دار الغرب الإسلامى
ص. ب. 5787 - 131 بيروت
جميع الحقوق محفرظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونة أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.
تنبيهات
- للإحالة على الدوريات ذكرنا اسم الدورية بين قوسين فتاريخها فالصفحة فإذا ذكرنا رقما قبل التاريخ فهو عدد الدورية.
- للإحالة على الكتب المطبوعة ذكرنا أول مرة ما يتعلق بتعريف الكتاب فإذا أشير إليه بعد ذلك نذكر عنوانه بين قوسين فالصفحة منه وإذا كان له أجزاء ذكرنا رقم الجزء تليه الصفحة ويفصل بينهما خط مائل.
- للإحالة على مصدر مخطوط ذكرنا مكانه ورقمه وبعض أوصافه ومكملاته ما أمكن مثل حالته وصفحه أو ورقة الخ.
- وهناك بعض المصادر كنا اطلعنا عليها مخطوطة ثم نشرت، مثل (الثغر الجمالي) و (التحفة المرضية)، فإذا كانت الإحالة مطلقة فتعني المطبوع، وإلا فإن عبارة "مخطوط " تذكر إزاءها.
- لم نختصر عناوين المكتبات مثل: المكتبة الوطنية - تونس، المكتبة الوطنية - الجزائر، الخزانة العامة - الرباط، الخ. تفاديا للالتباس وتسهيلا، للبحث.
- لم تكتب أسماء المؤلفين الأجانب باللاتينية إلا نادرا. وقد حاولنا في نطقها الرجوع إلى أصل لغة المؤلف مثلا شيلر وليس شالير كما هو في الفرنسية، الخ.
- في فهرسة الأعلام اتبعنا التنظيم الأبجدي العالمي، مع الاستغناء عن "ابن" و "أبو".
- زيادة في التوضيح نذكر أسماء المجلات الآتية مع أصلها باللاتينية
- (أنال) annales
- (روكاي) Recueil des notes et mémoires de Constantine
- (نشرة جغرافية وهران) Bulletin de la Société de géographie d'Oran
- (المجلة الإفريقية) Revue Africaine
- (المجلة الآسيوية) Journal Asiatique
- (مجلة العالم الإسلامي) تعني - المجلة التي تحمل هذا الاسم بالإنكليزية والفرنسية، ولكننا فرقنا بينهما بذكر عبارة "بالإنكليزية"، أو "بالفرنسية".
Revue du Monde Musulman
Moslen world review
Société de Géographie D'alger et de L'afrique du nord = Sgaan
- مجلة الجمعية الجغرافية لمدينة الجزائر وشمال إفريقية.
حول التقليد والتجديد
نقصد هنا بالعلوم الشرعية الدراسات القرآنية كالتفسير والقراءات، والحديثية كرواية الحديث ودرايته، بما في ذلك الأثبات والإجازات، والفقهية من العبادات والمعاملات كالنوازل. وقد كثرت هذه الدراسات بين الجزائريين خلال العهد العثماني حتى أنه يمكن القول بأن أغلب إنتاج الجزائر خلال هذا العهد يكاد ينحصر في العلوم الشرعية والصوفية والمجالات الأدبية. ورغم أن معظم الإنتاج في العلوم الشرعية كان يفتقر إلى الأصالة والجدة، فإن كثرة التأليف فيه يبرهن على سيطرة العلوم المذكورة على الحياة الفكرية عندئذ. ولا شك أن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى كون القرآن والحديث كانا المنبع الذي يستمد منه الجزائريون كل ألوان تفكيرهم وأنماط حياتهم.
وأهم ما تميزت به العلوم الشرعية في هذا العهد التقليد والتكرار والحفظ. فالفقهاء قلما اجتهدوا أو استقلوا بآرائهم، بل كانوا يقلدون سابقيهم تقليدا يكاد يكون أعمى. فإذا ما حاول أحدهم أن يشذ عن هذا التيار أقاموا عليه الدنيا وأقعدوها، واجتمع عليه المجلس الشرعي الذي كانت تتدخل فيه الدولة. وفي أحسن الأحوال كان يحكم على المستقل برأيه بعزله من وظيفته. أما في أسوأ الأحوال فالحكم عليه بالتكفير والزندقة. ومع ذلك حاول بعض الفقهاء تحطيم هذا الجدار. ومنهم عبد الكريم الفكون في القرن الحادي عشر (17 م)، وأحمد بن عمار في القرن الثاني عشر، ومحمد بن العنابي في أوائل القرن الثالث عشر. وقد سقنا في الجزء الأول عدة نماذج من ثورة الفكون على الجمود العقلي لدى فقهاء عصره. ونود أن نضيف هنا
قوله عن ظاهرة الحفظ لدى هؤلاء الفقهاء. فقد استشهد ذات مرة، وهو ينعي على صديقه أحمد المقري عدم دقته العلمية واعتماده على الحفظ، بكلام أبي بكر ابن العربي من أن "العلم ليس بكثرة الرواية وإنما هو ما يظهر عند الحاجة إليه في الفتوى من الدراية، وأن السرد للمعلومات إنما حدث عند فساد القلوب بطلب الظهور والتعالي عن الأقران وكثرة الرياء في الأعمال". وقد علق الفكون على هذا من أن ما قاله ابن العربي يعبر عن الواقع في الجزائر وغيرها، فلا ترى إلا من يقول قال فلان قال فلان أو يذكر نص التأليف بدون تغيير. فإن صادف الحكم الحكم نجا وإلا أصبح كالصيد في الشبكة. وهم يفعلون ذلك حبا للمدح وصرفا لقلوب الخاصة والعامة إليه. ولو (سئل عن وجه الجمع بين المتشابهين أو الفرق بين المسألتين يقول النص هاكذا (كذا)، ويستظهر بحفظ النصوص، وهل هذا إلا جمود في غاية الجمود) (1).
ويعتبر نقد الفكون في غاية الصراحة والدقة. ذلك أننا لا نعرف أن فقهاء الجزائر الذين عاشوا في القرن الأول من العهد العثماني قد نادوا بتقديم الاجتهاد العقلي (الدراية) على التقليد (الرواية). فهم كانوا يرددون أقوال المتقدمين ويحفظونها حفظا سطحيا لا عقل فيه ولا تفكير، ويسردون المسائل كما هي في الكتب لا كما تقبلها أو ترفضها عقولهم. ويتظاهرون بالحفظ وقوة الحافظة، وكل العلم عندهم ما حواه القمطر. فإذا عدت إلى كتاب كـ (البستان) لابن مريم تجده لا يترجم لأحد الفقهاء إلا قال عنه إنه كان يحفظ كذا وكذا من الكتب. وقد وصف أحمد المقري معاصروه بأنه كان أحفظ أهل زمانه حتى قال فيه أحدهم بأنه لا يعرف في وقته أحفظ منه، وعندما خرج المقري من المغرب إلى المشرق قيل عنه "خلت البلاد من مثله ومضاهيه " (2). وكثيرا ما وصف المقري بأنه (حافظ المغرب الأوسط)، وهو نفس الوصف الذي أطلق على غيره أيضا، ولا سيما أبو راس الناصر.
وظاهرة الحفظ والتقليد قد جمدت الإنتاج في العلوم كلها، وخصوصا العلوم
__________
(1) عبد الكريم الفكون (منشور الهداية) من تحقيقنا، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1987
(2) عبد الحي الكتاني (فهرس الفهارس) 2/ 14.
الشرعية، وجعلته عبارة عن تكرار ونقل رتيب لأعمال الآخرين.
وإذا كان ابن عمار قد عاب على فقهاء عصره جمودهم العقلي وترهل الفكر عندهم فإن ثورته لم تصل إلى حدة ثورة الفكون ولا ثورة محمد بن العنابي، والواقع أن ابن العنابي كان من أوائل الفقهاء الذين لم يكتفوا بنقد الجمود العقلي بل أضاف إلى نقده اللاذع الدعوة إلى استعمال الاجتهاد والأخذ بأسباب الحضارة الغربية، والحد من نشاط الدراويش الذين أضروا في نظره بالمجتمع الإسلامي. وكأن ابن العنابي قد جاء ليوضح ما دعا إليه الفكون. ففي كتابه (السعي المحمود في نظام الجنود) نقد ابن العنابي معاصريه من الفقهاء بشدة وسخر من أفكارهم ومظهرهم، كما نادى بضرورة النهضة الإسلامية على أساس المنافسة بين العالم الإسلامي والعالم الأوروبي والسباق مع الحضارة الأوروبية والفوز عليها فيما تفننت فيه من أنواع الاختراعات والمبتكرات الصناعية والتقنية والحربية. وكان له رأي أيضا في الديمقراطية السياسية وتوزيع الثروة واختيار الأكفاء في الإدارة ونحو ذلك مما كان شبه محرم طرقه على الفقهاء قبله (1).
وظاهرة التقليد، بالإضافة إلى تخلف الثقافة عموما، كانت مسؤولة على ندرة الإنتاج في العلوم الشرعية التي تحتاج إلى ثقافة واسعة وعميقة كالتفسير. ذلك أن مفسر القرآن الكريم يحتاج إلى ثقافة دينية وتاريخية ولغوية قوية لكي يقدم على عمله، بالإضافة إلى استقلال عقلي كبير، وهذا ما لم يتوفر للجزائريين خلال العهد العثماني. فمجال الثقافة، كما عرفنا، كان محدودا، وميدان استثمارها كان أيضا محدودا. وإذا توفر جانب من جوانبها المذكورة (الدينية، التاريخية، اللغوية والاستقلال العقلي) فإن بقية الجوانب لا تتوفر. لذلك قل مفسرو القرآن من الجزائريين، وضحلت دراسات الحديث باستثناء بعض الفروع كرواية الأسانيد والأثبات ومنح الإجازات فيها. أما الدراسات الفقهية فقد كانت تقليدية أيضا. ولم يستطع أحد من
__________
(1) أبو القاسم سعد الله (رائد التجديد الإسلامي: ابن العنابي) ط 2، الإسلامي، بيروت 1990.
العلماء في العهد العثماني أن يكتب عملا في الفقه شبيها بـ (معيار) أحمد الونشريسي. كما لم يكتب أحد منهم (فيما وصل إلينا) عملا في التفسير يشبه (الجواهر الحسان) للثعالبي. فإنتاج الجزائر إذن من العلوم الشرعية كاد ينحصر في مجالات واهية لتفسير القرآن الكريم، وبعض العناية بالقراءات، وفي مجموعة من الأثبات والإجازات، بالإضافة إلى أعمال فقهية تتناول فروعا من العبادات والمعاملات، وسنحاول الآن أن ندرس كل علم من هذه العلوم على حدة.
التفسير
يمكن أن نتناول التفسير من ناحيتين. ناحية التدريس وناحية التأليف.
أما تدريس التفسير فقد كان شائعا بين العلماء البارزين. ومن الذين اشتهروا بذلك محمد بن علي أبهلول، وابن للو التلمساني، وعبد القادر الراشدي القسنطيني، وأبو راس الناصر. ورغم أننا لا نملك الوثائق الآن فإن أمثال سعيد قدورة، وأحمد بن عمار، وسعيد المقري ربما تناولوا أيضا التفسير في مجالس دروسهم التي اشتهروا بها. ومن الطبيعي أن نقول إنه ليس كل من تناول التفسير أجاد أو جدد فيه. ذلك أن ظاهرة التقليد والحفظ كانت مسيطرة على العلماء في جميع الميادين، ومن بينها ميدان التفسير. فنحن نتصور أن
معظم المفسرين للقرآن الكريم في مجالس الدروس، كانوا يكررون في الغالب أقوال المفسرين المتقدمين، وقلما يخرجون عليها برأي جديد يتلاءم مع العصر.
ومن جهة أخرى فإن الوثائق تعوزنا في الوقت الراهن، فليس هناك ما يدل على نوع الطريقة (1) التي كان يستعملها أمثال أبهلول وابن لَلُّو والراشدي
__________
(1) ذكر ابن حمادوش في رحلته أنه حين زار الشيخ أحمد الورززي المغربي مدينة الجزائر سنة 1159 اجتمع إليه الطلبة (العلماء) وطلبوا منه أن يريهم كيف يبتدئ المدرس درس التفسير ففعل، وكان ذلك في الجامع الكبير. انظر التفاصيل والدرس الذي ألقاه، في رحلة ابن حمادوش، من تحقيقنا. نشر المكتبة الوطنية - الجزائر، 1983
أثناء درس التفسير. فقد روى سعيد قدورة أن الرحال كانت تشد إلى شيخه محمد بن علي أبهلول لشهرته في علوم التفسير والحديث وما شابهها. وروى قدورة أيضا أن شيخه قد وصل في تفسيره إلى سورة الإسراء قبل أن يقتل سنة 1008 (1). فهل كان الشيخ أبهلول يملي تفسيره إملاء أو كان يلقيه إلقاء على طلابه؟ هذا ما لا تفصح عنه الوثائق. والظاهر أن الشيخ كان يفسر باللسان ولا يسجل بالقلم. ذلك أن الذين ترجموا له تحدثوا عن براعته في عدة علوم أخرى ولكنهم لم يتحدثوا عن كتب أو تقاييد له. فهو إذن من المدرسين في التفسير وليس من المؤلفين فيه. ولا نتوقع أن يكون تفسير أبهلول تفسيرا حيا أو مبتكرا، وإنما نتوقعه تفسيرا تقليديا منقولا عن السابقين، مع قليل من ذلاقة اللسان وبيان العبارة، لأن الشيخ كان مشهورا أيضا بحذق العروض والمنطق والنحو، وهي علوم تساعد على فهم القرآن وجودة تفسيره.
وعندما ترجم أبو حامد المشرفي لابن للو التلمساني قال عنه إنه قد ختم تفسير القرآن الكريم في الجامع الأعظم بتلمسان. وكان والد المشرفي معاصرا أو قريبا من زمن ابن للو، فهو الذي حدث ابنه، أبا حامد، بأن ابن للو قد فسر القرآن حتى ختمه. وقد عرفنا في الجزء الأول أن ابن للو كان غير راض على الأوضاع السياسية بتلمسان وأنه كان ساخطا على العثمانيين حتى أنه أمسك بلحية القائد حفيظ التركي ورد عليه هديته من السمن والدقيق. ويكفي ابن للو أنه كان أستاذا لعدد من الطلاب الناجحين، وعلى رأسهم الشيخ محمد الزجاي (2)، الذي اشتهر أمره أيضا أوائل القرن الثالث عشر. ونحن لا نستغرب أن يعمد ابن للو إلى تفسير القرآن الكريم ويتصدى لذلك حتى يختمه بالجامع الأعظم، فقد عرف عنه أيضا أنه كان من الأدباء الحاذقين حتى أن أبا حامد المشرفي جعله "خاتمة أدباء تلمسان
__________
(1) سعيد قدورة، مخطوطة رقم 422، مجموع المكتبة الوطنية، تونس. انظر أيضا أبو حامد المشرفي (ياقوتة النسب الوهاجة). انظر ترجمة قدورة في فصل التعليم من الجزء الأول.
(2) عن محمد الزجاي انظر فصل السلك الديني والقضائي في جزء لاحق
المتأخرين " (1). وهذا يؤكد ما قلناه من أن الذين تناولوا التفسير كانوا من أبرز العلماء ومن أكثرهم إلماما بمختلف العلوم الشرعية والعقلية. والظاهر أن ابن للو لم يكن يحتفظ بتقييد لما كان يفسره، ولم يهتم أحد من تلاميذه بجمع ما ألقاه. ولو فعلوا ذلك لوصل إلينا نموذج من تفاسير القرن الثاني عشر نستدل به على ثقافة العلماء عندئذ ومنهجهم في التفسير. ولعل منهج ابن للو في تفسير القرآن كان يعتمد على المعاني الظاهرية، كما كان يعتمد طريقة القدماء في الاستدلال والاستنتاج.
ومن الذين تناولوا التفسير تدريسا أيضا عبد القادر الراشدي القسنطيني.
ورغم شهرة الراشدي في وقته فإن حياته ما تزال غامضة وليس لدينا منها سوى نبذ متفرقة هنا وهناك. والذي يهمنا هنا ليس حياته وإنما مساهمته في تفسير القرآن الكريم، ذلك أن مترجميه قد تحدثوا عن أنه كان يعقد مجالس للفتوى والتفسير، غير أننا لا نعرف ما إذا كانت هذه المجالس للتدريس أو مجالس اجتماعية يحضرها الوالي والعلماء. والمعروف أن الراشدي كان قد تولى الإفتاء والتدريس بجامع سيدي الكتاني ومدرسته، وكلاهما من آثار صالح باي. كما أن للراشدي بعض التآليف، ولكننا لا نعرف ما إذا كان تفسيره قد جمع في كتاب، فلعله لم يكن يتناول التفسير بصورة منتظمة، وإنما كان يتناول بعض الآيات في المناسبات المعينة ويعرضها ويحللها، ونحن نتصور أنه كان إلى حد ما متحررا في فتاويه وآرائه. ذلك أن سيرته تشير إلى أنه قد واجه بعض التحدي نتيجة آرائه. فقد قيل عنه إنه كان يقول بالتجسيم وأن بعض علماء وقته قد حكموا عليه بالزندقة والكفر وكادوا ينجحون في الفتك به لولا تعاطف صالح باي معه. كما أنه قد ألف رسالة في تحريم شرب الدخان (2). وكل هذه المواقف والآراء تجعلنا نتصور أنه كان في تفسيره شيء
__________
(1) أبو حامد المشرفي (ذخيرة الأواخر والأول)، مخطوط، ص 12.
(2) أبو القاسم الحفناوي (تعريف الخلف برجال السلف) 2/ 219. وقد أخبر الكتاني (فهرس الفهارس) 1/ 172 أن ترجمة الراشدي توجد في معجم مرتضى الزبيدي. والمعروف أن الراشدي كان قد أجاز الزبيدي بالمراسلة. انظر قسم الإجازات من هذا الفصل=
من الخروج عن المألوف وعدم التقيد الرتيب بنصوص وآراء الأقدمين.
أما أحمد المقري فقد عرف عنه كثرة المحفوظ في مختلف العلوم والفنون وكثرة التأليف في الأدب والتاريخ والحديث، ولكن لم يعرف عنه أنه كان من مدرسي القرآن الكريم. وقد أخبر عبد الكريم الفكون أن المقري قد انتصب للتدريس في الجامع الأعظم بمدينة الجزائر عندما أخرجته الظروف السياسية من المغرب، وأن من جملة ما درس هناك التفسير. ولكن إقامة المقري لم تطل بالجزائر، فقد توجه إلى المشرق حيث درس الحديث والأدب وتاريخ الأندلس والعقائد. ولكن مترجميه لم يذكروا أنه درس هناك التفسير أيضا. ويبدو أن ما قيل من أن العقائد كانت مهنة أهل المغرب وأن التفسير فن أهل المشرق قول فيه كثير من الصحة، والدليل على ذلك قلة التفاسير عند المغاربة مع كثرتها في المشرق، بينما الأمر بعكس ذلك بالنسبة للعقائد ونحوها. ومهما كان الأمر فإن أحمد المقري كان غزير المعرفة، يتمتع بحافظة قوية، ولم يكن يعوزه التأليف في التفسير فما بالك التدريس فيه. ونحن نعتقد أنه لو ألف فيه لأجاد كما أجاد فيما ألف في العلوم الأخرى. كما نفهم من نقد الفكون له أن طريقة المقري في التفسير، كما هي في علومه الأخرى، طريقة كلية لا جزئية تعتمد على التعميم وتبتعد عن الدقة. وهو، لكونه أديبا، كان يزوق الألفاظ ويستعمل العبارات المبهمة.
وقد أخذ عليه الفكون حين سأله عن إعراب ابن عطية للآية (ولأتم نعمتي عليكم)، تهربه من الإجابة العلمية (1).
ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن هناك غير هؤلاء. فالوزان والأنصاري وعيسى الثعالبي كانوا أيضا من مفسري القرآن الكريم في دروسهم. وقد روى محمد بن ميمون أن القاضي أبا الحسن علي كان بارعا في تفسير القرآن حتى
__________
= أما رسالته عن الدخان فقد حققها عبدالله حمادي تحت عنوان (تحفة الإخوان في تحريم الدخان)، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1997.
(1) عبد الكريم الفكون (منشور الهداية) الخاتمة. انظر ترجمة أحمد المقري في فصل الأدب من هذا الجزء.
اشتهر به وتسابق الناس إلى درسه في الجامع الكبير، كما اشتهر بعلوم اللسان. وكذلك قال ابن ميمون عن المفتي مصطفى بن عبد الله البوني بأنه تناول تدريس الثعالبي "على سبيل التفقه " وأنه أجاد فيه (1)، ومن جهة أخرى ذكر ابن زاكور في رحلته أن شيخه أبا عبد الله بن خليفة الجزائري قد ختم القرآن الكريم تدريسا (2).
أما التفسير تأليفا فالخوض فيه قليل. ورغم شهرة مدرسة تلمسان العلمية فإنها لم تنتج مفسرين للقرآن الكريم جديرين بالإشارة. حتى العالم المعروف، أحمد الونشريسي وابنه عبد الواحد لم يعرف عنهما التأليف في التفسير. ونفس الشيء يقال عن مدرسة بجاية وقسنطينة. فرغم شهرة عمر الوزان وعبد الكريم الفكون (الجد) خلال القرن العاشر، فإننا لم نعثر لهما على تأليف في التفسير. وقد اعتنى عبد الرحمن الأخضري بمختلف العلوم، شرعية وعقلية، ولكننا لم نعرف عنه أنه حاول التفسير.
وهكذا ينتهي القرن العاشر (16 م) دون أن نسجل تأليفا واحدا في تفسير القرآن الكريم. غير أنه يقال إن محمد بن علي الخروبي قد وضع تفسيرا أثناء إقامته بالجزائر. فإذا صح هذا فإنه يكون أمرا غريبا من شيخ لا هم له عندئذ سوى نشر الطريقة الشاذلية وخدمة الدعاية العثمانية والتأليف في التصوف. ومهما يكن من أمر فنحن لم نطلع على هذا التفسير ولا تؤكد مصادر الخروبي وجوده (3)، وقد روى عبد الكريم الفكون (الحفيد) أن جده قد وضع "تقييدا" جمع فيه الآيات التي استشهد بها سعد الدين التفتزاني في كتابه المطول، ولكن العناية ببعض الآيات من القرآن الكريم لا تعني العناية بالتفسير كعلم قائم بذاته. ثم إن الرواية تشير إلى أن الشيخ الفكون قد جمع الآيات ولم تقل إنه فسرها أو علق عليها. ومن ثمة يظل هذا التقييد خارج
__________
(1) ابن ميمون (التحفة المرضية) مخطوط، 48، و 235 من المطبوع.
(2) ابن زاكور (الرحلة) 31، وكان ابن خليفة من الذين أجازوا ابن زاكور أثناء زيارة هذا للجزائر، وقد توفي ابن خليفة سنة 1094.
(3) أشار إليه صاحب (الإعلام بمن حل مراكش واغمات من الإعلام) 4/ 150.
النطاق الذي نتناوله. ذلك أن الفكون (الجد) كان مهتما اهتماما خاصا بعلم البيان وكان جمعه للآيات من مطول التفتزاني لا يخرج عن حبه للبيان (1).
وقد أنجب القرن الحادي عشر مجموعة من العلماء المشار إليهم من أمثال سعيد المقري، وابن أخيه أحمد المقري، وسعيد قدورة، وابنه محمد، وعيسى الثعالبي، ومع ذلك لا نجد أحدهم قد ترك تأليفا في علم التفسير (2)، وفي ترجمة علي بن عبد الواحد الأنصاري ذكر المحبي أن للأنصاري عملا في التفسير بلغ فيه إلى قوله تعالى: (ولكن البر من اتقى) (3)، وقد قام يحى الشاوي بوضع أجوبة على اعتراضات أبي حيان على ابن عطية والزمخشري.
ويبدو أن أجوبة الشاوي كانت ضخمة إذا حكمنا من حجم عمله (4)، ولم نطلع نحن على هذا العمل حتى نحكم على منهج صاحبه، ولكننا نعرف أن يحى الشاوي كان من أبرز علماء عصره تجربة وثقافة ونقدا. وقد ألف في علوم أخرى كالتوحيد والفقه سنعرض إليها. ونود هنا أن نذكر بما قلناه عنه من أنه كثير النقد لعلماء عصره وغيرهم، وإنه كان يعتبر هذا النقد، رغم ما فيه من تعرض للأخطار، مصدر ثواب. لذلك فنحن نتصور أن أجوبته على تفاسير غيره ستكون مشبعة بالآراء المستقلة التي كانت تهدف إلى فهم القرآن في ضوء مصالح المسلمين في وقته.
ومن العلماء الذين ألفوا في التفسير خلال القرن الثاني عشر أحمد البوني وحسين العنابي. وعنوان تأليف البوني هو (الدر النظيم في فضل آيات
__________
(1) عبد الكريم الفكون (منشور الهداية)، 18 - 23 في ترجمة جده المتوفي سنة 988.
(2) ذكر محمد بن عبد الكريم (المقري وكتابه نفح الطيب) 280، إن للمقري تأليفا عنوانه (إعراب القرآن) وأنه في المكتبة الوطنية بباريس.
(3) المحبي (خلاصة الأثر) 3/ 173.
(4) محمد بن عبد الكريم (مخطوطات جزائرية في مكتبات إسطانبول) ص 11 - 12. فقد ذكر أن نسخة من هذه الأجوبة (الحاشية) تبلغ 718 ص وأن نسخة أخرى منها تبلغ 810 ص. انظر أيضا مجلة (المورد) العراقية 7 (1978) 313. فقد ذكر هنا أن عدد الأوراق 259 ورقة. انظر أيضا ترجمة يحيى الشاوي في الفصل التالي.
من القرآن العظيم) (1)، ويبدو من هذا العنوان أن البوني لم يتناول التفسير بالمعنى المتعارف عليه وإنما خص بعض الآيات من القرآن مستخرجا منها المعاني التي تناسب التصوف والآداب العامة.
أما العنابي فقد تولى الإفتاء عدة مرات في الجزائر، وكان من أبرز علماء الحنفية. وإذا كانت حياته في الوظيفة معروفة من سجلات الإدارة العثمانية فإن حياته العلمية ما تزال غير معروفة. ولا نكاد نعرف عنها أكثر مما ذكره حفيده محمد بن محمود بن العنابي الذي ذكر في تأليفه أن لجده تفسيرا للقرآن الكريم، وقد نقل منه عدة مرات مستشهدا بكلامه. ولم يصل تفسير حسين العنابي إلينا ولكن عبارة حفيده تدل على أن العمل كامل، فهو يقول:
"قال مولانا الجد الأكبر حسين بن محمد رحمه الله في تفسيره". ومما نقل عنه تفسيره لقوله تعالى: (نحن أولياؤكم! حيث قال حسين العنابي: "أي تقول لهم الملائكة عند نزولهم للبشرى، نحن أولياؤكم أي أنصاركم وأحباؤكم في الحياة الدنيا فنلهمكم الحق ونحملكم على الخير، وفي الآخرة بالشفاعة والكرامة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة" (2). ولم يذكر ابن العنابي عنوانا لتفسير جده ولا حجما. ولكن عبارته تدل على أنه كان يملك نسخة منه يستعملها عند الاستشهاد. ولم نطلع نحن على عمل آخر لحسين العنابي حتى يساعدنا في الحكم على تفسيره، والظاهر أنه تفسير ديني بالدرجة الأولى.
وهناك عالمان متعاصران ألف كلاهما في التفسير، وهما أبو راس الناصر ومحمد الزجاي. وكلاهما أيضا جمع إلى الثقافة الدنيوية ثقافة صوفية ودينية قوية. فأما أبو راس فقد ذكر أنه قد وضع تفسيرا للقرآن الكريم في ثلاثة أسفار وأنه جعل كل سفر يحتوي على عشرين حزبا، وسماه (التيسير
__________
(1) المعرض الخامس لجائزة الحسن الثاني للمخطوطات 1973، ضمن مجموع رقم 406 ر. انظر أيضا (غريب القرآن) لمحمد بن عبد الله المجاسي (المجاجي؟)، الجزائر 413، بروكلمان 2/ 987.
(2) انظر كتابي (المفتي الجزائر ابن العنابي)، 100 انظر أيضا ط 2 منه.
إلى علم التفسير). ومما عرفناه عن أبي راس نستطيع أن نحكم بأن تفسيره سيكون محشوا بالاستطراد كالأخبار والإعراب والحكايات ونحوها. ونحكم أيضا بأن عبارته ستكون سهلة وألفاظه قريبة من العامية. أما التفسير في حد ذاته فقد يكون مقتصرا فيه على المعاني الظاهرة التي لا تحتاج إلى كثرة الاستدلال والاستنباط والتفرع. ومهما كان الأمر فإن تفسير أبي راس. يذكر المرء بتفسير الثعالبي لأن كليهما كان يجمع الزهد إلى العلم، وكليهما جاء في وقت اضطربت فيه الأحوال السياسية في البلاد، كما أن حجم التفسيرين متقارب (1).
ويبدو أن محمد الزجاي قد غلب عليه التصوف أكثر من أبي راس.
فالذين ترجموا له عدوا له مجموعة من الكرامات، واعتبروه من زهاد العصر ومن علمائه أيضا. وللزجاي مجموعة من التآليف في التفسير والنحو والتصوف. ويهمنا من أعماله ما فسره من القرآن. فقد عد له أحد مترجميه "تفسير الخمسة الأولى"، وهو تعبير غير واضح، فهل هو تفسير السور الخمس الأولى أو تفسير الأجزاء الخمسة الأول؟. وعلى كل حال فإن التعبير يدل على أن هذا التفسير غير كامل وأنه تناول فيه جزءا فقط من القرآن الكريم. كما ذكر له مترجمه "حواش كثيرة في التفسير وغيره (2)، ولعل هذه الحواشي تشبه ما قام به يحيى الشاوي في تعاليقه على التفاسير المتقدمة.
والظاهر أن الزجاي الذي اشتهر بمهنة التدريس، كان يتبع في تفسيره طريقة الشروح المتداولة، حيث كانوا يعمدون إلى عبارة الأصل فيعربونها ويذكرون معناه أو معانيها ويستشهدون لذلك بما يعزز رأيهم، وقد يستطردون بعض
__________
(1) عدد أبر راس كتبه في رحلته المسماة (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته) التي اطلعنا منها على نسختين، وقد خصص القسم الخاص منها لتعداد تآليفه وسمى هذا القسم "العسجد والإبريز في عدة ما ألفت بين بسيط ووجيز". وجعل التفسير هو الباب الأول من هذا القسم، ومنه الحديث، والتوحيد، والتصوف، والفقه، والنحو، والأدب، والتاريخ. وقد نشر محمد بن عبد الكريم هذه الرحلة.
(2) إتمام الوطر في التعريف بمن اشتهر) مخطوط باريس. عن الزجاي انظر فصل السلك الديني في جزء آخر.
الشيء لإثراء الفكرة التي يسوقونها أو للتباهي بالحفظ والاطلاع.
ومما لا شك فيه أن هنالى أعمالا أخرى في التفسير لم نهتد إليها. وفي هذا الصدد نذكر أن ابن علي الشريف الشلاطي (محمد بن علي) قد ذكر أن من بين تآليفه عملا بعنوان (تفسير الغريب للمبتدئ القريب) وهو عنوان غامض لا نفهم منه بالضرورة أنه في تفسير القرآن الكريم، كما لا نفهم منه أنه موجه إلى الطلاب المبتدئين في هذا الميدان. فإذا صح أن هذا العمل هو تفسير للقرآن بطريقة بسيطة فإن مؤلفه قد يكون لجأ فيه إلى المعلومات التاريخية والفلكية، لأنه قد ألف أيضا في التاريخ الإسلامي والفلك (1)، كما أن الشيخ عمر بن محمد المحجوب المعروف بالبهلول الزواوي قد كتب تفسيرا للقرآن يبدو أنه انتهى منه حتى أصبح يعرف بـ (تفسير البهلول). وقد قيل عن البهلول وتفسيره هذه العبارة "وكان رجلا عاميا كتب في التفسير بما عنّ له " (2) والظاهر أن كلمة "عاميا" إنما تعني أنه قد أملى تفسيره على تلاميذه بشيء من البساطة في العبارة، أو أنه كان غير عميق في معانيه فظهر لمن اطلع عليه أن صاحبه عامي الثقافة.
القراءات
ويكاد ينسحب على القراءات ما قلناه عن التفسير. فقد اشتهر الجزائريون بتدريس القراءات أكثر مما اشتهروا بالتأليف فيها. وكانت بعض المراكز في أنحاء الجزائر قد عرفت بالحذق في هذه المادة، مثل زواوة حتى أنها كانت مقصودة للعلماء للاتقان والبراعة. فهذا الشيخ محمد بن مزيان
__________
(1) ذكر ذلك في كتابه الذي سنتناوله في فصل العلوم من هذا الجزء، وهو (معالم الاستبصار بتفصيل الأزمان ومنافع البوادي والأمصار) الذي ألفه سنة 1192. اطلعنا على نسخة منه في مكتبة الكونغرس الأمريكي، كما اطلعنا على صور أخرى منه في الجزائر.
(2) الخزانة التيمورية، ص 40، ولم نعرف إلى الآن عصر البهلول فلعله من أهل القرن الثاني عشر أيضا.
التواتي المغربي، الذي ورد على قسنطينة من المغرب، قد تثقف في المغرب في الفقه والنحو على الخصوص حتى أصبح يلقب بسيبويه زمانه. ومع ذلك فإنه حين جاء إلى قسنطينة وجلس للتدريس بها لم يستغن عن الذهاب إلى زواوة لتعلم القراءات السبع بها، وكان من شيوخه فيها عبد الله أبو القاسم، وقد أخبر عنه تلميذه الفكون أنه بقي في زواوة لذلك الغرض حوالي عام ثم عاد (ومتمكنا من علم القراءات) (1). ومن أشهر أساتذة القراءات بزواوة أواخر القرن الحادي عشر وأوائل الثاني عشر الشيخ محمد بن صولة الذي قرأ عليه العالم التونسي أحمد بن مصطفى برناز القراءات السبع أيضا (2).
وفي تراجم الفكون وابن مريم إشارات إلى بعض العلماء الذين اشتهروا بتدريس القراءات وحذقها في عهدهما. ومن ذلك ما رواه ابن مريم في (البستان) من أن محمد الحاج المناوي قد تصدر للتدريس في عدة علوم ولكنه مهر خصوصا في القراءات (3). أما الفكون فقد ذكر، أثناء نقده لعلماء عصره، إن محمد بن ناجي كان له درس عظيم ومشاركة في علم القراءات. وقال عن أحمد الجزيري إنه كان مدرسا من أهل الفتوى والشورى، وإنه كان يتعاطى التفسير والفقه ويدعى الأستاذية في القراءات السبع ومعرفة أحكام القرآن. وكلمة (يدعى) هنا لا تهمنا كثيرا لأن الفكون كان شديد النقد للعلماء الذين ضلوا، في نظره، سواء السبيل، لدخولهم في خدمة الولاة وأصحاب السلطة، والذي يهمنا هنا هو أن الجزيري كان يشتغل بالقراءات السبع (4).
أما التأليف في القراءات خلال هذا العهد فقد كان أقل من التفسير. ويبدو أن جل اعتماد علماء الجزائر حينئذ كان على (مورد الظمآن) للشريشي
__________
(1) ترجم له تلميذه عبد الكريم الفكون في (منشور الهداية). وقد توفي التواتي بالطاعون في باجة بتونس سنة 1031، انظر عنه سابقا.
(2) حسين خوجة (بشائر أهل الإيمان). وقد توفي برناز سنة 1138. وزار برناز الجزائر سنة 1107.
(3) ابن مريم (البستان). 266.
(4) الفكون (منشور الهداية) مخطوط. وقد حققناه، انظر سابقا.
المعروف بالخراز المغربي، وعلى شرح محمد التنسي، الذي أشرنا إليه، والمسمى (الطراز في شرح ضبط الخراز) (1). وفي نهاية القرن التاسع ألف محمد شقرون بن أحمد المغراوي المعروف بالوهراني عملا في القراءات أيضا سماه (تقريب النافع في الطرق العشر لنافع) (2). والنسخة التي اطلعنا عليها من هذا العمل عبارة عن قصيدة لامية تبدأ هكذا:
بدأت بحمد الله معتصما به ... نظاما بديعا مكملا ومسهلا وقد قسمها الى أبواب مثل باب الاستعاذة، باب البسملة، وباب ميم الجمع، باب المد والقصر، الخ. ويبدو أن محمد الوهراني قد شرح هذه القصيدة أو شرح (مورد الظمآن) للخراز، لأننا وجدنا له ما يدل على ذلك (3).
وكان محمد بن توزينت العبادي التلمساني من القراء المشاهير أيضا. وقد عرف عنه العلم والجهاد معا. ذلك أنه توفي مجاهدا ضد الإسبان سنة 1118، أي أثناء الفتح الأول لوهران. أما علمه، وخصوصا في القراءات، فيكفي أنه أخرج فيه تلميذه أحمد بن ثابت الذي لعله فاق أستاذه شهرة فيه. وكما أخرج ابن توزينت التلاميذ، ألف تقييدا في القراءات أيضا لعله كان الحافز الرئيسي لتلاميذه لكي يحتذوا حذوه، غير أننا لم نستطع أن نطلع على هذا التقييد لأن النسخة التي حاولنا الرجوع إليها منه مفقودة الآن (4). وقد
__________
(1) انظر الفصل الأول من الجزء الأول.
(2) مخطوطات باريس، رقم 4532 مجموع. انتهى منه الوهراني سنة 899. والنسخة التي اطلعنا عليها تعود إلى سنة 1149 وهي بخط محمد أبو ناب الغريسي. وفيها أخطاء كثيرة. انظر أيضا المكتبة الملكية بالرباط، رقم 4497 مجموع. وتوجد ترجمة الوهراني في (دوحة الناشر) وغيره.
(3) وجدنا في المكتبة الملكية بالرباط رقم 4497 مجموع ما يدل على ذلك حيث العنوان (تعليق على مورد الظمآن للخراز) وإن كنا لم نطلع على هذا العمل.
(4) المكتبة الوطنية، الجزائر، رقم 2243. وقد ذكره تلميذه أحمد بن ثابت في (الرسالة الغراء) ونوه به، كما ذكره أبو راس الناصر في (عجائب الأسفار).
وجدنا في التعريف بهذه النسخة أن صاحبها هو محمد بن علي بن توزينت وأنه من تلاميذ الشيخ محمد السنوسي. ولكننا نستبعد أن يكون ابن توزينت قد تتلمذ على السنوسى وذلك للمسافة الزمنية الطويلة التى تفصل بينهما والصحيح أن يقال إنه تلميذ لتلاميذ السنوسي.
أما تلميذه أحمد بن ثابت صاحب (الرسالة الغراء في ترتيب أوجه القراء) فلا نعرف عن حياته إلا القليل أيضا. فقد ذكر بعض المعلومات عن نفسه في رسالته المذكورة، مثل قراءته على شيخه ابن توزينت. وممن نوهوا به أبو راس الناصر الذي وصفه بالعلم الغزير والجهاد أيضا. فقد أخبر عنه أنه من أهل تلمسان وأنه، قياما بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد حارب أهل تلمسان (حتى دوخهم) (1). وقد مات من أجل ذلك عدد كثير من الطلبة (وهم العلماء وتلاميذهم) وأنه قاد الطلبة في الحرب ضد الإسبان في وهران مثل شيخه ابن توزينت. كما اعتبره أبو راس شيخ مشائخه وقال عنه إنه ترك تلاميذ في القراءات وإنه كان من سلالة سلاطين تلمسان، وقد توفي ابن ثابت في منتصف القرن الثاني عشر. غير أن عبد الرحمن الجبرتي قد حدد تاربخ وفاته بسنة 1151 (2). وقد أورد الجبرتي بعض المعلومات التي تكمل معلوماتنا عن ابن ثابت. فهو عنده (الأستاذ العارف أحمد بن عثمان بن علي بن محمد بن علي بن أحمد العربي الأندلسي التلمساني الأزهري المالكي). ونلاحظ أن الجبرتي لم يذكر كلمة (ثابت) في هذه السلسلة. كما نلاحظ أنه قال عنه إنه أخد الحديث عن علماء المغرب العربي ومصر والحرمين وتصدر للتدريس في هذه الأماكن. بقي علينا أن نتساءل: هل أن أحمد بن ثابت عند أبي راس هو نفسه أحمد بن عثمان عند الجبرتي؟ إن تطابق العصر وتاريخ الوفاة والنسبة إلى تلمسان تجعلنا نرجح أن الاسمين لشخص واحد.
__________
(1) ذكر لي المهدي البوعبدلي في رسالة خاصة أن أحمد بن ثابت قد ثار على الأتراك سنة 1150 وأنه اضطر إلى الهجرة والوفاة في المهجر.
(2) الجبرتي (عجاب الآثار) 1/ 166.
ومهما كان الأمر فإن الذي يهمنا الآن هو رسالة أحمد بن ثابت المذكورة في القراءات (1) فقد اعتمد فيها على المؤلفين السابقين في هذا العلم أمثال الشاطبي صاحب منظومة (حرز الإماني ووجه التهاني) والجعبري وابن الجزري. وكثيرا ما يقول ابن ثابت إنه قرأ هو بقراءة كذا. وبعد أن بين الدوافع التي جعلته يؤلف رسالته أوضح طريقته فيها بقوله: (وبعد، فهذه الرسالة الغراء .. سألنيها بعض الثقات، ليعرف المقدم في وجوه الروات (كذا)، فاستبنت القوي من الضعيف، وباينت المشروف من الشريف ..) ومن عناوينه فيها ذكر اختلافهم - أي القراء - في التعوذ والبسملة وبيان الراجح من ذلك، اختلاف سورة آل عمران، ثم سورة النساء، الخ.
وقد أسهم عبد الكريم الفكون أيضا بالتأليف في القراءات. فقد ذكر أنه ألف عملا سماه (سربال الردة في من جعل السبعين لرواة الاقرا (كذا) عدة). وقد نص على أن هذا التأليف لا يتجاوز كراسة وأنه قد وضعه بعد واقعة وقعت له مع أحد علماء قسنطينة عندئذ، وهو أحمد بن حسن الغربي (2). ويبدو من العنوان ومن ظروف التأليف أن هذه الكراسة عبارة عن مناقشة لما ادعاه الغربي. ولكن معرفتنا لبعض آثار الفكون الأخرى تجعلنا نعتقد أن هذا العمل غني بالآراء والنقول، وأن صاحبه قد عالج فيه أنواع القراءات ورواتها وغير ذلك مما يتصل بهذا الموضوع. ومما يتصل بأوجه القراءات طريقة النطق بالتكبير والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) عند الختم. وقد ألف في ذلك أيضا أحمد بن ثابت التلمساني، الذي تقدم ذكره، رسالة لا نعرف الآن بالضبط اسمها لأنها مبتورة، والذي نعرفه عنها أن صاحبها قد نظم أبياتا في التكبير عند الختم بطلب من بعض إخوانه ثم شرح الأبيات. وجاء في طالعها:
__________
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2245 مجموع، وهي فيه من ورقة 171 إلى 182.
(2) الفكون (منشور الهداية)، مخطوط. وهو محقق ومطبوع.
إذا أدرت الختم للمكي ... من الضحى يروى عن النبي
أما الشرح فقد بدأه بهذه العبارات (وبعد، فلما كان التكبير سنة مأثورة على أهل مكة، وكان نظر شيخنا سيدي محمد بن توزينت كافيا في معرفة وجهه وكيفية تلاوته حالة الختم، واستكثره بعض الأخوان، وليس بكثير) (1)، أنشأ الأبيات المذكورة همع شرحها تلبية لمن طلبه ذلك.
الحديث
من العلوم التي أنتج فيها الجزائريون علم الحديث ومصطلحه. فقد اعتنوا به تدريسا وتأليفا ورواية وإجازة. ولا شك أن ذلك يعود إلى صلة علم الحديث بالدين وبالتصوف معا. كما يعود إلى كون علم الحديث يعتمد إلى حد كبير على الحفظ، وهم حفاظ مهرة حتى اشتهروا بذلك منذ القديم. وكان العمل عندهم بالكتب الستة، يدرسونها ويسندونها ويحفظونها أحيانا، ولكن عنايتهم بصحيح البخاري قد فاقت كل عناية. فهو الكتاب الذي كان متداولا لديهم أكثر من غيره، ولعله قد بلغ عند بعضهم مبلغ القداسة، فكتبوا عليه الشروح والحواشي، وتدارسوه للبركة والحفظ، واستعملوه في المناسبات الدينية والحربية، واهتموا به عند القراءة حتى لا تقع أخطاء في معانيه.
ولا نكاد نجد مدرسا من المدرسين البارزين الذين ذكرناهم إلا وقد برع في تدريس الحديث أيضا. وأهم الأماكن التي كان يدرس بها الحديث هي الجوامع الكبيرة احتراما له. وكان بعضهم يبالغ فيضيف إلى جو الدرس جوا آخر من البهجة والسرور برش ماء الورد في نهاية ختم البخاري، وإلقاء جملة من الأدعية المناسبة، وترنيم الأحاديث بصوت رخيم. وكان لا يتولى إملاء الحديث إلا كبار العلماء وذوو الأصوات الحسنة والجهورية. فهذا
__________
(1) المكتبة الوطنية - الجزائر رقم 2254 مجموع. لا يوجد منها سوى ورقتين مع (الرسالة الغراء) لنفس المؤلف. ولا نعرف مصدرا آخر لباقيها.
عبد الرزاق بن حمادوش، الذي تولى سرد صحيح البخاري في الجامع الكبير بالعاصمة، يروي أن ممليه كان محمد بن سيدي الهادي وأحمد العمالي والمفتي الحاج الزروق وعبد الرحمن الزروق، وغيرهم. وكان يميز من كان له صوت جهوري سليم ومن كان صوته ضعيفا وغير فصيح (1). كما تضمنت رحلة ابن عمار (2) ومذكرات الزهار وغيرهما المناسبات الدينية والاجتماعية التي يتلى فيها البخاري وطريقة التلاوة وزمنها ونحو ذلك. كما أن مصادر الحملات العسكرية ضد الأجانب تضمنت وصفا للجوء العلماء الجزائريين، أحيانا بأمر السلطات السياسية، لقراءة صحيح البخاري في المساجد أو بين أيدي المقاتلين. ومن ذلك ما رواه ابن زرفة في (الرحلة القمرية) (3) وابن سحنون في (الثغر الجماني) من أن الباي محمد الكبير قد أمر العلماء والطلبة بقراءة صحيح البخاري عند الحملة ضد الإسبان بوهران. وبالجملة فإن مكانة صحيح البخاري في الحياة الدينية والاجتماعية في الجزائر خلال العهد العثماني مكانة عظيمة حتى أن صحيح البخاري كاد ينافس المصحف في كثرة الاستعمال (4).
فإذا عدنا إلى الأثبات والفهارس وجدنا ثروة كبيرة تركها الجزائريون بهذا الصدد. كما أن إجازتهم لغيرهم قد تضمنت روايتهم للحديث وشيوخهم ونحو ذلك مما يتصل بالسند. وكان الجزائريون حريصين في أسفارهم وحجهم على الدراسة وطلب العلم، ولا سيما علم الحديث، للأسبالب التي ذكرناها في الجزء الأول، وعلى رأسها عدم وجود معاهد عليا للتعليم في
__________
(1) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوط. انظر أيضا دراستي عنه في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر)، ج 1، ط 3، 1990.
(2) الحاج صادق، المولد عند ابن عمار (بالفرنسية)، دمشق، 1957.
(3) هوداس (مخطوط عربي عن خروج الإسبان من وهران) في وقائع مؤتمر المستشرقين الرابع عشر، الجزائر 1905.
(4) عالج ذلك محمد بن أبي شنب (وصول صحيح البخاري إلى سكان مدينة الجزاثر) في بحث قدمه إلى مؤتمر المستشرقين الرابع عشر، الجزائر 1905.
بلادهم. فكانوا إذا حلوا بالمغرب أو بتونس، بمصر أو بالحرمين، بالشام أو العراق 0 يتتلمذون على أكابر العلماء إلى أن ينالوا منهم سعة الاطلاع والتعمق في المعارف ويحصلون منهم على الإجازات في مختلف العلوم، وخصوصا علم الحديث وكان علماء الجرائر بدورهم ينشرون هذا العلم عن طريق الإجازة ونحوها بالشروط المعروفه لديهم عندئذ. وبذلك ساعدوا من جهتهم على نشر علم الحديث وأظهروا العناية به. وقد ساعدتهم في ذلك قوة الحافظة التي أشرنا إليها. وهكذا فعل كبار علماء الجزائر أمثال عبد الكريم الفكون وابن العنابي وعلي بن الأمين وعيسى الثعالبي، وأحمد البوني، وأحمد بن عمار وأبو راس الناصر ويحيى الشاوي.
ولم يكن الحديث يدرس لذاته فقط بل كان يدرس أيضا للعمل به في مجالات المعرفة المختلفة. فالحديث قبل كل شئ مصدر من مصادر التشريع الإسلامي. وفي ضوء ذلك عمد الجزائريون إلى دراسة الطب النبوي وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة، وما إلى ذلك من القضايا التي تضمنها الحديث. فقد ألف محمد بن علي بن أبي الشرف التلمساني كتابا كبيرا في أجزاء جرده من كتاب الشفا للقاضي عياض سماه (المنهل الأصفى في شرح ما تمس الحاجة إليه من ألفاظ الشفا) كما قام بشرح ما أخذه من الشفا. وكان المؤلف قد أخذ الشفا إجازة عن ابن غازي بفاس سنة 913. وبعد أن تشبع بالثقافة الجزائرية والمغربية توجه ابن أبي الشرف إلى المشرق حيث كان موجودا بمكة المكرمة سنة 930، ومن هناك انقطعت عنا أخباره فلعله ظل مجاورا بالحرمين إلى أن أدركته الوفاة في تاريخ ما زلنا نجهله. وطريقة الشرح التي اتبعها ابن أبي الشرف ليست جديدة، فهو يعمد إلى شرح الألفاظ التي انتقاها من الشفا شرحا لغويا ثم دينيا، ولكن بأسلوب سهل واضح (1).
__________
(1) اطلعنا على نسخة الخزانة العامة بالرباط، ك 340. وتوجد منه نسخة أخرى في المكتبة الوطنية بالجزائر، رقم 2113 وهناك نسخة أخرى منه مأخودة عن خط مؤلفه بالزاوية الحمزية بالمغرب رقم 468. وتاريخ النسخة 971. انظر (مجلة تطوان)، 8.
وقد ترك أحمد المقري عدة تآليف في علم الحديث والسنة النبوية.
وكان مشهورا برواية الحديث الذي أخذه عن علماء المغرب والمشرق. ومما أخذه عن عمه سعيد المقري بتلمسان سنده في الكتب الستة إلى القاضي عياض. وكان المقري قد تصدر لتدريس صحيح البخاري في الجامع الأزهر حتى بهر الحاضرين، كما وفد على المدينة المنورة سبع مرات وأملى الحديث النبوي عند قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم). وقد أملى صحيح البخاري بالجامع الأموي بدمشق أثناء درس كان يلقيه بعد صلاة الصبح. ولما كثر الناس حوله خرج إلى صحن الجامع. وحضر درسه غالب أعيان دمشق وجميع الطلبة، كما يقول المحبي. وكان يوم ختم البخاري (حافلا جدا اجتمع فيه الألوف من الناس وعلت الأصوات بالبكاء فنقلت حلقة الدرس إلى وسط الصحن إلى الباب الذي يوضع فيه العلم النبوي في الجمعات من رجب وشعبان ورمضان. وأتي إليه بكرسي الوعظ فصعد عليه وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمع نظيره أبدا، وتكلم على ترجمة البخاري. وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قرب الظهر، ثم ختم الدرس بآيات قالها حين ودع المصطفى (صلى الله عليه وسلم). ونزل عن الكرسي فازدحم الناس على تقبيل يده. ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين إلى دمشق ما اتفق له من الحظوة وإقبال الناس) (1) وكان ذلك قبل وفاة المقري بأربع سنوات. ومن تآليف المقري في السنة النبوية (فتح المتعال في مدح النعال) (2) وهو بحث في النعال النبوية ألفه في المدينة المنورة، و (أزهار الكمامة في أخبار العمامة ونبذة من ملابس المخصوص بالإسراء والإمامة)، وهو بحث في عمامة وملابس النبي (صلى الله عليه وسلم). كما ألف كتابا في الأسماء النبوية سماه (الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين) (3)، وسنذكر ما للمقري من أثبات بعد قليل.
__________
(1) خلاصة الأثر، 1/ 305.
(2) طبع قي حيدر أباد سنة 1334.
(3) الكتاني فهرس الفهارس 2/ 14، وخلاصة الأثر 1/ 303، وفهرس دار الكتب المصرية رقم 24260 ب.
وكان مختصر ابن أبي جمرة لصحيح البخاري متداولا أيضا بين الجزائريين. وقد شعر عبد الرحمن بن عبد القادر المجاجي أن هذا المختصر في حاجة إلى شرح يضبط ألفاظه ويقرب معانيه فقام بعمل ضخم بهذا الصدد، وسمى شرحه (فتح الباري في ضبط ألفاظ الأحاديث التي اختصرها العارف بالله (ابن أبي جمرة) من صحيح البخاري). وكان المجاجي قد درس أولا في موطنه مجاجة وفي تلمسان ثم في فاس على عدة شيوخ. وكان دافعه إلى القيام بهذا العمل الغيرة على قراءة الحديث حتى لا تقع فيه الأخطاء أثناء القراءة، وكون شيخه، محمد بن علي أبهلول، كثيرا ما فكر في كتابة عمل من هذا النوع، ولكن الأقدار لم تسعفه. لذلك قام هو بالمهمة. وقد بدأ المجاجي بتعريف علم الحديث، فقال: (علم الحديث من أجل العلوم قدرا، وأعلاها منزلة وخطرا، وكان الناس مقبلين على قراءة جامع البخاري عموما وعلى ما اختصر منه الشيخ العارف بالله ابن أبي جمرة .. خصوصا .. وكانت قراءة الحديث تحتاج إلى شروط جمة، وتلزمها آداب مهمة، أعظمها الاحتراز من الخطأ في إعرابه، ومن اللحن في مضبوط ألفاظه، فتحرك مني الغرام الساكن لضبط تلك الأماكن ..) وفي المقدمة التي وضعها المجاجي لشرحه بابان الأول في التعريف بالمصنف (البخاري) والثاني في علم الحديث على الجملة، وجعل كل باب يحتوي على فصول، كآداب معرفة الحديث، وكيفية روايته، وكيفية كتب الحديث وضبطه، وبعض ألقاب الحديث الخ. أما الكتاب جملة فقد قسمه إلى كتب، فهناك كتاب للبيع، وآخر للشركة، وثالث للصوم، ورابع للهبة الخ. وقد وضع بعض المصطلحات في المنقول عنهم: فحرف الحاء (ح) يشير إلى القاضي عياض، وهكذا. كما أنه نقل كثيرا عن أستاذه محمد بن علي أبهلول (1).
__________
(1) الخزانة العامة بالرباط، رقم ك 1775 في حوالي 300 ورقة وبخط جيد، وهناك نسخة أخرى برقم ك 1065 غير جيدة وغير كاملة ويبلغ الموجود منها 416 صفحة. ومنه نسخة أيضا في المكتبة الملكية بالرباط رقم 5714 (1). ومن الملاحظ أن أبا راس قد أوضح أن عبد الرحمن المجاجي كان تلميذا لابني علي أبهلول، وهما =
وهناك تآليف أخرى في علم الحديث والسنة، من ذلك تأليف عبد العزيز الثميني الذي سماه (مختصر حاشية مسند الربيع بن حبيب) وهو في ثلاثة أجزاء. وحاشية أحمد بن عمار على صحيح البخاري. وقد عرف ابن عمار السند وفضله على الأمة الإسلامية، مستعيرا تعريفه من محمد بن أبي حاتم بن المظفر 0 وكان ابن عمار من المسندين المعروفين في وقته. وسنذكر ثبته فيما بعد (1). ومثله عيسى الثعالبي الذي وضع رجزا سماه (مضاعفة ثواب هذه الأمة) (2). ولعل عنوان الرجز غير كامل، ولعل الثعالبي قد قام بشرحه وإبراز أفكاره وإثراء عمله بالاستشهادات. وهناك عمل آخر ينسب إلى قاسم بن محمد ساسي البوبي سماه (المنحة الإلهية في الآيات الإسرائية) (3). كما ينسب إلى أحمد بن ثابت البجائي عمل في الحديث هو (التفكر والاعتبار في الصلاة على النبي المختار) (4). أما محمد بن أحمد الشريف الجزائري فقد وضع رسالة في الطب النبوي سماها (المن والسلوى في تحقيق معنى حديثا لا عدوى). وقد حلل فيها معنى الحديث من جميع النواحي. وأهداها بنفسه إلى السلطان العثماني في وقته أحمد باشا (سنة 1149) (5). كما نظم محمد بن علي المعروف بأقوجيلي (القوجيلي) الجزائري منظومة سماها (عقد الجمان اللامع المنتقى من قعر بحر الجامع)،
__________
= محمد وأبو على، وليس لوالدهما. انظر (عجائب الأسفار)، مخطوط الجزائر، 138. ولا ندري الآن ما إذا كان عبد الرحمن المجاجي هو نفسه مؤلف (التعريف بأهل بدر) الذي يذكر مؤلفه أنه عبد الرحمن بن علي الراشدي. المعرض الثالث لجائزة الحسن الثاني للمخطوطات (مركز الرباط، 1971).
(1) محمد بن أبي شنب (وصول صحيح البخاري إلى أهل مدينة الجزائر) محاضر. مؤتمر المستشرقين 14، الجزائر 1905.
(2) بروكلمان 2/ 939. وهو في علم الحديث.
(3) بروكلمان 2/ 691. ولعل هذا العمل من تآليف أحمد البوني.
(4) بروكلمان 2/ 939. ولا نعرف الآن عصر البجائي.
(5) اطلعنا على هذه الرسالة في مكتبة كوبروللو بإسطانبول، وهي في 13 ورقة وخطها رقعي وجيد، ورقمها 69.
وهي منظومة في مخرجي أحاديث الجامع الصحيح للبخاري وعدد الأحاديث التي لكل منهم، ومن هو المكثر ومن هو المقل في السند على ما أورده ابن حجر. وزاد عليه القوجيلي التعريف بالوفاة وتكملة تراجم الرواة (1). وقد قام أحمد بن قاسم البوني باختصار مقدمات فتح الباري على البخاري (2). كما جمع محمد بن أبي الحسن بن محمد العربي التلمساني حوالي خمسمائة حديث ووضعها في مائة واثني عشر بابا وسمى ذلك (الهادي للمهتدي) (3). ويمكن القول إنه برغم عناية الجزائريين بالحديث، وبصحيح البخاري خصوصا، فإن تآليفهم فيه لا تقارن هذه العناية. حقا إن لهم أعمالا أخرى في السيرة النبوية عموما وبعض الأعمال المستمدة من الأحاديث، ولكن يظل ميدان التأليف في علم الحديث يكاد يكون خاليا إلا من بعض الأمور التقليدية مثل الشروح والحواشي والرسائل الصغيرة والأراجيز، ولا شك أن هناك بعض الأعمال التي فاتنا التنبيه عليها. ولعل في جهود الجزائريين في ميدان الأثبات والفهارس والإجازات ما يعوض هذا النقص في التأليف في علم الحديث.
الأثبات
شاع في الجزائر خلال العهد المدروس حفظ الحديث وإسناده وقراءته وإقراؤه. كما شاعت كتابة الأثبات أو (الفهارس أو البرامج) التي كان العالم يسجل فيها مروياته في الحديث بالسند، والكتب التي قرأها مثل صحيح
__________
(1) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، مجموع رقم 52 من ورقة 29 - 47. وبناء على هذا المصدر فإن القوجيلي قد توفي سنة 1080. انظر عنه فصل الشعر أيضا.
(2) نسخة منه في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 450. وعنوانه هناك هو (مختصر مقدمات فتح الباري). وهو بخط المؤلف بتاريخ 1113. انظر أيضا فهرس الفهارس 1/ 169، وبروكلمان 2/ 715، انظر أيضا ترجمة أحمد البوني في هذا الفصل.
(3) نسخة منه في مكتبة جامعة برنستون الأمريكية (قسم يهودا) رقم 5681 مجموع. وقد كتبه مؤلفه سنة 1156.انظر أيضا بروكلمان 2/ 611.
البخاري وغيره من الكتب الستة المشهورة، كما يسجل شيوخه الذين درس عليهم، ولا سيما شيوخه في علم الحديث. وكانت هذه الأثبات تتداول بين العلماء ولا تعرف حدودا لا في البلد الواحد ولا خارجه، فهي تتنقل مع الحجاج أو ترسل بالبريد أو تحفظ عن ظهر قلب أو تكتب مطولة أو مختصرة في شكل إجازات، كما سنرى. وكانت الأثبات ورواية علم الحديث وإجادة السند مما يتفاخر به العلماء ويتباهون به فيما بينهم. ويعتبر الثبت الغني بالشيوخ والإجازات والقراءات علامة على تبحر العالم في علمه وعلى بلوغه ما يشبه الكمال عندهم. لذلك قل كتاب الأثبات لقلة الأكفاء في علم الحديث وكثر، من جهة أخرى، طلاب الإجازات وسهل منحها، لأنها تعتبر شهادات علمية ومدخلا للكفاءة في التدريس ونحوه. وكان يكفي أن يقال عن فلان إنه (حافظ) حتى تشرئب إليه الأعناق وتقطع إليه المسافات لنيل الإجازة منه ورواية الحديث وغيره عنه.
وإذا نظرنا إلى الناحية الشكلية فإن الثبت يكتب إما كسجل تاريخي شخصي، وإما لمنحه إجازة لأحد العلماء الراغبين. ولدينا الآن نماذج للنوعين. ولكن الإجازة قد تكون اختصارا لما في الثبت من مطولات. مثلا، كتب أحمد بن عمار ثبته مطولا ولكنه عندما أجاز عالم دمشق محمد خليل المرادي اكتفى بتعداد القليل من شيوخه ومروياته. وكذلك فعل ابن العنابي مع محمد بيرم التونسي. وكان العلماء يعتقدون أنهم بهذه الطريقة (كتابة الأثبات ومنح الإجازات) يحافظون على علم الحديث رواية ويصلون السند بعضه ببعض مهما تباعدت الحقب. والواقع أنهم بذلك خلقوا استمرارية واضحة بين الأجيال في هذا الفرع الهام من فروع المعرفة الإسلامية. ويكفي أن يقال مثلا أن ابن باديس في القرن الرابع عشر الهجري كان يروي الحديث عن أحمد الونشريسي في القرن العاشر، بينما لم يجتمعا ولم يتتلمذ أحدهما على الآخر وإنما وقعت للأول رواية الحديث عن طريق السند من الثاني. ومن أشهر الجزائريين الذين رويت عنهم الأحاديث سعيد قدورة وأحمد بن عمار وعلي بن الأمين وعيسى الثعالبي وسعيد المقري.
ومن الجزائريين الذين انتقل منهم علم الحديث إلى علماء آخرين نذكر محمد التنسي وابن مرزوق المعروف بالكفيف، ومحمد بن يوسف السنوسي وعبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن عبد الكريم المغيلي وأحمد الونشريسي (1). وكان لهؤلاء تلاميذ أخذوا عنهم علم الحديث جيلا بعد جيل. وقد اشتهروا (بالحفظ) وهي الظاهرة العامة التي تحدثنا عنها. ولذلك أشير إلى محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي بأنه (الإمام المحدث الحافظ) وسماه بعضهم (ببقية الحفاظ). ومهما يكن من شيء فإن ثبت التنسي قد وصل إلى العهد العثماني عن طريق سعيد قدورة وأحمد المقري وغيرهما.
ومن الذين تركوا (ثبتا) أوائل العهد العثماني محمد شقرون بن أحمد الوهراني. وقد قيل إن ثبته يقع (في جزء لطيف) مما يبرهن على كثرة شيوخه ومروياته. والمعروف عن الوهراني أنه قد ألف في علوم أخرى أيضا وكان واسع الاطلاع بحكم الدراسة والتنقل (2). ولا نعرف أن عمر الوزان وعبد الرحمن الأخضري وسعيد المقري قد تركوا أثباتا بشيوخهم وأسانيدهم. وقد اشتهر في القرن الحادي عشر عدد من العلماء الذين ولعوا بالحديث رواية ودراية وتركوا وراءهم مروياتهم وشيوخهم في فهارس تحمل أسماءهم أو نقلوا مروياتهم إلى تلاميذهم فأخذوها عنهم مشافهة. وكان حظ بعض التلاميذ أوفر من حظ الأساتذة في تسجيل هذه الآثار. ولعل أبرز من سجل المرويات وولع بالحديث دراية ورواية أبو مهدي عيسى الثعالبي الذي ترك سجلا حافلا بذلك. ولأهمية عمله سنفرد له ترجمة في هذا الفصل. وقد كان أحمد المقري، رغم ولوعه بالأدب والتاريخ، قد أخذ سند الحديث عن
__________
(1) عن هؤلاء العلماء انظر الفصل الأول من الجزء الأول. باسثناء ابن مرزوق الكفيف الذي لم نذكره هناك. وهو من مشاهير المسندين أيضا حتى سماه معاصره أحمد الونشريسي (بالحافظ المصقع). وقد أخذ العلم عن والده محمد بن مرزوق الحفيد وعبد الرحمن الثعالبي، كما حج وأخذ عن علماء المشرق والمغرب. وتوفي سنة 901. وله (ثبت) يرويه عنه العلماء. انظر عنه (فهرس الفهارس) 1/ 197.
(2) (دليل مؤرخ المعرب) 2/ 300. توفي الوهراني حوالي 929.
شيوخه من المغرب والمشرق، كما عرفنا. وتضمن كتابه (روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس) مجموعة من شيوخه في السند. وذكر بعض الباحثين أن للمقري أيضا (فهرسة) بأسانيده (1). وقد كان المقري في معارفه الكثيرة وطموحه البعيد ومحفوظه الغزير نقطة مضيئة في ظلام الثقافة الجزائرية خلال العهد العثماني (2).
وشهد القرن الثاني عشر أيضا موجة أخرى من العناية بالحديث رواية ودراية على يد مجموعة من العلماء، منهم المنور التلمساني الذي لا نكاد نعرف له تآليف غير مجموعة من الإجازات التي منحها له شيوخه في المغرب والمشرق. ومن شيوخه في الجزائر مصطفى الرماصي. وأما مشائخه في المشرق فقد ذكر منهم عبد الحي الكتاني أبا عبد الله محمد المسناوي وستة آخرين. وقد حصل الكتاني على معظم إجازات المنور. والأوصاف التي أطلقت على هذا الشيخ تدل على باعه الطويل في علم الحديث والسند حتى أن محمد مرتضى الزبيدي قال عنه: (العالم الفاقد للأشباه .. عالم قطر المغرب). ولعل هذا الإعجاب بالشيخ المنور يعود إلى كونه من الذين أجازوا الزبيدي أيضا. وقد توفي المنور بمصر أثناء عودته من الحج سنة 1172. ويؤكد الكتاني أن علماء الجزائر في وقته كانوا يروون مرويات المنور في الحديث (3).
وكان المنور التلمساني معاصرا لأحمد بن عمار الذي يعتبر من مسندي العصر ومن المؤلفين في السند أيضا. كان ابن عمار أديبا فقيها بالدرجة الأولى، ولكن تأثير العصر جعله يعيش عيشة العلماء الفقهاء أيضا. فأخذ الطريقة الشادلية عن المنور التلمساني، وأخذ (طريق القوم) عن
__________
(1) الكتاني (فهرس الفهارس) 2/ 13. انظر أيضا (خلاصة الأثر) 1/ 305. وله سند برواية صحيح البخاري مع إجازته لعيسى العجلوني في دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 335 مجموع.
(2) ستفرد للمقري ترجمة في فصل الأدب من هذا الجزء.
(3) الكتاني، 2/ 9. انظر عنه أيضا في الإجازات.
عبد الوهاب العفيغي بمصر. ولعله أخذ أيضا غير ذلك من عهود الطرق الصوفية عندما كان في الحجاز. أما الحديث، ولا سيما صحيح البخاري، فقد رواه عن خاله محمد بن سيدي هدى الجزائري ومحمد بن سيدي الهادي. كما روى علم الحديث عن علماء بمصر والحرمين وسجل بعضهم في إجازته لمحمد خليل المرادي الشامي. وقد عد له الكتاني تسعة أساتذة على الأقل يروى عنهم بأسانيدهم. وتنقل ابن عمار كثيرا بين الجزائر ومصر وتونس والحرمين، كما سنرى. وكان له نشاط أدبي في كل هذه البلدان.
وقد جمع تلميذه إبراهيم السيالة التونسي إجازات شيخه ومروياته فإذا هي تبلغ نحو الكراستين وتسمى: (منتخب الأسانيد في وصل المصنفات والأجزاء والمسانيد). وعندما اطلع عليها ابن عمار سنة 1204 أجازه بها ووضع عليها خطوطه وختمه. وقد اطلعنا نحن على خط وختم ابن عمار في إجازاته للمرادي سنة 1205، وهي الإجازة التي كتبها بنفسه. وكان لرواية الحديث بطريقة ابن عمار تأثير على علماء العصر حتى أن معظم علماء الجزائر يروون عنه، ومنهم أبو راس وعبد الرحمن بن الحفاف (1) ومصطفى الكبابطي وأحمد بوقندورة وغيرهم (2) ولابن عمار تلاميذ كثيرون من المشرق والمغرب. فبالإضافة إلى من ذكر، هناك أحمد الغزال المغربي، وعمر بن عبد الكريم المعروف بابن عد الرسول المكي الحنفي شيخ الإسلام (3)، وغيرهما.
والمعروف أن أبا راس الناصر كان من أكثر العلماء إنتاجا في عصره. وكان إنتاجه متنوعا تنوع ثقافته. ومن الصعب دراسته في باب معين، ولكننا
__________
(1) كان حيا سنة 1213 إذ وجدناه يحضر مجلس البخاري بالعاصمة دراية ورواية ويتقاضى عن ذلك ريالا في كل شهر، الأرشيف دفتر (288) 41 - 228 mi .
(2) الكتاني، 2/ 26، 1/ 82 - 83 والحاج صادق (المولد عند ابن عمار) 289. انظر ترجمة ابن عمار في فصل الأدب من هذا الجزء.
(3) عن هذا الأخير انظر (فيض الملك المتعالي) لعبد الوهاب عبد الستار، 2/ 93. مخطوط بمكتبة الحرم الشريف.
سنفرد لأبي راس دراسة في فصل التاريخ لغلبة هذا العلم على إنتاجه. وحسبنا هنا منه إنتاجه في سند علم الحديث. ذلك أنه قد أخذ هذا العلم على كثير من العلماء في المغرب والمشرق أيضا لكثرة أسفاره وتتلمذه هنا وهناك.
ومن الذين أخذ عنهم في الجزائر أحمد بن عمار وعلي بن الأمين، ومحمد بن جعدون، ومحمد بن مالك، ومحمد بن الشاهد، وأحمد العباسي، أما في المشرق فمن أبرز أساتذته محمد مرتضى الزبيدي ومحمد الأمير.
وقد خص أبو راس، الزبيدي بثبت سماه (السيف المنتضى فيما رويته عن الشيخ مرتضى)، وأدرج الجميع في عمله المعروف بـ (لب أفياخي في تعداد أشياخي) الذي لخصه في رحلته (فتح الإله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته). وفي هذه الرحلة عدد أبو راس أيضا فضل الله عليه في التأليف والمشيخة ونحو ذلك. كما أنه ذكر هناك تآليفه الأخرى في علم الحديث.
ومن المعاصرين لأبي راس أبو طالب محمد المعروف بابن الشارف المازوني الذي توفي سنة 1233 بمازونة عن نيف ومائة سنة. والمازوني يشبه محمد المنور التلمساني في كونه غير معروف بتآليفه. فأسانيده التي وصلت إلينا توجد في مجلد وسط، حسب تعبير الكتاني، وقد جمعها عبد القادر بن المختار الخطابي الجزائري وسماها (الكوكب الثاقب في أسانيد الشيخ أبي طالب). والخطابي من سلالة المازوني ومن سلالة أبي راس أيضا. وقد تنقل الشيخ الخطابي بين الجزائر وتونس ومصر، وفي مصر أكمل تأليفه المذكور، ولعله توفي فيها أيضا سنة 1236. وقد رأى الكتاني نسخة من (ثبت) أبي طالب في مازونة (1).
ويشترك الطاهر المشرفي وحمودة المقايسي مع ابن الشارف المازوني ومحمد المنور في قلة الإنتاج والشهرة بين المعاصرين برواية الحديث وحفظ السند. فقد كان للطاهر بن عبد القادر المشرفي المعروف بابن دح (ثبت)
__________
(1) الكتاني 1/ 382.
أيضا يرويه العلماء ويتداولونه، وهو الثبت الذي كان قد أجاز به تلميذه ابن عبد الله سقط الذي سنتحدث عنه. ورغم أن الطاهر المشرفي قد تولى القضاء في وهران في أواخر العهد العثماني فإننا لا نعرف عن حياته الآن إلا القليل. ومن ذلك أنه هو شارح (النصيحة الزروقية) في التصوف، وانه كان قد أخذ العلم بفاس وأن من شيوخه بالإجازة عبد القادر بن شقرون والطيب بن كيران، وكلاهما قد أجازه إجازة عامة شملت كل ما عندهما. وقد توفي المشرفي بوهران ولكننا لا ندري الآن متى كان ذلك (1). ومن جهة أخرى لا ندري ما حجم هذا الثبت ولا ما اشتمل عليه من المسائل.
أما حمودة بن محمد المقايسي فيبدو أكثر ثقافة من سابقه أو على الأقل نعرف نحن عنه أكثر مما نعرف عن زميله. فقد ولد بمدينة الجزائر ولعله أخذ بها العلم، ثم توجه إلى المشرق حيث تتلمذ على عدد من الشيوخ ذوي الشهرة الواسعة عندئذ، كالزبيدي ومحمد الأمير وحسن العطار ومحمد الدسوقي وحجازي بن عبد المطلب العدوي، كما أذنوا له بالتدريس هناك. وكان الأزهر في الوقت الذي درس فيه حمودة المقايسي يعج بالأفكار والتيارات فتأثر بذلك. ثم حل بتونس ولكنه عاد إلى بلاده يحمل بعض هذه التيارات والأفكار فلم يستطع أن ينشرها، لأسباب لا نعرفها، فاشتغل، بدلا من التدريس ونشر الأفكار، بصنعة المقايس التي كان ينال منها رزقه، وقد مات فقيرا في الجزائر أيضا سنة 1245. ومن الذين أجازوا المقايسي محمد مرتضى الزبيدي الذي عمم له الإجازة وسماه فيها (الشيخ الصالح الوجيه الورع الفاضل المفيد السيد الجليل والماجد النبيل). كما أجازه محمد الأمير وكذلك الدسوقي والعدوى. وممن أجازوه من الجزائريين محمد بن عبد الرحمن الأزهري منشئ الطريقة الرحمانية. ولعل ذلك كان أثناء إقامتهما معا في مصر. وقد جمع المقايسي أسانيده في (ثبت) خاص (2).
__________
(1) الكتاني 1/ 350، انظر أيضا (فيض الملك المتعال) 2/ 57.
(2) الكتاني 1/ 256 وتعريف الخلف 2/ 140. لا ندري متى عاد المقايسي إلى الجزار، والظاهر أن ذلك كان بعد سنة 1212 لأنه كان بالقاهرة في هذا التاريخ.
وكان علي بن عبد القادر بن الأمين يعتبر في عصره من أعيان العلماء.
ورغم أنه تولى الإفتاء عدة مرات، فإن شهرته كانت تقوم على العلم وليس على الجاه والوظيفة. فقد كان علوي النسب أندلسي الأصل، كما أنه كان شاذلي الطريقة، على عادة معظم علماء الجزائر في وقته. وهو من مواليد الجزائر ولكنه أخذ العلم بها وبالمشرق ولا سيما مصر، وهو يروي عن شيوخ كثيرين ذكرهم في إجازته للشيخ السنوسي الراشدي سنة 1189. كما إنه كتب (ثبتا) في نحو الكراسة ضمنه مروياته وشيوخه. وقد قيل عن ابن الأمين إنه كان (مجدد رونق العلم) بالجزائر. وهو أستاذ محمد بن محمود بن العنابي الذي روى عنه (ثبت الجوهري) بالإجازة، وكان ابن الأمين قد رواه أيضا بالإجازة عن شيخه أحمد الجوهري. وقد قال ابن العنابي عن أستاذه أنه كان يجيز كل من أدرك حياته، وقد توفي ابن الأمين بالجزائر سنة 1236 (1).
ويعتبر ابن العنابي من تلاميذ علي بن الأمين لا في الدراسة عليه فقط ولكن في تقليده في منح الإجازات أيضا. ولا نريد هنا أن نستوفي حياة ابن العنابي ما دمنا قد فصلناها في كتابنا عنه (2). والذي يهمنا هنا هو وضع ابن العنابي بين معاصريه في علوم الحديث وروايتها. فقد ولد بالجزائر سنة 1189 وأخذ بها العلم عن مشائخ ذكرهم في (ثبته) المعروف (بثبتالجزائري) ومنهم والده وعلي بن الأمين. كما أنه أخذ العلم في مصر والحرمين. وكان ابن العنابي قد زار أيضا المغرب وتونس وإسطانبول. وفي الأزهر جلس للتدريس والتأليف ومنح الإجازات. ومن الذين خصهم بثبته
__________
(1) الكتاني 2/ 173. انظر (ثبت الجزائري) لابن العنابي، دار الكتب المصرية، تيمور، مصطلح حديث، 167، وكذلك رقم 597، ورقم (118 تيمور). وانظر كتابي (المفتي الجزائري ابن العنابي). وأخبار ابن الأمين مبثوثة في الأرشيف، لاسيما سنوات توليه الإفتاء وعلاقت بالعلماء المعاصرين. انظر مثلا (288) - 41 - mi 228.
(2) المفتي الجزائري (ابن العنابي) الجزائر 1977.
المذكور إبراهيم السقا وعبد القادر الرافعي (1).
ومن مسندي أوائل القرن الماضي زيد العابدين المشرفي المعروف بابن عبد الله سقط. وقد لعب هذا الشيخ دورا في الأحداث التي جرت بين الجزائريين والفرنسيين. وتهمنا هنا الناحية العلمية من حياته. فقد تثقفبالجزائر على عدد من شيوخ الناحية الغربية، ومنهم أبو راس، ثم رحل إلى المشرق فأخذ العلم إجازة من بعض العلماء هناك. وقد وصفه أبو حامد المشرفي في كتابه (ياقوتة النسب الوهاجة) أنه كان كثير الحفظ حتى أنه كان يحفظ صحيح البخاري متنا وإسنادا كما كان يحفظ صحيح مسلم، بالإضافة إلى حفظ السيرة النبوية والأخبار والتواريخ وشيوخ المذهب. وله (فهرسة) تشهد له بذلك. ومن جهة أخرى ذكر له الكتاني مجموعة من الشيوخ الذين قرأ عليهم وأجازوه بالمغرب والمشرق (2).
الإجازات
إذا كانت الإجازة تعتبر (شهادة كفاءة) أو تأهيل يستحق بها المجاز لقب الشيخ أو الأستاذ في العلوم المجاز بها، فإنها بتقادم العهد أصبحت لا تعني كل هذا، لتساهد المجيزين في منحها. فلم يعد هناك تحقق من المجازين في كفاءتهم ودرايتهم بالعلوم ولا من أخلاقهم وسلوكهم، كما أن الإجازة لم تعد تقيد بالقراءة والمشافهة أو حتى بالجزء المقروء من الكتاب، فقد أصبحت
__________
(1) دار الكتب المصرية، تيمور، مصطلح حديث، 167، 597. وإجازته للسقا تاريخها 1242.
(2) الكتاني 2/ 15. ولعل ابن عبد الله سقط هو نفسه الذي قيل إن محمد النفزي الفاسي، مفتي المالكية بمكة والمتوفى بها سنة 1245، قد أجازه. فقد وجدت في فهرسة النفزي إجازة لمن اسمه أبو محمد عبد القادر الشهير بابن عبد الله (كذا ولم ترد معها عبارة سقط) المشرفي الراشدي المعسكري، وهذا الفهرس قد جمعه أحمد بن محمد بن عجيبة المتوفى سنة 224 1. دار الكتب المصرية، مصطلح حديث (مجاميع 7، ش).
تمنح بالمراسلة والسماع، كما أنها أصبحت تعطي مطلقة في كل العلوم وكل الكتب التي تعلمها المجيز سواء قرأها المجاز أم لا. وهذا التساهل نتج عنه ضعف مستوى التعليم لأن المجازين أصبحوا يتصدرون للتدريس ويمنحون بدورهم الإجازات لغيرهم في علوم وكتب لم يدرسوها على أحد.
ومن جهة أخرى خضعت الإجازات لنوع من المجاملات بين العلماء، فطالب الإجازة (يستدعي) المجيز ببيت شعر أو بقطعة أو برسالة يطلب منه الإجازة ويصفه بألقاب ما أنزل الله بها من سلطان كالبحر والمحيط والشمس والكوكب، ويتردد المجيز قليلا (وهو تردد تقليدي أيضا لأن العادة جرت كذلك) وقد يعتذر بأنه ليس من فرسان هذا الفن، لكنه في النهاية يستجيب للإطراء والمدح فيقلد جيد المجيز بألقاب أخرى فيها التنبؤ والتوسم كالشاب الأريب، وعنوان النجابة، والهلال الذي سيصبح بدرا، ونحو ذلك. ومن الذين انتقدوا التساهل في منح الإجازات، ولا سيما عند المشارقة، الشيخ عبد الكريم الفكون. فقد لاحظ مرة أن بلديه علي بن داود الصنهاجي القسنطيني قد قرأ على الشيخ سالم السنهوري المصري وأجازه هذا وهو (أي الصنهاجي) لا علم له سوى (حفظ بعض المسائل المشهورة من الطهارة وبعض العبادات وبعض المعاملات التي لا تجهل في الغالب. ولا بحث معه ولا تدقيق ولا نظر، والعجب إجازة الشيخ المذكور له. ولا حول ولا قوة إلا باللهء (1).
ولكن العادة جرت أن لا تكون الإجازة إلا بعد القراءة على الشيخ المجيز وملازمته أياما وشهورا بل أعواما في بعض الأحيان، ومناظرته في بعض المسائل. وقد يقرأ الطالب على الشيخ بعض مؤلفاته، أو بعض الكتب الأخرى كصحيح البخاري أو الكتب الستة، وبعض التفسير ونحو ذلك. فهذا عيسى الثعالبي قد لازم شيخه علي بن عبد الواحد الأنصاري أكثر من عشر سنوات. وهذا عمر المانجلاتي قد لازم الأنصاري أيضا أربع عشرة سنة.
__________
(1) (منشور الهداية) مخطوط.
ولكن بضعف العناية بالإجازة أصبح التلميذ لا يقطع المسافات لحضور درس أستاذه ولا يتحمل عناء السفر والغربة، وأصبح المشائخ يمنحون الإجازة لتلاميذهم عن طريق السماع بهم، وبدل أن تكون الإجازة خاصة مقيدة بالجزء المقروء أو المسموع أصبحت عامة مطلقة في كل المرويات والمقروءات. وأحيانا نجد بعض المجيزين يجيزون غيرهم بكل ما كانوا قد أجيزوا به. ومن الملاحظ أيضا أن الإجازة التي كانت خاصة بالعلم قد انتقلت أيضا إلى الطرق الصوفية. فقد وجدنا شيوخا يجيزون تلاميذهم بالسبحة والضيافة والخرقة الصوفية ونحو ذلك من مظاهر الدخول في حضرة الشيخ والتتلمذ عليه في الطريقة التي يسلكها. ولكن الذي يعنينا في هذا الفصل هو الإجازة العلمية وليس الإجازة الصوفية.
وهناك ثلاثة أصناف من الإجازة: إجازة الجزائريين للجزائريين، وإجازة الجزائريين لغيرهم، وإجازة علماء المسلمين لعلماء الجزائر. ومن الطبيعي أننا لن نحصي، في أي صنف من هذه الأصناف، عدد الإجازات، لأن ذلك يكاد يكون مستحيلا، ولكن الهدف هو سوق نماذج من كل صنف للتعرف على اهتمام الجزائريين بعلم الحديث خصوصا وطلب العلم عموما. فالإجازة، مهما انتقدنا التساهل في منحها، كانت عنوانا على كسب نصيب من العلم بالنسبة للمستجيز وعلامة على التبحر والتخصص في نفس العلم بالنسبة لمانحها. ولما كان الجزائريون كثيرا ما خرجوا من بلادهم لطلب العلم في البلدان الإسلامية فمن الواضح أنهم كانوا من طلاب الإجازة في الغالب وليس من مانحيها. ومع ذلك فلو أحصينا عدد الجزائريين الذين منحوا الإجازات في المشرق والمغرب لاندهشنا لكثرتهم.
ومن الغريب أن العلماء الجزائريين لم يجيزوا بعضهم البعض إلا قليلا. من ذلك إجازة محمد الزجاي لأحمد بن محمد الشريف المعروف بابن سحنون مؤلف (الثغر الجماني). فقد ذكر هو في هذا الكتاب نص الإجازة مخافة ضياعها، كما قال. وبناء عليه فإن ابن سحنون قد لازم الزجاي ومجلسه العلمي عدة أيام وليال. فقد قرأ عليه صحيح البخاري وكبرى
السنوسي، وأكثر القرآن الكريم، ومعظم جمع الجوامع للسبكي، وجوهرة الأخضري وسلمه، وحواشي السعد ومتنه وألفية ابن مالك وشروحها، ورسالة الوضع، ونخبة ابن حجر (1). ومن هذه المواد نعرف ماذا كان يدرس الشيخ الزجاي أيضا، كما نعرف برنامج الدراسات في العهد العثماني لأن هذه المواد تكاد تكون هي البرنامج الأساسي في مختلف الأقاليم.
وبهذا الصدد نذكر أن أحمد الزروق البوني قد أجاز الورتلاني صاحب الرحلة كما أن محمد بن عبد الرحمن الأزهري قد أجاز حمودة المقايسي. وتذكر المصادر أيضا أن يحيى الشاوي قد تلقى إجازتين من مواطنه محمد السعدي بن محمد بهلول، الأولى إجازة بقراءته عليه موطأ الإمام مالك وبعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم ورواية الكتب الثلاثة المذكورة بسنده عن شيوخه فيها (2). والثانية ما يسمونه بالمصافحة. فقد أجاز محمد السعدي للشاوي مصافحة الفقيه محمد العربي يوسف الفاسي له بزاوية محمد بن أبي بكر الدلائي (3). كما ذكر شعبان بن عباس المعروف بابن عبد الجليل القسنطيني أن شيخه المفتي محمد بن علي الجعفري القسنطيني أيضا قد أجازه إجازة عامة بعد سنة 1139 إثر القراءة عليه (سنين عديدة). كما ذكر الكتب التي قرأها عليه كالألفية وخليل وألفية العراقي والمحلى في الأصول وصغرى السنوسي والفلك والبخاري (4).
وطالما جلس علماء الجزائر لتلقي العلم على بعضهم بعضا، ومع ذلك لا نكاد نجد أنهم قد منحوا الإجازات لبعضهم. فمجالس سعيد قدورة وسعيد المقري وعمر الوزان وبموراس ونحوهم كانت عامرة ومع ذلك فإن الإجازات
__________
(1) (الثغر الجماني) مخطوط باريس، ص 39 - 40.
(2) انظر دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 335، ضمن مجموع.
(3) نفس المصدر، رقم 313 ورقم 366.
(4) نص هذه الإجازة في مخطوط بمكتبة المولود بن الموهوب عند السيد ماضوي عبد الرحمن، وهي في عدة صفحات ولكنها مبتورة، ويدعى محمد بن علي الجعفري بالبوني أيضا، وهو تلميذ أحمد ساسي البوني.
الصادرة عنهم لتلاميذهم لا تكاد تذكر. وقد قيل إن يحيى الشاوي قد اضطر إلى أن يسافر مع شيخه عيسى الثعالبي مسافة (ثماني مراحل) إلى أن درس عليه علم المنطق، ولكننا لا نجدهم يتحدثون عن كون الثعالبي قد أجاز الشاوي في هذا العلم (1). ونعرف أن أبا راس قد ورد على مدينة الجزائر وأخذ العلم على ابن عمار وغيره فيها، ولكننا لا نعرف أن هناك إجازة من ابن عمار لأبي راس. فيبدو أن علماء البلد الواحد لا يمنحون عادة الإجازات لبعضهم، وكأن الإجازة لا تأتي إلا نتيجة اغتراب وسفر طويل وتتلمذ على غير أهل البلد. ومن جهة أخرى نعرف أن عيسى الثعالبي قد روى مرويات ثلاثة شيوخ على الأقل من الجزائر وهم سعيد قدورة، وعلي الأنصاري، وعبد الكريم الفكون. وقد ترجم لثلاثتهم في ثبته.
ومن الطريف أن نذكر إجازة أحمد بن قاسم البوني لابنه أحمد الزروق (الذي أشركه فيها مع محمد بن علي الجعفري القسنطيني - البوني الأصل -) (2). ولعل أطرف من ذلك إجازة محمد قدورة لأخيه أحمد قدورة. ولدينا نص طلب الإجازة الذي تقدم به الأخ لأخيه، على عادتهم في ذلك، وهو في عشرين بيتا، ونحن نكتفي منه بهذه الأبيات المعبرة، فقد قال أحمد قدورة يخاطب أخاه الذي كان عندئذ مفتي المالكية بالعاصمة:
قطب الزمان ونخبة الفضلاء ... وسلالة النجباء والعلماء
شيخ الجزائر، حبرها وخطيبها ... وإمامها حقا بغير مراء
جل السعيد (3) محمد العلم الذي ... أحيا العلوم بفطنة وذكاء
إلى أن يقول:
تلميذكم ومحبكم بل عبدكم ... طلب الإجازة منكم بوفاء
__________
(1) (خلاصة الأثر) للمحبي 3/ 241.
(2) اطلعت على هذه الإجازة في مكتبة زاوية طولقة واستفدت منها وطلب نسخها فلم أحصل على طائل.
(3) يعني والدهما المفتي سعيد بن إبراهيم قدورة. انظر ترجمته في فصل التعليم من الجزء الأول.
بجميع ما تروونه عن والد ... أو غيره من سائر العلماء وقد جاء في النص أيضا:
عمرت دهرا للعلوم تبثها ... بالكتب والتدريس والإملاء وبقيت فردا لارتقاء منابر ... للوعظ والتذكير والإيضاء (1) وقد منح الجزائريون كثيرا من الإجازات لغيرهم من علماء المسلمين. ولنذكر هنا بعض ذلك فقط. فإذا عدنا إلى رحلة ابن زاكور المغربي إلى الجزائر وجدنا فيها نماذج من هذه الإجازات والطريقة التي حصل بها ابن زاكور عليها، وأسلوب منحها وكفاءة شيوخه فيها. وقد ذكر ابن زاكور على الأقل ثلاثة من مشاهير علماء الجزائر في القرن الحادي عشر، وهم عمر المانجلاتي، ومحمد بن عبد المؤمن، ومحمد بن سعيد قدورة. وبناء على ابن زاكور فإن المانجلاتي قد درس العلم بجد واجتهاد وانقطاع، وأن شيوخه قد درسوه أيضا على مشائخ جلة من المشرق والمغرب قراءة وإجازة وإعلاما، وإنه بالرغم من أنه لا يشعر بأنه مؤهل لمنح الإجازة فقد أجاب غرض ابن زاكور. وقد اتبع المانجلاتي الأسلوب المتعارف عليه، وهو الاعتذار، لكونه غير مؤهل لهذه الدرجة (ولكن خلت الديار فساد غير مسود) وأن الزمان قد تغير (وتحولت الأحوال واشتغل البال) (2).
والإجازة الثانية من علماء الجزائر لابن زاكور هي إجازة محمد بن عبد المؤمن. وقد كان محمد بن عبد المؤمن يسمى بـ (أديب العلماء وعالم الأدباء) لجمعه بين الأدب والفقه (3). وقد وصفه ابن زاكور بأنه (ممن ضرب
__________
(1) (جليس الزائر وأنيس السائر) منسوب لأحد أفراد عائلة قدورة. مخطوط بالمكتبة الوطنية، غير مرقم، اشترته المكتبة من الشيخ المهدي البوعبدلي وفي كلمة (إيضاء) خروج عن القواعد.
(2) ابن زاكور (الرحلة) 8. وقد سبق الحديث في فصل التعليم من الجزء الأول عن المواد التي درسها المانجلاني وكانت الإجازة بتاريخ 1094.
(3) انظر عنه رحلة ابن حمادوش، فقد أورد له نص عقد زواج كتبه ابن عبد المؤمن بمناسبة زواج عبد الرحمن المرتضى الشريف، وأصبح العقد مثالا يحتذيه الموثقون =
بسهم وافر من العلم. العالم الفقيه اللوذعي جامع الفضائل). وبعد اعتذار ابن عبد المؤمن لعدم أهليته أجاز ابن زاكور بما أجازه به شيخاه علي الشرملسي المصري وأحمد بن تاج الدين نزيل المدينة، كما أجازه بمنظومته في العقائد والفروع وطلب منه أن يشرحها إذا تمكن (1). أما محمد بن سعيد قدورة فقد أجاز ابن زاكور إجازة مطلقة عامة (في جميع مقروءاتي معقولا ومنقولا توحيدا ونحوا) ولم يذكر قدورة أي شيخ من أشياخه وإنما اكتفى بقوله: (فليحدث بذلك إن أحب عن أشياخي إلى المؤلفين) (2).
وقبل ابن زاكور منح أحمد العبادي التلمساني الإجازة لابن عسكر مؤلف (دوحة الناشر). وقد عاش الشيخ العبادي حياة متقلبة نتيجة تقلب ظروف العصر. فبعد استيلاء العثمانيين على تلمسان والاضطرابات التي رافقت ذلك هاجر إلى المغرب فأقام في فاس وزار مراكش وأكرمه السلطان عبد الله الغالب (توفي سنة 981) إكراما خاصا. ولكنه ما لبث أن عاد إلى تلمسان واستقر نهائيا، كما يقول ابن عسكر، في مليانة. وقد ذكر ابن عسكر نص إجازته له في مؤلفه (3). ولم يكن العبادي سوى نموذج من الجزائريين الذين منحوا الإجازة لبعض علماء المغرب. فالحدود العلمية بين الجزائر والمغرب تكاد تكون غير موجودة. ويكفي أن نشير هنا إلى مكانة أحمد الونشريسي وابنه عبد الواحد وأحمد المقري ومحمد الكماد بين المغاربة. ولنشر أيضا إلى إجازة عيسى الثعالبي للعياشي، وإجازة سعيد المقري لأحمد بن القاضي صاحب (جذوة الاقتباس) (4).
__________
= لما فيه من أدب وشريعة، وكان قد درس في المشرق أيضا، وكان حسني النسب.
(1) ابن زاكور (الرحلة)، 17.
(2) نفس المصدر، 28.
(3) ترجمته والإجازة في (دوحة الناشر) النص الفرنسي، ص 200 - 202. وكان والد العبادي من علماء تلمسان أيضا، هاجر إلى فاس وتولى التدريس بالقرويين، ثم عاد أيضا إلى تلمسان حيث توفي حوالي 1524 م (931) هـ. أما ابنه فلا نعرف متى توفي بالضبط.
(4) ذكر ذلك أحمد المقري في (روضة الآس) 268، وتاريخ الإجازة هو سنة 1009.
أما عن العلاقة بين علماء الجزائر وتونس كما تصورها الإجازات فقد كانت أيضا وطيدة ولكننا لا نحفظ منها إلا القليل. ورغم رحيل الجزائريين إلى تونس لطلب العلم والإقامة والتجارة فإن القليل من علماء تونس قد زاروا الجزائر نسبيا خلال العهد العثماني. ولعل ذلك يعود إلى اكتفاء علماء تونس الذاتي من طلب العلم. فلهم جامع الزيتونة يروي غلتهم، وهم إذا أرادوا المزيد فالشرق أمامهم، ولم تكن الجزائر تقدم لهم شيئا تقريبا مما كانوا يطلبون. ومع ذلك فإننا نجد الورتلاني وأبا راس يتحدثان عن علاقاتهم الوثيقة مع علماء تونس. ثم إن أحمد بن عمار قد أجاز تلميذه إبراهيم السيالة التونسي كما ذكرنا آنفا. كما أن ابن العنابي قد أجاز محمد بيرم وغيره.
وقد كان منح الإجازات للسلاطين والوزراء أمرا غير شائع، ولكن محمد بن أحمد الشريف الجزائري قد منح أحد الوزراء العثمانيين إجازة شملت الأحاديث النبوية والمؤلفات. وهذا الوزير هو أحمد باشا نعمان الذي تولى، بالإضافة إلى منصب الوزير في بلاده، وظيفة شيخ الحرم بالحجاز. وأثناء ذلك كان محمد بن أحمد الشريف مجاورا ومدرسا بمكة، فطلب منه الباشا الإجازة فيما سمعه منه ففعل. وقد قال المجيز عن ذلك: (فأسعفته في ذلك، وأتحفته بما هنالك، تطييبا لخاطره وتنشيطا لفكره وناظره).
وبعد البسملة والتصلية افتتح محمد الشريف إجازته بقوله: (أما بعد فقد طلب من هذا العبد الفقير المعترف بالقصور والتقصير، أيام المجاورة بالحرم المكي، وذلك سنة 1154، أربع وخمسين ومائة وألف، إنسان عين الفضائل والمفاخر، وسلالة فضلاء الوزراء كابر عن كابر. عمدة السلطنة العثمانية، وليث غياهبها الباهر. ورئيس الغزاة المجاهدين، فكم قصم سيفه من كافر وفاجر، فهل أتاك خبر الفيش (1) (؟) وما شتت فيه من شمول
__________
(1) كذا، ولعلها الفنش التي تعني النصارى، وتطلق في الجزائر غالبا على الإسبان.
الكوافر، وبدد فيه من دماء تلك المناحر، وهو الذي حاز قصبات السبق لا يدانيه في الذكاء والسياسة مناظر، نجل الوزارة وقائم مقامها وقطب رحاها وعليه مدارها، حضرة مولانا ولي النعم أبو الخيرات أحمد باشا نعمان باشا زاده، دام عزه ورفعته وحفت بالحفظ والعناية حضرته، سماع بعض الأحاديث والإجازة فيها وغيرها كسند السبحة والضيافة ونحوها، وهو إذاك شيخ الحرم الشريف زاده الله شرفا، فأسعفته في ذلك وأتحفته بما هنالك تطييبا لخاطره، وتنشيطا لفكره وناظره، والله تبارك وتعالى المسؤول في التوفيق والقبول، وبه أستعين، فأقول: سمع منا الوزير المشار إليه ..) (1).
وبعد أن يسرد الأحاديث التي سمعها منه يذكر أيضا مؤلفاته التي بلغت أحد عشر مألفا (إلى غير ذلك مما لنا من تقييد وتقرير، وبيان وتحرير، وبسط وتفسير). ومعظم مؤلفالت محمد الشريف تحوم حول الأحاديث النبوية والتصوف. ومن ذلك (جامع الأصول المنيفة من مسند أحاديث أبي حنيفة) الذي قال عنه أنه جعله في التبويب والترتيب نظير موطأ الإمام مالك. وكان محمد الشريف يوقع تآليفه هكذا (خادم العلم والعلماء الشيخ محمد بن أحمد الشريف الجزائري مولدا ومنشأ الأزميري وطنا وملجأ) فهو إذن من الجزائريين الذين يعودون إلى أصول عثمانية ويعتنقون المذهب الحنفي. وقد هاجر إلى المشرق وجاور بمكة واستوطن أزمير لأسباب لا نعلمها الآن. وقد نعرض إلى بعض مؤلفاته في فصل التصوف.
وتعتبر إجازة البوني والراشدي لمحمد مرتضى الزبيدي إجازة بالمراسلة، لأنهما لم يجتمعا به، الأول من عنابة والثاني من قسنطينة. وقد ذكر الكتاني أن الزبيدي قد ترجم للراشدي في (معجمه) وسماه فيه (شيخنا الإمام المحدث الصوفي النظار) (2). وبناء على الزبيدي فإن الراشدي قد توفي سنة 1194. وممن أجازوا الزبيدي أيضا من الجزائريين محمد المنور
__________
(1) هذه الإجازة مصورة، عن النسخة الأصلية من إسطانبول.
(2) الكتاني، 1/ 172.
التلمساني المتوفى سنة 1172. وقد أجاز يحيى الشاوي عددا من علماء المشرق منهم المحبي صاحب (خلاصة الأثر) بعد أن درس عليه هو وجماعة من الشاميين تفسير سورة الفاتحة من البيضاوي، والألفية والعقائد ونحوها. وكانت الإجازة نظما ذكره المحبي (1). وممن أجازهم الشاوي أيضا محمد بن زيد الدين الكفيري، وذلك بأسانيده ومروياته عن مشائخه في كتب الموطأ
وصحيح البخاري وغيرها (2). كما أجاز تقي الدين الحسني بالإجازة التي منحه إياها شيخه محمد السعدي البهلول (3). ولا شك أن الشاوي قد أجاز غير هؤلاء أيضا (4).
أما ابن عمار فقد منح سنة 1205 إجازة إلى مفتي الشام عندئذ محمد خليل المرادي. وقد ذكر ابن عمار في هذه الإجازة بعض شيوخه في مصر وفي الحرمين كما ذكر العلوم التي تلقاها عنهم، بالإضافة إلى بعض الأثبات. فمن مشائخه بمكة عمر بن أحمد، وبالمدينة حسن بن محمد سعيد، وبمصر محمد الحفني، ومن هذه الإجازة نعرف أن ابن عمار يروي الحديث عن عيسى الثعالبي بطريق محمد الحفني (5). وبالإضافة إلى إبراهيم السقا وعبد القادر الرافعي منح ابن العنابي الإجازة إلى محمد بيرم التونسي ومحمد بن علي الطحاوي المصري وغيرهما. وقد عرفنا أنه كان يقلد أستاذه ابن الأمين في منح الإجازة لكل من أدرك حياته. وكان أحمد المقري قد منح الإجازات أيضا لعلماء المشرق. وقد روى هو أنه أجاز أحمد الشاهين
__________
(1) (خلاصة الأثر) 4/ 486. وقد هاجم الشاوي الفلاسفة في هذا النظم، وعدد الأبيات خمسة عشر.
(2) دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، ضمن مجموع رقم 313، وهي بخط المجيز نفسه.
(3) نفس المصدر، رقم 335 ضمن مجموع.
(4) جاء صاحب الأعلام 9/ 214، بلوحة رقم 1460 من إجازة للشاوي بدار الكتب المصرية (313 مصطلح) وعليها خط الشاوي.
(5) إجازة ابن عمار للمرادي من مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق. انظر مقالتي (إجازة ابن عمار الجزائري للمرادي الشامي) في مجلة (الثقافة) عدد 45، 1978.
الدمشقي بتأليفه (إضاءة الدجنة) بطلب منه، كما أجازه بغيرها (1).
وبالمقابل، تلقى علماء الجزائر الإجازات من علماء المسلمين في المشرق والمغرب، وهذا هو الكثير الغالب. ولا نريد أن نعدد الإجازات وأصحابها فليس ذلك من هدفنا هنا، ولكننا ننبه إلى أن بعض الإجازات التي سنشير إليها قد تضمنت في الغالب العلوم كلها، كما يقول الورتلاني، ولم تكن خاصة بعلم الحديث وحده، وأحيانا كانت تتناول الفقه والتوحيد والتصوف، وكلها في الواقع علوم مشتركة. وقد كانت إجازات علماء المالكية في مصر والحرمين لعلماء الجزائر كثيرة الورود لاتفاق المذهب. أما علماء المغرب العربي فالمذهب بينهم واحد، لذلك أجاز عدد من علماء المغرب أحمد المقري قبل رحيله إلى المشرق. ومنهم أحمد بن القاضي صاحب (جذوة الاقتباس) وأحمد بن أبي القاسم التادلي ومحمد القصار وأحمد بابا التمبكتي (2). ومن جهة أخرى سجل عبد الرزاق بن حمادوش في رحلته مجموعة من الإجازات التي منحها له بعض علماء المغرب في عهده، وهم أحمد الورززي ومحمد بن عبد السلام البناني وأحمد بن المبارك وأحمد السرايري (3). كما أخذ محمد المنور التلمساني إجازة من الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي (4). وأثناء مرور عبد القادر بن شقرون الفاسي على نواحي بسكرة في طريقه إلى الحج أجاز الفقيه خليفة بن حسن القماري سنة 1192 (أو 1193) بعد أن قرأ أجزاء من نظمه المشهور لخليل. ووصف المجاز بأنه من فرسان البراعة وأنه على خلق حسن (5).
__________
(1) (نفح الطيب) 3/ 181.
(2) ذكر المقري ذلك في كتابه (روض الآس) في تراجم العلماء المنكورين. انظر كذلك فهرس دار الكتب المصرية تيمور، 171، مصطلح الحديث.
(3) ابن حمادوش (الرحلة) مخطوطة. انظر دراستي عنه في كتابي (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر). ج 1، ط. 3 1990.
(4) فهرس دار الكتب المصرية، مصطلح الحديث، رقم 181 مجموع.
(5) من نسخة خطية في مكتبة الصادق قطايم بقمار، بوادي سوف. انظر أيضا رسالة =
وقد عرفنا أن الورتلاني قد حصل على إجازات كثيرة من شيوخ مصر أثناء إقامته بالأزهر، بعضهم أجازه بالعلوم وبعضهم أجازه بأوراد الطريقة الشاذلية. فهذا الشيخ البليدي قد أجازه في سائر العلوم، وهذا عبد الوهاب العفيفي قد أجازه إجازة مطلقة في العلوم العقلية والنقلية، وهو الذي لقنه الذكر على الطريقة الشانلية (وقد أخذنا عنه الطريق ورسم الحقيقة وإنه لقننا الأذكار وجددنا عليه العهد في الطريقة الشاذلية المحصنة). أما (سلطان العارفين) الشيخ الحفناوي فقد أجاز الورتلاني في المعقول والمنقول (1). ولوجمعت إجازات الورتلاني من علماء مصر وغيرهم لجاءت ربما في كتاب، لأن بعضهم قد أجازه بخط يده وبعضهم قد أجازه بخطوط تلاميذه، ولكن معظم إجازات الورتلاني كانت عن طريق القراءة والملازمة. وقد حضر معه بعض ذلك معاصره ومواطنه أحمد بن عمار.
وقد نشر إبراهيم اللقاني في القرن الحادي عشر الإجازة بين الجزائريين. ذلك أن كثيرا منهم قد نوهوا به وتلقوا عليه العلم. ويبدو أنه كان ذابئع الصيت متمكنا في الفقه المالكي. ومما يلفت النظر أن إبراهيم اللقاني لم يمنح الإجازة لعالم جزائري بعينه ولكنه منح إجازة لمجموعة من علماء الجزائر، مثل علي بن مبارك القليعي (2) وسعيد قدورة وسحنون (3) رفيق سيدي علي البهلول (4). وقد تضمنت الإجازة غيرهم بالطبع ولكننا للأسف لم
__________
= (إتحاف القاري بسيرة خليفة بن حسن القماري) تأليف محمد الطاهر التليلي القماري. مخطوطة.
(1) الورتلاني (الرحلة) 289.
(2) لا شك أنه من مدينة القليعة القريبة من مدينة الجزائر والمشهورة بأسرة سيدي علي مبارك المشتغلة بالتصوف.
(3) الظاهر أنه هو سحنون الونشرسي شارح (السراج) للأخضري، وسيأتي الحديث عنهفي فصل العلوم من هذا الجزء.
(4) يبدو أنه من أسرة أبهلول التي كانت لها زاوية بنواحي تنس. انظر ترجمة سعيد قدورةفي فصل التعليم من الجزء الأول.
من ذلك أنه بعث إلى علماء القسطنطينية يشكو لهم شيئا ألم به، وأنه قال قصيدة يمدح فيها السادة العلوية، وأنه مدح الشيخ علي بن عبد الواحد الأنصاري (توفي سنة 1057) بقصيدة، وتدل القصائد التي اطلعنا عليها لمحمد المهدي، جد ابن علي، أن له باعا قويا في الشعر، رغم الصفة الملحقة باسمه، وهي (العلج) التي توحي بأنه كان من أصل غير عربي، وكان جد ابن علي صديقا للقاضي محمد القوجيلي، وهو أيضا شاعر ماهر كما عرفنا، فقد روى ابن علي في ديوانه أن جده حكى له أنه كان ذات يوم مع الشيخ القوجيلي فمر بهما سعيد قدورة فانحرف عنه القوجيلي وسلم على جده (1)، كما أن والد ابن علي كان ينظم الشعر أيضا.
ويهمنا مما ذكرنا أعلاه عدة أمور تهم ابن علي نفسه. إن أسرة ابن علي كانت على صلة بالفتوى والوظائف الرسمية منذ عهد مبكر للحكم العثماني، وقد كان ابن علي يشير إلى ذلك في شعره. وأن الشعر عريق في أسرته أيضا. ذلك أن شعر جده ووالده شعر مقبول، ومن جهة أخرى نجد أن ابن علي قد تولى الفتوى وطال عهده فيها، وهي ظاهرة قليلا ما تتكرر في العهد العثماني للتقلبات التي حدثت فيه، ولولا بعض الإشارات السريعة في ديوانه لما عرفنا شيئا عن والده.
تولى ابن علي وظيفة الفتوى سنة 1150 خلفا لحسين بن محتمد العنابي الذي توفي في هذه السنة، وقد استمر في الوظيفة إلى حوالي سنة 1169 بدليلين: الأول أن ابن عمار قد تحدث عنه بعد سنة 1166 (وهي السنة التي حج فيها ابن عمار) وسماه (شيخنا وأستاذنا شيخ الإسلام)، وكانت عبارة
__________
(1) (ديوان ابن علي). انظر أيضا ديفوكس (المؤسسات الدينية)، 143، أما الجامعي فقد ذكر نسب ابن علي هكذا: (أديب مصره، وفريد عصره، الأديب النابغ، فرقد البلاغة البازغ، أبو عبد الله سيدي محمد ابن العالم الناسك أبي عبد الله سيدي محمد المعروف بن علي، ابن ذي المقام العلي، علامة أوانه وشيخ الإسلام في زمانه أبي عبد الله سيدي المهدي الجزائري، برد الله ضريحه)، الجامعي (شرح رجز الحلفاوي) مخطوط باريس، رقم 5113.