الكتاب: عيون الرسائل والأجوبة على المسائل
المؤلف: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب آل الشيخ (المتوفى: 1293هـ)
المحقق: حسين محمد بوا
الناشر: مكتبة الرشد - الرياض
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
المجلد الأول
مقدمة
...
شكر وتقدير
إنه بعد أن أكرمني الله -عز وجل- بإنهاء هذا البحث، لا يسعني إلا أن أشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه الغفيرة، وفضائله، وأحمده حمداً كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه. سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، لا إله إلاأنت نستغفرك ونتوب إليك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا راد لما قضيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وأتوجه بعد ذلك بخالص شكري وتقديري لهذه الجامعة الإسلامية المباركة، التي ربتني طيلة السنوات الثماني عشرة الماضية، تنقلت خلالها في جميع المراحل التابعة لها؛ ابتداءً بشعبة تعليم اللغة العربية، وانتهاءً بالدكتوراة. أسأل الله تعالى أن يحفظها من جميع مكائد أعداء الأمة الإسلامية، ويجعلها دوماً قلعةً للدعاة إلى دينه القويم.
ثم أشكر جميع القائمين عليها، الذين يسهرون على خدمة أبناء المسلمين، وعلى رأسهم معالي مديرها؛ فضيلة الدكتور/ صالح بن عبد الله العبود، وفضيلة الدكتور/ عبيد بن عبد الله السحيمي، عميد كلية الدعوة وأصول الدين، وفضيلة الدكتور/ صالح بن سعد السحيمي، رئيس قسم العقيدة في الجامعة.
كما أتوجه بخالص شكري إلى أستاذي وشيخي فضيلة الدكتور/ أحمد بن مرعي العَمري، المشرف على هذه الرسالة، والذي رافقني في هذا الدرب الطويل؛ فوجدته خير المعين بعد الله سبحانه وتعالى، والناصح الأمين. أسأل الله تعالى أن يكون جهدي فيه خالصاً لوجهه، ويجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وأخيراً أتوجه بشكري وتقديري إلى أستاذي فضيلة الدكتور/ صالح بن فوزان
(1/5)
________________________________________
ابن عبد الله الفوزان، وفضيلة الدكتور/ محمد بن خليفة التميمي، واللذين تقبلا مناقشة هذه الرسالة وتقويمها. فجزا الله الجميع عني خيراً، وأحسن مثوبتهم.
وأسأل الله أن يديم نعمة الأمن والإيمان على هذه البلاد، ويوفق ولاتها لما فيه عز الإسلام والمسلمين، ويحفظ لهم مقدساتهم. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/6)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِّينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِّينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً, يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً} (3) (4) .
__________
(1) سورة آل عمران، الآية (102) .
(2) سور النساء، الآية (1) .
(3) سورة الأحزاب، الآيتان (70-71) .
(4) هذه الخطبة مروية في السنن الأربعة وغيرها، وهي تعرف بخطبة الحاجة. انظر: سنن أبي داود، للإمام أبي داود بن الأشعث السجستاني، ومعه كتاب (معالم السنن) للخطابي، تعليق عزت عبيد الدعاس، طبعة دار الحديث، بيروت، ط/1، 1394هـ، 2/591، النكاح، باب في خطبة النكاح. سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى بن سورة، (ت297هـ) تحقيق، أحمد محمد شاكر، ط/1، 1408هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 3/413، النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح. سنن النسائي بشرح السيوطي، مع حاشية الإمام السندي، دار الحديث بالقاهرة، 1407هـ، 1987م، 3/104-105، الجمعة، باب كيفية الخطبة. وأخرجه ابن ماجه (ت273هـ) في سننه بتحقيق، محمد مصطفى الأعظمي، شركة الطباعة العربية، بالرياض، ط/2/2، 1404هـ، 1/349، النكاح، باب خطبة النكاح. وذكره الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني، في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وشيء من فقهها وفوائدها، المكتب الإسلامي، بيروت، ط/4، 1405هـ-1985م، 1/276.
وقد أفرد -حفظه الله- رسالة خاصة بعنوان (خطبة الحاجة) جمع فيها الأحاديث الواردة فيها، وطرقها فلتراجع.
(1/7)
________________________________________
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) . وإن من نعم الله عز وجل على هذه الأمة، أن بعث إليها رسول الهدى، خاتم الأنبياء والمرسلين محمداً صلوات الله وسلامه عليه، الذي أدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركهم على محجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
ثم إنه -سبحانه وتعالى- يقيض لهذا الدين -في كل عصر- طائفة من علماء أهل السنة، دعاة مخلصين، هم ورثة الأنبياء يقومون بالدعوة إلى الله، ويناضلون من أجل نشر الإسلام، وإحياء ما اندرس من سنة المصطفى -عليه السلام- ويقفون في وجه أعداء الملة؛ من الملحدين والحاقدين، يردون على شبهاتهم، ويفندون شبههم، ويبطلون زيفهم. ومنهم المجددون لأمر هذا الدين؛ الذين أشار إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) (2) .
وكان من بين أولئك الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- مجدد القرن الثاني عشر، الذي أحيا في نفوس العباد كلمة التوحيد، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) قوله: "أما بعد: فإن خير الحديث ... " أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، انظر صحيح مسلم، بشرح النووي، 6/403، ط/،1 1407هـ، دار القلم، بيروت، بتحقيق لجنة من العلماء نشر مكتبة المعارف بالرياض.
(2) أخرجه أبو داود في سننه، 4/480، الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة. والحاكم في المستدرك 4/522، وسكت عليه، وكذلك الذهبي. ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/150-151. وقال: ( ... والسند صحيح، ورجاله ثقات رجال مسلم ... ولا يعل الحديث قول أبي داود عقبة، رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني لم يجز به شراحيل، وذلك لأن سعد بن أبي أيوب ثقة ثبت كما في (التقريب) وقد وصله وأسنده، فهي زيادة من ثقة، يجب قبولها) .
(1/8)
________________________________________
فانتشرت دعوته وامتدت عبر الأجيال. فهو -رحمه الله- كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي الْسَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (1) .
فمن ينظر إلى شجرة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب في إيجاد البيئة التي كانت قائمة أثناء كتابته لهذه الرسائل؛ لذا نجدها متنوعة في ثلاثة أنواع:
الأول: رسائل في عقيدة التوحيد وما يضادها من الشرك: فقد شملت رسائله في هذا الشأن، الدعوة إلى عقيدة التوحيد الصحيحة، وبيان أسسها ونواقضها، وبيان ما دعا إليه جده الإمام محمد بن عبد الوهاب، ومراسلة أقرانه وتلاميذه في شأن الدعوة والرد على المنحرفين والمبطلين. وأقام الحجج على وجوب معاداة المشركين عامة، ووجوب البراءة منهم ومجاهدتهم والهجرة من ديارهم، وتحريم موالاتهم. كما فرّق بين معاملة المشركين المحاربين للمسلمين، المعادين لهم في الدين، ومعاملة غيرهم؛ وبين البلاد التي يفتن فيها المسلم، ولا يستطيع إقامة دينه فيها، والبلاد التي ليست كذلك؛ وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالعقيدة.
والثاني: رسائل في فتاوى: وكان مختصة بالأجوبة على أسئلة المتسائلين حول مسائل الفروع. وهي رسائل معدودة.
والثالث: رسائل في الفتن الواقعة في عصره: وهي تتناول الحث على مجاهدة تلك العساكر التي
أرسلتها الدولة العثمانية لإبطال دعوة التوحيد، وعلى العمل على إخماد نار الحرب بين
الأميرين عبد الله بن فيصل بن تركي، وأخيه سعود بن فيصل بن
__________
(1) سورة إبراهيم، الآيتان (24-25)
(1/9)
________________________________________
تركي. وأخرى تبين ما كان يقوم به من عقد الصلح بينهما، وأخذ الأمان على أهل بلدته، وهكذا.
وقد بلغ مجموعها إلى ست وسبعين (76) رسالة، إضافة إلى إحدى وعشرين (21) رسالة من الملحقات في حواشي نسخة (أ) .
ولا شك في أن هذه الرسائل، على الرغم من أن الشيخ كان يوجهها لأشخاص معينين، إلا أنها؛ لعظم ما فيها من المسائل العلمية والنصائح، والفوائد الدقيقة، فإن الحاجة إليها قائمة في كل زمان ومكان، ولكل فرد ومجتمع.
أسباب اختياري لهذه المخطوط:
بعد أن أنعم الله -سبحانه وتعالى- عليّ باجتياز مرحل الماجستير في هذه الجامعة، وجدت في نفسي دافعاً قوياً، وهمة عالية، تدفعني إلى طلب التزود من هذا العلم الشرعي.
ثم كانت نعم الله عليّ تترى؛ إذ منحتني الجامعة فرصة أخرى، لألتحق بهذه المرحلة التي أشعر فيها أني وصلت إلى بداية طلب العلم.
فبدأت مرحلة البحث والتنقيب عن موضوع يمكن تقديمه للقسم؛ ليكون منطلق عملي في هذه المرحلة العلمية.
وبعد البحث المضني، والمحاولات العديدة الجادة، التي قدمت فيها عدة موضوعات، ولم تحظ بالقبول، وقعت عيني على عنوان هذا المخطوط، فوجدت محتواه موافقاً لما أحتاج إليه، وللتخصص الذي أنا فيه. فاستخرت الله -عز وجل- على تقديمه، فوفقني لموافقة القسم عليه.
وقد كان من أهم الأسباب التي دعتني إلى اختيار هذا المخطوط:
1- أن هذه الرسائل التي يحتويها هذا المخطوط لها أهمية كبرى، في خدمة العقيدة
(1/10)
________________________________________
الإسلامية، والدفاع عن السنة وأهلها.
2- كون صاحب المخطوط، الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، علماً من أعلام أهل السنة والجماعة، عدواً لدوداً لأعداء الدعوة السلفية.
3- أنه قد قادني الرغبة الأكيدة في المشاركة في إخراج شيء من التراث الإسلامي الهائل، الذي لم يزل في دوره، وينتظر من يخرجه للقراء.
4- إبراز هذا الكتاب في صورة أوضح وسليمة قدر الإمكان؛ وذلك نظراً لكثرة تداول طلبة العلم للنسخة المطبوعة، والتي كانت بحاجة إلى التحقيق.
5- أنه لم يسبق -حسب علمي- أن حُقق هذا المخطوط تحقيقاً علمياً؛ فالرسائل التي نجدها مطبوعة في المجلد الثالث ضمن "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" ليست محققة، ولم يعتن طابعها بتصحيح جميع ما فيها من أخطاء.
6- توفر النسخ المخطوطة التي استعنت بها في تقويم النص.
تلك بعض الأسباب التي دعتني إلى اختيار هذا المخطوط.
أهمية هذا المخطوط
تبرز أهمية هذا المخطوط في الآتي:
1. أنه يتضمن رسائل مهمة، تنافح عن العقيدة السلفية, وتدرأ عنها الشبهات التي أثيرت حولها، والتي يستحدثها دعاة الضلالة في وقتنا الحاضر.
2. احتوائه على مسائل عقدية مهمة، جانب الصواب فيها كثيرٌ من المبتدعين. ففيه يبرز الشيخ المعتقد السليم حول تلك المسائل؛ كما يورد العديد من أقوال السلف التي هي بحاجة إلى الدراسة والتحقيق.
(1/11)
________________________________________
الخطة التي سرت عليها في الدراسة والتحقيق
اشتملت الخطة على تمهيد وقسمين: قسم الدراسة، وقسم التحقيق.
أما التمهيد: فيشتمل على الآتي:
- المقدمة.
- أسباب اختياري لهذا المخطوط.
- أهمية هذا المخطوط.
- الخطة التي سرتُ عليها في الدراسة والتحقيق.
- منهجي في الدراسة والتحقيق.
القسم الأول: الدراسة: وقد تضمنت دراسة عصر المؤلف، وحياته، وكتابه.
القسم الثاني: تحقيق النص.
أما القسم الأول: فيتكون من بابين:
الباب الأول: عصر المؤلف وحياته. وجعلته في فصلين:
الفصل الأول: عصر المؤلف: وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الحالة السياسية.
المبحث الثاني: الحالة الاجتماعية.
المبحث الثالث: الحالة الدينية.
الفصل الثاني: حياة المؤلف: وفيه مباحث:
المبحث الأول: اسمه ونسبه.
(1/12)
________________________________________
المبحث الثاني: ولادته وأسرته.
المبحث الثالث: صفاته الذاتية والفكرية.
المبحث الرابع: نشأته العلمية ورحلاته.
المبحث الخامس: شيوخه.
المبحث السادس: تلاميذه.
المبحث السابع: ثقافته وإنتاجه العلمي.
المبحث الثامن: عقيدته.
المبحث التاسع: أعماله ووظائفه.
المبحث العاشر: حياته السياسية.
المبحث الحادي عشر: وفاته والمرثيات التي قيلت فيه.
المبحث الثاني عشر: ثناء العلماء عليه.
أما الباب الثاني: فيتناول دراسة الكتاب: وقسمته إلى فصلين:
الفصل الأول: التعريف بالكتاب: وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: عنوان المخطوط.
المبحث الثاني: تعريف جامع الرسائل.
المبحث الثالث: توثيق نسبته إلى المؤلف.
المبحث الرابع: موضوع الكتاب.
(1/13)
________________________________________
المبحث الخامس: وصف النسخ الخطية والمطبوعة.
الفصل الثاني: دراسة تقويمية للكتاب. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: منهج المؤلف في الكتاب.
المبحث الثاني: مصادره.
المبحث الثالث: قيمة الكتاب.
أما القسم الثاني: فيتناول تحقيق النص.
ويشتمل على ذكر النص، والتعليقات التي وضعتها في الهامش.
منهجي وعملي في التحقيق:
1- بدأت بجمع النسخ التي اعتمدت عليها في مقابلة النص. فقمت من أجل ذلك برحلة علمية إلى مدينة الرياض، حيث وجدت أغلبها. وكذلك من أجل الاطلاع على بعض الأماكن في منطقة نجد بلد المؤلف، والتي ورد ذكرها في الرسائل.
2- قد أخرجت هذا الكتاب بعد مقابلته على أربع نسخ خطية، ونسخة مطبوعة واحدة، هي الجزء الثالث من كتاب: (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) .
3- اتبعت منهج إثبات النص الصحيح، لسبب أن جميع ما بيدي من النسخ ليس من ضمنها نسخة بخط المؤلف، بل كلها لنساخ مختلفين، فاحتمال وجود الخطأ عند أحدهم أثناء النسخ، وارد.
4- إذا اختلفت النسخ في كلمة أو عبارة، أثبت أصحها في نظري، وأضعها بين شرطتين مائلتين هكذا (//) ، ثم أشير بالهامش إلى الكلمة الواردة في بقية النسخ.
5- التزمت بتحقيق رسائل الشيخ الواردة في المخطوط الذي بين يدي، ولم أتناول رسائله الواردة
في الأماكن الأخرى، كالتي وردت في الدرر السنية والرسائل الزائدة
(1/14)
________________________________________
في المطبوع وغيرها، عدا رسالة واحدة هي (الرد على الصحاف) .
6- إن كانت الرسالة مما أحققه منشورة في أي كتاب، كالدرر السنية، أو الهدية السنية، أشير إليها بذكر مكان وجودها.
7- قمت بتصحيح الأخطاء الإملائية، بدون إشارة لذلك.
8- إن كان الخطأ في آية، أكتفي بتصحيحه، دون الإشارة لذلك.
9- إن كان الخطأ في حديث أو أثر، أصححه من أصله وأشير لذلك.
10- نبّهت على نهاية كل صفحة من صفحات نسخة (أ) بوضع رقم جانبي، ومن الملاحظ أن أشرت إلى نهاية كل الصفحة، بدلاً من (لوحة) ؛ ذلك لأن النسخة التي اخترتها أصلاً، مرقمة بصفحتين في كل لوحة.
11- قمت بعزو الآيات القرآنية إلى مواضعها في المصحف الشريف، بذكر اسم السورة ورقم الآية.
12- التزمت في كتابة الآيات داخل النص بالرسم العثماني.
13- قمت بتخريج الأحاديث الواردة في هذا البحث، من مصادرها. واتبعت في ذلك الآتي:
- خرجت الأحاديث من الكتب الستة. وقد أزيد عليها أحياناً للفائدة.
- أذكر الجزء ورقم الصفحة مع الإشارة إلى اسم الكتاب، والباب، في الهامش.
- بعض الأحاديث التي أوردها في الهامش للاستشهاد، أكتفي أحياناً بذكر الجزء والصفحة.
- بعض الأحاديث التي لم ترد في الصحيحين، أذكر كلام علماء الحديث في تصحيحها أو عدمه، إن وقعت على شيء منه.
- الأحاديث التي اكتفى المؤلف بالإشارة إليها، أو بذكر جزء منها، أذكرها وأكملها
(1/15)
________________________________________
في الهامش مع التخريج.
14- قمت بعزو الآثار الواردة في البحث إلى مصادرها قدر الإمكان. سواء كانت للصحابة أو التابعين، أو من بعدهم من علماء سلف الأمة.
15- قمت بتوثيق النصوص المنقولة الواردة في النص المحقق، بمقابلتها بالأصل، وعزوها إلى مصادرها قدر الإمكان. فما أسقطه المؤلف أو أخطأ في نقله أصححه وفق ما يوجد في الأصل.
16- قمت بترتيب الرسائل ترتيباً فنياً؛ حيث إنها مختلطة في جميع النسخ عموماً. فقدمت الرسائل المتعلقة بالتوحيد والعقائد، ثم المتعلقة بالفتاوى، ثم تلك المتعلقة بالفتن، والواقعة بين أبناء فيصل بن تركي بن عبد الله عند صراعهم على الحكم.
17- قمت بترجمة مختصرة لمعظم الأعلام الذين ورد ذكرهم في البحث. واتبعت في ذلك الآتي:
- اكتفيت بذكر ما يميّز العلم عن غيره من: اسم المترجم له وأبيه وجده، وكنيته ولقبه وتاريخ وفاته، وأهم كتبه أحياناً، أو أمر اشتهر به. مع ذكر مصدرين أو أكثر لمن يرغب في الاطلاع عليه.
- تركت التعريف بمن تغني شهرتهم عن ترجمتهم، مثل أسماء الأنبياء وكبار الصحابة كالخلفاء الأربعة ونحوهم، وأصحاب الكتب الستة، والفقهاء الأربعة ونحوهم، ممن بلغت شهرتهم الآفاق. وقد أشير أحياناً إلى اسمه؛ (لتعيينه عن غيره) وأذكر له مرجعاً أو مرجعين لمن أراد الاطلاع على ترجمته.
- لم أتمكن من الحصول على ترجمة بعض الأعلام، التي كانت بحاجة إلى ذلك؛ للآتي:
أ- أن أغلب هؤلاء من المتأخرين، عاشوا في القرن (13 و 14) وهم في منطقة
(1/16)
________________________________________
نجد. وأكثرهم من صغار التلاميذ للشيخ، بحيث لم يُلفتوا أنظار المترجمين المعاصرين لهم ومن بعدهم. كما أنه من الملاحظ قلة كتب التراجم لأهل تلك المنطقة، والموجودة منها اعتنت بمشاهير الأعلام من العلماء والمشايخ والأمراء ونحوهم.
ب- أن بعضهم، من المبتدعين أو الفساق الذين كان يراسلهم الشيخ، فلم يلتفت إليهم أصحاب التراجم.
18- علقت على المسائل العقدية وغيرها، التي أشار إليها المؤلف، وكانت بحاجة إلى تعليق أو زيادة إيضاح. وأجعل عند بداية تعليقي في الهامش علامة (*) لتفريقه عن غيره.
19- قمت بوضع عناوين جانبية للرسائل والمسائل الواردة في النص وذلك بخط دقيق في بداية المسألة. ونقلت بعضها مما وضع في النسخة المطبوعة، مما رأيتها موافقة لما أراه مناسباً للموضوع.
20- عزوت الأبيات الشعرية إلى قائليها ومصادرها قدر الإمكان.
21- عرّفت بالفرق والطوائف الواردة في النص.
22- عرّفت ببعض الأماكن والبلدان الواردة في النص، مما قد تخفى على القارئ معرفتها.
23- قمت بشرح الكلمات الغريبة الواردة في النص، وكذلك المصطلحات.
24- لم ألتزم بذكر جميع تعليقات النساخ على حواشي النسخ؛ كشرح بعض الكلمات، أو التعليق الشخصي للناسخ.
25- أذكر جميع المعلومات الخاصة بالمصدر عند أول ذكره، وفي ذلك رمزت للطبعة بـ (ط) وللوفاة بـ (ت) ، وللهجري بـ (هـ) وللميلاد بـ (م) . ودوّنت المعلومات حسب ما هو موجود على عنوان الغلاف.
(1/17)
________________________________________
26- في قسم الدراسة أو في التعليقات على النص، اكتفيت بذكر التاريخ الهجري.
27- فرّقت بين كلام الشيخ، وكلام جامع الرسائل بخط مغاير في الحجم، فأجعل كلام الشيخ في خط أكبر.
28- هناك رسائل أوردها ناسخ (أ) بالحواشي، ولم ترد في غيرها من النسخ، فقد أدرجتها ضمن الرسائل العامة ووزعتها حسب موضوعاتها.
29- وضعت فهارس مختلفة، تكشف أسرار الكتاب، وتبين للقارئ محتواه.
وهي تشمل:
فهرس الآيات القرآنية فهرس القواعد الأصولية
فهرس الأحاديث النبوية فهرس الوقائع والأحداث
فهرس الآثار فهرس الأمثال
فهرس الأعلام فهرس الأبيات الشعرية
فهرس المواقع فهرس الكلمات الغريبة
فهرس الفرق والطوائف فهرس المصادر والمراجع
فهرس القبائل فهرس الموضوعات
وبعد ... فهذا هو جهدي في هذا البحث، على ضوء الخطة التي رسمتها، وإني لأرجو الله -تعالى- أن أكون قد حققت من خلالها بعض مقاصد هذا التحقيق، فما تمَّ لي من ذلك فلله وحده النعمة والفضل. وإن كانت الأخرى، فهو جهد بشر معرض للنقص؛ إذ الكمال لله وحده -سبحانه وتعالى-. وأسأله -جلّت قدرته- أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن ينفعنا بما علمنا، ويعلمنا ما ينفعنا، ويزيدنا علماً.
(1/18)
________________________________________
كما أسأله -سبحانه- أن يغفر لي ما سبق إليه القلم أو الفهم الخاطئ في هذا البحث من نسبة قول أو مذهب أو رأي لغير صاحبه، أو استنباط في غير محله وعلى غير وجهه. إنه سميع مجيب.
(1/19)
________________________________________
القسم الأول: الدراسة
الباب الأول: عصر المؤلف وحياته
الفصل الأول: عصر المؤلف
المبحث الثالث: الحالة الدينية
...
المبحث الثالث الحالة الدينية
منذ أن تعاهد الأمير محمد بن سعود مع محمد بن عبد الوهاب سنة (1158هـ) وتحالفا (1) على تطهير جزيرة العرب من البدع والخرافات، ونشر كلمة التوحيد وحمايتها، دخلت نجد أو بالأحرى الدرعية مع سائر الإمارات الأخرى في حرب دينية دامية؛ كما فعل حاكم الإحساء ابن عريعر الخالدي، وحاكم نجران السيد حسن ابن هبة الله، اللذان تحالفا عام (1178هـ) ، على الزحف على الدرعية؛ للقضاء على مهد الدعوة الدينية، وكسر شوكة دعاتها (2) . وأمثال أولئك كثيرون. غير أن ذلك لم يثن أبناء سعود المتعاقبين على حكم البلاد السعودية، عن التمسك بمبدأ حماية الدين ونصرة عقيدة التوحيد، وجعلها أساساً للحكم.
فبعد وفاة الإمام محمد بن سعود (1179هـ) تولى الأمر بعده أكبر أولاده الأمير عبد العزيز بن محمد (ت1218هـ) فسار على خطة أبيه في التعاون مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت1206هـ) ، في تجديد الدعوة، وإعلاء كلمة الله (3) .
ويمكن تلخيص الحالة الدينية في العصر الذي عاشه الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- في الآتي:
أولاً: حال الدرعية:-
__________
(1) انظر التحالف بين محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب، على نشر الدعوة: جزيرة العرب، لحافظ وهبة، 223. قلب الجزيرة، لفؤاد حمزة، ص235. الأعلام للزركلي، 6/138. تاريخ نجد المسمى (روضة الأفكار) 1/80-81. الدرعية، لابن خميس، ص163.
(2) جزيرة العرب في القرن العشرين، ص223-224.
(3) المرجع السابق، ص224.
(1/55)
________________________________________
فقد كانت الدرعية -مسقط رأس الشيخ- مركزاً لحماية الدين ونشر الدعوة، فهي كما وصفها الشيخ عبد الله البسام بقوله:
( ... والدرعية حينئذٍ كعبة العلم، وموطن الدعوة، ومعهد علماء السلف، وعاصمة الجزيرة العربية، وعرين الليوث السعوديين من حماة الدين وذادة الملة الإسلامية ... ) (1) .
ووصفها أيضاً -عند ترجمته للشيخ عبد اللطيف- بقوله:
(إن الدرعية الزاخرة بالعلم، والساطعة بالإيمان، والمشرقة بالدين، والآهلة بالعلماء ... ) (2) .
فمن ذلك يمكننا معرفة المكانة الدينية، التي كانت تمتاز بها تلك البلدة.
أما بعد سقوطها في أيدي الغزاة المصريين والأتراك، فقد انقلب الحال رأساً على عقب؛ حيث انعدم فيها -وفي سائر المناطق النجدية التي وقعت في أيدي الطغاة- كثير من مظاهر الدين، وصار أهلها -كما قال ابن بشر-: "وهجر كثير منهم الصلاة وأفطر في رمضان، وجر الربا والغناء في المجالس، وسفت الذراري على المجامع والمدارس، واندرس السؤال عن أصول الإسلام وأنواع العبادات، وظهرت دعوى الجاهلية في كل البلاد" (3) .
ثانياً: حال الإحساء:-
أما في منطقة الإحساء، فكانت الأحوال الدينية مختلفة تماماًَ عما كانت عليها في الدعية، فقد كان فيها خليط من العقائد والآراء.
وقد وصف الشيخ عبد الله البسام ما كانت عليه هذه المنطقة من أحوال دينية فقال:
__________
(1) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/56.
(2) المرجع السابق، 1/63.
(3) عنوان المجد، 2/4.
(1/56)
________________________________________
( ... ولما استولى الإمام فيصل على الإحساء، وكان فيها خليط من العقائد والآراء، فالرافضة (1) لهم شوكة، وعلماء الشافعية والمالكية أشاعرة (2) ، وعلماء الأحناف ماتريدية (3) ، وتشترك هذه الطوائف كلها في وسائل الشرك؛ من نحو تعظيم القبور، والغلو في الصالحين، والبدع؛ من نحو الموالد، ومراسم الموت، والجنائز.
__________
(1) الرافضة: هم الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (وذلك أنهم طلبوا إليه أن يتبرأ من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فلم يفعل، فرفضوه وتفرقوا عنه، فقال لهم زيد: رفضتموني؟ قالوا نعم. فبقي عليهم هذا الاسم. ومن أهم معتقداتهم: "التقية" والقول بالنص على إمامة علي، والبراءة من أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما-، وموالاة أهل البيت.
انظر: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، لأبي الحسن بن علي بن إسماعيل الأشعري (ت330هـ) ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبع ونشر مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، ط2/، 1389هـ-1969م، 1/89. والفرق بين الفرق، لعبد القاهر بن طاهر البغدادي الإسفراييني (ت429هـ) ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان، ص21. والحجة في بيان المحجة، وشرح عقيدة أهل السنة، للإمام الحافظ قوام السنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني (ت535هـ) ، تحقيق ودراسة: محمد بن ربيع ابن هادي المدخلي، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض، ط/1، 1411هـ-1990م، 2/487.
(2) الأشاعرة: طائفة من أهل الكلام، ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري. وهذا اللفظ ينصرف عند الإطلاق إلى أولئك الذين اتبعوه في فترة انتسابه إلى ابن كلاب؛ لذا قد نطلق عليهم أحياناً (الأشعرية والكلابية) .
وهم يفروقون بين صفات الله؛ فيجعلون منها سبع صفات، يسمونها صفات المعاني، وهي: (الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام) .
أما بقية الصفات، فإنهم يوافقون المعتزلة في تأويلها، الخبرية منها والفعلية، وهو تأويل يفضي إلى نفيها، بحيث لا يثبتون إلا لازمها، فيقولون مثلاً: المراد بالرحمة الإنعام، وهكذا في جميع الصفات.
انظر: الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات لمحمد أمان ابن علي الجامي، ط1، 1408هـ، ص139-220.
(3) الماتريدية: فرقة كلامية تنتسب إلى إمامها أبي منصور الماتريدي الحنفي المتكلم، المتوفى سنة (333هـ) . من أهم معتقداتهم: التأويل، وأن ظواهر نصوص الصفات، موهمة للتشبيه، وأنها ظنية لا تثبت بها العقيدة.
انظر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، لشمس الدين محمد أشرف، رسالة ماجستير على الآلة الكاتبة، ص5.
(1/57)
________________________________________
فكان الشيخ عبد اللطيف هو المختار لمقابلة، مثل هؤلاء، ومحاربة أمثال هذه الأمور، فبعثه الإمام إليهم" (1) .
فهنا نجد الأمير فيصل بن تركي قد انتدب الشيخ عبد اللطيف لمهمة مقابلة أولئك القوم، ومناقشتهم وردهم إلى جادة صوابهم، فوفق لذلك -رحمه الله-.
ثالثاً: الاستمرار في ظهور معارضين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحركتهم في ذلك:-
منذ أن ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية السلفية، برز كثير من المعارضين لها في شتى أنحاء شبه الجزيرة العربية وخارجها، قاموا ببث سموم الفساد والتضليل، وجردوا أنفسهم للدعوة إلى البدع والخرافات، وألفوا في ذلك مؤلفات. كان من ضمن أولئك:
1- داود بن جرجيس العراقي (2) : وقد كان لهذا يد في الإفساد والتضليل حينما استوطن نجداً، فالتف حوله من أخذ عنه، فكان رائد التضليل. وألف كتاب: (صلح الإخوان من أهل الإيمان، وبيان الدين القيم في تبرئة ابن تيمية وابن القيم) .
ويحتوي هذا الكتاب على خبث كامنٍ، وسمٍّ دفين؛ إذ إن من اطلع على عنوان هذا الكتاب، قد يحسبه ضمن الكتب المناصرة لعلماء الدعوة، والواقع أنه دافع فيه عن
__________
(1) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/65.
(2) هو داود بن سليمان بن جرجيس البغدادي، النقشبندي الخالدي، من أهل بغداد، ولد سنة (1231هـ) قام برحلات إلى الحجاز والشام، وله مناظرات مع السلفيين، حيث دعا إلى الاستعانة والاستغاثة بقبر أبيه، والاستمداد من الأموات، وألف في ذلك كتاب: صلح الإخوان، والمنحة الوهابية في الرد على الوهابية، ورسائل مشتملة على الهذيان والكذب والبهتان، توفي يوم الاثنين، 19 من رمضان، سنة (1299هـ) .
انظر ترجمته: المسك الأذفر في نشر مزايا القرن الثاني عشر والثالث عشر، لأبي المعالي محمود شكري الآلوسي، تحقيق عبد الله الجابوري، دار العلوم، الرياض، 1402هـ/1982م، ص459 -462. والدر المنتثر في رجال القرن الثاني عشر والثالث عشر، لعلي علاء الدين الآلوسي، تحقيق: جمال الدين الآلوسي، وعبد الله الجابوري، وزارة الثقافة والإرشاد، دار الجمهورية، بغداد، 1387،1967م، ص174. أعلام الزركلي. معجم المؤلفين، 4/236.
(1/58)
________________________________________
الاستغاثة بالأموات، وضلل معارضي ذلك، ونقل فيه خمسين موضعاً من كتب ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، يزعم أنها تشهد له على استحباب دعاء الموتى والاستغاثة بهم.
2- عثمان بن منصور (1) ، وكان طاغية من أهل البدع، ألف في السبّ وشتم شيخ الإسلام ومجدد الدعوة السلفية محمد بن عبد الوهاب كتاباً سماه (جلاء الغمة من تكفير هذه الأمة) ، والمراد بالأمة عنده، عبدة الأصنام، فانتصر لهم فيه، وضلل أهل التوحيد (2) .
3- يوسف بن إسماعيل النبهاني (3) صاحب كتاب شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، والرائية الصغرى، وغيرهما، أظهر فيها حملة عنيفة على من سماهم وهابيين.
__________
(1) عثمان بن عبد العزيز بن منصور بن أحمد، الناصري العمري، ولد في الفرعة وقراء على علماء سدير، ثم سافر إلى العراق وقرأ على علمائها، ومن أشهرهم داود بن جرجيس، شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، سماه: (فتح الحميد، شرح كتاب التوحيد) ، قال الشيخ عبد اللطيف: والرجل فيه رعونة ... حتى إنه كتابه الذي زعم أنه شرح على التوحيد، رأيت فيه من الدواهي والمنكرات ما لا يحصيه إلا الله ... " وكان متردداً في اتجاهه العقائدي. تولى قضاء حائل وسدير، (ت1282هـ) .
(2) انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان 1/226. علماء الدعوة، ص49-50. مقدمة دلائل الرسوخ، ص3-7.
(3) هو يوسف بن إسماعيل النبهاني، عمل في القضاء والصحافة، له عدة كتب، تمضنت الطعن والافتراءات على من سماهم وهابيين؛ لمنعهم الاستغاثة بالموتى؛ مثل كتاب: "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، وله الرائية الصغرى"، رد عليه الإمام أبو المعالي الآلوسي في "الآية الكبرى" (ت1350هـ) .
انظر ترجمته: الأعلام للزركلي، 8/218. مجلة المنار، م13، ج10، ص797.
(1/59)
________________________________________
فقام في مقابلة هؤلاء، علماء سلفيون دعاة، وأخذوا يردون على ما يبثه أولئك الطغاة من مفتريات حول دعوة الحق، والعقيدة الصحيحة، ويفندون مزاعمهم؛ فألفوا في ذلك مؤلفات، كان من أهمها:
ردود العلماء على كتاب ابن جرجيس (صلح الإخوان) المتقدم، فقد تصدى للرد على هذا الكتاب، جملة من العلماء؛ هم:
أ- الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن -والد الشيخ عبد اللطيف- الذي قام بالرد والردع على شبهات هذا المفتري، وذلك في كتاب سماه: (القول الفصل النفيس) .
ب- ابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمن الذي تبعه في الرد على تلك الشبه، وذلك في كتابه:
(منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس) (1) . إلا أن المنية عاجلته فلم يكلمه.
ج- العلامة العراقي السيد محمود شكري الآلوسي (ت1342هـ) الذي قام بعد وفاة الشيخ عبد اللطيف، بإكمال ما بدأه الشيخ من الرد، تتمة للفائدة، وذلك في كتاب سماه: (فتح المنان في الرد على صلح الإخوان تتمة منهاج التأسيس) .
د- الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبو بطين (ت1282هـ) الذي قام بالدور نفسه، في كتابه: (تأسيس التقديس في الرد على ابن جرجيس) ، وكتاب (الانتصار في الرد على ابن جرجيس) أيضاً (2) .
هـ- (تحفة الطالب والجليس في الرد على داود بن جرجيس) ، وهو أيضاً كتاب
__________
(1) انظر: هدية العارفين، 1/619. إيضاح المكنون، 2/585.
(2) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/574. ومقدمة كتاب: منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس، للشيخ عبد اللطيف (1293هـ) ، دار الهداية، للطبع والنشر والترجمة، الرياض، ص/2، 1407هـ-1987م. ص5.
(1/60)
________________________________________
للشيخ عبد اللطيف، رد به على ابن جرجيس.
و (دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ) ، وهو كتاب رد به الشيخ عبد اللطيف أيضاً، على مفتريات داود بن جرجيس.
ومن الكتب التي ظهرت في الرد على دعاة الضلالة أيضاً:
كتاب مصباح الظلام (1) ، الذي رد به الشيخ عبد اللطيف على كتاب عثمان بن منصور "كشف الغمة" المتقدم ذكره.
وبهذا نختم ملخص ما كان عليه عصر المؤلف، من النواحي السياسية، والاجتماعية، والدينية.
__________
(1) سيأتي ذكره ضمن مؤلفات الشيخ.
(1/61)
________________________________________
المبحث الأول: الحالة السياسية
إن حياة المؤلف -رحمه الله- كانت ما بين عام خمسة وعشرين ومائتين وألف، وعام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف الهجري (1225-1293هـ) . وتعتبر هذه الفترة إحدى الأدوار التي مرت بها حكومة آل سعود (1) ، والتي يمكن تقسيم أدوارها منذ نشأتها إلى اليوم كالتالي:
الدور الأول: [1137-1233هـ] :
يبدأ هذا الدور من نشأة حكومة آل سعود الأولى، على يد الأمير محمد بن سعود (2) بن محمد، إلى
نهاية حكم............................................... .......................................
__________
(1) آل سعود: هم العائلة المالكة بالمملكة العربية السعودية. أصلهم من فخذ المساليخ، من المنابهة، من المواهب، من مسلم، من قبيلة عَنَزَة، وعنزة من أشهر الأسر في بلاد العرب في الفضائل والحسنات والكرم والنبل. وتنتسب أسرة آل سعود إلى عميدها سعود، أمير الدرعية، من بني بكر بن وائل، من أشرف قبائل ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.
وسعود هذا هو المعروف بـ (سعود الأول) وهو سعود بن محمد بن مقرن بن إبراهيم ابن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي، شيخ من شيوخ قبيلة بكر بن وائل بن جديلة بن أسد ابن نزار بن معد بن عدنان، وإليه ينتمي آل سعود؛ فهو مؤسس العائلة. كان مقيماً في الدرعية في الدرعية. (ت1137هـ) .
انظر: تاريخ ملوك آل سعود، لسمو الأمير سعود بن هذلول، أمير القصيم، تقديم: الأستاذ محمد العبود، ط/1، مطابع الرياض، 1380هـ،1961م، ص6. معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، لعمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، 2/521. قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة، مكتبة النهضة الحديثة، الرياض، ط/2، 1388هـ، 1968م، ص335. صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار، ط/2، 1364هـ، 1/37. جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ط/4، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1381هـ، 1961م، ص223.
(2) هو مؤسس الدولة السعودية الأولى، الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن
مرخان، من بني مانع، أول من لقب بـ (الإمامة) من آل سعود، في نجد. كان مقامه بالدرعية، وولي الإمارة بعد وفاة أبيه بسنتين عام (1139هـ) ، وحسنت سيرته وقويت شوكته، واتسعت إمارته. وفي أيامه سنة (1157هـ) وفد على الدرعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، صاحب الدعوة الإصلاحية، فتعاهدا على أن يكون ابن سعود حارساً للدين وناصراً للسنة، وأن يستمر ابن عبد الوهاب على الجهر بدعوته. توفي بالدرعية سنة (1179هـ) ، رحمه الله. انظر: ترجمته: تاريخ ملوك آل سعود، ص6. عنوان المجد في تاريخ نجد، للعلامة عثمان بن بشر النجدي الحنبلي، نشر مكتبة الرياض الحديثة، بالرياض، 1/49. تاريخ نجد المسمى: روضة الأفكار والأفهام، لمرتاد حال الإمام، وتعداد غزوات ذوي الإسلام، لحسين بن غنام، تحقيق د. ناصر الدين الأسد، ط3/، 1403هـ، الرياض، 1/125. قلب الجزيرة، ص335. صقر الجزيرة، 1/43. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، مكتبة الرياض الحديثة، البطحاء، الرياض، 1393هـ-1973م، ص153. السعودية للسيد محمد إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1976م، ص20. الأعلام- قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين -لخير الدين الزركلي (ت1396هـ) ط/3، 6/138. الدرعية، (العاصمة الأولى) لعبد الله بن محمد بن خميس، ط/1، 1412هـ-1982م، ص161.
(1/23)
________________________________________
عبد الله (1) بن سعود الكبير (2) حين سقوط الدرعية.
__________
(1) عبد الله بن سعود (الكبير) بن عبد العزيز بن سعود (الأول) ابن محمد بن مقرن، أحد أمراء آل سعود في نجد، تولى الإمارة بعد وفاة والده (سعود الكبير) واستمرت ولايته بين عامي (1229-1233هـ) حين سقوط الدرعية، ووقوعه في الأسر، وقد قتله السلطان العثماني محمود، عام 1234هـ. رحمه الله.
انظر ترجمته: المختار من تاريخ الجبرتي، اختيار محمد قنديل البقلي، مطابع الشعب، 1958م، 4/290،299. قلب الجزيرة، ص341؛ وصقر الجزيرة، 1/61؛ السعودية للسيد محمد إبراهيم، ص26. تاريخ المملكة العربية السعودية، له أيضاً، ص161؛ تاريخ ملوك آل سعود، ص14. الأعلام للزركلي، 4/89؛ الدرعية، لابن خميس، ص217.
(2) سعود الكبير: هو سعود بن عبد العزيز بن سعود بن محمد بن مقرن، وهو الملقب بـ (الكبير) ، تولى الإمارة بعد مقتل والده سنة (1218هـ) واستمر حكمه إلى عام (1229هـ) ، ويعتبر عصره، بحق، الدرة اللامعة في تاريخ حكومة آل سعود الأولى، حيث اكتسبت دولته على زمانه، أكبر رقعة. وحين نشوب الحرب بينه وبين المصريين مع الأتراك عام (1266هـ) ، كانت بلاد ممتدة من أطراف عمان ونجران وعسير إلى شواطئ الفرات، والبادية السورية. وقد توفي -رحمه الله- سنة (1229هـ) . انظر ترجمته: عنوان المجد، لابن بشر، 1/167- 178؛ تاريخ ملوك آل سعود، ص7-8؛ قلب الجزيرة، ص339. وحلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، للشيخ عبد الرزاق البيطار (1253-1335هـ) تحقيق وتنسيق وتعليق حفيده محمد بهجة البيطار، طبعة سنة 1382هـ، 1963م، 2/665-666. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص157. السعودية، له أيضاً، ص23. والدرعية، لعبد الله بن محمد بن خميس، ص190. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، لصلاح الدين المختار، مكتبة الحياة ببيروت، 1/133. موارد لتاريخ الوهابيين، للرحالة جوهان لوفيج بوركهارت، ترجمة د. عبد الله الصالح العثيمين، جامعة الملك سعود، ط/2، 1412هـ-1991م، ص31.
(1/24)
________________________________________
الدور الثاني: [1235-1293هـ] :
ويبدأ من ولاية تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، إلى نهاية ولاية عبد الله ابن فيصل بن تركي حين وفاته عام 1293هـ رحمه الله، وعندئذٍ تمكن محمد بن رشيد (1) من الاستيلاء على البلاد النجدية.
الدور الثالث: [1318هـ....] :
من قيام الملك عبد العزيز (2) بن عبد الرحمن الفيصل، إلى الوقت الحاضر (3) . وعلى ضوء
هذا التقسيم، يمكن تحديد الفترة التي عاشها الشيخ عبد اللطيف
__________
(1) محمد بن عبد الله بن علي بن رشيد، من شمر؛ أكبر أمراء آل رشيد أيام حكمهم في (حائل) ، امتد حكمه إلى أطراف العراق، ومشارف الشام، ونواحي المدينة واليمامة، وغلب على نجد، وانتهز فرصة الخلاف بين أمراء آل سعود، فأدخل بلادهم في طاعته.
(ت1315هـ) . انظر في ترجمته: قلب الجزيرة، ص344؛ عقد الدرر، ص99؛ الأعلام للزركلي، 6/244.
(2) هو الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الثالثة والمستمرة حتى الآن. ولد في الرياض سنة 1297هـ، واسترد ملك آبائه وأجداده سنة 1319هـ، وتوفي سنة 1373هـ. رحمه الله. انظر: صقر الجزيرة 1/80، 91، 94؛ والسعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص29.
(3) انظر التقسيم إلى هذه الأدوار: قلب جزيرة العرب، ص334. ويلاحظ أن المؤرخين قد قسموا تاريخ الدولة السعودية إلى ثلاثة أدوار: الدولة السعودية الأولى (1139-1235هـ) من محمد بن سعود (المؤسس) إلى نهاية عبد الله بن سعود. الدولة السعودية الثانية (1235-1293هـ) من ولاية تركي بن عبد الله، إلى نهاية عهد الإمام فيصل بن تركي، واستلام آل رشيد للحكم في نجد الدولة السعودية الثالثة (1319هـ ... ) من الملك عبد العزيز إلى اليوم.
انظر هذا التقسيم: جزيرة العرب في القرن العشرين، ص223. وتاريخ الدولة السعودية حتى الربع الأول من القرن العشرين، للدكتورة مديحة أحمد درويش، دار الشروق للنشر والتوزيع، جدة، ط/1، 1400هـ-1980م، ص19. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص152. وقد فضلت السيرة على الأدوار التي مرّ بها حكم آل سعود، نظراً لموافقتها تسلسل الأحداث بشكل أدق، خاصة في تلك الفترة التي عاشها المؤلف، الشيخ عبد اللطيف.
(1/25)
________________________________________
-رحمه الله- بأنها كانت ما بين (منتصف الدور الأول، إلى نهاية الدور الثاني) . والذي يهمنا هنا، هو تلك الفترة من الزمن التي أثرت تأثيراً مباشراً، في حياة شيخنا، وهو الدور الثاني.
فقد ولد الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- عام (1225هـ) ، أي قبل نهاية الدور الأول من حكومة آل سعود بثماني سنوات؛ فلم يكن لهذا الدور أثر يذكر في مسار حياته، كما كان الأمر فيما بعده. وهنا نشير إلى بعض ما حدث من وقائع وأحداث سياسية في الفترة التي عاشها شيخنا عبد اللطيف، رحمه الله.
ما وقع من الأحداث بعد ولادته إلى نهاية الدور الثاني أي من [1225-1293هـ] كانت هذه الفترة التي عاشها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، مليئة بالأحداث السياسية والفتن والحروب.
وقد كان من أبرزها ما نعرضه هنا على وجه الاختصار:-
أولاً: الفتنة العثمانية التركية المصرية [1226هـ] :-
كانت الدولة العثمانية قد انهارت فيها جميع المقومات التي تنهض عليها المجتمعات
الإسلامية السوية، فالأقاليم التابعة لها كانت في ذلك الوقت مسرحاً للفوضى
(1/26)
________________________________________
والمشادة (1) ، وعدم الاستقرار السياسي والديني.
وقد ضاقت هذه الدولة ذرعاً بما رأت من قيام الدعوة السلفية، وما آلت إليه بفضل الله وتوفيقه لآل سعود بنصرتها، وكذلك ما كانوا يرونه من توسع آل سعود، وبسط سيطرتهم على نجد والحجاز وغيرهما، وجعلها تحت شعار الاعتراف بوحدانية الله؛ مما جعلهم يفكرون في غزوهم (2) .
فأجمع الترك على المسير إلى الحجاز، وجمعوا لذلك آلات الحرب والأموال والذخائر من طعام
وغيره، وأرسلوها -مع العساكر من إسطنبول وما دونها من الشام- إلى محمد بن علي (3)
-صاحب مصر- الذي وكِّل إليه مهمة القتال، كل ذلك تحت إمرة السلطان
محمود بن عبد الحميد (4) ، وكان ذلك عام (1226هـ) (5) ، وهو الذي
__________
(1) انظر: أعيان القرن الثالث عشر، في الفكر والسياسة والاجتماع، تأليف خليل مردم بك، تقديم عدنان مردم بك، مؤسسة الرسالة، ط/2، 1977م لاى، ص102-103. الدرعية، لابن خميس، ص231.
(2) انظر المرجع السابق، ص280-282؛ وتاريخ المملكة العربية في ماضيها وحاضرها، ص118-119 وما بعدها.
(3) هو محمد بن علي (باشا) ابن إبراهيم أغا بن علي، معروف بمحمد علي الكبير، مؤسس آخر دولة ملكية بمصر، ألباني الأصل، مستعرب، ولد في قولة -التابعة الآن لليونان، عام (1184هـ) ، ولي مصر سنة (1220هـ) ، انتدبته الدولة العثمانية لحرب الدولة السعودية الأولى، فكانت له معهم وقائع معروفة، وشارك في حرب (مورة) ، جعلت له الدولة العثمانية حكم مصر وراثياً سنة (1257هـ) ، واعتزل الأمور لابنه إبراهيم (باشا) سنة (1264هـ) ، توفي بالإسكندرية في قصر رأس التين، ودفن بالقاهرة سنة (1265هـ) .
انظر: ترجمته: أعيان القرن الثالث عشر، خليل مردم بك، ص115-120؛ وحلية البشر، 3/1240هـ؛ والأعلام للزركلي، 6/298-299.
(4) هو السلطان محمود خان (الثاني) ابن عبد الحميد (الأول) ، وهو السلطان الثلاثون، من سلاطين آل عثمان تبوأ السلطنة العثمانية سنة (1223هـ) . توفي سنة (1255هـ) . أعيان القرن الثالث عشر، لخليل مردم بك، ص102، 109.
(5) انظر تفاصيل ما وقع من الحروب في تلك الفترة: عنوان المجد لابن بشر، 1/157-161.
(1/27)
________________________________________
ولي سنة ميلاد الشيخ -رحمه الله-. فكانت الحروب منذ ذلك سجالاً بين العساكر المصرية، وأهل الحجاز ونجد. كما أنها كانت المقدمة لغزو نجد، وإسقاط الدرعية عاصمتها الأولى (1) .
وكان نشوب هذه الحروب في أواخر عهد سعود بن عبد العزيز الكبير، المتوفى سنة (1229هـ) واستمرت إلى نهاية إلى ما بعد وفاته -رحمه الله-.
وبعد وفاته، تولى ابنه عبد الله الإمارة، ونازعه الحكم عمه عبد الله بن عبد العزيز (2) ، إذ طمع فيه لما كان يرى منه من الهوان واللين والهوادة، ولكن عبد الله بن سعود انتصر عليه (3) .
ثم إنه بسبب ما اتصف به من اللين والضعف، تسرب الوهن إلى قلب حكومته، وبدأت عناصر القوة والوحدة تنحل وتضمحل، ولم يستطع القضاء على الفتن والثورات، بل لم يستطع الثبوت لها (4) .
وفي سنة (1232هـ) أرسل عبد الله بن سعود، حسن بن مزروع، وعبد الله بن عون إلى محمد علي في مصر بهدايا ومراسلات بتقرير الصلح، فلما قدموا عليه في مصر، وجدوه قد تغير (5) .
__________
(1) انظر: عنوان المجد، 1/202. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص51. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، لأحمد جاسر، ط/1، 1386هـ-1966م، نشر دار اليمامة، الرياض، ص100. الدرعية، لابن خميس، ص335-336. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/119.
(2) عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن سعود (الأول) ابن محمد بن مقرن.
(3) صقر الجزيرة، 1/62. تحفة المستفيد بتاريخ الإحساء في القديم والجديد، لمحمد بن عبد الله بن عبد المحسن آل عبد القادر الأنصاري الإحسائي، مكتبة المعارف، الرياض، ومكتبة الإحساء الأهلية، الإحساء، ط/2، 1402هـ، 1982م، ص138-139. السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص25.
(4) انظر المرجع السابق، نفس الصفحة.
(5) عنوان المجد لابن بشر، 1/187.
(1/28)
________________________________________
وزاد هذا الوهن في طمع محمد بن علي -صاحب مصر- وانتهز الفرصة للهجوم على نجد، فجهز جيشاً قوياً من مصر والترك والمغرب والشام والعراق إلى نجد، عقد رايته لابنه إبراهيم باشا (1) ، وذلك في شوال عام (1231هـ) . رحل إبراهيم من القاهرة إلى قنا عن طريق النيل، ثم سافر إلى القصير (2) على ظهور الإبل، وركب البحر منه إلى ينبع، ثم إلى المدينة، ودخلها من غير مقاومة، عام 1231هـ (3) ، ثم توجه إلى الحناكية (4) وعسكر فيها ستة أشهر، يغري العربان ويستغويهم، حتى انضم إليه بعض القبائل؛ مثل قبيلة حرب (5) بقيادة أحد
__________
(1) هو إبراهيم "باشا" ابن محمد بن علي "باشا" قائد من ولاة مصر، ولد في "نصرتلي" عام 1204هـ، قدم مصر مع طوسون بن محمد علي سنة 1220هـ، فتعلم بها. أرسله أبوه محمد سنة 1231هـ بحملة إلى الحجاز ونجد، ثم جعله قائداً للحملة المصرية في حرب مورة سنة 1239هـ، ثم سار بجيشة إلى سورية عام 1247هـ، فاستولى على عكة ودمشق وحمص وحلب. ولما تولى السلطان عبد المجيد اتفق مع الإنجليز على إخراجه من سورية، فأخرجوه وعاد إلى مصر عام 1256هـ، ونزل له محمد علي على إمارة الديار المصرية. (ت1264هـ) . انظر ترجمته: أعيان القرن الثالث عشر، لخليل مردم بك، ص120-121. الأعلام للزركلي، 1/70.
(2) القصير: بلفظ تصغير قصر: موضع قرب عيذاب، بينه وبين قوص قصبة الصعيد خمسة أيام، وهو من أعمال مصر، يعرف بقصير موسى أو قصير عزيز مصر.
انظر: معجم البلدان، 4/367.
(3) صقر الجزيرة، 1/63؛ قلب الجزيرة، لفؤاد حمزة، ص342.
(4) الحناكية: منطقة بين المدينة والقصيم تبعد عن المدينة المنورة (140كم) على طريق الرياض. انظر: الأطلس التاريخي للدولة السعودية، للدكتور إبراهيم جمعة، من مطبوعات دارة الملك عبد العزيز (11) بالرياض، ص32.
(5) قبيلة حرب: قبيلة على ساحل البحر الأحمر، أكثرها من العدنانية، تمتد ديارها من جنوب ينبع إلى القنفذة على محاذاة الساحل، حدها الغربي من ينبع البحر إلى الرويس شمال جدة، ومن الشرق قبيلة عتيبة وسليم ومطير، ويحدها من الجنوب الأشراف ذوو بركات، ومن الشمال من جهة الغرب قبيلة جهينة، ومن الشرق قبيلة عنزة.
انظر: الرحلة اليمانية، لصاحب الدولة، أمير مكة، الشريف حسين باشا، وأعماله في محاربة الإدريسي، مع جغرافية البلاد العربية، وأسماء قبائلها؛ تأليف شرف بن عبد المحسن البركاتي، ط/2، ص137. معجم قبائل العرب، لعمر رضا كحالة، 1/259.
(1/29)
________________________________________
رؤسائها، غانم بن مضيان، وقبيلة عتيبة (1) ومطير (2) ، وحدث بها معركة بينه وبين عبد الله، عام (1232هـ، انهزم فيها جيش عبد الله (3) .
ثم سار بجيشه وأقبل على الرس (4) ، التي دافع عنها أهلها دفاعاً مجيداً، فقتل من جيشه في الهجمة الأولى ثمانمائة (800) رجل، فطلب النجدة من المدينة المنورة، فسالت عليه، وضيق خناق الحصار على الرس، حتى افتتحها صلحاً بعد ثلاثة شهور ونصف، وفتك بزعمائها؛ ثم أخذت المدن والبلدان والقرى النجدية تتهاوى وتسقط في يد إبراهيم؛ مثل عنيزة (5) .................................................
__________
(1) قبيلة عتيبة: من أعظم قبائل العرب، لا يوجد بين القبائل العربية من يفوقهم في القوة، أو يزيدهم في العدد إلا قبيلة عنزة وهم في القسم الأوسط من المملكة العربية السعودية، تمتد منازلها من سفوح جبال الحجاز الشرقية، إلى الحرار، وسبيع في الجنوب.
انظر: قلب جزيرة العرب، ص187-189؛ والرحلة اليمانية، ص130؛ ومعجم قبائل العرب 2/752.
(2) قبيلة مطير: من قبائل الحجاز الممتدة إلى نجد، وهي مجموعة قبائل متحالفة، بعضها من قحطان، وبعضها من عدنان، تنتهي نسبتها إلى عبد الله بن دارم، يليها جنوباً قبيلة سليم، وقبائل عتيبة. انظر: قلب الجزيرة، ص200؛ والرحلة اليمانية، ص130؛ ومعجم قبائل العرب 3/1112.
(3) انظر تفاصيل ذلك: عنوان المجد؛ 1/189؛ وتاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/157-167.
(4) الرس: مدينة رئيسية من مدن القصيم، وهي الثالثة بعد بريدة وعنيزة؛ تقع جنوب غرب منطقة القصيم في نجد، جنوب وادي الرمة، تبعد عن مدينة الرياض حوالي (500كم) ، وعن المدينة المنورة (450كم) وعن بريدة (90كم) وعن عنيزة (60كم) . هذه بلادنا: (11) الرس، تأليف عبد الله بن محمد الرشيد، ط/2، الرئاسة العامة لرعاية الشباب الرياض، 1408هـ، 1988م، ص13؛ وجزيرة العرب في القرن العشرين، ص62.
(5) عُنيزة: من أعمال منطقة القصيم، وهي المدينة الثانية بعد بريدة، وتقع على بعد ثلاثين كم، جنوب غرب بريدة. كان أول من أنشأها، هو زهري بن جراح، كبلد مسكونة، وذلك في حوالي 630هـ. الرس، لعبد الله الرشيد، ص63. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/253. منطقة عنيزة، دراسة إقليمية، لعبد الرحمن صادق الشريف، مطبعة النهضة العربية، ص9.
(1/30)
________________________________________
فبريدة (1) فبقية مدن القصيم (2) فالوشم (3) وشقراء (4) وضرمة (5) وغيرها.
ثم أتى الجيش المصري على العامر (6) ، فتركه خراباً، ثم مال إلى وادي حنيفة (7)
__________
(1) بريدة: عاصمة القصيم، وأكبر مدنها، تبعد عن الرياض (300كم) ، وعن المدينة المنورة (500كم) ، وعن مكة المكرمة (700كم) ، وعن حائل (250كم) . الرس، لعبد الله الرشيد، ص62؛ وجزيرة العرب في القرن العشرين، ص61.
(2) القصيم: موضع بنجد، في وسط المملكة العربية السعودية، تقع الوشم في جنوبها الشرقي، ومنحدرات عتيبة في الجنوب الغربي، ويحفها جبل شمر من الغرب والشمال، قاعدته بريدة.
معجم البلدان لياقوت، الحموي (ت626هـ) ، دار صادر، بيروت، 1397هـ-1977م، 4/367. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص60-61.
(3) الوشم: إقليم من أقاليم اليمامة يحده من الجنوب والشرق العارض وسدير، ومن الشمال القصيم، وهي مدينة عامرة متقدمة، بها مدارس وكثير من المرافق، من أشهر بلدانها: شقراء (العاصمة) ، وثرمداء، وشيقر، والقصب، وغسلة، والوقف، وأثيثة، والفرعة، والحريقة، والداهنة.
جزيرة العرب في القرن العشرين، ص57. معجم اليمامة (معجم جغرافي للملكة العربية السعودية) ، تأليف عبد الله بن محمد بن خميس، ط/2، 1400هـ-1980م، ص2/57، 441-444.
(4) شقراء: عاصمة الوشم وقاعدته، تقع في وسطها الغربي، تحت الصفراء.
المرجعان السابقان، الجزيرة، ص58؛ والمعجم 2/56-60.
(5) ضَرَمة: والآخرون يسمونها (ضرما) ، قال ياقوت: إن أصلها (قرما) قرية بوادي قرقرى، باليمامة.
انظر تفاصيل موقعها: معجم البلدان 4/329. معجم اليمامة 2/92-97.
(6) العامر: ويقال (العامرية) وهي قرية باليمامة، منسوبة إلى رجل اسمه عامر. معجم البلدان 4/71. معجم اليمامة 2/132.
(7) وادي حنيفة: (حنيفة) قبيلة شهيرة، جهيرة الصوت، قبيلة ربيعة العدنانية، نسبتها إلى جدها حنيفة بن لجيم بن علي بن صعب. وهذا الوادي ينسب إليها، ويقع في قلب نجد باليمامة. وينحدر هذا الوادي من الشمال إلى الجنوب؛ وفيها ثمانية سدود.
انظر تفاصيل موقعه: معجم اليمامة، لابن خميس، 1/348-353؛ والمجاز بين اليمامة والحجاز، لعبد بن محمد بن خميس، من منشورات دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض، المملكة العربي السعودية، 1390هـ، 1970م، ص27.
(1/31)
________________________________________
ومنها إلى الجبيلة (1) حتى وصل الدرعية (2) عام 1233هـ (3) . وقد التقى-قبل وصوله الدرعية- مع جيش عبد الله عدة مرات؛ كما في وقعة مادية التي انتهت بهزيمة عبد الله، ووقعة نجروش مع الترك، وانتهت بانهزام الترك، وغير ذلك من اللقاءات (4) .
ثانياً: سقوط الدرعية (1233هـ) :-
كانت الدرعية -حين مولد الشيخ عبد اللطيف- عاصمة الدولة السعودية الأولى، وعندما بلغ الشيخ ثماني سنين من العمر، حدث بها نكبة عظيمة، ودمار شديد على يد المجرم إبراهيم باشا.
فبعد وصوله إليها في العام المذكور آنفاً، حاصرها حصاراً شديداً، ولم يجعل لأهلها منفذاً. ومضت خمسة أشهر والدرعية ثابتة، فأخذت المؤن والأرزاق في النقاد، بينما
__________
(1) الجبيلة: سلسلة جبلية، شرق الرياض، تمتد من الشمال إلى الجنوب، فطرفها الشمالي عند نهاية (روضة الجنادرية) .
انظر تفاصيل موقعها: معجم اليمامة، لابن خميس، 1/258.
(2) الدرعية: بكسر الدال، وإسكان الراء، وكسر العين، فياء مشددة -نسبة إلى الدروع، وهم بطن من بني حنيفة- أو أنها منقولة عن قرية في الخط، اسمها الدرعية قد بادت. وهي قرية من قرى نجد، تقع في شمال غرب الرياض بمسافة عشرين ميلاً، وقد زحف عمران مدينة الرياض الآن فتجاوزتها إلى ما بعدها، ويشقها وادي حنيفة نصفين، وهو تحت مدينة العيينة، وما بين المليبيد جنوباً إلى غصيبة شمالاً. وقد كانت العاصمة الأولى للدولة السعودية قبل الرياض.
انظر: الدرعية، لعبد الله بن محمد بن خميس، ص5، 46؛ ومعجم اليمامة، لابن خميس، 1/416-424.
(3) انظر تفاصيل مسيرة إبراهيم باشا لغزو نجد في: عنوان المجد، 1/187-204، وما بعدها. قلب الجزيرة، ص342. تاريخ الجبرتي، 9/786، 922، 1002. حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، 1/424-425، 2/839؛ وصقر الجزيرة، 1/63-64. تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، لإبراهيم بن صالح بن عيس (ت1343هـ) ، ط/1، 1386-1966م، نشر دار اليمامة، الرياض، ص142-144. تاريخ الدولة السعودية، د. مديحة، ص51 وما بعدها.
(4) انظر التفاصيل: عنوان المجد، 1/183، 188.
(1/32)
________________________________________
كانت تسيل على إبراهيم من القصيم والمدينة المنورة والبصرة ومصر (1) .
ثم صمم على مهاجمة الدرعية، فوالى الهجوم والتخريب وإطلاق القنابل والرصاص، فهدم المساكن والمساجد؛ فأسرع أهلها إلى أميرهم عبد الله، طالبين منه الخلاص مما هم فيه، فاضطر إلى الخروج إبراهيم باشا، ويسلمه نفسه بلا قيد ولا شرط، وذلك في الثامن من ذي الحجة سنة (1233هـ) . فأظهر له الإكرام، وبعثه مع أربعمائة من رجاله إلى والده بمصره، وبالغ محمد علي في إكرامه -نفاقاً- ثم أرسله إلى الأستانة ومعه بعض رجاله، حيث أمر الباب العالي بقتله، فطوف بالأسواق مقيداً ليرى الترك رئيس الوهابية (2) الذي يعدونه خارجاً على الإسلام، ثم قتل في ميدان أيا (1) صقر الجزيرة، 1/64.
__________
(2) الوهابية: اسم يطلقه المبتدعون، أعداء الدعوة السلفية والمناوئون لها، على دعوة شيخ الإسلام مجدد الملة، الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، كما يسمون المناصرين لدعوته والآخذين بها (وهابيين) . قال مسعود الندوي -رحمه الله-: "إن من أبرز الأكاذيب على دعوة شيخ الإسلام، تسميتها بالوهابية، ولكن أصحاب المطامع حاولوا من هذه التسمية أن يثبتوا أنها دين خارج عن الإسلام. واتحد الإنجليز والأتراك والمصريون فجعلوها شبحاً مخيفاً، بحيث كلما قامت أي حركة إسلامية في العالم الإسلامي ... ورأى الأوربيون فيها خطراً على مصالحهم، ربطوا حبالها بالوهابية النجدية ... ". محمد بن عبد الوهاب، مصلح مظلوم ومفترى عليه، لمسعود الندوي، تعريب: عبد العليم، ص99.
وانظر: تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية، د. محمد بن سعد الشويعر، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الرياض ط/2، 1413هـ، 1993، ص74.
وقد ردّ العلامة أبو المعالي الآلوسي على هذه التسمية، عند رده على النبهاني -أحد الحاقدين على الدعوة السلفية، والقائلين بهذه النسبة- وبيّن خطأه بأن من وافق محمد بن عبد الوهاب، ينسب إلى اسمه فيقال: محمدية، لا إلى اسم أبيه، كما فعل هذا الجاهل بالعربية. أو رأى أنه لو راعى القواعد فسماهم محمدية، غص هو وأعداء الحق، لأن ذلك يشعر بكونهم أتباع محمد بن عبد الله.
انظر ردود الآلوسي في: الآية الكبرى على ضلال النبهاني في رائيته الصغرى، لأبي المعالي محمود شكري الآلوسي، (مخطوط) بمكتبة جامعة الملك سعود، تحت رقم (8721/2) . رقم ميكروفيلم (1400/م) لوحه 2/أ-ب. تاريخ نجد، للسيد محمود شكري الآلوسي، تحقيق محمد بهجة الأثري، المطبعة السلفية بمصر، القاهرة، 1343هـ، ص106.
(1/33)
________________________________________
صوفيا (1) قال عبد الرزاق البيطار في حلية البشر (2) : (كان محمد علي باشا، وزيراً على مصر للسلطان محمود، وهو الذي أمره بمقاتلة الوهابيين، فأرسل ولده إبراهيم باشا، ومعه عسكر عظيم من الأكراد والأرناؤوط وعرب مصر، لمحاربة عبد الله بن سعود أمير نجد، فقاتلهم وقتل ونهب وحرّق وخرّب وأسر عبد الله بن سعود وأرسله إلى مصر، فبعثه والي مصر إلى السلطان محمود، فصلبه، أما باقي عائلة أمراء الوهابيين (المعبر عنهم بآل مقرن) وباقي بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإنه نقلهم إلى مصر، وأسكنهم هناك) .
وبعد أن دمر إبراهيم باشا الدرعية، وسوى معالمها بالأرض، ولم يترك فيها ما ينتفع به من منزل أو نخيل أو آبار أو عيون، توجه إلى مصر سنة (1234هـ) ، مصطحباً معه أفراداً من آل سعود وبعض زعماء نجد، وقد كان من بينهم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، الذي اصطحب مع والده وأعمامه، وهو ابن ثماني سنين، وولى على نجد قائداً يدعى (إسماعيل باشا) ، ثم رحل هذا إلى مصر مولياً مكانه (خالد باشا) ، وكان خالد هذا جباراً قاسياً بطاشاً، أذاق النجديين ألوان العذاب والذل، فانتشرت الفوضى، وقطعت الطريق، ونهب السفر، وكثرت الغارات (3) .
__________
(1) انظر في سقوط الدرعية ومقتل عبد الله بن سعود: صقر الجزيرة، 1/64-65. قلب الجزيرة، ص342. تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص144-145. تحفة المستفيد، ص143. تاريخ المملكة العريية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/168-188. وتاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص161-162. الدرعية، لابن خميس، ص222-224، 387، 388. الدولة السعودية الأولى، عهد الإمام عبد الله بن سعود، (نهاية الدولة السعودية الأولى) -للأستاذ د. منير العجلاني، ط/2، 1414هـ، 1993م، ص107-142. الظل الممدود في الوقائع الحاصلة في عهد ملوك آل سعود الأولين (تاريخ العجيلي) ، تأليف محمد بن هادي بن بكر العجيلي، حررها في 1220هـ، تحقيق تقديم د. عبد الله بن محمد بن حسين أبو داهش، ط/1، 1408هـ، 1988م، ص490.
(2) حلية البشر 1/839. الدرعية، لابن خميس، ص393.
(3) انظر: صقر الجزيرة، ص1/66.
(1/34)
________________________________________
ثالثاً: قيام محمد بن مشاري: (1235هـ) :-
وفي تلك الأحوال السيئة، نهض محمد بن مشاري من آل معمر، أمراء العيينة (1) ، وقد ساعدته الظروف المتدهورة، فتمكن من الاستيلاء على أجزاء كبيرة من قلب الجزيرة؛ هي: العارض (2) ، وسدير (3) ، والوشم، والقصيم، وكان على اتفاق مع الترك العثمانيين، المرابطين في نجد حينذاك، وبينما هو منهمك في تثبيت قواعد إمارته قدم الجيش التركي بقيادة (عبوش أغا) ، وما كاد يصل عنيزة حتى بادره ابن معمر بخطاب ورسول ينبئه بأنه مطيع للباب العالي، وتحت أمره، فرجع عبوش أغا من حيث جاء (4) .
ثم إن مشاري بن سعود الكبير (5) ثار على ابن معمر ونازعه وقاومه، حيث إن ابن معمر كان قد استولى على أجزاء من نجد بما فيها (العارض) مقام مشاري ابن سعود،
__________
(1) العيينة: تصغير عين (وهي عين بني عامر من بني حنيفة) بلدة في اليمامة بنجد، كانت عامرة زاهرة في أيام النهضة الأولى لآل سعود، فخربت، ثم عادت إليها الحياة، فهي الآن بلدة كبيرة، فيها الجوامع والمدارس وكثير من المرافق الحكومية. انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين ص47؛ معجم اليمامة لابن خميس 2/198-204.
(2) العارض: منطقة بنجد، من قرى الشقيق، شمال قرية الراجحية. المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية، مقاطعة جازان، المخلاف السليماني، لمحمد بن أحمد العقيلي، دار اليمامة بالرياض، 1389هـ-1969م، ص150.
(3) سدير: بضم السين، وفتح الدال، فياء ساكنة، فراء، من أكبر أقاليم اليمامة، شماليها، تنحدر أوديته من ظهر طويق (جبل) ، يحده من الجنوب (العتك) ، ومن الغرب مرتفعات جبل طويق ومنحدراته الغربية، ومن الشمال المرتفعات والقفاف المشرفة على روضة السبلة، ومن الشرق جبل مجزّل، وقاعدته المجمعة. ومن بلداته: الحوطة، والروضة، وجلاجل، والتويم، والعودة، وحرمة، والغاط، وعشيرة، وتمير، والعطار، والرويضة، وغيرها. معجم اليمامة، 2/18-19. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص58-59.
(4) صقر الجزيرة 1/66.
(5) هو مشاري بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، من أمراء آل سعود بنجد، وهو أحد الزعماء الفارين من مصر، وممن نفاهم إبراهيم باشا إليها، آلت إليه إمارته بعد أخيه عبد الله بن سعود، وكانت إقامته في العارض، بعد أن دُمرت الدرعية، (ت1235هـ) .
انظر ترجمته: تاريخ ملوك آل سعود، ص17. قلب جزيرة العرب، ص343. صقر الجزيرة، 1/66-67. الأعلام للزركلي، 7/226.
(1/35)
________________________________________
فقاومه مشاري؛ لكونه أحق منه بالحكم، غير أن ابن معمر أسره، وسلمه إلى المعسكر التركي، الذين سجنوه إلى أن مات في السجن عام (1235هـ) (1) .
رابعاً: قيام الإمام تركي بن عبد الله (2) واستعادته للسلطة في نجد، وطرده للقوات المصرية (1240هـ) (3) :-
استمر حكم الأتراك لنجد، من (1233-1240هـ) . وكان الإمام تركي بن عبد الله حينذاك متنقلاً في نجد، هارباً من وجه إبراهيم باشا، لئلا يقتله أو ينفيه كما فعل بآل سعود. وفي السنة (1235هـ) غادر الإمام تركي الرياض هارباً من الأتراك الذين حاصروها، وفي نفس الوقت كان ثائراً عليهم، ومضى يجمع الكلمة، ويوحِّد الصفوف، ويقضي على المنازعات الداخلية (4) .
__________
(1) تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/199. قلب الجزيرة، ص343.
(2) الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود (الأول) ابن محمد بن مقرن، أمير من أمراء آل سعود في نجد، وليها بعد مقتل ابن عمه مشاري بن سعود عام (1235هـ) ، كان فاراً من وجه الترك وعمال والي مصر (محمد بن علي) كان شجاعاً، أخذ على عاتقه دفع الترك ومن معهم من المصريين عن بلاده: نجد، (ت1249هـ) . رحمه الله.
انظر: ترجمته: قلب الجزيرة، 343-344. تاريخ ملوك آل سعود، ص18. الأعلام للزركلي، 2/84. جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص235-236. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص164؛ والسعودية له أيضاً، ص27. الدرعية، لابن خميس، ص397.
ويلاحظ هنا: أن عبد الله (والد تركي) ، ليس هو عبد الله بن سعود الكبير، الذي أسره إبراهيم باشا بعد سقوط الدرعية، وقتله الترك في استنبول؛ كما توهم بعض الكتاب. ولزيادة الإيضاح انظر: الجدول الموضح لحكام آل سعود ص (53-54) . جزيرة العرب في القرن العشرين، ص235.
(3) وانظر: عنوان المجد، 2-16-18.
(4) انظر: قلب الجزيرة، ص343، صقر الجزيرة 1/67، وجزيرة العرب في القرن العشرين لحافظ وهبه، ص236.
(1/36)
________________________________________
وبعد أن علم بأن أحد آل معمر قد قبض على ابن عمه مشاري بن سعود، وسلمه إلى الترك، وأنهم قتلوه حبساً في السجن، خرج من مخبئه، ودخل "العارض" فنازع ابن معمر برهة من الزمن وقاتله، غير أن ابن معمر قتله ابن عمه (1) . فصفا الجو لتركي، وتولى الحكم مكانه (2) . وفي سنة (1236هـ) قدم حسين بك وأبوش أغا ومعهما عسكر من الدولة العثمانية، إلى الرياض، وحصروا تركيا في قصره. فتمكن من الهروب ليلاً، وأقام في بلدة الحلوة بنجد (3) .
وفي سنة (1237هـ) غزا إبراهيم كاشف، وأغار على قبيلة سبيع في الحاير فكانت الهزيمة عليه، فقتل هو مع ثلاثمائة رجل. ووجهت الدولة العثمانية أبا علي البهلولي، بدلاً منه، ومعه ستمائة رجل، واستقر في الرياض (4) .
وفي سنة (1240هـ) قويت شوكة الإمام تركي، فزحف على الرياض وفيها العساكر المصرية والتركية المرابطة في نجد (5) ، وحاصر الحامية التي فيها، حتى
__________
(1) تذكر بعض المصادر أن الإمام تركياً بعد علمه بأن ابن معمر سلم مشاري بن سعود -ابن عم تركي- إلى الترك، وأنهم سجنوه، أسرع إلى الدرعية، وقصد قصر ابن معمر، وقبض عليه وسجنه، ثم سار إلى الرياض ونازل مشاري ابن معمر حتى قبض عليه، واستولى على الرياض، وسجن محمد بن مشاري (ابن معمر) وابنه مشاري، وقال تركي لابن معمر: إن أطلقت مشاري بن سعود أطلقتك، وإلا قتلتكما جميعاً، فكتب ابن معمر إلى عامله في السدوس بإطلاقه، فامتنع من إطلاقه؛ خوفاً من القائد التركي. ثم جاء خليل أغا وفيصل الدويش وتسلما مشاري ابن سعود. ولما سمع تركي بذلك، قتل محمد معمر بن مشاري وابنه. أما مشاري بن سعود، فقد حبسه القائد في عنيزة، ومات في محبسه -رحمة الله عليه-. تحفة المستفيد، ص146-147.
(2) انظر: صقر الجزيرة، 1/67. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، ص101.
(3) تحفة المستفيد، ص146.
(4) تحفة المستفيد، ص147.
(5) انظر تفاصيل زحفه على الرياض واستيلائه عليه: عنوان المجد، 2/16-19. قلب جزيرة العرب، ص343-344. معجم اليمامة، لمحمد بن خميس، 1/497. الدولة السعودية ص24-25. تحفة المستفيد، ص148. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1-204-207.
(1/37)
________________________________________
صالحة قائد الحامية (أبو علي البهلولي) ، على خروج العساكر من الرياض، وعودتهم إلى بلادهم، وتأمين جميع المحاربين معهم، فتم ذلك. ثم عين ابن عمه مشاري (1) بن ناصر بن مشاري بن سعود، أميراً على الرياض، ريثما يرتب الإمام تركي شؤونه (2) . فغزا الإحساء والقطيف وفتحهما، وتمكن من بعض البوادي، وأدخل كثيراً من القرى والمدن تحت حكمه، كما انضم إليه زعماء القبائل بعد أن رأوا أن نجداً قد خضعت له. ثم عاد إلى الرياض، وعمرها، وحصنها بالأسوار، واتخذها قاعدة حكمه، عام 1240هـ، ومن يومئذٍ صارت الرياض هي العاصمة إلى اليوم (3) .
وبولايته انتقل الحكم في آل سعود من سلالة عبد العزيز بن محمد، إلى سلالة أخيه عبد الله بن محمد، وبقي في هؤلاء إلى اليوم (4) .
ويجدر بنا الإشارة إلى أن هذا هو مؤسس الإمارة السعودية في دورها الثاني عام (1235هـ) ، بعد أن سقطت، وقتل عبد الله بن سعود (5) ؛ لأنه منذ هذه السنة اعتبر الزعيم الساعي لاسترداد إمارة آل سعود، واستطاع بخلائقه الكبيرة، أن يجعل اسم آل سعود حياً في نفوس العرب. غير أن الأعداء كانوا قد أحاطوا به من كل جانب؛ فهو دائماً مهاجم أو مدافع (6) . وفي عهده عاد الإمام عبد الرحمن بن حسن (والد الشيخ عبد اللطيف) إلى الرياض، قادماً من مصر، حيث نقله إبراهيم باشا بعد سقوط الدرعية. وكان تركي قد استدعى جميع المنفيين بالرجوع إلى نجد، بعد تطهيرها من
__________
(1) مشاري بن ناصر بن مشاري بن سعود.
(2) معجم اليمامة 1/497. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، ص104-105
(3) انظر المرجعين السابقين، نفس الصفحات؛ وصقر الجزيرة 1/1-67-68.
(4) انظر: صقر الجزيرة، 1/67.
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق. وجزيرة العرب في القرن العشرين، ص235-236.
(1/38)
________________________________________
قوات المصريين والأتراك، واستتاب الأمن فيها.
مقتل الإمام تركي بن عبد الله (1249هـ) (1) :-
وفي العام (1249هـ) قتل الإمام تركي بن عبد الله -رحمه الله-، قتله ابن أخته مشاري بن عبد الرحمن بن مشاري بن سعود (2) ، وقد خامرته فكرة اغتيال خاله الإمام تركي، والاستيلاء على إمارته.
وكان الإمام فيصل بن تركي (3) ، وهو الساعد القوي والعضد الوحيد والمناصر الأول لأبيه تركي (4) ، فانتهز مشاري فرصة غياب الإمام فيصل -الذي كان قد خرج
__________
(1) انظر تفاصيل مقتل الإمام تركي بن عبد الله: عنوان المجد، 2/49-52. صقر الجزيرة، 1/68. معجم اليمامة، لابن خميس، 1/497. جزيرة العرب، في القرن العشرين، ص336. تحفة المستفيد، ص150-151. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، ص105. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/256. تاريخ ملوك آل سعود، ص18.
(2) مشاري بن عبد الرحمن بن حسن بن مشاري بن سعود، أمير من أمراء آل سعود في نجد، كان أحد الذين نقلهم إبراهيم باشا إلى مصر، وفر منها سنة (1242هـ) فأكرمه خاله الإمام تركي، ثم تآمر على قتل خاله فقتله سنة (1249هـ) ، وقد قتله الإمام فيصل بن تركي ثأراً لمقتل أبيه، وذلك عام (1249هـ) .
(3) هو الأمير فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود (الأول) ابن محمد بن مقرن. ولد سنة 1213هـ، كان ضمن من نقلهم إبراهيم باشا إلى مصر، بعد سقوط الدرعية، وهو أحد أمراء آل سعود في نجد، تولى الحكم عام 1250هـ بعد مقتل والده، وفي عام 1254هـ استسلم للقائد التركي خورشيد باشا، الذي أرسله إلى مصر للمرة الثانية؛ ثم فر من مصر عام 1259هـ، وعاد إلى نجد واستعاد الحكم واستمر فيه إلى أن توفي عام 1282هـ.
انظر ترجمته: قلب الجزيرة، ص344-345. تاريخ ملوك آل سعود، ص19-24. تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص67-117. علماء نجد، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ص48. الدرر السنية، 12/54، 58. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/278. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص166؛ والسعودية له أيضاً، ص27.
(4) انظر: صقر الجزيرة، 1/67.
(1/39)
________________________________________
غازياً ناحية البحرين في أطراف القطيف -فخطط لتنفيذ فكرته الخبيثة فاغتال الإمام تركي -رحمه الله- بواسطة خادم اسمه "إبراهيم بن حمزة" عقب خروج الإمام تركي من المسجد بعد صلاة الجمعة. وكان مشاري في المسجد فخرج شاهراً سيفه وتوعد الناس. ثم أسرع إلى قصر الحكم، فاستولى على جميع ما كان فيه من عتاد وأموال؛ وأمر نفسه سنة 1249هـ (1) .
سعيُ الإمام فيصل للأخذ بالثأر من قاتل أبيه تركي (1249هـ) :-
لم تدم إمارة مشاري -بعد قتله للإمام تركي- أكثر من أربعين (40) يوماً؛ إذ إن الإمام فيصل -بعد أن وصله نبأ مقتل أبيه- أسرع راجعاً إلى الرياض وأقبل بجموع كبيرة فقاتلوا مشارياً، فاستسلم ومن معه، وقتل هو وخمسة رجال كانوا قد اشتركوا معه في قتل تركي، -رحمه الله- (2) .
خامساً: قيام الإمام فيصل بن تركي: (1250هـ-1282هـ) (3) :
بعد مقتل تركي بن عبد الله، ومقتل قاتله مشاري بن عبد الرحمن، قام بالأمر الإمام فيصل -رحمه الله- واجتمعت كلمة أهل نجد عليه، حتى سنة (1252هـ) ، حينما أعادت العساكر المصرية كرتها على نجد، بقيادة إسماعيل أغا، وقد قدم مع خالد بن سعود (4) ، فنزل إسماعيل وخالد قصر الرياض، وبقيا إلى سنة (1254هـ) ،
__________
(1) انظر: صقر الجزيرة، 1/68. وحلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، لعبد الرزاق البيطاري، 1/425.
(2) انظر تفاصيل ذلك: عنوان المجد، ص2/49-52. صقر الجزيرة، 1/68-69. قلب الجزيرة، ص343-344. الأعلام للزركلي، ص7-226-227.
(3) انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، ص236.
(4) خالد بن سعود (الكبير) بن عبد العزيز بن محمد بن سعود (الأول) ، كان ممن نقله إبراهيم باشا إلى مصر من آل سعود، بعد سقوط الدرعية، وحينما أعادت العساكر المصرية كرتها، أرسله محمد علي مع إسماعيل أغا قائد الجيش، لاسترضاء أهل نجد، فتولى الحكم من 1254-1257هـ، حين ثار عليه عبد الله بن ثنيان ففر إلى الدمام. وقد توفي بجدة عام (1278هـ) .
انظر: عنوان المجد، 2/69-70، وما بعدها. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص168. والسعودية، له أيضاً، ص27-28. والأعلام للزركلي، 2/269.
(1/40)
________________________________________
ثم عززا بحملة يقودها ملا سليمان الكردي، بعثه خورشيد باشا (1) . ثم رجعت الحملة الأولى إلى مصر بعد هزيمتها على أيدي أهل الحوطة (2) والحلوة (3) والحريق (4) ، سنة (1253هـ) .
ولما علم الإمام فيصل بهزيمة هؤلاء، أسرع إلى الرياض وحاصرها، سبعين (70) يوماً فجاء فهيد الصيفي رئيس سبيع (5) ، وقاس بن عضيب رئيس آل عاصم (6) ،
__________
(1) هو محمد خورشيد باشا، قائد ألباني مستعرب، دخل مصر صغيراً، وتعلم في مدارسها المدنية ثم العسكرية. كان في حملة محمد علي التي ذهبت إلى الحجاز، وانتدبه محمد علي لقتال أهل "عسير" ثم بني حرب وجهينة. توفي بالمنصورة سنة (1265هـ) .
انظر ترجمته: الأعلام للزركلي، 6/119.
(2) الحوطة (هي حوطة) بني تميم، وهي بلاد واسعة، تقع في ملتقى وادي نعام وبريك، وتسمى أيضاً حوطة الجنوب، تمييزاً لها عن حوطة سدير في شمال اليمامة. وأكثر سكانها من بني تميم، بني عمرو. تبعد عن الرياض حوالي (150كم) شطر الجنوب، بعد الخروج وقبل الأفلاج.
انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، ص53. معجم اليمامة، 1/354-355.
(3) الحلوة: هي البلدة الثانية في حوطة بني تميم بعد الحلة، وهي أعلى بلدة في وادي بريك، وسكانها جلهم بنو تميم من آل مرشد. معجم اليمامة، 338، 355.
(4) الحريق: بلدة في جنوب الرياض، تقع على أعلى وادٍ في جنوب نجد، ممتد من الشرق إلى الغرب. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص53. الرس، لعبد الله الرشيد، ص67. علماء نجد، لسام، 1/265.
(5) سبيع: قبيلة تقع أماكنها في وادي سبيع بين أطراف عسير الشرقية الشمالية، وبين نجد بقرب الوشم، وتمتد إلى وادي تربة ورينة، وهم أفخاذ؛ منهم بنو عامر، وبنو عمر، والقريشات، وآل عمير. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص42.
(6) آل عاصم: بطن من آل سليمان من الجحادر، من قحطان نجد، فالحجاز بطنان؛ آل الجمل وآل سليمان؛ وآل سليمان ينقسمون إلى فخذين: آل محمد وآل عاصم. وآل محمد ينقسمون إلى عشيرتين: آل طريف، منهم الحشر، وآل رزق، منهم آل كريشان. قلب جزيرة العرب، ص197. معجم قبائل العرب، 2/702.
(1/41)
________________________________________
ففكا الحصار عن خالد، فرحل عنها فيصل (1) .
الإمام فيصل بن تركي ينقل -أسيراً- إلى مصر مرة ثانية (1254هـ) (2) :-
ثم قدم خورشيد باشا بحملة معه، واصطحب خالد بن سعود ومن معه؛ لحصار الإمام فيصل في الدلم (3) من الخرج (4) ، وبعد قتال مرير، ثم الصلح بينهما، فسلم الإمام فيصل نفسه إلى خورشيد، على شروط؛ هي: الصفح عن الوطنيين، وتأمين أرواحهم وأموالهم، فإن قبل الشرط سلم، وإلا فالميدان لا يزال رحيباً. فقبل القائد المصري شروط فيصل، فسلم نفسه إليه، في 23 من رمضان سنة 1254هـ.
فأرسله إلى مصر مع ابنيه عبد الله ومحمد، وشقيقه وابن عمه جلوي. وظل هناك في مصر من عام 1254هـ، حتى عام 1259هـ؛ وبمغادرته الرياض قامت الثورات الداخلية،
__________
(1) انظر: معجم اليمامة، لابن خميس، 1/297. تحفة المستفيد، 151-152.
(2) وقد كان نقله إلى صر للمرة الأولى بعد سقوط الدرعية عام 1233، فمكث هناك حتى عام 1242هـ، ثم نقله خورشيد باشا للمرة الثانية عام 1254هـ، وتمكن من الفرار للمرة الثانية أيضاً عام 1259هـ.
انظر: جزيرةالعرب في القرن العشرين، ص236. تحفة المستفيد، ص153. مدينة الرياض، لأحمد جاسر، ص106-107. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/235، 302، 318.
(3) الدِّم: بكسر الدال المشددة -بعضهم يضمها- وفتح اللام، فميمم، قاعدة إقليم الخرج قديماً، وكبرى مدنها، وهي اليوم مدينة كبيرة عامرة، ذات نخيل ومزارع وعمران، بها مدارس ومرافق كثيرة، تبعد عن الرياض حوالي (100كم) . جزيرة العرب في القرن العشرين، ص53. معجم اليمامة، 1/431-436.
(4) الخرج: بفتح الفاء، وإسكان الراء، فجيم، منطقة باليمامة، تلتقي فيها أودية عظام، من أكبر وادية العارض، وتعتبر من منطقة العارض في قلب اليمامة، يحدها شمالاً جبال (المغرة) وطرف جبل الجبيل، والدهناء شرقاً، والبياض جنوباً، ويحدها غرباً منحدرات جبل علية الشرقية. تبعد عن الرياض أكثر من (80كم) جنوباً.
انظر: معجم اليمامة، لابن خميس، 1/371-372. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص52. الرس، لعبد الله الرشيد، ص64-66.
(1/42)
________________________________________
وأصبحت الحرب شبه أهلية طمعاً في الحكم (1) .
وبقي خالد أميراً على الرياض، ما عدا الحوطة والحريق، فإنهما لم يذعنا له. ولم تستقم له الأمور؛ لسوء معاملة العساكر المصرية معه، وقد قاومه أهل نجد حتى فرّ وخرج من الرياض، وأمّر حمد بن عياف، وهرب إلى الإحساء، ثم إلى القطيف، ثم إلى الكويت، ثم إلى مكة حيث مات في جدة سنة (1278هـ) (2) .
وهنا قام الأمير عبد الله (3) بن ثنيان بن إبراهيم بن ثنيان آل سعود بثورته، واستولى على الرياض عام (1257هـ) ، فاستقام له الأمر في نجد بعد فرار خصمه، غير أن صفات الاستبداد كانت تغلب عليه. وظل على الحكم إلى أن قدم الإمام فيصل بن تركي إلى الرياض فاراً من مصر (4) (5) .
ولما وصل نجداً، التف حوله الأنصار، فزحف بهم إلى عنيزة -مقر ابن ثنيان- فهزمه، والتف حوله رجالها، الذين كانوا ينتظرون ساعة الخلاص من ربقة الذل. وتوفي ابن ثنيان مسجوناً. وبذلك عاد حكم البلاد إلى فيصل، واسترد سلطته، التي امتدت إلى الإحساء، والقطيف، والعارض، والقصيم، والجبيل، ووادي الدواسر،
__________
(1) انظر: قلب الجزيرة، ص344. صقر الجزيرة، 1/71. معجم اليمامة، 1/498. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص237.
(2) انظر: صقر الجزيرة، 1/71.
(3) عبد الله بن ثنيان بن إبراهيم بن ثنيان بن سعود (الأول) ابن محمد، أمير من أمراء نجد، ثار على خالد بن سعود، واستولى على الرياض 1257هـ، وجلس على الحكم إلى أن قدم فيصل بن تركي من مصر عام 1259هـ، توفي في سجنه سنة 1259هـ.
انظر: تاريخ ملوك آل سعود، ص24-25. عنوان المجد، 2/92-103. الأعلام للزركلي، 4/75.
(4) وكان فراره هذه من مصر، هو الثاني، وكان الأول عندما كان ضمن من نقلهم إبراهيم باشا.
انظر: تحفة المستفيد، ص156. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص237. تاريخ ملوك آل سعود، ص25.
(5) صقر الجزيرة، 1/71. معجم اليمامة، 1/498.
(1/43)
________________________________________
وعسير، وأطراف الحجاز، كما أن البحرين، ومسقط، وسواحل عمان، كانت تدفع إليه ضرائب فرضها على أمرائها. وظل الإمام فيصل يحكم البلاد حتى وفاته -رحمه الله- في 21 من رجب سنة (1282هـ) ، فخلفه ابنه عبد الله بن فيصل (1) .
ويشار هنا إلى أنه في عهده -وفي عام (1264هـ) - عاد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الرياض فاراً من مصر، حيث كان نقل مع والده بعد سقوط الدرعية.
كما أن نشاط الشيخ -رحمه الله- السياسي، كان على أشده في هذه الفترة؛ وذلك لمحله من الإمام فيصل؛ حيث كان مرافقه في أغلب أوقاته ومستشاره. وفي ذلك قال حافظ وهبة: "وقد زار الرياض الرحالة (بلجريف) ، فوصف بلاط فيصل ... كما وصف سلطة الشيخ عبد اللطيف، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنها تأتي بعد فيصل مباشرة" (2) .
بداية الدور الثالث من حكومة آل سعود: [1282-1293هـ] :-
تقدمت الإشارة إلى أن هذا الدور بدأ من بداية الفتنة الأهلية بين أبناء فيصل بن تركي، رحمه الله. وهنا نورد نبذة يسيرة عما حدث في تلك الفترة:
الفتنة الأهلية بين أبناء فيصل بن تركي بعد وفاته: 1282-1293هـ (3) بلغت الدولة السعودية في عهد الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله- مبلغاً طيباً، لكنها لم تدم
__________
(1) انظر المراجع السابقة: صقر الجزيرة، 1/72. المعجم، نفس الصفحة. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص240. تحفة المستفيد، ص165. عقد الدرر، ص46. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/359.
(2) جزيرة العرب في القرن العشرين، 1/359.
غير أني لم أتمكن من الوقوف علىكتاب الرحالة المذكور؛ لمعرفة ما وصف به الشيخ عبد اللطيف.
(3) انظر تفاصيل تلك الفتنة في: تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص177-186. قلب جزيرة العرب، ص345-348. صقر الجزيرة، 1-74-79. تحفة المستفيد، ص166. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/195. جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص240-245. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص105. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، لأحمد الجاسر، ص109-111. الدولة السعودية الثانية، د. عبد الفتاح، ص156-192. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/360. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص170-174؛ السعودية، له أيضاً، ص28-29. تاريخ الدولة السعودية، د. مديحة أحمد، ص64-67.
(1/44)
________________________________________
طويلاً؛ فما كاد يودع الحياة، حتى أخذت في التقلص؛ بسبب الحروب بين أبنائه (1) . وقد كان له أربعة أبناء: عبد الله (2) ، وسعود (3) ، وعبد الرحمن (4) ، ومحمد (5) . وكان قد جعل عبد الله ولياً للعهد؛ لأنه أكبر أولاده، ولما امتاز به من الخلائق الكريمة (6) .
__________
(1) صقر الجزيرة، 1/73.
(2) عبد الله بن فيصل بن تركي، من أمراء آل سعود في نجد، بويع بعد وفاة أبيه عام (1282هـ) ، (ت1307هـ) .
انظر ترجمته: تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، لصلاح الدين المختار، 1/385. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، 173؛ السعودية، له أيضاً، ص28. تاريخ ملوك آل سعود، ص26. الأعلام للزركلي، 4/113.
(3) سعود بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد، من أمراء آل سعود في نجد، خرج على أخيه عبد الله وصار بينهما نزاع وصراع مسلح (ت1291هـ) .
انظر ترجمته: قلب جزيرة العرب، ص346. وتاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/376. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، 173؛ والسعودية، له أيضاً، ص28. تاريخ ملوك آل سعود، ص29. الأعلام للزركلي، 3/90-91.
(4) هو عبد الرحمن بن فيصل بن تركي، أحد أمراء نجد، وهو والد الملك عبد العزيز، طال عمره حتى شهد ملك ابنه (1346هـ) .
انظر ترجمته: قلب الجزيرة، ص347. الأعلام للزركلي، 322.
(5) هو محمد بن فيصل بن تركي، تولى إمارة الرياض بعد أخيه عبد الرحمن.
انظر ترجمته: قلب الجزيرة، ص348.
(6) انظر: صقر الجزيرة، 1/74.
(1/45)
________________________________________
وبعد وفاته، استقل محمد بالمنطقة الشمالية، واستقل سعود بالخرج والأفلاج (1) ، وبقي عبد الله وعبد الرحمن في الرياض. وبانقسامهم ضعفت حكومتهم، وتمرد العربان، وخرجت كل قبيلة عن حدودها، تسطو وتنهب، بعد أن كانت في عهد الإمام فيصل لا تستطيع فعل شيء من ذلك (2) .
فكان الصراع على الحكم محتدماً بين أبنائه، الأمر الذي أشعل نار الحرب، فصارت حروب أهلية بينهم، أشغلت كل من كانت له حمية دينية، وغيرة على دماء المسلمين، كان في مقدمة أولئك، الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمة الله عليه.
وكان الأمير عبد الله الفيصل، قد خلف أباه بعد وفاته، غير أن أخاه سعوداً خرج عليه، وغادر الرياض متجهاً شطر القبائل سنة (1283هـ) ، باحثاً عن الأنصار يحارب بهم أخاه عبد الله، فألفى من قبائل العجمان (3) وبني خالد (4) عوناً ونصراً، وكان فيصل قد قضى على نفوذهم في الإحساء، ونهضوا لمساعدته، ومقصدهم استرداد
__________
(1) الأفلاج: موضع باليمامة، بين العارض ومطلع الشمس، تصب فيه أودية العارض، وتنتهي إليه سيولها. وهي أربعة فراسخ طولاً وعرضاً، مستديرة.
انظر: معجم البلدان، 1/232، 4/271. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص53. الرس، لعبد الله الرشيد، ص67.
(2) انظر المرجع السابق، نفس الصفحة.
(3) العجمان: قبيلة تنتسب إلى مذكر بن يام بن أصبا بن رافع بن مالك بن جشم بن حبران بن نوف بن همدان، هاجروا من نجران إلى جهات الإحساء، ثم ارتحلوا ونزلوا الصبيحية، الماء المعروف بقرب الكويت، منازلهم في جوار بني خالد، اعتبارً من الطف إلى القير. وكانت هذه القبيلة قد أظهرت التمرد والعصيان على الإمام فيصل، وذلك سنة (1276هـ) . انظر: قلب الجزيرة، ص190. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص82. معجم قبائل العرب، 2/758-759. تحفة المستفيد، ص156.
(4) بنو خالد: من أقدم القبائل العربية، منازلها على ساحل الخليج العربي، ما بين وادي المقطع في الشمال، ومقاطعة البياض في الجنوب. قلب الجزيرة، ص154-155. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص42. معجم قبائل العرب، 1/327.
(1/46)
________________________________________
سلطتهم المفقودة في الإحساء (1) وقد وقع بين الأخوين معارك عدة، تبادلا فيها الهزائم، كان أول لقاء بينهما في وقعة (الجودة) (2) سنة (1287هـ) ، حيث وقعت معركة حامية الوطيس، غلب فيها عبد الله، وكسرت شوكته، فذهب يستنجد بأمراء القبائل في عنيزة وحائل، فلم يجد لديهما آذان صاغية؛ خوفاً من سعود، ولقي قولاً حسناً لدى رئيس سبيع عساف بن اثنين، ولدى زعيم قبيلة مطير سلطان الدويش.
ثم بعث عبد العزيز أبو بطين إلى والي بغداد مدحت باشا (3) ، يستعينه على أخيه (4) . فرأى مدحت أن الوقت قد حان لاسترداد الإحساء من آل سعود، فنهض
__________
(1) انظر: تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص177. وصقر الجزيرة، 1/74. وجزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص241.
(2) وقعة الجودة: (الجودة) ماء معروف. وقد كانت هذه الوقعة بين سعود بن فيصل -عندما قدم من عمان ومعه جنود كثيرة من العجمان، واستولى على الحسا- وأخيه محمد بن فيصل، الذي جهزه أخوه عبد الله بن فيصل لقتال سعود، بعد أن سمع بقدومه من عمان والبحرين للحسا. فنزل محمد على الجودة، فحصل بينهم وقعة شديدة في رمضان 1287هـ؛ وصارت الهزيمة على محمد وأتباعه، وأسر محمد، وأرسله أخوه سعود إلى القطيف، فحبس هناك، إلى أن أطلقه عسكر الترك في ربيع الآخرة، 1288هـ.
انظر: تاريخ المملكة، لصلاح الدين، 1/367. بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص179-181، 182. وتذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الواحد الديان، وذكر حوادث الزمان، للشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن، من علماء أهل القصيم في بريدة، ط/1 على مطابع مؤسسة النور للطباعة والتجليد، الرياض.186-195. تحفة المستفيد، ص169-170.
(3) مدحت باشا: (أو أحمد مدحت) ابن حاجي حافظ أشرف أفندي (أبو الأحرار) العثماني. ولد في اسطنبول، وكان أبوه قاضياً، وسماه "محمد شفيق" وغلب عليه اسم "أحمد مدحت" ثم "مدحت" تعلم العربية والفارسية، وتقلب في الوظائف، وعين والياً على بغداد سنة (1286-1288هـ) ودُعي إلى الأستانة معزولاً، فما لبث أن تولى منصب الصدارة العظمى، وأصدر الدستور العثماني سنة (1293هـ) , توفي سنة (1301هـ) . الأعلام للزركلي، 7/195.
(4) وعلى هذا الفعل عاتبه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وبيّن له بطلانه، كما سياتي في رسالته (11) ، ص288. وانظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، ص242.
(1/47)
________________________________________
من توه، وبعث إلى ناصر السعدون باشا (1) -زعيم قبائل المنتفق (2) - كما بعث إلى عبد الله بن صباح أمير الكويت يستنصرهما، وجعل القيادة العامة بيد نافد باشا (3) .
وكان سعود بن فيصل قد دخل الرياض سنة (1288هـ) ، بعد وقعة الجودة، وخرج منها عبد الله (4) . وهنا كان للشيخ عبد اللطيف موقف مشرف، تحدث عنه إبراهيم بن عبيد في تذكرة أولي النهى (5) فقال: (خاف الشيخ عبد اللطيف على البلد وأهلها أن يستبيحها سعود ومن معه من الأشرار وفجار القراء، فخرج إلى سعود قبل دخوله إليها؛ خشية أن يأخذه عنوة، فتسفك الدماء وتستباح النساء، فخاطبه فيما يصلح الحال بينه وبين أخيه الإمام. فاشترط سعود الشروط الثقال على أخيه فلم تتفق الحال، فصارت الهمة فيما يدفع الفتنة ويجمع الكلمة، فرأى الشيخ -بثاقب رأيه- النزول إلى هذا المتغلب، والتوثق منه، ودفع صولته، وخرج إليه رؤساء البلد والمعروفون من رجال الرياض بأمر الشيخ، فبايعوا سعوداً، وأعطاهم على دمائهم وأموالهم، محسنهم ومسيئهم، عهد الله وميثاقه) .
وبذلك دخل سعود الرياض حاكماً، للمرة الأولى، عام (1288هـ) ، بعد وقعة الجودة (6) . ثم إن القلوب بدأت تنصرف عنه، بسبب الفظائع التي ارتكبها أنصاره
__________
(1) ناصر السعدون (باشا) ابن راشد بن ثامر السعدون، والٍ من رجال هذه الأسرة في العراق، تولى (المننتفق) إقطاعاً سنة (1282هـ) وصحب حملة وجهتها الحكومة العثمانية إلى الإحساء. توفي في الأستانة سنة 1301هـ.
(2) قبيلة المنتفق: من أهم قبائل العراق، منازلها في المناطق الواقعة بين البصرة وبغداد، وتتجول في الجزيرة بين دجلة والفرات. وهو بطن من عامر بن صعصعة، من العدنانيين.
انظر: معجم قبائل العرب، لكحالة، 3/1144.
(3) صقر الجزيرة، 1/75.
(4) تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/196. معجم اليمامة، 1/498. وجزيرة العرب في القرن العشرين، ص242.
(5) انظر، تذكرة أولي النهى، ص196.
(6) انظر: تحفة المستفيد، ص174.
(1/48)
________________________________________
وأصهاره العجمان، فاجتمع أهل الرياض تحت قيادة عمه عبد الله بن تركي، وطردوه من الرياض. فوجد أخوه عبد الله بن فيصل -المقيم في الإحساء حينذاك- الفرصة السانحة، فترك الإحساء ودخل الرياض بدون مقاومة. غير أن سعوداً لم يمهله، بل جمع أنصاره وتوجه إليه في الرياض، ونازل أخاه في مكان يسمى (الجزعة) وهزمه، واقتحم البلدة ونهب سكانها، ودخل الرياض للمرة الثانية عام (1290هـ) . فمضى عبد الله يجمع الرجال، والتقى الأخوان أيضاً في (البرة) ، لكن عبد الله انهزم أيضاً، فرجع إلى الإحساء (1) . واستقر سعود على الحكم في الرياض، غير أنه ضعف شأنه حتى قام عليه رجال عتيبة، تحت إمرة زعيمهم مسلط بن ربيعان، بأعمال النهب والسلب؛ فنهبوا الجانب الغربي من الرياض، وخرج إليهم سعود فانهزم، وقتل كثير من أنصاره، وجرح هو جرحاً بليغاً ألزمه الفراش، إلى أن مات من أثره سنة (1291هـ) (2) .
وقد تحدث عبد الله البسام عن هذه الفتنة بين الأخوين فقال: ( ... بعد وفاة الإمام فيصل، واستيلاء الإمام عبد الله على الحكم، حدثت بين عبد الله وأخيه سعود الفيصل منازعة على الحكم، وطال النزاع بينهما، وتطور إلى تكوين جيشين من البادية والحاضرة، كل جيش تحت إمرة وتدبير واحد منهما، والتحم القتال بينهما، وتعددت المعارك، وصارت فتنة كبرى في نجد، وصار الطمع في الحكم وحب السلطة وإيقاد نار العداوة بين الطائفتين، مع الهوى والشيطان، كل ذلك ألهب نار الحرب وأشعلها، والشيخ عبد اللطيف، وحده، هو مطفيها، فغلب كثرة الشر، وضاع صوت الحق في صخب أبواق الباطل ... ) (3) .
__________
(1) جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص242-243. صقر الجزيرة، 1/76.
(2) جزيرة العرب ص243. صقر الجزيرة 1/76. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، لأحمد جاسر، ص109-110.
(3) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/66. وانظر تفاصيل هذه الفتنة: تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص181-183. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/376-385. قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة، ص345-346. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، لأحمد الجاسر، ص109-111. علماء الدعوة، ص50
(1/49)
________________________________________
وبموت سعود، صفا الجو بعض الصفاء لعبد الله، ورجع إلى الرياض من الإحساء، فوجد أهل الرياض قد بايعوا أخاه عبد الرحمن، غير أن أخاه هذا كان على جانب كبير من الحكمة، فنزل عن الحكم لأخيه الكبير (1) ، -وكان ذلك بفضل الله ثم بفضل مساع حثيثة قام بها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن؛ قطعاً لأشطان الفتن والثورات، وحقناً لدماء المسلمين. وكان هذا العمل في التوفيق بين الأخوين، من أهم وآخر ما قام به الشيخ عبد اللطيف في آخر حياته؛ إذ أتته المنية بعد ذلك عام (1293هـ) .
وما كاد عبد الله يستقر في الحكم، حتى قام عليه خصومه من أبناء أخيه سعود، واستطاعوا -بعد مناوشات- أن يقبضوا عليه، فألقوه في غياهب السجن، غير أن محمد بن رشيد -أمير حائل- أسرع إلى الرياض، وأخرجه من سجنه بقوة، وصحبه معه إلى حائل، وجعل عبد الرحمن والياً عليها من قبله، وذلك سنة (1306هـ) ثم استدعاه أيضاً وجعله مع أخيه، وولي مكانة سالم السبهان.
ثم بعد سنوات أذن محمد بن رشيد لعبد الله بالرجوع إلى الرياض، بعد أن وثق منه أنه عاجز عن القيام بأي عمل عدائي؛ إذ كان مريضاً وقد دنا أجله كما أذن لأخيه عبد الرحمن أن يصحبه، فتوفي الأمير عبد الله بعد وصوله إلى الرياض بيوم واحد (2) . وهكذا كان سير الأحداث السياسة، في تلك الفترة التي عاشها الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله.
__________
(1) صقر الجزيرة، ص1/76، جزيرة العرب في القرن العشرين، ص243. تحفة المستفيد، ص176.
(2) انظر: المراجع السابقة: صقر الجزيرة، 1/76. وجزيرة العرب، ص244.
(1/50)
________________________________________
المبحث الثاني الحالة الاجتماعية
كانت الجزيرة العربية مقسمة إلى مناطق عدة وأمارات تضم القبائل العربية التي أصبحت مستقرة، ولم تكن الحالة الاجتماعية في إقليم نجد تختلف عما كان سائداً ذلك الوقت في شبه الجزيرة العربية؛ فكانت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية الأساسية، لكل قبيلة بدوية كبيرة أمير أو شيخ، يمتد نفوذه حسب كفاءته الشخصية، وهمته وقوته وهو عادة أوفر أفراد القبيلة ثراء (1) .
وكانت أسرة آل سعود في نجد على رأس تلك المناطق، وكان سعود بن عبد العزيز، يمنح مشايخ البدو الكبار، الذين تتبعهم قبائل صغيرة، لقب أمير الأمراء.
وكانت الإمارات الرئيسية هي: الإحساء، والعارض، والقصيم، والوشم، والسدير،، ووادي الدواسر، وجبل شمر، والحرمين، والخرج، والقطيف، وجهات عمان. فتلك كانت المناطق التابعة لحكم آل سعود في عهد سعود بن عبد العزيز (ت1229هـ) ، وكان ما بعده امتداداً لذلك، إلى أن حدث التغيرات السياسية، التي سببها الأطماع الخارجية، والنزاعات والنعرات الداخلية، كما تقدم ذكرها.
وكان لسعود من القوة والنفوذ، بحيث يستطيع عزل من يريد من زعماء القبائل وأمراء المناطق، ولكنه بصفة عامة كان يثبت من اختاره العرب لأنفسهم (2) .
وكان بين أفراد القبيلة البدو الرحل، والحضر المستقرون. أما البدو فإنهم يتنقلون بأغنامهم وإبلهم وراء المرعى حيثما وجد، ويجوبون المناطق؛ بحثاً لسبيل رزقهم وهذه،
__________
(1) جزيرة العرب في القرن العشرين، ص223. موارد لتاريخ الوهابيين، ص42-43. الدولة السعودية الأولى (1158-1233) ط/2، لعبد الرحيم بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم، 1975م، ص20-21.
(2) انظر المرجع السابق: موارد، ص41-42.
(1/51)
________________________________________
الحياة كانت في كثير من الأوقات سبباً في تقاتل القبائل من أجل المرعى ومصادر المياه (1) .
أما الحضر فكانوا هم سكان الواحات والقرى، فكانت لهم صفة الاستقرار، غير أن حياتهم كانت متأثرة بحياة البدو؛ لما بينهم من صلات المصاهرة والقربى والتجارة.
أما طبائعهم، فكانت تختلف حسب المناطق التي يعيشون فيها وظروف الحياة التي يعيشونها (2) .
أما منطقة نجد فكانت مقر أمراء آل سعود، وكانت أهم العشائر النجدية: آل مرة، وبنو خالد، والعجمان في الشرق، وقحطان في الجنوب والجنوب الغربي، وسبيع والسهول في الغرب، ومطير في الشمال الغربي، وشمر في الشمال، وعتيبة في الشمال الغربي، وحرب في الشمال الشرقي، وعَنَزة في الشمال الشرقي أيضاً (3) .
وكان من صفات أهل نجد التجارة؛ فإن كثيراً منهم كانوا يسافرون إلى أطراف الروم وبقية جزيرة العرب، كما كان يأتيهم عن طريق القطيف والبحر شيء كثير (4) .
وكان أهل عنيزة في القصيم، وأهل الرياض، أكثر السكان حضارة، وأقلهم سكاناً وادي الدواسر والسليّل.
ولم يكن النور الكهربائي معروفاً، وكان السكان يستعملون مصابيح تضاء بالبترول، وهي واردة إليهم من الخليج أو الحجاز، وأواني الطبخ من النخاس غالباً، ويصنع البعض أنواع الفخار في نجد. وكانت خدمات الملابس كلها ترد من الخارج، إلا ما يصنع من الصوف وكذلك المصنوعات الجلدية ترد من الخارج إلا ما يلزم
__________
(1) الدولة السعودية الأولى (1158-1233هـ) ، ص20-21.
(2) الدول السعودية الأولى (1158-1233هـ) ، ص21.
(3) انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص46-47.
(4) الدولة السعودية الأولى (1158-1233هـ) ، ص22
(1/52)
________________________________________
لقراب المياه، والدلاء، والسرج، والنعال؛ فإنها كانت تصنع في نجد (1) (2) .
أما الدرعية -العاصمة- على وجه الخصوص، فكانت ذات شأن كبير، ومد وفير، تغص بالأموال، وتزدهر بالأعمال، وتزهو بالمباني الفاخرة، وكان بها أسواق متعددة (3) .
وبعد سقوطها في أيدي الغزاة الأتراك والمصريين، وفي عهد خالد باشا بالتحديد، انتشرت الفوضى، وقطعت الطريق، ونهب السفر، وكثرت الغارات؛ لكل من أنس من نفسه القوة، عدا على الضعيف ينهبه، وكل من عضه الجوع هب كالمجنون، يدفعه بالسلب، فلا يتورع في قتل نفس من أجل لقمة يسد بها السغب، وأصبح الناس أوابد ضارية، يفترس القوي منها الضعيف، لا قائد يقودها إلى الخير، ولا سلطان للفضيلة عليهم، ولا رادع من دين أو من خلق (4) .
وقد وصف ابن بشر حال نجد الاجتماعية، في فترة ما بعد سقوط الدرعية إلى قيام تركي بن عبد الله، وذكر بأن نظام الجماعة انحل، وتطايرت شرر الفتن، في تلك الأوطان وتعذرت الأسفار بين البلدان، وعاثت فيها العساكر المصرية، فقتلوا صناديد الرجال، وصادروا أهلها فأخذوا ما بأيديهم من الأموال، وقطعوا الحدائق، وهدموا القصور العاليات، وصار أهل نجد بينهم أذل من العبيد، وتفرقت علماؤهم وخيارهم ما
__________
(1) هكذا كان الأمراء في ذلك الوقت، أما الآن -وفي ظل النهضة الحديثة- فقد تطورت الحياة تطوراً سريعاً وباهراً في جميع ربوع المملكة، لا سيما في عهد خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله ونصر به الإسلام والمسلمين- وذلك من حيث التطور المعماري، وفي الحياة الأسرية والمنزلية، أو الاجتماعية عموماً. فمدينة الرياض وغيرها من المدن في المملكة العربية السعودية -حالياً- غيرها في البلاد الأخرى، بل قد تمتاز على كثير منها في بلدان العالم؛ وهذا –بفضل الله وحده، وتوفيقه للساهرين على هذا النمو المطرد.
(2) انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، ص47-48.
(3) انظر: تذكرة أهل النهى والعرفان، 1/55،92، الدرعية، ص408-409.
(4) انظر: صقر الجزيرة، 1/66.
(1/53)
________________________________________
بين طريد وشريد، وظهر المنكر، وعدم المعروف، وصار الرجل في جوف بيته مخوفاً، وتتابعت هذه المحن في تلك الجزيرة نحو أربع سنين، والشر فيها في زيادة وظهور وتمكين، حتى أنعش الله -تعالى- أهل نجد بشبل من أشبال ملوكها؛ الأمير تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود (1) .
هذا ملخص الحالة الاجتماعية في عصر الشيخ عبد اللطيف.
__________
(1) انظر: عنوان المجد، 2/4-5.
(1/54)
________________________________________
الفصل الثاني: حياة المؤلف
المبحث الأول: اسمه ونسبه
...
المبحث الأول اسمه ونسبه (1)
هو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (2) بن الشيخ
__________
(1) المراجع التي ترجمت للشيخ: الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمعه: عبد الرحمن بن القاسم العاصمي القحطاني النجدي، الجزء الثاني عشر (وهو كتاب تراجم أصحاب الرسائل والأجوبة) ، مؤسسة النور للطباعة والتجليد، الرياض، ط/1، ج12/66-75. علماء نجد خلال ستة قرون، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام، نشر مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1/63-71. عنوان المجد في تاريخ نجد، لابن بشر، ص20. كتاب عقد الدرر، فيما وقع في نجد من الحوادث في القرن الثالث عشر، وأول الرابع عشر، للشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى النجدي الحنبلي، ذيل به على كتاب (عنوان المجد في تاريخ نجد) للشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر النجدي، تحقيق عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، طبعة وزارة المعارف، بالمملكة العربية السعودية. ص77-78. علماء الدعوة لعبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ. مطبعة المدني بمصر، طبعة عام 1386هـ/1966م. ص47-58. مشاهير علماء نجد وغيرهم، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله، ط/2، دار اليمامة للبحث، الرياض، 1394هـ، 93-121. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/220-235. معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، نشر مكتبة المثنى، 1377هـ، 6/10-11. الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء والمستعربين والمتشرقين، لخير الدين الزركلي (ت1396هـ) ، ط/3، 1389هـ، 4/182. (بدون صور) .
(2) هو الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الدرعية سنة 1193هـ، والدرعية حينئذٍ موطن الدعوة، ومهد علماء السلف، وعاصمة الجزيرة العربية، وعرين الليوث حماة الدين وذاذة الملة الإسلامية. نشأ بها وعاش فيها، وكان ممن نقل إلى مصر حين نكبة الدرعية عندما خرّبها إبراهيم باشا، وعاد إلى الرياض في عهد الإمام تركي بن عبد الله -رحمه الله- وصار قاضياً، ويرجع إليه في الفتوى.
له مؤلفات منها:
"فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" وهو تهذيب وإكمال لكتاب "تيسير العزيز الحميد" لابن عمه سليمان بن عبد الله، وله "قرة عيون الموحدين" و "الرد على عثمان بن منصور"، و "الرد على داود بن جرجيس" وغيرها. توفي سنة 1285هـ، ودفن في مقبرة العود في الرياض. رحمة الله عليه.
انظر ترجمته المراجع السابقة: عنوان المجد، 2/20-23. الدرر السنية، 12/60-66. علماء نجد، 1/56-62. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص78-92. علماء الدعوة، ص48.
(1/65)
________________________________________
حسن (1) بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أبو عبد الله، الإمام العلامة، والقدوة الفهامة، حاوي علوم الفروع والأصول، الفقيه الحنبلي (2) .
__________
(1) هو الشيخ حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله، أنجب ابناً واحداً هو العلامة عبد الرحمن بن حسن، والد الشيخ عبد اللطيف.
علماء الدعوة، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله، ص91.
(2) انظر: علماء نجد، 1/63. علماء الدعوة، ص47. الأعلام للزركلي، 4/182.
(1/66)
________________________________________
المبحث الثاني ولادته وأسرته
أولاً: مولده:-
ولد -رحمه الله- في بلدة الدرعية، سنة 1225هـ (1) .
ثانياً: أمه:-
أما والدته، فهي بنت عم أبيه، الشيخ عبد الله (2) ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فجاء كريم الأبوين عريق الأصلين (3) .
ثالثاً: زواجه:
أما عن زواجه، فقد أقام الشيخ -رحمه الله- في مصر (4) ، فنشأ وتزوج فيها، وطالت إقامته فيها حتى بلغت واحداً وثلاثين عاماً (5) .
وقد تزوج -رحمه الله- بالثانية في الهفوف بالإحساء بعد عودته من مصر، عندما أرسله الإمام فيصل بن تركي إلى هناك لتقرير عقيدة السلف. فتزوج هناك من ابنة عبد الله بن أحمد الوهيبي، التي أنجبت منه ولده عبد الله بن عبد اللطيف (6) .
__________
(1) الدرر السنية، 12/66. عقد الدرر، ص77. معجم المؤلفين، 6/10.
(2) ستأتي ترجمته ضمن شيوخه (الشيخ الثاني) .
(3) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63.
(4) سيأتي بيان ذهابه إلى مصر في المبحث الرابع، عند ذكر نشأنه ورحلاته.
(5) علماء الدعوة لعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ص47، وعلماء نجد خلال ستة قرون، 1/64.
(6) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/525-526، ترجمة ولده (عبد الله) في هامش الصفحة التالية (ص70) .
(1/67)
________________________________________
رابعاً: أولاده (1) :-
وقد خلف -رحمة الله عليه- ثمانية أبناء علماء فضلاء، هم:
1- الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف (2) .
2- الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف (3) .
__________
(1) انظر ذكر أولاده في: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/234. الدرر السنية، 12/72. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/70. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص120. علماء الدعوة ص91-92. عقد الدرر، ص78.
(2) هو الشيخ العلامة عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد في مدينة الهفوف في الإحساء عام 1265هـ وذلك حين كان والده في الإحساء حيث أرسله الإمام فيصل بن تركي لتقرير عقيدة التوحيد، نشأ في بيت علم ودين وورع، وحفظ القرآن صغيراً، وقرأ على جده لأمه الشيخ عبد الله بن أحمد الوهيبي على جده لأبيه عبد الرحمن، وعلى أبيه، وعلى علماء الرياض، رحمة الله عليهم أجمعين، وبعد وفاة والده، رحل إلى الأفلاج وقرأ على الشيخ حمد بن عتيق، فصار عالماً جليلاً، فاشتهر في نجد بالعلم، وبعد صيته، فتوافد عليه طلال العلم من آفاق نجد. عاش عشرين عاماً في ولاية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل، وصاهره بزواجه من بنته، فالشيخ عبد الله هو جد صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود لأمه. له رسائل عديدة في أجزاء الرسائل والمسائل النجدية (ت1339هـ) ، وخرج في جنازته الملك عبد العزيز، ودفن في مقبرة العود.
انظر ترجمته في: علماء الدعوة، ص59-64. الدرر السنية، 12/96-99. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/72-78. عقد الدرر لإبراهيم بن صالح، ص78-80. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص129.
(3) هو الشيخ العلامة إبراهيم بن عبد اللطيف بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الرياض عام 1280هـ ونشأ بها، ودرس عن والده وحفظ القرآن، وقرأ على أخيه عبد الله وعلى الشيخ حمد بن فارس بن محمود، حتى مهر في التوحيد والتفسير والحديث والفقه، عينه الملك عبد العزيز قاضياً لمدينة الرياض عام 1319هـ. (ت 1329هـ) . -رحمه الله-.
انظر: ترجمته في: الدرر السنية، 12/82-86. وعلماء نجد خلال ستة قرون، 1/126-128. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص125.
(1/68)
________________________________________
3- الشيخ محمد بن عبد اللطيف (1) .
4- عبد العزيز بن عبد اللطيف (2) .
5- عمر بن عبد اللطيف (3) .
6- عبد الرحمن بن عبد اللطيف (4) .
7- صالح بن عبد اللطيف (5) .
__________
(1) هو محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الرياض عام 1282هـ، ونشأ بها وقرأ القرآن، ثم قرأ على أخيه عبد الله وعلى الشيخ محمد ابن محمود، والشيخ حمد بن عتيق، وغيرهم رحمهم الله، فصار له اليد الطولى في التوحيد والتفسير والحديث، عينه الملك عبد العزيز قاضياً في الوشم، ومقر عمله في شقراء، ثم بعثه إلى عسير وبلاد الحجاز مرشد وداعياً للإفتاء والتدريس، له رسائل وأجوبه. (ت 1376هـ) ، -رحمه الله-.
انظر ترجمته: علماء نجد خلال ستة قرون، 3/894. مشاهير علماء نجد، ص146.
(2) ذكره عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله في: علماء الدعوة، ص92. وفي مشاهير علماء نجد، ص120.
(3) هو الشيخ عمر بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، ولد بمدينة الرياض عام 1284هـ، قرأ على أخيه الأكبر عبد الله، وعلى الشيخ محمد بن محمود وغيرهما. كان يغزو مع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، وولاه خطابة جامع الرياض الكبير خلفاً لأخير عبد الله، (ت 1365هـ) ، -رحمه الله-.
(4) هو الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. ولد بمدينة الرياض عام 1288هـ وكفله أخوه عبد العزيز بعد وفاة أبيه 1293هـ. وقرأ على أخيه عبد الله وعلى الشيخ عبد الرحمن مفيريج وحمد بن فارس، عين قاضياً لهجرة ساجر المعروفة في السر بنجد عند سكانها الروقة. صحب الملك عبد العزيز -رحمه الله- في دخوله مكة عام 1343هـ وعين قاضياً للخرج عام 1350هـ (ت 1366هـ) ، -رحمه الله-. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص145.
(5) لم أقف على ترجمته.
(1/69)
________________________________________
8- أحمد بن عبد اللطيف (1) .
وجميع هؤلاء عدا أحمد نشأوا في الرياض حيث مولدهم خلا عبد الله الذي كان مولده في الإحساء عاشوا وتعلموا فيها وماتوا فيها (2) .
أما أحمد، فهو أكبر أولاده، ولد في مصر، ولما أراد الشيخ الخروج والعودة إلى نجد، عرض عليه الخروج معه، فامتنع، وهو مهندس بناء، ولما سافر عمه إسحاق ابن عبد الرحمن إلى القاهرة لطلب العلم، رأى ابن أخيه هذا، وبعد ذلك انقطعت أخباره (3) .
__________
(1) لم أقف على ترجمته.
(2) علماء الدعوة، ص58،91. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/70.
(3) المرجعان السابقان: علماء الدعوة، 57، 91-92. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص120. علماء نجد، 1/70-71.
(1/70)
________________________________________
المبحث الثالث صفاته الذاتية والفكرية
كان للشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- صفات ذاتية مميزة تميزه عن غيره من سابقيه وأقرانه من آل الشيخ -رحمهم الله-.
أما صفاته الذاتية:
فكان من أبرزها، أنه كان ضخم الجثة، قوي البنية، سليم الأعضاء والحواس، أبيضاً مشرباً بحمرة، كث اللحية، مستدير الوجه، جهوري الصوت، حاد البصر. كما اشتهر -رحمه الله- بجمال الخط، ووضوح العبارة، وفصاحة اللسان، وكانت اللهجة المصرية الحفيفة تغلب على لغته، نظراً لطول مكثه في مصر منذ سن الطفولة.
وكان مهيب الطلعة، قوي الشخصية، جسوراً في قول الحق، صادق اللهجة، مخلصاً لدينه، غيوراً على حرمات الإسلام، متفانياً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ناصحاً متقبلاً للنصائح، وكان ذاكراً لله –تعالى- وتلاوة آيات القرآن ديدنه، كما كان -رحمه الله- مهاباً محترماً عند ولاة الأمور ومن دونهم من الخاصة والعامة (1) .
أما صفاته الفكرية:-
فقد كان أكثر علماً من سابقيه، باستثناء والده الشيخ عبد الرحمن، وجده الكبير، محمد بن عبد الوهاب، -رحمة الله عليهم-، وقد كان يتصف بحدة الذكاء والفطنة وسرعة الحفظ (2) .
__________
(1) انظر: علماء الدعوة، ص49. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/223. مقدمة الرسائل المفيدة، للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، بقلم عبد الرحمن بن سليمان الرويشد، ص14.
(2) المراجع السابقة.
(1/71)
________________________________________
قال عنه الشيخ إبراهيم بن صالح في عقد الدرر (1) : " ... وكان -رحمه الله- في الحفظ آية باهرة، متوقد الذكاء كأن العلوم نصب عينيه، وكان كثير المطالعة، ملازماً للتدريس، مرغباً في العلم، معيناً عليه ... ".
وقال عبد الرحمن بن القاسم القحطاني في الدرر السنية (2) : "لم يُر شخص له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة، التي يحصل بها الكمال لسواه؛ فإنه -رحمه الله-كان كاملاً في صورته ومعناه، من الحسن والإحسان، والحكم والسؤدد، والعلوم المتنوعة، والأخلاق الجميلة، والأمور المستحسنة التي لم تكمل من غيره. وقد عُلم من كرم أخلاقه وحسن عشرته، وهيبته وجلالته، وفور حلمه، وكثرة علمه، وغزارة فطنته، وكمال مروءته، ودوام بشره، وعزوف نفسه عن الدنيا وأهلها، والمناصب لأربابها، ما قد عجز عنه كبار الأكياس ... ".
كما وصفه المترجمون له بجميع ما يمكن الاتصاف به من أوصاف خيرة كقول إبراهيم بن عبيد وغيره عند ترجمته: "الشيخ الإمام النبيل، العلامة الجليل الألمعي، الماهر الهمام، والحبر السميدع (3) المقدام في العمل، البحر الزاخر، والعلم الظاهر، ذو الأخلاق الزكية والمناقب الجلية، شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام ... وكان على شيء عجيب من البصيرة في الدين، وسعة الحلم، وكمال الأدب ... " (4) .
وقال الشيخ عبد الرحمن القحطاني: "الإمام العالم العلامة، العالم العامل، الحبر العلم الكامل، سيد أهل الإسلام في زمانه، وقطب فلك الأنام في أوانه، أوحد البلغاء،
__________
(1) عقد الدرر، ص78. وانظر هذا الكلام في: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/222.
(2) الدرر السنية، 12/66-67.
(3) السميدع: الدؤوب في العمل، الذي لا يعرف الإعياء.
انظر: ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير. أساس البلاغة، للطاهر أحمد الزاوي، الدار العربية للكتاب، ط/3، 1980م. 2/609؛ لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، دار صادر بيروت، لبنان، 3/219، مادة (سمد) .
(4) المرجع السابق: تذكرة أولي النهى، 1/221،223.
(1/72)
________________________________________
بدر الفصحاء، ... سيف السنة المسلول، حاوي المعقول والمنقول، البليغ المصقع (1) ، واللوذعي البلتع (2) الفصيح، المجاهد، النصيح ... " (3) .
__________
(1) مصقع: أي بليغ: لسان العرب، 8/203. مادة (صقع) .
(2) بلتع: أي حاذق ظريف متكلم. المرجع السابق، (8/20) . مادة (بلتع) .
(3) الدرر السنية، 12/67. وانظر ما وصفه به المترجمون من الصفات: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63. عقد الدرر للشيخ إبراهيم بن صالح، ص77.
(1/73)
________________________________________
المبحث الرابع نشأته العلمية ورحلاته
نشأ -رحمه الله- في بلدته الدرعية مسقط رأسه وعاصمة الدعوة السلفية؛ فقرأ فيها القرآن وحفظه، وتعلم دروسه الأولى، في الكتاتيب المنتشرة في تلك البلدة؛ وربي فيها تربية إسلامية كريمة، في بيت والده وأعمامه، إلى أن بلغ ثمان سنين (1) .
وقد كانت الدرعية حينذاك تعج بحركة العلم والعلماء؛ كما وصفها القحطاني: "أنها كانت كعبة العلم، وموطن الدعوة، ومعهد علماء السلف، وعاصمة الجزيرة العربية" (2) .
ووصفها الشيخ عبد الله البسام بقوله: " ... إن الدرعية الزاخرة بالعلم، والساطعة بالإيمان، والمشرقة بالدين، والآهلة بالعلماء، ... أصيبت بالنكبة ... " (3) .
فهو -رحمه الله- بعد بلوغه سن التمييز، حصل له رحلة إجبارية، لم تكن في حسبانه، إذ إنه وهو في ذلك العمر المبكر –مع ما كانت تمتاز به بلدة الدرعية من نشاطات علمية واسعة- لم يكن قد حان له وقت ليخرج في طلب العلم. وهكذا توالت رحلاته كما نعرضها لها هنا كالآتي:
أولاً رحلته إلى مصر، سنة (1233هـ) :-
عندما بلغ الشيخ –رحمه الله- الثامنة من عمره، حلّت ببلدته الدرعية كارثة كبرى، ومصيبة عظمى، وهي النكبة العثمانية الهمجية العدائية، حيث دمرت بأيدي
__________
(1) الدرر السنية، 12/66. وانظر: الأعلام، للزركلي، 4/182. مقدمة الرسائل المفيدة، بقلم عبد الرحمن بن سليمان الرويشد، ص11.
(2) المرجع السابق، الدرر، 12/60.
(3) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63.
(1/74)
________________________________________
السلطة الغازية، وأسقطت حكم البلاد فيها. وكان ذلك بقيادة المجرم الطاغية إبراهيم باشا (1) ابن محمد علي باشا، ومعه جيش كبير من المرتزقة والخونة وأعداء الدولة السلفية (2) فعند ذلك، نقل -رحمه الله- مع والده وأعمامه وحمولته (3) إلى مصر، وكان نقلهم إلى هناك بأمر وزير الخليفة العثماني على مصر حينذاك محمد علي باشا (4) .
بذلك تمت رحلته المصرية التي لم تكن أساساً رحلة علمية، غير أنها تحولت بفضل الله –تعالى- إلى رحلة علمية، أفاد منها الشيخ -رحمه الله- وكانت منطلقاً في مسيرته العلمية.
قال الشيخ عبد الله البسام:
" ... إلا أنه وإن انتقل من مربع من مرابع العلم، ومعهد من معاهده، فقد دخل في مدينة العلم، واستقر في دار من دوره، فهذا الأزهر الشريف تعقد في جنباته وأورقته حلقات التفسير، والحديث، والأصول، وعلوم التفسير، وعلوم الحديث، والفقه وأصوله، وعلوم العربية؛ من النحو، والصرف، والبيان، وغير ذلك، وها هم كبار العلماء متوافرون ليلاً ونهاراً لإمداد الطلاب بمزيد من العلم والعرفان. وها هي المكتبات العامرة بنفائس الكتب وذخائر المراجع، فصار العلم سلوته في غربته، والكتب جليسه في وحدته، والعماء أنسه في وحشته، فصار يتردد بين بيته والأزهر الشريف (5) .
__________
(1) تقدمت ترجمته، في ص29.
(2) انظر تفاصل ذلك الغزو في: عنوان المجد لابن بشر، 1/196-210.
(3) الحمولة: بلغة أهل نجد الاصطلاحية تعني: العشيرة.
انظر:: علماء الدعوة، ص47 (الهامش) .
(4) انظر: الدرر السنية، 12/66. وعلماء الدعوة ص47. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63. مقدمة الرسائل المفيدة، للشيخ عبد اللطيف، ص11-12.
(5) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63.
(1/75)
________________________________________
وقال أيضاً: "وطالب إقامته فيها حتى بلغت واحداً وثلاثين عاماً، قضاها كلها في العلم، تعلماً، وبحثاً، ومراجعة ومذاكرة، حتى صار من حملة العلم الكبار، وأوعيته الواسعة" (1) .
وبهذا يكون الشيخ -رحمه الله- قد عوض على مصيبة التهجير، وما لقي من جرائها من آلام وأوجاع، عوضها بما حصل عليه من علم وفضل، فكانت رحلته رمية من غير رام (2) .
ثانياً: عودته إلى نجد سنة 1264هـ:
لما طهرت نجد من الجيش العثماني المحتل بفضل الله تعالى، ثم بفضل الله تعالى، ثم بفضل الإمام تركي من بن عبد الله، الذي هزمهم وطردهم وسكنت بعد فتن مشاري وعبد الله ابن ثنيان، ولانت المحافظة عليهم في مصر من المراقبين، خرج من القاهرة متوجهاص إلى نجد، عن طريق مكة المكرمة. وقد حمل معه عند عودته كتباً كثيرة (3) . وكان الإمام تركي بن عبد الله ابن (مؤسس الدولة السعودية الأولى) الإمام محمد ابن سعود -رحمهم الله- قد دعاهم إلى العودة من مصر إلى موطنهم الرياض. فسارع والده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بالعودة إلى نجد عام 1241هـ. أما ابنه الشيخ عبد اللطيف، فقد تأخر مدة
من الزمن بمصر، حيث كان مشغولاً بطلب العلم. فكان قدومه إلى نجد عام
__________
(1) المرجع السابق، 1/64.
(2) أصل هذا الكلام مثل، هو: (رب رمية من غير رام) ، أي رب رمية مصيبة، من رام مخطئ. مجمع الأمثال، لأبي الفضل أحمد بن محمد النيسابوري الميداني، نشر دار مكتبة الحياة، بيروت، 1961م/1299، مثل رقم (1581) . جمهرة الأمثال، لأبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، ضبط د. أحمد عبد السلام، تخريج محمد سعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/11408هـ-1988م، 1/399 رقم المثل (881) .
(3) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/64.
(1/76)
________________________________________
1264هـ في عهد الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله- الذي تولى السلطة بعد استشهاد والده الإمام تركي بن عبد الله، -رحمه الله- (1) .
ثالثاً: رحلته إلى الإحساء سنة 1264هـ:-
بعد عودته -رحمه الله- إلى الرياض، وجلس لطلاب العلم بها، عَرَف الإمام فيصل ووالده عبد الرحمن (2) -رحمهما الله- غزارة علمه، وسعة اطلاعه، وصفاء عقيدته، وقوة عارضته، وقدرته على المناظرة.
فبعثه الإمام فيصل -رحمه الله- إلى الإحساء العقيدة السلفية، وبث دعوة التوحيد، ومناظرة علمائها في أصول الدين والعقائد؛ إذ الغالب عليهم حينذاك مذهب الأشاعرة، والرفض، وبدع الجنائز والقبور (3) .
فقدم الشيخ إلى الإحساء سنة 1264هـ، وأقام بها سنتين، يوضح طريقة السلف، ويناظر علماءها، ويقابل الحجة بأقوى منها، فظهر عليهم بالأدلة، وقهرهم بالحجة، فأذعنوا له وأسلموا، فزال ما في نفوسهم من رواسب الشبه وباطل التأويل، وقرر لهم طريقة أهل السنة والجماعة، وما هم عليه في باب الأسماء والصفات (4) . وبعده بسنتين عاد إلى الرياض، حيث استقر. فكانت رحلته إلى الإحساء آخر رحلة خاصة يقوم بها؛ إذا لم يكن خروجه بعد ذلك إلا مرافقاً للإمام فيصل بن تركي، رحمه الله.
__________
(1) انظر: عنوان المجد لابن بشر، 2/20. علماء نجد ستة قرون، 1/64، مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص94.
(2) وكانا هما القائمين على تسيير شؤون البلاد حينذاك، في كلتا الناحيتين، السياسية، والدينية.
(3) تقدم كلام الشيخ عبد الله البسام في وصف الإحساء، ص59.
(4) علماء الدعوة، ص48. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/65.
(1/77)
________________________________________
المبحث الخامس شيوخه (1)
أخذ الشيخ -رحمه الله- عن عدة من العلماء الأعلام، الأفاضل الكرام، منهم مشائخ بلده النجديين، وغيرهم من المصريين، حيث رحل في صغره، وهم:
أولاً: مشايخ بلده (النجديون) :-
كان ممن أخذ عنهم من المشايخ النجديين:
الشيخ الأول: والده، الشيخ عبد الرحمن (2) بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب.
الشيخ الثاني: عمه، الشيخ عبد الله محمد بن عبد الوهاب:-
هو الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بدر الأعلام، ومفتي الأنام، التقي النقي الورع، الفارس في العلوم، السيف الصارم المسلول على المبتدعين، عالم نجد ومفتيه بعد والده. ولد في الدرعية، وأخذ العلم عن أبيه، ونقل إلى مصر عام 1233هـ، مع آل بيت الشيخ عند فتنة إبراهيم باشا، حين استولى على الدرعية وخربها، تفقه في المذاهب، وأدرك في الأصول والفنون أعلاها، له اليد الطولى في كل فن من فنون العلم، وله منها: الرد على الزيدية، أسماه: "جواب أهل السنة في كلام
الشيعة الزيدية" (3) ، و "مختصر السيرة" مجلدان، "الفصول النافعة في المكفرات الواقعة"، "منسك الحج" وله رسائل وفتاوى............................................ .....................
__________
(1) المصادر التي ذكرت شيوخه: الدرر السنية لعبد الرحمن القحطاني، 2/66. تذكرة أولي النهى والعرفان، لإبراهيم بن عبيد، 1/222، عقد الدرر لإبراهيم بن صالح، ص77-78. علماء نجد خلال ستة قرون، لعبد الله البسام، 1/61،63. علماء الدعوة، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله، ص47. وذكر ابن بشر في عنوان المجد، 2/20، أخذه عن شيخه.
(2) تقدمت ترجمته، ص65.
(3) هذا مطبوع في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، 4/47-222.
(1/78)
________________________________________
في الدرر السنية. توفي بمصر سنة 1242هـ (1) ، رحمه الله تعالى.
الشيخ الثالث: عمه، الشيخ إبراهيم ابن الشي محمد بن عبد الوهاب:-
هو الشيخ العالم الثقة العابد الورع، الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان متواضعاً، حسن الأخلاق، أدرك حظاً من العلوم وأفاد، له مشاركة كثيرة في رسائل وأجوبة، كان حياً بمصر سنة 1251هـ، وفيها توفي -رحمه الله تعالى- (2) .
الشيخ الرابع: عمه، الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب:-
هو الإمام العلامة الفقيه، علي بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية ونشأ بها، وهو أكبر أبناء الشيخ محمد سناً، وكان الشيخ يكنى به فيقال: (أبو علي) ، أخذ عن أبيه، وكان عالماً جليلاً ورعاً كثير الخوف من الله زاهداً، كان ممن نقل إلى مصر من آل بيت الشيخ، بعد خراب الدرعية على يد إبراهيم باشا، عام 1233هـ، وأقام في القاهرة حتى توفي فيها عام 1245هـ (3) .
الشيخ الخامس: خاله الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:-
ولد في مدينة الدرعية عام 1219هـ، ونشأ بها، وبها قرأ مبادئ العلوم. سقطت الدرعية وعمره (14) عاماً، فنقل مع والده إلى مصر، وفي القاهرة شرع في طلب العلم في الجامع الأزهر، وفي حلقات علماء الأزهر الكبار، حتى بلغ مبلغاً كبيراً من العلم. وكان يقرأ في بيته وعلى والده وابن عمه الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فأخذ عنهما حسن العقيدة وصفاء التوحيد، وتوغل في علوم التفسير والحديث وأصولهما، والفقه، وعلم اللغة في الأزهر، ثم صار أحد المدرسين في الجامع الأزهر،
__________
(1) الدرر السنية، 12/43-50، علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص48.
(2) الدرر السنية، 12/46.
(3) المصدر السابق، 12/46-47. علماء نجد خلال ستة قرون، 3/735-736.
(1/79)
________________________________________
وفيه أحيا مذهب الحنابلة، وانتفع بعلمه خلق كثير، في مقدمتهم ابن أخته الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. توفي المترجم له في القاهرة سنة 1274هـ (1) .
الشيخ السادس: الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد الحنبلي:-
هو الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد بن عفالق العفالقي القحطاني نسباً، الإحسائي ثم المدني ثم القاهري، الشهير بالحنبلي، ولد في الإحساء عام 1155هـ، ورباه الشيخ محمد بن فيروز، تربية دينية وعلمية، ولازم دروسه ملازمة تامة، فقرأ عليه أنواع العلوم، ففاق أقرانه حتى صار له تلاميذ بإشارة من شيخه. سافر إلى الشام، ثم إلى المدينة المنورة، وسكن بها، عينه الإمام سعود بن عبد العزيز قاضياً على المدينة، ولما اقتربت جيوش إبراهيم باشا من المدينة المنورة، هرب المترجم له إلى الدرعية عاصمة البلاد السعودية آنذاك فصار مع المحاصرين فيها، حينما وصلت جيوش الباشا إلى أسوارها، واستولى عليها كان الشيخ ممن عذب من علمائها وأعيانها. قال ابن بشر: "أمر عليه الباشا فعزر بالضرب والعذاب، وقلعوا جميع أسنانه. وطلبه محمد علي باشا إلى مصر؛ لما اشتهر به من رجحان العقل وسعة العلم. فلما وصل أكرمه ورتب له رواتب جزيلة، وجمع بينه وبين علماء مصر، ودرس المذهب الحنبلي في قلعة محمد علي".
أما تلاميذه فكثيرون؛ إذ درس في الإحساء والمدينة المنورة، والدرعية، والقاهرة، من أبرزهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وعبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين، ومحمد بن إبراهيم بن سيف، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وغيرهم. كان من المعجبين بإمامه أحمد بن حنبل وبمذهبه، وفيه يقول:
أنا حنبلي ما حيت فإن أمت ... فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
توفي -رحمه الله- بالقاهرة بعد أن جاوز الثمانين، في عام 1257هـ (2) .
__________
(1) المصدر السابق، (علماء نجد) ، 2/393-395.
(2) المرجع السابق، 1/163. علماء الدعوة، ص47. انظر: صقر الجزيرة، 1/65.
(1/80)
________________________________________
ثانياً: من أخذ عنهم من علماء مصر:
الشيخ السابع: الشيخ محمد بن محمود بن محمد الجزائري:-
هو محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري الحنفي، الشهير بابن العنابي، الشيخ الإمام العالم العلامة، فقيه مقرئ مجود للقرآن. تولى إفتاء الإسكندرية في عهد محمد علي، خديوي مصر، من آثاره: "التوفيق والتمهيد في شرح الفريد في التجويد"، وكتاب "السعي المحمود في ترتيب العساكر والجنود" وغيرهما. (ت 1265هـ) ، -رحمه الله تعالى - (1) .
الشيخ الثامن: الشيخ إبراهيم الباجوري:-
هو الشيخ إبراهيم بن محمد بن أحمد الباجوري، الفرضي الشافعي، شيخ الجامع الأزهر آنذاك، ولد في الباجور سنة (1198هـ) ، وتعلم في الأزهر. من تصانيفه: ":تحفة البشر على مولد ابن حجر"، و "التحفة الخيرية على الفوائد الشنشورية في الفرائض"، وله حاشية على الشمائل للترمذي، وغيرها. (ت 1277هـ) ، -رحمة الله عليه- (2) .
الشيخ التاسع: الشيخ مصطفى الأزهري (3) .
الشيخ العاشر: الشيخ أحمد الصعيدي (4) .
__________
(1) معجم المؤلفين، 12/5. هدية العارفين. أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، لإسماعيل باشا البغدادي، طبعة المكتبة الإسلامية، والجعفري، بتبريز طهران، خيابان، بوذر جمهري، ط3/1387هـ-1947م، 2/387. إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لإسماعيل باشا محمد أمين بن مير سليم الباباني، أصلاً، والبغدادي مولداً ومسكناً، تصحيح محمد الدين بالتقايا، منشورات مكتبة المثنى، بغداد، 2/112.
(2) حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، 1/7-11. هدية العارفين، 1/41-42. الأعلام للزركلي، 1/71.
(3) لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه.
(4) لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه.
(1/81)
________________________________________
المبحث الساس: تلاميذه
...
المبحث السادس تلاميذه (1)
أما تلاميذه -رحمه الله- فنظراً لكونه إمام عصره وشيخ زمانه، فقد قصده العديد من طلبة العلم، من أدنى البلاد وأقصاها، وأخذوا عنه العلم، فتعلم منه فحول من العلماء، وتخرج عليه جهابذة من الأئمة، يعذر حصرهم في هذا المبحث، ويكفي هنا أن نشير إلى بعض النابهين منهم:
الأول: ابنه العلامة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف (2) .
الثاني: ابنه الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف (3) .
الثالث: ابنه الشيخ محمد بن عبد اللطيف (4) .
الرابع: ابنه الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف (5) .
الخامس: أخوه الشيخ إسحاق:
هو إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، -رحمهم الله-، ولد في مدينة الرياض عام 1276هـ ونشأ بها. قرأ على أخيه عبد اللطيف، وعلى الشيخ حمد بن عتيق (6) ، وابن أخيه عبد الله بن عبد اللطيف، ومحمد
__________
(1) المراجع التي ذكرت تلاميذه: الدرر السنية 12/72-73. عقد الدرر، ص78. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/69. مشاهير علماء نجد وغيرهم، 96-97. علماء الدعوة، ص49. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/224-225.
(2) تقدمت ترجمته في، ص68.
(3) تقدمت ترجمته في، ص68.
(4) تقدمت ترجمته في، ص69.
(5) تقدمت ترجمته، ص69. وقد انفرد القحطاني بذكره ضمن تلاميذ، في الدرر السنية، 12/72.
(6) تأتي ترجمته قريباً ضمن التلاميذ، ص92، فهو التلميذ رقم (25) .
(1/82)
________________________________________
ابن محمود، وغيرهم.
ولما هاجت الفتن، واستولى آل الرشيد على الرياض، وارتحل آل السعود إلى الكويت، لم تطب له الإقامة في نجد، فرحل إلى الهند عام 1309هـ، وأكمل دراسته هناك، وأخذ هناك عن الشيخ نذر حسين، وحسين بن محسن الأنصاري (1) ، فكان عالماً في الأصول والفروع، ثم عاد إلى الرياض في حكم آل الرشيد، فجلس للتدريس وتصدى للفتوى، له رسائل متفرقة في الدرر السنية في الأجوبة النجدية. (ت1319هـ) (2) ، -رحمه الله-.
السادس: الشيخ حسن بن حسين:
وهو حسن بن حسين بن علي بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الرياض عام 1266هـ، ونشأ بها وحفظ القرآن، وأخذ عن علماء الرياض، ومنهم: عبد الرحمن بن حسن، وابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحمد بن عتيق وغيرهم، ولاه الأمير محمد بن عبد الله بن رشيد (3) قضاء الأفلاج، ثم نقله إلى قضاء السدير ثم إلى قضاء الرياض، وكانت له حلقات دروس علمية، توفي في الرياض سنة 1341هـ، -رحمه الله- (4) .
السابع: الشيخ سليمان بن سحمان (5) .
__________
(1) حسين بن محمد الأنصاري، اليمني، فقيه، توفي بهوبال. من آثاره: "التحفة المرضية في حل بعض مشكلات الهدية"، و "نور العينين من فتاوى الشيخ حسين". (ت 1327هـ) . معجم المؤلفين، 4/43.
(2) انظر: الدرر السنية، 12/79. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/215-206.
(3) تقدمت ترجمته في، ص25.
(4) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/212-213.
(5) ستأتي ترجمته مستقلاً في الباب الثاني، المبحث الثاني: (ترجمه جامع الرسائل) ص121.
(1/83)
________________________________________
الثامن: الشيخ محمد بن محمود:
هو الشيخ محمد بن محمد بن عثمان الضالع نسباً، القصيمي أصلاً، البغدادي مولداً ومنشأً، الحلبي مقاماً ومماتاً. ولد عام 1259هـ في بغداد، واستوطن حلب سنة 1280هـ، وحج سنة 1292هـ، أخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وكان ينتصر لمذهب السلف الصالح، متعصباً لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن الدعاة إليها، له رسائل وقصيدة دافع فيها عن الإمام محمد بن عبد الوهاب، توفي سنة 1337هـ، -رحمه الله تعالى- (1) .
التاسع: الشيخ حمد بن فارس:
هو الشيخ حمد بن فارس بن محمد بن فارس بن عبد العزيز بن محمد. ولد عام 1263هـ كان والده من أهل العلم، فتعلم عل يديه الفرائض والحساب ومبادئ العلوم، ثم على الشيخ عبد الله بن حسين المخضوب الهاجري القحطاني، ثم سافر إلى الرياض، فقرأ على الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وعن غيره حتى صار أنحى أهل زمانه في نجد، ومرجع العلماء فيه.
عينه الإمام عبد الله الفيصل على بيت المال، وكان حينذاك كوزارة المالية في العهد الحاضر، كما عينه مديراً لأوقاف آل سعود، ينفذها في أعمال البر. توفي في الرياض سنة (1345هـ) ، رحمه الله (2) .
العاشر: الشيخ صعب بن عبد الله:
هو الشيخ صعب بن عبد الله بن صعب بن محمد التويجري، من آل جبارة، ولد سنة
(1255هـ) في بلدة بريدة، ونشأ فيها، ثم قرأ على علمائها، ثم سافر إلى الرياض، فقرأ
على الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، حتى أدرك وصار من
__________
(1) علماء نجد خلال ستة قرون، 3/931-933.
(2) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/233-235. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص288.
(1/84)
________________________________________
العلماء الأفاضل، عرض عليه قضاء بريدة في عدة مناسبات فرفض ذلك، وكان سمح النفس دمث الأخلاق، فصار أصحابه يسمونه "سهلاً". توفي في بلدة بريدة سنة (1339هـ) (1) .
الحادي عشر: الشيخ عبد الرحمن بن محمد المانع:
هو الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن مانع بن إبراهيم الوهيبي، التميمي نسباً، الشقراوي ثم الإحسائي بلداً، ولد في بلدة شقراء عاصمة بلدان الوشم ونشأ فيها. من مشايخه: والده الشيخ محمد، وجده لأمه الشيخ عبد الله أبو بطين، والعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن وغيرهم، ولاه الإمام فيصل قضاء القطيف (2) ، جمع كتباً كثيرة قيمة بخط يده المتقن المضبوط. له قصائد كثيرة، ورسالة في طلاق الثلاثة. توفي في الإحساء سنة (1287هـ) (3) .
الثاني عشر: الشيخ محمد بن عبد الله بن حمد:
هو الشيخ محمد بن عبد الله بن حمد بن محمد بن سليم، استقر أجدادهم في مدينة الدرعية وقت قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتجديد الدعوة السلفية. ولد عام (1240هـ) ، ونشأ وتعلم في الدرعية، ثم قرأ على علماء القصيم، ثم رحل إلى الرياض وقرأ على أشهر علمائها الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ثم ذهب إلى شقراء بعد أن عاد إليها شيخه
__________
(1) المرجع السابق: 2/379-380.
(2) القطيف: تقع القطيف في الجهة الشمالية الشرقية من الإحساء، ويحدها شمالاً وغرباً صحراء بياض، وجنوباً برُ الظهران، وتمتد القطيف عل ساحل الخليج مسافة عشرة أميال. انظز: جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص66-68. تحفة المستفيد، ص27. الموسوعة لشرقي البلاد العربية السعودية، لعبد الرحمن عبد الكريم العبيد، ط/1، 1413-1993م. 2/209.
(3) انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/187. علماء نجد خلال ستة قرون، 2/419-421.
(1/85)
________________________________________
عبد الله أبو بطين من عنيزة، فاستأنف عليه الدراسة، حتى أدرك إدراكاً تاماً في العلوم الشرعية والعربية، وتصدى للتدريس والإفادة، تولى القضاء في بريدة حتى عهد الملك عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، توفي في مدينة بريدة عام 1323هـ، رحمه الله (1) .
الثالث عشر: الشيخ محمد بن عمر بن سليم:
هو الشيخ محمد بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن صالح بن حمد بن محمد بن سليم، ولد عام (1245هـ) في بريدة عاصمة القصيم حيث انتقل أبوه عمر بعد خراب الدرعية (موطنه) على أيدي إبراهيم باشا ونشأ فيها وأخذ مبادئ القراءة والكتابة، ثم شرع في القراءة على علماء القصيم، ثم رحل إلى الرياض، وقرأ على أشهر علمائها حينذاك، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف ابن عبد الرحمن، ثم إلى شقراء حيث الشيخ أبو بطين، حتى أدرك في علم التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصولها. أذن له الشيخ عبد الرحمن وعبد اللطيف في القضاء والتدريس. توفي سنة (1308هـ) ، رحمه الله (2) .
الرابع عشر: الشيخ علي بن عيسى:
هو الشيخ علي بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن حمد بن عبد الله بن عيسى. ولد في بلدة شقراء عاصمة الوشم عام (1249هـ) ، أخذ عن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين، ثم سافر إلى الرياض وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ونجله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن. عينه الإمام عبد الله الفيصل قاضياً في شقراء وسائر مقاطعة الوشم. توفي -رحمه الله- عام (1331هـ) (3) .
الخامس عشر: الشيخ أحمد بن عيسى:
هو الشيخ أحمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن
__________
(1) علماء نجد خلال ستة قرون، 3/872-875.
(2) المرجع السابق، 3/918.
(3) المرجع السابق، 3/720-723. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص272.
(1/86)
________________________________________
عيسى ابن علي بن عطية. ولد في شقراء سنة (1253هـ) ، وفيها تعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم حفظ القرآن الكريم، وقرأ على والده التوحيد والفقه والحديث، وعلى الشيخ عبد الله أبي بطين، ثم سافر إلى الرياض وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن ونجله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وأدرك إدراكاً تاماً، وفاق أقرانه، وكان نشيطاً في الدعوة حتى اتصل بأمير مكة الشريف عون الرفي (1) ، وكلمه بخصوص هدم القباب والمباني التي على القبور والمزارات، ففعل الشريف ذلك. له قصيدة ينهى فيها أبناء فيصل عن التفرق والاختلاف، وله شرح على نونية ابن القيم، و "تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدارسي"، والرد على دحلان (2) في كتابه "خلاصة الكلام"، و "الرد على ابن جرجيس، سماه: "الرد على شبهات المستغيثين بغير الله"، و "تهديم المباني في الرد على النبهاني" وغيرها. توفي رحمه الله سنة (1229هـ) (3) .
السادس عشر: الشيخ عثمان بن عيسى:
هو عثمان بن علي بن عيسى الثوري الربابي السبيعي، ولد في شقراء ونشأ فيها، وقرأ على علمائها، الشيخ عبد العزيز الحصين والعلامة عبد الله أبي بطين، ثم سافر إلى الرياض وقرأ على الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عينه الإمام فيصل قاضياً في
__________
(1) هو الشريف محمد بن عون بن محسن بن حسين أمير مكة، كان أميراً على تربة، ثم على قبائل عسير، ومن تبعهم، ثم على مكة، (ت 1274هـ) .
انظر: أعيان القرن الثالث عشر، خليل مردوم بك، ص134، 135،136.
(2) هو أحمد بن زيني دحلان، ولد سنة (1232هـ) ، وتولى فيها الإفتاء والتدريس، له مؤلفات، بث فيها الأكاذيب والمفتريات ضد الدعوة السلفية ومجددها الإمام محمد بن عبد الوهاب، ومن ذلك رسالته "الدرر السنية في الرد على الوهابية"، طبعت عدة مرات وموجودة أيضاً ضمن كتابه: "خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام" وغيرهما (ت 1304هـ) .
انظر: ترجمته: الأعلام للزركلي، 1/129. ومعجم المؤلفين، 1/29. مجلة المنار، محمد رشيد رضا، م7، ص393.
(3) علماء نجد خلال ستة قرون 1/155-162. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص260.
(1/87)
________________________________________
بلدة سدير. توفي سنة (1285هـ) ، رحمه الله (1) .
السابع عشر: الشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف:
هو الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن سيف، أصله من بلدة ثادق (2) عاصمة بلدان المحمل (3) ، قرأ على والده الشيخ إبراهيم الحديث والتفسير، ثم على الشيخ عبد الرحمن بن حسن النحو والتجويد ومبادئ العلوم الشرعية، وعلى الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ثم سافر إلى مصر في حدود سنة (1254هـ) ، وحصل جملة من فنون العلم في المعاني والبيان والحساب عينه الإمام فيصل قاضياً في مدينة حائل (4) وما يتبعها من القرى والبوادي، وفيها توفي عام (1265هـ) ، رحمه الله (5) .
الثامن عشر: الشيخ صالح بن قرناس:
هو الشيخ صالح بن قرناس بن عبد الرحمن بن قرناس بن حمد بن علي بن
__________
(1) المرجع السابق، 3/708.
(2) ثادق: يطلق اسم ثادق على موضعين في المملكة، أحدهما وادي غرب القصيم، يسير في وادي الرمة، والآخر: بلد واقع في إقليم "المحمل" من اليمامة، وهي قاعدة الإقليم، وهذا الثاني هو المقصود هنا.
جزيرة العرب في القرن العشرين، ص51. معجم اليمامة، 1/221. والمجاز بين اليمامة والحجاز، لابن خميس، ص346، 348.
(3) المِحْمَل: بكسر الميم وإسكان الحاء وفتح الميم فلام، إقليم من أقاليم العارض، قاعدته "ثادق"، ومن بلدانه: البير، والصفرات، ورغبة، والرويضة، ودقلة، وحليفة، وغيرها.
انظر: معجم اليمامة، 2/344.
(4) حائل: موضع باليمامة، تقع إلى الشمال الغربي من الوادي بين جبل أجاء وسلمى عند طرفه الشمالي، يحدها من الشمال والشمال الغربي مدينة رفحا، وعرعر، وطريف، ومن الجنوب المدينة المنورة، ومن الشرق القصيم، وهو وادٍ أصله من الدهناء.
حائل مدينة وتاريخ، د. محمد سعد الشويعر، المحاضرة السادسة، ص28-30. لمحات عن منطقة حائل، لفهد علي العريفي، ط/1، ص15. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص59. معجم اليمامة، 1/289.
(5) علماء نجد خلال ستة قرون، 3/777-778.
(1/88)
________________________________________
محمد، ولد في بلدة الرس عام (1253هـ) ، ونشأ وشب في بيت علم، قرأ على أخيه محمد بن قرناس، ثم على بعض علماء الرس، ثم سافر إلى الرياض، وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن وابنه الشيخ عبد اللطيف، وغيرهما. تولى قضاء الرس بعد موت أخيه محمد، وكذلك عنيزة وبريدة، من عام (1275هـ) حتى عام (1330هـ) ، وكانت مدة قضائه (55) عاماً. توفي في الرس سنة: (1336هـ) ، رحمه الله (1) .
التاسع عشر: الشيخ صالح بن محمد الشثري:-
هو الشيخ صالح بن محمد الشثري، من علماء الحوطة، له كتاب: "تأييد الملك المنان في نقض ضلالات دحلان" (2) . أخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن وكان بينهما مراسلات (3) (4) .
العشرون: الشيخ عبد العزيز بن عبد الجبار:-
هو الشيخ عبد العزيز بن عثمان بن عبد الجبار بن أحمد بن شبانة بن محمد. ولد في المجمعة (5) ، قاعدة بلدان سدير، في بيت حافل بالعلم والعلماء فقرأ على أبيه وعمه الشيخ حمد بن عبد الجبار وغيرهما. ثم رحل في طلب العلم إلى الرياض، فقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، حتى أدرك إدراكاً تاماً. عينه الإمام فيصل بن تركي قاضياً في مدينة حائل وتوابعها، ثم بعد وفاة والده قاضي سدير، نقله الإمام إلى قضاء سدير مكان والده، وكان مقر عمله في
__________
(1) المرجع السابق، 2/375-377.
(2) وهو كتاب مخطوط في مكتبة الرياض السعودية بالرياض، برقم، 197/86.
(3) انظر الرسالة رقم (11) و (17) مما يأتي، وهي من بعض الرسائل التي أرسلها الشيخ عبد اللطيف إليه.
(4) انظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص97.
(5) المجمعة: موضع واقع في إقليم السدير، بل هو قاعدته، وهي في الجانب الجنوبي من وادي المشجر، وهي مدينة ناضهة، بها جوامع ومساجد وعديد من المرافق الحكومية.
جزيرة العرب في القرن العشرين، ص59. معجم اليمامة، 2/333-340.
(1/89)
________________________________________
المجمعة، حتى توفي -رحمه الله- عام (1274هـ) ، في ولاية الإمام فيصل بن تركي (1) .
الحادي والعشرون: الشيخ عبد العزيز الصرامي:-
هو الشيخ عبد العزيز بن صالح الصرامي، أخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن حسن، تولى قضاء الخرج عام 1317هـ، بعد وفاة شيخه عبد الله بن حسين المخضوب (2) .
الثاني والعشرون: الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي:-
هو الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الرياض ونشأ فيها، وشرع في القراءة على علمائها، ومن أشهر مشايخه: العلامة عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن. تولى القضاء في مقاطعة سدير في عهد الأمير محمد بن رشيد، ثم عين قاضياً في مدينة الرياض. توفي سنة (1319هـ) ، رحمه الله (3) .
الثالث والعشرون: الشيخ عبد الله الوهيبي:-
هو الشيخ عبد الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن إبراهيم بن سليمان الوهيبي، من المشارفة، ثم من الوهبة. كان والده صهر الشيخ عبد اللطيف، حيث تزوج من ابنته التي أنجبت منه ابنه العلامة عبد الله. خلف والده على قضاء الإحساء (4) .
الرابع والعشرون: الشيخ عبد الله بن محمد بن عثمان:-
هو الشيخ عبد الله بن محمد بن عثمان بن عبد الله بن ناصر بن دخيل، من
__________
(1) انظر: عنوان المجد، 2/21. علماء نجد خلال ستة قرون، 2/483-484.
(2) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/532.
(3) المرجع السابق، 2/486.
(4) علماء نجد خلال ستة قرون، 2/525-526.
(1/90)
________________________________________
آل رحمة الناصري التميمي، فهو من النواصر الذين هم من الحبطات. انتقلت أسرة المترجم له من الفرعة (1) بلدتهم الأصلية إلى المجمعة عاصمة السدير، فولد فيها عام 1261هـ، ونشأ فيها، وأخذ مبادئ القراءة والكتابة، ثم شرع في طلب العلم، فتلقاه عن الشيخ الفرضي عبد الله بن راشد، وأدرك أيام الشيخ عبد الرحمن بن حسن فأخذ عنه وعن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ثم رحل إلى القصيم فأخذ عن علمائها توفي -رحمه الله- في المذنب أحد بلدان القصيم الشرقية عام (1324هـ) (2) .
الخامس والعشرون: الشيخ حمد بن علي بن عتيق:-
هو الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق، العلامة الثقة في العقيدة، أخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ علي بن حسين وغيرهم، وبرع في العلوم، وتولى مناصب القضاء في الخرج ثم في الحوطة ثم في الأفلاج. توفي -رحمه الله- سنة (1301هـ) (3) .
السادس والعشرون: الشيخ عبد الله بن محمد بن مفدا:-
هو الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مفدا، وأصل عشيرة آل مفدا أشيقر، إحدى بلدان الوشم، نزح منها والده إلى بريدة في القصيم، فولد المترجم له هناك عام (1271هـ) ، فنشأ فيها وأخذ عن علمائها، ثم سافر إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وعن ابنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، حتى أدرك لا سيما في التوحيد. وكان زاهداً ورعاً صالحاً. ألف رسالة مختصرة مفيدة عن المداينات المحرمة. توفي في بريدة
__________
(1) الفرعة: يريد هنا "فرع الوشم" وهي مجاورة لبلدة "أشيقر" جنوبها، سكانها نواصر من تميم. معجم اليمامة، 2/249-250.
(2) علماء نجد خلال ستة قرون، 2/619.
(3) انظر: الدرر السنية، 12/77-79. وعلماء الدعوة، ص82-83. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص244-245.
(1/91)
________________________________________
عام (1337هـ) ، رحمه الله (1) .
السابع والعشرون: الشيخ حمد بن عبد العزيز:-
هو الشيخ حمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز العوسجي البدراني الدوسري، ولد في بلدة ثادق عام 1245هـ، رحل إلى الرياض فقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، حتى صار عالماً كبيراً. توفي -رحمه الله- سنة (1330هـ) (2) .
الثامن والعشرون: الشيخ عبد العزيز بن حسن:-
هو الشيخ عبد العزيز بن حسن بن عبد الله بن محمد، من آل حسن الفضلي، من قبيلة الفضول، الملقب، بـ (حصام) أخذ عن أبيه، ثم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وله معه مراسلات عديدة، ولاه الإمام فيصل بن تركي القضاء في حريملاء والمحمل. توفي سنة (1299هـ) ، رحمه الله (3) .
التاسع والعشرون: إبراهيم بن عيسى:-
هو إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن عيسى بن علي بن عطية، ولد عام (1200هـ) في بلدة شقراء عاصمة الوشم ونشأ فيها وتعلم القراءة والكتابة، وأخذ عن مشائخها، ومنهم الشيخ عبد العزيز الحصين، وعبد الله أبو بطين، ثم رحل إلى الرياض وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وأخذ عنه جماعة من الفضلاء. ولاه الإمام فيصل القضاء على شقراء وعلى جميع بلدان الوشم. توفي عام (1281هـ) ، رحمه الله (4) .
__________
(1) علماء نجد خلال ستة قرون، 2/638-641.
(2) المرجع السابق، 1/227.
(3) انظر: عنوان المجد لابن بشر، 2/135-136. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/251. علماء نجد ستة قرون، 2/438-442.
(4) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/107-108.
(1/92)
________________________________________
الثلاثون: الشيخ عبد الرحمن بن عدوان:-
هو الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن عدوان اليربوعي، أصله من آله عدوان من بلدة أثيثة، ثم انتقلوا إلى حريملاء، وهناك ولد المترجم له، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة وأخذ عن الشيخ محمد بن مقرن الودغاني الدوسري، لما نزل على بلدتهم قاضياً، أخذ عنه التوحيد والتفسير والحديث والفقه والفرائض، ثم رحل إلى الرياض فأخذ عن علامتها الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وعن ابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن. عينه. الإمام فيصل -بمشورة الشيخ عبد الرحمن- قاضياً على الرياض، ثم جاء ولاية عبد الله الفيصل، فأبقاه على عمله حتى توفي في الرياض عام (1285هـ) ، رحمه الله (1) .
الحادي والثلاثون: الشيخ عبد العزيز بن صالح المرشدي:-
هو الشيخ عبد العزيز بن صالح بن موسى بن صالح بن مرشد المرشدي، ولد في الرياض، وأخذ عن أشهر مشايخها، الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وغيرهما حتى أدرك. كان عالماً متبحراً، قوي الذاكرة حاد الذهن، ولاه الإمام فيصل قضاء مقاطعة سدير عام (1273هـ) ، ثم نقله إلى قضاء الرياض، وولاه محمد بن رشيد قضاء مدينة حائل، وفيها توفي سنة (1324هـ) ، رحمه الله (2) .
الثاني والثلاثون: الشيخ عبد الله بن حسين المخضوب:-
هو الشيخ عبد الله بن حسين بن أحمد المخضوب، من بني هاجر، وهي قبيلة قحطانية كبيرة، ولد حوالي (1230هـ) ، ونشأ محباً للعلم، فقرأ على علماء نجد، منهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ عبد
__________
(1) المرجع السابق، 2/395-397.
(2) علماء نجد خلال ستة قرون، 2/469-470.
(1/93)
________________________________________
الرحمن بن عدوان، حتى أدرك وصار عالماً أديباً، له رسائل متبادلة بينه وبين الشيخ حمد بن عتيق، حول العقيدة، وله ديوان في خطب الجمع والأعياد، ورسائل كثيرة سماها "البرهان في تحريم الدخان" ونظم الأسماء الحسنى، ونظم الأجرومية. توفي في بلدة الدلم سنة (1317هـ) ، رحمه الله (1) .
الثالث والثلاثون: عبد الرحمن الوهيبي:-
وهو قاضي الإمام فيصل على الإحساء، بعد وفاة الشيخ عبد الله الوهيبي (2) .
الرابع والثلاثون: زيد بن محمد من آل سليمان، ولد في الحريق، ونشأ بها، ودرس على الشيخ حمد بن عتيق قاضي الأفلاج، ثم سافر إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف وغيرهما، له مراسلات مع علماء نجد، أشهرها تلك الرسائل التي كتبها إليه الشيخ عبد اللطيف، بخصوص شقاق أبناء الإمام فيصل بن تركي (ت1307هـ) ، رحمهم الله (3) .
وهناك تلاميذ آخرون، لم أجد لهم ترجمة، وأكتفي هنا بمجرد سرد أسمائهم كالآتي:
الخامس والثلاثون أحمد الرجباني.
السادس والثلاثون أحمد بن عبيد.
السابع والثلاثون إبراهيم بن راشد.
الثامن والثلاثون إبراهيم بن عبد الملك بن حسين آل الشيخ.
التاسع والثلاثون إبراهيم بن مرشد.
__________
(1) المرجع السابق، 2/530-532.
(2) الدرر السنية، 12/58-73.
(3) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/265. وانظر الرسالة (11) التي أرسل إليه الشيخ عبد اللطيف في هذا الشأن.
(1/94)
________________________________________
الأربعون إسماعيل بن عبد الرحمن.
الحادي والأربعون حسين بن تميم.
الثاني والأربعون حسين بن علي.
الثالث والأربعون حمد بن سلمان.
الرابع والأربعون سليمان بن حسين.
الخامس والأربعون صالح بن عثمان بن عقيل.
السادس والأربعون عبد الرحمن بن بشر.
السابع والأربعون عبد الرحمن بن نافع.
الثامن والأربعون عبد الرزاق.
التاسع والأربعون ناصر بن حسين.
الخمسون عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين.
الحادي والخمسون عبد العزيز بن شلوان.
الثاني والخمسون عبد الله بن علي بن جريس.
الثالث والخمسون عبد الله بن علي بن حسين.
الرابع والخمسون عبد الله بن محمد الخرجي.
الخامس والخمسون عبد الله بن معيذر.
السادس والخمسون عبد الله بن نصير.
السابع والخمسون عثمان بن علي بن عيس السبيعي.
الثامن والخمسون عثمان بن مرشد.
التاسع والخمسون علي بن سليم.
(1/95)
________________________________________
الستون علي بن نفيسة.
الحادي والستون عمر بن يوسف.
الثاني والستون محمد بن حسن بن جريبة.
الثالث والستون محمد بن خميس.
الرابع والستون منيف بن نشاط.
وخلائق من أهل نجد والإحساء وغيرهما.
(1/96)
________________________________________
المبحث السابع ثقافته وإنتاجه العلمي
خلف الشيخ -رحمه الله- نتاجاً علمياً كبيراً، ساعده على ذلك اجتهاده الكبير وشدة حرصه في مجال طلب العلم وتحصيله، أضف إلى ذلك ذكاءه المتوهج، وسرعة حفظه (1) التي منحته ثقافة واسعة، في شتى الفنون العلمية، خاصة الدينية منها.
وقد سبق أن علمنا مولده، وحسن تربيته، ونشأته في بيت علم، يحيط به جهابذة من العلماء العاملين، من أمثال والده وأعمامه وغيرهم. ولا شك أن نشأة كهذه في شخصية مثل شخصية هذا الشيخ، تُوجد لدى صاحبها أرضية خصبة لإعداد نفسه وفق البيئة التي تربى فيها.
مصنفاته (2) :
تتناول أغلب مصنفات الشيخ -رحمه الله- الرد على المبطلين، ودحض شبه المنحرفين، وفتن أهل الخرافات والملحدين، فكانت منهلاً عذباً يرده الموحدون، ويأخذ بها أهل المعرفة المتقون. فمصنفاته -رحمه الله- عديدة مفيدة، وهي:
أولاً: الكتب المخطوطة:
(1) البراهين الإسلامية في الرد على الشبهات الفارسية:
مخطوط يوجد في المكتبة السعودية بالرياض، تحت رقم (359/86) .
__________
(1) وقد تقدم قول الشيخ إبراهيم بن صالح في وصفه بذبك، عن ذكر صفاته الفكري، ص72.
(2) المراجع التي ذكرت مصنفاته: الدرر السنية، 12/71-72. عقد الدرر، للشيخ إبراهيم بن صالح، ص78. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/266. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص98. علماء الدعوة، ص498. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/68-69. ومعجم المؤلفين، 6/11. وهدية العارفين، 1/619. إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، 4/580. والأعلام للزركلي، 4/182.
(1/97)
________________________________________
(2) عيون الرسائل والأجوبة على المسائل:
وهو عبارة عن مجموعة رسائل وأجوبة مفيدة، جمعها تلميذه الشيخ سليمان بن سحمان، في كتاب أسماه بهذا الاسم. وهو ما أنا بصدد تحقيقه.
وقد خصص جامع كتاب مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثالث منه، لهذا الكتاب، وهو ليس جامعاً لجميع رسائل الشيخ -رحمه الله- بل له رسائل أخرى عديدة، في بيان عقيدة السلف الصالح، وغير ذلك، موزعة في أجزاء مجموعة الرسائل والمسائل النجدية الأخرى، وفي الهدية السنية، كما يوجد كثير منها في الدرر السنية (1) .
(3) الإتحاف في الرد على الصحاف (2) :
وهو كتاب رد به على عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف (مخطوط) في مكتبة الرياض السعودية، تحت رقم (359/86) ، ويقع في تسع عشرة صفحة،. وقد طبع هذا الكتاب ضمن مجموع الرسائل والمسائل النجدية، في المجلد الثالث المحتوي على رسائل الشيخ عبد اللطيف، (3/430) قام بنسخها الشيخ سليمان بن سحمان عام 1338هـ هو أيضاً مطبوع ضمن الدرر السنية، لابن قاسم (9/404-417) .
وقد حقق الكتاب عام 1416هـ، قام بذلك الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الزير آل حمد. وطبع في مطبعة دار العاصمة بالرياض. ويقع الكتاب في (54) صفحة.
ثانياً: الكتب المطبوعة:
(4) مصباح الظلام في الرد على منتقص شيخ الإسلام:
وهو كتاب في مجلد، رد به على الطاغية عثمان بن عبد العزيز بن منصور
__________
(1) وسيأتي مزيد بيان حول هذا الكتاب، في دراسة مستقلة في الباب الثاني، الخاص بدراسته.
(2) ذكره عبد الرحمن في مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص98، وأشار إلى كونه مخطوطاً.
(1/98)
________________________________________
الناصري، من تلاميذ داود بن جرجيس، وذلك لما أقذع في مسبة علم الأعلام، ومشيد دعائم الإسلام، ومردي عبادة الأوثان والأصنام في وقته الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ فقد ألف هذا الملحد مؤلفاً سماه "جلاء الغمة من تكفير هذه الأمة"، والمراد بالأمة عنده، عبدة الأصنام، فانتصر لهم فيه، وضلل أهل التوحيد (1) ، وعلى هذا الكتاب كان رد الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله.
(5) منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس:
وهو كتاب يقع في مجلد، في (396) صفحة، ردّ به كتاب: "صلح الإخوان" لداود بن جرجيس البغدادي. فرغ منه في حدود سنة 1280هـ (2) .
ولما صنف هذا الكتاب، أثنى عليه جملة من العلماء والأدباء، منهم: العلامة الأفندي عبد القادر البغدادي، قال فيه:
عبد اللطيف جزاه الله خالقنا ... يوم الجزاء بأجر غير ممنون
هو الهمام الذي شاعت فضائله ... في الشرق والغرب من نجد إلى الصين
بحر من العلم يبدي من معارفه ... بديع در عزيز القدر مكنون
أحيا طريق رسول الله عن شبه ... منسوبة لجهول غير مأمون
وسادس من أقاويل ملفقة ... كأنها بعض أقوال المجانين
ظن ابن جرجيس من جهل ومن سفه ... لم يبق في الناس ذو علم وتمكين
فقال ما قال من زور ومن كذب ... ظنونه في مجال غير مظنون
ولم يكن يغني عنه الظن فانعكست ... ظنونه في مجال غير مظنون
إذ رده ناكصاً يدعو النجاء على ... أعقابه خسر الدنيا مع الدين
__________
وذكره البسام في علماء نجد خلال ستة قرون، 1/69، والكتاب لم أطلع عليه. (1) انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/266. وعلماء الدعوة، ص49-50. وانظر: مقدمة دلائل الرسوخ، ص3-7.
(2) انظر: هدية العارفين 1/619، إيضاح المكنون، 2/585.
(1/99)
________________________________________
دلائل أشرقت فالشهب أرسلها ... عبد اللطيف رجوماً للشياطين
جزاه مولاه عنه كل صالحة ... من جنة الخلد في يوم الموازين (1)
(6) : تحفة الطالب والجليس في الرد على داود بن جرجيس وهو كتاب مطبوع باسم "تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس"، وهو كتاب صغير يقع في (156) صفحة. وقد اعتنى بنشره وتحقيقه عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم، وطبعت الطبعة الثانية منه بدار العاصمة بالرياض عام 1410هـ، بالمملكة العربية السعودية.
(7) : دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ:
وهو كتاب رد به على ما لفقه داعية الكفر والضلال، داود بن جرجيس.
قال الشيخ محمد بن عبد العزيز مانع في تصديره لهذا الكتاب:
"ألفه قبل وفاته بنحو سنتين، وطبع أول مر في (1305هـ) ، ونفدت طبعته، وقل وجوده حتى نسي أو كاد أن ينسى (2) ، حتى وجد منه نسخة في مكتبة محمد بن حسين نصيف، بالحجاز" (3) .
وكان -رحمه الله- قد شرع في شرح كتاب الكبائر، وشرح نونية ابن القيم،
__________
(1) انظر القصيدة: في تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/226-227. وعلماء نجد خلال ستة قرون، 1/68-69. وفي الدرر، 12/69، جزء منها.
(2) ولعل هذا هو السبب الذي جعل بعض من ذكر كتبه -بل أكثرهم- يغفلون عن ذكر هذا الكتاب.
(3) انظر: مقدمة الطبعة الثانية للكتاب، ص3-5.
وقد طبع الكتاب الطبعة الثانية سنة"1382هـ /1962م على نفقة صاحب السمو الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، حاكم قطر سابقا، قام بتنفيذه مطبعة المدني، المؤسسة السعودية بمصر، ثم أعيد تصوير الطبعة الثانية عام 1402هـ، من قبل الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإدارة العامة للتوعية والتوجيه، مع زيادة التقديم للهيئة.
(1/100)
________________________________________
فاخترمته المنية قبل إتمامهما (1) ؛ إذ إن الفتن والاضطرابات التي حصلت بين أبناء فيصل بن تركي، أشغلته كثيراً عن تحقيق ذلك، بل وأبعدته عن مجال التصنيف عموماً في أواخر حياته، وعليها المعول في قلة إنتاجه التأليفي.
وكما أنه -رحمه الله- ناثر جيد، فهو شاعر مجيد، فله عدة قصائد، وقد سخر شعره لرد الشبه، فكان يقاتل أهلها بمثل سلاحهم، ويدمرهم بمثل عدتهم. فله من ذلك قصيدة طويلة، رد بها قصيدة البولاقي المصري، التي خلط فيها المصري وسوى بين البدع في العبادات والبدع في العادات (2) . وكذلك له قصائد إخوانية بينه وبين بعض محبيه من أهل العلم (3) .
وسيقف القارئ على بعض قصائده -رحمه الله- ضمن هذه الرسائل التي نحن بصدد تحقيقها. كما أن له تحقيقات نفيسة وتدقيقات لطيفة (4) ، رحمة الله عليه.
__________
(1) انظر: الدرر السنية، 12/27. وعلماء نجد خلال ستة قرون، 1/68. وعلماء الدعوة، ص50.
(2) انظر: علماء الدعوة، ص50.
(3) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/69.
(4) عقد الدرر، ص78.
(1/101)
________________________________________
المبحث الثامن عقيدته
كان الشيخ عبد للطيف -رحمه الله- سلفي العقيدة، ومن مناصريها ودعاتها. وقد اجتمعت لديه عدة عوامل، كان بمجملها -بعد توفيق الله تعالى- السبب في سلامة عقيدته وصفوتها، التي اشتهر بها، وقضى طيلة حياته في مناصرتها والدفاع ومن تلك العوامل:
أولاً: كونه من أصل أسرة الدعوة السلفية:
فهو -رحمه الله- من أحفاد الشيخ، محيي العقيدة السلفية، جده الكبير الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- كما أن أباه عبد الرحمن بن حسن، كما أن أحد المناضلين لتبديد ظلام الشرك والذب عن عقيدة السلف، والتصدي لدعاة الضلال وعبدة القبور، الذين كانت رؤوسهم مرتفعة على عهده.
الثاني: تربيته بين مناصري العقيدة السلفية:
لم يكتف الشيخ -رحمه الله- بفضل انتسابه إلى تلك الأسرة الشريفة، بل حاز أيضاً فضل التربية والنشأة بين حماة الدعوة السلفية، وذاذة الملة الإسلامية؛ فقد كانت مدينة الدرعية -موطنه الأصلي- تعج بعلماء الدعوة السلفية ومشهورة، بالحركة العلمية، وكان ذلك عاملاً قوياً في نشأته على العقيدة الصافية التي كان سائدة في تلك البلدة حينذاك.
ثالثاً: أخذه للعقيدة من منابعها الصافية:
وهذا من أبرز ما يوضح صفاء عقيدته؛ إذ إنه -رحمه الله- أخذ العقيدة من معينها الصافي عن أبيه وعمه وخاله وغيرهم حين وجوده بمصر.
(1/102)
________________________________________
قال البسام في علماء نجد خلال ستة قرون (1) ، عند حديثه عن نشأة الشيخ العلمية، وهو في مصر:
" ... فصار يتردد بين بيته والأزهر الشريف، فيجد في البيت أباه وعمه وخاله، فدرس على جملة من علماء نجد منهم: جده لأمه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب، وخاله الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد، ووالده الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ أحمد بن حسن بن رشيد المشهور بالحنبلي، كل هؤلاء من النجديين الذين تلقى عنهم في مصر، يلقنونه العقيدة الصحيحة، ويدرسون له علوم السلف الصالح ... ".
فتلك هي أبرز العوامل التي ساعدته على النمو على عقيدة السلف الصالح، حتى صار أعظم دعاتها، رحمة الله عليه.
ثم إن رسائله التي أنا بصدد تحقيقها، لتجلي عن حقيقة عقيدته السلفية؛ حيث تناولت مسائل عالجها الشيخ وفق عقيدة السلف الصالح، واعتمد في ذلك على أقوالهم وما كانوا عليه من أعمال، التي كانت ترجمة عملية لمراد كتاب الله الكريم وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كما تضمنت رسائله جميع أنواع التوحيد؛ الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، حسب ما وردت في الكتاب والسنة، فكل رسائله وأجوبته وفتاويه تدور حول هذه الأقسام الثلاثة. فنجد مثلاً الرسالة رقم (63) ، قد خصها بتوحيد الأسماء والصفات، وهي كلها صورة طبق أصل عقيدة السلف الصالح في هذا الباب.
ومن أجل صفاء عقيدته، وسعة اطلاعه على ما كان عليه السلف، وجلده على المناظرة وإقامة الحجج لنصرة مذهب أهل السنة والجماعة؛ انتدبه الإمام فيصل بن تركي -رحمهم الله- لمهمة إصلاح أهل الإحساء، الذين كانت شبه الجاهلية راسخة في أذهانهم حينذاك. وقد استطاع الشيخ -رحمه الله- إعادة ذلك البلد إلى مذهب
__________
(1) قاله في: 1/63-64.
(1/103)
________________________________________
السلف الصالح، وإظهار الحق لهم، وتصفية عقيدتهم من رواسب الشرك، وتوحيد طريقتهم على نهج أهل السنة والجماعة (1) .
__________
(1) وقد تقدم الحديث على هذه المهمة، عن رحلته إلى الإحساء، ص (77) .
(1/104)
________________________________________
المبحث التاسع أعماله ووظائفه
قام الشيخ رحمه الله بعد وظائف، أملتها عليه مكانته العلمية الرفيعة، ومارسها حسب ما حكمت به ظروف بلده حينذاك، ووفق مكانته من الإمام فيصل ابن تركي، الذي كان هو مع الشيخ عبد الرحمن بن حسن والد الشيخ عبد اللطيف المسيّران لشئون البلد، سياسياً ودينياً؛ ولذا نجد أن أعماله كانت متمثلة في كلتا الناحيتين.
وهنا نوجز أهم ما قام به من تلك الأعمال، كما يلي:
أولاً: نشره للعلم والدعوة إلى الله تعالى:
كان -رحمه الله- قد قدم من مصر، بعد تزوده بعلم وفير، فكان مهيئاً للعطاء والإفادة، وكان قد حمل معه مكتبة حافلة بنفائس الكتب كثيرة. وبعد استقراره في الرياض، بدأ الناس ينتفعون بعلمه (1) ، وكان عنده حلقة تدريس، واتخذ من المسجد الكبير المعروف بـ (مسجد الشيخ عبد الله) مدرسة كبيرة؛ لتدريس مختلف الفنون والعلوم، كالبلاغة والمعاني والبيان، وقواعد الفقه والأصول والتجويد، بالإضافة إلى علوم أخرى (2) .
وقد تقدم أن علمنا إرسال الإمام فيصل له إلى الإحساء للدعوة إلى الله، وإصلاح أهلها (3) ، وبعد رجوعه من الإحساء إلى الرياض، قام بمؤازرة والده في نشر الدعوة والعلم وبثه، وإحياء معالم الدعوة، وتجديد ما اندثر منها، فملأ نجداً في زمانهما علماً، وأعادا إلى الدعوة السلفية قوتها ونشاطها ومجدها، بعد ما أصيبت بالوقوف،
__________
(1) ويشهد لذلك كثرة تلاميذه، كما تقدم ذكرهم، ص (82-96) .
(2) عنوان المجد، لابن بشر، 2/20.
(3) تقدم في، ص 77، عند ذكر رحلته إلى الإحساء، وكذلك في ص102 عند ذكر عقيدته.
(1/105)
________________________________________
ومنيت بالركود أيام الفتن والاضطرابات (1) .
ثم إن الشيخ -رحمه الله- كان رفيق الإمام فيصل بن تركي في أسفاره وغزواته، فكان ينتهز الفرصة في تلك الرحلات، فيعظ ويذكر وينشر الدعوة، ويعلم الجاهل، ويرشد الضال (2) .
قال الشيخ عبد الله البسام عند كلامه عن أعمال الشيخ:
" ... كانت أوقات الشيخ عبد اللطيف مقسمة بين التأليف والرد على المبطلين، وبين الرسائل والنصائح التي تبعث إلى البلدان والمخالفين، وبين الدروس العامة والخاصة التي لا تنقطع، ولا يخل بمواعيدها، وبين مقابلة الوافدين والمراجعين، وبين مجالسه الخاصة مع الإمام فيصل، ثم ابنه عبد الله؛ لبحث شؤون الدولة وأمور الحكم" (3) .
ثانياً: مساعدته لوالده:
إنه -رحمه الله- بعد عودته من مصر، وقدومه إلى الرياض عام (1264هـ) ، كان الإمام فيصل بن تركي هو صاحب السلطة المطلقة في بلاد نجد، وكان أبوه عبد الرحمن بن حسن هو المرجع في الشؤون الإسلامية والشرعية، وكان الشيخ عبد الرحمن قد دخل في العقد الثامن من عمره، واحتاج إلى مساعد قوي يعينه على مهامه الكبرى والكثيرة، وأعماله الجليلة، فلما قدم عليه ابنه عبد اللطيف، الذي وعى صدره علوم نجد وعلوم مصر، كان خير معين لوالده -بعد الله سبحانه وتعالى- على أداء مهامه، وكبير مسؤلياته؛ لذا عوّل عليه الإمامان، واعتمد عليه الزعيمان في صعاب وعويص المشاكل (4) .
__________
(1) انظر: علماء الدعوة، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ص48-49.
(2) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/65.
(3) المرجع السابق، 1/66.
(4) انظر: المرجع السابق، 1/65.
(1/106)
________________________________________
ثالثاً: القضاء والفتوى:
من أعماله -رحمه الله- اشتغاله بالقضاء والفتوى؛ فبعد عودته إلى نجد متسلحاً بالعلم الواسع والعقل الراجح، لم يتردد الإمام فيصل بن تركي في تقليده هذا الأمر الحساس في نظام ملكه، والذي لم يكن يصلح إلا لمثله.
قال ابن بشر:
"استعمله الإمام فيصل قاضياً في الإحساء، ثم كان قاضياً مع أبيه في الرياض" (1) . وكان الإمام يخصه ويسافر معه، فكان الشيخ في معيته إماماً وقاضياً له (2) .
وهكذا قام بهذه الأعمال وغيرها خير قيام، وسار فيها أحسن سيرة، ولم يخل بشيء من وظائفه اليومية، فقد أعطى كل ذي حق حقه، وسار بأعماله على الوجه المرضي حتى لقي ربه"، رحمه الله تعالى رحمة واسعة (3) .
__________
(1) عنوان المجد لابن بشر، 2/20. وانظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/223.
(2) تذكرة أولي النهى، 1/223. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/65.
(3) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/66.
(1/107)
________________________________________
المبحث العاشر حياته السياسية
كانت بداية حياته السياسية، بعد عودته من الإحساء عام (1266هـ) ؛ حيث أرسله الإمام فيصل بن تركي في مهمة دعوية؛ لإصلاح أهلها من البدع والخرافات الشركية، والتشعبات المذهبية.
قال الشيخ الشيخ عبد الله البسام:
" ... ولما عاد إلى العاصمة الكبيرة، وجد أباه وإمامه قد طعنا في السن وثقلت عليهم المسؤوليات الجسام للدولة، فكان العضد الأيمن لأبيه، كما صار الأمير عبد الله الفيصل الساعد القوي للإمام، فسار الرجلان القويان في أعمال الدولة وشؤونها، تحت توجيه وإرشاد الإمام المحنك والعالم المجرب، فاستقامت الأمور وصلحت الأحوال، حتى استقرت البلاد، وأمن العباد، وفاض الخير، وعم الرخاء.
فرحل الإمامان في سني متجاورة، وأيام متقاربة، فقد توفي الإمام فيصل عام (1282هـ) وتوفي الشيخ عبد الرحمن عام (1284هـ) ، فاستقل بالأمر الخليفتان، وانفرد كل منهما بمسؤلياته ومسؤليات والده" (1) .
فهكذا كانت بداية حياته السياسية، التي تطورت حسب تطور الأحداث، وما وقع من فتن بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله-.
وتبرز أدواره السياسية في الأمور الآتية:
أولاً: مواقفه في الفتن:
تقدم بيان ما حدث بين أبناء الإمام فيصل، الأمير عبد الله الفيصل، وأخيه سعود الفيصل، من المنازعة على الحكم بعد وفاة أبيهما، وما أتبع ذلك من حروب..
__________
(1) المرجع السابق، 1/66.
(1/108)
________________________________________
وفتن (1) ، فقد كان الشيخ عبد اللطيف وحده هو مطفيها -بعون الله تعالى له-. فوقف الشيخ -رحمه الله- في تلك الحروب مواقف خالدة ومشرفة، تشهد له بالوطنية الصادقة، والغيرة المتناهية على حرمات الإسلام والدين.
وقد تحدث الشيخ نفسه في بعض رسائله (2) عن هذه الفتنة، ودوره في إطفائها، وهي تبرز ما عاش فيه من قلق نفسي واضطراب، وفتن وملاحم، وخوف على المسلمين وبلدانهم من الغارات والنكبات، وشغل بتسكين الأمور، وملاينة الحكام المتعاقبين على مجلس الحكم، في فترة ما بين وفاة الإمام فيصل بن تركي عام (1282هـ) ، إلى وفاته هو عام (1293هـ) (3) .
فقد كان يحاول دائماً عقد الصلح بين الأبناء المتنازعين على الحكم، وجرّد نفسه للدفاع عن الأوطان والمحارم، كما كان يجتهد في أخذ الأمان لأهل الرياض، من القوات الغازية التي كانت تتبادل الهجوم على الرياض (4) .
وكان -رحمه الله- ينظر إلى تلك الصراعات بنظرة ثاقبة، وتبصر أبعد عمقاً، وأكثر اتساعاً، فكان يرى أن الفتنة لم تكن بين أميرين فحسب، وإنما كانت الشعلة المستهدفة لحرق حصون الدعوة، وسحق الكيان المتماسك الذي أسسه آل سعود. فكان يرقب تحرك أعداء الدعوة التقليديين، والأعداء الدخلاء الجاثمين على الحدود.
وبناء على هذا، كان يرى أن أياً من ذينك الأميرين استطاع الغلبة وقيادة الأمة وحمايتها من الأعداء، والمحافظة على الدعوة السلفية، أنه يكون الأحق للأمر والبيعة (5) ، خاصة أنه كان يلمس من كل منهما التحمس للدعوة، والحفاظ عليها على
__________
(1) تقدم ذلك في، ص 44-50.
(2) سيأتي كلام الشيخ عن هذه الفتنة وما حدث فيها، في الرسالة رقم (10) ، و (11) ، و (48) .
(3) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/68.
(4) سيذكر قيامه بذلك في رسالته (11) .
(5) وسيأتي زيادة تفصيل هذه المسألة في حينها في، ص278-284.
(1/109)
________________________________________
ما تركها عليه أبوهم الإمام فيصل (1) ،رحمة الله عليهم.
وفي إحدى المرات، سعى إلى تنازل الإمام عبد الرحمن بن فيصل عن الحكم، لأخيه عبد الله (2) ؛ لأنه أكبر وأقدم في الولاية، أشار عليه بذلك، وكرر عليه طلبه، حتى أجابه إلى ذلك، فخرج الأمير عبد الرحمن من الرياض، وقدم على أخيه عبد الله، وهو إذ ذاك في بادية عتيبيّة (3) . وبذلك تحقق للشيخ ما أراده من حقن دماء المسلمين، فصار الحكم إلى عبد الله، بطريقة سلمية.
ولم تكن هذه المرة الأولى ولا الأخيرة، بل إنه -رحمه الله- تحقق له حقن دماء المسلمين مرات عديدة، بفضل الله، ثم بفضل سعيه الحثيث والمخلص.
فهذا باختصار كان موقفه من الفتن، كما سيأتي ذكره في بعض رسائله مما يأتي إن شاء الله (4) .
ثانياً: رسائله السياسية:
ومن الأمور التي تضمنتها حياته السياسية، وأبرز دوره السياسي، رسائله التي كان يصدرها إلى جهات شتى، إلى الأمراء، والحكام، والإخوان، والعامة.
فقد لعبت رسائله دوراً هاماً في تثبيت دعائم الحكم لآل سعود وتوطيدها، إذ كان يعمل من خلالها على استمالة الرعية إليهم (5) .
ومن رسائله السياسية، تلك التي أرسلها على لسان الإمام عبد الله الفيصل،
__________
(1) انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/244. ومقدمة الرسائل المفيدة، ص15-16.
(2) كما جاء ذلك في رسالته رقم (11) .
(3) تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/218-219.
(4) انظر: الرسالة رقم (11) .
(5) انظر مثلاً: الرسالة رقم (8) إلى من يراه من المسلمين، في الحث على لزوم الجماعة، والنهي عن نصرة أعداء الإسلام، والرسالة رقم (23) للإمام فيصل بن تركي، والرسالة رقم (47) لأمير الشارقة سالم بن سلطان، وهي أيضاً في لزوم الجماعة وعدم نزع يد من الطاعة، ونحوها.
(1/110)
________________________________________
لوالي بغداد، بعد أن بين للإمام عبد الله، حرمة ما فعله من الاستنصار بأعداء الإسلام على المسلمين (1) ، وأقنعه بذلك، وأظهر عبد الله التوبة (2) ، فكتب على لسانه لوالي بغداد، أن الله قد أغنى ويسر، وانقاد للناس من أهل نجد والبوادي، ما يحصل به المقصود إن شاء الله، وأن لا حاجة لنا بعساكر الدولة (3) .
قال الشيخ إبراهيم بن عبيد، عند كلامه عن مواقف الشيخ ودوره في الفتنة:
" ... فقام -رحمه الله- بأعباء الدفاع عن بيضة الإسلام، وبث رسائله ونصائحه، ولم يأل جهداً في تسكين تلك الثوائر، ونصر دين الله باللسان والحجة، واستعمل ضروباً من الحكمة؛ كل ذلك لتحذير المعتدين، وتذكير المسلمين، وإفادة السامعين" (4) ، نسأل الله أن يشكر سعيه، ويعظم أجره، ويجازيه على إحسانه إحساناً.
__________
(1) حيث كان عبد الله قد استنجد بجيش من بغداد، على أخيه سعود.
(2) كما سيذكر ذلك الشيخ في رسالته (11) .
(3) انظر الرسالة في: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/195-196.
(4) المرجع السابق، 1/224.
(1/111)
________________________________________
المبحث الحادي عشر وفاته والمرثيات التي قيلت فيه
المطلب الأول: وفاته:
توفي -رحمه الله- في 14 من ذي القعدة عام 1293هـ (1) ، وأصيب المسلمون بفقده، كما فقدته الرؤساء والمحافل.
وقد كانت وفاته -رحمه الله- في مدينة الرياض (2) ، عن ثمانية وستين عاماً (68) من العمر، ثمانية منها في الدرعية، وإحدى وثلاثين عاماً بمصر، وعامان في
__________
(1) انظر: علماء الدعوة لعبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله، ص57. ومشاهير علماء نجد له أيضاً، ص119، 145. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/71، 73. عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث، لإبراهيم بن صالح، ص77. تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، لإبراهيم بن صالح بن عيسى، ص188. الأعلام للزركلي، 4/182 (ط/3، الخالية من الصور) . عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية، د. صالح بن عبد العبود، ط/1، 1408هـ، ص66، وقد خالف بعض المؤرخين هذا الرأي: فذهب القحطاني في الدرر السنية (12/73) ، إلى أن وفاته كانت في (4 من ذي الحجة، 1292هـ) . وذهب كحالة في معجم المؤلفين (6/10) ، إلى أن وفاته كانت في (14 من ذي القعدة (1292هـ) .
والصواب ما أثبته من أن وفاته كانت في (1293هـ) ، وذلك للآتي:
أ- تواتر ذلك لدى أكثر المؤرخين الذين ذكروا وفاته.
ب- أن من بين الذين ذكروه (الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله بن عبد اللطيف) فهو أقرب شخص من الشيخ، زماناً وقرابة، فقوله -على هذا الأساس- يقدم على غيره، ويكون الاعتماد عليه أسلم؛ باعتبار موقعه من النسب.
جـ- أن من بين الذاكرين لهذا التاريخ، الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى، (1270-1343هـ) في كتابيه (عقد الدرر ... وتاريخ بعض الحوادث ... ) ، فقد كان حياً حين وفاة الشيخ كما هو واضح، فقوله في تحديد وفاة الشيخ أضبط من غيره.
(2) انظر: عقد الدرر، ص77. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/71. معجم المؤلفين، 6/10.، الإعلام للزركلي، 4/182.
(1/112)
________________________________________
الإحساء وسبعة وعشرون عاماً بنجد (1) قضاها كلها في تحصيل العلم ونشره، والكفاح الدائب، والنضال المتواصل؛ لحماية عقيدة التوحيد، والذود عن حياض الدين وحرمات المسلمين.
فنسأل الله تعالى أن يرحمه رحمة واسعة، ويجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يتغمده برحمته وعفوه وغفرانه، ويسكنه فسيح جناته، وفي النعيم المقيم. آمين.
المطلب الثاني: مرثياته:
وقد رثاه جماعة من العلماء نذكر هنا بعض ما قيل في ذلك:
أ- قال ابنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف:
"لما رأيت أهل الفهم والذكاء لم يتعرضوا لرثي شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، علامة دهره ووحيد عصره، الوالد الشيخ عبد اللطيف، ثبت الله حجته، أحببت أن أبذل وسعي في ذلك ... وقلت مستعيناً بالله شعراً:
لقد أظلمت من كل أرجائها نجد ... وقد كان لي في عهدها بالهدى عهدُ
وكنا وأهلوها على خير حالة ... وأنوار هذا الدين من أفقها تبدو
وقد ساعد ليلى وطاب وصالها ... ولاح لنا من وجهها القمر الفرد
بها قام سوق للشريعة عامراً ... فكل مقال لا تقرره رد
وكل إمام لا ينفذ أمرها ... فإن كل ما يبنى من الأمر منهد
فصحراؤها روض تفتق زهره ... وحصباؤها ودر وأمواهها شهد
فلله عصر قد مضى في حمائها ... به ارتفع الإسلام وانهزم الضد
صحبناهم والدهر مرخ رواقه ... وقد مس أهل الزيغ في بأسهم حد
لقد حل بالسمحا من الخطب فاضع ... لدن غاب من آفاقها الطالع السعد
__________
(1) علماء الدعوة، ص57. مشاهير علماء نجد، ص119.
(1/113)
________________________________________
إمام التقى بحر الندى علم الهدى ... عبد اللطيف العالم الأوحد الفرد
فمذ غاب عن عيني تمثلت منشداً ... لما قاله في السالف العالم المجد
أليل غشى الدنيا أم الأفق مسود ... أم الفتنة الظلماء قد أقبلت تعدو
أم السرج النجدية الزهر أطفئت ... فأظلمت الآفاق إذ أظلمت نجد
نعم كورت شمس الهدى وبدا الردى ... وضعضع ركن للهدى فهو منهد
حليف المعالي قد رقي ذروة الهدى ... ومن دونها النسران والنجم والسعد
وعلامة ما الشافعي ومالك ... وأحمد والنعمان والليث والمجد
يرى في ثياب النسك حبراً كأنه ... مليك جليل القدر تعفو له الأسد
فسائل به آيات مجد شواهدا ... طوالعها لا يستطاع لها جحد
فكم من ضلال قد تصدى لرده ... وكم من هدى أبداه إذ أشكل الرد
فيها أيها الحبر الذي كان حجة ... عليك سلام الله ما سبح الرعد
بنيت بناءً للشريعة قد سما ... به من قبلك الأب والجد
وأسست هذا الدين حتى سما ... به أناس رعاهم قبلك الذيب والفهد
أنبأتهم كيف السياسة والعلى ... وكيف يقاد الجيش والجرد والجند
فأورثتهم مجداً وما كان مثله ... يرام له إرث وإن عظم الجد
حظوظ بميراث النبي أشادها ... إمام سما في العلم ليس له ند
أعاد لنا نهج الشريعة واضحا ... وقد عز من دهر تقادم أن يبدو
وجلى لنا أسرار شرعة أحمد ... وأن إله الحق في حكمه فرد
فجرّت به نجد ذيول افتخارها ... وكادت إلى فوق السماكين تعتد
حديث رسول الله إن جاء درسه ... يفوح به من طيبة المسك والورد
محاسن من دنيا ودين سماء بها ... إلى شرف العليا فحق له المجد (1)
ب- ورثاه الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن طوق، بقصيدة مطلعها:
أبا خلق الأيام حيا تسالمه ... وإن عظمت هماته وعزائمه
__________
(1) الدرر السنية، 12/68-69.
(1/114)
________________________________________
فما أوحش الدنيا ويا حزن نجدها ... ويا يتمه للعلم إذ مات عالمه
فما مر يوم مر يوم أتى به ... بأوحش أنباء بريد يكاتمه
وجدنا كأن الأرض حتماً تزلزت ... فأظلم كل الكون وارتج عالمه
وهاجت رياح من زفير تنفس ... وجاد بماء الجفن سحا غمائمه
فيالك من رزء فظيع على الورى ... وهد بسور العلم أوهاه ثالمه
فقد كان للدنيا وللدين عدة ... وكنزاً أبى مضروبها أن يقاومه
بقية أهل العلم والعَلَم الذي ... تلقاه فرع أصلته أكارمه
إلى أن قال:
وعاش سعيداً ثم مات موحداً ... على المبلغ المنجي طريق ملازمه
فلا حي إلا والكل هالك ... سواه ولا بد المنون تزاحمه
وماذا وإن أعطيت عمراً كآدم ... وللدهر يوماً سوف يدركك صارمه
فطوبى لعبد أيقظته عناية ... وجافته عن دار الغرور عزائمه (1)
جـ- ورثاه تلميذه (وجامع رسائله) الشيخ سليمان بن سحمان، بقصيدة طويلة، في (42) بيتاً، نقتطف منها الأبيات التالية، ومطلعها:
تذكرت والذكرى تهيج البواكيا ... وتظهر مكنوناً من الحزن ثاويا
معاهد كانت بالهدى مستنيرة ... وبالعلم يزهو ربع تلك الروابيا
فما كان إلا برهة ثم أطبقت ... علينا بأنواع الهموم الروازيا
فكنا أحاديث كأخبار من مضى ... وننبأو عنها في القرون الخواليا
لعمري لئن كانت أصيبت قلوبنا ... وأوجعها فقدان تلك المعاليا
لقد زادت البلوى اضطراماً وحرقة ... فحق لنا اهراق دمع المآقيا
فقد أظلمت أرجاء نجد وأطفئت ... مصابيح داجيها لخطب وداهيا
لموت إمام الدين والعلم والتقى ... مذيق العدا كاسات سم الأفاعيا
__________
(1) المرجع السابق، 12/73-74.
(1/115)
________________________________________
ولما نمى الركبان أخبار موته ... وأصبح ناعي الدين فينا مناديا
رثيناه جبراً للقلوب لما بها ... وحل بها من موجعات التآسيا
لشمس الهدى بدر الدجى علم الهدى ... وغيظ العدا فليبك من كان باكيا
ولا زال إحسان الإله وبره ... على قبره ذا ديمة ثم هاميا
وأسكنه الفردوس فضلاً ورحمة ... وألحقه بالصالحين المهاديا
عليه تحيات السلام وإن نأى ... وأضحى دفيناً في المقابر ثاويا
فيا معشر الإخوان صبراً فإنما ... مضى لسبيل كلنا فيه ماضيا
فإن أقل البدر الفريد وأصبحت ... ربوع ذوي الإسلام منه خواليا
فقد شاد أعلام الشريعة واقتفى ... بآثار آباء كرام المساعيا
همُ جددوا الإسلام بعد اندراسه ... وأحيوا من الأعلام ما كان عافيا
فيا رب جد بالفضل منك تكرماً ... وبالعفو عنهم يا مجيب المناديا
وابق بينهم سادة يقتدى بهم ... إلى الخير يا من ليس عنا بلاهيا (1)
__________
(1) نفس المرجع السابق، 12/74-75، وتذكرة أولي النهى والعرفان، 1/233-234.
(1/116)
________________________________________
المبحث الثاني عشر: ثناء علمائه عليه
...
المبحث الثاني عشر ثناء العلماء عليه
وقد أثنى عليه جماعة من العلماء الأفاضل، ويدور كلامهم في ذلك على ما اشتهر به الشيخ وتبحر فيه من علوم وفنون شتى.
فقد وصفه الشيخ إبراهيم بن صالح بقوله: " ... كان -رحمه الله- إماماً عالماً فاضلاً بارعاً محدثاً فقيهاً أصولياً ... " (1) .
كما قيل في الثناء عليه، عدد من القصائد، منها: قول الفاضل علي أفندي:
لاح نور وزال الضلال ... ودها الشرك والعناد زوال
وتجلت شمس الكمال عياناً ... بعد ما كان دونها ضلال
ورياض التوحيد جاد رباها ... من سما الحق عارض هطال
وبدا الجهبذ المحقق للحق ... الإمام المهذب المفضال
والهزبر الهمام والعالم النحرير ... من عنده تنتهي الآمال
ذاك عبد اللطيف كنز المعالي ... هو بحر للعلم بحر زلال (2)
وقال الشيخ أحمد بن مشرف الإحسائي:
وعبد اللطيف الحبر لا تنس فضله ... إمام هدى بالعلم تزهو محافله (3)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد المانع:
سما رتبة في العلم لم يتصل بها ... سواه ولم يبلغ سناها ذوو الصدر
فكان أحق الناس في قول من مضى ... إذا ما انتدى للقوم في محفل الذكر
__________
(1) عقد الدرر، 12/77.
(2) الدرر السنية، 12/69.
(3) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(1/117)
________________________________________
وأقلامه تجري على متن طرسه ... فتشفى أوام الصدر عن مغلق الحصر
وإن طالب يأتيه يبغي إفادة ... أزاح له الإشكال بالسبر والخبر
وأنهله من بحره الجم نهلة ... فراح بها بدري وقد كان لا يدري (1)
وقال فيه تلميذه سليمان بن سحمان:
فعبد اللطيف الحبر أوحد عصره ... إمام الهدى قد كان لله داعيا
لقد كان فخراً للأنام وحجة ... وثقلاً على الأعداء عضباً يمانيا
إماماً سما مجدا إلى المجد وارتقى ... وحل رواق المجد إذ كان عاليا
تصدى لرد المنكرات وهدماً ... بنته عداة الدين من كان طاغيا
فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ... ويحمي حماها من شرور الأعاديا
حياة إله العرش في العلم والنهى ... بما فاق أبناء الزمان تساميا
وقال:
لقد جدّ في نصر الشريعة والهدى ... وسد ينابيع الغواة الأخاسر
وإعلاء دين الله جل ثناؤه ... وتأسيس أصل الدين سامي الشعائر
وقال:
عبد اللطيف الذي شاعت مناقبه ... غرباً وشرقاً ومن بصرى إلى عدن
ما مصقع بلتع حاذاه أو علم ... في العلم فيما علمنا من بني زمن (2)
إلى آخر القصيدة. وغير ذلك من القصائد التي وردت في الثناء على الشيخ عبد اللطيف، رحمة الله عليه (3) .
__________
(1) المرجع السابق، 12/69-70.
(2) المرجع السابق، 12/-70-71.
(3) انظر بقية ما قيل فيه في المرجع السابق.
(1/118)
________________________________________
الباب الثاني: دراسة الكتاب
الفصل الأول: التعريف بالكتاب
المبحث الأول: عنوان المخطوط
...
المبحث الأول عنوان المخطوط
اتفقت جميع النسخ على تسمية الكتاب على الورقة الأولى: بأنه: (عيون الرسائل والأجوبة على المسائل) .
وهذا الاسم ليس من وضع المؤلف الشيخ عبد اللطيف صاحب الرسائل، وإنما وضعه تلميذه (جامع الرسائل) الشيخ سليمان بن سحمان، بعد أن جمع رسائل شيخه التي كانت منتشرة في كتاب واحد، فسماه بهذا الاسم، وهو ما وضحه أصحاب التراجم، كما يأتي بيانه قريباً في مبحث توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف. وعليه، يجدر بنا معرفة نبذة يسيرة عن جامع هذه الرسائل التي بين أيدينا وذلك في المبحث التالي:-
(1/121)
________________________________________
المبحث الثاني ترجمة جامع الرسائل
قام بأعباء جمع هذه الرسائل وتربيتها على ما هي عليه، الأستاذ الفاضل، صاحب المصنفات العديدة المفيدة، واللسان المدافع عن الدعوة السلفية، الشيخ العلامة، سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان بن مسفر بن محمد بن مالك ابن عامر، الخشعمي مولاهم، العسيري أصلاً ومولداً، النجدي منشأ ومستقراً.
ولد في قرية السقا (1) عام 1226هـ، ونزح والده إلى الرياض في ولاية الإمام فيصل بن تركي، كرمه الإمام فيصل. قرأ على الإمام عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحمد بن عتيق قاضي الأفلاج وغيرهم. له مصنفات عديدة، منها:
- الحجج الواضحة الإسلامية (مخطوط) في مكتبة الشيخ عبد الرحمن بن سحمان بالرياض.
- الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد. مطبوع بمطابع الرياض، الطبعة الثانية 1376هـ.
- إقامة الدليل والمحجة.
- البيان المبدي لشناعة لقول المجدي. مطبوع بمطبعة القرآن والسنة، أمر تسر الهند.
- تأييد مذهب السلف وكشف شبهات من حاد وانحرف ودعى باليماني شرف. مطبوع بمطبعة المصطفوية، 1323هـ بومبي.
- تبرئة الشيخين الإمامين، من تزوير أهل الكذب والمين. مطبوع.
__________
(1) السقا: قرية من ضواحي مدينة أبها. (ذكره لي الدكتور سعيد أبو مدرة، قسم الدعوة بالجامعة الإسلامية.
(1/122)
________________________________________
- تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة. مطبوع بمطبعة المنار بمصر، الطبعة الأولى، 1343هـ.
- الجواب الفارق بين العمامة والعصائب.
- الجواب المستطاب على ما أورد الجاهل المرتاب، المسمى بمبروك.
- الجواب المنكي في الرد على الكنكني.
- حل الوثاق في أحكام الطلاق.
- الصواعق المرسلة الشهابية، على الشبه الداحضة الشامية. مطبوع بمطابع الرياض، 1376هـ. (ضمن مجموعة كتب) .
- الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق، جميل أفندي الزهاوي. مطبوع بمطبعة المنار بمصر، الطبعة الأولى، 1343هـ.
- عقود الجواهر المنضدة الحسان من أشعار سليمان بن سحمان. مطبوع بمطبعة المصطفوية، الطبعة الأولى، 1337هـ بومبي.
- كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس.
- كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام. مطبوع بمطابع الرياض، 1376هـ.
- منهاج الحق.
- نبذة في الزيارة.
- الهدية السنية والتحفة الوهابية. مطبوع بمطبعة المنار بمصر، الطبعة الثانية، 1343هـ وله رسائل وأجوبة، وغير ذلك من المصنفات المفيدة. وقد كف بصره عام 1331هـ، وتوفي سنة 1349هـ، رحمه الله (1) .
__________
(1) الدرر السنية، 12/87-93. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/279-281. علماء الدعوة
(1/123)
________________________________________
المبحث الثالث توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف
من بين الأمور المثبتة والمؤيدة لنسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه، والتي جعلني أتأكد من حقيقة هذه النسبة، ما يلي:
أولاً: المعاجم والكتب التي نسبت إليه هذه الرسائل:
1- الدرر السنية:
فقد قال الشيخ عبد الرحمن القحطاني عند ذكره لمصنفاته: "له رسائل عديدة وأجوبة مفيدة، تبلغ مجلداً، جمع أكثرها الشيخ سليمان بن سحمان وقال: لقد اشتملت على أصول أصيلة، ومباحث جليلة، لا تكاد تجدها في كثير من الكتب المصنفة، والدواوين المشهورة المؤلفة ... إلخ" (1) .
وهذا الكلام نفسه هو ما ذكره جامع الرسائل، الشيخ سليمان بن سحمان، في مقدمته على الرسائل، كما سيأتي (2) .
2- تذكرة أولى النهى والعرفان، لإبراهيم بن عبيد (3) قال فيه:
"أما رسائله ونصائحه، فقد جمعها الشيخ المعاصر سليمان بن سحمان، جعلها منسوقة واعتنى بضبطها والتعريف بها، وجعل لكل رسالة مقدمة فيها تحتوي عليه،
__________
ص87 المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عرض ونقض، إعداد عبد العزيز محمد بن علي بن عبد اللطيف، دار الوطن للنشر، ط1/، 1412هـ، ص383-384. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص290-322. وانظر مقدمة الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية، لسليمان بن سحمان، مطابع دار الثقافة، مكة المكرمة، الزاهرة، 1393هـ-1973م، ص أ – ز.
(1) الدرر السنية، 12/71.
(2) سيأتي ذلك عند بداية القسم الثاني، (التحقيق) .
(3) تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/227.
(1/124)
________________________________________
ولم يفته منها إلا النادر. ويا ليته اعتنى بترتيب الرسائل، وذكر وقت التاريخ لوضع المؤلف لها".
وها هي منشورة في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، من أحب مراجعتها فليراجعها، ... بيد أنه لم يجمل ترتيبها، ووضع تاريخ لكل رسالة، إن تيسر ذلك وساقها الله إلى خبير بتلك البضاعة، فيا حسنها. وقد وضعها الشيخ المعاصر في نحو من عشرين كراسة وسماها: (عيون الرسائل والأجوبة على المسائل) فناهيك بها أمارات أعربت عن قدر منشيها ومنزلته، وأجوبة أفصحت عن براعته ودرجته".
3- علماء نجد خلال ستة قرون: لعبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام: فعند ذكره لمؤلفات الشيخ عبد اللطيف، عدّ من ضمنها هذا المخطوط، فقال: " (عيون الرسائل والمسائل) وهي مخطوطة في مكتبة جامعة الرياض".
وقد صدق، إذا وجدت هناك بعض النسخ لهذه المخطوطة، كما سيأتي بيانه (1) .
4- مشاهير علماء نجد وغيرهم: للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، فقد قال عنده ذكره لمصنفات الشيخ عبد اللطيف: " ... وله رسائل كثيرة، كتبها في أغراض متعددة، علمية واجتماعية وسياسية، لو جمعت على حدة لبلغت مجلداً ضخماً، ولكنها طبعت مفرقة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية" (2) .
5- عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث في آخر القرن الثالث عشر وأول الرابع عشر، للشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى النجدي:
قال عند تعداده لمصنفات الشيخ: "وله رسائل عديدة وأجوبة على أسئلة مفيدة" (3) .
__________
(1) يأتي ذلك في المبحث الرابع، عند وصف النسخ الخطية.
(2) مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص98، 99.
(3) عقد الدرر، ص78.
(1/125)
________________________________________
6- الأعلام، لخير الدين الزركلي (1) :
قال عند ترجمته: " ... له مصنفات، منها: ... ورسائل وأجوبة وردود".
ثانياً: نسبة الجامع للرسائل الرسائل إلى صاحبها:
نجد أن جامع هذه الرسائل تلميذه الشيخ سليمان بن سحمان، قد نسبها إلى شيخه عبد اللطيف -رحمه الله- كما جاء ذلك في مقدمته عليها. ولا شك أنه أدرى بما قام به شيخه من أعمال علمية؛ لقربه ومعاشرته له، مع ما قام به من مجهود جبار في إحياء تراث شيخه.
ثالثاً: تصدير الرسائل باسم الشيخ صاحبها:
إن كل رسالة من جميع هذه الرسائل، كان الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- يصدرها بذكر اسمه، فيقول: "من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى ... "، وهذا مما يؤيد ثبوت كون هذه الرسائل له.
رابعاً: اتفاق جميع النسخ المخطوطة:
على نسبة الكتاب لصاحبه، الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمه الله.
خامساً: ما ذكره بعض المحققين المعتمدين من علمائنا المعاصرين:
ومن أولئك: شيخنا الفاضل، الدكتور صالح بن عبد الله بن عبد الرحمن العبود -نفعنا الله بعلمه والمسلمين-، فقد قال في كتابه: "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، وأثرها في العالم الإسلامي" عند ذكره للمراجع الأساسية التي اعتمد عليها في كتابه؛ قال: "والثالث: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثالث، تأليف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، المولود عام 1225هـ،
والمتوفى عام 1293هـ، والذي رتب هذه المسائل وبوبها هو تلميذه سليمان بن
__________
(1) الأعلام للزركلي، 4/182.
(1/126)
________________________________________
سحمان، المولود عام 1266هـ، والمتوفى عام 1349هـ" (1) .
وقال أيضاً عند ترجمته للشيخ عبد الرحمن بن حسن والد الشيخ عبد اللطيف: "… وقد ساعده على حمل راية العلم والسنة، ابنه الشيخ عبد اللطيف، فقد كتب رسائل كثيرة … خصص جامع الرسائل والمسائل النجدية الجزء الثالث من مجموعة الرسائل والمسائل لبعضها، فبلغت ستاً وسبعين رسالة، في أربعمائة وثلاث وخمسين صفحة (453) " (2) .
__________
(1) عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص102.
(2) المرجع السابق، ص566.
(1/127)
________________________________________
المبحث الرابع موضوع الكتاب
يتناول هذا الكتاب ثلاثة موضوعات رئيسية؛ وهي:
الأول: رسائل في عقيدة التوحيد، وما يضادها من الشرك.
وهي معظمها، يتناول فيها مسائل متعلقة بالعقيدة، بأنواعها؛ في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
الثاني: رسائل في الفتاوى.
وهي عبارة عن أجوبة حول مسائل كانت ترده من بعض السائلين عن مسائل فهقية. وهي قليلة.
الثالث: رسائل في الفتن الواقعة في عصره. وهي عدة رسائل.
وهذه الرسائل غير مرتبة ترتيباً موضوعياً، فكما قال الشيخ محمد رشيد رضا (1) في مقدمة مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، عند كلامه عن مجهود الشيخ ابن سحمان في جمع هذه الرسائل، قال:
" ... ثم إنه لم يعن بترتيبها بحسب موضوعاتها، كجعل الرسائل الخاصة بالتوحيد
والاتباع وما ينافيها من الشرك والابتداع متناسقة في باب، والرسائل والفتاوى في الفروع متناسبة في باب آخر، والرسائل المتعلقة بالفتنة والشقاق الذي وقع
__________
(1) هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني، البغدادي الأصل، الحسيني النسب، صاحب مجلة، المنار، من الكتاب، عالم بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير. له تفسير القرآن الكريم، والوحي المحمدي، ويسر الإسلام وأصول التشريع العام، وغيرها. قدم لكتاب: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، وبعض التعليقات عليه. (ت 1354هـ) .
انظر: الأعلام للزركلي، 6/126.
(1/128)
________________________________________
بين آل سعود بسبب التنازع على الإمارة، متتابعة في باب ثالث (1) لكانت الفائدة أتم" (2) .
هذا ما رآه الشيخ رشيد، وهو في الواقع رأي سليم؛ إذ إن تمام الفائدة والتيسير على القارئ يقتضيان ذلك؛ حيث يسهل الوقوف على الرسائل ذات الموضوع الواحد، متناسقة متتالية في مكان واحد.
وعليه، فقد رأيت أن أقوم بهذا العمل، وأرتِّب الرسائل ترتيباً موضوعياً. وبذلك سوف تكون الرسائل مرتبة على أبوابها كالتالي، وفقاً لأرقامها في النسخة الأصل:
أولاً: الرسائل الخاصة بعقيدة التوحيد والاتباع، وما ينافيها من الشرك والابتداع:
أرقامها: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 10، 12، 13، 14، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 23، 24، 25، 28، 30، 31، 32، 33، 35، 36، 40، 41، 42، 55، 57، 58، 59، 62، 63، 64، 66، 67، 68، 69، 70، 73، 74.
[المجموع 45 رسالة] ، يزاد عليها (11) رسالة من الرسائل الملحقة وهي: 77، 78، 79، 80، 86 88، 93، 94، 95، 96، 97.
ثانياً: الرسائل الخاصة بالفتاوى في الفروع:
أرقامها: 21، 22، 34، 37، 38، 39، 43، 45، 46، 47، 53، 54، 56، 60، 61، 72، 75، 76. [المجموع 18 رسالة] ، يزاد عليها (8) من الرسائل الملحقة هي: 83، 84، 85، 87، 89، 90، 91، 92.
__________
(1) هكذا في النص، والظاهر أن هنا سقطاً، تقديره: "ولو فعل ذلك ... ".
(2) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، لبعض علماء نجد الأعلام، دار العاصمة، الرياض، النشرة الثالثة، 1412هـ، 3/ ص م.
(1/129)
________________________________________
ثالثاً: الرسائل المتعلقة بالفتن:
أرقامها: 9، 11، 26، 27، 29، 44، 48، 49، 50، 51، 52، 65، 71 [المجموع13] ، يزاد عليها (2) من الرسائل الملحقة هما: 81، 82.
فمجموع هذه الرسائل كلها (97) رسالة. وعلى حسب هذه الأرقام، سيكون الترتيب الفني لهذه الرسائل.
ويشار هنا إلى أن جميع الرسائل في كل النسخ المخطوطة، غير مرقمة، وهذه الأرقام من وضعي، حسب تسلسل الرسائل في النسخة الأصل.
(1/130)
________________________________________
المبحث الخامس وصف النسخة الخطية والمطبوعة
أ - النسخ المخطوطة
أولاً: عدد النسخ المخطوطة:
وجدت للمخطوطة أربع نسخ خطية، وهي التي كان عليها العمل.
ثانياً: وصف النسخ الأربعة:
النسخة الأولى: ورمزها (أ) .
- مكان وجودها: هي موجودة بمكتبة جامعة الملك سعود، بالرياض، المملكة العربية السعودية، قسم المخطوطات، برقم 315/3م (1) ،عقائد.
- الناسخ: لا يوجد اسم الناسخ على غلاف هذه النسخة.
- تاريخ نسخها: سنة 1319هـ، هذا ما ورد في آخر رسالة (20) صفحة52، قال: "تحريراً في 29 صفر، 1319هـ".
ويوجد بالغلاف سنة 1340هـ، وهو من وضع مصور النسخة، ويُوهم هذا التاريخ بكونها منسوخة في هذه السنة، والحق أن هذا التاريخ هو تاريخ المعلِّق على النسخة، ومالكها الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن ربيعة، كما صرح بذلك في ختام بعض تعليقاته في هامش صفحة (107) جاء فيها: " ... وصلى الله على محمد وسلم، غرة/ جا (2) / سنة 1285هـ" ثم قال: "نقلتها من تلك النسخة المؤرخة بهذا التاريخ،
__________
(1) وقد صورتها حين زيارتي للمكتبة، يوم الثلاثاء في 24 من شوال، 1414هـ، الموافق 5 من أبريل، 1994م.
(2) هكذا، ولم أدر ما مراده، لعله يريد غرة أحد الجمادين.
(1/131)
________________________________________
وأنا الفقير إلى الله عبده، عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن ربيعة، وذلك في 28 صفر 1340هـ" ا. هـ. كما أن له عليها تعليقات في هامش بعض الصفحات للفائدة.
- السماعات الموجودة عليها: جاء على الورقة الأولى، بعد اسم الكتاب واسم المؤلف، سماعان:
1- سماع عن اسم مالك النسخة، هو: "مما منّ الله بها على عبده، عبد الله بن إبراهيم الربيعي".
2- سماع ثان على الورقة الأولى: "ليعلم الناظر لهذا المجموع، أنه إلى حد هذا، وهي الرسالة التي فيها نسب الشيخ محمد، -رحمه الله-، أنه من جمع الشيخ سليمان بن سحمان، والباقي علّقه في هذا المجموع من وجده بعد، وهو كاتبها (1) عبد الله بن إبراهيم الربيعي، لأجل فائدة للمسلمين، جزى الله فاعل الخير بخير الجزاء".
- عدد أوراقها: (69) أي 138 صفحة، ضمن مجموع.
- مقياسها ومسطرتها: 34 X 16سم.
- عدد الأسطر في كل صفحة: تختلف عدد الأسطر الموجودة على صفحات هذه النسخة، فالصفحات الأولى يتراوح متوسط عدد الأسطر فيها بين 35-37 سطراً، وفي الصفحات الوسطى ما بين 40-45، بينما يصل عدد الأسطر في بعض الصفحات الأخيرة إلى ما فوق الخمسين 50 سطراً في الصفحة.
- عدد الكلمات في كل سطر: يبلغ متوسط عدد الكلمات في كل سطر: 16 كلمة.
خطها: خط نسخ جيد.
__________
(1) كاتب الملحق، وليس الأصل؛ للتباين الواضح بين الخطين. وهو أيضاً صاحب التعليقات في حواشي الصفحات.
(1/132)
________________________________________
الملاحظات عليها:
نسخة جيدة، وإن كان ببعض الكلمات في الصفحات الأولى تلويث بالحبر، ورطوبة وبلل مما أفسد الكتابة، من غير طمس، ويمكن قراءتها.
يوجد بها بعض الأخطاء الإملائية.
- سبب اختيارها لتكون الأصل:
فقد اخترت هذه النسخة (أ) لتكون الأصل للأسباب الآتية:
1. كمالها وسلامتها من النقص عموماً، وما فيها من الزيادات عن غيرها.
2. وضوح خطها وجودته.
3. قلة أخطائها، خاصة اللغوية والإملائية، التي تكثر في غيرها.
النسخة الثانية، ورمزها (ب) .
- مكان وجودها: هي موجودة بالمكتبة السعودية بالرياض، قسم المخطوطات، برقم 55/86، عقائد. كما توجد أيضاً في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، المملكة العربية السعودية، قسم المخطوطات، برقم (ف 6/15 س) . فهو ضمن مجموع، أي رقم الفلم (6) ، وترتيب الكتاب في الفلم (15) . وهو مصور عن نسخة المكتبة السعودية بالرياض (1) . ويوجد نسخة منه في مكتبة الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة، قسم المخطوطات، برقم 21/214.
- الناسخ: إبراهيم بن حسن الضبيب (2) .
- تاريخ النسخ: سنة 1335هـ، كما هو واضح في الورقة الأخيرة عند النهاية،
__________
(1) صورتها يوم الأربعاء من مكتبة جامعة الملك سعود، في 25 من شوال، 1414هـ، الموافق 6 من أبريل، 1994م.
(2) هو إبراهيم بن حسن الضبيب، وقد جاء التصريح بكونه كاتبه، في آخر الرسالة.
(1/133)
________________________________________
في صفحة 237. وجاء في آخر الورقة الأخيرة: " ... ممليه إبراهيم بن حسن الضبيب، يبلّغ الجميع السلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
تمت هذه الرسائل بعون مولى الفضل والفضائل سبحانه جل عن ند وعن مماثل، فرحم الله مؤلفها وكاتبها والمطالع فيها، آمين ثم آمين. 28 شوال، 1335هـ" ا. هـ.
- عدد أوراقها: 116 ورقة. أي 232، من (ص5 – 237) .
- مسطرتها: 8، 24 X 16سم.
- عدد الأسطر في كل صفحة: 23 سطراً.
- عدد الكلمات في كل سطر: 13 – 15 كلمة.
- خطها: نسخ معتاد جيد، بعض الكلمات في الأصل بلون أحمر، لون بعض الورق يميل إلى الصفرة قليلاً.
- الملاحظات عليها:
1. هذه النسخة غير مكتملة؛ فقد سقطت من بدايتها ورقتان من صفحة (1-4) وهي من الرسالة الأولى.
2. سقطت منها رسائل رقم (6) (59) كما سقطت منها أربعة عشر رسالة في الأخير, س من رقم (62-75) .
3. مخالفتها الشديدة في ترتيب الرسائل فيها، عما في غيرها. فالرسائل المتقدمة في بقية النسخ إلى نصف مجموعها_ هي الأخيرة في هذه النسخة.
4. يوجد بها مسألة زائدة (حول عمل ختمة في ليلة مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-) وهي تأتي بعد نهاية الرسالة الأولى مباشرة، في ص12.
5. يوجد بها أخطاء إملائية، متشابهة، إلى حد كبير، بأخطاء النسخة (أ) .
(1/134)
________________________________________
6. يوجد بياض بالصفحة 34 كاملة.
7. يوجد ببعض الهوامش تصحيحات وتعليقات.
النسخة الثالثة: ورمزها (ج) .
- مكان وجودها: موجودة بالمكتبة السعودية بالرياض، قسم المخطوطات، تحت رقم (358/86) عقائد.
كما توجد أيضاً في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، قسم المخطوطات، برقم (ف 40/13س) ، وهي مصورة عن نسخة المكتبة السعودية (1) .
- الناسخ: لم يذكر، ولم أجد ما يشير إليه.
- تاريخ النسخ: لم يذكر. وعلى الورقة الأولى: "لعله القرن الثالث عشر الهجري". وهذا هو المؤكد، بدليل وجود تمليك سنة 1297هـ, كما سيأتي في السماعات التالية، فيكون النسخ قبله.
-السماعات الموجودة عليها: يوجد على الورقة الأولى سماع واحد، وهو عبارة عن مالك النسخة، يليها عدد من تمليكات:
التمليك الأول:
وهو تمليك مؤرخ سنة (1310هـ) ومشطوب، ونصه: "تملّكه بفضل ربه المنان، صالح بن محمد بن عجلان، بالشراء الشرعي، بحضرة الإخوان/ (2) / وصالح البنيان (3) ، والله خير شاهد، سنة 1310هـ".
__________
(1) وقد صورتها مع النسختين السابقتين. انظر هامش الصفحة 133.
(2) اسم شخص غير واضح، لعله (مصلح وحمد) .
(3) هو الشيخ صالح بن سالم بن محسن آل بنيان، ولد في حائل 1256هـ، وعين قاضياً فيها، وفيها توفي سنة 1330هـ. انظر ترجمته: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/349-351.
(1/135)
________________________________________
تمليك ثان:
ثم جاء تحته مباشرة تمليك مؤرخ سنة (1314هـ) وهو مشطوب أيضاً ونصه: "ثم انتقل إلى ملك الفقير إلى ربه المنان، عبده عطية بن سليمان، بالشراء الشرعي، وذلك سنة 1314هـ" (1) .
تمليك ثالث:
يوجد تمليك ثالث وهو لمالك النسخة، مؤرخ سنة (1321هـ) : ونصه: "الحمد لله وحده وبعد: فقد منّ الله الملك المعبود، بملك مجموع هذه الرسائل، على عبده الفقير المذنب المقر المعترف بالذنوب والتقصير، الراجي عفو اللطيف الخبير، عبده عيسى بن حمود آل مهوس، بالشراء الشرعي سنة (1321هـ) .
تمليك رابع:
جاء في هامش صفحة (224) وهي الصفحة الأخيرة من النسخة، ذكر لأقدم تمليك لهذه النسخة ونصه:
"في ملك الفقير إلى الله سبحانه وتعالى، عبد الله بن أحمد / (2) / غفر الله له ولوالديه وللمسلمين. وصلى الله على محمد وسلم. سنة (1297هـ) ".
- عدد أوارقها: (128) ورقة، أي (256) صفحة.
- مقياسها ومسطرتها: 24 X 17.5سم.
- عدد الأسطر في كل صفحة: 25.
- عدد الكلمات في كل سطر: 13-14.
- خطها: نسخ حسن.
__________
(1) انظر: صورة نسخة (ج) الورقة الأولى ص141.
(2) هنا نسبة لم أتمكن من قراءتها.
(1/136)
________________________________________
- الملاحظات عليها:
1- النسخة ناقصة من آخرها، فهي تنتهي برسالة رقم (58) من مجموع الرسائل البالغ عددها (74) . كما أنها تنتهي مع نهاية صفحة (224) ، أما بقية الصفحات من (225-255) فهي تكرار لبعض رسائل تقدمت في نفس النسخة.
* فمن صفحة (225-243) ، تكرار لرسالة تقدمت في صفحة (151-163) .
* ومن صفحة (244-255) آخر النسخة، تكرار للرسائل من صفحة (206-223) من النسخة.
وذكر في هامش هذه الصفحات المكررة: "وقف لوجه الله تعالى، على يد عيسى آل مهوس (1) ، إن شاء الله تعالى".
2- نسخة حسنة، يوجد ببعض الهوامش تعليقات وتصويبات.
3- رؤوس فقراتها أكبر، وبعضها بالحمرة (في الأصل) دون النسخة المصورة.
4- في صفحتها (224) زيادة مسألة في "بيع النخل بالدين الحال الذي في الذمة قبل قبضه".
5- يوجد طمس لبعض الأسطر في بعض الصفحات مثل صفحة 195، 196، 221.
النسخة الرابعة: ورمزها (د) .
- مكان وجودها: هي موجودة بمكتبة الجامعة الإسلامية المركزية بالمدينة المنورة، قسم المخطوطات، تحت رقم الفلم (5229) ، العقيدة.
__________
(1) وهذا الذي ملكه سنة (1321هـ) . ومن الملاحظ، أن خط الرسائل المكررة، التي جعلها عيسى آل مهوس لا يختلف عن خط بقية النسخة، فإن كان مراده هنا بقوله: "على يد عيسى ... " أنه بنسخ يده، فيمكن اعتباره حينئذٍ الناسخ لهذه النسخة (ج) ، وإن كان المراد المراد استنساخه لهذا الجزء من أجل الوقف، فعندئذٍ يظل الناسخ مجهولاً. والله أعلم.
(1/137)
________________________________________
- الناسخ: عبد العزيز بن محمد بن منيع (1) . وهو في السماع أول المخطوطة كما يأتي.
- تاريخ النسخ: 1310هـ.
- ويوجد في لوحة (96) رسم لسنة 1291هـ، عند نهاية أحد الرسائل (2) .
- السماعات الموجودة عليها: جاء على الورقة الأولى بعد اسم الكتاب سماع واحد، وهو عبارة عن مالك النسخة وكاتبها: "في ملك من كتبه لنفسه عبد العزيز بن محمد بن منيع، غفر الله له ولوالديه وإخوانه المسلمين. وصلى الله على محمد، سنة 1310هـ".
- عدد أوراقها: 119 ورقة، أي (238) صفحة.
- مقياسها ومسطرتها: لا يوجد.
- عدد الأسطر في كل صفحة: 29.
- عدد الكلمات في كل سطر: 12-13.
- خطها: نسخ لا بأس به.
- الملاحظات عليها: يوجد على هذه النسخة ملاحظات عدة، منها:
1. اشتمالها على كثرة الأخطاء، اللغوية والإملائية، فلا تدانيها في هذا نسخة من النسخ الموجودة لدي. فمن أخطائها الإملائية على سبيل المثال:
- لفظ [ابن] مرسوم مع ألفه بين علمين، هذا في النسخة كلها.
__________
(1) هو عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن محمد بن منيع الوهيبي، ولد في عنيزة سنة 1263هـ (ت 1307هـ) انظر ترجمته: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/487-491.
(2) ولعله كان تاريخاً أنهى فيه نسخ تلك الرسالة. فيكون التاريخ المثبت على الورقة الأولى، عند الانتهاء الكلي من النسخ.
(1/138)
________________________________________
- لفظ [الموالات والمعادات] بتاء مفتوحة. وكذلك التبديل بين التاء المفتوحة والمربوطة في الكلمات المنتهية بها؛ مثل: [جفاة جفات/ جهات جهاة] .
- كل لفظ منتهٍ بهمزة مثل (الأهواء) يقلب آخرها ألفاً مقصورة (الأهوى) .
- التبديل بين الضاد والظاء في كثير من الكلمات التي ورد فيها هذان الحرفان؛ مثل: [أضهره، ضنّ الضالم/ بدلاً من: أظهره، ظنّ، الظالم] ، ونحو: [الفاظل، حاظر، ظرره/ بدلاً من: الفاضل، حاضر، ضرره] .
- القطع بين أجزاء الكلمة؛ فكثير من الكلمات يكتب أولها في آخر السطر، والجزء الأخير منها في أول السطر التالي؛ مثل: [الموالات/ الإقامة/ كان/ قا ل/ ذالك/ يش رع] وهكذا.
2. يوجد بعض التصويبات في هوامش بعض الصفحات.
(1/139)
________________________________________
ب- النسخة المطبوعة
أولاً: عدد الطبعات:
طبعت رسائل الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- وفتاواه متفرقة في الكتب المشتملة على الرسائل النجدية، فجاءت بعض رسائله في الدرر السنية (1) ، وفي الهدية السنية (2) ، وفي بعض أجزاء مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (3) .
ثم طبعت بعض هذه الرسائل مجموعة، بعد أن خصص جامع الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثالث من المجموعة، لهذه الرسائل الواردة في المخطوطة التي بين أيدينا. وتشتمل الطبعة كلها على خمسة أجزاء، طُبعت طبعة واحدة، وصوِّرت تلك الطبعة مرتين، وإليك فيما يلي وصف النسخة المطبوعة..
ثانياً: وصف النسخة المطبوعة.
الطبعة الأولى:
- طابعها: طبعت هذه الرسائل للمرة الأولى، بمطبعة المنار، بجمهورية مصر العربية، على نفقة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، رحمه الله، وقد جعل الكتاب وقفاً لله تعالى (4) .
__________
(1) انظر بعض رسائله في الدرر السنية: 1/183-256؛* 3/322-353؛* 4/37-54، 60-69، 76، 88، 91، 100، 102، 115، 158، 170، 186، 197-198، 201-202، 227-228، 230، 310، 316، 328؛* 5/258؛* 8/117-156، 241-248؛* 9/66-88؛* 10/26-27، 93-95.
(2) انظر: الهدية السنية الرسالة رقم (4) ، ص99-114. وهي رسالة عن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(3) انظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 1/408-425. ويشمل على (13) رسالة وفتاوى، و 14/452، ويشتمل على (11) رسالة وفتاوى.
(4) انظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، 1/12 من مقدمة الطبعة الثانية.
(1/140)
________________________________________
- سنة الطباعة 1349هـ، كما هو على غلاف الطبعة الثالثة. وفي مشاهير علماء نجد وغيرهم ص105، 112، ذكر أن الطبعة الأولى كانت في سنة 1346هـ.
- عدد صفحاتها: عدد صفحات الجزء الثالث الخاص برسائل الشيخ عبد اللطيف (455) صفحة.
النشرة الثانية: (مصورة من الطبعة الأولى) .
- الناشر: وقد أعيد طباعة هذا الكتاب، للمرة الثانية، وقام بنشره مكتبة الإمام الشافعي، بالرياض، المملكة العربية السعودية. وهو تصوير عن الطبعة الأولى، على نفقة المحسن الكبير الشيخ على بن فهد بن هزّاع. قال الشيخ عبد السلام بن برجس في مقدمة الطبعة الثانية: "ليعلم بأن هذه الطبعة مصورة عن الطبعة الأولى، التي علق عليها وأشرف على طباعتها، الشيخ العالم العلامة المحقق محمد رشيد رضا، رحمه الله. وقد صوّبنا الأخطاء المطبعية المرفقة في أول كل مجلد من الطبعة الأولى، ووضعنا فهرساً تحليلياً للمسائل الموجودة في الرسائل الشخصية والاستفتاءات، مرتباً على الكتب والأبواب، قام به بعض طلبة العلم، وفقهم الله تعالى" (1) .
- سنة النشر: 1408هـ.
- عدد صفحاتها: 455 صفحة.
النشرة الثالثة: (مصورة من الطبعة الأولى) .
الناشر: دار العاصمة، الرياض، بالمملكة العربية السعودية. وقد صدر الإذن بإعادة طباعة هذا الكتاب، من الرئاسة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد، بالمملكة السعودية، برقم 621/5، وتاريخ 4/6/1409هـ.
سنة النشر: 1412هـ.
__________
(1) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(1/141)
________________________________________
- عدد صفحاتها: 455 صفحة.
- الملاحظات عليها (1) :
تتمثل معظم الملاحظات في النسخة المطبوعة، في (الزيادة والإسقاط والتبديل) في العديد من الكلمات. فلا أدري أكذلك كانت هذه النسخة التي اعتمد عليها الناسخ لهذا المطبوع، أم أن ذلك كان تصرفاً من الناسخ، في محاولته تقريب الألفاظ لفهم القراء؟! وعلى كل حال، يمكن الإشارة إلى ما فيها من ملاحظات، على النحو التالي:
أ: زيادة كلمات أو حروف؛ مثل:
- في 3/30: (فقال شيخ الإسلام) بزيادة فاء في الأول.
- في 3/53: (في تفسيرها وتأويلها) بزيادة كلمة: تفسيرها.
ب: إسقاط بعض الكلمات؛ مثل:
- في 3/37: (أشرت فيه) بدلاً من (أشرت لك فيه) بإسقاط (لك) .
- في 3/40: (الذي أظهر الفتوى) بدلاً من: (الذي أظهر هذه الفتوى) .
- في 3/47: (بحقيقة الإسلام وقواعده) بدل: (حقيقة الإسلام وقواعده الكبار) .
جـ: التبديل بين الكلمات، مثل:
- في 3/26: (فمن عرف غول هذا الكلام) بدلاً من: غور.
- في 3/53: (ببلد الشرك) بدلاً من: بدار الشرك.
- في 3/48: (ومحو أساسه) بدلاً من (ومحو آثاره) .
__________
(1) اكتفيت بإيراد الملاحظات حول النشرة الأخيرة (الثالثة) ، لكونها التي تعاملت معها مباشرة، وعليها أجريت المقابلة مع النسخ المخطوطة. والأمر الآخر: أن جميع الملاحظات الواردة على هذه النشرة تنطبق على بقية النشرات؛ وذلك لكونها جميعاً مصورة من الطبعة الأولى الوحيد التي علق عليها الشيخ محمد رشيد رضا.
(1/142)
________________________________________
يوجد في آخر الكتاب رسالة زائدة، أرسلها في الرد على عبد اللطيف الصحاف. قال جامع الرسائل في الهامش: "جاءتنا هذه الرسالة منفردة، فألحقناها بالمجموع، وجعلناها خاتمة له". وهي من ص430-452، وقد تناولتها وألحقتها بالرسائل المحققة.
وقد طبعت هذه الرسائل أيضاً في مطبعة أم القرى، بمكة المكرمة، تحت اسم (الرسائل المفيدة) ، على نفقه الشيخ أحمد بن إبراهيم بن مقيّل -رحمه الله- وجعلها وقفاً لوجه الله (1) .
__________
(1) لم أجد على النسخة التي اطلعت عليها، إشارة إلى سنة الطبع، وقد قدم له الشيخ عبد الرحمن بن سليمان الرويشد. ولعل هذه النسخة هي التي أشار إليها الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه: علماء الدعوة، ص50، واعتبرها طبعة ثانية.
(1/143)
________________________________________
الفصل الثاني: دراسات تقويمية للكتاب
المبحث الأول: منهج المؤلف في الكتاب
...
المبحث الأول منهج المؤلف في الكتاب
نظراً لعدم كون هذه الرسائل، من جمع المؤلف نفسه في كتاب مستقل، بل من أحد تلاميذه؛ فإن الكتاب لا يوجد فيه ما يصرِّح بمنهج مؤلفه، الذي سار عليه. لكننا بعد قراءة الكتاب، نستطيع استنتاج منهج المؤلف على النحو التالي:
أولاً:
يعتمد الشيخ في كتاباته على مادة مأخوذة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأقوال سلف الأمة من الصحاب والتابعين ومن تبعهم من أئمة الدين، عليهم رحمة الله.
ثانياً:
أسلوب الشيخ في الرسائل يمتاز بالاحترام لمن يرسل إليه، والتأدب الشديد معه في الألفاظ، حتى وإن كان من تلاميذه، أو من بعض خصومه الذين يخالفونه الرأي. وهذه شيمه العلماء الأجلاء.
ثالثاً:
مخاطبة الخواطر، ومراعاة أقدار الناس الذين يراسلهم؛ فنجده في جوابه الذي ردّ به على الجهمي الذي كابر وتعالى، وأظهر معرفته بما تحدى بها الشيخ من الأسئلة (1) ، نجد الشيخ -رحمه الله- قد نقل كلام السائل بحروفه على ما فيه من التحريف واللحن اللغوي؛ ليعتبر الناظر، ويعلم قدر السائل، ثم أخذ يصحح عبارات السائل، مع إبطال أسئلته بالأجوبة الدامغة.
__________
(1) انظر الرسالة رقم (41) .
(1/147)
________________________________________
رابعاً:
في الاستدلال على المسائل، يسرد أدلة من الكتاب، ومن السنة النبوية المطهرة، ثم يذكر أقوال السلف الصالح، وأئمة الدين. ويذكر أحياناً محل الشاهد من الآية أو الحديث (1) ، وقليل من الأحاديث يستدل بمعانيها.
خامساً:
الاعتناء بسلامة اللغة، وذلك يعود إلى ما كان عليه من درجة علمية عالية؛ فهو عالم عصره، وشيخ مشايخ زمنه، فنجده في الرسالة الحادية والأربعين (41) ، يعتني بتوضيح مسائل وألفاظ لغوية، وبلاغية.
سادساً:
اعتنى بيان عقيدة السلف الصالح، فنجده في الرسالة السبعين (70) قد نقل عقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وبين ما دعا إليه الشيخ من أركان الإسلام وشعب الإيمان، وترك جميع أنواع الشرك والابتداع.
سابعاً:
أفرد باب الأسماء والصفات برسالة خاصة، وهي (63) بين فيها ما يجب الإيمان به واعتقاده في هذا الباب.
ثامناً:
أن فتاواه تسير على طريقة السلف الصالح، من حيث الاعتدال والتوسط في المسائل، بعيداً عن التشدد في الفتوى، من غير مجانبة الحق. ومن اطلع على موقفه في مسألة التكفير، في الرسالة رقم (1) ، علم قدره، ومدى موافقته لمذهب السلف الصالح في ذلك. وهكذا في بقية المسائل.
ذلك بعض النقاط المستنبطة، مما كان عليه منهجه في رسائله، رحمه الله.
__________
(1) وقد كثر في الرسالة (19) ، عند سرده لآيات الصفات.
(1/148)
________________________________________
المبحث الثاني مصادره
تشمل المصادر التي اعتمد عليها الشيخ في كتابة رسائله، الأمور التالية:
1- القرآن الكريم:
فقد كان يستدل بآيات من كتاب الله، في أجوبته على المسائل التي كانت ترده، وكذلك في فتاويه، ونصائحه.
2- الأحاديث النبوية الشريفة:
كان -رحمه الله- يستمد أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في استدلالاته على المسائل، من كتب السنة المعتمدة، وبتتبع الأحاديث التي استعملها، نجدها مأخوذة من الصحيحين، ومن كتب السنن؛ كسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرها.
3- مؤلفات أئمة السلف الصالح:
فقد اعتمد على كثير من كتب علماء السلف، وأئمة الدعوة؛ من ذلك ما يلي:
كتب التفسير: وهي ما اعتمد عليها في تفسير الآيات من كتاب الله، التي كان يستدل بها؛ ومن تلك التفاسير:
1- تفسير أبي السعود، [328] .
2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري (ت 310هـ) ، [191] .
3- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (ت 774هـ) .
- كتب أخرى:
4- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) .
(1/149)
________________________________________
5- الفتاوى المصرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) ، [ص 218] .
6- منهاج السنة النبوية، لابن تيمية [271] .
7- كتاب الإيمان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، [221] .
8- بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة (وهو السبعينية) ، لشيخ الإسلام ابن تيمية، [398] .
9- الرسالة السنية، لتقي الدين أحمد بن عبد الحليم، [707-708] .
10- الحوادث والبدع للطرطوشي (ت 205هـ) ، [664] .
11- نونية ابن القيم (الكافية الشافية) ، لابن قيم الجوزية (751هـ) ، [178] .
12- مدارج السالكين، لابن قيم الجوزية (751هـ) ، [193] .
13- زاد المعاد في هدي خير العباد، [247] .
14- الزواجر عن اقتراف الكبائر، لابن حجر الهيتمي (ت 974هـ) ، [175] .
15- الإعلام بقواطع الإسلام، لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، [175] .
16- سير أعلام النبلاء للذهبي (ت 748هـ) ، [399] .
17- تبيين المحارم المذكورة في القرآن، للشيخ سنان الدين يوسف الأماسي الحنفي، [721] .
18- كشف الكربة في فضل الغربة.
19- نيل الأوطار منتقى الأخبار، للشوكاني، [242] .
20- كتاب الاستغاثة أو الرد على البكري، لشيخ الإسلام ابن تيمية، [605-624] .
21- بدائع الفوائد، لابن القيم، [329] .
22- الإقناع [720] . وغير ذلك من الكتب التي كانت معتمدة في رسائله.
(1/150)
________________________________________
المبحث الثالث قيمة الكتاب
يعد هذا الكتاب المؤلف من مجموعة رسائل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ضمن أفضل كتب في باب العقيدة، ويحتل مكانة متقدمة بين كتب علماء الدعوة؛ وذلك للأمور الآتية:
أولاً: أن هذا الكتاب حافل بدرر المسائل وغرر الفوائد؛ فرسائله؛ محتوية على مسائل عقدية، وتعالج قضاياها، بأحسن أسلوب، وأدق استدلال؛ فما تحتويه من مواضيع العقيدة قلما تجده على هذا النسق في غيره من الكتب المصنفة في هذا الباب (1) .
ثانياً: هذه الرسائل تزيل كثيراً من الشبهات التي يلفقها أعداء الدعوة السلفية، والملة المحمدية، ويحاولون بها الصد عن سبيل الله.
ثالثاً: أنه قد كان لهذه الرسائل دور كبير في عصر المؤلف؛ حيث إنه استخدمها كأسلوب من أساليب الدعوة إلى الله، كما يظهر ذلك جلياً في مضمونها. ويُعد هذا المنهج الدعوي امتداداً لمنهج أبيه وجده قبله؛ فقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يراسل أهل عصره معلماً وموضحاً لهم ما يحتاجون إليه من مسائل الدين، كما كان لوالد المؤلف رسائل من هذا القبيل، طبعت تحت عنوان "المراسلات" التي قال جامعها في مقدمتها: "ففي تلك الفترة أخذت المراسلات مأخذها لتجديد النصح والمشاورات والإجابة على الاستفتاءات، وهذه المراسلات امتداد لسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي كتب الرسائل يدعو فيها الملوك إلى الدخول في دين الله".
كان لهذه الرسائل أيضاً دورها في تثبيت دعائم الحكم لآل سعود، الذين تعاهدوا
__________
(1) انظر ما وصفها بها جامعها الشيخ سليمان بن سحمان، في مقدمته عليها، ص155.
(1/151)
________________________________________
على مناصرة هذه الدعوة وتعاقبوا على ذلك.
رابعاً: أن مؤلفه -رحمه الله- من قلائل علماء أهل السنة والجماعة، أئمة الدعوة النجدية, الذين حازوا ثقة العلماء قبل التلاميذ، وشهد لهم التاريخ بالجهد والجهاد، من أجل إعادة الدعوة السلفية الصحيحة إلى مجراها الطبيعي، وإقامتها في هذا البلد العزيز، الذي منه انطلقت من جديد، تجاه دول العالم المتفرقة. فمن الطبيعي أن يكون كتابه ذا أهمية كبرى، وقيمة رفيعة، في المجتمعات المسلمة.
إلى غير ذلك من الأمور التي تدل على قيمة هذا الكتاب.
وبهذا ينتهي القسم الأول (الدراسي) ، ويليه القسم الثاني المشتمل على تحقيق النص. نسأل الله أن يوفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وأن يفعنا بما علمنا ويزيدنا علماً.
(1/152)
________________________________________
القسم الثاني: تحقيق النص
مقدمة جامع الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة جامع الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين،/ (1) وعليه نتوكل ونعتمد، ولا حول ولا قوة إلا بالله /.
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فإن هذه الرسائل الساطعة المفيدة، والأجوبة القاطعة السديدة، قد اشتملت على أصول أصيلة، ومباحث جليلة، لا تكاد تجدها في كثير من الكتب المصنفة، والدواوين المشهورة المؤلفة، إذا سرح العالم النحرير إنسان نظره، في غوامض معانيها، وأسام (2) ثاقب فكره في مطاوح (3) مروجها ومبانيها، وورد من نمير (4) معينها الصافي البحور الزاخرة، وارتوى من سلسال لطائف تلك المعارف والعلوم الفاخرة، علم أن هذا الإمام قد حاز قصب السبق في الفروع والأصول (5) , واحتوى منها على ما سمق (6) وسبق به الأئمة الفحول، وأنه قد أمّ إلى هام العلى فعلا ذُراها، وسما من العلوم النبوية إلى
__________
(1) من هنا اختلاف في النسخ، ففي (أ) زيادة هنا: (على أمور الدنيا والدين، إنه هو المعين) ، وفي (جـ) : (وبه الثقة وعليه التكلان) ، والمثبت من (د) .
(2) أسام: أي أرعاها، يقال: سامت السائمة، وأسمتها، إذا خليتها ترعى.
انظر: لسان العرب 12/311 مادة (سوم) .
(3) أصله من "طاح" إذا تاح في الأرض، وطوحه: أي توحه، وذهب به هاهنا وهاهنا، وطوح في البلاد: إذا رمى بنفسه ها هنا وها هنا، "والمطاوح": المقاذف.
انظر: الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط/2، 1399هـ-1979م، 1/389. ولسان العرب، 2/535-536 مادة (طوح) .
(4) النمير: الكثير الناجع، فماء النمير: الكثير والناجع في الري.
انظر: لسان العرب 5/236 مادة (نمر) . والمعنى: أي ورد معيناً كثير الماء ناجعاً.
(5) أي في عصره.
(6) سمق: أي طال، يقال سمق النبات، إذا طال. لسان العرب 10/263، مادة (سمق) .
(1/155)
________________________________________
علالي معالمها وعلاها، فرحمة الله عليه من إمام بلتع (1) ، وفاضل فصيح مصقع (2) ؛ فقد تبحر في جميع فنون العلوم، وبلغ شأو (3) المتنبي (4) في رصانة المنثور والمنظوم. وهذه رسائله تطلعك على ما هنالك، وثواقب
علومه يهتدي بها السائر عن سلوك معاطب المهالك (5) .
فيا من هو العالي على كل خلقه ... وسوى السماوات العلى وبناها
وكان لها -سبحانه جل- ممسكاً ... بغير عماد في الوجود تراها
وزين أدناها بشهب ثواقب ... مصابيح في ديجورها (6) ودجاها (7)
وأطدّ بالأطواد (8) أرضاً بسيطة ... وأحكمها -سبحانه- ودحاها
بأسمائك الحسنى وأوصافك العلى ... أذقه من الفردوس طيب جناها
وأول الرضا هذا الإمام الذي له ... مآثر يزهو في الأنام سناها
وبوئه في الفردوس والخلد منزلاً ... وألبسه من أثوابها وحُلاها
فقد قام في نصر الشريعة جاهداً ... ولم يأل جهداً (9) في ارتفاع ذراها
ورد على من ندّ من كل ملحد ... عن السنة الغرا ورام خفاها
وقد شُيِّدت أركان سنة أحمد ... رسائله اللاتي أضاء ضياها
__________
(1) بلتع: تقدم ذكر معناه في ص73.
(2) مصقع: تقدم ذكر معناه في ص73.
(3) في جميع النسخ (شاوي) ، ومعنى الشأو: الغاية والأمد. لسان العرب، 14/417. مادة (شأو) يريد أن الشيخ قد بلغ غاية المتنبي في نظم الشعر.
(4) هو ذلك الشاعر المشهور: أحمد بن حسين بن حسن أبو الطيب الكوفي (ت 354هـ) .
انظر: سير أعلام النبلاء، لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748هـ) ، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت, لبنان. ط7، 1410هـ-1990م، 16/199.
(5) هذه المقدمة ذكرها الشيخ إبراهيم بن عبيد في تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/223.
(6) الديجور: الظلمة. لسان العرب، 4/278، مادة (دجر) .
(7) الدجى: سواد الليل مع غيم. لسان العرب، 14/249، مادة (دجا) .
(8) جمع الطود, وهو الجبل العظيم. لسان العرب، 3/270. مادة (طود) .
(9) في (د) جهد.
(1/156)
________________________________________
فأشرف منها الحق للخلق ناصعاً ... وأعشى عيون الملحدين سناها
وأجدر وأجوبة/ تسمو (1) / وتسمق بالهدى ... لأسئلة قد أشكلت فجلاها
يضئ لأهل الحق منها نواشر ... يفوح عبير المسك طيب شذاها
إذا أرسل النحرير ثاقب فكره ... يفيح معانيها وشأو ذُراها
أقرّ له بالفضل والعلم والحجا ... وإن قد تسامى للعلى فعلاها (2)
وهذا نص الموجود من الرسالة (3) :
__________
(1) في جميع النسخ (تسموا) ، وفي المطبوع المثبت.
(2) القصيدة لجامع الرسائل، الشيخ سليمان بن سحمان، وقد وردت في الدرر السنية، 12/72, وأوردها أيضا الشيخ إبراهيم بن عبيد في تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/223
(3) كلام جامع الرسائل هنا يوهم أن الرسالة ناقصة، وأنه هنا يذكر الجزء الموجود منها، لكن الرسالة كاملة.
(1/157)
________________________________________
الرسائل الخاصة بعقيدة التوحيد والاتباع وما ينافيها من الشرك والابتداع
الرسالة الأولى: إلى عبد العزيز الخطيب
مدخل
...
أولاً: الرسائل الخاصة بعقيدة التوحيد والاتباع وما ينافيها من الشرك والابتداع
الرسالة الأولى (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى عبد العزيز الخطيب (2) ، سلام على عباد الله الصالحين، وبعد:
فقرأت رسالتك وعرفت مضمونها، وما قصدته من الاعتذار، ولكن أسأت الإنكار على من يكفر المسلمين في قولك: إن ما أنكره شيخنا الوالد (3) من تكفيركم أهل الحق (4) واعتقاد إصابتكم، إنه لم يصدر منكم، وتذكر أن إخوانك
__________
(1) وردت هذه الرسالة في الدرر السنية، 1/232-242.
(2) لم أقف له على ترجمة فيما اطلعت.
(3) يريد والده عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب.
(4) تعليق حول مسألة التكفير:
تعد مسألة التكفير من المسائل ذات الخطورة البالغة في أمتنا الإسلامية. فقد عمدت بعض
(1/157)
________________________________________
.................................................. .................
__________
الفرق -قديماً وحديثاً- إلى تكفير مخالفيهم من الفرق الأخرى التي تخالفهم الرأي كما كان شأن الخوارج مع الصحابة؛ إذ كفروهم تبعاً لمذهبهم في تكفير مرتكب الذنب، وقد تبعهم المعتزلة في ذلك؛ فأخرجوا مرتكب الكبيرة من الإسلام، وإن لم يحكموا عليه بالكفر، بل ساووا بينه وبين الكافر في الخلود في النار، وكذلك غلاة الشيعة، كفروا الصحابة رضوان الله عليهم، إلا ثلاثة منهم فقط: المقداد بن الأسود، وأبا ذر الغفاري، وسلمان الفارسي.
(الشيعة وأهل البيت، للأستاذ إحسان إلهي ظهير، مطبعة جاويد رياض، باكستان، ط/7، 1404هـ/1984م، نشر إدارة ترجمان السنة، لاهور، ص45-46) .
ويكون التكفير أحياناً على شكل أفراد، يكفر بعضهم بعضاً.
وهذا داء عضال, امتد عبر الأجيال إلى وقتنا الحاضر، الذي نشاهد فيه كثرة التهاون بأمره، والتهور في إطلاقه. فلم يعد من العجب أن نجد جماعتين تدعي كل منهما القيام بالدعوة إلى الله، بينما ترمي بالكفر, الجماعة الأخرى، المخالفة لها في المبادئ، أو أسلوب عمل، أو لمجرد مصالح شخصية محضة. وهذا منتشر في بلاد العالم الإسلامي.
ويجدر بي أن أتناول هنا بعض المسائل المتعلقة بهذا الموضوع الهام، باختصار على النحو الآتي:
أولاً: بيان أنواع الكفر:
إن مذهب أهل السنة في التكفير عموماً مبني على أصلين هما:
الأصل الأول: أن تدل نصوص الكتاب والسنة على أن القول أو الفعل الصادر من المحكوم عليه موجب للكفر.
فعلى هذا الأصل نجد العلماء يقسمون الكفر إلى قسمين: أحدهما:كفر اعتقادي، وثانيهما: كفر غير اعتقادي، وعليه يكون التكفير تابعاً لهذين القسمين اعتقادي، وغير اعتقادي.
القسم الأول: الكفر الاعتقادي: ويعلم بـ (الكفر الأكبر) ، وهذا النوع يتبعه التكفير الاعتقادي، وهو الحكم بالكفر على من اعتقده بقلبه، أو أظهر أمراً يبعد عند الناس أن يطلق على فاعله أو قائله أنه مسلم. وهو ضربان:
الضرب الأول: أن يصرح المرء بما يعتقده من الكفر، ويدلل على ذلك بما يظهره من أعمال الكفر. فهذا كافر كفراً اعتقادياً عند الله وعند الناس.
الضرب الثاني: أن يعتقد الكفر بقلبه، ولا يصرح به، لكنه يظهر أعمالاً تدل عليه، مع عدم وجود موانع شرعية تصرف عنه الحكم بالكفر الاعتقادي. فهذا أيضاً كافر عند الله، أما عند الناس فنسبة الكفر إليه، تكون باعتبار أن عمله ذلك، لا يصدر إلا ممن كان كافراً، معلوم الكفر. أما حقيقة ما في قلبه، فلا يعلمها إلا الله، أو من أخبره الله بالوحي، من أنبيائه ورسله.
(1/158)
________________________________________
.................................................. .................
__________
القسم الثاني: الكفر غير الاعتقادي: ويتبع هذا النوع الكفر غير الاعتقادي، الذي يطلق عليه بعض العلماء أنه: كفر النعمة، أو كفر دون كفر، أو الكفر الأصغر، أي الذي لا يخرج صاحبه عن الملة، وهو: الحكم بالكفر على من أظهر عملاً أو قولاً مكفراً، دون اعتقاده، مع وجود موانع شرعية تصرفه عن الكفر الاعتقادي.
وهذا القسم ينقسم إلى نوعين:
أولهما: التكفير العملي: وهو الحكم بالكفر على من ظهرت منه أعمال كفرية، مع وجود موانع شرعية تصرفه عن الكفر الاعتقادي.
ثانيهما: التكفير القولي: وهو الحكم بالكفر على من تلفظ بأقوال كفرية، مع وجود الموانع الشرعية التي تصرفه عن الكفر الاعتقادي. انظر هذا التقسيم في:
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728 هـ) ، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 11/137-138. والمنهاج في شعب الإيمان، لأبي عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي (ت 403هـ) ، تحقيق: حلمي محمد فودة، دار الفكرة، ط/1، 1399هـ 199..
- كتاب الصلاة وحكم تاركها، للإمام ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) ، ضبط وتخريج محمد نظام الدين الفتيح، مكتبة دار التراث للنشر والتوزيع، المدينة المنورة ط/2، 1412هـ/1992م. ص51-53.
أما الأصل الثاني (المتعلق بتكفير المعين) وهو أن ينطبق هذا الحكم على القائل أو الفاعل المعين، بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتنتفي موانعه.
وعليه، فلا يحكم على أحد من أهل القبلة بالكفر حتى يتوفر فيه شروط التكفير وتنتفي موانعه، وتلك الشروط هي:
1. أن يظهر الكفر بقول أو فعل وإن كان مدعياً الإسلام.
2. أن تبلغه الحجة الموجبة لبيان الحق وزوال الشبهة.
3. أن تكون الحجة ثابتة لديه إن كان من أهل النظر.
4. أن يكون بالغاً، عاقلاً، يفهم.
5. أن لا يكون معذوراً بقرب العهد بالإسلام.
6. أن لا يكون مكرهاً على الكفر.
7. أن لا يكون جاهلاً بأن ينشأ ببادية بعيدة عن العلم.
أما موانع التكفير فهي على عكس تلك الشروط السابقة:
1- إخفاؤه لكفره. 2- عدم بلوغ الحجة. 3- الجهل. 4- الإكراه (الملجئ) على الكفر.
(1/159)
________________________________________
.................................................. .............
__________
5. أو لم ير تلك الحجة بالتأويل أو عدم الثبوت عنده. 6- التقليد، حيث إنه يترجح القول بجواز التقليد في العقائد للعامي الذي لا يستطيع النظر والاستدلال.
7- أن يكون صغيراً أو مجنوناً.
انظر تفاصيل هذه الموانع: كتاب: نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف, للدكتور محمد بن عبد الله بن علي الوهيبى. دار المسلم للنشر والتوزيع الرياض، ط/1، 1416هـ/1996، ج1، 225-309؛ 25-49. وكتاب ضوابط التكفير مستقاة من المصادر السلفية، جمع وتأليف: حسن بن علي بن حسين العواجي، نشر دار البخاري، المدينة المنورة، ط/1، 1415هـ، ص34- 35، 36.
ثانياً: التحذير من تكفير المسلم:
بعد ما علمنا من أقسام التكفير، يجب أن نعلم أن الإسلام قد حذر منها، ونهى عن إطلاقه على المسلمين؛ فامتنع عنه السلف الصالح أهل السنة، إلا فيمن تحقق فيه الشروط كما تقدم، أما من لم يتوفر فيه الأصلان، فالإسلام يحذر من تكفيره.
وقد ورد في ذلك نصوص عدة، من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نذكر منها ما يلي: أ- ما ورد من ذلك في كتاب الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] . في الآية يأمر الله سبحانه وتعالى بالتثبت والتأكد قبل إطلاق نفي الإيمان عن أحد.
قال القاسمي: "في الآية دليل على فساد قول المعتزلة، لأنه نهاهم أن يقولوا لمن قال: إني مسلم: لست مؤمناً؛ وهم يقولون: صاحب الكبيرة ليس بمؤمن" تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل، لمحمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) ، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، الحلبي، ط/1، 1377هـ/1957م، 5/1480.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] . وفي هذه الآية، يأمر سبحانه وتعالى بالتبين في الحكم على الناس.
ب- أما ما ورد من السنة في التحذير من التكفير، فمنها:
- ما أخرجه مسلم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كفر الرجل أخاه، فقد باء بها أحدهما " وفي رواية أخرى: " أيما رجل قال لأخيه ياكافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه "صحيح مسلم بشرح النووي (ت 676هـ) ، ط/1، 1407هـ، دار القلم، بيروت، تحقيق لجنة من العلماء، نشر مكتبة المعارف بالرياض، 2/408-411. الإيمان،
باب إيمان من قال لأخيه يا كافر. صحيح البخاري، لأبي عبد الله
(1/160)
________________________________________
.................................................. ............
__________
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (ت 256هـ) ، تحقيق الشيخ قاسم الشماعي الرفاعي، دار القلم، بيروت، ط/1، 1407هـ، 1987م، 8/353، كتاب الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال. سنن أبي داود، 5/64، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. سنن الترمذي، 5/23، كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن رمى أخاه بكفر.
- وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك)) . صحيح البخاري 8/336، الأدب، باب ما ينهى عنه من السباب واللعن.
- وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ... ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه)) . صحيح مسلم بشرح النووي، 2/412، الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم. ومعنى ((حار عليه)) أي رجع عليه ما نَسَب إليه. النهاية في غريب الحديث والأثر، لأبي السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير (ت 606هـ) ، تحقيق محمود محمد الطناحي، نشر المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، 1/458.
- وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ... لعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بكفر، فهو كقتله)) . صحيح البخاري 8/354، الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل، فهو كقاتله.، سنن الترمذي 5/23، الإيمان، باب ما جاء فيمن رمى أخاه بكفر، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
والآثار الواردة في التحذير من ترامي المسلمين بعضهم بعضاً بالكفر كثيرة، اكتفينا بما تقدم، وكلها تحذر من إطلاق التكفير لأحد من المسلمين، ما لم يظهر دليلاً قاطعاً على كفر.
ثالثاً: منهج السلف في الحكم بالكفر:
إن السلف -رحمهم الله- قد ساروا في هذه المسألة، على الطريقة النبوية، واسترشدوا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ فهم لم يكونوا يقدمون على إطلاق لفظ الكفر على أحد من أهل القبلة، بمجرد ما يصدر منه من فجور أو فسوق أو معصية. وفي ذلك قال الطحاوي -رحمه الله- عند كلامه عن عقيدة السلف، تجاه القبلة: "ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا نفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى".
شرح العقيدة الطحاوية (أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي (للإمام القاضي علي بن علي بن محمد بن أبي العز الدمشقي (ت 792هـ) تحقيق وتعليق وتخريج وتقديم د. عبد الله
(1/161)
________________________________________
.................................................. .......
__________
بن عبد المحسن التركي، وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط/2، 1413هـ، 1993م، ص539. وانظر في ذلك أيضاً مجموع فتاوى ابن تيمية، 3/151.
فهم لا يحكمون بالكفر على أحد، حتى يثبت حكمه بالحجة والبرهان الواضح، فمتى رأوا منه كفراً بواحاً، فإنهم يحكمون عليه بالكفر مع الاحتياط والتحرز في اللفظ، لا يتعدون الإطلاق الذي أطلقه الكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "التكفير والتفسيق هو إلى الله ورسوله، ليس لأحد في هذا حكم، وإنما على الناس إيجاب ما أوجبه الله ورسوله، وتحريم ما حرمه الله ورسوله، وتصديق ما أخبر به ورسوله". مجموع الفتاوى، 5/554-555.
وقال -رحمه الله تعالى-: " (والكفر) هو من الأحكام الشرعية، وليس كل من خالف شيئاً علم بنظر العقل يكون كافراً، ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقول، لم يحكم بكفره حتى يكون قوله كفراً في الشريعة" مجموع الفتاوى، 12/225.,
فمتى أظهر العبد قولاً أو فعلاً مكفراً، سموا قوله أو فعله كفراً، وقد يطلقون القول بتكفير صاحب هذا العمل غير المعين، فيقولون: من قال أو فعل أو ترك كذا، فهو كافر.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: في المجموع 35/165-166: "وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر قولاً، يطلق كما دل على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإن (الإيمان) من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، وليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم. ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك، بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفي موانعه ... وتقوم عليه الحجة بالرسالة، كما قال الله تعالى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] .
وقال -رحمه الله- في المجموع أيضاً 23/453: "إن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا، فهو كافر، لكن الشخص المعيّن الذي قاله، لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها". وانظر أيضاً المجموع، 7/619.
فكلام شيخ الإسلام هذا، يعطي مزيداً من الوضوح لمنهج السلف، في الحكم بالكفر، وإقامة الحجة على المرء، يكون إما بتعليمه -إن كان جاهلاً- أو بإزالة شبهته وإظهار الحق له بالدليل -إن كان من أهل النظر والاستدلال- وهكذا، فهو بعد ذلك إما أن يرجع، أو يستكبر ويصر على ما هو كفر من قول أو فعل، فهنا الحكم عليه بالارتداد، ويجرى عليه عقوبة الحد، ويلزمه أحكام المرتدين.
رابعاً: حكم من كفّر مسلماً:
علمنا فيما تقدم من الأحاديث، أن من رمى أخاه بالكفر، فإن أحدهما ييوء به، فإن كان
(1/162)
________________________________________
من أهل النقيع يجادلونك وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور، وأنت تعرف أنهم يذكرون هذا غالباً على سبيل القدح في العقيدة، والطعن في الطريقة، وإن لم يصرحوا بالتكفير، فقد حاموا حول الحمى، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغي عن سبيل الرشاد والعمى.
__________
كما قال، وإلا رجعت إليه. فهل يحكم بالكفر على من كفر أخاه المسلم، ولم يكن كذلك؟
إننا بالنظر إلى هذه الأحاديث، نجد أن للعلماء فيها تأويلات عدة؛ لذا قال النووي -رحمه الله- في شرح صحيح مسلم 2/409، عند شرحه لحديث: ((فقد باء به أحدهما)) قال: "هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات، من حيث إن ظاهره غير مرا، وذلك أن مذهب أهل الحق، أنه لا يكفر مسلم بالمعاصي، كالقتل والزنا، وكذا قوله لأخيه كافر، من غير اعتقاد بطلان الإسلام".
وهنا أكتفي بذكر ما تبين من أقوالهم وهو:
ألاً: أن هذه الأحاديث وردت للزجر والتحذير للمسلم، من أن يقول ذلك لأخيه المسلم.
ثانياً: أنه لا يقطع بتكفير من أخطأ في التكفير متأولاً؛ كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب إنه منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم-: ((وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر ... الحديث)) أخرجه البخاري في صحيحه، 8/354، كتاب الأدب. وعليه بوب فقال: بال من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً".
أما من كفر مسلماً بلا تأويل، فإن هذا يحكم عليه بالكفر، وعليه بوّب البخاري -رحمه الله- فقال: "باب من كفر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال". صحيح البخاري، 8/353، كتاب الأدب.
قال النووي -رحمه الله-: "ولو قال لمسلم: يا كافر، بلا تأويل، كفر، لأنه سمى الإسلام كفراً". روضة الطالبين وعمدة المتقين، للإمام النووي، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط/2، 1405هـ، 10/65.
وقال الحليمي في المنهاج، 3/109 -بعد ما أورد حديث: ((فقد باء به أحدهما)) – قال: "يحتمل أن يكون معنى ذلك، أنه إن وصف ما عليه أخوه المسلم بأنه كفر، فقد كفر نفسه، ولو لم يكن على أخيه شيء. وإن كان المقول ذلك يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فقد صدق عليه، وليس على قائله شيء".
وانظر الإعلام بقواطع الإسلام، مطبوع مع كتاب "الزواجر على اقتراف الكبائر" كلاهما لأحمد بن حجر المكي الهيتمي (ت 974هـ) ، ط/2 الحلبي بمصر، 1390هـ - 1970م، 2/340-344. وأحكام المرتد في الشريعة الإسلامية، لنعمان عبد العزيز السمرائي، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، ص113.
(1/163)
________________________________________
وقد رأيت سنة أربع وستين ومائتين وألف (1) ، رجلين من أشباهكم المارقين بالإحساء، قد اعتزلوا الجمعة والجماعة، وكفروا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم؛ يقولون: أهل الإحساء يجالسون بن فيروز (2) ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده (3) ، الذي يرد دعوة الشيخ محمد (4) ، ولم يقبلها وعاداها، قالوا: ومن لم يصرح بكفره، فهو كافر بالله، لم يكفر بالطاغوت، ومن جالسه فهو مثله. ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين، ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام (5) ، حتى تركوا رد السلام. فرفع إليّ أمرهم، فأحضرتهم وتهددتهم، وأغلظت لهم القول، فزعموا أولاً أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم، ودحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر،
__________
(1) وهذا حين بعثه إلى هناك الإمام فيصل بن تركي بن عبد الله، في مهمة إصلاح أهل تلك المنطقة، كما تقدم في، ص77-103.
(2) لم أعرفه.
(3) جده: هو محمد بن عبد الله بن عبد الوهاب بن عبد الله بن فيروز الوهيبي، ثم التميمي، نسباً، النجدي أصلاً، الإحسائي مولداً، ومنشأ، ثم البصري وفاة ومدفناً، ولد في الإحساء سنة 1142هـ وكف بصره وهو ابن ثلاث، كان عالماً لكثير من الكتب، أنكر عليه معاداته الشديدة للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومحاربته لدعوته برسائله وقصائده وأجوبته، حتى صار لهذه الدعوة من ألد الخصوم -ولهذا كان أصحاب ابن فيروز "الحفيد" يطالبونه بتكفير جده، كما جاء في المتن –نزح من الإحساء إلى العراق بعد أن قويت الدعوة السلفية، بمساندة آل سعود، فلما تيقن من أن الجيوش السعودية قد أوشكت أن تستولي على الإحساء -في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود- خاف منهم ورحل إلى البصرة، وفيها توفي عام (1216هـ) . علماء نجد خلال ستة قرون، 3/882-886.
(4) ابن عبد الوهاب.
(5) أحكام الردة الصريحة:
أ. وجوب قتل المرتد اتفاقاً.
ب- زوال ملكه عن أمواله.
ج. بينونة زوجته منه.
د- لبا يرث ولا يورث. وغيرها. وتفاصيل في كتب الفروع.
(1/164)
________________________________________
والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر (1) كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية، وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة (2) يفردون هذه المسألة بباب عظيم، يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك. وقد أفرد ابن حجر (3) هذه المسألة بكتاب سماه "الإعلام بقواطع الإسلام" (4) .
وقد أظهر الفارسيان المذكوران، التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل وعادا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين. نعوذ بالله من
__________
انظر: أحكام المرتد لنعمان السمرائي، الصفحات: 211، 230،265، 282.
(1) وقد تقدم بيان ذلك عند ذكر منهج السلف في التكفير، ص161.
(2) المذاهب المقلدة المشهورة في الأمة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
(3) هو أحمد بن علي بن حجر الهيتمي، أبو العباس المكي، ولد بمصر سنة (909هـ) ، وأخذ عن علماء الأزهر، من مؤلفاته، الفتاوى الحديثية، وشرح المشكاة، والإعلام بقواطع الإسلام، وغيرها (ت 974هـ) .
انظر ترجمته: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحي بن العماد الحنبلي (ت 1089هـ) ، المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت، 8/370. وجلاء العينين في محاكمة الأحمدين، لنعمان خير الدين بن الآلوسي البغدادي (1317هـ) ، مطبعة المدني، 140هـ، ص40. الأعلام، لخير الدين الزركلي، ط/6، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1984م، 1/234.
(4) هذا الكتاب مُذيَّل لكتاب الزواجر، لابن حجر الهيتمي، وقد قسمه إلى ثلاثة فصول كالآتي:
أ- في الألفاظ التي هي كفر.
ب- فيما اختلف في التكفير به.
ج- فيما يخشى على فاعله أو قائله الكفر.
(1/165)
________________________________________
الضلال بعد الهدى والحور بعد الكور (1) ، وقد بلغنا عنكم / نحو (2) / من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة (3) ، والمصالحة والمكاتبات وبذل الأموال والهدايات، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات.
والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزقه الله الفهم عن الله، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب.
والكلام في ذلك يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيرها لمن جهلها، وأعرض عنها وعن تفاصيلها؛ فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة موانع الخطاب وتفاصيله، يحصل به شيء من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن.
__________
(1) هذا مثل. ومعنى الحور: بفتح الحاء المهملة وإسكان الواو، فراء: النقصان والرجوع، والكور: بفتح الكاف، وإسكان الواو: الزيادة. فمعنى قوله: "والحور بعد الكور" أي: نعوذ بالله من الرجوع بعد الاستقامة، والنقصان بعد الزيادة.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/458. ولسان العرب 5/15-156. مادة (حور) . وريحانه الألبّا، 2/338.
(2) في (أ) و (ج) : نحوا.
(3) معنى (الموالاة والمعاداة) جاء في لسان العرب، 15/409 مادة (ولي) : "قال ابن هوى فيواليه أو يحابيه، ووالى فلان فلاناً، إذا أحبه. والموالاة ضد المعاداة، والولي ضد العدو. لسان العربي، 1536.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الولاية ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط، نشر مكتبة البيان، دمشق، توزيع مكتبة المؤيد، الطائف، طبعة عام 1405هـ-1985م، ص9.
(1/166)
________________________________________
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كافيته:
فعليك بالتفصيل والتبيين (1) ... فالإطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا (2) هذا الوجود وخبطا (3) ... الأذهان والآراء كل زمان (4)
وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفِّرات أهل الإسلام، فهذا مذهب الحرورية (5) المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى الأشعري (6) وعمرو بن العاص، في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام (7) ، فأنكرت الخوارج (8) عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا حكّمت
__________
(1) في الكافية الشافية: (والتمييز) بدلاً من (والتبيين) .
(2) في (د) : أفسد.
(3) في (د) : خبط.
(4) شرح القصيدة النونية، المسماة: الشافية الكافية للفرق الناجية، لابن قيم الجوزية،، شرح د. محمد خليل هراس، دار الفاروق للطباعة والنشر، 1/123.
(5) الحرورية: قال ابن الأثير: طائفة من الخوارج، نسبوا إلى حروراء. وهو موضع قريب من الكوفة، كان أول مجتمعهم وتحكيمهم فيها. وهم إحدى فرق الخوارج الذي قاتلهم عليّ.
النهاية لابن الأثير، 1/366. وانظر: البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (ت 774هـ) ، تحقيق د. أحمد أبو ملحم وجماعة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/5، 1409هـ-1989م، م7/ 289،291. ومعجم البلدان، 2/245، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، بدون تاريخ، 2/350.
(6) هو عبد الله بن قيس بن سليم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيه مقرئ، أسلم بمكة وهاجر إلى الحبشة، كان أحد الحكمين في الفتنة بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- توفي سنة (44هـ) على الصحيح.
انظر: سير الأعلام، 2/380.
(7) وكانت الفتنة عام 37هـ عُلمت بوقعة صفين. انظر: البداية والنهاية، 7/264،268.
(8) الخوارج: هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بسبب تحكيمه للرجلين (أبا موسى الأشعري، وعمرو بن العاص) في الفتنة بينه وبين معاوية. قال أبو الحسن الأشعري: "والسبب الذي سموا له خوارج على عليّ بن أبي طالب". مقالات الإسلاميين، 1/207.
(1/167)
________________________________________
الرجال في دين الله (1) ، وواليت معاوية وعمراً، وتوليتهما، وقد قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} (2) وضربت المدة بينكم وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة منذ أنزلت (3) (براءة) (4) . وطال بينهم النزاع والخصام حتى غاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب عليّ (5) ، فحينئذٍ شمر لقتالهم، وقتلهم (6) دون النهروان (7) بعد الإعذار والإنذار،...........................
__________
وهم منقسمون إلى فرق متعددة، عددها المصنفون في الفرق؛ كالأشعري في المقالات 1/112-166؛ والبغدادي في الفرق بين الفرق، ص72-109؛ والشهرستاني في الملل والنحل، لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، (ت 479هـ) ، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1/14-138.
ومن أهم آرائهم الاعتقادية:
* يجمعهم تكفيرهم علياً وعثمان، وأصحاب الجمل، والحكمين، ومن صوبهما أو صوب أحدهما، أو رضي بالتحكيم. المقالات، 1/167. الفرق بين الفرق، ص74. الحجة في بيان المحجة، 2/479.
* تكفيرهم أهل الكبائر وتخليدهم في النار. وخالفهم النجدات منهم في القول بالخلود.
المقالات، 1/168-204.
(1) ولذلك سموا أيضاً محكمة. انظر: المقالات 1/207. والفرق بين الفرق، ص74. والملل والنحل، 1/115. والبداية والنهاية، 7/289.
(2) سورة الأنعام، الآية (57) .
(3) في (أ) ، و (د) : نزلت.
(4) وتسمى بسور التوبة. ولها العد من الأسماء. انظر: الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط/1، 1408هـ-1988م، 8/ م،8/40. فتح القدير، الجامع بين فني الرواية الدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني (1250هـ) ، مكتبة الحلبي بمصر، ط/2، 1383هـ-1964م، 2/331.
(5) وقد كان ضمن من قتلوهم: عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسروه وامرأته معه، وهي حامل، فذبحوها. انظر: البداي والنهاية 7/298.
(6) انظر قصة قتال عليّ رضي الله عنه للخوارج في: البداية والنهاية، 7/299-300.
(7) النهروان: قال ياقوت: أكثر ما يجري على الألسنة بكسر النون، وهي ثلاثة نهراوات، الأعلى، والأوسط والأسفل، وهي كورة واسعة بين بغداد وواسط، من الجانب الشرقي، حدها الأعلى متصل ببغداد، وفيها عدة بلاد متوسطة، منها: إسكاف، وجرجرايا، والصافية، وديرقني، وغير ذلك. وكان بها وقعة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مع الخوارج. معجم البلدان، 5/324-325.
(1/168)
________________________________________
والتمس المخدج (1) المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن (2) .
__________
(1) المخدج: هو ناقص الخلق، يقال أخدج الردل صلاته، فهو مخدح وهي مخدجة. والخداج. النقصان، وأصل ذلك من خداج الناقة، إذا ولدت وزلداً ناقص الخلق، أو لغير تمام.
ومخدج اليد: أي ناقص اليد. انظر: النهاية لابن الأثير، 2/13. ولسان العرب، 2/248، مادة (خدج) .
(2) الحديث الذي ورد فيه التماس علي رضي الله عنه للمخدج: عن سلمة بن كهيل، حدثني زيد بن وهب الجهني، أنه كان في الجيش الذي كانوا مع علي رضي الله عنه، الذين ساروا إلى الخوارج، فقال عليّ رضي الله عنه ": أيها الناس، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشي، ولا صيامكم إلى صيامكم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذي يصيبونهم، ما قُضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لاتكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض. فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على سرح الناس، فسيروا على اسم الله)) قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلاً حتى قال: "مررنا على قنطرة، فلما التقينا، وعلى الخوارج يومئذٍ عبد الله بن وهب الراسبي، فقال لهم: "ألقوا رماحكم وسلوا سيوفكم من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء". فرجعوا فوحشوا برماحهم، وسلوا السيوف، وشجرهم الناس برماحهم". قال: "وقُتل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذٍ إلا رجلان. فقال علي رضي الله عنه": التمسوا فيهم المخدج"، فالتمسوه، فلم يجدوه. فقام علي رضي الله عنه بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم بعضاً، قال: "أخروهم"، فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر ثم قال: "صدق الله، وبلغ رسوله". قال: "فقام إليه عبيدة السليمان، فقال: "يا أمير المؤمنين، والله الذي لا إله إلا هو، لسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إي والله الذي لا إله إلا هو"، حتى استحلفه ثلاثاً، وهو يحلف. أخرجه مسلم في صحيحه بشرح النووي، 7/177-178، كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، واللفظ له. وأبو داود في سننه، 1/32، المقدمة، باب ذكر الخوارج (مختصراً) . والإمام أحمد في مسنده، طبعة مؤسسة قرطبة، بها فهرس رواه المسند، لمحمد ناصر الدين الألباني، 1/88، 140-141. من طرق آخر.
كلام علماء أهل السنة في الخوارج:
أولاً: في وجوب قتالهم:
يجمع العلماء على وجوب قتال الخوارج متى خرجوا على الإمام وخالفوا الجماعة. وقد نقل هذا الإجماع، الإمام النووي في شرح مسلم، 7/175، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 3/282.
ثانياً: في تكفيرهم:
ولهم في تكفيرهم قولان مشهوران، وهما روايتان عن الإمام أحمد -كما ذكره شيخ الإسلام في المجموع 28/500. وقد ذكر الإمام أحمد بن حجر في الفتح 12/313-315، أقوالهم وحجتهم في المسألة.
والتحقيق هو القول بعدم تكفيرهم؛ لما نقله شيخ الإسلام من إجماع الصحابة على عدم تكفيرهم، وأنه لم يكن في الصحاب من يكفرهم، لا علي ولا غيره من الصحابة، بل حكموا فيهم بحكم المسلمين الظالمين المعتدين. انظر مجموع الفتاوى 3/282، 5/247، 7/217.
(1/169)
________________________________________
فوجده علي، فسُرَّ بذلك وسجد شكراً لله على توفيقه، وقال: "لو يعلم الذين يقاتلون ماذا (1) لهم على لسان محمد، لنكلوا عن العمل، هذا، وهم/من/ (2) أكثر الناس عبادة /و/ (3) صلاة وصوماً.
__________
(1) من هنا "ماذا لهم ... " بداية نسخة (ب) ، وما قبله ساقط.
(2) ساقط في (جـ) ، و (د) ، والمطبوع.
(3) الواو ساقط في جميع النسخ، مثبت في المطبوع.
(1/170)
________________________________________
فصل في معنى الظلم والمعصية والفسوق والفجور
...
فصل
ولفظ الظالم والمعصية، والفسوق والفجور، والموالاة والمعاداة، والركون والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق
(1/170)
________________________________________
وحقيقتها المطلقة، وقد يراد مطلق الحقيقة (1) والأول (2) هو الأصل عند الأصوليين والثاني (3) لا يحمل الكلام عليه، إلا بقرينة لفظية أو معنوية؛ وإنما يعرف معنى لفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور. ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} الآية (4) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (5) .
__________
(1) المسمى المطلق، والحقيقة المطلقة للفظ المعين، يراد به: العموم الشامل لجميع أفراد ذلك المسمى، أو تلك الحقيقة، بحيث لا يبقى فرد من أفراده إلا ويدخل فيه. ويكون ذلك العموم مطلقاً، أي غير مقيد بقيد يوجب تخصيصه.
فالمسمى المطلق للفظ الإيمان (الإيمان المطلق) مثلاً، يراد به جميع أنواع الإيمان وأفراده (صفاته) ، بحيث لا يبقى صفة من صفاته إلا دخل فيه. وهو غير مقيد بقيد يوجب تخصيصه. أما مطلق الحقيقة للفظ الإيمان (مطلق الإيمان) ، فهذا مجرد إشارة وبيان لحقيقة إحدى أوصاف الإيمان، وأنه مشارك في صفة الإيمان الذي يصدق على كل صفة من أوصافه.
وكذلك المسمى المطلق للفظ الظلم (الظلم المطلق) مثلاً، يراد به جميع أنواع الظلم وأفراده، بحيث لا يبقى نوع من أنواعه إلا دخل فيه. وهو غير مقيد بقيد يوجب تخصيصه، كما لو قيد بالنفس مثلاً، فيقال: (ظلم النفس) .
وهكذا جميع الألفاظ التي أوردها المؤلف هنا، (الظلم والمعصية والفسوق ... إلخ) .
أما مطلق الحقيقة للفظ الظلم (مطلق الظلم) ، فهذا مجرد إشارة وبيان لحقيقة أحد أنواع الظلم، وأنه مشارك في صفة الظلم الذي يصدق على كل فرد من أفراده. وإضافة لفظ (مطلق) إلى الظلم؛ لتمييزه عن بقية المطلقات، أي ليس مطلق أمر، ولا مطلق حيوان، ونحوهما.
(2) أي (المسمى المطلق، والحقيقة المطلقة) . انظر: الفروق، لشهاب الدين أبي العباس الصنهاجي القرافي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1/127.
(3) أي (مطلق الحقيقة) ، فالكلام لا يحمل عليه إلا بقرينته. فمعرفة الشيء بأنه فسوق مثلاً، يفتقر لقرينة لفظية، بأن يصرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) سورة إبراهيم: الآية (4) .
(5) سورة النحل: الآيتان (43،44) . في (أ) لم يذكر الآية (44) مع أن فيها محل الشاهد، وهو: البيان النبوي المشار إليه آنفاً، والذي من أجله سيقت هذه الآية والتي قبلها.
(1/171)
________________________________________
وكذلك اسم المؤمن والبر والتقي، يراد به عند الإطلاق والثناء (1) ، غير المعنى المراد في مقام الأمر والنهي (2) ، ألا ترى أن الزاني، والسارق، والشارب، ونحوهم, يدخلون في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} (3) ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} (4) ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (5) . ولا يدخلون في مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (6) ، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (7) وله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (8) .
وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق بالإيمان والبر، وفي الحديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو مؤمن)) (9) وقوله: ((لا يؤمن من لا
__________
(1) يراد بهذه الألفاظ (المؤمن، البر، التقي) عند الإطلاق، والثناء: المؤمنون الذين يقيمون الواجبات والطاعات، وينتهون عن المنهيات.
(2) ويراد بهذه الألفاظ في مقام الأمر والنهي: كل مؤمن نطق بالشهادتين.
(3) سورة المائدة: الآية (6) .
(4) سورة الأحزاب: الآية (69) .
(5) سورة المائدة: الآية (106) .
(6) سورة الأنفال: الآية (2)
(7) سورة الحجرات: الآية (15) .
(8) سورة الحديد: الآية (19) . في الآيات الثلاث الأخيرة، خص الإيمان في الذين يجدون في قلوبهم وجلاً عند سماع ذكر الله، والذين لا يرتابون بعد إيمانهم؛ وعلى ذلك فهي لا تتناول المنافقين والمشركين والفساق؛ إذ هي في مجال مدح وثناء.
(9) صحيح البخاري مع الفتح، 5/143، المظالم باب النهبى بغير إذن صاحبه، من حديث أبي هريرة. صحيح مسلم بشرح النووي، 12/401، الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي. سنن النسائي بشرح السيوطي، 8/313 الأشربة، باب ذكر الروايات المغلطات في شرب الخمر. سنن ابن ماجه، 2/365، الفتن، باب النهي عن النهبة.
(1/172)
________________________________________
يأمن جاره بوائقه)) (1) (2) .
لكن نفي الإيمان هنا لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإسلام، ولا يكون كمن كفر بالله ورسوله (3) ، وهذا هو الذي فهمه السلف وقرروه في باب الرد على
__________
(1) البوائق: جمع بائقة، وهي النازلة، والداهية، والشر الشديد و (بوائقه) أي غوائله وشروره, النهاية لابن الأثير، 1/162.
(2) الحديث بهذا اللفظ أورده ابن الأثير في النهاية، 1/162. وقد أخرجه الإمام البخاري في صحيحه مع الفتح، 10/457، الأدب باب، إثم من لا يأمن جاره بوائقه، عن أبي شريح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل من يا رسول لله، قالك الذي لا يأمن جاره بوائقه)) ..
وأخرجه مسل في صحيحه بشرح النووي، 2/377، الإيمان، باب تحريم الجار، بلفظ: " لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه "، وبهذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد في مسنه، 2/373.
(3) قال النووي -رحمه الله- في شرحه لحديث ((لا يزني الزاني)) : هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المحققون، إن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان. وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله، كما يقال: "لا عيش إلا عيش الآخرة". شرح صحيح مسلم للنووي، 2/401.
يؤيد هذا التأويل حديث أبي ذر –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة)) ، قلت: وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق)) قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر)) . رواه البخاري في صحيحه مع الفتح، 3/132، الجنائز، باب في الجنائز، ومن كان آخر كلامه "لا إله إلا الله"؛ ومسلم في صحيحه بشرح النووي، 2/456، الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله سيئاً دخل الجنة، وفي كتاب الزكاة، 7/80، باب الترغيب في الصدقة؛ والترمذي في سننه، 5/27، الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. فيفهم من هذا الحديث عدم تكفير النبي صلى الله عليه وسلم لفاعل هذه الأمور، بل هو صريح، بل هو صريح بجواز دخول الجنة، فهو مسلم عصى ربه، وهذا ما أكده في حديث عبادة بن الصامت رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -وحوله عصابة من أصحابه-: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم، فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفى عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك)) صحيح البخاري مع الفتح 1/81، الإيمان باب (حدثنا أبو اليماني) . صحيح مسلم بشرح النووي، 11/235، الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها. سنن الترمذي، 4/36، الحدود، باب ما جاء أن الحدود كفارة لأهلها. سنن النسائي، 17/161-162، البيعة، باب ثواب من وفّى بما بايع عليه.
وهذا الحديث صريح في أن مرتكب الكبيرة، لا يكفر، وإنما هو تحت مشيئة الله تعالى، إن مات على ذلك. وقد نقل الإمام النووي -رحمه الله- إجماع أهل الحق على أن الزاني، والسارق، والقاتل، وغيرهم من أصحاب الكبائر -غير الشرك-، لا يكفرون، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا أسقطت عقوبتهم (في الآخرة) ، وإن ماتوا مصرين على الكبائر، كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم، وأدخلهم الجنة أولاً، وإن شاء عذبهم، ثم أدخلهم الجنة. شرح صحيح مسلم للنووي، 12/401-402.
قال ابن قتيبة -رحمه الله-: "وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمن، من لم يأمن جاره بوائقه" يريد:" ليس بمستكمل الإيمان". تأويل الحديث، لأبي محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة (276هـ) ، تصحيح محمد زهري النجار، دار الجيل، بيروت، لبنان، طبعة عام 1393هـ-1972م، ص171.
(1/173)
________________________________________
الخوارج (1) ، والمرجئة (2) ، ونحوهم من أهل الأهواء، فافهم هذا، فإنه مضلة الأفهام، ومزلة الأقدام.
__________
(1) الذين يكفرون مرتكبي الكبير. وقد تقدمت ترجمتهم، وبيان مذهبهم في ص179.
(2) المرجئة: اسم مشتق من الإرجاء، وهو على معنيين: الأول التأخير، والثاني: إعطاء الرجاء. ويصدق إطلاق كلا المعنيين على المرجئة؛ فعلى الأول: لأنهم يؤخرون الأعمال عن الإيمان، أي أنها لا تدخل في مسمى الإيمان. وعلى الثاني: لأنهم يعطون رجاء الفوز والسعادة في الآخرة، لمن لم يعمل.
انظر: الملل والنحل، 1/139. ولسان العرب، 1/84.
فالمرجئة -كما يقول ابن في النهاية، 2/206-: هم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة. وهؤلاء هم المرجئة الخالصة. وانظر: الملل والنحل، 1/139. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والفقهاء منهم؛ مثل حماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة، متفقون مع سائر أهل السنة على أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة. مجموع الفتاوى، 1/338. وقال في محل آخر: "وقالت المرجئة -مقتصدهم وغلاتهم كالجهمية- قد علمنا أن أهل الذنوب من أهل القبلة، لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها كما تواترت بذلك الأحاديث". مجموع الفتاوى، 1/348.
وقال ابن منظور في اللسان، 1/84: "المرجئة: صنف من المسلمين، يقولون: الإيمان بلا عمل. كأنهم قدموا القول وأرجوا العمل، أي أخروه". لسان العرب، 1/84.
والمرجئة: فرق متعددة، ذكرها علماء الفرق في مصنفاتهم؛ كالأشعري في [المقالات، 1/213-223] ، والبغدادي في [الفرق بين الفرق، ص202-205] ، والشهرستاني في [الملل والنحل، 1/139-146] .
وكل تلك الفرق التي ذكروها عائدة إلى ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ إذ صنفهم إلى ثلاثة أصناف، فقال: والمرجئة ثلاثة أصناف:
الأول: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان، كجهم ومن تبعه كالصالحي.
والثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يُعرف لأحد قبل الكرامية.
والثالث: تصديق القلب وقول اللسان. وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم. انتهى. مجموع الفتاوى، 7/195.
يعني بأهل الفقه والعبادة، الإمام أبا حنيفة وأصحابه، فهم يقولون بهذا القول، ويقولون: إن أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزء من الإيمان، كما يتفقون مع بقية أهل السنة في أن مرتكب الكبير لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله.
انظر: شرح العقيدة الطحاوية، 313-314. ومجموع الفتاوى، 3/151.
(1/174)
________________________________________
أما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر، فقد يمنع منه مانع في حق المعين (1) ؛ كحب الله ورسوله (2) ، والجهاد في
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى، 23/345.
(2) ومثل ذلك: ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، أن رجلاً كان عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً، فأمر به فجلد؛ فقال رجل من القوم: اللهم، ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صل الله عليه وسلم ((لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)) . صحيح البخاري مع فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، تحقيق محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1408هـ، 12/77. شرح السنة، لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي (ت156هـ) ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1396هـ/1976م، 10/337.
فالحديث صريح في أن حب الله ورسوله، هو المانع من إلحاق اللعن لهذا الصحابي رضي الله عنه على الرغم من ثبوت اللعن لشارب الخمر، فيما أخرجه أبو داود، من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)) . سنن أبي داود، 4/82، الأشربة، باب العنب يعصر للخمر. سنن ابن ماجه، 2/255، الأشربة، باب لعنت الخمر على عشرة أوجه.
(1/175)
________________________________________
سبيله (1) ، ورجحان الحسنات (2) ومغفرة الله ورحمته (3) ، وشفاعة المؤمنين (4) ، والمصائب المكفرة في الدور الثلاثة (5) . ولذلك لا يشهدون لمعين من أهل القبلة، بجنة
__________
(1) الجهاد في سبيل الله، من الأمور التي تمنع إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر؛ إذ إن القتل فيه مكفر عن جميع الذنوب والخطايا إلا الدين. كما جاء ذلك في حديث أبي قتادة عن أبيه، أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله، أفضل الأعمال. فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((نعم إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ... )) الحديث. صحيح مسلم بشرح النووي، 13/32، الإمارة، باب (من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه) .
وأخرجه مالك في الموطأ، بتصحيح فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، الحلبي بمصر، 2/461، الجهاد، باب الشهداء في سبيل الله. سنن الترمذي، 4/184، الجهاد، باب فيمن يستشهد وعليه دين.
(2) إن المرء قد يرتكب بعض الكبائر، لكنه قد يترجح حسناته عل سيئاته عند الميزان، فيكون ذلك مانعاً للحوق الوعيد على تلك الكبائر. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة 6،7] .
(3) مغفرة الله ورحمته، من الأمور المانعة لتحقيق الوعيد في حق المعين. وفي ذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم ((يجئ يوم القيامة ناس من المسلمين، بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم ... )) الحديث صحيح مسلم بشرح النووي، 17/93، باب سعة رحمة الله. والأحاديث في مغفرة الله لعباده كثيرة.
(4) وفيه جاء قوله صلى الله عليه وسلم ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه)) . صحيح مسلم بشرح النووي، 7/22، الجنائز، باب من صلى الله علبيه أربعون، شفعوا فيه. سنن ابن ماجه، 1/274، الجنائز، باب (ما جاء فيمن صلى الله عليه جماعة من المسلمين) .
(5) وفي ذلك أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها من العمل، ابتلاه الله -عز وجل- بالحزن ليكفرها عنه)) مسند الإمام أحمد 6/157. وأخرج مسلم في صحيحه، قوله صلى الله عليه وسلم ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته)) ، باب (ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض) . وأخرجه البخاري في صحيحه، 7/218، كتاب المرضى والطب، باب (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأول فالأول) . وأحمد في مسنده، 1/441.
(1/176)
________________________________________
ولا نار (1) ، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة، فهم يفرقون بين العام والمطلق (2) ، والخاص المقيد (3) ، وكان عبد الله حماراً (4) يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله، فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى إلى رسول الله فقال النبي لا تلعنه؛
__________
(1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص305-366. ومجموع الفتاوى، 23/345.
(2) اللفظ العام: هو المستغرق لجميع ما يصلح له، بحسب وضع واحد. المحصول في علم أصول الفقه، لمحمد بن عمر بن الحسين الرازي، (ت606هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1408هـ-1988م، 1/353.
ووصف اللفظ العام هنا بالإطلاق، أي أنه غير مقيد موجب لتخصيصه، من صفة، أو استثناء، أو شرط، ونحوها. ومثال ذلك (الوعيد العام) الذي جاء في لعنه صلى الله عليه وسلم الخمر، وشاربها، وساقيها ... إلخ؛ فهو لعن عام غير مقيد بشيء يخصصه.
(3) الخاص: ما أخرج عن بعض ما تناوله الخطاب العام. المحصول، للرازي، 1/396.
ومثاله هذا الصحابي عبد الله، وكان ذلك التخصيص مقيداً بصفة هي حبه لله ورسوله. فالوعيد الخاص المعين ما تناول فرداً بعينه. كما في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] .
فمراد الشيخ هنا، أن الصحابة -رضوان الله عليهم- يفرقون بين الوعيد العام المطلق، والخاص المقيد.
(4) هو صحابي جليل، اسمه عبد الله، وحمار لقب له، صاحب المزاح الذي كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكه.
انظر ترجمته: تجريد أسماء الصحابة، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ) ، نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان. 1/306.
(1/177)
________________________________________
فإنه يحب الله ورسول)) (1) ، مع أنه لعن الخمر، وشاربها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه (2) . وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة (3) ، وما فيها من الفوائد؛ فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله؛ لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله، إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله، ومسيره لجهادهم؛ ليتخذ بذلك يداً عندهم تحمي أهله وماله بمكة، فنزل الوحي بخبره.
موالاة الكفار المكفرة وما دونها وكان قد أعطي الكتاب/ ظعينة/ (4) فجعلته في
__________
(1) أورده بهذا اللفظ: عبد الرزاق (211هـ) في مصنفه، ط/1، 1392هـ-1972م، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، حديث رقم (13552) و (17082) .
والهندي في كنز العمال، في سنن الأقوال والأفعال، لعلاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي (975هـ) ، نشر مكتبة التراث الإسلامي، حلب، حديث رقم (13749) ، وعندها كان الشارب (ابن النعمان) . وقد تقدم تخريج الحديث عند البخاري في ص186، بلفظ آخر.
(2) تقدم تخريج هذا الحديث في صفحة 75.
(3) صحابي معروف، اشتهر بقصته هذه التي أشار إليها المؤلف هنا.
انظر ترجمته: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، 1/312. أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير (630هـ) ، الشعب، 1/431. الإصابة في تمييز الصحابة، لأحمد بن حجر العسقلاني (852هـ) ، مكتبة الكليات الأزهرية، ط/، 1389هـ-1969، 2/192. تهذيب التهذيب، لأحمد بن محمد بن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، 2/168.
(4) في جميع النسخ (ضعينة) بالضاد، وهو خطأ، والصواب المثبت، بالظاء، ومعناه: المرأة. وأصل الظعينة الراحلة التي يرحل ويظعن عليها، وقيل للمرأة ظعينة؛ لأنها تظعن مع الزوج حيثما ظعن، وجمعها: ظعنٌ، وظعائن، وأظعان.
وقيل إنها كانت امرأة من مزينة: انظر فتح الباري، 7/593. وقال ابن إسحاق: "زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره، أنها سارة، مولاة لعبض بني المطلب".
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لمحمد بن إسحاق (ت151هـ) ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة، نشر مكتبة محمد علي صبيح، ط/1، 1383هـ/1963م، 4/858.
(1/178)
________________________________________
شعرها، فأرسل رسول الله علياً والزبير في طلب الظعينة (1) ، وأخبرهما أنهما يجدانها في "روضة خاخ" (2) فكان ذلك؛ وتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتي به رسول الله، فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له: (ما هذا) فقال: يا رسول الله، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أنه تكون لي عند القوم يداً، أحمي بها أهلي ومالي. فقال صدقكم، خلوا سبيله) ، واستأذن عمر في قتله فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم) (3) .
وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (4) . فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوصية السبب الدالة على إرادته، مع أنه في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل. لكن قوله صلى الله عليه وسلم ((صدقكم, خلوا سبيله)) (5) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذا كان مؤمناً بالله ورسوله، غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قيل: ((خلوا سبيله)) . ولا يقال: قوله صلى الله عليه وسلم لعمر:
__________
(1) في جميع النسخ (ضعينة) .
(2) روضة خاخ: موضع بين الحرمين، بقرب حمراء الأسد من المدينة. معجم البلدان، 2/335.
(3) أصل هذه القصة في الصحيحين؛ فهي في صحيح البخاري مع الفتح، 7/592، المغازي، 16/288-289، كتاب فضائل الصحابة، من فضائل أهل بدر، وقصة حاطب بن أبي بلتعة. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" على الصحيحين لمحمد بن عبد الله الحاكم (ت 405هـ) ، بذيله تلخيص المستدرك، للذهبي، دار الفكر، بيروت، 1389هـ، 1978م. 13/301-302. انظر القصة: البدايةوالنهاية، لابن كثير 4/284-284. والسيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وزميليه، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، 4/40-41 وسيرة النبي لابن إسحاق، 4/858.
(4) سور الممتحنة: الآية (1) .
(5) تقدم تخريجه.
(1/179)
________________________________________
" ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " (1) . هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من إلحاق الكفر وأحكامه، فإن الكفر يهدم ما قبله، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (2) ، وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) , والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع، (فلا يظن) (4) هذا.
وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (5) وقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (6) وقوله: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (7) ، فقد فسرته السنة، وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة (8) .
وأصل الموالاة هو الحب، والنصرة، والصدقة، ودون ذلك مراتب متعددة. ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من
__________
(1) تقدم تخريجه ص179.
(2) سور المائدة: الآية (5) .
(3) سورة الأنعام: الآية (88) .
(4) ما بين القوسين ساقط في (ب) ، و (ج) ، و (د) .
(5) سورة المائدة: الآية (51) .
(6) سورة المجادلة: الآية (22) .
(7) سورة المائدة: الآية (57) .
(8) قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "يعني -تعالى ذكره- بقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ومن يتول اليهود والنصارى، دون المؤمنين، فإنه منهم يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به، وبدينه، وما هو عليه راض، وإذا رضيه، ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه، وسخطه، وصار حكمه حكمه".
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، (ت 310هـ) دار الفكر، 1408هـ، 6/277.
وهذا النوع من الموالاة التي ذكرها الطبري، هو الموالاة المطلقة العامة، وهو ما لم يقترب إليه حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، إذ إنه أراد مجرد اتخاذ يدٍ عندهم يحفظ ماله.
(1/180)
________________________________________
الصحابة والتابعين، معروف في هذا الباب وفي غيره. وإنما أشكل الأمر، وخفيت المعاني، وألبست الأحكام، على خلوف من العجم والمولدين (1) الذين لا دراية لهم بهذا الشأن، ولا ممارسة بمعاني السنة والقرآن؛ ولهذا قال الحسن (2) -رحمه الله-: "من العجمة أتوا" (3) . وقال أبو عمرو بن العلاء (4) لعمرو بن عبيد (5) لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار، واحتج ابن عبيد أن هنا وعداً، والله لا يخلف وعده (6) ، يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب، بالنار
__________
(1) المولدون: جمع مولد، وهو العربي غير المحض، يقال: رجل مولد إذا كان عربياً غير محض. لسان العرب، 3/469، مادة (ولد) .
(2) هو الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد البصري، مولى زيد بن ثابت الأنصاري، ولد بالمدينة، من خيار التابعين (ت110هـ) .
انظر ترجمته: الطبقات الكبرى، لابن سعد، دار صادر بيروت، 7/156. وسير أعلام النبلاء، 4/563-588. وتذكرة الحفاظ، للذهبي (448هـ) ، دار إحياء التراث العربي 1/71. وتهذيب التهذيب، 2/263.
(3) لم أجد مصدره فيما اطلعت عليه.
(4) في (أ) و (د) : (عمرو بن العلاء) ، وهو خطأ. وفي غيرهما: (أبو عمرو بن العلاء) وهو الصواب. وهو أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العربان التميمي البصري، شيخ القراء، اختلف في اسمه على أقوال أشهرها: زبّان، وقيل العربان. ولد نحو سن سبعين. وتوفي سنة 154هـ.
انظر ترجمته: سير الأعلام، 6/407. تهذيب التهذيب، 12/178.
(5) عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري الزاهد القدري، كبير المعتزلة، جالس الحسن البصري، مات بطريق مكة سنة 143هـ.
انظر ترجمته: تاريخ بغداد أو مدينة السلام، للحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 12/166. ووفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان (ت681هـ) ، تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر، طبعة سنة 1397هـ-1977م، 3/460-462. سير الأعلام، 6/104. تهذيب التهذيب. 830.
(6) هذا بناءً على مذهب المعتزلة بأنه يجب على الله تنفيذ الوعد، وهو أحد أصولهم الخمسة، وهي: (1 التوحيد) (2) المنزلة بين المنزلتين (3) العدل (4) الوعد والوعيد (5) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر معانيها عندهم: شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار
(1/181)
________________________________________
والخلود (1) ، فقال له ابن العلاء: من العجمة أُتيت، هذا وعيد لا وعد،
وأنشد قول الشاعر:
وإني وإن أوعدته (2) أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز (3) موعدي (4)
وقال بعض الأئمة، فيما نقل البخاري أو غيره، إن من سعادة الأعجمي والأعرابي، إذا أسلما، أن يوفقا لصاحب سنة، وإن من شقاوتهما أن يمتحنا،........................................... ....
__________
بن أحمد، تعليق الإمام ابن الحسين بن أبي هاشم، تقديم د. عبد الكريم عثمان، نشر مكتبة وهبة، مطبعة الاستقلال الكبرى، ط/1، 1384هـ/1965م، ص149، 299، 609، 695، 739. مجموع الفتاوى، 1398، 368-390. الصفات الإلهية في الكتاب والسنة في ضوء الإثبات والنفي، لمحمد بن علي الجامي، ط/1، 1408هـ، ص141-142.
(1) مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء:93] .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان:68-69] .
(2) في (أ) (واعدته) . وفي بقية النسخ: (أوعدته) ، وهكذا في ديوان عامر بن طفيل، دار صادر، بيروت، 1383هـ، 1963م، ص58، وانظر: تاريخ بغداد، 12/176، وهو الصواب؛ لأن القياس من الوعيد أن يقال: أوعد، وأوعدته بالشر. انظر: لسان العرب، 3/463، مادة (وعد) .
(3) في رواية: (لأخلف إيعادي وأنجز موعدي) .
(4) انظر هذه المناظرة في: تاريخ بغداد، 12/175-176. والحجة في بيان المحجة، 2/73. ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية (751هـ) ، دار الكتت العلمية، بيروت، لبنان، ط/1، 1403هـ-1983م. 1/396.
والمقصود هنا أن يثبت ابن العلاء لمناظره، ما هو عكس مذهب المعتزلة، وهو أنه لا يجب على الله إنفاذ الوعيد، وأنه تعالى قد يترك عقاب العاصي تكرماً منه وفضلاً. وقد تقرر عند العرب أنهم لا يلحقون العار بمن توعد ثم لا ينفذه، بل يرون ذلك كرماً وفضلاً، وإنما خلف الوعد والعار ملحق بمن يعد الخير ثم لا يفعله. والبيت لعامر بن الطفيل العامر. انظر ديوانه، ص58.
(1/182)
________________________________________
وييسرا (1) لصاحب هوى وبدعة (2) . ونضرب لك مثلاً وهو: أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله، أحدهما خارجي (3) ، والآخر مرجئ (4) ، قال الخارجي: إن قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (5) ، دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار وبطلانها (6) ؛ إذ لا قائل إنهم من عباد الله المتقين.
قال المرجئ: هي في الشرك، فكل من اتقى الشرك يقبل عمله (7) ، لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (8) .
قال الخارجي: قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} (9) يرد ما ذهبت إليه.
قال المرجئ: المعصية هنا الشرك بالله، واتخاذ الأنداد معه، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (10) .
قال الخارجي: قوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} (11) ، دليل على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها.
__________
(1) في (د) ويتيسرا.
(2) لم أهتد إلى مصدره.
(3) الخارجي: مفرد الخوارج، وقد تقدم بيان مذهبهم في ص167.
(4) المرجئ: هو من يخرج الأعمال من مسمى الإيمان. وقد تقدم بيان مذهب المرجئة في ص174.
(5) سورة المائدة: الآية (27) .
(6) هذا بناء على مذهب الخوارج في تكفير أهل الكبائر.
(7) وهذا بناء على مذهبهم في العصاة والفجار، أنهم مؤمنون كاملو الإيمان ما داموا قد نطقوا بالشهادتين.
(8) سورة الأنعام: الآية (160) .
(9) سورة الجن: الآية (23) .
(10) سورة النساء: الآية (48) .
(11) سورة السجدة: الآية (18) .
(1/183)
________________________________________
قال المرجئ: قوله في آخر الآية: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (1) دليل على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق من أهل القبلة مؤمن كامل الإيمان.
ومن وقف على المناظرة من جهال الطلبة والأعاجم ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ، مع أن كلا القولين لا يرتضي، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله (2) ؛ لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم. وأما أهل البدع والأهواء فيستغنون عنها بآرائهم وأذواقهم. وقد بلغني أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} (3) على بعض ما يجري من أمراء الوقت، من مكاتبة، ومصالحة، وهدنة لبعض /الرؤساء/ (4) الضالين، والملوك المشركين، ولم تنظروا لأول الآية، وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} (5) ،.........................
__________
(1) سورة السجدة: الآية (20) .
(2) إن مذهب السلف الصالح -أهل السنة والجماعة- هو التوسط بين آراء الخوارج والمرجئة في مسألة العصاة والفجار؛ فإنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بمعصية، وأنه إن عمل عملاً صالحاً، فهو مقبول عند الله، للخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي، ويحبطون أعمالهم.
كما أن السلف لا يصفون العصاة، والفساق، والفجار، بكمال الإيمان، مع عدم العمل -خلافاً للمرجئة- بل يصفونهم بأنهم مؤمنون عصاة، ناقصو الإيمان، ويخشى عليهم إن هم أصروا على ذلك.
انظر: الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (ت600هـ) ، تحقيق د. أحمد عطية بن علي الغامدي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط/1، 1414هـ/193م، ص205. والحجة في بيان المحجة، 2/271.
(3) سورة محمد: الآية (26) .
(4) في جميع النسخ: رؤساء الضالين.
(5) سورة محمد: الآية (25) .
(1/184)
________________________________________
ولم يفقهوا المراد من الأمر /المعرف/ (1) المذكور في هذه الآية.
وفي قصة صلح الحديبية (2) ، وما طلبه المشركون واشترطوه (3) ، وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يكفي في رد مفهومكم، ودحض أباطيلكم.
__________
(1) ساقط من (ب) .
(2) كان هذا الصلح في العام السادس الهجري، بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشركين، حين منعوه من دخول مكة معتمراً.
انظر قصة الصلح: السيرة النبوية، لابن هشام، 3/321-325. البداية والنهاية، لابن كثير، 4/166-179.
(3) كان من أهم بنود الصلح:
1- وضع الحرب عن الناس عشر سنين.
2- من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه.
3- من أحب أن يدخل محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
4- أن يرجع محمد فلا يدخل مكة هذا العام، وإذا كان عام قابل، خرجت قريش من مكة، فيدخلها محمد مع أصحابه، ويقيم بها ثلاثة أيام.
انظر: السيرة النبوية، لابن هشام، 3/332. البداية والنهاية، 4/170.
(1/185)
________________________________________
الأصل الأول: أن السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام القرآنية
...
{فصل و /هنا/ (1) أصول:
أحدها: أن السنة والأحاديث النبوية، هي المبينة للأحكام القرآنية،
وما يراد بيان السنة لأحكام القرآن من النصوص الواردة في كتاب الله، في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والفاجر والتقي، وما يراد بالموالاة والتولي، ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر
__________
(1) كذا في جميع النسخ. وفي (أ) : (وههنا) بزيادة هاء في أوله. والمثبت أولى؛ لعدم بعد المحل المشار إليه.
(1/185)
________________________________________
بالصلاة على الوجه المراد في عددها، وأركانها، وشروطها، وواجباتها (1) . وكذلك الزكاة؛ فإنه لا يظهر المراد من الآيات الموجبة (2) ، ومعرفة النصاب والأجناس التي تجب فيها، من الأنعام، والثمار، والنقود، ووقت الوجوب، واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب، وصفته، إلا ببيان السنة، وتفسيرها، وكذلك الصوم، والحج، جاءت السنة ببيانهما، وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة. وكذلك أبواب الربا، وجنسه، ونوعه، وما يجري فيه، وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي، وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برواته الثقات العدول، عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) . فمن أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان، ومعرفة التنزيل والقرآن.
__________
(1) هنا بيان للعلاقة، والرابطة المتينة التي بين القرآن الكريم، والسنة والنبوية المطهرة؛ فهي علاقة تلازم، بحيث لا يمكن الاكتفاء بالإيمان بأحدهما؛ فالقرآن الكريم، في أغلب أحكامه، يأتي بها مجملة، فتقوم السنة ببيانها وتفصيلها. فالأمر بالصلاة، مثلاً جاء في القرآن مجملاً، وهو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] ، فأتت السنة بالبيان أن عددها خمس، وأن صلاة الفجر ركعتان، والظهر، والعصر، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث، وهكذا.
(2) كقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] .
(3) هنا تحديد الماهية الحديث الصحيح، وهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط، عن العدل الضابط، إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً، ولا معلاً. علوم الحديث، لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح (ت643هـ) ، تحقيق نور الدين عتر، نشر المكتبة العلمية، بالمدينة المنورة، مطبعة الأصيل، حلب، 1386هـ/1966م، ص10.
(1/186)
________________________________________
الأصل الثاني: أن الإيمان أصل، له شعب متعددة،
كل شعبة فيها تسمى إيماناً، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (1) ، فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعاً، كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزواله إجماعاً، كترك إماطة الأذى
__________
(1) في ذلك ورد قوله صلى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ". صحيح مسلم بشرح النووي، 2/363، الإيمان، باب (بيان عدد شعب الإيمان) . سنن أبي داود 5/55-56، السنة، باب (في رد الإرجاء) . سنن الترمذي, 5/12، الإيمان، باب (ما جاء في استكمال الإيمان) . سنن النسائي، 8/110، الإيمان، باب (ذكر شعب الإيمان) . سنن ابن ماجه، 1/12، المقدمة، باب (في الإيمان) .
(1/186)
________________________________________
عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين، شعب متفاوتة، منها ما يلحق شعب الإيمان بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق، ويكون إليها أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها، مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف، الأمة وأئمتها.
وكذلك الكفر أيضاً, ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان] (1) ، ولا يسوّى بينها في الأسماء والأحكام، وفرق بين من ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف؛ وبين من سرق، أو زنى، أو انتهب، أو صدر منه نوع موالاة (2) ، كما جرى لحاطب. فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام, أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء.
__________
(1) ما بين المعقوفتين نقله الشيخ من كتاب الإمام ابن القيم -رحمه الله- المسمى: "كتاب الصلاة وحكم تاركها"، ص53, بتصرف. وقد أتى بها الإمام ابن القيم، بعد سرده لأقوال العلماء في كفر تارك الصلاة، ثم قال: "فصل في الحكم بين الفريقين"، فذكر هذا التفصيل.
وانظر أيضاً: التمهيد، لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمرو يوسف بن عبد البر (ت463هـ) طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بالمملكة المغربية، 1399هـ/1979م، 9/238. مسائل الإيمان، للقاضي أبي يعلى، تحقيق سعود بن عبد العزيز الخلف، دار العاصمة، الرياض، النشرة الأولى، 1410هـ، ص152.
(2) أي: نوع موالاة المشركين والكفار (المحرمة) .
(1/187)
________________________________________
الأصل الثالث: حقيقة الأيمان
إن الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو اعتقاده، وقول اللسان, وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو
(1/187)
________________________________________
قصده، حقيقة الإيمان واختياره، ومحبته، ورضاه، وتصديقه؛ وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة (1) . فإذا زال تصديق، القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية؛ وإذا زال شيء من الأعمال، كالصلاة، والزكاة والحج، والجهاد, مع بقاء تصديق القلب وقبوله، فهذا محل خلاف: هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها، أو لا يفرق؟
فأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب، الذي هو محبته، ورضاه، وانقياده، والمرجئة / تقول/ (2) : يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمناً.
والخلاف في أعمال الجوارح (3) ، هل يكفر /أو/ (4) لا يكفر؟ واقع بين أهل السنة، والمعروف عن السلف، تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية، كالصلاة والزكاة، والصيام، والحج (5) .
__________
(1) هذا هو مجمل قول السلف الصالح في الإيمان، بأنه: اعتقاد، وقول وعمل. خلافاً لطوائف المرجئة، التي تخرج العمل عن مسمى الإيمان. وقد تقدم بيانه في ص174.
(2) ساقط في (د) .
(3) أي في تركها.
(4) في جميع النسخ: (أم) ، وهو خطأ؛ لأن (هل) لا يقابل بـ (أم) . وفي المطبوع المثبت، وهو الصواب.
(5) هذا مذهب جمهور السلف. وقد ورد إجماع الصحابة على أن تارك الصلاة عمداً كافر. جاء ذكره في: المحلى، لابن حزم (ت456هـ) ، نشر المكتب التجاري، بيروت، لبنان، 2/242. الترغيب الترهيب من الحديث الشريف، لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت656هـ) ، تعليق مصطفى عمارة، نشر دار إحياء التراث العربي، لبنان، ط/3، 388هـ-1968م، 1403هـ/1983م، ص259. "كتاب الصلاة وحكم تاركها"، لابن القيم، ص37، 65.
وفي ذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين عزم على قتال مانعي الزكاة: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال" أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح 13/264، ومسلم في صحيحه بشرح النووي، 2/314-316، وأبو داود في سننه، 2/198، والترمذي5/14-15. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
انظر: قوانين الأحكام الشرعية، ومسائل الفروع الشرعية، لمحمد بن أحمد بن جزي الغرناطي (ت1340هـ) ، ط/1، شركة الطباعة الفنية. ص49. الشرح الصغير على أقرب المسالك، للدرديري، دار المعارف بمصر، 1392هـ، 1/238. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لمحمد الشربيني الخطيب، طبعة الحلبي، بيروت، 1402هـ-1982م، 1/227-228.
(1/188)
________________________________________
(والقول الثاني) : أنه لا يكفر إلا من جحدها (1) .
(والثالث) :الفرق بين الصلاة وغيرها (2) . وهذه الأقوال معروفة.
وكذلك المعاصي والذنوب، التي هي فعل المحظورات، فرقوا فيها بين ما يصادم /أصل/ (3) الإسلام وينافيه (4) ، وما دون ذلك (5) ، وبين ما سماه الشارع كفراً (6) ، وما لم يسمه.
هذا ما عليه أهل, الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها.
__________
(1) وهذا مذهب الحنفية. انظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار، لمختار أمين الشهير بابن عابدين (ت1252هـ) ، طبع مصطفى الحلبي، بمصر، سنة 1386هـ، 1/352.
(2) هذه رواية الإمام أحمد، أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة فقط. انظر: كتاب "الإيمان" بان تيمية، ص259.
(3) في (د) : أصلاً.
(4) من ذلك: الشرك بالله، والاستهانة بالمصحف، وقتل الرسول، وسب الله ورسوله، وغير.
(5) كالسرقة، وشرب الخمر، وأكل الربا، ونحوها.
(6) كقتال المسلم لأخيه، وتكفيره، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت.
(1/189)
________________________________________
الأصل الرابع: أنواع الكفر
...
الأصل الرابع: أن الكفر نوعان،
كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله، جحوداً وعناداً، من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه التي أصلها توحيده، وعبادته، وحده لا شريك له، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه.
وأما كفر العمل، فمنه ما يضاد الإيمان، كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي، وسبه.
وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، فهذا كفر عمل، لا كفر اعتقاد، وكذلك قوله /صلى الله عليه وسلم: (1) ((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) (2) ، وقوله: ((من أتى كاهناً فصدقه, أو امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد/ صلى الله عليه وسلم / (3) (4) ، فهذا من الكفر العملي،
__________
(1) ساقط في (ب) ، و (ج) ، و (د) ، والمطبوع.
(2) انظر: صحيح البخاري مع الفتح، 1/262، العلم، باب (الإنصات للعلماء) . صحيح مسلم بشرح النووي، 2/415، الإيمان، باب (بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعد كفاراً) . سنن أبي داود، 5/63، السنة، باب (الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه) . سنن الترمذي، 4/421، الفتن، باب (ما جاء: "لا ترجعوا بعدي كفاراً") . سنن النسائي، 7/126-127، تحريم الدم، باب (تحريم القتل) . سنن ابن ماجه، 2/366، الفتن، باب (لا ترجعوا بعدي كفاراً) .
(3) زيادة في (ب) ، و (ج) .
(4) أخرجه أبو داود في سننه، 4/225-226، الطب، باب (في الكاهن) ، بلفظ: "فقد برئ مما أنزل على محمد". وأخرجه أصحاب السنن بلفظ آخر: ((من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا، فقد كفر بما أنزل على محمد)) ، أخرجه بهذا اللفظ كل من: الترمذي في سننه، 1/243، الطهارة، باب في كراهية إتيان الحائض، والدارمي (ت255هـ) في سننه، بتحقيق فواز أحمد زمرلي، وخالد السبع العلمي، نشر دار الريان، القاهرة، ودار الكتاب العربي، بيروت، ط/1، 1407هـ/1987م، 1/275-276، الطهارة، باب (من أتى امرأته في دبرها) .
(1/190)
________________________________________
وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي، وسبه، وإن كان الكل يطلق عليه الكفر، وقد سمى الله /سبحانه/ (1) من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه, مؤمناً بما عمل به، /وكافراً/ (2) بما ترك العمل به. /قال/ (3) تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} إلى قوله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (4) . فأخبر -سبحانه- أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به، وأخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقاً آخرين، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أخذ عليهم، ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي (5) يضاده الكفر العملي (6) ، والإيمان الاعتقادي (7) يضاده الكفر الاعتقادي (8) .
وفي الحديث الصحيح: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (9) /و/ (10) فرق بين
__________
(1) ساقط في (ب) .
(2) في (د) : وكافر، وهو خطأ؛ لأنه مفعول سمّي.
(3) في (أ) ، و (د) : وقال.
(4) سورة البقرة: الآيات (84، 85) .
(5) الإيمان العملي هو كالصلاة، والزكاة، والحج، والصوم.
(6) الكفر العملي: كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وترك الصلاة.
(7) الإيمان الاعتقادي كالمحبة والرضا والتصديق والإخلاص.
(8) الكفر الاعتقادي: وهو جحود وعناد، كتكذيب ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أسماء الرب وصفاته وأحكامه.
(9) صحيح البخاري مع الفتح، 1/135، الإيمان، خوف المؤمن أن يحبط عمله.
صحيح مسلم بشرح النووي، 2/414، الإيمان باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم فسوق؛ سنن الترمذي، 4/311، البر ما جاء في الشتم؛ سنن النسائي، 7/121، تحريم الدم، باب قتال المسلم، سنن أبي داود 2/365-366، الفتن، باب سباب المسلم.
(10) الواو ساقط في (ب) و (ج) والمطبوع.
(1/191)
________________________________________
سبابه، وقتاله، وجعل أحدهما فسوقاً لا يكفر به، والآخر/كفراً/ (1) ، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي، لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني، والسارق، والشارب، من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان (2) .
وهذا التفصيل هو قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام، والكفر، ولوازمها، فلا تلقى هذا المسائل إلا عنهم، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين: /فريق/ (3) أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار (4) ، و/فريق/ (5) جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان (6) . فأولئك غلوا, وهؤلاء جفوا، فهدى الله أهل السنة، للطريق المثلى، والقول الوسط (7) ، الذي هو في المذهب، كالإسلام في الملل (8) ، فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم. فعن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (9) ...............
__________
(1) في (ب) ، و (ج) ، و (د) ، والمطبوع: كفر.
(2) أي حين اقترافه لإحدى هذه الأمور. انظر: كتاب "الصلاة وحكم تاركها"، ص57.
(3) في (ب) ، و (ج) ، و (د) والمطبوع: فريقاً.
(4) وهم الخوارج والمعتزلة. غير أن المعتزلة يخرجون صاحب الكبيرة من الإيمان، ولا يدخلونه في الكفر، ويقولون إنه في منزلة ما بين المنزلتين، ويتفقون مع غيرهم في تخليده في النار؛ بناءً على أصل مذهبهم في الوعيد، بأنه يجب على الله إنفاذه.
(5) في (ب) ، والمطبوع: فريقاً.
(6) وهم المرجئة الذين لا يعتبرون الأعمال من الإيمان، وعليه فأهل الكبائر مؤمنون كاملو الإيمان، كما يقول الغلاة فيهم "لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة". وقد تقدم بيان مذهبهم في ص174.
(7) تقدم قول أهل السنة في أصحاب الكبائر في ص175.
(8) وقد ذكر وسطية الإسلام في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآية، [البقرة:143] .
(9) سورة المائدة: الآية (44) .
(1/192)
________________________________________
قال: "ليس هو بالكفر (1) الذي تذهبون إليه" رواه عنه سفيان (2) ، وعبد الرزاق (3) (4) .
وفي رواية عنه أخرى: "كفر لا ينقل عن الملة" (5) . وعن عطاء (6) : "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق" (7) .
وهذا بيّن في القرآن لمن تأمله، فإن الله -سبحانه- سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً (8) ، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافراً (9) ، وليس الكافران على حد سواء. وسمى الكافر ظالماً،/كما/ (10) في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ
__________
(1) الباء في قوله (بالكفر) ساقط في (ب) و (ج) ، والمطبوع.
(2) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الكوفي، ولد سنة (107هـ) حدث عن كثير من التابعين (ت198هـ) .
انظر ترجمته: تاريخ بغداد، 9/174. وتذكرة الحفاظ، 1/262. وتهذيب التهذيب 4/117.
(3) هو عبد الرزاق بن همام بن نافع، صاحب المصنف، ولد سنة (126هـ) ، حدث عن سفيان الثوري، وحدث عنه سفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، (ت211هـ) .
انظر ترجمته: تذكرة الحفاظ، 1/364. وسير الأعلام، 9/563. وتهذيب التهذيب، 6/310.
(4) ونص ما رواه عنه سفيان، وعبد الرزاق، هو قوله: "إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليسس كمن كفر بالله، واليوم الآخر". انظر: جامع البيان للطبري، 6/256. كتاب "الصلاة وحكم تاركها"، لابن القيم، ص57.
(5) جامع البيان للطبري، 6/256. وهي أيضاً رواية عن طاووس. انظر: المرجع السابق، نفس الصفحة. الجامع لأحكام القرآن، 6/124. كتاب "الصلاة وحكم تاركها"، لابن القيم، ص57.
(6) هو عطاء بن أبي رباح، أبو محمد القرشي، ولد في خلافة عثمان رضي الله عنه، وحدث عن عائشة، وأم سلمة، وغيرها، (ت115هـ) . انظر ترجمته: طبقات ابن سعد، 5/467. سير الأعلام، 5/78. تهذيب التهذيب، 7/199.
(7) هو عطاء بن أبي رباح، أبو محمد القرشي، ولد في خلافة عثمان رضي الله عنه، وحدث عن عائشة، وأم سلمة، وغيرهما، توفي (115هـ) . انظر ترجمته: طبقات ابن سعد، 5/467. سير الأعلام، 5/78. تهذيب التهذيب، 7/199.
(8) وذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:4] .
(9) وذلك في قوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:47] .
(10) ساقظ في (ب) ، و (ج) ، والمطبوع.
(1/193)
________________________________________
الظَّالِمُونَ} (1) . وسمى من يتعد حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً (2) ، وقال {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (3) .
وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (4) ، وقال آدم عليه السلام {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} (5) ، وقال موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} (6) . وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم، وسمى الكافر
فاسقاً في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} (7) وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ} (8) وسمى العاصي فاسقاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (9) ، وقال في الذين يرمون المحصنات:
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (10) , وقال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (11) ، وليس
__________
(1) ساقط في (ب) ، و (ج) ، المطبوع.
(2) سورة البقرة: الآية (254) .
(3) سُمي من يتعد حدوده في تلك الأمور ظالماً، في الآيات التالية: في الطلاق والرجعة، قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231] .
(4) سورة الطلاق: الآية (1) .
(5) سورة الأنبياء: الآية (87) .
(6) سورة الأعراف: (23) .
(7) سورة القصص: الآية (16) .
(8) سورة البقرة: الآية (26) .
(9) سورة البقرة: (99) .
(10) سورة الحجرات: الآية (6) .
(11) سورة النور: الآية (4) .
(1/194)
________________________________________
الفسق كالفسوق.
وكذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر (1) ، وشرك لا أنواع الشرك والنفاق ينقل عن الملة، وهو الأصغر، كشرك الرياء (2) . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (3) ، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (4) ، وقال في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (5) . وفي الحديث: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) (6) .
ومعلوم أن حلفه بغير لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم
__________
(1) قال الراغب في المفردات: "وشرك الإنسان في الدين ضربان: أحدهما: الشرك العظيم، وهو إثبات شريك لله تعالى، يقال: أشرك فلان بالله، وذلك أعظم كفر.
الثاني: الشرك الأصغر، وه مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وهو الرياء والنفاق".
المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني (502هـ) ، تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة الحلبي الأخيرة، 1381هـ-1961م، 259-260.
وقال الذهبي -رحمه الله-: "فأكبر الكبائر الشرك بالله تعالى، وهو نوعان، أحدهما: أن يجعل لله نداً، ويعبد معه غيره، من حجر، أو شجر، أو قمر، أو نبي، أو شيخ، أو نجم، أو ملك أو غير ذلك، وهذا هو الشرك الأكبر ... ". كتاب الكبائر، للذهبي، دار الريان للتراث، القاهرة، ط/2، 1408هـ، 1988م، ص22.
(2) وفيه ما رواه محمود بن لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) قالوا: وما الشرك الأصغر يا سول الله؟ قال: ((الرياء)) . مسند الإمام أحمد، 5/428-429.
(3) ورة المائدة: الآية (72) .
(4) ورة الحج: الآية (31) . وقوله تعالى: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} زائد في (د) .
(5) ورة الكهف: (110) . وقوله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} تكملة مني من لمصحف، لضرورة بيان الشاهد.
قال الترمذي في صحيحه: "وقد فسر أهل العلم هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} الآية، قال: "لا يرائي". سنن الترمذي، 4/94.
(6) نظر: سنن أبي داود، 3/570، الإيمان، باب (في كراهية الحلف بالآباء) . مسد الإمام أحمد، 2/87-125. مشكاة المصابيح، لمحمد عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق محمد
(1/195)
________________________________________
الكفار، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل)) (1) ، فانظر كيف انقسم الشرك والكفر، والفسوق والظلم، إلى ما هو كفر ينقل
__________
ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط/1، 1380هـ-1961م، حديث رقم (3419) . مشكل الآثار، لأبي جعفر الطحاوي، دار صادر، بيروت، لبنان، ط/1، مطبعة مجلس دائرة المعارف بالهند، 1333هـ، 1359. سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/155. السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن حسين بن علي البيهقي (ت458هـ) ، دار الفكر، 10/29.
(1) لم أجده بهذا اللفظ. وقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 4/403، بلفظ: ((اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل)) من حديث أبي موسى الأشعري. وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807هـ) ، نشر دار الريان للتراث، القاهرة، ودار الكتاب العربي، بيروت، 10/223-224. وعزاه لأحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وقال:: ورجال أحمد رجال الصحيح، غير أبي علي، ووثقه ابن حبان.
إن هذا الشرك الخفي، من أخطر ما يسري في هذه الأمة، خاصة في هذا العصر، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد تخوف منه على أصحابه لخفائه، مع قوة إيمانهم، وكمال علمهم، فكيف بأهل هذا الزمان؟ الذين هم أقل علماً، وإيماناً، وإدراكاً لمخاطر الشرك الأكبر، فضلاً عن الأصغر، بل الخفي منه، فلا بد أن يكون الخوف عليهم أشد؛ إذ وقوعهم في مثل هذا أيسر، وقد لا ينجو منه إلا من رحم الله. وقد بينه ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] . قال: "الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صماء سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله، وشئت، وقول الرجل: لولا الله، وفلان، لا تجعلوا فلاناً، فإن هذا كله به شرك". رواه ابن أبي حاتم (327هـ) في تفسير القرآن العظيم، مسنداً عن الرسول، والصحابة، والتابعين، نشر مكتبة الدار بالمدينة المنورة، ودار طيبة، ودار ابن القيم، ط/1، 1408هـ، تحقيق د. أحمد عبد الله الغماري، 1/81.
وما قاله ابن عباس، هو أكثر ما يدور على ألسنة كثير من أهل هذه الأمة؛ ولذلك حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على معرفة كيفية اتقائه، فسألوه: وكيف نتقيه، وهو أخفى من دبيب النمل، يا رسول الله؟ قال: ((اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم)) . رواه أحمد في مسنده، 4/403.
(1/196)
________________________________________
عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها.
وكذلك النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل (1) . ونفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع، أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار (2) ، ونفاق العمل جاء في قوله صلى الله عليه وسلم ((أربع من كن فيه كان منافقاً /خالصاً/ (3) ، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان)) (4) ، وقوله صلى الله عليه وسلم ((آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) (5) .
وقال بعض الأفاضل (6) : "وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا
__________
(1) يكون النفاق اعتقادياً، إذا كان نفاقاً في اعتقاد الإيمان، فهو نفاق الكفر، الذي كان عليه المنافقون، أتباع أبي بن سلول، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فالنفاق الاعتقادي: هو إظهار الإسلام، وإبطال الكفر، وهو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن، وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار. أما النفاق العملي: هو اختلاف السر مع العلانية في الواجبات.
انظر هذا التقسيم لنوعي النفاق: كتاب "الصلاة وحكم تاركها"، لابن القيم الجوزية (751هـ) ، ص56-57. ونقل الترمذي نحوه، عن الحسن البصري. سنن الترمذي، 5/21.
(2) قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء:145] . ومن الآيات الواردة في النفاق الاعتقادي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} ، وقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:8،14] .
(3) في (ب) ،و (ج) ، و (د) : حقاً.
(4) انظر: صحيح البخاري مع الفتح، 1/111، الإيمان، باب (علامة المنافق) ، بتقديم الخصلة الرابعة على كل الخصال. صحيح مسلم بشرح النووي، 2/406، الإيمان، باب (بيان الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه) . سنن الترمذي، 5/20-21، الإيمان، باب (ما جاء في علامة المنافق) . سنن النسائي، 8/116، الإيمان، باب (علامة المنافق) .
(5) انظر: المراجع السابقة: البخاري، 1/111. مسلم، 2/407. الترمذي، 5/20. النسائي، 8/117.
(6) يريد الإمام ابن قيم الجوزية؛ فهو صاحب القول المنقول هنا.
(1/197)
________________________________________
استحكم وكمل، فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى، وصام، وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً". انتهى (1) .
__________
(1) ما بين القوسين كلام للإمام ابن القيم، منقول من كتابه "الصلاة وحكم تاركها"، ص53-59، بتصرف.
(1/198)
________________________________________
الأصل الخامس: لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا
...
الأصل الخامس (1) : أنه /لا/ (2) يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان /بالعبد/ (3) ، أن يسمى مؤمناً،
ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافراً (4) ، وإن كان ما قام به /كفراً/ (5) ، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمى عالماً، أو طبيباً، أو فقيهاً. وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر، كما في /حديث/ (6) : "اثنتان /بأمتي/ (7) هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت " (8) ، وحديث: ((من حلف بغير الله فقد كفر)) (9) ، لكنه لا يستحق اسم الكافر على الإطلاق. فمن عرف هذا، عرف فقه السلف، وعمق
__________
(1) هذا الأصل نقله المصنف من الكتاب السابق، ص61، بتصرف.
(2) ساقط، (د) .
(3) في جميع النسخ: (لعبد) . وفي المطبوع المثبت.
(4) أي قيامها بالعبد ولم يذكر العبد هنا استغناءً بما تقدم.
(5) كذا في كتاب "الصلاة"، لابن القيم. وفي جميع النسخ، والمطبوع: (كفر) .
(6) في المطبوع: (الحديث) .
(7) في (ب) ، و (ج) : (من أمتي) . وفي المطبوع: (في أمتي) .
(8) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، 2/417، الإيمان، باب (إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب) ، بلفظ: ((اثنتان في الناس)) . مسند الإمام أحمد، 2/496. السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت458هـ) ، دار الفكر، 4/63.
(9) انظر: سنن الترمذي 493-494، النذور والأيمان، باب (ما جاء في كراهية الحلف بغير الله) . مسند الإمام أحمد، 2/125. المستدرك للحاكم، 1/18، 52، 4/297، وصححه، وأقره الذهبي. سنن البيهقي، 10/29. شرح السنة للبغوي، 10/7، كلهم بزيادة (أو أشرك) .
(1/198)
________________________________________
علومهم، وقلة تكلفهم. قال ابن مسعود /رضي الله عنه/" (1) من كان متأسياً /فليتأس/ (2) بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، / وأقلها/ (3) تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم؛ فإنهم على الهدى المستقيم" (4) . وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين، لا يبالي بأيهما ظفر:
إحداهما: الغلو، ومجاوزة, الحد, والإفراط.
والثانية هي: الإعراض، والترك، والتفريط.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- لما ذكر شيئاً من مكايد الشيطان: قال بعض السلف: "ما أمر الله سبحانه بأمر، إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر". وقد اقتطع أكثر الناس، إلا أقل القليل، في هذين الواديين: /واد/ (5) التقصير، /وواد/ (6) المجاوزة والتعدي، والقليل
__________
(1) ساقط في (ب) ، و (ج) ، والمطبوع.
(2) كذا في (أ) ، وفي بقية النسخ، والمطبوع: (فليأتس)
(3) في (ب) ،و (ج) ، و (د) : (وأقلهم) . وقد صححه ناسخ (أ) بالهامش على ما أثبته، وهو كذلك في المطبوع، وفي "جامع بيان العلم وفضله"، وغيره من المراجع التي خرجت هذا الأثر. انظر الهامش التالي.
(4) نقل المصنف كلام ابن مسعود هذا بتصرف. فقد ورد بلفظ: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، وأبرها قلوباً ... ". ورد في: جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (ت463هـ) ، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، 2/97. جامع الأصول من أحاديث الرسول، لابن الأثير (606هـ) ، تحقيق محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط/1، 1400هـ-1980م، 1/199. شرح السنة للبغوي، 1/214. مشكاة المصابيح للتبريزي، 1/67-68. مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام، 24/321-322.
(5) في (ب) ، والمطبوع (وادي) بإثبات الياء، وهكذا في إغاثة اللهفان، وهو خطأ؛ إذ يجب حذف الياء للإضافة.
(6) في (ب) ، و (ج) ، والمطبوع: (ووادي) ، وهكذا في الإغاثة. وهو خطأ كالذي قبله.
(1/199)
________________________________________
منهم جداً، الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, -وعدّ رحمه الله- كثيراً من هذا النوع، إلى أن قال:- وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم، كإيمان جبريل وميكائيل، فضلاً عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا (1) من الإسلام بالكبيرة الواحدة (2) .
قال جامع الرسائل:
هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة، العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين والأدلة القواطع. وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه، وسلم [تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. 19 ذي ... 1331هـ] (3) .
__________
(1) في (ب) ، و (د) : خرجوا.
(2) إلى هنا نهاية كلام الإمام ابن القيم في كتابه: "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان"، لابن قيم الجوزية (ت751هـ) ، تصحيح وتحقيق محمد عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ومكتبة الخاني، الرياض، ط/1، 1407هـ-1987م،1/184-186.
(3) ما بين المعقوفتين زيادة في (ب) .
(1/200)
________________________________________
مسألة في من يعمل سنة ختمة في ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم هل ذلك مسنون أو لا
...
مسألة1: فيمن يعمل سنة ختمة في ليلة مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، هل ذلك مسنون أو2 أو لا؟
الجواب:
الحمد لله، جمع الناس للطعام في العيدين وأيّام التشريق سنة، وهو من شعائر الإسلام التي سنّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين، وإعانة الفقراء بإطعامهم في شهر رمضان، هو من سنن الإسلام، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من فطّر صائماً فله مثل أجره"3 وإعطاء /قرّاء/4 القرآن ما يستعينون به على القرآن، عمل صالح في كل وقت، ومن أعانهم على ذلك كان شريكهم في الأجر.
أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليلي شهر ربيع الأول، التي يقال إنّها ليلة المولد، أو بعض ليلي رجب، أو ثمان عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال، الذي يسمّيه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها5، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
1 هذه المسألة زائدة في (ب) .
2 أصله في (ب) : أم، وهو لا يقابل بها.
3 انظر: سنن الترمذي، 3/171صوم، باب (ما جاء في فضل من فطّر صائماً) . سنن ابن ماجة، 1/320، الصيام باب (ما جاء في ثواب من فطّر صائماً) .
4 في أصل النص (ب) : (فقراء) ، بزيادة فاء في أولها.
5 وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-بدعيّة ما أُحدِث من الأعياد الزمانية، والمكانية، في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"، لشيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) ، تحقيق محمد حامد الفقي، نشر دار المعرفة، بيروت، ص292، 294، 302.
(1/201)
________________________________________
فائدة:1 ذكر في اختيارات الشيخ تقي الدين، كميّة التراويح، فقال:
"التراويح إن صلاها كمذهب أبي حنيفة، والشافعية، وأحمد، عشرين ركعة2، أو كمذهب مالك ستّاً وثلاثين، أو ثلاث عشرة، أو إحدى عشرة، فقد أحسن، كما نص عليه الإمام أحمد، لعدم التوقيف، فيكون تكثير الركعات وتقليلها، بحسب طول القيام وقصره. ومن صلاّها قبل العشاء، فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة.
ويقرأ أول ليلة من رمضان، في العشاء الآخر سورة القلم؛ لأنها أول ما نزل، ونقله إبراهيم بن محمد الحارث، عن الإمام أحمد، وهو أحسن مما نقله غيره، أنه يبتدئ بها التراويح" أ. هـ3.
__________
1 هذه الفائدة مزيدة في (ب) ، وردت في لوحة (12) .
2 انظر بدائع الصنائع، 2/725. روضة الطالبين، 1/334. المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح، 2/17. المغني، لابن قدامة (630هـ) ، مع الشرح الكبير، لأحمد بن قدامة (ت682هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 1/798.
3 الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) ، اختارها الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي الدمشقي (ت803هـ) ، تحقيق: محمد حامد الفقي، نشر مكتبة السنة المحمدية، طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ص64، وقد ورد كلامه هذا في "مجموع الفتاوى"، مفرقاً في الصفحات 23/112، 113، 121.
(1/202)
________________________________________
مسألة: في النوم في المسجد،
والكلام والمشي في النعال في أماكن الصلاة، هل يجوز ذلك أو4 لا؟
الجواب:
أمّا النوم للمحتاج، مثل الغريب، والفقير الذي لا مسكن له، فجائزٌ، أمّا اتخاذه مبيّتاً
__________
4 أصله في (ب) : أم، وقد تقدم تصحيح مثله.
(1/202)
________________________________________
ومقيلاً، فينهون عنه.
أمّا الكلام -الذي يحبه الله ورسوله- في المسجد فحسن، وأمّا المحرم، فهو في المسجد أشدُّ تحريماً، وكذلك المكروه. ويكره فيه فضول المباح.
وأمّا المشي بالنعال فجائز، كما كان الصحابة يمشون في نعالهم في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن ينبغي للرجل إذا أتى المسجد، أن يفعل ما أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم، فينظر في نعليه، فإن كان بهما أذى فليدلكهما بالتراب1، فإنّ التراب لهما طهور، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
1 هنا يشير إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته قال: "ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أنَّ فيهما قذراً [أو قال أذى] وقال: " إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه، وليصلّ فيهما ". أخرجه أبو داود في سننه، 1/426-247، كتاب الصلاة، باب (الصلاة في النعال) ، واللفظ له؛ وأحمد في مسنده، 3/92؛ والدارمي في سننه، 1/370، الصلاة، باب (الصلاة في النعلين) .
(1/203)
________________________________________
الرسالة الثانية: إلى إبراهيم بن عبد الملك
تقديم جامع الرسائل
...
الرِّسَالَةُ الثَّانِيََةُ1: قال جامع الرسائل
وله2 أيضاً -قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- رسالة إلى الشيخ إبراهيم بن عبد الملك3، جواباً عن المسائل التي ستقف عليها قريباً- /إن شاء الله تعالى/4 وترى من لطائف التعريف، ورصانة التأليف أمراً عجيباً، وترد من نمير معينها، الصافي القراح5، ما يزيح صدى الإشكال، ويبعث الانشراح، خصوصاً ما ذكره في جواب المسألة الثانية، من البيان والإيضاح، من غائلة كلام هذا الجاهل، الذي لا يعقل ما به /بذر/6 وهذر7، من أنه حصل بهم8 راحة للناس، وعدم ظلم وتعدٍّ على الحضر9، وبيان أن الحكم المقيم للتجارة والتكسب في بلاد المشركين على التحقيق، حكمه وما يقال فيه، حكم المستوطن من غير /ما/10 تفريق، إذا كان
__________
1 في (ب) جاءت هذه الرسالة متأخرة، في لوحة (135) ، أي بعد الرسالة (61) حسب ترتيب (أ) .
2 هذه المقدمة كلّها، إلى قول جامع الرسالة: "وهذا نصها" ساقطة في المطبوع.
3 تقدّم ضمن تلاميذ الشيخ ص (94) .
4 ساقط في (ب) و (ج) .
5 القراح: الماء الذي لا يخالطه ثفل من سويق ولا غيره، وهو الذي يشرب إثر الطعام. لسان العرب 2/516؛ مادة (قرح) .
6 في جميع النسخ: (بدر) ، بالدال المهملة، وهو خطأ، والصواب: بذر، يقال: "رجل هذرة، بذرة" فيمن كثر كلامه. لسان العرب 4/51، مادة (بذر) .
7 هذر: أي كثر كلامه في الخطأ والباطل، والهذْر: الكلام الذي لا يعبأ به، وقيل الكثير الرديء. لسان العرب 5/259، مادة (هذر) .
8 في (د) : (بهذه الدولة الكافرة) ، بدلاً من الضمير (هم) . والمراد بهم: تلك الطائفة التي اسنولت على الإحساء حينئذ، كما سيأتي ذكره في نص رسالته.
9 في (د) : الحظر، بالظاء، وهو خطأ.
10 ساقط في (د) .
(1/204)
________________________________________
عاجزاً عن إظهار دينه، وكان عليه خطراً بالإقامة في يقينه، ولا تنفعه دعوى البغض والكراهة، مع التلبّس بتلك المنكرات، فإنّ ذلك لا يكفي في النجاة، وهذا نصها:
(1/205)
________________________________________
المسألة الأولى: الإنكار على من كفر أناسا شمتوا بانتصار أعداء المسلمين عليهم
...
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن المكرم النجيب إبراهيم بن عبد الملك، سلّمه الله /تعالى/1، ورحم أباه، وزيّنه بزينة خاصته، /وأوليائه/2، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل الإنكار على من كفّر أُناساً شمتوا بانتصار أعداء المسلمين عليهم، شيء قدير. والخط وصل، وقد سَألْتَ فيه عن خمس مسائل:
أُوْلاها: قولك: إنه وقع من بعض الإخوان تكفير من أحبّ انتصار آل شامر3 على المسلمين، وفرح بذبحهم، هل له مستند في ذلك أو4 لا؟
فالجواب:
إنِّي لا أعلم مستنداً5 لهذا القول، والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام، من
__________
1 زائدة في (د) .
2 في جميع النسخ: (وأولياه) ، وفي المطبوع المثبت.
3 آل شامر: من العشائر النجدية التي تتجول في نجد، وتدخل العراق، تنتسب إلى مرزوق، من قبيلة العجمان، التي تقع منازلها في جوار بني خالد، اعتباراً من الطفّ إلى العقير، وتمتدُّ ديارها حتى الصمّاء، وفي الشتاء تتوغّل حتى الزُّلفى، والقصيم، والخرج، وآل شامر من يام، حيث ينتسب قبيلة العجمان، قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة، ص190، 191. معجم قبائل المملكة العربية السعودية، لأحمد الجاسر، نشر دار اليمامة، الرياض، ط/1/ 1400هـ-1980م، 1/333. معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، لكحالة، 2/574-575.
4 في جميع النسخ: (أم) .
5 في (د) : مستند.
(1/205)
________________________________________
غير مستند شرعي، ولا برهان مرضي، يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة، وهذه الطريقة هي طريقة أهل البدع والضلال، ومن عدم الخشية والتقوى فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال.
والفرح بمثل هذه القضيّة قد يكون له أسباب متعدّدة، لا سيّما /و/1 قد كثر الهرج2، وخاضت الأمة في الأموال والدماء، واشتدّ الكرب والبلاء، وخفي الحق والهدى، وفشى الجهل والهوى، وكثر الخوض والردى، وغلب الطغيان والعمى، وقلَّ المتمسك3 بالكتاب والسنة، بل قلَّ من يعرفهما، ويدري حدود ما أنزل الله من الأحكام الشرعية، كالإسلام والإيمان4،...................
__________
1 الواو ساقطة في (ب) .
2 الهَرْجُ: له معانٍ عدة، منها: الاختلاط، ومنها: الكثرة في المشي، والاتساع، ومنها: الفتنة في لآخر الزمان، ومنها: القتل وكثرته، وغير ذلك، وهذا الأخير هو المراد هنا. لسان العرب 2/389، مادة (هرج) .
3 في (د) : التمسّك.
4 يتضح الفرق بين هذين اللفظين (الإسلام والإيمان) بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد جعل الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، وأدناها الإسلام. فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسناً، ولا كل مسلم مؤمناً، وقد دلّ على هذا الفرق قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] .
وكذلك يدل عليه أحاديث نبوية عديدة، من بينها: حديث جبريل الطويل، وفيه: عن أبي هريرة رضي الله علنه قال: "كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بارزاً يوماً للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة وتؤدّيَ الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك ... " الحديث، أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح، 1/140، كتاب الإيمان، ومسلم في صحيحه بشرح النووي، 1/270-273، وأبو داود في سننه، 5/72؛ والترمذي في سننه 5/8، والنسائي 8/97-98؛ وابن ماجه في سننه 1/14. ولكن لفظ الإسلام يراد به تارة الدين كله، وكذلك الإيمان، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم " الإيمان بضع وسبعون شعبة ... ". وتارة يراد بالإسلام الأمور الظاهرة، وبالإيمان الأمور الباطنة، كما في حديث جبريل السابق، وانظر في الفرق بين اللفظين: كتاب "الإيمان لابن تيمية" ص8، مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام 7/6.
(1/206)
________________________________________
والكفر والشرك والنفاق، ونحوها1، وقد جاء في الحديث: " من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما "2، فإطلاق القول بالتكفير والحالة هذه، دليل على جهل المكفِّر، وعدم علمه بمدارك الأحكام.
وقد تأوّل أهل العلم ما ورد من إطلاق الكفر على بعض المعاصي، كما في حديث: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر "3، وحديث: "لا ترجعوا بعدي كفّاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض "4، وحديث: " لا ترغبوا عن آبائكم، فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم "5، فهذا ونحوه تأوّلوه على أنّه كفر عملي، ليس كالكفر الاعتقادي الذي ينقل عن الملة، كما جزم به العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- وغيره من المحققين6،هذا مع أنه باشره عمل وفرح، وأطلق عليه الشارع هذا الوصف، فكيف بمجرد الفرح!
وذكر عن الإمام أحمد –رحمه الله- /تعالى/7 أنه قال: "أمروا هذه النصوص
__________
1 في (أ) و (ب) و (د) والمطبوع: (ونحوهما) .
2 تقدم تخريجه في ص 163، بلفظ: "إذا كفّر ... ".
3 تقدم تخريجه في ص 191.
4 تقدم تخريجه في ص190.
5 ورد هذا الحديث بهذا اللفظ في: مسند أحمد 1/47؛ التمهيد لابن عبد البر 4/246، وأخرجه البخاري ومسلم بلفظ: " لا ترغبوا عن آبائكم؛ فمن رغب عن أبيه فقد كفر "، من حديث أبي هريرة. صحيح البخاري مع الفتح 12/55، الفرائض، باب (من ادعى إلى غير أبيه) . صحيح مسلم بشرح النووي 2/412، الإيمان باب (بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم) .
6 انظر: كتاب "الصلاة وحكم تاركها"، للإمام ابن القيم، ص56، شرح صحيح مسلم للنووي2/414، فتح الباري 1/138.
7 ساقط في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.
(1/207)
________________________________________
كما جاءت، ولا تعرضوا لتفسيرها"1.
وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في الفتاوى المصرية أن السلف متفقون على عدم تكفير البغاة2، فكيف بمجرد الفرح.
وقد قابل هذا الصنف من الإخوان، قومٌ كفّروا أهل العارض3، أو جمهورهم في هذه الفتنة، واشتهر عن بعضهم أنه تلا عند سماع وقعة آل شامر، قوله تعالى {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} 4، وعلّلوا بأشياء متعدّدة، من فرح، ومكاتبة وموالاة، وغير ذلك. والفريقان ليس لهم لسان صدق، ولا هدى، ولا كتاب منير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى-:" لا بد للمتكلم في هذه المباحث ونحوها، أن يكون معه مباحث كليّة يردّ إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلاّ فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات"5، وأطال الكلام في الفريقين، بين المتأول والمتعمد، ومن قامت عليه الحجة، وزالت عنه الشبهة، والمخطئ الذي التبس عليه الأمر، وخفي عليه الحكم، وقرر مذهب علي بن أبي طالب، في عدم تكفير الخوارج، المقاتلين له، المكفّرين له، ولعثمان ولمن والاهما، رضي الله عنهما. ونقل قول علي لما سئل عن الخوارج: أكفّر هم؟ قال:"من الكفر فرّوا"6. وقوله:"إنّ لكم علينا أن لا نقاتلكم حتى
__________
1 وهذا قول كثير من السلف الصالح، كالإمام الزهري، ومكحول، والأوزاعي، ومالك، والثوري، والليث بن سعد، وغيرهم.
انظر: الصفات الإلهية، للجامي، ص 100،119.
2 مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية، تأليف بدر الدين محمد بن علي البعلي (ت 777هـ) ، تصحيح محمد حامد الفقي، دار نشر الكتب الإسلامية، كوجرانوالة-باكستان، طبعة سنة 1397هـ-1977م، ص490.
3 تقدم بيان موقعه في ص35.
4 سورة محمد: الآية (10) .
5 انظر: مجموع الفتاوى، 9/238.
6 انظر: فتح الباري، 12/314.
(1/208)
________________________________________
تبدؤونا1 بالقتال، ولا نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم حقاً هو لكم في مال الله"2. ومع هذا هم مصرحون بتكفيره، مقاتلون له، ومستحلون لدمه، فكيف بمجرّد الفرح.
وقد ذكر في الزواجر: أن الفرح بمثل هذه المعاصي من المحرمات. ولم يقل إنه كفر3.
ثم اعلم أنّ الفتنة في هذا الزمان بالبادية والبغاة، وبالعساكر الكفرة الطغاة، فتنة عمياء صماء، عمّ شرُّها، وطار شررها، ووصل لهيبها4 إلى العذارى في خدورهنّ، والعواتق وسط بيوتهنّ، ولم يتخلّص منها إلاّ من سبقت له الحسنى، وكان له نصيب وافر من نور الوحي، والنور الأول، يوم خلق الله الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، وما أعزّ/من يعرف/5 هذا الصنف، بل ما أعز من لا يعاديهم، ويرميهم بالعظائم، وأكثر الناس-كما وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فيما رواه كميل بن زياد6: " لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق"7.
__________
1 في (د) : (تبدؤوننا) .
2 انظر البداية والنهاية، 7/292-293،296.
3 الزواجر عن اقتراف الكبائر، لأبي العباس أحمد بن محمد الهيتمي (ت 973هـ) ، طبعة الحلبي وبذيله: كتاب" الإعلام بقواطع الإسلام "، ط/2، 1390هـ، 2/198،123.
4 في (د) : (لهبها) .
5 ساقط في (أ) ، و (ج) .
6 هو كميل بن زياد النخعي، صاحب علي رضي الله عته، قال ابن حبان:" كان من المفرطين في علي، ممن يروي عنه المعضلات، منكر الحديث جداً، تُتَّقَى روايته، ولا يحتج به، ووثقه ابن سعد، وابن معين، (ت82هـ) .
انظر ترجمته: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي (ت748هـ) ، تحقيق محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، الحلبي بمصر، 3/415. البداية والنهاية، لابن كثير، 9/50. تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط/2، 1395هـ/1975م، 2/136.
7 قول علي رضي الله عنه أوله:" الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم ... ". انظر: جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر،1/29. مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لابن قيم الجوزية (751هـ) دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ج1/123؛ وعزاه لأبي نعيم في الحلية.
(1/209)
________________________________________
ومجرد الانتساب إلى الإيمان والإخوان، والتزيّي بزيّ أهل العلم والإيمان، مع فقد الحقيقة لا يجدي.
والناس مشتبهون في إيرادهم ... وتفاضل1 الأقوام في الإصدار2
__________
1 في (د) : (تفاظل) .
2 البيت لأبي الحسن التهامي. انظر: ديوان أبي الحسن علي بن محمد التهامي (ت416هـ) ، تحقيق د. محمد عبد الرحمن الربيع، مكتبة المعارف، الرياض، ط/1، 1402هـ/1982م، ص316.
(1/210)
________________________________________
المسألة الثانية: في حظر الإقامة حيث يهان الإسلم ويعظم الكفر
...
وأما المسألة الثانية:
فيمن يجيء من الإحساء -بعد استيلاء هذه الطائفة الكافرة1/على/2 أهل الإحساء- ممن يقيم فيه للتكسب أو التجارة، ولا اتخذه وطناً، وأنّ بعضهم يكره هذه الطائفة ويبغضها، يعلم منه ذلك، وبعضهم يرى ذلك ولكن يعتقد أنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على/الحضر/3 إلى آخر ما ذكرت. في حظر الإقامة حيث يهان الإسلام ويعظم الكفر. فالجواب4:
أنّ الإقامة5 ببلد يعلو فيها الشرك والكقر، ويظهر الرفض، ودين الإفرنج، ونحوهم،
__________
1يراد بهذه الطائفة الكافرة: الجيوش العثمانية من الترك، وغيرهم، التي استولت على الإحساء حينذاك. وقد وصفها بالكفر، بسبب ما كانت عليه من الشرك بالله، ومحاربة التوحيد وأهله.
2 في (ب) ، و (ج) ، و (د) : (من) .
3 في (د) : (الحظر) .
4 في (أ) ،و (ج) ، و (د) : (الجواب) ، بالواو. والصواب بالفاء، كما في (ب) ، المطبوع؛ لوقوعه جواباً لأمّا.
5 هنا بداية تحديد، وبيان للحالة التي يمنع فيها إقامة المسلم بين الكفار. وقد بين المصنف أنّ ذلك كون في الحالات الآتية:
1-إذا كان بلد الكفار يعلو فيها الشرك والكفر. 2-يظهر فيها الإلحاد، والفسق.
2-ترفع فيها شعارات الكفر. 4-يهدم فيها الإسلام.
5-يحذر فيها ويعطَّل جميع الشعائر الإسلامية. 6-يحكم فيها بغير ما أنزل الله.
7-يجاهر فيها بشتم الصحابة الكرام. 8-لا يتمكّن المقيم فيها من إظهار الإسلام.
(1/210)
________________________________________
من المعطلة للربوبية والإلهية، وترفع فيها شعارهم، ويهدم الإسلام، والتوحيد، ويعطّل التسبيح، والتكبير، والتحميد، وتقلع قواعد الملّة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويُشتم السابقون من أهل بدر، وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم، والحالة هذه، لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام، والإيمان، والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً؛ فإنّ الرضا بهذه الأصول الثلاثة قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة
__________
*إنّ إقامة المسلم بين ظهراني الكفار في بلدهم، والحالة هذه، محرم، مهما بلغ حاجة المسلم لشيء عندهم، خاصة إن كان من أصل بلد إسلامي، أو غيره، حيث يمكنه إظهار دينه. انظر. المحلى؛ لابن حزم، 13/139.
ويجوز السفر إلى مثل تلك البلاد -من غير قصد إقامة-ولكن بشرط، هو: كون المسافر إليها، قاصداً لدعوة أهلها إلى الإسلام، وهو مؤهل لذلك، ويشعر في نفسه القدرة على تحمل المشاق، ومجاهدة النفس أمام الفتن، والمغرضات. فمتى ما تحقق ذلك في المرء، جاز له السفر، وإن كان لغير ذلك القصد، فلا يجوز السفر إليها.
أما إن كان بلد الكفار مفتوحا أمام الأديان بحيث يمكن للمرء إظهار دينه، وممارسة شعائره، والدعوة إليها، فهنا يجوز للمسلم طلب حاجته إليهم، كالتجارة ودراسة ما نحن بحاجة إليه من العلوم، مما لا يوجد عندنا، كل ذلك في فترات محدودة معينة، وكذلك الإقامة عندهم، للدعوة، ونشر الإسلام، ومن هذا الأخير تلمسنا في الآونة الأخيرة، دور المهاجرين المسلمين إلى أروبا وأمريكا، في نشر الإسلام في تلك البلدان. وهذا في مسلم أصله من بلد إسلامي.
أما إن كان من بلد غير إسلامي، فلا يخلو من الحالات التالية:
أن يكون في بلد يتمكن فيه من إظهار دينه، وإقامة شعائره، والدعوة إلى الله. فهذا يجب عليه بقائه بينهم يدعو إلى الله تعالى.
أن يكون بلده لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فهذا أيضا لا يخلو من أمرين:
أن يكون قادرا على الهجرة، فهنا يلزمه الهجرة إلى حيث يظهر دينه، من بلد الكفار، إن لم يجد دولة إسلامية تؤويه.
أن يكون غير قادر على الهجرة، لشدة التضييق عليه، أو افتقاره لمؤونة السفر، فيجوز لهذا الاستتار بدينه بين كفار بلده. ويدخل في قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:99] انظر: الولاء والبراء في الإسلام، لمحمد بن سعيد القحطاني، دار طيبة مكة المكرمة، ط/6 1413هـ ص270 - 180. وسيأتي كلام المصنف في مسألة الرجل الذي يخالط أهل بلدة، ويرجوا أن يجيبوه ص242
(1/211)
________________________________________
لدينه، والانحياز إلى أوليائه، ما يوجب البراءة، كلّ البراءة، والتباعد، كلّ التباعد، عمن تلك نحلته، وذاك دينه، بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة، لا يجامع هذه المنكرات، كما يعلم من تقرير شيخ الإسلام في كتاب" الإيمان" (1) . وفي قصة إسلام جرير بن عبد الله (2) أنّه قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال صلّى الله عليه وسلّم تعبد الله، ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين (3) " خرَّجه أبو عبد الرحمن النسائي (4) . وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام، ودعائمه/العظام/ (5) . وقد عرف من آية براءة أنّ قصد أحد/الأغراض/ (6) الدنيوية، ليس بعذر شرعي، بل فاعله فاسق لا يهديه الله كما هو نص الآية (7) .
والفسوق إذا أطلق ولم يقترن بغيره، فأمره شديد، ووعيده أشدّ وعيد.
__________
(1) انظر: "كتاب الإيمان" لابن تيمية، ص141-142.
(2) هو جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك أبو عمرو البجلي، من أعيان الصحابة، أسلم سنة عشر من الهجرة، (ت51هـ) ، وقيل (54هـ) . الاستيعاب،1/336-337. أسد الغابة، 1/333. تهذيب التهذيب، 2/73-75.
(3) في (د) : (المشرك) .
(4) سنن النسائي، 7/148، البيعة، باب (البيعة على فراق المشرك) . وفيه زيادة لفظ:" وتناصح المسلمين" بعد" وتؤتي الزكاة". وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، 4/365.
(5) ساقط في (ب) .
(6) في (ب) : (الأعراض) .
(7) هي الآية: (24) من سورة التوبة، ونصها: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
(1/212)
________________________________________
وأي خير يبقى مع مشاهدة تلك المنكرات، والسكوت عليها، وإظهار الطاعة، والانقياد، لأوامر من هذا دينه، وتلك نحلته! والتقرب إليه بالبشاشة، والزيارة، والهدايا، والتنوق (1) في المآكل، والمشارب، وإن زعم أنّ له غرضاً من الأغراض الدنيوية، فذلك لا يزيده إلا مقتاً، كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة للعلوم الشرعية، واستئناس بالأصول الإسلامية.
وقد جاء القرآن العظيم بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد على مجرّد ترك الهجرة، كما في سورة النساء (2) ، وقد ذكر المفسرون هناك ما به الكفاية، والشفاء، وتكلم عليها شيخنا محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله /تعالى/ (3) - وأفاد وأوفى (4) . ودعوى التقية لا تجدي مع القدرة على الهجرة. ولذلك لم يستثن (5) الله تعالى إلا المستضعفين
__________
(1) التنوُّق: المبالغة، يقال: تنوّق فلان في مطعمه، وملبسه، وأموره، إذا تجود وبالغ. لسان العرب، 10/364، مادة (نوق) .
(2) وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97] .
فالوعيد والتهديد الموجود في هذه الآية، إنّما هو في حق الذين أسلموا من أهل مكة، ولم يهاجروا، بل أقاموا مع قومهم، وافتتنوا في دينهم، وخرجوا مع المشركين يوم بدر، فقتلوا. كما ذكر ذلك في سبب نزول الآية.
انظر: أسباب النزول، لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي (ت468هـ) ، تخريج: عصام عبد المحسن الحميدان، نشر دار الإصلاح الدمام. ط/1، 1411هـ/1991م، ص177-178. فشأن أولئك شأن كل مسلم مصرّ على الإقامة في بلاد الكفار، وهو غير قادر على إظهار دينه، وإقامة شعائره، مع استطاعته الحيل، والبحث عن أسباب التخلص بالهحرة.
(3) ساقط في (ب) .
(4) انظر: تاريخ نجد، للشيخ حسين بن غنّام، ص 663.
(5) في (د) : (لم يستثني) . وهو خطأ؛ لجزم الفعل بلم.
(1/213)
________________________________________
من الأصناف الثلاثة (1) . وقد ذكر علماؤنا تحريم الإقامة والقدوم إلى بلد يعجز فيها عن إظهار دينه (2) ، والمقيم للتجارة والتكسب، والمستوطن، حكمهم، وما يقال فيهم حكم المستوطن لا فرق. وأما دعوى البغض والكراهة، مع التلبس بتلك/الفضائح/ (3) ، فذلك لا يكفي في النجاة، ولله حكم، وشرع، وفرائض، وراء ذلك كله.
إذا تبين هذا، فالأقسام مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} (4) . وأخبث هؤلاء وأجهلهم، من قال إنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر (5) ، وهذا الصنف أضل القوم، وأعماهم عن الهدى، وأشدّهم محاداة لله، ورسوله، ولأهل الإيمان والتقلى، لأنه لم يعرف الراحة التي حصلت بالرسل، وبما جاءوا به في الدنيا والآخرة، ولم يؤمن بها الإيمان النافع. والمسلم يعلم أن الراحة، كل الراحة، والعدل، كل العدل، واللذة، كل اللذة، في الإيمان بالله، ورسله، والقيام بما أنزل من الكتاب، والحكمة (6) ، وإخلاص الدين له، وجهاد أعدائه، وأعداء رسله، وأنه باب من أبواب الجنة، يحصل به النعيم،
__________
(1) قال تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء: 98-99] .
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت774هـ) ، طبعة جديدة مصححة، نشر مكتبة المعارف، الرياض، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط/1، 1407هـ/1987م، 1/555. قال عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الآية: "هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع".
(3) في (ب) : (القبائح) .
(4) سورة الأحقاف: الآية (19) .
(5) في (د) : (الحظر) .
(6) وفي ذلك جاء قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم لبلال:" يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها ". سنن أبي داود، 5/362، الأدب، باب (في صلاة العتمة) . وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، 5/364، 371. وأورده الهندي في"الكنز" برقم (14986) .
ففي الحديث دلالة واضحة على أنّ في القيام بما أوجبه الله من الفرائض راحة للمؤمن.
(1/214)
________________________________________
والفرح، واللّذة في الدور الثلاث، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (1) .
ولو علم هذا المتكلم أنّ الشرك أظلم الظلم (2) ، وأكبر الكبائر، وأقبح الفساد، وأفحشه، لكان له مندوحة عن مثل هذا الجهل الموبق، قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ} (3) ، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (4) ، فجعل الخسار كله بحذافيره، في أهل هذه الخصال الثلاثة، كما يفيده الضمير المقحم بين المبتدأ والخبر (5) ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (6) ، فهذا الفساد المشار إليه في هذه الآيات الكريمات، هو الفساد الحاصل بالكفر، والشرك، وترك الجهاد في سبيل الله، واتخاذ أعداء الله أولياء من دون المؤمنين. وبالجملة فمن عرف غور (7) هذا الكلام
__________
(1) سورة البقرة: الآية (177) . وقوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} زائدة في (ب) ، والمطبوع.
(2) كما يفيده قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
(3) سورة الأعراف: الآية (56) .
(4) سورة البقرة: الآيتان (26،27) . وقوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لم يذكر في (د) ، بل قال بدله: الآية.
(5) أي الضمير (هم) بين: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
(6) سورة الأنفال: الآية (73) وقوله تعالى: {تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} لم يذكر في (د) .
(7) في (ب) ، و (ج) ، والمطبوع: (غول) باللام، ومعناه: الهلكة، والداهية، فيكون المعنى: من عرف هلكة هذا الكلام، وداهيته. لسان العرب، 11/507، مادة: (غول) .
أما (غور) بالراء، فمعناه: العمق، والبعد، والقعر، فغور كل شيء عمقه، وبعده. وهذا المعنى هو الأنسب هنا. لسان العرب، 5/33، مادة (غور) .
(1/215)
________________________________________
أعني قول بعضهم إنّه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد /على الحضر/ (1) ، تبين له ما فيه من المحادة، والمشاقة لما جاءت به الرسل، وعرف أن قائله ليس من الكفر ببعيد، والواجب على مثلك أن يجاهدهم بآيات الله، ويخوِّفهم من الله، وانتقامه، ويدعو إلى دينه، وكتابه.
والهجر مشروع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ونكاية لأرباب الجرائم (2) ،وهذا يختلف باختلاف الأحوال، والأزمان، والله المستعان.
__________
(1) زيادة في (د) .
(2) إنّه لمن المعلوم أن هجر المسلم أمر محظور شرعاً، بنص قول النبي صلّى الله عليه وسلّم " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان فيصدّ هذا ويصدّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ". صحيح البخاري مع الفتح 11/23، الاستئذان باب (السلام) ؛ صحيح مسلم بشرح النووي، 16/353، البر والصلة، باب (تحريم الهجر فوق ثلاث ليال بلا عذر شرعي) .
غير أنه قد يشرع الهجر في بعض الأحيان، إذا كان في ذلك مصلحة راجحة، كما جاء في قوله تعالى عند ذكره لمراحل تأديب المرأة الناشز: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] .
وقد هجر النبي صلّى الله عليه وسلّم نساءه شهراً، كما أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده، 1/235. وكما أمر صلّى الله عليه وسلّم الصحابة -رضوان الله عليهم-بهجر الذين تخلفوا عنه في تبوك، ونهاهم عن كلامهم، وعليه بوّب البخاري –رحمه الله-باب (ما يجوز من الهجر لمن عصى) ؛ وذلك في كتال الأدب.
(1/216)
________________________________________
المسألة الثالثة: حكم تصرف الوالد في مال ولده الصغير
...
وأما المسألة الثالثة:
هل للوالد أن يتصرف في مال ولده الصغير بما ليس فيه مصلحة، أم هو أسوة غيره من الأولياء، ليس له النظر إلاّ ما فيه المصلحة؟
/فالجواب/ (1) :
أنّ الواجب على كل من كانت له ولاية، أن يتقي الله فيها، ويصلح ولا يتبع
__________
(3) في (أ) و (ج) و (د) والمطبوع: (والجواب) ، بالواو، والصواب: فالجواب، بالفاء، كما في (ب) لأنه في جواب أمّا.
(1/216)
________________________________________
حكم تصرّف الولد في مال ولده الصغير. سبيل المفسدين.
وفي الحديث: " كلّكم راعٍ، وكلّكم مسئول عن رعيّته " (1) ، بل يحرم على المكلف إضاعة مال نفسه، وإنفاقه في غير مصلحة (2) ،وهو من الإسراف، إلاّ أنّ الوالد ليس كغيره في العزل، ورفع اليد إذا ثبت رشده.
__________
(1) انظر: صحيح البخاري مع الفتح، 2/441، الجمعة، باب (الجمعة في القرى والمدن) . صحيح مسلم بشرح النووي 12/454، الإمارة، باب (فضيلة الإمام العادل) . سنن أبي داود، 3/342، الإمارة، باب (ما يلزم الإمام من حق الرعيّة) . سنن الترمذي، 4/181، الجهاد، باب (في الإمارة) .
(2) وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم النهي عن إضاعة المال في قوله: " إنّ الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال "، صحيح البخاري مع الفتح، 5/83، الاستقراض، باب (ما ينهى من إضاعة المال) ، صحيح مسلم بشرح النووي، 12/251، الأقضية، باب (النهي عن كثرة المسائل) . وقد نقل الإمام ابن حجر في الفتح، قول الجمهور في قوله عليه السلام " وإضاعة المال "، قالوا: إنّ المراد به السرف في إنفاقه. وعن سعيد بن جبير: إنفاقه في الحرم. فتح الباري، 5/84.
(1/217)
________________________________________
المسألة الرابعة: حكم تملك الوالد جميع مال ولده
...
وأما المسألة الرابعة:
هل للوالد أن يمتلك جمع مال ولده الصغير، أو بعض ماله الذي يضر به، أم حكم الصغير حكم الكبير، يعتبر للتملّك من ماله، ما يعتبر للتملك من مال الكبير؟ وهل يفرّق بين الغني والفقير، أم الحكم واحد؟ حكم تملك الوالد جميع مال ولده.
/ فالجواب / (1) :
أنّ للأب أن يتملّك من مال ولده ما شاء، صغيراً كان الولد أو كبيراً، غنياً كان الأب أو فقيراً (2) ، بشروط ستة مقررة في محلّها، منها:
__________
(1) في (د) : (والجواب) ، بالواو.
(2) هذا ما قرّرته هذه الشريعة الغراء، لما للوالد من حق عظيم على ولده، وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إنّ لي مالاً وولداً، وإنّ أبي يجتاح مالي، قال: " أنت ومالك لوالدك، إنّ أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم ". سنن أبي داود 3/801-802، البيوع، باب (في الرجل يأكل من مال ولده) . سنن ابن ماجة 2/34، التجارات، باب (ما للرجل من مال ولده) . وفي رواية عنده: (أنت ومالك لأبيك " من طريق جابر بن عبد الله. وقد قال الإمام الترمذي –رحمه الله-في سننه بعد ما أورد حديث: " إنّ أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإنّ أولادكم من كسبكم "، قال هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وغيرهم قالوا: إنّ يد الوالد مبسوطة في مال ولده، يأخذ ما يشاء، وقال بعضهم: لا يأخذ من ماله إلاّ عند الحاجة إليه؛ سنن الترمذي 3/640، الأحكام باب (ما جاء أنّ الوالد يأخذ من مال ولده) .
(1/217)
________________________________________
أن لا يضرَّ بالولد ضرراً يلحقه في الحاجات الضرورية، كتملّك سريّته، ونحو ذلك.
وأن لا يكون في مرض موت أحدهما. وألا يعطيه ولداً آخر. وأن (1) يكون عيناً /موجوداً/ (2) .
وله الرجوع في الهبة إذا كانت عيناً باقية في ملك الابن، لم يتعلق بها حق أجنبي، ولا رغبة، كمداينة الأجنبي، وأن لا تزيد زيادة متصلة، وعنه الرجوع فيما زاد زيادة متصلة كالمنفصلة، وليس من جنس النماء –كما توهمه السائل- بل ذلك من التصرفات في الهبة (3) . رجوع الوالد في هبة ولده؛ وقد نص فقهاؤنا على أن كل تصرف للابن لا يمنعه من التصرف في العين، ليس بمانع للأب من الرجوع في هبته، والتصرف فيها، والنقص الحاصل بقلع الغراس وأخذ الحلية، لا يمنع الرجوع.
__________
(1) في (د) والمطبوع: (وأن لا يكون..) .
(2) في جميع النسخ: (موجودة) .
(3) انظر: المبسوط لشمس الدين السرخسي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط/3، 12/83-88. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي (ت587هـ) ، نشر زكريا علي يوسف، مطبعة الإمام، القاهرة، 8/3798، 3701. الإقناع في فقه الإمام أحمد، لأبي النجا شرف الدين بن موسى الحجاوي (ت968هـ) ، المطبعة المصرية بالأزهر، نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر، 3/36،37.
(1/218)
________________________________________
المسألة الخامسة: إذا كان لرجل على آخر دين مثل الصقيب يكون له الدين الكثير يصطلحان بينهما
...
وأما المسألة الخامسة:
وهي إذا كان لرجل على آخر دين، مثل الصّقيب (1) يكون له الدين الكثير، يصطلحان /ينهما/ (2) ، على أن الدين يكون نجوماً (3) ... إلى آخر ما ذكرت.
/ فالجواب / (4) :
إنّ هذا ليس بصلح، ولا يدخل في حدّ الصلح كما نص عليه الحجاوي (5) ، وغيره، بل هو وعدٌ، يستحب الوفاء به على المشهور. وكونه فيه /إرفاق/ (6) فذاك لا يغيّر الحدود الشرعية، ولا يدخل في مسمّى الصلح، كما لا تدخله، الهبة والعطية. والله أعلم. /تمّت ولله/ (7) الحمد والمنّة.
__________
(1) الصقيب: القريب، النهاية في غريب الحديث، 2/41؛ لسان العرب، 1/525، مادة (صقب) . وبهذا فسره ناسخ (ب) في الهامش.
(2) كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: (بينهم) .
(3) نجوماً: من النجم، وهو الوقت المضروب، يقال: نجمت المال إذا أديته نجوماً. لسان العرب لابن منظور، مادة (نجم) ، 12/570.
(4) في (د) : (والجواب) .
(5) هو موسى بن أحمد بن موسى بن سالم، الحجاوي المقدسي، شرف الدين أبو النجا، فقيه حنبلي من أهل دمشق. له: "الإقناع" و"زاد المستقنع في اختصار المقنع"، وغيرهما. (ت968هـ) .
(6) في (ب) : (رفق) .
(7) بياض في (د) . وقوله: (تمت ولله الحمد والمنة) ساقط في (ب) .
(1/219)
________________________________________
الرسالة الثالثة: إلى إبراهيم بن عبد الملك
...
الرِّسَالَةُ الثَّالِثََةُ (1) :
قال جامع الرسائل
وله/أيضاً-رحمه الله تعالى (2) -/ (3) ، رسالة في تحريم السفر إلى بلاد المشركين، والفرق بين البلاد التي هجم عليها الكافر الحربي، فاستولى عليها، واجتهد في هدم قواعد الإسلام، وطمس أصوله العظام كالإحساء، وبين غيرها من بلاد المشركين، ولو مع إظهار دينه، وهذا نصها (4) :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الإبن المكرم إبراهيم بن عبد الملك، سلّمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو على نعمائه. والخط الذي سألت فيه عمّا نفتي به في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، قد وصل إلينا. والذي/كتبناه/ (5) حكم السفر إلى بلاد الأعداء من الكفار. للإخوان، به (6) كفاية للطالب وبيان، ولم نخرج فيه عمّا عليه أهل الفتوى عند جماهير المتأخرين.
نعم، فيه التغليظ على من يسافر إلى بلاد هجم عليها العدو الكافر الحربي، المتصدي لهدم قواعد الإسلام، وقلع أصوله، وشعائره العظام، ورفع أعلام الكفر
__________
(1) هذه الرسالة أتت متأخرة في (ب) ،في لوحة (141-149) ، ووردت في الدرر السنية 7/152-159.
(2) كلمة (تعالى) ساقطة في (ج) .
(3) في (ب) : (وله-قدس الله روحه، ونوّر ضريحه-رسالة ... ) .
(4) مقدمة جامع الرسائل هذه، ساقطة في المطبوع.
(5) في (أ) ، و (ج) ، والمطبوع: (كتبنا) ، بإسفاط الهاء.
(6) في المطبوع (به فيه ... ) ، بزيادة كلمة (فيه) .
(1/220)
________________________________________
والتعطيل، وتجديد معاهد الشرك والتمثيل، وإطفاء أنوار الإسلام الظاهرة، وطمس منار أركانه الباهرة، وهو العدو الذي اشتدّت به الفتنة على الإسلام والمسلمين، وعزّ بدولته جانب الرافضة (1) ، والمرتدين، ومن على سبيلهم من المنحرفين، والمنافقين فمثل هذه البلدة تخص من عمومات الرخصة، لوجوه، منها:
أنّ إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمّة متعذّر غير حاصل، كما هو مشاهد معلوم عند من خبر القوم، مع من يجالسهم، ويقدم إليهم. وقلّ أن يتمكّن ذو حاجة لديهم إلاّ بإظهار عظيم من الركون، والموالاة، والمداهنة. وهذا مشهور متواتر، لا ينكره إلاّ جاهل، أو مكابر، لا غيرة له على دين الله، وشرعه، ولا توقير لعظمته، ومجده، قد اتخذ ظواهر عبارات- لم يعرف حقيقتها، ولا يدري مراد الفقهاء منها- تُرساً يدفع به في صدور الآيات، والسنة، ويصدف به عن أهدى منهج، وسنن، فهو كحجر في الطريق بين السائرين إلى الله، والدار الآخرة، يحول بينهم وبين مرادههم، ويثبطهم عن سيرهم، وعزماتهم. وقد كثر هذا الضرب من الناس في المتصدّين للفتوى في مثل هذه المسائل، وبهم حصل الإشكال، وضلّت الأفهام، /واستبيحت/ (2) مساكنة عباد الأوثان، والأصنام، وافتُتِنَ بهم جملة الرِّجال، وقصدهم الركائب، والأحمال، وسار إليهم ربَّات الخدور، والحجال، عملاً بقول رؤوس الفتنة، والضلال، ولا يصل إلى الله، ويحظى بقربه، ويرد نمير التحقيق، وعذبه، مَنْ أصغى إليهم سمعه، واتخذهم أخداناً يرجع إليهم في أمر دينه، ومهمات أمره.
وقد قال بعض السلف:" إنّ هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم" (3) .
__________
(1) في جميع النسخ (الرفضة) ، وفي المطبوع المثبت. وتقدم تعريف الرافضة في ص 57.
(2) في (ب) ، و (ج) ، والمطبوع: (واستُحِبَّت) . وفي (د) : (واستُحِلَّت) .
(3) هذا قول ابن سيرين. أورده الهندي في" كنز العمال" برقم (29316) . وابن الجوزي في" العلل المتناهية في الأحاديث الواهية"، تحقيق إرشاد الحق الأثري، دار نشر الكتب الإسلامية، لاهور، ط/1، 1399هـ، 1/124-مرفوعاً-ولا يصح رفعه كما بين ذلك ابن الجوزي. والمباركفوري في" مرعاة المفاتيح"، شرح" مشكاة المصابيح"، لعبيد الله بن محمد المباركفوري، نشر إدارة البحوث الإسلامية والدعوة، بالجامعة السلفية، بالهند، ط/3، 1405هـ/1985م، 1/358.
(1/221)
________________________________________
ومن خاض في مثل هذه المباحث الدينيّة، من غير ملكة ولا رويّة، فما يفسد أكثر مما يصلح، وضلاله أقرب إليه من أن يفلح، وقد قيل:" يفسد الأديانَ نصف متفقّه، ويفسد اللّسان نصف نحوي، ويفسد الأبدان نصف متطبّب" (1) . فعليك بمعرفة الأصول الدينيّة، والمدارك الحكميّة، ولترفع همّتك إلى استنباط الأحكام من الآيات القرآنية، والسنن الصحيحة النبويّة، ولا تقنع بالوقوف مع العادات، وما جرت به سنن الأكثرين في الديانات؛ فقد قال بعضهم:" من أخذ العلم من أصله استقر، ومن أخذه من تياره اضطرب" (2) . وما أحسن ما قال في الكافية الشافية:
/لكن/ (3) نجا أهل الحديث المحض أت ... باع الرسول/وتابعوا/ (4) القرآنِ
عرفوا الذي قد قال مَعْ علم بما ... قال الرسول فهم أولوا العرفانِ
وسواهم في الجهل والدعوى مع ال ... كبر العظيم وكثرة الهذيانِ
مدّوا يداً نحو العلى بتكلُّفِ ... وتخلُّفِ وتكبُّرٍ /وتوانِ/ (5)
أترى ينالوها وهذا شأنهم ... حاشا العلى من ذا الزبون الفانِ (6)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب /- رحمه الله تعالى-/ (7) ، في المواضع التي نقلها من السيرة:" إنه لا يستقيم للإنسان إسلام -ولو وحّد الله، وترك الشرك- إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء" (8) .
فانظر إلى تصريح الشيخ بأنّ الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة والبغضاء، فأين
__________
(1) لم أهتد لقائله. والمعنى: أنّ كل من أراد عمل شيء، وكان عمله به ناقصاًً، أفسده.
(2) لم أعرف قائله.
(3) كذا في الكافية الشافية. وفي جميع النسخ. والمطبوع: (فلقد) .
(4) كذا في الكافية. وفي جميع النسخ: (وتابع) .
(5) كذا في الكافية. وفي جميع النسخ) :وهوان) .
(6) الكافية الشافية، لابن القيم، 2/119.
(7) ساقط في (د) .
(8) مختصر سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لمحمد بن عبد الوهاب، طبعة دار الإفتاء، الرياض، 1408هـ، ص 30.
(1/222)
________________________________________
التصريح من هؤلاء المسافرين، والأدلة، من الكتاب والسنة، ظاهرة متواترة على ما ذكره الشيخ؟ (1) وهو موافق لكلام المتأخرين في إباحة السفر لمن أظهر دينه (2) ، ولكن الشأن كل الشأن في إظهار الدين، وهل اشتدّت العداوة بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين قريش، إلا لما كافحهم بمسبة دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم (3) ؟!
وأي رجل تراه يعمل المطي جاداً في السفر إليهم، واللحوق بهم، حصل منه، ونُقِل عنه ما هو دون هذا الواجب. والمعروف المشتهر عنهم ترك ذلك كله بالكليّة، والإعراض عنه، واستعمال التقيّة، والمداهنة (4) . وشواهد هذا كثيرة شهيرة، والحسيات، والبديهيات غنيّة عن البرهان.
الوجه الثاني:
إنّ قتال من هجم على بلاد المسلمين- من أمثال هؤلاء- فرض عين، لا فرض
__________
(1) ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى آخر السورة. فقد أمره تعالى بأن يخاطبهم بأنّهم كافرون، ويصرّح لهم بأنّهم على الشرك، وأنّه على دين الله بريء مما هم عليه. وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:104] .
2" المراد بإظهار الدين هو: أن يكون المسلم قادراً على التصريح للكفار بالعداوة، والبراءة، وليس المراد أن يترك الإنسان يصلي، ولا يقال له أعبد الأوثان! انظر: النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الشرك، لحمد بن علي بن عتيق، دار القرآن الكريم، بيروت، ط/5، 1400هـ، ص 67. الدفاع عن أهل السنة والأتباع، لحمد بن علي بن عتيق، دار القرآن الكريم، بيروت، ط/2، 1400هـ، ص 17
(3) والآيات في ذلك كثيرة جدا، منها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا}
إلى آخر الآيات [الأعراف: 194-198] . وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية [الأحقاف:5]
(4) وهذا أقل ما يمكن قوله في المتعاملين معهم اليوم، بل قد يكون من يكتفي بذلك أحسنهم حالاً. فإنّك تأسف لو ابتليت بسماع أحاديث بعض المتردّدين إليهم من شبابنا، وما تصدره ألسنتهم من ألفاظ نابية؛ مثل: أهل ذلك البلد (ما شاء الله) ، تقدّم، حضارة، حرّية، إنسانيّة، مديّة، ونحوها، من غير شعور، وإدراك لفحوى تلك الألفاظ. فضلاٍ عن التقليد الصّارخ في العادات، من لباس، ولغات، وغيرهما، فأصبح أحسن الصديق هو ذلك المتحدث باللغة الإنجليزية، أو نحوها.
وبعض أولئك-وهو عندهم-يستحي من إقامة الصلاة أمام الملإِ، وأحياناً من أن يعرف بالإسلام، وقد علمت بمن إذا وصل عندهم غيّر اسمه، وتسمى باسم مشابه بما لديهم.
فإذا كان ذلك مما يخافه في نفسه، فكيف يتصور منه التجاسر لنطق كلمة الدعوة فيهم، فضلاٍ عن التصريح لهم بالعداوة؟! فإنا لله وإنا أليه راجعون.
(1/223)
________________________________________
كفاية، كما هو مقرر، مشهور (1) . فلا يحل، ولا يسوغ- والحالة هذه- تركه، والعدول عنه لغرض دنيوي. وقواعد الإسلام، ومدارك الأحكام، ترد القول بإباحة ترك الفروض العينيّة، لأغراض دنيويّة.
ومن عرف هذا، عرف الفرق بين مسألتنا، وبين عبارة من قال بجواز السفر لمن فدر على إظهار دينه بأدلّته، وبراهينه، لا يباح السفر إليهم (2) ؛ فالرخصة مخصوصة بمن عرفه بأدلّته المتواترة في الكتاب والسنة، ومثل هذا هو الذي يتأتّى منه إظهار دينه والإعلان به، وكيف يظهره من لا يدريه، ولا إلمام له بأدلّته القاطعة للخصم ومبانيه. شعر:
__________
(1) انظر: فتح القدير، لمحمد بن عبد الواحد بن الهمام الحنفي (ت681هـ) ، مكتبة ومطبعة الحلبي بمصر، ط/1، 1389هـ/1970م، 5/429. روضة الطالبين، للنووي، 10/214، المغني مع الشرح الكبير، 10/366.
(2) وقد صرح علماء السلف بالنهي عن السياحة لغير قصد شرعي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:" والسياحة في البلاد لغير قصد شرعي-كما يفعله بعض النساك-أمر منهي عنه. قال الإمام أحمد:" ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين، ولا الصالحين". الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ص114. وتقدّم كلام ابن كثير في ص223.
(1/224)
________________________________________
فقر الجهول بلا علم إلى أدبٍ ... فقر الحمار بلا/عقل/ (1) إلى رسنِ (2)
حتى ذكر جمْعٌ تحريم القدوم إلى بلد تظهر فيه عقائد المبتدعة؛ كالخوارج، والمعتزلة (3) ، والرافضة، إلا لمن عرف دينه في هذه المسائل، وعرف أدلّته، وأظهره عند الخصم.
وقد عفت -أرشدك الله- أنّ الزمن زمن فترة من أهل العلم، غلبت فيه العادات الجاهلية، والأهواء العصبية، وقلّ مَنْ يعرف الإسلام العتيق، وما حرمه الله تعالى، من موالاة أعدائه المشركين، ومعرفة أقسامها (4) ، وأنّ منها ما يكفر به المسلم،
__________
(1) في جميع النسخ: (بلا رأس) .
(2) البيت لأبي الطيب المتنبي، انظر: ديوان أبي الطيب المتنبي، بشرح أبي البقاء العكبري المسمى" التبيان في شرح الديوان"، ضبط وتصحيح مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، الطبعة الأخيرة، 1391هـ/1971م، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الباني الحلبي وأولاده بمصر، 4/211.
(3) المعتزلة: فرقة ظهرت في الإسلام في أوائل القرن الثاني، وسلكت منهجا عقليّا متطرفاً في بحث العقائد الإسلامية. وهم أصحاب واصل بن عطاء (الغزال) الذي اعتزل مجلس الحسن البصري. وقد تقدم ذكر أصول مذهبهم في ص181. التعريفات، لعلي بن محمد بن علي الجرجاني (ت816هـ) ، بتحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط/2، 1413هـ، ص282. الملل والنحل، للشهرستاني، 1/52. دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية، ص82.
وقد ذكر ابن خلكان سبب تسميتهم بذلك: أن واصل بن عطاء، كان في مجلس الحسن البصري، حين سئل عن جماعة يرجئون أصحاب الكبائر، فأخذ الحسن يفكر، وقبل أن يجيب، قال واصل: أنا أقول: إنّ صاحب الكبيرة لا مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل في منزلة بين منزلتين، ثم قام واعتزل إلى إسطوانة من إسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن البصري، فأصغوا إليه، فاستمالهم، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل؛ فسمي هو وأصحابه " معتزلة".
انظر: وفيات الأعيان، لبن خلكان، 3/248. والفرق بين الفرق، ص20-21.
(4) يعرف أنّ للموالاة صوراً وأقساما عدة، وقد جمعها مؤلف" الولاء والبراء"، وتتلخص في الآتي:
1-الرضى بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة.
2-الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله.
3-مودّتهم، ومحبّتهم، واتخاذهم أولياء.
4-الركون إليهم.
5-مداهنتهم، ومجاملتهم على حساب الدين.
6-اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين.
7-طاعتهم فيما يأمرون.
8-مجالستهم، والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله.
9-توليتهم أمراً من أمور المسلمين.
10-استئمانهم، وقد خوّنهم الله.
11-الرضى بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزييِّ بزيِّهم.
12-إكرامهم، وتقريبهم، والبشاشة لهم، وانشراح الصدر لهم.
13-معاونتهم على ظلمهم، ونصرتهم.
14-مناصحتهم، والثناء عليهم، ونشر فضائلهم.
15-تعظيمهم، ومدحهم، وإطلاق الألقاب عليهم.
16-السكنى معهم في ديارهم، وتكثير سوادهم.
17-التآمر معهم، وتنفيذ مخططاتهم، والدخول في أحلافهم وتنظيماتهم، والتجسس من أجلهم، ونقل عورات المسلمين وأسرارهم إليهم، والقتال في صفّهم.
18-الهروب من دار الإسلام على دار الحرب؛ بغضاً للمسلمين، وحباً للكافرين.
19-الانخراط في الأحزاب العلمانية أو الإلحادية؛ كالشيوعية، والاشتراكية، والقومية، والماسونية، وبذل الولاء، والحب، والنصرة لها.
انظر: الولاء والبراء في الإسلام، للقحطاني، ص230-247.
(1/225)
________________________________________
و/منها/ (1) ما /هو/ (2) دونه، وكذلك المداهنة (3) والركون، وما حرم الله تعالى ورسوله، وما الذي يوجب فسق فاعله، أو رِدَّتِه. وأين القلوب التي ملئت من الغيرة
__________
(1) ساقط في (ب) ، و (ج) .
(2) ساقط في (ب) ، و (ج) ، و (د) .
(3) جاء في الدرر السنيّة: المداهنة هي: ترك ما يجب لله، من الغيرة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك؛ لغرض دنيوي، وهوى نفسي، لزعم هؤلاء أنّ المعيشة لا تحصل لهم إلاّ بذلك. فالمداهنة هي المعاشرة والاستئناس، مع وجود المنكر، والقدرة على الانكار.
الدرر السنيّة في الإجوبة النجدية، 11/85. والمداهنة نوع من أنواع الموالاة للكفار. انظر: الدرر السنية، 7/38-39.
(1/226)
________________________________________
لله، وتعظيمه، وتوقيره، عن كفر هؤلاء الملاحدة وتعطيلهم، وصار على نصيب، وحظ وافر من مصادمة (1) أعداء الله، ومحاربتهم، ونصر دين الله، ورسله، ومقاطعة من صدّ عنه، وأعرض عن نصرته، وإن كان الحبيب المواتيا، فالحكم لله العلي الكبير. وأين من يباديهم بأنّ ما هم عليه كفر، وضلال بعيد، ومسبّة لله العزيز الحميد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد، وأنّ ما هم عليه هو الكفر الجلي البواح، وهو في ذلك على نور من ربه وبصيرة في دينه؟ فسل أهل الريب والشبهات، هل يغتفر الجهل كله، والإعراض عنه علماً وعملاً، ويكتفي بمجرد الانتساب إلى الإسلام، عند قوم ينتسبون /إليه/ (2) أيضا، وهم من أشد خلق الله كفراً به، وجحداً له، ورداً لأحكامه، واستهزاء بحقائقه.
فإن قالوا: يكتفي بذلك الانتساب، وتبرأ به الذمة، فقد على ما نقلوه، وأصّلوه من دليلهم، بالردّ والهدم. ومن حقق النظر، وعرف أحوال القوم، وسبر، علم أنّ معوّلهم على اتباع أهوائهم، والميل مع شهواتهم. نسأل الله لنا ولهم العافية.
هواي مع الركب اليمانين مصعدٌ (3) ... أسير (4) وجثماني بمكة موثقُ (5)
ومن هان عليه أمره تعالى فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيّعه، وذكره فأهمله، وأغفل قلبه عنه، وكان هواه آثرٌ عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة ربه، فلله الفضلة من قلبه، وقوله، وعمله، وسواه مقدّم في ذلك فما قدره حق قدره، وما عظّمه حق عظمته. وهل قدّره حق قدره من سالم أعداءه، الجاحدين له، المكذّبين لرسله! وأعرض عن جهادهم، وعيبهم، والطعن عليهم، ولاقاهم بوجه
__________
(1) في (د) : مصارمة. وهي بمعنى المقاطعة. لسان العرب، 12/335، مادة (صرم) .
(2) بياض في (ب) .
(3) في (د) : (مصعداً) .
(4) الرواية المشهورة: (جنيب) ، بدلاً من (أسير) . وفي (ب) : يسير.
(5) البيت لجعفر بن علبة الحارثي. انظر: جواهر البلاغة في المعاني والبيان البديع، لأحمد الهاشمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط/12، ص332.
(1/227)
________________________________________
منبسط، ولسان عذب، وصدر منشرح، ولم يراع (1) ما وجب عليه من إجلال الله، وتعظيمه، وطاعته، جراءة على ربه، وتوثباً على محض حقه، واستهانة بأمره!
خلافاً لأصحاب النبي وبدعة ... وهم عن سبيل الحق أعمى وأجهل
الوجه الرابع:
أنّه لا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين من أمن الفتنة. فإن خاف بإظهار دينه الفتنة بقهرهم، وسلطانهم، أو شبهات (2) زخرفهم، وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم، والمخاطرة بدينه. وقد فرّ عن الفتنة من السابقين الأولين إلى بلاد الحبشة (3) مَنْ تَعلَمُ من المهاجرين؛ كجعفر بن أبي طالب (4) وأصحابه.
وقد بلغكم ما حصل من الفتنة، على كثير ممن خالطهم، وقدم إليهم، حتى جعلوا مسبّة من نهاهم عن ذلك، وأمرهم بمجانبة المشركين، ديناً يدينون به، ويفتخرون بذكره في مجالسهم، ومجامعهم. وقد نقل نقل ذلك عن غير واحد: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (5) . وبعض من رحل إليهم من جهتكم، حمل رسائلهم، ومكاتباتهم إلى أهل الإسلام، يدعونهم إلى الدخول تحت طلعتهم، ومسالمتهم، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبين من كاتبوه، واستحسن ذلك (6) كثيرٌ من الملإ. والله المستعان.
وقد شاع لديكم خبر من افتتن بمدحهم، والثناء عليهم، ونسبتهم إلى العدل،
__________
(1) في (ج) ، و (د) : (ولم يراعي) . وهو خطأ، والصواب حذف الياء؛ لأنه مجزوم بلم.
(2) في (د) : (شهادة) .
(3) وكان خروجهم إلى الحبشة للهجرة الأولى، في رجب سنة خمس من البعثة. وكانت أول هجرة في الإسلام. سيرة ابن هشام، 1/321-322. البداية والنهاية، 3/64.
(4) جعفر بن أبي طالب، أبو عبد الله، السيد الشهيد، هاجر الهجرتين، وهو أخو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، استشهد في غزوة مؤتة عام (8هـ) .
انظر ترجمته: أسد الغابة، 1/34. سير أعلام النبلاء، 1/206.
(5) سورة الفرقان: الآية (31) .
(6) في (د) : (واستحسن كون ذلك) .
(1/228)
________________________________________
وحسن الرعاية، إلى ما هو أعظم من ذلك وأطم، من مشاقة الله ورسوله، واتباع غير سبيل المؤمنين. ومن لم يشاهد هذا منكم، ولم يسمعه من قائله، قد بلغه وتحققه.
فأجهل الخلق وأضلهم عن سواء السبيل، من ينازع في تحريم السفر إليهم، والحالة هذه، ويرى حله، وجوازه.
الوجه الخامس:
أنّ سدّ الذرائع، وقطع الوسائل، من أكبر أصول الدين وقواعده (1) ،وقد رتّب العلماء على هذه القاعدة من الأحكام الدينيّة-تحليلاً وتحريماً- ما لا يحصى كثرة (2) ، ولا يخفى أهل العلم والخبرة. وقد ترجم شيخ الدعوة النجديّة (3) -قدس الله روحه- لهذه القاعدة في كتاب التوحيد له، فقال: باب ما جاء في حماية المصطفى صلّى الله عليه وسلّم جناب التوحيد، وسدّه كل طريق يوصل إلى الشرك؛ وساق بعض أدلّة هذه القاعدة (4) .
وقد قُرِئَت علينا في الرسالة المدنية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، أنّ اعتبار هذا من محاسن مذهب مالك. قال: ومذهب أحمد قريب منه في ذلك (5) . ولو أفتينا
__________
(1) انظر قاعدة سد الذرائع، في: أصول الفقه، لمحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي، ص287.
(2) من ذلك على سبيل المثال: النهي عن البيع بعد النداء؛ لأنه وسيلة إلى ترك السعي إليها. النهي عن الاحتكار؛ لأنه ذريعة إلى التضييق على الناس. النهي عن التصوير؛ لأنه ذريعة إلى الشرك، بعبادة تلك الصور فيما بعد، كما حدث في عهد نوح عليه السلام.
(3) هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(4) ومن تلك الأدلة: قوله صلّى الله عليه وسلّم:" لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ؛ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم ". سنن أبي داود، 2/534، المناسك، باب (زيارة القبور) . مسند الإمام أحمد، 2/267.
فأمر صلّى الله عليه وسلّم بتحري العبادة في البيوت، وعدم تعطيلها عن العبادات، فتكون بمنزلة القبور، كما نهى عن تحري العبادة عند القبور؛ حيث إنّ ذلك قد يوصل إلى عبادتها.
(5) لم أجد هذا الكلام في الرسالة المنية. وهي رسالة صغيرة مطبوعة في (32) صفحة بالحجم الصغير، يوجد نسخة منها في مكتبة الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة.
(1/229)
________________________________________
بتحريم السفر؛ رعاية لهذا الأصل فقط، وسداً للذرائع المفضية/إليه/ (1) ، لكنّا قد أخذنا بأصل أصيل، ومذهب جليل.
الوجه السادس:
أنا لا نسلم دخول هذه البلدة-التي الكلام بصددها- (2) في عبارة أهل العلم ورخصتهم؛ لأنّ صورة الأمر وحقيقته، سفر إلى معسكر العدو الحربي، الهاجم على أهل الإسلام، المستولي على بعض ديارهم، والمجتهد في هدم قواعد دينهم، وطمس أصوله وفروعه، وفي نصرة الشرك والتعطيل، وإعزاز جيوشه وجموعه. فالمسافر إليهم كالمسافر إلى معسكر هو بصدد ذلك، كمعسكر التتر (3) ، ومعسكر قريش يوم الخندق، ويوم أحد، أفيقال هنا بجواز السفر، لأنّ السفر إلى بلاد المشركين يجوز لمن أظهر دينه؟! وهل لهذا القول حظ من النظر والدليل، أو سفسطة (4) وضلال عن سواء السبيل؟!
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظراً وحسن تبصرِ (5)
وفي سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، الذي قال فيه: قد جعلته (6) للناس إماماً،
__________
(1) ساقط في (ج) ، و (د) .
(2) أي التي هجم عليها العدو الكافر الحربي، المتصدي لهدم قواعد الإسلام، وتقدمت الإشارة إليها في ص 220.
(3) هم التتار الذين غزو بلاد المسلمين في أوائل القرن السابع، في صحبة ملكهم جنكيزخان. وقد كانوا يسكنون جبال طمغاج من أرض الصين. عبروا نهر جيحون عام616هـ، وأحدثوا الخراب والدمار في بخارى، وأكثروا القتل في المسلمين، واجتاحوا ديار الإسلام عبر العراق والشام إلى مصر، وقتلوا خلال ذلك من المسلمين ما لا يحد ولا يوصف.
انظر حادثتهم في: البداية والنهاية، 13/90-91، 94، وما بعدها.
(4) السفسطة: أصله: قياس مُركَّب من الوهميات، يقصد منه تغليظ الخصم وإسكاته، وذلك بالإتيان بمقدمات ذهنية، وصولاً بها إلى نتيجة. التعريفات، للجرجاني، ص158.
(5) البيت لعبد الملك بن إدريس الجزيري. انظر: مجمع الحكم والأمثال، لأحمد قبِّش، مطبعة دار العروبة، ص344.
(6) في (د) : (جعلت) ، وفي المطبوع: (جمعته) .
(1/230)
________________________________________
من حديث أبي بكرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:" ينزل ناسٌ (1) من أمتي بغائط (2) يسمونه البصرة (3) ، عند نهر يقال له دجلة، يكون عليه جسر يكثر أهلها، وتكون من أمصار المهاجرين - وفي رواية: المسلمين - فإذا كان آخر الزمان، جاء بنو قنطوراء (4) ، عراض الوجوه، صغار الأعين، حتى /ينزلوا/ (5) على شط النهر، فيفترق أهلها ثلاث فرق، فرقة يأخذون أذناب البقر والبريّة (6) وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم،
__________
(1) في (د) : (ناساً) .
(2) الغائط: هو البطن المطمئن من الأرض، يقال: غاط في الأرض يغوط ويغيط، إذا غار. ومنه أطلق على موضع قضاء الحاجة: الغائط؛ لأنّ العادة أنّ الحاجة تُقضى في المنخفض من الأرض، حيث هو أستر له. ثمَّ اتسع فيه حتى صار يطلق على النَّجو نفسه. الفائق في غريب الحديث، لجار الله محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، وعي بن محمد البجاوي، طبعة الحلبي الثانية، 3/79. النهاية في غريب الحديث والأثر،3/395.
(3) البصرة: قال الخطابي في" معالم السنن":" البصرة: الحجارة الرخو، وبها سميت البصرة".
والبصرة: بلدة معروفة، ويقال لها: البصيرة؛ لأنّ المسلمين لما قدموها نظروا إلى الحصباء، فقالوا: إنّ هذه أرض بصرة، يعني: خصيبة. بناها عتبة بن غزوان سنة سبع عشرة من الهجرة.-على المشهور-في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. معالم السنن، بهامش" سنن أبي داود"، 4/488. الفائق، للزمخشري، 1/114. معجم البلدان، 1/430.
(4) بنو قنطوراء: اسم أبي الترك. ويقال: قنطوراء: اسم جارية كانت للخليل إبراهيم عليه السلام ولدت له أولاداً، جاء من نسلهم الترك.
انظر معالم السنن، مع" سنن أبي داود"، 4/488. عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، نشر المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ط/2، 1398هـ/1969م، 11/418.
(5) في (د) : نزلوا.
(6) يريد بأذناب البقر والبريّة: الإعراض عن القتال والهروب منه؛ طلباً لخلاص أنفسهم ومواشيهم؛ فيهيمون في البوادي ويهلكون فيها، أو الإعراض عن القتال، والاشتغال بالزراعة، واتباع البقر للحراثة. عون المعبود، 11/419.
(1/231)
________________________________________
و (1) هم الشهداء " (2) .
والحديث وإن كان في سنده سعيد بن جهمان (3) ، فقد وثقه /ابن معين (4) ، وحسبك به، ووثقه/ (5) أبو داود، الذي أُلين له الحديث، كما ألين لداود الحديد (6) .
فقسّمهم ثلاث فرق، وأخبر أنّ من أخذ لنفسه، وألقى السلم، وترك الجهاد، فقد كفر؛ ومن أعرض عن جهادهم، وتباعد عنهم مقبلاً على إصلاح دنياه وحرثه، فقد هلك، ولم ينج إلاّ من قام بجهادهم، وانتصب لحربهم، ونصر الله ورسوله. كما يستفاد من الجملة الإسمية المعرّفة الطرفين، ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدأ والخبر (7) .
__________
(1) في جميع النسخ والمطبوع: (وأولئك هم) . ولفظ: (أولئك) ، لا يوجد في سنن أبي داود ولا مسند أحمد.
(2) سنن أبي داود، 4/487-488، الملاحم، باب (في ذكر البصرة) . وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، 5/44-45، مع تغيير قليل قفي اللفظ. وهذا اللفظ لأبي داود. والحديث صححه الألباني في " صحيح سنن أبي داود".
(3) سعيد بن جهمان الأسلمي، أبو حفص البصري. قال الذهبي في الميزان:" وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال أبو داود: ثقة، وقوم يضعفونه، وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به". انتهى. وقال ابن حجر: صدوق له أفراد، من الرابعة، مات سنة ست وثلاثين.
انظر ترجمته: ميزان الاعتدال، للذهبي، 2/131. المغني في الضعفاء، للذهبي، بتحقيق: نور الدين عتر، نشر دار المعارف، سورية، ط/2، 1391هـ-1971م. تقريب التهذيب، لبن حجر العسقلاني، 1/292.
(4) هو يحيى بن معين بن عون بن زياد، الإمام الحافظ، شيخ المحدثين، ولد سنة 158هـ، سمع من سفيان بن عيينة، ووكيع وخلق كثير، وروى عنه أحمد بن حنبل، والشيخان وغيرهم. (ت233هـ) بالمدينة، رحمه الله. انظر: تاريخ بغداد، 14/177-187. تهذيب التهذيب، 11/280. سير الأعلام، 11/71-96.
(5) ساقط في (ب) ، والمطبوع.
(6) هذه الكلمة: أعني:" الذي ألين ... الحديد"، لإبراهيم الحربي بن اسحاق بن إبراهيم. انظر: تهذيب التهذيب، 4/172.، وسير الأعلام، 13/212.
(7) يريد به: جملة" اولئك هم الشهداء". وقد أشرت إلى عدم وجود لفظ" أولئك" في أصل النص، عند أبي داود، وغيره.
(1/232)
________________________________________
والحصر، وإن كان ادّعائياً، فهو يدلّ على شرف هذا الصنف وفضيلته. والحديث، وإن تأوّله بعضهم في حادثة التتر في القرن السابع (1) ، فقائله لا يمنع من دخول سواها في الخبر، وأنّ له ذيولاً وبقيّة. ولا ريب أنّ /هذا/ (2) الذي حصل في هذا الزمان، إن لم يكن منها /ومن ذيولها/ (3) ، فهو شبيه بها من كل وجه.
فإن لا يكنها أو تكنه فإنّه ... أخوها غذته أمه بلبانها (4)
وقد قال شيخ الإسلام/-رحمه الله-/ (5) في اختياراته: من جمز (6) إلى معسكر التتر ولحق بهم، ارتدّ، وحلّ مله ودمه (7) . فتأمل هذا، فإنه-إن شاء الله تعالى (8) يزيل عنك إشكالات كثيرة، طالما حالت بين القوم، وبين مراد الله ورسوله، ومراد أهل العلم من نصوصهم، وصريح كلامهم.
ثم اعلم أنّ النصوص الواردة في وجوب الهجرة، والمنع من الإقامة بدار الشرك، والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها، ووجوب التباعد عن نصوص في منع الإقامة بين أظهر المشركين. عامة مطلقة (9) ، وأدلة قاطعة محققة، ومن قال بالتخصيص
__________
(1) حادثة التتر، تقدمت الإشارة إليها في هامش ص 230.
(2) زيادة في (د) .
(3) زيادة في (د) .
(4) لم أعرف قائله، ولا مصدره.
(5) ساقط في (ج) ، و (د) .
(6) جمز: هو ضرب من السَّير، أسرع من العَنَق. الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، مادة (جمز) . لسان العرب، لابن منظور، مادة (جمز) ، 5/323.
(7) لم أجد قوله هذا في" الاختيارات"، وإنّما وجدت كلاماً في معناه، في" مجموع فتاواه" 28/530.
وما قاله الشيخ، هو الحكم في كل من لحق بالكفار، والمحاربين للمسلمين، وأعانهم عليهم،؛ فإنه داخل في صريح قوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] .
(8) زيادة في (ب) .
(9) ومن تلك النصوص ما يلي:
أ-ورد في وجوب الهجرة، قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97] .
ب-وورد في النهي عن الإقامة بدار الشرك، قوله صلّى الله عليه وسلّم" أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ". سنن أبي داود، 3/105. سنن الترمذي، 4/133.
ج-وورد في وجوب التباعد عن مساكنتهم، ومجامعتهم، قوله صلّى الله عليه وسلّم" لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا ". المستدرك للحاكم، 2/141. وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
(1/233)
________________________________________
والتقييد لها، إنّما يستدلّ بقضايا عينيّة خاصة، وأدلّة جزئيّة لا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار، بل هي في نفسها محتملة /للتخصيص والتقييد/ (1) ن ومن قال بالرخصة، لا ينازع في عموم الأدلة الموجبة للهجرة، المانعة من المجامعة والمساكنة، غاية ما عند الخصم، أن يقيس حكماً على حكم، وفرعاً على فرعٍ، وقضيّة على قضيّةٍ. والمنازع له يتوقّف في صحة هذا القياس؛ لأنه معارض لدليل العموم والإطلاق.
وقد رأيت محمد بن علي الشوكاني (2) جزم فيما كتبه على" المنتقى"، بردّ قول الماوردي (3) ، بجواز الإقامة بدار الشرك، وفضيلة ذلك لمن أظهر دينه، ورجا إسلام غيره. قال: وهذا القول معارض لعموم النص، فلا يسلم ولا يلتفت إليه (4) ، مع أن
__________
(1) في (د) تقديم وتأخير بين الكلمتين.
(2) هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، أبو عبد الله، مفسر، محدث، فقيه، أصولي، صاحب" البدر الطالع"، و"إرشاد الفحول" و"فتح القدير في التفسير"، وغيرها. (ت1250) . انظر ترجمته: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن علي ابن محمد الشوكاني (ت1250) ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 2/214-215. معجم المؤلفين، 11/53، الأعلام للزركلي، 6/289.
(3) هو محمد بن الحسن بن علي بن الحسن التميمي البصري، أبو غالب الماوردي، إمام، محدث، صدوق، ولد سنة (450هـ) ، حدّث عنه ابن الجوزي، وغيره (ت525هـ) . انظر ترجمته: سير الأعلام، 19/589. شذرات الذهب، 4/75.
(4) ونص ما قاله الشوكاني، قال بعد إيراده لقول الماوردي:" ولا يخفى ما في هذا الرأي من المصادمة لأحاديث الباب، القاضية بتحريم الإقامة في دار الكفر". نيل الأوطار شرح منتقىالأخبار من أحاديث سيد الأخيار، لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، طبعة الحلبي الأخيرة بمصر، 8/31.
(1/234)
________________________________________
الذي كتبناه في هذه المسألة، موافق للمشهور عند المتأخرين، لم نخرج عنه كما تقدّم ذكره.
والقصد أن المسألة من أصلها فيها بحث قوي، ومجال للنظر، فإن بقي عليك إشكال فراجعني، وإياك والسكوت على ريبة. وقد رأيت بخط الوالد- قدس الله روحه- ما نصه:
شمّر إلى طلب العلوم ذيولا ... وانهض لذلك بكرة وأصيلا
وصل السؤال وكن هديت مباحثاً ... فالعيب عندي أن تكون جهولا (5)
وأما مسألة المبايعة، فلم يسألني عنها أحد ولم يتقدّم لي فيها كلام، وقد بسط شيخ الإسلام /ابن تيمية/ (6) /- رحمه الله تعالى-/ (7) الكلام على مبايعة أهل الذمة، ومَنَع من بيع ما يستعينون به على كفرهم وأعيادهم (8) . وأما الكافر الحربي فلا مسألة بيع الكفار ما يستعينون به على المسلمين. يُمَكَّنُ مما يعينه على حرب أهل الإسلام، ولو بالميرة (9) ، والماء، ونحوه، والدواب، والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في حال الحرب، من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به (10) ، فكيف /ببيعهم/ (11) وإعانتهم على أهل الإسلام؟! فإن انضاف إلى ذلك ما
__________
(1) لعل البيتين للشيخ عبد الرحمن بن حسن، والد المصنف.
(2) زائد في (د) .
(3) ساقط في (ب) ، و (ج) ، و (د) والمطبوع.
(4) انظر كلام شيخ الإسلام في ذلك: اقتضاء الصراط المستقيم، ص227، 229، 249.
(5) الميرة: الطعام يمتاره الإنسان، وفي التهذيب: جلب الطعام للبيع. يقال: مار عياله وأهله، يميرهم ميراً. لسان العرب، 5/188، مادة (مور) .
(6) انظر: المغني مع الشرح الكبير، 10/509.
(7) في (د) ، والمطبوع: (بيعهم) ، بإسقاط الباء الأول.
(1/235)
________________________________________
هو الواقع من المسافرين في هذا الزمان مما تقدم ذكره، فالأمر أغلظ وأفحش (1) ، وذلك /فرد/ (2) من وراء الجمع.
وأكثر الناس يخفى علي أن المرتدين من أهل تلك الديار التي استولى عليها الكافر الحربي، أغلظ كفراً، وأعظم جرماً بجميع ما تقدم من الأحكام، ولذلك تجد لهم عند القادمين إليهم من المباسطة، والمؤانسة، والإكرام، ما هو أعظم مما مرّت حكايته، من صنيعهم مع هذا الكافر الحربي، فافهم ذلك. والله المسئول المرجو الإجابة، أن ينصر دينه، وكتابه، ورسوله، وعباده المؤمنين، وأن يظهر /دينه/ (3) على الدين كله، ولو كره المشركون.
وصلى الله على عبده ورسوله النبي الأمين وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، آمين.
__________
(1) وهذا الكلام يقوله الشيخ عبد اللطيف في زمنه، فكيف لو أضفت إلى ذلك، ما يحدث في زمننا هذا –من بعض المسلمين-من السفر إليهم، لا لشيء سوى قصد السياحة والأغراض المحرمة؟! والله المستعان.
(2) كذا في المطبوع، وبه يحصل المعنى، وفي جميع النسخ) فرق) .
(3) ساقط في (د) .
(1/236)
________________________________________
الرسالة الرابعة: إلى محمد بن علي آل موسى
...
(الرسالة الرابعة) (1) :
قال جامع الرسائل
وله أيضا – قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى، في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، وقد ذكر له –أعني محمد بن علي- من جهة فتوى الإمام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فيمن في حكم من يسافر إلى بلاد المشركين. يسافر إلى بلد المشركين، فشرح ووضح ما أفتى به والده، فكشف القناع عن محاسن معانيها، وقطع – بالوجوه الساطعة الأسارير، الراسخة مبانيها- جميع ما يتعلق به كل مبطل، وأزاح بما أبداه، غبار كل مشكل.
وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم محمد بن علي آل موسى، سلّمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وسبق إليك خط مع البداة (2) ، أشرت لك فيه إلى المسألة التي ذكرت لي من جهة فتوى الوالد الشيخ –قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- فيمن يسافر إلى بلاد المشركين. وفي هذه الأيام ورد علينا خط من ولد العجيري (3) ، ذكر فيه أنّ لفظ الوالد في جوابه، قوله:" وأما السفر إلى بلدان المشركين للتجارة، فقد عمّت به البلوى، وهو نقص في
__________
(1) في (ب) : جاءت هذه الرسالة متأخرة، في لوحة 149-153؛ أي بعد الرسالة (62) حسب ترتيب (أ) . وقد وردت أيضاً في " الدرر السنيّة"، 7/159-161.
(2) هكذا في جميع النسخ: (البداة) .
(3) لم أعرفه. وجاء في" علماء نجد":" وأسرة العجيري تقيم في حوطة بني تميم، وليسوا منهم". انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/514.
(1/237)
________________________________________
دين من فعله (1) ؛ لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين، فينبغي هجره وكراهته.
وهذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سبّ ولا ضرب، ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضراً. والمعصية إذا وُجدت أُنكرت على من فعلها، أو رضيها إذا اطلع عليها". انتهى ما نقله.
وهذه العبارة -بحمد الله- ليس فيها ما يتعلق به كل مبطل؛ لوجوه؛ منها:
أنّ الذي وقع في هذه الأعصار -وكلامنا بصدده- أمر يجلّ عن الوصف، وقد اشتمل مع السفر على منكرات عظيمة، منها: موالاة المشركين، وقد عرفتم ما فيها من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وعرفتم أنّ مسمى الموالاة، يقع على شُعَب متفاوتة، منها ما يوجب الردّة وذهاب الإسلام بالكليّة، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات. وعرفتم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (2) أنّها نزلت فيمن كاتب المشركين بسرِّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (3) ، وقد جُعل ذلك من الموالاة المحرمة، وإن اطمأنّ قلبه بالإيمان.
وكذلك من رأى أن في ولايتهم مصلحة للناس والحضر، وهذا واقع مشاهد تعرفونه من حال أكثر هؤلاء الذين يسافرون إلى تلك البلاد، وربّما نقل بعضهم من
__________
(1) إنّ هذا يكون نقصاً في الدين، بحسب المسافر إلى تلك البلدان، من حيث القوة أو الضعف في إيمانه؛ إذ قد سافر بعض الصحابة –رضوان الله عليهم-إلى بلدان المشركين للتجارة، ولم ينكر عليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فمتى كان المسلم على ثقة، وقوة في إيمانه، قادراً على إظهار دينه، ومصارحة الكفار بفساد ما هم عليه، فمثل هذا يجوز له السفر إليهم للتجارة، ولا يكون ذلك نقصاً في دينه. أما من كان دونه، فهذا الذي يخشى عليه الفتنة بمخالطتهم. انظر: رسالة حكم السفر إلى بلاد الشرك، لسليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ضمن " الجامع الفريد"، ط/3، ص 376.
(2) سورة الممتحنة: الآية (1) .
(3) وهو حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه. انظر: أسباب النزول، للواحدي، ص421.
(1/238)
________________________________________
المكاتبات إلى أهل الإسلام ما يستفزّونهم به، ويدعونهم إلى طاعتهم، وصحبتهم، والانحياز إلى ولايتهم، فالذي يظهر هذه الفتوى، ويستدلّ بها على مثل هذه الحال، من أجهل الناس بمدارك الشر، ومقاصد أهل العلم، وهو كمن يستدل بتقبيل الصائم على أن الوطء لا يبطل صيامه.
وهذا من جنس ما حصل من هؤلاء الجهلة، في رسالة ابن عجلان (1) ، وما فيها من الاستدلال على جواز خيانة الله ورسوله، وتخلية بلاد المسلمين، وتسليط أهل الشرك عليها، وأهل التعطيل والكفر بآيات الله، وغير ذلك من ظهور سلطانهم، وإبطال الشرع بالكليّة، بمسألة خلافية في جواز الاستعانة بمشرك ليس له دولة، ولا صولة، ولا دخل في الرّأي (2) ، مع أنها من المسائل المردودة على قائلها، كما بسط في غير موضع، وبالجملة، فإظهار مثل هذه الفتوى في هذه الأعصار، من الوسائل المفضية إلى أكبر محذور، وأعظم المفاسد والشرور، مع أنّ عبارة الشيخ، إذا تأمّلها المنصف، وجد فيها ما يرد على هؤلاء المبطلة.
وقول الشيخ "عمّت به البلوى" يبيّن أنّ الجواب في الجاري في وقته، مع ظهور الإسلام وعزته، وإظهار دين من سافر إلى جهاتهم، وليس ذلك ما في السفر إليهم في هذه الأوقات؛ إذ هو مسالمة وإعراض عما وجب من فروض العين. وإذا هجم العدوّ، وصار الجهاد فرض عين، يحرم تركه، ولو للسفر المباح، فكيف بهذا السفر؟!
__________
(1) هو محمد بن إبراهيم بن عجلان المطرفي العنزي، ولد بالرياض، كان كفيف البصر وقت الفتنة بين أبناء فيصل بن تركي، وكان ممن أجاز لعبد الله الاستعانة بالجنود العثمانية –مع ما هم عليه من مخالفة لخالص التوحيد-وألف في ذلك رسالة، فرد عليه الشيخ عبد اللطيف. علماء نجد خلال ستة قرون، 3/779.
(2) مسألة الاستعانة بالمشرك في الغزو:
هذه مسألة خلافية، كما أشار إليها المصنف، وقد ذهب العلماء فيها مذهبين:
الأول: ذهبت جماعة إلى منع الاستعانة بالمشركين مطلقاً، وتمسكوا بحديث عائشة –رضي الله عنها-وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل المشرك الذي أدركه ليتبعه إلى بدر:" ... ارجع؛ فلن أستعين بمشرك ". والحديث أخرجه الإمام مسلم في صخيخه، 12/439؛ والترمذي في سننه، 4/108؛ وأبو داود في سننه، 3/172؛ وابن ماجه في سننه، 2/142. قالوا: هذا الحديث ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما يعارضه لا يوازيه في الصحة والثبوت، فتعذّر ادعاء النسخ لهذا،. انظر بدائع الفوائد 3/102.
الثاني: ذهبت الشافعية وآخرون إلى جواز الاستعانة بهم، ولكن بشروط هي:
-أن يكون في المسلمين قلة، ودعت الحاجة إلى الاستعانة بهم.
-أن يكون الكافر حسن الرأي في المسلمين، وممن يوثق به.
-ألاّ يكون له دخل في الرأي ولا مشورة.
-ألاّ يكون للمشرك صولة ولا جولة يخشى منها.
انظر نيل الأوطار 8/254؛ المغني مع الشرح الكبير 10/456.
وقد استدل هؤلاء على مذهبهم بالآتي:
أ-ما رواه ابن عباس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استعان بيهود بني قينقاع، أخرجه البيهقي في الكبرى 9/53؛ وأورده سعيد بن منصور في سننه برقم (2790) .
ب-"أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم استعان بصفوان بن أميّة قبل إسلامه، فشهد حنيناً، والطائف، وهو كافر". أخرجه الإمام مالك في الموطأ 2/543-544، النكاح، باب (نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله) . والحديث أورده الذهبي في "سير الأعلام" 2/565؛ قالوا: إن حديث عائشة –رضي الله عنها-كان يوم بدر، وفي الحديث كان استعانته صلّى الله عليه وسلّم بهؤلاء يوم حنين، فهو متأخر، ناسخ لحديث عائشة، فتعيّن المصير إليه.
وإلى هذا الرأي الثاني ذهب الإمام ابن القيم –رحمه الله-فقد قال –حين تحدّث عن فوائد صلح الحديبية-: " ... ومنها: أنّ الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة، عند الحاجة، لأنّ عينه الخزاعي كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو، وأخذ أخبارهم"، زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط/26، 1412هـ-1992م، 3/301.
(1/239)
________________________________________
وأيضاً، فكلام الشيخ يحمل على ما ذكره الفقهاء، في أن عامة الناس ليس لهم أن يفتاتوا (1) على ولي الأمر في الحدود والتعزيرات، إلاّ بإذنه. وقد عرفتم حال أكثر الولاة في عدم الاهتمام بهذا الأصل، فالافتيات علم بالحبس، والضرب، ونحو
__________
(1) الافتيات: من الفوت، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار من يؤتمر، وافتات عليه في الأمر: حكم، وكل من أحدث دونك شيئاً، فقد افتات به، وافتات بأمره: أي مضى عليه، ولم يستشر أحداً. لسان العرب 2/69، مادة (فوت) .
(1/240)
________________________________________
ذلك، مفسدة تمنعها الشريعة ولا تقرها، و "درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح" (1) ،فهذا، يوجب للشيخ وأمثاله، مراعاة المصلحة الشرعية، في الفتاوى الجزئية، لا سيّما في مخاطبة العامة. وقول الشيخ –لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين- صريح في أن الكلام فيمن لم يفتتن بدينه، وقد عرفتم حال أكثر الناس في هذا الوقت، أقل الفتنة أن يستخف بدينه (2) ، وجمهورهم يظهر الموافقة بلسان الحال، أو لسان المقال، فهذا الضرب ليس داخلاً في كلام الشيخ، رحمه الله.
وقوله: "فينبغي هجره وكراهيته"، فيه بيان ما يستطيعه كل أحدٍ، وأمّا ولاة الأمور ومن له سلطان أو قدرة، فعليه تغيير المنكر باليد، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبالقلب، وهذا نص الحديث النبوي (3) ، فلا يجوز العدول عنه، وإساءة الظن بأهل العلم، بل يحمل كلامه على ما وافقه، والمصر المكابر لا ينتهي إلاّ إذا غُيِّر فعله
__________
(1) هذه قاعدة أصولية، معمول بها في الشرع. الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، (911هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1403هـ، ص87، الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة، لزين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، طبعة عام 1400هـ-1980م، ص90. شرح القواعد الفقهية، لأحمد بن السيخ محمد الزرقا (ت1357هـ) ، ط/2، دار القلم، 1409هـ، ص205.
(2) وقد ذكر الله –سبحانه وتعالى-في كتابه، أمثال هؤلاء الناس الذين لا يثبتون عند أدنى فتنة تعترضهم، قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] . قال القرطبي في معنى عبادة الله على حرف: "وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، لضعف القائم على حرف مضطرب فيه". الجامع لأحكام القرآن، 12/13.
فهذا الذي يصل إلى درجة الاستخفاف بدينه، لا شك في كونه ضعيفاً في عبادته ويقينه، وإن لم يوصله ذلك إلى درجة الكفر بالله تعالى.
(3) هنا أورد الشيخ –رحمه الله-الحديث بالمعنى- أما نصه فهو عند مسلم، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".
صحيح مسلم بشرح النووي 2/381، الإيمان، باب (كون النهي عن المنكر من الإيمان) ، وأخرجه أصحاب السنن: سنن أبي داود 1/677-678، الصلاة، باب (الخطبة يوم العيد) . سنن الترمذي، (4/408، الفتن باب (ما جاء في تغيير المنكر) . سنن النسائي 8/111-112، الإيمان باب (تفاضل أهل الإيمان) . سنن ابن ماجة 2/382، الفتن باب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) .
(1/241)
________________________________________
بالأدب والحبس، وهو داخل في عموم الحديث.
وقد شاهدنا من الوالد –رحمه الله- تعنيف هذا الجنس وذمّمهم، وذكر حكم الله ورسوله في تحريم مخالطة المشركين، مع عدم التمكن من إظهار الدين، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن التعزيزات تفعل بحسب المصلحة، وليس لها حدّ محدود، بل بحسب ما يزيل المفسدة، ويوجب المصلحة، وذكر قتل شارب الخمر في رابعة، وأنه من هذا الباب، وأشار إلى ذلك في اختياراته (1) وكذلك غيره من المحققين، ذكروا أنّ
__________
(1) انظر: الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، ص299-300؛ مجموع الفتاوى 28/366.
مسألة قتل شارب الخمر في الرابعة:
هذه المسألة مختلف فيها عند العلماء على قولين:
القول الأول: وهو لبعض العلماء، منهم بعض أهل الظاهر، والحسن البصري، قالوا بأنّ من شرب الخمر في الرابعة يقتل. المحلى لابن حزم 13/426؛ واستندوا في ذلك على ما رواه معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه " سنن أبي داود 4/623-624، الحدود باب (إذا تتابع في شرب الخمر) . سنن الترمذي 4/39، الحدود باب (ما جاء في " من شرب الخمر فاجلدوه ") . سنن النسائي 8/313، الأشربة. سنن ابن ماجة 2/89، الحدود، باب (من شرب الخمر مراراً) . فالحديث صريح في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتل شارب الخمر في الرابعة.
القول الثاني: ذهب جمهور العلماء –منهم الأئمة الأربعة-إلى أنه لا يقتل، ويكتفى فيه بالحد. المحلى لابن حزم 13/419. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد بن عبد الرحمن المبارك فوري (ت1353هـ) ، نشر المكتبة السلفية، بالمدينة المنورة، ط/2، 1385هـ، 4/724. واستدلوا على ذلك بالآتي: ما أخرجه أبو داود والترمذي، من حديث الزهري، عن قبيصة، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه " فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتى به فجلده، ثم أتى به فجلده، ورفع القتل. سنن أبي داود 4/625-626، الحدود، باب (إذا تتابع في
(1/242)
________________________________________
.................................................. ..................
__________
= شرب الخمر) . سنن الترمذي 4/40.
قال الترمذي بعد إيراده لهذا الحديث: "والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافاً في ذلك، في القديم والحديث".
قال الجمهور: أحاديث القتل منسوخة بحديث: " لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ". صحيح البخاري مع الفتح 2209، الديات باب (قولع تعالى: {} .. إلخ) . صحيح مسلم بشرح النووي 11/176، القسامة باب (ما يباح به دم امرئ مسلم ... إلخ) . سنن النسائي 7/90، تحريم الدم باب (ذكر ما يحل به دم المسلم) . سنن ابن ماجة، الحدود باب (لا يحل دم.. إلخ) . وانظر: المحلى لابن حزم، 13/422-424.
فالحديث خص حلّ الدم في هؤلاء الثلاثة، ولم يذكر فيهم شارب الخمر.
قال شارح تحفة الأحوذي بعد نقله لحديث أبي صالح عن معاوية، في القتل، الذي استدل به أصحاب القول الأول قال: " وإنما كان هذا في أول الأمر، ثم نسخ بعد. تحفة الأحوذي 4/723. قال الترمذي: "إن حديث القتل غير معمول به عند أهل العلم،". تحفة الأحوذي 4724. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والقتل عند أكثر العلماء منسوخ". مجموع الفتاوى، 28/336.
الإجماع: استدلوا بإجماع العلماء على أن السكران في المرة الرابعة، لا يجب عليه القتل، نقل هذا الإجماع الإمام ابن المنذر (318هـ) في كتابه: الإجماع، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1405هـ-1985م، ص71.
قال النووي: "وأجمعوا على أنه لا يقتل بشربها، وإن تكرر ذلك منه. هكذا حكى الإجماع فيه الترمذي وخلائق. وحكى القاضي عياض -رحمه لله تعالى- عن طائفة شاذة، أنهم قالوا: "يقتل بعد جلده أربعه مرات، للحديث الوارد في ذلك". وهذا القول باطل، مخالف لإجماع الصحابة، فمن بعدهم، على أنه لا يقتل، وإن تكرر منه أكثر من أربع مرات. وهذا حديث منسوخ، قال جماعة: "دلّ الإجماع على نسخه". شرح صحيح مسلم للنووي 11/228.
وهذا القول الثاني، هو الراجح لقوة استدلال الجمهور، وثبوت الإجماع على عدم القتل في الرابعة، ونسخ ذلك، وعليه فالشارب في الرابعة لا يقتل حداًَ.
غير أنّ العلماء قد أجازوا للإمام قتله تعزيراً، فيما لو رأى في ذلك مصلحة راجحة، وذلك لعدم وجود تقدير في التعزير على الكبائر.
انظر: الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور أحمد الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط/3، 1409هـ-1989م، 6/201.
(1/243)
________________________________________
التعزير على الكبائر والمحرمات غير مقدّر، بل هو بحسب المصلحة (1) . وهذه قواعد كليّة، تدخل فيها تلك القضيّة الجزئيّة.
وقول الشيخ:" والمعصية إذا وجدت أُنكرت على من فعلها أو رضيها" /ليس/ (2) فيه أنّ الانكار بمجرّد القول، بل هو بحسب المراتب الثلاث المذكورة في الحديث، /وإلا لخالف نص الحديث/ (3) ، بل يتعيّن حمل كلام الشيخ عليه لموافقة الحديث، لا على ما خالفه، وأسقط من النكار ركنه الأعظم، ومن شم رائحة العلم، لم يعرض هذه الفتوى لأهل هذه القباثح الشنيعة، ويجعلها وسيلة إلى مخالفة واجبات الشريعة، ومثل هذا الذي أظهر هذه الفتوى، يجعله بعض المنتسبين، منفاخاً ينفخ به ما يستتر من إظهاره وإشاعته. والواجب على مثلك النظر في أصول الشريعة، ومعرفة مقادير المصالح والمفاسد. وتأمل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} الآية (4) . وانظر ما ذكره المفسّرون، حتّى أدخل بعضهم لياقة الدواة، وبري القلم في الركون (5) ؛ وذلك لأنّ ذنب الشرك أعظم ذنب عصي الله به (6) ، على اختلاف /رتبه/ (7) ، فكيف إذا انضاف إليه ما هو أفحش منه، من الاستهزاء بآيات الله، وعزل أحكامه وأوامره، وتسمية ما خالفه وضاده بالعدالة، والله
__________
(1) انظر: فتح القدير، لابن الهمام، 5/212. حاشية رد المختار، 4/60. المغني مع الشرح الكبير، 10/347. الفروق للقرافي، 4/177.
(2) في (د) : (ليست) .
(3) في (د) : ولا مخالف لنص الحديث) .
(4) سورة الإسراء: الآية (74) .
(5) لم أجد من أدخل ذلك في الركون مما اطلعت عليه من كتب المفسرين.
(6) ومن أجل عظمته، كان الذنب الوحيد الذي لا يغفر الله لصاحبه، إن لم يتب منه؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . [النساء:48]
(7) في (د) : (رتبته) .
(1/244)
________________________________________
يعلم، ورسوله، والمؤمنون، أنّها الكفر، والجهل، والضلالة؟! ومن له أدنى أنفة، وفي قلبه نصيب من الحياة، يغار لله، ورسله، وكتابه، ودينه، ويشتدّ إنكاره، وبراءته في كل محفل وكل مجلس، وهذا من الجهاد، الذي لا يتحصل جهاد العدو إلا به، فاغتنم إظهار دين الله والمذاكرة به، وذمّ ما خالفه، والبراءة منه ومن أهله. وتأمّل الوسائل المفضية إلى هذه المفسدة الكبرى، وتأمّل نصوص الشارع في قطع الوسائل والذرائع (1) .
وأكثر الناس ولو تبرأ من هذا ومن أهله فهو جند لمن تولاّهم، وأنس بهم، وأقام بحماهم، والله المستعان.
وهذا الخط اقرأه على من تحب من إخوانك. وبلّغ سلامي والدك، وخواص الإخوان، والسلام.
__________
(1) والنصوص التي تأمر بقطع الروابط والوسائل بين المؤمنين وغيرهم، كثيرة جداً؛ منها: قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28] وقوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80] .
وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81] . وقوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود:113] .
وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] .
وغير ذلك من الآيات. وقد تقدّم ذكر بعض الأحاديث في هذا الشأن، ص241. وكلها تأمر المؤمن بمجانبة الكفار، وقطع الموالاة بينه وبينهم، وعدم اتخاذهم أولياءً، إذ إنًهم -مهما كانوا-لا يرضون منه أقل من أن يروه قد ارتد عن دينه. ولا مفسدة أكبر من ذلك، فسد جميع الوسائل الموصلة إليه.
(1/245)
________________________________________
الرسالة الخامسة: إلى حسن بن عبد الله
...
الرسالة الخامسة (1) : قال جامع الرسائل
وله أيضاً –قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- رسالة في وجوب الهجرة، وتحريم الإقامة بين أظهر المشركين. وسبب ذلك، أنّ حسن بن عبد الله بن الشيخ، لما كتب إلى عبد الرحمن الوهيبي (2) يناصحه عن الإقامة بين أظهر المشركين، وبيّن له وجوب الهجرة بالدلائل والبراهين، /كتب/ (3) إليه، واحتجّ بما ستقف عليه (4) ، وهذا /نصها/ (5) .
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى ابن الأخ حسن بن عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: يُذكر لي مل كَتَبَ إليك عبد الرحمن الوهيبي، من الشبهة، لمّا ذكرتَ له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (6) ، ونصحتَه عن الإقامة بين أظهر العساكر التركية. وأنه احتجّ عليك بأنّ الآية فيمن قاتل المسلمين، وقال: ظلم النفس بالإقامة في دار الشرك وترك الهجرة " تجعلون إخوانكم مثل من قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه؟ "
وهذا جهلٌ منه بمعنى الآية وصريحها، ومخالفة لإجماع المسلمين، وما يحتجّون به
__________
(1) في (ب) : جاءت هذه الرسالة متأخرة، في لوحة 35-38. وهي بعد الرسالة (11) حسب ترتيب (أ) . وقد وردت هذه الرسالة في" الدرر السنيّة"، 7/162-164.
(2) تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص (94) .
(3) في (ب) ، و (د) : (فكتب) .
(4) هنا زيادة جملة في المطبوع، بعد قوله:" ستقف عليه" وهي:" ضمن جواب الشيخ –رحمه الله-".
(5) في (ب) : (نص الرسالة) . وفي المطبوع: (نص رسالة الشيخ) .
(6) سورة النساء: الآية (97) .
(1/246)
________________________________________
على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، مع العجز عن القدرة على الانكار والتغيير (1) ؛ قال ابن كثير:" هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، /مرتكبٌ/ (2) حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي بترك الهجرة،) {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي لمَِِ /كنتم/ (3) هاهنا وتركتم الهجرة: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} أي لا نقدر على الخروج /من البلد/ (4) ولا الذهاب في الأرض: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (5) (6) , وساق –رحمه الله- ما رواه أبو داود، عن سمرة بن جتدب، أما بعد، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:" من جامع المشرك، وسكن معه، فإنه مثله " (7) .
قلت (8) : فانظر حكاية الإجماع على تحريم ذلك، وانظر تقريره معنى الآية، /وتعليق/ (9) ما فيها من الأحكام والوعيد على مجرد الإقامة بين أظهر المشركين، وأنّ هذه الآية نص في ذلك، وانظر خطاب الملائكة لهذا الصنف، وأنه على المكث والإقامة بدار الكفر، وانظر ما أجابتهم الملائكة عن قولهم: لا نقدر على الخروج، وكل ذلك ليس فيه ذكر للقتل (10) .
__________
(1) تقدمت هذه المسألة، أعني (الإقامة بين أظهر المشركين) في ص210-212. 220-223.
(2) في (د) : (مرتكباً) .
(3) في تفسير ابن كثير: (مكثتم) .
(4) ساقط في جميع النسخ، مثبت عند ابن كثير في نصه.
(5) سورة النساء: الآية (97) .
(6) تفسير ابن كثير، 1/555.
(7) تقدم تخريجه في ص234.
(8) الكلام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (المصنف) .
(9) في (د) : (وتعليقه و) ما فيها.
(10) هذا رد على ما ذكره عبد الرحمن الوهيبي، أن الآية فيمن قاتل المسلمين.
(1/247)
________________________________________
فتأمل هذا يطلعك على بطلان هذه الشبهة، وجهل مبديها. وتأمل حديث سمرة وما فيه من تعليق هذا الحكم بنفس المجامعة والسكنى، واعرف معنى كونه مثله.
وكذلك ما روى ابن جرير، عن عكرمة قال:" كان الناس من أهل مكة قد أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} (1) (2) .
وروى ابن جريرمن تفسير ابن أبي حاتم، فزاد فيه: فكتب المسلمون إليهم بذلك، وخرجوا ويئسوا من كل خير، ثمّ نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} (3) ؛ قكتبوا إليهم بذلك أنْ قد جعل الله لكم مخرجاً، فأدركهم المشركون فقتلوهم، حتى نجا من نجا، وقتل من قتل (4) .
وروي عن ابن عباس في الآية: هم قوم تخلّفوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ضربت الملائكة وجهه ودبره (5) وأظن هذا الجاهل رأى ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس، أنّ قوماً من أهل مكّة أسلموا، فاستخفوا بالإسلام، وأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، وأصيب بعضهم، وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (6) الآية (7) . فهذا القول ونحوه مما فيه مِنْ ذكر مَنْ أُخرِج مع
__________
(1) سورة النساء: الآية: (97،98) .
(2) جامع البيان للطبري، 5/233.
(3) سورة النحل: الآية (110) .
(4) جامع البيان للطبري، 5/234.
(5) المصدر السابق، نفس الصفحة.
(6) سورة النساء: الآية (97) .
(7) جامع اليان للطبري، 5/234.
(1/248)
________________________________________
المشركين يوم بدر، لا يدل على أنّ الآية خاصة بهم، بل يدلّ على أنها متناولة للعموم اللفظي، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (1) .
وكذلك من قال من السلف أن هذه الآية نزلت في أناس من المنافقين، تخلفوا من رسول الله صلى الله علي وسلم، وخرجوا مع المشركين (2) ، فمرادهم أنّ هذه الآية تتناولهم بعمومها، ولم يريدوا أنّ هذا –أعني النفاق أو القتال مع المشركين- الذي هو أُنيط به الحكم، ورتِّب عليه الوعيد،؛ فإنّهم أجل وأعلم من أن يفهموا ذلك. والسلف يعبّرون بالنوع ويريدون الجنس العام (3) ، ومن لم يمارس العلوم، ولم يتخرّج على حملة العلم وأهل الفقه عن الله، وتخبّط في العلوم برأيه، فلا عجب من خفاء هذه المباحث عليه، وعدم الاهتداء لتلك المسالك، التي لا يعرفها إلاّ من مارس الصناعة، وعرف ما في تلك البضاعة.
وهذا الرجل (4) من أجهل الناس بالضروريات، فكيف بغيرها من حقائق العلم
__________
(1) مذكرة أصول الفقه، لمحمد الأمين الشنقيطي، طبعة الجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة، ص209. تخريج الأصول على الفروع، لشهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني (ت656هـ) ، تحقيق د. محمد أديب صالح، مؤسسة الرسالة، ط/5، 1404هـ-1984م، ص 361. شرح مختصر الروضة، لسليمان بن عبد القوي الطوفي (ت716هـ) ، تحقيق: عبد الله ابن عبد المحسن التركي مؤسسة الرسالة، ط/1، 1408هـ، 2/501. روضة الناظر وجنّة المناظر، البن قدامة المقدسي، مكتبة المعارف، الرياض، ط/2، 1404هـ، ومعها شرحها" نزهة الخاطر"، 2/141.
(2) انظر: جامع البيان للطبري، 5/236.
(3) المعنى أن الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وإن كان سببها في نوع الأشخاص الذين خرجوا مع المشركين في بدر، غير أنّها لا تخصّهم، فلفظها العام يشمل جميع الأجناس؛ كالمنافقين الذين تخلَّفوا نفاقاً عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذلك تتناول المقيمين مع المشركين، الساكنين معهم من غير قدرة على إقامة الدين، فهؤلاء الذين حكم عليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّهم مثلهم.
ومسألة الإقامة ببلد المشركين قد تقدّمت في ص210-212، 220-223.
(4) يريد عبد الرحمن الوهيبي.
(1/249)
________________________________________
ودقائقه! وليتهم -أعني هو وأمثاله- اقتصروا على مجرد الإقامة، ولم يصدر عنهم ما اشتهر وذاع من الموالاة الصريحة، وإيثار الحياة الدنيا على محبة الله ورسوله، (1) وما أمَر به وأوجبه من توحيده، والبراءة ممن أعرض عنه، وعدل به غيره، وسوّى به سواه. وتأمل كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله- على هذه الآية، فإنّه أفاد وأجاد (2) . وتأمّل ما ذكره الفقهاء في حكم العجزة، واستدلالهم بهذه الآية، على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، لمن عجز عن إظهار دينه (3) ، فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على بعض أمرهم، وعلى أنّهم مسلمون من أهل القبلة المحمّدية؟!
وصاحب هذا القول الذي شبّه عليكم، ينزل درجة درجة، أول ذلك شراؤه المراتب الشرعية، والأوقاف التي على أهل العلم، حتى صرفت له من غير استحقاق ولا أهليّة؛ ثمَّ لما جاءت هذه الفتنة، صار يتزيّن عند المسلمين-بحمد الله-على عدم حضوره بتلك البلد، ثم جمز ولحق بأهلها، ونقض غزله، وأكذب نفسه، ثم ظهر لهم في مظهر الصديق الودود، وبالغ في الكرامة، والوليمة، والتحف، والهدايا، والمجالسة
__________
(1) ولا شك أن هذا من أسوأ ما يصل إليه المرء في دينه، إذ إنّ الوعيد على هذا الحال شديد. فقد قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-41] .
(2) انظر كلامه في رسالته: شرح ستة مواضع من السيرة، ضمن" الجامع الفريد"، ص250-251. فقد قال-رحمه الله-:" إنّ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من لم يهاجر-من غير شك في الدين، وتزيين دين المشركين-ولكن محبّة للأهل والمال والوطن، فلما خرجوا إلى بدر، خرجوا مع المشركين كارهين، وقتل بعضهم بالرمي، والرامي لا يعرفه، فلمّا سمع الصحابة أنّ من القتلى فلاناً وفلاناً، شقّ عليهم، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ] إلى قوله تعالى {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99] . فمن تأمّل قصتهم، وتأمّل قول الصحابة: قتلنا إخواننا، علم أنه لو بلغهم عنهم كلام في الدين، أو كلام في تزيين دين المشركين، لم يقولوا: قتلنا إخواننا، فإنّ الله تعالى قد بيّن لهم-وهم فبل الهجرة-أنّ ذلك كفر بعد الإيمان، بقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] .
(3) المسألة تقدمت في ص210-223.
(1/250)
________________________________________
والتردّد، وشغفاً بالجاه والرئاسة، ولو في زمرة من حاد الله ورسوله.
وأمّا نقل عنه من التحريض على أهل الإسلام، فهو-إن صحَّ-أقبح من هذا كلّه وأشنع، وحسابه على الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر /فيه/ (1) مخبآت الصدور والضمائر.
وروى السدي (2) قال: لما أسر العباس، وعقيل، ونوفل، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للعباس:" أفد نفسك وابن أخيك "، قال يا رسول الله، ألم نصلّ (3) قبلتك، ونشهد شهادتك؟ قال:" يا عباس، إنّكم خاصمتم فخصمتم، ذم تلا عليه هذه الآية: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (4) (5) .
فتأمّل هذه القصة، وما فيها من التصريح بأن الخصومة في الهجرة، وأنّ من ادعى الإسلام والتوحيد، وهو مقيم بين ظهراني أهل الشرك بالله، والكفر بآياته، فهو مخصوم محجوج، وهذا يعرفه طلبة العلم والممارسون.
وتأمّل قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (6) ، كيف حكم على أنّ من أطاع أولياء الشيطان في تحليل ما حرّم الله /أنه مشرك (7) / (8) ،................................................. ................................
__________
(1) ساقط في (ب) ، والمطبوع.
(2) هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، أبو محمد، الإمام المفسر، الحجازي ثم الكوفي، الأعور السدي، حدّث عن أنس بن مالك، وابن عباس، وغيرهما، (ت127هـ) .
انظر: سير الأعلام، 5/264. تهذيب التهذيب، 1/313. النجوم الزاهرة، 1/308.
(3) في (د) : (نصلي) .
(4) سورة النساء: الآية (97) .
(5) انظر قول السدي: جامع البيان للطبري، 5/235؛ الدر المنثور في التفسير المأثور، لجلال الدين السيوطي، دار المعرفة، بيروت لبنان، 2/206.
(6) سورة الأنعام: الآية: (121) .
(7) ساقط في (ب) .
(8) قال الطبري في تفسير الآية:" إنّ الله أخبر أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم؛ ليجادلوا المؤمنين في تحريم أكل الميتة. وروي عن عكرمة قوله:" إنّ مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم، وكاتبتهم فارس، وكتبت فارس إلى مشركي قريش: إنّ محمداً وأصحابه يزعمون أنّهم يتّبعون أمر الله، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه، ويزعمون للميتة، وأما ما ذبحوا هم يأكلون. وكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد (عليه الصلاة والسلام) ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} الآية.
(1/251)
________________________________________
وأكّد ذلك بإنّ المؤكّدة (1) ، وأنّ ذلك صادر عن وحي الشيطان! فاحذر هذا الضرب من الناس، وليكن لك نهمة في طلب العلم من أصوله /ومظانه/ (2) ، والله تعالى أسأل أن يمنّ علينا وعليكم بالهداية إلى سبيله، ومعرفة دينه بدليله، وصلى الله على نبينا محمد، /وعلى آله وصحبه،/ (3) وسلّم تسليماً كثيراً.
__________
(1) بل وزاد تأكيد ذلك باللام أيضاً.
(2) في (ب) : (ومضانه) .
(3) بياض في (ب) .
(1/252)
________________________________________
الرسالة السادسة: إلى حمد بن عبد العزيز
...
الرسالة السادسة (1) : قال جامع الرسائل
وله أيضاً-قدّس الله روحه ونوّر ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عبد العزيز (2) . وقد كان كتب له-أعني الشيخ حمد- رسالة ذكر له فيها أنّ الغربة اشتدّت، وأنّه قد أنكر عليه الفتوى بحل ما أخذ في درب العقير (3) مع العسكر والزوار. فأجابه بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم حمد بن عبد العزيز، سلّمه الله تعالى، وهداه، وألهمه رشده وتقواه، آمين. فضل الغربة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، وإن أتى الهر بمرّ القضاء. والخط وصل، وصلك الله بحبله المتين، ونظّمك في سلك أنصار الملّة والدين. وقد عرفت أنّ الله ليس كمثله شيء في أفعاله وقضائه، كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته (4) .
__________
(1) هذه الرسالة ساقطة في (ب) . وقد وردت في: الدرر السنيّة، 7/164-170.
(2) تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ، ص92، فهو التلميذ (24) .
(3) درب العقير: هو جهة ساحلية في سنجق الحسا. وفيه ميناء العقير، ويمتدّ على البحر.
انظر: دليل الخليج، القسم الجغرافي، تأليف ج. ج لورمير، ترجمة المكتب الثقافي، لحاكم قطر، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1390هـ/1970م، 5/2582.
(4) هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، والذي اتفق عليه السلف الصالح، أنّ الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وهو الذي يدل عليه قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] . شرح عقيدة الطحاوية: ص39.
(1/253)
________________________________________
وهذه الحوادث العظام التي هدمت أركان الإسلام، لله فيها سِرٌ وحكمة بالغة، يطلع من شاء من عباده على عنوان وأنموذج من سرّ القدر والقضاء، وأكثر الناس في خفارة1 جهله، وكثافة طبعه، كالبعير الذي يعقله أهله، ثم يطلقونه، لا يدري فيما عُقل؟ ولا فيما أطلق؟
وتذكر أنّ الغربة (2) اشتدّت، والأمر كما وصفت، وأعظم مما إليه أشرت، ولكن ليكن لك على بال ما ورد في فضل الغرباء ووصفهم (3) . فاغتنم نصرة الإسلام،
__________
1 الخفارة: تطلق على الحماية والوفاء، وتطلق على الغدر والخيانة، والمراد هنا الثاني.
لسان العرب، 4/253، مادة (خفر) .
(2) يشير هنا إلى غربة الدين الإسلامي، التي تزداد يوماً بعد يومٍ إلى قيام الساعة، وهي ما أشار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث ابن عمر-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-بقوله:" إنّ الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأزر بين المسجدين كما تأزر الحية في جحرها". صحيح مسلم بشرح النووي، 2/536، الإيمان، باب (بيان أنّ الإسلام بدأ غريباً. إلخ) . سنن الترمذي، 5/18، الإيمان، باب (ما جاء أنّ الإسلام بدأ غريباً) .
(3) فضل الغرباء: ورد في فضل الغرباء ووصفهم، أحاديث عدّة، منها:
أ-حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم" بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء". صحيح مسلم بشرح النووي، 2/536. سنن ابن ماجة، 2/376، الفتن، باب (بدأ الإسلام غريباً) .
وقد ذكر الإمام النووي-رحمه الله-في معنى قوله."طوبى للغرباء"، عدّة أقوال؛ عن ابن عباس –رضي الله عنهما-أنّ معناه: فرح، وقرة عين؛ وقال عكرمة: نعم ما لهم؛ وقال الضحاك: غبطة لهم؛ وقال قتادة: حسنى لهم، وعنه: أصابوا خيراً؛ وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة؛ وقال ابن عجلان: دوام الخير؛ وقيل الجنة؛ وقيل: شجرة في الجنة. قال: وكلّ هذه الأقوال محتملة. شرح صحيح مسلم، للنووي، 2/534-535) .
وقال ابن الأثير-رحمه الله-:" طوبى: اسم الجنة، وقيل: شجرة فيها". النهاية لابن الأثير، 3/141) .
ب-أخرج الترمذي في سننه-في صفة الغرباء-عن طريق كُثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جدّه:" ... إنّ الدين بدأ غريباً، ويرجع غريباً، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنّتي". قال الترمذي: هذا حديث حسن، صحيح. سنن الترمذي، 5/19-20. قال ابن الأثير-رحمه الله-في معنى الحديث:" أي أنه كان في أول أمره، كالغريب الوحيد الذي لا أهل له عنده؛ لقلة المسلمين يومئذٍ، وسيعود غريباً كما كان: أي يقلُّ المسلمون في آخر الزمان، فيصيرون كالغرباء. فطوبى للغرباء: الجنة لأولئك المسمين الذين كانوا في أوّل الإسلام، وإنّما خصهم بها؛ لصبرهم على أذى الكفار أولاً وآخراً، ولزومهم دين الإسلام". النهاية لابن الأثير، 3/348. وجاء عند ابن ماجة:" قيل: ومن الغرباء؟ قال:" النُّزَّاع من القبائل". سنن ابن ماجة، 2/376.
قال ابن الأثير:" (النُّزَّاع من القبائل) : هم جمع نازع ونزيع، وهو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته، أي بَعُدَ وغاب.
(1/254)
________________________________________
والدعوة إليه، ونشره وتعريفه وتقريره؛ في كل مجلس ومجمع. فإنّ أكثر الناس قد ضلّ عنه، ولا يدري عن حقيقته ومسمّاه. وقد وقع ذلك ممن ينتسب إلى الدين، ونسي ما كان عليه من تقرير التوحيد وأدلّته، وجاء بما يناقضه، ويقوِّي عضد الشرك، ويقتضي نصرة أعداء الملة والدين. وقد بلغنا عن عبد الرحمن الوهيبي وأمثاله، بعد ذهابه إليهم، ما تصان عن ذكره الأسماع، وصار يعترض على من أنكر طريقته وذمّها، ويزعم أنه قد خالف طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصرّح بمسبّة من أنكر عليه، ونسبه إلى موالاتهم؛ فالذي يجادل عنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} (1) .
وكذلك ما ذكرت عن الذي أنكر عليكم الفتوى بحلّ ما أخذ في درب العقير، من العسكر والزوار؛ فلا يصدر هذا الإنكار إلاّ عن جهل بحقيقة الإسلام وقواعده الكبار.
وسريّة ابن الحضرمي (2) ، في عهده صلّى الله عليه وسلّم، مشهورة معروفة، وهي
__________
(1) سورة غافر: الآية (5) .
(2) ابن الحضرمي: هو عمرو بن الحضرمي، (والحضرمي) اسمه: عبد الله بن عباد، ويقال: مالك ابن عباد، الصدف، كان من أشراف كفار قريش. رماه واقد بن عبد الله التميمي بسهم، فقتله سنة (52هـ) ، إذ كان في عير قريش وتجارتهم. فكان أول دم –من الكفار-أهريق في الإسلام.
وكان قاتله (واقد بن عبد الله) أحد الثمانية من المهاجرين الذين خرجوا في سريّة عبد الله ابن جحش، الذي بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب له كتاباً، وأمره ألاّ ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً. فلمّا سار بهم يومين، فتح الكتاب، فإذا فيه:" إذا نظرت في كتابي، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشاً، وتعلم لنا أخبارهم"، فقال: سمعاً وطاعة، ففعل، وتبعه أصحابه. انظر قصته: سيرة ابن هشام، 2/601-603. البداية والنهاية، 3/247-249.
أما نسبة المصنف هذه السريّة لابن الحضرمي، فلعل ذلك لكونه أول دم أهريق في الإسلام من الكفار، فاشتهرت به السَّرِيَّة التي قتل فيها. أو لأنه كان يستدلّ بهذه السَّرِيَّة على حال ما أخذ من عسكر الكفّار.
(1/255)
________________________________________
أوّل دم أهريق في الإسلام. وقصدت عير قريش، وقريش في ذلك الوقت -مع كفرهم وضلالتهم- أهدى من كثير من العسكر والزوار، من الرافضة بكثير (1) . فكيف وقد بلغ شركهم إلى تعطيل الربوبية، والصفات العليّة، وإخلاص العبادات للمعبودات الوثنيّة، ومعرضة الشريعة المحمديّة، بأحكام الطواغيت، والقوانين الإفرنجية؟ فمن جادل عمّن خالط هؤلاء ودخل لهم في الشورى، وترك الهجرة إلى الله ورسوله، وافتتن به كثير من خفافيش البصائر، فالمجادلة فيه، وفي حلّ ما أخذ من العسكر والزوار، لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، فعليه أن يصحح عقيدته، ويراجع دين الإسلام من أصله، ويتفطّن في النزاع الذي جرى بين الرسل وأممهم (2) في أي شيء،
__________
(1) إن كفار قريش كانوا أهدى من أولئك، بل من مشركي اليوم؛ إذ غنّهم كانوا إذا مستهم ضرّاء، لجأوا إلى ربهم بالدعوة الخالصة، إلى أن ينجيهم الله، ذم يعودون إلى شركهم، كما أخبر بذلك في كتابه العزيز؛ قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] .
أما المشركون اليوم، فإنّهم أثناء المصائب أشدّ بعداً عن الله تعالى، فتجدهم حينئذٍ يستغيثون بالمشايخ والأولياء، بل بأسماء الجان، ونحو ذلك، ويعطّلون الربوبية والألوهية في السرّاء والضرّاء، بتعطيلهم صفات الله تعالى، نفياً وتأويلاً.
(1) إنّ أصل النزاع الذي كان بين الرسل وأممهم، كان في دعوتهم لهم على عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص ذلك له، وهذا هو المعروف بتوحيد الله بأفعال العباد، المعبّر عنه: بتوحيد الألوهية، أو توحيد الطلب والقصد، أو توحيد العبادة فهذا الذي أوقع الرسل في النزاع والجدال بينهم وبين أممهم حتى قالوا – كما حكى القرآن الكريم عنهم-: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] . ومن أجله شرع الجهاد؛ إذ إنّهم كانوا معترفين بربوبيّة الله، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] . وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61] .
ومع ذلك لم يدخلهم اعترافهم ذلك بالربّ، في الإسلام، ولم يدفع عنهم القتال، ولم يعصم لهم دماء ولا أموالاً، إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله.
(1/256)
________________________________________
وبأي شيء، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (1) .
والذي أوصيك به، الثبات والغلظة على هؤلاء الجهلة، الذين يسعون في هدم أركان الإسلام، ومحو آثاره. وبلّغ سلامنا من لديك من الإخوان وسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
__________
(1) سورة الفرقان: الآية (31) .
(1/257)
________________________________________
الرسالة السابعة: إلى أهل الفرع
...
الرسالة السابعة (1)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً /-رحمه الله، وعفا عنه-/ (2) ، رسالة إلى الإخوان من أهل الفُرَع (3) ، وهم عثمان بن مرشد (4) ، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد (5) ، وإبراهيم بن مرشد (6) ، في قطع الوسائل والذرائع المفضية إلى محبّة من حاد الله ورسوله، /واختيار/ (7) ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، ومحبة ظهورهم (8) . لأنّ اختيار /ديارهم/ (9) ومساكنتهم وولايتهم، ومحبة ظهورهم والثناء عليهم، وتفضيلهم بالعدل على أهل الإسلام، وإعانتهم على المسلمين، وجرّهم على بلاد أهل الإسلام، ردّة صريحة بالاتفاق. فقطع -رحمه الله- الأسباب والوسائل المفضية إلى
__________
(1) في (ب) : جاءت هذه الرسالة متقدّمة، في لوحة (13-20) .
(2) في (ب) والمطبوع: (قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه) .
(3) الفُرَع: بضم الفاء، وفتح الراء، فعين: منطقة بين (وادي نعام) من اليمنى، و (وادي بريك) من جهة اليسار. فوادي نعام به من البلدان (الحريق، والمفيجر) ، ونعام قسم من حوطة بني تميم. أما (بريك) ففيه من البلدان: (الحوطة، والحلوة) ، وما بين الواديين من قرى وتوابع. فهذه المجموعة من البلدان في هذين الواديين تسمى (الفُرَع) . معجم اليمامة، لعبد الله بن محمد بن خميس، 2/248.
(4) تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص95.
(5) تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص 94.
(6) تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص 94.
(7) في (ب) ، و (ج) : (ومن اختار) . وفي المطبوع: (واختار) .
(8) فهذه بلا شك من صفات المنافقين، الذين يميلون باطناً إلى الكفار، ويتمنّون كل وقيعة بالمسلمين، وذلك قال تبارك وتعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] . فقطع الله جميع الروابط غير الإيمانية، وأشار إلى أنّ المودّة لا بد أن تكون مبنيّة على أصل اإيمان، فما سواها فهو مردود، يبعد صاحبها عن أهل الإيمان.
(9) ساقط في (د) .
(1/258)
________________________________________
ذلك بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، وهذا نصها:
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان: عثمان بن مرشد، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
الخط وصل –وصلكم الله بما يرضيه- وما /ذكرتم/ (1) من طلب النصيحة، فقد تقدمت إليكم – بحمد الله- مراراً، وقامت الحجّة. ويبلغني تصميم الأكثر على رأيه الأول، وعدم الانتفاع.
ومن أكبر أسباب شرح الصدور للنصائح والمواعظ وقبولهما، ما يعلمه من حرص العبد على الخير والهدى (2) ، والتجرّد من ثوب التعصب والهوى، والبعد عن الإعجاب بالنفس، وإيثار الشهوات الدنيوية. فالقلب إذا سلم من هذا، وابتهل إلى الله بالأدعية المأثورة، كدعاء الاستفتاح:" اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل " الحديث (4) . لا سيّما في أوقات الإجابة (5) ، فإنّ هذا لا تكاد تسقط له دعوة،
__________
(1) في (ب) ، و (د) : (ذكرتوا) .
(2) وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} الآية [الأنعام:125] .
(3) تمامه: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:" كان نبي الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنّ ك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ".
صحيح مسلم بشرح النووي، 6/303، صلاة المسافرين، باب (الدعاء في صلاة الليل) . سنن النسائي، 3/212-213، قيام الليل، باب (بأي شيء تستفتح صلاة الليل) . سنن ابن ماجة، 1/246، إقامة الصلاة، باب (ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الليل) .
(4) أوقات إجابة الدعاء:
مما ورد من أوقات إجابة الدعاء ما يلي:
[1] : في جوف الليل الآخر:
في ذلك روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:" ينزل ربنا –تبارك وتعالى-كلّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ ". صحيح البخاري مع الفتح 3/35-36، التهجد، باب (الدعاء والصلاة من الليل) .
صحيح مسلم بشرح النووي 6/283، صلاة المسافرين، باب (الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، والإجابة فيه) . سنن أبي داود 5/100-102، السنة، باب (في الرد على الجهمية) ؛ سنن الترمذي 2/307، الصلاة، باب (ما جاء في نزول الرب) سنن ابن ماجة 1/248، إقامة الصلاة باب (أي ساعات الليل أفضل) .
[2،3،4] : عند الصوم والسفر، وعند تلقي الظلم:
جاء في ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " ثلاث على الله حق أن لا يرد لهم دعوة، الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع "، مجمع الزوائد 10/151، قال: أخرجه الترمذي باختصار، وبغير هذا السياق؛ الترغيب والترهيب 4/85.
[5،6،7] : عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث:
أخرج أبو داود عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اثنتان لا تردان –أو قَلَّما تُردان-الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً". قال موسى (راوي الحديث) : وحدثني رزق بن سعيد بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " ووقت المطر ". سنن أبي داود 3/45-46، الجهاد، باب (الدعاء عند اللقاء) ؛ الحديث صححه الألباني في صحيح الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن القيم الجوزية (751هـ) ، مكتبة ابن الجوزي ط/1،1409هـ-1989م، ص184.
[8] : الساعة التي في يوم الجمعة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله خيراً إلا أعطاه، وقال بيده، قلنا يقللها، يزهدها". صحيح البخاري مع الفتح11/202، الدعوات باب (الدعاء في الساعة التي في يوم الجمعة) ؛ صحيح مسلم بشرح النووي 6/388، الجمعة باب (في الساعة التي في يوم الجمعة) ؛ سنن ابن ماجة 1/195، الإقامة، باب (في فضل الجمعة) .
(1/259)
________________________________________
والتوفيق له أقرب من حبل الوريد (1) ، قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} (2) ، والواجب عند ورود الشبهات هو القيام لله مثنى وفرادى، والتفكير،
__________
(1) لأن مجيب الدعاء سبحانه وتعالى، قد وصف نفسه بذلك؛ فقال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] .
(2) سورة الأنفال: الآية (23) .
(1/260)
________________________________________
لا سيّما عند هذه الفتنة التي عمّت وطمّت، وأعمت وأصمّت، فإنها كما في حديث حذيفة (1)
قال: قلت يا رسول الله، إنّا كنّا في شرٍّ فذهب الله بذلك الشر، ِّ وجاء بالخير على يديك، فهل بعد الخير من شر؟ قال: "نعم"، قلت: ما هو؟ قال"فتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضاً، تأتيكم مشتبهة كوجوه البقر، لا تدرون أيّاً من أيّ " (2) .
فهذه الفتن الواقعة في هذا الزمان، من جنس ما أشير إليه في هذا الحديث، الذي خرّجه الإمام أحمد في مسنده، فتعيّن الاهتمام بالمخرج منها، والنجاة فيها، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالاعتصام بحبل الله، ومعرفة ما أوجب وندب إليه كتابه من شرائع الإيمان وحدوده، وما نهى عنه وحرّمه من شعب الكفر والنفاق وحدوده، وقد نصّ على هذا صلّى الله عليه وسلّم، لما سأله حذيفة عن الفتن؛ فعن حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير، وأسأله عن الشرِّ، وعرفت أن الخير لن يسبقني، قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: " يا حذيفة تعلّم كتاب الله، واتبع ما فيه " ثلاث مرار، قال: قلت يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: " فتنة وشر "، قال قلت يا رسول الله أبعد هذا الشر من خير؟ قال: " يا حذيفة تعلّم كتاب الله، واتبع ما فيه " ثلاث مرار، قال قلت يا رسول الله أبعد هذا الشر من خير؟ قال: " هدنة على دَخَنٍ (3) ، وجماعة على أقذاء (4)
__________
(1) هو حذيفة بن اليمان (حسل) بن جابر العبسي اليماني، من أعيان المهاجرين، صاحب سرِّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، مات بالمداائن سنة (36هـ) . انظر الاستيعاب 1/34؛ أسد الغابة 1/468؛ سير الأعلام 2/361.
(2) مسند الإمام أحمد 5/391.
(3) هدنة على دخن: الهدنة الصلح والموادعة بين المسلمين والكفار، وبين كل متحاربين.
*والمعنى: أنّه سيكون هدنة وصلح –بينكم وبين الكفار-على فساد واختلاف، تشبيهاً بدخان الحطب الرطب لما بينهم من الفساد والباطن، تحت الصلاح الظاهر. انظر النهاية لابن الأثير 2/109، 5/252.
(4) وجماعة على أقذاء: الأقذاء جمع قذى، والقذى: جمع قذاة، وهو ما يقع في العين، والماء والشراب، من التراب أو الوسخ. والمعنى: أن اجتماعهم يكون على فساد في قلوبهم. انظر النهاية لابن الأثير 4/30؛ لسان العرب 15/174، مادة (قذي) .
(1/261)
________________________________________
[فيها أو فيهم] " (1) ، قال: قلت يا رسول الله الهدنة على دخن ما هي؟ قال: " لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه " (2) ، قال:
قلت يا رسول الله أبعد هذا الخير من شر؟ [قال: " يا حذيفة تعلم كتاب الله، واتبع ما فيه " ثلاث مرار، قال: قلت يا رسول الله أبعد هذا الخير من شر؟] (3) ، قال: " فتنة عمياء صمّاء، عليها دعاة على أبواب النار، وإن تمت (4) يا حذيفة، وأنت عاض على جذل (5) ، خير لك من أن تتبع أحداً منهم " (6) .
قلت: فتأمّل ما أرشد إليه حذيفة، ووصّاه عند حدوث الفتن العظام، التي لا يبصر أهلها الحق، ولا يسمعون من الداعي والناصح، وتكريره الوصية بقراءة كتاب الله، واتباع ما فيه، لأنّ المخرج من كل فتنة موجود فيه مقرر، ولكن لا يفهمه ويفقهه إلاّ من تعلّم كتاب الله، ألفاظه ومعانيه، ووُفِّق للعمل بما فيه، فذاك جدير أن يهبه الله نوراً يمشي به في الناس، ولا يخفى عليه ما وقع فيه الأكثر من الشكّ، والريب، والالتباس، وهذا الصنف عزيز الوجود في القرّاء، ومن ينتسب إلى العلم والطلب، فكيف بغيره؟! شعر:
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها (7)
__________
(1) ما بين المعقوفتين، ساقط في جميع النسخ، وهو موجود في أصل المتن، عند أبي داود في سننه.
(2) أي لا يصفوا بعضها لبعض، ولا ينصع حبُّهُا، النهاية لابن الأثير2/109.
(3) ما بين المعقوفتين، لا يوجد في سنن أبي داود، فهي زيادة في جميع النسخ، ولم أجد من خرج الحديث بها.
(4) هكذا في متن الحديث عند أبي داود، وفي المطبوع، وأما في جميع النسخ (تموت) وهو خطأ.
(5) الجذل: ما عظم من أصول الشجر المقطع. وقيل هي أصول الحطب العظام، وجمعه الأجذال. لسان العرب، لابن منظور، مادة (جذل) ، 11/106.
(6) سنن أبي داود، 4/447، الفتن والملاحم، باب (ذكر الفتن ودلائلها) .
(7) لم أجد مصدر البيت، ولا قائله.
(1/262)
________________________________________
فعليكم بلزوم الوصيّة النبويّة لصاحب السرّ، حذيفة بن اليمان، وبتدبر القرآن، والتفقه في معانيه، /لعلّه بذلك/ (1) يعرف العبد -إنْ عقل عن الله- أنّ أوجب واجب /فيه/ (2) وأهمّه وآكده وزبدته، معرفة الله تعالى، بما تعرّف به إلى عباده، من صفات كماله، ونعوت جلاله، وبديع أفعاله، وإحاطة علمه، وشمول قدرته، وكمال عزته، وعميم رحمته.
وبمعرفة ذلك يهتدي العبد إلى محبته وتعظيمه، وإسلام الوجه له، وإنابة القلب إليه، وإفراده بالقصد والطلب، وسائر العبادات، كالخشية، والرجاء، والاستعانة، والاستغاثة، والتوكل، والتقوى، ويرضى به رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، ويذوق من طعم الإيمان ما يوجب له كمال حب الله، وحب رسوله، وكمال الحب بجلاله، ويعرف الوسائل إلى هذا المطلوب الأكبر، والمقصود الأعظم، ويهتم بها غاية الاهتمام، ويطلبها منتهى الطلب، ويعرف ما يضاد هذا الأصل ويناقضه، من تعطيل وكفر وشرك، ويعرف وسائلها وذرائعها الموصلة إليها، المفضية إلى اقتحامها وارتكابها، فيهتم بتحصيل وسائل التوحيد، ويهتم بالتباعد عن وسائل الكفر والتعطيل والتنديد، كما يستفاد من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) .
فمن عرف /هذا/ (4) الأصل الأصيل، عرف ضرر الفتنة الواقعة في هذه الأزمان، بالعساكر التركية، وعرف أنها تعود على هذا الأصل الأصيل، بالهدم والهدّ والمحو بالكليّة، وتقتضي ظهور الشرك والتعطيل، ورفع أعلامه الفكريّة، وأنّ مرتبتها من الكفر، وفساد البلاد والعباد، فوق ما يتوهّم المتوهِّمون، ويظنُّه الظانُّون، وبه يعلم أن ما وقع من المسائل إلى تهوين تلك الفتنة، وتسهيل أمرها، والسكوت عن التغليظ فيها،
__________
(1) زيادة في (د) ، وبها يستقيم المعنى.
(2) ساقط في (ب) ، والضمير راجع إلى القرآن.
(3) سورة الفاتحة: الآية (5) .
(4) زيادة في (ب) والمطبوع.
(1/263)
________________________________________
من أكبر أسباب وقوع الشر، ومحو أعلام التوحيد، والوسيلة لها حكم الغاية، فإن انضاف إلى تسهيلها إكرام من أقام بديارهم، وتلطَّخ بأوضارهم (1) ، وشهد مهرجانهم (2) ، وتوقيرهم، والمشي إليه، وصنع الولائم له، فعند ذلك يَنْعى الإسلامَ ويبكيه، مَنْ كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد (3) ، وفي الحديث: " من وقّر صاحب بدع، فقد أعان على هدم الإسلام " (4) ، فكيف بما هو أعظم وأطمّ من البدع؟! فالله المستعان.
__________
(1) في (د) : بأوظارهم، بالظاء، وهو خطأ، والصواب (أوضارهم) بالضاد، وهو جمع وضر، وهو وسخ الدسم واللبن، وغسالة السقاء والقصعة ونحوها.
(2) المهرجان: عيد من أعياد الفرس، يقع في السادس والعشرين من تشرين الأول، (من شهور السريان) ، وفي السادس عشر من مهرماه (من شهور الفرس) . وهذا أول وسط أزمان الخريف، وهو ستة أيام، يسمى اليوم السادس (المهرجان الأكبر) ؛ وسبب تسميتهم لهذا اليوم بهذا الاسم: هو أنهم كانوا يسمون شهورهم بأسماء ملوكهم، وكان لهم ملك يسمى (مهر) يسير فيهم بالعنف والعسف، فمات في نصف الشهر الذي يسمونه (مهرماه) فسمي ذلك اليوم (مهرجان) . نهاية الأرب في فنون الأدب، لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري (677-733هـ) ، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب 1/187.
(3) هنا اقتباس من الآية الكريمة، هي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] .
(4) ورد الحديث في: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، لمحمد بن علي الشوكاني (1250هـ) تحقيق عبد الرحمن المعلمي، مطبعة السنة المحمدية، ص211. قال الشوكاني: إسناده ضعيف، وذكره ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"، دار القلم بيروت، ص16.
وفي كتاب "الموضوعات" له أيضاً، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، نشر المكتبة السلفية، بالمدينة المنورة، ط/1، 1386هـ-1966م؛ 1/271، وقال بعد إخراجه لهذا الحديث: من رواية عبد الله بن بشر، وعائشة، وعبد الملك بن جريج، قال: "هذه الأحاديث كلها باطلة موضوعة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، (430هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 5/218، وقال: غريب من حديث خالد، تفرّد به عيسى، عن ثور، وذكره السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" في الأحاديث الموضوعة، 1/130. وذكره الهندي في "الكنز" برقم (1102) . وبهذا يظهر ضعف الحديث، غير أن معناه واقعي، فتوقير أهل البدع، وإجلالهم، والسكوت عنهم، من أخطر ما يُهدم به الدين، إذ إنَّ في ذلك تشجيعاً وتأييداً لهم، على الاستمرار عليها، وإهمال السنن. وإذا كان هذا التوقير من أحد علماء الأمة، ممن يؤخذ بقوله، فالمصيبة أعظم وأطمّ.
(1/264)
________________________________________
وأعجب من هذا، أن بعض من يتولَّى خدمة من حاد الله ورسوله، ويحسِّن أمرهم، ويرغَّب في ولايتهم، ويقدح في أهل الإسلام، وربَّما أشار بحربهم، فإذا قدم بعض بلاد أهل الإسلام، تلقَّاه منافقوها وجهَّالُها، بما لا يليق إلاّ مع خواص الموحِّدين؛ فافهم أسباب الشرك ووسائله.
ومن كان في قلبه حياة، وله رغبة، وله غيرة وتوقير لرب الأرباب، يأنف ويشمئزّ مما هو دون ذلك، ولكن الأمر، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "إنَّما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهليّة" (1) .
وما جاء في القرآن من النهي والتغليظ والتشديد في موالاتهم وتولِّيهم، دليل على أنّ أصل الأصول، لا استقامة له ولا ثبات، إلا بمقاطعة أعداء الله، وحربهم وجهادهم، والبراءة منهم، والتقرب إلى الله بمقتهم وعيبهم؛ وقد قال تعالى - لما عقد الموالاة بين المؤمنين، وأخبر أنّ الذين كفروا بعضهم أولياء بعض- (2) قال: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (3) ، وهل الفتنة إلا الشرك، والفساد الكبير هو انتثار عقد التوحيد والإسلام، وقطع ما أحكم القرآن من الأحكام والنظام؛ وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
__________
(1) ورد هذا الأثر في مجموع الفتاوى، لابن تيمية 10/301. ومعناه: إنه إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، فإنه يجهل ما أزاله الإسلام من الشرك، والكفر، وغيرهما، فلا يدرك قيمة ما جاء به الإسلام، فربما يعمل –من هذا حاله-بعض أعمال الجاهلية من غير معرفة منه أنها منها، فينقض بذلك بعض عرى الإسلام على غير علم.
(2) عقد تلك الموالاة في الآيتين: (72-73) من سورة الأنفال.
(3) سورة الأنفال: الآية (73) .
(4) سورة الممتحنة: الآية (1) .
(1/265)
________________________________________
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} الآية (1) .
قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر (2) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} (3) .
قلت: فليتأمل من نصح نفسه، ما يجري من هؤلاء العساكر، عند سماع الأذان، من المعارضة بالطبل والبوق والمزمار، استبدالاً به عمّا اشتمل عليه الأذان، من توحيد الله وتعظيمه، وتكبير الملك القهار، فقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (4) . وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً (5) } (6) .
__________
(1) سورة المائدة: الآية (51-52) .
(2) لم أعرف قائله.
(3) سورة المائدة: الآية (57-58) .
(4) سورة المائدة: الآية (78-81) .
(5) ساقط في: (ب) ، و (ج) .
(6) سورة آل عمران: الآية (28) .
(1/266)
________________________________________
وقد جزم ابن جرير (1) /في تفسيره/ (2) بكفر من فعل ذلك (3) . قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (4) ، فليتأمّل من نصح نفسه هذه الآيات الكريمات،
__________
(1) هو محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبري، الإمام المجتهد، صاحب التصانيف، منها: "جامع البيان" في التفسير، ولد سنة (224هـ) ، وتوفي سنة (310هـ) . انظر ترجمته: تاريخ بغداد 2/162-169؛ تذكرة الحفاظ 2/710-716.
(2) ساقط في (د) .
(3) جامع البيان للطبري، 3/228.
*وهذه الآية، هي مستند الشيعة في تأصيل عقيدة (التقية) لديهم، التي تعد في المذهب الشيعي، بمنزلة الرأس من الجسد، ويروُون في ذلك –كذباً-روايات موضوعة، منها:
ما رواه الكليني في "أصول الكافي"، 2/219، عن محمد بن خلاد، قال: سألت أبا الحسن رضي الله عنه، عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر رضي الله عنه: (التقية ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له) .الأصول من الكافي، لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتاب الإسلامي، طهران، إيران، ط/3، سنة 1388هـ. وانظر منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد، طبعة جامعة الإمام، 1406هـ، ط/1، 2/46. وروى أيضاً في "أصول الكافي"، 2/218: عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال: "اتقوا الله على دينكم، واحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له".
والمعنى المراد من "التقية" لدى الشيعة، مخالف لمراد أهل السنة منها، فالشيعة يقصدون بالتقية: الكذب والخداع، والنفاق وإظهار خلاف ما يبطنونه من المعتقدات.
وهذا خلاف المعنى المراد من التقية عند أهل السنة؛ فهي عندهم: المحافظة على النفس أو العرض أو المال، من شر الأعداء.
قال ابن عباس –رضي الله عنهما-هو أن يتكلم بلسانه، وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ولا يقتل. الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 4/38.
وفد عدّ من باب التقية، مداراة الكفار والفسقة والظلمة، وإلانة الكلام، والبسم في وجوههم، وإعطائهم لكف أذاهم، وقطع ألسنتهم، وصيانة العرض منهم.
انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية، لمحمود شكري الألوسي (1342هـ) ، تحقيق محب الدين الخطيب، طبعة دار الإفتاء، بالرياض، ص287-288.
(4) سورة المجادلة: الآية (22)
(1/267)
________________________________________
وليبحث عمّا /قاله/ (1) المفسِّرون وأهل العلم في /تأويلها/ (2) ، ولينظر ما وقع من أكثر الناس اليوم، فإنّه يتبين له -إن وُفِّق وسُدِّد- أنّها تتناول من ترك جهادهم، وسكت عن عيبهم، وألقى إليهم السلم (3) ، فكيف بمن أعانهم، أو جرَّهم على بلاد أهل الإسلام، أو أثنى عليهم، أو فضَّلهم بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحبَّ ظهورهم، فإنّ هذا رِدَّة صريحة بالاتفاق، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (4) .
وقد عرفتم ما كان عليه أسلافكم من أهل الإسلام، وما منَّ الله به عليكم من دعوة شيخنا -رحمه الله- إلى توحيد الله، والإيمان به، وإخلاص الدين له، والبراءة من أعدائه، وجهادهم، وببركة دعوته وبيانه، حصل للإسلام من الظهور والنصر وإعلاء كلمة الله، ما لم يحصل مثله في دياركم وأوطانكم منذ قرون متطاولة. فيجب شكر هذه النعمة، ورعايتها حق الرعاية، والعض عليها بالنواجذ، وأن لا تستبدل بموالاة أعداء الله ورسله، والانحياز إلى دولتهم، والرضا بطاعتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (5) . فاتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (6) ، ودَعوا اللجاج والمراء، وتمسّكوا بما جاء عن الله ورسوله من البينات والهدى، ولا يسهل لديكم مبارزة ربِّ السموات العلى، بما عليه غالب الناس اليوم، من الكفر والتعطيل والشرك والجدل والمراء، ولا تفتحوا أبواب الفتن، للمشاقة والتفرُّق والقدح في أهل الإسلام، فإنَّ ذلك من الصدِّ عن سبيل الله، ومن الفتنة عن دينه الذي ارتضاه.
__________
(1) كذا في المطبوع. وفي جميع النسخ: (قال) .
(2) في المطبوع: تفسيرها وتأويلها.
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 17/199.
(4) سورة المائدة: الآية (5) .
(5) سورة إبراهيم: آية (28-29) .
(6) سورة البقرة: الآية (281) .
(1/268)
________________________________________
وقد جاء الحديث: " إنَّ هذا الحيّ من مضر، لا تدع في الأرض لله عبداً صالحاً إلاّ فتنته وأهلكته، حتى يدركها الله بجنود من عنده، فيذلُّها حتى لا تمنع ذنب تلعة (1) " (2) .
وبعض من يدّعي الدين، إنّما يتعبد بما يحسن في العادة، ويُثني عليه به، وما فيه مقاطعة ومجاهدة وهجرة في ذات الله، ومراغمة لأعدائه، فذاك ليس منه على شيء، بل ربّما ثَبَّط عنه، وقدح في فاعله. وهذا كثير في المنتسبين إلى العبادة، والمنتسبين إلى العلم والدين، والشيطان أحرص شيء على ذلك منهم، لأنهم لا يرونه غالباً ديناً وحسن خلق، فلا يتاب منه ولا يستغفر (3) ؛ ولأن غيرهم يقتدي بهم ويسلك سبيلهم، فيكونون فتنة لغيرهم؛ ولهذا حذّر الشارع من فتنة م فسد من العلماء
__________
(1) لا تمنع ذَنَبَ تلعةٍ: هو مثل عربي، يضرب للرجل الذليل الحقير. لسان العرب 8/36 مادة (تلع) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/390؛ والهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/313، واللفظ له، سوى قوله "في الأرض"، وعزاه لأحمد والبزار والطبراني في "الأوسط"، وقال: وأحد أسانيد أحمد وأحد أسانيد البزار، رجاله رجال الصحيح، وذكره الهندي في الكنز برقم (43018) . هو عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف الشمري الفرضي النجدي ثم المدني، نزع والده من المجمعة، وجاور المدينة وفيها ولد المترجم له، ونشأ بها وقرأ على علمائها، ثم سافر إلى دمشق، وقرأ على علمائها، من تلاميذه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الإحسائي، وابنه الشيخ إبراهيم بن عبد الله، وهو صاحب كتاب: "العذب الفائض في شرح عمدة الفرائض". توفي بالمدينة علم 1140هـ. رحمه الله. انظر ترجمته: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/501-504.
(3) وقد نقل عن سفيان الثوري وله: "والبدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية، فإنّ المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها". حلية الأولياء 7/26؛ ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاواه 11/472؛ ومعنى قوله "والبدعة لا يتاب منها": أي أن أصحاب البدع، لإنما يمارسونها على أنها من الدين، ولا ينتبه إلى ذلك؛ وليس المراد أن من كان على بدعةٍ، ثم علم خطأه أنه لا يتوب منها، أو أنه لا يقبل توبته؛ فالصواب أن صاحب البدعة، يجب عليه التوبة منها، متى فطن إلى أنّ ما هو عليه باطلٌ.
(1/269)
________________________________________
والعباد، و/خافه/ (1) على أمّته (2) . فالمؤمن إذا حصل له، وظفر بحقائق الإيمان، وصار على نصيب من مرضاة الملك الرحمن، فقد حصل له الحظ الأوفر والسعادة، وإن قيل ما قبل: شعر:
أقام الحي أم جدّ الرحيل (3) ... إذا رضي الحبيب فلا أبالي
وينبغي لك يا عثمان أن تقرأ هذه النصيحة على جماعتك، وتبيّن لهم معانيها، وما في الفرق والاختلاف من فتح أبواب الشر والفساد، فاحرص على ذلك واعتدّ به من صالح أعمالك، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم لعلي: " فوالله، لأن يهدي الله بك /رجلاً واحداً/ (4) خيرٌ لك من حمر النَّعَم " (5) . والشيطان قاعد على الصراط المستقيم، فإن عاض أحد بشبهة، فيلزمكم تبليغها وطلب كشفها، ولا يحلُّ السكوت على الشبه التي تُقع في الريب والشك، وتفضي غلى ما تقدم من المفاسد. وإن رأيتم في كلامي مجازفة أو مخالفة لما قاله أهل العلم، فاذكروه لي. وإن جاءني عنكم نصيحة أو تنبيه على شيء من الغلط، فنشهد الله على قبوله ممن كان.
__________
(1) في (د) : (وخافهم) .
(2) في ذلك أخرج الهندي في "الكنز"، قوله صلّى الله عليه وسلّم أخوف ما أخاف على أمتي، الأئمة الضالون " برقم (29042) ، وعزاه لأحمد عن عمر.
(3) لم أعرف قائله ولا مصدره.
(4) في (د) : رجلٌ وادٌ.
(5) صحيح البخاري مع الفتح 6/130، الجهاد باب (دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس إلى الإسلام والنبوة) ؛ صحيح مسلم بشرح النووي 15/187، فضائل الصحابة، باب (فضل عي) ؛ سنن أبي داود 4/69، العلم باب فضل نشر العلم.
و"حمر النعم": النعم هو الإبل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، وقد كان ذلك أعز الأموال عند العرب وأنفَسِها. انظر عون المعبود 10/95.
(1/270)
________________________________________
وبلِّغوا سلامنا إخوانكم، والعيال. والإخوان ينهون إليكم السلام، والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم القيامة/ (1) .
__________
(1) ساقط في (ب) .
(1/271)
________________________________________
الرسالة الثامنة: نصيحة إلى كافة المسلمين
...
(الرِّسَالَةُ الثَّامِنَةُ) (1)
قال جامع الرسائل:
وله أيضاً -رحمه الله تعالى، وعفا عنه بمنّه وكرمه- نصيحة إلى كافة المسلمين، في التذكير بآيات الله، والحث على لزوم الجمعة، والقيام بأصول الدين وقواعد الإسلام، التي هي أربح تجارة وبضاعة، والحض على جهاد أعداء الله ورسوله، القائمين على هدم قواعده وأصوله، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يراه من المسلمين، وفَّقهم الله لنصر الإسلام والدين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فموجب هذا، هو التذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، وقد ينتفع بالنصائح من أراد الله هدايته، قال تعالى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) .
وأهم ما يبدأ به في التعليم، هو معرفة أصول الدين وقواعد الإسلام، التي لا يحصل بدونها، ولا يستقيم بناؤها إلا عليها، لا سيما معرفة ما دلّت عليه كلمة التوحيد شهادة ألا إله إلا الله من الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده؛ بإخلاص العبادة بأنواعها له سبحانه، والبراءة من كل معبود سواه، والقيام بذلك علماً وعملاً، فإنّ هذا هو أصل الدين وقاعدته، والحكمة التي لأجلها خلقت الخليقة (3) ، وشرعت الطريقة، وأرسلت لأجلها الرسل (4) ،وبها أنزلت الكتب، وجميع أحكام الأمر والنهي تدور
__________
(1) في (ب) : جاءت هذه الرسالة متأخرة، في لوحة (20-23) .
(2) سورة الذاريات: الآية (55) .
(3) وذلك في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
(4) ورد في إرسال الرسل إلى أممهم، لدعوتهم إلى عبادة الله آيات عدة، منها: قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] .
وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] .
وقد ورد حو هذه الآيات في بيان إرسال العديد من الرسل، مثل نوح إلى قومه، وصالح إلى ثمود، وشعيب إلى مدين، وعيسى إلى بني إسرائيل، وإبراهيم إلى قومه.
(1/272)
________________________________________
عليها وترجع إليها.
وقد رأيتم ما حدث في هذا الأصل العظيم من الإضاعة والإهمال، والإعراض عن حقائقه وواجباته، حتى ظهر الشرك، وظهرت وسائله وذرائعه ممن ينتسب إلى الإسلام، ويزعم أنه من أهله، وذلك بأسباب، منها: الجهل بحقيقة ما أمر الله به ورضيه لعباده، من أصول التوحيد والإسلام، وعدم معرفة ما ينافيه ويناقضه (1) ، أو يضاد الكمال والتّمام، من موالاة أعداء الله، على اختلاف شعبها، ومراتبها، فمنها المكفِّرات، والموبقات، ومنها ما دون ذلك.
__________
(1) وقد ذكر العلماء نواقض التوحيد، وجلوها في عدة نقاط، والإمام محمد بن عبد الوهاب في ذلك رسالة، عدد فيها تلك النواقض في النقاط التالية:
1. الشرك في عبادة الله تعالى.
2. اتخاذ الوسائط بين العبد وربه، يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم.
3. من لم يكفِّر المشركين، أو شكَّ في كفرهم، أو صحَّح مذهبهم.
4. الاعتقاد بأن غير هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم أكمل من هديه، أو أنّ حكم غيره أحسن من حكمه.
5. إبغض شيء مما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم.
6. الاستهزاء بشيء من دين الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
7. السحر.
8. مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمن.
9. الاعتقاد بأن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
10. الإعراض عن دين الله تعالى. انظر تفاصيل هذه العشرة: الرسالة الثانية عشرة، من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ضمن "الجامع الفريد"، ص 277-278. عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، للشيخ صالح العبود، ص 411-418.
(1/273)
________________________________________
وأكبر ذنب وأضله وأعظمه منافاةً لأصل الإسلام، نصرة أعداء الله ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم، وما هو عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام، وكذلك انشراح الصدر لهم وطاعتهم والثناء عليهم، ومدح من دخل أمرهم، وانتظم في سلكهم، وكذلك ترك جهادهم ومسالمتهم، وعقد الأخوة والطاعة لهم، وما هو دون ذلك من تكثير سوادهم ومساكنتهم ومجامعتهم، ويلتحق بالقسم الأول (1) : حضور المجالس المشتملة على رد أحكام الله وأحكام رسوله، والحكم بقانون الإفرنج والنصارى المعطلة، ومشاهدة الاستهزاء بأحكام الإسلام وأهله. ومن في قلبه أدنى حياة أو أدنى غيرة لله، وتعظيم له، يأنف ويشمأز من هذه القبائح، ومجامعة أهلها ومساكنتهم، ولكن "ما لجرح بميت إيلام" (2) .
فليتق الله عبدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر، وليجتهد فيما يحفظ إيمانه وتوحيده، قبل أن تزل القدم، فلا ينفع حينئذ الأسف والندم، ومن أهم المقاصد الشرعية، والمطالب العليّة، جهاد أعداء الله، ومن صدف عن دينه الذي ارتضاه؛ وقد أوجب الله الجهاد في سبيله، وأكّده ورّغب فيه، ووعد أهله بما أعدّه لأوليائه وأهل طاعته من مرضاته وكرامته ومجاورته في دار النعيم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) إلى آخر السورة، فانظر ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من لطافة الخطاب، والإرشاد إلى منهاج الهداية والصواب، وما رتب على ذلك من غاية الفوز ومنتهى السعادة، وما فيها من البشارة بكل فلاح ونجاح في العاجل والآجل،
__________
(1) أي قسم الموالاة المكفِّرة.
(2) هذا عجز بيت لأبي الطي المتنبي، من قصيدة يمدح بها أبا الحسين علي بن أحمد المري الخرساني، وتمامه:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
انظر شرح ديوان المتنبي، لأبي العلاء المعري (ت449هـ) تحقيق د. عبد المجيد دياب، دار المعارف القاهرة، 2/222، القصيدة برقم (97) .
(3) سورة الصف: الآية (10) .
(1/274)
________________________________________
وانظر كيف ختم السورة بأم عباده المؤمنين أن يكونوا أنصاراً له، وأن يقتدوا بمن سلف من الصالحين، وانظر إلى ما حكم به من إيمان من نصره وقام بما أمر به، وتأمّل كفر الطائفة المعرضة عن طاعة رسوله، والجهاد في سبيله، وتأمّل ما وعد به عباده من النصر، والظهور على من خالفهم وخذلهم، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (2) ،وقد صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " إنّ في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض " (3) وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: " من مات و/لم يغز/ (4) ولم يحدث نفسه /بالغزو/ (5) ، مات على شعبة من النفاق " (6) .
فاغتنموا رحمكم الله حضور المشاهد، التي يترتب عليها إعلاء كلمة الله، ونصر دينه ورسوله، ومراغمة أعدائه، فإنّ هذه المشاهد من الموجبات للرحمة، والمغفرة، والسعادة، الأبديّة: " وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " (7) .
__________
(1) سورة التوبة: الآية (111) .
(2) سورة التوبة: الآية (123) .
(3) صحيح البخاري مع الفتح، 6/14، الجهاد، الباب (درجات المجاهدين في سبيل الله) ؛ شرح السنة للبغوي، 10/346.
(4) في (د) : (لم يغزوا) .
(5) في (د) : (بالغزوا) .
(6) صحيح مسلم بشرح النووي 13/60، الإمارة، باب (ذم من مات ولم يغز) ، سنن أبي داود 3/22، الجهاد، باب (كراهية ترك الغزو) ؛ سنن النسائي 6/8، الجهاد باب (التشديد في ترك الجهاد) .
(7) الحديث ذكره الشيخ هنا بالمعنى، وقد تقدم تخريجه ص179.
(1/275)
________________________________________
وإذا هجم العدو على بلاد الإسلام، صار الجهاد فرض عين، فأجمعوا أمركم على جهاد عدوكم لابتغاء مرضاة ربِّكم، وأطيعوا إذا أمركم، وأخلصوا النية وأصلحوا الطويَّة، فإنَّما لك امرئ ما نوى، واتقوا الله عباد الله، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه يراه، فقد رأت ما بلغ من مكايد الشيطان، وتفريق كلمة أهل الإيمان، حتى انسلخ الأكثر من الدين، ولحق فئام من المسلمين بأعداء الملة والدين.
نسأل الله لنا ولكم العافية، والثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لعباده (1) ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.
__________
(1) هذه إشارة إلى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] ، وقوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ، وقوله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] .
(1/276)
________________________________________
الرسالة التاسعة: إلى محمد بن عجلان
...
(الرِّسَالَةُ التَّاسِعَةُ) (1) :
قال جامع الرسائل
وله أيضاً - قدس الله روحه، /ونوّر ضريحه/ (2) - (3) ، رسالة إلى محمد بن عجلان (3) .وسبب ذلك، أنه كتب رسالة أيام الفتنة، التي حدثت بين عبد الله بن فيصل (5) وأخيه سعود (6) ، ذكر فيها جواز الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام (7) ، وهي التي سمّاها الشيخ "حبالة الشيطان" فكتب عليها الشيخ عبد اللطيف، جواباً، /قطع/ (8) فيه كلّ ما يتعلق به كل مبطل، وأزال بالبراهين والدلائل كلَّ مشكل، وقرّر فيها أن ما كتبه ونقله من آية أو سنة /أو أثر/ (9) ، فهو عليه لا له، لأنه يدل بوضعه أو تضمّنه أو التزامه على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المعتقد، والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم حسب الطاقة.
__________
(1) في (ب) : جاءت هذه الرسالة متأخرة، في لوحة (28-31) . وقد وردت في الدرر السنية، 7/170-172.
(2) زيادة في (ب) .
(3) في المطبوع: (رحمه الله، وعفا عنه بمنّه وكرنه) .
(3) تقدمت ترجمته في ص239
(5) تقدّمت ترجمته في ص45.
(6) هو سعود بن فيصل بن تركي، وقد تقدّمت ترجمته في ص45.
(7) وقد تقدّم ما ملخصه: أن عبد الله بعد هزيمته من أخيه سعود، هرب إلى مدحت باشا في بغداد، واستنصره، فأرسل معه جيشاً بقيادة نافذ باشا إلى الأحساء، فاحتلها في آخر عام 1288هـ، فجعلها تابعة للبصرة، فخسرها هو أيضاً لصالح الدولة العثمانية. انظر: قلب جزيرة العرب، ص346.
(8) كذا في (د) والمطبوع، وفي جميع النسخ: (هدم) .
(9) زيادة في (ب) و (د) والمطبوع.
(1/277)
________________________________________
ثم كاتبه الشيخ محمد بن عجلان، وذكر فيما كتبه الوصية بما تضمنه سورة العصر، فكتب له الشيخ -رحمه الله- هذه الرسالة، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى جناب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان حفظه الله من طوائف الشيطان، ورزقه الفقه في السنة والقرآن.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد الله إليك، وأُثِني بنعمه عليه، والخط وصل وما ذكرت فيه من تنبيه على ما تضمّنته السورة الكريمة (سورة العصر) ، فقد سرّني، وقد عرفت ما قاله الشافعي رحمه الله: "لو فكر الناس فيها لكفتهم" (1) ، قلت لأنها تتضمن الأصول الدينية، والقواعد الإيمانية، والشرائع الإسلامية، والوصايا المرضية، فتفكَّر فيها (2) .
واعلم أنك نبهتني بها على إعلامك ببعض ما تضمّنته رسالتك لابن عبيكان (3) ، وقد كتبتُ حين رأيتها، ما شاء الله أن أكتب، ونهيت عن إشاعتها، خوفاً منك وعليك، ولكن رأيتُ ما الناس فيه من الخوض، ونسيان العلم، وعبادة الأهواء، فخشيت من مفسدة كبيرة بردّ السنة والقرآن، والدَّفع في صدر الحجة والسلطان، وقررت فيها أنّ ما كتَبْتَه ونقلته من آية أو سنّة أو أثر، فهو عليك، لا لك؛ لأنه يدل بوضعه أو تنضمُّنه أو التزامه، على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المعتقد والقول والعمل، وبغضه، وجهادهم، والبراءة من كل من اتخذ أولياء من دون المؤمنين، ولم
__________
(1) انظر تفسير القاسمي 17/6250.
(2) قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، في تعليقه على تفسير القاسمي بعد أن أورد كلام الإمام الشافعي المتقدم قال: "إنّ المراتب أربعة، وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله، إحداها: معرفة الحق، الثانية: تعليمه من لا يحسنه. الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه. فذكر تعالى المراتب الأربع، في هذه السورة".تفسير القاسمي، 17/6250.
(3) لم أعرفه.
(1/278)
________________________________________
يجاهدهم حسب طاقته، ولم يتقرب إلى الله بالبعد عنهم، وبغضهم ومراغمتهم، وأكثر نصوصك /التي/ (1) ذكرت دالة على ذلك، كقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (2) ، والآية قبلها، والآية بعدها (3) ، وما ذكره لبن كثير هنا، كل هذا نصٌ فيما قلناه (4) ، وقد بسط القول في ذلك.
وكذلك كل أحاديث السمع والطاعة، وأمر بلزوم الجماعة، نص فيما قلناه، عن من فقه عن الله ورسوله، وما ذكرتَ من استعانته بابن أريقط (5) ، فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: " إنا لا نستعين بمشرك " (6) ، وابن أُريقط أجيرٌ مستخدم، لا معين مكرم (7) .
__________
(1) في (د) : (الذي) .
(2) سورة آل عمران الآية (103) .
(3) هما: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 102، 104] .
(4) نقل ابن كثير رحمه الله عن علي بن طلحة، وفي قوله تعالى: {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي: أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
وقال ابن كثير في قوله تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} : أمرهم بالجماعة، ونهاهم عن التفرقة. وقال في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية، أي: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير، والأمير بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأولئك هم المفلحون. تفسير القرآن العظيم، لابن كثير 1/396-397، 398.
(5) هو عبد الله بن أريقط، وقيل ابن أرقد، والمشهور أُريقط، الدُّؤلي، استأجره الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند هجرته مع الصديق، ليدلهم على الطريق، ودفعا إليه راحلتهما، وكان إذ ذاك مشركاً، انظر: سيرة ابن هشام 2/488، والبداية والنهاية 3/176-187.
(6) تقدم تخريجه في ص 239.
(7) هنا يشير الشيخ إلى الفرق بين استئجار الكافر، والاستعانة به، فالمستأجَر أجيرٌ مستخدم مذلّل تحت يد مستخدمه، وهو ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم، عند هجرته؛ إذ استأجر عبد الله بن أريقط يدله على الطريق. أما المستعان به، فهو من موقف قوي، ولذلك فهو مكرم معزز عند من يستعين به.
(1/279)
________________________________________
وكذلك قولك: إنّ شيخ الإسلام استعان بأهل مصر والشام، وهم حينئذ كفار وهلة عظيمة (1) ، وذلّة ذميمة، كيف إذا ذاك والإسلام يعلوا أمره (2) ،ويقدّم أهله، ويهدم ما حدث من أماكن الضلال، وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد، ويقرر في المساجد والمدارس، وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر بهم على التتر، وعلى /النصيرية/ (3) ونحوها؟! وكل هذه مستفيض في كلامه وكلام أمثاله0 وما يحصل من بعض العامة والجهال، إذا صار الغلبة لغيرهم، لا يحكم به على البلاد وأهليها0
وكذلك ما زعمته من أنّ أكابر العسكر أهل تعبد، أو نحو هذا؛ فهذه دسيسة شيطانية وقاك الله شرها، وحماك حرّها لو سُلِّم تسليماً جدلياً، فابن عربي (4) ، وابن سبعين (5) ، وابن الفارض (6) ، لهم عبادات وصدقات، ونوع تقشف وتزهد، وهم أكفر أهل الأرض، أو من أكفر أهل الأرض (7) . وأين أنت من قوله تعالى: {وَلَوْ
__________
(1) وهلة: من وهِهل وهلاً: أي ضَعُفَ وفزعَ وجبن. وهلة عظيمة: أي فزعة عظيمة. ابن منظور، لسان العرب، مادة (وهل) 11/737.
(2) تقدّمت مسألة الاستعانة بالكفار، في ص 239. وما أشار الشيخ إليه هنا، هو من الشروط التي اشترطها القائلون بجاز الاستعان بهم، وهو: ألا يكون المسلمون بحالة ضعف، ورأي الكافر هو النافذ.
(3) في (د) نصرانية) .
(4) هو أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن عربي، محي الدين، الصوفي، صاحب كتاب "فصوص الحكم"، قال الذهبي: "فإن كان لا يكفر فيه، فما في الدنيا كفر". شيخ سوء كذاب، (ت638هـ) . سير الأعلام 23/48.
(5) هو عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر، أبو محمد المقدسي، اشتغل بعلم الفلسفة، فتولّد له من ذلك نوع إلحاد، (ت669هـ) . انظر: البداية والنهاية 13/275-276.
(6) هو عمر بن علي بن مرشد بن الفارض، الحموي أبو حفص، صاحب القصيدة التائية في الحلول والاتحاد، (ت632هـ) . انظر البداية والنهاية 13/154؛ سير الأعلام 22/368؛ وميزان الاعتدال 3/214.
(7) لا شك في أن هؤلاء الثلاثة، من أقطاب الصوفية الملاحدة، ولو لم يكن في معتقدهم سوى عقيدة الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، لكفى المرء تكفيراً لهم.
ومن أمثلة معتقدهم هذا: ما قاله صاحبهم أبو يزيد البسطامي (261هـ) من أئمة القوم قال عن نفسه: "رفعني مرة فأقامني بين يديه، وقال لي: يا أبى يزيد، إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زيّنِّي بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هنا". انظر الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، لعبد الرحمن عبد الخالق، مكتبة ابن تيمية، الكويت، ط/2، ص65.
(1/280)
________________________________________
أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .
وأما إجازتك الانتصار بهم، فالنزاع في غير هذه المسألة، بل في توليتهم وجلبهم وتمكينهم من دار إسلامية، هدموا بها شعار الإسلام وقواعد الملّة، وأصول الدين وفروعه، وعند رؤسائهم قانون وطاغوت وضعوه للحكم بين الناس في الدماء ولأموال وغيرها (3) ، مضاد ومخالف للنصوص، إذا وردت قضية نظروا فيه وحكموا به، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم (4) .
وأما مسألة الاستنصار (5) /بهم/ (6) ، مسألة خلافية، والصحيح الذي عليه
__________
(1) سورة الأنعام: الآية (88) .
(2) سورة الزمر: الآية (65) .
(3) الحكم بغير ما أنزل الله، هو أحد الطواغيت الكبرى القائمة في عالمنا الحالي، يعبده ويلجأ إليه كل من هو مجرم متخوِّف من القوانين السماوية العادلة، وفيهم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء: 60-61] .
(4) وقد نفى الله سبحانه وتعالى كمال الإيمان عن ألئك، حيث قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65] .
(5) تقدمت مسألة الاستعانة بالكفار في ص 239.
(6) زائد في المطبوع.
(1/281)
________________________________________
المحققون، منع ذلك مطلقاً، وحجّتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه (1) ، وحديث عبد الرحمن بن حبيب (2) ، وهو حديث صحيح مرفوع (3) ، اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص، والقائل بالجواز، احتج بمرسل الزهري (4) ، وقد عرفت ما في المراسيل (5) إذا عارضت كتاباً أو سنةً.
__________
(1) حديث عائشة، هو قوله صلّى الله عليه وسلّم " ارجع، فلن أستعين بمشرك "، وقد تقدم تخريجه في ص239.
(2) هو عبد الرحمن بن حبيب بن أردك، ويقال حبيب بن عبد الرحمن، عن عطاء، صدوق، وله مل ينكر، من السادسة، انظر ميزان الاعتدال، 2/555؛ وتقريب التهذيب 1/476.
(3) ديثه هو: عن أبيه عن جده، قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يريد غزواً، أنا ورجل من قومي، ولم نسلم، فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم، فقال: " أسلمتما؟ " فقلنا: لا؛ فقال: " إنا لا نستعين بالمشركين "، فأسلمنا وشهدنا معه، أخرجه الهيثمي، في "مجمع الزوائد" 5/303؛ وقال: أخرجه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات، وانظر: نيل الأوطار 7/253.
(4) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله، أبو بكر القرشي الزهري المدني، نزيل الشام، حافظ زمانه (124هـ) ، وقيل غير ذلك.
انظر: حلية الأولياء 3/360؛ سير الأعلام 5/326-350؛ تهذيب التهذيب 9/445. وحديثه: عن الزهري: " أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استعان بناس من اليهود في خيبر، فأسهم لهم ". السنن الكبرى للبيهقي 9/53، نيل الأوطار 7/253، مرسلاً.
(5) الحديث المرسل هو: ما رفعه التابعي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير، صغيراً كان التابعي أو كبيراً، وقد قيّده بعضهم، بما رفعه التابعي الكبير فقط، لأن معظم رواياته عن الصحابة.
حكمه: يُعدُّ من الأحاديث الضعيفة، لعدم اتصال سنده.
حُجَّيّته: العلماء مختلفون في الاحتجاج به إلى أقوال، بلغت نحو عشرة، أشهرها ثلاثة:
-جواز الاحتجاج به مطلقاً.
-لا يحتج به مطلقاً.
-يحتج به إذا اعتضد بعاضد، بأن يروى مسنداً أو مرسلاً من وجه آخر، أو يعمل به بعض الصحابة.
-ولعل هذا الأخير هو الأوجه. انظر في بسط الكلام حول المرسل: الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي (463هـ) ، تقديم محمد الحافظ التيجاني، ط/1، مطبعة السعادة، نشر دار الكتب الحديثة، مصر وما بعدها؛ كتاب "النكت على ابن الصلاح"، لابن حجر العسقلاني (852هـ) ، تحقيق د. ربيع بن هادي عمير، ط/1، 1404هـ-1984م، من مطبوعات الجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة، 2/540، ومل بعدها؛ أصول الحديث، علومه ومصطلحه، د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر ط/4، 1401هـ-1981م، ص 337-339.
(1/282)
________________________________________
ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين، ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم، وشرط فيها ألا يكون /للمشرك/ (1) صولة ودولة يخشى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية؛ واشترط مع ذلك أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة (2) ، بخلاف ما هنا، كل هذا ذكره الفقهاء، وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعّف مرسل الزهري جداً (3) ، وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام.
وأم استنصار المسلم بالمشرك على الباغي، فلم يقل بهذا إلا من شذّ (4) ، واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفروعه، ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه، فقد تتبع الرخص، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها، /المستفاد/ (5) من حديث الحسن (6) وحديث النعمان بن
__________
(1) في (ب) والمطبوع: (للمشركين) .
(2) تقدم ذكر هذه الشروط في ص 239. انظر: نيل الأوطار: 7/257.
(3) نيل الأوطار، 7/253، 255، قال الشوكاني: "الزهري مراسيله ضعيفة"، وقال: "ولا يصلح مرسل الزهري ... لما تقدم أن مرسل الزهري ضعيف".
(4) قال الشوكاني: "وتجوز الاستعانة بالفساق على الكفار إجماعاً، وعلى البغاة عندنا، لاستعانة علي عليه السلام، بالأشعث" انتهى، نيل الأوطار 7/254.
(5) كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: (للمستفاد) .
(6) هو الحسن بن عُمارة البجلي مولاهم، أبو محمد الكوفي الفقيه، قاضي بغداد، قال أحمد: متروك، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، أخذ عن ابن أبي مليكة، وعمرو بن مرّة وخلق، من السابعة، مات سنة (53هـ) .
انظر ترجمته: ميزان الاعتدال، 1؟ 513-515، تقريب التهذيب، 1/169.
وحديثه المراد هنا: هو مرسل الزهري المتقدم تخريجه في ص 282:" أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في خيبر.. .."الحديث.
وروى الشافعي فقال: أخبرنا يوسف، حدثنا الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن القاسم، عن ابن عباس قال: استعان النبي صلى الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع، فرضخ لهم، ولم يسهم لهم ". قال البيهقي في "الكبرى" 9/37: لم أجده إلا من طريق الحسن بن عمارة، وهو ضعيف. والصحيح ما أخبرنا به الحاكم أبو عبد الله، فساق بسنده إلى أبي الحميد الساعدي، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا طلع ثنية الوداع إذا كتيبة، قال: " من هولاء "؟ قالوا بنو قينقاع، رهط عبد الله بن سلام، قال: " أو تسلموا " قالوا: لا، فأمرهم أن يرجعوا، أو قال: " إنا لا نستعين بالمشركين " فأسلموا". ثم ذكر -رحمه الله- ما ذكره الشيخ عبد اللطيف هنا من اختلاف في المسألة وشروط من أجازه.
(1/283)
________________________________________
بشير (1) ، وما أحسن ما قيل:
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظراً وحسن تبصُّر (2)
وفي رسالتك مواضع أعرضنا عنها خشية الإطالة، هذا كله من التواصي بالحق، والصبر عليه، وإن لام لائم، وشنَّأ شانئ، ولولا ما تقرر في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، من تفصيل الكم في المخطئ والمتعمد، لكان الشأن غير الشأن، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
وبلِّغ سلامنا من لديك من الإخوان، وعيالنا وإخواننا بخير، وينهون السلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
__________
(1) هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة، أبو عبد الله الأنصاري، الأمير العام، صحب رسول صلّى الله عليه وسلّم، وابن صاحبه، مسنده (114) حديثاً، (ت64هـ) .
(2) تقدّم تخريجه في ص (230) .
(1/284)
________________________________________
الرساة العاشرة: إلى عبد الله بن عبد العزيز الدوسري
التوصية بلزوم الكتاب والسنة
...
(الرِّسَالَةُ العَاشِرَةُ) (1)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً /-قدس الله روحه، ونوّر ضريحه-/: (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله بن عبد العزيز الدوسري (3) ، وفقه الله لما يحبه ويرضاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فأحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، على نعمه -جعلنا الله وإياك شاكرين. والخط
__________
(1) في (ب) : جاءت هذه الرسالة متأخرة، في لوحة (38) . وتأتي فيها بعد الرسالة رقم (5) وقبل (35) حسب ترتيب نسخة (أ) .
(2) ساقط في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.
(3) في (أ) تعليق القتل () .
فتأمل هذا يطلعك على بطلان هذه الشبهة، وجهل مبديها، وتأمل حديث سمرة وما فيه من تعليق هذا الحكم بنفس المجامعة والسكنى، واعرف معنى كونه مثله.
وكذلك ما روى ابن جرير من تفسير ابن أبي حاتم، فزاد فيه: فكتب المسلمون إليهم بذلك، وخرجوا ويئسوا من كل خير، ثمّ نزلت فيهم: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} [النحل: 110] ؛ فكتبوا إليهم بذلك أنْ قد جعل الله لكم مخرجاً، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقتلوهم، حتى نجا من نجا، وقتل من قتل () .
وروي عن ابن عباس في الآية: هم قوم تخلّفوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ضربت الملائكة وجهه ودبره. ()
وأظن هذا الجاهل رأى ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس، أنّ قوماً من أهل مكّة أسلموا، فاستخفوا بالإسلام، وأخناسخ بقوله: "الذي سكن عنيزة".
(1/285)
________________________________________
وصل بما تضمن من الوصية- وفّقنا الله وإياك لقبول الوصاية الشرعية، وأعاذنا من سيئات الأعمال الكسبيّة. وأوصيك بما أوصيتني به، وبلزوم الكتاب والسنة، والرغبة فيهما، فإنّ أكثر الناس نبذوهما ظهرا، وزهدوا فيما تضمناه من العلم والعمل، اللهم إلا أن يوافق الهوى.
واذكر قوله صلّى الله عليه وسلّم لحذيفة، لما سأله عن الفتن، قال: " اقرأ كتاب الله، واعمل بما فيه " (1) كررها ثلاثاً، والحكمة والله أعلم شدّة الحاجة وقت الفتن، وخوف الفتنة والتقلب، وأكثر الناس من أ÷ل نجد وغيرهم، ليسوا على شيء في هذه الأزمان (2) .
والمؤمن من اشترى نفسه، ورغب فيما أعرض عنه الجهال والمترفون، نسأل الله لنا ولكم الثبات والعفو والعافية. ولا /تدّخر/ (3) المذاكرة فيما ابتلي به الناس من فتنة العساكر ومن والاهم، فإنّ هذا من أعظم ما دهم الإسلام وأهله، ومن أسباب محو الدين والإيمان، وهد قواعده. ومن أفضل الأعمال، القيام لله /عند/ (4) ذلك على بصيرة، والدعوة إلى سبيله، وبلغ سلامنا الإخوان والخواص من أهل الإسلام؛ ومن
__________
(1) تقدم تخريجه في ص262.
(2) هكذا كان الحال في وقت المؤلف. أم اليوم فقد تغير الحال بفضل الله ومنّته، خاصة بعد أن صار فيها عاصمة هذه الدولة الكريمة، تحت أيدٍ أمينة، أبناء الملك عبد العزيز -تغمّده الله برحمته-فانتشر في ظل قيادتهم الحكيمة العلمُ، وكثر الدعاة إلى الله، وأنشئت العديد من المراكز والمؤسسات الإسلامية العالمية التي تعد رمزاً مشرِّفاً لخدمة هذا الدين، ومن ذلك مثلاً: جامعة الملك سعود، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فضلاً عن المدارس الإسلامية العديدة، وما يتبعها من مكتبات كبرى وغيرها، كمكتبة الملك عبد العزيز، ومكتبة الرياض السعودية، ومكتبة الملك فهد، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ورئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، وغير ذلك، مما غيّر حال نجد، فأصبح يحتل مركزاً متقدِّماً، من المراكز الإسلامية العالمية.
(3) وفي جميع النسخ: (تذخر) . وفي المطبوع: (تدّخر) وهو الصواب؛ فهو يحثه على عدم ترك المذاكرة، لما حدث من فتنة العساكر.
(4) في (د) : (على) .
(1/286)
________________________________________
لدينا العيال والإخوان بخير، وينهون السلام [وأنت سالم والسلام] (1) . وصلى الله على محمد /وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين/ (2) .
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة في (ب) ، وهو ما ختم به الرسالة. وما بعده ساقط فيها.
(2) ساقط في (ب) و (ج) و (د) .
(1/287)
________________________________________
الرسالة الحادية عشرة: إلى أهل عنيزة
فتنة القبور والتوسل بالموتى
...
(الرِّسَالَةُ الحَادِيَةُ عَشَرَةَ) (1)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -قدس الله روحه ونوّر صريحه- رسالة إلى أهل عنيزة (2) ، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من أهل عنيزة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
يجري عنكم أمور، يتألم منها المؤمنون، ويرتاح لها المنافقون، ولا بد من النصيحة، معذرة إلى الله تعالى، وطلباً لرضاه، وإلاّ فالحجة قد قامت، وجمهوركم يتجشّم (3) ما يأتي لأسباب لا تخفى، من ذلك: المشاقة والمعاندة، بإكرام داود العراقي (4) ، مع اشتهاره بعداوة التوحيد وأهله، والتصريح بإباحة دعاء الصالحين (5) ، والحثُّ عليه، وغير ذلك مما يطول عدّه.
ولا بد من تقديم مقدّمة ينتفع بها الواقف على هذا، فنقول: لما وقع في آخر هذه الأمة ما أخبر به نبيُّها صلّى الله عليه وسلّم، من اتباع سنن من كان قبلها من أهل الكتاب، وفارس والروم (6) ، وتزايدت تلك السنن، حتى وقع الغلو في الدين، وعُبِدَت
__________
(1) في (ب) : جاءت هذه الرسالة متأخرة، في لوحة (153-157) .وهي في (ب) تأتي بعد الرسالة رقم (4) حسب ترتيب نسخة (أ) .
(2) تقدم موضعها ف ص30.
(3) أي يتكلّف على مشقة. لسان العرب 12/100، مادة (جشم) .
(4) تقدمت ترجمته في ص58.
(5) أي التصريح بإباحة أن يُدعى الصالحون فيما لا يُطلب إلاّ من الله.
(6) أخبر بذلك صلّى الله عليه وسلّم في قوله: " لتتبعنّ سَنن من كان قبلكم، شبراً بشرٍ، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه ". قلنا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: " فمن؟ ". وفي رواية عند الشيخين: " حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم ". صحيح البخاري مع الفتح 6/571، 13/313؛ صحيح مسلم بشرح النووي 16/460؛ سنن ابن ماجة 2/377، الفتن، باب (افتراق الأمم) ؛ مسند الإمام أحمد 2/327.
(1/288)
________________________________________
قبور الأولياء والصالحين، وجُعِلَت أوثاناً تُقصَد من دون الله رب العالمين (1) ، عظَّمها قوم لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولم يشموا رائحة العلم، ولم يحصلوا على شيء من رائحة النبوّة، ولم يفقهوا من أخبار الأمم قبلهم، وكيف كان بدء شركهم (2) ، ومنتهى نحلتهم، ونهاية طريقتهم، وما هذا الذي عابه القرآن عليهم وذمه (3) ، وتلطّف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين توسلاً ونداءً، وحُسن اعتقاد في الأولياء، وتشّفُعاً بهم (4) ، واستظهاراً بأرواحهم الشريفة، فاستجاب لهم صبيان العقول، وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء، ولم يقفوا مع الحقائق، فعادت عبادة الأولياء والصالحين، ودعاء الأوثان والشياطين، كما كانت قبل النبوة،
__________
(1) وقد عقد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في ذلك باباً في كتاب التوحيد، سمّاه: باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين، يصيّرها أوثاناً تعبد من دون الله.
(2) هذا تنبيه لعباد قبور الصالحين ومعظِّميها، إلى أن عملهم ذلك شبيه بعمل أناس من قوم نوح، الذين عظّموا الصالحين، وغلوا فيهم، واتخذوا لهم تماثيل بعد موتهم، وكانت سبباً في بدء الشرك بالله، كما أخرج ذلك الإمام البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] ، قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنَّسخ العلم عبدت". صحيح البخاري مع الفتح 8/535.
(3) فقد عاب القرآن على المشركين، في كثير من الآيات منها:
قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة:76] .
وقوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66، 67] .
(4) هذه هي حجة المشركين الواهية على مرِّ الدهور، في عبادتهم الأوثان؛ إذ يزعمون أنّ عبادتهم لها إن هي إلا تقرُّباً وتشّفعاً بها إلى الله، وقد حكى الله عنهم فيقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] .
(1/289)
________________________________________
وفي زمان الفترة (1) ، حذو النعل بالنعل، وحذو القذّة بالقذّة، وهذا من أعلام النبوة، كما ذكره غير واحد (2) ، ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد حتى عمَّ ضرره، وبلغ شرره الحاضر والباد، ففي كل إقليم ومدينة وقرية ممن ينتسب إلى الإسلام، ولائج (3) يدعونهم مع الله، ويلتمسون بدعائهم قرب الرب ورضاه، ويفزعون إليهم في المهمات والشدائد، ويلوذون به في النوائب والحاجات، وبعضهم لا يرد على خاطره، ولا يلم (4) بباله دعاء الله تعالى في شيء من ذلك، لاستشعاره حصول مقصوده، ونجاح مطلوبه من جهة الأولياء والأنداد. وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يعز حصره واستقصاؤه، ولو كان يخفى لعرجنا على ذكره وتفصيله، ولكنه أشهر من الشمس في نحر الظهيرة.
إذا عرف هذا وتحقق، فاعلموا أن الله تعالى أطلع شمس الإيمان به وتوحيده، في
__________
(1) زمان الفترة: هي زمن ليس فيه نبي ولا رسول.
قال ابن كثير رحمه الله: " كانت الفترة، بين عيسى بن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق". ثم استدل على هذا بما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: " أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي ". تفسير ابن كثير 2/37. والحديث ورد في صحيح البخاري مع الفتح، 6/550، الأنبياء، باب (واذكر في الكتاب مريم) . وقد اختلف العلماء في مدة الفترة، على أقوال عدّة، منها: عن قتادة: أنها ستمئة سنة، وعنه أيضاً أنها، خمسمائة وستون، وعن معمّر، عن بعض أصحابه: خمسمائة وأربعون، وعن الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون، وقد أورد ابن كثير تلك الأقوال ثم قال: والمشهور هو القول الأول، أنها ستمائة سنة" ثم قال: "والمقصود أن الله بعث محمداً صلّى الله عليه وسلّم على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغيير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان". تفسير ابن كثير 2/37. وانظر: الجامع لأحكام القرآن، 6/81.
(2) انظر فتح المجيد، ص278؛ ومنهاج التأسيس والتقديس، ص8.
(3) الولائج: جمع وليجة، وهي البطانة، وليجة الرجل: بطانته وخاصته ودخلاؤه. لسان العرب، 2/400، مادة (ولج) .
(4) يلم: يقرب، ومعنى: لا يلم بباله دعاء الله: أي لا يقرب بباله دعاءالله. لسان العرب 12/551، مادة (لمم) .
(1/290)
________________________________________
آخر هذه الأزمان، على يد من أقامه الله في هذه البلاد النجدية، داعياً إليه على بصيرة (1) ، فذَكر به، آمراً بتوحيده، وإخلاص الدين له، وردِّ العباد إلى فاطرهم وباريهم وإلههم الحق، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، يَنْهى عن الشرك به، وصرفِ شيء من العبادات إلى غيره، وابتداع دين لم يأذن به، لا سلطان ولا حجة على مشروعيته. واستدلَّ على ذلك، وألّف وقرّر، وصنّف وحرّر (2) ، وناظر المبطلين، ونازع الغلاة والمارقين، حتى ظهر دين الله على كل دين، فتنازع المخالفون أمره، وجحدوا برهان قصده، فقوم قالوا: هذا مذهب الخوارج المارقين، وطائفة قالت: هو مذهب خامس لا أصل له في الدين (3) ، وآخرون قلوا: هو يكفِّر أهل الإسلام، وصِنْف نسبوه إلى
__________
(1) هو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
(2) وقد ذكر القحطاني في "الدرر السنية"، 12/18-19، معظم مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وذكر منها:
-كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد -كتاب أحكام الطهارة.
-مختصر الإنصاف والشرح الكبير. -مختصر الصواعق.
-كتاب كشف الشبهات في التوحيد. -مختصر فتح الباري.
-كتاب أصول الإيمان. -مختصر الهدى.
-كتاب فضائل الإسلام. مختصر العقل والنقل.
-كتاب فضائل القرآن. مختصر المنهاج.
-كتاب السيرة المختصرة. -مختصر الإيمان.
-كتاب السير المطولة. -كتاب آداب المشي إلى الصلاة.
-كتاب مجموع الحديث على أبواب الفقه.
وله عدّة رسائل نفيسة في التوحيد وغيره منها: مسائل الجاهلية. معنى الطاغوت ورؤوس أنواعه. تفسير كلمة التوحيد. الأصل الجامع لعبادة الله وحده. رسالة في الرد على الرافضة. نولقض الإسلام. أربع قواعد من الدين، تميُّز بين المؤمنين والمشركين. رسالة شروط الصلاة وأركانها وواجباتها. تلقين أصول الدين للعامة. أنظر: محمد بن عبد الوهاب، مصلح مظلوم ومفترى عليه، ص167-173؛ عقيدة السيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، ص118-128.
(3) وهذا قول أكثر المبتدعين اليوم، يطلقون على دعوته بأنها مذهب (الوهابية) ، ويسمّون المناصرين له وهابيين، وأنّه دين جديد خاج عن الإسلام، وقد تقدّم التعريف الوهابية ص36.
(1/291)
________________________________________
استحلال الدماء والأموال الحرام، ومنهم من عابه بوطنه، وأنه دارمسيلمة الكذاب (1) .
وكل هذه الأقاويل لا تروج على من عرف أصل الإسلام، وحقيقة الشرك وعبادة الأصنام، وإنما يحتج بها قومٌ عزبت عنهم الأصول والحقائق، ووقفوا مع الرسوم والعادات، في تلك المناهج والطرائق، و {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (2) ؛ فهم من شأنه من أمر مريج؛ وما ذاك إلا أنه أشرقت له شموس النبوّة فقصدها، وظهرت له حقائق الوحي والتنزيل، فآمن بها واعتقدها، وترك رسوم الخلق لم يعبأ بها، ورفض تلك العوائد والطرائق الضالة لأه
واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها ... في السَّعد ما يغنيك عن دبران (3)
__________
(1) وكل ذلك يطلقه الطغاة كذباً وزوراً، لا يستند شيءٌ منها إلى دليل، وإنّما يروجونها حقداً وحسداً على نجاح هذه الدعوة، والقبول التي تلقته في جميع ربوع العالم؛ وتشويهاً للمناضلين من أجل نشره.
ومن لطائف السيخ عبد اللطيف، ما ذكر أنه حين قيامه بمصر، قال له أحد المصرين: مسيلمة الكذاب من خير نجدكم، فقال مجيباً له: وفرعون اللعين رئيس مصركم، فبهت القائل، تذكرة ألي النهى 1/222، بنحو هذا الجواب، ورد قصيدة الملا عمران بن علي بن رضوان، في رده عمّن عيّر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، بأنه من دار مسيلمة، قال:
قد عيّروه بأنه قد كان في ... وادي حنيفة دار من لم يسعد
قلنا لهم ما ضرّ مصر فإنها ... كانت لفرعون الشقي الأطرد
إنّ النماردة الفراعنة ا, لى ... كانوا بأرض الله أهل ترددي
ذا قال أنا رب وذا متنبئ ... هم في بلاد الله أهل تردد
فبموتهم طابت وطار غبارها ... وزهت بتوحيد الإله المفرد
إنّ الأماكن لا تقدس أهلها ... إن لم يكونوا قائمين على الهدى
انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/36
(2) سورة المائدة: الآية (104) .
(3) الدبران: نجم بين الثريا والجوزاء. لسان العرب، 4/271، مادة (دبر) . البيت للإمام ابن القيم. الكافية الشافية، 2/382.
(1/292)
________________________________________
وقد صنّف بعض علماء المشركين في الرد عليه (1) ، ودفع ما قرره ودعا إليه، واستهوتهم الشياطين، حتى سعوا في آيات الله معاجزين، وقد بدّد الله شملهم "فتمزّقوا أيدي سبا" (2) ، وذهبت أباطيلهم وأراجيفهم، حتى صارت هباءً، نعم بقيت لتلك الشبهة بقية أيدي قومٍ، ليس لهم في الإسلام قدم، ولا بالإيمان درية، يتخافتون بينهم ما تضمنته تلك الكتب من الشبه الشركية، ويتواصون بكتمانها كما تكتم كتب التنجيم، والكتب السحرية، حتى أتي لهم هذا الرجل من أهل العراق (3) ، فألقيت إليه
__________
(1) مثل داود بن جرجيس العراقي؛ حيث ألّف في الرد والتضليل لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كتاباً سماه: "صلح الإخوان أهل الإيمان، وبيان الدين القيم، في تبرئة ابن تيمية وابن القيم". وهو كتاب مطبوع يوجد نسخة منه في مكتبة الجامعة الإسلامية، المركزية، وقد تقدم ذكر الكتب التي ردت على هذا الكتاب في –ص ولا شك أن من اطلع على عنوانه، قد يظنه من الكتب المناصرة لأئمة الدعوة؛ والحقيقة أنه يبدو على ظاهره الرحمة، بينما في باطنه سم وضلالٌ، فيشمل الكتاب على مقدمة وبابين وخاتمة.
فالمقدمة: في التحذير مت تكفير المسلمين، وأنه يوقع في الكفر، وأنه من شأن الخوارج والرافضة، (وقصده في ذلك، النهي عن المشركين وعباد القبور ونحوهم) .
وجعل الباب الأول: في نقل عبارات ابن تيمية وابن القيم –رحمهما الله-ومن تابعهم، في تبرئتهم-كما يزعم- (من تكفير أو تشريك أحد من المسلمين أو تأثيمه) بفعل شيء من نداء أهل القبور، والاستغاثة بهم والنذر لهم أو لغيرهم، والحلف بغير الله تعالى، وما أشبه ذلك، ويسلك في النقل، مسلك تأويل عباراتهم وتحريفها، وجعل الباب الثاني: في نقل أدلة المجيزين لذلك –من غير ابن تيمية وابن القيم-من جمهور علماء المذاهب الأربع، على أن هذه الأمور ليست بشرك، وسرد الأدلة من الكتاب والسنة، وفعل السلف، مما زعمها مؤيدة لأباطيله، أما الخاتمة: فقد جعلها في مناقشة مع المانعين، وردِّ ما يسمّيه (شبه المانعين لعبادة القبور) .
(2) تمزّقوا أيدي سبأ: هذا مثل عربي، يضرب لقوم يتمزقون، فيقال: ذهبوا أيدي سبأ، أي متفرقين، تشبيهاً بأهل سبأ، لما مزّقهم الله في الأرض كلَّ ممزق، فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة واليد هنا: الطريق، والعرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع، لأنه كثير في كلامه، فاستثقلوا فيه الهمزة، وإن كان أصله مهمزاً، مجمع الأمثال، للميداني 1/384.تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت370هـ) ، تحقيق أحمد بن عبد العليم البردوني، الدار المصرية، القاهرة مصر، 13/105. لسان العرب 1/94. والجامع لأحكام القرآن، 14/186.
(3) هو داود بن جرجيس، تقدمت ترجمته ص58.
(1/293)
________________________________________
تلك الكتب، فاستعان بها على إظهار أباطيله وتسطير إلحاده وأساطيره، وزاد على ما في تلك المصنفات، وأباح لغير الله أكثر العبادات، بل زعم أن للأولياء تدبيراً وتصريفاًً مع الله، وأجاز أن يكل الله أمور ملكه وعباده إلى الأولياء والأنبياء، ويفوض إليهم تدبير العالم، وهذا موجود عندنا بنص رسائله (1) ، وشبّه على الجهال الذين أعمى الله بصائرهم، أباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق من الإيمان والفهم، بشبهات ضالة، كقوله: إنّ دعاء الموتى ونحوه لا يسمى دعاءً، إنّما هو نداء (2) ، وإنّ العبادات التي هي لأهل القبور لا تسمّى عبادة ولا شركاً، إلاّ إذا اعتقد التأثير بأربابها من دون الله (3) .
وقوله: من قال لا إله إلا الله، واستقبل القبلة، فهو مسلم، وإن لم يرغب عن ملّة عُبَّد القبور الذين يدعونها مع الله، ويكذب على أهل العلم من الحنابلة، وغيرهم، ويزعم أنّهم قالوا وأجمعوا على استحباب دعاء الرسول بعد موته صلّى الله عليه وسلّم (4) ويلحد في آيات الله، وأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونصوص أهل العلم، ويعتمد الكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى العلماء، يَعرِف ذلك من كلامه من له أدنى نهمة في العلم والتفات إلى ما جاءت به الرسل، ولا يروِّج باطله، إلاّ على قومه لا شعور له بشيءٍ من ذلك، عمدتهم في الدين النظر إلى الصور، وتقليد أهلها.
ومن شبهاته، قوله في بعض الآيات: هذه نزلت فيمن عبد الأصنام (5) ، هذه نزلت
__________
(1) قد جمع كل ذلك في "صلح الإخوان"، المتقدم ذكره في ص 61. وذكرنا هناك ردود العلماء على هذا الكتاب.
(2) صلح الإخوان، ص49، 119.
(3) المصدر السابق، ص21، 52.
(4) صلح الإخوان، ص 18، 43، 47، 54، 123.
(5) كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر:44] ، قال هذه الآية واردة في الأصنام من أحجار وأخشاب، يعتقد الكفار أنها أرباب، فهي رد على الكفار، لا على المسلمين الذين يتشفّعون بالأنبياء والصالحين. صلح الإخوان ص136.
(1/294)
________________________________________
في أبي جهل، هذه نزلت في فلان وفلان (1) ، يريد –قاتله الله- تعطيل القرآن عن أن يتناول أمثالهم وأشباههم، ممن يعبد غير الله، ويعدل بريه، ويزعم أن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (2) ، دليل على استحباب دعاء الصالحين مع الله (3) ، ويظن إن الشرك الذي جاءت الرسل بتحريمه هو الوسيلة إلى الله، ويحتج على ذلك بما يمجُّ سماعه، ويستوحش منه عوام المسلمين بمجرد الفطرة، فسبحان من أضله وأعماه: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (4) .
وهذا الرجل يأنس إلى بلدتكم، ويعتاد المجيء إليها، وله مَلَئِها (5) وأكابرها من يعظِّمه ويواليه وينصره، ويأخذ عنه ما تقدم من الشبه أمثالها، ولذلك أسباب؛ منها: البغضاء ومتابعة الهوى، وعد قبول ما منّ الله به من النور والهدى، حيث عرف من جهة العارض.
وتأملوا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ
__________
(1) انظر المرجع السابق، ص 125، 141، 142، 148.
(2) سورة المائدة: الآية (35) .
(3) صلح الإخوان، ص 45.
وهذا بلا شك، مخالف لما فهمه السلف الصالح من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمن بعدهم، إذ إنه شرك واضح لا ريب فيه، فابتغاء الوسيلة إلى الله تعلى –كما جاء في الآية9 إنّما يكون بالتوسل إليه سبحانه وتعالى بالإيمان بنبيه صلّى الله عليه وسلّم، ومتابعته ظاهراً وباطناً، في حياته وبعد موته في مشهده ومغيبه، فهذا هو سبيل الله ودينه، وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم-يتوسلون إلى الله بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وشفاعته في حياته، فمن دعا له وشفع له نفعه ذلك، أما بعد موته فلم يكونوا يطلبون منه الدعاء ولا الشفاعة، ولم يكونوا يدعونه كما فعل المشركون بالصالحين، وبقبور الأنبياء –عليهم السلام-. انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، تحقيق عبد القدر الأرنؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق/ ط/1، 1405هـ-1985م، م5-6.
(4) سورة يونس: الآية (33) .
(5) كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: (ملاءها) .
(1/295)
________________________________________
تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} (1) .
وقد أجمع العلماء أن النعمة المقصودة هنا، هي بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم، بالهدى ودين الحق (2) ، اللذين أصلهما وأساسهما عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الآلهة والأنداد، والكفر بهذه النعمة هو ردها وجحدها، واختيار دعاء الصالحين، والتعلق على الأولياء والمقربين، فرحم الله امرءاً تفكَّر في هذا، وبحث عن كلام المفسرين من أئمة الدين، وعلم انه ملاقٍ ربّه الذي عنده الجنة والنار.
ثم فيما أجرى الله عليكم من العبر والعظات، ما ينبه من كان له قلب، أو فيه أدنى حياة، قال الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} (3) . وجماعتكم أعيا المسلمين داؤهم، وعزَّ عما هم عليه انتقالهم، وما أحسن ما قال أخو بني قريظة (4) لقومه: "أفي كل موطن لا تعقلون" (5) ، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (6) .
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة إبراهيم: الآية (28-30) .
(2) قال الطبري –رحمه الله-: "وكان تبديلهم نعمة الله كفراً في نبي الله محمد صلّى الله عليه وسلّم، أنعم الله به على قريش، فأخرجه منهم، وابتعثه فيهم رسولاً، رحمة لهم، ونعمة منه عليهم، فكفروا به، وكّبوه، فبدّلوا نعمة الله عليهم به كفراً". جامع البيان للطبري، 13/219. وانظر الجامع لأحكام القرآن، 9/239؛ وتفسير ابن كثير 2/557. وتفسير القاسمي 10/3729.
(3) سورة إبراهيم: الآية (5) .
(4) في (أ) و (ج) و (د) : (قريظة) .
(5) هو قول لكعب بن أسد، رئيس بني قريظة وكان قومه قد قالوا له –وهو يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسالاً، بعد حكم سعد رضي الله عنه فيهم بالقتل-: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو والله القتل!. سيرة ابن هشام، 3/252؛ والبداية والنهاية 4/126.
(6) سورة الأحزاب: الآية (4) .
(1/296)
________________________________________
الرسالة الثانية عشرة: إلى علي بن أحمد بن سلمان
قول العلماء في الجهمية والرد عليهم
...
(الرِّسَالَةُ الثَانِيَةُ عَشَرَةَ) (1)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً –قدس الله روحه، ونوّر ضريحه، /وعفا عنه/ (2) - رسالة تكلم فيها على سبيل الإيجاز والاختصار، جواباً لمسائل سأله عنها علي بن حمد/ (3) بن /سلمان/ (4) ، لما تقدم إلى /بلدة/ (5) فارس وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن علي بن حمد بن سلمان –سلّمه الله تعالى، وزيّنه بزينة الإيمان- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله على إنعامه، والخط وصل وما ذكرت صار معلوماً (6) ، فأما رغبتك عن البلدة التي فيها أعلام الكفر والشركيات، وتهدم قواعد الإسلام والتوحيد، ويرجع قول العلماء في الجهمية والرد عليهم، فيها إلى غير أحكام القرآن المجيد، فقد أحسنت فيما فعلت، والهجرة ركن من أركان الدين، نسأل الله أن يكتب لك أجر المخلصين الصادقين.
وأما وصولك إلى بلدة فارس، فالذي (7) رأيتهم ينتسبون إلى متابعة الشيخ محمد –رحمة الله عليه- فهم كما ذكرت في خطك، لكن فيهم جهال لا يعرفون ما كان
__________
(1) في (ب) : وردت هذه الرسالة في ص157-167.
(2) ساقط في المطبوع.
(3) زيادة في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.
(4) في المطبوع: (سليمان) وهو خطأ، إذ أنه في بداية النص، أثبت سلمان كغيره,
(5) في (ب) و (د) : (بلاد) . قال ناسخ (ب) بالهامش: "وهذه البلدة في الإحساء" وهو خطأ، إذ فارس معروف، وهو إيران حالياً.
(6) في (د) : (صار معلوم) .
(7) في (أ) و (ب) : (فالذي) وهو خطأ.
(1/297)
________________________________________
الشيخ عليه وأمثاله من أئمة الهدى، وفيهم من بدعة المعتزلة (1) والخوارج (2) ، ولا معرفة لهم بالعقائد والنحل واختلاف الناس، والزمام زمان فترة، يشبه زمن الجاهلية، وإن كانت لكتب موجودة، فهي لا تغني ما لم يساعدهم التوفيق، وتؤخذ المعاني والحدود والأحكام من عالم ربّاني، كما قيل:
الجهل داء قاتل ودواؤه ... أمران في التركيب متفقان
نص من الرآن أومن سنة ... وطبيب ذالك العالم الربّاني (3)
والكتب السماوية بأيدي أهل الكتاب (4) ، وقد صار منهم ما صار (5) ،وأساب الجهل والهلاك قد توافرت جداً، وقد قال بعض الأفاضل منذ أزمان: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ ولكن العجب ممن نجا كيف نجا؟ " (6) . وهؤلاء الذين ذكرتهم من أهل فارس، وذكرت عنهم تلك العقائد الخبيثة، ليسوا بعرب يفهمون الأوضاع العربية، والحقائق الشرعية، والحدود الدينية، ولا يرجعون إلى نص من كتاب ولا سن، وإنما هو تقليد لم يحسنون به الظن، من غير فهم ولا بصيرة.
قال الحسن البصري –في أمثالهم من المعتزلة من العجم-: إنّ عجمتهم قصرت بهم عن إدراك المعاني الشرعية، والحقائق الإيمانية (7) .
وكذلك لما ناظر أبو عمرو بن العلاء، عمرَو بن عبيد (8) ، من رؤوس المعتزلة، وجده
__________
(1) تقدم التعريف بهم في ص225.
(2) تقدم التعريف بهم ص169.
(3) البيتان للإمام ابن القيم في نونيته. الكافية الشافية 2/383.
(4) وهي: توراة موسى لليهود، وزبور داود، وإنجيل عيسى للنصارى.
(5) يشير الشيخ إلى ما صار من اليهود والنصارى حيال تلك الكتب، من تحريف وتغيير وحذف، حسب ما يتناسب مع رغباتهم وأهوائهم.
(6) لم اعرف قائله.
(7) تقدّم نحو قوله هذا فيهم في ص181.
(8) تقدمت ترجمته في ص181.
(1/298)
________________________________________
لا يفرق بين الوعد والوعيد، فقال له: من العجمة أوتيت.
وأما عبد الرحمن البهمن (1) ،فهو على ما نقلت عنه، في غاية الجهالة والضلالة، وله من طريقة غلاة الجهمية نصيب وافر، وله من الاعتزال ومن نحلة الخوارج نصيب، وكلام أهل الإسلام وأئمة العلم في الجهمية والمعتزلة والخوارج (2) . فأما جهم بن صفوان (3) فطريقته في التعطيل، ونفي العلو والاستواء، والكلام،
__________
(1) لم أعثر على ترجمته.
(2) تقدم كلام العلماء في الخوارج ص167، وفي المعتزلة ص 225-226..
أما الجهمية: فهي فرقة تنتسب إلى جهم بن صفوان، تقول: الإيمان معرفة الله بالقلب، وإن لم يكن معها شهادة باللسان، ولا إقرار بالنبوة، والكفر عندهم هو: الجهل بالله فقط، وأن الجنة والنار تفنيان، وأنه لا يجوز وصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلق، وأنه تعالى لا يعلم بشيء قبل خلقه، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، والإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة، ونسبة الفعل إليه على المجاز، وأن القرآن مخلوق، فذلك هو مجمل معتقدهم، وقد نص على تكفيرهم كثير من أئمة السلف:
1-فأخرج اللآلكائي وغيره في "شرح أصول الاعتقاد" 2/321، عن سلام بن أبي مطيع قوله: "الجهمية كفار، لا يصلى خلفهم".
2-وقال الإمام أحمد: من قال القرآن مخلوق، فهو عندنا كافر". أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة 1/107.
3-وقال بتكفيرهم أيضاً: عبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وغيرهم، حتى أن الإمام الدارمي أورد في كتابه "الرد على الجهمية" باباً خاصاً بتكفيرهم، ترجم له بقوله: باب (الاحتجاج في إكفار الجهمية) ، ص9، 93 وما بعدها، مجموع الفتاوى، لسيخ الإسلام ابن تيمية 12/485. شرح القصيدة النونية، 1/115. والإبانة عن شريعة الفرقة، ومجانبة الفرق المذمومة، لعبد الله بن محمد بن بطة (ت387هـ) ، تحقيق رضا بن نعسان معطى، دار الراية، الرياض، "/1، 1409هـ-1988م، 1/379-380. كتاب "السنة" لعبد الله بن أحمد (ت290هـ) ، تحقيق محمد ابن سعيد بن سالم القحطاني، دار ابن القيم، ط/1، 1406هـ-1986م، 1/105-106. مقالات الإسلاميين، 1/338. الفرق بين الفرق، ص211. الحجة في بيان المحجة، 2/479. الملل والنحل، 1/86.
(3) هو جهم بن صفوان، أبو محرز الراسبي، الضال المبتدع، رأس الجهمية، كان ينكر الصفات، ويزعم أنه ينزه الباري عنها، قتله سلم بن أحوز المازني، بمرو سنة 128هـ.
انظر ميزان الاعتدال 1/426؛ وسير الأعلام 6/26.
(1/299)
________________________________________
وسائر الصفات، وقد أخذها عن الجعد بن درهم1،والجعد أخذها بالواسطة عن لبيد بن الأعصم2 اليهودي، الذي صنع السحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم3 وكانوا يخفون مقالتهم، ومن أظهر شيئاً من ذلك قتل، كما صنع خالد بن عبد الله القسري4 أمير واسط، بالجعد بن درهم، فإنه ضحى به يوم العيد، وقال على المنبر: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم -فإني مضح بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم الله تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه5.
والجهم قتل أيضاً لما ظهرت مقالته6، ثم في زمن الخليفة المأمون العباسي7،
__________
1هو الجعد بن درهم، مؤدب مروان الحمار، مبتدع ضال، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، وقتل على ذلك بالعراق، يوم النحر عام (118هـ) ، وقيل غير ذلك.
انظر ترجمته وقصته: البداية والنهاية، 9/364؛ وسير الأعلام، 5/364؛ وميزان الاعتدال، 1/399.
2 لبيد بن الأعصم اليهودي، من يهود بني زريق، وهو الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم انظر: البداية والنهاية، 9/364.
3 انظر: قصته في البداية النهاية، 9/ 364.
4 هو خالد بن عبد الله بن يزيد أبو الهيثم القسري، أمير العراقيين، لهشام، وجده يزيد له صحبة، كان جواداً ممدوحاً معظماً، قتل المغيرة بن سعيد وأصحابه، كان يريهم أنه يحيي الموتى، وكان ساحراً. كما قتل الجعد بن درهم. وهذه من حسناته. (ت126هـ) .
انظر: سير الأعلام، 5/425؛ وتهذيب التهذيب، 3/101.
5 كان ذلك نحو سنة (118هـ) .
انظر: البداية والنهاية، 9/ 364- 365؛ وسير الأعلام، 5/432؛ والأعلام، 2/120.
6 قتله سلم بن أحوز المازني سنة (128هـ) ؛ لإنكاره أن الله كلم موسى.
انظر: سير الأعلام، 6/27.
7 هو المأمون بن عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي العباسي، ولد سنة (170هـ) ، دعا إلى القول بخلق القرآن، وبالغ، وحمل الناس على هذا الرأي الباطل، بالقوة والإكراه، وامتحن عليه علماء الأمصار، بينهم الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- (ت218هـ) .
انظر: تاريخ بغداد، 10/183؛ وسير الأعلام، 10/272.
(1/300)
________________________________________
ظهرت في الناس تلك المقالات بواسطة بعض الوزراء والأمراء، وكثر الخوض، فصاح بهم أهل الإسلام من كل ناحية، وبدعوهم وفسقوهم وكفروهم.1
قال ابن المبارك2 الإمام الجليل من أكابر أهل السنة: "من لم يعرف أن الله فوق عرشه، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا مقابر أهل الذمة؛ لئلا يتأذى به أهل الذمة من اليهود والنصارى" 3.
__________
1 كان من بين العلماء الذين تصدوا لمحاربة تلك المقالات: الإمام أحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد بن معين، وأبو حسان الزيادي، والقواريري، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن إسرائيل، وعلي بن أبي مقاتل، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن سعد، وأبو خيثمة، وإسماعيل بن داود، وابن نوح، وغيرهم انظر: سير الأعلام، 10/288.
2 هو عبد الله بن المبارك بن واضح، الإمام، شيخ الإسلام، علام زمانه، أبو عبد الرحمن الحنظلي، الحافظ أحد الأعلام، ولد (118هـ) ، وتوفي (181هـ) . انظر: تاريخ بغداد، 10/ 152؛ وسير الأعلام، 8/378- 421؛ وتهذيب التهذيب، 5/ 382.
3 لم أجد كلام ابن المبارك هذا، بل قد روي ما هو قريب منه عن أبي بكر محمد بن إٍسحاق بن خزيمة -رحمه الله- أنه قال: "من لم يقر بأن الله على عرشه، قد استوى فوق سبع سماواته، فهو كافر به، يستتاب، فإن تاب وإلا ضرب عنقه، وألقي على بعض المزابل؛ حيث لا يتأذى المسلمون، ولا المعاهدون بنتن ريح جيفته؛ وكان ماله فيئاً، ولا يرثه أحد من المسلمين؛ إذا المسلم لا يرث الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
انظر: إثبات صفة العلو، لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت620هـ) ، تحقيق د. أحمد بن عطية الغامدي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة ط/1، 1409هـ - 1988م، ص185.
أما ما نقل عن عبد الله بن المبارك، فهو أن الحسن بن شقيق سأله: كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا؟ قال: "على السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه ههنا في الأرض".
وقال الحسن أيضاً: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: "إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية".
ونقل البخاري في "خلق أفعال العباد" قول ابن المبارك: "كل قوم يعرفون ما يعبدون إلا الجهمية".
انظر سير الأعلام، 18/401- 403؛ إثبات صفة العلو، ص 171؛ وخلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل، للإمام البخاري (ت256هـ) ، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، ط/1، 1389هـ، ص12.
(1/301)
________________________________________
وقال الفضيل بن عياض1 ويوسف بن أسباط2: الجهمية ليست من الثلاث والسبعين فرقة، التي افترقت إليها هذه الأمة3. يعني أنهم لا يدخلون في أهل القبلة.
وقد صنفت التصانيف، وجمعت النصوص والآثار في الرد عليهم4 وتكفيرهم، وأنهم خالفوا المعقول والمنقول، وأن قولهم يؤول إلى أنهم لا يثبتون رباً يعبد، ولا إلهاً يصلى له ويسجد، إنما هو تعطيل محض، وكذلك كفرهم5.
__________
1 فضيل بن عياض بن مسعود بن بشر، الإمام القدوة، الثبت، شيخ الإسلام، أبو علي التميمي الخراساني، ثقة، سكن مكة (ت187هـ) .
انظر: تذكرة الحفاظ، 1/245؛ وسير الأعلام 8/421؛ وحلية الأولياء، 8/84.
2 يوسف بن أسباط الزاهد، من سادات المشايخ، له مواعظ وحكم، روى عن الثوري، وزائدة بن قدامة، وغيرهما، قال أبو حاتم: لا يحتج به.
أنظر: حلية الأولياء، 8/237؛ وميزان الاعتدال 4/462؛ وسير الأعلام، 9/169.
3 ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"، 3/350. وجاء كلام يوسف بن أسباط في "السنة"، للحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك (287) ، المكتب الإسلامي، ط/1، 1400هـ - 1980، ج 2/463، رقم (953) ؛ والشريعة للآجري، ص15.
4 ومما صنف في الرد على الجهمية:
1. الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، لعبد الله بن قتيبة الدينوري (ت276هـ) .
2. الرد على الجهمية، للإمام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي، (ت280هـ) .
3. الرد على الجهمية، للحافظ ابن منده (ت395هـ) .
4. كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم (751هـ) .
5. اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم.
6. الرد على الجهمية والزنادقة، كتاب ينسب للإمام أحمد، وقد بين محققه صحة نسبته إليه، بالأدلة، يرجع إليها في ص72- 78. تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، طبعة دار اللواء، الرياض، 1397هـ.
5 أي كذلك كفرهم كفر محض أيضاً.
(1/302)
________________________________________
قال ابن القيم في الكافية الشافية:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان1
يعني أن خمسمائة عالم أئمة مشاهير، جزموا بكفرهم، ونصوا عليه. وحججهم وشبهاتهم واهية داحضة، ولا تروج على من شم رائحة الإسلام.
قال بعض العلماء: أهل البدع لهم نصوص يدلون بها، قد اشتبه عليهم معناها، ولم يهتدوا فيها، إلا الجهمية، فليس معهم شيء مما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. انتهى2. والقرآن والسنة كلها رد عليهم.
قال بعض أصحاب الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: في القرآن ألف دليل على علو الله على خلقه، وأنه فوق العرش3. وذكر ابن القيم -رحمه الله- طرفاً صالحاً في نونيته من ذلك4.
وأما نصوص السنة وكلام أهل العلم، فلا يحصيها ويحيط بها إلا الله. ويكفي المؤمن أن يعلم أن كل من عرف الله بصفات جلاله، ونعوت كماله، وتبين له شيء من ربوبيته وأفعاله، يعلم ويتيقن أنه هو العلي الأعلى، الذي على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض5. ولا
__________
1 الكافية الشافية، لابن القيم، 1/290.
2 المصدر السابق، نفس الصفحة. وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى"، 5/122، وفي كتاب "النبوات"، ص130.
3 ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "المجموع"، 5/121. ونصه: " ... حتى قال بعض أكابر أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل وأزيد تدل على أن الله عال على خلقه وأنه فوق عباده".
4 انظر: الكافية الشافية، 1/397، 399، 402، 405، 408، 412، 415، 417، 420، 422، 424، 425، 429، 432، 439، 483، 486، 492، 500، 510، 514. تحدث الإمام في تلك المواضع وغيرها عن الأدلة على علو الله تعالى على خلقه.
5 هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، والتي توافرت النصوص من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على إثباتها؛ من ذلك: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] .
(1/303)
________________________________________
يشك في ذلك إلا من اجتاله1 الشيطان عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها2.والكلام يستدعي بسطاً طويلاً، فعليك بكتب أهل السنة، واحذر كتب المبتدعة؛ فإنهم قد سودوها بالشبهات والجهالات، التي تلقوها عن أسلافهم وشيعهم.
وأما دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره، فإن أراد الحياة الدنيوية، فالنصوص والآثار والإجماع والحس يكذبه3. قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 4...............................
__________
قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير} [الأنعام:18] .
وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] . وغير ذلك من الآيات الكريمات، وكلها تثبت علوه تعالى، واستوائه على عرشه.
1 أي استخفه، يقال: جال واجتال، إذا ذهب وجاء، واجتال الشيء إذا ذهب به وساقه. لسان العرب، 11/131، مادة (جول) .
2 كما هو الحال لدى الجهمية، الذين يقولون: إنه تعالى ها هنا في الأرض. [إثبات صفة العلو ص171] . وقول بعض الغلاة: "الله لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا يسار، ولا أمام ولا خلف، لا داخل العالم ولا خارجه". وبعض فلاسفتهم يزيد: "لا متصلاً بالعالم، ولا منفصلاً عنه"!! وحقيقة هذا النفي: أن الله غير موجود. وهو تعطيل مطلق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. مختصر العلو للعلي الغفار، للحافظ الذهبي، اختصره محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط/1، 1401هـ - 1981م، ص54.
3 وما أحسن ما قاله الإمام ابن القيم -رحمه الله- حين قال في رده على مدعي ذلك:
لو كان حياً في الضريح حياته ... قبل الممات بغير ما فرقانِ
ما كان تحت الأرض بل من فوقها ... والله هذه سنة الرحمن
أتراه تحت الأرض حياً ثم لا ... يفتيهم بشرائع الإيمان
ويريح أمته من الآراء والـ ... ـخلف العظيم وسائر البهتان
أم كان حياً عاجزاً عن نطقه ... وعن الجواب لسائل لهفان
وعن الحراك فما الحياة اللات قد ... أثبتموها أوضحوا ببيان؟
الكافية الشافية، 2/154- 155.
4 سورة الزمر: الآية (30) .
(1/304)
________________________________________
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية1. وقد قام أبو بكر في الناس يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أما بعد: فمن كان يعبد /محمداً/2 فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت"3، وتلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 4.
أما إن أراد الحياة البرزخية، كحياة الشهداء5، فللأنبياء منها أفضلها وأكملها، ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم منها، الحظ الوافر، والنصيب الأكمل، لكنها لا تنفي الموت، ولا تمنع إطلاقه على النبي والشهيد.
وأمر البرزخ لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله تعالى، الذي خلقه وقدره. والواجب علينا الإيمان بما جاءت به الرسل، ولا نتكلف ولا نقول بغير علم، والحياة الأخروية بعد البعث والنشور، أكمل مما قبلها وأتم، للسعداء والأشقياء.
وأما دعواه أن العبادة6 هي السجود فقط، فهذا الجهل ليس بغريب عن مثل هذا الملحد. والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، قد فصلت أنواع العبادة تفصيلاً،
__________
1 سورة الأنبياء: الآية (34) .
2 في (د) : (محمدٌ) .
3 سيرة ابن هشام، 4/306؛ والبداية والنهاية، 5/212.
4 سورة آل عمران: الآية (144) .
5 وهي الحياة التي أفادها قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] . وقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] . قال ابن كثير -رحمه الله- (يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون) . تفسير ابن كثير، 1/203.
6عرف العلماء العبادة في الاصطلاح الشرعي، بتعريفات عدة، ويدور لفظ "العبادة" فيها حول معنى الذل التام والخشوع والخضوع الكامل لله تعالى، والالتزام بما شرعه، والانتهاء عما نهى عنه تعالى، والتمسك بكل ما يرضى الله تعالى، قولاً وعملاً وتركاً.
وقد جاء تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مقدمة تلك التعريفات، فهو أجمعها وأشملها، وهو قوله -رحمه الله-: "العبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"، ثم استرسل الشيخ في بيان بعض أنواع العبادة بقوله: "فالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة".
مجموع الفتاوى، 10/149- 150. وانظر: تعريفات العلماء الأخر للعبادة في: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 1/101. تفسير ابن كثير، 1/27. تفسير البغوي "معالم التنزيل"، لحسين بن مسعود البغوي (ت516هـ) ، تحقيق خالد عبد الرحمن العك، دار المعرفة، بيوت، لبنان، ط/2، 1407هـ، 1/41. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لمحمد بن عمر الزمخشري (538هـ) ، الحلبي، الطبعة الأخيرة، 1385هـ، 1/62. مجموعة التوحيد النجدية، لابن تيمية (728هـ) ، ومحمد بن عبد الوهاب (ت1206هـ) ، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، 1391هـ، ص213.
(1/305)
________________________________________
وقسمتها تقسيماًَ، ونوعتها تنويعاً1، قال تعالى: {الم (البقرة:1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} . إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ
__________
1 تنقسم العبادات إلى أنواع؛ هي:
الأول: العبادات الاعتقادية: وهي "العبادات القلبية" المشتملة على الاعتقاد بانفراد الله تعالى بالربوبية، والألوهية، والأسماء، والصفات، وكل ما ينطوي عليه القلب من الإيمان، وكذلك الخوف، والرجاء، والتوكل، والاستعانة، والخضوع لله تعالى، وغير ذلك.
الثاني: العبادات اللفظية: وتعرف بالقولية، وهي كل ما يختص باللسان، تعبيراً عما في القلب من الاعتقاد؛ وذلك كالنطق بالشهادتين، وتلاوة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك
الثالث: العبادات العملية: وتعرف بالبدنية، وهي أعمال الجوارح؛ كالصلاة وما يتعلق بها من أعمال، والصيام، والذبح، والجهاد، ونحو ذلك.
الرابع: العبادات المالية: وهي ما تختص بالأموال؛ كالزكاة، والصدقات، وجميع الإنفاق في الحج، والجهاد، وعلى الأيتام، والأرامل، ونحو ذلك. انظر هذه الأنواع: مدارج السالكين،1/113، 114، 124، 128، 129. ومجموعة التوحيد النجدية، ص123. الجامع الفريد لكتب رسائل أئمة الدعوة، ص498. كيف السبيل إلى الله، لخير الدين الطلفاح، مطبعة العبابجي، بغداد، 4/45، 47، 48، 51.
(1/306)
________________________________________
المُفْلِحُونَ} 1، وهل المهتدون والمفلحون إلا خواص عباد الله؛ وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 2، فخصهم بالصدق والتقوى، وحصرها فيهم؛ لأن ما ذكر، رأس العبادة، والإيمان متضمن لما لم يذكر، مستلزم له، فلهذا حسن الحصر. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3. فبدأ بذكر العبادة المجملة، ثم خص بعض الأفراد تنبيهاً على الاهتمام، وأنها من أصول الدين؛ ولئلا يتوهم السامع أن العبادة تختص بنوع دون ما ذكر في قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} 4. ومعلوم أن إقامة الصلاة داخل فيما قبله؛ لأنه آكد الأركان الإسلامية بعد الشهادتين، وكذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5، والاستعانة عبادة بالإجماع، وعطفها على ما قبلها، اهتماماً بالوسيلة، وتنبيهاً على التوكل6. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 7.
والعدل تدخل فيه الواجبات كلها، والإحسان تدخل فيه نوافل الطاعات وإيتاء ذي القربى /يدخل/8 فيه حق الأرحام، ونحوها من العبادات المتعدية، والنهي عن الفحشاء والمنكر يدخل /فيه/9، ما نهى الله عنه من ظاهر الإثم وباطنه، وتركه من أجل العبادات، والبغي من أكبر السيئات، وتركه من أهم الطاعات، فهذا كله داخل
__________
1 سورة البقرة: الآية (1-5) .
2 سورة البقرة: الآية (177) . وقوله (وَالْكِتَابِ) ساقط في (د) .
3 سورة البقرة: الآية (83) .
4 سورة الأعراف: الآية (170) .
5 سورة الفاتحة: الآية (5) .
6 انظر: الكشاف، للزمخشري، 1/65.
7 سورة النحل: الآية (90) .
8 ساقط في (د) .
9 كذا في المطبوع. وفي جميع النسخ (فيها) .
(1/307)
________________________________________
في العبادة بالإجماع. و /قد/1 قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 2.
فابتدأ الآية بالأمر بعبادته وحده لا شريك له، وعطف /بقية/3 العبادات4 المذكورة؛ اهتماماً بها وتنويهاً بشأنها. ولا قائل إن ما ذكر ليس بعبادة، بل أهل اللغة، وأهل الشرع، من المفسرين، وغيرهم، مجمعون على أن ما أمر به في هذه الآيات، من أفضل ما يتقرب /العبد/5 به من القرب والعبادات.
وما علمت أحداً من أهل العلم واللغة يتنازع في ذلك، ولكن القوم كما تقدم6 عجم أو مولدون. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} 7، فعطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على ما قبله، وإن كان يدخل فيه عند الإطلاق، تنبيهاً على ما تقدم من الاهتمام، /والحض/8 على ما ذكر في حديث جبريل، المشهور في الكتب الستة وغيرها، " أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، وهو جالس في أصحابه فقال له: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتوتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت. قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد
__________
1 ساقط في (ب) ، و (ج) والمطبوع.
2 سورة الإسراء: الآية (23، 39) .
3 في (أ) : (باقي) .
4 في جميع النسخ: (العبادة) .
5 ساقط في (ب) ، و (ج) ، و (د) . وبدونه تصح العبارة أيضاً على بناء ما قبله على المجهول.
6 تقدم ذلك في ص181.
7 سورة البينة: الآية (5) .
8 في جميع النسخ: (والحظ) .
(1/308)
________________________________________
الموت، وبالقدر، خيره وشره، قال: صدقت، قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثم قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم "1، فجعل ذلك كله هو الدين، بمعنى العبادة، بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2، فجعل عبادة الله هي دين القيمة3. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه/4 قال: " الإيمان بضع وستون، أو بضع وسبعون، شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلى الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "5، ومن قال: ليست هذه الشعبة عبادة، فهو من شر6 الدواب، وأجهل الحيوان.
وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم العبادة في بعض أفرادها، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قال: " الدعاء هو العبادة "7،............................................... .............
__________
1 صحيح البخاري مع الفتح، 1/140، الإيمان، باب (سؤال جبريل عن الإيمان) . صحيح مسلم بشرح النووي، 1/268- 274، الإيمان، باب (بيان الإيمان والإسلام والإحسان) . سنن أبي داود، 5/72، السنة، باب (في القدر) . سنن الترمذي، 5/8، الإيمان، باب (ما جاء في وصف جبريل) . سنن النسائي، 8/97- 101، الإيمان، باب (نعت الإسلام) . سنن ابن ماجه، 1/14، المقدمة، باب (الإيمان) . مسند الإمام أحمد، 1/ 27.
2 سورة البينة: الآية (5) .
3 انظر: جامع البيان للطبري، 30/264. وبهذه الآية استدل كثير من الأئمة؛ كالزهري، والشافعي على أن الأعمال داخلة في الإيمان. تفسير ابن كثير 4/574.
4 زيادة في (ب) ، والمطبوع.
5 تقدم تخريجه ص186.
6 في جميع النسخ: (أشر) . ولا يقال ذلك عند إرادة التفضيل من (شر) بل يحذف الهمزة انظر: كتاب "منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل"، لمحمد محي الدين عبد الحميد، -بحاشية- شرح ابن عقيل (ت 769هـ) على ألفية ابن مالك (ت 672هـ) ط/14، 1385هـ - 1965م، 2/174.
7 سنن أبي داود، 2/161، الصلاة، باب الدعاء، سنن الترمذي، 5/426، الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". سنن ابن ماجه، 2/341، الدعاء، باب (ما جاء في فضل الدعاء) ، مسند الإمام أحمد، 4/267، 271.
(1/309)
________________________________________
وفي حديث أنس: " الدعاء مخ العبادة "1. وكقوله: " الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين "2.
وكل ما ورد من فضائل أعمال وأنواع الذكر، دخل في مسمى العبادة. وقد جمع ابن السني3 والنسائي4، في "عمل اليوم والليلة"، من ذلك طرفاً، يبين أن العبادة في أصل اللغة، بمعنى الذل والخضوع5. كما قال بعضهم6:
__________
1 سنن الترمذي، 5/425-426، الدعوات، باب (ما جاء في فضل الدعاء) ، قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة وذكره ابن حجر في الفتح، 11/97، وضعفه الألباني في "ضعيف سنن الترمذي"، للألباني، المكتبة الإسلامية، بيروت، ط/1، 1411هـ- 1991م، ص441.
2 المستدرك للحاكم، 1/492، وقال: صحيح، فإن محمد بن حسن هذا، هو التل، وهو صدوق في الكوفيين ووافقه الذهبي، وأخرجه الهيثمي في "المجمع"، 10/147، وقال: راوه أبو يعلى، وفيه محمد بن حسن بن أبي يزيد، وهو متروك. وذكره الهندي في "الكنز" (3117) . وضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة"، للألباني، المكتبة الإسلامية، بيروت، 1/81. قال الألباني: موضوع، وخطأ الحاكم في تصحيحه، وعلل الحديث بالانقطاع، كما ذكره الذهبي في "الميزان"، وأن محمد بن الحسن هذا ليس هو التل إنما هو: أبو يزيد الهمداني.
انظر: السلسة الضعيفة، 1/81- 82.
3 هو أحمد بن محمد بن إسحاق، الإمام الحافظ الثقة، أبو بكر الدينوري، المشهور بابن السني. صنف كتاب "عمل يوم وليلة" وهو مطبوع، واختصر سنن النسائي، وسماه "المجتبى". (ت364هـ) . انظر: طبقات الشافعي الكبرى، للسبكي، 3/39. تذكرة الحافظ 3/939. سير الأعلام، 16/255.
4 هو أحمد بن شعيب بن علي النسائي، صاحب "السنن" وكتاب "عمل اليوم والليلة" وهو مطبوع. (ت 303هـ) .
5 انظر هذا المعنى اللغوي للعبادة في: الصحيح للجوهري، 1399هـ، 2/503؛ وتهذيب اللغة للأزهري، 2/234؛ ولسان العرب، 3/272، وترتيب القاموس المحيط، لأحمد الزاوي، 3/135، مادة (عبد) .
6 هو طرفة بن العبد بن سفيان البكري، أبو عمرو، شاعر جاهلي، ولد في بادية البحرين، وتنقل في بقاع نجد وكان نديماً لعمرو بن هند. (ت 60) قبل الهجرة.
انظر معجم المؤلفين، 5/40؛ والأعلام للزركلي، 3/324.
(1/310)
________________________________________
تباري عتاقاً ناجيات1 وأتبعت ... وظيفاً وظيفاً2 فوق مور3 معبد4.
أي طريق مذلل، قد ذللته الأقدام5. والدين مأخوذ من معنى الذل والخضوع، يقال: أدنته فدان، أي ذللته فذل6.
وفي الاصطلاح الشرعي: يدخل فيه كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة7، الخاصة والمتعدية، البدنية والمالية.
وكذلك عرفها الفقهاء بأنها: ما أمر به شرعاً من غير اضطراد عرفي ولا إقتضاء عقلي8، إذا عرفت هذا، فالتقوى والعبادة والدين، إذا أفردت ولم تقترن بغيرها، دخل فيها مجموع الدين وسائر العبادات، وإذا اقترنت بغيرها فسر كل واحد بما يخصه؛ كالإيمان، والعمل الصالح9،.................................
__________
1 تباري: تعارض. الناجيات: السريعات. انظر: لسان العرب، 5/186.
2 في جميع النسخ: وضيفاً وضيفاً، بالضاد، وهو في المعلقة بالظاء، كما أثبته. والوظيف: عظم الساق. لسان العرب، 5/186.
3 المور: الطريق. المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة.
4 ديوان طرفة بن العبد، دارصادر، بيوت، لبنان، ص22. وذكره ابن منظور في اللسان 5/186.
5 الصحاح للجوهري، 2/503؛ ولسان العرب، 3/273؛ وترتيب القاموس المحيط، 3/137.
6 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ابن تيمية، 10/152.
7 هذا تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية، للعبادة، وقد تقدم في ص306، وانظر: المرجع السابق، 10/149؛ والعبودية، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728) ، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهر، ط/2، 1396هـ - 1976م.
8 ورد هذا التعريف في: الهداية السنية؛ والتحفة الوهابية النجدية، ص6؛ ومجموعة التوحيد النجدي، ص212؛ والانتصار لحزب الله الموحدين، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين (ت 1282هـ) ، مكتبة الصحابة الإسلامية، السالمية، الكويت ط/3، ص9؛ ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية، 5/501.
9 وهو كما في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] .
وقرن بين الأعمال والتقوى والعمل الصالح، في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة:93] .
(1/311)
________________________________________
والإسلام1، والإيمان، وصدق الحديث2، وكالإيمان، والصبر3، وكالعبادة /والإستعانة4/5، وكالتقوى، وابتغاء الوسيلة6؛ فيفسر كل بما يناسبه ويخصه، كما في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 7 فسر كل اسم بما يخصه مع الاقتران.
وإذا أطلق اسم العبادة كما في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} 8، واسم الأبرار واسم الإيمان واسم الإسلام في مقام المدح والثناء دخل فيه الدين كله9. فمن عرف هذا، تبين له اصطلاح القرآن والسنة، وعرف أن هؤلاء المبتدعة، من أجهل الناس بحدود ما أنزل الله على رسوله.
والصلاة نفسها تشتمل على أقوال وأفعال غير السجود، وكلها عبادة بإجماع المسلمين10، والقراءة عبادة، والقيام عبادة، والركوع عبادة، والرفع منه عبادة،
__________
1 وقرن الإيمان بالإسلام في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] .
2 وقرن الإيمان وصدق الحديث في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] .
3 وقرن الإيمان والصبر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] .
4 في (أ) ، و (ج) ، و (د) : (وكالاستعانة) .
5 وقرن بين العبادة والاستعانة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] .
6 وقرن بين التقوى وابتغاء الوسيلة، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] .
7 سورة الأحزاب: الآية (35) .
8 سورة الفرقان: الآية (63) .
9 تقدم ذلك في ص171.
10 لم يزل الشيخ يرد على من حصر العبادة في السجود.
(1/312)
________________________________________
والسجود عبادة، والجلوس عبادة، والأذكار المشروعة في تلك المواطن عبادة، والتكبير عبادة، والتسليم عبادة.1
__________
1 انظر الجامع الفريد، ص498.
(1/313)
________________________________________
تفضيل القبورين للقبور على الكعبة
...
أما قوله: إن قبر الولي أفضل من الحجر الأسود؛ فهذا من جنس ما قبله في الفساد والضلال. فالحجر الأسود يمين الله في أرضه، من صافحه واستلمه فكأنما بايع ربه1. تفضيل القبوريين للقبور على الكعبة. قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} 2.
ولم يرد في قبور الأولياء ما يدل على مثل ذلك، فضلاً عن أن تكون أفضل منه، والحج ركن من أركان الإسلام، والطواف بالبيت أحد أركان الحج، /والركن/3 الذي فيه الحجر الأسود، أفضل أركان البيت، والطواف به /من أفضل العبادات/4 وأوجبها.
__________
1 أصل هذا الكلام، حديث يرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث ضعيف مروي عن محمد بن المكندر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحجر الأسود يمين الله في الأرض، يصافح به عباده ". ذكره الهندي في "الكنز" (34744) ؛ والخطيب البغدادي 6/328؛ وابن الجوزي في"العلل المتناهية"، 2/85، وقال: "هذا حديث لا يصح، وإسحاق بن بشر قد كذبه ابن أبي شيبة".
وورد في "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس"، لإسماعيل بن محمد العجلوني (ت 1162هـ) ، مكتبة التراث الإسلامي، دار التراث، القاهرة 1/417. وفي "سلسلة الأحاديث الضعيفة"، 1/27 (223) ، قال الألباني: "ضعيف". وذكره شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى"، 6/397، ورده مرفوعاً، وارتضاه موقوفاً على ابن عباس فقال: "فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم" بإسناد لا يثبت، وإنما هو عن ابن عباس". وقال في "التدمرية"، ص70: "مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس"، وإلى هذا الموقوف أشار الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله-. انظر تفاصيل الكلام حول هذا الحديث: التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق محمد بن عودة السعوي، ط/1، 1405هـ -1985م، ص70.
2 سورة آل عمران: الآية (96، 97) .
3 في (د) : (والأركان) .
4 في (د) : (أفضل من العبادات) .
(1/313)
________________________________________
والطواف بالقبور واستلامها من أوضاع المشركين والجاهلية، وفيها مضاهاة لما يفعله اليهود والنصارى عند قبور أحبارهم ورهبانهم.
وأفضل القبور على الإطلاق قبره صلى الله عليه وسلم، ولا يشرع تقبيله واستلامه بالإجماع، بل ولا يشرع الدعاء عنده، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، وبيت العبد ببيت الرب.
وبالجملة، فهذا القول شنيع لا مستند له ولا دليل عليه. وتقبيل الحجر الأسود مشروع1، وكذا استلامه باليد، فإن استلمه بالمحجن ونحوه لعذر، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الحجر الأسود واستلمه بمحجن كان في يده2.
وأما قوله: إنكم تعتقدون العلو، فنعم، نعتقده ونشهد الله عليه، وكل مسلم عرف الله بأسمائه وصفاته، يعتقد أنه العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، على الملك احتوى3.
هذا نص القرآن، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 4 وأول من أنكر العلو فرعون، إذ قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} 5. كذب موسى فيما جاء به من أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق عباده، مستو على عرشه. وأما الآية التي احتج بها هذا الضال، فلم يعرف معناها، ولم يدر المراد منها،
__________
1 وقد ورد ذلك في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قبل الحجر ثم قال: " أما والله لقد علمت أنك حجر -لا تضر ولا تنفع- ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ". صحيح مسلم بشرح النووي، 9/20.
2 روى ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير، يستلم الركن بالمحجن". صحيح مسلم بشرح النووي، 9/22؛ صحيح البخاري مع الفتح، 3/552.
3 تقدمت هذه المسألة.
4 سورة هود: الآية (17) .
5 سورة غافر: الآيتان (36، 37) .
(1/314)
________________________________________
وأهل التفسير متفقون على أن المراد بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 1 أنه معبود في السماء ومعبود في الأرض2 لأنه الإله المعبود3، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} 4، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 5.
والحلولية من غلاة الجهمية، يرون أنه حال بذاته في كل مكان6، لم ينزهوه عن شيء، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وأما حديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد "7، فهو حديث صحيح جليل، مثل قوله تعالى:8 {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 9 فالقرب في هذا ونحوه أضيف إلى العبد. والقلب إذا أناب
__________
1 سورة الزخرف: الآية (84) .
2 انظر: جامع البيان، للطبري، 25/104؛ والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 16/81؛ وتفسير ابن كثير، 4/147؛ وتفسير القاسمي؛ 14/5289.
3 وأصل "الإله" من أله يأله إلهةً، أي عبد يعبد عبادة. تقول: أله الرجل: إذا تعبد؛ وتأله: إذا تنسك. انظر: الجامع لأحكام القرآن، 1/73.
4 سورة الأنعام: الآية (3) .
5 سورة مريم: الآية (93) .
6 الفرق بين الفرق، ص226.
7 صحيح مسلم، بشرح النووي، 4/446، الصلاة، باب (ما يقال في الركوع والسجود) ؛ سنن أبي داود، 1/545، الصلاة، باب (في الدعاء في الركوع والسجود) . سنن النسائي، 2/226، الافتتاح، باب (أقرب ما يكون العبد من الله) ؛ مسند الإمام أحمد، 2/241؛ شرح السنة للبغوي، 3/151-152. قال البغوي بعد ذكره للحديث: هذا حديث صحيح. وقال النووي في معنى الحديث: أقرب ما يكون من رحمة ربه وفضله. شرح صحيح مسلم، 4/445-446.
8 زيادة مني.
9 سورة الإسراء: الآية (57) .
(1/315)
________________________________________
إلى الله، وأخلص في عبادته، وصدق في معاملته، كان له من القرب بحسب صدقه وإخلاصه ورتبته من الإيمان. فترتفع عنه حجب الشهوات والشبهات، وينقشع عنه ليلها وظلامها1؛ وهذا المعنى حق لا شك فيه.
ويضاف القرب إلى الله تعالى، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 2 فهذا قرب خاص للسائلين والداعين، وقد يقرب من عباده، ومن القلوب الطيبة كيف ما شاء لكنه قرب خاص، ليس كما يظنه الجهمي من أن ذاته تحل في المخلوقات3، فهو -سبحانه- ليس كمثله شيء في صفاته وكمال عظمته وقدرته4، وينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر5، وهو مستو على عرشه6، عال فوق خلقه، لا تحيط به المخلوقات، ولا تحتوي عليه الكائنات، ويدنو7 عشية عرفة فيباهي ملائكته بأهل الموقف8، ومع ذلك فصفة العلو والاستواء ثابتة في تلك الحال، لا يخلو العرش منه9، ولا نعلم قدر
__________
1 في (د) : (وضلامها) .
2 سورة البقرة: الآية (186) .
3 انظر: الفرق بين الفرق، ص226.
4 قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
5 تقدم تخريج حديث النزول ص259.
6 وذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . [طه: 5] .
7 في (د) : (ويدنوا) .
8 ورد في ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول ما أراد هؤلاء؟ ". صحيح مسلم بشرح النووي، 9/125، الحج، باب (فضل الحج والعمرة ويوم عرفة) ؛ سنن النسائي 5/251ـ 252، الحج، باب (ما ذكر في يوم عرفة) ، سنن ابن ماجة، 2/180، المناسك، باب (الدعاء بالعرفة) .
9 هذه عقيدة أهل السنة والجماعة في استواء الله تعالى على عرشه، ونزوله، وعدم خلو العرش منه عند نزوله. فقد اتفقوا على إثبات تلك الصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، فهو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بذلك، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، استواء يليق بجلاله تعالى، كما أن نزوله لا يشبه نزول المخلوق، بل ينزل نزولاً يليق بعظمته، لا نعلم كيفيته، ولا ندرك كنهه، وهو عند ذلك لا يخلو منه العرش.
وقد اشتهر جواب أئمة الأمة، لمن سأل عن كيفية الاستواء، وهو قولهم: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". يروى هذا الجواب، عن الإمام مالك، وعن شيخه ربيعة، وعن أم سلمة. انظر: شرح حديث النزول، لابن تيمية (ت 728هـ) ، تحقيق محمد بن عبد الرحمن الخميس، دار العاصمة، الرياض، ط/1، 1414هـ، ص 132ـ 136، 204. الاقتصاد في العقيدة، للمقدسي، ص 102ـ 104. شرح أصول الاعتقاد، للآلكائي، 3/398. مختصر العلو، للألباني، ص 132. مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 5/ 365.
(1/316)
________________________________________
عظمته إلا هو -جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه.
وقد يكون المؤمن المخلص القريب من الله في مكان، معه من هو ملعون مطرود عن رحمة الله، وهما في مكان واحد، /كما/1جرى لموس وفرعون. فالقرب الذي وردت به الأحاديث2، وصرحت به النصوص3، حجة على الجهمي المعطل للعلو، القائل بأن الله في كل مكان، تعالى الله وتقدس. فهؤلاء الجهال خاضوا فيما قصرت عقولهم وأفهامهم عن إدراك معناه، وما يراد به، فصاروا في بحر الشبهات
__________
1كذا في (ب) ، والمطبوع. وفي بقية النسخ: (وكما) .
2 من الأحاديث الواردة في قرب الرب سبحانه وتعالى:
أ- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ". صحيح البخاري مع الفتح، 13/ 395، التوحيد، باب قوله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} . صحيح مسلم بشرح النووي، 17/ 5، الذكر والدعاء، باب (الحث على ذكر الله) ، سنن الترمذي، 5/ 542، الدعوات، باب (في حسن الظن بالله) . سنن ابن ماجة، 2/ 339، الأدب، باب (فضل العمل) . كلهم عن طريق أبي صالح، عن أبي هريرة.
ب- وقد تقدم حديث دنو الرب -تبارك وتعالى- من عبادة يوم عرفة في حاشية (؟؟؟) من هذه الصفحة.
3 أما ما ورد في قرب الله تعالى من عبادة، من الآيات القرآنية، فمنها:
أ- قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] .
ب- وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ: 16] .
ج- وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وقربه من العباد بتقربهم إليه، مما يقربه جميع من يقول: إنه فوق العرش". شرح حديث النزول، ص 316.
(1/317)
________________________________________
غرقى، لا يعرفون لهم رباً، ولا يستدلون بصفة من صفاته على معرفة كماله وجلاله. وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه /من ربه/1 قراءة على الناس، وأكثره في معرفة الرب وصفاته وربوبيته وتوحيده، سمعه منه قرويهم وبدويهم، وخاصهم وعامهم، وعجمهم، ولم يشكل على أحد منهم ذلك، ولم يشك فيه2؛ بل آمنوا به وعرفوا المراد منه. ومضت القرون الثلاثة3 على إثبات ذلك، والإيمان به، وتلقى معناه عن الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 4. وإن جحد بعض المنافقين، فهو مدحور مقهور. حتى حدث ما حدث في آخر القرن الثالث5 وما بعده.
وأما دعواه أن الأولياء يقدرون على خلق ولد من غير أب، فهذه طامة كبرى، وردة صريحة، وتكذيب لجميع الكتب السماوية، ورد على كل رسول، ومخالفة لإجماع الأمم المنتسبين إلى الرسل والكتب السماوية، فإنهم مجمعون على أن الله هو الخالق وحده، وغيره مخلوق6، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ
__________
1 ساقط في (ب) ، و (ج) . وفي (د) : (ما أنزل الله إليه قراءة) .
2 يريد أن المؤمنين، لم يوجد منهم من يشك فيما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم
3 وهي القرون التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية؛ وذلك في قوله: " خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- ثم أن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن ". صحيح البخاري مع الفتح، 7/ 5، فضائل الصحابة.
4 سورة النجم: الآية (4) .
5 في (د) : (قرون) .
*يلاحظ أن مسألة إنكار العلو، التي هي مقالة الجهمية، ظهرت في آواخر عصر التابعين؛ فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ثم ظهرت مقالة التعطيل التي هي مقالة الجهمية، وذلك في أواخر عصر التابعين من أوائل المائة الثانية". مجموع الفتاوى، 13/277. منهاج السنة، 1/309. وانظر: الصواعق المرسلة، لابن القيم، 3/1069، 1070.
6 في (د) : (مخلوقاً) . ولا وجه للنصب هنا.
(1/318)
________________________________________
خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 1، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 2، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3، ولو كان لغير الله شركة في الخلق والتأثير، لكان له شركة في الربوبية والإلهية. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية4. فنفى سبحانه عن غيره أن يكون له ملك في السموات والأرض ولو قل، كمثقال ذرة، ونفى الشركة أيضاً في القليل والكثير، ونفي أن يكون له ظهير وعوين يعاونه في خلق أو تدبير؛ فإنه الغني بذاته /عما/5 سواه.
والخلق بأسرهم فقراء إليه6. ثم نفي الشفاعة إلا لمن أذن له. قال بعض السلف: هذه الآية تقطع عروق شجرة الشرك من أصلها7.
__________
1 سورة فاطر: الآية (3) . وما بين المعقوفتين تكملة من المصحف. وفي المطبوع زاد خطأً كلمة (قل) في بداية الآية.
2 سورة الأنعام: الآية (102) .
3 سورة الأعراف: الآية (191) .
4 سورة سبأ: الآية (22- 23) .
5 في (ج) ، و (د) : (عن كل ما) .
6 قال تعالى في بيان افتقار العبيد إليه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] .
7 وردت هذه العبارة في تسير العزيز الحميد، طبعة المكتب الإسلامي، دمشق، ط/1، ص245، حيث قال: "هذه الآية هي التي قال فيها بعض العلماء إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها". ورد نحو هذه العبارة في كلام ابن القيم في "الصواعق المرسلة"، 2/461، حيث قال: " أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه ".
(1/319)
________________________________________
ومعلوم أن من يخلق، له ملك ما خلقه، فلو كان ثم خالق غير الله، تعددت الأرباب والآلهة، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} 2، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3، فعيسى داخل في عموم هذه الآيات، لم يخالف في ذلك إلى من ضل من النصارى4؛ قال تعالى في خصوص عيسى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 5، فكان عيسى بكن كما كان آدم. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} إلى قوله: {إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 6 فاعترف أن الله ربه وخالقه ومعبوده. فكفى بهذه النصوص /رداً/7 على من أشرك بالله، وجعل معه خالقاً آخر.
وما احتج به الملحد من قوله تعالى حاكياً عن جبريل أنه قال لمريم: {قَالَ إِنَّمَا8
__________
1 سورة الأنبياء: الآية (22) .
2 سورة آل عمران: الآية (6) .
3 سورة البقرة: الآية (21) .
4 يعلم أن النصارى الضالين، قد قالوا في عيسى عليه السلام قولاً عظيماً، فقد سموه ابناً لله، وسموه إلهاً، وسموه ثالث ثلاث، وزعموا أنه إله الحق من إله الحق، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، الرب المحي المنبثق من الأب، الذي هو مع الابن يسجد له. انظر: محاضرات في النصرانية، لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ص99. والأسفار المقدسة قبل الإسلام، للدكتور صابر طعيمة، عالم الكتب، بيروت، ط/1، 1406هـ، 1985م، ص226.
5 سورة آل عمران: الآية (59) .
6 سورة المائدة: الآية (116- 117) .
7 في جميع النسخ: (رد) ، عدا المطبوع.
8 ما بين المعقوفتين، تكملة من المصحف.
(1/320)
________________________________________
أَنَا1 رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} 2. فيقال: قراءة البصريين: "ليهب لك"، بالياء3، وهي تفسير للقراءة الأخرى. وعلى القراءة الأخرى نسب الهبة إليه لأنه سبب نفخ الروح في درعها، والسبب يضاف إليه الفعل، كما جزم به البيضاوي4 وغيرها في هذه الآية5. والله -سبحانه وتعالى- ينفذ أمره الكوني على يد من يشاء من ملائكته. وربما نسب الفعل إليهم، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} 6، وقال في موضع آخر: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} 7، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} 8، فأضافه إليهم لأنهم موكلون بقبض
__________
1 في جميع النسخ: إني
2 سورة مريم: الآية (19) .
3 هكذا قرأ ورش، عن نافع، وأبو عمرو بن العلاء، على معنى: إنما أنا رسول ربك، أرسلني إليك ليهب الله لك غلاماً زكياً. وقد صوب الطبري القراءة الأولى بالألف " لأهب". انظر: التذكرة في القراءات الثمان، لأبي الحسن طاهر بن عبد المنعم بن غلبون (ت399هـ) تحقيق: أيمن رشيد سويد، ط/1، 1412هـ - 1991م، 2/424؛ والحجة في القراءات السبع، لابن خالويه، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، دار الشروق، بيروت، ط/ 2، 1397هـ - 1977م، ص236؛ وجامع البيان، للطبري، 16/61؛ والجامع لأحكام القرآن؛ 11/62؛ وتفسير ابن كثير، 3/121.
4 هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشيرازي الشافعي، ناصر الدين أبو الخير، عالم بالفقه والتفسير، صاحب "مناهج الوصول إلى علم الأصول"؛ و"أنوار التنزيل"، و "شرح مصباح السنة". (ت691هـ) ، وقيل (685هـ؛ 696هـ) . انظر طبقات الشافعي الكبرى، للسبكي، 8/57- 158؛ ومعجم المؤلفين، 6/97.
5 أنوار التنزيل وأسرار التأويل، لناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي (ت 791هـ) ، ومعه "تفسير الجلالين"، ط/2، 1388هـ - 1968م، طبعة الحلبي بمصر، 2/31؛ وتفسير القاسمي؛ 11/4132.
6 سورة الزمر، الآية (42) .
7 سورة الأنفال: الآية (50) .
8 سورة الأنعام: الآية (61) .
(1/321)
________________________________________
الأرواح1. ولما كانوا لا يستقلون بشيء من دونه، ولا يفعلون إلا بمشيئته وحوله وقوته، صرح بهذا المعنى في الآية الأولى. فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 2 وأبلغ من هذا، أنه نسب إليهم التدبير في قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} 3؛ لأنهم رسل بأمره الكوني، وأخبر بأنه المدبر الفاعل المختار، في غير آية من كتاب الله، كقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 4، وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 5، إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} 6؛ إلى غير ذلك من الآيات الدالات على اختصاصه تعالى بالتدبير والإيجاد. وفي الحديث القدسي: " ومن أظلم ممن يذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو يخلقوا شعيرة " 7،
__________
1 انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 7/7؛ وتفسير ابن كثير، 2/143؛ وتفسير القاسمي، 6/2349.
2 سورة الزمر: الآية (42) .
3 سورة النازعات: الآية (5) .
4 سورة السجدة: الآية (5) .
5 سورة يونس: الآية (3) .
6 سورة يونس: الآية (31) .
7 ورد هذا الحديث بألفاظ عدة، وهذا اللفظ قريب من لفظ البخاري، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: ومن أظلم ... أو ليخلقوا حبة أو شعيرة ". صحيح البخاري مع الفتح 13/536، التوحيد، باب قوله الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
*وفي الحديث إشارة إلى تحريم التصوير؛ إذ أن في مضاهاة لخلق الله تعالى. وقد تفرد الله سبحانه وتعالى بالخلق والأمر {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7] . فمن صور صورة على شكل ما خلقه الله من إنسان أو بهيمة، كان مضاهئا لخلق الله؛ لذلك يكلف يوم القيامة بنفخ الروح فيها، وليس بنافخ، فكان أشد الناس عذاباً، كما جاء ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم من صور صورة، فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً ". صحيح البخاري مع الفتح 4/466، البيوع، باب (بيع التصاوير) . صحيح مسلم بشرح النووي، 14/339، اللباس، باب (تحريم تصوير صورة الحيوان) .
(1/322)
________________________________________
.................................................. ...................
__________
أما الصورة الفوتغرافية، فإن أحداً من العلماء لا يجادل في تحريم الصور المجسمة، والمنحوتة، والمفصل باليد من ذوات الأرواح.
فالصورة الفوتغرافية، اختلف في حكمها العلماء المتأخرون؛ لكونها نوعاً جديداً لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهبوا فيها مذهبين:
الأول: أنها محرمة؛ لعموم لفظ التصوير، وشموله لها عرفاً. وقد تقدم آنفاً أحاديث النهي.
الثاني: أنها مباحة.
والقول الأول هو الصواب. وقد بين فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -حفظه الله- في فتاواه، عندما سئل عن حكم التصوير، فقال: "اختلف فيه العلماء المتأخرون؛ فمنهم من منعه؛ لعموم اللفظ له عرفاً، ومنهم من أحله نظراً للمعنى؛ فإن التصوير بالكاميرا، لم يحصل فيه من المصور أي عمل يشابه به خلق الله تعالى، وإنما انطبع بالصورة خلق الله تعالى، على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها.
ونظير ذلك تصوير الصكوك والوثائق وغيرها بالفوتغراف، "فإن هذه الصورة التي تخرج ليست هي من فعل الذي أدار الآلة وحركها، فإن الذي حرك الآلة، ربما يكون لا يعرف الكتابة أصلاً، والناس يعرفون أن هذه كتابة الأول. والثاني ليس له أي فعل فيها ... "بل زعم أصحاب هذا القول، أن التصوير بالكاميرا، لا يتناوله لفظ الحديث، كما لا يتناوله معناه. فقد قال في القاموس: الصورة: الشكل. قال وصور الشيء: قطعه وفصله. قالوا: وليس في التصوير بالكاميرا تشكيل ولا تفصيل، وإنما هو نقل شكل وتفصيل، شكله وفصله الله تعالى. والقول بتحريم التصوير بالكاميرا أحوط، والقول بحله أقعد، لكن القول بالحل مشروط، بأن لا يتضمن أمراً محرماً، فإن تضمن أمراً محرماً -كتصوير امرأة أجنبية، أو شخص ليعلقه في حجرته تذكاراً له، أو يحفظه فيما يسمونه (ألبوم) ليتمتع بالنظر إليه وذكراه- كان ذلك محرماً"
وقال في محل آخر: "ولكن إذا صور هذا التصوير الفوتوغرافي لغرض محرم، فإنه يكون حراماً تحريم الوسائل".
المجموع الثمين من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين، جمع وترتيب: فهد بن ناصر السليمان، دار الوطن للنشر، الرياض، ط/ 3، 1411هـ. 2/ 254-256، و 1/ 201. أما الصورة الفوتغرافية الضرورية: كما هو الشأن في الوثائق؛ كالجواز، وحفيظة النفوس، والإقامة، ونحوها، فالعلماء متفقون على جوازها، من باب الضروة.
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لعبد العزيز بن باز، بجمع الدكتور/محمد بن سعد الشويعر، طبعة دار الإفتاء، ط/ 2، 1411هـ - 1990م، 1/ 441.
(1/323)
________________________________________
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} الآية1، وأكابر الخلق؛ كالملائكة والأنبياء، لم يدع أحد منهم أنه إله، وأنه يخلق. قال تعالى في حق الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُون لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 2. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية3، فأخبر أن اتخاذهم أرباباً كفر بعد الإسلام. وأيضاً، فآخر الآية، وهو قوله: {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} 4، فكونه هيناً عليه تعالى، وهو الذي جعله آية/5، وهو الذي قدره وقضاه، كل هذا يرد على المبطل. فتفطن-هداك الله- للأدلة على تفرده بالخلق والإيجاد والتدبير، لا يحيط بها إلا الله سبحانه.
/وفي كل شيء له/6 آية ... تدل على أنه واحد7.
أما كونهم لا يشهدون الجمعة والجماعة، ولا يسلمون ولا يردون السلام، فهم بذلك مخالفون لأهل السنة والجماعة، من سلف الأمة وأئمتها. ولو وجد في الإمام من الفجور ما لا يخرجه عن الإسلام، فأهل السنة يصلون خلف أهل الأهواء، إذا تعذرت الجمعة والجماعة خلف غيرهم8؛ وإن كانوا يرون كفر من لا يوافقهم
__________
1 سورة الحج: الآية (73) .
2 سورة الأنبياء: الآية (26- 27) .
3 سورة آل عمران: الآية (79) .
4 سورة مريم: الآية (21) .
5 ساقط في (د) ، والمطبوع.
6 في (ب) ، و (ج) و (د) : (وله في كل شيء) .
7 البيت لأبي العتاهية. انظر: ديوان أبي العتاهية، دار صادر، ودار بيروت، للطباعة والنشر، بيروت، 1384هـ - 1964م، ص 122.
8 انظر: شرح عقيدة الطحاوية، ص 361، 362، 363.
(1/324)
________________________________________
على /أهوائهم/1، فهم من جنس الخوارج الذين وردت فيهم الأحاديث الصحيحة، بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية2، وأنهم كلاب أهل النار3.
وصلى الله وسلم4 على سيد ولد آدم، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده آمين. والحمد لله على /التمام وحسن الختام/5.
__________
1 في (د) : (هوائهم) .
2 تقدم تخريج حديث مروقهم من الدين في ص 169- 170.
3 ورد في كونهم كلاب أهل النار: حديث أبي أمامة قال: شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى من قتلوا، كلاب أهل النار، كلاب أهل النار، فقد كانوا هؤلاء مسلمين، فصاروا كفاراً، قلت: يا أبا أمامة! هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنن ابن ماجة، ا/ 34، المقدمة، باب في ذكر الخوارج. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، 5/ 250، 253، مطولاً. والحديث حسنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجة"، ط/ 3، 1408هـ، نشر مكتب التربية العربي، لدول الخليج، الرياض، 1/ 35. وفي "مشكاة المصابيح" بتحقيقه 2/ 286 (3554) .
4 زيادة مني؛ إذ يوجد في جميع النسخ صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، دون السلام عليه.
5 ساقط في (د) .
(1/325)
________________________________________
الرسالة الثالثة عشرة: إلى زيد بن محمد
المسألة الأولى: عن قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ
...
(الرسالة الثالثة عشرة)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -رحمه الله تعالى- رسالة إلى زيد بن محمد 2 وهذا نصها.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم زيد بن محمد -زاده الله علماً، ووهب لنا وله حكماً3- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالخط الذي فيه المسائل وصل، وحصل من الاشتغال والموانع، ما اقتضى تأخر الجواب، ونسأل الله لنا الإعانة على ما يقرب إليه من العلم والعمل.
فأما المسألة الأولى4: عن قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 5.
وقول السائل: إن الرب تبارك وتعالى لا يخفى عليه شيء وقد قال تعالى في سورة العنكبوت: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 6
__________
1 في (ب) جاءت هذه الرسالة في ص 167- 179.
2 تقدمت ترجمته ص 93.
3 يريد بالحكم هنا: العلم والفهم، وذلك كما في قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} [الشعراء:83] . قال الشوكاني: (المراد بالحكم: العلم والفهم) . فتح القدير للشوكاني 3/105.
4 وردت المسألة في الدرر السنية 10/93- 95.
5 سورة يونس: الآية (18) .
6 سورة العنكبوت: الآية (42) .
(1/326)
________________________________________
فالجواب وبالله التوفيق:
إن كلا الآيتين الكريمتين على عمومهما وإطلاقها، يصدق بعضها بعضاً.
فأما آية يونس، ففيها الإخبار بنفي ما ادعاه المشركون، وزعموه من وجود شفيع، يشفع وينفع بدون إذنه تبارك وتعالى1؛ وأن هذا لا يعلم الله وجوده، لا في السموات ولا في الأرض، بل هو مجرد زعم وافتراء2، وما لا يعلم وجوده، مستحيل الوجود، منفي غاية النفي.
فالآية رد على المشركين الذين تعلقوا على الشركاء والأنداد، بقصد الشفاعة عند الله والتقرب إليه.
وأما آية العنكبوت، ففيها إثبات علمه سبحانه وتعالى بكل مدعو أو معبود من أي شيء كان، لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة3. ففي الآية الأولى نفي العلم بوجود ما لا وجود له بحال؛ والآية الثانية فيها إثبات العلم بوجود ما عبدوه
__________
1 ومعلوم أن مثل تلك الشفاعة، غير مقبولة عند الله، إذ أن للشفاعة التامة المقبولة شروطاً وضعها الشارع الحكيم وهي:
إذنه سبحانه وتعالى للشافع بالشفاعة له:
قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [لنجم:26] . وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .
(ب) إذنه تعالى للمشفوع له بأن يشفع له:
قال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] .
وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه:109] .
(جـ) رضاؤه تعالى للمشفوع له:
قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] . فهذه الآيات تبين أن الشفاعة لن تكن إلا من شافع مأذون له بها، ولن تنفع إلا المشفوع المأذون له، والمرضي عنه، كما تبطل جميع ما يزعمه المشركون، من وجود شفيع يشفع بدون إذنه تبارك وتعالى.
2 وقد فسر الآية بهذا المعنى، من المفسرين، كل من: الطبري في جامع البيان 11/ 98، والقرطبي 8/ 205.
3 انظر جامع البيان للطبري 20/ 153.
(1/327)
________________________________________
ودعوه مع الله، من الآلهة التي لا تضر ولا تنفع.
قال ابن جرير-رحمه الله تعالى- في الكلام على آية يونس: يقول تعالى [ذكره] 1: ويعبد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك صفتهم، الذين لا يضرهم شيء ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها، رجاء/شفاعتها/2عند الله. قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَه وتعالى عما يشركون} 3. يقول: (أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض، وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك باطل لا يعلم حقيقته وصحته، بل يعلم أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد ولا تضر ولا تنفع) انتهى4.
وحاصلة أن النفي واقع على ما اعتقدوه وظنوه من وجود شفيع يشفع وينفع ويقرب إلى الله، وذلك الظن والاعتقاد وهم وخيال باطل لا وجود له. وبنحو ذلك قال ابن كثير5، حيث يقول: (ينكر تعالى على المشركون الذين عبدوا مع الله غيره، ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله، وأخبر أنها لا تنفع ولا تضرو لا تملك شيئاً ولا يقع شيء 6 مما يزعمون فيها، ولا يكون هذا أبداً، ولهذا
__________
1 ما بين المعقوفتين، زائد في جميع النسخ والمطبوع. لم يرد في (أ) .
2 في جميع النسخ: (شفاعتهم) . وفي تفسير الطبري ما أثبتناه.
3 سورة يونس الآية (18) .
4 جامع البيان للطبري 11/98. نقله المصنف بتصرف يسير.
5 هو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير البصري ثم الدمشقي الشافعي، عماد الدين أبو الفداء. محدث مفسر فقيه، له مصنفات منها: تفسير القرآن العظيم، البداية والنهاية، جامع المسانيد، وغيرها (ت 5774) . الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لأحمد بن حجر العسقلاني (852هـ) ، تحقيق محمد سيد جاد الحق، دار الكتب الحديثة، القاهر 1/ 399؛ معجم المؤلفين 2/ 283.
6 في (ج) و (د) : شيئاً.
(1/328)
________________________________________
قال تعالى: {قلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 1انتهى2.
وقال /أبو السعود/3 الرومي في قوله /تعالى/ 4: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 5 أي وتخبرونه بما لا وجود له أصلاً، وهو كون الأصنام شفعاءهم عند الله، إذ لو كان ذلك لعلمه علام الغيوب. وفيه تقريع لهم وتهكم بهم وبما يدعون من المحال، الذي لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان، وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} حال من العائد6 المحذوف في "يعلم" مؤكدة للنفي، لأن ما لا يوجد فيها فهو منتف عادة) 7 انتهى.
وقال العلامة ابن القيم8 في الكلام على هذه الآية: هذا نفي لما ادعاه المشركون من
__________
1 سورة يونس الآية (18) .
2 تفسير ابن كثير 2/ 426، بتصرف يسير.
3 في جميع النسخ: ابن مسعود، وهو خطأ. والصواب ما أثبته كما في المطبوع. وأبو السعود هو: محمد بن محمد بن مصطفى العمادي الحنفي أبو السعود، فقيه أصولي مفسر، من موالي الروم، له تصانيف منها: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم "في التفسير"، وتهافت الأمجاد "في فروع الفقه الحنفي" وغيرهما. (ت 982هـ) وقيل (951) . البدر الطالع 1/ 261، معجم المؤلفين 11/ 301- 302.
4 ساقط في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.
5 سورة يونس الآية (18) .
6 وذلك أن الموصول في قوله (بما لا يعلم) بحاجة إلى صلة، ولا بد في الصلة من عائد، وهو هنا محذوف في يعلم، ويقدر ب (يعلمه) .
7 تفسير أبي السعود المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، للإمام أبي السعود محمد بن محمد العمادي (ت 951هـ) دار إحياء التراث العربي، بيروت 4/ 132، بتصرف.
*وروي عن الضحاك في تفسيره لهذه الآية قال: (أتخبرون الله أن له شريكاً، ولا يعلم لنفسه شريكاً في السموات ولا في الأرض.
انظر: زاد الميسر في علم التفسير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، الجوزي القرشي البغدادي (ت 597هـ) ، المكتب الإسلامي بيروت، ط/ 1، 1385هـ- 1965م 4/ 16
8 هو محمد بن أبي بكر بن أيوب، أبو عبد الله ابن قيم الجوزية، تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، وسجن معه في قلعة دمشق. يأأبي له تصانيف عدة منها: روضة المحبين، زاد المعاد، إعلام الموقعين، اجتماع الجيوش الإسلامية ... وغيرها. (ت 751هـ) . الدرر الكامنة 4/21، معجم المؤلفين 9/106.
(1/329)
________________________________________
الشفعاء، كنفي علم الرب تعالى بهم، المستلزم لنفي المعلوم، ولا يمكن أعداء الله المكابرة، وأن يقولوا قد علم الله جود ذلك، لأنه تعالى، إنما يعلم وجود ما أوجده وكونه، ويعلم أنه سيوجد ما يريد إيجاده، فهو يعلم نفسه وصفاته ومخلوقاته التي لم توجد بعد.
وأما وجود شيء آخر غير /مخلوق/1 له ولا مربوب، فالرب تعالى لا يعلمه، لأنه يستحيل2 في نفسه، فهو سبحانه يعلمه مستحيلاً، /فكذلك/3 حجج الرب تبارك وتعالى، على بطلان ما نسبه إليه أعداؤه المفترون4 التي هي كالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من رجوع. فإذا وازنت بينهما ظهرت لك المفاضلة، إن كنت بصيراً. {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} 5، انتهى6.
__________
1ساقط في (ج) و (د) .
2 في أصل النص عند ابن القيم في بدائع الفوائد: مستحيل.
3 في الأصل (بدائع الفوائد) : فهذه.
4 هنا أسقط المصنف عبارة:. (عليه، فوازن بينهما وبين حجج المتكلمين الطويلة العريضة) التي ... وهي عبارة ينبني عليها قوله بعدها: فإذا وازنت بينهما ... .
5 سورة الإسراء الآية (72) .
6 بدائع الفوائد، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية (ت 751هـ) ، تقريظ وتقديم د. وهبة الزحيلي تحقيق وتعليق: معروف محمد هبي سليمان، وعلي عبد الحميد بلطه جي، توزيع دار الخاني، الرياض، دار الخير بيروت، ط/1، 1414هـ 1994م 4/130- 131.
(1/330)
________________________________________
وأما المسألة الثانية1: عن قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} الآية2؛
__________
1 وردت هذه المسألة في الدرر السنية 10/95.
2 سورة يونس الآية (66) .
(1/330)
________________________________________
فقد أشكل معناها على كثير من المفسرين، فزعموا أن المعنى: نفي أتباعهم شركاء، فجعلوا "ما" نافية، و"شركاء" مفعول يتبع، أي لم يتبعوا في الحقيقة شركاء، بل هم عباد مخلوقون مربوبون، والله هو الإله الحق لا شريك له1.
وأما ابن جرير -رحمه الله- فقرر أن "ما" في هذا المحل استفهامية، لا نافيه. قال -رحمه الله-: (ومعنى الكلام: أي شيء يتبع من يقول: لله شركاء في سلطانه وملكه كاذباً والله المتفرد بملك كل شيء في سماء كان أو في أرض، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} 2 يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك [ودعواهم] 3 (إلا الظن) يقول: إلا الشك، لا اليقين. {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون} 4 انتهى5.
وقال شيخ الإسلام6 -رحمه الله- ظن طائفة أن "ما" هاهنا نافية، وقالوا: ما يدعون من دون الله شركاء في الحقيقة، بل هم غير شركاء، وهذا خطأ، ولكن "ما" هاهنا حرف استفهام، والمعنى: وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون، فشركاء مفعول يدعون، لا مفعول يتبع؛ فإن المشركين يدعون من دون الله شركاء، كما أخبر عنهم بذلك في غير موضع7
__________
1 وممن فسر الآية بذلك: الزمخشري في الكشاف 2/244، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 8/230 والشوكاني في فتح القدير 2/460، وانظر تفسير القاسمي 9/3377.
2 سورة يونس الآية (66) .
3 ما بين المقوفتين ساقط في جميع النسخ، وهو موجود في أصل النص في تفسير الطبري.
4 سورة يونس (66) .
5 جامع البيان للطبري 11/139.
6 هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام أبو العباس تقي الدين، شيخ الإسلام ابن تيمية، ولد عام (661هـ) وتوفي عام (728هـ) .
انظر ترجمته: تذكرة الحفاظ 4/1496، البدر الطالع 1/63، الأعلام للزركلي 1/144.
7 من المواضع التي أخبر الله تعالى عنهم بذلك:
أ- قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [فاطر: من الآية40] .
ب- وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ} [النحل: من الآية86] .
(1/331)
________________________________________
فالشركاء موصوفون في القرآن بأنّهم يُدعَون من دون الله، ولم يوصوفوا بأنّهم يُتَّعون، فإنَّما يُتَّبع الأئمة الذين كانوا يدعون هذه الآلهة1، ولهذا قال بعد هذا: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} 2. ولو أراد أنهم ما يتبعون في الحقيقة شركاء، لقال: إن يتبعون إلاّ من ليسوا بشركاء، بل هو استفهام، يبيّن أنّ المشركين الذين دَعَوا من دون الله شركاء، ما اتبعوا إلاّ الظنّ، ما اتبعوا علماً، فإنّ المشرك لا يكون معه علم مطابق، وهو فيه ما يتبع إلاّ الظنّ، وهو الخرص والحرز، وهو كذب وافتراء، كقوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} 3.4
__________
1 وهؤلاء أئمة سوء، الذين يدعون إلى النار، كما أخبر الله تعالى عن فرعون وجنوده، لما طغى وقال لقومه: ما علمت لكم من إله غيري، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41] .
2 سورة يونس الآية (66) .
3 سورة الذاريات الآية (10) .
4 إلى هنا نهاية كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، في المجموع 15/61، وفي التفسير الكبير، له أيضاً، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1408 هـ 1988م 4/393 وقد أورده المصنف بألفاظه، يتخللها زيادات من المصنف بقصد الشرح والإيضاح.
(1/332)
________________________________________
وأما المسألة الثالثة: عن قولك: أسألك/بمعاقد/1 العز من عرشك2.
فكره أبو حنيفة3
__________
1 في جميع النسخ والمطبوع: بعقد. والتصحيح من النهاية لابن الأثير. وقال في معنى (بمعاقد العز) أي: (بالخصال التي استحق بها العرشُ العزَّ، أو بمواضع انعقادها منه وحقيقة معناها: بعز عرشك. وأصحاب أبي حنيفة يكرهون هذا اللفظ من الدعاء) . النهاية لابن الأثير 3/270-271.
2 أورده ابن الأثير في النهاية 3/270. وابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ص 407. قال السيوطي في الدر النثير تلخيص نهاية ابن الأثير، له، مطبوع في الصلب معه النهاية، وبهامشه مفردات الراغب ط/1، المطبعة الخيرية القاهرة، (3/192) قال بعد ذكره لمعنى الحديث: قلت: وحديثه موضوع) .
3 هو النعمان بن ثابت، صاحب المذهب الحنفي (ت 150 هـ) . تاريخ بغداد 13/323، سير الأعلام 6/390.
(1/332)
________________________________________
-رحمه الله- المسألة بعقد العز1، وأجازها2 صاحبه أبو يوسف3 لأنه قد يراد بهذه الكلمة المحل، أي محل العقد وزمانه، كمذهب، يطلق على محل الذهاب وزمانه. وربّما أريد به المفعول، كمركب بمعنى المركوب، ويكون هنا اسم مصدر من عقد يعقد عقداً؛ والاسم معقد، ويكون صفة ذات، ولهذا قال أبو يوسف: معقد العز هو الله4.
وأما أبو حنيفة فنظر إلى أن اللفظ محتمل لمعاني متعدّدة، فلذلك كره المسألة به، وبهذا يتبيّن المعنى5.
__________
1 انظر النهاية لابن الأثير 3/271، وإغاثة اللهثان في مصايد الشيطان، لابن قيم الجوزية 1/335.
2 في (أ) و (د) : (فأجازها) .
3 هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، أبو يوسف القاضي، الإمام المجتهد، صاحب أبي حنيفة، ولد (113هـ) (ت182هـ) . انظر: تاريخ 14/242، سير الأعلام 8/535.
وانظر قوله بإجازة الدعاء بذلك: إغاثة اللهفان لابن القيم 1/335.
4 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص 407، وإغاثة اللهفان لابن القيم1/335، وغاية الأماني في الرد على النبهاني، لأبي المعالي محمود شكري الألوسي (1342هـ) ، مطابع نجد التجارية، الرياض 2/329.
5 المرجع السابق: الاقتضاء ص 407-408، غاية الأماني 2/329.
(1/333)
________________________________________
وأما المسألة الرابعة: عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " إلى من تكلني إليه، إلى بعيد يتجهمني " 6.
__________
6 هذا جزء من دعاء توجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه بعيد ما أهانته ثقيف في الطائف، وتمامه: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي؛ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) .
انظر كنز العمال (3613، 3756) وعزاه للطبراني عن عبد الله بن جعفر، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/35 بعد ذكر الحديث: (رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات) . وأخرجه الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزياداته، له، المكتب الإسلامي بيروت لبنان، ط/2، 2،1408هـ - 1988م، 1/358- 359 (1280) . وذكره ابن هشام في سيرته 2/420.
(1/333)
________________________________________
فاعلم أن التجهم الغلظة والعبوس والاستقبال بالوجه الكريه، والجهم الغليظ المجتمع. وجَهُمَ ككَرُمَ جِهَامَةً وجَهُوْمَةً: استقبله بوجه كريه كتجهُّمِه1.
والجهمة آخر الليل أو بقية السواد من آخره2، وأجهم: دخل فيه انتهى. وبه يظهر أن التجهم /يقع/3 على الاستقبال بوجه مظلم عبوس؛ ومن صفات الجهم4.
__________
1 انظر لسان العرب 12/110-111، وترتيب القاموس المحيط 1/549 مادة (جهم) .
2 المرجعان السابقان، نفس الصفحات.
3 في (ب) : يبقى.
4 في المطبوع ذكر الناسخ أن هاهنا سقط، وترك له بياضاً، ليضعه من يجد ذلك السقط.
والذي يظهر لي، أن الكلام تام -كما هو في جميع النسخ- لا يوجد سقط. وقد أراد الشيخ تأكيد ما تقدم من كلامه، وهو أن التجهم: الاستقبال بوجه كريه، وأنه من صفات الجهم (الذي هو الغليظ) .
(1/334)
________________________________________
وأما المسألة الخامسة1: عن قوله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بنور وجهك " 2
وقوله في حديث أبي موسى3: " حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه4 /ما انتهى إليه بصره من خلقه /5 6،
__________
1 وردت هذه المسألة في الدرر السنية 3/343-345.
2 تقدم تخريجه في هامش رقم (6) من ص 333.
3 تقدم ترجمته ص 167.
4 سبحات وجهه: نوره وجلاله وعظمته وبهاؤه. النهاية لابن الأثير 2/332، شرح صحيح مسلم للنووي 3/17.
5 ساقط في (ج) و (د) . وفي (ب) سقط كلمة (من خلقه) .
6 صحيح مسلم بشرح النووي 3/16-17، الإيمان باب إنّ الله لا ينام، من طريق أبي معاوية، سنن ابن ماجة 1/38، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، مسند الإمام أحمد 4/401.
وأول الحديث: (إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يحفظ القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور ... ) .
(1/334)
________________________________________