الكتاب: أبكار الأفكار في أصول الدين
المؤلف: علي بن محمد بن سالم التغلبي، أبو الحسن، سيف الدين الآمدي (المتوفى: 631 هـ)
تحقيق: أ. د. أحمد محمد المهدي
عدد الأجزاء: 5
الناشر: دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة
الطبعة: الثانية / 1424 هـ -2004 م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
أعده للشاملة: //محمود الجيزي - عفا الله عنه//
ملاحظة: [هذا الكتاب من كتب المستودع بموقع المكتبة الشاملة]
«المسألة العاشرة» «فى التوفيق، والعصمة، والخذلان»
أما التوفيق:
ففى اللغة: عبارة عن تهيؤ العبد للموافقة.
وأما فى عرف المتكلمين: فمختلف.
فالذى ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعرى، وأكثر الأئمة من أصحابه «1»: أن التوفيق: هو خلق القدرة على الطاعة، وهو موافق للوضع اللغوى؛ إذ الموافقة إنما هى بالطاعة، وبخلق القدرة الحادثة يكون التهيؤ للموافقة ضرورة، وحصول الموافقة عنده، وعدم حصولها عند عدمه، وإن لم تكن القدرة الحادثة مؤثرة فى الإيجاد.
وعلى هذا فمن زعم من أصحابنا كالإمام أبى المعالى «2»: أن التوفيق: هو خلق الطاعة؛ لعدم تأثير القدرة الحادثة فى الطاعة؛ فقد أبعد عن الوضع اللغوى، من حيث أن الطاعة بها الموافقة لا التهيؤ للموافقة، وإن كان لا حرج عليه فى الاصطلاح على ذلك مع نفسه.
وأما المعتزلة «3»: فمختلفون فى ذلك.
فمنهم: من زعم أن التوفيق: هو الدعوة، وإيضاح سبل المراشد، وتبين مقاصدها.
ومنهم: من زعم أن التوفيق: هو اللطف، على ما سبق تحقيقه.
والمذهبان باطلان.
أما الأول: فلأنه يلزم منه أن يقال: الكفار موفقون، لتحقيق هذا المعنى فى حقهم؛ وهو ممتنع.
وأما الثانى: فمن جهة أن الأمة مجمعة على تسويغ الدعاء، وطلب التوفيق من الله- تعالى-؛ فلو كان هو اللطف كما ذكروه: فإما أن يكون ممكنا، أو لا يكون ممكنا.
________________
(1) فى ب (أصحابه إليه).
لتوضيح رأى الأشاعرة فى هذه المسألة: انظر الإرشاد لإمام الحرمين ص 254، 255 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 411 - 414 وشرح المواقف 2/ 388، 389 وشرح المقاصد 2/ 118.
(2) انظر الإرشاد ص 254، 255.
(3) لتوضيح رأى المعتزلة فى هذه المسألة انظر: شرح الأصول الخمسة ص 518 - 555.
(2/207)
________________________________________
فإن كان ممكنا: فهو واجب على الله- تعالى- ولا بد من وقوعه، ولا معنى لطلب ما لا بد منه، ولا للمتضرع «1» / فى وجوده، كما أنه لا معنى لقول القائل اللهم لا تظلمنى، حيث «2» لم يكن الظلم من الله- تعالى- متصورا «2».
وإن لم يكن ممكنا: فلا معنى لطلب ما لا يمكن.
وأما العصمة:
فهى فى اللغة: مأخوذة من المنع- ومنه قوله- تعالى- إخبارا عن ابن نوح عليه السلام: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ «3»: أى يمنعنى. وقوله: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ أى لا مانع. وقوله- تعالى-: واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «4»:
أى يمنعهم عنك. وقوله- تعالى-: واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ «5»: أى امتنعوا بالالتجاء إلى فضله عمن سواه. ويقال لقلل «6» الجبال «6» عواصم؛ لامتناع من يلجأ إليها بها عن غيره.
وأما الفرق الأصولى: فمذهب الشيخ أبى الحسن، والأئمة من أصحابه: أن مدلول العصمة ما هو مدلول التوفيق على ما سبق من أصله. وهو موافق للوضع اللغوى أيضا؛ فإن خلق القدرة على الطاعة، والإيمان، يلازمه الطاعة والإيمان. ويلزم من الطاعة امتناع المعصية، ومن الإيمان امتناع الكفران؛ فخلق القدرة على الطاعة، والإيمان تكون عصمة عن المعصية، والكفران.
وعلى هذا فلا يمتنع إطلاق اسم العصمة على خلق الطاعة والإيمان نفسهما؛ لامتناع وقوع المعصية، والكفر معهما.
فإن قيل: إذا كان خلق القدرة على الإيمان، وخلق الإيمان عصمة مانعة من الكفر؛ فخلق القدرة على الكفر، أو خلق الكفر، يكون أيضا منعا من الإيمان. وليس خلق القدرة على الكفر مانعا من الإيمان.
________________
(1) فى ب (و لا يتضرع).
(2) فى ب (حيث أنه لم يكن الظلم متصورا من الله تعالى).
(3) سورة هود 11/ 43.
(4) سورة المائدة 5/ 67.
(5) سورة آل عمران 3/ 103.
(6) فى ب (لقلل) وقلل الجبال معناها قمم الجبال، و (قلة الجبل) أعلاه والجمع (قلل) المصباح المنير. باب القاف فصل اللام وما يثلثهما).
(2/208)
________________________________________
وكذلك خلق الكفر، بدليل قوله- تعالى- وما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا «1». دل على انتفاء كل مانع غير المستثنى، وإذا لم يكن خلق القدرة على الكفر، أو خلق الكفر مانعا من الإيمان؛ فكذلك خلق القدرة على الإيمان، أو خلق الإيمان؛ لا يكون مانعا من الكفر.
وأيضا: فإن إطلاق المنع من «2» الشيء، إنما يحسن عند المحاولة لذلك الشيء، ولا يحسن بتقدير كون الشخص كارها له غير مريد له. ومن خلق له الإيمان، أو خلقت له القدرة عليه على وجه يكون مقارنا له؛ فلا يكون محاولا للكفر؛ بل كارها له؛ فلا يحسن إطلاق المنع بالنسبة إليه.
والجواب عن الأول: لا نسلم أن خلق القدرة على الكفر ليس مانعا من الإيمان حالة كونه كافرا.
وأما/ الآية فهى دليل على أن المانع إنما هو استبعاد قدرة الله- تعالى- على أن يبعث بشرا رسولا؛ وذلك عين الكفر؛ وليس فيها ما يدل على أن الكفر ليس بمانع.
وعن الإشكال الثانى: أن صحة إطلاق المنع عن الشيء يستدعى وقوع المحاولة له، أو صحة المحاولة لذلك الشيء. الأول؛ ممنوع، والثانى؛ مسلم.
وعلى هذا فلا يلزم من عدم وقوع المحاولة للكفر فى حق المؤمن؛ امتناع صحة المحاولة له.
وأما المعتزلة: فمدلول أصل «3» العصمة عندهم أيضا ما هو مدلول اسم التوفيق على اختلاف مذاهبهم، غير أن من فسر التوفيق منهم باللطف اختلفوا. فمنهم من قال:
اللطف إنما يسمى عصمة إذا قارنه الإيمان والطاعة، وقيل ذلك لا يسمى عصمة.
ومنهم من قال: إنه يسمى مثل ذلك عصمة إذا كان فى علم الله- تعالى- أن ذلك اللطف يعود إلى الإيمان.
والوجه فى إبطال ما ذكروه. ما أبطلنا به تفسير التوفيق، بالدعوة واللطف؛ فعليك بنقله إلى هاهنا.
________________
(1) سورة الاسراء 17/ 94.
(2) فى ب (على).
(3) فى ب (اسم).
(2/209)
________________________________________
وأما الخذلان:
فهو عند الشيخ أبى الحسن، وأصحابه ضد التوفيق. فكما أن التوفيق: خلق القدرة على الطاعة؛ فالخذلان: خلق القدرة على المعصية؛ وهو على وفق العرف اللغوى.
فإن الخذلان فى عرف أهل اللغة المنع من درك المراشد، وقطع الأسباب المعينة عليها، وخلق القدرة على الكفر إذا كانت مقارنة للكفر، مانعة من درك المراشد؛ فكان «1» ذلك خذلانا.
وأما البصريون من المعتزلة فقالوا: الخذلان هو ذم الله- تعالى- للعصاة، وتوبيخه لهم.
وأما الكعبى فقال: الخذلان عبارة عن قطع الألطاف، المعبر عنها بالتوفيق عنده كما سبق تعريفه.
والمذهبان بعيدان:
أما الأول: فلأنه على خلاف الإشعار اللغوى.
وأما الثانى: فلأن ما قطع من اللطف: إما أن يكون ممكن الوجود، أو غير ممكن.
فإن كان الأول: فهو واجب على الله- تعالى- عنده؛ فيمتنع قطعه.
وإن كان الثانى: فما ليس ممكنا لا يكون قطعه لله ممكنا، وليس القول بكون الله خاذلا للكافر باعتبار أنه لم يخلق اللطف فى حقه، أولى من كون الواحد منا خاذلا له بهذا الاعتبار؛ ضرورة الاشتراك فى عدم الاقتدار عليه.
وبالجملة: فالبحث أيضا فى هذه المسألة لفظى. واللغة/ ما ذكرنا، ولا حرج فى الاصطلاح بعد فهم المعنى.
************
________________
(1) فى ب (و كما أن).
(2/210)
________________________________________
المسألة الحادية عشرة» «فى تحقيق معنى الأجل، ووجه الاختلاف فيه» «1»
والنظر فى الأجل من طرفين:
الأول: فى حقيقته، ومعناه.
الثانى: فى أنه هل يجوز قطعه، أم لا؟
أما حقيقة الأجل:
فاعلم أن أجل كل شيء هو وقت تحققه، وأما ما هو الوقت، فسيأتى الكلام فى تحقيقه، وبيان اختلاف الناس فيه، وما هو الحق منه فيما بعد؛ لكن لا بد من الإشارة إلى ما إليه ميل المحققين من أصحابنا فى تحقيق معنى الوقت؛ لبناء الفرض عليه هاهنا.
والّذي إليه ميل القاضى، وحذاق الأصحاب: أن وقت كل شيء هو ما قارنه من معلوم متجدد، لم يكن ذلك الشيء قبله- وسواء كان ذلك المعلوم المتجدد وجودا: كما يقال: قدم زيد عند طلوع الشمس، أو عدما: كما يقال: تحرك الجوهر عند عدم سواده، أو بياضه.
وعلى هذا: فما جعل وقتا لشيء، أمكن أن يكون ذلك الشيء وقتا له؛ فإنه كما يقال قدم زيد عند طلوع الشمس، ويجعل طلوع الشمس وقتا لقدوم زيد فيقال: طلعت الشمس عند قدوم زيد؛ فيجعل قدوم زيد وقتا لطلوع الشمس على حسب قصد الموقت وإرادته، وظهور ما جعل وقتا عند المخاطبة بالنسبة إلى الشيء الموقت به؛ فالتأقيت لكل شيء تخصيص تحققه بمقارنة معلوم متجدد.
________________
(1) لتوضيح رأى الأشاعرة فى هذه المسألة، وردهم على خصومهم بالإضافة إلى ما ورد هنا:
انظر الإبانة عن أصول الديانة للأشعرى ص 55، 56 وأصول الدين للبغدادى ص 142 - 144 والإرشاد لإمام الحرمين ص 361 - 363. ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 416.
ومن كتاب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
شرح المواقف 2/ 389 وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 118، 119.
أما عن رأى المعتزلة: فانظر شرح الأصول الخمسة ص 780 - 784.
(2/211)
________________________________________
وعلى هذا فلا يتصور تأقيت أمر ما بالقديم؛ لعدم تجدده؛ وسواء كان ذلك القديم عدما، أو وجودا، وكذا لا يتصور تأقيت القديم بوقت؛ لأن الوقت متجدد كما سبق.
والقديم فلا يكون موقتا فى تحققه بالمتجدد، وإلا لكان القديم متجددا، أو المتجدد قديما؛ وهو محال. بلى إن قيل بأن القديم يتفق وجوده، مع وجود المتجدد من غير تأقيت بالتفسير المذكور، فهو حق. وذلك كما يقال: وجود الرب- تعالى- فى الآن مع وجودنا.
فإن قيل: ما ذكرتموه فى تفسير الأجل مخالف للإشعار اللغوى؛ إذ الأجل فى اللغة مشعر بالتأخير إلى أمد معلوم، ومنه سمى الدين مؤجلا نظرا إلى تأخير المطالبة إلى وقت معلوم.
قلنا: ليس كذلك؛ بل الأجل فى اللغة هو التقدير بالوقت، والتخصيص به، غير أن المؤجل: أى الموقت، قد يكون تأخيرا: كتأخير «1» المطالبة فى وقته المقدر، فأجل تأخير المطالبة هو وقته، وأجل الأداء هو وقته.
وأما أنه هل/ يجوز قطع الأجل المقدّر فى حكم الله، أم لا؟
فقد اختلف المتكلمون فيه:
فذهبت الأشاعرة وغيرهم: إلى امتناع ذلك، وأن من قتل ظلما، أو بحق؛ فقد فاضت نفسه فى الأجل المحتوم من غير زيادة، ولا نقصان.
ووافقهم على ذلك الجبائى، وأبو هاشم، ومتأخرى المعتزلة.
وأما المتقدمون من المعتزلة فقد اختلفوا:
فمنهم من قال: من مات حتف «2» أنفه؛ فقد مات بأجله، ومن قتل؛ فقد انقطع أجله بالقتل، وأنه لو لم يقتل؛ لبقى إلى وقته المقدر.
ومنهم من قال بجواز الحياة، والموت، بتقدير عدم القتل.
________________
(1) فى ب (لتأخير).
(2) فى ب (على حتف).
(2/212)
________________________________________
ومنهم من فصل وقال: إذا اتفق هلاك عدد كثير بحريق، أو غرق، أو غير ذلك، أمكن أن يقال فى بعضهم من غير تعيين أنه لو قدر عدم ذلك السبب؛ لجاز أن يبقى، وأن يموت.
ولا جائز «1» أن يقال فى الكل أنه لو قدر عدم ذلك السبب فى حقهم؛ لجاز موت الكل معا من غير سبب؛ إذ هو خرق للعادة، وخرق العادة لا بجهة الإعجاز، قدح فى المعجزات، وهذا بخلاف الواحد، أو الاثنين، وما «2» لا ينتهى الحال فيه إلى خرق العادة.
وذهب أبو الهذيل العلاف منهم: إلى أن من قتل لو لم يقتل؛ لمات قطعا، ولما تصور تقدير بقائه.
وأما الرد على من قال بوجوب البقاء بتقدير عدم القتل،
وأن القتل «3» قاطع للأجل المحتوم المقدر؛ فمن جهة الاستدلال، والإلزام.
أما الاستدلال:
فهو أن من قتل فى وقت معلوم، لا يخلو: إما أن يكون وقوع قتله فى ذلك الوقت معلوما لله- تعالى، أو غير معلوم له.
لا جائز أن يكون غير معلوم له: وإلا كان الرب- تعالى- جاهلا بعواقب الأمور؛ وهو محال.
وإن كان عالما به: فلا بد من وقوعه فى ذلك الوقت، وإلا كان علمه جهلا؛ وهو محال أيضا.
وإذا كان كذلك استحال أن يكون له أجل يحيى فيه بعد ذلك الوقت فى علم الله- تعالى- لما فيه من التناقض فى معلوم الله- تعالى- فبان أن أجله المقدر، إنما هو وقت قتله لا غير، وأن القتل لم يكن قاطعا.
وأما من جهة الإلزام:
فمن ثلاثة أوجه:
________________
(1) فى ب (و لا يجوز).
(2) فى ب (مما).
(3) فى ب (القطع).
(2/213)
________________________________________
الأول: هو أن «1» القول بوجوب البقاء «1» بتقدير عدم القتل إلى «2» الوقت المعلوم إما أن يقال معه بجواز الموت «3»، أو لا يقال بجوازه «4».
لا جائز أن يقال بعدم الجواز: فإنا لو قدرنا «5» عدم تعلق علم الله/ بالبقاء إلى ذلك الوقت كان الموت «6» جائزا، وتعلق «7» علم الله بأن الأجل ممتد إلى الوقت «8» مانع من جواز القتل عندهم، قبل ذلك الوقت؛ فلا يمنع من الموت قبل ذلك الوقت، وإلا فالفرق تحكم غير معقول. وإذا كان الموت- بتقدير عدم تعلق العلم بالأجل المقدر- جائزا، وتعلق العلم بالأجل غير مانع من جواز الموت؛ فهو جائز.
وإذا كان الموت جائزا قبل ذلك الأجل؛ فقد بطل القول بوجوب البقاء.
الوجه الثانى فى الإلزام: أنهم حكموا بأن الموت حتف أنفه غير قاطع لأجله، والقتل قاطع.
ولو قيل: ما المانع من أن يقال: لو قدرنا عدم موته فى ذلك الوقت؛ لبقى إلى أجل معلوم لله- تعالى- وأن الموت- فى ذلك الوقت- قاطع لأجله- كما قلتم فى القتل-؟ لم يجدوا إلى الفرق سبيلا.
الثالث: هو أنهم قضوا بأن شخصا لو أتلف شيئا مما ليس بحيوان أنه لا يكون قاطعا لأجله المعلوم لله- تعالى-؛ بل إتلافه وقع فى وقته، وأجله.
ولو قيل لهم: ما الفرق بين الأمرين؟ كان الجواب متعذرا.
فإن قيل: ما ذكرتموه وإن دل على أن القتل غير قاطع للأجل؛ لكنه معارض بما يدل على كونه قاطعا للأجل، وأن الأجل مما يتصور فيه الزيادة، والنقصان.
وبيانه من جهة المعقول، والمنقول.
________________
(1) فى أ (أن القول بوجوب بالبقاء) وفى ب (أن البقاء).
(2) فى ب (فى).
(3) فى ب (الوقت).
(4) فى ب (معه بجوازه).
(5) فى ب (فرضنا).
(6) فى ب (الوقت).
(7) فى ب (إذ تعلق).
(8) فى ب (ما يمنع).
(2/214)
________________________________________
أما من جهة المعقول:
فهو أن القاتل بغير حق محكوم عليه بكونه جانيا بالاتفاق شرعا وعقلا. ولو لم يكن قاطعا لأجل المقتول؛ لما كان بقتله جانيا، ولا ظالما.
وأما من جهة المنقول:
فمن جهة الكتاب، والسنة:
أما من جهة الكتاب:
فقوله- تعالى-: وما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ «1» [و هو] «2» دليل جواز ازدياد الأجل، ونقصانه.
وأيضا قوله- تعالى-: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ «3»؛ وهو دليل ثبوت أجلين.
وأما من جهة السنة:
فما روى عن النبي عليه السلام أنه قال: «من سرّه أن يبسط اللّه فى رزقه وينسأ فى أثره فليصل رحمه» «4». ومعناه يؤخر أجله؛ إذ الأثر، هو الأجل.
قال الشاعر:
والمرء ما عاش ممدود له أمد ... لا ينقضى العمر حتّى ينقضى الأثر
وأراد به الأجل؛ والحديث ظاهر فى تأخير الأجل، وزيادته.
سلمنا «5» امتناع ذلك فى قتل الواحد؛ لكنه غير ممتنع فى حق جماعة لا يتصور فى العادة اخترامهم معا من غير سبب، بتقدير عدم قتلهم. ولو قيل بوجوب اخترامهم/ معا
________________
(1) سورة فاطر 35/ 11.
(2) ساقط من أ.
(3) سورة الأنعام 6/ 2.
(4) ورد هذا الحديث فى صحيح البخارى بشرح ابن حجر 13/ 20 كتاب الأدب- باب من بسط له فى الرزق لصلة الرحم عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سره أن يبسط له فى رزقه وأن ينسا له فى أثره فليصل رحمه».
(5) فى ب (و إن سلمنا).
(2/215)
________________________________________
بتقدير عدم الأسباب العامة المهلكة؛ لكان ذلك من خرق العوائد فى غير جهة الإعجاز، وفيه ما يوجب إبطال المعجزة؛ وهو ممتنع.
وإن سلمنا امتناع ذلك مطلقا؛ ولكن ما المانع من القول بوجوب الموت بتقدير عدم القتل؟ كما قاله أبو الهذيل. ولو لا ذلك؛ لكان العلم بانقضاء أجله عند قتله جهلا؛ وهو محال.
وإن سلمنا امتناع القول بوجوب البقاء بتقدير عدم القتل، وامتناع وجوب الموت؛ ولكن ما المانع من جواز الموت والبقاء، كما قاله الباقون من الأوائل منهم؟، حتى لا يخرج كل واحد عن كونه مقدورا للرب- تعالى-.
والجواب:
(أما) «1» ما ذكروه من الشبه العقلية، فجوابها من وجهين:
الأول: أن ما ذكروه غير لازم على أصلنا، ولا على أصلهم.
أما على أصلنا: فلما علم أن زهوق نفس المقتول، وخراب بنيته؛ ليس مكتسبا للقاتل؛ بل كسبه غير خارج عن محل قدرته، وهو فعله، وما هو خارج عنه؛ فهو من فعل الله- تعالى- وجناية العبد وظلمه، ليس بسبب كونه مفوتا للروح؛ إذ هو غير مقدور له؛ بل بكسبه، وهو الفعل القائم بمحل قدرته المقصود له على وجه يعقبه زهوق الروح بفعل الله- تعالى.
وأما على أصلهم: فلجواز اشتمال فعل القاتل، وتسلّطه على قتل الغير بغير حق على مفسدة موجبة لقبحه، كما هو أصلهم، وعدم «2» ذلك فى إماتة الله- تعالى- له.
الثانى: هو أن ما ذكروه منتقض بإتلاف ما ليس بحيوان على ما سبق.
وما ذكروه من الظواهر؛ فظنية غير يقينية؛ فلا يكون حجة فيما «3» يطلب فيه «3» اليقين.
________________
(1) فى أ (أن).
(2) فى ب (و خلق).
(3) فى ب (منها المطلوب منه).
(2/216)
________________________________________
ثم هى مؤولة، ومعارضة.
أما تأويل الآية الأولى: فمن وجهين ذكرهما أهل التفسير:
الأول: أن المراد من قوله: ولا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ بالنسبة إلى أعمار أقرانه.
الثانى: أن المراد به ما يجرى فى نسخ الآجال التى الآجال «1» مثبتة فيها، من المحو، والإثبات. وهو المراد من قوله- تعالى- يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ «2»؛ وليس هو عائد إلى ما هو معلوم لله- تعالى.
وأما الآية الثانية: فقد قال أهل التفسير، المراد من قوله: ثُمَّ قَضى أَجَلًا أى أجل الدنيا وأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل الآخرة.
ونحن لا ننكر ذلك، وإنما ننكر ثبوت أجلين للموت، والحياة؛ وليس فى الآية ما يدل عليه، والتأويل للحديث؛ فكتأويل الآية الأولى.
وأما المعارضة/: فقوله- تعالى-: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ «3». وهو صريح فى نفى التقديم، والتأخير فى «4» الأجل «4».
وأيضا قوله- تعالى-: وما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا «5».
وأيضا قوله- تعالى-: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وما يَسْتَأْخِرُونَ «6» وفى القول بأن القتل قطع للأجل؛ مخالفة هذه النصوص.
وأيضا قوله- تعالى-: ولَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ «7».
ووجه الاحتجاج به أنه أخبر بتوقف فعل الله- تعالى- على بلوغ الأجل، فإذا كان فعل الله متوقفا على الأجل، ولا «8» يكون قاطعا له؛ ففعل الحادث أولى.
________________
(1) فى ب (إلا الآجال).
(2) سورة الرعد 13/ 39 زائد فى ب (و عنده أم الكتاب).
(3) سورة الأعراف 7/ 34.
(4) ساقط من ب.
(5) سورة آل عمران 3/ 145.
(6) سورة الحجر 15/ 5.
(7) سورة العنكبوت 29/ 53.
(8) فى ب (فلا يكون).
(2/217)
________________________________________
وأيضا قوله- تعالى-: وقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا «1».
ووجه الاحتجاج به، أن منهم من مات حتف أنفه، ومنهم من قتل، وقد قررهم البارى- تعالى- على إخبارهم بلوغ آجالهم، ولم ينكر عليهم؛ فدل على أن ما قالوه حق، ولو كان القتل قاطعا للأجل؛ لما كانوا صادقين على الإطلاق.
ولا يخفى أن ما ذكرناه من النصوص أصرح وأدل، على الغرض مما ذكروه؛ فكان العمل بها أولى.
وعلى ما حققناه من وجوب وقوع المعلوم على ما علمه الله- تعالى «2» - يمتنع بتقدير عدم «2» القتل، إذا كان الله- تعالى «3» - قد «3» علم انقضاء الأجل فى ذلك الوقت بصفة القتل، وإلا كان العلم جهلا؛ وهو على الله- تعالى- محال.
وعلى هذا فيمتنع التفريع عليه بوجوب الموت، أو بجوازه «4»، وجواز «4» الحياة.
وسواء كان المقدر أجله بالقتل واحدا، أو أكثر، وبه اندفاع ما ذكروه من باقى التشكيكات.
ثم يلزم القائل بوجوب الموت بتقدير عدم القتل، أن يكون الذابح لشاة الغير دون إذنه، غير متعد، ولا جان فى فعله؛ بل محسنا؛ فإنه لو لا ذبحه لها لماتت، وفاتت مصلحتها على مالكها.
وكذلك أيضا يلزم امتناع الجزم بقبح ذبحه على أصل القائل بجواز الموت دون الوجوب؛ لما ذكرناه من وجوب رعاية «5» المصلحة على أصلهم.
فلئن قالوا: إنما قبح ذبح الشاة دون إذن المالك؛ لتضرر المالك «6» بتسلطه على إتلاف ماله دون رضاه، ولا يمتنع أن يكون ما فيه الصلاح من وجه قبيحا من جهة ما فيه من المفسدة.
________________
(1) سورة الأنعام 6/ 128.
(2) فى ب (يمتنع عدم تقدير).
(3) ساقط من ب.
(4) فى ب (أو بجواز.)
(5) فى ب (مراعاة).
(6) فى ب (المالك عليه).
(2/218)
________________________________________
فنقول: إنما يكون ذلك قبيحا، أن لو لزم منه مفسدة على أصلهم، وإنما يكون ما ذكروه من التسلط مفسدة- أن لو لم تحصل به مصلحة للمالك تفوت بتقدير عدم الذبح، وإذا كان الموت أيضا لازما بتقدير عدم الذبح فبالذبح/ تحصل المصلحة، وبتقدير عدمه تفوت، ومثل ذلك لا يعدّ مفسدة، ولا قبيحا. وإن كان دون إذن المالك وهذا كما لو رأى شاة الغير مشرفة على الهلاك من حريق، أو غرق، أو وقوع فى مهلكة؛ فأخذ فى تخليصها، والتصرف فيها بما ينجو به من الهلاك دون إذن المالك؛ فإن فعله يكون حسنا؛ لما فيه من تحصيل المصلحة للمالك الفائتة بتقدير عدم تصرفه؛ فكذلك فيما نحن فيه.
************
(2/219)
________________________________________
«المسألة الثانية عشرة» «فى معنى الرزق، واختلاف الناس فيه»
ولا خلاف بين الأمة أن الرزق يستدعى رازقا، ومرزوقا.
وإنما الخلاف بينهم فى معنى الرزق، ومن هو الرازق.
فأما الرزق:
فقد أجمعت المعتزلة «1»: على أنه لا يكون حراما.
ثم اختلفوا فى حده:
فقال الجبائى: إن الرزق هو الملك. وسواء كان أنتفع به، أم لا؟ ويبطل بالحوادث بجملتها؛ فإنها مملوكة لله- تعالى- وليست رزقا له. ويبطل بالبهائم: فإنها مرزوقة؛ ولها رزق بالإجماع. وبدليل قوله- تعالى-: وما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «2» ومع ذلك لا ملك لها بالإجماع.
فإن فسر الملك بالقدرة الحسية، على ما هو الإشعار اللغوى؛ فيلزمه أن يكون الحرام رزقا للقادر عليه حسا؛ وهو خلاف إجماع المعتزلة.
وقال أبو هاشم: الرزق كل ملك يتصور الانتفاع به من مالكه، وهو وإن خرج عنه النقض بملك الله- تعالى- إلا أنه منتقض بأرزاق البهائم على ما تقرر.
وقال أبو عبد الله البصرى «3»: الرزق كل ما للحى الانتفاع به، من غير تعد فيه، ولم يلتفت فى التحديد إلى الملك؛ لإدراج أرزاق البهائم فيه؛ وهو باطل أيضا، بما تأكله السباع من المواشى؛ فإنه يجوز لمالكها منع السباع من أكلها شرعا بالإجماع؛ بل
________________
(1) لتوضيح رأى المعتزلة فى هذه المسألة: انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 784 - 788.
(2) سورة هود 11/ 6.
(3) أبو عبد الله البصرى: ت 369.
الحسين بن على البصرى، كان شيخا لقاضى القضاة عبد الجبار صاحب المغنى. وهو من أهل البصرة- كان على مذهب أبى هاشم، وإليه انتهت رئاسة أصحابه. وكان تلميذا لأبى القاسم بن سهلويه الّذي تتلمذ على أبى هاشم توفى سنة 369 ه. (المنية والأمل 62).
(2/220)
________________________________________
وكذلك غير المالك؛ لحفظ أرواح المواشى، والملك المعصوم على مالكه.
وعند هذا: فإما أن يقال: بأن ما أكله السبع يكون رزقا له، أو ليس رزقا له.
فإن كان الأول: فهو خلاف ما أجمعت المعتزلة عليه، من أن الممنوع عن الشيء شرعا لا يكون ذلك الشيء رزقا له.
وإن كان الثانى: فقد انتقض الحد؛ حيث وجد ولا محدود.
والّذي صار إليه متأخروا المعتزلة- وهو اختيار صاحب المغنى «1» - أن الرزق هو كل ما للحى الانتفاع به، ولا يجوز منعه منه.
وهو منتقض بالحشيش، والكلأ فى الموات؛ فإنه رزق للبهائم بإجماع منهم. ومع ذلك يجوز منعهم عنه بإحياء الموات. وينتقض أيضا بالملك المباح/ الّذي «2» لمالكه الانتفاع به؛ فإنه رزق له بإجماع منهم مع أن للرب- تعالى- منعه من الانتفاع به.
إما بأن يفوته عليه، أو بإخراج المالك بالمرض، أو بسبب آخر عن التمكن من الانتفاع به؛ وفيه وجود المحدود دون حده.
والّذي عليه معول أهل الحق من الأشاعرة «3»: أن الرزق كل ما انتفع به حىّ، وسواء كان بالتعدى، أو بغيره. مباحا، أو حراما، مملوكا، أو غير مملوك.
وربما ذهب بعض أصحابنا إلى أن الرزق هو ما تتربى به الحيوانات من الأغذية، والأشربة لا غير.
________________
(1) هو قاضى القضاة: عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذانى الأسدآبادي، كان شيخ المعتزلة فى عصره، وكانوا يلقبونه قاضى القضاة، بدأ حياته فقيها على مذهب الإمام الشافعى، ثم انصرف إلى الكلام بعد أن وجد قلة الإقبال عليه من طلاب الدنيا. وكان مؤرخا يلم بالفرق المختلفة وعلى الأخص الأشاعرة الذين قضى شبابه بينهم، له تصانيف كثيرة من أهمها المغنى، وقد توفى بالرى سنة 415 ه (انظر مقدمة الجزء الثانى عشر من المغنى ومقدمة شرح الأصول الخمسة وطبقات الشافعية 3: 219 والأعلام 4: 47).
(2) اللوحة رقم 209 ليست موجودة فى (الميكروفيلم) الموجود بجامعة الدول العربية تحت رقم 1 توحيد، ويبدو أن المصور قد نسى تصويرها، لذا فقد اعتمدت على نسخة ب، ج فقط.
(3) من كتب الأشاعرة المتقدمين على الآمدي:
انظر الإبانة للأشعرى ص 56، 57 وأصول الدين للبغدادى ص 144، 145 والإرشاد لإمام الحرمين ص 364 - 366 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 415، 416.
ومن المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
انظر شرح المواقف 2/ 389، 390 وشرح المقاصد 2/ 119، 120.
(2/221)
________________________________________
والمذهب هو الأول؛ فإن الإطلاق من أهل العرف سائغ ذائع، بأن ما انتفع به الحيوان؛ فهو رزقه، وأن ما لم ينتفع به ليس رزقا له، وإن كان مملوكا له؛ بل رزق من انتقل إليه، وانتفع به.
والنزاع فى هذه المسألة ليس فى غير التسمية؛ فكان صحة الإطلاق كافيا فيه؛ فإنه لو كان الرزق هو المنتفع به؛ لكان ما أخذه الغاصب وانتفع به، رزقا. ولو كان رزقا له؛ لما كان ممنوعا من الانتفاع به، ولا ملوما عليه، ولا معاقبا.
ويدل على أنه ليس رزقا له النص، والإطلاق.
أما النص: فقوله- تعالى-: ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «1» أثنى على المنفق من رزقه؛ وذلك غير متحقق فى حق الغاصب بما ينتفع به؛ فلا يكون رزقا له.
وأيضا قوله- تعالى-: وأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ «2». أمر بالانفاق من الرزق، والغاصب منهى عن الإنفاق مما اغتصبه؛ فدل على أنه ليس رزقا له.
وأما الإطلاق: فهو أن من أخذ مال غيره، وأحال بينه وبين ملكه، يصح أن يقال أحال بينه وبين رزقه. وإن لم يكن قد انتفع به؛ فدل على أن مسمى الرزق غير المنتفع به؛ وهو الرزق.
والجواب:
أما الحل وانتفاء اللوم، والعقاب؛ فغير داخل فى مسمى الرزق، حتى إذا لم يكن الانتفاع حلالا، أو كان ملوما معاقبا عليه، لا يكون رزقا؛ بل مسمى الرزق: هو المنتفع به لا غير، وهو متحقق فى حق الغاصب، واللوم والعقاب والحرمة، إنما كان لازما فى حق الغاصب من مخالفة نهى الشرع، وتفويت ملك المعصوم عليه دون إذنه، ولا منافاة بين الأمرين.
وأما ما ذكروه من الآيتين: فإنما يصح الاحتجاج بهما أن لو اشتملتا على صيغة العموم؛ ونحن لا نسلم أن العموم له صيغة.
________________
(1) سورة البقرة 2/ 3.
(2) سورة المنافقون 63/ 10.
(2/222)
________________________________________
وإن سلمنا أن للعموم صيغة؛ ولكن لا نسلم وجودها فى الآيتين المذكورتين؛ إذ المذكور فيهما حرف من؛ وهى للتبعيض لا للعموم.
وإن سلمنا صيغة العموم فيهما؛ ولكن لا نسلم أن ما اغتصب الغاصب؛ يكون رزقا له، قبل الانتفاع به حتى يصح منه الإنفاق؛ وأنه يصير رزقا له بالانتفاع.
وعند ذلك: يتعذر الإنفاق منه؛ فلا يكون الأمر بالانتفاع، والتحريض على الإنفاق من الرزق تناولا له.
وإن سلمنا إمكان تناول الآيتين له؛ ولكنه مخصوص، بأرزاق البهائم والأطفال، والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة لتردده بين أقل الجمع، وما عدا محل التخصيص.
وبتقدير أن يكون حجة؛ ففى أقل الجمع؛ لتيقنه. وبتقدير أن يكون حجة فيما عدا محل التخصيص؛ فيجب تخصيصه، لما ذكرناه من النهى عن تفويت ملك المالك المعصوم عليه.
وأما إطلاق الرزق على الملك الّذي لم ينتفع به؛ فليس حقيقة لما أسلفناه، وإنما هو بطريق المجاز من حيث أنه بحال ينتفع به فى الغالب، ولا منافاة بينه وبين ما ذكرناه من الإطلاق.
كيف: وأنه يلزم مما ذكروه أن يكون من اغتذى بالحرام من أول عمره إلى منتهاه كأولاد القصاب، أن يكون قد عاش ومات، ولم يرزقه الله رزقا؛ وهو خلاف إجماع المسلمين، قبل ظهور المعتزلة.
وأما الرازق:
فقد اتفقت المعتزلة: على أن الحرام لا يكون رزقا من الله- تعالى- وما كان حلالا مباحا، فما أتى العبد منه بنصب، وتعب؛ فالعبد هو الرازق لنفسه والله- تعالى- ليس برازق له ذلك الرزق. وما أتاه منه بغير فعله؛ فهو من الله، والرازق له ذلك الرزق هو الله- تعالى.
ثم منه ما هو واجب على الله- تعالى-: وهو ما فيه صلاح المكلفين.
ومنه ما يجب المنع عنه: وهو ما فيه فساد المكلفين.
(2/223)
________________________________________
ومنه ما يجوز الرزق به، والمنع منه: وهو ما استوى فيه صلاح المكلف وفساده.
[رأى أهل حق]
وأما أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم: فقد أجمعوا أنه لا رازق إلا الله؛ إذ الرزق مخلوق، ولا خالق غير الله- كما يأتى تقريره فى الأصل الثانى من هذا النوع «1» - وأنه لا يجب عليه أن يرزق أحدا؛ لتعاليه وتقديسه، عن أن يجب عليه شيء على ما سبق تقريره «2»؛ بل إن رزق فبفضله، وإن منع فبعد له، والعبد ليس له غير الكسب- على ما يأتى تحقيقه فى خلق الأعمال «3»، ثم ما يكسبه العبد من الرزق: إن كان منهيا عنه؛ فمحرم، وإلا فمباح. وليس اكتساب الرزق وطلبه من المحرمات، إذا تجنب فيه ارتكاب المنهيات، خلافا لشذوذ من العوام- لا يؤبه بهم-/ فى ظنهم أن اكتساب الرزق وطلبه من المحرمات.
ويدل على إباحة ذلك نصوص الكتاب، وإجماع الأمة.
أما نصوص الكتاب: فقوله- تعالى-: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «4». وقوله- تعالى-: وإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «5». وقوله- تعالى- الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ «6» وقوله- تعالى- وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «7». وقوله- تعالى- لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ «8» إلى غير ذلك من النصوص الدالة على جواز طلب الرزق، واكتسابه.
وأما الإجماع: فهو أن الأمة من الصحابة، ومن بعدهم مجمعون على جواز اكتساب الرزق، وأنه ما زال الناس يكتسبون، ويجتهدون فى طلب الأرزاق برا وبحرا، فى زمن النبي عليه الصلاة والسلام، والصحابة، ومن بعدهم، ولم يزل ذلك مألوفا معروفا من النبيين، والأولياء، والصالحين، من غير نكير.
________________
(1) انظر ل 211/ ب وما بعدها.
(2) انظر ل 186/ أ وما بعدها.
(3) انظر ل 257/ ب وما بعدها.
(4) سورة الجمعة 62/ 10.
(5) سورة المائدة 5/ 2.
(6) سورة الجاثية 45/ 12.
(7) سورة المزمل 73/ 20.
(8) سورة النساء 4/ 29.
(2/224)
________________________________________
ولو كان ذلك محرما؛ لما ساغ من النبي عليه السلام، ومن الصحابة، وأهل الحل والعقد من بعدهم، أن يتواطئوا على الخطأ؛ إذ هو متعذر عادة، وممتنع شرعا.
فإن قيل: طلب الرزق، والاجتهاد فى اكتسابه، يلزم منه أمر محرم؛ فكان محرما.
وبيان ذلك: هو أن طلب الرزق، يشعر بعدم الإيمان بالله- تعالى- وقلة الثقة «1» فيما أخبر به؛ وذلك حرام؛ فكان طلب الرزق حراما.
وبيان لزوم قلة الثقة بخبره، بتقدير طلب الرزق: هو أن قوله- تعالى- وما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «2». وقوله- تعالى- ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُمْ «3». وقوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ «4». وقوله عليه الصلاة والسلام: «لو اتكلتم على الله حق اتكاله لكنتم كالطير، تغدوا خماصا، وتروح بطانا» «5».
وذلك كله يدل على أن الله- تعالى- متكفل بأرزاق عباده بخبره؛ فالطلب لما أخبر بوقوعه، يدل على قلة الثقة بخبره؛ وهو حرام.
وأيضا: فإن الأرزاق مشوبة بالمحرمات، وبالسعى لا يأمن من مصادفة المحرم بالتصرف فيه، وأكله؛ وذلك حرام، وإذا وقع الاشتباه والتردد بين الحرام، وما ليس بحرام؛ فالتجنب، والكف؛ واجب. كما لو اختلطت ميتة بمذكاة، وأخت من الرضاع بأجنبية.
والجواب:
أنا لا نسلم أن طلب الرزق يشعر بعدم الإيمان، وقلة الثقة فيما أخبر به الله- تعالى-/ من الرزق لعباده، وإلا كان ذلك موجبا للقدح فيمن سلف من الأنبياء، وغيرهم من
________________
(1) فى ب (الثقة به).
(2) سورة هود 11/ 6.
(3) سورة الاسراء 17/ 31.
(4) سورة الذاريات 51/ 58.
(5) ورد فى ب (لو اتكلتم على الله حق اتكاله لرزقتم كما ترزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا). وقد أورده أحمد فى المسند، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم كلهم عن عمر بلفظ «لو أنكم توكلون على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» ورمز له السيوطى بالصحة.
(الجامع الصغير ج 2 حديث رقم 7424).
(2/225)
________________________________________
الأولياء؛ فإن أكثرهم كانوا محترفين مكتسبين بأسباب مختلفة، حتى أن داود كان يكتسب بالدروع، وإدريس بالخياطة، وموسى بالرعاية، والنبي عليه الصلاة والسلام بالتجارة قبل المبعث، وعلى هذا كان الأولياء من السلف، والخلف.
ثم لو كان كما ذكروه؛ لحرم النظر فى معرفة الله- تعالى- والسعى فى الاتيان بالعبادات، وتخليص النفس من الهلاك، عند الوقوع فى المهالك، وأن يمد أحد يده إلى ما حضر بين يديه من الطعام لتناوله، وأن يتصرف فى شيء من مهمات الدنيا، والآخرة؛ لأن ذلك يدل على عدم الإيمان، وقلة الثقة بالله- تعالى. فيما ثبت من محتوم قضائه وقدره، وأن كل حادث يحدث بإحداثه؛ وأنه لا دافع، ولا مانع لما قضاه، وأمضاه.
فلئن قالوا: حيث قيل بانتفاء الحرمة عن السعى؛ كان السعى مأمورا به، ومأذونا فيه.
قلنا: واكتساب الرزق أيضا، مأذون فيه، بدليل ما ذكرناه من نصوص الكتاب، وإجماع الأمة؛ فإن ذلك وإن لم يدل على الوجوب، فأدنى درجاته الإذن، والإباحة.
وما قيل من أن الأرزاق مشوبة بالمحرمات.
قلنا: الأصل فى الكل الإباحة، واحتمال مخالطة المحرم لكل واحد من الأموال، وإن كان قائما، إلا أنه بعيد. وبتقدير أن يكون مشكوكا فيه؛ فلا يكون دافعا للأصل بخلاف ما ذكروه من الأمثلة؛ إذ ليس الأصل هو الحل فى الكل، والاجتهاد غير جار فيها؛ لعدم العلامة المبيحة، حتى إنه لو انقدح احتمال وجود العلامة الدالة على الإباحة كما فى الميتة والمذكاة.
قلنا: منع بالإباحة على وجه لنا فى المذهب. ثم يلزم من ذلك تحريم تناول الأغذية مطلقا. كما قيل بتحريم الاكتساب.
ولا يخفى ما فى ذلك من الوقوع فى المحرم، وهو إلقاء النفس فى التهلكة؛ وهو خلاف إجماع الأمة، وخلاف قوله- تعالى- ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «1».
**********
________________
(1) سورة البقرة 2/ 195.
(2/226)
________________________________________
المسألة الثالثة عشرة» «فى السعر، والغلاء، والرخص، وأنه من الله- تعالى»
أما السّعر:
فهو عبارة عن تقدير أثمان الأشياء. وارتفاعه غلاء، وانحطاطه رخص. وهل هو من الله- تعالى- أو من العبيد؟
قالت المعتزلة «1»: إنه مستند إلى أفعال العباد «2». بتواضعهم على تقدير/ أثمان الأشياء، وتراضيهم بذلك فى كل وقت على حسبه، وأن ارتفاع السعر، وانحطاطه؛ غير خارج عن أفعالهم.
ولهذا يصح أن يقال لمن حاصر «3» بلدة، وضيق على أهلها مدة، ومنعهم من الامتيار بحيث قلت عليهم الأشياء، وتوفرت رغباتهم فيها حتى ارتفعت الأسعار: إنه أوجب الغلاء، ورفع السعر، وأنه فى وقت الغلاء، وارتفاع الأسعار، إذا فتح أهراءه، وأفاض ما فيها على الناس، ومكنهم من الامتيار منها «4» بحيث انحط السعر؛ فإنه «5» يقال: أوجب بفعله ذلك الرخص، وانحطاط السعر، حتى إنه يمدح على ذلك، ويذم على الأول. ولو «6» لم يكن «6» من فعله؛ لما كان كذلك.
ومذهب أهل الحق «7»:
أن ذلك كله من الله- تعالى- ومستند إلى فعله، وتقديره، وقضائه، وقدره؛ لأنه أمر حادث، وكل حادث، فلا يكون إلا بإحداث الله- تعالى- وخلقه، وإرادته على ما سيأتى بعد «8». غير أن ذلك قد يكون بأسباب سماوية ظاهرة غير مكتسبة للعباد: كانقطاع الغيث، وجدب الأرض، وقلة الزروع وهلاكها؛ بحيث تتوفر الرغبات على شر المطعوم؛ لقلته، وشدة الاحتياج إليه؛ فيرتفع سعره، على حسب قلته، وتوفر الدواعى عليه، والرخص بأسباب أخرى مقابلة لهذه الأسباب.
________________
(1) انظر الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 788، 789.
(2) فى ب (العبيد).
(3) فى ب (حصر).
(4) فى ب (عنها).
(5) ساقط من ب.
(6) فى ب (و لو أنه).
(7) انظر الإرشاد لإمام الحرمين ص 367 وشرح المواقف 2/ 390 وشرح المقاصد 2/ 120.
(8) انظر ل 211/ ب وما بعدها.
(2/227)
________________________________________
وقد يكون ذلك بأسباب مكتسبة للعباد كما ذكروه من الأمثلة، غير أنه لا معنى لاكتسابهم أنهم الفاعلون لتلك الأشياء، والخالقون لها؛ بل الخالق هو الله- تعالى-، والقدرة الحادثة؛ فغير مؤثرة فى الخلق على ما سيأتى تعريفه «1».
وقد يكون ذلك من اجتماع الأمرين.
وقد يكون بأسباب «2» سماوية مخفية غير ظاهرة لنا؛ وذلك كما نشاهده من الرخص تارة، مع وجود أسباب ظاهرة مقتضية للغلاء «3». ومن الغلاء تارة، مع وجود الأسباب المقتضية للرخص.
وأما ما ذكروه من إضافة الغلاء، والرخص إلى فعل السلطان؛ فلا يدل على أنه من فعله، وخلقه؛ فإنه كما يصح أن يقال: أوجب الرخص، والغلاء، يصح أن يقال: أحيا الناس، وأماتهم. مع أن الإحياء، والإماتة غير مقدورة له بالإجماع؛ إذ هو خارج عن محل قدرته، وما وقع فيه الخلاف أنه مخلوق لله، أو للعبد؛ فإنما هو الفعل القائم بمحل قدرة العبد؛ بل إضافة ذلك إلى فعله، إنما كان بطريق المجاز، من حيث أن الغلاء، والرخص وقع بحكم جرى العادة ملازما/ لفعله المكتسب له، القائم بمحل قدرته، وإن كان حادثا بخلق الله- تعالى- له، كما يضاف إليه الموت، والإحياء، والله ولى التوفيق.
********
________________
(1) انظر ل 239/ أ وما بعدها.
(2) فى ب (من أسباب).
(3) فى ب (لوجود الغلاء).
(2/228)
________________________________________
«الأصل الثانى» فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى، ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه ويشتمل على: مقدمة، ومقصد، وفروع
(2/229)
________________________________________
أما المقدمة: ففى بيان معنى الخلق، والمخلوق.
أما الخلق: فقد يطلق فى اللغة ويراد به إيجاد الشيء، واختراعه لا من شيء.
وقد يراد به الهم بالشيء، والعزم على فعله. ومنه قول الشاعر.
فلأنت تفرى ما خلقت ... وبعض القوم يخلق ثمّ لا يفرى «1»
والمراد من قوله: فلأنت تفرى: أى تمضى، ما خلقت: أى هممت به.
ومنه قول الحجاج: إذا هممت أمضيت، وإذا خلقت فريت.
وقد يراد به التقدير بمعنى الظن، والحسبان، ومنه يقال: خلقت زيدا فى الدار: أى قدرته فيها، ومعنى قدرته: ظننته.
وقد يراد به التقدير بمعنى المساواة بين شيئين. ومنه يقال للحذّائين الذين يقدرون بعض طاقات النعل ببعض، ويسدون بينها خالقين. ومنه يقال: خلقت الأديم: أى قدرته. وفى معنى هذا إطلاق الخلق على إيجاد شيء على مقدار شيء آخر سبق له الوجود.
وقد يطلق الخلق: بمعنى الكذب، والافتراء، وإليه الإشارة بقوله- تعالى- إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ «2»: أى أكاذيب الأولين. ومنه قوله- تعالى- وتَخْلُقُونَ إِفْكاً «3»:
أى تكذبون.
وعلى هذا: فإضافة الخلق إلى الله- تعالى- بمعنى الاختراع والإيجاد، وبمعنى القصد إلى الشيء، وبمعنى التسوية صحيح، دون الخلق بمعنى الظن والكذب، ويكون مشاركا للعباد فى الاتصاف بالخلق بمعنى القصد إلى الشيء. وبمعنى التقدير والتسوية دون الخلق بمعنى الإيجاد، والاختراع؛ إذ هو المنفرد به دون غيره كما يأتى «4».
________________
(1) القائل: زهير بن أبى سلمى (ديوان زهير ص 94) والبيت من قصيدة قالها فى مدح هرم بن سنان. وأول البيت (و لأنت) وليس كما جاء هنا (فلأنت).
(2) سورة الشعراء 26/ 137.
(3) سورة العنكبوت 29/ 17.
(4) انظر ل 228/ ب وما بعدها.
(2/231)
________________________________________
وإذا عرف مدلول اسم الخلق، واختلاف اعتباراته؛ فقد اختلف المتكلمون فيما هو جهة الحقيقة منه.
فذهب أئمتنا، وأكثر المعتزلة: إلى أنه حقيقة فى الإيجاد، والاختراع، ومجاز فيما عداه.
وذهب الجبائى، وابنه (أبو «1» هاشم): إلى أنه حقيقة فى التقدير بمعنى الظن، والحسبان، ثم بنيا على هذا الأصل أن الرب- تعالى- لا يوصف بكونه خالقا حقيقة؛ لاستحالة الظن والحسبان، الّذي هو مدلول اسم الخلق حقيقة فى حقه، وإن كان موجدا ومخترعا حقيقة «2».
والحق فى هذه المسألة: أن إطلاق اسم الخلق بإزاء ما ذكرناه من الاعتبارات/ واقع، وكونه حقيقة فى البعض «3» مجاز فى البعض، أو أنه مشترك: أى (أنه «4») حقيقة فى الكل؛ فمن جملة الوضع، والوضع على أصول أرباب الأصول دون من لا اعتبار له من الشذوذ- لا يثبت بغير الدليل القاطع: وهو النقل المتواتر عن أرباب الوضع، أو السمع القاطع من جهة الشرع، ولم يوجد شيء من ذلك. وإن كان الأشبه، والأغلب على الظن ما ذهب إليه أهل الحق من أئمتنا؛ إذ هو الشائع، الزائع، المتبادر إلى الأفهام من إطلاق اسم الخلق دون ما عداه من الاعتبارات علي ما لا يخفى.
ثم الخلق بمعنى الإيجاد، والاختراع، هل هو نفس المخلوق، أو غيره؟ اختلفوا فيه:
فذهبت الأئمة من المتكلمين، وأهل الحق: إلى أن الخلق هو نفس المخلوق، والإيجاد هو نفس الموجود، والإحداث «5» نفس المحدث.
ثم بنوا على هذا الأصل رسم الخلق بأنه المقدور الموجود بالقدرة القديمة. وربما عبروا عنه بأنه المقدور الموجود بالقدرة القديمة، الخارج عن محل القدرة. وذهبت الكرامية إلى أن: الخلق والإحداث صفات حادثة قائمة بذات الرب- تعالى-؛ وهو باطل؛ بما سبق من بيان امتناع قيام الحوادث بذات الرب- تعالى «6» -.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (فى حقه).
(3) فى ب (الكل).
(4) ساقط من أ.
(5) فى ب (و الحادث).
(6) انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(2/232)
________________________________________
وأما أهل الحق: فقد احتجوا بالنص، والإطلاق، والمعقول.
أما النص: فقوله- تعالى- هذا خَلْقُ اللَّهِ «1». وأراد به المخلوق.
وأما الإطلاق: فالعرف شائع ذائع بقولهم: انظر إلى خلق الله. وهذا خلق الله.
إشارة إلى المخلوق.
وأما المعقول: فهو أن الخلق لو كان صفة زائدة على نفس المخلوق، لم يخل:
إما أن يكون وجودا، أو لا وجود.
لا جائز أن يكون لا وجود. فإن نقيض الخلق لا خلق. ولا خلق عدم؛ لاتصاف المعدوم المستحيل به؛ فكان الخلق وجودا. وإذا كان وجودا: فإما قديم، أو حادث.
لا جائز أن يكون قديما: وإلا لزم قدم المخلوق؛ ضرورة استحالة الخلق، ولا مخلوق.
وإن كان حادثا: استدعى خلقا آخر، والكلام فيه، كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل، أو دور ممتنع.
فإن قيل: إذا كان الخلق هو نفس إيجاد الشيء، واختراعه؛ فنحن نعقل التفرقة بين وجود الشيء فى نفسه، وإيجاده بإيجاد غيره له، وبيانه من وجهين:
الأول: أنا قد نعقل وجود الشيء فى نفسه، ونجهل إيجاده/ بالغير حتى نعرفه بالدليل؛ والمعلوم غير ما ليس بمعلوم.
الثانى: أنه يصح أن يقال: هذا موجود بإيجاد الغير له؛ فنصف الوجود بالإيجاد، والصفة غير الموصوف. وإذا كان كذلك؛ فلا يكون الخلق هو المخلوق، ولا الإيجاد هو نفس الموجود.
وأما إطلاق الخلق بإزاء المخلوق: فلا يدل على أن الخلق فى الحقيقة هو نفس المخلوق؛ بل إنما ذلك تعبرة باسم الخلق عن المخلوق بطريق التجوز بكونه سببا له، أو ملازما له كما فى إطلاق القدرة على المقدور فى قولهم: انظر إلى قدرة الله: أى مقدوره، ودليل التأويل: ما ذكرناه من الدليل على كون الخلق حقيقة زائدة على المخلوق.
________________
(1) سورة لقمان 31/ 11.
(2/233)
________________________________________
وما قيل من المعقول؛ فهو لازم على القائل به فى تعلق القدرة بالمقدور، والعلم بالمعلوم. مع أن التعلق زائد على القدرة، والمقدور، والعلم، والمعلوم.
والجواب:
قولهم: إنا ندرك التفرقة بين الإيجاد والموجود، والخلق والمخلوق.
قلنا: لفظا، أو معنى. الأول: مسلم. والثانى: ممنوع؛ بل التفرقة إنما هى بين الإيجاد، والموجد. «1» والخلق، والخالق «1». أما بين الخلق، والمخلوق، والإيجاد، والموجود؛ فلا. وبهذا يندفع ما ذكروه من الوجه الأول.
وأما الوجه الثانى: فمندفع أيضا؛ إذ لا مانع من وصف الشيء بنفسه، وإضافته إلى نفسه عند اختلاف اللفظ، كما «2» تقدم تقريره «2».
قولهم: إن التعبرة بالخلق عن المخلوق مجاز؛ ليس كذلك؛ إذ الأصل فى الإطلاق الحقيقة، ولا يلزم من التجوز فيما ذكروه من القدرة والمقدور، التجوز فيما نحن فيه.
كيف وأن التجوز بالخلق عن المخلوق، يستدعى المغايرة بين مسمييهما؛ وهو ممتنع بما بيناه من المعقول.
وأما تعلق القدرة، بالمقدور، والعلم، بالمعلوم؛ فقد بينا أيضا أنه لا يزيد على كون المقدور موجودا بالقدرة، وكون المعلوم؛ معلوما بالعلم، وحققنا ذلك بما فيه كفاية.
**********
________________
(1) فى ب (و الخالق والخلق).
(2) فى ب (تقرر).
(2/234)
________________________________________
وأما المقصد: فهو أن جميع الممكنات مقدورة للرب- تعالى- من غير واسطة، وأن «1» حدوثها ليس إلا عنه.
هذا هو مذهب أهل الحق.
خلافا للفلاسفة، والطبائعيين، وأصحاب التولد، والصابئة، والمنجمين، والثنوية، والمعتزلة، والشيعة على ما سيأتى تفصيل مذهب كل فريق فى موضعه «2».
وقد احتج الأصحاب بمسالك:
[المسلك] الأول:
أنه لو كان شيء سوى الله- تعالى-/ موجدا لشيء من الممكنات الحادثة؛ لكان علة لكل حادث، واللازم ممتنع؛ والملزوم مثله.
بيان الشرطية: هو أنه إذا كان شيء علة لوجود بعض الحوادث؛ فالمعلول من كل حادث وجوده، ومسمى الوجود متحد فى جميع الحوادث، فما كان علة له فى البعض، كان علة له فى الباقى؛ ضرورة اتحاد المعلول.
وبيان امتناع اللازم: هو أن كل من خالف فى هذه المسألة معترف بأن ما أوجد بعض الحوادث ليس علة لكل حادث، على ما سيأتى تحقيقه فى مواضعه بعد.
ولقائل أن يقول:
هذا إنما يلزم أن لو كان مسمى الوجود مشتركا بين الحوادث؛ وليس كذلك على ما «3» سلف.
وإن سلمنا أن مسمى الوجود مشترك، فما المانع من أن يكون تأثير العلة فى وجود بعض الحوادث مشروطا بما به التعين؟، وما به التعين غير مشترك؛ فلا يلزم الاشتراك فى المعلومية لتلك العلة الواحدة.
وإن سلمنا عدم الافتراق؛ ولكن غاية ما فيه إلزام الخصم، بإبطال الملزوم؛ ضرورة تصويبه فى اللازم، وليس ذلك أولى من التخطئة فى اللازم؛ ضرورة تصويبه فى الملزوم.
________________
(1) فى ب (و لا).
(2) انظر ل 217/ ب وما بعدها.
(3) فى ب (ما سيأتى). انظر ل 50/ ب وما بعدها.
(2/235)
________________________________________
المسلك الثانى:
أنه قد ثبت فى مسألة إثبات واجب الوجود انتهاء جميع الممكنات فى الوجود إليه، ضرورة قطع التسلسل، والدور الممتنع، وبينا أن إيجاده لما يوجده من الممكنات، لا يكون «1» إلا بالقدرة والاختيار؛ فصحة كون ذلك الحادث مقدورا لله- تعالى- دون الواجب والممتنع، حكم لا بد له من علة، وعلته إنما هى الإمكان، والإمكان مشترك بين جميع الممكنات، ويلزم من الاشتراك فى العلة، الاشتراك فى المعلول؛ وهو صحة المقدورية، ويلزم من كون جميع الممكنات مقدورة للرب- تعالى- امتناع إسناد شيء من الحوادث إلي غير الله- تعالى- وإلا لزم عند اجتماع المؤثرين، ما ألزمناه «2» من المحال فى مسألة التوحيد «3»؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول:
وإن سلمنا صحة المقدورية للرب- تعالى- بالنسبة إلى بعض الممكنات، غير أنه لا معنى لصحة المقدورية، غير إمكان المقدورية، والإمكان عدم؛ والعدم لا يكون معللا على ما سبق فى مسألة الرؤية، ولا جواب له إلا بالعود إلى تعليل المقدورية نفسها.
وإن سلمنا إمكان التعليل بصحة المقدورية؛ ولكن لا نسلم أن الإمكان صالح للتعليل؛ لكونه عدما كما تقدم بيانه فى الرؤية.
وإن سلمنا إمكان التعليل/ بالإمكان؛ ولكن إنما يلزم التعليل به أن لو لم يوجد غيره.
ولا نسلم أنه لا متحقق سواه، والبحث والسبر فلا يدل على عدم ما سواه يقينا على ما أسلفناه فى تعريف أقسام الدليل «4».
وإن سلمنا دلالته على عدم ما سواه؛ ولكنه معارض بما يدل على وجود غيره؛ وذلك لأن ما وقع الاتفاق على كونه مقدورا- للرب- تعالى- وإن كان مشاركا لباقى الحوادث فى الإمكان؛ فمفارق لها بخصوص ذاته وتعينه.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (ما لزمنا).
(3) انظر ل 167/ ب وما بعدها.
(4) انظر ل 39/ ب.
(2/236)
________________________________________
وعند ذلك: فلا مانع من القول بأن خصوص تعينه هو العلة لصحة المقدورية، أو أن العلة مجموع الأمرين، أو أن العلة خصوص التعين، «1» والإمكان شرط، أو أن الإمكان شرط علة «1»، وخصوص التعين جزء شرط. وعلى كل تقدير فيمتنع تعدى الحكم إلى غيره ضرورة عدم الاشتراك فيما به التعين.
وإن قيل بأن الإمكان كان فى التصحيح؛ فدعوى مجردة عن الدليل، وليس ذلك أولى من القول بأن خصوص التعين كاف، وأن «2» ذلك لا يتم إلا بالجموع.
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الإمكان هو العلة المصححة؛ ولكن لا يلزم من الاشتراك فيه بين الحوادث، الاشتراك فى المقدورية لله- تعالى- وإلا للزم «3» من كون بعض الحوادث- وهى أفعال العباد المختارين- مقدورة لهم، أن تكون صحة المقدورية للعبد أيضا معللة بالإمكان؛ لاستحالة تعلق القدرة الحادثة بالواجب والممتنع، كما ذكرتموه، ولا بد لها من علة مصححة، ولا مصحح غير الإمكان، وهو مشترك بين مقدور العبد، وما عداه من الأجسام، والأعراض الخارجة عن محل قدرة العبد، وما لزم من ذلك أن تكون الأجسام والأعراض الخارجة عن محل قدرة العبد مقدورة له، فكذلك فيما نحن فيه.
وما وقع به الافتراق من تأثير القدرة القديمة فى مقدورها دون القدرة الحادثة؛ فخارج عن محل الجمع؛ فإن القدرة الحادثة، وإن لم تؤثر فى مقدورها فيصح أن يقال بأن الفعل القائم بمحلها هو مقدور لها دون غيره، وصحة هذه المقدورية، تستدعى مصححا كما فى المقدورية بجهة التأثير.
وربما وردت عليه أسئلة أخرى يمكن الانفصال عنها نبهنا عليها فى مسألة الرؤية؛ فلا حاجة إلى ذكرها.
المسلك الثالث:
هو أنه قد ثبت أن الإمكان صفة مشتركة بين الممكنات، وأنه هو المحوج إلى المؤثر.
________________
(1) فى ب (بالإمكان شرط، أو أن الإمكان شرط، أو أن الإمكان جزء علة).
(2) فى ب (أو أن).
(3) فى ب (لزم).
(2/237)
________________________________________
وعند ذلك: فإما أن يكون الإمكان محوجا إلى مؤثر معين، أو غير/ معين.
لا جائز أن يكون غير معين؛ لأن ما لا يكون معينا فى نفسه، لا يكون موجودا، وما لا يكون موجودا، لا يكون علة لوجود غيره.
وإن كان معينا: فذلك المعين: إما أن يكون ممكنا، أو واجبا.
لا جائز أن يكون ممكنا: وإلا كان «1» إمكان ذلك الشيء يحوجه إلى نفسه؛ فيكون موجدا لنفسه، وكل ما وجد بنفسه؛ فهو واجب، وليس بممكن؛ وهو خلاف الفرض.
وإن كان واجبا؛ فهو المطلوب.
ولقائل أن يقول:
لا نسلم أن الإمكان هو المحوج إلى المؤثر؛ بل هو شرط الاحتياج إلى المؤثر، ولا يلزم من الاشتراك فى شرط التأثير الاشتراك فى المحوج إلى المؤثر.
وإن سلمنا أن الإمكان هو المحوج إلى المؤثر، وأن المؤثر فى الوجود لا بد وأن يكون معينا؛ ولكن معينا واحدا، لإيجاد جميع الممكنات، أو لكل ممكن «2» معينا بحسبه «2»، الأول؛ ممنوع «3». والثانى؛ مسلم «3».
وعند ذلك: فلا يلزم من كون الإمكان محوجا فى كل حادث إلى معين يخصه، أن يكون كل معين بتقدير أن يكون ممكنا موجدا لنفسه؛ بل جاز أن يكون وجوده بإيجاد غيره له، وإن كان هو موجدا لغيره.
المسلك الرابع.
هو أنه قد ثبت أن البارى- تعالى- قادر: إما بذاته، أو بواسطة قيام القدرة بذاته؛ فذاته مستلزمة لكونه قادرا: إما بواسطة، أو بغير واسطة. وعلى كلا التقديرين؛ فنسبة ذاته إلى جميع الجائزات نسبة واحدة؛ فيلزم أن يكون قادرا على جميع الممكنات. وإذا كان قادرا على جميع الممكنات؛ فلو أمكن إسناد بعض الممكنات إلى غيره فى
________________
(1) فى ب (لكان).
(2) فى ب (معين بجنسه).
(3) فى ب (مسلم، والثانى ممنوع).
(2/238)
________________________________________
الوجود، فعند اجتماع المؤثرين إما أن يوجد بأحدهما، أو بهما، أو لا «1» بواحدة «1»، منهما؛ والكل محال.
أما الأول: فلما فيه من تعطيل تأثير أحدهما من غير أولوية.
وأما الثانى: فلما سلف فى امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين.
وأما الثالث: فلما فيه من تعطيل المؤثرين.
وهذه المحالات: إنما لزمت من فرض وجود الحوادث بغير الله- تعالى- فيكون محالا.
ولقائل أن يقول:
ذات الرب- تعالى- وإن كانت مستلزمة لقادريته؛ ولكن لا نسلم أن نسبة ذاته إلى جميع الممكنات نسبة واحدة؛ إذ الممكنات متمايزة بذواتها، ومختلفة بتعينها، وما هذا شأنه؛ فلا يلزم أن تكون ذات البارى- تعالى- بالنسبة إليها «2» متساوية، وليس العلم بذلك من الضروريات، وإذا كان نظريا فلا بد له «3» من دليل «3».
وإن سلمنا أن نسبة/ ذاته إلى جميع الممكنات واحدة؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن تكون جميع الممكنات مقدورة له؛ فإنه لا مانع من أن يكون تعين بعض الممكنات شرطا فى تعلق القدرة القديمة به، أو أن تعين البعض يكون مانعا من ذلك.
المسلك الخامس:
هو أن كل ممكن فهو قابل للوجود، والعدم، فلو كان مؤثرا فى وجود غيره؛ لكان الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا؛ وهو محال.
ولقائل «4» أن يقول «4»:
هو ضعيف أيضا؛ إذ هو مبنى على أن وجود الممكن زائد على ذاته حتى يصح القول بالقابلية، والمقبولية؛ إذ القابل يجب أن يكون غير المقبول وإلا كان الشيء قابلا
________________
(1) فى ب (أو لا يوجد بواحد).
(2) فى ب (إليه).
(3) فى ب (من إقامة دليله).
(4) (لقائل أن يقول) ساقط من ب.
(2/239)
________________________________________
لنفسه؛ وهو محال. وهو غير مسلم على ما سيأتى فى مسألة المعدوم هل هو شيء أم «1» لا؟
وإن سلمنا صحة كونه قابلا للوجود؛ ولكن لا نسلم الإحالة فى كونه مع ذلك مؤثرا فى وجود غيره على ما عرف من مذهب المعتزلة من قبولية العبد للأفعال القائمة بذاته مع كونه فاعلا لها، ومؤثرا فيها.
كيف وأنه لا معنى للمقبولية، والتأثير غير نسب خاصة، وإضافة معينة، ولا مانع من اتصاف الذات الواحدة- وإن كانت بسيطة لا تركيب فيها- بالنسب المتعددة، والإضافات المختلفة كما سبق تعريفه. فكيف إذا كانت مركبة؟.
والمعتمد هاهنا أن نقول:
قد ثبت أن الله- تعالى- قادر بقدرة قديمة- على ما سبق في الصفات.
وعند ذلك: فإما أن يكون قادرا على كل الحوادث الممكنة، أو أنه غير قادر على بعضها.
لا «2» جائز أن يكون غير قادر على بعضها «2» مع كونه ممكنا فى نفسه- وإلا كان الرب- تعالى- عاجزا- بالنسبة إلى ذلك البعض الممكن- والعجز على الله- تعالى- محال؛ كما سبق تحقيقه «3».
وإن كان قادرا على كل الممكنات فلا يخلو: إما أن تفتقر فى حدوثها إلى مؤثر، أو لا تفتقر إليه «4».
لا جائز أن يقال بالثانى: لما بيناه فى مسألة إثبات واجب الوجود «5».
وإن كانت مفتقرة إلى المؤثر: فإما أن يكون المؤثر هو الله- تعالى- أو غيره، أو هما معا.
________________
(1) انظر الجزء الثانى ص 405 وما بعدها.
(2) من أول (لا جائز أن يكون ... ) ساقط من ب.
(3) انظر ل 164/ ب وما بعدها.
(4) فى ب (إلى مؤثر).
(5) انظر ل 41/ أ. وما بعدها.
(2/240)
________________________________________
فإن كان المؤثر غير الله- تعالى-: فعند تأثيره فيها: إما أن يقال بإمكان تأثير قدرة الله- تعالى- فيها، أو لا يقال بذلك.
فإن قيل بعدم إمكان تأثير قدرة الله- تعالى- فيها: فهو عاجز عنها، وليست مقدورة له. وهو مع مخالفته للفرض يوجب كون الرب- تعالى- عاجزا عن بعض/ الممكنات؛ وهو محال كما تقدم «1».
وإن قيل بإمكان تأثير القدرة القديمة فيها، فعند اجتماع المؤثرين: إما أن يكون وجود ذلك الحادث بهما، أو بأحدهما، أو لا بواحد منهما.
فإن كان لا بواحد منهما: ففيه تعجيز الرب- تعالى-؛ وهو محال. وإن وجد بهما:
فهو محال؛ لما سيأتى في امتناع مخلوق بين خالقين «2». وإن وجد بأحدهما دون الآخر:
فإن كان المعطل هو الله «3»؛ فقد عجز؛ وهو على الله محال، وإن كان المعطل غيره؛ فهو المطلوب.
وعلى هذا: فقد بطل أن يكون المؤثر فى الوجود مجموع المؤثرين معا، فلم يبق إلا القسم الأول، وهو المطلوب.
فإن قيل: إنما يلزم من كونه غير قادر على بعض الممكنات، أن يكون عاجزا أن لو أمكن أن يكون مقدورا له. وما لا يمكن أن يكون مقدورا له فلا يقال: إنه معجوز عنه، ولهذا: فإنه لما كان الجمع بين الضدين غير ممكن أن يكون مقدورا للرب- تعالى- لم يوصف الرب- تعالى- بالعجز عنه.
وإن سلمنا أنها مقدورة للرب- تعالى- ولكن لم قلتم إنها يجب أن تكون موجودة بإيجاده؟ وما المانع من أن تكون مقدورة له غير موجودة بقدرته؟ كما قلتم فى أفعال العبيد المختارين إنها مقدورة لهم، وإن كانت قدرتهم غير مؤثرة فيها، مع كونها مقدورة له لا يوصف بالعجز عنها إذا لم يكن هو الموجد لها: كالعبد بالنسبة إلى أفعاله المقدورة له.
________________
(1) انظر ل 164/ ب وما بعدها.
(2) انظر ل 217/ ب وما بعدها.
(3) فى ب (الإله).
(2/241)
________________________________________
وإن سلمنا أنه يجب أن يكون مؤثرا فيها؛ ولكن ما المانع من اجتماع مؤثرين على أثر واحد؟.
وما يذكرونه فى امتناع مخلوق بين خالقين؛ فسيأتى الكلام عليه أيضا «1».
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أنه لا خالق غير الله- تعالى- ولكنه معارض بما يدل على وجود خالق غير الله، ودليله المعقول، والمنقول.
أما المعقول: فما «2» سيأتى «2» تحقيقه فى مذهب كل فريق من المخالفين بجهة التفصيل إن شاء الله- تعالى-.
وأما المنقول: فآيات من الكتاب:
الأولى: قوله- تعالى-: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «3».
ووجه الاستدلال به من وجهين:
الأول: لفظ الآية صريح فى إثبات خالقين.
الثانى: أنه أثبت المفاضلة بينه، وبين غيره فى الخلق؛ وذلك يستدعى الاشتراك فى أصله.
الثانية: قوله- تعالى- إخبارا عن الخضر فى قوله لموسى «4» (عليه السلام): فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً «5» أضاف الإحداث إلى نفسه والرب- تعالى- قرره على ذلك.
الثالثة: قوله- تعالى/: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ «6» فدل على أن ما فيه التفاوت والاختلاف، ليس خلقا لله تعالى؛ فيكون خلقا لغيره.
________________
(1) انظر ل 217/ ب وما بعدها.
(2) فى ب (فسيأتى).
(3) سورة المؤمنون 23/ 14.
(4) ساقط من أ.
(5) سورة الكهف 18/ 70.
(6) سورة الملك 67/ 3.
(2/242)
________________________________________
الرابعة: قوله- تعالى-: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ «1» دل على أنه لا يخلق إلا الحسن؛ فالقبيح يجب أن يكون مخلوقا لغيره.
الخامسة: قوله- تعالى-: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «2».
السادسة: قوله- تعالى- جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وقوله: واللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ «3». وقوله- تعالى-: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «4» «5» إلى غير ذلك «5» من الآيات الدالة على إضافة العمل إلى العباد. والعمل المضاف إلى شخص لا يمكن أن يكون مضافا إلى غيره.
[و الجواب عنها]
والجواب عن الإشكال الأول: أن ما أمكن أن يكون مقدورا لله- تعالى- فلا يوصف بكونه عاجزا عنه، وإنما يوصف بالعجز عما لا يمكن أن يكون مقدورا له مع إمكان ذلك الشيء فى نفسه. والجمع بين الضدين؛ فغير ممكن في نفسه؛ فلا يكون بعدم القدرة عليه عاجزا عنه؛ كما حققناه فى مسألة العجز «6».
وعن الثانى: أنه لا معنى لكون الشيء مقدورا بالقدرة غير إمكان تأثير القدرة فيه، أو أن الأثر قائم بمحل القدرة، وواقع على وفق الإرادة كما هو مذهبنا فى أفعال العبيد المختارين.
فإذا كانت قدرة الرب- تعالى- غير مؤثرة فى الحادث، ولا هو قائم بمحل قدرة الله- تعالى-؛ لاستحالة قيام الحوادث بذات الرب- تعالى- كما سبق بيانه «7»، فلا معنى لكونه مقدورا لله- تعالى-؛ وما لا يكون مقدورا له- مع إمكانه فى نفسه-؛ فهو معجوز عنه.
________________
(1) سورة السجدة 32/ 7.
(2) سورة النساء 4/ 79.
(3) سورة آل عمران 3/ 153.
(4) سورة فصلت 41/ 40.
(5) فى ب (إلى غيرها).
(6) انظر ل 164/ ب وما بعدها.
(7) ساقط من ب. انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(2/243)
________________________________________
وهذا بخلاف فعل العبد المختار؛ فإنه وإن لم تكن قدرته مؤثرة فى إيجاده. غير أنه قائم بمحل قدرته، وواقع على وفق إيثاره وإرادته؛ وهو معنى كونه مقدورا له.
وعن الثالث: بما سنذكره فى امتناع مخلوق بين خالقين «1»، وعن المعارضة.
أما الشبه العقلية: فما نذكره فى الرد على كل «2» فريق من المخالفين بجهة التفصيل فى موضعه.
وأما ما ذكروه من الآيات: فظاهرة غير قطعية، والتمسك «3» بالظاهر فى موضع القطع، واليقين غير مفيد، ثم هى مؤولة، ومعارضة:
أما التأويل: فإنه «4» قد أمكن حمل ما ذكروه على غير الخلق بمعنى الإيجاد والاختراع؛ فيجب الحمل عليه عملا بما ذكرناه من الدليل العقلى، وبما نذكره من النقل أيضا.
أما قوله- تعالى-: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «5» / فلا حجة فيه.
قولهم: إنه صريح فى إثبات خالقين عنه جوابان:
الأول: أنه أمكن حمل الخالقين على المقدرين، ويكون معنى الآية فتبارك الله أحسن المقدرين؛ ونحن لا نمنع من كون العبد يسمى خالقا، بمعنى كونه مقدرا؛ كما حققناه فى المسألة الأولى.
الثانى: هو أن الخلق قد يطلق ويراد به الإيجاد، والاختراع، وقد يطلق ويراد به التقدير، وقد يطلق ويراد به الكذب؛ على ما حققناه فى المسألة الأولى.
وأحسن معانى الخلق إنما هو الإيجاد، والاقتدار على الاختراع.
وعند ذلك: فأمكن أن يكون المراد بقوله- تعالى- أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أنه مختص بأحسن معانى الخلق، وهو الإيجاد، والاختراع، ويجب الحمل عليه عملا بما ذكرناه من الدليل العقلى.
________________
(1) انظر ل 217/ ب وما بعدها.
(2) ساقط من ب.
(3) فى ب (هو التمسك).
(4) فى ب (فلأنه).
(5) سورة المؤمنون 23/ 14.
(2/244)
________________________________________
وعند ذلك: فتكون الآية حجة عليهم لا لهم.
قولهم: إنه أثبت التفاضل بينه، وبين غيره في الخلق؛ وذلك يستدعى الاشتراك فى معنى أصل الخلق. عنه جوابان:
الأول: المنع، ولهذا فإنه يصح أن يقال: الرب- تعالى- خير من الأصنام المعبودة، وإليه الإشارة بقوله- تعالى-: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ «1» مع أنه لا خير فيما أشركوا به. ويقال: النبي خير من المشرك، وإن كان لا خير فى المشرك.
ومنه قول حسان بن ثابت فى حق من هجا النبي عليه السّلام:
أ تهجوه ولست له بكفئ ... فشرّكما لخيركما الفداء
مع أنه لا خير فيمن يهجو النبي عليه الصلاة والسلام. والإطلاق العرفى شائع ذائع بقولهم: الصائد أحق بالصيد من غيره، ورب المال أحق به من غيره، مع أنه لا مشاركة بين الصائد وغيره، ولا بين رب المال وغيره، فى أصل الحق.
الثانى: هو أن العرب قد تصف أحد الشيئين بصفة الآخر عند اقترانهما بالذكر كما فى قولهم: الأسودان، للماء، والتمر، وقد تسميه باسمه: كالعمرين لأبى بكر، وعمر. وكالقمرين: للشمس، والقمر، فلما ذكر غير الله- تعالى- معه؛ وصفه بصفته، وإن لم يكن متصفا بها.
وهذا الاحتمال، وإن لم يكن مقطوعا به؛ فهو قائم، ويجب الحمل عليه؛ لما ذكرناه من الدليل العقلى.
وأما قوله- تعالى-: حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً «2»، فيحتمل أن يكون قد أضاف إحداث الذكر إليه؛ لأنه مكتسب له، أو ملازم لفعله المكتسب له. وإن لم يكن خالقا له، ولا موجدا، وذلك كما يقال: فلان أحيى فلانا. إذا استنقذه من الهلكة، وإن لم يكن موجدا لحياته، ويقال: فلان/ أمات فلانا، وأزهق نفسه، وإن لم يكن هو الموجب لإماتته، وإزهاق نفسه. والإطلاق بذلك شائع غير منكر.
________________
(1) سورة النمل 27/ 59.
(2) سورة الكهف 18/ 70.
(2/245)
________________________________________
وقوله- تعالى-: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ «1»؛ فهو مرتب على قوله- تعالى-: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً «2»؛ فيكون عائدا إليه، ومسكوتا عما سواه. وبتقدير عوده إلى خلق الله- تعالى- مطلقا. فمعناه لا تفاوت فى خلق الله- تعالى- من حيث هو خلق وإيجاد؛ وذلك لا يدل على وجود خلق لغير الله إلا أن يكون من حيث هو خلق متفاوت؛ وهو غير مسلم.
وقوله- تعالى-: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ «3». معناه علم كل خلق. ومنه يقال: فلان يحسن الصناعة الفلانية: أى يعلمها. وليس المراد به خلق الحسن، ولهذا:
فإنه لا يقال لمن أوجد شيئا حسنا أنه أحسنه.
ثم وإن سلمنا أن المراد به أن خلقه حسن؛ فليس فيه ما يدل على أن غيره خالق.
إلا أن يكون ثم ما هو خلق قبيح. من حيث هو خلق؛ وهو غير مسلم، على ما حققناه فى مسألة التحسين والتقبيح «4».
وقوله- تعالى-: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «5» أى باكتسابك، والمكتسب ليس بخلق على ما يأتى. ثم هو معارض بالقراءة الأخرى، وهو قوله- تعالى- فَمِنْ نَفْسِكَ بفتح الميم؛ إذ هو رد على وهم من توهم أن السيئة من النفس.
وقوله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ: أى تكسبون؛ فإن العمل قد يضاف إلى العبد بمعنى الاكتساب، أو بسبب ملازمته للاكتساب كما ذكرناه؛ وليس فى ذلك ما يدل على كون العمل مخلوقا للعبد، وبه تأويل كل ما يرد من هذا القبيل.
وأما المعارضة: فبآيات منها:
قوله- تعالى-: واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ. دل على أن أعمال العبيد المختارين مخلوقة لله- تعالى-
________________
(1) سورة الملك 67/ 3.
(2) سورة الملك 67/ 3.
(3) سورة السجدة 32/ 7.
(4) انظر ل 175/ أ وما بعدها.
(5) سورة النساء 4/ 79.
(2/246)
________________________________________
فإن قيل: قوله- تعالى-: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ «1»:
أى الأصنام التي كانوا ينحتونها، ويتخذونها آلهة؛ وهى لا محالة مخلوقة لله- تعالى- وإطلاق اسم العمل على ما ينحت، ويصور بصورة «2» خاصة سائغ لغة، ومنه يقال: هذا الباب من عمل فلان، وإن كان الباب نفسه، ليس من عمله. ويدل على ذلك أيضا قوله- تعالى-: فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ «3». وإنما كانت تلقف الحبال، والعصى، وليست فعلا لهم.
ويدل على هذا التأويل أنه لو أراد به الأعمال المقدورة للعباد حقيقة؛ لكان القول بأنها من أفعال الله- تعالى- تناقضا؛ فإن ما يعمله العبد/ لا يكون لغيره.
والجواب:
هو أن حمل العمل على الأصنام مجاز، والأصل فى الإطلاق الحقيقة، وإضافة العمل إليهم بقوله: وما تعملون، إنما هو إضافة اكتساب لا خلق؛ على ما تقدم.
وأيضا: قوله- تعالى-: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ «4»، وهو ظاهر فى النعيم عند من يقول بصيغ العموم، وعند من لا يقول بصيغ العموم؛ فلما اقترن به من قرينة التمدح، والاستعلاء، ولو كان غيره خالقا لشيء من الأشياء؛ لبطلت فائدة التمدح، والاستعلاء؛ وهو ممتنع.
ولا نسلم أن المخاطب يدخل فى عموم خطابه حتى يقال: إن عموم الآية قد خص بذاته، وصفاته؛ حيث أنها أشياء، وليست مخلوقة له؛ لأن التخصيص إنما يكون بإخراج ما هو داخل تحت عموم اللفظ عن كونه مرادا باللفظ، وما لا يكون داخلا تحت عموم اللفظ؛ فخروجه عنه لا يكون تخصيصا له.
والّذي يدل على أن المتكلم لا يدخل تحت عموم كلامه، أنه لو قال القائل: إنى قطعت كل مناظر لا يكون نفسه داخلة «5» فيه، ولا يكون هو مفهوما من لفظه، وإن كان
________________
(1) سورة الصافات 37/ 95، 96.
(2) فى ب (بصور).
(3) جزء من الآية رقم 117 من سورة الأعراف، وجزء من الآية رقم 45 من سورة الشعراء.
(4) سورة الأنعام 6/ 102.
(5) فى ب (داخلا).
(2/247)
________________________________________
العموم مخصصا؛ فهو خلاف الدليل، ويجب حمله على غير محل التخصيص مطلقا؛ تعليلا لمخالفة الدليل.
وأيضا قوله:- تعالى-: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا «1». وقوله- تعالى- ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا «2». ذكر ذلك فى معرض الثناء على أرباب هذه الدعوات، ولو لم يكن الزيغ والغل، مخلوقا لله- تعالى- على رأى من يرى أن صدور ذلك من الله- تعالى- ممتنع، لكونه ظلما- لما كان لسؤاله فى دفع ما لا يقدر عليه، ولا «3» هو مخلوق له «3» معنى.
ولا يمكن حمل هذه الدعوات على خلق الألطاف التي يعلم الله- تعالى- أمن الراغبين عندها من هذه الأمور؛ إذ هو تجوز، وترك للظاهر من غير دليل.
وأيضا: قوله- تعالى-: وأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأَبْكى «4». وهو دليل على كون الضحك والبكاء، مخلوقا لله- تعالى-؛ فيكون حجة على من قال: هو مخلوق للعبد.
وحمل ذلك على خلق الأسباب الموجبة للإضحاك، والإبكاء، ترك للظاهر من غير دليل؛ فلا يسمع.
وأيضا: قوله- تعالى-: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ولا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها «5»: أى نخلقها؛ فدل على أن كل مصيبة مخلوقة لله- تعالى- وذلك يعم الكفر، والمعاصى، وكل مصيبة قيل إنها مخلوقة لله- تعالى- إلى غير ذلك من الآيات، والظواهر، ثم العمل بما ذكرناه أولى؛ لاعتقاده بالدليل العقلى، ومخالفته لما ذكروه.
*********
________________
(1) سورة آل عمران 3/ 8.
(2) سورة الحشر 59/ 10.
(3) (و لا هو مخلوق له) ساقط من ب.
(4) سورة النجم 53/ 43.
(5) سورة الحديد 57/ 22.
(2/248)
________________________________________
وأما الفروع: (فثمانية) «1»
الأول: فى امتناع/ مخلوق بين خالقين.
الثانى: فى الرد على الفلاسفة الإلهيين.
الثالث: فى الرد على الطبيعيين.
الرابع: فى الرد على الصابئة فى قولهم بوجود موجد غير الله- تعالى-.
الخامس: فى الرد على المنجمين، وأرباب الأحكام.
السادس: فى الرد على الثنوية والمجوس.
السابع: فى الرد على المعتزلة فى خلق الأفعال.
الثامن: فى الرد على القائلين بالتولد «2».
________________
(1) فى أ (فتسعة) وهى مخالفة للواقع؛ حيث أن المذكور فعلا فى الشرح ثمانية.
(2) زائد فى أ (التاسع: فى أضداد الإرادة، ومتعلقاتها).
(2/249)
________________________________________
«الفرع الأول» فى امتناع مخلوق بين خالقين
وهذا مما لا نعرف فيه خلافا بين العقلاء، غير أن الرسم جار بالدلالة عليه، ليكون الحق معلوما بدليله، ودفعا لوهم من يتوهم جواز نقيضه.
ولنا فيه مسلكان:
المسلك الأول:
أنه لو جاز وجود مخلوق واحد بين خالقين لم يخل: إما أن يكون كل واحد منهما مؤثرا فيه، أو لا تأثير لواحد منهما فيه، أو أن أحدهما هو المؤثر فيه دون الآخر.
فإن كان لا تأثير لكل (واحد «1») منهما فيه: فليس مخلوقا لهما.
وإن كان أحدهما هو المؤثر فيه دون الآخر: فالخالق له هو المؤثر فيه، والآخر ليس بخالق؛ فيكون مخلوقا لأحدهما لا لهما.
وإن كان كل واحد منهما مؤثرا فيه: فإما أن يكون كل واحد مستقلا بخلقه، وإيجاده، أو غير مستقل.
فإن كان كل واحد مستقلا بالخلق: فلا معنى لكونه مستقلا به، إلا أنه وجد به دون غيره، ويلزم من استقلال كل واحد منهما؛ امتناع استقلال كل واحد منهما؛ كما تقرر فيما تقدم «2».
وإن لم يكن كل واحد مستقلا بالخلق: فتأثير كل واحد منهما فيه: إما فى كله، أو فى بعضه.
فإن كان مؤثرا فى كله: فإما أن يكون تأثيره على وجه يتحقق به الخلق، والإيجاد، أو لا على وجه يتحقق به الخلق، والإيجاد.
________________
(1) فى أ (لواحد).
(2) يوجد أربعة أسطر زائدة فى ب (و إن لم يكن كل واحد منهما مستقلا بخلقه وإيجاده أو غير مستقل، فإن كان كل واحد مستقلا بالخلق فلا معنى لكونه مستقلا به إلا أنه وجد به دون غيره، ويلزم من استقلال كل واحد منهما امتناع استقلال كل واحد منهما كما تقرر فيما تقدم).
(2/251)
________________________________________
فإن كان الأول: عاد قسم الاستقلال؛ وهو ممتنع.
وإن كان الثانى: فلا تأثير؛ إذ التأثير ولا أثر محال.
وإن كان كل واحد مؤثرا فى البعض: فلا يخلوا: إما أن يكون المخلوق متبعضا، أو غير متبعض.
فإن لم يكن متبعضا: فالقول بالتأثير فى بعض ما لا بعض له محال.
وإن كان متبعضا: فإما أن يؤثر كل واحد منهما فى كل بعض من الأبعاض، أو كل واحد فى بعض غير البعض الّذي أثر فيه الآخر.
فإن كان الأول: عاد الكلام في كل واحد من الأبعاض، وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان الثانى: فمخلوق كل واحد منهما غير مخلوق الآخر «1»؛ وليس مخلوقا واحدا بين خالقين.
وهذه الطريقة/ على هذا التحرير، والتقرير، فمما لم أجدها لأحد غيرى، وهى عامة فى نفى خالقين لمخلوق واحد، وسواء كان كل واحد خالقا بالذات، أو بالقدرة، والاختيار، أو أحدهما بالذات، والآخر بالاختيار «2».
المسلك الثانى:
أنه قد ثبت فى المسألة الأولى: أنه لا خالق غير الله- تعالى- وثبت فى الوحدانية امتناع وجود إلهين «3» - ويلزم من ذلك امتناع وجود خالقين مطلقا. وسواء اتحد المخلوق، أو تعدد؛ وهو المطلوب.
فإن قيل: لو فرضنا التصاق جوهر فرد يكفى شخصين، وأحدهما دافع له فى حالة كون الآخر جازيا له: فإما أن يحصل من ذلك الجزء حركتان، أو حركة واحدة.
الأول: باطل؛ لاستحالة اجتماع المثلين فى محل واحد.
________________
(1) فى ب (للآخر).
(2) هذه الطريقة من متبكرات الآمدي.
(3) انظر ل 167/ ب وما بعدها.
(2/252)
________________________________________
وإن كانت حركة واحدة: فإما أن لا تكون مستندة إلى واحد منهما، أو مستندة إلى أحدهما دون الآخر، أو مستندة إليهما.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كان الفعل حاصلا من غير فاعل؛ وهو محال.
ولا جائز أن يقال بالثانى؛ لعدم الأولوية.
فلم يبق إلا الثالث؛ وهو المطلوب.
قلنا: هذا إنما يلزم على المعتزلة.
وأما نحن: فالحركة عندنا مستندة في وجودها إلى الله- تعالى- لا إليهما.
(2/253)
________________________________________
«الفرع الثانى» فى الرد على الفلاسفة الإلهيين
والّذي عليه اعتماد الحذاق من الفلاسفة الإلهيين «1» أن البارى- تعالى- واحد من كل جهة، وأنه ليس له صفة وجودية، لا داخلة فى ذاته، ولا خارجة عارضة لذاته، كما أسلفناه «2» من إيضاح مذهبهم، وحكاية شبههم على ذلك فى إثبات الصفات.
ثم إنهم بنوا على ذلك أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. محتجين على ذلك بأمرين.
الأول: أنه لو صدر عنه اثنان: لم يخل: إما أن يتفقا من كل وجه، أو يختلفا من كل وجه، أو يتفقا من وجه، ويختلفا من وجه.
فإن كان الأول: فلا تعدد؛ لأن التعدد مع عدم التمايز محال.
وإن كان الثانى، أو الثالث: فهما فى الجملة مختلفان.
وعند ذلك: فإما أن يكون صدور كل واحد منهما عنه من الجهة التى كان صدور الآخر عنه بها، أو من جهة أخرى.
لا جائز أن يقال بالأول: لأن العلة لا بد وأن يكون بينها، وبين المعلول ملاءمة مناسبة يتهيأ بها وجود المعلول، وإلا لما كان صدور ذلك المعلول عنها أولى من صدور غيره، ولا أولى من صدوره عن غيرها؛ بل كان كل موجود صالحا لأن يكون علة لأى وجود كان؛ وهو محال. وما ناسب به أحد المعلولين/ المختلفين لا يمكن أن يناسب به المخالف الآخر، ولهذا فإنا نستدل باختلاف الآثار من الحرارة والبرودة، فى الجسم الواحد، على اختلاف المؤثرات فيه، ويلزم من ذلك أن الواحد إذا كان علة الأمرين مختلفين؛ أن يكون علة لهما بجهتين مختلفتين؛ وهو القسم الثانى.
________________
(1) لتوضيح رأى الفلاسفة فى هذه المسألة: انظر من كتبهم: النجاة لابن سينا ص 249 - 284، وتسع رسائل فى الحكمة له ص 108 - 114، والإشارات والتنبيهات له أيضا 3/ 119 - 192.
(2) فى ب (كما سبق). انظر ل 54/ أ وما بعدها.
(2/254)
________________________________________
وعند ذلك: فالجهتان المختلفتان: إما من صفات ذاته، أو لا من صفات ذاته.
فإن كانت من صفات ذاته: فهو محال؛ إذ لا صفة له، لا داخلة فى ذاته، ولا خارجة عنها «1» كما سلف تحقيقه فى الصفات؛ بل هو واحد من كل جهة «2»، وإن اختلفت الأسماء، وتعددت، وإن لم تكن من صفات ذاته؛ فالكلام فى صدورها عنه:
كالكلام فى الأول؛ ويلزم منه التسلسل، أو الدور الممتنع.
الثانى: أنه لو صدر عنه شيئان «3»؛ فيكون قد صدر عنه شيء، وما ليس ذلك الشيء؛ وهو تناقض.
وهذه المحالات؛ إنما لزمت عن صدور الكثرة عن واجب الوجود؛ فلا كثرة؛ بل «4» يجب «4» أن يكون ما يصدر عنه واحدا، لا تعدد فيه. وهذا المعلول الواحد إما أن يكون موجودا فى موضوع، أو «5» موجودا لا فى موضوع:
لا جائز أن يكون موجودا فى موضوع: وإلا كان عرضا، وكان علة لما بعده؛ ويلزم من ذلك أن يكون علة لموضوعه الّذي لا قوام له فى الوجود إلا به؛ وهو دور ممتنع.
وإن كان موجودا لا فى موضوع: فهو جوهر: ولا يخلو: إما أن يكون مركبا، أو بسيطا.
فإن كان مركبا: فهو ممتنع لوجهين:
الأول: أنه يلزم منه صدور الكثرة عن واجب الوجود؛ وقد قيل بامتناعه.
الثانى: أنه يلزم (منه) «6» أن يكون علة لغيره، ومفرداته من جملة الأعيان؛ فيكون علة لها، وهو فلا يتم وجوده دونها؛ وهو أيضا دور.
وإن كان بسيطا: فإما أن يكون داخلا فى المركب، أو لا يكون داخلا فى المركب.
________________
(1) فى ب (عن ذاته).
(2) فى ب (وجه).
(3) فى ب (اثنان).
(4) فى ب (فيجب).
(5) فى ب (أو لا يكون).
(6) ساقط من أ.
(2/255)
________________________________________
لا جائز أن يكون داخلا فى المركب، وإلا فهو: إما أن يكون حالا، أو محلا (فإن) «1» كان حالا: فهو الصورة الجسمية.
ويلزم أن يكون «2» علة لغيره، ومن جملة الأعيان «3» المادة التى لا وجود للصورة «3» الجسمية دونها كما يأتى؛ وهو دور.
وإن كان محلا: فهو المادة الجسمية، ويلزم أن يكون علة لغيره، ومن جملة الأعيان «4» الصورة الجسمية، التى لا وجود للمادة دونها، كما يأتى أيضا؛ وهو دور.
وإن لم يكن داخلا فى المركب: فإما أن يكون مجردا عن المادة وعلائقها؛ فهو العقل، أو هو مجرد عن المادة دون علائقها/؛ فهو النفس.
ولا جائز أن يكون نفسا: وإلا كان علة لغيره، والنفس وإن لم تكن موجودة فى المادة؛ فلا توجد دون وجود المادة كما يأتى تحقيقه.
فلو كانت علة لها: لزم الدور الممتنع؛ فلم يبق إلا أن يكون عقلا: وهو ماهية مجردة عن المادة، وعلائق المادة.
وهذا المعلول يتبعه جهات: فإنه واجب بالواجب «5» بذاته «5»، وممكن بذاته؛ ضرورة كونه معلولا، وهو عالم بنفسه، وبمبدئه؛ لما تقرر فى علم واجب الوجود بنفسه، وبغيره فى صفة العلم «6».
وهذه الجهات تابعة لذاته ومن ذاته، ما عدا وجوب الوجود، فإن له من الواجب بذاته وباعتبار هذه الجهات تصدر عنه الكثرة.
فباعتبار ما له من وجوب الوجود من مبدئه: يوجب عقلا آخر.
وباعتبار علمه بمبدئه: يوجب نفس الفلك الأقصى؛ إذ الأفلاك عندهم ذوات أنفس كما «7» يأتى تعريفه «7».
وباعتبار علمه بنفسه: يوجب صورة جرم الفلك الأقصى.
________________
(1) فى أ (و أن).
(2) فى ب (يكون داخلا فى المركب لا جائز أن يكون داخلا فى المركب إلى هاهنا).
(3) فى ب (الأغيار المادة التى فى وجود الصورة).
(4) فى ب (الأغيار).
(5) فى ب (بالوجود لذاته).
(6) انظر ل 73/ أ وما بعدها.
(7) فى ب (على ما يأتى). انظر الجزء الثانى ص 122 وما بعدها.
(2/256)
________________________________________
وباعتبار كونه ممكنا: يوجب مادة جرم الفلك الأقصى، ترتيبا للأشرف على الأشرف من الجهات، والأحسن على الأحسن منها.
وهذه الجهات: فمثلها أيضا ثابت للعقل الصادر عن المعلول الأول، وباعتبارها أيضا يصدر عنه عقل آخر، ونفس لجرم فلك الكواكب، ومادته، وصورته؛ إذ هو أقرب الأفلاك إلى الفلك الأقصى.
ثم العقل الثالث: يوجب باعتبار جهاته، عقلا آخر، ونفسا، ومادة، وصورة لفلك زحل.
ثم العقل الرابع: يصدر عنه أيضا باعتبار جهاته عقل آخر، ونفس، ومادة، وصورة لجرم فلك «1» المشترى.
ثم العقل الخامس: يصدر عنه باعتبار جهاته، عقل آخر، ونفس، ومادة، وصورة لجرم فلك المريخ.
ثم العقل السادس: يصدر عنه باعتبار جهاته، عقل آخر، ونفس، ومادة، وصورة لجرم فلك الشمس.
ثم العقل السابع: يصدر عنه باعتبار جهاته، عقل آخر، ونفس، ومادة، وصورة لجرم فلك الزهرة.
ثم العقل الثامن: يصدر عنه باعتبار جهاته، عقل آخر، ونفس، ومادة، وصورة لجرم فلك عطارد.
ثم العقل التاسع: يصدر عنه باعتبار جهاته، عقل آخر، ونفس، ومادة، وصورة لجرم فلك القمر، الّذي حشو مقعره: الكائنات، الفاسدات.
ثم العقل العاشر: الموجود مع جرم فلك القمر، ويعبر عنه بالعقل الفعال. يصدر عنه باعتبار جهاته ما فى مقعر/ فلك القمر من الجسم المشترك بين العناصر، وصورها، والنفوس الإنسانية، بمشاركة من القوابل، وتهيؤها للقبول، بمعاضدة أسباب سماوية مستندة إلى إرادات قديمة للأنفس الفكلية. وما زاد على ذلك من الأعراض: كالأشكال
________________
(1) فى ب (لفلك).
(2/257)
________________________________________
والأوضاع، والحركات، والألوان وغير ذلك من الأعراض الخاصة بالعلويات، والسفليات فمن «1» توابع ما أشرنا «1» إليه من المعلولات كل لما يناسبه.
فهذا حاصل معتقدهم فى هذا الباب، حكيناه على جهة الإيجاز، والاختصار. «2»
وطريق الرد لأهل الحق عليهم فى ذلك أن يقال «3»: ما ذكرتموه من نفى صدور الكثرة عن واجب الوجود بذاته، مبنى على نفى الصفات الوجودية الزائدة على ذاته، وقد «4» سبق إبطاله فى الصفات.
وإن سلمنا أنه واحد من كل جهة؛ فما المانع من صدور الكثرة عنه مع اتحاده؟
وقولهم «5»: إنه لا بد، وأن يكون بين العلة والمعلول، مناسبة. [إما «6» أن يراد به أنه «6»] لا بد وأن تكون العلة بحال يصدر عنها المعلول، أو معنى آخر.
فإن كان الأول: فمسلم؛ ولكن لا نسلم انتفاء هذا المعنى.
وإن كان الثانى: فلا بد من تصويره، وإقامة الدليل عليه.
وقولهم: إن اختلاف الآثار دليل على اختلاف المؤثرات ممنوع. وحيث قلنا باختلاف المؤثرات إنما كان عند علمنا أن أحدهما غير صادر عن الآخر.
وقولكم فى الوجه الثانى: إنه يفضى إلى التناقض، ليس كذلك؛ فإن نقيض صدور الشيء عن الشيء، لا صدوره عنه، لا صدور ما ليس هو ذلك الشيء.
سلمنا أنه لا بد، وأن تكون العلة مؤثرة فى المعلولات المختلفة باعتبار صفات زائدة على ذات العلة؛ لكن يلزم من امتناع صدور الكثرة عن الواحد الأول، أن يكون ما صدر عنه واحدا، ويلزم من ذلك أن يكون ما صدر عن ذلك المعلول أيضا واحدا، وهلم جرا، وأن لا تقع الكثرة وهى واقعة؛ وهو محال.
________________
(1) فى ب (و قد أشرنا).
(2) فى ب (و التفصيل).
(3) انظر الشامل لإمام الحرمين ص 229 - 237. ومقاصد الفلاسفة للغزالى حيث يعرض رأى الفلاسفة فى المقالة الخامسة من ص 288. وما بعدها ثم يثبت تهافتهم فى تهافت الفلاسفة ص 134 وما بعدها.
ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 56 - 65.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 203 - 205.
(4) فى ب (فقد). انظر ل 54/ أ وما بعدها.
(5) فى ب (قولكم).
(6) فى أ (إن أريد به أنها).
(2/258)
________________________________________
وما ذكرتموه من الجهات، والصفات التى هى مبدأ الكثرة فى المعلول الأول: إما أن تكون هى نفس ذاته، أو زائدة عليها.
فإن كان الأول: فلا تعدد، ولا كثرة فى غير التسمية.
وإن كان الثانى: فإما أن تكون وجودية، أو غير وجودية.
فإن كانت وجودية: فإما أن لا تفتقر إلى علته، أو تفتقر.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كانت واجبة الوجود عندكم، وخرجت عن أن تكون من الصفات ضرورة افتقار/ الصفة إلى الموصوف.
كيف وأن «1» ذلك مما يفضى إلى التعدد فى نوع واجب الوجود، ولم يقولوا به.
وإن كانت مفتقرة إلى علة «2»: فالعلة: إما ذات الموصوف بها، أو واجب الوجود؛ لأن ما عدا ذلك من توابعها؛ فلا يكون علة لها.
لا جائز أن تكون هى ذات الموصوف بها: لأنه بسيط قابل لها. والقابل عندكم ليس هو الفاعل، ولأنه يلزم منه أن تكون ذات المعلول الأول قد صدر عنها أكثر من أربعة أشياء، ولم يقولوا به.
وإن كان علتها هو ذات واجب الوجود: فقد صدرت عنه الكثرة؛ ولم يقولوا به.
هذا كله: إن كانت الجهات التى هى مبدأ الكثرة وجودية، وإن كانت غير وجودية:
كالسلوب، والإضافات؛ فلا يمكن صدور الكثرة عنها؛ لأن ما ليس بوجود «3»، لا يكون سببا للوجود كما تقدم. وإن كانت سببا للوجود: فلا مانع من صدور الكثرة عن واجب الوجود باعتبارها؛ لاتصافه بالصفات السلبية والإضافية، كما ذكرتموه.
ثم وإن كان الأمر على ما قيل؛ فالمعلول الأول أيضا متصف بصفات أخرى إضافية وسلبية، ككونه مبدأ لغيره، وعالما بمعلوله، ومجردا عن المادة، وعلائقها؛ فلم لا كانت هذه الجهات أيضا مصدرا للكثرة؟ أو أن يصدر عنها، ويسببها زيادة على ما صدر عن غيرها؟
________________
(1) فى ب (فإن ذلك).
(2) فى ب (العلة).
(3) فى ب (بموجود).
(2/259)
________________________________________
وإن سلم انحصار الجهات المؤثرة فيما ذكرتموه: فلم كانت العقول المعلولة منحصرة فى عشرة؟ والأفلاك، ونفوسها فى تسعة؟ ولم لا كانت أكثر من ذلك، أو أقل؟
وإن سلم لزوم الحصر فيما ذكرتموه: فلم كان اختصاص كل عقل بما صدر عنه، أو من غيره من العقول؟ ولم كان العقل الفعال بما صدر عنه أولى من غيره؟ وما صدر عن غيره أولى به من العقل الفعال؟.
فلئن قلتم: إن العقول وإن اتحدت اسما، فمختلفة نوعا، فلذلك كان اختلاف تأثيرها، فتحتاجون إلى بيان الاختلاف بالنوعية.
ثم إذا قيل ذلك فى العقول؛ فما المانع من أن يقال مثله فى النفوس الفلكية، والأجرام الفلكية؟ وأن كل نفس معلولة لنفس، وأن كل فلك معلول لفلك، وأن الأنفس الإنسانية صادرة عن الأنفس الفلكية، والأجسام العنصرية صادرة عن الأجسام الفلكية؛ بل أولى؛ لأنكم راعيتم المناسبة بين العلة، والمعلول.
ولا يخفى أن المناسبة بين النفوس/ والنفوس، والأجسام، والأجسام؛ أقرب منها بين العقول والنفوس، والعقول والأجرام.
فهذه كلها إلزامات لازمة، وإشكالات مشكلة، لا جواب عنها، إلا بمحض التحكم الّذي تأباه الفطر المستقيمة، وتنفر عن مثله العقول السليمة.
وأما إبطال قولهم بالعقول، والنفوس الفلكية: فسيأتى فى «1» موضعه إن شاء الله- تعالى.
________________
(1) انظر الجزء الثانى ص 114 وما بعدها.
(2/260)
________________________________________
«الفرع الثالث» فى الرد على الطبيعيين
واعلم أن ما يخالف فيه الطبيعيون لأهل الحق من المسائل كثيرة متعددة، وسنستقصى الرد عليهم فى كل موضع على «1» حسبه «1»، والرد عليهم هاهنا إنما هو خصيص بما نحن فيه، من نفى مؤثر، وموجد «2» غير الله- تعالى.
وقد ذهبت الفلاسفة الطبيعيون: إلى أن بعض ما نشاهده من حركات الأجسام البسيطة، والمركبة، والآثار الصادرة عنها؛ إنما هو لقوى موجودة فى تلك الأجسام، لو قدر خلوها عنها؛ لم يكن اختصاص ذلك الجسم بما صدر عنه أولى من غيره.
ثم صدور ما صدر عن تلك القوة: إما أن يكون متنوعا، أو غير متنوع؛ بل هى على نهج واحد، والمتنوع به: إما أن يكون مع شعور به، أو لا مع شعور به.
فإن كان الأول: فكحركة الحيوان.
وإن كان الثانى: فكحركة النبات فى نموه، ونشو فروعه.
وإن كان على نهج واحد: فإما أن يكون أيضا مع شعور به، أو لا مع شعور به.
فالأول: كالحركة الدورية للأفلاك. والثانى: كحركة الحجر فى هويه، وتبريد الماء ببرده، وتسخين النار بحرها، ونحو ذلك.
وزعموا أيضا: أن ما نشاهده من أنواع المركبات فيما تحت مقعر فلك القمر من المعدنيات، والنبات، والحيوانات، وخواصها؛ إنما هو بحركات العناصر بعضها إلى بعض، وامتزاجها.
وربما زاد الأقدمون منهم على ذلك وقالوا: إن أصل العالم أجزاء قديمة جسمانية صغار كرية فى خلا ممتد متشابه الأجزاء، وأنها «3» لم تزل تلك الأجزاء الجسمانية
________________
(1) فى ب (بحسبه).
(2) فى ب (موجد).
(3) فى ب (أو أنها).
(2/261)
________________________________________
متحركة فيه؛ لاستحالة قرارها فى جزء منه مع التشابه، لعدم الأولوية، حتى اتفق أن تصادمت، وتمانعت، وامتزجت على هذا الشكل الّذي العالم عليه.
وربما جوزوا وجود عوالم وراء هذا العالم، على هذا الشكل، وعلى غيره: إما متناهية، أو غير متناهية. على ما سنفصله، ونوضح الكلام فيه، فيما بعد إن شاء الله- تعالى «1».
وطريق الرد عليهم أن يقال «2»:/ الأجسام عندكم كلها مشتركة فى معنى الجسمية.
فاختصاص كل واحد منها بما اختص به من القوى المؤثرة: إما أن يكون لذاته، أو لاختصاصه بقوة أخرى موجبة لها، أو لمخصص من خارج.
فإن كان الأول: فهو محال؛ وإلا لما كان اختصاص بعض «3» الأجسام بما اختص به أولى من غيره؛ ضرورة الاتحاد، والحقيقة الجسمية، ويلزم من ذلك أن لا يختص واحد من الأجسام بقوة، أو أن تشترك جميع الأجسام فى جميع القوى؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فالكلام فى الاختصاص بتلك القوة: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان الثالث: فما المانع أن يكون المخصص له بتلك الحركة وبذلك الأثر، إنما هو المخصص الخارج. لا بواسطة قوة فى الجسم، ويكون ذلك المخصص فاعلا مختارا؛ وهو البارى- تعالى- على ما حققناه- وهو المخصص له بذلك الأثر، وبتلك «4» الحركة فى وقت دون وقت «4».
وهذه المطالبة: لا سبيل إلى دفعها مع فرض وجود الفاعل المختار، وإمكان تعلق قدرته بكل كائن «5»؛ وقد تحقق ذلك بما أسلفناه.
________________
(1) انظر الجزء الثانى ص 146 وما بعدها.
(2) قارن بالشامل لإمام الحرمين ص 237 - 242.
(3) فى ب (بعض من).
(4) فى ب (فى ذلك الوقت دون غيره).
(5) فى ب (جائز).
(2/262)
________________________________________
وعلى هذا: يكون الكلام فى أنواع المركبات، وخواصها، وامتزاجاتها أيضا.
ويخص القائلين بقدم الأجسام، وتحركها فى خلاء ممتد غير متناه «1»؛ ما سنحققه من إبطال قدم «2» كل موجود سوى الله- تعالى-، وامتناع وجود بعد لا نهاية له؛ فيما «3» بعد «3».
________________
(1) فى ب (متناه على).
(2) ساقط من ب. انظر الجزء الثانى ص 302 وما بعدها.
(3) قى ب (فيها). انظر الجزء الثانى ص 84 وما بعدها.
(2/263)
________________________________________
«الفرع الرابع» فى الرد على الصابئية فى قولهم بوجود موجد غير الله تعالى «1»
والأشبه فى تسمية هذه الطائفة صابئة؛ لميلهم، وانحرافهم عن سنن الحق فى نبوة الأنبياء، ولاتخاذهم آلهة غير الله- تعالى- أخذا من قول العرب صبا الرجل؛ إذا مال، وانحرف.
وهم أربع فرق:
الفرقة الأولى: أصحاب «2» الروحانيات «2»:
وقد يقال ذلك بالضم «3»: أخذا من الروح، وهو جوهر.
وقد يقال بالفتح «4»: أخذا من الروح، وهو حالة خاصة به.
وقد زعم هؤلاء: أن أصل وجود العالم واحد مقدس عن سمات الحدث. هو أجلّ وأعلا من أن يتوصل إلى جلاله بالعبودية له، والخدمة من السفليات، وذوات الأنفس المنغمسة فى عالم الرذائل، والشهوات. وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات بينه، وبين السفليات. وهى أمور: روحانية، مقدسة عن المواد الجرمانية، والقوى/ الجسمانية، والحركات المكانية، والتغيرات الزمانية، فى جوار رب العالمين. مجبولون على تقديسه، وتمجيده، وتعظيمه دائما سرمدا.
________________
(1) ورد فى مجلة المشرق البيروتية المجلد الرابع الصادر فى سنة 1901 مقال للأب انستاس الكرملى عن الصابئية، والمندائية استشهد فيه بما أورده الآمدي هنا من أول الفرع الرابع إلى قوله (إلى كثير من الأحكام المشروعة فى شرعنا هذا)، وقد نقل من الأبكار أربع صفحات كاملة: وهى تقابل اللوحات من ل 221/ أ- 223/ أ.
وقدم للنقل بقوله: (و قد وجدت أفضل متكلمى الأشعرية سيف الدين أبا الحسن بن على الآمدي قد أحسن تمييز هذه الفرق الأربع التى افترقت إليها الصابئة وفاق سائر كتبة العرب، ومؤرخيهم فى وصفها، وإمعان النظر فى تدقيق البحث عنها؛ وذلك فى كتابه الجليل المترجم بكتاب (أبكار الأفكار) وهو غير مطبوع إلى يومنا هذا، وعزيز الوجود؛ ولهذا أورد كلامه هنا بتمامه.
أولا: إثباتا لدرر كلامه ومعرفة مقاله. وثانيا: إقرارا بفضله وعلو مكان كماله قال- ولله دره من قائل- ثم ينقل نصوصه التى لا تكاد تختلف عما ورد هنا إلا فى ألفاظ قليلة. وقد نقلها عن نسختين.
(2) فى ب (و هم أصحاب الروحانية).
(3) فى ب (بالرفع).
(4) فى ب (بالنصب).
(2/264)
________________________________________
قالوا: وهم آلهتنا، وأربابنا، ووسائلنا إلى حاجتنا، وبهم يتقرب إلى الله- تعالى- وهى المديرة للكواكب الفلكية، والمدبرة لها على التناسب المخصوص. حيث يتبعها:
انفعالات فى العناصر السفلية، وحركات بعضها إلى بعض، وانفعال بعضها عن بعض، عند الاختلاط، والامتزاج المفضى إلى التركيب الموجب لتنوع المركبات: إلى أنواع المعادن، والنبات، والحيوانات، وتصريف موجودات الأعيان من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن، إلى غير ذلك من الآثار العلوية، والسفلية.
وزعموا: أن الكواكب الفلكية: هى هياكل هذه الروحانيات، وأن نسبة الروحانيات إليها فى التدبير لها، والتدوير. نسبة الأنفس الإنسانية، إلى أبدانها، وأن لكل روحانى:
هيكلا يخصه، ولكل هيكل: فلكا يكون فيه.
وزعموا: أن المعرف لهم بها: عادميون، وهرمس «1»، اللذان هما أصل علم الهيئة، وصناعة النجامة. وهرمس: هو أول من قسم البروج، ووضع أسماءها، وأسماء الكواكب السيارة، ورتبها فى بيوتها، وبين الشرف والوبال، والأوج والحضيض، والمناظر:
بالتثليث، والتسديس، والتربيع، والمقابلة، والمقارنة، والرجوع، والاستقامة، والميل، والتعديل. واستقل باستخراج «2» أكثر أحكام الكواكب وأحوالها.
وقد قيل: إن عادميون: هو شيث. وهرمس: هو إدريس عليهما السلام «3».
الفرقة الثانية: أصحاب الهياكل:
فإنهم قالوا: إذا كان لا بد للإنسان من متوسط؛ فلا بد، وأن يكون ذلك المتوسط مما يشاهد ويرى «4»، حتى يتقرب إليه. والروحانيات ليست كذلك؛ فلا بد من متوسط بين الإنسان «5» وبينها. وأقرب ما إليها هياكلها فهى الآلهة، والأرباب المعبودة، والله- تعالى-
________________
(1) ويسميه الصابئة الحاليون (هرمز).
(2) فى ب (باخراج).
(3) ومذهب صابئة العراق فى يومنا هذا هو مذهب هذه الفرقة بعينه لا ينقص عنه ذرة ولا يخالفه بشيء ولو كان زهيدا.
(انظر مجلة المشرق البيروتية ص 401 المجلد الرابع لسنة 1901 م).
(4) فى ب (ترى مشاهدة).
(5) فى ب (للإنسان).
(2/265)
________________________________________
رب الأرباب، وإليه التوسل، والتقرب؛ فإن التقرب إليها تقرب إلى الروحانيات «1»، التى هى كالأرواح بالنسبة إليها، ولا جرم دعوا إلى عبادة الكواكب السبعة السيارة.
ثم أخذوا فى تعريفها، وتعريف أحوالها بالنسبة إلى طبائعها، وبيوتها، ومنازلها، ومطالعها، ومغاربها، واتصالاتها، ونسبتها إلى الأماكن، والأزمان، والليالى، والأيام، والساعات، وما دونها إلى غير ذلك.
ثم تقربوا إلى كل هيكل، وسألوه/ بما يناسبه من الدعوات فيما يناسبه من الأماكن والأزمان، واللباس الخاص به، والتختم بالخاتم المطبوع على صورته، والهياكل عندهم أحياء، ناطقة، بحياة الروحانيات «1»، التى هى أرواحها، ومتصرفة فيها.
ومنهم من جعل هيكل الشمس: رب الهياكل والأرباب. وهذه الهياكل هى المدبرة لكل ما فى عالم الكون، والفساد؛ على ما سلف تعريفه فى تعريف مذهب الفريق الأول.
وربما احتجوا على وجود هذه المدبرات، وأنها أحياء ناطقة: بأن حدوث الحوادث:
إما أن يكون مستندا إلى حادث، أو قديم.
لا جائز أن يكون مستندا إلى حادث: إذ الكلام فيه؛ كالكلام فى الأول، والتسلسل، والدور محالان؛ فلم يبق إلا أن يكون مستندا إلى ما هو فى نفسه قديم، وذلك القديم: إما أن يكون موجبا بذاته، أو بالاختيار.
فإن كان الأول: فإما أن يكون كل ما لا بد منه فى إيجاد الحادث متحققا معه، أو أنه متوقف على تجدد أمر.
فإن كان الأول: فيلزم قدم المعلول، لقدم علته وشرطه؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فالكلام فى تجدد ذلك الأمر: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
فلم يبق: إلا أن يكون فاعلا مختارا، وليس فى عالم الكون والفساد: فاعل قديم مختار؛ فلم يبق غير «2» الأفلاك، والكواكب- ولذلك حكموا بكونها أحياء «3» ناطقة.
________________
(1) فى ب (الروحانية).
(2) فى ب (إلا).
(3) فى ب (أحيانا).
(2/266)
________________________________________
الفرقة الثالثة: أصحاب الأشخاص:
وهؤلاء زعموا: أنه إذا كان لا بد من متوسط مرئى، فالكواكب؛ وإن كانت مرئية:
إلا أنها قد ترى فى وقت دون وقت طلوعها، وأفولها، وظهورها ليلا، وخفائها نهارا؛ فدعت الحاجة إلى وجود أشخاص مشاهدة، نصب أعيننا؛ تكون لنا وسيلة إلى الهياكل التى هى وسيلة إلى الروحانيات، التى هى وسيلة إلى الله- تعالى.
فاتخذوا لذلك: أصناما مصورة على صور الهياكل السبعة. كل صنم من جسم مشارك فى طبيعته لطبيعة ذلك الكوكب. ودعوه، وسألوه بما يناسب ذلك الكوكب فى الوقت، والمكان واللباس، والتختم بما يناسبه، والتبخير المناسب له على حسب ما يفعله أرباب الهياكل؛ لأنها هى المعبودة على الحقيقة.
وهذا: هو الأشبه بسبب اتخاذ الأصنام، ويحتمل أن يكون اتخاذ الأصنام بالنسبة إلى غير هذه الفرقة وتعظيمها؛/ لاتخاذها قبلة لعباداتهم، أو لأنها على صورة بعض من كان يعتقد فيه النبوة والولاية، تعظيما له، أو لأن قدماء أرباب الهياكل، والأصنام، وعلمائهم؛ ركبوا طلاسم، ووضعوها فيها، وأمروهم بتعظيمها؛ لتبقى محفوظة منتفعا بها. وإلا فاعتقاد الإلهية فيما اتخذ، وصور من الأخشاب، والأحجار، وكونه خالقا لمن صوره، ومبدعا لما وجوده قبل وجوده من العالم العلوى، والسفلى؛ مما لا يستجيزه عقل «1» عاقل؛ بل البداية «1» شاهدة برده، وإبطاله، وإن وقع ذلك معتقدا لبعض الرعاع «2»، ومن لا خلاق له، من العوام منهم؛ فلا التفات إليه، ولا معول عليه.
الفرقة الرابعة: الحلولية:
وهؤلاء زعموا: أن الإله المعبود واحد فى ذاته، وأنه أبدع أجرام الأفلاك، وما فيها من الكواكب، وجعل «3» الكواكب مدبرات «3» لما فى العالم السفلى.
فالكواكب: آباء، أحياء، ناطقة. والعناصر: أمهات. وما تؤديه الآباء: من الآثار إلى الأمهات، فتقبلها بأرحامها؛ فتحصل من ذلك المواليد، وهى المركبات، والإله-
________________
(1) فى ب (العقل وعاقل بالبداية).
(2) فى ب (الرقاع).
(3) فى ب (مدبرا).
(2/267)
________________________________________
تعالى- يظهر فى الكواكب السبعة، ويتشخص بأشخاصها من غير تعدد فى ذاته، وقد يظهر أيضا: فى صور الأشخاص الأرضية، الخيّرة، الفاضلة: وهى ما كان من المواليد:
قد تركب من صفو العناصر دون كدرها، واختص بالمزاج القابل لظهور الرب- تعالى- فيه: إما ذاته، أو صفة من صفات ذاته، على قدر استعداد مزاج ذلك الشخص.
وزعموا: أن الله يتعالى عن خلق الشرور، والقبائح، والأشياء الخسيسة الدنيئة:
كالحشرات الأرضية، ونحوها؛ بل هى واقعة ضرورة اتصالات الكواكب سعادة ونحوسة، واجتماعات العناصر صفوة، وكدورة.
وزعموا أيضا: أنه على رأس كل ستة وثلاثين ألف سنة وأربعمائة وخمس وعشرين سنة يحدث زوجان من كل نوع من أنواع الحيوانات ذكر، وأنثى، ولا يزال متعاقبا بالتوالد والتناسل، إلى تمام ذلك الدور، ثم ينقرض ويحدث على رأس الدور الآخر. وكذا إلى ما لا يتناهى.
وأن الثواب، والعقاب على أفعال الخير، والشر فى كل دور واقع؛ لكن فى الدور الّذي بعده فى هذه الدار «1»، لا فى غيرها.
والصابئية على اختلافهم فى المبادئ. متفقون على وجوب ثلاث صلوات لهم، والاغتسال من الجنابة/ ومسّ الميت، وعلى تحريم أكل لحم الخنزير، والكلب، والجزور، وما له مخلب من الطير، والسكر.
وأمروا: بالنكاح بولى، وشهود، ونهوا عن الجمع بين امرأتين، وعن الطلاق إلا بحكم حاكم، إلى كثير من الأحكام المشروعة فى شرعنا هذا «2».
وطريق الرد عليهم أن يقال:
جميع ما ذكروه: مبنى على وجود ما أدعوه من قدم الجواهر الروحانية، وهياكلها؛ وهو باطل- بما سيأتى فى حدوث العالم «3» - وبتقدير قدمها، فإسناد الكائنات فى عالم
________________
(1) فى ب (الدنيا).
(2) إلى هنا انتهى ما نقله الأب أنستاس الكرملى من كلام الآمدي.
ثم يقول انستاس فى آخر مقاله- بعد أن ينقل نصوص ابن خلدون عن الصابئة- وبين أسماء هذه الفرق، وأسماء الفرق التى ذكرها سيف الدين بون بعيد بين، غير أن الفرق التى ذكرها هذا العلامة الأخير هى أصح؛ لأنها تنطبق على حقائق راهنة، ومذاهب ذكرها أغلب المؤرخين والعلماء (مجلة المشرق البيروتية 4/ 403).
(3) انظر الجزء الثانى ص 302 وما بعدها.
(2/268)
________________________________________
الكون والفساد إليها، وإلى هياكلها: إنما يصح أن لو لم يكن البارى- تعالى- فاعلا مختارا، وإلا فعلى تقدير كونه فاعلا مختارا؛ فلا يلزم شيء مما ذكروه- وقد بينا ذلك فيما سلف.
وعلى هذا: فقد اندفع ما ذكروه من دليل إسناد الكائنات إلى غير الله- تعالى.
وأما إبطال مذهب الحلولية منهم: فقد حققناه (فيما) «3» قبل بما فيه مقنع، وكفاية.
**********
________________
(3) ساقط من أ. انظر ل 155/ أ وما بعدها.
(2/269)
________________________________________
«الفرع الخامس» فى الرد على المنجمين، وأرباب الأحكام
زعم الأحكاميون: أن كل ما فى عالم الكون والفساد، من التأثيرات، والتغييرات، والأمور الحادثة من خير وشر، ونفع وضر؛ فمستند إلى الاتصالات الكوكبية، والحركات الفلكية. كل أثر إلى كوكب، وأن التأثيرات مختلفة باختلاف المؤثرات السماوية «1».
لكن المحققون منهم: معترفون بأن شيئا من ذلك غير مبرهن، وإنما هو مأخوذ من الوحى وأقوال الأنبياء: كهرمس، وعادميون، وغيرهما من الأنبياء. أو التجربة، ودوران الآثار الخاصة، مع الاتصالات الخاصة وجودا، وعدما.
وربما: كان ذلك عند الهنود والعرب، مستفادا من خواص الكواكب. ولهم أقوال، وأحكام مختلفة لا مستند لها، ولا برهان عليها.
ونحن ننبه: على بطلان مآخذهم جملة، ونبين وجه الضعف فى بعض أحكامهم تفصيلا. بحيث يتنبه الفطن منه على ضعف ما عداه، وفساد ما سواه.
أما من جهة الجملة:
فهو أن استناد التأثيرات إلى ما قيل من الاتصالات: إما أن يكون مستفادا من التجربة، أو (من) «2» الوحى، أو من خواص الكواكب على ما ذهبوا إليه.
فإن قيل بالاستقراء: فهو باطل، وذلك لأن اتصال الكواكب السيارة ممتزج بالكواكب الثابتة، والشكل الفلكى إذا رؤى فى وقت، فإنه قد لا يعود فى عمر الرائى أكثر من مرة، أو مرتين، وربما لا يتكرر فى عمره البتة؛ بل فى أعمار. وربما لا يعود دون تمام/ الدور عندهم فى بعض الأحكام؛ وذلك مما لا تتحقق معه التجربة.
وإن سلمنا العلم بتكرره: فقد لا يؤمن الانفكاك فى «3» وقت آخر.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) ساقط من أ.
(3) فى ب (فى كل).
(2/270)
________________________________________
وإن سلمنا عدم الانفكاك: فقد لا يؤمن حلول كوكب آخر مع ذلك الكوكب فى ذلك البرج، وليس إضافة التأثير إلى أحدهما أولى من غيره.
(و إن) «1» سلمنا عدم غيره: فيمتنع «2» إسناد التأثير إليه؛ لأنه: إما أن يكون مؤثرا بذاته وطبعه، وإما بالاختيار.
والأول «3»: ممتنع «3»؛ لما سبق فى الرد على الطبيعيين «4».
والثانى أيضا: ممتنع؛ لأن الفاعل بالاختيار عندهم لا يكون إلا مع مماسة، واتصال بما يفعله، ولا مماسة واتصال بين العلويات، والسفليات.
وإن سلم صحة إسناد الأثر إليه: فلا يلزم من عوده لزوم الأثر؛ لاحتمال وجود معارض.
وإن سلم عدم المعارض: فالاحتمال عدم القابل السفلى.
وإن سلم وجود القابل: ولكن يمتنع إسناد الأثر إليه؛ لما بيناه من كون الرب- تعالى- قادرا على كل «5» الممكنات. وأنه يمتنع وجود خالق غير الله- تعالى.
وأما إن كان الاعتماد فى ذلك على خواص الكواكب: فقد بينا إبطاله فيما تقدم فى الرد على الطبيعيين «6».
كيف: وأن اختلاف خواص الكواكب والبروج، مما يوجب اختلاف طبائعها؛ لاستحالة اختلاف الخواص مع التماثل فى الطبيعة؛ وذلك يوجب كون الفلك مركبا من طبائع مختلفة. ولا يمتنع عليه مع ذلك الخرق، والانحلال؛ وهو مبطل لأصل علم الهيئة.
وإن كان المستند فى ذلك إنما هو الوحى وأقوال الأنبياء: فهو غير مسلم. ولا سبيل إلى إثباته. وبتقدير نقله آحادا؛ قد لا يكون نصا قاطعا فى الدلالة بحيث يمتنع تأويله.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (و لكن يمتنع).
(3) فى ب (الأول ممنوع).
(4) انظر ل 220/ ب وما بعدها.
(5) فى ب (جميع).
(6) انظر ل 221/ أ.
(2/271)
________________________________________
وبتقدير ظهوره؛ فهو معارض بما نقل فى الشريعة الظاهرة عن الرسول المعصوم، وعلى لسانه: من الآيات الدالة على أنه لا خالق إلا الله- تعالى- كما أسلفنا، وبما أوضحناه من الدليل العقلى، والمستند القطعى. هذا من جهة الجملة.
وأما من جهة التفصيل:
فبأمور فى أحكامهم منها: أن أولى ما يعتمد عليه عند الحكم على المولود: إنما هو الطالع الرصدى؛ وهو غير يقينى؛ لأن الآخذ للطالع إذا أحس بانفصال الولد؛ فلا بد عند أخذه للطالع بكوكب من الكواكب، ومعرفته بدرجة الطالع. من أن يرصد عضادة الأصطرلاب بحيث يقع/ ضوء ذلك الكوكب فى الثقب الأعلى من العضادة، نافذا فى الثقب الأسفل منها فى ذلك الوقت. ومن وقت انفصال الولد إلى أن يقع على درجة ذلك الكوكب من البرج، الّذي هو فيه يرتفع عن درجة الطالع وقت الانفصال: إما بدرجة، أو أقل، أو أكثر. وعند ذلك: فلا يحصل الوثوق بالحكم. هذا مع سلامة الآلات «1» التى بها أخذ الارتفاع، وصحتها عن «2» الأصطرلاب، وذلك غير معلوم. وإذا كان كذلك فيما هو أولى بالاعتماد عليه: فما دونه من الطالع النمودارى: وهو ما يستخرجه المنجم من طالع المولود بعد ولادته عند ما «3» إذا ذكر له وقت الولادة بالتقريب.
ولهذا: كان ما يخلف من أحكامهم أكثر من المصيب.
ومنها: أنا قد نصادف مولودين توأمين، ولدا «4» فى وقت واحد: وأحدهما فى غاية السعادة، والآخر فى غاية الشقاوة: والطالع لهما واحد، ولا يمكن أن يكون ذلك: بسبب ما بينهما من التفاوت فى وقت الولادة؛ فإنه لو قدر التفاوت بزيادة درجة أو نقصانها؛ فالحكم يكون «5» على ما وصفناه. وإن كان التفاوت بمقدار الدرجة الواحدة: غير مؤثر فى تغيير أحكامهم باتفاق منهم.
ومنها: أنا قد نجد جما غفيرا، وخلقا كثيرا، لا يحويهم عدد يهلكون فى ساعة واحدة بقتل، أو غرق طوفانى، أو حريق، أو هدم فى زلزلة. مع القطع باختلاف طوالعهم،
________________
(1) فى ب (الآلة).
(2) فى ب (عند).
(3) فى ب (بحده بطريق الأولى عند ما).
(4) فى ب (قد ولدا).
(5) فى ب (قد يكون).
(2/272)
________________________________________
وتفاوتها فى السعود، والنحوس. ومن كان طالعه بالسعد فى ذلك الوقت: فكيف يغير حكمه الخاص بالحكم العام؟ وذلك مما لا مخلص لهم منه.
ومنها: أنهم أجمعوا: على أن المريخ يثير الحرارة، واليبوسة، وأجمعوا: على أنه من أنجم المطر، والأنواء، وهو جمع بين متناقضين.
ومنها: أنهم اتفقوا: على أن من كان طالعه الحوت، أو القوس، وكان المشترى صاحب البيتين فى درجة شرفه، وانحطت عنه النحوس؛ فإنه على رأى «1» المنجمين «1» يكون أسعد السعداء، وأتقى الناس، وأورعهم، وأكثرهم ردا على المنجمين، وإنكار ما عدا الشريعة.
والسعد الأكبر: وهو المشترى: لا يوجب لصاحبه رذيلة، ولا صفة مذمومة. ولو كان التنجيم حقا، والقول بالحكم فيه صدقا؛ لكان صاحب ذلك الطالع كاذبا، والكذب رذيلة، وصفة ذم؛ وذلك مما لا يقتضيه الطالع المفروض.
ومنها: اتفاقهم: على أن زحل أكبر/ النحوس، وهو مفيد عندهم للملك والرئاسة العظمى، وأجل العلوم عندهم: وهى الفلسفة. وكون «2» النحس مفيدا للسعد الأعظم؛ غير معقول.
ومنها: إجماعهم: على أن الشمس محرقة لما يقارنها من الكواكب السيارة.
ومدلول إحراقها لما تقارنه؛ غير معقول. وذلك أن حمل الإحراق بالحرارة والخاصية:
كإحراق النار لما يجاورها مما هو قابل للإحراق؛ متعذر؛ إذ الشمس عندهم ليست حارة.
وإن عنوا به: أنها بنورها تبهر نور الكوكب وتقهره؛ فهو غير صحيح؛ إذ الكواكب عندهم غير منيرة بنفسها؛ بل مستنيرة من «3» نور «3» الشمس.
ولا يخفى: أن استنارتها بمقارنة الشمس لها. يكون أكثر منه عند عدم المقارنة.
وإن عنوا بالإحراق عند المقارنة: بهر أبصار الناظرين فى العالم السفلى عن رؤية الكوكب؛ فذلك مما لا يوجب تغير «4» حكم «4» العلويات.
________________
(1) فى ب (رأيهم).
(2) فى ب (فكون).
(3) فى ب (بنور).
(4) فى ب (تغيير الحكم).
(2/273)
________________________________________
ثم يلزم: أن يكون ما لم ير عند طلوع الشمس نهارا، لبهر نورها لأبصار الناظرين، عن رؤية ما كان يرى من الكواكب، بتقدير عدم طلوعها؛ احتراقا لتلك الكواكب؛ وليس كذلك.
وأيضا: فإن الشمس وكل كوكب من الكواكب السيارة مختص بمجراه فى فلكه لا يوجد معه «1» فيه «1» غيره، وليست مقارنة الكوكب، للكوكب عندهم اتصاله به اتصال مماسة؛ بل معنى مقارنته له، تحاذيهما على درجة من برج. بحيث يمكن أن يفرض بينهما خط مستقيم متصل. فإذا كانت مقارنة الشمس لبعض الكواكب: إنما هو بالمحاذاة «2»؛ فأى كوكب كان ناظرا إليها بتسديس، أو تثليث، أو تربيع، أو مقابلة؛ فهو محاذ لها. بحيث يمكن فرض خط مستقيم متصل فيما بينهما. فإذا «3» كانت الشمس محرقة للكوكب بالمقارنة: أى بالمحاذاة؛ فيجب أن تكون محرقة له بكل محاذاة تفرض؛ وليس كذلك عندهم.
ومنها: قولهم فى الخسوف، والكسوف:
أما خسوف القمر:
فإنهم زعموا: أن جرم الشمس أكبر من كرة الأرض بأضعاف كثيرة، حتى أن الأوائل قدروا زيادتها على الأرض بمائة وأربعة وستين مرة.
وزعموا: أنه إذا انحطت الشمس فى الغرب امتد للأرض ظل على شكل مخروط صنوبرى، ضرورة أن الشمس أكبر من الأرض، ولا يزال مخروط ظل الأرض يمتد، ويستدق إلى أن ينمحق. ولا يتعدى فلك/ عطارد، فإذا اتفق خطور القمر فى ذلك الظل من غير تيامن، وتياسر، بحيث يحجب عنه نور الشمس؛ فهو خسوفه. وعلى حسب تولجه فى مخروط الظل تكون زيادة الخسوف، ونقصه. ثم لا يزال القمر فى السير، والظل فى الميل، إلى حالة الانجلاء، والعود إلى مقابلة الشيء من غير حاجز.
وزعموا: أن الكواكب الثابتة فى فلك البروج أيضا تكتسب نورها من الشمس:
كاكتساب القمر.
________________
(1) فى ب (مع).
(2) فى ب (بالمحالات).
(3) فى ب (فإن).
(2/274)
________________________________________
فإذا قيل لهم: فلم لا تنكسف بحيلولة مخروط ظل الأرض بينها وبين الشمس؟
قالوا: لأن الظل ينمحق دون الوصول إليها.
فإذا قيل: ولم «1» قلتم بانمحاق مخروط الظل دونها؟
قالوا: لأنها لا تنكسف؛ وهو دور ممتنع. ولا يتحقق لهم فيه جواب؛ بل ولو قيل لهم: إن الكواكب الثابتة فى فلك البروج، وكذلك زحل، والمشترى، والمريخ؛ نيرة بأنفسها؛ فلذلك لم تنكسف بمخروط الظل فى وصوله إليها؛ لم يكن لهم جواب.
وأما كسوف الشمس:
فزعموا: أنه ستر القمر للشمس عن أبصارنا عند ما إذا اتفق جريان القمر فى الاجتماع على سمت جريان الشمس، والّذي تراه مظلما حال اللون، إنما هو القمر. وإلا فالشمس على نورها، ومقدار الكسوف على حسب اختلاف مقابلة القمر للشمس وستره لها. ولهذا لا «2» يعهد كسوف الشمس «2» فى غير أيام الاجتماع، والمقاربة.
ولو قيل لهم: كما أن القمر قد يقارن الشمس المقارنة السمتية؛ فكذلك الزهرة، وعطارد. فما بالهما لا يحجبان الشمس عن أبصارنا فى وقت المقارنة والاجتماع، كما فى القمر؛ لم يجدوا إلى الفرق سبيلا.
وأيضا: فإنهم حكموا بانتخاس الشمس عند كسوفها، مع بقائها على حالها، فإن كان الانتخاس إنما هو بانقطاع نورها عن عالمنا هذا، وبالحاجز بينها وبين أبصارنا؛ فيجب أن تكون منتخسة مهما غربت؛ لتحقق هذا المعنى فيها؛ وليس كذلك عندهم.
وهذا أيضا: لا جواب لهم عنه، ويجب الاكتفاء بما نبهنا عليه من فساد أحكامهم، وبطلان رسومهم، وإلا فخبطهم كثير، وهذيانهم طويل، لا يليق الاستقصاء فيه بمثل هذا الكتاب.
________________
(1) فى ب (فلم).
(2) فى ب (لا كسوف للشمس).
(2/275)
________________________________________
«الفرع السادس» فى الرد على الثنوية، والمجوس
أما الثنوية «1»: فهم فرق خمس:
الفرقة الأولى: المانويّة «2».
أصحاب مانى بن (فاتك) «3» الحكيم الّذي ظهر فى زمن سابور/ بن أردشير، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور، بعد مبعث عيسى عليه السلام.
ومعتقدهم: أن أصل العالم النور، والظلمة، وأنهما جسمان قديمان لم يزالا، ولا يزولا، حساسان (سميعان «4»، بصيران «4») وهما متضادان: فى الصورة، والفعل، متحاذيان فى الحيز، تحاذى الشمس، والظل؛ وهما غير متناهيين. إلا من جهة التحاذى. وأن النور، فوق الظلمة، والعالم مركب «5» ممتزج «5» منهما؛ لكن امتزاجهما هل وقع اتفاقيا، أو بسبب؟؛ فذلك مما اختلفوا فيه، ولهم فيه خبط كثير لا يليق ذكره هاهنا.
وزعموا: أن النور خير محض، والظلمة شر محض، وأن ما كان فى العالم من الخير؛ فمن النور، وما كان من شر؛ فمن الظلمة. وهم معتقدون فى الشرائع، والأنبياء.
وأن أول مبعوث بالحكمة، والنبوة، آدم عليه السلام، ثم شيث، ونوح، وإبراهيم، وزرادشت، والمسيح، وبولس. ومحمد عليه السلام.
________________
(1) انظر ما سبق فى هامش ل 174/ ب.
(2) المانويّة: نسبة إلى مؤسسها مانى بن فاتك. وفاتك نشأ فى أذربيجان، ثم انتقل إلى بابل، ثم إلى دستميسان حيث عاش مع طائفة المغتسلة. وقد ولد مانى حوالى سنة 215 م. وقد أخبرت أمه بأنها كانت ترى أثناء حمله المنامات الحسنة، وقد درس مانى فى بابل الأديان الفارسية القديمة، والمسيحية، والغنوصية. ولما بلغ الرابعة والعشرين، زعم أن ملك النور أخبره بأنه (الفارقليط الّذي بشر به عيسى) وقد ذهب مانى إلى الهند والصين داعيا إلى دينه الجديد، ثم عاد ثانية إلى خراسان ونشر مذهبه؛ ولكن الزرادشتيين قاوموه، وأثروا على شابور فأعدمه سنة 272 م. أما عن آرائهم فانظر. (المغنى 5/ 10 - 15 والملل والنحل 2/ 49 - 54 ونشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام 1/ 248 - 251).
(3) فى أ، ب، ج (ماين) وقد ورد فى جميع الكتب التى اطلعت عليها (فاتك).
(4) ساقط من أ.
(5) فى ب (ممتزج مركب).
(2/276)
________________________________________
وكانوا يوجبون: فى اليوم والليلة، أربع صلوات، ويحرمون الزنا، والقتل، والسرقة، والكذب، والسحر، والبخل، وعبادة الأوثان إلى غير ذلك.
الفرقة الثانية: المزدكيّة «1».
أصحاب مزدك الّذي ظهر فى زمن أنو شروان، وقتله أنو شروان. ومعتقدهم فى قدم النور، والظلمة: كاعتقاد المانوية، إلا أنهم يقولون: إن «2» النور عالم حساس «2»، وأنه يفعل ما «3» يفعل بالقصد. والاختيار، بخلاف الظلام؛ فإنه جاهل أعمى، وأن ما يفعله بحكم الاتفاق، والخبط، وأن الامتزاج بينهما بالاتفاق؛ وكذلك تخلص أحدهما من الآخر.
ومن مذهبهم: تحريم المخالفة «4»، والمباغضة، والمقاتلة، وإباحة الأموال، والنساء، والحكم باشتراك الناس فيها: كاشتراكهم فى الماء، والكلأ.
الفرقة الثالثة: الدّيصانيّة «5».
أصحاب ديصان: فمذهبهم فى النور، والظلمة، كمذهب المزدكية، إلا أنهم يخالفونهم فى أن ما يحدث من الشّر كائن عن الظلام بطبعه، لا بحكم الاتفاق.
الفرقة الرابعة: المرقونيّة «6».
وقد وافقوا من تقدم ذكره: فى إثبات النور، والظلام، وخالفوهم فى إثبات أصل ثالث: وهو المعدل الجامع بين النور، والظلمة، وسبب المزاج بينهما؛ ضرورة أنهما متضادان، وامتزاج المتضادين لا يكون إلا بموجب للامتزاج.
________________
(1) المزدكيّة: نسبة إلى مزدك. فارسى من نيسابور، ولد سنة 487 م وقتل فى سنة 523 م. قال بالاثنين، وأباح اشتراك الناس فى الأموال والنساء. وهذا ما دعى إلى إقبال الناس عليه. وقد دخل الإسلام فارس، والمزدكية منتشرة فى بعض نواحيها. أما عن آرائهم فانظر (المغنى 5/ 16 والملل والنحل 2/ 54 - 55 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 251 - 252).
(2) فى ب (أن العلم إحساس).
(3) فى ب (لما).
(4) فى ب (المختلفة).
(5) الدّيصانيّة: هم أصحاب ديصان الّذي ظهر قبل مانى، ومهد له. أثبتوا أصلين نورا، وظلاما: فالنور يفعل الخير قصدا، واختيارا. والظلام يفعل الشر طبعا، واضطرارا. وقد أدخل هرمنيوس بن ديصان رئيس الفرقة بعد أبيه مزيجا من الغنوصية، والأفلاطونية، والرواقية فى المذهب. وقد تأثر به بعض الإسلاميين. (الملل والنحل 2/ 55، 56 والمغنى 5/ 16، 17 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 246 - 248).
(6) المرقيونيّة: أصحاب مرقيون؛ أثبتوا أصلين قديمين متضادين، أحدهما النور، والثانى الظلمة، أثبتوا أصلا ثالثا هو المعدل الجامع، وهو سبب المزاج. وكان مرقيون هذا ممن لقى بعض تلامذة المسيح، وأخذ عنه.
(الملل والنحل 2/ 57، 58 والمغنى 5/ 17، 18).
(2/277)
________________________________________
قالوا: وذلك الأصل دون النور فى المرتبة، وفوق رتبة الظلمة.
ومنهم من قال: إن الامتزاج/ إنما حصل بين المعدل، والظلام؛ لقربه منه، وهؤلاء يرون إباحة كل ما فيه نفع لبدن الإنسان وروحه، ويحرمون ذبح الحيوان.
الفرقة الخامسة: الكينونية «1».
وهؤلاء يزعمون: أن أصول العالم ثلاثة: النار، والماء، والأرض. وأن حدوث سائر الموجودات لا يكون إلا عنها، وأن النار بطبعها خيرة، والماء ضدها، والأرض متوسطة.
فما كان من خير محض: فمن النار. وما كان من شر محض؛ فمن الماء. وما كان متوسطا: فمن الأرض. وهؤلاء هم المعتقدون فى النار، وعن مذهبهم: نشأ اتخاذ بيوت النيران فى البلدان، وعبادتها تعظيما لها؛ لكونها علوية نورانية، لا وجود للعالم ولا بقاء له إلا بها. وهؤلاء حرموا النكاح، والذبائح، واعتكفوا على عبادة النيران، ويسمون الصيامية أيضا.
وأما المجوس:
فقد اتفقوا أيضا على أن أصل العالم: النور، والظلمة، كمذهب الثنوية، وقد اختلفوا وتفرقوا أربع «2» فرق «2».
الفرقة الأولى: الكيومرثيّة «3».
أصحاب المقدم الأول كيومرث: وهو آدم عليه السلام؛ لأنه أول من مرث الأرض.
وهؤلاء أثبتوا أصلين: النور: وعبروا عنه بيزدان. والظلام: وعبروا عنه بأهرمن.
________________
(1) الكينونية: ويقال لهم الصّياميّة، والتّناسخيّة أيضا: وهم زعموا أن الأصول ثلاثة: النار، والأرض، والماء. وهم يتعصبون للنار. والصيامية منهم: أمسكوا عن طيبات الرزق، وتجردوا لعبادة الله- أما التناسخية منهم: فقد قالوا بتناسخ الأرواح فى الأجساد.
(الملل والنحل 2/ 58، 59 والمغنى 5/ 18)
(2) فى ب (فرقا أربعا).
(3) الكيومرثيّة: أصحاب المقدم الأول كيومرث. ويبدو أن أول من نسب إليه- فى الأساطير الفارسية- القول بأصلى الوجود هو (كيومرث) وهو فى الأساطير آدم أول الخليقة- وقيل: إنه أول من بشر بالأصلين يزدان، وأهرمن. وذهب إلى أن يزدان أزلى قديم، وأهرمن محدث مخلوق. أما عن آرائهم فانظر (المغنى 5/ 71 - 79 والملل والنحل 2/ 38، 39 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 240، 241).
(2/278)
________________________________________
وقالوا: يزدان قديم، وأهرمن مخلوق من فكرة ردية حدثت ليزدان: وهو أنه لو كان لى منازع فى ملكى كيف يكون؟ ويزدان: أصل الخير. وأهرمن: أصل الشر.
الفرقة الثانية: الزّروانيّة «1».
زعموا: أن النور قديم، وأنه أصل الموجودات، وأنه أبدع أشخاصا من نور كلها روحانية؛ لكن الشخص الأعظم منه واسمه زروان شك فى شيء من الأشياء فحدث منه أهرمن، وهو الشيطان.
الفرقة الثالثة: المسخيّة «2».
وهم الذين قالوا: إن النور كان وحده فى القدم، ثم انمسخ بعضه؛ فصار ظلمة.
الفرقة الرابعة: الزّرادشتيّة «3».
أصحاب زرادشت: وهؤلاء زعموا: أن زرادشت كان نبيا، وأنه كان يعتقد أن مبدأ العالم هو الله- تعالى- وأنه قديم أزلى، وأنه خلق النور، والظلمة متضادين، ومزجهما لحكمة رآها. ومن امتزاجهما يكون العالم، ولا يزالان فى التقاوم والتغالب: إلى أن يغلب الخير والشر، والنور الظلمة، ويتخلص الخير إلى عالمه، وينحط الشر عنه، وهو المعاد.
وربما زعموا: أن الله- تعالى- خلق النور أصلا، ووقع الظلام تبعا له لا/ بالقصد الأول: كاتباع الظل، لوجود الشخص.
________________
(1) الزّروانيّة: كانت تسود أيضا الأساطير الفارسية، ويقال إنها عاصرت النبي سليمان بن داود، وأنها قاومته مقاومة عنيفة. والزروانية عقيدة تشبه الكيومرثية. غير أنها صورت نشأة الموجودات فى صورة أخرى. فقررت أن النور أبدع أشخاصا، وأن أعظمها زروان الّذي فكر فى نفسه؛ فحدث منه أهرمن، أو الشر. أما عن آرائهم (فانظر الملل والنحل 2/ 39 - 41 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 41، 42).
(2) المسخيّة: وهى إحدى فرق الزروانية غير أنها قالت إن النور كان وحده، ثم انمسخ بعضه؛ فصار ظلمة (انظر الملل 2/ 41).
(3) الزرادشتية: نسبة إلى زرادشت الّذي عاش فى منتصف القرن السابع قبل ميلاد المسيح، وتوفى على الأرجح سنة 583 ق. م وأبوه: كان من آذربيجان ويسمى يورشب. وأمه من الرى واسمها: دغدوية.
وقد انتقل زرادشت إلى فلسطين، واستمع إلى بعض أنبياء بنى إسرائيل من تلاميذ النبي أرميا، ثم عاد إلى أذربيجان. والزرادشتية هى التى أثرت فى حضارة فارس، وكانت الدين الرسمى لها عند فتح المسلمين لها؛ بل إنه عاصر الإسلام وما زال حتى يومنا هذا تحت اسم الدين البارسى. والبهائية يعترفون به، ويزعمون أنه: وردت فى الزند افسته- كتاب الزرادشتية- بشارات بالبهاء والباب. أما عن آرائهم فانظر (الملل والنحل 2/ 41 - 49 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 242 - 246).
(2/279)
________________________________________
ومن مذهب هؤلاء: الإيمان بالله، والكفر بالشيطان، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واجتناب الخبائث.
ولكل فريق من فرق الثنوية، والمجوس: تفاريع فى مذاهبهم، واختلاف كثير، وهذيان طويل، خارج عن خصوص مقصدنا فى الرد عليهم هاهنا. آثرنا الإعراض عن ذكره؛ إذ هو أليق بالتواريخ، والتنبيه على فساده لتناهيه فى الخلل، وسهولة معرفته عند الاطلاع على أقوالهم لمن لديه أدنى معرفة وتحصيل.
والطريق فى الرد على الثنوية «1» أن يقال:
قولكم: إن النور، والظلمة جسمان؛ ليس كذلك؛ بل هما عارضان للأجسام بدليل أمور خمسة:
الأول: أن الجسم قد يوصف بالنور، والظلمة فيقال: جسم منير، وجسم مظلم، والصفة غير الموصوف.
الثانى: أن الأجسام غير متضادة، والنور، والظلمة؛ متضادان.
الثالث: أن الأجسام مستوية فى الحد، والحقيقة، ولا كذلك النور، والظلمة.
الرابع: أن النور، والظلمة يتعاقبان على الجسم الواحد: وبعد كل واحد منهما الآخر، مع بقاء الجسم بحاله.
الخامس: هو أنه لا معنى للنور غير «2» الشعاع. والشعاع: ليس بجسم على ما تقدم فى الإدراكات. والظلمة: فلا «3» معنى لها إلا أنها عدم النور فيما من شأنه أن يكون مستنيرا؛ على ما تقدم فى مسألة الرؤية.
وإن سلمنا أنهما جسمان: ولكن لا نسلم قدمهما؛ وذلك لأن كل جسم مركب، فيكون مفتقرا إلى أجزائه، والمفتقر إلى غيره؛ لا يكون واجبا لذاته؛ بل ممكنا كما سلف بيانه، وسنبين (أيضا) «4» حدوث كل موجود ممكن فيما بعد «5».
________________
(1) قارن بالمغنى للقاضى عبد الجبار 5/ 22 - 70.
(2) فى ب (إلا).
(3) فى ب (لا).
(4) ساقط من أ.
(5) انظر الجزء الثانى ص 302 وما بعدها.
(2/280)
________________________________________
وإن سلمنا قدمهما: فلا نسلم إمكان عدم التناهى فى أبعادهما؛ على ما سيأتى تحقيقه أيضا.
وإن سلمنا عدم التناهى فى أبعادهما: فلا نسلم إمكان امتزاجهما، فإن الامتزاج بينهما: إما بكليتهما، أو ببعض كل واحد منهما.
لا جائز أن يقال بالأول: لأن امتزاج أحدهما بالآخر، لا يكون إلا بحركة كل واحد منهما إلى الآخر، أو بحركة أحدهما إلى الآخر، وإلا فكل واحد باق فى حيزه؛ ولا امتزاج.
والقول بالحركة عليهما، أو على أحدهما ممتنع لوجهين.
الأول: أنه لو تحرك أحدهما إلى الآخر/ لخلا عنه حيزه، وما لا يتناهى لا يخلو حيزه عنه، وإلا لتناهى ما لا يتناهى؛ وهو محال.
الثانى: أن حركتهما: إما أن تكون واجبة، أو ممكنة.
لا جائز أن تكون واجبة: فإنها صفة (للمتحرك) «1»، والصفة مفتقرة إلى الموصوف، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا.
وإن كانت ممكنة: فإما أن تفتقر فى وقوعها إلى مرجح، أو لا تفتقر.
لا جائز أن يقال بعدم الافتقار: لما تقدم فى إثبات واجب الوجود.
وإن قيل بافتقارها إلى المرجح: فإما أن يكون المرجح لحركة أحدهما إلى الآخر هو نفسه، أو غيره.
فإن كان نفسه: فالمتحرك إن كان هو النور، فحركته إلى الظلمة شر من وجه؛ ويلزم منه صدور الشر عن الخير.
وإن كان هو الظلمة: فحركتها إلى النور خير من وجه، ويلزم منه صدور الخير عن الشر؛ وهو ممتنع على أصلهم.
________________
(1) فى أ (للمتحرش).
(2/281)
________________________________________
وإن كان المرجح لحركة كل واحد منهما إلى الآخر غيره: فإما أن يكون المحرك لكل واحد منهما هو الآخر، أو غيرهما: كما قالت المرقونية.
فإن كان الأول: فلا يخفى أن حركة النور إلى الظلمة خير من (وجه) «1» لخروج فعل الظلمة عن تمحض «2» الشر، فإذا كانت الظلمة هى الموجبة لذلك؛ فقد صدر ما هو خير من وجه، عن الشر المحض. وإن حركة الظلمة إلى النور شر من وجه؛ لخروج فعل النور عن تمحض الخير. فإذا كان النور هو الموجب؛ فقد صدر ما هو شر من وجه، عن الخير المحض؛ وهو ممتنع على أصلهم.
وإن كان الموجب لحركتهما غيرهما: فإما أن يكون خيرا محضا، أو شرا محضا، أو خيرا من وجه، وشرا من وجه.
فإن كان الأول: فقد صدر عنه الشر من وجه.
وإن كان الثانى: فقد صدر عنه الخير من وجه، وهو ممتنع عندهم.
وإن كان الثالث: فيلزم أن يكون ذلك الثالث مركبا لا بسيطا. وعند ذلك فالأصول تكون أكثر من ثلاثة، ولم يقل به أحد منهم، وبهذا الوجه الثانى يتبين امتناع امتزاج بعض كل واحد منهما ببعض الآخر.
وإن «3» سلمنا إمكان الامتزاج بينهما؛ فلا نسلم وقوع الامتزاج، وبيانه من وجهين:
الأول: أن الامتزاج: إما أن يكون خيرا محضا، وإما «4» أن يكون «4» شرا محضا، وإما «5» أن يكون «5» خيرا من وجه، وشرا من وجه.
فإن كان خيرا محضا: فقد صدر عن النور والظلمة؛ والخير/ المحض لا يصدر عن الظلمة.
________________
(1) فى أ (درجة).
(2) فى ب (محض).
(3) فى ب (ثم وإن).
(4) فى ب (أو).
(5) فى ب (أو).
(2/282)
________________________________________
وإن كان شرا محضا: فقد صدر عنهما؛ والشر المحض لا يصدر عن النور عندهم.
وإن كان الثالث: فإما أن يكون من جهة ما هو خير مقدورا على تحصيله للنور قبل حصوله، أو معجوزا عنه.
فإن كان الأول: فترك النور له شر منه.
وإن كان الثانى: فالعجز عن تحصيل الخير شر؛ فلا يكون خيرا محضا.
الثانى: هو أن الكذب والظلم قبيح عندهم مطلقا: ولا يتصور صدوره عن النور؛ بل عن الظلمة. فإذا قال من صدر عنه الظلم، أو الكذب: أنا ظلمت، وكذبت.
فالقائل بهذا القول: إما النور، أو الظلمة، أو هما:
فإن كان الأول: فالنور كاذب؛ والكذب شر.
وإن كان الثانى: فالظلمة صادقة؛ والصدق خير.
وإن كان الثالث: فالنور كاذب، والظلمة صادقة، ويلزم من ذلك صدور الشر عن النور، والخير عن الظلمة؛ ولم يقولوا به.
فإن قالوا: الدليل على تركب أجسام العالم من النور، والظلمة: أنا وجدنا بعض الأجسام ذا ظل: فعلمنا أن الظلمة غالبة عليه، وبعضها لا ظل له: فعلمنا أن النور غالب عليه.
قلنا: هذا إنما يلزم أن لو كان كل ما لا ظل له يكون نيرا، وليس كذلك. بدليل الهواء
وإن سلمنا أن كل ما لا ظل له نير: ولكن لا يلزم أن ما كان له ظل؛ فالظلمة غالبة عليه؛ بل هو محض ظلمة لا مركب وما لا ظل له؛ فهو نور محض لا مركب.
وإن سلمنا أن كل جسم من أجسام العالم لا يخلو عن النور، والظلمة؛ فلا نسلم أنه يلزم من اتصافه بهما؛ أن يكون مركبا منهما.
وإن سلمنا أن أجزاء العالم «1» مركبة من النور والظلمة: ولكن لا نسلم حدوث الامتزاج مع القول بقدم الممتزجين.
________________
(1) فى ب (العلم).
(2/283)
________________________________________
فإن قالوا: لأنا وجدنا النور طالبا للخلاص من الظلمة صاعدا عنها، ولو كان امتزاجهما أزليا؛ لما كان طالبا لترك الأزلى.
قلنا: لو لم يكن الامتزاج أزليا: كان التباين أزليا. وكما جاز عليه طلب ترك التباين الأزلى؛ جاز عليه طلب ترك الامتزاج بتقدير كونه أزليا.
وإن سلمنا وقوع الامتزاج: ولكن لا نسلم امتناع صدور الشر عن النور، والخير عن الظلمة؛ وبيانه من أربعة أوجه.
الأول: أن الظلمة قد تستر الهارب عن ظالم يقصد قتله؛ وهو خير. والنور يدل عليه؛ وهو شر.
الثانى/: أن الظلمة تجمع البصر؛ وهو خير. والنور يفرقه؛ وهو شر.
الثالث: هو أن الظلمة تعين على النوم، والراحة به؛ وهو خير. والنور بالضد.
الرابع: هو أن النور قد [يلازمه] «1» الحر المحرق؛ وهو شر؛ بخلاف الظلمة.
وعلى هذا: فلا يخفى الكلام على الكينونية أيضا.
وأما الرد على المجوس: القائلين بقدم النور، وأنه أصل وجود العالم أن يقال:
القول بقدم النور: إنما يصح أن لو كان قائما بنفسه. وليس صفة عارضة لغيره؛ وليس كذلك؛ على ما سلف فى الرد على الثنوية «2».
وإن سلمنا أن النور قائم بنفسه: فإما أن يكون واجبا، أو ممكنا.
فإن كان ممكنا: فلا بد له من مرجح، لوجوده على عدمه، ويلزم من ذلك أن لا يكون قديما؛ لما يأتى.
وإن كان قديما: فلا يكون هو الأصل الأول فى وجود العالم؛ بل (مرجح) «3».
وإن كان واجبا لذاته: فإما أن يكون مشاركا لباقى الأنوار فى المعنى، أو مخالفا لها.
________________
(1) فى أ (لا يلازمه).
(2) انظر ل 226/ ب وما بعدها.
(3) فى أ (مرجحه).
(2/284)
________________________________________
فإن كان الأول: فيلزم أن يكون كل نور واجبا لذاته؛ وهو محال. وإلا لما كان نورا قابلا للعدم؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فإما أن يكون جوهرا، أو عرضا، أو شيئا ليس بجوهر، ولا عرض.
لا جائز أن يقال بالأول والثانى: لما سلف فى إبطال التشبيه «1». فلم يبق إلا الثالث؛ وهو المعنى بالإله- تعالى.
وعند ذلك: فلا نسلم امتناع صدور جميع الموجودات عنه من غير واسطة الظلمة كما أسلفناه.
فإن قالوا: إنا صادفنا فى العالم خيرا، وشرا. والنور خير محض، فلا يكون الشر صادرا عنه؛ فلا بد من شيء يكون صدور الشر عنه؛ وذلك هو الظلمة.
فنقول: القول بالخير والشر مبنى على التحسين والتقبيح الذاتى؛ وهو ممتنع بما سلف فى التعديل، والتجوير «2» وبتقدير كون الشر ذاتيا؛ فلا مانع من صدوره عن النور على مذهبهم؛ وذلك لأن الشر الموجود فى العالم لا يمكن أن يكون واجبا بنفسه؛ ضرورة حدوثه عندهم.
وإن كان ممكنا: فلا بد له من علة: وهو إما أن يكون مستندا إلى النور، أو الظلمة كما قالوه.
فإن كان الأول: فقد لزم صدور الشر عن النور.
وإن كان الثانى: فالظلمة ليست واجبة لذاتها ضرورة اعترافهم بحدوثها فهى ممكنة، ولا بد لها من علة موجبة لها، وتلك (العلة) «3» إما أن تكون هى/ النور، أو ما صدر عن النور؛ ضرورة عدم قديم «4» سواه «4».
فإن كان الأول: فقد صدرت الظلمة، وهى شر عن النور.
________________
(1) انظر ل 142/ أ وما بعدها.
(2) انظر ل 175/ أ وما بعدها.
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (قدم ما سواه).
(2/285)
________________________________________
وإن كان الثانى: كما هو مذهب الكيومرثية، والزروانية؛ فتلك العلة: إما أن تكون خيرا، أو شرا.
فإن كانت خيرا: فقد صدر الشر عن الخير.
وإن كانت شرا: فقد صدرت عن النور؛ وهو خير؛ وفيه إبطال مذهب المسخية أيضا.
والّذي يخص الكيومرثية: فى قولهم بحدوث الظلمة من عروض فكرة ردية للنور. أنه ليس القول بقدم النور، وحدوث الظلمة بعروض الفكرة الردية للنور أولى من القول بقدم الظلمة، وحدوث النور بفكرة صالحة عرضت للظلمة.
وأما الزرادشتية: فإن قالوا: إن الظلمة مخلوقة لله- تعالى- لتكون سببا لوجود الشرور؛ لامتناع إسناد الشر إليه؛ فهو باطل؛ لأن الظلمة شر، وقد أوجدها. وإن لم يقولوا ذلك؛ بل قالوا: إنه خالق الظلمة، وكل موجود؛ فهو المطلوب.
(2/286)
________________________________________
«الفرع السابع» فى الرد على المعتزلة فى خلق الأفعال
واعلم أن هذا الفرع من الفروع المشكلة، والأمور المعضلة. ولا يتم تحقيقه إلا بتقديم أصول، وتنقيح فصول: لا بد من الإشارة إليها، والتنبيه عليها: وهى إحدى وعشرون فصلا:
الأول: فى إثبات القدرة الحادثة.
الثانى: فى امتناع بقاء القدرة الحادثة.
الثالث: فى تعلق الاستطاعة بالفعل.
الرابع: فى امتناع تعلق القدرة الحادثة بمقدورين.
الخامس: فى أن القدرة الحادثة غير موجبة لمقدورها.
السادس: فى تماثل القدرة الحادثة، واختلافها، وتضادها، وأنها هل تفتقر فى تعلقها بالمقدور إلى آلة، وبنية مخصوصة، أم لا؟
السابع: فى أن فعل النائم هل هو مقدور له؟ وأن النوم يضاد القدرة، أم لا؟
الثامن: فى وجود مقدورين قادرين، وأن الله- تعالى- قادر على مثل فعل العبد، أم لا؟
التاسع: فى امتناع مقدور واحد. بقدرتين لقادر واحد من جهة واحدة.
العاشر: فى امتناع تعلق القدرة الواحدة بمقدور واحد من وجهين.
الحادى عشر: فى العجز، وتحقيق معناه.
الثانى عشر: فى متعلق العجز.
الثالث عشر: فى تعلق العجز بالمعجوز عنه.
الرابع عشر: فى اختلاف/ المعتزلة فى عجز القادر على حمل مائة رطل لا يتمكن معها من حمل مائة أخرى، ومناقضتهم فى ذلك.
(2/287)
________________________________________
الخامس عشر: فى أن القادر هل يكون ممنوعا من مقدوره مع وجود قدرته عليه، أم لا؟
السادس عشر: فى اختلافات متفرعة على المنع بين المعتزلة، والإشارة إلى مناقضتهم فيها.
السابع عشر: فى «1» تعارض الموانع، والرد على المعتزلة.
الثامن عشر «1»: فى تحقيق معنى المضطر.
التاسع عشر «2»: فى الملجأ وتحقيق معناه.
العشرون «3»: فى أن الفاعل لا يعود إليه من فعله حكم، ولا يتجدد له بسببه اسم.
الحادى والعشرون «4»: فى ترك «5» الفعل «5»، وتحقيق معناه.
________________
(1) فى هامش أ وموجود فى ب (و يلاحظ أن الفصول 21 وناسخ أ قد نسى فصلا، ومن هنا اختلف الترقيم).
(2) فى أ (الثامن عشر).
(3) فى أ (التاسع عشر).
(4) فى أ (العشرون).
(5) فى ب (الترك).
(2/288)
________________________________________
«الفصل الأول» " فى إثبات القدرة الحادثة"
ولا خلاف بين المتكلمين فى أن الفاعل المختار منا: قادر بقدرة، إلا ما نقل عن جهم «1» وأتباعه أنه نفى القدرة الحادثة.
ثم اختلف القائلون بالقدرة: فذهب «2» ضرار بن عمرو، وهشام بن سالم: إلى أن القادر: قادر ببعض من أبعاضه «2».
ومنهم: من صرف القدرة إلى بعض المقدور.
واتفقت الأشاعرة، والمعتزلة، وغيرهم: على أن القدرة صفة وجودية يتأتى معها الفعل المقدور، بدل الترك، والترك بدل الفعل، خلافا لبشر بن المعتمر «3»: فإنه قال:
الاستطاعة عبارة عن سلامة البنية عن الآفات، وأنها ليست بعضا من القادر، ولا بعضا من المقدور، وهى زائدة على كل ما يقدر من صفات الأحياء.
وهو الحق؛ لكن اختلف هؤلاء فى طريق إثبات القدرة.
فذهب الهمذانى من المعتزلة: إلى أن طريق العلم بذلك: إنما هو العلم بتأتى الفعل من بعض الموجودين، وتعذره من غيره.
وذهب الجبائى: إلى أن طريق العلم بها: إنما هو العلم بصحة الشخص، وانتفاء الآفات عنه.
وهما فاسدان.
أما الأول: فهو باطل على أصل القائل به: بالممنوع؛ فإنه قادر عنده على الفعل الممنوع منه، وإن كان فعله متعذرا عليه غير متأت منه.
________________
(1) انظر الملل والنحل للشهرستانى 1/ 87.
(2) فى ب (فمنهم من ذهب إلى أن القادر ببعض من أبعاضه: كضرار بن عمرو، وهشام بن سالم).
وهو: هشام بن سالم الجواليقى، شيخ الهشامية، وهو من متكلمى الشيعة القائلين بالتجسيم، والتشبيه، (انظر الملل والنحل 1/ 184 والفرق بين الفرق 68).
(3) بشر بن المعتمر البغدادى، أبو سهل: فقيه معتزلى، مؤسس فرع بغداد الاعتزالى، وتنسب إليه الطائفة البشرية منهم، توفى ببغداد سنة 210 ه (الفرق بين الفرق 156 والملل 64 والمقالات الجزء الثانى والاعلام 2: 28).
ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما سيأتى فى الجزء الثانى- القاعدة السابعة الفرقة الثامنة البشرية ل 245/ أ وهامشها.
(2/289)
________________________________________
وعند ذلك: فالجمع بين القدرة مع التعذر، والقول باختصاص القدرة بمن يتأتى منه الفعل دون غيره، ممتنع، وكونه بحال يتأتى منه الفعل، بتقدير ارتفاع المانع. لا يوجب كونه مختصا بالقدرة، قبل «1» الارتفاع المانع، وإلا كان العاجز مختصا بالقدرة «1»؛ لأنه بحال يتأتى منه الفعل، بتقدير ارتفاع العجز؛ وهو خلاف الإجماع/؛ ولا فاصل بينهما.
فإن قيل: كون القادر قادرا؛ مصحح للفعل، ولا يلزم منه وجود الفعل: كما فى الحياة مع العلم.
فنقول: لا نسلم أن الحياة بمجردها مصححة للعلم، وإلا لصح معها، ولا فرق بين الموجب، والمصحح فى ذلك؛ على ما يأتى تحقيقه أيضا «2».
ثم إن ما «3» ذكره: ينتقض أيضا «3» بكون البارى- تعالى- قادرا على الأزل، ومع ذلك فلا يتأتى منه وجود الفعل أزلا.
وأما الثانى: وهو مسلك الجبائى: فلأنه: إما أن يقول مع ذلك بجواز خلو الصحيح السليم عن الآفات، عن القدرة، أو لا يقول به.
فإن كان الأول: فلم يلزم من وجود ما ذكروه من الدليل؛ وجود المدلول؛ فيكون باطلا.
وإن كان الثانى: فهو باطل؛ وإلا لما امتنع وجود القدرة فى حق الصحيح السليم عن الآفات مع وجود أضداد القدرة؛ وهو محال مجمع على إبطاله.
وأما أهل الحق من الأشاعرة:
فقد استدلوا على ثبوت القدرة الحادثة: بما يجده العاقل من نفسه: من التفرقة الضرورية بين حركته مرتعشا، وحركته مختارا، وليست هذه التفرقة راجعة إلى صفتى الحركتين؛ إذ الاختلاف بين الحركة الاضطرارية، والاختيارية- من حيث هى حركة- إلا فى الاضطرار، والاختيار، وذلك من صفة المتحرك لا الحركة.
________________
(1) من أول (قبل الارتفاع ... بالقدرة) ساقط من ب.
(2) فى ب (فيما بعد).
(3) فى ب (ما ذكر ينتقض).
(2/290)
________________________________________
وعلى هذا: فقد بطل القول بعود القدرة إلى بعض المقدور؛ فلم يبق إلا أن تكون التفرقة عائدة إلى صفة المتحرك من الاختيار، والاضطرار.
وعند ذلك: فاختصاصه بالاختيار في إحدى الحالتين دون الأخرى: إما أن لا يكون بموجب، أو بموجب.
لا جائز أن يقال بالأول: لما سيأتى فى إثبات الأعراض «1».
وإن كان الثانى: فذلك «2» الموجب: إما عدم، أو وجود.
لا جائز أن يكون عدما: لما تحقق فى مسألة الرؤية «3»، ولما يأتى تحقيقه فى العلل، والمعلولات «4»، وإثبات «5» الأعراض، وبه بطل قول من جعل الموجب انتفاء الآفات.
وإن كان وجوديا: فإما ذاته نفسه، أو بعض ذاته، أو صفة زائدة على ذاته ونفسه.
لا جائز أن يقال بالأول: لتحقق وجود ذاته وبعضها فى الحالتين؛ والموجب لا بد وأن يكون مختصا بإحدى الحالتين دون الأخرى.
وإن كان الثانى: فإما أن تكون تلك الصفة الحياة، أو العلم، أو الإرادة،/ أو البنية المخصوصة، أو غير ذلك.
لا جائز أن تكون هى الحياة، أو العلم: لشمولها للحالتين: حالة الاضطرار، والاختيار، ولا الإرادة: لأن الإرادة غير موجبة للتمكن من الفعل والاختيار في إيجاده؛ بل لتخصيصه بحالة دون حالة.
ولا بالبنية المخصوصة: فإن الحياة غير مشروطة بالإجماع فى ثبوت كون من الأكوان.
________________
(1) انظر الجزء الثانى ل 39/ ب وما بعدها.
(2) فى ب (فكذلك).
(3) انظر ما سبق ل 123/ أ وما بعدها.
(4) انظر الجزء الثانى- الباب الثالث- الأصل الثانى ل 117/ ب وما بعدها.
(5) فى ب (و فى إثبات). انظر الجزء الثانى ل 39/ ب وما بعدها.
(2/291)
________________________________________
وعند ذلك: فما من بنية، وكون يقدر موجبا للاختيار: إلا ويمكن فرض وجوده في الجماد «1»؛ مع انتفاء الاختيار عنه.
وإن كان الموجب غير ذلك: فهو المطلوب. والمعبر عنه بالقدرة الحادثة. وتمام هذا التحقيق، ودفع ما يرد عليه من الإشكالات؛ فسيأتى مستقصى فى إثبات الأعراض «2».
إن شاء الله- تعالى-.
******
________________
(1) فى ب (الإيجاد).
(2) انظر الجزء الثانى ل 39/ ب في إثبات الأعراض.
(2/292)
________________________________________
«الفصل الثانى» «فى امتناع بقاء القدرة الحادثة»
مذهب أهل الحق:
استحالة بقاء القدرة الحادثة. ووافقهم على ذلك البلخى «1» من المعتزلة. خلافا «2» لمعظم المعتزلة «2» فى ذلك.
والمعتمد في ذلك أن يقال:
القدرة الحادثة عرض، وكل عرض مستحيل البقاء، فالقدرة الحادثة، مستحيلة البقاء.
[أما «3» بيان المقدمة الأولى: فما سبق فى الفصل الّذي قبله «3»]
وأما بيان المقدمة الثانية: فما يأتى فى بيان الأعراض وأحكامها «4».
[شبه الخصوم]
فإن قيل: لا نسلم استحالة بقاء كل عرض. وما يذكرونه فى ذلك؛ فسيأتى الكلام عليه.
وإن سلمنا استحالة بقاء كل عرض ما عدا القدرة؛ فلا نسلم استحالة بقاء القدرة الحادثة.
وبيانه: أن من كان مستقرا ببغداد مثلا؛ فغير ممتنع أن تقوم به القدرة على الكون بالبصرة، وبيانه من ثلاثة أوجه:
الأول: أن القابل للقدرة على الكون بالبصرة؛ إنما يكون قابلا لها بنفسه، والأماكن لا تغير صفات النفس، فإذا كان ببغداد؛ فهو على حكم نفسه أن لو كان فى البصرة؛ فيكون قابلا للقدرة على الكون بالبصرة.
الوجه الثانى: أنه لو امتنع قيام القدرة على الكون بالبصرة فى حق المستقر ببغداد: لأفضى ذلك إلى إبطال قيام القدرة به من غير وجود ضد لها، ولا لشرطها حالة كونه ببغداد؛ وهو ممتنع.
________________
(1) البلخى: هو الكعبى انظر ما سبق عنه فى هامش ل 64/ ب وما بعدها.
(2) ساقط من ب.
(3) من أول (أما بيان المقدمة الأولى .... ) ساقط من أ.
(4) انظر الجزء الثانى ل 39/ أ الأصل الثانى فى الأعراض وأحكامها.
(2/293)
________________________________________
الثالث: أن السيد إذا أمر عبده- وهو أهل للأمر- بالمسير إلى البصرة مثلا: وهو ببغداد أمرا جازما على الفور، ثم انقضى من الزمان ما يمكن قطع مثل تلك المسافة، والكون بالبصرة في مثله. وتوانى العبد فى امتثال/ أمره من غير عذر، ولم يزل فى مكانه؛ فإنه يستحق اللوم والتوبيخ، ولو لا اقتدار العبد على الكون بالبصرة حالة الأمر- مع بقائه فى مكانه- لما حسن اللوم، والتوبيخ، على ما لا قدرة للعبد عليه.
وإذا كان قيام القدرة به على الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد ممكنا: فلنفرضه واقعا؛ فإن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه المحال، وعند فرض وجود القدرة على الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد، فلا بد وأن تكون تلك القدرة متعلقة بمقدورها، وإلا كان فيه قلب جنسها، ووجود قدرة لا مقدور لها؛ وهو ممتنع.
وإذا كانت متعلقة بمقدورها: فهى لا توقع مقدورها: وهو الكون فى البصرة إلا فى الحالة الثانية من وجود القدرة، لا فيما بعد ذلك؛ وذلك مستحيل فى الكون فى البصرة، فلو استحال فرض بقائها؛ لاستحال كونها متوقعة لمقدورها، فلا تكون متعلقة به، وهو محال، وما لزم عنه المحال؛ فهو محال.
والجواب:
أما منع استحالة بقاء الأعراض: فسيأتى وجه إبطاله، وإبطال ما يقال عليه في موضعه إن شاء الله- تعالى- على وجه يدخل فيه القدرة الحادثة وغيرها «1».
والقول بإمكان قيام القدرة على الكون بالبصرة، حالة كونه ببغداد ممكن، ممنوع.
وأما الوجه الأول: فيلزم عليه نفس الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد؛ فإنه قابل له بنفسه. ونفسه غير متغيرة بكونه فى بغداد، ومع ذلك فكونه فى البصرة غير ممكن أن يقوم به حالة كونه فى بغداد، ولا فرق فى ذلك بين الكون فى البصرة، والقدرة عليه.
وإن قيل: بأن الكون ببغداد مضاد للكون بالبصرة؛ فكذلك امتنع قيام الكون بالبصرة به حالة كونه ببغداد، فما المانع من أن يقال بأن القدرة على الكون فى بغداد؟ أو أن نفس الكون فى بغداد ضد للقدرة على الكون فى «2» البصرة «2»؟.
________________
(1) انظر الجزء الثانى ل 44/ ب وما بعدها.
(2) فى ب (بالبصرة).
(2/294)
________________________________________
وأما الوجه الثانى: فلا نسلم أن امتناع قيام القدرة على الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد من غير ضد لها، ولا لشرطها؛ على ما تقرر فى الوجه الّذي قبله.
وإن سلمنا انتفاء جميع الأضداد لها، ولشرطها؛ ولكن لم قلتم إن القول بانتفائها من غير ضد لها، ولشرطها؛ ممتنع؟.
وإذا جاز عندهم: امتناع وجود العلم بالشيء حالة النظر فيه، مع أنه لا تضاد بين النظر فى الشيء والعلم به عندهم، ولا بين النظر/ وشرط العلم؛ فما المانع من تجويزه هاهنا؟
وأما الوجه الثالث: فمبنى على امتناع الذمّ على ما لا قدرة عليه؛ وهو ممنوع على أصلنا: فإن المأمور عندنا بفعل غير قادر عليه قبل التلبس به؛ وهو مذموم على تركه.
وإن قيل إن ذلك قبيح، أو تكليف بما لا يطاق؛ فقد أبطلنا القول بالتحسين، والتقبيح الذاتي، (و بينا «1») جواز التكليف بما لا يطاق، فى التعديل والتجوير «2».
وإن سلمنا إمكان قيام القدرة على الكون بالبصرة حالة كونه ببغداد، ولكن لا نسلم إمكان تعلقها بالكون فى البصرة حالة كونه ببغداد. وما المانع من أن يكون شرط تعلقها به إمكان الكون فى البصرة؟ والكون فى البصرة حالة الكون ببغداد، ممتنع بالإجماع.
قولهم: يلزم منه وجود قدرة لا مقدور لها؛ وهو ممتنع.
لا نسلم بامتناعه: ثم هو على خلاف مذهب الخصم فى اعتقاده: أن الأعراض التى لا بقاء لها على أصله بتخصيص وجودها بأوقات مخصوصة: والقدرة الحادثة لا تتعلق بها قبل تلك الأوقات؛ بل إنما تتعلق بها فى تلك الأوقات. وإذا انصرمت تلك الأوقات؛ انقطع تعلق القدرة بها: مع بقاء القدرة فى نفسها؛ وهو قول بقدرة بلا مقدور.
________________
(1) فى أ (و بيان).
(2) انظر ل 174/ ب وما بعدها.
(2/295)
________________________________________
«الفصل الثالث» «فى تعلق الاستطاعة بالفعل»
[الآراء فيه]
مذهب أهل الحق «1» من الأشاعرة: أن القدرة الحادثة لا تتقدم على مقدورها، ولا تتعلق به قبل حدوثه؛ بل وقت حدوثه.
ووافقهم على ذلك: النجار من المعتزلة، ومحمد «2» بن عيسى، وابن الراوندى «3»، وأبو عيسى «4» الوراق، وغيرهم.
وذهب أكثر المعتزلة، والبكرية، وكثير من الزيدية «5»، والمرجئة «6»: كضرار بن عمرو، وحفص «7» الفرد: إلى أن القدرة يستحيل تعلقها بالحادث وقت حدوثه، وإنما تتعلق به قبل حدوثه.
ثم اختلف هؤلاء:
________________
(1) انظر اللمع للأشعرى ص 93 وما بعدها والإبانة له أيضا ص 50 - 52 والإرشاد لإمام الحرمين 215 وما بعدها.
أما عن رأى المعتزلة فى هذه المسألة: فانظر شرح الأصول الخمسة ص 390 - 417.
(2) محمد بن عيسى: الملقب ببرغوث. شيخ البرغوثية، كان على مذهب النجار فى أكثر أقواله. (الفرق بين الفرق ص 209 والملل والنحل 1/ 90).
(3) ابن الراوندى: أبو الحسين أحمد بن يحيى الراوندى، فيلسوف مجاهر بالإلحاد من سكان بغداد من أهم كتبه (فضيحة المعتزلة) رد الخياط عليه فى كتابه (الانتصار والرد على ابن الراوندى الملحد) وكان قبل مجاهرته بالإلحاد من متكلمى المعتزلة، ونسبت إليه إحدى طوائفهم (الراوندية) وقيل: إنه تاب فى أواخر أيامه، وتوفى سنة 245 ه.
(الوفيات 1/ 78 ترجمة رقم 34 والفرق بين الفرق ص 66 والاعلام 1/ 252)
(4) أبو عيسى الوراق: محمد بن هارون الوراق، أبو عيسى: باحث معتزلى- من أهل بغداد، له مصنفات فى الاعتزال، توفى ببغداد سنة 247 ه (لسان الميزان 5: 412 والاعلام 7: 351).
(5) الزّيدية: هم أتباع زيد بن على بن الحسين بن على رضى الله عنهم. قالوا: بالإمامة فى أولاد على من فاطمة رضى الله عنهما، ولم يجوزوها فى غيرهم- ومعظمهم ثلاث فرق: الجارودية، السليمانية والبترية.
(الملل والنحل 1/ 154 - 162 والفرق بين الفرق ص 22، 30 - 37).
(6) المرجئة: هم جماعة تكلموا فى الإيمان، والعمل، والإرجاء تأخير الحكم فى مرتكب الكبيرة إلى يوم القيامة؛ فلا يقضى عليه بحكم فى الدنيا- وكانوا يقولون لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة- وهم أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة، أما عن رأيهم بالتفصيل فانظر (الملل والنحل 1/ 139 - 146 والفرق بين الفرق ص 202 - 207).
(7) حفص الفرد: من المرجئة، وكان من رؤساء الضّرارية، ويكنى أبا عمرو، وكان من أهل مصر، قدم البصرة، وناظر أبا الهذيل العلاف، وقد ناظره الإمام الشافعى وكفره (ميزان الاعتدال الترجمة رقم 2143 والفرق بين الفرق ص 214 والملل والنحل 1/ 90).
(2/296)
________________________________________
فمنهم: من جوز انتفاء القدرة فى الحالة الثانية من وجودها، وجوز وجود مقدورها فى الحالة الثانية مع عدمها فى الحالة الثانية.
ومنهم: من منع من ذلك، وأوجب بقاءها إلى حالة وجود مقدورها بحكم الاشتراط: كاشتراط النية المخصوصة؛ وإن لم تكن قدرة عليه فى تلك الحالة.
واختلفوا أيضا: فى جواز خلو القادر بالقدرة الحادثة عن جميع مقدوراته.
فذهب أبو هاشم، وجماعة من المعتزلة: إلى جواز ذلك.
وذهب الجبائى: إلى جوازه عند/ وجود الموانع، ولم يجوز ذلك عند عدم الموانع فى الأفعال المباشرة دون المتولدة.
واتفقوا أيضا: على انقسام الأفعال المقدورة: إلى ما لا يفتقر فى وقوعه إلى آلة:
كالأفعال القائمة بمحل القدرة، وإلى ما يفتقر: وهى الأفعال الخارجة عن محل القدرة.
واتفقوا أيضا على استحالة بقاء القدرة، مع عدم تعلقها بمقدورها فى الدوام؛ لكن منهم من قال: القدرة الحادثة فى وقت وجودها، متعلقة بالمقدور فى الحالة الثانية، والثالثة، وما بعدها.
ومنهم من قال: لا تصير متعلقة بالمقدور فى الحالة الثالثة، إلا فى الحالة الثانية، وكذلك المقدور فى الحالة الرابعة، لا تصير متعلقة به، إلا فى الحالة الثالثة، وهلم جرا.
ثم اختلف هؤلاء:
فذهب الجبائى، وأبو الهذيل العلاف: إلى أن القادر فى الحالة الأولى: يقال له فيها يفعل، وفى الحالة الثانية: عند وقوع المقدور يقال له فيها فعل، ولا يقال يفعل.
وذهب أبو هاشم: إلى أنه لا يقال له يفعل إلا فى الحالة الثانية. وأما الحالة الأولى: فيقال له فيها سيفعل، ولا يقال له يفعل.
وذهب بشر بن المعتمر «1»: إلى أنه يقال للقادر يفعل مطلقا غير مقيد بحالة دون حالة.
________________
(1) فى ب (متعمر).
(2/297)
________________________________________
وذهب أبو الهذيل أحمد بن العلاف «1»: إلى الفرق بين أفعال القلوب، وأفعال الجوارح.
فقال: القدرة على أفعال القلوب لا بد وأن تكون معها، بخلاف القدرة على أفعال الجوارح؛ فإنه قال: بتقدمها «2» عليها إلى غير ذلك من الاختلافات التى لا معول عليها، ولا مستند لها فيما بينهم. يظهر فسادها بأوائل النظر لمن له أدنى تنبه. آثرنا «3» الإعراض عن ذكرها «3» شحا على الزمان بتضييعه فى غير مهم.
ومعتمد أهل الحق:
أنه لو لم تكن القدرة الحادثة متعلقة بالفعل حالة حدوثه؛ لما كانت متعلقة به أصلا، واللازم ممتنع، فالملزوم ممتنع.
أما بيان الملازمة: فهو أنه: لو لم تكن القدرة الحادثة متعلقة بالفعل الحادث وقت حدوثه: فإما أن تكون متعلقة به قبل حدوثه، أو بعد حدوثه، أو فى الحالتين، أو أنه لا تعلق لها به أصلا:
لا جائز أن تكون متعلقة به قبل حدوثه: لوجهين:
الأول: أنه قبل حدوثه: إما أن يكون ممكن الحدوث فى ذلك الوقت، أو لا يكون ممكنا.
فإن كان/ ممكنا: فلا يلزم من فرض وقوعه فيه المحال لذاته، ولو فرضناه حادثا فيه، فالقدرة تكون متعلقة به وقت حدوثه؛ وقد قيل بامتناعه.
وإن لم يكن حدوثه فيه ممكنا: فليس بواجب؛ فيكون ممتنعا. وتعلق القدرة بالمستحيل يوجب كونه مقدورا، وخرج عن كونه مستحيلا؛ وهو خلاف الفرض. ثم ولجاز تعلقها بكل مستحيل؛ ضرورة عدم الفرق؛ ولم يقل به قائل.
الوجه الثانى: أنه لو تعلقت القدرة الحادثة بالفعل قبل حدوثه؛ فالمقدور إما نفيه، أو ثبوته:
________________
(1) فى ب (علاف).
(2) فى ب (بتقدمه).
(3) فى ب (آثرنا عنها الإعراض).
(2/298)
________________________________________
لا جائز أن يكون المقدور ثبوته؛ إذ هو غير ثابت قبل وقت ثبوته.
وإن كان المقدور نفيه: فالثبوت ليس هو المقدور؛ وهو خلاف الفرض.
كيف وأن من أصل الخصم أن المقدور لا بد وأن يكون أثرا للقدرة؛ وأثر القدرة؛ إنما هو الحدوث، فانتفاء الحدوث لا يكون مقدورا.
ولا جائز أن تكون القدرة الحادثة متعلقة بالفعل الحادث بعد وقت حدوثه؛ لأن متعلق القدرة: إنما هو الحدوث الممكن بالاتفاق، وحدوث الحادث بعد حدوثه غير ممكن؛ فلا يكون متعلق القدرة، كيف وأنه لم يقل به قائل. وعلى ما حققناه: فلا يخفى امتناع تعلق القدرة بحدوث الفعل، فى الحالتين معا، وهما القبلية، والبعدية؛ فلم يبق إلا أن لا تكون القدرة متعلقة به أصلا؛ وهو ممتنع؛ لما ذكرناه فى إثبات القدرة الحادثة، ولأنه على خلاف الإجماع من الفريقين.
فإن قيل: لا نسلم أنه لو لم تكن القدرة متعلقة بالفعل وقت حدوثه؛ لما كانت متعلقة به أصلا.
وما ذكرتموه من الوجه الأول فى التقرير؛ فمندفع بتفسير معنى تعلق القدرة بالحادث قبل وقت حدوثه: وذلك أن معنى هذا التعلق: أن القدرة إذا حدثت فى وقت أثرت فى الإيجاد، والحدوث فى الحالة الثانية من ذلك الوقت.
وعلى هذا: فلا يلزم من استحالة الحدوث المقدور مع القدرة: أن لا تكون متعلقة به بالتفسير المذكور، لا الحدوث فى الوقت الثانى من وقت حدوث القدرة؛ وخرج عليه امتناع تعلق القدرة بالمستحيلات؛ لعدم إمكانها فى كل وقت.
وعلى هذا: فلا يخفى إبطال الوجه الثانى أيضا؛ فإنه ليس المقدور هو الحدوث قبل وقت الحدوث ولا نفيه؛ بل المقدور هو الإيجاد «1» بالقدرة الحادثة «1» للفعل فى ثانى الحال من وقت وجودها/؛ وهو معنى تعلقها بالحدوث قبل وقت الحدوث.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تعلق القدرة الحادثة بالفعل حال حدوثه، لكنه معارض بما يدل على امتناعه. وبيانه من ثمانية أوجه «2»:
________________
(1) فى ب (الحادث).
(2) ذكرها الآمدي هنا على أنها وجوه ورد عليها وسماها شبها.
(2/299)
________________________________________
الأول: أنه لا معنى لتعلق القدرة بالفعل الحادث غير تأثيرها فى إيجاده: فلو كانت متعلقة به وقت وجوده؛ لكان ذلك إيجادا للموجود؛ وهو ممتنع؛ فإن الموجود إذا تحقق؛ استقل بنفسه، واستغنى عن تعلق القدرة به.
الثانى: هو أن القدرة ممتنعة التعلق بالباقى حالة بقائه: وإنما كان ذلك ممتنعا؛ لكون الباقى متحقق الوجود، والحادث حال حدوثه متحقق الوجود؛ فلا تكون القدرة متعلقة به.
الثالث: هو أن وجود الباقى، هو نفس الوجود فى وقت الحدوث؛ فلو كانت القدرة متعلقة به فى وقت الحدوث؛ لكانت متعلقة به فى حالة البقاء؛ لاتحاد المتعلق وامتناع تأثير تعاقب الأوقات فى أحكام الأنفس؛ واللازم ممتنع؛ فالملزوم ممتنع.
الرابع: أنه لو كان حدوث الفعل ووجوده حال وجوده مشروطا بتعلق القدرة به حال وجوده؛ للزم طرد هذا الشرط في كل ما هو من جنسه من أفعال الله- تعالى- ويلزم من ذلك امتناع وجود مثل مقدور العبد، ضرورة فوات شرطه على ما تقرر فى بيان كون الله- تعالى- قادرا، لا بقدرة؛ وذلك ممتنع.
الخامس: هو أنكم معاشر الأشاعرة أثبتم لله- تعالى- قدرة قديمة أزلية، وقضيتم بأنه لا بد لها من مقدور تتعلق به فى الأزل، وأحلتم «1» إمكان المقدور أزلا، ولا بد وأن تكون القدرة القديمة، متعلقة بمقدورها قبل وقت حدوثه، ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة؛ لكان ممتنعا فى القدرة القديمة أيضا.
السادس: هو أن الاتفاق من الأمة واقع، على أن المكلف مأمور بالإيمان حالة كفره، فلو لم يكن قادرا عليه حالة الأمر، لكان مأمورا بما لا يقدر عليه، ولو ساغ ذلك، لساغ التكليف بكل ما لا يقدر عليه من الجواهر، والأعراض؛ وهو محال.
السابع: هو أن أقوى أعذار المكلف، التى يجب قبولها، لدفع المؤاخذة عنه، كون ما كلف به غير مقدور له؛ فإذا كان المكلف بالفعل- قبل الفعل- غير قادر عليه؛ وجب رفع المؤاخذة عنه، بعدم الفعل المكلف به؛ وهو خلاف الإجماع من الأمة؛ وهذا المحال/ إنما لزم من امتناع تقدم «2» القدرة؛ فيكون ممتنعا «2».
________________
(1) فى ب (و احللتم).
(2) فى ب (تعلق القدرة عليه فيكون محالا).
(2/300)
________________________________________
الثامن: أن الأمة متفقة على صحة الإطلاق بأن الزوج قادر على الطلاق وعند ذلك: فإما أن يكون قادرا عليه قبل الطلاق، أو مع الطلاق. لا جائز أن يقال بالثانى؛ فإنه لا زوج، ولا زوجية مع الطلاق. وإن كان الأول: فهو المطلوب. وكذلك «1» الكلام فى وصف السيد بالقدرة على عتق عبده. ومن هذا الجنس صحة الإطلاق: بأن الواقف فى مكان، قادر على الانتقال منه.
وعند ذلك: فإما أن يكون قادرا على الانتقال منه: قبل الانتقال، أو مع الانتقال.
فإن كان الأول: فهو المطلوب.
وإن كان الثانى: فمع الانتقال لا يكون فى ذلك المكان، فكيف يصح وصفه «2» بالقدرة على الانتقال عنه؟
والجواب:
أما منع الملازمة: فمندفعة بما سبق.
وما ذكروه فى تفسير التعلق؛ فمبنى على فاسد أصولهم فى تأثير القدرة الحادثة، فى الحدوث، والإيجاد،
وهو فاسد؛ لما سبق تقريره من أنه لا موجد إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الممكنات سواه «3».
وإن سلمنا تأثير القدرة الحادثة فى الإيجاد؛ فإنما يصح تفسير التعلق بما ذكروه: أن لو أمكن بقاء القدرة؛ وهو ممتنع على ما تقدم. وبتقدير أن لا يكون ما فيه فوجود الفعل فى ثانى الحال من وجودها يكون فى حال «4» عدمها؛ فلا يكون الوجود أثرا لها؛ لكونها معدومة وقت وجوده؛ فإن العدم لا يؤثر فى الوجود كما تقدم تقريره فى مسألة إثبات رؤية البارى- تعالى «5» - وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه علي الوجه الثانى أيضا.
________________
(1) فى ب (و كذا).
(2) فى ب (وصفها).
(3) انظر ل 58/ ب وما بعدها.
(4) فى ب (الحال).
(5) راجع ما سبق ل 123/ أ المسألة الثانية: فى رؤية الله- تعالى.
(2/301)
________________________________________
قولهم: فى الشبهة الأولى «1»: لو تعلقت القدرة بالحادث وقت حدوثه، كان فيه تحصيل الحاصل: مبنى على أن القدرة مؤثرة فى الإيجاد؛ وهو ممنوع على ما تقدم، وإن كانت مؤثرة: فلا يلزم من تعلقها به فى وقت وجوده إيجاد الموجود؛ فإنه لا معنى لكونها مؤثرة فى وجوده، فى وقت وجوده، غير أنه لو لا القدرة فى وقت الوجود: لما كان الفعل موجودا فى ذلك الوقت؛ لا بمعنى أنها موجدة للفعل الموجود.
وعلى هذا: فقد بطل قولهم: الموجود إذا تحقق استغنى عن تعلق القدرة به.
ثم يلزمهم على قول ذلك استغناء المعلول عند تحققه عن العلة: كالعالم، والعلم.
واستغناء المشروط عند تحققه عن/ الشرط: كالعلم مع الحياة، واستغناء المسبب عند تحققه عن السبب: كحركة الخاتم «2»، مع حركة اليد؛ وهو ممتنع.
فلئن قالوا: القدرة ليست علة للمقدور، ولا شرطا له؛ فلا يلزم مقارنتها للمقدور بخلاف العلة، والشرط؛ فإن من حكم العلة مقارنتها للمعلول، وكذلك الشرط مع المشروط. وأما المسبب: فموجود بالقدرة لا بالسبب.
قلنا: القدرة وإن لم تكن علة للمقدور، ولا شرطا له. غير أن المقدور مفتقر إلى القدرة كافتقار المعلول إلى العلة، والمشروط إلى الشرط؛ فإذا كان المقدور عند وجوده، مستقلا بالوجود، مستغنيا عما لا يتم وجوده إلا به؛ فكذلك المعلول، والمشروط؛ ضرورة عدم الفرق من جهة كون كل واحد مفتقرا إليه فى الوجود.
وقولهم: إن المسبب مقدور بالقدرة؛ فلا يخفى أن الخارج عن محل القدرة غير حاصل بمجرد القدرة دون تقدير سبب، فالسبب يكون مفتقرا إليه فى الوجود: كالافتقار إلى القدرة. فإذا جاز استقلال الفعل المتوقف على القدرة بعد وجوده، مستغنيا عن وجود القدرة معه؛ فكذلك السبب.
قولهم فى الشبهة الثانية: القدرة ممتنعة التعلق بالباقى؛ لكونه موجودا؛ فكذلك فى أول الوجود.
________________
(1) الشبهة الأولى هى الوجه الأول من الأشكال الثالث وقد ذكرها الآمدي على أنها الوجه الأول ثم أجاب عنها وسماها الشبهة الأولى وقد تابعته فى ذلك وفى بقية الأوجه حتى الثامن.
(2) فى ب (المفتاح).
(2/302)
________________________________________
فنقول عنه أوجه ثلاثة: الأول: لا نسلم امتناع تعلق القدرة بالباقى؛ لكونه موجودا، وليس لهم فى إثبات ذلك غير الطرد، والعكس، والسبر، والتقسيم؛ وقد سبق إبطال كل واحد منهما «1».
الثانى: الفرق: وبيانه: أن الحادث هو الموجود بعدم العدم، فلو لم تتعلق به القدرة؛ لبقى على العدم؛ وقد قيل بوجوده. بخلاف الباقى: فإنه كان موجودا فى حالة الحدوث؛ فلو لم يقدر تعلق القدرة به فى حالة البقاء؛ لبقى على الوجود؛ وليس بمحال؛ لكونه واقعا.
الثالث: النقض بصور ثلاث:
الصورة الأولى: النقض «2» بإحكام الفعل، وإتقانه؛ فإن المؤثر فيه علم المحكم أو عالميته، ولم يشترط «3» مقارنة العلم، أو العالمية للإحكام والإتقان حالة بقائه. وإن كان ذلك مشترطا «4» عندهم حالة وجود «5» الإحكام «5»، ولا يخفى وجه الجمع بين الصورتين.
الصورة الثانية: هو أن بقاء الفعل بتقدير كونه باقيا عندهم، لا يؤثر فى اتصاف الفاعل بكونه فاعلا حالة البقاء، وإن كان موجبا/ لذلك حالة حدوث الفعل.
الصورة الثالثة: هو أن الإرادة مقارنة للحدوث، دون حالة البقاء، وما لزم من عدم مقارنتها للموجود حالة بقائه، أن لا تكون مقترنة به حالة حدوثه؛ فكذلك فى القدرة، ولو راموا الفرق بين هذه الصور، وبين القدرة؛ لم يجدوا إليه سبيلا.
وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من الشبهة الثالثة أيضا.
وأما الشبهة الرابعة: فمبنية على أن أفعال الله- تعالى- غير مقدورة بالقدرة وهو باطل: على ما سبق تحقيقه فى إثبات القدرة القديمة «6».
________________
(1) راجع ما تقدم ل 39/ أ وما بعدها.
(2) فى ب (الأولى).
(3) فى ب (و لم يشترطوا)
(4) فى ب (مشروطا)
(5) فى ب (الوجود والأحكام).
(6) انظر ل 58/ ب وما بعدها.
(2/303)
________________________________________
وأما الشبهة الخامسة: فالقدرة القديمة؛ وإن كانت متقدمة على جميع المقدورات؛ فهى إنما تتعلق بالأفعال الممكنة، والفعل فى الأزل غير ممكن؛ فلا تكون متعلقة به أزلا؛ بل تعلقها بالفعل الممكن؛ فيما لا يزال؛ وذلك لا يناقض ما ذكرناه؛ فإنها وإن كانت متقدمة عليه فى الأزل؛ فباقية، ومقارنة له فيما لا يزال «1».
وأما الشبهة السادسة: فمبنية على أن التكليف بما لا يطاق ممتنع، وليس كذلك على ما أسلفناه «2».
وعلى هذا لا فرق بين التكليف بالإيمان، وبإحداث «3» الجواهر، والأعراض، وإن فرقنا بين التكليف بالإيمان، والتكليف بإحداث الجواهر، والأعراض «4» حتى جوزنا الأول، ومنعنا من الثانى «4»؛ فمن جهة أن إحداث الجواهر والأعراض، غير مقدور الفعل والترك بخلاف الإيمان؛ فإنه وإن لم يكن مقدورا قبل حدوثه؛ فتركه بالتلبس بضده؛ وهو الكفر؛ مقدور حالة كونه كافرا.
وأما الشبهة السابعة: فمبينة على امتناع المؤاخذة على ما ليس بمقدور، ومدار ذلك على التحسين، والتقبيح الذاتى؛ وقد سبق ما فيه «5».
وأما الشبهة الثامنة: فمعلولها على الإطلاقات اللفظية، ولا اعتبار بها فى القضايا العقلية، والأصول الدينية.
كيف وأنا نقول: هو قادر على الطلاق وقت الطلاق، كما تقدم، وإطلاق اسم الزوج عليه حالة الطلاق. وإن كانت الزوجية زائلة: باعتبار ما كان عليه؛ ولا مانع منه.
وعلى هذا فما ذكروه من باقى الصور يكون الجواب. كيف وأن ما ذكروه ينعكس عليهم فى إطلاق اسم المطلق على الزوج. فإن كان قبل الطلاق؛ فهو ممتنع. وإن كان حالة/ كونه مطلقا؛ فليس بزوج.
وعند ذلك: فما هو جوابهم هاهنا؛ هو الجواب فيما ألزموه.
________________
(1) فى ب (يزال).
(2) انظر ل 194/ ب وما بعدها.
(3) فى ب (و التكليف بأحداث).
(4) فى ب (حتى منعنا الثانى وجوزنا الأول).
(5) انظر ل 174/ ب وما بعدها.
(2/304)
________________________________________
ثم لو قيل لهم: إذا جوزتم تعلق القدرة بالمقدور فى «1» الوقت المتقدم على وقت حدوثه، فما المانع من تعلقها به قبل وقت حدوثه بأوقات مع أنكم لم تقولوا به؛ لم يجدوا إلى الفرق سبيلا.
فلئن قالوا: القدرة مع المقدور: كالعلم بالمنظور فيه مع النظر، والنظر لا يقارن العلم بالمنظور فيه، ولا العلم متأخر عنه بتقدير عدم الأضداد المانعة منه؛ فكذلك القدرة مع المقدور.
فنقول: هذا جمع من غير دليل جامع؛ فلا يكون مفيدا. وما المانع من أن تكون القدرة مع المقدور، لا «2» كالنظر مع العلم «2» بالمنظور فيه؛ بل من قبيل العلم، والعالمية، والإرادة، والمريدية، إلى غير ذلك مما قيل بمقارنته دون تقدمه.
وقد استدل الأصحاب فى المسألة بمسلكين ضعيفين:
المسلك الأول:
هو أنه لو كانت القدرة الحادثة متقدمة على الفعل المقدور، وهو واقع بها فى الحالة الثالثة؛ لجاز تقدير عدمها فى الحالة الثانية، بتقدير وجود عجز مضاد لها فى الحالة الثانية، أو فوات شرطها، ويلزم من ذلك، وقوع الفعل فى الحالة الثانية، مع تحقق العجز المضاد، أو فوات شرط القدرة؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول:
العجز المفروض فى الحالة الثانية من وجود القدرة الحادثة؛ لا يلزمه انتفاء الفعل فى تلك الحالة؛ فلا يكون ضدا للقدرة السابقة؛ بل إنما يلزم انتفاء الفعل فى الحالة الثانية من حالة وجوده، كما أن القدرة لا تؤثر فى الفعل فى وقت وجودها؛ بل فى ثانى الحال؛ فالعجز المضاد للقدرة: إنما هو العجز المفروض وقوعه فى حالة فرض وقوع القدرة فيها؛ فلا يكون موجودا معها.
فإن قيل: فالقدرة المتقدمة المتعلقة بالفعل فى «3» ثانى الحال: إما أن تكون متعلقة بالفعل فى الزمن الثالث وما بعده، أو لا تعلق لها «4» به فيه.
________________
(1) فى ب (من).
(2) فى ب (كالنظر).
(3) فى ب (لا فى).
(4) فى ب (له).
(2/305)
________________________________________
فإن كان الأول: فيلزم من فرض وجود العجز فى الحالة الثانية قطع تعلق القدرة بالمقدور فى الحالة الثالثة؛ وفيه قلب جنس القدرة حيث قيل بانقطاع تعلقها بعد التعلق، ولو جاز مثل ذلك بالنسبة إلى الحالة الثالثة؛ لجاز مثله فى الحالة الثانية، وأنتم غير قائلين به.
وإن كان الثانى: فيلزم منه أن ما اقتضته القدرة؛ فالعجز غير مانع منه، وما منعه العجز فغير ما اقتضته القدرة، ويلزم/ من ذلك ارتفاع التضاد بين العجز والقدرة؛ وهو ممتنع.
فيقال: المختار من القسمين: إنما هو الثانى منهما؛ ولكن غايته أن العجز المفروض فى الحالة الثانية، غير مضاد للقدرة الموجودة فى الحالة الأولى، ولا يلزم منه ارتفاع التضاد بين القدرة، والعجز مطلقا؛ فإن العجز المضاد للقدرة ما يقدر وجوده وقت وجود القدرة، لا ما يقدر وجوده قبلها ولا بعدها؛ وهما مما لا يمنعان.
المسلك الثانى:
هو أن القول بتقدم القدرة على المقدور مما يمنع من تفرقة العاقل بين كونه قادرا، وبين كونه عاجزا؛ واللازم ممتنع؛ فالملزوم مثله.
وبيان الملازمة: هو أنه إذا تقدمت القدرة الحادثة على المقدور؛ فالمقدور بها ممتنع فى حال وجودها. ولو قدر وجود العجز فى الوقت المتقدم على وقت وجود القدرة؛ فالفعل يمتنع به فى وقت وجود القدرة؛ وهى الحالة الثانية منه؛ فإذن قد ساوى وجود القدرة للعجز فى حكمه، وهو امتناع الفعل، ويلزم من ذلك، امتناع التفرقة بين الفعل مع القدرة، والفعل مع العجز؛ وهو محال.
ولهذا: فإن كل عاقل يجد من نفسه التفرقة بين حركته مختارا، ومرتعشا، وبين كونه ماشيا بالاختيار، وبين كونه مسحوبا مجرورا على وجهه كرها.
ولقائل أن يقول:
هذا: إنما يلزم أن لو كانت القدرة فى وقت حدوثها: قدرة على الفعل فى ذلك الوقت، وليس كذلك؛ بل هى قدرة عليه فى الزمن الثانى على ما تقرر.
(2/306)
________________________________________
وعند ذلك: فامتناع وقوع الفعل فى وقت القدرة الحادثة كان لانتفاء القدرة عليه فى الوقت المتقدم، وسواء كان عدمها للعجز، أو لفوات شرطها، فلا يلزم منه امتناع التفرقة بين المقدور، والمعجوز على ما ذكروه.
******
(2/307)
________________________________________
«الفصل الرابع» فى امتناع تعلق القدرة الحادثة بمقدورين
مذهب أكثر أصحابنا: امتناع تعلق القدرة الحادثة بمقدورين معا، وعلى سبيل البدل، وسواء كانا ضدين: مختلفين، أو متماثلين. أو مختلفين: من غير تضاد، وأنها لا تتعلق إلا بمقدور واحد.
وذهب أكثر المعتزلة: إلى أن القدرة الحادثة: تتعلق بجميع مقدورات العباد المتضاد منها، وغير المتضاد.
واختلف قول أبى هاشم: فى القدرة القائمة بالقلب، والقدرة القائمة ببعض الجوارح.
فقال مرة: القدرة القائمة بالقلب تتعلق بجملة أفعال القلوب: كالاعتقادات والإرادات/ ونحوها، ولا تتعلق بغيرها من الحركات، والألوان، والاعتمادات. وكذلك القدرة القائمة ببعض الجوارح تتعلق بجملة أفعال الجوارح من الأكوان، والاعتمادات، ولا تتعلق بشيء من أفعال القلوب.
وقال مرة أخرى: كل واحدة من القدرتين تتعلق بجميع المقدورات من أفعال القلوب، والجوارح، غير أنه امتنع اتحاد أفعال الجوارح بقدرة القلب لفقد الآلات، والبنية المخصوصة، وكذلك بالعكس.
وقال مرة: القدرة القائمة بالقلب تتعلق بأفعال الجوارح، ولا عكس.
وذهب ابن الراوندى، وكثير من أئمتنا «1»: إلى أن القدرة الحادثة تتعلق بالمتضادات على سبيل البدل، لا معا.
وأجمعت المعتزلة: على جواز تعلق القدرة الحادثة بالمتماثلات من كل جنس على ممر الأوقات، وتعاقب الساعات، مع اتفاقهم على امتناع وقوع مثلين فى محل واحد، بقدرة واحدة، فى وقت واحد.
________________
(1) فى ب (أصحابنا).
(2/308)
________________________________________
والمعتمد لأهل الحق:
فى امتناع تعلق القدرة الحادثة، بالضدين معا:
الاستدلال والإلزام.
أما الاستدلال: فهو أن القائل بتعلقها بالضدين معا: إما أن يكون قائلا بوجوب مقارنة القدرة للمقدور، أو بتقدمها عليها.
فإن كان الأول: فالقول بتعلقها بالضدين معا يوجب اقترانها بالضدين معا، ويلزم من ذلك اجتماع الضدين؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فما ذكرناه من دليل امتناع تقدم القدرة الحادثة علي مقدورها، ووجوب مقارنتها له، دليل عليه هاهنا، ويلزم من ذلك اجتماع الضدين كما قررناه.
وأما الإلزام: فهو أن السهو، مضاد للعلم، ويلزم من كون القدرة الحادثة متعلقة بالضدين معا، أن تكون القدرة المتعلقة بالعلم، متعلقة بالسهو؛ وهو غير مقدورها.
[للخصوم اشكالات على الاستدلال]
فإن قيل: ما ذكرتموه فى طرف الاستدلال، فرع مقارنة القدرة للمقدور؛ وهو متعذر لما سبق.
سلمنا وجوب مقارنتها للمقدور: ولكن لا نسلم، امتناع الجمع بين الضدين؛ وذلك لأن الحكم على الجمع بين الضدين بكونه مستحيلا: إما أن يكون مع تصوره فى العقل، أو لا مع تصوره.
فإن كان الأول: فما هو متصور فى العقل لا يكون مستحيلا لذاته، وما لا يكون مستحيلا لذاته؛ فواجب، أو ممكن. وعلى كل تقدير؛ فلا يكون ممتنعا.
وإن كان الثانى: فالحكم على ما لا تصور له فى العقل بنفى، أو إثبات يكون ممتنعا.
كيف: وأن الحكم/ باستحالة جمع الضدين علم تصديقى، وذلك مع عدم تصور مفرداته؛ محال، وأحد مفرداته «1»، الجمع بين الضدين؛ فكان متصورا.
________________
(1) فى ب (من ذاته).
(2/309)
________________________________________
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع تعلق القدرة الحادثة بالضدين معا: لكنه معارض بما يدل على جوازه، وبيانه من ستة «1» أوجه:
الأول: أنه لو كان القادر على شيء لا يكون قادرا على ضده؛ لكان فى حكم الملجأ المضطر إلى ذلك المقدور؛ حيث لا يقدر على الانفكاك عنه، وذلك يجر إلى إبطال التفرقة بين القادر، والمضطر؛ وهو كما «2» تقدم تحقيقه «2».
الثانى: هو أن العجز المضاد للقدرة: وهو فلا يمتنع تعلقه بالشيء وضده، ولهذا فإن العاجز عن القعود، قد يكون بعينه عاجزا عن القيام، وكذلك بالعكس، وكذلك العاجز عن الحركة يمنة، قد «3» يكون «3» عاجزا عن الحركة يسرة إلى نظائره، ويلزم من ذلك: جواز تعلق القدرة بهما، لتكون القدرة على مناقضة ضدها.
الثالث: هو أن القاعد: قادر على القعود وهو تارك للقيام، اختيارا، وترك الشيء اختيارا يلزمه أن يكون مقدورا؛ فإن ما لا يكون مقدورا؛ لا يمكن تركه اختيارا؛ فالقيام مقدور عليه.
الرابع: هو أن القادر على القيام: فى حالة قيامه يجد من نفسه التمكن من القعود، والاضطجاع وجدانا لا يمارى فيه عاقل، ولا يمكن مكابرته؛ فيكون مقدورا مع القيام أيضا. ولا بد وأن يكون قادرا عليهما، بقدرة واحدة، وإلا فلو كان قادرا على كل واحد منهما بقدرة غير القدرة على الآخر؛ لأمكن فرض عدم إحدى القدرتين، دون الأخرى.
وعند ذلك: يلزم أن من كان قادرا على القيام، لا يكون قادرا على القعود وبالعكس؛ وهو محال.
الخامس: أنه لو اتحد متعلق القدرة الحادثة وقدر أن الله- تعالى- خلق لمن هو فى مكان القدرة على الكون فى غير ذلك المكان، ولم يخلق له غيرها؛ فيلزم أن لا يكون مقتدرا بها على الكون فى مكانه، وأن لا يكون مقدورها معها، فيكون كالعاجز الّذي لا قدرة له؛ وهو محال.
________________
(1) فى ب (خمسة).
(2) فى ب (محال كما سبق).
(3) فى ب (فلا يكون).
(2/310)
________________________________________
السادس: هو أنه لو أقدر الله- تعالى- الكافر على الكفر حالة كفرة، فلو لم تكن قدرته على الكفر قدرة على الإيمان؛ لما كان لله- تعالى- على الكافر نعمة؛ وهو خلاف المعقول والمنقول عن الأنبياء والرسل، من تذكير «1» الكفار بنعم الله- تعالى- عليهم، وإحسانه إليهم، وطلب الشكر له منهم.
وبيان لزوم ذلك/ هو أن القدرة على الكفر، إذا لم تكن صالحة لغير الكفر، فهى سبب للعذاب؛ فتكون نقمة؛ لا نعمة، ووجوده، ونيته، واستعداده للذات، واتصافه بصفات الكمالات شروط لهذا العذاب، إذ لولاها لما كان معذبا «2»؛ فهى إذن «2» نقم لا نعم، وليست هذه الأمور نعما؛ لما فيها من اللذات العاجلة، وإلا لكان ارتكاب الفواحش نعما، لما فيها من اللذات، ولكان من قدم بين يدى إنسان طعاما لذيذا، مسموما، مهلكا- وهو عالم به- فأكله ذلك الإنسان، أن يكون منعما عليه به، وكل ذلك محال.
وهذا المحال: إنما لزم من كون القدرة على الكفر؛ ليست قدرة على غيره؛ فيكون محالا.
وأما الإلزام بالعلم «3»، والسهو: «3»
فإنما يلزم أن لو كان السهو ضدا ومعنى وهو غير مسلم بل هو سلب العلم فيما من شأنه أن يكون له «4» العلم «4»؛ على ما ذهب إليه ابن «5» عياش من المعتزلة.
سلمنا كون السهو معنى، ولكن لا نسلم أنه مضاد للعلم لذاته؛ بل هو مضاد لشرطه، ونسبة السهو إلى العلم: كنسبة الموت إلى العلم فى كونه مضادا لشرطه؛ وهو الحياة وليس من شرط القدرة إذا تعلقت بشيء أن «6» تكون «6» متعلقة بضد شرطه على ما ذهب إليه أبو هاشم.
________________
(1) فى ب (انذار).
(2) فى ب (معلوما فإذن).
(3) فى ب (بالسهو فإنه).
(4) فى ب (عالما).
(5) ابن عياش: أبو إسحاق إبراهيم بن عياش، من أئمة المعتزلة البصريين، كان شيخا للقاضى عبد الجبار، ومن رجال الطبقة العاشرة.
(6) فى ب (لا تكون).
(2/311)
________________________________________
سلمنا أن السهو ضد للعلم؛ ولكن لا نسلم أنه ليس بمقدور.
وإن سلمنا أنه ليس بمقدور؛ فلا نسلم أن القدرة المتعلقة بالشيء تكون متعلقة بجميع أضداده؛ بل ببعض الأضداد، وهذان القولان معزوان إلى البصرى الملقب، بجعل «1».
سلمنا امتناع تعلق القدرة الحادثة بالشيء وضده معا؛ ولكن ما المانع من تعلقها بأحد الضدين على البدل؟ كما هو مذهب الهمذانى «2» وبعض أصحابكم «3»، ويدل على ذلك: هو أن القيام ضد القعود، والإيمان ضد الكفر، والقدرة على القعود: وإن قارنها القعود؛ قدرة على القيام. والقدرة على الإيمان: قدرة على الكفر، وإن قارنها الإيمان، وكذلك بالعكس.
سلمنا امتناع تعلق القدرة الحادثة بالضدين معا، وعلى البدل؛ ولكن ما المانع من تعلقها بالمتماثلات، كما هو مذهب المعتزلة؟
سلمنا امتناع تعلقها بالمتماثلات؛ ولكن ما المانع من تعلقها بالمختلفات التى لا تضاد فيها؟ وما ذكرتموه من الدليل غير مطرد فيها.
والجواب:
قولهم:/ ما ذكرتموه فرع وجوب مقارنة القدرة للمقدور؛ فقد حققناه، وأبطلنا كل ما ورد عليه.
قولهم: لا نسلم استحالة الجمع بين الضدين، فهو «4» منع لأمر بديهى؛ فلا يقبل.
وما ذكروه فتشكيك «5» على البديهيات؛ فلا يكون مسموعا. كيف وأن المحكوم باستحالته بين الضدين، إنما هو الجمع المتصور بين المختلفات التى لا تضاد فيها.
وعند ذلك: فحاصل قولنا باستحالة الجمع بين الضدين (أن «6» ما «6») يتصوره من الجمع فى المختلفات منفى عن الضدين بالضرورة؛ فلم قلتم المحكوم عليه بالنفى غير متصور؟.
________________
(1) انظر هامش ل 53/ أ.
(2) انظر هامش ل 208/ ب.
(3) فى ب (أصحابهم).
(4) فى ب (هو).
(5) فى ب (فهو تشكيك).
(6) فى أ (اما أن).
(2/312)
________________________________________
قولهم فى الشبهة الأولى: أنه لو لم يكن قادرا على ضد المقدور؛ لكان مضطرا إلى المقدور المتعين.
قلنا: عن جوابان.
الأول: إن عنيتم بكونه مضطرا أن فعله غير مقدور؛ فممنوع. وإن عنيتم بكونه مضطرا أن مقدوره، ومتعلق قدرته متعين، وأنه لا مقدور له بهذه القدرة سواء؛ فهذا هو عين ما رمناه، ولا منازعة فى التسمية. وعلى هذا فقد بطل القول بعدم التفرقة. حيث أن ما نحن فيه مقدور بقدرة، والفعل الاضطرارى: غير مقدور بقدرة، وإن وقع التساوى بينهما من جهة عدم الانفكاك.
ولهذا: من أحاط به بناء من جميع جوانبه، وهو حاجز له عن التقلب فى باقى جهاته؛ فإنه قادر على الكون فى مكانه بالإجماع منا ومن المعتزلة، وإن كان لا يجد إلى الانفكاك عن مقدوره سبيلا.
الثانى: وإن سلمنا أن القادر على الشيء، لا بد وأن يكون قادرا على ضده، ولكن لم قلتم باتحاد القدرة المتعلقة بهما؟ وما المانع من تعدد القدرة بتعدد المقدور؟
وأما الشبهة الثانية: فجوابها من ثلاثة أوجه: الأول: أنه وإن كان العاجز عن القيام عاجزا عن القعود؛ فلا نسلم أنه بعجز واحد، ليلزم مثله فى القدرة.
ولو قيل: ما المانع من تعدد العجز بتعدد المعجوز عنه؟
لم يجدوا إلى دفعه سبيلا.
ولهذا، فإنه يتصور العجز عن أحدهما، دون الآخر.
الثانى: وإن سلمنا أن العجز عن القيام والقعود واحد، ولكن لا يخفى أن إلحاق القدرة بالعجز، تمثيل من غير دليل جامع؛ فلا يصح.
الثالث: الفرق: وهو أن العجز عن القيام والقعود، معنى يترتب عليه المنع من القيام والقعود، والمنع من القيام، والمنع. من القعود مجتمعان «1»؛ فى مقارنة العجز؛
________________
(1) فى ب (و يجتمعان).
(2/313)
________________________________________
فجاز أن يكون/ العجز لذلك واحدا بخلاف وجود القيام والقعود: فإنهما لا يجتمعان؛ فلا تكون القدرة عليهما واحدة؛ لما سبق تقريره من وجوب مقارنة القدرة الحادثة لمقدورها.
وأما الشبهة الثالثة: فطريق دفعها أن يقال: إن أردتم بكون القاعد تاركا للقيام اختيارا أنه متلبس بضده؛ وهو القعود مقدورا؛ فهذا «1» مسلم «2»؛ ولكن لا يلزم منه أن يكون القيام مقدورا.
وإن أردتم به أن ترك القيام: وهو عدمه مقدور؛ فمبنى على أن العدم يكون مقدورا؛ وهو ممنوع.
وبتقدير أن يكون عدم القيام مقدورا («2» لمقارنته القدرة عليه؛ فلا يلزم أن يكون وجود القيام مقدورا «2»)؛ لعدم مقارنته للقدرة؛ على ما سبق تحقيقه. وإن أرتم به معنى آخر؛ فلا بد من تصويره «3»، والدلالة عليه «3».
وأما الشبهة الرابعة: فباطلة أيضا: فإن ما يجده القائم فى حالة قيامه من التمكن من القعود ليس عائدا إلى نفس القدرة عليه فى الحال؛ إذ هو ممتنع كما سبق، وإنما هو عائد إلى إمكان وجود القدرة عليه فى ثانى الحال وبه يقع الفرق بينه وبين الممتنع الوجود.
ثم وإن سلمنا أن القائم القادر على القيام، قادر على «4» القعود «4» مع الاستحالة، فما المانع من كون كل واحد منهما مقدورا بقدرة غير القدرة على الآخر؟.
قولهم: لو كان كذلك لأمكن فرض عدم إحدى القدرتين مع وجود الأخرى.
قلنا: إن ثبت التلازم بين القيام والقعود فى المقدورية؛ فما المانع من التلازم فى القدرة؟
وعند ذلك: ففرض عدم أحد المتلازمين مع فرض وجود الآخر يكون ممتنعا.
________________
(1) فى ب (فمسلم).
(2) من أول (لمقارنته القدرة ... ) ساقط من أ.
(3) فى ب (و إقامة الدليل عليه).
(4) ساقط من ب.
(2/314)
________________________________________
وأما الشبهة الخامسة: فمبنية على فرض خلق القدرة قبل وجود المقدور؛ وهو محل النزاع؛ فلا يصح.
وأما الشبهة السادسة: فجوابها من وجهين: الأول: أن من أصحابنا من قال: إنه لا نعمة لله- تعالى- على الكفار، وإطلاق اسم النعم «1» عليهم؛ فلا يمتنع أن يكون تجوزا، إما «2» باعتبار اعتقاد الكفار لذلك، أو باعتبار مشابهة مسمى النعم فى حقهم، للنعم الحقيقية.
الثانى: وإن سلمنا وجود النعم من الله- تعالى- على الكفار؛ فلا يتقيد ذلك بالإقدار على الإيمان تعين القدرة على الكفر؛ بل جاز أن يقول: ما أوجده لهم من اللّذات وأنواع الكمالات؛ فهى نعم فى حقهم؛ إذ هى غير ناشئة من الكفر، ولا العذاب بسببها، ولا هى شرط فى العذاب كما قيل.
وعلى هذا: فلا يبعد/ القول بأن الملذات الحاصلة من الفواحش، واللذة الحاصلة من أكل الطعام المسموم، نعمة من الله- تعالى-؛ إذ الفاحشة والأكل غير مولد لها.
وإن قارنها نقمة غير أنه لما كان الاضطرار الملازم لهذه النعمة أعظم منها، وكانت النعمة المقارنة له مستحقرة بالنسبة إلى الاضطرار الملازم لها؛ فربما جرى العرف بإطلاق النقمة، والاضراب عن «3» مسمى النعمة، ولا اعتبار بالإطلاق بعد فهم المعنى.
قولهم: السهو ليس ضدا للعلم؛ بل هو عدم العلم فيما من شأنه أن يكون عالما، عنه جوابان:
الأول: أنه يلزم من ذلك أن يكون الشاك ساهيا؛ لعدم علمه فيه مع كونه بحال يقوم به العلم.
الثانى: هو أن العلم باق على أصول «4» المعتزلة- وابن عياش؛ وإن خالف فى ذلك؛ فمحجوج بما يجده كل عاقل من نفسه من دوام علمه ببعض الأشياء، والباقى
________________
(1) فى ب (النعمة).
(2) فى ب (لها).
(3) فى ب (على).
(4) فى ب (أصل).
(2/315)
________________________________________
على أصولهم قاطبة لا ينافيه غير المعانى المضادة. فلو كان السهو عدما؛ لما كان على أصولهم منافيا للعلم الباقى مع كونه منافيا له.
قولهم: السهو: وإن كان معنى: إلا أنه ليس ضدا للعلم؛ بل لشرطه.
قلنا: لو أمكن ادعاء شرط للعلم ينافيه السهو من غير بيان له؛ لأمكن ادعاء ذلك فى كل ما يدعى بكونه ضدا.
ولا يخفى ما يلزمه من الجهالات المقطوع بها؛ فلا بد من بيان شرط للعلم؛ ليكون السهو منافيا له؛ فإنا لا نعقل للعلم شرطا ينافيه السهو.
قولهم: لا نسلم أن السهو ليس بمقدور.
قلنا: هذا خلاف ما يجده كل عاقل من نفسه من أن سهوه ليس بمقدور، كما يجد من نفسه عدم القدرة على الألوان، والطعوم، وغيرها.
قولهم: بأن القدرة متعلقة ببعض الأضداد دون البعض؛ فهو تحكم بالفرق من غير معنى «1» فارق، ولو طولبوا بالفرق؛ لما وجدوا إليه سبيلا.
قولهم: ما المانع من تعلق القدرة الحادثة بالشيء وضده على طريق البدل؟.
قلنا: قد بينا أنه لا تحقق لتعلق القدرة بالمقدور إلا باقترانها به. فما اقترن بها:؛ فهو المقدور، وما «2» لم يقترن وجوده بها؛ فليس بمقدور.
وعلى هذا: فلا يخفى أن دعوة القدرة علي القيام- حالة القيام- قدرة على القعود؛ دعوى محل النزاع، وكذلك بالعكس.
فلئن قالوا: المعنى بكون أحد الضدين مقدورا بالقدرة الواحدة على طريق البدل، فإنه أى الضدين وجد مقارنا للقدرة، بدل/ الآخر؛ كان مقدورا بها.
فنقول: أما من زعم أن تعلق القدرة بالمقدور تعلق تأثير: كالمعتزلة؛ فيلزمه من دعوى تعلق القدرة بالضدين على طريق البدل بهذا التفسير أمر ممتنع؛ فيمتنع.
________________
(1) فى ب (دليل).
(2) فى ب (و إن).
(2/316)
________________________________________
وبيانه: أنه إذا كان المؤثر فى الضدين بتقدير وقوع كل واحد منهما؛ إنما هو قدرة واحدة. فعند فرض وجود القدرة المؤثرة إذا فرض انتفاء جميع الموانع المانعة للضدين؛ ففرض وقوع أحد الضدين عينا مع استوائهما فى وجود المؤثر فيهما، وانتفاء الموانع؛ يكون ممتنعا. وهذا المحال: إنما يلزم من فرض تعلق القدرة بالضدين بالتفسير المذكور؛ فكان ممتنعا.
فلئن قالوا: تخصيص ما تخصص منهما مع الفرض المذكور مستند إلى الإرادة؛ إذ الإرادة هى التى من شأنها أن تخصص أحد الجائزين دون الآخر، فيلزمهم صور تحقق فيها أحد المقدورين دون الآخر من غير إرادة. وذلك كما فى صورة النائم؛ فإنه وإن صدر عنه بعض المقدورات بالقدرة؛ فمن «1» غير إرادة.
وأما من زعم أن تعلق القدرة بالمقدور من غير تأثير: كما هو مذهبنا؛ فدفع هذا السؤال على أصله عسير جدا.
ولو قيل: ما المانع من إيجاد الله- تعالى- لكل واحد من المقدورين على جهة البدل مقترنا بقدرة واحدة؟ لم يجدوا إلى دفعه سبيلا. هذا ما عندى فيه، ولعل غيرى قادر على دفعه.
قولهم: ما المانع من تعلق القدرة الواحدة الحادثة بالمتماثلات «2»؟
قلنا: سنبين أن المتماثلات أضداد: وعند ذلك؛ فالحكم فيها كما سبق فى الأضداد المختلفة.
ثم وإن سلمنا أنها غير متضادة؛ غير أن الإجماع منا ومن المعتزلة، واقع على امتناع وقوع المتماثلات معا، فى شيء واحد، بقدرة واحدة.
وإذا كان الجمع بينهما متعذرا؛ فيمتنع تعلق القدرة الواحدة الحادثة بهما معا؛ بل ما اقترن بها؛ فهو المقدور. وما لم يقترن بها؛ فليس بمقدور.
قولهم: ما المانع من تعلق القدرة الواحدة بالمختلفات: التى لا تضاد فيها؟
________________
(1) فى ب (من).
(2) فى ب (بالمتماثلين).
(2/317)
________________________________________
قلنا: أما على أصلكم، وأصل كل من يرى التعلق بجهة التأثير: فلما ذكرناه فى تعلق القدرة بالضدين على طريق التعاقب.
وأما على أصلنا: فلعل عند غيرى حله.
*********
(2/318)
________________________________________
«الفصل الخامس» فى أن القدرة الحادثة غير موجبة لمقدورها
هذا هو مذهب الشيخ أبى الحسن «1» الأشعرى/ رضى الله عنه.
وقد نقل عن بعض الأصحاب: القول بكون القدرة الحادثة موجبة للمقدور.
والحق ما ذكره الشيخ، وذلك لأن الموجب: قد يطلق فى اللسان بمعنى الموجد.
وقد يطلق بمعنى المحتم الفارض.
وقد يطلق بمعنى علة الحكم: كالعلم والقدرة، بالنسبة إلى العالم والقادر، وقد يطلق بمعنى المثبت، وبمعنى المسقط.
لا جائز أن يقال بكون القدرة الحادثة موجبة بالاعتبار الأول؛ إذ القدرة غير موجدة، ولا مؤثرة فى الحدوث على ما سيأتى تحقيقه.
ولا بالاعتبار الثانى: إذ التحتم، والفرض إنما هو بالحكم. والقول بوجود ذلك؛ غير متصور فى القدرة الحادثة.
ولا بالاعتبار الثالث: فإن ذلك فرع تحقق العلة والحكم؛ وسيأتى إبطاله.
وإن سلم كون القدرة علة، فليست علة لكون المقدور مقدورا؛ إذ العلة على ما يأتى تحقيقه: لا بد وأن تكون قائمة بمحل حكمها، والقدرة الحادثة عرض، والمقدور بها هو الفعل الحادث؛ وهو عرض؛ وقيام العرض بالعرض محال «2».
ولا بالاعتبار الرابع؛ إذ القدرة الحادثة ليست مثبتة للمقدور؛ على ما يأتى تحقيقه، ولا مسقطة له؛ فلا تكون موجبة بالنسبة إليه بأحد هذين الاعتبارين.
وأن أريد غير هذه الاعتبارات المشهورة فى اللسان؛ فلا بد من تصويره. وبتقدير تصويره؛ فلا يقدح فيما ذكرناه من نفى الإيجاب بالاعتبارات المذكورة؛ وهو المطلوب، ولا منازعة إذ ذاك فى غير التسمية.
________________
(1) انظر اللمع ص 69 وما بعدها.
(2) انظر الجزء الثانى ل 42/ ب الفرع الثالث: فى استحالة قيام العرض بالعرض.
(2/319)
________________________________________
وإن أطلق مطلق لفظ الموجب على القدرة الحادثة لمقدورها بسبب وجوب اقترانها بالمقدور من أصحابنا، فليس ذلك أولى من إطلاق لفظ الموجب على المقدور، نظرا إلى وجوب اقترانه بالقدرة أيضا؛ فإن وجوب المقارنة مشترك بينهما، كيف وأن حاصل النزاع معه ليس فى غير التسمية.
******
(2/320)
________________________________________
«الفصل السادس» فى تماثل القدر الحادثة، واختلافها، وتضادها، وأنها هل تفتقر فى تعلقها بالمقدور إلى آلة، وبنية مخصوصة أو لا؟
مذهب أهل الحق من أصحابنا: أن كل قدرتين تعلقتا بمقدورين؛ فهما مختلفان، وكل قدرتين تعلقتا بمقدور واحد، وسواء اتحد محل القدرتين، أو اختلف؛ فهما متماثلان كما سبق فى العلم «1». غير أن تعلق العلمين بالمعلوم الواحد جاز أن يكونا فى وقت واحد، وفى وقتين «2» بخلاف القدرتين؛/ فإنهما لا يتعلقان بمقدور واحد فى وقت واحد، وسواء اتحد محلهما، أو اختلف كما يأتى «3».
وإنما يتصور ذلك بأن تتعلق إحدى القدرتين به فى حالة النشأة، والأخرى فى حالة الإعادة.
وأجمعت المعتزلة: على امتناع القول بتماثل القدر «4» الحادثة اعتمادا منهم على أن ذلك يوجب تعلق المثلين بمقدور واحد؛ وهو محال.
وإنما كان كذلك؛ لأن تعلقهما به: إما فى وقت واحد، أو فى وقتين.
الأول: محال؛ لما يأتى، والثانى: يلزم منه أن يكون المقدور الواحد موجودا حالة فرض تعلق إحدى القدرتين به، لوجود مقتضيه، وأن لا يكون موجودا؛ لعدم تعلق القدرة الأخرى به فى ذلك الوقت؛ وهو محال. وهذا غير سديد؛ فإنه وإن امتنع تعلق القدرتين به فى وقت واحد؛ فما المانع من تعلقهما به فى وقتين؟
قولهم: لأنه يلزم من ذلك أن يكون المقدور الواحد فى وقت واحد؛ موجودا معدوما معا «5».
________________
(1) انظر ل 10/ ب وما بعدها.
(2) فى ب (مختلفين). ويبدو أنها (وقتين مختلفين).
(3) انظر ل 243/ ب وما بعدها.
(4) فى ب (القدرة)
(5) زائد فى ب (قلنا: وإن سلم أنه يلزم من تعلق إحدى القدرتين به فى وقتين قولهم: لأنه يلزم من ذلك أن يكون المقدور الواحد فى وقت واحد موجودا معدوما معا).
(2/321)
________________________________________
قلنا: وإن سلم أنه يلزم من تعلق إحدى القدرتين به وجوده؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من عدم تعلق «1» الأخرى به عدمه؛ فإنه لا يلزم من انتفاء سبب معين؛ انتفاء المسبب مع تحقق سبب آخر.
وإنما يلزم انتفاؤه: أن لو انتفت جميع الأسباب؛ وهو غير مسلم.
كيف: وأن ما ذكروه منتقض على أصلهم حيث قالوا: بأن مقدور العبد حالة كونه مقدورا له؛ لا يكون مقدورا للرب- تعالى- ويكون مقدورا للرب- تعالى- بأن لا يخلق للعبد القدرة عليه. ومع ذلك ما لزم من جواز تعلق القدرة الحادثة والقديمة بالمقدور الواحد فى وقتين؛ وجود المقدور، وعدمه معا؛ لتعلق إحدى القدرتين به، وعدم تعلق الأخرى به.
وأما تضاد القدر: فقد اختلف أصحابنا فيه.
فمنهم: من جوزه اعتمادا منه على أن القدرتين على الضدين لا يجتمعان؛ فهما ضدان.
ومنهم: من لم يطلق اسم التضاد فى ذلك، مع اعترافه باستحالة الجمع نظرا إلى اختلاف متعلقهما، وأن كل واحدة غير متعلقة بما تعلقت به الأخرى.
وحاصل هذا الاختلاف: يرجع إلى المنازعة فى الإطلاق اللفظى مع الموافقة على المعنى، ولا حاصل له.
وأما أن القدرة هل تتوقف فى تعلقها بالمقدور على آلات وبنية مخصوصة؟ فقد اشترطه «2» المعتزلة؛ لما رأوه من جرى العادة أن الطائر لا يطير إلا بجناحين، والماشى لا يمشى إلا برجلين، إلى غير ذلك، وخالفهم أصحابنا فيه. والكشف عن تحقيق الحق، وإبطال الباطل؛ فعلى ما سبق فى الإدراكات «3».
********
________________
(1) فى ب (القدرة الأخرى).
(2) فى ب (اشترط).
(3) انظر ل 99/ أ وما بعدها.
(2/322)
________________________________________
«الفصل السابع» فى أن فعل النائم، هل هو مقدور له؟ وأن النوم يضاد القدرة، أم لا؟
وقد اتفقت المعتزلة، وكثير من أصحابنا: على امتناع وجود الأفعال الكثيرة المحكمة من النائم، وعلى جواز [صدور «1»] الأفعال القليلة منه.
ثم اختلف القائلون بجواز صدور الأفعال القليلة منه: فى كونها مقدورة له.
فذهبت المعتزلة، وبعض أصحابنا: إلى كونها مقدورة له، وأن النوم لا يضاد القدرة، وإن [تضاد «2» العلم، وغيره من الإدراكات «2»] باتفاق العقلاء.
وذهب الأستاذ أبو إسحاق: إلى أن النوم يضاد القدرة كمضادته للعلم، وباقى الإدراكات.
وذهب القاضى أبو بكر، من أصحابنا: إلى أن الفعل القليل الصادر من النائم غير مقطوع بكونه مكتسبا، ولا بكونه ضروريا مع إمكان كل واحد من الأمرين.
وقد احتج من قال بكونها مقدورة له بحجج.
الأولى: أن النائم كان قادرا فى يقظته، والقدرة باقية، والنوم لا ينافى القدرة؛ فوجب استصحاب الحال فيها.
الثانية: هو أن النائم إذا انتبه، فهو على ما كان عليه فى نومه، ولم يتجدد أمر وراء زوال النوم، وهو قادر بعد «3» الانتباه، وزوال النوم غير موجب للاقتدار، ولا وجوده ناف للقدرة؛ فوجب الاستواء فيما قبل النوم، وبعد زواله فى الاقتدار.
الثالثة: هو أنه قد يوجد من النائم ما لو وجد منه فى حالة اليقظة؛ لكان واقعا منه على حسب القصد، والاختيار، والداعية، والنوم، وإن نافى القصد والداعية؛ فغير مناف للقدرة.
________________
(1) فى أ (ضد).
(2) فى أ (و أن صادر العلم).
(3) فى ب (على).
(2/323)
________________________________________
وهذه الحجج واهية:
أما الأولى: فمن وجهين:
الأول: منع كون القدرة باقية فى حالة اليقظة على ما سبق.
الثانى: وإن كانت باقية: فلم قلتم بوجودها «1» فى حالة النوم. والقول بأن النوم غير مناف للقدرة: عين محل النزاع.
وأما الثانية: فمن وجهين أيضا:
الأول: لا نسلم أن النائم إذا انتبه؛ فهو قادر قطعا؛ بل لعله انتبه (نائما) «2».
الثانى: وإن سلم أنه إذا انتبه؛ فهو قادر؛ ولكن ما المانع أن يكون الانتباه شرطا، أو أن النوم مانع؟
وقولهم: إن النوم غير مضاد للقدرة: عين محل النزاع أيضا.
وأما الثالثة: فحاصلها يرجع إلى دعوى محل النزاع فى قولهم: إن النوم غير مناف للقدرة.
وبالجملة: فمن رام الدلالة على كون أفعال النائم مقدورة له، أو غير مقدورة على وجه القطع؛ فقد كلف نفسه شططا.
/ وأقرب ما فى ذلك: إنما هو دعوى الضرورة بالعلم بكونها مقدورة له من حيث أنا نفرق بين ارتعاد يده فى نومه، وبين تقلبه، وقبض يده وبسطها، حسب ما تفرق بينهما فى حق المستيقظ من غير فرق.
ومن رام التسوية: بين رعدة يده حالة نومه، وبين تقلبه فى كونها ضرورية؛ لم يبعد تطرق التشكيك عنده فى التسوية بينهما فى حق المستيقظ؛ وهو بعيد عن المعقول؛ لكن هذا وإن كان فى غاية الوضوح؛ فى النفس من مذهب القاضى أبى بكر حزازة؛ من حيث أنه لا يبعد أن يكون ذلك الفعل ضروريا غير مكتسب له، وحيث فرقنا بالضرورة فى
________________
(1) فى ب (بوجوبها).
(2) فى أ (ناوما).
(2/324)
________________________________________
حق المستيقظ بين رعدة يده، وقيامه وقعوده، حتى «1» قطعنا بكون الرعدة ضرورة «1»، والقيام، والقعود مقدورا مكتسبا، كان مع الاستيقاظ، ولعله شرط فيه، أو أن النوم مانع منه؛ فلا يكون الجمع مقطوعا به.
فإن قيل: إذا «2» قد قلتم «2» بأن النوم مضاد للعلم، وسائر الإدراكات، فما وجه الجمع بينه وبين ما يراه النائم فى منامه، ويدركه بالسمع، والبصر، وغيره من أنواع الإدراك.
قلنا: أما المعتزلة: فقد أجمعوا على أن ذلك ليس من الإدراكات فى شيء؛ بل خيالات، وظنون بناء على أصولهم من اشتراط انبثاث الأشعة من العين، وتوسط الهواء المشف، والبنية المخصوصة، وانتفاء الحجب، والقرب المفرط، والبعد المفرط، إلى غير ذلك من شروط الإدراكات المستقصاة فى الإدراكات، وعدم تحققها فى حق النائم.
ووافقهم على ذلك جماعة من أصحابنا: وإن كانوا مجوزين للإدراكات من غير شرط وبنية، على ما سبق، لكن اما بناء على أن النوم ضد لها، أو لأنها على خلاف العادة.
وذهب الأستاذ أبو إسحاق: إلى أنها إدراكات حقيقية. فإن الإنسان يجد من نفسه إبصار المبصرات [و سماع «3» المسموعات «3»] فى حالة نومه حسب ما يراه فى حالة يقظته، ولو ساغ التشكك فى ذلك حالة النوم، لساغ التشكك فيه حالة اليقظة؛ لكنه لم يخالف فى كون النوم ضدا للإدراك، غير أنه زعم أن الإدراك لا بد وأن يقوم بجزء غير ما قام به النوم؛ وكل واحد من المذهبين محتمل غير يقينى.
*******
________________
(1) فى ب (حتى يكون قطعنا بكون الرعدة ضرورية).
(2) فى ب (إذا قلتم).
(3) فى أ (و السماع بالمسموعات).
(2/325)
________________________________________
«الفصل الثامن» فى وجود مقدور بين قادرين، وأن الله- تعالى- قادر على مثل فعل العبد، أم لا؟
مذهب أصحابنا: جواز وجود/ مقدور بين قادرين: خالق، ومكتسب. وامتناع ذلك بين قادرين خالقين، أو مكتسبين.
وأجمعت المعتزلة: على اجتماع ذلك مطلقا غير أبى الحسين البصرى.
أما حجة أصحابنا: على امتناع مقدور بين قادرين خالقين؛ فما تقدم «1».
وأما بين مكتسبين «2»: فلأن المقدور المكتسب لا يخرج عن محل القدرة عندهم، والمقدور الواحد لا يقوم بمحلين مختلفين.
وأما حجتهم على جواز مقدور بين قادرين: خالق، ومكتسب، فحجج «3».
الأولى «4»: أنه إن جاز «4» وجود معلوم بين عالمين، ومدرك بين مدركين؛ لم يبعد وجود مقدور بين قادرين.
(الثانية «5»): أنه إذا جاز وجود محمول من «6» حاملين، جاز وجود مقدور من قادرين.
الثالثة: أنه إذا جاز وجود مملوك بين مالكين؛ فكذلك مقدور بين قادرين.
الرابعة: أن المقدور إذا كان متوقفا على القدرة، والبنية المخصوصة والآلة؛ فلا يبعد توقفه على قدرتين.
الخامسة: أنه لو لم يكن الرب- تعالى- قادرا على مقدور العبد؛ لما كان قادرا على جنس مقدور العبد، وهو قادر على جنس مقدور العبد.
________________
(1) انظر ل 217/ ب.
(2) فى ب (المكتسبين).
(3) فى ب (فثمان).
(4) فى ب (الحجة الأولى أنه إذا جاز).
(5) ساقط من أ.
(6) فى ب (بين).
(2/326)
________________________________________
السادسة: أنه إذا لم يبعد عند الخصم تعلق قدرة «1» بمقدورات، لم يبعد تعلق قدر «2» بمقدور واحد.
السابعة: أنه إذا كانت قدرة العبد على الفعل: إنما هى بأقدار الله- تعالى- له عليه، وتمكينه له منه. فلأن يكون الرب- تعالى- قادرا على مقدور العبد أولى؛ لأن الإقدار تمكين من الشيء، والتمكين من الشيء فوق التمكن منه.
ولهذا: فإنه لو أعلم الله العبد بشيء، لزم أن يكون الرب عالما به. وإذا جعل العبد مدركا لشيء؛ كان مدركا له.
الثامنة: أنا لو فرضنا جسما جمادا؛ فلا يخلو:
إما أن يقال: بأن الله قادر على ما يمكن أن يوجد فيه من الحركات، والسكنات مطلقا من غير استثناء بتقدير خلق الحياة فى ذلك الجسم، وإقداره على حركاته، وسكناته، أو أنه غير قادر على ذلك مطلقا؛ بل على ما لا يكون مقدورا للعبد بتقدير خلق الحياة فيه، وإقداره عليه.
فإن كان الأول: فعند خلق الحياة فى ذلك الجسم، وإقداره على الحركة والسكون:
إما أن يقال باستمرار تعلق قدرة الله- تعالى- بتلك الحركة، وذلك السكون، أو لا يقال باستمراره.
لا جائز أن يقال بالثانى: فإنه ليس امتناع استمرار تعلق القدرة القديمة بما نجد من تعلق القدرة الحادثة أولى من العكس.
وإن كان الأول: فهو المطلوب.
وإن قيل: إنه غير قادر على ذلك مطلقا؛ بل على ما لا يكون مقدورا للجسم بتقدير إقداره عليه.
/ فنقول: لو كان كون البارى- تعالى- قادرا مختصا ببعض الحركات، والسكنات؛ لما اختلف حكم الاختصاص بذلك فى أن يقدر إقدار الجسم، أو لا يقدر؛ ويلزم من
________________
(1) فى ب (القدرة).
(2) فى ب (قدرتين).
(2/327)
________________________________________
ذلك أن لا يكون الرب- تعالى- قادرا على كل ما يفرض من الحركات والسكنات، فى «1» الجسم الجمادى الّذي علم الله أنه لا يقدره، وهو محال.
وهذه الحجة «2»: هى أشبه الحجج المذكورة؛ والكل ضعيف.
أما الحجج الست الأول: فحاصلها يرجع إلى دعوى مجردة، وتمثيل من غير جامع؛ فلا يصح.
ثم لو لزم طرد «3» ما ذكروه، من جواز معلوم بين عالمين، ومحمول بين حاملين، ومملوك بين مالكين، فى مقدورين قادرين؛ لزم طرده في مخلوق بين خالقين؛ وهو محال كما تقدم «4».
وأما الحجة السابعة: فدعوى مجردة أيضا؛ فإنه لا معنى لإقدار الرب تعالى للعبد على الفعل، غير خلق قدرة العبد على الفعل. ولا يلزم من كونه قادرا على خلق القدرة على الفعل، أن يكون قادرا على نفس الفعل.
ولا يخفى؛ أن القول بذلك تمثيل من غير دليل جامع؛ وهو باطل على «5» ما تقدم ذكره «5». وبمثله يبطل التمثيل أيضا بما ذكر من الأمثلة، وإن اكتفى فى ذلك بمجرد دعوى اطراد حكم الإعلام فى الإقدار؛ فيلزم منه اطراد ذلك فى الشهوة حتى يقال: إنه إذا خلق للعبد الشهوة أن يكون مشتهيا، وكذلك فى الجهل والنسيان، والألم، وغير ذلك؛ وهو محال.
وأما الحجة الثامنة: فلأنه لو قيل: ما المانع من أن يكون قادرا على حركات الجسم، وسكناته مطلقا بتقدير عدم إقداره للجسم، والقول بقطع الاستمرار وبتقدير إقدار الجسم، وجعل تعلق قدرة الجسم به مانعا منه.
قولكم: ليس هو أولى من العكس.
________________
(1) فى ب (من).
(2) فى ب (الحجج).
(3) فى ب (من طرد).
(4) انظر ل 217/ ب.
(5) فى ب (بما سبق) انظر ل 39/ أ.
(2/328)
________________________________________
لا نسلم عدم الأولوية: وغايته أنكم لم تطلعوا على ما به الأولوية بعد البحث التمام، والسير الكامل؛ وهو غير مفيد لليقين على ما تقدم «1».
وإن سلمنا أنه لا أولوية: فما المانع من القسم الثانى: وهو أن لا يكون قادرا على ما يكون مقدورا للعبد بتقدير إقداره.
قولكم: لو كان «2» البارى- تعالى- قادرا مختصا ببعض الحركات والسكنات؛ لما اختلف حكم الاختصاص بأن يقدر إقدار العبد أو لا ليس كذلك؛ فإنه إذا كان كونه قادرا مختصا بما لا يقدر العبد عليه بتقدير إقداره. فلو قطعنا النظر عنه؛ لكان قادرا مطلقا؛ وهو خلاف الفرض.
وعلى هذا فللقائل أن يقول:
إذا علم الله- تعالى-/ من جسم من الأجسام أنه لا يقدره على الحركة والسكون؛ فالحركة والسكون اللذان لو أقدر الله العبد عليهما، بتقدير أن لا يعلم عدم إقداره عليهما؛ لا يكونان مقدورين للرب- تعالى- بتقدير علمه أنه لا يقدر العبد عليهما- ولا محالة أن موقع المنع صعب جدا.
والأقرب فى ذلك أن يقال:
قد ثبت بما قدمناه فى امتناع خالق غير الله- تعالى- وجوب تعلق قدرة الرب- تعالى- بكل ممكن.
وثبت بما قدمناه فى إثبات القدرة الحادثة، وجوب تعلقها بمقدورها؛ ويلزم من الأمرين أن يكون مقدور العبد اكتسابا؛ مقدورا للرب خلقا.
فإن قيل: ما ذكرتموه، وإن دل على جواز وجود مقدور واحد بين قادرين؛ فهو معارض بما يدل على امتناعه.
وبيانه من أربعة أوجه:
الأول: أنه لو قدر مقدور بين قادرين: فإما أن يكونا قديمين، أو محدثين، أو أحدهما قديما، والآخر محدثا.
________________
(1) انظر ل 39/ ب.
(2) فى ب (كان كون).
(2/329)
________________________________________
لا جائز أن يقال بالأول: لاستحالة وجود قادرين قديمين، كما سبق تحقيقه.
وإن كانا محدثين: فإما أن يكون المقدور قائما بمحل قدرتيهما، أو خارجا عنهما، أو هو قائم بمحل قدرة أحدهما دون الآخر.
فإن كان الأول: فهو محال؛ لاستحالة قيام المتحد بالمحال المتعدد.
وإن كان الثانى: فهو محال لوجهين:
الأول: لأنه إذا أراده أحدهما، وكرهه الآخر: فإما أن يوجد أو لا يوجد.
فإن وجد مع كون القادر عليه كان كارها له؛ فهو محال.
وإن لم يوجد مع كون القادر عليه مريدا له؛ فهو محال.
الثانى: أنهما لو أرادا إيجاده: فإما أن يوجد بإيجادهما «1»، أو لا يوجد، ولا بإيجاد واحد منهما، أو يوجد بإيجاد أحدهما دون الآخر.
لا جائز أن يوجد بإيجادهما؛ لما سبق فى امتناع مخلوق بين خالقين. وإن لم يوجد أصلا؛ فيلزم منه عدم المقدور مع وجود القادر عليه، وإرادته له من غير مانع؛ وهو محال.
وإن «2» وجد بإيجاد أحدهما دون الآخر؛ فلا أولوية.
وإن كان الثالث: فهو أيضا محال؛ لهذين الوجهين، ويخصه وجه ثالث؛ وهو أن أحدهما موجد له بجهة التولد والسبب، وهو الّذي لم يقم المقدور بمحل قدرته، والثانى قد لا يكون موجدا له بجهة التولد والسبب.
وعند ذلك: فإما أن يصح وجوده من غير سبب، أو لا يصح وجوده إلا بالسبب.
فإن كان الأول: فقد استغنى المقدور فى وجوده عن الإيجاد بالتولد والسبب.
وإن كان الثانى: فقد بطل القول/ بأن أحدهما يكون موجدا له من غير سبب، وكل ذلك محال.
________________
(1) فى ب (بإيجاد أحدهما).
(2) فى ب (فان).
(2/330)
________________________________________
وإن كان أحد القادرين قديما، والآخر حادثا؛ فالكلام فيه كما لو كانا حادثين، وسواء كان المقدور قائما بمحل قدرة الحادث، أو خارجا عنه.
ويزيد هاهنا وجهان:
الأول: هو أن الفعل إذا وقع مخترعا بإيجاد القديم له؛ فالقادر الحادث يصير مضطرا غير مختار [«1» حيث وقع مقدوره «1»] مخترعا للرب- تعالى- ومقتضى كونه قادرا، أن يكون مختارا؛ والجمع بين الاضطرار، والاختيار، محال.
الثانى: أن فعل العبد، ومقدوره لا يخرج عن كونه طاعة، أو معصية بخلاف فعل القديم، فلا إيجاد.
الوجه الثانى: فى الدلالة على امتناع وجود مقدوريين قادرين: أن تعلق المقدور بالقادر: كتعلق المعلول بالعلة. وكما استحال تعليل المعلول بعلتين؛ فيستحيل كون الشيء الواحد مقدورا بقدرتين.
الوجه الثالث: هو أن الفعل- فعل لفاعله لنفسه، لا لغيره، فلو جاز أن يكون فعله لغيره؛ لجاز أن يكون كونه؛ كونا لغيره، وعبده، عبدا لغيره.
الرابع: أنه لو لو جاز أن يكون فعلا «2» لفاعلين «2»، لجاز أن يكون لونا واحدا لمتلونين، وحركة لمتحركين؛ وهو محال.
والجواب:
أما الشبهة الأولى: فالمختار منها: إنما هو القسم الثالث: وهو أن يكون أحد القادرين، قديما مخترعا، والآخر حادثا، مكتسبا.
قولهم: إنه إذا أراده أحدهما، وكرهه الآخر؛ وجب أن لا يوجد لكراهة الآخر له.
قلنا: لا يخلو: إما أن يكون الكاره هو المخترع، أو المكتسب.
فإن كان هو المخترع: فلا يتصور المقدور؛ لأن قدرة المكتسب عندنا غير مؤثرة فى الإيجاد على ما سيأتى.
________________
(1) فى أ (مقدور).
(2) فى ب (فعل الفاعلين).
(2/331)
________________________________________
وإن كان الكاره هو المكتسب: فلا يمتنع معه الإيجاد، ضرورة وجود القادر المؤثر، وعدم تأثير قدرة المكتسب، وكراهيته فى المقدور.
وقولهم: لو أراد إيجاده: فإما أن يوجد بإيجادهما، أو لا يوجد، أو يوجد بإيجاد أحدهما دون الآخر؛ فالمختار أنه موجود بإيجاد المخترع دون المكتسب.
قولهم: لا أولوية: إنما يستقيم، أن لو استويا فى التأثير، بأن كان كل واحد (منهما «1») مؤثرا بقدرته، وأما إذا كان القديم هو المؤثر دون الحادث، فلا.
قولهم: إذا وقع الفعل مخترعا بإيجاد القديم له؛ فقد صار المكتسب مضطرا غير مختار.
قلنا: إن قلتم إنه غير مختار («2» بمعنى أنه ما وقع الفعل مقارنا لقدرته؛ فممتنع.
وإن قلتم إنه غير مختار «2») بمعنى أن الفعل ما وقع بقدرته، وأنه لا تأثير لقدرته فى المقدور نفيا وإثباتا؛ فمسلم.
وهذا هو نص/ مذهبنا. ولا بعد فى قولنا: إن القدرة متعلقة بالمقدور من غير تأثير، وإن المقدور واقع بغيرها: كما فى تعلق العلم بالمعلوم؛ فإنه لما كان علمنا متعلقا بالمعلوم من غير تأثير فيه؛ لم يبعد معه كون المعلوم حاصلا بغيره.
قولهم: إن فعل العبد لا يخرج عن كونه طاعة، أو معصية، بخلاف فعل الله- تعالى.
قلنا: الطاعة، والمعصية من الصفات العارضة للفعل المقدور بسبب قصد القادر، وداعيته. والاختلاف فى العوارض؛ لا يوجب التفاوت فى ماهية الفعل المقدور.
قولهم: كما استحال تعليل معلول واحد بعلتين؛ استحال كون الشيء الواحد مقدورا بقدرتين.
قلنا: هذا تمثيل من غير جامع؛ فلا يصح. كيف وأن الفرق حاصل:
________________
(1) ساقط من أ.
(2) من أول (بمعنى أنه ... ) ساقط من أ.
(2/332)
________________________________________
وهو أن امتناع تعليل معلول بعلتين: إنما كان لكون العلة موجبة للمعلول، واجتماع موجبين محال؛ كما تقدم. بخلاف «1» المقدور بين القادرين: المخترع، والمكتسب «1»:
فإنهما غير موجبين؛ بل الموجب المخترع دون المكتسب.
قولهم: فعل «2» القادر «2» فعله لنفسه. فلو كان فعله لغيره؛ لكان كونه لغيره.
قلنا: كون المقدور فعلا للمكتسب: أنه مقارن لقدرته فى محل قدرته، ومعنى كونه لغيره: أنه مؤثر فيه. ومع اختلاف هذين الاعتبارين؛ فلا منافاة. ودعوى امتناع ذلك؛ عين محل النزاع.
وما ذكروه أخيرا؛ فحاصله يرجع إلى التمثيل من غير دليل.
كيف: وأنه وإن تعذر لون واحد لمتلونين، وحركة المتحركين؛ فلا يمتنع معلوم واحد بعلمين، ومدرك واحد بإدراكين؛ وليس إلحاق المقدور بأحد القسمين، أولى من إلحاقه بالآخر.
وأما أن الله- تعالى- قادر على مثل فعل العبد؛ فهذا مما اتفق عليه أصحابنا، والمعتزلة: ودليله ما حققناه من وجوب تعلق قدرة الرب- تعالى- بكل ممكن؛ ولم يخالف فى ذلك غير البلخى من المعتزلة؛ فإنه قال: الرب- تعالى- لا يقدر على مثل فعل العبد، اعتمادا منه على أن فعل العبد لا يخرج عن كونه طاعة، أو معصية، ومقدور الرب- تعالى- وفعله ليس كذلك؛ فلا يكون فعل الرب- تعالى- مماثلا لفعل العبد؛ وجوابه ما سبق.
******
________________
(1) فى ب (قادرين مخترع ومكتسب).
(2) فى ب (الفاعل).
(2/333)
________________________________________
«الفصل التاسع» فى امتناع مقدور واحد بقدرتين لقادر واحد من جهة واحدة
وهذا مما اتفق علي امتناعه أرباب المذاهب.
أما بالنسبة إلى البارى/ تعالى-؛ فلاستحالة التعدد فى قدرته.
وأما القادر المحدث: فمن زعم أن «1» قدرة الحادث «1» مخترعة: كالمعتزلة فقد منعوا من وجود مخترع بقدرتين، كما منعوا من صدور واحد بقادرين؛ وهو ظاهر.
وأما من زعم أن قدرة الحادث غير مؤثرة؛ فقد احتج على امتناع ذلك؛ بأنه لو جاز تعلق قدرتين فى محل واحد بمقدور «2» واحد؛ لأمكن «2» فرض وجود كل واحدة من القدرتين فى محل غير محل الأخرى، مع فرض تعلقهما بذلك المقدور؛ وذلك يجر إلى وقوع مقدور بين قادرين؛ وهو ممتنع كما سبق «3».
وهذا الاحتجاج: ضعيف على أصول أصحابنا من حيث أن القدرة المختلفة المحال؛ مختلفة عندهم.
وعند ذلك: فلا يلزم من جواز تعلق القدرتين القائمتين بمحل واحد مع تماثلهما بمقدور واحد، جواز تعلقهما به مع اختلافهما.
وإن سلم التماثل بينهما؛ فالمقدور: إما أن يكون خارجا عن محليهما، أو قائما بمحليهما؛ أو بمحل إحداهما دون الأخرى.
لا جائز أن يقال بالأول: إذ هو خلاف مذهب القائل بالكسب.
ولا جائز أن يقال بالثانى: لاستحالة قيام المقدور المتحد بمحلين مختلفين؛ فلم يبق إلا الثالث.
وعند ذلك: فلا يلزم من جواز تعلق القدرتين فى المحل الواحد بالمقدور القائم به، جواز تعلق القدرة الخارجة عن محل المقدور بالمقدور.
________________
(1) فى ب (أن قدرته).
(2) فى ب (لمقدور واحد لا يمكن).
(3) انظر ل 241/ أ وما بعدها.
(2/334)
________________________________________
والأقرب فى ذلك أن يقال:
لو جاز وجود مقدور واحد بقدرتين لقادر واحد من جهة واحدة؛ لم يخل: إما أن يقال: القدرتان متماثلتان، أو غير متماثلتين.
فإن كان الأول: لزم اجتماع المثلين فى محل واحد؛ وهو محال كما يأتى تحقيقه فى التضاد «1».
وإن لم يكونا متماثلين؛ فهما مختلفان، والاختلاف بينهما، إما مع التضاد أو لا مع التضاد.
فإن كان الأول: لزم اجتماع الضدين؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فهو محال أيضا؛ لأن متعلق القدرتين واحد. وطريق تعلقهما به كتعلق العلمين بمعلوم واحد. فلو جاز الاختلاف بين القدرتين مع اتحاد متعلقهما؛ لأمكن القول باختلاف العلمين مع اتحاد متعلقهما، ضرورة عدم الفرق، ولما وقع الوثوق بتماثل مثلين؛ وهو محال.
وعلى هذا: إن قلنا بجواز إعادة الأعراض، فلا يمتنع تعلق المقدور الواحد بقدرتين لقادر واحد فى وقتين بأن تتعلق إحدى قدرتيه به فى النشأة الأخرى فى حالة الإعادة، إذ لا يلزم منه الاختلاف بين القدرتين مع اتحاد المحل، ولا اجتماع المثلين فى محل واحد.
*******
________________
(1) انظر الجزء الثانى ل 72/ ب وما بعدها.
(2/335)
________________________________________
«الفصل العاشر» فى امتناع تعلق القدرة/ الواحدة بمقدور واحد من وجهين. وأن القادر على الحركة هل يقدر على تحريك جزء فرد من أجزائه دون الباقى، أم لا؟
وقد اتفق أرباب المذاهب: على امتناع تعلق القدرة الواحدة بمقدور واحد من وجهين، وسواء كانت القدرة قديمة، أو حادثة، وسواء كانت القدرة الحادثة مؤثرة، أو غير مؤثرة. على اختلاف المذاهب.
وعند ذلك: فلا بد من التفصيل فنقول:
أما القدرة القديمة المخترعة: فيظهر امتناع تعلقها بمقدورها من وجهين: على رأى من يعتقد أن الوجود هو نفس الذات، لا زائد عليها من جهة أن تأثير القدرة: إنما هو فى الوجود، فإذا كان الوجود هو الذات، والذات واحدة؛ فالوجود واحد لا تعدد فيه، وما لا تعدد فيه؛ فلا يتصور تعلق القدرة به من وجهين.
وأما من يرى أن الوجود زائد على الذات الموجودة: كالمعتزلة فيبعد امتناع ذلك على معتقده؛ لأن الوجود عنده حال زائدة على الذات، ومن معتقده جواز ثبوت حالين متماثلين لذات واحدة؛ حيث قضى بجواز قيام علمين متماثلين بعالم واحد. وقيام العلمين المتماثلين بالواحد؛ يوجب له عالميتين متماثلتين. وعند ذلك: فلو قيل له ما المانع من تعلق القدرة الواحدة بمقدور واحد. بالنظر إلى وجودين متماثلين؟ لم يجد إلى دفعه سبيلا، ومن منع من ثبوت عالميتين متماثلتين لمن قام به علمان متماثلان؛ فقد خرق قواعد المعتزلة، وقال قولة لم يقل بها قائل.
كيف: وأنه لو كانت العالمية الثابتة، لمن قام به العلمان المتماثلان، متحدة غير متعددة: فإما أن تكون ثابتة بالعلمين، أو بأحدهما.
لا سبيل إلى الأول؛ لما فيه من تعليل الحكم الواحد بعلتين؛ وهو محال كما يأتى «1».
________________
(1) انظر الجزء الثانى ل 125/ أ الفصل السابع: فى أن الحكم الواحد لا يثبت بعلتين مختلفتين.
(2/336)
________________________________________
ولا سبيل إلى الثانى: فإنه ليس إضافة الحكم إلى أحدهما أولى من الآخر. ثم يلزم منه أن يكون العلم قائما بشخص لم توجب له العالمية، وفيه إبطال حقائق العلل، والمعلولات.
فإن قيل: لو كان للذات الواحدة وجودان؛ فيلزم من تقدير وقوع أحدهما، وانتفاء الآخر؛ أن تكون الذات الواحدة موجودة، غير موجودة؛ لما ثبت من أحد الوجودين، وانتفاء الآخر؛ وهو محال.
فلقائل أن يقول:
ما المانع من تلازم الوجودين على وجه يتعذر الانفكاك بينهما؟ ولا يبعد «1» ذلك فى الأحوال بالنسبة إلى ذات واحدة كما فى التلازم الواقع بين قبول/ الجوهر للأعراض، وكونه متحيزا.
وإن سلم: جواز تقدير ثبوت أحدهما، ونفى الآخر؛ ولكن لا يلزم منه كون الذات منفية مع تقدير ثبوت أحد الموجودين لها، وإنما يلزم ذلك أن لو قدر انتفاء الوجودين؛ فإنه لا يلزم من انتفاء إحدى العلتين، انتفاء معلولها ما لم يقدر انتفاء جميع العلل.
وأما القدرة الحادثة: فيظهر أيضا امتناع تعلقها بمقدورها من وجهين على رأى من يرى أنها متعلقة بعين مقدور القدرة القديمة، من غير تأثير لها فيه؛ وأن الوجود الّذي هو متعلق القدرة القديمة؛ هو نفس الذات المقدورة على ما تقدم تقريره.
وأما من يرى أنها مؤثرة فى نفس وجود الذات، وأن الوجود زائد على الذات المقدورة: فيبعد امتناع ذلك على رأيه؛ كما حققناه فى القدرة القديمة.
وأما من يرى أنها مؤثرة فى ثبوت حالة زائدة على نفس الذات المقدورة بالقدرة القديمة: كالقاضى أبى بكر؛ فيبعد أيضا امتناع ذلك على معتقده من حيث أنه إذا لم يمتنع أن يكون للذات الواحدة حالة زائدة تكون القدرة مؤثرة فيها، فلا يمتنع أن يكون لها حالتان؛ تكون القدرة الواحدة مؤثرة فيهما.
________________
(1) فى ب (و لا يتعذر).
(2/337)
________________________________________
فإن قيل: قد دل الدليل على أن فعل العبد مخلوق لله- تعالى- على ما «1» سبق؛ وعلى ما يأتى؛ ودلّ الدليل على تعلق قدرة العبد بالفعل، وتعلقها به من غير تأثير فيه؛ لقدم التعلق، ودل الدليل على امتناع مخلوق بين خالقين؛ فيلزم من المجموع دلالة الدليل على تعلق القدرة الحادثة بصفة زائدة، ولم يدل على أكثر من ذلك، وإثبات صفة مجهولة غير معلومة، بلا اضطرار ولا نظر؛ ممتنع.
وأيضا: فإنه لو جاز أن تؤثر القدرة فى إثبات صفتين للمقدور المكتسب؛ لجاز تقدير ثبوت إحدى الصفتين دون الأخرى؛ ويلزم من ذلك أن تكون الذات المكتسبة مقدورة، ضرورة وجود إحدى الصفتين، وغير مقدورة؛ لعدم الصفة الأخرى؛ وهو ممتنع.
وأيضا: فإنه لو جاز تأثير القدرة الحادثة فى ثبوت صفتين؛ لم يمتنع أن تكون القدرة الحادثة مؤثرة فى ثبوت إحدى الصفتين حالة الحدوث، وفى الأخرى حالة بقاء الذات؛ ويلزم من ذلك جواز كون الباقى مقدورا للعبد مع امتناع كونه مقدورا للرب- تعالى-؛ وهو محال.
قلنا: أما ما «2» ذكر من دلالة الدليل على وجود تأثير القدرة/ الحادثة فى صفة زائدة؛ فسيأتى إبطاله فى خلق الأعمال «3».
وإن سلم دلالة الدليل على ذلك؛ فحاصل ما ذكره يرجع إلى انتفاء المدلول؛ لانتفاء الدليل «4»؛ وقد سبق إبطاله «5».
وقوله: بأنه لو جاز ذلك؛ لجاز تقدير ثبوت إحدى الصفتين دون الأخرى؛ فقد سبق إبطاله فى القول بتعدد الوجود.
والقول بأنه لو جاز ذلك لم يمتنع تأثير القدرة الحادثة فى ثبوت إحدى الصفتين حالة الحدوث، وفى الأخرى حالة البقاء إلي آخره. فمبنى على بقاء الأعراض؛ وهو غير مسلم على ما يأتى تحقيقه «6».
________________
(1) فى ب (كما).
(2) فى ب (ما ذكره).
(3) انظر ل 258/ أ وما بعدها.
(4) فى ب (دليله).
(5) انظر ل 38/ ب.
(6) انظر الجزء الثانى ل 44/ ب وما بعدها.
(2/338)
________________________________________
وإن سلمنا البقاء، والاستمرار: ولكن لا نسلم أن ذلك يفضى إلى كون الباقى الّذي ليس مقدورا للرب- تعالى- حالة بقائه مقدورا للعبد؛ فإن مقدور العبد إنما هو الصفة الزائدة على نفس الذات الباقية. لا نفس الذات الباقية.
وإن سلمنا لزوم ما ذكر: لكن ما ذكره «1» فى الصفتين لازم عليه فى الصفة الواحدة؛ وذلك بأن يخلق الله- تعالى- مقدور العبد، ثم يخلق له القدرة حالة بقاء المقدور على تلك الصفة؛ فإنه يلزم أن يكون العبد قادرا حالة البقاء على الباقى مع كونه غير مقدور للرب- تعالى- وما هو الجواب فى الصفة الواحدة؛ هو الجواب فى الصفتين.
وأما أن القادر على الحركة: هل يمكن أن يحرك جزءا من أجزائه الفردة، دون حركة ما هو متصل به من الأجزاء؟ فالذى عليه اتفاق المعتزلة: امتناع ذلك؛ لأنه لا يتصور ذلك إلا بسكون باقى الأجزاء، وانفصال «2» ذلك الجزء عنها؛ ويلزم من ذلك أن لا يكون تحركه بالقدرة؛ لاختلال شرطها: من البنية المخصوصة؛ وهو «3» مبنى على فاسد «4» أصولهم فى اشتراط البنية؛ وهو باطل على ما سبق. وأنه لا مانع من خلق الله- تعالى- القدرة على الحركة فى الجوهر الفرد. ثم لو قيل: لمن جوز منهم وقوع المقدور فى الحالة الثانية من وجود القدرة- وإن كانت القدرة معدومة حالة وجود المقدور- ما المانع أن تكون حركة الجوهر الفرد حالة انفصاله بقدرة موجودة حالة التأليف- وإن كانت معدومة حالة الانفصال؟ لم يجد إلى الانفصال عن هذه المطالبة مخلصا.
********
________________
(1) فى ب (ما ذكروه).
(2) فى ب (او انفصال).
(3) فى ب (أو هو).
(4) فى ب (فساد).
(2/339)
________________________________________
«الفصل الحادى عشر» فى العجز، وتحقيق معناه
اتفقت الأشاعرة، وكل من أثبت الأعراض: على «1» / أن العجز عرض ثابت مضاد للقدرة، خلافا لأبى هاشم فى أحد «2» أقواله: فإنه نفى كون العجز معنى ثابتا، وإن كان معترفا بالأعراض. وللأصم «3»؛ حيث أنه نفى كون العجز عرضا؛ لنفيه سائر الأعراض.
والحق ما ذكره أهل الحق؛ وذلك لأن كل عاقل يجد من نفسه: التفرقة الضرورية بين كونه ممنوعا من القيام: حالة كونه زمنا، وغير ممنوع منه: حالة كونه غير زمن؛ فاختصاصه بالمنع من القيام الممكن له حالة كونه زمنا: إما أن يكون بمخصص، أو لا بمخصص.
لا جائز أن «4» يكون لا بمخصص «4»: وإلا لما كان المنع أولى من عدمه.
وإن كان بمخصص: فإما أن يكون وجوديا، أو عدميا.
لا جائز أن يكون عدميا، لما سبق فى إثبات القدرة الحادثة.
وإن كان وجوديا: فليس شيء من الأمور المشتركة بين الحالتين، وإلا فلا تخصيص.
فلم يبق إلا أن يكون خاصا بحالة الزمانة دون غيرها: وليس ذلك هو ذاته، أو بعض ذاته، ولا العلم، أو الحياة، أو الإرادة، أو البنية المخصوصة؛ لما تقدم فى إثبات القدرة الحادثة، بل لا بد وأن يكون زائدا على ذلك: وهو ما عبر عنه بالعجز، وهو المطلوب.
ولأبى هاشم ومتبعيه ثلاث شبه:
الشبهة الأولى:
أنه قال: قد ثبت أن البنية المخصوصة شرط فى القدرة؛ فامتناع القيام على
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (آخر).
(3) فى ب (و الأصم) الأصم (أبو بكر بن عبد الرحمن بن كيسان- من طبقة أبى الهذيل العلاف، ومن كبار مفسرى القرآن المعتزليين).
(4) فى ب (أن لا يكون بمخصص).
(2/340)
________________________________________
الزمن: إنما يلزم أن يكون بالعجز المضاد للقدرة، أن لو لم تكن البنية المخصوصة قد اختلت، ولم يفت شرط من شرائط القدرة، ولا سبيل إلى إثباته.
الشبهة الثانية:
أنه قال: من أثبت العجز: استدل عليه بتعذر الفعل معه، وليس ذلك من الأحكام المختصة بالعجز؛ لإمكان ربطه بنفى القدرة، وكذلك كل حكم يفرض مرتبا على العجز- وهو دليل العجز؛ فإنه يمكن تقديره مع فرض عدم العجز، وإذا «1» كان كل أثر يستدل به على العجز غير مختص به؛ امتنع الاستدلال به عليه.
الشبهة الثالثة:
أن العجز غير محسوس فى نفسه: كالألوان، والطعوم، ولا هو موجب لحال زائدة عليه يستدل بها عليه؛ فلا سبيل إلى إثباته «2».
[الجواب عنها]
والجواب عن الشبهة الأولى من وجهين: الأول: أن (ما «3» ذكروه) إنما يلزم المعتزلة القائلين باشتراط البنية.
وأما نحن: فلا نسلم وجود شرط للقدرة وراء الحياة، وقد بينا كونها مشتركة بين حالة/ العجز، والاختيار؛ فلا تصلح للتخصيص.
الثانى: أن (ما «4» ذكروه) فى العجز ينعكس عليه فى القدرة: وذلك أنه أمكن أن يضاف التمكن من الفعل إلى صحة البنية لا إلى القدرة كما أمكن إضافة عدم التمكن إلى اختلال البنية لا إلى العجز، ولا جواب له عنه.
وعن الشبهة الثانية: لا نسلم أن الاستدلال على العجز بمجرد تعدد الفعل، وعدم صحة الاستدلال على العجز بحكمه، لا يوجب عدم العجز؛ بدليل الروائح، والطعوم، وكل ما لا يوجب لمحله حالا؛ فإنه ثابت، وإن تعذر الاستدلال عليه بحكمه.
________________
(1) فى ب (و أن).
(2) فى ب (بقائه).
(3) فى أ (ما ذكره).
(4) فى أ (ما ذكره).
(2/341)
________________________________________
وعن الشبهة الثالثة: فإن «1» العجز، وإن لم يكن محسوسا؛ فلا نسلم أنه لا حال له؛ بل الزمن يجد من نفسه: أنه عاجز عن القيام. كما يجد من قامت به القدرة من نفسه كونه قادرا.
ثم وإن سلمنا انتفاء الحال؛ فلا نسلم أنه يلزم منه انتفاء كل دليل.
وإن «2» سلمنا انتفاء كل دليل؛ فلا يلزم منه انتفاء المدلول فى نفسه كما سبق تقريره «3».
**********
________________
(1) فى ب (بأن).
(2) فى ب (ثم وإن).
(3) انظر ل 38/ ب.
(2/342)
________________________________________
«الفصل الثانى عشر» فى متعلق العجز
الأصح فى «1» قولى الشيخ أبى الحسن الأشعرى: أن العجز لا يتعلق بالمعدوم؛ بل بالموجود. فالمقعد الزمن عاجز عن القعود الموجود، لا عن القيام المعدوم، وأنه لا يسبق المعجوز عنه، ولا يتعلق بالضدين على نحو قوله فى القدرة. ووافقه على ذلك كثير من أصحابنا.
وله قول ضعيف: أن العجز أنما يتعلق بالمعدوم دون الموجود، فالمقعد: عاجز عن القيام المعدوم، دون القعود الموجود، وإن كان مضطرا إليه «2». وقضى بناء على ذلك بجواز تعلق العجز الواحد بالضّدين دون القدرة كما تقدم؛ لأن القدرة متعلقة بالوجود، والعجز بالعدم، ولا يمتنع اجتماع الضدّين اللذين هما متعلق العجز فى العدم بخلاف الوجود.
وإلى هذا ذهب كثير من أصحابنا؛ وهو مذهب المعتزلة.
ومعتمد القول الأول: أن العجز هو الضّد الخاص بالقدرة فى جهة التعلق، فمتعلقه: إما أن يكون هو متعلق القدرة، أو غيره.
لا جائز أن يكون غير متعلق القدرة: وإلا لما تضادا فى التعلق.
وإن كان عينه: فقد بينا أن متعلق القدرة الوجود، وأنه يمتنع تعلقها بالضّدين؛ فكذلك العجز. وضار ذلك كما فى الإرادة، والكراهة: فإنهما لما تضادا كان متعلقهما واحدا، ولو اختلف متعلقهما بأن كانت الإرادة لشيء، والكراهة لغيرها؛ لما تضادا.
فإن قيل: التفرقة بين/ القدرة، والعجز، واقعة «3» بالضرورة. فإذا قيل: بأن متعلق القدرة «4»، والعجز واحد. ومن مذهبكم: أنه لا أثر للقدرة فى متعلقها، ولا للعجز فى متعلقه؛ فلا يبقى للتفرقة وجه.
________________
(1) فى ب (من).
(2) فى ب (عليه).
(3) فى أ (واقع).
(4) فى ب (الإرادة).
(2/343)
________________________________________
وإن سلمنا كون التعلق واحدا: ولكن لا نسلم وجوب مقارنة العجز للمعجوز عنه،
وبيانه من وجهين:
الأول: أن القاعد قادر على قعوده، وليس قادرا على قيامه عندكم، لأنكم «1» قضيتم بوجوب مقارنة القدرة لمقدورها، ولا يتصور القيام مع فرض القعود؛ فلا يكون مقدورا قبل وجوده. فإذا كانت القدرة على القيام منتفية قبل وجوده؛ وجب اتصافه بالعجز عنه؛ فإن المقدور جنسه لا يخلو عن القدرة عليه، أو العجز عنه، ويلزم من تحقق العجز عن القيام حالة القعود، أن يكون العجز عنه متقدما عليه.
الثانى: أن العقلاء مجمعون على كون الزمن المقعد عاجزا عن القيام مع عدم القيام.
سلمنا وجوب مقارنة العجز للمعجوز عنه: ولكن لا نسلم وجوب تعلقه بمعجوز واحد؛ وذلك لأنه يلزم من وجوب تخصيص كل عجز بمعجوز واحد، وجود إعجاز لا نهاية لها، لضرورة «2» أن ما يجوز «2» تقدير القدرة عليه لا يتناهى، وما لا قدرة عليه مما يجوز تقدير القدرة عليه يستدعى العجز عنه، لما سبق تقريره، فإذا كان ما لا قدرة عليه مما يجوز تقدير تعلق القدرة به غير متناه، ولكل واحد عجز متعلق به؛ فالإعجاز غير متناهية؛ وذلك محال.
والجواب عن السؤال الأول: أنا لا نسلم أنه لا يلزم من امتناع تأثير المتعلقين فى المتعلق الواحد؛ امتناع الاختلاف؛ بدليل العلم مع الإدراك.
وعن السؤال الثانى من وجهين: الأول: أن القاعد: وإن لم يكن قادرا على القيام؛ فلا نسلم أنه لا بد وأن يكون عاجزا عنه. وما لا يخلوا عن الضدين: إنما هو ما كان قابلا لاتصافه بأحدهما على البدل. والقاعد حال قعوده، لا نسلم تصور قدرته على القيام، ولا عجزه عنه.
________________
(1) فى ب (لكن).
(2) فى ب (ضرورة أن ما يجب).
(2/344)
________________________________________
الثانى: أنا وإن سلمنا: امتناع خلو القيام حالة القعود عن القدرة عليه، وعن ضد القدرة؛ ولكن لا نسلم أنه خلا عن ضد القدرة عليه؛ فإنه كما أن العجز عن «1» القيام «1».
يضاد القدرة على القيام؛ فالقدرة على القعود. مضادة للقدرة على القيام؛ لاستحالة اجتماعهما. والقدرة على القعود وإن كانت ضدا للقدرة على القيام؛ فلا يلزم أن تكون عجزا «2» عن القيام.
حتى يقال بتقدم العجز على/ المعجوز عنه، فإن الموت ضد للقدرة «3» على القيام، وليس الموت عجزا عن القيام، ومن أطلق اسم العجز على الموت بمعنى مشابهته للعجز فى امتناع الفعل؛ فهو متجوز، وإن أراد حقيقة العجز؛ فقد أخطأ، وهذا هو الجواب عن الإطلاق فى الوجه الثانى أيضا.
وأما السؤال الثالث: فإنما يلزم وجود أعجاز لا نهاية لها: أن لو كان متعلق العجز العدم؛ وليس كذلك؛ كما بيناه، بل متعلقه إنما هو الوجود، والوجود منحصر لا أنه غير متناه.
*******
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (عاجزا).
(3) فى ب (القدرة).
(2/345)
________________________________________
«الفصل الثالث عشر» فى تعلق العجز بالمعجوز عنه
مذهب أصحابنا: أن العجز لا بد وأن يكون وجوده «1» مقارنا للمعجوز عنه كما فى القدرة، والمقدور.
وأما المعتزلة: فمن أثبت «2» العجز منهم «2» اختلفوا.
فمنهم: من صار إلى وجوب تقدم العجز (على «3») المعجوز عنه فى الوجود كما قالوا فى القدرة، والمقدور. ثم بنوا على ذلك امتناع وجود العجز فى الحالة الأولى من وجود المقدور؛ مع فرض وجود القدرة فيها، وجوزوا وجود العجز فى الزمن الثانى من وجود القدرة؛ لكنه لا يمنع وجود القدرة السابقة ولا من تعلقها؛ بل هو عجز عما سيكون فى الزمن الثالث.
ومنهم من لم يوجب تقدم العجز على المعجوز عنه: مع مصيرهم إلى وجوب تقدم القدرة على المقدور. ثم بنوا على ذلك امتناع الجمع بين وجود القدرة فى الحالة الأولى، ووجود العجز فى الحالة الثانية، وأنه مهما فرض وجود القدرة فى حالة، امتنع وجود العجز فى الحالة الثانية منها. وإن وجد العجز فى الحالة الثانية: امتنع وجود القدرة فى الحالة الأولى. وبينا أنه لا قدرة فى الحال الأولى، ولا مقدور لها فى الحالة الثانية، وهذا هو مذهب هشام.
وأما مذهب أهل الحق: فمعتمدهم فيه: أنه لو لم يكن العجز مقارنا للمعجوز عنه؛ لما كان ضدا للقدرة؛ واللازم ممتنع.
وبيان الملازمة: هو أنا قد بينا أن متعلق العجز: هو متعلق القدرة. وأن القدرة يجب أن تكون فى تعلقها بالمقدور مقارنة له: فلو كان العجز متقدما على المعجوز عنه؛ لكان متقدما على القدرة المقارنة له، لأن المتقدم على أحد المقترنين في الوجود؛ يكون متقدما على الآخر. ويلزم من لزوم تقدم العجز على القدرة، أن لا يكون ضدا للقدرة،
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (منهم العجز).
(3) فى أ (عن).
(2/346)
________________________________________
ولا منافيا لها؛ لأن الضد الموجود فى زمان؛ لا يلزم أن يكون منافيا لضده فى زمان آخر؛ إذ لا مانع من التعاقب. وإنما يكون منافيا له، ومضادا: فى حال وجوده/ والقول بامتناع التضاد «1» بين العجز والقدرة، عند المعترفين بالعجز محال؛ فإن القادر على الفعل حال كونه قادرا: لا يكون عاجزا عنه؛ وكذلك بالعكس.
وعلى هذا: فقد بطل القول بجواز تقدم العجز على المعجوز عنه، وبطل القول يكون العجز فى الزمن الثانى من وجود القدرة منافيا لمقدورها، فإن مقدورها متحقق معها، والعجز الطارئ بعده لا يكون منافيا («2» له فى «2») وقت وجوده، ولو كان منافيا له فى الزمن الثانى من وجود القدرة.
كيف: وأنه إذا وجدت القدرة فى وقت، وفرض وجود العجز فى الوقت الثانى من وجودها؛ فإن انتفت القدرة السابقة؛ فقد بينا أنه لا تنافى مع اختلاف الزمان؛ فإن نفى مقدورها مع وجودها؛ فقد خرج من قامت به عن كونه قادرا مع قيام القدرة به؛ لوجود العجز المانع من مقدوره. ولو ساغ وجود قدرة ولا قادر؛ لساغ وجود علم، ولا عالم، وإرادة ولا مريد؛ وهو محال.
*********
________________
(1) فى ب (ضدين).
(2) ساقط من أ.
(2/347)
________________________________________
«الفصل الرابع عشر» فى اختلاف المعتزلة فى عجز القادر على حمل مائة رطل لا يتمكن معها «1» من حمل مائة أخرى، ومناقضتهم فى ذلك
وقد اختلفت المعتزلة: فى أن من تمكن من حمل مائة رطل، ولا يتمكن من «2» حمل مائة رطل أخرى معها «2».
فذهب بعضهم: إلى كونه عاجزا عن حمل المائة الأخرى.
ومنهم: من لم يجوز إطلاق العجز، ولا القدرة، وأنه لا يوصف بكونه قادرا على حمل المائة الأخرى، ولا عاجزا عنها.
ومنهم: من فصل وقال: هو قادر على حمل مائة من الجملة غير معينة، وغير قادر على حمل مائة غير معينة.
وعلى كل قول؛ فقد ناقضوا مذهبهم فى وجوب تعلق القدرة الواحدة الحادثة بجميع أجناس مقدورات العبد، والمائة الأخرى معينة كانت، أو غير معينة من جنس مقدورات العبد.
فإذا قيل: إنه عاجز عنها، أو غير قادر عليها؛ كان مناقضا لأصلهم.
فإن قيل: هذا: وإن كان أصلنا؛ لكن لا مطلقا، بل بشرط أن لا تتعلق مع اتحادها فى الوقت الواحد، فى محل واحد، من الجنس الواحد، بأكثر من واحد، والقدرة على حمل المائة، لو كانت قدرة على حمل المائة الأخرى؛ لكان على خلاف هذا الأصل.
قلنا: إنما يكون على خلاف هذا الأصل، أن لو كان ما تعلقت به القدرة مع اتحادها، واتحاد الوقت فى محل واحد كما هو أصلكم، وليس كذلك؛ فإن المقدور:
إنما هو الحركة، ومحلها مختلف، وهو المائة، والمائة.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (معها من حمل مائة رطل أخرى).
(2/348)
________________________________________
/ فإن قالوا: المحل وإن كان مختلفا، إلا أنه إذا لم يوجد له من القدر غير ما يوازى الاعتمادات فى إحدى المائتين؛ فهو لا يقدر على رفع الجميع إلا بزيادة قدر («1» أخر موازية لاعتمادات) «1» المائة الأخرى حتى أنه لو خلق له ذلك؛ لكان قادرا.
قلنا: هذا وإن تخيل فى المائتين المتلاصقتين، فما يقولون فى مائة رطل أخرى منفصلة عن المائة المحمولة؛ إن قلتم بأنه يكون متمكنا من حملها مع حمل المائة الأخرى، مع أنه لم يوجد له من القدر غير ما يوازى جواهر «2» المائة المحمولة؛ فهلا جاز ذلك فى المائتين المتصلتين.
وإن قلتم: لا يكون متمكنا من حملها بالقدرة التى بها تمكن من حمل المائة المحمولة: مع أن المقدورين من جنس واحد فى محلين؛ فقد ناقضتم أصلكم لا محالة.
*********
________________
(1) فى أ (أخرى مع موازنة الاعتمادات).
(2) فى ب (فى جواهر).
(2/349)
________________________________________
«الفصل الخامس عشر» فى أن القادر هل يكون ممنوعا عن مقدوره مع وجود قدرته عليه، أم لا؟
مذهب أهل الحق من أصحابنا:
أن القادر حالة كونه قادرا، لا يتصور أن يكون ممنوعا عن الفعل المقدور له.
وذهبت المعتزلة: إلى جواز ذلك، وفرقوا بين العجز، والمنع؛ من جهة أن العجز: ما يضاد القدرة دون المقدور. والمنع بعكسه: وهو ما يضاد المقدور وينافيه، مع بقاء القدرة. وسواء كان وجوديا مضادا للمقدور: كالسكون بالنسبة إلى الحركة المقدورة، أو مولدا لضد المقدور: كالاعتمادات فى الجسم الثقيل المولدة «1» للحركة السفلية؛ فإنها مضادة للحركة العلوية. أو عدميا: كانتفاء ما يشترط ثبوته فى وقوع المقدور: كانتفاء العلم بالفعل المحكم؛ فإنه يمنع من وقوعه مقدورا، وإن لم يمنع من نفس القدرة.
والمعتمد لأهل الحق فى ذلك مسلكان: استدلالى، وإلزامى.
أما الاستدلالى:
فهو أنه لو تصور منع القادر عن مقدوره؛ لما كانت القدرة مقارنة للمقدور وجوبا؛ واللازم ممتنع.
وبيان الملازمة: أنه إذا تصور وجود القدرة مع امتناع وجود المقدور بالمانع؛ فالانفكاك بين القدرة الحادثة، والمقدور، لازم قطعا، واللازم ممتنع؛ لما بيناه من وجود مقارنة القدرة لمقدورها، ويلزم من الملازمة، وانتفاء اللازم، انتفاء الملزوم لا محالة؛ وهو تصور منع القادر عن مقدوره.
فإن قيل: ما ذكرتموه: وإن دل على امتناع المنع، لكنه معارض بما يدل على وقوعه، وبيانه من ثلاث أوجه:
________________
(1) فى ب (المولد).
(2/350)
________________________________________
الأول: أنه لو لم يتصور منع القادر عن مقدوره/ مع وجود قدرته عليه، وإلا لما تصور الفرق بين حال المقيد إذا كان لا ينافى مكان، وبين حاله مطلقا عن ذلك مع الصحة، والسلامة عن الآفات المانعة من الحركة؛ حيث أن كل واحد منهما غير قادر حالة لبثه عن الحركة، والانتقال عن مكانه؛ وهو خلاف ما تشهد به العقول.
الثانى: هو أنا لو فرضنا شخصا لم تبدل ذاته، ولم تتغير صفاته فى حالتى القيد، والإطلاق، ماشيا؛ فإنه يلزم أن يكون قادرا حالة القيد؛ لكونه قادرا حالة الاطلاق، ضرورة عدم تغير ذاته، وصفاته، ومع ذلك: فإنا نعلم كونه ممنوعا من الفعل حالة القيد.
ولهذا، فإن العقلاء إذا أرادوا منع شخص من الحركة، والانتقال؛ أوثقوه بالقيود، وقدروه منعا من ذلك.
الثالث: هو أن القدرة من الأعراض الباقية، والباقى لا ينتفى إلا بضده على ما يأتى تحقيقه. والقيد ليس ضدا للقدرة الحادثة؛ فوجب أن تكون القدرة موجودة معه.
والجواب عن الشبهة الأولى: أنه وإن لم يتحقق الفرق بين حال المقيد، والمطلق من كون الفعل غير مقدور له فى الحالتين على أصلنا؛ فلا يمنع ذلك من الفرق من جهة أخرى؛ وذلك أن العادة جارية بعدم خلق الله- تعالى- للمقيد القدرة على الحركة، بخلاف المطلق، وذلك هو مستند أهل العرف في الحبس والتقييد، والتفرقة بين الحالتين: أما أن يكون مستند ذلك المنع فى إحدى الصورتين، وعدمه فى الأخرى. فلا.
كيف: وأن التمسك فى القضايا العقلية بالأمور العرفية ممتنع.
وأما الشبهة الثانية: فمبنية على امتناع تغير الصفات فى إحدى الحالتين؛ وهو غير مسلم. فإنا نعتقد أن الله- تعالى- خلق له القدرة حالة كونه ماشيا مطلقا دون الحالة الأخرى بحكم جرى العادة، واتفاق أهل العرف والعقل على أن التقييد كان لما ذكرناه فى جواب الشبهة الأولى.
(2/351)
________________________________________
وأما الشبهة الثالثة: فالجواب عنها من وجهين:
الأول: لا نسلم أن القدرة باقية.
الثانى: وإن سلمنا أنها باقية؛ ولكن ما المانع من انتفائها بوجود «1» ضد خلق الله- تعالى- مقارنا للقيد، وإن لم يكن القيد ضدا لها.
وأما المسلك الإلزامى:
فمن أربعة أوجه:
الأول: هو أنهم قالوا: القدرة مشاركة لباقى الأعراض فى كل صفة، ولم تتميز عن باقى الأعراض على أصل الخصوم بغير صفة التمكن من الفعل؛ فإذا امتنع التمكن من «2» الفعل «2»: بالمانع مع/ وجود القدرة؛ ففيه قلب لحقيقتها، وإبطال لخاصيتها؛ وهو محال.
الثانى: هو أن العجز: إنما كان مضادا للقدرة من جهة اقتضائه؛ لامتناع الفعل، فلو جاز أن يمتنع الفعل مع بقاء القدرة؛ لما لزم كون «3» العجز ضدا.
الثالث: هو أن مقتضى القدرة على أصل الخصوم: التمكن من الفعل، ومقتضى المنع: امتناع التمكن، فلو جاز اجتماع القدرة، والمنع؛ إما أن يثبت مقتضاهما، أو لا يثبت مقتضى واحد منهما، أو يثبت مقتضى أحدهما دون الآخر. لا جائز أن يقال بالأول: إذ هو جمع بين النفى، والإثبات معا؛ وهو محال. ولا جائر أن يقال بالثانى: لما فيه من إثبات واسطة بين النفى، والإثبات؛ وهو ممتنع.
ولا جائز أن يقال بالثالث: إذ ليس أحدهما أولى من الآخر.
الرابع: هو أن القول باستمرار القدرة مع ارتفاع التمكن بالمنع وثبوته مع زوال المنع يوجب تغيير حكم الذات، وتغيير حكم الذات يوجب ثبوت معنى زائد على الذات؛ وهو محال مخالف للمعقول.
________________
(1) فى ب (بوجوب).
(2) فى ب (بالفعل).
(3) فى ب (من كون).
(2/352)
________________________________________
وفى هذه الإلزامات نظر.
أما الأول: فلأنه لا مانع من أن يقال: إن «1» مقتضى القدرة التمكن مشروطا بعدم المانع؛ فانتفاء التمكن من وجود المنع؛ لا يكون قلبا لحقيقة القدرة.
وأما الثانى: فلأنه قد يمتنع كون العجز مضادا للقدرة؛ لاقتضائه امتناع «2» الفعل؛ بل إنما كان مضادا للقدرة بذاته، وامتناع الفعل كان لامتناع القدرة عليه؛ لا للعجز المانع له.
وأما الثالث: فجوابه ما سبق عن الإلزام الأول: وهو جواب الإلزام الرابع (أيضا «3»).
*********
________________
(1) فى ب (من أن).
(2) فى ب (بامتناع).
(3) ساقط من أ.
(2/353)
________________________________________
«الفصل السادس عشر» فى اختلافات متفرعة على المنع بين المعتزلة، والإشارة إلى مناقضتهم فيها
الاختلاف الأول:
ذهب الجبائى: إلى أن المنع المضاد للمقدور، منع «1» له فى الحال الثانى من وجوده، كما فى القدرة، والعجز. وطرد ذلك فى التخلية، والإطلاق فى اقتضائه للتمكن، وهو الإقدار على الفعل.
وخالفه أبو هاشم فى ذلك: وزعم أن المنع: منع للمقدور فى حال حدوثه، وكذلك التخلية، والإطلاق مقتضيان للتمكن فى حال حدوثه «2».
وعلى هذا؛ فلو خلق الله القدرة فى وقت، وخلق معها المنع، فعند الجبائى: يمتنع وقوع المقدور فى الحالة الثانية من وجود المنع.
وعند أبى هاشم: لا يمتنع به المقدور فى الحالة الثانية إلى أن يستمر إلى الحالة الثانية.
ولو خلق الله المنع فى الحالة الثانية من وجود القدرة: فعند أبى هاشم: يمتنع به وجود المقدور فى الحالة الثانية من وجود القدرة.
وعند الجبائى: لا يمتنع؛ بل إنما يمتنع به المقدور فى الحالة/ الثالثة من وجود القدرة. وكذلك لو خلق الله القدرة فى وقت، ووجد معها الإطلاق والتخلية؛ أمكن وقوع المقدور فى الوقت الثانى، وإن لم يكن الإطلاق محققا فيه. ولو كان الإطلاق متحققا:
وقت وجود المقدور دون الأول لما أمكن وجود المقدور فى ذلك الوقت: عند الجبائى.
وعند أبى هاشم: لا بد من تحقق الإطلاق والتخلية فى وقت وجود المقدور، ولا أثر له قبل ذلك فى المقدور فى الوقت الثانى.
________________
(1) فى ب (مضاد).
(2) فى ب (حدوثها).
(2/354)
________________________________________
وأما نحن: فقد عرف من مذهبنا أنه لا أثر للمنع، والإطلاق، والتخلية فحاصله «1» عندنا لا يرجع إلا «1» إلى الإقدار، وعدم الإقدار.
ثم لقائل أن يقول:
من جعل المانع مؤثرا فى الحالة الثانية من وجوده: كالجبائى لا «2» يخلو: إما أن يشترط استمرار تحققه فى الحالة الثانية، أو لا يشترط.
فإن لم يشترط الاستمرار: أمكن أن يكون المانع فى الحالة الثانية معدوما، ويلزم من ذلك الامتناع في الحالة الثانية، والمانع معدوم؛ وهو محال.
وإن اشترط الاستمرار: فالمؤثر إما ذات المانع، أو خصوصية وجوده «3» فى الحالة الأولى، أو فى الحالة الثانية.
فإن كان الأول: فالمؤثر فى الامتناع مقارن للامتناع؛ وهو خلاف مذهبه.
وإن كان الثانى: فخصوصية المانع فى الحالة الأولى غير متحقق فى الحالة الثانية، وذلك يجر إلى تحقق الامتناع، والمانع معدوم؛ وهو محال.
وإن كان الثالث: فالمانع مقارن للامتناع فى الحالة الثانية، وهو خلاف مذهبه.
وأما من شرط مقارنة المانع للامتناع: كأبي هاشم: فلو قيل له ما الفارق بين تأثير القدرة فى المقدور، وتأثير المانع فى المنع حتى قيل باشتراط تقدم القدرة على المقدور، واشتراط مقارنة المانع للممنوع؛ لم يجد إلى الفرق سبيلا.
كيف: وأنه ليس المنع من حكم القدرة السابقة بالمنع الطارئ؛ أولى من منع القدرة السابقة لحكم المنع.
فإن قال: بل نفى حكم السابق الطارئ أولى؛ لقوة الطارئ؛ لقربه من السبب.
وضعف السابق، لبعده من السبب، ولهذا: فإن الأيد القوى إذا اعتمد على صخرة، وأراد الضعيف حملها؛ فإنه لا يقدر على إثبات أضداد السكنات الحادثة بالاعتماد وقت
________________
(1) فى ب (بل فحاصله عندنا يرجع).
(2) فى ب (فلا).
(3) فى ب (وجود).
(2/355)
________________________________________
حدوثها بالاعتمادات، ويقدر على ذلك فى حالة دوام تلك السكنات إذا زال ذلك بالاعتماد. وكذلك/ أيضا؛ فإنه ينتفى السابق من الضدين بالطارئ منهما: كالبياض، والسواد مثلا.
قلنا: بل إبطال حكم الطارئ السابق «1» المستمر أولى من جهة استقلاله بنفسه في طرف استمراره، وعدم الاستقلال الطارئ دون سببه.
وأما صورة الاستشهاد: فغير لازمة: من جهة أن امتناع حمل الصخرة عند اعتماد الأيد عليها، إنما كان لعدم خلق الله- تعالى- له القدرة على الحمل «2» بحكم جرى العادة.
وأما الأضداد: فلا نسلم أن الطارئ منها يبطل السابق؛ بل كل واحد منهما لعرضيته زائل بنفسه من غير مزيل؛ على ما يأتى تحقيقه.
وإن سلمنا بقاء الأعراض: غير أن ما ذكره منتقض على أصله حيث أنه زعم أن التأليف منع من المباينة عند حدوثه ودوامه، وأنه أولى بنفى المباينة فى دوامه من نفى التأليف بالمباينة الطارئة.
الاختلاف الثانى:
أن الممنوع عن جميع أضداد الشيء: هل يكون ممنوعا من ذلك الشيء؟ وذلك كمن أحاط به بناء محكم من جميع جوانبه مانع له من الحركة إلى جميع الجهات، هل يكون ممنوعا من السكون فى ذلك المكان؟
والذي ذهب إليه الجبائى: المنع. واستدل على ذلك بثلاثة مسالك:
الأول: أنه لو لم يكن المحاط به ممنوعا من السكون؛ لكان مع قدرته عليه متمكنا منه؛ واللازم ممتنع.
وبيان الملازمة: أنه إذا كان قادرا على السكون، وقدر عدم كل مانع؛ فالتمكن لازم بالضرورة.
________________
(1) فى ب (للسابق).
(2) فى ب (الحكم).
(2/356)
________________________________________
وأما بيان انتفاء اللازم: هو أن التمكن من فعل الشيء يستدعى عندنا أن يكون متمكنا من فعله، وتركه، والسكون غير متمكن من تركه، بل هو مضطر إليه على ما لا يخفى.
المسلك الثانى: أنه قال: من تردى من شاهق كان فى هويه ممنوعا من الحركة إلى جميع الجهات غير جهة هويه؛ ويلزم من ذلك أن يكون ممنوعا من الحركة فى «1» جهة هويه؛ لأنه لو لم يكن ممنوعا من الحركة فى جهة هويه؛ لكان متمكنا من السكون فى الهوى؛ لما تقرر:
أن الفاعل لا بد وأن يكون متمكنا من ذلك الفعل، وضده، وإلا «2» كان مضطرا لا فاعلا.
وهو غير متمكن من السكون؛ بل ممنوعا منه. ومنعه من السكون: يدل على كونه ممنوعا من الحركة في جهة الهوى.
المسلك الثالث: هو أن المحاط: لو كان غير ممنوع من السكون، وقادرا عليه؛ لما كان أمره بالسكون قبيحا؛ لكن أمره بالسكون قبيح؛ فلا يكون متمكنا منه.
وصار أبو/ هاشم فى آخر أقواله: إلى مخالفة أبيه فى ذلك. واستدل عليه بأن قال:
لو كان البناء المحيط بالشخص مانعا له من السكون؛ لكان منافيا له؛ إذ الممانعة مع عدم المنافاة محال. ولا منافاة بين الأجسام فى باقى الجهات، وبين السكون فى الجهة المحاطة؛ فلا يكون مانعا.
هذا وأما نحن: فعلى أصلنا وقولنا بانتفاء المنع كما تقدم؛ فالسكون غير ممنوع فى حق المحاط به، ولكن لا بد من التنبيه على وجه الضعف فيما ذكر.
أما المسلك الأول للجبائى: فغير صحيح؛ فإن التمكن من الفعل عندنا:
يرجع حاصله على خلق القدرة، وعدم التمكن: إلى عدم خلق القدرة عليه. فقوله على هذا: لو لم يكن ممنوعا منه مع قدرته عليه؛ لكان متمكنا منه: إما أن يريد به: أنه يكون
________________
(1) فى ب (إلى).
(2) فى ب (و انما).
(2/357)
________________________________________
متمكنا منه، بمعنى كونه قادرا عليه، أو بمعنى: أنه لا يكون ممنوعا منه، أو بمعنى:
أنه يكون قادرا على تركه مع قدرته على فعله، أو بمعنى آخر.
فإن كان الأول: فيرجع حاصل الشرطية: أنه لو كان قادرا عليه؛ لكان قادرا عليه؛ وهو غير مفيد.
وإن كان الثانى: فيرجع حاصله: إلى أنه لو لم يكن ممنوعا منه؛ لما كان ممنوعا منه؛ وهو من النمط الأول.
وإن كان الثالث: فهو أيضا ممتنع؛ لأن القدرة على ما تقدم لا بد وأن تكون مقارنة للمقدور، فإذا «1» كان قادرا على السكون؛ فالسكون يجب أن يكون مقارنا للقدرة، ويلزم من ذلك استحالة كونه قادرا على عدم السكون، أو ضد من أضداده: حالة وجود السكون؛ لأنه لو كان قادرا عليه؛ لكان وجوده مقارنا للقدرة؛ وهو محال؛ لاستحالة الجمع بين السكون، وضده. وإن أراد غير ذلك؛ فلا بد من تصويره، والدلالة عليه.
وأيضا: فإنه لو لم يكن السكون فعلا للمحاط به؛ لكان من فعل الله- تعالى- وكما أنه لا يمكن ترك السكون للمحاط به مع فرض إحاطة الأجسام به؛ فلا يمكن ترك السكون بالنسبة إلى الله- تعالى- مع فرض إحاطة الأجسام به، ولم يكن ذلك مانعا من فعل الله- تعالى- للسكون؛ فكذلك فى فعل المحاط به. غير أن الفرق هاهنا منقدح من جهة أن الله- تعالى- قادر على ترك السكون بإزالة الموانع بخلاف المحاط به.
وأيضا: فإن أبا هاشم: قد نقل عن أبيه: أنه لو لم يكن المحاط به عالما بالإحاطة، لم يكن ممنوعا من السكون، فإن صحت هذه الرواية. لم يبق للفرق بين حالة العلم، وعدمه معنى، فيما يرجع إلى جهة المنع.
وأما/ المسلك الثانى: فلا نسلم أن المتردى ممنوع من «2» الحركة «2» إلى جميع الجهات؛ بل هو غير قادر: أى لم يخلق له القدرة عليها على ما سبق. وعلي هذا: فقد بطل قوله؛ فيلزم أن يكون ممنوعا من الحركة فى جهة هويه.
________________
(1) فى ب (فإن).
(2) فى ب (الحركات).
(2/358)
________________________________________
ثم وإن سلمنا: أنه ممنوع من الحركة إلى غير جهة الهوى؛ فلا نسلم أنه يجب أن يكون ممنوعا منها فى جهة الهوى.
قوله: لو لم يكن ممنوعا من الحركة فى جهة الهوى؛ لكان متمكنا من السكون فى الهوى. لا نسلم ذلك. فإنه لا مانع من كونه غير ممنوع من «1» الحركة «1»، ولا متمكنا منها؛ لعدم القدرة عليها.
وإذا لم يكن متمكنا من الحركة؛ فلا يلزم أن يكون متمكنا من السكون؛ لجواز اشتراكهما في عدم خلق القدرة عليهما.
سلمنا: أنه قادر على الحركة فى جهة الهوى، ولكن لا نسلم لزوم تمكنه من السكون؛ لما تقرر فى المسلك الأول.
وأما المسلك الثالث: فمبنى على فاسد أصولهم فى التحسين، والتقبيح، وقد أبطلناه «2».
ثم وإن سلمنا صحة ذلك؛ ولكن لا يلزم من كونه غير ممنوع أن يكون قادرا؛ خلق القدرة عليه. وإذا لم يكن قادرا، كان أمره قبيحا.
وإن سلمنا كونه قادرا: فما المانع من أن يكون امتناع الأمر لعدم شعوره بكونه فعلا له؟ وتصور وقوع الامتثال به.
وأما مسلك أبى هاشم: فخارج عن التحقيق؛ فإنه لا يلزم من كون وجود الأجسام فى باقى الجهات غير منافية للسكون فى الجهة المحاطة أن لا تكون منافية لكون السكون فعلا للمحاط به.
ولا يخفى: أن ادعاء ذلك عين محل النزاع؛ فلا يمكن أخذه فى الدليل.
الاختلاف الثالث.
ذهب الجبائى: إلى أن العلم الضرورى مانع عند حدوثه، ودوامه من حدوث العلم المكتسب الواحد، وإنما ينتفى العلم الضرورى الباقى بعلمين كسبيين، وبالجملة بضدين من أضداده.
________________
(1) فى ب (منه).
(2) انظر ل 174/ ب وما بعدها.
(2/359)
________________________________________
ووافقه أبو هاشم فى قول. وخالفه فى قول.
وزعم: أن العلم الضرورى يكون مانعا فى ابتداء حدوثه من حدوث العلم الكسبى، ولا يكون مانعا منه فى دوامه «1»، وأنه يكفى فى امتناع وجود العلم الضرورى فى دوامه، وجود ضد واحد من أضداده.
احتج الجبائى على مذهبه بمسلكين: الأول: أنه لو لم يكن العلم الضرورى في بقائه مانعا من حدوث العلم الكسبى؛ لأمكن حدوث العلم الكسبى، ولو حدث العلم الكسبى؛ لكان مانعا من بقاء/ العلم الضرورى؛ وهو ممتنع. فإنه لا يخفى أن جعل الباقى مانعا من حدوث الحادث لاستقلاله بالوجود فى حالة البقاء. أولى من جعل الحادث مانعا من بقاء الباقى. مع كونه غير مستغن فى حدوثه عن العلة الموجبة لحدوثه، وخرج عليه ما إذا اجتمع ضدان، أو أكثر من أضداد العلم الضرورى؛ حيث أنها تكون مانعة من بقائه؛ لقوتها فى الممانعة بالنسبة إلى الواحد منها.
المسلك الثانى: أنه لو لم يكن العلم الضرورى فى حال بقائه مانعا من ضده؛ لأمكن العالم بنفسه، وألمه، ولذته. من إزالة علمه بذلك، وهو ممتنع مخالف للمعقول.
واحتج أبو هاشم على القول المخالف لأبيه: بأن العلم الضرورى بالشيء يماثل العلم الكسبى به، ومن علم شيئا علما كسبيا، أمكنه نفيه بإيجاد ضد واحد من أضداده؛ فكذلك العلم الضرورى؛ ضرورة أن ما ثبت لأحد المثلين يكون ثابتا للمثل الآخر.
ولا بد من التنبيه على ما فى هذه الحجج.
أما الحجة الأولى للجبائى.
قوله: لو لم يكن العلم الضرورى فى بقائه مانعا من العلم الكسبى؛ لأمكن حدوث العلم الكسبى؛ مسلم.
________________
(1) فى ب (رواية).
(2/360)
________________________________________
قوله: ولو حدث العلم الكسبى: لكان مانعا من بقاء العلم الضرورى.
لا نسلم ذلك: وانتفاء العلم الضرورى، وإن كان لازما عند حدوث العلم الكسبى؛ فليس لأن العلم الكسبى مانع منه؛ بل لعدم خلق الله- تعالي- له فى ذلك الوقت؛ لكونه عرضا متجددا.
وإن سلمنا كون العلم الكسبى الحادث مانعا منه: ولكن لا نسلم أنه ليس أولى بالمانعية.
قوله: لأن الباقى مستقل بالوجود مستغن عن العلة: لا نسلم ذلك بناء على أن العلم الضرورى عندنا عرض، والعرض غير باق على ما سيأتى «1». ومعنى بقائه ليس إلا بمعنى تجدد أمثاله من غير تخلل فاصل محسوس.
وإن سلمنا كونه باقيا من غير تجدد؛ فلا نسلم كونه أولى بالمنع.
قوله: لأنه مستغن عن العلة.
قلنا: إلا أنه بعيد عنها. والحادث فى أول حدوثه قريب من العلة؛ فيكون لذلك أقوى.
وأما الحجة الثانية: فلا نسلم أنه لو لم يكن العلم الضرورى فى حال بقائه مانعا من ضده: «2» لأمكن العالم بنفسه من إزالة علمه «2» بنفسه؛ لإمكان القول بأنه ليس بمانع. ولا يلزم من ذلك التمكن من إزالته؛ لجواز أن لا يخلق الله- تعالى- له القدرة على إزالته بحكم جرى العادة.
وأما حجة أبى هاشم؛ فهى لازمة لأبيه.
وأما نحن فنقول: لا نسلم/ أن من علم علما كسبيا، أمكنه إزالته بإيجاد ضده؛ إذ هو غير موجد للضد، ولا لغيره علي ما سيأتى «3».
________________
(1) انظر الجزء الثانى ص 161 وما بعدها.
(2) فى ب (العلم من إزالة العلم).
(3) انظر ل 258/ أ وما بعدها.
(2/361)
________________________________________
وإن أمكن إزالته بإيجاد ضده؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من جواز ذلك فى العلم الكسبى؛ جوازه فى العلم الضرورى.
قوله: لأن العلم الضرورى مماثل للعلم الكسبى.
فنقول: وإن كان مماثلا له: من حيث هو علم. إلا أنهما «1» لا يفترقان «1» بما به التميز. والتعين.
وعلى هذا: فأمكن أن يكون ذلك جائزا فى العلم الكسبى؛ لخصوص «2» تعينه «2»، أو أن تعين الضرورى مانع منه.
الاختلاف الرابع:
هو أن من اعتمد على جبل عظيم لا يقدر على تحريكه: هل يكون ثقله المانع من تحريكه مانعا من تجدد سكون مضاف إلى سكونه؟
فالذى أجمع عليه الجبائى وابنه: امتناع السكون المتجدد فى مثل هذه الصورة بحكم التولد: غير أنهما اختلفا:
فذهب الجبائى: إلى أن الاعتماد لا يتولد عنه شيء أصلا، لا حركة ولا سكونا: وإنما المولد للحركة والسكون: الحركة.
وذهب أبو هاشم فى قول: إلى أن الاعتماد لا يولد السكون؛ بل الحركة.
وفى قول آخر: إلى أن الاعتماد قد يولد الحركة والسكون؛ لكن فيما يتأتى من المعتمد تحريكه.
وذهب بعض المعتزلة: إلى أن المعتمد على الجبل يولد السكون فيما يقدر منه على تحريكه لو فصل منه دون غيره.
ومنهم: من صار إلى أن المعتمد على الجبل يولد سكونا فى جميع أجزائه.
________________
(1) فى ب (يفترقان).
(2) فى ب (لخصوصه وتعينه).
(2/362)
________________________________________
وهذا الاختلاف مبنى على القول بالمنع؛ وقد أبطلناه «1»، وعلى القول بالتولد، وسيأتى إبطاله «2».
غير أنا نشير إلى ضعف كل مقالة بما يخصها هاهنا.
فنقول: أما القول بأن الاعتماد لا «3» يولد سكونا: يلزم منه إبطال «4» القول بالتولد «4» مطلقا؛ وهو خلاف مذهبهم، وذلك لأن من ألصق حجرا بجدار واعتمد عليه؛ فإنا نشاهد سكونه مترتبا على الاعتماد فى جهة الإلصاق، ولو تركه لهوى لما فيه من الاعتمادات اللازمة له. فليس «5» سكونه لما فيه من الاعتمادات؛ إذ هى مقتضية للهوى، فلو أمكن القول بعدم استناد السكون إلى ما وجد منه من الاعتماد من الإحساس بمشاهدة ترتب السكون عليه؛ لأمكن أن يقال ذلك فى كل ما قيل بتولد شيء عنه، وإن كان ترتبه عليه محسوسا.
والّذي يخص أبا هاشم فى قوله: إن الاعتماد يولد التسكين فيما/ يتأتى للمعتمد تحريكه: أن من أحاط به بناء محكم من جميع جوانبه، وتحت رجله حجر غير ملصق بمقره؛ فالمحاط به مسكن لذلك الحجر باعتماده عليه على أصله، وإن لم يتأت منه تحريكه.
فإن قال: هو قادر على تحريكه بتقدير ارتفاع الموانع.
قلنا: فليكن المعتمد على الجبل العظيم مسكنا للقدر الّذي اعتمد عليه منه؛ لكونه قادرا على تحريكه بتقدير زوال الاتصال، والتأليف المانع من الحركة. ثم يلزم من ذلك فى البعض الملاصق، وكذا فى كل بعض منه إلى آخر أجزاء الجبل؛ وهو غير قائل به.
________________
(1) انظر ل 244/ أ وما بعدها.
(2) انظر ل 272/ أ وما بعدها.
(3) فى ب (لا يكون).
(4) فى ب (التولد).
(5) فى ب (و ليس).
(2/363)
________________________________________
وأما القول: بأن الاعتماد على الجبل أوجب تسكينا فى القدر الّذي يقدر على تحريكه بتقدير انفصاله؛ فيلزم عليه جواز تسكينه لجميع الجبل؛ لأنه إذا أمكن تسكين ما امتنع حمله لاتصاله، والتصاقه؛ فما المانع من تسكين ما امتنع حمله لثقله؟
والقول بأنه مسكن لجميع الجبل بالاعتماد عليه. فمع كونه خارقا للعقل، وجاحدا للضرورة؛ مخصوم بما به إبطال التولد «1».
________________
(1) انظر ل 273/ أ وما بعدها.
(2/364)
________________________________________
«الفصل السابع عشر» فى تعارض الموانع، والرد على المعتزلة
مذهب المعتزلة: أن رجلين مستويين فى القدرة والقوة، لو تجاذبا جبلا فى جهتين مختلفتين؛ وأوجب كل واحد منهما فى جهته اعتمادات مساوية لاعتمادات الآخر فى جهته؛ فكل واحد من الاعتمادين مانع من تولد الجذب من الاعتماد الآخر، ولا تمانع بين الاعتمادين، فإنهما لو تمانعا؛ لما اجتمعا، وقد اجتمعا، ولا أن كل واحد من «1» الجذبين مانع «1» من الجذب الآخر؛ لأن التمانع بين الجذبين: إما بين وجوديهما، أو بين عدميهما، أو بين وجود أحدهما، وعدم الآخر.
لا جائز أن يقال بالأول: إذ لا وجود لواحد منهما.
ولا بالثانى: لاجتماعهما فى العدم.
ولا بالثالث: فإنه لا منافاة بين وجود أحدهما، وعدم الآخر.
ولو تمانعا: لتنافيا. ولو تنافيا؛ لامتنع فرض وجود أحدهما مع عدم الآخر.
واعلم: أن ما ذكروه مبنى على «2» طرفين: وهما «2» التولد، والمنع.
أما التولد: فسيأتى إبطاله «3».
وأما المنع: فقد أبطلناه «4».
وبتقدير تسليم الأمرين فى الجملة؛ ولكن لا نسلم أن كل واحد من الاعتمادين مانع من تولد الجذب من الاعتماد الآخر.
وإنما كان كذلك: لأنه لو كان الاعتماد من أحد الطرفين مانعا من تولد الحركة من الاعتماد الآخر؛ لتنافيا. ولو تنافيا؛ لما اجتمعا. وقد اجتمعا/ عندنا إذا كانت اعتمادات أحد الطرفين أزيد من تولد الاعتمادات فى الطرف الآخر.
________________
(1) فى ب (الجذبين غير مانع).
(2) فى ب (على الطرفين هما).
(3) انظر ل 272/ أ وما بعدها.
(4) انظر ل 244/ أ وما بعدها.
(2/365)
________________________________________
فإن قيل: إن الاعتماد: إنما يكون مانعا من تولد الحركة عن الاعتماد الآخر بشرط أن يكون مساويا للاعتماد الآخر، أو راجحا عليه. وأما إذا كان مرجوحا؛ فلا.
قلنا: فإذا جاز انتفاء المانع عن المرجوح؛ فما المانع من أن يقال: شرط المانع أن يكون راجحا؟ وأما إذا كان مساويا؛ فلا.
وحيث تعذر تولد الجذبين إنما كان بناء على انتفاء صلاحية ما عنه التولد، أو أن يكون شرط صحة التولد عن الاعتماد الرجحان، كما كان شرط صحة الممانعة المساواة، أو الرجحان؛ وهو صعب لا مخلص لهم منه.
********
(2/366)
________________________________________
«الفصل الثامن عشر» فى تحقيق معنى المضطر
قال الشيخ أبو الحسن الأشعرى: إن المضطر: هو الملجأ إلى مقدوره؛ لدفع ضرر متوقع بتقدير عدم المقدور الملجأ إليه.
وقال القاضى أبو بكر: المضطر: هو المحمول على ما عليه فيه ضرر من مقدوراته؛ لدفع ما هو أضر منه.
واتفق الجبائى، وابنه: على أن المضطر: هو الّذي يفعل فيه الغير فعلا هو من قبيل مقدورات المضطر.
غير أن الجبائى: لم يشترط أن يكون المفعول فيه غير قادر على مدافعة الفاعل، وشرطه ابنه.
وحاصل النزاع فى هذه المسألة: وإن كان يرجع إلى الإطلاقات اللفظية؛ فالذى قاله القاضى أقربها.
وأما ما «1» قاله الشيخ؛ فإنه يوجب أن يكو الملجأ إلى أكل المطعوم اللذيذ الّذي لا ضرر عليه فيه، وداعيته مصروفة إليه «2» مضطر؛ وهو «2» خلاف وضع اللغة، والعرف.
وأما ما ذهب إليه الجبائى: فباطل من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه ينتقض بالضعيف المدنف إذا حرك يد الأيّد القوى، ولم يقصد القوى دفعه وممانعته؛ فإنه قد فعل فيه الغير فعلا هو من قبيل مقدوره، ومع ذلك لا يسمى مضطرا.
الثانى: هو أن المضطر: حكم يرجع إلى الجملة، وما فعل فيه مختص بمحل الفعل؛ وهو خلاف مذهب الجبائى.
________________
(1) فى ب (الّذي).
(2) في ب (عليه أو هو).
(2/367)
________________________________________
الثالث: هو أن من ألجئ إلى فعل أمر مضر؛ دفعا لما هو أضر منه؛ فإنه مضطر.
وإن لم يفعل فيه غيره فعلا. ولا يخفى أن وجود المحدود دون الحد نقض للحد؛ لكون المحدود أعم من الحد، والحد يمتنع أن يكون أعم من المحدود، أو أخص منه.
وبهذا الوجه الثالث: يبطل ما ذكره أبو هاشم أيضا.
وقد أورد بعض/ الأصحاب على ما ذكره الجبائى، وابنه: نقوضا أخر فقال: يلزم على ما ذكرتموه أن يسمى الصحيح مضطرا إلى صحته، والحى مضطر إلى حياته، من حيث أن الصحة، والحياة فعل الغير فيه، وكذلك أيضا الكلام فى: قدرته، وسواده، وبياضه؛ وهو غير وارد عليهما؛ حيث أنهما شرطا كون الفعل من قبيل «1» مقدورات المضطر «1».
وما ذكر من الصفات؛ فليست من قبيل «2» مقدورات المضطر «2».
فإن قيل: فيلزم على ما قاله القاضى: أن لا يكون من خلقت فيه حركة الارتعاش مضطرا، ومن خلق فيه العلم الضرورى مضطرا؛ إذ لا ضرر عليه فيه. وأن لا يكون متناول الميتة حالة مخمصة مضطرا؛ إذ لا ضرر عليه فى تناولها؛ وهو خلاف المشهور المعهود من الإطلاق عرفا.
ثم يلزم منه: أن لا يقع الفرق بين المضطر، وغير المضطر؛ إذا كان كل واحد من الفعلين مكتسبا.
قلنا: المضطر إلى الحركة، والعلم؛ هو على أصل القاضى؛ هو الملجأ إليهما على الشرط المذكور.
وأما من خلقت فيه الحركة، أو العلم؛ فليس مضطرا على الحقيقة عنده، وإن أطلق اسم المضطر عليه؛ فليس إلا بطريق التجوز.
وأما تناول الميتة: فقد أجاب عنه بأنه لا يخلو: إما أن يكون نفس المتناول للميتة حالة المخمصة عائفة لها، أو غير عائفة لها.
________________
(1) فى ب (مضطراته).
(2) فى ب (مقدوراته).
(2/368)
________________________________________
فإن كان الأول: فما خلا فى أكله لها عن ضرر.
وإن كان الثانى: فلا أسميه مضطرا على الحقيقة؛ بل تجوزا لمشابهة حاله حال من ألجئ إليها مع العيافة.
وأما الفرق: فمتحقق بالاختيار فى أحد الفعلين؛ وإلا لجاز فى الآخر.
*********
(2/369)
________________________________________
«الفصل التاسع عشر» فى الملجأ، وتحقيق معناه
اتفقت الأشاعرة، والمعتزلة: على أن الملجأ قادر على ما ألجئ إليه، وأنه لم يفعل غيره «1» فيه فعلا «1»، وإن اختلفت عباراتهم فى معنى الملجأ.
فقالت «2» الأشاعرة «2»: الملجأ إلى الفعل: هو الفاعل الّذي يناله ضرر ظاهر من ترك فعله، والملجأ إلى ترك الفعل: هو الّذي يناله ضرر ظاهر من الفعل. وهو على وفق عرف أهل العرف فى إطلاق لفظ الملجأ.
وقد ترددت عبارة أبى هاشم فيه: فقال تارة: الملجأ إلى الفعل: من فعل ما أخرج فعله عن استحقاق الذم، والمدح، والملجأ إلى ترك الفعل: من أخرج تركه عن استحقاق الذم، والمدح.
وقال تارة: الملجأ إلى الفعل: هو الّذي لو حاول ترك الفعل لمنع منه. والملجأ إلى الترك: هو الّذي لو حاول الفعل لمنع منه.
والعبارتان مدخولتان:
أما الأولى: فلأنها/ باطلة بالصبى، والمجنون المحمول على الفعل؛ بل البهيمة؛ فإنه يسمى ملجأ، وإن لم يكن فعله مما يستحق عليه ثوابا ولا عقابا. حتى يقال بأن الإلجاء مسقط له، وكذلك إلجاء المكلف إلى الفعل المباح إلجاء، وإن لم يك مسقطا للثواب، والعقاب على فعل المباح؛ لأن إسقاط ذلك يستدعى سابقة استحقاقه، ولا سابقة لذلك فى الفعل المباح.
وأما العبارة الثانية: فباطلة: من جهة أن المحمول على قول، أو فعل بإلحاق الضرر به بتقدير تركه؛ غير ممتنع عليه تركه. وإن لحقه الضرر بسببه، ومع ذلك فهو ملجأ إليه عرفا: وإن لم يكن ممنوعا من تركه.
________________
(1) فى ب (فيه غيره).
(2) فى ب (و قالت).
(2/370)
________________________________________
فإن قيل: علمه بما يناله من الضرر بتقدير الترك؛ هو المانع له من الترك؛ فهو باطل من وجهين:
الأول: أن هذا يوجب إطلاق لفظ الإلجاء على كافة القادرين؛ فإنه ما من أحد «1» إلا ويعلم أنه يتضرر بإلقاء نفسه من شاهق، أو غيره من المهالك: كالمياه المغرقة، والنيران المحرقة؛ فيكون ملجأ إلى تركه؛ وهو خلاف العرف.
الثانى: أنه يلزم على سياقه أن يكون البارى- تعالى- ملجأ إلى ترك القبائح؛ ضرورة علمه بقبحها، واستغنائه عنها؛ وكل من هذا شأنه؛ ففعل القبيح يكون عليه ممتنعا.
ولهذا قالت المعتزلة: إن أهل الجنان ملجئون إلى ترك القبائح؛ «2» لعلمهم بقبحها «2».
واستغنائهم عنها، والله- تعالى- يتقدس عن ذلك.
فإن قيل: الملجأ عندنا: هو الممنوع الّذي يناله ضرر بتقدير إقدامه على ترك ما ألجئ إليه، والرب- تعالى- متنزه عن لحوق الضرر به.
قلنا: فيلزم على هذا: أن لا يكون أهل الجنة ملجئين إلى ترك القبائح، إذ لا ضرر عليهم فى فعلها؛ لعدم التكليف فى الجنة، وقد قالوا بإلجائهم إلى تركها.
*********
________________
(1) فى ب (واحد).
(2) فى ب (لعلمه بالقبح).
(2/371)
________________________________________
«الفصل العشرون» فى أن الفاعل لا يعود إليه من فعله حكم، ولا يتجدد له بسببه اسم
أما الأول: فلا نعرف خلافا بين العقلاء، وأرباب المذاهب أنه لا يثبت للفاعل من فعله حكم.
أما على رأى من لا «1» يرى القول بالأحوال: فظاهر.
وأما من يرى القول بالأحوال: فمداركهم مختلفة.
والّذي «2» يخص أصحابنا القائلين بالأحوال فمسلكان:
الأول: أنه لو اقتضى فعل الفاعل له حكما؛ لكان الفعل قائما بالفاعل على «3» ما «3» سنبنيه: كما فى العلم، والقدرة، ونحوه. والفاعل على التحقيق ليس غير الله- تعالى- على ما سبق، وفعله غير قائم به؛ فامتنع أن يوجب له حكما.
وهذه الطريقة/ غير مستمرة على أصول المعتزلة القائلين بكون البارى- تعالى- مريدا بإرادة حادثة لا فى محل.
المسلك الثانى: أنه لو أوجب الفعل لفاعله حكما، وحالا؛ للزم تجدد الأحوال فى ذات الله- تعالى- عند تجدد أفعاله، وإحداثه للمحدثات، وحلول الحوادث بذات الرب- تعالى-؛ ممتنع كما سبق «4».
وهذه الطريقة أيضا: غير مستمرة على أصول المعتزلة القائلين بتجدد كون البارى- تعالى- مريدا، بتجدد الإرادة الحادثة لا فى محل.
فإن قيل: البارى- تعالى- غير متصف بكونه عالما بوقوع العالم قبل وقوعه، وبعد وقوعه صار متصفا بكونه عالما بوقوعه؛ فقد تجدد له حكم، وحالة بعد وجود العالم، لم تكن ثابتة له قبله.
________________
(1) فى ب (يرى).
(2) فى ب (و أما الّذي).
(3) فى ب (كما).
(4) انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(2/372)
________________________________________
قلنا: العالم: عبارة عمن قام به العلم، وعلم الله- تعالى- قديم قائم بذاته أزلا؛ فهو عالم أزلا، والمتجدد بحدوث العالم: تعلق عالميته به لا نفس العالمية، على ما حققناه من امتناع إيجاب الفعل للفاعل حكما وحالة زائدة. فبتقدير أن يكون البارى- تعالى- خالقا للظلم، والشر، والفساد؛ فيمتنع أن يعود إليه من ذلك حكم، أو وصف بكونه ظالما، أو شريرا، أو مفسدا.
وأما المعتزلة: فربما استدلوا على ذلك: بأنه لو أوجب الفعل لفاعله حالا، وكل «1» ما يشترط فيه الحياة؛ فالحال الواجبة به تكون عائدة إلى الجملة: كالعلم والقدرة، ونحوه، ويلزم من ذلك أن يكون الفاعل للظلم في شيء، والعدل فى شيء معا موصوفا بكونه عادلا، وجائرا معا، وأن يكون الموجب للحركة فى شيء. والسكون فى شيء معا، متحركا ساكنا معا؛ وهو محال.
وهو ضعيف؛ فإنا لا نسلم خروج الحال عن محل العلة.
وإن سلمنا ما ذكروه: غير أنا لا نسلم امتناع اتصاف الجملة بكونها عادلة جائرة بالنسبة إلى قيام العدل بجزء (و الجور «2») بجزء آخر من الجملة.
وأما التسمية: فقد اتفق أصحابنا: على أنه كما لا يعود إلى الفاعل من فعله حال، فكذلك لا يعود إليه بسببه اسم، وأنه كما لا يوصف الفاعل للظلم والجور، بكونه ظالما جائرا؛ فكذلك لا يسمى ظالما «3»، ولا جائرا «3»؛ خلافا المعتزلة؛ فإنهم أوجبوا تسميته ظالما، جائرا، وإن منعوا من وصفه بكونه ظالما جائرا.
وبالجملة: فحاصل النزاع فى التسمية راجع إلى اللغة التى لا ثبت لها بغير النقل عن أهل الوضع، وقد بحثنا فلم نجد نقلا تقوم «4» الحجة به «4» عن العرب يدل على أن
________________
(1) فى ب (فكل).
(2) فى أ (و العدل).
(3) فى ب (جائرا ولا ظالما).
(4) فى ب (تقوم به الحجة).
(2/373)
________________________________________
من فعل الظلم، أو العدل: يسمى ظالما، أو عادلا؛ لكونه فاعلا للظلم، أو العدل. فمن ادعى ذلك يحتاج إلى الدليل.
فإن قيل: الدليل على ذلك من وجهين:
الأول: هو أن قول القائل ضرب كلمة موضوعة فى اللغة لصدور الفعل/ من فاعل فى زمن معين، ولا فرق فى اللغة بين أن يقول القائل: ضرب زيد عمروا وبين قوله: فعل زيد بعمرو ضربا؛ فكذلك إذا قال: ظلم زيد عمروا معناه: فعل فى عمرو ظلما.
الثانى: أن من فعل الظلم فى الشاهد؛ يسمى ظالما بالاتفاق، واسم الظالم مشتق من الظلم.
وعند ذلك فمستند تسميته ظالما: إما قيام بحال «1» به أوجبها الظلم «1»، أو قيام الظلم به، وحلوله فيه، أو لأنه فعل الظلم.
لا جائز أن يقال بالأول؛ لما سبق.
ولا جائز أن يقال بالثانى؛ لوجهين:
الأول: أنه يلزم منه أن يكون ما قام به الظلم من أجزاء جملة الإنسان مسمى باسم الظالم؛ وهو محال؛ فإن بعض أجزاء الإنسان لا يقال له ظالم.
الثانى: هو أن الظلم قد يقوم بالمظلوم: كالألم القائم بالجرح، وقد يقوم بالآلة التى يستعملها الظالم: كحركات السيف فى (مضاربه «2») ولا يسمى المظلوم، والسيف الّذي قام به الظلم ظالما؛ فلم يبق إلا القسم الثالث؛ وهو المطلوب.
والجواب عن الشبهة الأولى: أنه وإن تحقق ما ذكروه بالنسبة إلى بعض الأفعال. فلم قالوا بلزوم طرد ذلك فى كل الأفعال: ولو لزم ذلك؛ للزم أن يسمى الإله- تعالى- مفسدا، وأن يقال له أفسد عندنا: إذا خلق الفساد، وفعله فى الزروع، والثمار، والمواشى، وغير ذلك من الموجودات؛ وهو محال.
________________
(1) فى ب (حال به أوجبها الظلم به).
(2) فى أ (مجاريه).
(2/374)
________________________________________
وعن الشبهة الثانية: بمنع الحصر فيما ذكروه من الأقسام: ولا سبيل إلى الدّلالة على مواقع المنع بغير البحث والسبر؛ وقد عرف ما فيه. كيف: وأنه متحرم إذا أمكن أن يقال مستند تسميته ظالما: أنه فعل ما هو محرم عليه منهى عنه، أو فعل ما ليس له فعله، أو لكونه مكتسبا للظلم، وعلى كل تقدير؛ فيمتنع تسمية الرب- تعالى- ظالما؛ لكونه فاعلا للظلم.
فإن قيل: يمتنع تسمية من فعل الظلم ظالما؛ لكونه فعل محرما منهيا عنه؛ لأن من فسق، وارتكب معصية تخصه، ولا تتعدى إلى غيره؛ فإنه فعل محرما .. ولا يسمى ظالما؛ ضرورة أنّ الظلم ما يتعدى إلى الغير.
وأيضا: فإنه سمى ظالما؛ لكونه فعل فعلا محرما منهيا عنه؛ فيلزم أن يكون العادل: من فعل واجبا مأمورا به؛ ويلزم من تسمية الرب- تعالى- عادلا؛ أن يكون قد فعل ما وجب عليه، وأمر به؛ وهو مقدس عن ذلك.
وأيضا: فإن أرباب اللسان: وإن لم يكونوا معتقدين للشرائع يسمون مرتكب الفواحش قبل ورود الشرع/ ظالما، وإن كان ما ارتكب محرما، ولا منهيا عنه؛ ضرورة عدم ورود الشرع بذلك، وعدم اعتقادهم لذلك.
وعلى هذا: فيمتنع أن يسمى ظالما؛ لكونه فعل ما ليس له؛ إذ لا معنى لكونه فعل ما ليس له إلا أنه فعل ما نهى عنه، ويمتنع تسميته ظالما؛ لكونه مكتسبا للظلم؛ فإن مستند الاسم اللغوى لا بد وأن يكون معلوما لأهل اللغة والكسب، فلم يكن معلوما لهم.
قلنا: لا نسلم أن من ارتكب معصية خاصة به: أنه لا يسمى ظالما.
قولهم: الظلم ما يتعدى إلى الغير، ممنوع ويدل عليه قوله- تعالى- فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ «1». وقوله لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ «2».
________________
(1) سورة فاطر جزء من الآية رقم 32.
(2) سورة هود جزء من الآية رقم 101.
(2/375)
________________________________________
قولهم: يلزم أن يكون العادل من فعل مأمورا به: لا نسلم لزوم ذلك على مقتضى ما ذكرناه، ومرتكب الفواحش قبل «1» ورود الشرع: وإن سمى ظالما، وامتنع «1» كونه مرتكبا للمنهى شرعا- فما امتنع كونه مرتكبا المنهى «2» عقلا. ونحن فلم نخصص النهى بالشرع، ليرد علينا ما ذكروه.
فإن قيل: فالعرب قد تسمى الحية ظالمة: وإن لم تكن مرتكبه منهيا عقلا، ولا شرعا.
ولهذا تقول العرب: فلان أظلم من حية؛ بل قد تسمى الجمادات بذلك كما فى قولهم: ظلم السهم وجار: إذا مال عن سننه، وظلم السقا: إذا منع الزبد، ولم يخرجه بالمخض. وظلمت السماء: إذا حبست قطرها فى أوانه، ومطرت فى غير أوان المطر.
وقد قال الله- تعالى- كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ولَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً «3»، أى آتت بثمرها من غير نقص.
قلنا: ما ذكرتموه: إما أن يكون مع الاعتراف منكم بجواز صدور الظّلم من الجمادات، والحيوانات العجماوات، أو لا مع الاعتراف به.
فإن كان الأول: فإما أن يكون السبب فى تسميتها ظالمة صدور الظلم منها، أو غير ذلك.
فإن كان السبب هو صدور الظلم منها؛ فيلزمكم أن يسمى الأسد المفترس الضارى ظالما، والحمل الهائج المؤذى ظالما، والطفل الّذي لا تمييز له- إذا صدر منه الأذى- ظالما؛ وهو محال غير سائغ فى اللغة.
وإن كان الثانى: فقد بطل قولكم: إن الظالم من فعل الظلم، وكذلك يبطل إن قلتم إن الظلم غير صادر منها.
قولهم: يمتنع أن يسمى ظالما؛ لكونه فعل ما ليس له؛ فجوابه ما سبق أيضا فى الوجه الأول.
________________
(1) فى ب (أن سمى قبل ورود الشرع ظالما ولا مقنع).
(2) فى ب (النهى).
(3) سورة الكهف 18/ 33.
(2/376)
________________________________________
قولهم: العرب لا تعرف كسبا «1».
قلنا: هذا مردود بقول العرب: اكتسب فلان/ شرا، واكتسب فلان خيرا، ومثوبة.
ثم وإن سلمنا الحصر فيما ذكروه: ولكن ما المانع من تسميته ظالما؛ لقيام الظلم به.
قولهم: يلزم أن ما قام به الظلم من أجزاء الإنسان: أن يسمى ظالما مسلم؛ (لكن «2») لم قلتم بإحالته؛ وهو مذهبنا؟
ولهذا يقال: فلان أسود البشرة. وكذل يقال: فلان أخرس اللسان. إذا قام السواد بالبشرة، والخرس باللسان.
ويدل عليه تسمية القلب فى كلام الله- تعالى- متكبرا عند قيام الكبرياء به بقوله:
قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ «3».
قولهم: ليس كل ما قام به الظّلم يسمى ظالما. ممنوع.
قولهم: المظلوم قد قام به الظلم: ولا يسمى ظالما، وكذلك السيف.
قلنا: لا نسلم قيام الظلم بغير الفاعل؛ فإنّ الظلم عندنا هو الفعل المحرم على ما أسلفناه؛ وذلك لا يتعدى محل قدرة الفاعل.
سلمنا صحة تسميته ظالما فى اللغة، لكونه فاعلا للظلم؛ ولكن لا نسلم وجوب اطراد هذا الاشتقاق حتى يقال بتسمية الرب- تعالى- ظالما؛ لكونه فاعلا للظلم؛ ولهذا فإن اسم القارورة: فى اللغة مشتق من قرار المائعات فيها، وهو مخصص بالزجاجة، المخصوصة، غير مطرد فى الجرة، والكوز، وغير ذلك. وكذلك اسم الدابة: مشتق من الدبيب. وهو غير مطرد فى الإنسان. عرفا إلى غير ذلك من الأسماء.
سلمنا لزوم الاطراد فى الألفاظ المشتقة: ولكن فى عرف اللغة، أو الشرع.
الأول؛ مسلم، والثانى؛ ممنوع.
________________
(1) فى ب (الكسب).
(2) ساقط من أ.
(3) جزء من الآية رقم 35 من سورة غافر.
(2/377)
________________________________________
ولهذا فإن كثيرا من الأسماء اللغوية مغيرة فى الشرع، ومحمولة على غير محاملها فى اللغة: كلفظ الصلاة، والصوم، والزكاة، والإيمان، ونحوه «1».
وإن سلمنا لزوم ذلك مطلقا؛ لكن غايته لزوم تسمية من فعل الظلم ظالما، بناء على أمر ظنى، لا على أمر قطعى؛ وهو غير سائغ فى اللغات.
ثم يلزمهم على مقتضى أصلهم فى تسمية من فعل الظلم ظالما؛ ما يوجب مناقضتهم فيه، وبيانه من أربعة أوجه.
الأول: هو أن يسمى النبي عاصيا، مفسدا، شريرا؛ عند فرض صدور الصغائر من المعاصى منه؛ إذ هو غير ممتنع على أصلهم: وإطلاق ذلك على الأنبياء ممتنع بالإجماع؛ لما فيه من حطهم فى أعين المبعوثين إليهم، وإهانتهم فيها بينهم؛ وذلك مما يفضى إلى اطراح «2» قولهم عندهم «2»؛ وهو خلاف المقصود من البعثة، وإذا امتنع ذلك على المحدث، فلأن يمنع على خالق المحدث/ أولى.
الثانى: أنه لو خلق الله- تعالى- صيغة الإخبار فى شخص قائلة أنا كاذب. وأراد من قامت به الإنباء بها عما دلت عليه لغة؛ فهى خير لا محالة؛ إذ هى مشعرة بما دلت عليه حسب إشعارها، أن لو كانت مخلوقة لذلك الشخص.
وإذا كانت خيرا: فالمخبر بها إما الله- تعالى-، أو العبد.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كان الله- تعالى- مخبرا بخبر هو: أنا كاذب، والله- تعالى- يتقدس عن ذلك.
وإن كان الثانى: فقد ثبت كون العبد مخبرا بخبر ليس هو من فعله. وإذا جاز ذلك فى المخبر؛ جاز مثله فى الظلم؛ وإلا كان الفرق تحكما.
فإن قيل: صيغة الخبر وإن لم تكن من فعل العبد؛ فهى لا تصير خيرا دون إرادة العبد الإنباء بها عما فى نفسه وإرادته من فعله؛ فالخبر يكون متعلقا بفعله؛ فيكون مخبرا به.
________________
(1) فى ب (و نحوها).
(2) فى ب (أقوالهم).
(2/378)
________________________________________
قلنا: المحكوم عليه بكونه خيرا: إنما هو الصيغة الدالة وضعا على المخبر عنه مع القصد والإرادة لذلك، والصيغة ودلالتها وضعا على المخبر عنه ليس من فعله.
وإن كان قصد الإنباء بها على ما دلت عليه وضعا من فعله؛ فلا يكون الخبر من فعله.
ثم ليس القول بكونه من فعله؛ لكونه لا تحقق للخبر دون إرادة الإنباء أولى من كونه من فعل الله- تعالى- مع أنه لا تحقق للخبر دون الصيغة؛ وهى من فعل الله- تعالى-.
كيف: وأنهم قد ناقضوا فيما لو خلق الله- تعالى- أمثال «1» أفعال العباد ضرورة «1»، وأرادها العبد عبادة؛ فإنهم قالوا لا يكون بها عابدا.
الثالث: هو أن المصلى، والصائم، والعابد، والخاشع، مأخوذ من فعل الصلاة، والصوم، والعبادة، والخشوع.
ثم اتفقوا: على أنه لا يسمى بهذه الأسماء: إلا من قامت به هذه الأفعال؛ وهو خلاف أصلهم فى الأسماء المأخوذة من الأفعال حيث لم يفرقوا فيها بين من قام به الفعل، وبين من لم يقم به.
ثم إذا جاز أن يشترط فى تسمية من فعل الصلاة، والعبادة، والخشوع، مصليا، وعابدا، وخاشعا؛ قيام فعل الصلاة، والعبادة، والخشوع به؛ فما المانع من اشتراط تسمية من فعل الظلم ظالما. قيام فعل الظلم به؟.
الرابع: هو أن العلل فى الشاهد عندهم موجبة لأحكامها عقلا: ومع ذلك ما التزموا طردها فى الغائب حتى إنهم قالوا: العالم فى الشاهد معلل بالعلم، والقادر معلل بالقدرة/ ونحوه، بخلاف الغائب حتى أنهم قالوا: البارى- تعالى- عالم بلا علم، وقادر بلا قدرة، والأفعال فى الشاهد غير موجبة للأسماء المأخوذة منها عقلا؛ بل مأخوذة من الوضع، والاصطلاح.
فكيف قيل بطردها غائبا؛ ولقد كان الأولى العكس.
________________
(1) فى ب (هذه العبارة فى العبد ضرورة).
(2/379)
________________________________________
فإن قيل: لأن العالمية، والقادرية واجبة لله- تعالى- فلا تعلل، بخلاف الأسماء؛ فقد سبق «1» إبطال ذلك «1» فى الصفات.
وهذا كاف فى نقض عقائدهم، وإبطال قواعدهم.
*********
________________
(1) فى ب (ابطاله).
(2/380)
________________________________________
«الفصل الحادى والعشرون» فى الترك، وتحقيق معناه
اعلم أن الترك: قد يطلق فى اللغة على عدم الفعل. ولهذا يصح أن يقال: ترك فلان الفعل الفلانى. إذا لم يفعله، وسواء تعرض لضده، أم لا.
وسواء كان قاصدا له، أم لا. كما فى حالة النوم، والغفلة. ولا مانع منه لغة مع شيوعه، وإن خالف فيه بعض المتكلمين؛ لكن بشرط أن يكون ذلك الفعل مقدورا فى العادة.
ولهذا: فإنه لا يحسن أن يقال: ترك فلان خلق الأجسام، والألوان: عند عدم خلقه لهما؛ حيث لم يكن الخلق له مقدورا، وقد يطلق الترك «1» فى غالب اصطلاح المتكلمين: على موجود مقدور مضاد لموجود آخر مقدور فى العادة؛ وذلك كما يقال:
ترك فلان الحركة يمنة بالحركة يسرة، وكذلك بالعكس، وترك فلان الحركة بالسكون، وبالعكس، ولا يحسن إطلاق ذلك عند كون كل واحد من الضدين غير مقدور.
ولهذا لا يحسن أن يقال: ترك فلان بقعوده، أو قيامه: الصعود إلى السماء، أو خلق الأجسام، والألوان؛ حيث لم يكن الصعود إلى السماء، وخلق الأجسام والألوان، مقدورا للعبد. ولا يحسن أن يقال: ترك فلان بحركته «2» الاضطرارية، الحركة الاختيارية. ولا بحركته «2» الاضطرارية، الصعود إلى السماء.
وعلى هذا: إن أوجبنا ربط الثواب والعقاب، بالأفعال؛ فلا يكون مرتبطا بالترك بمعنى عدم الفعل؛ بل بالاصطلاح الأصولى. وإن لم يوجب ارتباطه بالفعل؛ بل جوزنا نصب العدم علامة على الثّواب، والعقاب؛ فلا مانع من ارتباطه بالترك بالمعنى اللغوى.
وعلى كلا الاصطلاحين: فيمتنع إطلاق ترك خلق العالم فى الأزل على الله- تعالى- إذ الخلق فى الأزل غير مقدور.
ويخص امتناع ذلك على الاصطلاح الأصولى: أن الترك لذلك فعل مضاد لخلق العالم، وتقدير فعل الله- تعالى- فى الأزل غير ممكن.
________________
(1) فى ب (الخلق).
(2) فى ب (الحركة الاضطرارية لا الحركة الاختيارية ولا الحركة).
(2/381)
________________________________________
فإن قيل: إذا اشترطتم على الاصطلاح الأصولى أن يكون الترك والمتروك/ مقدورين، فمن ترك الصلاة بفعل ضدها: فإما أن يقولوا: بأن الصلاة مقدورة حالة كون ضدها مقدورا، أو لا يقولوا بكونها مقدورة.
فإن كان الأول: فهو خلاف أصلكم فى تعلق قدرة واحدة، أو قدرتين بضدين معا؛ ضرورة أن المقدور لا بد وأن يكون مقارنا للقدرة عند تعلقها به، وذلك يفضى إلى اجتماع الضدين؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فالصلاة غير متروكة؛ لفوات شرط الترك؛ وهو خلاف الشرع.
واصطلاح العقلاء وأهل اللسان.
قلنا: ليس المراد من قولنا: يجب أن يكون الترك، والمتروك مقدورين معا؛ بل على سبيل البدل؛ وذلك لا ينافى ما ذكرناه.
ومن المعتزلة: من شرط فى الترك أن يكون التارك معتمدا بالفعل الانفكاك عن ضده.
وهو بعيد؛ فإنه إذا لم يبعد كونه متصفا بالفعل مع عدم القصد: كما فى الفعل القليل فى حالة النوم؛ فكذلك فى الترك.
ومن المعتزلة: من زعم أن الترك من أفعال القلوب: وهو انصراف القلب من ارتياد الفعل؛ بخلاف أفعال الجوارح.
وهو بعيد أيضا؛ فإن العرب تقول: ترك فلان القيام، وإن لم يخطر لهم ما هجس فى «1» قلبه.
ومنهم: من لم يجوز إطلاق الترك على الله- تعالى- وهو خلاف قوله- تعالى وتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ «2».
وبالجملة: فالنزاع فى هذه الإطلاقات آئل إلى الاصطلاح، ولا حرج فيه.
وإذ أتينا على ما أردناه من الأصول، ونقحناه من الفصول، فنعود إلى المقصود من خلق الأفعال.
________________
(1) فى ب (له فى).
(2) جزء من الآية رقم 17 من سورة البقرة.
(2/382)
________________________________________
«القول فى خلق الأفعال «1»» مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى «2»: أنه لا تأثير للقدرة الحادثة فى حدوث مقدورها، ولا فى صفة من صفاته.
وإن أجرى الله- تعالى- العادة بخلق مقدورها مقارنا لها؛ فيكون الفعل خلقا من الله- تعالى- إبداعا، وإحداثا، وكسبا من العبد؛ لوقوعه مقارنا للقدرة «3».
ووافقه على ذلك جماعة من أصحابه، والقاضى أبو بكر: فى أحد أقواله، والنجار من المعتزلة.
وذهب القاضى أبو بكر فى قول آخر: إلى أن القدرة الحادثة مؤثرة لا فى نفس الفعل القائم بمحل القدرة؛ بل فى صفة وحالة للفعل، وهى ما تقول المعتزلة:
إنها من توابع الحدوث والوجود؛ وذلك لأن المفهوم من الفعل مطلقا، ومن كونه حادثا:
أعم من المفهوم من خصوص القيام والقعود، وغيره من الأفعال الخاصة من حيث/ هو قيام، وقعود؛ فالقدرة القديمة مستقلة بالتأثير فى أصل الفعل، ووجوده.
وأما القدرة الحادثة: فهل هى مستقلة بالتأثير فى الصفة؟ اختلف قوله فيه.
فقال مرة: بأنها أثر للقدرة القديمة، والحادثة، وأثبت مقدورا بين قادرين من جهة واحدة، ووافقه على ذلك ضرار بن عمرو.
وقال مرة: وعليه تعويله. إن القدرة الحادثة مستقلة بالتأثير فى تلك الصفة، ولا تأثير للقدرة القديمة فيها، كما لا تأثير للقدرة الحادثة فى مقدور القدرة القديمة.
ووافقه على هذا الأستاذ أبو إسحاق، وذلك مما يبعد من الأستاذ أبى إسحاق مع اشتهار إنكاره للأحوال.
________________
(1) فى ب (الأعمال).
(2) زائد فى ب (رضى الله عنه).
(3) فى ب (لقدرته).
(2/383)
________________________________________
وذهب إمام الحرمين: إلى أن إثبات قدرة لا أثر لها بوجه: كنفى القدرة، وإثبات تأثيرها فى حالة لا تعقل: كنفى التأثير؛ فلا بد من نسبة فعل العبد إلى قدرته «1» وجودا.
وإلى قدرة الله- تعالى- بواسطة خلق قدرة العبد عليه.
وذهب أكثر المعتزلة: إلى أن القدرة الحادثة موجبة لحدوث مقدورها، وأنه لا تأثير للقدرة القديمة فيه، كما لا تأثير للقدرة الحادثة فى مقدور القدرة القديمة.
وعند هذا: فلا بد من الإشارة إلى إبطال تأثير القدرة الحادثة فى حدوث مقدورها «2».
ثم نحقق «2» بعده إبطال مذهب القاضى، والإمام أبى المعالى. ونحقق بعده اختيار الشيخ أبى الحسن فى الكسب، والخلق آخرا.
فنقول: أما أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى حدوث مقدورها؛ فقد استدل عليه الأصحاب بمسالك ضعيفة.
المسلك الأول:
أنه لو جاز تأثير القدرة الحادثة فى الفعل بالإيجاد، والإحداث؛ لجاز تأثيرها فى إيجاد كل موجود، واللازم ممتنع؛ فكذا الملزوم.
وبيان الملازمة من وجهين:
الأول: هو «3» أن الوجود «3» قضية واحدة مشتركة بين جميع الموجودات الممكنة على ما سبق تقريره.
وإن اختلفت محاله، وجهاته. ويلزم من صحة تأثير القدرة فيه فى البعض الصحة فى الكل؛ ضرورة اتحاد المتعلق، وأن ما ثبت لأحد المثلين؛ يكون ثابتا للآخر.
الثانى: هو أن المصحح للتأثير فى البعض: إنما هو الإمكان المشترك على ما سبق فى امتناع خالق غير الله- تعالى- ويلزم من الاشتراك فى المصحح لتأثير القدرة الحادثة فى المقدور؛ الاشتراك فى صحة التأثير.
________________
(1) فى ب (تركه).
(2) فى ب (لم يتحقق).
(3) فى ب (أن الواحد).
(2/384)
________________________________________
وبيان امتناع اللازم:
أنها غير مؤثرة فى إيجاد الأجسام، وما عدا الأفعال/ القائمة بمحل القدرة من الأعراض: كالطعوم، والروائح، والألوان، ونحو ذلك بالاتفاق، ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم؛ وهو غير سديد؛ لما حققناه فى امتناع خالق غير الله- تعالى.
والّذي يخصه هاهنا: هو أن غير ما ذكروه فى امتناع تأثير القدرة الحادثة فى الإيجاد لازم على القول بجواز تعلق القدرة الحادثة ببعض الموجودات دون البعض.
وإن لم يكن تعلق تأثير؛ فما هو الجواب عن صورة الإلزام؛ فهو بعينه جواب فى محل الاستدلال، ولا مخلص منه «1».
المسلك الثانى:
أنه لو كانت مقدورات العباد مخلوقة لهم؛ لما كانت مخلوقة لله- تعالى- لأنها لو كانت مخلوقة لله- تعالى-: فإما أن تكون مخلوقة له وحده، أو له وللعبد.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا لما كانت مخلوقة للعبد؛ وهو خلاف الفرض.
ولا جائز أن يقال بالثانى: وإلا لزم منه وجود مخلوق بين خالقين؛ وهو محال كما سبق «2».
ولا جائز أن تكون غير مخلوقة لله- تعالى-: لأنها لو امتنع كونها مخلوقة لله- تعالى- لم يكن إلا لاستحالة مقدور بين قادرين؛ واللازم ممتنع.
وبيانه: أنه قبل إقدار العبد على الفعل؛ لم يكن الفعل مقدورا للعبد؛ فيجب أن يكون مقدورا للرب- تعالى.
وبيانه: أن الفعل فى نفسه ممكن، والمانع من كونه قادرا بعد إقدار العبد: إنما هو استحالة وقوع مقدور بين قادرين. وهذا المانع غير موجود قبل إقدار العبد، وإذا كان مقدورا لله- تعالى- قبل إقدار العبد، فعند إقداره على الفعل يستحيل أن يخرج ما كان
________________
(1) فى ب (له).
(2) انظر ل 217/ ب وما بعدها.
(2/385)
________________________________________
مقدورا لله- تعالى- عن كونه مقدورا؛ فإنه لو خرج عن كونه مقدورا للرب- تعالى- بسبب تعلق القدرة الحادثة به، لم يكن أولى من امتناع تعلق القدرة الحادثة به، واستيفاء تعلق القدرة القديمة؛ بل بقاء ما كان على ما كان أولى من نفيه، وإثبات ما لم يكن، وإذا ثبت كونه مقدورا للرب؛ وجب أن يكون الرب- تعالى- خالقه، ومبدعه، من حيث أنه يستحيل انفراد العبد بخلق ما هو مقدور لله- تعالى.
وهو ضعيف (أيضا) «1» إذ لقائل أن يقول:
وإن سلمنا الملازمة: فلا نسلم انتفاء اللازم.
والقول: بأنه لو امتنع كون أفعال العباد «2» مخلوقة للرب- تعالى- لم يكن (إلا «3» لامتناع «3») مقدور واحد بين قادرين؛ لا نسلم الحصر. وما المانع من امتناع/ كونها مخلوقة له؛ لامتناع قبول قدرته لإيجاد الأفعال لذاتها وإن كان لمانع «4» من خارج؛ فما المانع أن يكون غير ما ذكرتموه؟ ولا طريق إلى نفيه بغير البحث، والسبر؛ وهو غير يقينى كما تقدم «5».
ثم وإن سلمنا حصر المانع فيما ذكروه: ولكن لا نسلم انتفاء قولهم قبل إقدار العبد على الفعل: يجب أن يكون مقدورا للرب- تعالى- لا نسلم ذلك.
قولهم: لأن الفعل قبل إقدار العبد ممكن فى نفسه: والمانع من كون الرب قادرا عليه بعد إقدار العبد: إنما هو استحالة كون المقدور الواحد بين قادرين؛ لا نسلم أيضا حصر المانع من كونه قادرا على فعل العبد فيما ذكرتموه. ولا سبيل إلى إثباته إلا بالبحث؛ وهو غير يقينى.
ثم وإن سلمنا كونه مقدورا للرب قبل إقدار العبد: ولكن ما المانع أن يكون مقدورا له، مشروطا بعدم إقدار العبد عليه. وعند إقدار العبد لا يكون مقدورا للرب؛ لفوات شرطه.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (العبد).
(3) فى أ (الامتناع).
(4) فى ب (المانع).
(5) انظر ل 39/ ب.
(2/386)
________________________________________
ثم وإن سلمنا كونه مقدورا للرب- تعالى- قبل إقدار العبد مطلقا لا بشرط: فما المانع من أن يكون إقدار العبد مانعا من دوام اقتدار الرب- تعالى.
قولهم: ليس جعل الحادث مانعا من استمرار ما كان، أولى من العكس.
قلنا: فتحتاجون إذن إلى «1» الترجيح «1»؛ لأنكم فى مقام الاستدلال.
وما ذكروه من الترجيح؛ فغير موجب لليقين. كيف: وهو مقابل بمثله، فإن الشيء فى ابتداء وجوده لقربه من سببه يكون أقوى منه فى حالة «2» دوامه، لبعده من سببه كما تقدم.
ثم وإن سلمنا كونه مقدورا للرب مع كونه مقدورا للعبد: ولكن ليس نسبته إلى الله- تعالى- بالإيجاد؛ لكونه مقدورا له: أولى من نسبته إلى العبد؛ لكونه مقدورا له.
والرب- تعالى- وإن كان أقدر من العبد؛ فليس إلا بمعنى أن مقدوراته أكثر، وأعظم؛ وليس فى ذلك ما يوجب الترجيح بالنظر إلى مقدور واحد.
ولا سبيل إلى القول بكونه مخلوقا لهما؛ لأنه محال على «3» ما «3» تقدم؛ ولأنه على خلاف الإجماع.
المسلك الثالث:
أن الرب- تعالى- قادر على مثل جميع الأجناس التى هى مقدورة للعبد.
وعند ذلك: فيجب أن يكون قادرا على مقدور العبد؛ فإنه لو لم يقدر عليه. لم يكن قادرا على مثله؛ وهو خلف.
وإذا ثبت أنه قادر على أفعال العباد. فإذا حدثت: وجب أن تكون مخلوقة له؛ لما تقدم فى المسلك الّذي قبله.
وهو أيضا/ غير سديد؛ إذ لقائل أن يقول:
لا نسلم أن الرب- تعالى- قادر على مثل مقدور العبد: على ما هو مذهب البلخى.
________________
(1) فى ب (للترجيح).
(2) فى ب (حال).
(3) فى ب (كما).
(2/387)
________________________________________
وإن سلم كونه قادرا على مثل فعل العبد: ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن يكون قادرا على فعل العبد. وما المانع أن يكون تعين ذلك الجنس شرطا، أو أن تعين مقدور العبد مانع؟ ثم لو كان يلزم من تعلق قدرة الرب بمثل مقدور العبد؛ لكونه مثلا له. أن تكون متعلقة بمقدور العبد، للزم أن تتعلق قدرة العبد بمقدور «1» الرب؛ لكونه قادرا على مثله على «2» ما «2» قررتموه؛ وهو محال.
ثم «3» وإن سلم «3» كون الرب- تعالى- قادرا على فعل العبد؛ فلا يلزم أن يكون هو الخالق له، على ما سبق فى المسلك الّذي قبله.
المسلك الرابع:
لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه: لأمكن أن يريد من أفعاله ما هو ضد مراد الله- تعالى.
وعند ذلك: فإما أن يقع مرادهما: وهو محال؛ لما فيه من اجتماع الضدين. وإما أن لا يقع واحد من مرادهما: وهو أيضا محال؛ لأن وجود كل واحد من المرادين ممكن الوقوع بتقدير انفراد مريده به، وتعلق قادريته، أو قدرته به. فلو لم يقع مرادهما: فإما أن يكون المانع من وقوع كل واحد من المرادين تعلق إرادة الآخر بمراده، وقدرته بمقدوره.
وإما أن يكون المانع من وقوع كل واحد من المرادين: وقوع مراد الآخر؛ إذ لا نتخيل سواهما.
فإن كان الأول: فقد بينا فى المسلك الّذي قبله: أن كل ما كان مقدورا للعبد؛ فهو مقدور للرب- تعالى- فإذا كان تعلق قدرة الرب بمقدور العبد مانعا من وقوع مقدور العبد بقدرته؛ فهو المطلوب؛ فعلم أن ذلك ليس هو المانع.
وإن كان الثانى: فإما أن يكون المانع من وقوع مراد كل واحد منهما وقوع مراد الآخر، أو عدم وقوعه.
فإن كان الأول: فيلزم من امتناع وقوع المرادين، وقوع المرادين؛ وهو محال.
________________
(1) فى ب (بمثل مقدور).
(2) فى ب (كما).
(3) فى ب (و إن سلمنا).
(2/388)
________________________________________
وإن كان الثانى: فلا يخفى أن المانع لا بد وأن يكون منافيا لما منع منه. وعدم أحد المرادين؛ غير مناف لوقوع المراد الآخر؛ لتصور اجتماعهما.
وإما أن يقع مراد أحدهما دون الآخر: وهو أيضا محال؛ لأن عدم حصول مراد أحدهما: إما أن يكون مع بقاء قادريته، أو لا مع بقاء قادريته.
فإن كان الأول: فهو ممتنع؛ لأن قادرية كل واحد منهما إذا كانت باقية، فترجح مراد/ أحدهما على الآخر: إما أن يكون لذات ذلك المراد، أو لأمر من خارج.
لا جائز أن يقال بالأول: لأن مراد كل واحد منهما ممكن لذاته، والممكن لذاته هو «1» ما فرض وجوده، وعدمه بالنسبة إلى ذاته سيان.
وإن كان الثانى: فذلك الخارج لا بد وأن يرجع إلى ترجيح أحد القادرين على الآخر. إما بأن تأثيره فى مقدوره أكثر من تأثير الآخر فى مقدوره، أو بأن ما يفعله بقادريته من الأمثال «2» أكثر مما يفعله الآخر.
والأول باطل: لأن الموجود الواحد لا يقبل الزيادة والنقصان؛ فلا يكون التأثير «3» فيه «3» قابلا للزيادة، والنقصان.
والثانى: باطل؛ لاستحالة اجتماع المثلين.
وأما إن كان عدم حصول مراده لا مع بقاء قدرته: فهو محال؛ لأن أحد القادرين لا يمكنه إعدام قادرية الآخر حال حصول قادريته؛ لما فيه من اجتماع الوجود، والعدم فى شيء واحد من جهة واحدة.
وإن كان إعدامه لقادريته فى الحالة الثانية من حال وجود قادريته: فعدم القادرية فى الحالة الثانية من وجودها لا يمنع من وجود مقدورها؛ لأنه إن كان وجود المقدور مقارنا للقدرة على ما هو مذهبنا؛ فعدم القادرية فى الحالة الثانية لا يمنع من وجود المقدور مفارقا للقادرية فى الحالة الأولى.
________________
(1) فى ب (مع).
(2) فى ب (الامتثال).
(3) فى ب (الثانى).
(2/389)
________________________________________
وإن كان وجود المقدور لا يقع إلا فى الحالة الثانية من وجود القدرة: فعدم القدرة فى الحالة الثانية لا يمنع من وجود المقدور بها فى الحالة الثانية: كما هو مذهب المعتزلة؛ كما سبق تقريره «1».
وهذه المحالات اللازمة: إنما لزمت من فرض كون العبد موجدا لأفعال نفسه؛ فيكون محالا.
وهو من النمط الأول فى الضعف أيضا؛ إذ لقائل أن يقول:
اجتماع الإرادة القديمة، والحادثة على التضاد: إما أن يكون محالا، أو لا يكون محالا.
فإن كان محالا: فهذه المحالات «2» اللازمة من الأقسام المذكورة: إنما هى لازمة من فرض اجتماع الإرادتين؛ لا من كون العبد خالقا لفعله.
وإن لم يكن اجتماع الإرادتين محالا: فيجب اعتقاد عدم الاستحالة فى بعض الأقسام اللازمة عند اجتماع الإرادتين؛ لأن ما ليس بمحال لا يلزم عنه المحال.
وأيضا: فما المانع من عدم وقوع المرادين؟
قولهم: بأن وقوع كل واحد من المرادين ممكن بتقدير الانفراد: مسلم. ولكن لا يلزم منه أن/ يكون ممكنا حالة الاجتماع؛ لجواز أن يكون الإمكان مشروطا بحالة الانفراد.
وإن سلم الإمكان حالة الاجتماع: ولكن لا نسلم انحصار المانع من الوقوع فى تعلق الإرادة، والقدرة بوقوع المراد. وعدم الاطلاع على مانع غير المذكور: لا يدل على عدمه فى نفسه؛ لما تقدم تحقيقه.
سلمنا الحصر؛ ولكن لم قلتم «3» بأن المانع ليس هو تعلق القدرة بالمقدور؟
قوله: لأنا بينا أن كل ما كان مقدورا للعبد؛ فهو مقدور للرب- تعالى.
________________
(1) فى ب (تحقيقه).
(2) فى ب (الحالة).
(3) فى ب (قال).
(2/390)
________________________________________
فهو ممنوع على ما سلف فى المسلك الّذي قبله.
وإن «1» سلم «1» أن كل مقدور للعبد؛ فهو مقدور للرب- تعالى- ولكن ما اللازم منه.
قوله: لأنه إذا كان تعلق قدرة الرب بمقدور العهد مانعا من تعلق قدرة العبد به؛ فهو المطلوب. ليس كذلك؛ فإن الفرض أن تعلق قدرة كل واحد منهما بمقدوره مانع من تعلق قدرة الآخر بمقدوره. فهذا وإن لزم منه امتناع تعلق قدرة العبد بمقدوره، فتعلق «2» قدرة العبد بمقدوره مانع من تعلق قدرة الرب بمقدوره. وكما يلزم منه امتناع كون العبد هو الفاعل لفعل نفسه؛ فيلزم منه امتناع كون الرب هو الفاعل لفعل العبد؛ وهو المطلوب أيضا من جانبنا.
ثم وإن سلمنا امتناع عدم المرادين: فما المانع من وقوع أحد المرادين دون الآخر؟
قوله: لأن عدم حصول مراد أحدهما: أما أن يكون مع بقاء قادريته، أو لا مع بقاء قادريته.
قلنا: ما المانع من ذلك مع بقاء قادريته؟
قوله: لأن ترجح مراد أحدهما على الآخر: إما أن يكون لذات المراد، أو لأمر خارج.
قلنا: ما المانع أن يكون لأمر خارج؟
قوله: وذلك الخارج لا بد وأن يعود إلى ترجيح أحد القادرين على الآخر بما ذكر؛ غير مسلم.
وما المانع من أن يكون امتناع مراد أحدهما، لا لترجيح قادرية الآخر (على «3») قادريته؛ بل لاختصاصه بمانع لا وجود له بالنسبة إلى الآخر؟
وإن سلم أنه لا بد وأن يعود إلى ترجيح قادرية أحد القادرين على قادرية الآخر:
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (فيتعلق).
(3) ساقط من أ.
(2/391)
________________________________________
ولكن لا نسلم حصر الترجيح فيما ذكره وعدم الاطلاع على غير المذكور لا يدل على عدمه فى نفسه على ما علم.
وإن سلمنا أن امتناع وقوع المراد مع بقاء القادرية: فما المانع من امتناعه مع انتفاء القادرية؟
قوله: لأن أحد القادرين لا يقدر على إعدام قادرية الآخر فى وقت حصول قادريته:
مسلم؛/ ولكن ما المانع أن يكون مانعا لابتداء وجودها فى وقت إمكان وجودها؟
وعند ذلك: فيمتنع وجود المقدور بها، وسواء قيل بمقارنته للقدرة بتقدير وجودها كما هو مذهبه، أو فى الحالة الثانية من وجودها كما هو مذهب الخصم؛ إذ لا وجود للقدرة عليه.
وإن سلمنا امتناع ذلك: فما المانع من كونه مانعا لها فى الحالة الثانية من وجودها؟
قوله: لأن ذلك لا يمتنع «1» معه وجود المقدور؛ لا نسلم ذلك، وما «2» المانع «2» من القول بتأثير القدرة فى المقدور فى ثانى الحال من وجودها مشروطا ببقائها إلى الحالة الثانية من وجودها، كما قدمناه من مذهب بعض المعتزلة.
سلمنا امتناع ذلك: غير أن ما ذكروه ينتقض بامتناع جواز تعلق «3» قدرة الإله- تعالى- بالحركة، والسكون معا. مع جواز تعلق قدرته «3» بكل واحد منهما بتقدير الانفراد مع لزوم كل ما ذكروه من الأقسام، فما هو الجواب فى صورة الإلزام؛ فهو الجواب فى محل التعليل.
المسلك الخامس:
لو صلحت القدرة الحادثة للإيجاد، والإحداث: للزم حصول مخلوق بين خالقين؛ واللازم ممتنع.
وبيان الملازمة: أن القدرة الحادثة لو كانت صالحة للإيجاد؛ لكان مقدورها مقدورا للرب- تعالى.
________________
(1) فى ب (يمتنع).
(2) فى ب (و لكن ما المانع).
(3) من أول (تعلق قدرة ... قدرته) الموجود بدلها فى نسخة ب (تعلقهما).
(2/392)
________________________________________
وبيان ذلك: هو أن العبد إذا كان قادرا على إيجاد السكون فى الجوهر؛ فلا نزاع فى أن الرب قادر على إيجاد السكون أيضا فى ذلك الجوهر.
وعند ذلك: فإما أن يكون ما هو متعلق قادرية «1» الله- تعالى «1» - هو عين متعلق قدرة العبد؛ أو غيره.
فإن كان الأول؛ فهو المطلوب.
وإن كان الثانى؛ فهو «2» باطل «2»؛ لأن المقدور قبل وجوده عدم صرف، والعدم «3» الصرف يمتنع وجود أعدام «3» متمايزة فيه، حتى يقال: بأن منه ما هو مقدور الرب، ومنه ما هو مقدور العبد، وبتقدير جواز التعدد، والتغاير؛ فيلزم أن يكون مقدور العبد «4» مقدورا لله- تعالى- وبيانه من وجهين:
الأول: أن الإجماع منعقد على أن الرب- تعالى- قادر على مثل كل ما يقدر عليه العبد؛ فوجب أن يكون قادرا على فعل العبد؛ ضرورة كونه قادرا على مثله؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين؛ يكون ثابتا للمثل الآخر.
الثانى: هو أن الله- تعالى- قادر على بعض الموجودات بالاتفاق، والمصحح لذلك: إنما هو الإمكان/ على ما تقدم، وفعل العبد ممكن؛ فكان مقدورا لله- تعالى- وإذا كان مقدور العبد، هو مقدور الرب؛ لزم حصول مخلوق بين خالقين.
وبيان ذلك: هو أن البارى لو علم حصول المصلحة فى إيجاده هو لذلك الفعل، فحينئذ يحاول البارى- تعالى- إيجاد ذلك الفعل، فلو قدرنا أن العبد حاول إيجاد ذلك الفعل. فإما أن لا يوجد ذلك الفعل، أو يوجد. لا جائز أن يقال بالأول: لأن الفعل كان ممكنا. وامتناع الوجود: إما أن يكون لتعلق قادرية كل واحد منهما به، أو لوقوع المقدور، وكل واحد من القسمين محال؛ لما تقدم فى المسلك الّذي قبله.
________________
(1) فى ب (قدرة الله).
(2) فى ب (فباطل أيضا).
(3) فى ب (يمنع وجود أعداد).
(4) فى ب (الرب).
(2/393)
________________________________________
وإن كان الثانى: فإما أن يكون وجود ذلك الفعل بأحدهما، أو بهما. لا جائز أن يقال بالأول: لاستوائهما فى الاستقلال بالتأثير، وعدم الأولوية.
وإن كان الثانى: فقد لزم وجود خلق بين خالقين؛ وهو محال كما تقدم تقريره «1».
وهو بعيد عن التحقيق أيضا؛ إذ لقائل أن يقول:
لا نسلم أنه لو صلحت القدرة الحادثة للإيجاد، أنه «2» يلزم حصول «2» مخلوق بين خالقين.
قولهم: لأنه يلزم أن يكون مقدور العبد، مقدورا للرب- تعالى- لا نسلم ذلك.
قولهم: إذا كان العبد قادرا على إيجاد السكون فى الجوهر؛ فالرب قادر عليه أيضا.
قلنا: الرب- تعالى- وإن كان قادرا على إيجاد السكون فى الجوهر؛ فلا نسلم أن العبد قادر على إيجاد السكون فى الجوهر.
أما على أصول «3» أصحابنا: فظاهر. فإن مقدوره: لا يخرج عن محل قدرته، وهو الفعل القائم به، والسكون: فصفة فى الجوهر؛ فلا يكون مقدورا للعبد، ولا هو مخلوق له؛ بل هو مخلوق لله- تعالى.
وأما على أصول المعتزلة: فهو ممنوع على مذهب كثير منهم: كثمامة «4»، ومعمر، وغيرهما.
وعلى هذا: فقد بطل كل ما يبنى عليه من الأحكام، والأقسام.
وإن سلمنا أن العبد قادر على إيجاد السكون فى الجوهر، وكذلك الرب- تعالى:
ولكن ما المانع من تعدد المقدور؟
قولهم: لأن المقدور قبل وجوده عدم صرف، والعدم لا تمايز فيه.
________________
(1) انظر ل 217/ ب وما بعدها.
(2) فى ب (للزم منه وجود).
(3) فى ب (أصل).
(4) ثمامة بن أشرس النميرى. أبو معن، من كبار المعتزلة البغداديين. كان شيخا للثمامية المنسوبة إليه، وأحد الفصحاء البلغاء المقدمين، كان له اتصال بالرشيد، والمأمون، والمعتصم، ويقال إنه الّذي أقنع المأمون بالاعتزال، وتوفى سنة 213 ه.
(الفرق بين الفرق 173 والملل 70 وتاريخ بغداد 7/ 145. وراجع ما سيأتى فى الجزء الثانى- القاعدة السابعة: عن الثمامية المنسوبة إلى ثمامة بن أشرس ل 246/ أ وهامشها.
(2/394)
________________________________________
قلنا: لا نسلم أنه عدم صرف؛ بل عدم مضاف. وإذا كان كذلك فلا نسلم أن الاعدام المضافة لا تمايز فيها.
وما ذكروه من الوجهين فى بيان أن مقدور العبد/ هو مقدور الرب بتقدير التعدد فى السكون المقدور؛ فقد سبق إبطالهما فيما تقدم.
وإن سلمنا أن مقدور العبد هو مقدور الرب: فلا نسلم أنه يلزم من ذلك وجود مخلوق بين خالقين.
وما المانع من كونه مخلوقا للعبد، ومقدورا للرب من غير تأثير فى إيجاده؟ كما قلتم بأن العقل مخلوق للرب- تعالى- ومقدور للعبد «1» من غير تأثير فى إيجاده.
قولهم: لو علم الله- تعالى- أن المصلحة فى إيجاده هو لذلك الشيء؛ فيحاول إيجاده.
قلنا: متى يعلم أن المصلحة فى خلقه «2» لذلك «2» الشيء: إذا أمكن أن يكون مخلوقا له، أو إذا لم يكن.
الأول؛ مسلم. والثانى؛ ممنوع.
فلم قلتم: إنه يلزم من كونه مقدورا له: إمكان كونه مخلوقا له، ولو لزم ذلك فى حق الرب- تعالى-؛ للزم مثله فى حق العبد؛ ولم يقولوا به.
وإن سلمنا إمكان كونه مخلوقا له: ولكن متى إذا علم الله- تعالى- أن العبد يحاول إيجاده وخلقه، أو إذا لم يعلم؟
الأول: ممنوع. والثانى: مسلم.
فلم قلتم بالمحاولة لإيجاده مطلقا؟
سلمنا إمكان المحاولة للعبد، والرب معا: ولكن لم قلتم بامتناع عدم الوقوع، أو بوقوعه بقدرة أحدهما دون الآخر؟ وما قيل فيهما؛ فقد سبق إبطاله فى المسلك الّذي قبله.
________________
(1) فى ب (للرب).
(2) فى أ (حقه لذلك). أما فى ب (خلقه ذلك).
(2/395)
________________________________________
المسلك السادس:
أنه لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه، فعند ما يوجد منه الفعل: إما أن يصح منه الترك بدلا عن الفعل، والفعل بدلا عن الترك، أو لا يصح منه ذلك.
فإن كان الأول: فترجح أحد الطرفين على الآخر: إما أن يتوقف على مرجح، أو لا يتوقف على مرجح.
فإن توقف على المرجح: فذلك المرجح: إما أن يكون من فعل العبد، أو من فعل الله، أو لا من فعل أحد.
فإن كان (من «1») فعل العبد: فالكلام فيه كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان من فعل الله- تعالى-: فعند حصول ذلك المرجح: إما أن لا يصح معه الترك، أو يصح معه الترك.
فإن كان الأول؛ فهو مجبور غير مختار.
وإن كان الثانى: فكل ما هو ممكن أن يكون لا يلزم من فرض وقوعه المحال.
فلنفرض الفعل تارة، والترك أخرى.
وعند ذلك: ففرض الوجود دون العلم «2» به: إن كان لا بمرجح؛ فقد تحقق (ترجح «3») أحد الجائزين لا بمرجح؛ وهو محال.
وإن كان بمرجح: فما فرض أو لا ليس هو «4» المرجح «4»؛ وهو خلاف الفرض. ثم إن التقسيم بعينه عائد: وهو أنه مع فرض/ وجود هذا المرجح هل يصح معه الترك، أو لا؟
والجبر، أو التسلسل يكون لازما.
وإن كان وجود ذلك المرجح لا بفعل أحد فهو: إما قديم، أو حادث.
لا جائز أن يكون قديما: وإلا لما كان صفة للحادث.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (العدم).
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (بمرجح).
(2/396)
________________________________________
ولا جائز أن يكون حادثا؛ إذ الحادث لا يستغنى عن محدث على ما سبق تقريره.
وأما إن كان أحد الطرفين لا يتوقف فى وقوعه على مرجح: ففيه وقوع أحد طرفى الجائز من غير مرجح؛ وهو محال كما سبق فى إثبات واجب الوجود «1».
كيف: وأنه لا يلزم منه أن يكون وقوع أحد الطرفين لا بأمر صدر من العبد؛ وهو أيضا جبر.
هذا كله: إن كان العبد ممن يصح منه كل واحد من الطرفين بدلا عن الآخر.
وإن كان لا يصح منه ذلك؛ فهو مجبور غير مختار.
وهذا المسلك أيضا ضعيف؛ إذ لقائل أن يقول:
قولكم: إذا صح منه بدلا عن الترك، والترك بدلا عن الفعل؛ فلا بد لوقوع أحد الأمرين من منع؛ مسلم.
قولكم: المرجح إما من فعل العبد، أو من فعل الله، أو لا من فعل أحد: مسلم؛ ولكن لم قلتم إنه لا يكون من فعل العبد؟
قولكم: التسلسل يكون لازما: ممنوع. وما المانع من كونه من فعل العبد على وجه لا يكون متمكنا من تركه؟ ولا يلزم من سلب الاختيار عن العبد فى فعل المرجح؛ سلبه عنه فى أفعاله مطلقا.
وإن سلمنا أنه من فعل الله- تعالى- فما المانع منه
قولهم «2»: إما أن يصح معه الترك أو لا؟ والجبر، أو التسلسل يكون لازما.
قلنا: إن عنيتم بكونه مجبورا: أنه غير مختار فى تركه بتقدير وجود المرجح للفعل: فسلم، ونحن لا ننفى الجبر عن فعل العبد بهذا الاعتبار.
وإن عنيتم به أنه وجد لا بإيجاده: فهو ممنوع.
ونحن إنما ننفى الجبر عن فعل العبد بهذا الاعتبار.
________________
(1) راجع ما سبق ل 41/ أ وما بعدها.
(2) فى ب (قولكم).
(2/397)
________________________________________
وإن سلمنا امتناع الجبر عن «1» فعل العبد «1» على ما ذكرتموه؛ فما المانع من صحة الترك مع وجود المرجح؟
قولكم: يلزم منه التسلسل.
قلنا: متى إذا كان المرجح: هو القدرة، والاختيار، أو إذا لم يكن؟
الأول: ممنوع. والثانى: مسلم.
وذلك لأن المرجح إذا كان هو القدرة، والاختيار؛ فليس يمتنع معه الترك، ولا يفتقر إلى مرجح آخر. بتقدير الوجود حتى يقال: بالتسلسل، أو خروج ما فرض مرجحا عن كونه مرجحا على ما ذكروه؛ فإن هذا/ هو شأن القدرة وخاصيتها.
ثم وإن سلمنا أنه لا من فعل الله- تعالى-: فما المانع من كونه لا من فعل أحد، وأن يكون قديما؟
قولكم: إنه صفة للحادث: ممنوع. وإلا كان موجد الحادث حادثا؛ وهو محال.
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه: لكن غايته الدلالة على أن العبد غير مختار فى فعله، وليس فيه ما يدل على امتناع كونه فاعلا مطلقا.
ثم ما ذكرتموه لازم عليكم من وجهين:
الأول: أنه لازم عليكم فى إثبات الكسب؛ حيث أثبتم كون الفعل مكتسبا للعبد، غير مجبور عليه.
وبيان ذلك: هو أن ما أثبتموه من الكسب: وهو الفعل المقدور بالقدرة الحادثة: إما أن يكون بحيث يصح للعبد «2» معه الفعل، بدل الترك، وبالعكس: أو لا.
فإن صحّ: فلا بد له من مرجح؛ وذلك المرجح: إما من فعل العبد، أو من فعل الله، أو لا من فعل أحد «3»، وهلم جرا إلى آخر القسمة، ولا بد من الجبر، أو التسلسل الممتنع، أو حدوث الجائز، من غير مرجح.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) ساقط من ب.
(3) فى ب (أحدهما).
(2/398)
________________________________________
الثانى: أنه لازم عليكم فى كون الفعل حاصلا بخلق الله؛ إذ التقسيم وارد عليه حسب وروده على كون العبد خالقا لفعله؛ فما هو الجواب فى صور الإلزام؛ فهو بعينه الجواب فى محل النزاع.
فإن قيل: الفرق بين البارى- تعالى- والعبد، أنّ صدور الفعل عن القادر موقوف على الإرادة. والإرادة فى الشاهد محدثة؛ فافتقرت إلى (محدث «1»). فإن كان ذلك المحدث هو العبد: لزم التسلسل؛ فوجب انتهاء جميع الإرادات إلى إرادة ضرورية يخلقها الله- تعالى- فى القلب ابتداء، ويلزم منه الجبر. بخلاف إرادة الله- تعالى- إذ هى قديمة مستغنية عن إرادة أخرى؛ فلا تسلسل.
قلنا: وإن كانت إرادة البارى- تعالى- قديمة: فإما أن يصح معها الفعل بدلا عن الترك، أو الترك بدلا عن الفعل، أو لا:
فإن كان الأول: فلا بد لأحد الطرفين من مرجح، والكلام فى ذلك المرجح كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان الثانى؛ فقد لزم الجبر، ولا خلاص عنه.
المسلك السابع:
أن ضلال الكافر، وجهله عند الخصوم؛ مخلوق للكافر، وموجود بإيجاده اختيارا، ولو كان كذلك؛ لكان قاصدا له؛ إذ القصد من لوازم الفعل اختيارا؛ واللازم/ ممتنع فإن عاقلا لا يقصد لنفسه الضلال، والجهل؛ (فلا «2» يكون «2») فاعلا له اختيارا.
وهو فاسد أيضا؛ إذ لقائل أن يقول:
ما يفعله الكافر من الضلال، والجهل لا بد وأن يكون قاصدا له.
وقولكم: العاقل لا يقصد لنفسه الضلال، والجهل.
قلنا: متى إذا علم كونه ضلالا، وجهلا، أو إذا ظن كونه هديا، وعلما؟
________________
(1) فى أ (محدثه).
(2) ساقط من أ.
(2/399)
________________________________________
الأول: مسلم. والثانى: ممنوع.
وعلى هذا: فلا يبعد أن يكون قاصدا لإيجاده مع هذا الظن.
فإن قيل: فإذا كان قصده لإيجاد الكفر متوقفا على الظّن بكونه هديا وحقا؛ فهذا الظن أيضا جهل.
فإن كان القول فيه: كالقول فى الأول؛ لزم أن يكون كل جهل مسبوقا بجهل آخر إلى غير النهاية؛ وهو محال.
وإن وقع الانتهاء إلى جهل: غير مسبوق بجهل آخر؛ فذلك الجهل لا يكون مقصودا له؛ فلا يكون من فعله؛ بل من الله- تعالى- وباقى الجهالات مترتبة عليه؛ فكان الكل مستندا إلى خلق الله- تعالى- وتكوينه.
قلنا: بل لا بد من الانتهاء إلى جهل لا يكون مقصودا، ولا هو من فعله، ولا يمتنع أن تكون بعض الجهالات مقدورة «1» للعبد، والبعض غير مقدورة «2» له؛ بل كما فى العلوم. وذلك الجهل الأول: الّذي ليس بمقدور للعبد، وإن كان شرطا فى قصد باقى الجهالات؛ فلا يلزم أن تكون باقى الجهالات مخلوقة لله- تعالى-؛ بل جاز أن تكون مخلوقة للعبد. وإن توقفت على شرط مخلوق لله- تعالى- كما فى الحياة؛ فإنها شرط كون الفعل مقدورا للعبد على اختلاف المذهبين. وإن كانت الحياة غير مقدورة للعبد بالاتفاق.
والمعتمد فى المسألة مسلكان:
[المسلك] الأول:
لو كان العبد خالقا لأفعال نفسه؛ للزم وجود خالق غير الله، ووجود خالق غير الله، محال؛ لما سبق. ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.
المسلك الثانى:
لو كان العبد موجدا لفعل نفسه، ومحدثا له؛ لكان عالما به، واللازم ممتنع، فالملزوم ممتنع.
________________
(1) فى ب (مقدورا).
(2) فى ب (مقدور).
(2/400)
________________________________________
وبيان الملازمة: أنه لو كان موجدا لأفعاله فلا يخلو: إما أن يكون موجدا لها بذاته وطبعه، أو بالقدرة، والاختيار.
لا جائز أن يقال بالأول؛ إذ «1» هو «1» خلاف الإجماع منا، ومن الخصوم.
كيف: وأنا قد بينا امتناع الإيجاد بالطبع فى الرد على الطبائعيين «2».
/ وإن كان الثانى: فالموجد بالقدرة، والاختيار؛ لا بد وأن يكون قاصدا لما يوجده، ومخصصا له بالقصد دون غيره، وإلا لما كان وجود ذلك المخصص بالوجود دون غيره أولى من العكس، وإذا كان لا بد من القصد؛ فلا بد وأن يكون القاصد للشىء عالما به؛ فإن قصد العاقل لما لا علم له به محال؛ وهو معلوم بالضرورة.
وإذا ثبتت الملازمة. فبيان انتفاء اللازم: هو أنا نعلم علما ضروريا من أنفسنا عدم العلم بوجود أكثر حركاتنا «3»، وسكناتنا «3» فى حالة المشى، والقيام، والقعود. ولو أردنا قصد كل جزء من أجزاء حركاتنا فى حالة إسراعنا بالمشي، والحركة، والإحاطة به؛ لم نجد إليه سبيلا؛ بل ويعلم ذلك من حال أكمل العقلاء. فما ظنك بالحيوانات العجماوات: البرية، والبحرية، والهوائية فى مشيها، وسباحتها، وطيرانها. حتى الذر، والبعوض؛ بل وكذا حال النائم فى منامه؛ بل أبلغ من حيث أن النّوم ضدّ للعلم باتفاق العقلاء، وقد قالوا: إنه فاعل لما يصدر عنه من الأفعال القليلة دون الكثيرة.
وإذا ثبت انتفاء اللازم؛ لزم انتفاء الملزوم.
[إشكالات للخصوم]
فإن قيل: سلمنا أنه لا بد وأن يكون الموجد بالقدرة، والاختيار قاصدا لما يوجده، وعالما به؛ ولكن على وجه كلى، أو على وجه جزئى.
الأول: مسلم. والثانى: ممنوع؛ فلم قلتم: إنه غير عالم وقاصد، لما يوجده على وجه كلى.
________________
(1) فى ب (و هو).
(2) انظر ل 220/ ب وما بعدها.
(3) فى ب (سكناتنا وحركاتنا).
(2/401)
________________________________________
وإن كان جاهلا بخصوص الواقع المخصص من الجزئيات كما ذكرتموه، وقررتموه «1» من أحوال العقلاء.
وبيان امتناع اشتراط القصد للجزئى «2» الحادث «2» فى الإحداث: هو أن القصد للشىء نسبة «3» بينه «3»، وبين القاصد له؛ فيكون صفة له من حيث هو نسبة بينه، وبين القاصد. والصفة تابعة للموصوف فى الوجود؛ فيكون القصد تابعا لذلك الجزئى فى الوجود. فلو كان حدوث ذلك الجزئى مشروطا بالقصد إليه؛ لكان تابعا للقصد إليه فى الوجود؛ وهو دور ممتنع.
ثم وإن سلمنا: دلالة ما ذكرتموه على امتناع كون العبد خالقا لفعله؛ لكنه قدح فى البديهيات، وإبطال للضّروريات كما قاله أبو الحسين البصرى الملقب بجعل.
وبيان ذلك: هو أن كل عاقل يعلم من نفسه أنه فاعل لما يصدر عنه: من الحركات، والسكنات الواقعة على/ وفق قصده، وداعيته: كقيامه، وقعوده، ومشيه، وغير ذلك من أفعاله. بخلاف حركة الارتعاش، والمجرور المسحوب على وجهه: على وجه لا يتمارى فيه عاقل ولا يشككه مشكك، والقدح فى الضروريات لا يكون مقبولا.
سلمنا أن العلم بكون العبد فاعلا، وموجدا لفعله غير ضرورى؛ لكن ما ذكرتموه معارض بما يدل على كونه موجدا، وفاعلا.
[المعارضة بالمنقول والمعقول]
وبيانه من حيث المعقول، والمنقول:
أما المعقول:
فمن عشرين وجها:
الأوّل: أنه قد «4» قام الدليل على وجود القدرة الحادثة بما سبق «5».
وعند ذلك: فلو لم تكن القدرة الحادثة مؤثرة فى الفعل المقدور، ولا فى صفة من صفاته؛ لم يبق بين المقدور، وغير المقدور معنى؛ وفيه إبطال دليل وجود القدرة الحادثة.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (الحادث الجزئى).
(3) فى ب (نسبة له بينه).
(4) فى ب (لو).
(5) انظر ل 229/ أ وما بعدها.
(2/402)
________________________________________
الثانى: أنه قد ثبت كون فعل العبد مقدورا للعبد. فلو لم يكن مخلوقا له؛ لكان مخلوقا لغيره،؛ لضرورة حدوثه، ويلزم من كونه مخلوقا للغير أن يكون مقدورا لذلك الغير.
وعند ذلك: فإما أن يبقى مقدورا للعبد، أو لا يبقى مقدورا له.
فإن كان الأول: لزم وجود مقدور بين قادرين؛ وهو محال كما سبق.
وإن كان الثانى: فيلزم منه إبطال دليل القدرة الحادثة؛ وهو ممتنع.
الثالث: هو أن الفعل المقدور واقع على حسب القصد، والداعية؛ بخلاف ما ليس بمقدور. فلو كان الفعل المقدور واقعا بغير القدرة الحادثة؛ لما وقع على حسب القصد، والداعية؛ بخلاف ما ليس بمقدور. فلو كان الفعل المقدور واقعا بغير القدرة الحادثة؛ لما وقع على حسب القصد، والداعية لغير المقدور.
الرابع: هو أن الأفعال الاختيارية مختلفة باختلاف القدر. حتى أن الأيّد القوى؛ يقدر على حمل أضعاف ما يقدر عليه الضّعيف، ولو استويا فى عدم تأثير القدرة فى المقدور؛ لما وقع التفاوت أصلا.
وحيث وقع التفاوت؛ دلّ على تأثير القدرة الحادثة فى مقدوراتها.
الخامس: هو أنه لو كان تعلق القدرة الحادثة بمقدورها من غير تأثير لها فيه؛ لما امتنع تعلقها بالألوان، والطعوم، والجواهر، والمستحيلات: كما فى العلم. وحيث لم تتعلق بهذه الأمور؛ لم يكن إلا لكونها مؤثرة.
السادس: هو أنه لو لم تكن قدرة العبد مؤثرة فى مقدوره؛ لكان/ مقدوره حاصلا فيه بفعل الله- تعالى- ضرورة: كما فى حركة الارتعاش، ويلزم من ذلك أن يكون العبد مضطرا إلى الفعل، وهو مقدور له؛ وذلك «1» محال.
السابع: أنه لو لم تكن القدرة الحادثة مؤثرة فى مقدورها؛ بل المؤثر فيه هو الله- تعالى-؛ لأمكن وجود مقدورات من العبد فى غاية الحكمة «2» والإتقان: كالصنائع البديعة، والأبنية المشيدة الرفيعة. وهو لا يشعر بها، ولا يحيط بها مع كونها مقدورة له؛ لضرورة «3» وقوعها بفعل الله- تعالى-؛ وذلك محال.
________________
(1) فى ب (و هو).
(2) فى ب (من الحكمة).
(3) فى ب (ضرورة).
(2/403)
________________________________________
الثامن: هو أن مقدور العبد ينقسم: إلى طاعة، ومعصية، وخير وشر، وذل، وخشوع. وفعل الله- تعالى- لا يوصف بشيء من ذلك؛ فلو كان مقدورا للعبد غير مخلوق له؛ بل لله- تعالى-؛ لا تصف بهذه الصفات؛ وهو محال.
التاسع: أنه من فعل الظلم: فإنه يسمى ظالما، والشر: شريرا، والفسق: فاسقا، والخير: خيرا، والمعصية: عاصيا، والخشوع: خاشعا، إلى غير ذلك.
ولا يخفى أن مقدورات العبد: منقسمة إلى هذه الأقسام. فلو لم تكن من فعله؛ بل من فعل الله- تعالى-؛ لسمى بما ذكرناه؛ وهو محال.
العاشر: أنه لو لم يكن مقدور العبد حاصلا بقدرته؛ بل بإيجاد الله- تعالى-؛ لكان كفره بإيجاد الله- تعالى؛ وهو ممتنع لوجهين:
الأول: أنه لو كان كذلك؛ لكان الرب- تعالى- أضر على العبيد من إبليس اللعين، من حيث أن إبليس داع إلى الكفر، والرب- تعالى- موجد له؛ وذلك غير لائق بالموصوف باللطيف، وأرحم الراحمين، على ما قال- تعالى- اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ «1» وقال- تعالى- وهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «2».
الثانى: أنه يلزم منه أن لا يكون لله- تعالى- على الكافر نعمة على ما تقرر قبل؛ وهو محال لما سبق.
الحادى عشر: هو أن العقلاء: يستحسنون شكر المحسن، وذم المسىء ولا يستحسنون شكره، ولا ذمه على سواده، وبياضه، وطوله، وقصره، وحركته حال ارتعاشه. ولو لم يكن ما «3» شكر «3»، وذم عليه: من فعله، وإيجاده؛ لما حسن الشكر، والذم: كما فى الصور المستشهد بها؛ ضرورة التساوى فى عدم تأثير القدرة الحادثة.
الثانى عشر: هو أن العقلاء: (يستحسنون) «4» الأمر، والنهى للقادر على الفعل، وطلبه منه، وزجره عنه، والوعد والوعيد عليه. ولا يستحسنون ذلك فيما ليس بمقدور:
________________
(1) جزء من الآية رقم 19 من سورة الشورى.
(2) سورة يوسف جزء من الآية رقم 64.
(3) فى ب (ما شكر عليه).
(4) فى أ (لا يستحسنون).
(2/404)
________________________________________
كحركة/ الارتعاش، ووجود الجواهر، والألوان، والطعوم، ولو تساويا فى عدم تأثير القدرة الحادثة فى الكل؛ لما حسن هذا الفرق.
الثالث عشر: أن القول يكون العبد غير خالق لفعله: يسد باب إثبات الصانع؛ وذلك من حيث أن الطريق إلى إثبات الصانع: إنما هو حدوث العالم، وافتقاره إلى محدث بالقياس على أفعالنا الحادثة، فإذا كان حكم الأصل فى الأصل غير ثابت؛ ففى الفرع أولى.
الرابع عشر: أن الإجماع من الأمة منعقد على أن العبد مأمور، ومنهى؛ فلو كان ما أمر به، ونهى عنه: ليس من فعله؛ لكان ذلك تكليفا بفعل الغير؛ وهو تكليف بما لا يطاق. ولو أمكن ذلك؛ لأمكن التكليف بخلق الجواهر، والألوان، والطعوم؛ بل بالمستحيلات؛ وذلك محال. كما سبق تقريره فى «1» مسألة تكليف ما لا يطاق «1».
الخامس عشر: أن مقدورات العبد منقسمة: إلى حسنة، وقبيحة؛ فلو لم تكن مقدوراته من فعله. وإيجاده؛ لكانت من فعل الله- تعالى- ويلزم من ذلك أن يكون الله فاعلا للقبيح؛ وهو محال من ثلاثة أوجه:
الأول: أن من يفعل القبيح إذا كان مختارا له؛ فلا يتصور فعله له إلا بتقدير جهله بقبحه، أو احتياجه إليه، ويلزم من ذلك أن يكون الرب- تعالى- جاهلا، أو محتاجا؛ وهو محال.
الثانى: أنه لو جاز عليه فعل القبيح؛ لجاز أن يبعث نبيا كاذبا: داعيا إلى الكفر، والضلال، والبدع، والفسق، وأفعال الشر؛ وذلك كله محال.
الثالث: أنه إذا جاز عليه فعل القبائح؛ فلا يمتنع عليه الكذب فى وعده، ووعيده، وكل ما يخبر به.
________________
(1) من أول (فى مسألة ... ) ناقص من ب. انظر ل 194/ ب وما بعدها.
(2/405)
________________________________________
ويلزم من ذلك: إبطال الشرائع، وتجويز أن يكون ما أخبرنا به من (أن) «1» دين الإسلام حق، وما عداه باطل بالضد؛ وكل «2» ذلك «2» محال لا يرتضيه عاقل لنفسه؛ فضلا عن خالقه.
السادس عشر: لو كانت مقدورات العبد من أفعال الله؛ لكانت حسنة بكل حال؛ وليس كذلك.
السابع عشر: أنه لو لم يكن العبد موجدا لفعله؛ لما كان الثواب، والعقاب على فعل العبد مجازاة له على فعله، وهو خلاف قوله- تعالى- جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «3». وقوله- تعالى- ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ «4». وقوله- تعالى- جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «5». وقوله- تعالى- لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «6».
/ إلى غير ذلك من الآيات، والدلالات السمعيات؛ وذلك محال.
الثامن عشر: أنه يلزم من كون العبد غير موجد لفعله: أن يكون الثواب والعقاب من الله- تعالى- لا بطريق المجازاة على الفعل. ولو كان كذلك لجاز عقاب الأنبياء، وثواب الكفرة الأغبياء، وعقاب الطائع، وثواب العاصى، ولم يبق لأحد وثوق بعمله.
ولا يخفى: ما فى ذلك من تشويش الدين، والخبط فى الشريعة، وتعطيل معنى الرسالة.
التاسع عشر: أنه لو كان البارى- تعالى- هو الفاعل لمقدورات العبد، وهو آمر بها، وناه عنها؛ لكان آمرا للعبد بفعل نفسه، ناهيا له عنه، ولا يخفى أن أمر الآمر لغيره بفعل الأمر، ونهيه عن فعله، مما يعد جهلا، وحمقا؛ والرب منزه عن ذلك كله.
العشرون: أنه لو كان الكفر، والإيمان من فعل الله- تعالى-؛ لكان من قضائه، وقدره.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (و هو).
(3) سورة السجدة 32/ 17.
(4) سورة آل عمران 3/ 182.
(5) سورة التوبة جزء من الآية رقم 82 والآية رقم 95.
(6) سورة النجم 53/ 31.
(2/406)
________________________________________
وعند ذلك: إما أن يكون قضاؤه حقا، أو باطلا.
فإن كان باطلا: فالإيمان باطل.
وإن كان حقا: فالكفر حق؛ وهو محال.
وأيضا: فإنه: إما أن يرضى بقضائه وقدره، أو لا يرضى به.
فإن كان الأول: لزم الرضى بالكفر.
وإن كان الثانى: لزم أن لا يرضى بالإيمان؛ وهو محال مخالف لإجماع الأمة.
وأما من جهة المنقول: فمن جهة الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
أما الكتاب:
فقوله- تعالى- وإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحاً «1». وقوله- تعالى- مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ «2». وقوله- تعالى- لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «3». وقوله تعالى- أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «4». وقوله- تعالى- الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأَجْرٌ عَظِيمٌ «5». وقوله- تعالى- والَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ «6». إلى غير ذلك من الآيات الدالة على نسبة العمل إلى العبد.
وأما السنة:
فقوله- عليه السلام-: «الأعمال بالنّيات» «7». وقوله: «لا عمل إلّا بنيّة». وقوله:
________________
(1) سورة طه 20/ 82.
(2) سورة فصلت 41/ 46.
(3) سورة هود 11/ 7.
(4) سورة الجاثية 45/ 21.
(5) سورة المائدة 5/ 9.
(6) سورة المؤمنون 23/ 4.
(7) جزء من حديث- متفق عليه- عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى البخارى 1/ 4 (كتاب بدء الوحى) ومسلم 3/ 1515 - 1516 (كتاب الإمارة، باب قوله صلّى اللّه عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية. والحديث ورد بألفاظ عدة فى مواضع كثيرة فى كتب الصحاح والسنن.
(2/407)
________________________________________
«نيّة المؤمن خير من عمله» «1». وقوله: «اعملوا وقاربوا وسدّدوا فكلّ ميسّر لما خلق له» «2».
وأما الإجماع:
فهو أن الأمة مجمعة على إطلاق القول: بإضافة العمل إلى العبد، وأنه فاعل. وأنه فعل كذا، وما فعل كذا. وكذا فعله.
والفعل: عبارة عن الحادث ممن كان قادرا عليه.
والفاعل: هو القادر على إيجاد الفعل.
وإن سلمنا أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى نفس الفعل: ولكن ما المانع من كونها مؤثرة فى إثبات صفة «3» للفعل؟ / كما هو مذهب القاضى أبى بكر والأستاذ أبى إسحاق؛ وهو أولى؛ لما فيه من الجمع بين الأدلة الدالة على كون الرب خالقا لفعل العبد، والأدلة الدالة على كون العبد فاعلا، ومؤثرا.
ولا يخفى: أن الجمع بين الأدلة أولى من العمل بالبعض، وتعطيل البعض.
والجواب:
قولهم: الموجد بالاختيار لا بد وأن يكون قاصدا لما يوجده، وعالما به على وجه كلى، أو جزئى.
قلنا: القصد يجب أن يكون إلى الشيء الّذي يتعلق به الحدوث والوجود، وليس ذلك غير الجزئى، لا الكلى.
________________
(1) أخرجه الطبرانى عن سهل بن سعد الساعدى مرفوعا. انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلونى ص 324.
وفى قول آخر أنه فى الأمثال للعسكرى، والبيهقى فى الشعب من جهة ثابت عن أنس به مرفوعا. وانظر حلية الأولياء لأبى نعيم الأصبهانى 3/ 255، وفيه الحديث ورد مرفوعا عن سهل بن سعد.
(2) جمع الآمدي بين حديثين فى قول واحد:
الأول: قوله صلّى اللّه عليه وسلم: سددوا وقاربوا ويسروا فإنه لن يدخل الجنة أحد عمله. وهو جزء من حديث عن عائشة رضى الله عنها فى مسند أحمد 6/ 125.
الثانى: قوله صلّى اللّه عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. وهو جزء من حديث عن عمران بن حصين فى البخارى 9/ 195 (كتاب التوحيد، باب فى قول الله تعالى «و لقد يسرنا القرآن للذكر» والحديث ورد باختلاف طفيف فى الألفاظ فى كتاب الصحاح والمسانيد.
(3) فى ب (صيغة).
(2/408)
________________________________________
وإذا كان القصد لا يكون إلا للجزئى؛ فالمقصود يجب أن يكون معلوما؛ لضرورة تعلق القصد بإيجاده. فلو كان المقصود المعلوم هو الكلى دون «1» الجزئى: لكان المعلوم المقصود غير الحادث، والحادث غير مقصود ولا معلوم؛ وهو محال.
قولهم: لو اشترط قصد الجزئى: من حيث هو جزئى؛ لزم الدور كما قرروه. إنما يلزم: أن لو كان القصد نسبة، وإضافة؛ وليس كذلك؛ بل المراد بالقصد: الإرادة.
والإرادة: كما سبق- عبارة عن صفة وجودية صالحة أن يتأتى بها تخصيص المقدور بحالة دون حالة. والّذي يتخيل أنه نسبة وإضافة: إنما هو تعلقها بالمقدور. والدور «2» أيضا: غير لازم من تعلقها بالمقدور الجزئى؛ لأن معنى تعلق الإرادة بالمقدور: حصول تخصيصه مستندا إليها: بمعنى أنه: لو لا الإرادة لما كان ذلك التخصيص.
ولا يخفى: أن تفسير التعلق بهذا المعنى مما لا يلزم منه الدّور أصلا.
قولهم: ما ذكرتموه تشكيك فى الضّروريات؛ ممنوع.
قولهم: كل عاقل يعلم من نفسه أنه موجد لما يفعله ضرورة.
قلنا: كل عاقل يجد من نفسه العلم بوجود فعله: مقارنا لقدرته، أو أن قدرته مؤثرة فى فعله. الأول: مسلم، ولا منافاة بينه، وبين ما ذكرناه. والثانى؛ ممنوع.
ولهذا: خالف فيه خلق كثير- تقوم الحجة بقولهم- من العقلاء: كالأشاعرة، والقدرية؛ والضرورى ليس كذلك.
قولهم: لو لم تكن القدرة الحادثة مؤثرة: لما فرق «3» بين المقدور، وما ليس بمقدور.
قلنا: لا نسلم أنه يلزم من عدم تأثير القدرة الحادثة فى مقدورها؛ امتناع الفرق بين المقدور، وما ليس بمقدور، كما لا يلزم من امتناع تأثير العلم فى المعلوم؛ امتناع الفرق بين المعلوم، وما/ ليس بمعلوم. اللهم إلا أن يبينوا: امتناع تعلق القدرة الحادثة بالمقدور؛ ولا سبيل إليه.
ولا يلزم: من امتناع التأثير؛ امتناع التعلق: بدليل العلم، والإدراك.
________________
(1) فى ب (لا).
(2) فى ب (و الأول).
(3) فى ب (وقع الفرق).
(2/409)
________________________________________
ثم كيف السبيل: إلى إنكار المعتزلة انقسام القدرة: إلى مؤثرة، وغير مؤثرة. ومن أصلهم: أن الإرادة مما تقع بها الصفات التابعة للحدوث كصرف صيغة أفعل. إلى الإيجاب، والاستحباب. وصرف الفعل إلى التعظيم، والإهانة؛ ومع ذلك فحدوث الفعل غير واقع تبعا «1» مع كونه مرادا بها.
وكذلك حكموا: بأنّ صفة الاتفاق، والإحكام فى الفعل المحكم المتقن واقعه بالعلم؛ وهو غير مؤثر فى ذات الله- تعالى- والجواهر وكثير من الأعراض. وإن كان متعلقا بها؛ وهى معلومة به؛ ولو سئلوا عن الفرق لم يجدوا إليه سبيلا.
قولهم: يلزم مما ذكرتموه: وجود مقدور بين قادرين.
قلنا: قادرين خالقين، أو قادرين مخترع، ومكتسب. الأول؛ ممنوع، والثانى مسلم.
ولكن لا نسلم امتناع ذلك على ما سبق تقريره.
قولهم: الفعل المقدور واقع على حسب القصد، والداعية.
قلنا: لا معنى للقصد: غير الإرادة. والداعى: لا معنى له غير علم الفاعل، أو اعتقاده، أو ظنه بما يتوقعه من نفع فى فعله، أو دفع ضرر به.
وعند ذلك: فلا نسلم أن الفعل المقدور واقع على حسب القصد والداعية؛ فإن الفعل القليل: مقدور للنائم بالإجماع منا، ومنهم. وهو غير واقع على حسب القصد، والداعية إليه؛ إذ النوم: مضاد للعلوم، والإدراكات بالإجماع منا، ومنهم.
وكذلك الحركة الواقعة لا على خط مستقيم: مقدورة لمن قصدها على خط مستقيم؛ وهى غير واقعة على حسب قصده، وداعيته؛ بل أبلغ من ذلك ما نراه «2» من حركات الحيوانات العجماوات: فى طيرانها، وسباحتها، وحركة أجفانها: انفتاحا، وانطباقا؛ فإنها مقدورة لهم بالإجماع مع علمنا أن كل حركة منها- على الخصوص- غير واقعة على حسب القصد، والداعية.
________________
(1) فى ب (بها).
(2) فى ب (و ما نراه).
(2/410)
________________________________________
وعلى أصلهم: المتولدات من حركات المختارين مقدورة لهم؛ وبعضها غير واقعة على حسب القصد، والداعية.
وأيضا: فإنهم أثبتوا للعبد أفعالا لا بقاء لها: كالحركات، وما لا بقاء له من الأعراض؛ فإنهم أوجبوا: اختصاصه بوقت لا يتصور تقدمه عليه ولا تأخره/ عنه؛ فوقوعه فيه لا يكون على حسب القصد، والداعية؛ لأن «1» القصد، والداعية متوقف «1» على التمييز بين الفعل، والترك.
سلمنا وقوع المقدور على حسب القصد، والداعية: ولكن لا نسلم أن ما ليس بمقدور، ليس كذلك؛ وبيانه من ثلاثة أوجه:
الأول: أن من طلب منه فعل فأتى به؛ فقد وقع على حسب قصد الطالب، وداعيته. وليس ذلك الفعل مقدورا له؛ فإن فعل زيد لا يكون مقدورا لعمرو بالاتفاق.
الثانى: أن الاتفاق منا، ومنهم واقع على أن الشبع، والرى واقعان عقيب الأكل، والشرب. بفعل الله- تعالى- على وفق القصد، والداعية فى الأكثر؛ وليس ذلك من فعل العبد.
الثالث: أنا قد اتفقنا: على إمكان خلق إرادة ضرورية، وداع ضرورى لفعل «2» مخلوق فى العبد بالضرورة على وفق قصده، وداعيته؛ ولا يكون فعلا للعبد.
سلمنا أن المقدور واقع على حسب القصد، والداعية، وأن ما ليس بمقدور ليس كذلك: ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن يكون المقدور مفعولا لمن له القصد، والداعية.
قولهم: لو لم يكن كذلك؛ لما وقع المقدور على حسب القصد والداعية، لغير المقدور. إنما يلزم ذلك: أن لو كان عدم وقوع الفعل على حسب القصد والداعية، فيما ليس بمقدور؛ لعدم تأثير القدرة الحادثة فيه؛ وهو غير مسلم.
________________
(1) فى ب (و القصد والإرادة متوقفان).
(2) فى ب (بفعل).
(2/411)
________________________________________
وما المانع أن يكون ذلك لكونه غير مقدور؟ لا لعدم تأثير القدرة فيه؟ أو لمعنى آخر لا سبيل إلى نفيه بطريق قطعى «1».
كيف: وأنه إذا لم يستبعد امتناع وقوع الفعل بالقصد والداعية، مع وقوعه على حسبهما، فكيف يستبعد وقوعه لا بالقدرة الحادثة؟
قولهم: الأفعال الاختيارية «2» مختلفة باختلاف القدر على ما ذكروه.
قلنا: التفاوت: إنما هو فى كثرة المقدورات لكثرة القدر؛ وليس فى ذلك ما يدل على وقوع الفعل بالقدرة.
قولهم: لو لم تؤثر القدرة الحادثة فى مقدورها؛ لما امتنع تعلقها بالجواهر، والألوان، والطعوم، والمستحيلات: كما فى العلم.
قلنا: هذا إنما يلزم أن لو بينوا أن علة تعلق العلم بالجواهر، وباقى ما ذكر، عدم تأثيره؛ وهو غير مسلم، ولا مبرهن عليه؛ فيكون ما ذكروه تمثيلا من غير علة جامعة/؛ وهو غير صحيح.
فإن قيل: فإذا «3» قيل: تتعلق القدرة بالمقدور من غير تأثير؛ فليس تعلقها ببعض المقدورات دون البعض؛ أولى من العكس.
قلنا: (ليس) «4» كذلك؛ فإنه لا مانع أن تكون لذاتها مقتضية للتعلق بما تعلقت به لخصوص تعينه، أو أن يكون تعين ما لم تتعلق به مانعا من تعلقها به.
ثم هو لازم: على القائل بتأثير القدرة الحادثة فى مقدور، دون مقدور، وكل ما يقال فى الجواب فى تخصيص التأثير؛ فهو جواب فى تخصيص التعلق من غير تأثير.
قولهم: لو كان مقدور العبد مخلوقا للرب- تعالى- فيه؛ لكان العبد مضطرا إليه؛ وقد سبق جوابه فى الفصول المتقدمة.
________________
(1) فى ب (قطع).
(2) فى ب (الاعتبارية).
(3) فى ب (إذا).
(4) فى أ (أ ليس).
(2/412)
________________________________________
قولهم: لو كان المؤثر فى مقدورات العبد القدرة القديمة؛ لجاز أن يوجد منه فعل فى غاية الحكمة، والإتقان؛ وهو لا يشعر به؛ عنه جوابان:
الأول: أنا نقول بجوازه، وإن كان على خلاف العادة (الغالبة) «1».
الثانى: وإن كان ذلك ممتنعا: فما المانع أن يكون ذلك لتلازم القدرة الحادثة والعلم، وإن كان المؤثر فى المقدور القدرة القديمة؛ وذلك كتلازم: الألم، والعلم به.
وإن كان المؤثر فى الألم هو القدرة القديمة.
قولهم: من فعل ظلما: يسمى ظالما؛ سبق الجواب عنه فيما تقدم.
قولهم: لو كان الرب هو الخالق للكفر؛ لكان أضرّ على العبيد من إبليس على ما قرروه.
قلنا: هذا هو اللازم على الخصم من وجهين:
الأول: أنه إن كان الموجد للكفر؛ أضرّ من الدّاعى إليه؛ فالممكن منه بخلق القدرة عليه، والداعى إليه، وآلات التوصّل إلى الكفر مع علمه بوقوعه ممن مكنه أيضا؛ أضرّ من الدّاعى إليه.
ولهذا: فإن فى الشاهد لو خلق الله- تعالى- العلم الضرورى لشخص، أو باعلام نبى مرسل له بطريق الوحى: أنه لو مكن عبدا من العدد، والأموال؛ لقطع الطريق، وأخاف السبيل، وارتكب الفواحش؛ فإنه يكون أضرّ على العبد من الداعى إليه. إذا لم يكن موجدا، ولا ممكنا لتلك المعاصى والرب- تعالى- قد مكن عبده من الكفر على أصلكم بما حققناه؛ فليكن أضرّ عليه من إبليس الداعى إليه.
وما هو جواب لكم: عن هذا الإلزام؛ فهو جواب لنا: هاهنا.
الثانى: أنه يلزم على سياق ما ذكروه: أن يكون العبد؛ لكونه فاعلا للإيمان- على أصلهم- أحق بالثناء من الله- تعالى- لكونه ممكنا منه غير فاعل له؛ وهو محال.
فلئن قالوا: إنما كان الرب أحق/ بالثناء من العبد؛ لأنه لو لا تمكينه من الكفر لما أوجد العبد الإيمان.
________________
(1) فى أ (الحالية).
(2/413)
________________________________________
قلنا: فليكن الرب أحقّ بالذّم على تمكينه من الكفر؛ لأنه لولاه لما أوجد العبد الكفر.
فلئن قالوا: الرب- تعالى- محسن بتمكينه العبد من الكفر؛ ليعظم ثوابه بإيمانه «1» عن «1» الكفر، وامتناعه منه.
قلنا: الثواب «2» عندكم: إنما يكون على الفعل، ولا فعل عدم؛ وليس بفعل.
والمتحقق هاهنا: إنما هو التمكين من الفعل، وعدم الفعل. والتمكين من فعل الله؛ فلا يستحق عليه العبد ثوابا. ولا فعل غير مثاب عليه، فلو أثيب؛ لأثيب على ما ليس من «3» فعله «3»؛ وهو محال على أصلكم.
هذا كله: إذا علم الله- تعالى- أن العبد لا يفعل ما مكنه منه.
وأما إذا علم أنه لا يمتنع مما مكنه منه، وأنه يفعله؛ فلا يعد محسنا.
كيف: وأن جميع ما ذكروه فمبنى على إلحاق الغائب بالشاهد؛ وهو ممتنع كما سبق «4».
فلو «5» صح: لصح «5» تقبيح فعل الله- تعالى- تمكينه «6» للخلق من الفواحش وارتكابهم لها؛ مع اطلاعه عليهم، وعلمه أنهم لا ينزجرون؛ كما يقبح ذلك فى الشاهد من السيد إذا ترك عبيده، وإماءه يرتكبون الفواحش؛ وهو مطلع عليهم، وقادر على منعهم؛ وهو محال.
قولهم: يلزم من ذلك أن لا يكون لله- تعالى- على الكافر نعمة.
قلنا: قد بينا- فيما سبق- أن مذهب أصحابنا: أنه لا نعمة لله- تعالى- على الكافر من النعم الدينية، وإن اختلفوا فى النعم الدنياوية، وبينا ما فى ذلك فى موضعه.
________________
(1) فى ب (بإبائه من).
(2) فى ب (القول).
(3) فى ب (بفعله).
(4) انظر ل 40/ أ.
(5) في ب (و لو صلح صح).
(6) فى ب (لتمكينه).
(2/414)
________________________________________
قولهم: العقلاء يستحسنون شكر المحسن، وذم المسىء، ولا يستحسنون الشكر والذم على سواده، وبياضه؛ مسلم.
قولهم: ولو لم يكن ذلك من فعله، وتأثيره؛ لما حسن ذلك؛ كما فى السواد، والبياض.
قلنا: هذا إنما يلزم أن لو بينتم أن امتناع الشكر، والذم على سواده وبياضه؛ لعدم تأثيره فيه؛ ولا سبيل إليه بأمر يقينى.
كيف وأن حاصل ما ذكروه: يرجع إلى الاحتجاج على قضية عقلية؛ بأمر عرفى؛ وهو فاسد.
قولهم: العقلاء يستحسنون الأمر والنهى، للقادر؛ مسلم.
قولهم: ولو لم يكن موجدا لما أمر به؛ لما حسن ذلك.
قلنا: القول بامتناع الأمر، والنهى بما ليس من فعل المأمور: إما أن يكون معلوما، أو غير معلوم.
فإن لم يكن معلوما: امتنع الجزم به.
وإن كان معلوما: فإما بالضرورة، أو بالدليل. لا سبيل إلى الأول: إذ ليس دعوى الضرورة فى محل الخلاف:/ أولى من دعوى الضرورة فى الضد.
كيف: وإنه لم يقل بذلك قائل ممن يؤبه به من المعتزلة غير الملقب بجعل.
وإن كان بدليل: فلا بد من إظهاره ضرورة إصرار الخصم على المنع.
وعند ذلك: فإن احتجوا بالعرف «1»؛ فقد سبق ما فيه.
وإن عادوا إلى شبهة أخرى غير هذه الشبهة من الشبه المذكورة، عاد الكلام فيها.
كيف: وأن ما ذكره المعتزلة من استبعاد الأمر والنهى، بما ليس مفعولا للمأمور، والمنهى ينعكس عليهم من وجهين:
________________
(1) فى ب (فى العرف).
(2/415)
________________________________________
الأول: أنهم زعموا أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى المقدور فى حال «1» حدوثها؛ بل فى الحالة الثانية من وقت حدوثها. وقد بينا فيما تقدم أنه يلزم من ذلك: امتناع تعلق القدرة بالمقدور. ومع ذلك؛ فهو مأمور، ومنهى.
الثانى: هو أن الذوات ثابتة عندهم فى العدم. والوجود حال زائدة عليها، والقدرة غير متعلقة بالذوات عندهم، والوجود حال، والأحوال غير مقدورة عندهم. والأمر بالفعل لا يخرج عن أن يكون بالذات، أو الوجود، أو بهما؛ والكل تكليف بما ليس بمقدور.
وقد عكس القاضى عليهم هذه الشبهة من وجهين آخرين:
الأول: أنه قال: ليس الغرض عندكم من الفعل المأمور به حدوثه، ووجوده. وإلا لعم الأمر جميع الأفعال؛ ضرورة اتحاد معنى الوجود عندكم فى جميع الأفعال؛ بل المقصود: إنما هو حسنه. والحسن على أصول المعتزلة غير واقع بالقدرة؛ بل هو من توابع الحدوث عندهم. وإذا لم يبعد كون المقصود بالأمر غير مفعول بالقدرة؛ فلأن لا «2» يبعد «2» كون الفعل- مع أنه ليس بمقصود من الأمر- غير مفعول بالقدرة كان أولى.
وهو ضعيف؛ إذ لهم أن يقولوا:
المأمور إنما: هو حدوث الفعل الّذي من توابعه الحسن؛ وهو المقصود.
فإن قيل: إذا كان الحدوث والحسن، من الصفات الزائدة على نفس الفعل، ولا انفكاك لإحداهما عن الأخرى. فإذا خرج الحسن عن كونه مقدورا- مع كونه المقصود الأصلي- فلأن يخرج الحدوث عن كونه مقدورا؛ كان أولى.
قلنا: عنه جوابان:
الأول: لا نسلم أن المقصود: هو الحسن؛ بل الحدوث: الّذي من توابعه الحسن.
الثانى: وإن كان المقصود: هو الحسن؛ فالقول بأنه إذا لم يكن مقدورا؛ فما ليس بمقصود أولى. دعوى مجردة عن الدليل؛ فلا تقبل.
________________
(1) فى ب (حالة).
(2) فى ب (يبعد).
(2/416)
________________________________________
وما المانع من أن/ تكون القدر لذاتها تقتضى التعلق بالحدوث لتعينه دون الحسن، أو أن تعين الحسن؛ يكون مانعا من تعلقها به؟
الثانى: أنه قال: الفعل وإن كان حادثا بالقدرة الحادثة عندكم. إلا أنه لا يتم وقوعه دون القدرة، وحدوث القدرة: غير مقدور للعبد.
وإذا جاز توجه الأمر بفعل متعلق بما ليس مقدورا للعبد؛ فلا يمتنع توجهه بما ليس مفعولا للعبد.
وهو أيضا ضعيف: فإنه لا يلزم من جواز توجه الأمر بما هو مقدور، متوقف على ما ليس بمقدور؛ لكونه «1» ممكن الوقوع عادة؛ جواز توجهه إلى ما ليس مقدورا أصلا.
قولهم: يلزم من كون العبد غير خالق لأفعاله: سد باب إثبات الصانع على ما ذكروه: إنما يلزم أن لو انحصر طريق الإثبات فيما ذكروه؛ وهو غير مسلم. ولا سبيل لهم إلى نفى طريق آخر: بغير البحث، والسبر؛ وهو غير يقينى؛ لما سلف «2».
كيف: وأن حاصل ما ذكروه من الطريق: يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد؛ وهو فاسد لما سبق «3».
ثم وإن سلمنا صحته: لكن بشرط الاشتراك فى العلة الدالة على كون العبد مؤثرا وهى غير مشترك فيها. وذلك أن من أصلهم فى الدلالة على كون العبد فاعلا، ومؤثرا فى مقدوره: وقوع مقدوره على حسب قصده، وداعيته. ولا سبيل إلى إثبات القصد فى حق الله- تعالى- إلا بصدور الفعل عنه، فلو وقفنا العلم بصدور الفعل عنه على كونه واقعا، على حسب قصده؛ لكان دورا ممتنعا.
قولهم: لو لم يكن مقدور العبد من فعله؛ لكان تكليفه به تكليفا بما لا يطاق.
فقد أجاب عنه بعض الأصحاب: مع تقريره لطريقة الشيخ أبى الحسن الأشعرى رضى اللّه عنه؛ فى امتناع تأثير القدرة فى مقدورها بأن التكليف: إنما هو بكسب العباد لا بفعل الله- تعالى- ولا وجه له؛ فإنه لا معنى للكسب: غير الفعل القائم بمحل القدرة والمحل والقدرة فى المقدور.
________________
(1) فى ب (لكنه).
(2) انظر ل 39/ ب.
(3) انظر ل 40/ أ.
(2/417)
________________________________________
وقيام المقدور بمحل القدرة: ليس من فعل العبد. والتكليف لا يخرج عن أن يكون بأحد هذه الأمور، أو بجملتها، والجملة، والأفراد ليست من فعله؛ فيكون تكليفا بما لا يطاق.
فالطريق المرضى على تقرير قاعدة الشيخ «1»: إنما هو التكليف بفعل الغير، وتجويز تكليف ما لا يطاق على ما تقدم تقريره فى التعديل، والتجوير «2».
قولهم: إن مقدورات العبد منقسمة إلى حسنة، وقبيحة فلو كانت من فعل الله- تعالى-؛ لكان الله/- تعالى- فاعلا للقبيح.
قلنا: هذا إنما يلزم على فاسد أصولهم فى التحسين، والتقبيح الذاتى «3»؛ وقد بينا إبطاله فيما تقدم «3»، وعلى ما قررناه فمعنى كون الفعل القائم بمحل قدرة العبد قبيحا أنه مأمور بذمه، أو أنه منهى عنه. والفعل بالإضافة إلى فعل الله- تعالى- ليس كذلك؛ فلا يكون قبيحا.
وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من المحالات الثلاثة.
على أنا نجيب عما «4» ذكروه من الإلزامات من وجهين:
الأول: إن كل ما ألزموه «5» جائز عندنا عقلا. ما عدا الكذب على الله- تعالى- فإنا بينا استحالته على الله- تعالى- بالدليل العقلى لا من جهة كونه قبيحا لذاته، ومع جواز تلك الأمور: فنقطع بعدم وقوعها كما نقطع بعدم انقلاب البحر دما، وغور الجبال الراسية، نظرا إلى العادة، وإن كان ذلك يجوز عقلا.
الثانى: هو أن ما ذكروه لازم عليهم فى خلق الدواعى، والصوارف إلى هذه الأفعال؛ فإنه كما يقبح من الله- تعالى- بعثة الرسل بها، والحث عليها وشرعها؛ لكونها قبيحة، وأن ما يفضى إلى القبيح قبيح.
________________
(1) فى ب (الشيخ أبى الحسن الأشعرى).
(2) انظر ل 194/ ب وما بعدها.
(3) فى ب (الذاتيين وقد سبق إبطاله). انظر ل 174/ ب وما بعدها.
(4) فى ب (على ما).
(5) فى ب (ما ألزموا به).
(2/418)
________________________________________
فلا يخفى: أن خلق القدرة عليها، والداعى إليها مما يفضى إليها؛ فيكون قبيحا.
فما هو جواب لهم فى خلق الداعية، والقصد إليها: هو جوابنا فى شرعها، وإرسال الرسل بها.
وعلى هذا: فقد خرج الجواب عن الشبهة السادسة عشرة إلى بعد هذه الشبهة.
قولهم: لو لم يكن العبد موجدا لفعله؛ لامتنع الثواب والعقاب عليه، بجهة المجازاة. لا نسلم ذلك؛ بل الثواب والعقاب عندنا يستدعى كون الفعل مقدورا لا مخلوقا.
كيف: وأن ما ذكروه لازم عليهم: حيث اعتقدوا أن ذات الفعل غير مقدورة، وأن الوجود حال زائدة غير مقدورة كما بينا. والثواب لا يخرج عن أن يكون على الفعل، أو الحدوث، أو مجموع الأمرين؛ والكل غير مقدور؛ فالإلزام يكون مشتركا.
قولهم: لو لم يكن مقدور العبد من فعله؛ لجاز عقاب الأنبياء، وثواب الكفرة.
قلنا: مسلم؛ ولكن جوازا تحيله العادة، أو لا تحيله العادة. الأول: مسلم.
والثانى: ممنوع.
وعلى هذا: فلا تشكك فى انتفاء ما ذكروه، وإن كان جائزا عقلا.
قولهم: لو كان مقدور العبد من فعل الله- تعالى- مع ورود الأمر به؛ لكان الله- تعالى- آمرا بفعل نفسه، وهو محال.
لا نسلم الإحالة فى ذلك، ولا يلزم (من) «1» قبح ذلك فى الشاهد، قبحه فى الغائب؛ لما/ بيناه من امتناع قياس الغائب على الشاهد «2».
أما «3» ما ذكروه من شبه القضاء؛ فجوابها يستدعى تحقيق معنى القضاء، وبيان اعتباراته.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) انظر ل 40/ أ وما بعدها.
(3) فى ب (و أما).
(2/419)
________________________________________
فنقول: القضاء: قد يطلق بمعنى الإعلام: كما قال- تعالى-: وقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ «1»: أى أعلمناهم.
وقد يطلق بمعنى الأمر: منه قوله- تعالى-: وقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «2»:
أى أمر ربك.
وقد يطلق بمعنى الاختراع «3»، والخلق «3»: ومنه قوله- تعالى-: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ «4»: أى خلقهن.
وقد يطلق: بمعنى انقضاء الأجل- ومنه يقال: فلان «5» قضى نحبه «5»، ونزل به القضاء. ومنه قوله- تعالى-: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ «6».
وقد يطلق بمعنى إلزام الحكم «7»، وإبرامه «7» ومنه يقال: «قضى القاضى».
وقد يطلق: ويراد به توفية الحق: ومنه قوله- تعالى-: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ «8»: أى وفاه حقه.
وقد يطلق ويراد به الإرادة: ومنه قوله- تعالى-: وإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «9»: أى إذا أراد.
وعلى هذا: فالإيمان من قضاء الله- تعالى- بكل اعتبار، ولا يكون الكفر من قضاء الله: بمعنى أنه مأمور به. وإنما هو من القضاء: بمعنى خلقه، وإرادته، والحكم به، والإعلام به.
وعلى هذا: فخلق الكفر، وإرادته، والإعلام به، والإلزام به: يكون حقا. وإن كان الكفر فى نفسه باطلا.
وعلى هذا: فقولهم: القضاء: إما أن يرضى به، أو لا يرضى به على ما قرروه.
________________
(1) سورة الإسراء 17/ 4.
(2) سورة الإسراء 17/ 23.
(3) فى أ (الاختيار والخلق) وفى ب (الاختراع).
(4) سورة فصلت 41/ 12.
(5) فى ب (قضى فلان نحبه).
(6) سورة الأحزاب 33/ 23.
(7) فى ب (الحاكم).
(8) سورة القصص 28/ 29.
(9) سورة البقرة 2/ 117.
(2/420)
________________________________________
قلنا «1»: إن أريد بالرضى عدم الاعتراض على الله- تعالى- (فيما «2» قضى به، وبعدم الرضاء «2») الاعتراض؛ فعندنا الرضى بهذا الاعتبار واجب فى كل قضاء كان طاعة، أو معصية.
وإن أريد بلزوم الرضى: الركون إلى المقضى به. وبعدم الرضى: النفرة والإباء عن قبوله؛ فما كان من الطاعات المقضية: فالرضى بها بهذا الاعتبار؛ لازم واجب، وما كان من غيرها؛ فالرضى به بهذا الاعتبار ليس واجبا، ولا لازما.
ولهذا: فإن من اعترته الآلام، والأسقام؛ فله السعى فى دفعها، وإزالتها. ولو قيل بامتناع ذلك؛ لكونها من قضاء الله؛ كان خرقا لإجماع الأمة.
وأما ما ذكروه من المنقول، والأدلة السمعية: فظواهر غير قطعية، ثم غايتها إطلاق اسم الفاعل على العبد، وإضافة الفعل إليه، وليس فى ذلك ما يدل على كونه موجدا، أو محدثا لفعله/ أو ليس؛ لأن الفاعل من كان قادرا على إيجاد الفعل، أو أن الفعل هو الحادث ممن كان قادرا عليه ممنوع؛ بل الفاعل على الحقيقة عندنا: هو من وقع الفعل مقدورا له، وهو أعم من الموجد. والفعل هو الحادث المقدور.
وعلى هذا: فإطلاق الفاعل على الله- تعالى- وعلى العبد يكون حقيقة.
وإن سلمنا أن الفاعل فى الحقيقة هو الموجد المحدث؛ فلا يمتنع إطلاق ذلك على العبد فى لسان الشارع، وأهل اللغة تجوزا بمعنى كون الفعل مقدورا له. وإن أطلق ذلك فى لسان أهل اللغة على اعتقاد كونه حقيقة- بناء على اعتقادهم كون العبد موجدا لفعله- فقد أصابوا فى الإطلاق بناء على اعتقادهم، وأخطئوا فى الاعتقاد: كإصابتهم فى إطلاق لفظ الآلهة على الأصنام؛ لاعتقادهم أنها هى الملجأ، والملاذ فى دفع الضرر والبلوى. وإن أخطئوا فى اعتقادهم ذلك.
ثم ما ذكروه: معارض بما حققناه من النصوص الدالة على كون العبد غير خالق:
فى مسألة نفى خالق غير الله- تعالى «3» -.
________________
(1) فى ب (فنقول).
(2) فى أ (فما قضى به وتقدم الرضى).
(3) انظر ل 211/ ب وما بعدها.
(2/421)
________________________________________
وما ذكروه: من إطلاق الأمة معارض بإطلاقات أخرى دالة على نقيضه، وبيانه من خمسة أوجه:
الأول: هو أن الأمة مجمعة على أن الله- تعالى- أولى بالثناء عليه «1» من العبد.
فلو كان العبد هو الخالق لمعرفته بالله- تعالى- وطاعته له، وإيمانه به؛ لكان أولى بالثناء عليه من الله- تعالى-؛ وهو خرق لإجماع المتكلمين.
وبيان الملازمة: هو أن إيجاد المعرفة بالله، والإيمان به، أحسن من إيجاد الأجسام الخسيسة «2»، والحشرات، والقاذورات؛ وذلك لأن استحقاق الثناء، والمدح على أصولهم متعلق بحسن الفعل، فكلما كان الفعل أحسن؛ كان أولى، وأحق بالثناء على فاعله.
فإن قيل: لا نسلم أن المعرفة والإيمان أحسن من خلق الأجسام؛ بل الأمر بالعكس.
وبيانه: أن الأجسام، وأعراضها من الآيات المفضية بالناظر فيها إلى السعادة الأخروية، ومعرفتها غير مختصة بطائفة دون طائفة، وما نفعه أعم؛ فهو أحسن.
سلمنا أن إيجاد المعرفة والإيمان أحسن؛ غير أن المنة لله- تعالى- فى ذلك:
حيث أنه مكن «3» منه بخلق القدرة عليه، والداعى الصارف إليه؛ فكان أولى باستحقاق الثناء من العبد.
قلنا: أما الأول: فهو خلاف إجماع/ المسلمين.
وما ذكروه فى «4» التقرير: فبالضد أولى؛ وذلك لأن حسن الأجسام وأعراضها: إنما كان لكونها دلائل المعرفة كما ذكروه، وما كان حسنه «5» من أجل «5» غيره؛ فذلك الغير يكون أحسن.
وأما الثانى: فيلزمهم منه: أنه إذا كان أولى باستحقاق الثناء لتمكينه من فعل الإيمان: أن يكون أولى بالذم؛ لتمكينه من فعل الكفر.
________________
(1) فى ب (على الفعل).
(2) فى ب (الجنسية).
(3) فى ب (مكنه).
(4) فى ب (من).
(5) فى ب (لأجل).
(2/422)
________________________________________
الثانى: هو أنه لم تزل الأمة مجمعة على الدعاء لله- تعالى- والتضرع إليه، فى أن يرزقهم: الإيمان، ويجنبهم: الكفر، والعصيان. وكذلك «1» الأئمة الصالحون، والأنبياء المرسلون حتى قال إبراهيم الخليل: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «2». وقال- تعالى- حكاية عنه، وعن إسماعيل: رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «3». وقال يوسف: وإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ «4».
ولو لا أن ذلك كله من فعل الله؛ لما كان كذلك.
فإن قيل: المراد من السؤال: إنما هو للتمكين من الطاعة والإيمان؛ بالإقدار عليهما؛ فهو خلاف الظاهر من لفظ الجعل، والصرف، وسائر الألفاظ المذكورة من غير دليل؛ فلا تقبل.
كيف وأن الإقدار على الإيمان، والطاعة منهم من باب اللطف: وهو حتم على الله- تعالى- عندهم، ومن لوازم الإلهية، فلا معنى لسؤاله ما لا بد منه؛ وهو حتم عليه، كما لا يحسن أن يسأل ويقال: لا تظلم، ولا تجر؛ مع استحالة الظلم، والجور فى حقه.
الثالث: هو أن المعتزلة موافقون: على استحالة عرو الأجسام عن الحركة والسكون. فلو كان العبد هو المخترع لحركة يده، وسكونها؛ فبتقدير إضرابه عن تحقيق مقدوره، مع استمرار قدرته عليه؛ فيلزم منه: إما عرو يده عن الحركة، والسكون معا؛ وهو محال. أو أن يكون البارى- تعالى- هو الخالق لذلك مشروطا بإضراب العبد عن مقدوره؛ فيكون الرب- تعالى- فى فعله مرتبطا بإضراب العبد؛ وهو خلاف إجماع «5» الأمة «5».
الرابع: هو أن الأمة مجمعة: على اقتدار الرب- تعالى- على استيفاء حقوقه من الطاعات من العباد. فلو كانت مخلوقة لهم؛ لما كان قادرا على استيفائها بتقدير انصرافهم عنها؛ وهو خلاف إجماع الأمة. وبتقدير خلقها فيهم اضطرارا: فعندهم تخرج عن كونها طاعة؛ لكونها فعل الغير.
________________
(1) فى ب (و كذا).
(2) سورة إبراهيم 14/ 35 - الموجود فى الأصل (رب اجنبني وبنى أن نعبد الأصنام).
(3) سورة البقرة 2/ 128.
(4) سورة يوسف 12/ 33.
(5) فى ب (الإجماع).
(2/423)
________________________________________
الخامس: هو أن الأمة مجمعة: على امتناع وقوع خلاف مراد الله- تعالى- وأنه لا يقع فى ملكه ما لا يريد؛/ فإن «1» ما أراده؛ فهو واقع.
ومن أصل المعتزلة: أن الله- تعالى- يريد صلاح العبيد «2»، ويكره منهم «2» الكفر، والفسوق. فلو كان العبد: مستبدا بكفره خالقا له؛ لكان ذلك موجبا لانتفاء مراد الله- تعالى- ووقوع مكروهه؛ وهو خلاف الإجماع.
وربما تمسك الأصحاب هاهنا: بأمور واهية يظهر فسادها بأوائل النظر لمن له أدنى تنبه، آثرنا الإعراض عن ذكرها شحا على الزمان من «3» تضييعه بذكر «3» ما لا فائدة فيه.
قولهم: ما المانع أن تكون القدرة الحادثة مؤثرة فى صفة زائدة على نفس الفعل؟، كما هو مذهب القاضى.
قلنا: القول بهذه الصفة التى هى أثر القدرة الحادثة عند القائل بها، مع كونها مجهولة؛ فهى من الأحوال. والقول بالأحوال باطل على ما سيأتى «4».
وبتقدير صحة القول بالأحوال: إما أن يكون العبد مستقلا بإثباتها، أو أنه لا يستقل بإثباتها إلا مع القدرة القديمة على ما عرف من اختلاف مذهبه فى ذلك.
فإن كان الأول: فقد وقع فيما فر عنه من تأثير القدرة الحادثة فى نفس الفعل، ومن وجود خالق غير الله- تعالى-.
وإن كان الثانى: فيلزم منه مخلوق واحد بين خالقين؛ وهو محال كما «5» سبق «5».
فقد ينحل من هذه الجمل: أن مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى هو الطريق العدل، والمسلك المتوسط بين طرفى الجبر المحض، وإثبات خالق غير الله- تعالى- بتوفيقه: بين دليل إثبات القدرة الحادثة، ودليل انتفاء خالق غير الله- تعالى-.
________________
(1) فى ب (و إن).
(2) فى ب (العبد ويكره منه).
(3) فى ب (بتضييعه فى ذكر).
(4) انظر ما سيأتى فى الجزء الثانى- الباب الثالث- الأصل الأول: فى الأحوال ل 114/ أ وما بعدها.
(5) ساقط من ب- انظر ل 217/ ب وما بعدها.
(2/424)
________________________________________
وعند هذا: فلا بد من الإشارة إلى تحقيق مذهبه فى الكسب، والخلق، وتحقيق الفرق بينهما، وللعبارات فى ذلك- على أصله- متسع، وأوفاها بالغرض، وأولاها عبارتان:
الأولى: أن الكسب: عبارة عن المقدور بالقدرة الحادثة. وفى مقابلته الخلق: وهو المقدور بالقدرة القديمة.
العبارة الثانية: أن الكسب: هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه.
وفى مقابلته: الخلق: وهو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه، والله أعلم.
(2/425)
________________________________________
«الفرع الثامن» فى الرد على القائلين بالتولد ويشتمل على ثلاثة فصول:
الأول: فى تحقيق معنى التولد على أصول المعتزلة، وتفصيل مذاهبهم فيه.
الثانى: فى الدلالة على إبطال القول بالتولد، وإبطال شبه مثبتيه.
الثالث: فى مأخذ تفريعات المعتزلة فى المتولد، ومناقضتهم فيها.
(2/427)
________________________________________
«الفصل الأول» فى تحقيق معنى التولد، والمتولد على أصول المعتزلة، وتفصيل مذاهبهم فيه «1»
أما المتولد:
فقد/ قال بعض المعتزلة فيه: هو ما جاز أن يقع من غير قصد إليه.
وعلى قياسه: التولد: هو وقوع الفعل من غير قصد إليه.
وهو باطل: بالفعل القليل المباشر فى حالة النوم، والغفلة؛ فإنه ليس متولدا، ولا وقوعه تولدا. وإن لم يكن مقصودا إليه.
ومنهم من قال: المتولد: ما وقع بسبب من الفاعل فى غير حيز الفاعل.
وهو باطل بالعلم النظرى؛ فإنه متولد عندهم من النظر، وليس خارجا عن حيز الناظر «2».
والأقرب فى ذلك- على أصولهم- أن يقال:
التولد: عبارة عن وقوع فعل من فعل آخر لفاعله.
والمتولد: الفعل الواقع من فعل آخر لفاعله بخلاف الفعل المباشر؛ فإنه غير واقع لفعل آخر للفاعل؛ بل بالقدرة، والقدرة ليست فعلا للقادر بها ثم اختلفوا:
فذهب بعضهم: إلى أن المتولدات بأسرها كانت قائمة بمحل القدرة: كالعلم النظرى، المتولد من النظر، أو غير قائمة بمحل القدرة: كالآلام المتولدة من الضرب من فعل فاعل السبب، وإن كان فاعل السبب معدوما حالة وجود الآلام: كمن رمى بسهم، ثم اخترمته المنية قبل بلوغ السهم الرمية، ثم أصاب الرمية بعد موته؛ فنفس الإصابة وما تجددت منها من الآلام من فعل الميت.
________________
(1) لتوضيح رأى المعتزلة فى التولد، وتفصيل مذاهبهم فيه:
انظر المغنى فى أبواب التوحيد والعدل. للقاضى عبد الجبار. الجزء التاسع تحقيق الدكتور توفيق الطويل وآخر، والمحيط بالتكليف له أيضا ص 380 - 407 وشرح الأصول الخمسة له أيضا ص 387 - 390.
(2) فى ب (النظر).
(2/429)
________________________________________
ومنهم من قال: كثمامة بن أشرس: إنها حوادث لا محدث لها.
وذهب معمر: إلى أنها واقعة بطباع الأجسام، وطرد ذلك فى جميع الأعراض غير الإرادة.
وذهب النظام: إلى أن المتولدات من فعل الله- تعالى- لا من فعل العبد الفاعل للسبب.
وذهب ضرار بن عمرو، وحفص الفرد: إلى أن ما يقع من المتولدات فى محل قدرة الفاعل، فهو فعله، وما كان منها مباينا لمحل قدرته: فما وقع منها على وفق اختيار الفاعل؛ فهو من فعله كالقطع والذبح. وما لا يقع على وفق اختيار الفاعل؛ فليس من فعله: كالآلام فى المضروب، والاندفاع فى الثقيل المدفوع.
ثم اختلف القائلون بأن المتولدات من فعل فاعل السبب.
فذهب أكثرهم: إلى أنها مقدورة بقدر فاعل السبب، وإن لم تكن مباشرة بالقدرة، وسووا بينها وبين السبب المباشر بالقدرة فى «1» كونهما «1» مقدورين. غير أنهم فرقوا بينهما من أربعة أوجه:
الأول: أن السبب المباشر بالقدرة الواحدة فى المحل الواحد فى الوقت الواحد، لا يكون أكثر من واحد من جنس واحد، بخلاف المتولدات؛ فإنها قد تتكون «2» وأن اتحد سببها: كالآلام المتولدة/ من الاعتماد، والوهى.
الثانى: أن السبب المباشر بالقدرة، لا بد وأن يكون قائما بالقادر؛ بخلاف المتولد.
الثالث: أن السبب المباشر بالقدرة لا يكون مع الموت؛ بخلاف المتولد.
الرابع: أن السبب المباشر بالقدرة لا يخرج عن كونه مقدورا بوجوده، والمتولد يخرج عن كونه مقدورا بوجود سببه على بعض الآراء.
وذهب بعضهم: كعباد الصيمرى: إلى أنها غير مقدورة؛ بل المقدور بالقدرة بسببها.
________________
(1) فى ب (و كونهما).
(2) فى ب (تتكثر).
(2/430)
________________________________________
ثم اختلف القائلون بكون المتولدات مقدورة بالمقدورة على السبب.
فذهب بعضهم: إلى كونها مقدورة قبل وجود سببها، ولا تكون مقدورة بعد وجود سببها.
وذهب آخرون: إلى كونها مقدورة بعد وجود سببها إلى حالة وجودها.
واختلفوا أيضا: فى أن مباشر السبب إذا قصد المسبب، وكان معصية، هل تصح توبته عنه قبل وقوعه، أم لا؟
فذهب عباد الصيمرى: إلى المنع منه، وجوزه آخرون.
وقال أبو هاشم: لو كان المتولد جهلا؛ فلا يصح التوبة عنه قبل وقوعه، ولا حالة وقوعه؛ إذ التوبة تستدعى معرفة كونه جهلا؛ ليندم عليه، ويكف عن أضداده؛ وذلك غير متصور فى الجهل؛ إذ لو علم كونه جهلا؛ لكان عالما لا جاهلا.
هذا كله فى أفعال العباد المختارين.
وأما أفعال الله- تعالى- فقد اختلفوا فيها:
فمنهم: من منع من تولد بعضها من بعض، وأوجب كونها مقدورة بالقدرة، أو القادرية القديمة من غير توسط.
ومنهم: من لم يمنع من ذلك.
ثم اختلف القائلون بتولد أفعال الله- تعالى-: هل يجوز أن يقع أمثال المتولد منها مقدورا مباشرا بالقدرة القديمة أم لا؟
فمنهم: من جوزه.
ومنهم: من منعه. مع اتفاق الكل على أن المتولد من أفعالنا لا يكون مثله مقدورا لنا مباشرا بالقدرة من غير توسط، وأن الجواهر لا تكون متولدة عن سبب من الأسباب.
(2/431)
________________________________________
«الفصل الثانى» فى الدلالة على إبطال القول بالتولد وإبطال شبه مثبتيه
وقد اعتمد الأصحاب فى ذلك على مسالك «1»:
[المسلك] الأول:
أنه إذا قيل بتولد الفعل عن الفعل؛ فإذا وجد المسبب: وهو المتولد عقيب وجود السبب؛ وهو المتولد منه؛ فحدوث المسبب المتولد إما أن يكون: عن القدرة المباشرة للسبب، أو عن نفس السبب، أو عنهما، أو لا عن واحد منهما.
فإن كان الأول: فهو باطل/ من أربعة أوجه:
الأول: أن السبب على أصلكم موجب للمسبب عند ارتفاع الموانع، فلو كانت القدرة هى المقتضية حدوث المتولد؛ لما كان السبب موجبا للمسبب.
الثانى: أنه لو جاز أن يكون المتولد من فعل العبد؛ حادثا بقدرة العبد. فمن أصلهم أن الرب- تعالى- قادر على إيجاد مثل ما تولد من فعل العبد من غير واسطة، ويلزم من ذلك جواز إيجاد المسبب للعبد بقدرته من غير واسطة؛ ضرورة مضاهاة القدرة الحادثة فى تأثيرها لتأثير قادرية الله- تعالى- وكذلك أحالوا وجود مقدورين العبد، والرب تعالى.
الثالث: هو أن السبب على أصولهم: موجب للمسبب عند ارتفاع الموانع:
كإيجاب العلة معلولها من غير تفاوت فى نفس الإيجاب. والمعلول غير مقدور. وإن كانت العلة مقدورة؛ فكذلك المسبب بالنسبة إلى السبب.
الرابع: هو أن المتولد لو وقع بالقدرة؛ لوقع دون السبب.
________________
(1) لتوضيح رأى الأصحاب فى هذا الفصل: انظر أصول الدين للبغدادى ص 137 - 139 والإرشاد لإمام الحرمين ص 230 - 234 والمحصل للرازى ص 145.
ومن المتأخرين المتأثرين بالآمدي.
انظر شرح المواقف 2/ 384 - 388، وشرح المقاصد 2/ 106.
(2/432)
________________________________________
وبيان الملازمة: من وجهين: الأول: هو أن السبب ليس شرطا فى وقوع القدرة: لوجودها دون وجود السبب عندهم، ولا هو شرط لوقوع جنس المتولد؛ بدليل ما لو كان جنس المتولد واقعا بقدرة الله- تعالى- فإنه لا يفتقر إلى سبب على أصولهم. ولو كان السبب شرطا فى الشاهد؛ لكان شرطا فى الغائب: كالحياة مع العلم، ولا عدم السبب مانع من إيجاده بالقدرة؛ لما ذكرناه فى الشرط.
وإذا كانت القدرة مقتضية له، والسبب ليس شرطا للقدرة ولا له، ولا عدم السبب مانعا؛ لزم وجود المقدور بها من غير توقف على السبب.
الثانى: أنه لو افتقر فى كونه مقدورا إلى وجود السبب؛ لافتقر السبب فى كونه مقدورا إلى سبب آخر؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان حدوثه عن نفس السبب على انفراده؛ فهو ممتنع لوجهين:
الأول: أن السبب عندهم يجوز تقدمه على المسبب. فإذا جاز وجود السبب فى زمان دون مسببه، أمكن ذلك فى كل زمان؛ لعدم تأثير الأزمنة فى اقتضاء الأسباب لمسبباتها؛ وذلك «1» يدل على امتناع إيجاب السبب للمسبب.
الثانى: أنه لو كان السبب موجبا للمسبب؛ لما جاز تأخر المسبب عنه، كما فى إيجاب العلة/ لمعلولها؛ ضرورة اتحاد معنى الإيجاب. وإن كان الحدوث بالسبب، والقدرة معا؛ فيلزم منه جواز وجود مقدور بقدرتين؛ وهو محال على ما تقدم.
وكل ما يدل على امتناع مقدور واحد بقدرتين؛ فهو لازم هاهنا. وإن كان لا بالقدرة، ولا بالسبب؛ فلا تولد؛ وهو المطلوب.
وهذا المسلك ضعيف؛ إذ لقائل أن يقول:
ما المانع من كون المتولد حادثا عن القدرة؟
________________
(1) ابتداء من قوله (و ذلك يدل على امتناع ... إلى قوله («فى اقتضاء الأسباب لمسبباتها» السطر الأول من ل 274/ ب ساقط من النسختين ب، ج).
(2/433)
________________________________________
وما ذكرتموه فى الوجه الأول: فحاصله يرجع إلى إلزام الخصم بمذهبه، وذلك لا يدل على امتناع الإيجاب بالقدرة بالنسبة إلى من لا مذهب له، وكذلك لو قدر قول الخصم: أخطأت فيما ألزمتنى إياه. فما الدليل على المطلوب؟ وذلك مما لا مخلص منه إلا بالانتقال إلى طريق آخر.
وأما الوجه الثانى: فمبنى على أن الرب- تعالى- قادر على مثل المتولد من فعل العبد؛ وهو ممنوع على ما سبق من مذهب البلخى.
وإن سلمنا أنه قادر على مثل فعل العبد: ولكن لا نسلم أنه لا يتوقف على واسطة؛ بل ما كان متولدا من أفعال العبد، جاز أن يكون فعله متولدا من فعل الله- تعالى- على ما هو مذهب بعض المعتزلة.
وإن سلمنا امتناع جواز مثل ذلك فى حق الله- تعالى-: ولكن لا يلزم مثله فى حق العبد إلا بطريق قياس الشاهد على الغائب؛ وهو ممتنع لما سلف «1».
وأما الوجه الثالث: فحاصله يرجع إلى إلحاق السبب بالعلة بقياس تمثيلى؛ وهو فاسد لما سبق أيضا «2».
وأما الوجه الرابع: فلا نسلم دعوى الملازمة فيه.
قولكم فى الوجه الأول: السبب ليس شرطا فى حق الغائب فى جنس المتولد من مقدور العبد؛ غير مسلم.
وإن سلم: أنه ليس بشرط فى حق الغائب؛ فلا يلزم من اشتراطه فى الشاهد اشتراطه فى الغائب إلا بالقياس التمثيلى؛ وهو غير صحيح على ما عرف.
________________
(1) انظر ل 40/ أ.
(2) انظر ل 39/ أ.
(2/434)
________________________________________
ولا نسلم: أن اشتراط الحياة للعلم غائبا مبنى على اشتراطه شاهدا؛ بل بناء على مدرك آخر.
وأما الوجه الثانى من الوجه الرابع: فحاصله أيضا راجع إلى دعوى مجردة من غير دليل.
وإن سلم امتناع حدوثه بالقدرة؛ فما المانع من حدوثه بالسبب؟
قولكم فى الوجه الأول: أنه إذا جاز وجود السبب فى زمان دون المسبب، أمكن ذلك فى كل زمان. دعوى لا دليل عليها.
قولكم: لأنه لا تأثير للأزمنة فى اقتضاء الأسباب/ لمسبباتها «1».
قلنا: ما المانع أن يكون اقتضاء السبب للمسبب مشروطا بوقوع المسبب فى الزمن الثانى من وجود السبب؟ وحيث لم يكن المسبب موجودا فى زمان وجود السبب؛ كان لفوات شرطه. ولا يلزم مثله فى باقى الأزمنة؛ ضرورة تحقق الشرط.
قولكم: لو كان السبب موجبا للمسبب، لما تأخر عنه: ممنوع؛ لجواز أن يكون إيجاب السبب له مشروطا بما ذكرناه قبل، ولا يلزم من اشتراط ذلك فى السبب؛ اشتراطه فى العلة. إلا أن يبين الاشتراك فى المعنى الموجب للاشتراط؛ ولا سبيل إليه بأمر يقينى.
المسلك الثانى:
أنه لو كانت أفعال العبيد المباشرة بقدرهم؛ متولدة عند انتفاء الموانع: فلا يخلو:
إما أن يقال بأن أفعال الله- تعالى- المباشرة بقدرته، أو قادريته مولدة للمسببات، أو غير مولدة.
فإن كان الأول: فيلزم منه الاسترابة «2» فى كون الجواهر متولدة من فعل من أفعال الله- تعالى- المباشرة بقادريته، ولا يبقى الوثوق بكونها مباشرة بالقادرية من غير واسطة، ولم يقل به قائل.
________________
(1) نهاية السقط من النسختين ب، ج.
(2) فى ب (الاشتراك).
(2/435)
________________________________________
وإن كان الثانى: فيلزم منه أن لا يكون اعتماد الرياح الشديدة على غصون الأشجار، وأوراقها؛ موجبا لتحريكها، ولا يخفى استواء نسبة اعتماد الواحد منا على الجسم إلى تحريكه، مع انتفاء الموانع، ونسبة اعتماد الرياح الشديدة على غصون الأشجار، وأوراقها عند انتفاء الموانع؛ فإذا لم يكن اعتماد الرياح موجبا لتحريك غصون الأشجار؛ فكذلك اعتماد الواحد منا على ما يعتمد عليه من الأجسام.
وهو ضعيف أيضا؛ إذ لقائل أن يقول:
ما المانع من كون أفعال الرب المباشرة بقادريته مولدة؟
قولكم: لأنه لا يبقى الوثوق بكون الجواهر غير متولدة دعوى مجردة؛ وهى إما أن يدعى فيها «1» الضرورة، أو النظر.
لا سبيل إلى الأول؛ لما تقدم فى أمثاله.
وإن كان الثانى؛ فلا بد من الدليل.
وإن سلم امتناع التولد فى أفعال الله- تعالى- فما المانع منه «2»؟
قولكم: يلزم منه أن لا يكون فعل الواحد منا مولدا «3» على ما قررتموه؛ غير صحيح. فإنه لا يمتنع أن يكون شرط تولد الفعل من الفعل المباشر بالقدرة؛ امتناع/ مباشرة المتولد بالقدرة. وهذا الشرط متحقق بالنسبة إلى اندفاع الجسم المتولد، عن اعتماد الواحد منا على الجسم؛ لكونه خارجا عن محل قدرته؛ فإن مباشرته بقدرة الواحد منا؛ ممتنع بالإجماع منا ومنكم. وهذا بخلاف «4» ما هو خارج عن محل قدرة البارى- تعالى- وقادريته؛ فإنه غير ممتنع أن يكون مباشرا بقدرة البارى- تعالى- أو قادريته.
وعند ذلك: فلا يلزم من امتناع التولد فى إحدى الصورتين؛ امتناع التولد فى الأخرى، ولا من جواز التولد فى إحداهما؛ جوازه فى الأخرى.
________________
(1) فى ب (فيه).
(2) فى ب (عنه).
(3) فى ب (مؤثرا).
(4) فى ب (الخلاف).
(2/436)
________________________________________
ثم وإن سلم: أنه يلزم من امتناع تولد حركة غصون الأشجار من اعتماد الرياح العواصف عليها؛ امتناع تولد اندفاع الجسم من اعتماد الواحد منا عليه؛ فليس فى ذلك ما يدل على إبطال التولد مطلقا. ولا يلزم من إبطال تولد ما هو خارج عن محل قدرة العبد من الفعل القائم بمحل قدرته؛ إبطال تولد ما هو قائم بمحل قدرته عما هو مباشر بقدرته:
كما هو مذهب ضرار بن عمرو، وحفص الفرد.
وعند ذلك: فالواجب أن يذكر ما فى هذين المسلكين على سبيل الإلزام، والتشكيك للخصم عند ذكر شبهه: أما على طريق الاستدلال؛ فلا.
المسلك الثالث:
أنه يلزم من القول بالتولد؛ وجود مخلوق بين خالقين، واللازم ممتنع؛ لما تقدم «1».
وبيان الملازمة: أنه لو التصق جوهر يكفى شخصين، ودفعه أحدهما إلى جهة الآخر حالة جذب الآخر إلى جهته؛ فحركته واحدة لا محالة.
وهى: إما أن تكون متولدة من اعتماد أحدهما دون الآخر، أو من اعتماديهما.
فإن كان الأول: فهو ممتنع؛ لعدم الأولوية.
وإن كان الثانى: لزم منه مخلوق بين خالقين؛ وهو محال. وما لزم عنه المحال؛ فهو محال.
وهذا المسلك: وإن كان حجة فى امتناع تولد بعض ما هو خارج عن محل قدرة العبد عن الفعل المباشر بقدرة العبد؛ فليس حجة على ضرار بن عمرو، وحفص الفرد- القائلين بتولد ما قام بمحل القدرة دون غيره كما سبق.
وعند هذا: فالواجب أن يكتفى فى إبطال التولد على العموم بما أسلفناه من الدليل فى امتناع موجد غير الله- تعالى- وأن كل موجد ممكن؛ فوجوده ليس إلا بالله- تعالى.
________________
(1) انظر ل 217/ ب وما بعدها.
(2/437)
________________________________________
[شبه الخصوم]
فإن قيل: ما ذكرتموه: وإن دل على إبطال التولد؛ فهو «1» معارض بما يدل على «2» التولد «2»، وبيانه من ثمانية أوجه.
الأول: هو أن/ من رام دفع حجر فى جهة من الجهات، كان اندفاعه على حسب قصد الدافع، وداعيته: إن رام اندفاعه؛ اندفع، وإلا؛ فلا.
فدلّ على أن الاندفاع من فعل العبد على ما قررناه فى الأفعال المباشرة بالقدرة الحادثة، وليس اندفاع الحجر مباشرا بالقدرة بالإجماع منا، ومنكم؛ فلم يبق إلا أن يكون من فعله بواسطة ما باشره من الدفع.
وعلى هذا: يكون الكلام فى حصول العلم النظرى، من النظر، والاستدلال، ونحوه.
الثانى: هو أنا حيث رأينا اختلاف القدرة الحادثة، يؤثر فى اختلاف الأفعال، التى يحكم عليها بكونها متولدة، حتى إن الأيّد القوى؛ يقوى على حمل ما لا يحمله الضعيف المدنف؛ علمنا كونها مستندة إليها، ولو كانت مستندة إلى قدرة الله- تعالى- لا إلى قدرة العبد؛ لما كان لاختلاف القدر تأثير؛ بل كان يجوز تحريك الجبل باعتماد الضعيف المدنف عليه، وأن لا تتحرك الخردلة باعتماد الأيّد القوى عليها؛ لخلق الله- تعالى- الحركة فى إحدى الصورتين دون الأخرى.
ولا يخفى: ما فى ذلك من الجهالة، ومخالفة المعقول.
وإذا «3» كانت مستندة إلى القدرة الحادثة؛ فالقدرة «4» غير مباشرة لها بالإجماع؛ فلزم «5» وجود الواسطة.
الثالث: أن العقل والشرع، مجوزان للأمر بحمل المثقلات، ودفعها، وتحصيل العلوم النظرية. وإيلام من ينبغى إيلامه إلى غير ذلك. كما يجوزه فى الأفعال المباشرة
________________
(1) فى ب (لكنه).
(2) فى ب (عليه).
(3) فى ب (و إن).
(4) فى ب (و القدرة).
(5) فى ب (فيلزم).
(2/438)
________________________________________
بالقدرة، ولو لا تعلقها بالقدرة الحادثة؛ لما حسن الأمر بها، كما لا يحسن الأمر بإيجاد الجواهر، والألوان، وليست مباشرة بالقدرة؛ فلزم الواسطة.
الرابع: هو أن العقلاء يستحسنون الذّم والمدح على ذلك، ويحكمون باستحقاق الثواب، والعقاب عليه؛ فدلّ على أنه من فعل العبد، وليس مباشرا بالقدرة؛ فكان متولدا.
الخامس: هو أن من حمل ثقيلا، أو ضرب شخصا؛ فآلمه يصح أن يقال حمل المثقل، وآلم فلانا. وليس ذلك من المجاز عندهم؛ فيجب حمله على حقيقته؛ وهو إضافة حمل الثقيل، والإيلام إليه، وليس ذلك مباشرا بقدرته؛ فتعين كونه من فعله بواسطة مقدوره المباشر بالقدرة.
السادس: هو أن العظام المكسوة «1» باللحم، لا حياة فيها، وهى تتحرك بحركة الأعصاب الملتفة عليها. فلو لم تكن متولدة من حركة الأعصاب؛ لما كانت حركات «2» العظام من/ أفعال العباد؛ (و هو «3» فى غاية النكر «3»).
السابع: هو أنه لو كان كل ما هو خارج عن محل القدرة غير مقدور؛ لكان كل ما هو قائم بمحل القدرة مقدورا. وحيث وقع الانقسام من القائم بمحل القدرة: إلى مقدور، وغير مقدور؛ فكذلك فيما هو خارج عن محل القدرة.
الثامن: أنه يصح أن يقال: قتل زيد عمرا. فيضاف القتل إلى زيد، ويحكم عليه بأنه من فعله، والقتل قائم بالمقتول، لا بالقاتل؛ فدل على كونه متولدا من فعله المباشر بقدرته.
وبيان كون القتل قائما بالمقتول من وجهين: الأول: أنه لو لم يكن قائما به؛ لكان مقتولا لم يقم به قتل. ولو جاز ذلك؛ لأمكن وجود متحرك لم تقم به حركة؛ وهو بعيد.
________________
(1) فى ب (المكسرة).
(2) فى ب (حركة).
(3) فى أ (و هو غاية التنكر).
(2/439)
________________________________________
الثانى: أنه إذا قيل: قتل الله شخصا؛ فالقتل يكون قائما بالمقتول؛ لاستحالة قيامه بالله- تعالى- فكذلك إذا قيل: قتل زيد عمرا.
وجب أن يكون القتل قائما بالمقتول؛ لتكون حقيقة المقتول متحدة بالنسبة إلى الغائب، والشاهد.
والجواب عن الشبهة الأولى: بما أسلفناه فى الأفعال المباشرة بالقدرة، والّذي يخصها هاهنا. أنا وإن سلمنا وقوع الأفعال المباشرة بالقدرة على حسب القصد، والداعية؛ فهو غير متصور فى المتولدات؛ فإن المتولد عندهم: قد يقع بعد عجز المتسبب، وبعد موته بدهر. وعاقل ما: لا يجوز وقوع ما هذا شأنه على حسب الداعية، والقصد.
وإن «1» سلمنا وقوعها «1» على حسب القصد، والداعية؛ فليس «2» فى «2» ذلك ما يدل على أنها من فعل العبد. وحيث سلمنا أن الأفعال المباشرة بالقدرة من أفعال العبد «3»، لم يكن ذلك لمجرد وقوعها على حسب القصد، والداعية؛ بل لاستقلال القدرة بالإيجاد عند القصد، والداعية من غير احتياج إلى سبب، وفى المتولدات لا بد من السبب؛ وإلا لخرجت عن كونها متولدة.
وإن سلمنا أنها متولدة؛ ولكنها كما دارت مع الفعل المباشر بالقدرة دارت مع القصد، والداعية، وليس القول بتولدها من الفعل المباشر بالقدرة أولى من تولدها من القصد، والداعية.
فإن قيل: إنما كانت متولدة من السبب دون القصد، والداعية؛ لأن وجود المسبب عقيب السبب واجب؛ بخلاف القصد، والداعية.
(قلنا «4»: هذا «4») تناقض؛ فإن وجود الفعل عقيب القصد، والداعية، إن كان واجبا: فما ذكروه خلف. وإن لم/ يكن واجبا، ولا لازما؛ فقد بطل الاستدلال بكونه فعلا للعبد؛ لوقوعه على حسب قصده، وداعيته.
________________
(1) فى ب (و لئن سلمنا وقوعها).
(2) فى ب (لكن ليس).
(3) فى ب (العباد).
(4) فى أ (فهو).
(2/440)
________________________________________
كيف: وأنه يلزم من كون المسبب واجب الوقوع عقيب السبب: أن لا يكون مقدورا للعبد؛ فإنه لا معنى للمقدور بالقدرة: إلا ما يمكن فعله بدلا عن الترك، والترك بدلا عن الفعل؛ وهو خلاف معتقد الأكثرين منهم.
وعن الشبهة الثانية: ما سبق فى «1» خلق الأفعال «2».
وعن الشبهة الثالثة: أنه إنما حسن الأمر بها، والنهى عنها؛ لوقوعها بحكم جرى العادة عقيب الفعل المقدور، لا أنه متولد منه.
وبه يخرج الجواب عن الشبهة الرابعة، والخامسة أيضا.
وعن الشبهة السادسة: بمنع كون العظام غير حية، وبتقدير كونها غير حية؛ فالحكم فى حركتها، تبعا لحركة الأعصاب بخلق الله- تعالى- عقيب حركة الأعصاب بحكم جرى العادة؛ فعلى ما سبق فى باقى المتولدات.
وعن الشبهة السابعة: أنها دعوى مجردة من غير دليل.
وعن الشبهة الثامنة: أن القتل، وإن كان قائما بالمقتول؛ فإضافته إلى زيد، أو عمرو: إنما كان لاتيانه بفعل يلازمه القتل، بحكم جرى العادة كما سبق، والله أعلم.
________________
(1) زائد فى أ (فى فعل فى).
(2) انظر ل 257/ ب وما بعدها.
(2/441)
________________________________________
«الفصل الثالث» فى مأخذ تفريعات المعتزلة على التولّد، ومناقضتهم فيها
التفريع الأول:
اتفقت المعتزلة: على أن المتولد من السبب المقدور بالقدرة الحادثة؛ لا يتصور أن يكون مباشرا بالقدرة الحادثة: من غير توسط السبب «1»؛ وقد «1» احتجوا على ذلك بمسالك.
المسلك الأول:
قال أبو هاشم: لو جاز وقوع المتولد مباشرا بالقدرة: لأمكن وجوده بوجود سببه، وأمكن وجود مثله مباشرا بالقدرة من غير سبب؛ وذلك يفضى إلى جواز قيام مثلين بمحل واحد مع اتحاد القدرة؛ ويلزم منه جواز حمل الذرة للجبل العظيم، بأن يفعل فيه «2» أعدادا من الحمل موازنة لأعداد أجزائه؛ فيرتفع؛ وذلك محال.
المسلك الثانى:
أنهم قالوا: لو أمكن وجود المتولد: بالسبب تارة، وبالقدرة من غير سبب تارة؛ لأمكن فرض أحد الأمرين دون الآخر؛ ويلزم من ذلك أن يكون الشيء الواحد موجودا:
نظرا إلى وجود أحد مقتضيه «3»، ومعدوما: بالنظر «3» إلى عدم المقتضى الآخر؛ وهو محال.
المسلك الثالث:
أنه لو/ جاز وقوع المسبب مباشرا بالقدرة؛ لأمكن وقوعه بالقدرة بعد فرض وجود السبب من غير احتياج السبب؛ ويلزم من ذلك خروج السبب عن كونه مؤثرا فى المسبب من غير مانع؛ وهو محال.
________________
(1) فى ب (المسبب فقد).
(2) فى ب (منه).
(3) فى ب (ما يقتضيه معدوما نظرا).
(2/442)
________________________________________
المسلك الرابع:
أنه إذا كان النظر مولدا للعلم؛ فلو جاز تقدير وقوع العلم بالقدرة من غير نظر؛ للزم منه وقوع علم كسبى من غير سابقة نظر؛ وهو محال.
المسلك الخامس:
أنه لو أمكن وقوع المسبب مباشرا بالقدرة؛ لما امتنع أن يتخير القادر بعد وجود السبب فى إيقاع المسبب، والانفكاك «1» عنه؛ وهو محال.
واعلم أن هذه المسالك: وإن كانت باطلة؛ لبطلان ما هى مفرعة عليه من التولد.
غير أنا نسلم «2» صحة التولد جدلا، ونبين مناقضتهم فيها.
أما المسلك الأول:
فمبنى على امتناع إيجاد مثلين: فى محل واحد، بقدرة واحدة؛ وهو خلاف أصل القائل به؛ فإن من جعل جوهرا فردا بين ستة جواهر متألف «3» بها «3»؛ فقد قام بالجوهر المتوسط تأليفات ستة: متماثلة، حادثة، بقدرة حادثة عنده.
كيف: وأن الرب- تعالى- قادر عندهم على خلق مثلين فى محل واحد من حيث هو قادر، والواحد منا قادر. والقادر لا يختلف شاهدا، ولا غائبا؛ فما جاز على أحدهما جاز على الآخر.
وإن سلمنا امتناع خلق مثلين فى محل واحد بقدرة واحدة؛ فما المانع من أن تكون القدرة موجدة لغير ما يمكن وجوده بالسبب بدلا عن السبب لا غيره. وعند ذلك؛ فلا إحالة.
وأما المسلك الثانى:
فقد سبق الجواب عنه فيما تقدم.
________________
(1) فى ب (و الانكفاف).
(2) فى ب (لا نسلم).
(3) فى ب (متألفا).
(2/443)
________________________________________
وأما المسلك الثالث:
فباطل أيضا: فإنه ما المانع من القول بأن القدرة لا تؤثر فى المسبب بعد وجود السبب؟؛ بل إنما تؤثر فيه بشرط أن لا يكون السبب موجودا، أو أن يقال: شرط تأثير السبب فى المسبب: أن تكون القدرة مباشرة للمسبب. فإذا باشرته؛ امتنع تأثير السبب فيه؛ وهذه المطالبة لا مخلص منها.
وأما المسلك الرابع:
فمبنى على امتناع وقوع العلم بالمقدور «1» من غير نظر، واستدلال؛ وهو ممنوع على ما تقدم.
وإن سلمنا امتناع ذلك؛ ولكنه لا يدل على امتناع مباشرته بالقدرة، مشروطا بالنظر السابق لا بمعنى أن النظر مولد له.
وأما المسلك الخامس:
فلا نسلم ملازمة التخيير فى المقدور/ لكونه مقدورا: فإن الفعل القليل مقدور للسليم «2» بالإجماع، وإن لم يكن مخيرا فيه.
وإن سلمنا ملازمة التخيير فى المقدور لكونه مقدورا؛ فإنما يمتنع ذلك أن لو قيل:
إن المسبب يكون مقدورا بعد وجود السبب، ولا مانع أن يقال بكونه مباشرا بالقدرة، مشروطا بعدم وجود السبب كما تقدم. وعند ذلك فلا يمتنع التخيير.
التفريع الثانى:
ذهب بعض المعتزلة: إلى أن جميع أفعال الرب مقدورة بالقادرية من غير توسط سبب، وأنه لا يتصور وقوع فعل من أفعاله متولدا عن سبب «3».
وذهب أبو هاشم فى أحد قوليه: إلى جواز وقوع بعض أفعاله متولدا عن سبب، وأن ذلك المتولد لا يقع إلا متولدا.
________________
(1) فى ب (المقدور).
(2) فى ب (للنائم).
(3) فى ب (سلب).
(2/444)
________________________________________
ووافقه على ذلك جماعة من المعتزلة.
وقال فى قول آخر: إنه لا يمتنع أن يقع المتولد من أفعاله غير متولد. أما مأخذ أبى هاشم فى جواز وقوع التولد فى أفعال الله- تعالى-: فما هو المأخذ فى التولد فى أفعال العبيد؛ وذلك أنا كما نشاهد حدوث حركة الجسم من اعتماد الواحد منا عليه؛ فنشاهد حركة غصون الأشجار، وأوراقها حادثة من اعتماد الرياح العاصفة عليها؛ مع أن حركة الرياح العاصفة، واعتمادها مخلوقة لله- تعالى-.
ومأخذه فى امتناع كون المتولد من أفعاله: لا يكون مباشرا بالقدرة، أو مباشرا؛ فما سبق فى التفريع الأول؛ وقد سبق بطلان ذلك كله.
وأما النافون للتولد فى أفعال الله- تعالى- مطلقا؛ فقد احتجوا بحجتين:
الأولى: أنه لو وقع فى فعله شيء متولد؛ لافتقر الرب- تعالى- فى فعله إلى السبب المولد كما فى أفعال العباد؛ وذلك محال على الله- تعالى.
الثانية: أنه لو جاز وقوع التولد فى أفعال الله- تعالى- لأمكن أن يقال: بأن نمو الناميات، واغتذاء الحيوانات، والصحة، والمرض، وكل ما اتفق على كونه مباشرا بقدرة الله- تعالى- أنه متولد «1» من «1» الأسباب؛ وذلك محال.
والحجتان باطلتان:
أما الحجة الأولى: فمن وجهين:
الأول: أنه إنما يلزم افتقار الرب- تعالى- فى فعله إلى السبب: أن لو قيل: بأن المسبب لا يوجد بدون السبب؛ وهو غير مسلم على ما ذكرناه من أحد قولى أبى هاشم.
الثانى: أنه وإن سلم امتناع وجود المتولد من أفعاله دون السبب: فهو «2» لا يزيد على امتناع إيجاده للألوان «3»، والأعراض/ دون محل يقوم به.
وعند ذلك: فما هو العذر فى خلق الأعراض؛ هو العذر فى المتولدات.
________________
(1) فى ب (مولد عن).
(2) فى ب (لكنه).
(3) فى ب (الألوان).
(2/445)
________________________________________
وأما الحجة الثانية:
إن دلت على إبطال التولد غائبا؛ فهى أيضا دالة على إبطال التولد شاهدا، وما هو العذر فى الشاهد؛ يكون عذرا فى الغائب.
التفريع الثالث:
اتفقت المعتزلة: على أن النظر الصحيح يولد العلم بالمنظور فيه، وأنه لو ذهل عن النظر، وعن العلم المتولد عنه، ثم تذكر النظر؛ فالعلم الحاصل عند التذكر، لا يكون متولدا؛ بل مقدورا مباشرا بالقدرة غير ضرورى.
واحتجوا: على أن العلم الحاصل عند تذكر النظر، غير متولد من تذكر النظر بأمرين:
الأول: أنه لو كان متولدا من تذكر النظر؛ لكان فعلا لمن تذكر النظر من فعله، وتذكر النظر ضرورى من فعل الله- تعالى- (فالعلم «1») المتولد منه يكون ضروريا. ولو وقعت المعرفة بالله- تعالى- عند تذكر النظر ضرورية؛ لخرجت عن أن يكون مأمورا بها، ومثابا عليها؛ وهو محال بإجماع الأمة.
الثانى: أنه لو كان تذكر النظر مولدا للعلم؛ لولده؛ وإن عارضه شبهة؛ لأن التذكر قبل معارضة الشبهة كهو بعدها.
والحجتان باطلتان:
أما الأولى: فمبناها على أن الأمر لا يكون إلا بما هو مخلوق للعبد، وكذلك الثواب؛ وقد أبطلناه فى مسألة خلق الأفعال.
وأما الحجة الثانية: فمبنية على جواز عروض الشبهة عند تذكر النظر الصحيح؛ وهو غير مسلم التصور.
وإن سلم «2» تصور عروضها عند تذكر النظر الصحيح؛ فإن كان ذلك يمنع من تولد العلم من تذكر النظر عند عروض الشبهة؛ فلا يمنع من تولده منه بتقدير عدم عروضها:
________________
(1) فى أ (و العلم).
(2) فى ب (سلمنا).
(2/446)
________________________________________
كما فى ابتداء النظر؛ فإن عروض الشبهة يمنع من تولد العلم من النظر، ويمنع «1» من تولده منه بتقدير عدم الشبهة.
فإن قيل: الشبهة من فعل العبد؛ فالنظر من فعله، فأمكن أن يكون فعله مانعا لفعله من التولد، والتذكر؛ ضرورى من فعل الله- تعالى- والشبهة من فعل العبد؛ فلا يكون فعل العبد مانعا لفعله من التولد، والتذكر ضرورى من فعل الله- تعالى- والشبهة من فعل العبد مانعا من فعل الرب؛ فيلزم عليهم: أن لا يكون إمساك الأيّد القوى للشىء مانعا من الحركة الواجبة له من اعتماد الريح العاصفة عليه بتقدير عدم مسك الأيّد له؛ لكونه مانعا من فعل الله- تعالى- وسواء/ كان تحرك «2» ذلك الجسم متولدا من الاعتماد المخلوق لله- تعالى- فى الريح، أو مباشرا بقادريته عند اعتماد الريح عليه؛ وهو خلاف أصلهم.
التفريع الرابع:
القائلون بالتولّد متفقون: على أن الأصوات، والآلام من أفعال الآدميين لا تقع إلا متولدة.
وزاد أبو هاشم وقال: بأن التأليفات الواقعة من أفعال الآدميين، لا تقع إلا متولدة، من غير تفصيل: بين التأليف القائم بمحل قدرتين من قادر واحد: كالذى يؤلف بين إصبعيه، وبين التأليف القائم بجسمين متباينين لمحل القدرة، أو جسمين أحدهما محل القدرة، والآخر خارج عنه «3».
ووافقه الجبائى: فى التأليف القائم بجسمين مباينين لمحل القدرة دون غيره.
وحجتهم فى ذلك: أنه لا يعقل صوت دون اعتمادات لبعض الأجرام على بعض، واصطكاك بينها، وكذلك لا يعقل تأليف بين جوهرين دون مجاورة بينهما، ولو كان ذلك
________________
(1) فى ب (و لا يمنع).
(2) فى ب (تحريك).
(3) فى ب (عن محل القدرة).
(2/447)
________________________________________
مباشرا بالقدرة؛ لما توقف على هذه الأسباب. والّذي يخص الألم الخارج عن محل القدرة، والتأليف الخارج عن محل القدرة: أن كل ما كان من أفعال العبيد- وهو خارج عن محل قدرهم- فلا يكون مباشرا بالقدرة؛ بل متولدا.
ولقائل أن يقول:
وإن سلمنا صحة التولّد، فما المانع أن يكون الصوت، والألم، والتأليف، مباشرا بالقدرة؟ والاعتمادات فى الأصوات، والآلام، والمجاورة- بالنسبة إلى التأليف- شروطا لوقوعها بالقدرة من غير تولد.
واختلاف الاعتمادات؛ لا يمنع من جعلها شروطا لشيء واحد. وإلا لامتنع «1» اشتراط المحل فى العلم، وكون العالم حيا؛ لاختلافهما؛ وهو محال. والّذي يخص التأليف القائم بمحل القدرة، وغيره: أنه ليس القول بكونه متولدا لقيامه بغير محل القدرة، أولى من كونه مباشرا بالقدرة؛ لقيامه بمحل القدرة.
كيف: وأنه مبنى على جواز قيام عرض واحد بمحلين؛ وهو غير متصور.
والحق فيه: أنه إذا وجد تأليف بين جوهرين؛ فتأليف كل واحد مع الآخر، غير تأليف الآخر معه؛ فهما تأليفان قام كل واحد منهما بجوهر غير الجوهر الّذي قام التأليف الآخر به.
التفريع الخامس:
ذهب كثير من المعتزلة: إلى أن من اعتمد على غيره بضرب؛ أو قطع: كان اعتماده عليه مولدا للألم فيه.
وقال ابن الجبائى: على/ المختار من قوليه: إن تولّد الألم: إنما هو من الوهى:
وهو افتراق الأجزاء المبنية بنية الصحة، وتولد الوهى من الاعتماد، محتجا على ذلك:
بأنّ وقوع الألم على حسب الوهى فى القلة، والكثرة، لا على حسب الاعتماد؛ وهذا هو خاصية الأسباب المولدة، ولهذا: فإن من اعتمد بضربه على جارحة دقيقة، قد يجد
________________
(1) فى ب (و إلا امتنع).
(2/448)
________________________________________
المضروب من الألم، أضعاف ما يجده لو كان ذلك الاعتماد بعينه على جارحة مكتنزة قوية منه مع تساوى الاعتمادين، وليس ذلك إلا للتفاوت فى الوهى؛ فدلّ على أن الوهى؛ هو السبب المولد للألم دون الاعتماد بالضرب؛ وهو فاسد من وجهين:
الأول: أن من مذهب أبى هاشم: أن ما يتولد عن الاعتماد فى العضو الرقيق من الوهى أكثر مما يتولد عنه من الوهى فى العضو المكتنز القوى.
ولذلك: كان ما يتولد عنده من أحد الوهايين أكثر من الآخر.
وإذا أمكن أن يكون المتولد من أحد «1» الاعتمادين المتساويين من الوهى أكثر، فما المانع من القول: بأن تولد الألم من الاعتماد، وأن وقع التفاوت فيه فكما أن العضو الرقيق أقبل للوها من العضو الكثيف؛ فكذلك هو «2» هو أصل للألم ولا فرق؛ فلا تفرقة «2» من هذا الوجه.
الوجه الثانى: هو أن الآلام قد تتفاوت مع تساوى الوهى، وتساوى الاعتمادات؛ وذلك كالوها الحاصل من غرز الإبرة، والحاصل من غرز زبانة العقرب.
وعند ذلك: فليس القول بتولد الألم عند «3» الوهى مع التساوى فيه؛ أولى من تولده من الاعتمادات «4» مع تساويها «4»، ولا يمكن أن يقال بتساوى الألمين المتولدين من الوهايين، والزائد فى أحدهما؛ فمن خلق الله- تعالى- أو أن تولد الألم من الوهى مشروط بالنفرة، أو أن ألم اللذع الزائد متولد من السم.
أما الأول: فلأنه أمكن أن يقال مثله بتقدير تولّد الألم من الاعتماد.
وأما الثانى: فلأنه «5» أمكن أن يقال بتولد الألم من الاعتماد مشروطا بالوهي والنفرة، وأمكن أن يقال بوقوع الألم مباشرا بالقدرة مشروطا بالاعتماد «6»، والوهى «6»، والنفرة؛ وليس أحد هذه الاحتمالات أولى من الآخر.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (هو أقبل الألم ولا فرق ولا تفرقة).
(3) فى ب (عن).
(4) فى ب (الاعتماد مع تساويه).
(5) فى ب (فلأنه أيضا).
(6) فى ب (بالوهاء والاعتماد).
(2/449)
________________________________________
وأما الثالث: فلأن التولد: إما من جسم السمّ، أو من عرض من أعراضه.
فإن كان الأول؛ فالأجسام عندهم غير مولدة.
وإن كان الثانى؛ فهو عود إلى القول بالطبع؛ وهو مع بطلانه بما تقدم لم يقر به أحد من المعتزلة.
/ التفريع السادس:
قسم القائلون بالتولد الأسباب المولدة: إلى ما يولد فى ابتداء حدوثه، وفى دوامه عند زوال الموانع: كالاعتماد: اللازم السفلى. وإلى ما يولد فى ابتدائه دون دوامه:
كالمحاورة: المولدة للتأليف، والوهى المولد للآلام، ولم يعلموا أن المحاورة والوهى فى ابتدائه؛ كهو فى دوامه.
فإذا قدّر انتفاء الموانع من التولّد حسب انتفائها فى الابتداء؛ فيلزم من كونها غير مولدة فى الدوام، أن لا تكون مولدة فى الابتداء. ومن كونها مولدة فى الابتداء، أن تكون مولدة فى الدوام؛ ضرورة عدم الفرق. ولو أخذ خصوص الابتداء، أو ما لازمه شرطا فى التولّد؛ لكان ذلك شرطا فى جميع الأسباب المولدة؛ ولم يقولوا به.
التفريع السابع:
اختلفت المعتزلة القائلون بالتولّد فى الألوان، والطعوم.
فذهب بعضهم: إلى جواز وقوع بعض الألوان، والطعوم متولدة من أفعال «1» العبيد غير مباشرة بقدرهم «2»: وذلك كلون الدبس، وطعمه الحاصل من ضرب الدبس، وسوطه بالمسواط، وكذلك الحرارة الحادثة فى الجسم بمحاكته بجسم آخر، والاعتماد عليه، محتجين على ذلك بمآخذ احتجاجهم فى غيره من المتولدات؛ وهو حصول اللون، والطعم على حسب الضرب، والسوط.
وذهب أكثرهم: إلى أن الألوان، والطعوم، وكذلك الحرارة لا تقع من أفعال العبيد، لا مباشرة بقدرهم، ولا متولدة من أفعالهم. محتجين على ذلك بأنه لو جاز تولد
________________
(1) فى ب (فعل).
(2) فى ب (بقدرتهم).
(2/450)
________________________________________
اللون، أو الطعم عن سبب من الأسباب؛ لما اختص ذلك بجسم دون جسم؛ ضرورة أن الأجسام قابلة لجميع الألوان المتضادة والطعوم، وليس الأمر كذلك. أو التولد فى ذلك الجسم لون أو طعم، غير ذلك اللون والطعم؛ ضرورة كونه قابلا للكل؛ والكل ممتنع، وليس بحق.
إذ لقائل أن يقول:
ما المانع من أن يكون اختصاص بعض الأجسام بالطعم، واللون المتولد لاختصاصه بصفة مشروطة فى تولد ذلك اللون، والطعم من السبب المفروض لا وجود لها فى غيره من الأجسام؟، وكذلك الكلام فى اختصاص السبب بتولد بعض الألوان، والطعوم عنه، أو أن يكون المسبب «1» المختص بتولد بعض الألوان، والطعوم عنه على هيئة خاصة من الاعتمادات مخصوصة لا يتهيأ وجود مثلها فى غير ذلك الجسم، ولا بالنسبة إلى لون «2» آخر، أو طعم آخر؛ وهذه طلبات لا مخلص عنها.
التفريع الثامن:
اختلفت المعتزلة/ فى الموت هل «3» يكون متولدا عن الآلام المتولدة «3» من الجرح؟
فذهب الجبائى «4» إلى جوازه، ونفاه آخرون.
ومن نفاه؛ فقد خالف قياس التولد، وترتب الموت على الآلام، وهدم البنية حسب ترتب الآلام على الوهى، والاعتمادات.
ومن أثبت ذلك: كان مراغما للدليل الدال على إبطال «5» التولد، وإجماع الأمة، ونصوص الكتاب.
أما الدليل: فما سبق «6».
________________
(1) فى ب (السبب).
(2) فى ب (جسم).
(3) فى ب (هل يتولد من الألم المتولد).
(4) فى ب (بعضهم).
(5) فى ب (بطلان).
(6) انظر ل 273/ أ وما بعدها.
(2/451)
________________________________________
وأما إجماع الأمة: فلأن الأمة مجمعة على أن المستقل بالموت، والإحياء: إنما هو الله- تعالى-.
وأما نصوص الكتاب: فقوله- تعالى-: هُوَ يُحيِي ويُمِيتُ «1». وقوله- تعالى-: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ «2». إلى غير ذلك من الآيات.
ثم يلزم الجبائى القائل: بتولد الموت من فعل العبد. أن يكون العبد قادرا على الحياة المضادة للموت؛ لأن من مذهبه أن القادر على الشيء يكون قادرا على ضده؛ وهو محال.
التفريع التاسع:
اتفق القائلون بالتولد: على تعذر اجتماع حركتين، متماثلتين فى جزء واحد، فى وقت واحد، بقدرة واحدة، إلى خلاف جهة اعتماده، ولم يمنعوا من وجود حركات؛ كل حركة فى محل بقدرة واحدة؛ لكن بشرط تفرق المحال. وإن تضامت المحال واجتمعت؛ فيمتنع على القدرة الواحدة ما كان جائزا لها حالة الافتراق إلا أن يقوم بمحل القدرة أعداد من القدر موازية لأعداد الأجزاء المحركة المجتمعة، وكل قدرة تؤثر فى كل جزء وحركة؛ فيجتمع فى كل جزء حركات بعدد جملة الأجزاء المحركة.
وعلى هذا: فلو كانت الأجزاء المحركة عشرة مثلا؛ فلا بد من عشر قدر قائمة بالفاعل القادر على التحريك. وكل قدرة؛ فهى مؤثرة فى كل جزء بحركة؛ فالحركات القائمة بكل جزء عشر.
هذا أصل القوم، وعليه اتفاقهم، وهو من التحكمات الباردة، والدعاوى الجامدة.
فإنه لو قيل لهم: لم كانت القدرة الواحدة تحرك الأجزاء المتفرقة؟، وتوجب فى كل واحد منها حركة. ويمتنع عليها ذلك عند تضام «3» الأجزاء. مع أنه «4» ما حدث بالتضام «5» ثقل، ولا زيادة فى الأجزاء، ولا فارق غير الاجتماع والافتراق، لم يجدوا إلى
________________
(1) سورة يونس 10/ 56.
(2) سورة البقرة 2/ 258.
(3) فى ب (انضمام).
(4) فى ب (أن).
(5) فى ب (بالانضمام).
(2/452)
________________________________________
الفرق سبيلا. بل ولو قيل (لهم «1»): لم كانت القدرة الواحدة موجبة فى كل جزء من الأجزاء المنضمة حركة عند انضمام قدر أخرى إليها موازية للأجزاء المحركة، ولم تكن مؤثرة بانفرادها؟ / مع أن مقدور كل قدرة غير مقدور الأخرى. ولا تتعلق قدرتان بمقدور واحد، ولا تؤثر كل واحدة من القدر فى القدرة الأخرى، ولا فى مقدورها؛ بل كل واحدة حالة انفرادها كهى حالة الاجتماع مع غيرها، ولم لا كانت مؤثرة فى الحالتين، أو غير مؤثرة فى الحالتين؟ لم يجدوا إلى الفرق سبيلا.
ولهذا قال ابن الجبائى، وغيره من فضلاء المعتزلة: لا نعرف لذلك سببا، غير أنا وجدنا أن ما يسهل علينا حركته عند الافتراق؛ عسير عند الاجتماع. وهذا: وإن كان حقا؛ فليس فيه ما يدل على وجوب اجتماع قدر موازية لأعداد الأجزاء المنضمة، ولا أن يكون فى كل جزء من الحركات ما يوازى أعداد الأجزاء؛ بل أمكن أن يكون ذلك لعدم خلق الله- تعالى- القدرة على الدفع حالة الانضمام، وخلقه لها حالة التفريق بحكم جرى العادة، أو لتوقفت الحركة والدفع فى الأجزاء المنضمة، على وجود قدرة أخرى واحدة، منضمة إلى القدرة الأولى، أو أكثر.
وبالجملة: على قدر لا تكون فى عددها موازية لعدد الأجزاء، ولا محيص عنه.
وأما الجبائى فإنه قال: انضمام الأجزاء مانع من التحريك.
ولهذا: فإنا نجد القادر على المشى يمتنع عليه المشى بالربط والتقييد؛ بسبب انضمام أجزاء القيد إلى رجليه؛ وهو مبنى على أصله فى جواز منع القادر؛ وقد أبطلناه.
وإن سلمنا صحة المنع؛ فلا نسلم صحة التعليل، بانضمام أجزاء القيد إلى رجليه؛ بل أمكن أن يكون ذلك لمعنى مختص بتلك الصورة لا وجود له فيما نحن فيه، ولا طريق إلى نفى ذلك بأمر يقينى على ما أسلفناه.
كيف: والفرق واقع «2» من جهة أن مانع القيد لا يزول- وإن تضاعفت القدر- بخلاف ما نحن فيه فإنه قال بزوال «3» المانع بتقدير أن توجد قدر موازية لأعداد الأجزاء المنضمة.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (مانع).
(3) فى ب (يزول).
(2/453)
________________________________________
ثم يلزم عليهم: أنه لو كانت أعداد الأجزاء المنضمة عشرة؛ فخلق فى المحرك لها إحدى عشرة قدرة؛ فالقدرة الزائدة على العشر: إما أن تكون مؤثرة مع تأثير باقى القدر، أو غير مؤثرة.
فإن كان الأول: فهو محال؛ لأنها: إما أن تؤثر فى حركة أخرى زائدة على حركات القدر العشر، أو فيما أثرت فيه باقى القدر.
لا سبيل إلى الأول؛ للاستغناء عنها.
ولا سبيل/ إلى الثانى؛ لامتناع تأثير قدرتين فى مقدور واحد.
وإن كان الثانى: فليس سقوط اعتبار أى قدرة فرض دون الباقى أولى من العكس وهذه المحالات، إنما لزمت مما ذكروه؛ فيكون محالا.
التفريع العاشر:
ذهب بعض المعتزلة: إلى أن ما يتحرك به الثقيل من الاعتمادات يمنة، ويسرة؛ يمكن أن يرتفع به إلى جهة فوق.
وخالفهم أبو هاشم، وأتباعه فى ذلك: محتجا عليهم بما يجده كل عاقل من التفاوت بين التحريك دحرجة، وبين التحريك صعدا؛ لكنه زعم أن ما يفتقر إليه الثقيل فى تحريكه يمنة ويسرة، من الحركات القائمة بكل جزء منه، لا بد منه فى جهة الدفع مع زيادة حركة واحدة.
ولو «1» قيل: لم حصرت الزيادة فى حركة واحدة؟، ولم لا كانت أكثر من ذلك؟
وهى ما يعلم الله- تعالى- تحرك الثقيل عندها؛ لم يجدوا إلى الحصر سبيلا.
التفريع الحادى عشر:
إذا تمالأ على حمل ثقيل اثنان يستقل كل واحد منهما بحمله- بتقدير انفراده به.
فقال عباد الصيمرى، والكعبى: إن كل واحد منهما منفرد بحمل بعض من المثقل لا يشاركه فيه صاحبه، ولا يثبت لهما فعلان فى جزء من المثقل.
________________
(1) فى ب (و لو قيل له).
(2/454)
________________________________________
وقال أكثر المعتزلة: يثبت لكل واحد منهما فى كل جزء من أجزاء المثقل من الأفعال حالة الاجتماع، ما كان يثبت له حالة الانفراد.
والمذهبان واهيان: أما الأول: فلأنه لا بد وأن يكون فعل كل واحد منهما فى بعض معين فى نفس الأمر، وليس ما تعين لفعل زيد فيه أولى من غيره؛ لعدم الأولوية.
وأما الثانى: فلأنه لو قيل: إذا كان المنفرد به لا يتم حمله له دون ما به حركة فى كل جزء مثلا. فما المانع عند اجتماعهما من صدور خمسين حركة فى كل جزء، من كل واحد منهما، من غير حاجة إلى ما به من كل واحد منهما؟ لم يجدوا إلى دفعه سبيلا.
التفريع الثانى عشر:
(فيما «1») اختلف فيه الجبائى، وابنه.
من ذلك أن الثقيل الساكن؛ هل يمكن أن يولد فيه سكون، أم لا؟ فمنع الجبائى من ذلك؛ لاعتقاده أن مولد السكون الحركة، ولا حركة. وجوزه ابنه؛ لاعتقاده أن المولد للسكون: إنما هو الاعتماد، والاعتماد على الثقيل فى جهة ممكن.
وكل واحد من القولين مقابل للآخر من غير دليل.
ومن ذلك أن الجبائى: أحال قيام ألم بجسم من فعل الله- تعالى/ دون الوهى، وتفريق «2» الأجزاء «2»: محتجا على ذلك: بأنا لم نصادف ألما إلا كذلك؛ فكان لازما.
وخالفه أبو هاشم فى ذلك وقال: لا يلزم من اطراد ذلك فى الشاهد، اطراده فى الغائب؛ لأن ما خرج عن محل القدرة فى الشاهد، لا يكون مباشرا بالقدرة؛ بخلاف الغائب.
________________
(1) فى أ (مما).
(2) ساقط من ب.
(2/455)
________________________________________
وما ذكره أبو هاشم: تفريعا على القول بالتولد منقدح.
كيف: وأن ما ذكره الجبائى يجرّ إلى أن لا تكون بيضة إلا من دجاجة، ولا دجاجة إلا من بيضة، ولا إنسان إلا من إنسان بناء على الشاهد، وهو قول بقدم العالم؛ وذلك محال.
ومما خالف فيه ابن الجبائى للمعتزلة: أنه لم يطلق على السبب مولدا للمسبب، قال لأن ذلك يوهم انقطاع المسبب عن كونه فعلا لفاعل السبب؛ بل المولد للمسبب من «1» السبب، هو فاعل السبب، والأمر فى الاصطلاح اللفظى قريب.
________________
(1) فى ب (عن).
(2/456)
________________________________________
الأصل الثالث فى أنه لا مخصص للجائزات إلا الله- تعالى- وأنه مريد لكل كائن، وغير مريد لما لم يكن
ولما كان هذا الأصل من أعظم أصول هذا الكتاب، وأغمضها على ذوى العقول والألباب، وجب أن نقدم عليه فصولا لا يتم تحقيقه دونها؛ وهى ستة فصول.
الأول: فى إثبات الإرادة الحادثة، وأحكامها.
الثانى: فى أضداد الإرادة الحادثة.
الثالث: فى أن الإرادة للشيء، كراهية لضده.
الرابع: فى أن الإرادة الحادثة لا توجب المراد.
الخامس: فيما يجوز تعلق الإرادة به، وما لا يجوز.
السادس: فى تحقيق متعلق الإرادة.
(2/457)
________________________________________
الفصل الأول فى إثبات الإرادة الحادثة، وأحكامها
كنا بينا فى مسائل الصفات اختلاف الناس فى معنى الإرادة، وما هو المختار فيها، وبينا أنها منقسمة: إلى قديمة، وحادثة، وبينا ثبوت القديمة منها «1».
وهذا: أوان بيان ثبوت الحادثة منها.
وقد اتفق العقلاء: على ثبوت الإرادة الحادثة شاهدا، غير الجاحظ. علي ما أسلفناه فى مسائل الصفات. وهو مخصوم: بما يجده كل عاقل من نفسه من مكنة تخصيص حركاته المقدورة بوقت دون وقت، وحالة دون حالة، بخلاف حركاته الاضطرارية، وليست مكنة التخصيص بحالة دون حالة راجعة إلى صفة الحركة المقدورة، والحركة الاضطرارية/؛ بل هى راجعة إلى المتحرك، وليست هى نفس ذاته؛ لوجود ذاته فى الحالتين؛ فلم يبق إلا أن تكون صفة من صفات ذاته واختصاصه بالتمكن من التخصيص فى إحدى الحالتين دون الأخرى: إما أن يكون بمخصص أو لا بمخصص.
لا جائز أن يكون لا بمخصص «2»؛ لما سيأتى فى إثبات الأعراض «3».
وإن كان بمخصص: فذلك المخصص: إما عدم، أو وجود.
لا جائز أن يكون عدما؛ لما تحقق فى مسألة الرؤية، ولما يأتى في العلل، والمعلولات «4»، ولما يأتى فى إثبات الأعراض «5».
وإن كان وجوديا: فإما ذاته، أو بعض ذاته، أو زائدا على ذاته.
لا جائز أن يقال بالأول، والثانى: لكونه عاما للحالتين. وإن كان زائدا على ذاته؛ فليس هو نفس الحياة، ولا العلم، ولا غيره من الصفات المشتركة بين الحالتين، ولا هو
________________
(1) انظر ل 65/ أ وما بعدها.
(2) فى أ (بمخصص).
(3) انظر الجزء الثانى ل 39/ ب وما بعدها.
(4) انظر الجزء الثانى ل 117/ ب وما بعدها.
(5) انظر الجزء الثانى ل 39/ ب وما بعدها.
(2/459)
________________________________________
نفس القدرة؛ إذ القدرة ليس من شأنها تخصيص الحادث بحالة دون حالة؛ بل ما من شأنه أن يأتى به الفعل بدلا عن الترك، والترك بدلا عن الفعل، كما تقدم تحقيقه؛ فلم يبق إلا أن يكون زائدا على ذلك كله؛ وهو المعنى بالإرادة، فقد «1» ثبت بذلك أن العبد متصف بالإرادة «1»، وإليه الإشارة بقوله- تعالى- تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا «2» أثبت كون العبد مريدا، والمريد من قامت به الإرادة، على ما سبق. وكذلك قوله- تعالى- واللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ويُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً «3». إلى غير ذلك من الآيات، والدلائل الواضحات.
وإذا ثبتت الإرادة الحادثة؛ فالقول فى امتناع بقائها، وفى وجوب مقارنتها للمراد، وامتناع تعلق الإرادة الواحدة الحادثة بمرادين، وفى تماثلها واختلافها، وتضادها، وأنها هى تفتقر في تعلقها بالمراد إلى نية مخصوصة؟
وأن فعل النائم هل هو مراد؟ وأن النوم مضاد للإرادة. وأنه هل يتصور وجود مراد بين مريدين؟ وأن الله- تعالى- يريد مثل فعل العبد، وأنه هل يتصور وجود مراد واحد بإرادتين لمريد واحد من وجهين؛ فعلى ما سبق فى القدرة الحادثة من المزيف، والمختار؛ فعليك بنقله إلى هاهنا.
*********
________________
(1) فى ب (و قد ثبت أن العبد متصف بصفة الإرادة).
(2) سورة الأنفال 8/ 67.
(3) سورة النساء 4/ 27.
(2/460)
________________________________________
/ الفصل الثانى فى أضداد الإرادة الحادثة وهى تنقسم: إلى أضداد خاصة. وإلى أضداد عامة.
أما الخاصة: فالكراهية:
وهى ضد الإرادة باتفاق الأئمة. ولم يمنعوا من اتصاف الرب- تعالى- بها، خلافا للأستاذ أبى إسحاق، فإنه قال: الكراهة لا يوصف بها البارى- تعالى- لأن الكراهة راجعة إلى النفرة عن الشيء، والنفرة عنده من ضروب الآلام. والرب- تعالى- لا يوصف بشيء من الآلام، وهو على خلاف الإطلاق الشائع الذائع من الأمة بكون الله «1» - تعالى- كارها لكذا، وغير كاره لكذا، ولو كانت الكراهة ألما، أو نفرة؛ لما وصف بها الرب- تعالى- إذ هو لا يوصف بالألم، والنفرة.
وأيضا: فإنه لو كانت الكراهية هى النفرة، أو ضرب من الألم؛ لكان قول القائل:
كرهت بمنزلة قوله: تألّمت، ونفرت. ولو كان كذلك؛ لما «2» صح «2» قول القائل:
كرهت الأمر الفلانى؛ إذ هو بمنزلة قوله: تألمت الأمر الفلانى، أو نفرت الأمر الفلانى؛ وهو محال.
فإن قيل: لو كانت الكراهية ضد الإرادة، لما اجتمعا. والمعصية الواقعة عندكم مرادة لله- تعالى- ومكروهة له.
قلنا: حدوث المعصية الواقعة عندنا هو المراد، وحدوثها ليس بمكروه؛ بل المكروه كونها معصية، وكونها معصية؛ خارج عن نفس الحدوث المراد؛ فما اجتمعا.
وأما الأضداد العامة: فالموت، والنوم؛ بالاتفاق.
وأما الغفلة، والسهو؛ فالإجماع منا، ومن المعتزلة، وكل عاقل- واقع على أنه لا يجامع الإرادة. بمعنى أن إرادة الشيء لا تجتمع مع السهو عن ذلك الشيء. وهل هما
________________
(1) فى ب (الرب).
(2) فى ب (لم يصح).
(2/461)
________________________________________
ضدان؟ فالذى عليه أصحابنا: التضاد خلافا للمعتزل؛ فإنهم قالوا: هما غير متضادين، وإن امتنع الجمع بينهما.
احتج الأصحاب:
بأن الإرادة، والسهو: معنيان يمتنع الجمع بينهما فى المحل الواحد بالنسبة إلى شيء واحد، ولا يتخيل فيهما مانع للمنع من الجمع غير التضاد؛ فهما متضادان.
وفيه نظر؛ إذ ليس كل معنيين يمتنع الجمع بينهما فهما متضادان؛ فإن القدرة على الحركة على أصولنا معنى، والسكون المضاد للحركة المقدورة معنى، ولا يتصور الجمع بين القدرة على الحركة، والسكون؛ ضرورة مقارنة القدرة علي الحركة للمحركة، وليست القدرة/ على الحركة، والسكون ضدين؛ بل للقدرة «1» على الحركة لازم ضد السكون؛ وهو الحركة.
وقول القائل: لم يتخيل من الإرادة والكراهة ما يجعل الجمع غير التضاد، دعوى تفتقر إلي البحث والسبر، وهو غير يقينى كما سلف «2».
وأما حجة الخصم: فمن وجهين:
الأول: لو كان السهو مضادا للإرادة؛ لتعلق بمتعلقها على ضد تعلقها: كالجهل؛ فإنه لما ضاد العلم كان متعلقا بمتعلق العلم (على) «3» النقيض من تعلق العلم به، والسهو ليس كذلك؛ فإنه متعلق مثيله بالقديم، والباقى مع استحالة تعلق الإرادة بهما.
الثانى: أنه لو كان السهو مضادا للإرادة؛ فهو عندكم أيضا مضاد العلم، ولو كان ضدا لهما، لتضادا: كالسواد؛ فإنه لما كان ضدا للبياض والحمرة؛ كان البياض، والحمرة ضدين. وليس العلم ضدا للإرادة؛ فلا يكون السهو ضدا لها.
[الجواب عنها]
والجواب عن الحجة الأولى: لا نسلم أنه لو كان السهو مضادا للإرادة؛ لكان متعلقا بمتعلقها على النقيض، ولا يلزم من وقوع ذلك فى بعض المتضادات: كالعلم، والجهل؛ وقوع ذلك مطلقا فى كل
________________
(1) فى ب (القدرة).
(2) فى ب (سبق).
(3) فى أ (عن).
(2/462)
________________________________________
متضادين؛ فإن السواد والبياض ضدان، ولا تعلق لأحدهما بمتعلق الآخر على النقيض، وكذلك الموت؛ فإنه عندنا ضد الإرادة «1»، وليس هو على ما ذكروه.
وإن سلمنا: أنه لا بد وأن يكون الأمر فى المتضادين على ما ذكروه؛ ولكن لا نسلم أن السهو الّذي هو مضاد (للإرادة) «2» غير متعلق بمتعلق الإرادة؛ فإن إرادة الشيء يضادها السهو عن ذلك الشيء، لا عن غيره.
وعلى هذا: فلا يلزم من كون السهو عن القديم والباقى، غير مضاد للإرادة، أن لا يكون السهو عن الشيء مضادا لإرادة ذلك الشيء.
أما الحجة الثانية: فلا نسلم أن ما ضاد مختلفين؛ أنه «3» لا بد «3» من تضاد المختلفين، ولا أنه يلزم من وقوع ذلك فى بعض المتضادات، طرده فى الباقى؛ فإن عندنا الموت مضاد للعلم، والقدرة، والإرادة؛ ولا تضاد بين العلم، والقدرة، والإرادة، ومجرد الدعوى فى ذلك غير مقبولة فى ما ليس بضرورى.
ومن مذهب الشيخ: إن الإرادتين المتعلقتين بالضدين فى وقت واحد فى محل واحد؛ ضدان: كإرادة الحركة يمنة، وإرادة الحركة يسرة.
قال القاضى أبو بكر: والّذي يصح عندى عدم/ التضاد محتجا على ذلك بأن من جهل تضاد شيئين. وقدر فى نفسه جواز اجتماعهما؛ فإنه يتصور منه إرادتهما معا على رأى الشيخ، ولو تضادا، لما اختص امتناع الجمع بينهما بحالة العلم دون غيره:
كالسواد، والبياض؛ فإنهما لما تضادا امتنع الجمع بينهما مطلقا سواء علما، أو جهلا.
وفيه نظر؛ إذ الإرادة على ما حققناه: عبارة عن معنى من شأنه أن يتخصص به كل واحد من الجائزين بدلا عن الآخر، وما لا يكون كذلك؛ فغير خارج عن القصد، والتمنى، والشهوة، والميل، والعزم، وليس إرادة على التحقيق.
وعلي هذا: فتعلق الإرادة بالمراد لا معنى له غير تخصيص «4» المراد «4» بها؛ فلا يعقل تعلقها بالمراد من غير تخصيص له بها.
________________
(1) فى ب (للإرادة).
(2) فى أ (الإرادة).
(3) فى ب (فلا بد).
(4) فى ب (تخصيصه).
(2/463)
________________________________________
وعند ذلك: فلا يخفى أن تعلق الإرادتين (بالضدين) «1» ممتنع سواء علم تضادهما، أو لم يعلم؛ ضرورة استحالة تخصيصهما معا فى وقت واحد، فى محل واحد، ولا معنى لتضاد الإرادتين غير امتناع اجتماع تعلقهما بالضدين معا.
وعلى هذا: فالمذهبان مدخولان.
أما مذهب الشيخ: فلاعتقاده أنه لا تضاد حالة الجهل.
وأما مذهب القاضى: فلاعتقاده انتفاء التضاد مطلقا. فإن قال ناصر كلام القاضى أن الإرادة الحادثة عندكم غير مخصصة للمراد كما أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى الإيجاد؛ فكيف يصح هذا النبأ؟
قلنا: وإن كانت الإرادة الحادثة غير مؤثرة فى التخصيص، فمعنى تعلقها بالمراد، وقوع التخصيص مقارنا لها. كما أن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى الإيجاد. ومعنى تعلقها بالمقدور مقارنته لها، على ما تقدم.
ولا يخفى: أن تعلق الإرادة الحادثة بالمراد- على هذا التفسير- مما يمنع من الجمع بين تعلق الإرادتين بالضدين على ما عرف.
وعلى هذا: فكل ضدين لا واسطة بينهما، ويمتنع عرو المحل عنهما؛ فيمتنع الكراهية لهما؛ إذ من ضرورة الكراهية لهما امتناع إرادة كل واحد منهما؛ لاستحالة الجمع بين كراهية الشيء، وإرادته. ويلزم من ذلك خلو المحل عنهما؛ وهو محال.
وإن كان بينهما واسطة؛ فلا يمتنع تعلق الكراهة (بهما) «2»؛ لإمكان اجتماعهما فى العدم.
********
________________
(1) فى أ (لضدين).
(2) فى أ (لهما).
(2/464)
________________________________________
الفصل الثالث/ فى أن الإرادة للشىء كراهية لضده «1»
مذهب الشيخ أبى الحسن، وكثير من أصحابه: أن عين إرادة الشيء، كراهية لأضداد ذلك الشيء؛ ولكن مقتضي أصل الشيخ، وإن لم يكن مصرحا به من جهته: أن يكون المريد للشيء عالما بأن الشيء له أضداد، فإن من لا يعلم وجود الشيء؛ فلا يتصور أن يكون كارها له.
فإذن الإرادة للشيء: كراهية لأضداده «2»، حالة علم المريد بالأضداد، لا حالة جهله بها.
وقال الاستاذ أبو إسحاق: إرادة الشيء لا تكون بعينها كراهية لأضداد ذلك الشيء مطلقا؛ لأنها لو كانت الإرادة للشيء كراهية «3» للضد «3»؛ لكان ذلك لها من صفات نفسها، وصفات النفس لا تزول. ولو كان كذلك؛ لكانت الإرادة للشيء كراهية لضده حالة الجهل به؛ وهو محال لما تقدم.
وقال إمام الحرمين: هذا هو أيضا مقتضى أصل القاضى، والحجة لمذهب الشيخ أبى الحسن: أن المريد للشيء تلازمه الكراهية لأضداده لا محالة على ما يجده كل عاقل من نفسه، والكراهة: إما أن تكون عين الإرادة، أو غيرها.
لا جائزة أن يقال بالمغايرة: وإلا فذلك الغير: إما أن يكون مثلا للإرادة، أو لا يكون مثلا لها.
فإن كان مثلا: فالمثلان لا يجتمعان فى محل واحد على ما يأتى فى التضاد «4».
وإن لم يكن مثلا: فهو خلاف؛ والخلاف: إما ضد، أو ليس بضد. لا جائز أن يكون ضدا: وإلا لما اجتمعا؛ وقد اجتمعا.
وإن لم يكن ضدا: فكل خلافين ليسا بضدين أمكن وجود أحدهما دون الآخر:
كالعلم، والقدرة، ونحوهما؛ وهو خلاف ما قيل من التلازم؛ بل وأمكن وجود كل واحد
________________
(1) فى ب (لأضداده).
(2) فى ب (لضده).
(3) فى ب (كراهة ضده).
(4) انظر الجزء الثانى ل 78/ أ وما بعدها.
(2/465)
________________________________________
منهما مع ضد الآخر. وضد الكراهية، الإرادة؛ وذلك يجرّ إلى جواز إرادة الشيء، وإرادة ضد ذلك الشيء معا؛ وهو محال؛ لما تقدم من أن الإرادتين المتعلقتين بالضدين متضادتان.
وإذا لم يكن كارها لغير ما هو مريد له، تعين كون الإرادة للشيء عين الكراهة لضد ذلك الشيء؛ وبهذا عرفنا «1» أن عين القرب من المشرق «2»؛ هو عين البعد من «3» المغرب «3»، وأن عين شغل الجوهر لحيز انتقل إليه، عين تفريقه للحيز الآخر، ونحو ذلك.
وهذه الحجة فيها نظر؛ إذ لقائل أن يقول: لا نسلم أن المريد للشيء يكون كارها لضده؛ بل غايته أن يكون كارها، لعدم المراد. أما الضد: فأمكن أن يكون كارها له، وأمكن أن لا يكون/ وإن سلم أنه لا بد وأن يكون كارها للضد؛ ولكن لا نسلم أن الإرادة عين الكراهة. والمختار من الأقسام: إنما هو الاختلاف من غير تضاد.
وعلى هذا: فلا نسلم إمكان وجود أحد المختلفين دون الآخر مطلقا فى كل مختلفين؛ ليلزم ما قيل.
وما المانع من كونهما متلازمين؟ بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر، ولا يلزم من جواز الانفكاك فى بعض المختلفات جوازه مطلقا.
ولهذا: فإن التحيز مع الجوهر من المختلفات، ولا انفكاك لأحدهما عن الآخر على أصل المستدل.
وأما حجة مذهب الأستاذ أبى إسحاق: فإنما تلزم أن لو قيل: بأن إرادة الشيء عين الكراهة لضد ذلك الشيء مطلقا؛ وليس كذلك.
وما المانع أن تكون الإرادة للشىء عين الكراهة لضده مشروطا بالعلم به؟ كما أن أصل الكراهة للشىء. أو الإرادة له مشروطا بالعلم به.
________________
(1) فى ب (عرفت).
(2) فى ب (الشرق).
(3) فى ب (عن الغرب).
(2/466)
________________________________________
فإن قيل: لو جاز أن تكون الإرادة «1» للشىء «1» عين الكراهة لضده؛ لكان العلم بالشيء جهلا بضده؛ وهو محال؛ فإنه لا يلزم من العلم بالسواد، الجهل بالبياض، ونحوه
قلنا: هذه دعوى مجردة، وتمثيل من غير دليل جامع؛ فلا يصح. كيف: وأن الاتفاق واقع على أن إرادة «2» الشيء «2» كراهية لعدم ذلك الشيء إما بعين الإرادة، أو بغيرها، وما لزم أن يكون العلم بوجود الشيء؛ جهلا بعدمه، كان الجهل بالعدم عين العلم، أو غيره.
********
________________
(1) فى ب (إرادة الشيء).
(2) فى ب (الإرادة للشىء).
(2/467)
________________________________________
الفصل الرابع فى أن الإرادة الحادثة لا توجب المراد
مذهب الأشاعرة: أن الإرادة غير «1» موجبة للمراد «1»
ووافقهم على ذلك الجبائى، وابنه، وجماعة المتأخرين من المعتزلة.
وذهب النظام، والعلاف، وجعفر بن حرب «2»، وطائفة من قدماء البصريين: إلى أن الإرادة توجب المراد؛ إذا كان المراد فعلا للمريد، وكانت الإرادة قصدا إلى إيقاع الفعل المقدور عند زوال الموانع.
وأما إن كانت الإرادة عزما، أو كانت الإرادة لفصل الغير فلا.
أما حجة أصحابنا على امتناع كون الإرادة موجبة للمراد: فما أسلفناه فى امتناع كون القدرة الحادثة موجبة للمقدور؛ فعليك بنقله إلى هاهنا «3».
وأما النظام: فإنه قال: إذا أراد المريد الحركة إلى جهة اليمنة تقديرا، وكانت إرادته قصدا لإيقاع الفعل مع ارتفاع/ الموانع: فإما أن يقال بجواز وقوع الحركة فى الحالة الثانية من وجود الإرادة إلى جهة غير جهة اليمنة، أو أنه لا بد من وقوع ما عينه من الحركة.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا فتلك الحركة: إما أن تقع مرادة، أو غير مرادة.
لا جائز أن تقع من غير إرادة: وإلا لأمكن مثل ذلك فى كل حركة؛ إذ ليس البعض بالاستغناء عن الإرادة أولى من البعض.
وإن كان وقوعها بالإرادة: فالإرادة لها: إما أن تكون مقارنة لها، أو متقدمة عليها.
لا جائز أن يقال بالمقارنة: لأن الإرادة قصد، والقصد إلى الشيء يجب أن يكون مقدما على ذلك الشيء.
________________
(1) فى ب (لا توجب المراد).
(2) جعفر بن حرب الهمذانى. من أئمة المعتزلة البغداديين، أخذ الكلام عن أبى الهذيل العلاف بالبصرة، وصنف مؤلفات فى الكلام توفى سنة 236 ه.
(الفرق بين الفرق 133، 167، والملل 59، 69 والأعلام 2: 116).
(3) انظر ل 229/ أ وما بعدها.
(2/468)
________________________________________
ولا جائز أن يقال بتقدمها عليها: لأن ذلك يجر إلى اجتماع الإرادتين لضدين مع العلم بهما فى وقت واحد؛ وذلك محال.
فلم يبق إلا القسم الثانى: وهو وجوب وقوع ما عينه من الحركة فى الوقت الثانى، وهو المعنى بإيجاب الإرادة للمراد «1».
واعلم أن هذه الحجة إنما تلزمنا: أن لو قلنا بوجوب تأثير الإرادة فى المراد بالتخصيص، وليس كذلك؛ بل غايته أنا نقول بوجوب مقارنتها للمراد من غير تأثير كما قلنا فى القدرة، وليس القول: بكون الإرادة موجبة للمراد بسبب المقارنة بينهما من غير تأثير لأحدهما فى الآخر، بأولى من كون المراد موجبا للإرادة؛ كما سبق فى القدرة.
وإن سمى مسم الإرادة موجبة بهذا الاعتبار؛ فلا منازعة معه فى غير التسمية؛ بل هذه الحجة لازمة على المعتزلة القائلين بأن الإرادة غير موجبة للمراد، مع اعترافهم بتأثيرها فى صفة المراد، ولصعوبة معركها على أصلهم.
اختلفوا فى جوابها؛ بعد الاتفاق منهم على جواز وقوع الحركة فى الوقت الثانى من وجود الإرادة إلى خلاف جهة الحركة المرادة.
فمنهم من قال: بأنها «2» تقع مرادة إذ لو وقعت غير مرادة؛ لأمكن ذلك فى كل حركة لما سبق.
ثم من هؤلاء من قال: بأن الإرادة لضد الحركة المرادة أو لا تقع مقارنة لها، «3» لا مقدمة «3» عليها، حتى لا تجتمع إرادتان لضدين فى وقت واحد- مع العلم بهما- إذ هو محال؛ لما سبق؛ وهذا هو قول الجبائى.
ومنهم من قال: إنها تقع بإرادة متقدمة عليها، ولو وقع ذلك؛ لما كانت الإرادة الأولى؛ وهذا هو قول أبى هاشم.
ومن المعتزلة القائلين بامتناع إيجاد الإرادة للمراد من قال:/ «4» بأن الحركة المرادة «4» تقع فى الوقت الثانى من غير إرادة؛ لأنها لو كانت مرادة؛ فالإرادة: إما مقارنة لها، أو متقدمة عليها.
________________
(1) فى ب (للمريد).
(2) فى ب (أنها).
(3) فى ب (لا متقدمة).
(4) فى ب (أن الحركة المضادة).
(2/469)
________________________________________
لا جائز أن تكون مقارنة لها؛ لما تقدم، ولا متقدمة عليها، للمحال المذكور أولا.
وربما أسند بعضهم وقوعها إلى البنية المخصوصة.
وكل هذه الأجوبة فمدخولة.
أما جواب الجبائى: فإما أن يقول: بأن كل إرادة تقارن المراد؛ كما هو المنقول عنه من أحد قوليه. وإما أن يقول بالمقارنة فى صورة الإلزام دون غيرها، كما هو المنقول عنه فى قول آخر.
فإن كان الأول: فلا يخفى أنه يلزم من مقارنة الإرادة للمراد مع تأثير الإرادة فى صفة المراد، أن تكون موجبة المراد: كما قال النظام، وموافقوه.
وإن كان الثانى: فيلزم منه أن تكون الإرادة فى صورة المقارنة موجبة، وهو خلاف مذهبه، ثم إنه ليس القول: بمقارنة الإرادة لإحدى الحركتين، وتقدم إرادة «1» الأخرى عليها، أولى من العكس.
وأما جواب أبى هاشم: فحاصله راجع إلى أن الإرادة المفروضة أو لا لم تكن بتقدير وقوع الحركة المضادة؛ وهو محال؛ لما فيه من القول بعدم ما قيل بوجوده فى وقت وجوده.
والقول بأن الحركة المضادة- بتقدير وقوعها- لا تكون مرادة؛ يوجب أن تكون كل حركة هكذا؛ لما تقدم من عدم أولوية بعض الحركات بالاستغناء عن الإرادة دون البعض.
وعلى هذا: يبطل القول بإسناد الحركة المضادة إلى البنية المخصوصة أيضا.
********
________________
(1) فى ب (الإرادة).
(2/470)
________________________________________
الفصل الخامس فيما يجوز تعلق الإرادة به، وما لا يجوز
أما (ما لا «1» يجوز «1») تعلق الإرادة به: فالمستحيلات: كالجمع بين الضدين، وانقلاب الحادث قديما، والقديم حادثا. إلى غير ذلك.
ولا فرق فى ذلك بين الغائب، والشاهد؛ لكن مع العلم بالاستحالة شاهدا، وكذلك الحكم فى إرادة القديم الواجب؛ إذ الإرادة إنما هى للتحصيل، وتحصيل الحاصل محال. وكل «2» ذلك «2» مما لا خلاف فيه بين العقلاء.
وأما ما يجوز تعلق الإرادة به: فكل ما هو جائز فى «3» نفسه، وسواء كان مقدورا للمريد، أو غير مقدور له. وسواء كان وجودا، أو عدما. وسواء كان العدم طارئا، أو أصليا: كإرادة أن لا يحدث الشيء.
وذهب بعض المعتزلة: إلى امتناع إرادة العدم المحض.
/ ومنهم: من جوز ذلك؛ لكنه لم يصف العدم بكونه مرادا، وإن تعلقت الإرادة به كما قال أبو هاشم فى العلم بالمستحيلات.
والمذهبان باطلان.
أما الأول: فلأنه خلاف ما يجده كل عاقل من نفسه من إرادة أن لا يكون الشيء كما يجده من إرادة كونه؛ وليس ذلك عائدا إلى إرادة الضد؛ فإنه قد يريد ألا يحدث ما لا ضد له: كالجوهر. وليس الفناء ضدا للجوهر ليقال بتعلق الإرادة به على ما سنبينه، وبتقدير كون الفناء ضدا؛ فإنما يكون بعد حدوث الجوهر لا قبله؛ فلا يمكن أن تكون إرادة ألا يحدث الجوهر إرادة لفنائه. وبتقدير تحقق الفناء قبل حدوث الجوهر، فقد يريد ألا يحدث الجوهر من لا يخطر الفناء بذهنه.
وأما المذهب الثانى: فبطلانه بما أبطلنا به قول أبى هاشم فى علم لا معلوم له.
فإن قيل: إذا جوزتم تعلق الإرادة بكل جائز؛ فكل باق مما ليس واجبا لذاته جائز، (فلتكن) «4» الإرادة متعلقة به، ولم يقل به أحد من العقلاء.
________________
(1) فى أ (ما يجوز)
(2) فى ب (و ذلك).
(3) فى ب (أن يكون فى).
(4) فى أ (ممكن)
(2/471)
________________________________________
فقد أجاب عنه: الأستاذ أبو إسحاق: بأن إرادة المعنى «1» الّذي به بقاء الباقى ممكن.
وأما الباقى من غير بقاء: فغير ممكن؛ فلا «2» تتعلق به الإرادة «2». وليس بحق؛ فإنه إن «3» كان الباقى باقيا بنفسه؛ فالإشكال لازم. وإن كان باقيا بمعنى: فلو قيل: لم لا يجوز أن تتعلق الإرادة بالباقى مع جوازه، وبقطع النظر عن المعنى الموجب للبقاء؟ لم يكن ما ذكره الأستاذ فى الجواب كافيا.
والحق فى الجواب: أنه لا امتناع من تعلق الإرادة بالباقى. وإنما الّذي يمتنع تعلقها به تجدد وجود الباقى؛ فإنه محال. وعليه معول إمام الحرمين.
هذا ما قاله الأصحاب: فى تعلق الإرادة بالمراد.
والواجب إنما هو التفصيل فى هذا الباب؛ وهو أن يقال:
إن أريد بالإرادة: المعنى الّذي من شأنه تخصيص الحادث بوقت حدوثه وبحالة دون حالة، كما أسلفناه فى تحقيق معنى الإرادة؛ فيمتنع تعلقها بما لا تكون مخصصة له. وسواء كان جائزا فى نفسه، أو لم يكن كما أسلفناه فى الفصل الثانى من هذا الأصل «4».
وإن أريد به ما سوى ذلك: من القصد له، أو التمنى، أو الشهوة، أو الميل، أو غيره؛ فمسلم.
وعلى كل حال؛ فلا يتصور أن يكون الفاعل عالما بفعله، إلا وهو مريد له بموافقة جميع المعتزلة. ما سوى المتولدات من الأسباب؛ فإنها يجوز أن تكون عندهم مرادة، وغير مرادة. وإن/ كانت «5» من أفعال فاعل السبب.
وأما الإرادة: فلو أقدر الله- تعالى- عبده على الإرادة، فهل يجب أن تكون تلك الإرادة مرادة له بإرادة أخرى؟ وهل تتعلق إرادته، بإرادته المقدورة «6»، أم لا؟
________________
(1) فى ب (المعتزلة).
(2) فى ب (و لا تتعلق الإرادة به).
(3) فى ب (ما)
(4) انظر ل 282/ ب.
(5) فى ب (كان).
(6) فى ب (المعدومة).
(2/472)
________________________________________
فذهب أصحابنا: إلى وجوب ذلك؛ لأنه لا يتصور فعل من فاعل، وهو عالم به، ذاكر له من غير إرادة له.
ومنع الجبائى من ذلك: وأحال كون الفاعل للإرادة مريدا لها بإرادة أخرى.
وأما أبو هاشم فإنه قال: إن «1» كانت الإرادة قصدا إلى الفعل مقارنة له، أو متقدمة عليه: كتقدم القدرة على المقدور، جاز أن تكون مرادة وأن لا تكون مرادة.
وأما إن كانت متقدمة على الفعل بأزمنة، وكانت عزيمة على الفعل؛ فلا بد وأن تكون مرادة. وكل ذلك يخيل فى دفع سؤال التسلسل على قولهم: بأن الله- تعالى- مريد بإرادة حادثة لا فى محل.
احتج أصحابنا: بأن الإجماع منا، ومن المعتزلة منعقد على أن كل مقدور معلوم، ما عدا موضع النزاع؛ فإنه لا بد وأن يكون مرادا بإرادة مخصصة له.
وإنما افتقر إلى تعلق الإرادة به من جهة كونه جائزا؛ فإن «2» المخصص للجائزات «2»: إنما هو الإرادة- كما سبق تقريره فى مسائل الصفات «3» - والإرادة المقدورة جائزة؛ فكان تخصيصها مفتقرا إلى مخصص من جهة الفاعل لها؛ وذلك المخصص هو الإرادة. ولو أمكن استغناؤها- مع جوازها- عن الإرادة المخصصة؛ لاستغنى كل جائز عن المخصص؛ وذلك محال؛ لما فيه من تخصيص بعض الجائزات دون البعض من غير مخصص.
فإن قيل: ما ذكرتموه: إنما يلزم منه وجود الإرادة مع جوازها من غير مخصص، بتقدير أن لا تكون مرادة أن لو لم يكن الداعى إليها كافيا فى التخصيص؛ فلم قلتم بأنه غير كاف؟
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على إرادة الإرادة؛ لكن معنا ما يدل على امتناع ذلك، وبيانه من وجهين:
الأول: أنه لو كانت الإرادة المقدورة مرادة للفاعل «4»؛ لكانت تلك الإرادة الثانية مفتقرة إلى ثالثة، والثالثة إلى رابعة، وهلم جراء إلى ما لا نهاية له؛ وهو محال.
________________
(1) فى ب (إذا).
(2) فى ب (و المخصص للجائز).
(3) انظر ل 64/ ب وما بعدها.
(4) فى ب (بالفاعل).
(2/473)
________________________________________
الثانى: أنه لو جاز أن تراد الإرادة؛ لجاز أن تشتهى الشهوة، وأن يتمنى التمنى، وكل ذلك محال.
قلنا: أما داعى الإرادة لو اكتفى به عن إرادة الإرادة؛ لاكتفى بداعى المراد عن إرادة المراد. وأما التسلسل: فإنما يلزم أن لو كانت كل إرادة مكتسبة مرادة بإرادة/ مكتسبة؛ وليس كذلك؛ بل أمكن قطع التسلسل بالانتهاء إلى إرادة ضرورية حاصلة للفاعل بخلق الله- تعالى.
فإن قيل: فلو «1» كان المراد «1» معصية؛ فإرادته تكون معصية؛ لأن إرادة المعصية معصية، وهلم جرا؛ فالإرادة المخلوقة لله- تعالى- تكون معصية، ولا «2» يكون الرب- تعالى «2» - خالقها؛ فقد سبق الجواب عن أمثال هذا «3» فى مسألة خلق الأفعال.
وما ذكروه آخرا؛ فدعوى مجردة، وتمثيل من غير جامع؛ فلا يصح على ما عرف.
كيف وأن ما ذكروه، لازم عليهم فى الإرادة السابقة على المراد بأزمنة؛ فإنها لا بد وأن تكون مرادة على أصلهم كما بيناه. فما هو جوابهم ثم؛ فهو جوابنا هاهنا.
*********
________________
(1) فى ب (فلو كانت إرادة المراد).
(2) فى ب (فلا يكون الرب).
(3) فى ب (هذه الشبهة).
(2/474)
________________________________________
الفصل السادس فى تحقيق متعلق الإرادة
ذهب القاضى أبو بكر، والبصريون من المعتزلة: إلى أن الإرادة إذا تعلقت بقول، أو فعل؛ فلا بد وأن تثبت له حالة زائدة على ذاته.
أما فى القول: فكما لو قال القائل لغيره: افعل. فإنه إذا أراد به الإيجاب، أو «1» الندب، أو الإباحة «1»، أو التعجيز، أو التسخير، أو التأديب، إلى غير ذلك من المحامل؛ فقد أفادت الإرادة قوله: افعل. إثبات حالة زائدة فى كل واحدة من هذه الصور: وهى ما به التمايز بين هذه الجهات. وإن كان قوله: افعل. متحدا لا اختلاف فيه.
وأما فى الفعل: فكالسجود: فإنه بالإرادة «2» لله- تعالى- ثبتت «3» له صفة الطاعة، وبالإرادة «4» للصنم يثبت له بها صفة المعصية. وإن كان السجود متحدا؛ لا اختلاف فيه إلى نظائره.
ولهذا قال الكعبى: إن قوله: افعل، وهو موجب، خلاف قوله: افعل؛ وهو نادب.
وخالفهم فى ذلك بعض أصحابنا.
احتج القاضى، ومتبعوه: بأن الإرادة لا بد لها من مراد، وأنه يستحيل وجود إرادة لا مراد لها، كما يستحيل وجود علم لا معلوم له، وقدرة لا مقدور لها. ومتعلق الإرادة فى هذه الجهات القولية، والفعلية، ليس هو نفس القول، أو الفعل، لعدم الاختلاف فيه؛ فلم يبق إلا أن تكون صفة زائدة عليه.
وأيضا: فإن العاقل يجد من نفسه التفرقة بين هذه الأقوال، والأفعال؛ وليست التفرقة عائدة إلى ما به الاتفاق: من القول، أو الفعل؛ فلم يبق إلا أن تكون عائدة إلى ما به الافتراق. وما به الافتراق غير ما به الاتفاق؛ وذلك هو المطلوب.
________________
(1) فى ب (أو الإباحة والندب).
(2) فى ب (بإرادة).
(3) فى ب (يثبت).
(4) فى ب (و بإرادته).
(2/475)
________________________________________
والحق عندى «1» فى/ ذلك «1»: أن ما ذكره القاضى فى الدلالة على أن متعلق الإرادة فى الصور المذكورة ليس هو نفس القول، والفعل المطلقين؛ بل هو «2» أمر زائد عليهما؛ فهو «2» مسلم لا مراء فيه؛ لكنه إن أراد بذلك الأمر الزائد- الّذي هو أثر الإرادة- صفة وجودية، وحالة ثبوتية للفعل، أو القول فى جهاته المختلفة؛ فهو ممتنع. وإلا كانت الإرادة مؤثرة فى حدوث تلك الصفة وثبوتها؛ ويلزم من ذلك ثبوت أخص صفة القدرة للإرادة، وأن تكون الإرادة قدرة، والقدرة إرادة؛ وهو قلب «3» لحقيقة كل «3» واحدة من الصفتين.
كيف: وأن القائل: إذا بحث مع نفسه، ونظر بعقله «4» نظر «4» منصف؛ علم أن قول القائل حالة كونه موجبا؛ كهو حالة كونه نادبا، وأنه ليس لأحدهما صفة ثبوتية يمتاز بها عن الآخر. وبه يبطل قول الكعبى باختلافهما فى نفسيهما.
وإن أراد به أن صيغة افعل المقدورة مما يجوز أن ترد للوجوب تارة، وللندب أخرى.
وأن كل واحد من الجائزين؛ فمتعلق القدرة من جهة حدوثه، ووجوده، وأن متعلق الإرادة، تعين أحد الجائزين لأن يوجد بالقدرة بدلا عن الآخر، فهو الحق.
وإن أراد به غير هذين المحملين، فلا بد من تصويره، وبيان وجوده، وهو غير متصور، ولا مبرهن.
وإذ أتينا على ما أردناه من الأصول، وأوردناه من الفصول؛ فنعود إلى المقصود فى بيان أن كل كائن مراد لله- تعالى- وما ليس بكائن ليس مرادا له.
*********
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (بل أمرا زائدا عليهما).
(3) فى ب (لكل).
(4) فى ب (بعقل بنظر).
(2/476)
________________________________________
القول فى أن كل كائن فمراد «1» لله- تعالى- وما ليس بكائن غير مراد الكون
مذهب أهل الحق من أصحابنا:
أن كل جائز كائن؛ فهو مراد لله- تعالى- وأن كل جائز ليس بكائن؛ فغير «2» مراد الكون «3».
واتفقوا: على صحة إسناد جميع الكائنات إلى إرادته «4» جملة بقولهم: جميع الكائنات مرادة لله- تعالى.
واختلفوا: فى جواز إسنادها إليه مفصلا:
فمنهم: «5» من منع ذلك وأن يقال «5»: الكفر، والفسوق مراد لله- تعالى حذرا من تخيل السامع أن الإرادة هى الأمر: كما ذهب إليه بعض العلماء، وأن الكفر، والفسوق مأمور به.
وعند توقع الالتباس فى الإطلاق؛ يجب التوقف فيه «6» على ورود الشرع به؛ ولم يرد.
وهذا «7» كما يصح أن يقال بالإجماع، وبالنص: الله خالق كل شيء. ولا يقال: الله خالق المستقذرات، والنجاسات، والكلاب، والخنازير، وإن كانت من مخلوقاته.
وكما يقال: إن كل شيء فى العالم لله- تعالى- بالإضافة/ الملكية، ولا يقال له الزوجة والأولاد، وإن كان فى العالم زوجة وأولاد، وهم مضافون إليه إضافة ملك، وليس ذلك إلا لما فيه من احتمال اللبس، والتوقف على ورود الشرع بالإطلاق.
ومنهم: من جوز ذلك وقال: إن الله مريد للكفر، والفسوق معصية معاقبا عليه.
________________
(1) فى ب (مراد).
(2) فى ب (غير).
(3) فى ب (لله).
(4) فى ب (قدرته).
(5) فى ب (من منع من ذلك ومن أن يقال).
(6) فى ب (عليه).
(7) فى ب (و كذا).
(2/477)
________________________________________
ومن أصحابنا: من فصل بين قوله: إن الله يريد بالكافر الكفر، وبين قوله: يريد منه الكفر؛ فأجاز الأول، ومنع الثانى؛ لإنبائه عن الرضا بالكفر بخلاف الأول.
وأما المعتزلة فإنهم قالوا:
ما كان من أفعال الله- تعالى- فهو مراد له، غير إرادته الحادثة على ما فصلنا مذهب الجبائى، وابنه فيه «1».
وما كان من أفعال العباد المكلفين؛ فإن كان واجبا: أراد وقوعه، وكره تركه.
وإن كان حراما: كره وقوعه، ولا يريد وقوعه.
وإن كان مندوبا: أراد وقوعه، ولا يكره تركه.
وإن كان مكروها: كره وقوعه، ولا يريده.
وإن كان مباحا: فلا يريده، ولا يكرهه.
وما كان من أفعال غير المكلفين: كالصبيان، والمجانين، والبهائم؛ فحكمها حكم الأفعال المباحة من المكلفين.
[تفصيل حجة الأصحاب]
(و أما) «2» حجة أصحابنا فى الطرف الأول- وهو أن كل (جائز) «3» كائن فمراد «4» لله- تعالى-: هو أن كل كائن فهو مخلوق لله- تعالى-، وكل مخلوق لله- تعالى-؛ فهو مراد له؛ فكل كائن فهو مراد له.
أما بيان المقدمة الأولى: فما مر «5» فى الأصل الّذي قبل هذا الأصل.
وأما المقدمة الثانية: فهو أن كل مخلوق لله- تعالى- فلا بد وأن يكون جائز الوجود، وجائز العدم، وإلا كان واجبا لذاته، أو ممتنعا؛ وخرج عن كونه مخلوقا.
وكل جائز: فلا بد له فى «6» وجوده وحدوثه، من مخصص، وإلا كان وجود «6» أحد الجائزين من غير مخصص؛ وهو محال.
فإذن كل مخلوق لله- تعالى- لا بد له من مخصص؛ وكل ما لا بد له من مخصص؛ فلا بد وأن يكون مرادا؛ إذ لا مخصص غير الإرادة؛ على ما تقدم. فكل مخلوق
________________
(1) ساقط من ب.
(2) ساقط من أ.
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (فهو مراد).
(5) فى ب (سبق).
(6) فى ب (من مخصص فى وجوده وحدوثه وإلا لزم).
(2/478)
________________________________________
لله- تعالى- مراد، وليس مخلوقه مرادا مخصصا بإرادة غيره، وإلا لخرج عن كونه مستندا لخلقه؛ وهو محال. فإذن كل كائن؛ فهو مراد لله تعالى.
وفى الطرف الثانى: وهو أن «1» ما لا يكون غير «1» مراد الكون:
فهو أن ما ليس بكائن من الجائزات؛ فلا بد وأن يكون الرب- تعالى- عالما بأنه لا يكون. وإلا كان جاهلا به؛ والجهل على الله محال كما سبق. ويلزم من علمه بأن لا يكون؛ استحالة/ الكون، وإلا لانقلب العلم جهلا بتقدير الكون، والعلم باستحالة وقوع الشيء معلوم بالضرورة، أنه لا يريده، ولأنه لو أراده: فإما أن يقع مراده، أو لا يقع.
والأول: يلزم منه انقلاب العلم جهلا.
والثانى: يلزم منه أن يكون عاجزا قاصرا عن تحقيق مراده، والكل على الله- تعالى- محال.
ويعضد «2» هذه الدلائل العقلية؛ إجماع السلف والخلف، فى جميع الأعمار، والأمصار على إطلاق قولهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، من غير نكير، وهو دليل على الطرفين.
فإن قولهم: ما شاء الله كان. يدل على الطرف الثانى: وهو أن كل ما ليس بكائن؛ فهو غير مراد الكون؛ لأنه لو كان مراد الكون، ولم يكن؛ فيكون «3» على خلاف قولهم: ما شاء الله كان.
وقولهم: وما لم يشأ لم يكن، دليل على الطرف الأول: وهو أن كل كائن؛ فهو مراد الكون له؛ لأنه لو لم يكن مرادا له؛ لكان كونه على خلاف قولهم: وما لم يشأ لم يكن.
[إشكالات للخصوم]
فإن قيل: لا نسلم أن كل كائن مخلوق لله تعالى على ما سبق فى الأصلين المتقدمين. سلمنا أن كل كائن مخلوق لله- تعالى- ولكن لا نسلم أنه لا بد وأن يكون مريدا له.
________________
(1) فى ب (ما ليس بكائن فغير).
(2) فى ب (و محصل).
(3) فى ب (لكان).
(2/479)
________________________________________
وما ذكرتموه فى بيانه، وإن سلم دلالته عليه؛ لكنه معارض بما يدل على نقيضه.
وبيانه من سبعة أوجه: الأول: أن الكفر الواقع، والمعاصى الواقعة منهم منهية، وكل منهى؛ فهو مكروه غير مراد الكون.
أما أنها منهية: فبالإجماع.
وأما أنها مكروهة غير مرادة الكون: فمن وجهين:
الأول: أنه «1» لو جمع الناهي بين قوله: أنهاك عن كذا، وأريده منك، ولست كارها له منك. كان فى نظر أهل اللسان، والعقل متناقضا.
الثانى: أن قوله: لا تفعل: قد يرد بمعنى النهى كقوله- تعالى-: ولا تَقْرَبُوا الزِّنى «2»، ولا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ «3». إلى غير ذلك.
وقد يرد بمعنى التحقير كقوله- تعالى-: ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ «4».
ولبيان العاقبة (كقوله «5» - تعالى «5» ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ «6». وللدعاء كقوله «7» تعالى ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ «7») «8».
ولليأس كقوله: لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ «9».
وللإشارة كقوله: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ «10».
وإنما يتميز النهى عن غيره من المحامل بإرادة ترك الفعل، وكراهته.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) سورة الإسراء 17/ 32.
(3) جزء من الآية رقم 152 من سورة الأنعام ومن الآية رقم 34 من سورة الإسراء. والموجود فى أ، ب، ج (و لا تأكلوا مال اليتيم).
(4) سورة طه 20/ 131.
(5) ساقط من أ.
(6) سورة إبراهيم 14/ 42.
(7) فى أ (و لا تكلنا إلى أنفسنا).
(8) جزء من الآية رقم 286 من سورة البقرة.
(9) سورة التحريم 66/ 7.
(10) سورة المائدة 5/ 101.
(2/480)
________________________________________
الثانى: أن الكفر، والمعاصى من الكائنات، فلو كانت مرادة لله- تعالى- لكان فاعلها بموافقته لإرادة الله- تعالى- مطيعا. ويدل على أن موافقة المريد فيما أراد طاعة: هو أن من أفاد إظهار الطاعة لغيره، وقال: إنى أفعل ما تريد كما تقول: إنى أفعل/ ما تأمر؛ ولهذا قال الشاعر:
ربّ من انضجت غيظا صدره ... قد تمنّى لى موتا لم يطع
أى لم يجب إلى ما أراد، وفيه إضافة الطاعة إلى الإرادة.
ويدل عليه من السنة: قوله- عليه الصلاة والسلام- لعمه أبى طالب: «إن أطعت اللّه أطاعك»: أى إن فعلت ما أراد فعل ما تريد. ويلزم من كون الكافر والعاصى، مطيعا بكفره ومعصيته، أن يكون مستحقا للثواب؛ وهو باطل بالإجماع.
الثالث: أن من جملة الكائنات: السفه، والظلم. فلو كان الرب- تعالى مريدا له؛ لكان سفيها ظالما. على «1» ما يشهد به العرف. والسفيه الظالم مذموم ملام «1»، والرب يتعالى «2» عن ذلك.
الرابع: أن من الكائنات القبائح، وإرادة القبيح «3» قبيحة؛ فلو كان الرب- تعالى- مريدا للقبائح؛ لكانت إرادته قبيحة؛ وهو محال.
الخامس: هو أن الله- تعالى- عالم حكيم. ورعاية الصلاح فى فعله واجب على ما تقدم فى التجوير، والتعديل، ولا مصلحة فى إرادة الكفر والمعصية؛ لكونه موبقا مهلكا؛ فلا يكون مريدا له.
السادس: أنه إذا جاز أن يكون خالقا الكفر، والمعصية. ثم ينهى عنه؛ فلا مانع أن يكون خالقا له؛ وهو غير مريد له.
السابع: المعارضة بالنصوص «4»:
فمنها قوله- تعالى «4» -: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «5» والعسر من جملة الكائنات.
________________
(1) من أول (على ما يشهد ... ملام) الموجود بدلها فى ب (مذموما).
(2) فى ب (تعالى يتقدس).
(3) فى ب (القبائح).
(4) فى ب (بقوله تعالى).
(5) سورة البقرة 2/ 185.
(2/481)
________________________________________
ومنها قوله- تعالى-: ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ «1»، ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ «2». والظلم من جملة الكائنات.
ومنها قوله- تعالى-: واللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ «3». وقوله- تعالى-: ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ «4». والعسر، والظلم، والفساد، والكفر من جملة الكائنات، وقد دلت هذه النصوص على أنه غير مراد.
سلمنا أن كل كائن مراد لله- تعالى-؛ ولكن لا نسلم أن كل ما ليس بكائن غير مراد الكون.
قولكم: لا بد وأن يكون الرب- تعالى عالما بأنه لا يكون، مسلم، ولكن لا نسلم استحالة كون ما علم الله أنه لا يكون.
وإن سلمنا استحالة كونه؛ فلا نسلم استحالة إرادة ما علم الله أنه لا يقع على وفق الإرادة.
ولهذا فإن كل أحد يريد البقاء ألف سنة، أو أكثر، وإن علم بالقطع بقول نبى صادق مخبر «5» عن الله أنه لا يبقى تلك المدة.
قولكم: ولأنه إما أن يقع مراده «6» أو لا يقع. لم قلتم أنه يمتنع أن لا يقع؟
قولكم: يلزم منه أن يكون عاجزا قاصرا عن تحقيق مراده.
قلنا: متى يلزم منه القصور والعجز فيما هو من فعله، إذا لم يقع وهو/ مراد له أولى من فعله. الأول؛ مسلم؛ والثانى؛ ممنوع.
ولهذا: فإن فى الشاهد من أراد القيام، والقعود، وما هو من أفعاله، ولم يتمكن منه عد عاجزا. بخلاف من أراد من غيره القيام والقعود، ولم يفعل؛ فإنه لا يعد عاجزا.
والّذي نسلم أنه لا يقع من مراد الله: إنما هو فعل غيره، لا ما هو من فعل نفسه.
________________
(1) سورة غافر 40/ 31.
(2) سورة آل عمران 3/ 108.
(3) سورة البقرة 2/ 205.
(4) سورة الزمر 39/ 7.
(5) فى ب (يخبر).
(6) فى ب (مرادهما).
(2/482)
________________________________________
وإن سلمنا إمكان تحقيق العجز بالنسبة إلى فعل الغير: ولكن فى حق من يقدر على اضطرار ذلك الغير إلى مراده، أو فى حق من لا يقدر؟ الأول؛ ممنوع. والثانى؛ مسلم.
والإيمان من الكافر، وإن لم يكن من فعل الله- تعالى- فقادر على اضطراره إليه باظهار آية يظل عنقه «1» لها خاضعا «1»، على ما قال- تعالى-: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ «2». وقال- تعالى-: ولَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها «3»: أى لجعلناهم على الهدى قسرا، وقهرا.
والّذي يدل على ذلك: أنه لو فاجأ «4» زمن مقعد ضعيف لملك «4» عظيم فى دست مملكته، والأعوان من حوله (و أخذ «5» يسبه، يلعنه «5»). فإنا نعلم من الملك أنه لا «6» يمنعه ذاك منه «6»، ولا يعد إهماله مع العلم بقدرته على ردعه، وزجره، عجزا منه، ولا قصورا.
سلمنا إمكان العجز، والقصور مطلقا: ولكن «7» بالنسبة إلى من يتضرر وينتفع بموافقة إرادته ومخالفتها، أو بالنسبة إلى من ليس كذلك. الأول، مسلم، والثانى، ممنوع.
والرب يتعالى، ويتقدس عن الاضرار «8»، والانتفاع «8»؛ فلا يعد قاصرا، ولا عاجزا بعدم نفوذ إرادته.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع إرادة ما لم يقع؛ لكنه معارض بما يدل على نقيضه.
وبيانه: أن الله- تعالى- أمر بالإيمان، والطاعة، ويلزم من كونه مأمورا، أن يكون مرادا لله- تعالى- ويدل عليه «9» وجهان:
________________
(1) فى ب (لهذا خاضعة).
(2) سورة الشعراء 26/ 4.
(3) سورة السجدة 32/ 13.
(4) فى ب (جاز من مقعد ضعيف إلى ملك).
(5) فى أ (سبه ولعنه).
(6) فى ب (لا بد ذلك منه).
(7) فى ب (و لكن لا نسلم).
(8) فى ب (الانتفاع).
(9) فى ب (على ذلك).
(2/483)
________________________________________
الأول: أنه لو جمع الأمر بين «1» قوله لغيره آمرك «1» بكذا، (و لا أريده «2») منك.
كان متناقضا كما عرف فى النهى.
الثانى: أن قول القائل لغيره: افعل. قد يرد للإيجاب كقوله- تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ «3».
والندب: كقوله- تعالى-: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً «4».
والإرشاد: كقوله- تعالى-: فَاسْتَشْهِدُوا «5».
والإباحة: بقوله: فَاصْطادُوا «6».
والتأديب: كقوله عليه السلام لابن عباس: «كل ممّا يليك».
والامتنان: كقوله كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ «7».
والإكرام: كقوله ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ «8».
والتهديد «9»: كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «10».
وللتسخير: كقوله كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «11».
وللتعجيز: كقوله كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً «12».
والإهانة «13»: كقوله ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ/ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «14».
________________
(1) فى ب (لغيره بين قوله أمرتك).
(2) فى أ (و لا أريد).
(3) سورة الإسراء 17/ 78.
(4) سورة النور 24/ 33.
(5) سورة النساء 4/ 15.
(6) سورة المائدة 5/ 2.
(7) سورة البقرة 2/ 57.
(8) سورة الحجر 15/ 46.
(9) فى ب (و للتهديد).
(10) سورة فصلت 41/ 40.
(11) سورة البقرة 2/ 65.
(12) سورة الإسراء 17/ 50.
(13) فى ب (و للإهانة).
(14) سورة الدخان 44/ 49.
(2/484)
________________________________________
وللتسوية: كقوله فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا «1».
والإنذار: كقوله كُلُوا وتَمَتَّعُوا «2».
وللدعاء: كقول القائل: «اللهم اغفر لى».
ولكمال القدرة كقوله: كُنْ فَيَكُونُ «3».
وللتمنى كقول الشاعر «4»: ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلى.
وإنما تتعين للإيجاب بإرادة المأمور به؛ فدلّ على أنه قد يريد الإيمان من الكافر؛ لكونه مأمورا به، ومع ذلك فهو غير واقع منه.
وأما ما ذكرتموه من الاستشهاد بقول أهل الإجماع: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فتمسك بالإطلاقات، والظواهر الظنيات فى القطعيات؛ وهو ممتنع.
وأيضا: فإن من مذهبكم أن العموم لا صيغة له.
وعند ذلك: فلا مانع من حمل هذا الإطلاق على بعض المرادات دون البعض.
وإن كان ظاهرا فى العموم؛ فهو معارض باجماع آخر، وهو أن الإطلاق أيضا شائع ذائع بقولهم: استغفر الله مما كره الله من غير نكير أيضا.
وذلك يدل على أن المعاصى واقعة مع كراهية الله- تعالى- لها «5». ويلزم من كونه كارها لها؛ أن لا يكون مريدا لها.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن كل كائن مراد لله- تعالى- وأن كل ما ليس بكائن، غير «6» مراد الكون له «6»؛ ولكنه معارض بما يدل على عدم ذلك.
________________
(1) سورة الطور 52/ 16.
(2) سورة المرسلات 77/ 46.
(3) سورة البقرة 2/ 117 وآل عمران 3/ 47، 59 والأنعام 6/ 73، النحل 16/ 40 يس 36/ 82 وغافر 40/ 68.
(4) هو امرئ القيس بن حجر الكندى.
(5) ساقط من ب.
(6) فى ب (ليس مراد الكون).
(2/485)
________________________________________
وذلك لأنه لو كان كما ذكرتموه؛ فكل ما هو مراد لله- تعالى- فلا بد من وقوعه، وما ليس مرادا «1» لله «1»؛ فيمتنع وقوعه.
ويلزم من ذلك أن يكون العبد مضطرا، وملجأ إلى ما «2» يفعل، وإلى ما لا «2» يفعل على وجه لا يتمكن من الفعل بدل الترك، والترك بدلا عن الفعل؛ وهو خلاف الحس.
ويلزم منه إبطال الأمر، والنهى، والثواب، والعقاب: على الطاعات، والمعاصى؛ وهو خلاف الشرع، والدين، وإجماع المسلمين.
والجواب:
قولهم: لا نسلم أن كل كائن مخلوق لله- تعالى- فدليله ما سبق فى الأصل الثانى.
قولهم: لا نسلم كونه مريدا له.
قلنا: دليله ما بيناه.
قولهم: الكفر، والمعاصى منهى عنه، وعنها، مسلم.
قولهم: كل منهى مكروه غير مراد الكون.
قلنا: لا نسلم أن كل منهى غير مراد الكون، والمكروه لله من المنهى الواقع: إنما هو كونه معصية، لا نفس حدوثه؛ كما سبق فى أضداد الإرادة.
قولهم: لو قال القائل لغيره: أنهاك عن كذا، وأريد وقوعه منك، ولا أكرهه؛ كان تناقضا.
لا نسلم ذلك. وكيف يستقيم ذلك، والسيد المعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده المتواعد منه بأليم عقابه: إذا اعتذر عن ذلك/ بمخالفته لنهيه «3» فقال: انهه بين يدى. فنهاه عن فعل من الأفعال طلبا للخلاص من عقاب السلطان؛ فإنا نعلم أنه «4» لا يكره منه الفعل الّذي نهاه عنه؛ بل يكون مريدا منه أن لا يفعل، تحقيقا لنجاته، وبسط
________________
(1) فى ب (بمراد).
(2) فى ب (ما يفعله وما لا يفعله).
(3) فى ب (لنهيه عنه).
(4) فى ب (يكره).
(2/486)
________________________________________
عذره. ومع ذلك يعد العبد مطيعا: بتقدير الامتثال. وعاصيا: بتقدير المخالفة، ويتحقق تمهيد عذر السيد بتقدير المخالفة. ولو لا أن ما أتى به نهى «1»؛ لما تحقق شيء من ذلك.
قولهم: إنما يتحقق صرف قوله: لا تفعل إلى النهى دون غيره من المحامل بكراهة «2» الفعل المنهى عنه؛ لا نسلم ذلك. وما المانع من الصرف بقرينة أخرى غير ما ذكروه؟ وما المانع أن يكون الصارف القرائن الدالة على اللوم؛ بتقدير الفعل. والثناء؛ بتقدير الترك قصدا؟
قولهم: الكفر، والمعاصى من الكائنات؛ مسلم.
قولهم: لو كان مرادا لله- تعالى-؛ لكان الكافر، والعاصى مطيعا بموافقته للإرادة.
قلنا: الكفر، والمعصية من حيث هو فعل حادث مراد لله- تعالى- لا من حيث هو كفر، ومعصية على ما سبق.
وعلى هذا: فلا يلزم أن يكون الكافر بكفره، وبمعصيته مطيعا.
وإن سلمنا أن الكفر والمعصية مرادان: ولكن لا نسلم تحقق الطاعة بفعل المراد من حيث هو مراد؛ بل من جهة كونه مأمورا به لظهور الأمر، وشهرته بخلاف الإرادة؛ إذ هى كامنة باطنة.
ولهذا يقال فى العرف: فلان مطاع الأمر. ولا يقال: فلان مطاع الإرادة ومنه قوله- تعالى- إنباء «3» عن قول موسى لهارون: عليهما السلام أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي «4» ولم يقل إرادتى.
والّذي يدل على أن موافقة الإرادة ليست طاعة أمور ثلاثة:
الأول: أنه لو أراد مريد من شخص شيئا، فوقع المراد من فعل ذلك الشخص على وفق إرادة المريد من غير شعور للفاعل بإرادة المريد؛ فإنه لا يكون طاعة، وإن تحقق ما ذكروه من موافقة الفعل للإرادة.
________________
(1) فى ب (منهى).
(2) فى ب (بكراهيته).
(3) فى ب (اخبارا).
(4) سورة طه 20/ 93.
(2/487)
________________________________________
الثانى: أنه لو كان الفعل على الإرادة طاعة للمريد؛ لكان من أراد فعل أمر ففعله، يكون مطيعا لنفسه بنفسه، وهو ممتنع. ولهذا فإنه لما كان امتثال الأمر طاعة؛ امتنع أمر المرء لنفسه.
الثالث: أنه لو كان موافقة الإرادة طاعة؛ لكان موافقة المريد فى إرادته طاعة له.
ولهذا: فإن من أراد إظهار الخضوع لغيره لا يفرق بين قوله: إنى فاعل لما تريد، وبين قوله: إنى مريد لما تريد، ولو كان كذلك؛ لكانت إرادة الواحد/ منا لموت الأنبياء، وإنظار ابليس طاعة لله- تعالى- لموافقة إرادة الرب- تعالى- ذلك؛ وهو محال.
وبه يبطل ما ذكروه من قولهم: إن من أراد إظهار الطاعة لغيره قال: إنى أفعل ما تريد.
وأما الشعر: فبتقدير أن يكون ممن يحتج بقوله فى اللغة؛ فلا حجة فيه؛ إذ المذكور فيه التمنى، والتمنى ليس بإرادة؛ وإلا كان الرب- تعالى- متمنيا؛ لكونه مريدا. وموافقة المتمنى؛ ليست طاعة بالاتفاق.
وإن قيل: إنه تجوز بالتمنى عن الإرادة؛ فليس أولى من القول: بأنه تجوز به عن الأمر.
ثم وإن سلمنا أن موافقة المريد فى إرادته طاعة: ولكن مطلقا، أو بشرط أن يكون الآتى به قاصدا لموافقة الإرادة. الأول، ممنوع على ما تقدم. والثانى؛ مسلم؛ ولكن الكافر لا يأتى بالكفر لقصد موافقته إرادة الرب- تعالى- فلا يكون مطيعا بذلك.
قولهم: لو كان مريدا للسفه والظلم؛ لكان سفيها ظالما، سبق جوابه فى خلق الافعال.
قولهم: إن إرادة القبيح قبيحة؛ فهو مبنى على فاسد أصولهم فى التحسين، والتقبيح الذاتى؛ وقد أبطلناه «1».
قولهم: رعاية الصلاح فى فعله واجب؛ باطل بما سبق فى التعديل والتجوير «2».
________________
(1) فى ب (سبق بطلانه). انظر ل 175/ أ وما بعدها.
(2) انظر ل 174/ ب وما بعدها.
(2/488)
________________________________________
قولهم: إذا جاز أن يكون آمرا بالشيء، وليس مريدا له؛ جاز أن يكون خالقا له «1»، ولا يكون مريدا له؛ فهو جمع من غير دليل جامع؛ فلا يقبل.
كيف والفرق حاصل؛ وذلك لأن الأمر لا يتوقف عليه وجود المأمور بخلاف الإرادة فى الاتحاد، ضرورة كون الحادث جائزا، وتخصيص الحادث «2» دون مخصص؛ محال كما سبق.
وأما النصوص: فقد سبق جوابها فى مسألة الإرادة «3».
قولهم: لا نسلم استحالة كون ما علم الله أنه لا يكون.
قلنا: لأنه لو وقع لانقلب علم البارى جهلا؛ وهو محال. وما لزم عنه المحال؛ فهو محال. غير أن إحالته لا لذاته؛ بل لغيره، والمحال لغيره مساو للمحال لذاته من جهة أنه لا يقع.
قولهم: لا نسلم امتناع إرادة ما علم أنه لا يقع.
قلنا: امتناع ذلك مما يعلمه كل أحد من نفسه بالضرورة.
وما ذكروه من المثال، فلا نسلم أنه إرادة؛ بل هو تمن؛ والتمنى على الله- تعالى- محال.
قولهم: العجز والقصور إنما يلزم فيما هو من فعل نفسه. لا فيما هو من فعل غيره؛ فهو مبنى على فاسد أصولهم أن ثم خالقا غير الله- تعالى وفاعلا سواه. وقد أبطلناه فى مسألة الأصل الثانى، وبينا أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مبدع سواه.
قولهم: إنما يكون عاجزا: أن لو لم يكن قادرا؛ على اضطرار العبيد إلى ما يريد.
قلنا: الاضطرار/ بطريق إظهار الآيات، وأنواع المحرمات: إما أن يكون مفضيا إلى الإيمان فى حق من يعرف «4» الإله- تعالى «4» -، أو فى حق من لا يعرفه «5».
________________
(1) فى ب (للشيء).
(2) فى ب (الجائز).
(3) انظر ل 72/ أ وما بعدها.
(4) فى ب (لا يعرف الإله).
(5) فى ب (يعرف).
(2/489)
________________________________________
الأول: ممنوع؛ لأن المعرفة حاصلة له؛ وتحصيل الحاصل محال.
والثانى: أيضا ممتنع؛ لأن من لا يعرف الله- تعالى- لا يعلم أن المقصود من ذلك الانقياد إلى معرفته؛ فلا يكون مفضيا إلى المعرفة.
فإن قالوا: بأن الله- تعالى- يقيض له ملكا يقول له: إنك إن آمنت نجوت من هذه المهالك، وإن أصررت على كفرك هلكت.
فنقول: الإيمان بالملائكة فرع الإيمان بالله- تعالى- فمن لا يصدق بالله- تعالى-؛ فلا «1» يكون مصدقا بالملائكة.
ثم وإن كان مصدقا بالملائكة: فما «2» الّذي يؤمنه أن يكون المخاطب له عفريتا «3»، لا ملكا.
ثم وإن سلمنا إمكان معرفته بذلك: ولكن لا نسلم أن ظهور الآيات، وأنواع المخوفات «4» مما يوجب الاضطرار إلى الإيمان، ويدل عليه قوله- تعالى- ولَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا «5». وقوله- تعالى-: وما تُغْنِي الْآياتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ «6».
ثم وإن سلمنا لزوم الاضطرار إلى الإيمان من ظهور الآيات، غير أن القول بالاضطرار منهم لا يصح؛ فإن المقصود من التكليف بالإيمان، والطاعة عندهم: إنما هو الفوز بالنعيم المقيم، وإزاحة العذاب الأليم، وذلك لا يحصل عندهم بالاضطرار؛ بل إنما يحصل بالاختيار.
وعند ذلك: فالتكليف بالإيمان مع عدم حصول الغرض منه، والحكمة المطلوبة يكون قبيحا؛ والقبيح يستحيل صدوره من الله- تعالى- عندهم. وأما ما «7» تمسكوا به «7» من الآيات: فظواهر غير يقينية محتملة التأويل، والتخصيص، والمعارضة.
________________
(1) فى ب (لا).
(2) فى ب (فمن).
(3) فى ب (شيطانا).
(4) فى ب (المخلوقات).
(5) سورة الانعام 6/ 111.
(6) سورة يونس 10/ 101.
(7) فى ب (ما ذكروه من).
(2/490)
________________________________________
كيف وأن قوله: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ «1». وقوله ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «2».
إما أن يكون ذلك بطريق الاضطرار، أو لا بطريق الاضطرار.
فإن كان بطريق الاضطرار؛ فهو قبيح عندهم على ما سبق.
وإن كان لا بطريق الاضطرار؛ فلا يكون الإيمان لازما.
وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ضربوه من مثال الملك.
قولهم: إنما يوصف بالنقص، والقصور من يتضرر، وينتفع.
قلنا: فيلزم على نفوذ ما قالوه أن لا يوصف الرب- تعالى- بالنقص، والقصور بتقدير عدم نفوذ إرادته فى أفعاله؛ وهو محال.
ويلزم أيضا أن لا توصف الجمادات بالنقص نظرا إلى ما فاتها من كمالات الحيوانات؛ لعدم تضررها/ وانتفاعها؛ وهو أيضا ممتنع.
قولهم: يلزم من كون الإيمان مأمورا أن يكون مرادا، (فقد «3» بينا إبطال «3») ملازمة الإرادة للأمر فى مسألة الكلام،
وما ذكروه فى التقرير من الوجهين؛ فجوابهما على ما عرف فى النهى.
قولهم: ما ذكرتموه من الإجماع فأمر ظنى.
قلنا: وإن كان ظنيا؛ فلم «4» نذكره «4» للاستدلال؛ بل إنما ذكرناه لبيان أن ما ذكرناه على وفق الدين، وإجماع المسلمين؛ بخلاف ما ذكروه.
قولهم: العموم عندكم لا صيغة له.
________________
(1) سورة الشعراء 26/ 4.
(2) سورة الأنعام 6/ 35.
(3) فى ب (فقد بينا)، فى أ (بينا إبطال).
(4) فى ب (إلا أنا لم نذكره).
(2/491)
________________________________________
قلنا: بمعنى أنه ليس ثم «1» صيغة يقتضي مجردها «2» العموم، مع قطع النظر عن القرائن، والقرائن فيما نحن فيه متضافرة على إرادة العموم من قولهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فإنهم إنما يوردون ذلك فى معرض التعظيم لله- تعالى- وإعلاء شأنه- ولا يمكن أن يقال بتحقيق هذا المعنى بنفوذ مشيئته فى أفعاله دون أفعال العباد؛ إذ الواحد منا أيضا بهذه المثابة، ولا فائدة فى تخصيص الرب- تعالى بذلك.
وما ذكروه من المعارضة بقولهم: استغفر الله مما يكره الله؛ فيجب حمله على المنهى عنه لا على ما يناقض الإرادة؛ فإن تسمية المنهى مكروها، شائع؛ وهو الأولى.
جمعا بين الدليلين؛ فإنه أولى من تعطيل أحدهما.
قولهم: ما ذكرتموه يلزم منه أن يكون العبد مضطرا إلى آخر ما ذكروه.
قلنا: هذا لازم عليكم فى العلم؛ فإن ما علم الله وقوعه؛ لا بد من وقوعه، وما علم عدمه؛ فلا بد من عدمه. وقد يخرج العبد بذلك عن الاختيار كما قلتم فى الإرادة.
وما هو الجواب فى العلم، هو الجواب فى الإرادة، والله أعلم.
********
________________
(1) فى ب (ثمة).
(2) فى ب (بمجردها).
(2/492)
________________________________________
النوع السابع فى أسماء الله الحسنى «1» ويشتمل على ثلاثة فصول:
الأول: فى الاسم، والتسمية (و المسمى) «2»
الثانى: فى جواز مأخذ تسميات الأسماء الحسنى.
الثالث: فى معانى أسماء الله الحسنى.
________________
(1) ورد هذا النوع فى المواقف باسم المرصد السابع: فى أسماء الله تعالى. وفيه ثلاثة مقاصد، وهو اختصار لما ورد هنا مفصلا. يقول شارح المواقف- الّذي اعتمد على الأبكار أيضا فى شرحه- فى نهاية المرصد السابع: (ثم إن المصنف تابع الآمدي فى تفسير هذه الأسماء على وجه الاختصار تقريبا لفهمها على طلابها؛ فتبعناهما فيه).
(2) ساقط من أ.
(2/493)
________________________________________
الفصل الأول فى الاسم، والتسمية، والمسمى.
اتفق العقلاء: على المغايرة بين التسمية، والمسمى، واختلفوا فى الاسم.
مذهب الأكثر من أصحابنا «1»، والجم الغفير: إلى أن التسمية: هى نفس الأقوال الدالة. والاسم: هو نفس المدلول.
وسواء كان المدلول وجودا، أو عدما؛ خلافا لشذوذ من أصحابنا فى قوله: إن قول القائل: معدوم. تسمية لا مسمى لها؛ لظنه أن الاسم لا يكون إلا ثبوتيا.
ثم اختلف هؤلاء فى الاسم: هل هو نفس المسمى، أم لا؟
فقال بعضهم: كالأستاذ أبى بكر بن فورك، وغيره: أن كل اسم؛ فهو المسمى بعينه، وأنه/ إذا قال القائل: الله. فقوله: دال على اسم هو المسمى بعينه.
وإذا قال: الله عالم، أو خالق. فقوله: دال على الرب الموصوف بكونه عالما، وخالقا.
وقال بعضهم: الأسماء منقسمة:
فمنها: ما هو (عين) «2» المسمى: كالموجود، والذات.
ومنها: ما هو غير المسمى: ككون البارى- تعالى- خالقا، وفاعلا؛ فإن المسمى بكونه خالقا، وفاعلا هو ذاته، والاسم هو نفس الفعل، والخلق، وفعله، وخلقه؛ غير ذاته.
ومنها: ما ليس هو نفس المسمى، ولا غيره: كاتصاف الرب- تعالى- بصفاته النفسانية: ككونه عالما، وقادرا، ونحوه؛ فإن المسمى ذاته، والاسم؛ علمه، وقدرته.
وعلمه، وقدرته ليس نفس ذاته ولا غيرها؛ كما سبق فى الصفات.
________________
(1) من كتب الأصحاب التى اعتمد عليها الآمدي فى تصوير مذهبهم. الإنصاف للباقلانى ص 60 - 61 وأصول الدين للبغدادى ص 114 - 115 والشامل لإمام الحرمين ص 141 - 142 والمقصد الأسنى للغزالى ص 8 - 26. ومن كتاب المتأخرين الذين اعتمدوا على الأبكار، وغيره.
شرح المواقف للإيجي 2/ 403 وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 124 - 126.
(2) فى أ (غير).
(2/495)
________________________________________
وذهبت المعتزلة: إلى أن الاسم: هو التسمية. ووافقهم على ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا.
وذهب الأستاذ أبو نصر بن أبى أيوب: إلى أن الاسم مشترك بين التسمية والمسمى، وأنه قد يرد تارة، ويراد به التسمية، وتارة ويراد به المسمى. فما قام الدليل فيه على «1» عود الاسم «1» إلى التسمية دون المسمى وبالعكس؛ وجب اتباعه؛ وإلا تعينا على الوقف؛ وهو قريب من مذهب أهل اللغة.
احتج أصحابنا على أن الاسم غير التسمية: بالنصوص، واللغة، والإجماع.
أما النصوص: فقوله- تعالى-: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «2»: أى ربك؛ لاستحالة كون الأقوال الدالة عليه مسبحة.
وأيضا: قوله: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ «3» والمراد به تبارك «4» ربك؛ لاستحالة اتصاف التسمية بذلك.
وأيضا: قوله- تعالى-: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً «5». والمراد به الأصنام، لا نفس الأقوال الدالة عليها؛ فإنهم ما كانوا يعبدون أقوالهم.
وأيضا: قوله- تعالى-: ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ «6» والمراد به ذكر الله لا نفس التسمية؛ إذ التسمية هى «7» نفس الذكر؛ فلو أراد بالاسم نفس الذكر؛ لكان معناه: ولا تأكلوا مما لم يذكر (ذكر الله عليه) «8»؛ وهو ممتنع.
وأما فى اللغة: فمن وجهين:
________________
(1) فى ب (عوده).
(2) سورة الأعلى 87/ 1.
(3) سورة الرحمن 55/ 78.
(4) ساقط من ب.
(5) سورة يوسف 12/ 40.
(6) سورة الانعام 6/ 121.
(7) ساقط من ب.
(8) فى أ (اسم الله عليه). وفى ب (ذكر الله).
(2/496)
________________________________________
الأول: قول سيبويه «1»: «الأفعال أمثلة أخذت من لفظ إحداث الأسماء» والإحداث: إنما يتصور من المسميات لا من الأقوال.
الثانى: قول لبيد «2»
أتى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر.
والمراد من قوله. فاسم السلام: نفس السلام، الّذي هو متبادر إلى الفهم «3» عند إطلاق السلام.
وأما الإجماع: فهو أن الأمة من المسلمين مجمعة قبل ظهور هذا الخلاف على أن الأسماء «4» الحسنى كانت لله- تعالى- فى أزله، ولو كانت/ الأسماء هى التسميات: أى الأقوال الدالة، والعبارات؛ لكانت العبارات الدالة قديمة، ولما كانت الأسماء الحسنى قديمة؛ وكل واحد من الأمرين ممتنع.
وأيضا: فإن «5» أرباب العقول «5» متفقون على أن المسميات لها أسماء، وإن سكت المسمون عن التسميات، والأقوال الدالة.
وإذا ثبت أن الاسم مغاير للتسمية؛ فيمتنع أن يكون الاسم هو المسمى «6» مطلقا؛ بل لا بد من التفصيل الّذي ذكرناه؛ لأنا نعلم بالاضطرار اختلاف المدلولات فى قول القائل: اللّه. وفى قوله: اللّه عالم، والله خالق. وأن كل واحد منهما ينبئ عن معنى مغاير لما أنبأ عنه القول الآخر؛ وذلك مع اتحاد المسمى ممتنع.
________________
(1) سيبويه:
هو عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثى، أبو بشر، الملقب بسيبويه، كان أعلم المتقدمين، والمتأخرين بالنحو، ولم يوضع فيه مثل كتابه. وقد ولد سنة 148 وتوفى سنة 180 ه، انظر (وفيات الأعيان 3/ 133 - 135 والاعلام 5/ 252).
(2) لبيد:
هو لبيد بن ربيعة بن مالك، أحد الشعراء الفرسان، وهو أحد أصحاب المعلقات، بعد من الصحابة، ومن المؤلفة قلوبهم ت سنة 41 ه.
(3) فى ب (الذهن).
(4) فى ب (أسماء الله).
(5) فى ب (فأهل العقول).
(6) فى ب (الاسم).
(2/497)
________________________________________
وعلى هذا: فكل تسمية من حيث إنها صفة للقائل بها اسم لا يدخله الصدق، ولا الكذب، وإن دخلها ذلك من جهة كونها تسمية، وليس كل اسم تسمية؛ فإن العلم اسم لمن هو صفة له، وليس تسمية؛ لأنه ليس بقول دال. ولو قال الله- تعالى-: كلامى صدق؛ فالاسم، والتسمية فيه «1»، والمسمى «1» واحدا؛ إذ التسمية كلامه، وهو الاسم المدلول، وهو المسمى ولو قال تعالى: أنا الله؛ فالاسم هو المسمى. والتسمية كلامه؛ وليست عين المسمى، ولا غيره.
ولو قال- تعالى-: أنا العالم؛ فالتسمية قوله والاسم علمه، والمسمى ذاته؛ وليس كل واحد من التسمية، والاسم، والمسمى «2» هاهنا «2» هو عين الآخر، ولا غيره.
ولو قال- تعالى-: أنا الخالق؛ فالتسمية قوله، والمسمى ذاته؛ وليست التسمية هاهنا عين المسمى، ولا غيره. والاسم هو (الخالق) «3»؛ وهو غير التسمية والمسمى.
ولو قال الواحد منا: الله، أو قال: الله عالم، أو الله خالق؛ فالتسمية هى قول الواحد منا. وهى غير الاسم، والمسمى فى جميع هذه الصور.
وفى الصورة الأولى: الاسم هو المسمى.
وفى الثانية: الاسم ليس هو عين المسمى، ولا غيره.
وفى الثالثة: الاسم هو غير المسمى.
فإن قيل: المراد من النصوص المذكورة: إنما هو المسمى، بطريق حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كما فى قوله- تعالى-: وسْئَلِ الْقَرْيَةَ «4».
أى أهل القرية على ما سبق تحقيقه. وعليه يجب حمل كلام سيبويه. ودليل التأويل ما سنذكره عن قرب.
________________
(1) فى ب (و المسمى فيه).
(2) فى ب (و المعنى).
(3) فى أ (الخلق).
(4) سورة يوسف 12/ 82.
(2/498)
________________________________________
والمراد بالسلام فى قول لبيد: إنما هو الله- تعالى-؛ إذ/ السلام من أسمائه على ما يأتى:
وأما الإجماع على الأسماء الحسنى فى الأزل؛ («1» فلا يمكن «1») التمسك به.
أما على أصلكم: فإنه «2» وان تعذرت الأقوال الحادثة أزلا؛ فالأقوال القديمة غير متعذرة عندكم، فما المانع من أزلية الأسماء؛ لأزلية الأقوال القديمة عندكم؟
وأما عندنا: فلانه «3» يجب الحمل على أن الأسماء الحسنى كانت له فى الأزل بالقوة، والإمكان.
وعليه: يجب حمل اتفاق العقلاء على الأسماء، وإن سكت المسمون.
ويدل عل ما ذكرناه من التأويل فى جميع ما ذكرتموه أمور ثلاثة:
الأول: هو أن الاسم فى اللغة مأخوذ من السّمة: وهى العلامة؛ وذلك إنما يتحقق فى الأقوال الدالة؛ دون المدلولات.
الثانى: أنه لو كان الاسم هو المسمّى؛ للزم تعدد الإله- تعالى-؛ ضرورة تعددها، وانعقاد الإجماع على تعدد الأسماء «4»، وأنها تسعة وتسعون اسما؛ والتعدد فى الله تعالى- محال.
الثالث: أنه لو كان الاسم هو المسمى؛ لكان المسمى للنار عاما عليها؛ وهو محال.
والجواب:
أما ما ذكروه على النصوص، وقول سيبويه: فراجع إلى الإضمار فى الكلام ما ليس فيه؛ وهو ممتنع إلا لضرورة ولا ضرورة؛ فإنا سنبطل ما يذكرونه من دليل التأويل.
وأما حمل السلام فى قول الشاعر على الله- تعالى- فبعيد؛ لما حققناه من أن السلام المعهود هو المتبادر إلى الفهم من لفظ السلام عند الإطلاق؛ فلا بد له من دليل.
________________
(1) فى أ (مما لا يمكن).
(2) فى ب (فلأنه).
(3) فى ب (فلا).
(4) فى ب (أسمائه).
(2/499)
________________________________________
قولهم: ما المانع على أصلكم من قدم الأسماء؛ لقدم الأقوال الربانية؟
قلنا: نحن إنما ذكرنا الإجماع من هذا الوجه بطريق الإلزام على الخصوم، وهم لا «1» يعتقدون «1» قولا قديما، لا أنا ذكرناه استدلالا على ما نعتقده.
وما ذكروه من الحمل على القوة، والإمكان؛ فتأويل لا بد له من دليل. وكذلك القول فى تأويل إجماع العقلاء.
وما ذكروه من الدليل الأول فى التأويل: فمما لا يدل على اختصاص الاسم بالسّمة؛ فإن سمة كل شيء، وعلامته خصوص تعينه؛ وذلك متحقق فى مدلول اللفظ «2».
وأما الدليل الثانى: فإنما يلزم من اعتقد كون الأسماء متعددة، والمسمى واحدا.
وأما من قال بأن المسميات متعددة بتعدد الأسماء، وأنها منقسمة: إلى أسماء ذات، وأسماء صفات، وأسماء أفعال؛ فلا؛ لكن يلزم على هذا القائل إشكال مشكل؛ وهو أن هذا وإن ساعد فى أسماء الذات، والصفات،/ والأفعال؛ فغير مساعد فى أسماء الذات مع تعددها، واتحاد الذات؛ وذلك يجوز تسميته ذاتا موجودا إلها؛ ولا جواب له «3» إلا باعتقاد عدم تعدد أسماء الذات مع اتحادها، وإعادة كل اسم إلى صفة زائدة على نفس الذات كما ذكره القاضى أبو بكر، أو أن التعدد فى التسمية؛ لا فى الاسم.
وأما الدليل الثالث: فإنما يلزم أن لو كان الاسم هو القول الدال؛ وهو المسمى؛ وليس كذلك على ما حققناه.
*********
________________
(1) فى ب (فلا يعتقدون).
(2) فى ب (لفظ الأسماء).
(3) فى ب (عنه).
(2/500)
________________________________________
الفصل الثانى فى مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى «1»
وليس مأخذ الجواز فى ذلك دليلا عقليا ولا قياسا لفظيا، وإلا كان تسمية الرب- تعالى- بكونه «2» فقيها، وعاقلا «2» مع صحة معانى هذه التسميات فى حقه؛ وهى العلم، (و العقل «3»)، والفقه؛ أولى من تسميته: بالمكر، والخديعة، والكيد، والوكيل مع إشكالها فى ظواهرها؛ بل مأخذ ذلك: إنما هو: الإطلاق، والإذن من الشارع. فكل ما ورد الإذن من الشارع به؛ جوزناه، وما ورد المنع منه؛ منعناه، وما لم يرد فيه إطلاق، ولا منع:
فقد قال بعض أصحابنا؛ بالمنع منه؛ وليس القول بالمنع مع عدم ورود المنع منه؛ أولى من القول بالجواز؛ مع عدم ورود التجويز؛ إذ المنع والتجويز، حكمان، وليس إثبات أحدهما مع عدم دليله؛ أولى من الآخر؛ بل الحق فى ذلك الوقف. وهو أنا لا نحكم بجواز، ولا منع. والمتبع فى ذلك من الظواهر الشرعية ما هو المتبع فى سائر الأحكام، وهو أن يكون ظاهرا فى دلالته، وفى صحته.
ولا يشترط فيه القطع، كما ذهب إليه بعض الأصحاب، لكون التجويز والمنع، من الأحكام الشرعية، وأن التفرقة بين حكم، وحكم فى اشتراط القطع فى أحدهما دون الآخر؛ تحكم لا دليل عليه.
فإن قيل: تسميات أسماء الصفات، وإن كان مفيدا. إلا أن ما ورد من تسميات الذات فغير مفيد؛ لأن المقصود من التسمية: إنما هو التعريف، والتعريف بها لنفس الذات؛ غير ممكن.
أما بالنسبة إلى الله- تعالى-: فلأن علمه بذاته، وبغيرها؛ غير متوقف على تسمية، ولا غيرها من التعريفات، وإلا كان بتقدير عدم ذلك المعرف جاهلا؛ وهو محال.
________________
(1) انظر أصول الدين للبغدادى ص 115 - 116 والمواقف ص 333 وشرح المقاصد 2/ 126، 127.
(2) فى ب (فقيها عاقلا).
(3) ساقط من أ.
(2/501)
________________________________________
وأما بالنسبة إلى الواحد منا؛ فلأن معرفة حقيقة ذات «1» الإله «1» غير ممكنة له على ما سبق «2» فى مسائل الصفات.
قلنا: ما ذكرتموه، فمبنى «3» على وجوب رعاية الغرض، والمصلحة «4» / فى أفعال الله- تعالى- وقد سبق بطلانه «5».
وإن سلمنا ذلك: ولكن لا نسلم أن معرفة حقيقة ذات الإله غير ممكن على ما سبق فى مسائل الصفات.
********
________________
(1) فى ب (الله تعالى).
(2) فى ب (ما سلف).
(3) فى ب (مبنى).
(4) فى ب (و المقصود).
(5) انظر ل 186/ أ وما بعدها.
(2/502)
________________________________________
الفصل الثالث فى معانى أسماء الله «1» - تعالى «2» -
والأسماء الحسنى تسعة وتسعون اسما «3».
1 - أولها: اللّه: وهو من الأسماء الخاصة بذاته لا يوصف به غيره- تعالى- وقد اختلف فيه.
فذهب ذاهبون: إلى أنه اسم علم للذات، لا اشتقاق له «4».
وذهب ذاهبون: إلى أنه مشتق؛ إذ الأصل فيه: إله، غير أنه دخلت عليه اللام للتفخيم والتعظيم، فقالوا: الإله.
ولما كان استعمال ذلك غالبا، والهمزة مستقلة، حذفوا الهمزة، وأدغموا لام التعظيم فى اللام الأخرى فقالوا: الله.
ومنهم من قال: الأصل فيه لاه. غير أنهم أدخلوا عليه لام التعظيم فقالوا: الله.
________________
(1) انظر الأسماء والصفات للبيهقى، والاعتقاد له أيضا من 13 - 21 والإرشاد لإمام الحرمين ص 143 - 155 والمقصد الأسنى للغزالى من ص 48 إلى آخر الكتاب وشرح المواقف للإيجي 2/ 404 - 407 فما فيه اختصار لما ورد هنا مفصلا. ومن الكتب الحديثة: كتاب الأسماء الحسنى للدكتور حسن عز الدين الجمل وكتاب الأسماء الحسنى- لابى الوفاء محمد درويش- واشتقاق الأسماء الحسنى للزجاجى رسالة دكتوراه بجامعة عين شمس أعدها عبد الحسين المبارك.
(2) فى ب (الحسنى).
(3) ما ذكره الآمدي هنا يتفق مع ما جاء فى صحيح الترمذي الجزء الثالث عشر ص 34 (حدثنا الوليد بن مسلم.
حدثنا شعيب ... عن أبى هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة وهى ... » ثم شرع فى عدها كما نقلها الآمدي هنا.
كما جاء فى صحيح البخارى الجزء الثامن ص 109 ما يتفق مع هذه الرواية.
وجاء فى الجزء الحادى عشر من كتاب فتح البارى بشرح صحيح البخارى للعسقلانى ص 180 أن رواية الوليد عن شعيب هى أقرب الطرق الى الصحة، وعليها عول غالب (من شرح الأسماء الحسنى). كما جاء فى كتاب الاعتقاد على مذهب السلف للحافظ البيهقى ص 13، 14 برواية الوليد. ثم ذكر رواية أخرى سأذكرها فى آخر الفصل وأوضح ما بينهما من فروق. وقد ورد فى سنن ابن ماجة الجزء الثانى ص 228 باب أسماء الله عز وجل.
برواية أخرى عن زهير بن محمد التميمى عن أبى هريرة: ما يخالف رواية الوليد فى خمسة وعشرين اسما على ما سأوضحه فى نهاية هذا الفصل. مع العلم بأن الأرقام التى ذكرتها ليست فى الأصل.
(4) وهو أحد قولى الخليل، وسيبويه، والمروى عن أبى حنيفة، والشافعى، وأبى سليمان الخطابى، والغزالى رحمهم الله.
(انظر شرح المواقف 2/ 404).
(2/503)
________________________________________
ثم أختلف هؤلاء فى جهة اشتقاقه:
فمنهم من قال: إنه «1» مأخوذ من التأله؛ وهو التعبد.
ومنهم من قال: إنه «2» مأخوذ من الوله؛ وهو الحب «3».
وقيل معنى الإله: هو القادر على الخلق؛ فيرجع حاصله إلى صفة القدرة.
وقيل: هو الّذي لا يكون إلا ما يريد.
وقيل: هو الغالب الّذي لا يغلب.
وقيل: هو الّذي لا يصح التكليف إلا منه.
وحاصل هذه الوجوه يرجع إلى صفة فعلية، وسلبية.
2 - 3 - الرّحمن. الرّحيم
معناهما مريد الإنعام على الخلق؛ فيرجع حاصلهما إلى صفة الإرادة؛ وهما بمنزلة الندمان، والنديم.
والرحمن: من الأسامى المختصة بالله- تعالى- دون غيره؛ بخلاف الرحيم.
وقال ابن عباس: الرّحمن لخلقه جميعا، والرّحيم للمؤمنين خاصة.
وقيل: الرّحيم لأهل الدنيا. والرّحمن لأهل الآخرة.
وقيل: الرّحمن يرحم خلقه. والرّحيم هو العطوف بالرزق على عباده.
4 - الملك
قيل معناه: أنه يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويستحيل عليه الإذلال؛ وحاصله راجع «4» إلى صفة فعلية؛ وسلبية.
وقيل: هو الملك السالب؛ فيرجع حاصله إلى صفة فعلية.
________________
(1) فى ب (هو).
(2) فى ب (هو).
(3) فى ب (الحيرة).
(4) فى ب (يرجع).
(2/504)
________________________________________
وقيل: هو الّذي يولى، ويعزل؛ ولا يتصور عليه تولية، ولا عزل؛ وهو أيضا راجع إلى صفة فعلية، وسلبية.
وقيل: هو المنفرد بالعز، والسلطان: أى متصف (بهما) «1» دون غيره.
والعز: هو القدرة على ما يأتى؛ فيرجع حاصله إلى صفة القدرة، وصفة سلبية.
وقيل: هو ذو الملك/ والملك خلقه.
وعلى هذا: فتسميته بالملك إنما يصح فيما لا يزال، لا فى الأزل.
وقال القاضى أبو بكر: هو القادر.
وعلى هذا: فيعود إلى صفة القدرة، ويكون مسمى بالملك فى الأزل؛ لكونه قادرا أزلا، والجواهر فى حال بقائها، وإن لم تكن مقدورة الإيجاد؛ فلا تخرج عن كونها مملوكة باعتبار القدرة على إبقائها، إما بخلق البقاء لها، أو بخلق الأعراض التى لا يتم بقاء الجواهر إلا بها.
5 - القدّوس
قيل معناه: إنه البريء من المعايب؛ فيكون صفة نفى.
وقيل: هو الّذي له الكمال فى كل وصف اختص به.
وقيل: هو الّذي لا تحدّده الأوهام، ولا تصوّره الأبصار؛ فيكون صفة سلبية.
6 - السّلام
قيل معناه: ذو السلامة عما يستحيل عليه من النقائص؛ فيكون صفة سلبية.
وقيل: هو ذو السلم: أى أن السلامة به، ومنه؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل: بل معناه إنه يسلم على خلقه. ومنه قوله- تعالى-: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ «2»؛ فيكون صفة كلامية.
________________
(1) فى أ (به).
(2) سورة يس 36/ 58.
(2/505)
________________________________________
7 - المؤمن
قيل معناه: المصدّق لنفسه ورسله، فيما أتوا «1» عنه «1» فى تبليغهم: إما بالقول؛ فيكون صفة كلامية، أو بخلق المعجزة؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل معناه: أنه يؤمّن عباده من الفزع الأكبر: إما بأن يخلق لهم الطمأنينة من ذلك؛ فيرجع إلى صفة فعلية، أو بأن (يخبرهم) «2» بالأمن من ذلك؛ فيرجع إلى صفة كلامية.
وقيل معناه: إن الحقائق منكشفة «3» له؛ فيرجع إلى صفة العلم.
وقيل معناه: إن القول قوله، لا خلاف عليه «4»؛ فيرجع إلى صفة كلامية، وسلبية.
وقيل معناه: استحالة الزوال عليه؛ فيكون «5» صفة سلبية.
8 - المهيمن
قيل معناه: الشاهد. ومنه قوله- تعالى-: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ «6»: أى شاهدا عليه. ومنه قول الشاعر:
إنّ الكتاب مهيمن لنبيّنا ... والحقّ يعرفه ذوو الألباب
لكن من الأئمة من فسر كونه شهيدا بمعنى كونه عالما؛ فيرجع إلى صفة العلم.
ومنهم من فسره بالقول المصدق؛ فيرجع إلى صفة الكلام.
وقيل معنى المهيمن: الأمين: أى الصادق فى قوله:
وقيل معناه: الحفيظ؛ وسيأتى شرحه «7».
________________
(1) فى ب (اخبروا به).
(2) فى أ (يخرجهم).
(3) فى ب (منتسبة).
(4) فى ب (عليه فيه).
(5) فى ب (فيرجع الى).
(6) سورة المائدة 5/ 48.
(7) انظر ل 296/ أ.
(2/506)
________________________________________
9 - العزيز
هو الّذي لا يرام «1».
وقيل: هو الّذي لا يخالف فى مراده.
وقيل: هو الّذي لا يخوف/ بالتهديد.
وقيل: هو الّذي لا يحط عن منزلته.
وقيل: هو الّذي لا مثل له.
وقيل: هو الّذي لا يحد بحد.
وقيل: هو الّذي لا يصح عليه نقص؛ وحاصل الكل «2» يرجع إلى صفات سلبية.
وقيل: هو الّذي يعذب من أراد.
وقيل: هو الّذي عليه ثواب العاملين؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل: هو القادر، والعزة هى القدرة. ومنه المثل «3» قولهم: من «4» عز بز «4».
وقال- تعالى-: فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ «5»: أى قومنا، وأيدنا؛ فيرجع إلى صفة القدرة.
10 - الجبّار
قيل هو مأخوذ من الجبر، وهو الإصلاح. ومنه يقال: جبرت العظم، فانجبر.
وقيل: هو الحامل لخلقه على ما يريد.
وقيل: هو المنيع الّذي لا ينال. ومنه يقال للنخلة إذا طالت وقصرت عنها الأيدى جبارة.
وقيل: هو الّذي لا يخبو عند التقدير، ولا يشفق عند البذل.
________________
(1) فى ب (لا يسأم).
(2) فى ب (الكلام).
(3) فى ب (المثل فى).
(4) فى ب (من عز بز أى من قدر سلب).
(5) سورة يس 36/ 14.
(2/507)
________________________________________
وقيل: هو الّذي لا يتمنى ما لا يكون، ولا يتلهف على ما لم يكن.
وقيل: هو الّذي لا يناقش فى فعله، ولا يطالب بعلة؛ ولا يحجر عليه فى مقدور.
وقيل: هو الّذي لا يجب عليه شيء.
وقال ابن عباس: هو العظيم، والعظيم: هو ما «1» انتفت عنه «1» جميع صفات النقص.
وحاصل الجميع يرجع إلى صفات «2» سلبية.
وقيل: معنى العظيم: هو «3» ما ثبت «3» له جميع صفات الكمال، وانتفت عنه جميع صفات النقص؛ وذلك مشتمل على الصفات النفسانية، والفعلية، والسلبية.
11 - المتكبّر: قيل معناه ما قيل فى معنى العظيم.
12 - الخالق: وهو المختص باختراع الأشياء.
13 - البارئ: فى معنى الخالق.
14 - المصوّر: وهو المختص بابداع التركيب، وكل ذلك من صفات الفعل.
15 - الغفّار: معناه المريد لإزالة العقوبة بعد استحقاقها؛ وهو راجع إلى صفة الإرادة.
16 - القهّار: ومعناه الغالب الّذي لا يغلب؛ وهو صفة سلبية، وفعلية.
17 - الوهّاب: وهو المختص بكثرة العطاء؛ وهو صفة فعلية.
18 - الرّزّاق: وهو المختص بعطية ما يقوت ويدفع التلف؛ وهو صفة فعلية.
19 - الفتّاح:
قيل معناه: المختص «4» بتيسير «4» ما يعسر؛ فيكون صفة فعلية.
________________
(1) فى ب (الّذي انتفت).
(2) فى ب (صفة).
(3) فى ب (ما له).
(4) فى ب (ميسر).
(2/508)
________________________________________
وقيل: هو الحاكم. ومنه قوله- تعالى-: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «1»: أى احكم ثم الحكم قد يكون بالقول «2»، والإخبار «2»، وقد يكون بالقضاء، والقدر.
فالأول: يرجع إلى صفة كلامية.
والثانى:/ يرجع إلى القدرة، والإرادة:
وقيل: الحاكم «3» هو المانع. ومنه يقال: حكم «4» اللجام لمنعها من جماح الدابة، وهو راجع إلى صفة فعلية.
وقيل: معنى الفتاح، خالق الفتح؛ وهو النصر. ومنه قوله- تعالى- إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ «5» معناه: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر؛ وهو أيضا راجع إلى صفة فعلية.
20 - العليم: ومعناه العالم بجميع المعلومات؛ وهو صفة علمية.
21 - القابض: وهو المختص بالسلب.
22 - الباسط: وهو المختص بالتوسعة، والمنح، وهما صفتان فعليتان.
23 - (الخافض «6»): ومعناه دافع البلية، وهو صفة فعلية.
24 - الرّافع: معناه المعطى للمنازل؛ وهو صفة فعلية.
25 - المعزّ: ومعناه معطى القوة؛ وهو صفة فعلية.
________________
(1) سورة الأعراف 7/ 89.
(2) فى ب (بالأخبار والقول).
(3) فى ب (الحكم).
(4) فى ب (حكمت).
(5) سورة الأنفال 8/ 19.
(6) فى أ (الحافظ). وقد أثبتّ الخافض فى الأصل اعتمادا على ما ورد فى رواية الوليد عن أبى هريرة رضى الله عنه، ولما ورد فى الكتب الآتية: الاعتقاد للبيهقى والأسماء والصفات له أيضا والإرشاد لإمام الحرمين ص 149 والمقصد الأسنى للإمام الغزالى ص 79، وشرح المواقف 2/ 406 فقد ورد فيه: الخافض: دافع البلية من الخفض: وهو الحط والوضع، والأسماء الحسنى للجمل ص 159.
غير أن رواية زهير قد ورد فيها الحافظ، ومن المعلوم أن الآمدي قد اعتمد على رواية الوليد.
(2/509)
________________________________________
26 - المذلّ: ومعناه الموجب لحط المنزلة؛ وهو صفة فعلية.
27 - 28 - السّميع. البصير: أى هو ذو سمع وبصر.
29 - الحكم: معناه الحاكم. وقد سبق تفسيره.
30 - العدل: معناه أنه «1» لا يقبح منه ما يفعل؛ فهو صفة سلبية.
31 - اللّطيف: قيل معناه: خالق اللطف؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل: هو العليم بالخفيات؛ فيرجع إلى صفة العلم.
32 - الخبير: قيل معناه: العليم، وقيل معناه: المخبر.
فالأول: صفة علمية «2»، والثانى: صفة كلامية.
33 - الحليم: قيل «3» معناه: أنه «3» الّذي لا تستفزه زلات العصاة بتعجيل العقاب عليها قبل وقتها المقدر؛ فيكون صفة سلبية.
34 - العظيم: وقد سبق معناه «4».
35 - الغفور: ومعناه مريد إزالة العقوبة بعد استحقاقها.
36 - الشّكور:
قيل معناه: المجازى على الشكر. وقيل معناه: المثيب على القليل من الطاعة بالكثير من نعمه.
وعلى التقديرين يرجع حاصله إلى صفة فعلية.
وقيل معناه: أنه المثنى على من تمسك بطاعته؛ فيرجع إلى صفة كلامية.
37 - العلىّ: ومعناه «5» معنى «5» المتكبر، وفى معناه ..
38 - الكبير: أيضا.
________________
(1) فى ب (الّذي).
(2) فى ب (فعلية).
(3) فى ب (معناه).
(4) انظر ما ورد فى معنى الجبار ل 295/ ب.
(5) فى ب (معناه).
(2/510)
________________________________________
39 - الحفيظ:
قيل معناه: العليم؛ فيرجع إلى صفة العلم.
وقيل: هو الّذي لا يشغله شيء عن شيء؛ فيرجع إلى صفة سلبية.
وقيل: هو الّذي يبقى ما يريد ابقاءه؛ فيرجع إلى صفة فعلية.
40 - المقيت:
قيل معناه: خالق الأقوات: وقيل هو المقدر؛ وحاصلهما يرجع إلى صفة فعلية.
وقيل معناه: الشهيد «1» وهو العالم بالحاضر، والغائب؛ فيرجع إلى صفة العلم.
وقيل:/ هو المقتدر؛ فيرجع إلى صفة القدرة.
41 - الحسيب:
قيل معناه: الكافى. يخلق ما يكفى العباد فى مهماتهم؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل هو المحاسب بإخباره للمكلفين عما فعلوه من خير وشر؛ فيرجع إلى صفة كلامية.
42 - الجليل: ومعناه معنى المتكبر، كما سبق.
43 - الكريم:
قيل معناه: الجواد؛ فيكون صفة فعلية؛ إن قيل: الجواد: هو ذو الجود، أو صفة القدرة، إن قيل: الجواد: هو المقتدر على الجود.
وقيل: هو العلى الرتبة، ومنه يقال: كرائم المواشى لنفائسها؛ وقد سبق تفسير العلى. وقيل: هو الّذي يعفو عن الذنوب، وسيأتى شرح العفو.
44 - الرّقيب: ومعناه الحفيظ، وقد سبق تفسيره.
45 - المجيب: قيل معناه: الّذي يجيب الأدعية.
________________
(1) فى ب (هو الشهيد).
(2/511)
________________________________________
وقيل: هو الّذي يسعف الداعى بما أراد.
والأول: يرجع إلى صفة كلامية، والثانى: إلى صفة فعلية.
46 - الواسع: قيل معناه: العالم، وقيل معناه: الغنى. وقيل معناه: الكافى للخلق، والأول: صفة علم، والثانى: صفة سلب، والثالث: صفة فعل.
47 - الحكيم: قيل معناه: الحاكم، وقد سبق تفسيره. وقيل معناه: العليم، وهو صفة علمية. وقيل: هو المحكم المتقن للأشياء؛ فيرجع «1» إلى «1» صفة فعلية.
48 - الودود: قيل معناه: المودود: كالحلوب، والركوب بمعنى المحلوب، والمركوب؛ وهو المحبوب. وقيل هو الواد: أى المحب، ومعنى كونه محبا ثناؤه على المطيع فى الدنيا، وثوابه له فى الأخرى؛ فيرجع إلى صفة فعلية، وكلامية.
49 - المجيد: قيل معناه: الحميد «2» الأفعال. وقيل معناه: الكثير الأفضال. ومنه قول العرب: مجدت الإبل إذا صادفت مرعا خصيبا؛ فيكون «3» راجعا على التفسيرين «3» إلى صفة فعلية. وقيل: هو الّذي لا يشارك فيما له من أوصاف المدح لغيره؛ فيكون صفة سلبية.
50 - الباعث: معناه المعيد.
51 - (الشّهيد) «4»: ومعناه: العالم بالحاضر، والغائب؛ فهو صفة علمية.
________________
(1) فى ب (فيكون).
(2) فى ب (الجميل).
(3) فى ب (فيكون على التفسيرين راجعا).
(4) فى أ (الشاهد) وقد أثبت (الشهيد) فى الأصل اعتمادا على ما ورد فى رواية الوليد عن أبى هريرة، وما ورد فى الكتب التالية:
(1) الاعتقاد للبيهقى ص 17.
(2) الإرشاد لإمام الحرمين ص 153.
(3) المقصد الأسنى للغزالى ص 119.
(4) المواقف للإيجي 2/ 407.
(5) الأسماء الحسنى للجمل ص 200.
(2/512)
________________________________________
52 - الحقّ:
قيل معناه: الموجود الواجب لذاته: أى «1» لا يفتقر فى وجوده إلى غيره؛ فيرجع «2» إلى «2» صفة سلبية.
وقيل معناه: المحق: أما الصادق فى القول.
وقيل: هو مظهر الحق؛ فيرجع إلى صفة فعلية.
وقيل: معنى «3» الحق «3» العدل؛ وهو صفة فعلية.
53 - الوكيل/:
قيل معناه: الكفيل: أى المتكفل بحاجات الخلق؛ فيكون صفة فعلية.
وقيل: هو الموكول إليه فى أمر الخلق.
54 - القوى: معناه: المتمكن من كل مراد «4» القادر عليه؛ فيرجع إلى صفة القدرة.
55 - المتين: معناه: نفى النهاية فى القدرة؛ وهى صفة نفسية، وسلبية.
56 - الولىّ: ومعناه الحافظ للولاية.
57 - الحميد: معناه المحمود.
58 - المحصى:
قيل معناه: العالم. وقيل: هو القادر، ومنه قوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ «5»: أى لن تطيقوه. وقيل: هو المنبئ عن عدد كل معدود.
فالأول: يرجع إلى صفة العلم، والثانى: إلى صفة القدرة: والثالث: إلى صفة الكلام.
59 - المبدى: وهو المختص بإبداء الفضل؛ فهو صفة فعلية.
________________
(1) فى ب (إلى أنه).
(2) فى ب (فيكون).
(3) فى ب (معناه).
(4) فى ب (أمر).
(5) سورة المزمل 73/ 20.
(2/513)
________________________________________
60 - المعيد: معناه المختص بإعادة الخلق؛ وهو صفة فعلية.
61 - المحيى: معناه: خالق الحياة؛ فيكون صفة فعلية.
62 - المميت: ومعناه خالق الموت؛ وهو صفة فعلية.
63 - الحىّ: ظاهر، وهو صفة نفسية.
64 - القيّوم:
قيل معناه: الدائم الباقى. وقيل معناه: إقامة التدبير فى العالم.
فالأول: صفة ذات، والثانى: صفة فعل.
65 - الواجد:
قيل معناه: أنه الغنى الّذي لا يفتقر، ومنه قوله- تعالى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ «1». وقيل: هو العالم.
والأول: صفة سلبية، والثانى: صفة ذاتية «2».
وقيل: هو المختص بإيجاد ما يرزق «3»؛ فهو صفة فعلية.
66 - الماجد:
قيل معناه: المرتفع العالى. وقيل: هو المختص بالولاية، والتولية.
فالأول: صفة ذاتية، والثانى، صفة فعلية.
67 - الأحد: سبق تفسيره فى إثبات الوحدانية «4».
68 - الصّمد: قيل معناه: السيد، ومنه قول الشاعر:
ألا بكر الناعى يخبر بنى أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
ثم قيل: السيد هو المالك. وقيل: هو الحليم. وقيل: هو العالى الدرجة. وقيل: هو المدعو المسئول. وقيل معنى الصمد: هو الّذي لا جوف له؛ فيكون صفة سلبية.
________________
(1) سورة الطلاق 65/ 6.
(2) فى ب (علمية).
(3) فى ب (ما يريد).
(4) انظر ل 166/ ب وما بعدها.
(2/514)
________________________________________
والأول: صفة نفسية، وقيل: معنى الصمد أنه الّذي لم يزل.
69 - 70 - القادر. المقتدر: معناهما ظاهر، وهو إثبات القدرة؛ (فهما صفتان نفسيتان) «1».
71 - 72 - المقدّم. المؤخّر: (معناهما) «2» المختص بتقديم من يشاء، وتأخير من يشاء.
73 - 74 الأوّل. الآخر: معناهما: أنه أزلى، ولا يزال، وأنه قبل كل شيء، وليس قبله شيء، وبعد كل شيء، وليس بعده شيء، وهما صفتان سلبيتان.
75 - الظّاهر: قيل/ معناه: القاهر، والغالب. ومنه يقال: ظهر فلان على فلان، إذا قهره؛ فيكون صفة فعلية. وقيل: هو المعلوم بالأدلة القاطعة.
76 - الباطن: قيل معناه: المحتجب عن حواس خلقه بحيث لا يدركونه فى الدنيا؛ فيكون صفة سلبية. وقيل: هو العالم بخفيات الأمور؛ فيكون صفة نفسية.
77 - الوالى: معناه: المالك لكل شيء، والقادر عليه؛ فيعود إلى صفة نفسية.
78 - المتعالى: ويقرب «3» معناه من العالى؛ وقد سبق تفسيره «3».
79 - البرّ: معناه: البار: أى فاعل البر: وهو الإحسان إلى الخلق؛ وهو صفة فعلية.
80 - التّوّاب:
معناه: أنه يرجع بفضله، وإحسانه على عبيده، إذا عادوا عن معاصيهم، وتابوا إليه؛ فإن التوبة بمعنى العود، والرجوع. ومنه قوله- تعالى-: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا «4»: أى رجع عليهم ليرجعوا؛ وهو صفة فعلية.
81 - المنتقم: معناه: المعاقب لمن عصاه؛ وهو صفة فعلية.
82 - العفو «5»: معناه: الماحى «5».
________________
(1) فى أ (فهو صفة نفسية).
(2) فى أ (معناه).
(3) فى ب (يقرب معناه من العلى؛ وقد سبق تقريره).
(4) سورة التوبة 9/ 118.
(5) لم يرد هذا الاسم العظيم (العفو) فى نسخ الأبكار الثلاثة التى اعتمدت عليها.
وقد أثبته هنا اعتمادا على ما ورد فى رواية الوليد عن أبى هريرة رضى الله عنه التى أرجح اعتماد الآمدي عليها.-
(2/515)
________________________________________
83 - الرءوف: معناه: المريد للتخفيف عن العبيد.
84 - مالك الملك: معناه: المتصرف فى المخلوقات على حسب ما يشاء ويختار؛ فيرجع إلى صفة فعلية.
85 - ذو الجلال والإكرام: وهو قريب من معنى الجليل.
86 - المقسط: معناه: العادل. ومنه يقال: أقسط الرجل إذا «1» عدل، وقسط «1» إذا جار؛ وهو صفة فعلية.
87 - الجامع: معناه: المختص بجمع الخصوم يوم القصاص، وإنصاف المظلوم من الظالم، وهو صفة فعلية.
88 - الغنىّ: معناه: الّذي لا يفتقر إلى شيء، وهو صفة سلبية.
89 - المغنى: معناه: المحسن لأحوال الخلق؛ وهو صفة فعلية.
90 - المانع: معناه «2»: المانع لمن يشاء «2» من المنافع؛ وهو صفة فعلية.
91 - 92 - الضّارّ. النّافع: (معناهما «3»): خالق الضر، والنفع؛ وهو صفة فعلية.
93 - النّور: سبق تفسيره فى نفى التشبيه «4».
94 - الهادى: معناه: المختص بخلق الهدى؛ وهو صفة فعلية.
95 - البديع: قيل «5» معناه: إنه «5» المبدع، الخالق. وقيل هو «6» أنه «6» لا نظير له.
96 - الباقى: معناه (الّذي «7») لا آخر له، ولا يتصور عليه العدم؛ وهو صفة سلبية.
97 - الوارث: معناه: الباقى بعد فناء الخلق، والمالك بعد زوال كل مالك سواه.
________________- وكذا بما ورد فى الكتب السابقة على الأبكار/ وهى: الاعتقاد للبيهقى ص 19 والمقصد الأسنى للغزالى ص 133. وأيضا على الكتب التى اعتمدت على الأبكار مثل: المواقف للإيجي ص 336، ومن الكتب الحديثة الأسماء الحسنى للجمل ص 248، وبما ورد فى شرح الاسم العظيم (الكريم). حيث قال: وقيل: هو الّذي يعفو عن الذنوب، وسيأتى شرح العفو، وهذا يرجح أن تركه سهو من الآمدي، أو من الناسخ.
(1) فى ب (و قسطه).
(2) فى ب (فمن شاء).
(3) فى أ (معناه).
(4) انظر ل 117/ أ.
(5) فى ب (معناه).
(6) فى ب (الّذي).
(7) ساقط من أ.
(2/516)
________________________________________
98 - الرّشيد: قيل «1» معناه: أنه موصوف «1» بالعدل، وقيل معناه: أنه المرشد إلى سبل الخيرات
99 - الصّبور:/ معناه الحليم؛ وقد سبق تفسيره.
فهذه جملة معانى الأسماء الحسنى «2». لخصناها على غاية الإيجاز والاختصار، مميزين لبعضها عن بعض، تقريبا لفهمها على القاصرين.
واعلم أن الأسماء الحسنى قد تنقسم وجوها من التقسيم لا بد من الإشارة إليها مبالغة فى التفهيم لغير المتدربين.
________________
(1) فى ب (معناه الموصوف).
(2) ما ذكر هنا يتفق تماما مع رواية الوليد بن مسلم كما سلف. وقد ورد هذا الحديث برواية أخرى هى رواية زهير بن محمد التميمى ... عن أبى هريرة. وقد ذكره ابن ماجة فى سننه الجزء الثانى ص 228 باب أسماء الله الحسنى. وهذه الرواية تخالف رواية الوليد السابقة فى خمسة وعشرين اسما. فليس فى رواية زهير الأسماء والصفات التالية:
«1» القدوس «2» الغفار «3» القهار «4» الفتاح «5» الحكم «6» العدل «7» الكبير «8» الحفيظ «9» المميت «10» الحسيب «11» الرقيب «12» الواسع «13» الحميد «14» المحصى «15» المقتدر «16» المقدم «17» المؤخر «18» البر «19» المنتقم «20» مالك الملك «21» ذو الجلال والاكرام «22» المغنى «23» البديع «24» الرشيد «25» الصبور وقد ذكر زهير بدلها ما يأتى:
«1» البار «2» الجميل «3» القاهر «4» القريب «5» الراشد «6» الرب «7» المبين «8» «البرهان» «9» الشديد «10» الواقى «11» ذو القوة «12» القائم «13» الدائم «14» الحافظ «15» الناظر «16» السامع «17» المعطى «18» الكافى «19» الأبد «20» العالم «21» الصادق «22» المنير «23» التام «24» القديم «25» الوتر وقد ذكر البيهقى رواية ثالثة عن عبد العزيز بن الحصين ورد فيها ما يخالف هاتين الروايتين.
ثم قال: وزعم بعض أهل العلم بالحديث: أن ذكر الأسامى فى هذا الحديث من جهة بعض الرواة وأن الحديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فى ذكر عددها دون تفسير العدد وقوله- صلى الله عليه وسلم- «ان لله تسعة وتسعين اسما» لا ينفى غيرها وإنما أراد- والله أعلم- أن من أحصى من أسماء الله عز وجل تسعة وتسعين اسما دخل الجنة. سواء أحصاها مما نقلنا فى الحديث الأول، أو مما ذكرنا فى الحديث الثانى. أو من سائر ما دل عليه الكتاب أو السنة، أو الإجماع، وبالله التوفيق.
هذا وقد أورد الدكتور حسن الجمل فى كتابه (الأسماء الحسنى) هذه الأسماء كما جاءت فى القرآن الكريم حسب ترتيبها فى المصحف، وأوصلها الى أكثر من تسعة وتسعين اسما، أوصلها إلى ستة ومائة اسم وقال:
«تلك هى الأسماء الحسنى التى جاءت فى القرآن العظيم بصيغة الاسم، وفى مواضع ظاهرة من آيات الكتاب العزيز، وقد قرأت مائة وستة أسماء نزلت بلفظ الاسم فى القرآن الحكيم.
وهذا العدد الّذي ذكرته اجتهاد فيه احتمال الخطأ اسأل ربى ألا يؤاخذنى عليه».
(الاعتقاد للبيهقى ص 14، 15 الأسماء الحسنى للجمل ص 3 - 28).
(2/517)
________________________________________
الأول: أن «1» من الأسماء الحسنى ما هى «1» نفس ذاته، ومنها: ما هى «2» غير ذاته.
ومنها: ما ليس هى نفس الذات، ولا غيرها كما سبق تعريفه.
الثانى: أن الأسماء منها ما هى صفات نفسانية: كالعلم، والقدرة، ومنها: ما هى صفات فعلية: كالخالق، والرازق، ومنها: ما هى صفات سلبية: كالغنى.
الثالث: الأسماء منها ما لا يتعدى الذات: كالإله، ومنها: ما يتعدى كالعالم، والقادر؛ فإنه يتعدى إلى المعلوم، والمقدور.
الرابع: أن الأسماء منها ما لا يسمى بها «3» غير الله- تعالى- كالله، والرحمن، ومنها ما يسمى بها غيره: إما مطلقا: كالعالم، والقادر. وإما بالإضافة: كالقابض، والباسط، فإنه لا يقال لغيره قابض باسط مطلقا؛ بل قابض المال، وباسط الخير.
الخامس: أن من الأسماء ما دل عليها فعله: كالعلم يدل عليه الإتقان. ومنها: ما يدل عليه صفة من صفاته: كالحياة يدل عليها العلم.
السادس: الأسماء منقسمة: إلى ما هى قديمة: كصفات الذات، وإلى ما هى حادثة: كصفات الأفعال.
السابع: الأسماء منها ما هى قائمة بذاته: كالأسماء النفسانية، ومنها: ما هى خارجة عن ذاته: كأسماء الأفعال.
الثامن: الأسماء منها ما معناه واحد: كالعالم، والقادر. ومنها: ما هو مركب من صفة فعلية، وسلبية، أو نفسية، وسلبية، أو صفة نفسانية، وفعلية، أو من الصفات النفسانية، والفعلية، والسلبية.
التاسع: الأسماء منها ما هو متفق على معناه. ومنها ما هو مختلف فيه واعتبر كل ذلك بما أسلفناه.
والى هاهنا تم الكلام من القسم الأول فى واجب الوجود «4».
________________
(1) فى ب (أن الأسماء الحسنى ما هو).
(2) فى ب (ما هو).
(3) فى ب (به).
(4) فى ب (و يتلوه القسم الثانى فى الموجود الممكن الوجود).
(2/518)
________________________________________
تم تحقيق الجزء الثانى والحمد لله رب العالمين ويليه إن شاء الله- تعالى- الجزء الثالث وأوله: القسم الثانى فى الموجود الممكن الوجود
(2/519)
________________________________________
فهرس موضوعات الجزء الثانى من كتاب أبكار الأفكار فى أصول الدين للآمدى
«النوع الرابع» «فى إبطال التشبيه وما لا يجوز على الله- تعالى-» ويشتمل على إحدى عشرة مسألة: 5 - 85 المسألة الأولى: فى أنه ليس بجوهر ... 7 - 11
المسألة الثانية: فى أن البارى- تعالى ليس بجسم ... 12 - 18
المسألة الثالثة: فى أنه- تعالى- ليس بعرض ... 19
المسألة الرابعة: فى بيان امتناع حلول الحوادث بذات الرب تعالى ... 20 - 33
الحجة الأولى: ... 2
الحجة الثانية: ... 23
الحجة الثالثة: ... 25
الحجة الرابعة: ... 26
والمعتمد فى المسألة حجتان: تقريرية، والزامية ... 27
أما التقريرية ... 27
الحجة الثانية: من جهة المناقضة والإلزام وذلك من ثمانية أوجه ... 28
للكرامية ثلاث شبه ... 31
الجواب عنها ... 32
المسألة الخامسة: فى أن الله- تعالى- ليس فى جهة ولا مكان ... 34 - 48
الآراء حولها ... 34
المعتمد فى ذلك أن يقال: ... 35
المسلك الأول للأصحاب ... 37
المسلك الثانى ... 38
المسلك الثالث ... 40
المسلك الرابع ... 41
شبه الخصوم ... 42
والجواب عنها ... 45
(2/521)
________________________________________
المسألة السادسة: فى أن وجود الرب- تعالى- ليس فى زمان ... 49 - 50
المسألة السابعة: فى استحالة حلول ذات البارى- تعالى- أو صفة من صفاته فى محل ... 51 - 56
والدليل على مذهب أهل الحق ... 52
المسلك الأول ... 52
المسلك الثانى ... 53
المسلك الثالث ... 54
المسألة الثامنة: فى الرد على النصارى ... 57 - 74
مذهب الملكانية ... 57
مذهب النسطورية ... 58
مذهب اليعقوبية ... 59
الرد عليهم ... 61
المسألة التاسعة: فى امتناع اتصاف الرب- تعالى- بشيء من الكيفيات المحسوسة بالحواس الظاهرة وغيرها ... 75 - 79
وقد استدل الأصحاب فى ذلك بمسالك: ... 75
المسلك الأول ... 75
المسلك الثانى ... 76
المسلك الثالث ... 77
المسلك الرابع، والخامس، والسادس ... 78
المسألة العاشرة: فى امتناع اتصاف الرب- تعالى- بالعجز ... 80 - 82
المسألة الحادية عشرة: فى استحالة الكذب فى كلام الله- تعالى ... 83 - 85
المسلك العقلى ... 83
المسلك السمعى ... 84
«النوع الخامس» «فى وحدانية الله- تعالى-» ويشتمل على فصلين 87 - 112 الفصل الأول: فى تحقيق معنى الواحد، وأقسامه، ولواحقه ...
وما هو التوحيد ... 89 - 92
أما حقيقة التوحيد: ... 89
وأما التوحيد: ... 92
(2/522)
________________________________________
الفصل الثانى: فى امتناع وجود إلهين لكل واحد منهما من صفات الالهية ما للآخر ... 93 - 112
وقد احتج النافون للشركة بمسالك ضعيفة ... 93
المسلك الأول: ... 93
المسلك الثانى: ... 96
المسلك الثالث: وعليه اعتماد أكثر أصحابنا ... 97
المسلك الرابع: ... 101
المسلك الخامس: ... 102
المسلك السادس: ... 104
المسلك السابع: ... 105
مسلك المعتزلة: ... 106
الدليل السمعى: ... 106
قد ترد على الدليل السمعى أسئلة ... 107
الجواب عنها ... 109
«النوع السادس» «فى أفعال الله- تعالى-» ويشتمل على ثلاثة أصول: 113 - 492 «الأصل الأول» «فى التعديل والتجوير-» ويشتمل على ثلاث عشرة مسألة: 115 - 228 المسألة الأولى: فى التحسين والتقبيح ... 117 - 144
ذهب المعتزلة، والكرامية، والخوارج، والبراهمة، والثنوية، والتناسخية، وغيرهم: إلى أن الأفعال منقسمة فى أنفسها إلى حسنة وقبيحة ... 117
مذهب أهل الحق: أن الحسن والقبح ليس وصفا ذاتيا ... 121
رأى الآمدي ... 124
احتج الأصحاب فى المسألة بمسالك ضعيفة: ... 126
المسلك الأول: ... 126
المسلك الثانى: ... 127
المسلك الثالث: ... 128
(2/523)
________________________________________
المسلك الرابع: ... 129
المسلك الخامس: ... 129
المسلك السادس: ... 130
المسلك السابع: ... 132
للخصوم شبه استدلالية. وإلزامية: ... 133
أما الشبه الاستدلالية فشبهتان: ... 133
وأما الشبه الإلزامية: فعشر شبه: ... 134
الجواب عن الشبه الاستدلالية: ... 135
الجواب عن الشبه الإلزامية: ... 140
المسألة الثانية: فى أنه لا حكم قبل ورود السمع ... 145 - 150
احتج أهل الحق بالنقل، والعقل: ... 146
الدليل النقلى: ... 146
قد ترد عليه أسئلة: ... 146
الجواب عنها: ... 148
وأما المسلك العقلى: ... 149
وأما دليل إبطال الإباحة: ... 149
المسألة الثالثة: فى أنه لا يجب رعاية الغرض، والمقصود فى أفعال الله- تعالى- وأنه لا يجب عليه شيء أصلا ... 151 - 166
مذهب أهل الحق- مذهب المعتزلة ... 151
احتج أهل الحق بمسالك ... 152
المسلك الأول ... 152
المسلك الثانى ... 153
اشكالات الخصوم ... 155
الجواب عنها ... 157
وأما ما يخص إبطال القول بوجوب رعاية الأصلح فمسلكان ... 162
للخصوم أسئلة ... 165
الجواب عنها ... 166
المسألة الرابعة: فى الآلام، وأحكامها ... 167 - 174
الآراء فيها ... 167
تحقيق مذهب أهل الحق ... 170
الرد على المعتزلة، وغيرهم ... 171
(2/524)
________________________________________
المسألة الخامسة فى تكليف ما لا يطاق ... 175 - 184
الآراء فيها ... 175
حجة الأشاعرة على جواز التكليف بما لا يطاق ... 176
إشكالات الخصوم ... 176
الجواب عنها ... 178
حجة أخرى لبعض الأصحاب ... 181
قد يرد عليها أسئلة ... 181
الجواب عنها ... 182
المسألة السادسة: فى أنه هل لله- تعالى- على من علم إصراره على الكفر نعمة، أم لا؟ وفى معنى الحمد، والشكر، والتعظيم ... 185 - 192
المسألة السابعة: فى معنى الهداية والإضلال ... 193 - 199
احتج الأصحاب بالنصوص، والإطلاق العرفى ... 193
إشكالات الخصوم ... 194
الجواب عنها ... 195
المسألة الثامنة: فى معنى الطبع، والختم، والأكنة ... 200 - 204
مذهب أهل الحق- مذهب المعتزلة ... 200
أورد الخصوم احتمالات خمسة ... 200
الجواب عنها ... 202
المسألة التاسعة: فى معنى اللطف وحكمه ... 205 - 206
المسألة العاشرة: فى التوفيق، والعصمة، والخذلان ... 207 - 210
أما التوفيق: ... 207
وأما العصمة: ... 208
وأما الخذلان: ... 210
المسألة الحادية عشرة: فى تحقيق معنى الأجل، ووجه الاختلاف فيه ... 211 - 219
فى حقيقة الأجل ... 211
هل يجوز قطع الأجل ... 212
ذهب الأشاعرة وغيرهم إلى امتناع ذلك ... 212
الرد على الخصوم ... 213
حجج الخصوم ... 314
الجواب عنها ... 216
(2/525)
________________________________________
المسألة الثانية عشرة: فى معنى الرزق، واختلاف الناس فيه ... 220 - 226
الرزق- الآراء فيه ... 220
الرازق- رأى المعتزلة ... 223
رأى أهل الحق ... 224
المسألة الثالثة عشرة: فى السعر والغلاء والرخص وأنه من الله تعالى ... 227 - 228
«الأصل الثانى» «فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه» ويشتمل على: مقدمة، ومقصد، وفروع ... 229 - 456
المقدمة: فى بيان معنى الخلق، والمخلوق ... 231
وأما المقصد: فهو أن جميع الممكنات مقدورة للرب- تعالى- من غير واسطة، وأن حدوثها ليس إلا عنه ... 235 - 248
احتج الأصحاب بمسالك:
المسلك الأول: ... 235
المسلك الثانى: ... 236
المسلك الثالث: ... 237
المسلك الرابع: ... 238
المسلك الخامس: ... 239
المسلك المعتمد: ... 240
إشكالات الخصوم ... 241
الجواب عنها ... 243
وأما الفروع: فثمانية ... 249 - 456
الفرع الأول: فى امتناع مخلوق بين خالقين ... 251 - 253
المسلك الأول: ... 251
المسلك الثانى: ... 252
الفرع الثانى: فى الرد على الفلاسفة الالهيين ... 254 - 260
ادعاءهم أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ... 254
العقول العشرة ... 256
الرد عليهم ... 258
الفرع الثالث: فى الرد على الطبيعيين ... 261 - 263
(2/526)
________________________________________
الفرع الرابع: فى الرد على الصابئة فى قولهم بوجود موجد غير الله- تعالى- 264 - 269 الفرقة الأولى: أصحاب الروحانيات ... 264
الفرقة الثانية: أصحاب الهياكل ... 265
الفرقة الثالثة: أصحاب الأشخاص ... 267
الفرقة الرابعة: الحلولية ... 267
الرد عليهم ... 268
الفرع الخامس: فى الرد على المنجمين، وأرباب الأحكام ... 270 - 275
أولا: من جهة الجملة ... 270
ثانيا: من جهة التفصيل ... 272
قولهم: فى خسوف القمر ... 274
قولهم: فى كسوف الشمس ... 275
الفرع السادس: فى الرد على الثنوية والمجوس ... 276 - 286
أما الثنوية: فهم فرق خمس ... 276
الفرقة الأولى: المانوية ... 276
الفرقة الثانية: المزدكية ... 277
الفرقة الثالثة: الديصانية ... 277
الفرقة الرابعة: المرقيونية ... 277
الفرقة الخامسة: الكينونية ... 278
وأما المجوس: فقد اختلفوا وتفرقوا أربع فرق ... 279
الفرقة الأولى: الكيومرثية ... 279
الفرقة الثانية: الزروانية ... 279
الفرقة الثالثة: المسخية ... 280
الفرقة الرابعة: الزرادشتية ... 284
الرد على الثنوية ...
الرد على المجوس ...
الفرع السابع: فى الرد على المعتزلة فى خلق الأفعال:
وهذا الفرع لا يتم تحقيقه إلا بتقديم فصول، لا بد من الإشارة إليها، والتنبيه على ما 287 - 382 فيها: وهى إحدى وعشرون فصلا ...
الفصل الأول: فى إثبات القدرة الحادثة ... 289 - 292
الفصل الثانى: فى امتناع بقاء القدرة الحادثة ... 293 - 295
مذهب أهل الحق ... 293
(2/527)
________________________________________
شبه الخصوم ... 293
الجواب عنها ... 294
الفصل الثالث: فى تعلق الاستطاعة بالفعل ... 296 - 307
الآراء فيه ... 296
معتمد أهل الحق ... 298
للخصوم إشكالات ... 299
الجواب عنها ... 301
وقد استدل الأصحاب فى المسألة بمسلكين ضعيفين ... 305
المسلك الأول: ... 305
المسلك الثانى: ... 306
الفصل الرابع: فى امتناع تعلق القدرة الحادثة بمقدورين. الآراء فيه- 308 - 318 المعتمد لأهل الحق ... 309
للخصوم إشكالات على الاستدلال، والإلزام ... 309
الجواب عنها ... 312
الفصل الخامس: فى أن القدرة الحادثة غير موجبة لمقدورها ... 319 - 320
الفصل السادس: فى تماثل القدرة الحادثة، واختلافها وتضادها، وأنها هل تفتقر فى تعلقها بالمقدور إلى آلة، وبنية مخصوصة، أم لا؟ 321 - 322 الفصل السابع: فى أن فعل النائم هل هو مقدور له؟ وأن النوم يضاد القدرة، أم لا؟ 323 - 325 الفصل الثامن: فى وجود مقدور بين قادرين، وأن الله تعالى قادر على مثل فعل العبد، أم لا؟ 326 - 333 الآراء فيه- حجج الأشاعرة ... 326
الفصل التاسع: فى امتناع مقدور واحد بقدرتين لقادر واحد من جهة واحدة ... 334 - 335
الفصل العاشر: فى امتناع تعلق القدرة الواحدة بمقدور واحد من وجهين. وأن القادر على الحركة هل يقدر على تحريك جزء فرد من أجزائه دون الباقى أم لا؟ 336 - 339 الفصل الحادى عشر: فى العجز، وتحقيق معناه ... 340 - 342
رأى الأشاعرة- لأبى هاشم ومتبعيه ثلاث شبه ... 340
الجواب عنها ... 341
الفصل الثانى عشر: فى متعلق العجز ... 343 - 345
الفصل الثالث عشر: فى تعلق العجز بالمعجوز عنه ... 346 - 347
الفصل الرابع عشر: فى اختلاف المعتزلة فى عجز القادر على حمل مائة رطل لا يتمكن معها من حمل مائة أخرى ومناقضتهم فى ذلك ... 348 - 349
(2/528)
________________________________________
الفصل الخامس عشر: فى أن القادر هل يكون ممنوعا عن مقدوره مع وجود قدرته عليه، أم لا؟ 350 - 353 الفصل السادس عشر: فى اختلافات متفرعة على المنع بين المعتزلة والإشارة إلى مناقضتهم فيها ... 354 - 364
الاختلاف الأول ... 354
الاختلاف الثانى ... 356
الاختلاف الثالث ... 359
الاختلاف الرابع ... 362
الفصل السابع عشر: فى تعارض الموانع والرد على المعتزلة ... 365 - 366
الفصل الثامن عشر: فى تحقيق معنى المضطر ... 367 - 369
الفصل التاسع عشر: فى الملجأ وتحقيق معناه ... 370 - 371
الفصل العشرون: فى أن الفاعل لا يعود إليه من فعله حكم، ولا يتجدد له بسببه اسم ... 372 - 380
الفصل الحادى والعشرون: فى الترك، وتحقيق معناه ... 381 - 382
«القول فى خلق الأفعال» مذهب الشيخ الأشعرى أنه لا تأثير للقدرة الحادثة فى حدوث مقدورها ولا فى صفة من صفاته.
ووافقه على ذلك جماعة من أصحابه ... 383 - 425
آراء المخالفين ... 383
استدل الأصحاب بمسالك ضعيفة ... 384
المسلك الأول: ... 384
المسلك الثانى: ... 385
المسلك الثالث ... 387
المسلك الرابع ... 388
المسلك الخامس ... 392
المسلك السادس ... 396
المسلك السابع ... 399
المعتمد فى المسألة مسلكان ... 400
إشكالات الخصوم ... 401
الجواب عنها ... 408
مذهب الأشعرى هو الطريق العدل ... 424
الفرع الثامن: فى الرد على القائلين بالتولد ...
ويشتمل على ثلاثة فصول: ... 427 - 456
(2/529)
________________________________________
الفصل الأول: فى تحقيق معنى التولد، والمتولد على أصول المعتزلة، وتفصيل مذاهبهم فيه 429 - 431 الفصل الثانى: فى الدلالة على إبطال القول بالتولد وإبطال شبه مثبتيه ... 432 - 441
وقد اعتمد الأصحاب فى ذلك على مسالك ضعيفة ... 432
المسلك الأول: ... 432
المسلك الثانى: ... 435
المسلك الثالث: ... 437
شبه الخصوم ... 438
الجواب عنها ... 440
الفصل الثالث: فى مأخذ تفريعات المعتزلة على التولد، ومناقضتهم فيها 442 - 456 التفريع الأول: ... 442
التفريع الثانى: ... 444
التفريع الثالث: ... 446
التفريع الرابع: ... 447
التفريع الخامس: ... 448
التفريع السادس: ... 450
التفريع السابع: ... 450
التفريع الثامن: ... 451
التفريع التاسع: ... 452
التفريع العاشر: ... 454
التفريع الحادى عشر: ... 454
التفريع الثانى عشر: ... 455
«الأصل الثالث» «فى أنه لا مخصص للجائزات إلا الله- تعالى- وأنه مريد لكل كائن، وغير مريد لما لم يكن» 457 - 492 ويقدم عليه فصول ستة لا يتم تحقيقه دونها الفصل الأول: فى إثبات الإرادة الحادثة، وأحكامها ... 459 - 460
الفصل الثانى: فى أضداد الإرادة الحادثة ... 461 - 464
وهى تنقسم: إلى أضداد خاصة، وإلى أضداد عامة ...
(2/530)
________________________________________
أما الخاصة: فالكراهية ... 461
وأما العامة: فالموت، والنوم بالاتفاق ... 461
احتجاج الأصحاب ... 462
حجة الخصم من وجهين ... 462
الجواب عنها ... 462
الفصل الثالث: فى أن الإرادة للشىء كراهية لضده ... 465 - 467
الفصل الرابع: فى أن الإرادة الحادثة لا توجب المراد ... 468 - 470
الفصل الخامس: فيما يجوز تعلق الإرادة به، وما لا يجوز ... 471 - 474
الفصل السادس: فى تحقيق متعلق الإرادة ... 475 - 476
«القول فى أن كل كائن فمراد لله- تعالى- وما ليس بكائن غير مراد الكون» 477 - 492 مذهب أهل الحق ... 477
مذهب المعتزلة ... 478
تفصيل حجة الأصحاب ... 478
إشكالات الخصوم ... 479
الجواب عنها ... 486
«النوع السابع» فى أسماء الله الحسنى ويشتمل على ثلاثة فصول 493 - 518 الفصل الأول: فى الاسم والتسمية والمسمى ... 495 - 500
الفصل الثانى: فى مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى ... 501 - 502
الفصل الثالث: فى معانى أسماء الله- تعالى ... 503 - 518
فهرس موضوعات الجزء الثانى ... 521 - 531
(2/531)
________________________________________
تنويه قامت بتصحيح تجارب طباعة الجزء الثانى الأستاذة/ خديجة محمد كامل كبير باحثين بمركز تحقيق التراث
(2/532)
________________________________________
[الجزء الثالث]
[تتمة القاعدة الرابعة]
[تتمة الباب الأول]
القسم الثانى فى الموجود الممكن الوجود
ويشتمل على مقدمة، وخمسة أصول
أما المقدمة: ففى بيان حصره فى الجواهر، والأعراض.
وأما الأصول:
فالأول منها: فى بيان الجواهر/، وأحكامها.
والثانى: فى بيان الأعراض، وأحكامها.
والثالث: فيما توصف به الجواهر، والأعراض.
والرابع: فى بيان حدوث الجواهر، والأعراض.
والخامس: فى فناء الجواهر، والأعراض.
(3/5)
________________________________________
المقدمة:
لا نعرف خلافا بين العقلاء، فى حصر الموجود الممكن فى الجواهر والأعراض، وإن اختلفت مسالكهم فى جهة الحصر، وأقسام كل واحد من القسمين: ولنذكر مسلك الفلاسفة فى ذلك [أولا] «1» وننبه على ما فيه، ثم نعطف على مسلك أهل الحق [ثانيا] «2».
أما الفلاسفة: فقد قالوا:
الموجود الممكن: إما أن يكون وجوده فى موضوع، أو لا فى موضوع. وهذه قسمة دائرة بين النفى، والإثبات.
فإن كان الأول: فهو الجوهر.
وإن كان الثانى: فهو العرض.
وإنما قالوا: فى موضوع، ولم يقولوا: فى محل. احترازا عن الصور الجسمية؛ فإنها عندهم جواهر؛ وهى قائمة فى محل هو المادة الجسمية. وليست المادة عندهم موضوعا للصورة؛ بل محلا لها. والمحل أعم من الموضوع. إذ الموضوع عندهم هو [المحل المتقوم ذاته المقوم لما حل فيه: كالجسم بالنسبة إلى الأعراض القائمة به؛ وليس كل] «3» محل شيء؛ يكون مقوما لما حل فيه: كالمادة بالنسبة إلى الصورة الجسمية؛ فإنها غير مقومة للصورة الجسمية؛ بل الصورة الجسمية هى المقومة لمحلها.
وإذا عرف ذلك قالوا: فالجوهر: إما أن يكون بسيطا: أى لا تركيب فيه، أو مركبا.
فإن كان بسيطا: فإما أن يكون داخلا فى المركب، وإما أن لا يكون داخلا فى المركب.
فإن لم يكن داخلا فى المركب: فإما أن يكون متعلقا بالمركب، أو لا تعلق له به.
فإن لم يكن متعلقا به، فهو العقل، وعبروا عنه بأنه الموجود الممكن المبرأ عن المادة، وعلائقها.
وإن كان متعلقا بالمركب: فهو النفس الفلكية، والإنسانية؛ وسيأتى معناهما «4».
وأما إن كان داخلا فى المركب: فإما أن يكون محلا للجزء الآخر من ذلك «5» المركب، أو حالا فيه.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) ساقط من أ.
(3) ساقط من أ.
(4) (و سيأتى معناهما) ساقط من ب.
(5) (ذلك) ساقط من ب.
(3/7)
________________________________________
فإن كان الأول: فهو المادة الجسمية، وعبروا عن المادة بأنها التى باعتبارها وحدها يكون المركب [موجودا] «1» بالقوة لا بالفعل، وذلك فى ضرب المثال: كالخشب بالنسبة إلى السرير.
وإن كان الثانى: فهو الصورة الجسمية، وعبروا عنها بأنها التى باعتبارها وحدها يكون المركب موجودا بالفعل لا بالقوة، وهى فى ضرب المثال: كصورة السرير وشكله بالنسبة إلى السرير، وإن لم يكن شكل السرير صورة جوهرية/؛ بل عرضية.
وأما إن كان مركبا: فهو الجسم:
وهو إما بسيط: أى غير مركب من أجسام مختلفة الطبيعة، أو مركب.
فإن كان بسيطا فإما أن لا يكون قابلا للكون، والفساد [أو قابلا له] «2» فإن كان الأول: فكالأفلاك.
وإن كان الثانى: فإما أن يكون حارا، أو باردا.
فإن كان حارا: فإما يابس، أو رطب.
فإن كان يابسا: فهو النار.
وإن كان رطبا: فهو الهواء.
وأما إن كان باردا: فإما رطب، أو يابس.
فإن كان رطبا: فهو الماء.
وإن كان يابسا: فهو التراب.
وهذه البسائط الأربعة هى العناصر.
وأما إن كان الجسم مركبا من أجسام مختلفة الطبيعة: فكالنباتات وأنواع الحيوانات، والمعدنيات.
وأما العرض فقالوا:
________________
(1) ساقط من أ.
(2) ساقط من أ.
(3/8)
________________________________________
إما أن لا يوجب تعقّله تعقّل أمر خارج، أو يوجب:
فإن لم يوجب تعقّله تعقّل أمر خارج عنه.
فهو إما أن يقدر تجزؤه، أو لا يقدّر.
فإن قدّر تجزؤه فهو جنس الكمّ: وهو إمّا أن تتصل أجزاؤه عند حدّ واحد، أو لا تتصل.
فإن كان الأول: فإما قار الذات، أو غير قار الذات.
فالقار منه: هو البعد، وغير القارّ منه: هو الزمان.
وإن كان الثانى: فهو العدد.
وإن لم يقدر تجزؤه. فإمّا: أن يوجب بين أجزائه نسبة، أو لا يوجب [بين أجزائه] «1» نسبة.
فإن كان الأول: فهو جنس الوضع، والوضع حالة توجد للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض، كحالة الجسم عند القيام، أو العقود، أو الانبطاح ونحوه.
وإن كان الثانى: فهو جنس الكيفية، وهو هيئة قارة للجوهر لا يوجب تعقلها تعقل أمر خارج عنها، وعن «2» حاملها، ولا يوجب قسمة، ولا نسبة فى أجزائها، ولا أجزاء حاملها، وذلك كالاشكال، والزوجية، والفردية، والانفصالية، والانفعالات: كالحرارة، والبرودة، والحلاوة، وحمرة الخجل، وصفرة الوجل، والقوة، ولا قوة: كالمصراعية: وهى القوة التى بها يصرع الغير، ويحركه.
والممراضة: وهى القوة التى بها قبول الجسم للمرض بسرعة
والمصاحبة: وهى القوة التى بها لا يقبل البدن المرض بسهولة
والكمالات غير المحسوسة: كالعلم، والظن، والصحة، والهيئات النفسانية التى عنها صدور الفضائل، والرذائل ونحوه.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) أول ل 2/ ب.
(3/9)
________________________________________
وأما إن أوجب تعقله تعقل أمر خارج، فذلك الخارج: إما أن ينعكس عليه فى الفهم، والوجود، أو لا ينعكس.
فإن انعكس؛ فهو جنس المضاف: كالأبوة، والنبوّة، ونحو ذلك.
وإن لم/ ينعكس عليه: فهو إما جوهر، أو عرض.
لا جائز أن يكون جوهرا؛ إذ الجوهر من حيث هو جوهر، ليس بمضاف ولا منسوب.
وما وقع منه مضافا؛ فليس إلا بعارض فيه كذات الأب.
وإن كان [عرضا] «1» فهو إما من قبيل المنسوبات أو ليس.
لا جائز أن يكون من قبيل المنسوبات، وإلا لتسلسل.
وإن كان ليس من قبيل المنسوبات؛ فليس غير الكم، والكيف والوضع.
فإن كان مضافا الى الكم. فهو إما قار، أو غير قار.
فإن كان قارا: فإما أن ينتقل بالانتقال، أو ليس.
فإن انتقل بالانتقال؛ فهو جنس الملك: وهو عبارة عن حالة توجد للجسم بسبب نسبته إلى ماله، أو لبعضه تنتقل بانتقاله كالتقمص والتختم ونحوه.
وإن لم ينتقل بالانتقال فهو جنس الأين: وهو عبارة عن حالة تحصل للجسم بسبب نسبته إلى مكانه.
وإن كان غير قارّ: فهو جنس متى: وهو عبارة عن حالة تحصل للجسم بسبب نسبته إلى زمانه.
وأما ما أضيف منه إلى الكيف:
فإما أن يضاف إليه على أنه منه، أو فيه.
فإن كان الأول: فهو جنس أن يفعل: كالتسويد، أو التبييض.
وإن كان الثانى: فهو جنس أن ينفعل كالتسود، والتّبيّض.
فهذه هى جملة الأجناس العالية للموجودات الممكنة وهى عشرة: الجوهر، والكم، والكيف، والإضافة، والأين، ومتى، والملك، والوضع، وأن يفعل، وأن ينفعل.
________________
(1) ساقط من (أ).
(3/10)
________________________________________
ومن أراد معرفة حقيقة كل واحد من هذه الأجناس، وأنواع أنواعها إلى الأنواع التى لا نوع تحتها على طريق الاستقصاء، فعليه بمراجعة دقائق الحقائق «1»، ورموز الكنوز «2».
وهذه القسمة وإن أومأ إليها أفضل متأخرى الفلاسفة «3»؛ فهى مدخولة غير وافية بالغرض.
أما أولا: فلأنه إما أن يريدوا بالموضوع مطلق محل، أو محلا خاصا.
فإن كان الأول: فيلزم على أصلهم أن لا تكون الصورة الجسمية جوهرا؛ لقيامها بالمحل، وهو المادة، وقد قالوا: إنها جوهر.
وإن كان الثانى: فإما أن يكون هو ما فسروا الموضوع به، أو غيره. فإن كان غيره؛ فلا بد من تصويره، والدلالة عليه.
وإن كان هو ما فسروا الموضوع به.
فقولهم: الموضوع هو المحل المتقوم ذاته: إما أن يريدوا بكونه متقوم الذات؛ أنه لا يفتقر فى وجوده إلى محل آخر يقومه، أو أنه لا يفتقر فى وجوده إلى ما قام به، أو معنى آخر.
فإن كان الأول: فيلزمهم أن لا يكون العرض عندهم موضوعا للعرض، لافتقار كل عرض إلى محل يقومه، وقد قالوا: إن الحركة موضوعة للسرعة «4»، والسطح موضوع للملاسة/ والخشونة؛ والحركة عرض بالاتفاق.
والسطح أحد أنواع الكم عندهم؛ فيكون عرضا.
وإن كان الثانى: فالمادة الجسمية بالنسبة إلى الصورة الجسمية إما أن تكون مفتقرة إلى ما قام بها من الصورة الجسمية فى وجودها، أو لا تكون مفتقرة إليها.
فإن كانت مفتقرة فى وجودها إلى ما قام بها من الصورة، فالصورة أيضا مفتقرة فى وجودها إلى المادة؛ لكونها محلا لها، ووجود الصورة دون محلها محال؛ وذلك دور
________________
(1) أحد كتب الآمدي الفلسفية. انظر عنه ما مر فى المقدمة.
(2) أحد كتب الآمدي الفلسفية انظر عنه ما مر فى المقدمة.
(3) المقصود به الشيخ الرئيس ابن سينا. راجع ترجمته فى هامش ل 72/ ب من الجزء الأول.
(4) ساقط من ب.
(3/11)
________________________________________
ممتنع، من جهة توقف المادة فى وجودها على قيام الصورة بها، وتوقف وجود الصورة على وجود المادة.
وإن لم تكن [المادة] «1» مفتقرة فى وجودها إلى ما قام بها من الصورة الجسمية، فهو خلاف أصلهم على ما يأتى «2».
ثم يلزم منه أن تكون المادة موضوعا للصورة؛ ضرورة كونها متقومة الذات دون الصورة. وأنها مقومة للصورة فى وجودها؛ ويلزم من ذلك أن لا تكون الصورة جوهرا؛ بل عرضا؛ ولم يقولوا به.
وإن كان الثالث: فلا بد من تصويره، والدلالة عليه
ثم وإن سلمنا صحة ما قالوه فى تفسير الموضوع
فقولهم: البسيط الخارج عن المركب: إما أن يكون متعلقا بالمركب، أو لا يكون متعلقا به.
فإن كان الأول: فهو النفس.
وإن كان الثانى: فهو العقل.
إما أن يريدوا بالتعلق مطلق تعلق، أو تعلقا خاصا.
فإن كان الأول: فالعقل يجب أن يكون نفسا؛ إذ العقول عندهم «3» متعلقة بالمركب، إذ هى علل وجود الأفلاك عندهم، ولا معنى للفرق بين العقل، والنفس على هذا.
وإن كان الثانى: فإما أن يريدوا بالتعلق الخاص؛ توقف وجود البسيط على وجود المركب، أو أنه متعلق به، بمعنى أنه المدبر له، والمتصرف فيه، أو بمعنى آخر.
فإن كان الأول: فسيأتى إبطال قولهم فيه.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) انظر ما سيأتى ل 19/ أ وما بعدها.
(3) أول ل 3/ أ.
(3/12)
________________________________________
وإن كان الثانى: فيلزم منه خروج النفس عن حقيقتها بعد مفارقة الأبدان؛ فإنّها موجودة عندهم؛ وليست مدبرة للأبدان.
وإن كان الثالث: فلا بد من تصويره.
كيف وأن ما ذكروه من قسمى العقول والنفوس؛ فمبنى على تصور وجودهما؛ وسيأتى إبطاله عن قرب.
ثم وإن سلمنا صحة ذلك فقولهم: الداخل فى المركب: إما أن يكون محلا، أو حالا، لا نسلم الحصر، وما المانع من أن يكون لا محلا، ولا حالا كما نقوله نحن فى الأجسام المؤلفة من الجواهر الفردة؛ فإن بعضها ليس محلا، ولا حالا «1» للبعض، أو أن يكون محلا بالنسبة، وحالا بالنسبة.
وإن سلمنا صحة ذلك؛ ولكن لا نسلم صحة انقسام المركب إلى ما يقبل الفساد وإلى ما لا يقبل الفساد؛ وسنبين/ أنه ما من جسم إلا وهو قابل للفساد. وإن سلمنا صحة الانقسام، ولكن لا نسلم انحصار القابل [للفساد] «2» فيما ذكروه من الأقسام الأربعة.
وما المانع من أن يكون لا حارا، ولا باردا، ولا رطبا «3»، ولا يابسا؛ كما قالوه فى الأفلاك. أو أن يكون حارا؛ ولا يكون رطبا، ولا يابسا.
وكذلك يكون باردا؛ ولا يكون رطبا، ولا يابسا.
وإن سلمنا: انحصار الجوهر فيما ذكر من الأنواع. فقولهم: العرض إما أن لا يوجب تعقله، تعقل أمر خارج عنه، أو يوجب.
وإن سلم الحصر فيه، ولكن لا نسلم صحة انقسام ما يوجب تعقله تعقل أمر خارج عنه إلى ما ينعكس عليه الخارج فى الفهم، والوجود، وإلى ما لا ينعكس؛ وذلك لأن كل شيء توقف فى تعقله على تعقل غيره؛ فلا بد وأن يكون له إليه نسبة وإضافة؛ ومن ضرورة كونه مضافا إلى ذلك الشيء؛ أن يكون ذلك الشيء مضافا إليه أيضا. اللهم إلا أن
________________
(1) ساقط من ب.
(2) ساقط من (أ).
(3) ساقط من ب.
(3/13)
________________________________________
ينظر إلى المضاف إليه، لا من حيث هو مضاف إليه، بل من جهة كونه ذاتا ما؛ فإنه لا يلزم أن يكون من حيث هو ذاتا مضافا إلى ما أضيف إليه؛ وذلك كما إذا قلنا: زيد فى المكان، أو زيد بن عمرو، فإنا إذا نظرنا إلى المكان، أو إلى عمرو من حيث هو ذات؛ أو حقيقة ما؛ لا يكون مضافا إلى زيد، ولكن ذلك لا يمنع من كونه مضافا من جهة أخرى.
ثم وإن سلمنا صحة القسمة؛ ولكن قوله إن انعكس فهو جنس الإضافة؛ فيلزم عليهم أن تكون إضافة من الأعراض الوجودية؛ ضرورة كونها جنسا من أجناس الأعراض الموجودة؛ ويلزم من ذلك أن يكون الرب- تعالى- متصفا بصفات عرضية وجودية زائدة على ذاته؛ ضرورة كونه متصفا بالصفات الإضافية عندهم؛ وهو خلاف أصلهم، ولا مخلص لهم من ذلك، إلا بمخالفة أحد أصليهم وهو: إما اعتقاد جواز اتصاف الرب- تعالى- بصفات وجودية زائدة على ذاته، أو باعتقاد أن الإضافة ليست من أجناس الموجودات الممكنة؛ ولم يقولوا بشيء من ذلك.
وإن سلمنا صحة ذلك؛ ولكن قوله وإن انعكس عليه؛ فهو إما جوهر، أو عرض مسلّم؛ ولكن لا نسلم امتناع كون المنسوب إليه جوهرا.
قوله: لأن الجوهر من حيث هو جوهر ليس بمضاف إليه، ولا منسوب، وما وقع منه مضافا؛ فلا يكون إلا بعارض فيه كما ذكر؛ فيلزم من ذلك أن لا يكون أيضا منسوبا إلى الكم والكيف؛ إذ هو من حيث هو كم، أو كيف أيضا غير مضاف إلا بعارض يعرض.
وإن سلمنا امتناع كونه جوهرا/؛ ولكن لا نسلم امتناع كونه من قبيل المنسوبات.
قوله: لأنه يلزم منه التسلسل. إنما يلزم ذلك أن لو كان المنسوب إليه يجب أن يكون منسوبا إلى ما هو منسوب إليه أيضا؛ وهو غير لازم.
وإن سلمنا امتناع ذلك؛ ولكن لا نسلم انحصار ما ليس بمنسوب فى الكم والكيف والوضع. وما المانع من كون الملك كذلك. والملك حالة تحصل للجسم بسبب نسبته إلى ما له، أو لبعضه تنتقل بانتقاله؛ لا أنه نفس النسبة. كما أن الأين: عبارة عن حالة تحصل للجسم بسبب نسبته إلى مكانه.
ومتى: حالة تحصل للجسم بسبب نسبته إلى زمانه.
والوضع: حالة تحصل للجسم بسبب نسبة أجزائه، ولا فرق.
(3/14)
________________________________________
وإن سلمنا الانحصار فى الكم، والكيف، والوضع. غير أنه لم يعرج على ما له نسبة إلى الوضع مع إدخاله له فى القسمة، ومع ذلك فلا مانع من وجود قسم آخر «1» غير ما ذكر من الأقسام بسبب النسبة إلى الوضع، اللهم إلا أن يبين امتناع النسبة إلى الوضع، وليس فى كلامه ما يدل عليه.
وإن سلمنا انحصار المنسوب إليه فى الكم، والكيف؛ فقوله: ما أضيف منه إلى الكيف: إما أن يضاف إليه على أنه منه، أو فيه، غير مسلم.
وما المانع من أن يكون مضافا إليه بجهة أخرى يحصل بسببها جنس آخر؛ إذ ليس ما ذكر من الحصر دائر بين النفى والإثبات؛ ولا هو معلوم بالضرورة.
وإن سلمنا ذلك؛ ولكن ما ذكره من الحصر فى أجناس الأعراض غير عام لكل عرض؛ فإن الحركة عرض؛ وهى غير داخلة فى شيء من الأجناس المذكورة، وكذلك وجود «2» الممكنات عندهم عرض زائد على ذوات الممكنات؛ وليس داخلا تحت شيء من الأجناس المذكورة، ولا هو نوع منه؛ لأنه محمول على كل جنس منها. والنوع لا يصدق حمله على جنسه، وإذا لم تكن الحركة، ولا الوجود نوعين داخلين تحت شيء من هذه الأجناس؛ وهو عرض؛ فأجناس الأعراض يجب أن تكون أكثر مما قيل.
وإن سلمنا الحصر فيما ذكره؛ ولكن ما المانع من تداخل بعضها فى بعض وأن يكون عدد الأجناس أقل مما قيل.
فإنه لو قيل لهم: لا نسلم أن الأين حالة توجد للجسم بسبب نسبته إلى مكانه، ولا متى حالة توجد للجسم بسبب نسبته إلى زمانه.
وكذلك فى الوضع، والملك؛ بل الأين نسبة الشيء إلى مكانه، ومتى نسبة الشيء إلى زمانه، وكذلك فى الوضع، والملك؛ لم يجد إلى دفعه سبيلا.
وعند ذلك: فيكون الأين، ومتى، والوضع، والملك داخلا تحت جنس المضاف، ويعود عدد الأجناس إلى/ تسعة.
________________
(1) (آخر) ساقط من ب.
(2) أول ل 3/ ب.
(3/15)
________________________________________
كيف وأن شرط الأجناس عندهم أن تكون مقولة على ما تحتها بالتواطؤ قولا ذاتيا، وأن يكون الاختلاف فيما تحت كل واحد من الأجناس بالذات، لا بالعرض. ولو طولبوا بتحقيق كل واحد من هذه الأمور؛ لم يجدوا إليه سبيلا؛ فهذا ما عندى فيه.
وأما مسلك أهل الحق فى الحصر
: فإنهم قالوا: الموجود الممكن، إما أن يكون فى محل، أو لا فى محل.
فإن كان لا فى محل: فهو الجوهر. وهو إما أن لا يكون مؤلفا، أو يكون مؤلفا.
فإن كان الأول: فهو الجوهر الفرد.
وإن كان الثانى: فهو الجسم.
وإن كان فى محل: فهو العرض. وهو إما أن يكون مشروطا بالحياة، أو لا يكون مشروطا بالحياة.
فالأول: كالعلوم، والقدر، والإرادات، والإدراكات، والكلام.
والثانى: كالأكوان، والألوان، والطعوم، والأراييح، ونحو ذلك مما يأتى تحقيقه.
وهل الأجناس العرضية الداخلة تحت المشروط بالحياة، وغير المشروط بالحياة متناهية إمكانا بحيث لا يدخل تحت المقدور منها إلا ما هو متناه؛ إذ هى غير متناهية إمكانا، بأن يكون فى الإمكان وجود أعراض أخرى غير الأعراض المعهودة إلى غير النهاية؛ فذلك مما اختلف فيه.
فذهب كثير من أصحابنا، وأكثر المعتزلة إلى القول بوجوب النهاية.
وذهب القاضى أبو بكر فى أكثر أجوبته إلى القول بعدم النهاية فى الأجناس، وإليه ذهب الجبائى ومتبعوه.
والّذي إليه ميل المحققين من أصحابنا- وهو الحق- أنه لا مجال للعقل فى القضاء بعدم إمكان النهاية، ولا بعدم إمكانه لعدم مساعدة الدليل العقلى عليه نفيا، وإثباتا؛ بل الواجب إنما هو الوقف، والتشكك فى الإمكان، وعدمه إلى حين قيام الدليل عليه، أو
(3/16)
________________________________________
ورود السمع به، ولا بد من الإشارة إلى مأخذ القائلين بالإمكان وعدمه، والتنبيه على ما فيه.
وأما القائلون بالحصر، فقد احتجوا بحجتين.
الأولى: أن القول بتجويز وجود جنس خارج عن الأجناس المعهودة، يجر إلى تجويز وجود جنس من الممكنات ليس بجوهر [و لا عرض] «1»؛ وهو ممتنع باجماع المسلمين.
الحجة الثانية: أن القول بمزيد عدد على الأجناس المعهودة متقابل؛ وليس تجويز عدد أولى من تجويز غيره.
والحجتان ضعيفتان:
أما الحجة الأولى: فدعوى مجردة من غير دليل؛ فلا تكون حجة. كيف وأن انقسام الحوادث إلى الجواهر [و الأعراض] «2» واجب بالقسمة الحاصرة/ الدائرة بين النفى، والإثبات. كما تقدم. ووجود واسطة بين النفى والإثبات؛ ممتنع قطعا؛ بخلاف الأجناس العرضية الداخلة تحت المشروط بالحياة، وغير المشروط بها؛ على ما تقدم؛ إذ لا دليل على الحصر القاطع فيها.
وأما الحجة الثانية: فيلزم عليها آحاد كل جنس من الأجناس المعهودة؛ فانها غير متناهية إمكانا مع وجود ما ذكر من تقابل الأعداد.
فما هو الجواب عن آحاد كل جنس؛ هو الجواب عن أعداد الأجناس.
وأما حجة القائلين بعدم النهاية: فإنهم قالوا: آحاد كل جنس مما يقضى العقل فيها بعدم النهاية، وعدم الوقوف على عدد ليس وراءه عدد؛ فكذلك عدد الأجناس ولا يخفى ما فيه من الدعوى المجردة، وإلحاق مختلف فيه بمتفق عليه من غير دليل جامع؛ فلا يقبل.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) ساقط من أ.
(3/17)
________________________________________
وإذا بطل مأخذ كل واحد من القولين؛ فلم يبق إلا ما ذكرناه من الوقف وعدم الجزم بكل واحد من الطرفين. والله أعلم «1».
________________
(1) ورد بعد ذلك بخط الناسخ: [فى النسخة (أ)]
«تم النصف الأول من أبكار الأفكار فى أصول الدين للإمام العلامة سيف الدين الآمدي- رحمه الله تعالى- وهو من الأصل الّذي بخط مصنفه- رحمه الله- أربعون كراسا ونصف كراس.
ويتلوه فى النصف الثانى- إن شاء الله تعالى- الأصل الأول فى الجواهر وأحكامها ويشتمل على ثلاثة أنواع.
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيد المرسلين، وخاتم النبيين محمد وعلى آل محمد، وأزواجه، وذريته، وسائر النبيين، والمرسلين، والملائكة أجمعين من سكان السّماوات والأرضين، والصحابة، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وسلامه عليهم أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. ربنا تقبل منا إنّك أنت السميع العليم» كما ورد فى الهامش الأيمن ما يدل على مراجعة الكتاب ومقابلته. (بلغ مقابلة ولله الحمد والمنة).
(3/18)
________________________________________
الأصل الأول فى الجواهر وأحكامها
ويشتمل على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: فى أحكام الجواهر مطلقا.
النوع الثانى: فى أحكام الجواهر الفردة.
النوع الثالث: فى الأجسام وأحكامها.
(3/19)
________________________________________
النوع الأول فى أحكام الجواهر مطلقا
ويشتمل على سبعة فصول.
الفصل الأول «1»: فى حقيقة الجوهر، ومعناه.
الفصل الثانى: فى معنى الحيّز، والمتحيز، والتّحيز.
الفصل الثالث: فى أنّ الجوهر غير مركب من الأعراض.
الفصل الرابع: فى أن الجواهر متجانسة غير متجددة.
الفصل الخامس: فى أن الجواهر لا تتداخل.
الفصل السادس: فى امتناع وجود جوهرين فى مكان واحد، وامتناع وجود جوهر واحد فى مكانين.
الفصل السابع: فى امتناع تعرى الجوهر عن الأعراض وتعليل قبوله لها.
________________
(1) فى النسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية أ ب ج للدلالة على ترتيب الفصول.
(3/21)
________________________________________
الفصل الأول فى حقيقة الجوهر ومعناه «1»
«7» وقد اختلفت العبارات فيه:
فقالت الفلاسفة: الجوهر هو الموجود لا فى موضوع. وعنو بالموضوع ما أشرنا إليه فى المقدمة. ويلزم عليه أن يكون الرب- تعالى- جوهرا؛ إذ هو غير موجود فى موضوع على ما ذكروه؛ وهو محال؛ لما تقدم فى إبطال التشبيه «2».
فإن قيل: الجوهر هو الّذي له ماهية، ووجود زائد على ماهيته، إذا وجد كان وجوده لا فى موضوع. والربّ- تعالى- ليس له وجود زائد على ماهيته؛ بل وجوده ذاته، وذاته وجوده؛ فلا يدخل تحت الحد المذكور «3».
فنقول: هذا وإن أومأ إليه أفضل متأخريهم «4»؛ فمبنى على أن وجود الجوهر زائد على ماهيته؛ وقد أبطلناه فيما تقدم «5»؛ وسيأتى له مزيد تقرير فى مسألة المعدوم «6».
وقالت النصارى: الجوهر هو الموجود القائم بنفسه.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة انظر مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى؛ فقد اهتم بهذا الموضوع وخصص له صفحات من كتابه: من ص 8 - 13 من الجزء الثانى
ففى الفقرة 2 قال: اختلف الناس فى الجوهر وفى معناه على أربعة أقاويل: ص 8.
وفى الفقرة 3 قال: اختلفوا فى الجواهر هل كلها أجسام؟ على ثلاثة أقاويل: ص 9.
وفى الفقرة 4 قال: اختلف الناس: هل الجواهر جنس واحد؟ وهل جوهر العالم جوهر واحد؟ على سبعة أقاويل.
ص 9 - 10.
وفى الفقرة 5 قال: اختلفوا فى الجواهر: هل يجوز على جميعها ما يجوز على بعضها؟ وهل يجوز وجودها ولا أعراض فيها، أم يستحيل ذلك؟ على خمسة أقاويل ص 10 - 13.
(7) أول ل 4/ أ من النسخة ب.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الرابع: فى إبطال التشبيه وما لا يجوز على الله- تعالى- ل 142/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما مر فى الجزء الأول: المسألة الأولى: فى أنه ليس بجوهر ل 144/ أ وما بعدها؛ فقد وضح فى هذه المسألة رأى أهل الحق ورد على المخالفين بالتفصيل.
(4) هو ابن سينا وقد صرح باسمه فى ل 142/ أ فقال: «و ربما تحاشى بعض الحذاق من الفلاسفة: كابن سينا وغيره من إطلاق اسم الجوهر على الله تعالى».
(5) انظر ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الرابع ل 142/ أ وما بعدها.
(6) انظر ما سيأتى فى الباب الثانى فى المعدوم وأحكامه ل/ 106/ ب وما بعدها.
(3/23)
________________________________________
وقد أبطلناه أيضا فيما تقدم فى الرد عليهم «1».
وقالت المعتزلة: الجوهر هو المتحيز فى الوجود «2».
وهو غير مطّرد على مذهب من يرى منهم كون الجوهر جوهرا فى حال عدمه؛ إذ هو غير متحيز فى الوجود.
وأما عبارات أصحابنا فيه، وإن كانت مختلفة؛ فكلها سديدة جامعة مانعة لا يخرج منها شيء من المحدود، ولا يدخل فيها ما هو خارج عنه.
فمنها قولهم: الجوهر ما يقبل العرض «3»: أى يكون محلا له.
فإن قيل: هذا يبطل بسرعة الحركة؛ فإنها قائمة بالحركة؛ وهى عرض والحركة محل لها. وليست الحركة جوهرا. وكذلك الملاسة، والخشونة. فإنهما عرضان قائمان بسطح الجسم. والسّطح ليس بجوهر؛ بل عرض.
قلنا: أما السرعة. فلا نسلم أنها عرض؛ فإنه لا معنى لسرعة الحركة عندنا غير عدم/ تخلل السكنات بين أجزاء الحركة، والقدم لا يكون عرضا.
وإن سلمنا: أنه عرض؛ ولكن لا نسلم أن محله الحركة؛ بل الحركة، والسرعة عرضان قائمان بمحل الحركة. وهذا يكون الجواب عن البطء أيضا.
وأما الملاسة، والخشونة: فلا نسلم أنهما عرض؛ إذ هما عائدتان إلى تضريس الظاهر من الجسم، وعدم تضريسه.
وإن سلمنا أنهما عرض؛ فلا نسلم أن السطح الظاهر من الجسم عرض؛ بل هو عبارة عن الجواهر الظاهرة من الجسم.
وإن سلمنا أن السطح عرض؛ فلا نسلم قيام الملاسة والخشونة به؛ بل هما والسطح من عوارض الجسم.
________________
(1) انظر ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الرابع- المسألة الثامنة: فى الرد على النصارى. ل 157/ أ وما بعدها. وانظر مقالات الإسلاميين للأشعرى 2/ 8. والشامل لإمام الحرمين الجوينى ص 143.
(2) انظر مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى 2/ 8 وقارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 142، 143. وانظر شرح المواقف للجرجانى 6/ 285 وما بعدها.
(3) انظر الشامل ص 142.
(3/24)
________________________________________
ومن العبارات قولهم: الجوهر هو الّذي له حظ من المساحة «1».
ومنها قولهم: الجوهر هو الّذي لا يوجد حيث وجوده وجود جوهر آخر بخلاف العرض؛ فإنه يوجد حيث وجود الجوهر الّذي هو فيه.
ومنها قولهم: الجوهر هو الّذي يشار إليه بالقصد الأول.
ومنها قولهم: أنه الجرم: أى ما له حجم.
ومنها قوله: الجوهر هو المتحيز.
وأما من قال: الجوهر هو الّذي لا يوجد حيث وجود مثله، فهو منتقض بالعرض؛ فإنه ليس بجوهر؛ فإنه لم يوجد حيث وجود مثله؛ لاستحالة الجمع بين المتماثلات كما يأتى فى التضاد «2».
________________
(1) هذه عبارة القاضى الباقلانى- قال إمام الحرمين الجوينى فى الشامل ص 142 وربما عبر القاضى عنه فقال:
«الجوهر ما له حظ من المساحة».
(2) راجع ما سيأتى فى الأصل الثالث- الفصل الخامس: فى تحقيق معنى المتضادين ل 78/ أ وما بعدها.
(3/25)
________________________________________
الفصل الثانى فى معنى المتحيّز، والحيّز، والتّحيز «1».
أما المتحيز: فهو الموجود فى الحيز.
وأما الحيز: فهو المكان، أو تقدير المكان، والمراد بتقدير المكان. إمكان كونه فى المكان، وإن لم يكن فى المكان.
وإنّما قلنا. الحيّز هو المكان، أو تقدير المكان. ولم نقل هو المكان؛ لأنّ المتحيز عندنا هو الجوهر. والحيز من لوازم نفس الجوهر؛ لا انفكاك له عنه
فلو كان الحيّز هو المكان لا غير؛ لكان كل جوهر يفتقد إلى المكان فى وجوده، وليس كذلك؛ لأنه لو افتقر فى وجوده الى المكان؛ فذلك المكان: إما جوهر، وإما عرض.
فإن كان جوهرا؛ كان مفتقرا إلى مكان آخر؛ ولزم التسلسل أو الدّور؛ وهما محالان.
وإن كان عرضا: فلا بد وأن يكون قائما بجوهر آخر غير الجوهر المتمكن فيه؛ والكلام فى ذلك الجوهر؛ كالكلام فى الأول؛ وهو محال؛ لما عرف.
ومن أصحابنا: من زعم أن الحيّز هو نفس المتحيّز؛ كما أن الوجود هو نفس الموجود؛ وهو بعيد؛ لأنه يصح أن يقال فلان فى الحيز الفلانى، والجوهر فى حيز كذا دون كذا، فيضاف المتحيز إلى الحيّز بأنه فيه.
ولو كان الحيّز هو المتحيّز؛ لكان الشيء مضافا إلى نفسه بأنه فيها؛ وهو محال.
وهذا بخلاف الوجود مع الموجود؛/ فإن الموجود لا يضاف إلى وجوده بأنّه فيه؛ فافترقا.
وأما التحيّز: فعبارة عن نسبة الجوهر إلى الحيّز بأنه فيه. وإذا عرف ذلك: فقد اختلف أصحابنا، والمعتزلة
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة راجع الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 156 وما بعدها.
(3/26)
________________________________________
فذهب من قال من المعتزلة بأن المعدوم الممكن شيء «1». وذات فى حالة العدم، إلى أن التحيّز ليس من صفات نفس الجوهر. فإن الجوهر لا يوصف به حالة عدمه. وانما هو من توابع الحدوث، والوجود للجوهر.
وذهب أصحابنا، وكل من وافقهم على أن ذات كل شيء هى وجوده إلى أن: التحيّز من صفات ذات الجوهر، ولوازمه التى لا انفكاك له عنها، وليس من صفات المعانى.
فإن قيل: لا معنى لتحيز الجوهر غير إضافته إلى الحيّز، واختصاصه به. وعلى هذا: فما المانع أن يكون اختصاصه بالحيّز لكون أوجب تخصيصه به، ولا يكون ذلك مقتضى ذات الجوهر، ولا من صفات «11» // نفسه.
أجاب بعض الأصحاب «2»: بأن التّحيز إنما هو عبارة عن نفس الجرم، وكونه جرما لا يختلف، وإن اختلفت أكوانه، وأعراضه، ولو كان ذلك ثابتا لعرض من الأعراض، وكون من الأكوان؛ لاختلف باختلاف تلك الأكوان.
وأيضا: فإن كونه جرما لا يعقل الجوهر دونه، ولا هو دون الجوهر؛ فكان صفة من صفات نفس الجوهر. ولو كان ذلك تابعا لكون من الأكوان الخارجة عن ذات الجوهر، لأمكن تعقل الجوهر دونه.
قالوا: وعلى هذا فالأكوان، وإن كانت ملازمة لذات الجوهر؛ فلا تكون من صفات ذاته؛ لأنها مختلفة الأجناس، وصفة النّفس لا تختلف.
وعلم البارى- تعالى- وإن تعذّر تقدير بقاء ذاته دونه؛ فليس لأنه من صفات الذات؛ بل لضرورة قدمه.
ولهذا فأنه يتصور العلم بذاته مع الجهل بعلمه حتى يقوم الدّليل عليه بخلاف صفة الذات.
وأعلم أن هذا الجواب إنما يصح تفريعا على القول بأنّ التحيّز هو نفس المتحيز؛ وقد عرف ما فيه.
________________
(1) راجع رأيهم فيما سيأتى فى الباب الثانى- الفصل الرابع: فى أن المعدوم هل هو شيء وذاته ثابتة فى حالة العدم أم لا؟ ل 108/ ب.
(11) // أول ل 4/ ب من النسخة ب.
(2) هو الإمام الجوينى. انظر الشامل فى أصول الدين ص 157، 158.
(3/27)
________________________________________
ولا يصح على القول بالمغايرة بين المتحيّز، والحيز، والتحيّز كما حقّقناه. وإنما طريق الجواب تفريعا على هذا الرّأى أن يقال: خصوص آحاد المتحيّزات بآحاد الأحياز، وإن كان يفتقر إلى تخصيص وكون موجب له، وليس صفة من صفات نفس الجوهر على ما قرّروه بذلك غير لازم فيما يستحقه لذاته من الحيّز مطلقا غير مخصّص بحيّز دون حيّز، والفرق بين الأمرين ظاهر.
ولهذا فانا لا نعقل الجوهر دون تعقل كونه متحيزا فى الجملة؛ بخلاف كونه متحيزا بحيز مخصوص.
فإن قيل: إذا كان الجوهر هو المتحيز، والعرض هو القائم بالمتحيّز/ فالموجود الممكن عندكم لا يخرج عن المتحيز، والقائم بالمتحيّز، وتم الرّد على من يعتقد وجود ممكن ليس متحيزا، ولا قائما بالمتحيز؛ كما يقوله الفلاسفة فى العقول، والنفوس الفلكية، والإنسانية كما سبق فى خلق الأعمال «1».
فنقول: هذا السؤال مما صعب موقعه على فحول المتكلمين، والأئمة المتبحرين حتى أن منهم من لم يحر فيه جوابا.
ومنهم من خبط بما لا يقنع به المحصلون.
وها نحن نذكر ما ذكروه، وننبه على ما فيه فنقول: الّذي ذهب إليه المعتزلة وكثير من أصحابنا أن قالوا:
وجود ممكن ليس متحيزا، ولا قائما بالمتحيّز، مما لم يضطرنا إليه عقل ولا دل عليه دليل من عقل، ولا نقل؛ فلا يكون ثابتا فى نفسه، وحاصله يرجع إلى نفى المدلول؛ لانتفاء دليله؛ وقد عرف بطلانه فيما تقدم فى النظر «2».
ومن أصحابنا من قال: لو قدرنا موجودا ممكنا، ليس متحيزا، ولا قائما بالمتحيّز؛ لم يبعد أن يبدعه البارى- تعالى- بحيث وجود متحيز، ويلزم من ذلك جواز قيامه بذلك المتحيز؛ إذ لا معنى لقيام غير المتحيز بالمتحيز غير وجوده فى حيث المتحيز.
________________
(1) انظر ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى- الفرع الثانى: فى الرد على الفلاسفة الإلهيين ل 218/ أ وما بعدها.
(2) انظر ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الثالثة- الباب الثانى: فى الدليل- الفصل السابع- الدليل الثانى: الحكم بانتفاء المدلول لانتفاء دليله. ل 38/ ب وما بعدها.
(3/28)
________________________________________
وما جاز قيامه بالمتحيّز، وجب قيامه به. وكلّ ما هذا شأنه؛ فهو عرض قائم بالمتحيّز؛ وليس قسما ثالثا.
وهو ضعيف أيضا: فانّه ما المانع من وجود ما ليس متحيزا، ولا قائما بالمتحيز ويمتنع اختراعه بحيث المتحيز كما أنه يمتنع اختراع العرض غير قائم بالمتحيز. وإن سلم جواز اختراعه بحيث المتحيّز؛ ولكن لا نسلم وجوب قيامه بالمتحيز.
وما المانع من جواز قيامه بالمتحيز إذا خلق فى حيثه، وقائما بنفسه. وإذا لم يخلق فى حيث المتحيز وبه ينفصل عن العرض حيث أنه لا تصور لوجوده إلا فى حيث المتحيز.
وربما أورد بعض الكبار هاهنا تخبيطات، وعبارات عرية عن التحصيل يعرفها من له أدنى تنبه بأوائل النظر؛ آثرنا الإعراض عن ذكرها شحا على الزمان بتضييعه فى ذكر ما لا يفيد.
والأقرب فى هذا الباب أن يقال: وجود ممكن ليس متحيزا، ولا قائما بالمتحيّز مما لم يضطر إليه عقل، ولا دل عليه دليل كما سبق فى المسلك الأول. وما هذا شأنه؛ فلا سبيل إلى إثباته.
وسواء كان ثابتا فى نفس الأمر، أو لم يكن ثابتا. وما يتخيل دليلا على ذلك؛ فقد أبطلناه فى الردّ على الفلاسفة «1» حيث قالوا بوجود خالق غير الله- تعالى- فهذا ما عندى فيه، وعسى أن يكون عند غيرى غيره وعليك/ بالاجتهاد فى حل الإشكال إن أطقت.
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول- الفرع الثانى: فى الرد على الفلاسفة ل 218/ أ وما بعدها.
(3/29)
________________________________________
الفصل الثالث فى أن الجوهر غير مركب من الأعراض «1»
مذهب الأشاعرة وغيرهم من أهل الحق: أن الجوهر غير مركب من الأعراض خلافا للنظام «2»، والنجار «3» من المعتزلة. فإنهما قالا: الجوهر أعراض مجتمعة.
وقد احتج أهل الحق بمسالك ضعيفة:
المسلك الأول:
أنهم قالوا: الأعراض التى عن اجتماعها يكون الجوهر إما أن تكون متماثلة، أو مختلفة.
فإن كانت متماثلة: فهو باطل من وجهين:
الأول: أن الحكم الّذي لا يثبت بالشيء الواحد لا يثبت بأمثاله، والجوهر لا يثبت بالعرض الواحد منها؛ فلا يثبت بأمثاله.
ويدلّ عليه أنّ الحياة الواحدة لما لم توجب حكم العالمية؛ لم يكن ذلك واجبا عن جمل من الحياة.
الثانى: أنه ليس بعض أعداد المتماثلات؛ أولى بايجاب ذلك الحكم من البعض الآخر.
وإن كانت الأعراض مختلفة: فإما متضادة، أو غير متضادة: «11» //
فان كانت متضادة؛ فهو محال؛ لأن حكم الضدين لا يجتمع فى الجوهر الواحد ضرورة. وإن كانت غير متضادة: فإما أن يقال بجواز بطلان صفات أجناسها وانقلاب أعينها، أو لا يقال بذلك.
فإن كان الأول: لزم منه جواز انقلاب الحقائق؛ إذ يصير السواد بياضا وحركة بالعكس؛ ولم يقل به قائل من المحصلين.
________________
(1) قارن بما ورد فى الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص 148.
(2) سبقت ترجمته فى هامش ل 64/ ب فى الجزء الأول. أما عن آرائه فانظر ما سيأتى ل 244/ ب من الجزء الثانى.
(3) سبقت ترجمته فى هامش ل 64/ ب فى الجزء الأول. أما عن آرائه فانظر ما سيأتى ل 255/ ب من الجزء الثانى.
(11) // أول ل 5/ أ.
(3/30)
________________________________________
ثم يلزم منه جواز انقلاب الأعراض المفروضة جوهرا. ويلزم منه أن لا يكون الجوهر مركبا من الأعراض؛ وفيه تسليم المسألة.
وإن لم نقل بجواز بطلان صفات أجناسها؛ امتنع أن يكون الجوهر من اجتماعها؛ وذلك لأن كل واحد منهما غير متحيز لنفسه بالاتفاق، فلو صارت جوهرا بالاجتماع، لصارت متحيزة لنفسها؛ ضرورة تحيز الجوهر لنفسه، وفيه القول بقلب الأجناس، وإبطال صفات أنفسها؛ وهو محال.
وفيه نظر. إذ لقائل أن يقول: ما المانع أن تكون متماثلة؟
قولهم: لأنّ الحكم الّذي لا يثبت للواحد، لا يثبت لأمثاله؛ ممنوع.
ولا يلزم مما ذكروه فى الحياة، والعالمية؛ طرد ذلك فيما سواه الا بدليل؛ ولا دليل.
ثم يلزم عليه الجوهر الفرد على رأى هذا القائل؛ فإنه لا يثبت له حكم الجسمية بانفراده. وما لزم من ذلك امتناع الحكم بالجسمية عند ضمه إلى مثله.
قولهم فى الوجه الثانى: ليس بعض الأعداد بذلك أولى من البعض ممنوع.
وما المانع أن يكون ذلك مشروطا بأصل الاجتماع، وأقل ما يكون ذلك بين/ اثنين.
ثم يلزم على ما ذكروه الحكم بالجسمية عند ضم الجوهر إلى مثله، وامتناع ذلك عند انفراده.
ثم وإن سلم امتناع التماثل؛ فما المانع من كونها متضادة.
قولهم: لأن حكم الضدين لا يجتمع فى الجوهر الواحد.
إما أن يراد به أن الضدين لا يقومان بالجوهر الواحد؛ ولا يثبت فيه حكمهما، أو أنه لا يكون الجوهر الواحد منهما.
فإن كان الأول: فهو مسلم. ولا يلزم من امتناع اجتماع الضدين فى المحل الواحد، وقيام حكمهما به؛ امتناع تركب الشيء الواحد منهما من غير دليل يدل عليه.
وإن كان الثانى: فهو دعوى محل النزاع، والمصادرة على المطلوب.
ثم وإن سلم امتناع التضاد، فما المانع من الاختلاف من غير تضاد.
(3/31)
________________________________________
قولهم: إمّا أن يقال ببطلان صفات أجناسها، أو لا يقال بذلك.
قلنا: ما المانع أن يقال بالقسم الثانى.
قولهم: يلزم من ذلك امتناع أن يكون الجوهر من الأعراض ممنوع.
قولهم: لأن العرض غير متحيز لنفسه عند انفراده. ويصير متحيزا حالة الاجتماع.
قلنا: ما المانع أن يكون عدم التحيز لذاته مشروطا بانفراده، والتحيز لذاته مشروطا باجتماعه؛ وليس فى ذلك ما يوجب قلب الحقيقة، وبطلان صفة الحيّز.
المسلك الثانى:
قالوا: الجوهر الفرد إذا قامت به الحياة قام به ضروب من الأعراض: كالعلم، والقدرة، والإرادة، والألم، والإدراك، وغيره.
فلو كانت الأعراض مما توجب باجتماعها التحيّز؛ لكانت هذه الأعراض الزائدة على الجوهر موجبة لزيادة فى التحيز، وليس كذلك. وإلا كانت هذه الأعراض شاغلة لحيز غير حيز الجوهر الحى، وصارت جوهرا ثانيا غير قائم بالجوهر الحى؛ وهو محال.
وهذا ضعيف أيضا: أما أولا: فلأن الخصم يمنع تصور قيام الحياة بالجوهر الفرد؛ إذ البنية المخصوصة عنده شرط فى قيام الحياة بالجوهر.
وأما ثانيا: فلأنّه وان سلم جواز قيام ما ذكر من الأعراض بالجوهر الفرد؛ ولكن لا يلزم أن تكون موجبة لزيادة فى الحيّز.
ولا يلزم من كون الأعراض التى تركب منها الجوهر المتحيّز موجبة للزيادة فى الحيّز أن تكون كل الأعراض كذلك، الا أن يبين التماثل بين ماهيّة تركيب الجوهر، وهذه الأعراض المفروضة؛ ولا سبيل إليه.
المسلك الثالث:
قالوا: الأعراض التى عن اجتماعها يكون الجوهر/ إما أن تكون موجودة بحيث عرض واحد، أو كل واحد منها بحيث نفسه.
فإن كان الأول: فذلك العرض إما أن يكون متحيّزا، أو غير متحيّز.
فإن كان متحيزا؛ فهو محال لوجهين:
(3/32)
________________________________________
الأوّل: أنه لو كان متحيزا: لاختص بجهة وحيز، واستدعى قيام كون به يوجب تخصيصه بذلك الحيز دون غيره؛ والكون عرض؛ وقيام العرض بالعرض ممتنع كما يأتى «1».
الثانى: أنه إذا كان متحيزا؛ فهو جوهر، وليس بعرض؛ فإنه لا معنى للجوهر غير المتحيز. وإن سمى عرضا؛ فهو نزاع فى التسمية.
وإن كان غير متحيز: فليس وجود غيره من الأعراض مع مساواتها له فى عدم التحيز فى حيثه أولى من وجوده فى حيثها.
وإن كان الثانى: وهو أن كل واحد منها بحيث نفسه- فالقول باجتماعها ممتنع؛ لأن كل واحد منفرد بنفسه؛ وهو غير متحيز.
وما هذا شأنه فلا يتصور فيه الاجتماع؛ فإن الاجتماع: إنما يكون بين متحيزين ليس بينهما تقدير حيز آخر؛ وهو ضعيف أيضا؛ إذ لقائل أن يقول:
قولكم: إما أن يوجد بحيث عرض واحد، أو أن كل واحد منهما موجود بحيث نفسه: إمّا أن يراد به أنها توجد فى حيز عرض واحد، أو أنها تكون قائمة به، أو معنى آخر.
فإن كان الأول: فهو محال؛ إذ الأعراض غير متحيزة «2».
وإن كان الثانى: فهو أيضا محال؛ إذ العرض لا يقوم بالعرض عندكم وعلى ما يأتى «3» «11» //
وإن كان الثّالث: فلا بد من تصويره وإقامة الدّليل على إبطاله. وإن سلم صحة القسمة: فما المانع أن تكون موجودة في حيث العرض الواحد منها.
قولكم: ليس ذلك أولى من العكس. إنّما يلزم ذلك مع التماثل؛ وهو غير مسلم.
وإن سلم امتناع ذلك، فما المانع أن يكون كل واحد بحيث نفسه.
________________
(1) انظر ما سيأتى فى الأصل الثانى- الفرع الثالث: فى استحالة قيام العرض بالعرض ل 42/ ب وما بعدها.
(2) انظر ما سيأتى فى الأصل الثانى- الفرع الثانى: فى استحالة قيام العرض بنفسه ل 41/ ب وما بعدها.
(3) انظر ما سيأتى فى الأصل الثانى: فى الأعراض وأحكامها- الفرع الثالث: فى استحالة قيام العرض بالعرض.
ل 42/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 5/ ب من النسخة ب.
(3/33)
________________________________________
قولكم: لأن الاجتماع إنما يكون بين متحيزين، ليس بينهما تقدير حيز آخر، ممنوع. ولا يلزم من كون ما ذكروه اجتماعا أن لا يكون الاجتماع إلا هكذا. فإن الأعراض المختلفة القائمة بالجوهر الفرد عند هذا القائل مجتمعة، وليس الاجتماع بينهما على ما قيل؛ إذ هى غير متحيزة.
المسلك الرابع:
قالوا: الجوهر الفرد متحيز بالاتفاق؛ فلو كان مركبا من الأعراض. فكل واحد منها عند الاجتماع: إما أن يكون متحيّزا، أو لا يكون متحيّزا.
فإن كان الأول: فكل واحد جوهر، ويلزم منه أن يكون الجوهر الفرد مركّبا من جواهر، وخرج عن كونه فردا؛ وهو خلاف الفرض.
وإن كان الثانى: فضم ما لا يتحيز، الى ما لا يتحيز؛ لا يكون موجبا للتحيز؛ وهو أيضا مدخول؛ لما أسلفناه فى المسلك/ الأول «1».
والمعتمد فى المسألة مسلكان:
الأول:
أنه لو كان الجوهر مركبا من الأعراض؛ فتلك الأعراض: إما أن تكون مفتقرة إلى محل تقوم به، أو لا تكون كذلك.
فإن كان الأول: فذلك المحلّ: إما أن يكون جوهرا، أو عرضا. فإن [كان جوهرا:
كان] «2» أيضا متركبا من الأعراض. فالكلام فى تلك الأعراض كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن لم يكن متركبا من الأعراض؛ فهو المطلوب.
وإن كان ذلك المحل عرضا: فالكلام فيه كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
كيف وأن ذلك يفضى إلى قيام العرض بالعرض، وهو ممتنع على ما يأتى «3».
وإن كان الثانى: وهو أن لا تكون مفتقرة إلى محل تقوم به؛ فهى جواهر أسماها الخصم أعراضا. فإنا لا نعنى بالجوهر غير الموجود الممكن القائم بنفسه.
وهذه الطريقة الرشيقة مما لم أجدها لأحد غيرى.
________________
(1) راجع ما سبق فى المسلك الأول ل 4/ أ وما بعدها.
(2) ساقط من (أ).
(3) راجع ما سيأتى فى الأصل الثانى: الفرع الثالث: فى استحالة قيام العرض بالعرض ل 42/ ب وما بعدها.
(3/34)
________________________________________
المسلك الثانى:
أن الجوهر لو كان متركبا من الأعراض لما قامت الأعراض بالجوهر، والأعراض قائمة بالجوهر.
أما بيان المقدمة الأولى: فلأنه لو قامت الأعراض بالجوهر؛ لكانت قائمة بالعرض؛ وهو محال لما يأتى «1».
وأما بيان المقدمة الثانية: فلأن الاتفاق منّا، ومن الخصم واقع على أن الجوهر يصح اتصافه بالحياة، والعلم، والقدرة، وغير ذلك من الأعراض.
فإن قيل: ما ذكرتموه وإن دل على امتناع تركيب الجوهر من الأعراض؛ فهو معارض بما يدل على نقيضه.
وبيانه: هو أنا لو قدرنا انتفاء الجوهر؛ امتنع معه تقدير العرض، ولو قدّرنا انتفاء الأعراض؛ امتنع معها تقدير الجوهر؛ وذلك دليل الاتحاد.
قلنا: ما ذكرتموه غايته أنه يدل على التلازم بين الجوهر، وأجناس الأعراض؛ وليس فيه ما يدل على الاتحاد.
ثم ما ذكروه منتقض عليهم بالجنس الواحد من الأعراض: كالكون مثلا؛ فإنه ملازم للجوهر. بحيث لا انفكاك لأحدهما عن الآخر؛ ولا يدل ذلك على أن الكون هو الجوهر، والجوهر هو الكون.
________________
(1) انظر ما سيأتى ل 42/ ب وما بعدها.
(3/35)
________________________________________
الفصل الرابع فى أن الجواهر متجانسة غير متجددة «1»
أما التجانس:
فقد اتفقت الأشاعرة، وأكثر المعتزلة على أن الجواهر متماثلة متجانسة.
وذهب النّظام، والنجار من المعتزلة. بناء على قولهما بتركب الجواهر من الأعراض إلى أن الجواهر إن تركبت من الأعراض المختلفة؛ فهى/ مختلفة.
قالا: ولهذا فإنا ندرك الاختلاف بين بعض الجواهر: كالاختلاف الواقع بين النار، والهواء والماء، والتراب ضرورة. كما ندرك الاختلاف بين السواد، والبياض، والحرارة، والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وسائر الأعراض المختلفة؛ وهو باطل.
أما كون الجواهر مركبة من الأعراض: فبما سبق «2».
وأما ما ندركه من الاختلاف بين الجواهر: كالأمثلة المضروبة؛ فلا نسلم أنه عائد إلى اختلاف الجواهر فى أنفسها؛ بل هو عائد إلى الأعراض القائمة بها. واختلاف الأعراض لا يدل على اختلاف المعروض له فى نفسه.
فإن قيل: ما ذكرتموه وإن دل على إبطال مأخذ القائلين بالاختلاف، فما دليلكم فى التماثل، والتجانس؟
فلئن قلتم: دليل التماثل اشتراك جميع الجواهر فى صفات نفس الجوهر وهى التحيز، وقبول الأعراض، والقيام بنفسه.
فنقول: وما المانع من كون الجواهر مختلفة بذواتها، وإن اشتركت فيما ذكرتموه من الصفات؛ فإنه لا مانع من اشتراك المختلفات فى عوارض عامة لها. وإنما يثبت كون ما ذكرتموه من صفات نفس الجواهر أن لو لم تكن الجواهر مختلفة. وهذه أعراض عامة
________________
(1) ذكر الإمام الأشعرى فى مقالات الإسلاميين 2/ 9 - 10 أن الناس اختلفوا فى: هل الجواهر جنس واحد على سبعة أقاويل. وانظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين ص 153: مسألة فى تجانس الجواهر. وقد نقل ابن تيمية كلام الآمدي المذكور هنا فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 176 - 179.) فقال «قال فى كتابه الكبير:
الفصل الرابع فى أن الجواهر متجانسة إلى قوله لا إلى نفس المعنى» ثم علق عليه. وناقشه فى 179 - 182.
(2) انظر ما سبق ل 4/ أ وما بعدها.
(3/36)
________________________________________
لها. وإنما يمتنع كون الجواهر مختلفة، وأن هذه أعراض عامة لها أن لو كانت هذه الصفات من صفات نفس الجوهر؛ وهو دور ممتنع.
واعلم أن طرق أهل الحق فى إثبات المجانسة، وإن اختلفت «11» // عباراتها؛ فكلها آيلة إلى ما ذكر.
وما قيل عليه من الإشكال؛ فلازم لا مخلص منه إلا بأن يقال: نحن لا نعنى بتجانس الجواهر غير كونها مشتركة فيما ذكرناه من الصفات.
وعند ذلك: فحاصل النزاع يرجع إلى التسمية، لا إلى نفس المعنى «1»
وأما أن الجواهر غير متجددة:
فلأنا نعلم بالاضطرار أن ما شاهدناه بالأمس من الجبال الراسية، والسماوات، والأرض؛ هو عين ما نشاهده اليوم. وكذلك نعلم أيضا بالاضطرار أن من فاتحنا فى كلام هو عين من ختام الكلام معه، وأن عين زوجة الإنسان بالأمس وأولاده وأمواله ومعارفه [هى عين زوجته وأولاده] «2» وأمواله، ومعارفه اليوم، وغدا.
وأيضا: فإنه لو كانت الجواهر متجددة، لما مات حي، ولما أحيى ميت؛ لأن من مات غير الّذي أحيى، والّذي أحيى؛ غير الّذي مات؛ وذلك كله مكابرة للعقل، ومباهتة للضرورة.
وذهب النظام، والنجار بناء على أصلهما فى أن الجواهر مركبة من الأعراض، وأن الأعراض متجددة [إلى أن الجواهر متجددة «3»] وقد بينا بطلان أصلهما فى ذلك بما سبق «4»، وما يلزم عنه من المحالات.
فإن قيل: فكما/ لا نشك فى أن ما نراه من الأجسام، والجواهر بالأمس هى عين ما نشاهده اليوم، وكذلك لا نشك فى أن ما نشاهده من الأكوان فى بعض الأجسام من ساعة؛ هو عين ما نشاهده الآن، ومع ذلك قلتم بأن الأكوان، وجميع الأعراض متجددة.
________________
(1) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 176 - 179) ثم علق عليه وناقشه فى ص 179 - 182.
(11) // أول ل 6/ أ.
(2) ساقط من أ.
(3) ساقط من أ.
(4) راجع ما سبق فى الفصل الثالث ل 4/ أ وما بعدها.
(3/37)
________________________________________
قلنا: قد بينا أن «1» الضرورة تشهد باستمرار الجواهر، وما ذكروه مشكل على الضروريات؛ فلا يقبل.
كيف و «1» أن الدليل قد دل على امتناع بقاء الأعراض على ما يأتى «2»؛ وهو غير مساعد فى الجواهر؛ فلا يلزم الاشتراك فى الحكم.
________________
(1) من أول: «أن الضرورة ... إلى قوله: كيف و» ساقط من ب.
(2) انظر ما سيأتى فى هذا الجزء- الأصل الثانى: فى الأعراض- الفصل الرابع: فى تجدد الأعراض واستحالة بقائها. ل 44/ ب وما بعدها.
(3/38)
________________________________________
الفصل الخامس فى أن الجواهر لا تتداخل «1»
وقد اتفق العقلاء على امتناع تداخل الجواهر، ووجود جوهر يجب وجود جوهر آخر خلافا للنظام «2» من المعتزلة؛ فإنه قال: بتداخل الجواهر، وأنه إذا تميزت جملة من الجواهر؛ جاز وجود جملة أخرى من الجواهر فى حيث وجودها.
وطريق الرد عليه أن يقال: لو جاز تداخل «3» الجواهر: فإما أن يقال عند التداخل باتّحاد الجواهر المتداخلة، أو تعددها.
فإن قيل بالاتحاد: فإما أن يقال باستمرار وجود الجواهر المتداخلة، أو بعدمها، أو باستمرار البعض، وعدم البعض.
فإن كان الأول: فالقول بالاتحاد مع استمرار الجواهر المتداخلة محال.
وإن كان الثانى: فلا تداخل؛ بل هو فساد لما كان من الجواهر، وكون لأمر آخر.
وإن كان الثالث: فلا تداخل أيضا؛ بل هو فساد، وعدم البعض مع استمرار البعض.
وإن قيل بتعدد الجواهر: مع تداخلها، ووجود بعضها بحيث البعض الآخر، فلو كان البعض منها أسود، والبعض أبيض: فإما أن نراهما، أو نرى أحدهما دون الآخر، أو لا نرى واحدا منهما.
فإن كان الأول: فإما أن يكون ما نراه أسود؛ هو غير ما نراه أبيض، أو أن ما نراه أسود؛ غير الّذي نراه أبيض.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة فى هذا الموضوع ارجع إلى المراجع التالية: الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 160 وما بعدها. والمواقف للإيجي ص 251 المقصد الرابع: الجواهر يمتنع عليها التداخل لذاتها بالضرورة، وشرح المواقف للجرجانى 7/ 239.
(2) انظر المواقف للإيجي ص 251 فقد استبعد تصريح النظام بهذا الرأى وقال: «و أما النظام: فقيل إنه جوزه، والظاهر أنه لزمه ذلك فيما صار إليه وأما أنه التزمه وقال به، فلم يعلم، وإن صح كان مكابرا».
(3) وقد عرف الآمدي التداخل فى كتابه (المبين ص 97) فقال: «و أما التداخل فعبارة عن ملاقاة شيء بأجمعه لآخر بأجمعه، ويتبعه كون كل واحد من المتداخلين فى مكان الآخر».
(3/39)
________________________________________
فإن كان ما نراه أسود؛ هو غير ما نراه أبيض؛ فهو محال ظاهر الإحالة. وإن كان ما نراه أسود، غير ما نراه أبيض؛ فلا تداخل؛ بل كل واحد بحيث نفسه.
وإن كان الثانى: وهو رؤية أحدهما دون الثانى؛ فليس أحدهما أولى من الآخر.
وإن كان الثالث: وهو أنا لا نرى واحدا منهما؛ فهو أيضا محال؛ وذلك لأن اللون القائم بكل واحد منهما من السواد، أو البياض لا ينافيه/ اللون القائم بالآخر؛ ضرورة تعدد محلها. ومع تعدد المحل؛ فلا منافاة بين البياض [القائم بأحدهما] «1»، والسواد القائم بالآخر.
ومع القول بالاثنينية، وبقاء لون كل واحد بحاله؛ فالقول بعدم الرؤية محال.
وأيضا: فإنه لو قيل له: إذا جوزت مداخلة جملة لأخرى؛ فإما أن تجوز مداخلة غيرها، وغيرها، أو لا تجوز ذلك.
فإن قال بنفى جواز مداخلة جملة أخرى؛ لم يجد إلى الفرق سبيلا. وإن قال بجواز المداخلة؛ فيلزمه جواز مداخلة كثرة العالم للخردلة الواحدة، ويلزم على سياق ذلك أن تكون الخردلة المفروضة فيها وجود عوالم متعددة، غير هذا العالم، وكما يمكن ذلك؛ فيمكن أن ينفصل عنها وجود عوالم متعددة، مع بقائها على هيئتها؛ وذلك كله جحد للضرورة، ومكابرة للعقل، وهو مما لا يرى لنفسه، وليس امتناع التداخل بين الجواهر معللا بتحيزها، كما قالت المعتزلة، وإلا لما امتنع التداخل بين الأعراض؛ لعدم تحيزها؛ بل امتناع التداخل لذاته؛ لا لعلة.
________________
(1) ساقط من أ.
(3/40)
________________________________________
الفصل السادس فى امتناع وجود جوهرين فى مكان واحد «1» وامتناع وجود جوهر واحد فى مكانين.
اما امتناع وجود جوهرين فى حيز، ومكان واحد من غير تداخل؛ فظاهر لا خلاف فيه بين «11» // العقلاء؛ لكن اختلفوا هل امتناع ذلك معللا، أم لا؟ فذهب بعضهم: إلى أنه غير معلل؛ بل امتناع اجتماع الجوهرين فى الحيز الواحد لذاتيهما؛ غير معلل بتضاد عرضين آخرين، كما أن امتناع الجمع: بين السواد، والبياض لذاتيهما، [لا لاتصال غيرهما] «2» وإليه ميل القاضى أبى بكر والأستاذ أبى إسحاق «3» فى قول لهما، غير أن القاضى امتنع من إطلاق اسم التضاد على الجواهر، باعتبار امتناع اجتماعهما فى الحيز الواحد لذواتيهما، ولعله راعى فى التضاد تعاقب المتضادين على المحل المقوم، كما فى تضاد الأعراض، وذلك غير متصور فى الجواهر.
وأما الأستاذ؛ فإنه لم يمتنع من إطلاق اسم التضاد على الجواهر بهذا الاعتبار.
وذهب آخرون إلى أن امتناع الجمع بين الجواهر فى الحيز الواحد لا لذواتهما؛ بل هو معلل؛ لكن اختلف هؤلاء. فذهب بعضهم إلى أن ذلك معلل بتضاد أكوان المكان؛ إذ المكان له كون باعتبار وجود أحد الجوهرين فيه، مضاد لكونه باعتبار وجود الجوهر الآخر فيه. وقد قال/ به الأستاذ أبو إسحاق فى قول، وربما ظن امتناع ذلك بسبب التضاد فى أكوان غير متصور فى أكوان الجوهرين بسبب كونهما فى المكان الواحد؛ وهو فاسد من جهة أن تضاد الأكوان، غير متصور بالنسبة إلى محلين مختلفين.
فذهب القاضى أبو بكر «4» فى قول آخر إلى أن امتناع اجتماع الجوهرين فى المكان الواحد باعتبار أن شرط وجود كل واحد من الجوهرين فيه عدم وجود الآخر فيه وعند الاجتماع، فقد فقد هذا الاشتراط.
________________
(1) انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 448 وما بعدها والمواقف للإيجي- الموقف الرابع- المرصد الثانى- المقصد الخامس ص 251، 252. وشرح المواقف للجرجانى 7/ 240.
(11) // أول ل 6/ ب.
(2) بياض فى أ.
(3) قارن رأى القاضى والأستاذ بما ورد فى الشامل ص 448 وما بعدها.
(4) انظر الشامل للجوينى ص 449.
(3/41)
________________________________________
والأشبه من هذه الأقوال؛ إنما هو القول الأول؛ فإنه قد يعلم استحالة جمع الجوهرين فى المكان الواحد الغافل عن تضاد ما قيل من الأكوان، واعتبار ما قيل من الشرط.
وأما امتناع وجود الجوهر الواحد فى مكانين معا فى حالة واحدة؛ فمما لا خلاف أيضا فيه بين العقلاء.
[لكن] «1» منهم من علل ذلك بتضاد كونه بالنسبة إلى المكانين. ومنهم من علل باتحاد الجوهر، واستحالة انقسامه بتقدير كونه فى المكانين معا.
لكن هذا القائل معترف بجواز كون الجوهر مع اتحاده ملاقيا لستة جواهر. وكما أن كونه فى مكانين مما يفضى إلى انقسامه مع اتحاده؛ فكذلك القول بملاقاته لستة جواهر؛ ضرورة أن ما به ملاقاة كل واحد منه غير ما به ملاقاة الباقى؛ وإلا لزم التداخل.
وعند ذلك: فيجب تعميم الحكم: إما المنع مطلقا، أو الجواز مطلقا؛ ضرورة امتناع الفرق، ويمكن انقداح القول بأن امتناع ذلك لذات الجواهر، أو لأن شرط كونه فى أحد المكانين أنه لا يكون فى المكان الآخر، كما قيل فى امتناع كون الجوهرين فى المكان الواحد.
________________
(1) ساقط من أ.
(3/42)
________________________________________
الفصل السابع فى امتناع تعرى الجوهر عن الأعراض، وتعليل قبوله لها «1»
[المذاهب المختلفة]
مذهب أهل الحق: أن الجوهر المتحيز لا يخلو عن شيء من الأعراض، أو عن ضده. وذهب بعض الدهرية «2»: إلى أن الجواهر كانت خالية عن جميع أجناس الأعراض أزلا دون لا يزال.
وذهب الصالحى من المعتزلة: إلى جواز تعرّى الجواهر عن جميع الأعراض فيما لا يزال «3».
وذهب البصريون من المعتزلة: إلى امتناع تعريها عن الأكوان دون غيرها من الأعراض «4».
وذهب البغداديون: منهم إلى امتناع تعريها عن الألوان دون غيرها.
وقد اعتمد أهل الحق فى ذلك على مسالك لا تقوى./
المسلك الأول:
أنهم قالوا: من قال بجواز خلو الجواهر عن الأعراض موافق على امتناع خلوها عنها، أو عن أضدادها، بعد قيامها بها. ويلزم من ذلك امتناع خلوها عنها فى أول حال وجودها؛ وذلك لان امتناع خلو الجوهر عن العرض، أو عن ضده بعد قيامه به: إما أن يكون لأن العرض بعد وجوده لا يعدم الا بطرو ضده، وكذلك الكلام فى الضدّ على ما هو مذهبهم وإما لكون الجوهر قابلا للعرض، وإما لذات الجوهر.
لا جائز أن يقال بالأول: فإن الضدّ المعدم لا يتصور وجوده إلا بعد عدم الضّد السابق.
________________
(1) انظر مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى 2/ 10 - 13. والشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 209 وما بعدها. والمواقف للإيجي- الموقف الرابع- المرصد الثانى- المقصد السادس ص 252، 253. وشرح المواقف للجرجانى 6/ 240 - 243.
(2) الدهرية: قال شارح المواقف فى شرح رأيهم «قالوا: إن الجواهر كانت خالية فى الأزل عن جميع أجناس الأعراض، ولم يجوزوا خلوها عنها فيما لا يزال. وهم بعض القائلين بأن الأجسام قديمة بذواتها محدثة بصفاتها».
(3) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 212.
(4) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 210.
(3/43)
________________________________________
وعند ذلك: فلا يكون مؤثرا فى عدم الضّد السابق؛ فلم يبق إلا القسم الثانى، والثالث. ويلزم من ذلك امتناع عرو الجوهر عن الأعراض فى أول حال وجودها؛ ضرورة تحقق القبول وذات الجوهر فيه.
ولقائل أن يقول: مبنى هذه الطريقة على تسليم الخصم امتناع تعرى الجواهر عن الأعراض بعد قيامها بها؛ فلا يكون حجة مطلقة بالنسبة إلى غير المسلم لذلك.
ولا على المسلم أيضا بتقدير أن يعرف خطابه فى القول بامتناع عرو الجواهر عن الأعراض بعد قيامها بها، وبتقدير أن يكون حجة عليه فقد لا نسلم الحصر فيما ذكر من «11» // الأقسام الثلاثة؛ ولا دليل عليه غير البحث والسبر؛ وهو غير يقينى كما سبق تعريفه «1».
وبتقدير تسليم الحصر، فما المانع أن يكون ذلك، لكون العرض لا يعدم الا بطرو ضده
قولكم: إن الضّد لا يوجد إلا بعد عدم الضّد الآخر؛ ممنوع.
وما المانع أن يكون وجود الطارئ، وعدم السابق معا. وبتقدير امتناع ذلك فما المانع أن يكون عدم العرض بعد وجوده مشروطا بتعقب ضده له فى المحل، أو بما لازمه؛ لا أن يكون الضّد هو العدم؛ ليلزم ما قيل.
وإن سلم أن عليه امتناع التعرى لذات الجوهر؛ أو كونه قابلا للعرض؛ فما المانع أن يكون ذلك مشروطا بسابقة قيام الأعراض بالجوهر؛ أو بما لازمه.
وإذا كان كذلك؛ فالواجب أن يورد ذلك فى معرض المطالبة للخصم بجهة الفرق بين ما بعد قيام الأعراض، وما قبل ذلك؛ فإنه لا يجد إلى الفرق سبيلا، ولا نذكر ذلك فى معرض الاستدلال لما ذكرناه.
ويمكن تقرير هذا المسلك بوجه آخر. وهو أن يقال: امتناع عروّ الجوهر عن الأعراض بعد قيامها به: إما أن يكون لذاته، أو لا لذاته.
________________
(11) // أول ل 7/ أ من النسخة ب.
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الثالثة- الباب الثانى- الفصل السابع- الدليل الثالث ل 39/ أ.
(3/44)
________________________________________
فإن كان لذاته: لزم امتناع عروه/ عن الأعراض؛ لما سبق فى المسلك الّذي قبله.
وإن كان لا لذاته: فإما أن يكون ذلك لمعنى، أو لا لمعنى.
لا جائز أن يكون ذلك لا لمعنى، ولا لذاته؛ وإلا لما كان امتناع العرو أولى من عدمه.
وإن كان ذلك لمعنى: فذلك المعنى: إما لازم لذات الجوهر، أو للازم ذاته.
وعلى كل تقدير؛ فيلزم امتناع عرو الجوهر عن الأعراض فى أول حال حدوثه؛ ضرورة تحقق الذات، وأنه يلزم من تحققها تحقق لازمها، ولازم لازمها.
وهذا وإن كان أقرب من الأول: إلا أنه يتجه عليه ما اتجه على الأول من كونه إلزاما على الخصم، وأنه لا يمتنع أن يكون ذلك لذاته، أو للازم ذاته مشروطا بقيام العرض به كما تقدم «1».
المسلك الثانى:
ويخص القائلين باستحالة تعرى الجواهر عن بعض الأعراض دون البعض: كالبصريين، والبغداديين «2».
قولهم: إذا سلم امتناع خلو الجواهر عن الأكوان، أو الألوان فلا يخلو: إما أن يكون ذلك لنفس الجوهر، أو لكونه قابلا له. وأى الأمرين قدّر؛ فيلزم مثله فى باقى الأعراض؛ ضرورة أن نسبة ذات الجوهر وقبوله إلى جميع الأعراض نسبة واحدة؛ وهو ضعيف أيضا نظرا إلى امتناع الحصر فيما ذكر من الأقسام على ما تقدم «3».
وبتقدير الحصر فلا يمتنع أن يكون الجوهر لذاته، أو للازم ذاته موجبا لامتناع عروه عن بعض الأعراض، ولا يلزم التّعميم، ضرورة اختلاف الأعراض، وأن ما اقتضى شيئا غيره لازم أن يكون مقتضيا لمخالفه.
________________
(1) راجع ما مر فى ل 7/ ب وما بعدها.
(2) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 213 فصل: مشتمل على ذكر شبه المخالفين.
(3) راجع ما مر فى ل 7/ ب وما بعدها.
(3/45)
________________________________________
المسلك الثالث:
ما ذكره الأستاذ أبو إسحاق «1»، وأبو بكر ابن فورك «2» وهو أنهما قالا: إذا أدرك المدرك جوهرا ثم قام به سواد فادركه مع السواد؛ فإنه يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين حال الجوهر قبل اتصافه بالسواد، وبعده.
وهذه التفرقة إنما تعود إلى شيئين، وليس ذلك هو الجوهر والسواد؛ إذ الجوهر مستمر فى الحالين مع التفرقة؛ فلم يبق الا أن التفرقة راجعة إلى السواد، ولون آخر قبله.
وهو ضعيف أيضا: إذ أمكن أن يقال بعود التفرقة إلى إدراك الجسم أولا دون غيره؛ وإدراكه ثانيا مع غيره، ولا يخفى أن رؤية شيء واحد متميز عن رؤية شيئين.
والمعتمد فى المسألة أن نقول:
إذا افترضنا جوهرين متحيّزين فلا يخلوا: إما أن يكونا مجتمعين، أو مفترقين، أو مجتمعين، ومفترقين معا أو لا مجتمعين، ولا مفترقين.
لا جائز أن يقال بالثالث: إذ هو معلوم/ البطلان بالضرورة.
ولا جائز أن يقال بالرابع: فإن من ضرورة كون الجوهرين متحيزين أن يكون حيّز أحدهما ملاصقا لحيز الآخر، أو لا يكون ملاصقا له.
والأول: هو الاجتماع، والثانى: هو الافتراق.
ولا يتصور أن يكون لا ملاصقا له، ولا غير ملاصق. فلم يبق إلا أن يكونا مجتمعين، أو مفترقين. والاجتماع والافتراق كونان، والأكوان أعراض على ما يأتى «3»:
[و لأن الاجتماع عبارة عن اختصاص الجوهرين كل واحد بحيز لا يفصلهما ثالث؛ والافتراق مقابل له.
واختصاص الجوهر بالحيز صفة وجودية، لأن نقيضه صفة للعدم، والصفة الوجودية عرض] «4» وفى ذلك تصريح بامتناع خلو الجواهر عن الأعراض مطلقا، وهو دليل على
________________
(1) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 5/ أ.
(2) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 3/ أ.
(3) انظر ما سيأتى فى الأصل الثانى- الفرع الخامس: فى الأكوان وما يتعلق بها ل 48/ أ وما بعدها.
(4) ساقط من أ.
(3/46)
________________________________________
الدهرية «1» فى قولهم: بجواز خلوّ الجواهر عن الأعراض فى الأزل، وعلى الصالحى «2» فى لا يزال، وعلى البغداديين «3» فى قولهم بجواز خلو الجواهر عن الأكوان دون غيرها.
فإن قيل: إذا كان معنى الافتراق بين الجوهرين، أن حيز أحدهما غير ملاصق لحيّز الآخر؛ فهو سلب للتلاصق، وعدم صرف؛ والعدم لا يكون عرضا. وعلى هذا فبتقدير الافتراق أن يكون الجوهر خاليا «11» // عن الكون.
ثم وإن سلمنا أن مفهوم الافتراق أمر عرضى؛ ولكن ما ذكرتموه يلزم منه أن يكون الرّب- تعالى- لا يخلو عن الحوادث، أحد الكونين، وأن يكون محلا للأعراض؛ وهو محال «4».
وذلك لأن الرب- تعالى- والعالم: إما أن يكونا مجتمعين، أو مفترقين إلى آخر القسمة، والثالث، والرابع محالان؛ لما ذكرتموه.
فلم يبق إلا الأول، والثانى. وما لزم عنه المحال؛ فهو باطل.
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع خلو الجواهر عن الأعراض؛ لكنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من ثلاثة أوجه:
الأول: هو أن الجوهر، والعرض موجودان حادثان بفعل فاعل مختار؛ وهو الله- تعالى-؛ فلو لزم من وجود الجوهر وجود العرض وامتنع خلوه عنه؛ لكان الرب- تعالى- مضطرا إلى إحداثه عند إحداث الجوهر؛ وخرج عن كونه فاعلا بالاختيار؛ وهو ممتنع «5».
________________
(1) راجع ما مر ل 7/ ب.
(2) راجع ما مر ل 7/ ب.
(3) راجع ما مر ل 7/ ب.
(11) // أول 7/ ب من النسخة ب.
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الرابع- المسألة الثالثة: فى أنه تعالى ليس بعرض ل 145/ ب.
والمسألة الرابعة: فى بيان امتناع حلول الحوادث بذات الرب- تعالى- ل 146/ أ.
(5) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 281/ ب وما بعدها.
(3/47)
________________________________________
الثانى: هو أنه ما من معلوم، إلا ويجوز أن يخلق الله- تعالى- للعبد العلم به.
والمعلومات غير متناهية.
فاذا علم العبد بعض المعلومات دون البعض: فإما أن يقولوا بأنه تقوم بذاته بدل علم لم يخلقه الله- تعالى- له ضدا؛ فإنه تعرى ذاته عن تلك العلوم، وأضدادها.
فإن كان الأول؛ لزم أن تقوم بذاته أضداد لا نهاية لها؛ ضرورة أن ما لم تعلمه غيره متناه.
وإن كان الثانى: فقد جوزتم عرو المحل عن العرض المقابل له وعرو ضده،/ وأبطلتم أصلكم؛ وهو المطلوب.
الثالث: أن الماء، والهواء؛ لا لون لها، وكذلك الحجارة، والخشب، وقشر الجوز، واللوز؛ لا طعم لها.
والجواب: أما السؤال الأول: فمندفع. ثم جهة أن معنى الافتراق ليس هو سلب الاجتماع، وإنما هو اختصاص كل واحد من الجوهرين بحيز ملاصق لحيز الآخر؛ وهو معنى وجودى لا سلبى.
وفرق بين سلب الاجتماع، وبين الاختصاص الموصوف بعدم الاجتماع.
وأما الإلزام: فهو أيضا مندفع؛ إذ الاجتماع والافتراق [بالتفسير المذكور] «1» إنما يعقل فى ذوى الأحياز والرب- تعالى- غير متحيز «2»؛ فلا يقال إنه مفارق للعالم، ولا مجامع له؛ حيث أنه لا يختص بحيّز، لا فى قرب، ولا فى بعد. وما ذكرتم فى الوجه الأول فى المعارضة؛ فهو لازم عليهم فى امتناع وجود العرض دون الجوهر «3».
وامتناع وجود العلم، دون الحياة، ولزوم علم من حلت به الآفات عند امتناع الافات المانعة من العلم؛ فما هو العذر فى صور الإلزام لهم؛ هو عذرنا فى محل النزاع.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الجزء الأول- القسم الأول- النوع الرابع: فى إبطال التشبيه وما لا يجوز على الله تعالى ل 142/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما سيأتى فى الأصل الثانى- الفرع الثانى: فى استحالة قيام العرض بنفسه ل 41/ ب.
(3/48)
________________________________________
وهو أيضا ألزم على القائلين بامتناع خلو الجوهر عن الأكوان دون غيرها.
وأما الوجه الثانى: فقد قال الأستاذ أبو إسحاق فى جوابه: إن من قام به علم ببعض المعلومات؛ فعلمه القائم به ضد لما لم يقم به من العلوم. وما يقوم به من العلوم؛ لا يكون إلا متناهيا.
وبناه على أصله فى أن العلوم وإن كانت مختلفة، فلا تجتمع فى محل واحد. وأن ما تجده من العلوم المجتمعة لنا، فليست قائمة بمحل واحد؛ بل كل علم قائم بجزء من القلب؛ غير ما قام به العلم الآخر.
قال: وإن لم يقم به علم أصلا؛ فلا بد وأن يتصف باقيه بكون مع اتحادها مانعه لجميع العلوم التى لا نهاية لها، ومضادة لها: كما فى الموت، وعلى كلا التقديرين، فلا يلزم أن يقوم به أضداد لا نهاية لها.
غير أن ما ذكروه مبنى على أن العلوم المختلفة متضادة؛ وقد سبق ما فى ذلك فى أحكام المعلوم «1».
وقال الأستاذ أبو بكر: المعلومات وإن كانت فى نفسها غير متناهية إمكانا؛ فلا نسلم قبول الإنسان لعلوم غير متناهية؛ لامتناع وجود ما لا تتناهى.
وإذا لم يكن قابلا لما لا يتناهى من العلوم؛ فلا يلزم أن يقوم به بتقدير خلوه من العلوم التى لا نهاية لها، أضداد لا نهاية لها؛ فإن قيام الضد إنما يكون بدل ما المحل قابل له، والمحل غير قابل لما لا يتناهى؛ وهو أسد من الأول.
وقال القاضى أبو بكر «2» - من قام به علم ببعض المعلومات/ دون باقى المعلومات.
فانتفاء باقى العلوم إنما هو بآفة مضادة لها دون ما قام به من العلم.
وعلى هذا: فلا يفتقر إلى قيام أضداد لا نهاية لها، وهو متبين أيضا.
________________
(1) راجع ما مر فى القاعدة الأولى- القسم الرابع- الفصل التاسع: فى أضداد العلم الحادث وأحكامها ل 12/ ب وما بعدها.
(2) انظر التمهيد فى الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة ص 40.
(3/49)
________________________________________
وعلى هذا: فلا يلزم أن ما كان من الافات مانعا من العلم ببعض الجواهر أن يكون مانعا من العلم بجوهر آخر. فإن العلوم المتعلقة بالمعلومات المتعددة المتماثلة تكون مختلفة على ما تقرر فى أحكام العلوم «1».
ولا يلزم أن من كان مضادا لأحد العلمين المختلفين، أن يكون مضادا للعلم الآخر.
ولا يلزم أيضا على هذا أنه إذا تجدد له علم لم يكن انتفاء ضد باقى العلوم، التى لم تكن؛ لاحتمال أن يكون كل جنس من أجناس العلوم، ضده غير ضد الجنس الآخر.
ولا يلزم من انتفاء بعض الأجناس، انتفاء ضد الباقى.
وعلى سياق «11» // هذا التحقيق.
فإن قلنا بالبقاء، والاعتمادات، وأنه لا ضد للبقاء، ولا للاعتمادات، فلا يتصور خلو الجوهر الموجود عنها وإن لم نقل بالبقاء والاعتمادات؛ فلا إشكال.
وأما الماء: فلا نسلم أنه لا لون له؛ بل هو متلون بلون البياض.
وأما الهواء: فإن قلنا إنه غير مدرك فى وقتنا هذا؛ فلا يلزم من عدم إدراكه عدم لونه فى نفسه.
وإن قلنا: إنه مدرك فى وقتنا هذا؛ فهو متلون بلون السواد ليلا، والبياض نهارا.
وأما الخشب والحجارة وما ذكروه من الصور: فلا نسلم أنه لا طعم لها، ومن يطعم ذلك، ولا سيما مع السحق، علم أنهم فيما ادعوه مكابرون، ومجاحدون.
كيف وأن من أنكر امتناع خلو الجواهر عن الأعراض، مع تسليمه امتناع خلوها عنها بعد قيامها بها، لو سئل عن الفرق؛ لم يجد إليه سبيلا.
وأما ما يقال فى طرف الإلزام عليهم أن إنكار امتناع تعرّي الجواهر عن الأعراض؛ مما يسد باب إثبات حدوث الجواهر، وإثبات امتناع حلول الحوادث بذات الله- تعالى- «2»؛
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الأولى- القسم الرابع: فى أحكام العلم ل 5/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 8/ أ من النسخة ب.
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الرابع- المسألة الرابعة: فى بيان امتناع حلول الحوادث بذات الرب- تعالى- ل 146/ أ.
(3/50)
________________________________________
لتوقف الأمرين على أن ما يقبل الحادث لا يخلو عنه، أو عن ضده؛ فهو بعيد، لجواز قول الخصم بطريق آخر، ومنع التوقف على ما قيل.
هذا وأما قبول الجوهر للأعراض.
فمنهم من علله بالتحيز، لدورانه معه.
ومنهم من منع من تعليله بالتحيز؛ لأن كل واحد منهما من الصفات الواجبة للجوهر.
وليس جعل أحدهما علة للآخر، أولى من العكس، وكما دار قبوله للأعراض مع التحيز؛ فقد دار التحيز مع قبوله للأعراض؛ فلا أولوية لأحدهما أن تكون علة للآخر.
والحق أن خلو كل واحد من المذهبين ممكن مع القطع/ بأن لا قطع فى واحد منهما.
(3/51)
________________________________________
النوع الثانى: فى الجوهر الفرد، وأحكامه ويشتمل على فصلين:
الفصل الأول: فى إثبات الجوهر الفرد.
الفصل الثانى: فى أن الجوهر الفرد لا شكل له.
(3/53)
________________________________________
الفصل الأول: فى إثبات الجوهر الفرد «1»
وقبل الخوض فى الحجاج نفيا، وإثباتا لا بد من تصوير الجوهر الفرد بحده؛ ليكون التوارد بالنفى، والإثبات على [محز] «2» واحد فنقول:
المعنى بالجوهر الفرد: الجوهر المتحيز الّذي لا يقبل القسمة بالفعل، ولا فى التعقل؛ وهذا مما اختلف فيه.
فالذى عليه إجماع أهل الحق من المسلمين قاطبة؛ إثبات الجوهر الفرد «3».
وذهبت الفلاسفة «4»: إلى أن الجوهر المتحيز وإن انتهى إلى حد لا يقبل القسمة [بالفعل] «5» فلا بد وأن يكون قابلا للقسمة فى الوهم، والتعقل «6».
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة ارجع إلى مقالات الإسلاميين للأشعرى 2/ 8 وما بعدها. والشامل للجوينى ص 142 - 148. وأصول الدين للبغدادى ص 35 وما بعدها ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 505 وما بعدها «مسألة: فى إثبات الجوهر الفرد». فقد خصص الشهرستانى لهذه المسألة مبحثا مستقلا فى نهاية كتابه [الذيل] «مسألة فى إثبات الجوهر الفرد» من ص 505 - 511.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي: المواقف للإيجي ص 182 وشرحها للجرجانى 6/ 285 وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 233 وما بعدها.
ومطالع الأنظار على طوالع الأنوار للأصفهانى ص 109 وما بعدها.
(2) ساقط من (أ).
(3) راجع الشامل للجوينى ص 143.
(4) الشامل ص 143 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 505.
(5) ساقط من (أ).
(6) الفلاسفة ينكرون الجوهر الفرد- كما صوره المتكلمون بأنه الجوهر المتحيز الّذي لا يقبل القسمة بالفعل، ولا فى التعقل- ويرون بأن الجوهر المتحيز لا بد وأن يكون قابلا للقسمة إن لم يكن بالفعل؛ فلا بد وأن يكون قابلا لها فى الوهم، والتعقل.
وقد احتج الفلاسفة على نفى الجوهر الفرد (الجزء الّذي لا يتجزأ) بوجوه لخصها البيضاوى فى كتابه (طوالع الأنوار) وشرحها الأصفهانى فى مطالع الأنظار ص 122 - 124. وأرى من المفيد نقل متن البيضاوى خاصة، ورأى الفلاسفة- المخالف لرأى المتكلمين- صحيح يؤيده العلم الحديث والواقع؛ فقد انشطرت الذرة، وانقسمت، وتحولت إلى طاقة استفاد العالم منها فى العلاج الطبى، والطاقة وغيرها؛ بينما تضرر البعض بالقنابل الذرية.
قال البيضاوى «احتج الحكماء على نفى الجوهر الفرد بوجوه.
الأول: أن كل متحيز فيمينه غير يساره، والوجه المضيء فيه غير المظلم؛ لا يقال ذلك لتغاير وجهيه؛ لأنهما إن كانا جوهرين ثبت المدعى؛ وإلا لزم تغاير محليهما.
الثانى: أنا لو فرضنا خطا من أجزاء شفع فوق أحد طرفيه جزء، وتحت الآخر جزء آخر، وتحركا على تساو؛ تحاذيا لا محالة على ملتقى الجزءين؛ فيلزم الانقسام.
الثالث: كلما قطع السريع بحركته جزأ؛ قطع البطيء أقل منه، وإلا لزم أن يساويه فى جزء، ويقف فى آخر؛ وقد بان فساده.-
(3/55)
________________________________________
وقد احتج أهل الحق بمسالك:
المسلك الأول:
أنهم قالوا: لو كان الجوهر «1» غير متناهى الأجزاء فى العقل؛ لما تفاوتت الأجسام فى أحجامها؛ ولزم أن يكون حجم الخردلة كالجبل، وأن يكون حجم كل الجسم كحجم بعضه؛ واللازم ممتنع.
وبيان الملازمة: هو أن زيادة حجم أحد الجسمين على الآخر؛ إنما هو بسبب تفاوتهما فى الأجزاء.
________________- الرابع: الجسم الّذي أجزاؤه وتر، وكان ظله مثليه؛ كان مثله من الظل ظل نصفه؛ فيكون له نصف؛ فينتصف الجزء المتوسط.
وقد برهن اقليدس على أن كل خط يصح تنصيفه، وهو يقتضي ذلك.
الخامس: إذا فرض خط من ثلاثة أجزاء على أحد طرفيه جزء، يتحرك الخط إلى أيمن والجزء إلى أيسر؛ فإن انتقل إلى ما فوق الجزء الثانى؛ فهو محال؛ لأن الجزء الثانى انتقل إلى حيز الجزء الأول.
وإن انتقل إلى ما فوق الثالث؛ فهو قطع جزءين حينما قطع ما تحته جزء واحدا؛ فينقسم الزمان والحركة والمسافة.
السادس: الجزء متشكل. فإن كان كرة: فإذا انضم بأجزاء أخر؛ وقعت بينهما فرج لا تسع أجزاء مثلها؛ فيلزم الانقسام. وإن كان غيرها؛ كانت فيه زوايا؛ فينقسم.
السابع: إذا دارت رحى. فمهما قطع الطوق العظيم جزأ. فالصغير: إما أن يقطع أقل من جزء؛ فينقسم الجزء، أو جزأ تاما؛ فيتساوى الصغير والعظيم، أو يقطع تارة جزأ، ويسكن أخرى؛ فتتفكك أجزاء الرحى، وكذلك الفرجار ذو الشعب الثلاث». [مطالع الأنظار للأصفهانى شرح طوالع الأنوار للبيضاوى ص 122 - 124 وقارن بما ورد فى شرح المقاصد للتفتازانى 2/ 261 وما بعدها].
(1) اهتم الآمدي بشرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين فى كتابه المبين ووضح معنى الجوهر وما يتعلق به عند الحكماء والمتكلمين فقال:
«و أما الجوهر: فعلى أصول الحكماء- ما وجوده لا فى موضوع. والمراد بالموضوع: المحل المتقوم بذاته، المقوم لما يحل فيه.
وينقسم إلى بسيط ومركب: أما البسيط: فهو العقل والنفس والمادة، والصورة. فأما العقل الجوهرى، والنفس الجوهرية فقد سبق تعريفهما.
وأما المادة: فعبارة عن أحد جزئى الجسم، وهى محل الجزء الآخر منه.
وأما الصورة: فعبارة عن أحد جزئى الجسم، وهى حال فى الجزء الآخر منه.
وأما المركب: فهو الجسم. وهو عبارة عن جوهر قابل للتجزئة فى ثلاث جهات متقاطعة تقاطعا قائما
وأما على أصول المتكلمين: فالجوهر عبارة عن المتحيز. وهو ينقسم إلى: بسيط ويعبر عنه بالجوهر الفرد، وإلى مركب وهو الجسم.
فأما الجوهر الفرد: فعبارة عن جوهر لا يقبل التجزي لا بالفعل ولا بالقوة.
وأما الجسم: فعبارة عن المؤتلف عن جوهرين فردين، فصاعدا [المبين للآمدى ص 109، 110].
(3/56)
________________________________________
ولهذا: فإنا لو فرضنا جسمين متساويين فى الحجم، وزدنا على أحدهما جزءا، أو اقتطعنا منه جزءا؛ فإنه يزيد المزيد عليه فى الحجم، وينقص بتقدير التنقيص؛ وليس ذلك إلا بسبب زيادة الأجزاء، ونقصها؛ بل ولو فرضنا جسما ذا حجم، ثم فرضنا الزيادة عليه؛ فإن حجمه يعظم عن حجمه أولا. ولو نقصنا منه جزءاً؛ فإن حجمه يصغر عن حجمه أولا؛ وليس ذلك إلا بسبب زيادة الأجزاء، ونقصها.
وإذا ثبت ذلك. فلو فرضنا أن أجزاء كل جسم لا نهاية لها؛ لاستوت أجزاء جميع الأجسام فى عدم النهاية.
ومع الاستواء فى ذلك: فلا تفاوت فى الأجزاء، ولا زيادة، ولا نقص. ومع امتناع الزيادة، والنقص فى الأجزاء. فالتفاوت فى أبعاد الأجسام وأحجامها يكون ممتنعا.
وإذا ثبتت الملازمة: فلا يخفى امتناع اللازم: فإن الأجسام متفاوتة فى أحجامها حسا.
وهذا المسلك ضعيف؛ إذ لقائل أن يقول: لا نسلم الملازمة، وما ذكرتموه بين لزوم المساواة، والتفاوت بين أحجام الأجسام بسبب المساواة فى الأجزاء، والتفاوت فيها مسلم.
ولكن لا نسلم أنه يلزم من كون الأجزاء الوهمية لا نهاية لعددها فى كل جسم؛ امتناع التفاوت فيها.
ولهذا فإن أعداد عقود الحساب لا نهاية لها إمكانا. ومع ذلك فإنا نقطع/ بأن أعداد عقود العشرات أكثر من أعداد عقود المئات، وكذلك كل رتبة بالنسبة إلى ما يليها.
ثم وإن سلمنا التساوى فى العدد؛ ولكن إنما يلزم التساوى فى الحجم أن لو تساوت الأجزاء فى الصغر، والكبر؛ وهو غير مسلم؛ فإن أجزاء الخردلة وإن كانت متساوية فى الكمية المنفصلة لأجزاء الجبل وبعض الجسم لكله؛ فغير مساوية لها فى الكمية المتصلة.
ولهذا فإنا لو فرضنا بطريق التوهم زيادة على الجبل بأمثاله إلى غير النهاية وزيادة على الخردلة بأمثالها إلى غير النهاية؛ فإنه لا يلزم منه أن يكون ما يحصل من مجموع
(3/57)
________________________________________
أحد الأمرين مساويا فى الحجم لحجم ما يحصل فى الثانى؛ للتساوى فى «11» // التضعيف لما كانت الأضعاف المضعفة على الخردلة كل واحد منهما أصغر من آحاد كل واحد من الأضعاف المضاعفة على الجبل.
وإذا كان ذلك مما لا يتوهم فى طرف الزيادة، والتضعيف؛ فكذلك فى طرف الانقسام، والتنقيص.
________________
(11) // أول ل 8/ ب من النسخة ب.
(3/58)
________________________________________
المسلك الثانى:
قالوا: قد ثبت أن زيادة بعد الجسم على حسب زيادة أجزائه.
فلو كانت أجزاء كل جسم لا نهاية لها فى التعقل؛ لكان بعد كل جسم لا نهاية له فى التعقل أيضا، ويلزم أن لا يقطعه متحرك بالحركة من جهة أن قطع ما لا يتناهى بالحركة محال؛ وذلك لأن قطع المتحرك لما لا نهاية لأجزائه إنما يكون بقطع جميع الأجزاء.
وما من جزء يقدّر قطعه؛ إلا ولا بد وأن يكون قد قطع قبله أجزاء لا نهاية لها؛ وهو محال.
وكل ذلك خلاف المحسوس؛ وفيه نظر؛ إذ لقائل أن يقول:
الأجزاء منقسمة إلى أجزاء متداخلة: ومعناه أن يكون الشيء المفروض له جزء، ولجزئه جزء إلى غير النهاية.
وإلى أجزاء غير متداخلة: وهى الأجزاء المتماثلة الداخلة فى الشيء المركب.
وعلى هذا فله أن يقول: الأجزاء التى باعتبارها زيادة بعد الجسم: هى الأجزاء المتداخلة، أو غير المتداخلة:
الأول: ممنوع، والثانى: مسلم.
ولكن لا يلزم منه عدم النهاية فى بعد الجسم؛ إذ الأجزاء المتماثلة فى كل جسم متناهية؛ فلا توجب غير المتناهى، وما لا يتناهى هى الأجزاء المتداخلة؛ فلا توجب بعدا غير متناهى.
وعلى هذا: فلا يمتنع قطعه بالحركة. كيف وأنه ما من حركة يمكن فرضها إلا وهى أيضا متجزئة إلى ما لا يتناهى على نحو تجزئ الأجسام عند الخصم وقطع ما لا يتناهى من أجزاء الجسم، بما لا يتناهى فى زمان لا يتناهى؛ غير ممتنع.
المسلك الثالث:
قالوا: لو كانت أجزاء/ كل جسم لا نهاية لها عقلا؛ فهى مجتمعة. وكل جزءين مجتمعين أمكن تقدير افتراقهما، وهلم جرا إلى غير النهاية؛ ولهذا فإنا: لو فرضنا جملة متركبة؛ فإنها بالتنصيف تفترق. وسبيل التفريق فى البعض؛ كسبيل التفريق فى الكل.
(3/59)
________________________________________
وإذا جاز التفريق فى البعض؛ وجب القول بجواز التفريق فى الكل وبتقدير تفريق الأجزاء [لم يبق] «1» منها ما له جزء مجامع له؛ وهو المطلوب.
وهذه الطريقة فى غاية الحسن والصنعة إلا أن لقائل أن يقول: إذا كانت الأجزاء المفروضة غير متناهية؛ فالقول بجواز الافتراق على كل واحد واحد من الأجزاء المجتمعة من أجزاء الجملة؛ لا يلزم أن يكون حكما على الجملة؛ لما عرف مرارا فيما تقدم «2».
المسلك الرابع:
قالوا: إذا فرضنا خطا؛ فطرف الخط لا ينقسم. فإذا فرضناه قائما على سطح جسم من الأجسام؛ فلا بد وأن يكون ما يلقاه من ذلك الجسم أيضا غير منقسم. وإلا كان ما لا ينقسم [ملاقيا] «3» ومطابقا لما ينقسم؛ وهو محال؛ وذلك هو المطلوب.
وأيضا: فإنا لو فرضنا الخط القائم متحركا على الجسم من موضع مقره عليه إلى آخره من الجانب الاخر مما يلقاه من أول حركته إلى آخرها، لا يكون إلا غير متحرك؛ وهو ما أردناه؛ وهو ضعيف أيضا؛ إذ لقائل أن يقول: طرف الخط الملاقى للجسم؛ إما أن يكون عدما، أو وجودا.
فإن كان عدما: فلا نسلم تصور ملاقاته للجسم.
وإن كان وجودا: فإما جوهرا، أو عرضا. فإن كان جوهرا؛ فلا نسلم أنه غير منقسم؛ وعلى هذا فما يلقاه يكون منقسما أيضا.
وما هو طرف له؛ لا يكون خطا. وإن كان خطا؛ فليس إلا بمعنى أنه لا يقبل القسمة بالفعل فى غير الطول، وطرفه.
وإن لم يكن قابلا للقسمة بالفعل: فلا يمتنع أن يكون قابلا لها بالقوة.
وإن كان عرضا: فلا بد وأن يكون قائما بالجوهر، ويكون تابعا فى تجزئته لتجزؤ ذلك الجوهر.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) راجع ما تقدم ل 10/ ب.
(3) بياض فى أ.
(3/60)
________________________________________
المسلك الخامس:
قالوا: اتفق العقلاء على أن النقطة غير منقسمة. وهى إما أن تكون جوهرا، أو عرضا.
فإن كانت جوهرا: فهو المطلوب.
وإن كانت عرضا: فلا بد وأن تكون قائمة بالجوهر. ويلزم من كونها غير متجزئة أن يكون موضوعها وهو الجوهر أيضا غير متجزئ؛ وإلا كان غير المتجزئ حالا فى المتجزئ، وهو ممتنع.
ولقائل أن يقول: هذا إنما يستقيم أن لو كانت النقطة/ أمرا وجوديا؛ وهو غير مسلم؛ بل هى نفى محض، وعدم صرف. والعدم لا يكون جوهرا، ولا عرضا.
وإن سلم أن مسمى النقطة أمر وجودى؛ فهو غير خارج عن طرف الخط «1»، وطرف الخط، وإن سلم أنه غير قابل للتجزي؛ فليس إلا بالفعل. وإلا فهو متجزئ بالقوة إلى غير النهاية؛ كما سبق تقريره.
المسلك السادس:
قالوا: الكرة الحقيقية إذا لاقت سطحا «2» مستويا فما به الملاقاة منها إما جزء منها، أو عرض قائم بجزء منها.
وعلى كل تقدير، فذلك الجزء: إما أن يكون قابلا للقسمة بالقوة، أو غير قابل لها؛ لا جائز أن يكون غير قابل لها؛ لوجوه ثلاثة.
الأول: أنه يلزم أن يكون سطحا مستويا؛ ضرورة مطابقته للسطح المستوى، وعند تدحرجها عليه إلى أن تنتهى الملاقاة إلى الجزء الأول المفروض يجب أن تزول الملاقاة «11» // بذلك الجزء، وتحدث بجزء آخر، والكلام فيه كالكلام فى الأول.
________________
(1) الخط: عبارة عن بعد قابل للتجزئة فى جهة واحدة فقط. (المبين للآمدى ص 110).
(2) السطح: عبارة عن بعد قابل للتجزئة فى جهتين متقاطعتين فقط. والسطح: نهاية الجسم التعليمى، ونهاية السطح الخط، ونهاية الخط النقطة فهى لا تنقسم (المبين للآمدى ص 110، 111).
(11) // أول ل 9/ أ من النسخة ب.
(3/61)
________________________________________
وعند ذلك: فإما أن يكون الاتصال بين كل جزءين على الاستقامة، أو على زاوية.
فإن كان الأول: لزم أن يكون الخط المحيط بالكرة مستقيما؛ وذلك محال.
وإن كان الثانى: كان شكل الكرة مضلعا لا كريا؛ وهو خلاف الفرض.
الثانى: أنها إذا لاقت السطح المستوى بجزء هو سطح مستوى أمكن أن يفرض بين نقطتين منه خط مستقيم؛ وذلك الخط المستقيم على ظاهر دائرة الكرة، وقد قام البرهان فى الشكل الثانى من المقالة الثالثة من أوقليدس «1» على أن كل خط يصل بين نقطتين من دائرة؛ فهو واقع فى داخل تلك الدائرة؛ وهو محال؛ لما فيه من جعل الخط الخارج داخلا، والداخل خارجا.
الثالث: أنه إذا كان ما به الملاقاة من الدائرة سطحا مستويا، وأمكن أن يفرض بين نقطتين منه خطا مستقيما، وأمكن أن يصل بين نقطتى الخط المفروض، وبين مركز دائرة الكرة خطين مستقيمين بحيث يحدث من ذلك مثلث زاويته نقطة المركز وقاعدته الخط المفروض، وزواياه حاده. وأن يخرج من نقطة زاوية المركز عمودا مستقيما إلى وسط الخط المفروض بحيث يقسم ذلك المثلث إلى مثلثين كل واحد منهما له زاوية قائمة. والخطان الخارجان من المركز إلى طرفى الخط الأول المفروض هما وترا الزاويتين القائمتين، [و العمود] «2» وتر الزاويتين الحادتين اللتين عند قاعدة المثلث، الّذي زاويته/ نقطة مركز الدائرة.
ولا يخفى أن وتر الحادة من المثلث يكون أقصر من وتر القائمة منه؛ فالعمود يكون أقصر من ضلعى المثلث المفروض مع خروج الكل من مركز الدائرة إلى محيطها؛ وذلك محال.
________________
(1) أقليدس: هو أول من تكلم فى الرياضيات وأفرده علما نافعا فى العلوم، وكتابه معروف باسمه، وكذلك حكمته (الملل والنحل للشهرستانى 2/ 114 وما بعدها).
وهو من أشهر رياضيى اليونان، قيل: إنه تنشّأ على مدرسة أفلاطون، مارس التعليم فى الإسكندرية على عهد بطليموس الأول، حيث افتتح مدرسة وترك كتبا باليونانية فى الرياضيات، ولا سيما فى الهندسة، وبنى نظرية هندسية بقيت تعرف باسمه حتى القرن العشرين، نقلت بعض كتبه إلى اللغة العربية. ونقل كتابه (الأصول) فى الرياضة حنين بن إسحاق. توفى أقليدس حوالى 285 ق. م.
[انظر: إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى ص 45 وصوان الحكمة للسجستانى ص 201].
(2) ساقط من أ.
(3/62)
________________________________________
وهذا المحال إنما لزم من القول بتجزؤ الجزء الّذي وقعت به الملاقاة من دائرة الكرة؛ فيكون محالا.
فلم يبق إلا القسم الثانى؛ وهو المطلوب.
وفيه نظر إذ لقائل أن يقول: لا نسلم تصور وجود كرة حقيقية فى التعقل، وإن تصور ذلك فى الحس؛ ليلزم ما ذكرتموه.
وإنما يتصور وجودها كرة حقيقية أن لو كانت أجزاء الدائرة المحيطة بها غير قابلة للتجزي عقلا.
وإنما تكون غير قابلة للتجزي عقلا أن لو أمكن فرض وجود كرة حقيقية فى التعقل؛ وهو دور ممتنع.
والّذي يدل على استحالة الكرة الحقيقية فى التعقل أنا لو فرضنا خطا مركبا من أجزاء غير قابلة للتجزي عقلا «1»: فإما أن يمكن فرضه مستديرا، أو لا يمكن.
فإن أمكن فرضه مستديرا: فلا بد وأن تكون أجزاؤه متلاقية من جانب باطن الدائرة.
وعند ذلك: فإما أن تكون أيضا متلاقية من جانب ظاهرها، أو غير متلاقية.
فإن كانت متلاقية: فيلزم أن تكون مساحة باطن الدائرة مساوية لمساحة ظاهرها.
وكذلك إذا فرضنا خطا آخر دائرا على الدائرة المفروضة أولا؛ فيجب أن يكون ظاهره مساويا لمساحة باطنه، وأن تكون مساحة باطنه مساوية لمساحة ظاهر الدائرة الأولى؛ ضرورة مطابقته له، وظاهر الدائرة الأولى مساو لمساحة باطنها.
فظاهر الدائرة الخارجة يكون مساويا لمساحة باطن الدائرة الداخلة؛ وهو محال.
وكل ما ازدادت الدوائر بحيث تظهر الداخلة كان أظهر فى الإحالة.
وأما إن لم تكن أجزاء الدائرة متلاقية من جانب ظاهر الدائرة؛ فقد وجد فى كل جزء منها ما هو ملاق للجزء الّذي يليه.
________________
(1) (عقلا) ساقط من ب.
(3/63)
________________________________________
وما ليس ملاقيا له. ويلزم منه التجزي فى كل واحد من أجزاء الدائرة المفروضة.
ويلزم منه أن يكون ظاهر الكرة، غير كرى؛ بل مضلعا.
وإن لم يمكن فرض الخط المفروض مستديرا؛ فقد امتنع فرض وجود الكرة الحقيقية. إذ الكرة الحقيقية لا بد وأن يحيط بها خط مستدير غير مضلع.
المسلك السابع:
قالوا لو/ كان ما من جوهر إلا وهو متجزئ إلى غير النهاية؛ لما تصور وجود زاوية حادة غير منقسمة؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول: وجود الزاوية التى لا انقسام لها فرع وجود جزء غير متجزئ. فإذا كان وجود الجزء الّذي لا يتجزأ مبنيا على وجود الزاوية التى لا تجزئ لها؛ كان دورا.
وعلى هذا: فلا مانع أن يقال بوجود الزاوية الحادة غير منقسمة بالفعل وإن كانت منقسمة بالقوة إلى غير النهاية.
المسلك الثامن:
قالوا: القول بوجود أجزاء متجزئة بالقوة إلى غير النهاية؛ يلزم منه وجود أجزاء موجودة بالفعل، إلى غير النهاية، ووجود أجزاء جوهرية موجودة بالفعل غير متناهية محال؛ كما يأتى فى الرد على النظام «1».
كيف وأن ذلك مما «11» // لم يقل به قائل من الفلاسفة.
وبيان الملازمة: أن لكل واحد من الانقسامات المفروضة خاصية لا وجود لها فى غيره من الانقسامات: كاختصاص تقطع النصف بالنصف والثلث بالثلث، إلى غير ذلك.
ولا معنى لكون كل واحد من الأجزاء موجودا بالفعل إلا هذا؛ وهو ضعيف أيضا؛ إذ لقائل أن يقول: إنما يلزم من هذه الاختصاصات؛ وجود أجزاء لا نهاية لها بالفعل؛ إذ لو كانت هذه الاختصاصات لها وجود بالفعل وفى الحس. وأما إن كانت [متحققة فى التوهم؛ فلا تكون الانقسامات التى لا نهاية لها متحققة] «2» بالفعل.
________________
(1) انظر ما سيأتى.
(11) // أول ل 9/ ب من النسخة ب.
(2) ساقط من أ.
(3/64)
________________________________________
والمعتمد فى ذلك مسلكان:
المسلك الأول:
أنه لو كان كل جوهر متحيزا منقسما بالقوة إلى غير النهاية؛ لما وجدت الحركة المكانية مطلقا؛ واللازم ممتنع.
بيان الملازمة: أنه لو كان كل جوهر متجزئ بالقوة إلى غير النهاية، لكانت أجزاء كل مسافة تفرض من مسافات الأجسام كذلك، وكل مسافة فإنه يمكن قطعها بالحركة لا محالة؛ وكل مسافة يمكن قطعها بالحركة؛ فتلك الحركة مطابقة لها، وأجزاؤها مطابقة لاجزاء المسافة؛ فالثلث من كل الحركة، مطابق لثلث كل المسافة، وكذلك النصف، وسائر الأجزاء.
والمطابق للمتجزئ يكون متجزئا بالضرورة.
وإذا ثبت لزوم انقسام أجزاء الحركة بالقوة إلى غير النهاية فأجزاء الحركة التى بها قطع المسافة، غير موجودة معا؛ بل متعاقبة متجددة.
وما به قطع النصف الأول من المسافة لا وجود له مع ما به قطع النصف الأخير منها؛ وكذلك فى/ كل جزء يفرض مع غيره.
وكل جزء منها لا يكون موجودا مع فرض وجود الجزء الآخر؛ بل معدوما؛ فالحاضر منها لا وجود له مع الماضى، والمستقبل.
وكذلك المستقبل لا وجود له مع الماضى.
وعند ذلك: فإما أن يوجد منها شيء فى الحاضر، أو لا يوجد.
لا جائز أن يقال بالوجود؛ فإنه ما من جزء يفرض حاضرا؛ إلا وهو منقسم إلى غير النهاية.
فإذن بعض أجزائه ماض، ومستقبل، والحاضر منها لا يوجد مع الماضى، والمستقبل؛ فلا يكون ما فرض حاضرا حاضرا؛ وهو خلاف الفرض.
ثم الكلام فى كل حاضر يفرض: كالكلام فى الأول؛ وهو محال؛ فلا وجود لشيء من أجزاء الحركة حاضرا.
وإذا لم يوجد منها جزء فى الحاضر؛ فلا وجود للماضى، والمستقبل؛ لأن الماضى هو ما كان حاضرا، والمستقبل ما يتوقع حضوره.
(3/65)
________________________________________
وإذا لم يوجد منها ما هو حاضر، ولا مستقبل، ولا ماض؛ فلا حركة أصلا.
وأما بيان امتناع اللازم: فهو أن الحركة والانتقال فى المسافات من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد مشاهد معلوم الوجود بالضرورة. وإذا ثبتت الملازمة، وانتفاء اللازم؛ لزم انتفاء الملزوم بالضرورة.
وهذا برهان قوى يقينى المادة، صحيح الصورة، لا غبار عليه عند المحصلين.
وعلى ما حققناه من لزوم امتناع وجود الحركة؛ يلزم امتناع وجود الزمان؛ ضرورة مطابقته للحركة، وامتناع وجود أجزائه معا؛ ولا يخفى تقريره.
المسلك الثانى:
أنا لو فرضنا شخصا تحرك حركة مكانية لقطع مسافة؛ فأجزاء حركته غير موجودة معا على ما سبق.
وعند ذلك: فلا بد لحركته من أول وآخر؛ ضرورة تناهيها من الطرفين. وإذ ذاك فما فرض منها أولا، وآخرا: إما أن يكون متجزئا، أو غير متجزئ.
الأول: محال: وإلا لما كان ما فرض منه أولا، أولا، وآخرا، آخرا؛ بل بعضه؛ وهو خلاف الفرض.
وإن كان الثانى: فلا بد وأن يكون ذلك الجزء من أول الحركة وآخرها مطابقا لأول جزء من المسافة، وآخرها: الأول الأول، والآخر الآخر؛ ويلزم أن يكون أول جزء من المسافة، وآخرها غير متجزئ؛ ضرورة مطابقته لما ليس متجزئا.
وهذا التحرير، وعلى هذا الوجه لم أجده لأحد غيرى؛ وهو فى غاية الرشاقة والظهور لمن تأمله.
[معارضات الخصوم وبيانها من ستة عشر وجها]
فإن/ قيل: ما ذكرتموه وإن دل على امتناع التجزي، فهو معارض بما يدل على التجزي، وبيانه من ستة عشر وجها «1»:
________________
(1) ذكر الآمدي هاهنا أدلة الفلاسفة ولم يرد على معظمها- كعادته فى الرد على شبه الخصوم- ووصفها بأنها «إشكالات مشكلة، والزامات معضلة يحار العاقل المنصف فى الانفصال عنها، وفى جهة حلها؛ وغايته لزوم التعارض بينها، وبين أدلة أهل الحق، ووجوب الوقف فى هذه المسألة؛ تأسيا بجماعة من فضلاء المتكلمين؛ وعسى أن يكون عند غيرى غير هذا» انظر ما سيأتى ل 16/ أ وهذا مما يدل على دقته وأمانته العلمية، وتمسكه بما يعتقد أنه الحق.
(3/66)
________________________________________
الأول: أنه لو وجد جوهر متحيز؛ غير قابل للتجزي عقلا. فلنا أن نفرض عشرة «1» أجزاء حصل منها خط، وفرضنا مسامتة كل واحد من طرفيه جزء، والجزءان متحركان على السوية كل واحد نحو الآخر: فإما أن يلتقيا، أو لا يلتقيا.
والقول بعدم الالتقاء محال، إذ قد فرض تحرك كل واحد منهما نحو الآخر.
وإن قيل بالالتقاء: فإمّا أن يلتقيا، ويتماسا على جزء واحد، أو جزءين.
لا جائز أن يكون الالتقاء منهما على جزءين: وإلّا كان أحدهما قد قطع أكثر من الآخر؛ وهو محال؛ لفرض التحرك على السوية؛ فلا بد «11» // وأن يلتقيا على جزء واحد؛ وهو الوسط.
وعند ذلك: فإما أن تكون ملاقاة كل واحد من الجزءين، لكلية ذلك الجزء الملتقى عليه، أو أن ما لاقاه منه غير ما لاقاه منه الجزء الآخر.
لا جائز أن يقال بأن كل واحد من الملتقيين، ملاق لكلية الملتقى عليه؛ وإلا أفضى إلى التداخل؛ وهو محال لما سبق «2».
وان كان القسم الثانى: فقد لزم التجزي.
الثانى: أنا لو فرضنا جزءا بين جزءين: فإما أن يحجب أحدهما عن الآخر ويمتنع من التماس بينهما، أو لا يمتنع.
لا جائز أن يقال بالثانى: وإلا لزم التداخل؛ وهو محال.
وإن كان الأول: فإما أن يكون ما ماس به المتوسط لأحدهما هو ما ماس به الآخر، أو غيره.
فإن كان الأول: فهو محال؛ لما ذكرناه من التداخل «3».
وإن كان الثانى: فقد لزم التجزي.
________________
(1) فى ب (خمسة).
(11) // أول ل 10/ أ من النسخة ب.
(2) راجع ما مر فى الفصل الخامس: فى أن الجواهر لا تتداخل ل 6/ ب.
(3) راجع ما مر ل 6/ ب.
(3/67)
________________________________________