا الموضوع). والتبصير فى الدين لأبى المظفر الأسفراييني ص 12 وما بعدها. وممن استفاد من الآمدي ونقل عنه شارح المواقف الشريف الجرجانى فقد نقل نص الآمدي من أول قوله قائلا: «قال الآمدي: كان المسلمون عند وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم. إلى قوله حتى تفرق أهل الإسلام وأرباب المقالات فيه إلى ثلاث وسبعين فرقة» (الأبكار 2/ ل 243/ ب إلى ل 244/ أ). وهذا يؤكد ما ذهبت إليه من أنّ الإيجى لخص كتاب الأبكار فى كتابه المواقف. كما أن شارح المواقف الشريف الجرجانى قد اعتمد فى شرحه على الأبكار أيضا.
(2) قارن بما ورد فى الملل والنحل للشهرستانى 1/ 22، وتذييل شرح المواقف للجرجانى ص 1 والحديث فى الطبقات الكبرى 2/ 242 وما بعدها (باب فى ذكر الكتاب الّذي أراد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم أن يكتبه فى مرضه الّذي مات فيه) وقد رواه ابن سعد عن عمر رضي اللّه عنه.
(3) قارن بما ورد فى الملل والنحل للشهرستانى فى 1/ 23، وتذييل شرح المواقف ص 1 والحديث أخرجه ابن سعد فى الطبقات الكبرى بلفظ مقارب 2/ 48 وما بعدها باب ما قاله رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فى مرضه لأسامة بن زيد.
(5/37)
________________________________________
وكاختلافهم بعد ذلك فى موته، حتى قال عمر- رضي اللّه عنه-: «من قال إنّ محمدا قد مات علوته بسيفى هذا، وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى بن مريم»، وقال أبو بكر- رضي اللّه عنه-: «من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد إله محمد فإنّه حىّ لا يموت» «1»، وقرأ قوله تعالى: وما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «2» ..
الآية؛ فرجع القوم إلى قوله.
وكاختلافهم بعد ذلك فى موضع دفنه بمكة، أو المدينة، أو القدس «3»، ثم فى الإمامة حتى قال الأنصار للمهاجرين منا أمير، ومنكم أمير «4»، ثم فى حرمان الميراث عن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- فيما خلفه من فدك «5»، ودعوى فاطمة لذلك، ودفعها عن الميراث بما روى عنه- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه، فهو صدقة «6».
ثم بعد ذلك فى قتال ما نعى الزكاة حتى قال عمر- رضي اللّه عنه- كيف نقاتلهم وقد قال النبي- صلى اللّه عليه وسلم-: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم» «7» / فقال أبو بكر- رضي اللّه عنه-: «أ ليس قد قال: «إلا بحقها» ومن حقها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم قال: لو منعونى عقالا مما أدوه إلى النبي- صلى اللّه عليه وسلم- لقاتلتهم عليه، ولو بابنتى هاتين «8».
ثم اختلافهم بعد ذلك فى تنصيص أبى بكر على عمر بالخلافة «9».
ثم بعد ذلك فى أمر الشورى «10»، حتى استقر الأمر على عثمان.
________________
(1) قارن بما ورد فى الملل 1/ 23، وتذييل شرح المواقف ص 2 والحديث أخرجه ابن سعد فى الطبقات الكبرى 2/ 266 وما بعدها.
(2) سورة آل عمران 3/ 144.
(3) انتهى الخلاف فى الموضع الّذي يدفن فيه الرسول- عليه السّلام- عند ما ذكروا بحديث رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: «الأنبياء يدفنون حيث يموتون». والّذي ذكرهم به أبو بكر رضي اللّه عنه.
(4) وقد انتهى الخلاف فى الإمامة بعد أن ذكرهم أبو بكر رضي اللّه عنه بحديث رسول الله صلى اللّه عليه وسلم «الأئمة من قريش».
(5) فدك: قرية شمال المدينة المنورة، كانت لليهود، ولما انهزم يهود خيبر؛ سلم يهود فدك قريتهم للنبى صلى اللّه عليه وسلم بدون قتال، وكانت فيئا له ينفق منها على نفسه، وعلى بنى هاشم.
(6) الحديث فى صحيح البخارى 6/ 227 كتاب فرض الخمس- عن عائشة رضي الله عنها «أنّ فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله صلى اللّه عليه وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم-: أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- مما أفاء الله عليه» [الحديث 3092].
[3093] فقال لها أبو بكر: إن رسول الله [صلى اللّه عليه وسلم] قال: لا نورث. ما تركناه صدقة» فغضبت فاطمة بنت رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- فهجرت أبا بكرك فلم تزل مهاجرته، حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- ستة أشهر، قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- من خيبر، وفدك، وصدقته بالمدينة؛ فأبى أبو بكر عليها ذلك».
(7) متفق علي صحته رواه البخارى ومسلم.
(8) انظر ما سيأتى فى قاعدة الإمامة ل 297/ أ.
(9) انظر ما سيأتى فى قاعدة الإمامة ل 301/ أ وما بعدها.
(10) انظر ما سيأتى فى قاعدة الإمامة ل 306/ أ وما بعدها.
(5/38)
________________________________________
ثم اختلافهم فى قتل عثمان «1»، واختلفوا فى خلافة على «2» ومعاوية، وما جرى فى وقعة الجمل، وصفين إلى غير ذلك.
ثم اختلافهم أيضا فى بعض الأحكام الفرعية: كاختلافهم فى الكلالة «3» وميراث الجد مع الإخوة والأخوات، وعقل الأصابع، وديات الأسنان إلى غير ذلك من الأحكام، ولم يزل الأمر فى الخلاف يتدرج إلى آخر أيام الصحابة حتى ظهر معبد الجهنى «4»، وغيلان الدمشقى «5»، ويونس الأسوارى «6»، وخالفوا فى القدر، ومنعوا من إضافة الخير والشر، إلى الله- تعالى- وإلى تقديره، ولم يزل الخلاف يتشعب، والآراء تختلف، حتى تفرق الإسلام، وأرباب المقالات فيه، إلى ثلاث وسبعين فرقة، وكان ذلك من معجزات النبي- صلى اللّه عليه وسلم- حيث وقع ما أخبر به قبل وقوعه حيث قال- عليه الصلاة والسلام-:
«افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة، وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة، كلها فى النار إلا واحدة، قالوا يا رسول الله:
من الملّة الواحدة التى تنقلت قال: ما أنا عليه وأصحابى» «7».
________________
(1) انظر ما سيأتى فى قاعدة الإمامة ل 308/ أ وما بعدها.
(2) انظر ما سيأتى فى قاعدة الإمامة ل 308/ ب وما بعدها.
(3) الكلالة: من مات ولا والد له، ولا ولد، قال تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا ونِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سورة النساء 4/ 176.
(4) معبد الجهنى: هو معبد بن خالد الجهنى البصرى- ولد بالبصرة، وتنقل بين دمشق، والمدينة المنورة، وهو أول من تكلم فى القدر. فقد رأى من يتعلل فى المعصية بالقدر؛ فأراد أن يرد عليه، ولكنه أخطأ وقال: «لا قدر والأمر أنف»، فنبذه الصحابة، والتابعون، وقتله الحجاج بعد سنة ثمانين. (العبر 1/ 92 - البداية والنهاية 9/ 44 - ميزان الاعتدال 3/ 183)
(5) هو أبو مروان غيلان بن مروان بم مسلم الدمشقى، أخذ القول فى القدر عن معبد الجهنى، وله فرقة تنسب إليه (الغيلانية) من المرجئة قتله هشام بن عبد الملك عند ما تولى الخلافة (لسان الميزان 4/ 424 - الانتصار للخياط ص 189).
(6) الأسوارى: هو أبو على الأسوارى: كان من أتباع أبى الهذيل العلاف ثم انتقل إلى مذهب النظام وهو شيخ الأسوارية من المعتزلة، عدّ من الطبقة السابعة (طبقات المعتزلة ص 72، الفرق بين الفرق 165، الانتصار ص 48) وانظر عنه أيضا ما سيأتى ل 245/ أ.
(7) قارن بما ورد فى الفرق بين الفرق للبغدادى، الّذي اهتم بهذا الحديث وخصص له الباب الأول من كتابه فقال:
«الباب الأول: فى بيان الحديث المأثور فى افتراق الأمة» قال: وللحديث الوارد على افتراق الأمة أسانيد كثيرة وقد رواه عن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- جماعة من الصحابة: كأنس بن مالك، وأبى هريرة وأبى الدرداء، وجابر وأبى سعيد الخدرى، وأبى بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبى أمامة، ووائلة بن الأسقع، وغيرهم وقد ورد هذا الحديث بعدة ألفاظ. وما هنا فقد أخرجه أبو داود فى سننه 2/ 503 عن أبى هريرة رضي اللّه عنه. وأخرجه الترمذي فى سننه 5/ 25 عن أبى هريرة أيضا، وقال عنه هذا حديث حسن صحيح. وقد ذكر صاحب الفرق بين الفرق رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو رضي اللّه عنه قال: قال رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم-: «ليأتين على أمتى ما أتى على بنى إسرائيل، تفرّق بنوا إسرائيل على اثنتين وسبعين ملّة، وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين ملة، تزيد عليهم ملة، كلهم فى النار لا ملة واحدة، قالوا: يا رسول الله وما الملة التى تتغلب؟ قال: ما أنى عليه وأصحابى». كما ذكر رواية ثالثة عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن بنى إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتى ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلها فى النار إلا واحدة وهى الجماعة».
(5/39)
________________________________________
والوجه فى تفصيل هذه الفرق أن نقول:
أما كبار الفرق الإسلامية فثمانية: المعتزلة، والشيعة والخوارج، والمرجئة والنجّارية، والجبرية، والمشبهة، والفرق الناجية.
[«الفرقة الأولى»: المعتزلة افترقوا إلى عشرين فرقة]
أما المعتزلة:
ويسمون أنفسهم أصحاب العدل، ويلقبون بالقدرية.
أما تسميتهم معتزلة: فلاعتزال أصلهم- وهو «11» // واصل بن عطاء «1» - عن مجلس الحسن البصرى «2»، وتفرده بأن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن، ولا كافر، وإثباته للمنزلة بين المنزلتين.
وأما تسميتهم: أصحاب العدل: فلاتفاقهم على أن الله تعالى لا يفعل إلا الصّلاح، والخير، ووجوب رعاية الحكمة فى أفعاله، وسموا ذلك عدلا.
وأما تسميتهم بالقدرية: فلاسنادهم أفعال المختارين إلى قدرهم، ومنعهم من إضافتها إلى قدرة الله تعالى-، وقد قال عليه السّلام: «القدرية مجوس هذه الأمة» «3». وقال عليه الصلاة والسلام: «القدرية خصماء الله فى القدر». وربما زعموا أن القدرى هو من يقول القدر خيره، وشره من الله تعالى، هربا من شنيع هذه الوصمة، وهو بعيد، فإنه عليه الصلاة والسلام وصف القدرية بأنهم: «خصماء الله»، ولا خصومة فى حق من يقول بالتسليم، والرضا، والتوكل، وإحالة الأمور كلها على القدر المحتوم.
________________
(11) // أول ل 138/ ب.
(1) هو أبو حذيفة واصل بن عطاء الغزال، كان تلميذا للحسن البصرى، وهو مؤسس فرقة المعتزلة، ورئيسها الأول، لقب بالغزال؛ لأنه كان يلازم الغزالين؛ ليعرف المتعففات من النساء، فيجعل صدقته لهن، ولد فى سنة 80 ه وتوفى سنة 131 ه (الكامل للمبرد 3/ 921 - معجم المؤلفين 13/ 159).
(2) هو أبو سعيد: الحسن بن يسار البصرى، إمام أهل البصرة، ولد فى خلافة عمر بن الخطاب- رضي اللّه عنه- وتوفى فى سنة 110 ه (العبر 1/ 136، مروج الذهب 3/ 214).
(3) تكملة الحديث: «إن مرضوا فلا تعودهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» ومن أسماء المعتزلة وألقابهم التى أطلقوها على أنفسهم: 1 - أهل التوحيد 2 - أهل العدل.
ومن الألقاب التى أطلقها خصومهم عليهم وردوها:
1 - القدرية 2 - الثنوية المجوسية 3 - الجهمية 4 - مخانيث الخوارج 5 - مخانيث الفلاسفة 6 - الوعيدية 7 - المعطلة.
(5/40)
________________________________________
وقد اتفقوا على أن القدم «1» أخص وصف الإله تعالى، وعلى نفى الصفات القديمة عن ذاته «2»، وأن كلامه محدث مخلوق من حرف وصوت «3»، وأنه غير مرئى بالأبصار فى الآخرة «4»، وأنه يجب عليه رعاية الحكمة فى أفعاله «5»، وعلى التحسين والتقبيح العقلى «6»، وعلى أن العبد إذا خرج من الدنيا مطيعا تائبا استحق الثواب وجوبا «7»، إن خرج مرتكب الكبيرة من الدنيا من غير توبة استحق الخلود فى النار، على ما سبق «8».
/ كل ذلك وإبطاله فى مواضعه، ثم افترقوا بعد ذلك عشرين فرقة يكفر بعضهم بعضا.
الفرقة الأولى: الواصلية «9»:
أصحاب واصل بن عطاء الغزّال، قالوا بنفى صفات الباري- تعالى- وبالقدر وامتناع إضافة الشر إلى أفعال الله- تعالى- وبالمنزلة بين المنزلتين، والحكم بتخطئة أحد الفريقين وتفسيقه لا بعينه من عثمان، وقاتليه، وجوزوا أن يكون عثمان لا مؤمنا، ولا
________________
(1) انظر رأى المعتزلة ورد الآمدي عليهم بالتفصيل فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الثانى ل 53/ أ وما بعدها
(2) تحدث الآمدي عن موقف المعتزلة من الصفات ورد عليهم بالتفصيل فى القاعدة الرابعة النوع الثانى: ل 53/ أ وما بعدها.
(3) انظر أبكار الأفكار الجزء الأول: القاعدة الرابعة- النوع الثانى المسألة الخامسة: فى إثبات صفة الكلام لله تعالى ل 82/ ب وما بعدها.
(4) انظر الجزء الأول من الأبكار القاعدة الرابعة- النوع الثالث- المسألة الثانية: فى رؤية الله- تعالى- 123/ أ وما بعدها.
(5) انظر الجزء الأول من الأبكار- القاعدة الرابعة- النوع السادس المسألة الثالثة: فى أنه لا يجب رعاية الغرض ل 186/ ب وما بعدها.
(6) انظر الجزء الأول من الأبكار- القاعدة الرابعة- النوع السادس- المسألة الأولى: في التحسين والتقبيح ل 174/ ب وما بعدها.
(7) انظر الجزء الثانى من الأبكار- القاعدة السادسة- الأصل الثانى- الفصل الأول: فى استحقاق الثواب والعقاب ل 192/ ب وما بعدها.
(8) الجزء الثانى من الأبكار- القاعدة السابعة- الفصل الثالث- فى أن العاصى من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل 241/ ب.
(9) عن فرقة الواصلية بالإضافة لما ورد هاهنا. انظر الملل والنحل للشهرستانى 1/ 46، والفرق بين الفرق لبغدادى ص 117 وما بعدها واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازى ص 40، والتبصير فى الدين للأسفراييني ص 40 وشرح المواقف (التذييل) ص 6 وما بعدها تحقيق الدكتور أحمد المهدى.
(5/41)
________________________________________
كافرا؛ لأن أحد الفريقين فاسق عندهم لا بعينه، والفاسق ليس مؤمنا عندهم، ولا كافرا، وجوزوا أن يكون عثمان مخلدا فى النار، وكذلك الحكم فى على ومقاتليه فى وقعة الجمل، وصفين، وحكموا بأن عليا، وطلحة، والزبير بعد وقعة الجمل لو شهدوا على باقة بقل، لا تقبل شهادتهم، كما لا تقبل شهادة المتلاعنين.
الفرقة الثانية: العمروية «1»:
أصحاب عمرو بن عبيد «2» ومذهبهم كمذهب الواصلية، إلا أنهم فسقوا الفريقين معا.
الفرقة الثالثة: الهذلية «3»:
أصحاب أبى الهذيل «4» العلاف، ومن مذهبهم فناء مقدورات الله تعالى، وأن أهل الخلدين يصيرون إلى سكون دائم، ثم خمود، لا يقدر الله تعالى- فى تلك الحالة على شيء ولا أهل الخلدين- مع صحة عقولهم- يقدرون على شيء. ولذلك سمى المعتزلة أبا الهذيل، جهمى الآخرة، وأن الله- تعالى- عالم بعلم هو ذاته، وأنه قادر بقدرة هى ذاته، وأنه مريد بإرادة لا محل لها، وأن بعض كلام الله- تعالى- لا محل له وهو قوله:
كن، وبعضه فى محل: كالأمر، والنهى، والخبر، والاستخبار، وأن إرادته- تعالى- غير المراد، وأن الحجة لا تقوم- فيما غاب- إلا بخبر عشرين فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر، وكل هذه القواعد قد أبطلناها فيما تقدم «5».
________________
(1) عن هذه الفرقة بالإضافة إلي ما ورد هنا. انظر الفرق بين الفرق للبغدادى ص 120 وما بعدها والتبصير فى الدين ص 42. اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازى ص 40 وشرح المواقف [التذييل] ص 7.
(2) هو أبو عثمان: عمرو بن عبيد بن باب البصرى. صحب الحسين البصرى، ثم اعتزله مع واصل بن عطاء توفى سنة 142 ه ورثاه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسى. [العبر 1/ 193، مروج الذهب 3/ 313].
(3) عن هذه الفرقة:
انظر الملل والنحل 1/ 49 وما بعدها والفرق بين الفرق ص 121 وما بعدها والتبصير فى الدين ص 42 واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 41 وشرح المواقف (التذييل) ص 7.
(4) هو محمد بن الهذيل المعروف بالعلاف ولد فى البصرة سنة 131 ه واختلف فى وفاته والأرجح أنه توفى سنة 235 ه وهو شيخ المعتزلة البصريين، ويعتبر المؤسس الثانى لمذهب المعتزلة بعد واصل بن عطاء. وإنما قيل له العلاف؛ لأن داره بالبصرة كانت فى العلافين وهو من الموالى. من أهل البصرة. وقد عده القاضى من رجال الطبقة السادسة (وفيات الأعيان 3/ 396، الفرق بين الفرق ص 121 وما بعدها وطبقات المعتزلة ص 44).
(5) ارجع إلى الجزء الأول من الأبكار، فقد رد الآمدي على أصحاب هذه الفرقة بالتفصيل.
(5/42)
________________________________________
الفرقة الرابعة: النّظّاميّة «1»:
أصحاب إبراهيم بن سيار النّظام «2». ومن مذهبهم أن الله- تعالى- لا يوصف بالقدرة على الشرور، وأنه لا يقدر أن يفعل بعباده فى الدنيا ما لا صلاح لهم فيه، ولا أن يزيد فى عذاب أهل النار شيئا، ولا ينقص منه، وكذلك نعيم أهل الجنة، وأن معنى كون البارئ مريدا لأفعاله، أنه خالقها، مريدا ولأفعال العباد، أنه أمر بها، وأن الإنسان فى الحقيقة الروح، والبدن آلتها، وأن الطعوم، والروائح، والأصوات، والألوان أجسام، وأن الجوهر مؤلف من الأعراض، وأن العلم مثل الجهل، والكفر مثل الإيمان، وأن الله- تعالى- خلق جميع المخلوقات دفعة واحدة، وأنه لم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده وإنما التقدم والتأخر فى الكمون «3»، والظهور، وأن نظم القرآن ليس بمعجز، وأن العباد قادرون على الإتيان بمثل القرآن وأفصح منه، وأن التواتر الّذي لا يحصى عددا يجوز أن يكون كذبا، وأن الإجماع، والقياس ليس بحجة.
وقالوا بالطفرة «4». والميل إلى الرفض، وأن الإمامة لا تكون إلا «5» بالنص، وأن النبي- صلى اللّه عليه وسلم-/ نصّ على عليّ غير أن عمر كتم ذلك. وأن من خان فيما دون الزكاة، أو ظلم به أنه «11» // لا يفسق، وكل هذه الأقاويل فقد سبق إبطالها.
________________
(1) انظر فى شأن هذه الفرقة بالإضافة لما ورد هاهنا.
الملل والنحل للشهرستانى 1/ 53 وما بعدها والفرق بين الفرق للبغدادى ص 131 وما بعدها واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازى ص 41 والتبصير فى الدين ص 43. وشرح المواقف (التذييل ص 9.
(2) هو أبو إسحاق: إبراهيم بن سيار المعروف بالنّظام وهو شيخ النّظامية وهو ابن أخت أبى الهذيل العلاف. كما كان شيخا للجاحظ، اطلع على كتب الفلاسفة، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة، وهو معدود من أذكياء المعتزلة، وذوى النباهة فيهم توفى ما بين سنة 221 ه وسنة 231 ه.
ا طبقات المعتزلة ص 49 وما بعدها والعبر 1/ 315 والأعلام 10/ 36].
(3) نظرية الكمون، والظهور قال بها الفلاسفة الطبيعيون وقال بها النّظام أيضا: فمن مذهبه: أن الله- تعالى- خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هى عليه الآن معادن، ونباتا، وحيوانا، وإنسانا، ولم يتقدم خلق آدم عليه السّلام على خلق أولاده، غير أن الله- تعالى- أكمن بعضها فى بعض؛ فالتقدم والتأخر، إنما يقع فى ظهورها من مكامنها، دون حدوثها، ووجودها. (الملل والنحل 1/ 56).
(4) الطفرة بمعنى الوثبة: أى أن الجسم الواحد يمكن أن يكون فى مكان ثم يصير إلى مكان ثالث، دون أن يمر بالثانى، وقد أحدث هذا القول النظام. وقد خالفه أكثر المتكلمين، وردوا عليه.
انظر ما مر من أبكار الأفكار ل 59/ ب وما بعدها من القاعدة الرابعة- الجزء الثانى- والملل والنحل للشهرستانى 1/ 55، 56.
(5) مال النظام إلى قول الرافضة، وطعن فى كبار الصحابة وقال إن الإمامة بالنص، والتعيين، وقد نص الرسول- صلى اللّه عليه وسلم- على علي- رضي اللّه عنه- فى مواضع، وأظهره إظهارا لم يشتبه على الجماعة إلا أن عمر كتم ذلك، وهو الّذي تولى البيعة لأبى بكر يوم السقيفة وطعن فى الإمامة عمر- وقال عنه أشياء لا تصح. (الملل والنحل 1/ 57).
(11) // أول ل 139/ أ من النسخة ب.
(5/43)
________________________________________
وقولهم: إن الإمامة لا تثبت بغير النص فسيأتى إبطاله «1».
وقولهم: إن من خان فيما دون نصاب الزكاة لا يكون فاسقا؛ فهو خلاف الإجماع.
الفرقة الخامسة: الأسوارية «2»:
أصحاب الأسوارى «3» ومذهبهم كمذهب النظامية، وزادوا عليهم بأن الله تعالى- لا يقدر على ما علم أنه لا يفعله، أو أخبر أنه لا يفعله، وأن الإنسان قادر عليه وما زادوا به؛ فقد بينا أن حاصل الخلاف فيه راجع إلى العبارة دون المعنى.
الفرقة السادسة: الإسكافية «4»:
أصحاب أبى جعفر الإسكافى «5»: ومن مذهبهم أن الله تعالى- لا يقدر على ظلم العقلاء، وإنما يقدر على ظلم الأطفال، والمجانين، وهو مبنى على تصور الظلم منه؛ وقد أبطلناه فيما تقدم.
الفرقة السابعة: الجعفرية «6»:
وهم أصحاب جعفر بن مبشر «7»، وجعفر بن حرب «8»، وافقوا الإسكافية. وزاد جعفر بن مبشر بأن قال فى فساق الأمة: هم شر من الزنادقة، والمجوس، وأن إجماع الأمة على حد شارب الخمر كان خطأ، وأن سارق حبة واحدة منخلع عن الإيمان وهذا أيضا مما سبق إبطاله.
________________
(1) انظر ما سيأتى ل 274/ أ وما بعدها.
(2) انظر: الانتصار للخياط ص 58، والفرق بين الفرق ص 151. والتبصير فى الدين ص 44 وما بعدها وشرح المواقف (التذييل) ص 11.
(3) سبقت ترجمته فى أول الفصل ه ل 244/ أ.
(4) عن فرقة الإسكافية بالإضافية لما ورد هاهنا. انظر الفرق بين الفرق ص 169 وما بعدها والتبصير فى الدين ص 48 وما بعدها وشرح المواقف (التذييل) ص 11.
(5) محمد بن عبد الله الإسكافى، البغدادى، المعتزلى (أبو جعفر) متكلم من معتزلة الطبقة السابعة له تصانيف كثيرة فى علم الكلام توفى سنة 240 ه [تاريخ بغداد 5/ 416، طبقات المعتزلة ص 78. معجم المؤلفين 10/ 200].
(6) عن الجعفرية بالإضافة لما ورد هاهنا:
انظر الفرق بين الفرق ص 167 وما بعدها، والتبصير فى الدين ص 47، 48. وشرح المواقف (التذييل) ص 12.
(7) جعفر بن مبشر بن أحمد الثقفى من كبار رجال الطبقة السابعة من المعتزلة البغداديين توفى سنة 234 ه (طبقات المعتزلة ص 76، 77، والأعلام 2/ 126).
(8) جعفر بن حرب الهمذانى من رجال الطبقة السابعة، ومن أئمة المعتزلة البغداديين توفى سنة 236 ه (تاريخ بغداد 7/ 162 ومعجم المؤلفين 3/ 163).
(5/44)
________________________________________
الفرقة الثامنة: البشرية «1»:
أصحاب بشر بن المعتمر «2» ومن مذهبهم أن الألوان، والطعوم، والإدراكات، وغير ذلك من الأعراض، يجوز أن تقع متولدة فى الجسم من فعل الغير، وأن الاستطاعة هى سلامة البنية، وصحة الجوارح، وتعريها عن الآفات، وقد سبق إبطال ذلك، وقالوا أيضا إن الله- تعالى- قادر على تعذيب الطفل ظلما له، وأنه لو فعل ذلك؛ لكان الطفل عاقلا، بالغا، عاصيا، مستحقا للعقاب، وكأنه يقول إن الله- تعالى- يقدر أن يظلم، ولو ظلم لكان عادلا؛ وهو فى غاية التناقض.
الفرقة التاسعة: المردارية «3»:
أصحاب عيسى بن صبيح «4» المكنى بأبى موسى المردار وهو تلميذ بشر بن المعتمر، ومن مذهبهم أن الله تعالى قادر أن يكذب ويظلم، ولو كذب وظلم، لكان إلها كاذبا وظالما [«5» تعالى الله وتقدست ذاته العلية عما يقولون علوا كبيرا «5»] وأنه يجوز وقوع فعل من فاعلين بطريق التولد.
وأن الناس قادرون على مثل القرآن، وأحسن منه نظما، وأن من لابس السلطان، كافر لا يرث، ولا يورث منه «6» وأن من قال برؤية الله- تعالى- وأن أفعال العباد مخلوقة لله- تعالى؛ كافر؛ وكل ذلك باطل بما سبق.
________________
(1) البشرية: لمزيد من البحث والدراسة عن البشرية: انظر الملل والنحل 1/ 64، 65، والفرق بين الفرق ص 156 وما بعدها. والتبصير فى الدين ص 45، 46، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 42. وشرح المواقف (تذييل) ص 12.
(2) بشر بن المعتمر البغدادى (أبو سهل) الهلالى من أهل بغداد ويقال: بل من أهل الكوفة. كان رئيسا لمعتزلة بغداد فى عصره وكان شاعرا، وله قصيدة أربعون ألف بيت ردّ فيها على المخالفين اختلف فى تاريخ وفاته: فقيل مات ببغداد سنة 210 ه، وقيل سنة 226 ه (طبقات المعتزلة ص 52 - 54، الأعلام 2/ 28).
(3) المردارية: لمزيد من البحث والدراسة عن هذه الفرقة: انظر الملل والنحل للشهرستانى 1/ 68 وما بعدها. والفرق بين الفرق للبغدادى ص 164 وما بعدها. والتبصير فى الدين للأسفراييني ص 47. واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازى ص 42، وشرح المواقف (تذييل) ص 13.
(4) هو أبو موسى: عيسى بن صبيح، ولقبه المردار. يلقب براهب المعتزلة أخذ الاعتزال عن بشر بن المعتمر، وهو من رجال الطبقة السابعة من المعتزلة وعنه انتشر الاعتزال ببغداد توفى حوالى سنة 226 ه. (المنية والأمل ص 39، والتبصير فى الدين ص 47).
(5) إضافة من الهامش رأيت من الواجب إضافتها.
(6) (منه) ساقط من ب.
(5/45)
________________________________________
الفرقة العاشرة: الهشامية «1»:
أصحاب هشام بن عمر الفوطى «2» ومن مذهبهم الامتناع من إطلاق اسم الوكيل على الله- تعالى-، وهو خلاف نص القرآن؛ لظنهم أن الوكيل يستدعى موكلا، وليس كذلك بل الوكيل بمعنى الحفيظ، ومنه قوله تعالى: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ «3»، أى/ حفيظ والامتناع من إطلاق القول بأن الله- تعالى- ألف بين قلوب المؤمنين، وهو خلاف قوله تعالى: وأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ «4»، وأن الأعراض لا تدل على الله تعالى-، ولا على أحد من رسله، ويلزمه على ذلك أن فلق البحر، وقلب العصا حية، وإحياء الموتى، لا يكون دليلا على صدق من ظهر على يده، وأنه لا دلالة فى القرآن، على حكم من الحلال، والحرام؛ وهو محال، مخالف للدليل، والإجماع.
وقالوا أيضا: إن الإمامة لا تنعقد فى حالة الاختلاف؛ بل «5» فى حال الوفاق، وأن عليا لم تنعقد إمامته لوقوع العقد معه حالة الاختلاف «5»؛ وهو خلاف الإجماع، وأن الجنة، والنار غير مخلوقين الآن، وقد أبطلناه «6»، وإنكار حضار عثمان، وقتله بالغيلة، وهو خلاف ما شوهد ونقل، وأن من افتتح الصلاة بشروطها، ثم أفسدها فى آخرها، كان أول صلاته معصية، منهيا عنها؛ وهو خلاف الإجماع.
الفرقة الحادية عشرة: الصالحية «7»:
أصحاب الصالحى، ومن مذهبهم جواز وجود العلم، والقدرة، والإرادة، والسمع والبصر في الميت، ويلزمهم من ذلك جواز أن يكون الناس أمواتا، مع هذه الصفات، وأن لا يكون الله تعالى حيا أيضا، وأنه يجوز خلو الجواهر عن الأعراض.
________________
(1) عن هذه الفرقة بالإضافة لما ورد هنا: انظر الملل والنحل 1/ 73 وما بعدها، والفرق بين الفرق ص 159 وما بعدها، والتبصير فى الدين ص 46، 47، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 43، وشرح المواقف (التذييل) ص 13.
(2) هو هشام بن عمرو الشيبانى من أهل البصرة، ومن رجال الطبقة السادسة، وكانت له منزلة عند الخاصة والعامة توفى سنة 226 ه (المنية والأمل ص 54، طبقات المعتزلة ص 61 والفرق بين الفرق ص 159 وما بعدها).
(3) سورة الأنعام: 6/ 66.
(4) سورة الأنفال: 8/ 63.
(5) من أول (بل فى حال .... إلى حالة الاختلاف) ساقط من ب.
(6) راجع ما مر ل 217/ ب وما بعدها.
(7) ذكر صاحب المواقف هذه الفرقة ضمن. فرق المعتزلة متابعا للآمدى وموضحا أنهم أصحاب الصالحى. أما الشهرستانى فنسبهم إلى صالح بن عمر الصالحى، وذكر أنه ممن جمع بين القدر، والإرجاء وتحدث عنهم ضمن فرق المرجئة (الملل والنحل 1/ 145. وشرح المواقف (التذييل) ص 15).
(5/46)
________________________________________
الفرقة الثانية عشرة: الحابطية «1»:
أصحاب أحمد بن حابط من أصحاب النّظّام، ومن مذهبهم أن للعالم إلهين خالقين. أحدهما قديم، والآخر محدث، وأن المسيح هو الّذي يحاسب الناس فى الآخرة، وأنه المراد بقوله «11» // تعالى: وجاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا «2» وأنه الّذي يأتى فى ظلل من الغمام؛ وهو المعنى بقوله عليه السّلام: «إنّ اللّه خلق آدم على صورته» «3»، وبقوله: «يضع الجبار قدمه فى النار» «4» وأنه إنما سمى المسيح؛ لأنه أدرع الجسم اللحمانى، وأحدثه، وهؤلاء كفار مشركون، لاتخاذهم إلها غير الله- تعالى، وقد أقمنا الدلالة على إبطال قولهم، فيما تقدم «5».
الفرقة الثالثة عشرة: الحدثية:
أصحاب فضل الحدثى «6» ومذهبهم كمذهب الحابطية، إلا أنهم زادوا عليهم بالقول بالتناسخ وأن الحيوان جنس واحد متحمل التكليف، وهؤلاء أيضا كفار مشركون؛ لإشراكهم، وقولهم بالتناسخ وقد أبطلناه.
وقولهم: بأن كل حيوان مكلف مع عدم الفهم فمخالف للعقل، وما جاءت بالرسل، وإجماع المسلمين.
الفرقة الرابعة عشرة: المعمرية «7»:
أصحاب معمر بن عباد السّلمى «8»، ومن مذاهبهم أن الله تعالى- لم يخلق شيئا غير الأجسام، ويلزمهم أن لا يكون الله- تعالى- محييا، ولا مميتا؛ إذ الحياة، والموت
________________
(1) الحابطية: من الفرق الخارجة عن الإسلام. أصحاب أحمد بن حابط المتوفى سنة 232 ه وهو من أصحاب النظام. قال عنهم الآمدي: «هؤلاء كفار مشركون». (شرح المواقف (التذييل) ص 15، والانتصار ص 218).
(11) // أول ل 139/ ب من النسخة ب.
(2) سورة الفجر: 89/ 22.
(3) سبق تخريج هذا الحديث فى الجزء الأول القاعدة الرابعة- الصفة الحادية عشرة: الصورة [ل 118/ ب].
(4) سبق تخريج هذا الحديث فى القاعدة الرابعة- النوع الثانى- الصفة الرابعة عشرة: القدم [ل 119/ ب].
(5) انظر المصادر السابقة.
(6) فضل الحدثى الحذاء هو وأحمد بن حابط من الغلاة وقد كفرهم الآمدي وقال: وهؤلاء كفار مشركون لإشراكهم، وقولهم بالتناسخ وتوفى الحدثى سنة 257 ه [الانتصار للخياط ص 218 وما بعدها] وشرح المواقف للجرجانى- التذييل ص 16.
(7) انظر فى شأن هذه الفرقة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا: الفرق بين الفرق ص 151 وما بعدها والتبصير فى الدين ص 45، والملل والنحل 1/ 65 وما بعدها، وشرح المواقف (التذييل ص 16).
(8) هو أبو عمرو: معمر بن عباد السّلمى. تفرد بأقوال، وكان بشر بن المعتمر وهشام بن عمرو، وأبو الحسن المدائنى من تلاميذه قتل مسموما سنة 220 ه بعد أن دس له ملك السند السّم بعد أن أرسله الرشيد لمناظرته. (طبقات المعتزلة ص 54 - 56. الفرق بين الفرق ص 151 وما بعدها).
(5/47)
________________________________________
عرضان، والبارئ- تعالى- غير خالق لشيء من الأعراض، ويلزمهم: على ذلك، أن لا يكون لله- تعالى- كلام؛ لأن المتكلم، إما من فعل الكلام، أو بمعنى أنه قام به كلام، والرب تعالى ليس- عند هؤلاء متكلما بمعنى قيام الكلام به؛ إذ لا صفة له تزيد على ذاته عندهم، ولا متكلما بمعنى أنه فاعل الكلام؛ إذ الكلام/ عرض، والعرض غير مقدور للرب- تعالى- على أصلهم، وإن قالوا إن الكلام جسم، فقد أبطلوا قولهم أنه أحدثه فى محل؛ إذ الجسم لا يقوم بالجسم؛ ويلزم على ذلك أن لا يكون الرب- تعالى- آمرا، ولا ناهيا، ولا ثم شريعة أصلا.
ومن مذهبهم: أن الأعراض لا نهاية لها فى كل نوع، وأن النفس شيء معلوم عالم، قادر، مريد، مختار، ليس بمتحيز، ولا حالا فى المتحيز.
وأن الله- تعالى- ليس بقديم؛ لأن القدم مشعر بالتقادم الزمنى، والبارئ- تعالى- ليس بزمنى، وأن البارئ- تعالى- لا يعلم نفسه؛ لأن العالم يستدعى أن يكون غير المعلوم؛ وكل ذلك فقد أبطلناه.
وأن الإنسان لا فعل له غير الإرادة؛ لأن باقى الأعراض من فعل الجسم ويلزمهم على ذلك أن لا يكون أحد من الناس مصليا، ولا حاجا، ولا معتمرا، ولا زانيا ولا سارقا؛ وكل ذلك كفر، وضلالة.
الفرقة الخامسة عشرة: الثمامية «1»:
أصحاب ثمامة بن الأشرس النميرى «2»، ومن مذهبهم أن الأفعال المتولدة لا فاعل لها، وأن المعرفة متولدة عن النظر، وأنها واجبة قبل ورود السمع، وأن اليهود، والنصارى، والمجوس، والزنادقة، يصيرون فى الآخرة ترابا، ولا يدخلون جنة ولا نارا، وكذلك حكمهم فى البهائم، وأطفال المؤمنين.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة عن فرقة الثمامية، انظر الملل والنحل 1/ 70 وما بعدها؛ والفرق بين الفرق ص 172 وما بعدها والتبصير فى الدين ص 48، وشرح المواقف- التذييل- ص 17.
(2) هو أبو معن: ثمامة بن الأشرس النميرى- من رجال الطبقة السابعة من المعتزلة. كان زعيم القدرية أيام المأمون، والمعتصم، والواثق وتوفى سنة 213 ه (طبقات المعتزلة ص 62 وما بعدها والفرق بين الفرق ص 172 وما بعدها).
(5/48)
________________________________________
وأن الاستطاعة سلامة الجوارح عن الآفات، وأن من لا يعلم خالقه من الكفار؛ فهو معذور، وإن المعارف كلها ضرورية، ولا فعل للإنسان غير الإرادة، وما عداها فهو حادث، ولا محدث له، وأن العالم من فعل الله- تعالى- بطبعه.
وما ذكروه من أن الأفعال المتولدة لا فاعل لها؛ وأن المعرفة متولدة عن النظر؛ فمبنى على القول بالتولد؛ وقد أبطلناه «1»، وأبطلنا أيضا القول بالوجوب قبل ورود الشرع «2».
وقولهم: إن الكفار لا يدخلون جنة، ولا نارا، فهو أيضا خلاف إجماع السلف وما وردت به النصوص من تعذيب الكفار، وخلودهم فى النار، وما ذكروه فى الاستطاعة؛ فقد أبطلناه أيضا.
وقولهم: إن من لا يعلم خالقه؛ فهو معذور؛ فسيأتى إبطاله.
وقولهم: بحدوث حوادث لا محدث لها، وأن العالم من فعل الله- تعالى- بطبعه؛ فقد أبطلناه.
الفرقة السادسة عشرة: الخياطية «3»:
أصحاب أبى الحسين بن أبى عمرو الخياط «4» ومن مذهبهم، القول بالقدر وتسمية المعدوم شيئا، وجوهرا، أو عرضا، وأن معنى كون الرب- تعالى- مريدا، أنه قادر غير مكره، ولا كاره، وإن قيل له إنه مريد لأفعال نفسه، فمعناه أنه خالق لها، ولأفعال العباد أنه آمر بها.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة ل 272/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة ل 184/ ب وما بعدها.
(3) عن فرقة الخيّاطية: انظر الملل والنحل 1/ 76 وما بعدها وقد ذكر معها الشهرستانى الكعبة، وعدهما فرقة واحدة، فقال: الحادية عشرة: الخياطية والكعبية. والفرق بين الفرق للبغدادى ص 179، 180.
وشرح المواقف- التذييل- ص 18.
(4) هو أبو الحسين: عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط مؤلف كتاب (الانتصار والرد على ابن الراوندى الملحد) دافع فيه عن المعتزلة، وبرأهم مما رماهم به ابن الراوندى. كان من رجال الطبقة الثامنة من المعتزلة توفى سنة 300 ه.
(الفرق بين الفرق ص 179، 180، وطبقات المعتزلة ص 85).
(5/49)
________________________________________
وأن معنى كون الرب سميعا، وبصيرا، أنه عالم بالمسموعات، والمبصرات، وأن معنى كون الرب- تعالى- يرى ذاته، وغيره؛ أنه يعلم ذاته وغيره؛ وكل ذلك فقد سبق إبطاله «1».
الفرقة السابعة عشرة: الجاحظية «2»:/
أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ «3» ومن مذهبهم أن المعارف كلها «11» // ضرورية، وإنكار أصل الإرادة شاهدا، وأنه لا معنى للمريد غير كونه غير ساه عما يفعله، وإن الإرادة المتعلقة بفعل الغير، هى ميل النفس إليه، وأن الأجسام ذوات طبائع، والقول باستحالة عدم الجواهر، وأن الله- تعالى- لا يخلد أحدا فى النار، ولا يدخله إليها؛ بل النار هى التى تجتذب أهلها إلى نفسها، والقول بالقدر، ونسبة الخير والشّر إلى فعل العبد، ونفى الصفات، وأن القرآن جسد يجوز أن ينقلب مرة رجلا، ومرة حيوانا، وكل ذلك أيضا، مما سبق إبطاله «4».
الفرقة الثامنة عشرة: الكعبية «5»:
أصحاب أبى القاسم الكعبى، ومن مذهبهم أن جميع أفعال الرب- تعالى- واقعة منه من غير إرادة منه لها، وأن الله- تعالى- لا يرى نفسه إلا على معنى علمه بما يراه، وأنه لا معنى لإدراكه الأشياء، غير علمه بها؛ وذلك كله أيضا باطل بما سبق «6».
________________
(1) راجع ما مر فى القاعدة الرابعة.
(2) عن الجاحظية: انظر الملل والنحل للشهرستانى 1/ 75، 76. والفرق بين الفرق للبغدادى ص 175 وما بعدها.
والتبصير فى الدين للأسفراييني ص 49 وما بعدها. وشرح المواقف- التذييل- ص 19.
(3) هو أبو عثمان: عمرو بن بحر بن محبوب الكنانى- البصرى المعتزلى. كبير أئمة الأدب، وأديب العربية. رئيس فرقة الجاحظية المنسوبة إليه ولد بالبصرة سنة 150 ه كانت له مؤلفات كثيرة، ومن الغريب أنه قتل تحتها سنة 252 وقيل سنة 255 ه. (تاريخ بغداد 12/ 212. العبر 1/ 456، وفيات الأعيان الترجمة رقم 479).
(11) // أول ل 140/ أ.
(4) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة.
(5) أصحاب أبى القاسم الكعبى: عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبى، البلخى الخراسانى أحد أئمة المعتزلة له آراء، ومقالات، انفرد بها، وله كتب كثيرة توفى سنة 319 ه انظر عنه وعن فرقته بالإضافة إلى ما ورد هاهنا.
[الملل والنحل 1/ 76 وما بعدها؛ فقد أدمج هذه الفرقة فى الخياطية، وعدهما فرقة واحدة فقال: الحادية عشرة:
الخياطية والكعبية- والفرق بين الفرق ص 179، 180 والتبصير فى الدين ص 51، 52، وشرح المواقف (تذييل) ص 19، 20. وتاريخ بغداد 9/ 384].
(6) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة.
(5/50)
________________________________________
الفرقة التاسعة عشرة: الجبائية «1»:
أصحاب أبى على، الجبائى، ومن مذهبهم: إثبات إرادة حادثة لا فى محل، يكون البارئ- تعالى- بها مريدا، وفناء لا فى محل عند إرادة فناء العالم، وأن الله- تعالى- متكلم بكلام يخلقه الله تعالى- فى محل هو حروف وأصوات، وأن المتكلم من فعل الكلام، لا من قام به الكلام، وأن الله- تعالى- لا يرى فى الدار الآخرة بالأبصار، وأن العبد خالق لفعله، وأن الخير، والشر من أفعاله مضاف إليه، وأن الاستطاعة قدرة زائدة على سلامة البنية قبل الفعل.
وأنه يجب على الله- تعالى- ثواب المطيع، وعقاب العاصى عقلا، وإن كان التأقيت، والتخليد لا يعرف بغير السمع.
وأن الإيمان عبارة عن خصال الخير.
وأن مرتكب الكبيرة يسمى فاسقا، لا مؤمنا ولا كافرا، وإن مات من غير توبة؛ فهو مخلد فى النار.
واتفقوا على إنكار كرامات الأولياء، وأنه يجب عليه إكمال عقول الخلق، وتهيئة أسباب التكليف إذا كلفهم، وأن الأنبياء معصومون.
وهذا كله مما اتفق عليه الجبائية والبهشمية.
وانفردت الجبائية بأن البارى- تعالى- عالم لذاته من غير إيجاب صفة هى علم، أو حال توجب كونه عالما، وأن معنى كون البارى- تعالى- سميعا بصيرا، أنه حي لا آفة به، وأنه يجوز الآلام، لمجرد العوض؛ وذلك كله فقد سبق إبطاله.
________________
(1) أصحاب أبى على الجبائى: محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائى. من أكابر شيوخ المعتزلة من أشهر تلاميذه الإمام الأشعرى الّذي ناظره، وقطعه، وبعدها تحول عن الاعتزال، وأصبح إماما للسنة توفى الجبائى سنة 303 ه.
انظر عنه وعن فرقته [الملل والنحل 1/ 78 وما بعدها فقد ذكر الجبائية مع البهشمية فى فرقة واحدة فقال: «الفرقة الثانية عشرة: الجبائية والبهشمية، والفرق بين الفرق ص 183، 184 والتبصير فى الدين ص 52، 53 وشرح المواقف- التذييل- ص 20، 21.
(5/51)
________________________________________
الفرقة العشرون: البهشمية «1»:
أصحاب أبى هاشم ابن الجبائى، وقد انفردوا بمسائل منها:
استحقاق الذم، والعقاب من غير معصية، وهو خلاف الحكمة، والإجماع.
وأن التوبة عن كبيرة لا تصح مع الإصرار على غيرها، مع علمه بقبح ما أصر عليه، وذلك يوجب أن لا يصح إسلام الكافر مع إصراره على أدنى مظلمة ظلمها، وأن التوبة عن الذنب لا تصح ممن لا يقدر على/ مثل ذلك الذنب الّذي تاب عنه، حتى أن الكاذب لو تاب عن الكذب، بعد أن صار أخرس، والزانى لو تاب عن الزنا، بعد الجب أو العنة، لا تصح توبته، وهو خلاف قوله عليه السّلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»
وأنه يمتنع تعلق علم واحد بمعلومين على التفصيل، ويلزمهم على ذلك الشك فى نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار؛ إذ هو غير معلوم بعلم واحد، ولا بعلوم غير متناهية.
وأجمعوا على إثبات أحوال لله- تعالى- غير معلومة، ولا مجهولة، ولا قديمة، ولا محدثة، وهو تناقض، فإنه لا معنى لكون الشيء مجهولا، إلا أنه غير معلوم، ولا معنى لكون الشيء حادثا، إلا أنه ليس قديما- كيف؟ وأن إثبات حالة لله- تعالى- وهى غير معلومة، مما لا سبيل إليه.
[«الفرقة الثانية»] وأما الشيعة «2»: فاثنتان وعشرون فرقة يكفر بعضهم بعضا، وقد انقسموا فى الأصل إلى ثلاث فرق: (غلاة- وزيدية- وإمامية).
أما الغلاة: فقد افترقوا ثمانى عشرة فرقة.
________________
(1) أصحاب أبى هاشم: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائى، من كبار رجال المعتزلة. كان زميلا للإمام الأشعرى فى مدرسة والده ألف كتبا كثيرة وله آراء ومقالات انفرد بها مات ببغداد سنة 321 ه. انظر عنه وعن فرقته بالإضافة لما ورد هاهنا [الملل والنحل للشهرستانى 1/ 78 وما بعدها، فقد ذكر الجبائية مع البهشمية واعتبرهما فرقة واحدة- الجبائية والبهشمية- والفرق بين الفرق ص 184 وما بعدها. واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازى ص 44 والتبصير فى الدين ص 53 وما بعدها .. وفرق وطبقات المعتزلة ص 94].
(2) الشيعة هم الذين شايعوا الإمام على- رضي اللّه عنه- وقالوا: إنه الإمام بعد رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- بالنصّ. إما جليا، وإما خفيا، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه، وعن أولاده. وإن خرجت. فإما بظلم يكون من غيرهم وإما بتقية منهم. وهم اثنتان وعشرون فرقة، وقد انقسموا إلى ثلاث فرق: (غلاة- وزيدية- وإمامية). ولمزيد من البحث والدراسة: انظر مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى 1/ 65 - 166. فقد ذكر أنهم ثلاثة أصناف: الصنف الأول: الشيعة الغالية: وهم خمس عشرة فرقة. الصنف الثانى الشيعة الإمامية: وهم أربع وعشرون فرقة. الصنف الثالث: الشيعة الزيدية وهم ست فرق. وانظر أيضا التبصير فى الدين ص 16 - 26. الفرق بن الفرق ص 29 - 72، ص 230 - 269. والملل والنحل 1/ 146 - 198 واعتقادات فرق المسلمين ص 52 - 66.
(5/52)
________________________________________
الفرقة الأولى: السبائية «1»:
أصحاب عبد الله بن سبأ الّذي قال لعلى: أنت الإله حتى نفاه إلى المدائن فلما قتل عليّ، زعم ابن سبأ أن عليا، لم يمت، وفيه الجزء الإلهي، وأن ابن ملجم. إنما قتل شيطانا، تصور بصورة على، وأنه فى السحاب، وأن الرعد صوته، والبرق سوطه، وأنه ينزل إلى الأرض بعد هذا ويملؤها عدلا، ولهذا فإن هذه الطائفة إذا سمعوا صوت الرعد قالوا: عليك السلام يا أمير المؤمنين، ولا يخفى كفر هذه الطائفة «11» // لإضافتها الألوهية إلى عليّ.
ثم يقال لهم إن كان عليّ حيّا، وأن ابن ملجم لم يقتل إلا شيطانا؛ فقاتل الشيطان محمود، لا مذموم، ملعون.
الفرقة الثانية: الكاملية «2»:
أصحاب أبى كامل كفّروا الصحابة بتركهم بيعة عليّ، وكفّروا عليّا بتركه طلب الحق، وإظهاره وهم قائلون بالتناسخ وأن الإمامة نور تتناسخ من شخص إلى شخص، وأن ذلك النور قد يكون فى شخص نبوة، وفى شخص إمامة.
الفرقة الثالثة: البيانية «3»:
أصحاب بيان بن سمعان التميمى، زعموا أن الإله- تعالى- على صورة إنسان وأنه يهلك كله إلا وجهه، لقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «4». وأن روح الإله تعالى
________________
(1) هم أصحاب عبد الله بن سبأ، كان فى الأصل يهوديا؛ فاظهر الإسلام، وحاول أن يحدث فى الإسلام، ما أحدثه بولس فى المسيحية، ولكن الله حمى دينه الّذي تعهد بحفظه بحفظ كتابه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وابن سبأ، وأتباعه خارجون عن الإسلام [مقالات الإسلاميين 1/ 86 وما بعدها والملل والنحل 1/ 174، والفرق بين الفرق ص 233 وما بعدها].
(11) // أول ل 140/ ب.
(2) الكاملية: أصحاب أبى كامل ومنهم بشار بن برد الشاعر انظر التبصير فى الدين ص 21، ولمزيد من البحث والدراسة عن هذه الفرقة. انظر الفرق بين الفرق ص 54 وما بعدها. والملل والنحل 1/ 174، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 60، وشرح المواقف- التذييل- ص 23؛ فقد نقل عن الآمدي قوله
(3) أصحاب بيان بن سمعان التميمى النهدى اليمنى، زعموا أن الإمامة صارت من أبى هاشم إلى بيان بوصيته إليه.
[و هم خارجون على الإسلام] وقد ظهر بيان بن سمعان بالعراق، وادعى النبوة، ثم ادعى الألوهية؛ فقتله خالد القسرى والى العراق سنة 119 وقيل سنة 120 ه. انظر عن هذه الفرقة بالإضافة لما ورد هاهنا: مقالات الإسلاميين ص 66، 67، والتبصير فى الدين ص 72 والملل والنحل 1/ 152، والفرق بين الفرق ص 236 وما بعدها. وشرح المواقف ص 23، 24، والكامل لابن الأثير 5/ 82.
(4) سورة القصص 28/ 88.
(5/53)
________________________________________
- حلت فى عليّ، ثم بعده فى ابنه محمد بن الحنفية، ثم بعده فى ابنه أبى هاشم ثم بعده، فى بيان.
وهذه الطائفة كافرة؛ لقولهم إن بعض الإله يهلك، ودعوى ألوهية على، وابنه، وابن ابنه، وألوهية بيان.
الفرقة الرابعة: المغيرية «1»:
أصحاب المغيرة بن سعيد العجلى، زعموا أن الله- تعالى- جسم، وأن صورته صورة رجل من نور على رأسه تاج من نور، وله قلب تنبع منه الحكمة، وأنه لما أراد خلق العالم تكلم/ بالاسم الأعظم فطار، فوقع تاجا على رأسه، ثم إنه كتب على كفه أعمال الدنيا، فغضب من المعاصى، حتى عرق، فاجتمع من عرقه بحران، أحدهما ملح مظلم، والثانى عذب نير، ثم اطلع فى البحر النير، فأبصر ظله، فانتزع عين ظله وخلق منها الشمس، والقمر، وأفنى باقى ظله، وقال لا ينبغى أن يكون معى إله غيرى، ثم إنه خلق الخلق كله من البحرين، الكفر، من البحر المظلم، والإيمان، من البحر النير، ثم أرسل إلى الناس محمدا وهم ضلال.
ثم عرض الأمانة على السموات، والأرض، والجبال وهى أن يمنعن عليا من الإمامة، فأبين ذلك، ثم عرض على الناس، فأمر عمر بن الخطاب أبا بكر أن يتحمل منعه من ذلك، وضمن له أن يعينه على الغدر به بشرط أن يجعل له الخلافة من بعده؛ فقبل منه، وأقدما على المنع متظاهرين عليه، وذلك قوله تعالى: وحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا «2» يعنى أبا بكر.
وزعم هؤلاء أن قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ «3» نزل فى أبى بكر، وعمر.
وهؤلاء يزعمون أن الإمام المنتظر محمد بن عبد الله بن الحسين بن على بن أبى طالب، وأنه حي لم يمت، وهو مقيم فى جبال حاجر إلى أن يؤمر بخروجه. ومنهم من يقول: إن الإمام المنتظر هو المغيرة. وطريق الرد عليهم، ما سبق فى الرد على المشبهة.
________________
(1) المغيرية: أصحاب المغيرة بن سعيد العجلى: كان ساحرا، وادعى النبوة، وفضل عليا- رضي اللّه عنه- على الأنبياء- قتله خالد بن عبد الله القسرى، والى العراق حرقا سنة 119 ه وقيل سنة 120 ه. انظر بشأن هذه الفرقة وصاحبها بالإضافة لما ورد هاهنا: [مقالات الإسلاميين 1/ 69 وما بعدها، والملل والنحل 1/ 176 - 178، والفرق بين الفرق ص 238 وما بعدها، والتبصير فى الدين ص 73، وشرح المواقف- التذييل- ص 24، 25].
(2) سورة الأحزاب: 33/ 72.
(3) سورة الحشر: 59/ 16.
(5/54)
________________________________________
الفرق الخامسة: الجناحية «1»:
أصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذى الجناحين.
يزعمون أن الأرواح تتناسخ، وأن روح الإله- تعالى- كانت فى آدم، ثم فى شيث، ثم صارت إلى الأنبياء، والأئمة حتى انتهت إلى على وأولاده الثلاثة من بعده، ثم صارت إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وأنه حي لم يمت، بجبل من جبال أصفهان، وكفروا بالقيامة، واستحلوا المحرمات من الخمر، والميتة، وغيرهما.
وهؤلاء أيضا كفار، لدعواهم بإلهية آدم، وغيره، واستحلالهم المحرمات من غير شبهة.
الفرقة السادسة: المنصورية «2»:
أصحاب أبى منصور العجلى.
يزعمون أن الإمامة صارت إلى أبى جعفر محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، وأنه عرج به إلى السماء وأن معبوده مسح بيده على رأسه، وقال له: يا بنى اذهب فبلغ عنى .. ثم أنزله إلى الأرض، وأنه الكسف الساقط من السماء، وأنه المراد من قوله تعالى: وإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ «3».
وزعموا أيضا أن الرسل لا تنقطع أبدا، وكفروا بالجنة والنار، وأحلوا المحرمات، وأسقطوا الفرائض.
وزعموا أن الجنة رجل أمرنا بموالاته، وهو الإمام، وأن النار رجل أمرنا بمعصيته، وهو معاند للإمام كأبي بكر وعمر وغيرهما، وأن الفرائض رجال أمرنا بموالاتهم، والمحرمات رجال أمرنا بمعصيتهم.
________________
(1) سميت هذه الفرقة بالجناحية نسبة إلى جعفر بن أبى طالب- رضي اللّه عنه- الشهيد الّذي كان يلقب بالطيار، وذى الجناحين؛ لأن مؤسسها من أحفاده. ورأس هذه الفرقة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذى الجناحين، خرج على الأمويين، فى عهد آخر خلفائهم، وجرت بينهم معارك- وفى ذلك الوقت بدأت الدولة العباسية يظهر أمرها؛ فسار إليه أبو مسلم الخراسانى وقضى عليه. انظر فى شأن هذه الفرقة ومؤسسها.
[مقالات الإسلاميين 1/ 67 والفرق بين الفرق ص 255 والتبصير فى الدين ص 73 واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 59 وشرح المواقف- التذييل- ص 25].
(2) أصحاب أبى منصور العجلى: من عبد القيس، كان يسكن الكوفة، وكان أميا لا يقرأ وادعى الإمامة، ثم ادّعى النبوة، ولما زادت فتنه، وضلالاته؛ قتله يوسف بن عمر الثقفى، وصلبه. ولمزيد من البحث والدراسة عن هذه الفرقة:
انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى 1/ 74 وما بعدها، والملل والنحل 1/ 178، 179 والفرق بين الفرق ص 243، والتبصير فى الدين ص 73، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 58، وشرح المواقف- تذييل- ص 26.
(3) سورة الطور: 52/ 44.
(5/55)
________________________________________
وهؤلاء أيضا كفار؛ لاستحلالهم المحرمات/ ورفض الفرائض من غير شبهة.
الفرقة السابعة: الخطابية «1»:
أصحاب أبى الخطاب الأسدى، زعموا أن الأئمة أنبياء، وأن أبا الخطاب كان نبيا وأن الأنبياء فرضوا على الناس طاعته.
ثم زادوا، وزعموا أن الأئمة آلهة، وأن أبناء الحسن، والحسين أبناء الله «11» // وأحباؤه، وأن جعفر إله، إلا أن أبا الخطاب أفضل منه، ومن على بن أبى طالب، ويستحلون شهادة الزور لموافقيهم، على مخالفيهم، ثم افترق هؤلاء بعد قتل أبى الخطاب «2».
فمنهم من قال: الإمام بعد أبى الخطاب معمر، وعبدوه كما عبدوا أبا الخطاب.
وزعموا أن الجنة ما ينالهم فى الدنيا من خير، ونعيم، وأن النار ما يصيبهم فى الدنيا من المشاق والهموم، واستباحوا المحرمات وترك الفرائض.
ومنهم من قال: الإمام بعد أبى الخطاب بزيغ، وأن كل مؤمن يوحى إليه تمسكا بقوله تعالى: وما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «3»: أى بوحى من الله، وزعموا أن منهم من هو خير من جبريل، وميكائيل، وأنهم لا يموتون، وأن الواحد منهم إذا بلغ إلى النهاية ارتفع إلى الملكوت.
ومنهم من قال: الإمام بعد أبى الخطاب عمر بن بيان العجلى، إلا أنهم اعترفوا بأنهم يموتون، ولا شك فى كفر الخطابية؛ لجعلهم الأئمة آلهة، واستباحتهم المحرمات وترك الفرائض.
________________
(1) أصحاب أبى الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدى، الأجدع، مولى بنى أسد- نسب نفسه للإمام جعفر بن محمد الصادق، فلما وقف على غلوه فى حقه، تبرأ منه؛ فادعى الإمامة لنفسه، وقتله عيسى بن موسى فى عهد المنصور سنة 143 ه. وانظر بشأن هذه الفرقة بالإضافة لما ورد هاهنا. مقالات الإسلاميين للأشعرى 1/ 76، والملل والنحل 1/ 179، والتبصير فى الدين ص 73 والفرق بين الفرق للبغدادى ص 247 وما بعدها وشرح المواقف- التذييل- ص 27.
(11) // أول ل 141/ أ.
(2) افترق الخطابية بعد قتل أبى الخطاب إلى خمس فرق:
الفرقة الأول: المعمرية. قالوا: الإمام بعد أبى الخطاب معمر.
الفرقة الثانية: البزيغية. نسبة إلى رجل منهم اسمه [بزيغ].
الفرقة الثالثة: العميرية. أتباع عمير بن بيان العجلى.
الفرقة الرابعة: المفضلية: لانتسابهم إلى رجل يقال له مفضل الصيرفى.
الفرقة الخامسة: الخطابية المطلقة، ثبتت على موالاة أبى الخطاب فى دعاويه كلها.
انظر عنهم بالتفصيل المراجع السابقة المذكور فى ترجمة أبى الخطاب.
(3) سورة آل عمران: 3/ 145.
(5/56)
________________________________________
الفرقة الثامنة: الغرابية «1»:
الذين قالوا إن عليا كان أشبه بمحمد من الغراب بالغراب، والذباب، بالذباب، وأن الله تعالى- بعث جبريل إلى على، فغلط، وأدى الرسالة إلى محمد، لمشابهته به، ولذلك يلعنون صاحب الريش: أى جبريل، وقد قال شاعرهم:
غلط الأمين فجازها عن حيدر وهؤلاء مما يجب تكفيرهم؛ لإنكار نبوة محمد- صلى اللّه عليه وسلم- وأنه لم يكن رسولا عن الله تعالى- فى نفس الأمر.
الفرقة التاسعة: الذمية «2».
وإنما لقبوا بذلك؛ لأنهم يرون ذم محمد عليه السّلام، ويزعمون أن عليا إله، وأنه بعث محمدا ليدعوا إليه؛ فادعى الأمر لنفسه.
ومنهم من قال بإلهية محمد، وعلى، إلا أن منهم من يقدم عليّا فى أحكام الإلهية.
ومنهم من يقدم محمدا، ومنهم من قال بإلهية خمسة أشخاص، وهم أصحاب العباء: محمد، وعلى، وفاطمة، والحسن، والحسين، وأن خمستهم شيء واحد، وأن الروح حالة فيهم بالسوية، ولا فضل لواحد على الآخر، ولم يسموا فاطمة بالتأنيث؛ بل فاطم، ولذلك قال شاعرهم:
توليت بعد الله فى الدين خمسة ... نبيا وسبطين وشيخا وفاطما
وهؤلاء كفار؛ لاتخاذهم عليا إلها.
________________
(1) الغرابية: قوم يزعمون أن الله تعالى- أرسل جبريل عليه السّلام إلى على- رضى اللّه عنه- فغلط فى طريقه، وذهب إلى محمد- صلى اللّه عليه وسلم- وهؤلاء أكفر من اليهود والمشركين لأنهم يلعنون جبريل، ومحمدا عليهما السلام. وانظر بشأن هذه الفرقة:
التبصير فى الدين ص 74، والفرق بين الفرق ص 250 واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 59، وشرح المواقف- التذييل- ص 28.
(2) الذمية: أصحاب العلباء بن ذراع الدوسى وقال قوم: هو الأسدى. وإنما لقبوا بذلك لأنهم يرون ذم محمد- صلى اللّه عليه وسلم- وأطلق عليهم الشهرستانى العلبائية نسبة إلى العلباء انظر عنهم: الملل والنحل 1/ 175، والفرق بين الفرق ص 251، والتبصير فى الدين ص 75 وشرح المواقف- التذييل- ص 28، 29.
(5/57)
________________________________________
الفرقة العاشرة: الهشامية «1»
أصحاب الهشاميين: هشام بن الحكم «2»، وهشام بن سالم الجواليقى «3».
اتفقوا على أن الله- تعالى- جسم ذو حد، ونهاية.
غير أن هشام بن الحكم زعم: أن الله- تعالى- طويل عريض، عميق، وأن طوله وعرضه، وعمقه، متساو، وأنه كالسبيكة الصافية يتلألأ، من كل جانب. وزعم أن الله تعالى/ له لون، وطعم، ورائحة، ومجسه، وليست هذه الصفات غيره، وأنه يتحرك ويسكن، ويقوم، ويقعد. وأن بين الله- تعالى- والأجسام مشابهة، لو لاها لما دلت عليه، وأنه يعلم ما تحت الثرى، بالشعاع المنفصل عنه المتصل بما تحت الثرى.
وحكى أن الله- تعالى- سبعة أشبار بشبر نفسه، وأنه مماس للعرش على وجه لا يفضل أحدهما على الآخر، وأنه مريد للأشياء: وإرادته حركة ليست عينه ولا غيره، وأنه لا يعلم الأشياء قبل كونها؛ بل بعد كونها بعلم لا يوصف بكونه قديما، ولا حادثا؛ لأنه صفة والصفة لا توصف، وأنه متكلم بكلام هو صفته، ولا يوصف بكونه مخلوقا، ولا غير مخلوق.
وزعم أن الأعراض لا دلالة لها على الله- تعالى-، وأن الأئمة معصومون والأنبياء غير معصومين؛ لأن النبي يوحى إليه بمعصيته؛ فيتوب؛ بخلاف الإمام فإنه لا يوحى إليه؛ فوجب أن يكون معصوما.
وأما هشام بن سالم فزعم: أن الله- تعالى- على صورة الإنسان، وله حواس خمس ويد، ورجل، وأنف، وأذن، وعين، وفم، ووفرة سوداء، ونصفه الأعلى مجوف، والأسفل مصمت إلا أنه ليس لحما، ودما، وقد سبق إبطال ذلك كله «4».
________________
(1) انظر بشأن هذه الفرقة بالإضافة لما ورد هاهنا: مقالات الإسلاميين للأشعرى ص 106، 109 فقد قسم الرافضة القائلين بالتجسيم إلى ست فرق الفرقة الأولى: أتباع هشام بن الحكم الرافضى. والفرقة الرابعة منهم. أتباع هشام بن سالم الجواليقى. والملل والنحل ص 184 وما بعدها، ذكر أنها فرقة واحدة كذا. التبصير فى الدين ص 25 وأما الفرق بين الفرق ص 227 فذكر أن الهشامية فرقتان. هشامية منتسبة إلى هشام بن الحكم الرافضى، وهشامية منتسبة إلى هشام بن سالم الجواليقى.
(2) هشام بن الحكم الشيبانى بالولاء الكوفى كان شيخ الإمامية فى وقته، ولد بالكوفة وسكن بغداد وتوفى سنة 190 ه (الفرق بين الفرق ص 227، والأعلام 9/ 82).
(3) هشام بن سالم الجواليقى كان مولى لبشير بن مروان، وهو من شيوخ الرافضة القائلين بالتشبيه، والتجسيم (المصادر المذكورة فى هامش 1).
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الرابع: فى إبطال التشبيه وما لا يجوز على الله- تعالى- ل 142/ أو ما بعدها.
(5/58)
________________________________________
الفرقة الحادية عشرة: الزرارية «1»
أصحاب زرارة بن أعين، قالوا: بحدوث صفات الله- تعالى- من علمه، وقدرته، وحياته، وسمعه، وبصره، وأنه لم يكن قبل هذه الصفات حيا، ولا عالما ولا قادرا ولا سميعا ولا بصيرا. وهو أيضا باطل بما سبق.
الفرقة الثانية عشرة: اليونسية «2»
أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمى، يزعمون أن الله- تعالى- على عرشه تحمله الملائكة، وهو أقوى منها. (كالكركى تحمله رجلاه وهو أقوى منهما؛ وذلك يدل على احتياج الرب- تعالى- إلى غيره من مخلوقاته «11» //؛ وهو باطل بما سبق من استغنائه المطلق «3».
الفرقة الثالثة عشرة: الشيطانية «4»
أصحاب محمد بن النعمان الملقب بشيطان الطاق يزعمون: أن الله- تعالى- نور غير جسمانى؛ لكنه على صورة إنسان، وأنه لا يعلم الأشياء إلا بعد تكونها؛ وقد أبطلناه «5».
________________
(1) أصحاب زرارة بن أعين الشيبانى أبو الحسن رأس الفرقة الزرارية من غلاة الشيعة توفى سنة 150 ه.
وانظر بشأن هذه الفرقة مقالات الإسلاميين 1/ 102، والتبصير فى الدين ص 24، والفرق بين الفرق ص 70 وشرح المواقف- تذييل- ص 30.
(2) هم أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمى، كان فى الإمامة على مذهب القطعية الذين قطعوا بموت موسى بن جعفر، وأفرط فى التشبيه، ويقال إنه رجع عن التشيع توفى سنة 150 ه وانظر بشأن هذه الفرقة وصاحبها.
الفرق بين فرق ص 70 والتبصير فى الدين ص 24 والملل والنحل ص 188. واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 65 وشرح المواقف ص 30.
(3) انظر ما مر ل 164/ ب من الجزء الأول.
(11) // أول ل 141/ ب.
(4) الشيطانية: هم أتباع محمد بن النعمان، الملقب بشيطان الطاق- والشيعة تلقبه بمؤمن الطاق- وهو أبو جعفر، الأحول، الكوفى، وكان معاصرا لأبى ضيفة، وجعفر الصادق وإضافته إلى سوق فى طاق المحامل بالكوفة؛ فنسب إليه، توفى سنة 160 ه. وانظر بشأن هذه الفرقة: مقالات الإسلاميين ص 111، والتبصير فى الدين ص 24، والفرق بين الفرق ص 71 واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 65، وشرح المواقف- التذييل- ص 31.
(5) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 72/ ب وما بعدها.
(5/59)
________________________________________
الفرقة الرابعة عشرة: الرّزامية «1»:
وهم الذين ساقوا الإمامة إلى محمد بن الحنفية، ثم إلى ابنه ثم، إلى على بن عبد الله ابن العباس، ثم ساقوها فى ولده إلى المنصور، ثم ادعوا حلول الإله تعالى- فى أبى مسلم وأنه لم يقتل، واستحلوا المحارم.
ومنهم من ادعى الإلهية فى المقنع «2»، وهؤلاء أيضا كفرة بدعواهم حلول الإله فى غيره.
الفرقة الخامسة عشرة: المفوضة «3»:
زعموا أن الله تعالى- خلق محمدا- صلى اللّه عليه وسلم- أولا وفوض إليه خلق الدنيا، وإنه الخلاق لها، بما فيها.
ومنهم من قال مثل هذه المقالة، فى على كرم الله وجهه؛ وهو باطل بما بيناه من امتناع وجود خالق غير الله- تعالى «4».
الفرقة السادسة عشرة: البدائية «5»:
الذين جوزوا البداء «6» على الله- تعالى-، وأنه يريد الشيء ثم يبدو له ويظهر له ما لم يكن ظهر له أولا؛ فإنه لا/ معنى للبداء إلا هذا، ومنه يقال بدا لنا سور المدينة: أى ظهر- بعد أن لم يكن ظاهرا، وقال الشاعر:
ولما بدا لى أنها لا تحبنى ... وأن هواها ليس عنى بمنجلى
________________
(1) أتباع رجل يقال له رزام بن رزم من مرو. قال الأشعرى فى المقالات ويقال لها الأبومسلمية أيضا، انظر بشأن هذه الفرقة بالإضافة لما ورد هنا. مقالات الإسلاميين للأشعرى ص 96، والملل والنحل ص 153، والفرق بين الفرق ص 256. والتبصير فى الدين ص 76. وشرح المواقف ص 31 من التذييل.
(2) المقنع: رجل من أهل مرو كان على دين الرزامية احتجب عن الناس ببرقع واغتر به جماعة وقتل فى عهد الخليفة المهدى سن 163 ه.
(3) المفوضة: انظر بشأن هذه الفرقة: التبصير فى الدين ص 75 فقد ذكر الأسفرايينى أن هذه الفرقة فرع من فرقة الغرابية، وقال بهذا أيضا البغدادى فى الفرق بين الفرق ص 251 وقال وهذه الفرقة شر من المجوس، والنصارى.
وانظر أيضا اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 59 وشرح المواقف ص 31.
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الجزء الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى: فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى الحوادث سواه ل 211/ ب وما بعدها.
(5) انظر بشأن هذه الفرقة مقالات الإسلاميين ص 113، وشرح المواقف- التذييل- ص 32.
(6) البداء: ظهور الرأى بعد أن لم يكن. (التعريفات للجرجانى ص 52).
(5/60)
________________________________________
أى ظهر لى أنها لا تحبنى بعد أن لم يكن ظاهرا، ويلزم منه أن يكون الرب- تعالى- جاهلا بعواقب الأمور؛ وقد أبطلناه «1».
الفرقة السابعة عشرة: النّصيريّة والإسحاقيّة «2»:
وقد ذكرنا مذهبهم فى مسألة استحالة حلول ذات الإله- تعالى- وصفته فى محل وأبطلناه «3».
الفرقة الثامنة عشرة: الإسماعيلية «4»، ولهم ألقاب سبعة:
الباطنية، والقرامطة، والخرمية، والسبعية، والبابكية، والمحمرة، والإسماعيلية وتسميتهم باطنية: لأنهم يزعمون أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وأن المراد منه الباطن دون ما هو الظاهر، والمعلوم منه لغة، وزعموا أن منزلة الباطن من الظاهر، كمنزلة القشر من
________________
(1) انظر ما مر فى الجزء الأول ل 72/ ب وما بعدها.
(2) النصيرية والإسحاقية: النصيرية: أتباع أبى شعيب محمد بن نصير البصرى النميرى توفى سنة 270 ه وكان يدعى أنه نبى بعثه أبو الحسن العسكرى الإمام الحادى عشر. والنصيرية لهم وجود مؤثر فى سوريا اليوم، وكذلك الإسحاقية.
والفرق بينهما: أن النصيرية أميل إلى تقرير الجزء الإلهي فى على- رضي اللّه عنه- والإسحاقية أميل إلى تقرير الشركة فى النبوة.
انظر عن هذه الفرقة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا: ما مر ل 155/ أ ص.
والملل والنحل للشهرستانى 1/ 1088. شرح المواقف ص 32 من التذييل. ورسالة فى الرد على النصيرية لابن تيمية والموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب المعاصرة ص 511 وما بعدها، وإسلام بلا مذاهب للدكتور مصطفى الشكعة ص 321 وما بعدها، وتاريخ المذاهب الإسلامية للشيخ محمد أبو زهرة ص 63 وما بعدها.
والحركات الباطنية فى العالم الإسلامى للدكتور محمد الخطيب ص 319 وما بعدها.
(3) انظر الجزء الأول من أبكار الأفكار ل 155/ أ وما بعدها.
(4) الإسماعيلية: فرقة باطنية. انتسبت إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق ظاهرها التشيع لأهل البيت. وحقيقتها هدم عقائد الإسلام. تشعبت فرقها، وامتدت عبر الزمان حتى وقتنا الحاضر. انظر عنها بالإضافة إلى ما ورد هاهنا.
الملل والنحل للشهرستانى 1/ 191 وما بعدها والفرق بين الفرق للبغدادى ص 81 وما بعدها والتبصير فى الدين ص 23 وكتاب فضائح الباطنية للإمام الغزالى، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازى ص 4 وشرح المواقف للجرجانى- التذييل- ص 33 وما بعدها. ومن الدراسات الحديثة: طائف الإسماعيلية للدكتور محمد كامل حسين. وتاريخ المذاهب الإسلامية للشيخ محمد أبو زهرة 1/ 59 وما بعدها.
وإسلام بلا مذهب للدكتور مصطفى الشكعة ص 237 والموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب المعاصرة ص 45 والحركات الباطنية فى العالم الإسلامى- عقائدها وحكم الإسلام فيها. للدكتور أحمد الخطيب ص 55 وما بعدها.
(5/61)
________________________________________
اللباب، ومنه قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ «1».
وزعموا أن المتمسك بظاهر القرآن، والأخبار معذب بالمشقة فى الاكتساب والباطن مؤد إلى ترك العمل بالظاهر، وهذا القول مأخوذ من قول المنصورية، والجناحية كما سبق تعريفه «2».
وإنما سموا بالقرامطة: لأن أول من أسس دعوتهم، رجل من أهل الكوفة يقال له حمدان قرمط «3».
وإنما سموا خرمية: لإباحتهم المحرمات، ونكاح ذوات المحارم.
وإنما سموا السبعية: لأنهم زعموا أن الرسل النطقاء بالشرائع سبع آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، ومحمد المهدى سابع النطقاء، وأن بين كل ناطق وناطق سبعة أئمة منتمين لشريعته، وأنه لا بد فى كل عصر من سبعة، بهم يعرف الدين، وحدوده، وبهم يهتدى، ويقتدى، وهم متفاوتون فى الرتبة وهم:
إمام: هو المؤدى عن الله- تعالى- وهو غاية الأدلة إلى دين الله- تعالى.
وحجة: وهو الّذي يؤدى عن الإمام، ويحمل علمه، ويحتج به له.
وذو مصة: وهو الّذي يمتص العلم من الحجة: أى يأخذه عنه.
وأبواب: والباب هو الداعى الأكبر الّذي يرفع درجات المؤمنين.
وداع مأذون: وهو الّذي يأخذ العهود على الطالبين، من أهل الظاهر فيدخلهم فى ذمة الإمام، ويفتح لهم باب المعرفة والعلم.
________________
(1) سورة الحديد 57/ 13.
(2) راجع ما مر فى هذا الفصل ل 247/ ب.
(3) هو حمدان بن الأشعث القرمطى. من سواد الكوفة، وانضم للدعوة الباطنية وصار من دعاتها. وضل بسببه خلق كثير، ونشر دعوته فى سواد الكوفة سنة 278 ه (انظر الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب المعاصرة ص 395، والقرامطة تأليف الإمام عبد الرحمن بن الجوزى).
(5/62)
________________________________________
ومكلب: وهو الّذي ارتفعت درجته فى الدين، ولم يؤذن له بالدعوة، ولكن أذن له بالاحتجاج، وإذا احتج على أحد من أهل الظاهر، وكسر عليه مذهبه حتى يطلب ويرغب، فيؤديه المكلب، إلى الداعى؛ ليأخذ عليه- وإنما سموا ما مثل هذا مكلبا؛ لأن مثله مثل الجارح، يحبس الصيد على كلب الصائد، على ما قاله تعالى: وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ «1».
ومؤمن: وهو الّذي أخذ عليه العهد، وآمن، وأيقن بالحق ودخل فى ذمة الإمام، وحزبه. قالوا: وذلك كما أن السموات سبع، والأراضين سبع، والبحار سبعة والأيام سبعة،/ وأن تدبير العالم منوط بالكواكب السبعة، وهى زحل والمشترى، والمريخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر.
وإنما سموا بابكية: لخروج طائفة منهم مع بابك الخرمى «2» فى ناحية أذربيجان.
// وإنما سموا بالمحمرة: لأنهم لبسوا الحمرة فى أيام بابك، وقيل: لأنهم يسمون مخالفيهم من المسلمين حميرا.
وإنما سموا إسماعيلية: لأنهم أثبتوا الإمامة لإسماعيل بن جعفر، وقيل لانتساب زعيمهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر.
وأصل دعوة هؤلاء مبنى على إبطال الشرائع، ودحض النواميس، الدينية، وذلك لأن ابتداء دعوتهم أن نفرا من المجوس يقال لهم غيارية اجتمعوا فتذاكروا ما كان أسلافهم عليه من الملك، الّذي غلب عليه المسلمون، فقالوا: لا سبيل لنا إلى دفعهم بالسيف؛ لكثرتهم، وقوة شوكتهم؛ لكنا نحتال بتأويل شرائعهم، على وجوه تعود إلى قواعد الأسلاف من المجوس، ونستدرج به الضعفاء منهم؛ فإن ذلك مما يوجب الاختلاف بينهم، واضطراب كلمتهم.
________________
(1) سورة المائدة: 5/ 4.
(2) بابك الخرمى: فارسى مجوسى الأصل. دخل الإسلام، وسمى الحسن، وقيل الحسين خرج على الخليفة المأمون سنة 201 ه زاعما أنه سيعيد ملك فارس، ولكنه هزم بعد معارك كثيرة، وأرسل إلى الخليفة المعتصم سنة 223 ه الّذي أمر بقتله، وصلبه (مروج الذهب 4/ 55 والفرق بين الفرق للبغدادى ص 266 وما بعدها).
(5/63)
________________________________________
وكان رأس القوم فى ذلك عبد الله بن ميمون القداح «1». وقيل حمدان قرمط، وكان أول ما فعل أنه انتمى إلى غلاة الروافض، واستمالهم بالدعوة إلى الإمام والحث على متابعته، ولم يزل يستدرجهم بمخارقه، حتى أجابه منهم طائفة كثيرة، ولهم فى الدعوة واستدراج الطغام «2» مراتب.
الأولى: الرزق، وهو أن يكون الداعى فطنا، عارفا بقبول حال المدعو، لما يدعوه إليه بحيث لا يدعو غير قابل، ولذلك نهوا دعاتهم، عن إلقاء البذر فى الأراضى السبخة، وأن لا يتكلم بالدعوة فى بيت فيه سراج؛ أى فقيه، أو متكلم.
الثانية: التأنيس: وهو استمالة كل واحد، بتقرير ما يميل إليه هواه، حتى إنه إن كان المدعو ممن يميل إلى الزهد، والورع، زين ذلك، وقبح نقائضه، وإن كان ممن يميل إلى الخلاعة، زين له ذلك، وقبح نفائضه، حتى يحصل له التأنيس.
الثالثة: التشكيك، والتعليق: وهو أنه إذا تأنس المدعو بالداعى، شككه بعد ذلك فى أركان الشريعة، وذلك بأن يقول له: ما معنى الحروف المقطعة فى أوائل السور، ولم كانت الحائض يجب عليها قضاء الصوم دون الصلاة؟ ولم كان الغسل واجبا من خروج المنى، دون البول؟ والركوع واحدا، والسجود اثنين؟ وأبواب الجنة ثمانية، وأبواب جهنم سبعة؟ والصبح ركعتين، والمغرب ثلاث، والظهر، والعصر، والعشاء أربعا؟ إلى غير ذلك، فيتشكك، ويتعلق قلبه بالعود، إلى مراجعتهم، فى ذلك.
الرابعة: الربط، وذلك أنه إذا عاد إليهم، وراجعهم فيما شككوه فيه.
قالوا له: قد جرت سنة الله، بأخذ الميثاق، والعهود، واستدلوا عليه بقوله تعالى:
وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ «3» الآية.
فإذا أذعن لهم/ استحلفوا بالأيمان التى يعتقدها، أن يستر ما يسمعه منهم، ولا يفشى لهم سرا، إلا ما استفشوه.
________________
(1) هو عبد الله بن ميمون بن داود المخزومى المعروف بابن القداح من أهل مكة، وهو من الثقات عند الشيعة. عرف بالقداح؛ لصناعته السهام ظهر فى جنوبى فارس 260 ه وهو الّذي نشر المبادئ الإسماعيلية بها توفى سنة 280 ه (الإعلام 4/ 286، موسوعة الأديان ص 295).
(2) الطّغام: أرذال الناس وأوغادهم. و- الضعيف الردىء من كل شيء (الطغامة) واحد الطغام و- الأحمق، [يستوى فيه المذكر والمؤنث]. (ج) طغام (المعجم الوسيط- باب الطاء).
(3) سورة الأحزاب: 33/ 7.
(5/64)
________________________________________
فإذا حلف، قالوا له: إن الأشياء التى أشكلت عليك، إنما يعرفها الإمام ومن أطلع عليها من قبله، ولا يقدر على ذلك إلا بالترقى من درجة إلى درجة حتى تنتهى إليه.
الخامسة: التدليس، وهو أن يدعو استجابة كل رئيس خطير، تميل نفس المدعو إليه، وإلى الاعتقاد فيه، إلى دعوتهم حتى يميل إلى ما دعوه إليه.
السادسة: التأسيس وذلك بوضع مقدمات مقبولة فى الظاهر للمدعو على وجه تكون سابقة إلي ما يدعون، إليه من الباطل.
السابعة: الخلع، وهو طمأنينته إلى إسقاط، وجوب الأعمال البدنية.
الثامنة: السلخ: وهو الخروج عن الاعتقاد، الّذي هو قوام الدين، وعند انتهاء المدعو إلى هذه المرتبة، يأخذون فى الإباحة، والحث على استعجال اللذات وترك التقيد، بما وردت به النواميس الشرعية، وتأويلات الشرائع، كقولهم:
الوضوء: عبارة عن موالاة الأئمة.
والتيمم: هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام، الّذي هو الحجة.
وأن الصلاة: إشارة إلى الناطق وهو الرسول، ودليله قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ «1»، والفعل لا يكون ناهيا؛ بل الناهي عن ذلك إنما هو الرسول.
وإن الاحتلام سبق اللسان إلى إفشاء شيء من أسرارهم، إلى من ليس من أهله، بغير قصد منه واغتساله، تجديد العهد عليه.
والزكاة: تزكية النفس «11» // بمعرفة ما ذهبوا إليه من دينهم.
والكعبة: النبي، والباب: عليّ.
والصفا: النبي، والمروة: عليّ.
والميقات: الإيناس.
والتلبية: إجابة المدعو.
والإحرام: تحريم النطق بشيء من أسرارهم دون إذنهم.
ونزع الثياب التبرى ممن خالفهم.
________________
(1) سورة العنكبوت: 29/ 45.
(11) // أول ل 142/ ب من النسخة ب.
(5/65)
________________________________________
والطواف بالبيت، سبعا موالاة الأئمة.
والصوم: الإمساك عن إظهار أسرارهم.
والقيامة: قيام قائم بأمورهم ومنهم من قال هو ابتداء دون وانقضاء دور.
والميعاد: عود كل شيء إلى الأصل الّذي انفصل عنه.
وأن المراد بالجنة: راحة الأبدان من الشرائع.
والنار المشقة اللازمة من الشرائع إلى غير ذلك من ترهاتهم.
وهذا الناموس الأعظم، والبلاغ الأكبر، والّذي عليه مدار اعتقادهم، وأصل دعوتهم أن الله- تعالى- ليس بموجود، ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر، ولا عاجز، وكذلك جميع الصفات. فإن الإثبات الحقيقى يفضى إلى الاشتراك بينه وبين سائر الموجودات فيما أطلقناه عليه، وهو تشبيه. والنفى المطلق يفضى إلى مشاركته للمعدومات؛ بل هو واهب هذه الصفات، ورب المتضادات.
وربما خلطوا كلامهم بكلام الفلاسفة فقالوا: إنه أبدع بالأمر العقل التام، ثم بتوسطه أبدع النفس التى ليست تامة، وأن النفس لما اشتاقت إلى العقل التام/ احتاجت إلى الحركة من النقص إلى الكمال، ولن تتم الحركة إلا بآلة الحركة؛ فحدثت الأفلاك السماوية، وتحركت حركة دورية بتدبير النفس؛ فحدث بتوسط ذلك الطبائع البسيطة، ويتوسط البسائط حدثت المركبات من المعادن، والنباتات وأنواع الحيوانات، وأشرفها نوع الإنسان؛ لاستعداده لفيض الأنوار القدسية عليه، واتصال نفسه بالعالم العلوى.
وأنه لما كان العالم العلوى مشتملا على عقل كامل كلى. ونفس ناقص كلى يكون مصدر الكائنات، وجب أن يكون فى العالم السفلى عقل مشخص كامل يكون وسيلة إلى النجاة؛ وذلك هو الرسول الناطق.
ونفس ناقصة تكون نسبتها إلى الناطق فى تعريف النجاة، نسبة النفس الأولى إلى العقل الأول، فيما يرجع إلى إيجاد الكائنات؛ وذلك هو الأساس؛ وهو الإمام الوصى للناطق.
وكما أن تحرك الأفلاك بتحريك العقل، والنفس؛ فكذلك تحرك النفوس والشرائع بتحريك الناطق، والوصى.
(5/66)
________________________________________
وعلى هذا: فى كل عصر ودور، إلى زمان القيامة، وارتفاع التكاليف واضمحلال السنن، وبلوغ النفس الناطقة كما لها، وهو اتصالها بالعقول العلوية، وذلك هو القيامة الكبرى، وعندها تنحل تراكيب الأفلاك، والمركبات، وتنشق السماء، وتتناثر الكواكب وتتبدل الأرض غير الأرض، وتطوى السماء، كطى السجل للكتاب، ويحاسب الخلق، ويتميز الخير عن الشر، ويتصل كل بما يناسبه.
هذا ما كان عليه قدماؤهم، فحين ظهر الحسن بن محمد الصباح «1»، عاد ودعا الناس- أول دعوة- إلى إمام قائم فى كل زمان، وأنه حجة ذلك الإمام فى زمانه، وكان خلاصة كلامه:
أن المفتى فى معرفة الله- تعالى-، إما أن يقول إنى أعرف البارى- تعالى- بعقلى، ونظرى من غير احتياج إلى تعليم، معلم صادق، أو أن يقول: لا طريق مع العقل، والنظر إلى المعرفة دون تعليم معلم صادق.
فإن كان الأول: فليس له الإنكار على عقل غيره، ونظره؛ فإنه متى أنكر عليه فقد علمه؛ إذ الإنكار تعليم، وهو دليل على أن المنكر عليه، محتاج إلى المعلم.
وإن كان الثانى: فلا يخلوا: إما أن يكتفى بكل معلم على الإطلاق- كيف كان- أو أنه لا بد، من معلم صادق.
فإن كان الأول: فليس له الإنكار على معلم خصمه، وإن أنكر؛ فقد سلم أنه لا بد من معلم صادق.
وإن كان الثانى: وهو أنه لا بد من معلم صادق؛ فلا بد من معرفة المعلم الأول، والظفر به، والتعليم منه.
وبان أن الحق مع هذه الفرقة، وأن رأسهم رأس المحقين، ومن عداهم مبطلون، ورؤسائهم رؤساء، المبطلين.
ثم إنه منع العوام عن الخوض فى العلوم والخواص: عن النظر فى الكتب المتقدمة، حتى لا يطلع على فضائحهم ثم زادوا، ونقصوا/ وتفلسفوا، ولم يزالوا متسترين
________________
(1) هو رأس الفرقة المعروفة باسمه (الصباحية) بأصبهان. كثر اتباعه فبنى القلاع، وقوى أمره.
ولد بالرى عام 430 ه ونشأ نشأة شيعية انضم للإسماعيلية، وعمره سبعة عشر عاما وكانت قلعة الموت عاصمة لدولته، توفى الحسن الصباح سنة 518 ه من غير سليل؛ لأنه قتل ولديه، فى حياته. (الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب المعاصرة ص 203 وما بعدها.
(5/67)
________________________________________
بالنواميس الدينية، والأمور الشرعية حتى تحصنوا بالحصون، وتعلقوا بالمعاقل، وكثرت «11» // شوكتهم، ورهب ملوك السوء منهم، فأظهروا المخبآت، وباحوا بالمكتمات، من إسقاط التكاليف، وإباحة المحرمات؛ وصاروا كالحيوانات العجماوات، من غير ضابط دينى، ولا وازع شرعى. فنعوذ بالله من الشيطان، والتخبط فى الأديان.
وعند هذا: فلا بد من التنبيه على إبطال «1» مخارقهم، وزيف ما يستدرجون به الطغام، والعوام على وجه مختصر، وإن كان بطلان ذلك أظهر من أن يحتاج إلى البيان.
أما قولهم: إن النطقاء سبعة، والأئمة سبعة؛ لأن السماوات سبع، والأراضين والبحار، والأيام، والكواكب المدبرة سبعة؛ فتمثيل من غير دليل، ثم ليس ذلك أولى من أن يقال إن النطقاء اثنا عشر، وكذلك الأئمة؛ لأن البروج اثنا عشر، والأشهر اثنا عشر، وأن يقال بالتربيع؛ لأن العناصر أربعة، والأخلاط أربعة، أو بالتوحيد؛ لأن الله واحد.
كيف؟ وأن قولهم بأن السموات سبع، والأراضين سبع، إن أخذوه من ظاهر القرآن؛ فلعل الباطن مخالف للظاهر، وإن أخذوه من قول الفلاسفة؛ فالأفلاك عندهم تسعة، والأرض واحدة؛ كما أسلفناه من مذهبهم.
وعلى هذا- فكان يجب إن قيس النطقاء والأئمة بالسماوات، أن يكونوا تسعة، وإن قيسوا بالأرض، أن يكون الناطق. واحدا، وكذلك الإمام.
وأما الإباحة، ومخالفة ظواهر الشرائع، وتأويلاتها بما حرفوا به. إما أن يكون ذلك مستندا إلى العقل والنظر، أو إلى قول الإمام المعصوم، كما هو مذهبهم.
فإن كان الأول: فالعقل عندهم غير كاف فى ذلك. ولو كان كافيا؛ لما احتيج إلى الإمام المعصوم.
وإن كان الثانى: فالإمام المعصوم المخبر بذلك، لا بد، وأن يعلم كونه معصوما؛ ليحصل الوثوق بقوله، وإلا لما كان قوله أولى من قول غيره.
________________
(11) // أول ل 143/ أ.
(1) (على إبطال) ساقط من ب.
(5/68)
________________________________________
والعلم بذلك إن كان معلوما بالعقل، والنظر، فالعقل غير معط لذلك إلا فى حق من دلت المعجزة على صدقه، وذلك هو الناطق، لا الإمام- كيف وأن العقل عندهم غير كاف؟.
وإن كان ذلك معلوما بقوله، فقوله: إنما يكون موجبا للعلم، أن لو عرف صدقه فإذا، كان صدقه، متوقفا على قوله، والاحتجاج بقوله، على صدقه، فرع صدقه؛ فيكون دورا، وإن كان معرفة صدقه بأمر آخر؛ فلا بد من تصويره، والدلالة عليه.
قولهم إن الله- تعالى- ليس بموجود، ولا معدوم؛ فهو إبطال لوجود الإله تعالى؛ وقد أبطلناه فيما تقدم «1».
قولهم: إنه ليس بعالم، ولا جاهل ولا قادر، ولا عاجز، وكذلك فى سائر الصفات؛ فقد أبطلناه أيضا فى الصفات «2».
وما ذكروه من إبداع الرب- تعالى- للعقل/ وبتوسطه للنفس، وبتوسط النفس لحركات الأفلاك، وبتوسط حركات الأفلاك لحدوث المركبات؛ فقد استقصينا إبطاله أيضا فيما تقدم «3».
وإذا بطل القول بوجود العقل، والنفس العلويين؛ فقد بطل القول بوجود الناطق، والإمام بالقياس عليه.
وبتقدير تسليم وجود العقل، والنفس العلويين؛ فقد أبطلنا فى النبوات القول بوجوب، وجود الناطق، وهو الرسول، وبينا أن ذلك من الجائزات لا من الواجبات «4».
وبتقدير وجوب وجود الناطق، فلم قالوا بوجوب وجود الإمام؟ ولم لا يكتفى بما يبلغه إلينا الناطق، من غير حاجة إلى إمام، ويكون ما يسنه، ويشرعه، ويضعه من الضوابط، كافيا فى المعرفة بعد موته، كما كان ذلك كافيا فى حياته، كيف وإن الإمام
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 41/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 54/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما مر فى الجزء الثانى ل 32/ ب وما بعدها.
(4) انظر ما مر فى قاعدة النبوات ل 133/ أ وما بعدها.
(5/69)
________________________________________
إما أن يكون صادقا أو لا يكون صادقا، فإن لم يكن صادقا، فلا فائدة فيه؛ إذ ليس قوله أولى من قول غيره، وإن كان صادقا؛ فلا بد من معرفة صدقه، ولا سبيل إليه لما تقدم.
وعلى هذا فقد بطل ما ذكره الحسن بن محمد الصّباح فى أمر الإمام، ووجوب اتباعه، ولا نعرف خلافا بين المسلمين فى كفر هذه «11» // الطائفة، وأن حكمهم حكم المرتدين، وسيأتى تفصيل القول فيه «1».
وأما الزيدية «2»: فثلاث فرق:
الفرقة الأولى: الجارودية «3».
أصحاب أبى الجارود، زعموا أن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- نصّ على عليّ بالوصف، دون التسمية، وأن الصحابة كفروا بتركهم الاقتداء بعليّ بعد النبي- صلى اللّه عليه وسلم- ثم الإمامة بعده فى الحسن، ثم فى الحسين، ثم الإمامة شورى فى ولدهما، فمن خرج منهم عالما، فاضلا، داعيا إلى الله؛ فهو الإمام.
ثم اختلفوا: فمنهم من قال: إن الإمام المنتظر محمد بن عبد الله بن الحسين، وأنكر قتله، ومنهم من قال: الإمام المنتظر محمد بن القاسم، ومنهم من ينتظر يحيى بن عمير صاحب الكوفة، وسيأتى إبطال قولهم فيما بعد «4».
________________
(11) // أول ل 143/ ب.
(1) انظر ما سيأتى ل 258/ أ وما بعدها.
(2) هم أتباع الإمام زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب- رضى الله عنهم» (80 - 122 ه) وهم أقرب فرق الشيعة من أهل السنة والجماعة.
يتميزون بالبعد عن التطرف والغلو. قصروا الإمامة على أولاد على- رضي اللّه عنه- من فاطمة رضى الله عنها- وقد افترقوا إلى فرق كما هو موضح فى الأصل.
انظر بشأن هذه الفرقة: مقالات الإسلاميين للأشعرى ص 140 وما بعدها والفرق بين الفرق ص 22، 30 - 37 والملل والنحل ص 154 - 162، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 52، 53، وشرح المواقف ص 39 - 41 من التذييل. ومن الدراسات الحديثة: الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب المعاصرة ص 255 - 262 وإسلام بلا مذاهب ص 225 - 233، وتاريخ المذاهب الإسلامية ص 47 - 52، جذور الفتنة فى الفرق الإسلامية ص 225 وما بعدها.
(3) الجارودية: أصحاب أبى الجارود وهو زياد بن المنذر الهمذانى الخراسانى سماه الإمام الباقر سرخوبا. وفسره:
شيطان أعمى يسكن البحر وكان من غلاة الشيعة، وقيل عنه. إنه كذاب يضع الحديث فى مثالب الصحابة مات سنة 150 ه. وانظر فى شأن هذه الفرقة: مقالات الإسلاميين ص 140 وما بعدها، والملل والنحل ص 157 وما بعدها، والفصل لابن حزم 4/ 179. والتبصير فى الدين ص 16 والفرق بين الفرق ص 30 وما بعدها.
(4) انظر ما سيأتى فى القاعدة الثامنة الإمامة.
(5/70)
________________________________________
الفرقة الثانية: السليمانية «1»
أصحاب سليمان بن جرير: يزعمون أن الإمامة شورى، وأن الإمامة إنما تنعقد برجلين من خيار المسلمين، وأنها تصح للمفضول مع وجود الأفضل، وأثبتوا إمامة أبى بكر، وعمر- رضى الله عنهما- ولكن زعموا أن الأمة أخطأت فى البيعة لهما، مع وجود على خطأ لا ينتهى إلى درجة الفسق، وقضوا بتكفير عثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، مع القطع بأنهم من أهل الجنة، بما ورد من النصوص فى حقهم، وتزكية النبي- صلى اللّه عليه وسلم- لهم.
الفرقة الثالثة: البترية «2»
أصحاب بيتر الثومى قولهم كقول السليمانية غير أنهم توقفوا فى حق عثمان.
أما الإمامية «3» المطلقة
فلم يقل أحد منهم بالحلول، غير أنهم قالوا بالتنصيص على عليّ تعيينا، وتعريضا، وكفروا الصحابة بترك بيعته، وتعرضوا للوقيعة فيهم بسبب ذلك/ وهم متفقون على سوق الإمامة إلى جعفر بن محمد الصادق، ومختلفون فى المنصوص عليه بعد ذلك، وكانوا فى الأول على مذهب أئمتهم، حتى اختلفت الروايات عن أئمتهم، وتمادى الزمان عليهم؛ فتشعّبوا، وافترقوا، حتى صار بعضهم معتزلة، وبعضهم إجبارية: إما مشبهة، وإما سلفية، ومنهم من التحق ببعض الطوائف الضالة.
________________
(1) السليمانية: أصحاب سليمان بن جرير الزيدى- وتسمى أيضا الجريرية. مقالات الإسلاميين ص 142 والملل والنحل ص 159، 160، والفرق بين الفرق ص 32، 33. والتبصير فى الدين ص 17 وشرح المواقف ص 40، 41 من التذييل.
(2) أتباع بتير الثومى كما هنا، وشرح المواقف ص 41 من التذييل، وأصحاب الحسين بن صالح بن حىّ وكثير النواء كما فى مقالات الإسلاميين ص 144 والفرق بين الفرق ص 33 وما بعدها.
وسماها فى الملل والنحل ص 161 الصالحية والبترية، الصالحية: أصحاب الحسن بن صالح توفى سنة 169 ه والبترية: أصحاب كثير النوى الأبتر توفى فى حدود سنة 169 ه.
(3) هم القائلون بإمامة عليّ- رضي اللّه عنه- نصا ظاهرا، وتعيينا صادقا وزعموا أن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- قد عيّن عليا- رضي اللّه عنه- للإمامة فى مواضع تعريضا وفى مواضع تصريحا، وافترقوا إلى فرق كثيرة ذكرها كتاب الفرق بالتفصيل واختلفوا فيما بينهم فى عددها وأسمائها. انظر بشأن هذه الفرقة بالإضافة إلي ما ورد هاهنا: مقالات الإسلاميين ص 88 وما بعدها، والملل والنحل ص 162 وما بعدها والتبصير فى الدين ص 21 وما بعدها، والفرق بين الفرق ص 37 وما بعدها. وشرح المواقف ص 41، 42 من التذييل.
(5/71)
________________________________________
أما قولهم: بالتنصيص على عليّ فسيأتى إبطاله فيما بعد «1»، وأما تكفيرهم لأعلام الصحابة وسلف الأمة مع شهادة القرآن، وإخبار الرسول بعدالتهم، والرّضى عنهم، وأنهم من أهل الجنة؛ فهو بعيد.
أما شهادة القرآن لهم فقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ «2»، وكانوا ألفا وأربعمائة، وقوله تعالى فى حق المهاجرين والأنصار: والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ «3» وقوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ والْمُهاجِرِينَ والْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ «4» وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ «5»، وذلك يدل على علو رتبتهم، وعظم شأنهم، وكرامتهم على الله تعالى ورسوله،
وقال النبي- صلى اللّه عليه وسلم- «عشرة فى الجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح» «6» إلى غير ذلك من الأخبار الواردة فى حقهم جملة، وإفرادا.
ثم إنه لو كان أبو بكر، وعمر كافرين؛ لكان عليّ بتزويجه ابنته أم كلثوم الكبرى من عمر كافرا، أو فاسقا، حيث عرض ابنته للزنا؛ لإن نكاح الكافر للمسلمة؛ باطل بالإجماع، والوطء الواقع فيه يكون زنا؛ وعليّ لم يكن كافرا، ولا فاسقا.
________________
(1) انظر القاعدة الثامنة ل 274/ أ وما بعدها.
(2) سورة الفتح: 48/ 18.
(3) سورة التوبة: 9/ 100.
(4) سورة التوبة: 9/ 117.
(5) سورة النور: 24/ 55.
(6) رواه أبو داود، وابن ماجة، والترمذي وصححه. رواه أبو داود رقم (4649) و (4650) فى السنة: باب فى الخلفاء.
والترمذي رقم (3749) و (3758) فى المناقب: باب مناقب عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، وباب مناقب سعيد بن زيد. وابن ماجه رقم (134) فى المقدمة: باب فضائل العشرة المبشرين بالجنة رضى الله عنهم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روى من غير وجه عن سعيد بن زيد عن النبي- صلى اللّه عليه وسلم-، وهو حديث صحيح.
(5/72)
________________________________________
[«الفرقة الثالثة»] وأما الخوارج «1»:
فقد انقسموا فى الأصل إلى:
المحكمية الأولى، والبيهسية، والأزارقة، والنجدات، والصفرية والإباضية، والعجاردة.
أما المحكمية الأولى «2»:
فهم الذين خرجوا على عليّ عند التحكيم، وكانوا اثنى عشر ألف رجل، أهل صلاة وصيام وفيهم قال النبي- صلى اللّه عليه وسلم- «تحقر صلاة أحدكم فى جنب صلاتهم، وصوم أحدكم فى جنب صومهم، ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم» «3».
وهم مجمعون على تجويز الإمامة فى غير قريش، وأن كل من نصبوه برأيهم وعاشر الناس بالعدل، واجتناب الجور؛ كان إماما، وإن غيّر السيرة، وعدل عن الحق، وجب عزله أو قتله، وجوزوا أن لا يكون فى العالم، إمام أصلا.
وأجمعوا أيضا على تخطئة عليّ فى التحكيم، وتكفيره؛ وتكفير عثمان «11» // وأكثر الصحابة، وتكفير ومرتكب الكبيرة.
أما قولهم: إنه يجوز أن يكون الإمام من غير قريش؛ فهو خلاف الإجماع من السلف وخلاف (قوله عليه السّلام: والأئمة من قريش «4»)، وقوله عليه السّلام: «قدموا قريشا ولا تتقدموها «5».
________________
(1) الخارجى: هو كل من خرج على الإمام الحق. سواء كان الخروج في أيام الصحابة، أو فى أيام التابعين، والأئمة فى كل زمان، والخوارج من أوائل الفرق الإسلامية: وهم سبع فرق كبار. انظر عنهم بالإضافة لما ورد هاهنا:
مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى ص 167 - 212، والفرق بين الفرق ص 72 - 113 والملل والنحل ص 114 - 138، والتبصير فى الدين ص 26 - 36 واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 46 - 51 وشرح المواقف للشريف الجرجانى ص 42 - 53 من التذييل. ومن الدراسات الحديثة:
تأملات فى التراث العقدى للفرق الكلامية (فرقة الخوارج) د/ عبد السلام عبده وإسلام بلا مذاهب ص 121 - 170، وتاريخ المذاهب الإسلامية ص 65 - 87.
(2) ويقال لهم محكمة وشراة. وانظر بشأن هذه الفرقة: الفرق بين الفرق ص 72 - 82 والملل والنحل ص 115 - 118، والتبصير فى الدين ص 26 - 69، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 46، وشرح المواقف ص 42، 43 من التذييل.
(3) أخرجه أبو داود فى سننه: 2/ 545 (كتاب السنة- باب فى قتال الخوارج) عن على رضي اللّه عنه.
(11) // أول ل 144/ أ.
(4) فى مسند الإمام أحمد 3/ 129، 183، 4/ 421 الأئمة من قريش، إن لهم عليكم حقا، ولكم عليهم حقا مثل ذلك ما استرحموا فرحموا، وإن عاهدوا أوفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» قال ابن حزم فى الفصل 4/ 89 إن رواية الحديث جاءت بطريقة التواتر».
(5) رواه السيوطى في الجامع الصغير 2/ 86.
(5/73)
________________________________________
وقولهم بجواز خلو العصر عن الإمام، فهو أيضا على خلاف إجماع السلف، وأما تكفيرهم مرتكب الكبيرة، فقد أبطلناه/ فيما تقدم «1».
وأما البيهسية «2»:
أصحاب أبى بيهس الهيصم بن جابر، قالوا: إنّ الإيمان هو الإقرار، والعلم بالله، وما جاء به رسوله، حتى أن من واقع ما لا يعلم كونه حراما أو حلالا؛ فليس بمؤمن؛ إذ كان من حقه أن يعلم الحق.
ومنهم من خالف فى ذلك وقال: لا يكفر حتى يرفع أمره إلى الإمام، أو نائبه فيحده، وكل ما ليس فيه حد؛ فهو مغفور.
ومنهم من قال: إنه لا حرام سوى ما فى قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ «3» الآية، وما سواه؛ فكله حلال.
ومنهم من قال: إن الإمام إذا كفر كفرت الرعية شاهدها، وغائبها، وقالوا إن أطفال المؤمنين، مؤمنين، وأطفال الكفار، كفار، ووافقوا القدرية فى القدر.
ومنهم من قال: إن السكر إذا كان من شراب حلال؛ فلا يؤاخذ صاحبه بما قال، أو فعل؛ بخلاف الحرام.
ومنهم من قال: إنّ السكر إذا انضم إليه فعل كبيرة؛ فهو كفر.
أما قولهم: إن الإيمان هو الإقرار، والعلم؛ فقد أبطلناه فيما تقدم «4».
وقولهم: إنه لا حرام إلا ما حرم فى الآية المذكورة، وأن الإمام إذا كفر كفرت الرعية، فهو أيضا خلاف الإجماع من السلف والقرآن؛ لقوله تعالى: ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «5».
________________
(1) انظر الفصل الثالث من هذه القاعدة ل 241/ ب.
(2) أصحاب أبى بيهس الهيصم بن جابر وهو أحد بنى سعد بن ضبيعة. طلبه الحجاج فهرب منه إلى المدينة؛ فظفر به عثمان بن حيان المزنى فحبسه، وقتله. أما عن البيهسية فانظر بالإضافة لما ورد هاهنا. الملل والنحل ص 125 - 128، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 47. وشرح المواقف ص 43 من التذييل.
(3) سورة الأنعام: 6/ 145.
(4) انظر الفصل الأول من هذه القاعدة ل 236/ أ وما بعدها.
(5) سورة الأنعام: 6/ 164. وسورة الإسراء 17/ 15.
(5/74)
________________________________________
وقولهم: إن السكر إذا كان من شراب حلال؛ فلا يؤاخذ صاحبه بما فعل وأن السكر إذا انضم إليه فعل الكبيرة كان كفرا؛ فهو خلاف إجماع السلف أيضا؛ والدليل ما سبق «1».
وأما الأزارقة «2»
أصحاب نافع بن الأزرق، فإنهم كفروا عليا بالتحكيم وقالوا: إن عليا هو الذي أنزل فى شأنه: ومِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ «3».
وصوبوا عبد الرحمن بن ملجم «4» بقتله لعلىّ، وقالوا هو الّذي أنزل الله فى شأنه:
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «5».
وفيه قال مفتى الخوارج وزاهدها وشاعرها عمران بن حطان «6»:
يا ضربة من تقى ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا
أنى لأذكره يوما فأحسبه ... أو فى البرية عند الله ميزانا
________________
(1) انظر ما مر ل 241/ ب وما بعدها.
(2) أصحاب نافع بن الأزرق بن قيس بن نهار، البكرى، الوائلى، الحرورى، صحب في أول أمره عبد الله بن عباس.
كان من أنصار عليّ- رضي اللّه عنه- حتى كانت قضية التحكيم وفى سنة 65 ه اشتدت شوكته، وكثرت جموعه؛ ولكنه قتل بعد معركة كبيرة سنة 65 ه، انظر بشأن هذه الفرقة بالإضافة لما ورد هاهنا.
مقالات الإسلاميين ص 168 وما بعدها، والملل والنحل ص 118 وما بعدها، والفرق بين الفرق ص 82 وما بعدها للبغدادى الّذي سماه نافع بن الأزرق الحنفى أبو راشد، والتبصير فى الدين للأسفراييني ص 29، 30 سماه أبو راشد نافع بن الأزرق الحنفى.
(3) سورة البقرة 2/ 204.
(4) هو عبد الرحمن بن ملجم المرادى الحميرى، كان مع الإمام على، ثم خرج عليه واتفق مع جماعة على قتل عليّ، ومعاوية، وعمرو بن العاص. فى ليلة واحدة، فقصد الكوفة وقتل الإمام عليّ بينما فشل صاحباه. (الإعلام 4/ 114).
(5) سورة البقرة 2/ 207.
(6) عمران بن حطان: رأس من رءوس الخوارج شاعر وفقيه توفى سنة 84 ه انظر العبر 1/ 98 وديوان الخوارج جمع د/ نايف معروف دار المسيرة بيروت سنة 1983 م.
وقد رد الإمام عبد القاهر البغدادى صاحب الفرق بين الفرق على عمران بن حطان قال عبد القاهر، وقد أجبناه عن شعره هذا بقولنا:
يا ضربة من كفور ما استفاد بها ... ألا الجزاء بما يصليه نيرانا
إنى لألعنه دينا وألعن من ... يرجو له أبدا عفوا وغفرانا
ذاك الشقى لأشقى الناس كلهم ... أخفهم عند ربهم الناس ميزانا
(5/75)
________________________________________
وزادوا على ذلك بتكفير عثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وعبد الله بن عباس، وسائر المسلمين معهم، وقضوا بتخليدهم فى النار، وكفروا القعدة عن القتال، وإن كانوا موافقين فى الدين، ولم يجوزوا التقيّة فى قول، ولا عمل، وأباحوا قتل أطفال المخالفين، ونسائهم، وأسقطوا الرجم عن الزانى المحصن، وحد قذف المحصنين من الرجال دون النساء/؛ إذ هو غير مذكور فى القرآن.
وحكموا بأن أطفال المشركين فى النار مع آبائهم، وجوزوا بعثة نبى كان كافرا؛ وإن علم كفره بعد النبوة.
وقضوا بأن من ارتكب كبيرة؛ فقد كفر، وخرج عن الملة؛ وهو مخلد فى النار.
وأما تخطئتهم للصحابة، فخطأ لما سبق، ثم يقال لهم: إن كانت الآية نازلة فى حق عليّ- رضي اللّه عنه- فيلزم أن يكون منافقا فى زمن رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- وإتباع المنافق، كفر عندكم، ويلزم من ذلك، أن تكونوا كفارا، بأتباعه فى وقعة الجمل، وصفين قبل التحكيم.
وهو مناقض لقولكم: إنه إنما كفر بالتحكيم.
وأما ما ذكروه من باقى الأحكام؛ فقد خرقوا فيها إجماع المسلمين، واستحلوا ما لا يحل.
أما النجدات العاذرية «1»:
أصحاب نجده بن عامر الحنفى، وإنما سموا عاذرية؛ لأنهم عذروا بالجهالات، فى أحكام الفروع، وهؤلاء وافقوا الأزارقة فى تكفير من كفرته الأزارقة من الصحابة، وخالفوهم فى باقى الأحكام.
________________
(1) أصحاب نجدة بن عامر النجفى وقيل الحنفى، كان فى أول أمره مع نافع بن الأزرق وفارقه لأحداثه فى مذهبه، ثم خرج مستقلا باليمامة سنة 66 ه أيام عبد الله بن الزبير ثم أتى البحرين واستقر بها. وقتله أتباع بن الزبير وقيل أتباعه سنة 69 ه. (شذرات الذهب 1/ 76 والأعلام 8/ 325). ولمزيد من البحث والدراسة عن هذه الفرقة:
انظر الملل والنحل ص 22 - 125 والفرق بين الفرق ص 87 - 90. والتبصير فى الدين ص 30 واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 47. وشرح المواقف ص 45 من التذييل.
(5/76)
________________________________________
وقضوا بأنه لا حاجة للناس إلى إمام، وإنما عليهم أن يتناصفوا، فيما بينهم وإن رأوا إقامته؛ فهو جائز «11» // وهم فى جميع ما قضوا به مخطئون.
أما التكفير؛ فلما سبق «1»، وأما الاستغناء عن الإمام؛ فلمخالفة الإجماع.
وأما الصفرية «2»:
أصحاب زياد بن الأصفر، ومذهبهم كمذهب الأزارقة في تكفير الصحابة، وخالفوهم فى تكفير القعدة عن القتال، إذا كانوا موافقين فى الدين والاعتقاد، وخالفوهم فى الرجم، وفى تكفير أطفال الكفار، وتعذيبهم، وجوزوا التقية فى القول دون العمل.
وحكموا بأن ما كان من المعاصى عليه حد؛ فليس لصاحبه اسم غير الاسم اللازم منه الحد، ولا يكون كافرا؛ وإنما يقال له سارق، وزان، وقاذف، وعلى نحوه.
وما كان من المعاصى لا حدّ فيه؛ لعظم قدره، كترك الصلاة، والصوم؛ فهو كفر.
ومنهم من جوز تزويج المسلمات، من كفار قومهم فى دار التقية، دون دار العلانية وهؤلاء أيضا حكمهم فى تكفير الصحابة، حكم الأزارقة.
وأما التكفير بترك الصلاة، والزكاة من غير استحلال؛ فقد أبطلناه فيما تقدم «3» واستحلال تزويج المسلمات- أيضا- من الكفار خرق للإجماع.
________________
(11) // أول ل 144/ ب.
(1) راجع ما مر ل 241/ ب وما بعدها.
(2) الصفرية أصحاب زياد بن الأصفر، ويقال لهم: الصفرية الزيادية. قيل: فى سبب تسميتهم صفرية. نسبة إلى زعيمهم زياد بن الأصفر، أو لصفرة وجوههم بسبب السهر، والعبادة. وقيل: سموا صفرية، لخلوهم من الدين.
انظر فى شأن هذه الفرقة بالإضافة لما ورد هاهنا: مقالات الإسلاميين ص 169 وما بعدها والملل والنحل ص 137، 138. والفرق بين الفرق ص 90 وما بعدها، والتبصير فى الدين ص 31. وشرح المواقف ص 46 الّذي سماها (الأصفرية).
(3) انظر ما سبق ل 241/ ب وما بعدها.
(5/77)
________________________________________
أما الإباضية «1»:
أصحاب عبد الله بن أباض، حكموا بأن مخالفيهم كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، وغنيمة أموالهم من السلاح، والكراع عند الحرب حلال دون ما سواه، وأن دار مخالفيهم دار إسلام وتوحيد دون معسكر السلطان منهم، وأن شهادة مخالفهم مقبولة على أوليائهم، وأنّ مرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن، وأن الاستطاعة قبل الفعل، وأن أفعال العباد مخلوقة لله- تعالى- وأن العالم كله يفنى إذا فنى/ أهل التكليف، وأن مرتكب الكبيرة كافر، كفر نعمة، لا كفر ملّة، وتوقفوا فى تكفير أولاد الكفار، وتعذيبهم.
واختلفوا فى النفاق هل هو شرك أم لا؟ وأنه يجوز أن يبعث الله رسولا بلا دليل وتكليف العباد بما يوحى إليه، اتفاقهم على تكفير عليّ، وأكثر الصحابة، وهم مخالفون للإجماع فى أكثر ما قالوه،
وقد افترقوا أربع فرق:
الفرقة الأولى: الحفصية «2»
أصحاب أبى حفص بن أبى المقدام، وقد زادوا على الإباضية بأن قالوا: إن بين الشرك، والإيمان خصلة واحدة، وهى معرفة الله- تعالى- فمن عرفه ثم كفر بما سواه من رسول، أو جنة أو نار، أو ارتكب كبيرة من الكبائر؛ فهو كافر، لا مشرك.
ويلزمهم على ذلك، رجاء المغفرة لليهود، والنصارى،؛ لأنهم غير مشركين عندهم
________________
(1) الإباضية: أتباع عبد الله بن أباض بن عبد الله بن مقاعس، من بنى مرة رأس الإباضية وهو أكثرهم اعتدالا. خرج فى عهد مروان بن محمد بن مروان وقتل أثناء المعركة. انظر بشأن الإباضية بالإضافة لما ورد هاهنا.
مقالات الإسلاميين ص 183 وما بعدها، والفرق بين الفرق ص 103 وما بعدها، والتبصير فى الدين ص 34 والفصل لابن حزم 4/ 188. والملل والنحل ص 134 وما بعدها، مروج الذهب 3/ 358، والمعارف لابن قتيبة ص 622. وشرح المواقف ص 47 من التذييل ومن الدراسات الحديثة: تاريخ المذاهب الإسلامية ص 80، والموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب المعاصرة ص 15 - 20، إسلام بلا مذاهب ص 135 - 170. جذور الفتنة فى الفرق الإسلامية- اللواء حسن صادق ص 220 وما بعدها، فى مذاهب الإسلاميين- دكتور عامر النجار ص 99 وما بعدها.
(2) الحفصية: أصحاب أبى حفص بن أبى المقدام. وانظر بشأن هذه الفرقة مقالات الإسلاميين ص 183، والفرق بين الفرق ص 104 والملل والنحل ص 135 والتبصير فى الدين ص 34. وشرح المواقف ص 48 من التذييل.
(5/78)
________________________________________
لمعرفتهم بالله تعالى- على ما قاله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1»؛ وهو خلاف إجماع المسلمين.
الفرقة الثانية: من الإباضية اليزيدية «2»
أصحاب يزيد بن أنيسه. زادوا على الإباضية بأن الله- تعالى- سيبعث رسولا من العجم، وينزل عليه كتابا قد كتب فى السماء، وينزل عليه جملة واحدة، ويترك شريعة محمد عليه السّلام، وتكون ملته الصابئة المذكورة فى القرآن، وحكموا بأن أصحاب الحدود مشركون، وأن كل معصية كبيرة كانت، أو صغيرة شرك.
الفرقة الثالثة: منهم الحارثية «3»:
أصحاب أبى الحارث الإباضى- خالفوا الإباضية فى القول بالقدر، كما قالت المعتزلة، وفى الاستطاعة قبل الفعل؛ وهو باطل بما سبق «4».
الفرقة الرابعة: منهم: القائلون بطاعة لا يراد بها الله تعالى «5»
زعموا أن العبد قد يكون مطيعا لله- تعالى- إذا فعل ما أمره به، وإن لم يقصد الله- تعالى- بذلك الفعل.
وقولهم ممتنع لقوله عليه السّلام: «لا عمل إلا بنية»، وقوله عليه السّلام: الأعمال بالنيات» «6»
________________
(1) سورة النساء: 4/ 48.
(2) اليزيدية: أصحاب يزيد بن أنيسة كان بالبصرة ثم انتقل إلى فارس. ولمزيد من البحث والدراسة: انظر مقالات الإسلاميين ص 184 والملل والنحل ص 136 وشرح المواقف ص 48. وقد اعتبرهم البغدادى فى الفرق بين الفرق ص 104 من الفرق الخارجة عن الإسلام لقولهم بنسخ شريعة الإسلام فى آخر الزمان. ثم تحدث عنهم بالتفصيل ص 279 وحكم بخروجهم عن فرق الإسلام.
(3) الحارثية: اتباع أبى الحارث بن يزيد الإباضى، وقيل: حارث بن يزيد وانظر بشأن هذه الفرقة: مقالات الإسلاميين ص 134 والفرق بين الفرق ص 105 وسماه حارث بن يزيد الإباضى والملل والنحل ص 136، والتبصير فى الدين ص 35. وشرح المواقف ص 48 الّذي تابع الآمدي وسماه أبى الحارث.
(4) انظر ما سبق ل 231/ أ وما بعدها من الجزء الأول.
(5) انظر عن هذه الفرقة الإضافة لما ورد هنا. مقالات الإسلاميين ص 172 والفرق بين الفرق ص 105، والتبصير فى الدين ص 35 وشرح المواقف ص 48 من التذييل.
(6) صحيح البخارى 1/ 15 الحديث رقم (1) قال عمر بن الخطاب- رضي اللّه عنه- سمعت رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى: فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
(5/79)
________________________________________
وأما العجاردة «1»:
أصحاب عبد الكريم بن عجرد، وافقوا النجدات فى مذهبهم، وزادوا عليهم بأنه تجب البراءة عن الطفل، حتى يدعى إلى الإسلام، ويجب دعاؤه إذا بلغ، وقضوا بأن أطفال المشركين فى النار.
وقد تفرقوا عشر فرق «2»:
الفرقة الأولى منهم: الميمونية «3»
أصحاب ميمون بن عمران، قالوا بالقدر كما قالت المعتزلة، وتقديم الاستطاعة على الفعل، وأن الله يريد الخير دون الشر، وأنه لا مشيئة له فى معاصى «11» // العباد، وأن أطفال الكفار فى الجنة.
ونقل عنهم أنهم يجيزون نكاح بنات البنين، وبنات البنات، وبنات أولاد الأخوة والأخوات، وإنكار سورة يوسف من القرآن.
وأما قولهم: بالقدر، وتقديم الاستطاعة على الفعل، وأن الله- تعالى- يريد الخير دون الشر؛ فقد أبطلناه فيما تقدم «4».
وأما إباحة ما ذكروه «5» وإنكار سورة يوسف من/ القرآن؛ فخلاف الإجماع وما ورد به التواتر.
________________
(1) العجاردة: هم أصحاب عبد الكريم بن عجرد. وانظر عنهم بالإضافة لما ورد هنا: مقالات الإسلاميين ص 177 والملل والنحل ص 128 وما بعدها، والتبصير فى الدين ص 32 وما بعدها والفرق بين الفرق ص 93 وما بعدها وشرح المواقف ص 49.
(2) ذكر الآمدي أن العجاردة تفرقوا عشر فرق. أما الإمام الأشعرى فذكر أنهم تفرقوا خمس عشرة فرقة مقالات الاسلاميين ص 177. وأما الأسفرايينى فقال إحدى عشرة فرقة، التبصير فى الدين ص 32. بينما حصرها فى سبع الشهرستانى في الملل ص 128، أما البغدادى فى الفرق بين الفرق فقال إنها عشر فرق.
(3) أصحاب ميمون بن عمران. وقيل: ميمون بن خالد. وهو رأس الميمونية. انظر بشأن هذه الفرقة: مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى ص 177 والملل والنحل للشهرستانى ص 129 وشرح المواقف ص 49 من التذييل. والتبصير فى الدين ص 34. واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 48.
(11) // أول ل 145/ أ.
(4) راجع ما فى الجزء الأول القاعدة الرابعة ل 231/ أ وما بعدها، ول 64/ ب وما بعدها.
(5) (و أما إباحة ما ذكروه) ساقط من ب.
(5/80)
________________________________________
الفرقة الثانية: الحمزية «1»
أصحاب حمزة بن أدرك، وافقوا الميمونية فى مذهبهم، إلا فى أطفال الكفار؛ فإنهم قالوا: إنهم فى النار.
الفرقة الثالثة منهم: الشعيبية «2»
أصحاب شعيب بن محمد قائلون ببدع الميمونية إلا فى القدر
الفرقة الرابعة: الحازمية «3»:
أصحاب حازم بن عاصم.
والخلفية: أصحاب خلف الخارجى.
والأطرافية: الذين عذروا أهل الأطراف فى ترك ما لا يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من جهة العقل، قائلون بنفى القدر، وبأصول أهل السنة، وقد نقل عنهم التوقف فى أمر عليّ رضي اللّه عنه.
________________
(1) أتباع حمزة بن أدرك. ظهر أيام الرشيد سنة 179 ه فى خراسان، وعاش إلى عصر المأمون الّذي أرسل إليه جيشا كبيرا؛ فهزمه، وقتل الكثير من أصحابه وانظر بشأن هذه الفرقة- مقالات الإسلاميين ص 177 والملل والنحل ص 129 والفرق بين الفرق ص 98 - 100 والتبصير فى الدين ص 33 وشرح المواقف ص 49.
(2) أصحاب شعيب بن محمد. انظر عنهم: مقالات الإسلاميين ص 178 والملل والنحل ص 131، والفرق بين الفرق ص 95، 96 والتبصير فى الدين ص 32 وشرح المواقف ص 50.
(3) الحازمية: أتباع حازم بن عاصم. انظر بشأنها: مقالات الإسلاميين ص 179 سماها [الخازمية] كما ذكر الخلفية ص 177 أيضا والملل والنحل ص 131 وسماه حازم بن على، والتبصير فى الدين ص 32 سماها الخازمية [بالخاء] كما ذكر الخلفية أيضا والفرق بين الفرق ص 94 سماها الخازنية [بالخاء] كما ذكر الخلفية أيضا ص 96.
أما شرح المواقف ص 50 فذكر: الرابعة: الحازمية، والخامسة: الخلفية.
والسادسة: الأطرافية. وقال:
الرابعة: الحازمية: هو حازم بن عاصم: وافقوا الشعبية.
الخامسة: الخلفية أصحاب خلف الخارجى وهم خوارج كرمان، ومكران.
السادسة: الأطرافية: هم على مذهب حازم ورئيسهم رجل من سجستان يقال له: غالب بن شاذك من سجستان».
وسموا: الأطرافية: لأنهم عذروا أهل الأطراف فيما لم يعرفوه من الشريعة.
(5/81)
________________________________________
الفرقة الخامسة: المعلومية «1»:
قائلون بمذهب الحازمية، غير أنهم قالوا من لم يعلم الله بجميع أسمائه؛ فهو جاهل به، فإذا علمه بجميع أسمائه؛ فهو مؤمن، وإن أفعال العباد مخلوقه لهم.
الفرقة السادسة: المجهولية «2»:
مذهبهم أيضا كمذهب الحازمية، غير أنهم قالوا: من علم الله تعالى ببعض أسمائه دون البعض؛ فهو عارف به مؤمن، وإن أفعال العباد مخلوقه لله تعالى، وكل واحدة منهما تكفر الأخرى.
الفرقة السابعة: منهم: الصلتية «3»:
أصحاب عثمان بن أبى الصلت، وقيل الصلت بن الصامت بن الصلت امتازوا عن العجاردة بأن الرجل إذا أسلم واستجار بنا توليناه، وبرئنا من أطفاله؛ إذ لا إسلام لهم حتى يدركوا، فيدعوا إلى الإسلام فيقبلوا.
ونقل عن بعضهم: أنه ليس لأطفال المشركين، والمسلمين ولاية، ولا عداوة ..
حتى يبلغوا فيدعون إلى الإسلام، فيقرون، أو ينكرون.
الفرقة الثامنة من العجاردة: الثعالبة «4»
أصحاب ثعلبة بن عامر، قائلون بولاية الأطفال صغارا، وكبارا، حتى يظهر منهم إنكار الحق بعد البلوغ. وقد نقل عنهم أيضا أنهم قالوا: ليس للأطفال حكم من ولاية
________________
(1) انظر: مقالات الإسلاميين ص 179 سماها الخازمية المعلومية والفرق بين الفرق ص 97 وسماها: المعلومية والمجهولية. والتبصير ص 33 البعض يسميها المعلومية والآخر يسميها المجهولية، وشرح المواقف ص 51 الفرقة السابعة: المعلومية.
(2) انظر: مقالات الإسلاميين ص 179 سماها: الخازمية المجهولية، والفرق بين الفرق ص 97: سماها: المعلومية والمجهولية، والتبصير فى الدين ص 33 البعض يسميها المعلومية، والبعض يسميها المجهولية وشرح المواقف ص 51: الفرقة الثامنة: المجهولية.
(3) الصلتية: انظر عنهم: مقالات الإسلاميين ص 179 والملل والنحل ص 129 والفرق بين الفرق ص 97 والتبصير فى الدين ص 33 وشرح المواقف ص 51 من التذييل.
(4) الثعالبة: أصحاب ثعلبة بن عامر.
انظر مقالات الإسلاميين ص 179 - 182. والملل والنحل ص 131 - 134.
أما الفرق بين الفرق ص 100 فقال: أتباع ثعلبة بن مشكان وكذلك سمى فى التبصير فى الدين ص 33.
أما شرح المواقف ص 51 فسماه: ثعلب بن عامر.
(5/82)
________________________________________
ولا عداوة حتى يدركوا، ويرون أيضا أخذ الزكاة من العبيد، إذا استغنوا، ودفعها إليهم إذا افتقروا
وقد افترقت الثعالبة أربع فرق:
الأولى: الأخنسية «1»
أصحاب أخنس بن قيس، توقفوا فى جميع من فى دار التقية، ومن أهل القبلة إلا من عرف إيمانه، أو كفره، وحرموا الاغتيال بالقتل، والسرقة وأنه لا يبتدأ أحد بالقتال، حتى يدعى إلى الدين، فإن امتنع قوتل.
ونقل عنهم أنهم جوزوا تزويج المسلمات من مشركى قومهم، وهم على أصول الثعالبة فيما عدا ذلك من المسائل.
الفرقة الثانية: المعبدية «2»:
أصحاب معبد بن عبد الرحمن؛ خالفوا الأخنسية فى تزويج المسلمات من المشركين، والثعالبة فى أخذ الزكاة من عبيدهم ودفعها إليهم.
الفرقة الثالثة: الشيبانية «3»:
أصحاب شيبان بن سلمة، قائلون بالجبر ونفى القدرة الحادثة/؛ وهو باطل بما سبق.
الفرقة الرابعة: المكرمية «4»:
أصحاب مكرم العجلى، قائلون بأن تارك الصلاة كافر، لا من أجل ترك الصلاة؛ بل بجهله بالله- تعالى- وطردوا ذلك فى فعل كل كبيرة.
________________
(1) الأخنسية: أصحاب أخنس بن قيس.
انظر عنهم: مقالات الإسلاميين ص 180 والملل والنحل 132 والتبصير فى الدين ص 33، 34 والفرق بين الفرق ص 101 وشرح المواقف ص 52 من التذييل.
(2) المعبدية أصحاب معبد بن عبد الرحمن.
انظر عنهم: مقالات الإسلاميين ص 180، والتبصير فى الدين ص 33، والملل والنحل ص 132، والفرق بين الفرق ص 101، وشرح المواقف ص 52 من التذييل.
(3) الشيبانية: أتباع شيبان بن سلمة الخارجى قتل سنة 130 ه انظر عنه بالإضافة لما ورد هنا:
مقالات الإسلاميين ص 180، 181، والملل والنحل ص 132، 133، والتبصير فى الدين ص 34. والفرق بين الفرق ص 102 وشرح المواقف ص 52 من التذييل.
(4) المكرمية: أصحاب مكرم العجلى. انظر عن هذه الفرقة إضافة لما ورد هنا مقالات الإسلاميين ص 182 (أبى مكرم). والملل والنحل ص 133 (مكرم بن عبد الله العجلى)، والفرق بين الفرق ص 103، والتبصير فى الدين ص 34 (أبى مكرم)، وشرح المواقف ص 53 من التذييل. (مكرم العجلى).
(5/83)
________________________________________
وزعموا أن الله- تعالى- إنما يتولى عباده ويعاديهم على ما هم صائرون إليه من موافاة الموت، لا على أعمالهم الراهنة؛ إذ هى غير موثوق بدوامها؛ فإذا وصل إلى آخر عمره، ونهاية أجله؛ فإن كان فى تلك الحالة مؤمنا، واليناه، وإن كان كافرا عاديناه.
وهؤلاء مخالفون للإجماع بتكفير مرتكب الكبيرة، والدليل ما سبق «1».
فإذن حاصل فرق الخوارج عشرون فرقة «2».
[«الفرقة الرابعة»] وأما المرجئة «3»:
فإنهم يرون تأخير العمل عن النية، والعقد، ويقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفران طاعة.
________________
(1) انظر ما مر فى الفصل الثالث ل 241/ ب وما بعدها.
(2) بيان فرق الخوارج الكبيرة بالإجمال سبع فرق كما بينها المصنف. أما بيان هذه الفرق بالتفصيل فعشرون فرقة بيانها كما يلى:
المحكمة الأولى: فرقة واحدة البيهسية: فرقة واحدة الأزارقة: فرقة واحدة
النجدات: فرقة واحدة
الصفرية: فرقة واحدة
الإباضية: أربع فرق
العجاردة: إحدى عشرة فرقة
وقد وضح الآمدي ذلك بقوله: «فإذن حاصل فرق الخوارج عشرون فرقة».
(3) المرجئة: من الفرق الإسلامية التى ظهرت على الساحة الإسلامية كرد فعل لظهور الخوارج الذين حكموا على مرتكب الكبيرة بالكفر، والخلود فى النار فعارضهم المرجئة بقولهم: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. والإرجاء له معنيين:
أحدهما: بمعنى التأخير: أى الإمهال فى الحكم. وهذا الإطلاق صحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية، والعقد.
والثانى: بمعنى إعطاء الرجاء، وهو ظاهر: لأنهم كانوا يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وقيل: الإرجاء تأخير الحكم إلى يوم القيامة؛ فلا يقضى على صاحب الكبيرة بحكم فى الدنيا.
وقيل: الإرجاء تأخير على- رضي اللّه عنه- عن الدرجة الأولى، إلى الدرجة الرابعة.
والمرجئة أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومزجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة.
أما عن فرق المرجئة: فقد ذكر الأشعرى فى مقالات الإسلاميين ص 214 - 234 أنهم اثنتى عشرة فرقة بينما ذكر الشهرستانى فى الملل والنحل ص 139 - 146 أنهم ست فرق.
أما البغدادى فى الفرق بين الفرق ص 202 - 205 فقد قال: إن المرجئة الخارجة عن الجبر والقدر خمس فرق.
كما ذكر أنهم خمس فرق أيضا كلا من الأسفرايينى فى التبصير فى الدين ص 59 - 61 والرازى فى اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 70، 71 والآمدي هنا وصاحب المواقف ص 54 وما بعدها.
(5/84)
________________________________________
وبالنظر إلى هذين القولين سموا مرجئة؛ لأن الإرجاء فى اللغة قد يطلق ويراد به التأخير، ومنه قوله تعالى: قالُوا أَرْجِهْ وأَخاهُ «1»: أى أمهله، وأخره، وهو مطابق للقول الأول. وقد يطلق ويراد به إعطاء الرجاء، وهو مطابق «11» // للقول الثانى.
والمرجئة الخالصة خمس فرق:
الفرقة الأولى: اليونسية «2»
أصحاب يونس بن النميرى، زعموا أن الإيمان هو المعرفة بالله- تعالى- والخضوع له، والمحبة بالقلب، فمن اجتمعت فى حقه هذه الخصال؛ فهو مؤمن لا يضره مع ذلك ترك الطاعات، ولا يعذب عليها، والمؤمن إنما يدخل الجنة بإيمانه، لا بعلمه وعمله.
وزعموا أن إبليس كان عارفا بالله وحده غير أنه كفر باستكباره، وترك الخضوع لله تعالى- لقوله- تعالى- أَبى واسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الْكافِرِينَ «3» وقد بينا إبطال معتقدهم فيما تقدم «4».
الفرقة الثانية: العبيدية «5»
أصحاب عبيد المكتئب، قائلون بأن ما دون الشرك، مغفور لا محالة، وأن العبد إذا مات على إيمانه، لا يضره ما اقترف من المعاصى.
وأن علم الله- تعالى- لم يزل شيئا غيره، وأن الله على صورة الإنسان، والرد عليهم فى هذه الأقوال فقد تقدم.
________________
(1) سورة الأعراف: 7/ 111.
(11) // أول ل 145/ ب.
(2) اليونسية: أصحاب يونس بن عون النميرى، انظر بشأن هذه الفرقة بالإضافة لما ورد هنا: مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى ص 214 حيث سماه يونس السمرى والملل والنحل للشهرستانى ص 140 والتبصير فى الدين ص 60، والفرق بين الفرق ص 202، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 70 وشرح المواقف ص 54، 55 من التذييل.
(3) سورة البقرة 2/ 34.
(4) انظر الفصل الأول ل 238/ أ وما بعدها.
(5) العبيدية: أصحاب عبيد المكتئب: وقد انفرد الشهرستانى بذكر هذه الفرقة فى الملل والنحل ص 140 وتبعه الآمدي، وصاحب المواقف ص 55 من التذييل.
(5/85)
________________________________________
الفرقة الثالثة: الغسانية «1»
أصحاب غسان الكوفى، زعموا أن الإيمان هو المعرفة بالله- تعالى- ورسوله، والإقرار بهما، وبما جاء من عندهما في الجملة، دون التفصيل وأن الإيمان يزيد، ولا ينقص.
وقالوا: إن قائلا لو قال: أعلم أن الله- تعالى- فرض الحج إلى الكعبة، غير أنى لا أدرى أين الكعبة، ولعلها باليمن، لا بمكة، كان مؤمنا.
ولو قال: اعلم أن الله بعث محمدا رسولا، ولا أدرى أنه الشخص المشار إليه بالمدينة، أو غيره؛ لكان مؤمنا.
وكان يحكى غسان هذه المقالة عن أبى حنيفة وما ذكروه فى تفسير الإيمان؛ فقد أبطلناه فيما تقدم.
وأما الشك فى عين الكعبة والرسول/ فأمر لا يستجيزه العاقل لنفسه؛ وهو خلاف إجماع الأمة.
وأما حكاية ذلك عن أبى حنيفة- رضي اللّه عنه- فلعل الناقل كاذب فيه لقصد الاستئناس فيما قاله بموافقة رجل كبير مشهور، ومع هذا فإن أصحاب المقالات قد عدوا أبا حنيفة، وأصحابه من مرجئة السنة «2»، ويشبه أن يكون ذلك؛ لأنه كان يخالف القدرية، وهم المعتزلة.
والمعتزلة قد كانوا فى الصدر الأول، يلقبون كل من خالفهم فى القدر مرجئا، أو لأنه لما كان يقول: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ظن به
________________
(1) الغسانية: أتباع غسان الكوفى، وقيل: غسان بن الكوفى، وقيل: غسان المرجئ وانظر بشأن هذه الفرقة.
الملل والنحل ص 140، والفرق بين الفرق ص 203، والتبصير فى الدين ص 60 واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 70 وشرح المواقف ص 55، 56 من التذييل.
(2) انظر مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للإمام الأشعرى فقد ذكر أن الفرقة التاسعة من المرجئة: [أبو حنيفة وأصحابه].
قال: «الفرقة التاسعة من المرجئة «أبو حنيفة وأصحابه» يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والإقرار بالله والمعرفة بالرسول الإقرار بما جاء به من عند الله فى الجملة دون التفسير ... وزعم أن الإيمان لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس به».
[مقالات الإسلاميين 1/ 219 - 221].
(5/86)
________________________________________
الإرجاء بتأخير العمل عن الإيمان وتركه، وليس كذلك، مع ما عرف من مبالغته فى العمل، والاجتهاد فيه «1».
الفرقة الرابعة الثوبانية «2»:
أصحاب ثوبان المرجئ زعموا أن الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله وبرسله، وكل ما لا يجوز فى العقل أن لا يفعله، وما جاز فى العقل تركه؛ فليس من الإيمان، وأخروا العمل كله عن الإيمان، ووافقهم على ذلك أبو مروان بن غيلان «3» الدمشقى، وأبو شمر «4»، ومويس بن «5» عمران، والفضل «6» الرقاش، ومحمد بن شبيب «7». وصالح قبة «8»، إلا أن ابن غيلان جمع بين الإرجاء والقول بالقدر، والخروج حيث قال بأن الإمام يجوز أن لا يكون قرشيا.
وقد اتفق من عددناهم من الجماعة على أن الله- تعالى- لو عفا عن عاص فى القيامة؛ عفا عن كل مؤمن هو فى مثل حاله، ولو أخرج من النار واحدا؛ أخرج كل من هو فى مثل حاله، ولم يجزموا القول بأن المؤمنين يخرجون من النار ولا بد.
________________
(1) يرى الآمدي أن الإمام أبى حنيفة- رحمه الله- بريء من تهمة الإرجاء التى الصقها به المعتزلة؛ لأنهم كانوا يلقبون كل من خالفهم فى القدر مرجئا، ويقول إن هذا خطأ؛ فهو لم يؤخر العمل عن الإيمان؛ بل قد عرف عنه المبالغة فى العمل والاجتهاد فيه.
(2) أصحاب ثوبان المرجئ: انظر بشأن هذه الفرقة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا: مقالات الإسلاميين ص 216 قال الأشعرى: أصحاب أبى ثوبان والملل والنحل للشهرستانى ص 142. قال الشهرستانى: أصحاب أبى ثوبان المرجئ. والتبصير فى الدين ص 61، والفرق بين الفرق ص 213 واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 70 (أصحاب أبى ثوبان).
وشرح المواقف ص 56 من التذييل (أصحاب ثوبان المرجئ).
(3) سبقت ترجمته فى هامش ل 244/ أ.
(4) أبو شمر: من مرجئة القدرية- وممن وافق ثوبان المرجئ. انظر عنه وعن آرائه الفرق بين الفرق ص 205، 206، ومقالات الإسلاميين فى عدة مواضع والملل والنحل: 1/ 145.
(5) مويس بن عمران: من مرجئة القدرية وعده صاحب المنية والأمل: 58 من معتزلة الطبقة السابعة، وقد وافق ثوبان المرجئ فى آرائه (شرح المواقف- تذييل ص 56).
(6) الفضل الرقاش: هو ممن جمع بين الاعتزال والإرجاء (انظر عنه شرح المواقف- تذييل ص 56).
(7) محمد بن شبيب من أصحاب النظام، وممن جمع بين الاعتزال والارجاء فهو موافق لثوبان المرجئ، وهو من معتزلة الطبقة السابعة كما قال صاحب المنية والأمل: ص 58، وانظر عن آرائه: الفرق بين الفرق ص 207 ومقالات الإسلاميين 1/ 218.
(8) صالح قبة: ذكره ابن المرتضى فى الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة ص 73. وله كتب كثيرة وخالف الجمهور فى أمور كثيرة. وهو ممن جمع بين القدر والارجاء والخروج [الفرق بين الفرق ص 205 - 207].
(5/87)
________________________________________
وما ذكروه فى تفسير الإيمان، وترك العمل، وقول ابن غيلان بالقدر، والإمامة فى غير قريش، فقد أبطلناه فيما تقدم وما ذكره الجماعة فمشعر بوجوب الفعل على الله- تعالى- وهو باطل أيضا بما تقدم.
الفرقة الخامسة: التومنية «1»:
أصحاب أبى معاذ التومنى، زعموا أن الإيمان ما كان عاصما من الكفر، وهو اسم لخصال لو تركها التارك، أو بعضها كفر ولا يقال لبعضها أنه إيمان، ولا بعض إيمان، وتلك الخصال هو المعرفة، والتصديق والمحبة، والإخلاص، والإقرار بما جاء به الرسول، وكل معصية لم يجمع المسلمون على أنها كفر؛ فلا يقال لفاعلها إنه فاسق؛ بل فسق، وعصى.
وأن من ترك الصلاة، والصيام مستحلا؛ كفر لتكذيبه بما جاء به الرسول، ومن ترك ذلك على نية القضاء؛ لم يكفر، ومن قتل نبيا، أو لطمه كفر، لا من أجل القتل، أو اللطمة؛ بل من أجل الاستخفاف به، والدلالة على تكذيبه، وبغضه.
وبه قال ابن الراوندى «2»، وبشر المريسى «3»، وزعما أن «11» // السجود للصنم ليس بكفر غير أنه علامة على الكفر.
وما ذكروه فى تفسير الإيمان؛ فقد أبطلناه «4».
وقولهم: إن كل معصية لا تكون كفرا لا يقال لفاعلها إنه فاسق/ بل فسق، وعصى؛ فهو تناقض؛ فإنه لا معنى لقولنا فسق غير أنه قام به فعل الفسق، ولا معنى للفاسق إلا ذلك.
فهذه كل فرق المرجئة الخالصة.
________________
(1) التومنية: أصحاب أبى معاذ التومنى.
انظر: مقالات الإسلاميين ص 221، 222 والفرق بين الفرق ص 203، 204، والتبصير فى الدين ص 61، والملل والنحل ص 144، وشرح المواقف ص 57 من التذييل.
(2) ابن الراوندى سبقت ترجمته فى الجزء الأول هامش ل 231/ أ وما بعدها.
(3) بشر المريسى: سبقت ترجمته فى الجزء الثانى هامش ل 103/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 146/ أ.
(4) راجع ما مر فى الفصل الأول: فى تحقيق معنى الإيمان ل 236/ أ وما بعدها.
(5/88)
________________________________________
ومن المرجئة من جمع بين الإرجاء، والقدر: كالصالحىّ، ومحمد بن شبيب وأبى شمر، وغيلان.
غير أن الصالحى زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله- تعالى- على الإطلاق، وأن- للعالم صانعا فقط، والكفر هو الجهل به على الإطلاق، وبنى على ذلك أن القول بأن الله ثالث ثلاثة، ليس بكفر، ولكنه لا يظهر إلا من كافر، وأن الإيمان يصح مع جحد الرسول عقلا، ولا يصح سمعا لقول الرسول- صلى اللّه عليه وسلم-: «من لا يؤمن بى فهو كافر»، وزعم أيضا أنه لا عبادة لله- تعالى- سوى الإيمان به.
وأما أبو شمر المرجئ: فإنه زعم أن الإيمان هو: المعرفة بالله تعالى، والمحبة والخضوع له بالقلب، والإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء فقط، وذلك مما لم تقم حجة الأنبياء، فإذا قامت حجة الأنبياء فالإقرار بهم، وتصديقهم من الإيمان، وأما الإقرار والمعرفة: بما جاءوا به، فليس من الإيمان الأصلي، وليس كل خصلة من خصال الإيمان إيمانا، ولا بعض إيمان.
وأما غيلان فإنه قال: إن الإيمان هو المعرفة الثانية الكسبية بالله- تعالى والمحبة، والخضوع له، والإقرار بما جاء به الرسول، والمعرفة الأولى الفطرية، وهو علمه بأن للعالم صانعا، فليس من الإيمان.
[«الفرقة الخامسة»] وأما النجارية «1»
أصحاب أبى الحسين بن محمد النجار، فموافقون للصفاتية من أهل السنة فى القول بأن الله- تعالى- خالق أفعال العباد، وأن الاستطاعة مع الفعل، وأن العبد مكتسب، وموافقون للمعتزلة فى نفى الصفات الوجودية عن ذات الله تعالى- ونفى
________________
(1) النجارية: أتباع أبى الحسين بن محمد النجار أما بقية كتب الفرق فقالت: الحسين بن محمد النجار وهو رأس النجارية، وإليه نسبتها. وهو من متكلمى الجبرية، وله مع النظام مناظرات، وسبب موته انقطاعه أمام النظام؛ فحمّ ومات عقب المناظر فى حدود سنة 230 ه انظر عنه ما مر فى هامش من ل 64/ ب من الجزء الأول. وانظر بشأن هذه الفرقة:
مقالات الإسلاميين ص 216 وما بعدها والملل والنحل ص 88 وما بعدها. والفرق بين الفرق ص 207 وما بعدها، والتبصير فى الدين ص 61 وما بعدها. واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 68، وشرح المواقف ص 58 من التذييل.
(5/89)
________________________________________
الرؤية، والقول بحدوث كلام الله- تعالى- ووافقهم على ذلك ضرار بن «1» عمرو، وحفص الفرد «2».
ثم افترقوا ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: البرغوثية «3»:
زعموا أن كلام الله تعالى- حادث، وأنه إذا قرئ؛ فهو عرض، وإذا كتب؛ فهو جسم.
وهو كفر بارد لا يستجيزه من له أدنى مسكة من العقل، ثم يلزمهم على ذلك أن كلام الله- تعالى- إذا كتب بنجاسة، صارت تلك الحروف المقطعة من تلك النجاسة كلام الله- تعالى- بعد أن لم تكن كلاما؛ وهو محال.
الفرقة الثانية: الزعفرانية «4»
زعموا أن كلام الله- تعالى- غيره، وأن كل ما هو غيره فهو مخلوق، ومع ذلك قالوا:
إن من قال إن القرآن مخلوق؛ فهو كافر ولذلك، فإنهم يقولون: يا رب القرآن، أهلك من قال إن القرآن مخلوق، فإن أرادوا بنفى كونه مخلوقا بمعنى الاختلاق، والكذب، وإلا فهو تناقض، محال.
الفرقة الثالثة: المستدركة «5»
استدركوا على الزعفرانية وقالوا: إن كلام الله مخلوق مطلقا غير أن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- قال: «كلام الله غير مخلوق»، وأجمعت الأمة على ذلك، فوافقناهم، وحملنا قولهم غير
________________
(1) ضرار بن عمرو: سبقت ترجمته فى هامش ل 72/ ب من الجزء الأول.
(2) حفص الفرد: سبقت ترجمته فى هامش ل 231/ أ من الجزء الأول.
(3) أصحاب محمد بن عيسى المعروف ببرغوث وهو من أتباع النّجار إلا أنه خالفه فى بعض ما ذهب إليه، انظر عنه وعن فرقته، الفرق بين الفرق للبغدادى ص 209 والتبصير فى الدين ص 62 والملل والنحل ص 88 وما بعدها.
وشرح المواقف ص 58 من التذييل.
(4) الزعفرانية: أتباع الزعفرانى من أهل الرى. وكان يناقض بآخر كلامه أوله انظر عنه: الفرق بين الفرق ص 209، 210، والتبصير فى الدين ص 62، وشرح المواقف ص 58 من التذييل.
(5) المستدركة: وهم قوم من الزعفرانية. سموا بهذا الاسم، لأنهم زعموا أنهم استدركوا على أسلافهم ما خفى عليهم. انظر عنهم: التبصير فى الدين ص 62 والفرق بين الفرق ص 210، 211 فقد ذكر البعض مناظرة له مع واحد من أفراد هذه الطائفة. وشرح المواقف ص 59 من التذييل.
(5/90)
________________________________________
مخلوق/ أى على هذا التركيب، والنظم من هذه الحروف، والأصوات؛ بل هو مخلوق على غير هذه الحروف بعينها، وهذه حكاية عنها.
وزعموا أن أقوال مخالفيهم كلها كذب، وضلالة، حتى أنه لو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقوله ضلال، وكذب.
والقائل بهذه المقالة ففى غاية السخافة من العقل، فإنه إذا قال مخالفهم لا إله إلا الله محمد رسول الله، إن كان إخباره على خلاف ما المخبر عليه؛ فيلزم أن يكون ثم إله غير الله، وأن لا يكون محمد رسولا؛ وهو محال، وإن كان إخباره على وفق ما المخبر عنه، فيمتنع أن يكون خبره كذبا، وضلالة؛ بل صدقا، وإيمانا.
ثم يلزمهم أن مخالفهم إذا قال لزعيمهم: إنك مؤمن، أنه إن كان صادقا؛ فقد نقضوا مذهبهم، وإن كان كاذبا، فالصادق عليه إنه ليس بمؤمن؛ فهم غير مؤمنين.
[«الفرقة السادسة»] وأما الجبرية «1»:
فالجبر عبارة عن نفى الفعل عن العبد حقيقة، وإضافته إلى الرب- تعالى- غير أن الجبرية تنقسم إلى:
جبرية خالصة:
وهى التى لا تثبت للعبد فعلا، ولا كسبا: كالجهمية «2». وإلى:
جبرية متوسطة:
وهى التى لا تثبت للعبد فعلا؛ ولكن تثبت له كسبا كالأشعرية «3» «11» // والنجارية «4»، والضرارية «5»، والحفصية «6»، والمقصود هنا إنما هو بيان مذهب الجبرية الخالصة؛ وهم أصحاب جهم بن صفوان.
________________
(1) انظر عن هذه الفرقة بالإضافة لما ورد هاهنا: مقالات الإسلاميين للأشعرى 1/ 238 والملل والنحل ص 85 - 91. والفرق بين الفرق ص 211 - 215. والتبصير فى الدين ص 63 وما بعدها، وشرح المواقف ص 59، 60 من التذييل.
(2) أتباع الجهم بن صفوان وقد سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 5/ أ.
(11) // أول ل 146/ ب.
(3) أصحاب الإمام الأشعرى انظر عنه ما سبق فى الجزء الأول هامش ل 3/ أ.
(4) راجع عنهم ما مر فى ل 255/ ب وهامشها.
(5) أصحاب ضرار بن عمرو- انظر عنه ما سبق فى الجزء الأول فى هامش ل 72/ ب.
(6) أصحاب حفص الفرد- انظر عنه ما سبق فى الجزء الأول فى هامش ل 231/ أ.
(5/91)
________________________________________
أما المتوسطة: فقد عرف مذهبهم فيما تقدم.
وقد زعمت الجهمية الخالصة: أن الإنسان لا يوصف بالاستطاعة على الفعل بل هو مجبور بما يخلقه الله- تعالى- له من الأفعال، على حسب ما يخلقه فى سائر الجمادات. وأن نسبة الفعل إليه إنما هو بطريق المجاز، كما يقال: جرى الماء، وطلعت الشمس وتغيمت السماء، وأمطرت، واهتزت الأرض، وأنبتت، وأثمرت الشجرة، إلى غير ذلك .. وإن لم يكن ذلك من فعل المنسوب إليه، ولا من كسبه، وهذا فقد أبطلناه فيما تقدم فى القدر الحادثة.
وزعموا أيضا أن الله- تعالى- لا يعلم الشيء قبل وقوعه، وأن علومه حادثة لا بمحل، وقد أبطلناه أيضا.
ومن مذهبهم: امتناع اتصاف الرب- تعالى- بما يصح أن يوصف به غيره؛ لأن ذلك مما يوجب التشبيه، وذلك ككونه شيئا، وحيا، وعالما، ولا يمنعون من اتصافه بما لا يشاركه فيه غيره، ككونه خالقا، وفاعلا ..
ويلزمهم من ذلك إبطال أكثر ما ورد به القرآن، والسنة من الأسماء الحسنى؛ كالرحيم والعالم، والشاكر، والشكور، والوتر، والحى، والسميع والبصير، واللطيف، والخبير، والحكيم ونحو ذلك؛ وهو خلاف النصوص، والإجماع.
ومن مذهبهم: أن الجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما إليها ويفنى ما فيهما، حتى لا يبقى غير الله تعالى.
وفيه تكذيب لقوله- تعالى: أُكُلُها دائِمٌ وظِلُّها «1»، وقوله تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ «2»: أى غير مقطوع، وقوله- تعالى- فى أهل النار:/ خالِدِينَ فِيها «3».
ومن مذهبهم أيضا: موافقة المعتزلة فى نفى الرؤية، وإثبات خلق الكلام، وإيجاب المعارف بالعقل، قبل ورود الشرع؛ وهو باطل بما سبق «4».
________________
(1) سورة الرعد: 13/ 35.
(2) سورة هود: 11/ 108.
(3) سورة هود: 11/ 107.
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول: ل 123/ أ وما بعدها، ول 82/ ب وما بعدها. وما ورد فى الجزء الثانى ل 215/ ب وما بعدها.
(5/92)
________________________________________
[«الفرقة السابعة»] وأما المشبّهة «1»:
فقد اتفقوا على تشبيه الإله- تعالى- بالمخلوقات وتمثيله بالحادثات، ولذلك جعلناهم فرقة واحدة، وإن كانت طرقهم فى التشبيه متفاوتة وأقاويلهم فيه مختلفة.
فمنهم مشبهة غلاة الشيعة «2»:
كالسبائية، والبيانية، والمغيرية، والجناحية والخطابية، والذمية، والهشامية، والزرارية، والرزامية، والنصيرية، والإسحاقية على ما حققناه من مذاهبهم القائلة بالتجسيم، والحركة، والانتقال، والحلول فى الأجسام إلى غير ذلك.
ومنهم مشبهة الحشوية:
كمضر، وكهمس، والهجيمى، وغيرهم؛ فقد نقل عنهم أنهم أجازوا على ربهم الملامسة، والمصافحة، والمعانقة، للمخلصين، وأنهم يرونه فى الدنيا، ويزورونه، ويزورهم، حتى نقل عن بعضهم أنه قال اعفونى عن الفرج واللحية، واسألونى عما وراء ذلك.
وقال: إن معبوده، جسم من لحم، ودم، وله جوارح، وأعضاء من يد، ورجل ورأس وعينين، ولسان، وأذنين، وأنه أجوف الأعلى، مصمت الأسفل، وأنهم أجروا كل ما ورد من أخبار الصفات، على ما تقدم فى إبطال التشبيه «3» على ظاهرها.
ومنهم مشبهة الكرامية:
أصحاب أبى عبد الله بن محمد بن كرام «4» وفرقهم متعددة وأقوالهم فى التشبيه مختلفة، غير أنها لم تكن منسوبة إلى أئمة معتبرين آثرنا
________________
(1) المشبهة: هم كل من شبه ذات البارى- تعالى- بذات غيره من المخلوقين ومنهم من شبه صفاته بصفات غيره.
وهم أصناف: فمنهم جماعة من الشيعة الغالية: كالهشاميين وغيرهم ومنهم جماعة من حشوية المحدثين مثل:
مضر. وكهمس، وأحمد الهجيمى وغيرهم وقد جعلهم سيف الدين الآمدي فرقة واحدة، وإن كانت طرقهم فى التشبيه متفاوتة، وأقاويلهم فيه مختلفة كما سيتضح لنا ذلك بالتفصيل فيما يلى: أما عن أصنافهم، وآرائهم بالتفصيل والرد عليهم: فانظر: الجزء الأول من هذا الكتاب- تحقيقنا ل 142/ أ إلى ل 166/ أ والملل والنحل للشهرستانى ص 103 - 113 وما بعدها. والتمهيد للباقلانى ص 148 وما بعدها والفرق بين الفرق للبغدادى ص 215 وما بعدها وأصول الدين له أيضا والتبصير فى الدين للأسفراييني ص 65 وما بعدها.
(2) راجع آراء غلاة الشيعة فيما مر ل 247/ أ وما بعدها.
(3) راجع آراءهم والرد عليهم فيما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الرابع:
فى إبطال التشبيه وما لا يجوز على الله تعالى. ل 142/ أ وما بعدها.
(4) هو أبو عبد الله محمد بن كرام. مؤسس مذهب الكرامية، عاش في أواخر القرن الثانى للهجرة حتى منتصف القرن الثالث وتوفى سنة 255 ه. لتوضيح مذهبه انظر الملل والنحل للشهرستانى 1/ 108 وما بعدها ومن الدراسات الحديثة: انظر نشأة الفكر والفلسفى للنشار 1/ 405 وما بعدها والتجسيم عند المسلمين (مذهب الكرامية) د. سهير مختار. شركة للطباعة والنشر سنة 1971 م. وما مر فى هامش ل 65/ أ من الجزء الأول.
(5/93)
________________________________________
الإعراض عن الأقوال الشاذة لهم، واقتصرنا على أقوال زعيمهم، والمشهور منهم وقد اتفقوا على أن الله- تعالى- مستقر على العرش مماس له من الصفحة العليا وأنه بجهة فوق بذاته، وأنه مما تجوز عليه الحركة والانتقال، والنزول. ومنهم من قال: امتلأ به العرش.
ومنهم من قال: إنه على بعض العرش، ومنهم من قال: إنه محاذى للعرش، لكن منهم من قال: بينهما بعد متناه، ومنهم من قال: بعد غير متناه، ومنهم من أطلق لفظ الجسم عليه تعالى، ثم منهم من أثبت كونه متناهيا من جميع جهاته، ومنهم من أثبت له النهاية من جهة تحت، دون غيرها، ومنهم من نفى عنه النهاية مطلقا.
واتفقوا على جواز حلول الحوادث بذاته، وأنها زائدة على الحوادث الخارجة عن ذاته، وزعموا أنه إنما يقدر على الحوادث «11» // الحادثة فى ذاته دون غيرها، وأوجبوا على الله- تعالى-، أن يكون أول شيء خلقه حيا يصح منه الاستدلال.
وزعموا أن الرسالة، والنبوة صفتان قائمتان بذات الرسول سوى الوحى إليه، وسوى أمر الله- تعالى- له بالتبليغ عنه، وسوى إظهار المعجزة على يده، وسوى عصمته عن المعاصى، وأن من كان فيه تلك الصفة فإنه يجب على الله تعالى- إرساله.
وفرقوا بين الرسول والمرسل من جهة/ أن الرسول رسول للمعنى الّذي قام به والمرسل مرسل؛ لأن الله- تعالى- أرسله.
وأجازوا أن يكون الرسول غير مرسل، ولم يجيزوا مرسلا غير رسول، وأن الرسول لا يجوز عزله عن كونه رسولا، بخلاف المرسل، وزعموا أنه لا يجوز فى الحكمة الاقتصار على رسول واحد.
وجوزوا وجود إمامين فى عصر واحد، وقضوا بأن عليا، ومعاوية كانا إمامين فى عصر واحد، غير أن إمامة عليّ على وفق السنة، وإمامة معاوية على خلاف السنة، ومع ذلك أوجبوا طاعة رعيته له.
وزعموا أيضا أن الإيمان هو الإقرار الّذي وجد فى الذر حين قال تعالى: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» فقولهم: بلى فى الذر هو الإيمان، وأن ذلك الإيمان باق فى جميع
________________
(11) // أول ل 147/ أ.
(1) سورة الأعراف: 7/ 172.
(5/94)
________________________________________
الخلائق على السوية غير المرتدين، وأن إيمان المنافقين مع كفرهم كإيمان الأنبياء- عليهم السلام- لاستواء الجميع فى ذلك القول، وأن الإتيان بالشهادتين ليس بإيمان، إلا إذا قيلت بعد الردة وأن تكرار الإيمان، ليس بإيمان. هذا حكاية مذاهب المشبهة.
وأما نحن- فقد أبطلنا فيما تقدم كل، ما قالوه من التجسيم، والتصوير والحركة والانتقال، والتحديد، والنهاية، والحلول، والجهة، والاستقرار على العرش، وحلول الحوادث فى ذاته تعالى، وإيجاب الفعل على الله تعالى، والحجر. عليه كل قول فى موضعه «1».
وبينا أيضا أن الرسول لم يكن رسولا لمعنى فى ذاته، ولا لصفة من صفاته وأنه لا معنى لكونه رسولا؛ غير قول الله- تعالى- له أرسلتك وأنت رسولى؛ فبلغ عنى.
وعلى هذا فقد بطل قولهم: أنه لا يكون رسولا، وهو غير مرسل، وأن الرسول لا يجوز عزله، بخلاف المرسل.
وأما قولهم: بجواز نصب إمامين فى قطرين، فى عصر واحد؛ فليس ذلك بدعا، وهو مختلف فيه عند أصحابنا، كما يأتى.
وإنما العجب من قولهم بوجوب طاعة معاوية مع الاعتراف، بأن إمامته على خلاف السنة كيف وإن الأمة من السلف مجمعة على أن معاوية، لم يكن إماما فى زمن إمامة على.
وما ذكروه فى فصل الإيمان من أن الإيمان: هو الإقرار الموجود فى الذر، وأن تكرار الإيمان، ليس بإيمان يوجب أن لا يكون أحد، غير المرتدين مأمورا بالإيمان، وأن يكون المنافق الكافر مؤمنا؛ وهو خلاف إجماع الأمة من السلف.
فهذه هى الفرق الضالة الهالكة المستوجبون النار، بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهى اثنان وسبعون فرقة. عشرون قدرية، واثنان وعشرون شيعة، وعشرون خوارج، وخمس مرجئة، وثلاث نجارية، وفرقة جبرية، وفرقة مشبهة.
________________
(1) انظر ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول ل 40/ ب وما بعدها.
(5/95)
________________________________________
وأما ما وراء ذلك من الفرق الهالكة، وأرباب الأقوال المضلة؛ فإنها وإن كانت متكثرة خارجة عن الحصر، غير أن منها ما هو متفرع على ما سبق من أقوال الفرق الهالكة، ومنها ما هو من أقوال العوام الطغام، وحثالة الناس، ومن لا يؤبه له؛ لعدم أصالته فى العلم، وخساسته بين أهل النظر. فلذلك لم/ يعدوا من أرباب المقالات، ولم يعتد بوفاقهم، ولا خلافهم.
[«الفرقة الثامنة»] وأما الفرقة الناجية:
وهى الثالثة والسبعون فهى ما كانت على ما كان النبي- صلى اللّه عليه وسلم- وسلف الصحابة على ما سبق، من قوله- عليه السّلام- حين قيل له من الفرقة الناجية قال: «هم الذين على ما أنا عليه وأصحابى»
وهذه الفرقة هى: الأشاعرة، والسلفية من المحدّثين وأهل السنة والجماعة. وذلك لأنهم «11» // لم يخلطوا أصولهم بشيء من بدع القدريّة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، والنّجارية، والجبرية، والمشبهة مما سبق تحقيقه من بدعهم وأقوالهم «1».
بل هم مجمعون على حدوث العالم، ووجود البارئ- تعالى-، وأنه لا خالق ولا مبدع سوى الله- تعالى-، وأنه قديم لم يزل، ولا يزال، وأنه متصف بصفات الجلال من العلم، والقدرة، والإرادة، ونحو ذلك مما سبق تحقيقه.
وأنه لا شبيه له ولا نظير، وأنه لا يحل فى شيء، ولا هو محل للحوادث، وأنّه ليس فى جهة، ولا حيز، ولا يجوز عليه الحركة، والانتقال، وأنه يستحيل عليه الجهل، والكذب وسائر صفات النقص، وأنه لا شريك له، ولا ضد، ولا ند، وأنه مرئى للمؤمنين فى الآخرة وأنه لا يكون إلا ما يريد، وما أراده فهو كائن، وأنه غنى عن خلقه غير محتاج إلى شيء، وأنه لا يجب عليه شيء، بل إن أثاب فبفضله، وإن عاقب فبعد له، وأنه بريء عن المقاصد، والأغراض فى فعله، ولا يوصف فيما يفعله، بجور، ولا
________________
(11) // أول ل 147/ ب.
(1) انظر عن المبتدعة ما مر بالتفصيل من ل 243/ ب إلى نهاية ل 257/ أ من هذه القاعدة- الفصل الثالث: فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟
(5/96)
________________________________________
ظلم، وأنه واحد غير متبعض، ولا له حد، ولا نهاية، وأنه غير محجور عليه فى فعله؛ بل ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وله الزيادة، والنقصان فى مخلوقاته، ومبتدعاته «1».
وأجمعوا علي المعاد، والمجازاة، والمحاسبة، وخلق الجنة، والنار، وخلود نعيم أهل الجنة، وخلود عذاب أهل النار من الكفار، وجواز العفو عن المذنبين، وشفاعة الشافعين.
وعلى جواز بعثة الرسل، والاعتراف بكل من بعث، وأيد بالمعجزات من الرسل والأنبياء، من آدم إلى محمد- صلى اللّه عليه وسلم-.
وأن أهل بيعة الرضوان، وأهل بدر من أهل الجنة، وأما فى الإمامة فعلى ما سيأتى تحقيقه «2».
فإن قيل: فإذا كان حكم أهل البدع، والأهواء من الفرق الضالة أنها هالكة من أهل النار فى الآخرة. فما حكمهم فى الدنيا؟
قلنا: اختلف المسلمون فى ذلك. فنقل عن الشيخ أبى الحسن الأشعرى وكثير من أصحابه وعن جماعة من أئمة الفقهاء: كالشافعى، وأبى حنيفة، أن مخالفى الحق من أهل القبلة مسلمون، حتى نقل عن الشافعى- رضي اللّه عنه- أنه قال: لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء غير الخطابية «3»؛ فإنهم يعتقدون جواز الشهادة لأوليائهم على أعدائهم زورا، ومن أصحابنا من قال بتكفيرهم «4».
________________
(1) قارن بما ذكره الشيخ الأشعرى فى الإبانة- الباب الثانى: فى إبانة قول أهل الحق والسنة من ص 57 - 67 «قال:
فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية والرافضة، والمرجئة فعرفونا قولكم الّذي به تقولون، وديانتكم التى بها تدينون. قيل له: قولنا الّذي نقول به، وديانتنا التى ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا- صلى اللّه عليه وسلم- وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ... وجملة قولنا» ثم ذكر الأقوال بالاجمال وهى إحدى وخمسون قولا، ثم شرحها بالتفصيل. فى ص 68 وما بعدها.
(2) انظر ما سيأتى في قاعدة الإمامة ل 263/ أ وما بعدها.
(3) الخطابية: إحدى فرق غلاة الشيعة وهى الفرقة: السابعة يستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم انظر عنهم بالتفصيل ما مر ل 248/ أ وما بعدها.
(4) انظر أصول الدين للبغدادى ص 340 الأصل الخامس عشر: فى بيان أحكام الكفر- المسألة الرابعة عشرة من هذا الأصل فى أنكحة أهل الأهواء، وذبائحهم، ومواريثهم. حيث وضح رأى أهل السنة فيهم بالتفصيل.
وانظر أيضا المسألة الخامسة عشرة من هذا الأصل: فى حكم دور أهل الأهواء ص 342 وما بعدها. حيث وضح رأى أهل السنة فى دورهم ومعاملاتهم بالتفصيل.
(5/97)
________________________________________
[أسباب الحكم على الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة]
أما القدرية فمن وجوه سبعة:
الأول: لقوله عليه الصلاة والسلام/: «القدرية مجوس هذه الأمة» «1».
وقد اختلف أصحابنا فى حكم تمجيسهم:
فمنهم من قال إنهم مجوس، بمعنى لو بذلوا ما لا يحقنون به دماؤهم قبل منهم، غير أنه لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، ولو قتل واحد منهم، بغير حق، وكان قاتله من أهل السنة، فعليه مثل دية المجوسى، وهو اختيار الأستاذ أبى إسحاق «2».
ومنهم من قال حكمهم حكم المرتدين؛ فلا تقبل منهم الجزية، ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، ولا دية على قاتل واحد منهم، وإن لحق واحد منهم بدار الحرب، وسبى لا يسترق.
الثانى: إنكارهم للصفات، وجهلهم بالله- تعالى- «3».
الثالث: لمخالفتهم لإجماع الأمة على أن فعل الله- تعالى- خير من فعل غيره حيث قالوا، بأن الإيمان من فعل العبد، مع كونه خيرا من كل حادث.
الرابع: قولهم بخلق القرآن، ومخالفتهم لقوله- عليه السّلام- «من قال القرآن مخلوق فهو كافر» «4».
الخامس: إنكارهم كون الرب- تعالى- مريدا لجميع الكائنات، ومخالفة الإجماع فى قولهم: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» «5».
السادس: إنكارهم للرؤية، وقد قال الله تعالى: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ «6».
________________
(1) رواه أبو داود رقم (4691) فى السنة: باب فى القدر، والحاكم فى «المستدرك» 1/ 85 من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنهما مرفوعا بلفظ: «القدرية مجوس هذه الأمة» وأحمد فى المسند 2/ 86 من حديث ابن عمرو وأيضا بلفظ: «لكل أمة مجوس ومجوس أمتى الذين يقولون لا قدر» ورواه أحمد أيضا فى المسند 5/ 406، 407 وله شواهد بالمعنى عند الحاكم 1/ 85 من حديث أبى هريرة عن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما بلفظ: «لا تجالسوا أهل القدر، ولا تفاتحوهم» وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.
(2) سبقت ترجمته فى هامش ل 5/ أ من الجزء الأول.
(3) انظر ما مر فى القاعدة الرابعة- النوع الثانى: فى الصفات ص 295 - 473، فقد ذكر الآمدي بدعتهم فى إنكار الصفات، ورد عليها بالتفصيل.
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الثانى- المسألة الخامسة: فى إثبات صفة الكلام لله- تعالى. ل 82/ ب وما بعدها.
(5) انظر ما مر ل 288/ أ وما بعدها من الجزء الأول.
(6) سورة السجدة: 32/ 10.
(5/98)
________________________________________
السابع: إثباتهم كون المعدوم شيئا «1»، وذاتا ثابتة فى العدم، مع إنكار قدمائهم للأحوال، وذلك يوجب كون الذوات، ووجودها واحدا؛ ويلزم منه قدم الجواهر والأعراض، وخروجها عن أن تكون حاصلة بفعل الله.
وأما الشيعة والخوارج:
فلتكفيرهم أعلام الصحابة ومن شهد له القرآن، وقول الرسول المعصوم بالتزكية والإيمان، وأنه من أهل الجنة على ما سبق؛ فيكون ذلك تكذيبا لله وللرسول، ومكذب الله والرسول يكون كافرا، ولأن الأمة مجمعة «11» // على أن من كفر أحدا من الصحابة: فهو كافر، ولأن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- قال: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» «2»، وتكفير من كفر الصحابة- رضى الله عنهم- أولى.
أما المشبهة:
فمن وجوه ثلاثة:
الأول: لاعتقادهم أن الله تعالى جسم، وجهلهم به.
الثانى: كونهم عابدين للجسم وهو غير الله- تعالى-؛ فكان كفرا كعابد الصنم.
الثالث: أنه قال- تعالى-: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «3» وإنما كفرهم لقولهم: بأن غير الله هو الله، ومن قال بأن الجسم إله فقد قال بأن غير الله، هو الله؛ إذ الجسم غير الله.
وأما الأستاذ أبو إسحاق فقد قاله: من كفرنى كفرته، وإلا فلا.
والمختار: إنما هو التفصيل،
وهو أن ما كان من البدع المضلة، والأقوال المهلكة، يرجع إلى اعتقاد وجود إله غير الله، وحلول الإله فى بعض أشخاص الناس.
________________
(1) راجع ما مر فى الباب الثانى- الفصل الرابع: فى أن المعدوم هل هو شيء وذاته ثابتة في حالة العدم أم لا؟ ل 108/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 148/ أ.
(2) الحديث متفق على صحته رواه البخارى فى صحيحه 1/ 514 (كتاب الأدب باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال) عن أبى هريرة، وعن عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما. وأخرجه مسلم فى صحيحه 1/ 79 (كتاب الإيمان- باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر) عن ابن عمر رضى الله عنه.
(3) سورة المائدة 5/ 17.
(5/99)
________________________________________
كما هو المنقول عن بعض غلاة الشيعة: كالحابطية، والسبائية، والجناحية، والذمية، والرزامية، والنصيرية، والإسحاقية «1».
أو إلى إنكار رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم وذمه، كالمنقول/ عن الغرابية، والذمية «2».
أو إلى استباحة المحرمات، وإسقاط الواجبات الشرعية، وإنكار ما جاء به الرسول:
كقول الجناحية، والمنصورية والخطابية، والإسماعيلية «3»، فذلك مما لا نعرف خلافا بين المسلمين فى التكفير به.
وأما ما عدا ذلك مما أشرنا إليه من المقالات المختلفة: فلا يمتنع أن يكون معتقدها وقائلها مبتدعا غير كافر؛ وذلك أنه لو توقف الإيمان على أمر غير التصديق بالله تعالى ورسوله، وما جاء به من معرفة المسائل، المختلف فيها فى أصول الديانات، مما عددناه؛ لكان من الواجب على النبي- صلى اللّه عليه وسلم-، أن يطالب الناس بمعرفته والبحث عن كيفية اعتقاده، كما وجب عليه المطالبة بالشهادتين، والبحث عن اعتقادها، وكيفيتها، وحيث لم يجر منه شيء من ذلك في زمانه، مع العلم بأن آحاد العربان، ومن لم يكن له قدم راسخ، فى النظر والاستدلال، لم يكن عارفا بآحاد تلك المسائل، ولا عالما بها، علم أن ذلك مما لا يتوقف عليه أصل الدين، وعليه جرى الصحابة، والتابعون إلى وقتنا هذا.
وما لا يكون شرطا فى الإيمان، ولا يكون الإيمان متوقفا عليه؛ فالجهل به لا يكون كفرا.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «القدرية مجوس هذه الأمة» «4»، فخبر واحد وخبر الآحاد، لا يثبت التكفير.
والقول بأنهم أنكروا الصفات، لا نسلم أن من أنكر الصفات كافر؛ إذ هى دعوى محل النزاع.
قولهم: لأنهم جاهلون بالله- تعالى-.
قلنا: مطلقا أو من وجه، الأول ممنوع- فإن أحدا من أهل القبلة لم يكن جاهلا بالله- تعالى- مطلقا. والثانى مسلم؛ ولكن لا نسلم أن ذلك يكون موجبا للتكفير [و لو
________________
(1) انظر عن الفرق ما مر ل 247/ أ وما بعدها.
(2) انظر عنهما، ما مر ل 248/ أ وما بعدها.
(3) انظر عن هذه الفرق ما مر ل 247/ ب وما بعدها.
(4) سبق تخريجه فى هامش ل 258/ أ.
(5/100)
________________________________________
كان ذلك موجبا للتكفير] «1»؛ فلا يخفى أن أصحابنا أيضا قد اختلفوا في صفات زائدة على ما أثبتناه من الصفات؛ فيلزم أن من أنكر الصفات الزائدة أن يكون كافرا أيضا.
والقول بأنهم خالفوا إجماع الأمة فى أن فعل الله خير من فعل العبد، لا نسلم أن مخالف الإجماع مطلقا كافر.
ولهذا فإنه لو أعتقد المعتقد أن الماء ليس بمرو؛ فإنه لا يكون كافرا بالإجماع؛ وإن كانت الأمة مجمعة على كونه مرويا.
والقول بأنهم قالوا بخلق القرآن؛ لا نسلم أن من قال بذلك يكون كافرا، وقوله عليه السّلام: «من قال القرآن مخلوق فهو كافر» خبر واحد فلا يثبت به التكفير.
وإن ثبت به التكفير، ولكن متى؟ إذا أريد به الخلق بمعنى الإحداث، أو بمعنى الكذب، الأول: ممنوع، والثانى: مسلم.
وأحد من أهل القبلة: «لا يقول القرآن مخلوق بمعنى أنه كذب».
والقول بأنهم أنكروا كون الرب- تعالى- مريدا لجميع الكائنات؛ لا نسلم أنه كفر.
قولهم: إنهم خالفوا الإجماع في قولهم: ما شاء الله كان/ وما لم يشأ لم يكن إنما يصح أن لو كان حرف ما نصا فى العموم- وليس كذلك- وإن كان نصا في العموم؛ فغايته مخالفة الإجماع.
ولا نسلم أنه كفر مطلقا على ما تقدم.
والقول بأنهم أنكروا الرؤية مسلم، ولكن لا نسلم أن إنكار الرؤية كفر، وقوله تعالى:
بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ «2» إنما يلزم منه التكفير بإنكار الرؤية أن لو كان المراد باللقاء الرؤية، وهو غير مسلم، بل أمكن أن يكون المراد به، ثواب ربهم وعقابه، لا رؤية الله- تعالى-، وواحد من أهل القبلة لا ينكر ذلك.
والقول بأنهم أثبتوا كون «11» // المعدوم شيئا، لا نسلم أنه كفر؛ بل الكفر إنما هو اعتقاد قدم وجود الجواهر، والأعراض، ولا يلزم من قدم ثبوتها، قدم وجودها؛ إذ الثبوت أعم من الوجود كما تقدم من مذهبهم.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) سورة السجدة: 32/ 10.
(11) // أول ل 148/ ب.
(5/101)
________________________________________
وغاية ما يلزم من إنكار الأحوال على رأى قدماء المعتزلة، إنكار كون الوجود حالا، ولا يلزم من ذلك اتحاد معنى الذات، والوجود.
وأما تكفير الروافض، والخوارج، بتكفيرهم لبعض الصحابة؛ فدعوى محل النزاع.
قولهم: بأنهم كذبوا الله ورسوله، إنما يلزم ذلك مع اعتقاد تناول التزكية من الله ورسوله لمن آمن، وليس كذلك.
وما ورد فى حق آحاد الصحابة ممن قضوا بتكفيره، فأخبار آحاد لا يكفر مخالفها وبتقدير أن تكون متواترة، فإنما يلزم التكذيب والكفر فى حق الروافض، والخوارج، أن لو لم يكن ذلك بتأويل، وأما إذا كان بتأويل فلا نسلم التكفير لمن كفر بعض الصحابة.
وعلى هذا- فلم قلتم إن تكفيرهم لهم من غير تأويل، ووجه التأويل يحمل ما ورد في حقهم على شرط سلامة العاقبة من الكفر، وسلامة العاقبة غير معلومة وإلا كان الصحابة معصومين من الكفر؛ ولم يقل به قائل.
قولهم: إن الأمة مجمعة على أن من كفر أحدا من الصحابة فهو. كافر.
قلنا: مع التأويل، أولا مع التأويل الأول: ممنوع، والثانى مسلم، فلم قالوا: إن الروافض، والخوارج غير متأولين فى تكفيرهم لبعض الصحابة، وقوله- عليه السّلام-: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما» من أخبار الآحاد؛ فلا يحتج به فى التكفير، وبتقدير أن يكون متواترا فيتعذر حمله على ظاهره.
ولهذا فإن من ظن بشخص أنه يهودى فقال له: يا كافر؛ فإنه لا يلزم منه كفر واحد منهما، فلا بد من التأويل.
وعند هذا فأمكن تأويله بما إذا قال له يا كافر مع اعتقاد إسلامه، وذلك لم يتحقق فيما نحن فيه.
وأما تكفير المشبهة: باعتقادهم كونه- تعالى- جسما إنما يلزم ذلك إن قالوا: إنه جسم كالأجسام، وليس كذلك.
قولهم: إنهم جاهلون بالله؛ فجوابه على ما سبق.
قولهم: إنهم عبدوا الجسم وهو غير الله، ومن عبد غير الله فهو/ كافر، إنما يلزم ذلك مع اعتقاده، أن ما عبده غير الله- وليس كذلك- وخرج عليه عابد الصنم؛ فإنه يعتقد أنه غير الله.
(5/102)
________________________________________
قولهم: من أعتقد كون الجسم إلها؛ فقد اعتقد غير الله إلها، ومن اعتقد غير الله إلها؛ فقد كفر لقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «1».
قلنا: أمكن أن يكون تكفير من اعتقد كون المسيح إلها؛ لكونه جسما كالأجسام وذلك غير متحقق فيما نحن فيه؛ فلا يلزم التكفير.
فإن قيل: قولكم: لو توقفت أصول الدين على معرفة هذه المسائل؛ لوجب على النبي- صلى اللّه عليه وسلم- المطالبة به، والبحث عنه كما فى الشهادتين؛ فلا نسلم أنه لم يكن مطالبا بها؛ فإنا نعلم أنه كان يطالب الناس بمعرفة ما فى كتاب الله، وسنة رسوله والكتاب والسنة مشتملان على آحاد هذه المسائل، ولهذا وجدنا كل واحد من أرباب المقالات محتجا في نصرة ما يراه بكثير من آي الكتاب، والأخبار.
وإن سلمنا أنه لم يطالبهم بذلك، ولم يبحث عنه؛ ولكن لا يدل ذلك على عدم توقف أصل الدين عليه، ولهذا فإنه لم ينقل عنه أنه باحثهم فى حدوث العالم، ووجود الصانع، ودلالة المعجزة على صدق الرسول؛ مع أنه لا يصح أصل الدين دون معرفة هذه الأمور.
ثم وإن سلمنا أن آحاد هذه المسائل مما لا يتوقف عليها أصل الدين؛ فلا خلاف أن أصل الدين متوقف على معرفة وجود الصانع، ووحدانيته، ومعرفة الرسول، ودلالة المعجزة على صدقه.
وما ذكرتموه من كون العبد غير فاعل لأفعاله، ومن إثبات الصفات مما يفضى إلى الإخلال بمعرفة هذه الأصول، فالقائل بكون العبد غير فاعل، وبإثبات الصفات؛ فيكون كافرا؛ فأنتم كفار.
وبيان ذلك هو أن من قال العبد غير خالق لأفعاله؛ فإنه يلزمه من ذلك سد باب إثبات الصانع، ومعرفة صدق الرسول.
أما الأول: فلأن الطريق فى معرفة إثبات الصانع، واحتياج العالم فى حدوثه إلى الفاعل؛ إنما هو قياسه على حاجة أفعالنا إلينا فى حدوثها، فمن أنكر كون العبد فاعلا لأفعاله؛ فقد سد باب إثبات الصانع.
________________
(1) سورة المائدة: 5/ 72.
(5/103)
________________________________________
أما الثانى: فهو أن أفعال العبيد منها ما هو قبيح: كالمعاصى، فلو كان الرب هو الفاعل لها؛ لكان فاعلا للقبائح، ولو جاز ذلك عليه؛ لجاز عليه إظهار المعجزات على أيدى «11» // الكذابين، ولا يبقى مع ذلك الوثوق بصدق الرسول.
[و أما إثبات الصفات؛ فإنه يجر إلى وجود آلهة غير الله، وإلى امتناع الوثوق بصدق الرسول] «1».
أما الأول: فهو أن القدم أخص وصف الإله تعالى- كما سبق فمن أثبت صفات قديمة زائدة على الذات، فقد أثبت قدماء كثيرين والقدماء آلهة، ومن أثبت/ إلها غير الله تعالى-؛ فهو كافر لقوله- تعالى-: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «2».
وأما الثانى: فلأنه لا يلزم من كونه مريدا، بإرادة قديمة لكل الكائنات أن يكون مريدا، للقبائح؛ إذ هى من جملة الكائنات، وتجويز ذلك على الله- تعالى- يوجب تجويز إظهار المعجزة على أيدى الكذابين، على ما تقدم؛ وذلك مما يتعذر معه معرفة صدق الرسول.
والجواب:
قولهم: إنه كان يطالب الناس بمعرفة ما فى الكتاب، والسنة، والكتاب، والسنة مشتملان على هذه المسائل.
قلنا: ليس كذلك؛ فإن من جملة الكتاب، والسنة- وإن كانا مشتملين على هذه المسائل، غير أن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- كان فى ابتداء البعثة يحكم بإيمان من أقر بالشهادتين مطلقا، مع أن الكتاب، والسنة لم يكونا موجودين برمتهما فى ابتداء البعثة؛ لأن الكتاب، والسنة إنما وردا شيئا فشيئا إلى آخر حياته عليه الصلاة والسلام، وما لم يكن موجودا فى ابتداء الإسلام؛ فلا يكون معلوما.
وإن سلمنا تكامل الكتاب، والسنة فى ابتداء الإسلام، غير أنا نعلم أن آحاد العربان، ومن لم يكن من أهل النظر، والمعرفة لم يكن عالما بما يشتمل عليه الكتاب، والسنة، ومع ذلك فإنه كان محكوما عليه بإيمانه، بمجرد الإقرار بالشهادتين ولو توقف الإيمان على معرفة هذه المسائل؛ لما حكم بإيمانه إلا بعد تكامل معرفته بها.
________________
(11) // ل 149/ أ.
(1) ساقط من (أ).
(2) سورة المائدة: 5/ 73.
(5/104)
________________________________________
قولهم: كما أنه لم يبحث معهم فى هذه المسائل، لم يبحث معهم فى حدوث العالم، ووجود الصانع، ودلالة المعجزة على صدق الرسول.
قلنا: إنما لم يبحث معهم فى حدوث العالم، ووجود الصانع، ودلالة المعجزة على صدق الرسول؛ لأن أدلة هذه الأمور ظاهرة جلية لا تخفى على عاقل؛ وذلك لأن العالم فى غاية الحكمة والإتقان؛ فدلالته على وجود الصانع الفاعل له ضرورية، ودلالة كونه مفعولا لفاعل على كونه حادثا أيضا ضرورية، وإلا كان الفاعل محصلا للحاصل؛ وهو محال.
وأما دلالة المعجزة على صدق الرسول؛ فضرورية أيضا كما سبق تعريفه، وإنما وقع الإشكال، والتطويل فى دفع ما أورده المخالفون من الشبه، وهذا بخلاف أدلة سائر المسائل النظرية، فافترقا.
قولهم: بأن القول بكون العبد غير خالق لأفعاله، وبإثبات الصفات، مما يفضى إلى سد باب إثبات الصانع، ومعرفة دلالة المعجزة على صدق الرسول؛ فيكون كفرا؛ ليس كذلك.
قولهم: إنه لا طريق إلى معرفة احتياج حدوث العالم إلى صانع غير القياس على أفعالنا، لا نسلم الحصر فى ذلك وبيانه، مما سبق فى طرق إثبات الإله تعالى «1».
قولهم: لو كان موجدا لأفعال العبيد؛ لجاز عليه فعل القبائح، ويلزم من ذلك جواز إظهار المعجزة على أيدى الكذابين؛ إنما يلزم أن لو كانت/ صفة القبح معنى وجوديا، وأمرا ذاتيا، وليس كذلك على ما تقدم «2»؛ وعلى هذا، فلا يتصور أن يكون القبح صادرا عنه.
قولهم: إثبات الصفات يفضى إلى إثبات آلهة غير الله- تعالى-؛ فقد سبق جوابه الصفات «3».
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- فى إثبات واجب الوجود بذاته وبيان حقيقته ووجوده. ل 41/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع السادس- الأصل الأول ل 175/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الثانى- فى الصفات النفسانية لذات واجب الوجود ل 54/ ب وما بعدها.
(5/105)
________________________________________
فإن قيل: فمن قضيتهم بكفره من أهل الأهواء، ما حكمهم فى مبايعتهم، وقتلهم وتوبتهم؟ وما حكم أموالهم؟.
قلنا: حكمهم حكم المرتدين، ولا تقبل منهم جزية، ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، ولا دية على قاتل واحد منهم، وإن لحق واحد منهم بدار الحرب، وسبى لا يسترق ولو تاب واحد منهم؛ فإن كان ذلك ابتداء منه من غير خوف؛ قبلت توبته، وإن كان ذلك خوفا من القتل بعد الظهور على بدعته؛ فقد اختلف فى قبول توبته.
فقبلها الشافعى، وأبو حنيفة- رضي الله عنهما- ومنع من ذلك مالك وبعض أصحاب الشافعى، وهو اختيار الأستاذ أبى إسحاق.
ولو قتل واحد منهم، أو مات، فما له مخمس عند الشافعى، وأبى حنيفة، وعند مالك ما له كله فيء لا خمس فيه لأهل الخمس.
والله أعلم بالصواب.
(5/106)
________________________________________
الفصل الخامس فى أن الكفار هل هم معذورون أم لا؟ وفى حكم المصيب فى الاعتقاد من غير دليل «1»
اتفق المسلمون على أن «11» // الكفار، إذا كانوا معاندين بكفرهم، بأن كفروا بعد ظهور الحق لهم؛ فهم مخلدون فى النار غير معذورين.
وأما إن نظروا وبالغوا فى الاجتهاد فأداهم النظر، والاجتهاد إلى الكفر، وعجزوا عن درك الحق فمذهب أهل الحق: أنهم أيضا كالمعاندين فيما يرجع إلى الخلود فى النار «2».
وذهب الجاحظ: إلى أنهم معذورون؛ لأنهم أدوا ما يجب عليهم من الاجتهاد فأداهم إلى ما يعتقدونه حقا، وهم ملازمون له، خوفا من الله- تعالى-، وكذلك الخلاف فيما إذا لم ينظروا؛ من حيث لم يعرفوا وجوب النظر.
وزاد عبد الله بن الحسن العنبرى على الجاحظ، وزعم أن كل مجتهد فى العقليات مصيب كما فى الفروع الشرعية.
والحق أن ما ذكره الجاحظ غير ممتنع عقلا، ولو ورد به الشرع لما كان ممتنعا أيضا، غير أن الشرع قد ورد بالذم على الكفر، والعقاب عليه، والقتل فى الدنيا، والوعيد بالخلود فى النار فى الدار الأخرى.
ولم يعذر أحدا من الكفار، ولم يفصل بين المجتهد العاجز، وغيره فى ذلك، مع علمنا بأن المعاند العارف للحق مما يقل، وأن أكثر الكفار كانوا: إما مجتهدين عاجزين عن إدراك الحق، أو مقلدين لآبائهم غير عارفين بوجوب النظر المؤدى إلى معرفة صدق
________________
(1) قارن بما ورد فى الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 4/ 293 وما بعدها وراجع ما ورد فى شرح المواقف- الموقف السادس ص 206، 207.
(11) // أول ل 149/ ب.
(2) راجع شرح المواقف ص 207.
(5/107)
________________________________________
الرسول- عليه السّلام- وهؤلاء هم الأكثرون ويدل على وعيدهم، وذمهم مع ظنهم أنهم على الحق قوله تعالى: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ/ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ «1»، وقوله تعالى: وذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ «2»، وقوله تعالى: ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ «3» إلى غير ذلك من الآيات.
فإن قيل: ما ذكرتموه وإن دل على أنهم غير معذورين، غير أن عجزهم عن إدراك الحق بعد النظر، والمبالغة فى الاجتهاد، موجب لعذرهم، فلو عاقبهم بعد ذلك، كان ذلك تكليفا بما لا يطاق وقد قال- تعالى-: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «4».
قلنا: أما التكليف باعتقاد الحق؛ فمعلوم بالضرورة من أقوال الشارع، وأفعاله على ما سبق «5».
وقولهم: إن ذلك تكليف بما لا يطاق، ولا نسلم أنه تكليف بما لا يطاق؛ فإن ذلك ممكن لهم؛ إذ الأدلة على الحق منصوبة ظاهرة، والعقل الّذي به المعرفة حاضر عتيد لديهم، ومع ذلك فالمعرفة للحق تكون ممكنة، لا ممتنعة؛ فالتكليف بها لا يكون تكليفا بما لا يطاق «6».
وإن سلمنا أنه تكليف بما لا يطاق، غير أنه جائز على ما تقدم فى التعديل والتجوير «7».
وأما قول العنبرى: بأن كل مجتهد فى العقليات مصيب: إما أن يريد به الإصابة فى الاجتهاد: أى أنه أتى بما أمر به من الاجتهاد، والّذي هو منتهى مقدوره، واما أن يريد به الإصابة فى نفس المجتهد فيه، وأن ما اعتقده على وفق اعتقاده، وإما أن يريد به أنه معذور غير آثم: كما هو مذهب الجاحظ، أو معنى آخر.
فإن كان الأول: فهو حق غير أنه لا يمتنع مع ذلك الذم، والعقاب؛ لعدم إصابة الحق فى المعتقد كما سبق.
________________
(1) سورة ص: 38/ 27.
(2) سورة فصلت: 41/ 23.
(3) سورة المجادلة: 58/ 18.
(4) سورة البقرة: 2/ 286.
(5) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الثانية: فى النظر وما يتعلق به ل 25/ أ وما بعدها.
(6) راجع ما فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع السادس- الأصل الأول- المسألة الخامسة: فى تكليف ما لا يطاق. ل 194/ ب وما بعدها.
(7) راجع ما مر فى المصدر السابق.
(5/108)
________________________________________
وإن كان الثانى: فهو محال قطعا، فإن ذلك مما يوجب كون العالم فى نفس الأمر قديما حادثا، عند اختلاف المجتهدين فيه، إذا أدى اجتهاد أحدهما إلى قدمه، والآخر إلى حدوثه، وكذلك فى كل مسألة عقلية من المسائل الأصولية.
والأمر الحقيقى الذاتى لا يتصور أن يكون الحق فيه النفى، والإثبات معا، ويستحيل ورود الشرع به.
وهذا بخلاف مذهب الجاحظ، وبخلاف الأحكام الشرعية والأمور الوضعية، فإنه لا يتصور أن يكون الفعل فى المحل الواحد، حلالا بالنسبة إلى زيد، حراما بالنسبة إلى عمرو.
وإن كان الثالث: فهو باطل بما سبق.
وإن كان الرابع: فلا بد من تصويره، وإقامة الدلالة عليه.
فإن قيل: المراد من قوله كل مجتهد فى العقليات مصيب، أى فى المسائل الكلامية التى لا تكفير فيها: كالرؤية، وخلق الأعمال، وخلق القرآن وغير ذلك؛ لأن الأدلة فيها متعارضة، والآيات والأخبار منها متشابهة، وكل ذهب إلى ما وافق نظره، ورآه أليق بعظمة الله وجلاله «1».
/ قلنا: وإن أراد به المسائل الكلامية التى لا تكفير فيها، فالتقسيم فى قوله كل مجتهد مصيب كما تقدم.
فإن أراد به أنه أتى بما فى وسعه، وما أمر به؛ «11» // فهو صحيح؛ غير أن ذلك أيضا غير مانع من الذم، والوعيد بالعقاب، بدليل إجماع الأمة على ذم المبتدعة، ومهاجرتهم، وتشديد الإنكار عليهم- بدليل قوله عليه السّلام: «تفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة» «2».
وإن أراد به أن ما اعتقده على وفق اعتقاده؛ فهو أيضا محال لما تقدم.
وإن أراد به أنه معذور غير آثم؛ فباطل بما حققناه.
وإن أراد غيره؛ فلا بد من تصويره.
________________
(1) قارن بما ورد فى الإحكام للآمدى 4/ 242.
(11) // أول ل 150/ أ.
(2) الحديث سبق تخريجه فى هامش ل 244/ أ.
(5/109)
________________________________________
ولا يلزم على ما ذكرناه من المسائل الفقهية والأمور الحقيقية، كاعتقاد كون زيد في الدار وليس فيها.
أما المسائل الفقهية: فلأن الحق فيها غير معين؛ بل الحكم فيها عند الله ما أدى إليه رأى المجتهد على ما عرف فى الأصول، بخلاف الأمور الحقيقية.
وأما اعتقاد كون زيد فى الدار، وليس فيها، وبالعكس، فمما لا ثواب، ولا عقاب فيه نفيا، وإثباتا، بخلاف المسائل الكلامية، فإن المكلف مثاب على معرفتها، ومعاقب على الجهل بها، كما تقدم.
فإن قيل: فالإثم إنما يتصور بتقدير الجهل بها، بتقدير أن يكون العلم بها مقدورا، وإذا كانت الأدلة فيها غامضة، والشبهات متعارضة؛ فالعلم بها لا يكون مقدورا «1».
قلنا:
قد بينا أن العلم مقدور بناء على الأدلة المنصوبة، والعقل الهادى، وتعارض الشبه مما لا يمنع من الإثم، بدليل مسألة حدوث العالم، وإثبات النبوة، هذا حكم الكفار.
وأما المصيبون فى الاعتقاد:
فإما أن يكون ذلك مستندا إلى الدليل، أو إلي محض التقليد:
فإن كان الأول: فهم مسلمون مثابون بالاتفاق، وإن كان الثانى: فقد اختلف المتكلمون فيه.
فمنهم من قال: لا يكفى فى الدين اعتقاد الحق من غير دليل؛ إذ المطلوب إنما هو الاعتقاد القاطع، ولا قطع مع التقليد «2».
ومنهم من خالف فى ذلك، واكتفى بمجرد الاعتقاد، وإن كان من غير دليل وهو الأظهر. فإنا نعلم بالضرورة أن أكثر من دخل فى الإسلام على عهد رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم-
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 194/ ب وما بعدها، وقارن بما ورد فى الإحكام 1/ 243.
(2) قارن بما ورد في أصول الدين للبغدادى ص 254، 255 فقد خصص المسألة الخامسة من الأصل الثانى للحديث عن [إيمان من اعتقد تقليدا].
(5/110)
________________________________________
لم يكونوا عارفين بالمسائل الأصولية عن نظر ودليل؛ إذ لم يكونوا من أهل النظر، والاستدلال، ومع ذلك كان النبي- صلى اللّه عليه وسلم- يحكم بإسلامهم.
ولو توقف الإسلام على اعتقاد هذه المسائل بالنظر والدليل؛ لما حكم بإسلامهم دون تحققه، وللزم من ذلك تكفير أكثر الصحابة/ وعلى هذا جرى الصحابة، والتابعون، وهلم جرا إلى عصرنا.
هذا فى الحكم بإسلام العوام، وآحاد الطغام الذين لا أصالة لهم فى العلم، ولا أنسية لهم بالنظر والاستدلال.
(5/111)
________________________________________
الفصل السادس فى التوبة وأحكامها «1»
أما التوبة: [في اللغة والشرع]
ففى اللغة: عبارة عن الرجوع، ومنه قوله- تعالى-: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا «2»:
أى رجع عليهم بالتفضل، والإنعام؛ ليرجعوا بالطاعة.
وأما فى الشرع: فعبارة عن الكلام على ما وقع به التفريط من الحقوق من جهة كونه حقا، مع العزم على أن لا يعود إلى مثل ما فعل فى المستقبل، عند كونه أهلا لفعله فى المستقبل.
وإنما قلنا: إن الندم توبة. لقوله- عليه السّلام-: «الندم توبة».
وإنما قلنا: على ما فرط من الحقوق، لأنه لو لم يندم على فعل معصية، أو على فعل ما ليس طاعة، ولا معصية؛ فإنه لا يكون توبة.
وإنما قلنا: من جهة كونه حقا؛ لأنه لو شرب الخمر [«3» وحصل منه تألم فى جسمه؛ فتندم على ما فرط منه من شرب الخمر] لما أفضى إليه من الألم؛ فإنه لا يكون توبة.
وإنما قلنا: مع العزم على أن لا يعود إلى مثل ما فعل فى المستقبل؛ لأنه ملازم للندم على ما فعل.
وإنما قلنا: عند كونه أهلا له: احترازا عما إذا زنى ثم جبّ، أو كان مشرفا على الموت؛ فإن العزم على ترك الفعل فى المستقبل، غير متصور منه؛ لعدم تصور الفعل منه فى المستقبل.
________________
(1) قارن ما ورد هنا بما نقله شارح المواقف فى المرصد الثانى من الموقف السادس [المقصد العاشر فى التوبة] فقد اعتمد فى شرحه للمواقف على ما أورده الآمدي ونقل عنه نقولا كثيرة بلغت ستة من ص 218 - 223. ولمزيد من البحث والدراسة: انظر غاية المرام للآمدى ص 313 وما بعدها والإرشاد للجوينى ص 401 وشرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 789 وما بعدها والمغنى له أيضا 14/ 244 وما بعدها. وشرح المقاصد 2/ 177 وما بعدها وشرح العقيدة الطحاوية ص 353.
(2) سورة التوبة: 9/ 118.
(3) ساقط من أ.
(5/112)
________________________________________
ومع ذلك فإنه إذا تندّم على ما فعل، صحّت توبته بإجماع السلف.
وقال أبو هاشم: الزانى إذا جبّ لا تصح توبته «1»؛ لأنه عاجز عنه؛ وهو باطل بما إذا تاب عن الزنا وغيره وهو فى مرض مخوف؛ فإن توبته صحيحة بالإجماع وإن كان جازما بعجزه عن الفعل فى المستقبل «2».
وعلى هذا فليس من شرط صحة التوبة عن «11» // مظلمة، الخروج عن تلك المظلمة، وأن لا يكون مقيما على ذنب آخر، وأن لا يعاود الذنب بعد ذلك، وأن يكون مستديما للتندم فى جميع أوقاته، ومتذكرا له فى كل حالاته؛ خلافا للمعتزلة «3».
أما الأول: فلأنه بالمظلمة كالقتل، والضرب مثلا فقد وجب عليه أمران: التوبة والخروج من المظلمة؛ وهو تسليم نفسه مع الإمكان؛ ليقتص منه.
ومن أتى بالتوبة؛ فقد أتى بأحد الواجبين، ومن أوتى بأحد الواجبين؛ فلا تكون صحته متوقفة على الإتيان بالواجب الآخر، كما لو وجبت عليه صلاتان؛ فأتى بإحداهما دون الأخرى «4».
وأما الثانى: فلأن التوبة وإن وجبت عن الذنب لقبحه، والذنوب فى القبح متساوية؛ فليس يلزم من صحة التوبة عن ذنب التوبة عن غيره، وإلا لما صحت التوبة
________________
(1) انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 794 فقد ذكر رأى أبى هاشم ووضح صحته بقوله: «و هو الصحيح من المذهب».
(2) نقل شارح المواقف عن الأبكار قول الآمدي: وإنما قلنا عند كونه أهلا له: ... إلى فى المستقبل» مستدلا على صحة ما ذهب إليه بما ذكره الآمدي. قال: ويؤيد ما قررناه قول الآمدي حيث قال: [و ينقل سبعة سطور بنصه] ثم يقول هذه عبارته.
[انظر شرح المواقف فى علم الكلام- الموقف السادس- فى السمعيات- تحقيق د/ أحمد المهدى].
(11) // أول ل 150/ ب.
(3) قال القاضى عبد الجبار فى شرح الأصول الخمسة ص 791 «اعلم أن التوبة إن كانت توبة عن القبيح. فإن صورته أن يندم على القبيح لقبحه، ويعزم علي أن لا يعود أمثاله فى القبح، وإن كانت توبة عن الإخلال بالواجب. فإن صورته أن يندم على الإخلال به؛ لكونه إخلالا بالواجب، ويعزم على أن لا يعود إلى أمثاله فى ذلك. ولا بد من اعتبار الندم، والعزم جميعا، حتى تكون التوبة توبة صحيحة؛ فإنه إن ندم، ولم يعزم، أو عزم، ولم يندم؛ لم يكن تائبا توبة نصوحا.
وكما لا بد من اعتبارهما جميعا؛ فلا بد من أن يكون الندم ندما على القبيح لقبحه وكذلك العزم عزما على أن لا يعود إلى أمثاله فى القبح.
إذ لو ندم على القبيح لا لقبحه، بل لوجه آخر، أو عزم على أن لا يعود إلى أمثاله لا لقبحه؛ لم يكن تائبا». وقارن بالإرشاد ص 405 وإحياء علوم الدين 4/ 625 وانظر غاية المرام ص 313.
(4) من أول: (بالمظلمة: كالقتل والضرب ... دون الأخرى) نقله شارح المواقف: قال الآمدي: إذا أتى بالمظلة الخ.
(5/113)
________________________________________
عن الكفر بالإسلام مع استدامة زلّة من الزلات/ وأن لا تترقى حاله عن حال من هو مستمر على كفره وجحوده؛ وهو خلاف إجماع المسلمين.
وأما الثالث: فلأن التوبة المأمور بها بتقدير الإتيان بها تكون عبادة وليس من شرط صحة العبادة المأتى بها فى زمن، عدم المعصية فى زمن آخر؛ بل غايته أنه إذا عصى جدد ذلك الذنب وجوب توبة أخرى عليه «1».
وأما الرابع: فلأنه يلزم من ذلك اختلال الصلوات وباقى العبادات، أو أن لا تكون بتقدير عدم استدامة التندم وتذكره تائبا، وأن يجب عليه إعادة التوبة؛ وهو مخالف للإجماع، ومهما صحت التوبة ثم ذكر الذنب، فلا يكون عند ذكره الذنب كالمقارف للذنب، ولا يجب عليه تجديد التوبة؛ خلافا لبعض العلماء.
فإنا نعلم بالضرورة أن الصحابة ومن أسلم بعد كفره؛ كانوا يتذاكرون ما كانوا عليه فى الجاهلية من الكفر. ولم يجب عليهم تجديد الإسلام، ولا أمروا بذلك، وكذلك فى كل ذنب وقعت التوبة عنه «2».
وهل يجب على الله قبول التوبة والمجازات عليها.
قالت المعتزلة: إن ذلك واجب؛ لأنها حسنة. ومن أتى بالحسنة وجب مجازاته عليها.
وهذا الأصل قد أبطلناه فيما تقدم «3».
وقوله- تعالى-: وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «4».
وقوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «5». فليس فيه ما يدل على وجوب قبول التوبة.
________________
(1) من أول: (التوبة المأمور بها ... أخرى عليه) نقله أيضا شارح المواقف مقدما له: قال الآمدي
(2) نقل شارح المواقف [يلزم من ذلك اختلال الصلوات، وباقى العبادات ... إلى وقعت التوبة عنه] مقدما لها بقوله: قال الآمدي: يلزم من ذلك .. إلخ.
(3) انظر ما تقدم ل 186/ ب وما بعدها.
(4) سورة الشورى 42/ 25.
(5) سورة الزمر: 39/ 53.
(5/114)
________________________________________
إذا المراد منه أنه الّذي يتولى ذلك، ويتقبله، وليس لأحد سواه ذلك، وأنه يفعل ذلك إن شاء لا بطريق الوجوب، والتحتم.
وهل التوبة طاعة:
اختلفوا فيه: والظاهر أنها طاعة «1»؛ لأنها واجبة مأمور بها بأمر الله- تعالى- فإذا أتى بها العبد لقصد امتثال أمر الله كانت طاعة؛ فإنه لا معنى للطاعة غير الإتيان بالمأمور لقصد امتثال أمر الآمر.
________________
(1) نقل شارح المواقف عن الآمدي قائلا: قال الآمدي الظاهر أنها طاعة.
(5/115)
________________________________________
القاعدة الثامنة فى الإمامة، ومن له الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر وتشتمل على أصلين:
الأصل الأول: فى الإمامة.
الأصل الثانى: فى الأمر بالمعروف، والنّهى عن المنكر.
(5/117)
________________________________________
الأصل الأول فى الإمامة
وأعلم أن الكلام فى الإمامة ليس من أصول الديانات؛ بل من الفروعيات غير أنه لما جرت العادة بذكرها فى أواخر كتب المتكلمين، ومصنفات الأصوليين، جرينا على العادة فى ذكرها هاهنا؛ مشيرين إلى تحقيق أصولها، [و تنقيح فصولها] «1».
وهى تسعة فصول:
الأول «2»: فى أن إقامة الإمام هل هى واجبة، أم لا؟
الثانى: فيما يثبت به كون الإمام إماما.
الثالث: فى شروط الإمام.
الرابع: فى إثبات إمامة إمام الأئمة أبى بكر الصديق رضى الله عنه.
الخامس: فى إثبات إمامة/ عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
السادس: فى إثبات إمامة عثمان بن عفان رضى الله عنه.
السابع: فى إثبات إمامة على كرّم الله وجهه.
الثامن: فى التفضيل.
التاسع: فيما جرى بين الصحابة من الفتن، والحروب.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) فى نسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية أ ب ج د للدلالة على ترتيب الفصول.
(5/119)
________________________________________
الفصل الأول فى أن إقامة الإمام هل هى واجبة، أم لا «1»؟
[تعريف الإمامة]
وقبل النظر فى ذلك لا بدّ من تحقيق معنى الإمامة.
قال بعض الأصحاب: إنّها عبارة عن رئاسة فى الدّين، والدنيا عامة لشخص من الأشخاص. وينتقض ذلك بالنّبوّة، والحق أن الإمامة عبارة عن خلافة شخص «11» // من الأشخاص للرّسول- عليه السلام- فى إقامة قوانين الشّرع، وحفظ حوزة الملة، على وجه يجب اتّباعه على كافة الأمة.
[الاختلاف حول وجوب إقامة الإمام]
وإذا عرف معنى الإمامة، فهل إقامة الإمام واجبة، أم لا؟
اختلف الناس فيه: فمنهم من قال بالوجوب، ومنهم من نفاه، والقائلون بالوجوب اختلفوا فى أمرين:
الأول: فى طريق معرفة الوجوب:
فمنهم من قال بأن طريق معرفة الوجوب السمع دون العقل، كالأشعرية، وأكثر المعتزلة «2».
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ذكره الآمدي هاهنا انظر المراجع التالية التى اعتمد عليها الآمدي، وناقشها.
الإبانة عن أصول الديانة للإمام الأشعرى ص 204 وما بعدها، واللمع له أيضا ص 133 - 136.
ومقالات الإسلاميين له أيضا 2/ 144 وما بعدها.
التمهيد للباقلانى ص 164 وما بعدها، وأصول الدين للبغدادى ص 271 وما بعدها ولمع الأدلة له أيضا ص 114 وما بعدها، وأصول الدين للبغدادى ص 271 وما بعدها والفصل لابن حزم 4/ 149 وما بعدها، ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 478.
الاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص 223 وما بعدها. والأربعين فى أصول الدين للرازى ص 426.
محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازى ص 573 وما بعدها.
وغاية المرام للآمدى ص 361 وما بعدها.
ومن كتب المعتزلة: المغنى فى أبواب التوحيد والعدل. فقد اهتم القاضى عبد الجبار بموضوع الإمامة وخصص له الجزء العشرون من كتابه المغنى، ويقع فى مجلدين كبيرين
والأصول الخمسة له أيضا ص 749 وما بعدها.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
شرح المواقف- الموقف السادس: تحقيق الدكتور أحمد المهدى ص 277 وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 199 وما بعدها.
(11) // أول ل 151/ أ من النسخة ب.
(2) قارن بما ورد فى المغنى فى أبواب التوحيد والعدل 20/ 38 وما بعدها للقاضى عبد الجبار وأصول الدين للبغدادى ص 421، ونهاية الأقدام ص 478 للشهرستانى.
(5/121)
________________________________________
ومنهم من قال بالعقل دون السمع؛ كالإسماعيلية، والإمامية «1»، غير أن الإسماعيلية قالوا بالوجوب لكون الإمام معرّفا للّه- تعالى- وقالت الإمامية بالوجوب لا لنعرف اللّه؛ بل لإقامة القوانين الشّرعية، وحفظها عن الزّيادة والنقصان.
ومنهم من قال بالعقل، والسمع معا؛ كالجاحظ، والكعبى، وأبى الحسين البصرى «2».
الاختلاف الثانى: أنّ إقامة الإمام هل هى واجب على اللّه، أو على الخلق؟
ومذهب الأشاعرة وأهل السنّة، وكثير من المعتزلة: أنه واجب على الخلق «3».
ومذهب الإمامية، والإسماعيلية «4»: أنه واجب على اللّه تعالى.
وأما القائلون بنفى الوجوب: فمنهم من قال: بنفى الوجوب مطلقا فى جميع الأوقات، وإنما ذلك من الجائزات: كالأزارقة، والصفرية، وغيرهم من الخوارج «5».
ومنهم من قال: بأنه لا يجب مع الأمن، وإنصاف الناس بعضهم من بعض؛ لعدم الحاجة إليه، وإنما يجب عند الخوف، وظهور الفتن: كأبي بكر الأصم «6».
ومنهم من عكس الحال وقال بنفى الوجوب مع الفتن؛ لأنه ربما كان نصبه سببا لزيادة الفتن؛ لاستنكافهم عنه، وإنما يجب عند العدل، والأمن؛ إذ هو أقرب إلى إظهار شعائر الإسلام كالفوطى، وأتباعه «7».
________________
(1) انظر عن رأيهم بالتفصيل القاعدة السابعة الفصل الرابع: فرقة الإسماعيلية ل 249/ أو ما بعدها، وفرقة الإمامية ل 251/ ب وما بعدها.
(2) نظر عن رأيهم ما سبق فى القاعدة السابعة: الفصل الرابع: ل 246/ ب وما بعدها.
(3) قارن بشرح المواقف- الموقف السادس ص 279 وما بعدها.
(4) انظر عن رأيهم ما سبق ل 249/ أ وما بعدها، 251/ ب وما بعدها.
(5) انظر عن رأيهم ما سبق ل 252/ ب وما بعدها، ل 253/ أ وما بعدها.
(6) انظر عن رأيه بالتفصيل المغنى 20/ 48، ومقالات الإسلاميين ص 223 وما بعدها. وشرح المواقف- الموقف السادس ص 278.
أما عن أبى بكر الأصم: فهو من المعتزلة، ولكنه انفرد عنهم بمسائل منها: خالفهم فى وجوب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر. مع أنه من أصولهم. كما خالفهم فى وجوب نصب الإمام وقت الأمن- كما أنكر إمامة على- رضي اللّه عنه-. وقد توفى الأصم سنة 300 ه.
(7) انظر عن هشام الغوطى ورأيه ما سبق فى القاعدة السابعة. الفصل الرابع ل 245/ أ وما بعدها.
وقارن بما ورد فى شرح المواقف- الموقف السادس ص 278.
(5/122)
________________________________________
وإذ أتينا على تفصيل المذاهب فالكلام فى هذه المسألة يتعلق بأطراف/ ثلاثة.
[الطرف الأول: فى بيان الوجوب سمعا.
والثانى: فى امتناع الوجوب عقلا.
والثالث: فى امتناع إيجاب ذلك على الله تعالى] «1».
الطرف الأول: فى بيان الوجوب سمعا:
والمعتمد فيه لأهل الحق ما ثبت بالتواتر من إجماع المسلمين فى الصدر الأول بعد وفاة النبي- صلى الله عليه وسلم- على امتناع خلو الوقت عن خليفة، وإمام، حتى قال أبو بكر رضى اللّه عنه فى خطبته المشهورة، بعد وفاة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- «إن محمدا قد مات، ولا بدّ لهذا الدين ممن يقوم به» «2» فبادر الكل إلى تصديقه، والإذعان لقبول قوله، ولم يخالف فى ذلك أحد من المسلمين، وأرباب الدين؛ بل كانوا مطبقين على الوفاق، وقتال الخوارج على الإمام، ولم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك، وإن اختلفوا فى التعيين، ولم يزالوا على ذلك مع كانوا عليه من الخشونة فى الدين، والصلابة فى تأسيس القواعد، وتصحيح العقائد، غير مرتقبين فى ذلك لومة لائم، ولا عذل عاذل، حتى بادر بعضهم إلى قتل الأهل، والأقارب فى نصرة الدين وإقامة كلمة المسلمين، والعقل من حيث العادة يحيل تواطؤ مثل هؤلاء القوم على وجوب ما ليس بواجب، لا سيّما مع ما ورد به الكتاب، والسنة من تزكيتهم، والإخبار عن عصمتهم، على ما سبق تحقيقه فى قاعدة النظر «3».
ثم جرى التابعون على طريقتهم، واتباع سنتهم، ولم يزل الناس على ذلك فى كل عصر، وزمان إلى زمننا هذا من إقامة الأئمة، ونصب إمام متبع، فى كل عصر «4» وحكمة ذلك، أنا نعلم علما يقارب الضّرورة، أنّ مقصود الشّارع من أوامره، ونواهيه فى جميع موارده، ومصادره وما شرعه من الحدود، والمقاصات وعقود المعاملات، والمناكحات،
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) قارن ما ورد هنا من خطبة أبى بكر رضي اللّه عنه بما ورد فى نهاية الأقدام للشهرستانى ص 479، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 279.
(3) انظر ما سبق فى القاعدة الثانية: فى النظر وما يتعلق به ل 15/ ب وما بعدها.
(4) قارن بنهاية الأقدام ص 478 وما بعدها، وغاية المرام ص 365، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 279.
(5/123)
________________________________________
وأحكام الجهاد، وإظهار شعائر الإسلام فى أيام الجمع، والأعياد، إنّما كان لمصالح الخلق، والأغراض عائدة إليهم، معاشا ومعادا، وذلك مما لا يتم دون إمام مطاع، وخليفة متّبع، يكون من قبل الشارع بحيث يفوضون أزمتهم، فى جميع أمورهم إليه، ويعتمدون فى جميع أحوالهم عليه. فإنهم بأنفسهم مع ما هم عليه من اختلاف الأهواء، وتشتّت الآراء، وما بينهم من العداوة، والشحناء، قلّما ينقاد بعضهم لبعض، وربما أدّى ذلك إلى هلاكهم جميعا «1».
ويشهد بذلك وقوع الفتن، واختلاف الأمم، عند موت ولاة الأمر، من الأئمة إلى حين نصب إمام آخر، بحيث لو «11» // تمادى الحال، فى إقامته لكثرت الاختلافات، وبطلت المعيشات، وعظم الفساد فى العباد، وصار كلّ مشغولا بحفظ نفسه، وماله تحت قائم سيف/ وذلك مما يفضى إلى رفع الدين، وهلاك الناس أجمعين، ومنه قيل «الدين اس والسلطان حارس، والدين والسلطان توأمان»، فإذن نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين، وأعظم مقاصد الدين، وهو حكمة الإيجاب السمعى «2».
فإن قيل: لا نسلم تصوّر انعقاد الإجماع، وإن سلّمنا ذلك، ولكن لا نسلّم أنّ الإجماع حجة، ولا نسلّم صحّة التّواتر، وتقرير كل واحد مما سبق فى قاعدتى النظر، والنبوات «3».
وإن سلمنا أن الإجماع حجة، وأن التواتر يفيد العلم؛ ولكن لا نسلم وجود الإجماع فيما نحن فيه، وما المانع أن يكون ثمّ نكير، وأن الموافقة لم تتحقق إلّا من آحاد المسلمين «4».
والّذي يدل على ذلك، قول عمر- رضى الله عنه- «ألا إن بيعة أبى بكر كانت فلتة وقى اللّه شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» «5»؛ أى بايعت أبا بكر من غير مشورة؛ وقى اللّه شرها؛ فلا نعود إلى مثلها.
________________
(1) قارن ما ورد هاهنا بما ورد فى غاية المرام ص 366، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 279 وما بعدها.
وانظر أصول الدين ص 271، ونهاية الأقدام ص 478، والأربعين للرازى ص 428.
(11) // أول ل 151/ ب.
(2) قارن بغاية المرام ص 366، ونهاية الأقدام ص 478.
(3) قاعدة النظر: هى القاعدة الثانية: انظر ما سبق فى الجزء الأول- ل 15/ ب وما بعدها.
أما النبوات: فى القاعدة الخامسة. انظر ما سبق فى الجزء الثانى- ل 138/ أ. وما بعدها.
(4) انظر هذا الاعتراض والرد عليه أيضا فى الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 1/ 199 وما بعدها.
(5) فى صحيح البخارى 8/ 210 قريب من هذا النص.
(5/124)
________________________________________
كيف وأن الإجماع لا بدّ وأن يعود إلى مستند من الكتاب، والسّنة ولو كان له مستند لقد كانت العادة تحيل أن لا ينقل مع توفّر الدّواعى على نقله، فحيث لم ينقل مستنده، علم أنه غير واقع فى نفسه.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وجوب نصب الإمام، غير أنه معارض بما يدل على عدمه وبيانه من ثلاثة أوجه:-
الأول: أنّ نصب الإمام لو كان واجبا؛ فإما أن يكون واجبا على الله- تعالى، أو على العبيد، الأول: محال؛ لما سبق فى التعديل والتجويز «1».
وإن كان الثانى: فإمّا أن يكون ذلك لفائدة، أو لا لفائدة.
فإن كان لا لفائدة: فهو عبث، والعبث لا يكون واجبا.
وإن كان لفائدة؛ فإما أن ترجع إلى اللّه- تعالى- أو إلى العبيد.
الأول: محال؛ لأن الله- تعالى- ويتقدّس عن الأغراض، والضرر، والانتفاع، وإن عادت إلى العبيد فإما دينيّة، أو دنيويّة.
فإن كانت دينيّة، فإمّا معرفة الله- تعالى- على ما قاله الملاحدة.
أو لإقامة القوانين الشّرعية كما قاله الإماميّة. والأول محال لأن العقل كاف فى معرفته، ومعرفة جميع القضايا العقلية، ولا حاجة إلى تعريف ذلك بالإمام «2».
والثانى ممتنع لوجهين:- الأول: أنه يكفى فى معرفة ذلك كتاب اللّه- تعالى- وسنة رسوله على ما [جرت] «3» العادة به فى زمن النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى وقتنا هذا.
الثانى: أنه ما من مسألة اجتهادية، إلّا ويجوز لكل واحد من المجتهدين أن يخالفه فيها بما يؤدى إليه اجتهاده، فكيف يكون واجب الطّاعة، مع جواز المخالفة، ولا يكون فى نصبه فائدة/
________________
(1) انظر ما سبق فى القاعدة الرابعة ل 174/ ب وما بعدها.
(2) قارن بما ذكره القاضى عبد الجبار فى المغنى 20/ 34 من القسم الأول.
(3) ساقط من أ.
(5/125)
________________________________________
وإن كانت دنيوية فهو أيضا ممتنع لوجهين:-
الأول: أن تعاون الناس على أشغالهم، وتوفرهم على إصلاح أحوالهم فى دنياهم مما تحدوهم إليه طباعهم، وأديانهم؛ فلا حاجة لهم إلى الإمام، ومن يتحكم عليهم فيما يستقلون به، ويهتدون إليه دونه، ويدل على ذلك انتظام أحوال البوادى والعربان، الخارجين عن حكم السلطان «1».
الثانى: هو أن الانتفاع بالإمام فى هذه الأمور فرع الوصول إليه، ولا يخفى تعذر، وصول آحاد الرعية إليه، فى كل ما يعنّ له من الأمور الدنيوية عادة؛ فلا يكون نصبه مفيدا «2».
الوجه الثانى: هو أن نصب الإمام مما يفضى إلى الإضرار بالمسلمين، والإضرار منفى بقوله- عليه السلام- «لا ضرر ولا ضرار فى الإسلام» «3»، وبيان لزوم الإضرار من ثلاثة أوجه
الأول: أنه قد يستنكف عنه بعض الناس: كجارى العادة فى السّلف، وهلم جرا؛ وذلك مما يفضى إلى الفتن، والاختلاف، وهو إضرار «4».
الثانى: هو أن الإمام من نوع الرعيّة، وتولية الإنسان على من هو مثله تحكم عليه فيما يهتدى، وما لا يهتدى إليه، إضرار به لا محالة.
والثالث: أن الإمام إما أن يكون معصوما، أو لا يكون معصوما، القول بالعصمة ممتنع على ما يأتى، وإن لم يكن معصوما، تصوّر عليه الكفر والفسوق.
وعند ذلك: إن لم يعزل تعدى ضرر كفره، أو فسقة إلى الأمة، وإن عزل احتيج فى عزله إلى إثارة الفتنة، وهو إضرار على ما لا يخفى.
________________
(1) قارن بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص 369. وبما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 16. ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 481، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 280 وما بعدها.
(2) قارن بشرح المواقف- الموقف السادس ص 281. وقارن بما ورد فى الأربعين للرازى ص 429.
(3) ذكره السيوطى فى الجامع الصغير بلفظ «لا ضرر ولا ضرار» وقد حكم الشوكانى بصحة هذا الحديث فى نيل الأوطار 5/ 385.
(4) قارن بشرح المواقف- الموقف السادس ص 381.
(5/126)
________________________________________
الوجه الثالث: هو أن الإمام له شروط قلما توجد فى «11» // كل عصر.
وعند ذلك فإن أقام الناس إماما اختل فيه شرط من شروط الإمامة فما فعلوا الواجب، وإن لم يقيموه، فقد تركوا الواجب، واجتماع الأمة على ترك الواجب محال، وهذه المحالات إنما لزمت من القول بوجوب نصب الإمام؛ فلا وجوب «1».
نعم إن أدّى اجتهادهم إلى إقامة أمير، أو رئيس عليهم، يتقلد أمورهم ويرتّب جيوشهم، ويحمى حوزتهم، ويأخذ على أيدى السفهاء منهم، وينتصف للمظلوم من الظّالم، ويقوم بذلك كله على وجه العدل والإنصاف، فلهم ذلك من غير أن يلزمهم بذلك حرج فى الشرع أصلا «2».
والجواب: أمّا منع تصوّر انعقاد الإجماع، ومنع كونه حجة، ومنع التّواتر وإفضائه إلى العلم؛ فقد سبق جوابه، وإبطال كل ما يرد عليه فى قاعدتى النظر والنبوات «3».
قولهم: لا نسلم وجود الاجماع فيما نحن فيه.
قلنا: دليله ما سبق.
قولهم: يحتمل أن يكون ثمّ/ نكير.
قلنا: لو وجد النّكير فى مثل هذا الأمر العظيم لنقل، فإن العادة تحيل عدم نقل مثل هذه الأمور على ما تقدم. وقول عمر- رضى الله عنه- ليس فيه ما يدل على انتفاء وقوع [الإجماع] «4» على وجوب نصب الإمام؛ بل غايته الدلالة على كون بيعة أبى بكر، وتعيينه بالعقد مما وقع فلتة بغتة، وليس فيه أيضا دلالة على انتفاء وقوع الإجماع، على تعيين أبى بكر؛ فإنه لا مانع من وقوع الإجماع على ذلك بغته، وإن قدّر الاختلاف فى التعيين أولا «5».
قولهم: لو وجد الإجماع؛ لنقل مستنده من الكتاب أو السنة.
________________
(11) // أول ل 152/ أ.
(1) قارن بما ورد فى المغنى 20/ 50 وما بعدها، وبشرح المواقف- الموقف السادس ص 282.
(2) قارن بما ورد فى غاية المرام ص 369، وبما ورد فى شرح المواقف ص 281 وما بعدها الّذي تأثر به، والمغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 89 وما بعدها.
(3) عن قاعدة النظر ارجع إلى الجزء الأول ل 15/ ب وما بعدها. أما قاعدة النبوات فارجع إلى الجزء الثانى ل 128/ أ وما بعدها.
(4) ساقط من أ.
(5) قارن ما ذكره الآمدي هاهنا بما ذكره فى غاية المرام ص 373 وبما ذكره فى الإحكام فى أصول الأحكام 2/ 41 وما بعدها.
(5/127)
________________________________________
قلنا: إنما يلزم نقل مستند الإجماع أن لو دعت الحاجة إليه، وتوفرت الدواعى على نقله، وليس كذلك؛ فإنه مهما تحقق الاتفاق، واستقام الوفاق من الأمة على شيء؛ فقد وجب اتباعه ووقع الاستغناء به عن مستنده، ولم يبق النظر إلّا فى موافقته ومخالفته «1».
ومع عدم الحاجة [إلى] «2» النظر فى المستند، لم تنصرف البواعث إلى نقله، ولم تتوفر [الدواعى] «2» على إشاعته؛ فلا يكون عدم نقله قادحا فى الإجماع، كيف وأنه لا يبعد أن يكون مستند الإجماع من قبيل ما لا يمكن نقله، بأن يكون من قرائن الأحوال التى لا يمكن معرفتها، إلّا بالمشاهدة، والعيان لمن كان فى زمن النبي- صلى الله عليه وسلم- «3».
قولهم: لو كان نصب الإمام واجبا، إما أن يكون واجبا على الله تعالى، أو على العبيد.
قلنا: قد بيّنا استحالة الوجوب على اللّه- تعالى- فى التعديل والتجوير «4»؛ بل إنّما هو واجب على العبيد «5».
قولهم: إمّا أن يكون ذلك لفائدة، أو لا لفائدة. ما المانع أن يكون لا لفائدة؟
قولهم: لأنه يكون عبثا؛ فقد سبق أيضا جوابه فى التعديل والتجوير «6» وإن سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون لفائدة، فما المانع من عودها إلى العبيد.
قولهم: إما أن تكون دينية أو دنيوية «7».
قلنا: ما المانع من كونها دينية.
قولهم: إما أن تكون عائدة إلى معرفة الله تعالى، أو معرفة القوانين الشرعية، لا نسلم الحصر، وما المانع أن تكون الفائدة الدينية راجعة إلى توفر الناس على العبادات
________________
(1) قارن ما ذكره الآمدي هاهنا بما ذكره فى غاية المرام ص 373 ثم قارنه بما ورد فى المغنى فى أبواب التوحيد والعدل 20/ 39.
(2) ساقط من «أ».
(3) قارن ما ذكره الآمدي هاهنا بما ذكره فى غاية المرام ص 373.
(4) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 186/ أ وما بعدها.
(5) قارن ما أورده الآمدي هاهنا بما ذكره صاحب المغنى 20/ 27 والإمام الرازى فى الأربعين ص 429.
(6) انظر ما سبق فى القاعدة الرابعة ل 174/ ب وما بعدها.
(7) قارن بالمغنى 20/ 39 وما بعدها.
(5/128)
________________________________________
التى خلقوا لها على ما قال تعالى: وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1»، وذلك يسبب طمأنينة قلوبهم، وأمنهم من المخاوف المندفعة بنصب الإمام. والفتن المتوقعة بتقدير عدمه على ما هو المألوف المعروف، والعادة الجارية عند موت الولاة والأئمة إلى حين نصب إمام متبع، وخليفة مطاع، أو أن الفائدة إقامة شعائر الدين من إقامة الجمع، والأعياد التى لا تتم فى الغالب بغير الإمام.
وإن سلمنا امتناع كون/ الفائدة دينية- فما المانع من كونها دنيويّة، وما ذكروه فى الوجه الأول من أن طباع الناس تحدوهم على التعاون على ما يصلح أحوالهم.
قلنا: هذا وإن كان ممكنا فى العقل، غير أنه بالنظر إلى العادة الجارية والسنّة المطردة ممتنع، بدليل ما ذكرناه من ثوران الفتن، وكثرة الاختلاف فى أوقات موت ولاة الأمر «2».
ولهذا صادفنا العربان، والخارجين عن حكم السلطان، كالذئاب الشاردة، والأسود الضارية، لا يبقى بعضهم على بعض، ولا يحافظ فى الغالب على سنّة ولا فرض، ولم تكن طباعهم، ودواعيهم إلى صلاح أمورهم وتشوّفهم إلى العمل بموجب دينهم كاف عن السلطان. ولهذا قيل: «إن السيف والسنان «11» // قد يفعلان ما لا يفعله البرهان» «3»
وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه من الوجه الثانى، فى تقرير امتناع كون الفائدة دنيوية.
قولهم: إنه يلزم من نصب الإمام الإضرار على ما قرروه مسلم، غير أن الإضرار اللازم من تركه أكثر؛ لما بيناه؛ فكان دفع الضرر الأعظم أولى.
ويخص الوجه الثالث جواب آخر؛ وهو أن تركهم لنصب الإمام بتقدير أن لا يجدوا من هو متصف بشروط الإمامة، إنّما يلزم منه المحذور، وترك الواجب أن لو تركوه اختيارا مع تحقق شروط الإمامة فى حقه، وأما إذا تركوا نصب الإمام لعدمه اضطرارا؛ فلا.
________________
(1) سورة الذاريات 51/ 56.
(2) قارن ما أورده الآمدي هاهنا بما أورده فى غاية المرام ص 374 وقارن بشرح المواقف- الموقف السادس ص 282.
(11) // أول ل 152/ ب.
(3) استشهد به صاحب المواقف أيضا انظر شرح المواقف- الموقف السادس ص 282.
(5/129)
________________________________________
الطرف الثانى: فى بيان امتناع الوجوب عقلا:-
ودليله ما أسلفناه فى قاعدة النظر «1»، اللهم إلّا أن يعنى بكونه واجبا عقلا، أن فى نصب الإمام فائدة وفى تركه مضرة؛ فلا مشاحة فى اللفظ.
الطرف الثالث: فى بيان امتناع إيجاب ذلك على اللّه تعالى:
ودليله أيضا، ما سبق من امتناع إيجاب شيء على الله- تعالى- فى التعديل والتجوير «2».
فإن قيل: نصب الإمام لطف من اللّه تعالى بالعبيد، واللطف واجب على الله؛ فكان نصب الامام واجبا على الله تعالى.
وانما قلنا: إن نصب الامام لطف من الله- تعالى- بالعبيد؛ لأنا لا نعنى بكونه لطفا بهم غير أن الله- تعالى- يعلم أنّ حال المكلّفين بتقدير نصب الإمام يكون أقرب إلى فعل الطّاعات، واجتناب المعاصى مما إذا لم يكن.
وإذا عرف معنى اللطف، فلا يخفى أن الأمة إذا كان لهم إمام مهيب يمنعهم عن المعاصى ويحثهم على الطاعات، أن حالهم يكون أقرب إلى فعل الطاعات، وأبعد عن ارتكاب المعاصى مما إذا لم يكن؛ وذلك معلوم بالضّرورة من مجارى العادات؛ فإذن نصب الإمام يكون لطفا من اللّه تعالى بالعبيد «3».
/ وإنما قلنا إنّ اللّطف واجب على اللّه- تعالى- وذلك لأن اللّه- تعالى- مريد للطاعات من العبيد، وكاره للمعاصى منهم، فإذا علم أن فعلهم للطاعات واجتنابهم للمعاصى، متوقّف على نصب الإمام، فإرادة نصب الإمام تكون لازمة لإرادة الطّاعات منهم؛ لأنّ إرادة الشّيء، إرادة لما لا يتم ذلك الشّيء إلّا به، ولا معنى لإيجابه على اللّه- تعالى- إلّا هذا.
فنقول: أولا، لا نسلم أن نصب الإمام لطف بالعبيد.
قولهم: إنّ حال العبيد عند نصب الإمام، يكون أقرب إلى فعل الطّاعات.
________________
(1) انظر الجزء الأول من أبكار الأفكار فى أصول الدين ل 15/ ب وما بعدها.
(2) انظر المصدر السابق ل 174/ ب وما بعدها.
(3) قارن بما ورد فى المغنى 20/ 22 وما بعدها، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 283 وما بعدها.
(5/130)
________________________________________
فنقول: المسلم كونه أقرب إلى فعل الطاعات، إنما هو نصب إمام ظاهر، قاهر يرجى ثوابه، ويخشى عقابه، على ما هو المعروف من العادة.
وأمّا إمام خفىّ لا يعرف؛ فلا نسلم أنّ نصبه يكون لطفا.
وعلى هذا فما فيه اللّطف؛ فالخصوم لا يوجبونه، والّذي يوجبونه، لا لطف فيه؛ فيمتنع إيجابه «1».
سلّمنا أن نصب الإمام أقرب إلى فعل الطّاعات مطلقا، غير أنّ ذلك مما لا يوجب نصب الإمام على اللّه- تعالى- ولهذا فإنّا نعلم أن حصول الطاعات بتقدير نصب قضاة معصومين، وجيوش معصومين، مع نصب الإمام يكون أقرب؛ بل حصول ذلك بتقدير عصمة الأمة أيضا يكون أقرب؛ بل ومع ذلك فإنه لا يجب على اللّه- تعالى- شيء من ذلك بالاتفاق، والدليل المنقوض لا يكون صحيحا.
سلمنا أن نصب الإمام أقرب إلى فعل الطّاعات، وأنه صالح لإيجاب نصب الإمام على اللّه- تعالى- لكن بتقدير وجوب الطّاعات، وما من زمان إلّا ويتصوّر خلوه عن التّكاليف الشّرعية بالاتفاق، فالقول بجواز خلوّ الزّمان عن وجوب نصب الإمام لأجل الطّاعات أولى.
وعلى هذا فقد امتنع القول بوجوب نصب الإمام فى كل زمان على ما قالوه. وربّما قالوا فيه وجوها أخرى مدخولة لا حاجة إلى ذكرها.
________________
(1) قارن هذا الرد بما ورد فى الأربعين للرازى ص 430، والمغنى 20/ 42 وما بعدها وغاية المرام ص 384، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 283 وما بعدها.
(5/131)
________________________________________
الفصل الثانى فيما يثبت به كون الإمام إماما «1»
[رأى الفرق بالإجمال]
وقد اتّفق المسلمون على أنّ ذلك لا يخرج عن التّنصيص، والاختيار والدّعوة إلى اللّه- تعالى- ممّن هو أهل للإمامة، مع اتفاقهم على أنّه لو وجد التنصيص من الرسول- عليه السلام- على شخص، أو من الإمام ثبت كون المنصوص عليه إماما، ثم اختلفوا بعد ذلك.
فذهبت الامامية، وأكثر طوائف الشّيعة: إلى أنّه لا طريق غير التّنصيص من الرّسول، أو الإمام «2».
وذهبت الأشاعرة، والمعتزلة، وجميع أهل السنة والجماعة والسّليمانية والبترية من الزّيدية: إلى «11» // أن الاختيار أيضا طريق فى إثبات كون الإمام إماما «3».
وذهبت/ الجارودية من الزّيديّة: إلى أنّ الإمامة فى ولد الحسن، والحسين شورى، فمن خرج منهم داعيا إلى اللّه- تعالى- وكان عالما فاضلا؛ فهو إمام «4».
وقد اتفق أصحابنا، والمعتزلة، والإمامية: على إبطال هذا الطريق غير الجبائى «5».
والمعتمد لأصحابنا أنهم قالوا: قد ثبت أنّ نصب الإمام بعد النبي- صلى الله عليه وسلم- واجب شرعا، وقد أجمعت الأمة على أن طريق إثبات كون الإمام إماما لا يخرج عن النّص، والاختيار، والدّعوة، والقول بالتنصيص والدعوة ممتنع: فتعين
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما أورده الآمدي هاهنا:
انظر التمهيد للباقلانى ص 165، وأصول الدين للبغدادى ص 279.
والأربعين للرازى ص 433. وشرح المواقف- الموقف السادس ص 290 وما بعدها.
(2) انظر ما سبق فى القاعدة السابعة- الفصل الرابع ل 252/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 153/ أ.
(3) قارن بما ورد فى شرح المواقف- الموقف السادس ص 290 وما بعدها.
(4) انظر ما سبق عن الجارودية فى القاعدة السابعة- الفصل الرابع ل 251/ ب وما بعدها. وقارن بما ورد فى شرح المواقف- الموقف السادس ص 294.
(5) انظر عن رأى الجبائى ما سبق فى القاعدة السابعة- الفصل الرابع ل 246/ ب وما بعدها.
(5/132)
________________________________________
القول بالاختيار «1». وإلّا كان إجماع الأمّة على الحصر فى الطرق الثلاثة خطأ؛ وهو ممتنع «2».
وبيان أنّ القول بالدّعوة ممتنع: وذلك لأنّه لو وجد من ولد الحسن، أو الحسين اثنان عالمان، فاضلان يدعوان إلى اللّه- تعالى- وإلى سبيله فى زمان واحد فى بلد واحد، فإما أن تكون الإمامة فيهما، أو فى أحدهما، أولا فى واحد منهما.
الأول: محال مخالف للإجماع.
والثانى: أيضا محال؛ لعدم الأولويّة، فلم يبق إلّا الثالث: وهو المطلوب.
وأما أن القول بالتّنصيص باطل: وذلك لأنه لو نصّ النبي- عليه السلام- على أحد، لم يخل إما أن يكون ذلك التنصيص بمشهد جماعة يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ، أو لا يتصور. عليهم التواطؤ على الخطأ،
فإن كان الأول: فلا حجّة فيه بالإجماع منّا، ومن الخصوم.
فأما نحن: فإنّا لا نرى أن خبر من يتصور عليه الخطأ حجة فى عظائم الأمور، والإمامة من عظائم الأمور على ما يأتى «3».
وأما عند الخصوم: فلأن خبر الواحد عندهم ومن يتصوّر عليه الخطأ لا يوجب علما، ولا عملا، ولا يحصل ذلك من غير خبر الإمام المعصوم. وسيأتى الكلام فى إبطال عصمة الإمام «4».
وإن كان القسم الثانى: وهو أن التّنصيص كان بمشهد من جماعة تقوم الحجة بقولهم، ولا يتصوّر عليهم التواطؤ على الخطأ؛ فالعادة تحيل تواطؤ الكل على عدم نقله؛
________________
(1) قارن ما أورده الآمدي هنا بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص 164.
وأصول الدين للبغدادى ص 279، وشرح المواقف- الموقف السادس. ص 290 وما بعدها.
(2) لأن مجموع الأمة معصوم عن الخطأ. قال رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- «لا تجتمع أمتى على الضلالة» انظر عن عصمة الأمة- ما مر فى الجزء الأول القاعدة الثانية: فى النظر وما يتعلق به ل 27/ أ.
(3) قارن رأى الآمدي فى خبر الواحد بما ورد بالتمهيد للباقلانى ص 164 وما بعدها
والإرشاد للجوينى ص 232 وما بعدها، وأصول الدين للبغدادى ص 12 وما بعدها وقارن بما ورد فى المغنى 20/ 121 وما بعدها.
(4) انظر ما سيأتى ل 285/ ب وما بعدها.
(5/133)
________________________________________
فيمتنع عليهم أن لا ينقلوه، وإلّا لكانوا مخطئين بكتمان نص الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو محال مخالف للفرض «1».
وأيضا: فإن التّنصيص على الإمام من عظائم الأمور، وإنما قلنا ذلك لأنّ الدين من عظائم الأمور، والتنصيص على الإمامة إثبات رئاسة فى الدّين، والدّنيا؛ فكانت من عظائم الأمور، وإذا كانت من عظائم الأمور، فلو جرى التنصيص بمشهد من جماعة يحصل التواتر بخبرهم، فالعادة تحيل عدم نقله، وإخفائه، كما لو جرى بمشهد من الحجيج، أو أهل الجامع قتل ملك، أو فتنة/ عظيمة؛ فإنّ العادة تحيل أن لا ينقلوه، ولو نقلوه. فإمّا أن ينقله واحد، أو جماعة «2».
فإن كان الأول: فخبره أيضا ليس بحجة؛ لأنّ انفراده بمثل هذا الخبر العظيم دون الجماعة يدل على كذبه، كما لو أنفرد الواحد بنقل قتل الملك العظيم فى الجامع يوم الجمعة دون أهل الجمعة «3».
وإن كان الثّاني: فيلزم أن يكون ذلك شائعا، ذائعا فيما بين النّاس؛ وهو محال.
وبيانه من خمسة أوجه:
الأول: هو أن الناس بعد موت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، اختلفوا، حتى اختلف المهاجرون، والأنصار، وتفاخروا فيما بينهم، وقال الأنصار «منّا أمير، ومنكم أمير» «4»، ولو كان ثم من هو منصوص عليه من جهة النبي- صلى الله عليه وسلم- مع اشتهاره كما سبق؛ لكانت العادة تحيل أن لا ينكر أحد من الصّحابة، هذا الاختلاف، وأن يقول: هذا الاختلاف لما ذا، وفلان منصوص عليه؟
________________
(1) قارن بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص 371. وقارن بما ورد فى التمهيد ص 165 ونهاية الاقدام ص 480 وما بعدها.
(2) قارن هذا الرد بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص 165، والإرشاد للجوينى ص 237.
(3) قارن بالإرشاد ص 236 للجوينى.
(4) انظر فى هذا القول صحيح البخارى 5/ 8 والقائل هو الحباب بن المنذر الأنصارى حيث قال: «منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش».
(5/134)
________________________________________
الثانى: أنه لما قال أبو بكر «بايعوا أحد هذين الرجلين: إما عمر. واما أبا عبيدة» «1». فقال عمر: «لأن أقدّم فأنجم كما ينجم البعير، أحب إلى من أن أتقدم قوما فيهم أبو بكر» «2».
وقال عمر لأبى عبيدة «امدد يدك أبايعك».
فقال أبو عبيدة: ما لك حجة فى الإسلام غير أن تقول هذا وأبو بكر حاضر، ثم قال لأبى بكر: أنت صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى المواطن كلها شدتها ورخائها، قدمك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى الصلاة فمن يؤخرك؟.
فقال عمر: أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدّمهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى «3» [الصلاة] «4» فخصّوه بالإمامة. ولو كان ثم نص مشهور على أحد؛ لما وقع هذا الاختلاف.
الثّالث: أنّ أبا بكر قال: «لقد وددت أننى سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن هذا الأمر فيمن هو؛ فكنا لا ننازعه أهله» «5».
وقال عمر «إن استخلف «11» // فقد استخلف منى هو خير منى- يعنى أبا بكر- وإن أترك؛ فقد ترك من هو خير منى: يعنى النبي- صلى الله عليه وسلم- «6»، حيث أنه لم يستخلف أحدا، ولو كان النص من النبي- صلى الله عليه وسلم- على أحد مشهور، لما أمنا تكذيبهما، ولما أقدما على ما قالاه من غير ضرورة.
الرابع: قول عليّ كرّم الله وجهه «أترككم كما ترككم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فإن يعلم اللّه فيكم خيرا جمعكم على خيركم؛ كما جمعنا على خيرنا» «7» يعنى: أبا بكر، وذلك يدل على عدم التنصيص من النبي- صلى الله عليه وسلم.
الخامس: أنه لمّا مرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال العبّاسى لعليّ كرّم اللّه وجهه: «أنا أعرف الموت فى وجوه بنى عبد المطلب، وقد عرفت الموت فى
________________
(1) هذه الأقوال. اختلفت المصادر فى ذكرها بالزيادة والنقصان والتغيير انظر عنها صحيح البخارى 5/ 8 وما بعدها، وسيرة ابن هشام 4/ 227 وما بعدها وتاريخ الطبرى 3/ 202 وما بعدها.
(2) هذه الأقوال. اختلفت المصادر فى ذكرها بالزيادة والنقصان والتغيير انظر عنها صحيح البخارى 5/ 8 وما بعدها، وسيرة ابن هشام 4/ 227 وما بعدها وتاريخ الطبرى 3/ 202 وما بعدها.
(3) هذه الأقوال. اختلفت المصادر فى ذكرها بالزيادة والنقصان والتغيير انظر عنها صحيح البخارى 5/ 8 وما بعدها، وسيرة ابن هشام 4/ 227 وما بعدها وتاريخ الطبرى 3/ 202 وما بعدها.
(4) ساقط من «أ».
(5) فى الطبرى 3/ 431 «وددت أنى كنت سألت رسول- صلى اللّه عليه وسلم- لمن هذا الأمر، فلا ينازعه فيه أحد».
(11) // أول ل 153/ ب.
(6) قارن به مسند الإمام أحمد 1/ 322، وصحيح البخارى 9/ 100.
(7) قارن بما ورد فى طبقات ابن سعد 3/ 34، وصحيح مسلم 6/ 4، 5.
(5/135)
________________________________________
وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فادخل بنا لنسأله عن هذا الأمر فإن كان/ لنا بيّنه، وإن كان لغيرنا وصّى الناس بنا» «1» ولو كان النبي- صلى الله عليه وسلم- قد نصّ على أحد؛ لكان العبّاس وعليّ أعرف به من غيرهما، ولا يمكن أن يكون المراد من قول العباس استعلام بقاء الأمر له. فإنّ قوله «لنا، أو لغيرنا» ظاهر فى الاستحقاق لا فى استدامة المستحق؛ فحمله على معرفة الاستدامة تكون خلاف الظاهر.
فإن قيل: سلّمنا أن التّنصيص على الإمام من عظائم الأمور؛ ولكن لا نسلّم أن وقوع ذلك بمشهد من الجمع الكثير مما يوجب اشتهاره، وتواتره.
وبيانه: هو أن إقامة الصّلاة من الأمور العظيمة، ومن قواعد الدين، وقد وقعت فى زمن الرّسول بمشهد من كل الصّحابة فى كل يوم، وليلة خمس مرات طول حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك فلم تنتشر ولم تتواتر حتى وقع الخلاف فى عدد كلماتها، وأنها مثنى، أو فرادى، وكذلك انشقاق القمر، وفتح مكة عنوة [أو صلحا] «2»، وكون البسملة من القرآن فى أول كل سورة، من عظائم الأمور، وقد وقع بمشهد من الخلق، ولم ينتشر حتى وقع الخلاف فى جميع ذلك.
سلّمنا أن ما وقع من الأمور العظيمة بمشهد من الخلق الكثير لا بدّ وأن يتواتر، وينتشر، ولكن متى إذا وجد الدّاعى لهم إلى الكتمان من منفعة عظيمة [أو مضرة عظيمة] «3» تلحقهم من الإشاعة، أو إذا لم يوجد؟ الأول: ممنوع، والثانى مسلم، فلم قلتم إن الدّاعى إلى الكتمان لم يوجد.
ثم بيان احتمال الدّاعى إلى الكتمان أنه من الجائز أنهم اعتقدوا وجود ناسخ للنصّ، وبتقدير اعتقادهم صحّة النّصّ فيمكن أن يكون الدّاعى إلى كتمانه عداوة سابقة، أو أنّهم حسدوه على تميّزه بتأميره عليهم، وذلك غير ممتنع على الذين سمعوا التّنصيص وعلموا صحته، وبيانه من وجهين:-
الأول: أن عدد المستمعين للنّص لا يزيد على عدد قوم فرعون، وقد قال- تعالى- فى حقهم: وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوًّا «4»: أى بالآيات التسع التى ظهرت على يد موسى.
________________
(1) ورد فى تاريخ الطبرى وبه زيادة: «قال على- رضي اللّه عنه- والله لئن سألناها رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- فمنعناها؛ لا يعطينا النّاس أبدا، والله لا أسألها رسول الله أبدا». قارن به شرح نهج البلاغة 1/ 309.
(2) ساقط من «أ».
(3) ساقط من «أ».
(4) سورة النمل 27/ 14.
(5/136)
________________________________________
الثّاني: أن عددهم لم يكن زائدا على عدد قوم موسى الذين ضلوا بعبادتهم للعجل، مع علمهم أن العجل لا يكون إلها معبودا.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على صحة الاختيار، وإبطال التنصيص؛ ولكنه معارض بما يدل على نقيضه.
[أدلة الشيعة على النص على الإمام وبطلان الاختيار]
بيانه من جهة المعقول، والمنقول:
أما من جهة المعقول فمن خمسة عشر وجها:
الأول: أن الإمام يجب أن يكون معصوما، وأن يكون أفضل من رعيته فى كل ما هو إمام فيه، وأن يكون عالما بكلّ أمور الدّين على ما يأتى تحقيقه/ وأن لا يكون كافرا فى نفسه، وكل ذلك مما لا يعلمه المختارون له؛ فلا تكون إمامته ثابتة بالاختيار «1».
الثّاني: هو أن المختارين له لا يملكون التصرّف فى أمور المسلمين؛ ومن لا يملك ذلك لا يملك أن يملّك غيره ذلك «2».
الثّالث: أن المختار لو أراد أن يجعل غيره نافذ الحكم عليه وحده، أو على غيره وحده، لما صح ذلك منه بالإجماع؛ فلأن لا يصح منه أن يجعل غيره نافذ الحكم عليه، وعلى غيره مطلقا أولى «3».
الرابع: أنه لو ثبتت الإمامة بالاختيار؛ لكان لمن أثبتها إزالتها كما فى التوكيل، فحيث لم يؤثر الاختيار فى الإزالة دلّ على أنه لا يؤثّر فى الإثبات «4».
الخامس: أنّ ثبوت الإمامة بالاختيار مما يفضى إلى الفتن ووقوع الاختلاف، وذلك خلاف المقصود من نصب الإمام.
وبيان لزوم ذلك: أنّ الناس مختلفون فى المذاهب، والأغراض؛ فكل يميل إلى عقد الإمامة «11» // لمن هو على مذهبه، وموافقة غرضه؛ وذلك سبب الاختلاف لا محالة «5».
________________
(1) قارن هذا الطعن فى الاختيار بما ورد فى المغنى 20/ 1/ 103، ونهاية الأقدام 486، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 290.
(2) انظر الرد على هذا الاعتراض فى المغنى 20/ 1/ 276 وما بعدها.
(3) انظر الرد على هذا الاعتراض فى المغنى 20/ 1/ 306 وما بعدها.
(4) انظر الرد على هذا الطعن فى المغنى 20/ 1/ 305.
(11) // أول ل 154/ أ.
(5) انظر الرد على هذا الاعتراض فى المغنى 20/ 1/ 301، وشرح المواقف. الموقف السادس ص 290.
(5/137)
________________________________________
السادس: هو أن أحدا من الأمة لا يقدر على توليه من هو أدنى فى الرتبة من الإمامة: كالقضاء والحسبة وغيره؛ فلأن لا يقدر على تولية الإمامة كان أولى «1».
السابع: [هو] «2» أنّ الإمام خليفة اللّه- تعالى- ورسوله، فلو ثبتت خلافته باختيار بعض الأمة؛ لكان خليفة عنهم لا عن الله ورسوله؛ لأنه لم يكن مستخلفا من جهة اللّه ورسوله «3».
الثامن: أنّه لو جاز إثبات الإمامة بالاختيار؛ لأفضى ذلك إلى خلو بعض الأزمنة عن الإمام؛ وهو ممتنع.
وبيان ذلك: أنّه إذا مات الإمام فبويع اثنان، كل طائفة لواحد، ولم يعلم تقدّم أحدهما ولا وقوعهما معا، فإنه يمتنع القول بالصحة؛ لجواز وقوعهما معا ويمتنع القول بالبطلان؛ لجواز تقدم أحدهما. ويمتنع تعيين أحدهما لعدم الأولوية، ومع ذلك فيمتنع نصب إمام آخر وذلك مما «4» يفضى إلى خلو الزمان عن الإمام فى هذه الحالة «5».
التاسع: هو أن الإمامة، ولاية عامة، فلو جاز إثباتها بالاختيار؛ لجاز إثبات النبوة بالاختيار، وحيث لم يجز لم تجز «6».
العاشر: أنّ الإمامة من الأركان العظيمة فى الدّين، فوجب أن تثبت بالنص لا بالاختيار كما فى الصّلوات الخمس، وصوم رمضان «7».
الحادى عشر: هو أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يخلو إما أن يقال إنّه كان عالما باحتياج الخلق إلى من يقوم بمهماتهم، ويحفظ بيضتهم، ويحمى حوزتهم، ويقبض على أيدى السّفهاء منهم، ويقيم فيهم القوانين الشّرعية على وفق ما وردت به الأدلة السّمعية. أو أنه لم يكن عالما بذلك. الثانى: محال إذ هو إساءة ظن بالنبى- عليه السلام- وقدح فى الرّسول. وإن كان الأول: فلا يخفى مبالغته فى التعريف
________________
(1) انظر الرد على هذا الطعن أيضا فى شرح المواقف ص 291.
(2) ساقط من «أ».
(3) انظر الرد على هذا الطعن فى المغنى 20/ 1/ 316 وشرح المواقف ص 290 الموقف السادس.
(4) ساقط من ب.
(5) انظر الرد على هذا الطعن فى المغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 1/ 268 وما بعدها.
(6) انظر الرد على هذا الطعن فى المغنى 20/ 1/ 298 وما بعدها.
(7) انظر الرد على هذا الاعتراض فى المغنى 20/ 1/ 109 وما بعدها.
(5/138)
________________________________________
والتّنصيص/ على ما يتعلق بباب الاستنجاء والتيمم وغير ذلك من الأمور التى هى أدنى من الإمامة؛ فكان التعريف لها، والتنصيص عليها أولى «1».
الثانى عشر: أنّا نعلم من حال النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه كان للأمة فى تدبيره لهم كالوالد لولده. وإليه الإشارة بقوله- عليه السلام- «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده» «2» وإذا كان الوالد يجب عليه الوصية عند موته لمن يسوس أطفاله بعده؛ فكذلك النبي عليه السلام وجب أن يوصى لمن يقوم بأمور أمته بعد موته «3».
الثالث عشر: قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «4» وإنما يكون الدين مكملا أن لو بيّن فيه كل ما يتعلق به، والإمامة فمتعلقة بالدين؛ فوجب أن يكون قد بيّنها إما فى كتاب الله، أو [فى] «5» سنة رسوله. وعلى كل تقدير فتكون منصوصة.
الرابع عشر: أنّه قد علم من حال النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه ما كان يخرج من المدينة إلا ويستخلف فيها على الرعيّة من يقوم بأحوالهم، وينصّ عليه. ولم يكن ذلك من قبيل ما منه بد وإلّا لوقع الإخلال به ولو مرة واحدة، فكان لا بدّيا، وإنما كان كذلك لتعذر سياسته لهم مع الغيبة؛ فبعد الموت أولى بالاستخلاف «6».
الخامس عشر: هو أن تعيين الإمام بعد أن ثبت وجوب نصب الإمام لازم لا محالة، وهو إما أن يستند إلى النّصّ، أو الاختيار.
لا جائز أن يستند إلى الاختيار، وإلّا لما وجبت طاعة الإمام على الرعيّة من جهة أن الاختيار لا مستند له، ولأنه إنما صار إماما بإقامتهم له؛ فهم أصل بالنسبة إليه، والأصل لا يجب عليه طاعة التابع، وإذا بطل القول بالاختيار تعيّن التنصيص «7».
________________
(1) قارن هذا الاعتراض والرد عليه بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص 380.
ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 486؛ ص 492.
(2) والحديث بتمامه «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده، أعلمكم إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها» مسند الإمام أحمد 2/ 247، 250، وسنن ابن ماجه 1/ 114.
(3) انظر الرد على هذا الاعتراض فى المغنى 20/ 1/ 102، 317.
(4) سورة المائدة 5/ 3.
(5) ساقط من أ.
(6) انظر الرد على هذا الاعتراض فى المغنى 20/ 1/ 181، والمواقف فى علم الكلام ص 404.
(7) انظر الرد على هذا الاعتراض فى المغنى 20/ 1/ 301.
(5/139)
________________________________________
وأما من جهة المنقول:
فاعلم أن من قال بالتنصيص فقد اتفقوا على أن المنصوص عليه غير خارج عن أبى بكر، وعليّ، والعباسى، رضى الله عنهم «1».
فأما من قال بأن المنصوص عليه أبو بكر: فقد اختلفوا، فمنهم من قال: إنه نصّ عليه نصا جليا: كبعض أصحاب الأشعرى، وبعض أصحاب الحديث «2».
وذلك ما روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال «ائتونى بدواة وقرطاس أكتب إلى أبى بكر كتابا لا يختلف فيه اثنان» «3». ثم إنه قال «يأبى اللّه ورسوله إلّا أبا بكر» «4».
وأيضا قوله عليه- الصلاة والسلام- «اقتدوا باللّذين من بعدى أبى بكر، وعمر» «5»، وذلك يدل على جواز الاقتداء بهما، وهو نص على إمامة أبى بكر.
وأيضا قوله عليه السلام «الخلافة بعدى ثلاثون سنة ثم تصير ملكا» «6». وذلك تنصيص على خلافة الخلفاء الأربعة على الترتيب، حيث وقع الأمر كذلك.
ومنهم من قال إن النص «11» // عليه خفى/: كالحسن البصرى «7»؛ وذلك كتقديمه فى الصلاة.
وأما من قال بأنّ المنصوص عليه العبّاس: قال: إن النّصّ فى حقه خفى، فإنه قد ورد فى حقّه- من الأقوال ما يدل على أنّه أحقّ بالإمامة من غيره، كقوله- عليه السلام- «هو عمّى، وبقيّة آبائى» «8». إلى غير ذلك.
وأما من قال بأنّ المنصوص عليه عليّ كرّم اللّه وجهه: فقد اتفقوا على النّص الخفىّ. واختلفوا فى النّصّ الجلىّ، فأثبته الإمامية دون الزّيدية.
________________
(1) قارن ما أورده الآمدي هاهنا بما ورد فى اللمع للأشعرى ص 131 والإبانة له أيضا ص 188 والمغنى 20/ 1/ 112.
(2) منهم ابن حزم الظاهرى. انظر الفصل 4/ 107.
(3) ورد بألفاظ متقاربة فى صحيحى البخارى ومسلم. صحيح البخارى 6/ 11 وصحيح مسلم 5/ 76.
(4) ورد فى مسند أحمد 4/ 322، وصحيح مسلم 7/ 110.
(5) مسند أحمد 5/ 382، وصحيح الترمذي 5/ 609.
(6) ورد بألفاظ متقاربة فى مسند الإمام أحمد 5/ 220.
(11) // أول ل 154/ ب.
(7) ومنهم أيضا: ابن أبى العز الحنفى شارح العقيدة الطحاوية ص 552 - 559. قال: «اختلف أهل السنة فى خلافة الصديق رضي اللّه عنه: هل كانت بالنص، أو بالاختيار فذهب الحسن البصرى وجماعة من أهل الحديث: إلى أنها ثبتت بالنص الخفى والإشارة، ومنهم من قال بالنص الجلى. وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية إلى أنها ثبتت بالاختيار. والدليل على إثباتها بالنص أخبار» ثم ذكر أكثر من عشرة أحاديث للدلالة على صحة ما ذهب إليه وترجيحه. (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفى من ص 552 إلى ص 559).
(8) ورد فى مجمع الزوائد 9/ 669 بلفظ «احفظونى فى العباس فإنه بقية آبائى». وفى رواية أخرى «استوصوا بالعباس خيرا فإنه بقية آبائى فإنما عم الرجل صنو أبيه».
(5/140)
________________________________________
[أدلة الشيعة الاثنى عشرية على ثبوت النص الجلى على إمامة على رضي اللّه عنه]
وقد احتجوا عليه بأنّ الإماميّة مع كثرتهم فى زماننا كثرة لا يتصور على مثلهم التواطؤ على الكذب قد نقلوا النّصّ الجلىّ على عليّ عمّن تقدّمهم ونقلوا أن من تقدّمهم أخبرهم بذلك، وكانوا فى الكثرة إلى حدّ لا يتصوّر عليهم التواطؤ على الكذب.
وأنّهم أخبروا بذلك وأخبروهم أنّ من أخبرهم بذلك كان حاله كحالهم وهلم جرا، إلى النّبي صلى اللّه عليه وسلم والمخبر به محسوس مشاهد وهو خبر النبي صلى اللّه عليه وسلم وقوله، فكان خبرهم متواترا، والتواتر مفيد للعلم كما تقدّم تحقيقه «1».
ولا يمكن أن يقال بأنّ ذلك مما وضعه بعض النّاس فى بعض الأعصار، ثم اشتهر وشاع وذاع بحيث نقله عدد التواتر؛ لأنّه من الأمور العظيمة المتضمّنة تخطئة الأمّة فيما اتفقوا عليه من عقد الإمامة لغير عليّ.
وما كان كذلك فالدّواعى تكون متوفّرة على نقله، وإشاعته من القائلين بعدم التنصيص؛ لإظهار إبطال القول بالتّنصيص وإفساده، لا سيما وهم غير خائفين فى نقله، فإنّه لم تزل الغلبة لهم فى كلّ عصر.
ومن قال بالتّنصيص تحت القهر والتّقية، فحيث لم ينقل ذلك دلّ على إبطاله، ولا يمكن أن يقال إنّما يلزم [نقل] «2» ذلك أن لو عرف واضعه، وقت حدوثه، وليس كذلك؛ بل أمكن أن يكون من وضع [بعض] «3» الناس، وقد تناقلته الألسنة، واشتهر من غير أن يعرف واضعه، ووقت حدوثه. كما فى الأراجيف الواقعة فى كلّ زمان؛ لأنّ القول بتجويز ذلك ممّا يوجب تطرّقه إلى كل خبر متواتر ويخرج التّواتر عن كونه مفيدا للعلم؛ وهو محال.
وأما النّصوص الخفية فكثيرة:
الأول منها: أنهم قالوا إنا قد بيّنا فى الأدلّة العقليّة امتناع ثبوت الإمامة بالدعوة، والاختيار. وأنّه لا بدّ وأن يكون الإمام منصوصا عليه وقد انعقد الإجماع على أنّ المنصوص عليه لا يخرج عن أبى بكر، والعباسى، وعليّ «4».
________________
(1) راجع ما مر فى القاعدة السادسة- الأصل الثانى- الفصل الأول: فى الدليل السمعى وأقسامه، وأنه هل يفيد اليقين، أم لا؟ ل 215/ ب وما بعدها.
(2) ساقط من «أ».
(3) ساقط من «أ».
(4) قارن ما ورد هاهنا بما ورد فى اللمع للأشعرى ص 131، والإبانة له أيضا ص 88 والمغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 1/ 118، 119، وأصول الدين للبغدادى ص 279.
(5/141)
________________________________________
وأبو بكر غير منصوص عليه لوجهين: الأول: انّه قد نقل عنه أنّه قال: «وددت أنّى سألت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم/ عن هذا الأمر فيمن هو؛ فكنّا لا ننازعه أهله» «1».
ولو كان منصوصا عليه؛ لكان أعلم به.
الثانى: أنّه لو كان منصوصا عليه لما وافق على البيعة؛ لأنّه يكون من أعظم المعاصى؛ وذلك قادح فى إمامته.
والعبّاس أيضا غير منصوص عليه؛ لأنه لما مرض رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال العبّاس لعليّ «أدخل بنا عليه لنسأله عن هذا الأمر؛ فإن كان لنا بيّنه، وإن كان لغيرنا؛ وصّى النّاس بنا» «2». ولو كان العبّاس منصوصا عليه؛ لكان أعلم به من غيره.
وإذا بطل أن يكون المنصوص عليه أبا بكر، والعبّاس؛ تعيّن أن يكون عليا- عليه السلام- عملا بالإجماع.
الثانى: أن عليا- عليه السلام- أفضل الصّحابة، والأفضل يجب أن يكون هو الإمام وإلا كان الأكمل الأفضل تبعا للأنقص؛ وهو قبيح عقلا، وإذا كان إماما
فقد بيّنا أن الإمامة لا تكون إلّا بالتّنصيص؛ فكان عليّ هو المنصوص عليه.
وبيان كونه أفضل الصحابة من ثمانية عشر وجها:
الأول: قوله تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ وأَنْفُسَنا وأَنْفُسَكُمْ «3» الآية، ووجه الاستدلال بها أنه- عليه الصّلاة والسّلام- دعا عليا إلى ذلك المقام، وذلك يدلّ على أنّه أفضل من جميع الصّحابة، وبيان دعائه إليه ما ورد فيه من الأخبار الصّحيحة، والرّوايات الثابتة عند أهل النقل.
________________
(1) ورد فى تاريخ الطبرى 3/ 431 «وددت أنى سألت رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد، وددت أنى كنت سألته هل للأنصار فى هذا الأمر نصيب».
(2) فى المصنف 5/ 435 «فاذهب بنا إليه فلنسأله؛ فإن يك هذا الأمر إلينا علمنا ذلك وإلا يك أمرناه أن يستوصى بنا خيرا، فقال له على: أ رأيت إذا جئناه فلم يعطناها، أ ترى الناس أن يعطوها، والله لا أسأله إياها أبدا، وقارن بألفاظ متقاربة صحيح البخارى 8/ 101 وشرح نهج البلاغة 1/ 309.
(3) سورة آل عمران 3. 61.
(5/142)
________________________________________
وأيضا فان قوله «و أنفسنا» ليس «11» // المراد [به] «1» نفسه صلى اللّه عليه وسلم لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه كما لا يأمر نفسه، وليس المراد به فاطمة، والحسن، والحسين لأنّهم اندرجوا فى قوله تعالى: أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَنا ونِساءَكُمْ فلا بدّ وأن يكون شخصا آخر غير نفسه، وغير فاطمة، والحسن، والحسين، وليس ذلك المدعو غير عليّ بالإجماع، فتعيّن أن يكون عليا- عليه السلام «2».
وبيان دلالته على كونه أفضل الصّحابة من وجهين: الأول: أنّه دعاه إلى المباهلة، [و هذا] «3» يدلّ على أنّه- عليه السلام- فى غاية الشفقة والمحبّة لعليّ، وإلّا لقال المنافقون إن الرّسول ليس على بصيرة من أمره حيث أنه لم يدع إلى المباهلة من يحبه، ويحذر عليه من العذاب، وزيادة الشفقة والمحبّة للمدعوّ إلى المباهلة إمّا أن تكون لزيادة قربه منه، أو لكونه أفضل.
الأول: محال وإلّا كان العبّاس أولى بذلك، ولما كان على أولى من أخيه عقيل لتساويهما فى القرابة؛ فلم يبق إلّا أن يكون؛ لكونه أفضل.
الثانى: أنه- عليه السلام- لما جعل عليا نفسا له وجب أن يثبت لعلىّ كل ما هو ثابت للنبى صلى اللّه عليه وسلم ضرورة الاتّحاد، غير أنا خالفناه فى أمور كالنّبوّة، وغيرها/ فوجب العمل به فيما وراء محلّ المخالفة، ومن جملة ذلك كون النبي- عليه السلام- أفضل من الصّحابة؛ فكذلك عليّ عليه السلام.
الثانى: قوله- عليه السلام- فى [ذى] الثّدية «يقتله خير الخلق» «4» وقد قتله عليّ- عليه السلام.
الثالث: قوله صلى اللّه عليه وسلم «أخى، ووزيرى، وخير من أتركه بعدى، يقضى دينى، وينجز موعدى على بن أبى طالب» «5».
الرابع: قوله- صلى اللّه عليه وسلم- لفاطمة «أ ما ترضين أنى زوجتك خير أمّتى» «6».
________________
(11) // أول ل 155/ أ.
(1) ساقط من «أ».
(2) قارن بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 1/ 142، والأربعين للرازى ص 465.
(3) ساقط من «أ».
(4) ورد فى شرح نهج البلاغة 2/ 267، والبداية والنهاية لابن كثير 7/ 303.
(5) ورد بألفاظ متقاربة فى تاريخ ابن عساكر 1/ 130، ومجمع الزوائد 6/ 121 وقال فيه «و فيه من لم أعرفه» وقد اعتبره السيوطى فى اللآلئ المصنوعة 1/ 358 موضوعا.
(6) ورد بألفاظ متقاربة فى طبقات ابن سعد 8/ 24، وتاريخ ابن عساكر 1/ 253.
(5/143)
________________________________________
الخامس: قوله- عليه السلام- «خير من أترك بعدى عليّ» «1».
السادس: ما روى عن عائشة- رضى الله عنها- أنها قالت: كنت عند رسول الله صلى اللّه عليه وسلم إذ أقبل عليّ، فقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: هذا سيّد العرب، فقلت بأبى أنت وأمى يا رسول الله، أ لست أنت سيد العرب؟، فقال أنا سيّد العالمين، وعليّ سيّد العرب» «2».
السابع: قوله- عليه السلام- لفاطمة «إنّ الله- تعالى- اطّلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فاتخذه نبيا، ثمّ اطلع ثانية فاختار منهم بعلك «3».
الثّامن: ما روى عنه- عليه السلام- أنه أهدى له طائر مشوى فقال «اللهم ائتنى بأحب خلقك إليك يأكل معى، فجاءه على وأكل معه» «4» والأحب إلى الله تعالى هو «5» من أراد الله- تعالى- زيادة ثوابه، وليس فى ذلك ما يدل على كونه أفضل من النبي- صلى اللّه عليه وسلم- والملائكة.
أما أنه لا يدل على كونه أفضل من النبي- صلى اللّه عليه وسلم- فلأنه قال «ائتني بأحب خلقك إليك، والمأتى به إلى النّبي يجب أن يكون غير النّبي، فكأنه قال: أحب خلقك إليك غيرى، وأما أنّه لا يدل على كونه أفضل من الملائكة، فلقوله «يأكل معى» وتقديره:
ائتنى بأحب خلقك إليك ممن يأكل؛ ليأكل معى، والملائكة لا يأكلون وبتقدير عموم اللفظ للكل؛ فلا يلزم من تخصيصه بالنسبة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم والملائكة تخصيصه بالنسبة إلى غيرهم.
التاسع: أنّه- عليه السلام- آخى بين الصّحابة واتخذ عليا أخا لنفسه؛ وذلك دليل على أفضليته، وعلو رتبته «6».
________________
(1) هو جزء من الحديث السابق. انظر عنه ما ورد فى الهامش السابق.
(2) ورد فى المستدرك على الصحيحين 3/ 124 قال عنه «و فى اسناده عمر بن الحسين وأرجو أنه صدوق، ولو لا ذلك لحكمت بصحته على شرط الصحيحين» وعلق الذهبى على قول صاحب المستدرك «أظن هو الّذي وضع هذا».
(3) ورد بألفاظ متقاربة فى المستدرك على الصحيحين 3/ 129، وتاريخ ابن عساكر 1/ 270 وقد ذكره ابن الجوزى فى الأحاديث الواهية. انظر العلل المتناهية 1/ 224، 225.
(4) ورد بألفاظ متقاربة فى سنن الترمذي 5/ 170 وقد ذكره ابن الجوزى فى العلل المتناهية 1/ 229 وقال: «هذا حديث لا يصلح». وعلق عليه ابن تيمية فى كتابه منهاج السنة النبوية 4/ 94 قائلا: «إن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل».
(5) من أول (هو من أراد الله تعالى) ساقط من ب.
(6) جاء فى نقد ابن تيمية لهذا الخبر فى منهاج السنة 4/ 97 «أنه قد آخى بين المهاجرين والأنصار والنبي- صلى اللّه عليه وسلم- وعلى كلاهما من المهاجرين؛ فلم يكن بينهما مؤاخاة؛ بل آخى بين على وسهل بن حنيف؛ فعلم أنه لم يؤاخ عليا، وهذا مما يوافق ما فى الصحيحين من أن المؤاخاة إنما كانت بين المهاجرين والأنصار، ولم تكن بين مهاجرى، ومهاجرى».
(5/144)
________________________________________
العاشر: ما روى عنه- عليه السلام-: «أنه بعث أبا بكر إلى خيبر فرجع منهزما، ثم بعث عمر؛ فرجع منهزما؛ فغضب الرسول- صلّى اللّه عليه وسلم- لذلك، فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه راية فقال: لأعطينّ الرّاية اليوم رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله كرار غير فرار، فتعرض لها المهاجرون، والأنصار، فقال- عليه الصلاة والسلام-: أين عليّ؟
فقيل له: إنّه أرمد العين؛ فتفل فى عينيه، ثم دفع الراية إليه» «1» وذلك يدل على أنّ ما وصفه به مفقود فيمن تقدم ذكره؛ فيكون أفضل منهما، ويلزم من كون عليّ أفضل من أبى بكر، وعمر أن يكون/ أفضل من باقى الصّحابة؛ ضرورة أن لا قائل بالفرق، ولأنّ أبا بكر، وعمر أفضل من غيرهما من الصّحابة، فإذا كان عليّ أفضل منهما؛ فالأفضل من الأفضل أفضل.
الحادى عشر: أنّ عليا كان أعلم الصحابة لقوله- عليه السلام- «أقضاكم عليّ» «2»، والأقضى أعلم لاحتياجه إلى جميع أنواع العلوم، وإذا كان أعلم؛ فالأعلم يكون أفضل لقوله- تعالى:- قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «3» وقوله- تعالى:- «11» // يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «4».
الثانى عشر: أن عليا كان أكثر جهادا مع رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- من جميع الصّحابة على ما هو معلوم فى مواضعه؛ فيكون أفضل لقوله- تعالى-: وفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً «5» ولا يمكن حمل الجهاد فى الآية على جهاد النفس، بدليل قوله عَلَى الْقاعِدِينَ.
الثالث عشر: أنّ إيمان عليّ كان سابقا على إيمان جميع الصحابة وبيانه من ثلاثة أوجه:
________________
(1) ورد هذا الحديث فى صحيح البخارى 5/ 171، والمستدرك 3/ 140، وتاريخ الطبرى 3/ 93.
(2) جاء فى منهاج السنة لابن تيمية 4/ 138 «فهذا الحديث لم يثبت وليس له اسناد تقوم به الحجة». أما الحاكم فقد خرجه فى المستدرك 3/ 135 (كتاب معرفة الصحابة- باب كان على أقضى أهل المدينة) عن ابن مسعود- رضي اللّه عنه- وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(3) سورة الزمر 39/ 9.
(11) // أول ل 155/ ب.
(4) سورة المجادلة 58/ 11.
(5) سورة النساء 4/ 95.
(5/145)
________________________________________
الوجه الأول: ما روى «أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث يوم الاثنين، وأسلم على يوم الثلاثاء» ولا أقرب من هذه المدة «1».
الوجه الثانى: قوله عليه السلام: «أولكم إسلاما عليّ بن أبى طالب» «2».
الوجه الثالث: ما روى عن على- عليه السلام- أنه كان يقول: «أنا أول من صلّى، وأول من آمن باللّه ورسوله، ولا سبقنى إلى الصلاة إلا نبىّ الله» «3». وقد نقل عنه أنه قال فى ذلك:
سبقتكم إلى الإسلام طرا ... غلاما ما بلغت أوان حلمى «4».
وكان قوله مشهورا فيما بين الصحابة، ولم ينكر عليه منكر، فدل على صدقه، وإذا ثبت أنه أقدم إيمانا من الصّحابة، كان أفضل منهم لقوله تعالى: والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «5». وبتقدير أن لا يكون إيمانه سابقا على إيمان جميع الصحابة، غير أن إيمانه كان سابقا على إيمان أبى بكر بدليل قول عليّ- رضي اللّه عنه- وهو على المنبر بمشهد من الخلق «أنا الصّدّيق الأكبر آمنت قبل أن آمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم «6»» ولم ينكر عليه منكر.
وإذا كان أقدم إيمانا من أبى بكر كان أفضل منه للآية، ويلزم من كونه أفضل من أبى بكر أن يكون أفضل من باقى الصحابة؛ لما تقدم.
الرابع عشر: قوله- تعالى- فى حق النبي صلى اللّه عليه وسلم: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ «7»، والمراد بصالح المؤمنين: عليّ بن أبى طالب «8» على ما نقله أبو
________________
(1) ورد فى تاريخ ابن عساكر 1/ 84.
(2) ورد فى المستدرك 3/ 136، ومجمع الزوائد 9/ 102.
(3) قارن بألفاظ متقاربة فى مسند الإمام أحمد. 1/ 209، 373 وطبقات ابن سعد 3/ 21.
(4) ورد فى شرح نهج البلاغة 5/ 122.
(5) سورة الواقعة 56/ 10، 11.
(6) ورد فى أنساب الأشراف (ترجمة أمير المؤمنين) 2/ 345 وما بعدها.
والمستدرك 3/ 12 وتاريخ ابن عساكر 1/ 62.
(7) سورة التحريم 66/ 4.
(8) انظر شرح المواقف- الموقف السادس ص 324.
(5/146)
________________________________________
صالح عن ابن عباس، ومحمد بن على، وجعفر، وهكذا/ حكاه النقاش «1»، وغيره فى تفسيره، والمراد بالمولى هاهنا: الناصر؛ إذ هو القدر المشترك بين اللّه وجبريل وعليّ، وذلك يدل على أن عليا أفضل من باقى الصحابة من وجهين:
الأول: أن ظاهر الآية للحصر، ولأنه لو لم تكن للحصر لما كان للتخصيص بذكر الله- تعالى- وجبريل، وعليّ فائدة. وتقديره أنه لا ناصر لمحمد عليه السلام غير البارى- تعالى- وجبريل، وعليّ، واختصاص عليّ بنصرة النبي صلى اللّه عليه وسلم دون باقى الصحابة، دليل على أنّه أفضل منهم، نظرا إلى أنّ نصرة النبي- صلى اللّه عليه وسلم- من أفضل العبادات.
الثانى: أنّه تعالى بدأ بنفسه، ثم بجبريل، ثم بعلىّ، وذلك يدل على أنه أفضل من غيره من الصّحابة.
الخامس عشر: قوله- عليه السلام:- «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» «2». وقوله عليه السلام: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى «3»»، وقد سبق وجه الاحتجاج بذلك.
السادس عشر: قوله عليه السلام: «على خير البشر، ومن أبى فقد كفر» «4».
السابع عشر: ما روى عن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- أنه قال: «من أراد أن ينظر إلى آدم فى علمه، وإلى نوح فى تقواه، وإلى إبراهيم فى حلمه، وإلى موسى فى هيبته، وإلى عيسى فى عبادته؛ فلينظر إلى عليّ بن أبى طالب «5». [فالنبى «6» قد] أوجب مساواته للأنبياء فى
________________
(1) النقاش: هو أبو بكر محمد بن الحسين بن زياد البغدادى المعروف بابن النقاش. اشتغل بالتفسير والاقراء. ولد ببغداد سنة 266 ه وتوفى سنة 351 ه [تاريخ بغداد 1/ 23، وفيات الأعيان 4/ 298].
(2) ورد فى مسند الإمام أحمد 1/ 118، 119، 152 قال: وفى رواية أخرى قال: فزاد الناس بعد وال من والاه «و عاد من عاداه» كما ورد فى سنن ابن ماجه 1/ 43 وسنن الترمذي 5/ 633.
(3) متفق عليه. فى صحيح البخارى 5/ 24 «قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لعلى: أ ما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى».
كما ورد فى صحيح مسلم 7/ 120.
(4) ورد فى تاريخ ابن عساكر 2/ 444 وذكر الشوكانى فى الفرائد المجموعة ص 348
«فى اسناده محمد بن على الجرجانى وهو المتهم به، ومحمد بن شجاع الثلجى وهو كذاب» كما ورد فى اللآلى المصنوعة 1/ 328.
(5) جاء فى الفوائد المجموعة ص 367. قال ابن الجوزى: موضوع وفى إسناده أبو عمر الأزدى متروك. كما ذكره السيوطى فى اللآلى المصنوعة 1/ 355 وما بعدها.
(6) ساقط من «أ».
(5/147)
________________________________________
صفاتهم، والأنبياء أفضل من باقى الصحابة؛ فكان على أفضل من باقى الصحابة؛ لأن المساوى للأفضل أفضل من ذلك المفضول عليه «1».
الثامن عشر: ان فضيلة المرء على غيره إنّما هى بما يعود إليه من الكمالات ويتصف به من الأدوات، ويتحلى به من الصّفات المرضية، والأخلاق السّنيّة. ولا يخفى أنه قد اجتمع من هذه الصفات فى حق على، ما تفرق فى مجموع الصّحابة:
كالعلم، والزّهد، والكرم، والشّجاعة، وحسن الخلق، والاختصاص بمزيد القوة وشدة البأس، وعظم المراس، والقرب من رسول الله نسابة، وصهارة، فهو ابن عم رسول اللّه، وزوج البتول، وأبو السبطين: الحسن، والحسين «2».
[أدلة أخرى للشيعة على ثبوت النص فى إمامة على رضي اللّه عنه]
أمّا اتّصافه بالعلم: فظاهر على ما سبق.
وأما بالزّهد: فلما اشتهر عنه، مع اتساع أبواب الدّنيا عليه، والتّمكن منها، من التّخشن فى المأكل، والملابس وشطف العيش وترك «11» // التنعم حتى قال للدنيا «طلقتك ثلاثا» «3».
وأما الكرم: فلما اشتهر عنه من إيثار المحاويج على نفسه، وأهل بيته مع تأكد حاجتهم حتى تصدّق فى الصّلاة بخاتمه على المسكين، ونزل فى حقه قوله تعالى:- ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً ويَتِيماً وأَسِيراً «4».
وأما الشّجاعة: فلما اشتهر عنه، وتواتر من مكافحة الحروب/ وقتل أكابر الجاهلية، وملاقاة أبطالها، ووقائعه فى خيبر، وأمثالها حتى قال- عليه السلام- فى حقه يوم الأحزاب: «نصرة عليّ خير من عبادة الثقلين» «5».
________________
(1) قارن ما ورد هنا بما ورد فى شرح المواقف- الموقف السادس ص 324 تحقيق الدكتور أحمد المهدى.
(2) قارن ما ورد هنا بما ورد فى الأربعين للإمام الرازى ص 476، 477، وشرح المواقف، الموقف السادس ص 329.
(11) // أول ل 156/ أ.
(3) انظر مروج الذهب ومعادن الجوهر 2/ 431 وما بعدها.
وقارن بما ورد فى شرح المواقف- الموقف السادس ص 327.
وصفة الصفوة لابن الجوزى 1/ 118.
(4) سورة الإنسان 76/ 8.
(5) قارن بما ورد فى المغنى 20 ق 2/ 141 وما بعدها وشرح المواقف- الموقف السادس ص 328 وما بعدها.
(5/148)
________________________________________
وأما حسن الخلق: فظاهر مشهور حتى أنّه نسب بسبب ذلك إلى كثرة الدّعابة، وقد قال عليه السلام: «حسن الخلق من الإيمان» «1».
وأما الاختصاص بمزيد القوة: فأظهر وأشهر حتى أنه اقتلع بيده باب خيبر وقال عليه السلام: «و اللّه ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية؛ لكن بقوة إلهية» «2».
وأما اختصاصه بالنسب، والصهارة من الرسول: فظاهر غير خفى. ومن هذه صفاته؛ وجب أن يكون أفضل.
الثالث: فى بيان كون عليّ منصوصا عليه.
هو أنّ الأمّة مجمعة على أنّ الإمام بعد رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- غير خارج عن أبى بكر، وعليّ، والعبّاس.
والعبّاس، وأبو بكر؛ لا يصلحان للإمامة لوجهين:
الأول: أنّا سنبيّن أن الإمام لا بدّ وأن يكون معصوما «3» وأبو بكر، والعباس لم يكونا معصومين بالاتفاق.
الثانى: انّ أبا بكر، والعبّاس قبل البعثة كانا كافرين؛ فيكونا ظالمين لقوله- تعالى:- والْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ «4»، والظالم لا يكون إماما لقوله تعالى لإبراهيم:
إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ ومِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «5».
فإن قيل: إن الآية إنّما تدل على امتناع نيل الظالمين للعهد، والظالم حقيقة إنّما يكون حالة اتصّافه بالظلم لا بعد زواله.
________________
(1) جزء من حديث طويل: رواه الإمام أحمد فى المسند عن عمرو بن عنبسة.
وقد سأل النبي- صلى اللّه عليه وسلم- عن أى الإيمان أفضل؟ حسن الخلق.
كما ورد ما يدل على هذا المعنى فى صحيح البخارى 8/ 16، والجامع الصغير 1/ 128.
(2) ورد فى شرح نهج البلاغة 2/ 316.
(3) قارن بما ورد فى الأربعين للرازى ص 441 وما بعدها.
(4) سورة البقرة 2/ 254.
(5) سورة البقرة 2/ 124.
(5/149)
________________________________________
[قلنا] «1»: إنّما يصحّ أن لو اشترط فى إطلاق الاسم المشتق حقيقة وجود المشتق منه حالة الاطلاق، وليس كذلك، وإلّا لما صحّ اطلاق اسم الماشى ولا القائل حقيقة ولا مجازا.
أما أنه لا يصحّ حقيقة: فلأن اسم المشى لحركات متعاقبة مخصوصة لا وجود لها معا، وكذلك القول عبارة عن حروف منظومة متعاقبة لا وجود لها معا، وأما أنه لا يصح بجهة المجاز؛ فلأن المجاز مستعار من محل الحقيقة فإذا لم يكن حقيقة فلا مجاز، وبتقدير اشتراط بقاء المشتق منه لاطلاق الاسم المشتق حقيقة، غير أن الظّالم حالة اتّصافه بالظلم يصدق عليه فى ذلك الوقت أنّه لا ينال عهد اللّه، وذلك عامّ فى الوقت الحاضر، وغيره من الأوقات المستقبلة، ولهذا يصحّ استثناء جميع الأوقات المستقبلة، فيقال: الظالم لا ينال عهد اللّه إلّا بعد زوال ظلمه، والاستثناء يدل على خروج ما لو لاه، لكان داخلا تحت اللفظ، وإذا بطل أن يكون أبو بكر، والعبّاس إماما تعيّن أن يكون الإمام عليا/ وأن لا يكون قد كفر طرفة عين عملا بمقتضى الآية، وحتى لا يخرج الحق عن قول الأمة، ويلزم من ذلك أن يكون منصوصا عليه لما تقدم «2».
الرابع: قوله تعالى:- إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ «3» ووجه الاحتجاج به أن لفظ الولى قد يطلق ويراد به الأولى، والأحق بالتصرف «4». ويدل عليه النقل اللغوى والنّص، والعرف الاستعمالى.
أمّا النّقل اللغوى: فقول المبرّد «5» الولىّ هو الأولى بالتصرف، ومنه قول الكميت «6».
________________
(1) ساقط من «أ».
(2) قارن به: الأربعين للإمام الرازى ص 446.
(3) سورة المائدة 5/ 55.
(4) قارن بالمعنى فى أبواب التوحيد والعدل 20/ 133 وما بعدها.
وشرح المواقف- الموقف السادس ص 324 وما بعدها. تحقيقنا
(5) المبرّد: هو أبو العباس محمد بن يزيد الأزدى ولد بالبصرة سنة 210 ه وتوفى بالكوفة 285 ه (وفيات الأعيان 4/ 313، معجم الأدباء 19/ 111).
(6) الكميت: هو أبو سهل بن زيد الأسدى من أهل الكوفة. شاعر وخطيب وفقيه من أشهر شعره «الهاشميات» ولد سنة 60 ه وتوفى سنة 126 ه.
[الشعر والشعراء 2/ 485، جمهرة أشعار العرب ص 351].
(5/150)
________________________________________
ونعم ولى العهد بعد وليّه ... ومستجمع التّقوى ونعم المؤدب
وأراد به القيّم بتدبير الأمور،
وأما النص: فقوله- صلى الله عليه وسلم-: «أيمّا امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل»، وأراد به الأولى بالتصرف فيها، وقوله عليه السلام: «و إن اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له «1»»: أى أولى بالتصرف.
وأما العرف الاستعمالى: فإنه يقال لأب المرأة وأخيها أنّه وليّها: أى أولى بالتصرف فيها. وقد يطلق الولى بمعنى المحبّ والنّاصر، ومنه قوله تعالى: والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «2»: أى بعضهم محب بعض وناصره، لا أنه الأولى بالتصرّف فيه؛ إذ هو خلاف الإجماع، ولم يعهد فى اللغة للولى معنى ثالث، وإذا ثبت أن الولىّ «11» // قد يطلق بمعنى الأولى بالتّصرف وبمعنى الناصر؛ فلفظ الولى فى الآية مما يتعذر حمله على الناصر.
وإنما قلنا ذلك لأنّ الولاية بمعنى النصرة عامة فى حق كل المؤمنين، بدليل قوله تعالى والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «3»، ذكر ذلك بصيغة الجمع المعرف فكان عاما، والولاية فى الآية ليست عامة لكل المؤمنين، فإن لفظه إنّما تفيد الحصر فى المؤمنين الموصوفين فى الآية، بالصّفات المذكورة؛ فتكون الولاية المذكورة فى الآية خاصة ببعض المؤمنين.
وإنما قلنا إن لفظة إنّما تفيد الحصر فى المذكور دون غيره؛ لأن ذلك مما يتبادر إلى الأفهام من إطلاقها فى قول القائل: إنّما رأيت اليوم زيدا؛ فإنّه يفهم منه أنه رأى زيدا دون غيره؛ ويدل عليه أيضا قوله تعالى:- إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ «4». فإنه يفهم منه أنّ اللّه تعالى إله واحد، وأن غيره ليس كذلك، وإذا ثبت أن الولاية فى الآية خاصة وبمعنى النصرة
________________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند 1/ 250، 6/ 166. وهما حديث واحد.
وانظر سنن أبى داود 1/ 325، وسنن ابن ماجه 1/ 605.
(2) سورة التوبة 9/ 71.
(11) // أول ل 156/ ب.
(3) سورة التوبة 9/ 71.
(4) سورة النساء 4/ 171.
(5/151)
________________________________________
عامة، فقد امتنع حمل الولاية فى الآية، على الولاية بمعنى النصرة، وتعيّن حملها على الولى، بمعنى الأحق، والأولى بالتصرف. وعلى هذا فيكون المراد من الآية: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا «1»: أى الأولى بالتصرف فيكم أيها الأمة، والّذي هو أولى بالتصرف فى كل الأمة من المؤمنين إنّما هو الإمام، فإذا الآية خاصة/ على إمامة بعض المؤمنين ويتعين أن يكون عليا- عليه السلام- لاتفاق أئمة التفسير على أن المراد بقوله تعالى:- والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ «2»، إنما هو عليّ كرّم الله وجهه، فالآية نصّ على إمامته.
الخامس: قوله تعالى:- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ «3».
[أمر بالكون مع الصادقين] «4»، وإنما يتصور الأمر كذلك، أن لو علم الصادق، وإنما يعلم كون الشّخص صادقا، أن لو كان معصوما، فالأمر إذا إنّما هو بمتابعة المعصوم، وغير عليّ من الصحابة غير معصوم بالاتفاق؛ فكان المأمور بمتابعته إنما هو على كرّم اللّه وجهه؛ وذلك نصّ على إمامته.
السادس: قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «5»، أمر بمتابعة أولى الأمر، وإنما يأمر بمتابعة من لا يأمر بالمعصية، لقوله تعالى:- إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ «6»، فالأمر بمتابعة أولى الأمر الذين لا يأمرون بالمعصية أصلا، وذلك إنما يكون فى حق من ثبتت عصمته، فالإمام يجب أن يكون معصوما، وغير على من الصحابة غير معصوم بالاتفاق فتعيّن أن يكون عليّ معصوما؛ ضرورة موافقة الأمر بطاعته؛ وذلك نصّ فى إمامته.
السّابع: قوله- عليه السلام- يوم غدير خم وقد جمع الناس «أ لست أولى بكم من أنفسكم، قالوا: بلى، فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» «7» ... وهذا الحديث مما اتفقت الأمة على
________________
(1) سورة المائدة 5/ 55.
(2) سورة المائدة 5/ 55.
(3) سورة التوبة 9/ 119.
(4) ساقط من أ.
(5) سورة النساء 4/ 59.
(6) سورة الأعراف 7/ 28.
(7) أخرجه الإمام أحمد فى المسند 1/ 118، 119، وابن ماجه فى سننه 1/ 43 عن البراء بن عازب.
وسنن الترمذي 5/ 633، والمستدرك 3/ 116.
(5/152)
________________________________________
صحته، ووجه الاحتجاج به «1» هو أن لفظة المولى قد تطلق بمعنى الأولى، وقد تطلق بمعنى الناصر، والمعين، وقد تطلق بمعنى المعتق والمعتق، وبمعنى الجار، وابن العم.
أما إطلاقه بمعنى الأولى: فيدل عليه الكتاب، والسنة.
أما الكتاب: فقوله تعالى: ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ «2» الآية.
قال المفسرون: المراد به من كان أولى بالميراث، وأحق به. وقوله- تعالى:- مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ «3»: أى أولى بكم على ما قاله المفسّرون.
وأما السنة: فقوله- عليه السلام- فى بعض الروايات: «أيّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن مولاها فنكاحها باطل» «4». والمراد به المالك لأمرها، والأولى بالتصرف فيها.
وأما إطلاقه بمعنى الناصر، والمعين: فيدل عليه النص، والشعر.
أما النص: فقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ «5». والمراد به الناصر.
وأما الشعر: فقول الأخطل «6»:
فأصبحت مولاها من النّاس كلّهم ومعناه فأصبحت ناصرها والذّاب عنها.
وأما إطلاقه بمعنى المعتق [و المعتق] «7»: فظاهر مشهور، ومنه يقول الفقهاء:
لفلان موال من أعلى، وموال من أسفل «8».
________________
(1) قارن ما ذكره الآمدي هاهنا بما ورد فى نهاية الأقدام ص 493، وغاية المرام ص 375 والمواقف ص 405، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 307، 308. تحقيقنا.
(2) سورة النساء 4/ 33.
(3) سورة الحديد 57/ 15.
(4) سبق تخريج هذا الحديث فى بعض رواياته ه. ل 272/ أ.
(5) سورة محمد 47/ 11.
(6) الأخطل: هو أبو مالك غياث بن غوث بن الصلت التغلبى، من شعراء العصر الأموى، ولد سنة 19 ه وتوفى سنة 90 ه أكثر من مدح بنى أمية. كان منافسا لجرير والفرزدق، وأكثر فى هجائهما. انظر ديوان الأخطل 1/ 319.
وانظر طبقات الشعراء ص 107 وتمام بيت الأخطل.
فأصبحت مولاها من الناس كلهم ... وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
(7) ساقط من «أ».
(8) قارن بالمغنى 20/ 155، والتمهيد للباقلانى ص 171، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 308 وما بعدها.
تحقيقنا.
(5/153)
________________________________________
وأما إطلاقه بمعنى الجار: فيدل عليه [قول] «1» معمر الكلابى «2» / لما نزل جارا لكليب بن يربوع فأحسنوا جواره.
«11» // جزى اللّه خيرا والجزاء بكفّه ... كليب بن يربوع وزادهم حمدا
هم خلطونا بالنّفوس وألجموا ... إلى نصر مولاهم مسوّمة جردا
وأراد به جارهم.
وأما إطلاقه بمعنى ابن العم: فيدل عليه قوله- تعالى- حكاية عن زكريا وإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي «3»، قيل معناه بنى عمى، ومنه قول العباس بن فضيل بن «4» عتبه فى بنى أمية:
مهلا بنى عمّنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
وأراد بقوله: «مهلا موالينا»: بنى عمنا.
وعند ذلك فإما أن يكون [لفظ] «5» المولى ظاهرا بحكم الوضع الأول، أو لا يكون كذلك.
فإن كان [الأول] «6»: وجب الحكم عليه دون غيره عملا بظاهر اللفظ؛ إذ هو الأصل.
وإن كان الثانى: فيجب الحمل عليه [أيضا] «7» لوجهين:
________________
(1) ساقط من أ.
(2) معمر الكلابى: نسب إليه الآمدي هذين البيتين.
أما القاضى الباقلانى فقد نسبهما إلى مربع بن دعدعة وقد جاور كليب ابن يربوع فأحسنوا جواره: ومعنى إلى نصر مولاهم: إلى نصر جارهم
وكليب بن يربوع: إحدى فروع قبيلة تميم (انظر جمهرة الأنساب 214).
(11) // أول ل 157/ أ.
(3) سورة مريم: 19/ 5.
(4) هو: هاشمى الأبوين: جده أبو لهب: ولقب باللهبى نسبة إليه من شعراء بنى هاشم. (طبقات فحول الشعراء 1/ 75). وقد ورد فى التمهيد ص 171 بعد هذا
البيتين التاليين:
لا تحسبوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا
الله يعلم أنا لا نحبكم ... ولا نلومكم ألا تحبونا
(5) ساقط من «أ».
(6) ساقط من «أ».
(7) ساقط من «أ».
(5/154)
________________________________________
الأول: أن اللفظ المتّحد إذا أطلق وله محامل وقد اقترن به ما يعيّن أحدها فيجب الحمل عليه نظرا إلى الترجيح، والمذكور فى مبدأ الحديث وهو قوله: «أولى بكم» صالح لتفسير لفظ المولى وبيانه، وهو محتاج إلى البيان فوجب الحمل عليه «1».
الثانى: أنه يتعذر حمل لفظ المولى فى الحديث على ما سوى الأولى فيتعين حمله على الأولى ضرورة العمل باللفظ، وبيانه أنه يمتنع حمله على الناصر؛ لأن ذلك معلوم من قوله تعالى: والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ «2» على ما سبق، ويمتنع حمله على المعتق [و المعتق] «3» وعلى الجار وابن العم؛ لكونه كذبا؛ فإنه ليس كل من كان النبي معتقا له، أو جارا [له] «4» أو ابن عم له يكون على معتقا له، وجارا وابن عم له؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- ابن عم عقيل، وهو أخ لعلى.
وإذا ثبت أن لفظ المولى فى الحديث بمعنى الأولى، فقد اتفق المفسّرون على أن معنى قوله- عليه السلام: «أ لست أولى بكم من أنفسكم» أنه أولى بتدبيرهم، والتصرف فى أمورهم، وأن نفاذ حكمه فيهم أولى من نفاذ حكمهم فى أنفسهم. ولأن ذلك هو المتبادر من إطلاق لفظ الأولى فى قوله: «ولد الميّت أولى بالميراث من غيره، والسلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية، والزوج أولى بامرأته، والمولى أولى بعبده»، وإذا ثبت أن معنى المولى الأولى فى التصرف؛ فحاصل الحديث يرجع إلى أن قوله: «من كنت مولاه فعلى مولاه» من كنت أولى بالتصرف فيه؛ فعلى أولى بالتصرف فيه؛ وذلك يدل على إمامته؛ فإنه لا معنى للإمام إلّا هذا.
الثامن: قوله- عليه السلام- لعلى حين خرج إلى غزاة تبوك: «أنت منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبى بعدى» «5» ووجه الكلام فى صحته كما تقدم فى الخبر الّذي قبله، ووجه الاستدلال به «6»، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- اخبر بأن منزلة
________________
(1) قارن به المغنى 20/ 145، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 309.
(2) سورة التوبة 9/ 71.
(3) ساقط من أ.
(4) ساقط من أ.
(5) هذا الحديث متفق على صحته رواه البخارى ومسلم. انظر عنه ما مر فى هامش ل 271/ أ.
(6) اهتم بهذا الحديث وذكره الكثير من علماء السنة منهم على سبيل التمثيل لا الحصر والجوينى فى الإرشاد ص 238 والشهرستانى فى نهاية الأقدام ص 494. والإيجى فى المواقف ص 406 وابن تيمية فى منهاج السنة 4/ 87 وما بعدها. والرازى فى الأربعين ص 450، 451. والجرجانى فى شرح المواقف- الموقف السادس ص 310.
(5/155)
________________________________________
على منه كمنزلة هارون من موسى، وذلك يدل على أن جميع المنازل الثابتة لهارون بالنسبة إلى/ موسى، ثابتة لعلى بالنسبة إلى النبي- عليه الصلاة والسلام- ولفظة منزلة وإن لم يكن فيها صيغة عموم إلّا أن المراد بها التعميم.
وبيانه هو أن قوله منزلة «1» اسم جنس صالح لكل واحد من أحاد المنازل الخاصة، وصالح للكل، ولهذا يصح أن يقال: فلان له منزلة من فلان ومنزلته منه أنه قرابة له، وأنه محبّه، ونائبه فى جميع أموره، وعند هذا فلو حملناه على بعض المنازل دون البعض فإما أن تكون معينة، أو مبهمة.
والأول ممتنع ضرورة عدم دلالة اللفظ على التعيين. والثانى: أيضا ممتنع لما فيه من الإجمال، وعدم الإفادة. فلم يبق غير الحمل على الجميع. ويدل عليه قوله «إلّا أنه لا نبى بعدى»، استثنى هذه المنزلة دون باقى المنازل، ولو لم يكن اللفظ محمولا على كل المنازل؛ بل على الواحد منها؛ لما حسن الاستثناء. وإذا ثبت التعميم؛ فذلك يدل على ثبوت الإمامة لعلى كرّم اللّه وجه، وبيانه من وجهين:
الأول: أن من جملة منازل هارون من موسى أنه كان خليفة له على قومه فى حال حياته، بدليل قوله- تعالى إخبارا عن موسى اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي «2» والخلافة لا معنى لها غير القيام مقام المستخلف فيما كان له من التصرفات، وإذا كان خليفة له فى حال حياته؛ وجب أن يكون خليفة له بعد وفاته بتقدير بقائه، وإلّا كان عزله موجبا لتنقيصه، والنّفرة عنه «11» // وذلك غير جائز على الأنبياء.
وإذا كان ذلك ثابتا لهارون وجب أن يثبت مثله لعلىّ عليه السلام «3».
الثانى: هو أنّ من جملة منازل هارون بالنسبة إلى موسى أنّه كان شريكا له فى الرسالة بدليل قوله تعالى: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً «4» ومن لوازمه استحقاقه للطاعة بعد وفاة موسى أن لو بقى، فوجب أن يكون ذلك لعلىّ- عليه
________________
(1) ساقط من ب.
(2) سورة الأعراف 7/ 142.
(11) // أول ل 157/ ب.
(3) قارن بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 1/ 159، والأربعين للرازى ص 451 والمواقف للإيجي ص 406، ومنهاج السنة لابن تيمية 4/ 87.
وشرح المواقف للرجانى- الموقف السادس ص 310
(4) سورة طه 2/ 43، 44.
(5/156)
________________________________________
السلام- غير أنه قام الدليل على امتناع كونه مشاركا للنبى- صلى الله عليه وسلم- فى الرسالة؛ ولهذا قال- عليه السلام: «إلّا أنه لا نبى بعدى» فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بتقدير بقائه بعد النبي- صلى الله عليه وسلم- عملا بالدليل بأقصى الإمكان، ولا معنى لكونه إماما إلّا هذا.
التاسع: قوله- عليه السلام-: «سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين» «1» وقوله- عليه السلام-[لعلى] «2»: «أنت أخى، ووصيى، وخليفتى من بعدى، وقاضى دينى، ومنجز وعدى» «3» أثبت كونه خليفة بعده، ولا معنى للإمام إلّا هذا.
العاشر: أنه- عليه السلام- استخلف عليا على المدينة، ولم يعزله عنها؛ فوجب أن يبقى خليفة له بعد موته- عليها ويلزم من ذلك الخلافة فى جميع الأمور ضرورة أن لا قائل بالفرق «4».
[رد الآمدي على الشيعة فى مسألة النص على الإمام]
والجواب: قولهم: لا نسلم أن وقوع ذلك بمشهد من الجمع الكثير مما يوجب اشتهاره مدفوع بما ذكرناه.
وأما الإقامة فإنه إذا كانت/ من عظائم الأمور، وأنها وقعت بمشهد من المشهد الكثير، غير أن الاختلاف فى روايتها مثنى، وفرادى إنّما كان لاختلاف المؤذنين فى عهد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، فلعلّ منهم من كان يقيم مثنى، ومن كان يقيم فرادى، ونقل كل واحد ما رآه وسمعه، وكان منشأ الاختلاف بين الأئمة فى ذلك.
وأما انشقاق القمر فمن أصحابنا من منع وقوعه، وتأوّل قوله تعالى وانْشَقَّ الْقَمَرُ «5» على معنى سينشق «6»، وبتقدير وقوعه، فلعله وقع لا بمشهد جماعة يحصل العلم بخبرهم
________________
(1) وقد نقد ابن تيمية هذا الحديث وقال عنه إنه موضوع فى منهاج السنة 4/ 103 فقال: «و كل من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث فى كتاب يعتمد عليه، لا الصحاح، ولا السنن، والمسانيد المقبولة».
(2) ساقط من «أ».
(3) سبق تخريجه فى هامش ل 270/ أ.
(4) قارن بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 1/ 181، والأربعين للرازى ص 451 ومنهاج السنة لابن تيمية 4/ 91.
(5) سورة القمر 54/ 1.
(6) انظر تفسير الإمام الرازى 29/ 29. قال رحمه الله: «القمر انشق والمفسرون بأسرهم على أن المراد: أن القمر انشق، وحصل فيه الانشقاق ودلت الأخبار على حديث الانشقاق، وفى الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة، وقالوا: سأل رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- آية الانشقاق بعينها معجزة. فسأل ربه فشقه ومضى».
ثم نقل رأى بعض المخالفين الذين نقل عنهم الآمدي. فقال: «و قال بعض المفسرين المراد سينشق. وهو بعيد ولا معنى له».
(5/157)
________________________________________
وهو الأظهر؛ لأن ذلك كان ليلا، وأكثر الناس نيام، ومحجوبون عن رؤيته بجدران بيوتهم.
وأما فتح مكة: عنوة، أو صلحا: فإنما لم ينتشر ويتواتر إلينا، وإن وقع ذلك بمشهد من الخلق الكثير؛ لعدم الفائدة فى نقله، بخلاف الإمامة؛ لأن جميع مصالح الدين، والدنيا متعلقة بها.
وأما البسملة: فلا نسلم أنها آية من أول كل سورة على قول الشافعى رضي اللّه عنه وهو اختيار القاضى أبى بكر من أصحابنا «1».
قولهم: متى يلزم الانتشار إذا وجد الداعى إلى الكتمان، أم لا.
قلنا: الفرض أن التنصيص وقع بمشهد من جماعة لا يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ، فلو كتموه- وإن كان ذلك لنفع، أو دفع ضرر، أو لحسد- فيكون خطأ؛ وهو ممتنع مخالف للفرض «2».
قولهم: يحتمل اطلاعهم على وجود ناسخ للنّصّ.
قلنا: لو وجد النّص وكان له ناسخ فالعادة تحيل أيضا عدم نقله، ولم ينقل أحد من الصحابة ذلك.
وقوله تعالى: وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «3» يجب حمله على جماعة يتصور تواطئهم على الخطأ؛ والفرض فيما نحن فيه بخلافة «4».
قولهم: إن قوم موسى- عليه السلام- ضلّوا بعبادتهم العجل مع علمهم أن العجل لا يكون إلها.
قلنا: وإن سلمنا أنهم ضلّوا بذلك مع كونهم جمعا كبيرا، غير أنا لا نسلّم أنهم كانوا عالمين بامتناع حلول الإله- تعالى- فى غيره، ولعلهم لم ينظروا فى الأدلة المحيلة
________________
(1) انظر تفسير الفخر الرازى 1/ 200.
(2) قارن به: المغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 1/ 119 وما بعدها، والإرشاد للجوينى ص 237 والأربعين للرازى ص 459.
(3) سورة النمل 27/ 14.
(4) راجع الأربعين فى أصول الدين للرازى ص 459.
(5/158)
________________________________________
لذلك، ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يكون الجمع الكثير متفقين على فعل ما يعتقدون بطلانه؛ إذ هو خلاف العادة، بخلاف اتفاقهم على ما يعتقدون بطلانه، وهذا خلاف ما نحن فيه؛ فإنه ما من أحد من الصحابة إلّا ويعتقد تحريم كتمان نصوص النبي صلى اللّه عليه وسلم- فى آحاد المسائل الفروعية، فما ظنك بذلك فى العظائم «1».
وإن سلمنا اعتقادهم لبطلان ذلك؛ ولكن لا نسلم عدم النكير عليهم من هارون، وأتباعه بخلاف ما نحن فيه؛ فإنه لم ينقل عن أحد من الصّحابة نقل النّص.
قولهم: إن الإمام يجب أن يكون معصوما. لا نسلم بذلك على ما يأتى «2»، وبتقدير أن يكون معصوما فلا مانع من التّنصيص على عصمته، وتفويض نصبه إماما إلى اختيارنا.
قولهم: يجب أن يكون أفضل من رعيته وعالما بجميع أمور الدين، وأحكام «11» // الشرع. لا نسلم ذلك على ما يأتى/ أيضا وبتقدير التسليم، فيجب ذلك طاهرا، أو فى نفس الأمر؟ الأول: مسلم. غير أن معرفة ذلك لا تتوقف على التنصيص بدليل نصب القضاة والأمناء. والثانى: ممنوع. وهو الجواب عن قولهم شرطه أن لا يكون كافرا.
وإن سلمنا اشتراط إيمانه فى نفس الأمر، غير أنا لا نسلم مع ذلك امتناع نصب الإمام بالاختيار، وذلك ممكن بأن ينص الشارع على إيمان جماعة، ويفوض تعيين الواحد منهم إلى اختيارنا.
[رد الآمدي على الشيعة فى إبطال الاختيار]
قولهم: إن المختار لا يملك التّصرف فى أمور المسلمين، فلا يملك تمليك غيره لذلك؛ فهو باطل بولى المرأة؛ فإنه لا يملك نكاحها لنفسه، ويملك تمليك ذلك لغيره، وكذلك الوكيل لا يملك التّصرف فى منافع العين الموكل فى بيعها، وهبتها، ويملك تمليك ذلك من غيره بالبيع، والهبة «3».
________________
(1) قارن بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص 165 وما بعدها. والمغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 1/ 115، والإرشاد للجوينى ص 237، والأربعين للرازى ص 459.
(2) انظر ما سيأتى فى ل 285/ ب.
(11) // أول ل 158/ أ من النسخة ب.
(3) قارن بما ورد فى المغنى 20/ 1/ 276 وما بعدها.
(5/159)
________________________________________
قولهم: إن المختار لو أراد أن يجعل غيره نافذ الحكم على نفسه وحده، أو على غيره وحده؛ لما تمكن [من] «1» ذلك، مسلم.
قولهم: فالتولية على نفسه وغيره أولى، ليس كذلك. فإن جاز أن يكون الاختيار سببا للتولية العامة، لحصول التمكن التام الّذي لا يبقى معه منازع، بخلاف التولية الخاصة.
قولهم: لو ثبتت الإمامة بالاختيار؛ لكان لمن أثبتها إزالته: كالتوكيل؛ فهو تمثيل من غير دليل، كيف وأن التوكيل حق للموكل، فكان له إبطاله بخلاف نصب الإمام، فإنه ينفذ بتقدير ثبوته بالاختيار يكون حقا على المختارين، ولهذا فإنه لو اتفقت الأمة على عدم نصب الإمام مع القدرة عليه أثموا، بخلاف الموكل، ولا يلزم من ثبوت حق على المختار بإثباته؛ جواز إبطاله «2».
قولهم: إنّ نصب الإمام بالاختيار مما يفضى إلى وقوع الفتن والاختلاف.
قلنا: هذا الاحتمال ظاهر، أو غير ظاهر؟
الأول: ممنوع، بدليل العادة فى كل عصر عند موت إمام واختيار غيره.
والثانى: مسلم. غير أن ذلك ممّا لا يمنع من اعتبار الاختيار مع ظهور المصلحة فيه.
فإن قالوا: وقوع المفسدة مع الاختيار وإن كانت نادرة غير أنها مع التنصيص تكون أندر؛ فكان التنصيص أولى من الاختيار.
فنقول: وإن كان التنصيص أبلغ فى دفع المفسدة من الاختيار، فليس ذلك ممّا يمنع من صحة الاختيار «3». ولهذا فإنه لو بعث اللّه ملكا خاطب الأمة بالتنصيص على الإمام، مع تنصيص النبي صلى اللّه عليه وسلم وسلب المخالفين له قدرتهم على المخالفة؛ فإنه يكون أبلغ فى دفع المفسدة، وما لزم من ذلك جواز الاكتفاء بما هو دونه من تنصيص النبي صلى اللّه عليه وسلم، فكذلك لا يلزم من كون التنصيص من النبي عليه السلام- أبلغ فى دفع المفسدة امتناع الاكتفاء بالاختيار.
________________
(1) ساقط من «أ».
(2) قارن بما ورد فى المغنى 20/ 1/ 305.
(3) قارن بما ورد فى المغنى 20/ 1/ 64 وما بعدها.
(5/160)
________________________________________
قولهم:/ إن أحدا من الأمة لا يقدر على تولية ما هو أدنى فى الرتبة من الإمامة، فالإمامة أولى أن لا يقدر عليها؛ فجوابها ما سبق فى جواب الشبهة الثالثة.
قولهم: إنّ الإمام خليفة اللّه ورسوله، وبالاختيار يخرج عن ذلك، لا نسلم ذلك، فإن الله- تعالى- إذا حكم بخلافته عند الاختيار له؛ فقد صار خليفة له ولرسوله «1».
قولهم: يلزم من ذلك خلو بعض الأزمنة من نصب الإمام، مع وجوبه؛ لما قرروه؛ ممنوع، فإنا مهما جهلنا السابق منهما؛ استأنفنا عقدا لمن يقع عليه الاختيار؛ لاستحالة خلو الزمان عن الإمام النافذ الحكم «2».
قولهم: لو جاز إثبات الإمامة بالاختيار؛ لجاز إثبات النبوة به. فهو تمثيل من غير دليل جامع، وهو الجواب عن قولهم إن الإمامة من أركان الدين؛ فوجب أن لا تثبت بغير النص: كالصلوات الخمس «3».
قولهم: لا يخلو إما أن يكون النبي عالما باحتياج الأمة إلى الإمام، أو لا يكون عالما بذلك؟
[قلنا: بل كان عالما ومع علمه بذلك] «4»، فإنما يلزمه التّنصيص أن لو كلف به من جهة اللّه- تعالى- ولعله لم يكن مكلفا به. ولهذا فإنّ كثيرا ممّا تمس الحاجة إلى بيانه، والتّنصيص عليه من أحكام الوقائع، مات النبي- صلى اللّه عليه وسلم- من غير تنصيص عليها، ولا تبيين؛ وذلك كأحكام الجد مع الإخوة والأخوات؛ وقول القائل لزوجته «11» // أنت عليّ حرام، وغير ذلك، ويدل عليه أن الأحكام الشرعية ممّا لا تحصى عددا، مع أن الآيات الإحكامية على ما قاله أرباب الأصول لا تزيد على خمسمائة آية، وكذلك الأحاديث الإحكامية، فإنها وإن كانت ألوفا إلّا أنها منحصرة، فإذا ترك التنصيص من النبي- صلى اللّه عليه وسلم- على ما تدعو الحاجة إلى معرفته، وجعله موكولا إلى آراء المجتهدين، ليس بدعا، لا عقلا ولا عادة، ولا شرعا؛ فكذلك عدم التنصيص على الإمام، وجعل الأمر فيه موكولا إلى اختيار أهل الحل، والعقد؛ لا يكون ممتنعا.
________________
(1) قارن بالمواقف ص 399. وشرحها- الموقف السادس ص 290 وما بعدها.
(2) قارن بالمغنى 20/ 1/ 50، 268.
(3) قارن بالمغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 1/ 101، 298، 299.
(4) ساقط من «أ».
(11) // أول ل 158/ ب من النسخة ب.
(5/161)
________________________________________
قولهم: إن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- كان للأمة كالوالد لولده؛ مسلم؛ ولكن فى الحنو والإشفاق، والسياسة، أو فى أنه يجب عليه مثل ما يجب على الوالد لولده؟ الأول: مسلم والثانى: ممنوع، ولهذا فإنه لا يجب عليه الإنفاق على الأمة كما كان يجب على الوالد لأولاده الصغار. وأما قوله- تعالى:- الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «1» ليس فيه ما يدل على التنصيص.
قولهم: إنما يكون الدين مكملا، أن لو بيّن فيه كل ما يتعلق به مسلم؛ ولكن بطريق التنصيص عليه، أو بالتنبيه على طريق تحصيله؟ الأول: ممنوع. والثانى: مسلم.
ولهذا فإن كثيرا من الأحكام الشرعية لم ينص- عليه السلام- عليها كما بيّناه، غير أنه بيّن طريق حصولها باجتهاد أهل الحل، والعقد، وفوّض النظر فى/ تحقيقها إليهم، وعلى هذا فيجب اعتقاد تنبيهه على طريق إثبات الإمامة، وإن لم ينص على واحد معين.
ويدل عليه إجماع الصحابة على الاختيار كما يأتى تقريره، فإن ذلك يدل على علمهم، بما يدل على جواز الاختيار من جهة الرسول- عليه الصلاة والسلام- وإلّا كان إجماع الأمة خطأ؛ وهو ممتنع، ويشبه أن يكون ما دلهم على ذلك قوله- عليه السلام- «إن تولوها أبا بكر تجدوه ضعيفا فى بدنه قويا فى أمر اللّه، وإن تولوها عمر تجدوه قويا فى دين اللّه، قويا فى بدنه، وإن تولوها عليا تجدوه هاديا، مهديا» «2»؛ فإنه يدل على صحة الاختيار.
قولهم: إنه- عليه السلام- ما كان يخرج من المدينة الا ويستخلف فيها على الرعية خليفة.
قلنا: ليس فى المواظبة على ذلك ما يدل على وجوب الاستخلاف؛ بل لعله كان من المندوبات، وبتقدير الوجوب؛ فلا يلزم من وجوب الاستخلاف والنظر فى أحوال الأمة حال حياته، وجوب ذلك لما بعد مماته؛ لجواز تكليفه بأحد الأمرين دون الآخر «3».
________________
(1) سورة المائدة 5/ 3.
(2) فى مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/ 109 «إن تؤمروا أبا بكر- رضي اللّه عنه- تجدوه أمينا زاهدا فى الدنيا راغبا فى الآخرة.
وإن تؤمروا عمرا- رضي اللّه عنه- تجدوه قويا أمينا لا يخاف فى الله لومة لائم. وإن تؤمروا عليا- رضي اللّه عنه- ولا أراكم فاعلين تجدوه مهديا يأخذ بكم على الطريق المستقيم».
ثم قارن ما ورد بألفاظ متقاربة فى أنساب الأشراف 2/ 102، والمستدرك 3/ 70 وقد ضعفه الذهبى فى التخليص، والصواعق المحرقة 70.
(3) قارن بما ورد فى المواقف ص 404 وشرحها: الموقف السادس ص 304.
(5/162)
________________________________________
قولهم: لا جائز أن يستند نصب الإمام إلى الاختيار، وإلّا لما وجبت طاعة الإمام على الرعية، ممنوع.
قولهم: لأنه لا مستند للاختيار؛ لا نسلم ذلك على ما تقرر قبل، كيف وأن وجوب طاعتهم له ليس مستندا إلى الاختيار، وإنما هو مستند إلى الإجماع المستند إلى الكتاب، أو السنة، وبه يندفع قولهم: إنما صار إماما بإقامتهم له فلا تجب طاعته عليهم «1».
وأما دعوى التنصيص على أبى بكر بعينه، أو العباس: فدعوى لا بدّ لها من دليل.
وما ذكروه فى حق كل واحد، فأخبار آحاد لا يثبت بمثلها عظائم الأمور كما تقدم تقريره.
كيف وأنها مع ضعف سندها، ومتنها متعارضة، فإن من ضرورة التنصيص على كل واحد منهما أن لا يكون الآخر منصوصا عليه «2». والّذي يدل على أن أبا بكر، والعبّاس غير منصوص عليهما، ما سبق فى الوجه الثانى من الوجوه الدالة [على عدم التنصيص] «3» على عليّ- عليه السلام «4».
وأما ما ذكروه فى الدلالة على النّص الجلىّ على عليّ- عليه السلام- فهو باطل.
قولهم: إن خبر الشيعة عنه متواتر، ممنوع «5»، وما المانع أن يكون ذلك من وضع بعض الناس، فيما مضى من الأعصار الماضية، ثم إنه شاع وذاع بحيث نقل إلينا على لسان التواتر. أو أنه كان فى بعض الأعصار المتقدّمة، من قبيل أخبار الآحاد عن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- ثم إنه شاع بحيث صار آخره متواترا «6».
قولهم: لو كان كذلك، لتوفرت الدّواعى على نقله، وإشاعته من القائلين بعدم النّصّ الجلىّ.
________________
(1) قارن بما ورد فى نهاية الإقدام ص 489 وغاية المرام للآمدى ص 380 وما بعدها.
(2) قارن بما ورد فى التمهيد للإمام الباقلانى ص 169 وغاية المرام ص 306 وما بعدها. والمواقف للإيجي ص 405 وشرحها: للجرجانى الموقف السادس ص 306، 307.
(3) ساقط من «أ».
(4) راجع ما سبق ل 267/ أ.
(5) قارن ما أورده الآمدي هنا من إبطال دعوى التواتر بما أورده الباقلانى فى التمهيد 165 وما بعدها. والمغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 1/ 82، 113 وما بعدها، والإرشاد للجوينى 236، 237، ونهاية الإقدام 494، 495، وغاية المرام 368، 376. والمواقف للإيجي ص 404 وشرحها: الموقف السادس ص 304.
(6) قارن بالتمهيد 165، والمغنى 20/ 1/ 118، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 304.
(5/163)
________________________________________
قلنا: لا نسلم أنه لم ينقل، ولم يشع، وبيانه/ أنه قد قيل، واشتهر أنّ واضع ذلك كان ابن الراوندى، وهشام بن الحكم وغيرهما من الكذابين.
وإن سلمنا عدم نقل واضعه، غير أنّ ذلك لا يدل على صحة ما ذكروه، وتواتره، بدليل ما نشاهده من الأراجيف الحادثة فى كل زمان بحيث تشيع، وتكثر كثرة التّواتر، مع العلم بكذبها، وبطلانها مع الجهل بواضعها، ووقت حدوثها «1».
قولهم: القول بذلك ممّا يبطل خبر التّواتر على الإطلاق.
قلنا: ليس كذلك، فإن ضابط «11» // خبر التّواتر حصول العلم عنده، فمهما حصل العلم بخبر الجماعة، علم تواتره. وما ذكروه، ليس من هذا القبيل، فإنا لا نجد أنفسنا عالمة بما أخبروا به من النّصّ الجلىّ؛ فلا يكون متواترا مع تطرق ما قيل من الاحتمال إليه.
كيف وأن القول بتواتر النّصّ الجلىّ ممّا لا يستقيم على أصول الإمامية؛ لأن جميع الأمة [عندهم] «2» ارتدّت بعد موت النبي محمد- صلى اللّه عليه وسلم- ولم يبق منهم على الإسلام إلّا نفر يسير لا يبلغ عددهم إلى عدد التواتر، ومن [عداهم] «3» فكفار لا تقوم الحجة بقولهم.
[رد الآمدي عليهم فى مسألة النص الجلى على إمامة على رضي اللّه عنه وبيانه من ستة عشر وجها]
وإن سلّمنا دلالة ما ذكروه على تواتر النّصّ الجلىّ؛ فهو معارض بما يدل على عدمه.
وبيانه مع ما سبق من الأدلة على عدم التنصيص مطلقا من ستة عشر وجها:
الأول: أن عليّا- عليه السلام- لم يزل يفتخر بذكر ما ورد عن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- فى حقه، ممّا يدل على مرتبته، وعلوّ شأنه فى خطبه، ومناشداته: كخبر الغدير وغيره، من الأخبار السابق ذكرها، ولم ينقل عنه ذكر النّصّ الجلىّ على إمامته، ولو كان متحققا؛ لكان أولى بالذكر من غيره؛ لكونه قاطعا، وما عداه؛ فظنى «4».
الثانى: هو أن كثيرا من المعتقدين لفضيلة عليّ على غيره: كالزّيدية، ومعتزلة البغداديين قد أنكروا هذا النّصّ، مع زوال التّهمة عنهم، والشّك فى قولهم «5».
________________
(1) قال الرازى فى الأربعين ص 458: «و الدليل عليه أن كثيرا من الأراجيف الكاذبة قد اشتهرت الآن فى الشرق والغرب، ولا يعلم زمان ذلك الوضع أى زمان كان ولا أن ذلك الواضع من كان».
(11) // أول ل 159/ أ من النسخة ب.
(2) ساقط من «أ».
(3) ساقط من «أ».
(4) قارن هذا الرد بالتمهيد 176، والمغنى 20/ 1/ 122.
(5) قال القاضى الباقلانى فى التمهيد ص 165: «و رأينا أكثر القائلين بفضل على عليه السّلام من الزيدية ومعتزلة البغدادين وغيرهم ينكر النّص عليه ويجحده مع تفضيله عليا على غيره».
(5/164)
________________________________________
الثالث: أنه لو كان منصوصا عليه؛ لكان أعلم به من غيره، ولو كان عالما به لذكره للعبّاس حين قال له: «ادخل بنا إلى الرسول؛ لنسأله عن هذا الأمر؛ فإن كان لنا بيّنه، وإن كان لغيرنا، وصىّ الناس بنا» «1».
الرابع: أنه لما مات رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- قال العبّاس لعلىّ: «امدد يدك أبايعك» فيقول الناس، هذا عمّ رسول الله، بايع ابن عم رسول الله؛ فلا يختلف عليك اثنان «2».
وإنّما ذكر ذلك ثقة منه بطاعة النّاس لمن بايعه؛ لكونه عما للرسول؛ إعظاما للرسول. ولو كان ثم نصّ جلىّ من الرّسول؛ لكانوا أطوع له من ذلك؛ فلا يحتاج إلى المبايعة.
الخامس: أنه لو وجد النّصّ الجلىّ فى حقّ عليّ، لما رضى بالدخول فى الشورى؛ لما فيه من ترك العمل بالنّصّ/ الجلىّ عليه.
السادس: أنه قد روى عن عليّ- كرم الله وجهه- أنه قال لطلحة: «إن أردت أن أبايعك بايعتك» «3» ولو كان النّصّ عليه جليا؛ لما أقدم على مخالفته.
السابع: أن عليا كتب إلى معاوية: «أما بعد فإن بيعتى بالمدينة؛ لزمتك بالشام» محتجا عليه بالبيعة، ولو كان منصوصا عليه نصا جليا؛ لاحتج بالنص لا بالبيعة؛ إذ لا بيعة مع النّصّ الجلىّ.
الثامن: قول عليّ- عليه السلام- «لو لا أن يتولى عليها تيس من تيوس بنى أمية، يحكم بغير ما أنزل اللّه؛ لما دخلت فيها» «4» ولو كان منصوصا عليه نصّا جليا؛ لما جوّز مخالفته.
التاسع: قوله- عليه السلام- لمّا دعى إلى البيعة: «اتركونى، والتمسوا غيرى» «5» ولو كان نصّه جليا؛ لما أمر بمخالفته.
________________
(1) انظر ما سبق ل 276/ ب.
(2) ورد فى أنساب الأشراف 2/ 583، 586 «لما قبض رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال العباس لعلى: اخرج حتى أبايعك على أعين الناس؛ فلا يختلف عليك اثنان، فأبى وقال: أو منهم من ينكر حقنا، ويستبد علينا».
(3) انظر تاريخ الطبرى 4/ 434.
(4) ورد فى أنساب الأشراف 2/ 103 «و الله ما تقدمت عليها إلا خوفا من أن ينزو على الأمر تيس من بنى أمية؛ فيلعب بكتاب الله عز وجل».
(5) ورد فى تاريخ الطبرى 4/ 434 «فقال على: دعونى والتمسوا غيرى فإنا مستقبلون أمرا له وجوه، وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول.
فقالوا: نناشدك الله ألا ترى ما نرى؟ ألا ترى الإسلام، ألا ترى الفتنة؟ فقال: قد أجبتكم لما أرى».
(5/165)
________________________________________
العاشر: لو كان نصّه جليا، لما قال: «ليس عندنا عهد رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- فى هذا الأمر، وإنما رأيناه من أنفسنا، فإن يكن صوابا فمن اللّه، وإن يكن خطأ فمنا، استخلف أبو بكر فقام، واستقام حتى مضى لسبيله- رحمه اللّه- ثم استخلف عمر فقام، واستقام حتى ضرب الدين بجرّانه؛ ثم مضى لسبيله- رحمه الله». ولو كان منصوصا عليه نصّا جليا، لما قال ذلك، ولما وصف من تقدمه بالاستقامة؛ لأن مخالف النّصّ الجلىّ، لا يكون فعله مستقيما.
الحادى عشر: أنّه لو كان منصوصا عليه نصّا جليا؛ لما ناصر من تقدمه وعضّده بالمشورة، والرأى: كرأيه برجوع أبى بكر عن قتال العرب، وقعود عمر عن الخروج إلى قتال فارس؛ لأنّ معاضده العاصى معصية.
الثانى عشر: أنه- رضي اللّه عنه- كان يخاطب أبا بكر بقوله: يا خليفة رسول اللّه، ولو كان هو المنصوص عليه نصّا جليا؛ لكان كاذبا فى ذلك. وإن كان بطريق التقية؛ فهو ممتنع؛ لأن اللّه- تعالى- وصف الصحابة بالصدق بقوله:- لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ إلى قوله: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ «1».
الثالث عشر: أنه لو كان منصوصا عليه نصّا جليا، لم يخل: إما أن يعينه الصحابة على حقه من الإمامة، أو لا يعينوه.
فإن كان الأول: فيلزم أن يكون عاصيا بتقصيره، ويخرج بذلك عن أن يكون معصوما؛ وهو خلاف مذهب الخصم.
وإن كان الثانى: فيلزم أن لا تكون الأمة خير أمة أخرجت للناس، وأن لا يكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وهو خلاف قوله تعالى:- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ «2»؛ وهو ممتنع.
الرابع عشر: قوله- عليه السلام-: «اقتدوا باللّذين من بعدى: أبى بكر وعمر» أمر بمبايعتهما، ولا يمكن أن يقال لعل الرواية: «اقتدوا باللّذين «11» // من بعدى أبا بكر،
________________
(1) سورة الحشر 59/ 8.
(2) سورة آل عمران 3/ 110.
(11) // أول ل 159/ ب.
(5/166)
________________________________________
وعمر» «1» ويكون المأمور بذلك أبو بكر، وعمر والمراد باللّذين/ من بعده كتاب اللّه، وعترته؛ إذ هو غير منقول، ولو جوّز تطرق مثل هذه الأشياء إلى الدّلالات اللفظية؛ لما بقى الوثوق بشيء منها، وهو خطاب عامّ بالنسبة إلى كل من عدا أبا بكر، وعمر؛ فيدخل فيه عليّ، ولو كان منصوصا عليه نصّا جليا؛ لما كان مأمورا بمتابعة غيره «2».
الخامس عشر: أنه لما قال أبو بكر: «أقيلونى فلست بخيركم»، قال عليّ: «لا نقيلك، ولا نستقيلك. قدّمك رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- لديننا، أ فلا نقدمك فى أمر دنيانا». ولو كان منصوصا عليه؛ لما جاز له ذلك «3».
السادس عشر: أن من يدّعى النصّ الجلىّ على أبى بكر أيضا بالغون عدد التواتر فى زماننا، وهم يزعمون أنهم نقلوا ذلك عن جماعة لا يتطرق إليهم التواطؤ على الكذب، وأنهم أخبروهم [أنهم رووه] «4» عن جماعة لا يتطرق إليهم التواطؤ «5» على «5» الكذب، وأنهم أخبروهم عن جماعة منهم كذلك وهلم جرّ إلى النبي- صلى اللّه عليه وسلم- على نحو ما ذكره الإمامية، ويلزم من التنصيص الجلى على أبى بكر أن لا يكون عليا منصوصا عليه؛ لاستحالة اجتماع إمامين فى بلد واحد، وعصر واحد، وليس أحدهما أولى من الآخر.
قولهم: إنه يمتنع ثبوت الإمامة بالدعوة، والاختيار.
قلنا: أما الدعوة: فمسلم. وأما الاختيار: فممنوع. وقد أبطلنا كل ما ذكروه على ذلك. وبتقدير التسليم بأن الإمامة لا تثبت بغير النص؛ فلا نسلم النص على [عليّ] «6».
قولهم: الأمة مجمعة على أن المنصوص عليه لا يخرج عن أبى بكر، وعلى والعبّاس مسلم، غير أن الأمة المجمعة على ذلك عندهم كفار إلّا عدد يسير لا تقوم الحجة بقولهم، فيكف يصح منهم الاحتجاج [بالإجماع] «7». فلئن قالوا: إذا أجمعت
________________
(1) راجع تخريج الحديث فيما سبق هامش ل 268/ ب.
(2) قارن هذا الرد بما ورد فى الإرشاد للجوينى ص 238، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 314. تحقيقنا.
(3) قارن هذا الرد بما ورد فى المغنى 20/ 1/ 288، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 315.
(4) ساقط من «أ».
(5) (التواطؤ على) ساقط من ب.
(6) ساقط من «أ».
(7) ساقط من «أ».
(5/167)
________________________________________
الأمة على شيء، فيكون فيهم الإمام المعصوم؛ لاستحالة خلو كل زمان منه على ما يأتى بيانه؛ فسنبين بطلانه فيما بعد «1».
وإن سلمنا صحة احتجاجهم بالإجماع غير أنا لا نسلم أنّ أبا بكر، والعبّاس غير منصوص عليهما، وما ذكروه فى إبطال التنصيص على أبى بكر، والعباس؛ فغير صحيح؛ إذ جاز أن يكون الشخص منصوصا عليه، وإن لم يكن عالما به؛ فإنه ليس من شرط صحه التنصيص على أحد، سماعه له.
وإن سلّمنا أنّه لا بدّ من سماعه له، غير أنّه معارض بمثله فى حقّ عليّ أيضا.
ودليله ما سبق «2».
[رد الآمدي على حجج الشيعة فى أفضلية على رضي اللّه عنه على سائر الصحابة]
قولهم: إنّ عليّا أفضل الصحابة؛ لا نسلم ذلك، وأما قوله- تعالى-: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وأَبْناءَكُمْ «3» الآية؛ فلا نسلم أن المدعو إلى ذلك عليّ؛ بل قد روى أن المراد به قرابته، وخدمه، ولذلك ذكرهم بصيغة الجمع، ولو كان المراد به عليا؛ لكان مجازا فيه، والأصل فى الكلام الحقيقة.
قولهم: ليس المراد من قوله: وأنفسنا. نفسه؛ ممنوع.
قولهم: لأن الإنسان لا يدعو نفسه حقيقة، أو مجازا. الأول: مسلم. والثانى:
ممنوع؛ فإن من أراد من نفسه شيئا يصحّ أن يقال دعا نفسه إلى ذلك الشيء، وهو وإن كان مجازا فحمله على عليّ/ أيضا مجاز، فإنّ عليا ليس هو نفس النبىّ حقيقة؛ وليس أحد المجازين، أولى من الآخر «4».
سلمنا أن المدعو إلى المباهلة عليّ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن يكون أفضل من الصحابة.
قولهم: ذلك يدلّ على أن النّبي- عليه الصلاة والسلام- فى غاية الشفقة على المدعو مسلم.
________________
(1) راجع ما سيأتى ل 285/ ب وما بعدها.
(2) راجع النصوص التى وردت فى حق الإمام على- رضي اللّه عنه- فيما سبق ل 269/ أ وما يأتى بعدها.
(3) سورة آل عمران 3/ 61.
(4) قارن بما ورد فى المواقف للإيجي ص 407 وشرحها للجرجانى- الموقف السادس ص 320 ومنهاج السنة 4/ 34 وما بعدها.
(5/168)
________________________________________
قولهم: إما أن يكون ذل لزيادة قربه من النبي- صلى اللّه عليه وسلم-، أو لزيادة فضله، لا نسلم الحصر؛ إذ أمكن أن يكون ذلك لمجموع أمور لا وجود لها فى غير المدعو، وهى أصل القرابة، وأصل الفضل، مع زيادة إلف، وكثرة المعاشرة، لا لزيادة الفضيلة، ولا زيادة القرابة «1».
وعلى هذا أمكن اختصاص عليّ بهذه الأمور، دون غيره من الصحابة، وهو كذلك.
قولهم: إنه جعل عليا نفسا له.
قلنا: بمعنى أنه أضافها إليه، أو بمعنى أنه أوجب الاتحاد بين نفس عليه، ونفسه؟
الأول: مسلم. والثانى: ممنوع؛ إذ هو خلاف الحقيقة. وعند ذلك فلا يلزم من مطلق الإضافة الاشتراك فى الصفات؛ ليلزم ما ذكروه.
وقوله- عليه السلام- فى [ذى] «2» الثدية: «يقتله خير الخلق» متروك الظاهر؛ فإنه يدل على أن من باشر قتل ذى الثدية حقيقة يكون خير الخلق، وعليّ ما باشر قتله؛ فيلزم أن يكون من قتله من أصحاب عليّ أفضل من على، ومن الخلق؛ وهو ممتنع «3». ثم إنه يلزم من ذلك أن يكون عليّ خيرا من النّبيّ لأنّه من الخلق، وبعد التخصيص؛ فقد بطلت الحقيقة، وهى حمل لفظ الخلق على العموم.
وعند ذلك فيبقى مترددا بين أقل الجمع؛ وما عدا صورة التخصيص؛ فهو مجاز فى كل واحد منهما، وليس أحد المجازين أولى من الآخر؛ بل ربما كان حمله على أقل الجمع؛ أولى لتيقنه.
وقوله- عليه السلام- «أخى، ووزيرى «11» // وخير من أتركه بعدى، يقضى دينى وينجز موعدى، عليّ بن أبى طالب» «4»، فلا حجة فى قوله: «أخى، ووزيرى» فإنه لا يلزم من كونه أخا للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن يكون أفضل عند اللّه من غيره، وكذلك الوزير؛ بل موضع الاحتجاج إنما هو [فى قوله] «5»: «و خير من أتركه بعدى» ولا حجة فيه أيضا؛ فإنه
________________
(1) قارن بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 1/ 141، 142.
(2) ساقط من «أ».
(3) قارن بما ورد فى المواقف للإيجي ص 409، وشرحه- الموقف السادس ص 321.
(11) // أول ل 160/ أ من النسخة ب.
(4) راجع ما سبق فى هامش ل 270/ أ.
(5) ساقط من أ.
(5/169)
________________________________________
قال: «خير من أتركه بعدى يقضى دينى وينجز موعدى على بن أبى طالب» وتقديره: خير من يقضى دينى، وينجز موعدى، عليّ. ولا يلزم من ذلك أن يكون خيرا من غيره مطلقا؛ بل بالنسبة إلى قضاء الدين، وانجاز الموعد «1».
وقوله- عليه السلام- لفاطمة: «أ ما ترضين أنى زوجتك خير أمتى» «2» ليس فيه ما يدل على كونه خيرا من الأمة مطلقا؛ إذ ليس فى لفظة خير صيغة عموم؛ ليكون خيرا منهم بالنسبة [إلى كل شيء، وعند ذلك فيكون خيرا من الأمة] «3» بالنسبة إلى بعض الأشياء، ولا يلزم أن يكون خيرا منها مطلقا، وعلى هذا فإن كان خيرا من غيره من وجه؛ فيكون غيره خيرا/ منه من وجه آخر.
فإن قيل: النبي- صلى اللّه عليه وسلم- إنما ذكر ذلك فى معرض الامتنان، والإنعام على فاطمة، ولو كان الأمر على ما ذكرتموه؛ لم تتحقق هذه الفائدة.
قلنا: أمكن أن يكون تحقيق فائدة الامتنان، والإنعام عليها بكون على خير الأمة بالنسبة إلى فاطمة فيما يرجع، إلى القرابة، وزيادة الحنو، والشفقة عليها، وكثرة طواعيته لها، وزيادة منزلته فى حب النبي- صلى اللّه عليه وسلم-[له] «4»، وعلى هذا فقد خرج الجواب عن قوله- عليه السلام:- «خير من أتركه بعدى عليّ» وأمكن تقييد ذلك بأنه خير من يقضى دين النبي- صلى اللّه عليه وسلم- وينجز موعده.
وقوله- عليه السلام- عن على: «هذا سيّد العرب» «5» فلا يخفى أن السيادة عبارة عن التقدم، والارتفاع. وليس فى لفظ سيّد أيضا صيغة عموم؛ بل هى مطلقة، والكلام فيها، كالكلام فى قوله خير.
ثم وإن سلمنا العموم فى قوله سيّد بالنسبة إلى كل شيء، غير أنه لا يدل على كونه أفضل، من جميع الصحابة؛ فإنه قد كان منهم من ليس بعربىّ: كسلمان الفارسى [و بلال الحبشى] «6» وغيرهما.
________________
(1) قارن هذا الرد بما ورد فى المغنى 20/ 1/ 182، والمواقف ص 409، وشرحه- الموقف السادس ص 321.
(2) انظر ما سبق فى هامش ل 270/ أ.
(3) ساقط من أ.
(4) ساقط من أ.
(5) راجع بشأنه ما سبق فى هامش ل 270/ أ.
(6) ساقط من أ.
(5/170)
________________________________________
فإن قالوا: إذا كان سيّد العرب، فالعرب سادات لمن سواهم، وسيّد السيّد سيّد» قلنا: فيلزم من ذلك أن يكون عليّ سيّد العالمين، وفيه إبطال قوله- عليه السلام- فى الفرق بينه، وبين على: «أنا سيّد العالمين، وعلى سيّد العرب».
وقوله عليه السلام:- «إنّ اللّه اطلع على أهل الأرض ثانية فاختار منهم بعلك» «1» يدل على كونه مختارا، وليس فيه ما يدل على اختياره بالنسبة إلى كل شيء؛ إذ لا عموم فى قوله: «اختار منهم بعلك» بالنسبة إلى كل شيء «2»، ولا يلزم من كونه مختارا بالنسبة إلى بعض الأشياء، أن يكون أفضل من غيره مطلقا. وعلى هذا أمكن أن يكون مختارا بالنسبة إلى مجاهدته، بين يدى النبي صلى اللّه عليه وسلم، أو بالنسبة إلى جعله بعلا لفاطمة، أو غير ذلك.
وقوله- عليه الصلاة والسلام- «ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معى» «3» فليس فيه أيضا ما يدل على كونه أحب الخلق مطلقا؛ بل أمكن أن يكون أحب الخلق بالنظر، إلى شيء دون شيء، ولهذا يصح الاستفسار، ويقال أحب خلق الله فى كل شيء، أو فى بعض الأشياء؟
وعند ذلك فلا يلزم من زياده ثوابه فى بعض الأشياء على غيره، الزيادة فى كل شيء؛ بل جاز أن يكون غيره أزيد ثوابا منه فى شيء آخر.
فإن قيل: إذا كان كذلك فأى فائدة فى قوله: ائتنى بأحب خلقك أليك؟
قلنا: الفائدة فيه تخصيصه عمّن ليس أحب عند اللّه، ولا من وجه.
وقولهم: إن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- اتّخذ عليا أخا لنفسه، جاز أن يكون ذلك لزيادة حنوّه عليه، وشفقته، بسبب قرابته، ومصاهرته، وزيادة خدمته، وألفته له بكثرة مخالطته له- صلى اللّه عليه وسلم-/ وليس فى ذلك ما يدل على كونه أفضل من غيره عند الله تعالى «4».
________________
(1) راجع بشأنه ما سبق فى هامش ل 270/ أ.
(2) قارن بالمواقف ص 410، وشرحه- الموقف السادس ص 323.
(3) راجع ما سبق فى هامش ل 270/ أ.
(4) قارن هذا الرد بما ورد فى المغنى 20/ 1/ 185 وما بعدها، والمواقف ص 410 وشرحه- الموقف السادس ص 323.
(5/171)
________________________________________
وأما قصة خيبر: فليس فيها أيضا ما يدل على أن عليا أفضل من أبى بكر وعمر؛ بل غايته أن مجموع ما وصفه به من كونه يحب اللّه ورسوله، [و أنه] «1» يحبه اللّه ورسوله، وأنه كرار غير فرار، لم يجتمع فيهما، وذلك متحقق بفرارهما، ويلزم من ذلك، أن يكون أفضل منهما بالنظر إلى هذا الوجه لا غير «2»، ولا يلزم أن يكون أفضل منهما مطلقا؛ لجواز أن يكون كل واحد منهما، أفضل منه من وجه آخر.
قولهم: إن عليا كان أعلم الصحابة؛ لا نسلم ذلك.
وقوله- عليه السلام- «أقضاكم على» «3» لا يدل على أنه أعلم؛ بل غايته أنه لا يحتاج إلى جميع أنواع العلوم التى يتعلق بها القضاء، وفصل الخصومات «11» // ولا يدل ذلك على بلوغه فى كل واحد منهما إلى الغاية القصوى، والنهاية العليا، وعلى هذا وإن كان أعلم من غيره من جهة اشتماله على أصول العلوم، فلعل غيره أعلم منه لبلوغه فى آحاد العلوم النهاية التى لم يبلغها عليّ كرّم اللّه وجهه.
وإن سلمنا أنه أعلم الصحابة، وأنه أفضل من باقى الصحابة، بالنسبة إلى فضيلة العلم؛ فلا يلزم أن يكون أفضل من غيره مطلقا؛ لجواز اختصاص غيره بفضيلة غير فضيلة العلم، يكون بها أفضل من عليّ- عليه السلام.
قولهم: إن عليا كان أكثر جهادا مع رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- من جميع الصحابة.
قلنا: وإن كان أكثر جهادا بالقتال، ومنازلة الأبطال من غيره، فليس فى ذلك ما يدل، على أنه أفضل من غيره مطلقا؛ لجواز اختصاص غيره بفضيلة لا وجود لها فيه، كالجهاد مع النفس بالعبادات، أو الجهاد مع العدوّ بإقامة البراهين، ودفع الشبهات، أو غير ذلك «4».
وقولهم: إنّ إيمان عليّ كان سابقا على إيمان جميع الصحابة، ممنوع وما ذكروه معارض بما روى عنه- عليه السلام- أنه قال: «ما عرضت الإيمان على أحد إلّا وكان له
________________
(1) ساقط من أ.
(2) قارن بما ورد فى المواقف ص 410، وشرحه- الموقف السادس ص 323.
(3) انظر ما سبق فى هامش ل 270/ ب.
(11) // أول ل 160/ ب من النسخة ب.
(4) قارن به ما ورد فى: الفصل فى الملل والنحل 4/ 135، 136، والأربعين للرازى ص 477، ومنهاج السنة لابن تيمية 4/ 163.
(5/172)
________________________________________
كبوة غير أبى بكر فإنه لم يتلعثم» «1»؛ وذلك يدل على سبقه لكل من عداه إلى الإيمان؛ لأنه لو لم يكن كذلك؛ لكان تأخره فى الإيمان، لا لعدم إجابته؛ بل لتقصير النبي- صلى اللّه عليه وسلم- فى دعائه إلى الإيمان؛ وذلك ممتنع فى حق النبي صلى اللّه عليه وسلم.
وإن سلمنا أن إيمان عليّ كان سابقا على إيمان أبى بكر، غير أن إسلام أبى بكر كان بعد البلوغ، وإسلام عليّ قبل البلوغ، بدليل ما نقل عنه من الشعر. وإسلام العاقل البالغ، أفضل من إسلام الصبىّ، لثلاثة أوجه:
الأول: أن النّاس قد اختلفوا فى صحة إسلام الصبى، مع اتفاقهم على صحة إسلام العاقل البالغ؛ وذلك يدل على كون إسلام البالغ أفضل.
الثانى:/ أنّ إسلام العاقل، البالغ أنفع لنفسه، ولغيره، أما بالنسبة إلى نفسه؛ فلأن تأدية العبادات، وامتثال أمر الشارع، ونهيه [أكثر] «2»؛ فيكون أكثر ثوابا. وأما بالنسبة إلى غيره، فلأن تأسى الغير به فى الدخول فى الإسلام لكمال عقله يكون أكثر على ما لا يخفى.
الثالث: أن دعاءه لغيره إلى الإسلام، وحثّه عليه، يكون أفيد، وأقرب إلى المقصود من الصبى، ولهذا فإن أبا بكر بعد إسلامه، كان هو السبب فى إسلام عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبى وقاص، وابن مظعون «3» بدعائه لهم إلى الإسلام، وتوسطه بينهم، وبين الرسول فى إسلامهم، وكان ذلك سبب قوة الإسلام، وظهوره، بخلاف إسلام عليّ صبيا؛ فإنه لم يتأت منه مثل هذه الفائدة الجسيمة؛ فكان إسلامه أفضل.
وإن سلمنا أن من سبق إلى الإسلام أفضل؛ لكن من جهة سبقه إلى الإسلام، أو مطلقا؟ الأول: مسلم، والثانى: ممنوع، وعلى هذا فلا يلزم أن يكون على أفضل من غيره مطلقا.
________________
(1) ورد فى جامع الأصول 9/ 429.
(2) ساقط من «أ».
(3) انظر سيرة ابن هشام 1/ 232.
(5/173)
________________________________________
وقوله- تعالى-: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ «1» لا نسلم أن المراد من قوله تعالى: وصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ عليّ بن أبى طالب؛ بل المراد به خيار المؤمنين على ما قاله أكثر المفسرين. وقال العلاء بن زياد «2»: المراد به الأنبياء «3».
وقال الضحاك «4»: المراد به أبو بكر، وعمر، ويقال عثمان أيضا.
وقوله- عليه السلام- «من كنت مولاه فعلىّ مولاه». وقوله: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى» سيأتى جوابهما فيما بعد «5».
وقوله- عليه السلام- «من أراد أن ينظر إلى آدم فى علمه» الحديث؛ فليس فيه ما يدل على تفضيله.
قولهم: إنه أوجب مساواته لكل نبى فى صفته، لا يخلو: إما أن يوجب مساواته لكل واحد فى الفضيلة؛ لمساواته فيما يشبهه به، أو لا يوجب ذلك.
الأول: محال. لما فيه من القول بأن عليا مساو للنبى- عليه الصلاة والسلام فى الفضيلة؛ وهو خلاف الإجماع، ولأنه يلزم من مساواته لكل واحد من الأنبياء المذكورين فى فضيلته، أن يكون أفضل من كل واحد منهم؛ لمساواته له فى فضيلته، وترجحه عليه بفضيلة غيره؛ والولىّ لا يكون أفضل من النبىّ بالإجماع.
وإن كان الثانى: فقد بطل ما ذكروه من وجه الاستدلال.
وما ذكروه من اتصافه بالصفات المذكورة، والمناقب المشهورة، فكل ذلك ممّا يوجب الفضيلة لا الأفضلية، فإنّه «11» // ما من واحد من آحاد الصّحابة، إلّا وهو أيضا مختص بمناقب وفضائل لم توجد فى حق غيره، وإن لم يكن أفضل من غيره.
________________
(1) سورة التحريم 66/ 4.
(2) العلاء بن زياد: هو العلاء بن زياد بن مطر بن شريح حدث عن أبى هريرة توفى فى ولاية الحجاج سنة 94.
[طبقات ابن سعد 7/ 217، تهذيب التهذيب 8/ 181].
(3) راجع فى ذلك تفسير الرازى 30/ 44.
(4) هو الضحاك بن مزاحم البلخى الخراسانى- حدث عن ابن عباس وأبى سعيد الخدرى توفى سنة 105 ه.
[ميزان الاعتدال 1/ 471، وتهذيب التهذيب 4/ 453].
(5) راجع ما سيأتى ل 282/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 161/ أ.
(5/174)
________________________________________
[الدليل على أفضلية أبى بكر رضي اللّه عنه على سائر الصحابة. وبيانه من ثلاثة عشر وجها.]
وإن سلمنا دلالة ما ذكروه على أن عليا أفضل من باقى الصّحابة، إلّا أنه معارض بما يدل على أنه أبا بكر أفضل منه.
وبيانه من ثلاثة عشر وجها:- الأول: قوله- تعالى-: وسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى «1» الآية قال أكثر أهل التفسير، وعليه اعتماد العلماء: إنها نزلت فى حق أبى بكر «2»؛ فيكون/ موصوفا فى كونه أتقى، والأتقى هو الأكرم عند الله- تعالى لقوله- تعالى:- إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «3». والأكرم عند اللّه هو الأفضل؛ فإذا الآية دالة على أن أبا بكر أفضل من كل من عداه من الأمة.
الثانى: قوله- عليه السلام- «اقتدوا باللّذين من بعدى أبى بكر، وعمر» «4»، أمر كل واحد بالاقتداء بهما؛ فيدخل فيه عليّ «5»، ويلزم من ذلك أن يكون عليّ- عليه السلام- مفضولا بالنسبة إلى أبى بكر؛ لأنه إن لم يكن مفضولا، فإما مساو، أو أفضل.
فإن كان مساويا: فليس بأفضل؛ وهو المطلوب.
كيف وأنه يمتنع أن يكون مساويا؛ فإنه ليس الأمر بمتابعة أحد المتساويين للآخر، أولى من العكس.
وإن كان أفضل: كان الواجب أن يكون الأمر بالمتابعة بالعكس، وإذا بطل أن يكون أفضل، أو مساو؛ لزم أن يكون مفضولا.
الثالث: ما روى أن أبا الدرداء «6» كان يمشى [أمام] «7» أبى بكر. فقال له- عليه السلام-: [أتمشى أمام من هو خير منك، فقال أبو الدرداء: أ هو خير منى] «8» فقال له
________________
(1) سورة الليل 92/ 17، 18.
(2) انظر فى ذلك. أسباب النزول للواحدى ص 300، وتفسير الرازى 31/ 25.
(3) سورة الحجرات 49/ 13.
(4) ورد فى مسند الإمام أحمد 5/ 382، وصحيح الترمذي 5/ 609.
(5) قارن بالمواقف ص 407، 408، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 317.
(6) أبو الدرداء: هو عويمر بن مالك بن قيس الخزرجى. صحابى جليل، تولى قضاء دمشق بعهد من عمر بن الخطاب، وتوفى بالشام سنة 32 ه.
[الاستيعاب 2/ 452، والإصابة 3/ 46].
(7) ساقط من أ.
(8) ساقط من أ.
(5/175)
________________________________________
عليه السلام: «ما طلعت الشمس، ولا غربت بعد النبيين، والمرسلين على رجل، أفضل من أبى بكر» «1».
الرابع: قوله- عليه السلام- لأبى بكر، وعمر: «هما سيّدا كهول أهل الجنّة ما خلا النبيين، والمرسلين» «2».
الخامس: قوله- عليه السلام:- «لا ينبغى لقوم يكون فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه غيره» «3».
السادس: قوله- عليه السلام:- «ليؤم الناس أبو بكر» «4» وتقديمه فى الصلاة مع أنها أفضل العبادات؛ أدلّ على كونه أفضل «5».
السابع: قوله- عليه السلام:- «يأبى اللّه ورسوله إلّا أبا بكر» «6».
الثامن: قوله- عليه السلام:- «آتونى بدواة وقرطاس أكتب إل أبى بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان» «7»
التاسع: قوله- عليه السلام:- «خير أمتى أبى بكر، وعمر» «8».
العاشر: قول النبي- صلى اللّه عليه وسلم- وقد ذكر أبو بكر عنده: «و أين مثل أبى بكر، كذّبنى الناس وصدّقنى، وآمن بى، وزوّجنى ابنته، وجهّزنى بماله، وواسانى بنفسه، وجاهد معى ساعة الخوف» «9».
________________
(1) ورد بألفاظ متقاربة فى مجمع الزوائد 9/ 43، 44، والصواعق المحرقة ص 103 وعلق عليه: «و فيه إسماعيل بن يحيى التميمى وهو كذاب»
كما ورد فى المستدرك 3/ 90، ولكن باسم عمر وعلق الذهبى عليه قائلا «و الحديث شبه موضوع».
(2) ورد بألفاظ متقاربة: فى سنن ابن ماجه 1/ 36، 38، ومجمع الزوائد 9/ 53 وعلق عليه «و فيه على بن عابس وهو ضعيف».
(3) ورد فى سنن الترمذي 5/ 614، وقال عنه ابن الجوزى فى العلل المتناهية 1/ 193 إلا أن هذا الحديث لا يصح.
قال يحيى بن معين (فى مسنده) أحمد بن بشر: متروك، وعيسى بن ميمون: منكر لا يحتج بروايته».
(4) صحيح البخارى 1/ 172 - 173.
(5) قارن بالمواقف ص 408 وشرحه ص 318.
(6) سبق تخريجه ل 268/ ب.
(7) سبق تخريجه ل 268/ ب.
(8) ورد فى مجمع الزوائد 9/ 53 بلفظ مقارب وقال فيه: «و فيه الفضل بن مختار وهو ضعيف».
(9) ورد فى مجمع الزوائد 9/ 46 بلفظ مقارب وقال فيه: «و فيه أرطاة أبو حاتم وهو ضعيف».
(5/176)
________________________________________
الحادى عشر: قول عليّ- كرّم اللّه وجهه:- «خير النّاس بعد النّبيّين أبو بكر، ثم عمر، ثم الله أعلم» «1».
الثانى عشر: ما روى عن عليّ- كرّم اللّه وجهه أنه قيل له: «ما توصى، فقال: ما أوصى رسول اللّه حتى أوصى؛ ولكن إن أراد اللّه بالنّاس خيرا جمعهم على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم» «2».
الثالث عشر: قوله- عليه الصلاة والسلام-: «لو كنت متّخذا خليلا دون ربى لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنّ صاحبكم شريكى فى دينى، وصاحبى الّذي وجبت له صحبتى فى الغار، وخليفتى فى أمتى» «3».
[ردود أخرى على الشيعة]
إلى غير ذلك من الأدلة. [و هذه الأدلة] «4» وإن لم تكن راجحة، فلا أقل من التّساوى، ومع التّساوى يجب القول بالتّساقط، والرّجوع إلى إجماع الصحابة.
وإن سلمنا أن عليا أفضل من جميع الصحابة؛ ولكن لا نسلم امتناع إمامة المفضول مع وجود الفاضل؛ وذلك لأنه إذا وقع التساوى بينهما/ فى أصل الشروط المعتبرة فى الإمامة، فلا يمتنع أن يكون تفويض الإمامة إلى المفضول أفضى إلى صلاح الناس، واستقامة أمورهم؛ وذلك بأن يكون الفاضل مبغوضا لأكثر الخلق، والمفضول محبوبا لهم. ومثل ذلك فقد تحقق فى حق عليّ باعتراف الإمامية، حيث زعموا أن الأمّة منعوه حقه، وتمالئوا على إخفاء النّص الجلىّ عليه، وعلى نصب أبى بكر إماما، ولذلك سمّوهم نواصب.
قولهم: إن الأمة مجمعة على أن الإمامة غير خارجة عن أبى بكر، وعليّ، والعباس؛ فقد بيّنا أن استدلالهم بالإجماع ممّا لا يصح. وبتقدير الصحة لا نسلم أنّ أبا بكر، والعبّاس غير صالحين للإمامة.
________________
(1) ورد فى صحيح البخارى 5/ 9 «عن محمد بن الحنفية قال: «قلت لأبى أى الناس خير بعد رسول الله- صلى اللّه عليه وسلم- قال:
أبو بكر؛ قلت: ثم من، قال: ثم عمر وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين».
(2) انظر بشأنه ما سبق فى ل 267/ أ.
(3) متفق عليه رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما: البخارى 5/ 5 ومسلم 7/ 108.
(4) ساقط من «أ».
(5/177)
________________________________________
قولهم: إنهما غير معصومين، مسلم؛ ولكن لا نسلم أن الإمام لا بدّ وأن يكون معصوما على ما سيأتى «1».
قولهم: إنّ أبا بكر، والعبّاس، كانا كافرين قبل البعثة؛ والكافر ظالم.
قلنا: الكافر ظالم حالة كفره، أو بعد زواله. الأول: مسلم، والثانى: ممنوع؛ فإنه بعد الإسلام لا نسمى الشخص كافرا «11» // حقيقة بالإجماع، وإذا كان الكفر هو منشأ تسميته ظالما، ولا كفر حقيقة؛ فلا ظلم حقيقة. والأصل فى قوله- تعالى: والْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ «2» الحقيقة دون المجاز.
قولهم: لا يشترط فى إطلاق الاسم المشتق حقيقة؛ وجود المشتق منه، ليس كذلك، فإن تسمية المحل أسود، أو أبيض حالة عدم السواد المشتق منه، اسم الأسود، وعدم البياض، المشتق منه اسم الأبيض؛ لا يكون حقيقة، ولو لم يكن وجود الصفة المشتق منها شرطا فى وصف المحل بكونه أسود، أو أبيض؛ لما كان كذلك.
وما ذكروه من الاستشهاد بالقائل، والماشى، فالمشتق منه اسم الماشى: إنما هو الحركة الأخيرة مشروطا بعدم الحركات السابقة بعد وجودها، وكذلك الحكم فى القول.
قولهم: إنه تصدق عليه حالة اتصافه بكونه ظالما، أنه لا ينال عهد اللّه بجهة العموم لوقت الظّلم وما بعده، لا نسلم ذلك؛ بل هو مقصور على حالة كونه ظالما حقيقة، وصحة الاستثناء معارض بصحة الاستفهام؛ فإنه يصح أن يقال: لا ينال عهد اللّه فى حالة الظلم، أو فى جميع الأوقات؟ ولو كان ذلك ظاهرا فى العموم؛ لما حسن الاستفهام.
وقوله- تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ «3» الآية، إنما يكون حجة أن لو كان الولى فى الآية بمعنى الأولى بالتصرف. وما المانع من حمله على معنى الناصر؟
قولهم: إن الولاية بمعنى النصرة عامة، والولاية فى الآية خاصة.
________________
(1) راجع ما سيأتى فى الفصل الثالث ل 290/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 161/ ب.
(2) سورة البقرة 2/ 254.
(3) سورة المائدة 5/ 55.
(5/178)
________________________________________
قلنا: الولاية بمعنى النصرة، إنما تكون عامة، إذا أضيفت إلى جمع غير مخصوصين بصفات معينة، كما فى قوله: والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «1». وأما إذا أضيفت إلى جمع/ مخصوصين بصفات خاصة كما فى الآية المحتج بها فلا، وعلى هذا فلا يمتنع أن تكون الولاية المحصورة فى الله، ورسوله، والمؤمنين المخصوصين، بالصفات المذكورة فى الآية، الولاية بمعنى النصرة، وهى الولاية الخاصة فيها، دون الولاية العامة من غير منافاة بين الآيتين المذكورتين، ويكون تقدير الآية: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والمؤمنين الموصوفين بالصفات المذكورة؛ أى الولاية الخاصة بمعنى النصرة لا الولاية العامة.
وإن سلمنا دلالة ما ذكروه، على أن الولاية فى الآية بمعنى التّصرّف، غير أنه يمتنع حمل لفظ المؤمنين على عليّ- عليه السلام- لما فيه من حمل لفظ الجمع على الواحد؛ وهو مخالف للأصل والحقيقة.
قولهم: إن أئمة التفسير اتفقوا على أن المراد بالمؤمنين المذكورين فى الآية عليّ، لا نسلم الاتفاق على ذلك، فإنه قد حكى النقاش فى تفسيره عن أبى جعفر «2» أنه قال:
«المؤمنون المذكورون فى الآية: أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام». وهو الأظهر؛ لما فيه من موافقة ظاهر لفظ الجمع «3».
وإن سلمنا أن المراد إنما هو عليّ- كرم الله وجهه- غير أنه يمتنع جعله بذلك إماما، وخليفة عن الرّسول، وإلّا لزم فيه إمّا تخصيص ولايته بما بعد موت النبي- عليه الصلاة والسلام-[و هو خلاف ظاهر الآية، وإما إثبات الولاية له بمعنى التصرف فى الأمة فى زمن النبي- صلى اللّه عليه وسلم] «4»؛ وهو خلاف الإجماع منّا، ومن الخصوم «5».
________________
(1) سورة التوبة 9/ 71.
(2) أبو جعفر (57 - 114 ه) هو محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، أبو جعفر الباقر (الإمام) روى عن أبيه وجديه: الحسن والحسين (رضى الله عن الجميع).
من التابعين الثقات، وخامس الأئمة عند الإمامية. كان محدثا ومفسرا. توفى سنة 114 ه.
[وفيات الأعيان 4/ 1174، وتهذيب التهذيب 9/ 350].
(3) انظر تفسير القرطبى 6/ 221. وقارن به تفسير ابن كثير 2/ 71.
(4) ساقط من «أ».
(5) قارن به تفسير الفخر الرازى 12/ 31، والمغنى للقاضى عبد الجبار 20/ 1/ 133، 134.
(5/179)
________________________________________
وقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ «1» لا نسلم كونه حجة.
قولهم: إنه أمر بمتابعة الصّادق.
قلنا: فى الظاهر، أو فى نفس الأمر؟
الأول: مسلم، والثانى: ممنوع؛ وعلى هذا فلا يلزم العصمة.
وإن سلمنا أنه لا بدّ من عصمة المأمور بمتابعته فى نفس الأمر؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن يكون عليّ معصوما.
قولهم: إن غير عليّ من الصحابة غير معصوم.
قلنا: غير عليّ غير معصوم من آحاد الصحابة، أو جملة الصحابة؟ الأول: مسلم، والثانى: ممنوع على ما تقدم فى بيان عصمة الأمة عن الخطأ «2». وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون المراد بالصادقين، المجمعون من أهل الحل والعقد من الصحابة وغيرهم دون آحاد الصحابة؛ وهو الأظهر نظرا إلى صيغة الجمع فى الصادقين «3»؛ فإنه حقيقة فى الجمع لا فى الآحاد.
كيف وأنه ليس كل إمام عند الخصوم ظاهرا، والأمر بمتابعة من ليس بظاهر، ولا معروف ممتنع.
فإن قيل: إذا كان الخطاب مع المؤمنين بمتابعة الصادقين، وإذا كان المراد بالصادقين، المجمعين من أهل الحل والعقد، فهم من المؤمنين المخاطبين، ويلزم من ذلك أن يكونوا مخاطبين بمتابعة أنفسهم؛ وهو ممتنع مخالف للظاهر.
قلنا: فإذا كان الخطاب مع المؤمنين، فالأئمة داخلون فيهم أيضا، فلو كان المأمور بمتابعته من الصادقين «11» // هم الأئمة [فيلزم أن يكون الأئمة] «4» أيضا/ قد أمروا بمتابعة أنفسهم.
________________
(1) سورة التوبة 9/ 119.
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة ل 27/ أ.
(3) قارن بما ورد فى تفسير الفخر الرازى 16/ 227.
(11) // أول ل 162/ أ.
(4) ساقط من «أ».
(5/180)
________________________________________
والجواب عن الإشكالين يكون متحدا. وعلى هذا يكون الجواب عن قوله- تعالى-: وأَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ «1».
وقوله عليه السلام: «من كنت مولاه؛ فعلى مولاه» «2» من أخبار الآحاد؛ فلا يكون حجة فى هذا الباب؛ لما تقدم «3».
قولهم: الأمة مجمعة على صحته؛ فقد سبق إبطال احتجاجهم بالإجماع. وإن صحّ احتجاجهم بالإجماع؛ لكن لا نسلم أن هذا الحديث ممّا أجمعت الأمة على صحته؛ فإنه قد طعن فيه ابن أبى داود «4»، وأبو حاتم «5» الرازى وغيرهما من أئمة الحديث.
وإن سلمنا الإجماع على صحته؛ لكن بجهة القطع، أو بجهة الظّن؟ الأول ممنوع، والثانى مسلم.
وإن سلّمنا أنه مقطوع بصحته؛ لكن لا نسلم صحة الزيادة فيه؛ وهى قوله: «أ لست أولى بكم من أنفسكم» ولا يمكن دعوى إجماع الأمة عليها؛ فإن أكثر المحدثين لم يوافقوا عليها.
سلمنا صحة الأصل والزيادة؛ ولكن لا نسلم صحة الاحتجاج به على إمامة عليّ عليه السلام.
قولهم: لفظ المولى يحتمل الأولى؛ لا نسلم ذلك «6»، وبيانه من وجهين:- الأول: أن أحدهما بمعنى أفعل، والأخر بمعنى مفعل، وقد نقل عن أهل اللغة أنه لم يرد أحدهما بمعنى الآخر.
________________
(1) سورة المائدة 5/ 92.
(2) سبق تخريجه ل 271/ أ.
(3) راجع ما تقدم ل 266/ ب.
(4) ابن أبى داود (230 - 316).
هو أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستانى، ولد بسجستان؛ وتوفى ببغداد اشتغل بالتفسير وعلم الحديث والاقراء [وفيات الأعيان 1/ 268، تاريخ بغداد 9/ 464].
(5) أبو حاتم الرازى (195 - 277).
هو محمد بن إدريس بن المنذر بن داود الغطفانى الرازى، ولد بالرى، اشتهر برواية الحديث ونقده طاف بالبلدان الإسلامية، توفى ببغداد [تهذيب التهذيب 9/ 31، سير أعلام النبلاء 3/ 247].
(6) لنفى احتمال تضمن لفظ المولى على معنى الأولى. راجع بالإضافة لما أورده الآمدي هاهنا.
التمهيد للباقلانى 170 - 171، والإرشاد للجوينى ص 338.
وغاية المرام للآمدى ص 378، والمواقف للإيجي ص 405 وشرحها- الموقف السادس ص 306.
(5/181)
________________________________________
الثانى: أنه لو ورد أحدهما بمعنى الآخر وكان المفهوم منهما واحدا؛ لصحّ أن يقترن بكل واحد منهما ما يقترن بالآخر، وذلك بأن يقال: فلان مولى من فلان، كما يقال [فلان] «1» أولى من فلان، وفلان أولى فلان، كما يقال فلان مولى فلان؛ وهو ممتنع «2».
غير أن لقائل أن يقول: [إنّ] «3» المفهوم منهما وإن كان واحدا، غير أن اللفظ مختلف.
وعند ذلك فلا يلزم أن يجوز على كل واحد منهما ما يجوز على الآخر، إلّا أن نبين أن ذلك اللازم من لوازم مفهوم اللفظ، لا من لوازم اللفظ؛ وهو غير مسلم.
وقوله- تعالى-: ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ والْأَقْرَبُونَ «4» لا نسلم أن المولى هاهنا بمعنى الأولى؛ بل المراد به الوارثون، وهم العصبة من بنى العم، والقربى ممّا ترك الوالدان، والأقربون «5».
وقوله تعالى:- مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ «6» لا نسلم أن المولى هاهنا أيضا بمعنى الأولى؛ بل قد قيل المراد بقوله أولى بكم، أى مكانكم، ومقركم وما إليه مالكم، وعاقبتكم، ولهذا قال تعالى: وبِئْسَ الْمَصِيرُ «7»
وقد قيل: أمكن أن يكون المراد به: النار ناصركم بمعنى المبالغة فى نفى الناصر له. كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له، والصبر حيلة من لا حيلة له، والمراد المبالغة فى نفى الحيلة، والزاد. أمّا أن يكون الجوع زادا، والصبر حيلة؛ فلا.
وقوله- عليه الصلاة والسلام-: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن مولاها فنكاحها باطل» «8». لا نسلم صحته وبتقدير صحته [فالمراد] «9» بقوله مولاها، مالك
________________
(1) ساقط من «أ».
(2) ورد فى تفسير الرازى 29/ 228 «لأنه لو كان مولى، وأولى بمعنى واحد فى اللغة لصح استعمال كل واحد منهما مكان الآخر، فكان يجب أن يصح أن يقال: هذا مولى من فلان، كما يقال: هذا أولى من فلان، ويصح أن يقال هذا أولى فلان كما يقال هذا مولى فلان».
(3) ساقط من «أ».
(4) سورة النساء 4/ 33.
(5) فى تفسير ابن كثير 1/ 489 «و لكل جعلنا موالى: أى ورثة. وعن ابن عباس فى رواية: أى عصبة» وقارن به ما جاء فى تفسير الفخر الرازى 10/ 86، 87.
(6) سورة الحديد 57/ 15.
(7) سورة الحديد جزء من الآية رقم 15.
(8) سبق تخريجه فى هامش ل 272/ أ.
(9) ساقط من «أ».
(5/182)
________________________________________
رقبتها، والمتصرف فيها لغرض يعود إليه لا إليها؛ فإنه المتبادر إلى الأفهام من إطلاق/ لفظ المولى بإزاء الأمة، وعند ذلك فيمتنع إطلاقه بإزاء الأولى المطلق فى قوله عليه الصلاة والسلام: «أ لست أولى بكم من أنفسكم»، وإلا لصدق على النبي أنه مالك رق من خاطبهم بذلك؛ وهو ممتنع بالإجماع.
سلمنا احتمال إطلاق المولى بمعنى الأولى؛ ولكن لا نسلم وجوب حمله عليه فيما نحن فيه.
قولهم: لفظ المولى إما أن يكون ظاهرا فى الأولى بالتصرف، أو لا يكون ظاهرا فيه.
قلنا: ليس ظاهرا فيه.
قولهم فى الوجه الأول: إن اللفظ المتحد إذا أطلق وله محامل؛ فلا بدّ له من البيان، والمذكور فى مبدأ الكلام وهو قوله: «أولى بكم» صالح للبيان؛ فوجب الحمل عليه.
[قلنا: إنما يجب الحمل عليه] «1» أن لو لم يكن لفظ المولى ظاهرا فى محمل من جملة تلك المحامل، وأما إذا كان ظاهرا فى كل واحد منها فيجب الحمل عليه، لا على غيره، وهو الأولى. نفيا للإجمال عن الكلام؛ لكونه مخلا بمقصود الوضع، وهو التقاؤهم، وذلك على خلاف الأصل.
وعلى هذا: فلا يمتنع أن يكون لفظ المولى ظاهرا فى الناصر، والمعين، ولا يكون محتاجا إلى البيان.
كيف وأن الأصل عند تعدد الألفاظ تتعدد المعانى تكثيرا للفائدة، ولو كان لفظ المولى بمعنى الأولى؛ لكان أقل فائدة؛ وهو بعيد.
وإن سلمنا وجوب حمل لفظ المولى فى الحديث المذكور على الأولى؛ ولكن لا نسلم أن المراد به الأولى بالتصرف فيهم؛ بل أمكن أن يكون المراد به [أنه] «2» الأولى بهم فى محبته، وتعظيمه، وليس أحد المعنيين أولى من الأخر.
________________
(1) ساقط من «أ».
(2) ساقط من «أ».
(5/183)
________________________________________
[كيف] «1» وأن الترجيح لما ذكرناه، فإنه لو حمل ذلك على الأولى «11» // بالتصرف فيهم؛ للزم أن يكون عليّ إماما فى زمن النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو خلاف الإجماع، أو أن يكون ذلك مقيدا بما بعد موت النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ وهو خلاف الظاهر من اللفظ.
قولهم: فى الوجه الثانى أنه يتعذر حمل لفظ المولى على غير الأولى من المحامل المذكورة؛ لا نسلم، وما المانع من حمله على معنى الناصر والمعين «2».
قولهم: لا فائدة فيه؛ لكونه معلوما من قوله تعالى: والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «3».
قلنا: لا نسلم أنه لا فائدة فيه؛ فإن ما أثبته لعلىّ، إنما هو النصرة لجميع المؤمنين، والنصرة الثابتة فى قوله تعالى: والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، نصرة البعض للبعض.
سلمنا أن المثبت فى الآية والخبر واحد؛ لكنه مع ذلك مقيد، وبيانه من وجهين:- الأول: أنه أثبت النصرة لعلىّ فى الخبر بدليل يخصه، وفى الآية دليل يعمه، والخاص أبعد عن التخصيص، وأقوى فى الدلالة؛ فكان مقيدا.
الثانى: هو أن فى اقتران موالاته بموالاة النبي- صلى الله عليه وسلم- زيادة مزية، وتعظيم غير حاصل من الآية، ولا يخفى أن ذلك من أعظم الفوائد.
وإن سلمنا أنه غير مقيد من جهة أن ما أثبته فى الخبر معلوم من/ الآية؛ فيلزمهم من ذلك أن لا يكون إثبات إمامة عليّ بمثل هذه النصوص الخفية مفيدا؛ فإن إمامته على أصولهم معلومة بالنّصّ الجلى، وعلى هذا فالجواب يكون متحدا.
سلمنا امتناع حمل المولى فى الخبر على غير الأولى فى التدبير والتصرف؛ لكن بمعنى أنّه أعرف بمصالحهم فى التدبير والتصرف، أو بمعنى نفوذ تصرفه عليهم شاءوا، أو أبوا؟. الأول: مسلم، والثانى: ممنوع.
________________
(1) ساقط من «أ».
(11) // أول ل 162/ ب من النسخة ب.
(2) قارن به: المغنى 20/ 1/ 148، والمواقف ص 405 وشرحها الموقف السادس ص 306
(3) سورة التوبة 9/ 71.
(5/184)
________________________________________
وإنما قلنا بامتناع الثانى؛ لأنه يلزم منه أن يكون عليّ إماما فى زمن النبي- صلى الله عليه وسلم- أو أن يكون ذلك مقيّدا بما بعد موته، وكل واحد منهما خلاف الظاهر؛ لما سبق.
وقوله عليه السلام لعلىّ: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى» «1»، لا يصح الاستدلال به أيضا من جهة السند، كما تقدم فى الخبر الّذي قبله.
وإن سلمنا صحة سنده قطعا؛ لكن لا نسلم أن قوله: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى» تعم كل منزلة كانت لهارون من موسى؛ فإنّ من جملة منازل هارون من موسى أنه كان أخا له من النسب، وأنه كان شريكا له فى النبوة؛ ولم يثبت ذلك لعلى- رضى الله عنه «2».
قولهم: منزلة اسم جنس، يصلح لكل المنازل، ولكل واحد واحد؛ لا نسلم أن اسم الجنس إذا عرّى عما يوجب التعميم فيه كدخول الألف، واللام عليه، كقولنا:
المنزلة، أو دخول حرف النفى عليه، كقولنا: لا منزلة أنه يعم كل منزلة؛ بل هو من قبيل الأسماء المطلقة الصالحة لكل واحد، واحد من الجنس على طريق البدل، لا أن يكون متناولا للكل على طريق الاستغراق معا، وإلّا لما بقى بين المطلق، والعام فرق «3»، وأن يكون قولنا: رجل بمنزلة قولنا: الرجل؛ وهو محمل مخالف لإجماع أهل اللغة.
سلمنا أن [لفظ] «4» الجنس صالح للعموم، والآحاد؛ لكن بطريق العموم، أو الاشتراك؟ الأول: ممنوع، والثانى: مسلم؛ ولهذا فإنه يحسن الاستفسار وهو أن يقال:
فى كل المنازل، أو فى بعضها؟ وهو دليل الاشتراك «5».
قولهم: لو حملناه على بعض المنازل دون البعض: فإما أن يكون ذلك البعض معيّنا، أو مبهما.
________________
(1) أخرجه البخارى 5/ 24 «قال النبي- صلى اللّه عليه وسلم- لعلى: أ ما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى».
كما ورد فى صحيح مسلم 7/ 120.
(2) قارن بالمغنى 20/ 158، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 310.
(3) قارن بإحكام الأحكام للآمدى 1/ 40 - 42.
(4) ساقط من «أ».
(5) قارن بما ورد فى إحكام الأحكام للآمدى 1/ 21 - 24.
(5/185)
________________________________________
قلنا: هذا ممّا يخرج اللفظ المطلق عن اطلاقه، وحقيقته بأمر ظنى؛ فلا يقبل.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «إلّا أنه لا نبىّ بعدى» ممّا لا يدل على التعميم، والاستغراق لكل منزلة؛ بل على صلاحية منزلة لكل واحدة من آحاد المنازل على طريق البدل، والاستثناء فى المطلقات اخراج لولاه؛ لكان اللفظ المطلق صالحا له على طريق البدل، والاستثناء من اللفظ العام اخراج لولاه؛ لكان اللفظ متناولا له على طريق العموم، والاستغراق.
سلمنا بالتعميم لجميع المنازل؛ ولكن لا نسلم أن من منازل هارون من موسى استحقاقه لخلافته بعد/ وفاته؛ ليلزم مثل ذلك فى حق عليّ «1».
قولهم: إنه كان خليفة له على قومه فى حال حياته؛ لا نسلم ذلك؛ بل كان شريكا له فى النّبوّة، والشّريك غير الخليفة، ثم ليس جعل أحد الشّريكين خليفة عن الآخر أولى من العكس.
وقوله تعالى:- اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي «2» فالمراد به المبالغة والتأكيد فى القيام بأمر قومه على نحو قيام موسى به، أما أن يكون مستخلفا عنه بقوله؛ فلا؛ فإن المستخلف عن الشخص بقوله لو لم يقدر استخلافه له؛ لما كان له القيام مقامه فى التصرف، وهارون من حيث هو شريك [له] «3» فى النبوة؛ فله ذلك، ولو لم يستخلفه موسى.
سلمنا أنه استخلفه فى حال حياته؛ ولكن لا نسلم لزوم «11» // استخلافه له بعد مماته؛ فإن قوله: اخْلُفْنِي ليس فيه صيغة عموم، بحيث تقتضى الخلافة فى كل زمان؛ ولهذا فإنه لو استخلف وكيلا فى حياته على أمواله، ونفقة بنيه؛ فإنه لا يلزم من ذلك استمرار الخلافة له بعد موته، وإذا لم يكن ذلك مقتضيا للخلافة فى كل زمان، فعدم خلافته فى بعض الأزمان، لقصور دلالة اللفظ عن استخلافه فيه؛ لا يكون عزلا له فيه كما لو صرّح بالاستخلاف فى بعض التصرفات دون البعض؛ فإن ذلك لا يكون عزلا، فيما لم يستخلف فيه، وإذا لم يكن ذلك عزلا؛ فلا يتعين [كما قالوه] «4».
________________
(1) قارن به المغنى 20/ 160، والتمهيد للباقلانى ص 174، وشرح المواقف- الموقف السادس ص 311.
(2) سورة الأعراف 7/ 142.
(3) ساقط من أ.
(11) // ل 163/ أ من النسخة ب.
(4) ساقط من أ.
(5/186)
________________________________________