الكتاب: أبكار الأفكار في أصول الدين
المؤلف: علي بن محمد بن سالم التغلبي، أبو الحسن، سيف الدين الآمدي (المتوفى: 631 هـ)
تحقيق: أ. د. أحمد محمد المهدي
عدد الأجزاء: 5
الناشر: دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة
الطبعة: الثانية / 1424 هـ -2004 م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
أعده للشاملة: //محمود الجيزي - عفا الله عنه//
ملاحظة: [هذا الكتاب من كتب المستودع بموقع المكتبة الشاملة]
قولهم: إنه يفضى إلى تعديد الآلهة. فجوابه أيضا ما سبق.
قولهم: يفضى إلى الكذب في الخبر منه وأن يكون أمرا، ونهيا، وخبرا، ولا مأمور، ولا منهى، ولا مخبر.
فنقول: إن قلنا بمذهب عبد الله بن سعيد من أصحابنا: من أن الكلام قضية واحدة، ولا يتصف بكونه أمرا، ونهيا، وخبرا، إلى غير ذلك من الأقسام في الأزل؛ بل فيما لا يزال؛ فقد اندفع الإشكال. وإن سلكنا مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى- رحمه الله- من أنه متصف في الأزل بكونه أمرا، ونهيا، وغيره من أقسام الكلام؛ فغير بعيد أن يكون في نفسه صفة واحدة، وإن اختلفت العبارات عنه بسبب اختلاف النسب، والإضافات إلى المتعلقات، وذلك أن يقال:
الأمر: هو الإخبار باستحقاق الثّواب على الفعل. واستحقاق العذاب على الترك، وفي النهى بعكسه.
والوعد والوعيد: الخبر بإيصال نفع، أو ضرر في طرف الاستقبال من المخبر.
والاستخبار: الإخبار بإرادة الاستعلام.
والنداء: الإخبار بإرادة الحضور، وعلى هذا النحو.
وعند/ هذا؛ فغير بعيد أن يقوم بذات الله- تعالى- خبر عن إرسال نوح مثلا، وتكون التعبرة عنه قبل الإرسال: إنّا نرسله. وبعد الإرسال: إنا أرسلنا نوحا؛ فالمعبر عنه يكون واحدا.
وإن اختلفت التعبيرات عنه بسبب اختلاف الأحوال؛ التى هى متعلق الخبر القديم، وذلك لا يفضى إلى الكذب في المعنى القائم بالنّفس المعبر عنه، ولا بالنسبة إلى المعبر به أيضا.
وكذلك أيضا يجوز أن يقوم بذات الله- تعالى- طلب خلع النعل من موسى على جبل الطور، واقتضاه منه على تقدير وجوده. وتكون التعبرة عنه قبل الوجود: بصيغة إنّا سنأمر، وعند الوجود بصيغة اخلع الدّالة على الطّلب، والاقتضاء القديم الأزلى.
(1/391)
________________________________________
ولهذا لو قدرنا الواحد منا في نفسه، اقتضى فعلا من شخص معدوم، واستمر ذلك الاقتضاء إلى حين وجود المقتضى منه؛ فإنّه إذا علم به إما بواسطة، أو بغير واسطة، وكان الطالب ممن يجب الانقياد له؛ كان ذلك الاقتضاء بعينه أمرا له، وموجبا لانقياده، وطاعته من غير استئناف طلب آخر.
فعلى هذا النحو هو أمر الله- تعالى- للمعدوم، وتعلقه به. واشتراط فهم [المأمور «1»]، إنما يكون عند تعلق الخطاب به في حال وجوده لا غير. ومن فهم معنى كلام النفس «2»، ودفع عن وهمه الأزمان المتعاقبة، والأحوال المختلفة لم يخف عليه ما قررناه.
وربما استروح بعض «3» الأصحاب في «4» هذا الباب إلى المناقضة، والإلزام فقال:
كيف يصح استبعاد تعلق الأمر بمأمور معدوم «4»؟ وعندكم أنه لا يتناول المأمور به إلا قبل حدوثه. ومهما وجد. خرج عن أن يكون مأمورا به، وهو أحد متعلقى الأمر. فإذا لم يبعد تعلق الأمر بالفعل المعدوم؛ لم يبعد تعلقه بالفاعل المعدوم.
وأيضا: فإن الأمة مجمعة على أننا في وقتنا هذا مأمورون «5». وعندكم أن الأمر قد تقضى، ومضى، فإذا لم يبعد وجود مأمور ولا أمر، لم يبعد وجود أمر بلا مأمور. ولو لزم من وجود الأمر وجود المأمور؛ للزم من وجود القدرة، وجود المقدور؛ وذلك يجر إلى قدم المقدور، لقدم القدرة؛ وهو محال على كلا المذهبين.
وفيه نظر؛ وذلك أن الأمر، والنّهي من خطاب/ التكليف، والتكليف يستدعى مكلفا به، والمكلف به يجب أن يكون معلوما مفهوما؛ ليصح قصده لغرض الإتيان به، والانتهاء عنه؛ إذ هو مقصود التكليف.
فإذن الفهم شرط في التكليف. ولهذا خرج من لا فهم له عن أن يكون داخلا في التكليف: كالجمادات، وأنواع الحيوانات العجماوات، ونحو ذلك؛ لعدم شرط التكليف في حقهم.
________________
(1) فى أ (المأموم).
(2) فى ب (الله النفسى).
(3) لعله الغزالى انظر الاقتصاد في الاعتقاد ص 91 - 92.
(4) فى ب (فى الباب للمناقصة والإلزام فيقال كيف يستبعد تعلق الأمر بالمعدوم).
(5) فى ب (مأمورون منهيون).
(1/392)
________________________________________
وعند ذلك فلا يلزم من تعلق الأمر بالمأمور به، مع عدمه تعلقه بالمأمور، مع عدم الفهم؛ فإن تعلقه بالمأمور به ليس تعلق تكليف؛ بخلاف تعلقه بالمأمور.
والقول بأنه إذا جاز وجود مأمور، ولا أمر؛ جاز وجود أمر، بلا «1» مأمور «1»؛ فدعوى مجردة عن الدليل.
كيف: وأنه لا يلزم من كون الشخص مكلفا بما كان من الأمر مع وجود شرط التكليف، وهو الفهم، تحقق أمر التكليف مع انتفاء شرطه، وهو فهم المأمور.
وعلى هذا: فقد خرج الإلزام بالقدرة؛ إذ القدرة معنى من شأنه تحقق الوجود «2» الممكن به «2»، لا ما يلازمه الوجود؛ وذلك متحقق بدون وجود المقدور بخلاف الأمر؛ فإنه تكليف، والتكليف بدون شرط ممتنع؛ فإذن معنى كون المعدوم مأمورا. ليس معناه غير تعلق الأمر به بشرط الوجود والفهم، على ما أسلفناه.
وما ذكروه في تحقق معنى الطاعة، والعبودية، والبعثة؛ فغير صحيح؛ وإلا لزم أن يكون كل تسخير بفعل شيء أمرا، وبتركه نهيا؛ وأن لا يكون الانقياد على وفق التسخير طاعة، كان ذلك في نفسه عبادة، أو معصية؛ وهو محال؛ فإنه ليس كل ما سخر به مأمورا، ولا كل ما انقاد العبد إلى فعله- وإن كان على وفق التسخير- طاعة.
وعلى هذا فلا بد من تفسير الأمر والنهى بما وراء ذلك. وهو ما يعد في نظر أهل العرف تكليفا، ولو لا ذلك لما تحقق معنى التبليغ، والرسالة على ما أسلفناه.
قولهم: إن المعنى النفسانى لا يسمى كلاما. لا نسلم ذلك؛ إذ «3» لا مانع منه من جهة الإطلاق؛ فإنه يصح أن يقال: فى نفسى كلام، وفي نفس فلان كلام. ومنه قوله- تعالى- ويَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ «4». ومنه قول الشاعر «5»:
إنه الكلام لفى الفؤاد وإنّما ... جعل اللّسان على الفؤاد دليلا
________________
(1) فى ب (و لا مأمور).
(2) فى ب (وجود الممكن).
(3) فى ب (فإنه).
(4) سورة المجادلة 58/ 8.
(5) فى ب (الأخطل). انظر ديوان الأخطل ط 2 - دار الشرق ببيروت- ص 805.
(1/393)
________________________________________
وهذا الاستشهاد، والإطلاق دليل صحة إطلاق الكلام على ما في النفس/ ولا نظر إلى كونه أصليا فيه، أو فيما يدل عليه. أو فيهما.
كيف وأن حاصل النزاع هاهنا إنما هو فى قضية لغوية، وإطلاقات لفظية، ولا حرج فيها بعد فهم المعنى.
قولهم: المعقول من الصفات النفسانية، غير خارج عن القدرة، والإرادة، والتمييز. ليس كذلك.
وبيانه: هو أنه إذا قال القائل لعبده: افعل كذا؛ فالذى يجده من نفسه مدلولا لصيغته ليس هو الإرادة، ولا القدرة، ولا التمييز؛ بل معنى آخر.
أما أنه ليس هو الإرادة؛ فلأن الإرادة التى هى مدلول صيغة الأمر: إما أن تكون هى إرادة الفعل، والامتثال، أو إرادة إحداث الصفة، أو إرادة جعل الصيغة دالة «1» على الأمر على ما هو مذهبهم.
لا جائز أن يكون هو إرادة الفعل، والامتثال؛ فإن الأمر قد يوجد بدون إرادة الفعل، وبيانه من وجهين:
الأول: هو أن الإجماع منعقد على أن من علم الله- تعالى أنه لا يؤمن: كأبي جهل، وغيره أنه مأمور بالإيمان، ولم يرد منه وقوع الإيمان، والامتثال؛ فإن تعلق إرادة البارى- تعالى- بفعل ما علم أنه لا يقع محال.
الثانى: هو أن من الأفعال ما هو مأمور [به] «2» بالإجماع: كالصلاة، والزكاة، والحج، ونحو ذلك من العبادات الخمس. وقد لا يكون مرادا؛ لكونه غير واقع. ولو تعلقت به الإرادة؛ لاستحال أن لا يتخصص؛ فإنه لا معنى لتعلق الإرادة بالفعل، غير تخصيصه بزمان حدوثه، فلا يعقل التعلق من غير تخصيص.
وقد احتج الأصحاب في ذلك بوجهين آخرين.
________________
(1) فى ب (دلالة).
(2) ساقط من أ.
(1/394)
________________________________________
الأول: أن السيد المعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده. إذا اعتذر بأنه يخالف أمره. وأمره بين يدى السلطان؛ لتحقيق عذره. فإنا نعلم أنه لا يريد منه الامتثال؛ لما فيه من ظهور كذبه، وتحقق عتاب السلطان له. ومع ذلك؛ فإن أهل العرف يعدونه آمرا، ويعدون العبد مطيعا، بتقدير الفعل. وعاصيا، بتقدير الترك. ولو لم يكن أمرا، لما تمهد عذره. ولما عدّ العبد مطيعا، وعاصيا. بتقدير المخالفة، والفعل.
وبه يندفع قول القائل: إنه موهم بالأمر، وليس بآمر؛ وهو مع أنه تمسك في أمر عقلى، بأمر عرفى، وإطلاق لغوى؛ فهو لازم على أصحابنا في اعتقادهم أن الأمر هو/ الطلب، واقتضاء الفعل. فإنا كما نعلم أن العاقل لا يريد ما يظهر به كذبه، ويتحقق به عقابه؛ فكذلك نعلم أن العاقل لا يطلب ما فيه ذلك، ومع ذلك، فهو أمر بدون الطلب؛ فكما هو لازم على اعتقاد الخصم كون الأمر هو إرادة الفعل؛ فهو لازم على أصحابنا في اعتقادهم: أن الأمر طلب الفعل.
الوجه الثانى: ما اشتهر من قصة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- من أمره بذبح ولده مع عدم تعلق الإرادة بوقوع الذبح، لعدم وقوعه؛ على ما سلف بيانه.
وما يقال من أن ذلك كان «1» مناما، لا أمرا. وأن «2» تعلق الأمر لا يكون «2» إلا بالعزم على الذبح، أو الانكاء، وإمرار السكين، أو أن الذبح مما وقع، واندمل الجرح.
ولهذا قال- تعالى-: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا «3» فمندفع؛ فإن أكثر الوحى إلى الأنبياء- عليهم السلام-. إنما كان بجهة المنام، ولو لم يكن ذلك بطريق الوحى، وإلا كان إقدام النبي على فعل محرم بما لا أصل له؛ وذلك محال.
وحمل الأمر على غير الذبح. من العزم، أو الإنكاء، وإمرار السكين؛ باطل. وإلا لما صح تسميته بالبلاء؛ إذ لا بلاء فيه، ولا تسمية الذبح فداء مع وقوع المأمور به.
وبه يندفع القول بتحقيق وقوع الذبح، واندمال الجرح، وهو وإن كان من الظواهر المغلبة على الظن؛ فبعيد عن اليقين.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (أو أن تعلق الأمر لم يكن).
(3) سورة الصافات 37/ 105.
(1/395)
________________________________________
هذا إن قيل: هو إرادة للفعل، ولا جائز أن يكون عبارة عن إرادة إحداث الصيغة؛ فإنه ليس مدلولا لها؛ فإن مدلولات أقسام الكلام مختلفة، ولا اختلاف في إرادة إحداث الصيغة.
ولا جائز أن يكون عبارة عن إرادة جعل الصيغة دالة على الأمر لثلاثة أوجه:
الأول: أنه تصريح بأن الإرادة وراء الأمر الّذي هو مدلول قوله: افعل، وأمرتك، وأنت مأمور.
الثانى: أن كل عاقل يقضى بأن قول القائل: افعل. ليس ترجمة عن إرادة جعله دالا على شيء مخصوص.
الثالث: أنّ كل عاقل يجد من نفسه بقاء ما دل عليه قوله: افعل، وأن عدم لفظه، وإرادة جعله دالا على شيء ما.
وأما أنه يمتنع أن يكون هو القدرة: فلأن القدرة على ما سبق عبارة عن معنى يتأتى به الإيجاد بالنسبة إلى كل ممكن. والأمر، والنهى لا يتعلق بكل ممكن؛ فإن الطاعات ممكنة، ولا يتعلق بها النهى. والمعاصى/ ممكنة، ولا يتعلق بها الأمر.
فإذن القدرة أعم من الأمر من هذا الوجه. والأمر عند القائلين بجواز التكليف «1» بما لا يطاق «1» أعم من القدرة من جهة أخرى. وهو تعلقه بالممكن، وغير الممكن.
وإن قيل: إنه عبارة عن القدرة على التكلم؛ فكل عاقل يجد من نفسه وجدانا ضروريا أن مدلول قوله: افعل، ولا تفعل. وكذا في سائر أقسام الكلام؛ ليس هو القدرة على التكلم؛ بل «2» غيره «2».
وأما أنه لا يمكن تفسيره بالعلم، أو بضرب منه. من حيث أن العلم أعم من الأمر؛ إذ هو قد يتعلق بما لم يتعلق به الأمر: كالمعاصى، وبما «3» لا يتعلق «3» به الأمر:
كالطاعات؛ فلا يكون الأمر هو نفس العلم.
________________
(1) فى ب (تكليف ما لا يطاق).
(2) فى ب (بل هو غيرها).
(3) فى ب (و لا يتعلق).
(1/396)
________________________________________
كيف: وإن كل عاقل يجد من نفسه: أن مدلول قوله: افعل ولا تفعل، وراء كل ما يقدر من أنواع العلوم؛ فقد بأن أن مدلول الصيغ الدالة خارج عن المعلوم، والقدرة، والإرادة، وذلك هو المطلوب.
قولهم: إنه حديث النفس؛ ليس كذلك لوجهين:
الأول: هو أن تحدث النفس بالعبارات التى تصور الحروف والكلمات الدالة، لا تتصور مع عدم العبارات اللسانية. حتى إنا لو قدرنا إنسانا ما عرف لغة، ولا خطرت له العبارات اللسانية ببال؛ فإنه لا يتصور في نفسه شيئا من ذلك. وما يلزم من ذلك اختلال المعانى التى يمكن التعبرة عنها بالعبارات اللسانية من الطلب، والاقتضاء، وغيره من المعانى؛ فلا يكون لديه حاضرا عندنا.
الثانى: هو أن ما نتصوره من الحروف، والكلمات. غير حقيقية؛ بل اصطلاحية مختلفة باختلاف الاصطلاحات في الأعصار، والأمم؛ ولهذا يجوز أن يحدث نفسه بعبارات مختلفة: كالعربية، والعجمية، ونحوهما، وما يجده في «1» نفسه من مدلولات «1» هذه العبارات متحد لا يختلف، ولا يتبدل.
قولهم: ما المانع أن يكون ذلك الكلام النفسانى بحروف وأصوات؟
قلنا: إن قيل إنه بحرف، وصوت: كحروفنا، وأصواتنا؛ فلا شك في كونه حادثا؛ ضرورة أن الحروف مقاطع الصوت، وكل واحد فله أول وآخر، ولا يتصور اجتماع حرفين منهما معا؛ بل على التعاقب والتجدد.
فعند وجود الحرف الأخير، ينعدم الأول. وعند وجود الأول؛ فالأخير لا يكون موجودا، وذلك ظاهر مستغن عن/ الإطناب فيه.
فلو قيل: ثبوت مثل ذلك لله- تعالى- يلزم منه أن يكون محلا للحوادث؛ وهو محال؛ كما يأتى «2».
________________
(1) فى ب (من نفسه من مدلول).
(2) انظر ل 146/ أ.
(1/397)
________________________________________
وإن قيل: إنه بحروف، وأصوات. لا كحروفنا، وأصواتنا؛ فحاصله يرجع إلى المنازعة في الإطلاق اللفظى.
ولا يخفى أن جواز إطلاق ذلك؛ موقوف على ورود الشرع به، والشرع وإن ورد بإطلاق الحروف والأصوات، كما سبق؛ فلا نسلم أنه ورد بذلك في الكلام النفسانى، حتى يقال بجوازه.
وأما ما ذكروه من النصوص، والإجماع؛ فقد سبق جوابه في المسلك الأول.
وإذا ثبت «1» أنه متصف بصفة الكلام، وأن كلامه قديم- على ما سبق- وأنه ليس بحرف، ولا صوت؛ فهو متحد، لا كثرة فيه في نفسه؛ بل التكثر إنما هو في تعلقاته، ومتعلقاته؛ كما سلف.
فإن قيل: عاقل ما لا يمارى نفسه في انقسام الكلام إلى أمر، ونهى، وغيره، من أقسام الكلام. وأن ما انقسم إليه حقائق مختلفة، وأمور متمايزة، وأنها من أخص أوصاف الكلام. لا أن الاختلاف عائد إلى نفس العبارات، والتعلقات، والمتعلقات ودفعناها وهما لم يخرج الكلام عن كونه منقسما.
وأيضا: فإن ما أخبر عنه من القصص الماضية، والأمور السالفة مختلفة متمايزة.
وكذلك المأمورات، والمنهيات؛ مختلفة أيضا؛ فلا يتصور أن يكون الخبر عما جرى لموسى «2» - عليه السلام؛ هو نفس الخبر عما جرى لعيسى عليه السلام «2»، ولا الأمر بالصلاة؛ هو نفس الأمر بالزكاة، وغيرها، ولا أن ما تعلق بزيد، هو نفس ما تعلق بعمرو، ولا ما سمى خبرا هو نفس ما سمى أمرا؛ إذ الأمر طلب، والخبر لا طلب فيه؛ بل حكم بنسبة مفرد إلى مفرد إيجابا، أو سلبا؛ فثبت أن الكلام أنواع مختلفة، والكلام عام للكل؛ فيكون كالجنس لها.
قلنا: قد بينا فيما تقدم أن الكلام قضية واحدة، ومعلوم واحد، قائم بالنفس. وأن اختلاف العبارات عنه بسبب اختلاف التعلقات والمتعلقات، وهذا النوع من الاختلاف ليس راجعا إلى أخص صفة الكلام، بل إلى أمر خارج عنه.
________________
(1) من أول قول الآمدي «و إذا ثبت أنه يتصف بصفة الكلام ... الخ نقله ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 115 - 119) ثم علق عليه وناقشه من وجهة نظره.
(2) وردت في (ب) مقدما عيسى على موسى وفي (أ) بدون ألفاظ التعظيم وقد ذكرتها تأدبا مع مقام النبوة.
(1/398)
________________________________________
وعلى هذا نقول: إنه لو قطع النظر عن التعلقات، والمتعلقات الخارجة؛ فلا سبيل إلى توهم اختلاف في الكلام النفسانى أصلا، ولا يلزم منه دفع الكلام في نفسه، وزوال حقيقته.
وعلى هذا:/ فلا يخفى اندفاع ما استبعدوه من اتحاد الخبر، واختلاف المخبر، واتحاد الأمر، واختلاف المأمور. وكذلك اختلاف الأمر، والخبر مع اتحاد صفة الكلام.
فإن قيل: إذا قلتم بأن الكلام قضية واحدة، وأن اختلاف العبارات عنها بسبب المتعلقات الخارجة، فلم لا جوزتم أن تكون الإرادة «1»، والعلم والقدرة «1»، وباقى الصفات راجعة إلى معنى واحد. ويكون اختلاف التعبيرات عنه بسبب المتعلقات، لا بسبب اختلافه في ذاته، وذلك بأن يسمى إرادة: عند تعلقه بالتخصيص، وقدرة: عند تعلقه بالإيجاد، وهكذا سائر الصفات.
وإن جاز ذلك؛ فلم لا يجوز أن يعود ذلك كله إلى نفس الذات من غير احتياج إلى الصفات.
أجاب الأصحاب عن ذلك: بأنه يمتنع أن يكون الاختلاف بين القدرة، والإرادة بسبب التعلقات، والمتعلقات، إذ القدرة: معنى من شأنه تأتى الإيجادية، والإرادة: معنى من شأنه تأتى تخصيص الحادث بحالة دون حالة.
وعند اختلاف التأثيرات لا بدّ من الاختلاف في نفس المؤثر. وهذا بخلاف الكلام؛ فإن تعلقاته بمتعلقاته لا توجب أثرا، فضلا عن كونه مختلفا؛
وفيه نظر؛ وذلك أنه وإن سلم امتناع صدور الآثار المختلفة عن المؤثر الواحد؛ مع إمكان النزاع فيه؛ فهو موجب للاختلاف في نفس القدرة؛ وذلك لأن القدرة مؤثرة في الوجود، والوجود عند أصحابنا نفس الذات، لا أنه زائد عليها. وإلا كانت الذوات «2» ثابتة في العدم؛ وذلك مما لا نقول «3» به.
________________
(1) فى ب (الإرادة والقدرة والعلم).
(2) فى ب (الذات).
(3) فى ب (يقولون).
(1/399)
________________________________________
وإذا كان الوجود هو نفس الذات؛ فالذات مختلفة؛ فتأثير القدرة في آثار مختلفة؛ فيلزم أن تكون مختلفة كما قرروه، وليس كذلك.
وأيضا: فإن ما ذكروه من الفرق، وإن استمر في القدرة والإرادة، فغير مستمر في باقى الصفات: كالعلم، والحياة، والسمع، والبصر؛ لعدم كونها مؤثرة في أثر ما.
والحق أن ما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام، وعود الاختلاف إلى التعلقات، والمتعلقات؛ فمشكل. وعسى أن يكون عند غيرى حله.
ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بأن كلام الله- تعالى- القائم بذاته خمس صفات مختلفة. وهى: الأمر، والنهى، والخبر،/ والاستخبار، والنداء «1».
________________
(1) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية من كتاب أبكار الأفكار في كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 115 - 119) ثم علق عليه وناقشه في ص 119 وما بعدها فقال: «هذا كلامه. فيقال: قول القائل: إن الكلام خمس صفات، أو سبع أو تسع، أو غير ذلك من العدد، لا يزيل ما تقدم من الأمور الموجبة تعدد الكلام الخ».
[انظر: درء تعارض العقل والنقل 4/ 119 وما بعدها].
(1/400)
________________________________________
«المسألة السادسة» «فى إثبات الإدراك لله تعالى»
والإدراك وإن أطلق بمعنى العلم بالشيء؛ فإنه يصح أن يقال: أدرك فلان الشيء إذا علمه. وبمعنى اللحوق؛ إذ يقال: أدرك فلان العصر الفلانى. إذا لحقه. وبمعنى البلوغ لحالة من أحوال الكمال. ومنه يقال: أدرك الغلام. إذا بلغ سن كمال العقل، وأدركت الثمار. إذا زهت، واستوت. إلا أن المقصود فيما نحن فيه؛ إنما هو الإدراك بمعنى السمع، والبصر.
وقد أجمع العقلاء، على أن الواحد منا مدرك. ثم اختلفوا:
فمن قال بنفى الأعراض: قال: هو مدرك، لا بإدراك.
ومن أثبت الأعراض: قال هو مدرك، بإدراك، وإن الإدراك معنى، غير أن الإدراك عرض قائم بجزء من المدرك عند المعتزلة، وقائم بنفس المدرك عند من لا يرى تعدى حكم الصفة عن محلها.
وعند هذا اختلف المتكلمون في الرب تعالى:
فذهب أصحابنا «1»: إلى أنه سميع بسمع، بصير ببصر.
وذهبت المعتزلة: إلى أنه سميع بلا سمع، بصير بلا بصر.
وذهب ابن الجبائى «2»: إلى أن معنى كونه سميعا، بصيرا: أنه حي لا آفة به.
________________
(1) من كتب الأشاعرة المتقدمين على الآمدي:
انظر اللمع للأشعرى ص 25، 26 والإبانة له أيضا ص 35، والتمهيد للباقلانى ص 47 والإنصاف له أيضا ص 37 وأصول الدين للبغدادى ص 96، 97.
والإرشاد لإمام الحرمين ص 72 - 76 ولمع الأدلة له أيضا ص 58.
والاقتصاد للغزالى ص 51 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 341 - 355.
والمحصل للرازى ص 123، 124 ومعالم أصول الدين له أيضا ص 45 - 47.
ومن كتب الآمدي: انظر غاية المرام ص 121 - 133.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
انظر شرح الطوالع ص 182 - 183، والمواقف للإيجي ص 292 - 293، وشرح المقاصد للتفتازانى، 2/ 72 - 73.
(2) لتوضيح رأى الجبائى انظر الفرق بين الفرق ص 183، 184 والملل 1/ 83.
(1/401)
________________________________________
وذهب الكعبى «1»: إلى أن معناه: أنه عالم بالمسموعات، والمبصرات.
وقد اعتمد أصحابنا «2» فى المسألة. على «3» المسلك المشهور. وهو أنهم قالوا:
البارى تعالى حي، والحى إذا قبل حكما لا يخلو عنه، أو عن ضده. وهو كونه حيا موجب لقبول السمع، والبصر، فلو لم يتصف البارى- تعالى- بالسمع «4»، والبصر «4».
لكان متصفا (بضدهما «5») وضد البصر «6»، والسمع «6»، صفة نقص؛ فيمتنع اتصاف البارى- تعالى- به.
وبيان أن الموجب لقبوله «7» للسمع «7»، والبصر كونه حيا: ما نراه في الشاهد؛ فإن الموجب لقبول الإنسان، وغيره من الحيوان لذلك: إنما هو كونه حيا؛ فإنه لو قدر أن الموجب لذلك غير الحياة من الأوصاف؛ لكان منتقضا.
وإذا كان الموجب لقبول ذلك: إنما هو كونه حيا: فالبارى- تعالى- حي كما يأتى؛ فيجب أن يكون متصفا بهما وإلا كان متصفا بأضدادهما: وهو ممتنع.
واعلم أن هذا المسلك: مما لا يقوى نظرا إلى ما حققناه في مسألة «8» الكلام «8».
والّذي نعده هاهنا أن نقول:
حاصل الطريقة آئل إلى قياس التمثيل؛ وهو الحكم على الغائب/ بمثل ما حكم به على الشاهد بجامع الحياة. وهو إنما يصح أن لو ثبت أن الحكم في الأصل الممثل به
________________
(1) لتوضيح رأى الكعبى انظر الفرق بين الفرق ص 181 والملل 1/ 78.
(2) منهم: الأشعرى في اللمع ص 25، 26، 40 والإبانة ص 35، وتابعه الباقلانى في التمهيد ص 47، والشهرستانى في نهاية الأقدام ص 341 - 343.
(3) ساقط من ب.
(4) فى ب (بهما).
(5) فى أ (بضده).
(6) فى ب (السمع والبصر).
(7) فى ب (لقبول السمع).
(8) فى ب (الصفات بجهة العموم).
انظر ل 88/ ب وما بعدها: المسلك الخامس- من المسألة الخامسة في إثبات صفة الكلام لله تعالى، وهذا المسلك قد نقده القاضى عبد الجبار في المغنى 4/ 39، 51 وشرح الأصول الخمسة ص 257.
(1/402)
________________________________________
لمعنى، لا أنه ثابت لنفسه، أو بخلق علم «1» الله- تعالى- له في ذلك من غير افتقار إلى أمر خارج، يكون مصححا له، وموجبا.
وإن سلم «2» أنه ثبت لمعنى؛ لكن لا بدّ من حصر أوصاف المحل؛ وذلك لا يتم إلا «3» بالبحث، والسبر؛ وهو غير مفيد لليقين «3» كما سلف «4».
ثم وإن أفاد علما للباحث؛ فلا يكون حجة على غيره؛ فإن بحث زيد لا يفيد العلم في حق عمرو.
ثم وإن سلم «5» الحصر؛ فلا بد «5» من التعرض لإبطال التأثير في كل رتبة تحصل له مع إضافته إلى غيره؛ وذلك مما يعسر ويشق.
وإن سلم التعرض لإبطال غير المستبقى، غير أن ما به إبطال غير المستبقى؛ فهو لازم على إبطال المستبقى؛ فإنه منتقض بباقى أعضاء الإنسان، وأعضاء غيره من الحيوان؛ فإنها حية مع انتفاء السمع، والبصر، وأضدادهما عنها.
وإن سلم أن الحكم لغير ما عين؛ لكن من الجائز أن يكون ذلك له باعتبار الشيء الموصوف به. ومهما لم يتبين أن الموصوف به في محل النزاع هو الموصوف به في محل الوفاق، لم يلزم الحكم.
وإن سلم أن المصحح كونه حيا لا غير؛ فإنما يلزم ذلك في حق الله تعالى أن لو كان إطلاق اسم الحى على الله- تعالى- وعلى الواحد منا بمعنى واحد؛ وهو غير مسلم.
ولا يلزم من كون الحياة في حق الله- تعالى- شرطا لصحة الاتصاف بالعالمية، والقادرية، كما في الحياة في الشاهد، التماثل بين الحياتين؛ لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (سلمنا).
(3) فى ب (إلا بالبحث وهو غير يقينى).
(4) انظر ل 39/ ب.
(5) فى ب (سلمنا الحصر ولكن لا بدّ).
(1/403)
________________________________________
سلمنا اتحاد مسمى الحى بين الشاهد والغائب، ولكن لم قلتم إنه يلزم من وجود المصحح؛ وجود الصحة، وما المانع من أن تكون ذات البارى- تعالى- مانعة؟ إذ لا يلزم من (وجود «1») المصحح انتفاء المانع. ولهذا: فإن كونه حيا كما أنه مصحح لهذه الإدراكات؛ فهو مصحح في الشاهد لأضدادها. وما لزم من وجوده في حق الله- تعالى- صحة اتصافه بأضداد الإدراكات.
وقد ترد عليه أسئلة أخرى يمكن الانفصال عنها وهى أن يقال:
سلمنا أنه يلزم من وجود المصحح؛ صحة اتصافه بالإدراكات؛ ولكن ما الّذي تعنون بأضداد الإدراكات؟
إن أردتم بها عدم الاتصاف بالإدراكات فهو حق؛ ولكن لا نسلم أن الاتصاف بعدم/ الإدراك ممتنع؛ والقول بأنه صفة نقص؛ عين محل النزاع.
وإن أردتم به معنى ثبوتيا: فهو غير مسلم.
وبيانه: أنه لو كان معنى؛ لوجب أن يدركه الحى من نفسه:
كإدراكه جميع صفاته التى شرطها الحياة؛ وذلك كما إذا قدر أو علم، فإنه يدرك كونه عالما، أو قادرا، والعلم الاضطرارى يشهد بأنا لا ندرك معنى عند عدم إدراكنا للأمور الغائبة عنا.
سلمنا وجود أضداد الإدراكات، ولكن لا نسلم امتناع خلو الحى عنهما كما ذهب إليه أبو الهذيل.
سلمنا امتناع الخلو؛ ولكن لا نسلم أن أضداد الإدراكات من صفات النقص كما تقدم في مسألة الكلام.
سلمنا أنها نقص؛ ولكن لم قلتم بامتناع اتصاف الرب- تعالى- بها؟ فلئن رجعتم إلى الإجماع؛ فمدرك كون الإجماع حجة. إنما هو النصوص من الكتاب، والسنة، فلنرجع في إثبات السمع، والبصر إليهما؛ إذ هو أولى من هذا التطويل مع ضعفه.
________________
(1) ساقط من أ.
(1/404)
________________________________________
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على اتصاف الرب- تعالى- بالسمع، والبصر، لكنه ينتقض بباقى الإدراكات من الشم، والذوق، واللمس؛ فإن ما ذكرتموه يوجب كونه- تعالى- متصفا بها؛ ولم يقل به قائل.
والجواب:
أما السؤال الأول: فمندفع؛ وذلك لأنه إذا ثبت كون الرب- تعالى- حيّا، وأن كونه حيا: مصحح لاتصافه بالسمع، والبصر؛ فالسمع، والبصر صفة كمال للحى على ما تقدم تقريره. فإذا لم يكن متصفا بهما، فهو ناقص، وسواء كان (ضدهما «1») هو عدم السمع، والبصر، أو معنى ثابتا.
كيف وإن الأدلة (الدالة «2») على ثبوت الأعراض بعينها دالة على كون أضداد السمع، والبصر معنى، وسنبين ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
قولهم: لو كان صفة ثبوتية لكان مدركا، ليس كذلك لوجوه ثلاثة:
الأول: هو أن السهو من أضداد العلم، وهو معنى، وما لزم أن يكون مدركا؛ فإنه لو كان مدركا لكونه ساهيا؛ لما كان ساهيا، فإذن ليس كل معنى يكون مدركا.
الثانى: هو أنا لا نسلم أن كل معنى يجب أن يكون مدركا؛ ولكن فيما كان من صفات الحى، أو فيما لا يكون من صفات الحى.
الأول: مسلم. والثانى: ممنوع؛ ولكن لم قلتم بأن المانع من صفات/ الحى- إذ المانع من الإدراك بالسمع، والبصر، في اليد، والرجل عندنا؛ مجانس للمانع في الجماد.
الثالث: سلمنا أن كل معنى يجب أن يكون مدركا؛ ولكن متى؟ إذا لزم منه التسلسل، أو إذا لم يلزم، الأول: ممنوع، والثانى: مسلم.
والموانع لو لزم أن تكون مدركة؛ للزم من عدم إدراكها، إدراك مانعها، وهلم جرا، إلى غير النهاية؛ وهو محال.
________________
(1) فى أ (ضده).
(2) ساقط من أ.
(1/405)
________________________________________
وأما منع إحالة الخلو من الأضداد؛ فقد سبق جوابه في مسألة الكلام «1».
وأما الأصحاب «2»: فقد استدلوا على موقع المنع من أربعة أوجه:
الأول: أن الاتفاق واقع على أن المحل بعد اتصافه ببعض الصفات لا يخلو عنها إلا بضدها. فإما أن يكون ذلك لازما، أو لا يكون لازما.
فإن لم يكن لازما: جاز أن لا يقع؛ وهو خلاف الإجماع، وإن كان لازما: فاللزوم إما لنفس الذات، أو للازم الذات.
وعلى كلا التقديرين يلزم استمرار هذا الحكم بدوام الذات.
الثانى: أنه لو جاز خلو المحل عن جميع الأضداد: فإما أن يكون التعاقب بينهما واجبا، أو لا يكون واجبا.
فإن كان غير واجب: فلا يمتنع وجودهما معا؛ وهو محال. وإن كان التعاقب واجبا؛ فهو المطلوب.
الثالث: هو أن المحل لو جاز خلوه عن الأضداد: فإما أن يكون ذلك لذاته، أو لمعنى.
فإن كان الأول فيلزم منه امتناع اتصافه بواحد منها؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فيلزم أن يكون متصفا ببعض الأضداد حالة خلوه عنها؛ وهو محال.
الرابع: أنه لو جاز خلو المحل عن جميع الأضداد؛ لامتنعت الدلالة على استحالة حلول الحوادث بذات الرب تعالى؛ إذ لا طريق إلى ذلك غير قولنا: لو جاز أن يكون محلا للحوادث، لما خلا عنها، أو عن أضدادها في الأزل؛ وهو ممتنع؛ لما فيه من وجود حوادث متعاقبة إلى غير النهاية.
ويمكن أن يجاب عن الأول: بأنه لا مانع أن يكون ذلك من لوازم اتصاف المحل بالصفة، لا أنه من لوازم الذات، ولا لازم الذات.
________________
(1) انظر ل 90/ أ الجواب عن السؤال الرابع.
(2) ذكر الآمدي استدلال الأصحاب على موقع المنع ثم رد عليهم.
(1/406)
________________________________________
وعن الثانى: بنفى وجوب التعاقب، ولا يلزم من انتفاء وجوب التعاقب، جواز الاجتماع.
وعن الثالث: أن خلو المحل عن الأضداد لا لذاته، ولا لمعنى.
وعن الرابع: بما فيه من تصحيح الأصل؛ ضرورة صحة ما لا يصح إلا به.
وأما/ السؤال الثالث، والرابع: فمندفع بما حققناه في جواب السؤال الأول.
وأما السؤال الخامس: فقد سبق جوابه في مسألة إثبات الصفات بجهة العموم «1».
المسلك الثانى:
وهو مناسب لأصول المعتزلة «2». وهو أن الله- تعالى- حي لذاته، وكل حي لذاته؛ فإنه يدرك المدرك عند وجوده؛ فالبارى- تعالى- يدرك المدرك عند وجوده.
أما «3» أنه حي: فمجمع عليه مع قيام الدليل عليه فيما يأتى «4».
وأما أن كل حي لذاته (فهو «5») يدرك المدرك عند وجوده؛ فهو: أن الحى في الشاهد مدرك ومدركيته معللة بكونه حيا، ومفهوم الحياة متحد في الغائب والشاهد؛ فيلزم من كونها علة المدركية في الشاهد؛ أن تكون علة في الغائب.
أما بيان كون الحياة في الشاهد علة المدركية: فمن ثلاثة أوجه:
الأول: أن بعض الحى إذا كان حيا؛ كان مدركا. وإذا خرج عن كونه حيا بالقطع، وغيره خرج عن كونه مدركا. ودوران المدركية معه وجودا وعدما؛ دليل كونه علة لها.
الثانى: أن الحى- السليم الحاسة- إذا حضر المدرك، وانتفت الموانع، ووجدت الشرائط؛ كان إدراكه له واجبا.
________________
(1) راجع ما سبق ل 58/ ب.
(2) قارن بالأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 167 وما بعدها، والمغنى في أبواب التوحيد والعدل: 5/ 241 وما بعدها، والمحيط بالتكليف له أيضا ص 135 وما بعدها.
(3) فى ب (و أما).
(4) انظر ل 111/ أ وما بعدها.
(5) ساقط من أ.
(1/407)
________________________________________
وإدراكه: إما أن يكون معللا بكونه حيا، أو بانتفاء الموانع، أو بصحة الحاسة، أو لوجود المدرك، أو لأمر آخر.
لا جائز أن يكون معللا بانتفاء الموانع لثلاثة أوجه:
الأول: هو أن انتفاء الموانع يعم الحى، والميت؛ وذلك يوجب كون الميت مدركا؛ وهو محال.
الثانى: هو أن العدم لا يكون علة لأمر ثبوتى.
الثالث: هو أن الموانع المنتفية كثيرة: فإما أن تعلل المدركية بواحد منها، وإما «1» بالكل، أو لا بشيء منها.
والأول «1» ممتنع؛ إذ لا أولوية لبعضها دون البعض.
والثانى: ممتنع؛ لأنها عند الاجتماع: إما أن يكون كل واحد مؤثرا في جملة الحكم، أو في بعضه، أو أنه لا تأثير لكل واحد منها في شيء ما.
لا سبيل إلى الأول: وإلا كان كل واحد منها مستقلا بالحكم. ومعنى استقلاله، أنه «2» ثبت «2» به لا غير، وفي ذلك إبطال استقلال كل واحد منها.
ولا سبيل إلى الثانى؛ لعدم التبعيض في الحكم.
وإن كان الثالث؛ فهو المطلوب.
ولا جائز أن يكون معللا بصحة الحاسة؛ لأنه لا معنى لصحة الحاسة غير انتفاء الآفات/ عنها، وهو عود إلى القسم الّذي تقدم.
ولا جائز أن يكون معللا بوجود المدرك: فإن المدركية تكون «3» موجودة في غير المدرك «3»، والعلة لا توجب حكما في غير محلها. كما يأتى في العلل والمعلولات «4».
ولا جائز أن تكون المدركية معللة بأمر خارج عن هذه الأقسام: وإلا لزم من فرض عدمه امتناع الإدراك مع فرض الحياة، ووجود المدرك، وصحة الحاسة، وامتناع الموانع؛ وهو محال.
________________
(1) فى ب (أو بالكل أو بشيء منها الأول).
(2) فى ب (به أنه أثبت).
(3) فى ب (تكون في غير المدرك موجودة).
(4) انظر الجزء الثانى ل 117/ ب وما بعدها.
(1/408)
________________________________________
الوجه الثالث: هو أنه إذا كان المحل حيا مع صحة الحاسة، وانتفاء الموانع، والمدرك موجود؛ فإنا نعلم حصول المدركية، ولا شك أنها موقوفة على وجود المدرك.
وعند ذلك، إما أن تتوقف المدركية على شرط آخر، أو لا.
فإن توقفت على شرط آخر: فإما أن يكون من الشرائط «1» المذكورة من صحة الحاسة، وانتفاء الموانع، من القرب المفرط، والبعد المفرط، وارتفاع الحجب، أو خارجا عنها.
لا جائز أن يقال بالأول: لأن هذه الشروط إنما يعقل ثبوتها في حق الأجسام، والله- تعالى- ليس بجسم؛ فلا يتصور ثبوتها في حقه. وما استحال ثبوته لشيء «2»، استحال كونه شرطا في ثبوت غيره لذلك الشيء؛ لأن كونه شرطا: صفة ثبوتية. والصفة الثبوتية: لا تكون صفة للعدم الصرف.
ولا جائز أن يقال بالثانى: وإلا لزم عدم الإدراك عند فرض عدمه مع وجود ما قيل من الشرائط؛ وهو ممتنع، مخالف لما هو معلوم لنا بالضرورة.
وإن كان الثانى؛ فهو المطلوب.
وهو ضعيف أيضا؛ إذ لقائل أن يقول:
لا نسلم أن علة المدركية في الشاهد، كون المدرك حيا.
وأما ما ذكروه من الدوران؛ فباطل بما سبق في قاعدة الدليل «3» كيف وقد أمكن أن يكون حلول الحياة في العضو مع اتصاله بالجملة الحية من جملة المصحح.
وأما الوجه الثانى: فباطل؛ إذ لا مانع من كون العلة صحة الحاسة.
قولهم: معنى صحة الحاسة، انتفاء الآفات، لا نسلم [ذلك «4»]؛ بل هو عبارة عن اعتدال المزاج، وهو أمر وجودى لا عدمى.
________________
(1) فى ب (الشروط).
(2) فى ب (للشىء).
(3) انظر ل 40/ أ.
(4) ساقط من أ.
(1/409)
________________________________________
فلئن قالوا: المزاج المعتدل كيفية حادثة عن تفاعل الكيفيات الملموسة للعناصر.
ولا يكون ذلك إلا من اجتماع أمور؛ وهو باطل بما سبق في تقرير امتناع التعليل بانتفاء الموانع/؛ فهو باطل على أصلهم «1»؛ حيث قضوا باستحالة قيام الحياة بالجوهر الفرد، وجواز قيامها بالجسم المركب من الجواهر المجتمعة؛ وفيه توقف الحياة علي كل واحد من أفراد «2» الجسم لا محالة.
وأما الوجه الثالث: لأن إلحاق الغائب بالشاهد؛ إنما هو بواسطة الاشتراك في العلة المصححة للمدركية في الشاهد. فإذا «3» أمكن أن يكون المصحح هو الحياة، وحصول المدرك، وصحة الحاسة، وانتفاء الموانع؛ فإن استحال تحقق هذه الشرائط، أو بعضها في حق الله- تعالى- فلم يوجد في حقه، ما كان هو المصحح في الشاهد؛ فكان الإلحاق ممتنعا.
كيف، وأن «4» كل «4» ما أوردناه على المسلك المتقدم «5»؛ فهو وارد هاهنا «6».
وربما استروح بعض الأصحاب «7» في إثبات السمع، والبصر لله «8» - تعالى- «8» إلى ظواهر واردة في الكتاب، والسنة.
منها ما يدل على كونه سميعا بصيرا، كقوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ «9».
ومنها ما يدل على نفس السمع، والبصر، كقوله- تعالى-: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وأَرى «10». إلى غير ذلك من الظواهر؛ وهى غير مفيدة لليقين، ولا خروج لها عن الظن، والتخمين، والتمسك بما هذا شأنه في إثبات الصفات النفسية، وما يطلب فيه اليقين، ممتنع.
________________
(1) فى ب (أصولهم).
(2) فى ب (أجزاء).
(3) فى ب (فإن).
(4) فى ب (و كل).
(5) فى ب (الأول).
(6) فى ب (هنا).
(7) منهم: الغزالى في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد ص 51، والرازى في كتابيه المحصل ص 124 ومعالم أصول الدين ص 46.
(8) فى ب (به).
(9) سورة الحج 22/ 75.
(10) سورة طه 20/ 46.
(1/410)
________________________________________
والمعتمد في ذلك: ما ذكرناه من الطريقة العامة في إثبات الصفات؛ فعليك بنقلها إلى هاهنا «1».
غير أنه قد يرد عليه «2» هاهنا شبه وتشكيكات خاصة بهذه المسألة غير ما ورد فيما تقدم، لا بدّ من إيرادها، والإشارة إلى وجه الانفصال عنها.
الأول منها: لا نسلم أن كون السميع سميعا، والبصير بصيرا معنى إثباتيا، لا شاهدا، ولا غائبا؛ بل المفهوم منه إنما هو عدمى؛ إذ هو عبارة عن كونه حيا لا آفة به كما هو مذهب ابن الجبائى «3».
سلمنا أنه أمر ثبوتى؛ ولكن لا نسلم خروجه عن كونه عالما بالمسموعات، والمبصرات كما هو مذهب الكعبى «4»؛ فلا يكون زائدا على ما سبق من الصفات.
سلمنا أن معنى كون السميع سميعا. معنى ثبوتيا، وأنه زائد على كونه عالما بالمسموعات، والمبصرات؛ ولكن لا نسلم أن المدرك في الشاهد، والغائب، مدرك بإدراك زائد على المدركية. وبيانه من أربعة أوجه.
الأول: أنه لو كان مدركا بإدراك/؛ لجاز أن يدرك الواحد منا أخفى ما يكون بحضرته، وأن لا يدرك ما هو أعظم منه؛ لجواز أن يخلق له الإدراك بالأخفى دون الأظهر، وذلك بأن يرى ابره ولا يرى ما بين يديه من الجبال الراسية، والجمال السائرة، وأن يسمع الهمس الخفى من الأصوات، دون ما بحضرته من أصوات الدبادب، والبوقات.
الثانى: هو أنه إذا صحت الحاسة، وكان المرئى في مقابلة الرائى ولم يكن في غاية الصغر، واللطف، ولا في غاية القرب المفرط، والبعد المفرط، وانتفت الحجب؛ فالمدركية واجبة الحصول، وممتنعة الحصول عند فوات هذه الشروط، أو بعضها على ما تشهد به الفطر، وتقضى به العقول.
________________
(1) راجع ما سبق ل 58/ أ.
(2) فى ب (عليها).
(3) انظر ما سبق ل 99/ أ.
(4) انظر ما سبق في أول المسألة ل 99/ أ.
(1/411)
________________________________________
وعند ذلك: فلو كانت المدركية معللة بمعنى، فذلك المعنى: إما أن يكون ملازما لهذه الشروط وجودا وعدما، أو «1» هو منفك عنها بأن «2» يوجد مع عدمها، ويعدم مع وجودها.
لا جائز أن يقال بالانفكاك: وإلا لزم وجود المدركية عند وجود ذلك المعنى، وإن انتفت تلك الشروط، أو انتفاء المدركية عند انتفائه، وإن وجدت تلك الشروط؛ وهو محال.
ولا جائز أن يقال بالملازمة «3»: لوجوه ثلاثة:
الأول: أنه يلزم (منه «4») أن تكون تلك الشروط علة له ضرورة دورانه معها، وعدم تعلقه بغيرها، وشهادة العقل بأن المدار على هذا الوجه، يكون علة للدائر لا شرطا.
الثانى: هو أن العقل جازم بوجوب وجود المدركية، عند تحقق هذه الشروط، وإن قطع النظر عما سواها، وبانتفاء المدركية عند انتفائها، أو انتفاء بعضها، وإن وجد غيرها، فلو كانت المدركية معللة بمعنى؛ للزم انتفاؤها عند وجود هذه الشروط وتقدير عدم ذلك المعنى، أو وجودها عند وجوده، وتقدير عدم هذه الشروط؛ وهو خلاف ما يشهد به العقل.
الثالث: هو أنه يلزم من ملازمة المعنى لهذه الشروط، أن يكون بينهما تعلق، وإلا لما كانت الملازمة أولى من عدم الملازمة وذلك إما تعلق اشتراط، أو علية.
وعند ذلك: فإما أن يكون التعلق من الجانبين، أو من أحد الجانبين.
لا جائز أن يقال بالأول: لما فيه من الدور الممتنع.
ولا جائز أن يقال بالتعلق من أحد الجانبين: لأنه لا يخلو من أن يكون ذلك المعنى/ مشروطا بتلك الشروط، أو هى مشروطة به، أو هى معلولة «5» له، أو هو معلول لها «5».
________________
(1) فى ب (و هو).
(2) فى ب (و هو أن).
(3) فى ب (بالتلازم).
(4) ساقط من أ.
(5) فى ب (معلولة به أو معلول بها).
(1/412)
________________________________________
لا جائز أن يقال بالأول: فإنه يمتنع «1» حصول الشرط دون المشروط.
وعند ذلك: فلو قدر وجود هذه الشرائط دون ذلك المعنى؛ فيلزم «2» منه «2» انتفاء المدركية؛ لانتفاء ذلك المعنى، مع «3» وجود تلك الشروط، وهو محال.
ولا جائز أن يقال بالثانى: لوجهين:
الأول: أنه لا مانع من وجود ذلك المعنى دون تلك الشرائط «4»؛ لكونه شرطا لها.
وعند ذلك: فيلزم وجود المدركية، لوجود علتها دون تلك الشروط؛ وهو ممتنع.
الثانى: أن كل واحد من تلك الشروط غير متوقف على ذلك المعنى المعبر عنه بالإدراك، وكذا كل اثنين منها؛ فالجملة لا تكون متوقفة عليه؛ فإن الآحاد من الجملة.
ولا جائز أن يقال بالثالث: وهو أن يكون المعنى علة لتلك الشروط لوجوه خمسة.
الأول: أن كل واحد من تلك الشروط متحقق، دون الإدراك فلا يكون منها ما هو معلول له.
الثانى: هو أنه إذا كان الإدراك علة للمدركية: فإما أن يتوقف على تلك الشروط، أو لا يتوقف عليها.
فإن قيل بالتوقف: فهو ممتنع على أصلكم في امتناع توقف العلة في اقتضائها على معلولها.
________________
(1) فى ب (لا يمتنع).
(2) فى ب (للزم).
(3) فى ب (جواز).
(4) فى ب (الشروط) وقد وردت هاتان اللفظتان كثيرا في أ، ب فمرة تأتى شروط في أ وفي ب شرائط وأخرى بالعكس وبالبحث في المصباح المنير والقاموس المحيط اتضح الآتى:
الشرط جمعه شروط والشريطة في معنى الشرط وجمعها (شرائط).
(المصباح المنير كتاب الشين مع الراء وما يثلثهما).
الشرط إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه كالشريطة ج شروط.
(القاموس المحيط باء الطاء فصل الشين).
وبناء عليه فسأكتفى بما ورد في نسخة أ دون الإشارة إلى ما ورد مخالفا لها في نسخة ب نظرا لاتحاد المعنى.
(1/413)
________________________________________
وإن لم يتوقف: فيلزم عند وجود ذلك المعنى وجود المدركية مع تقدير انتفاء تلك الشروط؛ وهو محال. كما سبق.
الثالث: هو أن الإدراك متوقف على كل واحد من تلك الشروط؛ فلا يكون علة له نفيا للدور.
الرابع: هو أن الإدراك إذا كان علة للمدركية، وهو علة لتلك الشروط؛ فيلزم أن تكون العلة الواحدة لمعلولين مختلفين؛ وهو محال.
الخامس: هو أن عندكم إدراك كل شيء مخالف لإدراك غيره.
وعند ذلك: فصحة كل واحد من تلك الشروط: إما أن تكون معللة بواحد من تلك الإدراكات، أو بكل واحد منها على سبيل الاستقلال، أو أنه غير معلل بشيء منها.
لا سبيل إلى الأول والثانى: لما تقدم قبل.
وإن كان الثالث: فهو المطلوب.
ولا جائز أن يقال بالرابع: وهو كون الشروط علة للإدراك؛ لأنه إما أن تكون العلة هو الواحد منها، أو كل واحد علة، أو أنه لا شيء منها علة.
لا جائز أن يقال بالأول، والثالث: إذ هو خلاف الفرض.
والثانى: باطل بما سبق.
الوجه الثالث: أنه/ لو كان المدرك مدركا بإدراك؛ لجاز على القادر خلق إدراك المعدوم في العين. كما جاز تعلقه باللون، والطعم، وغيره؛ وإدراك المعدوم محال.
الرابع: أنه لو كان الإدراك معنى؛ لصح إدراكه بإدراك آخر؛ لأن كل موجود يصح أن يكون مدركا عندكم.
وعند ذلك: فلا يتصور الخلو عن إدراكه «1»، أو عن ضده. وضده أيضا يكون معنى؛ فيصح إدراكه.
________________
(1) فى ب (إدراك).
(1/414)
________________________________________
وعند ذلك: فيجب أن لا تخلو عن إدراكه، أو «1» عن ضده «1» والكلام في ذلك الثانى؛ كالكلام في الأول، وهو تسلسل ممتنع.
سلمنا أن المدرك في الشاهد، مدرك بإدراك؛ ولكن لا نسلم لزوم ذلك في حق الله- تعالى- وبيانه بخمسة «2» أوجه:
الأول: أنه لا يخلو: إما أن يكون قديما، أو حادثا.
لا جائز أن يقال بكونه حادثا: وإلا كان الرب- تعالى- محلا للحوادث؛ وهو محال.
ولا جائز أن يكون قديما: وإلا للزم أن يكون له مسموعات، ومبصرات في القدم؛ إذ السمع، والبصر من غير مسموع؛ ولا مبصر محال؛ وذلك يجر إلى القول «3» بقدم «3» العالم، أو أن يكون المعدوم مدركا؛ وهو محال.
الثانى: هو أن الإدراك في الشاهد: إما أن يكون مشروطا بالبنية المخصوصة، أو لا يكون مشروطا بها.
لا جائز أن لا يكون مشروطا: وإلا للزم الالتباس بين الإدراكات، وأن تكون حاسة واحدة مدركة بإدراكات مختلفة؛ وهو ممتنع.
وإن كان مشروطا بالبنية المخصوصة: كما ذكرناه فيما تقدم في تحقيق كل واحدة من الحواس؛ فهو في حق الله- تعالى- محال.
الثالث: أنه لا مانع من تفسير الإدراك بانطباع صور المحسوسات في حاسة المدرك كما هو مذهب ابن سينا «4»، أو أن يكون الانطباع شرطا فيه كما هو مذهب الطبيعيين، ويدل على ذلك ما سيأتى عن قرب؛ وذلك في حق الله- تعالى- محال.
الرابع: أنه لا مانع من أن يكون الإدراك مشروطا بخروج شعاع من العين متصل بالمدرك كما هو مذهب الرياضيين، ولهذا فإنا لا ندرك الهبا في غير شعاع الشمس النازل
________________
(1) فى ب (أو ضده).
(2) فى ب (من خمسة).
(3) فى ب (قدم).
(4) انظر النجاة ص 160 - 162.
(1/415)
________________________________________
من الكوى، وأن الناظر إذا وقف بين مرآتين متقابلتين؛ فإنه يرى ظهره في المرآة التى في قبالة ناظره، وليس ذلك إلا/ بسبب تردد الأشعة بين المرآتين.
وكذلك يرى وجهه مستطيلا، أو معرضا «1» عند نظره في السيف طولا، وعرضا؛ وذلك بسبب ما ينعكس عند ذلك الشكل من الشعاع، ولتعدد الشعاع، واجتماعه بسبب البعد، والقرب، ومخالطة الأبخرة «2» له، يرى الشيء على البعد صغيرا، أو على القرب كبيرا على ما سلف؛ وهو أيضا محال في حق الله تعالى.
الخامس: أنه لا مانع من كونه مشروطا باستحالة الهواء المشف المتوسط بين الناظر، والمنظور آلة إدراكه، كما هو مذهب جالينوس «3»؛ وذلك كله غير متصور في حق الله تعالى.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون الرب- تعالى- مدركا بإدراك؛ ولكنه ينتقض بباقى الإدراكات، وغيرها من الكمالات المفروضة في الشاهد.
سلمنا أنه مدرك بإدراك؛ ولكن لا نسلم خروج الإدراك عن جنس العلوم «4»، وبيانه من وجهين:
الأول: أنه لا يتصور أن يدرك المدرك شيئا ولا يعلمه؛ وذلك دليل على «5» الاتحاد.
الثانى: هو أن أحكام العلوم ثابتة للإدراكات بدليل أن العلم لا يؤثر في متعلقه لا شاهدا، ولا غائبا. وكذلك الإدراك؛ فدل على الاتحاد.
________________
(1) فى ب (عريضا).
(2) بياض في ب.
(3) جالينوس:
الفيلسوف الطبيب كانت له شهرة طبية في العالم الإسلامى: إذ أنه نقل إلى الإسلاميين خلال كتاباته- المذاهب اليونانية التى تعارض المذهب المشائى الأرسطى. ولد سنة 130 م. وكانت له مجالس علمية في مدينة روما، وله مؤلفات كثيرة في الطب والحكمة.
انظر عنه (طبقات الأطباء ص 41 - 51 وتاريخ الحكماء ص 123 - 132، ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 205، 206).
(4) فى ب (العلم).
(5) ساقط من ب.
(1/416)
________________________________________
والجواب:
قولهم: لا نسلم أن مفهوم المدرك ثبوتى؛ بل المدرك هو الحى الّذي لا آفة به.
قلنا: دليل كون المدرك مدركا أمرا ثبوتيا؛ ما يجده كل عاقل من نفسه عند سماعه الأصوات، وإبصاره المبصرات. من أمور تجددت بعد أن لم تكن. كما يجد من نفسه: أنه عالم، وقادر ونحو ذلك؛ وذلك مما لا مراء فيه، ولا سبيل إلى جحده، ومكابرته. ثم ذلك الّذي يجده كل عاقل من نفسه: إما أن يكون ثبوتيا أو نفييا.
لا جائز أن يكون نفييا: فإن نقيض كون السميع سميعا، والبصير بصيرا؛ لا سميع، ولا بصير، ولا سميع، عدم محض؛ إذ يصح وصف العدم المحض به، ولو كان ثبوتيا؛ لكان العدم المحض متصفا بالصفة الثبوتية؛ وهو محال، فثبت أن مفهوم السميع، والبصير ثبوتيا.
قولهم: المدرك هو الحى الّذي لا آفة به باطل، لوجوه سبعة:
الأول: هو أن الحياة، ونفى الآفة، غير مختلف، وكل عاقل يجد من نفسه اختلاف أحواله عند كونه سميعا، وبصيرا، وشاما، وذائقا، ولامسا؛ والمختلف غير ما ليس بمختلف.
الثانى: هو أن المدرك: إما أن يكون/ هو الحى الّذي انتفت عنه جميع الآفات، أو «1» بعض الآفات «1»:
فإن كان الأول: فهو ممتنع؛ فإنا قد نجد من حلت به بعض الآفات: كالسقيم المدنف «2» مدركا، والأعمى سامعا، والأطرش مبصرا إلى غير ذلك. ولو كانت الحياة مع انتفاء جميع الآفات. هى معنى كون المدرك مدركا؛ لما كان كذلك.
وإن كان الثانى: فيلزم أن يكون مدركا من انتفت عنه بعض الآفات، وإن حلت به الآفة المانعة له من كونه مدركا؛ وهو محال.
________________
(1) فى ب (أو بعضها).
(2) (السّقيم المدنف). الدّنف المرض الملازم- والمدنف هو الّذي لازمه المرض، انظر القاموس المحيط (باب الفاء فصل الدال).
(1/417)
________________________________________
وإن قيل: المدرك هو الحى الّذي انتفت عنه الآفة المانعة له من كونه مدركا؛ فهو اعتراف بأن المدركية ثبوتية، وأن لها ضدا مانعا، وهو خلاف مذهب ابن الجبائى القائل بهذا المذهب.
الوجه الثالث: أنه يلزم من كون المدرك هو الحى الّذي لا آفة به.
أن يكون الحى عند انتفاء الآفات، مدركا للطيف، والبعيد المفرط، والقريب المفرط، ولما هو محجوب بالحجب الكثيفة؛ ضرورة تحقق مفهوم المدرك، وتساوى نسبته إلى كل شيء.
فإن قيل: بأن انتفاء هذه الأمور شرط للمدركية.
فنقول: إذا كان حد المدرك: هو الحى الّذي لا آفة به. فمن كان حيا، ولا آفة به؛ فقد وجد فيه حد المدرك؛ ويلزم من وجود الحد؛ وجود المحدود، فلو كانت هذه الأمور شروطا لكونه مدركا؛ فيلزم من تقدير انتفائها، انتفاء المدركية مع وجود حدها؛ وهو ممتنع.
كيف وأنه لو قيل لابن الجبائى: ما المانع من «1» أن يكون المدرك: هو الحى الّذي انتفت عنه هذه الأمور، وانتفاء الآفات شرط؟ لم يجد إلى الفرق سبيلا.
الوجه «2» الرابع: هو «2» أن العين مدركة للمبصرات، والأذن مدركة للمسموعات، ويلزم من ذلك: كون كل واحد من العضوين حيا، لا آفة به؛ ضرورة أنه يلزم من وجود المحدود وجود الحد؛ ويلزم من ذلك: أن يكون كل واحد من العضوين مدركا لما يدركه الآخر؛ ضرورة تساوى نسبة الحياة، ونفى الآفات إلى جميع المدركات.
وإن قيل: باشتراط البنية المخصوصة في كل عضو، بالنسبة إلى ما يدركه، وبنية كل واحد من العضوين فانية في العضو الآخر؛ فهو فاسد؛ على ما سيأتى عن قرب. ثم جوابه ما سبق في الوجه الثالث.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (الرابع).
(1/418)
________________________________________
الوجه الخامس: أنا نجد من أنفسنا اشتهاء/ كوننا مدركين لبعض المدركات:
كسماع الأصوات اللذيذة، وشم الرائحة الطيبة، إلى غير ذلك، ولو كانت المدركية: هى انتفاء الآفات عن الحى، فإذا كان المشتهى حيا لا آفة به؛ فذلك مما لا تتعلق به الشهوة لحصوله؛ فإن الشهوة إنما تتعلق بحصول ما ليس بحاصل.
السادس: أنا قد نجد من أنفسنا كراهية الرؤية، لبعض الأشياء وسماع بعض الأصوات.
وبالجملة: نكره كوننا مدركين لكثير من الأشياء، والحياة، ونفى الآفات لا تكره؛ والمكروه غير ما ليس بمكروه.
السابع: أنه لو قيل لابن الجبائى على قياس مذهبه: ما المانع من أن يكون العالم: هو الحى الّذي لا آفة به؟، وكذلك في القادر، والمريد، ونحوه؛ لم يجد إلى الفرق سبيلا.
قولهم: لا نسلم خروجه عن كونه عالما بالمسموعات، والمبصرات.
قلنا: دليل خروجه عن ذلك من خمسة أوجه:
الأول: هو أنا إذا علمنا الشيء بطريق من الطرق، ثم رأيناه فإنا نجد تفرقة ضرورية بين الحالتين، وليس ما نجده من الحالة الثانية- وهو الرؤية- عائدا إلى كوننا قادرين، ولا مريدين، ولا متكلمين؛ ضرورة، ولا إلى الحياة، ونفى الآفات. كما تقدم؛ فبقى أن يكون قسما آخر؛ وهو المعنى بالمدركية.
فإن قيل: ما المانع أن تكون التفرقة عائدة إلى الجملة، والتفصيل، والإطلاق، والتقييد في الشيء المعلوم؟، بأن نكون عالمين بالشيء جملة، أو على وجه مطلق؛ فإذا رأيناه علمناه مفصلا، أو مقيدا؛ وذلك لا يوجب خروجه عن العالمية.
سلمنا خروجه عن العالمية؛ ولكن ما المانع من عود التفرقة إلى تأثير الحاسة من الشيء المحسوس؟؛ فإن الحواس قابلة للانفصال عن المحسوس؛ وذلك كما نجده من تأثير العين الباصرة عند التحدق إلى جرم الشمس، والصدمة الداخلة في الأذن عند
(1/419)
________________________________________
الأصوات الشديدة كالبوقات، وغيرها، والانقباض والانبساط من بعض «1» المشمومات والمطعومات «1»، والملموسات.
قلنا: أما الأول: فمندفع، وذلك أنا لو رأينا جرما صغيرا، ثم غمزنا العين عنه؛ فإنا نبقى عالمين به على ما رأيناه.
ثم إذا فتحنا العين نحوه مرة ثانية؛ فإنا نجد من أنفسنا حصول أمر زائد على ما كان معلوما لنا منه حالة غمز العين عنه، ونجد تفرقة ضرورية بين الحالتين. فما نجده من الحالة الثانية: هو/ المعنى بالمدركية؛ فإن سميت تلك الحالة عالمية؛ فهو نزاع في اللفظ، لا في المعنى.
وقولهم: ما المانع من عود التفرقة إلى تأثير الحاسة؟
قلنا: ليس كذلك؛ فإن الحاسة وإن كانت قابلة للتأثير كما ذكروه. إلا أن ما نجده من أنفسنا عند الإحساس بالشيء بعد العلم به، إنما هو عائد إلى زيادة كشف، وإحاطة بالشيء «2» المحسوس «2»، بالنسبة إلى حالة كونه معلوما؛ وذلك وجدان لا مراء فيه.
الوجه الثانى: هو أنا نجد من أنفسنا، الكراهة لرؤية بعض الصور دون العلم بها؛ وذلك دليل على الاختلاف بين المدركية، والعالمية. (و مع «3») هذا الاختلاف، فلا مبالاة بالمنازعة، في تسمية المدركية نوعا من العالمية.
الوجه الثالث: هو «4» أن العالمية باتفاق العقلاء يجوز تعلقها بكل موجود «4»، والمدركية الحاصلة بكل واحدة من الحواس عند الخصوم، وعند بعض أصحابنا؛ لا تتعلق بكل موجود؛ وهو دليل الاختلاف.
الرابع: أنه قد يعلم ما لا يدرك: كالعلم بالمعدومات. وقد يدرك ما لا يعلم:
كمن يرى شيئا وهو منغمس في سهوه، ووسواسه؛ فإنه مع رؤيته للشىء؛ لا يكون عالما به؛ وهو دليل الاختلاف.
________________
(1) فى ب (المطعومات والمشمومات).
(2) فى ب (شيء).
(3) فى أ (مع).
(4) فى ب (أن العالمية يجوز تعقلها بكل معلوم).
(1/420)
________________________________________
الخامس: أنه لا يتصور حصول العلم إلا ويعلم حصوله؛ بخلاف الإدراك؛ كما حققناه من مثال المدرك الساهى.
قولهم: لا نسلم أن المدرك مدرك بإدراك.
قلنا: لأن حد المدرك: من قام به الإدراك؛ فلا يعقل مفهوم المدرك، دون تعقل الإدراك، كما لا يعقل مفهوم الأسود والأبيض، دون فهم السواد، والبياض، ولو جاز تعلق مدرك بلا إدراك؛ لجاز تعلق أبيض، وأسود بلا سواد، ولا بياض؛ وهو من أمحل المحالات.
قولهم: لو كان مدركا بإدراك؛ لجاز أن يدرك الأخفى دون الأظهر على ما قرروه.
قلنا: إحالة ذلك: إما أن ينظر فيها إلى العقل (أو إلى العادة) «1».
فإن كان الأول: فممنوع، وإن كان الثانى: فمسلم.
ولكن كما أنه يستحيل بالنظر إلى العادة؛ انتفاء الإدراك للأظهر مع إدراك الأخفى؛ فيستحيل بالنظر إلى العادة أن لا يخلق لنا الإدراك للأظهر مع خلق الإدراك للأخفى.
ثم ما هو لازم علينا في الإدراك، فهو لازم على الخصم في المدركية، وما هو جواب له/ ثم؛ هو جواب لنا هاهنا.
قولهم: إن المدركية واجبة الحصول، عند حصول هذه الشروط غير مسلم، وبيان ذلك من وجهين.
الأول: هو أنا قد نرى الكبير صغيرا من البعد، مع وجود ما ذكروه من الشرائط.
وعند ذلك: فالرؤية، إما أن تكون متعلقة بكل أجزائه، أو أنه «2» لا تعلق لها بشيء منها، أو أنها متعلقة بالبعض، دون البعض.
فإن كان الأول: فكان يلزم إدراكه على ما هو عليه؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فهو محال، وإلا لما رئى أصلا.
________________
(1) فى أ (أو العادة).
(2) فى ب (أنها).
(1/421)
________________________________________
وإن كان الثالث: فكما أن الشرائط متحققة بالنسبة إلى ذلك الجزء [المرئى «1»]؛ فهى متحققة بالنسبة إلى الباقى، ومع ذلك فما لزم الإدراك مع وجود الشرائط؛ وهو المطلوب.
الثانى: هو أنا إذا رأينا شيئا سحيقا ناعما مجتمع الأجزاء؛ فلا بد وأن نكون رائين لكل واحد من تلك الأجزاء، إلا أن ذلك المرئى هو مجموع تلك الأجزاء.
وعند ذلك: فإما أن تتوقف رؤية كل جزء من الأجزاء المفردة منه على «2» رؤية الجزء الآخر، أو لا تتوقف رؤية كل واحد على رؤية غيره، أو أن البعض متوقف على رؤية البعض، دون البعض.
لا سبيل إلى الأول لما فيه من الدور.
والثانى، والثالث: يلزم (منهما «3») جواز رؤية الجوهر الفرد الّذي لا يتجزأ بالفعل عند «4» وجود الشرائط حالة الاجتماع، فلو وجب رؤية ذلك عند وجود الشرائط حالة الاجتماع؛ لوجب حالة الانفراد، وليس كذلك؛ فلا وجوب.
فإن قيل على الحجة الأولى: لا نسلم وجود الشرائط في الأجزاء التى على «5» أطراف المرئى البعيد؛ إذ هى أبعد من الوسط، بالنسبة إلي الناظر فلذلك «6» رأى الوسط، دون الأطراف.
وبيان ذلك: أنا إذا قدرنا خروج خط من الناظر متصل بالجزء الوسط المرئى، حدث من قيامه على بعد المرئى؛ زاويتان قائمتان، فإذا افترضنا خطين، خرجا من الناظر، متصلين بأطراف بعد المرئى؛ كانا وترين للزاويتين القائمتين «7»، ووتر الزاوية القائمة:
أطول من كل واحد من ضلعيهما؛ فالبعدان المتصلان بجوانب المرئى؛ أبعد من البعد المتصل بالوسط.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (إلى).
(3) فى أ، ب (منه).
(4) فى ب (دون).
(5) فى ب (هى).
(6) فى ب (فكذلك).
(7) فى ب (القائمتين به).
(1/422)
________________________________________
سلمنا التساوى بين الأطراف، والوسط؛ ولكن شرط المدركية: عند القائلين بالانطباع: إنما هو بانطباع صورة المرئى، في الرطوبة الجليدية/ وأن يكون بين الناظر، والمرئى مخروط متوهم، زاويته من جهة الناظر، وقاعدته من جهة المرئى، ولا يخفى أنه كلما إزدادت أبعاد المخروط طولا بسبب بعد المرئى؛ إزدادت زاويته ضيقا، وكلما قصر؛ إزدادت زاويته سعة، ومحل الانطباع إنما هو الزاوية المفروضة؛ فيجب اتساعها، وضيقها؛ وبسبب القرب والبعد؛ يكون كبر المنطبع، وصغره.
وعند القائلين بخروج شعاع من العين متصل بالمرئى يكون مدركا له: إنما اختلف المرئى بالصغر والكبر، بالبعد، والقرب، بسبب ضعف الشعاع المتصل به؛ بسبب تبدده، أو بسبب مخالطته الأبخرة الكثيفة به.
وعند القائلين بأن الهواء المشف ما بين الرائى، والمرئى يستحيل آلة دراكة بإحالة قوة الناظر له: إنما اختلف الصغر، والكبر، بالبعد، والقرب؛ بسبب ضعف تأثير القوة في الإحالة وقوتها.
وعلى الحجة الثانية: إنما يلزم الدور أن لو توقف صحة رؤية كل واحد من الأجزاء على صحة رؤية الآخر. توقف متأخر، على متقدم؛ وذلك بأن يقال: صحة رؤية كل واحد، علة صحة رؤية الآخر، وليس كذلك، بل توقف معية؛ أى أنه لا يصح رؤية كل واحد، إلا مع رؤية الآخر؛ وذلك غير موجب للدور كالمضافات.
والجواب: أما دعوى زيادة البعد المتصل بالطرف، على البعد المتصل بالوسط؛ فمندفع. فإنا لو قدرنا أن ضلع الزاوية القائمة: وهو الآخذ من وسط المرئى إلى الطرف ذراعا؛ فيعلم أن بعد الطرف الّذي هو وتر تلك الزاوية لا يزيد على بعد الوسط بذراع، بل أقل؛ لأن ضلعى الزاوية القائمة يزيدان على وترها لا محالة، ومع ذلك: فإنا لو قدرنا تباعد الوسط ذراعا آخر بحيث يساوى وتر الزاوية، ويزيد عليه؛ لما غاب من الحس.
وأما الرد على مذهب أرباب الانطباع وغيرهم، فسيأتى عن قرب «1».
________________
(1) انظر ما سيأتى ل 108/ ب وما بعدها.
(1/423)
________________________________________
وأما الإشكال على الحجة الثانية، فضعيف جدا.
سلمنا وجوب حصول المدركية؛ ولكن لا نسلم امتناع تعليلها بالإدراك.
قولهم: إما أن يكون الإدراك ملازما لهذه الشروط، أو لا؟.
قلنا: غير لازم «1»، وإن كان لازما «1» /؛ فما المانع منه؟
قولهم: يلزم منه أن تكون تلك الشروط علة للإدراك نظرا إلى الدوران؛ فهو «2» باطل «2» بما سبق في قاعدة الدليل «3».
قولهم: لو كانت المدركية معللة بمعنى؛ لجاز تحقق المدركية عند وجود ذلك المعنى، وإن عدمت الشروط، فأن «4» لا توجد مع وجود هذه الشروط مع انتفاء ذلك المعنى؛ وهو محال. إنما يصح أن لو تصور الانفكاك بين المعنى، واجتماع تلك الشروط؛ وهو غير مسلم.
قولهم: إنه يلزم من ملازمة المعنى لهذه الشروط، أن يكون بينهما تعلق؛ مسلم.
قولهم: التعلق إما بجهة العلية، أو الاشتراط، لا نسلم الحصر؛ بل التعلق أمر أعم من القسمين، ولهذا يتصور التلازم بين المضافين، وإن لم يكن التعلق بينهما لا بجهة العلية، ولا الاشتراط، وكذلك التلازم بين المعلولات لعلة واحدة؛ فإنه خارج عن تعلق العلة، والشرط.
سلمنا الحصر؛ ولكن لا نسلم الامتناع من ذلك.
قولهم: إن كان المعنى مشروطا بتلك الشروط؛ فلا يمتنع وجود الشرط دون المشروط.
قلنا: لا نسلم أن ذلك غير ممتنع على الإطلاق في كل شرط ومشروط، ولهذا وقع الاتفاق على أن يكون الباري- تعالى- حيا شرط لكونه عالما، وقادرا، ولا انفكاك لأحدهما عن الآخر.
________________
(1) فى ب (ملازما وإن كان ملازما).
(2) فى ب (فباطل).
(3) انظر ل 37/ ب وما بعدها.
(4) فى ب (و أن).
(1/424)
________________________________________
سلمنا تصور وجود هذه الشروط، دون ذلك المعنى؛ ولكن لا نسلم امتناع حصول هذه الشروط بدون «1» المعنى للإدراك «1»، ولا امتناع حصول المعنى، بدون الشروط؛ كما سبق، وبه يندفع ما ذكروه من القسم الثانى أيضا.
قولهم: فى القسم الثالث: أنه يمتنع أن يكون المعنى علة لتلك الشروط؛ ممنوع.
قولهم: فى الوجه الأول منه: يلزم أن يكون كل واحد منها متحققا دونه؛ لا يلزم «2» أن تكون الهيئة الاجتماعية متحققة دونه «3».
قولهم في الوجه الثانى منه: إذا كان الإدراك علة للمدركية؛ فيلزم من وجوده، وجود المدركية، وإن لم تتوقف على تلك الشروط؛ مسلم؛ ولكن لا نسلم إحالة ذلك كما سبق.
قولهم فى الوجه الثالث منه: إن الإدراك متوقف على كل واحد من تلك الشروط؛ فلا يكون علة لها؛ لا نسلم التوقف على ما سبق.
قولهم في الوجه الرابع: إنه يلزم منه أن تكون العلة الواحدة علة لمعلولين؛ وهو ممتنع/ لا نسلم امتناع ذلك؛ كما سيأتى في العلل والمعلولات «4».
والوجه الخامس منه: إن نزلنا الكلام على أن الإدراك علية للشروط؛ فجوابه صعب جدا.
قولهم: لو كان المدرك مدركا بإدراك؛ لجاز على القادر خلق إدراك المعدوم في العين؛ وهو ممتنع.
قلنا: إن كان إدراك المعدوم بالعين ممتنعا؛ فقد امتنع القول بجواز خلقه في العين. وإن لم يكن ممتنعا؛ فقد امتنع القول: بأن إدراك المعدوم بالعين ممتنع.
________________
(1) فى ب (بدون الإدراك).
(2) فى ب (و يلزم).
(3) فى ب (دونه ممتنع).
(4) انظر ما سيأتى في الجزء الثانى- الباب الثالث- الأصل الثانى ل 117/ ب وما بعدها.
(1/425)
________________________________________
قولهم: لو كان الإدراك (معنى «1»)؛ لصح إدراكه بإدراك آخر، ولما تصور الخلو منه «2»، أو «2» من ضده؛ وهو تسلسل ممتنع؛ على ما قرروه.
فنقول: التسلسل وإن كان ممتنعا، فلا يدل على امتناع الإدراك؛ لجواز أن يكون ذلك لازما من القول بجواز إدراك الإدراك، أو من القول بأن الإدراك له ضد، أو من القول بأن الذات القابلة للضدين لا تخلو عنهما.
قولهم: سلمنا لزوم ذلك في الشاهد؛ ولكن لا نسلم لزوم ذلك في الغائب.
قلنا: إذا ثبت أن حد المدرك «3» من قام به الإدراك؛ فالحد لا يختلف شاهدا، ولا غائبا.
قولهم: لا يخلو: إما أن يكون قديما، أو حادثا؟
قلنا: بل قديم.
قولهم: يفضى إلى قدم المسموعات، والمبصرات؛ ليس «4» كذلك، فإن تعلق الإدراك بالمدركات، على نحو تعلق العلم بالمعلومات، وما لزم من قدم العلم «5» قدم المعلوم؛ فكذلك في الإدراك.
قولهم: إن البنية المخصوصة شرط في الإدراك؛ ليس كذلك؛ فإن القائل به معترف (بأن «6») الإدراك قائم بجزء واحد من جملة المدرك، ولا أثر لاتصال محله بما جاوره؛ إذ الجواهر لا يؤثر بعضها فيما يرجع إلى ما يقوم بها من الأعراض كما يأتى «7»؛ بل الجوهر يكون على صفته عند المجاورة لغيره في حالة انفراده، فإذا جاز قيام الإدراك بجزء واحد في حال انفراده واتصاله؛ لزم أن لا تكون البنية المخصوصة شرطا، ولا يلزم على هذا الاجتماع؛ حيث أنه يقوم بالجوهر عند إضافته، وضمه إلى غيره، ولا يقوم به/ عند انفراده؛ لأنا نقول: الكون القائم بكل جزء في حالة الاجتماع، هو بعينه قائم في
________________
(1) فى أ (معين).
(2) فى ب (عنه أى).
(3) فى ب (الإدراك).
(4) فى ب (و ليس).
(5) فى ب (العالم).
(6) فى أ (ان).
(7) انظر الجزء الثانى- الأصل الأول- النوع الأول ل 4/ أ.
(1/426)
________________________________________
حالة الافتراق مطلقا. والمختلف إنما هو الأسماء، وهو أن ذلك الكون القائم بالجوهر عند ضميمة غيره إليه، يسمى اجتماعا، وعند انفراده، لا يسمى بذلك.
ثم «1» وإن سلم أنه لا ينفى «1» حالة الانفراد، لكنه غير لازم، وذلك لأن الصفات العرضية: منها ما يقتضي لذاته الضم، والاجتماع بين المحال: كالصفات الإضافية مثل: الاجتماع، ونحوه.
ومنها ما لا يقتضي ذلك: كالسواد والبياض، وغيره «2» مما ليس بصفة «2» إضافية، ولا يلزم من كون الصفات الإضافية كذلك، طرد ذلك فيما ليس بإضافى، ولا يخفى أن الإدراك ليس من ذلك القبيل الموجب للجمع، والضم بين الأجسام.
ومما يدل على أن الإدراك غير مفتقر إلى البنية المخصوصة، ويخص البصريين القائلين بكون البارى- تعالى مدركا أن يقال: لو كانت البنية المخصوصة شرطا في الشاهد؛ لوجب طردها غائبا، على ما هو قاعدة الاشتراط عندهم؛ فإنهم أوجبوا طرد الشرط دون العلة؛ ويلزم من ذلك وجود البنية المخصوصة في حق الله- تعالى- لكونه مدركا.
فإن قيل: اشتراط البنية إنما هو في حق المدرك بإدراك، والبارى- تعالى- ليس مدركا بإدراك؛ فلا يشترط البنية في حقه.
[قلنا «3»]: فقد ناقضوا قاعدتهم في العالمية، حيث شرطوا كون العالم حيا في الشاهد، وإن كان عالما بعلم، وطردوا ذلك في الغائب، وإن لم يكن عالما بعلم. ولو سئلوا عن الفرق؛ لم يجدوا إلى ذلك سبيلا.
قولهم: إن ذلك يفضى إلى الالتباس بين الإدراكات ليس كذلك؛ فإن الالتباس بين الإدراكات لا يكون «4» بسبب اتحاد محلها، وإلا لما تصور قيام عرضين بمحل واحد، إلا وهما متشابهان. ولا يخفى جواز قيام الأعراض المختلفة بالمحل الواحد، مع عدم التشابه: وذلك: كالسواد، والحلاوة، ونحوهما، وإنما الالتباس، والاشتباه بين
________________
(1) فى ب (و إن سلمنا أنه لا يبقى).
(2) فى ب (و نحوهما مما ليس صفة).
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (إنما يكون).
(1/427)
________________________________________
الأعراض لأمور عائدة إلى أنفسها. ولا يخفى أنه لا تشابه بين أنواع الإدراكات في أنفسها؛ (لاختلافها «1») فى ذواتها على ما يجده كل عاقل من نفسه؛ ولهذا لا يقوم أحدهما مقام «2» الآخر؛ فإن إدراك الشيء بالبصر لا يقوم مقام إدراكه بالسمع، والشم/ والذوق، واللمس، وكذلك بالعكس.
وعلى هذا: فتبين أن ما ذكروه من حدود الإدراكات لا حاصل له.
قولهم: الإدراك هو الانطباع، أو أن الانطباع شرط في الإدراك؛ فباطل من وجهين:
الأول: هو أن ما ذكروه مبنى على اشتراط البنية المخصوصة في الإدراك؛ وقد سبق إبطاله.
الثانى: هو أن الصورة المنطبعة في العين: إما أن تكون منتقلة من صورة المرئى، أو غير منتقلة.
فإن كان الأول: فالمنتقل: إما جوهر، أو عرض.
لا جائز أن يكون جوهرا: وإلا فهو مع انطباعه في العين: إما أن يكون متصلا بالمرئى، أو منفصلا عنه.
فإن كان متصلا به: فيبعد «3» أن يكون منطبعا في العين؛ بل المنطبع في العين طرفه؛ ويلزم من ذلك أن لا يكون منه «4» مدركا «4» غير المنطبع دون غيره. وأن يزاحم الهواء الراكد بين الرائى والمرئى، ويحركه، وأن يكون نافذا في الأشياء الصلبة الشفافة:
كالبلور إذا كان متوسطا بين الرائى والمرئى، وأن يكون قد خرج من الخردلة المرئية «5» جرم مخروط ملأ «6» ما بين «6» الرائى، والمرئى مع بعده، وأن لا يرى المرئى على شكله:
بل على الشكل المنطبع في العين على صغره، وأن لا ترى السماء في أول جزء من أجزاء زمان فتح العين؛ بل بعد أزمنة وهى ما يمكن فيها قطع المنتقل من المرئى إلى
________________
(1) فى أ (و اختلافها).
(2) فى ب (عن).
(3) فى ب (فيتعذر).
(4) فى ب (مدركا منه).
(5) فى ب (المرئية في).
(6) فى ب (قد ملأ بين).
(1/428)
________________________________________
الرائى في المسافة التى بينهما، وأن تتصف العين بما انطبع فيها من صور الألوان حتى يقال لها سوداء، وبيضاء، وأن تحترق بانطباع صورة النار فيها، وتبرد بانطباع صورة النار فيها؛ والكل محال.
وإن كان منفصلا عنه: فكان يلزم أن يحس به المنفصل عنه إذا كان مدركا، وأن لا يدرك ذلك المرئى الخارج؛ لعدم انطباعه؛ وهو محال.
وإن كان عرضا: فالعرض لا تحرك له بنفسه، وإن تحرك بمحله أوجب المحالات السابقة، هذا إن قيل بانتقال الصورة المنطبعة من المرئى، وإن لم تكن منتقلة: فالقول بانطباعها في العين مع عدم انتقالها من المرئى؛ محال.
قولهم: إنه لا مانع من خروج شعاع من العين متصل بالمرئى؛ فباطل أيضا من سبعة أوجه:
الأول: أنه مبنى على البنية؛ وقد أبطلناه.
الثانى: هو أن الشعاع الخارج من العين/ إما جوهر، أو عرض.
فإن كان جوهرا: فهو مع اتصاله بالمرئى: إما أن يكون متصلا بالعين، أو منفصلا عنها.
فإن كان متصلا بالعين: فهو ممتنع لثلاثة أوجه:
الأول: أنه يلزم منه أن يكون قد خرج من العين مع صغرها جرم مخروط ملأ نصف كرة العالم متصلا بالثوابت؛ وهو محال.
الثانى: أنه يلزم منه أن يحرك الهواء الراكد، وأن ينفذ في الأجرام الصلبة الشفافة، إذا كانت متوسطة بين الرائى «1»، والمرئى «1» كما سبق؛ والكل محال.
الثالث: أنه يلزم أن لا يختلف المرئى على القرب، والبعد بسبب اتصال المدرك به.
وإن كان منفصلا عن العين: فكان يلزم أن لا يختلف المرئى في القرب، والبعد؛ لاتصال المدرك به، وأن يحرك ما يلاقيه من الأجرام المزاحمة له، وأن لا يدرك الرائى، المرئى؛ لانفصال الشعاع عنه إذا أغمض العين قبل زمان عود الشعاع؛ والكل محال.
________________
(1) فى ب (المرئى والرائى).
(1/429)
________________________________________
وإن كان عرضا: فهو أيضا محال؛ لما سبق في الانطباع.
الثالث: وهو خصيص بمذهب المعتزلة القائلين بالشعاع، أن يقال: الشعاع عندكم جسم، والأجسام غير داخلة تحت مقدور البشر بالاتفاق منا، ومنكم «1».
وعند ذلك: فلا يخلو: إما أن يقولوا بأن الله- تعالى- يخلقه عند فتح العين أو أنه يتولد، أو أنه كان مستكنا في العين، ثم انبعث عند فتح الأجفان.
فإن كان الأول: فيلزم منه جواز فتح العين مع سلامتها، وتحقيق الشروط التي اعتبروها، وأن لا تحصل الرؤية؛ لجواز أن لا يخلق الله- تعالى- ذلك الشعاع؛ وذلك عندهم «2» محال.
وإن كان الثانى: فهو محال؛ كما يأتى بعد.
وإن كان الثالث: فإما أن يكون انبعاث الشعاع بطبعه، أو بخلق الله- تعالى- ذلك له.
فإن كان بطبعه: وجب أن لا يتحرك كيف كان؛ بل إلى جهة معينة.
وإن كان ذلك بخلق الله- تعالى-؛ فيلزم جواز فتح العين مع سلامتها. وانتفاء الموانع بدون الرؤية؛ لجواز أن لا يخلق الله- تعالى- ذلك الانبعاث؛ وهو محال على أصولهم.
الرابع: هو أنه لو كان الجوهر الفرد من الناظر على الوجه المشروط من القرب، والبعد؛ فإنه لا يرى عندهم، ولو كان إدراكه باتصال الشعاع به؛ لرئي ضرورة اتصال الشعاع به عندهم.
ويمكن أن يجاب عنه: بأنه وإن وجد هذا/ الشرط: وهو البعد المشروط، واتصال الشعاع به؛ لكنه أمكن أن يكون (ثم «3») شرط آخر؛ وهو أن لا يكون في غاية الصغر؛ وقد فات ذلك.
________________
(1) فى ب (و منهم).
(2) فى ب (عندكم).
(3) ساقط من أ.
(1/430)
________________________________________
الخامس: أنه لو كان الإدراك باتصال الشعاع بالمرئى؛ لما رؤيت الأعراض؛ لعدم اتصال الشعاع بها عندهم.
فإن «1» قالوا: الشرط «1» اتصال الشعاع بالمرئى، أو بمحله، والعرض وإن لم يتصل به الشعاع؛ فهو متصل بمحله، فيلزمهم رؤية لون الجسم مهما رؤى الجسم؛ لاتصال الشعاع بمحله؛ وليس كذلك؛ فإن عندهم قد يرى الجسم من البعد، من لا يرى لونه إلى أن يقرب منه.
ثم يلزمهم رؤية الطعم، والرائحة؛ ضرورة اتصال الشعاع بمحله، ولم يقولوا به؛ لكن لهم أن يقولوا الطعم وإن اتصل الشعاع بمحله؛ فليس مما يصح أن يرى عندنا؛ وهو شرط في الرؤية.
السادس: أنه لو أوقدت نار في ليل مظلم؛ فإن من هو واقف في ضوئها لا يرى من هو واقف في الظلمة عند مقطع الضوء، ومن هو في الظلمة يراه مع استوائهما في انبعاث الأشعة.
فإن قالوا: شعاع النار «2» لقوته يبهر «2» الشعاع المنبعث من عينى من هو في ضوئها، ويمنعه من النفوذ، بخلاف الواقف في الظلمة.
قلنا: فإذا كان شعاع النار مانعا من نفوذ الشعاع المنبعث من العين؛ فالظلمة أولى من أن تكون مانعة للشعاع المنبعث من عين الواقف فيها.
ولهذا إنه قد يرى الشيء في وقت طلوع «3» شعاع الشمس «3» فى مسافة لا يرى في مثلها في الظلمة، وكذلك فإن الهبا يرى في شعاع الشمس النازل من الكوى، ولا يرى في الظلمة.
ثم يلزم منه أن لا يرى أحد الواقفين في الضوء للآخر، لكون الشعاع المنبعث في العين مبهرا بشعاع النير المفروض؛ فكان «4» امتناع رؤية النار لقوة شعاعها أولى.
________________
(1) فى ب (و إن قالوا).
(2) فى ب (لقوته متميز).
(3) فى ب (شعاع طلوع الشمس).
(4) فى ب (بل وكان).
(1/431)
________________________________________
السابع: أنه لو كان اتصال الشعاع المنبعث من العين بالمرئى شرطا في الرؤية في الشاهد؛ لكان شرطا في كون الغائب مدركا؛ لأن الشرط عندهم مما يجب اطراده؛ كما سلف، وليس كذلك؛/ حيث قضوا بأن الرب- تعالى- مدرك.
وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من الشبه.
كيف: وأن ما ذكروه من الشعاع النازل من الكوى؛ ليس هو الشعاع المنبعث من العين الّذي هو شرط الإدراك؛ بل غيره؛ فلا يكون توقف إدراك الهبا عليه دليلا على ما قصدوه، وكذلك الشعاع المنعكس من إحدى المرآتين المتقابلتين على الأخرى، الّذي به إدراك الناظر لظهره؛ ليس هو الشعاع المنبعث من العين: فلا يكون ذلك دليلا على اشتراط انبعاث شعاع العين.
ثم لو قيل لهم: ما المانع أن يكون ذلك كله بحكم جرى العادة؟، لم يجدوا إلى دفعه سبيلا.
قولهم: ما المانع أن يكون الإدراك باستحالة الهواء المتوسط بين الرائى، والمرئى آلة دراكه؟
قلنا: لوجوه ثلاثة:
الأول: أنه لو كان كذلك؛ لكانت استحالته عند اجتماع المبصرين أشد.
وعند ذلك: يجب أن يكون إدراك الواحد للشىء عند الاجتماع أشد من حالة الانفراد؛ لقوة الاستحالة.
الثانى: أنه كان يلزم أن يضطرب المرئى عند تشوش الجو «1»، واضطراب الرياح بسبب تجدد الآلة الدراكة؛ وهو ممتنع.
الثالث: أنه يلزم منه أن لا يكون الناظر هو المدرك؛ إذ المدرك خارج عنه.
وعلى هذا. فالإدراك: معنى يخلقه الله- تعالى- للمدرك مع قطع النظر عن البنية المخصوصة، والانتقال، والانطباع، والآلات «2»، والأدوات «2»، والأشعة، والأهوية
________________
(1) فى ب (الهوى).
(2) فى ب (و الأدوات والآلات).
(1/432)
________________________________________
المشفة، وكل ما قيل وما وقع من ذلك ملازما للإدراك؛ فليس إلا بحكم جرى العادة:
كالرى عند شرب الماء، والشبع عند أكل الخبز، ونحوه، وحيث لم يكن العقب «1»، أو اليد، أو غيرهما «1» من الأعضاء مبصرة، ولا سامعة، ولا شامة، ولا ذائقة، فليس لعدم صلاحيتها لذلك؛ بل لأنه الله- تعالى- لم يخلق له آلة الإدراك؛ وهذا أصل مطرد عند أهل الحق من أصحابنا في سائر الإدراكات.
وربما قيل في إبطال ما ذكروه من نقل الصوت بالهواء إلى صماخ الأذن: أنه لو كان كذلك؛ لما أدركنا جهته، كما لا ندرك جهة الملموس لما كان إدراكه بالوصول إلى الحاسة اللامسة؛ وهو بعيد؛ إذ المدرك بالسمع: إنما هو الصوت، لا نفس حصوله «2» من تلك «2» / الجهة؛ بل «3» ذلك «3» إنما يكون بغير السمع.
وأما النقض بباقى الإدراكات؛ فقد سبق جوابه في مسألة إثبات الصفات بجهة العموم «4».
كيف: وأنا لا نمنع اتصاف الرب تعالى بباقى الإدراكات على ما ذهب إليه القاضى أبو بكر من أصحابنا؛ فإنه قال: الرب- تعالى- موصوف بالإدراكات الخمس، ودليله ما هو دليل السمع، والبصر.
قولهم: لا نسلم خروج الإدراك عن أجناس العلوم.
قلنا: قد اختلف أصحابنا في ذلك.
فمنهم من قال: إنه من أجناس العلوم.
ومنهم من قال: إنه خارج عن أجناس العلوم، وهو اختيار القاضى رحمه الله.
وأما نحن فنقول: قد بينا فيما تقدم الاختلاف بين العالم، والمدرك؛ فإذا كان العالم: من قام به العلم، والمدرك: من قام به الإدراك؛ فيجب أن يكون العلم، والإدراك مختلفين ضرورة؛ وهو المطلوب.
________________
(1) فى ب (العقب والرجل واليد أو غيرها).
(2) (صوته من تلك).
(3) فى ب (بل إدراكه لذلك).
(4) راجع ما سبق ل 58/ ب.
(1/433)
________________________________________
وأما الاختلاف: هل اختلاف نوع، أو جنس؟ فمما لم يظهر لى بعد.
قولهم: إنه لا يتصور أن يدرك المدرك شيئا، ولا يعلمه؛ غير مسلم. وإن سلم؛ فالتلازم لا يدل على الاتحاد.
قولهم: الإدراك والعلم قد اشتركا في أنهما لا يؤثران في متعلقهما.
قلنا: والاشتراك «1» في هذا الأمر، أو فى غيره لا يدل على الاتحاد أيضا؛ لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد. ويدل على ذلك أن الكلام لا يؤثر في متعلقه:
كالعلم؛ وهما مختلفان.
فإن قيل: قد بينتم اختلاف الإدراكات، وأنها مخالفة لأنواع العلوم، وما يجوز على الله- تعالى- منها، وما لا يجوز، فهل الإدراكات منحصرة في الإدراكات الخمسة أم لا؟
قلنا: ذهبت الفلاسفة: إلى أن الإدراكات عشرة على ما حققناه في قاعدة العلم «2».
وأما أصحابنا، فمتفقون على الإدراكات الحاصلة بالحواس الخمسة الظاهرة.
واختلفوا في الإحساس بالألم، واللذة، والفرح، والغم، ونحوه، هل هو من قبيل الإدراكات، أو العلوم؟
فذهب كثير من الأصحاب: إلى أنه من قبيل العلوم.
والّذي ارتضاه القاضى: أنه إدراك سادس. محتجا على ذلك بأن العلم يتعلق بما مضى من الآلام، والإحساس بالألم غير متعلق بما مضى؛ وذلك لا/ يدل على خروجه عن أنواع العلوم؛ لجواز أن يكون متعلق البعض منها مما لا يتعلق به البعض الآخر، كما قيل في الإدراكات المختلفة النوع.
والحق في ذلك: أن الإحساس بالألم، واللذة؛ مخالف لباقى الإدراكات، ومخالف لباقى أنواع العلوم من حيث أن الإحساس بالألم واللذة، ونحوه، لا يتعلق بما يتعلق به غيره من العلوم: كالعلم بما مضى من الآلام، وغيرها من الموجودات.
________________
(1) فى ب (فالاشتراك).
(2) انظر ل 12/ أ.
(1/434)
________________________________________
وأما كونه من أنواع «1» الإدراكات، أو العلوم؛ فمما لم يظهر لى بعد.
فإن قيل: فهل يجوز أن يخلق الله- تعالى- إدراكا خارجا عما ذكرتموه من الإدراكات، أم لا؟.
«2» قلنا: قد «2» اختلف أئمتنا أيضا في ذلك.
فمنهم: من منع.
ومنهم: من جوز؛ وهو مذهب ضرار بن عمرو.
والحق: أنه لا دليل قاطع على النفى، والإثبات فلا سبيل إلى الجزم بأحدهما.
فإن قيل: فهل الإدراكات الحادثة مقدورة للبشر، (أم لا) «3»؟
قلنا: اتفق القائلون بها على أنها غير مباشرة القدرة «4» الحادثة، غير أن مذهب أصحابنا أنها مخلوقة لله- تعالى- على ما سيأتى «5».
ومذهب بعض البصريين من المعتزلة أن الرؤية منها حادثة بطريق التولد عند فتح العين؛ وهو باطل على ما يأتى أيضا في إبطال التولد «6»؛ والله أعلم.
*******
________________
(1) فى ب (نوع).
(2) فى ب (فقد).
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (بالقدرة).
(5) انظر ل 217/ ب وما بعدها.
(6) انظر ل 273/ أ وما بعدها.
(1/435)
________________________________________
المسألة السابعة في أن الله- تعالى- حىّ بحياة «1»
مذهب أصحابنا «2»: أن الله- تعالى- حىّ بحياة، وأن الحياة صفة وجودية زائدة على ذات الرب «3» - تعالى- وما له من الصفات الوجودية السابق ذكرها. واتفقت المعتزلة «4»: على كونه حيا لا بحياة.
لكن منهم من قال: معنى كونه حيا: أنه لا يمتنع عليه أن يعلم ويقدر، كأبي الحسين البصرى.
وذهبت الفلاسفة «5»: إلى [أن «6»] معنى كونه حيا، أنه ليس بميت.
احتج أصحابنا بثلاثة مسالك.
المسلك الأول:
قالوا: قد «7» ثبت أن البارى- تعالى- عالم، قادر، مريد. وشرط هذه الصفات في الشاهد كون المتصف بها حيا؛ فيجب أن يكون البارى تعالى- حيا؛ لأن الشرط لا يختلف شاهدا، ولا غائبا.
________________
(1) فى ب (فى إثبات صفة الحياة لله- تعالى-).
(2) من كتب الأشاعرة المتقدمين على الآمدي:
انظر اللمع للأشعرى ص 25.
والتمهيد للباقلانى ص 47 والانصاف له أيضا ص 35 وأصول الدين للبغدادى ص 105 والإرشاد لإمام الحرمين ص 63 ولمع الأدلة ص 82 والشامل ص 621 له أيضا.
والاقتصاد للغزالى ص 47.
والمحصل للرازى ص 121 ومعالم أصول الدين له أيضا ص 44.
ومن كتب الآمدي انظر غاية المرام ص 133.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
انظر شرح الطوالع ص 179 والمواقف للإيجي ص 290 وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 72، 73.
(3) فى ب (الله).
(4) انظر الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 161 - 167 والمغنى له 5/ 229 - 231 والمحيط بالتكليف له أيضا ص 127 - 135.
(5) انظر كتاب الكندى في الفلسفة الأولى ص 86 تحقيق د/ الأهوانى- طبع الحلبى سنة 1948 وعيون المسائل للفارابى ص 50 والنجاة لابن سينا ص 249.
(6) ساقط من أ.
(7) فى ب (لو).
(1/436)
________________________________________
وإذا كان حيا؛ فالحىّ عبارة عمن قامت «1» به الحياة؛ والحد لا يختلف شاهدا، ولا غائبا؛ فيجب أن يكون البارى- تعالى- حيا بحياة.
وهو ضعيف؛ لما سبق من إبطال الحاق الغائب/ بالشاهد «2».
المسلك الثانى:
قالوا: الذوات منقسمة: إلى ما يصح عليها أن يعلم ويقدر، وإلى ما لا يصح عليها ذلك. وهذه التفرقة تستدعى مميزا؛ وذلك المميز الّذي به صح على بعض الذوات أن تكون عالمة قادرة؛ هو المعنى بصفة الحياة، والرب- تعالى- يصح عليه أن يكون عالما، قادرا؛ فكان حيا بحياة.
وهو باطل أيضا؛ فإن الذوات مختلفة عندنا، وعند أكثر العقلاء.
وعند ذلك: فلا يمتنع أن تكون صحة قبول القادرية، والعالمية مستندة إلى نفس الذات؛ لا إلى أمر خارج عنها.
المسلك الثالث:
قال بعض المتأخرين «3»: أجمعنا على كون الرب- تعالى- حيا. فقولكم: الحى هو الّذي لا يمتنع عليه أن يعلم ويقدر، إشارة إلى سلب الامتناع، والامتناع سلب للسلب؛ فيكون أمرا ثبوتيا.
وهذا الأمر الثبوتى، ليس هو نفس الذات؛ فإنا نعلم ذات واجب الوجود، وقد نجهل كونه لا يمتنع عليه أن يعلم «4» ويقدر. والمعلوم غير ما ليس بمعلوم؛ فثبت أن كونه- تعالى- حيا، صفة حقيقية قائمة بذاته. لا أنها سلب محض؛ وهو ضعيف أيضا؛ فإن امتناع كونه عالما، قادرا، وإن كان سلبا؛ وسلبه ثبوت؛ فذلك الثبوت هو صحة كونه عالما قادرا.
________________
(1) فى ب (قام).
(2) انظر ل 40/ أ.
(3) لعل المقصود به الإمام الرازى. انظر معالم أصول الدين للرازى ص 44 (المسألة السابعة) صانع العالم حي. فما هناك يرجح ما ذهبت إليه.
وانظر أيضا المحصل له أيضا. ص 121.
(4) فى ب (لا يعلم).
(1/437)
________________________________________
وهو وإن كان أمرا زائدا على ذات واجب الوجود؛ فليس فيه ما يدل على أن كونه حيا يزيد على كونه عالما، وقادرا.
والمعتمد أنا «1» نقول:
قد ثبت أن الرب- تعالى- موصوف بالعلم، والقدرة والإرادة.
وعند ذلك: فإما أن يكون قابلا للاتصاف بهذه الصفات، أو لا يكون قابلا لها.
لا جائز أن يكون غير قابل لها: وإلا لما صح اتصافه بها وقد قيل: هو موصوف بها.
وإن كان قابلا لها: فالقبولية لهذه الصفات زائدة على نفس ذات البارى- تعالى- ونفس العلم، والقدرة، والإرادة. ولهذا فإنا نعقل ذات البارى- تعالى- ونفس العلم، والقدرة [و الإرادة «2»]، ونجهل قبول الذات لها؛ والمعلوم غير ما ليس بمعلوم.
وإذا كان زائدا: فإما أن يكون وجوديا، أو عدميا، أو لا وجوديا ولا عدميا.
لا جائز أن يكون لا معدوما، ولا موجودا، على ما سنبينه في إبطال الأحوال «3».
ولا جائز أن يكون عدميا: فإن «4» نقيض القبول لا قبول. ولا قبول عدم؛ لصحة اتصاف الممتنع به. ولو كان ثبوتيا؛ لما كان صفة له؛ فتعين أن يكون القبول وجوديا؛ وذلك هو المعنى/ بصفة الحياة.
________________
(1) فى ب (أن).
(2) ساقط من أ.
(3) انظر الجزء الثانى- الباب الثالث- الأصل الأول: فى الأحوال ل 114/ أ وما بعدها.
(4) فى ب (لأن).
(1/438)
________________________________________
المسألة الثامنة في أنه هل للبارى- تعالى- صفة زائدة على ما أسلفناه من الصفات أم لا «1»؟
وقد اختلف في ذلك:
فذهب بعض أصحابنا: إلى أنه لا يجوز اتصافه بصفة زائدة على ما أثبتناه. محتجا على ذلك. بأن الدليل الّذي دل عليها؛ لم يدل على غيرها، وما لم «2» يدل عليه الدليل؛ فلا سبيل إلى تجويزه.
وهو باطل من «3» جهة أنه «3» لا يلزم من انتفاء الدليل؛ انتفاء المدلول في نفسه، وإن «4» انتفى العلم بوجوده «5».
ومنهم من قال: لو جاز أن يكون له صفة أخرى، لم يخل: إما أن تكون صفة كمال، أو نقصان.
فإن كانت صفة كمال؛ فعدمها في الحال نقص.
وإن كانت صفة نقص؛ فثبوتها له ممتنع.
وهو أيضا ضعيف؛ إذ أمكن أن يقال: إنها ليست صفة كمال، ولا نقص، ولا دليل يدل على نفى ذلك، ولا هو بديهى.
وإن سلمنا الحصر؛ ولكن ما المانع أن تكون صفة كمال؟
________________
(1) انظر الإبانة للأشعرى ص 35 والمحصل للرازى ص 126.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 135.
ومن كتب المتأخرين:
شرح طوالع الأنوار ص 184 والمواقف للإيجي ص 296 وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 79.
(2) فى ب (و مالا).
(3) فى ب (فإنه).
(4) فى ب (و إذا).
(5) لاحظ تطبيقه للقاعدة التى ارتضاها ووضحها في ل 38/ ب من أنه لا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول.
(1/439)
________________________________________
قولهم: لأن [عدمها] «1» فى الحال نقص. إنما يصح أن لو قيل [بعدمها] «2»؛ وليس يلزم من (كونها «3» جائزة «3») أن (تكون «4» معدومة «4»)، حتى يقال: إن (عدمها) «5» فى الحال نقص؛ بل غايته أن لا نحكم (بثبوتها) «6» لعدم قيام الدليل (عليها) «7»، وورود الشرع به.
والحق في ذلك: ما ذهب إليه بعض الأصحاب «8»: وهو أن ذلك جائز عقلا وإن لم نقض بثبوته؛ لعدم الدليل عليه «9»، وورود الشرع به؛ وذلك مما لا يوجب لواجب الوجود في ذاته نقصا. إلا أن يكون ما هو جائز عليه غير ثابت له.
ومن أئمتنا «10» من زاد على هذا، وأثبت له صفات زائدة على ذلك وجزم بها كالبقاء، والقدم، والوجه، والعينين، واليدين.
ومن الحشوية من زاد على ذلك، وأثبت له نورا، وجنبا، وساقا، وقدما، واستواء علي العرش، ونزولا إلى سماء الدنيا، وصورة علي صورة آدم، وكفا، وإصبعين، وضحكا، وكرما، إلى غير ذلك.
وتمسكوا في ذلك بظواهر من الكتاب، والسنة. وأدلة لا يتمسك بها في هذا الباب. ولا بدّ من الإشارة إلى تحقيق ما في كل صفة من هذه الصفات.
الصفة الأولى: البقاء «11»
وقد اتفق المتكلمون: على جواز اطلاق الباقى علي الخالق، والمخلوق المستمر الوجود حقيقة خلافا لأبى هاشم، فإنه قال: الباقى على الحقيقة/ إنما هو الله- تعالى- وتسمية المخلوق باقيا؛ مجاز.
________________
(1) فى أ (عدمه)
(2) فى أ (بعدمه).
(3) فى أ (كونه جائزا).
(4) فى أ (يكون معدوما).
(5) فى أ (عدمه).
(6) فى أ (بثبوته).
(7) فى أ (عليه).
(8) منهم الغزالى (الاقتصاد 67)، والرازى (المحصل 126).
(9) فى ب (و لا).
(10) منهم الأشعرى (الإبانة 8، 35).
ومن قبله ابن كلاب (مقالات 1/ 229، 230).
(11) انظر الإنصاف للباقلانى ص 37، والتمهيد له أيضا ص 14
وأصول الدين للبغدادى ص 90، 108 والإرشاد لإمام الحرمين ص 78، 138 - 140 ولمع الأدلة له أيضا ص 85 والاقتصاد في الاعتقاد للغزالى ص 19، والمقصد الأسنى له أيضا ص 96 والمحصل للرازى ص 126.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام في علم الكلام ص 136 والمآخذ ل 24/ ب
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
انظر شرح طوالع الأنوار ص 183، والمواقف للإيجي ص 296.
وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 79 وحاشية الدسوقى على أم البراهين ص 79. طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية عيسى الحلبى.
ومن كتب المعتزلة:
انظر المغنى للقاضى عبد الجبار 5/ 236، 237 والمحيط بالتكليف له أيضا ص 146.
(1/440)
________________________________________
واتفقوا على أن الحادث في أول زمان حدوثه لا يوصف بكونه باقيا- ما عدا الكرامية «1»، فإنهم وصفوه بكونه باقيا.
وأما كون الباقى باقيا ببقاء زائد عليه.
فقد أثبته الشيخ أبو الحسن الأشعرى رحمه الله، ومعظم أئمتنا.
وقال القاضى أبو بكر: الباقى باق بنفسه، لا ببقاء زائد عليه؛ وهو مذهب المعتزلة.
واختلف قول الشيخ أبى الحسن الأشعرى: فى بقاء الله- تعالى- وصفاته.
فقال تارة: الله- تعالى- وصفاته باقية ببقاء واحد. وذلك البقاء باق ببقاء آخر.
وقال تارة: الله- تعالى- باق ببقاء قائم به، وكل صفة من صفاته باقية ببقاء هو نفسها
وعند هذا فنقول: أما الخلاف في كون المخلوق باقيا حقيقة، أو مجازا؛ فحاصل النزاع فيه يرجع إلى الإطلاق اللفظى؛ فإن من قال بكونه باقيا حقيقة؛ لم يرد به غير أنه مستمر الوجود زمنين فصاعدا.
ومن قال إنه مجاز: فمعناه أنه غير مستمر علي الدوام، ولا حرج في الاصطلاحات بعد «2» فهم المعنى.
وكذلك الخلاف في تسمية الحادث في أول زمان حدوثه باقيا، فإن من نفى ذلك:
لم يرد به إلا أنه غير موصوف في وقت حدوثه بكونه مستمر الوجود.
ومن أثبت «3»: لم يرد به غير أنه مما يصح استمرار وجوده.
وإنما الإشكال: فى كون الباقى باقيا ببقاء زائد عليه.
________________
(1) فى ب (الكرمية منهم).
(2) فى ب (بغير).
(3) فى ب (اثبته).
(1/441)
________________________________________
وقد اعتمد مثبتوا البقاء على مسالك «1».
المسلك «1» الأول:
وهو مما تمسك «2» به الشيخ أبو الحسن الأشعرى، رضى الله عنه- وهو أن قال:
الجوهر في أول زمان حدوثه غير موصوف بكونه باقيا. وقد اتصف بذلك في الزمن الثانى؛ فقد تجدد له وصف لم يكن؛ وذلك يوجب أن يكون لزيادة معنى، وهو البقاء.
كالذى وصف بالمتحركية بعد أن لم يكن متحركا؛ فإن ذلك يتضمن إثبات حركة قائمة به زائدة على كونه متحركا؛ فلو جاز أن يكون باقيا بلا بقاء؛ لجاز أن يكون متحركا بلا حركة؛ وهو محال.
وهذا المسلك ضعيف؛ إذ لقائل أن يقول:
القول بكون تجدد هذا اللقب: وهو البقاء معنى ثبوتيا فرع كون المفهوم من كونه باقيا أمرا ثبوتيا؛ وليس كذلك ويدل عليه وجوه أربعة:
الأول: أنه أمكن أن يقال: معنى كونه باقيا في الزمن الثانى، أن الموجود في الزمن الأول/ لم يبطل في الزمن الثانى؛ وهو سلب محض.
الثانى: أنه أمكن أن يقال: معنى كونه باقيا في الزمن الثانى. أن ما حصل في الزمن الأول هو بعينه حاصل في الزمن الثانى، والحصول في الزمان ليس أمرا ثبوتيا، وإلا كان ذلك الحصول الثابت حاصلا أيضا في ذلك الزمان؛ والكلام أيضا في حصول ذلك الحصول، كالكلام في الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن قيل: إن الحصول مع كونه ثبوتيا حاصل في الزمان الثانى بنفسه لا بحصول زائد عليه؛ فليقل مثله في حصول الجوهر فيه.
الثالث: أنه ينتقض بوجود الجوهر في أول زمان حدوثه؛ فإنه يوصف بكونه حادثا فيه، ولا يوصف بذلك في الزمن الثانى. مع بقاء ذاته. فكونه حادثا؛ زائد على ذاته، وليس كونه حادثا، أمرا ثبوتيا، وإلا كان حادثا؛ ولزم التسلسل. وإذا لم يكن كون الجوهر حادثا، أمرا ثبوتيا، مع كونه زائدا على ذاته؛ فكذلك كونه باقيا.
________________
(1) فى ب (مسلكين).
(2) فى ب (يتمسك).
(1/442)
________________________________________
الرابع: ما قاله «1» الأصحاب «1»: إن المفهوم من كونه باقيا، أنه مستمر في الزمن الثانى. ومفهوم الاستمرار واحد في الوجود والعدم، بدليل صحة قسمة المستمر: إلى المستمر بالوجود، والمستمر بالعدم، ومورد القسمة يجب أن يكون واحدا. وإذا كان مفهوم الاستمرار واحدا في الوجود، والعدم، فلو كان صفة ثبوتية؛ لكان العدم المحض متصفا بها؛ وهو محال.
ويمكن أن يقال:
لا نسلم اتحاد المفهوم من الاستمرار. ومورد القسمة: إنما هو اللفظ دون المعنى.
ثم هو مقابل بما يدل علي أن مفهوم الاستمرار ثبوتيا؛ وذلك لأن نقيض الاستمرار، لا استمرار، ولا استمرار عدم، بدليل صحة اتصاف العدم به في أول زمان تحققه؛ فيكون الاستمرار ثبوتيا.
سلمنا أن المفهوم من كونه باقيا أمرا ثبوتيا؛ ولكن لا نسلم أنه معلل بالبقاء، ودليله «2» من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه لو افتقر «3» فى كونه باقيا إلى قيام البقاء به؛ فقيام البقاء بالباقى: إما أن يتوقف على كونه باقيا، أو لا يتوقف. فإن توقف فقد لزم الدور الممتنع.
وإن لم يتوقف؛ لزم صحة حصوله البقاء في الجوهر لا حالة كونه باقيا؛ وهو محال.
الثانى: هو أنه لو كان الباقى معللا بالبقاء؛ فالبقاء: إما أن يكون صفة ثبوتية، أو لا يكون صفة ثبوتية.
فإن/ كان الأول: فإما أن يكون باقيا، أو لا يكون باقيا.
فإن كان باقيا؛ لزم أن يكون باقيا ببقاء آخر؛ وهو تسلسل. ثم ليس قيام أحد البقاءين بالآخر أولى من العكس.
وإن لم يكن باقيا؛ فما لا يكون باقيا لا يكون صفة لله- تعالى-
وإن لم يكن ثبوتيا: استحال أن يكون علة للأمر الثبوتى
________________
(1) فى ب (ما قاله بعض الأصحاب).
(2) فى ب (و بيانه).
(3) فى ب (افتقر الثانى).
(1/443)
________________________________________
الثالث: هو أنه لو كان الباقى معللا بالبقاء؛ لكان العلم القديم معللا بالبقاء لكونه باقيا.
والبقاء: إما أن يكون صفة، أو لا يكون.
لا جائز أن لا يكون صفة له: وإلا لجاز أن يقال: إن العالم يعلم بعلم لا يقوم به، والمتحرك يتحرك بحركة لا تقوم به؛ وهو ممتنع، وخلاف قاعدة الشيخ أبى الحسن.
وإن كان البقاء صفة للعلم «1»؛ أفضى ذلك إلى قيام المعنى بالمعنى؛ وهو أيضا محال.
فإن قيل: لا نسلم اتصاف العلم بكونه باقيا، وإن كان مستمرا، وهذا المنع لعبد الله بن سعيد.
وإن سلمنا ذلك؛ ولكنه غير لازم، وبيانه من ثلاثة أوجه:
الأول: هو أن يقال: العلم قائم بذات الله- تعالى-، وذات الله تعالى- ليست مغايرة لعلمه، فقد قام به بقاء العلم لا بغيره؛ فهو كما لو قام به.
الثانى: هو أن ذات البارى- تعالى- باقية ببقاء زائد عليها، وصفاته باقيه ببقاء هو أنفسها «2»، ولا يلزم على هذا أن يقال: فجوزوا أن يكون الجوهر باقيا ببقاء هو نفسه، أو أن تكون ذات البارى «3» - تعالى- باقية ببقاء هو نفسها.
أما الأول: فلأنه كان يلزم أن يكون الجوهر في الحالة الأولى باقيا؛ لوجود نفسه فيها.
وأما الثانى: فلأنه يلزم أن تكون الذات معنى، واستحال أن تكون قائمة بنفسها، بخلاف الصفة.
الثالث: هو أن ما ذكرتموه إنما يلزم أن لو قيل بأن البقاء علة لكون الباقى باقيا.
وليس كذلك؛ بل هو شرط لكون الباقى باقيا. ولا يلزم قيام الشرط بالمشروط، بدليل
________________
(1) فى ب (له).
(2) فى ب (نفسها).
(3) فى ب (الرب).
(1/444)
________________________________________
الحياة مع العلم، ولا يلزم على هذا أن يقال بجواز كون الله- تعالى- باقيا ببقاء غير قائم به، أو أن يقال ببقاء جوهر فرد غير قائم به.
أما الأول: فلأنه لو جاز أن يكون بقاء الله- تعالى- غير قائم به. فإما أن يقوم بنفسه، أو بغيره.
لا جائز أن يقوم بنفسه؛ إذ المعانى لا تقوم بأنفسها «1».
وإن قام بغيره: لزم أن يكون ذلك الغير قديما، ولا قديم غير الله تعالى.
وأما الثانى: فلأن الإجماع/ منعقد على أن الله- تعالى- قادر على خلق جوهر فرد لا موجود «2» معه، وقادر على تبقيته ما شاء «3».
فبقاء ذلك الجوهر، لا جائز أن يقوم بنفسه؛ لما تقدم.
وإن قام بغيره: لزم منه امتناع خلق ذلك الجوهر الباقى على الله تعالى. إلا مع غيره؛ وذلك محال.
قلنا: أما منع كون العلم باقيا مع استمراره؛ فمكابرة للمعقول، ونزاع في عبارة.
وأما الوجه الأول: فمندفع؛ فإن شرط العلة أن تكون قائمة بما له الحكم على ما تقرر، وذات البارى- تعالى- وإن لم يقل إنها غير الصفة ولا الصفة غيرها؛ فليس بمعنى اتحاد حقيقتيهما؛ إذ هو محال؛ بل بمعنى امتناع الانفكاك بينهما، فإذا كان بقاء الصفة قائما بالذات؛ فلم يكن قائما بالصفة لا محالة.
وأما الثانى: فلأن معنى البقاء، مخالف لمعنى العلم. فإذا جاز أن تكون الصفة الواحدة علما بقاء؛ فلا مانع من أن يكون الشيء ذاتا بقاء. ويكون من جهة كونه ذاتا قائما بنفسه، ومن جهة كونه بقاء غير قائم بنفسه؛ بل ولجاز أن يكون السواد أسود بسواد هو نفسه، والعالم عالما بعلم هو نفسه؛ وذلك قلب لقاعدة العلل والمعلولات.
________________
(1) فى ب (بنفسها).
(2) فى ب (لا وجود).
(3) فى ب (ما شاء الله).
(1/445)
________________________________________
وأما الثالث: فمن وجهين: الأول: أنه لو كان البقاء شرطا لكون الباقى باقيا فمن قضية الشرط أنه لا يمتنع وجوده دون المشروط: كالحياة مع العلم.
وعند ذلك: فلا يمتنع تقدير وجود البقاء بدون كون ما قام به باقيا؛ وهو محال.
الثانى: أنه لو كان البقاء شرطا لكون الباقى باقيا، وأن يكون البقاء «1» قائما بغير الباقى؛ لجاز أن يقال ببقاء الأعراض، ببقاء قائم بالجواهر لا بها؛ وهو محال على أصل الشيخ أبى الحسن الأشعرى.
الوجه (الثانى) «2» على أصل المسلك: أن ما ذكره الشيخ منتقض على أصله بالقديم؛ فان القديم قد يطلق على المتقدم بالوجود، إذا تطاول عليه الأمد، ومنه قوله- تعالى- كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ «3»
والجوهر لا يوصف في أول زمان حدوثه بكونه قديما بهذا الاعتبار. وقد يوصف به بعد ذلك؛ فقد تجدد له حكم لم يكن، كما تجدد في الباقى.
فإن جعله معللا بالقدم؛ فهو خلاف مذهبه.
وإن لم يعلله بالقديم؛ فقد انتقض دليله.
المسلك الثانى:
للشيخ أبى الحسن الأشعرى.
وحاصله: أنه لو بقى الباقى بنفسه من غير بقاء؛ لما تصور/ عدم الجوهر، واللازم ممتنع؛ فالملزوم مثله.
وبيان الملازمة: هو أن الجوهر إذا كان باقيا لا ببقاء؛ فهو لا ينعدم بنفسه، وإلا لما كان باقيا.
________________
(1) فى ب (الباقى).
(2) فى أ (الخامس).
(3) سورة يس 36/ 39.
(1/446)
________________________________________
والقدرة لا تتعلق بوجوده في حالة «1» بقائه حتى يقال بعدمه بسبب «2» عدم «2» تعلق القدرة بإيجاده حال «3» كونه باقيا؛ لما فيه من إيجاد الموجود، وتحصيل الحاصل. ولا يتعلق بعدمه؛ إذ القدرة المؤثرة، لا بدّ لها من أثر، والعدم لا يكون أثرا؛ إذ هو نفى محض.
وهو ضعيف أيضا؛ إذ لقائل أن يقول:
ما المانع من إعدامه بالقدرة، كما «4» قاله «4» القاضى؟
والقول بأن العدم نفى محض؛ فلا يكون أثرا للقدرة؛ فمندفع. فإنه إن قيل: بأن أثر القدرة لا بدّ وأن يكون أمرا ثبوتيا؛ فممنوع.
وإن قيل: إن أثر القدرة ما لو لا القدرة لما كان؛ فالعدم بهذا الاعتبار أثر؛ فإنه لو لا القدرة لما كان.
ولا يلزم على هذا أن يقال: فيلزم أن يكون العدم السابق على العالم مقدورا؛ وهو خلاف إجماع العقلاء؛ لأن العدم السابق قديم، والقديم لا تتعلق القدرة به؛ لما فيه من تحصيل الحاصل؛ وهو محال، بخلاف العدم المتجدد الكائن بعد ما لم يكن.
سلمنا أنه يمتنع أن يكون عدم الجوهر مقدورا؛ ولكن ما المانع من أن يكون طريق عدمه بأن لا يخلق الله- تعالى- الأعراض التى لا يتصور خلو الجوهر عنها، أو بعضها، ويكون انقطاعه بسبب انقطاعها، ولا يلزم على هذا أن يقال بكون الأعراض مؤثرة في وجود الجوهر؛ لضرورة عدمه بانقطاعها، وإلا كانت الحياة مؤثرة في العلم؛ لضرورة أنه يلزم من عدمها عدمه؛ وهو محال.
فإن قيل: إذا جوزتم كون الباقى باقيا بلا بقاء؛ فما المانع من الحكم على الأكوان بكونها باقية؟ ولو كانت باقية؛ فما طريقكم في عدمها، وعدم الكون لا يكون عند المعتزلة إلا بضده، وذلك «5» يجر إلى امتناع عدم الأكوان جملة؛ وهو محال.
________________
(1) فى ب (حال).
(2) فى ب (لعدم).
(3) فى ب (حالة).
(4) فى ب (لما قال).
(5) فى ب (و ذلك محال لأنه).
(1/447)
________________________________________
فنقول «1»: هذا إنما يلزم أن لو قيل: بامتناع كون الأعراض باقية؛ بسبب امتناع قيام البقاء بها، وليس كذلك؛ بل استحالة بقائها بما «2» سننبه عليه «2» فى موضعه إن شاء الله تعالى.
وأما المعتزلة «3»: فقد اعترضوا على هذا المسلك، بأن الله- تعالى- يخلق فناء هو عرض لا في محل مضاد للجوهر، فيفنى به الجوهر؛ وهو باطل- على ما سنبينه في موضعه- واستدلوا على نفى البقاء بثلاث/ مسالك:
المسلك الأول: أنه لو كان البقاء معنى، لم يخل: إما أن يكون له ضد، أو لا ضد له.
فإن كان الأول: وجب قيام ضد البقاء بالجوهر؛ فإن جملة المتضادات، لا تقوم بغير الجواهر. ولو قام ضد البقاء بالجوهر حالة كونه باقيا؛ لكان باقيا، وغير باق؛ وهو محال.
وإن لم يكن له ضد: فعدمه متعذر.
المسلك الثانى: هو أنهم قالوا: لا معنى لكون الجوهر باقيا، إلا أنه مستمر الوجود والبقاء عند القائلين به متجدد غير مستمر. فلو كان استمرار الوجود مفتقرا إلى البقاء المتجدد؛ لكان استمرار الوجود متجددا؛ وهو محال.
[المسلك] «4» الثالث: أنهم قالوا لو كان الجوهر باقيا ببقاء؛ فبقاؤه زائد على وجوده. وعند هذا فلا يخلو:
إما أن يقال بجواز خلق الجوهر في وقتين فصاعدا دون البقاء، أو «5» أنه يمتنع خلقه دون البقاء «5».
________________
(1) فى ب (قلنا).
(2) فى ب (بما سنبينه).
(3) عن رأى المعتزلة في هذه المسألة: انظر المغنى 5/ 236 وما بعدها
والمحيط بالتكليف ص 146 وما بعدها.
(4) ساقط من أ
(5) فى ب (و أنه يمتنع خلقه دون الباقى).
(1/448)
________________________________________
لا جائز أن يقال بالثانى: وإلا كان البارى- تعالى- ملجأ إلى خلق البقاء، عند خلق الجوهر؛ وهو ممتنع.
فلم يبق إلا الثانى؛ وهو المطلوب.
وهذه المسالك أيضا باطلة:
أما الأول: فلأنه وإن لم يكن للبقاء ضد كما يقوله الشيخ أبو الحسن [الأشعرى رضى الله عنه] «1»؛ فإنما ينعدم؛ لاستحالة بقائه في نفسه، وما كان كذلك؛ فلا يكون مفتقرا في فنائه إلى ضد.
وأما الثانى: فلأنه دعوى مجردة؛ فإنه لا يمتنع أن يكون المقصود من الشرط مقارنته للمشروط؛ وذلك حاصل به حالة استمرار الوجود بتعاقب الشرط، وباستمرار الشرط.
وأما الثالث: فباطل بالحياة مع العلم، وبكل شرط مع مشروطه.
******
________________
(1) ساقط من أ.
(1/449)
________________________________________
الصفة الثانية: «القدم» «1»
وقد اتفق الجمهور على أن الله- تعالى- قديم لنفسه لا بقدم زائد عليه.
وقال عبد الله بن سعيد من أصحابنا: إنه قديم بقدم، وأثبت القدم معنى زائدا عليه.
واحتج على ذلك بما سبق الاحتجاج به على البقاء- وقد سبق إبطاله.
والّذي يخصه هاهنا أن يقال: لا يخلو: إما أن يريد بالقديم: أنه الّذي لا أول له؛ فيكون أمرا سلبيا، ومعنى عدميا؛ فلا يستدعى أن يكون معللا بمعنى.
أو يريد به ما فسر كلامه به الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايينى، وهو أن قال: المراد من قول ابن سعيد: إن الله- تعالى- قديم بقدم: أنه مختص في قيامه بنفسه بمعنى لأجله ثبت وجوده لا في مكان، كما اختص المتحيز بمعنى لأجله كان مختصا/ بالحيز؛ فهو مع بعده عن دلالة لفظ القديم؛ فالقدم يرجع حاصله إلى صفة نفى: وهى وجوده لا في مكان، والصفات السلبية لا تعلل، بخلاف الصفات الثبوتية.
وإن أراد به غير ذلك؛ فلا بد من تصوره، وإقامة الدليل عليه.
*******
________________
(1) انظر أصول الدين للبغدادى ص 88، 89 والاقتصاد للغزالى ص 19 والمحصل للرازى ص 57 والمواقف للإيجي ص 297، وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 81 وحاشية الدسوقى على أم البراهين ص 75.
ومن كتب المعتزلة انظر المحيط بالتكليف للقاضى عبد الجبار ص 145 وشرح الأصول الخمسة ص 181.
(1/450)
________________________________________
الصفة الثالثة: «الوجه» «1»
ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعرى في أحد قوليه، والأستاذ «2» أبو إسحاق الأسفرايينى، والسلف إلى أن الرب تعالى- متصف بالوجه، وأن الوجه صفة ثبوتية زائدة على ما له من الصفات. متمسكين في ذلك بقوله- تعالى-: ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والْإِكْرامِ «3». لا أنه بمعنى الجارحة.
ومن المشبهة من أثبت الوجه بمعنى الجارحة.
ومذهب «4» القاضى والأشعرى- فى قول آخر- وباقى «5» الأئمة «5»: أن وجه الله- تعالى- وجوده.
والحق في ذلك أن يقال:
لا سبيل إلى إثبات الوجه بمعنى الجارحة؛ لما سنبينه في إبطال التشبيه وما لا يجوز على الله- تعالى-
وكونه زائدا على ذاته، وما له من الصفات لا بمعنى الجارحة، وأنه وجه لا كوجوهنا كما أن ذاته لا كذواتنا، كما هو مذهب الشيخ في أحد قوليه. ومذهب السلف؛ وإن كان ممكنا إلا أن الجزم بذلك يستدعى دليلا قاطعا؛ ضرورة كونه صفة للرب- تعالى- ولا وجود للقاطع هاهنا.
وإن جاز أن يكون الدليل ظاهرا؛ فلفظ الوجه في الآية لا دلالة له على الوجه بهذا المعنى لغة لا حقيقة، ولا مجازا؛ فإنه لم يكن مفهوما لأهل اللغة حتى يقال: إنهم وضعوا لفظ الوجه بإزائه، وما لا يكون مفهوما لهم، لا يكون موضوعا لألفاظهم؛ فلم يبق إلا أن يكون محمولا على مقتضاه لغة.
________________
(1) انظر الإبانة للأشعرى ص 35 وأصول الدين للبغدادى ص 109 وأساس التقديس للرازى ص 114 ومن كتب الآمدي غاية المرام ص 137، 140.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
انظر شرح طوالع الأنوار ص 184 والمواقف للإيجي ص 298 وشرح المقاصد 2/ 81.
(2) فى ب (و الشيخ).
(3) سورة الرحمن 55/ 27.
(4) فى ب (و ذهب).
(5) فى ب (إلى).
(1/451)
________________________________________
وقد «1» تعذر «1» حمله على الحقيقة- على ما تقدم- وهو الوجه بمعنى الجارحة، إذ هو المتبادر من لفظ الوجه عند إطلاقه إلى الفهم. والأصل في ذلك إنما هو الحقيقة.
فلم يبق إلا جهة التجوز. وهو التعبرة بالوجه عن الذات، ومجموع الصفات.
ثم وإن صح التجوز به عن صفة أخرى على «2» ما قيل «2». غير أن التجوز به عن الذات، ومجموع الصفات أولى، وذلك من جهة أنه خصصه بالبقاء. والبقاء لا يتخصص بصفة دون صفة؛ بل البارى- تعالى- باق بذاته، ومجموع صفاته.
******
________________
(1) فى ب (و تعذر).
(2) فى ب (كما قيل).
(1/452)
________________________________________
الصفة الرابعة: «اليدان» «1»
/ وقد اختلف المتكلمون في مقتضى قوله- تعالى- لإبليس: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «2»؛ إذ هو صريح في إثبات اليدين لغة.
فذهبت المشبهة «3»: إلى أنهما بمعنى الجارحتين.
وذهب الشيخ أبو الحسن الأشعرى: إلى أنهما صفتان ثبوتيتان، زائدتان على ذاته، وباقى صفاته، لا أنهما بمعنى الجارحتين؛ وهو مذهب السلف. وإليه ميل القاضى في بعض كتبه.
وذهب أكثر أئمتنا: إلى تفسير اليدين بالقدرة، وكثير من المعتزلة إلى التفسير بكونه قادرا.
وذهب بعض المعتزلة: إلى التفسير بمعنى النعمة.
وذهب قوم: إلى أن اليدين في الآية، صفة زائدة.
والحق عندنا في ذلك أن يقال:
أما إثبات اليدين بمعنى «4» الجارحتين «4»: فباطل؛ لما «5» سيأتى في نفى التشبيه «5».
________________
(1) انظر الإبانة للأشعرى ص 35 - 39 وأصول الدين للبغدادى ص 110
وإلجام العوام للغزالى ص 63 وأساس التقديس للرازى ص 123، 132.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 137، 139.
ومن كتب المتأخرين: شرح طوالع الأنوار ص 184 والمواقف للإيجي ص 298 وشرح المقاصد 2/ 81.
(2) سورة ص 38/ 75.
(3) المشبهة: هم من شبه ذات البارى- تعالى- بذات غيره من المخلوقين، ومنهم من شبه صفاته بصفات غيره.
والمشبهة أصناف: فمنهم جماعة من الشيعة الغالية كالهشاميين، ومنهم جماعة من حشوية المحدثين مثل:
مضر، وكهمس، وأحمد الهجيمى، وغيرهم. أما عن أصنافهم، وآرائهم بالتفصيل، والرد عليهم فانظر ما يأتى في النوع الرابع من ل 142/ أ- ل 166/ أ والملل والنحل 1/ 103 - 108 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 385 - 429.
ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما سيأتى في الجزء الثانى القاعدة السابعة ل 256/ ب.
(4) فى ب (بالمعنى الأول).
(5) فى ب (بما سيأتى في إبطال التشبيه).
(1/453)
________________________________________
وأما إثبات اليدين بالمعنى الّذي أراده الشيخ أبو الحسن الأشعرى: فيستدعى دليلا قاطعا؛ لما سبق في الوجه، ولا قاطع.
وإن سلمنا الاكتفاء في ذلك بالدليل الظاهر، إلا أنه غير موجود فيما نحن فيه؛ لما حققناه في صفة الوجه.
وإن سلمنا وجود الظاهر، غير أنه يمتنع الحمل على ما قيل؛ لأنه أضاف الخلق إلى اليدين؛ فإن كانت اليدان مما يتأتى بهما الخلق؛ فهى القدرة. وإلا فإضافة الخلق إليهما يكون كذبا.
وأما تفسير اليدين بالنعمة؛ فباطل لوجهين:
الأول: أنه أضاف الخلق إليهما، والخلق لا يتعلق بالنعمة.
الثانى: أنهما مذكوران بلفظ التثنية، ونعم الله- تعالى- على آدم غير منحصرة في أمرين على ما قال- تعالى-: وإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1».
فإن قيل: النعمة تنقسم: إلى ظاهرة، وباطنة، وإلى عاجلة، وآجلة؛ فيحتمل أنه أراد بيدى: أى بنعمتى العاجلة «2»، والآجلة «2»، أو الظاهرة، والباطنة، ويحتمل أنه أراد به سجود الملائكة له، وتعليمه الأسماء كلها.
قلنا: إلا «3» أن ما ذكروه قد كان «3» مجتمعا في حق آدم؛ فإن حمل على الكل خرج عن التثنية، وإن حمل على خصوص اثنين منهما؛ فلا يكون أولى من غيره؛ فلا يكون التخصيص مفيدا.
ولا سبيل إلى القول بكون اليدين صفة زائدة؛ لما فيه من تعطيل الدلالة.
وإذا بطلت جميع هذه الأقسام. فالأشبه أنهما بمعنى القدرة؛ فإن إطلاق اليدين بمعنى القدرة، سائغ عرفا ولغة/؛ ولهذا يقال: فلان في يدى فلان. إذا كان متعلق قدرته، وتحت حكمه ومشيئته؛ وإن لم يكن في يديه اللتين بمعنى الجارحتين.
________________
(1) سورة ابراهيم 14/ 34.
(2) فى ب (الآجلة والعاجلة).
(3) فى ب (الا أن كل ما ذكروه كان).
(1/454)
________________________________________
فإن قيل: يمتنع حمل اليدين على القدرة لوجهين:
الأول: أنه يلزم من ذلك إبطال فائدة التخصيص، بذكر خلق آدم باليدين، من حيث أن سائر المخلوقات، إنما هى مخلوقة بالقدرة القديمة.
الثانى: هو أن اليدين [مذكورتان] «1» بصيغة التثنية، وقدرة الرب تعالى واحدة.
قلنا: أما الأول: فمندفع، فإنه جاز أن تكون فائدة التخصيص التشريف، كما خصص المؤمنين بلفظ العباد، وأضافهم بالعبودية «2» إلى نفسه «2»، وخصص روح عيسى، والكعبة بالإضافة إلى نفسه.
وأما الثانى: فلأنه قد يعبر باليدين عن القدرة كما ذكرناه، وكذلك بلفظ اليد، ولا امتناع في اللغة عن التعبرة بالتثنية، أو الجمع عن الواحد.
*********
________________
(1) فى أ (مذكورة).
(2) فى ب (إليه بالعبودية).
(1/455)
________________________________________
الصفة الخامسة: العينان «1».
قال الله- تعالى- تَجْرِي بِأَعْيُنِنا «2» وقال- تعالى: ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي «3».
وقد اختلف المتكلمون في معناهما:
فقالت المشبهة: هما عينان بمعنى الجارحتين.
وقال الشيخ أبو الحسن الأشعرى:- فى أحد قوليه- وجماعة من السلف:
هما صفتان نفسيتان كما قال في اليدين.
وفي قول آخر له: إنهما بمعنى البصر.
والحق في ذلك: أن «4» إثبات العينين بمعنى الجارحتين ممتنع؛ لما سيأتى في نفى التشبيه «5».
وأما القول: بأنها صفة نفسانية زائدة على ما له من الصفات؛ فيستدعى دليلا قاطعا- كما سبق- ولا قطع هاهنا.
وإن سلمنا الاكتفاء في ذلك بالدليل الظاهر؛ فالآية غير متناولة له بطريق من طرق الدلالات اللفظية؛ لما سبق.
وإن سلمنا أنها محتملة له لغة. غير أنها أيضا محتملة لغيره «6». وبيان الاحتمال من أربعة أوجه:
________________
(1) انظر الإنابة للأشعرى ص 35 وأصول الدين للبغدادى ص 109 والشامل لإمام الحرمين ص 556 وأساس التقديس للرازى ص 120.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 137، 140.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
انظر شرح طوالع الأنوار ص 184 والمواقف للإيجي ص 298 وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 81.
(2) سورة القمر 54/ 14.
(3) سورة طه 20/ 39.
(4) فى ب (أن يقال إن).
(5) انظر ل 142/ أ وما بعدها.
(6) فى ب (كما سبق غير أنها محتملة لغيره أيضا).
(1/456)
________________________________________
الأول: أنه يحتمل أنه أراد بقوله تَجْرِي بِأَعْيُنِنا: أى بحفظنا وكلاءتنا؛ ولهذا تقول العرب: فلان بعين فلان: أى في «1» حفظه «1» وكلاءته.
الثانى: أنه يحتمل أنه أراد به ببصرنا، وهو بصير كما سبق في الإدراكات «2».
وصيغة الجمع للتعظيم كما في قوله- تعالى- نَحْنُ قَسَمْنا «3». وقوله- تعالى-:
وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً «4» إلى غير ذلك.
الثالث: أنه يحتمل أنه أراد به ما انفجر من عيون الأرض وأضافها/ إليه إضافة تمليك.
الرابع: أنه يحتمل أنه أراد به عيون المتعينين من عباده للنجاة من الغرق، واختصاصهم بالإضافة إليه للتشريف والإكرام، كما سبق.
***********
________________
(1) فى ب (يحفظه).
(2) انظر ل 99/ أ وما بعدها.
(3) سورة الزخرف 43/ 32.
(4) سورة المؤمنين 23/ 18.
(1/457)
________________________________________
الصفة السادسة: «الجنب» «1».
وقد أثبت المشبهة للبارى «2» - تعالى- صفة الجنب بمعنى الجارحة تمسكا بقوله- تعالى-: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «3».
ومن السلف: من حمل لفظ الجنب في الآية على صفة زائدة على ما له من الصفات النفسانية لا بمعنى الجارحة. ولا يخفى أن حمله على الجارحة ممتنع كما سيأتى «4». وحمله على المعنى الثانى أيضا ممتنع؛ لما سبق «5».
كيف وأن الاحتمالات «6» فى الآية متعارضة؛ فيحتمل أنه أراد بجنب الله أمره؛ فإن الجنب قد يطلق بمعنى الأمر. ويكون حاصل قوله: فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ: أى في أمر الله. ومنه قول الشاعر:
أ ما تتّقين اللّه في جنب عاشق ... له كبد حرّى عليك تقطّع «7»
معناه: فى أمر عاشق. ويحتمل أنه أراد به الجناب. ومنه يقال: فلان لائذ بجنب فلان: أى بجنابه، وحرمه.
********
________________
(1) انظر الشامل لإمام الحرمين ص 549 وأساس التقديس للرازى ص 139.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 137، 140.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
انظر المواقف للإيجي ص 298.
(2) فى ب (لله).
(3) سورة الزمر 39/ 56.
(4) انظر ل 142/ أ وما بعدها.
(5) انظر ل 112/ أ وما بعدها.
(6) فى ب (الاحتمال في الآية معارض).
(7) القائل: كثير عزة انظر الشامل ص 549.
(1/458)
________________________________________
الصفة السابعة: «صفة النور» «1»
قالت المشبهة: الله نور. تمسكا بقوله- تعالى-: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ «2» ويمتنع حمله على ما هو المتبادر منه إلى الفهم، وهو النور الكائن من أشعة النيرات وإلا كان البارى- تعالى- عرضا؛ وهو محال كما يأتى «3» -
فإن قيل: المراد به أنه «4» نور لا كأنوارنا «4»، فلا بد له من دليل قاطع، ولا قاطع.
وإن سلمنا الاكتفاء بالظاهر، غير أن اللفظ لا يحتمله لغة، على ما سبق.
وإن سلمنا احتمال اللفظ في «5» الآية له «5». غير أنه يحتمل غيره، وبيانه من وجهين:
الأول: أنه يحتمل أنه أراد به أنه منور السموات، والأرض بخلق أنوارها.
ويحتمل أن يكون المراد به أنه هادى أهل السموات والأرض بطريق حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. كقوله «6» - تعالى «6» -: وسْئَلِ الْقَرْيَةَ «7»: أى أهل القرية.
*********
________________
(1) انظر الإبانة للأشعرى ص 34 والشامل لإمام الحرمين ص 544 وأساس التقديس للرازى ص 96. ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 137، 140.
(2) سورة النور 24/ 35.
(3) انظر ل 145/ ب وما بعدها.
(4) فى ب (نور لا كالأنوار).
(5) فى ب (له في الآية).
(6) فى ب (كما في قوله- تعالى-).
(7) سورة يوسف 12/ 82.
(1/459)
________________________________________
الصفة الثامنة: «السّاق» «1»
قال الله- تعالى- يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ «2».
وقد اختلف في مفهومه:
فمنهم: من حمله على ظاهره، وهو الساق بمعنى الجارحة كالمشبهة.
ومن السلف من قال: هو ساق لا كالسوق.
/ والقول الأول باطل؛ لما يأتى.
والثانى: أيضا ممتنع؛ لما سبق في باقى الصفات الخبرية.
ثم (إنه) «3» كما أمكن حمله على ذلك؛ فقد أمكن حمله على الكشف عما في يوم القيامة من الأهوال؛ ولهذا يقال: قامت الحرب على ساق. عند التحامها، واشتداد أهوالها.
*****
________________
(1) انظر أساس التقديس للرازى ص 140 وغاية المرام للآمدى ص 137، 141.
(2) سورة القلم 68/ 42.
(3) ساقط من أ.
(1/460)
________________________________________
الصفة التاسعة: «الاستواء على العرش» «1»
قال الله- تعالى-: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «2».
وقد اختلف أهل الملة في ذلك.
فمنهم: من حمله على الاستقرار والمماسة للعرش: كالمشبهة؛ وهو باطل؛ لأنه لو كان مستقرا على العرش. والعرش جسم من الأجسام؛ فإما أن يكون مساويا له، أو أكبر «3»، أو أصغر «3»؛ والكل محال؛ لما سيأتى في «4» إبطال ما لا «4» يجوز على الله تعالى.
وعلى هذا فما نقل عن بعض الأئمة المشهورين «5» من قوله: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب».
إن أراد بالاستواء المعلوم: الاستقرار والمماسة؛ فهو محال.
وإن أراد به استواء لا كاستوائنا، كما ذهب إليه السلف، والشيخ أبى الحسن الأشعرى في أحد قوليه؛ فغير معلوم؛ لعدم دلالة القاطع عليه، وعدم دلالة اللفظ عليه لغة- كما سبق-
وما عداه فالاحتمالات فيه متعارضة، على ما يأتى.
ومنهم من توقف. والتوقف إن كان للتردد بين الاستواء بمعنى الاستقرار، وغيره من الاحتمالات؛ فخطأ؛ ضرورة انتفاء الاستواء بمعنى الاستقرار قطعا، وإن كان للتردد بين ما عدا ذلك من الاحتمالات؛ لعدم القطع بواحد منها على سبيل التعيين؛ فلا بأس به.
________________
(1) انظر الإبانة عن أصول الديانة للأشعرى ص 31 وأصول الدين للبغدادى ص 112 والشامل لإمام الحرمين ص 550.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 137، 141.
ومن كتب المتأخرين: انظر شرح طوالع الأنوار ص 184 والمواقف للإيجي ص 297 وشرح المقاصد 2/ 81.
(2) سورة طه 20/ 5.
(3) فى ب (أو أصغر أو أكبر).
(4) فى ب (فيما).
(5) هو الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحى الحميرى، أبو عبد الله: إمام دار الهجرة، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه تنسب المالكية، ولد بالمدينة سنة 93 ه. وتوفى بها سنة 179 (انظر الشامل لإمام الحرمين ص 551، الأعلام للزّركلي 6/ 128).
(1/461)
________________________________________
ومنهم: من صار إلى التأويل. والقائلون بالتأويل فقد اختلفوا:
فمنهم من حمل الاستواء في الآية على الاستيلاء، والقهر. ومنه قول العرب:
استوى الأمير على مملكته، عند دخول العباد في طاعته. ومنه قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق «1»
أى استولى.
وقال الآخر:
ولمّا علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وطائر «2»
أى استولينا عليهم؛ وهو من أحسن التأويلات وأقربها «3».
فإن قيل: حمل الاستواء على الاستيلاء، يشعر بسبق المغالبة وتقدم المقاومة؛ وهو ممتنع على الله- تعالى-.
/ سلمنا عدم إشعاره بذلك، غير أنه لا فائدة في تخصيص العرش بذلك، مع تحقيقه بالنسبة إلى كل الحوادث.
قلنا: أما الأول، فإنه «4» وإن جاز أن يكون الاستيلاء مسبوقا بالمقاومة، ولكن لا يلزم أن يكون مسبوقا بها، ولا لفظ الاستيلاء مشعر به، وإلا لكان لفظ الغالب مشعر به؛ وليس كذلك. بدليل قوله- تعالى-: واللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ «5».
وأما الثانى: فمندفع أيضا؛ فإنه جاز أن تكون فائدة تخصيص العرش بالذكر للتشريف، كما سبق. وجاز أن يكون ذلك للتنبيه بالأعلى على الأدنى من حيث أن العرش في اعتقاد الخلائق أعظم المخلوقات، وأجل الكائنات.
________________
(1) القائل الأخطل:
وقد قاله في بشر بن مروان- انظر ديوان الأخطل الطبعة الثانية ص 390 ط. دار المشرق ببيروت.
(2) ورد هذا البيت في الشامل لإمام الحرمين ص 550.
(3) فى ب (و أقواها).
(4) فى ب (فلأنه).
(5) سورة يوسف 12/ 21.
(1/462)
________________________________________
ومنهم: من حمل الاستواء في الآية على الاستعلاء والرفعة، وينقدح فيه الإشكالان السابقان، وجوابهما ما سبق.
ومنهم: من حمله على القصد والإرادة لخلق العرش؛ فإن الاستواء قد يطلق بمعنى القصد «1». ومنه قوله- تعالى- ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وهِيَ دُخانٌ «2»: أى قصد إلى السماء.
وفيه نظر؛ فإن الاستواء وإن أطلق بمعنى القصد عند صلته بإلى؛ فلا يلزم مثله، عند صلته بعلى؛ ولهذا يحسن أن يقال: فلان قاصد إليك، ولا يقال: قاصد عليك.
********
________________
(1) فى ب (القصد عند صلته بإلى).
(2) سورة فصلت 41/ 11.
(1/463)
________________________________________
الصفة العاشرة: «النزول» «1»
وقد ورد في الصحاح المنقولة عن الثقات عن النبي عليه السلام أنه قال: «إن الله- تعالى- ينزل إلى السماء الدّنيا في كلّ ليلة، وفي رواية: فى كلّ ليلة جمعة، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟» «2» وظاهر لفظ النزول، للانتقال، والحركة من جهة العلوّ، إلى جهة السفل.
فمن حمله على ذلك في حق الله- تعالى- من المشبهة؛ فقد أوجب كون البارى- تعالى- متحيزا؛ لانتقاله في الأحياز، وتبدّلها عليه؛ وهو محال، كما يأتى.
ولما تعذر حمله على ما هو ظاهر فيه، اختلف الأئمة.
فذهب بعض السلف: إلى حمل النزول في حق الله- تعالى- على نزول لا كنزولنا من غير حركة وانتقال. وهو وإن كان ممكنا في نفس الأمر، غير أنه لا يدل عليه قاطع، ولا لفظ النزول في الخبر يحتمله على ما سبق؛ فتعين التأويل بما يحتمله لفظ النزول؛ وهو حمل النزول على معنى اللطف والرحمة، وترك ما يليق بعلو الرتبة وعظم الشأن، والاستغناء الكامل/ المطلق.
ولهذا يقال: نزل الملك مع فلان إلى أدنى الدرجات؛ عند لطفه به، وانبساطه في حضرة مملكته. وفائدة ذلك الانبساط الخلق على التقرب بالعبادات، وإلا فلو نظر إلى ما يليق بمملكته، وعلو «3» شأنه، وعظمته؛ لما وقع التجاسر من العبيد على «4» خدمته «4»، والوقوف بين يديه في طاعته؛ فإن العباد (و) «5» عباداتهم من صومهم، وصلاتهم بالنسبة
________________
(1) انظر الشامل لإمام الحرمين ص 557 وإلجام العوام عن علم الكلام ص 65 ضمن مجموعة القصور العوالى وأساس التقديس للرازى ص 101، ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 137، 142.
(2) هذا الحديث أورده الآمدي أيضا في غاية المرام ص 137، كما ذكره كثير من أئمة المذهب في كتبهم، وأولوه تأويلات عدة، وقد ذكره ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص 15 وقال: انه متفق عليه.
وقد ورد هذا الحديث مع اختلاف في الألفاظ في كثير من الصحاح فقد ورد في صحيح البخارى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- (كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل) 2/ 63، وصحيح مسلم 1/ 521 - 522 (كتاب المستغفرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه).
كما ورد هذا الحديث أيضا في سنن أبى داود وسنن الترمذي ومسند الإمام أحمد.
(3) فى ب (و عظم).
(4) فى ب (لخدمته).
(5) ساقط من أ.
(1/464)
________________________________________
إلى عظمة الله- تعالى- وجلاله، دون تحريك أنملة لبعض العباد طاعة وخدمة لبعض ملوك العباد «1»، ومن فعل ذلك؛ فإنه يعد في العرب «2» مستهينا مستهزئا بذلك الملك «2»، وخارجا عن دائرة التعظيم، فما ظنك (بمن) «3» هو دونه في الرتبة؟
وأما التخصيص بسماء الدنيا. فإنما كان لأنها أدنى الدرجات بالنسبة إلى جلال الله- تعالى- فلذلك «4» خصصت بالنزول إليها مبالغة في التلطف. كما يقال للواحد منا:
صعد إلى الثريا، ونزل إلى الثرى، من حيث أن ذلك أنهى الدرجات بالنسبة إليه، ارتقاء ونزولا.
ولأجل ذلك خصص النزول بالليالى دون الأيام؛ من حيث إنها مظنة الخلوات، وأنواع العبادات، لأرباب المعاملات.
ويحتمل أن يكون المراد بذلك نزول ملك من ملائكة «5» الله «5» بطريق حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه كقوله- تعالى-: وسْئَلِ الْقَرْيَةَ: أى أهل القرية: ولقوله «6» - تعالى «6» - الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ «7»: أى أولياء الله. ويقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟، ويضاف ذلك القول إلى الله- تعالى- كما يقال: نادى الملك في مدينته وقال: كذا كذا. وإن كان المنادى، والقائل غيره.
*****
________________
(1) فى ب (الأرض).
(2) فى ب (مستهينا لذلك الملك مستهزئا به).
(3) فى أ (بما).
(4) فى ب (و لذلك).
(5) فى ب (الملائكة).
(6) فى ب (و قوله).
(7) سورة المائدة 5/ 33.
(1/465)
________________________________________
الصفة الحادية عشرة: «الصورة»
وقد روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إنّ اللّه خلق آدم «1» على صورته» «2»
فذهبت المشبهة: إلى أن هاء الضمير في الصورة عائدة إلى الله- تعالى-، وأن الله- تعالى- مصور بصورة مثل «3» صورة «3» آدم؛ وهو محال كما يأتى:
ومن عرف سبب ورود الخبر هان عليه التقصى عنه. وسببه ما روى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- رأى شخصا يلطم صبيا على وجهه فقال: لا تلطمه إن الله خلق آدم على صورته. على «4» صورة الصبى «4» ولو قطع النظر عن سبب الورود؛ فيمكن «5» / تأويله بعود الضمير في الخبر إلى آدم، وبيانه من وجهين:
الأول: أنه أمكن أن يقال: المراد به أنه خلق آدم علي صورته التى رؤى عليها ابتداء من غير أب، وأم، وتقلب في أطوار الخلقة.
الثانى: أنه خلق آدم في ابتداء خلقه على الصورة التى هبط بها من الجنة، لا أنه غير عنها، ويكون المراد من ذلك بيان تخصيص آدم بذلك تشريفا له، وتكريما.
فإن قيل: وإن استمر لكم مثل هذا التأويل في قوله: إن الله خلق آدم على صورته.
فما وجه التأويل في قوله عليه السلام: «إنّ اللّه خلق آدم على صورة الرّحمن»؛ فإنه من الأحاديث المشهورة بالصحة.
________________
(1) من أول (المنادى والقائل غيره ... إلى خلق آدم) ساقط من ب.
(2) هذا الحديث ذكره إمام الحرمين في الشامل ص 560 وقال إنه غير صحيح، ولم يدون في المشاهير من الصحاح، ثم تأويله قريب المأخذ. كما ذكر الإمام الرازى خمسة أخبار عن الرسول فيها ذكر الصورة في أساس التقديس ص 83 - 91 وأوّلها كلها.
أما عن صفة الصورة بالتفصيل:
فانظر الشامل لإمام الحرمين ص 560، 561 وإلجام العوام للغزالى ص 64. وأساس التقديس للرازى ص 83 - 91.
فقد أوّلوا الأحاديث الواردة في هذا المبحث. وما ذكره الآمدي هنا لا يخرج عن قولهم. وقد ورد هذا الحديث في صحيح البخارى في كتاب الأنبياء ج 4 ص 116، وفي كتاب الاستئذان ج 8 ص 62 (ط) الشعب.
كما ورد في صحيح مسلم 4/ 2017 (كتاب البر، باب النهى عن ضرب الوجه).
(3) فى ب (كصورة).
(4) ساقط من ب.
(5) فى ب (لأمكن).
(1/466)
________________________________________
قلنا: إذا ثبت استحالة اتصاف الرب «1» - تعالى- بصورة مشابهة لصورة آدم؛ فالتأويل واجب، والحمل على الاحتمال البعيد لازم. وإن كان في غاية البعد، وهو أن يقال: يحتمل أنه أراد بقوله: «على صورة الرّحمن»: أى صفة «2» الرحمن؛ فإن الصورة قد تطلق ويراد بها الصفة.
ولهذا يقول القائل لغيره أراد استعلام أمر؛ اذكر لى صورة الحال: أى صفة «3» الحال «3». وحيث خلق آدم مخصصا بعلوم لم توجد لغيره «4» من المخلوقين على «5» ما قال- تعالى-: وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها الآية وكان الرب- تعالى- أيضا منفردا بعلوم لا يشاركه فيها أحد من المخلوقين «5» فصح القول: بأنه خلق آدم على صورة الرحمن: أى على صفة الرحمن. ويحتمل أن يقال: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن: أى على صورة معظمة في علم الله- تعالى- وأضافها إلى الرحمن تشريفا (له) «6»، وتكريما على ما سبق.
وعلى هذا المعنى حمل بعض المفسرين قوله- تعالى- لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «7».
******
________________
(1) فى ب (البارى).
(2) فى ب (على صفة).
(3) فى ب (صفته).
(4) فى ب (من غيره).
(5) من أول (على ما قال تعالى .. ) ساقط من ب. والآية من سورة البقرة 2/ 31.
(6) ساقط من أ.
(7) سورة التين 95/ 4.
(1/467)
________________________________________
الصفة الثانية عشرة: «الكف» «1»
وقد روى عن النبي- عليه الصلاة والسلام- أنه قال إخبارا عن ليلة المعراج:
«فوضع كفّه بين كتفى فوجدت بردها في كبدى» فلذلك ذهبت المشبهة إلى كون الرب- تعالى- متصفا بكف بمعنى الجارحة.
ومن السلف من قال: هو «2» موصوف بكف لا كالكفوف «2».
ومن الأئمة من سلك طريق التأويل.
أما القول الأول: فباطل؛ لما سيأتى «3».
وأما الثانى: فهو أيضا ممتنع لما سبق في المسائل المتقدمة.
والمتأول قال: إذا تعذر حمل اللفظ على حقيقته تعين حمله/ على مجازه.
ووجه التجوز فيه؛ أن الكف قد تطلق ويراد بها الاحتواء على التقدير والتدبير بالخير والشر، ومنه يقال: فلان في كف فلان: أى في تدبيره.
وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام- «فوضع كفّه بين كتفى» أراد به بيان ألطافه به وإشفاقه عليه في تدبيره له.
ومعنى قوله «فوجدت بردها بين كتفى»: أى روح ألطافه بى فإن البرد قد يعبر به في اللغة عن كل روح وراحة. ومنه قولهم: ابترد فلان إذا استراح.
*****
________________
(1) انظر الشامل لإمام الحرمين ص 562 وأساس التقديس للرازى ص 134.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
انظر: شرح طوالع الأنوار ص 184 والمواقف ص 298 وشرح المقاصد 2/ 81.
(2) فى ب (هو تعالى متصف بالكف لا بالكفوف).
(3) انظر ل 142/ أ وما بعدها.
(1/468)
________________________________________
الصفة الثالثة عشر: «الأصبعان» «1»
قال عليه الصلاة والسلام «إنّ قلوب الملوك بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلّبها كيف شاء» «2». ولا يمكن أن يكون متصفا بإصبعين بمعنى الجارحتين، ولا بإصبعين لا كأصابعنا؛ لما «3» مر فى باقى الصفات الخبرية.
وأما وجه التأويل؛ فكما سبق في اليدين.
******
________________
(1) انظر الشامل لإمام الحرمين ص 564 وأساس التقديس للرازى ص 135،
والمواقف للإيجي ص 298 وإلجام العوام عن علم الكلام ص 63.
(2) رواه مسلم والإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر بلفظ «إن قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ورمز له السيوطى بالصحة. (الجامع الصغير ج 1 حديث رقم 2344).
(3) فى ب (لما سبق في الصفات).
(1/469)
________________________________________
الصفة الرابعة عشرة: «القدم» «1»
قال عليه الصلاة والسلام في أثناء حديث مطول «فيضع الجبّار قدمه في النّار فتقول قط قط» «2»: أى حسبى حسبى- ويتعذر حمله على القدم بمعنى الجارحة، وعلى صفة زائدة بكونه قدما لا كأقدامنا؛ لما تقدم في اليدين.
واذا تعذر حمل اللفظ على ظاهره، تعين حمله على ما هو بعيد فيه؛ وهو أنه يحتمل أنه أراد بالقدم أقدام الجبارين المرتفعين عن التكاليف؛ فإن كل من طغى، وبغى، وخرج عن ربقة التكليف يقال له: جبار. وعبر عن المجموع بلفظ الواحد كما في قوله- تعالى-: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «3»
ويحتمل أنه أراد به قدم بعض الجبارين عينا، ويكون الله- تعالى- قد ألهم النار طلب المزيد إلى حين وضع قدم ذلك الجبار المعين فيها.
ويحتمل أنه أراد به مالكا خازن النار.
*******
________________
(1) انظر الشامل لإمام الحرمين ص 562 وأساس التقديس للرازى ص 141 وغاية المرام للآمدى ص 137 - 141 والمواقف للإيجي ص 298.
(2) هذا الحديث أورده ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص 13 وقال: إنه متفق عليه- كما أورده الآمدي بتمامه في غاية المرام ص 137 ونصه كما يلى:
«إذا كان يوم القيامة واستقر أهل الجنان في نعيمهم وأهل النيران في حميمهم، قالت النار: هل من مزيد؟ فيضع الجبار قدمه فيها فتقول قط قط».
وما ورد هنا جزء من حديث ورد في صحيح البخارى 6/ 173 (كتاب التفسير تفسير سورة ق) عن أبى هريرة- رضى الله عنه- كما ورد في مواضع أخرى في صحيح البخارى. وانظر أيضا صحيح مسلم 4/ 2186
(كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون .. ).
(3) سورة العصر 103/ 2.
(1/470)
________________________________________
الصفة الخامسة عشرة: «الضحك» «1»
وقد أثبت المشبهة صفة الضحك للبارى «2» - تعالى- تمسكا بما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال. فى أثناء حديث «فضحك حتّى بدت نواجزه» «3» ويمتنع حمله على التبسّم، والقهقهة بالآلات، والأدوات الجسمانية؛ لما سيأتى «4» إبطاله في إبطال التشبيه. وعلى ضحك لا كضحكنا؛ لما تقدم؛ فلا بد من التأويل.
وتأويله أن يقال: الضحك قد يطلق على ظهور تباشير النجح في كل أمر.
ومنه يقال:/ الضحك الرياض إذا بدت أزهارها، وعلى هذا فقوله فضحك؛ أى بدت تباشير الخير، والنجح منه.
وقوله: «حتى بدت نواجزه»: أى ظهر كنه ما كان متوقعا منه؛ فإن بدو النواجز قد يطلق على هذا المعنى.
ومنه قول الشاعر:
قوم إذا الشّر أبدى ناجزيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا «5»
أما أن يكون المراد به الأسنان؛ فهو محال.
******
________________
(1) انظر الشامل لإمام الحرمين ص 565 وأساس التقديس للرازى ص 144 - 146.
(2) فى ب (لله).
(3) انظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى 3/ 483، فقد ورد بالنص التالى: (فضحك النبي، رسول الله «ص». حتى بدت نواجزه) ويحيل على مواضع متعددة في الكتب الستة للبخارى، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وأبى داود، وأحمد بن حنبل مما يؤكد أن المقصود به النبي صلى الله عليه وسلم.
وما ورد جزء من حديث عن عبد الله بن مسعود في البخارى 6/ 157 - 158
(كتاب التفسير، تفسير سورة الزمر) وانظر صحيح مسلم 4/ 2147
(كتاب صفات المنافقين، باب صفة القيامة والجنة والنار) كما ورد هذا الحديث من مواضع أخرى من الصحاح وفي سنن أبى داود وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة ومسند الإمام أحمد.
(4) انظر ل 143/ ب وما بعدها.
(5) ورد هذا البيت في الشامل لإمام الحرمين ص 565.
(1/471)
________________________________________
الصفة السادسة عشرة: «الكرم» «1»
الظواهر واردة، والإجماع منعقد على اتصاف الرب- تعالى- بالكرم.
وقد ذهب عبد الله بن سعيد: إلى أن كرمه صفة نفسانية زائدة على ما له من الصفات. وهو وإن كان ممكنا. إلا أنه لا دليل عليه قطعا، ولا ظاهرا؛ فيمتنع الجزم به.
وعلى هذا: فما معنى اتصافه بالكرم؟؛ فسيأتى في شرح أسماء الله الحسنى «2».
وليس تأويل هذه الظواهر وحملها على ما أشير إليه من (المحامل) «3» بمستبعد كما حمل قوله- تعالى- وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ «4» وقوله- تعالى-: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ «5» على معنى الحفظ، والرعاية.
وكما حمل قوله- تعالى- على ما أخبر به نبيه- عليه السلام- عنه أنه قال:
«من أتانى ماشيا أتيت إليه مهرولا» «6». على معنى التطويل، والإنعام. إلى غير ذلك من الظواهر.
******
________________
(1) عن الكرم انظر شرح المقاصد للتفتازانى 2/ 81.
(2) انظر ل 296/ ب.
(3) فى أ (المحال).
(4) سورة الحديد 57/ 4.
(5) سورة المجادلة 58/ 7.
(6) جزء من حديث قدسى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- ورد في البخارى 9/ 147 - 148 (كتاب التوحيد، باب ما يذكر في الذات والنعوت)
كما ورد في صحيح مسلم 4/ 2102 (كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها).
كما ورد في مواطن عدة من الصحاح وفي سنن الترمذي وابن ماجة ومسند الإمام أحمد.
(1/472)
________________________________________
المسألة التاسعة في أن الصفة هل هى نفس الوصف، أو غيره «1»؟
وقد اختلف في ذلك:
فذهبت المعتزلة: إلى أن الصفة هى نفس الوصف. والوصف خبر المخبر عمن أخبر عنه بأمر ما كقوله: إنه عالم، أو قادر، أو أبيض، أو أسود، ونحوه، وأنه لا مدلول للصفة، والوصف إلا هذا.
واحتجوا على ذلك: بأنه لو خلق الله- تعالى- العلم، والقدرة، أو غير ذلك لبعض المخلوقين؛ لم يصح تسميته باعتبار ذلك واصفا. ولو كان العلم والقدرة صفة؛ لصح تسمية خالقه واصفا. كما يصح تسمية خالق الحركة محركا. ولو أخبر عنه أنه عالم، أو قادر، أو غير ذلك؛ صح تسميته واصفا. والصفة يجب أن يكون ما يكون بها الواصف واصفا، وليس على هذا النحو غير القول، والإخبار.
وإذا ثبت أن الوصف هو القول، والإخبار؛ فالعرب تقول: الوصف والصفة بمعنى واحد: كالوجه والجهة، والوعد والعدة، والوزن والزنة.
وإذا كان الوصف/ هو القول؛ فالصفة هى القول؛ لكونها في معناه.
وأما معتقد أهل الحق من الأشاعرة، وغيرهم: فهو أن الوصف هو القول الدال على الصفة، والصفة هى المعنى القائم بشيء ما: كالعلم، والقدرة، والإرادة، ونحو ذلك.
وبيانه من أربعة أوجه:
الأول: ما اشتهر في لسان العرب أن الصفة النفسية منقسمة إلى: خلقية لازمة، وغير خلقية، وفسروا الخلقية بالسواد والبياض؛ ونحوه. والغير خلقية: ما كان مكتسبا من العلوم وغيرها؛ وهو دليل صحة إطلاق الصفة على المعنى.
الثانى: هو أن العقلاء متفقون على صحة إطلاق القول بأن العلم صفة فلان، والجهل صفة فلان. وأن العدل، والأفضال، والإحسان (صفات) «2» لله تعالى.
________________
(1) انظر المقصد الأسنى للغزالى ص 12 وغاية المرام للآمدى ص 144.
(2) فى أ (صفة).
(1/473)
________________________________________
الثالث: إجماع العقلاء على أن من اتصف بصفة. لا تزايله تلك الصفة بإخبار المخبرين، وعدم إخبارهم. ولو كانت الصفة هى الإخبار؛ لما كان كذلك.
الرابع: هو أنه لو لم تكن الصفة هى المعنى؛ بل القول والإخبار، لما كان الرب تعالى متصفا في الأزل بصفات الإلهية، والجلال؛ لعدم المخبرين، والواصفين؛ وهو خرق لإجماع المسلمين.
والقول بأنه لو كانت الصفة هى المعنى القائم بالشيء، لسمى خالقه واصفا؛ ليس كذلك؛ إذ ليس اشتقاق اسم الواصف من الصفة؛ بل من الوصف؛ وهو الإخبار عن الصفة. ولو كان اشتقاق اسم الواصف من خلق الصفة؛ لسمى الرب تعالى عالما؛ بخلقه للعلم الحادث، ومستطيعا؛ بخلقه «1» للاستطاعة الحادثة؛ وهو محال.
وعلى هذا: فلا نسلم أن اسم المحرك مشتق من الحركة؛ بل من التحريك.
وقول العرب: الوصف، والصفة بمنزلة واحدة إن صح؛ فجوابه من وجهين:
الأول: أنه أمكن أن يقال: معناه تنزيل الصفة منزلة الوصف في المصدرية، وإن كانت الصفة خارجة عن قياس المصادر؛ ولهذا يقال: وصفته صفة، ووصفته وصفا.
ومثل ذلك «2» سائغ «2» فى اللسان. ومنه قوله- تعالى-: واللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «3». وإن كان المصدر المنقاس فيه الإنبات، ومن ذلك قولهم: كتب كتابا.
والمصدر المنقاس كتابة.
الثانى: أنه أمكن أن يقال معنى قولهم: الوصف، والصفة بمنزلة واحدة: [أى] «4» أن الوصف صفة للواصف المخبر لقيامه به.
وبالجملة فالبحث/ فى هذه المسألة لغوى، لا معنوى.
*******
________________
(1) فى ب (لخلقه).
(2) فى ب (هذا شائع).
(3) سورة نوح 71/ 17.
(4) فى أ (من).
(1/474)
________________________________________
المسألة العاشرة في أن الصفة هل هى نفس الموصوف، أو غيره؟ وأن الصفة هل توصف، أم لا «1»؟
أما أن الصفة هل هى نفس الموصوف، أو غيره؟
فالذى ذهب [إليه] «2» الشيخ أبى الحسن الأشعرى، وعامة الأصحاب أن من الصفات ما هى عين الموصوف: كالوجود.
ومنها ما هى غيره: وهى كل صفة أمكن مفارقتها للموصوف: كصفات الأفعال:
من كونه خالقا، ورازقا، ونحوه «3». ومنها ما لا يقال: إنها عين الموصوف، ولا غيره:
وهى كل صفة امتنع القول بمفارقتها للموصوف بوجه ما: كالعلم، والقدرة، والإرادة، وغير ذلك من الصفات النفسانية لله تعالى- بناء على أن معنى المتغايرين كل موجودين صحت مفارقة أحدهما للآخر بجهة ما.
وعلى هذا: فكما أن الصفة التى لا تفارق ليست هى عين الموصوف، ولا غيره؛ فكذلك الصفات النفسانية بعضها مع بعض لما لم يصح انفكاك بعضها عن بعض؛ فلا يقال: إن بعضها عين الصفة الأخرى، ولا غيرها.
أما أنها ليست هى هى؛ فلأن المفهوم منها غير متحد قطعا.
وأما أنها ليست غيرها؛ فلعدم الانفكاك، وحاصل النزاع في هذا لا يرجع إلا إلى اصطلاح لفظى لاحظ له في المعنى.
وأما أن الصفة. هل توصف؟
فالذى عليه اتفاق العقلاء: أن الصفات لا يمتنع وصفها بصفات أنفسها؛ لكونها موجودة، وثابتة، وغير ذلك.
وإنما الخلاف بينهم في وصف الصفات بصفات معللة بمعنى زائد عليها.
________________
(1) انظر غاية المرام للآمدى ص 145.
(2) ساقط من أ.
(3) فى ب (و نحوها).
(1/475)
________________________________________
فذهب عبد الله بن سعيد: إلى أن الصفات لا توصف بمثل هذه الصفات، فلا توصف صفات الرب- تعالى- بكونها باقية، ولا قديمة- وإلا كانت باقية ببقاء، وقديمة بقدم.
ويلزم منه قيام المعنى بالمعنى؛ وهذا مما لا سبيل إليه. مع استمرار صفات الله تعالى فيما لا يزال، وكونها لا أول لها؛ بل الحق إنما هو وصفها بكونها قديمة، وباقية.
وأما كونها موصوفة بالبقاء، والقدم. أو غير موصوفة به؛ فقد سبق تحقيقه بما فيه مقنع، وكفاية.
*******
(1/476)
________________________________________
المسألة الحادية عشرة في تعلق الصفات بمتعلقاتها، وأنه ثبوتى، أو عدمى
والمناسب لأصول أصحابنا أن مفهوم تعلق العلم بالمعلوم لا يزيد على كونه معلوما به، وأن تعلق القدرة/ بالمقدور، لا يزيد على حصول المقدور بالقدرة.
وعلى هذا «1» فى كل مضافين، ومن نازع زعم أن تعلق القدرة بالمقدور أمر ثبوتى زائد على حصول المقدور بالقدرة. وأن تعلق العلم بالمعلوم أمر ثبوتى زائد على كون المعلوم معلوما بالعلم.
احتج الأصحاب بأنه لو كان تعلق القدرة بالمقدور أمرا ثبوتيا، وله وجود في الأعيان لم يخل: إما أن يكون واجبا لذاته، أو ممكنا لذاته.
لا جائز أن يكون واجبا: وإلا لما افتقر إلى غيره في وجوده والتعلق إذا كان صفة وجودية؛ فهو مفتقر إلى الموصوف به؛ فلا يكون واجبا لذاته؛ فلم يبق إلا أن يكون ممكنا: وعند ذلك فلا بد له من مؤثر، والكلام في تعلق ذلك المؤثر به كالكلام في الأول؛ ويلزم منه التسلسل، أو الدور.
وهذه المحالات إنما لزمت من كون التعلق ثبوتيا في الأعيان؛ فالقول به ممتنع.
فإن قيل: لا نزاع بين العقلاء في المغايرة بين ذات القدرة، والمقدور، والعلم، والمعلوم، وأن القدرة متعلقة بالمقدور، والعلم بالمعلوم. ولو لا ذلك لما تحقق وجود المقدور، ولما كان المعلوم معلوما.
وهذا التعلق «2» ليس هو نفس القدرة، ولا نفس المقدور، ولا نفس العلم، ولا نفس المعلوم؛ بدليل صحة العلم بكل واحد من هذين المتعلقين «3» مع الجهل بما بينهما من التعلق؛ والمعلوم غير ما ليس بمعلوم.
وإذا كان التعلق زائدا على المتعلقين فلا يخلو؛ إما أن يكون ثبوتيا، أو نفييا.
________________
(1) فى ب (هذا الكلام).
(2) فى ب (التعليق).
(3) فى ب (التعليقين).
(1/477)
________________________________________
لا جائز أن يكون نفييا؛ فإن «1» نقيض التعلق لا تعلق. ولا تعلق نفى بدليل صحة اتصاف العدم المحض به، فالتعلق ثبوتى.
وهو إما أن يكون كذلك في نفس الأمر، أو لا يكون كذلك في نفس الأمر.
لا جائز أن لا يكون كذلك في نفس الأمر؛ إذ هو خلاف ما الكلام فيه؛ إذ الكلام إنما هو مفروض فيما إذا تعلقت القدرة بالمقدور، والعلم بالمعلوم حقيقة في نفس الأمر، لا في فرض الفارض، وتقدير المقدر. وسواء كان ذلك معلوما لنا، أو مجهولا.
وإذا كان كذلك فى نفس الأمر؛ فلا معنى لكونه موجودا في الأعيان إلا هذا.
قلنا: أما التغاير بين ذات القدرة، والمقدور، والعلم، والمعلوم كذا في كل مضافين؛ فمسلم. غير أنا لا نسلم أن الإضافة، والتعلق بين العلم، والمعلوم، والقدرة، والمقدور/ يزيد على حصول المقدور بالقدرة، وكون المعلوم معلوما بالعلم. وعلى هذا النحو في كل مضافين. وإذا كان تعلق القدرة بالمقدور لا معنى له إلا حصول المقدور بالقدرة، وتعلق العلم بالمعلوم لا معنى له، غير كون المعلوم معلوما بالعلم، وذلك لا يفضى إلى التسلسل على ما حققناه عند كون التعلق زائدا عليه.
وعلى هذا فلا مانع من تعلق الصفة بمتعلقها في حالة دون حالة من غير تسلسل، ولا تغير في ذات الصفة، وإن تغير التعلق والمتعلق.
*********
________________
(1) فى ب (لأن).
(1/478)
________________________________________
«النوع الثالث» فيما يجوز على الله تعالى وفيه مسألتان:
(1/479)
________________________________________
المسألة الأولى في أن حقيقة واجب الوجود، هل هى الآن معلومة، أم لا «1»؟
وقد اختلف فيه «2»:
فقال بعض المتكلمين من أصحابنا، ومن المعتزلة: العلم بحقيقته في الآن حاصل.
ومنهم من منع من ذلك
ثم اختلف القائلون بالمنع في أنه: هل يجوز أن تصير حقيقته معلومة؟ فمنهم من منع أيضا: كالفلاسفة، وبعض أصحابنا: كالغزالى «3»، وإمام الحرمين.
ومنهم من توقف: كالقاضى أبى بكر، وضرار بن عمرو.
واحتج القائلون بالمنع مطلقا بحجج أربع:
الحجة الأولى: أن حقيقته غير متناهية، والعقل متناه، وإدراك غير المتناهى بالمتناهى؛ محال.
الحجة الثانية: هو أن ذاته وحقيقته مخالفة بذاتها لسائر الحقائق، والذوات، وكل ما نعلمه منه: ككونه موجودا، وعالما، وقادرا، ومريدا إلى غير ذلك من الصفات؛ فغير مانع من وقوع الاشتراك فيها؛ ولهذا يفتقر بعد معرفة ما له من الصفات إلى بيان وحدانيته، وإذا كانت ذاته مانعة من وقوع الاشتراك فيها، وكل ما نعلمه منه غير مانع من وقوع الاشتراك فيه؛ فذاته غير معلومة.
________________
(1) انظر المواقف للإيجي ص 310، 311، وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 91، 92.
(2) فى ب (فى ذلك).
(3) الغزالى (450 ه- 505 ه)
حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالى. متكلم، فقيه، أصولى، صوفى، مشارك في أنواع من العلوم. كان الآمدي معنيا بنقده، والرد عليه، وإذا ذكر رأيه يقول: قال بعض المتأخرين، ولم يصرح باسمه إلا في هذا الموضع. وقد تتبعت هذه الآراء، ووضحت نسبتها إلى الغزالى في مواضعها، (وفيات الأعيان 3/ 353 ومعجم المؤلفين 11/ 266 والأعلام 7/ 247).
(1/481)
________________________________________
الحجة الثالثة: أن طريق معرفة واجب الوجود، إنما هو وجود الممكنات، ووجوب إسنادها إلى موجود واجب؛ قطعا للتسلسل، والدور، وليس في ذلك ما يدل على كنه حقيقته، ومعرفة ماهيته، وكل ما ندركه منه بعد ذلك؛ فلا يخرج عن الصفات الخارجة عن الذات: كصفات النفس من العلم، والقدرة، ونحوه.
أو الصفات الإضافية: ككونه خالقا، ومبدأ، ونحوه. أو الصفات السلبية، ككونه ليس بجوهر، ولا جسم، ولا عرض، ونحوه. وكل ذلك لا يدل على كنه الحقيقة؛ فكانت غير/ معلومة.
الحجة الرابعة: قوله- تعالى-: ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً «1».
وأما القائلون بكونها معلومة؛ فقد احتجوا بأن قالوا:
لا خفاء بجواز الحكم على ذاته بإثبات صفات الكمال، وسلب صفات النقص؛ وهذا الحكم فرع تصور المحكوم عليه؛ فإن ما لا يكون متصورا في العقل لا يكون مصدقا بإثبات حكم له، أو سلبه عنه.
وعلى هذا: فمن قال إن ذاته غير معلومة؛ يلزمه من هذا الحكم التصديقى أن تكون ذاته معلومة.
ثم اعترضوا على حجج المذهب الأول:
أما الحجة الأولى: فإنها منقوضة بتعلق العلم بوجوده؛ فإنه غير متناه. وسواء قلنا هو نفس الذات، أو زائد عليها. ومع ذلك لم يمنع من تعلق العلم به، وكذلك سائر صفاته النفسانية؛ عند المعترف بها.
وأما الحجة الثانية: فقالوا: لا نسلم أن كل ما نعلمه منه غير مانع من وقوع الاشتراك فيه؛ فإن وجوده معلوم بموافقة الخصم هاهنا، وبالدليل على ما سبق؛ وهو مانع من وقوع الاشتراك فيه، كما سلف في النوع الأول.
وأما الحجة الثالثة: فحاصلها يرجع إلى إبطال مدرك من المدارك.
وليس في ذلك ما يدل على إبطال كل مدرك، ونفى باقى المدارك بعدم الاطلاع عليها مع البحث عنها؛ غير يقينى، كما سبق.
________________
(1) سورة طه 20/ 110.
(1/482)
________________________________________
كيف: وأنه إذا اعترف بأن الطريق المذكور موصل إلى العلم بوجود واجب الوجود؛ فقد بينا في النوع الأول: أن ذاته وجوده، ووجوده ذاته؛ فإذا كان وجوده معلوما؛ كانت ذاته معلومة.
وأما الآية: فلا حجة فيها؛ فإن قوله- تعالى-: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ «1»: أى من الأمور الغيبية، والضمير في قوله- تعالى-: ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً «2» عائد إلى معلوم الله- تعالى- مما بين أيديهم، وما خلفهم من الأمور الغيبية، لا إلى الله تعالى.
وأما نحن فنقول: لا شك أنه معلوم الوجود؛ فإن كان الوجود هو نفس الذات؛ فالذات معلومة. وإن كان زائدا على الذات؛ فالحكم بأن وجوده زائد على ذاته، حكم تصديقى يستدعى تصور المحكوم عليه.
وعلى كلا التقديرين؛ فيجب أن تكون ذاته متصورة.
ثم تصور الشيء تارة يكون بتصور ذاتياته، ومقوماته «3»، إن كان مركبا.
وتارة بتصور خواصه، ولوازمه. وسواء كان مركبا، أو بسيطا، لكن ذات واجب الوجود بسيطة غير مركبة كما يأتى «4»؛ فتصورها لا يكون بالطريق الأول؛ بل بالثانى.
/ وعلى هذا: فمن قال إنها متصورة بالطريق الثانى؛ فقد قال حقا. ومن قال إنها غير متصورة بالطريق الأول؛ فقد قال حقا.
وأما إن وقع النزاع بالنفى، والإثبات على أحد الطرفين؛ فالنافى في الطريق الأول:
مصيب، وفي الثانى: مخطئ، والمثبت بعكسه.
*****
________________
(1) سورة البقرة 2/ 255.
(2) سورة طه 20/ 110.
(3) فى ب (و معلوماته).
(4) انظر ل 142/ أ وما بعدها.
(1/483)
________________________________________
المسألة الثانية في رؤية الله- تعالى-
وتشتمل على مقدمة وفصلين:
أما المقدمة:
فنقول: قد بينا الإدراكات، ومعناها في مسألة «1»: السمع والبصر لله- تعالى- فلا بد من الإشارة إلى متعلقاتها من المدركات، واختلاف المتكلمين فيها، وما هو المختار.
أما الرؤية: فيصح تعلقها بكل موجود عند أئمتنا، وأن «2» المصحح للرؤية الوجود، على ما يأتى. إلا عبد الله بن سعيد؛ فإنه نقل عنه أنه قال: لا تتعلق الرؤية بغير القائم بنفسه.
وأما الصفات: فلا تتعلق بها حتى قال: من رأى جسما أسود. فما رأى سواده؛ بل المرئى: كونه أسود، وكذلك المسموع؛ هو المتكلم دون الكلام.
وذهب أكثر المعتزلة: إلى أن المدرك إنما هو الأجسام، والألوان، لا غير.
وذهب بعضهم، وكثير من الكرامية: إلى أن المدرك ليس غير الألوان.
واتفقت المعتزلة: على استحالة رؤية العلوم، والقدر، والإرادات، والروائح، والطعوم شاهدا، وغائبا.
واتفق العقلاء: عل استحالة رؤية المعدوم، غير السّالميّة «3»؛ فإنهم جوزوا رؤيته.
________________
(1) انظر ما سبق ل 99/ أ وما بعدها.
(2) فى ب (فإن).
(3) السّالميّة:
تنسب هذه الطائفة إلى رجل وابنه- أما الرجل: فهو: محمد بن أحمد بن سالم البصرى المتوفى عام 297 ه.
وأما الابن فهو: أحمد بن محمد بن أحمد بن سالم المتوفى عام 360 ه- وكانوا يجمعون بين كلام أهل السنة، وكلام المعتزلة مع ميل إلى التشبيه، ونزعة صوفية. ومن أشهر المنتسبين إلى هذه الطائفة: أبو طالب المكى صاحب قوت القلوب المتوفى سنة 386 ه وتأثر بها كثير من أعلام التصوف في العالم الإسلامى.
أما عن رأيهم في جواز رؤية المعدوم، فانظر الشامل لإمام الحرمين ص 537.
ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 400 - 404.
(1/484)
________________________________________
وأما الهواء: فقد اختلفوا في رؤيته.
فمنهم من قال: هو مرئى الآن ليلا، ونهارا، كأكثر أصحابنا.
ومنهم من منع ذلك مطلقا: كالمعتزلة.
ومنهم: من جوز ذلك ليلا، لا نهارا: وكل ما صح أن يرى؛ فهو مرئى لكل راء؛ خلافا للقاضى أبى بكر، وبعض المعتزلة.
أما القاضى: فإنه قال: الرؤية المخلوقة لزيد لا يراها، ويجوز أن يراها غيره.
وأما بعض المعتزلة: فإنهم قالوا: ذات الله- تعالى- مرئية له غير مرئية لمن سواه، وكذلك فناء الجواهر «1» مرئى لله- تعالى- دون المخلوقين.
ومنهم: من طرد المنع من الرؤية في هاتين الصورتين مطلقا
أما صحة تعلق الرؤية بكل موجود على أصل أصحابنا: فمبنى على أن مصحح «2» الرؤية «2» هو الوجود؛ فإن صح ذلك- على ما سيستقصى الكلام فيه في رؤية الله «3» - تعالى- فهو الحجة على مذهبهم. وإبطال مذاهب المخالفين في امتناع رؤية بعض الموجودات، والقائلين برؤية [بعض «4»] المعدومات.
وعلى هذا فمن قال بالأحوال/ من أصحابنا؛ فلا سبيل إلى كونها مرئية عنده- وإن كانت ثابتة- ضرورة عدم المصحح لرؤيتها، وهو الوجود؛ إذ هى غير موجودة، ولا معدومة.
والّذي يخص المنكرين رؤية «5» الألوان، والصفات: كعبد الله بن سعيد: ما يجده كل عاقل من نفسه من إدراك السواد، والبياض، وغير ذلك من الألوان. ولو ساغ إنكار ذلك؛ لساغ إنكار كل مشاهد مرئى؛ ولا يخفى ما فيه من المحال.
________________
(1) فى ب (الجوهر).
(2) فى ب (المصحح للرؤية).
(3) انظر ل 124/ ب وما بعدها.
(4) ساقط من أ.
(5) فى ب (من رؤية).
(1/485)
________________________________________
ولعله لم يرد ما هو الظاهر من كلامه؛ بل لعله أراد به أن الصفات لا تدرك على حيالها عند فرض قيامها بالمحل؛ بل المحل يدرك على «1» سواده، وبياضه.
والّذي يخص إبطال مذهب من يرى أن المرئى ليس غير الألوان «2» أمور ثلاثة:
الأول: أن كل عاقل يعلم من نفسه رؤية أشكال الأجسام، ومقاديرها. كما يعلم من نفسه رؤية ألوانها. ولو ساغ إنكار ذلك؛ لساغ إنكار رؤية الألوان؛ لعدم الفرق.
الثانى: أنا ندرك بالضرورة كون الأجسام في بعض الجهات دون البعض؛ وليس ذلك من الألوان في شيء.
الثالث: هو أنا ندرك وجود الأجسام المقبلة على بعد، ولا ندرك ألوانها إلا على قرب؛ والمدرك غير ما ليس بمدرك.
وأما أن الهواء مرئى: فلا يخفى جوازه إن صح أن المصحح للرؤية هو الوجود؛ إذ هو موجود.
وأما أنه مرئى في وقتنا هذا: فقد استدل عليه بما نراه من اختلاف الأحوال عند طلوع الشمس، وغروبها، وانبساط شعاع الشمس على الأرض، وتقلص الظل إلى ما قبل «3» الزوال، وازدياد الفيء فيما بعد الزوال؛ مع بقاء الأرض على لونها في جميع الأحوال.
وإذا ثبت اختلاف الألوان في هذه الأحوال، وتعذر عوده إلى لون الأرض؛ لبقائها مع اختلاف الأحوال على ما هى عليه من اللون المرئى لنا؛ تعين عوده إلى الهواء. وعلى حسب شروق النير على الهواء وغروبه. يرى الهواء تارة مضيئا، وتارة مظلما. وهذا دليل على أن لون الهواء لذاته «4» أسود مظلم، وما له من الإضاءة؛ إنما هو بسبب شروق الشمس عليه، أو غيرها من النيرات.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) هم الكرامية وبعض المعتزلة.
(3) فى ب (وقت).
(4) فى ب (بذاته).
(1/486)
________________________________________
ولقائل أن يقول:
لا مانع أن يقال: بأن ما نراه من الألوان عند انبساط الشمس على وجه الأرض، ونقصان الظل، وتقلص الشمس، وازدياد الفيء؛ إنما هو لون تكتسبه الأرض بسبب انبساط الشمس، وتقلصها غير ما لها من اللون «1» فى نفسها، لا «2» أنه لون الهواء.
ثم وإن سلم أنه لون/ الهواء؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من رؤية لون الشيء؛ رؤية ذلك الشيء على ما ذهب إليه بعض أصحابنا. وإن خالف فيه أكثر المعتزلة، وكثير من أصحابنا. ولعله الأظهر على أصول أصحابنا. نظرا إلى أن المصحح للرؤية إنما هو الوجود؛ واللون موجود؛ فلا يتوقف في رؤيته على رؤية محله.
وربما عضد من نفى رؤية الهواء: بأنه لو كان مرئيا؛ لميز الرائى بين الراكد منه والجارى: كالماء؛ واللازم ممتنع.
وأيضا: فإنه لو كان مرئيا، لما خالف فيه قوم لا يتصور على مثلهم التواطؤ على الكذب، والخطأ.
وقد خالف في ذلك أكثر المعتزلة و (أكثر «3») أهل الحق من المتكلمين؛ وهم قوم لا يحصرهم عدد، ولا يتصور من «4» مثلهم «4» التواطؤ على الخطأ عادة؛ بخلاف السوفسطائية.
وأما حجة من احتج على رؤية الهواء ليلا؛ فما نراه عليه من السواد، والظلمة؛ وإليه ميل القاضى أبى بكر.
ولقائل أن يقول:
إنا «5» لا نسلم رؤية الشيء في الليل المدلهم. ولهذا فإن الإنسان لا يجد تفرقة في الليل المدلهم بين حالة كونه مغمض العين، وبين حالة فتحها؛ وهو غير راء حالة
________________
(1) فى ب (الألوان).
(2) فى ب (إلا أنها).
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (منهم).
(5) ساقط من ب.
(1/487)
________________________________________
تغميض العين؛ فكذلك حالة فتحها. ولو «1» كان رائيا في إحدى الحالتين دون الأخرى؛ لأحس بالفرق ضرورة؛ هذا ما يتعلق بالرؤية.
وأما باقى الإدراكات: فعلى أصل الشيخ «2» أبى الحسن أن المصحح للإدراك هو الوجود. فكما أن الرؤية عامة لكل موجود؛ فكذلك كل إدراك يعم كل موجود.
وذهب عبد الله بن سعيد، والقلانسى «3»، وكثير من أصحابنا: إلى أن باقى الإدراكات لا تعم كل موجود؛ بل إدراك السمع يختص بالأصوات، والشم بالروائح، والذوق بالطعوم، واللمس بالحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، وما يتركب من هذه الكيفيات الملموسة؛ مصيرا منهم إلى أنه لا علة جامعة بين جميع المرئيات على وجه يطرد، وينعكس غير الوجود.
وأما في إدراك السمع فقالوا: العلة المصححة له الجامعة لجميع أنواع المسموعات على وجه يطرد، وينعكس؛ إنما هو الصوت وفي إدراك الشّم الرائحة، وفي إدراك الذوق الطعم. وفي إدراك اللمس؛ الكيفية الملموسة. وهو ظاهر بين؛ ولعله الأظهر.
وربما قيل في تحقيق الفرق بين الرؤية، وباقى الإدراكات: أن الرؤية لا تستدعى اتصال المرئى بالمدرك بخلاف باقى الإدراكات؛ فإنها/ لا تتم دون اتصال المدرك بالمدرك؛ فلذلك خصت ولم تعم.
وقد أجاب عنه بعض الأصحاب: بأن الاتصال في باقى الإدراكات غير معتبر.
أما الطعم: فلأن من دلّك أسفل قدميه بالحنظل مرارا؛ أحس بالمرارة في حلقه مع عدم الاتصال.
وأما في الرائحة: فما نراه «4» من شم المسك الأزفر على بعد من غير اتصال.
________________
(1) فى ب (فلو).
(2) فى ب (شيخنا).
(3) القلانسى: ت في حدود سنة 335 ه أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسى، من متكلمى أهل السنة في القرن الثالث، وزادت تصانيفه في الكلام على مائة وخمسين كتابا، وقد تأثر بابن كلاب، وصار على نهجه، وهو من الأعضاء البارزين في المدرسة الكلابية التى تأثر بها الإمام الأشعرى.
(انظر الملل والنحل 1/ 93 وتبيين كذب المفترى 398 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 374 - 384).
(4) فى ب (نجده).
(1/488)
________________________________________
وأما فى الملموسات: فما نجده من الحس بحرارة النار عند القرب منها، وبرد الثلج عند القرب منه من غير اتصال.
وهو غير سديد؛ إذ أمكن أن يقال: سبب الذوق؛ إنما هو نفوذ طعم الحنظل في المسام البدنية إلى الحلق. وفي الشم بسبب ما يحمله الهواء من الأجزاء اللطيفة من ذى الرائحة إلى المشم، حتى إنه لو كان المشموم في شيء لا مساس فيه، وهو مسدود سدا مهندما؛ لما أدركت رائحته، أو أن ذلك بسبب خلق الله- تعالى- الرائحة في الهواء المجاور لذى الرائحة الواصل إلى المدرك، وكذلك فإن المدرك حره، وبرده عند القرب من النار، والثلج؛ إنما هو حر الهواء المسخن بالنار، وبرد الهواء المبرد بالثلج؛ بل الأقرب في دفع ما قيل من الفرق أنه وإن وجد الإدراك لهذه الأمور عند الاتصالات؛ فليس إلا بحكم جرى العادة.
وأما أن يكون ذلك شرطا في الإدراك فلا. على ما بيناه في مسألة السمع والبصر [لله «1» تعالى «1»].
ثم ما ذكروه وإن كان ظاهرا في الإدراك بالذوق «2»، واللمس «2»؛ فغير ظاهر في السمع والشم.
وعلى هذا فإن قلنا بتعلق كل إدراك بكل موجود على ما هو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى؛ فليس ذلك مما يوجب اتحاد الإدراك كما في العلم؛ إذ ليست جهة التعلق في الكل واحدة؛ بل مختلفة على ما يجده كل عاقل من نفسه عند إدراكه للشىء بالسمع، والبصر، وغير ذلك من الإدراكات. وهذا بخلاف العلم؛ فإن جهة تعلقه بجميع المعلومات واحدة؛ وهو معرفة المعلوم على ما هو عليه، وذلك مما لا يختلف فيه تعلق العلم بالشيء وضده؛ فلذلك كانت الإدراكات مختلفة دون العلم. واتحاد المتعلق؛ مع اختلاف جهة التعلق؛ لا يوجب اتحاد الإدراكات بدليل العلم، والقدرة، والإرادة؛ فإنها لما اختلفت جهة تعلقها؛ كانت مختلفة. وإن كان متعلقها واحدا، ومما يتصل بهذه المقدمة إدراك الأكوان باللمس.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (باللمس والذوق).
(1/489)
________________________________________
وقد اختلف فيه أصحابنا: فأنكره بعضهم، وأوجبه آخرون/؛ وهو الأظهر؛ فإن كل عاقل يجد من نفسه إدراك الجسم متحركا، وساكنا ومجتمعا، ومفترقا باللمس؛ وإن كان مغمض العين.
وإذا عرفت الإدراكات، ومتعلقاتها؛ فالإدراك الحادث هل يتعلق بمدركين، أو لا يتعلق إلا بمدرك واحد؟ وأن الإدراكين المتعلقين بمدركين مختلفين، مختلفان. وأن الإدراكات المختلفة هل تقوم بمحل واحد؟ وأنه هل يتصور إدراك بلا مدرك؟ فالكلام فيه على ما سبق في العلوم.
*******
(1/490)
________________________________________
الفصل الأول في جواز رؤية الله- تعالى- عقلا
والّذي عليه إجماع الأئمة من أصحابنا «1» أن رؤية الله- تعالى- غير ممتنعة عقلا؛ بل [هى «2»] جائزة في الدنيا، والأخرى، وهل الرؤية في الدنيا جائزة سمعا؟. فمما اختلف فيه.
فجوزه بعض مثبتى الرؤية؛ وأنكره آخرون.
وذهب بعض من أثبت جواز الرؤية إلى امتناعها في الدنيا. وهل يجوز إطلاق القول بأن الله- تعالى- يجوز أن يكون مدركا؟
فذهب القلانسى، وعبد الله بن سعيد: إلى المنع من ذلك، وجوزه باقى أصحابنا، وهل يجوز أن يرى في المنام؟ فجوزه بعض المثبتة للرؤية، وأنكره آخرون.
والحق أنه لا مانع من هذه الرؤية، وإن لم تكن رؤية حقيقية. ولا خلاف بين أصحابنا أن الله- تعالى- يرى نفسه وجوبا.
وأما المعتزلة «3»، والخوارج، وجماعة من الرافضة: فقد أجمعوا على امتناع رؤية البارى عقلا لذوى الحواس، واختلفوا في رؤية الله- تعالى- لنفسه. فذهب الأكثرون إلى المنع من ذلك، وجوزه الأقلون.
________________
(1) من كتب الأشاعرة المتقدمين على الآمدي انظر ما يأتى:
اللمع للأشعرى ص 61 - 68 والإبانة ص 12 - 19 له أيضا
والإنصاف للباقلانى ص 176 - 193
وأصول الدين للبغدادى ص 97 - 102 والإرشاد لإمام الحرمين ص 166 - 186 واللمع له أيضا ص 101 - 105 والاقتصاد للغزالى ص 30 - 36 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 356 - 369 والمحصل للرازى ص 136 - 139 ومعالم أصول الدين له أيضا ص 59 - 67.
ومن كتب الآمدي انظر: غاية المرام ص 159 - 178.
ومن الكتب المتأخرة التى تأثر أصحابها بالآمدي:
انظر شرح الطوالع ص 185 - 189 والمواقف للإيجي ص 299 - 310
وشرح المقاصد 2/ 82 - 91.
(2) ساقط من أ.
(3) عن موقف المعتزلة من الرؤية ونفيهم لها: انظر المغنى، الجزء الرابع، حيث يخصص القاضى عبد الجبار معظمه للكلام عن رؤية البارى من ص 33 - 240 وانظر أيضا شرح الأصول الخمسة له ص 232 - 277 والمحيط بالتكليف له أيضا ص 208 - 213.
(1/491)
________________________________________
وقد احتج المثبتون لجواز الرؤية بحجج عقلية، وسمعية.
أما الحجج العقلية فأربع:
الحجة الأولى:
وهى معتمد القاضى أبى بكر «1»، وأكثر الأئمة.
وها نحن نذكرها بزيادة تحرير، وتقرير؛ فنقول: قد بينا في المقدمة أن الأجسام والألوان مرئية؛ فالأجسام، والألوان مشتركة في صحة تعلق الرؤية بها، وصحة تعلق الرؤية بها يستدعى مصححا.
وإنما قلنا ذلك؛ لأنه لو كانت الأجسام معدومة؛ لاستحال أن تكون مرئية، ومدركة بالاتفاق منا، ومن المعتزلة، ومن كل محصل؛ فحيث استحال تعلق الرؤية بها حال عدمها، وصح مع وجودها؛ لزم أن يكون ذلك المخصص، وإلا لعم الحكم نفيا، أو إثباتا؛ وذلك المخصص هو المعنى بالمصحح.
ولا يخفى أن بين الأجسام والألوان اتفاقا، وافتراقا؛ فالمصحح: إما أن يكون ما به الاتفاق،/ أو ما به الافتراق، أو مجموع الأمرين.
لا جائز أن يكون المصحح [للرؤية «2»] ما به الافتراق، أو ما به الاتفاق والافتراق معا؛ وإلا كان الحكم الواحد المشترك بين المختلفات؛ معللا بعلل مختلفة؛ وهو محال.
وذلك لأن كل واحدة من العلتين: إما أن تستقل بالتصحيح، أو إحداهما دون الأخرى، أو أنه لا استقلال لكل واحدة منهما.
فإن كان الأول: فلا معنى لكون العلة مستقلة بالتصحيح إلا أنها هى المصححة دون غيرها، فإذا قيل كل واحدة مستقلة بالتصحيح؛ لزم منه عدم استقلال كل واحدة منهما.
________________
(1) قارن ما أورده الآمدي هنا بما أورده في غاية المرام ل 65/ أ وانظر ما أورده الشهرستانى في نهاية الأقدام ص 357، 358 حيث يذكر هذه الحجة مقدما لها بقوله: قالت الأشعرية: ثم يفصل القول فيها. ثم يخلص في النهاية إلى عدم الثقة بالأدلة العقلية في هذه المسألة قائلا: (و اعلم أن هذه المسألة سمعية أما وجوب الرؤية، فلا شك في كونها سمعية. وأما جواز الرؤية فالمسلك العقلى ما ذكرناه، وقد وردت عليه تلك الإشكالات ...
فالأولى بنا أن نجعل الجواز أيضا مسألة سمعية). نهاية الأقدام ص 369.
(2) ساقط من أ.
(1/492)
________________________________________
وإن كان الثانى: فالمصحح أحد العلتين دون الأخرى، ثم يلزم منه صحة الرؤية في المحل المختص بتلك العلة، وعدم صحة «1» الرؤية «1» فى المحل الّذي لم توجد فيه تلك العلة؛ وهو محال.
وإن كان الثالث: فيلزم منه امتناع صحة الرؤية لكل واحد من المحلين المختلفين؛ ضرورة عدم استقلال ما اختص به بالتصحيح «2»؛ فلم يبق إلا أن يكون المصحح ما به الاتفاق لا غير. وما به الاتفاق: إما أن يكون عدما، أو وجودا.
لا جائز أن يكون المصحح ما به الاتفاق من الأعدام، والسلوب لوجهين:
الأول: أن العدم لا يصلح أن يكون علة موجبة لصحة الرؤية؛ فإن كون العلة موجبة صفة إثبات للعلة، والعدم المحض لا يتصف بالصفات الإثباتية؛ فلم يبق إلا أن تكون العلة المصححة وجودية.
الثانى: [أن «3»] العدم لا اختصاص له بمحل دون محل. ويلزم من ذلك أن يكون مصححا للرؤية بالنسبة إلى كل محل مجهول؛ وهو محال.
وما به الاتفاق بين الأجسام والألوان من الصفات العامة الوجودية، ليس إلا الوجود، والحدوث.
والحدوث لا يجوز أن يكون هو المصحح لثلاثة أوجه:
الأول: أنه يصح رؤية الأجسام في حال بقائها، ولا حدوث في حالة البقاء.
الثانى: أنه لا معنى للحدوث، إلا سبق الوجود بالعدم. أى أنه لم يكن؛ فكان، أو أنه مما لا يتم وجوده بنفسه، وهذه أعدام، والعدم لا يكون علة على «4» ما تقدم «4»، ولا جزء من العلة؛ لأن جزء العلة لا بدّ وأن يكون مؤثرا مع الجزء الآخر. والتأثير صفة إثبات؛ فلا يكون صفة للعدم المحض.
________________
(1) فى ب (الصحة).
(2) فى ب (من التصحيح).
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (على ما سبق).
(1/493)
________________________________________
الثالث: أنه لو كان المصحح هو الحدوث؛ فيلزم على أصول المعتزلة صحة رؤية العلوم، والقدر، والإرادات «1». وكذلك «1» الطعوم، والروائح؛/ لكونها حادثة؛ وهو خلاف أصولهم «2»؛ فلم يبق إلا أن يكون المصحح هو الوجود، والوجود متحقق في حق الله- تعالى- ويلزم من ذلك صحة الرؤية عليه؛ ضرورة وجود المصحح.
فإن قيل: لا نسلم اشتراك الأجسام والألوان في صحة الرؤية، وما المانع من أن يقال: الألوان غير مرئية؟ كما هو مذهب عبد الله بن سعيد من أصحابكم؛ حيث ذهب إلى أنه لا يرى غير القائم بنفسه، أو أن الجسم غير مرئى؛ كما هو مذهب بعض المعتزلة، وأكثر الكرامية؟
قولكم: فى المقدمة: إنا لا نشك في رؤية أشكال الأجسام، ومقاديرها وكونها في بعض الجهات دون البعض؛ فغايته أنه دليل على أن المدرك عرض آخر؛ وليس في ذلك ما يدل على كون الجسم مرئيا.
سلمنا صحة رؤية الأجسام والألوان؛ ولكن لا نسلم أن صحة الرؤية أمر ثبوتى؛ وما ليس بثبوتى؛ فلا يحتاج إلى التعليل.
أما أن الصحة ليست أمرا ثبوتيا؛ فلأنه لا معنى لصحة الرؤية إلا إمكان الرؤية.
والإمكان ليس بثبوتى؛ وبيانه من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الإمكان نقيضه لا إمكان، [و لا «3» إمكان «3»] عدم لصحة اتصاف العدم الممكن به، ولو كان صفة ثبوتية؛ لكان صفة للعدم المحض، والنفى الصرف؛ وهو محال.
الثانى: هو أن الحادث قبل حدوثه متصف بالإمكان، فلو كان الإمكان صفة وجودية: فإما أن يكون صفة للحادث، أو لغيره.
لا جائز أن يكون صفة للحادث؛ وإلا كانت الصفة الوجودية لما ليس بموجود.
________________
(1) فى ب (و الإدراكات).
(2) فى ب (أصلهم).
(3) فى أ (و الإمكان).
(1/494)
________________________________________
ولا جائز أن يكون صفة لغير الحادث؛ وإلا لما وصف الحادث به. كما لا يوصف المحل بكونه أسود بسواد قائم بغيره.
الثالث: أنه لو كان الإمكان صفة وجودية: فإما أن يكون واجبا لذاته، أو ممتنعا لذاته، أو ممكنا لذاته.
لا جائز أن يكون واجبا لذاته: وإلا لما كان صفة لغيره.
ولا جائز أن يكون ممكنا، وإلا كان ممكنا بإمكان آخر؛ ولزم التسلسل. فلم يبق إلا أن يكون ممتنع الوجود لذاته؛ وهو المطلوب.
وإذا ثبت أن صحة الرؤية ليس أمرا ثبوتيا؛ فما ليس بثبوتى لا يفتقر إلى علة؛ لأن العلة: إما وجودية، أو عدمية.
فإن كانت وجودية: فإما قديمة، أو حادثة.
فإن كانت قديمة؛ فهو ممتنع؛ لأن القديم لا تخصص له بعدم دون عدم؛ فيجب أن يكون علة لكل معدوم، وأن لا يزول الإعدام أبدا؛ ضرورة أن العلة الموجبة/ لها موجودة قديمة، وأن القديم الموجود لا يزول كما يأتى تحقيقه، وأنه يلزم من دوام العلة دوام معلولها.
وإن كانت العلة الموجودة حادثة؛ فهو محال؛ لأن العدم الّذي هو معلولها سابق عليها؛ والمعلول لا يسبق العلة. وإن كانت العلة عدمية؛ فهو ممتنع لثلاثة أوجه:
الأول، والثانى: ما سبق في تقرير الدليل.
والثالث: أن الأعدام من حيث هى أعدام متساوية، بخلاف الذوات الموجودة، فلو كان العدم علة للعدم؛ لكان أحد المتساويين علة للآخر؛ وليس هو أولى من العكس.
سلمنا أن صحة الرؤية أمر ثبوتى؛ ولكن لا نسلم أن كل أمر ثبوتى لشيء يجب أن يكون معللا.
قولكم: إنه «1» لو كانت الأجسام، والألوان معدومة استحال «2» أن تكون مرئية. لا
________________
(1) ساقط من ب
(2) فى ب (لاستحالة).
(1/495)
________________________________________
نسلم ذلك، وما «1» المانع من كون المعدوم مرئيا كما ذهب إليه السالمية «1»؟ ولا سيما «2» على أصلكم من حيث أن الإدراك نوع من العلم والمعدوم معلوم؛ فلا يمتنع تعلق الإدراك به.
سلمنا استحالة رؤية المعدوم؛ ولكن لم قلتم إن رؤية الأجسام، والألوان معللة؟
قولكم: لو لم يختص بمعنى توجب صحة رؤيتها، لما اختصت بالرؤية بل عم الحكم نفيا، أو إثباتا.
قلنا: هذا منتقض بصور.
الصورة الأولى: أن اختصاص محل الحكم بالعلّة، أمر زائد على المحل، وعلى نفس العلة، ومع ذلك فإنه لا يستدعى مخصصا آخر، وإلا لتسلسل الأمر إلى غير النهاية؛ وهو محال.
الصورة الثانية: أن اختصاص العلة بكونها علة للحكم أمر زائد عليها، وعلى المعلول أيضا، ومع ذلك فلا يستدعى مخصصا نفيا للتسلسل.
الصورة الثالثة: أن المعلومية، والمذكورية حكم زائد على ذات المذكور والمعلوم، وليس بمعلل؛ لأنه يعم الوجود، والعدم؛ فلو كان معللا: فإما أن يعلل بصفة إثبات، أو نفى.
فإن علل بصفة إثبات: انتقض بكون المعدوم معلوما، ومذكورا.
وإن علل بصفة عدم: انتقض بكون الموجود معلوما، ومذكورا.
كيف وأن العدم لا يصلح أن يكون علة على ما تقدم، وكذلك الكلام في المقدور، والمراد أيضا «3».
الصورة الرابعة: أن اختصاص المحل «4» بالسواد، والبياض «4»، وغير ذلك من الأعراض صفة إثباتية زائدة/ على ذات المحل، وقد اختص به عما ليس بذى سواد، ولا بياض، ومع ذلك فإنه غير معلل؛ وإلا لزم التسلسل.
________________
(1) مكررة في أ ل 126/ ب س 9.
(2) فى ب (و سيما).
(3) ساقط من ب.
(4) فى ب (بالبياض والسواد).
(1/496)
________________________________________
الصورة الخامسة: هو «1» أن وقوع الفعل من الفاعل، لا يكون معللا، وإن كان زائدا على ذات الفاعل؛ لأنه لو كان معللا: فإما أن يعلل بذات الفاعل، أو بصفة لازمة لذاته، أو بما سوى ذلك.
فإن كان الأول، والثانى: لزم أن لا يتأخر وقوع الفعل عن ذات الفاعل، حتى لا يتأخر الحكم على علته، كما لا يتأخر كون الأسود، أسود عن سواده.
وإن كان الثالث: فإما أن يكون قديما، أو حادثا.
فإن كان قديما: فهو ممتنع؛ لما تحقق «2» فى القسم الّذي قبله.
وإن كان حادثا: فهو أيضا فعل، ويفتقر في وقوعه إلى علة أخرى، والكلام في تلك العلة؛ كالكلام في الأولى؛ وهو تسلسل ممتنع.
الصورة السادسة: التماثل، والاختلاف؛ فإنه وإن كان حالا زائدا (أبدا «3»)؛ فهو غير معلل على ما يأتى في العلل، والمعلولات «4».
فإذن قد انقسمت الأحكام، والأحوال الزائدة: إلى ما يعلل، وإلى ما لا يعلل؛ فلم قلتم بأن ما نحن فيه مما يجب تعليله؟
سلمنا أن صحة الرؤية من الأحوال المعللة؛ ولكن لم قلتم بامتناع التعليل بما به الافتراق بين الأجسام، والألوان؟
قولكم: يلزم منه تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة، إنما يلزم أن لو كانت صحة رؤية الجسم، واللون؛ حكمين متماثلين. ولا نسلم إمكان التماثل بين شيئين «5» أصلا؛ فإن كل شيئين لا بدّ من التغاير بينهما بوجه من وجوه التغاير والتمايز، [و ما به «6» التمايز «6»]، لا بدّ وأن يكون مختلفا، ولا تماثل مع الاختلاف من وجه.
سلمنا إمكان التماثل في الجملة؛ ولكن لا نسلم مماثلة صحة رؤية الجسم؛ لصحة رؤية اللون.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (تقدم).
(3) ساقط من أ.
(4) انظر الجزء الثانى- الباب الثالث- الأصل الثانى: فى تحقيق معنى العلل والمعلولات ل 117/ ب وما بعدها.
(5) فى ب (الشيئين).
(6) ساقط من أ.
(1/497)
________________________________________
وبيانه: أن المثلين عبارة عن كل شيئين يسد أحدهما مسد الآخر فيما يجب، ويجوز من الصفات، أو ما يشتركان فيما لكل واحد من الواجبات، والجائزات، والممتنعات «1» عليه.
وصحة رؤية الجسم واللون، ليس كذلك؛ فإن رؤية كل واحد [منهما «2»] لا تقوم مقام رؤية «3» الآخر، ولا تسد مسده «4»؛ فإن رؤية الجسم ليست رؤية اللون، ولا رؤية اللون، رؤية الجسم؛ فلا تماثل.
سلمنا التماثل بينهما؛ ولكن من وجه، أو من كل وجه.
الأول: مسلم. والثانى: ممنوع. وتقريره/ ما سبق قبله.
سلمنا التماثل من كل وجه؛ ولكن لا نسلم امتناع تعليل الحكم الواحد بالعلل المختلفة، وما به الافتراق. وما ذكرتموه من الدليل على امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين؛ فهو منتقض من خمسة أوجه:
الأول: أن الحقائق المتفقة بالجنسية، المختلفة بالنوعية؛ لا تتم حقيقة كل واحد منها دون ما به الاتفاق، والافتراق.
وعند ذلك: فإما أن يكون بين ما به الاتفاق والافتراق، في كل واحد من الأنواع المختلفة تحت الجنس الواحد ملازمة، أو لا ملازمة بينهما أصلا.
لا جائز أن يقال بعدم الملازمة: وإلا لجاز الانفكاك، وخرج كل نوع عن حقيقته؛ وخروج الشيء عن حقيقته محال.
وإن كان بينهما ملازمة؛ فلا جائز أن يقال: بأن ما به الاتفاق مستلزم لما به الافتراق في كل واحد من الأنواع، وإلا كان ما اختص بكل واحد من الأنواع مجتمعا في كل واحد من الأنواع؛ ضرورة اتحاد المستلزم في الكل؛ وذلك «5» محال؛ فلم يبق إلا أن يكون ما به الافتراق مستلزما لما به الاتفاق؛ وفيه تعليل المتحد بالمختلف.
________________
(1) فى ب (و المختلفات)،
(2) ساقط من أ.
(3) فى ب (الأخرى).
(4) فى ب (مسدها).
(5) ساقط من ب.
(1/498)
________________________________________
الثانى: هو أن عالمية الله- تعالى- بالسواد مثلا؛ مماثلة لعالمية الواحد منا به، وعالمية الله- تعالى- عندكم معللة بعلمه القديم. وعالمية الواحد منا، معللة بالعلم الحادث، ولا مماثلة بين العلم القديم، والحادث؛ وفيه تعليل المتحد، بالمختلف.
الثالث: هو أن الاختلاف مشترك بين المختلفات؛ فإن كل واحد من المختلفين مخالف للآخر، ومخالفته للآخر: إما لذاته، أو للازم ذاته؛ وفيه تعليل المتفق بالمختلف.
الرابع: هو أن الكذب، والجهل متفقان في صفة القبح، وقبح «1» كل واحد منهما «1» لذاته، أو للازم ذاته؛ وهما مختلفان مع الاقتضاء لحكم واحد.
الخامس: أن السواد، والبياض متفقان في اللونية، ومختلفان في السوادية والبياضية. وقد اتفقا في الافتقار إلى محل «2» يقومان به؛ وهو حكم واحد.
وعند ذلك: فإما أن يكون كل واحد من السواد والبياض، مفتقرا إلى المحل من جهة ما به الاتفاق من اللونية، أو من جهة ما به الافتراق من السوادية، والبياضية، أو من الجهتين.
لا جائز أن يقال بالأول فقط، وإلا كان السواد، والبياض من جهة سواديته، وبياضيته/ مستغنيا عن المحل؛ وهو محال.
فلم يبق إلا الثانى، والثالث؛ وفيه تعليل المتفق بالمختلف.
سلمنا أنه لا بدّ من اتحاد العلة؛ ولكن لا نسلم أن مسمى الوجود واحد مشترك فيه بين الأجسام والألوان؛ إذ الوجود هو نفس الموجود على ما سيأتى في مسألة المعدوم «3»، ولا سيما على أصلكم، والموجودات مختلفة بذواتها؛ فلا اتحاد.
سلمنا أن مسمى الوجود واحد؛ ولكن لم قلتم إنه هو المصحح؟
________________
(1) فى ب (و صفة كل واحد منها).
(2) فى ب (المحل الّذي).
(3) انظر الجزء الثانى- الباب الثانى: فى المعدوم وأحكامه ل 106/ ب.
(1/499)
________________________________________
قولكم: لا مشترك غير الوجود، والحدوث؛ لا نسلم [ذلك «1»]. والبحث، والسبر مع عدم الاطلاع على غيره بما لا يوجب العلم بعدمه؛ بل غايته عدم العلم به، أو غلبة الظن بعدمه، ولا يلزم أن يكون الغير معدوما في نفسه؛ كما سبق في تحقيق الدليل «2».
سلمنا أن البحث حجة؛ ولكن مع الاطلاع على شيء آخر، أو لا مع الاطلاع الأول: ممنوع. والثانى: مسلم.
وبيان وجود أمر آخر من الأوصاف العامة من ثلاثة أوجه:
الأول: هو أن الاشتراك متحقق في صفة الإمكان. وهو إما أن يكون وجوديا، أو عدميا.
فإن كان وجوديا: فأمكن أن يكون هو العلة.
وإن كان عدميا: فصحة الرؤية تكون عدمية؛ إذ الصحة هى الإمكان كما تقدم.
وعند ذلك: فيلزم منه أن لا تكون معللة، أو أن يصح تعليلها بأمر عدمى.
الثانى: هو أن ما يسلم الخصم كونه مرئيا؛ إنما هو الأجسام، والألوان، والألوان أعراض. والجسم: فعبارة عما تألف من جوهرين فصاعدا على أصلكم، أو من ستة جواهر، أو ثمانية على أصل المعتزلة؛ فالتأليف داخل في مسمى الجسم، أو ملازم له؛ وهو عرض مشارك للألوان في صفة العرضية، فلا يمتنع أن يكون هو العلة. وهذان الوصفان لا تحقق لهما بالنسبة إلى الله تعالى.
الثالث: الاشتراك في المعلومية، والمقدورية، والمذكورية.
سلمنا أنه لا مشترك في الأوصاف غير «3» الوجود، والحدوث؛ ولكن لم قلتم الحدوث ليس بعلة؟
قولكم: الحدوث عبارة عن سبق الوجود بالعدم، والعدم الداخل في مفهوم الحدوث لا يكون علة؛ لا نسلم أن العدم السابق داخل في مفهوم الحدوث؛ بل هو عارض للحدوث.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) انظر ل 39/ ب.
(3) فى ب (إلا).
(1/500)
________________________________________
سلمنا امتناع التعليل بالحدوث؛ ولكن لا يلزم منه أن يكون الوجود علة مصححة للرؤية؛ لأن الوجود المشترك عند القائل به حال؛ والحال لا «1» يصح أن تكون «1» علة على أصلكم.
سلمنا إمكان التعليل بالوجود، ولكن مشروطا/ بالحدوث، أو لا مشروطا بالحدوث «2». الأول: مسلم. والثانى: ممنوع.
والحدوث وإن كان عدما، فلا يمتنع أن يكون شرطا في الصحة؛ فإن انتفاء أحد الضدين عن المحل شرط لصحة اتصاف المحل بالضد الآخر، وإن لم يكن علة له.
سلمنا أنه غير مشروط بالحدوث؛ ولكن إنما يصح التعليل بالوجود أن لو لم يدل الدليل على امتناعه.
وبيان امتناع التعليل به هو أنه لا يخلو: إما أن يكون علة لرؤية نفس الوجود، أو للماهية التى هو صفة لها لا غير، أو لمجموع الأمرين.
فإن كان الأول: وجب أن لا يكون المدرك من السواد، والبياض غير الوجود المشترك بينهما، وأن لا يدرك التفرقة بينهما؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: وجب أن لا يكون البارى- تعالى- مرئيا؛ إذ لا ماهية له خارجة عن وجوده، كما سبق.
وإن كان الثالث: فيلزم «3» منه أنا إذا رأينا السواد مثلا: أن ندرك التفرقة بالبصر بين وجوده، وماهيته؛ وهو محال.
وأيضا: فإنه لو كان الوجود هو المصحح للرؤية؛ لكانت «4» الطعوم، والروائح مرئية؛ لكونها موجودة؛ والضرورة تشهد بخلافه.
________________
(1) فى ب (لا تكون).
(2) فى ب (به).
(3) ساقط من ب.
(4) فى ب (لما كانت).
(1/501)
________________________________________
سلمنا أن الوجود هو المصحح لرؤية الألوان، والأجسام فقط؛ ولكن إنما يلزم منه «1» صحة رؤية «1» البارى- تعالى- أن لو كان وجوده مماثلا لوجود الممكنات؛ وليس كذلك، وإلا لكان ما ثبت لأحدهما ثابتا للآخر.
ويلزم من ذلك أن يكون وجود الرب تعالى ممكنا، أو أن يكون وجود الممكنات واجبا، أو أن يكون كل واحد منهما واجبا، وممكنا؛ وهو محال.
سلمنا أن مسمى وجود واجب الوجود، مماثلا لوجود الممكنات؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من وجود المصحح، وجود الصحة في حق البارى- تعالى-؛ لجواز أن لا يكون قابلا لها؛ وذلك لأن الحكم كما يتوقف على وجود المصحح، يتوقف على وجود القابل، أو أن تكون ذات البارى- تعالى- مختصة بما يمنع من صحة الرؤية عليها.
ولهذا فإن كون الواحد في الشاهد حيا؛ مصحح لكونه متألما، ومشتهيا، وجائعا، وعطشانا، ومريضا، وصحيحا، إلى غير ذلك. والبارى- سبحانه وتعالى- مساو في كونه حيا للشاهد. ومع ذلك: فيمتنع ثبوت هذه الأحكام في حقه.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون الرب- تعالى- مرئيا؛ ولكن لنفسه، أو لنا؟
الأول: مسلم. والثانى: ممنوع.
وبيانه ما/ سبق في مسألة السمع، والبصر من الأدلة «2» المانعة من كون الرب- تعالى- بصيرا؛ فإنها بعينها تدل على امتناع كونه مرئيا لنا.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كونه مرئيا لنا؛ ولكنه منتقض بأمرين:
الأول: بصفة المخلوقية؛ فإنها ثابتة للجواهر، والأعراض، وذلك يستدعى مصححا مشتركا؛ ولا مشترك غير الوجود، والحدوث، والحدوث ليس بعلة كما بينتم؛ فكان الوجود هو العلة، والبارى- تعالى- مشارك للجواهر، والأعراض في معنى الوجود، وما لزم صحة المخلوقية عليه.
الثانى: هو أنا كما ندرك الأجسام، والألوان بإدراك البصر؛ فندرك الأجسام، والأعراض الملموسة؛ باللمس. ولا بدّ من مصحح للإدراك باللمس. ولا مصحح غير
________________
(1) فى ب (صحة الرؤية).
(2) فى ب (الدلالة).
(1/502)
________________________________________
الوجود؛ لما سبق من التقرير. والوجود متحقق في حق الله- تعالى-؛ وهو غير مدرك باللمس.
سلمنا جواز رؤيته لنا عقلا؛ ولكن في الدنيا، أو في الأخرى؟ الأول: ممنوع، والثانى: مسلم.
وذلك لأنه لا مانع من امتناع الرؤية في الدنيا دون الأخرى بسبب افتراقهما في الشواغل، والموانع، والانغماس في الرذائل، والانهماك على الشهوات العاجلة، والخلو عنها في الأخرى.
والجواب:
أما منع كون الألوان مرئية؛ فباطل «1»؛ لما سبق «1» فى المقدمة.
وأما منع كون الأجسام مرئية؛ فباطل؛ لما سبق في أول المسألة.
قولهم: إن الأشكال، والمقادير عرض آخر؛ ليس كذلك؛ بل هى جملة أجزاء الجسم المؤتلفة؛ ولذلك يزيد بزيادتها، وينقص بنقصانها.
قولهم: لا نسلم أن صحة الرؤية أمر ثبوتى على ما قرروه.
قلنا: نحن إنما نعلل رؤية الأجسام، والألوان، ونعنى بصحة الرؤية، وقوع الرؤية؛ وهو أمر وجودى؛ وليس ذلك «2» هو نفس إمكان الرؤية؛ فإنه فرق بين الرؤية؛ وإمكان الرؤية؛ وعلى هذا فقد اندفع جميع ما ذكروه في جهة التقرير.
فإن قيل: يلزم على هذا من وجود المصحح في حق الله- تعالى- وجود الرؤية.
قلنا: بلى بجواز.
وبيانه أنه لو لم تكن الرؤية ممكنة؛ لكانت واجبة لذاتها، أو ممتنعة لذاتها.
ولا جائز أن تكون ممتنعة لذاتها؛ إذ الممتنع لذاته، لا مصحح له؛ فلم يبق إلا أن تكون ممكنة؛ وهو المطلوب.
________________
(1) فى ب (فجوابه ما سبق) انظر ل 123/ ب.
(2) فى ب (كذلك).
(1/503)
________________________________________
قولهم: لا نسلم أن كل أمر ثبوتى يجب أن يكون معللا.
قلنا: دليله ما سبق.
قولهم: لا نسلم امتناع رؤية المعدوم.
قلنا: اتفق جميع العقلاء؛ ما عدا السالمية «1». على امتناع رؤية المعدوم، ولا حاجة إلى الدلالة بالنسبة إلى الموافق. ومن خالف؛ فطريق الرد عليه أن نقول: نحن إنما نعلل رؤية ما رؤيته واقعة، ورؤية المعدوم غير واقعة، على ما يجده كل عاقل من نفسه، ولو أراد مريد رؤية المعدوم؛ لكان طالبا شططا؛ بخلاف رؤية الأجسام، والألوان على ما لا يخفى.
قولهم: إن الرؤية عندكم نوع من/ العلوم؛ لا نسلم ذلك. وإن سلمنا [ذلك «2»]؛ فلا يلزم تعلق كل علم بكل معلوم.
قولهم: لم قلتم بأن رؤية الأجسام، والألوان معللة؟
قلنا: لما ذكرناه.
قولهم: إن اختصاص محل الحكم بالعلة أيضا زائد عليه، ولا يستدعى مخصصا.
قلنا: ما جعلناه، علة مصححة إنما هو نفس الوجود، والوجود عندنا نفس الموجود لا زائد عليه؛ على ما يأتى؛ بخلاف الرؤية.
قولهم: إن اختصاص العلة بكونها علة أمر زائد.
قلنا: إلا «3» إنه ثابت لذاته؛ فلا يستدعى مخصصا أخر «3».
قولهم: المعلومية، والمذكورية: غير معللة.
قلنا: لأنها عامة للموجودات، والمعدومات؛ فلا يستدعى مخصصا بخلاف ما ذكرناه من الرؤية حيث تخصصت بالموجود دون المعدوم.
________________
(1) انظر ما سبق ل 123/ أ.
(2) ساقط من أ.
(3) فى ب (لا معنى لكون العلة علة إلا أنها مؤثرة في المعلول لذاتها فلا يستدعى مخصصا آخر قطعا للتسلسل).
(1/504)
________________________________________
قولهم: اختصاص بعض المحال بالسواد أو البياض، صفة زائدة ولا يستدعى مخصصا؛ ليس كذلك؛ بل لا بدّ وأن يكون ذلك لازما لذات المحل، أو لصفة لازمة لذات المحل.
قولهم: إن وقوع الفعل من الفاعل لا يكون معللا.
قلنا: وقوع الفعل من الفاعل لا معنى له غير وجود الفعل، ووجود الشيء في نفسه لا يكون معللا؛ إذ ليس وجوده زائدا على ذاته، وإسناده إلى الفاعل لا بدى؛ ضرورة كونه ممكنا، وإلا كان واجبا لذاته؛ وليس الفاعل هو المصحح.
قولهم: إن التماثل، والاختلاف حال زائد، وليس معللا.
لا نسلم أن التماثل، والاختلاف حال زائد؛ فإنه لا معنى للتماثل غير الاشتراك في أخص صفات النفس، وليس ذلك حالا زائدا.
وأما الاختلاف: فحاصله راجع إلى أن أخص أوصاف النفس لكل واحد لا تحقق له في الآخر؛ وذلك سلب لا ثبوت؛ فلا يكون معللا كما تقدم.
وعلى هذا أيضا: يمتنع تعليل التضاد، والغيرية؛ إذ لا معنى للتضاد غير امتناع الجمع. ولا معنى للغيرية: إلا أن أحد الشيئين ليس هو الآخر، وليس حكما إثباتيا؛ بل حاصله يرجع «2» إلى السلب، والعدم المحض.
قولهم: لا نسلم التماثل بين رؤية الأجسام، والألوان.
قلنا: الرؤية من حيث هى رؤية لا اختلاف فيها؛ ولذلك يمكن تحديدها بحد واحد؛ وإنما الاختلاف في التعلق، والمتعلق؛ وذلك لا يوجب الاختلاف في نفس الرؤية كما سبق في العلوم والقدر، والإرادات/ ونحوها من الصفات.
وعلى هذا: فقد اندفع ما ذكروه من منع التماثل مطلقا، ومن منع التماثل في رؤية الجسم، واللون، ومن قولهم بالتماثل من وجه دون وجه.
قولهم: لا نسلم امتناع تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة.
________________
(2) فى ب (راجع).
(1/505)
________________________________________
قلنا: دليله ما ذكرناه «1».
وأما ما ذكروه من الإشكال الأول: فمندفع فإن الملازمة بين ما به الاتفاق، والافتراق في كل نوع إنما هى من الجانبين، لا من أحد «2» الجانبين «2» دون الأخر.
والملازمة من الجانبين ليست تدل على أن كل واحد علة للآخر أو أن أحدهما علة للآخر، من غير عكس؛ بل الملازمة بين الشيئين أعم من ذلك.
ولهذا فإن الملازمة بين المتضايفات ثابتة من الجانبين، ولا علية ولا معلولية لأحدهما، بالنسبة إلى الأخر.
وأما الإشكال الثانى: فإنما يصح أن لو كان العلم القديم غير مماثل للعلم الحادث من حيث هو علم؛ وليس كذلك؛ بل هما مثلان «3» من هذا الوجه. وإن وقع الاختلاف بينهما؛ فليس في ذاتيهما؛ بل في عوارض خارجة عنهما. وعلية العالمية إنما هى القدر المشترك بينهما دون غيره. هذا إن قلنا بالأحوال. وإلا فالعالمية لا تزيد على قيام العلم بالذات.
وأما الإشكال الثالث: فإنما يلزم أن لو ثبت أن الاختلاف والتضاد أمر ثبوتى زائد على ذات المختلفين، والمتضادين؛ وليس كذلك على ما سبق قبل.
وأما الإشكال الرابع: فإنما يلزم أن لو كان القبح صفة ثبوتية من صفات الكذب، والجهل، وهو غير مسلم، بل هو راجع إلى حكم الشارع، أو مخالفة الأعراض على ما يأتى في مسألة التحسين، والتقبيح «4».
وأما الإشكال الخامس: فمندفع أيضا؛ فإن اتفاق السواد والبياض في الافتقار إلى المحل ليس حكما ثبوتيا؛ بل حاصله يرجع إلى صفة سلبية؛ وهو أنه لا وجود لكل واحد منهما دون المحل؛ فلا يكون معللا كما سبق.
قولهم: لا نسلم أن مسمى الوجود مشترك بين الأجسام، والألوان.
قلنا: هذا المنع إن صدر ممن يعترف بأن الوجود زائد على الموجود، وأنه مشترك بين الموجودات من المعتزلة وغيرهم؛ فهو فاسد.
________________
(1) فى ب (ما سبق).
(2) فى ب (أحدهما).
(3) فى ب (متلازمان).
(4) انظر ما سيأتى في النوع السادس- الأصل الأول- المسألة الأولى: فى التحسين والتقبيح ل 174/ ب وما بعدها.
(1/506)
________________________________________
وإن صدر ممن لا يعترف بذلك: كأبي الحسين البصرى، وغيره؛ فموقفه صعب جدا، وأقصى ما فيه أن يقال:
قد ثبت أن الأجسام، والألوان مرئية فمحل الرؤية- وهو المعنى بمصحح/ الرؤية- إما أن يكون وجودا، أو عدما.
لا جائز أن يكون عدما: لما سبق؛ فلم يبق إلا أن يكون وجودا. وقد ثبت أن المصحح لا يكون مختلفا بما سبق؛ فتعين أن يكون مماثلا. فإذا سلمت هذه المقدمات؛ فمنع التساوى في الوجود الّذي هو متعلق الرؤية يكون منعا لما سلم من المقدمات؛ وهو ممتنع.
قولهم: إن الوجود على أصلكم غير مشترك.
قلنا: ما يذكر «1» بطريق الإلزام؛ لا يلزم أن يكون معتقدا للملزم.
وعلى هذا فلا حاجة بنا إلى دعوى حصر الأوصاف المشتركة في الوجود والحدوث؛ فإنه لا سبيل إلى إثبات ذلك بغير «2» البحث «2» والسبر؛ وهو غير يقينى [كما «3» سبق «3»].
وبما ذكرناه «4» أيضا يندفع ما عارضوا به من صفة الإمكان، والعرضية، والمعلومية، والمذكورية، وغيرها.
على أنا نجيب عن كل واحد بما يخصه:
أما الإمكان: فحاصله يرجع إلى صفة سلبية كما تقدم. كيف وأن الإمكان متحقق في المعدومات؛ وهى غير مرئية.
وأما الاشتراك في العرضية: فلا يصلح أن يكون مصححا للرؤية على أصل الخصم، وإلا كانت الطعوم، والروائح مرئية على أصلهم؛ وليس كذلك.
________________
(1) فى ب (نذكره).
(2) فى ب (الا بالبحث).
(3) ساقط من أ أنظر ل 39/ ب.
(4) فى ب (و بما ذكروه).
(1/507)
________________________________________
وأما المعلومية، والمقدورية، والمذكورية: فلا يمكن أن تكون مصححة للرؤية لوجهين:
الأول: إنها إما أن تكون صفة لما قيل إنه معلوم، ومقدور، ومذكور، وإما أن لا تكون صفة له.
فإن كان الأول: فيلزم أن لا تكون صفة وجودية؛ ضرورة صحة اتصاف المعدوم بها.
وإن لم تكن صفة له: فلا يكون علة مصححة لرؤيته؛ إذ العلة لا تخرج عن محل حكمها كما تقدم.
الثانى: أن هذه الصفات ثابتة للمعدوم، وليس بمرئى.
قولهم: لم قلتم إن الحدوث لا يكون علة؟
قلنا: لما ذكرناه.
قولهم: إن سبقية العدم عارض للحدوث.
قلنا: الوجود إذا سبقه العدم صدق عليه اسم الحدوث. فإن كان العدم داخلا في مفهوم الحدوث؛ فهو المطلوب.
وإن كان عارضا: فهو عارض للوجود.
وعلى كلا التقديرين: فيمتنع «1» أخذه في المصحح؛ فلم يبق إلا التعليل بالوجود.
قولهم: إن الوجود حال. لا نسلم أنه حال؛ بل هو نفس الموجود. وإن كان حالا؛ فلا نسلم أنه يمتنع التعليل به. وإن امتنع التعليل بما عداه من الأحوال التى ليست من الصفات الوجودية.
قولهم:/ إن التعليل بالوجود مشروط بالحدوث.
قلنا: إذا كان الحدوث لا تحقق له دون سبق العدم؛ فالعدم السابق، يكون «2» شرطا «2» فى تصحيح الرؤية. والشرط يجب أن يكون متحققا مع المشروط، والعدم السابق على الوجود المرئى لا يكون معه؛ فلا يكون شرطا في رؤيته.
________________
(1) فى ب (يمتنع).
(2) فى ب (يجب أن يكون شرطا).
(1/508)
________________________________________
قولهم: إن الدليل قد دل على امتناع التعليل بالوجود على ما قرروه إنما يصح أن لو كان الوجود زائدا على «1» الموجود؛ وهو غير مسلم «1».
وإن كان زائدا على الموجود؛ فما المانع من كونه مصححا لرؤية الذات المتصفة به.
قولهم: إن وجود الرب- تعالى- لا يزيد على ذاته. ممنوع على رأى بعض الأصحاب.
قولهم: لو كان الوجود مصححا؛ لصحت رؤية الطعوم، والروائح، وهى غير مرئية.
[قلنا «2»]: لا نسلم أنها غير جائزة الرؤية.
قولهم: لا نسلم أن وجود الرب- تعالى- مماثل لوجود الممكنات. ممنوع على رأى بعض الأصحاب أيضا.
قولهم: لو كان مماثلا؛ لاشتركا في الوجوب، أو الإمكان.
قلنا: لا معنى لكون وجوب واجب الوجود واجبا لذاته، غير أن ذات واجب الوجود «3» لذاتها، لا تفتقر في اتصافها بالوجود إلى علة خارجة «3»، ولا معنى لكون الممكنات ممكنات الوجود، غير أن ذات ما قيل أنه ممكن لذاته، لا يقتضي الوجود لذاته «4»، ولا العدم؛ فالاختلاف إنما هو عائد إلى الذوات، لا إلى صفة «5» الوجود المشترك؛ والذوات مختلفة.
قولهم: لا نسلم أنه يلزم من وجود المصحح، [وجود «6»] الصحة.
قلنا: إذا ثبت التساوى في المصحح؛ فما ثبت لأحد المتماثلين «7» يكون ثابتا للآخر.
قولهم: جاز أن لا تكون ذات الرب «8» - تعالى- قابلة للرؤية.
________________
(1) فى ب (و هو مسلم).
(2) ساقط من أ.
(3) فى ب (يقتضي أنفسها وذاتها الوجود).
(4) فى ب (و العدم).
(5) فى ب (صحة).
(6) ساقط من أ.
(7) فى ب (المثلين).
(8) فى ب (الله).
(1/509)
________________________________________
قلنا: لو لم تكن قابلة للرؤية؛ لما كان المصحح موجودا، ولا معنى للمصحح للرؤية غير القابل لها. وإن امتنع أن يكون مرئيا؛ فقد فات ما لا بدّ منه في صحة الرؤية.
وعند ذلك: فالمصحح لا يكون موجودا؛ فإنه لا معنى للمصحح إلا ما يتحقق صحة الرؤية به، وفي ذلك منع وجود المصحح بعد تسليمه؛ وبه يندفع القول باحتمال وجود المانع أيضا.
كيف وأنه يلزم من اعتبار قبول القوابل المختلفة في صحة الرؤية، اختلاف المصحح؛ وهو محال على ما تقدم.
وعلى هذا: فقد اندفع ما ذكروه من احتمال وجود المانع.
قولهم: إن المصحح في الشاهد للألم، والجوع، وغير ذلك؛ إنما هو الحياة؛ لا نسلم ذلك.
قولهم:/ الرب- تعالى- مرئى له، أو لنا.
قلنا: بل لنا؛ فإن ما بيناه من المصحح للرؤية؛ إنما هو مصحح لها بالنسبة إلينا.
وما ذكروه في «1» مسألة الإدراكات مما يقتضي كون الرب- تعالى- غير مدرك لنا، فقد سبق جوابه «2».
وأما ما ذكروه من النقض بصفة المخلوقية: فمندفع؛ فإنه لا معنى لكون الأجسام والأعراض مخلوقة. غير أنها موجودة غير مستغنية عن الفاعل لها، ووجودها ليس زائدا عليها؛ فلا يكون وجودها معللا، وكونها غير مستغنية عن الفاعل؛ فصفة «3» سلبية؛ فلا تكون معللة أيضا.
وأما النقض بالإدراك اللمسى؛ فمندفع؛ فإنا لا نمنع من كون الرب تعالى- مدركا بجميع «4» الإدراكات عندنا؛ وإنما الّذي يمتنع عليه أن يكون طريق إدراكه مماسة الأجسام، وما يقع الإدراك عنده في الشاهد عادة.
________________
(1) فى ب (من).
(2) انظر ل 104/ أ.
(3) فى ب (صفة).
(4) فى ب (لجميع).
(1/510)
________________________________________
قولهم: لا نسلم جواز ذلك في الدنيا.
قلنا: إذا ثبت أن المصحح للرؤية في الأجسام، والألوان هو المصحح في حق الله- تعالى- فذلك المصحح، مصحح في الدنيا؛ فكان (البارى «1» تعالى «1») جائز الرؤية في الدنيا، وسواء تحققت الرؤية في الدنيا، أم لا.
وفي التحقيق فهذه «2» الإشكالات مشكلة، وما ذكرناه في جوابها؛ فهو أقصى جهد «3» المقل «3».
الحجة الثانية:
وهى قريبة من الأولى «4».
قولهم: إن الرؤية تتعلق بالموجودات المختلفة: كالأجسام، والألوان، ومتعلق الرؤية منها «5» ليس إلا ما هو ذات ووجود؛ وذلك لا يختلف وإن تعددت الموجودات.
وأما ما سوى ذلك مما يتعلق «6» به الاتفاق، والافتراق؛ فأحوال لا تتعلق بها الرؤية؛ إذ ليست بذوات، ولا وجودات.
وإذا كان متعلق الرؤية، ليس إلا نفس الوجود، وجب تعلقها بالبارى- تعالى؛ لكونه موجودا.
ولا يخفى ما يرد عليها من الأسئلة، الواردة على الحجة الأولى، وأجوبتها، وتختص بإشكال مشكل؛ وهو أن الوجود: إما أن تتفق به الذوات، أو لا تتفق.
فإن اتفقت به الذوات: فما تتفق به الذوات عند القائل بالأحوال حال؛ فالوجود حال؛ فلا يكون متعلق الرؤية. اللهم إلا أن يفرق بين حال، وحال. [كما «7» سبق «7»].
وإن لم تتفق به الذوات: فمتعلق الرؤية بين واجب الوجود، وممكن الوجود لا يكون متحدا.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (فأكثر هذه).
(3) فى ب (جهل المقال).
(4) أورد الآمدي هذه الحجة في غاية المرام ل 64/ أ تحت عنوان المسلك الأول.
(5) فى ب (هاهنا).
(6) فى ب (يقع).
(7) ساقط من أ.
(1/511)
________________________________________
وعند ذلك: فلا يلزم من كون الأجسام والأعراض متعلق الرؤية أن تتعلق الرؤية بالبارى- تعالى-؛ لعدم الاشتراك/ فى المتعلق.
الحجة الثالثة:
[و لعبارات «1»] الأصحاب فيها متسع، وأوجز ما قيل فيها. ما قاله القاضى أبو بكر:
وهو أن الرؤية معنى، لا تقتضى استحالة في ذات القديم، ولا في صفة من صفاته، ولا في ذات الحادث، ولا في صفة من صفاته، وإذا انتفت مدارك الاستحالة؛ لزم القول بالجواز؛ كما في العلم.
وهذه الحجة ضعيفة جدا؛ وذلك أن للخصم أن يقول: دعواكم أن الرؤية جائزة، وأنها لا توجب إحالة في ذات الرائى، ولا المرئى، ولا في صفتيهما: إما أن يكون معلوما لكم، أو «2» غير معلوم «2».
فإن لم يكن معلوما. امتنع الجزم به.
وإن كان معلوما: فإما أن يكون عن ضرورة، أو «3» نظر «3».
لا سبيل إلى الأول؛ إذ هو مباهتة «4»، ومكابرة «4».
كيف: وأنه لا يسلم عن مقابلته بدعوى العلم الضرورى بنقيضه،
وإن كان نظريا؛ فلا بد لكم من دليل.
فإن قيل: دليل الجواز انتفاء الاستحالة، والاستحالة منتفية؛ لبطلان دليلها فإن كل ما تشبث به الخصم في بيان الاستحالة من تعلق الرؤية بالبارى- تعالى- من جهة اشتراط مقابلة المرئى للرائى، وانطباع صورة المرئى في عين الرائى، وانتقال صورة المرئى إلى الرائي، أو انتقال شيء من الرائى إلى المرئى، أو اتصال الأشعة، أو غير ذلك؛ فقد أبطلناه فيما تقدم.
وإذا كانت مدارك الاستحالة باطلة؛ فالاستحالة ممتنعة والقول بالجواز واجب.
فللخصم أن يقول: وإن سلم «5» لكم بطلان المدارك المعينة، فلم قلتم ببطلان جميع
________________
(1) فى أ (فعبارات).
(2) فى ب (أولا يكون معلوما).
(3) فى ب (أو عن نظر).
(4) فى ب (مكابرة ومباهتة).
(5) فى ب (سلمنا).
(1/512)
________________________________________
المدارك؟ وما المانع من أن يكون ثم مدرك من مدارك الاستحالة لم تعثروا عليه؟ وعدم الاطلاع عليه «1» مع البحث، والسبر غير موجب لليقين [بعدمه «2»] كما تقدم «3».
قال القاضى أبو بكر: القائل من الملة «4» قائلان: قائل بالجواز قطعا، وقائل بالاستحالة قطعا. والقائلان متفقان على امتناع الوقف، والتشكك «5» فى أحد الأمرين؛ فيمتنع القول به؛ لما فيه من مخالفة الإجماع. فلم يبق إلا القول بالاستحالة أو الجواز جزما ومن قال بالاستحالة لم يقل بمدرك غير ما ظهر؛ فقد اتفق القائلون بالجواز، والاستحالة على نفى مدرك آخر؛ فمن ادعاه يكون خارقا للإجماع.
وقال إمام الحرمين: قد أجمعنا على القطع بتجويز حدوث أمثال السماوات، والأرض بقدرة الله- تعالى- مع إمكان/ ورود هذا السؤال بعينه؛ فكل ما يقوله الخصم في جوابه؛ فهو جوابه هاهنا.
والجوابان ضعيفان:
أما الأول: فمع أن حاصله يرجع إلى التمسك بالإجماع؛ وهو سمعى لا عقلى.
فلقائل أن يقول: انقسام أهل الملة إلى القاطع بالجواز، والقاطع بالاستحالة. وإن كان إجماعا منهم على القطع بنفى الوقف والتردد؛ لكن لا نسلم إجماعهم على حصر مدارك الاستحالة؛ بل للخصم أن يقول: مدرك الاستحالة عندى: انتفاء مدرك الجواز.
وعند ذلك: فإن لم تبينوا مدرك الجواز؛ فقد صح ما قلته. وإن بينتموه؛ فلا حاجة إلى هذه الحجة.
ثم وإن قدرنا انتفاء جميع مدارك الاستحالة؛ فلا يلزم من انتفاء الدليل، انتفاء المدلول في نفسه؛ لجواز أن يكون المدلول متحققا، وإن لم يخلق الله- تعالى-[دليلا عليه «6»] كما تقدم.
وعند ذلك: فالجزم بنفى الاستحالة يكون ممتنعا.
فإن قيل: إذا كانت مدارك الاستحالة منتفية؛ فالجزم بالاستحالة ممتنع. ولا سبيل إلى الوقف؛ لما تقدم. فلم يبق إلا القطع بالجواز، فللخصم أن يقول: والجزم أيضا بالجواز مع انتفاء دليله أيضا ممتنع. ولا سبيل إلى الوقف، فيجب الجزم بالاستحالة.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) ساقط من أ.
(3) انظر ل 39/ ب.
(4) فى ب (المسألة).
(5) فى ب (و التشكيك).
(6) فى ب (عليه دليلا).
(1/513)
________________________________________
وعند ذلك: فإن بينتم دليل الجواز؛ فلا حاجة إلى هذه الحجة، وإن لم «1» تبينوا دليل الجواز «1»؛ فقد تقابل الجانبان.
وأما الجواب الثانى: فللخصم أن يقول فيه: إنما يلزمنى هذا أن لو كنت قائلا بجواز «2» خلق «2» أمثال السموات، والأرض بالنظر إلى نفى مدارك الاستحالة، وليس كذلك؛ بل إنما قلت به بالنظر إلى وجود دليل الجواز، حتى أنه لو لم يقم عندى دليل الجواز؛ لما قلت به.
الحجة الرابعة:
وهى أشبه الحجج.
هو أن الإدراك عبارة عن كمال يحصل به مزيد كشف وإيضاح على ما حصل في النفس من العلم بأمر ما على ما حققناه في مسألة الإدراكات.
فإذن هذا الكمال الزائد على ما حصل في النفس في كل واحدة من الحواس هو المسمي إدراكا كما مضى. وقد بينا فيما مضى أن الإدراك بالرؤية ليس بخروج شيء من البصر إلى المبصر، ولا بانطباع صورة المبصر في البصر، وأنه لا يفتقر إلى مقابلة، ولا اتصال أجسام، ولا بنية مخصوصة. وإنما هو معنى يخلقه الله- تعالى- فى الحواس المخصوصة بحكم/ جرى العادة، وأنه لو خلق ذلك الإدراك في القلب، أو غيره من الأعضاء؛ لكان جائزا.
وإذا عرف ذلك؛ فالعقل يجوّز أن يخلق الله- تعالى- فى الحاسة المبصرة؛ بل وفى غيرها؛ زيادة كشف وإيضاح بالنظر إلى ذاته ووجوده بالنسبة إلى ما حصل بالبرهان، والخبر اليقينى من العلم به؛ فإن ذلك في نفسه ممكن، والقدرة لا تقصر عنه؛ وذلك هو المسمى بالرؤية.
وعلى هذا فقد ظهر جواز تعلق الرؤية بجميع الإدراكات، والطعوم، والروائح وكل موجود من العلوم، والقدر، والإرادات، وغير ذلك مما لا تتعلق به الرؤية في مجارى العادات.
فإن قيل: ما ذكرتموه في جواز إثبات الرؤية. إما أن تعمموا به كل إدراك، أو تحكموا بكونه خاصا بالرؤية «3».
________________
(1) فى ب (نفيتم الجواز).
(2) فى ب (يخلق).
(3) فى ب (فى الرؤية).
(1/514)
________________________________________
فإن كان الأول: فيلزمكم على سياقه أن يكون الرب تعالى مسموعا، ومشموما، ومذاقا، وملموسا؛ وذلك مما يتحاشى عن القول به أرباب العقول.
وإن أوجبتم تخصصه بالرؤية: فالفرق تحكم غير معقول «1».
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على جواز الرؤية، غير أنه معارض بما يدل على عدم الجواز «2»؛ وبيانه من وجهين:
الأول: أنه لو جاز أن يكون [البارى «3» تعالى «3»] مرئيا؛ لجاز أن يكون مرئيا في الدنيا؛ لأن الموانع من القرب المفرط، والبعد المفرط والحجب؛ منتفية. وإلا لجاز أن يكون بين أيدينا جبل شامخ، أو جمل واقف؛ ونحن لا نراه، مع سلامة الآلة، وانتفاء الموانع؛ وهو محال. فحيث لم ير مع انتفاء الموانع، لم يكن ذلك إلا لكونه غير مرئى في نفسه.
الثانى: أنه لو جاز أن يكون مرئيا: فإما أن يكون في مقابلة الرائى، أو لا في مقابلته.
فإن كان الأول: فيلزم أن يكون في جهة، ويلزم من كونه في «4» الجهة «4» أن يكون جوهرا، أو عرضا؛ وهو على الله- تعالى- محال.
وإن لم يكن في مقابلة الرائى: فالرؤية متعذرة غير معقولة.
وربما عضدوا ذلك بالشبه التى سبق ذكرها في تحقيق الإدراكات، وما يفضى إليه من التجسيم والأينية على تفاصيله.
والجواب:
أما الإشكال الأول: فقد اختلف في جوابه أصحابنا:
________________
(1) هذا الاعتراض ذكره الشهرستانى في نهاية الأقدام ص 361 منسوبا إلى المعتزلة. وهو في المغنى للقاضى عبد الجبار 4/ 134 - 138.
(2) وهذا الاعتراض للمعتزلة أيضا. انظر المغنى 4/ 48 - 55، 95 - 101 والأصول الخمسة ص 254 - 261، ثم انظر الإرشاد للجوينى ص 178، 179.
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (لا في جهة).
(1/515)
________________________________________
فمنهم «1»: من عمم وقال: الرب- تعالى- مدرك «2» بالإدراكات الخمسة «2» طردا للدليل المذكور، غير أنه لا يجوز تعلق الأسباب المقارنة لهذه الإدراكات في الشاهد عادة بالله تعالى: كتقليب الحدقة/ نحوه، والإصغاء بالاذن إلى جهته، والتحرك إليه لقصد إدراكه؛ لكنه لا يطلق عليه هذه الأسماء؛ لعدم ورود الشرع بها، وهذا هو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى.
ومنهم من قال «3»: إن باقى الإدراكات لا تعم كل موجود؛ بل إدراك السمع يختص بالأصوات، والبارى- تعالى- ليس بصوت، ولا الصوت من صفاته؛ فلا يتعلق به السمع، والشم يتعلق بالروائح، والرب- تعالى- ليس برائحة، ولا الرائحة من صفاته؛ فلا يتعلق به إدراك الشم. والذوق يتعلق بالطعم، والرب- تعالى- ليس بطعم، ولا الطعم من صفاته؛ فلا يتعلق به الذوق.
واللمس: يتعلق بالكيفيات الملموسة، والرب- تعالى- ليس بكيفية، ولا الكيفية الملموسة من صفاته؛ فلا يتعلق به إدراك اللمس.
والّذي يدل على صحة هذا: ما يجده كل عاقل في نفسه من التفرقة بين هذه الإدراكات، ولو اتحدت في الإدراك؛ لوقع الالتباس بين الإدراكات؛ وهو محال. وهذا هو مذهب عبد الله بن سعيد، والقلانسى وكثير من أصحابنا.
وعلى هذا. فحصول مثل هذه الإدراكات لله- تعالى- واتصافه بها غير ممتنع عقلا. وإن لم يجز إطلاقها عليه؛ لعدم ورود الشرع بها. وإن حصول الإدراكات المختلفة لمدرك واحد غير ممتنع.
وأما تعلق الإدراكات المختلفة بمدرك واحد من جهة واحدة؛ فممتنع كما بيناه.
وأما انتفاء الرؤية من وقتنا هذا: فإنما يلزم منه انتفاء جواز تعلق الرؤية بالله- تعالى- أن لو لم يقدر ثم مانع يمنع من الرؤية، ولا مستند لهم في حصر الموانع غير البحث، والسير؛ وهو غير يقينى كما سبق «4».
________________
(1) هو الإمام الأشعرى رضى الله عنه انظر اللمع ص 61 - 67، والإبانة ص 18، 19.
(2) فى ب (مدركا بجميع الإدراكات الخمس).
(3) القائل عبد الله بن سعيد الكلابى، والقلانسى، وغيرهم.
انظر اللمع للأشعرى ص 62 - 63.
ثم انظر ما أورده الشهرستانى في الرد على هذا الاعتراض في نهاية الأقدام ص 265 - 366.
(4) انظر ل 39/ ب.
(1/516)
________________________________________
كيف: وأنه من المحتمل أن يكون المانع من الإدراك تكدر النفس بالشواغل البدنية، وانغماسها في الرذائل الشهوانية، وعند صفوها في الدار الأخرى «1»، وزوال كدورتها بانقطاع علائقها «2»، وانفصال عوائقها «3» يتحقق لها ما كانت مستعدة لقبوله، ومتهيئة لإدراكه.
وإن سلمنا انتفاء الموانع مطلقا، فلا نسلم وجوب تعلق الرؤية ووقوعها؛ لجواز أن لا يخلقها الله- تعالى- كما سلف بيانه.
وما ذكروه من الاستشهاد بالصورة المذكورة؛ فغير ممتنع عدم الرؤية فيها عقلا. وإن كان ممتنعا عادة كما سبق.
ثم كيف ينكر ذلك مع «4» ما قد ورد من الأخبار «4» المتواترة الصادقة عن النبي الصادق بما أوجب لنا العلم/ بأنه كان عليه السلام يرى جبريل، ويسمع كلامه عند نزوله عليه، ومن هو حاضر عنده لا يدرك شيئا من ذلك: مع سلامة آلة الإدراك، وانتفاء الموانع.
وأما الإشكال الأخير فمندفع بما حققناه من امتناع اشتراط المقابلة، وكل ما ذكروه من الشروط؛ فإن الإدراك مع ذلك غير ممتنع.
كيف وأن هذا بعينه لازم على من اعترف منهم بأن الله- تعالى- يرى نفسه، ويرى غيره؛ فما هو جوابه في رؤية الله- تعالى- للغير؛ هو الجواب في رؤية الله- تعالى- برؤية غيره.
وأما الحجة السمعية:
فقوله «5» - تعالى-: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ولكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي «6». ووجه الاحتجاج به من وجهين «7»:
________________
(1) فى ب (الآخرة).
(2) فى ب (العلائق).
(3) فى ب (العوائق).
(4) فى ب (مع ما ورد في الأخبار).
(5) فى ب (فى قوله).
(6) سورة الأعراف 7/ 143.
(7) هذه الآية الكريمة استدل بها الأشاعرة على جواز الرؤية. واستدل بها المعتزلة على نفيها. انظر المغنى 4/ 161 - 162. وما أورده الآمدي هنا على أنه شبه. أورده القاضى على أنه حجج. ثم انظر المغنى أيضا 4/ 217 - 220 حيث يورد هذه الحجة بأنها شبهة ويرد عليها. أما إجابته عنها: فهى الشبه التى أوردها الآمدي هنا؛ ليرد عليها.
ثم انظر الأصول الخمسة ص 262 - 265.
(1/517)
________________________________________
الأول: أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه الرؤية بقوله: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ولو كانت الرؤية مستحيلة. فإما أن يكون موسى عالما بالإحالة، أو جاهلا بها.
فإن كان عالما بالإحالة: فالعاقل لا يسأل المحال، ولا يطلبه، فضلا عن كونه نبيا كريما. وإن كان جاهلا بالإحالة؛ فيلزم أن يكون آحاد المعتزلة ومن حصل طرفا من علومهم، أعلم بالله- تعالى- وبما يجوز عليه، وما لا يجوز عليه من النبي الصفى؛ والقول بذلك غاية التجاهل، والرعونة.
وإذا بطل القول بالإحالة لما يلزم عنه من المحال؛ تعين القول بالجواز وهو المطلوب.
الوجه الثانى: قوله- تعالى-: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي علق الرؤية على استقرار الجبل، واستقرار الجبل ممكن في نفسه، وما علق وجوده على الممكن؛ فهو ممكن.
فإن قيل:
أما الوجه الأول: فالكلام عليه من وجوه.
الأول: لا نسلم أن موسى سأل الرؤية، وإنما سأله أن يعلمه به علما ضروريا. وعبر بالرؤية عن العلم؛ إذ العلم ملازم للرؤية، والتعبير باسم أحد المتلازمين عن الآخر سائغ لغة بطريق التجوز كما في قولهم جرى النهر والميزاب. والمراد به الماء الّذي فيه. وهذا هو تأويل أبي الهذيل العلاف وتابعه عليه الجبائى، وأكثر البصريين «1».
سلمنا أنه ما سأل العلم بربه؛ ولكن إنما سأل أن يريه علما من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه كما فى قوله- تعالى-: وسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» والمراد به أهل القرية.
ويكون معنى قوله أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ: أى إلى علم من أعلامك الدالة على/ الساعة. وهذا هو تأويل الكعبى، والبغداديين من المعتزلة.
________________
(1) انظر الأصول الخمسة ص 262؛ حيث يذكر هذا الرأى لأبى الهذيل، ثم يضعفه. وانظر أيضا المغنى 4/ 162، 218.
(2) سورة يوسف 12/ 82.
(1/518)
________________________________________
سلمنا أنه سأل الرؤية؛ ولكن لنفسه، أو لأجل دفع قومه في قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «1» الأول؛ ممنوع، والثانى؛ مسلم؛ وذلك لأنهم لما سألوه الرؤية أضاف الرؤية إلى نفسه؛ ليكون منعه أبلغ في دفعهم، وردعهم عما سألوه تنبيها بالأعلى على الأدنى، وهذا هو تأويل الجاحظ، ومتبعيه.
سلمنا أنه سأل الرؤية لنفسه؛ ولكن لا نسلم أن ذلك ينافى العلم بالإحالة؛ إذ المقصود من سؤال الرؤية إنما هو أن يعلم الإحالة بطريق سمعى مضاف إلى ما عنده من الدليل العقلى؛ لقصد التأكيد، وذلك جائز بدليل قول إبراهيم الخليل عليه السلام رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ ولَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «2» بضم دليل المشاهدة إلى دليل العقل.
سلمنا أنه سأل الرؤية مع عدم علمه باستحالتها؛ ولكن ذلك غير قادح في نبوته مع كونه عالما بعدل الله تعالى، ووحدانيته، ولهذا سأل وقوع الرؤية في الدنيا؛ وهى غير واقعة إجماعا.
سلمنا أنه كان عالما بإحالة الرؤية؛ ولكن لم قلتم بامتناع السؤال؟ وإنما يكون ممتنعا أن لو كان ذلك محرما في شرعه. وإن كان محرما في شرعه؛ فالصغائر غير ممتنعة على الأنبياء على ما يأتى «3»:
وأما الوجه الثانى: فالكلام عليه أيضا من وجهين:
الأول: لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن.
قولكم: إنه علقها على استقرار الجبل، واستقرار الجبل ممكن.
فنقول: علقها على استقرار الجبل حال سكونه، أو حال حركته. لا جائز أن يقال بالأول: وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط؛ فإن الجبل حال سكونه كان مستقرا؛ فلم يبق إلا الثانى.
ولا يخفى أن استقرار الجبل حال حركته محال لذاته.
________________
(1) سورة النساء 4/ 153.
(2) سورة البقرة 2/ 260.
(3) انظر الجزء الثانى- القاعدة الخامسة- الأصل الخامس ل 168/ ب وما بعدها.
(1/519)
________________________________________
الثانى: وإن سلمنا أن استقرار الجبل ممكن. غير أن المقصود من تعليق الرؤية عليه ليس هو بيان جواز الرؤية، أو عدم جوازها؛ إذ هو غير مسئول عنه؛ بل المقصود إنما هو بيان أن الرؤية لا تقع؛ لعدم وقوع الشرط المعلق به؛ ليكون ذلك مطابقا للسؤال؛ وهو حاصل بعدم الشرط. وسواء كانت الرؤية جائزة في نفس الأمر، أم لا.
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه من الوجهين على جواز الرؤية؛ فهو معارض بما يدل على عدم الجواز وهو قوله- تعالى-: لَنْ تَرانِي وكلمة/ لن للتأبيد، والتخليد، وتحقيق النفى، وتأكيده.
وأيضا: قول موسى عليه السلام تُبْتُ إِلَيْكَ «1» دليل كونه مخطئا في سؤاله، ولو كانت الرؤية جائزة؛ لما كان مخطئا.
والجواب:
أما قولهم: أنه إنما سأل العلم الضرورى بربه فمندفع لوجهين:
الأول: أن النظر وإن أطلق بمعنى العلم؛ لكنه إذا وصل بإلى فيبعد حمله عليه، ويكون ظاهرا في الرؤية على ما يأتى «2». ولا سبيل إلي مخالفة الظاهر من غير دليل.
الثانى: وإن أمكن حمله على العلم؛ لكن يمتنع الحمل على العلم هاهنا، وبيانه من ثلاثة أوجه.
الأول: أنه يلزم منه أن يكون موسى غير عالم بربه، وإلا لما سأل حصول ما هو حاصل له. ولا يخفى أن نسبة ذلك [للمصطفى «3» بالنبوة] المكرم بالرسالة المختص بالمخاطبة، مع معرفة آحاد المعتزلة، ومن شدا طرفا من العلم بالله من أعظم الجهالات، كما تقدم «4».
الثانى: أن قوله- تعالى- لَنْ تَرانِي جواب عن سؤاله. والمعتزلة مجمعون على أن قوله: لَنْ تَرانِي محمول على نفى الرؤية. فلو كان طلب موسى للعلم؛ لما كان الجواب مطابقا للسؤال.
________________
(1) سورة الأعراف 7/ 143.
(2) انظر ل 139/ أ.
(3) فى أ (المصطفى للنبوة).
(4) فى ب (سبق).
(1/520)
________________________________________
الثالث: أنه لو ساغ هذا التأويل؛ لساغ مثله في قوله- تعالى- أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «1» - وفي قوله- تعالى- لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «2». لتساوى الدلالة؛ وهو ممتنع بالإجماع.
وقوله- تعالى- جَهْرَةً. لا يزيد على كون النظر موصولا بإلى.
قولهم: إنه «3» إنما سأل «3» أن يريه علما من أعلام الساعة.
قلنا: لا يستقيم ذلك لوجوه ثلاثة:
الأول: أنه على خلاف الظاهر كما سبق من غير دليل.
الثانى: أنه أجاب بقوله لَنْ تَرانِي وقوله لَنْ تَرانِي «4» إن كان محمولا على نفى ما وقع السؤال عنه من رؤية بعض الآيات؛ فهو خلف؛ فإنه قد أراه أعظم الآيات، وهو تدكدك الجبل.
وإن كان قوله لَنْ تَرانِي محمولا على نفى الرؤية؛ فلا يكون الجواب مطابقا للسؤال.
الثالث: أنه قال- تعالى- فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فإن كان ذلك محمولا على رؤية آياته؛ فهو محال؛ فإن الآية ليست في استقرار الجبل؛ بل في تدكدكه.
وإن كان محمولا على الرؤية؛ فلا يكون مرتبطا بالسؤال.
وهذه المحالات إنما لزمت من حمل الآية، على رؤية الآية؛ فيكون ممتنعا.
قولهم: إنما سأل الرؤية لقصد مثل هذا الجواب لدفع قومه. عنه أجوبة ثلاثة:
الأول: أن ما ذكروه على خلاف الظاهر المفهوم من سؤاله الرؤية لنفسه من غير دليل.
الثانى: أنه لو علم أن الرؤية غير جائزة، لما سألها/ من الله تعالى. وأضافها إلى نفسه لقصد دفع قومه؛ بل كان يجب أن يبادر إلى ردعهم، وزجرهم عن طلب ما لا يليق
________________
(1) سورة النساء 4/ 153.
(2) سورة الأنعام 6/ 103.
(3) فى ب (إنما سأله).
(4) فى ب (و ان).
(1/521)
________________________________________
بجلال الله- تعالى- كما قال لهم: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ عند قولهم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «1».
الثالث: أنه قد وقع زجرهم، وردعهم عن سؤالهم أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً بأخذ الصاعقة لهم، والعذاب الأليم عقيبه على ما قال تعالى- فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ «2» وليس في أخذ الصاعقة لهم ما يدل على امتناع ما طلبوه؛ بل إنما كان ذلك؛ لأنهم طلبوا ذلك في معرض التشكيك في نبوة موسى، وقصد «3» إعجازه عن ذلك؛ فأنكر الله- تعالى- ذلك منهم كما أنكر قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «4». وقولهم: (انزل علينا كتابا من السماء) «5». وإن لم يكن ذلك مستحيلا نظرا إلى ما قصدوه من الإعجاز.
قولهم: المقصود من السؤال إنما هو ضم الدليل السمعى إلى الدليل العقلى للتأكيد؛ فمندفع من وجهين:
الأول: أنه إذا كان عالما بإحالة الرؤية؛ فلا يخفى أن العلم غير قابل للزيادة، والنقصان؛ فطلب التأكيد فيه ممتنع.
وعلى هذا قال بعض المتأولين: يجب صرف قول إبراهيم الخليل عليه السلام أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «6» عن قصد التأكيد؛ لعلمه بإحياء الله- تعالى- الموتى لما ذكرناه إلى مخاطبة جبريل بذلك عند نزوله إليه بالوحى؛ ليعلم أنه من عند الله- تعالى- وهو بعيد لوجهين:
الأول: أنه خاطب به الرب- تعالى- بقوله رَبِّ أَرِنِي، وجبريل ليس برب.
الثانى: أن إحياء الموتى غير مقدور لجبريل؛ فلا يحسن السؤال له بإحياء الموتى؛ بل الأولى صرفه إلى ما نقل عنه- عليه السلام- أنه كان قد أوحى الله- تعالى-
________________
(1) سورة الأعراف 7/ 138.
(2) سورة النساء 4/ 153.
(3) فى ب (و قصدوا).
(4) سورة الإسراء 17/ 90.
(5) حكى القرآن عنهم ذلك في قوله تعالى (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ... )
(6) سورة البقرة 2/ 260.
(1/522)
________________________________________
إليه «أننى «1» أتخذ «1» إنسانا خليلا، وعلامته أننى أحيى الموتى بسبب دعائه»؛ فوقع في قلبه أنه ذلك الإنسان؛ فطلب ذلك؛ ليطمئن قلبه بأنه هو ذلك الخليل.
الثانى: وإن أمكن طلب تأكيد العلم بإحالة الرؤية بضم الدليل السمعى إلى العقلى؛ فقد كان يمكن ذلك بطلب إظهار الدليل السمعى له من غير أن يسأل «2» الرؤية مع إحالتها.
قولهم: أنه لو لم يكن عالما بإحالة الرؤية مع سؤاله لها فجوابه ما سبق، وعدم معرفته بإحالة وقوع الرؤية في الدنيا إنما كان؛ لأن الرؤية في الدنيا غير مستحيلة لذاتها، ولا مانع منها لو لا الدليل السمعى/؛ ولعله لم يكن قد علمه بعد؛ ولا ظهر له إلا بعد السؤال، وقوله- تعالى-: لَنْ تَرانِي.
قولهم: إن ذلك لم يكن حراما في شرعه.
قلنا: وإن لم يكن حراما. غير أنه لا فائدة في طلب المحال، وما لا فائدة فيه؛ فمنصب النبي ينزه عنه.
قولهم: الصغائر جائزة على الأنبياء، ممنوع على ما يأتى «3».
قولهم: على الوجه الثانى: لا نسلم أنه علق الرؤية على شرط ممكن.
قلنا: لأنه علقها على استقرار الجبل، واستقرار الجبل ممكن؛ ولهذا فإنه لو فرض وجوده، أو عدمه؛ لا يلزم عنه لذاته محال.
قولهم: الشرط هو الاستقرار حالة الحركة على ما قرروه؛ فمندفع فإنهم قالوا:
الشرط هو الاستقرار في حالة وجود الحركة مع الحركة؛ فهو زيادة إضمار في الشرط، وترك لظاهر اللفظ من غير دليل؛ فلا يصح.
وإن قالوا الشرط هو الاستقرار في الحالة التى وجدت فيها الحركة بدلا عن الحركة؛ فلا يخفى جوازه.
________________
(1) في ب (انى اتخذت).
(2) فى ب (يطلب).
(3) فى ب (على رأى بعض الأصحاب على ما يأتى). انظر الجزء الثانى- القاعدة الخامسة ل 168/ ب وما بعدها.
(1/523)
________________________________________
قولهم: إنه لا يلزم أن يكون المعلق على الممكن ممكنا على ما قرروه؛ ليس كذلك؛ فإنه لو قدر وجود الشرط فإن لم يوجد المشروط كان تعليق الوجود على الموجود ممتنعا، وإن وجد المشروط؛ فهو المطلوب.
وأما ما ذكروه من المعارضة بقوله- تعالى- لَنْ تَرانِي فمندفع لأربعة أوجه:
الأول: أنا لا نسلم أن لن للتأبيد؛ بل للتأكيد؛ بدليل قوله- تعالى-: ولَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً «1» مع أنهم يتمنونه في الآخرة.
الثانى: أنها وإن كانت للتأبيد؛ ولكن يحتمل أنه أراد به عدم الرؤية في الدنيا، وهو الأولى لأن يكون الجواب مطابقا لسؤال موسى عليه الصلاة والسلام، وهو لم يسأل الرؤية في غير الدنيا.
الثالث: أنها وإن دلت على التأبيد مطلقا، فغايته انتفاء وقوع الرؤية، ولا يلزم منه، انتفاء الجواز.
الرابع: وإن دل على انتفاء الجواز من الوجه الّذي ذكروه غير «2» أنه يدل على الجواز من «3» حيث أنه أحال «3» انتفاء الرؤية على عجز الرائى وضعفه عن الرؤية بقوله: لَنْ تَرانِي. ولو كانت رؤيته غير جائزة؛ لكان الجواب لست بمرئى كما لو قال: أرنى أنظر إلى صورتك، ومكانك؛ فإنه لا يحسن أن يقال: لن ترى صورتى، ولا مكانى؛ بل لست بذى صورة، ولا مكان.
وقول موسى عليه السلام تُبْتُ إِلَيْكَ مما لا ينهض شبهة في جواز خطابه، وجهله بجواز الرؤية لوجهين:
الأول: هو أن التوبة قد تطلق بمعنى الرجوع، وإن لم يتقدمها ذنب. ومنه قوله- تعالى-: تابَ عَلَيْهِمْ «4»: أى رجع عليهم بالتفضل/ والإنعام.
________________
(1) سورة البقرة 2/ 95.
(2) فى ب (على).
(3) فى ب (من جهة أنه حال).
(4) سورة التوبة 9/ 118.
(1/524)
________________________________________
وعلى هذا: فلا يبعد أن يكون المراد من قوله: تُبْتُ إِلَيْكَ: أى رجعت «1» عن طلب الرؤية عند قوله- تعالى- لَنْ تَرانِي وقوله- عليه السلام-: وأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ «2» ليس المراد به ابتداء الإيمان منه في تلك الحالة بالله- تعالى؛ بل المراد إضافة الأولوية إليه لا إلى الإيمان، ومعناه: وأنا أول المؤمنين.
الثانى: أنه وإن كانت توبته تستدعى سابقة الذنب؛ فليس فيه ما يدل على أن الذنب في سؤاله؛ بل جاز أن تكون التوبة عما تقدم من الذنوب قبل السؤال؛ لما رأى من الأهوال، والآية العظيمة من تدكدك الجبل، على ما هو عادة المؤمنين الصلحاء من تجديد التوبة عما سلف، إذا رأوا آية «3» عظيمة «3»، وأمرا مهولا.
*******
________________
(1) فى ب (رجعت إليك).
(2) سورة الأعراف 7/ 143.
(3) فى ب (الآية).
(1/525)
________________________________________
الفصل الثانى في بيان وقوع الرؤية في الآخرة للمؤمنين
وقد احتج بعضهم «1» على ذلك بمسلك ضعيف، وهو أن قال: الأمة في هذه المسألة على قولين:
فمنهم من قال: بجواز الرؤية، ووقوعها في القيامة للمؤمنين.
ومنهم: من نفى الأمرين. وقد ثبت بالدليل جواز الرؤية؛ فيلزم منه وقوع الرؤية، وإلا كان القول بالجواز، وامتناع «2» وقوع الرؤية «2»، قولا ثالثا خارقا للإجماع؛ وهو باطل.
وهو غير صحيح؛ فإن خرق الإجماع إنما يكون بالقول بإثبات ما اتفق الإجماع على نفيه، أو نفى ما اتفق الإجماع على إثباته؛ وذلك غير متحقق فيما نحن فيه.
فإن القول الثالث: إنما هو التفصيل، ولا معنى له غير القول بالجواز، والقول بانتفاء الوقوع. والقول بالجواز ليس على خلاف قول الإجماع؛ إذ فيه موافقة مذهب من قال به، والقول بانتفاء الوقوع ليس خارقا للإجماع؛ بل فيه موافقة مذهب القائل به؛ ففى كل طرف قد وافق مذهب ذى مذهب، لا أنه خارق للإجماع.
وهذا كما أن القائل في مسألة المسلم بالذمى، والحر بالعبد قائلان. فقائل بجريان القصاص فيهما، وقائل بنفيه فيهما. ومن صار إلى جواز قتل المسلم بالذمى، لقيام دليله في نظره، لا يلزمه أن يقول بذلك في الحر بالعبد، من غير دليل، ولا يكون بذلك خارقا للإجماع، ولا ممنوعا منه بالإجماع.
والمعتمد في ذلك قوله- تعالى-: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «3»
________________
(1) هو الإمام الرازى انظر المحصل ص 441 وما بعدها، وشرح المواقف 2/ 373.
(2) فى ب (مع امتناع الوقوع).
(3) سورة القيامة 75/ 22، 23. وهذه الآية الكريمة التى أوردها الآمدي هنا على أنها الدليل المعتمد على وقوع الرؤية في الآخرة للمؤمنين؛ أوردها القاضى عبد الجبار المعتزلى في المغنى على أن الاستدلال بها من شبه الخصوم، ووجه الآية توجيها يتفق مع مذهبه انظر المغنى 4/ 197 - 217، وانظر الأصول الخمسة ص 242 - 248 والمحيط بالتكليف ص 212، 213.
(1/526)
________________________________________
ووجه الاحتجاج منه أن النظر قد يطلق/ فى لغة العرب بمعنى الانتظار ومنه قوله- تعالى- انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ «1»: أى «2» انتظرونا «2». وقوله تعالى-: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً «3»: أى ينتظرون وقوله- تعالى-: فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ «4».
ومنه قول الشاعر:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فإنّ غدا لناظره قريب «5»
أى لمنتظره. وإذا استعمل النظر بإزاء هذا المعنى استعمل من غير صلة.
وقد يطلق ويراد به التفكر والاعتبار: واذا استعمل بإزائه وصل بفى. ومنه يقال:
نظرت في المعنى الفلانى: أى فكرت فيه، واعتبرت.
وقد يطلق بمعنى التعطف، والرأفة. واذا استعمل بالرأفة، وصل باللام ومنه [قولهم «6»: نظر فلان لفلان، أى تعطف عليه، ورأف به «6»]
وقد يطلق بمعنى الرؤية والإبصار: وإذا استعمل بإزائه وصل بإلى، ومنه قول الشاعر:
نظرت إلى من حسّن اللّه وجهه ... فيا نظرة كادت على وامق تقضى
والمراد به الرؤية. والنظر في الآية موصول بإلى؛ فوجب حمله على الرؤية والإبصار.
فان قيل: النظر الّذي هو صفة الوجوه إنما يمكن حمله على الرؤية أن لو كانت الوجوه بمعنى الجوارح؛ وليس كذلك؛ بل المراد بالوجوه في الآية الأنفس «7»، والأشخاص «7» الشريفة النفيسة بالإيمان دون الجوارح.
________________
(1) سورة الحديد 57/ 13.
(2) ساقط من ب
(3) سورة يس 36/ 49.
(4) سورة النمل 27/ 35.
(5) القائل: قراد بن أجدع- انظر مجمع الأمثال للميدانى- المطبعة البهية سنة 1342 ه 1/ 63، 64.
(6) فى ب (قوله: نظر فلان لفلان أى تعطف به ورأف به). وفي أ (قولهم: نظر فلان أى تعطف عليه ورأف به).
(7) فى ب (الأشخص والأنفس).
(1/527)
________________________________________
ولهذا يقال: أقبل وجوه القوم: أى رؤساؤهم، وأشرافهم. ويدل على ذلك قوله- تعالى ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ «1». والأصل اتحاد المفهوم من لفظ الوجوه هاهنا، وليس المراد من قوله: ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ الوجوه «2» بمعنى الجوارح بدليل قوله- تعالى- تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ.
والظن ليس للوجوه بمعنى الجوارح؛ [فكذلك «3» فى الوجوه الناظرة.
سلمنا أن الوجوه بمعنى الجوارح «3»]؛ ولكن لا نسلم أن المراد من النظر المضاف إليها الرؤية.
قولكم: إن النظر الموصول بإلى في اللغة: للرؤية.
قلنا: لا نسلم أن إلى هاهنا «4» حرف، وبيانه هو أن «4» إلى قد تكون اسما، فإن «5» إلى «5» واحد الآلاء أى النعم. ومنه قول الشاعر:
أبيض لا يرهب النزال ولا ... يقطّع رحما ولا يخون إلى
وقد ترد بمعنى عند. ومنه قول الشاعر:
فهل لكم فيما إلى فاننى ... طبيب بما أعيى النّطاسى حذيما «6»
أى فيما عندى.
وعلى هذا فبتقدير أن يكون بمعنى واحد الآلاء؛ فيكون معنى قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «7»: أى نعمة ربها منتظرة. وعلى تقدير أن يكون بمعنى عند؛ فيكون معناه وجوه يومئذ ناظرة إلى/ ربها ناظرة: أى عند ربها منتظرة نعمة ربها.
________________
(1) سورة القيامة 75/ 24.
(2) ساقط من ب.
(3) من أول (فكذلك في الوجوه ... ) ساقط من أ.
(4) فى ب (هاهنا وبيانه أن).
(5) فى ب (فإنها).
(6) القائل: أوس بن حجر انظر خزانة الأدب 4/ 373 تحقيق عبد السلام هارون نشر الدار القومية- وقد استشهد به صاحب الكشاف وذكره في تفسيره 1/ 171.
(7) سورة القيامة 75/ 22، 23.
(1/528)
________________________________________
سلمنا أن إلى هاهنا حرف؛ ولكن لا نسلم أن إلى بمعنى الحرف إذا اقترنت بالنظر تكون للرؤية، بل قد يرد ذلك بمعنى تقليب الحدقة إلى جهة المرئى. ومقابلتها له. ومنه يقال:
جبلان متناظران. إذا تقابلا.
وقد يرد بمعنى الانتظار.
وقد يرد بمعنى الرحمة.
وقد يرد بمعنى التفكر، والاعتبار.
أما الأول: فبيانه من ستة أوجه:
الأول: أنه يصح أن يقال: نظرت إلى الهلال فلم أره. ولو كان النظر بمعنى الرؤية؛ لكان متناقضا. ولو كان بمعنى «1» تقليب الحدقة إليه؛ لكان حقا «1».
الثانى: أنه يصح أن يقال: ما زلت أنظر إلى الهلال حتى رأيته. ولو كان النظر بمعنى الرؤية؛ لكان النظر غاية لنفسه، ولا كذلك في تقليب الحدقة.
وأيضا فإنه يصح أن يقال: نظرت فرأيت. فترتب الرؤية على النظر بفاء التعقيب [يدل «2»] على المغايرة. والّذي ترتب عليه الرؤية؛ إنما هو تقليب الحدقة.
الثالث: أنه يصح أن يقال: أ ما ترى كيف ينظر فلان إلى فلان. ولو كان النظر هو الرؤية؛ لما كان مرئيا بخلاف تقليب الحدقة.
الرابع: قوله- تعالى-: وتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وهُمْ لا يُبْصِرُونَ «3» والمراد بالنظر هاهنا تقليب أحداقهم نحوه بدليل قوله- تعالى-: وهُمْ لا يُبْصِرُونَ. ولو كان النظر بمعنى الرؤية؛ لكان «4» متناقضا.
________________
(1) فى ب (المعنى توجيه الحدقة إليه كان حقا).
(2) فى أ (فدل).
(3) سورة الأعراف 7/ 198.
(4) فى ب (لما كان).
(1/529)
________________________________________
الخامس: هو أن النظر الموصول بإلى قد يوصف بما لا توصف به الرؤية من الصلابة، والشدة، والغضب «1»، والازورار، والرضا، والتحير، والذل، والخشوع، ونحو ذلك. وذلك بما تكون عليه عين الناظر من الأوضاع المختلفة، والتقليب المخصوص، والكيفية في تحريكها. ومن المعلوم أن الرؤية لا تختلف باختلاف هذه الأحوال، ولا توصف بها، فإن العرب لا تصف إلا ما تراه؛ فدل على أن النظر بمعنى تقليب الحدقة؛ لا بمعنى الرؤية.
السادس: أنه يصح الأمر بالنظر، والنهى عنه فيقال: انظر إلى فلان، ولا تنظر إلى فلان، ومتعلق الأمر، والنهى ما كان مقدورا للناظر؛ والرؤية غير مقدورة له؛ بخلاف تقليب الحدقة؛ فكان هو المراد بالنظر.
وأما الثانى: وهو بيان أن النظر قد يرد بمعنى الانتظار وإن كان موصولا بإلى، وذلك مما نقل عن العرب أنها تقول: نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته ويقال: نظرى إلى الله، ثم إلى فلان/: أى انتظارى، ولهذا يصح هذا الإطلاق ممن لا رؤية له كالأعمى.
ومن قول الشاعر:
ويوم بذى قار رأيت وجوههم ... إلى الموت من وقع السّيوف نواظرا «2»
أى منتظرة ضرورة أن الموت لا يرى.
وأيضا قول الشاعر:
وجوه ناظرات يوم بدر ... إلى الرحمن يأتى بالفلاح «3»
أى بالفرج من عنده.
وأيضا قول الشاعر:
إنّى أليك لما وعدت لناظر ... نظر الذّليل الى العزيز القاهر «4»
أى منتظر.
________________
(1) فى ب (و الضعف).
(2) ورد هذا البيت في أصول الدين للبغدادى ص 100، وقد أورده الآمدي أيضا في غاية المرام ص 175.
(3) ورد في شرح الأصول الخمسة ص 245، 246 هكذا
وجوه يوم بدر ناظرات* ... إلى الرحمن يأتى بالخلاص
ونسبه المحقق إلى حسان بن ثابت رضى الله عنه.
(4) ورد هذا البيت في غاية المرام ص 175 بنصه المذكور هنا كما ورد في شرح الأصول لخمسة ص 246 برواية أخرى هكذا:
إنى إليك لما وعدت لناظر* ... نظر الفقير إلى الغنى الموسر
(1/530)
________________________________________
وأيضا: قول الشاعر:
كلّ الخلائق ينظرن نحاله «1» ... نظر الحجيج إلى طلوع هلال «2»
وقال آخر:
وجوه بها ليل الحجاز على النّوى ... إلى مكّة نحو المعاريف ناظرة
والمراد به الانتظار؛ لاستحالة الرؤية في مثل «3» هذه الصورة «3».
وقال الآخر:
وشعث ينظرون إلى بلال ... كما نظر الظّماة حيا الغمام
وحيا الغمام لا يرى، وإنما ينتظر؛ فكذلك المشبه به.
وأما بيان الثالث: فقوله- تعالى- فى حق الكفار ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ «4» وليس المراد به الرؤية، فإنه كان يراهم.
وليس المراد؛ نفى النظر بمعنى تقليب الحدقة؛ وإلا كان معناه ولا يقلب حدقته إلى «5» جهتهم «5»؛ وهو محال.
ولا بمعنى الانتظار والاعتبار؛ فإنه يتعالى، ويتقدس عن ذلك؛ فكان محمولا على ترك الرحمة.
وأما بيان الرابع: فقوله- تعالى-: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ «6».
ليس المراد بالنظر المحثوث عليه «7» الرؤية، ولا تقليب الحدقة لمشاركة «8» الكفار «8» فى ذلك. ولا الانتظار؛ فلم يبق إلا التفكر، والاعتبار.
سلمنا أن النظر الموصول بإلى للرؤية حقيقة، ولكن للرؤية «9» المشترطة «9» بالشروط المذكورة من قبل في النظر، أم لا. الأول: مسلم، والثانى: ممنوع.
________________
(1) فى ب (سجالة).
(2) ورد هذا البيت في المواقف ص 306 كما ورد هنا في أ.
(3) فى ب (فى هذه الصور).
(4) سورة آل عمران 3/ 77.
(5) فى ب (إليهم).
(6) سورة الغاشية 88/ 17.
(7) فى ب (المندوب إليه).
(8) فى ب (لمشاركتهم للكفار).
(9) فى ب (النظر المشروطة).
(1/531)
________________________________________
وبيانه: أن القرآن أنزل بلغة العرب على ما قال- تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «1» وقوله تعالى:- وما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «2». والعرب ما كانت تفهم من الرؤية غير ما ذكرناه؛ فكان اسم «3» النظر موضوعا بإزائها؛ وذلك في حق الله- تعالى- محال.
وإذا تعذر حمل لفظ النظر على حقيقته؛ فلا بد من التجوز حذرا من تعطيل اللفظ؛ وذلك بحمله على الانتظار، أو غيره مما يحتمله اللفظ.
سلمنا أنه للرؤية مطلقا؛ ولكن يجب تأويله بحمله على رؤية ثواب الرب- تعالى- بطريق حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. ودليل وجوب العمل بهذا التأويل:
السمع، والعقل.
أما السمع: فقوله- تعالى-: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «4» / فهذه الآية صريحة في نفى إدراك الله- تعالى- بالأبصار.
كيف وقد ورد ذلك في معرض التمدح، والاستعلاء، فلو أمكن أن يكون مدركا في وقت ما؛ لزال عنه التمدح، والاستعلاء؛ وهو محال؛ والجمع بين العمل بها «5»، وبظاهر ما ذكرتموه؛ ممتنع.
وعند ذلك فلا بد من تأويل ما ذكرتموه حذرا من تعطيل أحد الدليلين.
وأيضا: قوله- تعالى-: وما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «6». دل على امتناع الرؤية في حق من يكلمه فمن لا يكلمه أولى أن لا يراه، ولأنه لم يفرق أحد من الأمة بينهما.
وأيضا: قوله- تعالى:- وقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً «7» وصف من سأل رؤيته بالعتو، ولو كانت الرؤية غير ممتنعة؛ إما لذاتها أو لغيرها؛ لما كان كذلك كما لو سأل غيرها من الممكنات.
________________
(1) سورة يوسف 12/ 2.
(2) سورة ابراهيم 14/ 4.
(3) ساقط من ب.
(4) سورة الانعام 6/ 103.
(5) فى ب (بهذه الآية).
(6) سورة الشورى 42/ 51.
(7) سورة الفرقان 25/ 21.
(1/532)
________________________________________
وأيضا: فإن الله- تعالى- عاقب من سأل رؤيته بدليل قوله وإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ «1»
وقوله- تعالى-: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ «2». ولو كانت الرؤية جائزة، أو واقعة، لما عاقبهم على سؤالهم. كما لو سألوا غيرها من الممكنات.
وأيضا: قوله- تعالى- للكليم: (لَنْ تَرانِي) ولن للتأبيد؛ فغير موسى أولى أن لا يراه.
وأما من جهة المعقول: فمن ثلاثة أوجه:
الأول: أن المرئى لا بدّ وأن يكون مقابلا للرائى؛ كالأجسام، أو في حكم المقابل، كالأعراض. ورؤية الإنسان وجهه في المرآة؛ إذ ليس هو في مقابلة وجهه وذلك يوجب كون المرئى جوهرا، أو عرضا، وأن يكون في حيز وجهة؛ وذلك على الله- تعالى- محال.
الثانى: أن المرئى لا بدّ من انطباع صورته في العين الباصرة، وأن يكون متلونا متشكلا مقدرا؛ على ما سلف؛ وذلك في حق الله تعالى- محال.
الثالث: أنه وإن كانت هذه الشروط، شروطا في رؤية الأجسام والبارى- تعالى- ليس بجسم؛ فلا بد من اشتراط سلامة الحاسة وأن يكون الرب- تعالى- بحيث يصح أن يرى، والحاسة سالمة، فلو كان بحيث يصح أن يرى لرئي في الدنيا؛ لأنه يلزم من وجود شروط الإدراك، وجود الإدراك ضرورة؛ فحيث لم ير في الدنيا؛ علم أنه ليس بحال أن يرى.
والجواب:
قولهم: المراد بالوجوه الأشخاص، عنه/ أجوبة [ثلاثة] «3»:
________________
(1) سورة البقرة 2/ 55.
(2) سورة النساء 4/ 153.
(3) ساقط من أ.
(1/533)
________________________________________
الأول: المنع، وبيانه أن المتبادر من لفظ الوجوه عند الإطلاق إنما هو الجوارح، والأصل في كل ما كان كذلك أن يكون حقيقة فيه. وحيث تطلق الوجوه على الرؤساء، والأشراف؛ فإنما كان بطريق المجاز تشبيها بالوجوه؛ حيث كانت أشرف الأعضاء، وأجلها.
قولهم: المراد بالوجوه الباسرة الأشخاص؛ فكذلك الوجوه الناضرة. عنه جوابان:
الأول: لا نسلم أن الوجوه الباسرة هى الأشخاص، واتصافها بالظن في يوم القيامة على خلاف العادة؛ غير ممتنع كما في استنطاق الأيدى والأرجل بالشهادة على ما قال- تعالى- يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ «1».
الثانى: وإن لزم «2» التجوز في الوجوه الباسرة؛ فلا يلزم التجوز مطلقا.
سلمنا أن لفظ الوجوه غير ظاهر بحكم الوضع في الجوارح، غير أنه قد اقترن بها ما يدل على كونها هى المرادة.
وبيان «3» إمكانه «3»: أنه وصفها بالنضارة، وهى الإشراق، وتهلل الأسارير، وذلك إنما «4» توصف به الوجوه بمعنى الجوارح، لا بمعنى الشرفاء، والرؤساء.
سلمنا أن المراد بالوجوه الأشخاص، والأنفس، ولكن ليس في إضافة النظر إليها ما يمنع من حمله على الرؤية إذا كان موصولا بإلى ولو قال- تعالى-: «أشخاص يومئذ ناظرة إلى ربها ناظرة»؛ كان ذلك محمولا على الرؤية.
قولهم: إن إلى قد تطلق بمعنى واحد الآلاء، وبمعنى عند، عنه جوابان.
الأول: أن ذلك وإن كان سائغا إلا أنه على خلاف الظاهر المتبادر إلى الفهم من إطلاق إلى؛ فإنها مشهورة للحرفية دون ما ذكروه. والأصل فيما كان كذلك أن يكون هو الحقيقة.
________________
(1) سورة النور 24/ 24.
(2) فى ب (لم يقيد).
(3) فى ب (و بيانه).
(4) فى ب (أنه).
(1/534)
________________________________________
الثانى: وإن سلمنا عدم الظهور به، بحكم الوضع في «1» الحرف غير أنه قد اقترن به «1» ما يدل على إرادة الحرفية، حيث أن الآية إنما وردت تبشيرا للمؤمنين، وتخصيصا لهم بالإنعام والإكرام؛ وذلك لا يكون إلا بما هو نعمة، وكرامة.
ولا يخفى تحقيق ذلك عند حمل إلى على الحرفية؛ لأن النظر يكون بمعنى الرؤية، ورؤية الله- تعالى- من أجل النعم، والكرامات وهى «2» من أعلا الدرجات «2». ولو حمل إلى على واحد الآلاء؛ فيكون تقدير الكلام وجوه يومئذ ناضرة نعمة ربها ناظرة.
وقوله ناظرة: إما بمعنى الرؤية، أو بمعنى الانتظار.
فإن كان الأول: فلا يخفى أن رؤية النعمة لا تكون نعمة، ولهذا: فإنه قد يشترك في رؤية نعمة الله- تعالى- المؤمنون، والكفار «3».
وإن كان الثانى: فانتظار النعمة لا يكون نعمة، بل عذابا، ومنه/ قولهم:
الانتظار الموت الأحمر، فلا يصلح ذلك للتبشير، وكذلك أيضا لو حمل على معنى عند، فيكون تقدير الكلام: وجوه يومئذ ناظرة عند ربها ناضرة، ولا بد من إضمار ثواب ربها، أو نعمة ربها، وسواء كان النظر بمعنى الرؤية، أو الانتظار، وفيه مع ما ذكرناه من المحذور زيادة الإضمار؛ والإضمار على خلاف الأصل.
قولهم: لا نسلم أن إلى إذا اقترنت بالنظر تكون للرؤية.
قلنا: دليله ما سبق.
قولهم: يصح أن يقال: نظرت إلى الهلال؛ فلم أره. لا نسلم صحة ذلك في وضع اللغة؛ بل الّذي تقوله العرب نظرت إلى مطلع الهلال؛ فلم أر الهلال. وربما حذف المطلع، وأقيم المضاف إليه مقامه تجوزا، واستعارة.
وعلى هذا يكون الجواب عن قولهم: ما زلت أنظر إلى الهلال حتى رأيته.
وقولهم «4»: نظرت فرأيت من باب التأكيد؛ وذلك جائز عند اختلاف الألفاظ؛ وإن اتحد المعنى. ومنه قول امرئ القيس:
________________
(1) فى ب (فى الحرفية غير انها قد اقترن بها).
(2) من أول (و هى ... ) ساقط من ب.
(3) فى ب (و الكافرون).
(4) فى ب (و قوله).
(1/535)
________________________________________
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطّه السّيل من عل
أضاف الجملود إلى الصخر، وهما بمعنى واحد.
وعلى هذا فإنه يحسن أن يقال: أدركته؛ فرأيته.
وقولهم: انظر كيف ينظر فلان إلى فلان؛ فهو تجوز باسم الرؤية عن تقليب الحدقة؛ لأن تقليب الحدقة سبب للرؤية في الغالب، والتجوز باسم المسبب عن السبب؛ جائز.
وهذا هو الجواب عن قوله- تعالى- وتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1».
قولهم: إن النظر قد يوصف بما لا توصف به الرؤية الحقيقية ليس كذلك. ولا مانع من [اتصافها «2»] بما ذكروه من الصفات.
قولهم: إن العرب لا تصف إلا ما تراه؛ ليس كذلك؛ فإنها «3» كما تصف المرئيات، فقد تصف «3» ما لا يرى في مجارى العادات: كالشجاعة، والجبن، والكرم، والبخل، والبر، والعقوق، والعشق، والشوق، ونحو ذلك وفيما نحن فيه خاصة؛ فإنهم يصفون النظر بمعنى الرؤية ومنه قول الشاعر:
نظرت إلى من حسّن اللّه وجهه ... فيا نظرة كادت على وامق تقضى
قولهم: إن النظر مأمور به، ومنهى عنه.
قلنا: الأمر، والنهى؛ وإن كان لا يتعلق بغير المقدور، فإذا أضيف الأمر إلى النظر الموصول بإلى؛ فهو حقيقة في الرؤية غير أنه لما تعذر حمل الأمر عليه، لكونه غير مقدور تجوز به عن سببه؛ وهو تقليب الحدقة كما سبق.
قولهم: إن النظر الموصول/ بإلى قد يرد بمعنى الانتظار لا نسلم ذلك، والناقل عن العرب أنها تقول: نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته، إن كان غير موثوق به؛ فلا التفات إليه.
وان كان موثوقا به؛ فنقله مرجوح بالنسبة إلى النقل المشهور المأثور عنهم، أنهم قالوا: النظر الموصول بإلى لا يكون إلا بمعنى الرؤية؛ فإنه لا يقال نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته؛ بل إذا أريد به الانتظار قيل نظرته، وانتظرته لا غير.
________________
(1) سورة الأعراف 7/ 198.
(2) فى أ (صفاتها).
(3) فى ب (فإنه كما يوصف المرئيات قد يصف).
(1/536)
________________________________________
وقولهم: نظرى إلى الله، وإلى فلان. معناه «1» أننى أرتقب الخير، والفرج «1» من الله. وفلان ينظر إلى جهة فلان، وإلى السماء؛ إذ هى في نظر أهل اللغة، والعرف جهة الله- تعالى-؛ ولهذا يرفع الناس أيديهم بالدعاء «2» إليها.
وعلى هذا يكون الجواب عن قول الشاعر:
وجوه ناظرات يوم بدر ... إلى الرحمن يأتى بالفلاح «3»
وقول الشاعر: إلى الموت من وقع السيوف نواظرا.
فمحمول على الرؤية الحقيقية أيضا، والمراد به رؤية الكرّ، والفرّ، والضّرب، والطّعن المفضى إلى الموت، تعبرة باسم المسبب عن السبب ويحتمل أن يكون المراد بالموت أهل الحرب الّذي يجرى الموت على أيديهم تجوزا، واستعارة.
ومنه قول جرير:
أنا الموت الّذي خبرت عنه ... فليس لهارب منه نجاء «4»
وقول الشاعر: إنّى إليك لما وعدت لناظر.
فمحمول أيضا على الرؤية. ومعناه ناظر إلى جهتك ارتقب إنجاز الوعد.
وقوله: كل الخلائق ينظرون سجاله: أى يرون. ولا يمتنع حمل النظر المطلق على الرؤية، وإنما الّذي يمتنع حمل النظر الموصول بإلى على غير الرؤية.
وكذلك أيضا قوله «5»: نظر الحجيج إلى طلوع هلال. بمعنى الرؤية: ويكون تقدير الكلام: كل الخلائق يرون سجاله كما يرى الحجيج طلوع الهلال.
وقول الشاعر: إلى ملك نحو المغارب ناظرة.
________________
(1) فى ب (معناه ارتقب الفرج والخير).
(2) فى ب (فى الدعاء).
(3) ذكر شارح المواقف 2/ 374 - أن أحد الرواة روى هذا البيت برواية أخرى
وجوه ناظرات يوم بكر* ... إلى الرحمن يأتى بالفلاح
وأن قائله من أتباع مسيلمة الكذاب. والمراد بيوم بكر يوم القتال مع بنى حنيفة؛ لأنهم بطن من بكر بن وائل، وأراد بالرحمن مسيلمة؛ وعلى هذا فالجواب ظاهر.
(4) انظر ديوان جرير ص 14. ط دار صادر ببيروت.
(5) ساقط من ب.
(1/537)
________________________________________
فقد قيل: إن هذا البيت من اخلاف «1» المتأخرين الذين لا احتجاج بأقوالهم.
وإن كان حجة، فالمراد به الرؤية أيضا. ومعناه «2»: أنهم ناظرون إلى جهة الملك في المغارب؛ لارتقاب الإحسان؛ والإنعام.
وقول الشاعر: وشعث ينظرون إلى بلال.
فالمراد أيضا به الرؤية.
وقوله كما نظر الظماء حيا الغمام فالمراد به الرؤية أيضا؛ إذ لا يمتنع حمل النظر المطلق على الرؤية كما سبق./ والمراد بحيا الغمام الماء النازل منه الّذي هو سبب الحياة.
ثم وإن سلمنا أن النظر الموصول بإلى قد يطلق بمعنى الانتظار غير أنه مجاز بعيد، والحقيقة ما ذكرناه؛ فلا يترك الا بدليل.
وإن سلمنا أنه ظاهر في الانتظار، غير أنه يمتنع حمل النظر في الآية عليه؛ لوجوه خمسة:
الأول: هو أن الآية إنما وردت لتبشير المؤمنين، وتخصيصهم بالإنعام عليهم، وذلك لا يكون إلا بما هو نعمة؛ والانتظار نقمة لا نعمة على ما سلف؛ فيكون بعيدا عن المقصود.
الثانى: أن الانتظار لا معنى له غير «3» التطلع، والتوقع لما عساه أن يكون وألا يكون، ومن يتيقن حصول ما يريده في وقته، ولا يتخلف عنه على الاستمرار، والدوام؛ فلا يسمى منتظرا.
ولهذا لما كان الرب- تعالى- عالما بما «4» يريده «4» فى وقته من غير تخلف لم يسم منتظرا، وأهل الجنان مستيقنون «5» بدوام «5» نعم الله- تعالى- عليهم؛ فلا يصح اتصافهم بالانتظار.
________________
(1) فى ب (اختلاق).
(2) فى ب (و المراد).
(3) فى ب (سوى).
(4) فى ب (بما يقع مما يريده).
(5) فى ب (مستفنون لدوام).
(1/538)
________________________________________
الثالث: هو أن النظر مضاف إلى الرب- تعالى- بقوله: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فلو حمل النظر على الانتظار. فإما أن يكون المنتظر هو الرب «1» - تعالى- أو غيره.
فإن كان الأول: فهو محال؛ إذ الرب- تعالى- لا ينتظر نفسه؛ إذ الانتظار توقع وقوع أمر ما، والرب- تعالى- لا يتوقع وقوعه.
وإن كان الثانى؛ فيلزم منه الإضمار؛ وهو خلاف الأصل.
الرابع: هو أن الموصوف بالنظر الوجوه؛ وهى بمعنى الجوارح؛ كما سبق؛ والوجوه بمعنى الجوارح لا توصف بالانتظار.
الخامس: أن الوجوه الموصوفة بكونها ناظرة، موصوفة بالنضارة بقوله: وجوه يومئذ ناضرة، والنضارة، والابتهاج إنما «2» تحصل بالنظر، لا بالانتظار «2».
وأما قوله- تعالى- فى حق الكفار: (وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) فمحمول أيضا على النظر الحقيقى؛ وهو الرؤية. غير أن النظر الحقيقى ينقسم إلى نظر سخط: وهو ما يتعقبه العقوبة. وإلى نظر رحمة: وهو ما يتعقبه الإحسان، والرأفة. وعند ذلك: فلا يلزم من كونه غير ناظر إليهم نظر رحمة ألا يكون ناظرا إليهم أصلا؛ فإنه لا معنى لنظر الرحمة، غير النظر الّذي يعقبه الصفح والعفو، فإذا لم يعقب نظره إليهم العفو، والصفح. قيل لم ينظر إليهم نظر رحمة؛ وإن كان ناظرا إليهم «3» حقيقة.
وأما قوله- تعالى- أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ «4». فالمراد به النظر الحقيقى. غير أن النظر الحقيقى في حقنا ينقسم:/ إلى ما يعقبه الاعتبار. وإلى ما لا يعقبه الاعتبار. والمراد من الآية إنما هو النظر الأول دون الثانى، وذلك لا ينافى النظر الحقيقى.
قولهم: إنه حقيقة في النظر، المشروط بالشروط المعتبرة من قبل.
قلنا: النظر حقيقة، لا يختلف بالشروط وعدمها؛ بل غايتها أن وجود النظر متوقف عليها، لا نفس الحقيقة؛ إذ شرط الوجود لا يكون داخلا في المفهوم من النظر.
________________
(1) فى ب (الله).
(2) فى ب (لا يحصل الا بالانتظار).
(3) فى ب (لهم).
(4) سورة الغاشية 88/ 17.
(1/539)
________________________________________
وعند ذلك فيجب حمله على مطلق النظر؛ إذ هو المفهوم منه.
وأما اعتبار الشروط، وعدم اعتبارها؛ فمأخوذ من الدليل العقلى؛ وقد أبطلنا كل ما قيل فيه.
قولهم: وإن كان النظر حقيقة في مطلق الرؤية، فيجب تأويله.
قلنا: الأصل إنما هو العمل باللفظ في حقيقته إلا أن يدل عليه دليل.
وقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «1». لا يدل على أن البارى- تعالى- غير مرئى إلا أن يكون الإدراك هو الرؤية.
ونحن إن سلكنا مذهب كثير من أئمتنا: كالقلانسى، وعبد الله بن سعيد، وغيره «2»:
وهو أن الله- تعالى- يرى، ولا يدرك؛ إذ الإدراك ينبئ عن اللحوق، والإحاطة بالمدرك، وتقديره، وتحديده؛ فقد اندفع الإشكال.
وإن سلكنا مسلك الشيخ أبى الحسن: من أن الإدراك بالرؤية، هو الرؤية فنقول: إن نفى الإدراك عن الأبصار: إما أن يكون محمولا على نفيه عن الكل جملة، أو عن البعض دون البعض، أو عن كل واحد، واحد. لا سبيل إلى نفيه عن كل واحد واحد؛ لعدم دلالة اللفظ عليه.
وإن كان الأول، والثانى؛ فهو «3» مسلم «3»؛ ولكن لا يلزم منه أن لا يكون مدركا في الجملة؛ فإن نفى الإدراك عن الأبصار جملة، لا يوجب النفى عن كل واحد، واحد، وكذلك النفى عن البعض؛ لا يوجب النفى عن الباقى. ثم وان سلمنا أنه أراد به كل واحد، واحد من الأبصار؛ فنحن نقول به أيضا: فإن المدرك عندنا «4» للبارى إنما هم المدركون دور الأبصار، لا نفس الأبصار «4».
فان قيل: فكما أن الأبصار لا تدركه؛ فكذلك لا تدرك غيره «5»؛ فلا فائدة في التخصيص «5».
________________
(1) سورة الأنعام 6/ 103.
(2) انظر ما سبق ل 125/ أ.
(3) فى ب (فمسلم).
(4) فى ب (للبارى تعالى عندنا إنما هو المدركون وهم نفس ذوات الأبصار لا الأبصار).
(5) فى ب (غيرها ولا فائدة للتخصيص).
(1/540)
________________________________________
قلنا: إنما يلزم انتفاء فائدة التخصيص؛ أن لو انحصرت فائدة التخصيص في نفى حكم المنطوق عن المسكوت؛ وهو غير مسلم.
ولعله كان لخصوص سؤال سائل عنه دون غيره، أو لمعنى آخر.
وإن سلمنا أنه أراد بالأبصار المبصرين؛ [و لكن لا نسلم] «1» أن الألف، واللام للعموم.
وإن سلمنا أنها للعموم في الأشخاص؛ فلا/ نسلم أنها للعموم بالنظر إلى الأزمان، ولا يلزم من العموم في الأشخاص؛ العموم في الأحوال.
ولهذا فإنه لو قال قائل: كل من دخل إلى دارى فأعطيه درهما. فإنه وإن عم كل داخل؛ فانه لا يعم كل زمان حتى إنه لو دخل مرة ثانية، من دخل أولا؛ فإنه لا يستحق شيئا.
قولهم: إنه لو جاز أن يرى في بعض الأزمان؛ لزال عنه التمدح والاستعلاء، عنه أجوبة ثلاثة:
الأول: أنا لا نسلم أنه أراد التمدح بكونه لا تدركه الأبصار؛ فإنه وإن تميز بذلك عن غيره من المدركات، فمشارك للمعدوم في ذلك بالإجماع منا، ومن الخصوم.
وللطعوم، والروائح، عندهم.
فإن قيل: ومشاركته لبعض الأشياء في نفى كونه مدركا، لا يزيل حكم التمدح.
ولهذا فإنه- تعالى- قد تمدح بقوله- تعالى-: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ «2» ولم يبطل حكم التمدح بكون بعض الأجسام، وجمع الأعراض كذلك.
قلنا: ليس التمدح بنفى السّنة، والنوم عنه؛ بل بما نبه عليه بذلك من نفى الغفلة، والذهول، واستحالة خروجه عن كونه عالما؛ وذلك موجود «3» فى الأعراض، وغيرها من الأجسام.
الثانى: وان سلمنا أنه أراد به التمدح؛ ولكن لا نسلم أن معنى التمدح يبطل بسبب عدم استمرار ذلك في كل زمان؛ فإنه- تعالى- كما يتمدح بالصفات النفسانية
________________
(1) فى أ [و لا نسلم].
(2) سورة البقرة 2/ 255.
(3) فى ب (غير موجود).
(1/541)
________________________________________
اللازمة؛ فقد يتمدح بالصفات الفعلية الغير لازمة «1»: ككونه «1» خالقا، ورازقا، وموجدا، إلى غير ذلك.
ثم ولو كان التمدح لا يتم دون أن لا يكون مدركا مطلقا؛ لما كان تخصيص الكفار بقوله- تعالى-: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «2». فائدة؛ لعموم ذلك بالنسبة إلى غيرهم.
الثالث: وإن سلمنا لزوم ما به التمدح في كل زمان؛ ولكنا نعلم أن ما أثبته لنفسه من الإدراك هو غير «3» ما نفاه عن الأبصار.
وعند ذلك: فإما أن يكون إدراك الرب- تعالى- بمعنى الرؤية، كما قاله البصريون من المعتزلة.
وإما بمعنى العلم لا بمعنى الرؤية؛ كما قاله البغداديون منهم «4».
فإن كان الأول: فهو محال على أصلهم حيث قالوا: إن الإدراكات لا تدرك «5» والأبصار من الإدراكات،
وإن كان الثانى: فمدلوله أن الأبصار لا تعلمه، ولا يلزم من ذلك نفى الإدراك.
كما لا يلزم من نفى الإدراك عن النفس «6» نفى العلم.
وإن سلمنا أن الآية عامة مطلقا غير أنها عامة في كل الأشخاص، والأزمان، وأثبتنا خاصة في بعض الأشخاص، وبعض الأزمان، وإذا تعارض الخاص والعام، كان الخاص مقدما، على العام؛ لقوة دلالته، ولما فيه من الجمع بينه، وبين العام؛ فإنه لا يلزم من العمل بالخاص؛ إبطال العام «7» بالكلية؛ لإمكان العمل «8» به في غير محل التخصيص «9»؛ بخلاف العكس.
________________
(1) فى ب (اللازمة لكونه).
(2) سورة المطففين 83/ 15
(3) فى ب (عين).
(4) انظر الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 168.
(5) فى ب (لا تبصر).
(6) فى ب (الشيء).
(7) فى ب (العمل).
(8) فى ب (العلم).
(9) فى ب (الخاص).
(1/542)
________________________________________
ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين أولى من تعطيل أحدهما، والعمل بالآخر.
سلمنا «1» ظهور ما ذكروه «1» / وترجحه؛ ولكن إن دل على نفى الرؤية فلا يلزم «2» منه «2» انتفاء الجواز.
وقوله- تعالى-: وما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «3» ليس فيه ما يدل على كونه محجوبا حالة الوحى؛ وإلا لما كان الترديد مفيدا.
وأما وصف من طلب الرؤية بالعتوّ؛ فلم يكن لكونه غير مرئى؛ بل لأنه طلب ذلك على طريقة «4» التعجيز، والتشكيك في نبوة المرسل إليه على ما سلف «5».
وقوله- تعالى- لَنْ تَرانِي فقد سبق جوابه أيضا «6».
وما ذكروه من الشبه العقلية، فقد أبطلناها أيضا؛ فيما تقدم «7».
فهذا ما عندنا في هذه [المسألة «8»] والله أعلم.
*****
تم تحقيق الجزء الأول والحمد لله رب العالمين ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثانى وأوله النوع الرابع في إبطال التشبيه وما لا يجوز على الله تعالى
________________
(1) فى ب (و إن سلمنا ظهور ما ذكرتموه).
(2) فى ب (فلا يدل على).
(3) سورى الشورى 43/ 51.
(4) فى ب (سبيل).
(5) انظر ل 138/ ب.
(6) انظر ل 135/ أ.
(7) انظر ل 129/ أ.
(8) ساقط من أ.
(1/543)
________________________________________
فهرس موضوعات الجزء الأول من كتاب أبكار الأفكار في أصول الدين للآمدى
مقدمة المحقق ... 9 - 56
حياة الآمدي ... 15
أولا: نشأته ... 15
ثانيا: دراساته وشيوخه ... 18
ثالثا: رحلاته العلمية ... 21
ثقافته وإنتاجه ... 29
أولا: ثقافته ... 29
ثانيا: مؤلفاته ... 29
ثالثا: تلاميذه ... 34
منهجه في كتابه أبكار الأفكار ... 35
مكانته العلمية، وآراء العلماء فيه ... 39
كتاب أبكار الأفكار ... 42
أولا: قيمته العلمية ... 42
ثانيا: نسخه ... 45
ثالثا: منهج التحقيق ... 53
صور لصفحتى العنوان، وبعض اللوحات ... 57
مقدمة المؤلف ... 67 - 69
القاعدة الأولى في حقيقة العلم، وأقسامه وتشتمل على أربعة أقسام 71 - 121
القسم الأول: فى حد العلم، وحقيقته ... 73
القسم الثانى: فى العلم الضرورى ... 80
القسم الثالث: فى العلم الكسبى ... 83
القسم الرابع: فى أحكام العلم ... 85 - 121
ويشتمل على تسعة فصول:
(1/545)
________________________________________
الفصل الأول: فى تجويز وقوع العلم الضرورى نظريا وبالعكس ... 87
الفصل الثانى: فى مراتب العلوم ... 91
الفصل الثالث: فى تعلق العلم الواحد الحادث بمعلومين ... 95
الفصل الرابع: فى جواز تعلق علم بمعلوم، أو معلومات على الجملة ... 101
الفصل الخامس: فى اختلاف العلوم وتماثلها ... 104
الفصل السادس: فى العلم بالشيء من وجه، والجهل به من وجه ... 106
الفصل السابع: فى امتناع وجود علم لا معلوم له ... 107
الفصل الثامن: فى محل العلم الحادث، وأنه لا بقاء له ... 108
الفصل التاسع: فى أضداد العلم الحادث وأحكامها ... 111
وأضداد العلم الحادث: الجهل، والشك، والظن، والغفلة، والذهول، والنوم، والنظر، والموت.
القاعدة الثانية في النظر، وما يتعلق به وتشتمل على ثمانية فصول: 123 - 172 الفصل الأول: فى حقيقة النظر ... 125
الفصل الثانى: فى شرائط النظر ... 128
الفصل الثالث: فى أن النظر الصحيح يفضى إلى العلم بالمنظور فيه، وإثباته على منكريه ... 136
شبه الخصوم: وعددها ست عشرة شبهة ... 137
الجواب عنها ... 144
رأى الآمدي ... 149
الفصل الرابع: فى كيفية لزوم العلم بالمنظور فيه عن النظر الصحيح ... 150
الفصل الخامس: فى أن النظر الفاسد لا يتضمن الجهل ... 152
الفصل السادس: فيما قيل من أن النظر ينقسم إلى خفى، وجلى ... 154
الفصل السابع: فى وجوب النظر ... 155
احتج الأصحاب على وجوب النظر بمسلكين ...
المسلك الأول ... 155
المسلك الثانى ... 156
إشكالات الخصوم. وعددها عشرة ... 156
الجواب عنها ... 161
الفصل الثامن: فى أول واجب على المكلف ... 170
(1/546)
________________________________________
القاعدة الثالثة في الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية وتشتمل على مقدمة، وبابين: 175 - 212 المقدمة ... 175
الباب الأول: فى الحد. 177
ويشتمل على أربعة فصول ...
الفصل الأول: فى أن الحد يرجع إلى قول الحاد، أو إلى صفة المحدود ... 179
الفصل الثانى: فى حد الحد المعرف للمحدود ... 180
1 - الحد الحقيقى ... 180
2 - الحد الرسمى ... 181
3 - الحد اللفظى ... 181
الفصل الثالث: فى شرط الحد، وما يجتمع جملة أقسام الحدود فيه، وما لا يجتمع ... 183
الفصل الرابع: فى التنبيه على ما يجب التحرز عنه في الحدود ... 184
الباب الثانى: فى الدليل.
ويشتمل على سبعة فصول: 187 - 214
الفصل الأول: فى حد الدليل، وانقسامه إلى: عقلى، وغير عقلى ... 189
الفصل الثانى: فى أن الدليل العقلى مركب من مقدمتين ولا يزيد عليهما ... 190
الفصل الثالث: فى أقسام مقدمات الدليل ... 192
القضية الحملية وأقسامها ... 192
القضية الشرطية وأقسامها ... 193
الفصل الرابع: فى انقسام مقدمات الدليل إلى قطعية، وغير قطعية ... 195
أما القطعية: فأنواع سبعة.
الفصل الخامس: فى أصناف صور الدليل، وتنوع تأليفه ... 198
القياس الاقتراني ... 198
الشكل الأول ... 198
الشكل الثانى ... 199
الشكل الثالث ... 201
الشكل الرابع ... 202
القياس الاستثنائي: وينقسم قسمين ... 204
القياس الاستثنائي الاتصالي ... 205
القياس الاستثنائي الانفصالي ... 205
(1/547)
________________________________________
الفصل السادس: فى شرط الدليل العقلى ... 207
الفصل السابع: فيما ظن أنه من الأدلة المفيدة لليقين وليس منها. وهى ستة ... 208
الدليل الأول: الاستقراء ... 208
الدليل الثانى: الحكم بانتفاء المدلول لانتفاء دليله ... 209
الدليل الثالث: قياس التمثيل ... 210
الدليل الرابع: قياس الفراسة ... 212
الدليل الخامس: إلحاق الغائب بالشاهد بجامع الحد، والعلة، والشرط والدلالة ... 212
الدليل السادس: الاستدلال بما يتوقف كونه دليلا على معرفة مدلوله ... 214
القاعدة الرابعة في انقسام المعلوم إلى الموجود، والمعدوم، وما ليس بموجود، ولا معدوم.
وتشتمل على ثلاثة أبواب: 215
الباب الأول: فى الموجود ...
ويشتمل على مقدمة، وقسمين ... 217
المقدمة ... 219
القسم الأول: فى واجب الوجود والنظر فيه في سبعة أنواع «النوع الأول» 225
«فى إثبات واجب الوجود بذاته، وبيان حقيقته، ووجوده» ويشتمل على أربع مسائل 225 - 262
المسألة الأولى: فى إثبات واجب الوجود لذاته ... 227
مذهب أهل الحق من المتشرعين، وطوائف الإلهيين ... 227
رأى الفلاسفة ... 229
الرد عليهم ... 230
رأى المتكلمين ... 231
دليل الآمدي ... 233
شبه الخصوم ... 235
الرد عليها ... 241
المسألة الثانية: فى حقيقة واجب الوجود، وأنها مشاركة لباقى الحقائق في مسمى الحقيقة، أو مخالفة لها ... 252
(1/548)
________________________________________
المسألة الثالثة: فى أن وجود واجب الوجود هل هو نفس ذاته أو هو زائد على ذاته ... 255
المسألة الرابعة: فى أن وجود واجب الوجود مشارك لوجود سائر الممكنات في المعنى، أم لا؟ ... 260
«النوع الثانى» «فى الصفات النفسانية لذات واجب الوجود» ويشتمل على إحدى عشرة مسألة: 263 - 478 المسألة الأولى: فى إثبات الصفات النفسانية على وجه عام ... 265 - 278
مذهب أهل الحق ... 265
مذهب الفلاسفة والشيعة ... 265
أدلة النفاة ... 266
الجواب عن شبه النفاة ... 267
أهل الإثبات ... 269
الرد على شبه المعتزلة ... 275
طريقة الآمدي الجامعة لإثبات الصفات ... 276
قد يرد على طريقة الآمدي إشكالات ... 277
الرد عليها ... 278
المسألة الثانية: فى إثبات صفة القدرة لله- تعالى ... 279 - 297
تعريفها- أقسامها- أدلة ثبوتها- الدليل النقلى ... 279
الدليل العقلى ... 280
شبه الخصوم ... 282
الرد عليها ... 288
المسألة الثالثة: فى إثبات صفة الإرادة ... 298 - 321
الآراء فيها ... 298
الأقرب منها ... 301
تشكيكات الخصوم ... 305
الجواب عنها ... 311
المسألة الرابعة: فى إثبات صفة العلم لله- تعالى- ... 322 - 352
مذهب أهل الحق ... 322
آراء الفلاسفة ... 322
آراء المتكلمين ... 323
رأى ابن سينا ... 324
(1/549)
________________________________________
الرد عليه ... 326
رأى بعض الأصحاب ... 328
شبه الخصوم ... 334
الجواب عنها ... 342
المسألة الخامسة: فى إثبات صفة الكلام لله- تعالى- ... 353 - 400
الآراء حولها ... 353
المسلك الأول للأصحاب، والاعتراضات الواردة عليه ... 356
الرد على الاعتراضات ... 360
المسلك الثانى ... 368
المسلك الثالث ... 369
المسلك الرابع ... 370
المسلك الخامس ... 370
قد يرد على هذا المسلك أسئلة ... 371
الجواب عنها ... 373
المسلك السادس ... 377
المسلك السابع ... 378
المسلك الثامن ... 381
رأى الآمدي فيه ... 383
المسلك المعتمد ... 383
قد يرد عليه أسئلة ... 385
الجواب عنها ... 389
المسألة السادسة: فى إثبات الادراك لله- تعالى- ... 401 - 435
الآراء فيه ... 401
اعتمد الأصحاب في المسألة على المسلك المشهور ... 402
رأى الآمدي في هذا المسلك ... 402
قد ترد عليه أسئلة أخرى ... 404
الجواب عنها ... 405
المسلك الثانى ... 407
المسلك السمعى ... 410
المسلك المعتمد ... 411
للخصوم شبه وتشكيكات على المسلك المعتمد ... 411
(1/550)
________________________________________
الجواب عنها ... 417
المسألة السابعة: فى أن الله- تعالى- حي بحياة 436 - 438
احتج الأصحاب بثلاثة مسالك ... 436
رأى الآمدي ... 438
المسألة الثامنة: فى أنه هل للبارى- تعالى- صفة زائدة
على ما أسلفناه من الصفات، أم لا؟ ... 439 - 472
الصفة الأولى: البقاء ... 440
الصفة الثانية: القدم ... 450
الصفة الثالثة: الوجه ... 451
الصفة الرابعة: اليدان ... 453
الصفة الخامسة: العينان ... 456
الصفة السادسة: الجنب ... 458
الصفة السابعة: صفة النور ... 459
الصفة الثامنة: الساق ... 460
الصفة التاسعة: الاستواء على العرش ... 461
الصفة العاشرة: النزول ... 464
الصفة الحادية عشرة: الصورة ... 466
الصفة الثانية عشر: الكف ... 468
الصفة الثالثة عشرة: الاصبعان ... 469
الصفة الرابعة عشرة: القدم ... 470
الصفة الخامسة عشرة: الضحك ... 471
الصفة السادسة عشرة: الكرم ... 472
المسألة التاسعة: فى أن الصفة هل هى نفس الوصف، أو غيره؟ ... 473
المسألة العاشرة: فى أن الصفة هل هى نفس الموصوف، أو غيره؟ وأن الصفة هل توصف أم لا؟ ... 475
المسألة الحادية عشرة: فى تعلق الصفات بمتعلقاتها، وأنه ثبوتى أو عدمى ... 477
«النوع الثالث» «فيما يجوز على الله- تعالى-» وفيه مسألتان: 479 - 543 المسألة الأولى: فى أن حقيقة واجب الوجود هل هى الآن معلومة أم لا؟ ... 481
احتج القائلون بالمنع بحجج أربع ... 481
(1/551)
________________________________________
حجج القائلين بكونها معلومة ... 482
رأى الآمدي ... 483
المسألة الثانية: فى رؤية الله- تعالى
ويشتمل على مقدمة وفصلين ... 484 - 543
المقدمة ... 484
الفصل الأول: فى جواز رؤية الله- تعالى- عقلا ... 491
احتج المثبتون لجواز الرؤية بحجج عقلية ونقلية أما الحجج العقلية فأربع 492
الحجة الأولى: وهى معتمد القاضى، وأكثر الأئمة ... 492
شبه الخصوم ... 494
الجواب عنها ... 503
الحجة الثانية: وهى قريبة من الأولى ... 511
الحجة الثالثة: ولعبارات الأصحاب فيها متسع ... 512
الحجة الرابعة: وهى أشبه الحجج ... 514
ويرد عليها اشكالات ... 514
الجواب عنها ... 515
وأما الحجج السمعية ... 517
شبه الخصوم على الوجه الأول ... 518
شبه الخصوم على الوجه الثانى ... 519
الجواب عن الشبه الواردة على الوجه الأول ... 520
الجواب عن الشبه الواردة على الوجه الثانى ... 523
الفصل الثانى: فى بيان وقوع الرؤية في الآخرة للمؤمنين ... 526 - 543
المسلك النقلى ... 526
اعتراضات الخصوم ... 527
الجواب عن الشبه الواردة على الوجه الثانى ... 533
الفهرس ... 545 - 552
(1/552)
________________________________________
[الجزء الثاني]
[تتمة القاعدة الرابعة]
[تتمة الباب الأول]
[تتمة القسم الأول]
«النوع الرابع» فى إبطال التشبيه، وما لا يجوز على الله تعالى ويشتمل على إحدى عشرة مسألة:
الأولى: فى أنه- تعالى- ليس بجوهر.
الثانية: فى أنه- تعالى- ليس بجسم.
الثالثة: فى أنه- تعالى- ليس بعرض.
الرابعة: فى امتناع حلول الحوادث بذاته.
الخامسة: فى أنه ليس فى جهة، ولا مكان.
السادسة: فى أنه ليس فى زمان.
السابعة: فى أنه لا يحل فى محل.
الثامنة: فى الرد على النصارى.
التاسعة: فى أنه لا يوصف بالألم، واللذة، ولا بشيء من أجناس الأعراض.
العاشرة: فى أنه ليس بعاجز.
الحادية عشرة: فى استحالة الكذب فى كلامه.
(2/5)
________________________________________
«المسألة الأولى» «فى أنه ليس بجوهر»
مذهب أهل الحق «1»: أن الله- تعالى- ليس بجوهر.
وذهبت الفلاسفة، والنصارى إلى أنه- تعالى- جوهر بسيط لا تركيب فيه. وربما تحاشى بعض الحذاق من الفلاسفة: كابن سينا «2»، وغيره، من إطلاق اسم الجوهر على الله- تعالى- مصيرا منه إلى أن الجوهر: هو الّذي له ماهية إذا وجدت فى الأعيان كان وجودها لا فى موضوع؛ وذلك لا يكون إلا فيما وجوده يزيد على ماهيته. والبارى- تعالى لا يزيد وجوده على ماهيته؛ بل ذاته وجوده، ووجوده ذاته؛ فلا يكون جوهرا.
والمعتمد «3» هو أنا نقول:
لو كان البارى- تعالى- جوهرا؛ لم يخل؛ إما أن يكون جوهرا كالجواهر، أو لا كالجواهر.
فإن كان الأول: فهو محال لوجوه خمسة:
الأول «4»: أنه لا يخلو: إما أن يكون وجوده واجبا لذاته، أو ممكنا لذاته.
فإن كان واجبا لذاته: لزم اشتراك جميع الجواهر فى وجوب الوجود لذاتها؛ ضرورة اشتراكها فى معنى الجوهرية؛ وهو محال.
________________
(1) من كتب أهل الحق المتقدمين على الآمدي:
انظر التمهيد للباقلانى ص 78
والإرشاد لإمام الحرمين ص 46 وما بعدها والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص 20 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 103 وما بعدها وأساس التقديس للرازى ص 16 وما بعدها والمحصل له أيضا ص 113.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 182
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
انظر شرح المواقف 2/ 340 المقصد الثالث. وشرح المقاصد 2/ 48.
(2) انظر رسالة الحدود لابن سينا ص 88 ضمن تسع رسائل فى الحكمة والطبيعيات طبع بمصر سنة 1908 م.
(3) نقل ابن تيمية كلام الآمدي فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 138، 139) من أول قول الآمدي «و المعتمد هو أنا نقول ... إلى قوله: إذن من الشرع»
نقله بنصه مختصرا، ثم علق عليه وناقشه فى ص 139 وما بعدها.
ثم عاد ونقل الوجوه الخمسة بالتفصيل وناقشها من أول ص 149 إلى ص 175 وسأشير إلى هذه النقول بالتفصيل.
(4) نقل ابن تيمية هذا الوجه بالمعنى وعلق عليه (درء التعارض 4/ 149 - 151)،
(2/7)
________________________________________
وإن كان ممكنا: لزم أن يكون قابلا للحدوث، والعدم؛ وهو خلاف الفرض؛ إذ الكلام إنما هو مفروض فى واجب الوجود لذاته.
الثانى «1»: أنه إما أن يكون قابلا للتجزئة، أو لا يكون قابلا للتجزئة.
فإن/ كان الأول: لزم أن يكون جسما مركبا؛ وهو محال كما يأتى «2».
وإن كان الثانى: فيلزم أن يكون فى الحقارة والصغر، بمنزلة الجوهر الفرد، والله- تعالى- يتقدس عن ذلك.
الثالث «3»: أنه لا يخلو: إما أن يكون بذاته قابلا لحلول الأعراض المتعاقبة عليه، أو لا يكون قابلا لها.
فإن كان الأول: فيلزم أن يكون محلا للحوادث؛ وهو محال كما يأتى «4».
وإن كان الثانى: فيلزم امتناع ذلك على كل الجواهر ضرورة الاشتراك بينها فى المعنى؛ وهو محال خلاف المحسوس.
الرابع «5»: أنه لا يخلو: إما أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها هاهنا، أو هاهنا، أو لا تكون قابلة لذلك.
فإن كان الأول: فيكون متحيزا؛ إذ لا معنى للتحيز إلا هذا، والتحيز على الله- تعالى- محال لوجهين:
الأول: أنه إما أن يكون منتقلا عن حيزه، أو لا يكون منتقلا عن حيزه.
فإن كان منتقلا عنه؛ فيكون متحركا. وإن لم يكن منتقلا عنه؛ فيكون ساكنا.
والحركة والسكون حادثان على ما يأتى. وما لا يخلو عن الحوادث؛ فهو حادث، والحادث لا يكون واجبا لذاته.
________________
(1) نقل ابن تيمية هذا الوجه، وعلق عليه وناقشه (درء التعارض 4/ 151، 152).
(2) انظر ل 143/ ب وما بعدها.
(3) نقل ابن تيمية الوجه الثالث وعلق عليه وناقشه مناقشة تفصيلية (درء التعارض 4/ 152، 153).
(4) انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(5) نقل ابن تيمية الوجه الرابع فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 154، 155) ثم علق عليه وناقشه فى ص 155 - 164،
(2/8)
________________________________________
الوجه الثانى: هو أن اختصاصه بحيزه: إما أن يكون لذاته، أو لمخصص من خارج.
فإن كان لذاته: فليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة فى المعنى.
وإن كان بغيره: فيكون الرب- تعالى- مفتقرا إلى غيره فى وجوده؛ فلا يكون واجب الوجود لذاته.
وإن كان غير متحيز: لزم فى كل جوهر أن يكون غير متحيز؛ ضرورة المساواة فى المعنى؛ وهو محال.
كيف: وأنه لا معنى للجوهر غير المتحيز بذاته، فما لا يكون كذلك؛ لا يكون جوهرا.
الخامس «1»: أنه لو كان جوهرا كالجواهر؛ لما كان مفيدا لوجود غيره من الجواهر؛ فإنه لا أولوية لبعض الجواهر بالعلية دون البعض؛ ويلزم من ذلك أن لا يكون شيء من الجواهر معلولا، أو أن يكون كل جوهر معلولا للآخر؛ والكل محال.
فإن قيل: الجواهر وإن تماثلت فى الجوهرية إلا أنها متمايزة، ومتغايرة بأمور موجبة لتعيين كل واحد منها عن الآخر.
وعند ذلك: فلا مانع من اختصاص بعضها بأمور وأحكام، لا وجود لها فى البعض الآخر، ويكون ذلك باعتبار ما به التعين، لا باعتبار ما به الاشتراك؛ فنقول: والكلام «2» فى اختصاص كل واحد بما به التعين كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع؛ فلم يبق إلا أن يكون اختصاص كل واحد من المتماثلات بما اختص به لمخصص من خارج؛ وذلك على الله- تعالى- محال.
هذا/ إن قيل إنه جوهر كالجواهر.
وإن قيل إنه جوهر لا كالجواهر: فهو تسليم للمطلوب؛ فإنا إنما ننكر كونه جوهرا كالجواهر. وإذا عاد «3» الأمر إلى الإطلاق اللفظى؛ فالنزاع لفظى ولا مشاحة فيه. إلا من جهة ورود التعبد من الشارع به؛ ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته.
________________
(1) نقل ابن تيمية الوجه الخامس فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 165) ثم علق وناقشه فى ص 166.
(2) فى ب (فالكلام).
(3) فى ب (آل).
(2/9)
________________________________________
وعلى هذا فمن قال: إنه جوهر بمعنى أنه موجود لا فى موضوع، والموضع «1» هو المحل المتقوم بذاته المقوم «2» لما يحل «2» فيه كما قاله الفلاسفة، أو «3» أنه «3» جوهر بمعنى أنه قائم بنفسه غير مفتقر فى وجوده إلى غيره كما قاله [أبو الحسين البصرى «4»] مع اعترافه أنه لا يثبت له أحكام الجواهر؛ فقد وافق فى المعنى، وأخطأ فى الإطلاق من حيث أنه لم ينقل عن العرب إطلاق الجوهر بإزاء «5» القائم بنفسه، ولا ورد فيه إذن من الشارع.
فإن قيل: لا خفاء فى إطلاق اسم الجوهر على الجواهر الحادثة، وانها مختصة بهذا الاسم عن جميع أجناس الأعراض، ولا شك أن بين الجواهر والأعراض اتفاقا وافتراقا، وليس مدلول اسم الجوهر ما به الاتفاق، وإلا لسميت الأعراض جواهر.
فلم يبق إلا أن يكون المدلول ما به الافتراق، وما به مفارقة الجواهر للأعراض، إنما هو قيامها بنفسها، أو أنها موجودة لا فى موضوع. وهذا المعنى متحقق فى حق الله- تعالى- فصح تسميته جوهرا، بالنظر إلى تحقيق موضوع الاسم لغة.
فنقول: من أصحابنا من منع كون الجواهر الحادثة قائمة بأنفسها. وهو اختيار أبى إسحاق الأسفرايينى مصيرا منهم. إلى أن القائم بنفسه هو الغنى المطلق عن الافتقار إلى الغير مطلقا، وهو على وفق إشعار اللغة؛ فإنهم يعبرون بالقائم بنفسه عمن يقدّرونه مستبدا بنفسه غير محتاج إلى الأعوان، والأنصار؛ والجواهر ليست كذلك؛ فإنها مفتقرة فى حدوثها إلى المحدث، وفى استمرارها إلى استمرار البقاء وبعض الأعراض.
وعلى هذا فقد امتنع أن يكون مناط اسم الجوهر هو القيام «6» بالنفس.
ثم وإن سلمنا أن الجوهر الحادث قائم بنفسه؛ فلا نسلم أنه لا امتياز للجواهر عن الأعراض إلا به؛ فإنها متميزة بكونها متحيزة بذاتها، وأنها محل الأعراض. فلعل مناط اسم الجوهر هذا؛ وهو غير متحقق فى الإله- تعالى-
________________
(1) فى ب (و الموضوع).
(2) فى ب (لما لا يحل).
(3) فى ب (و أنه).
(4) فى أ (النصارى).
(5) فى ب (بمعنى).
(6) فى ب (القائم).
(2/10)
________________________________________
سلمنا أن مناط الاسم كونه قائما بنفسه. غير أن ذلك غير كاف فى جواز الإطلاق دون إذن الشارع وإلا لصح تسميته سخيا؛ لكونه جوادا؛ إذ هو مدلول اسم السخى فى وضع/ اللغة. وأن يسمى فقيها؛ لكونه عالما؛ إذ هو مدلول اسم الفقيه لغة؛ وليس كذلك.
فإن قيل: قد يسمى أصل الشيء جوهرا. ومنه يقال لذات الشيء جوهره. ولنسب الرجل جوهره. وقد يطلق أيضا على كل شيء نفيس خطير أنه جوهر. ومنه يقال لبعض [اللآلى «1»] النفيسة جوهر، والبارى- تعالى- أصل كل شيء، وأنفس من كل نفيس؛ فكان جوهرا.
قلنا: إن لم يكن المصحح لإطلاق اسم الجوهر فى الشاهد موجودا فى الغائب؛ فقد امتنع الإلحاق، وإن كان موجودا، فإنما يصح الإلحاق أن لو صح القياس فى اللغة؛ وهو غير مسلم، وإن صح؛ ولكن لا بد من الإطلاق الشرعى، والإذن فيه على ما تقدم.
*********
________________
(1) فى أ (الجواهر).
(2/11)
________________________________________
«المسألة الثانية» فى أن البارى «1» - تعالى- ليس بجسم
مذهب أهل الحق «2»: أن البارى- تعالى- ليس بجسم.
وذهب بعض الجهال: إلى أنه جسم. ثم اختلفوا.
فذهب بعض الكرامية «3»: إلى أنه جسم، بمعنى أنه موجود.
وذهب بعضهم: إلى أنه جسم، بمعنى أنه قائم بنفسه.
وذهب بعض المجسمة: إلى أنه جسم حقيقة، وأنه متصف بأحكام الأجسام («4» وأنه متصف بصفات الجسمية «4»).
ثم إن منهم من قال: إنه مركب من لحم ودم، كمقاتل بن سليمان «5»، وغيره.
ومنهم من قال: أنه نور يتلألأ: كالسبيكة البيضاء، وطوله سبعة أشبار بشبر نفسه.
ومن المجسمة من غالا وقال: إنه على صورة الإنسان.
لكن منهم من قال: على صورة شاب أمرد جعد قطط.
________________
(1) فى ب (الله).
(2) من كتب أهل الحق المتقدمين على الآمدي:
انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى 1/ 281 وما بعدها
والإرشاد لإمام الحرمين ص 42 - 44 والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص 21.
والمحصل للرازى ص 114 وأساس التقديس له أيضا ص 15 - 32.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 185.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي انظر شرح الطوالع ص 157 والمواقف للإيجي ص 273 وشرح المقاصد 2/ 48.
(3) لتوضيح مذاهب الكرامية بالإضافة الى ما تقدم.
انظر الفرق بين الفرق للبغدادى ص 215 وما بعدها والملل والنحل للشهرستانى 1/ 108 - 113.
ومن الدراسات الحديثة: نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام للنشار ص 401 وما بعدها
ومذهب الكرامية رسالة ماجستير بكلية آداب عين شمس. أعدتها سهير مختار.
ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما سيأتى فى الجزء الثانى- القاعدة السابعة ل 256/ ب ففيه تفصيل لمذهب الكرامية والمشبهة على وجه العموم.
(4) من أول (و أنه متصف ... ) ساقط من أ.
(5) مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدى بالولاء، البلخى: أبو الحسن، مفسر، متكلم.
أصله من بلخ وانتقل إلى البصرة ثم بغداد، وحدث بها، وهو من المشبهة المجسمة، وقد اعتبره الشافعى أكبر مفسر وأن الناس عيال فى التفسير عليه. توفى بالبصرة سنة 150 ه. (الوفيات: الترجمة رقم 704 ج 4 ص 341 وميزان الاعتدال 3: 196 والأعلام 8: 206 ومعجم المؤلفين 12: 317). أما عن رأيه فانظر نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام للنشار ص 394.
(2/12)
________________________________________
ومنهم من قال: إنه على صورة شيخ أشمط الرأس واللحية، تعالى الله عن قول المبطلين.
والمعتمد «1» فى نفى التجسيم أن يقال:
لو كان البارى- تعالى- جسما: فإما أن يكون كالأجسام، أو لا كالأجسام.
فإن كان كالأجسام، فهو محال لثمانية أوجه.
منها أربعة: وهى ما ذكرناها فى استحالة كونه جوهرا: وهى الأول، والثالث، والرابع، والخامس. «2» ويختص الجسم بأربعة أوجه:
الأول: أنه إذا ثبت أن الرب- تعالى- غير متصف بكونه جوهرا؛ امتنع أن يكون متصفا بكونه جسما، لأن الجسم مركب من الجواهر، ومفتقر إليها. ويلزم من انتفاء ما لا بد منه فى كونه جسما، أن لا يكون جسما «3».
الثانى «4»: أنه قد ثبت أن الرب- تعالى- متصف بالعلم، والقدرة، والإرادة، وغير ذلك من الصفات المثبتة من قبل. فلو كان البارى- تعالى- جسما كالأجسام، للزم من اتصافه بهذه الصفات المحال، وما لزم منه المحال؛ فهو محال.
وبيان ذلك من وجهين:
الأول: أنه لو اتصف بكل واحدة/ من هذه الصفات: فإما أن يكون كل جزء من أجزائه متصفا بجميع هذه الصفات، وإما أن يكون المتصف بجملتها بعض الأجزاء دون البعض، وإما أن يكون كل جزء مختصا بصفة. وإما أن تقوم كل صفة من هذه الصفات مع اتحادها بجملة الأجزاء.
فإن كان الأول: فيلزم منه تعدد الآلهة، وهو محال كما يأتى.
________________
(1) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 137، 138)
قول الآمدي فى نفى التجسيم من أول قوله: «و المعتمد فى نفى التجسيم .. إلى قوله: ويختص الجسم بأربعة أخرى». ثم علق عليه وناقشه فى ص 138 وما بعدها.
(2) نقل ابن تيمية كلام الآمدي فى الجسم فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 182 وما بعدها) من أول قوله: «و يختص الجسم بأربعة أوجه» ثم ناقشها وعلق على كل وجه منها وناقشه فى الصفحات التالية من ص 182 إلى ص 236.
(3) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى الوجه الأول ص 182، 183 ثم علق عليه وناقشه من ص 183 - 186.
(4) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 186، 187)
من أول قول الآمدي: «أنه قد ثبت أن الرب- تعالى- متصف بالعلم ... إلى قوله: فهو محال لما فيه من قيام المتحد بالمتعدد» ملخصا ثم علق عليه وناقشه فى ص 187 إلى ص 194.
(2/13)
________________________________________
وإن كان الثانى: فهو ممتنع لوجهين:
الأول: أنه لا أولوية بأن «1» يكون «1» بعض الأجزاء متصفا بها، دون الباقى، مع التساوى فى المعنى.
فإن قيل: هذا إنما يلزم أن لو تساوت الأجزاء. ولعله مركب من أجزاء مختلفة بالنوعية. وعلى هذا فلا يقال لا أولوية.
فنقول: تلك الأجزاء إما أن تكون أيضا أجساما، أو جواهر بسيطة لا تركيب فيها.
فإن كان الأول: فالكلام فى اتصاف ذلك الجسم الّذي هو الجزء كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان الثانى: فذلك الجزء هو الإله، وهو عود إلى أن الرب- تعالى- جوهر، وقد أبطلناه.
الوجه الثانى: أنه «2» يلزم أن يكون الإله- تعالى- هو ذلك الجزء دون غيره، ولا يمكن أن يقال بأنه وإن قامت هذه الصفات بجزء واحد إلا أن الحكم بالعالمية، والقادرية، وغير ذلك يعم الجملة. فإنا سنبين أن حكم العلة لا يتعدى محلها.
وإن كان الثالث: وهو أن يكون كل جزء مختصا بصفة من جملة الصفات، ولا وجود لغيرها فيه؛ فلا أولوية أيضا.
وإن كان الرابع: فهو محال: لما فيه من قيام المتحد بالمتعدد.
الوجه الثانى «3»: فى بيان لزوم المحال من اتصافه بهذه الصفات. وهو أنه لا يخلو:
إما أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته، أو لغيره.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا لزم اتصاف كل جسم بها وجوبا لذاته للتساوى فى الحقيقة على ما وقع به الفرض.
وإن كان الثانى: فيلزم أن يكون الرب- تعالى- مفتقرا إلى ما يخصصه بصفاته، والمحتاج الى غيره فى إفادة صفاته له لا يكون إلها «4».
________________
(1) فى ب (لأن يكون).
(2) فى ب (فى أنه).
(3) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 194، 195) الوجه الثانى ثم علق عليه وناقشه فى ص 195 وما بعدها.
(4) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه 4/ 194، 195.
(2/14)
________________________________________
الثالث «1»: هو أنه لو كان جسما؛ لكان له بعد، وامتداد، وذلك [البعد «2»] إما أن يكون غير متناه، أو متناهيا.
فإن كان غير متناه: فإما أن يكون غير متناه من جميع الجهات، أو من بعض الجهات دون البعض.
فإن كان الأول: فهو محال لوجهين:
الأول: ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى.
والثانى: أنه يلزم منه أن لا يوجد جسم غيره، أو أن يداخل الأجسام، ويخالط القاذورات؛ وهو محال.
/ وإن كان الثانى: فهو ممتنع أيضا لوجهين:
الأول: ما سنبينه أيضا من إحالة بعد لا يتناهى.
والثانى: أنه إما أن يكون اختصاص أحد الطرفين بالنهاية، دون الآخر لذاته، أو لمخصص من خارج.
فإن كان الأول: فهو محال؛ لعدم الأولوية.
وإن كان الثانى: فيلزم أن يكون الرب- تعالى- مفتقرا فى إفادة مقداره إلى موجب ومخصص، ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء على ما تقدم؛ فيكون الرب- تعالى- معلول الوجود؛ وهو محال.
وإن كان متناهيا من جميع الجهات: فله شكل ومقدار. وهو إما أن يكون مختصا بذاك المقدار، والشكل: إما لذاته، أو لأمر خارج.
فإن كان الأول: لزم اشتراك جميع الأجسام فيه، ضرورة الاتحاد فى الطبيعة.
وإن كان الثانى: فالرب تعالى محتاج فى وجوده إلى غيره؛ وهو محال «3».
الرابع «4». أنه لو كان جسما؛ لكان مركبا من الأجزاء؛ وهو محال لوجهين:
________________
(1) نقل ابن تيمية الوجه الثالث فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 199 - 200) ثم علق عليه وناقشه فى ص 200 - 219.
(2) ساقط من «أ».
(3) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه 4/ 199، 200.
(4) نقل ابن تيمية الوجه الرابع فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 219 - 220) من أول قول الآمدي: «الرابع:
أنه لو كان جسما ... إلى قوله: إنه واجب لذاته» وقد علق عليه وناقشه فى ص 220 وما بعدها.
(2/15)
________________________________________
الأول: أنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه، وكل واحد منها غير مفتقر إليه. وما افتقر إلى غيره كان ممكنا، لا واجبا لذاته. وقد قيل: إنه واجب لذاته.
الثانى «1»: أن تلك الأجزاء: إما أن تكون واجبة الوجود لذاتها، أو ممكنة، أو البعض واجبا، والبعض ممكنا. لا جائز أن يقال بالأول: على ما سيأتى «2» تحقيقه فى إثبات الوحدانية.
وإن كان الثانى، أو الثالث: فلا يخفى أن المفتقر إلى الممكن المحتاج إلى الغير أولى بالإمكان والاحتياج. والممكن المحتاج لا يكون واجبا لذاته، وما لا يكون واجبا لذاته؛ لا يكون إلها «3». هذا كله إن قيل إنه جسم كالأجسام.
وإن قيل: إنه جسم لا كالأجسام. كان النزاع فى اللفظ، دون المعنى. والطريق فى الرد، ما أسلفناه فى كونه جوهرا «4».
فإن [قيل] «5»: ما نشاهده من الموجودات، ليس الا أجساما وأعراضا. وإثبات قسم ثالث مما لا نعقله.
وإذا كانت الموجودات منحصرة فى الأجسام، والأعراض؛ فالبارى- تعالى- ليس بعرض؛ لأن العرض مفتقر إلى الجسم، والبارى- تعالى- لا يفتقر إلى شيء، وإلا كان ما يفتقر إليه أشرف منه؛ وهو محال. وإذا لم يكن عرضا: تعين أن يكون جسما.
وأيضا: فإنه قد ثبت أن الرب- تعالى- فاعل على الحقيقة، ولم نشاهد فاعلا على الحقيقة إلا جسما. حتى أنه لو أخبر مخبر أنه رأى فاعلا على الحقيقة ليس بجسم؛ لكان ذلك منه مستنكرا: كاستنكاره أنه شاهد اجتماع السواد، والبياض.
________________
(1) نقل ابن تيمية كلام الآمدي عن إبطال التركيب من أول قوله: «الثانى: أن تلك الأجزاء إلى قوله: لا يكون إلها» فى كتابه (درء التعارض 4/ 245) ثم علق عليه وناقشه فى 246 وما بعدها.
(2) انظر ل 166/ ب وما بعدها.
(3) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية عن الآمدي.
(4) انظر ل 143/ أ وما بعدها.
(5) ساقط من أ.
(2/16)
________________________________________
وإذا ثبت استحالة كون الفاعل/ فاعلا «1» فى الشاهد «1». وليس بجسم؛ فكذلك فى الغائب، وهذا كما أنه لما استحال كون العالم عالما فى الشاهد بدون العلم، وبدون الحياة؛ وجب طرد ذلك فى الغائب.
وأيضا: فإنه قد ثبت «2» أن الله- تعالى- عالم بالأجسام. ولا معنى لكونه عالما بها، غير انطباع صورها فى نفسه. وانطباع المتجزئ فى غير المتجزئ محال.
وأيضا «2»: قد ثبت اتصاف الرب- تعالى- بالعلم، والقدرة، وغير ذلك من الصفات، ولا معنى لقيام الصفة بالموصوف إلا أنها موجودة فى الحيز تبعا لمحلها. وإلا فلا يكون قيام أحدهما بالآخر، بأولى من العكس. وإذا كان البارى- تعالى- فى الجهة كان جسما.
وأيضا: فيدل على كونه جسما: ما ورد من الظواهر الدالة على كونه بوجه، ويدين، وعينين، إلى غير ذلك من الصفات الخبرية؛ وذلك دليل على كونه جسما.
ثم وإن سلمنا أنه ليس جسما على الحقيقة؛ ولكن ما المانع من إطلاق اسم الجسم عليه؟ وإن لم يكن جسما فى الحقيقة. كما أطلق عليه أنه نفس، وورد به القرآن بقوله- تعالى- تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ولا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ «3». وليس بنفس حقيقة؛ إذ النفس لا تخرج عن كونها جسما لطيفا، أو جوهرا، أو عرضا، على اختلاف المذاهب.
والجواب:
أما الشبهة الأولى: فمندفعة، فإن حاصلها يرجع إلى الوهم بإعطاء الغائب، حكم الشاهد، من غير جمع بجامع، والحكم على غير المحسوس، بمثل ما حكم به على المحسوس؛ وهو كذب غير صادق كما سلف «4». وذلك: كحكم الوهم «5» على أن أبعاد العالم لا نهاية لها، وأنه ما من نهاية، إلا وبعدها نهاية أخرى، إلى ما لا يتناهى.
وإن كان العقل قد دل على النهاية.
________________
(1) فى ب (فى الشاهد فاعلا).
(2) من أول (أن الله تعالى عالم بالأجسام ... إلى قوله: قد ثبت اتصاف الرب تعالى). الموجود بدله فى (ب):
(اتصافه)
(3) سورة المائدة 4/ 116.
(4) انظر ل 40/ أ.
(5) فى ب (الواحد).
(2/17)
________________________________________
ثم ولو لزم أن يكون جسما كما فى الشاهد؛ للزم أن يكون حادثا كما فى الشاهد.
وإن كان لا يخلو عن الأعراض التى لا تخلو عنها الأجسام فى الشاهد: كالحركة، والسكون، وغير ذلك؛ وبه اندفاع الشبهة الثانية أيضا.
وما استشهدوا به من فصل العلم، والعالم عنه جوابان:
الأول: لا نسلم أن كون العالم عالما، يزيد على قيام العلم به حتى يكون العلم علة له «1»، على ما سيأتى «1» فى إبطال الأحوال.
الثانى: وإن سلمنا ذلك؛ ولكن لا نسلم أن مستند كونه علة فى الغائب؛ لكونه عالما؛ القياس على الشاهد؛ بل مستند ذلك إنما هو الدليل القاطع العقلى. العام للشاهد، والغائب. أما أن يكون أحدهما مقاسا على الآخر؛ فلا.
وأما شبهة الانطباع/ فقد سبق جوابها «2».
والقول بأنه لا معنى لقيام الصفة بالموصوف غير وجودها فى الجهة تبعا لمحلها؛ غير مسلم.
وأما الظواهر الدالة على التجسيم؛ فقد سبق جوابها «3».
قولهم: ما المانع من مجرد التسمية؟
قلنا: لعدم مساعدة اللغة، وورود الإذن من الشارع بذلك ولا يلزم من تسميته نفسا؛ تسميته جسما؛ فإن مدلول النفس فى كل شيء ذاته وحقيقته، ولهذا يقال:
نفس الجوهر، ونفس العرض إشارة إلى ذاته. والرب- تعالى- له ذات وحقيقة؛ فكان «4» مسمى باسم النفس.
وإن سلمنا «5» إطلاق الاسم مجردا عن مسماه؛ فلا يلزم مثله فى الجسم من غير جامع، وإن وجد الجامع، فإنما يصح القياس، والإلحاق أن لو كان القياس فى اللغة صحيحا؛ وهو ممنوع. وإلا لصح أن يسمى سخيا وفقيها؛ وهو باطل كما سبق.
*********
________________
(1) فى ب (كما سيأتى). انظر الجزء الثانى- القاعدة الرابعة- الباب الثالث. الأصل الأول ل 114/ أ وما بعدها.
(2) انظر ل 108/ ب وما بعدها.
(3) انظر ل 115/ ب وما بعدها.
(4) فى ب (و كل).
(5) فى ب (سلم).
(2/18)
________________________________________
«المسألة الثالثة» فى أنه- تعالى- ليس بعرض «1»
وقد اتفق العقلاء على أن الرب- تعالى- ليس بعرض؛ لأنه لو كان عرضا: فإما أن يكون من جنس الأعراض، أو لا يكون من جنس «2» الأعراض «2».
فإن كان من جنس الأعراض: فهو ممتنع لأربعة أوجه:
الأول: أنه لو كان من جنسها؛ لكان ممكنا، أو كانت باقى الأعراض واجبة؛ ضرورة التساوى فى معنى العرضية؛ وهو محال.
الثانى: أنه لو كان من جنسها: فإما أن يفتقر إلى محل يقوم به، أو لا يفتقر.
فإن كان الأول: خرج عن كونه واجب الوجود لذاته؛ لافتقاره إلى ما يقوّمه فى وجوده.
وإن كان الثانى: لزم منه استغناء باقى الأعراض عن المحل، ضرورة الاتحاد فى معنى العرضية.
الثالث: أنه لو كان عرضا لاستحال بقاؤه على ما يأتى. وخرج عن كونه واجب الوجود لذاته.
الرابع: أنه قد ثبت كون الرب- تعالى- متصفا بالصفات النفسانية من العلم، والقدرة، وغير ذلك. وهذه الصفات معان؛ فلو كان عرضا؛ لكان معنى. والمعنى لا يقوم بالمعنى، على ما يأتى تحقيقه. هذا إن كان من جنس الأعراض.
وإن لم يكن من جنسها: فحاصل النزاع راجع إلى اللفظ دون المعنى؛ كما سبق، ولا وجه لإطلاقه مع عدم ورود الشارع به، والله أعلم.
________________
(1) انظر الإرشاد لإمام الحرمين ص 44 والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص 21 وغاية المراد للآمدى ص 186. ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
انظر شرح الطوالع ص 162 والمواقف للإيجي ص 273 وشرح المقاصد 2/ 48.
ومن كتب المعتزلة: انظر شرح الأصول الخمسة ص 230 وما بعدها.
(2) فى ب (جنسها).
(2/19)
________________________________________
«المسألة الرابعة» فى بيان امتناع حلول الحوادث «1» بذات الرب- تعالى. «2»
وقبل «3» الخوض فى الحجاج لا بد من تخليص محل النزاع فنقول/ المراد بالحادث المتنازع فيه، الموجود بعد العدم، كان ذاتا قائمة بنفسها: كالجواهر، أو صفة لغيره:
كالأعراض.
وأما ما لا وجود له: كالعدم، أو الأحوال عند القائلين بها؛ فإنها غير موصوفة بالوجود، ولا بالعدم: كالعالمية، والقادرية، والمريدية، ونحو ذلك. أو الكسب، والإضافات؛ فإنها عند المتكلم أمور وهمية لا وجود لها. فما تحقق من ذلك بعد أن لم يكن فيقال له متجدد، ولا يقال له حادث.
وعند هذا فنقول:
اتفق العقلاء من أرباب الملل، وغيرهم على استحالة قيام الحوادث بذات الرب- تعالى- غير المجوس «4»، والكرامية، فإنهم اتفقوا: على جواز قيام «5» الحوادث بذات الرب- تعالى «5» -. غير أن الكرامية لم يجوزوا قيام كل حادث بذات الرب- تعالى-؛ بل قال أكثرهم: هو ما يفتقر إليه فى الإيجاد، والخلق.
________________
(1) فى ب (الحادث).
(2) انظر لمع الأدلة لإمام الحرمين ص 94 وما بعدها والإرشاد له أيضا ص 33.
ومن كتب الآمدي غاية المرام ص 186 وما بعدها.
ومن كتب المتأخرين:
انظر شرح الطوالع ص 159 والمواقف ص 275 وشرح المقاصد 2/ 52.
(3) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 18 - 22) ما ذكره الآمدي من أول قوله: «و قبل الخوض فى الحجاج ... إلى قوله: فيتجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن» ثم علق عليه وناقشه فى الصفحات التالية ص 22 وما بعدها وقد بدأ ابن تيمية النقل بقوله: «فصل: ونحن نذكر ما ذكره أبو الحسن الآمدي فى هذا الأصل ونتكلم عليه. قال فى كتابه الكبير المسمى «أبكار الأفكار» المسألة الرابعة من النوع الرابع الّذي سماه إبطال التشبيه فى بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى».
(4) المجوس والمجوس ممن لهم شبهة كتاب وقد أثبتوا أصلين. وزعموا أنهما لا يجوز أن يكونا قديمين أزليين؛ بل أحدهما وهو النور؛ أزلى. أما الظلمة فمحدثة.
ومن فرقهم الرئيسية: الكيومرثية: أصحاب المقدم الأول كيومرث. والزروانية، والزردشتية.
(انظر المغنى 5/ 71 - 79 والملل والنحل 2/ 35 - 49. ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 239 وما بعدها).
(5) من أول (قيام الحوادث ... ) الموجود بدلها فى نسخة (ب): (ذلك).
(2/20)
________________________________________
ثم اختلفوا فى هذا الحادث.
فمنهم من قال: هو قوله: (لكِنْ).
ومنهم من قال: هو الإرادة. فخلق الإرادة «1»، أو القول «1» فى ذاته يستند إلى القدرة القديمة لا أنه حادث بإحداث.
وأما خلق باقى المخلوقات فمستند إلى الإرادة «2»، أو القول «2» على اختلاف مذاهبهم. فالمخلوق القائم بذاته يعبرون عنه بالحادث. والخارج عن ذاته يعبرون عنه بالمحدث.
ومنهم من زاد على ذلك حادثين آخرين: وهما السمع، والبصر.
وأجمعت الكرامية: على أن ما قام بذاته من الصفات الحادثة، لا يتجدد له منها اسم، ولا يعود إليه منها حكم، حتى أنه لا يقال: إنه قائل بقول، ولا مريد بإرادة؛ بل قائل بالقائلية، ومريد بالمريدية. ولم يجوزوا عليه إطلاق اسم متجدد لم يكن فيما لا يزال؛ بل قالوا أسماؤه كلها أزلية حتى الرازق، والخالق، وإن لم يكن فى الأزل رزق، ولا خلق.
وأما ما كان من الصفات المتجددة التى لا وجود لها. فما كان منها حالا؛ فقد اتفق المتكلمون على امتناع اتصاف الرب- تعالى- بها؛ غير أبى الحسين البصرى، فإنه قال:
تتجدد عالميات الله- تعالى- بتجدد المعلومات. وما كان من النسب، والإضافات، والمتعلقات؛ فمتفق بين أرباب العقول على جواز اتصاف الرب- تعالى- بها حتى يقال إنه موجود مع العالم، بعد أن لم يكن، وأنه خالق للعالم بعد أن لم يكن. وما كان من الأعدام، والسلوب، فإن كان سلب أمر يستحيل/ تقدير وجوده لله- تعالى-؛ فلا يكون متجددا بالإجماع؛ لكونه ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، إلى غير ذلك.
وإن كان سلب أمر لا يستحيل تقدير اتصاف الرب- تعالى- به: كالنسب، والإضافات؛ فغير ممتنع أن يتصف به الرب- تعالى- بعد أن لم يكن بالاتفاق؛ فإنه إذا كان الحادث موجودا صح أن يقال: الرب- تعالى- موجود مع وجوده، وتنعدم هذه المعية
________________
(1) فى ب (القول أو الإرادة).
(2) فى ب (و القول).
(2/21)
________________________________________
عند فرض عدم ذلك الحادث، فيتجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن «1»، واذا أتينا على تلخيص محل النزاع؛ فنعود إلي المقصود.
وقد «2» احتج أهل الحق على امتناع قيام الحوادث بذات الرب- تعالى- بحجج ضعيفة:
الحجة الأولى:
قالوا: لو كان البارى- تعالى- قابلا لحلول الحوادث بذاته؛ لما خلا عنها، أو عن أضدادها، وضد الحادث حادث. وما لا يخلو عن الحوادث؛ فيجب أن يكون حادثا، والرب- تعالى- ليس بحادث، وهذه الحجة مبنية على خمس مقدمات:
المقدمة الأولى: أن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد.
والثانية: أن ضد الصفة الحادثة لا بد، وأن يكون حادثا.
والثالثة: أن ما قبل حادثا؛ فلا يخلو عنه، وعن ضده.
والرابعة: أن ما لا يخلو عن الحوادث؛ حادث.
والخامسة: أن الحدوث على الرب- تعالى- محال.
أما أن الرب- تعالى- ليس بحادث؛ فقد سبق تقريره «3».
وأما أن ما لا يخلو عن الحوادث؛ فهو حادث؛ فسيأتى تقريره فى حدوث الجواهر «4».
وإنما الإشكال فى المقدمات الثلاث الأول؛ وذلك أن لقائل أن يقول:
قولكم: إن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد: فإما أن يراد بالضد معنى وجودى يستحيل اجتماعه مع تلك الصفة لذاتيهما، وإما أن يراد به ما هو أعم من ذلك؛ وهو ما لا يتصور اجتماعه مع وجود الصفة لذاتيهما وإن كان عدما، حتى يقال: بأن عدم الصفة يكون ضدا لوجودها.
________________
(1) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 18 - 22) ثم علق عليه وناقشه حتى ص 27.
(2) ثم نقل ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 27 - 31).
من أول قول الآمدي «و قد احتج أهل الحق ... فلا مناقضة».
(3) انظر ل 115/ أو ما بعدها.
(4) انظر الجزء الثانى- القاعدة الرابعة- الباب الأول 69/ ب وما بعدها.
(2/22)
________________________________________
فإن كان الأول: فلا نسلم أنه لا بد وأن يكون للصفة ضد بذلك الاعتبار، والاستدلال على موقع المنع عسير جدا.
وإن كان الثانى: فلا نسلم أنه يلزم أن يكون ضد الحادث حادثا وإلا كان عدم العالم السابق على وجوده حادثا. ولو كان عدمه حادثا، كان وجوده سابقا على عدمه؛ وهو محال.
ثم وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون ضد الحادث معنى وجوديا؛ ولكن لا نسلم امتناع خلو المحل عن الصفة وضدها بهذا الاعتبار. وحيث قررنا فى مسألة الكلام والإدراكات/ أن القابل لصفة لا يخلو عنها، أو عن ضدها. إنما كان بالمعنى الأعمّ، لا بالمعنى الأخص، فلا مناقضة «1».
الحجة «2» الثانية:
أنه لو قامت الحوادث بذاته؛ لكان لها سبب. والسبب إما الذات، أو خارج عنها.
فإن كان هو الذات: وجب دوامها بدوام الذات، وخرجت عن أن تكون حادثة.
وإن كان خارجا عن الذات: فإما أن يكون معلولا للإله- تعالى- أو لا يكون معلولا له.
فإن كان الأول: لزم الدور.
وإن كان الثانى: فذلك الخارج يكون واجب الوجود لذاته، ومفيدا للإله تعالى- صفاته؛ فكان أولى أن يكون هو الإله.
وهذه المحالات إنما لزمت من قيام الحوادث بذات الرب- تعالى- فكان محالا.
ولقائل أن يقول:
وإن افتقرت الصفات الحادثة إلى سبب؛ فالسبب إنما هو القدرة القديمة، والمشيئة الأزلية القائمة بذات الرب تعالى- كما هو مذهب الكرامية على ما أوضحناه. فليس
________________
(1) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية من كلام الآمدي فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 27 - 31) ثم علق عليه بقوله «هذا كلام حسن جيد ... فإن هذه الطريقة مما كان يحتج بها السلف والأئمة فى إثبات صفات الكمال: كالكلام والسمع، والبصر».
(2) من أول الحجة الثانية نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 40 - 43).
(2/23)
________________________________________
السبب هو الذات، ولا خارج عنها. ولا يلزم من دوام القدرة، دوام المقدور، وإلا كان العالم قديما، وهو محال.
فإن قيل: إذا كان المرجح للصفة الحادثة، هو القدرة القديمة والاختيار؛ فلا بد وأن يكون الرب- تعالى- قاصدا لمحل حدوثها، ومحل حدوثها ليس إلا ذاته؛ فيجب أن يكون قاصدا لذاته «1»، والقصد إلى الشيء يستدعى كونه فى الجهة؛ وهو باطل «2»، ثم ولجاز قيام كل حادث، «3» وهو محال «3».
وأيضا فإن الصفة الحادثة عند الكرامية إنما هى قوله كن، والإرادة التى هى مستند وجود المحدثات.
وعند ذلك: فلا حاجة إلى الحادث الّذي هو القول، أو الإرادة؛ لإمكان إسناد جميع المحدثات إلى القدرة القديمة.
قلنا: أما الأول: فمندفع، فإن القصد إلى إيجاد الصفة، وإن استدعى القصد إلى محل حدوثها، فإنما يلزم من ذلك أن يكون المحل فى الجهة أن لو كان القصد بمعنى:
الاشارة إلى الجهة. وليس كذلك؛ بل بمعنى: إرادة إحداث الصفة فيه، وذلك غير موجب للجهة. ثم وإن كان القصد إلى إيجاد الصفة فى المحل يوجب كون المحل فى جهة؛ فيلزم من ذلك امتناع القصد من الله- تعالى- إلى إيجاد الأعراض؛ لأن القصد إلى إيجادها يكون قصدا لمحالها، ويلزم من ذلك أن تكون محالها فى الجهات، والقصد إلى ما هو فى جهة ممن ليس فى الجهة محال. وذلك/ يفضى إلى أن يكون الرب- تعالى- فى الجهة عند قصد خلق الأعراض؛ وهو محال.
والقول بأنه إذا جاز خلق بعض الحوادث فى ذاته، جاز خلق كل حادث، فدعوى مجردة، وقياس من غير جامع؛ وهو باطل على ما أسلفناه فى تحقيق «4» الدليل.
وأما الثانى: فحاصله يرجع إلى لزوم رعاية الغرض «5»، والحكمة «5» فى أفعال الله تعالى؛ وهو غير موافق لأصولنا.
________________
(1) فى ب (إلى ذاته).
(2) فى ب (محال).
(3) فى ب (و هو أيضا محال).
(4) فى ب (قاعدة). انظر ل 39/ أ.
(5) فى ب (الحكمة والغرض).
(2/24)
________________________________________
وإن كان ذلك بطريق الإلزام للخصم؛ فلعله لا يقول به. وإن كان قائلا به؛ فليس القول بتخطئته فى القول بحلول الحوادث بذات الرب- تعالى- ضرورة تصويبه فى رعاية الحكمة أولى من العكس «1».
الحجة «2» الثالثة:
أنه يقال: لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته؛ لكان قابلا لها فى الأزل. وإلا كانت القابلية عارضة لذاته، واستدعت قابلية أخرى؛ وهو تسلسل ممتنع. وكون الشيء قابلا للشىء فرع إمكان وجود المقبول؛ إذ القابلية نسبة بين القابل والمقبول؛ فيستدعى تحقق كل واحد منهما، ويلزم من ذلك إمكان حدوث الحوادث فى الأزل، وحدوث الحوادث فى الأزل؛ ممتنع؛ للتناقض بين كون الشيء أزليا، وبين كونه حادثا.
ولقائل أن يقول:
لا نسلم أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته؛ لكان قابلا لها فى الأزل؛ فإنه لا يلزم من القبول للحادث فيما لا يزال- مع إمكانه- القبول له أزلا مع كونه غير ممكن أزلا.
والقول بأنه يلزم منه التسلسل؛ يلزم عليه الإيجاد بالقدرة للمقدور، وكون الرب خالقا للحوادث؛ فإنه نسبة متجددة بعد أن لم تكن، فما هو الجواب به هاهنا يكون الجواب ثم.
وإن سلمنا أنه يلزم من القبول فيما لا يزال، القبول أزلا؛ فلا نسلم أن ذلك يوجب إمكان وجود المقبول أزلا. ولهذا على أصلنا البارى- تعالى- موصوف فى الأزل بكونه قادرا على خلق العالم؛ ولا يلزم منه إمكان وجود العالم أزلا «3».
________________
(1) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 40 - 43) ثم علق على هذه الحجة بقوله: «هذه الحجة مادتها من الفلاسفة الدهرية: كابن سينا وأمثاله. الخ» ص 43 وما بعدها.
(2) نقل ابن تيمية ما ذكره الآمدي «الحجة الثالثة»: (درء تعارض العقل والنقل 4/ 62 - 63).
(3) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 62، 63)
ثم علق عليه وناقشه فى ص 63 وما بعدها.
(2/25)
________________________________________
الحجة «1» الرابعة:
أنه لو قامت الحوادث بذاته؛ لكان متغيرا. والتغير على الله- تعالى- محال. ولهذا قال (الخليل «2») عليه السلام: (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) «3» أى المتغيرين.
ولقائل أن يقول:
إن أردتم بالتغير حلول الحوادث بذاته؛ فقد اتحد اللازم والملزوم، وصار حاصل الشرطية: لو قامت الحوادث بذاته/؛ لقامت الحوادث بذاته؛ وهو غير مفيد، ويكون القول بأن التغير على الله- تعالى- بهذا الاعتبار محال دعوى محل النزاع؛ فلا تقبل.
وإن أردتم بالتغير معنى آخر وراء قيام الحوادث بذات الله- تعالى-؛ فهو غير مسلم، ولا سبيل إلى إقامة الدلالة عليه.
وأما المعتزلة «4»: فمنهم من قال:
المفهوم من قيام الصفة بالموصوف، حصولها فى الحيّز تبعا لحصول محلها فيه، والبارى- تعالى- ليس بمتحيّز؛ فلا تقوم بذاته الصفة.
ومنهم من قال: الجوهر إنما صح قيام الصفات به، لكونه متحيزا؛ ولهذا فإن الأعراض لما لم تكن متحيزة؛ لم يصح قيام المعانى بها، والبارى- تعالى- ليس بمتحيز؛ فلا يكون محلا للصفات وهاتان شبهتان تدلان على انتفاء الصفة عن الله- تعالى- مطلقا كانت قديمة، أو حادثة؛ وهما ضعيفتان جدا.
أما الشبهة الأولى: فلقائل أن يقول: لا نسلم أنه لا معنى لقيام الصفة بالموصوف إلا ما ذكروه؛ بل معنى قيام الصفة بالموصوف تقوم الصفة بالموصوف فى الوجود.
وعلى هذا فلا يلزم أن يكون المعلول قائما بالعلة؛ لكونه متقوما بها فى الوجود؛ إذ ليس المعلول صفة، ولا العلة موصوفة به.
________________
(1) من أول الحجة الرابعة نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 71، 72) إلى قول الآمدي «و لا سبيل إلى إقامة الدلالة عليه» ثم علق عليه وناقشه فى ص 72 وما بعدها.
(2) ساقط من أ.
(3) سورة الأنعام 6/ 76.
(4) انظر المغنى للقاضى عبد الجبار 4/ 252 وشرح الأصول الخمسة ص 213 وما بعدها.
وقد نقل ابن تيمية كلام الآمدي من أول قوله «و أما المعتزلة فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 78).
(2/26)
________________________________________
وأما الشبهة الثانية: فلقائل أن يقول: لا نسلم أن قيام الصفات بالجوهر؛ لكونه متحيزا؛ بل أمكن أن يكون ذلك بمعنى مشترك بينه وبين البارى «1» - تعالى- وإن كان ذلك لكونه متحيزا؛ فلا يلزم من انتفاء الدليل فى حق الله- تعالى- انتفاء المدلول؛ كما تقدم تحقيقه.
كيف: وقد أمكن أن يكون ذلك لمعنى اختص به «2» البارى «2» - تعالى- ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين فى صورتين «3».
والمعتمد «4» فى المسألة حجتان: تقريرية، وإلزامية:
[الحجة الأولى:] أما التقريرية:
فهو أن يقال:
لو جاز قيام الصفات الحادثة بذات الرب- تعالى- فإما أن توجب نقصا فى ذاته، أو فى صفة من صفاته، أو لا توجب شيئا من ذلك.
فإن كان الأول: فهو محال باتفاق العقلاء، وأهل الملل.
وإن كان الثانى: فإما أن تكون فى نفسها صفة كمال، أو لا صفة كمال. لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كان الرب- تعالى- ناقصا قبل اتصافه بها؛ وهو محال أيضا بالاتفاق.
ولا جائز أن يقال بالثانى لوجهين:
الأول: اتفاق الأمة، وأهل الملل قبل الكرامية على امتناع اتصاف/ الرب- تعالى- بغير صفات الكمال، ونعوت الجلال.
الثانى: هو أن وجود كل شيء أشرف من عدمه؛ فوجود الصفة فى نفسها، أشرف من عدمها، فإذا كان اتصاف الرب- تعالى- بها لا يوجب نقصا فى ذاته، ولا فى صفة
________________
(1) فى ب (الله).
(2) فى ب (بالبارى).
(3) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية عن الآمدي فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 78، 79) ثم علق عليه وناقشه فقال: «قلت: أما الحجة الأولى، فيقال: قيام الصفة بالموصوف معروف يتصور بالبديهية ... الخ من ص 79 إلى ص 82.
(4) من أول قول الآمدي: «و المعتمد فى المسألة: نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 82 - 84) إلى قول الآمدي: «و هو محال كما سبق». ثم علق عليه وناقشه فى ص 84 وما بعدها.
(2/27)
________________________________________
من صفاته على ما وقع به الفرض، فاتصافه إذن إنما هو فى نفسه كمال لا عدم كمال.
ولو كان كذلك؛ لكان ناقصا قبل اتصافه بها؛ وهو محال كما سبق «1».
الحجة الثانية «2»: من جهة المناقضة للخصم، والإلزام،
وذلك من ثمانية أوجه:
الأول: أن من مذهب الكرامية: أنهم لا يجوزون إطلاق اسم متجدد على الله- تعالى- فيما لا يزال كما بيناه من قبل، فلو قامت بذاته صفات حادثة؛ لاتصف بها، وتعدى إليه حكمها: كالعلم، فإنه إذا قام بمحل وجب اتصافه بكونه عالما، وكذا فى سائر الصفات القائمة بمحالها. وسواء كان المحل قديما، أو حادثا. وسواء كانت الصفة قديمة، أو حادثة؛ إذ لا فرق بين القديم، والحادث من حيث أنه محل قامت به صفة؛ إلا فيما يرجع إلى أمر خارج؛ فلا أثر له.
وإذا ثبت ذلك، فيلزم أن يقال: إنه قائل بقول، ومريد بإرادة، ويلزم من ذلك تجدد اسم لم يكن له قبل قيام الصفة الحادثة به؛ وهو مناقض لمذهبهم «3».
الثانى «4»: هو أن الكرامية موافقون على أن القول، والإرادة. لا يقومان إلا بحى:
كالسمع، والبصر. وقد وافقوا على أن الحى إذا خلا عن السمع والبصر، لا يخلو عن ضدهما.
وعند ذلك: فإما أن يقولوا بأن الله- تعالى- يخلو عن القول الحادث، أو الإرادة الحادثة. وعن ضدهما؛ فلا يجدون إلى الفرق بينهما، وبين السمع والبصر، سبيلا.
وإن قالوا بأنه لا يخلو الرب- تعالى- عن القول، أو الإرادة، أو عن ضدهما. فلا يخلو ذلك الضد: إما أن يكون قديما، أو حادثا.
فإن كان الأول: فيلزم من ذلك عدم الموجود القديم، ضرورة حدوث ضده؛ وهو محال بالاتفاق، وبالدليل على ما يأتى.
________________
(1) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 82 - 84).
(2) من أول الحجة الثانية نقله ابن تيمية عن الآمدي فى كتابه 4/ 96، 97 ثم علق عليه وناقشه فى ص 97 وما بعدها.
(3) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى ص 96، 97.
(4) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 98 - 99) من أول «الثانى: أن الكرامية موافقون ... إلى قوله فهو حادث ضرورة» ثم علق عليه وناقشه فى ص 99 وما بعدها.
(2/28)
________________________________________
وإن كان الثانى: فالكلام فى ذلك الضد، كالكلام فى الأول؛ ويلزم من ذلك تعاقب الحوادث على الرب- تعالى- على وجه لا يتصور خلوه عن واحد منها. والحوادث المتعاقبة لا بد وأن تكون متناهية، على ما سبق فى إثبات واجب الوجود. وما لا يخلو عن الحوادث، فهو حادث ضرورة «1».
الثالث «2»: أن من مذهبهم/ أن القول الحادث، والإرادة الحادثة عرض كاللون والطعم، والرائحة، وأنه يجوز فى الشاهد تعرى الجواهر عن الأقوال، والإرادات، والطعوم، والروائح والألوان، مع جواز اتصافها به. وقد أحالوا قيام الألوان، والطعوم، والروائح بذات الله- تعالى- وجوزوا ذلك فى القول، والإرادة.
ولو قيل لهم: لم لا قضيتم بجواز قيام الطعوم، والألوان، والروائح بذات الله- تعالى- من غير أن يلزم استحالة التعرى عنها كما فى القول الحادث، والإرادة الحادثة؛ لم يجدوا إلى الفرق سبيلا «3».
الرابع «4»: هو أن من مذهبهم أن الرب- تعالى- متحيز، وأنه مقابل للعرش، وأكبر منه، وليس مماثلا لجوهر فرد من العرش.
وقد قالوا بأن العرض الواحد لا يقوم بجوهرين: كالصفة الحادثة فى ذات الله- تعالى- وهى القول، أو الإرادة. كما هو مذهبهم؛ فوجب قيامها مع اتحادها بجزءين؛ فصاعدا؛ وهو مناقض لمذهبهم.
الخامس «5»: هو أن من مذهبهم أن مستند المحدثات إنما هو القول الحادث، أو الإرادة الحادثة. ومستند القول، والإرادة إنما هو القدرة القديمة، والمشيئة الأزلية. ولا فرق بين الحادث، والمحدث من جهة تجدده، وهو إنما كان مفتقرا إلى المرجح من جهة تجدده وقد استويا فى التجدد.
________________
(1) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية عن الآمدي فى كتابه 4/ 98، 99.
(2) من هنا نقل ابن تيمية عن الآمدي من أول قوله: الثالث أن من مذهبهم. إلى قوله: «لم يجدو إلى الفرق سبيلا» 4/ 102، 103.
(3) انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه 4/ 102، 103 ثم علق عليه وناقشه فى ص 103، 104.
(4) من أول الرابع: هو أن من مذهبهم نقله ابن تيمية فى 4/ 104، 105 إلى قوله: «و هو مناقض لمذهبهم» ثم علق عليه وناقشه فى ص 105، 106.
(5) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 106، 107).
الوجه الخامس وعلق عليه وناقشه فى ص 107 - 109.
(2/29)
________________________________________
فلو قيل لهم: لم لا اكتفى بالقدرة القديمة، والمشيئة الأزلية فى حدوث المحدثات من غير توسط القول، أو الإرادة كما اكتفى بها فى القول، والإرادة؛ لم يجدوا إلى الفرق سبيلا.
السادس «1»: ويخص القائلين بحدوث القول. وذلك أنهم وافقوا على أن القول مركب من حروف منتظمة، والحروف متضادة. فإنا كما نعلم استحالة الجمع بين السواد والبياض؛ نعلم استحالة الجمع بين الحروف، وأنه يتعذر الجمع بين الكاف والنون من قوله (كن). وقد وافقوا على استحالة تعرى البارى- تعالى- عن الأقوال الحادثة فى ذاته، بعد قيامها به.
وعند ذلك: فإما أن يقال باجتماع حروف القول فى ذاته- تعالى- أو لا يقال باجتماعها.
فإن قيل باجتماعها. فإما أن يقال بتجزؤ ذات الله- تعالى- وقيام كل حرف بجزء منه. وإما أن يقال بقيامها [بذاته] «2» مع اتحاد الذات.
فإن كان الأول: فهو محال لوجهين:
الأول: أنه يلزم منه/ التركيب فى ذات الله- تعالى- وقد أبطلناه «3» فى إبطال القول بالتجسيم «3».
الثانى: أنه ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض، أولى من العكس.
وإن كان الثانى: فيلزم منه اجتماع المتضادات فى شيء واحد، وهو محال.
وإن لم يقل باجتماع حروف القول فى ذاته؛ فيلزم منه مناقضة أصلهم فى أن ما اتصف به الرب- تعالى- يستحيل عروه عنه، بعد اتصافه به. والحرف السابق الّذي عدم عند وجود [الحرف] «4» اللاحق قد كان صفة للرب- تعالى- وقد زال بعد وجوده له.
________________
(1) نقل ابن تيمية فى كتابه الوجه السادس للآمدى 4/ 109، 110 وعلق عليه وناقشه فى ص 110 وما بعدها.
(2) فى أ (بذاتها).
(3) من أول (فى إبطال ... ) ساقط من ب. انظر ل 143/ ب وما بعدها.
(4) ساقط من أ.
(2/30)
________________________________________
السابع «1»: أنهم جوزوا اجتماع الإرادة الحادثة مع الإرادة القديمة، ومنعوا ذلك فى العلم، والقدرة، ولو سئلوا عن الفرق؛ لكان متعذرا.
الثامن: أنهم أطلقوا اسم المحدث على ما كان متجددا فى الشاهد، ومنعوا من ذلك فى الغائب، والفرق مع الاستواء فى التجدد؛ غير مقبول.
وللكرامية ثلاث شبه:
الشبهة الأولى:
أنهم قالوا: وقع الاتفاق بين الأمة على أن الرب- تعالى- متكلم، مريد، سميع، بصير؛ ولا بد وأن يكون متكلما بكلام، مريدا بإرادة، سميعا بسمع، بصيرا ببصر؛ على ما تقدم فى الصفات. وقد قام الدليل على حدوث الكلام، والإرادة، والسمع، والبصر؛ بما تقدم فى الصفات أيضا.
وعند ذلك: فإما أن تكون هذه المعانى قائمة بذاته، أو بغيره، أو لا بذاته، ولا بغيره.
لا جائز [أن «2» يقال «2»] بالثانى، والثالث؛ لما تقدم فى الصفات أيضا. فلم يبق إلا الأول؛ وهو المطلوب.
الشبهة الثانية:
وتخص القائلين بقيام المعانى القديمة بذات الرب- تعالى- وهو أنهم قالوا: قيام المعانى القديمة بذات الله «3» - تعالى- صحيح بالاتفاق منا، ومن القائلين بها، ولا فارق بينها وبين المعانى الحادثة، غير القدم والحدوث. والقدم معنى سلبى؛ وهو سلب الأولية؛ فلا يصلح لدخوله فى المقتضى لقيام المعنى بالذات؛ فلم يبق إلا أن يكون هو القدر المشترك بين القديمة والحادثة، وعليه بناء المطلوب.
________________
(1) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 266) من أول السابع إلى قول الآمدي: لكان متعذرا» ثم علق عليه وناقشه فى ص 266، 267.
(2) ساقط من أ.
(3) فى ب (الرب).
(2/31)
________________________________________
الشبهة الثالثة:
لو امتنع قيام المعانى الحادثة بذات الرب- تعالى- فإما أن تمتنع. لما به الاتفاق بينها، وبين المعانى القديمة، أو لما به الاختلاف «1». وما به الاختلاف «2» ليس غير الحدوث؛ وهو كون العدم سابقا على وجود الصفة.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا لامتنع قيام المعانى القديمة بذاته.
ولا جائز أن يقال بالثانى:/ لأن الامتناع إنما يكون عند تقدير وجود الحادث، وما به الامتناع، يجب أن يكون حاصلا عند فرض الامتناع؛ فيجب أن يكون حاصلا، عند تقدير الوجود الممتنع. والعدم السابق لا تحقق له عند فرض الوجود الممتنع؛ فلا يصح تعليل الامتناع به.
[الجواب عنها]
والجواب عن الشبهة الأولى: ما تقدم «3» فى الصفات من امتناع حدوث المعانى القائمة بذات الله- تعالى-.
وعن الشبهة الثانية: بمنع الحصر؛ والبحث لا يدل عليه يقينا على ما تقدم. وإن سلمنا الحصر؛ ولكن لا نسلم أن القدم عدم؛ بل هو عبارة عن سلب العدم السابق؛ وسلب العدم ثبوت.
وإن سلمنا أن القدم عدم؛ فالحدوث «4» وجود؛ إذ لا معنى للحدوث غير سلب القدم، وسلب القدم يجب أن يكون ثبوتيا.
وعند ذلك: فلا مانع من كونه مانعا، أو ما لازمه من القيام بذات الله- تعالى.
وعن الشبهة الثالثة: بمنع التساوى بين القديم، والحادث. فى غير الاسم. وإن سلمنا الاشتراك فى المعنى من وجه؛ فلا «5» نسلم «5» أنه لم يختص الحادث بمعنى غير الحدوث.
وإن سلمنا ذلك؛ ولكن لا نسلم أن الحدوث سابق حالة تقدير الامتناع.
________________
(1) فى ب (الافتراق).
(2) فى ب (الافتراق).
(3) فى ب (لما تقدم).
(4) فى ب (و الحدوث).
(5) فى ب (و لكن لا نسلم).
(2/32)
________________________________________
قولهم: إن الحدوث عبارة عن سبق العدم؛ لا نسلم؛ بل هو عبارة عن كون الوجود مسبوقا بالعدم. وفرق بين الأمرين. وكونه مسبوقا بالعدم، أمر ملازم للحدوث، ومع الحدوث. والله أعلم.
(2/33)
________________________________________
«المسألة الخامسة» فى أن الله- تعالى- ليس فى جهة، ولا مكان
[الآراء حولها]
والّذي صار إليه أهل الحق من الملل كلها: أن البارى- تعالى- ليس فى جهة، ومكان «1».
واتفقت المشبهة: على أنه- تعالى- فى جهة. وخصصوها بجهة فوق دون غيرها من الجهات. ثم اختلفوا:
فذهب أبو عبد الله محمد بن كرام «2»: الى أن كونه فى الجهة: ككون الأجسام.
حتى أنه قال: إنه مماس للصفحة العليا من العرش. وجوز عليه الحركة، والانتقال، وتبدل الجهات عليه. وإلى ذلك ذهبت اليهود «3» - لعنهم الله- حتى [أنهم «4»] قالوا: إن العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد، وأنه يفضل على العرش من كل جانب «5»
________________
(1) انظر التمهيد للباقلانى ص 149 وأصول الدين للبغدادى ص 76 - 78 ولمع الأدلة لإمام الحرمين ص 94 وما بعدها والإرشاد له أيضا ص 39 وما بعدها والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص 22 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 104 - 114 والمحصل للرازى ص 113 وما بعدها وأساس التقديس له أيضا ص 45 - 77 ومعالم أصول الدين له أيضا ص 31 - 33 والأربعين فى أصول الدين له أيضا ص 106 - 118 وغاية المرام للآمدى ص 193 وما بعدها.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي: شرح الطوالع ص 157 والمواقف للإيجي ص 270 - 273 وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 48.
أما عن الرأى المضاد فانظر: نقض المنطق لابن تيمية 118 وما بعدها والعقيدة الواسطية له أيضا ص 9 وما بعدها وشرح الطحاوية ص 157، 163 لابن أبى العز الحنفى. تحقيق أحمد شاكر طبع بمصر سنة 1373 ه.
(2) لتوضيح رأيه انظر الملل والنحل 1/ 108 وما بعدها. ومن الدراسات الحديثة انظر نشأة الفكر الفلسفى للنشار 1/ 405 وما بعدها.
وما سيأتى فى الجزء الثانى- القاعدة السابعة ل 256/ ب وما بعدها.
(3) اليهود: وهم أمة موسى عليه السلام، وقد اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة من أشهرها:
العنانية، والعيسوية، واليوذعانية، والسامرة، ومسائلهم تدور على جواز النسخ ومنعه، والتشبيه ونفيه، والقول بالقدر والجبر، وتجويز الرجعة واستحالتها.
أما عن فرقهم وآرائهم بالتفصيل. فانظر (الملل والنحل 2/ 15 - 24 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 49 - 88.
(4) ساقط من أ.
(5) فى ب (جهة).
(2/34)
________________________________________
أربعة أصابع. وقد وافقهم على جواز مماسة الرب- تعالى- للأجسام بعض المشبهة «1» كمضر، وكهمس، وأحمد الهجيمى. حيث قالوا: إن المخلصين من المسلمين يعانقون الرب- تعالى- فى الدنيا، والآخرة.
ومنهم من قال: إنه محاذ للعرش من غير مماسة. ثم اختلف «2» هؤلاء «2»:
فمنهم من قال: إن ما بينه، وبين العرش من المسافة متناهية.
ومنهم من قال: إنها/ غير متناهية.
ومنهم من قال: إن كون الرب- تعالى- فى جهة «3» لا ككون الأجسام.
والمعتمد فى ذلك أن يقال:
لو كان البارى- تعالى- فى جهة وحيز، لم يخل: إما أن يكون فى الجهة والحيز:
ككون الأجسام: وهو أن يكون بحيث يشار إليه بالحس «4»: أنه هاهنا أو هاهنا، وإما أن لا يكون فى الجهة والحيز «4»: ككون الأجسام.
فإن كان الأول: فإما أن يكون فى كل جهة، أو فى جهة واحدة.
فإن كان فى كل جهة: فيلزم منه أن تكون ذوات التحيزات، وذوات الجهات مداخلة لذاته- تعالى- ومتحدة بها، أو لا يكون لشيء من الجواهر والأجسام المتحيزة حيز، ولا جهة؛ ضرورة كون الرب- تعالى- شاغلا لكل جهة، وحيز؛ وهو محال.
وإن كان فى جهة واحدة، وحيز واحد؛ فهو ممتنع لوجهين:
الأول: أن ذلك الحيز وتلك الجهة: إما أن يكون وجوديا، أو لا يكون وجوديا.
فإن كان وجوديا: فإما أن يكون قديما، أو حادثا.
فإن كان قديما: فهو محال؛ لما سيأتى فى بيان حدوث كل موجود سوى الله- تعالى-
________________
(1) لتوضيح رأى المشبهة فى هذه المسألة بالتفصيل:
انظر الملل والنحل للشهرستانى 1/ 105 وما بعدها.
ومن الدراسات الحديثة: انظر نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام- للنشار ص 385 - 429.
وما سيأتى فى الجزء الثانى- القاعدة السابعة: آراء المشبهة ل 256/ ب وما بعدها.
(2) فى ب (اختلفوا).
(3) فى ب (الجهة).
(4) فى ب (بأنه هنا، أو هناك، أو لا يكون فى الحيز والجهة).
(2/35)
________________________________________
وإن كان حادثا: فالبارى- تعالى- قبل حدوث هذا الحادث لا يكون فى جهة، ولا حيز؛ وهو خلاف مذهب الخصم.
وإن لم يكن وجوديا: فليس كون الرب- تعالى- فى الجهة «1» والحيز «1» ككون الأجسام؛ وهو خلاف الفرض.
الثانى: أنه لا يخلو: إما أن يكون ذلك الحيز المعين؛ هو حيز العالم، أو غيره.
فإن كان الأول: فهو محال، لما سبق فى القسم الأول.
وإن كان الثانى: فإما أن يكون مماسا للعالم، أو غير مماس له.
فإن كان مماسا له: فهو ممتنع لوجهين:
الأول: أنه إما أن يكون مساويا له «2»، أو أكبر منه، أو أصغر «2». فإن كان مساويا له:
فيلزم أن يكون مركبا؛ ضرورة أن المماس منه لبعض العالم غير المماس منه للبعض الآخر، ولأن العالم مركب، فما ماسه وساواه؛ فيكون مركبا. وإذا كان الرب- تعالى- متحيزا مركبا، فيكون جسما؛ وهو محال؛ لما سبق «3».
الثانى: هو أن ما ماس من الرب- تعالى- العالم غير ما لم يكن منه مماسا له.
وفى ذلك أيضا ما يوجب التركيب فى ذات الله- تعالى-؛ وهو محال.
وعلى هذا يلزم بطلان القسم الثانى أيضا. وإن كان أصغر من العالم.
فإما أن يكون مع ذلك قابلا للقسمة، أو لا يكون قابلا لها.
فإن كان قابلا للقسمة؛ فهو محال؛ لما تقدم.
وإن كان غير قابل للقسمة: فهو فى الصغر والحقارة، نازل منزلة الجوهر الفرد./
والرب- تعالى- منزه عن ذلك بالإجماع منا، ومن الخصوم.
وإن لم يكن مماسا للعالم:
فإما أن يكون بينه وبين العالم امتداد متناه، أو غير متناه.
________________
(1) فى ب (الحيز والجهة).
(2) فى ب (أو أصغر، أو أكبر).
(3) انظر ل 143/ ب وما بعدها.
(2/36)
________________________________________
فإن كان الأول: فهو أيضا محال لما سبق- فيما إذا كان مماسا له.
وإن كان الثانى: فهو محال؛ لأن ما بين الحيزين من الامتداد منحصر بين حاصرين. وما لا يتناهى لا يكون منحصرا بين حاصرين.
ثم لو كان من العالم على بعد لا نهاية له، فمن مذهب الكرامية القائلين بهذا المذهب: أن الله- تعالى- يجوز أن يكون مرئيا. ومن شرط الرؤية عندهم: أن لا يكون المرئى فى غاية البعد المفرط. فإذا كان على بعد لا نهاية له؛ فهو فى غاية البعد المفرط؛ فيمتنع أن يكون مرئيا على أصلهم.
هذا كله إن كان الرب- تعالى- فى الجهة والحيز «1»، ككون الأجسام.
وإن كان فى الجهة لا ككون الأجسام: فالنزاع آئل الى اللفظ دون المعنى، والأمر فى الإطلاق اللفظى متوقف على ورود الشرع. وسيأتى ما فيه عن قرب. وقد استدل الأصحاب على امتناع كون الرب- تعالى- فى الجهة والحيز، بمسالك لا بد من ذكرها، والتنبيه «2» على ما فيها.
المسلك الأول:
وهو مسلك القاضى أبى بكر، وهو أن قال «3»: لو كان البارى «4» - تعالى- متحيزا؛ لكان مشاركا للجوهر فى أخص أوصافه، والمشتركات فى أخص الأوصاف يلزم تماثلها، ويلزم من ذلك أن يكون الرب- تعالى- جوهرا؛ وهو باطل كما «5» سبق.
وبيان أن الاختصاص بالحيز من أخص أوصاف الجوهر. أن تميز الجوهر عن جميع الأعراض ليس إلا بذلك؛ فكان أخص وصف له.
وبيان أن الاشتراك فى أخص الأوصاف، يوجب التماثل. أنه لو لم يكن كذلك؛ لجاز اختصاص أحد السوادين، بصفة لا ثبوت لها فى الثانى، ولجاز اشتراك المختلفات
________________
(1) فى ب (و التحيز).
(2) فى ب (سردها).
(3) فى ب (يقال).
(4) فى ب (الرب).
(5) انظر ل 142/ أ وما بعدها.
(2/37)
________________________________________
فى أخص صفة الواحد منها. ويلزم من ذلك جواز كون السواد حلاوة، علما، قدرة، إلى غير ذلك؛ وهو محال كما يأتى [تحقيقه «1»] فى التماثل، والاختلاف «2».
ولقائل أن يقول:
وإن سلم مشاركة البارى- تعالى- للجوهر فى الاختصاص بالحيز؛ فلا نسلم أن اختصاص الجوهر بالحيز، من أخص أوصاف الجوهر، وإنما «3» يكون من أخص أوصاف الجوهر «3» أن لو لم يكن ذلك من صفات الرب- تعالى- وإنما «4» يمتنع أن يكون من صفات الرب- تعالى- أن لو كان من «5» أخص صفات «5» الجوهر؛ فإذن يتوقف «6» امتناع اتصاف الرب- تعالى- به/ على أنه من أخص صفات الجوهر. وكونه من أخص صفات الجوهر، متوقف على امتناع كونه صفة للرب «7» - تعالى-؛ وهو دور ممتنع.
وإن سلمنا أن الاختصاص بالحيز من أخص أوصاف الجوهر؛ فالاشتراك فيه هل يكون موجبا للتماثل؟ فسيأتى تحقيقه فى التماثل، والاختلاف «8».
المسلك الثانى:
أنه لو كان الرب- تعالى- مختصا «9» بحيز، وجهة «9». لم يخل: إما أن يكون اختصاصه بذلك الحيز لذاته، أو لكون قام بذاته أوجب اختصاصه «10» بذلك الحيز.
لا جائز أن يقال بالأول: لأن نسبة جميع الأحياز إلى ذاته- تعالى- نسبة واحدة؛ فليس اختصاص ذاته بالبعض أولى من البعض.
وإن كان الثانى: فذلك الكون: إما قديم، أو حادث.
لا جائز أن يكون قديما: إذ الكون عرض، والعرض متجدد غير باق على ما سيأتى «11»؛ فلا يكون قديما.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) انظر الجزء الثانى ل 57/ ب وما بعدها.
(3) من أول (و إنما يكون ... ) ساقط من ب.
(4) فى ب (و إنه).
(5) فى ب (أخص من صفات).
(6) فى ب (يتوقف على).
(7) فى ب (للبارى).
(8) انظر الجزء الثانى ل 57/ ب وما بعدها.
(9) فى ب (بجهة وحيز).
(10) فى ب (تخصيصه).
(11) انظر الجزء الثانى ل 44/ ب وما بعدها.
(2/38)
________________________________________
وإن كان حادثا: كان الرب- تعالى- محلا للحوادث؛ وهو ممتنع كما سلف «1».
ولقائل أن يقول:
من الجائز أن تكون الأحياز «2»، والجهات «2» مختلفة؛ فإن التماثل غير معلوم بالضرورة، ولا قام عليه دليل نظرى.
وعند ذلك: فلا نسلم أن نسبتها إلى ذات البارى «3» - تعالى- على السوية. وعند ذلك فمن الجائز أن يكون اختصاص ذاته ببعض الجهات لذاته. أو (أن) «4» بعض الأحياز اقتضى لذاته. أن يكون مختصا بالبارى تعالى. دون غيره من غير كون موجب للاختصاص «5». ثم «5» وإن سلمنا تساوى الأحياز بالنسبة إلى ذات البارى- تعالى-؛ ولكن لا نسلم أنه لا بد من كون مخصص له بالحيز.
ولهذا فإنه يصح اتصاف الحى بالعلم والجهل، على البدل؛ لكون الحياة مصححة لكل واحد منهما. وما لزم من اتصاف الرب- تعالى- بالعلم الأزلى بدلا عن الجهل مع وجود المصحح له، أن يكون مخصصا بكون؛ فكذلك فى اختصاصه بالحيز «6»، والجهة «6».
فإن قيل: إنما اختص بالعلم، وبغيره من الصفات الأزلية من غير مخصص «7» من حيث كانت صفات مدح وكمال؛ بخلاف الاختصاص ببعض الأحياز، دون البعض.
وأيضا: فقد ثبت أن البارى- تعالى- هو المخصص لسائر الموجودات، وذلك يستدعى أن يكون متصفا بالعلم، والقدرة، والإرادة. فلو استدعى فى اتصافه بهذه الصفات مخصصا؛ لزم التسلسل الممتنع.
قلنا: أما الأول: فإنما يصح أن لو ثبت أن الاختصاص ببعض الأحياز، والجهات ليس من صفات المدح؛ وهو غير مسلم/ من حيث أن جهة العلو أشرف من جهة
________________
(1) انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(2) فى ب (الجهات والأحياز).
(3) فى ب (الرب).
(4) ساقط من أ.
(5) فى ب (لاختصاص).
(6) فى ب (بالجهة والحيز).
(7) فى ب (مصحح).
(2/39)
________________________________________
السفل؛ فالاختصاص بها يكون من صفات المدح. اللهم إلا أن يبين لزوم النقص من الاختصاص بالحيز من جهة أخرى.
وعند ذلك: فيكون تركا لهذا المسلك؛ وعدولا إلى غيره.
وأما الثانى: فإن قيل بأن المخصص لا يستدعى فى اتصافه بصفاته «1» إلى مخصص «1» مطلقا؛ لزم طرد ذلك فى الاختصاص، بالحيز، والجهة.
وإن قيل بأنه لا يفتقر إلى المخصص فى اتصافه «2» بالصفات التى بها يكون مخصصا دون غيرها؛ فلا يخفى أن صفة الكلام، والسمع، والبصر [ليست] «3» من الصفات الموجبة للتخصيص؛ فيلزم أن يكون فى اتصافه بها مفتقرا إلى مخصص؛ وهو محال.
وإن سلمنا أن اختصاص الرب- تعالى- بالحيز يوجب قيام المعنى المخصص به؛ ولكن لا نسلم أنه عرض، ولا متجدد؛ بل حكمه حكم باقى صفات الرب- تعالى- من العلم، والقدرة، ونحوه «4»؛ فلا يكون ذلك موجبا لحلول الحوادث بذات الرب- تعالى-.
المسلك الثالث:
أنه لو كان البارى «5» - تعالى- مختصا بحيز، وجهة. فإما أن يصح عليه أن يقع فى امتداد الإشارة، أو لا يصح عليه ذلك.
فإن لم يصح عليه ذلك: فليس فى تلك الجهة حقيقة؛ بل لفظا.
وإن صح عليه ذلك: فإما أن يكون له بعد، أو لا بعد له أصلا.
فإن لم يكن له بعد، وامتداد: فليس فى الحيز ككون الجوهر فى الحيز. والنزاع فى كونه إذ ذاك متحيزا ليس إلا من جهة اللفظ، لا من جهة المعنى.
________________
(1) فى ب (مخصصا).
(2) فى ب (اختصاصه).
(3) فى أ (ليس).
(4) فى ب (و نحوهما).
(5) فى ب (الرب).
(2/40)
________________________________________
وإن كان له بعد: فلا بد وأن يكون متناهيا من جميع الجهات، وإلا فهو غير متناه من جميع الجهات، أو من بعض الجهات؛ وهو محال؛ لما سيأتى فى تناهى الأبعاد.
كيف: ويلزم من كونه غير متناه من جميع الجهات، ما ألزمناه فى المسلك الأول؛ وهو محال.
وإذا كان متناهيا من جميع الجهات: فله شكل، ومقدار. وما من شكل ومقدار يقدر «1» له «1» إلا وفرض الأكبر «2»، والأصغر «2» جائز عليه عقلا، ونسبة الكل إلى ذاته واحدة؛ فاختصاص ذاته بالبعض دون البعض، يستدعى مخصصا من خارج، وإلا فلا أولوية لما اختصت به دون غيره.
ثم ذلك المخصص: لا جائز أن يكون مخصصا بذاته؛ لأن نسبة الذات إلى سائر الجائزات نسبة واحدة. فلم يبق إلا أن يكون فاعلا بالاختيار. وفعل الفاعل بالاختيار لا يكون إلا حادثا- على ما سنبينه فى مسألة «3» حدوث العالم «4»، ويلزم من/ ذلك أن يكون ما اختص به الرب- تعالى- من الشكل والمقدار، حادثا؛ وهو محال؛ لما فيه من القول بحلول الحوادث بذات الرب- تعالى- كما سبق «5».
ولقائل أن يقول:
القول بحدوث المقدار، والشكل؛ فرع جواز اتصاف الرب- تعالى- بمقدار أكبر مما هو عليه، أو أصغر؛ وهو غير مسلم؛ إذ المقادير والأشكال مختلفة. وعند ذلك: فلا مانع من القول بوجوب اختصاص الرب- تعالى- بواحد منها لذاته، دون غيره. وإنما يلزم الامتناع أن لو تماثلت المقادير، والأشكال؛ وهى غير متماثلة.
المسلك الرابع:
أنه لو كان الرب- تعالى- مختصا بحيز، وجهة: فإما أن يصح عليه الخروج «6» والانتقال «6» عنه، أو لا يصح عليه ذلك.
________________
(1) فى ب (تعدد).
(2) فى ب (الأصغر والأكبر).
(3) ساقط من ب.
(4) انظر الجزء الثانى ل 82/ ب وما بعدها.
(5) انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(6) فى ب (الانتقال والخروج).
(2/41)
________________________________________
فإن كان الأول: فيلزم عليه جواز اتصافه بالحركة، والحركة حادثة لحدوث أجزائها؛ فيكون محلا للحوادث؛ وهو محال؛ لما سبق «1».
وإن كان الثانى: فيكون كالزّمن العاجز؛ وذلك صفة نقص فى حق الله تعالى.
ولقائل أن يقول:
لا نسلم أن امتناع الخروج عليه من حيزه صفة نقص. والعجز عن الانتقال عنه إنما يتحقق فيما من شأنه أن يكون قابلا للانتقال. فما «2» لم يتبين أن الرب- تعالى- قابل للانتقال عن حيزه؛ فامتناع الانتقال عليه منه؛ لا يكون عجزا، فلا يكون ذلك من صفات النقص. وإلا كان الرب- تعالى- موصوفا بالعجز عن الحركة؛ لامتناعها عليه، وإن لم يكن متحيزا؛ وهو «3» محال.
وللخصوم شبه عقلية ونقلية:
أما الشبه العقلية:
فأربع.
الأولى: أن كل شيئين قاما بأنفسهما بحيث لا يكون أحدهما محلا للآخر: فإما أن يكونا متصلين، أو منفصلين. وعلى كلا التقديرين. فلا بد وأن يكون كل واحد منهما بجهة من الآخر؛ وهو معلوم بالضرورة، والبارى- تعالى- والعالم كل واحد قائم بنفسه؛ فيجب أن يكون كل واحد منهما بجهة من الآخر: كانا متصلين، أو منفصلين.
وربما عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى؛ فقيل: البارى- تعالى- إما أن يكون قد خلق العالم فى ذاته، أو خارجا عن ذاته.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كان محلا للحوادث؛ وهو محال كما سبق.
وإن كان الثانى: فإما أن يكون متصلا به، أو منفصلا عنه، وعلى كلا التقديرين.
يجب أن يكون بجهة منه.
________________
(1) انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(2) فى ب (فلما).
(3) فى ب (فهو).
(2/42)
________________________________________
الثانية: أنه اما أن يكون داخل/ العالم، [أو «1» خارجا «1»] عنه. أو لا داخل العالم، [و لا خارجا «2»] عنه.
لا جائز أن يكون لا داخل العالم، ولا خارجا عنه؛ فإن إثبات موجود هذا حاله «3» غير معقول.
وإن كان داخل العالم: فالعالم «4» فى جهته «4»؛ فما هو فيه يكون فى جهة. وإن كان خارج العالم: فلا بد وأن يكون موازيا للعالم، ومقابلا «5» له؛ فيكون فى جهته، وإلا لما كان خارجا عنه.
الثالثة: هو أن الوجود منقسم «6» إلى: قائم بنفسه، وإلى غير قائم بنفسه؛ بل هو معنى قائم بغيره، والقائم بنفسه: لا معنى له غير المتحيز بنفسه، والقائم بغيره: لا معنى له غير القائم بالحيز تبعا لمحله فيه؛ فالبارى تعالى إن لم يكن متحيزا بنفسه؛ فيكون «7» قائما بغيره؛ وهو محال؛ كما سيأتى بعد.
الرابعة: أنا أجمعنا على أن الرب- تعالى- متصف بصفات قائمة به، ولا معنى لقيام الصفات بالذات إلا أنها موجودة فى جهة الذات، تبعا للذات، فلو لم تكن ذات الرب- تعالى- فى جهة؛ لما عقل قيام الصفات بها.
وأما الشبه النقلية:
فمنها: قوله- تعالى-: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «8». [و منها] «9» قوله تعالى:
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «10» الآية؛ والعندية مشعرة بالحيز، والجهة.
________________
(1) فى أ (و لا خارجا).
(2) فى أ (أو خارجا).
(3) فى ب (شأنه).
(4) فى ب (و العالم فى جهة).
(5) فى ب (أو مقابلا).
(6) فى ب (ينقسم).
(7) فى ب (كان).
(8) سورة طه 20/ 5.
(9) فى أ (و منه).
(10) سورة فصلت 41/ 38.
(2/43)
________________________________________
ومنها قوله- تعالى-: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ «1». وقوله- تعالى-: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ «2»؛ وذلك مشعر بالجهة.
ومنها قوله- تعالى-: وجاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا «3». وقوله- تعالى-: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ «4»؛ وذلك أيضا مشعر بالجهة.
ومنها قوله- تعالى-: أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ «5».
دل على أن الرب- تعالى- فى السماء؛ فإن مثل ذلك الفعل لا يكون لغير الله- تعالى-.
ومنها قوله- تعالى-: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «6»
وأما من جهة السنة فحديث النزول على «7» ما سبق «7».
وأيضا: قوله عليه السلام للجارية الخرساء: «أين اللّه؟». ووجه الاحتجاج به من وجهين:
الأول: قوله «8»: «أين اللّه؟» سأل عن الأينية. ولو لا أن الله- تعالى- متأين؛ لما سأل عن [الأينية] «9».
الثانى: أنها أشارت الى السماء. ولم ينكر النبي عليه السلام عليها؛ بل قررها على ذلك، وتقريره نازل منزلة صريح لفظه.
قالوا: وإذا ثبت أنه فى جهة، وجب أن تكون هى جهة العلو، إذ هى أشرف الجهات، وتخصيص أشرف الموجودات، بأشرف الجهات أولى، ولهذا فإن الناس/ بفطرهم يرفعون أيديهم عند الدعاء والمسألة، إلى جهة السماء. ولو لا اعتقادهم أنها أشرف الجهات، وأنه مختص بها؛ لما كان كذلك.
________________
(1) سورة فاطر 35/ 10.
(2) سورة المعارج 70/ 4.
(3) سورة الفجر 89/ 22.
(4) سورة البقرة 2/ 210.
(5) سورة الملك 67/ 16.
(6) سورة النجم 53/ 8، 9.
(7) فى ب (كما سبق) انظر ل 118/ أ.
(8) فى ب (أنه قال).
(9) فى أ (أينية).
(2/44)
________________________________________
[و الجواب عنها]
والجواب عن الشبهة الأولى: أن يقال:
إن أريد بالاتصال، والانفصال؛ قيام أحدهما بالآخر، وامتناع القيام به. فالبارى- تعالى- بهذا الاعتبار منفصل عن العالم؛ ولكن ذلك مما لا يوجب كون كل واحد منهما فى جهة من الآخر إلا أن يكون الرب- تعالى- قابلا للكون فى الجهة؛ وهو عين محل النزاع.
وإن أريد بالاتصال: ما يلازمه الاتحاد فى الجهة، والحيز. وبالانفصال: ما يلازمه الاختلاف فى الجهة، والحيز؛ فذلك إنما يتم ويلزم، أن لو كان البارى- تعالى- قابلا للحيز، والجهة؛ وإلا فلا مانع من خلوه «1» عنهما معا. فإن راموا إثبات الجهة بالانفصال والاتصال بهذا الاعتبار- والخصم (لا) «2» يسلمه إلا فيما هو قابل للجهة «3»، والحيز «3» - كان دورا؛ ودعوى البديهة فى ذلك ممتنع؛ فإن البديهى لا يخالف فيه أكثر العقلاء، وأكثر العقلاء، مخالفون فى نفى الجهة عن الله- تعالى- وإن اكتفى فى ذلك بمجرد الدعوى؛ فقد لا تؤمن المعارضة بمثله فى طرف النقيض.
وعن الشبهة الثانية: باختيار أنه لا داخل العالم، ولا خارجا «4» عنه؛ فإن ذلك إنما «4» هو من لوازم الجهة والحيز، فما لا يكون فى جهة، ولا حيز؛ فلا يكون متصفا به.
والقول بأن ذلك غير معقول، إنما يصح فيما كان من ذوات الجهة والحيز. أما ما ليس من ذوات الجهة والحيز؛ فالقول بأنه «5» إما داخل العالم، وإما خارج «5» عنه؛ لا يكون معقولا.
وعن الشبهة الثالثة: منع أنه لا معنى للقائم بنفسه غير المتحيز؛ بل القائم بنفسه: هو المستغنى عن محل يقومه. والبارى- تعالى- كذلك؛ وذلك لا يلزم منه كونه فى الجهة.
________________
(1) فى ب (حيزه).
(2) فى أ (فلا).
(3) فى ب (للحيز والجهة).
(4) فى ب (و لا خارج فإن ذلك).
(5) فى ب (بأنه داخل أو خارج).
(2/45)
________________________________________
وعن الرابعة: بمنع أنه لا معنى لقيام الصفة بمحلها إلا كونها موجودة فى الحيز تبعا لمحلها فيه، ومن المعلوم أن ذلك غير ضرورى، ولا دليل عليه.
وأما الشبه النقلية: فمن باب الظواهر الظنية؛ فلا تقع فى مقابلة الأدلة العقلية اليقينية «1».
كيف وأنه مهما تعارض دليلان؛ فالجمع بينهما أولى من العمل بأحدهما، وتعطيل الآخر، وقد أمكن الجمع بتأويل ما ذكروه من الظواهر، على وجه موافق للدليل العقلى الدال على نفى الجهة، والحيز.
أما/ قوله- تعالى-: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «2». فقد سبق تأويله. وقوله- تعالى- فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «3» لم يرد به التقارب بالذوات، والأحياز؛ بل أراد به الاختصاص بالاصطفاء، والإكرام، والاجتباء. ولهذا يقال: فلان عند الملك بمنزلة عظيمة؛ أى أنه مختص بالاصطفاء، والاجتباء.
وقوله- تعالى-: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ «4». معناه وقوعه من الله تعالى- موقع الرضا، وعلو الرتبة، وتعظيم شأنه، وليس المراد به الحركة، والانتقال إلى جهة الله- تعالى-؛ فإن الكلام عرض؛ وهو غير منتقل.
وقوله- تعالى-: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ «5»؛ فالمراد به عروجهم إلى حيث يأمرهم بالتقرب إليه. وليس المراد به التقرب بالذوات؛ وذلك كما فى قوله- تعالى-:
وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ «6»: أى بالتقرب إليه بالطاعة لا أن المراد به التقرب بالمسافة.
________________
(1) يلاحظ تطبيق الآمدي للمنهج الّذي ارتضاه؛ وهو أن أدلة القرآن الكريم والسنة النبوية تفيد الظن. انظر ما سبق ل 40/ ب.
(2) سورة طه 20/ 5.
(3) سورة فصلت 41/ 38.
(4) سورة فاطر 35/ 10.
(5) سورة المعارج 70/ 4.
(6) سورة النساء 4/ 100.
(2/46)
________________________________________
وقوله- تعالى-: وجاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا «1»؛ ليس المراد به الحركة والانتقال؛ بل المراد به مجىء أمر الرب- تعالى- لفصل القضاء يوم الدين بطريق حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه؛ وذلك كما فى قوله تعالى-: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ «2»: أى أمره، بالاتفاق منا، ومن الخصوم.
وقوله- تعالى-: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ «3»، أى عذاب الله فى ظلل من الغمام، بطريق حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. وإنما خصصه بالظلل من الغمام؛ لأن أكثر العقوبات كانت يتقدمها ظلل من الغمام كما نقل.
وقوله- تعالى-: أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ «4». فيحتمل أن يكون المراد به من حكمه فى السماء وقهره. ويحتمل أنه أراد به ملكا مسلطا على عذاب المستوجبين للعذاب: إما جبريل، أو غيره؛ ولهذا قد نقل أرباب التفسير «5» أن جبريل عليه السلام هو الّذي جعل قرى قوم لوط دكا؛ بقلب أعاليها على أسافلها.
وقوله- تعالى-: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «6»؛ فليس فى الآية ما يدل على أن القرب، والدنو من الله- تعالى- للرسول. وعند ذلك: فيحتمل أنه أراد به قرب الرسول، ودنوه من درجة لا تقرب منها إلّا أجلّ الخلائق.
وإن أريد به القرب من الله- تعالى- فليس المراد به القرب بالذوات؛ بل بالطاعة.
وقوله: قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى تأكيد له. وعليه حمل قوله- تعالى- «إذا تقرّب العبد إلى ذراعا:- أى بالطاعة-/ تقرّبت إليه باعا» «7» بالرأفة والرحمة.
وأما حديث النزول إلى سماء الدنيا؛ فقد سبق تأويله «8».
وأما قوله عليه السلام للخرساء: «أين اللّه؟» فيحتمل أحد أمرين:
________________
(1) سورة الفجر 89/ 22.
(2) سورة النحل 16/ 26.
(3) سورة البقرة 2/ 210.
(4) سورة الملك 67/ 16.
(5) فى ب (التفاسير).
(6) سورة النجم 53/ 8، 9.
(7) جزء من حديث عن أبى هريرة فى البخارى 9/ 147 - 148 (كتاب التوحيد، باب ما يذكر فى الذات والنعوت وأسامى الله). والحديث ورد فى مواضع كثيرة من الصحاح والسنن.
(8) انظر ل 118/ أ.
(2/47)
________________________________________
الأول: أنه يحتمل أنه أراد استنطاقها بما ظن أنه معتقد لها من الأينية، ولا يدل ذلك على أن الرب- تعالى- متأين. وهذا كما روى عنه عليه السلام- أنه قال لأم جميل «كم تعبدين من الآلهة»؟ فقالت: خمسة، وإن كنا نعلم امتناع التعدد فى الآلهة، وامتناع اعتقاد النبي- عليه الصلاة والسلام- لذلك. ويحتمل أنه أراد بقوله: «أين اللّه؟»: أى أين موقع معرفة الله- تعالى منك. بطريق حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. إما أن يكون ذلك إشارة من النبي عليه الصلاة والسلام إلى أينية الرب- تعالى- فكلا.
ولهذا قد روى عنه عليه السلام أنه قيل له: أين الله؟ فقال «ليس لمن أيّن الأين أين» (1).
وأما إشارة الخرساء إلى السماء. وتقرير النبي عليه السلام لها؛ فليس فيه ما يدل على أنها قصدت بالإشارة إثبات الجهة؛ بل لعلها قصدت تعريف إلهها بخالق السماء، ورافعها؛ تنبيها بالأعلى، على الأدنى.
وأما رفع الأيدى إلى السماء حالة الدعاء؛ فليس فى ذلك ما يدل على أن الله- تعالى- فى جهة السماء؛ بل إنما كان كذلك؛ لأنها قبلة الدعاء. كما أن البيت العتيق قبلة للصلاة. وكما أن جهة الأرض محل للسجود؛ فكما لا يدل التوجه فى الصلاة إلى البيت على أن الله- تعالى- فى جهة البيت، ولا السجود، ووضع الجبهة على الأرض على أن الله- تعالى- فى جهة الأرض؛ فكذلك رفع الأيدى إلى السماء وذلك لأن الله- تعالى- كما له تخصيص بعض الأماكن، وبعض الأزمان؛ ببعض العبادات؛ فكذا له تخصيص بعض الجهات، بالتقرب إليه ببعض العبادات، دون البعض.
**********
(2/48)
________________________________________
«المسألة السادسة» فى أن وجود الرب- تعالى- ليس فى زمان «1»
اتفق العقلاء على أن وجود الرب- تعالى- ليس وجودا زمانيا، ولم ينقل عن أحد من أرباب المذاهب خلاف فى ذلك. وإن كان مذهب المجسمة «2» يجر إليه كما يجر إلى التحيز، والمكان. ومعنى كون الوجود زمانيا: أنه لا يتصور كونه إلا فى زمان، كما أن الوجود المكانى، هو الّذي لا يتصور كونه إلا فى مكان، والدليل على أن وجود الرب- تعالى- ليس وجودا زمانيا. هو أن المفهوم/ من الزمان: إما أن يكون وجودا، أو عدما.
لا جائز أن يكون عدما: وإلا كان سلب الزمان قبل وجود العالم وجودا ولا أول لسلبه؛ فيكون قديما؛ وهو محال. كما سيأتى فى تحقيق حدوث كل موجود سوى الله- تعالى- «3».
وإن كان المفهوم من الزمان وجودا: فلا يخلو: إما أن يكون قديما، أو حادثا. لا جائز أن يكون قديما: لما يأتى.
وإن كان حادثا: فإما أن يتصور وجود الرب- تعالى- دونه، أو لا يتصور.
لا جائز أن يقال بعدم وجود الرب تعالى دونه: وإلا كان وجود الرب تعالى حادثا؛ ضرورة ملازمة الحادث له، وخرج عن كونه واجبا؛ وهو محال.
وإن قيل بجواز وجود الرب- تعالى- دونه: فليس وجوده وجودا زمانيا؛ وهو المطلوب.
________________
(1) انظر المواقف للإيجي ص 274.
(2) المجسمة: هم الذين قالوا إن الله تعالى جسم، وإن قال بعضهم أنه جسم لا كالأجسام.
ومنهم من قال: إن الله تعالى جسم ممدود، عريض، عميق، طويل طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه، وهو يتحرك، ويسكن، ويقعد، ويقوم (تعالى الله عن قولهم).
وقد قال بالجسمية بعض الروافض من الشيعة، والكرامية، وبعض المدعين للسلفية (انظر الملل والنحل 1/ 103 - 113 ونشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام 1/ 385 - 429).
(3) انظر الجزء الثانى ل 82/ ب وما بعدها.
(2/49)
________________________________________
نعم غايته أنه يصدق عليه أن وجوده مقارن فى وقتنا هذا للزمان، وموجود مع وجود الزمان؛ وذلك لا يوجب كون وجوده زمانيا. كما أن وجوده فى الآن منع وجود المكان، ومقارن له؛ وليس وجوده؛ وجودا مكانيا.
وأما ما هو المفهوم من المكان، والزمان؛ فسيأتى تحقيقه مفصلا فيما بعد إن شاء الله- تعالى- «1».
******
________________
(1) عن المكان انظر الجزء الثانى ل 49/ ب وما بعدها. أما عن الزمان فانظر الجزء الثانى ل 61/ ب وما بعدها.
(2/50)
________________________________________
«المسألة السابعة» فى استحالة حلول ذات البارى- تعالى- أو صفة من صفاته فى محل «1»
اتفق العقلاء، وأرباب الملل على استحالة حلول ذات البارى- تعالى- وصفاته فى محل. خلافا للنصارى «2»، والنّصيريّة، والإسحاقية «3» من غلاة الشيعة، وبعض المشبهة.
أما النّصارى: فلهم تفصيل مذهب فى حلول اللاهوت بالناسوت، وتدرعه به، واتحاده به، نأتى على استقصائه عند الرد عليهم إن شاء الله تعالى «4».
وأما النّصيرية، والإسحاقيّة: فإنهم قالوا: ظهور الروحانى بالجسد الجسمانى أمر غير منكر.
أما فى جانب الخير: فكظهور جبريل عليه السلام ببعض الأشخاص، والتصور بصورة بعض الأعراب.
وأما فى جانب الشر: فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعلم به الشر، ويتكلم بلسانه.
وعلى هذا فغير ممتنع أن يظهر الرب- تعالى- بصورة أشخاص. ولما لم يكن بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفضل من على- عليه السلام- وبعده أولاده
________________
(1) انظر شرح الطوالع ص 158 والمواقف ص 274 وشرح المقاصد 2/ 52.
(2) النصارى: أمة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وكانت مدة دعوته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، أثبتوا لله- تعالى- أقانيم ثلاثة؛ فهو واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية، وقد افترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، وكبار فرقهم ثلاث: الملكانية، والنسطورية، واليعقوبية كما سيأتى (الملل 2/ 25 - 33 المغنى 5/ 80 - 151).
(3) النصيرية والإسحاقية:
من جملة غلاة الشيعة، وهما يتفقان فى أمور، ويختلفان فى أمور أخرى قالوا: ظهور الروحانى بالجسد الجسمانى أمر واقع غير منكر فى جانبى الخير والشر، وبينهما خلاف فى كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة من أهل البيت، وربما أثبتوا الشركة فى الرسالة بين الرسول صلى الله عليه وسلم، والإمام على- إلا أن النصيرية أميل إلى تقرير الجزء الالهى.
والإسحاقية أميل إلى تقرير الشركة فى النبوة- وهما من الفرق الخارجة عن الإسلام. (الملل والنحل 1/ 189، 190).
(4) انظر المسألة الثامنة ل 157/ أ وما بعدها.
(2/51)
________________________________________
المخصوصون، وهم خير البرية- ظهر البارى- تعالى- بصورهم، ونطق بألسنتهم. وأطلقوا باعتبار ذلك اسم الآلهة عليهم. تعالى الله عن قولهم.
وأما بعض المشبهة «1»:/ فإنهم قالوا: روح الآدمى صفة من صفات الرب- تعالى- لأنها من أمر الرب كما قال- تعالى-: ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «2» وأمر الله- تعالى- صفة من صفاته القديمة؛ فكانت الروح صفة من صفاته.
والدليل على مذهب أهل الحق.
أما أن ذات البارى- تعالى- يمتنع حلولها فى المحل.
فلنا فيه ثلاث مسالك:
المسلك الأول:
أنه لو حلت ذاته فى محل؛ فذلك المحل: إما أن يكون قديما، أو حادثا.
لا جائز أن يكون قديما؛ لما سيأتى فى بيان حدوث كل موجود سوى الله- تعالى-.
وإن كان حادثا فقبل حدوثه. إما أن يكون الرب- تعالى- محتاجا فى وجوده إلى حلوله فى ذلك المحل، أو لا يكون محتاجا إليه.
فإن كان الأول: فهو محال؛ لثلاثة أوجه:
الأول: أنه يلزم منه خروج الرب- تعالى- عن كونه واجب الوجود؛ وهو محال.
الثانى: (أنه) «3» يلزم منه: إما قدم المحل؛ ضرورة احتياج القديم إليه، أو حدوث القديم؛ وكل واحد من الأمرين محال.
الثالث: أنه يلزم منه الدور ضرورة توقف وجود المحل على وجود البارى تعالى- لكونه مصدر الكائنات، وتوقف وجود الرب- تعالى- على حلوله فى ذلك المحل؛ وهو ممتنع.
________________
(1) لتوضيح رأى المشبهة وبيان أصنافهم: انظر الفرق بين الفرق للبغدادى ص 225 - 230، والملل والنحل 1/ 103 - 113، 188 - 189.
وانظر ما سيأتى فى الجزء الثانى- القاعدة السابعة ل 256/ ب وما بعدها.
(2) سورة الإسراء 17/ 85.
(3) ساقط من أ.
(2/52)
________________________________________
وإن لم يكن الرب- تعالى- قبل حدوث ذلك المحل محتاجا إلى حلوله فيه فبعد حدوثه «1»: إما أن يكون محتاجا إليه، أو لا يكون محتاجا إليه.
فإن كان محتاجا إليه: ففى حالة احتياجه إليه يخرج عن كونه واجب الوجود؛ وهو محال.
وإن لم يكن محتاجا إليه: ففى حالة حلوله فيه: إما أن يكون قائما بنفسه، أو بذلك المحل.
فإن كان قائما بنفسه؛ والمحل قائم بنفسه؛ فليس القول بحلول أحدهما فى الآخر، أولى من العكس؛ بل الواجب أن كل واحد قائم بنفسه، وليس محلا للآخر، ولا حالا فيه.
وإن كان قائما بذلك المحل لا بنفسه؛ فليس واجب الوجود لذاته؛ ضرورة تقومه بغيره؛ وهو محال.
المسلك الثانى:
أنه لو حلت ذاته فى محل؛ فذلك المحل: إما أن يكون قابلا للانقسام، أو لا يكون قابلا للانقسام.
فإن كان قابلا للانقسام: فما حل فيه وطابقه، يجب أن يكون أيضا قابلا للانقسام؛ فتكون ذات الرب- تعالى- قابلة للانقسام، ومركبة من أجزاء، وكل واحد من أجزائها غيرها؛ إذ المفهوم من الجملة، يزيد على المفهوم من كل/ واحد من الأفراد؛ فيكون غير كل واحد من الأفراد، وهو مفتقر إلى كل واحد من الأفراد، وما كان مفتقرا فى وجوده إلى غيره؛ فلا يكون واجب الوجود لذاته.
وإن لم يكن المحل قابلا للانقسام: فيكون من الصغر، والحقارة بمنزلة الجوهر الفرد، فما حل فيه يكون مثله؛ والرب يتعالى ويتقدس عن ذلك.
________________
(1) فى ب (الحدوث).
(2/53)
________________________________________
المسلك الثالث:
وهو خصيص بامتناع حلول ذات البارى- تعالى- فى بعض الأجسام دون البعض كما هو مذهب الحلولية «1»، وهو أنه لو جاز حلول ذات البارى- تعالى- فى بعض الأجسام؛ فلا بد وأن تكون ذات ذلك الجسم قابلة لحلول ذات البارى تعالى- فيها؛ وأن تكون ذات البارى- تعالى- قابلة للحلول فى ذلك الجسم، وإلا كان القول بجواز الحلول مع امتناع القبول من الطرفين، أو من أحدهما؛ ممتنعا.
وعند ذلك: فإما أن يكون قبول ذلك الجسم لحلول ذات الله- تعالى- فيه، وقبول ذات الله- تعالى- لحلولها فيه، لعموم كونه جسما، أو لما به تعينه، وتخصصه من الصفات الموجبة لتميزه عن غيره من الأجسام.
فإن كان الأول: فيلزم منه جواز حلول الرب- تعالى- بكل جسم من الأجسام حتى أجسام الجمادات، والحشرات، والمستقذرات من النجاسات «2» والرب تعالى- يتقدس «2» عن ذلك.
وإن كان الثانى: فما اختص به ذلك الجسم من الصفات إما أن يكون ذلك لذاته، أو لمخصص من خارج.
فإن كان لذاته: فالأجسام مشتركة فى معنى الجسمية. فما اختص به جاز أن يختص به غيره؛ فيكون أيضا قابلا لحلول ذات البارى- تعالى- فيه. وإن كان لمخصص من خارج: فإما أن يكون مخصصا بالطبع، أو الاختيار. فإن كان مخصصا بالطبع؛ فهو محال؛ لتساوى الأجسام بالنسبة إليه.
وإن كان مخصصا بالاختيار؛ فما «3» جاز على الفاعل المختار تخصيص ذلك الجسم بما تخصص به؛ جاز أن يخصص به ما هو مماثل له فى الجسمية.
________________
(1) الحلولية: هم قوم أجمعوا على إفساد القول بتوحيد الصانع. وهم النصارى الذين قالوا بحلول اللاهوت بالناسوت، وتدرعه به، واتحاده به، والنصيرية والإسحاقية من غلاة الشيعة الذين قالوا: إن الله حل فى أئمتهم؛ فظهر بصورهم، ونطق بألسنتهم. ومنهم بعض المشبهة الذين قالوا إن روح الآدمى من روح الله، ومنهم بعض المتصوفة القائلين بالحلول، والاتحاد.
(2) فى ب (النجاسة والرب يتعالى ويتقدس).
(3) فى ب (فكما).
(2/54)
________________________________________
وعند ذلك: فيجوز على ذات الرب «1» - تعالى- الحلول بالنسبة إلى كل جسم من الأجسام، ويمتنع الاختصاص بالبعض دون البعض.
وعلى هذا: فلا يمتنع أن يكون الرب «2» - تعالى- حالا فى بدن كل من نراه من الناس؛ بل فيما نشاهده من أبدان الحيوانات العجماوات، لجواز أن يكون متصفا بما به القبولية، وعدم المعرفة بذلك غير مانع من الجواز، وأن يكون فى نفس الأمر كذلك/؛ فإنه لا يلزم من انتفاء الدليل، انتفاء المدلول فى نفسه؛ على ما سبق تحقيقه «3».
وأما أنه يمتنع حلول صفة من صفات الله- تعالى- فى محل غير ذاته، فلأن ما يقدر من الصفات الثابتة لذات الرب- تعالى- حالا فى محل آخر غير ذات الله- تعالى-[«4» إما أن يكون ذلك مع بقاء تلك الصفة حالة فى ذات الله- تعالى-]، أو مع زوالها عن ذات الله- تعالى-
فإن كان الأول: فيلزم منه قيام الصفة المتحدة لمحلين؛ وهو ممتنع.
وإن كان الثانى: فهو محال لوجهين:
الأول: أنه يلزم منه خلو ذات الله- تعالى- عما له من الصفات النفسانية، أو بعضها؛ وهو ممتنع، لما سبق فى إثبات الصفات «5».
الثانى: أنه يلزم منه جواز انتقال الصفة من محل، إلى محل؛ وهو محال؛ لأن الصفة المنتقلة لها حالة اتصال بالمحل الأول، وحالة اتصال بالمحل الثانى. وليست حالة اتصالها بالمحل الأول. هى حالة اتصالها بالمحل الثانى، وإلا كانت الصفة الواحدة فى حالة واحدة، قائمة بمحلين؛ وهو محال.
وإنما صارت متصلة بالمحل الثانى بعد انفصالها عن المحل الأول بالانتقال؛ إذ لو لم يقدر الانتقال، لما كانت زائلة عن المحل الأول، ومتصلة بالمحل الثانى، وليست
________________
(1) فى ب (البارى).
(2) فى ب (البارى).
(3) انظر ل 38/ أ، ب.
(4) من أول (إما أن يكون ذلك ... ) ساقط من أ.
(5) انظر ل 54/ أ وما بعدها.
(2/55)
________________________________________
حالة الانتقال هى حالة الاتصال، لا بالمحل الأول، ولا الثانى. وإلا كانت حالة اتصالها بمحلها منتقلة عنه، أو إليه؛ وهو محال.
فحالة الانتقال: إما أن تكون قائمة بمحل، أو لا تكون قائمة بمحل.
فإن كانت قائمة بمحل: فلا بد وأن تكون منتقلة إليه عن المحل الأول لما تحقق، والكلام فى حالة انتقالها إليه: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كانت قائمة لا بمحل: فقد خرجت عن أن تكون صفة مفتقرة إلى المحل؛ وهو خلف محال.
وهذه المحالات: إنما لزمت من القول بجواز حلول صفات الرب- تعالى- بمحل غير ذاته؛ فالقول به محال.
وأما قوله- تعالى-: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «1» (فليس) «2» المراد به أن الروح بعض من الأمر الّذي هو صفة لله- تعالى-؛ لما بيناه من استحالة حلول الصفة القديمة بغير الله- تعالى-؛ بل المراد من قوله: مِنْ أَمْرِ رَبِّي: أى من خلق ربى؛ على ما ذكره أهل التفسير، والله أعلم.
*******
________________
(1) سورة الإسراء 17/ 85.
(2) فى أ (ليس).
(2/56)
________________________________________
«المسألة الثامنة» فى الرد على النّصارى
وقد اتفقت النصارى على أن الله- تعالى- جوهر. بمعنى أنه قائم بنفسه غير متحيز، ولا مختص بجهة، ولا مقدر بقدر، ولا يقبل حلول الحوادث/ بذاته، ولا يتصور عليه الحدوث والعدم، وأنه واحد بالجوهرية. ثلاثة بالأقنومية. والأقانيم: هى صفات الجوهر القديم. وهى الوجود، والعلم، والحياة. وعبروا عن الوجود: بالأب، والحياة:
بروح القدس، والعلم: بالكلمة.
واتفقوا على تدرع الكلمة:- وهى أقنوم العلم- بالمسيح، واتحادها به دون باقى الأقانيم، وعلى تسمية المسيح مع ما تدرع به من أقنوم العلم ابنا.
واتفقوا أيضا على أن عيسى ولدته أمه مريم، وأنه قتل، وصلب، وصعد إلى السماء.
ثم اختلفوا:
فذهبت الملكانية «1»:
أصحاب ملكا- الّذي ظهر بالروم، واستولى عليها- إلى أن الأقانيم: غير الجوهر القديم، وأن كل واحد منها: إله. وصرحوا بإثبات التثليث «2». كما قال الله- تعالى- إخبارا عنهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «3». وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح، وتدرعت بناسوته، وامتزجت به: كامتزاج الخمر بالماء، أو اللبن. ثم صارا شيئا واحدا، وانقلبت الكثرة قلة: أى العدد وحدة، وأن المسيح ناسوت كلى لا جزئى. وهو قديم أزلى، وأن مريم ولدت إلها أزليا، مع اختلافهم فى مريم: أنها إنسان كلى، أو جزئى.
واتفقوا: على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح، دون مريم، وأن القتل، والصلب وقع على الناسوت، واللاهوت معا. واطلقوا لفظ الابن: على عيسى، والأب: على الله تعالى.
________________
(1) الملكانية: من أقدم المذاهب المسيحية: وهم أصحاب ملكا الّذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها، وكان معظم الروم ملكانية. وهذا المذهب كان منتشرا فى البلاد التى فتحها المسلمون، ويبدوا أنه كان المذهب الرسمى فى ذلك العهد. (انظر المغنى 5/ 84 والملل 2/ 27 - 29 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 97، 98).
(2) فى ب (الثلاث).
(3) سورة المائدة 5/ 73.
(2/57)
________________________________________
وذهب نسطور «1» الحكيم:
الّذي ظهر فى زمان المأمون-: الى أن الله- تعالى- واحد، والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته، ولا «2» هى نفس «2» ذاته، وفسر أقنوم العلم بالنطق، والكلمة. وقال: الله- تعالى- موجود حي ناطق. وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح عليه السلام لا بمعنى الامتزاج؛ بل بمعنى الإشراق، أى أنها أشرقت عليه:
كإشراق الشمس من كوة على بلور.
ومن النسطورية «3» من قال: إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة: حي، ناطق، إله، وصرحوا بالتثليث «4»: كمذهب الملكانية؛ كما سبق.
ومنهم: من منع من ذلك.
ومنهم: من أثبت لله- تعالى صفات أخرى: كالقدرة، والإرادة، ونحوها؛ ولكن لم يجعلوها أقانيم: كالحياة «5»، والعلم «5». وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب؛ وإنما تجسد، وتوحد بجسد المسيح حين ولد، والحدوث راجع إلى الناسوت؛ فالمسيح إله تام، وإنسان تام؛ وهما جوهران قديم، وحادث؛ والاتحاد غير مبطل لقدم القديم، ولا/ لحدوث المحدث، واتفقوا على أن القتل، والصلب إنما ورد على الناسوت، دون اللاهوت. ومنهم من قال: بأن الإله واحد، وأن المسيح ابتدأ من مريم، وأنه عبد صالح مخلوق. إلا أن الله- تعالى- شرفه، وكرمه؛ لطاعته، وسماه ابنا على سبيل التبنى؛ لا أنه ولد منه.
________________
(1) نسطور هو مؤسس النسطورية، وقد ظهر فى أوائل القرن الثانى الميلادى، وجلس على كرسى البطريركية فى بيزنطة (القسطنطينية) وفيها أعلن مذهبه فى طبيعة المسيح، وقد أثار عليه ثورة كبرى فى العالم المسيحى وقتئذ.
وقد تابع الآمدي الشهرستانى على خطئه حيث ذكر أن نسطور ظهر فى زمان المأمون، والحق أن نسطور قد ظهر قبل المأمون بأكثر من ستة قرون.
(انظر المغنى 5/ 84 والملل والنحل 2/ 29، 30 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 98 - 101.
(2) فى ب (و لا نفس).
(3) النسطورية: هم أصحاب نسطور الحكيم الّذي مرت ترجمته. أما عن آرائهم بالتفصيل؛ فانظر الملل والنحل 2/ 29، 30 والمغنى 5/ 84 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 98 - 101.
(4) فى ب (بالثلاث).
(5) فى ب (كالعلم والحياة).
(2/58)
________________________________________
وذهب بعض اليعقوبية «1»:
الى أن الكلمة: انقلبت لحما، ودما؛ فصار الإله هو المسيح. وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله- تعالى-: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «2»
ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت، بحيث صار هو، هو، كما يقال: ظهر الملك بصورة إنسان، وقد قال الله- تعالى-: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا «3».
ومنهم من قال: إن جوهر الإله القديم، وجوهر الإنسان المحدث تركبا كتركب النفس الناطقة مع البدن، فصارا جوهرا واحدا وهو المسيح؛ فهو إله كله، وإنسان كله وصار الإله إنسانا، وإن لم يصر الإنسان إلها. كما يقال فى الفحمة إذا طرحت فى النار، صارت الفحمة نارا، ولا يقال صارت النار فحمة، ولا يكون فى الحقيقة لا نارا مطلقة، ولا فحمة مطلقة؛ بل جمرة.
وقالوا: إن اتحاد اللاهوت بالإنسان الجزئى، دون الكلى، وأن مريم ولدت إلها، وأن القتل، والصلب، وقع على اللاهوت والناسوت معا؛ وإلا فلو وقع على أحدهما؛ لبطل معنى الاتحاد.
ومنهم من قال: المسيح مع اتحاد جوهره قديم، من وجه، محدث من وجه.
ومن اليعقوبية من قال: إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا، وإنما مرت بها كمرور الماء فى الميزاب.
ومنهم من زعم أن الكلمة: كانت تداخل جسد المسيح؛ فتصدر عنه الآيات التى كانت تظهر عنه، وتفارقه تارة؛ فتحله الآفات، والآلام، والأوجاع.
ومن النصارى من زعم: أن معنى: اتحاد اللاهوت بالناسوت؛ ظهور اللاهوت على الناسوت، وإن لم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء، ولا حل فيه، وذلك: كظهور نقش الطابع على الشمع المتصل به، أو ظهور الصورة المرئية فى المرآة الصقيلة.
________________
(1) اليعقوبية: وقد اختلف فى صاحب المذهب: هل هو يعقوب البرذعانى، أم ساويرس بطريرك انطاكية، أو أوطاخس؟ والّذي ذهب إليه الشهرستانى أنهم أصحاب يعقوب: وقد نقل الشهرستانى موجزا لهذا المذهب فى كتابه الملل والنحل يدل على فهم كامل له. بين فيه ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه كما أورده الآمدي هنا.
(المغنى 5/ 81، 83 والملل والنحل 2/ 30 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 101 - 102).
(2) سورة المائدة 5/ 72.
(3) سورة مريم 19/ 17.
(2/59)
________________________________________
ومنهم من قال: إن الوجود والكلمة؛ قديمان، والحياة؛ مخلوقة.
ومنهم من قال: إن الله- تعالى- واحد، وسماه أبا، وأن المسيح كلمة الله، وابنه على طريق الاصطفاء [و الاجتباء] «1»؛ وهو مخلوق قبل خلق العالم، وهو خالق الأشياء كلها.
وجملة هذه/ الأقاويل، وحاصل هذه الأباطيل- مع أنها مخالفة للأصول، ومراغمة للعقول-؛ فمما لا مستند لها ولا معول لهم فيها؛ غير التقليد عن أسلافهم، والأخذ بظواهر ألفاظ لا يحيطون بمفهومها.
وأشبه ما احتج به من قال إن المسيح عليه السلام إله، أنه قال: قد ثبت أن المسيح عليه السلام أبرأ الأكمه، والأبرص، وأحيى الموتى، وفعل أفعالا، وقع الاتفاق من العقلاء على أنها لا يمكن صدورها عن «2» البشر المخلوقين، وأنه لا صدور لها عن غير «3» الله تعالى «3» -؛ فكان إلها.
وربما احتجوا على ذلك نقلا: بما «4» روى «4» فى الإنجيل: أن مريم تلد إلها.
وربما احتج علينا من قال بأن المسيح كلمة الله بما نطق به كتابنا من قوله تعالى-:
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ «5» وبقوله- تعالى- فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا «6».
واحتجوا قاطبة على جواز إطلاق اسم الأب على الله- تعالى والابن على المسيح.
بما رواه فى الإنجيل «إنك أنت الابن الوحيد» «7» ويقول المسيح عليه السلام: «من رآنى فقد رأى أبى فإننى وإياه واحد» «8» ويقول شمعون الصفا: «إنك ابن الله حقا».
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (من).
(3) فى ب (الإله).
(4) فى أ (بما رواه).
(5) سورة النساء 4/ 171.
(6) سورة التحريم 66/ 12.
(7) الموجود فى إنجيل يوحنا الاصحاح 1/ 18 (الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الّذي هو فى حضن الأب هو خبر).
(8) الموجود فى نسخة ب (من رآنى فقد رآنى وأبى فإنى وإياه واحد).
وقد رجعت إلى إنجيل يوحنا 14/ 9 فوجدت الآتى (الّذي رآنى فقد رأى الأب).
(2/60)
________________________________________
[الرد عليهم]
وإذا أتينا على تفصيل مذاهبهم، وإيضاح عقائدهم، والتنبيه على الأشبه من أدلتهم؛ فلا بد من التشمير لا فسادها، وتحقيق إبطالها. من جهة الاستدلال، والمناقضة، والإلزام فى كل موضع على حسبه إن شاء الله تعالى.
فنقول:
أما قولهم: بأن الله- تعالى- جوهر بالمعنى المذكور؛ فلا نزاع معهم فيه من جهة المعنى؛ بل من جهة الإطلاق اللفظى سمعا، وقد حققنا ما فيه فى مسألة «1» أن الله- تعالى- ليس بجوهر «1».
وأما حصرهم الأقانيم فى ثلاثة: وهى صفة الوجود، والحياة، والعلم؛ فباطل.
أما أولا: فقد «2» بينا أن «2» الحجج فى أن صفة الوجود هل هى زائدة على ذات الله- تعالى- متعارضة، متنافية من غير ترجيح؛ وذلك مما يتعذر معه «3» الجزم بكونه صفة زائدة «4».
وأما ثانيا: فلأنهم لو طولبوا بدليل الحصر، لم يجدوا إليه سبيلا سوى قولهم:
بحثنا: فلم نجد غير ما ذكرناه؛ وهو غير يقينى؛ لما سلف «5».
ثم هو باطل بما حققناه: من وجوب إثبات صفة القدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام.
فإن قالوا: الأقانيم هى خواص الجوهر، وصفات نفسه، ومن حكمها أن تلزم الجوهر، ولا تتعداه إلى غيره؛ وذلك متحقق فى الوجود، والحياة؛ إذ لا تعلق لوجود الذات/ القديمة، وحياتها بغيرها، وكذلك العلم؛ اذ العلم مختص بالجوهر، من حيث هو معلوم به. وهذا بخلاف القدرة والإرادة؛ فإنها لا اختصاص لها بالذات القديمة؛ بل هى متعلقة بالغير مما هو مقدور، ومراد؛ والذات القديمة غير مقدورة، ولا مرادة.
وأيضا: فإن الحياة تجرى من القدرة، والإرادة من حيث أن الحى لا يخلو عنهما، بخلاف العلم، فإنه قد يخلو عنه؛ ولأنه يمتنع إجراء الحياة عن العلم؛ لاختصاص
________________
(1) فى ب (فيما سبق) انظر ل 142/ أ وما بعدها.
(2) فى ب (فإنا قد بينا).
(3) فى ب (عنده).
(4) زائد فى ب (متعارضة متنافية من غير ترجيح بكونه صفة زائدة).
(5) فى ب (لما سيأتى). انظر ل 38/ أ.
(2/61)
________________________________________
الحياة بامتناع جريان المبالغة، والتفضيل فيها، بخلاف العلم؛ فإنه يقال: هذا أعلم من هذا.
قلنا: أما قولهم: إن الوجود، والحياة مختصة بذات القديم، ولا تعلق لهما بغيره؛ فمسلم؛ ولكن يلزم عليه: أن لا يكون العلم أقنوما؛ لتعلقه بغير ذات القديم؛ إذ هو معلوم به. فلئن قالوا: إن العلم إنما كان أقنوما من حيث كان متعلقا بذات القديم، لا من حيث كان متعلقا بغيره؛ فيلزمهم أن يكون البصر أقنوما، لتعلقه بذات القديم من حيث أنه يرى نفسه، ولم يقولوا به. ثم «1» يلزمهم «1» من ذلك أن يكون بقاء ذات الله- تعالى- أقنوما، لاختصاص البقاء بنفسه، وعدم تعلقه بغيره كما فى الوجود، والحياة، والعلم.
فلئن قالوا: البقاء هو نفس الوجود؛ فيلزم أن يكون الموجود، فى أول زمان حدوثه باقيا؛ وهو محال.
وقولهم: بأن الحياة «2» تجرى عن القدرة، والإرادة: فإما أن يريدوا بذلك «3»: أن القدرة والإرادة، هى نفس الحياة، أو أنها خارجة عنها لازمة لها، لا تفارقها.
فإن كان الأول: فقد نقضوا مذهبهم؛ حيث قالوا: إن الحياة أقنوم لاختصاصها بجوهر القديم، والقدرة والإرادة غير [مختصتين] «4» بذات القديم تعالى-؛ وذلك مشعر بالمغايرة، ولا اتحاد مع المغايرة.
وإن قالوا: إنها لازمة لها مع المغايرة؛ فهو ممنوع؛ فإنه كما يجوز خلو الحى عن العلم؛ فكذلك قد يجوز خلوه عن القدرة، والإرادة كما فى حالة النوم، والإغماء، [و نحوهما] «5».
وقولهم: إنه يمتنع إجراء الحياة عن العلم؛ لاختصاص العلم بالمبالغة، والتفضيل؛ فيلزم منه أن لا تكون مجربة عن القدرة أيضا؛ لاختصاص القدرة بهذا النوع من المبالغة، والتفضيل.
________________
(1) فى ب (و يلزمهم).
(2) فى ب (الإرادة).
(3) فى ب (به).
(4) فى أ (مختصه).
(5) فى أ (و نحوه).
(2/62)
________________________________________
وأما قولهم: بأن الكلمة حلت فى المسيح، وتدرعت به؛ فهو باطل من وجهين:
الأول: ما ذكرناه فى امتناع حلول صفة/ القديم فى غيره.
الثانى: أنه ليس القول بحلول الكلمة، أولى من القول بحلول الروح، وهى الحياة.
فلئن قالوا: إنما استدللنا على حلول العلم فيه لاختصاصه بعلوم لا يشاركه غيره فيها.
قلنا: وقد اختص عندكم بإحياء الميت «1»، وإبراء الأكمه، والأبرص، وبأمور لا «2» يقدر غيره من المخلوقين عليها، والقدرة عندكم، فى حكم الحياة. إما بمعنى أنها عينها، أو ملازمة لها؛ فوجب أن يقال: بحلول الحياة فيه؛ ولم يقولوا به.
وأما قول الملكانية: بالتثليث فى الآلهة، وأن كل أقنوم إله. فإما «3» أن يقولوا (إن) «4» كل واحد متصف بصفات الإله- تعالى-: من الوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، وغير ذلك من صفات الجلال، أو لا يقولوا ذلك «5».
فإن قالوا بالأول: فهو خلاف أصلهم. ثم هو مع ذلك ممتنع؛ لما سنبينه فى امتناع وجود إلهين.
وأيضا: فإنهم إما أن يقولوا: بأن جوهر القديم أيضا إله. أو لا يقولوا بذلك.
فإن كان الأول: فقد أبطلوا مذهبهم. وإجماع النصرانية على التثليث، وصارت الآلهة أربعة.
وإن كان الثانى: لم يجدوا إلى الفرق سبيلا. مع أن جوهر القديم أصل، والأقانيم صفات تابعة له؛ فكان أولى أن يكون إلها.
وإن قالوا بالثانى: فحاصله يرجع إلى منازعة لفظية، والمرجع فيها إلى ورود الشرع بجواز إطلاق ذلك؛ ولا سبيل إليه.
________________
(1) فى ب (الموتى).
(2) فى ب (ما يقدر).
(3) فى ب (إما).
(4) ساقط فى أ.
(5) فى ب (به).
(2/63)
________________________________________
وقولهم: بأن الكلمة امتزجت بجسد المسيح، وتدرعت به؛ فبطلانه بما سبق.
من امتناع حلول الصفات القديمة بغير ذات الله- تعالى-.
وقولهم: بأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح، فهو ممتنع من جهة الدلالة، والإلزام.
أما من جهة الدلالة: فلأنهما عند الاتحاد: إما أن يقال ببقائهما، أو بعدمهما، أو ببقاء أحدهما، وعدم الآخر.
فإن كان الأول: فهو اثنان، كما كانا.
وإن كان الثانى: فالواحد الموجود، غيرهما.
وإن كان الثالث: فلا اتحاد للاثنينية، مع «1» عدم أحدهما.
وأما من جهة الإلزام: فمن أربعة أوجه:
الأول: أنه إذا جاز اتحاد أقنوم الجوهر القديم بالحادث؛ فما المانع من اتحاد صفة الحادث، بالجوهر القديم؟
فلئن قالوا: لأن اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم يوجب نقصه؛ وهو ممتنع.
واتحاد صفة القديم بالحادث، توجب شرفه/؛ وشرف الحادث بالقديم غير ممتنع.
قلنا: فكما أن ذات القديم تنقص باتحاد صفة الحادث بها؛ فالأقنوم القديم ينقص باتحاده بالناسوت الحادث؛ فليكن ذلك ممتنعا.
الثانى: أنه قد وقع الاتفاق على امتناع اتحاد أقنوم الجوهر القديم بغير ناسوت المسيح؛ فما الفرق بين ناسوت، وناسوت.
فلئن قالوا: الأقنوم إنما اتحد بالناسوت الكلى دون الجزئى، فالكلام عليه على ما سيأتى عن قرب «2»
الثالث: هو «3» أن من «3» مذهبهم: أن الأقانيم زائدة على ذات الجوهر القديم مع اختصاصها به، ولم يوجب قيامها به الاتحاد؛ فلأن لا يلزم «4» اتحاد الأقنوم بالناسوت الاتحاد كان أولى.
________________
(1) فى ب (و).
(2) فى ب (فسيأتى الكلام عليه عن قريب).
(3) فى ب (أن).
(4) فى ب (لا يوجب).
(2/64)
________________________________________
الرابع: أن الإجماع منعقد منا ومن النصارى على أن أقنوم الجوهر القديم، مخالف للناسوت. كما أن صفة نفس الجوهر؛ تخالف نفس العرض، وصفة نفس العرض؛ تخالف الجوهر.
فإن قالوا: بجواز اتحاد صفة الجوهر بالعرض، أو صفة العرض بالجوهر، حتى أنه يصير الجوهر فى حكم العرض، أو العرض فى حكم الجوهر؛ فقد التزموا محالا؛ مخالفا لأصولهم.
وإن قالوا: بامتناع اتحاد صفة نفس «1» الجوهر بالعرض، وصفة العرض بالجوهر، مع أن العرض والجوهر: أقبل للتبدل «2»، والتغير «2»؛ فلأن يمتنع ذلك فى القديم والحادث أولى.
وقولهم: إن المسيح إنسان كلى؛ فهو باطل من أربعة أوجه:
الأول: أن الإنسان الكلى لا اختصاص له بجزئى دون جزئى من الناس، وقد اتفقت النصارى على أن المسيح مولود من مريم عليهما السلام.
وعند ذلك: فإما أن يقال: إن إنسان مريم كلى: كما ذهب إليه بعضهم، وإما جزئى.
فإن كان كليا: فإما أن يكون هو عين إنسان المسيح، أو غيره. فإن كان عينه فمحال: تولد «3» الشيء من نفسه. ثم يلزم أن يكون المسيح مريم، ومريم هى المسيح، ولم يقل بذلك أحد منهم.
وإن كان غيره؛ فالإنسان الكلى ما يكون عاما مشتركا بين جميع الناس، وطبيعته جزء من معنى كل إنسان؛ ويلزم من ذلك أن يكون إنسان المسيح وطبيعته جزء من مفهوم إنسان مريم، وكذلك بالعكس، وهو مقطوع «4» بإحالته. وإن كان إنسان مريم جزئيا، فمن ضرورة كون المسيح مولودا عنها أن يكون الكلى الصالح لاشتراك الكثرة فيه منحصرا فى الجزئى الّذي لا/ يصلح لاشتراك الكثرة فيه؛ وهو ممتنع.
________________
(1) فى ب (و نفس).
(2) فى ب (للتبديل وللتغيير).
(3) فى ب (أن يولد).
(4) فى ب (محكوم).
(2/65)
________________________________________
الثانى: (أن) «1» النصارى مجمعة على أن المسيح كان مرئيا، ومشارا إليه؛ والكلى ليس كذلك.
الثالث: هو أن إجماع النصرانية منعقد على أن الكلمة حلت فى المسيح. إما بجهة الاتحاد، أو لا بجهة الاتحاد على ما بيناه من اختلاف مذاهبهم «2»، فلو كان المسيح إنسانا كليا؛ لما اختص به بعض أشخاص الناس دون البعض، ولما كان المولود من مريم مختصا بحلول الكلمة دون غيره؛ ولم يقولوا به.
الرابع: أن جماعة الملكانية متفقون على أن القتل والصلب، وقع على اللاهوت والناسوت. ولو كان ناسوت المسيح كليا؛ لما تصور وقوع الفصل الجزئى عليه.
وأما إطلاقهم لفظ الأب على الله- تعالى- والابن على المسيح؛ فسيأتى الكلام عليه «3».
وأما ما ذهب إليه نسطور: من أن الأقانيم ثلاثة، فالكلام معه فى الحصر، فعلى ما تقدم «4».
وقوله: ليست عين ذاته، ولا غير ذاته. فإن أراد بذلك ما أراده الأشعرى من ذلك؛ فهو حق. وان أراد غيره؛ فهو غير مفهوم.
وأما تفسيره العلم بالنطق والكلمة؛ فالنزاع معه فى إطلاق العلم على النطق لفظى.
ثم لا يخلوا إما أن يريد بالنطق، والكلمة: الكلام النفسانى- كما حققناه فيما تقدم-، أو الكلام اللسانى المؤلف من الحروف، والأصوات.
فإن كان الأول: فهو حق.
وإن كان الثانى: فهو باطل؛ على ما سبق «5».
وقوله: بأن الكلمة اتحدت بالمسيح بمعنى أنها أشرقت عليه؛ فكلام لا حاصل له؛ لأنه: إما أن يريد بإشراق الكلمة عليه ما هو مفهوم من مثاله: وهو أن يكون مطرحا
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (مذهبهم). انظر ل 157/ أ وما بعدها.
(3) انظر ل 162/ ب.
(4) انظر ل 157/ أ وما بعدها.
(5) فى ب (بما سبق).
(2/66)
________________________________________
لشعاعها عليه، أو يريد به أنها متعلقة به: كتعلق العلم القديم بالمعلومات، والكلام القديم بنا: كما حققناه فى الصفات، وغير ذلك.
فإن كان الأول: فيلزم منه أن تكون الكلمة ذات شعاع، وفى جهة من مطرح شعاعها، ويلزم من ذلك أن تكون الكلمة جسما، وأن لا تكون صفة للجوهر القديم؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فهو حق غير أن تعلق الأقنوم بالمسيح بهذا التفسير لا يكون خاصة له على ما حققناه فى الصفات.
وإن كان الثالث: فلا بد من تصويره، والدلالة عليه.
وأما قول بعض النسطورية: إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة إله، حي، ناطق؛ فهو باطل بما ذكرناه فى إبطال التثليث على الملكانية «1».
وأما «2» من «2» أثبت منهم لله/ تعالى- صفات أخرى: كالقدرة، والإرادة، ونحوها؛ فهو حق؛ لكن القول بإخراجها عن كونها من الأقانيم مع أنها مشاركة للأقانيم فى كونها من الصفات؛ فحكم «3» لا دليل عليه «3» - سوى ما نبهنا عليه من الفرق الّذي ذكروه سابقا- وقد «4» سبق إبطاله «4».
وقولهم: بأن المسيح إنسان تام، وإله تام؛ وهما جوهران؛ قديم وحادث، فطريق الرد عليهم من وجهين:
الأول: التعرض لإبطال كون الأقنوم المتحد بجسد المسيح إلها، وذلك بأن يقال:
إما أن يقولوا: بأن ما اتحد بجسد المسيح: هو الإله فقط، أو أن كل أقنوم إله- كما ذهبت إليه الملكانية.
فإن كان الأول: فهو ممتنع؛ لعدم الأولوية.
وإن كان الثانى: فهو أيضا ممتنع؛ لما تقدم «5».
________________
(1) انظر ل 159/ أ.
(2) فى ب (و منهم من).
(3) فى ب (تحكم من غير دليل).
(4) فى ب (و قد أبطلناه).
(5) انظر ل 159/ أ.
(2/67)
________________________________________
الوجه الثانى: أنه إذا كان المسيح مشتملا على الأقنوم القديم، والناسوت الحادث: فإما أن يقولوا: بالاتحاد، أو بحلول الأقنوم فى الناسوت؛ أو حلول الناسوت فى الأقنوم، أو أنه لا حلول لأحدهما فى الآخر.
فإن كان الأول: فهو باطل، بما سبق فى إبطال الاتحاد «1».
وإن كان الثانى: فهو باطل بما سبق فى إبطال حلول الصفات القديمة فى محل غير ذات البارى- تعالى «2» -، وبما سبق فى إبطال حلول الحادث بالقديم «3».
وإن كان الثالث: فإما أن يقال بتجاورهما، واتصالهما، أو لا يقال بذلك.
فإن قيل بالتجاور، والاتصال: فإما أن يقال بانفصال الأقنوم «4» عن الجوهر القديم «4»، أو لا يقال به.
فإن قيل بانفصاله عنه، فهو ممتنع لوجهين:
الأول: ما تقدم فى إبطال انتقال الصفة عن الموصوف.
الثانى: أنه يلزم منه قيام الصفة حالة مجاورتها للناسوت، بنفسها؛ وهو محال. وإن لم يقل بانفصال الأقنوم عن الجوهر القديم، فيلزم منه أن تكون ذات الجوهر القديم، متصلة بجسد المسيح؛ ضرورة اتصال أقنومها به.
وعند ذلك: فليس اتحاد الأقنوم بالناسوت، أولى من اتحاد ذات الجوهر القديم بالناسوت؛ ولم يقولوا به.
وإن لم يقل بتجاورهما واتصالهما: فلا معنى للاتحاد بجسد المسيح، وليس القول بالاتحاد مع عدم الاتصال بجسد المسيح، أولى من غيره.
وأما قول من قال منهم بأن الإله واحد، وأن المسيح ولد من مريم، وأنه عبد صالح مخلوق، إلا أن الله- تعالى- شرفه بتسميته ابنا؛ فهو ما يقوله الموحدون. ولا خلاف مع هؤلاء فى غير اطلاق اسم الابن على ما سيأتى «5»
________________
(1) انظر ل 155/ أ وما بعدها.
(2) انظر ل 155/ أ وما بعدها.
(3) انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(4) فى ب (الأقنوم القديم عن الجوهر الحادث).
(5) انظر ل 162/ ب.
(2/68)
________________________________________
/ وأما قول بعض اليعقوبية: إن الكلمة انقلبت لحما، ودما، وصار الإله هو المسيح؛ فهو أظهر بطلانا مما تقدم وبيانه من وجهين:
الأول: أنه لو جاز انقلاب الأقنوم لحما ودما، مع اختلاف حقيقتهما؛ لجاز انقلاب المستحيل ممكنا، والممكن مستحيلا، والواجب ممكنا، أو ممتنعا، والممكن، أو الممتنع واجبا؛ ولم يبق لأحد وثوق بشيء من القضايا البديهية؛ ولجاز أن «1» ينقلب «1» الجوهر عرضا، والعرض جوهرا، وانقلاب اللحم والدم أقنوما. والأقنوم ذاتا، والذات أقنوما. وانقلاب القديم حادثا، والحادث قديما، ولم يقل بذلك أحد من العقلاء.
الثانى: أنه لو انقلب الأقنوم لحما، ودما: فإما أن يكون هو عين الدم واللحم الّذي للمسيح، أو زائدا عليه منضما إليه.
فإن كان الأول: فهو محال؛ إذ لحم المسيح، ودمه لم يتغير، ولا معنى لانقلاب الأقنوم إليه مع عدم الزيادة فيه عند عدم الأقنوم؛ وهو غير قابل للعدم بالاتفاق.
وإن كان الثانى: فلم يقولوا به.
وأما قولهم: اللاهوت ظهر بالناسوت، وصار هو هو:
فإما أن يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت: كما صرحوا به من قولهم: صار هو، هو؛ فحاصله يرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق؛ وهو محال كما تقدم.
وإما أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت؛ وهو أيضا محال؛ لما تقدم من امتناع حلول القديم بالحادث «2». أو أن الناسوت اتصف باللاهوت؛ وهو أيضا محال؛ لما تقدم من امتناع حلول (الحادث «3» بالقديم «3»)
وأما من قال منهم بأن جوهر الإله القديم، وجوهر الإنسان المحدث تركبا وصارا جوهرا واحدا: هو المسيح؛ فهو باطل من وجهين:
الأول: ما ذكرناه فى إبطال الاتحاد.
________________
(1) فى ب (انقلاب).
(2) انظر ل 155/ أ وما بعدها.
(3) فى أ (القديم بالحادث) انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(2/69)
________________________________________
الثانى: أنه ليس جعل الناسوت لاهوتا بتركيبه مع اللاهوت، أولى من جعل اللاهوت ناسوتا من جهة تركبه مع الناسوت؛ ولم يقولوا به.
وأما جوهر الفحمة إذا ألقيت فى النار؛ فلا نسلم أن جوهرها صار بعينه جوهر النار؛ بل صار مجاورا لجوهر النار. وغايته أن بعض صفات جوهر الفحمة، وأعراضها؛ بطلت بمجاورة النار «1».
أما أن جوهر أحدهما «2» انقلب إلى جوهر الآخر وصار «2» هو، هو؛ فلا.
وقولهم: إن الاتحاد بالناسوت الجزئى دون الكلى؛ فهو محال؛ لما تقدم فى إبطال الاتحاد، وحلول القديم بالحادث «3»، وبه يبطل قولهم: إن مريم ولدت إلها.
وقولهم: بأن «4» القتل، والصلب وقع على اللاهوت، والناسوت معا، فهو فرع تركب اللاهوت/ بالناسوت؛ وقد أبطلناه.
كيف وأن القول بوقوع القتل على اللاهوت؛ مما يوجب موت الإله ضرورة، والقول بذلك يغنى عن إبطاله.
وأما قول من قال: بأن المسيح مع اتحاد جوهره، قديم من وجه، محدث من وجه؛ فهو أيضا باطل؛ فإنه إذا كان جوهر المسيح متحدا لا كثرة فيه؛ فالحدوث: إما أن يكون لعين ما قيل بقدمه، أو لغيره.
فإن كان الأول: فهو محال، وإلا كان الشيء الواحد قديما: لا أول له، حادثا: له أول؛ وهو تناقض ممتنع.
وإن كان الثانى: فهو خلاف الفرض.
وأما قول من قال منهم: إن الكلمة مرت بمريم كمرور الماء فى الميزاب؛ فيلزم منه انتقال الكلمة؛ وهو ممتنع كما سبق. وبه يبطل قول من قال: إن الكلمة كانت تداخل جسد المسيح تارة، وتفارقه تارة.
________________
(1) فى ب (جوهر النار).
(2) فى ب (الآخر صار).
(3) انظر ل 155/ أ وما بعدها.
(4) فى ب (إن).
(2/70)
________________________________________
وقولهم: إن ما ظهر من صورة المسيح فى الناسوت لم يكن جسما؛ بل كان خيالا:
كالصورة المرئية فى المرآة: فهو باطل؛ لأن من أصلهم أن المسيح: إنما أحيا الميت، وأبرأ الأكمه، والأبرص، بما فيه من اللاهوت. فإذا كان ما «1» ظهر من اللاهوت «1» فيه لا حقيقة له، بل هو خيال محض؛ فلا يصلح لحدوث ما يحدث عن الإله عنه.
والقول بأن أقنوم الحياة مخلوق حادث: ليس كذلك؛ لما سبق فى الصفات «2»؛ بل هو قديم أزلى.
كيف: وأنه لو كان حادثا؛ لكان الإله قبله غير حي، ومن ليس بحى لا يكون عالما، ولا ناطقا.
وقول من قال: بأن المسيح مخلوق قبل كل شيء، وهو خالق كل شيء؛ فباطل بما [سيأتى] «3» من امتناع خالق غير الله تعالى.
وأما من ذكروه من الاحتجاج على كون المسيح إلها: بالحجة العقلية، فالجواب عنها من وجهين:
الأول: أنا لا نسلم أن ما صدر على يده، من الأمور الخارقة للعادة. كانت من فعله؛ بل لعلها صدرت عن خلق الله- تعالى- لها ببركة دعائه على سبيل الإعجاز:
كمعجزات سائر الأنبياء عليهم السلام. ولو دل ذلك على كونه إلها؛ لدل صدور باقى المعجزات الخارقة للعادة على يد غيره من الأنبياء على كونه إلها؛ وهو ممتنع بالإجماع منا، ومنهم.
الثانى: أنه لو جاز أن يكون المسيح إلها؛ لجاز أن يكون كل من تلقاه من آحاد الناس إلها. وإن لم يوجد فى حقه مثل هذه الخوارق؛ فإن الخوارق غايتها أنها دليل الوقوع، ولا يلزم من انتفاء الدليل/ انتفاء المدلول فى نفسه على ما سبق «4». ولا يخفى أن القول بذلك من باب التلاعب بالعقل، والدين.
________________
(1) فى ب (ما ظهر فيه من اللاهوت).
(2) انظر ل 115/ أ، ب.
(3) فى أ (سبق) انظر ل 211/ ب وما بعدها.
(4) انظر ل 38/ ب.
(2/71)
________________________________________
وأما ما نقلوه عن الإنجيل: أن مريم تلد إلها. إن صح، ولم يكن ذلك من أوضاعهم، وتبديلهم فلا بد من تأويله؛ إذ الإله لا يولد عندهم؛ بل المولود إنما هو الناسوت. وتأويله أن يقال بحمله على الإنباء عن الغيب، وهو أن مريم تلد من يعتقد أنه إله. وإن لم يكن إلها حقيقة، وذلك كما تسمى العرب الشمس إلها باعتبار أنها عبدت، واعتقد كونها إلها؛ بل هو معارض بما نقل فى الإنجيل مما يدل على كونه ليس بإله من وجهين:
الأول: قول عيسى عليه السلام للحواريين: «اخرجوا بنا من هذه المدينة؛ فإن النبي لا يكرم فى مدينته» «1». والنبي لا يكون إلها.
الثانى: ما نقل فى الإنجيل أنه عند الصلب قال: «إلهى لم خذلتنى، وأسلمتنى» «2» صرح بكونه مربوبا؛ والمربوب لا يكون إلها.
وأما احتجاجهم من كتابنا بقوله- تعالى- إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ «3»
فالجواب عنه: أن معنى كونه كلمة: أى آية: فإن الكلمة تطلق بمعنى الآية. ومنه قوله تعالى ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «4»: أى آياته. ويدل على إرادة ذلك أمور ثلاثة:
الأول: صدر الآية وهو قوله- تعالى- إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ سماه رسولا، ولو كان كلمة على «5» الحقيقة «5»؛ لما كان رسولا.
الثانى: قوله- تعالى- وجَعَلْناها وابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «6».
ووجه الاحتجاج به من وجهين:
الأول: أنه سماه آية.
الثانى: أنه وصفه بكونه ابنا لها، والإله ليس ابنا لها.
________________
(1) بحثت فى إنجيل متى الإصحاح الثالث عشر: رقم 57 فوجدت الآتى:
(أما يسوع فقال لهم ليس نبى بلا كرامة إلا فى وطنه وفى بيته).
(2) فى إنجيل متى 27: 46 (إلهى إلهى لم تركتنى).
(3) سورة النساء 4/ 171.
(4) سورة لقمان 31/ 27.
(5) فى ب (حقيقة).
(6) سورة الأنبياء 21/ 91.
(2/72)
________________________________________
الثالث: هو أن الآية إنما وردت لتقريعهم، وزجرهم عن الغلو فى اعتقادهم حيث قال: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ «1». فلو أراد بالكلمة ما اعتقدوه؛ لكان مثبتا [لعين] «2» ما قصد التقريع على اعتقاده؛ وهو ممتنع.
وأما قوله- تعالى-: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا. فلا يمكن حمل الروح على ما اتحد بالمسيح من الكلمة؛ إذ الروح عندهم هى الحياة، وهى غير متحدة بالمسيح
وإنما «3» المتحد به العلم، وهو الكلمة، فلا بد من حمله على ما يحتمله اللفظ، والروح قد يطلق على جبريل: كقوله- تعالى-: وأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ «4»
وقد يطلق بمعنى الوحى: ومنه قوله- تعالى-: أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «5» وقد يطلق بمعنى روح الشخص.
وعند ذلك: فيمكن «6» أن «6» يكون المراد بقوله «7»: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا:
«8» أى روحه، وأضافها إليه «8» تشريفا، وتكريما على ما سبق.
ويمكن أن يكون المراد بقوله فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا: أى من جبريل. فإن نفخته فيه سبب علوقه من غير والد.
وأما ما احتجوا به على جواز إطلاق اسم الأب على الله- تعالى- والابن على المسيح: فهو إن صح فمما يتعذر حمله على الابن المتولد من الله- تعالى- إذ المسيح غير متولد من الله- تعالى- بالاتفاق.
وعند ذلك فلا بد من التأويل
أما قوله: «إنك أنت الابن الوحيد» فيحتمل أنه أراد به المعتنى بتربيته، واصطفائه. تعبرة باسم النبوة عنه؛ لكونه لازما لها فى الغالب.
________________
(1) سورة النساء 4/ 171.
(2) فى أ (لغير).
(3) فى ب (و أما).
(4) سورة البقرة 2/ 87.
(5) سورة الشورى 42/ 52 (و كذلك أوحينا.
(6) فى ب (فيمكن حمله على أن).
(7) فى ب (منه).
(8) فى ب (و أضافه إلى نفسه).
(2/73)
________________________________________
وعلى هذا يمكن حمل قوله: «من رآنى فقد رأى أبى» ويمكن حمله على جبريل من حيث أن نفخه فى مريم كان سببا لعلوقه، ووجوده. أو بسبب أنه كان هو المسدد له فى أحواله.
وعلى الوجه الأول: يمكن حمل قول شمعون الصفا. ويدل على ظهور ذلك: أنه كما سماه أبا له؛ فقد سمى البارى- تعالى- أبا للحواريين. وليس بمعنى اتحاد اللاهوت بهم. ويدل عليه ما «1» ورد فى الإنجيل من قوله عقيب وصية وصى بها الحواريون (لكى تكونوا أبناء أبيكم الّذي فى السماء، وتكونوا تامين كما أن أباكم الّذي فى السماء تام) «2». وقوله: (لا تعطوا صدقاتكم قدام الناس لتراءوهم؛ فلا «3» يكون «3» لكم أجر عند أبيكم الّذي فى السماء) «4».
وقوله عند صلبه: (أذهب إلى أبيكم) «5».
فهذه الجمل مع اختصارها، وكثرة معانيها كافية فى التنبيه على فساد قواعدهم وإبطال عقائدهم على اختلافها، وتشعبها. والحمد لله على الإسلام، والهداية إلى الإيمان.
******
________________
(1) فى ب (ما روى).
(2) الموجود فى إنجيل متى 5/ 45 - 48 (لكى تكونوا أبناء أبيكم الّذي فى السموات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين 46. لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأى أجر لكم أ ليس العشارون أيضا يفعلون ذلك 47 وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأى فضل تصنعون. أ ليس العشارون أيضا يفعلون هكذا 48 فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الّذي فى السموات كامل).
(3) فى ب (فإنه لا يكون).
(4) الموجود فى إنجيل متى 6: 1 ما يأتى (احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكى ينظرونكم وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الّذي فى السموات.
(5) الموجود فى ب (اذهبوا الى أبيكم). والموجود فى إنجيل يوحنا 14: 28 (سمعتم أنى قلت لكم أنا أذهب ثم آتى إليكم. لو كنتم تحبوننى لكنتم تفرحون لأنى قلت أمضى الى الأب لأن أبى أعظم منى).
(2/74)
________________________________________
«المسألة التاسعة» فى امتناع اتصاف الرب- تعالى- بشيء من الكيفيات المحسوسة بالحواس الظاهرة، وغيرها
أما المحسوسة بالحواس الظاهرة: فكاللّون، والطّعم، والرائحة، والحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، ونحو ذلك.
وأما غير المحسوسة بالحواس الظاهرة: فكاللذة، والألم، والنفرة، والحزن، والفرح، والغم، والغيظ، والغضب، والوحشة، والأنس، والتأسف، والتمنى، والشهوة، والبطر، وغير ذلك.
وهذه المسألة مما لا نعرف خلافا بين العقلاء فيها. وحيث قالت الفلاسفة إن الله- تعالى- ملتذ بكمالاته؛ لم يقولوا إنه ملتذ بلذة. غير أن العادة جارية/ بذكر الدلالة عليه.
وقد استدل الأصحاب فى ذلك بمسالك:
المسلك الأول:
وهو معتمد الأكثرين، وهو أنهم قالوا: لو اتصف الرب- تعالى- بشيء من هذه الكيفيات المحسوسة لم تخل: إما أن تكون قديمة، أو حادثة.
لا جائز أن تكون حادثة: وإلا كان الرب- تعالى- محلا للحوادث؛ وهو ممتنع كما سبق «1».
ولا جائز أن تكون قديمة: لأن جميع الكيفيات المحسوسة متساوية فيما يرجع إلى الكمال والنقصان؛ وليس منها ما هو صفة كمال للرب- تعالى- حتى يكون متصفا به دون غيره؛ فتكون متساوية فى جواز تقدير اتصاف الرب- تعالى- بكل واحدة منها.
وليس تقدير اتصافه ببعضها، أولى من تقدير اتصافه بغيرها، وما هذا شأنه استحال اتصافه بكونه قديما؛ إذ القديم واجب الوجود، فيمتنع تقدير عدمه وفرض وجود ضده.
وإذا امتنع كل واحد من القسمين امتنع أن يكون متصفا بشيء منها.
________________
(1) انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(2/75)
________________________________________
ولقائل أن يقول:
لا نسلم تساوى الكيفيات فى الكمال، والنقصان بالنسبة إلى ذات الله- تعالى- ليلزم من ذلك التساوى فى جواز تقدير اتصاف الرب- بكل واحدة منها؛ بل لا مانع من أن يكون بعضها صفة كمال دون البعض.
ولهذا قالت الفلاسفة: إن الحرارة [و اليبوسة «1» صفتا] كمال للنار دون غيرها من الكيفيات. وفى (مقابلتهما) «2» البرودة، والرطوبة للماء. وأن الحرارة والرطوبة من كمالات الهواء دون غيره. وفى مقابلة ذلك البرودة، واليبوسة للتراب.
سلمنا عدم اختصاص البعض منها بصفة الكمال، وأنها متساوية فيما يرجع إلى عدم الكمال، والنقصان؛ ولكن ما المانع من اختلافها أن تكون ذات البارى «3» مقتضية للاتصاف بها، وإن لم تكن صفة كمال، ولا نقصان؟
فلئن قالوا: لأن الأمة مجمعة على امتناع اتصاف الرب- تعالى- بغير صفات الكمال، كما ذهب إليه القاضى أبو بكر، فهو رجوع إلى السمع، وترك لدلالة العقل «4».
المسلك الثانى:
أنهم قالوا: لو اتصف الرب- تعالى- بشيء من هذه الكيفيات فإما أن تكون حادثة، أو قديمة.
لا جائز أن تكون حادثة: لما سبق «5».
وإن كانت قديمة: فما من كيفية من هذه الكيفيات إلا ولها مثل حادث، وعند التماثل فيمتنع اختصاص إحدى الصفتين بالعدم، والأخرى/ بالحدوث، لأن القديمة:
إما أن تقتضى العدم لذاتها، أو لمخصص من خارج.
________________
(1) فى ب (و البرودة صفتا). وفى أ (و اليبوسة صفة).
(2) فى أ (مقابلته).
(3) فى ب (الرب تعالى).
(4) فى ب (العقل عليه).
(5) انظر 146/ أ وما بعدها.
(2/76)
________________________________________
فإن كان الأول: فيلزم أن تكون الحادثة أيضا قديمة؛ ضرورة التماثل، وأن ما اقتضاه أحد المثلين لذاته؛ كان الآخر مقتضيا له أيضا
وإن كان الثانى: فذلك المخصص: إما أن يكون مخصصا بالذات، أو الاختيار.
فإن كان مخصصا بالذات؛ فليس تخصيصه بالقدم لأحد المثلين، والحدوث بالآخر أولى من العكس؛ لتساوى نسبة ذاته إليهما.
وان كان بالاختيار: فكل معلول بالاختيار لا يكون إلا حادثا على ما سيأتى، ويلزم أن يكون معلوله من القديم حادثا؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول:
قد ثبت على أصلكم اتصاف البارى- تعالى- بالعلم، والقدرة، والإرادة، وغير ذلك من الصفات المذكورة. فإما أن تكون مماثلة لما وجد من الصفات فى الشاهد من العلم، والقدرة، والإرادة. أو هى غير مماثلة لها.
فإن كان الأول: فالإشكال لازم عليكم، وما هو جوابكم ثمة هو الجواب هاهنا.
وإن كان الثانى: فما المانع من أن ثبوت كيفية لله تعالى- من بياض، أو حرارة، أو برودة، أو غير ذلك على وجه تكون نسبتها إلى ما فى الشاهد نسبة ما أثبتموه من الصفات النفسانية إلى ما فى الشاهد.
سلمنا: امتناع اتصافه بكيفية مماثلة لما فى الشاهد؛ ولكن ما المانع من اتصافه بكيفية مخالفة لكل ما وجد فى الشاهد؛ وذلك مما لا دليل عليه؟
المسلك الثالث:
أنهم قالوا ثبوت شيء من هذه الكيفيات مما لم يدل عليه عقل، ولا أشار إليه نقل؛ فلا يثبت.
وحاصل هذا المسلك راجع إلى الحكم بانتفاء المدلول لانتفاء دليله، وهو فاسد؛ لما تقدم فى قاعدة الأدلة «1».
________________
(1) راجع ما تقدم فى القاعدة الثالثة- الباب الثانى- الفصل السابع: فيما ظن أنه من الأدلة المفيدة لليقين وليس منها. ل 38/ ب وما بعدها.
(2/77)
________________________________________
المسلك الرابع:
وهو اختيار الاستاذ أبى إسحاق، وهو أن قال: هذه الكيفيات، هيئات للمتصف بها، والبارى- تعالى- ليس فى جهة؛ والهيئة لمن لا جهة له محال.
ولقائل أن يقول:
إن قلتم إنها هيئات بمعنى أنها صفات، فلا يلزم من ذلك الجهة، وإلا كان الرب تعالى فى جهة ضرورة اتصافه بالصفات النفسية التى أثبتموها. وإن قلتم إنها هيئات لا بمعنى أنها صفات؛ فغير مسلم.
وعند ذلك، فلا بد من تصويره، والدلالة عليه.
المسلك الخامس:
ويخص اللذة: أنه لو كان متصفا باللذة، لكان خلق الملتذ به إما فى الأزل/ أو لا فى الأزل.
لا جائز أن يكون خلقه له فى الأزل؛ لأن خلق الأزلى محال؛ كما يأتى.
ولا جائز أن يكون خلقه لا فى الأزل: وإلا لكانت اللذة الحاصلة به حادثة، ويلزم من ذلك حلول الحوادث بذات الرب- تعالى-؛ وهو محال على ما تقدم «1».
ولقائل أن يقول:
هذا إنما يلزم أن لو كان الملتذ به مخلوقا. وما المانع من أن يكون ملتذا بما له من كمالاته الواجبة له، لا بغيرها. وهو سؤال قاطع، لا جواب عنه.
المسلك السادس:
ويخص اللذة أيضا: أن اللذة لا معنى لها إلا إدراك الملائم للمزاج. والرب- تعالى- لا مزاج له، وإلا كان مركبا؛ وهو محال على ما سبق؛ فلا يكون متصفا باللذة، وهو أيضا ضعيف؛ إذ لقائل أن يقول:
________________
(1) فى ب (كما تقدم). انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(2/78)
________________________________________
لا أسلم أن اللذة عبارة عن إدراك ما يلائم المزاج؛ بل اللذة عبارة عن إدراك الملائم، وهو أعم من إدراك ملائم المزاج. ولا يلزم من انتفاء الأخص انتفاء الأعم؛ ولهذا قالت الخصوم إن الله- تعالى- ملتذ بإدراك ما يلائم ذاته من كمالاته، وإن لم يكن له مزاج، وكذلك النفوس بعد مفارقة الأبدان تلتذ بما حصل لها من كمالاتها الممكنة لها، وتتألم بمفارقة ما لكمالاتها. وإن لم تكن الأنفس ذات مزاج؛ بل فى الشاهد يجد كل عاقل من نفسه لذة الإيثار بالمطعومات المشتهاة الملائمة للمزاج، المحبوبة، حتى أن ذلك أيضا فى الحيوانات العجماوات. وصرف الطعوم الملائم للمزاج إلى الغير؛ لا يكون ملائما للمزاج وهو لذة.
وإن سلمنا أن اللذة فى الشاهد لا تتم دون المزاج؛ ولكن لا يلزم من ذلك امتناعها فى الغائب؛ لامتناع المزاج فى حقه؛ لجواز أن تكون معلولة فى الشاهد بملائمة المزاج، ولا يلزم من انتفاء بعض العلل، انتفاء المعلول.
فالأقرب فى ذلك: ما ذكره القاضى أبو بكر من أن الأمة؛ بل العقلاء كافة متفقون على أن اتصاف الرب- تعالى- بشيء من هذه الكيفيات ليس من صفات المدح والكمال، وأن الرب- تعالى- لا يتصف بما ليس من صفات المدح والكمال؛ فلا يكون متصفا بشيء منها؛ وقد عرف ما يتجه على الاحتجاج بالإجماع، وما فيه فى قاعدة النظر «1».
والّذي يخص قول الفلاسفة: أن اللذة إدراك الملائم، والرب تعالى مدرك لما يلائم ذاته من كمالاته؛ فحاصله يرجع إلى تفسير اللذة بالإدراك، ونحن لا ننازع فيه من جهة المعنى؛ بل من جهة الإطلاق اللفظى/؛ إذ هو متوقف على ورود الشرع به؛ ولا سبيل إلى إثباته.
******
________________
(1) راجع ما سبق فى قاعدة النظر ل 25/ أ وما بعدها.
(2/79)
________________________________________
«المسألة العاشرة» فى امتناع اتصاف الرب تعالى بالعجز
وهذه المسألة أيضا مما لا نعرف فيها خلافا بين العقلاء. غير أن العادة جارية بالدلالة عليها.
والمعتمد فى ذلك أن يقال:
لو اتصف الرب- تعالى- بالعجز لم يخل: إما أن يكون حادثا، أو قديما.
لا جائز أن يكون حادثا: وإلا كان الرب- تعالى- محلا للحوادث؛ وهو ممتنع.
ولا جائز أن يكون قديما: لأنا لا نعنى بالعجز المنفى غير صفة مضادة خاصة للقدرة، مقتضاها امتناع وقوع الفعل الممكن بالقدرة؛ ولهذا لا يوصف الإنسان ولا البارى- تعالى- بكونه عاجزا عن الجمع بين الضدين، وجعل الواحد أكثر من الاثنين؛ لكونه غير ممكن، والفعل فى الأزل غير ممكن؛ كما يأتى تحقيقه فى مسألة حدوث العالم «1»؛ فلا يتحقق عجز البارى- تعالى- بالنسبة إليه.
وإذا بطل أن يكون قديما، وحادثا؛ بطل اتصاف البارى- تعالى- به، ويعضد هذه الدلالة انعقاد إجماع الأمة على امتناع اتصاف الرب- تعالى- بالعجز قديما، وحادثا.
فإن قيل: سلمنا الحصر؛ ولكن لم قلتم بامتناع كون العجز حادثا؟
قولكم: يلزم أن تكون ذات البارى- تعالى- محلا للحوادث. إنما يلزم ذلك أن لو كان العجز صفة وجودية، وأما إذا كان صفة سلبية؛ فلا مانع من اتصاف الرب- تعالى- به بعد أن لم يكن متصفا به، بدليل أن الرب- تعالى- موصوف فى الأزل بكونه عالما بأن العالم سيوجد فى وقت حدوثه، وأنه قادر على إيجاده فى وقت حدوثه، ومريد له. وبعد حدوثه لم يبق متصفا بأنه عالم بأنه سيوجد، ولا قادر على إيجاده، ولا مريد لإيجاده.
سلمنا أنه صفة وجودية؛ ولكن ما المانع من كونه قديما؟ وما ذكرتموه فهو لازم عليكم فى اتصاف الرب- تعالى- بالقدرة فى الأزل، مع امتناع وجود الفعل فى الأزل، وكما أنه لا يوصف الفاعل بالعجز عن الممتنع، لا يوصف بكونه قادرا على الممتنع.
________________
(1) انظر ما سيأتى فى الجزء الثانى- الأصل الرابع فى حدوث العالم ل 82/ ب وما بعدها.
(2/80)
________________________________________
وإن قلتم بصحة اتصافه بالقدرة نظرا إلى إمكان الفعل فيما لا يزال، فجوزوا اتصافه بالعجز نظرا إلى إمكان الفعل فيما لا يزال.
والجواب:
أما السؤال الأول: وهو قولهم: إن العجز صفة سلبية؛ فلا يمتنع اتصاف الرب- تعالى- به بعد أن لم يكن كما قرروه؛ فمندفع لثلاثة أوجه:
الأول: أنا إنما نفينا العجز بالتفسير المذكور وهو أن يكون صفة مضادة خاصة، والمضادات كلها وجودية على ما سيأتى «1»
الثانى: أن المفهوم من العجز لو كان سلبيا فإذا كان حادثا؛ فمفهومه يكون مسلوبا فى الأزل، وسلب السلب إثبات فيكون أزليا، ويلزم من ذلك زواله بحدوث العجز، وزوال القديم الثابت، ممتنع كما يأتى.
الثالث: أن نقيض العجز لا عجز، فلو كان العجز أمرا عدميا؛ لكان لا عجز وجوديا. ولو كان وجوديا؛ لما اتصف به الممتنع؛ لكونه عدما محضا.
فإن قيل: فهذا لازم عليكم فى تعلق العلم: بالمعلوم، والقدرة بالمقدور، والإرادة:
بالمراد؛ فإن المفهوم منه: إما وجود، أو عدم.
فإن كان وجودا: فقد زال بعد أن كان أزليا فى الصور المذكورة.
وإن كان عدميا: فلا تعلق يكون وجوديا، لما ذكرتموه. فتعلق العلم بأن العالم موجود حالة وجوده، متحقق لا محالة. وقد كان هذا التعلق مسلوبا أزلا؛ فيكون مفهومه وجوديا أزلا، وقد زال بالتعلق؛ فيكون الوجود الأزلى زائلا.
قلنا: أما التعلق؛ فهو عندنا نسبة، وإضافة، والنسب، والإضافات ثابتة لا فى نفس الأمر؛ بل فى حكم الوهم وتقديره، والثابت التقديرى لا يمتنع زواله عندنا- وإن كان تقديره ثابتا أزلا- وإنما الممتنع: زوال الأزلى، إذا كان وجوده وثبوته متحققا فى نفس الأمر.
________________
(1) انظر ما سيأتى فى الجزء الثانى ل 78/ أ وما بعدها.
(2/81)
________________________________________
وأما السؤال الثانى: فمندفع أيضا؛ لأن القدرة على ما تقدم معنى، من شأنه تأتى الإيجادية، لا ما يلازمه الإيجاد كما تقدم فى الصفات؛ فلا يستدعى وجود القدرة فى الأزل التمكن من المقدور؛ بل جاز أن ينتفى التمكن لمعارض القدرة بخلاف العجز، فإنا قد بينا: أنه معنى يلازمه امتناع الفعل الممكن على من قام به العجز: أما أنه يلازمه امتناع الفعل؛ فلأنه لو كان الفعل غير ممتنع عليه؛ لما عقل العجز عن فعل ما هو متمكن منه.
وأما اشتراط إمكان الفعل فى نفسه؛ فلأنه لو كان الفعل ممتنعا فى نفسه؛ فلا يصح الاتصاف بالعجز عنه؛ كما ذكرناه من امتناع الاتصاف بالعجز عن الجمع بين الضدين؛ وإيجاد كل محال الوجود فى نفسه، وفيه دقة؛ فليتأمل.
******
(2/82)
________________________________________
«المسألة الحادية عشرة» فى استحالة الكذب فى كلام الله تعالى
لا نعرف خلافا بين المعترفين بأن الله- تعالى-/ متكلم بكلام فى استحالة الكذب فى كلامه، وسواء كان الكلام هو القائم بالنفس أو الحروف، والأصوات على خلاف المذاهب، وإن اختلفت مآخذهم فى الاستدلال.
وقد استدل المعتزلة على استحالة الكذب فى كلام الرب- تعالى- بأن الكلام من فعله، والكذب قبيح لذاته، والله- تعالى- لا يفعل القبيح. وهو مبنى على فاسد أصولهم: فى «1» أن القبح، والحسن «1» ذاتى. وفى إيجابهم رعاية الصلاح، والأصلح، وسيأتى بطلانه «2».
وأما أصحابنا: فلهم فى بيان استحالة الكذب على كلام الله- تعالى- القديم النفسانى مسلكان: عقلى، وسمعى.
أما المسلك العقلى:
فهو أنا نقول: الصدق، والكذب فى الخبر من الكلام النفسانى القديم ليس لذاته ونفسه؛ بل بالنظر إلى ما يتعلق به من المخبر عنه.
فإن كان قد تعلق به على ما هو عليه؛ كان الخبر صادقا.
وإن كان الخبر على خلافه؛ كان الخبر كاذبا.
وعند ذلك: فلو تعلق خبر الرب- تعالى- القائم بنفسه بأمر ما على خلاف ما هو عليه لم يخل: إما أن يكون ذلك مع العلم به، أو لا مع العلم به.
لا جائز أن يقال لا مع العلم به: وإلا كان الرب- تعالى- جاهلا ببعض الأشياء؛ وهو ممتنع كما سبق فى الصفات.
وإن كان ذلك مع العلم به: فمن كان عالما بالشيء يستحيل أن لا يقوم بنفسه الإخبار عنه على ما هو به؛ وهو معلوم بالضرورة.
________________
(1) فى ب (أن الحسن والقبح).
(2) فى ب (إبطاله). انظر ل 186/ أ وما بعدها.
(2/83)
________________________________________
وعند ذلك: فلو قام بنفسه الإخبار عنه على خلاف ما هو عليه حالة كونه عالما به ومخبرا عنه على ما هو عليه؛ لقام بالنفس الخبر الصادق والكاذب، بالنظر إلى شيء واحد من جهة واحدة؛ وذلك معلوم بطلانه بالضرورة.
فإن قيل: نحن «1» نعلم بالضرورة من أنفسنا أننا حال ما نكون عالمين بالشيء يمكننا «2» أن نخبر بالخبر «2» الكاذب، ونعلم كوننا كاذبين، ولو لا أننا عالمون بالشيء المخبر عنه؛ لما تصور علمنا بكوننا كاذبين.
قلنا: الخبر الّذي نعلم من أنفسنا كوننا كاذبين فيه إنما هو الخبر اللسانى. وأما الخبر النفسانى؛ فلا نسلم صحة علمنا بكذبه حالة الحكم به «3».
غير أن من نظر إلى ما حققناه فى مسألة الكلام (علم) «4» ضعف هذا المسلك؛ فعليك بالالتفات إليه «5».
وأما المسلك السمعى:
فهو «6» أنه قد ثبت صدق الرسول عليه السلام بالمعجزة القاطعة فى دلالتها فيما هو رسول فيه على ما سنبينه فى/ النبوات «7».
وقد نقل عنه بالخبر المتواتر أن كلام الله- تعالى- صدق، وأن الكذب عليه محال؛ فكان ذلك مقطوعا به.
وفيه نظر، إذ لقائل أن يقول: صحة السمع متوقفة على صدق الرسول، وصدق الرسول متوقف على استحالة الكذب على الله- تعالى- من حيث أن ظهور المعجزة على وفق تحديه بالرسالة نازلة منزلة التصديق من الله- تعالى- له فى دعواه، فلو جاز الكذب على الله- تعالى-؛ لأمكن أن يكون كاذبا فى تصديقه له، ولا يكون الرسول صادقا، فإذا توقف كل واحد منهما على الآخر؛ كان دورا ممتنعا.
________________
(1) فى ب (فإنا).
(2) فى ب (ممكنا أن نخبر الخبر).
(3) زائد فى ب (قال شيخنا رضى الله عنه).
(4) فى أ (على).
(5) انظر ل 82/ ب وما بعدها.
(6) فى ب (هو).
(7) انظر الجزء الثانى- القاعدة الخامسة- الأصل الثانى. ل 130/ أ.
(2/84)
________________________________________
فإن قيل: إثبات الرسالة لا يتوقف على استحالة الكذب على الله- تعالى- ليكون دورا؛ فإنه لا يتوقف إثبات الرسالة على «1» الإخبار بكونه رسولا حتى يدخله الصدق، أو الكذب؛ بل إظهار المعجزة على وفق تحديه ينزل منزلة الإنشاء، وإثبات الرسالة، وجعله رسولا فى الحال. وذلك كقول القائل لغيره: وكلتك فى أشغالى، واستنبتك «2» فى أمورى، وذلك لا يستدعى تصديقا ولا تكذيبا.
قلنا: فلو ظهرت المعجزة على يد شخص لم يسبق منه التحدى؛ إذ هو جائز على أصول أصحابنا؛ لم تكن المعجزة دالة على نبوته، وإثبات رسالته إجماعا. ولو كان ظهور المعجزة على يده منزل منزلة الإنشاء لرسالته؛ لوجب أن يكون رسولا متبعا بعد ظهورها؛ وليس كذلك.
فإن قيل: [إن الإنشاء] «3» مشروط بالتحدى؛ فهو بعيد بالنظر إلى حكم الإنشاءات؛ فإن من أنشأ أمرا، وأثبته ابتداء لغيره لا يتوقف على سابقة الدعوى به لمن أثبت ذلك له، وبتقدير أن يكون كذلك؛ ولكن غايته ثبوت رسالته بطريق الإنشاء، ولا يلزم منه أن يكون صادقا فى كل ما يخبر به، دون دليل عقلى يدل على صدقه، فيما يخبر به، أو تصديق الله- تعالى- له فى ذلك بالمعجزة، ولا دليل عقلى يدل على ذلك، وتصديق الله- تعالى- له لو توقف على صدق خبره؛ كان دورا؛ كما سبق.
غير أن التمسك بمثل هذا المسلك السمعى فى بيان استحالة الكذب فى الكلام اللسانى، الدال على الكلام النفسانى؛ صحيح؛ كما تقدم تقريره. والسؤال الوارد عليه ثمّ منقطع هاهنا؛ فإن صدق الكلام اللسانى، وإن توقف على صدق الرسول؛ فصدق الرسول غير متوقف على صدق الكلام اللسانى؛ بل على الكلام النفسانى؛ فامتنع الدور الممتنع فيه؛ والله أعلم.
********
________________
(1) فى ب (الاعلى).
(2) فى ب (و استأذنتك).
(3) فى أ (لان الأشياء).
(2/85)
________________________________________
«النوع الخامس» فى وحدانية الله- تعالى- ويشتمل على فصلين:
(2/87)
________________________________________
«الفصل الأول» فى تحقيق معنى الواحد «1»، وأقسامه، ولواحقه، وما هو التوحيد؟
أما حقيقة الواحد:
فقد قال بعض أئمتنا: إنه الشيء الّذي لا يصح انقسامه.
وفيه نظر؛ فإن الواحد قد يطلق على ما هو قابل للقسمة باعتبار اختصاصه بصفات لا يشاركه فيها أحد: ومنه يقال: فلان واحد فى عصره: أى لا نظير له، ولا شبيه له فى صفاته.
وكذلك قد يطلق على آحاد الناس، أو الموجودات: أنه واحد، وإن كان صالحا للانقسام.
وقد يطلق على مبدأ الكثرة.
فإن أريد بالحد المذكور تحديد الواحد بالاعتبار الأول: فلا يخفى بطلانه.
وإن أريد به تحديد الواحد بالاعتبار الثانى: فهو باطل أيضا؛ فإنه لا معنى لقول القائل لا يصح انقسامه، إلا أنه لا تلحقه الكثرة؛ فتكون الكثرة مأخوذة فى تعريف «2» الواحد. والكثرة [متوقفة] «3» فى معرفتها على معرفة الواحد؛ لكونه مبدأ لها، وأى حد قيل فى الكثرة كان الواحد مأخوذا فيه. وذلك كما يقال: الكثرة ما تعد بالواحد، وأنها المجتمعة من الآحاد وغير ذلك؛ فيكون دورا.
وفى معنى هذه العبارة قول بعض الأصحاب: الواحد هو الّذي لا يصح تقدير رفع شيء منه مع إبقاء شيء منه، أو الّذي لا يقال فيه شيء وشيء، إلا على طريق التكرار.
والأقرب: أن معرفتنا للواحد الّذي هو مبدأ الكثرة؛ غير نظرية. وأن كل ما يقال فيه إنما هو على سبيل التذكير، والتنبيه، لا على سبيل التحديد المشروط فيما سلف.
________________
(1) فى ب (الوحدة).
(2) فى ب (حد).
(3) فى أ (فمتوقفة).
(2/89)
________________________________________
وعند هذا: فالواجب أن نعرف الواحد بذكر أقسامه، وعد مسبباته.
فنقول: مسمى الواحد: إما أن يكون غير منقسم، أو هو منقسم.
فإن كان غير منقسم: فإما أن يكون غير قابل «1» للانقسام، أو «2» هو قابل للانقسام «2».
فإن كان غير قابل للانقسام: فهو الواحد بالعدد مطلقا: كالجوهر الفرد.
وإن كان قابلا للانقسام: فأجزاؤه: إما متشابهة، أو غير متشابهة.
فإن كان الأول: فيسمى الواحد بالاتصال، كالماء المتصل الأجزاء.
وإن كان الثانى: فيسمى الواحد بالتركيب: كالواحد «3» من الحيوان، أو النبات.
وإما أن يكون منقسما بالفعل: فلا بد وأن تشترك أعداده فى معنى كلى بحيث يصح إطلاق/ اسم الواحد عليها باعتباره، وإلا فلا معنى لإطلاق اسم الواحد عليها. وعلى حسب انقسام ذلك الكلى المشترك، يكون انقسام هذا الواحد.
فإن كان الكلى المشترك جنسا: قيل لما تحته من الأنواع إنها واحدة بالجنس:
كالإنسان، والفرس بالنسبة إلى الحيوان، غير أن ما كان واحدا بالجنس، فهو كثير بالنوع.
وإن كان الكلى المشترك نوعا: قيل للأعداد الداخلة تحته، إنها واحدة بالنوع:
كزيد، وعمرو بالنسبة إلى الإنسان.
وإن كان الكلى المشترك عرضا: قيل لما تحته من الأعداد، إنها واحدة بالعرض.
ومن لواحق هذه الأقسام:
المجانسة: وهى الاتحاد فى الجنسية.
والمشاكلة: وهى الاتحاد فى النوعية.
والمشابهة: وهى الاتحاد فى الكيفية.
________________
(1) فى ب (قابلا).
(2) فى ب (أو لا).
(3) فى ب (الواحد).
(2/90)
________________________________________
والمساواة: وهى الاتحاد فى الكمية.
والموازاة: وهى الاتحاد فى الوضع.
وعلى هذا: فما كان واحدا بالعدد، فقد اتفق أن يكون واحدا، بمعنى عدم النظير والشبيه على ما تقدم، والبارى- تعالى- واحد بكلا الاعتبارين: أما أنه واحد بالعدد:
فعلى ما تقدم.
وأما أنه واحد بالاعتبار الثانى: فعلى ما سيأتى فى الفصل الثانى.
فإن قيل: فما يقال له واحد، هل هو واحد لمعنى، أو لنفسه؟
قلنا: قد نقل عن بعض المتكلمين أنه واحد «1» لمعنى «1»، والّذي ذهب إليه أئمتنا أن الواحد واحد لنفسه لا لمعنى، وإلا كان ذلك المعنى أيضا واحدا، ويلزم أن يكون واحد المعنى؛ وهو تسلسل ممتنع.
ثم «2» من صار إلى كون «2» الواحد واحدا، لا لمعنى، فقد اختلفوا:
فذهب أبو هاشم: الى أن معنى الواحد يرجع إلى صفة نفى، وأن حاصله يرجع إلى نفى ما عدا الموجود الفرد.
وذهب القاضى أبو بكر: إلى أن حاصله يرجع إلى صفة إثبات، هى صفة نفس غير معللة. ولعل الأشبه ما ذكره القاضى، وذلك لأنا إذا قلنا: إن معنى الواحد إنما هو سلب ما زاد على الموجود الفرد؛ فهو عبارة عن سلب الكثرة؛ فالواحد يكون عبارة عن سلب الكثرة؛ فيكون معناه عدما، والكثرة إنما هى مركبة من الآحاد. فإذا كان معنى كل واحد من الآحاد عدما، فالكثرة المركبة من الآحاد تكون عدما. وإذا كانت الكثرة عدما؛ فسلبها يكون وجودا، وسلبها هو مفهوم الواحد؛ فيكون مفهوم الواحد وجودا، ويلزم من ذلك أن/ لا تكون الكثرة عدما؛ بل وجودا؛ لتركبها من الوجودات؛ فالقول بأن مفهوم الواحد عدم ما عدا الموجود الفرد؛ يجر إلى كون الكثرة وجودا وعدما معا؛ وهو محال.
وهو من دقيق الكلام: فليفهم.
هذا ما يتعلق بتحقيق معنى الواحد.
________________
(1) فى ب (بمعنى).
(2) فى ب (ثم إن صار الى أن).
(2/91)
________________________________________
وأما التوحيد:
فقد يطلق بالاشتراك على التفريق بين شيئين «1» بعد سابقة اتصالهما.
وقد يطلق على الإتيان بالفعل «2» الواحد منفردا.
وقد يطلق ويراد به اعتقاد الوحدانية لله- تعالى- وهذا هو المقصود من إطلاق لفظ التوحيد فى عرف المتكلمين.
وربما أطلق على الإخبار عن التوحيد، وإن جهل اعتقاد المخبر به.
**********
________________
(1) فى ب (الشيئين).
(2) فى ب (بفعل).
(2/92)
________________________________________
«الفصل الثانى «1»» فى امتناع وجود إلهين لكل واحد منهما من صفات الإلهية ما للآخر «2»
وقد احتج النافون للشركة بمسالك ضعيفة.
المسلك الأول «3»:
وهو ما ذكره الفلاسفة؛ وذلك أنهم قالوا: لو قدر وجود واجبين كل واحد منهما واجب لذاته. فلا يخلو: إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه، أو باختلافهما من كل وجه، أو باتفاقهما من وجه، دون وجه.
فإن كان الأول: فلا تعدد فى مسمى واجب الوجود؛ إذ التعدد، والتّغاير دون مميز؛ محال.
وإن كان الثانى: فما اشتركا فى وجوب الوجود.
وإن كان الثالث: فما به الاشتراك غير ما به الافتراق، وما به الاشتراك، إن لم يكن
________________
(1) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء التعارض 4/ 248 - 251) من أول قول الآمدي «الفصل الثانى: الى قوله: فلم قلتم بكونه أمرا وجوديا» ثم انتقل الى قوله: «و على هذا بطل الى قوله: مع تعدده» ثم علق على النقلين وناقشهما بالتفصيل ص 251 وما بعدها.
(2) من كتب أهل الحق الأشاعرة التى توضح وجهة نظرهم وردهم على خصومهم:
انظر اللمع للأشعرى ص 20، 21 والتمهيد للباقلانى ص 46، 151، 152 والإنصاف له أيضا ص 22 وأصول الدين للبغدادى ص 83 - 86 والإرشاد لإمام الحرمين ص 52 - 60 والشامل فى أصول الدين له ص 345 - 401 ولمع الادلة له أيضا ص 86، 87 والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص 36 - 38 والمقصد الأسنى له ص 126 طبع الجندى والمضنون به على غير أهله ص 133 ضمن مجموعة القصور العوالى، الجزء الثانى، نشر مكتبة الجندى وإلجام العوام ص 117 له أيضا ضمن مجموعة القصور العوالى- الجزء الثانى- ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 90 - 102. والمحصل للرازى ص 140.
ومن كتب الآمدي غاية المرام ص 151 - 155.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي: انظر طوالع الأنوار ص 163 - 166 وشرح المواقف 2/ 344، 345 وشرح المقاصد 2/ 45 - 48. ومن كتب السلفيين التى توضح وجهة نظرهم فى هذه المسألة: انظر موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول لابن تيمية 1/ 134 - 138 واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 32 وما بعدها وشرح الطحاوية ص 20 - 28 لابن أبى العز الحنفى.
(3) لتوضيح رأى الفلاسفة: انظر كتاب الكندى إلى المعتصم بالله فى الفلسفة الأولى ص 90 - 92، 122 - 143 وعيون المسائل للفارابى ص 5 وما بعدها. والإشارات لابن سينا 3/ 52 - 74 والنجاة له أيضا ص 249 - 251 ومناهج الأدلة لابن رشد ص 49 - 53.
(2/93)
________________________________________
هو وجوب الوجود؛ فليسا بواجبين؛ بل أحدهما دون الآخر. وإن كان الاشتراك بوجوب الوجود؛ فهو ممتنع لوجهين:
الأول: هو أن ما به الاشتراك من وجوب الوجود: إما أن يتم تحققه فى كل واحد من الواجبين بدون ما به الافتراق، أو لا يتم دونه.
فإن كان الأول: فهو محال. وإلا كان المعنى المطلق «1» المشترك متحقق «1» فى الأعيان [من] «2» غير مخصص؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: كان وجوب الوجود ممكنا؛ لافتقاره فى تحققه إلى غيره، فالموصوف به- وهو ما قيل بوجوب وجوده به- أولى أن يكون ممكنا.
الوجه الثانى: هو أن مسمى واجب الوجود إذا كان مركبا من أمرين: وهو وجوب الوجود المشترك، وما به الافتراق؛ فيكون مفتقرا فى وجوده إلى كل واحد من مفرديه، وكل واحد من المفردين مغاير للجملة المركبة منهما، ولهذا يتصور تعقل كل واحد من الأفراد مع الجهل بالمركب منها والمعلوم/ غير المجهول. وكل ما كان مفتقرا إلى غيره فى وجوده كان ممكنا، لا واجبا لذاته؛ إذ لا معنى لواجب الوجود لذاته، إلا «3» ما لا يفتقر «3»، فى وجوده إلى غيره.
وهذه المحالات إنما لزمت من القول بتعدد واجب الوجود لذاته؛ فيكون محالا.
وربما استروح بعض الأصحاب فى إثبات الوحدانية إلى هذا المسلك أيضا.
وهو ضعيف إذ لقائل أن يقول:
وإن سلمنا الاتفاق بينهما من وجه، والافتراق من وجه، وأن ما به الاتفاق هو وجوب الوجود، ولكن لم قلتم بالامتناع؟ وما ذكرتموه فى الوجه الأول- إنما يلزم أن لو كان مسمى وجوب الوجود معنى وجوديا. وأما بتقدير أن يكون أمرا سلبيا، ومعنى عدميا، وهو عدم افتقار الوجود إلى علة خارجة فلا. فلم قلتم بكونه أمرا وجوديا «4»؟
________________
(1) فى ب (مشتركا متحققا).
(2) ساقط من أ.
(3) فى ب (إلا ما يفتقر).
(4) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 248 - 251).
(2/94)
________________________________________
فلئن قلتم: الدليل على كونه وجوديا من ثلاثة أوجه:
الأول: أن وجوب الوجود تأكد الوجود، والوجود لا يكون متأكدا بالعدم.
الثانى: هو أن نقيض الوجوب لا وجوب، ولا وجوب عدم؛ فالوجوب وجود؛ ضرورة أن أحد النقيضين لا بد وأن يكون وجودا.
وبيان أن لا وجوب عدم، صحة اتصاف العدم الممكن به، ولو كان وجودا؛ لما كان صفة للعدم المحض.
الثالث: هو أنه لو كان وجوب الوجود عدما فى الخارج، لم يكن الشيء فى الخارج موصوفا بكونه واجبا؛ وذلك يقتضي نفى واجب الوجود فى الخارج؛ وهو محال.
فنقول: لا نسلم أن الوجوب تأكد الوجود؛ بل [هو] «1» عبارة عن عدم افتقار الوجود إلى علة خارجة.
وقولكم «2»: لا وجوب صفة العدم.
قلنا: فالوجوب أيضا صفة للعدم الممتنع؛ فإنه يصدق عليه واجب العدم؛ فاتصاف العدم بلا وجوب، وإن دل على كونه عدميا؛ فاتصاف العدم بالوجوب، يدل على أن الوجوب عدمى.
وما ذكرتموه فى الوجه الثالث؛ فبعيد عن التحقيق؛ فإنه إذا كان الوجوب عدما:
وهو عدم الافتقار إلى العلة، فلا يمنع ذلك من وجود واجب فى الخارج: وهو وجود شيء فى الخارج متصف بصفة سلب، وهو أنه لا يفتقر فى وجوده إلى علة.
ثم بيان كون الوجوب عدما هو أنه لو كان وجوب الوجود صفة وجودية: فإما أن تكون هى نفس ذات واجب الوجود، أو داخلة فيها، أو خارجة عنها.
فإن كان الأول: فهو محال؛ لأن الذات/ الموصوفة بالوجود: قد تكون معلومة، واتصافها بالوجوب مجهول، والمجهول غير المعلوم؛ وبهذا يبطل القسم الثانى.
كيف: وأنه يلزم منه أن تكون ذات واجب الوجود مركبة، وقد قلتم بإحالته.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (و قوله).
(2/95)
________________________________________
وإن كان الثالث: فهو ممتنع لوجهين: استدلالا، وإلزاما.
أما الاستدلال: فهو أن وجوب الوجود: إما أن يكون واجبا، أو ممكنا. لا جائز أن يقال بالأول: وإلا لما كانت صفة مفتقرة إلى الذات.
وإن كان الثانى: فما وصف به. وقيل إنه واجب الوجود باعتباره أولى أن يكون ممكنا.
وأما الإلزام: فهو أن مذهب الفلاسفة، أنه لا صفة وجودية تزيد على ذات الرب- تعالى- ولو كان وجوب الوجود صفة وجودية زائدة على ذات الرب- تعالى-؛ لكان مناقضا لمذهبهم.
وربما قيل فى بيان كونه وجوديا وجوها أخر باطلة، آثرنا الإعراض عن ذكرها.
وعلى «1» هذا: فقد بطل القول بالوجه الثانى؛ فإنه إذا كان حاصل الوجوب يرجع إلى صفة سلب؛ فلا يوجب ذلك التركيب فى ذات واجب الوجود، وإلا لما وجد بسيط أصلا، فإنه ما من بسيط إلا ويتصف بسلب غيره عنه. وإن سلمنا أن وجوب الوجود وصف وجودى، ولكن ما ذكرتموه من لزوم التركيب فهو لازم. وإن كان واجب الوجود واحدا من حيث أن مسمى واجب الوجود مركب من الذات المتصفة بالوجوب، ومن الوجوب الذاتى. فما هو العذر عنه مع اتحاد واجب الوجود؛ فهو العذر مع تعدده «2».
وربما قيل عليه أسئلة أخرى لم نذكرها؛ لضعفها، وسهولة التقصى عنها.
المسلك الثانى:
وهو ما ذهب إليه الأستاذ أبو بكر، وجماعة من المعتزلة، وهو أن قالوا: الطريق إلى معرفة وجود الإله- تعالى- ليس إلا وجود الحادثات؛ لضرورة افتقارها إلى مرجع تنتهى إليه، وهى لا تدل على أكثر من واحد.
________________
(1) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء التعارض 4/ 251) من أول قول الآمدي «و على هذا. إلى قوله فهو العذر مع تعدده» بعد النقل السابق مباشرة ثم علق على النقلين وناقشهما فى ص 251 وما بعدها بالتفصيل.
(2) انظر المغنى للقاضى عبد الجبار 4/ 324 وما بعدها، ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 96 وما بعدها.
(2/96)
________________________________________
وهو ضعيف أيضا؛ لأن حاصله يرجع إلى الحكم بنفى المدلول، لانتفاء دليله؛ وهو باطل على ما سبق فى تحقيق الدليل «1».
المسلك الثالث:
مسلك التمانع، وعليه اعتماد أكثر أئمتنا «2»، وهو أن يقال: لو قدرنا وجود إلهين متصفين بصفات الإلهية من العلم، والقدرة، والإرادة، ونحو ذلك مما سبق بيانه. وقدرنا أن أحدهما أراد تحريك جوهر فى وقت معين، والآخر أراد تسكينه/ فى ذلك الوقت:
فإما أن يحصل مرادهما معا، أو لا يحصل [«3» مرادهما معا. أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر] «3».
فإن كان الأول: لزم حصول مراديهما، ويلزم من ذلك، اجتماع الحركة والسكون معا؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فهو ممتنع لوجهين:
الأول: أنه يلزم منه أن يكون كل واحد منهما عاجزا، والعاجز لا يكون إلها.
الثانى: أنه يلزم منه أن يكون كل واحد منهما عاجزا بعجز: إما قديم، أو حادث، وكل واحد من الأمرين ممتنع؛ كما تقدم فى بيان كون الإله ليس بعاجز «4».
وإن كان الثالث: وهو حصول مراد أحدهما دون الآخر؛ فممتنع للوجهين المذكورين فى القسم الّذي قبله.
وهذه المحالات، إنما لزمت من القول بتعدد الآلهة؛ فيكون محالا.
وفيه نظر إذ لقائل أن يقول: ما ذكرتموه من الأقسام المحالة، إنما هو فرع تصور إختلاف الإلهين فى الإرادة؛ وهو غير مسلم.
________________
(1) انظر ل 38/ ب.
(2) منهم الأشعرى فى اللمع ص 20، 21 والباقلانى فى التمهيد ص 46، 151، 152 والبغدادى فى أصول الدين ص 75، 85 والجوينى فى الإرشاد ص 35 والرازى فى المحصل ص 140.
(3) فى أ (و لا مراد أحدهما أو مراد أحدهما دون الآخر).
(4) انظر ل 164/ ب وما بعدها.
(2/97)
________________________________________
فلئن قلتم: دليل تصور ذلك من خمسة أوجه:
الأول: هو أنا لو قدرنا انفراد كل واحد صح تعلق إرادته «1» بالحركة، أو السكون «1»؛ فلو امتنع ذلك حالة الاجتماع؛ لانقلب الجائز مستحيلا؛ وهو ممتنع.
الثانى: هو أن صحة إرادة كل واحد منهما بالحركة، أو السكون حالة الانفراد أزلية؛ فوجب القول ببقاء هذه الصحة حالة الاجتماع؛ لأن الأزلى لا يزول.
الثالث: هو أن زوال الصحتين حالة الاجتماع إنما يتصور أن لو تنافيا، وإذا تنافيا؛ فلا بد وأن تزول كل واحدة من الصحتين بالأخرى؛ وذلك محال؛ لأن المؤثر فى عدم كل واحدة من الصحتين إنما هو وجود الأخرى لا عدمها، ووجود العلة واجب عند حصول المعلول، فلو عدمت الصحتان معا؛ لحصلتا معا؛ وهو محال.
وهذا المحال إنما لزم من زوال الصحتين حالة الاجتماع؛ فكان محالا.
الرابع: هو أن صحة تعلق إرادة كل واحد منهما بالحركة، أو السكون حالة الانفراد ثابتة لنفس الإرادة وذاتها، فلو امتنع ذلك حالة الاجتماع؛ لزم منه قلب الحقيقة وإثبات نفس الإرادة مع انتفاء صفة نفسها؛ وهو محال.
الخامس: هو أنه لو امتنع حالة الاجتماع ما كان جائزا حالة الانفراد من صحة تعلق إرادة كل واحد منهما بالحركة، أو السكون لم يخل: إما أن يكون ذلك لنفس إرادة المريد، أو لنفس ذاته، أو لصفة أخرى من صفاته، وإما لذات القديم الآخر، أو لإرادته،/ أو لصفة من صفاته.
لا جائز أن يقال بامتناع تعلق إرادة أحدهما بالحركة، أو السكون لذاته، ولا لنفس إرادته، ولا لصفة من صفاته؛ وإلا لما تصور أن يكون تعلقها بذلك حالة الانفراد؛ لتحقق المانع.
ولا جائز أن يقال: بأن الامتناع لذات القديم الآخر، ولا لإرادته، ولا لصفة من صفاته. فإن «2» ثبوت حكم للذات «3» لا يكون إلا بما هو مختص بالذات اختصاص «4» قيامه بها لا بما هو خارج عنها.
________________
(1) فى ب (الإرادة بالحركة والسكون).
(2) فى ب (لأن).
(3) فى ب (الذات).
(4) فى ب (باختصاص).
(2/98)
________________________________________
ولهذا فإنه لا يصح أن تكون الذات عالمة بعلم قائم بغيرها؛ بل بها.
فلقائل «1» أن يقول «1»: ما ذكرتموه مندفع:
أما الوجه الأول: فلأنا لا نسلم أن ما أحلناه حالة الاجتماع هو ما كان جائزا فى نفسه؛ فإن ما كان جائزا: إنما هو التعلق حالة الانفراد مشروطا بحالة الانفراد، ولم يزل جائزا على هذا الوجه، والمحال حالة الاجتماع لم يزل محالا مشروطا بحالة الاجتماع، فلا الجائز انقلب محالا، ولا المحال انقلب جائزا؛ ولهذا فإنا لو قدرنا انفراد أحدهما صح منه إرادة حركة الجوهر بدلا عن إرادة سكونه، وكذلك بالعكس.
ومع هذا فقد أجمعنا على استحالة تعلق إرادته بالحركة، والسكون معا، ولو لم يكن للإحالة لما كان جائزا؛ فكذلك ما نحن فيه.
وأما الوجه الثانى: فعنه جوابان:
الأول: لا نسلم امتناع زوال كل أزلى إلا أن يكون وجوديا، ولهذا فإن عدم العالم قبل وجوده أزلى، ويزول بحدوث العالم، فلم قلتم بأن صحة التعلق وجودية؟ وبيان أنها غير وجودية أن معنى الصحة يرجع إلى الإمكان، والإمكان عدمى، على ما سبق فى مسألة الرؤية.
الثانى: وإن سلمنا أن صحة التعلق وجودية أزلية؛ ولكن لا نسلم أن ما كان جائزا زائل؛ إذ الجائز إنما هو صحة التعلق مشروطا بحالة الانفراد؛ وهو غير زائل على ما تقدم.
وأما الوجه الثالث: فهو «2» منقوض «2» بامتناع صحة تعلق إرادة الإله المنفرد بالحركة، والسكون معا، وإن كان تعلق إرادته بكل واحد منهما على البدل جائزا. وبه «3» يندفع ما ذكرتموه من الوجه الرابع، والخامس «3».
وعلى هذا فموقع السؤال المذكور صعب جدا. وعسى أن يكون عند غيرى جوابه.
وقد ترد «4» أسئلة أخر «4». يقرب الانفصال عنها، وهى أن يقال فى تقرير منع الاختلاف بينهما فى الإرادة. هو «5» أن «5» ما يريده الإله: إما أن يكون أولى من عدم إرادته، أو أن عدم الإرادة أولى، أو أنه لا أولوية لأحدهما.
________________
(1) فى ب (فنقول).
(2) فى ب (فمنقوض).
(3) فى ب (و بهذا يندفع ما ذكروه من الوجه الخامس والرابع).
(4) فى ب (ترد عليه أسئلة أخرى).
(5) فى ب (أو لأنه).
(2/99)
________________________________________
فإن كان عدم الإرادة أولى/ من الإرادة، فالإرادة تكون ممتنعة، وإلا كانت الإرادة عبثا. وإن كان لا أولوية؛ فليست الإرادة أولى من عدمها، وإلا كان ترجيح أحد المتساويين من غير مرجح؛ وهو محال. فلم يبق إلا أن تكون الإرادة لما هو الأولى.
والأولى من كل شيء، لا يكون إلا فى أحد طرفيه؛ فتعين تعلق إرادتهما به.
سلمنا عدم اشتراط الأولى؛ ولكن كل واحد من الإلهين. لا بد وأن يكون عالما بعواقب الأمور، وما يقع وما لا يقع، والمعلوم الواقع من كل شيء ليس إلا أحد طرفيه، وتعلق الإرادة بخلاف المعلوم محال؛ فكان متعلق الإرادة واحدا.
سلمنا جواز فرض اختلاف إرادتيهما؛ ولكن ما ذكرتموه من المحالات، إنما يلزم من وقوع الاختلاف، لا من جواز الاختلاف، فلم قلتم بوقوع الاختلاف؟
سلمنا لزوم المحال من جواز فرض الاختلاف؛ ولكنه منتقض بتعلق القدرة بالمقدور؛ وذلك أنه لو انفرد أحدهما، كان قادرا على إيجاد الحركة، ولو انفرد الآخر كان قادرا على السكون، ولو اجتمعا تعذر على كل واحد منهما ما كان قادرا عليه حالة الانفراد.
والجواب:
أما السؤال الأول: فإنما يلزم أن لو لزم رعاية الغرض، والمقصود فى أفعال الله- تعالى- وهو ممتنع على ما سيأتى «1».
وأما «2» الثانى: فإنما يلزم أيضا «2» أن لو كان تعلق العلم بالواقع مجردا عن كونه مرادا حتى تكون الإرادة تابعة للعلم؛ وهو ممنوع؛ بل تعلق العلم بالواقع إنما يكون مشروطا بكونه مرادا.
وعلى هذا فيكون تعلق العلم بالواقع تبعا للإرادة، لا أن الإرادة تكون تابعة للعلم.
وأما الثالث: فمندفع، فإنه إذا سلم جواز الاختلاف؛ فالجائز ما لا يلزم من فرض وقوعه المحال، والمحال لازم من فرض الوقوع؛ فالقول بفرض وجود إلهين على وجه يلزمه «3» فرض المحال، يوجب كونه محالا.
________________
(1) انظر ل 186/ أ وما بعدها.
(2) فى ب (و السؤال الثانى فإنما).
(3) فى ب (يلزم من ذلك).
(2/100)
________________________________________
وأما النقض بالقدرة: فمندفع، فإن كل ما ذكرناه فى استحالة وجود إلهين من جهة تعلق إرادتيهما بمرادين متقابلين فمطرد فى تعلق قدرتيهما بمقدورين متقابلين.
المسلك الرابع:
أنا لو قدرنا وجود إلهين، فإما أن يتفقا من كل وجه، أو يفترقا من كل وجه، أو يتفقا من وجه ويفترقا من وجه.
لا جائز أن يقال بالأول، والثانى: لما تقدم فى المسلك الّذي قبله.
وإن كان الثالث: فلا بد وأن يكون بين ما به الاشتراك والافتراق ملازمة فى كل واحد منهما، وإلا لجاز افتراقهما/ وخرج كل واحد منهما عن حقيقته.
وعند ذلك: فإما أن يكون ما به الاشتراك مستلزما لما به الافتراق، أو ما به الافتراق مستلزما لما به الاشتراك، أو أن كل واحد منهما مستلزم للآخر.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كان ما به الاشتراك مستلزما فى كل واحد منهما ما وقع به الافتراق بينهما؛ ضرورة اتحاد «1» المستلزم، ويلزم من ذلك امتناع وقوع الافتراق؛ وهو خلاف الفرض.
ولا جائز أن يقال بالثانى: وإلا فالأمران اللذان بهما الاختلاف:
إما أن يستقل كل واحد منهما باستلزام المعنى المتحد، أو أحدهما دون الآخر، أو أنه لا استقلال لكل «2» واحد منهما، دون الآخر.
فإن كان الأول: فلا معنى لكون كل واحد «3» [مستقلا بالاستلزام إلا أنه مستلزم له وحده دون غيره، وفى استقلال كل واحد] «3» منهما؛ بطلان استقلال كل واحد منهما؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فما به الافتراق فى الآخر لا ملازمة بينه، وبين ما به الاتحاد فيه، وهو ممتنع كما سبق.
________________
(1) فى ب (فى اتحاد).
(2) فى ب (بكل).
(3) من أول (مستقلا بالاستلزام ... الى كل واحد) ساقط من أ.
(2/101)
________________________________________
وإن كان الثالث: فما به الاتحاد فى كل واحد من الإلهين يتوقف تحققه فيه على اجتماع ما به الافتراق بين الإلهين فيه، وإلا فلا تحقق له فيه؛ لعدم استقلال أحد المختلفين بالاستلزام، ويلزم من ذلك عدم الافتراق بينهما؛ وهو خلاف الفرض.
وأما إن قيل بالقسم الثالث: وهو الاستلزام من الجانبين؛ فهو محال لما سبق فى القسمين الأولين؛ إذ هو مركب منهما.
واعلم أن هذا المسلك وإن دق النظر فيه، وحسن تحريره؛ فإنما يلزم أن لو كان ما به الاتفاق، والافتراق فى الإلهين وجوديا، وبتقدير أن يكون ما به الافتراق وجوديا، وهما مفترقان به لذاتيهما، وما به الاتفاق سلبى: وهو عدم الافتقار إلى العلة كما سبق فى المسلك الأول تقريره؛ فهو غير لازم، وإلا لما تصور وجود مختلفين أصلا؛ ضرورة أنهما لا بد من اتفاقهما فى سلب غيرهما عنهما؛ وهو محال مخالف للعقل والحس.
ثم وإن سلمنا أن ما به الاتفاق أمر وجودى، غير أنه يلزم مما قيل من البرهان أن لا توجد الأنواع المختلفة بذواتها، المتفقة بأمور ثبوتية عامة لها؛ وذلك كالسواد، والبياض؛ اذ هما وجوديان، وهما مختلفان لذاتيهما، ومتفقان باللونية، وكذلك الإنسان، والفرس، وسائر الأنواع، وما لزم من القول به أمر محال؛ فيكون لا محالة فاسدا فى نفسه من جهة الجملة، وإن لم يكن فساده مفصلا.
المسلك الخامس:
لو قدرنا وجود إلهين لكل واحد [منهما] «1» من صفات الإلهية ما للآخر فهما مثلان «2»؛ لاشتراكهما فى أخص صفة نفس أحدهما.
وعند ذلك: فلو قدرنا جوهرا حدث: فإما أن يستند فى حدوثه إلى أحدهما/ دون الآخر، أو إليهما، أو لا إليهما.
لا جائز أن يقال بالأول؛ إذ ليس إضافته إلى ما أضيف إليه أولى من الآخر لتماثلهما.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (متلازمان).
(2/102)
________________________________________
ولا جائز أن يقال بالثانى: لأنه لا يخلو: إما أن يكون كل واحد مستقلا بإيجاده، أو لا استقلال لأحدهما دون الآخر.
فإن كان الأول: فهو محال؛ لما سبق فى المسلك الّذي قبله.
وإن كان الثانى: فهو مقدور واحد بين قادرين؛ وهو محال؛ لأن إحداث كل واحد منهما له إنما هو بالقدرة، والإرادة كما «1» يأتى لا بالذات «1».
وعند ذلك: فإما أن يقصد كل واحد منهما إيجاد الكل، أو البعض، أو بعض الإيجاد، فإن قصد كل واحد منهما إيجاد الكل؛ فهو محال؛ لتعذر استقلاله به كما وقع به الفرض. فإن قصد إيجاد بعض المقدور؛ فلا بعض له على ما وقع به الفرض، وإن قصد بعض الإيجاد؛ فهو متعذر؛ لتعذر وقوع بعض الإيجاد بقصده.
وإن لم يستند إليهما، ولا إلى أحدهما: فإما أن يحدث بنفسه، أو بمحدث آخر.
لا جائز أن يقال بالأول؛ لما سبق فى مسألة «2» إثبات واجب الوجود.
ولا جائز أن يقال بالثانى: وإلا فذلك المحدث: إما إله آخر، أو غير إله.
فإن كان إلها: فالكلام فيه كما تقدم فى القسم الأول.
وان لم يكن إلها: فسنبين أنه لا خالق غير الإله تعالى.
كيف وأن الكلام مفروض فيما لو لم يحدث غير ذلك الجوهر، ويلزم من ذلك امتناع الحدوث؛ وهو محال.
وهذه المحالات إنما لزمت من فرض وجود إلهين؛ فهو محال.
ولقائل أن يقول:
لا نسلم أنه يلزم من اشتراك الإلهين فى صفات الإلهية تماثلهما؛ لجواز أن يختلط بذاتيهما، وهما مشتركان فيما فرض من اللوازم العامة لهما.
وعند ذلك فلا يمتنع إسناد الحدوث إلى أحدهما دون الآخر؛ إذ لا تماثل حتى يقال لا أولوية.
ولا خفاء بأن بيان التماثل مما لا سبيل إليه.
________________
(1) فى ب (لا بالذات كما يأتى).
(2) راجع ما سبق فى النوع الأول- المسألة الأولى: فى إثبات واجب الوجود لذاته ل 41/ أ وما بعدها.
(2/103)
________________________________________
ثم وإن سلمنا التماثل. غير أن الحدوث غير مستند إلى ذات الإله، وطبعه؛ بل إلى القدرة والاختيار.
وعند ذلك: فلا يمتنع قصد أحدهما لتخصيصه، دون الآخر.
وإن تمسك المعتزلة بهذا المسلك؛ فقد ناقضوا أصلهم فى القول بامتناع اختصاص أحد المتماثلين بحكم لا وجود له فى الآخر؛ حيث زعموا: أن الإرادة القائمة لا فى محل؛ مماثلة للإرادة القائمة فى محل مع اختلافهما فى حكم افتقار إحداهما إلى المحل دون الأخرى./
وكذلك حكموا بتماثل العلم والجهل، مع افتراقهما فى صفتيهما، وبتماثل الأعراض التى لا بقاء لها مع اختلافها باختصاص كل واحد منها بزمن لا يوجد فيما قبله ولا بعده، إلى غير ذلك.
وناقضوا أصلهم أيضا: فى امتناع مقدور واحد بين قادرين. حيث قالوا: بجواز تولد فعل واحد من اعتمادين صادرين عن قادرين، ويلزم أن يكون فعلا لكل واحد منهما.
المسلك السادس:
أنا لو فرضنا وجود إلهين لكل واحد منهما من صفات الإلهية ما للآخر، ولم ينفصل أحدهما عن الآخر بزمان، ولا مكان، ولا بصفة من الصفات، ولا بعلم يميز أحدهما عن الآخر بصدور الفعل؛ فإنه ما من فعل إلا ويجوز صدوره من كل واحد منهما. وكل موجودين لا يمكن التوصل إلى تمييز أحدهما عن الآخر؛ فالعلم بهما يكون ممتنعا
وهذه الطريقة مما اعتمد عليها حذاق المعتزلة «1»، وبعض أصحابنا؛ وهى بعيدة عن التحصيل؛ فإنه وإن قدر عدم امتياز أحدهما عن الآخر بالصفات الزائدة على ذاتيهما؛ فلا يمتنع التمايز بالنظر إلى ذاتيهما، ويكون الاختلاف بينهما لذاتيهما. وإن اشتركا فى الصفات العامة لهما.
________________
(1) لتوضيح رأى المعتزلة فى الوحدانية بالتفصيل:
انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 277 - 298 والمحيط بالتكليف له ص 217 - 228 والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل له أيضا الجزء الرابع ص 241 - 346 والجزء الخامس ص 9 - 159.
(2/104)
________________________________________
ثم وإن سلم امتناع التوصل إلى التمييز بالدليل؛ فلا يلزم امتناع العلم بالتمييز؛ لجواز خلق العلم الضرورى بذلك. وإن سلمنا امتناع العلم بذلك مطلقا؛ ولكن لا يلزم من امتناع العلم بتمييز أحدهما عن الآخر، امتناع وجودهما فى نفس الأمر؛ فإن انتفاء العلم بالشيء لا يدل على عدمه فى نفسه.
المسلك السابع:
لو «1» قدر «1» وجود إلهين لم يخل: إما أن يقدر كل واحد منهما على نصب دلالة تختص بالدلالة عليه، أو لا يقدر على ذلك، أو يقدر أحدهما دون الثانى.
لا جائز أن يقال بالأول: إذ الدال على الصانع إنما هو صنعه، ولا يتصور وجود صنع يعلم اختصاصه بأحدهما.
ولا جائز أن يقال بالثانى: وإلا فهما عاجزان، والعاجز لا يكون إلها كما تقدم.
فلم يبق إلا الثالث: وهو أن يكون أحدهما قادرا، والآخر عاجزا. والعاجز ليس بإله، والقادر هو الإله، فلا تعدد فى الآلهة.
وهذا المسلك أيضا مما اعتمد عليه بعض أصحابنا والمعتزلة، وهو ضعيف أيضا.
فإنا إذا «2» فرضنا وجود إلهين، وقدرنا استحالة قدرة/ كل واحد منهما على نصب دلالة عليه تخصه- بما سبق تقريره فى القسم الأول- فلا يكون كل واحد منهما عاجزا مع فرض استحالة المقدور عليه. ولهذا فإن الإله لا يوصف بكونه عاجزا عن الجمع بين الضدين، وإيجاد المحالات.
وعلى هذا فلا يلزم مما ذكروه خروج كل واحد منهما عن الإلهية.
وإن شئت قلت: إما أن يكون نصب الدلالة الخاصة بكل واحد منهما ممكنة، أو غير ممكنة.
فإن كانت ممكنة: فقد بطل ما ذكروه فى تقرير القسم الأول.
________________
(1) فى ب (أنا لو قدرنا).
(2) فى ب (لو).
(2/105)
________________________________________
وإن لم تكن ممكنة: فلا يكون الإله موصوفا بالعجز عن إيجاد ما ليس بممكن كما تقرر. وبه إبطال ما قيل فى القسم الثانى.
وربما انفردت المعتزلة بمسلك آخر بناء على أصلهم فى أن الله- تعالى- مريد بإرادة حادثة لا فى محل.
قالوا «1»: فلو «1» قدرنا وجود إلهين، فالإرادة الحادثة لا اختصاص لها بأحدهما دون الآخر.
وعند ذلك: فيلزم أن يكون كل واحد منهما مريدا بتلك الإرادة، ويلزم من ذلك أن تكون العلة الواحدة موجبة لحكمين فى محلين؛ وهو محال، ولهذا يمتنع أن يكون العلم الواحد موجبا لعالميتين فى محلين مختلفين. وبطلان هذا المسلك أظهر من حيث أنهم بنوه على كون الإله «2» تعالى مريدا بإرادة حادثة لا فى محل، وقد سبق بطلانه «3».
ثم وإن سلم ذلك؛ ولكن لم قالوا: بامتناع إيجاب العلة لحكمين فى محلين؟ وما ذكروه من الاستشهاد بالعلم فلو قال قائل: إنما امتنع عليه ذلك لاشتراط قيامه بمحل الحكم، وامتناع قيامه بمحلين بخلاف الإرادة؛ لم يجد «4» إلى دفعه سبيلا.
حتى أنه لو قيل بجواز وجود علم لا فى محل كما قيل فى الإرادة؛ لما كان ذلك عليه ممتنعا.
وإن سلمنا دلالة ما ذكروه على امتناع إيجاب العلة لحكمين فى محلين، غير أنه ينتقض على أصولهم بالفناء المضاد للجوهر؛ فإنه مخلوق لا فى محل على أصلهم. ومع ذلك يوجب كون كل جوهر فانيا مع عدم اختصاصه بواحد من الجواهر.
وعلى هذا فإذا «5» كانت الطرق العقلية الدالة على الوحدانية مضطربة غير يقينية.
فالأقرب فى الدلالة. إنما هو الدلالة السمعية على ما ذهب إليه حذاق المعتزلة.
وذلك قوله- تعالى-: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «6» ووجه الاحتجاج به. أنه
________________
(1) فى ب (و هو أن قالوا لو).
(2) فى ب (البارى).
(3) انظر ل 69/ ب وما بعدها.
(4) فى ب (يجدوا).
(5) فى ب (فإن).
(6) سورة الأنبياء 21/ 22.
(2/106)
________________________________________
أخبر بلزوم الفساد من تقدير وجود الآلهة ولا فساد، ويلزم من انتفاء اللازم/ انتفاء الملزوم.
فإن قيل: وإن سلمنا أن لله- تعالى- كلاما [على «1» ما «1»] أثبتموه فى الصفات؛ ولكن لا نسلم أن خبره يجب أن يكون صدقا. ولا سيما على أصلكم؛ حيث قلتم إن الكذب غير قبيح لعينه، وذاته. وإذا لم يكن قبيحا لعينه؛ فما المانع منه؟ وبتقدير عدم الصدق؛ فلا ملازمة بين الآلهة والفساد.
سلمنا أن كلام الله النفسانى يجب أن يكون الخبر منه صادقا «2»؛ ولكن ما ذكرتموه دليلا، ليس من الكلام النفسانى فى شيء.
فلئن قلتم: إلا أنه من الكلام الدال على الكلام النفسانى، فغير مسلم ولا بد من إثباته.
سلمنا أنه من الكلام الدال على الكلام القديم النفسانى؛ ولكن لا نسلم أنه يجب أن يكون الخبر منه صدقا، وإن كان مدلوله صادقا «3».
سلمنا أنه [صادق] «4»؛ لكنه أخبر عن لزوم الفساد عن وجود الآلهة بتقدير أن يكونوا «5» أصناما كما كان معتقد الجاهلية أم لا؟ الأول: مسلم. والثانى: ممنوع.
ويدل عليه قوله- تعالى- فى صدر الآية أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ «6»: أى أصناما.
وعند ذلك: فلا يلزم من لزوم الفساد بتقدير أن تكون الآلهة أصناما، لزوم الفساد من كل آلهة.
سلمنا لزوم الفساد من مطلق الآلهة؛ ولكن بتقدير الاختلاف، أو لا بتقدير الاختلاف. الأول: مسلم. والثانى: ممنوع.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (صدقا).
(3) فى ب (صدقا).
(4) ساقط من أ.
(5) فى أ (يكون).
(6) سورة الأنبياء 21/ 22.
(2/107)
________________________________________
ولهذا فإنا لو قدرنا تعدد الآلهة من غير اختلاف، لم يكن الفساد لازما، وغاية ما يلزم من انتفاء الفساد، انتفاء الآلهة المختلفة. ولا يلزم منه انتفاء الآلهة مطلقا، بتقدير أن تكون متفقة.
سلمنا لزوم الفساد مطلقا؛ ولكن حالا، أو مالا؟ الأول: ممنوع، والثانى مسلم.
ولهذا فإنه لو قال القائل: لو جاء زيد لجاء عمرو؛ فإنه لا يدل على تعقب مجىء عمرو لمجيء زيد، فإن حرف لو ليس للتعقيب، بخلاف الفاء.
وعلى هذا: فلم قلتم بانتفاء الفساد مآلا؟
سلمنا لزوم الفساد حالا، ولكن من وجود آلهة هى فى السماء والأرض، أو مطلقا؟
الأول: مسلم. والثانى: ممنوع. ويدل عليه قوله- تعالى- لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ «1»: أى فى السماء والأرض. كما قاله أهل التفسير.
وعند ذلك: فلا يلزم من انتفاء الآلهة فى السماء والأرض، انتفاء آلهة ليست فى السماء، ولا فى الأرض.
سلمنا لزوم الفساد عند وجود آلهة غير الله- تعالى- مطلقا؛ ولكن يحتمل أن يكون الفساد لازما عند وجود آلهة غير الله- تعالى- لوجودهم فقط. ويحتمل أن يكون ذلك لاجتماعهم مع الله- تعالى- فبالتقدير الأول: يلزم من نفى/ الفساد نفى آلهة غير الله- تعالى- وبالتقدير الثانى: يلزم نفى الاجتماع. وكما أن نفى الاجتماع يتحقق بنفى آلهة غير الله؛ فيتحقق بنفى الإله، ووجود ما سواه من الآلهة، وليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر؛ فلا بد لكم من دليل اليقين.
سلمنا لزوم الفساد لخصوص وجود آلهة غير الله- تعالى- ولكن لم قلتم بعدم الفساد؟ وذلك لأن فساد الشيء قد يكون بفساد تركيبه ووضعه، واختلال مقصوده.
وعند ذلك: فمن الجائز أن يكون تركيب السماء والأرض ووضعهما فاسدا بالنظر إلى تركيب آخر، ووضع آخر فى علم الله- تعالى- وإن كنا نظن عدم الفساد فيهما.
سلمنا أنها غير فاسدة؛ ولكن إنما يلزم من عدم الفساد، انتفاء «2» ما جعل ملزوما للفساد؛ وذلك هو وجود آلهة. ولا يلزم من انتفاء آلهة. أن لا يكون ثم إله آخر مع الله- تعالى-.
________________
(1) سورة الأنبياء 21/ 22.
(2) فى ب (و انتفاء).
(2/108)
________________________________________
كيف وأن مفهوم الآية يدل على وجود إله آخر مع الله- تعالى- حيث خصص الآلهة بالدلالة على انتفائها، ولو كان الإله الثانى مساويا للآلهة فى الحكم؛ لما كان التخصيص مفيدا.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على انتفاء الشركة فى الإلهية مطلقا. غير أنه معارض بما يدل على وجود آلهة.
وبيانه: أنا قد صادفنا فى العالم خيرا، وشرا، وكل واحد منهما يدل على مريد له، ومريد الخير لا يكون مريدا للشر، ومريد الشر لا يكون مريدا للخير، واختلاف المرادات «1» يدل على اختلاف المريدين.
والجواب:
أما السؤال الأول: فمندفع، لما سبق فى مسألة امتناع الكذب «2» على الله- تعالى.
وقولهم: لم قلتم إن ما ذكرتموه من الكلام هو الدال على كلام الله- تعالى- النفسانى؟
قلنا: لأنه قد علم بالتواتر القاطع فى كل عصر إلى وقتنا هذا عن النبي- عليه السلام- المصدق بالمعجزة القاطعة- على ما سيأتى فى النبوات «3» - إخباره عن القرآن الوارد على لسانه أنه كلام الله، والأمة من المسلمين قاطبة مجمعة عليه، وأن هذه الآية منه، وكلام الله: إما كلامه القائم بنفسه، أو الدال على كلامه القائم بنفسه، وليست هذه الآية من الكلام النفسانى؛ فكانت من الكلام الدال على ما فى النفس.
قولهم: لم قلتم إنه يجب أن يكون صادقا؟
قلنا: لما سلف أيضا.
قولهم: أخبر عن الفساد بتقدير أن تكون الآلهة «4» أصناما أم لا؟
قلنا: الآية أخبرت عن لزوم الفساد بتقدير أن يكون فيهما آلهة مطلقا/ فبتقدير كون الآلهة أصناما إضمار فى اللفظ ما ليس فيه؛ وهو ممتنع من غير دليل.
________________
(1) فى ب (الحوادث).
(2) انظر ل 165/ ب.
(3) انظر الجزء الثانى- القاعدة الخامسة ل 130/ أ وما بعدها.
(4) فى ب (آلهة).
(2/109)
________________________________________
نعم غايته أن الآية وردت بسبب اتخاذ الأصنام آلهة. غير أن الاعتماد على دلالة اللفظ الوارد لا «1» على خصوص السبب.
كيف وأنه يمتنع الحمل على الآلهة بتقدير أن يكونوا «2» أصناما، فإنه أخبر عن لزوم فساد السماء والأرض بهم، وذلك غير لازم من وجود آلهة يكونون أصناما.
قولهم: الفساد لازم بتقدير الاختلاف، أو لا بتقدير الاختلاف.
قلنا: الآية مخبرة عن لزوم الفساد بتقدير وجود آلهة فيهما مطلقا؛ فيجب اعتقاد ملازمة الفساد بتقدير وجود الآلهة مطلقا. ثم الاختلاف: إما أن يتوقف عليه الفساد، أو لا يتوقف. فإن توقف عليه الفساد؛ فيجب اعتقاد ملازمة الاختلاف لوجود الآلهة مطلقا.
حذرا من تعطيل دلالة اللفظ.
وإن لم يتوقف عليه الفساد؛ فالسؤال مندفع من أصله.
قولهم: الفساد لازم حالا، أو مآلا.
قلنا: الآية إنما وردت تقريعا لمن اعتقد إلها غير الله- تعالى- واحتجاجا على إبطال معتقده باتفاق الأمة، وأهل التفسير؛ فلو كان الفساد لازما مآلا، لا حالا؛ لم يكن التقريع والاحتجاج على إبطال ما اعتقدوه صحيحا؛ إذ كان للمحتج عليه أن يقول:
فالفساد لازم مآلا، لا حالا.
قولهم: الفساد لازم من وجود آلهة فى السماء، والأرض.
قلنا: الآية إنما وردت لبيان امتناع وجود آلهة غير الله- تعالى- تقريعا لمعتقد ذلك كما سبق.
وإنما يتم التقريع والدلالة أن لو حمل ذلك على الآلهة مطلقا غير أنه أضاف الآلهة إلى السماء والأرض نظرا إلى اعتقاد الجاهلية لذلك، كما قال الله- تعالى- أَيْنَ شُرَكائِيَ «3» وليس المراد بذلك تثبيت الشركاء؛ بل ذكر ذلك نظرا إلى اعتقاد
________________
(1) فى ب (على).
(2) فى ب (يكون).
(3) سورة النحل 16/ 27.
(2/110)
________________________________________
المخاطب. وكذلك قوله عليه السلام للجارية الخرساء: «أين الله؟» على ما سبق تحقيقه «1» فى مسألة إبطال الجهة، ويدل على ذلك قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ «2»؛ فإنه يشعر بجواز أن يكون الله- تعالى- فى السماء، والأرض.
ولهذا فإنه لو قال القائل: لو كان فى البلد عالم غير زيد لكان أصلح؛ فإنه يشعر بكون زيد عالما، وبجواز كونه فى البلد. ولو لم يكن زيد عالما، ولا جائز الوجود فى البلد، لم يكن الكلام صحيحا، ولا من لغة العرب. ولا يخفى امتناع كون الرب/- تعالى- فى السماء والأرض- على ما سبق- غير أنه ذكر ذلك نظرا إلى اعتقاد المخاطبين لا غير
قولهم: يحتمل أن يكون الفساد لازما من اجتماع آلهة غير الله- تعالى- مع الله كما قرروه.
قلنا: الآية ظاهرة فى الإخبار عن لزوم الفساد، من تقدير آلهة غير الله؛ فإضافة الفساد إلى الجمعية مع الله- تعالى- تقدير زيادة على ما أضيف الفساد إليه، من غير دليل؛ فيمتنع.
قولهم: لم قلتم بعدم الفساد؟
قلنا: عنه أجوبة ثلاثة:
الأول: أن المراد من قوله- تعالى- لَفَسَدَتا: أى لخربتا على ما ذكره أهل التفسير، وخراب «3» السماء والأرض على ما هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الخراب، وهو انحلال التركيب، وانفصال أجزاء التأليف، واختلال الأحوال.
ولا يخفى أن السماء، والأرض، وما هما عليه من التأليف والتركيب، غير منحل ولا مضطرب، وما هو عليه من الأحوال من سير الكواكب والأفلاك، وشرق النيرات، وغروبها، وصعودها، وهبوطها، ولزوم الفصول لها فى أوقاتها، وجميع ما يلازمها من الآثار العلوية والسفلية، فعلى غاية الاعتدال، وحسن «4» النظام فى نظر كل عاقل متبحر، حتى
________________
(1) فى ب (تقريره فى). انظر ل 154/ ب.
(2) سورة الأنبياء 21/ 22.
(3) فى ب (أو خراب).
(4) فى ب (و أحسن).
(2/111)
________________________________________
أنه لو أراد مريد تقرير حالة للسماء والأرض فى أكمل مما هى عليه؛ لقد كلف نفسه شططا. والاحتجاج إنما يكون بما هو مفهوم، لا بما هو غير مفهوم.
الثانى: أن الآية على ما سبق- إنما وردت لتقريع من اعتقد آلهة غير الله- تعالى- فلو كان الفساد حاصلا؛ لكان ذلك تقريرا، لا تقريعا.
الثالث: أن حرف لو فى اللغة مشعر بامتناع الشيء، لامتناع غيره. لا بوجود الشيء لوجود غيره، وفى القول بتحقيق الفساد قلب الواجب.
قولهم: لا يلزم من ذلك انتفاء الشريك الواحد، وإن لزم منه انتفاء الشركاء.
قلنا: الآية حجة فى انتفاء آلهة غير الله- تعالى- بلفظها وهى حجة فى نفى الشريك الواحد بالنظر إلى معناها؛ لأن انتفاء الآلهة، إنما كان لازما من انتفاء لازمه، وهو الفساد اللازم من الاختلاف بينهم، فالواحد منهم لو قدر منفردا عنهم مع الله- تعالى، لكان من جملة المخالفين؛ فيكون الفساد لازما له أيضا، ويلزم انتفاؤه من انتفاء لازمه.
قولهم: الآية تدل على وجود إله غير الله- تعالى- نظرا إلى المفهوم.
قلنا: لا نسلم أن المفهوم حجة. وإن سلمنا أنه حجة، فلا يقع فى معارضة معنى المنطوق.
/ وما ذكروه من المعارضة بالمعنى عنه جوابان:
الأول: أن الاستدلال على وجود الإله، إنما هو مستند إلى حدوث الجائزات، وافتقارها إلى المرجح من حيث هى جائزة، ولا اختلاف بينها فيه، والفاعل لها إنما يزيدها من جهة حدوثها ووجودها، والوجود من حيث هو وجود، ليس بشر حتى يمتنع صدوره عن مريد الخير؛ بل الشر إما عدم ذات، أو كمال ذات، كما يقول الفلاسفة. أو عبارة عن مخالفة الأعراض، كما يقوله المتكلم، وليس ذلك من باب الإحداث، والإيجاد فى شيء؛ فلا يكون مراد الوجود، والحدوث.
الثانى: أنا لو قدرنا أن ذلك مما يصح قصده، وإرادته؛ ولكن لا نسلم امتناع إسناده إلى مريد الخير، وإنما يمتنع ذلك على فاسد أصول القائلين بالصّلاح، والأصلح، وتحسين العقل، وتقبيحه للأشياء فى ذواتها، وسيأتى «1» وجه إبطاله، والله أعلم.
**********
________________
(1) انظر ل 175/ أ وما بعدها.
(2/112)
________________________________________
«النوع السادس» «فى أفعال الله- تعالى» ويشتمل على (ثلاثة «1» أصول «1»):
الأول: فى التعديل، والتجوير.
والثانى: فى أنه لا خالق إلا الله تعالى.
[«2» الثالث: فى أنه لا مخصص للجائزات إلا الله- تعالى «2»]
________________
(1) فى جميع النسخ التى اطلعت عليها: أصلين. غير أن الواقع يؤكد أنها ثلاثة أصول. انظر عن الأصل الثالث ما يأتى ل 281/ ب- ل 292/ أ.
(2) ساقط من أ، ب، ج.
(2/113)
________________________________________
الأصل الأول «فى التعديل، والتجوير» ويشتمل على ثلاث «1» عشرة مسألة:
الأولى: فى التحسين، والتقبيح.
الثانية: أنه لا حكم قبل ورود السمع «2».
الثالثة: فى أنه لا يجب رعاية الغرض فى أفعال الله- تعالى- وأنه لا يجب عليه شيء أصلا.
الرابعة: فى الآلام، وأحكامها.
الخامسة: فى تكليف ما لا يطاق.
السادسة: فى معنى النعمة، وأنه هل لله على الكافر نعمة أم لا؟
السابعة: فى معنى الهداية، والإضلال.
الثامنة: فى معنى الختم، والطبع، وغيره.
التاسعة: فى معنى اللطف، وحكمه.
العاشرة: فى معنى التوفيق، والخذلان، والعصمة.
الحادية عشرة: فى الآجال.
الثانية عشرة: فى الأرزاق.
الثالثة عشرة: فى الأسعار.
**********
________________
(1) يلاحظ أن الأعداد ليست واردة على القاعدة وقد صححتها.
(2) فى ب (الشرع).
(2/115)
________________________________________
«المسألة الأولى» (فى التحسين، والتقبيح)
ذهبت المعتزلة، والكرامية، والخوارج، والبراهمة «1»، والثنوية «2»، والتناسخية «3»، وغيرهم: إلى أن الأفعال منقسمة فى أنفسها: إلى حسنة، وقبيحة، غير أن منها ما يعرف بضرورة العقل: كحسن الإيمان، وقبح الكفران، والكذب الّذي لا غرض فيه.
ومنها ما يدرك بنظر العقل: كحسن الصدق الّذي فيه ضرر، وقبح الكذب الّذي فيه نفع.
ومنها ما يدرك/ بالسمع: كحسن العبادات، وقبح ترك الواجبات الشرعية عند المعترف بها.
ثم اختلف المعتزلة «4»:
فذهب الأوائل منهم: إلى أن الحسن، والقبح غير مختص بصفة موجبة لتحسينه، وتقبيحه.
وذهب الجبائى، ومن تابعه: إلى أن الحسن، والقبيح [«5» مختصان بصفة موجبة لتحسينهما، وتقبيحهما «5»].
________________
(1) البراهمة: فرقة تنسب إلى إبراهما الّذي ذكر فى الفيدا أحد كتبهم المقدسة. والبراهمية نظام دينى، واجتماعى، وسياسى. وهم يعتبرون براهما الإله الأعلى. ومن أصولهم: تقسيم الأمة الى طبقات أربع. وقد نفى البراهمة النبوات، وقالوا باستحالتها فى العقول. (انظر الملل والنحل 3/ 95 - 100 نشأة الفكر الفلسفى 1/ 286 - 291).
(2) الثنوية: هم أصحاب الاثنين الأزليين يزعمون أن النور، والظلمة أزليان قديمان. وقالوا بتساويهما فى القدم، واختلافهما فى الجوهر، والطبع، والفعل، والحيز، والمكان، والأجناس والأبدان، والأرواح.
وهم فرق خمس: المانوية والمزدكية والديصانية والمرقيونية والكينونية.
وقد رد عليهم متكلموا الإسلام وأبطلوا مذاهبهم. كما رد عليهم الآمدي فى ل 225/ أ- 226/ ب. (انظر المغنى 5/ 9 - 70 والملل والنحل 2/ 49 - 60 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 246 - 253).
(3) التناسخية: هم القائلون بتناسخ الأرواح فى الأجساد والانتقال من شخص إلى شخص، وما يلقى الإنسان من الراحة، والتعب، والدعة، والنصب؛ فمرتب على ما أسلفه من قبل وهو فى بدن آخر؛ جزاء على ذلك- وقد عرف المسلمون فكرة التناسخ عن الهنود، وكتبوا الكتب الكثيرة فى نقضها فى وقت مبكر.
(انظر الملل والنحل 2/ 58 ونشأة الفكر الفلسفى 1/ 288).
(4) لتوضيح رأى المعتزلة فى هذه المسألة بالتفصيل: انظر المحيط بالتكليف للقاضى عبد الجبار ص 234 - 240 وشرح الأصول الخمسة له ص 301 - 323 والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل. له أيضا 14/ 22 - 110.
(5) فى أ (مختص بصفة موجبة لتحسينه وتقبيحه).
(2/117)
________________________________________
وذهب بعض المعتزلة: إلى الفرق فقال: القبح متميز بصفة موجبة لتقبيحه بخلاف الحسن.
وعلى هذا تفرع الخلاف بينهم فى أمرين:
الأول: أن الضرر المحض الّذي يصدر عن الصبيان، والبهائم. هل يوصف بكونه قبيحا، أم لا؟ وكذلك الكذب الصادر من الصبيان إذا عرى عن النفع. هل يوصف بكونه قبيحا، أم لا؟ فمن مال إلى مذهب الأوائل منهم: حكم بنفى التقبيح. ومن مال إلى مذهب الجبائى؛ حكم بالتقبيح.
الثانى: الاختلاف فى العبارات الحدية الدالة على معنى الحسن والقبيح، فمن قال إن الحسن والقبيح غير مختص بصفة موجبة للتحسين، والتقبيح.
قال فى حد الحسن: هو الفعل الّذي لا يستحق فاعله الذم عليه، والمراد من الذم: الإخبار المنبئ عن نقص حال المخبر عنه مع القصد لذلك. ولو لا القصد لما كان ذما.
وهو باطل من وجهين:
الأول: أنه يلزم عليه أفعال البهائم؛ فإنها لا تستحق الذم عليها، ولا توصف أفعالها بكونها حسنة بموافقة من الخصوم، وكل قائل بمجارى العادات.
الثانى: أنه يلزم عليه ترك القبح؛ فإنه حسن عندهم، وليس بفعل؛ بل هو ترك فعل.
ومنهم من زاد فى الحد: مع علمه به. احترازا عن الإلزام بالبهائم، وهو فاسد أيضا؛ فإن تعلق العلم بالمعلوم لا يغير صفته؛ بل يتعلق به على ما هو عليه، وإلا كان «1» العلم به جهلا.
فإن كان الفعل حسنا فى نفسه؛ فعدم تعلق العلم به لا يخرجه عن كونه حسنا.
فإذا أخذ تعلق العلم به فى رسم الحسن كان منتقضا بما ليس بمعلوم «2»، وإن لم يكن حسنا فى نفسه، فتعلق العلم به لا يجعله حسنا. وإذا كان كذلك: لم يكن أخذ تعلق العلم به مفيدا فى الرسم، وبقى الإلزام بحاله.
________________
(1) فى ب (لكان).
(2) فى ب (بحسن).
(2/118)
________________________________________
ومن هؤلاء من قال: الحسن هو ما للقادر عليه فعله. وهو أيضا باطل؛ لأنه إما أن يراد بقولهم: للقادر عليه فعله. الإذن فى الفعل، أو أنه غير ممنوع منه، أو التمكن منه حقيقة، أو معنى آخر.
فإن كان الأول: فإما أن يراد بالإذن. إذن الشارع/، أو العقل. فإن أريد به إذن الشارع: فقد عاد تفسير الحسن إلى معنى شرعى.
ثم يلزم أن لا تكون الأفعال قبل ورود الشرع حسنة؛ لعدم ورود الشرع بالإذن، وهو خلاف مذهبهم.
وإن أريد به إذن العقل: فإما أن يراد به حكم العقل بأنه لا يستحق على فعله ذما، ولا عقابا، وإما معنى آخر.
فإن كان الأول: فهو راجع إلى الحد الأول، وقد أبطلناه.
وإن كان الثانى: فلا بد من تصويره.
وإن أريد به القسم الثانى، أو الثالث: فأفعال البهائم لازمة عليه.
وإن كان القسم الرابع: فهو غير معقول، فلا بد من تصويره.
وربما زاد بعضهم فيه: مع العلم به- وقد عرف ما فى هذه الزيادة.
وأما القبيح: فقد قيل فيه- بناء على هذا الأصل هو ما يستحق فاعله الذم على فعله ما لم يمنع من استحقاقه مانع. وإنما قيدوا الحدّ بقولهم: ما لم يمنع منه مانع؛ لأنّ من أصلهم أنّ الصغائر قبيحة. غير أنها لا يستحق على فعلها الذمّ إذا صدرت ممن يجتنب الكبائر.
وهو أيضا فاسد من ثلاثة أوجه:
الأول: هو أن الكلام مبنى على أصل من لا يرى اختصاص الحسن، والقبيح بصفة توجب تحسينه، وتقبيحه، ولا التقبيح، والتحسين راجع إلى الشارع.
وعلى هذا: فالقول باختصاص أحد الفعلين باستحقاق الذمّ على فعله دون الآخر عقلا، لا يكون معقولا.
(2/119)
________________________________________
الثانى: أنه إذا كان الفعل قبيحا لاستحقاق الذم على فعله، فإذا منع مانع من استحقاق الذم، فقد منع المانع من كونه قبيحا.
الثالث: هو أن الاستحقاق يستدعى مستحقا عليه، والمستحق عليه الذم:
إما الفاعل للقبيح، أو غيره.
لا جائز أن يقال بالأول: فإنه لا يحسن بأن يقال بأنه يستحق الذم لنفسه على نفسه.
وإن كان غيره: فإما أن يكون هو الله- تعالى- أو غيره.
فإن كان هو الله- تعالى-: فهو باطل؛ لأن الله- تعالى- لا يجب عليه شيء، ولا يستحق على ما سنبينه «1».
وإن كان غير الله: فهو أيضا ممتنع. فإنّ من ترك الذم لغيره على فعل قبيح صدر عنه لا يقال إنه ترك مستحقا عليه.
وربما قيل بناء على هذا الأصل أيضا: أن القبيح هو الّذي يصح استحقاق الذم على فعله، احترازا من الصغائر فى حق مجتنب الكبائر، فإنها عندهم قبيحة كما سبق، وهى غير مستحقة للذم؛ بل يصح عليها استحقاق الذم، وإن امتنع الاستحقاق لمانع.
وهذه العبارة وإن كانت/ أشد من التى «2» قبلها غير أنها فاسدة، لما تقرر فى الوجه الأول من العبارة «2» الأولى.
وأما من مال إلى مذهب الجبائى: فقد قال فى الحسن: هو ما للقادر عليه فعله، مع وقوعه على وجه يقتضي تحسينه، مع عروه «3» عن وجوه القبح
والقبح: ما ليس للقادر عليه فعله، مع وقوعه على وجه يقتضي تقبيحه. وفساد هذه الحدود بفساد كون الحسن، والقبح وصفين ذاتيين للحسن، والقبيح كما سيأتى عن قرب.
________________
(1) فى ب (لما). انظر ل 186/ أ وما بعدها.
(2) بياض فى نسخة أ مقداره سطر كامل.
(3) فى ب (خلوه).
(2/120)
________________________________________
وأما من قال بالتفرقة بين الحسن، والقبيح: قال فى الحسن: هو الفعل العارى عن جميع وجوه القبح. وقال فى القبح: هو ما ليس للقادر عليه فعله مع وقوعه على وجه يقتضي تقبيحه.
وهو فاسد من وجهين:
الأول: أنه مبنى على أن القبح وصف ذاتى للقبيح، وسيأتى إبطاله «1».
الثانى: أنه ليس تعريف الحسن بأنه الّذي انتفت عنه جميع وجوه القبح أولى من تعريف القبح بأنه الّذي انتفت عنه جميع وجوه الحسن.
ثم اتفق القائلون بتحسين الأفعال وتقبيحها عقلا: على أن من فعل فعلا حسنا، واستحق عليه ثناء، وثوابا؛ أو فعل فعلا قبيحا، واستحق عليه ذما وعقابا؛ أنه لا بد وأن يكون ذلك لصفة عائدة إلى نفس الفاعل يستحق بها الثواب، والثناء، أو الذم، والعقاب، غير الصفة الموجبة للتحسين، والتقبيح؛ وسيأتى إبطاله.
ومذهب أهل الحق من الأشاعرة «2» وغيرهم:
أن الحسن، والقبح ليس وصفا ذاتيا للحسن، والقبيح، ولا أن ذلك مما يدرك بضرورة العقل، أو نظره؛ بل إطلاق لفظ الحسن، والقبيح عندهم باعتبارات غير حقيقية؛ بل إضافية يمكن تغيرها، وتبدلها بالنظر «3» إلى الأشخاص، والأزمان والأحوال وهى ثلاثة:
الأول: أن الأفعال تنقسم: إلى ما وافق الغرض؛ فيسمى حسنا. وإلى ما خالف الغرض؛ فيسمى قبيحا. وإلى ما لا يوافق، ولا يخالف؛ فيسمى عبثا.
________________
(1) انظر ما سيأتى فى الصفحات التالية.
(2) لتوضيح مذهب أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم، وردهم على خصومهم بالتفصيل:
انظر اللمع للأشعرى ص 117 - 122 والإرشاد لإمام الحرمين ص 258 - 267 والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص 73 - 81 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 370 - 396 والمحصل للرازى ص 147 ومعالم أصول الدين له أيضا ص 84 على هامش المحصل.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 233.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي: انظر شرح الطوالع ص 195، 196 وشرح المواقف 2/ 393 - 398 وشرح المقاصد 2/ 109 - 113.
(3) فى ب (بالنسبة).
(2/121)
________________________________________
وبهذا الاعتبار قد يكون الفعل الواحد حسنا بالنسبة إلى من وافق غرضه. قبيحا بالنسبة إلى من خالف غرضه: كقتل زيد مثلا؛ فإنه قبيح بالنسبة إلى مواليه، حسن بالنسبة إلى أعاديه: وهو أمر إضافى غير ذاتى. لا كالسواد، والبياض؛ فإنه لا يتصور أن يكون المحل أسود، أبيض بالنسبة إلى شخصين.
الاعتبار الثانى: إطلاق الحسن على ما أمر الشارع بالثناء على فاعله ويدخل/ فيه الواجبات، والمندوبات، وأفعال الله- تعالى- ويخرج منه المباحات؛ لعدم ورود الشرع بالأمر بالثناء على فعلها، وتركها.
ولو قيل بأن الحسن ما يجوز الثناء على فاعله؛ لكان المباح حسنا؛ لجواز الثناء على فاعله. وإطلاق القبيح على ما أمر الشارع بذم فاعله ويدخل فيه الحرام، ويخرج منه المكروه، كراهة التنزيه، والمباح؛ حيث أن الشارع لم يأمر بذم فاعله؛ لكن المكروه وإن لم يكن قبيحا بهذا الاعتبار؛ فليس حسنا باعتبار الثناء على فعله؛ بل باعتبار أن لفاعله أن يفعله، أو أنه موافق للغرض.
وإطلاق الحسن، والقبح بهذا الاعتبار أيضا مما يختلف، ويتبدل؛ إذ لا مانع من ورود الشرع بوجوب الفعل فى حالة، وتحريمه فى حالة، وبوجوبه على شخص، وتحريمه على آخر.
الاعتبار الثالث: إطلاق الحسن على ما لفاعله أن يفعله، ويدخل فيه مع أفعال الله تعالى- والواجبات، والمندوبات؛ المباحات، والمكروهات، كراهة تنزيه؛ غير أن إطلاق الحسن على المباح مختلف فيه بين أصحابنا.
فمنهم: من منع منه نظرا إلى أن الحسن: مقتضاه التحريض عليه، والدعاء إليه؛ وليس المباح كذلك.
ومنهم من سوغه: نظرا إلى أن من فعل مباحا، لا يمتنع على واصفه أن يقول: فعل حسنا، من غير نكير من أئمة المسلمين، وأنه «1» لو لم يكن حسنا «1»؛ لصح أن يقال لفاعل المباح. ما فعل حسنا، وهو خلاف المعهود من اصطلاح الشرع.
________________
(1) فى ب (و لو كان غير حسن).
(2/122)
________________________________________
وعلى هذا: فما لفاعله أن يفعله قد يصير ممنوعا منه بأن يرد الشرع بإباحة شيء فى حالة، وتحريمه فى أخرى؛ فلا يكون ذاتيا.
واتفقوا على أن فعل الله- تعالى- حسن بكل حال، وأنه موصوف بذلك أبدا سرمدا، وافق الغرض، أو خالف. وإن (كان) «1» ذلك مما لا يتغير ولا يتبدل بنسبة، ولا إضافة؛ لكن إن كان بعد ورود الشرع؛ ففعله موصوف بكونه حسنا؛ بالاعتبارين الأخيرين. وسواء كان واقعا، أو متوقعا على أى حالة كان وضعه، وإن كان قبل ورود الشرع؛ فموصوف بكونه حسنا، بالاعتبار الأخير منهما.
ولا يمكن أن يقال: إن افعال الله- تعالى- قبل ورود الشرع بالأمر بالثناء عليها حسنة. بمعنى أن الأمر بالثناء على أفعاله قبل ورود الشرع موجود بتقدير ورود الشرع، كما تخيله بعض الأصحاب استنباطا/ من تعلق الأمر بالمعدوم بتقدير وجوده. فإنا لو فرضنا عدم ورود الشرائع، وعدم خطور تجويز ورودها بالبال؛ لما خرجت أفعال الله- تعالى- عن اتصافها «2»، بكونها «2» حسنة، ولو كان الحكم بكونها حسنة متعلقا بتقدير ورود الشرع؛ لما كانت أفعاله متصفة بكونها حسنة؛ وهو خرق للإجماع.
وأما ما كان من أفعال العقلاء قبل ورود الشرع؛ فموصوفة بالحسن، والقبح باعتبار موافقة الأغراض، ومخالفتها، أو بمعنى أن لهم فعلها. لا بمعنى ورود الشرع بالثناء، أو الذم.
وعلى هذا التفصيل يكون الكلام فى صفة أفعال أهل الجنة. بالحسن حالة وجودها؛ لعدم ورود «3» الشرع فى الآخرة.
وأما فى وقتنا هذا؛ فهل يوصف ما يتوقع من أفعالهم فى الآخرة بالحسن شرعا فمتوقف على ورود الشرع به؛ فإن ورد به فذاك. وإلا فلا.
وعلى ما حققناه من وصف ما سبق من أفعال الله على ورود الشرع بكونها حسنة شرعا؛ لورود الشرع بالأمر بالثناء على ما مضى من أفعاله يكون التحقيق فى وصف ما
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (كونها).
(3) فى ب (وجود).
(2/123)
________________________________________
وقع من أفعال العباد قبل ورود الشرع بالحسن، والقبح بتقدير ورود الشرع بالثناء، أو الذم عليها. وإن كانت لا توصف بكونها حراما، ولا واجبة، ولا مندوبة؛ فإن ذلك يتعلق بخطاب التكليف؛ ولا تكليف بما مضى من الأفعال قبل ورود الشرع، ولا يصير مكلفا بها بخطاب وجد بعد انقضائها. وهذا بخلاف ورود الأمر بالثناء، أو الذم على ما مضى.
فإن قيل: إذا كان فعل الله- تعالى- حسنا بكل حال، وأفعال العباد مخلوقة لله- تعالى- عندكم، وأنه لا أثر للقدرة الحادثة فيها؛ فهى فعل الله- تعالى-؛ فتكون حسنة بكل حال. فكيف قضيتم على بعضها بالتقبيح؟
وقد اختلف أصحابنا فى ذلك:
فمنهم من قال: إن القدرة الحادثة مؤثرة فى المقدور، ومقتضية له حالا.
ومنهم من قال: بالكسب من غير تأثير، على ما يأتى تحقيق القول فيه. وعلى هذا فالحكم بالتقبيح إنما هو على فعله، أو كسبه، لا على فعل الله تعالى.
[(رأى الآمدي)] ولنا فى المسألة أنا نقول:
لو كان شيء من الأفعال قبيحا لذاته، لم يخل: إما أن يكون المفهوم من كونه قبيحا، هو نفس ذات ذلك الفعل، أو زائد عليه.
لا جائز أن يكون هو «1» نفس ذات «1» الفعل: لثلاثة أوجه:
الأول: هو أنا قد نعقل/ ذات الفعل، ونجهل كونه قبيحا: كالكذب الّذي فيه نفع إلى أن نعرف قبحه «2» بالنظر كما هو مذهبهم؛ والمعلوم غير المجهول.
الوجه الثانى: أنه «3» لو كان هو «3» نفس ذات الفعل؛ لكان يلزم أن ما حكم بكونه قبيحا، أو يكون مماثله قبيحا؛ ضرورة الاشتراك فى مفهوم الذات، ويلزم من ذلك أن يكون القتل المستحق قبيحا؛ ضرورة مماثلته لما هو قبيح فى ذاته، وهو القتل الّذي ليس بمستحق.
________________
(1) فى ب (نفس).
(2) فى ب (نفعه).
(3) فى ب (لو كان).
(2/124)
________________________________________
الوجه الثالث: أنا سنبين أن جميع أفعال العباد مخلوقه لله- تعالى- فلو كان مسمى القبيح هو ذات الفعل، والقبيح على أصلهم، لا يكون مخلوقا لله- تعالى- فلا يكون مخلوقا له؛ وهو ممتنع كما يأتى.
وإن كان المفهوم من كونه قبيحا زائدا على ذات الفعل: فإما أن يكون صفة له، أو لا يكون صفة له.
فإن لم يكن صفة له: فوصف العقل به يكون ممتنعا. وإلا لجاز اتصاف الجسم بحركة لا تقوم به؛ وهو محال.
وإن كان صفة له: فإما أن تكون صفة ثبوتية، أو لا ثبوتية.
لا جائز أن تكون صفة ثبوتية لوجهين:
الأول: أنه قد يكون صفة للعدم كما فى ترك الحسن الواجب. والترك عدم، والثبوت لا يكون صفة للعدم.
الثانى: أنه يلزم منه قيام المعنى بالمعنى؛ وهو ممتنع كما يأتى.
ولا جائز أن تكون عدمية؛ لأن نقيض المفهوم من القبيح، لا قبيح. ولا قبيح صفة للعدم، وهو ترك الفعل القبيح؛ فالقبيح لا يكون عدما.
وهذه المحالات إنما لزمت من القول بكون الفعل قبيحا لذاته؛ فكان محالا.
فإن قيل: لا شك فى وصف الفعل بكونه ممكنا، ومعلوما، ومقدورا، ومذكورا إلى غير ذلك من الأوصاف «1». وما ذكرتموه يلزم منه امتناع اتصاف الفعل بهذه الصفات؛ وذلك لأن [«2» المفهوم من كون «2»] الفعل ممكنا، ومعلوما، ومقدورا، ومذكورا: إما أن يكون المفهوم منه هو نفس ذات الفعل، أو زائدا عليه. والتقسيم: كالتقسيم، والتقرير للمقدمات: كالتقرير إلى آخره، وهو رفع لما علم الاتصاف به ضرورة؛ فما هو الجواب عنه فى صورة الإلزام. هو الجواب عنه فى محل الاستدلال.
________________
(1) فى ب (الصفات).
(2) ساقط من أ.
(2/125)
________________________________________
قلنا: هذه الصفات إنما هى أمور اعتبارية، وصفات وهمية تقديرية. يقدرها المقدر، ويفرضها الفارض، وليس لها مدلول هو فى نفس الأمر صفة ثبوتية للفعل، ولا سلبية.
فإن قالوا: والمفهوم «1» من القبيح كذلك/؛ فقد خرج القبيح عن أن يكون قبيحا لذاته؛ وهو المطلوب.
ومن هذا المسلك يقتضي الاستدلال على أن الفعل لا يكون حسنا لذاته أيضا.
وقد احتج الأصحاب فى المسألة بمسالك ضعيفة:
المسلك الأول:
أنهم قالوا: لو كان الكذب قبيحا لذاته؛ فلو قال القائل: إن عشت ساعة أخرى كذبت. فعند حضور تلك الساعة. إن كذب؛ فقد صار خبره الأول- صادقا. وإن صدق؛ كذب خبره الأول.
وعند ذلك: فإما أن يكون الحسن منه فى تلك الساعة الصدق، أو الكذب
فإن كان الصدق: فيلزمه الكذب فى الخبر الأول؛ وهو قبيح. وما لزم منه القبيح؛ فهو قبيح، فيكون الحسن قبيحا.
وإن كان الحسن فيه «2» الكذب: فليس الكذب قبيحا لذاته؛ وهو ضعيف من ثلاثة أوجه:
الأول: هو أن لقائل أن يقول: ما المانع من أن يكون الصدق فى تلك الساعة هو الحسن؟ ولا نسلم أنه يلزم من ملازمة القبيح له أن يكون قبيحا. وليس العلم بذلك ضروريا، وإن كان نظريا؛ فلا بد من إثباته.
الثانى: سلمنا اتصاف ما لازمه القبح بالقبح؛ ولكن ما المانع من كونه قبيحا من جهة ملازمة القبيح له؟ ومن كونه حسنا من جهة تعلقه بالمخبر عنه على ما هو به؟
وعلى هذا: فالفعل المطلق لا يوصف بكونه حسنا، ولا قبيحا دون النظر إلى الوجوه والاعتبارات على ما سبق من مذهب أوائل المعتزلة، وعند «3» اختلاف الوجوه، والاعتبارات، فلا مانع من الحكم «4».
________________
(1) فى ب (المعلوم).
(2) فى ب (هو).
(3) فى ب (و هذا).
(4) فى ب (الجمع).
(2/126)
________________________________________
الثالث: سلمنا امتناع ذلك؛ ولكن ما المانع من الحكم على خبره بكونه قبيحا مطلقا.
أما بتقدير الصدق؛ فلما يلزمه من القبيح.
وأما بتقدير الكذب؛ فلكونه كذبا.
المسلك الثانى:
أنه لو قال القائل: زيد فى الدار. ولم يكن فيها، فلو كان قبيحا عقلا؛ فالمقتضى لقبحه: إما ذات هذه الألفاظ، أو عدم كونه فى الدار، أو المجموع، أو أمر رابع.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كان خبره قبيحا، وإن كان زيد فى الدار.
ولا جائز أن يقال بالثانى: لأن العدم لا يكون علة للأمر الثبوتى.
ولا جائز أن يقال بالثالث: فإن العدم لا يكون جزءا من علة الأمر الثبوتى.
وإن كان الرابع: فإما أن يكون ذلك المقتضى لازما لذلك القول مع عدم كون زيد فى الدار، أو غير لازم «1».
فإن لم يكن لازما «2»: أمكن وجود ذلك القول «3». مع عدم زيد فى الدار؛ ولا يكون/ قبيحا.
وإن كان لازما: فإما لنفس القول، أو لعدم كون زيد فى الدار، أو لهما، أو لأمر آخر.
فإن كان لازما لنفس اللفظ: لزم القبح، وإن وجد زيد فى الدار.
وإن كان الثانى، أو الثالث؛ فهو ممتنع؛ لما تقدم من أن العدم لا يكون علة، ولا جزء علة للأمر الثبوتى.
وإن كان الرابع: فالكلام فيه كالكلام فى الأول؛ ويلزم [منه] «4» التسلسل.
ولقائل أن يقول:
________________
(1) فى ب (ملازم).
(2) فى ب (ملازما).
(3) فى ب (الفعل).
(4) ساقط من أ.
(2/127)
________________________________________
المحكوم بقبحه إنما هو ذلك اللفظ مشروطا بعدم زيد فى الدار، والعدم وإن لم يكن علة مقتضية للأمر الثبوتى، ولا جزء علة، فلا يمتنع أن يكون شرطا. وعند ذلك: فما ذكر من لزوم المحال لا يكون لازما.
المسلك الثالث:
أنه لو كان الخبر الكاذب قبيحا عقلا، فالمقتضى لقبحه: إما أن يكون صفة لمجموع حروفه، أو لآحادها.
لا جائز أن يقال بالأول: لاستحالة وجود جملة حروفه معا، وما لا وجود له امتنع أن يكون متصفا بصفة مقتضية لأمر ثبوتى؛ لأن المقتضى للأمر الثبوتى لا بد وأن يكون ثبوتيا، والأمر الثبوتى لا يكون صفة للعدم.
ولا جائز أن يقال بالثانى: لأن جهة اقتضاء القبح فى الخبر الكاذب إنما هو الكذب، والكذب لا يقوم بكل واحد من آحاد الحروف، وإلا كان كل حرف خبرا؛ وهو محال.
ولقائل أن يقول:
ما ذكرتموه إنما يصح أن لو كان تقبيح الأفعال وتحسينها بسبب اختصاصها بصفات «1» موجبة للتحسين، والتقبيح؛ وهو غير مسلم؛ بل كون الفعل قبيحا، أو حسنا إنما هو من الصفات النفسية: مثل كون الجوهر جوهرا، والعرض عرضا، ونحو ذلك؛ وذلك لا يستدعى علة مقتضية له على ما سلف من إيضاح مذهب الأوائل من المعتزلة.
سلمنا ذلك؛ ولكن ما المانع من أن يكون الحكم بالقبح على كل واحد من الحروف عند وجوده مشروطا؟
أما الحرف الأول: فبوجود باقى الحروف بعده. والأخير: بوجود الباقى قبله، والمتوسط: بوجود السابق، واللاحق.
والقول بأن الجهة المقتضية للقبح، إنما هى الكذب. وهو فلا يقوم بكل «2» واحد «2» من آحاد الحروف؛ فيلزم منه امتناع وجود الكذب؛ لاستحالة اتصاف كل واحد من الحروف بتقدير وجوده بالكذب، واستحالة اتصاف الجملة لتعذر اجتماعها؛ وهو محال.
________________
(1) فى ب (بصفة).
(2) ساقط من ب.
(2/128)
________________________________________
وعلى هذا/ فما هو الجواب فى صحة اتصاف الخبر بكونه كذبا؛ هو الجواب فى صحة اتصافه بكونه قبيحا.
المسلك الرابع:
أنه لو كان قبح الكذب صفة حقيقية، لما اختلفت باختلاف الأوضاع، والاصطلاحات، وقد اختلفت باختلاف الوضع، والاصطلاحات؛ فلا تكون صفة حقيقية.
أما المقدمة الأولى: فبيانها أن الألفاظ، والأوضاع تابعة للمعانى والمسميات، والأصل لا يتغير بالتابع، ولهذا فإن معنى الجسم لما كان أمرا حقيقيا؛ لم يختلف باختلاف أسمائه.
وأما المقدمة الثانية: فبيانها أن صفة القبح فى قول القائل: قام زيد، مع عدم قيامه. قد يتغير بأن يجعل الواضع قوله: قام زيد مقام الأمر، أو «1» النهى «1». أو غير ذلك من أقسام الكلام، ويخرج ذلك اللفظ عن كونه قبيحا؛ بل ولو تلفظ به من لا يعرف مدلوله لغة؛ فإنه لا يوصف بصفة القبح. ولو كان القبح صفة حقيقية؛ لما تغير بالجهل، والمعرفة.
وهو ضعيف أيضا، إذ لقائل أن يقول:
ما المانع من أن يكون قبح الخبر الكاذب مشروطا بكونه موضوعا للخبر، وعدم مطابقته للمخبر عنه مع علم «2» المخبر به؟ وأنه مهما اختل شرط من هذه الشروط؛ فقد خرج عن كونه قبيحا. كما خرج عن كونه كذبا.
والقبح فإنما هو صفة للكذب؛ فيكون تابعا له فى الوجود، والعدم.
المسلك الخامس:
أنه لو كان الكذب الّذي لا غرض فيه قبيحا لذاته؛ لكان الكذب الّذي يستفاد به عصمة دم نبى، أو ولى عن ظالم يقصد قتله قبيحا؛ ضرورة كونه كذبا، وليس كذلك؛ بل هو حسن؛ بل واجب يأثم بتركه «3» إجماعا. ولو كان قبيحا لما كان واجبا.
________________
(1) فى ب (و التمنى).
(2) فى ب (العلم).
(3) فى ب (تاركه).
(2/129)
________________________________________
ولقائل أن يقول:
لا نسلم أن الكذب فى الصورة المفروضة حسن [و لا واجب] «1»؛ بل الواجب إنما هو دفع الهلاك عن النبي، وتخليصه مع القدرة عليه؛ وذلك ممكن بأن يأتى بصورة لفظ الخبر من غير قصد للإخبار؛ فلا يكون كاذبا فيه فى نفس الأمر، وإن كان كاذبا فى الظاهر. وإذا لم يكن الكذب متعينا فى الدفع كان الإتيان به قبيحا لا حسنا، ولا واجبا.
وإن سلمنا تعذر ذكره دون قصد الإخبار، غير أن الإخبار ممكن دون الكذب بطريق التعريض والتورية/ وقصد الإخبار عن غير المسئول عنه.
وعلى هذا: فلا يكون كاذبا فى نفس الأمر، ولهذا قال عليه السلام «إنّ فى المعاريض لمندوحة عن الكذب» «2». وإذا لم يكن الكذب متعينا فى الدفع؛ لم يكن واجبا، ولا حسنا. نعم غايته أنه كاذب فى ظاهر الأمر، دون باطنه؛ فلا يكون كذبا، ولا قبيحا فى نفسه.
سلمنا «3» تعذر الدفع دون الكذب؛ ولكن لا نسلم مع ذلك وجوبه ولا حسنه؛ بل الواجب، والحسن ما لازمه من دفع الهلاك عن النبي عليه السلام.
ولا نسلم أن اللازم هو نفس الملزوم؛ فاللازم «4» واجب حسن «4»، والملزوم قبيح، نعم غاية ما فيه أنه لا يفضى بتحريمه ولزوم الإثم له؛ لأنه أمر شرعى؛ فلا يمتنع انتفاؤه مع وجود ما يقتضيه لمانع هو أرجح من المقتضى.
وأما القبح: فصفة حقيقية لا تزول بالمانع، وإن زال حكمها الشرعى.
المسلك السادس:
لو كان الظلم قبيحا بوجه عائد إليه؛ للزم منه أمر ممتنع؛ فيمتنع.
وبيان الملازمة من وجهين:
الأول: أنه يلزم منه تقدم المعلول على العلة.
________________
(1) فى أ (لا واجب).
(2) رواه ابن عدى والبيهقى فى السنن عن عمران بن حصين، ورمز له السيوطى بالضعف «الجامع الصغير ج 1 حديث رقم 2332».
(3) ساقط من ب.
(4) فى ب (و اللازم حسن واجب).
(2/130)
________________________________________
وبيان أن قبح الظلم متحقق قبل وجود الظلم. ولهذا فإنه ليس لفاعله أن يفعله. وإذا كان قبح الظلم متحققا قبل وجود الظلم، فلو كان القبح معللا بجهة عائدة إلى الظلم؛ لكان المعلول متقدما على علته؛ وهو محال.
الثانى: أنه يلزم منه تعليل الوجود بالعدم؛ وتعليل الوجود بالعدم ممتنع كما سبق.
وبيان ذلك: هو أن القبح صفة وجودية؛ فإن نقيضه لا قبح، ولا قبح صفة للعدم؛ فيكون عدما؛ فالقبح وجود.
وإذا كان وجوديا: فلو كان معللا بالظلم؛ لكان العدم من جملة علته.
وبيانه أن مفهوم الظلم اضرار غير مستحق، وكونه غير مستحق أمر عدمى؛ فيكون داخلا فى العلة؛ وهو محال.
وهو فاسد أيضا [فإن لقائل أن يقول] «1»: لا نسلم الملازمة.
[و قولكم] «2» فى الوجه الأول: إن قبح الظلم متقدم على وجود الظلم غير مسلم؛ إذ القبح صفة للظلم، والصفة لا تتقدم على الموصوف؛ بل المتقدم إنما هو حكم أهل العرف على ما سيوجد من الظلم بأنه بتقدير وجوده قبيح، وليس فى ذلك ما يوجب تقدم قبح الظلم على الظلم، أو حكم الشارع بشرعية الإثم [و المؤاخذة] «3» على الظلم بتقدير وجوده، والشرعية تكون سابقة أبدا على الأفعال/ والشرعية من الشارع ليست صفة للفعل.
وقولكم فى الوجه الثانى: أنه يلزم منه تعليل الوجود بالعدم، غير مسلم.
قولكم: القبح صفة ثبوتية؛ ممنوع.
قولكم: إن نقيضه صفة للعدم.
قلنا: إن دل ذلك على كون النقيض عدما؛ فالقبح أيضا صفة لترك الحسن الواجب؛ فيكون عدما كما سبق.
________________
(1) فى أ (فإن قيل للقائل).
(2) فى أ (و قولهم).
(3) فى أ (المؤاخذ).
(2/131)
________________________________________
وإن سلمنا أنه وجود؛ ولكن لا نسلم أن العدم داخل فى علته.
قولكم: عدم الاستحقاق داخل فى مفهوم الظلم؛ لا نسلم ذلك.
وإن سلمنا أنه ملازم للظلم؛ ولكن لا يلزم أن يكون اللازم داخلا فى مفهوم الملزوم.
سلمنا أن عدم الاستحقاق داخل فى مفهوم الظلم؛ ولكن ما المانع من أن تكون علة القبح من الظلم ما هو الأمر الوجودى فيه؟، ولكنه مشروط بالقيد العدمى؛ فالقيد العدمى شرط لا جزء، وعلة.
سلمنا امتناع التعليل بمفهوم الظلم؛ ولكن لا يلزم من امتناع تعليل قبح الظلم بالظلم، امتناع اتصافه بالظلم حقيقة. وإن لم يكن معلولا، لا سيما- لشيء ما، وذلك لأن قبح الظلم عندنا من الصفات النفسانية التى لا علة لها: ككون الجوهر جوهرا، والسواد سوادا، ونحوه.
المسلك السابع:
هو أن فعل العبد لو كان حسنا، أو قبيحا لذاته حقيقة؛ لكان مختارا فيه، وليس مختارا؛ فلا يكون حسنا، ولا قبيحا.
أما بيان المقدمة الأولى: فلأن كل فعل لا يكون العبد مختارا فيه؛ لا يكون موصوفا بهذه الصفات بالإجماع منا، ومنهم.
وأما بيان المقدمة الثانية: فهو أنه عند وجود القدرة مع الداعى للعبد على الفعل:
إما أن يكون الفعل واجبا: لا يسع تركه، وإما «1» أنه غير واجب؛ بل «1» يسع تركه.
فإن كان الأول: فهو مضطر إلى فعله من غير اختيار.
وإن كان الثانى: فإن توقف رجحان الفعل على الترك على مرجح؛ فالكلام فى الفعل مع وجود ذلك المرجح: كالكلام فى الأول، وهو تسلسل.
وإن لم يتوقف على مرجح: فإذا حصل كان حصوله اتفاقيا من غير مرجح؛ فلا يكون العبد مختارا فيه أيضا.
________________
(1) فى ب (أو غير واجب).
(2/132)
________________________________________
ولقائل أن يقول:
لا نسلم أن فعل العبد غير مختار فيه.
قولكم: إما أن يكون الفعل عند وجود القدرة، والداعى واجبا، أو لا يكون واجبا.
قلنا: القدرة الحادثة وإن كانت مخلوقة لله- تعالى- بالإجماع منا ومنكم، غير أن تعلقها بالمقدور عندنا، وإيجاد المقدور، مستند إلى العبد.
وعلى هذا/ فنقول: إن تعلقت القدرة بالفعل؛ فهو واجب الحصول. وإن لم تتعلق به؛ فهو غير واجب الحصول.
ووجوب الحصول بتقدير التعلق بدلا عن عدم التعلق، لا يخرج العبد عن كونه مختارا؛ لإمكان عدم التعلق بدلا عن التعلق. والاختيار بهذا التفسير هو المعتبر فى اتصاف فعل العبد بالحسن، والقبح. ولو لا ذلك لكانت أفعال الرب تعالى: إما «1» اضطرارية «1»، أو اتفاقية. وخرج عن أن يكون مختارا؛ وهو خلاف الإجماع منا، ومنكم.
وإن «2» سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع اتصاف فعل العبد بالحسن، والقبح العقلى؛ فهو لازم عليكم فى الحسن، والقبح الشرعى؛ فإن من كان مضطرا إلى الفعل، وقدرته غير مؤثرة فيه: كحركة المرتعش، والنائم، والمغمى عليه؛ فإنه لا يوصف فعله بحسن، ولا قبح شرعى.
فما هو جوابكم فى الحسن، والقبح الشرعى؛ هو جوابنا فى العقلى.
ثم وإن سلمنا دلالة ذلك فى أفعال العباد المختارين؛ فهو غير جائز فى أفعال الله- تعالى- وإلا لزم أن يكون مضطرا إلى أفعاله، أو أن يكون وقوع أفعاله اتفاقيا؛ وهو محال.
وللخصوم «3» شبه استدلالية، وإلزامية:
أما الشبه الاستدلالية: فشبهتان:
________________
(1) فى ب (اضطرارية).
(2) فى ب (و لئن).
(3) فى ب (و للخصم).
(2/133)
________________________________________
[الشبهة] «1» الأولى: أنهم قالوا: العقلاء مجمعون على قبح الكذب الّذي لا غرض فيه، والجهل، والكفران، والظلم. وعلى حسن الصدق، والعلم، والإيمان، والعدل. وأنه معلوم بالضرورة من غير إضافة إلى حالة دون حالة، ولا عرف، أو «2» شريعة «2». ولهذا قد يعتقد ذلك من لا يعرف العرف، ولا يعتقد شريعة. كالبراهمة، وغيرهم؛ فدل [ذلك] «3» على كون الحسن، والقبح ذاتيا، وأنه مدرك بضرورة العقل.
الشبهة الثانية: أنهم قالوا: من عنّ له تحصيل غرض، واستوى فى تحصيله الصدق، والكذب فى نظره؛ مال إلى الصدق، واثره قطعا؛ وإن لم يكن عارفا بالعرف، ولا معتقدا لشريعة. وليس ذلك إلا لحسنه فى نفسه، وكذلك نعلم أن من رأى شخصا مشرفا على الهلاك وهو يقدر على إنقاذه؛ فإنه يميل إلى إنقاذه، وإن كان لا يرجو منه ثوابا- بأن لا يكون معتقدا للشرائع، ولا مجازاة وشكرا، بأن يكون المنقذ غير عالم به بأن يكون طفلا صغيرا، أو مجنونا لا يعقل، ولا ثم «4» من يرى ذلك «4» بحيث يتوقع منه الثناء، والشكر، ولا/ له فيه غرض من نفع، ولا دفع ضرر؛ بل ربما كان يتضرر بالتعب «5»، والعنا «5»؛ فلم يبق إلا أن يكون ذلك لحسنه فى نفسه.
وأما الشبه الإلزامية: فعشر شبه:
الأولى: أنه لو كان السمع هو مدرك الحسن، والقبح؛ لما فرق العاقل قبل ورود الشرع بين من أحسن إليه وأساء؛ وهو ممتنع قطعا.
الثانية: أنه لو لم يكن معنى الحسن، والقبح مفهوما قبل ورود الشرع؛ لما فهم ذلك «6» عند وروده «6»؛ واللازم ممتنع.
الثالثة: أنه لو كان حسن الأفعال لكونها مأمورة، أو مأذونا فيها؛ لما كان فعل الله- تعالى- حسنا؛ إذ هو غير مأمور، ولا مأذون.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (و لا شريعة).
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (و الاثم من يراه).
(5) فى ب (بالعنا والتعب).
(6) فى ب (عند ورود الشرع).
(2/134)
________________________________________
الرابعة: أنه لو توقف معرفة الحسن والقبح، على ورود الشرع؛ لتوقف معرفة الوجوب على الشرع، ولو توقف معرفة الوجوب على الشرع؛ للزم منه إفحام الرسل على ما سبق فى قاعدة النظر «1».
الخامسة: أنه لو توقف معرفة الحسن، والقبح على ورود الشرع؛ لما كانت أفعال الله- تعالى- قبل ورود الشرع حسنة؛ وهو خروج عن العقل، والدين.
السادسة: لو كان لا معنى للحسن والقبح، إلا ورود الشرع بالإطلاق والمنع؛ لجاز من الله- تعالى- أن يأمر بالمعاصي، وينهى عن العبادات.
السابعة: أنه لو كان الحسن، والقبح متوقفا على ورود الشرع؛ لجاز إظهار المعجزات على يد الكاذب فى رسالته؛ وذلك مما يقدح فى تصحيح النبوات الثابتة.
الثامنة: أنه لو توقف معرفة الحسن، والقبح على ورود الشرع؛ لامتنع الحكم بنفى القبح عن الكذب فى حق الله- تعالى-، والجهل عليه؛ وهو ممتنع.
التاسعة: أنه لو توقف معرفة الحسن، والقبح على ورود الشرع دون «2» العقل؛ لما حكم «2» بهما من لم يعتقد الشرائع، واللازم ممتنع؛ فكذا الملزوم.
العاشرة: أنه لو توقف الحسن، والقبح على ورود الشرع؛ لامتنع تعليل شرع لأحكام، والأفعال بالمصالح، والمفاسد، وفى ذلك سد باب القياس، وتعطيل أكثر الوقائع عن الأحكام؛ ولم يقولوا به.
والجواب: أما الشبهة الأولى الاستدلالية «3»:
فلا نسلم إجماع العقلاء على الحسن، والقبح فيما قيل؛ فإن من الملاحدة من لا يعتقد ذلك؛ وهم من جملة العقلاء. كيف وإن من صور النزاع، قبح إيلام البهائم من غير جرم، ولا عوض، ونحن لا نوافق عليه؛ بل نقول: يحسن من الله- تعالى- إيلام البهائم من غير جريمة ولا عوض.
________________
(1) انظر ل 26/ ب وما بعدها.
(2) فى ب (لم يحكم).
(3) فى ب (عن الشبه الاستدلالية).
(2/135)
________________________________________
ثم وإن سلمنا اتفاق/ العقلاء على ذلك؛ ولكن لا نسلم أن مدرك العلم به الضرورة؛ وبيانه من وجهين:
الأول: هو أن الضرورة لا معنى لها إلا ما لو خلى الإنسان ودواعى نفسه من مبدأ نشوه «1» من غير التفات إلى «2» نظر «2»، أو عرف متبع؛ لوجد نفسه مصدقا به غير خال عنه: وذلك: كالعلم باستحالة اجتماع الضدين، وأن الواحد أقل من الاثنين، وأن الواحد فى آن واحد لا يكون فى مكانين وكما يجده الإنسان فى نفسه من الألم، والغم، والحزن، والفرح، وغير ذلك.
ولا يخفى أن ما مثل هذه الأشياء ليس كذلك؛ فلا يكون العلم به ضروريا.
الثانى: [هو] «3» أن العلم الضرورى لا ينازع فيه خلق لا يتصور على مثلهم التواطؤ على الكذب، والمحال عادة، ومن خالف ونفى كون العلم بهذه الأمور ضروريا بهذه المثابة؛ فلا يكون ضروريا.
وربما قيل فى بيان امتناع الضرورة وجهان آخران.
الأول: هو أن الحكم بكون الكذب، والظلم قبيحا قضية تصديقية، والحكم التصديقى لا يمكن دون تصور مفرداته. فلو كان العلم به ضروريا؛ لكان العلم بحقيقة الكذب، والظلم ضروريا؛ وليس كذلك.
وهو فاسد؛ فإن القضية الضرورية: هى التى يصدّق العقل بها من غير توقف على أمر خارج غير تصور مفرداتها؛ بل إذا تصورت مفرداتها بادر العقل بالنسبة الواجبة لها «4» من غير توقف على أمر آخر. فكون معنى الظلم، أو القبح غير معلوم بالضرورة، لا ينافى أن تكون النسبة بين الظلم، والقبح- بعد تصورهما- معلومة بالضرورة.
ولهذا فإنا نعلم استحالة الجمع بين السواد، والبياض بالضرورة وإن كانت حقيقة السواد والبياض غير معلومة بالضرورة على «5» ما يجده كل عاقل من نفسه.
________________
(1) فى ب (النشو).
(2) فى ب (إلى غير نظر).
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (إليها).
(5) فى ب (كما يجده).
(2/136)
________________________________________
الثانى: هو أن الضرر لا يحكم بقبحه على مذهب المعتزلة، حتى ينتفى عنه جميع وجوه الحسن، وإلا فهو حسن.
ثم الوجوه التى يحسن الضرر لأجلها، إنما يتوصل إليها عندهم بالنظر والاستدلال، وما كان ثبوته نظريا، فنفيه يكون نظريا، فإذا كان قبح الضرر متوقفا على انتفاء وجوه الحسن، ونفيها نظرى؛ فالعلم بقبح الضرر نظرى. وهو غير صحيح أيضا؛ فإنهم حيث قضوا بكون قبح الضرر ضروريا، إنما قضوا به على وجه كلى مطلق: وهو أنّ الضّرر المجرد عن جهات النفع قبيح، ودعوى العلم الضرورى بذلك، لا ينافيه عدم العلم الضرورى بقبح الضرر فى آحاد الصور.
[و أما «1» إذا «1»] عرف دليل امتناع الضرورة؛ فالاقتصار/ على مجرد الدعوى لا يكون كافيا.
كيف وأنه قد لا تؤمن المعارضة بدعوى النقيض، وإن تعرض «2» للدلالة مع تعذرنا؛ فقد بطلت دعوى «3» الضرورة «3»؛ فإن الضرورى لا يكون نظريا.
وإن سلمنا أنه معلوم بالضرورة؛ ولكن لا نسلم أن الحسن، والقبح ذاتى للحسن، والقبيح على ما بيناه.
قولهم: إن ذلك قد يكون مع قطع النظر عن التوابع، والأعراض، واختلاف الأحوال، لا «4» نسلم ذلك «4» على ما سنبينه فى الشبهة الثانية.
وأما الشبهة الثانية: فمندفعة أيضا.
أما ما ذكروه من إيثار الصدق على الكذب فى الصورة المفروضة؛ فهو استدلال على ما هو معلوم بالضرورة عندهم.
وهو إما أن يكون العلم به ضروريا فى نفس الأمر كما هو معتقدهم؛ فلا معنى لإثباته بالنظر. وإن لم يكن ضروريا؛ فقد بطل مذهبهم فى دعوى الضرورة. وإن سلمنا
________________
(1) فى أ (و إذا).
(2) فى ب (تعرضوا).
(3) فى ب (الدعوى الضرورية).
(4) فى ب (ممنوع).
(2/137)
________________________________________
إمكان الاستدلال فيه؛ ولكن لا يخلو: إما أن يقال باستواء سلوك طريق الصدق، والكذب فى العرف الشرعى، والعقلى، وموافقة «1» الغرض ومخالفته «1»، نفيا وإثباتا، أو لا يقال بذلك.
فإن قيل بالاستواء فى جميع هذه الجهات؛ فلا نسلم صحة إيثار الصدق على الكذب.
وإن قيل بالتفاوت؛ فقد بطل الاستدلال.
وما ذكروه من صورة إنقاذ المشرف على الهلاك؛ فمندفع أيضا؛ إذ جاز أن يكون الميل إلى ذلك لتحصيل غرض من شكر، وثناء فى العاجل، أو ثواب فى الآجل، أو لما يلحقه من رقة الجنسية التى لا ينفك عنها طبع إنسان ما، أو دفع وهم القبح فى حقه بأن يقدر نفسه هو المشرف على الهلاك، ويقدر ذلك الغير معرضا عنه، فإنه يستقبح إعراضه عنه، فإذا أعرض هو عن إنقاذ ذلك الغير، فيقدر «2» فى نفسه تقبيح ذلك الغير إعراضه عنه «3»، فيدفع «3» ذلك عن نفسه بالميل إلى الإنقاذ؛ وإن «4» قدر ذلك فى حق من لا «5» يعتقد «5» الثواب، ولا يتوقع الثناء، ولا هو ممن تلحقه رقة الجنسية بالنسبة إلى المشرف على الهلاك، ولا يعرض لقبح الإعراض فى نفسه، فلعل الميل إلى الإنقاذ بسبب سبق الوهم إلى العكس وهو اعتقاد أن الثناء، والمدح مقارن لصورة الإنقاذ لما وجده من مقارنة صورة الإنقاذ للثناء والمدح، فى بعض الصور.
فإن فرض فى شخص لا يستولى عليه هذا الوهم أيضا؛ فلا نسلم أن مثل هذا الشخص يميل إلى الانقاذ/؛ بل ربما كان ميله (عن) «6» الإنقاذ أرجح؛ لتضرره [به] «7» من غير نفع عاجل، ولا آجل، ولا فيه فى معتقده مخالفة عرف شرعى، ولا عقلى.
________________
(1) فى ب (و مخالفة الغرض وموافقته).
(2) فى ب (قدر).
(3) فى ب (فمندفع).
(4) فى ب (فإن).
(5) فى ب (لا يعرف).
(6) فى الأصل (إلى).
(7) ساقط من أ.
(2/138)
________________________________________
ثم وإن سلمنا دلالة ذلك على التقبيح، والتحسين فى أفعال العباد؛ ولكن لا يلزم مثله فى أفعال الله- تعالى- مع أنها من صور النزاع، إلا بطريق قياس الغائب على الشاهد؛ وهو متعذر كما سبق «1».
ولهذا فإن السيد لو ترك عبيده، وإماءه يرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم، وقادر على منعهم؛ لكان ذلك قبيحا منه، وقد وجد مثل ذلك فى حق الله تعالى- بالنسبة إلى العبيد، ولم يقبح منه ذلك.
فإن قيل: إنما يمكن تقبيح ذلك من الله- تعالى- أن لو كان قادرا على منع الخلق من المعاصى؛ ولا نسلم أنه قادر عليه على ما هو مذهب النظام «2».
فإن قلتم: إنه يقدر على ذلك بأن لا يخلق لهم القدرة على المعصية؛ فإنما يصح أن لو كان هو الخالق لقدرهم؛ وهو غير مسلم، كما هو مذهب معمّر «3».
وأيضا فإنه لا يخلو: إما أن يكون الرب- تعالى- عالما بأن من ارتكب الفواحش لا ينزجر، أو لم «4» يعلم «4» منه ذلك.
لا جائز أن يقال بالثانى: وإلا كان الرب- تعالى- جاهلا بعواقب الأمور؛ وهو ممتنع.
وإن كان عالما بأنه لا ينزجر: فمنعه عن ارتكاب الفاحشة لا يكون مقدورا للرب- تعالى- بمعنى منعه من الإتيان بها، وإلا لزم من عدم الإتيان بها أن يكون علم الرب- تعالى- جهلا؛ إذ الكلام إنما هو مفروض فيمن علم الله- تعالى- أنه لا ينزجر عن المعصية، وأنه لا بد له من فعلها؛ فلا يكون عدم زجرهم منه مستقيما.
قلنا: أما الإشكال الأول: فمندفع، بما سنبينه من أنه لا خالق إلا الله- تعالى.
________________
(1) انظر ل 40/ أ.
(2) انظر الفرق بين الفرق ص 133 ففيها تفصيل لرأى النظام.
(3) معمّر بن عباد السّلمى. معتزلى من الغلاة من أهل البصرة. سكن بغداد، وناظر النظام. وهو من أعظم القدرية غلوا، وكان زعيما لفرقة نسبت إليه هى (المعمّريّة) توفى سنة 215 ه.
(لسان الميزان 6: 71 والفرق بين الفرق 151 ومقالات الإسلاميين 78 والملل والنحل 65) وانظر ما سيأتى فى الجزء الثانى- القاعدة السابعة: الفرقة الرابعة عشرة: المعمرية ل 245/ ب وما بعدها.
(4) فى ب (أو لا).
(2/139)
________________________________________
وأما الإشكال الثانى: فهو بعينه لازم فى حق السيد، فإنه إذا علم الله- تعالى- من عبيد السيد مع اطلاعه على ارتكابهم للفواحش أنه لا بد وأن تقع الفواحش منهم. وأنهم لا ينزجرون؛ فلا يكون زجرهم من جهة السيد مقدورا له؛ فترك ذلك لا يكون مستقبحا.
ومع ذلك فقد استقبح عرفا، ولم يستقبح فى حق الغائب عرفا؛ فافترقا.
والجواب عن الشبه الإلزامية:
أما الأولى: فلا ننكر أن العاقل قبل ورود الشرع يحسن الإحسان، ويقبح الإساءة؛ لكن لا نسلم أن مستند ذلك قبح الفعل، وحسنه فى نفسه؛ بل مستند ذلك، وإن لم يكن هو الشرع، فموافقة الغرض، ومخالفته، أو اتباع العرف العادى حتى أنه لو فرض انتفاء/ ذلك؛ فلا نسلم أن العاقل يحسن الإحسان، ويقبح الإساءة.
وعن الشبهة الثانية: أنا لا ننكر أن حقيقة القبح معلومة قبل ورود الشرع؛ لكن بمعنى مخالفة الغرض، أو بمعنى أنه الّذي يرد الشرع فيه بالنهى والمنع من الفعل.
ولا نزاع فى ذلك وإنما النزاع فى كون الحسن، والقبح ذاتيا لما وصف به من الأفعال، وليس فى فهم معنى القبح بالاعتبار المذكور ما يوجب كونه ذاتيا؛ لما وصف «1» به.
وعن الشبهة الثالثة: أنا «2» لا ندعى أنه لا حسن إلا ما أمر به، أو أذن فى فعله.
حتى يقال: بأن أفعال الله- تعالى- ليست حسنة، أو أن يكون مأمورا بها، ومأذونا فيها؛ بل ما أمر الشارع بفعله، أو أذن فيه؛ فهو حسن، ولا ينعكس كنفسه؛ بل قد يكون الفعل حسنا باعتبار موافقته «3» للغرض «3»، أو باعتبار أنه مأمور بالثناء على فاعله.
وبهذا الاعتبار كان فعل الله- تعالى- حسنا؛ سواء وافق الغرض، أو خالف.
وعن الشبهة الرابعة: ما مر وسبق «4» فى وجوب النظر.
وعن الشبهة الخامسة: أن الحسن، والقبح وإن كان قد يفسر بورود الشرع بالمنع والإطلاق؛ فلا نسلم أنه لا حسن، ولا قبح إلا بالشرع حتى يلزمنا ما قيل؛ بل الحسن،
________________
(1) فى ب (يوصف).
(2) فى ب (أنه).
(3) فى ب (موافقة الغرض).
(4) ساقط من ب انظر ل 29/ أ وما بعدها. الرد على الإشكال العاشر.
(2/140)
________________________________________
والقبح أعم من ورود الشرع كما عرف، ولا يلزم من تحقيق معنى الحسن، والقبح بغير «1» ورود الشرع بالمنع والإطلاق أن يكون ذاتيا للأفعال.
وعن الشبهة السادسة: أنه إذا كان حسن الطاعة؛ بمعنى ورود الشرع بالأمر بها، وقبح المعصية؛ بمعنى ورود النهى عنها؛ فلا يمتنع عندنا «2» الأمر «2» بما كان معصية وقبيحا؛ بسبب ورود النهى نحوه، وكذا لا يمتنع أن يرد النهى بما كان طاعة وحسنا بسبب ورود الأمر به، ويصير ما كان حسنا قبيحا، وما كان قبيحا حسنا بهذا الاعتبار.
وعن (الشبهة) «3» السابعة: من وجهين:
الأول: أنا لا ندعى أن الحسن، والقبح لا يكون إلا بورود الشرع كما قررناه. وعند ذلك؛ فلا «4» يلزم انتفاء الحسن، والقبح قبل ورود الشرع.
الثانى: وإن كان لا معنى للحسن «5» إلا ما حسنه الشرع. ولا معنى للقبيح إلا ما قبحه الشرع؛ فلا نسلم أنه يلزم من انتفاء القبح قبل ورود الشرع؛ جواز إظهار المعجزة على يد الكاذب فى الرسالة، اللهم إلا أن يكون مدرك امتناع ذلك القبح؛ وليس كذلك.
وهذا هو الجوب عن [«6» الشبهة الثامنة، والتاسعة: والجواب عن] «6» الشبهة العاشرة: أنه وإن امتنع الحكم بالحسن، والقبح على المصالح؛ والمفاسد/ باعتبار ورود الشرع قبل وروده؛ فلا يمتنع ذلك باعتبار آخر كما سلف؛ إذا أمكن تعليل الفعل بما فيه من المصلحة الحسنة باعتبار موافقتها للغرض، وبما فيه من المفسدة القبيحة باعتبار مخالفتها للغرض.
وعلى هذا فالقياس لا يكون منقطعا.
________________
(1) فى ب (من غير).
(2) فى ب (الأمر عندنا).
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (لا يلزم).
(5) فى ب (للحسن والقبح).
(6) من أول (الشبهة الثامنة ... ) ساقط من أ.
(2/141)
________________________________________
سلمنا حسن الأفعال وقبحها لذواتها؛ ولكن لا نسلم أن حسن الحسن، وقبح القبيح لوجه هو فى نفسه علته كما هو مذهب المتأخرين من المعتزلة.
وبيان امتناعه من أربعة أوجه:
الأول: أن ما اختص بالحسن «1»، والقبيح من الوجه، والصفة جائز أن يكون مجهولا غير معلوم عندهم. ولو جاز اختصاص أحد الفعلين المتماثلين بوجه مجهول يوجب تقبيحه، أو تحسينه؛ فما المانع من اختصاص أحد المتماثلين بصفة نفسية غير معلومة؛ وذلك مما لا ينفى معه تعين التماثل بين شيئين أصلا.
الثانى: أنه لا مانع من اختصاص الفعل عند هذا القائل بوجه يوجب حسنه، وبوجه يوجب قبحه.
ولهذا قال فى حدّ الحسن: ما اختص بوجه من وجوه الحسن مع عروه عن وجوه القبح. وكذلك القبيح: ما اختص بوجه من وجوه القبح مع عروه عن وجوه الحسن.
وعند ذلك: فإما أن يقال: يكون الفعل الواحد حسنا، وقبيحا، وليس ذلك من أصل هذا القائل.
وإما أن يقال بأنه لا حسن، ولا قبيح؛ فيلزم انتفاء الحسن، والقبح مع وجود علته؛ فلا يكون ما قيل إنه علة، علة؛ لأن شرط العلة، الاطراد كما يأتى؛ وهو «2» خلاف الفرض.
وإن قيل: بثبوت حكم أحد الوجهين دون الآخر؛ فليس هو أولى من العكس على أنه مخالف لمذهب هذا القائل.
الثالث: هو أن من مذهب الجبائى القائل بهذا القول: انتفاء الأحوال، ومع القول بانتفاء الأحوال يمتنع التعليل.
الرابع: هو أن قبح الكذب عندهم معلل بخصوص الكذب، وقبح الظلم معلل بخصوص الظلم. وكذلك حسن الإيمان، معلل بخصوص الإيمان، وحسن الصدق معلل بخصوص الصدق.
________________
(1) فى ب (به الحسن).
(2) فى ب (و هذا).
(2/142)
________________________________________
ولهذا قالوا: إنا إذا علمنا جهة الكذب؛ علمنا القبح؛ وإن جهلنا ما عداه. وكذلك فى باقى الصور والقبح، فحكم واحد، وكذلك الحسن. وقد بان أن تعليل الحكم المتحد بعلل مختلفة ممتنع فيما تقدم، وسيأتى بيانه أيضا بزيادة «1» شرح «1» وإيضاح، فى العلل، والمعلولات «2».
وإن سلمنا أن حسن الحسن، وقبح القبيح معلل/ بوجود «3» عائد إلى الفعل «3»؛ ولكن لا نسلم أن من فعل فعلا حسنا، واستحق عليه الثواب والثناء، أو فعل فعلا قبيحا، واستحق عليه الذم والعقاب، لا بد وأن يكون ذلك لصفة عائدة إلى نفس المحسن والمسىء، كما هو مذهب القائلين بالتحسين والتقبيح العقلى؛ كما سبق إيضاحه.
وبيانه: أن تعليل استحقاق المحسن؛ للثواب، والمسىء؛ للوم «4» والعقاب: إما أن يكون القائل به قائلا بالأحوال، أو نفيها.
فإن كان قائلا بنفى الأحوال: فلا حكم، ولا علة.
وإن كان قائلا بالأحوال: فالوصف الموجب لاستحقاق الثواب، أو العقاب بفعل الحسن، والقبيح: إما أن يكون معلوما، أو مجهولا.
لا جائز أن يقال بكونه غير معلوم: لما سبق فى إبطال تعليل الحسن والقبيح، بوجوه عائدة على الفعل غير معلومة.
وإن كان معلوما: فإما أن يكون هو نفس فعل الإحسان والإساءة، أو كون الفاعل عالما بقبح ما يفعله ومريدا له، أو عالما بحسن ما يفعله ومريدا له، أو معنى آخر.
فإن كان الأول: فالإحسان والإساءة، من صفات الأفعال، والأفعال لا توجب للفاعل حالا. وأقرب دليل يدل عليه أن الفعل لا معنى له إلا وجود الأثر عن المؤثر، ووجود الأثر ليس من صفات المؤثر؛ فلا يكون موجبا لحكم فى المؤثر. كما يأتى تقريره فى العلل، والمعلولات «5».
________________
(1) فى ب (لشرح).
(2) انظر الجزء الثانى- الباب الثالث- الأصل الثانى ل 117/ ب وما بعدها.
(3) فى ب (بوجوه عائدة إلى الأفعال).
(4) فى ب (للذم).
(5) انظر الجزء الثانى- الباب الثالث- الأصل الثانى: فى تحقيق معنى العلل والمعلولات ل 117/ ب وما بعدها.
(2/143)
________________________________________
وأيضا: فإن الفعل حادث: فلو أوجب حكما فى الفاعل؛ لتجدد للبارى- تعالى- من أفعاله أحكام وصفات قائمة بذاته لم تكن قبل وجود الفعل؛ ويلزم من ذلك أن تكون ذات الرب- تعالى- محلا للحوادث؛ وهو محال على ما سبق «1».
وأيضا: فإن ترك الواجب إساءة. وهو نفى محض، والنفى لا يكون علة للحكم الخالى. وإن كان الوصف هو كون الفاعل عالما بالحسن، أو القبح مع القصد والإرادة؛ فهو ممتنع على أصلهم أيضا.
وبيانه: أن «2» من كان عالما بضرر إنسان، وقصد إيجاده؛ فيجب أن يكون مسيئا، مستحقا للوم والعقاب؛ على أصلهم. وكذلك من علم مصلحة إنسان وقصد إيجادها؛ فهو محسن، ومستحق للثناء والمدح.
وعلى هذا: فيلزم أن يكون محسنا، ومسيئا عند اجتماع الأمرين؛ لضرورة وجود حقيقة الإحسان والإساءة على ما ذكروه، ومع ذلك لو كان النفع المتأخر عن العذر السابق مرجوحا؛ فإنه لا يكون محسنا عندهم. وكذلك لا يكون مسيئا عندنا إذا كان الأمر/ بالعكس مع أن حقيقة الإحسان موجودة، وما سبق من الإساءة غير مخلة بالإحسان اللاحق. وكذلك بالعكس.
وإن كان ما به التعليل شيئا آخر؛ فلا بد من تصويره، وإقامة الدليل عليه.
وبما استقصيناه إلى هاهنا تمام مسألة التحسين، والتقبيح.
********
________________
(1) انظر ل 146/ أ وما بعدها.
(2) فى ب (أن كل من).
(2/144)
________________________________________
«المسألة الثانية» فى أنه لا حكم قبل ورود السمع
مذهب أهل الحق من الأشاعرة، وغيرهم: أن الأحكام بأجمعها سمعية، وأنه لا حكم قبل ورود السمع.
وذهب المعتزلة- بناء على فاسد أصولهم فى التحسين، والتقبيح عقلا-: إلى أن الأفعال منقسمة إلى حسنة، وقبيحة كما عرف.
فأما الحسن: فقالوا: ينقسم إلى ما يقضى العقل فيه باستواء فعله وتركه فى النفع، وانتفاء الضرر عنه: ويسمى مباحا. وربما قال بعضهم إن المباح ليس حسنا-، وإلى ما فعله أولى من تركه.
ثم ما فعله أولى من تركه: منه ما يلحق للذم بتركه: فيسمى واجبا. ومنه ما لا يلحق الذم بتركه: فيسمى مندوبا.
ثم قسموا الواجب العقلى فقالوا: لا يخلو: إما أن يكون وجوبه لمعنى فى نفسه، أو لا لمعنى فى نفسه؛ بل لغيره.
فإن كان الأول: فهو كشكر «1» المنعم، والإيمان، والعدل، والإنصاف، ونحو ذلك.
وإن كان الثانى: فمنه ما يستقل العقل بدركه: كوجوب النظر. ومنه ما لا يستقل العقل بدركه دون السمع: كوجوب العبادات من جهة ما فيها من اللطف المانع من الفحشاء.
واختلفوا فى وجوب الفعل، الّذي يلزم منه ترك القبيح، من حيث هو ترك للقبيح «2».
فقال بعضهم: إن اتحد الترك كان واجبا، وإن تعدد لا يكون الواحد من التروك واجبا، وإلا كان المباح الّذي يلزم منه ترك الحرام واجبا.
وقال الكعبى: ما كان تركا للحرام؛ فهو واجب. من حيث هو ترك [الحرام] «3» وإن كان مباحا.
واختلفوا أيضا فى عدم فعل القبيح، هل هو واجب، أم لا؟
________________
(1) فى ب (شكر).
(2) فى ب (القبيح).
(3) فى أ (للواجب).
(2/145)
________________________________________
واتفقوا على أنه يجب على «1» العاقل «1» دفع الضرر عن نفسه عقلا، وعن غيره شرعا.
وأما القبيح: فمنقسم أيضا: إلى ما يلحق الذم بفعله: ويسمى حراما. ثم منه ما هو حرام لعينه:
كالكذب، والظلم. ومنه ما هو حرام لغيره: كالفعل الّذي يلزم منه ترك واجب.
ثم اختلفوا: فيما لم يقض العقل فيه بحسن، ولا قبح.
فمنهم من قال: إنه قبل ورود الشرع على الحظر.
ومنهم/ من قال: هو على الإباحة.
ومنهم من قال: هو على الوقف.
وقد احتجّ الأصحاب بالنقل، والعقل:
أما النقل:
فقوله- تعالى-: وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «2» ووجه الاحتجاج به: أنه أمن من العذاب قبل بعثة الرسل؛ فدل على أنه لا وجوب، ولا حرمة قبل بعثة الرسل، من حيث أن الواجب: ما لا يؤمن من العذاب على تركه. والحرام: ما لا يؤمن العذاب على فعله. وأن العقل غير موجب، ولا محرم. وإلا لقال: وما كنا معذبين حتى نرزقهم «3» عقولا «3».
فإن قيل: ليس فى الآية ما يدل على ثبوت الأحكام بالشرع.
أما قبل ورود الشرع: فلعدم وروده.
وأما بعد ورود «4» الشرع «4»: فمسكوت عنه فى الآية، والمسكوت عنه، لا تكون الآية دليلا على ثبوت حكم فيه، أو نفيه عنه إلا بطريق المفهوم، ولا نسلم كونه حجة.
________________
(1) فى ب (للعاقل).
(2) سورة الإسراء 17/ 15.
(3) فى ب (نبعث عقلا).
(4) فى ب (وروده).
(2/146)
________________________________________
سلمنا دلالة الآية على لزوم العذاب بعد بعثة الرسل، ونفيه قبل البعثة؛ ولكن ليس فيها ما يدل على لزوم العذاب بالبعثة، وإن كان لازما عندها. وهذا كما يقال: لا أكرمك حتى يجيء رأس الشهر؛ فإنه لا يدل على أن الموجب للإكرام مجىء رأس الشهر، وإن كان الإكرام متحققا عنده.
سلمنا لزوم العذاب بالبعثة؛ ولكن لا نسلم أن لزوم العذاب من لوازم الوجوب، والحظر.
ولهذا: فإنه قد لا يعذب من ترك الواجب، وفعل «1» المحرم «1» بناء على عفو، أو شفاعة.
وإذا لم يكن لازما: لم يلزم من وجوده ولا نفيه وجود الحكم، ولا نفيه.
سلمنا ملازمة العذاب للوجوب، والحظر؛ ولكن بعد ورود الشرع، أو قبله. الأول:
مسلم. والثانى: ممنوع.
وعلى هذا فلا يلزم من انتفاء العذاب قبل ورود الشرع، انتفاء الوجوب والحظر قبله.
سلمنا أنه من لوازم الوجوب والحظر؛ ولكن الوجوب والحظر المستفادان من الشرع، أو العقل. الأول؛ مسلم. والثانى؛ ممنوع.
وعلى هذا فلا يلزم من انتفاء الوجوب والحظر (المستندين) «2» إلى الشرع قبل ورود الشرع انتفاء الحظر، والوجوب مطلقا.
سلمنا أنه من لوازم الوجوب، والحظر مطلقا؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من إسناد لازم الحكم، إلى الشرع، إسناد الملزوم إلى الشرع.
سلمنا أنه يلزم من ذلك إسناد الوجوب، والحظر إلى الشرع، وأنه لا تحقق له قبل [ورود] «3» الشرع؛ ولكن ليس فيه دلالة على امتناع ما عدا الوجوب والحظر قبل الشرع.
وذلك كالمندوب، والمباح، والصحة/ والبطلان، وغير ذلك من الأحكام.
________________
(1) فى ب (أو فعل القبيح).
(2) فى أ (المستند).
(3) ساقط من أ.
(2/147)
________________________________________
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على حصر مدارك الأحكام فى الشرع؛ ولكنه معارض بما يدل على امتناعه؛ وذلك أنا لو حصرنا مدارك الأحكام فى الشرع؛ لأفضى إلى إفحام الرسل، كما أسلفناه فى وجوب النظر «1».
والجواب عن السؤال الأول: أن المقصود من الآية إنما هو انتفاء الأحكام قبل ورود الشرع لا بعده؛ لوقوع الاتفاق عليه، ووقوع الخلاف قبله «2»، وبه جواب السؤال الثانى أيضا.
وعن الثالث: أن وقوع العذاب بالفعل، وإن لم يكن لازما للوجوب والحظر ملازمة عدم الأمن من العذاب- كما تقدم- واللازم قبل ورود الشرع منتف- على ما نطقت به الآية-؛ فلا ملزوم.
وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الرابع، والخامس.
والجواب عن السادس: أنه إذا سلم لزوم عدم الأمن من العذاب للوجوب والحظر، وسلم انتفاء اللازم قبل ورود الشرع؛ فيلزمه انتفاء الملزوم؛ وهو المطلوب.
وعن السابع: أنه ليس المقصود من دلالة الآية غير انتفاء الوجوب والحظر، وما عداه فإنما يثبته بدليل آخر.
وعن الثامن: ما سبق فى وجوب النظر «3».
ومما «4» تمسك «4» به من جهة النقل أيضا: قوله- تعالى-: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «5».
ووجه الاحتجاج به أنه نفى احتجاجهم على المؤاخذة بترك الواجبات، وارتكاب المحرمات، بعد بعثة الرسل. وأثبت بمفهومه الحجة قبل البعثة؛ وذلك يدل على نفى
________________
(1) انظر ل 26/ ب وما بعدها. الإشكال العاشر.
(2) فى ب (فيما قبله).
(3) انظر ل 29/ أ وما بعدها. الرد على الإشكال العاشر.
(4) فى ب (و ما يتمسك).
(5) سورة النساء 4/ 165.
(2/148)
________________________________________
الموجب، والمحرم قبل البعثة، وعلى إثباته بعد «1» البعثة «1». غير أن دلالته دون دلالة الأول، لكونه مفهوما، ودلالة الأول منطوق بها، ولا يخفى وجه الكلام عليه نفيا، وإثباتا.
وأما المسلك العقلى:
فما بيناه فى وجوب النظر من امتناع الإيجاب والتحريم، بالعقل، وقد استقصيناه تقريرا، واعتراضا، وانفصالا؛ فعليك بنقله إلى هاهنا «2»؛ غير أنه مختص بنفى الوجوب، والتحريم.
وأما دليل إبطال «3» الإباحة:
فهو أن المباح: إما أن يراد به ما لا حرج فى فعله، ولا تركه، وإما أن يراد به ما خير فيه بين الفعل، والترك، أو معنى آخر.
فإن كان الأول: فلا ننكر كون الأفعال قبل ورود الشرع مباحة بهذا التفسير. غير أن النزاع واقع فى التسمية، ولهذا فإن أفعال البارى- تعالى- لا حرج عليه فى فعلها، ولا تركها، وكذلك/ أفعال البهائم، والصبيان، ولا توصف بكونها مباحة لفظا.
وإن كان الثانى: فالمخيّر بالإجماع لا يخرج عن الشرع والعقل، ولا شرع قبل ورود الشرع. والعقل: فإنما يخير عندهم فيما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح، وإلا فلو كان الفعل حسنا؛ لكان واجبا، أو مندوبا عندهم. ولو كان قبيحا؛ لكان حراما، أو مكروها؛ كما سبق من تفصيل مذهبهم.
وعلى هذا: فتخيير العقل، فرع تحسين «4» العقل «4» وتقبيحه؛ وقد أبطلناه «5».
ثم يلزم عليه شبهة القائلين بالحظر، وهو أن العالم، وما فيه ملك لله- تعالى- وأن التصرف فى ملك الغير بغير إذنه قبيح. والقبيح لا يكون مخيرا فيه، ولا يلزم من عدم
________________
(1) فى ب (بعدها).
(2) انظر الفصل السابع ل 24/ ب- ل 29/ ب.
(3) فى ب (بطلان).
(4) فى ب (تحسينه).
(5) انظر ل 175/ أ وما بعدها.
(2/149)
________________________________________
ورود النهى من الشرع انتفاء القبح. وإلا للزم «1» من انتفاء التخيير من الشرع، انتفاء التساوى؛ وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
وإن كان الثالث: فلا بد من تصويره، وإقامة الدليل عليه.
فإن قيل: المباح: هو المأذون فى فعله، وقد ورد دليل الإذن، وإن لم ترد صورة الإذن.
وبيانه: هو أن الله خلق الطعوم فى المأكولات، والذوق فينا، وعرفنا بالأدلة العقلية أنها نافعة لنا غير مضرة، مع تمكينه لنا منها بخلق قدرنا عليها. [و هو «2» دليل] «2» الإذن منه لنا فى الأكل؛ وذلك كما لو قدم المالك «3» الطعام بين يدى إنسان، وعرفه أنه نافع له غير مضر، ومكنه منه؛ فإنه يكون إذنا منه له فى الأكل عرفا.
قلنا: فإذا كان مأذونا فيه من جهة الشرع؛ فإباحته من جهة الشرع لا من جهة العقل؛ وهو المطلوب.
وإن كان ممتنعا: ففيه تسليم المطلوب.
وأما القائلون بالوقف: فإن أرادوا به: أنه الحكم على الأفعال بالوجوب، والحظر، والإباحة؛ موقوف على ورود الشرع؛ فهو المطلوب.
وإن أرادوا به التوقف فى الحكم للتردد بين دليل الوجوب، والحظر والإباحة؛ فخطأ؛ لاستحالة دليل هذه الأحكام قبل ورود الشرع كما تقدم.
*********
________________
(1) فى ب (لزم).
(2) فى أ (و دليل).
(3) فى ب (الملك).
(2/150)
________________________________________
«المسألة الثالثة» فى أنه لا يجب رعاية الغرض، والمقصود فى أفعال الله- تعالى- وأنه لا يجب عليه شيء أصلا
مذهب أهل الحق «1»:
أن رعاية الحكمة «2»، والغرض «2» فى أفعال الله- تعالى- غير واجب، وأنه لا يجب عليه فعل شيء، ولا تركه.
ووافقهم على ذلك طوائف الإلهين، وجهابذة الحكماء المتقدمين «3».
وأجمعت المعتزلة «4»:/ على أن البارى- تعالى- لا يخلو فعله عن غرض «5» ومقصود وصلاح للخلق؛ إذ هو يتعالى، ويتقدس عن الأغراض، وعن الضرر، والانتفاع، وهو واجب فى فعله؛ نفيا للعبث عنه فى إبداعه، وصنعه.
ثم اتفقوا بناء على وجوب رعاية الصلاح فى فعله، على أن وجوب الثواب على الطاعات والآلام الغير مستحقة كما فى أفعال البهائم، والصبيان. ووجوب العقاب، وإحباط العمل الصالح على المعاصى، وإحباط الصغائر، عند اجتناب الكبائر، ووجوب قبول التوبة، والإرشاد بعد الخلق، وإكمال العقل إلى وجوه المصالح بالإقدار عليها، وإقامة الحجج الدالة عليها.
________________
(1) لتوضيح مذهب أهل الحق وردهم على خصومهم فى هذه المسألة: انظر اللمع للأشعرى ص 115 - 122 والإبانة له أيضا ص 49 والتمهيد للباقلانى ص 50 وأصول الدين للبغدادى ص 82، 83 والإرشاد لإمام الحرمين ص 268 - 272 والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص 81، 82 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 397 - 416 والمحصل للرازى ص 148.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 224.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي: انظر شرح طوالع الأنوار ص 196 - 197، وشرح المواقف 2/ 401 - 403 وشرح المقاصد 2/ 113 - 117.
(2) فى ب (الغرض والحكمة).
(3) انظر الإشارات لابن سينا 3/ 147 - 159 والنجاة له أيضا 284 - 291.
ومن الدراسات الحديثة الجانب الإلهي للبهى ص 181 وما بعدها.
(4) لتوضيح رأى المعتزلة فى هذه المسألة. انظر المغنى للقاضى عبد الجبار 6/ 9 - 126، 11/ 58 - 133، 14/ 7 - 180 وشرح الأصول الخمسة له ص 301 وما بعدها والمحيط بالتكليف ص 230 وما بعدها.
(5) فى ب (ضرر).
(2/151)
________________________________________
ثم التزموا على فاسد أصولهم: أن ما ينال العبد فى الحال، أو المآل من الآلام، والأوجاع «1»، والضر «2»، والشر؛ فهو الصالح له، ولم يتحاشوا جحد الضرورة، ومكابرة العقل فى أن «3» خلود أهل النار، فى النار؛ هو الصالح لهم، والأنفع لنفوسهم.
وما فارق به البغداديون البصريين القول بوجوب ابتداء خلق الخلق، وتهيئة أسباب التكليف «4» من إكمال العقل، واستعداد آلات التكليف. والبصريون لا يرون ذلك واجبا؛ بل ابتداؤه تفضل من الله- تعالى-.
وأما الأصلح: فهم فيه مختلفون.
فمنهم من أوجبه: ومنهم من نفاه؛ بناء على أنه ما من صالح، إلا وفوقه ما هو أصلح منه، إلى غير النهاية. ومنهم من قال بوجوب رعاية الأصلح: فى الدين دون الدنيا.
وعند ذلك: فلا بد من تحقيق مسالك أهل الحق. ثم التنبيه على شبه أهل الضلال فى معرض الاعتراض، والانفصال.
وقد احتج الأصحاب: على امتناع وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله- تعالى- بمسالك.
المسلك الأول:
أنه لو كان فعل الله- تعالى- لا يخلو عن حكمة وغرض؛ فذلك الغرض إما قديم، أو حادث.
فإن كان قديما: فإما أن يلزم قدم الفعل لقدم غرضه، أو لا يلزم.
فإن لزم فهو محال. على ما سنبينه من حدوث أفعاله.
وإن لم يلزم قدم الفعل لقدم غرضه؛ فالغرض غير حاصل من ذلك الفعل؛ لحصوله دونه. وما لا يكون الغرض حاصلا من فعله، فلا يكون فى فعله غرض؛ وهو المطلوب.
________________
(1) فى ب (الأوجاع والآلام).
(2) فى ب (و الضرر).
(3) ساقط من ب.
(4) فى ب (التكاليف).
(2/152)
________________________________________
وإن كان الغرض حادثا بحدوث الفعل: فإما أن يفتقر إلى فاعل، أو لا يفتقر إلى فاعل.
فإن لم/ يفتقر إلى فاعل: لزم حدوث حادث من غير فاعل؛ وهو محال لما فيه من سد باب إثبات واجب الوجود.
وإن افتقر إلى فاعل: فذلك الفاعل إما أن يكون هو الله- تعالى-، أو غيره.
لا جائز أن يكون غيره: لما سنبينه من أنه لا خالق غير الله- تعالى-
وإن كان هو الله- تعالى- فإما أن يكون له أيضا فى فعله «1» غرض، أو لا غرض له فى «2» فعله «2».
فإن كان الأول: فالكلام فيه، كالكلام فى الأول؛ ولزم «3» التسلسل.
وإن كان الثانى: فقد خلا فعله عن الغرض؛ وهو المطلوب.
فإن قيل: فعله لذلك الغرض، لغرض هو نفسه، فما خلا عن غرض من غير تسلسل.
قلنا: فيلزم مثله فى كل مفعول مخلوق؛ وهو أن يقال: الغرض منه هو نفسه، من غير حاجة إلى غرض آخر غيره؛ وهو المطلوب.
المسلك الثانى:
أنه لو كان فعله لغرض؛ فذلك الغرض: إما أن يرجع إلى البارى- تعالى- أو إلى المخلوق.
لا جائز أن يقال بالأول: إذ البارى- تعالى- يتقدس عن الأغراض، والضرر، والانتفاع.
وإن عاد إلى المخلوق: فقد قيل فى إبطاله لا يخلو: إما أن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إلى الله- تعالى- أولى من عدم الحصول، أو العدم أولى، أو أن الحصول، وعدم الحصول متساويان بالنسبة إليه.
________________
(1) فى ب (فعل).
(2) فى ب (فيه).
(3) فى ب (و يلزم منه).
(2/153)
________________________________________
فإن كان الأول: فهو ناقص بذاته مستكمل بغيره؛ وهو محال.
وبه يمتنع القسم الثانى. كيف: ويلزم منه عدم الحصول، لا الحصول.
وإن كان الثالث: فليس القول بالحصول أولى، من عدمه.
وهو فاسد. فإنه وإن كان حصول الغرض، وعدم حصوله بالنسبة إلى الله- تعالى- سواء؛ فلا يمتنع الفعل، لعود الغرض إلى المخلوق. وإن أورد التقسيم أيضا على عود الغرض إلى المخلوق. وقيل إما أن يكون حصوله وعدم حصوله بالنسبة إلى الله- تعالى- سواء، أو أن أحدهما أولى، فالجواب الجواب.
وإنما الطريق فى إبطال عودة الغرض إلى المخلوق من وجهين:
الأول: هو أنا لو فرضنا ثلاثة أشخاص: مات أحدهم مسلما قبل البلوغ، وبلغ الآخران، ومات أحدهما مسلما، والآخر كافرا. فمن مقتضى أصول الخصوم «1» على ما استدعاه التعديل أن تكون رتبة المسلم البالغ «2» فوق «2» رتبة الصبى المسلم؛ لكونه أطاع بالغا، وتخليد الكافر فى الجحيم لكفره.
فلو قال الصبى: يا رب العالمين. لم حرمتنى هذه الرتبة العلية التى أعطيتها للمسلم البالغ، ولم تمنعه إياها. فلو قدر الجواب: لأنه أطاع بالغا. وقال «3» الصبى:/ فلم لا أحييتني إلى أن أبلغ، وأطيع؛ فتحصل لى هذه الرتبة. فلو قدر الجواب: لأنى علمت أنك لو بلغت لعصيتنى؛ فكان اخترامك هو الأنفع لك، وانحطاطك إلى هذه الرتبة أصلح لنفسك؛ فللبالغ الكافر أن يقول: فلم لا أمتنى قبل البلوغ لعلمك بكفرى بتقدير البلوغ، فلا يبقى لموجب الغرض جواب.
وهذا قاطع فى نفى لزوم الغرض، لا غبار عليه.
الوجه الثانى: أنا نعلم علما ضروريا أن خلود أهل النار فى النار، من فعل الله- تعالى- ونعلم أنه لا فائدة لهم، ولا غرض فى خلودهم فى النار، ولا لغيرهم فيه؛ بل
________________
(1) فى ب (الخصم).
(2) فى ب (البالغ أن يكون فوق).
(3) فى ب (فقد قال).
(2/154)
________________________________________
والعاقل إذا فتش علم أيضا، أنه لا فائدة للجمادات والعناصر، والمعدنيات، وغيرها من أنواع النبات فى وجودها؛ إذ لا تجد بذلك لذة، ولا ألما. ولا فرق بين كونها، ولا كونها «1». ولا غرض فى إماتة الأنبياء، وإنظار إبليس، وتكليف نوع الإنسان مع ما فيه من الآلام والمشاق ولزوم الحرج؛ بل وكل عاقل أيضا راجع نفسه، وأمعن فى النظر بين الوجود، ولا وجود؛ فإنه يود أنه لم يوجد؛ لما يعترضه من الآفات الدنيوية، والأخروية.
ولهذا نقل عن المقتدى بهم من الأولين التكره لذلك، والتبرم به حتى قال: يا ليتنى كنت نسيا منسيا، وقال آخر: يا ليت أمى لم تلدنى، وقال آخر: يا ليتنى لم أك شيئا. إلى غير ذلك من الأقوال الدالة على كراهة الوجود. وما فيه الغرض، والصلاح للعبد؛ لا يكون مكروها له.
فإن قيل: لو لم يكن فعل البارى- تعالى- لغرض ومقصود، مع أن الدليل قد دل على كونه حكيما فى فعله، عالما بصنعه؛ لكان عابثا، والعبث قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم المطلق. والخير المحض إذا كان عالما بقبحه، وعالما باستغنائه عنه «2»؛ فإذن لا بد له فى فعله من غرض يقصده، وحكمة يطلبها من فعله؛ نفيا للتقصير «3»، والعبث عنه.
ولا ننكر امتناع عود الغرض من فعله إليه؛ ولكن ما المانع من عوده إلى المخلوق؟
وما ذكرتموه فغاية ما فيه عدم العلم بوجود الغرض فيما فرضتموه من الصور، وليس فيه ما يدل على عدم الغرض فى نفسه؛ فإنه «4» لا يلزم من عدم العلم بالشيء. العلم بعدم الشيء، ولا عدمه فى نفسه.
كيف: وأنه ممكن أن يكون خلود أهل النار فى النار، هو الأنفع لهم؛ لعلم البارى- تعالى- بهم. أنهم ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «5» كما أخبر به الكتاب العزيز، ويلزم من ذلك زيادة العقاب فى حقهم/ مضافا إلى ما كان مستحقا عليهم.
ولا يخفى أن التزام شر قليل، دفعا للشر الكثير، أولى من التزام الشر الكثير.
________________
(1) فى ب (و عدم).
(2) فى ب (عنها).
(3) فى ب (للنقص).
(4) فى ب (إذ).
(5) سورة الأنعام 6/ 28.
(2/155)
________________________________________
وأمكن أن تكون «1» الغاية ما فى «1» ذلك نفى الخلف عن خبر البارى «2» - تعالى عنهم بالخلود، أو الجهل عنه. حيث تعلق علمه بذلك.
وأما الفائدة فى خلق الجمادات، وغيرها [فالعناية] «3» بنوع الإنسان؛ لأجل انتظام أحواله فى مهماته وأفعاله، والاستدلال بما فى طيها من الآيات، والدلائل الباهرات على وجود واجب الوجود، ووحدانية المعبود؛ ليعبد ويعظم؛ فيستحق على عبادته وتعظيمه الثواب الجزيل، وبالإعراض عنها وعن النظر فيها العذاب الأليم، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام حكاية عن الله- تعالى-: «كنت كنزا لم أعرف فخلقت خلقا لأعرف به» «4». وقال- تعالى- إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ «5». وقد قال عليه السلام لعائشة رضى الله عنها عند نزول هذه الآية-:
«قد نزل عليّ اللّيلة آية ويل لمن لاكها بين لحييه ولا يتفكّر فيها» «6» ثم قرأ هذه الآية وقال- تعالى- وما خَلَقْنَا السَّماءَ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ «7». وقال إخبارا عن المؤمنين فى معرض الثناء والمدح لهم:
رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا «8». وقال اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً «9». إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن خلق مثل هذه الأشياء إنما هو لغرض الاستدلال بها عليه؛ ليعبد، ويعظم؛ تحصيلا للثواب الجزيل؛ كما سبق.
________________
(1) فى ب (الفائدة فى).
(2) فى ب (الله).
(3) فى أ (العناية).
(4) أخرجه ابن عرامة فى كتابه تنزيه الشريعة 1/ 148 كتاب التوحيد. الفصل الثالث- حديث رقم 44 فقال: حديث كنت كنزا لا يعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت لهم فبى عرفونى.
قال ابن تيمية موضوع.
(5) سورة آل عمران 3/ 190.
(6) الموجود فى ب.
(قد نزل هذه الليلة عليّ آية ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها).
(7) سورة ص 38/ 27.
(8) سورة آل عمران 3/ 191.
(9) سورة الطلاق 65/ 12.
(2/156)
________________________________________
وأما إماتة الأنبياء: فلعله النافع «1» لعلم الله- تعالى «1» - أنهم لو عاشوا لتضرروا فى أبدانهم، أو أديانهم؛ فكان اخترامهم هو الأنفع لهم، ويحتمل أن يكون البارى- تعالى- قد علم أنهم لو عاشوا؛ لأفضى ذلك إلى فساد بعض الأمة؛ فكان اخترامهم لذلك، أولى.
وأما فائدة إنظار إبليس: فيحتمل أن يكون لما فيه من زيادة امتحان المكلفين؛ لينالوا بسبب مقاومته الثواب الجزيل.
وأما تكليف نوع الإنسان مع ما يلزمه من المشاق، والآلام فى الدنيا: فلغرض تحصيل الثواب الجزيل فى الآخرة.
وما نقل عن بعض المتقدمين من الكراهية للوجود، فغايته أنه لم يظهر له الغرض من وجوده، وما هو النافع له، وليس فى ذلك ما يدل على عدم الغرض فى/ وجوده؛ بل لعل وجوده الأنفع له. وقد استأثر الله- تعالى- بعلمه بذلك دونه.
والجواب:
أنا لا ننكر كون الله- تعالى- حكيما فى فعله؛ ولكن ذلك يتحقق فيما «2» يتقنه فى صنعه «2»؛ وتحققه على وفق علمه به، وإرادته، ولا يتوقف ذلك على أن يكون له فى فعله غرض وغاية، والعبث إنما يلزم فى فعله بانتفاء الغرض فيه. أن لو كان فعله مما يطلب فيه الغرض؛ وهو محل النزاع، وتقبيح صدور ما لا غرض فيه من البارى- تعالى- فمبنى على فاسد أصولهم بالتحسين «3»، والتقبيح الذاتى، وقياس الغائب على الشاهد وقد أبطلناه فيما تقدم «4».
وقولهم: غاية ما ذكرتموه عدم العلم بوجود الحكمة والغرض- وليس فى ذلك ما يدل على نفى الغرض فى نفسه- ليس كذلك.
________________
(1) فى ب (لا يقع بهم على الله).
(2) فى ب (بما يتقنه فى صنعته).
(3) فى ب (من التحسين).
(4) انظر ل 40/ أ.
(2/157)
________________________________________
قيل: بل العلم بانتفاء الغرض فيما ذكرناه من الصورة الأولى والثانية ضرورى، وإن انقدح الاحتمال فيما وراء ذلك من صور الاستشهاد مع بعده.
وقولهم: يحتمل أن يكون خلود أهل النار فى النار، أنفع لهم من النعيم المقيم؛ خروج عن المعقول، ومكابرة لضرورة العقل.
قولهم: ذلك أنفع «1» لهم لعلمه- تعالى- أنهم ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «2».
فإنما يلزم أن لو أعادهم مكلفين، وهو قادر على إخراجهم من غير تكليف، وإن كلفهم؛ فهو قادر على منعهم من المعاصى بإماتتهم قبل فعلها، وعدم إقدارهم عليها، أو إقدارهم على التوبة بعد الفعل، والعفو، والصفح بعد الفعل؛ بل وهو الأليق بحكمته، والأقرب إلى رأفته ورحمته من أن يعذبهم، وينتقم منهم، مع أنه لا ينتفع بعذابهم، ولا يتضرر بالعفو عنهم؛ بل العفو، والعقوبة بالنسبة إلى جلاله سيان؛ فكان إخراجهم هو الأصلح «3»، والأنفع لهم «3».
كيف وقد وجدنا فى الشاهد: المدحة للعافى، دون المنتقم؛ بل والعقلاء بأسرهم يقبحون مقابلة معصية واحدة، بالخلود فى العذاب الأبدى السرمدى؛ فما باله استأثر العقوبة على العفو مع ذلك، وليس مستندهم فيما قضوا به غير التحسين، والتقبيح، وقياس الغائب على الشاهد؛ والتخليد فى العذاب «4» على خلاف هذه القواعد.
قولهم: الغرض من ذلك إنما هو نفى الخلف فى خبر الله- تعالى- والجهل عنه.
قلنا: فالغرض إذن غير عائد إليهم؛ إذ لا نفع لهم فى ذلك؛ وهو خلاف الغرض.
كيف: وأن النزاع/ إنما هو فى اعتبار الأغراض العائدة إلى المنافع، والمضار، والمصلحة، والمفسدة الدنيوية، والأخروية؛ وليس النزاع فى وجوب وقوع الفعل من الله تعالى- ضرورة استحالة الخلف فى خبره، واستحالة وقوع خلاف معلومه؛ فإن ذلك متفق عليه.
________________
(1) فى ب (أبلغ).
(2) سورة الأنعام 6/ 28.
(3) فى ب (الأنفع لهم والأصلح).
(4) فى ب (النار).
(2/158)
________________________________________
ومن أطلق الغرض فى أفعال الله- تعالى- (على) «1» مثل هذه الأمور؛ فلا نزاع معه فى غير اللفظ.
وما ذكروه من الغرض فى خلق السموات، والأرض، وما بينهما؛ فجوابه من أربعة أوجه.
الأول: أنه لو كان ما ذكروه غرضا؛ لوجب حصوله من كل وجه، وإلا كان البارى- تعالى- عاجزا عن تحصيل غرضه من الوجه الّذي لم يحصل، وليس كذلك؛ فإنه «2» كم «2» من هالك بما خلق لأجل صلاحه، وانتظام أحواله، واستدلاله على ما ينفعه:
كالغرقى «3»، والحرقى «3»، والهلكى بالأسباب السماوية، والأرضية، وليس من الصلاح خلق شيء لمنفعة شخص، يكون هلاكه فيه، مع علم الخالق به.
ولو قال الخالق: إنما قصدت صلاحه بم علمت أن هلاكه فيه، كان قوله مردودا مستنكرا؛ بل وكم من تارك النظر، والاستدلال بموجودات الأعيان؛ ولهذا لو نسبنا الناظر «4» المؤمن إلى غيره لم نجده إلا قليلا من كثير.
الثانى: أن الفائدة فى معرفة وجود الله- تعالى- وما يجب له من الصفات، وما يجوز وما لا يجوز؛ لا يمكن عودها إلى «5» الله «5» - تعالى؛ إذ هو يتعالى، ويتقدس عن الأغراض كما سبق. فلا بد وأن تكون عائدة إلى العبد «6»، وتلك «6» الفائدة عند البحث عنها (لا تخرج) «7» عن الالتذاذ بالمعرفة والثواب عليها؛ وذلك كله مقدور أن يجعله «8» الله- تعالى- للعبد من غير واسطة. بأن يخلق له العلم الضرورى به، وبصفاته، وأن ينله الثواب الجزيل، بدون النظر، والطاعة؛ فلا حاجة إلى هذا التكليف والمشقة، مع إمكان حصول الغرض دونه؛ بل ربما كان التكليف، مع إمكان حصول الغرض دونه عبثا، والعبث فى حق الله «9» ممتنع.
وبه يخرج الجواب عما ذكروه فى القول «10» بالتكاليف، وإيجاب العبادات.
________________
(1) فى أ (على ما).
(2) فى ب (بل وكم).
(3) فى ب (كالحرقى والغرقى).
(4) فى ب (النظر).
(5) فى ب (إليه).
(6) فى ب (الخلق وذلك).
(7) ساقط من أ.
(8) فى ب (يحصله).
(9) فى ب (على الله تعالى).
(10) فى ب (القول الأول).
(2/159)
________________________________________
فإن قيل: الثواب جزاء على النظر، والمشاق اللازمة بالتزام الطاعات وفعل «1» المأمورات، واجتناب المنهيات؛ ألذ من ابتدائه، وأنفى للمنة؛ فهو خروج عن الدين، وتكبر عن الدخول فى منن الله- تعالى- وإسباغ نعمه. وكيف السبيل إلى ذلك، وأين المفر عنه مع القول: بإيجاده مبرأ عن الآفات، ممكنا من تحصيل اللذات، وإقداره على ما يصدر عنه من الطاعات، وتكميل عقله للفهم والإدراك إلى غير ذلك من النعم التى لا تعد ولا تحصى، وذلك/ منه بدا من غير سابقة طاعة، أو فعل عبادة.
الثالث: هو أن الخصم معترف بأن ما يفعله العبد من الطاعات، واجب عليه وملجأ إليه؛ شكرا لله- تعالى- على ما أولاه من مننه، وأسبغ عليه من جزيل نعمه. فكيف يستحق الثواب على ما أداه من الواجبات؟ والجزاء على ما حتم عليه من العبادات.
وكيف السبيل إلى الجمع بين القول بوجوب الطاعة على العبد شكرا، والثواب على البارى- تعالى- جزاء. وذلك من جهة أنّ الشّكر لا يجب، إلا بعد سابقة النعم «2» المتطوّل بها ابتداء، لا بطريق الوجوب. والجزاء الواجب، لا يكون؛ إلا بعد سابقة خدمة «2»، وطاعة متبرع بها، لا «3» على «3» ما وقع بطريق الوجوب فى مقابلة النعم السابقة. وقوله- تعالى-: ولِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «4» وقوله- تعالى- لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «5» فليس المراد به التعليل؛ وإنما المراد به تعريف الحال فى المآل كما فى قوله- تعالى- فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَناً «6». وقوله- تعالى- جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ «7».
ونحن لا ننكر وقوع مثل ذلك، وإنما ننكر كونه مقصودا بالتكليف حتى يقال إنه كلف بكذا، أو لعله كذا، وبهذا يخرج الجواب عما ذكروه من النصوص الدالة على أن المقصود من خلق السموات، والأرض وما بينهما، إنما هو النظر، والاعتبار.
________________
(1) فى ب (بفعل).
(2) من أول (النعم المتطول ... الى قوله سابقة) مكرر فى أ.
(3) فى ب (على).
(4) سورة الجاثية 45/ 22.
(5) سورة النجم 53/ 31.
(6) سورة القصص 28/ 8.
(7) سورة القصص 28/ 73.
(2/160)
________________________________________
الرابع: هو أن ما ذكروه يرجع حاصله إلى أن حكمة خلق السموات والأرض وما بينهما، وإظهار الدلائل، والآيات، وإيجاب الطاعات، وتصريف الخلائق، بين المأمورات، والمنهيات، إلى «1» لذة «1» يجدها بعض المخلوقين، فى مقابلة طاعته، وتعبه فى النظر، والاستدلال، يزيد على اللذة التى يجدها من ابتداء التفضل، والإنعام من الله- تعالى- الّذي لا سبيل إلى الخروج عن مننه مع أن الله- تعالى- قادر على أن يخلق له أضعاف «2» تلك اللذة فى التفضل الابتدائى، من غير تعب، ولا نصب؛ وذلك مما «3» لا يتفوه به عاقل «3»، ولا يستحسنه أحد.
قولهم: إن إماتة الأنبياء أنفع لهم، أو لغيرهم كما ذكروه؛ فحاصله يرجع إلى امتناع وقوع خلاف المعلوم وقد سبق جوابه، وإلا فلو قطع النظر عن تعلق العلم بوجود الإضرار الملازم لبقائهم، لقد كان قادرا/ على دفعه عنهم وعن غيرهم دون إماتتهم، وتفويت «4» المنفعة الحاصلة بهدايتهم، وإرشاد الخلق، إلى نجاتهم.
وما ذكروه من الغرض فى إنظار إبليس من زيادة الامتحان به؛ لنيل الثواب الجزيل عليه؛ لا يصح لوجهين «5».
الأول: أنه لو كان الغرض منه ذلك؛ لكان حاصلا من كل وجه حتى لا يكون الرب تعالى- عاجزا عن تحصيل غرضه بإنظاره «6» لإبليس «6»
ونحن إذا أنصفنا، وجدنا متبعيه أكثر من مخالفيه؛ فكان الإضرار بإنظاره «7» أكثر من النفع الحاصل له «8»، وذلك قبيح على أصلهم؛ فلا يصلح أن يكون غرضا.
الثانى: أنّ المقصود منه إذا كان هو زيادة الثواب الحاصل من الامتحان به فالرب- تعالى- قادر على تحصيل ذلك «9» للعباد، دون هذه الواسطة التى الغالب منها، الإضرار؛ لا النفع، وتمام تقريره ما سبق فى التكاليف.
________________
(1) فى ب (للذة).
(2) فى ب (أفعال).
(3) فى ب (مما يتفوه).
(4) فى ب (وفوة).
(5) فى ب (من وجهين).
(6) فى ب (بانظار ابليس).
(7) فى ب (بالانظار).
(8) فى ب (به).
(9) فى ب (هذا).
(2/161)
________________________________________
وإذا ثبت امتناع رعاية الغرض فى أفعال الله- تعالى-؛ فقد بطل القول، بوجوب رعاية الصلاح، والأصلح.
ويدل على امتناع ذلك أيضا: أنه لو وجب على الله- تعالى- رعاية الصلاح، أو «1» الأصلح «1»؛ للزم أن تكون القربات، من النوافل بالنسبة إلى أفعالنا واجبة؛ لما فيها من صلاحنا؛ إذ الرب- تعالى- قد أمر بها، وندب إليها، وهو فلا يأمر، ويندب إلا بما هو صالح، أو أصلح؛ فإذا كان فعل الصالح، أو الأصلح عليه واجبا؛ كان واجبا بالنسبة إلينا؛ ضرورة عدم الفرق بين الغائب، والشاهد.
كيف وأن أصل الخصم فى ذلك: إنما هو قياس الغائب، على الشاهد؛ فيمتنع القول بالواجب فى الفرع، مع امتناعه فى الأصل.
فإن قيل: لا يلزم من وجوب رعاية الصلاح، والأصلح على الله- تعالى- وجوب النوافل بالنسبة إلينا؛ لكونها صالحة؛ فإن وجوب رعاية ذلك فى حقنا مما يوجب الكد، والجهد، وهو إضرار فى حقنا بخلاف البارى- تعالى- فإنه قادر على نفع الغير، وصلاحه، من غير أن يلحقه ضرر، وجهد، ولا كدر وتعب؛ فافترقا. وليس القول بوجوب رعاية الصلاح، أو الأصلح على الله- تعالى- مستندا إلى قياس الغائب على الشاهد؛ ليلزم ما ذكرتموه؛ بل هو مستند إلى ما ذكرناه من امتناع صدور العبث عن الحكيم فى فعله، وصنعه.
قلنا: أما ما ذكروه من الفرق؛ فهو يرجع على قاعدتهم، فى وجوب الطاعة والشكر على العبيد/ فى مقابلة نعم الله- تعالى- عليهم بالإبطال، وإن نظر إلى ما يستحقه من الثواب فى مقابلته؛ فهو باطل؛ بما أسلفناه. ومع بطلانه؛ فيلزم القول بمثله فى محل النزاع.
وما قيل: من أن مستند الوجوب فى حق الله- تعالى- إنما هو نفى العبث، والقبح عن الله- تعالى-؛ فقد سبق جوابه.
وأما ما يخص إبطال القول بوجوب رعاية الأصلح؛ فمسلكان:
________________
(1) فى ب (و الأصلح).
(2/162)
________________________________________
[المسلك] الأول:
هو مقدورات الله- تعالى- فى الأصلح غير متناهية. فما من أصلح، إلا وفوقه ما هو أصلح منه، إلى غير النهاية، ووجوب رعاية ما لا يمكن الوقوف فيه على حد، ونهاية؛ ممتنع.
فإن قيل: إنما تمتنع رعاية الأصلح: أن لو لم يكن ما قيل بوجوب رعايته مقدورا مضبوطا، وقد أمكن ضبط ذلك، وتقديره لما يعلم الله- تعالى- أن الزيادة عليه مما توجب للعبد العتو، والطغيان، ولا محالة أن رعاية ذلك غير ممتنع.
قلنا: عنه جوابان:
الأول: هو أنه: ما من أمر يقدر طغيان الإنسان عنده، إلا والرب تعالى قادر على عصمته عنه.
وعند ذلك: فاعتبار ما هو الأصلح، من «1» الأصلح «1» الأول، أولى.
الثانى: هو أن ما ذكروه ينقض قاعدتهم فى وجوب تكليف العبد، رعاية لمصلحة العبد، مع العلم بأنه سيكفر، ويفجر، فإن امتنع رعاية الأصلح نفيا للطغيان؛ فليمتنع التكليف، رعاية لدفع الفجور، والكفران.
المسلك الثانى:
أن العالم «2» فيه كفر، وإيمان، وخير، وظلم، وإحسان، وعدل، وجور إلى غير ذلك من المتقابلات التى أحد المتقابلين فيها حسن، والآخر قبيح لذاته على أصلهم؛ وكل واحد منهما مقدور لله- تعالى-، وموجود بإيجاده على ما سنبينه.
وعند ذلك: إما أن يكون وجود ما قيل بحسنه، أصلح من وجود ما قيل بقبحه، أو وجود ما قيل بقبحه أصلح مما قيل «3» بحسنه، أو أن كل واحد منهما أصلح من الآخر، أو لا واحد منهما أصلح من الآخر.
فإن كان الأول: فيلزم منه أن لا يوجد القبيح؛ إذ الأصلح مقابله.
________________
(1) ساقط من ب.
(2) فى ب (العلم).
(3) فى ب (من وجود ما).
(2/163)
________________________________________
وإن كان الثانى: فمحال أن يكون القبيح أصلح من الحسن، ومع إحالته؛ فيلزم منه أن لا يوجد الحسن؛ إذ الأصلح مقابله.
وإن كان الثالث: فهو محال «1» أيضا ظاهر «1» الإحالة.
وإن كان الرابع: فهو أيضا محال؛ لما فيه من القول بأن الحسن ليس أصلح من القبح.
وهذه المحالات إنما لزمت من القول بوجوب رعاية الأصلح؛ فيكون ممتنعا.
وإذا/ ثبت امتناع اعتبار الغرض فى أفعال الله- تعالى- وامتناع وجوب رعاية الصلاح، والأصلح؛ لزم بطلان ما بنى «2» عليه من وجوب الثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصى، والتكليف، والتّمكين مما كلف به العبد. إلى غير ذلك مما عددناه.
وأما وجه الاحتجاج على امتناع وجوب شيء على الله- تعالى- مطلقا بجهة العموم.
فهو أن الواجب قد يطلق بمعنى الثابت اللازم: ومنه يقال: وجب الحق: أى ثبت ولزم.
وقد يطلق: على ما يلزم من فرض عدمه المحال.
وقد يطلق: على ما هو متعلق الأمر اللازم.
وقد يطلق: على ما يلحق بتركه ضرر من ذم، أو غيره.
وقد يطلق: بمعنى السّاقط: ومنه يقال: وجبت الشمس إذا سقطت.
وعند ذلك: فإما أن يراد بالواجب على الله- تعالى- أحد هذه المحامل، أو غيرها.
فإن أريد به أحد هذه المحامل؛ فهو ممتنع.
أما الاعتبار الأول: وهو «3» الثابت اللازم «3»؛ فلأن الخصوم متفقون على وجوب التمكين مما كلف به العبد مع أنه غير لازم؛ لاتفاقهم، واتفاق الأمة على التكليف
________________
(1) فى ب (أظهر فى).
(2) فى ب (ما ينبى).
(3) من أول (و هو الثابت ... ) ساقط من ب.
(2/164)
________________________________________
[بالإيمان] «1» لمن علم الله أنه لا يؤمن: كأبي جهل، وغيره؛ وهو غير ممكن منه؛ لعلم الله- تعالى- أن «2» ذلك غير واقع منه «2»؛ ووقوع خلاف المعلوم؛ محال. وإلا كان علم البارى- تعالى- جهلا؛ وهو ممتنع. على ما سبق فى الصفات.
وبهذا يبطل الوجوب بالاعتبار الثانى أيضا.
وأما الاعتبار الثالث: فهو أيضا ممتنع؛ لاستحالة كون الرب- تعالى- مأمورا، ومنهيا بالاتفاق.
والرابع أيضا ممتنع: لأنّ الرب يتعالى، ويتقدس عن الإضرار، والانتفاع، والذم على فعل «3» شيء، أو تركه «3».
والخامس؛ فغير مراد بالاتفاق.
وإن أريد غير هذه المحامل؛ فلا بد من تصويره لنتكلم عليه.
[للخصوم أسئلة]
فإن قيل: لا نسلم الحصر فى الأقسام المذكورة. وذلك أنا نعنى بكون الفعل واجبا: أنه حسن، وأن تركه قبيح؛ وهو خارج عما ذكرتموه.
وإن سلمنا الحصر فيما ذكرتموه من الأقسام؛ ولكن لا نسلم امتناع تفسيره بما يلزم المحال من فرض عدمه، لا لذاته؛ بل لغيره. فمعنى وجوب رعاية الصلاح فى فعله أنه يلزم من فرض عدمه العبث فى حق الله- تعالى- والعبث قبيح، والبارى- تعالى- عالم بقبح القبيح، وعالم باستغنائه عنه؛ فيكون فعله عليه ممتنعا؛ ولو فعله كان «4» جاهلا، أو مفتقرا إليه؛ وهو على الله- تعالى- محال.
ومعنى/ كون الثواب على إيلام البهائم واجب أنه يلزم من عدمه الظلم فى حق الله- تعالى-؛ والظلم على «5» الله «5» محال. على ما سيأتى تفصيل القول فيه «6».
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (أنه غير واقع).
(3) فى ب (فعله أو تركه له).
(4) فى ب (لكان).
(5) فى ب (عليه تعالى).
(6) من أول (تفصيل القول ... ) ساقط من ب انظر ل 192/ ب.
(2/165)
________________________________________
وأما قضية «1» أبى جهل: فلا احتجاج بها؛ إذ الإيمان منه ممكن، وهو ممكن منه؛ لكونه مقدورا له. وهذا هو القدر الّذي يوجبه من التمكين؛ وهو واقع «2».
والجواب:
أما السؤال الأول: فمبنى على التحسين، والتقبيح؛ وقد أبطلناه.
وأما الثانى: فمندفع.
أما قولهم: أنه يلزم منه العبث؛ فقد أجبنا عليه.
وقولهم: يلزم منه الظلم، فإنما يتصور أن لو كان قابلا لاتصافه بالظلم، وليس كذلك؛ فإن الظلم: إنما يتصور فى حق من تصرفه فى ملك غيره من غير حق، أو بمخالفة من المتصرف فيما هو داخل تحت أمره وحكمه؛ وذلك كله مما لا يمكن تحقيقه فى حق الله- تعالى- مع أن ذلك أيضا مبنى على أصولهم فى التحسين، والتقبيح؛ وقد أبطلناه.
ثم يلزم على ما ذكروه من التكليف بالإيمان لمن علم الله- تعالى- أنه لا يؤمن.
قولهم: الإيمان ممكن فى نفسه.
قلنا: الإيمان غير كاف فى التمكين إلا مع الإقدار عليه.
قولهم: أنه مقدور له.
قلنا: لا نسلم أنه قادر عليه قبل الفعل؛ إذ القدرة عندنا لا تسبق الفعل؛ على ما سيأتى تعريفه.
ثم وإن سلمنا كونه مقدورا؛ لكنه لا فرق فى عدم التمكين بين ما كان مستحيلا باعتبار ذاته، وبين ما كان ممتنعا باعتبار غيره؛ لاستوائهما فى امتناع الوقوع.
________________
(1) فى ب (قصة).
(2) فى ب (واجب).
(2/166)
________________________________________
«المسألة الرابعة» فى الآلام وأحكامها
[الآراء فيها]
مذهب أهل الحق «1»: أن الآلام مقدورة لله- تعالى-، وإذا فعلها فهى حسنة، وسواء كانت مبتدأ بها، أو بطريق المجازاة، وسواء تعقبها عوض أو لا. وأن العوض عليه غير واجب على ما سبق؛ بل إن كان فلا يكون منه إلا بطريق التفضل، والإنعام؛ وهو «2» جائز عقلا فى الدنيا، والأخرى. وأما الواقع فمستند إلى السمع؛ فما ورد به كان، وإلا فلا.
وأما الآلام الصادرة من المخلوقين بعضهم فى حق بعض: فإن كان من صدر عنه الإيلام مكلفا: فمنه ما هو جائز، ومنه ما هو حرام على حسب ورود الشرع بذلك.
وإن كان من صدر عنه الإيلام غير مكلف؛ فلا تبعة عليه فى الدنيا والأخرى عقلا، إلا ما ورد الشرع به بطريق التأديب، والزجر، والمتبع فى التعويض على/ ذلك من الله- تعالى- فى الدنيا، أو الأخرى إنما هو السمع.
وأما المعتزلة «3» فإنهم قالوا: الإيلام إما أن يكون من الله- تعالى أو من المخلوقين.
فإن كان من الله- تعالى- فقالوا: إنما يحسن بأن يكون مستحقا على جريمة سابقة، أو لجلب نفع، أو دفع ضرر، أو بأن يعوض عنه فى الدار الآخرة بما يزيد على مقدار الألم.
ثم اختلفوا فى الأعواض الواجبة على الله- تعالى-:
________________
(1) لتوضيح مذهب أهل الحق فى هذه المسألة:
انظر اللمع للأشعرى ص 116، 117 والإبانة له أيضا ص 53.
والإرشاد للجويني ص 273 - 286 والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص 83 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 410 - 411.
ومن كتب الآمدي: غاية المرام ص 224 - 245.
ومن كتب المتأخرين: شرح المواقف 2/ 399، 400 وشرح المقاصد 2/ 121، 122.
(2) فى ب (و هو غير).
(3) عن رأى المعتزلة فى الآلام وأحكامها، وأحكام العوض وما يتصل به، والمستحق للعوض والمستحق عليه، انظر الأصول الخمسة ص 483 - 509.
والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل 13/ 27 - 74 والمحيط بالتكليف ص 228 - 239.
(2/167)
________________________________________
فذهب العلاف، والجبائى «1»، وكثير من متقدمى المعتزلة: إلى دوامها، كدوام الثواب، ووجوب تأخيرها إلى الدار الآخرة زائدة على قدر ما يستحق من العوض معجلا، وإلى إحباطها بالكفر والفسق، كإحباط الثواب، وإلا «2» كان «2» الكافر والفاسق، مستحقا فى كل وقت فى الآخرة نعيم العوض، وعقاب الكفر، والجميع ممتنع.
وذهب أبو هاشم «3»: إلى خلافهم فى الكل.
ومما اختلف فيه المعتزلة أيضا «4»: أنه «4» هل يتصور التفضل من الله تعالى بمثل العوض ابتداء، أم لا؟ فمن لم يجوز ذلك، جوّز الآلام لمجرد التعويض: كالجبائى، وأبى الهذيل، وقدماء المعتزلة. ومن جوز ذلك لم يجوز الآلام إلا بشرط التعويض واعتبار الغير بتلك الآلام، وكونها ألطافا فى زجر غاو عن غوايته.
وذهب عباد الضيمرى «5»: إلى جواز الآلام لمحض الاعتبار من غير تعويض.
وذهب أبو هاشم «6»: إلى أن الآلام لا تحسن لمجرد التعويض مع القدرة على التفضل بمثل «7» العوض. إلا إذا علم الله- تعالى- أنه لا ينفعه إلا بجهة التعويض.
واتفقوا على امتناع الإيلام دون هذه الأمور؛ لأنه يكون ظلما، والظلم قبيح لذاته.
غير أنهم اختلفوا فى القبيح: هل هو مقدور لله- تعالى- أم لا؟
فذهب النظام، والجاحظ، وغيرهما من قدماء المعتزلة: إلى استحالة كونه مقدورا لله- تعالى-.
وذهب الجبائى، وأبو الهذيل، وكثير من المعتزلة: إلى كونه قادرا عليه، غير أنه لما كان عالما بقبحه، وعالما باستغنائه عنه استحال صدوره عنه؛ لعدم الداعى إليه، ولو صدر عنه لدلّ على جهله بقبحه، أو على كونه محتاجا إليه؛ وذلك على الله- تعالى- محال.
________________
(1) انظر الأصول الخمسة 494.
(2) فى ب (و إلا لما كان).
(3) انظر الأصول الخمسة ص 494.
(4) ساقط من ب.
(5) انظر الأصول الخمسة ص 489، 490.
(6) انظر الأصول الخمسة ص 492.
(7) فى ب (بغير).
(2/168)
________________________________________
وأما إن كان الإيلام من المخلوقين بعضهم فى (حق) «1» بعض: فيجب على الله- تعالى- إنصاف المظلوم من الظالم.
وعند ذلك: فإما أن يكون للظالم عوض عند الله- تعالى-/ أو لا عوض له. فإن كان الأول: فيجب أن يصرف إلى المظلوم ما يستحقه الظالم من الأعواض بقدر إيلامه له.
وإن كان الثانى: فيجب عليه صرفه عن الإيلام ابتداء بوجه من الوجوه، أو أن يعوضه من عنده.
ثم اختلفوا فى وقت وقوع أعواض البهائم:
فمنهم من قال بذلك فى الدنيا. ومنهم من قال به «2» فى الأخرى «2» فى غير الجنة.
ومنهم من قال بوقوعه فى الجنة.
وهل يجب عليه تكميل عقولها لتعلم أن عوضها دائم غير منقطع؟ فمختلف فيه أيضا بينهم؛ لكنهم اتفقوا على أن الأعواض المستحقة على الخلق «3» غير دائمة.
وأما المجوس «4»: فمعتقدهم أن الآلام قبيحة لذاتها، ولا تحسن بوجه من الوجوه، غير أنها صادرة عن الظلمة، دون النور.
وأما التناسخية «5»: فلم يجوزوا صدور الآلام من الله- تعالى- ابتداء بوجه من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ما سبق من اقتراف الجرائم، ويتحقق ذلك فى البهائم؛ بأن تكون أرواحهم قبل انتقالها إلى أبدان البهائم فى أبدان أشرف من أبدان البهائم، وقد اقترفت الجرائم؛ فنقلت إلى أبدان البهائم؛ لتعذب على جرائمها.
ثم التزموا على هذا الأصل: أنّ البهائم مكلفة عالمة بما يجرى عليها من الآلام، وأنها مجازاة على فعلها، ولو لا ذلك، لما تصوّر انزجارها بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير انتقالها إلى بدن أشرف من أبدان البهائم.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب (فى الآخرة).
(3) فى ب (المكلف).
(4) انظر الملل والنحل للشهرستانى 2/ 38 وما بعدها.
(5) انظر الملل والنحل 2/ 113 وما بعدها.
(2/169)
________________________________________
ومنهم من زاد على هذا، وزعم أنه ما من جنس من أجناس البهائم، إلا وفيهم نبى مبعوث إليهم من جنسهم.
ومنهم من زاد على هذا، وزعم أن «1» جملة «1» الجمادات أحياء مكلفة، وأنها مجازاة على ما تقترفه من الخير، والشر.
ثم اختلفوا فى التكليف:
فمنهم من قال بأن الله- تعالى- كلف الأرواح ابتداء.
ومنهم من قال: لم يكلفها، غير أنه خيرها؛ فاختارت التكليف.
ولهم اختلافات كثيرة فى أمر التناسخ وأحكامه، سنأتى «2» على إيضاحها عند التصدى للرد «2» عليهم.
وأما البكرية «3»: فإنهم لما اعتقدوا قبح الإيلام «4» لذاته «4»، ولم يروا حسنه «5» بما حسنه المعتزلة، والتناسخية، واعتقدوا ورود الأمر بذبح الحيوان من الله- تعالى-؛ زعموا أن البهائم لا تتألم، وكذلك الأطفال الذين لا يعقلون. وعند هذا: فلا بد من تحقيق مذهب أهل الحق أولا. والإشارة إلى إبطال مذاهب الخصوم ثانيا:
أما تحقيق مذهب أهل الحق:
/ فهو أن الآلام ممكنة الوجود، وكل ممكن الوجود؛ فوجوده لا يكون إلا بإيجاد الله- تعالى- على ما سنبينه بعد، وما يكون فعلا لله- تعالى- فلا يكون قبيحا فى ذاته؛ لما سبق فى إبطال التحسين، والتقبيح (الذاتيين) «6».
________________
(1) فى ب (على أن جميع).
(2) فى ب (سيأتى عند التصدى على الرد).
(3) البكريّة: هم أتباع بكر بن زياد الباهلى، المشهور بأنه: بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد. كان يوافق المعتزلة فى أمور، ويوافق أهل السنة فى أمور أخرى، ومما انفرد به وعاند فيه العقلاء زعمه أن الأطفال فى المهد لا يألمون وإن قطّعوا أو حرّقوا. وأجاز أن يكونوا فى وقت الضّرب، والقطع، والإحراق متلذذين مع ظهور البكاء والصياح منهم.
(ميزان الاعتدال 1/ 345، والفرق بين الفرق ص 212، 213، ومقالات الإسلاميين 1/ 342).
(4) فى ب (الآلام لذاتها).
(5) فى ب (حسنها).
(6) فى أ (الذاتى). انظر ل 175/ أ وما بعدها.
(2/170)
________________________________________
وعلى هذا: فالقبيح عند أهل الحق لا يكون مقدورا لله- تعالى- لا «1» بمعنى «1» أنه موجود غير مقدور له؛ بل «2» بمعنى «2» أنه لا وجود له؛ فيكون مقدورا.
وأما الرد على المعتزلة:
أما قولهم بتحسين الآلام عقابا على ما سبق من الجرائم: فقد اعتمدوا فى ذلك على قضاء العقل بحسن انتصاف من أو لم اعتداء من المعتدى عليه بالإيلام، وحسن ضرب العبد تأديبا على إساءته؛ زجرا له، وردعا عن مثلها.
ونحن لا ننكر استحسان مثل ذلك فى حقنا؛ للتشفى؛ والانتقام، ودفع ألم [الغيظ] «3» عن نفس المجنى عليه. ولا يلزم مثله فى حق الله- تعالى- لاستحالة ذلك عليه.
وعند ذلك؛ فلا يلزم أن «4» يكون إيلامه للجانى «4» حسنا مع استغنائه عنه.
فإن قيل: الرب- تعالى- وإن كان غنيا عن ذلك إلا أنه يجب القول بتحسين الإيلام عقوبة على الجناية لوجهين:
الأول: ما استقر فى العقول من ذمّ الجانى على جنايته، وإن قدر استغناء المجنى عليه عنه.
الثانى: أنه لو لم يحسن ذلك؛ لكان ذلك إغراء للجانى بالجنايات، وارتكاب المحرمات.
قلنا: أما الوجه الأول: فدعوى محل النزاع.
وأما الثانى: فمنتقض عليهم بوجوب قبول التوبة.
وأما قولهم بتحسين الإيلام لغرض التعويض «5». فإنما يصح أن لو لم يكن الرب- تعالى- قادرا على التفضل ابتداء بمثل ذلك العوض من غير سابقة إيلام، وأما إذا كان قادرا عليه؛ فلا.
________________
(1) فى ب (بمعنى).
(2) فى ب (بل على معنى).
(3) فى أ (العيض).
(4) فى ب (إيلام الجانى).
(5) فى ب (العوض).
(2/171)
________________________________________
ولهذا فإن من كان قادرا على الإحسان إلى ضعيف دون سابقة إيلامه، لا يحسن منه الإيلام لأجل الإحسان، والله- تعالى- قادر على التفضل بمثل ذلك العوض من غير إيلام؛ فلا يحسن منه الإيلام.
فإن قيل: لا نسلم أن الله- تعالى- قادر على التفضل بمثل العوض؛ وذلك لأن العوض مستحق غير مشوب بالمنة، والتفضل بضده.
قلنا: أما من اعترف منهم بأن التفضل بمثل العوض مقدور لله- تعالى- فالإلزام لازم له «1». ومن منع من ذلك، فمنعه باطل مردود عليه؛ وذلك لأنا بينا فيما تقدم أنه لا يستحق على الله شيء، ولا يجب؛ فالعوض لا يكون مستحقا؛ فيكون تفضلا من الله تعالى/ أيضا. غير أنه اختص باسم العوض لكونه مسبوقا بالإيلام، وإذا كان تفضلا؛ فهو مثل التفضل «2» السابق للإيلام. والقادر على أحد المثلين يكون قادرا على المثل الآخر.
وعلى هذا نقول: إن التفضل بمثل الثواب مقدور لله- تعالى- أيضا، وإن كان ممنوعا عند بعض المعتزلة.
وما قيل: من لزوم شائبة المنة، فمع إبطاله بما أسلفناه لازم أيضا فى العوض بتقدير كونه غير مستحق.
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكروه على تحسين الألم للتعويض «3»؛ لكنه يلزم عليه القضاء بتحسين إيلام الواحد منا لغيره ابتداء إذا كان ملتزما للعوض؛ وهو خلاف الإجماع منا، ومن المعتزلة، ومن كافة الأمة.
فإن قيل: البارى- تعالى- عالم بعواقب الأمور، وباقتداره على التعويض، بخلاف الواحد منا؛ فلا يلزم من التحسين فى حق الله- تعالى- التحسين فى حق الواحد منا، مع انطواء العاقبة عنه، وجواز تحقق الألم من غير عوض بخلاف الرب- تعالى- فهو «4» باطل بإيلام «4» الولى، والقيم على الطفل بقطع السلع، والفصد، والحجامة، والتأديب بالضّرب المؤلم؛ ارتقابا لما يتوقع من النفع، وإن كان مظنونا غير متيقن.
________________
(1) فى ب (عليه).
(2) فى ب (للفضل).
(3) فى ب (للعوض).
(4) فى ب (قلنا هذا باطل بجواز إيلام).
(2/172)
________________________________________
وعلى هذا يمتنع تحسين الإيلام لتحصيل نفع، أو دفع ضرر. وكل ما قيل فى العوض؛ فهو متجه هاهنا، والقول بتحسين الألم للعوض «1»، واعتباره «1» معا فباطل أيضا؛ إذ العوض إنما يكون مؤثرا فى التحسين أن لو لم يكن مقدورا على التفضل بمثله، أو أزيد؛ وليس كذلك على ما سبق.
والاعتبار أيضا غير مؤثر؛ لما فيه من إلزام الضرر لأحد المكلفين، لنفع الآخر، وليس هو أولى من العكس؛ فيكون ظلما، والظلم- عندهم- قبيح لذاته.
وبمثل هذا يبطل قول الضيمرى: بالتحسين لمجرد الاعتبار.
والقول بأن الألم إنما حسن بالعوض، مع القدرة على التفضل بمثله إذا علم الله أنه لا ينفعه إلا بجهة التعويض؛ فهو أيضا باطل؛ فإنه إذا كان قادرا على التفضل بمثل ذلك العوض ابتداء من غير سابقة ألم، ولا هو محتاج إلى التأليم، ولا هو متضرر بالتفضل؛ فالتأليم يكون عبثا لا فائدة فيه؛ فيكون قبيحا. وعلمه بأنه لا ينفعه إلا بجهة العوض لا يخرج الألم عن كونه قبيحا.
وقولهم: إن الإيلام دون هذه الأمور يكون ظلما من الله- تعالى- والظلم قبيح لذاته «2»؛ فقد «2» سبق الكلام على الطرفين.
وقول من قال: إن القبيح لذاته/ مقدور عليه لله- تعالى-؛ فباطل؛ لاستحالة القبيح لذاته كما سبق.
ثم وإن قدر وجود القبيح لذاته؛ فلا نسلم تصور وجوده من الرب- تعالى-
فلئن قالوا: يتصور من الله- تعالى- إيلام الكافر عقوبة على كفره. ولا فرق فى الألم المقدور فى حق الكافر، وبين الألم فى حق من لم تسبق منه جناية غير وجود الجناية فى إحدى الصورتين، وعدمها فى الأخرى. وذلك غير داخل فى حقيقة الألم المقدور؛ فكان «3» الألم فى حق غير الجانى مقدورا لله- تعالى- وذلك الإيلام قبيح؛ فكان القبيح مقدورا.
________________
(1) فى ب (و العوض والاعتبار).
(2) فى ب (فى ذاته وقد).
(3) فى ب (فإن).
(2/173)
________________________________________
قلنا: إذا اختلف «1» الألمان «1» بما أوجب قبح أحدهما، وحسن الآخر، فما المانع [أن] «2» يكون وجود ذلك الفارق الموجب للقبح مانعا، من الاقتدار، أو أن عدمه يكون شرطا فى الاقتدار، وعدم الاطلاع على جهة المانعية، أو الشرط؛ لا يوجب انتفاء المانعية، أو الشرطية؛ لما سبق فى تعريف الأدلة.
ثم وإن سلمنا كونه مقدورا لله- تعالى- فلم «3» قالوا بامتناع وجوده عنه؟
قولهم: إن ذلك يدل على جهله بقبحه، أو احتياجه إليه؛ غير مسلم.
وما المانع من إيجاده له مع العلم بقبحه، واستغنائه عنه؟ وليس العلم بذلك «4» ضروريا. والنظرى؛ فلا بد من الدليل عليه.
وأمّا الرد على الثنوية فى اعتقادهم قبح الآلام لذواتها: فما سبق فى مسألة «5» التحسين والتقبيح، وفى «6» اعتقادهم وجود مدبرين، ومبدأ للخير ومبدأ للشر كما «7» سيأتى «7» فيما بعد.
وأما الرد على التناسخية فى أن الآلام قبيحة: فما سبق.
وأما فى اعتقادهم حسنها بالأعواض: فما ذكرناه على المعتزلة. وفى التناسخ ما سيأتى أيضا فى موضعه.
وأما إنكار البكرية لحلول الآلام بالبهائم، والأطفال: فمكابرة للعقل، والحس. وما نشاهده منهم من الاضطراب، والنفرة عند الضرب والجراحات، والاحتراق بالنار، وبكاء الصبيان عند وجود الأشياء المؤلمة، وإنكار ذلك لا يتقاصر فى البعد عن إنكار حياتهم، وحركاتهم، وحسهم، وإدراكهم، ووضوح ذلك فى تناهى الفساد، يغنى عن إبطاله.
*************
________________
(1) فى ب (أوجب الاسمان).
(2) ساقط من أ.
(3) فى ب (و لكن لم).
(4) فى ب (به).
(5) ساقط من ب. انظر ل 175/ أ وما بعدها.
(6) فى ب (و أما فى).
(7) فى ب (فسيأتى). انظر ل 225/ أ وما بعدها.
(2/174)
________________________________________
«المسألة الخامسة» «فى تكليف ما لا يطاق»
[الآراء فيها]
نقل عن الشيخ أبى الحسن الأشعرى- رحمه الله- فى بعض الأقوال أنه قال: لا يجوز/ التكليف بالمحال: كالجمع بين الضدين، والأمر بما هو ممنوع منه: كأمر الزمن بالقيام، ونحوه. والّذي إليه ميله فى أكثر أقواله، الجواز؛ وهو لازم على مذهبه؛ ضرورة اعتقاده: أن الاستطاعة لا تكون، إلا مع الفعل، مع تقدم التكليف بالفعل على الفعل، وأن القدرة الحادثة غير مؤثرة فى إيجاد الفعل؛ فيكون العبد مكلفا بفعل غيره «1» وإلى هذا مال أكثر أصحابه «2».
وقد نقل عن بعض البغداديين من المعتزلة «3» ما يوافق هذا القول: فإنهم قالوا بجواز تكليف العبد بفعل، فى وقت علم الله أنه يكون ممنوعا منه، وهو تكليف بما لا يطاق.
وإلى هذا أيضا: ذهب بكر بن أخت عبد الواحد «4» حيث قال: إن الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان والإخلاص، مع كونه مأمورا بالإيمان. ومن أصحابنا:
من مال إلى القول الأول: وهو امتناع التكليف بالمحال. وهو مذهب البصريين، وأكثر البغداديين. ثم اختلف القائلون من أصحابنا؛ فى جواز التكليف بما لا يطاق عقلا فى وقوعه: فمنهم من أثبته، ومنهم من لم يثبته.
وأجمعت الأمة على جواز التكليف بما علم الله- تعالى- أنه لا يكون عقلا، وعلى وقوعه شرعا: كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن: كأبي جهل، وغيره.
خلافا لبعض الثنوية.
________________
(1) لتوضيح رأى الأشعرى فى هذه المسألة:
انظر الإبانة عن أصول الديانة. له ص 50 - 53 واللمع فى الرد على أهل الزيغ والبدع، له أيضا ص 93 - 114.
(2) فى ب (أصحابنا).
(3) لتوضيح رأى المعتزلة فى هذه المسألة:
انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 509 - 518 والجزء الحادى عشر من كتاب المغنى له أيضا؛ حيث خصصه لهذا الموضوع (التكليف). والمحيط بالتكليف. له أيضا ص 11 - 32، 228 - 262.
(4) بكر ابن أخت عبد الواحد: هو بكر بن زياد الباهلى شيخ البكرية، انظر هامش ل 192/ ب.
(2/175)
________________________________________
وعند ذلك: فلا بد من التنبيه على مأخذ «1» كل فريق فيما ذهب إليه، وإبانة الحق من الباطل منه.
وقد احتج الأصحاب «2» على جواز التكليف بما لا يطاق بأن قالوا:
العبد مكلف بالفعل، قبل وجود الفعل، وكل تكليف بالفعل قبل وجود الفعل؛ فهو تكليف بما لا يطاق.
أما المقدمة الأولى: فبالإجماع.
وأما المقدمة الثانية: فبيانها، هو أن المكلف بالفعل قبل وجود الفعل لا قدرة له على الفعل، وكل من لا قدرة له على الفعل؛ فتكليفه بالفعل، تكليف بما لا يطاق.
أما المقدمة الأولى: فبيانها بما يأتى.
وأما الثانية: فمعلومة بالضرورة.
وإذا ثبت جواز التكليف بالقيام حالة كون الشخص قاعدا مثلا مع استحالته، جاز تكليف العاجز عن القيام، بالقيام: كالزمن، والتكليف بالمستحيل لذاته: كالجمع بين الضدين، ونحوه؛ ضرورة اشتراك الكل فى امتناع وقوع الفعل من المكلف حالة التكليف.
[اشكالات الخصوم]
/ فإن قيل: لا نسلم أن التكليف بالفعل قبل وجود الفعل؛ تكليف بما لا يطاق.
قولكم «3»: أنه لا قدرة على الفعل قبل وجود الفعل. لا نسلم ذلك. وما تذكرونه فى بيانه؛ فسيأتى الكلام عليه أيضا. ثم هو على خلاف قوله- تعالى- ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «4» أثبت الاستطاعة على الحج قبل وجود «5» الحج «5».
________________
(1) فى ب (مذهب).
(2) لتوضيح رأى الأصحاب فى هذه المسألة وردهم على خصومهم بالإضافة إلى ما تقدم انظر الإرشاد لإمام الحرمين ص 226 - 228 والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص 81 - 83 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 407 - 410.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي: انظر شرح طوالع الأنوار ص 197، 198 وشرح المواقف 2/ 400. 401 وشرح المقاصد 2/ 113 - 115.
(3) فى ب (قولهم).
(4) سورة آل عمران 3/ 97.
(5) فى ب (وجوده).
(2/176)
________________________________________
وكذلك قوله- تعالى-: وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ «1». أثبت الطاقة على الصوم، قبل الشروع فيه.
سلمنا أنه لا قدرة (له) «2» على الفعل قبل وجود الفعل؛ ولكن لا يلزم من جواز التكليف بالفعل قبل الفعل- مع كونه مقدورا حالة الفعل- جواز التكليف بما لا يطاق، وهو بالمستحيل لذاته، والمعجوز عنه. وبيان الفرق من ستة أوجه:
الأول: هو أن تكليف القاعد بالقيام لا يعد قبيحا. وتكليف الزمن بالقيام، والتكليف بالجمع بين الضدين قبيح فى العقل.
الثانى: هو أن القيام ممكن للقاعد، ومتصور الوجود. بخلاف قيام الزمن، والجمع بين الضدين.
الثالث: هو أن الزمن: به آفة مانعة من القيام، وهى الزمانة، بخلاف غير الزمن.
الرابع: هو أن المأمور بالقيام: إذا لم يكن ممنوعا منه، بزمانة، أو غيرها، وإن لم يكن قادرا على القيام؛ فهو قادر على ضده، وهو ما هو متلبس به، ولا كذلك المعجوز عنه، والمستحيل لذاته.
الخامس: هو أن الاقتدار على قيام القاعد ملازم لإرادته للقيام فى العادة، بخلاف المعجوز عنه، والمستحيل فعله.
السادس: هو «3» أن التكليف: طلب «3» ما فيه كلفة، والطلب يستدعى مطلوبا، وذلك المطلوب كما يشترط فيه أن يكون معدوما فى الأعيان حالة طلبه، ضرورة امتناع طلب الحاصل فيشترط فيه أن يكون مقصودا فى الذهن؛ فإن طلب ما لا تصور له فى الذهن محال.
وهذا الشرط متحقق فى طلب القيام من القاعد، وهو غير متحقق فى طلب الجمع بين الضدين؛ لاستحالة تصوره فى الذهن ولو تصور ذهنا؛ لما امتنع وقوعه عينا، وكذلك
________________
(1) سورة البقرة 2/ 184.
(2) ساقط من أ.
(3) فى ب (هو أن التكليف هو طلب)، وفى أ (أن التكليف طلب).
(2/177)
________________________________________
طلب القيام من الزمن مع زمانته. ومع هذه الفروق؛ فلا يلزم من تجويز التكليف فى الأصل المتفق عليه، جوازه فى محل النزاع.
والجواب:
قولهم: لا نسلم انتفاء القدرة على الفعل قبل الفعل.
قلنا: سيأتى/ بيانه «1»، وإبطال كل ما يتشككون به «1» عليه.
وما ذكروه من الاستدلال بالآيتين؛ فحاصله يرجع إلى التمسك بالظواهر المحتملة التأويل فى مسائل القطع؛ فلا تقبل.
وبيان قبولها للتأويل:
أما الآية الأولى: فالاستطاعة وإن احتمل حملها على القدرة وكانت ظاهرة فيه «2»، غير أنه «2» محمول على ما نقله الأئمة عن النبي عليه السلام من تفسيره الاستطاعة بالزاد، والراحلة.
ولهذا لا «3» يجب الحج «3» على من لا قدرة له على الحركة: كالزمن إذا كان واجدا للزاد، والراحلة، ومن يقوم بإركابه، وإنزاله.
وأما الآية الأخرى: فيحتمل أن يكون المراد من الطاقة الصحة: وهى ما يتأتى معها خلق القدرة المقارنة للفعل عادة وبتقدير إرادته، ولا مانع منه.
وإن سلمنا امتناع حمله على هذا المحمل؛ لكنه يحتمل أن يكون الضمير فى قوله- تعالى-: يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ راجعا إلى الفداء. ويكون تقدير الكلام. وعلى الذين يطيقون الفداء فدية، ويكون معنى طاقة الفداء ملك ما يفتدى به؛ والفداء وإن لم يكن مذكورا فى الآية غير أنه يجوز عود الضمير إلى ما ليس بمذكور؛ إذا كان فى الكلام ما يدل عليه كما فى قوله- تعالى-: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «4» الضمير فى عليها عائد على الأرض،
________________
(1) فى ب (ابطاله وكل ما سيكون).
(2) فى ب (غير أنها).
(3) فى ب (يجب الحج). وفى أ (لا يجب).
(4) سورة الرحمن 55/ 26.
(2/178)
________________________________________
وإن لم تكن مذكورة. وقوله- تعالى-: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «1» فإن الضمير فى قوله (توارت) عائد الى الشمس مع عدم ذكرها. وقوله- تعالى-: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً «2». والضمير «3» فى قوله «3» (به) «4» عائد إلى الوادى الّذي (كانت) «4» تطؤه الخيل وإن لم يكن مذكورا.
وأما الفرق الأول: فحاصله «5» راجع إلى التقبيح والتحسين العقلى، وقد سبق إبطاله «5».
وأما الفرق الثانى: فلا نسلم أن القيام فى حق القاعد ممكن فى حالة قعوده. وقبل خلق القدرة عليه، والتكليف متحقق قبل خلق القدرة عليه؛ فيكون تكليفا بما ليس بممكن كما فى العاجز، والتكليف بالمحال. وتحقق الإمكان بتقدير خلق القدرة المقارنة للفعل لا يخرج الفعل قبل خلق القدرة عن كون التكليف به تكليفا بما لا يطاق، وإلا لما كان تكليف العاجز عن القيام بالقيام؛ تكليفا بما لا يطاق؛ لإمكان إزالة المانع، وخلق القدرة له عليه.
/ وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الفرق الثالث أيضا.
وأما الفرق الرابع: فمندفع أيضا؛ فإن القدرة على ضد الفعل المكلف به لا يوجب القدرة على نفس ذلك الفعل. وإذا لم يكن الفعل المكلف به حالة التكليف به مقدورا؛ فهو تكليف بما لا يطاق.
ولهذا كان التكليف بالحركة إلى جهة السماء صاعدا فى حق الآدمى تكليفا بما لا يطاق بالإجماع؛ حيث لم يكن ذلك مقدورا له، وإن كان قادرا عندهم على الضد: وهو التحرك إلى جهة أخرى على وجه الأرض.
وأما الفرق الخامس: فباطل أيضا؛ فإن ملازمة الاقتدار لإرادة الفعل، فى حق غير العاجز، لا يخرج الفعل عن كونه معجوزا عنه، قبل خلق القدرة عليه، كما سبق.
________________
(1) سورة ص 38/ 32.
(2) سورة العاديات 100/ 4.
(3) فى ب (فالضمير فى).
(4) ساقط من أ.
(5) فى ب (يرجع إلى التحسين والتقبيح العقليين وقد أبطلناه).
(2/179)
________________________________________
وأما الفرق السادس: فقد أجاب عنه بعض أئمتنا: أن التكليف ينقسم إلى: تكليف طلب واستدعاء للفعل، وإلى تكليف تعجيز وإعلام بحلول العقاب.
وعلى هذا فما ورد التكليف به وهو ممكن؛ فهو تكليف اقتضاء وطلب، وذلك «1» هو «1» الّذي يستدعى تصور «2» المطلوب فى نفس الطالب. ويشترط فهمه للمطلوب منه.
وما ورد التكليف به وهو محال لذاته: كالجمع بين الضدين، وتكليف الزمن بالقيام؛ فالمراد به التكليف بالاعتبار الثانى. وليس بطلب؛ فلا يستدعى تصور المطلوب فى نفس الطالب.
وهو بعيد: فإنه إما أن يعترف بأن التكليف بالفعل قبل خلق القدرة عليه ممكن، أو ليس بممكن، وإن «3» قال إنه ممكن مع انتفاء القدرة عليه؛ ففاسد لما سبق. وإن اعترف بعدم الإمكان؛ فيلزم منه امتناع ورود التكليف بمعنى الطلب، والاقتضاء مطلقا؛ وهو خلاف إجماع الأمة.
والجواب «4» فى ذلك أن يقال:
قد «5» بينا أن طلب القيام من القاعد، مع عدم القدرة عليه؛ كطلبه من العاجز.
وعند ذلك: فإما أن يكون القيام المطلوب من العاجز متصورا فى نفس الطالب، وإما أن لا يكون متصورا.
فإن كان متصورا؛ فقد بطل الفرق.
وإن لم يكن متصورا؛ فهو أيضا غير متصور مع عدم القدرة.
ويلزم من ذلك: إما الاستواء فى جواز التكليف، أو فى عدمه. والاستواء فى عدم جواز التكليف محال، ضرورة الاتفاق على «6» جواز تكليف القاعد/ الّذي ليس عاجزا بالقيام.
فلم يبق إلا الاستواء فى جواز التكليف.
________________
(1) فى ب (و هو).
(2) فى ب (حصول).
(3) فى ب (فإن).
(4) فى ب (و الحق).
(5) فى ب (إنا قد).
(6) فى ب (فى).
(2/180)
________________________________________
[حجة أخرى لبعض الأصحاب]
وقد تمسك بعض أصحابنا: فى جواز التكليف بما لا يطاق بقوله- تعالى-: رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ «1». ووجه الاحتجاج به أنهم سألوا دفع التكليف بما لا يطاق، ولو كان ذلك محالا فى نفسه؛ لكان مندفعا بنفسه من غير حاجة إلى السؤال فى دفعه؛ فحيث سألوا دفعه دل على كونه جائزا.
[قد يرد عليها أسئلة]
فإن قيل: لا نسلم أن الآية ظاهرة فى سؤال «2» دفع «2» التكليف بالمحال؛ فإنها إنما تكون ظاهرة فيه أن لو كان التكليف بالمحال ممكنا؛ لأنه إذا لم يكن ممكنا؛ فيكون مندفعا بنفسه كما ذكرتموه ولا حاجة إلى سؤال دفعه.
وعند ذلك: فيتوقف إمكان التكليف بالمحال على كون الآية ظاهرة فيه، ويتوقف ظهورها فيه على كونه ممكنا؛ وهو دور ممتنع.
سلمنا أنها ظاهرة فى دفع التكليف بالمحال؛ ولكن يحتمل أن يكون المراد إنما هو دفع ما فيه كلفة، ومشقة على النفس. ولهذا يصح أن يقال لمن كلف عبده ما شق عليه مشقة مفضية إلى هلاكه، كلفه ما لا طاقة له به. ويدل عليه أول الآية وهو قوله- تعالى-: رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا «3» والمراد بالإصر «4»: ما فيه ثقل ومشقة، هكذا قال أهل اللغة.
سلمنا أن المراد به تكليف المحال؛ ولكن ليس فيه ما يدل على جواز التكليف بالمحال؛ إذ هو حكاية حال الداعين، ولا حجة فى قولهم، ولو صرحوا بالجواز.
سلمنا صحة الاحتجاج بقولهم؛ ولكن لا يخلو: إما أن يقولوا بأن كل تكليف تكليف بما لا يطاق، أو بعض التكاليف، دون البعض.
فإن كان الأول: فالسؤال يكون لدفع كل تكليف، ولا فائدة فى «5» التخصيص «6» بما لا يطاق.
وإن كان الثانى: فالتكليف: إما تكليف عاجز، أو غير عاجز، فما يطاق إما تكليف العاجز، أو من ليس بعاجز.
________________
(1) سورة البقرة 2/ 286.
(2) فى ب (دفع سؤال).
(3) سورة البقرة 2/ 286.
(4) فى ب (من الإصر).
(5) فى ب (به).
(6) فى ب (للتخصيص).
(2/181)
________________________________________
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا لكان «1» ما لا يطاق: هو تكليف من ليس بعاجز؛ ولا يخفى أن العكس أولى.
وإن كان الثانى: فقد بطل ما ذكرتموه من الدليل العقلى.
[الجواب عنها]
والجواب عن السؤال الأول: هو أن الآية بوضعها لغة تدل على طلب دفع التكليف بما لا يطاق؛ ولهذا يتبادر فهم ذلك من الآية عند إطلاقها إلى الفهم./ وإن كنا غافلين عن كون التكليف بما لا يطاق ممكنا.
وعند ذلك: فيلزم القول بالإمكان ضرورة حمل اللفظ على ظاهره. فإنه لو لم يكن ممكنا؛ لما كان للسؤال فائدة، على ما سبق، إلا بطريق التأويل؛ وهو خلاف الأصل.
وعن السؤال الثانى: أنه ترك للظاهر من غير دليل، وليس فى أول الآية ما يدل على مخالفة الظاهر فى آخرها؛ إذ لا إحالة فى طلب دفع ما فيه ثقل ومشقة، وطلب دفع ما لا يطاق فى نفسه؛ بل ربما كان ذلك مما يوجب حمل آخر الآية على ظاهره تكثيرا لفائدة التأسيس؛ إذ هى أولى من التأكيد.
وعن الثالث: هو أن الرب- تعالى- إنما ذكر ذلك فى معرض التقرير لهم على ما قالوه، والتحريض والندب إلى مثل هذه الدعوات باتفاق المفسرين؛ فيكون الاحتجاج بذلك لا بقولهم فقط.
وعن الرابع: أنا نقول: كل «2» تكليف، فإنه عندنا فى الحقيقة تكليف بما لا يطاق على ما أسلفناه. غير أن العرف قد خصص التكليف بما لا يطاق بتكليف المحال لذاته:
كالجمع بين الضدين، وتكليف العاجز عن القيام بالقيام، ونحوه دون التكليف بالفعل قبل خلق القدرة عليه؛ والشارع إنما يخاطب أهل العرف بعرفهم غالبا.
وعند ذلك: فيجب حمل اللفظ على ما لا يطاق عرفا، لا عقلا؛ لكن (مثل) «3» هذا الظاهر إنما ينفع فى المسائل التى يقتنع فيها بالظهور دون القطع، وما نحن فيه ليس كذلك.
________________
(1) فى ب (و إن كان).
(2) فى ب (إن كل).
(3) فى أ (ما مثل).
(2/182)
________________________________________
وربما احتجوا بقوله- تعالى-: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ويُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ «1». وهو دليل التكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة له «2».
وهو أضعف من الأول؛ فإنه مع إمكان حمل نفى الاستطاعة على نفى السهولة، والانقياد من غير حرج ومشقة؛ فليس فيه ما يدل على تكليفهم بالسجود حتى يقال به مع عدم الاستطاعة؛ إذ الدعاء فى الدار الآخرة إلى السجود ليس بتكليف، لانعقاد الإجماع على أن الدار الآخرة ليست دار تكليف؛ بل دار مجازاة، ومقابلة على ما فعل فى الدنيا.
وإذا ثبت أن كل تكليف؛ فإنه قبل خلق القدرة عليه تكليف بما لا يطاق فلا معنى لمخالفة من وافق من أصحابنا على ذلك فى كون التكليف بما لا يطاق واقعا؛ فإن التكليف قبل خلق القدرة متفق على وقوعه/ بين الأمة إلا أن يريد به التكليف بالمحال الّذي لا يتصور تعلق القدرة القديمة، ولا الحادثة به: كالجمع بين الضدين، ونحوه- فهذا هو موضع الاختلاف فى الوقوع.
وقد استدل من قال بوقوع التكليف بالجمع بين الضدين، بتكليف أبى لهب بتصديق النبي عليه الصلاة والسلام فى أخباره. ومن أخبار النبي عليه السلام أن أبا لهب لا يصدقه لإخبار الله- تعالى- لنبيه بذلك؛ فقد كلفه بأن يصدقه فى إخباره بأنه لا يصدقه؛ فتكليفه بالتصديق «3» له «3»، تكليف له بأن لا يصدقه؛ وهو تكليف بالجمع بين الضدين.
واستدل أيضا بقوله- تعالى-: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «4» أخبر أنه لا يؤمن غير من (آمن) «5» مع أنهم كانوا مكلفين بتصديقه فيما يخبر به «6»، ومن ضرورة ذلك تكليفهم بأن لا يصدقوه تصديقا «7» له فى خبره: أنهم لا يؤمنون.
________________
(1) سورة القلم 68/ 42.
(2) فى ب (عليه).
(3) فى ب (بتصديقه).
(4) سورة هود 11/ 36.
(5) فى أ (لم يؤمن).
(6) فى ب (به عليه).
(7) فى ب (لأنه تصديق).
(2/183)
________________________________________
وللخصم أن يقول:
لا نسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن أبا لهب لا يؤمن قطعا. وغاية ما ورد فيه قوله- تعالى-: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ «1»، وليس فى ذلك ما يدل على الإخبار بمعنى تصديقه للنبى عليه الصلاة والسلام قطعا؛ فإنه لا يمتنع تعذيب المؤمن عندكم، وبتقدير امتناع ذلك أمكن أن يكون قوله: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ بتقدير أن لا يؤمن.
وكذلك أيضا قوله- تعالى-: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «2» بتقدير أن لا يهديهم الله- تعالى- ويبعث دواعيهم إلى الايمان.
ثم وإن سلمنا وجود الإخبار بعدم الإيمان والتصديق فى الآيتين قطعا؛ ولكن لا نسلم تصور تكليفهم بأن يصدقوه بأن لا يصدقوه- وهذا مما اتفق عليه المعتزلة، ومن قال بامتناع وقوع التكليف بالجمع بين الضدين.
وأما من قال من الثنوية: بامتناع جواز التكليف بخلاف معلوم الله- تعالى- فمستندهم ليس إلا تقبيح العقل له وقد أبطلناه.
************
________________
(1) سورة المسد 111/ 3.
(2) سورة هود 11/ 36.
(2/184)
________________________________________
«المسألة السادسة» فى أنه هل لله- تعالى- على من علم إصراره على الكفر نعمة، أم لا؟ وفى معنى الحمد، والشكر، والتعظيم
ولا نعرف خلافا بين أصحابنا فى أن الله- تعالى- ليس له نعمة دينية على من علم الله- تعالى- إصراره على الكفر.
وأما النعم الدنيوية: فقد اختلف فيها جواب الشيخ أبى الحسن الأشعرى/ فأثبتها تارة، ونفاها أخرى.
ووافقه على كل واحد من القولين جمع كثير من أصحابه «1». وميل القاضى أبى بكر إلى الإثبات.
وأجمعت المعتزلة: على أن الله- تعالى- أنعم على الكفار بالنعم الدينية، والدنيوية «2».
ونحن الآن نذكر «3» حجة كل فريق، وننبه على ما فيها. ثم نذكر ما هو المختار إن شاء الله- تعالى-.
أما من نفى النعمة «4» الدينية، والدنيوية:
فقد احتج على ذلك بأن النعمة هى اللذة الخالصة، عما يلزمها من الضرر المساوى، أو الراجح فى العاجل، والآجل؛ وذلك غير متحقق فى حق من علم الله- تعالى- أنه يموت على كفره؛ فإن ما أمده به من أسباب الترفه، والتنعم، وإزاحة العلل وخلق الشهوات، والتمكن من إدراك اللذات، والمرادات، ونصب الأدلة، والآيات الدالة على الهداية، والحث على ذلك ببعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات القاطعة، وتكميل العقل وآلة الإدراك؛ لتحصيل السعادة الأخروية، وإن كانت على صور النعم؛ فهى نقم على الحقيقة؛ وليست نعما.
وبيانه: هو أن ما يلزمها من الإضرار راجح عليها، وما يكون الإضرار اللازم منه راجحا عليه، لا يكون نعمة.
________________
(1) فى ب (أصحابنا).
(2) انظر الأصول الخمسة ص 525، 526.
(3) فى ب (نثبت).
(4) فى ب (النعم).
(2/185)
________________________________________
وبيان «1» المقدمة الأولى بنصوص خمسة:
الأول: قوله- تعالى-: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ «2»
ووجه الاحتجاج به أنه جعل ما يقدره الكفار نعمة استدراجا، مفضيا إلى الهلكة، وفى معناه قوله- تعالى-: أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ «3»
الثانى: قوله- تعالى-: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «4»
الثالث: قوله- تعالى-: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ ولا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «5»
الرابع: قوله- تعالى-: ومَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ «6»
الخامس: قوله- تعالى-: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ «7»
ووجه الاحتجاج به. أن الابتلاء بصورة الإكرام والإنعام، لتعرضه للشكر، والقيام بموجب ما أنعم عليه به. فإذا قابله بالكفر كان ذلك سببا لهلاكه؛ ولذلك رد عليه ما توهمه من الإكرام والإنعام بقوله/ تعالى: كَلَّا؛ فقد ثبت أن ما يلزم من صور النعم عليهم من الإضرار راجح.
وبيان المقدمة الثانية:
وهى أن كل ما يكون الإضرار اللازم عنه راجحا؛ فلا يكون نعمة- وإن كان ملتذا به، ومتصورا بصور النعم؛ بل هو نقمة؛ فإن من قدم بين يدى إنسان طعاما لذيذا مشتهى، وأذن له فى أكله، ومكنه منه، وهو مسموم، والمضيف يعلم كون الطعام
________________
(1) فى ب (بيان).
(2) سورة الأعراف 7/ 182، 183.
(3) سورة المؤمنون 23/ 55، 56.
(4) سورة آل عمران 3/ 178.
(5) سورة التوبة 9/ 55.
(6) سورة البقرة 2/ 126.
(7) سورة الفجر 89/ 15.
(2/186)
________________________________________
مسموما، وأنه يفضى إلى هلاكه، والآكل جاهل بكونه مسموما؛ فإنه لا يعد ذلك إنعاما عليه؛ بل إهلاكا له، منقمة منه عليه، وإن حصل به فى الحالة الراهنة لذة، وقضاء شهوة؛ فكذلك فيما نحن فيه. وهذا أمر ظاهر لا مراء فيه.
وربما احتجوا بقوله- تعالى-: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ «1»؛ فإنه يدل ظاهرا على أنه قصد بخلق هذه الطيبات «2» الإنعام على المؤمنين دون الكافرين.
وأما من أثبت النعم الدينية، والدنيوية: فقد قال:
أما النعم الدينية:
فلا يخفى أن الله- تعالى- أنعم على المؤمنين بخلق العقول المدركة، ونصب الأدلة على وحدانيته، وما يليق (به) «3» وما لا يليق. وبعثه الرسل، والحث على سلوك طرق «4» الهداية، وتجنب مسالك الضلالة، وتهيئة أسباب النجاة، والتمكين من ذلك. وأن هذه الأمور من أجل النعم المطلوبة، والتفضلات المرغوبة، وأنه قد أنعم بها على الكفار حسب ما أنعم بها على المؤمنين. غير أن الكفار أساءوا إلى أنفسهم، وأهملوا وجوه مصالحهم، ورفع مضارهم؛ بتصامهم عن الإصغاء إلى سماع إنذار الرسل، وتعاميهم عن النظر فى الأدلة، والآيات الدالة على ما ينجيهم من الهلاك، ويوصلهم إلى النعيم المقيم؛ وذلك لا يخرج ما أنعم الله به عليهم من الأمور المذكورة عن أن يكون نعمة؛ وذلك كما لو قدم إنسان طعاما شهيا نافعا غير مضر بين يدى مضطر فى مخمصة، ومكنه منه، وقال كل منه؛ ففيه نجاتك من الهلكة؛ فإنه يعد نعمة، وإن امتنع المضطر من الأكل حتى هلك بسوء صنعه.
وأما النعم الدنيوية:
فلا يخفى أن ما الكفار فيه من تحصيل/ اللذات العاجلة من المطعومات، والمشروبات، والمنكوحات، وغير ذلك من أنواع المرادات؛ مخلوقة لله- تعالى- وقد مكنهم منها، وأزاح العلل المانعة عنها من غير سابقة إيجاب عليه، وأن
________________
(1) سورة الأعراف 7/ 32.
(2) فى ب (الكلمات).
(3) ساقط من أ.
(4) فى ب (طريق).
(2/187)
________________________________________
ذلك من أجلّ النعم. وغايته أنهم كفروا، وسلكوا طريق الضلال المؤدى إلى الهلاك، وقابلوا الإحسان بالإساءة، والنعمة بالكفر الموجب للعقاب؛ وذلك لا يخرج ما فعله فى حقهم ابتداء عن كونه نعمة وهذا كما أنه لو ابتدأ إنسان بالإحسان، والإنعام على غيره.
ثم عاقبه بجنايته عليه؛ فإن العقوبة على الجناية، لا تخرج الفعل الأول عن كونه نعمة وإحسانا.
هذا ما يخص كل واحدة من النعمتين من الدلالة العقلية.
وأما الدلالة السمعية: فمنها ما يدل على وجود النعمة، غير مخصص بإحدى النعمتين دون الأخرى، ومنها ما يدل على خصوص إحدى النعمتين.
أما الدلالة الأولى: فمن جهة الكتاب، والإجماع.
أما من جهة الكتاب: فآيتان.
الأولى: قوله- تعالى-: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها «1».
والثانية: قوله- تعالى-: فى قصة قارون: وأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «2».
وأما الإجماع: فهو أن الأمة متفقة «3» على أن الكفار تاركون لشكر نعم الله- تعالى- عليهم.
وأما ما يدل على خصوص نعمة الدنيا من جهة الكتاب: فقوله- تعالى- فى حق آل فرعون: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وعُيُونٍ* وزُرُوعٍ ومَقامٍ كَرِيمٍ* ونَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ «4». وقوله- تعالى- لثمود: واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ «5». إلى غير ذلك من الآيات.
ثم اعترض «6» هذا القائل على الحجة الأولى وقال «6»:
________________
(1) سورة النحل 16/ 83.
(2) سورة القصص 28/ 77.
(3) فى ب (معتقدة).
(4) سورة الدخان 44/ 25 - 27.
(5) سورة الأعراف 7/ 74.
(6) فى ب (اعترضوا على الحجة الأولى فقالوا).
(2/188)
________________________________________
أما قوله- تعالى-: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ «1» فقد قال أهل التفسير فيها: الاستدراج: أن ينعم على العبد بنعمة، ولا يلهم الشكر عليها، أو يقضى عليه بنقمة، ولا يلهم الصبر عليها؛ وذلك يفضى إلى ثبوت النعمة لا نفيها.
وقوله- تعالى-: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «2» فالمراد من الإملاء الإبقاء، وازدياد الإثم بسبب ما يقترفون من الجنايات، ويرتكبون من المحظورات، وليس فيه ما يدل على نفى النعمة فيما قررناه من النعم الدينية، ولا الدنيوية.
وقوله «3» - تعالى «3» -: فَلا/ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ ولا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «4». فليس فيه دلالة أيضا؛ فإن الأموال والبنين ليست سببا للعذاب، وإلا كانت «5» سببا له فى حق الأنبياء، والأولياء؛ وليس كذلك؛ بل السبب لذلك. إنما هو ترك الشكر عليها، وذلك يقرر كونها نعما. ويدل عليه قوله- تعالى-: الْمالُ والْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا والْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ «6». أثبت كون الباقيات الصالحات خيرا منها؛ وذلك يستدعى الاشتراك فى أصل الخير، وأصل الخير نعمة، لا نقمة.
وقوله- تعالى-: ومَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ «7» ودليل إبقائه قليلا، وأن مأواه إلى النار، وليس فيه ما يدل على نفى ما ذكرناه من النعم، ولا إثباتها.
وقوله- تعالى-: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ «8» الآية؛ فهى صريحة فى الإكرام، والنعمة.
والقول بأن الابتلاء بالإكرام، والإنعام؛ ليعرضه للشكر بما أنعم عليه حتى إذا تركه عوقب، ففيه ما يوجب كون المتروك شكره نعمة. وإلا لما استحق الشكر عليه، ولما عوقب بتركه.
________________
(1) سورة الأعراف 7/ 182.
(2) سورة آل عمران 3/ 178.
(3) فى ب (فقوله).
(4) سورة التوبة 9/ 55.
(5) فى ب (لكانت).
(6) سورة الكهف 18/ 46.
(7) سورة البقرة 2/ 126.
(8) سورة الفجر 89/ 15.
(2/189)
________________________________________
والقول بأن كل ما يكون الإضرار اللازم له زائدا عليه، لا يكون نعمة. فإنما يلزم ذلك أن لو كان الإضرار لازما من النعمة المفروضة؛ وليس كذلك؛ بل إنما هو لازم من الكفر، ومقابلة الإحسان بالإساءة، والإنعام بالكفر على ما بيناه.
وإن سلمنا لزومه عن النعمة المفروضة؛ فلزوم القدر الراجح عن النعمة المرجوحة لا يخرجها عن حقيقتها، وعن كونها نعمة، كما لا يخرجها عن كونها لذة.
وأما الاستشهاد بالطعام المسموم: فغير مناظر لما نحن فيه؛ إذ الآكل غير عالم بمخالطة السم للطعام، ولا هو متميز فى علمه عن الطعام، ولو كان كذلك لما تناوله، وتناوله سبب للهلاك بخلاف ما نحن فيه؛ فإن النعم متميزة عن الأسباب الموجبة للهلاك، ولا النعم سبب الهلاك؛ فلا يلزم من كون ذلك ليس نعمة أن لا يكون ما نحن فيه نعمة.
وقوله- تعالى-: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ «1». الآية. دليل «2» على اختصاص من آمن فى الدنيا بالطيبات يوم القيامة، وليس فيه «3» ما يدل على أنه قصد الإنعام بخلقها فى الدنيا على المؤمنين دون الكفار.
وأما من فرق بين النعمة الدينية، والدنيوية، حتى/ أنه نفى النعمة الدينية دون الدنيوية فقال: النعمة الدنيوية هى اللذة الحاصلة فيها؛ وذلك متحقق لا مراء فيه، كما تقدم تقريره.
وأما النعمة الدينية: فهى الهدى. والهدى إنما يتحقق بشرح صدورهم على ما قال- تعالى-: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «4» ولم يتحقق ذلك؛ فلا يكون نعمة فى حقهم.
والحق فى هذه المسألة أنها اجتهادية، وليست قطعية؛ ولعل حاصل الخلاف فيها لا يرجع إلى غير التسمية.
________________
(1) سورة الأعراف 7/ 32.
(2) فى ب (فدليل).
(3) فى ب (فيها).
(4) سورة الأنعام 6/ 125.
(2/190)
________________________________________
وذلك أن من نفى النعم الدينية، والدنيوية، لا ينكر حصول الملاذ فى الدنيا وتحقيق أسباب الهداية، غير أنه لا يسميها نعما؛ لما يعقبها من الهلاك، والنقم.
ومن أثبت كونها نعما لا ينازع فى تعقبها الهلاك لها، غير أنه سماها نعما لصورها، ولا حرج فى الاصطلاح اللفظى بعد فهم غور المعنى.
وقد جرت العادة بتعقيب الكلام فى معنى النعمة بتحقيق معنى الحمد، والشكر، والتعظيم.
أما الحمد:
فقد قيل هو الشكر. ومنه يقال: الحمد لله شكرا، فيجعل الشكر مصدر الحمد.
وقيل: الحمد هو الرضا. ومنه يقال: الحمد لله حق حمده. أى حق رضاه.
والحق: أن الحمد المطلق أعم من الشكر؛ فإنه يتناول شكر النعمة، والثناء على الخصال الحميدة، والصفات الكمالية. ولهذا يقال: حمدت فلانا على نعمته، وحمدته «1» على عمله، وشجاعته «1». والشكر مخصص «2» بالنعمة.
وأما «3» التعظيم «3»:
فإما أن يكون من الخالق لغيره، أو من المخلوق لغيره.
فإن كان من الخالق لغيره: فقد يطلق ويراد به حمده له بطاعته. وقد يراد به إرادة منفعته.
وإن كان من المخلوق لغيره: فقد يطلق أيضا ويراد به معنى فى النفس زائد على القول، وعلى العلم بكون المنعم منعما، وإليه ميل أبى هاشم.
وقد يراد به المدح بالقول، وما يقوم مقامه من الأفعال: كالقيام له، وتقديم نعله، والمشى بين يديه، ونحوه، وإليه ميل كثير من المعتزلة.
وقال عباد: هو العلم بحاله، والمميز بينه وبين المنحط عن رتبته.
________________
(1) فى ب (و حمدت على علمه وشكره وشجاعته).
(2) فى ب (مختص).
(3) فى ب (و التعظيم).
(2/191)
________________________________________
والحق أنه لا مراء فى اختلاف هذه المعانى. وإنما النزاع فى إطلاق اسم التعظيم عليها، والمتبع فى ذلك كله التوقيف.
وعلى هذا فشكر النعمة فى اللغة: هو إظهار النعمة.
وأما فى اصطلاح الأصوليين: فقال بعضهم: هو الثناء/ على المحسن بذكر إحسانه، وبهذا الاعتبار يجوز أن يسمى الرب- تعالى- شاكرا.
والّذي ذهب إليه أئمتنا: أن شكر المنعم: هو قول فى القلب، واعتراف بالنعمة على جهة الخضوع والتعظيم، ثم ما وجب من ذلك؛ فإنما يجب بالشرع على ما تقدم، وكذلك التعبرة عنه بالأقوال وغيرها.
وعلى هذا يكون الحكم فى وجوب التعظيم أيضا.
************
(2/192)
________________________________________
«المسألة السابعة» فى معنى الهداية، والإضلال «1».
أما الهداية، والإضلال؛ وإن أطلقا بإزاء محامل على ما سيأتى.
غير أن الهداية: عند أئمتنا حقيقة فى خلق الهدى، وهو الإيمان، ومجاز فيما سواه.
وربما ذهب بعض أصحابنا: إلى أنها حقيقة أيضا فى الدعاء، وشرع سبيل الرشد، والزجر عن طريق الغى، مع كونها حقيقة فى خلق الهدى؛ فتكون الهداية عنده مشتركة بين المعنيين حقيقة، والاعتماد على الأول.
وأما الإضلال: فهو حقيقة فى خلق الضلال، ومجاز فيما عداه.
وذهبت المعتزلة: إلى أن الهداية والإضلال، حقيقة فيما وراء هذين المحملين على ما يأتى تحقيقه.
وقد احتج الأصحاب بالنصوص، والإطلاق العرفى.
أما النصوص:
فمنها: قوله- تعالى-: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ «2» الآية.
وأيضا: قوله- تعالى-: واللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «3».
وقوله- تعالى-: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ومَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «4».
________________
(1) لتوضيح مذهب أهل الحق الأشاعرة فى هذه المسألة بالإضافة إلى ما ورد هنا: انظر الإبانة للأشعرى ص 57 - 62 وأصول الدين للبغدادى ص 140 - 142 والإرشاد لإمام الحرمين ص 210 - 213.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي:
شرح المواقف 2/ 388، 389 وشرح المقاصد 2/ 117.
(2) سورة الأنعام 6/ 125.
(3) سورة يونس 10/ 25.
(4) سورة الأعراف 7/ 178.
(2/193)
________________________________________
وقوله- تعالى-: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1».
وهذه النصوص ظاهرة فى الهداية والإضلال، بالاعتبار المذكور؛ إذ هو المتبادر إلى الفهم منها «2».
وأما الإطلاق العرفى:
فهو أنه لو قال القائل: فلان هداه الله؛ فإنه لا يتبادر إلى الفهم منه عند إطلاقه غير خلق الهدى، وكذلك إذا قال: أضله الله. لا يتبادر. منه إلى الفهم غير خلق الضلال.
[اشكالات الخصوم]
فإن قيل: لا نسلم أن الهداية والإضلال، حقيقة فيما ذكرتموه، والمراد بالنصوص/ إنما هو الهداية بمعنى الإرشاد إلى طرق «3» الجنان. ومنه قوله- تعالى- فى حق الشهداء فى الجهاد: والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ «4».
قال أهل التفسير: أى إلى طرق الجنان، وهو متعذر الحمل «5» على خلق الإيمان بعد الموت.
ومنه قوله- تعالى-: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ «6»: أى يدلهم على «7» الجنان بسبب إيمانهم، والإضلال فى مقابلته؛ وهو تعمية الطرق عليهم.
سلمنا تعذر الحمل على هذا المعنى؛ ولكن أمكن حمل الهداية على الدعاء، وشرع سبيل الرشد، والزجر عن طريق الغى.
ومنه قوله- تعالى-: وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «8».
وليس المراد منه خلق الهدى؛ فإن من خلق له الهدى لا يستحب العمى عليه؛ بل المراد بقوله: فهديناهم؛ أى دعوناهم، وشرعنا لهم سبيل الرشد، والإضلال فى مقابلته.
سلمنا تعذر الحمل عليه؛ ولكن ما المانع من حمل لفظ الهداية على تسمية الرب- تعالى- للمؤمن مقتديا، والإضلال فى مقابلته؟
________________
(1) سورة القصص 28/ 56.
(2) فى ب (هاهنا).
(3) فى ب (طريق).
(4) سورة محمد 47/ 4، 5.
(5) فى ب (لا يحمل).
(6) سورة يونس 10/ 9.
(7) فى ب (الى).
(8) سورة فصلت 41/ 17.
(2/194)
________________________________________
ومنه يقال: ضللت فلانا. إذا نسبته إلى الضلال، ووصفته به.
وربما حمل بعضهم الإضلال على نفس المعاقبة فى العاجل، والآجل، تمسكا بقوله- تعالى-: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ «1».
والجواب:
أما منع كون الهداية والإضلال، حقيقة فيما ذكرناه؛ فجوابه بما ذكرناه من الإطلاق النصيّ، والعرفى.
وما ذكروه من الاحتمال الأول. فقد قال بعض الأصحاب فيه. أنه يمتنع حمل النصوص المذكورة عليه لثلاثة أوجه.
الأول: أنها دالة على الهداية بالإضلال فى الحالة الناجزة. وما قيل من الاحتمال؛ فلا يمكن إلا فى الدار الآخرة، وفيه نفى الهداية «2» والإضلال فى الدنيا، مع اتفاق الأمة على خلافه.
الثانى: هو أن الهداية والإضلال فى غالب «3» النصوص المذكورة، مقيدان بالمشيئة والاختيار، وهو متعذر فى الاحتمال المذكور؛ ضرورة وجوبه فى حق المؤمن «4» غير معلق بالاختيار على أصل المتأول.
الثالث: هو أن قوله- تعالى-: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «5» نصّ «6» فى وصف الهداية الواقعة فى الدنيا.
وهذه الأجوبة بعيدة عن التحصيل:
أما الأول: فلأنه ليس فى النصوص المذكورة ما يدل على تنجيز الهداية والإضلال فى الدنيا.
________________
(1) سورة القمر 54/ 47.
(2) فى ب (الهدى).
(3) فى ب (مثالنا).
(4) فى ب (المرض غير متعلق).
(5) سورة الأنعام 6/ 125.
(6) من أول (نص فى وصف الهداية ... إلى دليل) الموجود بدلها فى ب (و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد فى السماء، الآية فدليل).
(2/195)
________________________________________
أما قوله/- تعالى-: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ دليل على تنجيز شرح الصدر، وجعله ضيقا حرجا فى الدنيا؛ وليس فيه ما يدل على تنجيز الهداية، والإضلال؛ إذ أمكن أن يكون المراد من قوله- تعالى-: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ: أى فى الدار الآخرة يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فى الدنيا ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ فى الآخرة يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً فى الدنيا.
وقوله- تعالى-: واللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1». لا يمتنع أن يكون محمولا على الدعاء إلى دار السلام فى الدنيا، والهداية فى الأخرى «2»؛ إذ ليس فى اللفظ ما يدل على تخصيص الهداية بالدنيا لا من جهة اللفظ، ولا المعنى، وكذلك الكلام فيما بقى من النصوص.
وليس فى حمل النصوص على الهداية والإضلال- على ما تأوله الخصم أيضا- ما يوجب رفع الهداية، والإضلال فى الدنيا؛ لجواز استفادته من دليل آخر.
وأما الوجه الثانى: فإنما يلزم بتقدير أن يكون المتأول قائلا بإيجاب الهداية بالاعتبار المذكور، وإلا فلا.
وعلى تقدير أن يكون قائلا به؛ فلا يخرج بذلك عن الاختيار- وهو أن يكون ذلك بالقدرة، والمشيئة الأزلية- وإن كان لا بد من وقوعه. وإن كان لزوم الوقوع، أو لزوم عدمه مع كونه بالقدرة، والمشيئة- مما يخرج الرب- تعالى- عن كونه مختارا؛ للزم منه ذلك.
وإن حمل لفظ الهداية، والإضلال: على خلق الهدى، والضلال فى الدنيا أيضا.
وذلك لأنه لا يخلو: إما أن يكون وقوع ذلك معلوما لله- تعالى- أو عدمه.
فإن كان المعلوم هو الوقوع؛ فلا بد منه.
وإن كان المعلوم هو العدم؛ فلا بد منه؛ حتى لا يكون علم الله- تعالى- جهلا؛ وذلك يوجب خروج الرب- تعالى- عن كونه مختارا، مع أن الوقوع وعدم الوقوع بالقدرة، والمشيئة الأزلية؛ ولا محيص عنه.
________________
(1) سورة يونس 10/ 25.
(2) فى ب (الآخرة).
(2/196)
________________________________________
وأما الوجه الثالث: فقد سبق إبطاله فى إبطال الوجه الأول.
والأقرب فى ذلك أن يقال:
نحن لا ننكر صحة إطلاق لفظ الهداية والإضلال بالمعنى المذكور فيما ذكرناه من النصوص، وما ذكروه، غير أن النزاع فيما وراء ذلك؛ وهو أنه هل هو حقيقة؟ أو بطريق المجاز؟ وقد بينا جهة الحقيقة فيما ذكرناه من ضرورة تبادره إلى الفهم عند إطلاق اللفظ، بخلاف ما عداه؛ وهو/ أمارة الحقيقة؛ فإن الغالب إنما هو اشتهار اللفظ فى جهة الحقيقة دون جهة المجاز.
وأما الاحتمال الثانى:
فلا نسلم ورود لفظ الهداية بمعنى الدعاء. وقوله- تعالى-: وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ «1» الآية؛ فالمراد بها الهداية بمعنى خلق الهدى؛ فإنهم كانوا آمنوا لما رأوا الآية الباهرة، من ظهور الناقة من باطن الصخرة الجامدة وارتسموا بما رسمه لهم صالح، من قسمة الماء بين الناقة وبينهم، على ما قال- تعالى-: لَها شِرْبٌ ولَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ «2». ثم إنهم عادوا لما نهوا عنه، واستحبوا الضلالة على الهدى.
وإن سلمنا أن المراد من الآية ما ذكروه من الاحتمال، غير أنه يمتنع حمل بعض ما ذكرناه من النصوص عليه؛ لأنه أثبت الهداية، والإضلال، وجعلهما متقابلين حيث قال: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ «3». والشرح، والضيق متقابلان، والشرح ملازم للهداية، والضيق ملازم للإضلال؛ فالملزومان متقابلان.
والهداية بمعنى الدعاء، وشرع سبل الخيرات، لا تقابل الإضلال بالمعنى المذكور؛ لتصور اجتماعهما.
ثم: وإن سلمنا إمكان حمل ما ذكرناه من النصوص عليه. غير أنه لا بد له من دليل، ضرورة أن ما ذكرناه حقيقة على ما تقدم.
________________
(1) سورة فصلت 41/ 17.
(2) سورة الشعراء 26/ 155.
(3) سورة الأنعام 6/ 125.
(2/197)
________________________________________
وأما الاحتمال الثالث:
فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أنا لا نسلم صحة إطلاق الهداية، والإضلال على تسمية الشخص مهتديا ومضلا؛ فإنه لا يحسن أن يقال: هدى فلان لفلان؛ إذا سماه مهتديا، وكذا فى الإضلال.
وأيضا: فإنه لو جاز إطلاق الإضلال على تسمية الشخص مضلا؛ لجاز أن يقال للأنبياء (عليهم السلام) مضلون للكفرة؛ إذا سموهم بذلك؛ وهو غير سائغ فى الإطلاق.
الثانى: وإن سلمنا صحة الإطلاق بذلك؛ ولكن يمتنع حمل ما أوردناه من النصوص عليه لوجوه خمسة:
الأول: أن الرب- تعالى- إنما ذكر الهداية، والإضلال، وأسند كل واحد إلى مشيئته فى معرض التمدح، والاستعلاء. ولو كان المفهوم من ذلك محمولا على التسمية؛ لبطلت فائدة التخصيص بالتمدح.
الثانى: أنه لو كان المراد ما ذكروه؛ لما امتنع على «1» النبي عليه السلام الهداية «1» لمن شاء؛ لعدم امتناع التسمية عليه بذلك، وهو خلاف قوله- تعالى-: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ/ أَحْبَبْتَ «2».
الثالث: هو أن الله- تعالى- أخبر بتقدم شرح الصدر على من أراد هدايته، وضيقه على من أراد إضلاله؛ وذلك مما لا يتوقف عليه الهداية، والإضلال بمعنى التسمية.
الرابع: هو أن الأمة مجمعة على التضرع إلى الله- تعالى- بالهداية، وتجنب الإضلال مع حث الشرع، وندبه إلى ذلك، وفى حمل ذلك على مجرد التسمية بهت، وخروج عن تصرفات العقلاء.
الخامس: أنه بعيد عن الفهم. وما ذكرناه قريب؛ فيمتنع الحمل عليه إلا بدليل.
وبهذا الوجه الأخير يندفع ما ذكروه، من تأويل الضلال على نفس المعاقبة أيضا.
________________
(1) فى ب (من النبي صلى الله عليه وسلم).
(2) سورة القصص 28/ 56.
(2/198)
________________________________________
وعلى الجملة: فالبحث فى هذه المسألة، بحث عن أمر لغوى، لا معنوى والمستند فيها نفيا، وإثباتا؛ فظنى غير قطعى.
************
(2/199)
________________________________________
«المسألة الثامنة» «فى معنى الطبع، والختم، والأكنة»
وقد ورد الكتاب العزيز بالطبع، والختم، والأكنة على القلوب. قال الله- تعالى- بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ «1» الآية.
وقال- تعالى-: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ «2» الآية. وقال- تعالى-: وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ «3».
وقد أختلف المتكلمون فى مدلول هذه الألفاظ:
فذهب أهل «4» الحق:- إلى أنه عبارة عن خلق الضّلال فى القلوب.
وأما المعتزلة: فمختلفون على مذاهب سنبينها فى معرض الاعتراض والانفصال عنها إن شاء الله- تعالى.
ووجه الاحتجاج على مذهب أهل الحق: هو أن خلق الضّلال فى القلوب مانع من الإيمان، والهدى؛ بمعنى أنه يتعذر الجمع بينهما. والختم، والطبع، والأكنة، فى اللغة موانع على الحقيقة.
وإنما سميت بذلك: لكونها مانعة، وخلق الضّلال فى القلوب مانع من الهدى، فصح تسميته بهذه الأسماء؛ إذ الأصل إنما هو الاطراد. اللهم إلا أن يمنع مانع، والأصل عدمه؛ فمن ادعاه يحتاج إلى البيان.
فإن قيل: إنما يتعين حمله على ما ذكرتموه أن لو تعين، وليس كذلك؛ بل أمكن أن نحمل هذه الألفاظ على معنى الوسم؛ فإن الطّبع والختم فى اللغة، هو الوسم.
________________
(1) الموجودة فى نسخة أ (بل طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون) والأصح حذف بل وهذه الآية رقم 93 من سورة التوبة.
أما نسخة ب فالموجود فيها ما أثبته، وهي الآية رقم 155 من سورة النساء.
(2) سورة البقرة 2/ 7.
(3) سورة الأنعام 6/ 25.
(4) لتوضيح رأى أهل الحق فى هذه المسألة وردهم على خصومهم: انظر الإبانة للأشعرى ص 54 - 55 والإرشاد لإمام الحرمين ص 213، 214 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 411 - 415.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي: انظر شرح المواقف 2/ 388 وشرح المقاصد 2/ 117.
(2/200)
________________________________________
وعلى هذا: فلا يمتنع أن يخلق الله- تعالى- فى قلوب الكفار سمة تتميز بها عن قلوب الأبرار- على ما قاله الجبائى، وابنه [أبو هاشم] «1» - ويبين ذلك للملائكة؛ لفائدة ذم من رأوه متسما بسمة الكفر، حتى ينزجر الكافر عن كفره؛ فإنه إذا علم أنه إذا كفر وسم بسمة يتحقق بها ذمه، ولعنه من الملائكة المقربين/ كان ذلك سببا لزجره؛ وذلك من أقوى مصالح الدين.
سلمنا امتناع حمله على هذا المحمل؛ ولكن ما المانع من الحمل على وصف الرب- تعالى- للكفرة بكفرهم، وتسميتهم «2» بما اتصفوا به من الكفر، على ما ذهب إليه أوائل المعتزلة؟ ولهذا فإنه يصح أن يقول القائل: ختمت على فلان بالكفر، والضلال؛ إذا كان آيسا من هداه.
سلمنا امتناع الحمل على هذا المحمل أيضا؛ ولكن ما المانع من حمل الختم والطبع، على قطع اللطف عن الكفار؟، وهو ما علم «3» الله- تعالى- أن العبد يؤمن عنده، ولا يكفر. على ما قاله الكعبى من المعتزلة؛ وذلك لأن قطع اللطف مانع من الإيمان.
فأمكن إطلاق اسم الختم، والطبع عليه، كما قررتموه فى خلق الضلال.
سلمنا امتناع حمله على هذا أيضا؛ ولكن ما المانع من حمل الطبع والختم، على ما يخلقه الله «4» - تعالى «4» - من منع الإيمان؟ على ما ذهب إليه بشر بن يزيد، وعبد الواحد «5»، وبكر بن أخت عبد الواحد.
غير أن عبد الواحد، وبشرا: زعما أنه لا يبقى العبد مع الختم، والطبع، مأمورا بالإيمان؛ ولا منهيا عن الكفر، حتى لا يفضى إلى التكليف بما لا يطاق؛ ولأنه إذا كان الإيمان مأمورا به؛ فالمنع منه يكون قبيحا، بخلاف بكر بن أخت عبد الواحد.
سلمنا «6» امتناع الحمل على هذا أيضا؛ ولكن ما المانع من الحمل على منع الإخلاص، دون الإيمان؟ كما ذهب إليه بعض أصحاب عبد الواحد «6»؛ فإنه زعم أن
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى ب: (و هو تسميتهم).
(3) فى ب (علم).
(4) فى ب (إليه).
(5) عبد الواحد: هو عبد الواحد بن زيد. يعرف به ابن أخته بكر بن زياد الباهلى، شيخ البكرية، فيقال بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد. مما يدل على مكانته العلمية، وشهرته. (الفرق بين الفرق ص 212، 213. وانظر ما سبق هامش. ل 193/ أ.
(6) من أول (سلمنا امتناع الحمل ... أصحاب عبد الواحد) مكررة فى أ. وكلمة (منع) ساقطة من ب. وكلمة (بعض) ساقطة من أ.
(2/201)
________________________________________
الختم والطبع؛ منع الإخلاص دون الإيمان. حتى يقال: إنه يكون مع ذلك مأمورا بالإيمان، دون الإخلاص.
والجواب عن الاحتمال الأول: من ثلاثة أوجه:
الأول: هو أن الوسم: إما أن يكون بما هو مانع من «1» الإيمان، أو بما لا يمنع «1».
فإن لم يكن مانعا من الإيمان: فلا يتحقق به المميز بين الكافر، والمؤمن؛ فلا يكون فيه معنى الوسم.
وإن كان مانعا: فهو المعنى بالضلال. ولا منافاة بينه، وبين ما ذكرناه.
الثانى: هو أن ما ذكروه فى تحقيق فائدة الوسم من الانزجار، فغير «2» مطرد فى حق من لا يعتقد صانعا، ولا يعتقد وجود الملائكة، على ما لا يخفى.
الثالث: هو أن ما ذكروه، وإن استمر «3» فى الختم، والطبع، فلا يطرد فى الأكنة، فإن من وسم شخصا بسمة ليميزه عن غيره. لا يقال غشاه/ بالأكنة.
وعن الاحتمال الثانى: من وجهين:
الأول: أنا لا نسلم صحة ذلك لغة؛ فإنه لا يقال: ختم فلان على قلب فلان، وطبع عليه، أو غشاه بالأكنة؛ بمعنى وصفه له بالكفر.
الثانى: أنه وإن صح الإطلاق لغة؛ لكن يمتنع حمل الختم، والطبع الوارد فى النصوص المذكورة عليه لوجهين:
الأول: هو أن النصوص الواردة دالة على التمدح، والاستعلاء، وفى حمل الطبع، والختم، وتغشية الأكنة، على الوصف، ومجرد التسمية إبطال فائدة التخصيص بالتمدح، والاستعلاء؛ لتصور ذلك من الواحد منا؛ وهو ممتنع.
الثانى: أنه- تعالى- أخبر بأن الختم على القلوب مانع من الإيمان حيث قال سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ «4» أى لأجل الختم. ومجرد الوصف بالكفر، لا يمنع من الإيمان؛ فامتنع الحمل عليه.
________________
(1) فى ب (أو لا بما لا يمنع).
(2) فى ب (غير).
(3) فى ب (اشتهر).
(4) سورة البقرة 2/ 6، 7.
(2/202)
________________________________________
وأما الاحتمال الثالث: فعنه جوابان أيضا:
الأول: منع صحة ذلك لغة؛ فإنه لا يطلق الطبع، والختم، وتغشية الأكنة، على قطع الألطاف، وتركها لغة.
الثانى: هو أن الألطاف: إما أن تكون ممكنة، أو غير ممكنة.
فإن كانت ممكنة، فعند الخصم يمتنع قطعها؛ لكونها واجبة على الله تعالى عنده.
وإن لم تكن ممكنة: فلا يكون قطعها مضافا إلى الله- تعالى- والختم، والطبع، وتغشية الأكنة فى النصوص مضاف إلى الرب- تعالى- والمضاف إلى الله- تعالى- غير ما ليس بمضاف إليه.
وإن قيل: بإضافة الطبع «1»، والختم «1» على القلوب، وتغشيتها بالأكنة إلى الله- تعالى- من حيث لا يتمكن من خلق لطف بهم يؤمنون عنده؛ فليس ذلك أولى من إضافته إلى الأنبياء، وغيرهم؛ لمساواتهم للرب- تعالى- فى هذا المعنى.
وأما الاحتمال الرابع: فباطل أيضا؛ فإن المنع من الإيمان: إما أن يكون بأن لا يخلق الله لهم الإيمان، أو بأن يخلق ما يمنع من الإيمان.
فإن كان الأول: فالبارى- تعالى- غير خالق للإيمان عندهم، وليس إضافة الطبع، والختم، وتغشية الأكنة إلى الله- تعالى- بهذا التفسير، أولى من إضافته إلى غيره من «2» المؤمنين؛ لمشاركتهم لله- تعالى- فى هذا المعنى.
وإن كان الثانى: فلا يخلو: إما أن يقال بأن الإيمان مأمور به، أو غير مأمور به.
فإن كان مأمورا به: فالمنع منه قبيح عندهم، ولأنه يفضى إلى التكليف بما هو ممنوع منه؛ وهو محال عندهم/ أيضا.
وإن كان غير مأمور به «3»: فهو خلاف إجماع «4» المسلمين، قبل ظهور هؤلاء المبتدعة الخارقين لقواعد الدين؛ وفيه إبطال المذهبين المذكورين.
________________
(1) فى ب (الختم والطبع).
(2) ساقط من ب.
(3) فى ب (فيه).
(4) فى ب (الإجماع من).
(2/203)
________________________________________
وبهذا الجواب، يندفع الاحتمال الخامس أيضا.
ويزيد جواب آخر: وهو أن الله- تعالى- أخبر بأن الختم مانع من الإيمان على ما سبق تحقيقه. فمن فسر الختم بالمنع من الإخلاص دون الإيمان، كان مراغما لدلالة النص بدعوى لا أصل لها.
**********
(2/204)
________________________________________
المسألة التاسعة «فى معنى اللطف، وحكمه»
واللطف فى عرف «1» المتكلمين: عبارة عن كل ما يقع صلاح المكلف عنده بالطاعة والإيمان، دون فساده بالكفر والعصيان «2». وقد اختلفوا فيما وراء ذلك.
فقالت المعتزلة «3»: إنه لا يتخصص بشيء دون شيء؛ بل كل ما علم الله- تعالى- أن صلاح العبد فيه؛ فهو لطف به.
ثم قد يكون ذلك من فعل الله- تعالى- كخلق القدرة للعبد، وإكمال العقل، ونصب الأدلة، وتهيئة آلات فعل الصلاح، وترك الفساد.
وقد يكون من أفعال العبد نفسه، كنظره، وفكره فيما يجب عليه، وتوصله إلى تحصيله.
وقد يكون من فعل غيره من المكلفين بالإعانة له فى تحصيل مصالحه، ودفع مفاسده، والتأسى به فى أفعاله الصالحة، وإيمانه، وطاعته، والانزجار عن أفعاله الفاسدة اعتبارا به. حتى إنهم قالوا: كفر الكافر إذا كان فيه صلاح الغير بطريق الاعتبار، والانزجار؛ كان كفره لطفا بذلك الغير، وإن كان فسادا بالنظر إلى نفسه.
وقد لا يكون فعلا؛ بل ترك فعل؛ وذلك كما لو علم الله- تعالى- أنه لو بسط الرزق لعباده، أو لبعضهم لبغوا فى الأرض. ولو ترك بسطه لصلحوا؛ فيكون ترك بسط الرزق لطفا بهم. وإلى هذا مال القاضى أبو بكر من أصحابنا.
ثم زعمت المعتزلة: أنه يجب على الله- تعالى- أقصى ممكن من اللطف، والتزموا على هذا الأصل، أنه ليس فى مقدور الله- تعالى- لطف لو فعله لآمنت الكفرة، وإلا كان تاركا للواجب.
________________
(1) فى ب (عبارة).
(2) فى ب (و الإحسان).
(3) انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 518 - 525.
(2/205)
________________________________________
وذهب الشيخ أبو الحسن الأشعرى، وأكثر أئمتنا «1»: إلى أن اللطف شيء مخصوص، وهو خلق القدرة على فعل الصلاح من الإيمان والطاعة.
وهو الأقرب من جهة أن كل ما يقدر سوى القدرة على فعل الصلاح قد لا يقع معه الصلاح والقدرة الحادثة، على أصل الشيخ كما سنبينه، مقارنة للمقدور، وهو ملازم لها؛ فكانت بوصف/ اللطيف، أولى من غيرها.
وبالجملة: فحاصل هذا الخلاف آئل إلى الاصطلاح اللفظى، والأمر فيه قريب، بعد فهم المعنى.
وإنما الّذي يجب الاعتناء بإبطاله، القول بوجوب اللطف على الله- تعالى- وأنه ليس فى مقدور «2» الله- تعالى «2» - لطف لو فعله لآمنت الكفرة.
أما الأول: فقد سبق إبطاله فى مسألة نفى وجوب الغرض فى أفعاله «3».
وأما الثانى: فمع أنه مراغم لقوله- تعالى- ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «4» وقوله- تعالى-: ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً «5» فهو مبنى على فاسد أصولهم فى وجوب اللطف على الله- تعالى-، وأنه لو كان فى مقدوره لطف لفعله؛ كى لا يكون تاركا الواجب؛ وقد أبطلناه.
*********
________________
(1) لتوضيح مذهب الأشاعرة فى هذه المسألة:
انظر الإبانة للأشعرى ص 49، 50 والإرشاد لإمام الحرمين ص 300، 301 ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 407 - 410.
ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي: شرح طوالع الأنوار ص 196 وشرح المواقف 2/ 399 وشرح المقاصد 2/ 118.
(2) فى ب (مقدوره).
(3) فى ب (أفعال الله- تعالى-) انظر ل 186/ أ وما بعدها.
(4) سورة الأنعام 6/ 35.
(5) سورة هود 11/ 118.
(2/206)
________________________________________