دار الساقي
بناية تابت، شارع أمين منيمنة (نزلة السارولا)، الحمراء، ص.ب: 5342/113 بيروت، لبنان هاتف: 347442 (01)، فاكس: 602315 (01)
DAR AL SAQI
London Office: 26 Westbourne Grove, London W2 5RH
Tel: 020-7221 9347; Fax: 020- 7229 7492
وتوّلوا بغصّةٍ كلهم منه..
وإن سرَّ بعضهم أحيانًا.
المتنبّي
إلى
من
مَدخل
يفتح البروفسور النافذة من جناحه في العصفورية على الممرّ وينادي:
- شفيق! شفيق! تعال هنا فورًا!
يقترب الممرّض الضخم من النافذة وعلى فمه ابتسامة كبيرة:
- مساء الخير، يا بروفسور. أمرك؟
- أين الدكتور سمير ثابت؟
- فّلْ.
- فَلّ الله رأسك! كيف فلّ؟
- فَلّ، يا بروفسور.
- فَلّ دون أن يراني؟ أطلب لي فورًا فخامة الرئيس كميل شمعون.
- كميل شمعون أعطاك عمره.
- مات؟! لا حول ولا قوّة إلاّ بالله! أطلب لي فورًا دولة الرئيس سامي الصلح.
- وسامي الصلح أعطاك عمره.
- مات؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! من رئيس الجمهورية الآن؟
- اليأس الهراوي.
- من؟!
- اليأس الهراوي.
- ورئيس الحكومة؟
- رفيق الحريري.
- ومتى يرجع الدكتور سمير ثابت؟
- على بكرة.
- أطلب منه أن يحضر لمقابلتي فور وصوله.
- أمرك، يا بروفسور.
يغلق البروفسور النافذة.
***
يدخل الدكتور سمير ثابت الجناح ويتأمّل جوانبه مُعجّبًا. ثم يصافح البروفسور:
- صباح الخير، يا بروفسور.
- صباح النور، دكتور ثابت.
- ما شاء الله! ما شاء الله! صالون. وغرفة طعام. وغرفة نوم. ورفوف كتب. وكاميرات فيديو. وستيريو.
- كل شيء بثمنه، كما قال المعلّم رضا.
- مين المعلّم رضا؟
- نِفر ما ينذ!
- بتاريخ العصفورية ما سكن مريض بجناح.
- أولًا، يا دكتور، أنا لست مريضًا؛ أنا ضيف. وثانيًا، لم يحدث في تاريخ العصفورية أن زارها إنسان مثلي. أنا لست إنسانًا عاديًا. وهذا ليس موضوعنا الآن. أجلس!
يجلس الدكتور سمير ثابت، ويفتح حقيبة أوراق منتفخة، ويخرج منها عدّة ملفّات، وينظر إلى البروفسور:
- نبلّش؟
- قبل أن نبلّش أود أن أسألك كيف مات كميل شمعون. في حادث صيد؟
- لا. مات موتة طبيعية.
- متى؟
- لا أذكر بالضبط. لَشوْ مهتمّ بكميل شمعون؟
- لَشو؟ كان صديقي. من أعزّ أصدقائي.
- كميل شمعون كان صديقك، يا بروفسور؟!
- أووه! كنا نصطاد معًا. نصطاد النمور، ونصطاد التماسيح، ونصطاد البطّ.
- النمور؟! وقعت يا بروفسور! كميل نمر شمعون. من هنا جاءت النمور. تداعي أفكار.
- لا تداعي أفكار ولا يحزنون. كنا نصطاد النمور.
- وين؟
- في البقاع.
- في البقاع؟! نمور في البقاع؟!
- كان هذا في الزمانات، يا حكيم. رُبّما قبل أن تُولّد أنت. كانت البقاع مليئة بالنمور. ثم أفنيناها، أنا وكميل شمعون.
- والتسامح؟! في البقاع؟!
- هل جُننتَ، يا دكتور؟ تماسيح في البقاع! كنا نصطاد التماسيح في دجلة.
- تماسيح في دجلة؟!
- أووه! كانت دجلة تعجّ بالتماسيح. ثم أفنيناها، أنا وكميل شمعون. كنا نطبخ الصغار مسقوف، أمّا الكبار فكان كميل شمعون يأخذ جلدها ويستخدمه في صنع أحذيته. كانت جميع أحذية كميل شمعون من جلد التماسيح. ألم تلاحظ ذلك؟
- ما تشرّفت بشوفته. ولا شوفة صرماياته.
- إذن، صدّقني.
- وأين صدتما البطّ؟
- في جنوب أفريقيا.
- جنوب أفريقيا؟! لشو؟
- كان البط، أيامها، أبيض نقيّاً هناك. لا يلوّثه البطّ الأسود. إذن، مات كميل شمعون؟ ضيعانه! كان رجلًا عظيمًا. وأين سامي بك الصلح الآن؟
- مات من فترة طويلة. كان صاحبك كمان؟
- أووه! من أعزّ أصدقائي. كنت ألعب معه طاولة كل يوم في البرج. في مقهى الشام. لا تقل لي لا يوجد مقهى اسمه الشام في البرج.
- لا أدري، يا بروفسور. يمكن كان بالزمانات. قبل أن أولد.
- كم عمرك يا دكتور؟
- 45 سنة.
- فقط؟ لا زلتّ ولدًا. أنا في عمر أبيك.
- حاجة، يا بروفسور!
- صدّقني. سوف أشرح لك السرّ وراء مظهري الشاب فيما بعد. وهذا ليس موضوعنا الآن. موضوعنا سامي الصلح. كان سامي بك أمهر لاعب طاولة في لبنان. ومع ذلك كنت أغلبه كل مرة. هل تعرف ماذا كان يقول لي أثناء اللعب؟
- شو كان يقول؟
- كان يقول: «أسمع، يا بروفسور! كل واحد في هذه الدنيا له مهنة. هذا خبّاز. وهذا طباخ. وهذا ميكانيكي. وهذا كندرجي. أما أنا فمهنتي رئيس وزارة. لا أعرف مهنة أخرى».
- مهنة ما ايش بها شي، يا بروفسور.
- وما أدراك؟ هل جرّبت رئاسة الوزارة؟
- لا. أتصوّر هيك. مجرّد تصوّر.
- هذه وظيفة مزعجة جدّاً. سماعك بالمعيديّ.
- هل كنت رئيس وزارة، يا بروفسور؟
- كنت أشغل منصب المعيَّن العام. وهو منصب لا يقلّ أهمية عن رئاسة الوزارة، وقد يزيد. كنتُ مسؤولًا عن التعيينات كافة، كبيرها وصغيرها.
- وكنت مبسوط؟
- أعوذ بالله! كنت في غاية الضيق. طلبات! طلبات! طلبات ليل نهار! هذا يريد توظيف ابن خالته. وهذا يريد أن يصبح سفيرًا. وهذا يرغب في تعيين جميع أقاربه. ألف طلب في اليوم؛ وألف طلب في الليلة.
- متى كان هذا؟
- في الزمانات.
- وين؟
- في عربستان 48.
- وبقيت كتير بالوظيفة؟
- قرابة شهرين. أو قرابة سنتين. أنا انشتايني، يا دكتور.
- انشتايني؟!
- سمعت عن انشتاين؟ لا بُدّ أنك سمعت عن انشتاين، الرجل الذي اخترع، أو ربما اكتشف، نظرية النسبية، بالاشتراك معي. نصف النظرية منه، ونصفها منّي. النصف الأول هو المعادلة المشهورة: E = MC2، المعادلة التي لا يفهمها أحد، وهذا النصف منه. أما النصف الثاني فقد اكتشفته أنا، ووضعت عنه المعادلة المشهورة: (و )/(ع )= (و )/(ح ) × 1000. لا بُدّ من تبسيطها لكي تتمكن من استيعابها، يا حكيم. ومعناها الوقت، وح معناها الحبيب، وع معناها العدوّ. الدقيقة التي تمضيها مع حبيبك تمرّ بسرعة (1 )/(1000 ) من الدقيقة التي تمضيها مع عدوّك. ولهذا فأنا لا أهتمّ بالوقت التقليدي على الإطلاق. لا أتوقّع منك أن تفهم المعادلات الفيزيائية ولكني أتوقّع أن تكون قد قرأت المؤلفات الأخيرة عن انشتاين، التي تزعم أنه كان يضرب زوجته وينام مع ابنة أخته. الغريب أنه لم يصارح صديقي هيكل بهذا عندما زاره في صحبة التاريخ. أسمع، يا طبيب! هتلر كان ينام مع ابنة أخته. وفرويد كان ينام مع أخت زوجته. وانشتاين كان ...
- عفوًا يا بروفسور! هل من الممكن أن نرجع إلى المعينَّ العامّ؟
- ظاهرة غريبة. هذا أبو علم النفس، وهذا أبو علم الذرّة، وهذا كبير النازية. لماذا لا ينامون مع زوجاتهم؟
- بروفسور! المعيَّن العامّ!!
- حسنًا! حسنًا! كان منصبًا مزعجًا.
- مزعجًا؟!
- الرشاوي! الرشاوي، يا دكتور، قتلتني. الذي يريد توظيف ابن خالته يحضر لي دجاجة رشوة. والذي يريد أن يصبح سفيرًا يحضر لي سجادة رشوة. إذا كان يريد أن يكون سفيرًا في إيران يحضر سجادة إيرانية. في الصين، سجّادة صينية. في تركيا، سجّادة تركية. في أميركا، وُوّل تو وُولْ كاربتّ. والذي يريد تعيين جميع أقاربه يحضر لي ثلاّجة رشوة. هلكت، يا دكتورّ امتلأ المخزن الأول بالدجاج. تحوّل إلى مزرعة دجاج فيها مليون دجاجة وديك واحد. لا بُدّ أن الديك هلك بدوره. امتلأ المخزن الثاني بالسجّاد. امتلأ المخزن الثالث بالثلاجات. 100.000 ثلاّجة.
- يخزي العين! صِرْتّ غَني يا بروفسور؟
- كل الأمور نسبية. والغني الحقيقي غني النفس. وأنت، يا دكتور؟ هل تعتبر نفسك غنيّاً؟
- نشكر الله.
- ولماذا لا تشكره؟ شقّة في بيروت. وبيت في برمّانا. وشقّة في لندن. وفيلاّ في جنوب فرنسا. واستثمار محترم في نيويورك.
- كيف؟ كيف؟ كيف عرفت كل هذا؟
- مجرد تدبير احترازي. ما دمت سوف تعرف كل شيء عني فلا بُدّ أن أعرف بعض الأشياء عنك. ولكن لا تخفّ سرّك في بير. لن أفضح شيئًا. ولا حتَّى علاقتك بالطبيبة النفسية الشقراء التي قابلتها في المؤتمر في مونتريال.
يحمرّ وجه الدكتور ثابت، ولا يتكلّم. ويمضي البروفسور:
- لا تخف! كلمة شرف! عمّاذا كنا نتكلم؟
- عن المعيّن العامّ.
- صدقت! وكنت أقول لك ...
- لو سمحت، يا بروفسور؟ ممكن نبلّش نحكي جدّ؟
- بالتأكيد! ولكن أسمع، يا دكتور. الأسئلة السخيفة المعتادة بلاها. لا تسألني هل أتذكّر رحم أمّي. ولا متى شعرت بالشهوة الجنسية لأوّل مرّة. ولا