الكتاب: الشرح الصوتي لزاد المستقنع
المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)
عدد الأجزاء: 2
هذا الكتاب: تفريغ مكتوب لشرحين صوتيين للعلامة ابن عثيمين - رحمه الله - على زاد المستقنع
1 - الشرح الأول/ الكتاب كاملا [299 ملفاً]
2 - الشرح الثاني/ ثلث الكتاب [132 ملفاً] أبواب/ صفة الصلاة، والمناسك، والبيع، والوقف والوصايا، والنكاح، والطلاق، والإيلاء والظهار واللعان والعِدَد والرضاع، والنفقات، والجنايات والديات، والحدود، والأطعمة، وجزء من الأيمان والقضاء، وجزء من الشهادات
مميزات ليست في (الشرح الممتع) المطبوع:
1 - إضافة مسائل كثيرة تعرّض لها الشيخ في الشرح , خلا منها الشرح المطبوع.
2 - إيراد مناقشة الشيخ رحمه الله للطلاب في الدورس , والتي تكون عادة قبل بداية الدرس , إضافة لأسئلة الطلاب للشيخ أثناء الشرح , وأسئلتهم بعد كل درسٍ , وإجابته عليها رحمه الله
3 - إضافة شرح ثانٍ جديدٍ. (لثلث زاد المستقنع).
4 - أنّ الرجوع للتفريغ فيه حل لبعض المواضع المُشْكِلة في الشرح المطبوع.
5 - أنّ الشيخ ربما زاد في شرحه للكتاب ما ليس منه إما لإتمام الفائدة، أو لحاجة الطلاب، أو لأسباب أخرى، ومن ذلك:
• زياداته في الشرح من كتب أخرى كزياداته في بعض الأبواب من كتاب (الروض المربع) وغيره، بل إنه أحيانًا: يزيد فصولًا بالكامل، ومثال ذلك شرحه لفصل في الأمان والهدنة، في كتاب الجهاد.
• شرحه لمؤلفات خاصة به كشرحه لرسالته في زكاة الحلي، وذلك في كتاب الزكاة.
• شرحه خلال الشرح الثاني "لمذكرة الجامعة" وذلك للأبواب التالية: (النفقات، والجنايات، والديات، والحدود، والأطعمة، والأيمان والقضاء، وجزءًا من الشهادات).
• شرحه لفصول لا تعلق لها بالكتاب لحاجة الطلبة، كشرحه لفصل في فضل العلم وآداب طالبه في كتاب الفرائض.
أعده للشاملة: ملتقى أهل الحديث
[مصدر النص تطبيق مجاني للأجهزة الذكية برعاية مؤسسة وقف فهد بن عبد العزيز السعيد وإخوانه , وكرسي الشيخ ابن عثيمين للدراسات الشرعية، وقد التزموا فيه بالتفريغ الحرفي لكامل الشرح]
ـ[الشرح الصوتي لزاد المستقنع]ـ
المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ)
عدد الأجزاء: 2
__________
هذا الكتاب: تفريغ مكتوب لشرحين صوتيين للعلامة ابن عثيمين - رحمه الله - على زاد المستقنع
1 - الشرح الأول/ الكتاب كاملا [299 ملفاً]
2 - الشرح الثاني/ ثلث الكتاب [132 ملفاً] أبواب/ صفة الصلاة، والمناسك، والبيع، والوقف والوصايا، والنكاح، والطلاق، والإيلاء والظهار واللعان والعِدَد والرضاع، والنفقات، والجنايات والديات، والحدود، والأطعمة، وجزء من الأيمان والقضاء، وجزء من الشهادات
مميزات ليست في (الشرح الممتع) المطبوع:
1 - إضافة مسائل كثيرة تعرّض لها الشيخ في الشرح , خلا منها الشرح المطبوع.
2 - إيراد مناقشة الشيخ رحمه الله للطلاب في الدورس , والتي تكون عادة قبل بداية الدرس , إضافة لأسئلة الطلاب للشيخ أثناء الشرح , وأسئلتهم بعد كل درسٍ , وإجابته عليها رحمه الله
3 - إضافة شرح ثانٍ جديدٍ. (لثلث زاد المستقنع).
4 - أنّ الرجوع للتفريغ فيه حل لبعض المواضع المُشْكِلة في الشرح المطبوع.
5 - أنّ الشيخ ربما زاد في شرحه للكتاب ما ليس منه إما لإتمام الفائدة، أو لحاجة الطلاب، أو لأسباب أخرى، ومن ذلك:
• زياداته في الشرح من كتب أخرى كزياداته في بعض الأبواب من كتاب (الروض المربع) وغيره، بل إنه أحيانًا: يزيد فصولًا بالكامل، ومثال ذلك شرحه لفصل في الأمان والهدنة، في كتاب الجهاد.
• شرحه لمؤلفات خاصة به كشرحه لرسالته في زكاة الحلي، وذلك في كتاب الزكاة.
• شرحه خلال الشرح الثاني "لمذكرة الجامعة" وذلك للأبواب التالية: (النفقات، والجنايات، والديات، والحدود، والأطعمة، والأيمان والقضاء، وجزءًا من الشهادات).
• شرحه لفصول لا تعلق لها بالكتاب لحاجة الطلبة، كشرحه لفصل في فضل العلم وآداب طالبه في كتاب الفرائض.
أعده للشاملة: ملتقى أهل الحديث
[مصدر النص تطبيق مجاني للأجهزة الذكية برعاية مؤسسة وقف فهد بن عبد العزيز السعيد وإخوانه , وكرسي الشيخ ابن عثيمين للدراسات الشرعية، وقد التزموا فيه بالتفريغ الحرفي لكامل الشرح]
(/)
________________________________________
كتاب الطهارة
مقدمة المؤلف
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للهِ حَمْدًا لا يَنْفَدُ، أَفْضَلَ ما يَنبغِي أن يُحْمَدَ، وصلَّى اللهُ وسَلَّمَ على أَفْضَلِ الْمُصْطَفَيْنَ مُحَمَّدٍ، وعلى آلِهِ وأصحابِه ومَن تَعَبَّدَ.
أمَّا بعدُ، فهذا مُخْتَصَرٌ في الفِقهِ من مُقْنِعِ الإمامِ الْمُوَفَّقِ أبي مُحَمَّدٍ، على قولٍ واحدٍ، وهو الراجِحُ في مَذهَبِ أحمدَ، ورُبَّمَا حَذَفْتُ منه مَسائلَ نادرةَ الوُقوعِ وزِدْتُ ما على مِثْلِه يُعْتَمَدُ، إذ الْهِمَمُ قد قَصُرَتْ، والأسبابُ الْمُثَبِّطَةُ عن نَيْلِ الْمُرَادِ قد كَثُرَتْ، ومع صِغَرِ حَجْمِه حَوَى ما يُغْنِي عن التطويلِ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ، وهو حَسْبُنا ونِعْمَ الوَكيلُ.
(كتابُ الطهارةِ)
وهي ارتفاعُ الْحَدَثِ وما في معناه وزوالُ الْخَبَثِ.
المياهُ ثلاثةٌ: طَهورٌ لا يَرْفَعُ الحدَثَ ولا يُزِيلُ النَّجَسَ الطارئَ , غيرُه، وهو الباقي علي خِلْقَتِه، فإن تَغَيَّرَ بغيرِ مُمَازِجٍ كقِطَعِ كافورٍ أو دُهْنٍ
[مقدمة المؤلف]
قال رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم)
البسملة تقدم الكلام عليها مبسوطًا، وقلنا: إن الجار والمجرور في (باسم الله) متعلق بمحذوف فعليٍّ مؤخر مناسب للمقام، فعندما تريد أن تقرأ تقول؛ التقدير: باسم الله أقرأ، عندما تريد أن تتوضأ: باسم الله أتوضأ، تذبح: باسم الله أذبح، وإنما قدَّرناه فعلًا؛ لأن الأصل في العمل الأفعال، وقدَّرناه مؤخَّرًا لفائدتين:
الفائدة الأولى: التبرك في البداءة باسم الله سبحانه وتعالى.
والثاني: إفادة الحصر؛ لأن تقديم المتعلق يفيد الحصر.
وقدَّرناه مناسبًا؛ لأنه أدل على المراد، فلو قلنا مثلًا عندما نريد أن نقرأ كتابًا: باسم الله أبتدئ، ما يدرى بماذا تبتدئ؟ لكن: باسم الله أقرأ، يكون أدل على المراد الذي ابتدئ به.
(1/2)
________________________________________
وأما لفظ (الله) فهو علم على الباري جل وعلا، وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء، حتى إنه في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [إبراهيم: 1، 2]، ما نقول: إن (الله) صفة، بل نقول: هي عطف بيان؛ لأن هذا الاسم تتبعه بقية الأسماء، فهو موصوف بها دائمًا
وأما (الرحمن) فهو أيضًا من الأسماء المختصة بالله عز وجل، ما يطلق على غيره، و (الرحمن) معناه: المتصف بالرحمة الواسعة.
وأما قوله: (الرحيم) فإنه قد يطلق على غير الله، والمراد به: ذو الرحمة الواصلة، الأول: ذو الرحمة الواسعة، والثاني: ذو الرحمة الواصلة، فإذا جمع مع الرحمن صار المراد بالرحيم: الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده، كما قال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت: 2].
وابتدأ المؤلف كتابه بالبسملة اقتداء بكتاب الله عز وجل؛ فإنه مبدوءٌ بالبسملة، واتباعًا لحديث: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأ فِيهِ بِبِاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» (1)، واقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإنه يبدأ كتبه بالبسملة.
قال المؤلف: (الحمد لله) هذه جملة اسمية مكونة من مبتدأ وخبر.
فالحمد، ويش معنى الحمد؟ حمدت الله؛ يعني: ذكرته بأوصاف الكمال، فالحمد وصف المحمود بالكمال، سواء كان ذلك كمالًا في العظمة، أو كمالًا في الإحسان والنعمة، فالله تعالى محمود على أوصافه كلها.
واللام في قوله: (لله) قال أهل العلم: إنها للاختصاص والاستحقاق.
(1/3)
________________________________________
فالمستحق للحمد المطلق من هو؟ الله، هو المحمود على كل حال، له الحمد المطلق؛ ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أصابته السَّراء قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ»، وإن أصابته الضراء قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» (2).
فالذي له الحمد المطلق هو الله عز وجل، لا يستحقه أحد سواه، أما غيره فيحمد على أشياء خاصة معينة، ما هو على كل حال.
وأيضًا هي للاختصاص؛ يعني أن الذي يختص بالحمد المطلق الكامل هو الله، فهو المستحق له، المختصُّ به.
(حمدًا لا ينفد) (حمدًا) مصدر، والعامل فيه المصدر قبله، فهو مصدر معمول لمصدر، وقد سبق لنا: أن المصدر المحلى بـ (أل) يعمل مطلقًا، (حمدًا) هذه مصدر مؤكد لعامله، من أين عرفنا أنه مؤكد؟ لأنه إذا جاء المصدر بلفظ الفعل أو معناه فهو مؤكد، مثل {كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164].
لكنه مع ذلك كلمة (حمدًا) مع كونه مؤكدًا وُصِفَ بقوله: (لا ينفد)، فيكون أيضًا بصفته مبينًا لنوع الحمد، وأنه حمد لا ينفد، بل هو دائم، والرب عز وجل سبحانه وتعالى مستحق للحمد الذي لا ينفد؛ لأن كمالاته لا تنفد، فكذلك الحمد -الذي هو وصفه بالكمالات- لا ينفد.
وليس المعنى: لا ينفد مني قولًا، لا؛ لأنه ينفد منه قولًا، كيف ذلك؟ يموت، أو يتشاغل بغيره، لكن المعنى: أن الله مستحقٌ للحمد الذي لا ينفد، باعتبار ذلك منسوبًا إلى الله عز وجل فهو لا ينفد.
(أفضل ما ينبغي أن يحمد) أفضل ما ينبغي صفة لـ (حمدًا)، فيكون وَصَفَ الحمدَ -رحمه الله- بوصفين:
الاستمرارية في قوله: (لا ينفد).
وكمال النوعية في قوله: (أفضل ما ينبغي أن يحمد) أي: ما يستحق أن يحمد؛ يعني: أفضل حمد يستحق أن يحمده، وعلى هذا فتكون (ما) نكرة موصوفة؛ يعني: أفضل حمد ينبغي أن يُحمدَه سبحانه وتعالى، فوصف الحمد هنا بالاستمرارية وبكمال النوعية.
(1/4)
________________________________________
ولما أثنى على الله عز وجل بما ينبغي أن يثنى عليه، ثنَّى بالصلاة والسلام على أفضل الخلق فقال: (وصلى الله وسلَّم) (صلى الله) ما معنى: صلى الله على محمد؟ كلنا نقرأ (صلى الله على محمد) في صلاتنا، لكن ما معناها؟
قال بعض أهل العلم: الصلاة من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الآدميين: الدعاء.
ولكن هذا ليس بصواب، والصواب ما قاله أبو العالية: إنَّ الصَّلاة من الله ثناؤه على المُصَلَّى عليه في الملأ الأعلى (3)، عند الملائكة المقربين، وهذا أخص من الرحمة المطلقة.
وعلى هذا، فـ (صلى الله على محمد) أي: أثنى عليه، وهذه الجملة خبرية لفظًا، إنشائية معنًى؛ لأنه ليس المراد: أني أخبر بأن الله صلَّى، ولكنني أدعو الله عز وجل أن يصلي، فهي خبرية لفظًا، إنشائية معنًى، بمعنى الدعاء، وعلى هذا فيصح أن أقول: فلانٌ رحمه الله أو لا؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: يعني: أسأل الله أن يرحمه.
وقوله: (وسلم) هذه أيضًا جملة خبرية لفظًا، إنشائية معنًى؛ أي: تدعو الله تعالى بأن يسلم على محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي: يلقي عليه السلام، والسلام هو: الانتفاء من الآفات والنقائص، فإذا ضم السلام إلى الصلاة حصل به المطلوب، وزال به المرهوب، فبالسلام يزول المرهوب وتنتفي النقائص، وبالصلاة يحصل المطلوب وتثبت الكمالات.
وقوله (على أفضل المصطفَين) أفضل المصطفَيْنَ أو المصطفَيْنِ؟
الطلبة: ( ... ).
الشيخ: بالفتح.
الطلبة: مصطفينَ.
الشيخ: كيف مثنى يكون مفتوح النون؟
الطلبة: ( ... ).
الشيخ: كيف يكون جمعًا وهو مفتوح ما قبل الياء، والجمع (المسلمِين) مكسور ما قبل الياء؟
الطلبة: ( ... ).
(1/5)
________________________________________
الشيخ: الجواب: لأن ما قبل الياء محذوف، والفاء هذه ما كانت الياء تباشرها، فأصلها (المصطفَيَيْنِ) أصلها: المصطفى، هذا المفرد، المثنى: المصطفيان، الجمع: المصطفيون، فإذا نصبت أبدل الواو ياءً، فيكون (المصطفَيِينَ)، هذا أصلها، لكن حصل فيها إعلال بحذف الياء، فصارت (المصطفَيْن)، و (المصطفَين) أصلها (المصتَفين) بالتاء، من الصفوة، وهي خلاصة الشيء، ومنهم المصطفين من الخلق؛ البشر لا شك أن المصطفى منهم الأنبياء، ثم الرسل، ثم أولو العزم.
الخلاصة أو خلاصة الخلاصة أو خلاصة خلاصة الخلاصة هم أولو العزم، وهم مذكورون في القرآن الكريم في موضعين؛ في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]، وفي سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13].
هذه خمسة هم أولو العزم، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو أفضلهم، ويدل لذلك أنه خاتمهم، ويدل لذلك أيضًا أنه إمامهم ليلة المعراج، ولا يقدم إلا الأفضل، ويدل لذلك أنه صاحب الشفاعة يوم القيامة الشفاعة العظمى، فهذه ثلاثة أشياء تدل، وهناك أشياء أخرى، لكن هذه ذكرناها كأمثلة نماذج، خاتم النبيين هذا في عالم الحس، إمامهم في المعراج في عالم الغيب، كونه هو الشافع يوم القيامة في عالم الغيب، لكنه في عالم الآخرة.
(1/6)
________________________________________
وقوله: (محمد) ويش إعراب محمد؟ هذه عطف بيان؛ لأن أفضل المصطفين ما يعرف من هو، فإذا قيل: (محمد) صار عطف بيان يبين من هذا الأفضل؛ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي عليه الصلاة والسلام، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» (4)، فكان عليه الصلاة والسلام خيارًا من خيار.
قال: (وعلى آله وأصحابه ومن تعبَّد) ثلاثة هؤلاء، نحن نقول في التحيات: اللهم صل على محمد وعلى آل، بس، لكن هنا المؤلف يقول: (آله وأصحابه ومن تعبَّد) فاعلم أنه إذا ذكر (الآل) وحده، فالمراد: كل أتباعه على دينه، ويدخل فيهم بالأولوية أتباعه على دينه من قرابته، أو لا؟ لأنهم آل من وجهين؛ من جهة الاتباع، ومن جهة القرابة، وأما إذا ذكر معه غيره فإنه بحسب السياق، فهنا ذكر (آل) و (أصحاب) و (من تعبَّد).
(آله) نفسرها هنا بأنهم المؤمنون من قرابته، مثل: علي بن أبي طالب، فاطمة، عبد الله بن عباس، حمزة، العباس، وما أشبه ذلك.
(وأصحابه) هم جمع (صحب)، و (صحب) اسم جمع (صاحب)، فأصحابه: كل من اجتمع به مؤمنًا به ومات على ذلك، ها دول أصحابه، كل من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك، ولو لم يره؟
الطلبة: ( ... ).
الشيخ: نعم، ولو لم يره، ولو لم تطل الصحبة؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: ولو لم تطل الصحبة، وهذا من خصائصه: أن كل من اجتمع به مؤمنًا به فهو من أصحابه، وإن لم يره، وإن لم يجتمع به، أما غيره من الناس ما يكون صاحبًا له إلا من لازمه مدة يستحق أن ينطبق عليه وصفُ صاحب.
وقوله: (ومن تعبَّد) كلمة (من) اسم موصول، ومعناها، أيش معناها؟ الذي تعبَّد، فهي للعموم.
وقوله: (تعبَّد) لمن؟ لله عز وجل؛ أي: تذلل له بالطاعة، والعبادة مبنية على أمرين هما: الحب، والتعظيم.
(1/7)
________________________________________
فبالحب يكون طلب الوصول إلى مرضاة المعبود، وبالتعظيم يكون الهرب من الوقوع في معصيته، أو لا؟ لأنك تعظمه فتخافه، تحبه فتطلبه.
فالعبادة مبنية على هذين الأساسين: الحب، والتعظيم، وأما شرط قبولها فهما: الإخلاص، والمتابعة.
كلمة (من تعبَّد) عامة في كل من تعبد لله عز وجل من هذه الأمة ومن غيرها، أو بس من هذه الأمة؟ من هذه الأمة ومن غيرها؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في قولنا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قال: «إِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» (5)، حتى الملائكة، حتى الجن، حتى أتباع الأنبياء السابقين يدخلون في هذا، فهي من أعم ما يكون؛ كلمة (ومن تعبَّد).
لكن هل يدخل فيها الأصحاب -أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- وآله المؤمنون؟
الطلبة: ( ... ).
الشيخ: يدخلون؟
الطلبة: ( ... ).
الشيخ: هذا مبني على خلاف بين العلماء؛ هل إذا عطفنا العام على الخاص يكون الخاص داخلًا في العام أو خارجًا منه بالتخصيص؟ في هذا قولان لأهل العلم؛ فمنهم من يقول: إنه داخل فيه -يعني: العموم- يشمله، ومنهم من قال: إن ذكره بخاصته يدل على أنه غير مراد.
وهذا الخلاف قد يترتب عليه بعض المسائل الحكمية، لكن من قال: إنه يدخل في العموم قال: إنه يكون الخاص مذكورًا كم مرة؟ مرتين؛ مرة بالخصوص، ومرة بالعموم.
طالب: قلنا: وأصحابه كل من اجتمع به، وقلنا: ولو لم يجتمع به ولو مرة؟
الشيخ: لا، قلنا: وإن لم يره، ما قلنا: وإن لم يجتمع به، قلنا: إن اجتمع به ولم يره هل يكون صحابيًّا؟
الطالب: ( ... ).
الشيخ: ( ... ).
ثم قال المؤلف: (أما بعد: فهذا مختصر في الفقه) (أما بعد) هذه كلمة يؤتى بها عند الدخول في الموضوع الذي يقصد يؤتى بـ (أما بعد).
(1/8)
________________________________________
وأما قول بعضهم: كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، فهذا غير صحيح؛ لأنه دائمًا الأساليب تتنقل؛ ينتقل العلماء من أسلوب إلى آخر، ولا يأتون بـ (أما بعد)، ولكن نقول: يؤتى بها عند الدخول في صلب الموضوع الذي من أجله قدمت الخطبة مثلًا.
(أما بعد) أما إعرابها، فإعرابها من أعجب ما يكون؛ قلنا لكم: إن إعرابها هو أن نقول: (أما) نائبة عن شرط وفعل شرط، والتقدير: مهما يكن من شيء بعد ذلك فهذا مختصر، فيكون هنا (أما) بمعنى: مهما يكن من شيء، و (بعد) ظرف متعلق بـ (يكن) المحذوفة مع شرطها، مبني على الضم في محل نصب؛ لأنه حذف المضاف إليه ونوي معناه، وهذه الظروف - (بعد) وأخواتها- إذا حذف المضاف إليه ونوي معناه بنيت على الضم، كما في قوله تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4].
(أما بعد: فهذا مختصر في الفقه) (مختصر) مفتعل، فهو اسم مفعول.
والمختصر قال العلماء: ما قلَّ لفظه وكثُر معناه؛ أي: أن لفظه قليل، لكن معناه كثير.
وقوله: (في الفقه) الفقه لغةً: الفهم، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وهذا النفي صحيح؛ يعني: ما نفقه تسبيحهم؟ نعم.
{قَالُوا يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91] يعني: ما نفهم، هذا النفي صحيح؟ يظهر أنه ليس بصحيح، ولكنه جحد.
إذن الفقه في اللغة: الفهم.
(1/9)
________________________________________
وفي الشرع بس ( ... ) قال: أحسن نقول: في الاصطلاح، إن قلنا: في الشرع فنقول: إن الفقه: معرفة أحكام الله العقدية والعملية، هذا شرعًا؛ لأن الفقه في الشرع ما هو خاص بأفعال المكلفين أو بالأحكام العملية، بل يشمل حتى الأحكام العقدية؛ العقيدة، حتى إن أهل العلم يقولون: إن علم العقيدة هو الفقه الأكبر والأشرف، وهذا حق؛ لأنك لا تتعبد للمعبود إلا بعد معرفة توحيده بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وإلا كيف تتعبد لمجهول؟ ! هذا غير ممكن؛ ولذلك الأساس الأول هو التوحيد، وحقًّا أن يسمى بالفقه الأكبر.
لكن مراد المؤلف هنا في الفقه: الفقه الاصطلاحي، ما هو الفقه الاصطلاحي؟ يقول العلماء: إنه معرفة الأحكام العملية بأدلتها التفصيلية.
قولنا: (معرفة) أو نقول: علم الأحكام، أيهما أحسن؟
طالب: معرفة.
الشيخ: معرفة، السبب؟
طالب: لأننا قلنا: المعرفة يدخل فيها الظن والعلم.
الشيخ: نعم، والفقه إما علم، وإما ظن، ما كل مسائل الفقه علمية، قطعًا فيها كثير من المسائل ظنية، وهذا كثير في المسائل الاجتهادية ما وصل فيها الإنسان إلى درجة اليقين، لكن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
ولهذا نعبِّر بـ (معرفة) ولا نعبر بـ (علم)؛ لكي يتناول أيش؟ العلم، ويش بعد؟ والظن؛ لأن مسائل الفقه علمية، أيش بعد؟ وظنية.
الفقه: معرفة الأحكام العملية، (العملية) احترازًا من الأحكام العقدية، فهذا لا يدخل في الاصطلاح، وإن كان يدخل في الشرع.
وقولنا: (بأدلتها التفصيلية) احترازًا من أيش؟ من أصول الفقه؛ لأن أصول الفقه ما تعرف الفقه بأدلته التفصيلية، ولكن تعرف قواعد عامة، وربما تأتي بالمسألة التفصيلية للتمثيل فقط.
وعلم من قولنا: (معرفة الأحكام العملية بأدلتها) أن المقلد ليس فقيهًا؛ لأيش؟ ما عرفها بأدلتها، غاية ما هنالك أنه يقلدها كما في الكتاب فقط، فالمقلد ليس فقيهًا، وقد نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على أن المقلد ليس من العلماء.
(1/10)
________________________________________
وبهذا نعرف أهمية معرفة الدليل، وأن طالب العلم يجب عليه أن يتلقى المسائل بدلائلها، حتى يكون جامعًا بين العلم الحقيقي، وهذا هو الذي ينجيه عند الله عز وجل؛ لأن الله سيقول له يوم القيامة: {مَاذَا أَجَبْتُمُ} [القصص: 65] ( ... ) ماذا أجبتم المؤلف الفلاني والمؤلف الفلاني؟ {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}.
إذن فلا بد أن نعرف ماذا قالت الرسل، ولكن التقليد عند الضرورة جائز؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وإلى أين نذهب إذا كنا لا نستطيع أن نعرف الحق بدليله؟ فلا بد لنا أن نسأل؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن التقليد بمنزلة أكل الميتة، متى يجوز؟ للضرورة، ومع عدم الضرورة لا يجوز، إذا كان الإنسان يستطيع أن يعرف الحكم بدليله ما يحتاج يقلد.
إذن الفقه صار له ثلاثة تعريفات: لغوي، وشرعي، واصطلاحي، اللغوي ويش معناه؟
الطلبة: الفهم.
الشيخ: الفهم. إذن الفقه له ثلاثة اصطلاحات: لغة، وشرع، واصطلاح؛ ففي اللغة: الفهم، وفي الشرع: معرفة الأحكام الشرعية العقدية والعملية، وأما الاصطلاح فهو: معرفة الأحكام العملية بأدلتها التفصيلية.
يقول: (مختصر في الفقه من مقنع) (من مقنع) جار ومجرور، صفة لـ (مختصر)، (من مقنع الإمام الموفق أبي محمد) (مقنع) اسم الكتاب اسمه المقنع.
وقوله: (الإمام الموفق) هذا من باب التساهل بعض الشيء؛ لأن الموفق ليس كالإمام أحمد، أو الشافعي، أو أبي حنيفة، أو مالك، لكنه إمام مقيد؛ يعني: له من ينصر أقواله ويأخذ بها، فيكون إمامًا بهذا الاعتبار، أما الإمامة التي كالإمام أحمد بن حنبل وما أشبهه فإنه لم يصل إلى هذه الدرجة.
(1/11)
________________________________________
وقد كثر في الوقت الأخير إطلاق الإمام عند الناس؛ إمام، إمام، إمام، حتى إنه يمكن من أدنى أهل العلم يسمونه إمامًا، وهذا أمر لو كان لا يتعدى اللفظ لكان هينًا، لكنه يتعدى إلى المعنى؛ إذ إنني إذا رأيت هذا يوصف بالإمام تكون أقواله عندي قدوة مع أنه لا يستحق.
وهذا كقولهم الآن في كل من قتل ظلمًا: إنه شهيد، وهذا حرام، لا يجوز أن يشهد لكل شخص بعينه؛ ولهذا بوب البخاري رحمه الله على هذه المسألة بقوله: (باب لا يقول: فلان شهيد)، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن ذلك (6).
قد يكون الشهيد ربما أنه مُوقِر بعيره من الغلول وأنت تقول: شهيد، والشهادة محلها القلب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ» (7)، أو «بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ» (8).
ولو أننا سوغنا لأنفسنا هذا لسوغنا لهذا الرجل الذي مات على الإيمان أن نقول: نشهد أنه في الجنة؛ لأنه مؤمن، وكل مؤمن فهو في الجنة، وهذا ما يجوز.
فالمهم أن بعض الناس الآن ما يحسبون مثل هذه الأمور، لا يحسبون لها حسابها، ولا يعلمون أو يغفلون عن أنه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وأنه سيحاسب على كل لفظة، نعم تقول: من قتل مظلومًا فهو شهيد، صح، من قتل بهدم أو غرق فهو شهيد، من قتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا فهو شهيد، أما أن تشهد على شخص بعينه فكلَّا.
(الإمام الموفق) (الموفق) هذه اسم مفعول، يراد به اتصافه بهذه الصفة ولَّا هو اسم أو لقب؟ نقول: نعم، هو لقب لهذا الرجل العالم رحمه الله.
(والمقنع) كتاب متوسط يذكر فيه القولين، والروايتين، والوجهين في مذهب الإمام أحمد، ولكن بدون ذكر الأدلة أو التعليل، اللهم إلا نادرًا.
(1/12)
________________________________________
وله كتاب فوقه اسمه الكافي يذكر القولين، أو الروايتين، أو الوجهين في مذهب الإمام أحمد، أو الاحتمالين أيضًا، ولكنه يذكر الأدلة والتعليل، إلا أنه ما يخرج عن مذهب الإمام أحمد.
وله كتاب فوق ذلك وهو المغني، فقه مقارن؛ يذكر القولين، والروايتين عن الإمام أحمد وعن غيره من أهل العلم من السلف والخلف.
وله كتاب مختصر اسمه العمدة في الفقه، مختصر على قول واحد، لكنه رحمه الله يذكر الأدلة مع الأحكام، ويجمع بين الأمرين.
ولهذا قيل فيه:
أربعة كتب لهذا الرجل رحمه الله.
(أبي محمد) ويش اسمه؟ اسمه عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، هو عندي يقول: توفي سنة 620 رحمه الله، كم يكون له؟ أسقط 620 من 1406، سبع مئة سنة وست وثمانين، الآن نحن ندرِّس أولاد علمه أو لا؟ هذا المختصر بالنسبة للفقه كالولد، والمقنع كالأم، فنحن ندرِّس الآن في الحقيقة ولد ابنه أو لا؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: ( ... ) كما قلت لكم سابقًا: على قولين، ومعنى (على قولين) أنه أكثر من قول؛ لأنه قد يأتي في المسألة بثلاثة أقوال أو أكثر.
وقوله: (على قول واحد) يعني: ما يأتي بأكثر من قول؛ وذلك من أجل الاختصار وعدم تشتيت ذهن الطالب؛ لأن الطالب المبتدئ إذا أتيت له بأقوال شتته، وصار ما يمسك شيئًا، فالأحسن للطالب المبتدئ ألَّا يطالب إلا قولًا واحدًا حتى يرسخ في ذهنه، ثم بعد ذلك يمرَّن على معرفة القولين وعلى بيان الراجح من المرجوح.
قال: (وهو الراجح في مذهب أحمد) الراجح؛ يعني: من القولين، وقد لا يكون في المسألة إلا قول واحد، وحينئذٍ يكون هذا الكتاب المختصر موافقًا للكتاب المختصر منه الأصل.
وقوله: (الراجح في مذهب أحمد).
(1/13)
________________________________________
المذْهَب في اللغة: اسم لمكان الذهاب، أو زمانه، أو هو الذهاب نفسه؛ يعني: أنه يصلح أن يكون مصدرًا نونيًّا، أو اسم مكان، أو اسم زمان.
لكنه في الاصطلاح: مذهب الشخص؛ ما قاله المجتهد بدليل ومات قائلًا به، هذا المذهب، فإذا قيل مذهب أحمد، مذهب الشافعي، مذهب مالك، فمعناه؟ ما قاله بدليل ومات عليه، فلو تغير رأيه، فأي القولين مذهبه؟ القول الأخير هو مذهبه.
وقوله: (ما قاله المجتهد) خرج به ما قاله المقلد؛ لأن المقلد لا مذهب له، وليس عنده علم، المقلد قال ابن عبد البر: إنه بإجماع العلماء ليس من العلماء؛ ولهذا قال ابن القيم في النونية:
الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ الْهُدَى بِدَلِيلِهِ
مَا ذَاكَ وَالتَّقْلِيدُ يَسْتَوِيَانِ
صدق، هل يستوي من يعرف الهدى بدليله من شخص لا يعرفه؟ لا يستويان، بل قال بعض الشعراء:
لَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَهِيمَةٍ
تَنْقَادُ بَيْنَ دَعَاثِرٍ وَجَنَادِلِ
ولكن مع ذلك التقليدُ يجوز للضرورة بنص القرآن، من لا يستطع أن يصل إلى العلم بنفسه ففرضه التقليد، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وأحيانًا تلمُّ بالإنسان مسألة ما يتمكن من مراجعة الأصول حتى يعرف الدليل فيها، فحينئذٍ ليس له إلا أن يقلد؛ للضرورة، أما إذا كان يستطيع بنفسه أن يعرف الحق بدليله فهذا هو الواجب عليه.
يقول: (مذهب الإمام أحمد) أحمد بن حنبل الشيباني، إمام أهل السنة، إمام أهل الحديث، إمام أهل الفقه رحمه الله؛ فهو إمام أهل السنة في العقائد والتوحيد، وقد جرى عليه من المحن في ذات الله عز وجل ما نرجو له به رفعة الدرجات وتكفير السيئات.
(1/14)
________________________________________
وقد علم أنه لم يصمد أمام المأمون وأعوانه من المحرِّفين لكلام الله إلا هو ونفر قليل يعدون بالأصابع، لكن هو رحمه الله أشدهم، وهو رحمه الله تعالى أوثق من غيره عند العامة؛ ولهذا كان الناس ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد في خلق القرآن؟ إلا أنه رحمه الله صمم على أن يقول: إن القرآن كلام الله منزَّل غير مخلوق، حتى إنهم يضربونه بالسياط فيغشى عليه، ويجرونه بالبغال في الأسواق؛ لأنه قال كلمة الحق، يريدون منه أن يقول كلمة الباطل، لكنه صمم؛ ولهذا ماذا أثابه الله عليه؟ أثابه أن جعله إمامًا، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، يوقنون أن العاقبة للمتقين وللصابرين لا سيما على أمر يتعلق بالدين؛ ولذلك كان إمام أهل السنة بلا منازع.
هذا الإمام رحمه الله مع كونه إمامًا في الحديث كما يعرفه من يقرأ المسند، كان أيضًا إمامًا في التوحيد وفي العقيدة، وكان إمامًا في الفقه أيضًا، وشوف -سبحان الله العظيم- كيف جعل الله له هؤلاء الأتباع الذين خدموا كلامه أعظم خدمة بعد خدمة كلام الله ورسوله، ومع ذلك ما ألف إلا كتبًا يسيرة، لكن كلماته تكتب وتحفظ، حتى صار منها مذهب مستقل.
واعلم أن قول العلماء: مذهب فلان، يراد به أمران: المذهب الشخصي، والمذهب الاصطلاحي.
والغالب عند المتأخرين إذا قالوا: هذا مذهب أحمد، أو مذهب الشافعي، أو ما أشبه ذلك، الغالب أنه المذهب الاصطلاحي، حتى إن الإمام نفسه قد يقول بخلاف ما يسمى بمذهبه، ولكنهم يجعلون مذهبه ما اصطلحوا عليه.
فهنا (في مذهب أحمد) مرادها: المذهب الاصطلاحي، لا المذهب الشخصي.
(وربما حذفت منه مسائل نادرة الوقوع) (وربما حذفت منه) من أين؟ من المقنع.
(1/15)
________________________________________
(مسائل) جمع (مسألة)، والمسألة: ما يستدل له في العلم؛ يعني: ما يبرهن عنه في العلم والدين ويطلب له الدليل يسمى: مسألة؛ ولهذا قالوا: إن العلم مسائل ودلائل، والدلائل سمعية وعقلية؛ فإن كانت بنص من كتاب أو سنة أو إجماع فهي سمعية، وإن كانت بقياس فهي عقلية.
فإذن العلم كله حتى أصول الدين العقائد مسائل ودلائل؛ أحكام ودلائل تثبت هذه المسائل، الدلائل قلنا: إنها سمعية وعقلية، فالسمعية: الكتاب والسنة والإجماع، والعقلية: القياس وما يقتضيه النظر.
(مسائل نادرة الوقوع) يعني: قليلة الوقوع؛ لأن المسائل النادرة ما ينبغي أن الإنسان أن يشغل نفسه بها، مثل من يشغلون أنفسهم بمسائل الألغاز، كثير من الناس يكون له شغف بالمسائل النادرة جدًّا اللي يمكن ما تقع، كمسائل الألغاز علشان كما قالت العامة: خالف ترتاح، لكن المسائل النادرة ما لها داعٍ تكتب، المسائل النادرة إذا وقعت يسهِّل الله حلها، لكن كثيرة الوقوع هي المهمة.
ولهذا قال المؤلف: (وزدت ما على مثله يُعتمَد) (زدت ما) (ما) هذه اسم موصول بمعنى (الذي)، صلتها قوله: (يعتمد)، و (على مثله) متعلق بـ (يُعتمَد)، يعني: زدت ما يعتمد على مثله، لكن قدمه للتجانس؛ تجانس السجع.
(وزدت ما على مثله يعتمد) يعني: زدت من المسائل أشياء مهمة يعتمد عليها.
إذن فهذا الكتاب صنيعه بالنسبة للمقنع اشتمل على ثلاثة أمور:
أولًا: الاقتصار على قول واحد ( ... ).
ثانيًا: حذف المسائل النادرة.
ثالثًا: (9)
زيادة ما يعتمد على مثله من المسائل الهامة.
(1/16)
________________________________________
وهذا من خير ما ( ... ) عبارة الوجيز وإذا هي نفس كلام المؤلف، صاحب الوجيز متقدم على هذا؛ فإما أن يكون هذا من باب الاتفاق؛ لأنه أحيانًا تكون عبارة هذا الرجل المتأخر كعبارة المتقدم من غير أن يطلع عليها، لكن اتفاقا، وقد يكون أن المؤلف يستعين بكتاب الوجيز، لكن الظاهر لي -والله أعلم- أنه من باب الاتفاق؛ لأن المؤلف ليس هينًا، عالم من أجلاء العلماء، وإذا أردت أن تعرف مقدار علمه فانظر إلى كتابه الإقناع، كتاب الإقناع تجد أن الرجل مع كونه واسع الاطِّلاع في المذهب، له أيضًا اختيارات وترجيحات، وكثيرًا ما يميل إلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية.
طالب: ( ... )؟
الشيخ: والله نسيت من مؤلفه الآن ما يحضرني، لكنه ذكره صاحب الإنصاف.
قال المؤلف رحمه الله: (إذ الهمم قد قصرت) (إذ) حرف تعليل، و (الهمم) مبتدأ، والجملة (قد قصرت) خبره.
(الهمم) جمع (همة)، وهي: الإرادة الجازمة، وقد يراد بالهمة ما دون الإرادة الجازمة، وهي شاملة لهذا وهذا.
همم الناس منذ زمن المؤلف رحمه الله في القرن الثامن أو التاسع قد قصرت، والآن أقصر وأقصر، أو الله أعلم.
وقوله: (إذ الهمم قد قصرت) هذه الجملة تعليل لقوله: (مختصر)، و (حذفت) يعني: اختصرته، وحذفت هذا؛ لأن الهمم قد قصرت، الهمم قصرت في زمنه.
أيضًا مع قصور الهمم هناك صوارف، فليس هناك مقتضي، المقتضي ضعف، ويش المقتضي؟ الهمة ضعفت، وهناك أيضًا صوارف؛ ولهذا قال: (والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت) فإذا ضَعُفَ أو قصر الباعث وقوي الصارف يتم الشيء ولَّا لا؟ ما يتم الشيء.
وقوله: (الأسباب) جمع (سبب)، وهو في اللغة: ما يتوصل به إلى المطلوب، وهو المراد هنا، المراد به السبب اللغوي ما هو الاصطلاحي.
(1/17)
________________________________________
(المثبطة) المفترة للهمم، (قد كثُرت) وهذا في زمنه كثيرة، وفي زماننا أكثر وأكثر وأكثر، ونحن وبعضكم أيضًا أدرك زمن ليس ببعيد أن الأسباب المثبطة عن العلم قليلة، ( ... ) الأسباب المثبطة عن العلم والإقبال كثيرة داخلية في نفس بيت الإنسان، وفي نفس بلده، وفي نفس حكومته، وخارجية أيضًا، فهي كحجر ألقيته في الماء، الدائرة تكون صغيرة، ثم تتسع وتكون دوائر، الآن في الحقيقة الأسباب المثبطة قد أحاطت بالإنسان من قرب ومن بعد.
ولكن مع ذلك ما دام الإنسان يشعر بأنه في جهاد، وأنه كلما قوي الصارف ودافعه الإنسان، ينال بذلك أجرين؛ أجر العمل، وأجر دفع المقاوم؛ ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: أن أيام الصَّبر للعامل فيهن أجر خمسين من الصَّحابة (10)؛ لأن هناك أسبابًا مثبطة كثيرة وصارفة.
فأنت إذا استعنت بالله عز وجل، وقاومت هذه الصوارف والأسباب المانعة أعانك الله عز وجل، وجعل لك قوة تدفع بها وتندفع، لكن إذا أعرضت فهذه هي المصيبة.
والذنوب من أكبر العوارض؛ {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49] ما هو بكل الذنوب، وهذا دليل على أن تولي الإنسان عن الذكر هذا أسبابه الذنوب، فمع الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل وصدق النية مع الله ييسر الله لك الأمر.
(1/18)
________________________________________
رأيت بعض العلماء استنبط من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 105، 106] أنه ينبغي للإنسان إذا نزلت به حادثة، سواء إفتاء أو حكم قضاء أن يكثر من الاستغفار؛ لأن الله قال: {لِتَحْكُمَ}، ثم قال: {وَاسْتَغْفِرِ}، وهذا ليس ببعيد؛ لأن الذنوب تمنع من رؤية الحق؛ {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، نسأل الله أن يغفر لنا ولكم.
قال: (ومع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل) ويش هو الحجم؟ حجم الشيء يعني: جسمه وملمسه، وما أشبه ذلك، (مع صغر حجمه حوى) (حوى) أي: جمع، (ما يغني عن التطويل)؛ لأنه جامع الكتاب، وهو أجمع من كتاب الشيخ مرعي رحمه الله وهو دليل الطالب، ودليل الطالب في الترتيب أحسن من هذا؛ لأنه يذكر الشروط والأركان والواجبات، لكنه بالنسبة للمسائل هذا أكثر بكثير؛ يعني ذاك يمكن ثلثين هذا في المسائل، إنما ذاك صحيح مفصل ومبين؛ ولهذا كان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله قد حفظ متن الدليل وتفقه به، لكنه مع ذلك كان يشير على طلابه بهذا، ولا يدرسنا إلا هذا الكتاب؛ لأنه يقول: إنه أجمع، وشرح الشيخ منصور رحمه الله البهوتي عليه أحسن من شروح دليل الطالب.
قال: (ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا، ونعم الوكيل) قوله: (لا حول ولا قوة) هذه نافية للجنس، ولا أدري هل تذكرون أن في إعرابها أوجهًا؟ من يعلمنا بها؟
( ... ) (حول) و (قوة) ثلاثة أوجه: البناء على الفتح، والنصب، والرفع، ولكن ابن مالك () يقول:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إِنْ رَفَعْتَ أَوَّلًا لَا تَنْصِبَا
(1/19)
________________________________________
ولكن الأول يجوز فيه وجهان فقط، النصب ليس بصحيح، ما هو جائز، إما البناء على الفتح، وإلَّا الرفع، أما الثاني فيجوز فيه ثلاثة أوجه، لكن إن رفعت فلا تنصب.
وجه ذلك؟ أما الأول إذا بنيناه على الفتح فمعناه أننا أعملنا (لا)، كم يجوز في الثاني؟ يجوز البناء على الفتح على الإعمال، والنصب عطفًا على محل اسم (لا)، والرفع على الإلغاء، أو عطفًا على محل (لا) واسمها.
أما إذا رفعنا (لا حولٌ) إحنا رفعناها على أنها مبتدأ، وجعلناها ملغاة. والثاني يجوز فيها وجهان: الإعمال؛ لمباشرة (لا) لها، والإلغاء.
هذا إعرابها، لكن ما معناها؟ (لا حول ولا قوة إلا بالله) ويش معناها؟
الحول معناها: التحول وتغيير الأمر، التحول من شيء إلى شيء، فهي حول بمعنى تحول، والقوة معروفة: صفة يستطيع بها القوي أن يفعل بدون ضعف.
وقوله: (إلا بالله) الباء هنا للإعانة، فحينئذٍ يكون الحول والقوة بالنسبة لنا ليس لنا حول ولا قوة إلا بإعانة الله عز وجل، بدونه لا نستطيع.
يمكن أن يجوز وجه -لكنه ضعيف- أن نجعل الباء بمعنى (في)؛ يعني: ما أحد له حول وقوة سوى الله، يكون المعنى الحول المطلق والقوة المطلقة لا تكون إلا في الله عز وجل، لكن الأول أصح؛ وذلك لأن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ لا حول ولا قوة إلا بالله كلمة استعانة، يقولها الإنسان حينما يستعين الله عز وجل، وحينئذٍ يكون المعنى الثاني، المعنى: لا حول لي أنا؛ يعني: ما أستطيع التحول من شيء إلى شيء، ولا قوة لي على ذلك إلا بمن؟ إلا بالله سبحانه وتعالى.
إذن كأن المؤلف رحمه الله استعان بهذه الجملة الله عز وجل أن ييسر له الأمر، وهذا يدل على أن هذه الخطبة قبل تأليف الكتاب، أليس كذلك؟
طلبة: بلى.
الشيخ: لكنه يُشْكِل على هذا: أن المؤلف قال في أول الكلام: (أما بعد: فهذا مختصر) (هذا) والإشارة حسية تكون إلى شيء موجود، كيف يقول: هذا مختصر، ثم نقول: إن هذا الخطبة سابقة على التأليف؟
(1/20)
________________________________________
يقول العلماء: إن الإشارة هنا إلى ما قام في ذهنه وتصوره من هذا الكتاب الذي يريد تأليفه، فالإشارة ليست إلى شيء محسوس معلوم بين يديه، ولكنها إلى شيء متصور متخيل في الذهن.
طالب: ( ... )؟
الشيخ: بعض المؤلفين يؤلف أولًا، ثم يشوف مضمون الكتاب وأبوابه، وما أشبه ذلك، ثم يجيب الخطبة.
قال: (وهو حسبنا، ونعم الوكيل) (وهو) أي: الله عز وجل، (حسب) بمعنى (كافٍ)، كل من توكل على الله فإن الله حسبه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: كافيه، ومن لا يتوكل على الله فليس الله حسبه؛ لأنه -كما تقدم لنا مرارًا- الجملة الشرطية تقتضي بمنطوقها حصول الجواب بحصول الشرط، وتقتضي بمفهومها تخلُّف الجواب بتخلُّف الشرط، فمن يتوكل على الله فهو حسبه، ومن لا يتوكل على الله فليس حسبه، يُوكَل إلى نفسه، وإذا وُكِل إلى نفسه فهو قد وُكِلَ إلى ضعف.
وقوله: (ونعم الوكيل) (الوكيل) هنا فاعل، ويقول النحويون: إن (نِعْمَ) تحتاج إلى فاعل ومخصوص، أين المخصوص؟ محذوف أو مستتر، إن قلنا: محذوف، صار التقدير: ونعم الوكيل الله، وتكون جملة مستقلة عما قبلها، وإن قلنا: إنه مستتر يعود على قوله: (إلا بالله) وهو أي: الله حسبنا ونِعْمَ هو، صح أيضًا، يجوز هذا وهذا.
(1/21)
________________________________________
وقوله: (الوكيل) كما سبق لنا في التوحيد: الوكيل هو الذي فوض إليه الأمر، ولا شك أن الله تعالى قد فوَّض العباد إليه جميع أمورهم ولَّا لا؟ ولكنها ليس تفويضنا الأمور إلى الله عز وجل كتفويضنا الأمور إلى وكيلنا في الدنيا، تفويضنا الأمور إلى وكيلنا في الدنيا على أننا نحن الذي بيدنا الأمر، نملك عزله، ونرى أنه في منزلة دون منزلتنا من حيث التصرف؛ لأنه ما يتصرف إلا حسب ما وكل فيه، لكن تفويضنا أمرنا إلى الله تفويض افتقار وحاجة، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي منه الإعداد والإمداد، كما أنه هو الذي منه الإيجاد، فنحن ما أوجدنا أنفسنا، ولا نُعِد أنفسنا لما يطلب منا، ولا نمدها أيضًا بما يقوينا على ذلك، كل هذا إلى الله عز وجل، فتفويض الإنسان لمثله في بيع وشراء وتأجير، وما أشبه ذلك، ليس كتفويض الإنسان أمره إلى ربه، شو الفرق؟
تفويض الإنسان أمره إلى ربه تفويض افتقار وحاجة واعتماد على الله عز وجل، أما تفويض الإنسان مثله في العقود والمعاملات فهذا ليس كذلك، بل هو تفويض من يرى أن الأمر بيده، لو شاء عزله، والوكيل لا يتصرف إلا حسب ما وكله موكِّلُّه، ما يتصرف في أكثر من ذلك.
وقوله: (وهو حسبنا، ونعم الوكيل) هل لها نظير في القرآن؟ {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
إذن قالوا ذلك تفويضًا إلى الله ليحصل لهم المطلوب ويندفع عنهم المرهوب؛ لأنهم يريدون أن يدفعوا هؤلاء الذين جمعوا لهم، فصارت الكلمة هذه يراد بها أمران؛ حصول المطلوب، ودفع المكروه.
قال ابن عباس: قالها إبراهيمُ عليه الصَّلاة والسَّلام حين أُلقيَ في النَّار (11)، دفعًا للمكروه، وطلبًا للمحبوب وهو النجاة؛ ولهذا كان الجواب فورًا: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
(1/22)
________________________________________
هذه الخطبة فيها -كما عرفتم- تضمنت أشياء كثيرة من التوحيد ومن صفات الله عز وجل، وهي من بركة التأليف إذا صدر بمثل هذه المعاني العظيمة.
[مدخل]
ثم قال المؤلف رحمه الله: (كتاب الطهارة).
(كتاب) (فِعَال) بمعنى (مكتوب)؛ يعني: هذا مكتوب في الطهارة، فالإضافة على تقدير (اللام)، أو (من)، أو (في)، ويحسن أن تكون على تقدير (اللام)؛ أي: فهذا كتاب لبحث أحكام الطهارة، أو على تقدير (من)؛ هذا كتاب من الطهارة، لكن هذا أضعف.
الطهارة في اللغة: النظافة، طَهُر الثوب من الأذى والقذر؛ يعني: تنظف.
وفي الشرع: تطلق على معنيين؛ أحدهما: أصل، والثاني فرع.
أما الأصل فهي طهارة القلب من الشرك في عبادة الله، والغِل والبغضاء لعباد الله المؤمنين، هذه طهارة القلب، وهي أهم من طهارة البدن، أليس كذلك؟
الطلبة: بلى.
الشيخ: بل لا يمكن تكون طهارة البدن مع وجود نجس الشرك، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» (12)، وقال: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» (13)؛ يعني: إلا مؤمن.
فالحاصل أن الطهارة في اللغة: النظافة، وفي الشرع: تطلق على معنيين؛ أحدهما أصل؛ وهو طهارة القلب من الإشراك في عبادة الله، وطهارته من الغل والحقد والبغضاء لعباد الله، هذه طهارة معنوية.
أما الطهارة الحسية الفقهية التي يتكلم عليها الفقهاء، فعرَّفها المؤلف بقوله: (وهي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث).
(ارتفاع الحدث) يعني: زوال الوصف المانع من الصلاة ونحوها، هذا معنى (ارتفاع الحدث)، الحدث: وصف يقوم بالشخص يمنعه منين؟ من الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة.
ما هو الحدث شيء معروف؛ يعني: عين تكون على البدن، لا وصف يتصف به الإنسان يمنعه من أين؟ من الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة.
(1/23)
________________________________________
فمعنى (ارتفاع الحدث): ارتفاع هذا الوصف؛ يعني: زوال هذا الوصف القائم بالبدن المانع من الصلاة ونحوها، هذا ارتفاع الحدث.
مثال ذلك: رجل بال واستنجى، ثم توضأ، كان بعد بوله يستطيع يصلي؟
الطلبة: لا.
الشيخ: لا، لما توضأ يستطيع؛ لأنه ارتفع الحدث زال الوصف المانع من الصلاة ونحوها.
وقول المؤلف: (ارتفاع الحدث) (ارتفاع) فسرتها بمعنى (الزوال)، الحدث: الوصف القائم بالبدن المانع من الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة.
وقال المؤلف: (وما في معناه) الضمير هنا يعود على (الحدث) ولَّا يعود على (ارتفاع)؟ يعود على الارتفاع لا على الحدث؛ يعني: وما في معنى ارتفاع الحدث؛ يعني: ما يكون فيه ارتفاع حدث، لكن فيه معنى ارتفاع الحدث.
مثل: غسل اليدين ساعة القيام من نوم الليل، هذا واجب، يسمى طهارة، هل هو حدث؟ لا؛ لأنه ما يرتفع الحدث، لو غسلت يديك ما جاز تصلي، لكنه في معنى ارتفاع الحدث.
رجل جدد الوضوء؛ يعني: توضأ وهو على وضوئه، ثَمَّ طهارة ولَّا لا؟ ثَمَّ طهارة، هل في ذلك ارتفاع حدث؟
طلبة: لا.
الشيخ: لكنه في معنى ارتفاع الحدث.
صاحب سلس بول توضأ علشان البول، اللي بيصلي توضأ من البول، هل البول زال ولَّا ما زال؟
طلبة: ما زال.
الشيخ: ما زال، إذن يكون هذا الوضوء حصل به ارتفاع الحدث ولَّا معنى ارتفاع الحدث؟
الطلبة: معنى.
الشيخ: يكون معنى ارتفاع الحدث؛ لأن الحدث ما زال، فصار قوله: (وما في معناه) أي: في معنى ارتفاع الحدث؛ وهو كل طهارة لا يحصل بها رفع للحدث، أو لا تكون عن حدث.
انتبه لقوله: (وزوال الخبث)، ولم يقل: وإزالة الخبث، فزوال الخبث طهارة، سواء زال بنفسه أو زال بمزيل آخر، فيعتبر ذلك طهارة.
والخبث هو النجاسة، والنجاسة: كل عين يحرم تناولها، لا لضررها، ولا لاستقذارها، ولا لحرمتها، هكذا حددوه بأنها: كل عين يحرم تناولها، لا لضررها، ولا لاستقذارها، ولا لحرمتها.
(1/24)
________________________________________
فقولنا: (حرم تناولها) خرج به أيش؟ المباح، فكل مباح تناوله فهو طاهر.
وقولنا: (لا لضررها) خرج به السُّم وشبهه، فإنه حرام، لكن لماذا؟ لضرره.
(ولا لاستقذارها) خرج به المخاط وشبهه.
(ولا لحرمتها) خرج به الصيد في حال الإحرام، والصيد في داخل الحرم؛ داخل الأميال، فإنه يحرم تناوله، لكن لحرمته.
وعلى كل حال النجاسة ستأتينا -إن شاء الله سبحانه وتعالى- في بابها وبيانها، والأصل في الأشياء الطهارة، كما سيأتي أيضًا.
وقال المؤلف: (وزوال الخبث) قلت: إنه أعم من قوله: وإزالة الخبث؛ لأن الخبث قد يزول بنفسه، فمثلًا: إذا فرضنا أن أرضًا نجست بالبول، ثم جاء المطر فطهرها، تطهر ولَّا لا؟
طلبة: نعم.
الشيخ: وهل مني إزالة؟ ولكن الخبث زال.
ولو كان عندي ماء نجس بالتغير؛ تغير رائحته، ثم زالت الرائحة بنفسها، تطهر ولَّا لا؟
طلبة: تطهر.
الشيخ: تطهر.
ولو كان عند الإنسان خمر ثم تخلل بنفسه صار طاهرًا، وإن كان الصواب أن الخمر طاهر ولو كان على صفته خمرًا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
إذن هذا تعريف الطهارة اصطلاحًا، وهي: ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث.
وبدأ المؤلف بالطهارة لسببين:
السبب الأول: أن الطهارة تخلية من الأذى، ويقولون: إن التخلية قبل التحلية؛ يعني: طهِّر الشيء مما يشوبه من النقائص، ثم أكمله بالكمالات؛ تحلية.
ثانيًا: أن الطهارة مفتاح الصلاة، والصلاة آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ولذلك بدأ الفقهاء رحمهم الله بدؤوا بكتاب الطهارة؛ لأنها مفتاح الصلاة.
على كل حال، الطهارة تحتاج إلى شيء يتطهر به؛ يرفع به الحدث ويزال به النجس، وهو الماء؛ ولهذا بدأ المؤلف به فقال:
[المياه]
(المياه ثلاثة) يعني: أنواعها ثلاثة، و (المياه) جمع (ماء)، (ثلاثة) أنواعها ثلاثة:
(1/25)
________________________________________
الأول: (طَهُور) بفتح الطاء على وزن (فَعُول)، و (فَعُول) اسم لما يتوصل به إلى ذلك الشيء، فالطَّهور بالفتح: اسم لما يتوصل به إلى الطهارة، والوَضوء بالفتح: اسم للماء الذي يُتوضأ به، والسَّحور بالفتح: اسم للطعام الذي يتسحر به.
أما (طُهور) بالضم: طُهور، ووُضوء ( ... ) بضم الطاء، فهو الفعل؛ يعني: التطهر، ووُضوء بالضم: الفعل اللي هو التوضؤ، سُحور بالضم: الفعل الذي هو التسحر.
قال المؤلف: (لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس غيره) ينبغي أن نعرف الطَّهور قبل أن نعرف حكمه.
الطَّهور: هو الماء الباقي على خلقته حقيقةً أو حكمًا، هذا الطَّهور؛ تعريفه، مثلًا: أخرجت الماء من البئر على طبيعته ساخنًا ما تغير؛ نظيف، أيش يكون هذا؟ هذا طَهور.
نزل المطر من السماء، فأخذته على طبيعته، هذا أيضًا طَهور؛ لأنه باقٍ على خِلقته، نقول: الباقي على خلقته حقيقةً أو حكمًا، المثالان اللذان ذكرنا حقيقة.
أو حكمًا؛ كالماء المتغير بغير ممازج، أو المتغير بما يشق صون الماء عنه، هذا طَهور، لكن ما بقى على خلقته، إي نعم.
وكذلك الماء المسخَّن؛ الماء المسخن ما هو على خلقته؛ سُخِّن، ومع ذلك فهو طَهور؛ لأنه باقٍ على خلقته حكمًا.
يقول: (لا يرفع الحدث غيره) غير الماء؛ البنزين ما يرفع الحدث؟ ما يرفع الحدث، والجاز ما يرفع الحدث، والعصير، كل شيء سوى الماء لا يرفع الحدث، لو يتوضأ إنسان بلبنٍ أو عصير أو جاز أو بنزين ما ارتفع الحدث، ويش الدليل؟
الدليل قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، فأمر بالعدول إلى التيمم إذا لم نجد الماء؛ يعني: وإن وجدنا غيره من المائعات والسوائل.
(1/26)
________________________________________
قوله: (لا يرفع الحدث غيره) التراب في التيمم يرفع الحدث ولَّا لا؟ المذهب لا، والصواب أنه يرفع الحدث؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، ومعنى التطهير: أن الحدث ارتفع؛ ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» (14).
فإذن التراب مطهِّر، ومعنى ذلك أنه رافع للحدث، وهذا هو الصواب؛ أنه يرفع الحدث، لكنه إذا وجد الماء أو زال السبب الذي من أجله تيمم؛ كالجرح برئ، فإنه يجب عليه أن يتوضأ، أو أن يغتسل إن كان قد تيمم عن جنابة.
وقوله: (ولا يزيل النجس الطارئ غيره) يعني: لا يزيل النجس إلا الماء، الدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام في دم الحيض يصيب الثوب: «تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ» (15)، الشاهد في قوله: «بِالْمَاءِ»، فهذا الدليل على تعين الماء لإزالة النجاسة.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأعرابي الذي بال في المسجد: «هَرِيقُوا عَلَى بُوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ» (16)، ولأنه لما بال الصبيُّ على حِجْره دعا بماء فأتْبَعَهُ إِيَّاه (17).
فدل هذا على أنه لا يزيل النجس إلا الماء، لو أزلنا النجاسة بغير الماء؛ أزلناها بالبنزين أو بسبرتو أو بمطهر آخر، تطهر ولَّا ما تطهر؟ ما تطهر على كلام المؤلف.
لا يزيل النجس إلا الماء، كما لا يرفع الحدث إلا الماء، ولكن هذه المسألة أيضًا فيها نظر.
والصواب: أنه إذا زالت النجاسة بأي مزيل كان طهرت؛ لأن النجاسة عين خبيثة، فإذا زالت زال حكمها، ما هي وصف كالحدث لا يزال إلا بما جاء به الشرع، هذه عين متى زالت زال حكمها.
(1/27)
________________________________________
والدليل على ذلك: أن الفقهاء أنفسهم رحمهم الله يقولون: إذا زال تغير الماء النجس بنفسه صار طهورًا لو ما أضفنا إليه شيء.
ويقولون: إذا تخللت الخمرة -وهم يرون أن الخمرة نجسة- صارت طاهرة، وهذا ما استعمل فيه الماء، فالصواب: أن النجس يزال بكل مزيل، ويطهر بكل مزيل، وسيأتي -إن شاء الله أيضًا- تمام البحث فيه في باب الطهارة.
وقول المؤلف: (النجس الطارئ) انتبه (الطارئ) معناه: أن المحل قبل طروء هذه النجاسة كان طاهرًا؛ مثل أن تقع النجاسة على الثوب، أو على البساط، أو على الكتاب، أو ما أشبه ذلك، هي وقعت على محل طاهر، فهي طارئة تزال.
أما النجاسة العينية التي هي نجسة؛ عينها نجسة، فهذه لا تطهر أبدًا، لا يطهرها لا ماء ولا غير الماء.
الكلب مثلًا؛ لو أنك غسلت الكلب سبع مرات إحداها بتراب يصير طاهرًا؟
طلبة: لا.
الشيخ: غسلته سبع مرات يا إخوان؟
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، نفس الكلب.
الطالب: ( ... ).
الشيخ: يكون طاهرًا؟
الطالب: ( ... ).
الشيخ: لماذا؟
الطلبة: لأنه عينه نجسة.
الشيخ: لأن عينه نجسة، هل ذهبت عينه لما صبينا عليه الماء وجبنا التراب؟
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، هذا لو نجاسة الكلب وقعت على شيء طاهر؟
طالب: ( ... ).
الشيخ: الكلب نفسه ما يمكن يطهر أبدًا؛ لأن نجاسته عينية؛ عينه نجسة.
روثة الحمار نجسة ولَّا لا؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: فجاء إنسان وصب عليها ماء إلى أن أغرقه ويبس الماء ويقول: الروثة طاهرة، كيف؟
الطلبة: لأنها عينها نجسة.
(1/28)
________________________________________
الشيخ: لأنها عينها نجسة، ما يمكن تطهر، النجس ما يمكن تطهر عينه، إلا أنه سيأتينا -إن شاء الله تعالى- في باب إزالة النجاسة عن بعض أهل العلم: أنه إذا استحالت النجاسة طهرت، كما لو أوقد بالروث فصار رمادًا، فإنه يكون طاهرًا، وكما لو سقط كلب في مملحة وصار ملحًا، فإنه يكون طاهرًا؛ لأنه استحال؛ تحوَّل إلى شيء آخر، فيكون طاهرًا، راحت العين الأولى كلها، هذا الكلب اللي كان بالأول لحم وعصب، وعظام، ومخ، ودم، ويش صار الآن؟ صار ملحًا، الهيئة هي هي، لكن الآن هذا الملح قضى على العين الأولى.
وسيأتينا -إن شاء الله تعالى- المذهب في المسألة، وحكم النجاسة إذا استحالت هل تطهر أم لا؟ والخلاف في هذا مشهور.
المهم أننا نمشي على كلام المؤلف هنا فنقول: (الطارئ) احتراز منين؟
طالب: من النجس العين.
الشيخ: (من النجس عينًا) اللي عينه نجسة هذا ما يطهر عينه؛ لأن عينه باقية، يقولون: إن النجاسة الطارئة تسمى: نجاسة حكمية، وأما النجاسة غير الطارئة فتسمى: نجاسة عينية.
قال: (وهو الباقي على خلقته) هذا تعريفه، وتقدم.
ثم قال: (فإن تغير بغير ممازج، كقطع كافور، أو دهن، أو بملح مائي، أو سخن بنجس كُرِهَ) إن تغير الماء بشيء لا يمازجه، مثل قطع الكافور؛ الكافور نوع من الطيب يكون قطعًا، ويكون ناعمًا دقيقًا غير قطع، هذه القطع إذا وضعت بالماء تغير رائحته وطعمه، لكنها لا تمازجه؛ يعني: ما تختلط فيه وتموع، فإذا تغير بهذا فهو طهور، لكنه مكروه.
كيف يكون طهورًا وقد تغير؟
قالوا: لأن هذا التغير ليس عن ممازجة، ولكن عن مجاورة، فالماء هنا ما تغير؛ لأن هذه القطع مازجته، ولكن لأنها جاورته، فالتغير هنا بالمجاورة لا بالممازجة، فيكون طهورًا.
لماذا يكون مكروهًا؟
(1/29)
________________________________________
يقولون: لأن بعض أهل العلم قال: إنه يكون طاهرًا غير مطهِّر، فيرى أن هذا التغير يسلبه الطهورية، انتبه، فصار التعليل الآن بماذا؟ التعليل بالخلاف؛ يعني: لو سألك سائل: أنت الآن تقول: إنه إذا تغير بغير ممازج فإنه يكره؛ يعني: هو يكون طهورًا ولَّا طاهرًا؟ يكون طهورًا يطهر؛ يزيل النجاسات ويرفع الأحداث، إذا كان طهورًا لماذا كرهته؟
قال: لأن العلماء اختلفوا فيه؛ فذهب بعضهم إلى أنه في هذه الحال يكون طاهرًا غير مطهِّر، فمن أجل هذا الخلاف قلنا: إنه يكره، فعللوا بالخلاف.
ولكن الصواب: أن التعليل بالخلاف عليلٌ ولا يستقيم، ومعنى (عليل) يعني: مريض بالخلاف، التعليل بالخلاف لا يصح؛ لأننا لو قلنا بذلك لكرهنا مسائل كثيرة في أبواب العلم؛ لأن الخلاف في مسائل العلم كثير ولَّا قليل؟ كثير جدًّا، ولو قلنا: كلما وجدنا خلافًا في مسألة قلنا: إنها مكروهة، لكان كثير من مسائل العلم تكون مكروهة؛ لوجود الخلاف فيها، وهذا لا يستقيم.
إذن فالتعليل بالخلاف ليس علة شرعية، ولا تقبل، ولا نقول: خروجًا من الخلاف؛ لأن الخروج من الخلاف هو معنى التعليل بالخلاف، بل نقول: إذا كان لهذا الخلاف حظ من النظر وكانت الأدلة تحتمله، فنحن نكرهه؛ لا لأن فيه خلافًا، ولكن لأن الأدلة تحتمله، فيكون تركه من باب «دَعْ مَا يَرِيبُك إِلَى مَا لَا يَريبُكَ» (18).
أما إذا كان خلافًا لا حظَّ له من النظر، فلا يمكن أن نعلل به المسائل، ونأخذ منه حكمًا.
وَلَيْسَ كُلُّ خِلَافٍ جَاءَ مُعْتَبَرَا
إِلَّا خِلَافًا لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ
ما كل خلاف يعتبر، والحاصل هذه قاعدة مفيدة من قواعد الأصول: أن التعليل بالخلاف عليلٌ لا يقبل، لماذا؟ لأن الأدلة ما تثبت إلا بدليل، من قال لنا: إن مراعاة الخلاف دليل شرعي تثبت به الأحكام، ويقال: هذا مكروه، أو غير مكروه، من قال ذلك؟
(1/30)
________________________________________
ثم لو قلنا به للزم أن نكره كثيرًا من مسائل العلم؛ لأن الخلاف في مسائل العلم كثير، أليس كذلك؟
طلبة: بلى.
الشيخ: إذن ماذا نقول إذا جاءت مسألة خلافية؟ نقول: إذا كان هذا الخلاف تحتمله الأدلة ومرجوحيته ليست تلك المرجوحية البالغة، فيمكن هنا أن نقول بأن الأولى ترك هذا الشيء، أو ربما نتجاسر ونقول: إنه يكره، لا لأن فلانًا قال به وخالف، ولكن لأن الأدلة تحتمل هذا القول، فيكون الأخذ بها من باب «دَعْ مَا يَرِيبُك إِلَى مَا لَا يَريبُكَ»، هذه واحدة.
(أو دهن) تغير بغير ممازج كدهن، ويش يعني دهن؟ تعرفون الدهن؟ وضع إنسان دهنه في مائه وتغير الماء بها، فإنه لا يسلبه الطهورية، يبقى طاهرًا؛ لماذا؟ لأن الدهن لا يمازج الماء؛ تجده طافيًا على أعلاه، ما يمكن يمازجه، فتغيره به تغير مجاورة وليس تغير ممازجة، فلأجل ذلك لا يسلبه الطهورية.
طالب: ولو كان ساخنًا يا شيخ؟
الشيخ: ولو كان الماء ساخنًا، ولو مع الدهن.
بِمِلْحٍ مائيٍّ أو سُخِّنَ بنَجِسٍ كُرِهَ، وإن تَغَيَّرَ بِمُكْثِه أو بما يَشُقُّ صَوْنُ الماءِ عنه من نَابتٍ فيه ووَرَقِ شجَرٍ أو بِمُجاوَرَةِ مَيْتَةٍ أو سُخِّنَ بالشمْسِ أو بطاهِرٍ لم يُكْرَهْ، وإن استُعْمِلَ في طَهارةٍ مُستَحَبَّةٍ كتَجديدِ وُضوءٍ وغُسلِ جُمُعةٍ وغَسلةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ كُرِهَ، وإن بَلَغَ قُلَّتَيْن وهو الكثيرُ - وهما خَمْسُمائةِ رَطْلٍ عِرَاقِيٍّ تقريبًا - فخالَطَتْهُ نجاسةٌ غيرُ بَوْلِ آدَمِيٍّ أو عَذِرَتِه المائعةِ فلم تُغَيِّرْهُ أو خالَطَه البَوْلُ أو العَذِرةُ ويَشُقُّ نَزْحُه كمصانِعِ طريقِ مَكَّةَ فطَهورٌ. ولا يَرْفَعُ حَدَثَ رجُلٍ طَهورٌ يَسيرٌ خَلَتْ به امرأةٌ لطهارةٍ كاملةٍ عن حَدَثٍ. وإن تَغَيَّرَ طَعْمُه أو لونُه أو ريحُه بطَبْخٍ أو ساقِطٍ فيه أو رُفِعَ بقَلِيلِه حَدَثٌ أو غُمِسَ فيه يدُ قائمٍ من نومِ ليلٍ ناقضٍ لوُضوءٍ،
لماذا يُكْرَه؟ خروجًا من الخلاف.
(1/31)
________________________________________
وقد عَلِمْتَ ما في هذا التعليل من عِلَّة.
يبقى: لماذا لا تسلبه الطَّهُورية؟
يقول: لأنَّ هذا الملح المائيَّ أصْله الماء؛ لأننا نقول: ملحٌ مائيٌّ.
وعُلِم من قول المؤلف: (مائيٍّ) أنَّه لو تغيَّر بملح معدني يُستخرَج من الأرض؛ يعني فيه أملاح معدنية؛ مثل معدن الذهب والفضة والحديد وما أشبهها، فإنه يسلبه الطَّهوريةَ على المذهب ويكون طاهرًا غيرَ مُطهِّرٍ، ولكن سيأتي -إن شاء الله- الكلامُ على الطاهر المطهِّر.
يقول: (أو سُخِّن بنجسٍ كُرِه). إِذا سُخِّنَ الماءُ بنجسٍ وتغيَّر فإنه؟
طالب: يُكْره.
الشيخ: قوله: (أو سُخِّن بنجسٍ) هذه معطوفة على (إنْ تغيَّر بغير ممازِج)، (أو سُخِّن بنجسٍ) وإنْ لم يتغيَّر، فإنه يُكرَه إذا سُخِّن بنجس.
ويش مثال سُخِّن بنجس؟
إنسان جَمَع روث حمير وسخَّن به الماء، فإنه يُكرَه؛ هذا الماءُ يُكرَه، أمَّا إذا كان مكشوفًا فإنَّ وجْه الكراهة في ذلك ظاهر، ليش؟ لأن الدُّخان يدخل فيه ويؤثِّر.
وأمَّا إذا كان مغطًّى فإنه يُكره ولو كان محكمَ الغطاء؛ لأنه يقول: لا يَسْلم غالبًا من صعود أجزاءٍ لطيفةٍ إليه، يمكن فيه شيء مثل السلس دخل على ها الماء هذا، فعلى هذا يكون مكروهًا.
ولكن الصَّواب أنه لا يُكره إذا سُخِّن بنجسٍ إذا كان مُحْكمًا ما يدخل عليه الدخان، فإنْ دخل عليه الدخان فغيَّره فإنه ينبني على القول بأن الاستحالة تجعل النجسَ طاهرًا، إِن قلنا به ما ضَرَّ حتى لو دخل الدخان
(أو سخن بنجس كره) هذه علته غير العلة الأولى العلة أيش؟
طالب: التسخين.
الشيخ: لأنه لا يَسْلم من صعود أجزاءٍ لطيفةٍ إليه، والمحْكَم نادر، فلا حُكْمَ له.
وتعليلٌ آخر: لأنَّ هذا الماء سخن بشيءٍ نجسٍ.
***
قال المؤلف: (وإنْ تغيَّر بِمُكثِهِ، أو بما يَشُقُّ صَوْنُ الماءِ عنه من نابتٍ فيه وورقِ شَجَرٍ، أو بمجاورة ميتةٍ، أو سُخِّن بالشمس أو بطاهرٍ، لم يُكْره).
هذه عدة مسائل:
(1/32)
________________________________________
إذا (تغيَّرَ بِمُكْثه) أي: بطول إقامته، فإنه لا يضرُّ.
ويش لون يتغير بِمُكثه؛ بطول إقامته؟
طالب: ( ... ).
الشيخ: يسمونها عندنا هنا (الصاري)، ( ... ) عاد عندكم مثله في لغة القصيم ولّا لا؟
طالب: الصاري؛ يبغي البيار، يبغي البير.
الشيخ: ( ... ) بطول مُكثه هو ما يضرُّ؛ لأنه ما تغيَّر بشيءٍ حادثٍ فيه، تغيَّر بنفسه، فهذا لا يضرُّ ولا يُكرَه.
كذلك إذا تغير: (بِمُكْثه أو بما يَشُقُّ صَوْن الماء عنه من نابتٍ فيه وورقِ شَجَرٍ).
(بما يَشُقُّ صَوْن الماء عنه من نابتٍ فيه) مثل هذا الغدير نَبَتَ فيه عُشْبٌ، يُمْكن هذا ولّا لا؟ يُمْكن، أو نَبَتَ فيه طُحْلبٌ، تعرفون الطُّحْلب؟
طلبة: نعم.
الشيخ: ( ... ) على الماء.
(أو ورق شجر) كان حوله أشجار فتتساقط أوراقها في هذا الماء فتغيَّر بها، فإنَّه يكون طَهُورًا غير مكروه.
طالب: إذا له رائحة؟
الشيخ: ولو له رائحة.
الطالب: بدون طعم؟
الشيخ: لو له رائحة بدون طعم بل ولو له طعم.
طالب: ولونه؟
الشيخ: ولونه؛ يعني لو تغيَّر لونُه وطعمُه وريحُه بهذه الأوراق ..
طالب: ( ... ) هذا يتغير لونه؟
( ... )
الشيخ: لماذا؟ يقولون: لمشقَّة التحرُّز منه. هل واحد يمنع الأشجار أن تطير بها الرياح حتى توقعها في هذا المكان؟ ما يقدر أحد. أو هل يقدر أحدٌ أن يمنع أن يتغيَّر هذا الماء بسبب طول مُكْثه؟ ما يمكن. ولو أننا قلنا للنَّاس: يكون الماء طاهرًا غيرَ مطهِّر؛ لكُنَّا شققْنا عليهم، فلهذا نقول: إذا تغيَّر الماء طعمُه ولونُه وريحُه بما يشُقُّ صَوْن الماء عنه فهو طَهُور غير مكروه.
طيب، لو تغيَّر بطينٍ؛ واحد مشى في الغدير برجليه، قام يخبِّط إلى أن صار الماء متغيِّرًا جدًّا بالطين، ملوثًا، يكون طَهُورًا غير مكروه؛ لأنه تغيَّر بِمُكثه.
(1/33)
________________________________________
كذلك أيضًا تغير (بمجاورة ميتةٍ)؛ هذا غدير صار عنده ميتاتٌ كثيرةٌ؛ عشرين شاة ماتت من كُلِّ الجوانب، وصار له رائحةٌ كريهةٌ جدًّا بسبب الجِيَفِ، تغيَّر، يقول المؤلف: إنه طَهُورٌ غير مكروه.
طالب: بس لما اتغير من الريحة.
الشيخ: بس فيه الريحة فقط.
الطالب: ما دخلت فيه.
الشيخ: إذا أخذته بيدك شممتَه تقول: رائحته خبيثة، يقول المؤلف: إن هذا يكون طهورًا، لماذا؟
طالب: لَمْ يتغير ( ... ).
الشيخ: ( ... ) عنْ مجاورة لا عنْ ممازجة، الغريب أن بعض أهل العلم حكى إجماع أهل العلم على ذلك؛ أنه لا ينجُس بتغيُّره بمجاورة ميتةٍ، وربما يُستدَلُّ عليه ببعض ألفاظ الحديث: «إِلَّا إِنْ تَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ» (1) على القول بأن هذا الحديث صحيح.
فإن كلمة «تَحْدُثُ فِيهِ»، هذا ما حدثتْ فيه، إنما هي مجاوِرة له، لكن لا شكَّ أن الأَوْلى التنزُّه عنه إذا أمكن، فإذا وجدتَ ماءً لم يتغيَّر فهو أحسن وأبعد عن أنْ تتلوَّث بماءٍ رائحته خبيثةٌ نجسةٌ، وربما يكون فيه من النَّاحية الطبِّيَّة ضررٌ؛ أن تكون هذه الروائح تحمل ميكروبات تَحُلُّ في هذا الماء.
طالب: ما الفرق ( ... ).
الشيخ: سخن بالشمس ما ( ... )؛ واحد مثلًا في الشتاء وضَعَ الماء في الشمس ليسخن فاغتسل به فلا حَرَج.
(أو بطاهرٍ) مثل أيش؟
طالب: الحطب.
الشيخ: حطب، غاز، كهرباء، فإنه لا يُكرَه.
***
( ... ) (إن استُعْمِلَ في طهارة مستحبَّة) الضَّمير في قوله: (إن استُعْمِلَ) يعود على الماء الطَّهور، (استُعْمِلَ في طهارة مستحبة).
(1/34)
________________________________________
والاستعمال: أن يَمُرَّ الماءُ على العضو ويتساقط منه، وليس الماء المستعمَل هو الذي يُغتَرف منه، الماء المستعمَل هو الذي يتساقط بعد الغَسْل فيه؛ غسلتَ وجهَك، هذا الماء اللي يخرج من الوجه هو الماء المستعمَل، غسلتَ يديك هذا الماء الذي يتساقط من اليدين هو الماء المستعمَل، وأمَّا الماء المأخوذ منه فهذا ليس بمستعمَل، وقد يغلط بعض الطلبة ويظن أن الماء المستعمَل هو الماء المغترَف منه، وليس كذلك، بل الماء المستعمَل هو الذي يتساقط من الأعضاء بعد استعماله.
(استُعْمِلَ في طهارةٍ مُسْتَحبَّةٍ كتجديد وُضُوءٍ)
تجديد الوضوء سُنَّة، إذا صلَّى الإنسان بوضوئه الأول صلاةً ثم دخل وقتُ الصلاة الأُخرى فإنه يُسَنُّ أن يُجدِّد الوُضُوء وإن كان على طهارة، استعمله في تجديد الوضوء، فهل يكون طاهرًا أو طَهُورًا؟
الجواب: يكون طَهُورًا، لكنه يُكرَه، يكون طَهورًا لأنه لم يَرِد عليه ما ينقله عن الطَّهورية، ويكون مكروهًا للخلاف في سلبه الطَّهورية؛ لأن بعض العلماء يقول: إنه إذا استُعْمِل في طهارةٍ ولو مستحبَّة صار طاهرًا غير مطهِّر، فمِن أجْل هذا الخلاف صار مكروها.
وقد سبق لنا قبل هذه الليلة أن التعليل بالخلاف عليلٌ، وأن الصواب أن يُقال في الخلاف: إنْ كانت الأدلة محتمِلةً فالأَوْلى الاحتياط. لماذا؟ لاحتمال الأدلة، فهو من باب: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» (2)، وإن كان الدليل واضحًا فلا عبرة بالخلاف ولا يغيَّر من أجْله الحكمُ؛ لأن الأدلة: الكتاب، والسُّنة، والإجماع، والقياس، أمَّا مسألة الخلاف فليس من الأدلة الشرعية.
طالب: بالنسبة ( ... ) يعني ( ... ).
(1/35)
________________________________________
الشيخ: (كتجديد وضوءٍ وغُسْل جمعة)، غُسل الجمعة طهارة مستحَبَّة، وهذا رأي جمهور أهل العلم، وسيأتينا إن شاء الله تعالى أنَّ غُسل الجمعة على القول الراجح واجبٌ، لكن على المشهور من المذهب وقول جمهور أهل العلم أن غُسلَ الجمعة غُسلٌ مستحَبٌّ، فإذا استُعمِل الماء في غُسل الجمعة فإنه يكون طَهُورًا لكنه مكروه.
وما هو المستعمَل في الغُسل؟ هو الذي يتساقط من الجسم بعد الاغتسال وليس الماء الذي يُغترَف منه.
(وغَسْلةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ)، الغَسْلةُ الثانيةُ ليستْ بواجبة، ويش الدليل؟
الدليل قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] والغَسل يصدق بواحدةٍ ولَّا لا؟ يصدق بواحدة، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه توضَّأ مرَّةً مرَّةً (3)، إذَنْ فالثانية والثالثة تكون طهارةً مستحبَّةً، فما استُعمِل في الغَسْلةِ الثانيةِ والثالثةِ فإنه يكون طَهُورًا لكنه مكروه، والعِلَّةُ: الخلاف في سلبه الطَّهورية.
والصواب في هذه المسائل كلِّها يا إخواني أنه لا يُكرَه؛ لأن الكراهة حكمٌ شرعيٌّ، والحكم الشرعيُّ يفتقر إلى دليلٍ، وكيف نقول لعباد الله: إنه يُكرَه لكم أن تستعملوا هذا الماء، وليس عندنا دليلٌ من الشَّرع؟ ! هذا صعب.
ولذلك يجب أن نَعرِف أن منْع العباد مما لم يدلَّ الشرعُ على منْعِهِ كالتَّرخيصِ لهم فيما دَلَّ الشَّرعُ على منْعِهِ؛ لأن الله جعلهما سواءً؛ {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]، بلْ قد يقول قائلٌ: إن تحريم الحلال أشدُّ من تحليل الحرام؛ لأن الأصلَ الحِلُّ، والله عز وجل يحبُّ التيسير لعباده.
***
ثم قال المؤلف: (وإنْ بَلَغَ قُلَّتينِ وهو الكثيرُ).
(بَلَغَ) الضمير يعود على ماذا؟ على الماء الطَّهور.
(1/36)
________________________________________
(قُلَّتينِ): تثنية قُلَّة، والقُلَّة أشبه ما لها ما يُسَمَّى عندنا بـ (الزير)، تعرفون الزير اللي يُحطُّ فيه الماء؟ إلا أنها أكبر منه، القُلَّة هذه مشهورة عند العرب؛ قِلالُ هَجَر معروفةٌ مشهورةٌ.
إذا بلغ قُلَّتين (وهو الكثير) (الكثير) بحسب الاصطلاح، فإذا سمعتَ الفقهاءَ يقولون: الماء الكثير. فالمراد؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: ما بَلَغ القُلَّتينِ؛ (ما بَلَغ)، ما هو (ما فوقَ)، ما بَلَغَ القُلَّتينِ، وإذا سمعتَهم يقولون: يسيرٌ. فهو ما دون القُلَّتينِ.
(وإنْ بَلَغَ قُلَّتينِ) (وهو الكثير) الجملة هذه جملة معترضة بين فعل الشرط وجواب الشرط.
(وهو الكثير، وهما خمسُ مئةِ رطْلٍ عراقيٍّ تقريبًا) (خَمسُ مئةِ رطْلٍ عراقيٍّ) مئة الرطل العراقي على وزن قِربة ماء تقريبًا، وعلى هذا فيكون كَمْ قربة؟ خمسَ قِرَبٍ تقريبًا، إذا بَلَغَ الماءُ ذلك -وأفادنا المؤلِّف بقوله: (تقريبًا) أن المسألة ليست على سبيل التَّحديد- فلا يضرُّ النَّقصُ اليسير.
(فخالطَتْه نجاسةٌ)
(خالطتْه) يعني: امتزجتْ به.
(نجاسةٌ) وتقدَّم لنا ما هي النَّجاسة؛ كلُّ عينٍ حَرُمَ تناولها لا لِحُرمتها، ولا لاستقذارها، ولا لضررٍ بها في بَدَنٍ أو عقْلٍ. هذا تعريف بعضِ الفقهاء، وهي في الحقيقة محدودةٌ ومعدودةٌ كما سيأتينا في باب إزالة النجاسة إن شاء الله تعالى.
(نجاسةٌ غَيرَ بولِ) ويجوز (غَيرُ) على أنها صفةٌ لـ (نجاسة) (بولِ آدميٍّ أو عَذِرته المائعةِ فلمْ تغيِّرهُ). احذف (غَيرَ بولِ آدميٍّ أو عَذِرته) حتى نتكلَّم عليها كلامًا مستقلًّا.
(فخالطتْه نجاسةٌ ... فلمْ تغيِّره فطهورٌ) إذا بَلَغ الماءُ قُلَّتينِ فخالطته نجاسةٌ فلم تغيِّره فهو طَهورٌ.
(1/37)
________________________________________
وقوله: (فلم تغيِّره)، ويش المراد بـ (تغيِّره)؟ طعمه أو لونه أو ريحه؛ مثال ذلك: هذا إنسانٌ عنده ( ... ) فيها ماءٌ يبلغ القُلَّتينِ، فسقط فيها روث حمارٍ، ولكن الماء ما تغيَّر لا طعمه ولا لونه ولا ريحه، فما حُكْم هذا الماء؟ طَهُورٌ؛ الدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» (4) مع قوله: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» (5)، فعلى هذا نقول: إن الماء طَهورٌ لا ينجِّسه شيءٌ إذا بَلَغَ القُلَّتينِ، فإنه إذا لَمْ تغيِّره النجاسة فإنه يكون طَهورًا، لو كنتَ ترى النجاسةَ فيه ما دام أنه ما تغيَّر فإنه يكون طَهورًا يجوز أن تتوضأ به، وأن تغتسل به، وأن تغسل به ثوبَك من النجاسة، وأن تشرب منه، كلُّ هذا جائزٌ لأنه طَهورٌ.
بقينا في قوله: (بولِ الآدميِّ وعَذِرَته المائعة).
(بولِ الآدميِّ وعَذِرَته المائعة) لا تعتبر القُلَّتينِ، اعتبرْ مشقةَ النزح؛ إن كان يشقُّ نزْحُه ولم يغيِّره البول والعَذِرة فهو طَهورٌ، وإن كان لا يشقُّ ولو زاد على القلَّتينِ فهو نجسٌ، فجميع النجاسات حتى نجاسة الكلب يُراعَى فيها أيش؟ القُلَّتانِ، أمَّا بول الآدمي وعَذِرته المائعة فإن المعتبر مشقَّةُ النَّزْحِ، فاجعلْ مشقَّةَ النَّزح بالنسبة للبول والعَذِرة بمنزلة القُلَّتينِ؛ فهذا مثلًا: عندنا غديرٌ بالَ فيه شخصٌ نقطةً مثل عينِ الجرادة -تعرفون عينَ الجرادة؟ صغيرة، يُضرَب بها الْمَثَل في الصِّغَر- مثل عينِ الجرادة، وهذا الماء أربعُ قِلالٍ، ولَمْ يتغيَّر الماء إطلاقًا، ماذا يكون هذا الماء، لكنه لا يشقُّ نَزْحه؛ لو جاء رجلٌ نَزَحَةُ بدون أن يشقَّ عليه؟ يكون نجسًا.
طيب، ما تغيَّر، ولو العبرة بمشقَّة النَّزح فإنْ كان يشقُّ نزحه قلنا: طهورٌ.
(1/38)
________________________________________
ما هو الدليل على الفرق بين بول الآدميِّ وغيرِه من النجاسات مع أنكم تقولون لو بال كلبٌ في هذا الماء الذي يبلغ القُلَّتينِ ولم يتغيَّر، لو بال الكلب يكون طَهورًا؟
بال كلبٌ في هذا الماء الذي يبلغ أربع قِلالٍ ولا يشقُّ نزْحُه، بال به كلبٌ ولم يتغيَّر؟
الطلبة: طَهورٌ.
الشيخ: طَهورٌ.
حَصَلتْ عليه نقطةٌ من بول آدميٍّ كعَينِ الجرادة ولم يتغيَّر؟
الطلبة: نجسٌ.
الشيخ: نجسٌ.
كيف نجعل بول الآدميِّ أشدَّ ممن بول الكلب؟ ويش الدليل على هذا؟ نحتاج إلى دليل.
يقول: الدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» أو «مِنْهُ» (6)، فنهى عن البول ثم الاغتسال، وهذا عامٌّ؛ ولكنه عُفِيَ عمَّا يشقُّ نزْحُه من أجْل المشقَّة، هذا هو دليلهم على هذه المسألة.
فيقال: النبي عليه الصلاة والسلام ما قال: إنه ينجس، بل نهى أن يبول ثم يغتسل، لا لأنه نجسٌ، ولكن لأنه ليس من المعقول أن رَجُلًا يجعل هذا مَبالًا له ثم يرجع ويغتسل منه، هذا كقوله عليه الصلاة والسلام: «لَا يَجْلِدْ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُضَاجِعُهَا فِي اللَّيْلِ» (7) هذا تناقضٌ، هذا هو الحكمة في النهي عن البول ثم الاغتسال، وليس المعنى أنه يكون نجسًا، والنبي عليه الصلاة والسلام ما تعرَّض للنجاسة، النجاسة لها بابٌ وهذا له بابٌ آخَر.
ولِهذا: الصوابُ في هذه المسألة ما عليه المتأخرون من أصحاب الإمام أحمد؛ وهو أنه لا فَرْق بين بول الآدميِّ وعَذِرته المائعة وبين غيرهما، الكلُّ سواءٌ، إذا بَلَغ الماءُ قُلَّتينِ لم ينجس إلا بالتغيُّر، وما دون القُلَّتينِ ينجس بمجرد الملاقاة.
(1/39)
________________________________________
واختار شيخ الإسلام -رحمه الله- وجماعةٌ من أهل العلم أنه لا ينجس الماء إلا بالتغيُّر مطْلقًا سواء بَلَغ قُلَّتينِ أم لم يبلغْ. لكن ما دون القُلَّتينِ يجب على الإنسان أن يتحرَّز إذا وقعتْ فيه النجاسة؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ ما دونهما يتغيَّر، فليكُنْ متحرِّزًا، وأمَّا أن نقول بالنجاسة وإنْ لم يتغيَّر فهذا ليس بصحيح، وما قاله الشيخ هو الصحيح للأثر والنظر:
أمَّا الأثر فلأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» (4)، فهو الذي يطهِّر الأشياءَ، فإذا كان هو الذي يطهِّرها لا تنجِّسه الأشياءُ، ولكن يُستثنى من ذلك ما تغيَّر بالنَّجاسة فإنه نجسٌ بالإجماع، وعليه تدلُّ إشاراتُ الكتاب -يعني القرآن- وأحاديثُ في السُّنة وإنْ كانت ضعيفةً.
(1/40)
________________________________________
«الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» هذا كلام النبيِّ عليه الصلاة والسلام، وهو صحيحٌ، الحديث هذا صحيحٌ، لكن ظاهر حديث «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» أنه لا ينجس ولو تغيَّر، ولكن هذا الظاهر ليس مُرادًا بإجماع العلماء؛ فإن العلماء أجمعوا على نجاسة الماء المتغيِّر بالنجاسة، يصير هذا العمومُ مخصوصًا بالإجماع، ثم هناك إشارةٌ من القرآن تدلُّ على ذلك، وكذلك من السُّنة أحاديث وإنْ كان فيها مقالٌ؛ قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ} إلى آخره [المائدة: 3]، وقال: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، فقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} معلِّلًا للحُكم دليلٌ على أنه متى وُجِدَت الرِّجْسِيَّةُ ثَبَتَ الحكْم، ومتى انتفت انتفى الحكْم، فإذا كان هذا في المأكول فكذلك في الماء؛ متى وُجِدَت النجاسة؛ يعني لنفرِضْ أن الماء تنجَّس بدمٍ مسفوحٍ، إذا أثَّر فيه الدمُ المسفوحُ صار رِجْسًا نجسًا، وإذا لم يؤثِّر لم يكن كذلك.
أمَّا الأحاديثُ ففيها أحاديثُ لكنها ضعيفة: «إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى طَعْمِهِ أَوْ لَوْنِهِ أَوْ رِيحِهِ» (8) فيها الاستثناء، والحاصل أن ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله هو الأصحُّ للإجماع، ولإشارة القرآن، وللأحاديث وإن كان فيها ضعفٌ.
أمَّا من حيث النظر فيقال: إنَّ الشَّرع حكيمٌ يُعلِّل الأحكام، ولَّا لا؟
نعم، الأحكام معلَّلة؛ منها ما هو معلومُ العلَّةِ لنا ومنها ما هو مجهول.
وعِلَّةُ النجاسةِ الْخُبْث، فمتى وُجِدَ الْخُبْث في شيءٍ فهو نجسٌ، ومتى لم يوجَدْ فليس بنجسٍ، فالحكْم يدور مع عِلَّته وجودًا وعدمًا.
(1/41)
________________________________________
فعلى هذا نقول: إنَّ هذا القول الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله دلَّ عليه الأثر ودلَّ عليه النظر؛ يعني الدليلُ الأثريُّ -وإن شئتَ فقلْ: الدليلُ السمعيُّ- والدليلُ العقليُّ، فإنه لا يعارِض ذلك لسببين: السبب الأول: أنَّ كثيرًا من أهل العلم ضعَّفه، وضعَّفه ابن القيم؛ ضعَّفه في تهذيب السنن بنحو ستةَ عَشَرَ علَّةً، وأمَّا إذا قُلنا بتحسينه أو تصحيحه فإننا نقول: تعارَضَ منطوقٌ ومفهومٌ، وإذا تعارَضَ المنطوق والمفهوم قُدِّمَ المنطوقُ، كيف ذلك؟
«إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ» (9)، هذا أيش؟
طالب: منطوق.
الشيخ: منطوقٌ، «إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ»، ومعلومٌ أن هذا الحديث «لَمْ يَنْجُسْ» يعني ما لم يتغيَّر بالإجماع، منطوقه أنه «إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ» يعني إلا بالتغيُّر، وهذا ظاهرٌ، هل يوافق هذا المنطوقُ «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» (4)، هذا المنطوقُ يوافق المنطوقَ ذاك ولَّا لا؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: يوافقه، إذَنْ توافقا في المنطوق.
بقينا في المفهوم؛ مفهوم قوله: «إِذَا بَلَغَ لَمْ يَنْجُسْ» أنه إذا لم يبلغْ نَجُسَ، هذا المفهوم نقول: يقيِّده المنطوقُ السابقُ «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلى طَعْمِهِ أَوْ لَوْنِهِ أَوْ رِيحِهِ».
***
( ... ) هي عبارة عن الْمَجابِي؛ مَجابِي المياه، وكان طريقُ مكةَ من العراقِ إلى مكةَ فيه مَجَابٍ في أفواه الشِّعاب، والرياض مَجَابٍ للماء إلى الآن موجودة، هذه المجابي يكون فيها مياهٌ كثيرةٌ، فإذا سَقَط فيها بولُ آدميٍّ أو عَذِرته المائعة ولم تغيِّره فهو طَهُورٌ حتى على ما ذهب إليه المؤلف؛ لأنه يشقُّ نزْحُه.
(1/42)
________________________________________
وقوله: (كمَصَانعِ طريقِ مكَّةَ) هذا للتمثيل؛ يعني: وكذلك ما يُشْبهها من الغُدْرانِ، الغُدْرانُ الكثيرةُ مثلها، فإذا وجدنا مياهًا كثيرةًَ يشقُّ نزْحُها فإنها إذا لم تتغيَّر بالنجاسة فهي طَهورٌ مطْلقًا ولا تسألْ.
على أنَّ المشهور من المذهبِ عند المتأخرين خِلافُ كلامِ المؤلف؛ لا يفرقون بين بول الآدميِّ وعَذِرته المائعة وبين سائر النجاسات، وعلى هذا فيكون الحكْم معلَّقًا بالقُلَّتين، ما دونهما ينجس وإنْ لم يتغيَّر، وما بَلَغَهما وزادَ فلا ينجس إلا بالتغيُّر، ولا فرْقَ في ذلك بين بول الآدميِّ وعَذِرَته وبين غيرهما.
فصار عندنا ثلاثةُ أقوال:
القول الصحيح ما هو؟ أنْ لا نجاسةَ إلا بالتغيُّر قليلًا كان أمْ كثيرًا. المذهب عند المتأخرين: إنْ بَلَغَ القُلَّتينِ لم ينجس إلا بالتغيُّر، وما دونهما ينجس وإنْ لم يتغيَّر.
المذهب عند المتقدِّمين: ما بَلَغَ القُلَّتينِ لا ينجس إلا بالتغيُّر، وما دونهما بمجرَّد الملاقاةِ، إلا أن يكون بول آدميٍّ أو عَذِرته المائعة فإن العبرة لا بالقُلَّتينِ ولكنْ بمشقَّة النَّزْحِ؛ فما شقَّ نزْحُهُ لم ينجس إلا بالتغيُّر، وما لم يشقَّ فإنه ينجس بمجرَّد الملاقاة.
أظن إنْ شاء الله الآن انضبطت المسألة.
دليل المذهب على أنه يَنْجُس الماءُ إذا كان دون القُلَّتينِ وإنْ لم يتغيَّر، دليلُهم الحديث: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» (5) وفي لفظ: «لَمْ يَنْجُسْ».
ودليل مَن قال إنه لا يَنْجُس إلا بالتغيُّر قوله عليه الصلاة والسلام لما سُئِل عن بئرِ بُضاعةَ وما أُلقِيَ فيها من النتن والجِيَف: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» (4) وهذا عامٌّ يشمل الماءَ القليلَ والكثيرَ خرج منه ما تغيَّر بالنجاسة بالإجماع وبأحاديث ضعيفة أنه إذا تغيَّر بنجاسةٍ صار نجسًا.
نأتي إلى حديث القُلَّتينِ:
(1/43)
________________________________________
حديث القُلَّتينِ نقول: العلماء اختلفوا في تصحيحه؛ فمَنْ قال: إنه ضعيفٌ، فلا معارضة بينه وبين الحديث الآخر؛ لأنه لا يقاومه حيثُ كان ضعيفًا، والضعيف لا تقوم به الْحُجَّة.
وإذا صحَّحْناه يقولون: إنَّ له منطوقًا ومفهومًا؛ فمنطوقه: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ» أو «لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ»، وليس هذا أيضًا على عمومه؛ لأنه يُستثنى منه إذا تغيَّر، فليس على عمومه، حتى منطوقُه ليس على عمومه. مفهومه: أن ما دون القُلَّتينِ يَنْجُس، فيقال: ينجس إذا تغيَّر بالنجاسة؛ لأن منطوق الأول مقدَّمٌ على المفهوم، وهذا أصحُّ، ويؤيده -مع تأييد الأدلة الأثرية- تؤيده الأدلَّةُ النظريةُ؛ وذلك لأن الْخَبَثَ عينٌ قبيحةٌ، النجاسات كلها عينٌ قبيحةٌ، فإن وُجِدَ لها أَثَرٌ في الماء صار حُكْم الماء حُكْمَها، وإن لم يوجَدْ لها أَثَر ارتفع المحذور، فما الذي يجعلنا ننقل هذا الماء الطَّهورَ إلى وصْفِ الخبث والنجاسةِ بدون أيِّ سببٍ إلا لمجرَّد الملاقاة؟ !
طالب: ( ... ).
طالب آخر: بعضهم نَسَبَ إلى شيخ الإسلام أنه قال: إن هذا الحديثَ الصحيحَ موقوفٌ على ابن عُمَر، هذه النسبة صحيحة؟
الشيخ: واللهِ ما أعرف، ما أدري، لكن إذا كان موقوفًا على ابن عُمَر فلا يكون فيه حُجَّة.
الطالب: بعضهم نَسَبَ هذا الكلام إلى شيخ الإسلام.
الشيخ: واللهِ ما اطَّلعتُ عليه.
طالب: شيخ، المنطوق ما يقوِّيه الإجماع؟
الشيخ: إلَّا، يقوي الإجماع، ويضعِّف حديث القلتين أيضًا أنه ليس على إطلاقه وعمومه؛ فإنه إذا نجس ولو بَلَغَ القُلَّتينِ ينجس، مع أن ظاهره أنه لا ينجس مطْلقًا.
المهم أنه عندنا لو فَرَضْنا تكافؤَ الأدلَّة الأثرية فعندنا الدليل العقليُّ النظريُّ؛ وهو أن هذه العين النجسة الخبيثة إذا لم تؤثِّر شيئًا فلا أَثَر لها.
(1/44)
________________________________________
لكن قد يقول قائل: هناك من النجاسات ما لا يُخالِف لونُه لونَ الماء كالبول؛ البول في بعض الأحيان يكون لونُه لونَ الماء، قالوا: يُقدَّر أنَّ هذا مغايرٌ للونِ الماء، فإذا قُدِّر أنه لو كان مغايرًا لَغَيَّر حَكَمْنا بنجاسته، على أنَّ الغالب أنه يكون له رائحة يشمها الإنسان إذا كان قويَّ حاسةِ الشم.
طالب: الطعم يتغير.
الشيخ: والطعم أيضا، نعم.
طالب: ( ... ) قليل جدًّا يعني هذه النجاسة.
( ... )
***
الشيخ: قال المؤلف: (ولا يرفعُ حَدَثَ رَجُلٍ طَهُورٌ يَسيرٌ خَلَتْ به امرأةٌ لطهارةٍ كاملةٍ عن حَدَثٍ).
انتبه، هذه الجملة داخلةٌ في قِسْم الطَّهور إلى الآن، نحن في قِسْم الطَّهور، والطَّهور له أقسام نحصرها إن شاء الله تعالى إذا انتهى.
هذا القسم منه هو طَهُورٌ، لكنه لا يرفعُ حَدَثَ جنْسٍ من الناس.
أولًا قال: (لا يرفعُ حَدَثَ رَجُلٍ).
(حَدَث) هذا قَيْدٌ، الثاني (رَجُلٍ) قَيْدٌ آخَر، (طَهُورٌ يَسِيرٌ) قَيْدٌ ثالثٌ، (خَلَتْ بِهِ) قَيْدٌ رابعٌ، (امرأةٌ) قَيْدٌ خامسٌ، (لطهارةٍ كاملةٍ) هذا قَيْدٌ سادسٌ، (عن حَدَثٍ) هذا قَيْدٌ سابعٌ.
إذا تَمَّت القيودُ السبعةُ ثَبَتَ هذا الحكْم؛ يعني: لا يرتفعُ الحدَثُ.
مثال ذلك: امرأةٌ عندها قِدْرٌ من الماء يَسَعُ قُلَّةً ونصفًا، هو يسيرٌ بالاصطلاح ولَّا كثيرٌ؟
طلبة: يسيرٌ.
الشيخ: يسيرٌ، يَسَعُ قُلَّةً ونصفًا، خَلَتْ به في الحمَّام فتوضَّأتْ منه وُضُوءًا كاملًا ثم خرجتْ، فجاء الرجُل بعدها ليتوضَّأ به، نقول: لا يرفعُ حَدَثَكَ.
طيب، الماءُ نجسٌ؟
طالب: طَهورٌ.
(1/45)
________________________________________
الشيخ: طَهورٌ، الماء طَهورٌ لكنْ لا يرفعُ حَدَثَ الرجُلِ؛ الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَوَضَّأِ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، وَلَا الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ» (10)، هذا الدليل، قالوا: فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الوضوء به، والنهي يقتضي الفساد، فإذا توضَّأ فقد فَعَل عبادةً على وجهٍ منهِيٍّ عنه فلا تكون صحيحة، هذا هو الدليل.
لكن مِن غرائب العلم أنهم استدلُّوا به على أن الرَّجل لا يتوضَّأ بفضل المرأة، ولم يستدلُّوا به على أن المرأة لا تتوضَّأ بفضل الرَّجل، وقالوا: إنه يجوز أن تتوضَّأ المرأة بفضل الرَّجُل، وهذا من الغرائب، ما دام الدَّليلُ واحدًا، والحكْمُ واحدًا، ومُقَسَّمٌ تقسيمًا؛ «لَا يَتَوَضَّأِ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ وَلَا الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ» فما بالنا نأخذ بقِسْمٍ ولا نأخذ بالقِسْم الثَّاني، مع العلم بأن القِسم الأول قد ورد في السُّنة ما يدلُّ على جوازه؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم تطهَّر مِن فضْل ميمونة (11)، ولم يَرِد في القِسم الثاني ما يدلُّ على الجواز وهو أنَّ المرأة تتوضأ بفضْل الرَّجُل، وهذه أيضًا غريبةٌ ثانيةٌ أنَّ القِسمَ الذي وردت السُّنة بجوازه هو الذي يُمْنَع والقِسمَ الذي لم تَرِدْ به السُّنة هو الذي لا يُمنَع، ولكن هذا مما يدلُّ على أن الإنسان مهما بَلَغَ من العلم فإنه ضعيفٌ.
نرجع إلى حكْم المسألة على المذهب الآن؛ فهِمْنا الآن أن المرأة إذا خَلَتْ بماءٍ طَهورٍ يسيرٍ وتوضَّأتْ منه أو اغتسلتْ منه فإن الرجل لا يتوضأ به ولا يغتسل به، والدَّليل الحديث الذي ذكرناه.
نشوف الآن (ولا يرفعُ حَدَثَ رجُلٍ).
لو أراد هذا الرَّجُل أن يُزيل به نجاسةً على بَدَنه أو في ثوبه تطهُر ولّا لا؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: نعم، تطهُر.
غسَّلَ به يديه من القيام من نوم الليل؟
طالب: يكفي.
الشيخ: يكفي، نعم؛ لأنَّه ما هو بِحَدَث.
(1/46)
________________________________________
امرأةٌ تطهَّرتْ به بعد امرأةٍ، يجوز؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: لأنه قال: (حَدَثَ رَجُلٍ).
(طَهُورٌ)، فإن كان طاهرًا أو نجسًا؟
طالب: لا يرفع الحدث.
الشيخ: الطاهر والنجس لا يرفع الحدثَ من الأصل، (طَهُور) ( ... ) مفهوم.
(يَسِيرٌ) لو خَلَت المرأةُ بطَهورٍ كثيرٍ هل يرفع الحدث؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: نعم، من أين أخذنا هذا القيد والحديث عامٌّ؟
طالب: من قوله: (يَسِيرٌ).
الشيخ: إي، أخذناه من قوله: (يَسِيرٌ)، لكنْ مِن أين أخذناه مِن حيثُ الدليل؟
طلبة: «إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ».
الشيخ: ويش الحديث الآخر؟
طالب: حديث القُلَّتينِ.
طالب آخر: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ».
الشيخ: نعم، ولأن في بعض ألفاظ حديث ميمونة: في جَفْنةٍ (12)، والجَفْنة يسيرة.
(خَلَتْ به امرأةٌ) الخَلوة هنا هل المعنى: انفردتْ بالوضوء منه أو الغُسل، أو المعنى: خلتْ به عن مشاهدة أحدٍ؟
المذهب: خلتْ به عن مشاهدة أحدٍ بحيث لم يشاهدْها مُمَيِّزٌ فأعلى، فإنْ كان عندها طفلها الصغير اللي ما يُمَيِّز ما يضرُّ، لكن إذا شاهدها مميِّزٌ فإنها تزول الخلوةُ ويرفع حَدَثَ الرَّجُلِ.
مِن أين أخذنا هذا في الحديث؟
الطلبة: ( ... ).
الشيخ: في الحديث؟
طلبة: ما يدل.
الشيخ: الحديث ما يدلُّ على هذا الشرط إلا على القول الثاني؛ لأن في تفسير الخلوة قولين: المذهب أنها تخلو عن مشاهدة مُمَيِّز، والقول الثاني: تخلو به؛ أي: تنفرد به؛ بمعنى: تتوضَّأ به، يكون ما توضَّأ أحدٌ غيرها، فرقٌ ظاهر.
على المذهب لو كانت عندها ابنتها أو ابنها وله سبعُ سنين فإنه يجوز للرجل أن يتوضأ به ويرفع حَدَثه به.
(1/47)
________________________________________
وعلى القول الثاني: إذا صار المراد (خَلَتْ به) يعني: انفردتْ بالتطهُّر به، فيقال: هي الآن انفردتْ بالتطهُّر به ولو كان عندها ناس، فلا يرفع حَدَثَ الرجُلِ، وهذا التفسير للخَلوة -التفسير الأخير- أقرب إلى الحديث؛ لأنَّ ظاهر الحديث العموم، ما اشترط النبيُّ عليه الصلاة والسلام أن تخلو به.
وقوله: (لطهارةٍ كاملةٍ)، لو خلتْ به في أثناء الطهارة؛ في أولها أو في آخرها، بأنْ شهدها أحدٌ في أوَّل الطَّهارة ثم راح، أو قبل أن تُكمِل طهارتها حَضَر أحدٌ، يجوز؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: نعم، يرفعُ حَدَثَهُ؛ لأنَّه لم تَخْلُ به لطهارةٍ كاملةٍ.
( ... ) (عن حَدَثٍ) يعني هي تطهَّرتْ عن حَدَثٍ، بخلاف ما لو تطهَّرتْ تجديدًا للوُضُوء أو اغتسلتْ به وهي مستحاضَةٌ لكلِّ صلاةٍ، فإنه يرفع حَدَثَ الرجُلِ؛ لأنه ما هو عن حَدَثٍ، وكذلك لو خلتْ به لتغسل ثوبها من نجاسةٍ أو لتستنجي فإنه يرفع حَدَثَ الرجل؛ لأنها ما خلتْ به لطهارةٍ عن حَدَثٍ، هذا هو حكْم المسألة على المذهب.
والصحيح أن النهي في الحديث ليس على سبيل التحريم، وإنما هو على سبيل الأولويَّة وكراهة التنزيه، والدليل على ذلك أنه ثبت في صحيح مسلم (13) من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل بفضْل ميمونة. وفي حديثٍ آخَر أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اغتسلتْ في جَفْنةٍ، فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم ( ... ) «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» (12)، يعني: إذا اغتسلْتِ من الجنابة فإن الماء ما فيه جنابة، فهو باقٍ على طَهُوريته.
فالصواب إذَنْ أن ( ... ) لو تطهَّر بما خلتْ به المرأةُ فإن طهارته صحيحةٌ ويرتفع به الحدث.
طالب: ( ... ) معناه.
الشيخ: ( ... ) الحديث، فمَخْرج الحديثين واحدٌ، لو استدللنا بقول الصحابة لا بأس، فكوننا نستدلُّ بالحديث ونَدَعُ بعضَه هذا ليس بمستقيمٍ.
طالب: ( ... ).
الشيخ: ( ... ) رأيكم لو خلت بماء البزبوز.
(1/48)
________________________________________
الطلبة: ( ... ) غير مستقر ( ... ) غير فضلة ( ... ) متجدد ( ... ).
الشيخ: متجدد؟
طلبة: ليس فضْلة.
الشيخ: ليس فضْلةً، وليس موجودًا أصلًا، حتى لو قلنا: إنه في الخزان، الخزان ما يمكن ( ... ).
طالب: على ( ... ).
***
الشيخ: ( ... ) يقولون: إن هذا تَعَبُّديٌّ؛ يعني من الأمور التي لا نعلم عِلَّتها، فنحن نأخذ به على سبيل التعبُّد فقط.
طالب: يعني هي إذا خَلَتْ للاستنجاء مثلًا فيجوز أن أتوضَّأ بفضل الماء.
الشيخ: نعم.
الطالب: أما إن توضأتْ فلا.
الشيخ: إي نعم.
الطالب: غريب جدًّا.
الشيخ: إي، خلوُّها للاستنجاء قد يكون أقربَ إلى تنجيسه، لكنْ مع ذلك يقول: لا يضرُّ، المهم على كلِّ حالٍ -بارك الله فيكم- نحن الآن نقرِّر كلامهم رحمهم الله ونبيِّن أنه ضعيفٌ، والقول الضعيف كلَّما ردَّدتَه يزداد ضعفًا.
طالب: وجه استدلال المذهب ( ... ).
الشيخ: ( ... ).
***
(وإِن تغيَّر طَعْمُه، أو رِيحُه، أو لونُه)
انتقل المؤلف الآن إلى الطاهر غير المطهِّر، فننظر الآن:
كنا وعدنا بأننا سنقسِّم الطهور، الطهور قسَّمه المؤلف إلى: طَهورٍ مكروهٍ، وطَهورٍ غير مكروهٍ، وطَهورٍ لا يرفع حَدَثَ الرجل.
الطَّهورُ المكروهُ هو الذي قال فيه المؤلف رحمه الله، بدأ به المؤلف قبل كلِّ شيء: (إنْ تغيَّر بغير ممازِجٍ كقِطَع كافور أو دُهنٍ أو بملحٍ مائيٍّ أو سُخِّنَ بنجسٍ كُرِهَ) هذا واحد.
ثم قال:
(وإنْ تغيَّر بِمُكْثِهِ أو بما يشقُّ صَوْنُ الماء عنه مِن نابتٍ فيه وورقِ شجرٍ أو بمجاورةِ مَيْتةٍ أو سُخِّن بالشمس أو بطاهر لم يُكْرَه) هذا الطَّهور غير المكروه.
(1/49)
________________________________________
(وإنِ استُعمِلَ في طهارةٍ مستحبَّةٍ كُرِهَ) هذا ينبغي أن يُجعَل مع القِسم الأول فيكون المكروه: ما تغيَّر بغير ممازِجٍ أو بملحٍ مائيٍّ أو سُخِّنَ بنجسٍ أو استُعمِلَ في طهارةٍ مستحبَّةٍ. أربعة أشياء، الطَّهور المكروه صار أربعة أشياء؛ (إذا تغيَّر بغير ممازجٍ أو بملحٍ مائيٍّ أو سُخِّنَ بنجسٍ) كام دولا؟ ثلاثة (وإن استُعمِلَ في طهارةٍ مستحبَّةٍ كُرِهَ) هذه أربعة، يكون المكروهُ من أقسام الطَّهور أربعة أشياء.
الطَّهورُ غيرُ المكروهِ هو: (ما تغيَّر بِمُكْثِهِ أو بما يشقُّ صَوْنُ الماء عنه أو بمجاورةِ مَيْتةٍ أو سُخِّنَ بالشمسِ أو بطاهرٍ) كَمْ هذه؟ خمسة أشياء.
والأصل الكراهة ولَّا عدمها؟
الطلبة: عدم الكراهة.
الشيخ: الأصل عدم الكراهة.
القِسْمُ الثالثُ: ما كان طَهورًا باقيًا على طَهُوريَّتِهِ لكنه لا يرفع حَدَثَ الرَّجُل، وهو ما جَمَع الشروطَ السبعةَ التي ذكرناها، انتهى الكلام على الطَّهور.
ثم قال: (وإنْ تغيَّر طَعْمُهُ أو رِيحُهُ أو لَوْنُهُ) تغيَّر تغيُّرًا كاملًا بحيث لا تَذُوقُ معه طَعْمَ الماء، أو تغيَّر أكثر أوصافه؛ هذه الثلاثة.
(بطبخٍ) يعني: طُبِخَ فيه شيءٌ طاهرٌ، طَبَخْنا في هذا الماء شيئًا طاهرًا؛ مِثل: طَبَخْنا فيه لحمة، وتغيَّر طعمُه أو لونُه أو ريحُه تغيُّرًا كثيرًا بيَّنًا، فإنَّه يكون طاهرًا غير مطهِّرٍ، هذه واحدة.
(أو بساقطٍ فيه) يعني: ما طَبَخْتَ فيه شيئًا لكنْ سَقَطَ فيه شيءٌ، فإنه يكون طاهرًا غيرَ مطهِّر، لكنْ يُستثنى من هذه المسألة شيءٌ مما سبق ما هو؟
ما يشقُّ صَوْنُ الماء عنه وما لا يمازِجُهُ، وإذا كان تغيُّرُه بِمَمَرِّه أو مَقَرِّه إذا تغيَّر بطول مُكثِهِ هذا ماءٌ وإنْ كان تغيَّر تغيُّرًا كثيرًا فإنه لا يكون طاهرًا بلْ هو طَهورٌ كما سبق.
(1/50)
________________________________________
إنما كلامنا على الذي يُستثنى من الساقط فيه، يُستثنى من الساقط فيه شيئان وهما: ما يشقُّ صَوْن الماء عنه، والثاني: ما ليس بممازِجٍ؛ فلو وضعتَ قِطَع كافورٍ في ماءٍ طَهورٍ وتغيَّر ما تقولون فيه؟
الطلبة: طَهورٌ.
الشيخ: فهو طَهورٌ.
ولو كان هذا الماء حوله أشجارٌ فتساقطتْ أوراقها فيه فتغيَّر؟
الطلبة: فهو طَهورٌ.
الشيخ: فهو طَهورٌ، إذنْ يُستثنى ما لا يمازِج وما يشقُّ صَوْنُ الماء عنه؛ فإنه وإنْ تغيَّر به يكون طَهُورًا.
وهذا مما سيدلُّنا إن شاء الله تعالى على ضعفِ هذا القول؛ لأنه مثلًا يقولون: ورق الشجر إذا كان مما يشقُّ صونُ الماء عنه وسَقَط في الماء وتغيَّر فهو طَهورٌ، وإن أنا أتيتُ بأوراق شجرٍ ووضعْتُها وتغيَّر الماء صار طاهرًا غير مطهِّر. ومعلومٌ أن ما انتقل حُكْمه لتغيُّره فإنه لا فرقَ بين الذي يشقُّ والذي لا يشقُّ؛ أرأيتَ لو أن ماءً حول مربط حميرٍ وبدأ الهواء يحمل من هذه الأرواث ويضعها في الماء، يشقُّ صونُ الماء عنه، ينجس ولَّا ما ينجس؟
طالب: ما ينجس.
الشيخ: لا، ينجس، حتى على المذهب.
طالب: إنْ لم يتغيَّر فلا ينجس.
الشيخ: لا، متغيِّر، أو قليل ولم يتغيَّر، يا إخواننا الآن اللي يفرَّق فيه بين ما يشقُّ صونُ الماء عنه وما لا يشقُّ إنما هو في قِسم الطاهر، أمَّا النجس فلا فرق إذا تغيَّر بنجاسةٍ ولو كان يشقُّ صون الماء عنها، فإنه يكون نجسًا.
المرَّة الثانية:
هذا رجُلٌ ( ... ).
رجلٌ آخَر أتى بورق أشجارٍ ووضعها في الماء وتغيَّر يكون طاهرًا غير مطهِّر.
مثال آخر: رجلٌ آخَر عنده بِرْكةٌ صغيرةٌ ما تيجي قُلَّتينِ، حولها مربط حميرٍ، والهواء يحمل من هذا الروث ويُلقيه في هذا الماء وتغيَّر؟
الطلبة: نجس.
الشيخ: نجس.
طالب: وإن لم يتغيَّر؟
الشيخ: وإن لم يتغيَّر.
خلُّوه قُلَّتينِ فأكثر وتغيَّر، نجس؟
الطلبة: نجس.
الشيخ: لو شقَّ صونُ الماء عنه؟
الطلبة: لو شقَّ.
الشيخ: لو شقَّ.
(1/51)
________________________________________
( ... ) بعَذِرةٍ وكبَّه في الماء وتغيَّر به؟
الطلبة: نجس.
الشيخ: نجس، زين.
شوف الآن التغيُّر لا فرق فيه بين كَوْن الشيء مقصودًا أو غير مقصودٍ، ينتقل به الماء من الطَّهُوريَّة إلى النجاسة، أو إلى أن يكون طاهرًا غير مطهِّر، ومع ذلك الفقهاء يفرقون في مسألة الطاهر المطهِّر بين ما يشقُّ صون الماء عنه وما لا يشقُّ، ولو كان تغيُّر الماء بالطاهر ينقله من الطَّهورية إلى الطاهرية، لو كان كذلك لم يكن هناك فرقٌ بين ما يشقُّ صَوْنُه عنه وما لا يشقُّ كما قلنا فيما إذا انتقل الماء من الطَّهورية إلى النجاسة: لا فرق بين ما يشقُّ صَوْن الماء عنه وما لا يشقُّ. ما دام أن العلَّة تغيُّر الماء فلا فرق بين أن يكون مما يشقُّ صَوْنه عنه وما لا يشقُّ، فكونهم يفرقون يدلُّ على ضعف هذا القول.
(أو بساقطٍ فيه أو رُفِع بقليلِهِ حَدَثٌ).
ما دليل المذهب على أن هذا طاهرٌ غير مطهِّر؟
يقولون: لأنه ليس بماءٍ مطْلقٍ. هذه العِلَّة، ما فيه دليل، لكنْ يقول: لأنه ليس بماءٍ مطْلقٍ، وإنما يُقال: ماء كذا، فيضاف؛ كما يُقال: ماءُ وردٍ، وماءُ ريحانٍ، وما أشبه ذلك.
ولكننا نقول: إن هذا لا يكفي في نقله من الطَّهورية إلى الطهارة، اللهم إلا أن ينتقل اسمه انتقالًا كاملًا فيقال مثلًا: هذا مَرَقٌ، و: هذا شايٌ، و: هذا قهوةٌ، فحينئذ ما يُسمَّى ماءً، وإنما يُسمَّى شرابًا يُضاف إلى ما تغيَّر به، وأمَّا أنه يبقى على اسم الماء لكنه متغيِّرٌ لونُه أو طعمُه أو ريحُه بهذا الطاهر كما لو تغيَّر بأوراقٍ؛ مثلًا واحد حول مكتبة وهذه المكتبة يكون من الأوراق في هذا الماء، ما يُقال: إن هذا ماء أوراق، يُقال: هذا ماءٌ تغيَّر بورقٍ.
***
(1/52)
________________________________________
( ... ) الثالث قال: (أو رُفِعَ بقَليلِهِ حَدَثٌ) فإنه يكون طاهرًا غير مطهِّر، رُفِع بقليله حَدَثٌ سواء كان الحدثُ لكلِّ الأعضاء أو لبعضها؛ مثال ذلك: رجلٌ عنده قِدْرٌ فيه ماءٌ دون القُلَّتينِ يبغي يتوضَّأ منه، فغرف على يده فغسل كفَّيه، ثم غرف منه فغسل وجهه، إلى الآن ما صار طاهرًا غير مطهِّر، ثم وضع ذراعه غَمَسهُ فيه ونوى بذلك الغَسل فنزع يده، الآن ارتفع الحدثُ عن اليد، يكون رُفِع بقليله حَدَثٌ.
أو عنده ماءٌ دون القُلَّتينِ وكان عليه جنابةٌ، فنوى وانغمس في هذا الماء ناويًا رفعَ الجنابة وخرج، يكون هنا أيضًا رَفَعَ بقليله حَدَثًا.
أو تجمَّع منه عند الوضوء اللي يتساقط من وجهه ويديه، فهذا أيضًا رُفِع بقليله حَدَثٌ.
فإذا رُفِع بقليله حَدَثٌ فإنه يكون طاهرًا غير مطهِّر.
الدليل: ما فيه دليلٌ عن الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن فيه تعليل. التعليل يقولون: إن هذا الماء استُعمِلَ في طهارةٍ، فلا يُستعملُ فيها مرَّةً أخرى، فهو كالعبد إذا أُعتِقَ ما يُعتَق مرةً أخرى. هذا التعليل الذي ذكروه، ولكن هذا التعليل عليلٌ:
أولًا: لأن الفرق بين المقيس والمقيس عليه ظاهرٌ، ويُشترط في القياس تساوي المقيس والمقيس عليه في العِلَّة.
ثانيًا: أن المقيس عليه -وهو الأصل- يُمْكن أن يعود هذا المتحرِّر فيكون رقيقًا.
فإذَنْ هذا الذي ذكروه خطأٌ من وجهين؛ أولًا: أنه لا يصح القياس لظهور الفرق بين الأصل والفرع؛ إذ إنَّ الأصل المقيس عليه وهو الرقيق المحرَّر لَمَّا حرَّرْناه وأعتقْناه بقي رقيقًا ولَّا لا؟
طلبة: لا.
الشيخ: لكن هذا لما رُفِع بقليله الحدث بقي ماءً ولَّا لا؟ بقي ماءً، هذا الأصل في القياس.
ثانيًا: أنَّ الرقيق يمكن أن يعود إلى رِقِّه فيما لو هَرَب إلى الكفار ثم استولينا عليه فيما بعد، فلنا أن نسترقَّه، فحينئذٍ يعود إليه وصْفُ الرِّقِّ ويصح أن يحرَّر ثانيةً ويُستعمل في كفَّارةٍ واجبةٍ.
(1/53)
________________________________________
بناءً على هذا التعليل العليل نقول: إن الصواب أنه إذا رُفِع بقليله حَدَثٌ فهو طَهورٌ مطهِّر وليس طاهرًا غير مطهِّر؛ لأن الأصل بقاء الطَّهورية، ولا يمكن أن ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليلٍ شرعيٍّ يكون وجيهًا، ولما كان هذا غير وجيهٍٍ .. سيأتي إن شاء الله بعد المسألة الثانية.
طالب: استدلالهم من حيث ( ... ).
الشيخ: ولهذا ما أتينا به ( ... ).
طالب: ( ... ) النوع الثاني ( ... ) ليس في القياس.
الشيخ: إي، ليس في القياس لعدم تساوي الأصل والفرع، والثاني: أن الأصل يمكن أن يعود رقيقًا فيحرَّر مرةً ثانيةً فيُستعمل في شيءٍ واجبٍ.
***
قال: (أو غُمِسَ فيه يدُ قائمٍ مِن نومِ ليلٍ ناقضٍ لوضُوءٍ).
(غُمِسَ فيه) الضمير يعود على الماء القليل (فيه) أي: في الماء القليل.
(يدُ قائمٍ) (يد) إذا أُطلِقت اليد فالمراد الكفُّ؛ يعنى: إلى الرُّسغ، هذه يدٌ، فيشمل كلَّ اليد ولَّا بعضها؟ كلَّ اليد؛ يعني معناه إذا غُمِسَ فيه الكفُّ كُلُّه.
(يَدُ قائمٍ مِن نوم) ذكر بالشرح شروط: يدُ مسلمٍ مكلَّفٍ (قائمٍ مِنْ نَوْمِ ليلٍ ناقضٍ لوضوءٍ)، والناقض للوضوء سيأتي إن شاء الله تعالى أنه النوم الكثير مطْلقًا أو اليسيرُ من غير القائم والقاعد كما سيأتينا إن شاء الله تعالى في نواقض الوضوء.
(غُمِس فيه) ويش قلنا الضمير يعود عليه؟
الطلبة: على الماء القليل.
الشيخ: على الماء القليل.
(يد) الكفُّ، كلُّ الكف. (قائمٍ) المؤلف ما ذكر إلا (قائم) فقط، لكن في الشرح ذَكَر أنه يد مسلمٍ مكلَّف. (من نوم ليلٍ) لا نوم نهار. (ناقضٍ لوضُوءٍ) لا يسيرٍ، اليسير اللي ما ينقض الوضوء ما يضرُّ.
نرجع الآن إلى المثال: هذا رجلٌ قام من النوم في الليل وعنده قِدرٌ فيه ماءٌ، فغَمَس يده فيه؛ غَمَس يده إلى حدِّ الذراع في هذا الماء، يكون الآن طاهرًا غير مطهِّر، ما عاد يمكن يستعمله الآن، ويش الدليل؟
(1/54)
________________________________________
الدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» (14). شوف الآن الحديث، الحديث صحيح، فيه النهي عن غَمْس اليدِ في الماء، والتعليل: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ». هذا هو الدليل، ولكننا سنناقش إن شاء الله الاستدلال به، لكن نأخذ الحكْم أولًا ثم نردُّ فيما بعد لنعرف هل هذا الحكْم صحيح ولَّا لا.
(غُمِسَ فيه يد) لو غُمِست اليد في ماءٍ كثيرٍ يكون طَهورًا ولَّا طاهرًا؟
الطلبة: طَهورًا.
الشيخ: طَهورًا.
طيب، غَمَس الإنسانُ رِجْله فيه ما هي يده؟
طالب: طاهرًا.
الشيخ: لا، يكون طهورًا ليش؟ لأن المؤلف يقول: (يد قائم).
طالب: مثال، يعني هي مِثل المثال.
الشيخ: لا، ما هي مِثل المثال.
طيب، غَمَس فيه ذراعه، طَهور ولَّا طاهر؟
الطلبة: طَهور.
الشيخ: طَهور، كيف يغمس ذراعه؟ هكذا، نعم، ربما يقول هكذا؛ من عند المرفق، نقول: هذا يكون طَهورًا.
طيب، رجلٌ كافرٌ غَمَس يده في هذا الماء؟
الطلبة: طَهور.
الشيخ: طَهور. المسلم يكون طاهرًا غير مطهِّرٍ والكافر يكون بعده طَهورًا!
طيب، مجنون قام من نوم الليل وغَمَس يده؟
الطلبة: طَهور.
الشيخ: طَهور.
والعاقل؟
الطلبة: طاهر غير مطهِّر.
الشيخ: يكون طاهرًا غير مطهِّر.
صغيرٌ غير مكلَّف له ست سنين جاء وغَمَس يده في الماء يكون؟
الطلبة: طهورًا.
الشيخ: طهورًا؛ لأنه غير مكلَّف.
طيب، غَمَس يده وهو قائمٌ من نوم النهار؛ إنسان مثلًا نام في النهار نومًا طويلًا فقام فغَمَس يده في الإناء؟
طلبة: طَهور.
الشيخ: طَهور، نعم.
طيب، نام نومًا يسيرًا في الليل ثم غَمَس يده فيه يكون أيضًا؟
طلبة: طَهورًا.
الشيخ: طَهورًا؛ لأنه لا بدَّ أن يكون ناقضًا للوضوء.
(1/55)
________________________________________
هذا هو المذهب، مِن أين أخذوا أن يكون مسلمًا؟ لأنه قال: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ»، والخطاب للمسلمين.
مِن أين أخذوا أن يكون مكلَّفًا؟ قالوا: لأن الخطاب إنما يتوجَّه للمكلَّفين، غير المكلَّف ما يتوجه إليه الخطاب.
مِن أين أخذوا أن يكون من نومِ ليلٍ؟ من قوله: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ». «أَيْنَ بَاتَتْ»، والبيتوتة ما تكون إلا بالليل، ولهذا اشترطوا هذه الشروط.
طالب: وناقضٌ للوضوء.
الشيخ: وناقضٌ للوضوء أيضًا؛ أخذوا هذا من قوله: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، والنوم اليسير يدري الإنسانُ عن نفسه فلا يضرُّ.
هذا مأخذ الشروط من الحديث، ولكن المسألة إذا تأمَّلتَها وجدتَ أنها ضعيفة؛ أولًا: لأن الحديث لا يدلُّ عليها؛ لأنَّ الحديث فيه النهي عن غَمْس اليدِ في الماء، ولم يتعرَّض النبي عليه الصلاة والسلام للماء، وفي قوله: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» دليلٌ على أن الماء لا يتغيَّر حُكْمه؛ لأن هذا التعليل يدلُّ على أن المسألة من باب الاحتياط وليست من باب اليقين الذي يُرفع به اليقين، وعندنا الآن يقينٌ وهو أن الماء طَهورٌ، هذا اليقين ما يمكن يُرفَع إلا بيقينٍ، ما يُرفَع بالشك، فعلى هذا نقول: إن الحديث لا يدلُّ على ما ذكرتَه.
ثم إنه -أي: الحديث- إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام نهى المسلمَ أن يغمس يده قبل غَسْلها ثلاثًا فالكافر من باب أَوْلى؛ لأن العلَّة في المسلم النائم هي العلَّة في الكافر النائم، وكونه لم يوجِّه الخطاب إلى الكافرين نقول: إن الصحيح عندكم أن الكفار مخاطَبون بفروع الشريعة، وهذا ما هو حُكْمٌ تكليفيٌّ، هذا حُكْمٌ وضعيٌّ لأنه يتغيَّر به الماء وحُكْمه.
(1/56)
________________________________________
ثم نقول: المميِّز يخاطَب بمثل هذا وإنْ كان لا يعاقَب؛ فكيف إذا جاء مميِّز يمكن تكون يده ملوَّثة بالنجاسة، ويمكن أنه ما يستنجي، ويمس فرجَه وهو نائم، إذا غَمَس يده في الماء إنه ما يضرُّ، والمكلَّف الحافظ نفسَه هو الذي يضرُّ؟ !
فتبيَّن أن هذا القول ضعيفٌ أَثَرًا ونَظَرًا؛ أما أَثَرًا فلأنَّ الحديث لا يدلُّ عليه بوجهٍ من الوجوه، وأمَّا نَظَرًا فلأنَّ هذه الشروط التي ذكروها تَخَلُّفُها .. فيه بعض المسائل يكون انتقال الماء من الطهورية إلى الطهارة -إن قُلنا به- أَوْلى مما ذكروه من الشروط؛ كيَدِ الكافر ويدِ الصغير الذي لم يميِّز.
إذَنْ ما هو القول الراجح في هذه المسألة: لو أن الإنسان غَمَس يده في الإناء قبل أن يغسلها؟
طالب: ( ... ).
الشيخ: الصحيح أنه يبقى طَهورًا، لكنْ يُقال للمرء أخطأتَ وما أصبتَ، لماذا؟ لمخالفة أمْر النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا قال قائلٌ: ما هي الحكمة في أنه لا يجوز؟
نقول: الحكمة علَّلها النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، فإذا قال: إذا وضعتُ يدي في جرابٍ أعرف أنها ما مسَّت شيئًا من بدني نجسًا، ثم إنني قد نمتُ وأنا على استنجاءٍ شرعيٍّ، ما في بدني شيءٌ نجسٌ، ولنفرضْ أنها مسَّت الذَّكَر أو الدُّبُر ما تنجس، فإذَنْ أنا أدري أين باتتْ يدي، باتتْ يدي معي في فراشي، وباتتْ مستورةً في جرابٍ، وأيضا بدني طاهر، فكيف يصحُّ هذا التعليل؟ !
قال الفقهاء رحمهم الله: إن علَّة النهي هنا غيرُ معلومةٍ لنا، فالعمل به من باب التعبُّد المحض، فهو أمرٌ تعبُّديٌّ، ما ندري. ولكن هذا القول يخالف ظاهرَ الحديث، فظاهرُ الحديث أن المسألة معلَّلة؛ «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، إذَنْ كيف يتفق هذا التعليل مع الواقع الذي ذكرتَه وهو أن تكون اليد محفوظةً والجسمُ طاهرًا ولا هناك محظور؟
(1/57)
________________________________________
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن هذا التعليل كتعليل النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ» (15)، فيمكن أن تكون هذه اليد قد عَبَثَ بها الشيطان وحَمَل إليها أشياء مُضِرَّة بالإنسان أو ملوِّثة للماء مُفْسِدة له، فلهذا نهى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يغمس الإنسانُ يدَه حتى يغسلها ثلاثًا.
وهذا الذي ذكره الشيخ رحمه الله وجيهٌ، وإلا فلو رجعنا إلى الأمر الحسِّي لكان الإنسان يعلم أين باتتْ يدُه، لكن السُّنة يفسِّر بعضُها بعضًا ويبيِّن بعضُها بعضًا.
وخلاصة المقال في هذه المسألة أنه إذا تَمَّت الشروط التي ذكرها الفقهاء وغَمَسَها في ماءٍ يسيرٍ قبل غَسْلها ثلاثًا فإن الماء يكون طاهرًا غير مطهِّر، والصواب أنه يكون طَهُورًا، ولكن هذا الرجل أَثِمَ لمخالفته نهي الرسول عليه الصلاة والسلام حيث غَمَسها قبل أن يغسلها ثلاثًا، فنقول: إنك أخطأتَ في هذا العمل، ولكن الماء طهورٌ.
(1/58)
________________________________________
ومن أجْل ضعْف هذا القول قالوا: إذا لم يجد الإنسان غيره استعملَه ثم تيمَّم؛ يعني مثلًا واحد ما عنده ماءٌ إلا هذا الماء الذي غَمَس فيه يده، يقولون: يستعمله في الوضوء ثم يتيمَّم احتياطًا، يستعمله احتياطًا ثم يتيمَّم احتياطًا، فأوجبوا عليه طهارتينِ: طهارة التيمُّم وطهارة الماء، ولكنْ أين هذا في كتاب الله أو في سُنَّة الرسول عليه الصلاة والسلام أن نوجب على رجُلٍ أن يتوضَّأ بالماء ويتيمَّم فنوجب عليه الطهارتينِ جميعًا؟ ! هذا لا يوجد لا في القرآن ولا في السُّنة ولا في الإجماع ولا في النَّظَر الصحيح أيضًا، هذا غير موجودٍ، إمَّا أن تستعمل الماءَ أو تستعمل الترابَ، أمَّا أنْ تجمع بينهما فنوجب عليك عبادتين إحداهما بدلٌ عن الأُخرى هذا بعيدٌ جدًّا، لكنْ لشعورهم رحمهم الله بضعْفِ القول بأنَّ الماء ينتقل من الطَّهورية للطهارة، لشعورهم بهذا الضعف قالوا: يستعمل الماءَ ويتيمَّم، كما قالوا في المسألة التي قبلها؛ وهي ما إذا رفَعَتِ المرأةُ بقليل الماء الحدثَ ولم يجد الرجُلُ ماءً سواه، قالوا: يستعمله ثم يتيمَّم. وهذا أيضًا ضعيفٌ، والصواب أن الله لم يوجب على عباده عبادتينِ أبدًا، فإمَّا هذا وإمَّا هذا.
طالب: ( ... ).
(1/59)
________________________________________
الشيخ: ( ... ) الحديث، هل نقول: إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ» يشمل نوم الليل ونوم النهار، وإن قوله: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» بناء على الغالب أنَّ الغالب هو نوم الليل وأن الحكْم للعموم؛ لأن العلَّة أخصُّ من الحكْم، فيؤخذ بالعموم؛ مثلما أنه على المذهب خاصةً يقولون: إن الشُّفعة لا تجب إلا في الأرض. تعرفون الشُّفعة ولَّا لا؟ الشُّفعة إذا باع شريكك في أرض ليك أن تأخذها من المشتري. يقولون: ما تجب الشُّفعة إلا في الأرض؛ لقوله: «فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» (16)، مع أن أول الحديث: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشُّفْعة في كلِّ ما لم يُقْسَم، فهُمْ يخصِّصون العموم بالعلَّة أو بالحكْم على بعض الأفراد، فنحن نقول: إن الظاهر أن الإنسان لا يَغْمس يده في الإناء إذا استيقظ من نومه ليلًا كان أو نهارًا، هذا هو الأحوط والأفضل، والله أعلم.
***
( ... ) (أو كان آخر غَسْلةٍ زالتْ بها النجاسةُ فطاهرٌ). (17)
(أو كان) الضمير يعود على الماء القليل.
(آخر غَسْلةٍ زالتْ بها النجاسة) المعروف عند الفقهاء رحمهم الله أنه لا بدَّ لطهارة المحلِّ المتنجِّس من أن يغسله سبعَ مراتٍ، فالغَسلة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة كلُّ المنفصل من هذه الغسلات نجسٌ؛ لأنه انفصل عن محلٍّ نجسٍ، كلُّ المنفصل قبل السابعة نجسٌ؛ العلةُ أنه انفصل عن محلٍّ نجسٍ؛ لأنه ما يطهر إلا بسبعِ غسلاتٍ؛ مثلًا: إنسانٌ يغسل ثوبه من نجاسةٍ، الذي ( ... ) من الغَسلة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة نجسٌ، لماذا؟ لأنه انفصل عن محلٍّ نجسٍ وهو يسيرٌ، فيكون قد لاقى النجاسةَ وهو يسيرٌ، وما لاقى النجاسةَ وهو يسيرٌ فإنه ينجس بمجرد الملاقاة.
(1/60)
________________________________________
طيب، إذا انفصل في السابعة وقد زالت النجاسة؛ عين النجاسة ما هي موجودة، يقولون: يكون طاهرًا غير مطهِّر؛ لأن آخر غَسلةٍ زالتْ بها النجاسة، فيكون طاهرًا غير مطهِّر. الثامنة طَهورٌ؛ لأنها لم تؤثِّر شيئًا، لكن السابعة كان طاهرًا غير مطهِّر، يقولون: لأنه أثَّر شيئًا وانفصل عن محلٍّ طاهر. ماذا أثَّر؟ أثَّر طهارةَ المحلِّ؛ لأنه ما يطهر إلا بالسابعة، هو أثَّر حكْمًا وهو طهارة المحلِّ، وانفصل عن محلٍّ طاهرٍ، فعلى هذا لا يكون طَهورًا؛ لأنه حَصَلَ به إزالة نجاسةٍ، ولا يكون نجسًا؛ لأنه انفصل عن محلٍّ طاهرٍ، فصار المنفصل من محلِّ التطهير إنْ كان قبل السابعة نجسًا، إنْ كان السابعة فطاهرٌ غير مطهِّر، إنْ كان الثامنة فطَهورٌ، هذا إذا كانتْ عينُ النجاسة قد زالتْ، أمَّا لو فُرِض أن النجاسة يابسةٌ ما زالتْ في السبع غسلاتٍ فما انفصلَ قبل زوال عين النجاسة فهو نجسٌ؛ لأنه لاقى النجاسةَ وهو يسيرٌ، ولهذا يقول: (أو كان آخرَ غَسْلةٍ زالتْ بها النجاسة)، فإنْ لم تزُلْ فهو نجسٌ.
(زالتْ بها النجاسةُ فطاهرٌ) قوله: (فطاهرٌ) هذا جواب قوله: (وإنْ تغيَّر طعمُه أو لونُه أو ريحُه) إلى آخره، فعلمْنا أن الطاهر الآن أنواع: ما تغيَّر طعمُه بطاهرٍ أو لونُه أو ريحُه، الثاني: ما طُبِخ فيه شيءٌ طاهرٌ، أو نقول هذا من الأول؟
طالب: من الأول.
(1/61)
________________________________________
الشيخ: من الأول، طيب، الثاني: مارُفِع به حدثٌ وهو قليل، الثالث: ما غُمِس فيه يدُ قائمٍ من نومِ ليلٍ ناقِضٍ لوضوءٍ بالشروط، الرابع: ما أُزيلتْ به نجاسةٌ وانفصل عن محلٍّ طاهرٍ لقوله: (أوْ كان آخرَ غَسْلةٍ زالتْ بها النجاسة فَطَاهرٌ)، هذا هو الطاهر على قول مَن يقول: إن المياه تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله، والصحيح أن هذا القِسم برأسه ليس بموجودٍ ولا يوجَد له أصلٌ في الشريعةِ، وأن الماء إمَّا طَهورٌ وإمَّا نجسٌ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والدليل على هذا عَدَمُ الدليلِ، كيف الدليل عَدَم الدليل؟
نقول: لو كان هذا -أعني القِسم الطاهر- لو كان هذا ثابتًا في الشرع لكان أمْرًا معلومًا مفهومًا تأتي به الأحاديثُ بيِّنةً واضحةً؛ لأنه ليس بالأمر الهيِّن؛ إذ إنه يترتَّب عليه أن يصلي الإنسانُ إمَّا بتيمُّمٍ وإمَّا بماءٍ.
افرضْ مثلًا أن عندي ماء تغيَّر بساقطٍ فيه لكنْ باقٍ على اسم الماء، فأنا على هذا المذهب أتيمَّم ولَّا لا؟
على المذهب أتيمَّم ولا أستعملُ هذا الماءَ، وعلى رأي شيخ الإسلام يجب أن أستعمله ولا يجوز أن أتيمَّم.
هذا أمرٌ يحتاج الناس إليه كحاجتهم إلى العلم بأنَّ البول ناقضٌ للوضوء أو الريح ناقضةٌ للوضوء أو ما أَشْبه ذلك، فهو من الأمور التي تتوفَّر أو تتوافر الدواعي على نقْلها لو كان هذا ثابتًا.
وعلى هذا فالقول الراجح أنه ليس لدينا إلا قِسمانِ وهما: الطَّهور والنجس؛ فما تغيَّر بنجاسةٍ فهو نجسٌ، وما لم يتغيَّر بنجاسةٍ فهو طَهورٌ، ومع ذلك الفقهاء -رحمهم الله- لما عَلِموا أنَّ هذه المسائل فيها بعضُ الشُّبَه حَكَموا على بعضها أن يستعملها الإنسانُ ويتيمَّم:
مرَّ علينا ما خَلَتْ به المرأة، قالوا: إنه إذا لم يجد الرجلُ سواه استعمَلَه وتيمَّمَ. هذه واحدة.
وقالوا أيضًا فيما غُمِس فيه يد القائم من نوم الليل: إذا لم يجد غيرَه استعمَلَه وتيمَّمَ.
(1/62)
________________________________________
وقالوا أيضًا فيما غُسِل به الذَّكَر والأُنثيانِ لخروج المذي: غسلُ الذَّكَر والأُنثيينِ لخروج المذي ما هو عن نجاسةٍ، فإنه يكون طاهرًا غير مطهِّر، لكن إذا لم يجد غيرَه استعمَلَه وتيمَّمَ.
وقالوا فيما إذا اشتبه طَهورٌ بطاهرٍ واحتاج أحدَهما للشُّرب: تحرَّى وتوضَّأ بما يغلب على ظنِّه أنه طَهورٌ ثم يتيمَّم.
هذه أربع مسائل ذكر الفقهاء أنه يجب على المرء أن يستعمل فيها الماءَ ويتيمَّم، وهذا أيضًا قولٌ ضعيفٌ؛ إذْ لا يوجِب الله تعالى على المرءِ طهارتينِ، فإمَّا طهارة بالماء وإمَّا طهارة بالتيمُّم، ولا فيه طهارتان بالشرع.
طالب: على قول المذهب تكون إذا زالت النجاسةُ بالغسلة الأولى تكون الثانية طاهرة؟
الشيخ: نجسة.
الطالب: يعني يشترطون أن تكون سبع غسلات.
الشيخ: لا بد أن تكون سبع غسلات.
طالب: ( ... ).
الشيخ: فيه أيش؟
( ... ) (18) عدة مراتٍ أنه إذا قيل: مذهب فلان، فقد يُراد به المذهب الاصطلاحي والشخصي، يكون مذهب الإمام أحمد الشخصي شيئًا، وما اصطلح عليه أتباعه شيئًا آخر.
طالب: ما يصير أتباعه يبنون على أحد الروايات؟
الشيخ: ( ... ) كيف؟
الطالب: ( ... ) رواية.
الشيخ: لا، ما فيه شك أن هذه رواية. ( ... ) (19)
***
الشيخ: قال: (والنجسُ: ما تغيَّر بنجاسة)
(النجس ما) ما نافية؟
الطلبة: موصولة.
الشيخ: موصولة، يعني: النجسُ: الذي تغير.
(ما تغيَّر بنجاسة) (تغير) ما بيَّن المؤلف رحمه الله (تغيَّر) أيش، لكنه يؤخذ من قوله فيما سبق في قِسم الطاهر أن المراد: الطعم أو اللون أو الريح؛ (ما تغيَّر بنجاسةٍ) طعمُه أو لونُه أو ريحُه، ويُستثنى من المتغيِّر بالريح ما سبق، ويش اللي سبق؟
الطلبة: ( ... ).
الشيخ: لا، إذا تغيَّر بمجاورة مَيْتةٍ؛ فإنه سبق أنه لا يكون نجسًا لأنها لم تكنْ فيه.
(1/63)
________________________________________
وهذا الحكْم مجمعٌ عليه؛ على أن ما تغيَّر بنجاسةٍ فإنه نجسٌ بالإجماع، وقد وردَتْ أحاديثُ وإن كانت ضعيفةً فيها ما يدلُّ على ذلك؛ مثل حديث أبي أُمامة: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى طَعْمِهِ أَوْ لَوْنِهِ أَوْ رِيحِهِ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ» (20).
النجاسة (ما تغيَّر بنجاسةٍ)، أيِّ نجاسةٍ تكون؟
الطلبة: إي نعم.
الشيخ: حتى لو كان بول آدميٍّ أو عَذِرته المائعة؟
طلبة: لا.
طلبة آخرون: نعم.
الشيخ: إي، حتى لو كان كذلك.
حتى لو كانت النجاسة يُعفَى عن يسيرها كالدم؟
الطلبة: إي نعم.
الشيخ: نعم، ما تغيَّر بنجاسةٍ فهو نجسٌ، هذا واحد.
قال: (أو لاقاها وهو يَسِيرٌ).
(لاقاها) يعني: لاقى النجاسةَ.
(وهو يَسِيرٌ)، جملة (وهو يَسِيرٌ) حاليَّة؛ يعني: والحال أنه يَسِيرٌ. وما هو اليسير؟ ما دون القُلَّتينِ، فإذا لاقاها وهو يسيرٌ سواء تغيَّر أم لم يتغيَّر ..
إذا تغيَّر، واضح الدليل؛ الإجماع، والأحاديث التي أشرْنا إليها، والتعليل لأنه لَمَّا تغيَّر بالْخَبَثِ صار خبيثًا، فهو دليله الأَثَر والتعليل.
لكنْ (أو لاقاها وهو يَسِيرٌ) ما هو الدليل على أنَّ ما لاقاها وهو يسيرٌ وإنْ لم يتغيَّر فهو نجس؟
«إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» (5) وفي لفظ: «لَمْ يَنْجُسْ» (9)، وقد سبق الكلام عليه وبيَّنَّا أنَّ هذا يدلُّ بمنطوقه على أنه لا ينجس إذا بَلَغ هذا المبلغَ، وأمَّا إذا لم يبلغْ فإنه يدلُّ بمفهومه على أنه ينجس، ولكن المنطوق: «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى لَوْنِهِ» (4) مقدَّمٌ عليه.
أو كان آخِرَ غَسلةٍ زالَتْ النجاسةُ بها فطاهِرٌ.
(1/64)
________________________________________
والنَّجِسُ ما تَغَيَّرَ بنجاسَةٍ أو لَاقَاهَا وهو يَسيرٌ أو انْفَصَلَ عن مَحَلِّ نجاسةٍ قبلَ زوالِها، فإنْ أُضيفَ إلى الماءِ النَّجِسِ طهورٌ كثيرٌ غيرُ تُرابٍ ونَحْوِه أو زَالَ تَغَيُّرُ النجِسِ الكثيرِ بنفسِه أو نُزِحَ منه فبَقِيَ بعدَه كثيرٌ غيرُ مُتَغَيِّرٍ طَهُرَ. وإن شكَّ في نجاسةِ ماءٍ أو غيرِه أو طَهارتِه بَنَى على اليقينِ، وإن اشْتَبَهَ طَهورٌ بنَجِسٍ حَرُمَ استعمالُهما ولم يُتَحَرَّ، ولا يُشْتَرَطُ للتيمُّمِ إراقتُهما ولا خَلْطُهما، وإن اشْتَبَهَ بطاهِرٍ تَوَضَّأَ منهما وُضوءًا واحدًا، من هذا غُرفةً ومن هذا غُرفةً وصَلَّى صلاةً واحدةً. وإن اشْتَبَهَتْ ثيابٌ طاهرةٌ بنَجِسَةٍ أو بِمُحَرَّمَةٍ صَلَّى في كلِّ ثوبٍ صلاةً بعدَدِ النجِسِ أو المحرَّمِ وزادَ صلاةً.
(بابُ الآنِيَةِ)
كلُّ إناءٍ طاهرٍ ولو ثَمِينًا يُباحُ اتِّخاذُه واستعمالُه
الشيخ: (أو كان آخر غسلة زالت بها النجاسة فطاهر)، (أو كان) الضمير يعود على الماء القليل (آخر غسلة زالت بها النجاسة) المعروف عند الفقهاء -رحمهم الله- أنه لا بد لطهارة المحلّ المتنجّس من أن يغسله سبع مرات؛ فالغسلة الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، كل المنفصل من هذه الغسلات نجس؛ لأنه انفصل عن محلٍّ نجس، كل المنفصل قبل السابعة نجس؛ العلة أنه انفصل عن محل نجس؛ لأنه ما يطهر إلا بسبع غسلات؛ مثلًا إنسان يغسل ثوبه من نجاسة الذي يسرب من الغسلة الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، نجس، لماذا؟
لأنه انفصل عن محل نجس وهو يسير فيكون قد لاقى النجاسة، وهو يسير، وما لاقى النجاسة، وهو يسير فإنه ينجس بمجرد الملاقاة.
(1/65)
________________________________________
إذا انفصل في السابعة، وقد زالت النجاسة، عين النجاسة ما هي موجودة، السابعة يقولون: يكون طاهرًا غير مطهر؛ لأنه آخر غسلة زالت بها النجاسة فيكون طاهرًا غير مطهّر الثامنة؟ طهور، الثامنة طهور؛ لأنها لم تؤثر شيئًا، ما أثرت شيئًا، لكن السابعة كان طاهرًا غير مطهِّر، يقولون: لأنه أثَّر شيئًا، وانفصل عن محل طاهر، ماذا أثَّر؟
أثر طهارة الْمَحَلّ؛ لأنه ما يطهر إلا بالسابعة، هو أثر حكمًا، وهو طهارة المحل، وانفصل عن محل طاهر، فعلى هذا لا يكون طهورًا؛ لأنه حصل به إزالة نجاسة، ولا يكون نجسًا؛ لأنه انفصل عن محل طاهر، واضح التعليل؟
هذا فصار المنفصل من التطهير أو من محل التطهير إن كان قبل السابعة؟
طلبة: نجس.
الشيخ: إن كان السابعة فطاهرًا مطهّر، إن كان الثامنة فطهور، هذا إذا كانت عين النجاسة قد زالت، أما لو فرض أن النجاسة يابسة ما زالت في السبع غسلات، فما انفصل قبل زوال عين النجاسة فهو نجس؛ لأنه لاقى النجاسة وهو يسير، ولهذا يقول: (أو كان آخر غسلة زالت بها النجاسة)، فإن لم تزُل فهو نجس.
(زالت بها النجاسة فطاهر). قوله: (فطاهر) هذا جواب قوله: (وإن تغيّر طعمه أو لونه أو ريحه) إلى آخره، فعلمنا أن الطاهر الآن أنواع:
ما تغير طعمه بطاهر أو لونه أو ريحه، الثاني: ما طُبخ فيه شيء طاهر أو نقول: هذا من الأول؟
طالب: من الأول.
الشيخ: من الأول. الثاني: ما رُفع به حدث وهو قليل.
الثالث: (ما غمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء) بالشروط. الرابع: ما أزيلت به نجاسة، وانفصل عن محل طهُر؛ لقوله: (أوْ كان آخر غَسْلةٍ زالت بها النجاسة فَطَاهر)، هذا هو الطاهر على قول من يقول: إن المياه تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله.
والصحيح أن هذا القسم برأسه ليس بموجود، ولا يوجد له أصل في الشريعة، وأن الماء إما طهور، وإما نجس، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
(1/66)
________________________________________
وذلك وجه الدلالة؛ الدليل على هذا عدم الدليل، كيف الدليل عدم الدليل؟
نقول: لو كان هذا -أعني القسم الطاهر- ثابتًا في الشرع لكان أمرًا معلومًا مفهومًا تأتي به الأحاديث بينة واضحة؛ لأنه ليس بالأمر الهين؛ إذ إنه يترتب عليه أن يصلي الإنسان؛ إما بتيمم وإما بماء، افرض مثلًا أن عندي شيئًا تغير بساقط فيه، ماء تغير بساقط فيه، لكن باقٍ على اسم الماء، فأنا على هذا المذهب أتيمم ولَّا لا؟
على المذهب أتيمم، ولا أستعمل هذا الماء، وعلى رأي شيخ الإسلام: يجب أن أستعمله، ولا يجوز أن أتيمم، هذا أمر يحتاج الناس إليه كحاجتهم إلى العلم؛ بأن البول ناقض للوضوء، أو الريح ناقضة للوضوء، أو ما أشبه ذلك، فهو من الأمور التي تتوفر أو تتوافر الدواعي على نقلها لو كان هذا ثابتًا، وعلى هذا؛ فالقول الراجح أنه ليس لدينا إلا قسمان؛ وهما: الطهور والنجس، فما تغير بنجاسة فهو نجس، وما لم يتغير بنجاسة فهو طهور، ومع ذلك الفقهاء -رحمهم الله- لما علموا أن هذه المسائل فيها بعض الشبه حكموا على بعضها أن يستعملها الإنسان ويتيمم، مر علينا ما خلت به المرأة، قالوا: إنه إذا لم يجد الرجل سواه استعمله وتيمَّم، هذه واحدة، وقالوا أيضًا -فيما غمس فيه يد القائم من نوم الليل-: إذا لم يجد غيره استعمله وتيمم.
وقالوا أيضًا -فيما غُسل به الذكر والأنثيان لخروج المذي-: ما هو عن نجاسة فإنه يكون طاهرًا غير مطهّر، لكن إذا لم يجد غيره استعمله وتيمَّم، وقالوا -فيما إذا اشتبه طهور بطاهر، واحتاج أحدهما للشرب-: تحرَّى وتوضأ بما يغلب على ظنه أنه طهور، ثم يتيمم، هذه أربع مسائل ذكر الفقهاء أنه يجب على المرء أن يستعمل فيها الماء ويتيمم.
وهذا أيضًا قول ضعيف؛ إذ لا يوجب الله تعالى على المرء طهارتين، فإما طهارة بالماء وإما طهارة بالتيمم، ولا فيه طهارتان بالشرع.
طالب: على قول المذهب تكون إذا زالت النجاسة بالغسلة الأولى تكون الثانية طاهرة؟
الشيخ: نجسة.
(1/67)
________________________________________
الطالب: يعني يشترطون أن تكون سبع غسلات.
الشيخ: لا بد أن تكون سبع غسلات.
طالب: ( ... ).
الشيخ: فيه أيش؟
طالب: ( ... ).
الشيخ: قلنا: فيها القول الصحيح أن متى زالت النجاسة طهرت.
طالب: أنت حددت أن فيه قولًا للفقهاء سبعة ما فيه قول للفقهاء بالتحديد بالثلاثة.
الشيخ: فيه التحديد بالثلاثة، وفي التحديد بأن متى زالت طهرت.
طالب: والصحيح متى زالت ..
الشيخ: والصحيح متى زالت طهرت.
لكن هذا ما هو محل البحث؛ لأن باب إزالة النجاسة له باب مستقل.
طالب: ذكر هنا أن أحمد والثلاثة كلهم قالوا: إذا غمس يده في الماء إنه طاهر مطهر، كيف المذهب وأحمد؟
الشيخ: كيف؟
طالب: كيف يقول: إن أنا وأحمد؟
الشيخ: هو تقدمنا لها يا أخي عدة مرات؛ إنه إذا قيل: مذهب فلان فقد يُراد به المذهب الاصطلاحي والشخصي، يكون مذهب الإمام أحمد مثلًا الشخصي لشيء، وما اصطلح عليه أتباعه شيئًا آخر.
طالب: ما يصير أتباعه يبنون على أحد الروايات؟
الشيخ: لا، كيف.
الطالب: ذكر رواية.
الشيخ: لا، ما فيه شك أن هذه رواية.
طالب: يا شيخ، مثلًا ( ... ) ماء ورد ( ... ) الصحيح طهور ونجس ( ... ) ماء الورد ( ... )؟
الشيخ: فيه خلاف، واللي يرى أنه ما يستعمل.
الطالب: ما يسمى ماءً؟
الشيخ: لا، ما يسمى ماءً هذا؛ لا ما يسمى إلا مضافًا؛ ماء ورد، أو عصير، أو ما أشبه ذلك، وإن كان بعض العلماء يجوز ذلك.
الطالب: ( ... ) نكرة؟
الشيخ: إي، ولو كان نكرة ما يسمى هذا ماءً؛ هذا ماء مضاف، نعم.
طالب: كيف يتساوى يا شيخ إذا كان ( ... )؟
الشيخ: قال: (والنجس ما تغير بنجاسة) (النجس ما) ما نافية؟
طلبة: موصولة.
الشيخ: لا، موصولة؛ يعني: النجس الذي تغير (ما تغير بنجاسة) (تغير) ما بين المؤلف -رحمه الله- تغير أيش؟ لكنه يؤخذ من قوله فيما سبق في قسم الطاهر أن المراد: الطعم أو اللون أو الريح.
(ما تغير بنجاسة) طعمه أو لونه أو ريحه، ويستثنى من المتغيِّر بالريح ما سبق، ويش اللي سبق؟
طلبة: ( ... ).
(1/68)
________________________________________
الشيخ: لا، إذا تغيَّر بمجاورة ميتة فإنه سبق أنه لا يكون نجسًا؛ لأنها لم تكن فيه وهذه الجملة أو هذا الحكم مُجمع عليه على أن ما تغير بنجاسة فإنه نجس بالإجماع، وقد وردت أحاديث وإن كانت ضعيفة فيها ما يدل على ذلك مثل: «الْمَاءُ طَهُورٌ»، حديث أبي أمامة: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى طَعْمِهِ أَوْ لَوْنِهِ أَوْ رِيحِهِ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ» (1).
النجاسة (ما تغير بنجاسة) أي نجاسة تكون؟
طلبة: إي نعم.
الشيخ: حتى لو كان بول آدمي أو عذرته المائعة؟
طلبة: لا.
الشيخ: إي، حتى لو كان كذلك، حتى لو كانت النجاسة يُعفى عن يسيرها كالدم.
طلبة: إي نعم.
الشيخ: نعم، ما تغير بنجاسة، فهو نجس، هذا واحد.
قال: (أو لاقاها وهو يسير) (لاقاها) يعني لاقى النجاسة.
(وهو يسير) جملة (وهو يسير) حالية؛ يعني: والحال أنه يسير، وما هو اليسير؟ ما دون القلتين، فإذا لاقاها وهو يسير سواء تغير أم لم يتغير.
إذا تغير، واضح الدليل الإجماع، والأحاديث التي أشرنا إليها، والتعليل؛ لأنه لما تغيَّر بالخبث صار خبيثًا؛ فهو دليلها الأثر والتعليل.
لكن (أو لاقاها وهو يسير)، ما هو الدليل على أن ما لاقاها وهو يسير، وإن لم يتغير فهو نجس؟
«إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» (2)، وفي لفظ: «لَمْ يَنْجَسْ» (3). وقد سبق الكلام عليه، وبينا أن هذا يدل بمنطوقه على أنه لا ينجس إذا بلغ هذا المبلغ، وأما إذا لم يبلغ فإنه يدل بمفهومه على أنه ينجس، ولكن المنطوق: «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى لَوْنِهِ» (4) مقدم عليه.
وعلى هذا فيكون قوله: (أو لاقاها وهو يسير) الصحيح أنَّ هذا ليس من قسم النَّجس حتى يتغيَّر.
ويُستثنى من ذلك على المذهب (أو لاقاها وهو يسير) ما إذا لاقاها في محلِّ التطهير، فإنه لا ينجس، كيف في محل التطهير؟
(1/69)
________________________________________
يعني الإنسان مثلًا في ثوبه نجاسة ( ... ) عليه ماء كثير ولا قليل؟
طلبة: قليل.
الشيخ: دون القُلَّتين، بيلاقي النجاسة، إذا قلت: إنه نجس بالملاقاة، صار ما يمكن تطهيره، ما يمكن تطهير هذا النجس، لو قلنا بأنه إذا لاقاها في محل التطهير ينجس، معناه أن الماء الآن صار نجسًا فلا يطهِّر.
( ... ) يكون نجسًا ويطهر، وهكذا يبقى دائمًا غير طاهر، لكنهم يستثنون هذا، يقولون: في غير محل التطهير، وعلَّلوا ذلك بأننا لو حكمنا بنجاسته في محل التطهير سواء متغير أو ما تغير ما أمكننا أن نحكم على شيء بالطهارة.
الثالث قال: (أوِ انفَصَلَ عَنْ محلّ)، لاحظوا أن كلمة في غير محل التطهير معناه أنه من يوم ينفصل الماء عن هذا المحل، ويش يكون؟
طلبة: نجس.
الشيخ: يكون نجسًا.
قال: (أوِ انفَصَلَ عَنْ محلِّ نَجَاسَةٍ قَبْلَ زوالها)، هذا الثالث، زوال عينها ولَّا زوال حكمها؟
طلبة: عينها.
الشيخ: الأولى أن نقول: زوال حكمها؛ لأنا إذا قلنا: زوال عينها فقد صدق عليه أنه لاقاها وهو يسير فيكون في الجملة شبه تكرار، فنقول: أو لاقاها أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها، أي: زوال حكمها، فإن قلت: لماذا لا تسأل زوال عينها أو حكمها؟
قلنا: لأنه إذا انفصل قبل زوال عينها فقد لاقاها وهو يسير، وقد عرف الحكم هذا من الجملة التي قبلها، هذا النجس.
الآن كم صار أقسام النجس؟
ثلاثة: ما تغير بنجاسة، أو لاقاها وهو يسير، أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها.
هذا ماء نطهر به ثوبًا نجسًا، النجاسة زالت في الغسلة الأولى، وزال أثرها نهائيًّا في الغسلة الثانية، فغسلناه الثالثة والرابعة والخامسة والسَّادسة، ماذا يكون الماء المنفصل من هذه الغسلات؟
طلبة: نجسًا.
الشيخ: نجسًا؛ لأنه لاقى النجاسة؟ أسألكم.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، لكنه انفصل عن محلِّ النَّجاسة قبل زوال حكمها، ولَّا هو ما لاقاها، لكنه انفصل قبل زوال حكم النجاسة، فيكون نجسًا، فصار أنواع النجس ثلاثة، الأول؟
(1/70)
________________________________________
الطلبة: ما تغير بنجاسة.
الشيخ: والثاني؟
الطلبة: أو لاقاها وهو يسير.
الشيخ: والثالث؟
الطلبة: ما انفصل عن محل نجاسة.
الشيخ: ما انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها.
ثم لما ذكر المؤلف: النجسَ -رحمه الله- كيف نُطهِّر هذا النجس؟ عندنا الآن ماء نجس، ونحن نريد أن نتوضأ، ونحتفظ بهذا الماء، فكيف نُطهِّره؟
فيه ملاحظة قبل قوله: (أو لاقاها وهو يسير) ما مفهوم إن لاقاها وهو كثير؟
طلبة: ليس بنجس.
الشيخ: فليس بنجس إلا أن يتغير، لكن سبق لنا أن بول الآدمي وعذرته المائعة لا يقيد بالكثير، ويش يقيد؟ بما يشق نزحه.
وعلى هذا فإذا لاقى بولًا وهو كثير، لكن لا يشق نزحه يكون نجسًا بمجرد الملاقاة، يكون كلام المؤلف هنا ينبغي أن يُلاحظ فيه ما سبق، فيقال: (أو لاقاها وهو يسير) مفهومه إن لاقاها وهو كثير لا ينجس، ولكن يُستثنى من هذا بول الآدمي وعذرته المائعة.
أما كيف يُطَهَّر، فقال المؤلف: (فإِن أُضيف إِلى الماء النَّجِس طَهُورٌ كثيرٌ غيرُ ترابٍ، ونحوِه أو زال تغيُّر النَّجس الكثير بنفسه أو نُزِحَ منه فبقِيَ بعده كثيرٌ غَيْر مُتغيرٍ طَهُرَ).
عندنا ثلاثة طرق في تطهير الماء النَّجس:
الطريق الأول: أن نضيف إليه طَهورًا كثيرًا غير تراب ونحوه؛ يعني أن نضيف إليه ماءً طهورًا، لكن اشترط المؤلف أن يكون المضاف كثيرًا، لماذا اشترط؟
لأننا لو أضفنا قليلًا تنجس بملاقاته الماء النجس؛ عندك الآن إناء فيه ماء نجس، لكن هذا الإناء كبير، يأخذ أكثر من قُلَّتين، والماء الذي فيه نصف قُلَّة، حطوا بالكم.
ماء في قدر كبير، مقداره نصف قلة، متغير بالنجاسة، لكنه يأخذ ثلاث قلال، كيف نطهِّره؟
نجيب قُلَّتين ونصبّهم على نصف القُلَّة، الآن أضفنا إليه ماءً كثيرًا؛ يطهر إذا زال تغيره يطهر، يكون الآن طَهُورًا؛ لأننا أضفنا إليه ماءً كثيرًا، إِن أضفنا إِليه قُلَّة واحدة؛ وزال التغيُّر لا يكون طَهُورًا، يبقى على نجاسته؛ لأنه لاقاه ماء يسير فينجس به.
(1/71)
________________________________________
طالب: ( ... ).
الشيخ: أيش؟
الطالب: يعني إذا أضفنا نصف قُلّة، ثم نصف قلة، ثم نصف قُلَّة .. ؟
الشيخ: إي، ما ينفع إلا أن يكون متصلًا؛ لأنه إذا أضفت نصف قُلة، ثم رحت جيبت صار الأولى قد نجست.
إذا أضيف إليه ماء كثير يطهر سواء كان الماء النجس قليلًا أو كثيرًا، صح ولَّا لا؟
طالب: بزوال العلة.
الشيخ: إي، بزوال النجاسة نعم؛ لأن المؤلف يقول: (فإن أضيف إلى الماء النجس) ما قال: الماء النجس اليسير طهور كثير، حطوا بالكم، الإضافة الآن ويش اللي صار فيها؟
أن يكون طهورًا كثيرًا، المضاف إليه يشترط فيه أن يكون كثيرًا أو يسيرًا، ولَّا ما يشترط؟ لا يشترط.
فإذا كان عندك قدر فيه قُلَّتان نجستان، ولكنَّه يأخذ أربع قِلال، وأضفت إِليه قُلَّتين، وزال تغيُّره يَطْهُر، ولَّا لا؟
يطهر، يكون طهورًا مع أنه -أي النَّجس- قُلَّتان.
قال: (أو زال تغيُّر النَّجس الكثير بنفسه)، ما هو الكثير؟ ما بلغ قُلَّتين، زال تغيره بنفسه، عندك ماء في قِدر يبلغ قُلَّتين، وهو نجس، لكنه بقي يومين ثلاثة، وزالت ريحه، زالت الرائحة اللي فيه، ولا بقي للنَّجاسة أثر، وأنت ما أضفت إليه شيئًا، ولا فعلت فيه شيئًا، ماذا يكون هذا الماء؟ يكون طَهُورًا، لماذا؟
قالوا: لأنَّ الماء الكثير قادر على تطهير غيره، فتطهير نفسه من باب أولى، ولَّا لا؟
هذا الماء الكثير اللي يبلغ قلتين زال تغيره بنفسه، فنقول: أصبح الآن طهورًا، إحنا ما عملنا فيه أي عمل، يكون طهورًا، ويطهر بالإضافة أيضًا، ولَّا ما يطهر؟
طالب: ( ... ).
الشيخ: صار إذا كان قُلَّتين طهر بأمرين؛ بالإضافة؛ إضافة الطهور الكثير، وبزوال تغيُّره بنفسه، تمام ولَّا لا؟
طلبة: تمام.
(1/72)
________________________________________
الشيخ: (أو نُزِحَ منه فبقِيَ بعده كثيرٌ غَيْرُ مُتغيرٍ). (نزح منه) أي: من الماء الكثير، نزح منه ماء، فبقي بعد النزح ماء كثير، في هذه الصورة لا بد أن يكون الماء المتنجس أكثر من قلتين؛ لأن المؤلف اشترط أن يبقى بعد النزح قلتان، فعلى هذا تكون هذه المسألة الثالثة، إذا كان عند إنسان قدر فيه أربع قلال ونجس، ونزح منه شيئًا وبقي قلتان، ولكن هذا الباقي ما صار فيه نجاسة، يكون طهورًا، هذه الأربع قلال لو زال تغيره بنفسه يكون طهورًا؟
طلبة: طهور.
الشيخ: طيب، هذه الأربع قلال لو أضفنا إليه قلتين، يطهر؟
طلبة: طهور.
الشيخ: إذن ما زاد على القلتين فإنه يمكن أن يطهر بثلاثة طُرق:
الطريق الأول: الإضافة.
والطريق الثاني: زوال تغيُّرِه بنفسه.
والطريق الثالث: أنْ يُنْزَح منه؛ فيبقى -أي: بعد النزح- كثير؛ يعني قلتين فأكثر؛ فإنه يكون طهورًا.
إذا كان الماء أقل من قلتين، فكم طريقًا لتطهيره؟
الطلبة: طريق واحد.
الشيخ: طريق واحد، وهو الإضافة، أن يضاف إليه كثير، لو زال التغير بنفسه؟
ما يطهر؛ لأنه لم يبلغ قُلَّتين، لا يطهر؛ لأنه لم يبلغ قُلَّتين، فهمتم الآن؟
الآن نطالب، النجس ما هو؟
قلنا: ثلاثة أنواع: ما تغير بنجاسة، أو لاقاها وهو يسير، أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها.
هذا النجس، بماذا يكون تطهيره، بأي طريق؟
نقول: إن كان أكثر من القلتين، فله ثلاثة طرق:
أولًا: أن نضيف إليه طهورًا كثيرًا.
والثاني: أن يزول تغيره بنفسه.
والثالث: أن ينزح منهما شيء، ولو كان يسيرًا.
النزح ما هو؟ المنزوح لا تنظر إليه، أن يُنزح منه شيء، ويبقى بعده كثير.
إذا كان قلتين لا زيادة ولا نقص، فهو له طريقان؛ لتطهيره؛ طريقان:
الطريق الأول: أن يضاف إليه طهور كثير.
والطريق الثاني: أن يزول تغيره بنفسه.
وإذا كان أقل من قلتين، فليس لتطهيره إلا طريق واحد، وهو أن يضاف إليه ماء كثير، مفهوم؟
استثنى المؤلف في مسألة الإضافة، قال: (غير تراب ونحوه).
(1/73)
________________________________________
لو أضفنا إليه ترابًا، ومع اختلاطه بالتراب وترسَّب التراب زالت الرائحة، يطهر؟
على المذهب: لا، ما يطهر مع أن التراب أحد الطهورين، ولَّا لا؟ لكن يقولون: إن تطهير التراب ليس حسيًّا، بل هو معنويٌّ، فإن الإنسان عند التيمُّم لا يتطهَّر طهارة حسِّيَّة، ولكن يتطهر طهارة معنويَّة، فإذا كان الماء لا يؤثر تأثيرًا حسيًّا فإنه وإن زال به أثر النجاسة بمعنى المتنجس لا يؤثر. بنحو التراب مثل أيش؟
لو أضفنا إليه ملحًا أو جصًّا أو صابونًا أو غيره؛ فإنه لا يطهر؛ لأنه ما فيه شيء يطهر إلا بالماء، ما فيه طهارة إلا بالماء، هذا هو ما مشى عليه المؤلِّف، وهو المذهب.
ولكن الصحيح أنه إذا زال تغيُّر الماء بالنجاسة بأي طريق فإنه يكون طهُورًا؛ وذلك لأن الحكم متى ثبت لعلَّة زال بزوالها، فما دمنا قد رجحنا أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فنقول: إذا زال هذا التغير طهر، وأي فرق بين أن يكون كثيرًا وأن يكون يسيرًا؟
العلة واحدة، متى زالت -أقصد النجاسة- فإنه يكون طهورًا مطهِّرا، وهذا القول الصحيح تجدونه أيسر فهمًا، وأيسر عملًا، يحتاج إنه يروح يجيب مثلًا كثيرًا نظيفًا ما يحتاج، نقول: متى زالت النجاسة ولم يُوجد لا ريح، ولا لون، ولا طعم فإنه يطهر.
واعلم أن هذا الحكم بالنسبة للماء فقط دون سائر المائعات، سائر المائعات تنجس بمجرد الملاقاة، ولو كانت مئة قُلّة، فلو كان عند الإنسان، إِناء كبير فيه عسل مائع وسقطت فيه شعرة من فأرة، ويش يكون هذا؟ يكون نجسًا، ما يجوز أكله ولا بيعه ولا شراؤه، ولو كان عنده حِبّ كبير من الدهن المائع، وسقطت فيه -كما قلنا- شعرة من فأرة -ترى المراد فأرة الميتة- إذا قلنا: بنجاسة الشعر، لكن المثال الصحيح الذي ينطبق حتى على المذهب أن يسقط فيه شعرة من كلب، في هذا الحِبّ الكبير، ولم يتغير ولم يتأثر، شعرة واحدة مثل شعر أهداب العين يكون هذا الدهن الكثير يكون نجسًا، يجوز بيعه ولَّا لا؟
(1/74)
________________________________________
المذهب ما يجوز بيعه كما مر علينا؛ دهن متنجّس، ما يجوز بيعه، ما يجوز إلا الاستصباح بها في غير المسجد، والصحيح أن كل الأشياء ما دامت لم تتغير بالنجاسة فهي طاهرة، فإن تغيرت فهي نجسة.
طالب: حتى المائعات غير الماء ( ... ).
الشيخ: (وإن شكَّ في نجاسة ماء، أو غيرِه، أوْ طَهارته بنى على اليقين)
(إن شك في نجاسة ماء أو غيره) غير الماء فهو يبني على اليقين، كيف شك في نجاسة ماء أو طهارته؟ كيف يشك في نجاسته أو طهارته؟
في نجاسته إذا كان أصله طاهرًا، وفي طهارته إذا كان أصله نجسًا، شك في نجاسة الماء، عنده ماء طاهر ما علم أنه تنجس، ثم جاء فوجد فيه شيئًا، ولنفرض أنه وجد روثة لا يدري أروثة بعير هي أم روثة حمار؟ والماء متغيِّر، فيه خضرة من هذه الروثة، ولكن ما يدري، الآن شك في نجاسته ولَّا طهارته؟
في نجاسته؛ لأنه كان يعرف أنه طاهر، فجاء هذا الحدث فشك، هل هو نجس أم طاهر فنقول: ابنِ على اليقين، ما هو اليقين؟ الطهور، وتَطَهَّر به ولا حرج.
كذلك إذا شك في نجاسة غيره؛ غير الماء، عنده ثوب فشك في نجاسته، فما هو الأصل؟ الطهارة، حتى يعلم أنه نجس.
عنده جلد؛ جلد شاة، وشك هل هو جلدُ مُذَكَّاة، أو جلد ميتة، ويش الغالب؟ أنه جلد مُذَكَّاة، ولَّا يمكن يكون جلد ميتة؟
لكن على القول الراجح -كما سيأتينا إن شاء الله تعالى- أن المدبوغ ولو كان جلد ميتة يكون طاهرًا.
شكَّ في الأرض الآن يبغى يصلي، وقال: والله ما أدري هل هذه البقعة طاهرة ولَّا نجسة؟
فنقول: الأصل الطهارة، فتكون طاهرة ويصلي عليها.
كذلك لو شك في طهارة الماء، كيف شك في طهارته، عنده ماء نجس يعرف أنه نجس، فلما عاد إليه قال: والله ما أدري هل زال التغير أو ما زال؟ شك، ماذا نقول؟
الأصل النجاسة، الأصل بقاء نجاسته، وعلى هذا فلا يستعمله؛ لأن الأصل النجاسة؛ ولهذا قال: (بَنَى على اليَقِينِ)، اليقين هو الذي كان قبل الشك، فهمت.
(1/75)
________________________________________
إذن، إذا شك في نجاسة الماء فهو طهور، إذا شك في طهارة الماء المتنجِّس، فهو نجس، ما هو الدليل، وما هو التعليل؟
الدليل على ذلك حديث عبد الله بن زيد أن النبي عليه الصلاة والسلام شُكِيَ إِليه الرَّجل -وكذلك في حديث أبي هريرة- يجدُ الشيء في بطنه؛ فيُشكل عليه، هل خرج منه شيء أم لا؟ فقال: «لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» (5).
هذا واضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرَ بالبناء على الأصل، وهو بقاء الطَّهارة حتى يسمع صوتًا أو يجدَ ريحًا.
إذن هذا الماء الطهور شككنا، هل أصيب بنجاسة أم لا؟
فنقول: لا نتجنبه حتى نتيقن أنه نجس، وهذا الماء المتنجس شككنا هل زال تغيره بالنجاسة أم لا؟
فنقول: لا نستعمله حتى نتيقن أن النجاسة زالت، هذا دليل أثري؛ يعني دليل بالأثر، كذلك عندنا دليل نظري؛ دالّ بالنظر، وهو أن الأصل بقاء الشيء، هذا الأصل، الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يتبين تغير الشيء، فهذا دليل نظري عقلي.
وبناء على ذلك إذا أصابك ماء الميزاب وأنت مارّ في السوق تقول: والله ما أدري هل هذا من المراحيض أو من غسيل الثياب؟ وهل هو من غسيل ثياب الصبيان نجسة، أو من غسيل ثياب رجال طاهرة، ويش نقول؟
طلبة: الطهارة.
الشيخ: الأصل الطهارة، طيب أنا شوفت كأن لونه متغير؟ !
طلبة: ( ... ).
الشيخ: الأصل الطهارة، ولو كان متغيرًا.
قالوا: ولا يجب عليه أن يشمه أو أن يتفقده، ما هو واجب، يمشي على ما كان عليه ويكون الأصل الطهارة، وهذا كله من سعة رحمة الله عز وجل حتى لا نتكلف ونشق على أنفسنا؛ ولهذا الصَّحابة لما قالوا: يا رسول الله، إِنَّ قومًا يأتوننا باللَّحم؛ ما ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ قال: «سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا» (6).
(1/76)
________________________________________
قالت عائشة راويةُ الحديث: وكانوا حديثي عهد بالكفر؛ يعني توًّا هم مسلمون، هنا يغلب على الظنّ أنَّهم لم يذكروا اسمَ الله، ومع ذلك ما أمر الرسول بأن نسأل ولا أن نبحث، إذن ما نسأل.
ويُروى عن عمر رضي الله عنه: أنَّه مرَّ هو وصاحب له بصاحب حوض، فأصابهم منه، فسأل صاحبَ الحوض: هل هذا نجس أم لا؟
فقال له عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا (7). وفي رواية: أن الذي أصابهم ماء ميزاب، فقال عمر: يا صاحب الميزاب، لا تُخبِرْنا.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، أبدًا، الاحتياط عدم العمل بهذا؛ لأننا رأينا أن الذين يحتاطون قد ينفتح عليهم باب الوسواس، وهذا كثيرًا ما هو موجود الآن.
طالب: في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وجد التمر في الطريق، وقال: لولا أني أخشى أنه صدقة لأكلت؟
الشيخ: نعم، هذا في باب الأطعمة ( ... )، وأيضًا الرسول صلى الله عليه وسلم لعلها -والله أعلم- إن هناك قرينة تُقوّي أنها من الصدقة.
طالب: شيخ، ( ... )؟
الشيخ: إي، ولو كان الأصل الطهارة.
الطالب: لو رأينا البول، ولكن ما ( ... ) البقعة ( ... )؟
الشيخ: يبغي دينه.
قال: (وإن اشتبه طَهور بنجس حَرُمَ استعْمَالُهُمَا).
(اشتبه طهور)؛ يعني ماء طهور (بنجس) بماء نجس (حرم استعْمَالُهُمَا)، لماذا؟
لأن اجتناب النَّجس واجب، ولا يتم إلا باجتنابهما، وما لا يتمُّ الواجب إِلا به فهو واجب، هذا دليل نظري.
ويُستدلُّ عليه أيضًا، ربما يستدل عليه، بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الرَّجُل يرمي الصيد فيقع في الماء، قال: «إِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي، الْمَاءُ قَتَلَهُ أَمْ سَهْمُكَ» (8). وقال: «إِذَا وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أيُّهُمَا قَتَلَهُ» (9). فأمر باجتنابه؛ لأنّا ما ندري هل هو من الحلال أو من الحرام؟
هذان ماءان نجسان، ما ندري أيهما الحلال لنا من الحرام، فما الواجب؟
(1/77)
________________________________________
الواجب اجتنابهما؛ العلة: ما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب، فوجب اجتنابهما جميعًا، هذه مسألة.
الحكم الثاني في هذا الاشتباه قال: (ولم يتحرَّ)؛ يعني ما ينظر أيُّهما الطَّهور من النَّجس، ما يتحرى، على طول يتجنبه، ولا يتحرى حتى ولو مع وجود قرائن، ما يتحرَّى، هذا هو المشهور من المذهب.
والقول الثاني: أنه يتحرى؛ وهو قول الشافعي، وهو الصواب أنه يتحرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن مسعود في مسألة الشك في الصلاة، ويش قال؟
قال: «لِيَتَحَرَّ الصَّوَابَ ثُمَّ ليَبْنِ عَلَيْهِ» (10)، هذا دليل أثريٌّ في ثبوت التَّحرِّي في المشتبهات.
أما الدَّليل النَّظري: فنقول من القواعد المقرَّرة عند أهل العلم: أنَّه إذا تعذَّر اليقين رُجع إلى غلبة الظنِّ؛ فهنا تعذَّر علينا اليقينُ أيهما النجس، فنرجع إِلى غلبة الظن؛ ولهذا الصواب -بلا شك- هذا القول؛ أنه يتحرّى إذا غلب على ظنه أن هذا هو الطهور استعمله، ولا شيء عليه، ويجتنب الآخر، هذان مسألتان.
المسألة الثالثة: قال: (ولا يُشترط للتيمُّم إراقتهما، ولا خلطُهما)، أفادنا المؤلِّفُ بقوله: (ولا يُشترط للتيمُّم) ( ... ).
نقول: الآن يجب عليك الاجتناب، ويش تسوي جت الصلاة يا جماعة، ماذا أعمل؟ !
تتيمَّم؛ لأنك غير قادر على استعمال الماء الآن؛ لأن هذا مشتبه بنجس ما يمكن تستعمله، فيشمله قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6].
فإذن أتيمم، ولكن هل يُشترط للتيمُّم إراقتهما أو خلطهما؟
في هذا قولان لأهل العلم؛ ولهذا المؤلِّف نفى هذا؛ لأن فيها قولًا وإلا كان ما يحتاج ينفيه، قال: (ولا يُشتَرط للتيمُّم إِراقتهما، ولا خلطُهما) ردًّا للقول الذي يقول: إنه يُشتَرط إراقتهما، أو خلطهما، وهو قولٌ في المذهب.
قالوا: ما يمكن يتيَمَّم حتى يُريقَ الماءين؛ ليكون عادمًا للماء حقيقة، أو يخلطهما حتى يكونا، يتحقَّق النَّجاسة، يكونا نجسين.
(1/78)
________________________________________
وعُلِم من ذلك أنه لو أمكن تطهير أحدهما بالآخر لوجب أو لا؟
طالب: التطهير.
الشيخ: لوجب التطهير، ولا يحتاج إلى تيمُّم؛ يعني لو كان الإناءان كل واحد منهما قلتين فأكثر، يمكن تطهير أحدهما بالآخر؛ لأنه إذا كان رقم واحد هو النجس أضفنا إليه رقم اتنين؛ وهو طهور كثير فيطهره إذا زالَ تغيُّره، وكذلك بالعكس.
فالآن أفادنا المؤلف -رحمه الله- ثلاثة أحكام في هذه المسألة إذا اشتبه طهور بنجس:
الحكم الأول: تحريم استعمالهما.
الحكم الثاني: عدم التحري في أيهما الطهور.
الحكم الثالث: أنه يتيمم، أو لا؟
الحكم الرابع: أنه لا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما، وإن شئنا قلنا: إن هذا تابع للتيمم، فلا يكون حكمًا مستقلًّا، لكن هناك قول يقول: لا بد من خلطهما حتى يكونا نجسين أو إراقتهما حتى يكون عادمًا للماء حقيقة، ولكن الصحيح أنه لا يشترط.
ذكرنا أن الصواب التحرّي، أو لا؟ واستدللنا له بأثر ونظر ولَّا لا؟
التحري إذا كان هناك قرائن تدل على أن هذا هو الطهور، وهذا هو النجس، واضح أن المحل الآن قابل للتحري، بسبب القرائن، ولكن إذا لم يكن هناك قرائن، فهل يمكن التحري؟
طالب: لا يمكن.
الشيخ: التحري بناء على القرينة غير ممكن، ( ... ) الإناءان سواء في اللون والنوع والماء سواء، ولا يتذكر شيءأبدًا، لكن قال بعض العلماء في هذه الحال أيضًا: إذا اطمأنت نفسه إلى أحدهما فليأخذ به، وقاسوه على ما إذا اشتبهت القِبلة على الإنسان، ونظر في الأدلة ما وجد أدلة في النهار، الليل مظلم ما فيه نجوم، ويش قالوا؟
طالب: يُصلي.
الشيخ: يصلي؛ حيث ترتاح نفسه إلى جهة يصلي إليها، فقالوا: إذا اطمأنت نفسه إلى أحد الماءين فليستعمله، ولا شك أن هذا -استعماله لأحد الماءين في هذه الحال- فيه شيء من الضعف، لكنه خير من العدول إلى التيمم.
طالب: ما يجمع بينهما؟
الشيخ: لا، ما ينفع؛ لأن هذا نجس.
الطالب: يعني يجمع بين التيمم، نقول: تطهر بطهارة يعني أو ( ... )؟
(1/79)
________________________________________
الشيخ: لا، لأنا نحن ذكرنا قبل في درس سابق أنالصحيح أنه ما يمكن تجتمع الطهارتان، وإن كان الفقهاء ذكروا أنه يجمع بين التيمم وطهارة الماء في أربع صور، لكن الصحيح عدم ذلك.
طالب: ( ... )؟
الشيخ: لا، قد أكون أنا ما أشم، أو يكون رجل أعمى ما يرى، أو فاقد الذوق، أو ربما نروح نذوقه ( ... )؛ يعني يجوز اختبار مثل هذا إن يذوقه لو كان يخشى أن يقع في النجس، وإذا أحس أن هذا هو النجس ( ... ).
طالب: ( ... )؟
الشيخ: يكون طهورًا، يكون ما فيه اشتباه الآن.
طالب: ولا يستخير ولا صلاة استخارة؟
الشيخ: لا، ما أظن.
طالب: له أن يستخير، ثم ( ... ).
الشيخ: يستخير، ثم يتوضأ؛ أي: الماء اللي ( ... ).
طالب: ( ... ).
الشيخ: إي، هذه بتجينا -إن شاء الله- في باب التيمم إن شاء الله تعالى.
طالب: ( ... ).
الشيخ: يتحرَّى.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، ما ينفع.
يقول: (وإِن اشتَبَه بطَاهر تَوَضّأ منهمَا وُضُوءًا واحدًا، مِنْ هذا غَرْفَةٌ، ومن هذا غَرفةٌ، وصَلَّى صلاةً واحدةً)، اشتبه بطاهر، هل ترد هذه على القول الصحيح؟
طلبة: لا.
الشيخ: ليش؟ لأن ما فيه طاهر غير مطهر، لكن على المذهب يمكن إن اشتبه بطاهر، كيف يشتبه بطاهر؟ الطاهر ما تغير بطَبْخٍ أو ساقط فيه، يسمى تغيرًا، لا نقول: الطاهر أكثر من هذا، غُمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء، أو لا؟
طلبة: نعم.
الشيخ: يمكن هذا؟ لا، خلت به طهور، غمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء يكون طاهرًا غير مطهّر، فهذا رجل عنده ماءان، أحدهما: متيقن أنه أول ما قام من النوم غمس يده فيه، ولكن ما يدري هل هو رقم واحد أو رقم اتنين، اشتبه الآن طهور بماذا؟
طلبة: بطاهر.
الشيخ: بطاهر، ويش نسوي؟ هل نقول مثل الأول: لا يتحرى؟ نقول: ما يتحرى نعم، لا يتحرى؛ لأنه ما فيه تحري.
ماذا يصنع، يتيمم؟ لا؛ لأن استعمال الطاهر هنا لا يضره، بخلاف المسألة الأولى، المسألة الأولى استعمال النجس يضره، ينجس ثيابه وينجس بدنه، لكن هذا ما يضر.
(1/80)
________________________________________
إذن كيف يصنع؟ يتوضأ وضوءًا واحدًا لا وضوءين، من هذا غَرفة، ومن هذا غرفة، وجوبًا من هذا غرفة ومن هذا غرفة؟
وجوبًا، وعلى هذا فيمكن أن يلغز بهذه المسألة، ويقال: رجل وجب عليه التكرار في الوضوء، التكرار يجب مرة واحدة، الوضوء مرة واحدة، ولَّا لا؟
لكن هذا يجب أن يتوضأ مرتين، غرفتين، يأخذ من هذا غرفة يغسل يديه كفيه، ويأخذ من هذا غرفة يغسل كفيه، ثم يأخذ من هذا غرفة يغسل وجهه، ومن هذا غرفة يغسل وجهه، ومن هذا غرفة يغسل يده اليمنى، ومن هذا غرفة يغسل يده اليمنى، وهكذا حتى يكمل، لازم، ومسح الرأس؛ يبل يده من هذا، ويبل يده من هذا، لا بد، واضح، لماذا؟
لأن بعض العلماء يقول، أقول: لماذا؟ لأجل إذا أتم وضوؤه فقد تيقن أنه توضأ بطهور، أو لا؟
إذا خلص وغسل رجليه الآن تيقّن أنه توضأ بطهور، فيكون وضوؤه صحيحًا.
لو قال قائل: لماذا لا يتوضأ من هذا وضوءًا كاملًا، ثم يرجع ويتوضأ من هذا وضوءًا كاملًا؟ !
نقول: لا يمكن، ليش؟ لأن كل واحد منهما يحتمل أنه هو الطهور، وحينئذٍ يختل الترتيب بين الأعضاء، يمكن مثلًا إذا غسلت من رقم واحد وضوءًا كاملًا، قد يكون هو الطهور أو الطاهر، فأنت الآن أديت هذا الوضوء شاكًّا فيه ولّا لا؟
طلبة: نعم.
الشيخ: شاكًّا فيه، تيجي للثاني تقول: أتوضأ منه وضوءًا كاملًا، توضأت، الآن أنت شاك ولَّا ما شكيت؟ شاك، فأديت الوضوء وأنت شاك فيه، هذه من جهة.
من جهة أخرى ربما يكون هذا هو الطهور غسلت به وجهك، ثم يكون في الثاني هو الطهور، غسلت به بعدما تميت غسلت به وجهك، وإذا غسلت اليد يمكن نقول بالعكس، فيحصل بذلك إخلال في الترتيب.
فصار الآن هذا مبني -عدم الصحة- على أمرين أو لعدم الصحة وجهان:
الوجه الأول: أن كل وضوء أديته فأنت شاك فيه، ما أديت وضوءًا عازمًا به.
(1/81)
________________________________________
الثاني: أننا إذا قدرنا توضأت وضوءًا كاملًا، ثم قدرنا أن الطاهر هو الأول اللي توضأت منه هو الطهور، ثم توضأت الوضوء الكامل من الثاني الذي هو الطاهر، هذا ما يمكن أن تجزم به في كل عضو من أعضائك، ربما تجزم في الأول، أو يغلب على ظنك أن هذا هو الطهور عند غسل الوجه، وفي الثاني يغلب على ظنك أن هذا هو الطهور عند غسل الوجه، أو عند غسل اليد، وكذلك بالعكس، سيحصل اختلاف في الترتيب؛ بمعنى أن تصوري بأن هذا هو الطاهر، أو هذا هو الطهور قد يختلف بحسب الأعضاء؛ فيختلف ترتيبها، واضح؟
الآن توضأت من هذا وضوءًا كاملًا وانتهيت، ثم أردت أن أتوضأ من الثاني وضوءًا كاملًا، كل عضو من أعضائي أنا أقدِّر أن هذا هو الطهور، أو أن هذا هو الطاهر، كل عضو من الأعضاء، أليس كذلك؟
طلبة: بلى.
الشيخ: فإنا إذا قدرنا أن الأول هو الطهور، يمكن يكون مشينا على الترتيب، إذا قدرنا أن الثاني هو الطهور مشينا على الترتيب ولَّا لا؟
طالب: نعم.
الشيخ: ما مشينا على الترتيب؛ لأنه اختلف؛ إذ إني مثلًا غسلت إيدي بالأول على أن ذاك هو الطهور، والآن غسلت وجهي على أن هذا هو الطهور؛ لأن كل عضو أغسله فأنا بقدِّر أن هذا هو الطهور أو هذا هو الطاهر.
طالب: فإن اتفقا يا شيخ.
الشيخ: ما يمكن تتفق وأنا شاك فيها.
طالب: ( ... ).
الشيخ: الواقع غير مسألة ما أعتقد، فالمهم أن الوجه الأول واضح لكم؛ أنك تؤدي طهارة شاكًّا فيها، ولا يقال إنه باجتماعهما حصل اليقين، نقول: لأن أحدهما حينما أديته كنت شاكًّا فيه، ما عندك يقين، فلهذا يقول: يتوضأ وضوءًا واحدًا لا وضوءين، أيضًا يصلي صلاة واحدة.
وقال بعض العلماء: يتوضأ وضوءين، ويصلي صلاتين، يتوضأ بهذا وضوءًا، ثم يصلي، ثم يتوضأ بالثاني وضوءًا، ثم يصلي؛ لأجل أن يتيقن بالفعلين أنه توضأ وضوءًا صحيحًا وصلى صلاة صحيحة.
(1/82)
________________________________________
ولكن على القول الرَّاجح الصحيح، فهذا غير وارد أصلًا؛ لأن الصواب أن الماء لا يكون طاهرًا غير مطهر، بل كله إما طَهورًا، وإما نجس.
( ... ) (وإِن اشْتَبَهَتْ ثياب طاهرةٌ بنجسة أو بمحرَّمةٍ صلَّى في كلِّ ثوبٍ صلاةً بعددِ النَّجس أو المحرَّم، وزَاد صلاةً)
إذا اشتبهت ثياب طاهرةٌ بنجسة، هذه المسألة لها تعلُّق في باب اللباس، في باب السترة، باب شروط الصَّلاة، ولها تعلُّق هنا، تعلُّقها هنا من باب الاستطراد؛ لأنه معلوم أن الثِّياب ما لها دخل في الماء، أليس كذلك؟
طلبة: بلى.
الشيخ: هذه تُذكر في باب ستر العورة، من شروط الصلاة.
لكن هم ذكروها هنا على سبيل الاستطراد، فنقول: إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة، مثلًا رجل له ثوبان؛ أحدهما: قد تيقّن أنه تنجّس، والثاني: طاهر، ثم جاء بيلبسهم شك أيهما الطاهر من النجس، فماذا يصنع؟
والآن ما نوع الثوب ما فيه شك؛ يعني إذا كان معه ثوب لا شك فيه فالأمر واضح، ماذا يصنع؟ يصلي في الثوب الذي لا شك فيه، وينتهي الموضوع، لكن هذا ما عنده إلا ثوبين لازم بيصلي بأحدهما، وشك فماذا يصنع؟ نقول: تصلي بعدد النجس وتزيد صلاة، ليش؟
لأنك كل ثوب تصلي فيه يحتمل أنه هو النجس، فلا تصح صلاتك؛ إذ إن من شروط الصلاة أن يصلي الإنسان بثوب طاهر، فلا يمكن أن تخرج بيقين، أو فلا يمكن أن تصلي بثوب طاهر يقينًا إلا إذا صليت بعدد النجس وزدت صلاة.
طيب عنده ستة أثواب نجسة وواحد طاهر، كم يصلي؟ سبع صلوات بعدد النجس، والنجس ستة، ويزيد صلاة لأجل أن يتيقن أنه صلى بثوب طاهر.
هنا في الحقيقة كل صلاة يؤديها يشك هي اللي صحت ولّا اللي ما صحت، أليس كذلك؟
طلبة: بلى.
الشيخ: كل صلاة يؤديها ما يؤديها عن يقين، حتى السابعة ما يظن أن هي التي صحت دون الأولى، لكن إذا اجتمع الجميع تيقنَّا أنه صلى صلاة صحيحة.
لو زاد عدد النجس، لو كان عنده ثلاثون ثوبًا نجسًا وواحد طاهر، يُصلِّي كل وقت واحدًا وثلاثين صلاة.
(1/83)
________________________________________
على كل حال هذه فرضًا، وإلا بدل من دول يروح يشتري ثوبًا جديدًا، وينتهي، أو يغسل واحدًا وينتهي، لكن هذه المسألة فرضًا، يُصلِّي بعدد النجس، ويزيد صلاةً، هذا ما مشى عليه المؤلف، ولكن الصحيح في هذه المسألة أنه يتحرى.
وإذا غلب على ظنه أحد الثياب صلى فيه وانتهى، والله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولم يُوجب الله على الإنسان أن يصلي أكثر من صلاة أبدًا، فالصواب أنه يصلي صلاة واحدة، فإن قلت: ألا يحتمل مع التحرِّي أن يكون صلَّى بالثوب النجس؟
طالب: احتمال وارد.
الشيخ: نقول: بلى، لكن هذا منتهى قدرته، ثم إِنَّ الصَّلاة في الثَّوب النَّجس عند الضَّرورة، الصحيح أنها تجوز.
أما المذهب يرون أن الصلاة في الثوب النجس عند الضرورة، تُصلي فيه وتعيد، فلو فرضنا -على المذهب- وهذه مسألة استفراضية مثلما استفرضنا هنا في أصل المسألة لو أن الإنسان ما عنده إلا ثوب نجس وهو في البر، ولا عنده ما يُطهّره به، وبقي في البر شهرًا كاملًا يصلي بالثوب النجس وجوبًا، ويعيد إذا طهَّره وجوبًا، يُعيد ما صلى به، يُصلي ويُعيد، يُصلي ليش؟ لأنه حضر وقت الصلاة وأمر بها، ويُعيد لأنه صلى في ثوب نجس فصلاته باطلة.
ولا شك أن هذا القول ضعيف، وأن القول الراجح أنه يُصلي ولا يُعيد، وهم قد قالوا -رحمهم الله- إنه في صلاة الخوف إذا اضطُر إلى حمل السلاح النَّجس حَمَلَه ولا إعادة عليه للضَّرورة، هذا أيضًا للضرورة، ماذا يصنع.
المهم إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة، فما الحكم على المذهب؟
طلبة: يصلي بعدد النجس، ويزيد صلاة.
الشيخ: يصلي بعدد النجس، ويزيد صلاة؛ لأنه لا يتيقن أنه صلى صلاة بثوب طاهر إلا بهذه الصورة، فيجب عليه أن يصلي بعدد النجس ويزيد صلاة.
طالب: لكن كل صلاة يا شيخ يلبس ثوبًا ولَّا كيف؟
(1/84)
________________________________________
الشيخ: كل صلاة يلبس سبعة أثواب، إذا كانوا ستة، عنده ستة أثواب نجسة، والسابع طاهر، واشتبه عليه، نقول صلِّ بكل ثوب صلاة، فيصلي في الثوب رقم واحد صلاة، ثم الثاني في رقم اتنين، ثم الثالث في رقم ثلاثة إلى السابعة.
طالب: هم يقولون: يا شيخ، إذا تردد في الصلاة بطلت، فهنا صلى في كل ثوب بنية غير جازمة؟
الشيخ: غير جازمة، هم يقولون: لكن بمجموع الأمر، بمجموع الصلوات هذه تيقنا أنه صلى صلاة بثوب طاهر.
الطالب: وما الفرق بينه وبين ما لو اشتبه طهور بطاهر كون أنه لا يتوضأ وضوءين؟
الشيخ: إي نعم، هم قالوا: لأنه يمكن الجمع بينهما هناك، في مسألة الطهور والطاهر يمكن الجمع، فيتوضأ من هذا غرفة ومن هذا غرفة، لكن فيما يمكن ويش يسوي؟ ما نقدر نقول: البس ثوبين جميعًا، نفس الشيء كلهم نجسات.
طالب: ( ... ).
الشيخ: كيف؟
الطالب: الماء النجس تتوضأ بالأول، وتصلي، وتتوضأ بالثاني، وتصلي ما الفرق؟
الشيخ: نعم، الفرق بينهما أن الماء إذا استعمله وهو نجس تنجّس هو وثيابه فزاده شرًّا، أما هذا ما يضر، إذا تنجس عاد يحتاج أنه يغسّل اللي تنجس بهذا الماء النجس.
إذا اشتبهت ثياب مباحة بمحرّمة، هذه المسألة لها صورتان:
الصورة الأولى: أن تكون محرَّمة لحق الله.
والصورة الثانية: أن تكون محرّمة لحقّ الآدمي.
المحرّمة لحق الله مثل الحرير، اشتبه عليه الثوب الحرير الصناعي بالثوب الحرير الطبيعي، ممكن هذا ولَّا لا؟
ممكن، ما يدري أيهما، عنده عشرة أثواب حرير طبيعي، وثوب واحد حرير صناعي كلها معلقة بالعلاقية، قال: والله أنا ما أدري أيها اللي بأصلي به ما بين الحرير الصناعي أو الحرير الطبيعي، ماذا نقول له؟
طلبة: ( ... ) صلاتك.
الشيخ: لا، إحدى عشرة صلاة؛ لأن عنده عشرة أثواب محرمة حرير طبيعي، وثوب واحد حرير صناعي نقول: صلِّ عشر صلوات وكلها الآن ما صحت صلاته! صلِّ إحدى عشرة صلاة، بعد ذلك نتيقن أنك صليت في ثوبٍ حلال.
(1/85)
________________________________________
هذه المسألة مبنية على مسألة ستأتينا إن شاء الله تعالى، هل يشترط لستر العورة أن يكون الثوب مباحًا؟ هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيانها في باب ستر العورة.
المهم المذهب أنه يشترط لستر العورة أن يكون الثوب مباحًا، فعلى هذا إذا اشتبهت ثياب محرمة بمباحة صلى بعدد المحرمة في كل ثوب صلاة، ويزيد صلاة واحدة. ذكرنا أن المسألة لها صورتان؟
طالب: نعم.
طلبة: محرمة لله، وحق الآدمي.
الشيخ: مُحرَّمة لحق الله مثل الحرير.
محرمة لحق الآدمي كالمغصوب؛ إنسان عنده ثوب مغصوب، وعنده ثوب ملك له، واشتبه عليه المغصوب بالملك، فماذا يصنع؟
طلبة: يصلي ( ... ).
الشيخ: يصلي بعدد المغصوب، ويزيد صلاة، لكن هنا مشكلة! كيف يصلي بالثوب المغصوب وهو ملك غيره، فحينئذٍ يكون قد انتفع بملك غيره بلا إذنه؟ ! انتبهوا لهذا!
المحرم لحق الله، واضح أنه يصلي فيه ولا فيه إشكال؛ يعني يصلي فيه وعلى كلام المؤلف يزيد صلاة، لكن إذا كان محرمًا لحق الغير، وقلنا: صلِّ بهذه الثياب المغصوبة، صلِّ بها وزد صلاة، ويش بيرد علينا، يرد علينا استعمال مال الغير بغير إذنه، وهذا محرم.
تعارض عندنا الآن واجب أيش بعد؟
طلبة: ومحرم.
الشيخ: ومحرم، واجب وهو أنه يجب أن يُصلِّي بكل ثوب، ومُحرَّم وهو أنه يستلزم استعمال مال غيره، فماذا نصنع؟
الجواب على ذلك أن يُقال: استعمال مال الغير هنا للضرورة، كما لو احتاج الإنسان إلى مال غيره لدفع ضر، واحد مثلًا عنده بطانية لغيره ومات من البرد، يحتاج إلى بطانية يتغطى فيها، نقول: اصبر ( ... ) ويأكلك البرد، ولَّا تغطى فيها؟
نقول هنا: استعمال مال الغير للضرورة، وعليه -لهذا الغير- ضمان ما نقص الثوب وأُجرة الثوب، ضمانه إن نقص وأُجرة استعماله إياه، فالحين ضاع حق الغير ولّا ما ضاع؟
(1/86)
________________________________________
ما ضاع ما دام بيضمن له منافعه، ويضمن له نقصه، وأنا اضطررت إلى استعماله؛ لأنه واجب عليَّ أن أصلي بعدد المحرم صلاة، زال الإشكال الآن ولَّا لا؟
زال الإشكال؛ لأنه إذا اضطر الإنسان إلى نفع مال الغير وجب أن يدفعه له، وهذا مضطر، ولكن هل يدفعه بالأجرة أو يدفعه مجانًا فيه خلاف، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في باب الأطعمة أظن.
إنما الآن نقول: استعمِلْه لأجل الضرورة الشرعية، وعليك ضمان ما نقص، وعليك أُجرة منفعته، هذا هو تحرير المسألة على المذهب.
والصَّحيح أيضًا في هذه المسألة: أنه يتحرَّى، الصحيح أنه يتحرّى، وأنه يُصلِّي بما يغلب على ظَنِّه أنَّه الثوب المباح ولا حرج عليه؛ لأن الله لا يكلِّف نفسًا إلا وسعها.
وهذه كلافة شديدة، افرض أن الثياب ثلاثون، نقول: كل ظهر صلِّ ثلاثين صلاة ظهر، وكل عصر واحدًا وثلاثين، وكل مغرب واحدًا وثلاثين، وكل عشاء واحدًا وثلاثين.
طيب نشوف الآن واحد وثلاثين في خمسة بمئة وخمسة وخمسين، أكثر من فروض الصلاة أول ما فُرضت، هذا مشقة.
طالب: ممكن يترك الصلاة! !
الشيخ: المهم الصواب أن هذه المسألة -والحمد لله- الأمر فيها واضح؛ وهو أنه يتحرَّى، هذا بالنسبة للثياب النجسة، وكذلك بالنسبة للثياب المحرمة.
طالب: خمسة في واحد وثلاثين يا شيخ مئة وخمسة خمسين ثلاثة أضعاف الصلاة ( ... ) بدون قرائن؟
الشيخ: لو فرض أن ما عنده قرائن، ولا يمكن التحري، أن التحري لم يمكن لعدم وجود القرينة، فيصلي فيما شاء؛ لأنه في هذه الحال مضطر إلى أن يُصلي بالثوب النجس، والصواب أنه إذا كان مضطرًّا للصلاة في الثوب النجس أنه يصلي ولا إعادة عليه.، وأما الثوب المحرم فإن فيه أصلين:
الأصل الأول: الضرورة.
والأصل الثاني: أن في المسألة نزاعًا في صحة الصلاة في الثوب المحرم، سواء لحق الله أو لحق الآدمي، والمسألة فيها خلاف، وسيأتي -إن شاء الله- التحقيق فيها.
طالب: ما يعتبر فاقد الثوب حسًّا كما فقد الماء حِسًّا؟
(1/87)
________________________________________
الشيخ: لا، ما فقده حسًّا، شرعًا يمكن.
طالب: إي شرعًا؟
الشيخ: إي، أما حسًّا ما فقده، لا، ما يعتبر؛ لأن هذا ما هو فقد؛ لأنه يمكن يصلي فيه، أما مسألة النجس؛ الماء الطهور والنجس واضح أنه لو أنه تطهَّر بالنجس ما زاده إلا تلويثًا.
[باب الآنية]
(باب الآنية)
الباب: هو ما يُدخَلُ منه إلى الشيء، والعُلماء -رحمهم الله- يضعون (كتابًا، وبابًا، وفصلًا)؛ فالكتاب عبارة عن جملة أبواب تدخل تحت جنس واحد، والباب نوع من ذلك الجنس مثلما نقول: (حَبٌّ) يشمل (البر، والشعير، والذُّرة، والرز)، لكن البر شيء، والشعير شيء آخر؛ كتاب الطَّهارة يشمل كلَّ جنس يصدق عليه أنه طهارة، أو يتعلَّق بها، لكن الأبواب أنواع من ذلك الجنس، أما الفصول فهي عبارة عن مسائل تتميَّز عن غيرها ببعض الأشياء، إما بشروط أو بتفصيلات.
وأحيانًا يُفَصِّلون الباب لطول مسائله، لا لانفراد بعضها في حكم خاص، ولكن لطول المسائل، يكتبون فصولًا.
الآنية؛ جمع (إِناء)؛ وهو الوعاء، وعاء الشيء؛ أي: إناء الشيء؛ يعني الإناء هو الوعاء، وذكرها المؤلِّفُ هنا، وإِن كان لها صلة بباب الأطعمة؛ لأن الأطعمة أيضًا لا تؤكل إِلا بأوانٍ؛ فباب الآنية له صلة بباب الأطعمة الذي يذكره الفقهاء في آخر الفقه، وله صلة هنا في باب المياه؛ لأن الماء -كما تعلمون- جوهر سيَّال لا يمكن حفظه إلا في الإناء؛ فلهذا ذكروه بعد باب المياه، ومعلوم أنَّ من الأنسب إِذَا كان للشيء مناسبتان أن يُذكرَ في المناسبة الأولى؛ لأنَّه إِذا أُخِّرَ إلى المناسبة الثَّانية فاتت فائدتُه في المناسبة الأولى، لكن إِذا قُدِّم في المناسبة الأولى لم تَفُتْ فائدته في المناسبة الثانية اكتفاءً بما تقدَّم.
(1/88)
________________________________________
الآنية الأصل فيها الحِلُّ؛ لأنها داخلة في عموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ومنه الآنية؛ لأن الآنية من الأرض، نعم، ربما يعرض فيها شيء يُوجب تحريمها، كما لو اتُّخذت على صورة حيوان مثلًا فهنا تحرم؛ لا لأنها آنية، ولكن لأنها صارت على صورة محرَّمة، وإلا فالأصل فيها الحل.
والدَّليل ما ذكرت: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} هذا من القرآن.
ومن السُّنَّة: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ» (11). وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْفَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» (12).
إذن فالأصل فيما سكت اللَّهُ عنه الحِلّ إلا في العبادات، في العبادات الأصل حتى التَّحريم؛ لأن العبادات طريقٌ موصل إلى الله عزّ وجل، فإذا لم نعلم أن الله وضعه طريقًا إليه حرُم علينا أن نتخذه طريقًا، وكما دلَّت الآيات والأحاديث على أن العبادات موقوفة على الشَّرع، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فدلَّ على أن ما يَدينُ به العبد ربَّه لا بُدَّ أن يأذن الله به.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (13).
إن الأصل في الأواني الحِلّ لدلالة الكتاب والسُّنّة، وعلى هذا فإذا اختلفنا في شيء، هل هو حلال أو حرام، فنقول لمن قال إنه حرام: عليك الدليل؛ لأن الأصل عندنا.
(1/89)
________________________________________
ولا فرق بين أن تكون الأواني كبيرة أو صغيرة، يباح الكبير والصغير، قال الله تعالى عن سليمان: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13].
(الجوابِ) ما هي؟ الجابية، البرك، والجَفْنَة مثل الصَّحفة.
{وقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} ما تُحْمل ولا تُشال؛ لأنَّها كبيرة، راسية، ولكثرة ما يُطبخ فيها لا تُحمل، تبقى على ما كانت عليه، فلا فرق بين الصغير والكبير، لكن إذا خرج ذلك إلى حدِّ الإسراف صار محرَّمًا لغيره، لماذا؟ للإسراف {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
قال المؤلف: (كُلُّ إِناءٍ طَاهِرٍ) احترازًا من الإناء النَّجس؛ فإن النجس لا يجوز استعماله؛ لأنَّه نجس قذر، وفي هذا -الذي قاله المؤلِّفُ- نظر، فإن النَّجس يباح استعمالُه إِذا كان على وجه لا يتعدَّى، فلا حرج في استعماله، كما سيأتينا -إن شاء الله تعالى- في مسألة الجلد قبل الدبغ أو بعد الدبغ، فإذا استُعمل على وجه لا يتعدى؛ فإنه لا حرج فيه.
والدَّليل على ذلك حديث جابر أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام قال حين فتح مكَّة: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةَ، وَالْخِنْزِيرَ، وَالْأَصْنَامَ» (14)، قالوا: يا رسول الله، أرأيت شُحوم الميتة؛ فإِنَّها تُطلى بها السُّفن، وتُدهن بها الجلود، ويَستصبح بها النَّاس، قال: «لَا، هُوَ حَرَامٌ». فأقرَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام هذا الفعل مع أنَّ هذه الأشياء نجسة، فدلَّ ذلك على أن الانتفاع بالشيء النَّجس إذا كان على وجه لا يتعدَّى لا بأس به.
وقوله: (ولو ثمينًا)، (لو) هذه إشارة خلاف؛ يعني ولو كان غاليًا مرتفع الثمن مثل أيش؟ كالجواهر، والزُّمرُّد، والماس، وما أشبه ذلك فإنه يباح اتَّخاذه واستعماله.
(1/90)
________________________________________
وقال بعضُ أهل العلم: إِنَّ الثمين لا يُباح اتِّخاذه واستعماله، لما فيه من الخُيلاء والإسراف، وعلى هذا القول يكون التحريم فيه لذاته ولَّا لغيره؟
طلبة: لغيره.
الشيخ: لغيره، وهو كونُه إسرافًا وداعيًا إِلى الخُيلاء والفخر، فيكون من هذه الناحية محرمًا، لا لأنه ثمين.
وقوله: (يُباحُ اتِّخاذه)، هذا خبر المبتدأ، أين المبتدأ؟ (كُلّ)، والتَّركيب هنا فيه شيء من الإيهام؛ لأن قوله: (يُباح اتِّخاذُه واستعمَالُه) قد يَتَوَهَّم الواهم أنَّها صفة لا أنها خبر، ويتوقَّعُ الخبر؛ ولهذا لو قال المؤلف: يُباح كُلُّ إناءٍ طاهر ولو ثمينًا -يباح اتخاذه واستعماله- لكان أَوْلَى، ولكن على كل حال المعنى واضح.
قال: (يباح اتِّخاذُه واستعمَالُه)، هل هناك فرق بين الاتِّخاذ والاستعمال؟ نعم، اتخاذه أنه يقتنى فقط إِما للزِّينة، وإما لاستعماله في حال الضَّرورة، وإما للبيع فيه والشِّراء، وما أشبه ذلك، هذا الاتخاذ، وأما الاستعمال فهو التلبُّس بالانتفاع به؛ يعني يبدأ يستعمله فيما يستعمله فيه، فإذن اتخاذ الأواني جائز.
طيب لو زادت على قَدْرِ الحاجة؟
الجواب: نعم، ولو زادت على قدر الحاجة؛ يعني لو فُرض الإنسان عنده إبريق شاي يكفيه، ويبغى يشتري إبريقًا آخر، يجوز؟
طلبة: نعم.
الشيخ: يجوز اتخاذه، وإن كان ما هو مستعمل الآن، لكن أتخذه؛ لأنه رُبَّما أحتاجه فأبيعه، ربما أحد يستعيره مني، ربما أن اللي عندي يخرب، ربما إنه يأتيني ضيوف ما يكفيهم اللي عندي، فالمهم أن الاتخاذ جائز، والاستعمال جائز.
قال المؤلف: (إلا آنية ذهب وفضَّة ومضببًا بهما).
من القواعد الفقهية يقولون: إن الاستثناء معيار العموم؛ يعني معناه إذا استثنيت؛ فمعنى ذلك أن ما سوى ها الصورة فهو داخل في الحكم، وعلى هذا فكلُّ شيء يُباحُ اتِّخاذه.
طالب: ( ... ) الاستثناء؟
الشيخ: معيار العموم، الاستثناء معيار العموم؛ يعني ميزانه.
(1/91)
________________________________________
ذكر بعض الفقهاء، قالوا: إلا عظم آدميٍّ وجلده، فلا يُباح اتِّخاذه واستعماله آنيةً؛ وعلَّلوا ذلك بأنَّه محترمٌ بحرمته، وقد قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» (15)، إِسناده صحيح.
يقول: (إلا آنية ذهب وفضة ومُضَبَّبًا بهما، فإنه يحرُمُ اتخاذُها واستعمالُها).
آنية الذهب معروف، هذا المعدن الأحمر الثمين الذي تتعلق به النفوس وتحبه وتميل إليه، وقد جعل الله في فطر الخلق الميل إلى هذا الذَّهب؛ كما قال الشاعر:
اللي عنده ذهب فضلًا عن ذهبه، وكذلك الفضَّة، وهي في نفوس الخلق دون الذَّهب؛ ولهذا كان تحريمُها أخفّ من الذهب.
وقوله: (إلا آنية ذهبٍ وفضَّةٍ) يشمل الصَّغير، والكبير حتى الملعقة، وحتى السِّكين، وما أشبهها.
قال: (ومُضَبَّبًا بهما)، ويش معنى مضبب، ما معنى التضبيب؟
طالب: مرصع.
طالب آخر: التجبير.
الشيخ: لا، يقولون: إن الضبَّة حديدة تجمع بين طرفي المنكسر، هذه الضبة، وهذا يشبه التلحيم، لكنه في الأقداح السابقة، أنا أدركته، ويمكن بعضكم أدركه أيضًا، إذا انكسرت الصحفة من الخشب يخرزونها خرزًا، مخاريط صغيرة دقيقة جدًّا وأشرطة، شِرطان صغيرة، ويحطون على محل الكسر جلدة، عشان ما ينضح الإناء، هذا هو التضبيب، فالمضبب بهما حرام إلا ما استُثني، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(1/92)
________________________________________
إذن أواني الذهب والفضة سواء كانت خالصة أو مخلوطة فإنها حرام، ما هو الدليل؛ لأنا نحن قلنا قاعدة قبل قليل: الأصل الحل إلا بدليل؛ الدليل حديث حذيفة رضي الله عنه: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» (16)، وكذلك حديث أم سلمة: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» (17)، وهذا دليل على أن النهي للتحريم، حديث حذيفة النهي فيه للتحريم لا للكراهة؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توعَّده بنار جهنم، فيكون محرَّمًا، بل من كبائر الذنوب.
(بابُ الآنِيَةِ)
كلُّ إناءٍ طاهرٍ ولو ثَمِينًا يُباحُ اتِّخاذُه واستعمالُه إلا آنيةَ ذهَبٍ وفِضَّةٍ ومُضَبَّبًا بهما فإنه يَحْرُمُ اتِّخَاذُها واستعمالُها ولو على أُنْثَى، وتَصِحُّ الطهارةُ منها إلا ضَبَّةً يَسيرةً من فِضَّةٍ لحاجةٍ. وتُكْرَهُ مُباشَرَتُها لغيرِ حاجةٍ، وتُباحُ آنِيَةُ الكفَّارِ ولو لم تَحِلَّ ذبائِحُهم، وثيابُهم إن جُهِلَ حالُها، ولا يَطْهُرُ جِلْدُ مَيْتَةٍ بدِباغٍ، ويُباحُ استعمالُه بعدَ الدبْغِ في يابِسٍ من حَيوانٍ طاهرٍ في الحياةِ، ولَبَنُها وكلُّ أجزائِها نَجِسَةٌ غيرَ شَعَرٍ ونحوِه، وما أُبِينَ من حيٍّ فهو كمَيْتَتِه.
كتابًا وبابًا وفصلًا.
فالكتاب: عبارة عن جملة أبواب تدخل تحت جنس واحد، والباب نوع من ذلك الجنس مثلما نقول: (حَبّ) يشمل: البُرَّ والشعير والذُّرة والرز لكن البُرَّ شيء، والشعير شيء آخر.
كتاب الطهارة يشمل كل جنس يصدق عليه أنه طهارة، أو يتعلق بها.
لكن الأبواب أنواع من ذلك الجنس.
أما الفصول: فهي عبارة عن مسائل تتميز عن غيرها ببعض الأشياء، إما بشروط أو بتفصيلات.
وأحيانًا يُفَصِّلُون الباب لطول مسائله، لا لانفراد بعضها في حكم خاص، ولكن لطول المسائل يكتبون فصولًا.
(1/93)
________________________________________
(الآنية): جمع إناء، وهو الوعاء، وعاء الشيء أي: إناء الشيء، يعني: الإناء هو الوعاء، وذكرها المؤلف هنا، وإن كان لها صلة بباب الأطعمة؛ لأن الأطعمة أيضًا لا تؤكل إلا بأوانٍ؛ فباب الآنية لها صلة بباب الأطعمة الذي يذكره الفقهاء في آخر الفقه، وله صلة هنا في باب المياه؛ لأن الماء -كما تعلمون- جوهر سيَّال لا يمكن حفظُه إلا بالإناء؛ فلهذا ذكروه بعد باب المياه.
ومعلوم أن من الأنسب إذا كان للشيء مناسبتان أن يُذْكَر في المناسبة الأولى؛ لأنه إذا أُخِّرَ إلى المناسبة الثانية فاتت فائدته في المناسبة الأولى لكن إذا قُدِّمَ في المناسبة الأولى لم تفت فائدته في المناسبة الثانية اكتفاء بما تقدم.
(الآنية): الأصل فيها الحِل؛ لأنها داخلة في عموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ومنه الآنية؛ لأن الآنية من الأرض، نعم ربما يَعْرِض فيها شيء يوجِب تحريمها، كما لو اتُّخِذَت على صورة حيوان مثلًا فهنا تَحْرُم؛ لا لأنها آنية، ولكن لأنها صارت على صورة محرَّمة، وإلا فالأصل فيها الحل.
والدليل ما ذكرتُ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} هذا من القرآن، ومن السُّنَّة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ» (1)، وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» (2).
الأصل في الأشياء الإباحة وفي العبادات التحريم إذن فالأصل فيما سَكَتَ الله عنه الحل إلا في العبادات؛ في العبادات الأصل التحريم؛ لأن العبادات طريق موصل إلى الله عز وجل؛ فإذا لم نَعْلَم أن الله وضعه طريقًا إليه حَرُم علينا أن نتَّخذه طريقًا.
(1/94)
________________________________________
وكما دلت الآيات والأحاديث على أن العبادات موقوفة على الشرع؛ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] دلَّ هذا على أن ما يَدين به العبد ربه لا بد أن يأذن الله به، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (3) لكن في هذا الباب ..
طالب: ( ... ) وجه الدلالة؟
الشيخ: ( ... )؟
إن الأصل في الأواني الحِلَّ بدلالة الكتاب والسنة، وعلى هذا فإذا اختلفنا في شيء هل هو حلال أو حرام؟ فنقول لمن قال: إنه حرام: عليك الدليل؛ لأن الأصل عندنا.
ولا فرق بين أن تكون الأواني كبيرة أو صغيرة، يباح الكبير والصغير؛ قال الله تعالى عن سليمان: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13].
(الجوابِ) ما هي؟ الجابية: برك، الجفنة مثل الصحفة، {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} ما تُحْمَل ولا تُشَال؛ لأنها كبيرة راسِيَة، ولكثرة ما يُطْبَخ فيها لا تُحْمَل، تَبْقَى على ما كانت عليه، فلا فرق بين الصغير والكبير، لكن إذا خرج ذلك إلى حدِّ الإسراف صار محرَّمًا لغيره، لماذا؟ للإسراف إن الله لا يحب المسرفين.
***
(1/95)
________________________________________
قال المؤلف: (كل إناء طاهر)؛ احترازًا من الإناء النَّجِس؛ فإن النجس لا يجوز استعماله؛ لأنه نَجِسٌ قذر، وفي هذا الذي قاله المؤلف نظر، فإن الإناء النجس يباح استعماله إذا كان على وجه لا يتعدىلنجس يُباح استعمالُه إذا كان على وجه لا يتعدَّى، فلا حرج في استعماله، كما سيأتينا إن شاء الله تعالى في مسألة الجلد، قبل الدبغ أو بعد الدبغ، فإذا استعمل على وجه لا يتعدَّى فإنه لا حرج فيه، والدليل على ذلك حديث جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال حين فتح مكة: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وِالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؟ فَإِنَّهَا تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُود، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، قَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ» (4). فأقرَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام هذا الفعل مع أن هذه الأشياء نجسة، فدل ذلك على أن الانتفاع بالشيء النجس إذا كان على وجه لا يتعدى لا بأس به.
وقوله: (ولو ثمينًا) (لو): هذه إشارة خلاف؛ يعني: ولو كان غاليًا مرتفعَ الثمن مثل أيش؟ كالجواهر، والزُّمرد، والماس، وما أشبه ذلك فإنه يُباحُ اتخاذُه واستعماله.
وقال بعض أهل العلم: إن الثمين لا يُباح اتخاذُه واستعمالُه؛ لما فيه من الخيلاء والإسراف؛ وعلى هذا القول يكون التحريم فيه لذاته ولّا لغيره؟ لغيره، وهو كونه إسرافًا وداعيًا إلى الخيلاء والفخر، فيكون من هذه الناحية محرَّمًا؛ لا لأنه ثمين.
وقوله: (يُباحُ اتخاذُه) هذا خبر المبتدأ، أين المبتدأ؟ (كُلُّ)، والتركيب هنا فيه شيء من الإيهام؛ لأن قوله: (يُباحُ اتِّخاذُهُ واستعمالُه)، قد يَتَوهَّم الواهم أنها صِفة لا أنها خبر، ويتوقع الخبر؛ ولهذا لو قال المؤلف: يُباحُ كُلُّ إناءٍ طاهر ولو ثمينًا؛ يباح اتخاذُه واستعماله لكان أولى، ولكن على كل حال المعنى واضح.
(1/96)
________________________________________
قال: (يُباحُ اتِّخاذُه واستعمالُه)، هل هناك فرق بين الاتخاذ والاستعمال؟ نعم؛ اتخاذه: إنه يُقْتَنى فقط؛ إما للزينة، وإما لاستعماله في حال الضرورة، وإما للبيع فيه والشراء، وما أشبه ذلك، هذا الاتخاذ.
وأما الاستعمال: فهو التلبُّس بالانتفاع به؛ يعني يبدأ يستعمله فيما يستعمله فيه.
فإذن اتخاذ الأواني جائز، طيب لو زادت على قدر الحاجة؟
الجواب: نعم، ولو زادت على قَدْرِ الحاجة، يعني: لو فُرِض أن إنسانًا عنده إبريق شاهي يكفيه، وبغى يشتري إبريقًا آخر، يجوز؟
طلبة: نعم.
الشيخ: يجوز اتخاذه، وإن كان ما هو مستعمل الآن، لكن اتخذه لأنه ربما أحتاجه فأبيعه، ربما أحد يستعيره مني، ربما أن اللي عندي يخرب، ربما إنه يأتيني ضيوف ما يكفيهم اللي عندي.
فالمهم أن الاتخاذ جائز والاستعمال جائز.
***
قال المؤلف: (إِلَّا آنيةَ ذَهَبٍ وفضة وَمُضَبَّبًا بهما)، من القواعد الفقهية يقولون: أن الاستثناء مِعْيار العموم؛
يعني: معنى إذا استثنيت فمعنى ذلك إن ما سوى ها الصورة فهو داخل في الحكم، وعلى هذا فكل شيء يباح اتخاذه، الاستثناء معيار العموم؛ يعني: ميزانه.
ذكر بعض الفقهاء قالوا: إلا عَظْمَ آدمِيٍّ وجِلْده، فلا يباح اتخاذُه واستعماله آنيةً، وعلَّلُوا ذلك بأنه محترم بحرمته، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «كَسْرُ عَظْمِ مَيِّتٍ كَكَسْرِهِ حَيًّا» (5) إسناده صحيح.
يقول: (إِلَّا آنيةَ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَمُضَبَّبًا بِهِما، فإنه يَحْرُم اتخاذُها واستعمالُها) (آنية الذهب) معروف هذا المعدن الأحمر الثمين الذي تتعلق به النفوس وتحبُّه وتميل إليه، وقد جعل الله في فطر الخلق الميل إلى هذا الذهب؛ كما قال الشاعر:
رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ ذَهَبُوا
إِلَى مَنْ عِنْدَهُ ذَهَبُ
(1/97)
________________________________________
اللي عنده ذهب فضلًا عن ذهبه، وكذلك الفضة، وهي في نفوس الخلق دون الذهب؛ ولهذا كان تحريمُها أخفَّ من الذهب.
وقوله: (إلا آنيةَ ذهبٍ وَفِضَّةٍ) يشمل الصغير والكبير، حتى الملعقة وحتى السكين وما أشبه.
قال: (ومُضَبَّبًا بهما)، ويش معنى مُضَبَّب، ما معنى التضبيب؟
طلبة: التجبير.
الشيخ: لا، يقولون: إن الضَّبَّة: حديدة تجمع بين طَرَفَي المنكسر، وهذا يشبه التَّلْحِيم، لكنه في الأقداح السابقة -أنا أدركته ويمكن بعضكم أدركه أيضًا- إذا انكسرت الصَّحْفَة من الخشب يَخْرِزُونها خَرْزًا؛ مخاريق صغيرة دقيقة جدًّا وشُرْطَان صغيرة ويُحطون على محل الكسر جِلْدة، عشان ما يَنْضح الإناء، هذا هو التضبيب فالمضبَّب بهما حرام، إلا ما استثني، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
إذن أواني الذهب والفضة، سواء كانت خالصة أو مخلوطة فإنها حرام؛ ما هو الدليل؟
نحن قلنا قاعدة قبل قليل، الأصل الحِل إلا بدليل، الدليل: حديث حذيفة رضي الله عنه: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» (6).
وكذلك حديث أم سلمة: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» (7)، وهذا دليل على أن النهي للتحريم، وحديث حذيفة النهي فيه للتحريم لا للكراهة وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توعَّدَه بنار جهنم، فيكون محرَّمًا بل من كبائر الذنوب، هذا هو الدليل.
إذا قيل: المُضَبَّب بهما، لو قال قائل: الحديث في الآنية نفسها؟
فالجواب: أنه ورد في حديث رواه الدارقطني: أَنَّه من شَرِب في آنية الذَّهب والفِضَّة، أو في شيء فيه منهما (8).
(1/98)
________________________________________
وأيضًا: المحرم مَفْسَدة، فإن كان خالصًا فمفسدتُه خالصة، وإن كان غيرَ خالص ففيه بقدر هذه المفسدة؛ ولهذا المحرم يحرم قليلُه وكثيرُه، كل شيء مُحَرَّم حَكَم الشارع بأنه مُحَرَّم فإنَّه حَرامٌ قليلُه وكثيرُه هذا وجه.
***
قول المؤلف: (أَوْ مُضَبَّبًا بهما) قال: (فَإِنَّهُ يَحْرُم اتخاذُها واستعمالُها) قوله: (اتخاذها) (واستعمالها) بينهما فرق؟ بينهما فرق كما تقدم.
وعندنا هنا ثلاث حالات: اتخاذ، واستعمال، وأكل وشرب، ثلاث أشياء.
أما الاتخاذ: فهو على المذهب حرام، كما قال المؤلف، وفيه قول آخر في المذهب أيضًا؛ في مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
وحكي عن الشافعي أنه ليس بحرام؛ اتخاذ أواني الذهب والفضة، وهو قولٌ في مذهب الإمام أحمد.
الثاني: الاستعمال وهو محرَّم في المذهب قولًا واحدًا؛ إنه يَحْرُم استعمالُه في غير الأكل والشرب، مثل أيش؟
طالب: الوضوء.
الشيخ: إي، مثل الوضوء فيها، يحفظ بها أشياء من أدوية أوغيرها، وما أشبه ذلك، هذا حرام، قولًا واحدًا في المذهب.
أما الثالث: الأكل والشرب بها فإنه حرامٌ بالنص، بعضهم حكى الإجماع أيضًا، الأكل والشرب فيها، بعضهم حكى الإجماع على التحريم ولا شك، أن النص ظاهر فيه، ولا يمكن أحدٌ أن يقول: إن الأكل والشرب في الذهب والفضة جائز، مع وجود الحديث الصريح في النهي، وفي الوعيد أيضًا.
إذن الأكل والشرب لا شك في تحريمه.
الاستعمال في غير الأكل والشرب؛ المذهب قولًا واحدًا أنه حرام.
(1/99)
________________________________________
الاتخاذ في المذهب قولان؛ هل يحرم أو لا يحرم؟ والصحيح: أن الاتخاذ والاستعمال في غير الأكل والشرب ليس بحرام؛ أن استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب ليس بحرام، وكذلك الاتخاذ من باب أولى؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شيء مخصوص وهو الأكل والشرب، ولو كان المحرَّمُ حتى غير الأكل والشرب لكان النبي عليه الصلاة والسلام، أبلغ الناس وأبينُهم في الكلام ما يخصُّ شيئًا دون شيء، بل إن تخصيصه الأكل والشرب دليل على أن ما عداهما جائز؛ لأن الناس ينتفعون بهما -بالذهب والفضة- في غير ذلك.
ولو كانت الآنيةُ حَرامًا مُطلقًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتكسيرِها، كما كان عليه الصلاة والسلام لا يَدَع شيئًا فيه تصاوير ولا تصيلبًا إلا كَسَرَه، فلو كانت الآنيةُ محرَّمَة لكان يأمُر بكسْرِها؛ لأنه إذا كانت محرمة في كل الحالات؛ في الاتخاذ والاستعمال وفي الأكل والشرب إذن ليس لبقائها فائدة، ليس لها إلا التكسير.
ويدلُّ لذلك أن أمَّ سلمة -وهي راوية الحديث- كان عندها جُلْجُل من فضة -الجلجل شيء يشبه الطابوق- جَعَلَتْ فيه شَعَرَاتٌ من شعر النبي عليه الصلاة والسلام، فكان الناس يستشفون بها، إذا مرض أحدٌ أو أصابه أَلَمٌ يبعثون إليها بماء وتجعله في هذا الجلجل وتُخَضْخِضُه بالشَّعَرَاتِ ثم تُعْطِيه المريضَ فيُشْفَى بإذن الله عز وجل، وهذا الحديث عنها صحيح في البخاري، وهي راوية الحديث، وهذا استعمال له ولَّا لا، استعمال له لكن في غير الأكل والشرب، فالصحيح أنه لا يَحْرُم إلا ما حرَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الأواني، وهو الأكل والشرب.
(1/100)
________________________________________
فإن قال قائل: حَرَّمَها الرسولُ في الأكل والشرب؛ لأنه هو الأغلب استعمالًا؛ وما عُلِّقَ به الحكمُ لكونِهِ أَغْلَب فإنه لا يَقْتَضِي تَخْصِيصُه به كما في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23]، فقَيَّد تحريمَ الرَّبِيبةِ بكونها في الحَجْر، وهي مع ذلك تَحْرُم وإن لم تكن في حَجْرِه على قول أكثر أهل العلم؟
قلنا: هذا صحيح، لكن كون الرسول عليه الصلاة والسلام يُعَلِّق الحكم بالأكل والشرب؛ لأن مظهر الأمة في الترف في الأكل والشرب أبلغ منه في مظهرها في غير ذلك، وهذه علة تقتضي تخصيص الحكم بالأكل والشرب؛ لأنه لا شك أن الإنسان اللي أوانيه في الأكل والشرب ذَهَبٌ وفِضَّة، ما هو مثل الإنسان الذي يستعملها في حاجاتٍ أخرى تخفى على كثير من الناس، ولا يكون مظهر الأمة الإسلامية هو التفاخر بالذهب والفضة.
طالب: ( ... )
الشيخ: ما هي نص ما هو بيشرب منه، نخضخضه ثم نَصُبُّه للمريض ويشرب، ما هو يشرب من هذا.
طالب: ما يمكن يَحْرُم، يعني: بصرف النظر عن ها الحديث؛ لأنه سرف، هذه آنية سرف؟
الشيخ: هو إذا حَرُم لغيره لا بأس، والكلام على إنه إذا حرم لغيره؛ إذا وصل إلى حد السَّرف حرم من جهة الإسراف، ولهذا مثلًا الآن اللي بيتخذ إناء من هذا الثمين البلاتين، وعند الناس أشد من الذهب، ومع ذلك هو حلال، لكن لو فُرِضَ إنه خرج إلى حد الإسراف، وقيل: إن هذا من باب الإسراف ولكن الناس يعتادونه صار حرامًا لغيره، فالكلام على أصل الإباحة، وأما ما حَرُمَ لغيره فهذا باب واسع.
كل الأشياء المباحة إذا تضمنت مُحَرَّمًا صارت حرامًا من باب الوسائل.
طالب: ( ... ) في الإجماع؛ الإجماع حكي فيها؛ تعيين الزمان ( ... ).
الشيخ: لا غير صحيح، الشوكاني رده، وقال: هذا ما هو بصحيح.
طالب: ( ... )؟
الشيخ: فيها ضعف، لكن لها قوة؛ ولهذا أنا أردفتها بالقاعدة: إن الشيء المحرم يحرم سواء كان خالصًا أو مشتركًا.
(1/101)
________________________________________
بقينا قول المؤلف: (ومضببًا بهما فإنه يحرم اتخاذه واستعماله) يشمل الرجال والنساء، فلا يجوز للمرأة أن تستعمل أواني الذَّهَبِ والفضة كما لا يجوز للرجل.
فإن قال قائل: أليس يجوز للمرأة أن تَتَحَلَّى بالذهب؟
فالجواب: يجوز لها أن تتحلى بالذهب، ولكن الرجل لا يجوز له ذلك، والفرق أن المرأة في حاجة إلى أن تتجمل وتتزين، وتَجَمُّلُها وتَزَيُّنُها ليس لها وحدها، بل لها ولزوجها أيضًا، فهو من مصلحة الجميع، والرجل ليس بحاجة إلى ذلك؛ فالرجل طالب لا مطلوب، والمرأة مطلوبة؛ ولهذا تجد أكثر ما تكون النصوص مُوُجَّهَة للرجال، لأنهم هم الذين لهم القوام على النساء وهم الطالبون.
كثيرًا ما -بالمناسبة- يحصل إشكال، لماذا يَذْكُر الله عز وجل الأزواج للرجال في الجنة والحور العين، ولا يذكر للنساء شيئًا، ويش الجواب؟ الجواب ما ذكرنا هو أن المرأة مطلوبة لا طالبة، وهي بلا شك سيأتيها في الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ولن تختار إلا ما اختار الله لها.
الحاصل أنا نقول: إن تحريم الأواني عامٌّ للذكور والإناث؛ لأنه لا داعي إلى إباحته للنساء بخلاف اللباس والتَّجَمُّل فإنه يباح للنساء.
***
يقول: (فإنه يحرم اتخاذه واستعمالها ولو على أنثى، وتصح الطهارة منها)، منين؟
طلبة: من آنية الذهب والفضة.
طالب: من المُضَبَّب.
الشيخ: لا، من الآنية، من آنية الذهب والفضة؛ يعني: لو كان الإنسان جاعلًا له للوضوء فقط إناءً من ذهب، توضأ به، قال: بأحضر الإناء من الذهب أتوضأ به، صار يتوضأ من هذا الماء، يصح؟
طالب: نعم.
الشيخ: الطهارة تصح، لكن الاستعمال حرام، الاستعمال محرم.
وقال بعض العلماء: إن الطهارة لا تصح، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن التحريم هنا لا يعود إلى نفس الوضوء، ولَّا لا؟ وإنما يعود إلى الاستعمال مطلقًا.
(1/102)
________________________________________
نعم لو توضأ بماء محرم فهذا هو الذي فيه خلاف قوي، أما هذا فالخلاف فيه ضعيف؛ لأن الإناء ليس شرطًا في الوضوء، ولا تتوقف صحة الوضوء على هذا الإناء، لو جَعَلَ الماء في إناء آخر استقام أمره، ولو وَجَد الماء في الأرض وتوضأ منه استقام أمره؛ فلهذا تصح الطهارة منها.
طيب، هل تصح الطهارة بالآنية؟
طالب: تصح.
الشيخ: وتصح فيها؟
طلبة: لا ما تصح.
الشيخ: وتصح إليها؟
هم قالوا: تصح منها، وفيها، وبها، وإليها؛ تصح الطهارة منها؛ بأن يَغْتَرِف منها، الإناء بالأرض يَغْتَرِف منها.
وبها؛ بأن يجعلها آلةً يصب بها، مثلما تكون مغرفة، يغرف بآنية من ذهب ويصب على ذراعه، ويصب على رجليه، الآن تَطَهَّر بها، منها؛ إذا غرف.
فيها؛ تكون واسعة كبيرة وينغمس في وسطها، وإلا يغمس الذراع فيها مثلًا.
وإليها؛ بأن يكون الماء الذي يَنْزِل منه ينزل في إناء من ذهب.
شوف الفرق؛ حروف الجر -سبحان الله العظيم- كيف تُغَيِّر المعنى هذا التغير؟ !
وهذا دليل على أن اللغة العربية فِقْهُها جدًّا قوي، فقه اللغة العربية ومعرفة معاني الحروف ومتعلقاتها مهم جدًّا، له غور بعيد.
إليها؛ بمعنى أن يصب ماء الوضوء اللي يتقاطر من يديك أو من وجهك على هذا الإناء.
طالب: ( ... ).
***
الشيخ: يقول: (إلا ضَبَّةً يَسِيرةً مِنْ فِضَّةٍ لحاجة) هذا مستثنى من قوله: (يَحْرُم اتخاذها واستعمالها).
(إلا ضبةً يسيرةً من فضة لحاجة) الشروط أربعة: ضبةً، يسيرةً، من فضة، لحاجة، إذا تمت الشروط الأربعة جاز؛ الدليل ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أَنَّ قَدَحَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم انكسر فاتَّخَذَ مكان الشَّعْبِ سِلْسِلَةً من فِضَّة (9).
(الشَّعْب) يعني: الشق، (سلسلة من فضة) هذا الدليل وعلى هذا فيكون هذا الحديث مُخَصِّصًا لما سبق.
إذا قال قائل: من أين اتخذتم اشتراط أن تكون يسيرة؟
(1/103)
________________________________________
قلنا: لأن هذا هو الغالب في القدح، القدح صغير، ما يشرب به، والغالب أنه إذا انكسر، ما يحتاج إلى شيء كثير، والأصل التحريم ولَّا الحل في الفضة؟
طلبة: التحريم.
الشيخ: التحريم، فنقتصر على ما هو الغالب، أو المتيقن.
وقوله: (ضَبَّة) إذا قال قائل: أنتم قلتم: (ضَبَّة)، وهي ما يُجْبَر بها الإناء، لو جعل الإنسان على خرطوم الإبريق فضة؛ يجوز ولَّا لا؟
طالب: لا، ما يجوز.
الشيخ: ما يجوز؛ لأن هذا ليس لحاجة، وليس ضبة، هذا عبارة عن تمويه أو زيادة إلحاق.
إذا قال قائل: لماذا اشترطتم من فضة: ( ... ) ما تقيسون الذهب على الفضة؟
نقول: لورود النص؛ النص ما ورد إلا في الفضة فقط، ثم إن الذهب أغلى وأشدُّ تحريمًا؛ ولهذا في باب اللباس حَرُمَ على الرجل الخاتم من الذهب، وأبيح له الخاتم من الفضة، فَدَلَّ هذا على أن الفضة أهون، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في باب اللباس قال: الأصل في الفضة الإباحة، وأنها حلال للرجال، إلا ما قام الدليل على التحريم.
يعني: ما فيها عمومات؛ في الفضة عمومات تدل على تحريمها على الرجال، فالأصل الحِلُّ، وهذا باب إن شاء الله يأتينا البحث فيه.
والكلام على أننا نقول: الذي ورد فيه هو الفضة، ولا يمكن قياس الذهب عليها.
وأيضًا معنى آخر: لو كان الذهب جائزًا لكان النبي عليه الصلاة والسلام يَجْبُر به الكسر؛ لأن الذهب أبعد من الصدأ، تعرفون الصدأ، ما يصدأ الذهب، والفضة تصدأ؛ ولهذا لمَّا اتَّخذ بعض الصَّحابة أنفًا من فِضَّة أنتن -قُطِعَ أنفُه في إحدى المعارك- فَاتَّخَذ أنفًا من فضة فَأَنْتَن، فأمرَهُ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أن يتَّخذ أنفًا من ذهب (10)؛ لأنه لا ينتن.
فلو كان الذهب جائزًا لكان أوفق بأن يُجْعَل في مكان هذا الشَّعب.
(لحاجة) ويش دليلكم على اشتراط الحاجة؟ الكسر؛ الرسول ما اتخذها إلا لما انكسر؛ والكسر لا شك إنه لحاجة، فعلى هذا، الشروط الأربعة، مأخوذة منين؟ من الحديث.
(1/104)
________________________________________
أربعة شروط: ضَبَّة، يَسيرة، من فضة، لحاجة.
إذا كانت غير ضَبَّة فهي حرام، وكثيرة حرام، من ذهب حرام، لغير حاجة حرام.
فما هي الحاجة؟ أن يَتَعَلَّق بها غَرَضٌ غير الزينة؛ يعني: ألَّا يتخذها زينة، وليست الحاجة: أَلَّا يَجِد ما يَجْبُر به الكَسْرَ سواها؛ لأن هذا ما هو حاجة، هذا ضرورة، عرفتم؟
الحاجة معناها؟ ألَّا يتخذها زينة، وتعبيرهم أن يتعلق بها غرض غير الزينة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وليس المعنى أَلَّا يجد غيرها ما يجبر به؛ فإن هذه ضرورة وهي تبيح المنفرد، لو اضطر الإنسان إلى أن يشرب بآنية الذهب، ما في مانع يشرب؛ لأنها ضرورة، وإن قال قائل: ما يتصور الضرورة في الإناء؟ فالجواب لا، يتصور، يتصور؟
طلبة: إي، مقطوع يديه، يتصور.
الشيخ: لا ما هو مقطوع يديه، اللي عنده يدين الواضح ( ... ) على عشرين أصبعًا ما يخالف، فيه يَدَيْن، وفيه كل شيء، لكن واحد بيطبخ طعامًا، ويش يُسَوِّي؟ يطبخ على يديه؟ ! ما يمكن، يطبخ بخشب؟ ! ما يمكن، يشتري، فيه أواني من الذهب؟ ما يقدر، فيه أوانٍ أخرى ما عنده قيمة، فيحنئذ يكون الضرورة متصورة.
طالب: في ماء من الحنفية ( ... ).
الشيخ: إي نعم، ولو يَنْزِل هو من شق ما طَلَّع شيئًا، ولا عنده الآن إلا هذه يكون ضرورة.
طالب: الضرورة تبيح المحظور، والحاجة تبيح أو تجيز الحرام، هنا قال: يعني تعبيره، أنه يجوز للحاجة.
الشيخ: صحيح، إحنا ذكرنا من قبل قاعدة: أن المحرم للوسيلة إذا كان تحريمه تحريم وسائل فإن الحاجة تبيحه.
قلنا فيه قاعدة، إنه إذا كان الشيء محرمًا من باب تحريم الوسائل فإن الحاجة تبيحه، ومثَّلنا ( ... ) أشياء؛ بنظر المخطوبة مثلًا، ومثلَّنا بالعرايا، ويُمَثَّل أيضًا بهذا؛ لأن هذا إنما حرم ما فيه شيء منهما لئلا يكون وسيلة إلى اتخاذه الكامل.
***
(1/105)
________________________________________
مباشرة الضَّبَّة اليسيرة تُكْره لغير الحاجة؛ فإن احتاج إلى ذلك فلا، ما معنى مباشرتها؟ معنى مباشرتها أن الإنسان إذا أراد أن يشرب من هذا الإناء المضبَّب شرب من عند الضبة، فيباشرها بشفتيه، هذا معناه، هذا معنى قوله: (تُكْرَه مباشرتُها) مع أنها هي حلال ولا حرام؟ هي حلال، لكن يقول: لا يُبَاشِر هذه الفضة، يكره.
والمكروه عند الفقهاء: هو ما نُهِيَ عنه لا على سبيل الإلزام بالترك، وحكمه: أنه يثاب تاركُه امتثالًا، ولا يعاقَب فاعله، بخلاف الحرام؛ الحرام فاعله يستحق العقوبة، لكن المكروه لا يستحق، وهذا في اصطلاح الفقهاء رحمهم الله.
أما في القرآن والسُّنَّة؛ فإن المكروه يأتي للمحرم؛ ولهذا لما عدَّدَ الله -عز وجل- أشياء محرمة في (سورة الإسراء) قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]. وفي قراءة {سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}؛ فيكون المكروه في القرآن والسُّنَّة غير هذا؛ غير المكروه عند الفقهاء.
كذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» (11)، وهذا حرام.
وعلى هذا فنقول: المكروه عند الفقهاء تعريفه: ما نُهِيَ عنه لا على سبيل الإلزام بالترك، حكمه يثاب تاركُه امتثالًا، ولا يعاقَب فاعلُه.
إذن هو حكم شرعي، الكراهة حكم شرعي، لا يمكن لأحد أن يُثْبِتَها إلا بدليل، فمن أثبتها بغير دليل، فإننا نَرُدُّ قولَه، كما لو أَثْبَتَ التَّحْريمَ بلا دليل، فإننا نردُّ قولَه.
(1/106)
________________________________________
لننظر الآن بناءً على هذه القاعدة كلام المؤلف: (تُكْرَه مباشرتُها) أي: مباشرة الضَّبَّة المباحة (لغير حاجة)، فإن احتاج إليها بأن كان الإناء يتدفق لو لم يشرب من هذه الجهة، احتاج أن يشرب من هذه الجهة، أو مثلًا هو جاء بالإناء وجعله على النار، لأجل يسخن، وصارت الجهة اللي ما فيها الضبة حارة ما يستطيع، وشرب من الجهة عند الجهة الباردة اللي فيها الضبة، هذه حاجة ولا لا؟ يشرب، ولا كراهة.
فإن لم يحتج فكلام المؤلف صريح في أنه مكروه، ولكن الصواب: أنه ليس بمكروه، وأنه يجوز أن يُباشِرَها؛ لماذا؟ لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل، وما دام قد ثبت أن هذه الضَّبَّة مباحة بمقتضى النص؛ حديث أنس: أن قدح النبيِّ عليه الصلاة والسلام انكسر، فاتَّخَذَ مكان الشَّعْب سلسلة من فِضَّة (12) هذا مباح بمقتضى النص، فإذا كان مباحًا، فما الذي يجعل مباشرتُه مكروهةً؟
وهل ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يَتَوقَّى هذه الجهة مِنْ قَدَحِهِ؟ لا، وحينئذ؛ فالصحيح أنه لا كراهة؛ وذلك لأن هذا شيء مباح، ومباشرة المباح مباحة.
قال المؤلف رحمه الله: (وَتُباحُ آنيةُ الكفار -ولو لم تَحِلَّ ذبائحُهم- وثيابُهم).
أولًا: (آنية) بالرفع على أنها نائب فاعل.
(ولو لم تَحِلَّ ذبائحُهم)، ذبائح؛ بالرفع على أنها فاعل.
(وثيابهم)، بالرفع على أنها معطوفة على (ذبائحهم)؛ لأنها أقرب مذكور، أو على (آنية)؟ على آنية؛ يعني: وتباح ثيابهم؛ ولهذا لو قال المؤلف رحمه الله: (وتباح آنية الكفار وثيابهم إن جُهِلَ حالُها) ولو لم تَحِلَّ ذبائحُهم لكان أسلم من هذا الاشتباه الذي قد يشتبه على بعض الناس.
والمهم أن قوله: (آنيةُ الكفار) نائب فاعل، (وثيابُهم) معطوف عليها.
(1/107)
________________________________________
قال المؤلف: (آنيةُ الكفار) الكفار يشمل الكافر الأصلي والكافر المرتد، فلو وجدنا شخصًا في بيتٍ وحده وهو لا يصلي -والعياذ بالله- فهو كافر، يدخل في هذا الحكم؟ نعم، يدخل في هذا الحكم؛ يعني: لنا أن نأكل في آنيته وأن نشرب في آنيته وأن نلبس ثوبه، ولو كان كافرًا؛ لأن المؤلف هنا قال: الكفار، فيشمل كلَّ كافر سواء كان أصليًّا أم مرتدًّا.
اليهود والنصارى يدخلون في ذلك؟ نعم؛ ولهذا قال: (ولو لم تحل ذبائحهم) إشارة إلى أن اليهود النصارى من باب أولى؛ لأن اليهود والنصارى تحلُّ ذبائحُهم، الدليل قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] {طَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} المراد به: ذبائحهم، كما فسر ذلك ابن عباس رضي الله عنه، وليس المراد خُبْزُهم وشعيرُهم وما أشبه ذلك؛ لأن هذا حلال لهم ولغيرهم، يعني: حتى من غيرهم يجوز أن نأكله، لكن المراد بالآية: {طَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هو ذبائحهم فهي حلال اليهود والنصارى.
المجوس لا تَحِلُّ ذبائحُهم، الوثنيون الدَّهْرِيُّون ما تحل ذبائحُهم ما تحل إلا ذبيحة اليهود والنصارى، أما آنية الكفار فتَحِلُّ.
فإذا قال قائل: ما هو الدليل؟
قلنا: الدليل عموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ثم إن أهل الكتاب إذا كان الله قد أباح لنا طعامهم، فمن المعلوم أنهم يأتون به إلينا أحيانًا مطبوخًا بأوانيهم، ثم إنه ثبت أيضًا أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعاه غلامٌ يهوديٌّ على خبز شعير، وإِهالَةٍ سَنِخَة (13).
(1/108)
________________________________________
ثم إن الجراب الذي رُمي به في خيبر وأخذه عبدُ الله بن المغفَّل رضي الله عنه فالتَفَتَ فإذا النبي عليه الصلاة والسلام خلفه يضحك وأكله (14)؛ جراب من شحم، ثم إن الشَّاة المسمومة التي أُهديت للرسول عليه الصلاة والسلام في خيبر (15). كل هذا يدل على أن ما باشروه فهو طاهر ولَّا نجس؟
طلبة: طاهر.
الشيخ: إذن تباح آنيتُهم، ولكن ورد في حديث أبي ثعلبة الخشني أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «لَا تَأْكُلُوا فِيها إِلَّا أَلَّا تَجِدُوا غَيْرَهَا؛ فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيها» (16).
فهذا يدل على أن الأولى التَّنَزُّه، ولكن كثيرًا من أهل العلم حملوا هذا الحديث على أناس عُرِفُوا بمباشرة النجاسات من أكل الخنزير، ونحوه، فقالوا: إن هؤلاء مَنَعَ الرسول عليه الصلاة والسلام من الأكل في آنيتهم إلا إذا لم نجد، فإننا نغسل ذلك، ونأكل فيها.
وهذا الحمل جَيِّدٌ؛ لأن هذا مقتضى قواعد الشرع، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توضَّأ وأصحابُه توضَّؤوا من مَزَادَةِ امْرَأَةٍ مُشْرِكَةٍ (17)، وهي التي عبت الماء فيها وحملته ( ... ).
وقوله: (وَثِيابُهم)، أي: تُباح ثيابُهم، ويش معنى ثيابُهم؟ يعني: ما صنعوه أو ما لبسوه أو الأمران؟ الأمران، ثيابُهم التي صنعوها تحل، والتي صبغوها تحل، ما نقول: لعلهم صبغوها بصبغ نجس؛ أو نسجوها بمنساج نجس؛ لا الأصل الحل، وكذلك ما لبسوه من الثياب فإنه يحل لنا لُبْسُه، ولكن مَنْ عُرِفَ منهم بعدم التَّوَقِّي من النجاسات فإن الأولى التَّنَزُّه عن ثيابه بناءً على ما يقتضيه حديث أبي ثعلبة الخشني (12) رضي الله عنه.
(1/109)
________________________________________
مثل مَنِ الذين لا يَهْتَمُّون بالنجاسات؟ مثل النصارى؛ يقول أهل العلم: إن النصارى لا يَهْتَمُّون بالنجاسات، يتلوَّث ثوبُه بالنجاسة بالبول، والمرأة بالحيض، ما يهم، عكس اليهود؛ اليهود يقولون: إنه إذا تَنَجَّسَ الثوبُ عندهم قَطَعُوه، قَرَضُوه بالمِقْراض، ولا يمكن أن يغسلوه؛ فجاءت الشريعة هذه -والحمد لله- بين هؤلاء وهؤلاء، وسطًا، لا يُستهان بها ولا يُقْطَع الثوبُ الذي تلوَّث بها، وإنما يُغْسَل، حتى يزول هذا الخبث.
(إن جهل حالها)، وإن عُلِمَ؟
طالب: يُعْمَل بما علموا.
الشيخ: إن عُلِمَ فلا يخلو إما أن أن تُعْلَم طهارتُها، أو تُعْلَم نجاستُها؛ إن عُلِمَت نجاستُها فإنها ما تُسْتَعْمَل، وإن عُلِمَت طهارتُها فلا إشكال فيه، الإشكال فيما إذا جُهِلَت الحال، هل نقول: إن الأصل أنهم لا يَتَوَقَّوْن النجاساتِ وأنها حرام، أو أن الأصل الطهارة حتى يُتَبَيَّن النجاسة. الجواب؟ الأخير؛ ولهذا كلمة: (إن جهل حالها) لها مفهومان؛ المفهوم الأول عُلِمَت طهارتُها، والمفهوم الثاني عُلِمَت نجاستها.
إن عُلِمَت نجاستُها فإنها تُجْتَنَب حتى تُغْسَل، وإن عُلِمَت طهارتُها فالأمر فيها واضح.
طالب: هذا الأصل قبل أن يستعملها عندهم، ولَّا حتى وإن كانت صُنِّعَت يعني؟
الشيخ: حتى المصنوعة والملبوسة عندهم.
***
ثم قال المؤلف: (ولا يَطْهُر جِلْدُ مَيْتَةٍ بِدِباغٍ) الدبغ: معروف، وهو عبارة عن تنظيف الأذى والقذر الذي كان في الجلد بواسطة مواد تضاف إلى الماء، ومنها القَرَظ؛ القَرَظ شيء، أشبه ما له -والله أعلم- اللي يسمونه عندنا (الكرمة)، ما أدري أيش يسمونها عندكم.
على كل حال هذا الدبغ؛ يعني: عبارة عن تنظيف الجلد وإزالة ما يكون فيه من الخبث، فإذا دُبِغَ الجلد فإن المؤلف يقول: إنه لا يَطْهُر بالدِّباغ، وهنا نسأل أولًا: هل جلد الميتة نجس؟
(1/110)
________________________________________
الجواب: فيه تفصيل، إن كانت الميتة طاهرة فَجِلْدُها طاهر، وإن كانت الميتة نجسةً فجلدها نجس، أو لا؟ هل هناك ميتة طاهرة؟
طلبة: نعم.
الشيخ: مثل؟
الطلبة: السمك.
الشيخ: الجراد الظاهر هذا ما له جلد، لكن لا بأس ميتته طاهرة، السمك ميتته طاهرة؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96].
قال ابن عباس: صيده ما أُخِذَ حيًّا، وطعامُه ما أُخِذَ مَيِّتًا (18)، هذا لا إشكال فيه؛ جلده طاهر، وكله طاهر، ولا فيها إشكال.
أما الذي يَنْجُس بالموت فإن جلده يَنْجُس بالموت؛ لأنه داخل في عموم الميتة، أليس كذلك؟ فيكون داخلًا في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ( ... )، ولا يلزم من التحريم النجاسة، القاعدة هذه صحيحة: لا يلزم من التحريم النجاسة، ولهذا السُّمُّ حرام، وليس بنجس، أو لا؟
والتتن (19) حرام وليس بنجس، والخمر حرام وليس بنجس على القول الراجح، فلا يلزم من التحريم النجاسة؛ لأننا نجيب عن ذلك بأن الله عز وجل علَّل لما قال: لا أجد مُحَرَّمًا {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، هذا واضح أنه نجس.
فإذن الميتة.
نجسة وجلدها نجس، ولكن هل إذا دبغناه يَطْهُر أو لا؟
اختلف في ذلك أهل العلم؛ فقال بعض العلماء: إنه لا يَطْهُر، وهو -كما ترون- المذهب: أنه لا يَطْهُر بالدباغ؛ لماذا؟ قالوا: لأن الميتة نجسة العين، ونَجِسُ العين لا يمكن أن يَطْهُر، أو لا؟
لو تجيب مثلًا كلبًا وتغسله بالصابون والماء الحار سبع مرات يَطْهُر؟ ما يَطْهُر، نجس العين لا يَطْهُر، أليس كذلك؟
الروثة؛ روثة الحمار لو بتغسلها بماء البحار، تَطْهُر؟ لا.
(1/111)
________________________________________
فيقولون: إن الجلد إنه عَيْنٌ نَجِسَة، والعين النجسة لا يمكن أن تَطْهُر، وهذا في الحقيقة التعليل واضح جدًا؛ أنه لا يطهر لأن نجاسته عَيْنِيَّة، وأما الذي يَطْهُر بزوال خبثه فهو النجاسة الحكمية، كنجاسة طرأت على ثوب ثم غَسَلْناه حتى ذهبت، هذا واضح أنه يطهر، لكن أما الجلد فلا.
إذن فقد اعتمدوا على قياس واضح؛ أنه لا يَطْهُر بالدباغ.
طيب، هذا واحد قطع قطعة لحم من ميتة، وطبخها حط فيها قَرَظ وكل ما يُنَظِّف، قال: الآن طَهُرَت، ويش تقولون؟
طلبة: ما تَطْهُر.
الشيخ: ما تَطْهُر، إذن الجِلْد مثلها ما يطهر، ولكن هذا القياس في مقابلة النص، ما هو النص؟ حديث ميمونة رضي الله عنها أن الرسول عليه الصلاة والسلام مَرَّ بشاةٍ يَجرُّونها، فقال: «هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهابَها؟ » قالوا: إنها ميتة، قال: «يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ» (20)، وهذا صريح؛ يطهرها الماء والقَرَظ وهي ميتة يجرونها بَرًّا، فقال: خذوا جلدها، فقالوا: إنها ميتة، قال: «يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظ»، بعد هذا نقف ولا لا؟ نقف.
لكن قالوا: هذا الحديث منسوخ؛ لأنه يروى أن عبد الله بن عكيم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلينا قبل أن يموت بشهر أو شهرين: «أَلَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ، بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» (21).
فقالوا: إن هذا الحديث ناسخ لحديث ميمونة، والله عز وجل يمحو ما يشاء ويثبت، الجواب على هذا الحديث:
أولًا: الحديث ضعيف، ولا يمكن يقابل الحديث الذي في مسلم.
ثانيًا: الحديث ليس بصريح في النسخ؛ ليس بناسخ؛ لأن ما ندري هل شاة ميمونة قبل أن يموت بشهر، ربما قبل أن يموت بأيام؟ ومن شرط القول بالنسخ العلم بالتاريخ، إذن ما يتحقق النسخ فيه.
ثالثًا: أنه لو ثبت أنه متأخر، فإنه لا يعارض حديث ميمونة؛ لأن قوله: «لَا تَنْتَفِعُوا بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» يحمل على الإهاب قبل الدبغ، وحينئذ يجمع بينه وبين حديث ميمونة.
(1/112)
________________________________________
وبهذا تَبَيَّنَ أن ادِّعاء النسخ لا يصح؛ لهذه الوجوه الثلاثة؛ ضعف الحديث، وعدم العلم بالتاريخ، وإمكان حمله على ما لم يدبغ؛ فيبقى حديث ميمونة محكمًا لا نسخ فيه.
ولكنه يبقى عندنا مسألة القياس والنظر؛ كيف تقولون: لو دبغت الكبد ما طهرت؛ ولو دُبِغَ الجلد طَهُر؟ وكلها أجزاء ميتة، ونحن نعرف أن الشريعة الحكيمة لا يمكن أن تُفَرِّق بين مُتَماثِلَيْن؟ إذن كيف نتخلص من هذا القياس؟
الجواب على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أنه متى ثَبَت الفرق في القرآن أو السنة بين شيئين متشابهين فاعلم أن هناك فرقًا في المعنى، ولكنك لم تتوصل إليه؛ لأن إحاطتك بحكمة الله غير ممكنة.
فمتى وَجَدْتَ حُكْمَيْن في شيئين متشابهين في الشريعة، ولكنَّ الحكمين متغايران فاعلم أن هناك سببًا اقتضى اختلافهما في الحكم، ولكن لا يلزم من ذلك أن تعرف هذا السبب، فما موقفك حينئذ؟ التسليم.
ثانيًا: أن نقول: إنه يمكن الفرق بين اللحم والشحم والجلد، فإن حلول الحياة فيما كان داخل الجلد -لأن الجلد كالوعاء- حلول الحياة في ما كان داخلًا أشد من حلوله في الجلد نفسه، لأن الجلد -كما تعلمون- فيه نوع من الصلابة بخلاف اللحوم والشحوم والأمعاء، وما كان داخلُه فإنه ليس مثله، فلا يكون فيه الخبث الذي من أجله صارت الميتة حرامًا ونجسة.
ولهذا نقول: إنه يُعْطَى حُكْمًا بين حُكْمَين:
الحكم الأول: أن ما كان داخل الجلد لا يَطْهُر بالدباغ، ولا بالتنظيف، وما كان خارج الجلد من الشعر والوبر والريش فهو طاهر، والجلد بينهما، فلهذا أعطي حُكمًا بينهما.
وبهذا نعرف سمو الشريعة، وأنها لا يمكن أن تُفَرِّق بين مُتَماثِلَيْن، ولا أن تَجْمَع بين مختلفين.
وأن كون الجلد يَطْهُر بالدباغ من الحكمة العظيمة، وكونه يَنْجُس بالموت من الحكمة العظيمة أيضًا؛ لأنه ليس كالشعر والوبر والريش، وليس كاللحم والشحم والأمعاء، ونحو ذلك.
( ... ) والثاني أن يتحقق ( ... ).
(1/113)
________________________________________
فإن كان هناك ضرورة لكن تندفع بغيره فلا ضرورة ما يجوز، وإن كان هناك ضرورة لكن ما يتحقق أن تندفع به فلا يجوز.
وبهذا نعرف أن التداوي بالمحرَّم حرام، وإن كان بعض العامة يقولون: التداوي بالمحرم حلال؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات.
التداوي بالمحرم حرام، السبب لأنه قد يُشْفَى بدونه، وكثير من الناس شُفِيَ بدون أن يعالج، يشرف على الموت ثم يُشْفِيه الله، هذه واحدة.
ثانيًا: أنه لو فُرِضَ أنه اضطر، هل تندفع الضرورةُ به، قد يُشْفَى، وقد لا يُشْفَى حتى لو استعمل الدواء.
بعض الناس يقولون: إن الكحة دواها شرب لبن الحمير؛ ويقولون في القاعدة المعروفة: (دواء الشهَّاقة لبن النهاقة) هذه من فطرهم، نقول: هذا غير صحيح؛ لأن الله قد يشفيه بدون هذا.
ثم هناك أدوية ثانية يُشْفَى بها، والثاني: لأنه قد يَشْرَب لبن النهَّاقة -كما يقولون- ومع ذلك لا يُشْفَى. وليتهم قالوا: (دواء الشهَّاقة لبن الناقة)، لكن الله يعافينا.
إذن استفدنا قاعدتين؛ القاعدة الأولى: أن الحاجة تبيح المكروه، والثانية أن الضرورة تبيح المحرم ( ... ).
ويستدل له (آنية)، لكننا نقول: لماذا لا نجعلها معطوفة على (ذبائحهم)؟ لفساد المعنى، هذه العلة، لو قلت: ولو لم تحل ذبائحُهم وثيابهم، صار المعنى ولو لم تَحِل ثيابهم، ولا أحد يقول: إن ثياب الكفار ما تحل إلا إذا كانوا معروفين بملابسة النجاسة، ففيها خلاف، المهم أنها معطوفة على آنية ( ... ).
النظرية من وجهين؛ الوجه الأول أنها علة في مقابلة النص، فتكون مُهْدَرَةً باطلة، والوجه الثاني أن نقول: إن النظر الصحيح عندما يتأمل الإنسان يدل على أن القياس الصحيح ما دلَّ عليه النص، من كونه يَطْهُر بالدباغ.
طالب: الجواب عن ( ... ) بأنه يطهر.
الشيخ: بأنه يَطْهُر؟ ! ما فيه جواب؛ لأن هذا هو الصحيح.
(1/114)
________________________________________
( ... ) يجرُّونها، فقال: «هَلَّا أَخَذَتُمْ إِهَابَها فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟ » قالوا: يا رسول الله إنها ميتة، قال: «يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ» (12) هذا صريح وواضح.
طالب: أهل اللغة يقولون: إن الإهاب ..
الشيخ: هذا صريح، هذه ميتة يَجُرُّونها، وقالوا: إنها ميتة كيف ننتفع بها، قال: «يُطَهِّرُهَا»، ميتة يجرونها ما دُبِغَت، الميتة اللي تُجَرُّ ما دُبِغَ جلدُها.
طالب: إي، بس الجزء رطب الآن، حتى لو كانت ميتةً يكون الجلدُ رطبًا قبل الدفن.
الشيخ: وإذا كان رطبًا؟
طالب: فيكون إهابًا.
الشيخ: ولو كان إهابًا، لكن الرسول يقول: «يُطَهِّرُهُ»؟
الطالب: «المَاءُ وَالقَرَظُ».
الشيخ: إذن يصير طاهرًا، ولّا لا؟
طالب: يكون طاهرًا.
الشيخ: هذا هو المقصود ( ... ).
على كل حال الآن نقول: الصحيح أنه إذا دُبِغَ يكون طاهرًا؛ للأحاديث الصحيحة في صحيح مسلم وغيره، وأما حديث عبد الله بن عُكَيم فإن هذا ضعيف، ولو صح فإنه يُحْمَل على ما كان قبل الدبغ، ( ... ).
***
يقول: (ويُباح استعمالُه بعد الدَّبْغ في يابس)؛ استعمال أيش؟ جلد الميتة بعد الدبغ في يابس.
أفادنا المؤلف أن استعماله قبل الدبغ لا يجوز؛ لا في يابس، ولا في غير يابس؛ لأنه نجس.
وظاهره أيضًا أنه لا يجوز، ولو بعد أن نَشِفَ الجلد وصار يابسًا، وهذا فيه نظر؛ لأنا نقول: إذا كان يابسًا، واستُعْمِل في يابس فإن النجاسة هنا لا تَتَعدَّى كما لو قددناه وجعلناه حِبالًا لا يُباشَرُ بها الأشياء الرطبة، فإن هذا لا مانع منه.
وأما قوله: (بعد الدبْغِ في يابسٍ) الرطب يجوز ولَّا لا؟ لا يجوز بالرطب؛ يعني: ما يجوز أن نجعل فيه ماءً، ولو بعد الدبغ؛ ولا أن نجعل فيه لبنًا؟ ولا أن نجعل فيه أي شيء رطب، لماذا؟ لأنه إذا كان نجسًا، ولاقاه ماء تَنَجَّسَ الماء به، هذا الماء يتنجَّس به.
(1/115)
________________________________________
وأما إذا كان في يابس، والجلد يابس فإنه لا يتنجس به؛ لأن النجاسة ما يتعدَّى حكمها إلا إذا تعدَّى أثرها، فإذا لم يتعدَّ أثرُها فإن حكمَها لا يتعدَّى، ولهذا عند العامة كلمة حقيقية، يقولون: (ليس بين اليابسين نجاسة)؛ يعني: إذا تلاقى نجسان وهما يابسان فإن النجاسة لا تنتقل إلى الطاهر.
وقوله: (يُباحُ استعمالُه بعد الدبغ في يابس) إذا قلنا بالقول الراجح الصحيح: إنه يَطْهُر بالدباغ؛ فإنه يباح استعماله في اليابس وفي الرطب.
ويدلُّ لذلك أنَّ الرَّسول توضَّأ هو وأصحابه من مَزَادَةِ امرأة مشركة (12)، وذبائح المشركين نجسة، فتوضأ النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من هذه المزادة يدل على أنه يباح استعماله في الرطب؛ لأنه يكون طاهرًا.
نائب الفاعل هو (استعمال)، لكن من الضمير في (استعمال)، يعني استعمال الجلد حال كونه من حيوان طاهر في الحياة، لأنه يباح استعماله في اليابس.
أفادنا المؤلف هنا أن الذي يباح استعمالُه بعد الدبغ في اليابس، إذا كان من حيوان طاهر في الحياة، ما هو الطاهر في الحياة؟
أولًا: كل مأكول فإنه طاهر في الحياة، مثل إبل، بقر، غنم، ضبع، ظباء، وما أشبهها.
ثانيًا: على المذهب؛ كل حيوان من الهر فأقل خلقة فإنه طاهر في الحياة؛ مثل الهرة طاهرة في الحياة؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إِنَّها لَيْسَتْ بِنَجِسٍ؛ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» (22).
ثالثًا: كل شيء ليس له نفس سائلة؛ يعني: دم، كل شيء ليس له دم يسيل إذا ذُبِحَ أو قتل فإنه طاهر، هذا الحيوان الطاهر.
رابعًا: الآدمي، لكن الآدمي هنا غير وارد؛ لأن استعمال جلد الآدمي مُحَرَّم لا لنجاسته ولكن لحرمته.
إذن لو دَبَغ الإنسان جلدَ فأرة أو جلد هِرَّةٍ هل يَطْهُر، على المذهب؟ لا يطهر، ما هنا شيء يَطْهُر على المذهب، لكن يُباح استعمالُه في اليابس، وعلى القول الثاني يَطْهُر، فيباح استعماله في اليابسات والمائعات.
(1/116)
________________________________________
طيب، يصح أن نجعل جلد الهرة سقاء صغير، إذا دبغناه؟ على المذهب واضح، على القول الثاني يصح؛ لأنه طَهُر.
فمدار الخلاف الآن على الطاهر في الحياة؛ جلد الحيوان الطاهر في الحياة.
وهذا هو أحد القولين في هذه المسألة أن مناط الحُكْم على طهارة الحيوان في حال الحياة؛ فما كان طاهرًا في الحياة فإنه يباح استعماله بعد الدبغ في يابس، ولا يطهر على المذهب، وعلى القول الثاني يطهر، فيه قول ثالث: إن جِلْدَ الميتة يَطْهُر بالدباغ، لكن بشرط أن تكون الميتة مما تُحِلُّه الذكاة؛ يعني: مما يؤكل، أما ما لا تحله الذكاة فإنه لا يطهر، وهذا القول هو الراجح.
وعلى هذا فجلد الهر وما دونه في الخلقة لا يَطْهُر؛ ودليل هذا القول أن في بعض ألفاظ الحديث «دِبَاغُ جِلُودِ الْمَيْتَةِ ذَكَاتُهَا» (23) فعبَّر بالذكاة، ومعلوم أن الذكاة لا تُطَهِّر إلا ما يُؤْكل ويُباح أكلُه؛ لو أنك ذبحت حمارًا وذكرت اسم الله عليه وأنهر الدم وقطعت الوَدَجَيْن والحلقوم والمريء، يحل؟ ما يُسَمَّى ذكاة.
على هذا نقول: جلد ما يَحْرُم أكلُه ولو كان طاهرًا في الحياة، لا يَطْهُر بالدباغ، الدليل هو: «دِبَاغُ جِلُودِ الْمَيْتَةِ ذَكَاتُهَا».
وفيه أيضًا تعليل: أن الحيوان الطاهر في الحياة إنما جُعِلَ طاهرًا لمشقة التحرُّز منه لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» (12)، وهذه العلة بعد الموت باقية ولَّا منتفية؟ منتفية، وعلى هذا فَيَعُود إلى أصله وهو النجاسة، فلا يَطْهُر بالدباغ.
وهذا القول هو الراجح، وعليه فيكون القول الراجح في هذه المسألة: أَنَّ كلَّ حيوان مات وهو مما يُؤْكَل؛ فإن جِلْده يَطْهُر بالدباغ، مفهوم؟ هذا هو القول الراجح، وهو أحد قَوْلَي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وله قول ثانٍ يوافق القول الذي أشرنا إليه من قبل: أن ما كان طاهرًا في الحياة فإن جلده يَطْهُر بالدبغ.
ثم قال: (وَلَبَنُهَا)، أيش (لبن)؟
(1/117)
________________________________________
(لَبَنُها) أي: الميتة، إذا قيل: أين مرجع الضمير؟ قلنا: قوله: (ولا يَطْهُر جلدُ ميتةٍ).
لبن الميتة نَجِسٌ وإن لم يتغير بها؛ ليش؟ لأنها نجسة، هي حرام نَجِسَة، لكن اللبن ويش شأنه؟ قالوا: لأنه مائع لاقى نَجِسًا فتَنَجَّسَ به، هو مائع، مثل ما لو سقطت فيه نجاسة؛ مائعٌ لاقى نجسًا فتنجَّس به، وإلا فهو في الحقيقة منفصل عن الميتة وهي في حال الحياة؛ لأن هذا الضرع وعاء له، بمنزلة الإناء، لكنهم يقولون: إنه لما ماتت نَجُسَت، فيكون هذا اللبن قد لاقى نجاسةً فيَنْجُس بذلك.
واختار شيخ الإسلام أن لبن الميتة طاهر بناءً على اختياره -رحمه الله- بأن الشيء لا يَنْجْس إلا بالتغير، فقال: إذا لم يكن هذا اللبن متغيِّرًا بدم الميتة وما أشبه ذلك فإنه يكون طاهرًا.
والذي يظهر لي في هذه المسألة أن القول الراجح المذهبُ؛ لأنه وإن كان قد انفصل واجتمع في الضرع قبل أن تموت فإنه يسير بالنسبة إلى ما لاقاه من النجاسة؛ لأن النجاسة محيطة به من كل جانب، فهو يسير، ثم إن الذي يظهر سريان العفونة؛ عفونة الموت إلى هذا اللبن المائع؛ لأنه ليس كالماء في قوة دفع النجاسة فيكون نجسًا.
ثم لو قلنا بأن هذا فيه نظر من حيث قاعدة: لأن القاعدة عندنا: أن ما لا يتغير بالنجاسة فليس بنجس، وهذه قاعدة محكمة عظيمة، فإنا نقول: هذا من باب الاحتياط، والأخذ بعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وهذا اللبن الذي لم يزل في الضرع قد يكون داخلًا في هذا العموم. فالمهم أن الاحتياط البُعدُ عنه.
طالب: يجيز شربه ( ... ).
الشيخ: إي نعم، يجيز شربه؛ لأنه عنده طاهر.
***
(وكلُّ أجزائها نَجِسَةٌ) اليد، والرجل، العين، الرأس، كل الأجزاء نجسة لعموم قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، والميتة يطلق على كل الحيوان ظاهره وباطنه.
(1/118)
________________________________________
هل يدخل في قوله: (كلُّ أجزائها) الجلد؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: لكن سبق الكلام عليه، وهو قوله: (ولا يَطْهُر جلدُ ميتَةٍ)؛ لأن قوله: (ولا يَطْهُر جلدُ ميتَةٍ) مِن لازمه أنه نَجِس.
طالب: ( ... ).
الشيخ: أيهم؟
طالب: ( ... )
الشيخ: لا، بل إن هذا الجلد قد لا نقول: إنه من الأجزاء، وقد نقول: من الأجزاء، ولكن سبق الكلام عليه.
***
قال: (غيرَ شَعَرٍ ونحوِه) كالصوف والوبر والريش، هذه أربعة؛ الصوف للغنم الضأن، والوبر للإبل، والشَعَر للمعز والبقر، وما أشبهها، والريش للطيور.
وقول المؤلف: (لبنُها وكلُّ أجزائها نَجِسَة) يستثنى من ذلك ما ميتته طاهرة، ويش اللي ميتته طاهرة؟ السمك؛ يعني: كل حيوان البحر بدون استثناء فإن ميتته طاهرة حلال؛ لقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: صيدُه ما أُخِذَ حيًّا، وطعامه ما أُخِذَ مَيِّتًا (24).
هل يلزم من الحِلِّ الطهارة؟ نعم، ما فيه شك، يلزم من الحل الطهارة، وهل يلزم من الحرمة النجاسة؟
طلبة: لا يلزم.
الشيخ: طيب، هل يلزم من النجاسة التحريم؟
طلبة: نعم.
الشيخ: إذن نأخذ قواعد ثلاثة الآن؛ كل حلال فهو طاهر، كل نجس فهو حرام، وليس كل حرام نجس، تمام.
يستثنى حيوان البحر كلُّه هذا ميتته طاهرة، يستثنى أيضًا ميتتة الآدمي فإنها طاهرة؛ لعموم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» (25)، ولأن الرجل إذا مات يُغَسَّل، ولو كان نجسًا ما أفاد به التغسيل.
والثالث: كل ما ليس له دم، والمراد الدم الذي يَنْسَفِحُ إذا ذُبِحَ أو قُتِل؛ مثل كالذباب والصراصير والجراد، وغيرها.
الوزغ يقول الإمام أحمد له نفس سائلة، والعقرب؟
طلبة: لا.
الشيخ: لا، ليست كذلك، العقرب ما لها دم.
طالب: ( ... )
الشيخ: إي، كيف له دم؟
طالب: ( ... )
الشيخ: لا، لكنه يؤثر على الأرض ينزل للأرض، الفأرة لها دم يسيل إذن هي نجسة.
(1/119)
________________________________________
إذن كل ما ليس له دم يسيل عند ذبحه فإنه طاهر.
طالب: ( ... ).
الشيخ: منين؟
طالب: ( ... ).
الشيخ: هي طاهرة في الحياة، لكن كلامنا بعد الموت، هي نجسة بعد الموت.
ما هو الدليل على طهارة ما ليس له دم يسيل؟
الدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ في شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزَعْهُ» (26).
فإن قوله: «فَلْيَغْمِسْهُ» يشمل غمسه في الماء الحار، وهو إذا غمس في الماء الحار يموت، ولو كان ينجس كان الرسول يأمر بإراقته.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، هذا فيه خلاف يأتي إن شاء الله في النجاسة.
هذه الحيوانات الطاهرة في الحياة، نحن نتكلم عن الحيوان الطاهر في الحياة، والمؤلف يقول: (لَبَنُها وَكُلُّ أجزائِها نَجِسَة)، استثنينا من الميتة الطاهر في الحياة وهي ثلاثة أشياء: أو لا؟
إذن يُسْتَثْنى من الميتة ما كان طاهرًا بعد الموت، وهو ثلاثة أشياء: حيوان البحر، والآدمي، وما لا نفس له سائلة؛ يعني: ما لا دم له يسيل، هذه طاهرة، هو يلزم من طهارة الشيء حله؟
طلبة: لا ..
الشيخ: لا يلزم، يلزم من حِلِّه الطهارة، ولا يلزم من طهارته الحلُّ؛ فبعر البعير؟
طالب: طاهر.
الشيخ: ويؤكل؟
طلبة: لا.
الشيخ: إذن، لا يلزم من الطهارة الحل، ما لا نفس له سائلة طاهر، ويلزم منه الحل؟ لا، طيب هذه تضاف إلى القواعد الثلاثة السابقة. تكون أربع قواعد.
أنه: إذن لا يلزم من الطهارة الحل.
***
(1/120)
________________________________________
يقول المؤلف: (كُلُّ أجزائها نَجِسَةٌ غيرَ شَعَرٍ ونحوه)، لكنهم اشترطوا رحمهم الله في الشعر ونحوه أن يُجَزَّ جَزًّا، لا أن يُقْلَعَ قَلْعًا؛ يجز إما بمقص، وإما بموس، ولا يقلع قلعًا؛ لماذا؟ لأنه إذا قُلِعَ فإن أصوله مُحْتَقِن فيها شيء من الميتة، وهذا يظهر واضحًا جدًّا في الريش، ولا لا؟ أما الشعر، فهو ما هو ظاهر؛ لكنه في الحقيقة هو الواقع؛ لأنه مُنْغَرِس في الجلد، وفيه شيء فيه مباشر للنجاسة، ويش يقول: لا بد أنه يُجَزُّ جَزًّا.
وبهذا عَلِمْنا أن الميتة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الشعر ونحوه؟ طاهر، اللحم وما كان داخل الجلد نجس، ولا ينفع فيه الدباغ ولا غيره، والثالث: الجلد وهو طبقة بينهما، والحكم ليس إلى هذا وليس إلى هذا، بل حكمه بينهما، ذكر الفقهاء في هذا ذكر الشارح رحمه الله: (أنَّ جَعْلَ الْمُصْران والكرشَ وترًا دباغٌ)، (المصران) معروفة، (والكرش) معروف، جعله (وترًا) يعني: حبالًا.
(دباغ) يعني: بمنزلة الدباغ، وبناءً على ذلك يكون طاهرًا، ويجوز استعمالُه في اليابسات على المذهب.
لكن صاحب الفروع رحمه الله، وهو من أشهر تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية -ولا سيما في الفقه- يقول: يتوجه لا.
المعنى: أن الذي يرى هو رحمه الله: أن الأوجه بناءً على المذهب، أو بناء على القول الراجح عنده أنه ليس دباغًا، وما قاله متوجِّه؛ لأن المصران والكرش من صُلْبِ الميتة، ما يَطْهُر بهذا، لا سيما أيضًا إنه يقول: يُجْعَل وترًا ما يدبغ؛ يعني: ما يدبغ، فالصواب ما ذهب إليه صاحب الفروع؛ أنه لا.
وبهذه المناسبة صاحب الفروع رحمه الله يقول مِنْ عنده: وَيَتَوَجَّه، وصاحب الغاية الشيخ مرعي رحمه الله من المتأخرين جمع فيها بين المنتهى والإقناع؛ غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى، إذا أراد أن يقول شيئًا يُفَرِّعه من عنده يقول: يَتَّجه. ففرق بين اتجاه صاحب الغاية وتوجيه صاحب الفروع. أفهمتم؟
(1/121)
________________________________________
يعني: هذا ينفعكم إذا مر عليكم ما في الحواشي (ويتجه كذا) فهو من عبارات من؟ مرعي صاحب الغاية من المتأخرين. وإذا قيل: يتوجه فهو من كلام صاحب الفروع.
لكن بين التوجيه والاتجاه من حيث القوة والتعليل والدليل فرق عظيم.
يعني: توجيهات صاحب الفروع رحمه الله غالبها مبنيٌّ على القواعد والأصول، أما اتجاهات الشيخ مرعي رحمه الله فهي دون مستوى تلك.
يقول: (وَما أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ) هذه قاعدة فقهية.
(مَا أُبِينَ): ما إعراب (ما)؟ مبتدأ محلها الرفع، لكن ما نوعها؟ استفهاميَّة، شرطية؟
الطلبة: موصولة.
الشيخ: لكن إن جعلتها موصولة، قالت لك الفاء في قوله: (فهو كميتته) ويش محلي؟ ليش أجيء؟ لأن الفاء ما تأتي إلا رابطة، فتكون داخلة على جملة جواب الشرط.
طالب: ( ... ).
الشيخ: طيب هذا خلاف الأصل، إذن معناه إذا جعلناها (ما) موصولة فإنا شبهنها بالشرطية وأدخلنا الفاء في جوابها. مفهوم؟ لكن إذا جعلنا (ما) شرطية فهو أولى من ناحية المعنى ومن ناحية اللفظ؛ أما من ناحية المعنى فلدخول الفاء في الجواب، وأما من ناحية المعنى فلأن هذه قاعدة، واستعمال الشرط في القاعدة أبلغ من استعمال اسم الموصول؛ فنقول: (ما أُبِينَ) هذه (ما) شرطية، و (أُبِين) بمعنى فُصِلَ.
وقوله: (مِنْ حَيٍّ) يعني: من حيوان حي، ولا حتى من الشجر؟ الحي: من الحيوان.
وقوله: (فهو كميتته)؛ يعني: طهارة ونجاسة، وحِلًّا وحرمةً، فهمتم؟ ما أُبِين من الآدمي فهو طاهر حرام؛ لحرمته لا لنجاسته وخبثه.
ما أُبِين من البقرة فهو نجس حرام؛ لأن ميتتها نجسة حرام، ما أبين من السمك طاهر حلال، ما أُبِين من الجرادة؟
طلبة: حلال.
الشيخ: يجوز تأخذ فخذ جرادة تقصه وهي حي وتأكله؟
طلبة: نعم.
الشيخ: إي نعم، يجوز والله أعلم.
وما أُبِينَ من حيٍّ فهو كمَيْتَتِه.
(بابُ الاستنجاءِ)
(1/122)
________________________________________
(يُسْتَحَبُّ) عندَ دخولِ الخلاءِ قولُ: (بِسْمِ اللهِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ) وعندَ الخروجِ منه: (غُفْرَانَكَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّيَ الْأَذَى وَعَافَانِي، وتقديمُ رِجْلِه اليُسرَى دخولًا ويُمْنَى خروجًا عكسَ مسْجِدٍ ونَعْلٍ، واعتمادُه على رِجلِه اليُسرَى، وبُعْدُه في فَضاءٍ، واستتارُه، وارتيادُه لبَولِه مكانًا رِخْوًا، ومَسْحُه بيدِه اليُسرَى إذا فَرَغَ من بَوْلِه من أَصْلِ ذَكَرِه إلى رأسِه ثلاثًا ونَتْرَهَ ثلاثًا، وتَحَوُّلُه من مَوضِعِه ليَسْتَنْجِيَ في غيرِه إن خافَ تَلَوُّثًا.
و(يُكْرَهُ) دخولُه بشيءٍ فيه ذِكْرُ اللهِ تعالى إلا لحاجةٍ، ورَفْعُ ثوبِه قبلَ دُنُوِّه من الأَرْضِ، وكلامُه فيه، وبولُه في شَقٍّ ونحوِه، ومَسُّ فَرْجِه بيمينِه واستنجاؤُه واستجمارُه بها، واستقبالُ النَّيِّرَيْنِ.
و(يَحْرُمُ) استقبالُ القبلةِ واستدبارُها في غيرِ بُنيانٍ،
وهو أحد القولين في المذهب، يقول: إن العظم طاهر، عظم الميتة طاهر، ويستدل لذلك بأن العظم وإن كان يتألم ويحس لكنه ليس فيه الحياة الكاملة، ولا يَحُله الدم، ما يحله الدم، وهو -أي العظم- ما له حركة إلا بغيره، العظم لا يتحرك إلا بغيره، فليس كبقية الجسم، فهو يشبه الظفر والشعر وما أشبهه.
ويقول: إن المدار في التطهير والتنجيس على الدم؛ ولذلك الذي ليس له نفس سائلة؟
طلبة: طاهر.
الشيخ: طاهر، يكون طاهرًا، ولكن الذي يظهر أن الصواب مع المذهب في هذه المسألة؛ لأنه فرّق بين هذا وبين ما لا نفس له سائلة، بأن الذي ليس له نفس سائلة حيوان مستقل، لكن هذا يكون نجسًا تبعًا لغيره، وإذا كان يتألم فليس كالظفر وليس كالشعر.
(1/123)
________________________________________
ثم إن كونه ليس فيه دم هذا ينظر فيه؛ هل هو مؤكد أنه ليس فيه دم، أو أنه فيه دم؛ لأن بعض العظام تحس بأن فيه دمًا، أحيانًا يكون العظم أحمر، فهذه ينظر فيها ويرجع فيها إلى الطب، ولكننا إذا أخذنا بالعموم {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] فهو أحوط وأولى.
قال المؤلف: (ما أُبِين من حي فهو كميتته) شرحناها أظن؟
طلبة: نعم.
الشيخ: (ما أبين من حي فهو كميتته) وناقشنا فيها. الذي يقطع من الحي كميتته أي كميتة ذلك الحي، فإن قطع من آدمي أيش قولك؟
طلبة: طاهر.
الشيخ: فهو طاهر؛ لأن ميتة الآدمي طاهرة، وإن قطع من بعير فهو نجس؛ لأن ميتة البعير نجسة، وإن قطع من سمك فهو طاهر؛ لأن ميتة السمك طاهرة، وإن قطع من جراد؟
طلبة: طاهر.
الشيخ: فهو طاهر؛ لأن ميتته طاهرة، كذا، استثنى العلماء من ذلك مسألتين:
المسألة الأولى: الطريدة.
والمسألة الثانية: المسك وفأرة المسك، المسك وفأرته، مسك وفأرة مسك أيش هذا؟
يقولون: إن المسك بعض دم الغزال، فيه غزلان معروفة تسمى غزال المسك، وإن هذه تركَّض حتى تفحم، ثم ينزل من عند سرتها دم، فإذا نزل هذا الدم يصرونه يربطونه رباطًا قويًّا شديدًا حتى ينقطع اتصاله بالدم، ثم في النهاية يسقط هذا الذي شدوا عليه، تصورتموه زين أو ما تصورتم؟ بس الإخوان أظن أنهم ما تصوروه، فيه نوع من الغزلان يسمى غزال المسك، يقولون: إنهم إذا أرادوا أن يستخرجوا منه المسك فإنهم يركضونه، يجعلونه يركض، يتعبونه، فينزل منه دم من عند سرته، ثم يأتون بخيط شديد قوي فيربطون هذا الدم الذي نزل، يربطونه ربطًا قويًّا من أجل ألا يتصل بالبدن فيتغذى بالدم، إذا أخذ مدة طبعًا يطيح يسقط لأنه ييبس ويسقط، إذا سقط وجد هذا مسكًا، هذا الدم اللي انحجر بالجلد يكون مسكًا من أطيب المسك رائحة.
طالب: من داخل الجلد يا شيخ؟
(1/124)
________________________________________
الشيخ: إي نعم من داخل الجلد، هذا الوعاء يسمى فأرة، فأرة المسك، والمسك هو الذي في جوفه، هذا انفصل من حي ولّا لا؟
طلبة: من حي.
الشيخ: انفصل من حي، ويكون طاهراً بإجماع العلماء على طهارته، أو قول أكثر العلماء، ولهذا يقول المتنبي:
هذا المسك فأرة مع أنه منفصل من غزال، والغزال ميتته نجسة، لكن هذا مستثنى.
الثانية، المسألة الثانية، ما يستثنى من هذا العموم: الطريدة، بمعنى المطرودة، وهي الصيد يطرده الجماعة فلا يدركونه فيذبحونه، ولكنهم يضربونه بأسيافهم أو خناجرهم ضربة رجل واحد، فهذا يقص يده، وهذا يقص رجله، وهذا يقص رأسه، وهذا يقص بطنه حتى يموت، هذه تسمى الطريدة، بمعنى مطرودة، وليس فيها دليل عن الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا أن ذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم.
قال الإمام أحمد: كانوا يفعلون ذلك في مغازيهم، ولا يرون به بأسًا، والحكمة في هذا -والله أعلم- أن هذه الطريدة لا يقدر على ذبحها، ما يقدر على ذبحها، وإذا لم يقدر على ذبحها فإنها تحل بعقرها في أي موضع من بدنها، صيد، الصيد إذا رميته في أي مكان ومات حلال؛ هذه هي نفس الشيء؛ إلا أن هذه قطعت قبل أن تموت.
قال الإمام أحمد: فإن بقيت، يعني: قطعنا رجلها، ولكن هربت ما أدركناها؛ فإن رجلها حينئذٍ تكون حرامًا ونجسة؛ لأننا ما أدركناها ولم تكن الآن صيدا فتكون حرامًا.
إذن القاعدة (ما أُبِين من حي فهو كميتته) ويش يستثنى منها؟ مسألتان الأولى: الطريدة، والثاني: المسك وفأرة المسك.
[باب الاستنجاء]
ثم قال المؤلف رحمه الله: (باب الاستنجاء) هذا الباب ذكر فيه المؤلف الاستنجاء وآداب قضاء الحاجة.
(1/125)
________________________________________
الاستنجاء: استفعال من النجو، وهو في اللغة: القطع، يقال: نجوت الشجرة، أي: قطعتها. وهو: إزالة الخارج من السبيلين بماء أو حجر، وفي ذلك قطع لهذا النجس، هذا وجه تعلق الاشتقاق بالمعنى الاصطلاحي.
فهو في اللغة: من النجو وهو القطع، وأما في الاصطلاح فهو: إزالة الخارج من سبيل بماء أو إزالة حكمه -على القول بأن الاستجمار لا يطهر- بحجر ونحوه، فهمتم؟ إزالة الخارج من سبيل بماء أو إزالة حكمه بحجر ونحوه.
والصواب أن نقول: إزالة الخارج من سبيل بماء أو حجر ونحوه؛ لأن الصحيح أن الاستجمار يطهر تطهيرًا كاملًا كالماء تمامًا.
قال: (اعلم أن الله عز وجل أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، من الأكل، والشرب، واللباس، والسكن، وغير ذلك من نعم الله التي لا تحصى). الأكل والشرب لله علينا فيه نعم سابقة ولاحقة:
أما السابقة: فإن هذا الماء الذي نشربه ما جاء بحولنا ولا قوتنا، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 68، 69]، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30]، فبين الله تعالى منته علينا بالماء النازل من السماء، والنابع من الأرض.
الطعام الذي نأكله {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 63 - 65]، فهذه نعمة عظيمة من الله، هو الذي زرعه ونماه حتى تكامل، ويسر لنا بالأسباب التي يسر لنا أن نجنيه، وأن نحصده، ثم بالطحن وبالطبخ، إلى غير ذلك من النعم الكثيرة.
(1/126)
________________________________________
قال بعض العلماء: إنه لا يقدم الطعام بين يديك إلا وفيه ثلاث مئة وستون نعمة، هذا اللي يدرك فكيف عاد الذي لا يدرك؟ ثم مع ذلك نِعم عند تناوله، إذا قُدم بين يديك نِعم عند تناوله، كيف؟ عندما تأكله على جوع ماذا تكون لذته؟ ما تتصور، وعندما تطعمه في فمك تجد لذة، وعندما ينزل تجد لذة، وعندما يمشي في الأمعاء ما تجد تعبًا.
الآن لو يقف على يدك بعوضة أحسست برجليها أو لا؟ تحس بها وتقشعر منها، لكن هذا الطعام الغليظ ينزل مع هذه الأمعاء الرقيقة ولا تحس به، نِعم من الله عز وجل؛ لأن داخل الجوف ما فيه إحساس يمر به بدون إحساس.
ثم إن الله تعالى خلق غددًا تفرز أشياء تلين هذا الطعام حتى ينزل وتخفف حتى ينزل. ثم إن الله عز وجل جعل له قنوات يذهب معها التفل وقنوات يذهب معها الماء، ثم هناك عروق شارعة في هذه الأمعاء تفرق الدم على الجسم؛ وأين توصله؟ توصله إلى القلب.
ثم هذا القلب الصغير في لحظة من اللحظات يطهر هذا الدم حتى يخرج من الجانب الآخر من القلب نقيًّا، ثم يدور في البدن، ثم يرجع مرة ثانية إلى القلب فيطهره ويصفيه، ثم يعيده نقيًّا، وهكذا دواليك، كل هذا ونحن لا نحس بهذا الشيء، ما نحس به، وإلا فالقلب يقول هكذا نبضات، كل نبضة تأخذ شيئًا، والنبضة الأخرى تخرج شيئًا من هذا الدم، ومع ذلك يذهب هذا الدم إلى جميع أجزاء الجسم بشعيرات دقيقة منظمة مرتبة على حسب حكمة الله وقدرته.
ثم مع هذا أيضًا، من قدرة الله العظيمة البالغة، أن مجاري العروق لا تتفق في الأعضاء، كل عضو له مجارٍ خاصة، بمعنى أن يدك اليمنى ليست مجاري الدم فيها كيدك اليسرى؛ تختلف. وكذلك بالنسبة للرجل، تختلف، كل هذا من أجل بيان قدرة الله سبحانه وتعالى.
ولا شك أن هذا هو مقتضى الحكمة أيضًا، فإنه لولا أن هناك حكمة تقتضي أن يكون لهذه اليد مجار معينة، ولهذه اليد مجار معينة ما خلقها الله هكذا.
(1/127)
________________________________________
المهم أن كل هذا نريد أن نبين أن لله علينا نعمًا مادية بدنية في هذا الطعام، سابقة على وصوله إلينا ولاحقة.
ثم هناك يا إخواني نعم دينية تقترن بهذا الطعام؛ تسمي عند الأكل، وتحمد إذا فرغت، وأيش الجزاء؟ «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا» (1)، نعمة هذه رضى الله هو غاية كل إنسان، من يحصل رضى الله عز وجل؟ ومع ذلك نتمتع بنعمه، فإذا حمدناه رضي عنا، وهو الذي تفضل بها أولًا. هذه النعمة أكبر من نعمة البدن «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا».
ما ظنكم لو لم يشرع الله لنا أن نحمده عند الأكل والشرب؛ فإننا لو حمدناه لصرنا مبتدعين وصرنا آثمين، لكنه شرع لنا ذلك لأجل أن يوصلنا إلى رضاه. أسأل الله أن يحقق ذلك لي ولكم، لأجل أن نصل إلى رضاه، وهذه نعمة عظيمة يا إخوان، نعمة ما يدركها إلا الإنسان اللي عنده تأمل.
ثم أيضًا: عند تفريغ هذا الذي أكلنا أو شربنا فيه نعم جسمية وحسية، وشرعية دينية؛ النعم الجسمية لو احتقن هذا الطعام أو الشراب في بطنك ولم يخرج؛ أيش المآل؟ الموت المحقق، لكنه يخرج. لو احتقنت الريح التي جعلها الله تعالى كالجندي بين يدي الأمير لتفتح المجاري أمام ما يعبر منها، لو أنها انسدت ماذا يكون؟ يكون الموت، ينتفخ البطن ثم يتمزق، وكذلك البول.
(1/128)
________________________________________
إذن؛ فلله علينا نعمة في خروجه، وفي يسره، ثم نعمة كبرى -والحمد لله، نسأل الله لنا ولكم دوام النعمة- في حبسه إذا أردت، وفي فتحه إذا أردت، من يستطيع يفتح المثانة حتى ينزل البول لولا أن الله يسر ذلك، ومتى ما شئت، قد تذهب وتبول وليس في المثانة إلا ربعها، يعني ما هي المسألة إجبارية وقد تحبسها وهي مملوءة؛ ولكنك تستطيع أن تتحمل. هذه من نعمة الله، ولا يعرف قدر هذه النعمة إلا من ابتلي بالسلس، نسأل الله السلامة، يعرف قدر هذه النعمة.
وكذلك بالنسبة إلى الخارج الآخر، فهذه نعم عظيمة، ومع ذلك هناك نعم دينية مقرونة بهذه النعمة، عند الدخول هناك ذكر مشروع يقربك إلى الله عز وجل، وعند الخروج ذكر مشروع يقربك إلى الله عز وجل، وعند الفعل عمل مشروع يقربك إلى الله.
فتأمل كيف نعم الله عليك، سابغة شاملة وواسعة دينية ودنيوية، وبهذا نعرف صدق هذه الآية الكريمة صدقًا لا شبهة فيه إطلاقًا {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] يعني: يغفر لنا ويرحمنا إذا لم نقم بشكر هذه النعم {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، شوف بين حال الإنسان وحال الرب عز وجل، حال الرب عند هذه النعم العظيمة يقابل هذا الظلم والكفر بهذه النعم بماذا؟ بالمغفرة والرحمة، أما حال العبد فهي الظلم والكفر، ولكن يقابل هذا والحمد لله المغفرة من الرب العظيم والرحمة.
نرجع الآن إلى كلام المؤلف، وأنا قدمت هذه المقدمة لأن هذه المسائل ينبغي لنا أن نضعها على بالنا دائمًا حتى نعرف قدر النعم الكبيرة.
يقول المؤلف: (يستحب عند دخول الخلاء قول: باسم الله، أعوذ بالله من الخُبث والخبائث).
قال المؤلف: (يُستحب) وقد اختلف الفقهاء -رحمهم الله - هل المستحب مرادف للمسنون، أو المستحب ما ثبت بتعليل، والمسنون ما ثبت بدليل؟
(1/129)
________________________________________
يعني: هل إذا قلت: يستحب مرادف لقولي: يسن، أو لا؟ أقول: يسن إلا فيما ثبت بدليل، وأما ما ثبت بالتعليل فأقول فيه: يستحب، فيه خلاف بين الأصوليين، فقال بعضهم: إن الشيء الذي لا يثبت بدليل لا تقل فيه: يسن؛ لأنك إذا قلت: يسن معناه أثبته سنة وليس عندك دليل، أما الشيء الذي يثبت بتعليل ونظر واجتهاد فقل: إنه يستحب؛ لأن الاستحباب ليس كالسنة بالنسبة لإضافته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
ولكن أكثرهم يقولون: إنه لا فرق بين يُستحب وبين يُسن؛ ولهذا يعبر بعضهم بيسن ويعبر بعضهم بيستحب.
القول الأول لا شك أنه أقرب إلى الضبط؛ لأنك لا تعبر عن شيء لم يثبت بدليل؛ لا تعبر عنه بيسن، لكن قل نستحب له ذلك، نرى هذا مطلوبًا، وما أشبه ذلك.
أما ما ذكر المؤلف هنا (قول: باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث) فهذا سنة، أما (قول: باسم الله) فهذا قد رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سَتْرُ مَا بَيْنَ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلُوا الْكَنِيفَ أَنْ يَقُولُوا: بِاسْمِ اللهِ» (2) ستر بين الجن والعورات.
وأما (أعوذ بالله من الخبث والخبائث) فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل الخلاء قال: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخُبثِ وَالْخَبَائِثِ» (3)، فائدة البسملة عرفناها ما هي؟
طلبة: ستر العورة.
الشيخ: ستر العورة عن الجن، فائدة هذه: الالتجاء إلى الله عز وجل من الخبث والخبائث، الخُبْث بالسكون والخبائث؛ الخبث: الشر، والخبائث: النفوس الشريرة، يعني النفوس ذوات الشر، وهو أعم من الخُبُث بالضم والخبائث؛ لأن رواية الخُبُث، الخُبُث: جمع خَبيث، والمراد به: ذُكران الشياطين، والخبائث جمع خبيثة، والمراد به: إناث الشياطين، هذا على رواية الضم، أما على رواية التسكين فالخُبْث: الشر، والخبائث: النفوس الشريرة، أيهما أعم؟
طلبة: الثاني.
(1/130)
________________________________________
الشيخ: الثاني أعم، الخبْث والخبائث، ولهذا هو أكثر روايات الشيوخ، قال الخطابي: إنه أكثر رواية الشيوخ.
الخبث والخبائث: الحكمة من الاستعاذة من الخبث والخبائث لأن هذا المكان خبيث، والخبيث مأوى الخبثاء. الشياطين وين تنزل؟ أحب مكان إليها المكان الخبيث {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26]، فلهذا لما كانت مأوى الشياطين صار من المناسب أن الإنسان إذا أراد الدخول أن يقول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث، حتى لا يصيبه الخبث، وهو الشر، ولا الخبائث، وهي تلك النفوس الشريرة.
طالب: شيخ، الاستحباب حكم شرعي؟
الشيخ: إي نعم، الاستحباب حكم شرعي على القول بأنه لا فرق بينه وبين السنة.
طالب: ( ... ).
الشيخ: التعليل بالقياس، تعليل الحكم بالقياس، والقياس من الأدلة الشرعية، لكنه ليس كالثابت بنص؛ إذ إن النص لا مجال للمناقشة فيه، لكن الاجتهاد فيه مناقشة.
طالب: وهل هذا يمكن حتى في العبادات ولّا نقول ( ... ).
الشيخ: لا العبادات المشروعة، يعني اللي بيشرع عبادة من أصلها ما يمكن، لكن قد أقيس عبادة على عبادة وأرى أنه لا فرق بينها وبين هذه.
يقول: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث) لكن يقول المؤلف: (يُستحب عند دخول الخلاء) هل العندية هنا قبل ولا بعد؟
طلبة: قبل.
الشيخ: قبل، لكن عندما تريد أن تدخل، طيب وإذا كنت لا أريد قضاء الحاجة في الخلاء، ما فيه مكان معدّ، فإني أقول ذلك إذا أردت أن أجلس، قد يكون في البر إذا أراد أن يجلس يقول ها الكلام.
والخلاء: أصله المكان الخالي، ومناسبته هنا ظاهرة؛ لأن هذا المكان لا يكون جامعًا بين اثنين، ما يجلس فيه إلا الواحد.
وقول المؤلف: (أن يقول) بلسانه ولّا بقلبه.
طلبة: بلسانه.
الشيخ: بلسانه، فالإشارة لا تكفي، اللهم إلا من أخرس، فيمكن أن تكفي الإشارة مع نية القلب.
وقوله: (أعوذ بالله)، ما معنى (أعوذ) أي: أعتصم وألتجئ بالله عز وجل من الخبث والخبائث.
(1/131)
________________________________________
قال: (وعند الخروج منه)، يعني: يسن أن يقول عند الخروج منه، والعندية هنا قبلية ولا بعدية؟
طلبة: بعدية.
الشيخ: بعدية (عند الخروج منه: غفرانك)، غفران: هذه مصدر غفر يغفر غفرًا وغفرانًا، شكر يشكر شكرًا وشكرانًا، إذن (غفرانك): مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره: أسألك غفرانك.
والمغفرة تقدم لنا مرارًا وتكرارًا أنها: ستر الذنب والتجاوز عنه؛ لأنها مأخوذة من المِغْفَر، وفي المغفر ستر ووقاية، وليس سترًا فقط، بل ستر ووقاية، فيكون معنى: اغفر لي؛ أي: استر ذنوبي وتجاوز عني حتى أسلم من عقوبتها.
وقوله (غفرانك) مناسبة ذكره هنا قيل: إن المناسبة أن الإنسان لما تخفف من أذية الجسم تذكر أذية الإثم؛ فدعا الله أن يخفف أذية الإثم كما منّ عليه بتخفيف أذية الجسم، فكما أنه الآن سلم من آثار هذا الأذى فيسأل الله أن يسلم من آثار الذنوب، وهذا معنى مناسب من باب تذكر الشيء بالشيء.
وقال بعض العلماء: إنه يسأل الله غفرانه لأنه انحبس عن ذكره في مكان الخلاء، فيسأل الله أن يغفر له هذا الوقت الذي لم يذكر الله فيه.
وفي هذا نظر، هذا الأخير فيه نظر؛ لأنه إنما انحبس عن ذكر الله بأمر الله، وإذا كان بأمر الله فلم يعرض نفسه للإثم، بل عرض نفسه للمثوبة، ولهذا المرأة الحائض لا تصلي ولا تصوم، فهل يسن لها إذا طهرت أن تستغفر الله؛ لأنها تركت الصلاة والصيام في أيام الحيض؟ أبداً، ما أحد قاله، ولا جاءت به السنة.
فتبين بهذا أن القول الصحيح: أن المناسبة هو تذكر الإنسان حين خلا مما يؤذيه حسًّا أن يسأل الله تعالى أن يخليه مما يؤذيه شرعًا أو معنى.
طالب: ما يمكن أيضًا نقول: إن هذه نعمة من الله عز وجل أن يتخلص من هذا الأذى بأنه يستغفر الله على عدم القيام بالشكر على النعمة.
الشيخ: لا، النعمة تحتاج إلى الشكر، وإلا لقلنا: كل نعمة ينعم الله بها عليك استغفر الله، ما نقول هكذا، نقول: اشكروا الله.
(1/132)
________________________________________
بقي أن نقول: هذا الحديث صحيح «غُفْرانك» (4)، وأما «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي» (5) ففيه ضعف.
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي» هذا حمد لله عز وجل على هذه النعم؛ أن الله أذهب عنه الأذى المؤذي، وعافاه منين؟
طالب: من الأذى.
الشيخ: عافاه من آثاره لو بقي، فأنت تسأل الله المغفرة وتحمد الله تعالى على النعمة.
يقول: (وتقديم رجله اليسرى دخولًا، واليمنى خروجًا) يعني: يسن أن يقدم الإنسان رجله اليسرى عند الدخول، ويقدم رجله اليمنى إذا خرج، هذا نقول فيه: يُستحب ولا يُسن؟ على القول بالفرق بينهما.
طلبة: يسن.
الشيخ: فيه حديث، فيه دليل؟
طالب: نعم.
الشيخ: ما هو الدليل؟
طالب: ( ... ) التيامن.
الشيخ: لا، إن قلنا: وجوب التيامن قلنا: قدم اليمنى.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، في هذه قياسية، هذه مسألة قياسية، يقولون: إن اليمنى تقدم للمسجد كما جاءت به السنة، واليسرى عند الخروج منه، وهذا عكس المسجد، كذلك في النعل ثبت عن الرسول الله عليه الصلاة والسلام في الصحيح، بل في الصحيحين أنه أمر لابس النَّعل أن يبدأ باليُمنى أولًا عند اللُّبس، وباليُسرى عند الخلع (6)، فقالوا: هذا دليل على تكريم اليمنى، فإذا كانت اليمنى مكرمة يبدأ بها باللبس الذي فيه الوقاية، ويبدأ باليسرى بالخلع الذي فيه إزالة الوقاية، ولا شك أن الوقاية تكريم.
قالوا: فإذا كانت اليمنى تقدم في باب التكريم، واليسرى تقدم في عكسه، كما دلت عليه السنة في مسألة النعل، قالوا: فإنه ينبغي أن تقدم عند الدخول للخلاء اليسرى، وعند الخروج اليمنى؛ لأنه خرج إلى أكمل وأفضل من الخلاء، إن الله خفف عنه ما يجده من ألم الأذى فناسب أنه يسأل الله تعالى أن يخفف عنه ذنوبه.
طالب: شيخ ( ... ).
(1/133)
________________________________________
الشيخ: (واعتماده على رجله اليسرى)، يعني: يسن عند قضاء الحاجة أن يعتمد على رجله اليسرى؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه أن يعتمدوا على الرِّجْل اليُسرى، وينصِبُوا اليُمنى (7)، هذا ما استدل به الأصحاب، ولكن هذا الحديث ضعيف.
وعللوا بعلة قالوا: إنه أسهل لخروج الخارج، أنه يعتمد على اليسرى وينصب اليمنى.
وله علة ثانية وهو: أن اعتماده في هذه الحال وعلى قضاء الحاجة على اليسرى دون اليمنى يكون هذا من باب إكرام اليمين، فأما الحديث فالحديث ضعيف، لا تقوم به الحجة، وأما أنه أسهل لخروج الخارج فهذا يرجع فيه إلى الأطباء، الفقهاء قالوا: إنه أسهل، فإن ثبت هذا طبًّا فهو يكون من باب مراعاة الصحة.
وأما كونه من باب إكرام اليمين لبعدها فهذا نعم العلة هنا ظاهرة، لكن فيه نوع من المشقة كبيرة إذا نصبت اليمنى واعتمد على اليسرى، لاسيما إذا كان الرجل كثير اللحم، أو ضعيف الجسم، أو كبير السن، يعني يتعب في اعتماده على اليسرى، ويتعب أيضا في نصب اليمنى.
ولهذا لو قال قائل: ما دامت المسألة ليس فيها سنة عن الرسول عليه الصلاة والسلام فإن كون الإنسان يبقى على طبيعته معتمدًا على الرجلين كلتيهما هو الأولى وهو الأيسر. وعلى كل حال يرجع في هذا إلى مسألة الطب.
طالب: نعم يا شيخ أقول: إن الأمر ( ... ) سواء باليمنى أو باليسرى في ( ... ).
الشيخ: يعني ما فيه ..
طالب: ليس فيه تسهيل لو بالاعتماد على اليسرى أو باليمنى بس هذا يختلف من شخص لآخر.
الشيخ: طيب الاعتماد على اليسرى (وبعده في فضاء).
(1/134)
________________________________________
(بعده) الضمير يعود على من؟ على قاضي الحاجة، (في فضاء) أي في مكان ليس فيه جدران، أو أشجار ساترة، أو أَكَمَات، أو جبال، يبعد في الفضاء، إلى أي مدى؟ حتى يستتر؛ لحديث المغيرة بن شعبة، قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام .. وهو في الصحيحين، قال: فانطلق حتى تَوَارى عنِّي فقضى حاجته (8)، هذا هو الدليل، وأيضًا: فإن فيه من المروءة والأدب ما هو ظاهر، والمراد بقوله: (وبعده في فضاء) حتى لا يرى جسمه.
وأما قول المؤلف: (واستتاره)، فاستتاره هذه معطوفة على (يستحب)، والمراد استتار بدنه كله، وأما استتاره بالنسبة للعورة فهو أمر واجب، يجب أن يستر عورته، وأما بالنسبة لجميع جسده فهو أولى وأفضل لما تقدم من حديث المغيرة.
طالب: ( ... ) معطوف على (يستحب) أو على قوله.
الشيخ: لا على نائب الفاعل في (يستحب).
طالب: قوي يا شيخ.
الشيخ: قوي نعم.
طالب: الاعتماد على ( ... ).
طالب: قضاء الحاجة يا شيخ يشمل البول والغائط.
الشيخ: إي نعم يشمل البول والغائط.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، البول ثبت أنه قضى حاجته على الزبالة في حديث حذيفة وهو يراه وهو إلى جنب عقبه، لكن لعل ذلك لحاجة.
يقول: (واستتاره وارتياده لبوله مكانًا رخوًا)، ارتياد بمعنى طلب، (لبوله) يعني: دون غائطه، و (مكانًا رخوًا) يقال: رَخوًا ورُخوًا ورِخوًا، فهو مثلث الراء، والرخو معناه: المكان اللين الذي لا يُخشى منه رشاش البول إذا نزل عليه هذا الرخو. لماذا يستحب؟
(1/135)
________________________________________
لأنه أسلم من الرشاش، ورشاش البول وإن كان الأصل عدم إصابته إياك، لكن ربما يفتح عليك باب الوسواس، فكثير من الناس يبتلى بالوسواس في هذه الحال، يقول: أخشى أن يكون قد رش علي، ثم تبدأ النفس تعمل عملها حتى يبقى شاكًّا في أمره، فكلما اختار لمكان بوله الرخو فهو أحسن وأفضل، فإن كان في أرض ليس حوله شيء رخو فماذا يصنع؟ قالوا: يُدنِي ذَكَره من الأرض حتى لا يحصل الرشاش، وهذا صحيح، كل هذا إبعادًا عن الوسواس والشكوك التي يلقيها الشيطان في نفس الإنسان.
(ومسحه بيده اليسرى إذا فرغ من بوله، من أصل ذكره إلى رأسه ثلاثًا) يعني: يستحب أيضًا أن يمسح إذا فرغ من البول من أصل الذكر - وهو عند حلقة الدبر- إلى رأسه ثلاث مرات؛ لماذا؟ قال: لأجل أن يخرج ما تبقى في القناة من البول؛ لأنه ربما يبقى بول، فإذا قام أو تحرك نزل، فمن أجل ذلك يحلبه بأن يمسح عليه من عند حلقة الدبر إلى رأسه.
وهذا الذي ذكروه رحمهم الله قول ضعيف جدًّا؛ لأنه لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولأنه يضر بمجاري البول، ولاسيما إذا أضيف إليه النتر ربما يحدث الإدرار، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الذكر كالضرع، إن حلبته در، وإن تركته قر، وعلى هذا فلا يستحب المسح، إنما إذا انتهى البول يغسل رأس الذكر وينتهي الموضوع.
(ونتره ثلاثًا)، ويش معنى النتر؟ يعني أن الإنسان يحرك ذكره من الداخل، ما هو بيده، فينتره لأجل إذا كان فيه شيء من البول فإنه يخرج، هذا التعليل، وفيه حديث لكنه ضعيف لا يصح: «إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثلَاثًا» (9)، ولكنه لا يصح، والتعليل هو ما ذكرت لكم، من أجل أن يخرج ما تبقى من البول، ولكن هذا أيضًا يقول شيخ الإسلام: إن النتر بدعة وليس بسنة، ولا ينبغي للإنسان أن ينتر ذكره.
(1/136)
________________________________________
وهذان الأمران اللذان ذكرهما الأصحاب رحمهم الله يشبهان ما ذكره بعض أهل العلم قال: ينبغي إذا انتهى من البول أن يتنحنح، فإذا كان فيه شيء يخرج، وبعضهم قال: ينبغي أن يقوم ويمشي خطوات لأجل أن يطلع الباقي، وبعضهم قال: ينبغي أن يصعد درجة ويجي من أعلاها بسرعة، كل هذا لأجل أن يخرج، وبعضهم لكن عاد ما هو من أقوال العلماء قال: ينبغي أن يجعل له حبلًا يتعلق فيه ثم ينهز روحه كذا بالحبل، كل هذه من الوساوس التي لا أصل لها، والحمد لله الدين يسر.
صحيح أن بعض الناس قد يُبتلى بأن يكون إذا لم يمش خطوات ويتحرك لو يتوضأ على طول خرج منه شيء بعد الوضوء، فهذا الرجل له حال خاصة، ممكن أن نقول: إذا انتهى البول قبل أن تستنجي فإذا كان من العادة أن ما بقي من البول لا يخرج إلا بحركة، ومشي، فلا حرج أن تمشي، لكن ما نجعل هذا أمرًا عامًّا لكل أحد، بل نجعل هذا كعلاج لهذا الشخص الذي يبتلى بهذه الحال، ولكن بشرط أيضًا أن يكون عنده علم اليقين بأنه يخرج شيء، أما مجرد الوهم فإنه لا عبرة به.
قال المؤلف رحمه الله: (وتحوله من موضعه ليستنجي إن خاف تلوثًا)، (تحوله) يعني: انتقاله، (من موضعه) أي موضع قضاء الحاجة ليستنجي بماذا؟ يستنجي بالماء، (إن خاف تلوثًا) يعني خاف أنه إذا استنجى في هذا المكان يتلوث بماذا؟ يتلوث بالنجاسة، مثل أن يخشى من أن يضرب الماء على الخارج النجس ثم يرش على ثوبه، أو على فخذه، أو ما أشبه ذلك، فنقول هنا: الأفضل أن تنتقل درءًا لهذه المفسدة، وكما قلت قبل قليل: إن مثل هذه الأمور قد تحدث للإنسان الوساوس والشكوك، فإذا خاف أن يتلوث فلينتقل، أما إذا كان لا يخاف كما يوجد الآن في الحمامات والحمد لله الشيء كله يمشي فإنه لا ينتقل، لا يسن أن ينتقل، بل يبقى ويستنجي في مكانه.
قال: (ويكره دخوله بشيء فيه ذكر الله إلا لحاجةٍ): (يكره دخوله) الضمير في (دخوله) يعود على من؟ على قاضي الحاجة، أو على الخلاء؟
(1/137)
________________________________________
طالب: على قاضي الحاجة.
طالب آخر: على الخلاء.
الشيخ: يحتمل أن المعنى يكره دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله إلا لحاجة أو دخول قاضي الحاجة الخلاء ويكون المفعول هنا محذوفاً.
(يكره دخوله بشيء فيه ذكر الله إلا لحاجةٍ) ظاهر تعليلهم أن المراد هنا بذكر الله: ليس الذكر الذي هو الجمل المعروفة التي يثاب عليها، ولكن المراد بذكر الله هو اسم الله؛ لأنهم استدلوا بحديث أنس أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه (10)؛ (11) لأنه منقوش فيه: محمد رسول الله، وهذه ما هي من الذكر المعروف، وإن كان (محمد رسول الله) إحدى الشهادتين، لكن ما هو: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فيقتضي هذا أن كل ما فيه اسم الله فهو يكره دخول الخلاء به، وهذا مبني على صحة الحديث، حديث أنس، فمن صححه أو حسنه قال: إن ذلك مكروه، وأما من قال: إن الحديث لا يصح فيقول: إن الدخول ليس بمكروه، دخول الإنسان بشيء فيه ذكر الله ليس بمكروه، لكن الأفضل ألا يدخل.
وهناك فرق بين قولنا: إن هذا يستحب، وبين قولنا: إن هذا يكره؛ لأنه لا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه كما هو معروف.
استثنى بعض أهل العلم في هذه المسألة قال: إلا المصحف، فيحرم أن يدخل به الخلاء؛ لأن المصحف أشرف الكلام، ودخول الخلاء فيه نوع من امتهانه، فلا يجوز أن يدخل الخلاء بمصحف، سواء كان ظاهرًا أو في جيبه خفيًّا؛ لِما في ذلك من نوع امتهان له.
وقول المؤلف (إلا لحاجةٍ) هذا مستثنى من المكروه، يعني إلا إذا احتاج إلى ذلك، مثل الدراهم، الدراهم قد يكون فيها اسم الله، أو لا؟ ومثل التابعية والجواهر والخطوط أيضا من ( ... )، هذه حاجة؛ لأننا لو قلنا: لا تدخل بها ثم أخرجها ووضعها عند باب الخلاء صارت عرضة؟
طالب: للنسيان.
(1/138)
________________________________________
الشيخ: للنسيان، هذا وارد في كل شيء، عرضة للنسيان، وإذا كان في محل بارح عرضة لأن تطير مثلًا، يطير بها الهواء، وإذا كان في مجمع من الناس عرضةً لأن تُسرق، فإذا كان كذلك فهي حاجة أن يدخل فيها، وكثيرًا ما يضع الإنسان شيئًا، لا سيما إذا كان فيه آيات، على أنه إذا خرج أخذها ثم يخرج وينسى، فهذه حاجة، فإذا احتاج الإنسان إلى دخول شيء فيه ذكر الله فإنه يجوز له الدخول، قلنا في المصحف: إن بعضهم قال: إنه حرام، فهل تبيح الحاجة دخوله فيه؟ أو نقول: لا بد من الضرورة؟ المعروف أن المحرم لا تبيحه إلا الضرورة، ما تبيحه الحاجة، لكن مع ذلك قالوا: إنه إذا خاف أن يسرق فلا بأس أن يدخل به، وظاهر كلامهم: وإن كان الإنسان غنيًّا لو سرق مصحفه لوجد بدله، وعلى كل حالٍ ينبغي للإنسان في المصحف خاصة أن يحاول عدم الدخول، حتى لو كان في مجمع عام يمكنه أن يعطيه أحدًا من الناس يثق به ويقول: أمسكه حتى أخرج.
طالب: يا شيخ، نزع النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه ما يكون هو لئلا يباشر النجاسة، أنه عندما يتوضأ بيده.
الشيخ: لا؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يلبسه في اليمنى وفي اليسرى، اليمنى ما تباشر النجاسة.
طالب: اليسرى.
الشيخ: اليسرى تباشرها نعم.
طالب: ( ... ).
الشيخ: ما ندري، لو كان الحديث مقيدًا بما إذا كان لابسه باليسرى لكان صحيح يتجه ما قلت.
طالب: ممكن أنه خلعه وأدخله بجيبه ودخل.
الشيخ: الله أعلم، ما ندري.
طالب: إذا كانت العلة هذه يكون أدخله في جيبه.
الشيخ: ممكن إذا كانت العلة خوف النجاسة فهو إذا أدخله في جيبه زالت العلة.
( ... ) السؤال شيء آخر ما رأيكم في رجل جعل المسجل أو الراديو عنده في بيت الخلاء يستمع إليه قرآنا؟
طالب: هذا قطعًا فيه امتهان.
الشيخ: فيه امتهان له؟
طالب: نعم.
الشيخ: طيب لو جعله خارج الباب، عند الباب.
طلبة: لكن سماعه فقط.
الشيخ: يسمعه فقط.
طالب: نعم قد يذكر الله قد يسبح قد ..
(1/139)
________________________________________
الشيخ: لا ما هو مسبح ولا شيء، بيسمع بس.
طالب: ( ... ).
الشيخ: هذا يسأل عنه بعض الناس يقول: إنه أحياناً يوافق نور على الدرب ووده يستمع إليه، ونور على الدرب يصير فيه آيات، يستدل العلماء فيه بآيات، يقول: أنا إذا حطيته عندي قال: بقوله تعالى مثلًا كذا وكذا أسكه ولا ويش سوي.
طالب: ( ... ) خلف الباب.
الشيخ: مشكلة خلف الباب ( ... ).
طالب: إذاعة القرآن.
الشيخ: إذاعة القرآن صحيح يمكن إذاعة القرآن يجيب قرآن صحيح.
طالب: ( ... ).
الإشكال هي في الحقيقة النفس من الناحية العاطفية ما تميل إلى هذا، يعني الإنسان يستقبح إنه يخلي واحد عنده يستمع إلى القرآن وهو في بيت الخلاء، ومن ناحية ثانية من الناحية النظرية تقول: هذا كأنك تستمعه من فرجة؛ لأن اللي يقرأ ما هو في وسط ( ... ) القارئ الآن ولكنك تسمع صوته من هذه النافذة، إنما الذي أرى ولكن ما أقول: هذا الحكم الشرعي، أنا من الناحية النفسية ما أحب هذا، وأرى أنه إذا جاءت الآيات وأنت مثلا تستمع إليه سكه، القرآن يسمع من هذا المكان، أما إذا كان خارج الباب فلا بأس، وقد ذكروا أن المجد ابن تيمية رحمه الله جد شيخ الإسلام ابن تيمية أنه إذا دخل الخلاء أمر خادمه أو أحد أولاده أنه يقرأ عليه العلم، إما أحاديث وإلا كلام الفقهاء والعلماء؛ لئلا يغيب عن دارسة العلم في هذه المدة ( ... ).
قوله: (ورفع ثوبه قبل دنوه من الأرض)، رفع ثوبه يعني قاضي الحاجة يكره أن يرفع ثوبه قبل أن يدنو من الأرض، وهذا على وجهين:
أحدهما: أن يكون حوله من ينظره، فرفع الثوب هنا قبل الدنو من الأرض محرم؛ لأنه كشف للعورة لمن ينظر إليها، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ» (12).
(1/140)
________________________________________
الثاني: كشفه وهو خالٍ ليس عنده أحد، فهل يكره أو لا؟ هذا ينبني على جواز كشف العورة والإنسان خالٍ. وفيه للعلماء ثلاثة أقوال: الجواز، والكراهة، والتحريم، والمذهب يقولون: إنه يكره أن يرفع ثوبه قبل دنوه من الأرض إذا لم يكن ناظر، فإن كان ناظر فهو حرام، ويكره إذا لم يكن ناظر؛ لأن فيه كشفًا للعورة بلا حاجة، أليس كذلك؟
طلبة: بلى.
الشيخ: تكشف عورتك بلا حاجة، الحاجة أنك إذا قربت من الأرض، أما وأنت بعيد فلا حاجة لذلك، ويقولون: إنه يحرم كشف العورة في الخلاء، لكن إنما قلنا بكراهة ذلك دون التحريم لأن كشفه هنا لسبب، وكان الخارج أو الزائد هو أن يبدأ بذلك قبل أن يباح له هذا الشيء، فلهذا يقولون: إنه على سبيل الكراهة، لا على سبيل التحريم.
وقول المؤلف: (ورفع ثوبه قبل دنوه من الأرض) إذا كان يريد أن يبول وهو قائم، فهذا سيرفع ثوبه وهو واقف، ولكن نقول: إن القائم دانٍ من قضاء الحاجة؛ لأنه سيقضيها وهو قائم.
والبول قائمًا جائز، لاسيما إذا كان لحاجة، ولكن بشرطين:
أن يأمن التلويث، وأن يأمن الناظر، وقد ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى سُبَاطَةَ قومٍ فبالَ قائمًا (13).
قال أهل العلم: فعل ذلك للجواز، وقال علماء آخرون: فعل ذلك للحاجة؛ لأن السباطة كانت عند قوم مجتمعين ينظرون إليه، فهو إن قعد في أعلاها مستدبرًا لهم ارتد بوله إليه، وإن قعد في أعلاها مستقبلًا لهم فقد كشف عورته أمامهم، فما بقي إلا أن يكون قائمًا مستدبرًا للقوم، فيكون في ذلك محتاجًا إلى البول قائمًا.
وأما حديث أن ذلك كان لأثر في مأبِضه (14) فإنه ضعيف، وكذلك القول بأنه فعل ذلك لأن العرب يتطببون بالبول قائمًا من وجع الركب (15) فهذا ضعيف. ولكن نعم يمكن العرب إذا أوجعتهم ركبهم عند الجلوس يمكن يبولون قيامًا للحاجة.
(1/141)
________________________________________
طالب: بالنسبة للذي يرفع ثوبه وهو قائم والناس ينظرون إليه وذكرت في الحديث «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ» فهذا الحكم في الناظر يعني ما يتعلق بالمنظور إليه.
الشيخ: إي نعم الحكم في الناظر صحيح إذا كان يحرم النظر، فلولا أن كشفها محرم ما حرم النظر، هذا وجه الدلالة، ولهذا يجوز مثلًا ينظر الإنسان إلى وجه الإنسان وإلى صدره وإلى منكبه لأنه يباح كشفه.
طالب: ذكرنا قولًا من الأقوال الثلاثة جواز كشف العورة ( ... ) التحريم والجواز ( ... ).
الشيخ: الكراهة، والتحريم، والجواز، الظاهر أنه للكراهة أقرب، ولهذا كان الذي عليه جنابة إذا أراد أن يغتسل يتوضأ وهو عار، والوضوء هنا سنة وليس بواجب، ولو كان الخلوة يحرم فيها كشف العورة لقلنا: إنه لا يجوز لك أن تتوضأ إلا وأنت مستتر، ثم إذا جاء الغسل الذي لا بد فيه من خلع الثوب فاخلعه، وقد يجاب بأن هذه المسألة لما أبيح له أن يكشف ثوبه هنا للاغتسال صار كشفه للوضوء تبعًا، وهذه المسألة إن شاء الله تأتينا في العورة، ما حررتها هنا تحريرًا بالغًا، تأتينا إن شاء الله في درس العورة.
طالب: السباطة.
الشيخ: السباطة: الزبالة، كناسة، في الغالب تكون مرتفعة لأن مجمع الكنائس يكنس يعني.
يكره أيضًا (كلامه فيه) أي: كلام قاضي الحاجة (فيه) أي: في الخلاء، يكره، ما هو الدليل على الكراهة؟
استدلوا بأن رجلًا مرَّ بالنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يبول؛ فسلَّم عليه فلم يردَّ عليه السَّلام (16).
(1/142)
________________________________________
ما رد عليه السلام، قالوا: ولو كان الكلام جائزًا لرد عليه السلام؛ لأن رد السلام واجب، لكن هذا الاستدلال مقتضاه التحريم، أنه يحرم أن يتكلم وهو على قضاء حاجته، ولهذا لما ذكر صاحب النكت ابن مفلح لما ذكر هذه المسألة قال: وظاهر استدلالهم يقتضي التحريم، وهو أحد القولين في المسألة. على أن كلام الإنسان وهو على حاجته محرم لا يجوز. أما إذا كانا اثنين ينظر أحدهما إلى الآخر ويتحدثان فهو حرام بلا شك، بل إن ظاهر الحديث الوارد فيه لولا ما فيه من المقال لكان ظاهره أنه من كبائر الذنوب؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن الرجلين إذا فعلا ذلك فإن الله يمقت عليه (17)، والمقت أشد البغض؛ وهذا يقتضي أن يكون من الكبائر، إنما الكلام المجرد هذا يكره، والاستدلال بالحديث كما سمعتم.
لكن لو قال قائل: إن الاستدلال بالحديث يقتضي التحريم؛ لأنه ترك واجبًا، وترك الواجب لا يباح إلا إذا كان الشيء محرمًا؛ لكن أجاب العلماء عن ذلك؛ أجابوا بجوابين:
الجواب الأول قالوا: إن هذا المسلم على قاضي الحاجة لا يستحق ردًّا؛ لأنه لا ينبغي السلام على قاضي الحاجة، حطوا بالكم هذا جواب.
الجواب الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما ترك الواجب؛ لأنه بعد أن انتهى رد عليه السلام واعتذر منه، الرسول علم بأنه سيرد عليه، وغاية ما فيه أنه أجل الرد؛ لأنه ليس على طهر.
أما الوجه الأول فضعيف، قولهم بأنه سلم عليه وهو لا يستحق الرد في هذه الحال لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما علل عدم السلام بأنك سلمت في حالٍ لا تستحق الرد.
(1/143)
________________________________________
وأما الثاني فنعم، الثاني أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما ترك الرد تركًا مطلقًا، وعرفنا بأنه أجله، وهذا لا يستلزم القول بالتحريم، ولكن مع ذلك إذا احتاج إلى أن يتكلم، كما لو انتهى الماء الذي يستنجي به، لا يقدر يستنجي، ولا يقدر يقوم، الآن إذا ما استنجى ما يقدر يقوم الإنسان، وصوت إلى أحد: أعطني ماء، فهذا حاجة ولا بأس به.
نهى أن يضرب الرجلان الغائط ثم يجلسان لقضاء الحاجة يتحدثان، قال: «فَإِنَّ اللهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ»، ولكن هذا الاستدلال فيه نظر، لماذا؟
لأن الدليل أخص من المدلول، والقاعدة في الاستدلال ألا يستدل بالأخص على الأعم، وإنما يستدل بالأعم على الأخص، فالدليل هنا في رجلين ضربا الغائط وجلسا وصارا يتحدثان، هذه حالة غير مجرد أن يتكلم الإنسان على الخلاء. ونحن نقول في مثل هذه الحال: أقل أحوالها أن يكون مكروهًا إذا لم ينظر أحدهما إلى عورة الآخر، فإن نظر أحدهما إلى عورة الآخر فإن ذلك محرم.
وعلى كل حال، فقد نص الإمام أحمد رحمه الله على أنه يكره الكلام حال قضاء الحاجة، وقال مرة أخرى: إنه لا ينبغي، والمعروف عند أصحاب الإمام أحمد أن الإمام إذا قال: أكره كذا، أو قال: لا ينبغي، فهو للتحريم، هذا معروف عندهم.
طالب: لو قال.
الشيخ: لا ينبغي. وعلى كل حال نحن نرى أنه لا ينبغي أن يتكلم في حال قضاء الحاجة إلا كما قال الفقهاء: لحاجة، مثل لو أراد أن يرشد أحدًا أو كلمه أحد لا بد أن يرد عليه، أو كان له حاجة في شخص وخاف أن ينصرف وقال: فلان وما أشبه ذلك.
طالب: شيخ ( ... ).
الشيخ: (وبوله في شق ونحوه) يعني: يكره بوله في شق ونحوه، الشق: هو الفتحة تكون في الأرض، وهو الجحر، جحر الدواب والهوام، هذا الشق.
وقوله: (ونحوه)، مثل بعضهم بفم البالوعة، يعني البالوعة هي متجمع الماء الغير نظيف، وسميت بالوعة لأنها تبتلع الماء.
(1/144)
________________________________________
فيكره للإنسان أن يبول في الشق؛ السرب والجحر وما أشبه ذلك، وظاهر كلام فقهائنا رحمهم الله: ولو كان الشق معلوم السبب، كما لو كانت الأرض قيعانًا وجاءها المطر فالعادة أنه إذا يبس هذا القاع العادة أنه يتشقق ويتفطر، فظاهر كلام الفقهاء حتى في هذه الحال يكره.
ومع هذا نقول: إنه يكره، فإذا كان مكروهًا فإنه يزول بماذا؟
بالحاجة؛ لأنه أحيانًا ما يكون عندك في الفضاء مثلًا إذا كنت في روضة قيعان وقد مر بها الوادي وما أشبه ذلك لا بد يكون فيها تفطر، قد يشق عليك أن تجد مكانًا ليس فيه هذه الشقوق.
المهم الحكم هنا الكراهة، فما هو الدليل؟ وما هو التعليل؟
الدليل: ما رواه قتادة عن عبد الله بن سرجس أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: نهى أن يُبال في الجُحر، قيل لقتادة: ما بال الجُحر؟ قال: يُقال: إِنَّها مساكن الجنّ (18). هذا الحديث منهم من صححه، ومنهم من ضعفه، ولكن أقل أحواله أن يكون حسنًا؛ لأن العلماء قبلوه، واحتجوا به، فهذا هو الدليل أن الرسول نهى أن يُبال في الجُحر.
وأما التعليل فقالوا: لأنه يخشى أن يكون في هذا الجحر شيء ساكن فتفسد عليه مسكنه، أو يخرج وأنت على بولك ثم يؤذيك، وربما تقوم بسرعة فلا تسلم من رشاش البول، فلهذا لا ينبغي.
وقد ذكر المؤرخون أن سعد بن عبادة رضي الله عنه بال في جحر في الشام، وما أن فرغ من بوله حتى استلقى ميتًا -سعد بن عبادة سيد الخزرج رضي الله عنه- فسمعوا هاتفًا يهتف في المدينة يقول:
نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْ
رَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَهْ
وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْ
نِ فَلَمْ نُخْطِئْ فُؤَادَهْ (19)
(1/145)
________________________________________
هكذا ذكر المؤرخون، والله أعلم بصحة القصة. لكن على كل حال: عندنا الدليل اللي أشرنا إليه والتعليل، ولكن مع هذا إذا كان الإنسان محتاجًا بحيث لم يجد مكانًا إلا متشققًا ففي هذه الحال؟
طلبة: لا حرج.
الشيخ: لا حرج عليه.
(وبوله في شق ونحوه ومس فرجه بيمينه، واستنجاؤه واستجماره بها).
(مس فرجه بيمينه) أي الفرجين؟ نقول: كلاهما؛ لأن فرج مفرد مضاف، والمفرد المضاف يعم، فالفرج يطلق على الدبر والقبل، كلاهما فرج، فرجة منفتح يخرج منه الأذى، فيكره أن يمس فرجه بيمينه لحديث أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا يَمَسَّنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ» (20).
هذا الدليل «لَا يَمَسَّنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ»، وعلى هذا فالدليل هو نهي الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن تأملوا معي الحديث يقول: «وَهُوَ يَبُولُ» والجملة هنا حال من فاعل (يمسن)، يعني في حال البول. إذا لم يكن يبول هل يكره مس فرجه؟
نشوف، القيد هذا اختلف فيه أهل العلم: هل هو قيد مراد، بمعنى أن النهي وارد على ما إذا كان يبول فقط؛ لأنه إذا كان يبول فربما تتلوث يده بماذا؟ بالبول، وإذا كان لا يبول فإن العضو هذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «بَضْعَةٌ مِنْكَ»، حينما سُئل عن الرَّجل يَمَسُّ ذَكَرَهُ في الصلاة عليه وضوءٌ؟ قال: «لَا، إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ» (21)، فإذا كان بضعة مني فلا فرق بين أن أمسه بيدي اليمنى أو بيدي اليسرى، بخلاف حال البول، فإن البول الآن يكون هذا العضو متأثرًا فيه وربما يصيبه منه.
وقال بعض أهل العلم: إنه إذا نهي عن مس الذكر باليمين حال البول، فالنهي عن مسه في غير حال البول من باب أولى، كيف ذلك؟ قال: لأنه حال البول ربما يحتاج إلى مسه، فإذا نهي عنه في الحال التي قد يحتاج إلى مسه فالنهي عنه في غير هذه الحال من باب أولى.
(1/146)
________________________________________
والحقيقة أن كلا الاستدلالين له وجه، والاحتمالان واردان، وعلى هذا فيكون الأحوط للمرء أيش؟ أن يتجنب مسه، ولكن الجزم بالكراهة إنما هو في حال البول؛ كما جاء في الحديث، وفي غير حال البول محل احتمال، والحمد لله إذا لم يكن هناك داعٍ ففي اليد اليسرى غنية عن اليد اليمنى.
طالب: ( ... ).
الشيخ: يستجمر باليسرى.
الطالب: ( ... ).
الشيخ: بقي صح.
(واستنجاؤه واستجماره بها)، طيب نحن ذكرنا الدليل على مس الفرج باليمين فما هو التعليل؟
التعليل: إكرامًا لليمين؛ لأن اليمين محل الإكرام، ولذلك يُؤكَل بها ويُشرَب بها ويؤخَذ بها ويعطَى بها.
قال (واستنجاؤه واستجماره بها).
طالب: قلنا: إن النهي ( ... ) التحريم ( ... ).
الشيخ: إي نعم، الظاهر أن فيها خلافًا قليلًا، أكثر العلماء على أنه للكراهة، والذي ينبغي للإنسان أن يتجنبه إلا لحاجة.
(واستنجاؤه واستجماره بها) ويش الدليل؟
حديث أبي قتادة نفسه حين قال: «وَلَا يَتَمَسَّح مِنَ الْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ»، والجملة الثالثة في الحديث: «وَلَا يَتَنَفَّس فِي الْإِنَاءِ» (22)، فنقول: لا تستنجِ ولا تستجمر باليمين.
ما الفرق بين الاستنجاء والاستجمار؟
الاستنجاء بالماء، والاستجمار بالحجر، ونحوه.
فهو مكروه أن يستنجي الإنسان بيمينه أو أن يستجمر بيمينه؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الدليل، وأما التعليل فهو إكرام اليمين.
طيب أحيانًا قد يحتاج إلى الاستجمار باليمين، أو الاستنجاء باليمين، كما لو كانت اليسرى مشلولة، فما الحكم؟
طلبة: تزول الكراهة.
الشيخ: تزول الكراهة، كذا. أحيانًا تكون اليمنى سليمة واليسرى سليمة، لكن عند الاستجمار يحتاج إلى اليمنى.
(1/147)
________________________________________
قال العلماء: إذا احتاج إلى الاستجمار، مثل ألا يجد إلا حجرًا صغيرًا قالوا: الحجر الصغير إن أمكن أن يجعله بين رجليه، يمسكه برجليه كذا ويتمسح فعل، فإن لم يمكن فإنه يأخذ الحجر باليمين ويمسح بالشمال، إلى هذا الحد، كل هذا من أجل ألا نقع فيما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان ينبغي له أن يتجنب كل ما نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، لا يقول مثلًا: هذا للكراهة، هذا للتحريم، ما دام الرسول نهى عنه اتركه.
صحيح أن بعض الأشياء تأثم لو تركته، وبعضها ما تأثم، لكن {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
كان بعض العلماء إذا سئل عن شيء يقال: نهى عنه الرسول قال السائل: طيب هل هو للتحريم؟ ينفض يده ويقول: أقول لك: نهى عنه رسول الله وتقول: هل هذا للتحريم!
{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] حتى لو قلنا أو كان جمهور أهل العلم على أن هذا النهي للكراهة، فالذي ينبغي لنا أن نتجنبه؛ لأن هذا هو تمام الانقياد.
طالب: شيخ، هل يخرج من التمسح باليدين ( ... ).
الشيخ: إي نعم، لا، هو أهون.
طالب: أن يمسح بيمينه.
الشيخ: إي، لكن المسح باليسار لكن اليمنى بس ثابتة، غاية ما هنالك أنه مسك الحجر، يعني ما أمر الحجر على القضيب، بل إنما أمر القضيب عليه.
الطالب: ( ... ) ما يمس مس مباشر ( ... ).
الشيخ: لا، هو أصلًا ما مسه، ما مس الذكر، لما أمسك الحجر الصغير ما مس الذكر إطلاقًا، ما فيه مس الذكر، الذكر اللي مسته اليسرى ومسحته.
طالب: أقول: فيه خطورة من البول.
الشيخ: لا، هو على كل حال هذا ما فيه خطورة للحقيقة، البول انتهى انقطع وقف ( ... ).
ثم قال: (واستقبال النيرين) هذه (استقبال) معطوفة على أيش؟ على (يكره)؟
طلبة: لا.
الشيخ: لا.
طالب: ( ... ) بوله.
الشيخ: لا.
طالب: الاستنجاء.
طالب آخر: يكره دخول.
(1/148)
________________________________________
الشيخ: على (دخول)، على (دخوله)، (يكره دخوله بشيء فيه ذكر الله) ثم عطف؛ لأن الصحيح أن العطف يكون على ما تسلط عليه العامل مباشرة أو لا؟ إذا قلت: قام زيد وعمرو وبكر وخالد وعلي ومحمد وعبد الله، وين عبد الله، وين يعطف عليه؟ على زيد، على الأول، يعني العطف يكون على أول معمول، سواء فاعل ولا مفعول تسلط عليه العامل، لماذا؟ لأن البقية فروع وتوابع، ما هي أصول.
طالب: ولو بغير الواو.
الشيخ: ولو بغير الواو، كل شيء.
قال: (واستقبال النيرين) ما هما النيران؟ الشمس والقمر، يكره أن يستقبلهما الإنسان حال قضاء الحاجة، الدليل لا دليل، التعليل: لما فيهما من نور الله، هذا التعليل لما فيهما: من نور الله، يكره أن تستقبلهما، والحقيقة أن ما فيهما من نور ليس هو نور الله الذي هو صفته، بل فيهما نور مخلوق، وفي النجوم نور مخلوق ولا لا؟ لو كنت في مكان ما فيه أنوار كهربائية بعض النجوم تشاهد ظلك يعني لها نور ينعكس، فإذا قلنا بهذا قلنا: إذن كل شيء يكون فيه نور وإضاءة حتى للنجوم يكره استقباله، وفي هذا نظر.
ثم نقول: إن هذا التعليل مع كونه عليلًا هو مصادم للنص؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا، أَوْ غَرِّبُوا» (23). ومعلوم أن مَن شرّق والشمس طالعة سيستقبلها، أو غرّب والشمس عند الغروب سيستقبلها، والرسول عليه الصلاة والسلام ما قال: إلا أن تكون الشمس أو القمر بين أيديكم فلا تفعلوا.
فعلم من هذا أن القول الصحيح في هذه المسألة القول الثاني، وهو أنه لا يكره استقبال الشمس والقمر في حال قضاء الحاجة.، وذلك لعدم الدليل، بل ولثبوت الدليل الدال على الجواز.
(ويحرم استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان) هذا أظن أول موضع نصل إليه فيما يتعلق بالقبلة. استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة محرم حرام، ما الدليل؟
(1/149)
________________________________________
الدليل: حديث أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا». قال أبو أيُّوب رضي الله عنه: فقدِمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بُنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله (23). هذا هو الدليل: «لَا تَسْتَقْبِلُوا»، والأصل في النهي التحريم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا» يفيد أن الانحراف اليسير لا يكفي؛ لأنه قال: «لَا تَسْتَقْبِلُوا»، ثم أرشد إلى أمر آخر، وهو التشريق أو التغريب، ومن المعلوم أن قوله: «شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» لقوم إذا شرقوا أو غربوا لا يستقبلون القبلة ولا يستدبرونها، مثل أهل المدينة، أهل المدينة قبلتهم الجنوب، فإذا شرقوا أو غربوا صارت القبلة إما على أيمانهم أو عن شمائلهم، لكن في مثل مكاننا هذا لو أننا شرقنا أو غربنا لاستقبلنا القبلة.
فعلى هذا نقول في قوم إذا شرقوا أو غربوا استقبلوا القبلة، نقول: ولكن أشملوا أو أجنبوا، إي نعم، كما قال الرسول هنا «شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا». إذن الدليل هذا الحديث التعليل؛ لأن أنا ودي أن الإنسان يفهم الدليل، والدليل مسلم به، كل مؤمن يسلم به، لكن إذا حصل مع الدليل التعليل كان أكمل، وإذا يسر الله وفتح علينا به أحب إلينا. التعليل هو احترام القبلة في الاستقبال والاستدبار، لا تستقبل ولا تستدبر.
(1/150)
________________________________________
يقول المؤلف: (في غير بنيان) استثنى، أما إذا كان في بنيان فإنه يجوز استقبالها واستدبارها، ما هو الدليل؟ الدليل: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: رَقِيتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ (24). ولكننا ننظر هل هذا الحديث يوافق كلام المؤلف أو لا؟ قال: (في غير بنيان) يعني في البنيان يجوز استقبالها ويجوز استدبارها.
وهذا هو المشهور من المذهب، بل قالوا رحمهم الله: يكفي الحائل، وإن لم يكن بنيانًا، كما لو اتجه إلى السيارة أو إلى كومة من رمل أقامها ثم كان وراءها أو إلى شجرة أو إلى أكمة أو إلى حجر كبير أو ما أشبه ذلك. قالوا: يكفي ما كان حائلًا، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يستثنى شيء أبدًا، وأنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها؛ لا في الفضاء ولا في البنيان، وهذا أحد الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله، الإمام أحمد عنه في هذا روايات متعددة؛ منها المذهب اللي سمعتم.
والقول الثاني، الرواية الثانية: أنه يحرم استقبالها واستدبارها مطلقًا في الفضاء والبنيان. قالوا: وهذا الذي قلناه هو مقتضى حديث أبي أيوب استدلالًا وعملًا، أما الاستدلال فبقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما العمل فبفعل أبي أيوب حين قال: قدمنا الشَّام فوجدنا مراحيض قد بُنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله.
فقوله: نستغفر الله يدل أنه ما رأى أن هذا كاف، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بأنه لا يجوز استقبال القبلة واستدبارها لا في البنيان ولا في غير البنيان؛ لعموم الحديث.
ولكن بماذا نجيب عن فعل الرسول عليه الصلاة والسلام؟
شوف بعض العلماء أخذ من فعل الرسول عليه الصلاة والسلام أن النهي للكراهة، وقال: إن فعل الرسول عليه الصلاة والسلام لأجل أن يبين الجواز، وأنه ليس حرامًا، ولكن هذا فيه نظر.
(1/151)
________________________________________
بقي أن نقول: ما الجواب عن فعل الرسول عليه الصلاة والسلام الذي ذكره ابن عمر رضي الله عنه؟
بعضهم قال: إنه يحمل على ما قبل النهي، يرجح عليه النهي؛ لأن النهي ناقل عن الأصل، كيف ناقل عن الأصل؟ ويش الأصل؟
طلبة: الجواز.
الشيخ: الأصل الجواز أنك تستقبل ما شئت، هذا الأصل، إلا إذا جاء منع، فيقولون: إن حديث أبي أيوب ناقل عن الأصل، والناقل عن الأصل مقدم عليه، هذا وجه.
الجواب الثاني: أن حديث أبي أيوب قول، وحديث ابن عمر فعل، والفعل لا يمكن أن يعارض القول؛ لأن فعل الرسول عليه الصلاة والسلام يحتمل الخصوصية، يحتمل هذا خاص به، ويحتمل النسيان أنه نسي عليه الصلاة والسلام، هذا وارد ولّا غير وارد؟
طلبة: وارد.
الشيخ: نعم وارد، ولكنه الحقيقة، أما احتمال الخصوصية فمردود؛ لأن الأصل الاقتداء والتأسي به، وليس هناك معارضة تامة، نعم لو كان معارضة تامة بين القول والفعل لكان القول بأن الفعل خاص به متجهًا، لكن ليس هناك معارضة تامة، لماذا؟ لإمكان أن يحمل حديث أبي أيوب على ما إذا لم يكن في البنيان، وحديث ابن عمر على ما إذا كان في البنيان، وكلما أمكن الجمع بين قول الرسول عليه الصلاة والسلام وفعله فإنه هو الواجب.
وعلى كل حال وكونه في البنيان خاص، ولهذا نقول: القول الراجح في هذه المسألة أنه يجوز في البنيان استدبار القبلة دون استقبالها.؛ لأن النهي عن الاستقبال محفوظ، ليس فيه تخصيص، والنهي عن الاستدبار مخصوص بالفعل، هذه من جهة، ومن جهة أخرى الاستدبار أهون من الاستقبال، استدبار الإنسان للقبلة أهون من استقبالها، ولهذا جاء -والله أعلم- التخفيف فيه فيما إذا كان الإنسان في البنيان.
طالب: فيه حديث يا شيخ عن الاستقبال.
الشيخ: أولًا ضعيف الحديث.
الطالب: ضعيف؟
(1/152)
________________________________________
الشيخ: ضعيف نعم، والثاني قبل أن يكون بعام، ما هو بصريح بأنه في الفضاء والبنيان، قد يكون في البنيان ما هو بصريح، ولا ظاهره النسخ، ظاهره أن الأول قبل أن يموت بعام ( ... ) الاستقبال بعد النهي.
طالب: شيخ حديث ابن عمر: رَقِيتُ يومًا على بيت حفصة، هل يدل أن الرسول كان في بنيان؟
الشيخ: إي نعم؛ لأنه في البلد، البلد في البنيان.
الطالب: ( ... ).
الشيخ: إي لا، هو رآه في نفس البيت؛ لأن حفصة أخت ابن عمر.
الطالب: ما يلزم أنه يكون بالبيت؟
الشيخ: لا، هو الظاهر هذا ظاهر الحال هو ما يلزم، لكن هذا ظاهر الحال؛ لأن بيت حفصة بيت أخته.
طالب: ( ... ) حسن هذا الحديث حديث جابر ( ... ).
الشيخ: إي، لكن الصحيح أنه ضعيف، وأنه لا يمكن أن يعارض الحديث الصحيح؛ كحديث أبي أيوب، حديث أبي أيوب في الصحيحين، ولا يمكن أن يعارضه هذا، ثم إن المعنى الذي من أجله نهي عنه لا زال قائمًا، ليس هذا معنى يمكن أن يزول فينسخ، فما دام علة النهي باقية فإن النسخ لا يمكن أن يكون، كما أنه لا يمكن أن ينسخ استقبال القبلة في حال الصلاة؛ لأن المعنى احترام القبلة، هذا لا يمكن أن يزول، هذا هو ضعف هذا المذهب.
طالب: ( ... ).
الشيخ: إي، لكن يخففه أنه في البنيان وأنه استدبار، والبنيان ما هو مثل الفضاء ( ... ).
طالب: حديث أبي أيوب: فننحرف عنها ونستغفر الله، ما يدل على أنه فيه ذنب؟
الشيخ: نحن قلنا: إن أبا أيوب فهم أن النهي للتحريم؛ لأنه لا استغفار إلا من ذنب.
(1/153)
________________________________________
ولُبْثُه فوقَ حاجتِه، وبولُه في طَريقٍ وظِلٍّ نافعٍ وتحتَ شجرةٍ عليها ثَمَرَةٌ ويَسْتَجْمِرُ بحَجَرٍ ثم يَستنجِي بالماءِ، ويُجْزِئُه الاستجمارُ إن لم يَعْدُ الخارِجُ مَوْضِعَ العادةِ. و (يُشْتَرَطُ) للاستجمارِ بأحجارٍ ونحوِها أن يكونَ طاهرًا مُنْقِيًا غيرَ عَظْمٍ ورَوْثٍ وطعامٍ مُحْتَرَمٍ ومُتَّصِلٍ بحَيوانٍ، ويُشْتَرَطُ ثلاثُ مَسَحاتٍ مُنْقِيَةٌ فأَكْثَرُ ولو بحَجَرٍ ذي شُعَبٍ، و (يُسَنُّ) قَطْعُه على وِتْرٍ.
و(يَجِبُ) الاستنجاءُ لكلِّ خارجٍ إلا الريحَ، ولا يَصِحُّ قَبْلَه وُضوءٌ ولا تَيَمُّمٌ.
(باب السواك وسنن الوضوء)
التَّسَوُّك بعُودٍ لَيِّنٍ مُنْقٍ غيرِ مُضِرٍّ لا يَتَفَتَّتُ مسنونٌ، إلا بأُصْبِعِه وخِرْقَةٍ
( ... ) الخلاصة أن الأصح في استقبال القبلة واستدبارها أنه حرام، وأما الاستدبار في البنيان جائز، ومع ذلك فالأفضل ألَّا يستدبرها جهة مكة.
طالب: شيخ، ( ... ) الصحابة ( ... )؟
الشيخ: إي، لكن يكون فيه خلاف، ذكروا فيه خلافًا على اختلافهم فيها.
الطالب: لكن عدم سماع ( ... )؟
الشيخ: إذا رأيت أن استدبارهم أهون من استقبالهم.
نحن ذكرنا على هذه الجملة أننا نحب أن نتعرض لحكم استقبال القبلة؛ استقبال القبلة قد يكون حرامًا كما هنا، وقد يكون واجبًا، كما في الصلاة، وقد يكون مكروهًا، كما في حال الخطبة يوم الجمعة مثلًا، فيكره أن يستقبل القبلة ويخطب الناس وقد خلفهم وراء ظهره، وقد يكون مستحبًّا، مثل الدعاء ومثل الوضوء.
فقال بعض العلماء: إن كل طاعة الأفضل أن نستقبل فيها القبلة إلا بدليل، ولكن في هذا نظر؛ لأننا إذا أخذنا هذه القاعدة ( ... )، العبادات الأصل فيها التوقيف
***
(1/154)
________________________________________
ثم قال المؤلف: (ولبثه فوق حاجته) (لبثه) هذه معطوفة على (استقبال)، (ويحرم استقبال القبلة) يعني: ويحرم لبثه فوق حاجته؛ يعني: فوق مقدار حاجته، فيحرم على الإنسان وهو في الخلاء أن يلبث فوق حاجته، بل يجب من حين ما ينتهي أن يخرج، وعللوا ذلك بعلتين:
العلة الأولى: أن في ذلك كشفًا للعورة بلا حاجة.
والعلة الثانية: أن الحشوش والمراحيض هي مأوى الشياطين والنفوس الخبيثة، فلا ينبغي أن يبقى في هذا المكان الخبيث.
وقال بعض أهل العلم: إنه من الناحية الطبية أنه يدمي الكبد، يكون سببًا في أن ينصهر الكبد حتى يخرج منها الدم.
وعلى كل حال، المهم أن تحريم اللبث مبني على أيش؟
طلبة: التعليل.
الشيخ: التعليل، ما فيه دليل عن الرسول عليه الصلاة السلام؛ ولهذا فيه رواية عن الإمام أحمد: أنه يكره لبثه فوق حاجته ولا يحرم، وعلى كل حال؛ فإنه إما مكروه، وإما حرام.
وأما ما يفعله الغربيون وأشباههم؛ يجعلون هذه الكراسي التي يجلسون إليها ويدلون أرجلهم، ويأخذ الواحد منهم المجلة والصحيفة، ويخلي هذا المكان محل قراءة هذه المجلات والصحف، فلا شك أن هذا خلاف العقل وخلاف الشرع.
طالب: ( ... )؟
الشيخ: ( ... ).
(في طريق) يحرم أن يبول في الطريق، وأن يتغوط من باب أولى، ولا يجوز للإنسان أن يبول أو يتغوط في طريق؛ لحديث مسلم (1) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ»، قالوا: وما اللعانان، يا رسول الله؟ قال: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ ظِلِّهِمْ»، وفي حديث أبي داود (2): «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبُرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ».
(1/155)
________________________________________
فلا يجوز للإنسان أن يبول في ( ... ) لماذا؟ لأنه يؤذي المارة، وإيذاء المؤمنين محرَّم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
فصار الحكم التحريم والدليل حديث أبي هريرة: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ»، والتعليل؟
طالب: أذية المسلمين.
الشيخ: أذية المسلمين، وأذية المسلمين محرَّمة.
وكذلك أيضًا (ظل نافع) الظل، وأيش معنى النافع؟ الذي يستظل به الناس، ليس كل ظل، لو تأتي مظلة ما يجلس فيها أحد، ما نقول: حرام عليك أن تبول أو تتغوط فيها، لكن الظل النافع الذي يستظل به الناس.
والدليل لفظ الحديث؛ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «أَوْ ظِلِّهِمْ»؛ يعني: الظل الذي هو محل جلوسهم وانتفاعهم بذلك.
قال بعض العلماء: ومثله مشمس الناس في أيام الشتاء، أيش معنى مشمسه؟ يعني: يجلسون فيه؛ يجلسون في الشمس للتدفئة، وهذا قياس صحيح جليٌّ واضح.
قال بعض العلماء: إلا إذا كانوا يجلسون لغيبة أو لفعل محرم، فإنه يجوز أن يفرقهم، ولو بالبول والتغوط.
لكن هذا فيه نظر؛ لأن الحديث عام، هذا من جهة الدليل؛ ولأنه لا فائدة من ذلك، هم إذا علموا أن هذا الرجل جاء وتغوط في أماكن جلوسهم، ماذا يحدث؟
طلبة: يزيدهم شرًّا.
الشيخ: يزيدهم شرًّا، وربما يتخانقون معه ويتقاتلون، لكن الطريق السليم أن يأتي إلى هذا المجتمع ويوجه الدعوة والنصيحة لهم، هذا الطريق السليم، أما أن يفعل هذا الشيء .. ، فيه بعض الناس يستعمل غير البول والغائط -يعني: البول الحقيقة ينجس ويؤذي- يصب في أماكنهم زيت أو قطران، ما تقولون في هذا؛ يعني هل هذا علاج صحيح؟
طلبة: لا.
الشيخ: أظنه غير صحيح؛ لأنه حتى لو فرض أنهم جاؤوا ووجدوا المكان على هذه الصفة ذهبوا إلى مكان آخر، لكن إذا أتي إليهم ونصحوا أحسن وأبين.
طالب: يجوز لعن هنا من فعله؟
(1/156)
________________________________________
الشيخ: نعم، ظاهر الحديث جواز ذلك.
طالب: الزيت والقطران؟
الشيخ: ظاهر الحديث العموم، ما دام ظلًّا نافعًا للناس أظنه ما يبول فيه، والحيوانات ربما إذا جاءت إلى هذا الظل ربما تبرك وتربط وتتلوث، ضرورة.
طالب: ما الفرق بين الحيوان زي الكلاب وبين الأنعام؟
الشيخ: على كل حال، ظاهر هذا ما يهم هذا الشيء، حتى لو تلوثت إيه المانع؟
الطالب: أن هذه الأشياء تتلوث.
الشيخ: هذا ما يهم، أهم شيء الحيوان المحترم الذي يمكن أن يحلب أو يركب، فهذا يجب تجنبه.
طالب: نعجة لفلان نطيحة ( ... )؟
الشيخ: غير البول والغائط.
طالب: إنما يؤذيه هذا.
الشيخ: إي، ما دام المطر عند بيته ويتأذى به، فهذا يكون ما غرضه أن يسلم هؤلاء من الشر والمحرم، لكن غرضه أن يسلم من أذيتهم، فيجوز أن يدافع عن نفسه وعن أذيتهم بما شاء.
طالب: شيخ، يقول: إن هذا من باب معالجة الخطأ بالخطأ؟
الشيخ: لا، ما هو خطأ.
الطالب: لأن الشارع ينتفع به ليس هؤلاء الذين ( ... )؟
الشيخ: لا، هو في الحقيقة ما يؤذي، إذا كان زيتًا ما يؤذي المارة مطلقًا، يؤذي الجالسين فقط، يمكن الزيت هو الذي يؤذي المارة، يلصق بنعالهم ثم بثيابهم، وربما يلصق على أقدامهم، فيمنع وصول الماء، فيخل بطهارتهم.
طالب: ( ... ) الأرض ثلاثًا؟
الشيخ: الأسواق الغالب أن ما فيها ( ... ).
طالب: أحيانًا ( ... ).
الشيخ: ويش تقولون في هذا؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: هو يجعلكم، لكن هذا رد لما قال، أنا عندي أنه يبول في السيارة ولا يبول في السوق؛ لأن السيارة ممكن تتنظف، ينظفها صاحبها، وأهل السوق يسلموا، إلا إذا كان يريد إذا بال فإنه يرجع على السوق ويطهره بالماء.
طالب: ( ... )؟
الشيخ: إي، ما يبول في السوق.
***
يقول: (وتحت شجرة عليها ثمرة) أفاد المؤلف تحت الشجرة لا بد أن يكون دانيًا منها ليس بعيدًا.
و(عليها ثمرة) أطلق المؤلف الثمرة، ولكن يجب أن تقيد فيقال: ثمرة مقصودة، أو ثمرة محترمة.
(1/157)
________________________________________
ثمرة مقصودة؛ يعني: يقصدها الناس وإن كانت غير مطعومة، مثلما يوجد في بعض الأكل؛ بعض الأكل يوجد هذا ( ... ) الذي يستعمله ( ... )، يأكله الناس، فإذا كانت مقصودة؛ يعني: الناس يقصدونها ويأكلونها، فإنه لا يجوز أن تبول تحتها ولا أن تتغوط، لماذا؟ لأنها ربما تسقط هذه الثمرة على هذا المكان، فتتلوث بالنجاسة؛ ولأن من قصد الشجرة ليصعد إليها لا بد أن يمر بهذه النجاسة فيتلوث.
وكذلك لو كانت الثمرة محترمة، مثل أيش؟ كثمرة النخل، مثلًا هذه نخلة في مكان ناءٍ لا يقصدها أحد، ولا يأتي إليها أحد، ولكن التمر طعام محترم، وكذلك غيره من الأشجار التي تكون ثمرتها محترمة؛ لكونها طعامًا، فإنه لا يجوز أن يتبول تحتها.
انتهى المؤلف مما يحصل من الأمثلة التي يحرم فيها البول والتغوط، لكنه رحمه الله بقي عليه أشياء، ما الذي بقي عليه؟
المساجد؛ المساجد لا يجوز البول فيها ولا التغوط؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام للأعرابي: «إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِهَذَا؛ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَذَى وَالْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِلصَّلَاةِ وَقِرَاءَة الْقُرْآنِ» (3)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أيضًا المدارس مثلها؟ نعم، مثلها، كل متجمعات الناس لأمر ديني أو دنيوي فإنه لا يجوز أن يتبول فيها الإنسان أو يتغوط.
والعلة فيها: القياس الجلي على ما نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام عن البول في؟
طلبة: الطرقات.
الشيخ: الطرقات وظل الناس.
والثاني: الأذية التي تحصل للمسلمين في هذا العمل.
طالب: ( ... )؟
الشيخ: المؤدي لهذا الغرض.
طالب: المستَحَم؟
الشيخ: المستَحَم البول فيها لا بأس به؛ لأن الناس يبولون ويمشي البول، والتغوط فيها ما يجوز؛ لأن الغائط يبقى وينجس ما حوله.
الطالب: ( ... ) البول عليه فإنه ينجس ( ... )؟
(1/158)
________________________________________
الشيخ: لا بد أنه ( ... ) حتى يذهب؛ يعني مثلًا لو فرض أنه تبول في هذا المستَحَم ما يخرج ويدع البول لا بد أن يمشيها، وهذه أيضًا الأفضل عدمها، لكن أحيانًا يحتاج الإنسان لذلك، أحيانًا تكون الحمامات مشغولة ويحتاج إلى هذا، أو أحيانًا يريد أن ( ... ) عندما يخلع ثيابه يحتاج إلى البول، وعلى كل حال، كلما كانت الأماكن هذه ( ... ) فهو أحسن.
طالب: ما هو الدليل أنه يكره؟
الشيخ: بس ما أدري عن الحديث الذي ورد فيه: أن الرسول نهى أن يبول الرجل في مستَحَمه (4)، ما أدري عن صحته.
طالب: ( ... ) فيه الناس كذلك؟
الشيخ: مثله؛ يعني: إن لم يعد للبول والغائط لا ينبغي للإنسان أن يفعل ( ... ).
طالب: ( ... )؟
الشيخ: ( ... ) لا، لكن عندي أصح؛ يعني: يستجمر ثم يستنجي، الاستجمار بالحجر وما ينوب منابه، والاستنجاء بالماء.
***
يقول المؤلف: (يستجمر ثم يستنجي) وجوبًا؟ لا؛ ولهذا قال: (ويجزئه الاستجمار).
فالإنسان إذا قضى حاجته لا يخلو من ثلاث حالات؛ إما أن يتطهر بالماء، أو يتطهر بالأحجار، أو يتطهر بالحجر ثم الماء، أيهما أكمل طهارة؟
طلبة: الأخير.
الشيخ: الأخير؛ أن يستجمر بحجر ثم يستنجي بالماء، ولكن لو اقتصر على الحجر اللي هو الاستجمار جاز بالشروط الآتية، إن شاء الله.
ولو استنجي بالماء جاز على القول الراجح، وإن كان وجد فيه خلاف قديم من بعض السلف؛ أنه أنكر الاستنجاء وقال: كيف ألوث يدي بهذه الأنتان والقاذورات؟
ولكن الصحيح أنه جائز، وقد انعقد الإجماع عليه بعد ذلك؛ على أنه يجوز أن يقتصر على الماء.
والدليل عليه قول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي حاجته، فأنطلق أنا وغلام نحوي بإِداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء (5)، وكذلك حديث المغيرة بن شعبة (6)، هذا دليل على جواز الاقتصار على الاستنجاء بالماء.
(1/159)
________________________________________
وأما التعليل فظاهر؛ لأن الأصل في إزالة النجاسات إنما يكون بالماء، فكما أنك تزيل النجاسة على رجلك، أو على شيء من بدنك، أو على ثيابك، أو على الأرض تزيلها بالماء، فكذلك تزيلها بالماء إذا كانت من الخارج منك، ففيه إذن دليل، وفيه تعليل.
أما الاستجمار بالأحجار فإنه مجزئ أيضًا أن يقتصر عليه؛ لثبوت ذلك من قول الرسول عليه الصلاة والسلام وفعله، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يستجمر بالأحجار دون الماء، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذهب يقضي حاجته وطلب من ابن مسعود أن يأتيه بأحجار، فأتاه بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين، وترك الروثة وقال: «هَذِهِ رِجْسٌ» أو «رِكْسٌ» (7)، وفي رواية قال: «ائْتِنِي بِغَيْرِهَا» (8)، فدل هذا على جواز الاقتصار على الاستجمار.
وأما الدليل من قوله فحديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار (9)، فهذا دليل على أن الأحجار تكفي.
أما الجمع بينهما فلا أعلمه ورادًا عن الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه من حيث المعنى لا شك أنه أكمل تطهيرًا.
يقول: (يستجمر، ثم يستنجي بالماء، ويجزئه الاستجمار إن لم يَعْدُ الخارج موضع العادة) (يجزئه الاستجمار) يعني: عن الماء، فأفادنا المؤلف رحمه الله: أن الاستجمار كافٍ، ويدل لذلك فعل الرسول عليه الصلاة والسلام وقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام فكما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الغائط وأمره أن يأتي بثلاثة أحجار، فوجد حجرين ولم يجد الثالث، فأخذ روثة، فذهب بها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة وقال: «إِنَّهَا رِكْسٌ» (7)، فدل ذلك على أنه يجزئ الاستجمار بالحجر.
(1/160)
________________________________________
وكذلك حديث أبي هريرة: أنه جمع للنبي عليه الصلاة والسلام أحجارًا وأتى بها في ثوبه، فوضعها عنده، ثم انصرف (10)، وهو في الصحيح، فهو دليل أيضًا على أنه يجزئ الاستجمار.
ويدل لذلك أيضًا حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، وفيه: أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار (9)، هذا قول، فثبت إجزاء الاستجمار بقول الرسول عليه الصلاة والسلام وبفعله، وهو مما يدل لقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن النجاسة إذا زالت بأي مزيل كان طَهُرَ المحل، وقد سبق لنا ذلك عند قول المؤلف: (لا يرفع الحدث ولا يُزيل النجس الطارئ غيرُه).
طالب: هذا الماء؟
الشيخ: إي، يقول: لا يزيل النجس الطارئ غير الماء، وذكرنا هناك قلنا لكم: إنهم يقولون في التيمم: إنه مبيحٌ لا رافع، وكذلك في الاستجمار يقولون: إنه مبيحٌ لا رافع.
طالب: لعل ذكرت يا شيخ فيه قول ( ... ).
الشيخ: المهم على كل حال، هذا مما يؤيد قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن النجس متى زال بأي مزيل كان طَهُرَ المحل، وقوله أقرب إلى المنقول والمعقول من قول من يقول: إنه لا يزيل النجس إلا الماء الطهور.
(يجزئه الاستجمار) اشترط المؤلف للاستجمار شروطًا؛ قال: (إن لم يَعْدُ الخارج موضع العادة) يعني: الذي جرت العادة بأن البول ينتشر إليه من رأس الذكر، وبأن الغائط ينتشر إليه من داخل الفخذين؛ الصفحتين اللتين على حلقة الدبر، هذا موضع العادة، فإن انتشر وتعدى موضع العادة فإنه لا يجزئ إلا الماء، ما يجزئ الاستجمار.
(1/161)
________________________________________
ما هو الدليل على هذا الشرط؟ يقولون: ليس هناك دليل، لكن هناك تعليل؛ وهو أن الاستجمار خرج عما يجب من إزالة النجاسة بالماء، فهو خارج عن القاعدة، وما خرج عن القاعدة فإنه يقتصر فيه على ما جرت به العادة، فيقال: ما خرج عن العادة وانتشر إلى محل زائد هذا ما ورد فيه الاستجمار، إنما يحمل الاستجمار على الشيء المعهود المعتاد، لماذا؟ لأن الأصل في النجاسة أن تزال بماذا؟ بالماء.
اقتصر على الاستجمار فيما جرت فيه العادة؛ لأنه هو الظاهر، وما خرج عن العادة فإنه لا يجزئ فيه إلا الماء، واضح الآن؟ أعيد التعليل مرة ثانية، يقولون: لأن الاقتصار على الأحجار ونحوها في إزالة البول والغائط خرج عن نظائره ولَّا لا؟
طلبة: خرج.
الشيخ: خرج عن نظائره، فإذا كان خارج عن نظائره وجب أن يقتصر فيه على ما جرت به العادة، فما زاد عن العادة فالأصل أن يزال بماذا؟
طلبة: بالماء.
الشيخ: الأصل أن يزال بالماء.
ولو قال قائل: إنه إذا تعدى موضع العادة بكثير فصحيح لا يجزئ فيه إلا الماء، مثل لو ترشش البول على فخذه أو على ساقه أو على ركبته، فهذا ظاهر أنه لا بد فيه من الماء؛ لأنه ليس محل الخارج ولا قريبًا منه، وأما ما كان قريبًا فإنه يسامح فيه، ولعل هذا لا يعارض كلام الفقهاء.
إذا قلنا: إنه بشرط ألَّا يعدو موضع العادة، فإن تعدى موضع العادة فهل نقول: إن لكل موضع حكمه؛ بمعنى أن نقول: الذي لم يتعدَّ موضع العادة يجزئ فيه الاستجمار، والمتعدي لا بد فيه من الماء؟
طالب: هذا هو الظاهر.
الشيخ: هذا ظاهر كلامهم، وقال بعض أهل العلم؛ بعض الأصحاب -أصحاب الإمام أحمد-: إذا تعدى موضع العادة لم يجزئ في الجميع إلا الماء، والفرق بين القولين واضح؟ واضح.
الذين يقولون: إذا تعدى موضع العادة لا يجزئ إلا الماء، يقولون: لأنه لما لم يتمَّ الشرط فسد الكل.
(1/162)
________________________________________
والذين يقولون: إن ما زاد عن العادة هو الذي يحتاج إلى ماء، وما كان على موضع العادة يكفي الاستجمار، يقولون: لأن الحكم يدور مع علته، فما زاد عن موضع العادة يغسل، وما كان على موضع العادة يجزئ فيه الاستجمار.
طالب: يجزئ هنا إذا كان قريبًا وتعدى موضع الحاجة فإنه يغسل، إذا غسله بالماء اندفع بالماء إلى موضع الاستجمار؟
الشيخ: لا، يحرص على ألَّا يندفع، ولا إذا اندفع فالمذهب أنه ما يطهر، فيتنجس بالماء.
(ويشترط) اربط هذا الشرط، يجوز الاستجمار بشرط، بشروط الحقيقة؛ الشرط الأول: ألَّا يتعدى الخارج موضع العادة.
الشرط الثاني: قال: (ويشترط للاستجمار بأحجار ونحوِها أن يكون طاهرًا).
قوله: (بأحجار) جمع (حجر)، (ونحوِها) مثل: المدر؛ وهو الطين اليابس المتجمد، والتراب والخِرَق والورق، وما أشبه ذلك، فكلمة (نحوِها) أي: مثلها؛ مثل الأحجار في الإزالة، إذن الخشب يجزئ؟
طلبة: نعم.
الشيخ: إي نعم، وكذلك الوَرَق.
يقول: (أن يكون طاهرًا) يعني: لا نجِسًا، ولا متنجِسًا.
والفرق بين النجِس والمتنجِس: أن النجِس نجس بعينه، والمتنجِس نجس بغيره؛ يعني: طرأت عليه النجاسة، فيشترط أن يكون طاهرًا؛ يعني: لا نجِسًا ولا متنجِسًا.
ما الدليل على اشتراط أن يكون طاهرًا؟
عندنا دليل، وعندنا تعليل؛ أما الدليل: فحديث ابن مسعود الذي أشرنا إليه قبل قليل: ألقى الروثة وقال: «إِنَّهَا رِكْسٌ» بالكاف، والرِّكس: النجس، هذا واحد.
ثانيًا: قوله في حديث أبي هريرة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: «إِنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ» (11)، فدل هذا على أنه لا بد أن يكون المستجمَر به طاهرًا؛ لأن النجس هو خبيث، فكيف يكون مطهِّرًا؟
إذن عندنا دليل وتعليل؛ التعليل -هو كما قلت أخيرًا-: إن النجس هو خبيث، والخبيث لا يجعل الخبيث أن يكون طاهرًا.
(1/163)
________________________________________
الثاني: (منقيًا) يعني: يحصل به الإنقاء، فإن كان غير منقٍّ لم يجزئ، وأيش الدليل أو تعليل؟ تعليل؛ لأن المقصود بالاستجمار هو الإنقاء، بدليل: أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يستنجى بأقل من ثلاثة أحجار (12)، كل هذا طلبًا للإنقاء؛ ولأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الذي يعذب في قبره: «إِنَّهُ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ» (13)، أو: «لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ» (14)، أو: «لَا يَسْتَبْرِئُ مِنَ الْبَوْلِ» (15)، ثلاث روايات.
فلا بد أن يكون منقيًا، فإن لم يكن منقيًا لم يجزئ، والذي لا ينقي؛ إما أن يكون لا ينقي لِمَلَاسَتِه، إذا كان أملس جدًّا فإنه لا ينقي، بل لا يزيد الطين إلا بِلَّة؛ لأنه إذا مسحت به وانجر إلى ما وراء الحلقة مثلًا أو الحشفة يلوثها ولَّا لا؟
طلبة: يلوثها.
الشيخ: يلوثها، وكذلك ما لا ينقِّي لرطوبته، هذا ما يجزئ لو كان رطبًا؛ أتى الإنسان بمدر رطب أو حجر رطب ما ينقِّي.
طالب: كالطين.
الشيخ: إي، كالطين.
وكذلك لو كان المحل قد نشف، يمكن أن ندخل هذا الشرط ولَّا لا؟
طلبة: ما يمكن.
الشيخ: لا يمكن؛ لأن الحجر هنا هو بنفسه صالح للإنقاء، لكن المحل غير صالح للإنقاء ولَّا لا؟ فلو كان بعدما يَبُس، ويش الفائدة من الحجر، فهو غير منقٍّ؟
فيمكن أن نجعل قوله هذا: (منقيًا) أن نجعل المفهوم يدخل فيه ثلاثة أشياء: ما لا ينقِّي لملاسته، وما لا ينقِّي لرطوبته، وما لا ينقِّي لجفاف المحل؛ لأن الحجر إذا ورد على محل جاف لا يحصل به الإنقاء، أليس كذلك؟
طلبة: بلى.
الشيخ: (أن يكون طاهرًا منقيًا غير عظم وروث) هذا الشرط ما أدري كم يصير؟
طلبة: أربعة.
الشيخ: ألَّا يتعدى موضع العادة، وأن يكون طاهرًا، وأن يكون منقيًا، الشرط الرابع: أن يكون (غير عظم وروث)، وهذا الشرط عدمي ولَّا وجوبي؟
طلبة: عدمي.
الشيخ: عدمي؛ لأن كلمة (غير) تدل على النفي؛ يعني: لا عظمًا ولا روثًا، ما هو الدليل؟ وما هو التعليل؟
(1/164)
________________________________________
الدليل أدلة، ما هو واحد؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يستنجى بالعظم أو الروث، كما في حديث سلمان (16)، وابن مسعود (7)، وأبي هريرة (11)، ورويفع (17)، وغيرهم، أحاديث كثيرة عن الرسول عليه الصلاة والسلام تدل على أنه لا يجوز الاستجمار بالعظم.
أما التعليل فنقول: إن التعليل إن كان العظم عظم مذكَّاة، فقد بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام العلة في ذلك، فإن هذا العظم يكون طعامًا للجن؛ لأنه الرسول عليه الصلاة والسلام قال لهم: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَوْفَرَ مَا تَجِدُونَهُ لَحْمًا» (18)، كل عظم مذكَّاة، فإن الجن يجدونه أوفر ما يكون لحمًا، سبحان الله العظيم! ونحن قد أكلناه وراح اللحم الذي فيه، لكن الذي خلقه أول مرة قادر على أن يكسوه مرة أخرى، لمن؟ لعباده من الجن.
طالب: ( ... )؟
الشيخ: ولهذا قال: «أَوْفَرَ مَا تَجِدُونَهُ لَحْمًا»، «كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ».
الطالب: ( ... ).
الشيخ: معلوم، كما أنه لا يجوز أن نستطعمه، نحن أيضًا لا يجوز أن نأكل ما لم يذكر اسم الله عليه، فهم كذلك.
الطالب: أقول: بالنسبة لـ «كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» يعني: عند ( ... ) كطعام عند رميه؟
الشيخ: كيف يعني ( ... ) أي طعام؟
الطالب: طعام يكون متبقيًا.
الشيخ: إي، ربما يأكلون مرة أخرى.
الطالب: لكن الرسول أخبر أنها للشياطين هذه؟
الشيخ: المهم أننا نعلل العظم بأنه طعام إخواننا من الجن، كما أبلغ الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا إذا كان طاهرًا، إذا كان نجسًا فالعلة ظاهرة؛ لأنه إذا كان رجسًا كيف يطهر؟ !
أما الروث فنقول فيه ما قلنا في العظم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بينهما، فالأدلة في الروث هي الأدلة في العظم، وعلى هذا فنقول: الدليل واحد، والتعليل كذلك واحد، فإن الروثة إن كانت من طاهر فالعلة أنها طعام دواب الجن، وإن كانت من نجِس؟
طلبة: فهي رجس.
(1/165)
________________________________________
الشيخ: فهي رجْس؛ نجسة لا تطهر.
طالب: شيخ، لكن قوله: «إِنَّهَا رِكْسٌ» يعني: كل روثة ولَّا اللي أتى بها أبو هريرة؟
الشيخ: لا، الذي أتى بها أنها نجسة، روثة الحمار نجسة.
طالب: قوله: «إِنَّهَا رِكْسٌ» يعني: مردودة؟
الشيخ: ما هو صحيح؛ ولهذا قالوا: لو كان هكذا لقال: (رَكْس)؛ مصدر (رَكَسَ).
إذن نقول: الروث نستدل له بماذا؟ بما استدللنا به للعظم، ونعلله بما عللنا به العظم.
(وطعامٍ) طعام لمن؟ لبني آدم، وكذلك طعام لبهائم بني آدم، ما هو الدليل؟
الدليل أن نقول: إنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن نستنجي بالعظم والروث (19)؛ لأنهما طعام الجن ودوابهم، فإن الإنس أفضل، فيكون طعامهم النهي عن الاستجمار به من باب أولى.
كما أن فيه أيضًا محذورًا آخر غير الدليل والتعليل السابق، وهو أن فيه كفرًا بالنعمة؛ لأن الله تعالى خلق هذا للأكل، ما خلقه من أجل أن يمتهن هذا الامتهان، والعياذ بالله، فيكون ذلك من باب الكفر بالنعمة، ففيه إذن دليل وتعليل، بل وتعليلان.
طالب: ولو كان يابسًا؟
الشيخ: ولو يابسًا، ما دام طعامًا للبهائم لو يابسًا، خلافًا لما تُوهِمُه عبارة الشارح.
فإذن نقول: كل طعام لبني آدم أو لبهائمهم فإنه حرام أن يستجمر به، وظاهر كلام المؤلف: ولو كان فضلة طعام، حتى لو كان فضلناه ولا نريده، ككِسَر الخبز، وما أشبهها، فإنه لا يجوز الاستجمار بها.
يقول: (ومحترم) المحترم هذا ما له حرمة فإنه لا يجوز الاستجمار به، مثل كتب العلم الشرعي الديني، هذا لا يجوز الاستجمار به، لماذا؟ للدليل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، والتقوى واجبة؛ فلهذا لا يجوز أن يستجمر الإنسان بشيء محترم.
وظاهر كلام المؤلف: ولو كان مكتوبًا بغير اللغة العربية ولَّا لا؟
طلبة: نعم.
(1/166)
________________________________________
الشيخ: ولو كان مكتوبًا بغير اللغة العربية، ما دام أن موضوعه موضوعٌ محترمٌ، فإنه لا يجوز أن يستجمر به.
(ومتصل بحيوان) يعني: ما يجوز أن يستجمر الإنسان بشيء متصل بحيوان، لماذا؟ يقولون: لأن للحيوان حرمة، فلا يجوز أن يستجمر الإنسان بذيل بقرة ولا بأذن سَخْلَة؛ لأنها؟
طلبة: محترمة.
الشيخ: محترمة، وإذا كان علفها ينهى عن الاستجمار به، فكيف هي؟ !
فإن قلت: يلزم على تعليلك هذا ألَّا يجوز الاستنجاء بالماء؛ لأن اليد سوف تباشر النجاسة ولَّا لا؟ تباشرها؟
طلبة: نعم.
الشيخ: وكذا تلوث بها، وتشم رائحتها فيه؛ رائحة النجاسة في يده، فعلى هذا لا يجوز أن تستنجي بالماء.
قلنا: قد قال به من قال من السلف، وقال: إن الاستنجاء بالماء بدون أن يتقدمه أحجار لا يجوز ولا يجزئ؛ لأنك تلوث يدك بالنجاسة، فماذا أصنع على هذا القول؟ فيه الآن مداسيس تدخل فيها اليدان من المطاط، إذا تبغي تستنجي تأخذ من هذه المداسيس وتستنجي بها.
طالب: تحملها معك يا شيخ؟
الشيخ: تحملها معك، نعم، وتغسلها بعد، لكن هذا القول ضعيف جدًّا، ويرده السنة الصحيحة الصريحة عن النبي عليه الصلاة والسلام بأنه كان يقتصر على الاستنجاء (20).
ونقول جوابًا على مباشرة اليد بالنجاسة: هذه المباشرة لإزالة الخبث، والمباشرة للإزالة ليست بمحظورة؛ أرأيت لو أنك تطيبت وأنت محرم؟ الطيب وأنت محرم حرام، لو واحد مثلًا وضع فيك الطيب في جبهتك أو في رأسك بعد أن أحرمت، يجب عليك أن تزيله؟
طلبة: نعم.
الشيخ: بيدك، ولا إثم عليك، ولا فدية عليك؛ لأن مباشرته هنا لإزالته، هذا مثال.
مثال آخر: رجل غصب أرضًا وصار يتمشى فيها، في يوم من الأيام وهو في وسط الأرض تذكر العذاب والعقاب، وأن الإنسان يحمل هذه الأرض من سبع أرضين، فتاب إلى الله توبة نصوحًا، من شرط التوبة النصوح: أن ينزع الإنسان عن الذنب فورًا، هذا الرجل قال: ماذا أصنع؟ إن بقيت في مكاني ..
طالب: فبقائي محرم.
(1/167)
________________________________________
الشيخ: فبقائي محرم، وإن مشيت في الأرض المغصوبة، فقد استعملتها في خطوات محرمة، فماذا أصنع؟ نقول: هات هليكوبتر تنزعك، لكن متى يتصل بالمسؤولين؟ نقول: هذا الرجل مشيه من النقطة التي تاب منها إلى أن يخرج يأثم فيه ولَّا ما يأثم؟
طلبة: ما يأثم.
الشيخ: ما يأثم؛ لأنه للتخلص من الحرام الممنوع.
فالمهم أن مباشرة الشيء للتخلص منه لا يمكن أن يأثم الإنسان به؛ لأننا لو أثمناه به لكان من باب تكليف ما لا يطاق.
وعلى هذا فنقول: إذا أورد علينا مورد كيف تقولون: إنه يحرم الاستجمار بمتصل بالحيوان، وأنتم تبيحون للإنسان أن يمس ذلك النجس بيده عند الاستنجاء، الجواب؟
طالب: أنه فعله ليزيله.
الشيخ: ليزيله، فهو للتخلص منه وليس للتلوث به، فرق بين من يباشر للتخلص منه ومن يباشره للتلوث به.
(ومتصل بحيوان) حيوان نجس ولَّا طاهر؟
طلبة: كله واحد.
الشيخ: كله واحد؛ النجس والطاهر، فلو استجمر الإنسان في ذيل بعيره فهو كما لو استجمر في ذيل حماره، كلاهما محرم، الشروط كم الآن؟
طالب: سبعة.
الشيخ: سبعة؛ يشترط ألَّا يتعدى الخارج موضع العادة، وأن يكون طاهرًا، منقيًا، غير عظم، تجعلون الروث وما عطف عليها واحدًا؛ لأنه داخل في حيز النفي، تقول: غير عظم، أو تجعلون كل واحد عن شرط ( ... ).
صار خمسة بالإضافة إلى أربعة تكون تسعة، عظم روث طعام محترم ( ... )، خمسة مع الثلاثة الأولى ثمانية.
طالب: قد يوهم أنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالحجرين؟
الشيخ: نسخ، هذا الإيهام يرده حديث سلمان الفارسي ألَّا تستنجي بأقل من ثلاثة أحجار.
الطالب: لكن فيه رواية أخرى في نفس الحديث أنه ذكر أبو هريرة.
(1/168)
________________________________________
الشيخ: هذه أيضًا إذا كان هكذا وصحَّ يزول الإشكال، مع أنه لا إشكال فيها الحقيقة، قد ذكرنا لكم قاعدة: إن النصوص المشتبهة تحمل على محكم، في كل شيء؛ في القرآن، وفي السنة، فإذا جاء مثلًا ما يوهم أن شيئًا فعل على غير شرطه والشرط محقق، فأن نعمل بماذا؟ بالمحكم المحقق.
طالب: ثبت أنه قال: «الْتَمِسْ لِي حَجَرًا ثَالِثًا» ( ... ).
الشيخ: طيب، ما فيه إشكال.
الطالب: أنا قلت: هذه لعله يحمل بعض الأخوان أن يكتفى بحجرين.
الشيخ: لا، هذه ما فيها إشكال.
طالب: شيخ، إذا كان الحيوان المذكَّى فيه زيادة، زيادة صغيرة يعني ليست .. ؟
الشيخ: الحيوان المذكَّى، وما ينتفع به؟
الطالب: ما ينتفع، قطع صغيرة.
الشيخ: ظاهر كلام المؤلف أنه لا بأس به؛ لأنه قال: (متصل بحيوان).
الطالب: ( ... ) حرام، عموم الجلد؟
الشيخ: ما هو بظاهر ما دام انفصل.
***
ثم قال: (ويشترط) هذا الشرط التاسع، (يشترط ثلاث مسحات منقية فأكثر) هذا في العدد.
المؤلف يقول: (ثلاث مسحات) والأحاديث الواردة ثلاثة أحجار، فهل نقول: إن كلام المؤلف رحمه الله مخالف للأحاديث أو موافق؟ ننظر؛ الدليل على اشتراط ثلاث مسحات ما هو؟ الدليل هو حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه في صحيح مسلم (21) قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، والمراد بالأحجار هنا أن لكل حجر مسحة؛ لأن الحجر الواحد قد يكون له جهات متعددة؛ شعب؛ ولهذا قال المؤلف: (ولو بحجر ذي شعب) فنحن نعرف العلة، والسبب في أن الرسول عليه الصلاة والسلام اشترط ثلاثة أحجار: لأجل ألَّا يكرر الإنسان المسح على وجه واحد؛ لأنه إذا كرر المسح على وجه واحد يستفيد ولَّا لا؟
طالب: لا يستفيد.
الشيخ: لا يستفيد، بل ربما يتلوث زيادة؛ فلهذا لا بد من ثلاثة أحجار، لو أنقى بدونها؟
طلبة: لا بد منها.
الشيخ: لا بد منها.
(1/169)
________________________________________
وقال بعض أهل العلم: إنه إذا أنقى بدونها كفى؛ لأن الحكم يدور مع علته، ولكننا نقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وإذا كان نهى فإنه يجب ألَّا نقع فيما نهى عنه، ولأن الغالب أنه لا إنقاء بأقل من ثلاثة، ولأن الثلاث كمية رتب عليها الشارع كثيرًا من الأحكام.
نعم، لو فُرِضَ أن الخارج يابس يبوسًا لا يؤثر فيما مر عليه، فهنا لا يحتاج أصلًا إلى الاستنجاء أو استجمار؛ لأنه ما في شيء نزيله حتى نقول: إنه لا بد من الاستجمار أو الاستنجاء.
وقوله: (ولو بحجر ذي شعب) (لو) هل هي لرفع التوهم أو للخلاف؟
هي لدفع الخلاف؛ لأن بعض أهل العلم اقتصر على الظاهر في هذا الحديث وقال: لا بد من ثلاثة أحجار، والراجح ما ذهب إليه المؤلف؛ لأن العلة معلومة، فإذا كان حجرًا ذا شعبٍ واستجمر بكل جهة منه صحَّ.
طالب: شيخ، طيب لو قلنا ( ... )؟
الشيخ: أيهم ( ... )؟
قررت هكذا؛ لأنه قد لا يتأتي، بل إن الأكثر أنه لا يتأتي حجر ذو شعب ثلاث يكفي الاستجمار، حتى ولو كان له شعب؛ لأن ما من حجر إلا له زوايا، لكن هذه الشعب تكون صغيرة؛ بمعنى: أنه ما يمكن أن يستجمر به، وهذا يكون على المعتاد الغالب ( ... ).
وليس فيه أثر، فهذا حقيقة هو الإنقاء، فلا بد من الإنقاء.
يشترط في كمية الاستجمار ( ... ).
ولكن الصحيح أنهما لا يطهران ( ... ).
اشترطنا أن يكون طاهرًا وأتينا بالدليل ( ... )؛ لأنه من باب الاحترام؛ يعني: إذا كان علفها محترمًا، فهي أولى بأن تحترم، مع أن بعض أهل العلم يقول: إنه ليس هناك دليل على التحريم، وإن الإنسان لو استجمر بذلك وأنقى فلا حرج، وإذا وصل إلى المحلِّ الماءُ يفصله.
لكن نحن نقول: حتى لو ما كان هناك دليل ظاهر على التحريم، فالأولى التنزه عنه والبعد عنه.
(1/170)
________________________________________
يشترط أنه ( ... ) بعض العلماء استدل بحديث ابن مسعود على جواز الاستجمار بأقل، قال: إذا حصل الإنقاء فإنه لا يزال أكثر من الإنقاء، ولكن ما دام الحديث ورد في رواية أحمد: «ائْتِنِي بِغَيْرِهَا» (8)، وحديث سلمان صريح أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، فإنه لا يمكن أن يؤخذ بهذا الدليل المشتبه، ويلغى الدليل المحكم.
وقد قدمنا غير مرة أنه إذا اجتمع دليلان أحدهما محكم لا اشتباه فيه ولا إجمال والثاني مجمل أو مشتبه فيه، فالواجب الأخذ بالمحكم؛ لأن هذه طريق الراسخين في العلم، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، فيحملون المتشابه على المحكم حتى يكون الأمر كله محكمًا.
طالب: حديث أبو هريرة ( ... )؟
الشيخ: أن نقتصر على الأحجار؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك كلها تدل على الأحجار ( ... ).
مسألة النفي صعبة؛ ما يوجد كذا، أو ليس فيه خلاف، مثلًا، مثل بعض العلماء يقول: ليس فيه خلاف؛ في المسألة، النفي من أصعب ما يكون؛ لأنك ما تحيط بكل شيء؛ ولهذا لو قال: لا أعلم صح، ما هو الجواب ( ... ).
النبي عليه الصلاة والسلام عن الاستنجاء بالعظم والروث دل على أن غيرهما جائز، وإلا لما كان من النهى فائدة، لو كان كل ما سوى الأحجار منهي عنه ما كان للنهي عن العظم والروث فائدة، صح ولَّا لا؟
طالب: فيه دليل يا شيخ.
الشيخ: وهو؟
الطالب: ( ... ) ثلاثة أحجار أو ثلاثة أعود أو ثلاثة ( ... ).
الشيخ: هذا من أفراد ابن ماجه، وأظن أن فيه ضعفًا.
طالب: الدارقطني يا شيخ؟
(1/171)
________________________________________
الشيخ: الدارقطني، ما أدري عن صحته، لكن على كل حال إن صح هذا الحديث فهو واضح في الموضوع، لكن إذا لم يصح فإننا نقول: النهى عن الاستنجاء بالعظم والروث يدل على جواز الاستنجاء بكل ما عداهما.
(يشترط ثلاث مسحات منقية) ثلاث ولَّا ثلاثة؟
طلبة: ثلاثة.
الشيخ: بالرفع نائب فاعل.
والشرط في اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18]، وأما في الاصطلاح فهو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.
يقول: (يشترط) يعني: للاستجمار وإجزائه عن الماء، (ثلاث مسحات منقية) ثلاث مسحات على كل المكان، وإنما قيدت ذلك؛ لأن بعض أهل العلم رحمهم الله قالوا: إن الرسول اشترط ثلاثة أحجار؛ لأجل أن يكون حجر للصفحة اليمنى، وحجر للصفحة اليسرى، وحجر لحلقة الدبر، وعلى هذا القول يكون كم المسحة لكل واحد؟ مسحة واحدة، ولكن هذا ليس بصحيح، الصحيح أنه ثلاث مسحات تعم المحل.
(منقية) وسبق أن الإنقاء هو: أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء، أو هو: أن يرجع الحجر غير مبلول يابسًا.
قال: (فأكثر) أكثر من الثلاث، كيف يشترط ثلاثة فأكثر؟ لو قال قائل: هذا تناقض؛ ثلاث فأكثر، إذن أيش المعتمد: ثلاث ولَّا الأكثر؟
طلبة: ثلاث.
الشيخ: نقول: معنى الكلام ألَّا ينقص عن ثلاثة؛ ثلاث إن أنقته، فأكثر إن لم تنقِّ الثلاث؛ لأنه قد لا تنقي بثلاث مسحات، بل لا تنقي إلا بأربع أو خمس أو ست، ودليل ذلك سبق؛ حديث سلمان.
قال: (ولو بحجر ذي شعب) (لو) هذه شرط خلاف، (ولو بحجر ذي) (ذي) بمعنى: صاحب.
(شعب) جوانب، الشعبة: الجانب؛ يعني: لو بحجر له جوانب، فيمسح من جانب مرة، ومن جانب مرة، ومن جانب مرة، هذه ثلاث مسحات.
(1/172)
________________________________________
وقال بعض أهل العلم: لا بد من ثلاثة أحجار، اعتمادًا على ظاهر الأدلة؛ لأن ظاهر الأدلة ثلاثة أحجار، وألَّا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، ولما جاء ابن مسعود بحجرين قال: «ائْتِنِي بِحَجَرٍ» (22)، فدل هذا على أنه لا بد من ثلاثة أحجار.
فمن تمسك بالظاهر قال: لا بد من ثلاثة أحجار؛ نستجمر بحجر ونلقيه، ونأخذ الثاني ونلقيه، ونأخذ الثالث؛ لأن هذا أكمل -بلا شك- في الطهارة؛ إذ إن الحجر ذا الشعب قد يكون في أحد الجوانب شيء من المسحة الأولى وأنت ما علمت به، فيكون الأحجار كل حجر منفرد أحسن.
ومن نظر إلى المعنى -والشرع كله معنًى وعلل وحكم- قال: إن الحجر ذا الشعب كالأحجار الثلاثة إذا لم تكن الشعب متداخلة ( ... ) اتخذ التلويث الشعب الأخرى، بل كل شعبة متميزة عن الأخرى فإنه يجزئ، وهذا هو الصحيح؛ لأن الشرع معانٍ لا مجرد ألفاظ.
(يسن قطعه) أي: قطع الاستجمار؛ أي: عدده، (على وتر) فإذا أنقى بأربع زاد خامسة، إذا أنقى بست يزيد سابعة، إذا أنقى باثنتين يزيد ثالثة؟
طلبة: لا، لا بد من الثالث.
الشيخ: أو ما يصلح هذا؟ هذا ما يصح؛ لأن الاستجمار ثلاث واجب، ما هو سنة.
وقد سبق أن بعض أهل العلم قال: إنه لا يشترط الثلاث إذا حصل الإنقاء بدونها، واستدل بحديث ابن مسعود، وسبق الجواب عنه، وبينَّا أن حديث ابن مسعود فيه: أن الرسول أمره أن يأتيه بحجر، وعلى هذا فلا يكون فيه دليل.
وقوله: (يسن قطعه على وتر) ما هو الدليل؟ الدليل قوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في الصحيحين: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» (23)، واللام للأمر.
فإن قلت: إن الأصل في الأمر الوجوب، وهذا يقتضي وجوب الإيتار؟
(1/173)
________________________________________
قلنا: نعم، الأصل في الأمر الوجوب، فإن أريد بالإيتار الثلاث فالأمر على ما هو عليه؛ للوجوب؛ لأنه لا بد أن يستجمر بثلاث، وإن أريد ما زاد فهو للاستحباب، يدل لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» (24)، فبين الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذا على سبيل أيش؟
طلبة: الاستحباب.
الشيخ: الاستحباب، إلا في الثلاث فإنها على سبيل الوجوب، كما سبق من حديث سلمان الفارسي: أمرنا ألَّا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار (9).
***
ثم قال: (ويجب الاستنجاء لكل خارج) هذا بيان حكم الاستنجاء، وما يجب له الاستنجاء، فقال: (يجب) الاستنجاء واجب.
وهل المراد بالاستنجاء هنا تطهير المحل بالماء أو ما هو أعم من ذلك؟
الجواب: ما هو أعم من ذلك؛ يعني: تطهيره بالماء أو بالأحجار واجب.
ما هو الدليل على وجوب الاستنجاء؟ الدليل: أمر النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب أن يغسل ذكره لخروج المذي (25)، والمذي نجس.
وأيضًا قد يقال: إن قوله: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» (23) يدل على الوجوب، وقد يعارض في ذلك، ولكن حديث سلمان واضح في الوجوب: أمرنا ألَّا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار.
ولكن يقول المؤلف: (لكل خارج) من أين؟ من السبيلين، أما ما خرج من بقية البدن فإنه يغسل، إلا ثلاثة أشياء: الريح، فإنه لا يجب الاستنجاء لها؛ لأن الريح لا تحدث أثرًا، بل هي هواء فقط، فلا تحدث أثرًا في المحل إذا لم تحدث أثرًا في المحل فإنه لا يجب أن نغسله؛ لأن غسله حينئذٍ نوع من العبث.
الريح سواء كان لها صوت أم لم يكن طاهرة، وإن كانت رائحتها خبيثة.
وقال بعض أهل العلم: إنها نجسة، وما الذي يترتب على هذا؟ يترتب على هذا لو خرجت منك وثيابك مبلولة فإنها ستلاقي رطوبة، فإن قلنا: إنها نجسة، وجب غسلها، وإن قلنا: طاهرة، فلا يجب.
(1/174)
________________________________________
ولا نقول: إنه يترتب على ذلك ما ذكره بعض الفقهاء من أن المصلي لو حمل قربة من فساء هل تصح صلاته أم لا؟ لأن هذا أمر لا يمكن، ولكن بعض أهل العلم مشغوف بالإغراب في تصوير المسائل، ومثل هذا أمرٌ الأولى تركه؛ لأنه قد يعاب على الفقهاء أن يصوروا مثل هذه الصور النادرة التي قد تكون مستحيلة.
لكن الذي ذكرناه أولًا هو الواضح؛ إذا كانت نجسة ولامست شيئًا رطبًا، فمن المعلوم أن الشيء النجس إذا لامس رطبًا يتنجس الرطب، هذا هو اللي يترتب على ذلك، والصحيح أنها طاهرة؛ لأنه ليس لها جرم، وإنما هي هواء له رائحة خبيثة.
الثاني: الطاهر لا يجب الاستنجاء له، مثل المني يخرج من السبيل، فهو داخل في عموم قوله: (لكل خارج)، لكن الطاهر لا يجب الاستنجاء له، والتمثيل ظاهر في المني.
الثالث: غير الملوث؛ إذا خرج شيء لا يلوث؛ يعني: يابس مرة ما يلوث، وهذا -الله أعلم- بإمكانه، لكن إن أمكن فإنه لا يجب له الاستنجاء؛ لأننا نعلم أن الاستنجاء المقصود منه؟
طلبة: النظافة.
الشيخ: النظافة والطهارة، وهذا ليس بحاجة إلى ذلك، فصار الاستنجاء واجبًا لكل خارج من السبيلين، إلا ثلاثة أشياء وهى: الريح، والطاهر، وغير الملوث.
لو كان هذا الخارج شيئًا نادرًا -يعني: يندر خروجه- لكن خرج، مثل أن يخرج منه حصاة هل يجب الاستنجاء له؟
إن لوثت فإنه يجب الاستنجاء؛ لدخولها في عموم كلام المؤلف، وإذا لم تلوث فإنه لا يجب الاستنجاء؛ لعدم الحاجة إليه.
طالب: ( ... )؟
الشيخ: نقول هذا؛ لأجل إن أمكن.
يقول: (ولا يصح قبله وضوء ولا تيمم) (لا يصح قبله) أي: قبل الاستنجاء، (وضوء ولا تيمم) أفادنا المؤلف أنه يشترط لصحة الوضوء والتيمم تقدم الاستجمار أو الاستنجاء.
(1/175)
________________________________________
وهذا يحتاج إلى دليل، فما هو الدليل؟ لا أحد يشك أن فعل الرسول عليه الصلاة والسلام هو أنه يقدم الاستجمار على الوضوء، هذا هو المعروف من فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن هل مجرد الفعل يقتضي الوجوب؟ سبق لنا أن مجرد الفعل لا يقتضي الوجوب، إلا إذا كان بيانًا لمجمل من القول يدل على الوجوب، بناء على النص المبين.
أما إذا كان مجرد فعل فالصحيح الراجح عند أهل العلم أنه ليس للوجوب، وأنه للاستحباب، لكنَّ فقهاءنا رحمهم الله استدلوا على ذلك بحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: «انْضَحْ ذَكَرَكَ وَتَوَضَّأْ» أو «اغْسِلْ ذَكَرَكَ وَتَوَضَّأْ» (26)، فقالوا: قدَّم ذكر غسل الذكر، والأصل أن ما قُدّم فهو أسبق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطانا قاعدة حين أقبل على الصفا والمروة فقال حينما كان على الصفا: «{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» (27)، وفي رواية النسائي (28): «ابْدَؤُوا» بفعل الأمر، «بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ».
ولكن رواية مسلم يعارضها رواية البخاري حيث قال: «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ» (29) بهذا اللفظ: «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ»، والجمع بينهما: أن يقال: إن الواو لا تقتضي الترتيب.
فعندنا الآن روايتان؛ رواية مسلم يقول فيها: «اغْسِلْ ذَكَرَكَ وَتَوَضَّأْ» (30)، ورواية البخاري: «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ» (31)، إن إحدى الروايتين قدمت ما أخرت الأخرى، ولكننا نقول: إنه لا تعارض، لماذا؟ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، لكن يعارض ذلك رواية النسائي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «اغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمَّ تَوَضَّأْ» (32) بـ (ثم)، إلا أن هذه الرواية ذكر الحافظ ابن حجر أنها منقطعة، والانقطاع يضعف الحديث.
(1/176)
________________________________________
ولهذا ورد عن الإمام أحمد في هذه المسألة روايتان؛ رواية: أنه يصح الوضوء والتيمم قبل الاستنجاء، ورواية أخرى: أنه لا يصح، أيتهما المذهب؟
الطلبة: الثاني.
الشيخ: أنه لا يصح.
لكن فيه رواية ثانية اختارها الموفق وابن أخيه شارح المقنع على أنه يصح الوضوء والتيمم قبل الاستنجاء، وهذه المسألة إذا كان الإنسان في حال السعة، فإننا نأمره أولًا بماذا؟
طلبة: بالاستنجاء.
الشيخ: بالاستنجاء، ثم بالوضوء.
لكن أحيانًا تأتي المسألة بغير سعة؛ مثل أن ينسى الإنسان أن يستجمر استجمارًا شرعيًّا أو أن يستنجي؛ يعني: بال وتيبس نشف المحل، لكن ما هو على سبيل المطلوب؛ يعني: مسحه مرة أو مرتين وتنقى، ثم بعد ذلك لما جاء الوقت توضأ بدون استنجاء، ثم صلى، ماذا يجب عليه على المذهب؟
طلبة: أن يعيد الصلاة.
الشيخ: يجب عليه أن يعيد، أولًا يستنجي، ثم يتوضأ، ثم يصلي؛ يعيد الصلاة.
وعلى القول الثاني: لا يجب عليه؛ لأن الوضوء صحيح، لكن يجب عليه الآن أن يغسل النجاسة؛ يستنجي، لكن الاستجمار هنا متعذر، السبب؟ لجفاف المحل، والاستجمار لا يصح إذا جف المحل.
وعلى هذا فنقول على القول الثاني: أزل النجاسة فقط، ووضوؤك صحيح، وصلاتك صحيحة.
فنحن نقول: اللي أرى في هذه المسألة: أنه ما دام الإنسان في سعة فلا يقدم الوضوء على الاستنجاء؛ وذلك لفعل الرسول عليه الصلاة والسلام، وأما إذا حدث أمر كهذا؛ وقع نسيانًا أو جهلًا أو ما أشبه ذلك، فإنه لا ( ... ) الإنسان على أمره بالإعادة وإبطال وضوئه وصلاته.
طالب: القول بنجاسة الريح إذا صارت الثياب يابسة؟
الشيخ: ما يضر.
الطالب: ما يضر؟
الشيخ: لا.
الطالب: طيب الحديث يا شيخ هو قاله لعلي ولَّا للمقداد؟
الشيخ: قاله للمقداد، لكن المقداد اللي موصيه علي.
طالب: إذا قلنا: القول بأنه لا يجوز ( ... ) إذا توضأ ثم صلى، فكيف صلاته وهو متلبس بشيء من النجاسة؟
(1/177)
________________________________________
الشيخ: إي نعم، قد تزول النجاسة إذا استجمر بحجر أزالها مرة بمسحة واحدة، يطهر على القول الراجح، إذا زالت النجاسة طهرت بأي شيء.
الطالب: يعني المعنى أنه يجوز؟
الشيخ: لا، لازم ثلاثة أحجار، لازم من ثلاث مسحات، حتى ولو أنقى بمسحتين لا بد من ثالثة.
طالب: يعني يقصد المعنى؟
الشيخ: لا ينقي، المعنى لا بد من ثلاث مسحات، هذا رجل مسح مسحتين وأنقى مرة، طَهُرَ، ولكنه شرعًا ما يكفي هذا.
طالب: طيب يا شيخ الذي يعمل العمليات؟
الشيخ: إن هذا لا يعتبر حكمه حكم الخارج من السبيل، فلو خرج منه ريح ما تنقض الوضوء، يبقى على طهارته، وأما إذا خرج شيء نجس فهو معروف أنه ينقض الوضوء؛ لأن النجس إذا خرج من أي مكان من البدن أفسد الوضوء.
طالب: إذا توضأ ثم استنجى، هذا ملامس للفرج بيده؟
الشيخ: هذه المسألة تنبني على هل مس ( ... ) ينقض الوضوء أم لا؟ ( ... ) وإذا قلنا ( ... ).
الطالب: ( ... )؟
الشيخ: كيف؟ بالعكس، تغسل ذكرك ثم تتوضأ.
طالب: ( ... ).
الشيخ: أو قال: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأْ».
انتبهوا لهذا، الشارح رحمه الله؛ شارح الزاد - الروض المربع- نسب «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأْ» إلى الصحيحين، وليس كذلك.
***
[باب السواك وسنن الوضوء]
(باب السواك وسنن الوضوء)
(السواك) فِعَال؛ من (سَاكَ يَسُوكُ)، أو من (تَسَوَّكَ يَتَسَوَّكَ)، ويطلق على الفعل وعلى الآلة، وأيش الآلة، آلة المكائن يعني؟
طلبة: العود.
الشيخ: آلة العود الذي يتسوك به، فيقال: هذا سِواك من أراك، كما يقال: هذا مِسواك، ويقال: السواك سنة؛ يعني: التسوك اللي هو الفعل.
وأما قول المؤلف: (وسنن الوضوء) فهذا من الغرائب، لكن رحمهم الله ذكروه هاهنا، ووجه الغرابة: أن سنن العبادة تذكر بعده؛ يعني: العلماء يذكرون العبادة بصفتها، ثم يقولون: هذا ركن، وهذا واجب، وهذا سنة، بعد أن يتصورها الإنسان؛ لأن الإنسان ما يتصور العبادة إلا ( ... ).
(1/178)
________________________________________
أقول: في هذا الباب بعض العلماء قال: باب السواك وسنن الفطرة، والمناسبة هنا واضحة؛ لأن السواك من الفطرة.
وبعضهم قال: السواك وسنن الوضوء، وجعل المناسبة: أنه لما كان السواك من سنن الوضوء قرن بقية السنن بالسواك، وإلا فالأصل أن السنن تذكر متى؟
طلبة: بعد ذكر الواجبات.
الشيخ: بعد ذكر الواجبات والأركان، كما فعلوا ذلك في كتاب الصلاة؛ ذكروا السنن بعد هذا.
قال المؤلف: (التسوك) انتبه نحتاج الآن للإعراب، (التسوك) مبتدأ، أين الخبر؟ (مسنون)، ما هو (بعود)، (بعود) جار ومجرور متعلق بـ (التسوك)؛ يعني: التسوك مصدر يعمل عمل فعله.
(التسوكُ بعودٍ لينٍ منقٍّ غيرِ مضرٍّ لا يتفتتُ مسنونٌ) (مسنونٌ) هذا الخبر.
أولًا: قال رحمه الله: (التسوك بعود) (بعود) جار ومجرور متعلق بماذا؟ بالتسوك.
طالب: ( ... ) متعلق بـ (مسنونٌ)، وهنا (بعود).
الشيخ: لا، التسوك؛ يعني: إذا استاك بعود.
(التسوك بعود) كلمة: (بعود) دخل فيها كل أجناس العيدان، سواء كان من جريد النخل، أو من عراجينها، أو من أغصان العنب، أو من غير ذلك، يشمل كل عود، فهو جنس شامل لجميع الأعواد، وما بعده من القيود فإنها فصول تخرج بقية الأعواد.
فخرج بقوله: (عود) التسوك بالخِرَق والأصابع فإنه ليس بسنة، على ما ذهب إليه المؤلف.
الثاني: (لينٍ) ويش خرج به؟
طلبة: اليابس.
الشيخ: خرج به بقية الأعواد القاسية، ما هي اليابسة، الأعواد القاسية هذه لا يتسوك بها، لماذا؟ لأنها أولًا: لا تفيد فائدة العود اللين، وثانيًا: أنها قد تضر اللثة إن أصابتها، وتضر الطبقة التي على العظم في الأسنان؛ تحكها حكًّا، هذا واحد.
ثانيًا: (منقٍّ) إحنا عودنا ما ينقي؟ نعم، يقولون: العود اللي ماله شعر -مثل الرطب رطوبة قوية- ما ينقي، تمر على أسنانك ما يفيدها شيئًا؛ لكثرة مائه، وقلة شعره التي تؤثر على إزالة الوسخ.
(1/179)
________________________________________
(غير مضرٍّ) احترازًا منين؟ مما يضر، قالوا: مثل الآس والريحان، وكل ما له رائحة طيبة، هل اللي له رائحة طيبة يضر؟ نعم، سبحان الله! كيف يضر؟ يقول: لأنه يؤثر على رائحة الفم، هذه الريح الطيبة تنقلب إلى ريح خبيثة، ما هي طيبة؛ ولهذا كل شيء له رائحة طيبة؛ يعني: من الطيب ما هي بالنكهة، فإنه لا يتسوك به؛ لأنه يضر.
طالب: غيرِ مضرٍّ ولَّا غيرَ مضرٍّ، (غيرَ) مفتوحة؟
الشيخ: لا، أحسن (غيرِ)، صفة.
(غيرِ مضرٍّ لا يتفتت) أيش معنى يتفتت؟
طلبة: لا يتساقط.
الشيخ: نعم، لا يتساقط، فإذا كان يتساقط فلا فائدة منه، بل هو يؤذيك أكثر؛ لأنه إذا تساقط في فمك معناه أنه ملأه أذًى، واحد معه عود من الغضى، تعرفون الغضى؟
طلبة: لا.
الشيخ: الغضى اللي يوقد به؛ لأنه أقرب للأراك، على كل حال الغضى هو عبارة عن خشب وعيدان يوقد به، هذا يتفتت؛ يعني: لو تستاك به يتفتت على طول، هذا لا يسن التسوك به؛ وذلك لأنه لا فائدة منه، بل لا يزيد الفم إلا وسخًا.
قال: (لا بأصبعٍ وخرقةٍ) التسوك بالأصبع ليس بسنة، ولا تحصل به السنة، سواء كان ذلك عند الوضوء أو لم يكن، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
ولكن بعض أهل العلم خالف في ذلك، ومنهم الموفق صاحب المقنع الذي هذا الكتاب مختصره، وابن عمه شارح المقنع، قالوا: إنه يحصل من السُّنية بقدر ما حصل من الإنقاء.
وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة الوضوء: أن النبي عليه الصلاة والسلام أدخل أصبعه عند المضمضة وحركها (33)، وهذا يدل على أن التسوك بالأصبع كافٍ، ولكنه ليس كالتسوك بالعود بلا شك؛ لأن التسوك بالعود أشد إنقاء، إنما قد لا يكون عند الإنسان في حال الوضوء شيء من العيدان يستاك به، فنقول له: يجزئ الاستياك بماذا؟ بالأصبع.
وقوله: (وخرقة) كيف التسوك بالخرقة؟
طالب: يضع الخرقة على الأصبع.
الشيخ: يضع الخرقة على الأصبع ملفوفة ويسوك، يقول مالك: ما تحصل السنة بذلك.
(1/180)
________________________________________
ولكن لا شك أن الإنقاء بالخرقة أقوى من الإنقاء بمجرد الأصبع؛ ولهذا بعض العلماء رحمهم الله قالوا: إن كان الإصبع خشنًا أجزأ التسوك به، وإن كان غير خشن فإنه لا يجزئ، وعلى هذا فأصحاب الحرف والبناء والمزارعين يجزئ بالأصابع، أما أصحاب النَّعمة فإنهم -نقول: النَّعمة ولا النِّعمة؟ النَّعمة بالفتح- فإنه لا ينفعهم.
يقول: (الخرقة) لا شك أنها أقوى تأثيرًا من الأصبع، فمن قال بأن الأصبع تحصل به السنة قال: إن الخرقة من باب أولى.
كلمة (أصبع) يقولون: ما أحد يغلط فيها إلا في الإعراب، من الناحية الصرفية ما أحد يغلط فيها أبدًا، في الإعراب يغلط فيها بعض الناس؛ يمكن يرفعها وهى منصوبة، أو بالعكس، لكن في الصرف ما يغلط فيها أبدًا، لماذا؟ لأن الصاد ساكنة، والهمزة والباء مثلثان؛ يعني: يجوز فيه فتح الهمزة وكسرها وضمها، مع فتح الباء وكسرها وضمها، ثلاثة في ثلاثة تسعة؛ ولهذا قال بعضهم ناظمًا تلك اللغات، ومضيفًا إليها (أنملة) أيضًا قال:
وَهَمْزَ أَنْمُلَةٍ ثَلِّثْ وَثَالِثَهُ
التِّسْعُ فِي إِصْبَعٍ وَاخْتِمْ بِأُصْبُوعِ
أعيده مرة ثانية وثالثة:
وَهَمْزَ أَنْمُلَةٍ ثَلِّثْ وَثَالِثَهُ
التِّسْعُ فِي إِصْبَعٍ وَاخْتِمْ بِأُصْبُوعِ
هذه مرتان
أَنْمُلة، إِنْمُلة، أُنْمُلة، وتقول: أَنْمِلة، وأَنْمَلة، وأَنْمُلة، هي تسع لغات فيها؛ الهمزة مثلثة، والميم مثلثة.
طالب: وثالثه؟
الشيخ: ثالثه الميم، أنمَلة؛ همرة، نون، ميم.
طالب: المعجون يا شيخ؟
الشيخ: المعجون؛ لأن الفرشة أظنها مثل السواك.
طالب: (غير عود).
الشيخ: ما هو بلازم، هي عود لين.
طلبة: لا.
الشيخ: على كل حال، إذا كانت تضر، لاحظْ إذا كانت تضر ما تصح.
طلبة: ( ... ).
(1/181)
________________________________________
الشيخ: ما دامت أنها تضر بدون معجون فهي كأنها من باب الدواء.
طالب: لو سوَّك أسنانه في يده؟
الشيخ: التركيب يعني؟
الطالب: إي.
الشيخ: الظاهر أن هذه ما تعتبر من الأسنان الحقيقة، نقول: ما يكفيك أنك تغسلها أو تنظفها بالصابون، لا بد أيضًا اللثة؛ لأن الحقيقة أننا ..
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، إذا أدخل الماء في فمه ( ... ).
قال: (مسنونٌ) هذا خبر المبتدأ، المسنون اسم مفعول من: سَنَّهُ يُسِنُّهُ، فهو مسنونٌ، مثل: شده يشده، فهو مشدود، ورده يرده، فهو مردود.
إذن (مسنونٌ) معناه أنه قد شرع، ولكن من الذي سنه؟ معروف أن السن إنما هو لمن؟ للشرع؛ يعني: سنه الله ورسوله.
وقوله: (مسنونٌ) والمسنون عند أهل العلم: كل عبادة أُمِرَ بها لا على سبيل الإلزام، هذا المسنون، إذن فهو عبادة، فالمتسوك ليس منظفًا لأسنانه فحسب، ولكنه متقرب إلى الله عز وجل بسواكه، (مسنونٌ).
وقولنا: لا على سبيل الإلزام، إن كان على سبيل الإلزام؟
طلبة: فهو واجب.
الشيخ: فهو واجب، وكون التسوك مسنونًا قد دل عليه الحديث الصحيح، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» (34).
فقوله: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ» «لَأَمَرْتُ» يدل على أنه ليس بواجب؛ لأنه لو كان واجبًا لشق علينا، ولكن هل يدل على أنه ليس بمسنون؟ لا، يدل على أنه مسنون، مأمور به، لولا المشقة لكان واجبًا لأهميته.
وقول المؤلف: (كل وقت)، بالليل والنهار؟
طلبة: نعم.
الشيخ: بالليل والنهار، ما هو الدليل ( ... ) قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِّ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» (35).
(1/182)
________________________________________
مَسنونٌ كلَّ وقتٍ لغيرِ صائمٍ بعدَ الزوالِ، مُتَأَكَّدٌ عندَ صلاةٍ وانتباهٍ وتَغَيُّرِ فَمٍ، ويَستاكُ عَرْضًا مُبْتَدِئًا بجانِبِ فمِه الأيمنِ ويَدَّهِنُ غِبًّا ويَكْتَحِلُ وِتْرًا و (يَجِبُ) التسميةُ في الوضوءِ مع الذِّكْرِ. ويَجِبُ الْخِتانُ ما لم يَخَفْ على نفسِه، ويُكرَهُ الْقَزَعُ.
ومن (سُننِ الوُضوءِ) السواكُ، وغَسْلُ الكَفَّيْنِ ثلاثًا، و (يَجِبُ) من نومِ ليلٍ ناقضٍ لوُضوءٍ والبَداءةُ بمَضْمَضَةٍ ثم استنشاقٍ والمبالَغَةُ فيهما لغيرِ صائمٍ وتَخليلُ اللحيةِ الكثيفةِ والأصابعِ، والتيامُنُ،
« ... مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» (1) يعني هذا الفعل البسيط يحصُل لك به هذا الأجرُ العظيمُ، فائدتانِ كبيرتانِ، وكثيرٌ من الناس يمضي عليه الشهرانِ والثلاثةُ ما يتسوَّك إمَّا جَهْلًا أو تهاوُنًا، المهمُّ أن فيه هاتينِ الفائدتينِ: «مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ».
يقول المؤلف: (لغيرِ صائمٍ بعدَ الزَّوالِ) يعني: مسنونٌ في كلِّ وقتٍ ليلًا ونهارًا إلا للصائم، كلمة (صائم) تعُمُّ النَّفْلَ والفرْضَ.
(بعدَ الزَّوالِ) أي: زوال الشَّمس. ومتى يكون زوالُ الشمس؟ إذا مالتْ إلى جهة المغربِ؛ لأن الشمس أول ما تطْلع من ناحية الشَّرق، فإذا توسَّطَت السَّماءَ ثم زَلَّتْ عنه فقد زالتْ.
فما علامة الزوال؟
يقول أهل العلم: علامة الزَّوال أن تَنصِبَ شاخصًا؛ شيئًا مرتفعًا، وتنظرَ إليه، فما دام ظِلُّه ينقص فالشمس لم تَزُلْ، فإذا بدأ يزيد ولو شعرةً فالشمس قد زالتْ، هذه علامة الزوال.
وأمَّا بالنسبة للساعات الموجودة الآن، فأنت انصفْ ما بين طلوع الشمس وغروبها، والنصف هو الزوال؛ فمثلًا إذا كانت الشمس تطلع على الساعة الثانية عشرة وتغيب الساعة الثانية عشرة، كمْ يكون الزوال؟
طلبة: ست.
الشيخ: ست.
إذا كانت تطلع على واحدة ونصف؟
طلبة: ( ... ).
(1/183)
________________________________________
الشيخ: لا، ما هو عشر ونصف، واحدة ونصف أضيفها إلى اثني عشر: ثلاثة عشر ونصف، كم نصفهم؟ سبع إلا رُبع، إذنْ تزول على سبع إلا رُبع.
إذا كانت تطلع على عشرة ورُبع، كم نصفهم؟ خمس وسبع دقائق، تزول على خمس وسبع دقائق.
طالب: ( ... ).
الشيخ: ترى هذا بالتوقيت العربي، أمَّا بالتوقيت الإفرنجي لا.
المهمُّ أن الزوال له علامتان: علامة الظِّل وعلامة الساعات؛ علامة الساعات أن تنصف ما بين طلوع الشمس وغروبها، وعلامة الظِّل إذا بدأ الظل يزيد.
يقول: (لغير صائمٍ بعد الزَّوال) ما حُكْمه للصائم بعد الزوال؟
قالوا: إنه يُكرَه، فإذا زالت الشمس وأنت صائمٌ فلا تتسوَّك، لماذا؟ أيش الدليل؟ قالوا: عندنا دليلان:
أحدهما: الحديثُ الذي يُروَى عن الرسول عليه الصلاة والسلام: «إِذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ وَلَا تَسْتَاكُوا بِالعَشِيِّ» (2)، والعَشِيُّ ما بعد الزَّوال، هذا دليل.
والدليل الثاني: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» (3)، والخُلُوف ما يظهر في الغالب إلا في آخر النَّهار، فما هو الخُلُوف؟
الخُلُوف: الرائحة الكريهة التي تكون في الفم عند خلوِّ المعدة من الطعام، لكنه لَمَّا كان ناشئًا عن طاعة الله صار طيِّبا عند الله عز وجل؛ «أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»، وهل المراد في الدنيا أو في الآخرة؟
الصواب: في الدنيا والآخرة. قالوا: فإذا كان أطيبَ عند الله من ريح المسك فإنه لا ينبغي أن يُزال، والسِّواك يُزيله، فلا ينبغي أن يُزال؛ بدليل دم الشَّهيد عليه؛ فإن دمَ الشَّهيد ما يُزال ولا يجوز أن يُزال، الشهيد الذي يُقتَل في سبيل الله يجب أن يبقى دمُهُ عليه ويُدفن في ثيابه في دمائه، كما أَمَر بذلك النبيُّ عليه الصلاة والسلام في شُهَداء أُحُد. قالوا: كلُّ ما كان ناشئًا عن طاعة الله فإنه لا ينبغي إزالته.
(1/184)
________________________________________
وقال بعض أهل العلم: إنه يُسَنُّ للصائم كلَّ وقتٍ كغيره، واستدلوا بعموم الأحاديثِ الدالَّة على استحباب السواك في كلِّ وقتٍ بدون تفصيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (لغير صائمٍ بعد الزَّوال) أي: فلا يُسَنُّ، بلْ يكون مكروهًا، وقبل الزوال؟ قالوا: يُستحَبُّ بيابسٍ ويُباح برطْبٍ. فجعلوا السواك للصائم على ثلاثة أقسام أو له ثلاثة أحكام: مباحٌ برطْبٍ قبل الزوال، ومسنونٌ بيابسٍ قبل الزوال، ومكروهٌ بعد الزوال مطْلقًا.
ما دليلهم على ذلك؟
يقولون: إنه مسنونٌ للصائم قبل الزوال لعموم الأدلَّة باليابس، مباحٌ بالرطْبِ؛ لأن الرطْب لرطوبته يُخشى أن يتسرَّب منه طعمٌ يصل إلى الحلْق فيُخِلَّ بصيامه، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للقيط بن صَبِرة: «بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» (4).
أما كونُه بعد الزوال يُكرَه فاستدلُّوا بأَثَرٍ ونَظَرٍ؛ الأَثَر: ما رواه ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها «إِذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ وَلَا تَسْتَاكُوا بِالعَشِيِّ» (5)، هذا واحدٌ. التعليل قالوا: لأنه بعد الزوال في الغالب تظهر من الصائم رائحةٌ كريهةٌ لخلوِّ المعدة من الطعام، هذه الرائحة الكريهة ناشئةٌ عن طاعةٍ، وإذا كانت ناشئةً عن طاعةٍ فإن الأَوْلى إبقاؤها كدَمِ الشهيد عليه؛ فإن الدم لا ينبغي إبقاؤه، بلْ ثَبَتَ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه لَمَّا جُرِح في أُحُدٍ قامتْ فاطمةُ رضي الله عنها تغسل الدَّمَ عن وجْهِهِ (6)، أمَّا الشهداء فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أَمَر أن يُدفَنوا في دمائهم وألَّا يُغَسَّلوا (7)؛ لأن هذا الدَّمَ المستقذَر ناشئٌ عن طاعة الله عز وجل فبقي، فكذلك هذه الرائحة التي تخرج من جوف الصائم في آخر النهار ناشئةٌ عن طاعة الله فينبغي إبقاؤها، ومن المعلوم أن التسوُّك يُزيلها لأنه مَطْهرةٌ للفَمِ، هذا هو التعليل، فصار عنده بذلك دليلٌ وتعليلٌ.
(1/185)
________________________________________
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يُكرَهُ مطْلقًا للصائم، بلْ هو سُنَّةٌ في حَقِّه كغيره؛ قال في الإقناع -الإقناع هذا من كُتُب الحنابلة المتأخرين اللي يمشي على المذهب في الغالب- قال: وهذا أظهر دليلًا. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يُسَنُّ حتى للصائم بعد الزوال، ما هو الدليل؟
فيه أدلَّة عامَّة مثل حديث عائشة اللي سبق لنا الإشارة إليه: «السِّواكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ»، وهذا عامٌّ ما استثنى منه الرسول عليه الصلاة والسلام شيئًا، وقد عَلِمْنا من القواعد الشرعية التي دلَّت عليها السُّنَّة وأخذ بها أهل العلم أن العامَّ يجب إبقاء دلالته على عمومه كما علَّمنا بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما سُئل عليه الصلاة والسلام عن الْحُمُر وعن أجْرها حين تكلَّم عن أجْر الخيل التي تُربَط للجهاد في سبيل الله؛ قالوا: يا رسول الله، فما الْحُمُر؟ قال: «إِنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]» (8)، هذا استدلالٌ بماذا؟
طالب: بالعموم.
(1/186)
________________________________________
الشيخ: بالعموم، فإذا كان كذلك فإنَّ الواجب في الكتاب والسُّنة أن تبقى دلالتهما على العموم إلا أنْ يَرِدَ مخصِّص، واعلمْ أنه لا يُمْكن أن يأتي لفظٌ عامٌّ إلا وَرَدَ له مخصِّص إمَّا متَّصلٌ وإمَّا منفصلٌ، إمَّا لسببٍ وإمَّا لغير سببٍ، هذا لا بد، لماذا؟ لأن مِن جملة البيان تخصيص العموم؛ إذْ إنَّه لو جاءنا لفظٌ عامٌّ وحُكْمه غير عامٍّ ثمَّ لم يأتِ دليلٌ يخصِّصه، هلْ في ذلك تِبيانٌ لكلِّ شيء؟ لا، فمِن جُمْلة التِّبيان لكلِّ شيءٍ -الذي بيَّن الله أن القرآن تبيانٌ لكلِّ شيءٍ- مِن جُمْلته أنه لا يمكن أن يأتي لفظٌ عامٌّ وقد كان بعضُ أفراده لا يتناول هذا الحكْمَ إلا ولا بدَّ أن يأتي ما يخصِّصه؛ إمَّا بشيءٍ متَّصلٍ، مثل أيش المتَّصل؟ كالاستثناء والشرط، وإمَّا بشيءٍ منفصلٍ، وإمَّا بسببٍ، وإما بغير سببٍ، فالأقسام أربعة؛ كلُّ عامٍّ لا يعمُّ حُكْمه جميعَ أفراده فلا بدَّ أن يقوم دليلٌ على تخصيصه، إما متَّصل، أو منفصل، أو بسببٍ، أو بغير سببٍ.
ما هو الدليل على هذه القاعدة؛ لأن هذه القاعدة نجزم بها؟
الدليل قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]، ومن جُمْلة التفصيل تخصيص العامِّ لو كان هناك ما يخصِّصه.
نشوف الآن الأقسام الأربعة وإنْ كنَّا خرجنا عن هذا، لكن أنا أحبُّ دائمًا أن نتعرَّض للقواعد؛ لأنها أهم من المسائل الفردية بالنسبة لطالب العلم.
العامُّ الذي وَرَدَ تخصيصه كثيرٌ في القرآن وفي السُّنة؛ قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1، 2] هذا عامٌّ، جاء التخصيص؟
الطلبة: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 3].
الشيخ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.
(1/187)
________________________________________
{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ} [البقرة: 217] فـ {مَنْ يَرْتَدِدْ} هذا عامٌّ، وجاء بعده قَيْدٌ: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}، وفي السُّنة أيضًا مِن هذا كثيرٌ، هذا بدون سببٍ؛ المخصِّص المتَّصل.
المخصِّص المتَّصل بسببٍ مثل حديث ابن عباس في فتح مكة حينما تكلَّم الرسول عليه الصلاة والسلام عن حُكْم مكة وأشجارها وتكلَّم بكلامٍ عامٍّ: «لَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» -إلى آخره- فقال العباس: إلا الإذْخِر. فقال النبي عليه الصلاة والسلام «إِلَّا الْإِذْخِرَ» (9)، فمقتضَى الأدلَّة العامَّة أنَّ اليوم الذي كسَنَةٍ كمْ يلزم من الصلوات؟
الطلبة: خمس صلوات.
الشيخ: خمس صلوات، ولكنَّ الصحابة سألوا الرسولَ صلى الله عليه وسلم: هل تكفينا فيه صلاةٌ واحدةٌ؟ فقال: «لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ». هذا دليلٌ منفصلٌ لسببٍ.
دليلٌ منفصلٌ لغير سببٍ: قال النبي عليه الصلاة والسلام «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ» (10)، هذا عامٌّ، كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيتَه فأوَّل ما يَبْدأُ به السواك (11)، هذا عامٌّ، هذه الأدلَّة العامَّة مِن قول الرسول عليه الصلاة والسلام ومِن فِعْله ما يمكن أن نخصِّصها إلا بدليل.
قالوا: والدليل الحديث الذي أشرْنا إليه: «إِذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ وَلَا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ»، وثانيا: التعليل الذي ذكرْنا.
ولكن الذين قالوا باستحباب السواك للصائم مطْلقًا قالوا: أمَّا الحديث فإنه ضعيفٌ لا يَقْوى على تخصيص العموم؛ لأن الضعيف ليس بِحُجَّةٍ، فلا يَقْوى على إثبات حُكْمٍ، وتخصيص العموم حُكْم ولَّا لا؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: حُكْمٌ؛ لأنه إخراجٌ لهذا المخصَّص عن الحكْمِ العامِّ وإثباتُ حُكْمٍ خاصٍّ به، فيحتاج إلى ثبوت الدليل المخصِّص، وإلَّا فلا يُقْبل.
(1/188)
________________________________________
وأمَّا التعليل فإنه عليلٌ؛ وذلك لأن الذين قُتِلوا في سبيل الله وأَمَرنا الرسول عليه الصلاة والسلام ببقاء دمائهم إذا بُعِثوا يوم القيامة فإنهم يبعثون يوم القيامة وكَلْمُهم يخرج دمُهُ؛ «يَثْعَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ والرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» (12)، فلا ينبغي أن يُزال هذا الشيء الذي سيوجد يوم القيامة، ونظيره تمامًا قول النبي عليه الصلاة والسلام في الذي مات في عَرَفة، قال: «كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ»، ولهذا ينبغي لمن مات مُحْرِمًا ألَّا نطلبَ له خِرقةً جديدةً، بلْ نُكَفِّنه في ثياب إحرامه التي عليه، وعلَّل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنه «يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» (13)، فيُكَفَّن في ثيابه كما أَمَر بذلك النبيُّ عليه الصلاة والسلام.
ونقول أيضًا: إنه منتقضٌ؛ ربْطُ الحكْمِ بالزوال ينتقض طردًا وعكسًا؛ لأنه قد تحصُل هذه الرائحة قبل الزوال؛ لأنها سببها خلوُّ المعدة من الطعام، وإذا لم يتسحَّر الإنسان في آخِر الليل ستخلو معدته مبكرًا، وأنتم لا تقولون: إنه متى وُجِدتْ رائحةُ النكهة الكريهة هذه يُكرَه السواك. هذه واحدة.
ثانيًا: منتقضٌ بالعكس أو بالطرد بأن نقول: إنَّ مِن الناس مَن لا تحصُل عنده هذه الرائحة الكريهة، وهذا موجودٌ حِسًّا، مُشاهَدٌ؛ فإنَّ بعض الناس لا توجَد عنده؛ إمَّا لصفاء معدته، وإمَّا لأنه ما يتهضم الطعام منه بسرعة، وإن كان هذا الأخير قد تحصل منه روائح أكثر، لكنْ على كلِّ حالٍ هذه العِلَّة منتقضة، وإذا انتقضت العلَّة انتقض المعلول؛ لأن العلَّة أصلٌ والمعلول فرعٌ، فالصواب إذنْ أن السواك سُنَّةٌ حتى للصائم، ويؤيِّده هذا الحديث وإنْ كان ضعيفًا، حديث عامر بن ربيعة: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما لا أُحصِي يتسوَّك وهو صائمٌ (14).
طالب: ما يقال: إنه ما تزول الرائحة بالسواك؛ الرائحة من المعدة ولا تزول بالسواك؟
(1/189)
________________________________________
الشيخ: واللهِ هذه ما أدري، هذه عند اللِّي يشمون، أنا ما أشمُّ.
طالب: أحيانًا النهار قصير ما ..
الشيخ: ما يصير رائحة ..
الطالب: فايحة لعامة الناس.
الشيخ: إي نعم.
الطالب: في الشتاء.
الشيخ: لكن السؤال الآن أنه حتى لو تسوَّك الإنسان ما تروح الرائحة.
طالب: صحيح.
الشيخ: صحيح، تبقى؟ إذنْ بعد ( ... ) تكون.
طالب: ( ... ).
الشيخ: إي، على كلِّ حالٍ الحمدُ لله، الأدلَّة عندنا ظاهرة في العموم، وهو الراجح
طالب: وما الجواب عن حديث لقيط ( ... ) الصائم عن المبالغة في المضمضة والاستنشاق؟
الشيخ: هذا واضح؛ لأن الخوف من أنْ يتسرَّب الماءُ إلى جوفه.
طالب: ( ... )؟
الشيخ: نقول في هذه الحال: إنه يُمْكنه إمساكه إذا كان له طعمٌ، حتى لو فُرِض أنه قد يَبِس وأنه مع رطوبته بالريق يمكن يظهر طعمه فلا بدَّ أن تَتْفُله.
طالب: ( ... ).
الشيخ: إي، يمكن.
طالب: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» الحديث ما يصير دليلا لهم؟
الشيخ: لا أبدًا لأنه كما سمعت ما يترتب مثل ما قال بعض السلف، قال: ماذا يريد الله من ( ... )، إنما المعنى أن هذا له أثر طيب عند الله وإن كان مكروها عندكم.
طالب: ( ... ) مرضاة الربِّ أطيب من ريح المسك، ما ( ... )؟
الشيخ: مرضاة الرب؟
طالب: أطيب من ريح المسك، ما ( ... )؟
الشيخ: ما ( ... ) فيها شيء، لأنه أطيب عند الله من ريح المسك.
طالب: شيخ، ( ... ).
***
يقول المؤلف: (متأكِّدٌ عِنْدَ صلاةٍ).
(متأكِّدٌ) هذه خبرٌ ثانٍ لقوله: (التسوُّك)، وتعدُّد الأخبار جائزٌ؛ قال الله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14] فـ {الْوَدُودُ} هنا خبرٌ ثانٍ، ولا يجوزُ أن يكون صفةً لـ {الْغَفُورُ}؛ لأن نفس {الْغَفُورُ} صفةٌ بالمعنى العامِّ، ما هو بالمعنى النَّحْوي اللي هو النعت؛ لأن {الْغَفُورُ} هذه خبر.
يقول: (متأكِّدٌ عِنْدَ صلاةٍ وانتباهٍ) إلخ.
(1/190)
________________________________________
كلمة (صائم) في كلام المؤلف: (لغير صائمٍ)، نفلًا ولَّا فرضًا؟
الطلبة: ( ... ).
الشيخ: الفرض والنفل، نعم.
يقول: (عِنْدَ صلاةٍ وانتباهٍ وتغيُّرِ فَمٍ) ثلاثة أمورٍ ذكرها المؤلِّف:
أولًا: (عِنْدَ صلاةٍ) الدَّليل قوله صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ»، وكلمة: «عِنْدَ» في الحديث وفي كلام المؤلِّف تقتضي القُرْبَ؛ لأن العِندية معناها: الشيء القريب من الشيء، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، كما قال في الكتاب الذي كَتَبه: «فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ» (15)، فالعِنْديَّة تقتضي القُرْب من الشيء، فإذنْ (عِنْدَ صلاةٍ) يكون قُربَ الصلاة، وكُلَّما قَرُبَ منها فهو أفضل، وأمَّا قول بعضهم: إن المراد بـ (عند الصلاة) يعنى: الوُضوء. فهذا ليس بصحيح؛ لأن الوُضوء قد يبعد عن الصلاة، هذه من جهةٍ؛ لأن الوُضوء له سواك خاصٌّ، فالصواب أن (عند الصلاة) يعني: قُرْب الصلاة.
ولكن بعض الناس يقول: إنَّ التسوُّك لا بدَّ أن يكون هناك وَسَخ، فهلْ نفعل كما يفعل العامَّة إذا تسوَّك مصَّ السواك وبلعه؟
الجواب: لا؛ لأن معنى ذلك أنك تُزيل الوَسَخ من الأسنان لأجْل تجعله في المعدة، وهذا خِلاف مقصود الشرع، بلْ إنك إذا أحسسْتَ بأن هناك أوساخًا حَمَلها السواكُ فإنك تأخذه أو تمصُّه ثم تَتَفُله، أو تأخذه مثلا وتعصره بين أصبعيك أو في منديل حتى يذهب هذا الوَسَخ.
وقوله: (عند صلاةٍ)، فرضًا ونفلًا؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: جنازة وصلاة ذات ركوعٍ وسجودٍ؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: حتى عند صلاة الجنازة لعموم الحديث.
عند سجود التِّلاوة؟
الطلبة: ( ... ).
الشيخ: ينبنى على الخلاف؛ إن قلنا: بأنه صلاة -كما هو المشهور من المذهب- سُنَّ له ذلك، وإلا فلا، وكذلك سجود الشُّكر.
(1/191)
________________________________________
ولكننا نقول: إذا لم نقلْ بأنه متأكد عند سجود التلاوة فإنه داخلٌ في أنه مسنون كُلَّ وقتٍ، لكننا لا نعتقد بأنه مسنونٌ من أجْل هذا الشيء إذا قلنا بأن سجود التلاوة ليس بصلاةٍ.
طالب: إذا كبَّر ( ... )؟
الشيخ: لا، يُكبِّر؛ لأننا ذكرنا من قبلُ قواعدَ حول هذا الأمر فقلنا: الفضيلة المتعلِّقة بذات العبادة أَوْلى بالمحافظة من المتعلِّقة بمكانها.
وقلنا أيضًا: إن الفضيلة المتعلِّقة بذاتِ العبادة أَوْلى من الفضيلة التي تُشرع للعبادة؛ لها، والسواك مشروعٌ: لَهَا ولَّا فيها؟
الطلبة: لها.
الشيخ: لها، فعلى هذا يُقدَّم إدراك تكبيرة الإحرام.
وأمَّا المتعلِّقة بالمكانِ وذاتِ العبادة فقد مثَّلنا لذلك بماذا؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: بالرَّمَل في طواف القُدوم، والقربِ من البيت؛ أيهما أولى؟ الرَّمَل أَوْلى من الدُّنوِّ من البيت؛ لأن الرَّمَل سُنَّةٌ تتعلَّق بذات العبادة، والدنوَّ من البيتِ تتعلَّق بماذا؟
طلبة: بمكانها.
الشيخ: بمكانها، نعم.
(عِنْدَ صلاةٍ وانتباهٍ)، انتباه منين؟
الطلبة: من النوم.
الشيخ: من النوم؛ لقولِ حذيفةَ بنِ اليمانِ رضي الله عنه: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا قامَ مِن النوم يَشُوصُ فاهُ بالسِّواك (16).
(يَشُوصُ) قال العلماء: معناه: يدلكه ويغسله بالسِّواك.
وعند الانتباه من النوم يُسَنُّ، وظاهرُ كلام المؤلف أنه يُسَنُّ عند الانتباه من نومِ الليل ومن نومِ النهار؛ لأنه قال: (وانتباهٍ) ولم يَخُصَّه بالليل، فإذا استدللنا بحديث حذيفة على هذه المسألة فهل استدلالُنا صحيحٌ على قاعدة الدليل؟
الطلبة: لا.
الشيخ: لا، لماذا؟
الطلبة: ( ... ).
(1/192)
________________________________________
الشيخ: لأن الدليل أخصُّ، ولا يمكن أن يُستدَلَّ بالأخصِّ على الأعمِّ، لكن قد يُقالُ: إنَّ حذيفة رضي الله عنه رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عند الانتباه من نومِ الليل، ولا يمنع أن يكون ذلك أيضًا عند الانتباه من نومِ النهار؛ لأنَّ العِلَّة واحدةٌ، وهي تغيُّر الفَمِ بالنَّوم، وعلى هذا فيُسَنُّ -كما قال المؤلِّف- عند الانتباه مطْلقًا؛ بالدَّليل في نومِ الليل، وبالقياس في نوم النَّهار.
واعلمْ أنَّ القياس الجليَّ الواضح يُعبِّر عنه بعضُ أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية بالعموم المعنويِّ؛ لأنكم تعرفون أنَّ العموم يكون بالألفاظ كالصِّيَغِ المعروفةِ، وقد يكون بالمعاني؛ بمعنى: أننا إِذا تيقَّنَّا أو غَلَب على ظنِّنا أن هذا المعنى الذي جاء به النَّصُّ يشمل هذا المعنى الذي لم يدخلْ في النَّصِّ لفظًا فإننا نقول: دخل فيه بالعموم المعنويِّ. وإذا قلنا: إنَّه ثَبَتَ بالقياس الجليِّ فالأمرُ واضحٌ؛ لأن السُّنَّة -أو الشرع- لا تفرِّق بين متماثلين.
(وتغيُّرِ فَمٍ) أي: متأكدٌ أيضًا عندَ تغيُّر الفَمِ، الدَّليل؟
طالب: «مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ».
الشيخ: «مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ»، فمعنى ذلك: متى احتاج الفَمُ إلى تطهيرٍ كان السواكُ مشروعًا.
***
قال المؤلِّف: (ويَسْتاكُ عَرْضًا)، بالنِّسبة للأسنان، وطولًا بالنِّسبة للفَمِ؛ يستاكُ عرضًا هكذا، طول الأسنانِ كذا، فيستاك عرضًا بالنسبة لها، وطولًا بالنِّسبة للفمِ. وين طول الفم؟ من اليمين إلي الشِّمال؛ يعنى: من الأُذُن اليُمنى إلي الأُذُن اليُسرى، هذا طوله، فهو طولًا بالنسبة للفَمِ، وعرْضًا بالنسبة للأسنان.
وقال بعض أهل العلم: يستاكُ طولًا بالنسبة للأسنان؛ لأن هذا أَبْلَغ في التنظيف، لأنه لو اسْتاكَ طولًا ينظِّف ما بين الأسنان أكثر.
(1/193)
________________________________________
ويحتمل أن نقول: إنه يُرجَع في ذلك إلى ما تقتضيه الحال؛ فإذا اقتضت الحالُ أن يستاكَ طولًا استاك طولًا، وإن اقتضت أن يستاكَ عرضًا استاك عرضًا، ما دام المسألة ما فيها سُنَّةٌ بيِّنَةٌ.
(يَسْتاكُ عَرْضًا مبتدِئًا بجانب فَمِه الأيمن) الجانب الأيمن هذا ولَّا ذا؟
اللِّي إلى الأذن اليُمْنى، ودليله أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُعْجبُه التيامُنُ في تَنَعُّلِه، وتَرَجُّلِه، وطُهورِه، وفي شأنه كلِّه (17).
وبماذا يستاك؟ هل هو باليد اليُمنى أو باليد اليُسرى؟
اختلف أهل العلم في ذلك:
فقال بعضهم: يستاك باليد اليُمنى؛ لأن السِّواك سُنَّةٌ، والسُّنَّةُ طاعةٌ لله عز وجل وقُربةٌ إليه، فلا تناسبُ أن تكون باليُسرى؛ لأنَّ اليسرى تُقدَّم للأذى، كما تقدَّم أن القاعدة: أن اليُسرى تقدَّم للأذى، واليُمنى لما سواه.
وإذا كان السواك عبادةً فالأفضل أن يكون باليمين.
وقال آخرون: بل باليسار أفضل، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وعلَّلوا ذلك: بأن السواك لإزالة الأذى، وإزالة الأذى تكون باليُسرى كالاستنجاء والاستجمار، فإنه يكون باليُسرى ولا يكون باليُمنى.
ولكننا نقول: صدقتم، إن السواك إزالةٌ للأذى؛ «مَطْهَرَةٌ للفَمِ»، لكنْ في نفس الوقت هو «مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» فهو طاعة.
وفصَّلَ آخرون في هذا فقالوا: إنْ تسوَّك لتطهير الفَمِ -كما لو كان بعد الأكلِ مثلًا أو بعد النومِ- إِنْ تسوَّك لتطهير الفَمِ فيكون؟
الطلبة: باليسرى.
الشيخ: باليسار؛ لأنه لإزالة الأذى.
وإنْ تسوَّك لتحصيل السُّنَّة فيكون؟
الطلبة: باليمين.
الشيخ: باليمين؛ لأنه مجرَّد قُربة؛ كما لو كان قد توضَّأ قريبًا واستاكَ عند الوضوء ثم حضر إلى الصلاة، فإنَّه يستاك هنا؟
الطلبة: باليمين.
الشيخ: لتحصيل السُّنَّة، فيكون باليمين، وإلى هذا ذهب بعضُ علماء المالكية ففصَّلوا فيه هذا التفصيل.
(1/194)
________________________________________
وعندي أنَّ الأمر في هذا واسعٌ، وأنه إن استاك باليمين فباليمين، وباليسار فباليسار؛ لأنه ليس هناك سُنَّةٌ واضحةٌ في هذه المسألة.
طالب: الاستنشاق والاستنثار يُباشَر باليسار؟
الشيخ: باليسار.
الطالب: ( ... )؟
الشيخ: إي، بَس الاستنثار .. يصيب اليدَ مخاطٌ وشيءٌ قذِرٌ، بخلاف هذا، على كل حال يُمْكن ما يصيب ويُمْكن يصيب، لكنْ مثلًا تتسوك تمسك المسواك فقط.
فالأقوال إذنْ ثلاثة: المشهور من مذهب الحنابلة هو أنه يستاك باليسار مطْلقًا.
طالب: أقول: إنَّ الأذى اللي في الفَم خِلافُ الأذى الخارج من السبيلين، فالقول هذا بأنه لإزالة الأذى فهو باليسار ..
الشيخ: لا، هم يقولون: إن الأذى منه نجسٌ قَذِرٌ ومنه ما هو دون ذلك.
الطالب: بالإضافة لأنَّ الاستياك عايز مهارة، بخلاف الاستنجاء.
الشيخ: كيف مهارة، ويش؟
الطالب: يعني ما يستطيع اللي هو ليس بأعسر أنه يستعمل السواك بيده اليُسرى.
الشيخ: لا، الأعسر غيره، الأعسر شيء آخر.
الطالب: لا، أقول: خلاف الأعسر؛ العادي ما يستطيع أنه يستعمل اليُسرى في شيء ينظِّف به.
الشيخ: عجيب، لا، الآن نحن استياكُنا باليسار وضابطينه تمامًا.
طالب: ( ... ).
الشيخ: إي نعم، صح.
يقول المؤلف: (ويستاكُ عَرْضًا مبتدِئًا بجانب فَمِه الأيمن). انتهى الكلام على السواك، فصار السواك سُنَّة، وينبغي أن يتسوَّك بعُودٍ ليِّنٍ، مُنْقٍ، غيرِ متفتِّتٍ ولا ضارٍّ، ويتأكَّد في خمسة مواضع.
***
قال: (ويَدَّهِنُ غِبًّا).
(1/195)
________________________________________
(يَدَّهِنُ)، ويش معنى (يَدَّهِنُ)؟ أي: يستعمل الدُّهْن في شعره، فيدَّهن (غِبًّا) الغِبُّ يعني: يومًا ويومًا؛ يعني: يومًا يفعل ويومًا لا يفعل، وليس بلازمٍ أن يكون يومًا ويومًا هكذا بالترتيب، يُمكن يومًا ويترك يومين، أو يومين ويترك يومًا، المهم ألَّا يستعمل ذلك دائمًا؛ لأنه إذا استعمله دائمًا صار في عِدَاد الْمُترَفين الذين لا يهتمُّون إلا بشؤون أبدانهم، وهذا من الأمور التي ليستْ بمحمودة، ففي سنن أبي داود أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن كثرةِ الإرفاه (18)؛ يعنى ما ينبغي للإنسان أن يُكثِر إرفاه نفسِه.
وأيضًا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، ويُؤْتَمَنُونَ فَيَخُونُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» (19). السِّمَن ليش يظهر فيهم؟
الطلبة: لكثرة التَّرَف.
الشيخ: لكثرة التَّرَف؛ لأن الإنسان اللي ما يُترِف نفسَه ما يزيد وزنُه، وهذا دليلُّ على أنَّ كثرة الإرفاه ليستْ بمحمودة.
وأمَّا تركُه بالكُلِّية –ترك الادِّهان- فإنه أيضًا سيِّءٌ؛ لأنه يوجِب أن يكون الإنسانُ شَعِثًا رأسُه كشجرة الشوك ليس بجميلٍ ولا بحسنٍ، فالإنسان ينبغي أن يكون وسطًا بين هذا وهذا.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، هو الظاهر أنَّ هذا يختلف، إذا كان رأسه خفيفًا يُمْكن لو يدَّهن دائمًا ويش الفائدة! ما غير يصير على كتفيه ويؤذيه.
طالب: رأسه خفيف ما يحتاج.
الشيخ: الظاهر أنه ما يحتاج، يكفيه الماء.
***
(ويَكْتَحِلُ وِتْرًا).
(يَكْتَحِلُ) الكُحل يكون بالعين.
(وِتْرًا) يعني: ثلاثًا في كُلِّ عَين.
كلَّ ليلةٍ؟
نعم، كلَّ ليلةٍ.
ولكن بماذا يكتحل؟
(1/196)
________________________________________
قالوا: ينبغي أن يكتحل بالإثْمِد، الإثْمِد: نوعٌ من الكُحل جيِّدٌ جدًّا مفيدٌ للعين، وإذا شئتَ أن تعرف عنه فأقرأ: زاد المعاد لابن القَيِّم، وهو من أحسن الكُحل تقويةً للنَّظر.
ويُقال: إنَّ زرقاء اليمامة -وأظنها معروفةً لديكم- تنظرُ مسيرةَ؟
طلبة: ثلاثة أيام.
الشيخ: ثلاثة أيامٍ بعينها المجرَّدة، ثلاثةِ أيام! ما أدري أنتم تنظرون إلى مسيرة عشرين مترًا؟ !
طالب: ( ... ).
الشيخ: نعم، يقولون: إنها لما قُتِلَتْ قالوا: لا بد نشوف ها العين اللي تنظر مسيرة ثلاثة أيام، فوجدوا أن عروق عينها تكاد تكون مَحْشُوَّةً من الإثْمِد؛ لأنه جيِّدٌ للعين، فينبغي للإنسان أن يكتحل هذا الاكتحال.
الاكتحالُ الذي يكون لتجميل العين هل هو مشروعٌ للرَّجُلِ ولَّا مشروعٌ للأنثى فقط؟
الظَّاهر أنَّه للأنثى فقط، أمَّا الرَّجُل فليس بحاجةٍ إلى تجميل عينه.
وقد يُقال: إنه مشروعٌ للرَّجُل أيضًا؛ لأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام لما سُئل؛ قالوا: يا رسول الله إنَّ أَحَدَنا يحب أن يكون نَعْلُه حسنًا، وثوبُه حسنًا. فقال: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» (20).
وقد يُقال: إنه بالنسبة للرجل إذا كان في عينه عيبٌ يَحتاجُ إلى الاكتحال فهو مشروعٌ له، وأمَّا إذا كانتْ عينُه عاديَّةً فليس بمشروع.
طالب: هل له أشكالٌ وألوان؟
الشيخ: اللي هو الكُحل؟
الطالب: الإثْمِد.
الشيخ: إي، واللهِ بَس أنا قالوا لي: ما هو موجود الآن.
الطالب: الإثْمِد أحمر، موجود.
الشيخ: هو الظاهر أنهم يقولون: موجود، كما يقول أهل المدينة: إن العجوة موجودة. ويش العجوة؟ يجيبلك دقلة ما، يمكن مِن أَرْدأ الدقل، يقول: هذه العجوة. وأنا حدثني شيخٌ من المدينة منذ سنوات يقول: إنه لا يوجد سوى نخلة واحدة فقط ولا لها فراخة في مكان فلان. وعيَّنَه لنا.
الطالب: ابن القيم يقول: موجود في خراسان و ( ... ).
الشيخ: ابن القيم! إذا كان ابن القيم يقول في زمنه .. كيف هذا الآن!
(1/197)
________________________________________
الطالب: شكله أحمر يُباع عند أُحُد ( ... ).
الشيخ: إي، بَس يا أخ تزوير.
الطالب: بَس ما أدري، هم يقولون هذا، أحمر.
الشيخ: تبقى تأخذه إن شاء الله وتتَّكل على الله تملأ عينك بهذا الحصى.
***
(يدَّهِنُ غِبًّا ويكتحل وترًا، وتجبُ التَّسميةُ في الوُضوء مع الذِّكر).
(تجبُ التَّسميةُ في الوُضوء) يعني أن يقول: بسم الله، ومتى تكون؟
عند ابتدائه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» (21)، نحن نشوف الإنسان يصلِّي وهو ما يقرأ فاتحة الكتاب، الصلاة الآن موجودة بالفعل، لكنها شرعًا غير موجودة، غير صحيحة، هذا نقول: نفيٌ للصحة.
«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (22).
هذا فيه أيش؟
الطلبة: نفي الكمال.
الشيخ: نفي الكمال؛ لأن الإنسان الذي لا يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ما هو ينتفي عنه الإيمان، الذي ينتفي عنه كمالُ الإيمان، ولكن هذا الكمال قد يكون كمالًا واجبًا وقد يكون كمالًا مستحبًّا.
الحديث: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» إذا طبَّقناه على هذه القاعدة فإنه يقتضي أن التسمية شرطٌ في صحة الوُضوء لا واجبٌ فقط، بلْ هي شرطٌ في صحة الوُضوء؛ لأن نفيَ الوُضوء لانتفاء التسمية معناه نفيٌ لصحتة، ولا تنتفي الصحة لانتفاء شيءٍ إلا وهذا الشيءُ شرطٌ، لكن مذهب ( ... )، وكأنهم عدلوا عن كونها شرطًا لأنَّ الحديث فيه نظرٌ؛ في صحته نظرٌ، ولهذا ذهب الموفَّق -رحمه الله- إلى أن التسميةَ ليستْ بواجبةٍ وإنما هي سُنَّة؛ لأن هذا الحديث قال فيه الإمام أحمد: لا يَثْبت في هذا الباب شيءٌ، وإذا لم يَثْبت فيه شيءٌ فإنه لا يكون حُجَّة.
فالمسألة فيها قولان:
القول الأول: أن التسمية واجبةٌ، ولكنها تسقط بالنسيان، وهذا هو المشهور من المذهب.
(1/198)
________________________________________
والقول الثاني: أنها سُنَّة وليستْ بواجبةٍ؛ لأن الحديث فيها لا يَقْوى على إيجابها على المسلمين وعدم صحة وضوئهم، ولأن كثيرًا من الذين وصفوا وُضوء النبيِّ عليه الصلاة والسلام لم يذكروا فيه التسمية، وهى أحاديثُ كثيرةٌ، ومِثْل هذا لو كان من الأمور الواجبة التي لا يصحُّ الوُضوء بدونها لكانتْ تُذْكر.
طلبة: إذا كان في الحمَّام؟
الشيخ: إذا كان في الحمَّام فقد ذكر الإمامُ أحمد أن الرجُل إذا عطسَ حَمِدَ اللهَ بقلبه، فيُخَرَّج من هذه الروايةِ أنه يُسمِّي بقلبه.
قال المؤلف: (تجبُ التسمية في الوُضوء مع الذِّكْر).
أفادنا بقوله: (مع الذِّكْر) أنها تسقط؟
الطلبة: بالنِّسيان.
الشيخ: بالنِّسيان، فإن نسيها في أوَّله وذكرها في أثنائه فماذا يصنع؛ يُسمِّي ويستمرُّ، ولَّا يبتدئ؟
اختلف في هذه المسألة المنتهَى والإقناعُ -وهما كتابان من كُتُب فقه الحنابلة- فقال صاحبُ المنتهى: يبتدئ. وقال صاحبُ الإقناع: يواصل، يستمرُّ.
أمَّا حُجَّة صاحب المنتهى فيقول: لأن هذا الرجُل ذَكَر التسميةَ قبل فراغه، فوجب عليه أن يأتي بالوُضُوء على وجهٍ صحيح.
وأمَّا حُجَّة صاحب الإقناع فقال: إنَّها تسقط بالنِّسيان إذا انتهى من جملة الوُضوء، فإذا انتهى من بعضه فإنَّ هذا البعض الذي نَسِي فيه يكون صحيحًا.
أيهما المذهب عند المتأخرين؟
الذي في المنتهى؛ هم يَرَون أن اللي في المنتهى هو المذهب؛ إذا اختلف الإقناع والمنتهى فالمذهب ما في المنتهى.
(تجب التسميةُ في الوُضوء مع الذِّكْر) وهل تجب في الغُسل؟
يقول الفقهاء: نعم، تجب في الغُسل؛ لأن الغُسل إحدى الطَّهارتين، فكانت التسمية فيه واجبةًَ كالوُضوء، ولأنها إذا وجبتْ في الوُضوء وهو أصغرُ -حَدَثٌ أصغر- وأكثرُ مرورًا على المكلَّف فوُجوبُها في الحَدَث الأكبر من باب أَوْلى.
وهل تجب في التيمُّم؟
طلبة: نعم.
(1/199)
________________________________________
الشيخ: قالوا: نعم، تجب في التيمُّم؛ لأن التيمُّم بدلٌ عن طهارة الماء، والبدل له حكم المبدَل، ولكن قد يُعارض معارضٌ ويقول: إن التيمُّمَ لم يكنْ له حكمُ المبدَل في وجوب تطهير الأعضاء؛ لأنَّ التيمُّم إنما يُطهَّر فيه كم عضو؟
طالب: الوجه والكفَّان.
الشيخ: عضوانِ فقط في الحدث الأصغر وفي الأكبر، فلا يمكن أن يُقال: ما وجب في طهارة الماء وجب في طهارة التيمُّم، ولكنْ على كلِّ حال الاحتياط أَوْلى، مع أن الذي يتأمَّل حديث عمَّار بن ياسر وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام له: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا» (23)، ولم يذكر التسمية، يستفيد منه أنها؟
طالب: ليست واجبة.
الشيخ: ليست بواجبةٍ في التيمُّم.
بهذه المناسبة نشوف أحكام التسمية في الشرع:
التسمية في الشرع قد تكون شرطًا، وقد تكون واجبًا، وقد تكون سُنَّةً، وقد تكون بدعةً غير مشروعة.
متى تكون شرطًا؟
طالب: في الذبيحة.
الشيخ: في الذبح، في الذَّكاة والصَّيد، شرطٌ، ما تسقط على الصحيح لا عمدًا ولا جهلًا ولا سهوًا، فإذا ذَبح إنسانٌ ذبيحةً ونَسِي أن يُسمِّي صارتْ حرامًا، وإذا رمى صيدًا ونَسِي أن يُسمِّي صار حرامًا.
وقال بعض أهل العلم -وهو المذهب-: إذا رمى صيدًا ونسي أن يُسمِّي كان حرامًا، وإن ذَبَح ونسي أن يُسمِّي فهى حلالٌ.
أيهما أَوْلى بالعُذر؟
الطلبة: الصيد.
الشيخ: الصيد أَوْلى بالعُذر.
قال: كيف تعذرونه في الذبيحة، ولا تعذرونه في الصَّيد مع أنَّ الغالب أنَّ الإِنسان إذا شاف الصيد يستعجل وينسى، يَذْهل، ومع هذا يقولون: إنه لا يحلُّ المصيد ويحلُّ المذكَّى؟
الدليل: قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا أَرْسَلْتَ سَهْمَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ» (24)، فقالوا: «وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ» فمعنى ذلك: إذا لم تذكر اسمَ الله عليه لا تأكلْ.
(1/200)
________________________________________
فنقول: هو أيضًا قال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ -أو قال: فَكُلُوا- إِلَّا السِّنَّ والظُّفُرَ» (25)، أيُّ فرق بين هذا وهذا؟ ! ليس بينهما فرقٌ، فجعل حِلَّ المذكَّى مشروطًا بالتسمية وإنهار الدم، فكما أن الرجل لو نسى وذبح الذبيحة بصَعْقٍ كهربائي، ويش تقولون في الذبيحة؟
الطلبة: مَيْتة.
الشيخ: تكون مَيْتة ما تحِلُّ، كذلك إذا نسي ولم يُسمِّ فهي مَيْتةٌ لا تحِلُّ.
لكن قد يقول قائل: أليس الله يقول: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]؟
بلى قال ذلك، ونحن نقول به أيضًا، فهذا الرجل الذي نسي أن يسمِّي اللهَ على الذبيحةِ ما عليه إثمٌ ولا خطأٌ، لكن أنا ياللي بيأكل من هذه الذبيحة متعمِّدًا عَلَيَّ إثمٌ؛ لأن الله يقول: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، فنهانا، ولهذا لو أكلتُ ناسيًا أو جاهلًا، ما عَلَيَّ إثمٌ، ينطبق عَلَيَّ قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.
فإنْ قال قائل: إذا قُلْتَ بهذا خسَّرتَ المسلمين. ويش معنى خسَّر المسلمين؟ تجيء ناقة مشريَّة بثلاثة آلاف أو بأربعة آلالف، نسي أن يقول: بسم الله، تقول: جُرُّوها للكلاب، هذه خسارة على المسلمين، معنى ذلك أن أموال المسلمين بتروح هَدَر.
فالجواب: إذا قلت: إنَّه يُعفَى عن النسيان، معناها أنك أنت بتخلِّي كثيرًا من الذبائح تؤكل بدون تسمية؛ لأن النسيان يقع كثيرًا، لكن إذا قلنا لهؤلاء القوم: جُرُّوا هذه البعير للكلاب، في اليوم الثاني إذا ذبحوا بعيرًا ينسون ولَّا ما ينسون؟
الطلبة: ما ينسون.
(1/201)
________________________________________
الشيخ: ما ينسون، يمكن يُسمِّي عشر مرَّات، هذا ما فيه شيء، وما هذه العِلَّة إلا كتعليل بعض الناس حين قال: أنتم إذا قطعتم يدَ السارقِ صار نِصْفُ الشعبِ أقطعَ. ليش؟ لأن نِصْفَ الشعبِ عندهم سُرَّاق، يقول: إذا قُطِعتْ أيديهم صار نصْفُ الشعبِ أقطعَ.
نقول: لا، ما هو صحيح، أنت إذا قطعْتَ واحدًا كم يتوب؟
الطلبة: يتوب مئات.
الشيخ: يتوب مئاتٌ من الناس، وهذا الذي قرَّرناه في مسألة الذَّكاة أنه لا تسقط التسمية بالنسيان، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
فيه قلنا: إنها قد تكون واجبةً ليست بشرطٍ مثل الذي معنا؛ الوُضوء، واجبةٌ وليستْ بشرطٍ.
وقد تكون مستحبَّة مثل؟
طالب: ( ... )
الشيخ: لا، التسمية على الأكل مستحبَّةٌ عند جمهور أهل العلم، وقال بعض العلماء: إنها واجبةٌ، وهو الصحيح؛ أنَّ التسميةَ على الأكل واجبةٌ.
فيه تكون بدعةً؟
طالب: عند الأذان.
الشيخ: عند الأذان، إي نعم؛ قبل أن يؤذِّن قال: بسم الله الرحمن الرحيم، عند الصلاة قبل أن يدخل في الصلاة يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، قبل تكبيرة الإحرام.
عند قراءة القرآن؟
طالب: مستحبَّة.
الشيخ: هي مستحبَّة؟
طلبة: سُنَّة.
الشيخ: سُنَّة؟
طالب: في أول السُّورة.
الشيخ: في أول السُّورة لا شكَّ أنها تُقرأ، لكن في أثناء السُّورة زَعَم بعضُ أهل العلم أنه يُستحبُّ أن يقول: بسم الله، ولكن بعض العلماء -وهو الصَّحيح- رَدَّ هذا وقال: إن الله لم يأمرْنا عند قراءة القرآنِ إلا أن نقول: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، فإذا كنتَ تقرأ من أثناء السُّورة لا تقل: بسم الله الرحمن الرحيم، قلْ: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، ولا تقلْ: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأنا ما أُمِرنا بغير ذلك.
طالب: التعوُّذ واجبٌ عند القراءة؟
الشيخ: إي واللهِ ظاهرُ القرآن أنه واجب.
***
(1/202)
________________________________________
يقول: (تجبُ التَّسْمِيةُ في الوُضوءِ مع الذِّكْر، ويجبُ الخِتانُ).
الخِتانُ أوَّلُ مَنْ سَنَّهُ مَن؟
الطلبة: إبراهيم.
الشيخ: إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
والختان بالنسبة للذَّكَر: هو قطْعُ الجلدةِ التي فوق الحَشَفَة.
والختان بالنسبة للأنثى: هو قطْعُ لحمةٍ زائدة فوق محلِّ الإيلاج، قال الفقهاء: إِنها تُشْبه عُرْف الدِّيك.
وهذه المسألة ظاهر كلام المؤلِّف أنه واجبٌ على الذَّكَر والأُنْثى، فيجب أن يُختَن الذَّكَر ويجب أن تُختَن الأنثى، متى؟
قالوا: في زَمَنِ الصِّغَر أفضل، إلا أنهم قالوا: يُكْرَه في اليوم السابع ومِن الولادةِ إلى اليوم السابع؛ لأنه في هذا الزمن يُخْشى على الطفل، لكن من يوم ثمانية فأكثر أفضل؛ لأن فِعْله في زمن الصِّغَر فيه إيلامٌ بَدَنِيٌّ لا قلْبِيٌّ، أو لا؟
طالب: نعم.
الشيخ: الصغير ما يدري، يتألم بَدَنِيًّا لكن ما يتألم قَلْبيًّا، وفِعْلُه في زَمَن الكِبَر فيه أَلَمٌ بَدَنِيٌّ قَلْبِيٌّ، ومعلومٌ أن ذاك أخفُّ، هذا من وَجْه.
من وَجْه آخر: أن فِعْله في زَمَن الصِّغَر أسرع نموًّا وبُرْءًا كما هو معلوم مشاهَدٌ، فيكون أفضل.
وقد اختلف العلماءُ في الختان في أصله؛ هل هو واجبٌ على الذَّكَر والأُنْثى كما هو المذهب، أو هو واجبٌ على الذَّكَر دون الأنثى كما هو اختيار الموفَّق وجماعةٍ من أهل العلم، أو هو سُنَّةٌ في حقِّ الجميع؛ في حقِّ الذكور وفي حقِّ الإناث، وقد أطال ابنُ القيم رحمه الله في تحفة الودود في حُجَج الفريقين، ولكنه لم ينتهِ إلى ترجيحٍ، وكأنَّه -والله أعلم- لم يترجَّحْ عنده شيءٌ في هذه المسألة، وأقرب الأقوال فيها: أن الخِتان واجبٌ في حَقِّ الرِّجال، سُنَّةٌ في حَقِّ النِّساء.
ووجْه التفريق بينهما أنَّ الخِتان في حَقِّ الرِّجال فيه مصلحةٌ تعود إلى شرْطٍ من شُروط الصلاة، وهي؟
الطلبة: الطَّهارة.
(1/203)
________________________________________
الشيخ: الطَّهارة؛ لأنه إذا بقِيتْ هذه الجلدة فإِنَّ البول إذا خَرَج من ثقْب الحَشَفَة بقي وتجمَّع وصار سببًا إمَّا لاحتراقٍ أو لالتهابٍ، أو لكونه كُلَّما تحرَّك أو عَصَر هذه الجلدةَ خرج فيتنجَّس بذلك، فهو في حقِّ الرِّجال واجبٌ.
أمَّا في حَقِّ المرأة فإنَّ غاية ما فيه من الفائدة يقولون: إنه يُقلِّل من غِلْمتها -يعني: من شهوتها- وهذا طلبُ كمالٍ وليس من باب إزالة الأذى، فيكون الفرقُ بينهما هو هذا، وهذا عندي هو أقرب الأقوال؛ أنَّه واجب في حقِّ الرِّجال وسُنَّةٌ في حقِّ النساء.
ثم إنه لا بُدَّ من أن يكون هناك طبيبٌ حاذقٌ يعرف كيف يَختِن، فإن لم يوجد طبيبٌ حاذقٌ فهلْ يجوز للإنسان أن يَختِن نفسَه؟
طالب: نعم، إذا كان يُحسنه.
الشيخ: إذا كان يُحسنه، إذا كان يُحسِن ذلك يجوز أن يَختِن نفسَه، وإبراهيم عليه السلام خَتَنَ نفسَه، فإذا كنتَ تُحسِن فلا مانع.
يُشترط أيضًا؛ يقول المؤلِّف: (مَا لَمْ يَخَفْ على نفْسِهِ)، فإنْ خاف على نفْسِهِ من الهلاك أو المرض فإنه لا يجب، وهذا شرطٌ في جميع الواجبات، ما تجب مع العجْز أو مع خوف التَّلَف أو الضَّرر أو المرض، فإذا كان يخشى على نفْسه فلا يجب.
هلْ يجوز للخاتن أن ينظر إلى عورة المختون ولو بَلَغ عشر سنين؟
طلبة: نعم.
طالب: لحاجةٍ.
الشيخ: يجوز لحاجةٍ؛ لأن هذا حاجةٌ لا بأس بها.
ذكرْنا أن الراجح أنه واجبٌ في حقِّ الرِّجال سُنَّةٌ في حقِّ النساء، الدليل على ذلك:
(1/204)
________________________________________
أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «خَمْسٌ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ» (26)، وذكر منها الخِتان، ولم يفصِّل، ولأنه وردتْ أحاديث متعدِّدة بأن النبي عليه الصلاة والسلام أَمَر مَن أَسْلمَ أن يختتن، وهذا يدلُّ على الوجوب (27)، ولأن الخِتان ميزةٌ بين المسلمين والنَّصارى، حتى كان المسلمون يَعرفون قَتْلاهم في المعارك بالختان، اليهود يختتنون، والمسلمون يختتنون، والعرب أيضًا قبل الإسلام يختتنون، لكنَّ النَّصارى لا يختتنون، فقالوا: هذه ميزة، وإذا كان ميزةً فهو واجب.
كذلك قرَّروا الوجوب؛ قالوا: إن الختان قطْعُ شيءٍ من البَدَن، وقطْعُ شيءٍ من البَدَن لا يجوز، حرامٌ، والحرام لا يُستباح إلا بواجبٍ وإلا ما يُستباح بالسُّنَّة، وعلى هذا فيكون الختانُ واجبًا؛ لأن الحرام لا يُستباح إلا بواجب.
قالوا: ولأنَّ الختان يقوم به وليُّ اليتيم، وهو اعتداءٌ عليه واعتداءٌ على ماله؛ لأنه يعطي الخاتن أُجْرةً، فلولا أنه واجبٌ ما جاز الاعتداء على بَدَن اليتيمِ وماله. وكلُّ هذا يدلُّ -كما سمعتم من الأدلة الأَثَرية والنظرية- يدلُّ على الوجوب.
لكنه بالنسبة للنساء فيه نَظَر، فالظاهر من الأقوال أنه واجبٌ على الرِّجال دون النساء.
طالب: ويش الدليل؟
الشيخ: الدليل هو ما سمعتَ.
الطالب: التفريق بين النساء والرِّجال.
الشيخ: هو ما سمعتَ من أن الرِّجال ختانهم لإزالة الأذى، والمرأة ختانها لطلَب الكمال فقط، وفيه حديث لكن بس ضعيف: «الْخِتَانُ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، مَكْرُمَةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ» (28)، إلا أنه ضعيفٌ، وإلا لو صَحَّ كان واضحًا جدًّا.
***
ثم قال: (ويُكْرَه القَزَعُ)، ما هو القَزَعُ؟
القَزَع ذكروا أنه حلْقُ بعضِ الرَّأس وتركُ بعضه، هذا هو القَزَع، وهو أنواع:
(1/205)
________________________________________
فتارةً يُحلَق بعضُه غيرَ مرتَّب؛ يحلق مثلًا من هنا من الجانب هذا الأيمن، ومن الناصية، ومن الجانب الأيسر، ومن القَفَا، لكنه غير مرتَّب، بُقَع بُقَع، مثل قَزَع السحاب، وهذا واضحٌ أنه مكروهٌ لأنه مشوِّهٌ أيضًا.
والنوع الثاني: أن يَحْلِق وسطه ويَدَع جوانبه.
والقسم الثالث: أن يَحلِق جوانبه ويَدَع وسطه، قال ابن القيم: كما يفعله السُّفل.
والقسم الرابع: أن يحلق الناصيةَ فقط ويَدَع الباقي.
وأقول: القسم الخامس: أن يحلق جانبَ الرأسِ ويَدَع جانبَه لأجْل العُمرةِ الثانية؛ كما حدَّثتُكم مِن قبلُ أنَّني وجدتُ رجلًا يسعى بين الصفا والمروة وقد حَلَق رأسَه من النصف طولًا هكذا؛ هذا أبيض وهذا أسود، فقلت له: كيف تفعل هذا؟ ! هذا شيءٌ مكروهٌ وقَزَع. قال: لا، لأني حَلَقْتُ نصفَه لعُمرةِ أمس ونصفَه الثاني لعمرةِ اليوم. هذا أيضًا من القَزَع.
ولهذا نقول: إن القَزَع مكروهٌ، إلا إذا كان قَزَعًا مشبهًا للكفَّار فإنه يكون محرَّمًا؛ لأن التشبُّه بالكُفَّار محرَّمٌ؛ قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (29).
ماذا نصنع لو وَجَدْنا شخصًا قد قَزَّع رأسَه، نقول الآن: احلِقْه كُلَّه، ولَّا: احلقْه كُلَّه أو اتركْه كُلَّه؟
طالب: احلقْه كُلَّه.
الشيخ: الآن ما يُتصوَّر إلا: احلقْه كلَّه، أمَّا تركُه كلَّه هذا في المستقبل نعم.
طالب: ( ... ).
الشيخ: الظاهر أن هذا من القَزَع.
***
(ومِن سُنَنِ الوُضوءِ السواكُ) لأن المؤلِّف الباب الأول قال: (بابُ السواكِ وسُنَنِ الوُضوء).
طالب: القَزَع ما صرَّحْنا بالتحريم.
الشيخ: يُكْره.
الطالب: ما الحامل لك على عدم القول.
الشيخ: ما أرى شيئًا يوجِب الحملَ على الكراهة، لكن ما أعرِفُ أن أحدًا قال بالتحريم، إن قال أحدٌ بالتحريم فهو جيِّدٌ.
طالب: ( ... ).
الشيخ: هذا لأن التشبُّه حرامٌ.
طالب: ( ... ).
الشيخ: ( ... ) رقبة من الميراث.
طالب: ( ... ).
(1/206)
________________________________________
الشيخ: هذا ليس من القَزَع، القَزَع حلْق بعضِهِ وترْكُ بعضِه، هكذا قال أهل العلم.
الطالب: لا بدَّ أن يكون حلْقًا؟
الشيخ: لا بدَّ أن يكون حلْقًا.
***
قال: (ومِنْ سُنَنِ الوُضُوء السواكُ).
(مِن سُنَن) خبرٌ مقدَّمٌ، و (السواك) مبتدأ مؤخَّر، والسُّنَن جمع سُنَّة، وتُطْلَق السُّنَّة على الطَّريقة، وهي أقوال الرَّسول عليه الصلاة والسلام وأفعاله وتقريراته، ولا فرق في هذا بين الواجب والمستحَبِّ، فالواجب يُقال له: سُنَّة، والمستحَبُّ يُقال له: سُنَّة.
مثاله في الواجب: قال أنس: مِنَ السُّنَّة إذا تزوَّجَ البِكْرَ على الثَّيِّبِ أقام عندها سبعًا (30)، هذه سُنَّة واجبة.
ومثال السُّنة المستحَبَّة حديث ابن مسعود: مِن السُّنَّة وضْعُ اليدِ اليُمنى على اليُسرى في الصلاة (31)، هذه السُّنَّة مستحَبَّة.
وأمَّا السُّنة عند الفقهاء والأصوليِّين فيريدون بها ما سوى الواجب؛ يعني: الذي أُمِرَ به لا على سبيل الإلزام.
وحكمها: أنه يُثاب فاعلها، ولا يُعاقَب تارِكُها.
والمراد بالسُّنة في كلام الفقهاء، كلَّما أتَتْك فالمراد بها سُنَّةُ التطوُّعِ ولَّا الواجب؟
الطلبة: التطوُّع.
الشيخ: التطوُّع؛ لأن هذا مُصْطلَحهم.
من سُنَنِ الوُضوء السِّواكُ، وتقدَّم أنه يتأكَّد فيه، ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ» (32).
***
(وغَسْلُ الكفَّينِ ثلاثًا) لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا توضَّأ بَدَأ بغسْل الكفَّينِ ثلاثًا، ولأنهما آلةُ الغَسْل؛ فإنَّ بهما يُنقَل الماءُ، وبهما تُدلَكُ الأعضاءُ، فكان الألْيَقُ أن يتقدَّم تطهيرهما، فهذا عندنا دليلٌ وتعليلٌ.
فإن قلتَ: لماذا لا تقول: إنه واجبٌ مع مداومة النبيِّ صلى الله عليه وسلم عليه؟
(1/207)
________________________________________
قلنا: لأن الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، ولم يذكر الكفَّينِ.
قال: (وغَسْلُ الكفَّينِ ثلاثًا، ويجبُ من نومِ لَيْلٍ ناقضٍ لوُضوءٍ).
(يجب) الضمير يعود على غسْل الكفَّينِ ثلاثًا، (يجبُ من نومِ لَيْلٍ ناقضٍِ لوُضوءٍ) لكن لمن أراد أن يغْمِسهُما في الإناء.
ودليله حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» (33).
فقوله: لا يغْمِس حتى يغسل، يدلُّ على وجوبِ تقديم الغَسْل؛ لأنه لا بدَّ أن يتوضَّأ.
وقول المؤلف: (مِنْ نومِ لَيْلٍ) خرج به نومُ النهار، فلا يجب غسلُ الكَفَّينِ منه.
وهنا لو قال قائلٌ في الحديث: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ» (نوم) مفردٌ مضافٌ، فيشمل كُلَّ نومٍ.
و«إِذَا» في قوله: «إِذَا اسْتَيْقَظَ» ظرفٌ مطْلَقٌ، فيشمل آناءَ الليلِ وآناءَ النهار، فلماذا تَخُصُّونه بالليل؟
قالوا: نَخُصُّه بالليل بالتعليل الذي علَّله النبي صلى الله عليه وسلم به في قوله: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، والبيتوتة لا تكون إلا بالليل، وهذا من باب تخصيص العام بماذا؟ بالعِلَّة، تخصيصُ العمومِ بالعِلَّة هذا منه، فإذا قال لك قائلٌ: مثِّلْ لي بمثالٍ فيه تخصيص العمومِ بالعِلَّة، فهذا مثال، فهم يقولون: لَمَّا علَّلَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بعِلَّة لا تَصْلُح إلا لنوم الليل صار المراد بالعموم في قوله: (مِن نَوْمِهِ) أيش؟
طلبة: نوم الليل.
الشيخ: نوم الليل، فهو عامٌّ أُريدَ به الخاصُّ.
وقوله: (مِن نَوْمِ ليلٍ ناقضٍ لوُضوءٍ) احترازًا مما لو لم يكنْ ناقضًا.
(1/208)
________________________________________
وما هو الناقض؟ كلُّ نومٍ على المذهب ناقضٌ إلا يسير نومٍ مِن قائمٍ وقاعدٍ، والصَّحيح أن المدار في نقْض الوُضوء على الإحساس، فما دام الإنسان يحسُّ بنفسه لو أحْدثَ فإنَّ نومه لا ينقض وضوءَه، وإذا كان لا يحسُّ بنفسه لو أحْدَث فإن نومه ينقض.
وهذا الذي ذكره الفقهاء هنا حيث قالوا: (ناقضٍ لوُضُوءٍ) يؤيِّدُ أن القول الراجح هو أن النوم الناقض للوضوء ما فَقَد فيه الإنسانُ إحساسَه.، وجْه ذلك أن قوله: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي» معناه أن إحساسه مفقودٌ، وعلى هذا فإذا كان الإنسانُ يدري بحيث لم يفقد إحساسَه فإنه لا ينتقض وضوؤه، مع أنَّ الفقهاء في باب نواقض الوضوء يخالفون ذلك.
إذَنْ يجب غسْل الكفَّينِ قبل إدخالهما الإناء ثلاثَ مرَّاتٍ إذا استيقظ من نومِ ليلٍ ناقضٍ لوضوء.
***
ومن السنن: (البَدَاءةُ بمضْمضةٍ ثم استنشاقٍ)، (البَدَاءة) يعني في غسْل الوجه (بمضْمضةٍ ثم استنشاقٍ) هذا بعد غسْل الكَفَّينِ يتمضمضُ ويستنشقُ، والأفضل أن يكون ثلاثَ مرَّاتٍ بثلاثِ غَرَفات.
المضمضة: إدارة الماء بالفَمِ.
والاستنشاق: جَذْبُ الماءِ بالنَّفَسِ من الأنف، هذا الاستنشاق.
فالبداءة بهما قبلَ غسْل الوجهِ أفضلُ، وإنْ أخَّرهما بعده جازَ.
قوله: (البَدَاءةُ بمضْمضةٍ ثم استنشاقٍ) ما ذَكَر المؤلف: ثم استنثار؛ لأن الغالب أنَّ الإنسان إِذا استنشق الماءَ يستنثره، وإلا فلا بدَّ من الاستنثار، يعني بمعنى لا تَكْمُل السُّنَّة إلا بالاستنثار، كما أنها لا تَكْمُل السُّنَّة في المضمضة إلا بمجِّ الماء، وإنْ كان لو ابتَلَعه لعُدَّ متمضْمِضًا، لكن الأفضل أن يمجَّه؛ لأن هذه المضمضة وتحريك الماءِ بالفَمِ يجعل الماء وسِخًا بما يلتصقُ به من الفَضَلات الكريهةِ في الفَم.
(والمبالغةُ فيهما) أي: في المضمضة والاستنشاق (لغَيرِ صائمٍ).
(1/209)
________________________________________
(المبالغة فيهما) بمعنى أنك تحرِّك الماء بقوةٍ في باب المضمضة، ولا تخلِّيه بَس بقريب، خلِّيه يصِل إلى كلَّ الفم، الاستنشاق أيضًا أنْ تجذبه بنَفَسٍِ قويٍّ، هذه المبالغة.
ويكفي في الواجب: أن يُدير الماءَ في فمه أدنى إدارة، وأنْ يستنشق الماءَ حتى يدخل في مَناخِرِه فقط، هذا الواجب، فالمبالغة زيادةٌ على الواجب.
والمبالغة يقول المؤلف: (لغَيرِ صائمٍ)، أمَّا المبالغة في المضمضةِ والاستنشاقِ للصَّائم فإنها مكروهةٌ؛ لأنها قد تؤدِّي إلى أيش؟
طلبة: ابتلاع الماء.
الشيخ: إلى ابتلاع الماء ونُزُولِهِ من الأنفِ إلى المعدة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صَبِرة: «أَسْبِغِ الوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» (34).
وكذلك لو فُرِض أن للإنسان جيوبًا أنفيَّةً وصار لو بالغ في الاستنشاق احتقن الماءُ في هذه الجيوب وآلَمَهُ أو فسد الماءُ وربما يؤدِّى إلى صديدٍ أو نحو ذلك، ففي هذه الحال نقول: بالغ؟
طالب: لا.
الشيخ: لا تبالغْ درءًا للضَّرر عن نفسك.
***
(والمبالغةُ فيهما لغيرِ صائمٍ، وتخليلُ اللِّحْيةِ الكثيفة).
اللِّحية كثيفةٌ وخفيفةٌ؛ فالخفيفة هي التي لا تَستر البَشَرةَ، هذه الخفيفة، والكثيفة هى التي تَستر البَشَرة، فإذا كان الإنسان ذا لحيةٍ خفيفةٍ لا تستر البَشَرة وَجَبَ عليه أن يغسل اللِّحيةَ وما تحتها؛ التعليل: لأنَّ ما تحتها حين كان باديًا كان داخلًا؟
طالب: في الوجه.
الشيخ: في الوجه، تحصل به المواجهة، فوجب غسلُه، أمَّا إذا كانت كثيفةً فإنه لا يجب إلا غسْل ظاهرِها فقط.
وهل يجب غسْل المسترسِل منها؟
الطلبة: نعم.
(1/210)
________________________________________
الشيخ: المشهور من المذهب الوجوبُ؛ أنه يغسل ما استرسل، والقول الثاني: أنه لا يجب غسْلُ ما استرسل من اللِّحية كما لا يجب غسْلُ ما استرسل من الرأس، ولكن الأقرب الوجوب، والفرق بينه وبين الرأس لأن اللحية وإن طالتْ تَحْصُل بها المواجهة فهي داخلةٌ في حدِّ الوجه، وأمَّا المسترسِل من الرأس فإنه لا يدخل في الرأس؛ لأنَّ الرأس مأخوذٌ من التَّرَؤُّس، وهو العُلوُّ، وما نزل عن حدِّ الشَّعر فليس بِمُتَرئِّسٍ.
إذَن اللحية إنْ كانت كثيفةً استُحِبَّ أن تخلَّل، وإنْ كانت خفيفةً وَجَبَ أن تُغْسل وما تحتها.
وقول المؤلف: (تخليل اللحية الكثيفة)، كيف تخليلها؟ تخليلها له صفتان:
إحداهما: أن يأخذَ كفًّا من ماءٍ ويجعله تحتها ويقول هكذا. هذا واحد.
والثانية: أن يأخذ كفًّا من ماءٍ ويخلِّلها بأصابعه كذا كالمشط.
وكلُّ ذلك وَرَد به الحديث، ودليله حديث عثمان رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَلِّل لِحْيَتَه في الوُضوء (35)، وهذا الحديث وإنْ كان في سنده ما فيه، لكن له طرقٌ كثيرةٌ جدًّا من أحاديث أخرى أيضًا، يعني له طرقٌ وشواهدُ تدلُّ على أنه يرتقي إلى درجة الحسن على أقلِّ درجاته، وعلى هذا فيكون تخليل اللِّحية الكثيفة سُنَّة.
وذكر أهل العلم أن إيصال الطَّهور بالنسبة للشَعر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قِسمٌ يجب إيصال الطَّهور فيه إلى ما تحت اللِّحية كثيفةً كانت أو خفيفةً، وهذا إذا كانت الطَّهارة الكُبرى عن جَنَابةٍ، فإنه يجب أن يغسل الشَّعر وما تحته وإنْ كان كثيفًا؛ بدليل حديث عائشة رضي الله عنها أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يَصُبُّ على رأسِهِ الماءَ، حتى إذا ظَنَّ أنه أَرْوى بَشَرَتهُ أَفاضَ عليه ثلاثَ مرَّاتٍ (36)، وحديث: «اغْسِلُوا الشَّعَرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» (37).
القسم الثاني عكسه: لا يجب إيصال الطَّهور إلى ما تحت الشعور خفيفةً كانت أو كثيفةً، وذلك في باب التيمُّم.
(1/211)
________________________________________
التيمُّم لا يجب عليك أن تُدخل الترابَ إلى ما تحت اللحيةِ ولو كانت خفيفةً.
والقسم الثالث: يجب إيصال الطَّهور إلى ما تحت اللِّحية إن كانت خفيفةً، ولا يجب إذا كانت كثيفةً، وهذا في الوُضوء.
قال: (وتخليلُ اللِّحية الكثيفة)، فإن لم يكن له لحية؟
طالب: غسل وجهه.
الشيخ: غسل وجهه وسَقَط التخليل.
هل نقول مِثل ذلك إذا لم يكنْ له رأسٌ في باب الحجِّ والعمرة؛ إنسان أصْلع ما عليه شعر، يسقط عنه الحلق؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: يسقط.
طالب: يقولون ( ... ).
الشيخ: إي نعم، بعض العلماء يقول: يجب عليه أو يُسَنُّ له أن يُمِرَّ الموسى على رأسه.
الطالب: ويش الفائدة؟
الشيخ: إي، ما له فائدة الحقيقة، ما له فائدة إطلاقًا؛ لأنَّ إمرار الموسى على الشَّعر ليس مقصودًا لذاته حتى نقول: لَمَّا تعذَّر أحد الأمرين وَجَبَ الآخر.
ويش المقصود من إمرار الموسى على الشعر؟
الطلبة: إزالة الشَّعر.
الشيخ: إزالته، وقد حَصَلتْ، وما هذا إلا نظير قولِ من قال: إن الأخرس-اللي ما يتكلم- يقرأ الفاتحةَ بحركته، لازم يحرِّك لسانه وشفتيه، وهو ما له صوت ولا له نُطْق. ويش الفائدة؟ لا فائدة؛ لأن تحريك اللسان والشفتين ويش لأجله؟
طلبة: لإظهار النطْق.
الشيخ: لإظهار النطْقِ والقراءةِ، فإذا كان ذلك متعذِّرًا فتحريكُها عَبَثٌ.
***
(وتخليلُ اللحيةِ الكثيفة والأصابعِ) تخليل الأصابع، اليدين ولَّا الرِّجْلين؟
طالب: كلاهما.
الشيخ: كلاهما، لكنه في الرِّجْلينِ أَوْكد.
كيف يُخلِّل اليدين؟ يخلِّل اليدين هكذا؛ يُدخل أصابعه كالتشبيك بعضها ببعض.
(1/212)
________________________________________
وأمَّا تخليل الرِّجْلين فقالوا: إنه يُخلِّلها بخنصر اليد اليُسرى -هذا الصغير من اليد اليُسرى- مبتدئًا بخنصر الرِّجْل اليُمنى من الأسفل وماشٍ إلي الإبهام، ثم الرِّجْل اليُسرى يبدأ بها من الإبهام لأجْل التَّيامن؛ لأن يمين الرِّجْل اليُمنى الخنصر، ويمين الرِّجْل اليُسرى الإبهام، فيبدأ في اليُمنى من الخنصر وفي اليسرى من الإبهام، ويكون بخنصر اليد اليُسرى تقليلًا للأذى.
واليُسرى معلومٌ هي التي تُقدَّم للأذى، ولكن لا شكَّ أن هذا استحسنه بعضُ أهل العلم، لكن القول بأن هذا من السُّنَّة وهو لم يَرِدْ عن الرسول عليه الصلاة والسلام فيه نَظَر، فيُقال: هذا استحسانٌ من بعض أهل العلم، ولكن الإنسان لا يلتزمُ به كسُنَّة، مثلما ذكروا في تقليم الأظافر أنَّه يُقَلِّمها مخالفًا، ورَوَوْا في ذلك حديثًا لكنه لا يصحُّ ولا يَثْبت عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّ مَن قَلَّمَ أظافرَه مُخالِفًا لم يُصِبْهُ رَمَدٌ في عينه (38)، تطعيم عن الرمد، لكن هذا الحديث لا يَثْبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
كيف المخالَفة؟ تبدأ بخِنصر اليد اليمنى، ثم الوُسطى، ثم الإبهام، ثم البِنصر، ثم السبَّابة، هذا باليُمنى، باليُسرى تبدأ بالإبهام، ثم الوُسطى، ثم الخِنصر، ثم السبَّابة، ثم البِنصر، هذه المخالفة، لكنه لو صَحَّ الحديث على العين والرأس، نقول: الله على كلِّ شيءٍ قدير، قد يكون هذا سببًا، جعَله الله سببًا وإنْ كُنَّا لا ندرك كيف ذلك، لكنَّ الحديث لا يصح ولا يَثْبت عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام.
(1/213)
________________________________________
إذَنْ كيف أُقَلِّم الأظفار؟ أُقَلِّم الأظفار على حسب حديث عائشة: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجبُه التيامُنُ في تَنَعُّله، وتَرَجُّله، وطُهوره، وفي شأنه كلِّه، من أين أبدأ؟ من خِنصر اليُمنى، ثم البِنصر، ثم الوُسطى، ثم السبَّابة، ثم الإبهام، ثم إبهام اليُسرى، ثم السبَّابة، ثم الوُسطى، ثم البِنصر، ثم الخِنصر، هذا على أنَّ في النَّفس ثقلًا من ذلك، لكنه أقرب من المخالفة.
طالب: فيه حديث تخليل الأصابع باليُسرى بالخِنصر فيه حديث ..
الشيخ: ضعيف، ما يصحُّ.
التيامُن أيضًا يُسَنُّ، فنحن قلنا: إن التخليل في الرِّجْلين أَوْكد، لماذا؟ لوجهين:
الأول: أن أصابعها متلاصقة.
والثاني: أنها تباشر التراب والأذى فكانت أَوْلى من اليدين.
***
قال المؤلف: (والتَّيَامُنُ) يعني: مِن سُنَنِ الوُضوء التيامُن، فتبدأ باليد اليُمنى قبل اليُسرى، وبالرِّجْل اليُمنى قبل اليُسرى، وبالخدِّ الأيمن قبل الأيسر، وبالأُذُن اليُمنى قبل اليُسرى.
طالب: لا، غير صحيح.
الشيخ: غير صحيح؟ صحيح، غير صحيح.
إذَن الأعضاء الأربعة فقط: اليدان والرِّجْلان، تبدأ باليد اليُمنى ثم اليسرى، وبالرِّجْل اليُمنى ثم اليسرى.
أما الوجه فالنصوص تدلُّ على أنَّه يُغسَل المرَّةَ الواحدةَ هكذا، والرأس كذلك يُمسَح مرَّةً واحدةً، والأُذنانِ تُمسحانِ مرَّةً واحدةً؛ لأنَّهما عُضوانِ عن عُضوٍ واحدٍ، فهُما داخلتانِ في مسْح الرأس، ولكنْ لو فُرِضَ أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يمسح رأسَه إلا بيدٍ واحدةٍ، فبماذا يبدأ؟
الطلبة: باليمين.
الشيخ: باليمين، وكذلك بالنسبة لأُذُنه اليُمنى يبدأ بها قبل اليسرى.
الدليل على مشروعيَّة التَّيامُن قول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُه التَّيامُنُ في تَنَعُّلِه، وتَرَجُّلِه، وطُهورِه، وفي شأنه كلِّه.
(يعجبه) يعني يَسُرُّه التيامُن، وعلى هذا نبني هذا الحكم على هذا الحديث.
(1/214)
________________________________________
طالب: التيمن هل يكون في المسح على الخفين يمسح باليمنى أو .. ؟
الشيخ: نعم المسح على ..
وأَخْذُ ماءٍ جديدٍ للأُذُنَيْنِ، والغَسْلَةُ الثانيةُ والثالثةُ.
(بابُ فُروضِ الوُضوءِ وصِفَتُه)
(فروضُه) سِتَّةٌ: غَسْلُ الوجهِ والفمِ والأنْفِ منه، وغَسلُ اليدينِ، ومَسْحُ الرأسِ ومنه الأُذنانِ، وغَسْلُ الرِّجلينِ والترتيبُ والْمُوالاةُ، وهي أن لا يُؤَخِّرَ غَسْلَ عُضْوٍ حتى يَنْشَفَ الذي قَبْلَه، والنِّيَّةُ شَرْطٌ لطَهارةِ الأَحْدَاثِ كلِّها، فيَنْوِي رفْعَ الْحَدَثِ أو الطهارةِ لِمَا لا يُباحُ إلا بها، فإنْ نَوَى ما تُسَنُّ له الطهارةُ كقراءةٍ أو تَجديدًا مَسنونًا نَاسِيًا حَدَثَه ارْتَفَعَ، وإن نَوَى غُسْلًا مَسنونًا أَجْزَأَ عن واجبٍ وكذا عَكْسُه، وإن اجْتَمَعَتْ أحداثٌ تُوجِبُ وُضوءًا أو غُسْلًا فنَوَى بطهارتِه أحدَها ارْتَفَعَ سائرُها، ويَجِبُ الإتيانُ بها عندَ أَوَّلِ واجباتِ الطهارةِ وهو التسميةُ، وتُسَنُّ عندَ أوَّلِ مَسنوناتِها إن وُجِدَ قبلَ واجبٍ، واستصحابُ ذِكْرِها في جَميعِها، ويَجِبُ استصحابُ حُكْمِها.
واستدلوا بحديث المغيرة بن شعبة قال: فمسح على خُفَّيه (1). ولم يذكر التَّيامن.
ومن العلماء من قال: تتيامن؛ لأن المسح فرعٌ عن الغَسل؛ ولأنهما عضوان يتميَّز أحدُهما عن الآخر بخلاف الرأس، وكون المغيرة لم يذكر التَّيامن يقال: لأن هذا معلوم من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ أنَّه يعجبه التَّيامن (2).
كما لو قال مثلًا في الوُضُوء: ثم غسل رجليه، ولم يذكر اليُمنى قبل اليُسرى، وهذا هو الأقرب؛ الأقرب أنَّك تبدأ باليُمنى قبل اليُسرى.
قال: (وأخْذُ ماءٍ جديد للأُذُنَيْن).
يعني يُسن للإنسان إذا مسح رأسه أن يأخذ ماءً جديدًا لأُذُنيه؛ الدَّليل، هنا دليل وتعليل؛ الدليل: حديث عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم توضَّأ، فأخذ لأُذُنيه ماءً غير الماء الذي مسح به رأسه (3).
(1/215)
________________________________________
هذا معنى الحديث، ولكن هذا الحديث شاذٌّ؛ لأنه مخالف لما رواه مسلم أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أخذ ماء جديدًا لرأسه غير فضل يديه.
لفظ الحديث: مسح برأسه، أو: مسح رأسه بماء غير فضل يديه. رواه مسلم من حديث عبد الله بن زيد من هذا الوجه (4).
فعلى هذا يكونالصواب أنه لا يأخذ ماء جديدًا للأذنين، ولأن جميع الواصفين لوضوء النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكروا أنَّه أخذ ماءً جديدًا للأُذُنين إلا هذا الحديث الشاذ، على هذا يكون الدليل ضعيفًا، ما هو التَّعليل لأخذ ماء جديد للأذنين؟ يقولون؛ التعليل: لأنهما كعضو مستقل.
فنقول: إنهما ليسا عضوين مستقلين؛ بدليل أنهما يُمسحان مع الرَّأس مرَّةً واحدة.
( ... ) فيها (الغَسْلَة الثَّانِيَة، والثَّالثة)؟
طالب: إي نعم.
الشيخ: طيب، أيضًا من السنن الغسلة الثَّانية والثَّالثة، والغسلة الأولى واجبة؛ لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فالأولى واجبة، والثَّانية أكمل، والثَّالثة أكمل؛ لأنَّها أبلغ في التَّنظيف.
وقد ثبت أن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم توضَّأ مرَّة مرَّة (5)، ومرَّتين مرَّتين (6)، وثلاثًا ثلاثًا (7)، وتوضَّأ كذلك مخالفًا، فغسل وجهه ثلاثًا، ويديه مرَّتين، ورجليه مرَّة (8).
وقد كَرِهَ بعضُ العلماء أن يخالفَ بين الأعضاء في العدد، فقال: إذا غسلت وجهك مرَّة، فلا تغسل اليدين مرَّتين، وإذا غسلت اليدين مرتين لا تغسل الرجلين ثلاثًا، ولكن الصواب خلاف ذلك؛ فإنه قد ثبت أن الرَّسول عليه الصلاة والسلام خالف؛ فغسل الوجه ثلاثًا، واليدين مرَّتين، والرِّجلين مرَّة، ولكن هل الأفضل التزام ثلاث دائمًا أو الأفضل أن يأتي بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة؟
طالب: الأخير.
(1/216)
________________________________________
الشيخ: الأخير هو الأقرب، وقد يُقال: إنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم توضَّأ مرَّة لبيان الجواز، لا على سبيل التعبُّد باختلاف العبادات، وتوضأ مرَّتين أيضًا لبيان الجواز، وخَالف لبيان الجواز، ولكننا نقول: إنَّ الأصل ما هو؟ التعبُّد والمشروعية.
فالظاهر أن الأفضل أن الإنسان ينوِّعُ؛ يعني يتوضأ مرتين، ثلاثًا، مرة، وعلى رأي المؤلِّف: الثَّلاث أفضل من الثِّنتين، والثِّنتان أفضل من الواحدة.
وقد ألغز بعض العلماء في هذه المسألة وقال: لنا سُنَّةٌ أفضل من واجب، والذي دلَّ عليه النص أن الواجب أفضل من السنة، كما قال الله تعالى في الحديث القُدسي: «مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» (9).
وهذه الثلاث سنة، وهي أفضل من الواجب، وابتداء السَّلام سُنَّةٌ، وهو أفضل من ردّه، فما هو الجواب عن هذا اللغز؟
الجواب عن هذا اللغز: أنه لغز خطأ، وليس بصواب؛ لأن غسل الإنسان أعضاء وضوئه ثلاثًا قد دخل فيها الواجب، فهو قد أتى بالواجب وزيادة، فكيف يصح أن نقول: إن السنة هنا أفضل من الواجب؟ !
وأما السَّلام فقالوا: إن ابتداء السلام أفضل من ردِّه، ونحن نناقش هذا القول من وجهين:
الوجه الأول: قد يقول قائل: إنَّ ردَّه أفضل؛ لأن ردَّه واجب، وابتداءه سنة، والحديث عام: «مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ». وحينئذٍ يبطل الإلغاز به من أصله، وقد نقول: إن ابتداء السلام أفضل من ردِّه؛ لأن ردّه مبنيٌّ عليه؛ فحاز مبتدئ السَّلام، حاز فضيلتين؛ أنه ابتدأ السلام، وأن ابتداءه كان سببًا لواجب.
فمن أجل ذلك كان أفضل، والحاصل أنه لا يمكن أن يكون النَّفل أفضل من الفريضة، للحديث الذي ذكرناه، وللنَّظر الصَّحيح؛ لأنَّه لولا محبَّة الله لهذه العبادة ما أوجبها، لجعلها باختيار الإنسان على سبيل الاستحباب.
طالب: شيخ ( ... ).
الشيخ: هذه ما وردت ..
(1/217)
________________________________________
الطالب: ( ... ).
الشيخ: الجواز؟ يجوز إي نعم، لكن لا تفعله على سبيل التعبد.
طالب: على هذا يا شيخ جوارح الإنسان في أحدهما فضيلة الفرض، وفي الآخر فضيلة النفل، وكان حديث النفل أعظم أجرًا يدل على ضعف متن؟
الشيخ: يعني يقال: إن هذا النفل أفضل من الفريضة؟
الطالب: لا، يعني ورد في الفرض فضائل، وورد في هذا النفل فضيلة أعظم من الفرض، ما يدل على ضعف متن هذا الحديث؟
الشيخ: لا، ما نستطيع أن نجعل هذه قاعدة، نعلل بها الأحاديث.
***
[باب فروض الوضوء وصفته]
ثم قال المؤلف: (بابُ فُرُوضِ الوُضُوءِ وصِفَتِهِ) أي: وباب صفته.
(الفُروض): جمع (فرض)، وجَمَعَهَا مع أن القاعدة عند النَّحْويين أنَّ المصدر لا يُجْمَعُ، ولا يُثَنَّى، ولكنه جَمَعَهَا باعتبار تعدُّدها، فقال: باب فروض الوضوء، فهي جمع (فرض)، والفرض في اللُّغة يدلُّ على معانٍ أصلها الحَزُّ والقطع، هل تعرفون الحز؟
طلبة: نعم.
الشيخ: أيش هو؟
الطالب: الفرض.
الشيخ: الحزُّ الفرض، والفرض الحز، والحزُّ الفرض، ما يصلح.
طالب: اللي أقل من القطع.
طالب آخر: الحز القطع.
الشيخ: يعني معناها قطعٌ بدون إبانة، والقطعُ حزٌّ مع إبانة، واضح؟
أما في الشرع فإن الفرض عند أكثر أهل العلم مرادف للواجب، ومعنى مرادف له أنه بمعناه، فمعناهما واحد، وهو ما أُمِرَ به على سبيل الإلزام؛ أي: بالفعل؛ يعني أمر الله به ملزمًا إيانا أن نفعله، عرفتم؟
وحكمه أن فاعله مُثابٌ وتاركه؟
طلبة: معاقب.
الشيخ: خطأ، وتاركه مستحِقٌّ للعقاب؛ لأن الله قد يعفو عنه هذا حكمه، وعند أبي حنيفة رحمه الله: أن الفرض ما ثبت بدليل قطعيّ، والواجبُ: ما ثبت بدليل ظَنِّيّ.
(1/218)
________________________________________
فما كان ثابتًا بدليل قطعي؛ أي: قطعي الثُّبوت والدَّلالة فهو فرض، وما ثبت بدليل ظني في ثبوته أو دلالته فهو واجبٌ، واضح؟ وعلى هذا مثَّلوا لذلك قالوا: قراءة شيء من القُرآن فرض- في الصَّلاة قصدهم- لقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20].
وقراءة الفاتحة واجبٌ؛ لأن قراءة الفاتحة من أخبار الآحاد، وعند كثير من الناس من الأصوليين وغيرهم أن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظَّنَّ.
فقالوا مثلًا: قراءة الفاتحة من باب الواجب، وقراءة ما تيسر من القرآن من باب الفرض، ولكنَّ جمهور أهل العلم يخالفونهم في ذلك، يقولون: إن الفرض والواجب مترادفان، ومع هذا فإننا نرجع إلى بابنا الذي نحن فيه، فنقول: المراد بـ (فروض الوُضُوء) هنا أركانُ الوُضُوء.
المراد بها: أركانه، وبهذا نعرف أن العُلماء -رحمهم الله- قد ينوِّعون العبارات، فيجعلون الفروضَ أركانًا، ويدل على أن المراد بالفروض هنا الأركان؛ أن هذه الفروض هي التي تتكوَّن منها ماهيَّة الوُضُوء ولَّا لا؟
وكلُّ أقوال أو أفعال تتركب منها ماهيَّة العبادة فإنَّها أيش؟ أركانٌ؛ لأن الوضوء ماهيته تتركب من هذه الأشياء الأربعة.
لو قيل لك: ما هو الوضوء؟ ويش تقول؟
هو غسل الوجه، واليدين، ومسح الرأس ويش بعد؟ وغسل الرجلين.
إذن المراد بفروض الوضوء ما هي؟ أركانه.
والوُضُوء في اللُّغة: مشتَقٌ من الوَضَاءةِ؛ وهي النَّظَافَةُ والحُسْنُ.
وأما في الشرع فهو: التعبُّدُ لله عزّ وجل بغسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.
الوضوء في اللغة؟
طالب: الوضوء في اللغة هو التعبد ..
الشيخ: مشتق من هذا في اللغة، وأما في الاصطلاح فهو: التعبد لله بغسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.
فإن قلت: هذا الحد غير صحيح؛ لأنك قلت: بغسل الأعضاء، والرَّأس لا يُغسل؟
فالجواب: أنَّ هذا من باب التغليب.
وقوله: (وصفَتِهِ) معطوف على (فُروض)، وليس معطوفةً على الوُضُوء؛ يعني: وباب صفة الوُضوء،
(1/219)
________________________________________
والصِّفة: هي الكيفيَّة التي يكونُ عليها، وللوُضُوء صفتان: صفةٌ واجبةٌ، وصفةٌ مستحبَّةٌ.
طالب: وقفنا في ( ... ).
الشيخ: إي، لا، بس هذه خارجة عن أركانه.
قال: (فروضُهُ سِتَّةٌ)
الأول: (غسل الوجه) فقولنا: (غَسْل) خرج به المسح، لا بُدَّ من الغسل، فلو بللت يدك بالماء وقلت: هكذا بالوجه، فليس بغسل.
فما هو الغَسل؟
قال العلماء: الغَسل أن يجري الماء على العضو، يجري جريانًا على العضو، هذا هو الغسل.
وقوله: (الوجه) الوجه ما تحصُل به المواجهة، وإن شئت فقل: ما يواجهك من الشيء، وحَدُّ الوجه طولًا: من منحنى الجبهة إلى أسفل اللحية طولًا، وعرضًا من الأُذن إلى الأذن.
وقولنا: من منحنى الجبهة؛ هو بمعنى قول بعضهم: من منابت شعر الرَّأس المعتاد؛ لأن شعر الرأس المعتاد يصِل إلى حَدِّ الجبهة، المنحنى هذا.
وهذا هو الذي تحصُل به المواجهة؛ لأن المنحنى قد انحنى ما تحصُل به المواجهة، هذا الوجه؛ الدَّليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6].
هذا الدليل، فأمر الله تعالى بغسل الوجه، وهل يجب أن يغسل ما استرسل من لحيته؟
طلبة: نعم.
الشيخ: نعم، على المذهب يجب؛ لأن مسترسل اللِّحية تحصل به المواجهة، ثم إن كان الشعر خفيفًا وجب إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان كثيفًا اكتُفِيَ بغسل ظاهره وخُلل.
ثانيًا: قال المؤلف: (والفمُ والأنفُ منه) الفم من الوجه، والأنف من الوجه، لماذا؟
لأنهما موجودان فيه، وداخلان في حَدِّه، فهما منه، وعلى هذا فالمضمضة والاستنشاق من فروض الوُضُوء؛ لكنهما غير مستقلَّين؛ فهما يشبهان قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ؛ عَلَى الْجَبْهَةِ» وأشار بيده إلى أنفه (10)، وإن كانت المشابهة بينهم ليست من كُلِّ وجه، إذن يجب على المتوضئ أن يتمضمض، وأن يستنشق.
ثانيًا: (غسل اليدين).
(1/220)
________________________________________
المؤلف أطلق -رحمه الله- ولكن يجب أن يُقَيَّد ذلك بماذا؟ إلى المرفقين؛ لأنَّ اليد إذا أُطلقت لا يُرادُ بها إلا الكفّ فقط.
والدَّليل على أن اليد إذا أُطلقت لا يُراد بها إلا الكف قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، ولم يمسح النبيُّ عليه الصلاة والسلام في التيمم إلا الكفَّين، لكن لا بد أن نقول: إلى المرافق، أين المِرْفَقُ؟ هذا هو.
طالب: إي نعم.
الشيخ: الحمد لله، هذا هو المِرْفَقُ هذا، المفْصلُ الذي بين العضد والذِّراع، وسُمِّي مِرفَقًا من الارتفاق؛ لأن الإنسان يرتفق عليه، يتَّكئ، فهو كالشيء الذي يرتفق عليه الجالس.
إذن لا بد من دخول أيش؟ المرفقين، الدَّليل قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6].
ثالثًا: (ومسحُ الرَّأس، ومنه الأذنان)
(مسح الرأس) هذا على الفرق بين المسح والغسل؛ المسح لا يحتاج إلى جريان الماء، بل يكفي أن الإنسان يغمس يده في الماء، ثم يمسح بها الرأس مبلولة، وإنَّما أوجب الله في الرأس المسحَ دون الغسل؛ لأن الغسلَ يشقُّ على الإنسان، ولا سيَّما في أيام الشتاء، ولا سيما إذا كَثُرَ شعره فإنه يشق عليه بلا شك، إذ إن الرأس لو غُسِل لنزلَ الماءُ على الجسم، وإذا كان الشعر كثيرًا بقي الشَّعر مبتلًّا مدةً طويلة، وهذا يُلحِق الناسَ العسر والمشقَّة، والله عز وجل إنما يريد من عباده اليسر.
(مسحُ الرَّأس) أين حدود الرأس؟
من منحنى الجبهة إلى منابت الشَّعر من الرقبة من الخلف هذا طولًا، وعرضًا من الأُذن إلى الأُذن، إذن فالبياض الذي بين الأُذنين من الرَّأس ولَّا لا؟
طالب: نعم.
الشيخ: ( ... ) فيه بياض بين الرأس والأذنين؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: فيه بياض؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: تأكدوا.
طلبة: ( ... ).
(1/221)
________________________________________
الشيخ: فيه بياض، هذا من الرأس، لكن المؤلف يقول: (ومنه الأذنان)؛ أي: من الرأس الأذنان، ما هو الدليل؟
الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد واظب على مسح الأذنين، وأما حديث: «الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» (11)، فقد ضعفه كثير من أهل العلم، وقالوا: إن طرقه واهية، ولكون الضعف فيها كثيرًا لا يرتقي بها -أي بتعددها- إلى درجة الحسن.
وبعض العلماء حسَّنه، وبعضهم صحَّحه، لكن عندنا دليل أقوى من هذا، ما فيه إشكال وهو مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على مسح أذنيه.
وعلى تقدير صحة الحديث: «الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ»، فإن هنا مسألة يجب أن نتفطن لها، وهي عند حلق الرأس في حج أو عمرة يجب عليك أن تحلق شعر أُذنيك ولَّا لا؟
طلبة: ما يجب.
الشيخ: لا، يجب، ما دام الأذنان من الرأس يجب.
طالب: ما بهم شعر.
الشيخ: لا، فيهم شعر، كيف؟ بعض الناس يكون فيه شعر بيِّن.
طالب: ( ... ).
الشيخ: يختلفون، لكن بعض الناس يكون على فوق شعر، وبعض الناس يكون في المغابن شعر، وهذا عندما تتصور حال النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته ما تظن أنه كان يحلق ذلك، أو أن الناس مكلَّفون، يقال: طلع كل شعرة في مغابن الأذن، واحلقها ولَّا قصرها، المهم إذا قلنا: الأذنان من الرأس فلا بد من حلق الشعر الذي عليهما؛ لأنهما من الرأس، أما إذا قلنا بأن الحديث ضعيف كما ضعفه ابن الصلاح وغيره، فإن المسألة فقد كُفينا إياها.
طالب: شيخ، يقول بعض ( ... ): كيف نلزم عباد الله بمجرد الفعل، إن كان الرسول فعل مجرد فعل فلا يدل على الوجوب؟
الشيخ: نعم، لا يدل على الوجوب؛ لأنه بيان للمجمل، إذا كان الفعل بيانًا للمجمل فإن له حكم ذلك المجمل، فإذا كان المجمل مأمورًا به صار مأمورًا به، والكلام في الفعل المجرد الذي ليس لبيان.
الطالب: لكن مجمل في الآية.
الشيخ: مجمل في الآية.
الطالب: ذُكر الأذنين في الآية.
(1/222)
________________________________________
الشيخ: ما ذُكر، لكن كون الرسول يواظب على مسحهم وهم في الرأس دليل على ( ... ).
(ومسحُ الرَّأس ومنه الأذنان وغَسْلُ الرِّجلين) (غسل الرجلين) المؤلف أيضًا أطلق الرجلين، ولكنّ فيه نظرًا، نقول: إلى الكعبين؛ لأن الرِّجل عند الإطلاق لا يدخل فيها العَقِب؛ بدليل أن قُطَّاع الطريق الذين يجب علينا أن نقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف من أين يُقطعون؟ من المفصل الذي بين العَقِب وبين ظهر القدم، ويبقى العَقِب ما يُقطع، وعلى هذا فيجب أن نقيِّد كلام المؤلِّف بما قُيَّدتْ به الآية؛ وهي قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فما هما الكعبان؟ هما؟
طالب: ( ... ).
الشيخ: هذان الكعبان، {وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ} هذا هو الحقّ، وهو الذي عليه أهل السُّنَّة،
لكن الرَّافضة قالوا: المراد بالكعبين ما تكعَّب وارتفع، وهما العظم الذي في ظهر القدم هذا؛ قالوا: لأن الله قال: {إلَى الْكَعْبَيْنِ} ما قال: (إلى الكِعَاب)، وأنتم إذا قلتم: الكعبين دُولا، فالأرجل كم فيهما من كعب؟
طلبة: أربعة.
الشيخ: أربعة، كان يقول: (إلى الكعاب)، فلما قال الله: {إلَى الْكَعْبَيْنِ} عُلم أنَّهما كعبان في رِجْلين، وهما هذا.
والعجيب أن الرَّافضة يخالفون الحقَّ فيما يتعلَّق بطهارة الرِّجل من وجوه ثلاثة:
أولًا: هم ما يغسلون الرِّجل؛ يمسحونها مسحًا.
وثانيًا: يصلون بالتطهير إلى هذا الناتئ في ظهر القدم.
وثالثًا: لا يمسحون على الخُفين، يرون المسح على الخفين محرَّمًا ولا يجوز، فخالفوا الحق في أمور ثلاثة، مع العلم بأن ممن روى المسحَ على الخُفين مَنْ؟ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه الذي هو إمام الأئمة عندهم، والحاصل أن الرجلين يغسلان إلى أيش؟ إلى الكعبين.
( ... ) غسل الرأس بدلا عن المسح فيه ثلاثة آراء لأهل العلم:
(1/223)
________________________________________
منهم من قال: يجزئ، ومنهم من قال: لا يجزئ، ومنهم من قال: يجزئ إن أمرّ يده على رأسه وإلا فلا، وهذا هو المذهب لكن مع الكراهة؛ يعني حتى على القول بالإجزاء فإنه مكروه، فالذين قالوا: إنه يُجزئ قالوا: لأن الله إنما أسقط الغسل عن الرأس تخفيفًا؛ لأن الرأس يكون فيه شعر، ولو كُلِّف الناس بغسله لكان في ذلك مشقة لا سيما في أيام الشتاء وأيام البرد، فأسقط الله الغسل تخفيفًا على العباد، فإذا غسله بدلًا عن مسحه فقد اختار لنفسه ما هو أغلظ فيجزئ.
والذين قالوا: لا يجزئ قالوا: لأنه خلاف أمر الله عز وجل والله تعالى قال: {امْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}، وإذا كان خلاف أمر الله فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (12).
والذين قالوا بإجزاء الغسل مع إمرار اليد، قالوا: لأنه إذا أمرَّ يده فقد حصل المسح، مع زيادة الماء في الغسل، ولكن على كل حال فلا ريب أن المسح أفضل من الغسل؛ المسح أفضل من الغَسل لا شك في هذا.
وإجزاء الغَسل مُطلقًا عن المسح فيه نظر، أما مع إمرار اليد فالأمر في هذا قريب، لو أنه مسح بناصيته فقط دون بقية الرأس، ما هو الدليل؟
طالب: ( ... ).
الشيخ: كيف تحكم بلا دليل؟ !
الطالب: ( ... ).
الشيخ: لو مسح بالناصية فقط ..
طالب: قوله تعالى: {بِرُؤُوسِكُمْ}.
الشيخ: يعني يجزئ ولَّا لا؟
الطالب: يجزئ.
الشيخ: يجزئ، الدليل؟
الطالب: قوله: {بِرُؤُوسِكُمْ} الباء للتبعيض.
الشيخ: والباء؟
الطالب: إن كانت من باب التبعيض فهو يجزئ.
الشيخ: وإن كانت لغير التبعيض؟
الطالب: ( ... ).
الشيخ: قال: {بِرُؤُوسِكُمْ} ولم يقل: (ببعض رؤوسكم)، والباء لا تأتي في اللغة العربية للتبعيض أبدًا، قال ابن برهان: مَن زعم أن الباء تأتي في اللغة العربية للتبعيض فقد أخطأ.
(1/224)
________________________________________
ما تأتي الباء للتبعيض أبدًا في اللغة العربية، وأما حديث المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وعلى العمامة والخفين (13).
فهنا المسح على الناصية أجزأ؛ لأنه مُسح مع العمامة، فلا يكون في ذلك دليل على جواز المسح على الناصية فقط.
طيب ما هو الدليل على الموالاة؟ إحنا قرأناه؟
طلبة: الترتيب ما شرحناه.
الشيخ: الترتيب ما شرحناه.
قوله: (ومنه الأذنان) من الرأس الأذنان، الدليل؟
إن قلنا: من الرأس وجب أن يحلق شعر أذنيه.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا تقصير ( ... ) طول حتى يقصر إلا كان على مذهب العامة في يأجوج ومأجوج أن يكون لهم آذان، واحدة يجعلها فراشًا، والثانية يجعلها لحافًا، على رأي العامة يمكن.
يقول المؤلف رحمه الله: (والتَّرتيبُ) التَّرتيبُ عرفنا دليله من القرآن، من الآية الكريمة، من كم من وجه؟
طالب: ثلاثة أوجه.
الشيخ: الوجه الأول: إدخال الممسوح بين المغسولات، وهذا خروج عن مقتضى البلاغة، والقرآن أبلغ ما يكون من الكلام، ولا نعلم لهذا الخروج عن قاعدة البلاغة فائدة إلا الترتيب. ثانيًا؟
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، من الآية.
طلبة: الشرط.
الشيخ: أن هذه الجملة وقعت جوابًا للشرط، وما كان جوابًا للشرط فإنه يكون مرتبًا حسب وقوع الجواب. الثالث؟
طالب: أن الله ذكرها مرتبة ( ... ).
الشيخ: أن الله ذكرها مرتبة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» (14)
أو: «ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» (15).
أما من السنة فإن جميع الواصفين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا إلا أنَّه كان يرتبها على حسب ما ذكر الله سبحانه وتعالى.
إذا قلنا: بأن الترتيب فرض، فهل يسقط التَّرتيبُ بالنسيان أو بالجهل؟
فيه خلاف بين أهل العلم، منهم مَن قال: إن الترتيب يسقط بالنسيان والجهل؛ لأن ذلك عذر، وإذا كان الترتيب بين الصلوات يسقط بالنسيان فهذا مثله.
(1/225)
________________________________________
ومنهم مَن قال: إنه لا يسقط بالنسيان؛ لأنه فرض، والفرض لا يسقط بالنسيان، وقياسه على الصلوات -أي على قضاء الصلوات- فيه نظر.
لأن الصلوات ( ... ) كل صلاة عبادة مستقلة، لكن الوضوء عبادة واحدة، ونظير اختلاف الترتيب في الوضوء اختلاف الترتيب في ركوع الصلاة وسجودها.
لو سجد الإنسان قبل الركوع ناسيًا، هل نقول: إنها لا تجزئه الصلاة؟
لا، ولهذا القول بأن الترتيب يسقط بالنسيان في النفس منه شيء، نعم، لو فُرض أن رجلًا جاهلًا في بادية، وكان منذ نشأ وهو يتوضأ فيغسل الوجه، واليدين، والرجلين، ثم يمسح الرأس.
لو فُرض أن أحدًا وقع له مثل هذه الحال، فقد يتوجه القول بأنه يُعذر بجهله كما عذر النبي صلى الله عليه وسلم أناسًا كثيرين بجهلهم في مثل هذه الأحوال، إذن الترتيب فرض لا يسقط سهوًا ولا جهلًا.
طالب: ( ... ).
الشيخ: هذا في الموالاة.
الطالب: الترتيب.
الشيخ: لا، الترتيب ما فيه ذكر الترتيب.
الطالب: ( ... ).
الشيخ: إي، هذه الموالاة؛ لأن الترتيب هنا ما دام أنه في الرِّجل ما بعدها شيء حتى تُرتَّب؛ يعني لو كان العهد قريبًا قلنا: اذهب واغسل رجلك وانتهِ.
طالب: أقول: العهد قريب؛ لأنه يعني أثر البلل موجود على ..
الشيخ: لا، أبدًا البقعة بيضاء ( ... ) البلل، البقعة بيضاء، والبيضاء قد توجد مع نشوفة الماء، ولهذا لو غَسَّل الإنسان مثلًا يديه شهباء وُجِد أثر الماء، وبقي اللي ما أصابه الماء أشهب على ما هو عليه حتى لو يبست، المهم أن هذا استدلوا به في الموالاة.
الموالاة أيضًا فرض، وهي الفرض السَّادس؛ الموالاة، والموالاة معناها أن يكون الشَّيء مواليًا للشيء، أي: عَقِبه بدون تأخير، هذه هي الموالاة أن يكون الشيء متصلًا بالشيء؛ أي: مواليًا له بدون تأخير هذه هي الموالاة.
(1/226)
________________________________________
وإنما اشتُرطت الموالاة، يمكن أن نأخذها من الآية الكريمة؛ لأن جواب الشرط يكون متتابعًا لا يتأخر: إذا قمتم فاغسلوا وجوهكم، إذا قمتم فاغسلوا أيديكم، إذا قمتم فامسحوا برؤوسكم، إذا قمتم فاغسلوا أرجلكم، فتكون متوالية، ضرورة أن المشروط يلي الشرط، هذا واحد.
دليل آخر: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم توضَّأ متواليًا، ما كان يفصل بين أعضاء وُضُوئه.
ثالثًا: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلًا قد توضَّأ، وفي قدمه مثل الظُّفُر لم يصبْه الماء، فأمره أن يُعيد الوُضُوءَ.
هكذا رواية أحمد (16) ولكن رواية مسلم (17) قال له: «ارْجِع فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ».
والفرق بين اللفظين إذا لم نحمل أحدُهما على الآخر أنَّ الأمر بإحسان الوُضُوء، معناه الأمر بإتمام ما نقص منه، وهذا يقتضي أن يغسل ما تَرَك فقط دون ما سَبَق، ويمكن أن تُحمل رواية: «أَحْسِنْ وُضُوءَكَ»؛ يعني ائتِ به حسنًا؛ وذلك بإعادته، فتُحمل رواية مسلم على رواية الإمام أحمد؛ لأن رواية الإمام أحمد سندُها جيد، جوَّده الإمام أحمد نفسه، وكذلك ابن كثير قال: (إنه حديث جيد صحيح)، فصحّحه.
والحاصل أن هذا دليل من الكتاب والسنة، دليل من النَّظر: أنَّ الوُضُوء عبادةٌ واحدةٌ، فإذا فُرِّق بين أجزاء هذه العبادة صارت متجزئة، ما هي عبادة واحدة.
(1/227)
________________________________________
العبادة الواحدة لا بد أن تكون كتلة واحدة لا تتفرق أجزاؤها، فهذه ثلاثة أدلة من القرآن والسنة والنظر تدل على وجوب الموالاة، وأنه لا بد من الموالاة، وهناك قول ثانٍ في المسألة لأهل العلم أن الموالاة ليست بشرط، وإنما هي سُنَّة؛ لأن الله أمر بغسل هذه الأعضاء، وهو حاصل بالتوالي والتفريق، فإذا كان حاصلًا بالتوالي والتفريق، صار التوالي سُنَّةً وليس بواجب، ولكن الأولى القول بأن الموالاة شرط؛ لأنها كما قلنا: عبادة واحدة لا يمكن أن تُجزَّأ، لكن ما معنى الموالاة؟ فسَّرها المؤلف قال: (وهي ألا يؤخِّر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله) بشرط أن يكون ذلك في زمن معتدل خالٍ من الريح، الهواء.
فالموالاة ألا يؤخِّر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله، الذي قبله يليه ما هو الذي قبله كله لو فُرض
أنه تأخَّر في غسل اليدين، فغسل اليدين قبل أن ينشف الوجه، ثم تأخَّر في مسح الرأس، فمسحه قبل أن تنشف اليدان، لكن بعد أن نشف الوجه يُجزئ ولَّا لا؟
طلبة: يُجزئ.
الشيخ: يُجزئ؛ لأن المراد بقوله: (الذي قبله)؛ يعني على الوِلا، ما هو كل الأعضاء السابقة، وقلنا: في زمن معتدل احترازًا من الزَّمن غير المعتدِل، فزمن الشِّتاء والرُّطوبة يتأخَّر فيه النَّشَاف أو لا؟
طلبة: نعم.
الشيخ: لو كان هناك ضباب النَّشاف يتأخَّر كثيرًا، وإذا كان في زمن حار فإنه يكون سريع النَّشاف، وكذلك لو كان في ريح شديدة فإن النشاف يكون أسرع، وعلى هذا فالعبرة بالزمن المعتدل الخالي من الريح.
وقال بعض العُلماء -وهو رواية عن أحمد-: إن العبرة ليست بنَشَاف الأعضاء، ولكن بطول الفصل عُرفًا، فإذا طال الفصل عُرفًا؛ فإن الموالاة تفوت، فلا بد من أن يكون الوضوء متقاربًا عُرفًا.
(1/228)
________________________________________
وقد اعتبر العلماء العُرف في مسائل كثيرة، فإذا قال الناس: إن هذا الرجل لم يُفرِّق وضوءه، بل وضوؤه متصل فإنه يعتبر مواليًا، لكن كما سبق لنا كثيرًا العُرف قد لا ينضبط، فتعليق الحكم بنشاف الأعضاء أقرب إلى الضبط.
وقوله: (الموالاة) يُستثنى من ذلك ما إذا فاتت الموالاة لأمرٍ يتعلَّق بالطَّهارة.
مثل: أن يكون في أحد الأعضاء حائلٌ يمنع وصول الماء، فاشتغل بإزالة ذلك الحائل، مثل أيش؟
طلبة: البوية.
الشيخ: كالبوية لما جاء يغسل يديه وجد فيها بوية تحتاج إلى زمن يأتي مثلًا بالجاز ولَّا بالبنزين، يحتاج إلى زمن فهو جعل يشتغل بإزالة هذا المانع؛ فإن ذلك لا يضر؛ لأن هذا لأمر يتعلق بطهارته.
وكذلك لو نفد الماء وجعل يستخرجه من البئر، ونشفت الأعضاء فحينئذٍ فإن ذلك لا يضرُّ، أو انتقل مثلًا من صنبور إلى صنبور لتحصيل الماء، فإن ذلك لا يضر؛ لأنه لأمر يتعلق بطهارته.
أما لو فاتت الموالاة لأمر لا يتعلَّق بالطَّهارة، مثل: في أثناء وضوئه وجد في ثوبه دمًا فجعل يشتغل بإزالة ذلك الدم حتى فاتت الموالاة، فإنه يجب عليه إعادةُ الوُضُوء؛ لأن هذا لا يتعلَّق بطهارته.
طالب: ( ... ) إذا كان في أحد الأعضاء حائل يمنع تخلل الماء فهو ليس كل حائل يكون مفاجئًا له يعني.
الشيخ: كيف؟
الطالب: يعني ليس مفاجأة له، لماذا لا يزيل الحائل قبل أن يشرع في الوضوء؟
الشيخ: لأنه ربما ينسى، أو ربما يتكاسل، أو يتهاون، والأحسن بلا شك أنه إذا وُجِد هذا الحائل أن يُبادر بإزالته، لكن بعض الناس يكون يشتغل صاحب بُوية، ما هو راح كلما سقط نقطة على بدنه يُروح يزيلها في الحال فهو يقول: إذا جاء وقت الصلاة أزلتها.
طالب: يا شيخ، أو يكون مثلًا إنما مسح القدمين على الخفين تذكر أنه انتهى وقت مسحهما ( ... )؟
الشيخ: اللي هو أيش؟
طالب: لو طال يعني الزمن الفاصل طولًا شديدًا ( ... )؟
الشيخ: ما يضر، ما دام أن هذا لتكميل طهارته، فلا يضر.
(1/229)
________________________________________
لكن لاحظ أنه لا بد أنه يكون يعني مشتغلًا بذلك، ما يجب مثلًا لما راح إلى الحمَّام الثاني أو الصنبور الثاني صادفه واحد من صاحبنله، وقام ( ... ) ويَّاه، تنقطع الموالاة.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، هذا سُنة، إنما الترتيب بين الأعضاء الأربعة فقط: الوجه، واليدين، والرأس، والرجلين.
قال: (وهي ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله) نحن أضفنا إليها قيدين، وهما: لزمن معتدل خالٍ من الريح، واستثنينا منها ما إذا كان فوات الموالاة لأمر يتعلق بطهارته.
قال المؤلف: (والنِّية شرط) النية بمعنى القصد، ومحلُّها القلبُ، ولا يعلم بالنيَّات إلا الله عزّ وجل،
وهي شرط في جميع العبادات، والكلامُ عليها من وجهين:
الوجه الأول: من جهة تعيين العمل ليتميَّز عن غيره؛ ( ... ) يعني أنوي بالصَّلاة أنَّها صلاة، وبالفريضة أنها فرض، وبالحج أنه حجٌّ، وبالصوم أنَّه صوم، وهذا يتكلَّم عنه مَن؟ أهل الفقه.
الوجه الثَّاني مما يُبحث فيه في النية: قصدُ المعمول له، لا قصد تعيين العبادة وتمييزها، بل قصد المعمول له، وهو الإخلاص وضدُّه الشِّرك، والذي يتكلَّم على هذا مَن؟ أرباب السُّلوك في باب التَّوحيد وما يتعلَّق به، وهذا الأخير أهمُّ من الأوَّل؛ لأنَّه هو لُبُّ الإسلام وخلاصة الدِّين؛ الإخلاص لله عز وجل، يعني كون الإنسان مثلًا يُعيِّن الصلاة هذه أنها فريضة، وأنها ظهر، أو عصر، وما أشبه ذلك، لا يساوي أن يقصد بذلك وجه الله، أو يقصد بذلك الرياء، هذا أهم، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان أن يعتني به، وهو إخلاص النية، لمن؟
لله عز وجل، وكما ينبغي، بل يجب إخلاص النية لله، يجب المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فلنتذكر عند فِعل العبادات شيئين:
(1/230)
________________________________________
الأول: نتذكر أمر الله بهذه العبادة حتى نؤدِّيها وكأننا أيش؟ نمتثل أمر الله، عندما نتوضأ ما نيجي نقول: نحن الآن نبغي نتوضأ لأننا نبغي نصلي، والوضوء شرط لصحة الصلاة، بل ينبغي أن نتوضأ؛ لأن الله قال: {اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} فنكون بذلك ممتثلين لأمر الله سبحانه وتعالى، وكذلك نستحضر أنَّ أمامنا إمامنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحقق بذلك أيش؟ المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
النية شرط لصحة العمل ولَّا لقبوله وإجزائه؟ ولَّا للكل؟
للكل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» (18)؛ ولأنَّ الله تعالى قيَّد كثيرًا من الأعمال في القرآن، قيَّدها بقوله: {ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272].
مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الرعد: 22].
وما أشبه ذلك من الآيات التي تدل على أنه لا بد من النية؛ فالنية شرط لجميع العبادات، وهل ينطق بها الإنسان أو لا ينطق؟ وإذا قلنا بالنطق فهل ينطق سرًّا أو جهرًا؟
الصَّحيح أنَّه لا ينطق بها، وأن التعبُّد لله بالنُّطق بها بدعة يُنهى عنها، ويدلُّ لذلك أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لم يكونوا ينطقون بالنيَّة أبدًا، ما حُفظ ذلك عنهم، ولو كان النطق بالنية مشروعًا لبيَّنه الله عز وجل على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم الحالي أو المقالي، ولم يُبينه الله فدل هذا على أنه ليس من شرعه.
فإذا أردت أن تتوضأ لا تقُل: نويت أن أتوضأ، أن تُصلي لا تقل: نويت أن أُصلي، وإذا أردت أن تصوم ما تقول: نويت أن أصوم، وكان أهلنا يعلموننا ونحن صغار أن نقول: اللهم إني نويت الصيام إلى الليل، ما أدري هو ما زال باقيًا أم لا؟
طالب: لا، ما نسمع.
الشيخ: ما سمعتم بها؟
(1/231)
________________________________________
الطالب: ما سمعنا، الحمد لله.
الشيخ: على كل حال، هذا ما هو موجود؛ يعني ما هو مشروع، بَقِي علينا الحج، هل يُسن النطق بالنية فيه؟
طالب: نعم.
الشيخ: لا يُسن، لم يَرد عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام أنه قال: اللهم إني نويت أن أحُجَّ، أو نويت النُّسك الفلاني، وإنما يلبِّي بالحجِّ فيُظهر النِّيَّة، ويكون العقد بالنيَّةِ سابقًا على التلبية، لكن إذا كان الإنسانُ يحتاج إلى اشتراط في نُسُكه، هل يحتاج إلى النطق بالنية، ويقول: اللهم إني أريد كذا وإن حَبَسَنِي ولَّا لا؟
ما هو شرط، ليس بشرط أن يقول: نويت، بل له أن يقول: اللهم إن حبسني حابس فَمَحِلِّي حيث حبستني بدون أن ينطق بالنيَّة.
فإذن النية شرط، الدليل؟
طلبة: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».
الشيخ: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلّ امْرِئٍ مَا نَوَى». والكلام عليها من وجهين؛ من جهة أيش؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: تعيين العمل ليتميز عن غيره، وهذا الوجه يتكلم عليه مَن؟ الفقهاء.
ومن جهة تعيين المعمول له، وهو الإخلاص، وهذا يتكلم عليه أرباب السلوك والسير إلى الله عز وجل، ويُذكر ذلك في كتب التوحيد.
محلها القلب، ولا يُسن التلفظ بها لا سرًّا ولا جهرًا، والمشهور من المذهب عند الأصحاب: أنه يُسَنُّ النُّطق بها سرًّا، ولكن هذا ضعيف لعدم وروده.
(1/232)
________________________________________
أمّا القول بأنه يُسَنُّ النُّطُق بها جهرًا؛ فهذا أضعف وأضعف، وفيه أيضًا من التشويش على النَّاس لا سيما في الصَّلاة مع الجماعة ما هو ظاهر، ويُذكر أن بعض العامة سَمِع شخصًا يُصلي في المسجد الحرام مأمومًا، وعندما أراد أن يُكبِّر، قال: اللهم إني نويت أن أصلي الظهر أربع ركعات خلف إمام المسجد الحرام، لما بغى يكبِّر، قال: اصبر، ويش عندك؟ قال: اذكر اليوم تاريخ اليوم، والمكان ( ... ) تاريخ اليوم، في اليوم الفلاني، يوم الأربعاء مثلًا، الموافق كذا وكذا من الشهر، فالرجل انتبه لأنه ما حاجة أنك تبين لله عز وجل ماذا نويت؛ لأن الله يعلم ما في قلبك.
ثم إن النية ليست بالأمر الصعب، وإن كانت عند بعض أهل الوسواس صعبة، لكنها في الحقيقة ليست صعبة؛ لأن كل إنسان عاقل مختار يعمل عملًا فلا بد أن يكون ذلك مسبوقًا بالنيَّة.
رجل قرَّب الماء، وقال: بسم الله، وغسل كفَّيه، وتمضمض واستنشق إلى آخره، هل يُعقل أنه فعل ذلك بدون نيَّة، وهو عاقل مختار؟ لا يمكن، ولهذا قال بعض العلماء: لو أنَّ الله كلَّفنا عملًا بلا نيَّة؛ لكان من تكليف ما لا يُطاق.
لو قال الله لنا: توضؤوا ولا تنووا، صلُّوا ولا تنووا، يمكن هذا، ولا ما يمكن؟
لا يمكن أبدًا، فالنية ليست بالأمر الصعب، وما يَرد على قلوب بعض الناس من صعوبتها فهذا من الوساوس فأنت عندما تحضر ما حاجة إلى تعب، حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله قال في نية الصوم: إذا تعشَّى الإنسان ليالي رمضان فإن عشاءه يدلُّ على نيَّته، لو ما نوى الصوم من الغد.
السبب أن اللي اتعشَّى في رمضان يُلاحِظ أنه سوف يتسحّر في آخر الليل فلا يُكثِر العشاء كما يُكثره إذا كان في غير الصوم.
قال: (والنية شرط لطهارة الأحداث كلِّها) أفادنا المؤلف رحمه الله (لطهارة الأحداث)، وهي جمع (حدث)، والحَدَثُ: معنًى يقوم بالبَدَن يمنع من الصَّلاة ونحوها، هذا الحدث.
(1/233)
________________________________________
ويُطلقُ أحيانًا على سَبَبِهِ، فيُقال للغائط: حَدَث، ويُقال للبول: حَدث، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» (19).
فهو يُطلق في الأصل على المعنى القائم بالبدن المانع من الصلاة ونحوها، وقد يُراد به أيش؟ سببه وهو السبب الموجِب للوضوء.
وقوله: (لطهارة الأحداث) يشمل الحدث الأصغر والأكبر؛ كل الأحداث، وخرج بقوله: (لطهارة الأحداث) طهارة الأنجاس؛ فإنه لا يُشترطُ لها النيَّة، ولذلك لو علَّق الإنسان ثوبه في السَّطح، فجاء المطرُ على هذا الثوب حتى غسله، وزالت النَّجَاسةُ طَهُر ولَّا ما يطهر؟ طَهُر، مع أن هذا ليس بفعله، ولا بنيَّته.
ما نوى هو لما علقه في السطح ما نوى أن يغسله المطر، والمطر أيضًا ليس من فعله، وكذلك الأرض تصيبها النَّجَاسة، فتنزل الأمطار عليها فتطهُر بدون قصد فتكون طاهرة.
وهذا الذي ذكره المؤلف: هو مذهب مالك، والشَّافعي، والإمام أحمد بن حنبل، وذهب أبو حنيفة -رحمه الله- إلى أن طهارة الحدث لا يُشترط لها النية؛ قال: لأنها ليست عبادة مقصودة لذاتها وإنما هي مقصودة لماذا؟ للصلاة، لتصحيح الصلاة، فهي كما لو لَبِسَ ثوبًا يستُر به عورته، فإنه لا يُشترطُ أن ينوي بذلك ستر العورة، بل لو لَبِسَهُ للتجمُّلِ أو لدفع البرد، وما أشبه ذلك أجزأ، ولكن قوله ضعيف؛ فإن الصَّواب أن الوُضُوء عبادةٌ مستقلِّة، والدليل على ذلك أن الله رتَّب عليه الفضلَ والثَّوابَ والأجرَ، ومثل هذا يكون عبادةً مستقلّةً، وهو قول جمهور أهل العلم.
وإذا كان عبادة مستقلَّة، صارت النيَّةُ فيه شرطًا، بخلاف إزالة النَّجاسة؛ فإزالة النَّجاسة ليست فعلًا، ولكنها تَخَلٍّ عن شيء تُطلب إزالته، فلهذا لم يكن عبادة مستقلَّة، فلا تُشتَرطُ فيها النيَّة، لكن كيف ينوي؟ النية بالنسبة للوضوء لها عدة أوجه.
(1/234)
________________________________________
قال: (فينوي رَفْعَ الحدث) هذا واحد، ينوي رفع الحدث، يتوضأ، ليش توضأ؟ قال: أبغي أرفع الحدث الذي حصل لي بسبب الغائط مثلًا، أو بسبب البول هذا رفع الحدث، إذا نوى رفع الحدث صح وضوؤه أو لا؟ صح وضوؤه، وهذا هو المقصود للوضوء أن يرفع الحدث، هذه واحدة.
الثاني: (أو الطَّهارة لما لا يُبَاح إلا بها) ينوي الطَّهارة لشيء لا يُباح إلا بالطَّهارة، والشيء الذي لا يُباح إلا بالطَّهارة: الصَّلاة، والطَّواف، ومسّ المصحف، هذه الأشياء الثلاثة، لا تُباح إلا بالطهارة، إذن ينوي الطهارة للصَّلاة، ما نوى رفعَ الحدث، لكن نوى الطهارة للصلاة، يرتفع الحدث ولَّا لا؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: لأن الصَّلاة ما تصحُّ إلا بعد رفع الحدث، نوى الطهارة للطواف؟
طالب: ترتفع.
الشيخ: كذلك ترتفع. نوى الطهارة لمس المصحف أيضًا يرتفع الحدث.
الوجه الثالث: قال: (فإن نوى ما تُسنُّ له الطَّهارة) ارتفع حدثه؛ يعني ينوي الطهارة لما تُسن له الطهارة ولمَ تجب؟ لما تُسن له الطهارة كالقراءة، قراءة القرآن بدون مس مصحف هذه سنة أن يتطهر الإنسان لها، بل كل ذكر فإن السنة أن يتطهر له لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ» (20).
فإذا نوى ما تُسَنُّ له الطَّهارةُ كقراءة ارتفع الحدث، كيف ذلك؟
لأنَّه إذا نوى الطَّهارة لما تُسَنُّ له الطهارة فمعنى ذلك أنه نوى رفع الحدث لأجل أن يقرأ، وكذلك لو نوى الطَّهارةَ لدفع الغضبِ يصح؟
طلبة: نعم.
الشيخ: يرتفع الحدث؟
طلبة: نعم.
الشيخ: نوى الطهارة للنوم سُنّة، يرتفع الحدث.
فصارت النيَّة لها ثلاثة أوجه: أن ينويَ رفع الحدث، أن ينويَ الطَّهارةَ لما تجبُ له الطهارة، أن ينويَ الطهارةَ لما تُسَنُّ له الطهارة.
قال المؤلف: (أو تجديدًا مسنونًا ناسيًا حدَثَه ارتفَعَ)، هذه المسألة الرَّابعة.
(1/235)
________________________________________
لكنه قيَّدها المؤلف بقوله: (تجديدًا) أي: تجديدًا لوُضُوءٍ سابق عن غير حدث، وعلى وُضُوء الآن، فنوى تجديدًا للوُضُوء الذي كان متَّصفًا به الآن.
لكن اشترط المؤلِّفُ شرطين:
أن يكونَ ذلك التجديدُ مسنونًا؛ لأنه إذا لم يكن مسنونًا لم يكن مشروعًا، فإذا نوى التَّجديدَ وهو غير مشروع، فقد نوى طهارةً غير شرعية، فلا يرتفع حدثُه بذلك.
متى يكون مسنونًا؟
يكون مسنونًا إذا صَلَّى بالوُضُوء الذي قبله، إذا صلَّى بالوُضُوء الذي قبله استُحب أن يتوضَّأ للصَّلاة الجديدة.
مثال ذلك: توضَّأ لصلاة الظُّهر وصلَّى الظُّهر، ثم جاء وقت العصر وهو على طهارته، نقول له: يُسَنُّ لك أن تتوضَّأَ تجديدًا للوُضُوء؛ لأنَّك صلَّيت بالوُضُوء السَّابق، فكان تجديدُ الوُضُوء لك مشروعًا، فإن لم يصلِّ به؛ بأنْ توضَّأ لصلاة العصر قبل دخول وقتها؛ ولم يُصَلِّ بهذا الوُضُوء، ثم لما أذَّن العصر جدَّد الوُضُوء، فهذا ليس بمشروع؛ فلا يرتفع حدثه.
الشرط الثَّاني: قال: (ناسيًا حدثه) فإن كان ذاكرًا لحدثه فإنه لا يرتفع حدثه، وهذا من غرائب العلم، نقول: إذا نويت الشَّيءَ ناسيًا صَحَّ، وإن نويته ذاكرًا لم يصحَّ؛ مثال ذلك: رجل صلَّى الظُّهر بوُضُوء، ثم انتقض وضوؤه بعد الظهر، ثم جدَّد الوُضُوء للعصر ناسيًا أنه أحدث، هل يرتفع حدثُه ولَّا لا؟ يرتفع؛ لأنه نوى تجديدًا مسنونًا ناسيًا حدثَه.
فإن كان ذاكرًا لحدثه لم يرتفع حدثه؛ لأنَّه حينئذٍ يكون متلاعبًا، كيف تنوي التجديد وأنت لست على وضوء؛ لأن التجديد لا يكون إلا والإنسان على طهارة، أما أن تنوي التجديد وأنت محدث فهذا تلاعب؛ فلا يرتفع الحدث.
قال المؤلف رحمه الله: (وإن نوى غُسْلًا مسنونًا أجْزَأَ عن واجبٍ)
مثل أي شيء الغسل المسنون؟
مثل: أن يغتسلَ من تغسيل الميِّت؛ فإنه غسل مسنون، ومثل أن يغتسل للإحرام، ومثل أن يغتسل للوقوف بعرفة، كل هذه أغسال مسنونةٌ، وسيأتي ذكرها فيما بعد.
(1/236)
________________________________________
وكذلك غُسْل الجمعة عند جمهور العلماء من الأغسال المسنونة، والصَّحيح أنه واجبٌ، إذا نوى غُسلا مسنونًا يقول المؤلف: إنه يجزئ عن الواجب، وظاهر كلام المؤلِّف ولو ذكر أن عليه واجبًا.
وقيَّده بعض الأصحاب بما إذا كان ناسيًا حدَثَهُ؛ يعني ناسيًا الجنابة، فنوى الغُسل المسنون فإنه يجزئه عن الواجب، فإن لم يكن ناسيًا فإنَّه لا يرتفع؛ لأن الغُسْل المسنون ليس عن حدث، وإذا لم يكن عن حدث، فقد قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ باِلنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» (18) وهذا الرَّجلُ لم ينوِ إلا الغُسْل المسنون، وهو يعلمُ أن عليه جنابة، ويذكر ذلك، فكيف يرتفع الحدث؟
وهذا القول -أي تقييده بأن يكون ناسيًا- له وجهة نظر.
وأما الذين لا يقيدون فيقولون: لأنه لَمَّا كان الغُسْل المسنونُ طهارةً شرعيَّة كان رافعًا للحدث، ولكنَّ هذا التَّعليل فيه شيء من العِلَّة، لأَنْ نقول: هو غُسْلٌ مشروع لا شك، لكنه غُسل مشروع دون الغُسل الواجب من الجنابة، فكيف يَقوى المسنون حتى يجزئ عن الواجب، لو كان الأمر بالعكس لأمكن، لكن كونه ينوي الغُسل المسنون ونقول: إن هذا يجزئ عن الواجب، هذا فيه نظر، لكنه إذا كان ناسيًا فهو معذور.
مثاله: لو أن أحدًا اغتسل للجمعة -على القول بأن غسل الجمعة سُنَّة- وهو عليه جنابة، لكنه ما ذكر أو ما عَلِم، مثل ألا يعلم بالجنابة إلا بعد صلاة الجمعة، كما لو كان قد احتلم ولم يعلم إلا بعد الجمعة، فإن صلاة الجمعة تكون صحيحة لارتفاع الجنابة.
وأما إذا عَلِم ونوى هذا الغسل المسنون، فإن القول بالإجزاء في النفس منه شيء.
(1/237)
________________________________________
(وكذا عكْسُهُ) يعني إن نوى غُسلًا واجبًا أجزأ عن المسنون لدُخُوله فيه؛ لأن الغسل الواجبَ أعلى من المسنون فيسقطُ به، كما لو أن الإنسان دخل إلى المسجد، وقد وجد الناس يصلُّون فدخلَ معهم، فإن تحيَّة المسجد تَسقطُ عنه؛ لأن الواجب أقوى من المستحبِّ، وإن نواهما جميعًا يجزئ؟
طلبة: نعم.
الشيخ: يجزئ من باب أولى لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
وإن اغتسل لهذا غُسلًا ولهذا غُسلًا كان أطيب، كما اختاره الأصحاب رحمهم الله، وعلى هذا فالغُسْل الواجب مع المسنون له أربع حالات:
إما أن ينويَ المسنونَ دونَ الواجب، أو الواجبَ دونَ المسنونِ، أو هما جميعًا، أو يغتسل لهما جميعًا أو لا؟
طلبة: أو يغتسلا؟
الشيخ: لهما جميعًا؛ يعني غسلين، كل واحد له غسل منفرد، فإذا اغتسل لكل واحد منهما غسلًا منفردًا فهذا أعلى الحالات، وإن نواهما جميعًا فهو دونه لكن يُجزئ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، وإن نوى الواجب سقط به المسنون، وإن نوى المسنون -على المذهب- أجزأ عن الواجب، يسقط به الواجب، ولكن في النفس منه شيء، نعم، لو كان ناسيًا فقد يُقال: إن هذا يجزئ؛ لأنه غسل مشروع والإنسان لم يَذكر.
يقول: (أجزأ عن واجب، وكذا عكسه) (كذا) خبر مقدم، و (عكسه) مبتدأ مؤخر، ما هو عكس هذه الصورة؟
طلبة: أن ينوي واجبًا.
الشيخ: أن ينوي واجبًا فيجزئ عن المسنون.
ثم قال: (وإن اجتمعت أحداثٌ تُوجِبُ وُضُوءًا أو غُسْلًا فَنَوى بطَهَارَتِهِ أحَدَها ارتفعَ سائرها).
إذا (اجتمعت أحداثٌ تُوجِبُ وُضُوءًا) يعني بأن فعل الإنسان من نواقض الوُضُوء أشياء متعدِّدة، بَالَ، تغوَّط، خرج منه ريح، أكل لحم إبل، نام نومًا عميقًا، هذه خمسة أشياء، فعل هذه الخمسة كلها، هذه الأحداث ويش تُوجب؟
تُوجب الوضوء، فنوى الطهارة عن البول؟
طلبة: ( ... ).
(1/238)
________________________________________
الشيخ: يُجزئ عن الجميع، لكن لو نوى عن البول فقط؛ يعني على ألا يرتفع غيره؛ فإنه لا يُجزئ إلا عن البول، قالوا: لعموم قوله: «وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
وقيل: يُجزئ عنه وعن غيره؛ لأن الحدث وصف واحد، وإن تعددت أسبابه فإنه لا يتعدد، الحدث في الحقيقة وصف واحد لو تعددت أسبابه فإنه لا يتعدد، فإذا نوى رفعه ارتفع، وإن لم يُعين إلا سببًا واحدًا منه.
وقيل: إن عيَّن الأول ارتفع الباقي، وإن عين الثاني لم يرتفع شيء منهما، وجه هذا القول يقول: لأن الثاني ورد على حدث لا على طهارة، مثل: بالَ بالأول، ثم بعد ذلك تغوط، ثم توضأ عن الغائط فقط يقول: هذا لا يُجزئ، السبب؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: لأن الثاني ورد على حدث فلم يُؤثر شيئًا، وحينئذٍ فإذا نوى رفع الحدث من الثاني لم يرتفع؛ لأنه لا حَدَثَ منه إذ إن الحدث من الأول.
وكل هذه كما تَرون مجرد اجتهادات وتعليلات، والصحيح أنه إذا نوى رفع الحدث عن واحد منها ارتفع عن الجميع حتى وإن نوى ألا يرتفع غيره؛ لأنا نقول: إن الحدث وصفٌ واحد، وإن تعددت أسبابه، فإذا نوى رفعه من البول ارتفع وخَلص، لا نقول: إن هذا يُعارض قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، وهذا لم ينوِ إلا عن الحدث من البول؛ لأنا نقول: إن الحدث شيء واحد، فإذا نوى رفعه ارتفع، وليس الإنسان إذا بال الساعة الواحدة صار له حدث، فإذا خرجت منه الريح الساعة الواحدة والنصف صار حدثًا آخر، وثالثًا، ورابعًا إلى آخره، لا، الحدث هو واحد والأسباب متعددة، أي شيء تنوي رفع الحدث به، أو رفع الحدث منه؛ فإنه يُجزئك.
إذا اجتمعت أحداث تُوجب غُسلًا، ويش مثاله؟
الجماع، والإنزال.
طلبة: ( ... ).
الشيخ: أيش؟
طالب: معاودة الوطء.
الشيخ: لا، على كل حال اثنين يكفي.
طالب: الحيض.
(1/239)
________________________________________
الشيخ: والحيض مثلًا في المرأة، والنفاس، إذا اجتمعت هذه الأحداث، فنوى بغسله واحدًا منها؛ فإنها ترتفع كلها كما قلنا في الحدث الأصغر، ترتفع الجنابة أو الحدث فيما إذا كان هناك حيض ونفاس عن الجميع، ولهذا قال المؤلف: (ارتفع سائرها). والسبب هو ما ذكرنا مِن أن الحدث وصف واحد إذا ارتفع؛ ارتفع عن الجميع.
طالب: شيخ، لو قلنا: يغتسل لكل واحد كما قلنا: ( ... ) بغسل واحد.
الشيخ: ما أعلم أحدًا قال بذلك.
الطالب: طيب ( ... ) الأفضل أنه يغتسل غسلين ( ... ).
الشيخ: إي نعم.
الطالب: من باب أولى أن يغتسل مرتين ..
الشيخ: لا؛ لأن الواجب جنس واحد، وأما المسنون والواجب فهما جنسان، هذا الفرق بينهما.
الطالب: ألا يكون الأكمل في هذا أن يغتسل للواجب، ويجزئ عن المسنون فإنه .. ؟
الشيخ: فيمَ؟
الطالب: فيما إن اجتمع غسل مسنون وغسل واجب، غسل الجمعة، وغسل الجنابة؟
الشيخ: هم الحقيقة الفقهاء يقولون: إذا نوى الواجب أجزأ عن المسنون، لكن يقولون: إنه إذا فعل الأمرين، واغتسل مرتين، فهذا أفضل؛ لأنه حصل منه عملان وغُسلان.
الطالب: بس هل الكثرة تدل يا شيخ على الأفضلية؟ قد يكون قلة في العمل أفضل من الكثرة؟
الشيخ: هم يقولون: مثلًا الرسول أمر بالغسل يوم الجمعة اغتسل يوم الجمعة، والله أمر بالغسل من الجنابة اغتسل من الجنابة.
طالب: شيخ، لو نوى رفع حدث واحد، ونوى عدم ارتفاع ( ... )، هل يصح؟
الشيخ: المذهب لا يصح.
الطالب: أنا ما رجحت.
الشيخ: إي نعم، يصح.
الطالب: أليس هذا متلاعبًا هذا الرجل؟
الشيخ: إي، ولو تلاعب، إذا تلاعب ما نوافقه على لعبه.
الطالب: فلا نصحح وضوءه؟
(1/240)
________________________________________
الشيخ: لا، نصحح؛ لأنه نوى الوضوء من البول والباقي لا، قال: ما أنا متوضئ له، ما هو لم ينوِ فقط قال، ما أنا متوضئ له، نقول: الآن ارتفع حدثك بنية الوضوء من البول، وإن شئت الآن لا تنوي ما علينا منك، ما دام أنه وُجِد وضوء امتثل الإنسان به أمر الله لسبب من الأسباب واحد فكونه ( ... ) نقول: هذا ما يؤثر، مثلما لو أن الإنسان توضأ وأكمل وضوءه، ولَمّا توضأ وأكمل وضوءه، قال ( ... ) أبطلت الوضوء، ما يَبطل الوضوء.
طالب: شيخ ( ... ).
الشيخ: ( ... ).
الطالب: إي نعم، بدون نية مثلًا.
الشيخ: إي ما يجزئ.
الطالب: ما تجزئ؟
الشيخ: لا.
الطالب: وإن نوى؟
الشيخ: ما دام ما نوى الغُسل تعبدًا لله عز وجل فهو ما ينفعه.
الطالب: وإن نوى لواحدة؟
الشيخ: أجزأ عن الجميع.
طالب: الدلك في الوضوء، دلك الأعضاء، ما يكون لا بد منه؟
الشيخ: ما بعد، إحنا نتكلم عن النية الآن، بيجينا إن شاء الله.
طالب: ( ... ) يا شيخ الترتيب والموالاة
الشيخ: يبجينا إن شاء الله، انتظر.
الطالب: ( ... ).
الشيخ: قال: (ارتفع سائرها).
الطالب: يعني كم يجزئ لغسله ( ... )؟
الشيخ: انغمس بنية الاغتسال من الجنابة؟
الطالب: إي نعم، انغمس في الماء وارتفع.
الشيخ: يكفي، يكفي أبد.
الطالب: بدون دلك ولا شيء؟
الشيخ: بدون دلك، الدلك ما هو واجب.
طالب: ( ... ).
الشيخ: قال رحمه الله: (ويجب الإتيان بها عند أول واجبات الطهارة، وتُسن عند أول مسنوناتها). (يجب الإتيان بها) أي: بالنية عند أول مسنونات الطهارة، والنية -كما عرفنا من قبل-: هي عزم القلب على فعل العبادة تقربًا إلى الله عز وجل.
طلبة: ( ... ).
الشيخ: كِيف؟
طلبة: أول واجبات ( ... ).
الشيخ: ويجب الإتيان بها عند أول وجب الطهارة، وهو التسمية وتُسن عند أول مسنوناتها.
أنا حذفتها عمدًا (يجب الإتيان بها عند أول واجبات الطهارة؛ وهو التسمية، وتُسن عند أول مسنوناتها).
هذا المؤلف أراد الكلام على محل النية، متى ينوي الإنسان؟
(1/241)
________________________________________
يقول: (يجب عند أول واجبات الطهارة)، وكلمة (عند) تدل على القرب، كما في قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206]، فالعنديَّة تدلُّ على القُرب، وعلى هذا فيجب أن تكون النيَّةُ مقترنةً بالفعل، أو متقدِّمةً عليه بزمنٍ يسير، وأما لو تقدمت بزمن كثير فإنها لا تجزئ.
الدليل على أنها لا بد أن تكون مقارنة أو مقاربة قوله: يعني من أين نأخذها من كلام المؤلف؟
من قوله: (عند).
وقوله: (عند أوَّل واجبات الطهارة)، ولم يقل: عند أوَّل فروض الطَّهارة؛ لأن الواجب مقدّم على الفروض في الطَّهارة؛ والواجب هو التَّسمية.
وقد سبق لنا أن المؤلف يقول: إن التسمية واجبة في الوضوء مع الذكر، وتسقط مع النسيان، وأنه لو ذكرها في أثناء الوضوء ابتدأ على المذهب، أو سمَّى وبنى على ما في الإقناع، وأن الصحابة اختلفوا في هذا، هل يُسمي ويبني، أو يُسمي ويستأنف، وسبق لنا أن القول الصحيح أن التسمية ليست بواجبة، وهو اختيار الموفق وجماعة من أصحابنا رحمهم الله؛ وذلك لأن الدليل الوارد فيها -كما قال الإمام أحمد- لا يثبت.
وإذا لم يَثبت فإن القول بإلزام الناس بها وإبطال الوضوء بتركها بناءً على دليل لم يَثبت، هذا لا يَنبغي؛ لأن الإنسان مسؤول أمام الله عز وجل في تكليف عباد الله سبحانه وتعالى أن يُكلفهم ما لم يقتضيه الشرع، لكن على المذهب هي واجبة مع الذكر، فإذا أراد أن يتوضأ فلا بد أن ينوي النية قبل التسمية؛ لأن التسمية واجبة.
قال: (وتُسَنُّ عند أوَّل مسنوناتها إنْ وُجِدَ قبل واجبٍ) ما هو أول مسنونات الطهارة؟
أوَّل مسنوناتِها غسل الكفين ثلاثًا قبل غسل ( ... )، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في صفة الوضوء، فإذا غسل كَفَّيه ثلاثًا قبل أن يُسمِّيَ صار الإتيان بالنية حينئذٍ؟
طلبة: واجب.
الشيخ: واجبًا ولَّا سنة؟
طلبة: واجب.
(1/242)
________________________________________
الشيخ: لا، وتُسَنُّ عند أوَّل مسنوناتها إنْ وُجِدَ قبل واجبٍ) يعني لو غسل كفيه ثلاثًا قبل التسمية صارت النية قبل غسل اليدين سُنَّة، ولكن كما سبق لنا مرارًا وتكرارًا، كون الإنسان يَحضر ويحضر الماء ويبدأ، هل يُعقل أن يفعل ذلك بلا نية؟
أبدًا ما يُعقل، ولهذا لا بد أن تكون النية سابقة حتى على أول المسنونات؛ إذ لا يُعقل أن أحدًا من الناس يحضر الماء ويشتغل بالعمل وهو ما نوى أن يتوضأ هذا بعيد، اللهم إلا إذا أحضر الماء ليغسل للأكل، ولما غسل كفيه قال: إذا ما بقي علي إلا شيء بسيط أبغي أكمل ( ... ) الوضوء، فهذا ربما يُقال: إن الرجل ابتدأ الطهارة بلا نية، وحينئذٍ يمكن أن تجب النية عند التسمية.
طالب: بعض الناس يبغي يغسل للأكل وينسى ويبتدئ الوضوء؛ لأنه متعود بدون نية.
الشيخ: بدون نية؟ !
الطالب: بدون نية الوضوء.
الشيخ: هذه ربما أيضًا تقع لكنها بعيدة، المهم أنه أراد الفعل الآن.
الطالب: السواك يا شيخ هو من السنن؟
الشيخ: إي نعم، لكن عند المضمضة وبعد الواجبات.
قال: (وتُسن عند أول مسنوناتها إنْ وُجِدَ قبل واجبٍ) (إن وجد) الضمير يعود على أول المسنونات، وقوله: (قبل واجب) ويش هو الواجب؟ التسمية؛ يعني لو غسَّل كفيه ثلاثًا قبل أن يُسمي فإن تقديم النية على غسل اليدين يكون؟
طالب: سُنَّة.
الشيخ: سُنَّة، والخلاصة أننا لو سُئلنا متى تكون النية؟
قلنا: لها محلان؛ محل تكون سُنَّة فيه، ومحل تكون واجبة، ما هو المحل الذي تكون فيه واجبة؟
هو قبل أول الواجبات، وما هو الذي تكون فيه السنة؟
قبل المسنون (إنْ وُجِدَ قبل واجب)، وقول المؤلف: (إنْ وُجِدَ قبل واجب) يشير إلى أن هذا المسنون لا يوجد قبل الواجب في الغالب أن الإنسان يُسمي قبل أن يَغسل كفيه، وحينئذٍ يكون الواجب متقدمًا.
(1/243)
________________________________________
قال: (واستصحاب ذكرها في جميعها)؛ يعني ويُسن أيضًا استصحاب ذِكرها في جميعها، ذِكرها ما هو باللسان بل المراد ذِكرها في القلب؛ يعني يُسن للإنسان أن يَستصحب تذكر النية في قلبه في جميع الطهارة، فإن غابت عن خاطره مثل واحد يتوضأ وعنده إنسان يحدثه، نوى الوضوء في أول الفعل ومع الحديث غابت النية عن قلبه، يضره ولَّا لا؟
طلبة: لا يضره.
الشيخ: لا يضره؛ لأن استصحاب تذكرها سُنة، وقد سبق لنا التنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يتذكر النية عند غسل كل عضو ناويًا بذلك امتثال أمر الله عز وجل مستحضرًا بذلك أنه متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو سَبق لسانه بغير قصده، فعلى أي شيء يكون المدار؟
المدار على ما في القلب، لو فُرض أنه أراد أن يتوضأ، ونطق بالنية بناءً على استحباب النطق بها، على أنه يُريد أن يَغتسل، أو أنه في قلبه كان يُريد الوضوء، ثم عند الفعل نوى الغُسل، فعلى أي شيء يَعتمد؟ على عزم قَلبه أو على الوهم الذي طرأ عليه؟
طلبة: على عزم قلبه.
الشيخ: على عزم القلب، ولهذا لو سأل سائل عن رجل أراد أن يُحرِم بالحج مفردًا، ولكن لأنه كثيرًا ما يَعتمر قال: لبيك عمرة، وهو لا يريد العمرة إنما يُريد الحج، فبأي شيء انعقد إحرامه؟
بالحج؛ لأن العبرة بما في القلب، ولهذا قال الله عز وجل: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، والآية الأخرى: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].
يُستحب (استصحاب ذِكرها)، ذِكر هنا بمعنى؟
طلبة: تَذكُّر.
(1/244)
________________________________________
الشيخ: تذكر، السبب تذكرها بقلبه في جميع الطهارة. (ويجب استصحاب حكمها) يجب أن يستصحب الحكم، ومعنى استصحاب الحكم ألا ينوي قطعها، فالنية إذن باعتبار الاستصحاب لها ثلاث حالات: أن يَستصحب ذِكرها من أول الوضوء إلى آخره، وهذا أكمل الأحوال؛ أن تَعزُب عن خَاطره، لكنه ما نوى القطع، وهذا يُسمى استصحاب أيش؟
الحكم، استصحب حكمها؛ يعني بنى على حكمها الأول، ومشى عليه، ما نقضه.
الثالثة: أن يَنوي القطع وهو في أثناء وضوئه نوى قطع نية الوضوء، لكن استمر في غسل رجليه مثلًا لتنظيفهما من الطين، ما تقولون في هذا؟
طالب: لم يتم وضوؤه.
الشيخ: يصح وضوؤه ولَّا لا؟
طلبة: ما يصح.
الشيخ: ما يصح، لماذا؟ لأنه لم يَستصحب الحكم حيث إنه أيش؟
طلبة: قطع النية.
الشيخ: قطع النية في أثناء العبادة.
في حالة رابعة بعد أن أنهى جميع أعضائه نوى أن ..
(صفةُ الوُضوءِ)
أن يَنْوِيَ ثم يُسَمِّيَ ويَغْسِلَ كَفَّيْهِ ثَلاثًا ثم يَتمَضْمَضَ ويَستنْشِقَ ويَغْسِلَ وَجْهَه من مَنابِتِ شَعَرِ الرأسِ إلى ما انْحَدَرَ من اللَّحْيَيْنِ والذَّقَنِ طُولًا ومن الأُذُنِ إلى الأُذُنِ عَرْضًا، وما فيه من شَعَرٍ خَفيفٍ والظاهرِ الكثيفِ مع ما اسْتَرْسَلَ منه، ثم يديهِ مع الْمِرْفَقَيْنِ، ثم يَمْسَحَ كلَّ رأسِه مع الأُذُنَيْنِ مَرَّةً واحدةً ثم يَغْسِلَ رِجليهِ مع الكَعْبَيْنِ، ويَغْسِلُ الأَقْطَعُ بَقِيَّةَ الْمَفروضِ، فإنْ قُطِعَ من الْمَفْصِلِ غَسَلَ رأسَ العَضُدِ منه، ثم يَرفَعَ نَظَرَه إلى السماءِ ويقولَ ما وَرَدَ، وتُباحُ مَعونتُه وتَنشيفُ أعضائِه.
(باب المسح على الخفين)
يَجوزُ مقيم يومًا وليلةً، ولِمُسافِرٍ ثلاثةً بلياليها من حَدَثٍ بعدَ لُبْسٍ على طاهِرٍ مُباحٍ ساتِرٍ للمفروضِ
لو قال لنا قائل: ألستم تقولون: إن الإنسان لو نوى قطع الصلاة انقطعت؟
(1/245)
________________________________________
الجواب: نعم. لماذا تقول هنا: لو نوى قطع الوضوء ما انقطع؟ لأنه بعد الفعل، ولهذا لو نوى قطع الصلاة بعد انتهاء الصلاة تنقطع ولّا ما تنقطع؟ ما تنقطع.
إذن نأخذ من هذا قاعدة: أن قطع نية العبادة بعد فعلها لا يؤثر، كذا ولّا لا؟
طيب يرد عليكم الصيام، لو نوى قطعه في أثناء اليوم ينقطع؟
طلبة: ينقطع.
طالب: ما أكمل اليوم.
الشيخ: ما أكمل اليوم، فهو كما لو نوى قطع الصلاة في أثناء الصلاة.
طيب لو نوى قطع الصوم بعد الغروب؟ ما ينقطع؟
طلبة: ما ينقطع.
الشيخ: إي نعم.
طالب: حتى لو كان نفلًا.
الشيخ: ولو كان نفلًا، بعد الغروب ولو كان نفلًا.
الطالب: لا، قبل الغروب، لو نوى قطعه وهو نفل؟
الشيخ: إي نعم، ينقطع، لكن له أن يستأنف نية جديدة، إذا لم يفعل شيئًا من المفطرات يستأنف نية جديدة، ويكون الثواب من النية الجديدة.
الطالب: حتى لو بعد الزوال؟
الشيخ: ولو بعد الزوال على القول الراجح.
طالب: يأثم؟ إن كان فرضًا يأثم إذا نوى قطع ( ... ).
الشيخ: إذا انتهى منه، أبدًا ما يأثم.
طالب: إذا قطع من النصف؟
الشيخ: إذا قطع من النصف، يعني قطع ظهره! تعبير غريب.
طالب: شيخ، إذا صلى الظهر مثلًا ونوى أنه ما صلى الظهر يأثم؟
الشيخ: ما انتهى؟ أبدًا ما له حكم هذا.
طالب: ( ... ) الإثم قد يتعلق بالنية ..
الشيخ: أبدًا، انتهى الآن، انتهى العمل، لكن نعم ربما نؤثم ونقول: هذا تلاعب، كونك تقول مثلًا: رجعت على ربي بهذه العبادة وهوَّنت، قد نؤثم من جهة أن هذا الشيء شيء يشبه التلاعب، أما من الناحية الحكمية وأن نقول: إن صلاتك بطلت فلا.
(1/246)
________________________________________
ولهذا من القواعد المهمة: أن الشك بعد فراغ العبادة لا يؤثر، سواء شككت في النية أو شككت في أجزاء العبادة، ما يؤثر، إلا إذا تيقنت، فلو أن رجلًا بعدما أنهى صلاته قال: والله إني شكيت، ما أدري هو أنا نويت أنه الظهر ولا العصر، وهو الآن مصلٍّ الظهر، قال: تعيين النية شرط وأنا الآن شككت هل نويت بصلاتي هذه الظهر أم العصر أيش نقول؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: لا عبرة بهذا الشك.
طالب: لو نوى أن يصلي العصر.
الشيخ: لا، هو الآن ( ... ) ما انتهى: يقول: ما دريت الآن هل أنا نويت الظهر ولّا العصر، نقول: خلاص، ما دام أنك داخل على أنه الظهر فهي الظهر، لو شككت فيما بعد لا يؤثر، ولهذا أنشدناكم بيتًا في هذا الموضوع وهو:
فالشك في هذين الموضعين ما يؤثر؛ لأنه إذا كان لو قطعتها عمدًا -قطعت النية عمدًا- بعد الفعل ما يؤثر، فالشك من باب أولى.
ومثله أيضًا لو شك بعد الصلاة هل سجد مرتين أو سجد مرة واحدة، يؤثر ولّا لا؟
طلبة: لا يؤثر.
الشيخ: لا يؤثر، بعد الفراغ ما يؤثر.
طالب: شيخ، طيب في وقت الظهر نوى أنه العصر ( ... ) نوى بهذه الصلاةِ العصرَ، وبعدين ذكر أنه الظهر، هل ..
الشيخ: إيه ويش تقولون في هذه؟ هذه تقع أيضًا كثيرًا، مثل واحد مثلًا قَيِّل قبل الظهر، ولما قام من النوم على العادة أن النوم يكون بعد الظهر صلى بنية العصر، وهي الظهر، ما تقولون في هذا؟
طلبة: لا تصح صلاته.
الشيخ: لا تصح صلاته؛ لأنه ما عين، لأنه ما على باله إلا أنها العصر.
(1/247)
________________________________________
طيب لو نوى –هذه مسألة مهمة بعد الثانية- لوى نوى فرض الوقت، وهذه تراها تقع كثيرًا، جاء إنسان مثلًا دخل لصلاة الظهر، وجد الناس يصلون وصفَّ، في تلك الساعة ما استحضر أنها الظهر أو الفجر أو العصر أو المغرب أو العشاء، إنما استحضر أنها فرض الوقت، فما تقولون فيه؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: المذهب لا يجزئه؛ لأنه لا بد يعين أنها الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الفجر.
ولكن بعض أصحابنا وهو ابن شاقلا يقول: إنه إذا نوى فرض الوقت أجزأ. وهذا هو الذي لا يسع الناس العمل إلا به؛ لأنه حقيقة كثيرًا ما يغيب عن الإنسان تعيين الصلاة، لكن هو بنيته أنها فرض الوقت، ولو أننا حملنا الناس قلنا: إذا ما نويت الظهر بعينها أعدت الصلاة لكان كثير من الناس يختل في هذا وربما يعيد.
طيب ما رأيكم في رجل سلم من ركعتين من الظهر بناءً على أنها الفجر، ثم ذكر، هل يكمل ركعتين ولا يستأنف؟ هل يبني ويكمل ركعتين ويسجد للسهو ولا يستأنف الصلاة؟
طالب: يعيد.
الشيخ: قالوا: إنه ..
طالب: يكمل.
الشيخ: لا يستأنف قالوا؛ لأنه سلم بناء على أن صلاته ركعتان، ما هو على أنها أربع سلم من ركعتين.
ولهذا يقولون في هذه الصورة: يجب أن يستأنف الصلاة؛ لأنه سلم على أنها صلاة ركعتان فقط.
المؤلف رحمه الله ساق صفة الوضوء المشتملة على الواجب وغير الواجب.
قال: (وصفة الوضوء أن ينوي)، والنية شرط كما سبق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» (1).
(ثم يسمي) التسمية واجبة على المذهب. قال: (ويغسل كفيه ثلاثًا).
قوله: (ثم يسمي ويغسل) لا تظنوا أن الواو هنا تفيد أن النية مقارنة للتسمية، لا، ولكن المؤلف عبر بالواو، وهي في محل (ثم)، يعني ثم بعد التسمية يغسل كفيه ثلاثًا، ودليل ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا أراد أن يتوضَّأ غسل كفَّيه ثلاثًا (2).
(1/248)
________________________________________
وتعليل ذلك أن الكفين آلة الوضوء، فينبغي أن يبدأ بغسلهما قبل كل شيء حتى تكونا أيش؟ نظيفتين.
(ثم يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه) إلى آخره، (ثم يتمضمض) بأن يدخل الماء في فمه ثم يمجه. وهل يجب أن يدير الماء في جميع فمه أو لا يجب؟
يقول العلماء: إن الواجب إدارته أدنى إدارة، هذا إذا كان الماء قليلًا ما يملأ الفم، أما إذا كان كثيرًا يملأ الفم فقد حصل المقصود.
ثم هل يجب أن يزيل ما في فمه من بقايا الطعام، بمعنى أنه يجب أن ينقش أو أن يخلل أسنانه حتى يدخل الماء إلى ما بينها، أو لا يجب؟ الظاهر أنه لا يجب في هذه الحال.
وهل يجب إذا كان عليه أسنان مركبة أن يزيل الأسنان؛ لأن الأسنان تمنع وصول الماء إلى ما تحتها، أو لا يجب؟
طالب: نزعها سهل ليست كالذهب.
الشيخ: الظاهر أنه أيضا لا يجب، وتشبه هذه الخاتم، الخاتم لا يجب نزعه عند الوضوء، وهو أظهر من كونه مانعًا من وصول الماء من هذه، لا سيما أن بعض الناس تكون التركيبة صعبًا يصعب عليه نزعه ثم وضعها.
طالب: شيخ، الخاتم يحرك، يجب تحريكه؟
الشيخ: لا، ما يجب تحريكه، الأفضل فقط.
طالب: ( ... ).
الشيخ: إي نعم؛ لأن هذا لباس معتاد، اعتاده النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبسه، ولم يرد أنه كان يحركه عند الوضوء.
ثم (يستنشق) ما معنى الاستنشاق؟ الاستنشاق: أن يجذب الماء بنفس من أنفه، هذا الاستنشاق. وهل يجب الاستنثار، أن ينثر الماء بعد ذلك؟
طالب: نعم.
طالب آخر: لا يجب.
الشيخ: لا يجب، قالوا: الاستنثار سنة، ولكن لا شك أن طهارة الأنف لا تتم إلا باستنثاره بعد استنشاقه؛ حتى يزول ما في الأنف من الأذى، لكن العلماء ذكروا أن الاستنثار سنة، على خلاف بينهم، لكن نحن نتكلم عن مشروع المذهب، هل يبالغ في المضمضة والاستنشاق؟
قال العلماء: يبالغ، إلا أن يكون صائمًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبِرة: «بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» (3).
(1/249)
________________________________________
كذلك لا يبالغ في الاستنشاق إذا كانت جيوب الأنف فيه فيها زوائد؛ لأنه إذا بالغ في هذه الحال فربما يستقر الماء في هذه الزوائد ثم يتعفن وينتن أو يصاب بضرر في ذلك.
وهذا قد يقع من بعض الناس، يكون في أنفه زوائد من الداخل، فإذا استنشق بقي الماء وترسب بين هذه الزوائد ثم تعفن، وربما يكون له رائحة كريهة، فمثل هذا نقول: يكفي أن تستنشق الماء حتى يكون داخل المنخرين.
طالب: من أخذ كفًّا من الماء ثم وضعه في أنفه بدون أن يستنثر يعني قد يصل الماء إلى أطراف أنفه؟
الشيخ: لا، لا بد أن يكون يصل إلى داخله.
الطالب: ما يجزئ ( ... )؟
الشيخ: لا ما يجزئ حتى يصل إلى داخله، أما إذا شغله حتى يصل إلى خياشيمه فهذا ليس بواجب.
قال: (ثم يستنشق ويغسل وجهه من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولًا، ومن الأذن إلى الأذن عرضًا).
(يغسل وجهه) وهو ما تحصل به المواجهة، والوجه أشرف أجزاء البدن، ويغسله، يقول المؤلف: (من منابت شعر الرأس) والمراد: مكان نبات الشعر، والمراد المنابت المعتادة، بخلاف الأفرع والأنزع. الأفرع معناه: الذي له شعر نازل على الجبهة، والأنزع: الذي شعره مرتفع.
يقول الشاعر يوصي زوجته:
الأنزع: اللي انحسر شعر رأسه. والأغم؛ أغم القفا والوجه: الذي يكون شعره نازلًا إلى جبهته. وهذا نظرًا إلى أن العرب تختار هذا الشيء.
إذن من منابت شعر الرأس المعتاد، وبعض العلماء يقول: من منحنى الجبهة من الرأس؛ لأن المنحنى هو الذي تحصل به المواجهة، وهذا ضابط جيد.
(1/250)
________________________________________
وقوله: (إلى ما انحدر من اللحيين والذقن) الذقن: هو مجمع اللحيين هذا. واللحيان: هما العظمان النابت عليهما الأسنان، هذان هما اللحيان، والذقن مجمعهما، فما انحدر من اللحيين مثل لو فرض أن رجلًا له شعر على لحييه طويل يغسله، وكذلك إذا كان في ذقنه شعر طويل فإنه يغسله، لماذا يغسل ما انحدر وتعدى محل الفرض، قالوا: لأن الوجه ما تحصل به المواجهة، والمواجهة تحصل بهذا الشعر، فيكون غسله واجبًا.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن ما جاوز الفرض من الشعر لا يجب غسله؛ لأن الله يقول: {وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، والشعر في حكم المنفصل.
وأظن مر علينا في قواعد ابن رجب وذكر الخلاف في ذلك، وصحح أنه لا يجب غسل ما استرسل من اللحية والذقن. لكن لا ريب أن الأحوط هو غسل ما استرسل من اللحيين والذقن، وهو أولى.
وقوله: (ومن الأذن إلى الأذن عرضًا)، (الأذن إلى الأذن) والبياض الذي بين العارض والأذن منين؟ من الوجه، اللي بين العارض والأذن من الوجه؛ لأن المؤلف يقول: (من الأذن إلى الأذن)، والشعر الذي فوق العظم الناتئ هذا يكون تبعًا للرأس، هذا حد الوجه.
الدليل على غسله سبق لنا قوله تعالى: {اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6].
قال المؤلف رحمه الله: (وما فيه من شعر خفيف، والظاهر الكثيف مع ما استرسل منه)، وما فيه من شعر خفيف، والظاهر من الكثيف. الفرق بين الخفيف والكثيف: ما ترى من ورائه البشرة، خفيف، وما لا فهو كثيف، فإذا كان الشعر ترى من ورائه البشرة فهو خفيف يجب غسله وما تحته؛ لأن ما تحته ما دام يرى فإنه تحصل به المواجهة ويواجه فيجب غسله، وهذ الشعر يجب غسله أيضًا؛ لأنه تكون فيه المواجهة.
هل في الوجه شعر؟
طالب: نعم.
(1/251)
________________________________________
الشيخ: الحاجبان والأهداب والشارب والعنفقة والعارضان واللحية، كل هذا من شعر الوجه، وربما ينبت شعر في غير ذلك، لكن هذا الشعر المعتاد، فيجب أن يغسل الشعر الخفيف، والظاهر من الكثيف، وأما الباطن منه فلا يجب غسله، لماذا؟ لأن المواجهة ما تكون إلا في ظاهر الكثيف، ولكن سبق لنا أنه يستحب تخليل الشعر الكثيف ولّا لا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته في الوضوء (4).
قال: (مع ما استرسل منه)، استرسل يعني نزل. وظاهر كلام المؤلف، ولو نزل بعيدًا، فلو فرض أن لرجل لحية طويلة أكثر مما هو غالب في الناس، فإنه يجب عليه غسل الخفيف منها، وغسل الظاهر من الكثيف.
وقال المؤلف: (ثم يديه مع المرفقين)، قوله: (ثم يديه) اليمنى ثم اليسرى، ولم يذكر هنا اليمنى ثم اليسرى لأنه سبق في سنن الوضوء أنه يسن البداءة باليمين.
يغسل يديه (مع المرفقين)، كلمة (مع) لا توافق تعبير الآية؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وتعبير المؤلف مخالف لظاهر الآية؛ لأن ظاهر الآية {إِلَى الْمَرَافِقِ} أن المرافق لا تدخل؛ لأن المعروف أن ابتداء الغاية داخل لا انتهاءها، فإذا قلت لك: من هذا إلى هذا فما دخلت عليه (من) فهو لك، وما دخلت عليه (إلى) فهو ليس لك، هذا هو القاعدة المعروفة عند أهل العلم، لكن قالوا: إن (إلى) هنا بمعنى (مع) وجعلوا نظير ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، أي: مع أموالكم. ولكن هذا التنظير فيه نظر؛ فإن الآية في المال ليست كالآية في الغسل؛ لأنه معروف قال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} مضمومة إلى أموالكم معروف واضح؛ لأنه ما يأكل الإنسان مال غيره إلا إذا ضمه إلى ماله.
فالآية ضمن قوله: {لَا تَأْكُلُوا} ضمن معنى الضم، أما آية الوضوء فليست كذلك.
(1/252)
________________________________________
لكن لنا أن نقول: إن الغاية فيها داخلة، بدليل السنة، فإنه ثبت أن أبا هريرة رضي الله عنه توضأ حتى أشرع في العضد، وقال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. والإشراع في العضد معناه أن المرفق دخل، وكذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضَّأ فأدار الماء على مرفقيه (5).
ثم قد يقول قائل: إن الغاية لا تدخل إذا ذكر ابتداء الغاية (من)، وأما إذا لم يذكر فإنها تكون داخلة، ولهذا لو قال قائل: هل الأفضل في غسل اليد أن تبدأ من الأصابع، أو أن تبدأ من المرفق، أو من وسط الذراع؟
طالب: من الأصابع.
الشيخ: كيف ذلك ليش؟
طالب: واجب؛ لأن في اللغة تطلق على اليد من الأصابع إلى ..
الشيخ: إي، هو الدخول واجب، لكن من أين تبدأ ( ... ) من أطراف الأصابع ولّا من نصف الذراع وتروح للأصابع ثم ترجع وإلا من المرفق؟
طلبة: من أطراف الأصابع.
الشيخ: ليش؟
طالب: {إِلَى}.
الشيخ: لقوله: {إِلَى}، لكن قد يقال: إن الله ما قال: (من) ولا بد من الإتيان بـ (إلى) لأنه لو قال: اغسلوا أيديكم لكان الواجب غسل الكف فقط أو لا؟
لأن اليد إذا أطلقت فهي الكف؛ بدليل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقطع يد السارق من الكف، وكذلك قوله في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، واليد في التيمم إلى الكف؛ بدليل فعل الرسول عليه الصلاة والسلام؛ حيث تيمم إلى الكف.
وأقول: ليس هذا في الظهور عندي جيدًا؛ لأن من الابتداء ما ذكر والانتهاء، لا بد من ذكره، حتى نعرف منتهى الواجب، وإن تمسك متمسك بالظاهر - الذي ليس بظاهر - وقال: أنا أرى أن الأفضل أن تبدأ بالأصابع، فأرجو ألا يكون فيه بأس.
طالب: ( ... ).
الشيخ: غسلناها -بارك الله فيك- من الأول قبل الوجه. على كل حال المسألة في هذا لا أذكر شيئًا في السنة يدل على ذلك، والآية ليست ظاهرة فيه.
(1/253)
________________________________________
وقوله: (مع المرفقين) إذن يكون تعبير المؤلف بـ (مع) من باب التفسير والتوضيح.
ثم قال: (ثم يمسح كل رأسه بالماء مع الأذنين مرةً واحدةً)، (يمسح كل رأسه بالماء) يعني: لا يغسله، وإنما يمسحه مسحًا، وهذا من تخفيف الله عز وجل على عباده؛ لأن غسل الرأس مؤذ للإنسان؛ إذ إن الغالب أن الرأس فيه شعر فيبقى الماء في الشعر فيتأذى الإنسان به، لا سيما في أيام الشتاء.
ثم إذا غسل الشعر صار الماء ينزل من هذا الشعر؛ لأن الشعر يمسك الماء، صار ينزل على بقية جسمه فيتأذى به، فكان من رحمة الله عز وجل ومن حكمته سبحانه وتعالى أن طهارة الرأس مسح لا غسل.
قال المؤلف: (مع الأذنين مرة واحدة) لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يمسح الرأس والأذنين (6). ولأن الأذنين من الرأس، ولأن الأذنين آلة السمع، فكان من الحكمة أن تطهرا حتى يطهر الإنسان مما تلقاه بهما من المعاصي؛ لأن الوجه كم فيه من الآلات التي قد تكون سببًا للمعاصي؟
طلبة: أربع.
طالب: ثلاث.
طلبة آخرون: خمس.
الشيخ: نشوف، النظر والشم والكلام.
طالب: ( ... ) الكلام والذوق.
الشيخ: الذوق، وأيش اللي بيذوق؟
الطالب: اللسان.
الشيخ: إي، لكن ويش اللي بيذوق؟
الطالب: يتذوق الخمر.
الشيخ: المهم إذا كان بدكم تدخلون الحواس إحنا قلنا: العين أو النظر، والشم اللي هو في الأنف، والكلام وهو أعظمها «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»، وتكون أيضًا الذوق، نعم، يمكن الإنسان يسرق طعامًا ويأكله، نعم، ويمكن يكون يشرب الدخان، لكن ما أدري هل يكفر ذلك شرب الدخان وهو عازم على الإصرار عليه أم لا؟ مشكل. في الرأس فيه الفكر، ولّا لا؟
طلبة: نعم.
طالب: ( ... ).
(1/254)
________________________________________
الشيخ: لا، ما أظن هذا، لكن فيه السمع، ولهذا يشرع مسح الأذنين، ولو أردنا أن نقول: كل شيء كل عضو كنا نقول: عندنا القلب أعظم شيء، نقول: كان يغسل صدره، لكن على كل حال هذا ما يبدو لنا، والعلم عند الله.
طالب: مسح الأذنين أعلى الوجوب ولا سنة؟
الشيخ: مسح الأذنين؟
الطالب: إي نعم.
الشيخ: على الوجوب.
طالب: ( ... ).
طالب آخر: ( ... ) في المعاصي؟
الشيخ: الشم، يشم شيئًا محرمًا، فيه أشياء محرمة يفعلها الناس بالشم.
طالب: بيشموا البنزين.
الشيخ: لا!
طالب: الله يا شيخ يفعلون هذا، تفعل يا شيخ.
طالب آخر: يتجسس على طعام الجيران.
الشيخ: يشم طعام الجيران فيه شيء؟
طلبة: لا.
طالب: بل له الحق.
طالب آخر: عطر نساء.
الشيخ: نعم ربما، ربما يشم طيب النساء ويتمتع بذلك ..
طالب: غصب عنه.
الشيخ: لا، خلي غصب، يتقصد هذا.
طالب: ( ... ).
الشيخ: إي نعم، أنا سمعت أن فيه شيء يسمى الشمة يستعمله بعض الناس.
طلبة: شمة عن طريق الفم.
الشيخ: شمة عن طريق الفم، طيب على كل حال ما حاجة من التطويل. الإنسان يبين ذلك للناس، افرض أن الرجل شم رائحة دخان عند جاره وقال: شممت رائحة دخان عند جاري ما هو هذا يكون نوع من الغيبة؟
طلبة: نعم.
الشيخ: ذكرك أخاك بما يكره، قد يكون هذا الرجل متسترًا، ما يحب أن أحدًا يطلع عليه، فعلى كل حال إن الشم لا شك أنه قد يكون فيه شيء محرم، إي نعم.
طالب: بالنسبة لغسل ( ... ) إلى العضد، يقول: وفي حديث وائل: غسل يديه حتى جاوز المرفق. رواه البزار (7) وغيره، ولما في الصحيح: غسل يديه حتى أشرع في العضد (8) وغير ذلك من الأحاديث.
طالب: المسترسل من شعر الرأس .. ؟
الشيخ: لا، ما يمسح.
(ثم يغسل رجليه مع الكعبين).
(1/255)
________________________________________
(يغسل رجليه) اليمنى واليسرى، (مع الكعبين) نقول في قوله: (مع الكعبين) كما قلنا في قوله: (مع المرفقين)، وإن كلمة (مع) ليس فيها مخالفة للقرآن؛ لأن القرآن عبر الله فيه بـ (إلى) لكن دلت السنة على أن (إلى) هنا بمعنى (مع)؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه توضأ فغسل ذراعيه حتى أشرع في العَضُد، ورجليه حتى أشرع في الساق، وقال: هكذا رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. فعلى هذا تكون الكعبان داخلتين في غسل الرجلين، وأين الكعبان؟ هما العظمان الناتئان في أسفل الساق، هذان هما الكعبان.
وفي كل قدم كعبان، وهذا الذي أجمع عليه أهل السنة وقالوا: إن الكعبين هما العظمان الناتئان في أسفل الساق عند اتصاله بالقدم، فيجب غسل الرجلين؛ لأن الله قال: {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] القراءة السبعية {أَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفًا على {وُجُوهَكُمْ}، ولّا على {أَيْدِيَكُمْ} ويش أقرب شيء لها؟
طالب: {أَيْدِيَكُمْ}.
الشيخ: {أَيْدِيَكُمْ} أقرب مغسول لها {أَيْدِيَكُمْ} لكن العطف لا يكون على المعطوف، بل هو على المعطوف عليه الأول، {أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، وهذا واضح أنه يجب غسل الرجلين، فإن قلت: ماذا تصنع في قراءة سبعية أخرى لا تقِل ثبوتًا عن قراءة النصب {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} بالكسر؟ فالجواب على ذلك أن قوله: {وَأَرْجُلِكُمْ} بالجر لها ثلاثة أوجه في تخريجها:
(1/256)
________________________________________
الوجه الأول: أن جرها على سبيل المجاورة، بمعنى أن الشيء يتبع ما جاوره لفظًا، لا حكمًا، والمجاور لها هي {رُؤُوسِكُمْ} مجرورة، فتجر؛ لأن جارها مجرور، والجار إذا شبع ما يبقى جاره جائعًا، أليس كذلك؟ إذا جر ما يدع جاره ما يجر، يجرروه معه علشان يعينه في هذا، قالوا: ومنه قول العرب: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ. فكلمة (خرِبٍ) صفة لجُحر ولّا لضب؟
طلبة: لجحر.
الشيخ: وجحر مرفوعة ولّا مكسورة: هذا جحر ضب خرب. فهمت؟ هي صفة لجحر، وكان مقتضى القواعد أن يقال: هذا جحرُ ضبٍّ خربٌ؛ لأنه صفة لجحر، وصفة المرفوع مرفوعة، لكن العرب نطقت به: خربٍ، كيف؟ قالوا: على سبيل المجاورة؛ لأنه لما جاور المجرور جر مثله، فهذه لما جاورت المجرور عطفت عليه مجرورة تبعًا له في اللفظ مع مخالفتها له في الحكم، هذا وجه.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قال: {وأَرْجُلَكُمْ} بالنصب، فدل ذلك على أنه يجب أن تغسل الرجل، بمقتضى هذه القراءة {وَأَرْجُلِكُمْ} بالجر معناه اجعلوا غسلكم إياها كالمسح، لا يكون غسلًا تتعبون به أنفسكم؛ لأن الإنسان فيما جرت به العادة قد يكثر من غسل الرجل ودلكها، حيث إنها التي تباشر الأذى، فكان مقتضى العادة أن يزيد في غسلها، فقال الله تعالى: {وَأَرْجُلِكُمْ} حتى إذا اجتمع غسل ومسح لا يبالغ في الغسل ليقابل ذلك ما تقتضيه العادة من المبالغة في الغسل، فيقصد بالجر الذي يظهر أن المراد به المسح كسر ما يعتاده الناس من المبالغة في غسل الرجل؛ لأنها التي تلاقي الأذى، هذا وجه آخر.
والوجه الثالث يقولون: إن القراءتين تنزل كل واحدة منهما على حال من أحوال الرجل، وتبين ذلك السنة فالرجل لها حالان: حال تكون فيها مكشوفةً، وحال تكون فيها مستورةً بالخف، فإذا كانت مكشوفة فالواجب غسلها، وإذا كانت مستورةً بالخف فالواجب مسحها، فتتنزل القراءتان على حالي الرجل، وتبين ذلك السنة.
(1/257)
________________________________________
وهذا القول أصح الأوجه وأقلها تكلفًا، وهو متمشٍّ على القواعد، وعلى ما يعرف من كتاب الله عز وجل، حيث تنزل كل قراءة على معنى يناسبها، ويلتقي المعنيان إما في حالين أو ما أشبه ذلك.
فالصواب إذن أن قراءة الجر محمولة على ما إذا كانت الرجل ممسوحة، ولا تمسح الرجل إلا إذا كانت مستورة. وقراءة النصب تحمل على ما إذا كانت الرجل مكشوفة، وحينئذ يجب غسلها. وهذا أحسن الأوجه وأصحها، وعلى هذا فيكون في الآية دليل على جواز المسح على الخفين.
وذهبت الرافضة -أذلهم الله- إلى خلاف أهل السنة في هذا العضو من ثلاثة أوجه:
قالوا: المراد بالكعبين العظمان الناتئان على ظهر القدم بين الساق والإبهام، قالوا: لأن الله قال: {أَرْجُلِكُم إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، ولو كان المراد بالكعبين العظمين الناتئين في أسفل الساق لقال: إلى الكعاب؛ لأنها أربعة. وقالوا: إن الرجل تمسح إلى الكعب، هذا اللي فسروا به، وقالوا أيضًا: إنها ما تغسل، وإنما تمسح مسحًا، أخذوا بقراءة الجر وأهدروا القراءة الثانية. وقالوا أيضًا: إنه لا يجوز المسح على الخفين، مع أنه قد تواترت به الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
طالب: إلى الكعبين ( ... ) والمسح لا يكون إلى الكعبين ( ... ).
الشيخ: إي نعم، تكون السنة بينت هذا، أن المراد بالكعبين إلى طرف الساق.
طالب: ( ... ).
(1/258)
________________________________________
الشيخ: رددنا عليه ( ... ) نادى بصوته «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» (9) الكعبان، تفسيرهم الكعبين بأنهما العظمان الناتئان على ظهر القدم هذا خلاف ما تقتضيه اللغة، واللغة معروفة مشهورة بأن الكعبين هما العظمان الناتئان في أسفل الساق، والقرآن نزل باللغة العربية، وأما التثنية لأن في كل رجل كعبين، بخلاف المرافق، قال: اغسلوا أيديكم إلى المرافق؛ لأن في كل يد مرفقًا واحدًا، وأما الرد عليهم بالمسح فسيأتينا إن شاء الله تعالى في باب المسح على الخفين؛ أن المسح على الخفين مما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ويغسل الأقطع بقية المفروض) يغسل الأقطع من الرجلين أو من اليدين أو من الوجه؟
طالب: من اليدين.
الشيخ: من اليدين أو الرجلين. نشوف كلام المؤلف ماذا يريد؟
قال: (فإن قطع من المفصل غسل رأس العضد منه) هذا المفرع يدل على أنه يريد بالأقطع هنا أقطع اليدين.
يقول المؤلف: إن الأقطع يغسل بقية المفروض، ولا يأخذ عما زاد عن الفرض في مقابل المقطوع؛ لأنه ليس محلًّا للفرض، فإذا قُدر أنه قطع من نصف الذراع لا يقول: أرتفع إلى العضد بمقدار نصف الذراع؛ لأن العضد ليس محلًّا للغسل، وإنما يغسل بقية المفروض؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وهذا الرجل اتقى الله ما استطاع، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (10)، ولما قطع بعض العضو سقط فرضه؛ ولهذا يقول: (بقية المفروض).
(1/259)
________________________________________
(فإن قطع من المفصل غسل رأس العضد منه) إذا قطع من مفصل المرفق يغسل رأس العضد؛ لأن رأس العضد مع المرفق في موازنة واحدة، وقد سبق أنه يجب غسل اليدين مع المرفقين، فالآن رأس العضد داخل في المرفق، فيجب أن يغسل رأس العضد وجوبًا؛ لأنه مما يجب تطهيره وغسله، فإذا قطع من المفصل غسل رأس العضد، وإن قطع من فوق العضد يعني من فوق المفصل فإنه لا يجب عليه غسل العضد. وهكذا نقول فيما إذا قطعت الرجل إن قطع بعض القدم غسل ما بقي، وإن قطع من مفصل العقب غسل طرف الساق لأنه منه، وهكذا نقول في الأذن لو قُطعت بعض أذنه مسح الباقي، فإن قطعت كلها سقط المسح.
قال: (ثم يرفع نظره إلى السماء ويقول ما ورد)
طالب: ما يمسح مكانها يا شيخ؟
الشيخ: لا، ما يمسح مكانها، اللهم إلا الصماخ، الصماخ ربما نقول: يجب عليه أن يدخل أصبعه فيه؛ لأنه باق.
(ثم يرفع نظره إلى السماء) وهذا ليس بواجب، ولكنه سنة إن صح الحديث ( ... ).
بمن هو مجهول، والمجهول كما تعلمون لا يعلم عن حاله: هل هو عدل، أو حافظ، أو ليس بعدل ولا حافظ، فإذا كان في السند من هو مجهول فإنه يحكم بضعف الحديث.
ولكن الفقهاء -رحمهم الله- قالوا: إنه يرفع النظر بناء على هذا الحديث. وبناء على تعليل آخر وهو: أنه يرفع نظره إلى السماء إشارةً إلى علو الله سبحانه وتعالى.
(ويقول ما ورد) ومما ورد حديث عمر رضي الله عنه المشهور: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ، فَإِنَّ مَنْ أَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الذِّكْرَ؛ تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» (11).
(1/260)
________________________________________
وناسب أن يقول هذا الذكر بعد الوضوء لأن الوضوء تطهير، وهذا الذكر تطهير للقلب؛ لأن فيه الإخلاص لله عز وجل: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».
وفيه أيضا الجمع بين سؤال الله عز وجل أن يكون الإنسان من التوابين الذين طهروا قلوبهم، ومن المتطهرين الذين طهروا أبدانهم، ولهذا يقول: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ».
طالب: هل يرفع سبابته عند التشهد ويستقبل القبلة؟
الشيخ: لا.
الطالب: لم يرد هذا؟
الشيخ: لم يرد هذا نعم.
طالب: شيخ ( ... ).
الشيخ: ما تقولون في هذا؟ هل يقول هذا الذكر عند التيمم وعند الغسل أو لا يقول؟
طالب: ما يقول.
الشيخ: وقال بعض أهل العلم: إنه يقول ذلك لأن المعنى يقتضيه، أما الغسل فقالوا: إن الغسل مشتمل على الوضوء وزيادة، فإن من صفات الغسل المسنون أن يتوضأ الإنسان قبله، وأما التيمم فلأنه بدل عنه، وقد قال الله تعالى بعد التيمم: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] فكان مناسبًا.
ويرى بعض أهل العلم: إنه يقتصر على ما ورد في الوضوء فقط.
والغسل أقرب من التيمم، يعني قوله بعد الغسل أقرب من قوله بعد التيمم؛ لأن المغتسل يصدق عليه أنه متوضئ.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، يعني دعاء لكل عضو، لا، ما فيه.
طالب: شيخ، هل يرفع اليدين.
الشيخ: ظاهر كلام الفقهاء أنه لا يرفع يديه، وهذه المسألة تقدم لنا فيها البحث هل الأصل رفع اليدين في الدعاء، أو الأصل عدم الرفع، أو الأصل الرفع إلا في مقام يذكر فيه الدعاء ولا يذكر فيه الرفع، يعني فإذا ذكر الدعاء ولم يذكر الرفع دل على عدم مشروعيته.
طالب: قراءة القرآن ( ... ).
الشيخ: قراءة القرآن لا ينبغي وهو يتوضأ؛ لأن من اشتغل بعبادة ينبغي أن يكون قلبه مشتغلًا بها، وكذلك أيضًا إجابة المؤذن الأفضل ألا يجيب، وإن أجاب المؤذن فلا حرج؛ لأنه ذكر يفوت بفواته، أما القرآن فإنه لا يفوت، يقرأ بعد الوضوء.
(1/261)
________________________________________
طالب: غسل الرجلين بدون دلك ولا تخليل أصابع، يجزئ؟
الشيخ: إي نعم، لكن سبق لنا أن تخليل الأصابع سنة، وأنه في الرجلين أوكد، وأما ( ... ) فيجزئ ما دام أن يعرف يقينًا أو ظنًَّا بأن الماء وصل إلى ما بين الأصابع، يكفي.
طالب: شيخ ( ... ) بعض الأحاديث؟
الشيخ: إي نعم؛ لأنه بدله.
الطالب: ( ... ).
الشيخ: أقول: لأنه بدله.
الطالب: ما نقول: الدعاء؟
الشيخ: لا ما هو بالظاهر؛ لأن حديث عمر: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ» (11) فظاهر هذا الحديث إن لم يكن صريحًا أنه وضوء بالماء.
طالب: ( ... ) يا شيخ؟
الشيخ: ما أدري، أنا أتوقف في هذا، ولكن لو قاله بعد الغسل أرجح أنه يقوله بعد الغسل.
قال: (وتباح معونته وتنشيف أعضائه)، (تباح معونته) أي: معونة المتوضئ، بتقريب الماء إليه، بل وبصبه عليه وهو يتوضأ، وما هو الدليل للإباحة؟
نقول: إن القول بالإباحة لا يحتاج إلى دليل؛ لأنه الأصل.
ولكن مع ذلك نقول: إن الدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعاون في الوضوء، مثل معاونة المغيرة بن شعبة له، حيث كان النبي عليه الصلاة والسلام يتوضأ وهو يصب عليه وَضوءه (12).
فإن قلت: ألا يكون هذا مشروعًا ومسنونًا؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى، بمعنى أنك لا تقتصر على الإباحة قل: إنه مشروع؟
فالجواب أن نقول: هو لا شك أنه من باب التعاون على البر والتقوى، لكن هذه عبادة ينبغي للإنسان أن يباشرها بنفسه هو بنفسه، ولم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كلما أراد أن يتوضأ يطلب من يعينه فيه، فالإباحة مستوية الطرفين.
وقال بعض أهل العلم: إنها تكره معونة المتوضئ إلا إذا احتاج إلى ذلك، وعللوا هذا بأنها عبادة، ولا ينبغي للإنسان أن يستعين غيره بها، لكن المذهب أصح أنه مباح.
(1/262)
________________________________________
قال: (وتنشيف أعضائه)، تنشيفها يعني تيبيسها وتجفيفها. الدليل: عدم الدليل، كيف عدم الدليل؟ هل واحد يطلب منه الدليل يقول: الدليل عدم الدليل؟ نعم، الدليل عدم الدليل على المنع؛ لأن الأصل الإباحة، فيجوز أن ينشف الإنسان أعضاءه.
فإن قلت: كيف تجيب عن حديث ميمونة حين ذكرت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اغتسل، قالت: فأتيته بالمنديل فردها وجعل يَنْفُضُ الماء بيده (13)؟
طالب: ( ... )؟
الشيخ: بالمنديل.
طالب: نجيب عنه أنه إما لسبب في المنديل، كعدم نظافته، أو لكونه رغب في تلك الحال أن يبرد أعضاءه مثلًا بالماء، وهذا فعل، مجرد فعل.
الشيخ: نقول: نعم هذه قضية عين تحتمل عدة أمور؛ إما أنه لسبب في المنديل، إما لعدم نظافته، أو يخاف أن يبله بالماء، وبلله بالماء غير مناسب، أو ما أشبه ذلك. المهم فيه احتمالات، ولكن إتيانها إياه بالمنديل قد يكون دليلًا أن من عادته أن ينشف، وإلا لما جاءت به.
وعلى كل حال فالصحيح ما قاله المؤلف؛ أن تنشيف الأعضاء لا بأس به؛ لأن الأصل عدم المنع والإباحة. وقد مر علينا عدة مرات أن الأصل فيما عدا العبادات من العقود والأفعال الأصل فيها الحل والإباحة حتى يقوم دليل على المنع.
طالب: ( ... ).
الشيخ: المهم ما علينا منه نقول: ما نحتاج إلى دليل على الجواز. ( ... ) نقول: من منع فعليه الدليل، فسواء صح هذا الحديث أو حسن أو ضعف ما علينا منه.
طالب: ( ... ).
الشيخ: ما هو صحيح.
طالب: ألا يجب يا شيخ في بعض الأحوال تنشيفها ( ... )؟
الشيخ: لا قد يجب إذا خاف الضرر الإنسان، أما إذا لم يخف ما يجب.
طالب: يا شيخ، نفض اليدين ما يعتبر تنشيفًا؟
الشيخ: لا، ما هو تنشيف كامل، لكن إزالة الماء بلا شك، يَنْفُضُ الماء بيده (14) يعني يسلتها هكذا، لا شك أنه نوع من التنشيف، لكن ما هو بالتنشيف المقصود التنشيف ينشف مرة يجف، وهذا ما يجعل الجلد يجف نهائيًّا.
[باب مسح الخفين]
ثم قال المؤلف: (باب المسح على الخفين).
(1/263)
________________________________________
أتى به المؤلف بعد صفة الوضوء لأنه حكم يتعلق بأحد أعضاء الوضوء، ولهذا جاء به، وذكر المؤلف في هذا الباب المسح على العمامة، والمسح على الخمار، والمسح على الجبيرة، فكان هذا الباب مشتملًا على أربعة مواضيع: المسح على الخفين وعلى العمامة والخمار والجبيرة.
والخفان: ما يلبس على الرجل من الجلود، ويلحق بهما ما يلبس عليها من الكتان والصوف وشبههما، فهو عام لكل ما يلبس على الرجل مما تستفيد منه بالتسخين، ولهذا بعث النبي عليه الصلاة والسلام سرية فأمرهم أن يمسحوا على التساخين (15). التساخين يعني الخفاف، وسميت تساخين لأنها تسخن الرجل. المسح على الخفين جائز باتفاق أهل السنة.
وخالف في ذلك الرافضة؛ ولهذا ذكره بعض أهل العلم في كتب العقيدة؛ المسح على الخفين؛ لأنه خالف فيها أهل البدع وصار شعارًا لهم، وهو جائز بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة.
أما الكتاب ففي قوله تعالى: {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ} على قراءة الجر {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. وأما في السنة فقد تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنشدوا في ذلك:
قال الإمام أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحكم يثبت فيه أربعون حديثًا، بل أربعة أحاديث لا يبقي في النفس شيئًا من الشك، ولهذا قال: ليس في قلبي من المسح شيء، يعني: ما فيه أدنى شبهة عندي للجواز.
المؤلف يقول: (يجوز لمقيم).
(يجوز) فعبر بكلمة يجوز، وهل الجواز منصب على بيان المدة أو على بيان الحكم؟
(1/264)
________________________________________
إن كان على بيان المدة فلا إشكال فيه، يعني أن الجواز متعلق بهذه المدة، وإن كان منصبًّا على بيان الحكم فقد يكون فيه إشكال، وهو أن المسح على الخفين للابسهما سنة، ما نقول: إنه جائز. نقول: إنه سنة، وخلعهما ليغسل الرجل بدعة، خلاف السنة.
فإذا كان التعبير بالجواز منصبًّا على الحكم من حيث هو ففيه هذا الإشكال، ولكن يمكن أن يجاب عنه فيقال: إن المؤلف عبر بالجواز دفعًا لقول من يقول بالمنع، وهذا لا ينافي أن يكون مشروعًا.
والعلماء دائمًا يعبرون بمثل ذلك في مقابلة من يقول بالمنع، وإن كان الحكم عندهم ليس مقصورًا على الجواز، بل هو إما واجب أو مستحب.
ونضرب مثلًا لذلك غير هذا الذي نحن فيه، تعبير بعضهم حيث قال: ولمن أحرم بحج مفردًا ولم يسق الهدي أن يفسخه لعمرة ليكون متمتعًا، فالتعبير باللام الدالة على الجواز في مقابل من منع ذلك؛ لأن بعض أهل العلم يقول: لا يجوز فسخ الحج القارن أو المفرد إلى عمرة ليصير متمتعًا وإن هذا حرام، وهو من إبطال العمل. والبحث فيه إن شاء الله يأتي في محله. الكلام على أن العلماء قد يعبرون بلفظ الإباحة لدفع قول من يقول بالمنع.
قال: (يجوز لمقيم يومًا وليلةً ولمسافر ثلاثة أيام).
(لمقيم) كلمة (مقيم) تشمل المستوطن والمقيم؛ لأن الفقهاء رحمهم الله يرون أن الناس لهم ثلاث حالات: إقامة، واستيطان، وسفر. ويفرقون في أحكام هذه الأحوال. ولكن الصحيح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه ما فيه إلا إما استيطان وإما سفر، وإن إقامة لا توجد لا في الكتاب ولا في السنة.
والإقامة عند الفقهاء: كل مسافر أقام إقامةً تمنع القصر فإنه يسمى مقيمًا، ولا يسمى مستوطنًا، يسمى مقيمًا، فلا تنعقد به الجمعة، ولا تجب عليه بنفسه، ولا يكون إمامًا فيها ولا خطيبًا، حتى لو سيقيم سنتين أو ثلاثة، فإنه لا تجب عليه الجمعة بنفسه، ولا يصح أن يكون إمامًا فيها ولا خطيبًا، والمستوطن اللي اتخذ هذا البلد وطنًا له.
(1/265)
________________________________________
فكلمة (مقيم) عند المؤلف يشمل المقيم المستوطن وغير المستوطن، ومراده بالمقيم من كان مسافرًا فأقام إقامة تمنع القصر. حكم هذا المقيم في المسح على الخفين كحكم المستوطن، كما أن حكمه كحكم المستوطن في وجوب إتمام الصلاة، وفي تحريم الفطر في رمضان، لكن ليس هو كالمستوطن في مسألة الجمعة، فلا تجب عليه بنفسه، ولا يؤم فيها ولا يخطب فيها.
قال: (يومًا وليلة) الدليل: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن. أخرجه مسلم (16). وهذا نص صريح بين مفصل.
قال: (وللمسافر ثلاثة بلياليها)، قوله: (وللمسافر) إن نظرنا إلى إطلاقه كان شاملًا للمسافر القصير والطويل؛ لأن السفر قصير وطويل، وشاملًا لسفر القصر ولغيره؛ لأن هناك سفرًا طويلًا، لكنه لا يقصر فيه، مثل السفر المحرم، أو المكروه على المذهب، لو سافر إنسان إلى بلد ليشرب المسكر والعياذ بالله أو ليستمتع بالبغايا.
هذا السفر محرم لا تستباح به الرخص، فيمسح ثلاثة أيام، ولّا يوم وليلة؟ أما ظاهر كلام المصنف فيمسح ثلاثة أيام؛ لأنه قال: (لمسافر)، لكن المذهب يقيدون المسافر هنا بالذي يحل له القصر، بمسافر يقصر (ثلاثةً بلياليها من حدث بعد لبس على طاهر) إلى آخره.
قوله: (من حدث)، (من) هذه للابتداء، يعني أن ابتداء المدة سواء كانت يومًا وليلة أم ثلاثة أيام، ابتداؤها من الحدث بعد اللبس، هذا هو المذهب، يجعلون الابتداء من الحدث؛ لأن الحدث هو سبب وجوب الوضوء، فعلق الحكم به، وإلا فإن المسح لا يتحقق إلا متى يتحقق المسح؟
طلبة: في أول مرة يمسح.
الشيخ: في أول مرة يمسح، لكنهم يقولون: لما كان الحدث سببًا للوضوء أنيط الحكم به، ونظير هذا قولهم في بيع الثمار: إنه إذا باع نخلًا تشقق طلعه فالثمر لمن؟
طالب: للبائع.
(1/266)
________________________________________
الشيخ: للبائع، مع أن الحديث: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ» (17)، لكن هم قالوا: إن التشقق سبب للتأبير، فأنيط الحكم به. عندنا (من حدث) الذي يلبس الخف له ثلاث حالات: حال اللبس، وحال الحدث، وحال المسح.
أما حال اللبس فلا تعتبر، يعني لا تبتدئ المدة من اللبس قولًا واحدًا في المذهب. بقي عندنا الحدث أو المسح، المذهب أنه يبتدئ من الحدث، والقول الثاني: أنه يبتدئ من المسح؛ لأن الأحاديث: «يَمْسَح الْمُقِيمُ»، «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ» (18)، ولا يمكن أن يصدق عليه أنه ماسح إلا بفعل المسح، ولهذا الصحيح أن ابتداء المدة من المسح بعد الحدث، وليس من الحدث.
ويدل لذلك أن الفقهاء أنفسهم -رحمهم الله- قالوا: لو أن رجلًا لبس الخفين وهو مقيم، ثم أحدث، ثم سافر، ومسح في السفر أول مرة، قالو: إنه يتم مسح مسافر، ثلاثة أيام. وهذا يدل على أنهم اعتبروا ابتداء المدة منين؟ من المسح، وهو ظاهر. فالصواب أن العبرة بالمسح وليس بالحدث، بالمسح بعد الحدث.
فيتضح ذلك بالمثال: رجل توضأ لصلاة الفجر فلبس الخفين، وبقي على طهارته إلى الساعة التاسعة ضحى، ثم أحدث ولم يتوضأ، وتوضأ في الساعة الثانية عشرة، فالمذهب: تبتدئ المدة من الساعة التاسعة.
والقول الصحيح: تبتدئ المدة من الساعة الثانية عشرة إلى أن يأتي دورها من اليوم الثاني إن كان مقيمًا، أو من اليوم؟
طالب: الرابع.
الشيخ: الثالث.
الطالب: الرابع.
الشيخ: لا، دورها من اليوم الثالث.
الطالب: ثلاثة أيام ( ... ).
الشيخ: طيب، نشوف. الدور من اليوم الأول يكمل يوم، والدور من اليوم الثاني ..
الطالب: إلى، من اليوم الأول إلى ثاني يوم.
الشيخ: يوم، ومن الثاني إلى الثالث؟
الطالب: يومان.
الشيخ: يومان، ومن الثالث إلى الرابع؟ ثلاثة. إذن في الرابع، تكون في الرابع، كم من ساعة؟
طالب: اثنتان وسبعون ساعة.
الشيخ: اثنتان وسبعون ساعةً، وأما المقيم فأربع وعشرون ساعةً.
(1/267)
________________________________________
عند العامة التوقيت بالصلوات، والمدة خمس صلوات، وهذا غير صحيح؛ لأن الإنسان ربما يصلي أكثر من ذلك وهو مقيم يمكن يصلى عشر صلوات أو أكثر أو ما يمكن؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: وهو مقيم؟ يمكن يصلي عشر صلوات أو أكثر.
طالب: قضاء.
الشيخ: لا، في أوقاتها، الآن مثلًا رجل لبس الخفين لصلاة الفجر، وبقي على طهارته إلى أن صلى العشاء، راح يوم كامل ما يحسب عليه؛ صلى الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء.
طيب من بكرة مسح لصلاة الفجر متى يبتدي؟ من صلاة الفجر إلى اليوم الثالث من صلاة الفجر، مسح لصلاة الفجر من اليوم الثالث وبقي على طهارته إلى صلاة العشاء، كم صلى؟ خمس عشرة صلاة وهو مقيم، هم يقولون: خمس صلوات، ما هو بصحيح.
طالب: شيخ، ( ... ) خمس صلوات ( ... ) العشاء ( ... ).
طالب آخر: ( ... ) المسح.
الشيخ: ما يخالف، حتى من الحدث ( ... ) من بكرة عشر صلوات حتى لو قلنا: من الحدث.
طالب: طيب لو أنه مسح من الفجر.
الشيخ: ما مسح الفجر توضأ الفجر ولبس.
طالب: قلنا: إنه لم يمسح من الفجر ( ... ) قلنا: إنه ابتدأ من الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء هذا يعني ( ... ).
الشيخ: لا هم لو قالوا: خمس صلوات من المسح كان ربما تكون المسألة معقولة، لكن يقولون: خمس صلوات من يوم تلبس.
طالب: ( ... ).
الشيخ: حتى هذه ربما تزيد، على كل حال المدة يوم وليلة ابتداء من المسح على القول الراجح الذي اختاره شيخ الإسلام وجماعة من أهل العلم، أو من أول حدث بعد اللبس على المشهور من مذهب الإمام أحمد.
طالب: لو أن رجلًا مسافرًا ( ... ) ثم مسح ( ... ) يعني هل يحسب ولم ينتقض الوضوء إلا بالعشاء لكنه مسح ( ... )؟
الشيخ: ما رأيكم في هذا؟ هذا رجل يقول: مسح تجديدًا، ما هو عن حدث، هل يبتدئ من المسح أو لا يعتبر؟
طالب: من المسح.
(1/268)
________________________________________
الشيخ: طيب، ما يخالف؛ إن نظرنا إلى ظاهر الحديث اعتبر من المسح، وإن نظرنا إلى أن هذا المسح لم يؤثر، ولهذا لو خلعها بعد ثم أعادها ما يضر، وقد حكي إجماعًا بأنه من المسح بعد الحدث، يعني لا بد يتقدم الحدث؛ لأن المسح الذي قبل الحدث لم يؤثر، ما رفع حدثًا حتى نقول: إنه مؤثر.
طالب: بالنسبة للمسافر، قلت: إنه لو سافر، يعني سفر الطاعة وسفر المعصية، وهما كلاهما سفر، فما دليل التفريق؟
الشيخ: إي نعم، المذهب يقولون: إن العلة أن القصر أو المسح رخصة، والرخصة لا ينبغي أن تناط بالمعصية؛ إذ إن العاصي لا يناسبه أن يرخص له، بل المناسب له أن يشدد عليه، واستندوا مع التعليل إلى قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
يعني: فلا إثم عليه في أكل الميتة، قالوا: فلم يبح الله عز وجل أكل الميتة للمضطر إلا إذا كان غير باغٍ ولا عاد، بناء على أن معنى {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} أي باغ على الإمام ولا معتد في سفره.
والمسألة خلافية، والصحيح أن معنى {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} أي غير باغ للأكل طالب له {وَلَا عَادٍ} معتد في أكله أكثر مما يضطر إليه، بدليل آية المائدة {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3].
فهم هذا حجتهم، والمسألة يعني البحث فيها وتحقيقه يأتي إن شاء الله في باب قصر المسافر؛ لأن مذهب أبي حنيفة شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم يقول: لا فرق بين سفر الطاعة وسفر المعصية؛ لأن العمومات ما فيها تفصيل، فالمسافر سفر طاعة أو سفر معصية أو سفرًا لا طاعة فيه ولا معصية، كل منهم يترخص برخص السفر.
طالب: طيب يا شيخ ( ... ) الذي سافر بقصد الفطر في رمضان؟
الشيخ: لا، اللي سافر بقصد الفطر لا يفطر لكنه يقصر على رأيهم.
طالب: ( ... ).
الشيخ: نعم، لكن قلت لك: إن الإجماع على خلافه، ولولا الإجماع كان نأخذ بظاهر الحديث.
(1/269)
________________________________________
قال: (من حدث بعد لبس على طاهر) انتبه للشرط الأول، يعني شرط الجواز المسح على الخفين أن يكون في المدة المحددة، من شروط المسح على الخفين أن يكون في المدة المحددة، وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، ثانيًا أن يكون على طاهر، والطاهر ضد النجس والمتنجس: النجس نجس العين، كما لو كانت الخفان من جلد حمار، فهو نجس العين أو متنجس؛ كما لو كانت من جلد بعير، لكنه أصابته نجاسة، إلا أن المتنجس إذا طهر يجوز المسح عليه، لكن ما دام على نجاسته ما يمكن؛ لأنه لا يمكن تصلى بشيء متنجس.
طيب فهل يدخل في ذلك الأشاعرة، وإذا قيل: أهل سنة ورافضة دخل فيهم الأشاعرة، فيريدون بأهل السنة إذا قرن بالرافضة ما عدا الرافضة من الفرق الإسلامية حتى الأشاعرة، ولكن الصحيح أن الأشاعرة من حيث مذهب السلف ليسوا من أهل السنة والجماعة؛ لأن طريقتهم مخالفة لطريقة السلف، وإن كان بعض العلماء قال: إن أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: السلفية والأشعرية والماتُرِيدِيَّة، وقد ذهب إلى ذلك السفاريني في شرحه لنظمه، لكن هذا غير صحيح، وهو في الحقيقة متناقض مع قوله لما ذكر أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، قال:
فهذا شبه تناقض بين المتن وبين الشرح، لكن الصواب أن أهل السنة والجماعة لا ينطبق إلا على السلفية الأثرية، وأما الأشعرية والماتريدية فليسوا من أهل السنة والجماعة على الإطلاق، وإن كان فيهم أشياء كثيرة يوافقون أهل السنة والجماعة فيها.
إذن ما حكم المسح لو فطر ويباح له القصر ولّا لا ما ذكرنا هذا؟ وقلنا: لو أن أحدًا سافر سفرًا محرمًا فإنه يمسح، كم؟
طالب: مسح مقيم.
(1/270)
________________________________________
الشيخ: مسح مقيم، يوم وليلة، العاصي بسفره يمسح يومًا وليلة فقط، مثل أن يذهب إنسان إلى الخارج لفعل الفاحشة والعياذ بالله، أو لشرب الخمر، هذا عاص بسفره، ما يترخص برخص السفر، هذا قول جمهور أهل العلم، ومذهب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية أنه يترخص برخص السفر، ولو كان السفر محرمًا، قالوا: لعموم الأدلة، وهو يكون آثمًا، ولكن رخص السفر ثابتة في حقه، ولكن هذا بخلاف العاصي في سفره، شوف اللغة العربية لها شأن عظيم: (بسفره) و (في سفره) بينهما فرق؟
طالب: إي فيه فرق.
الشيخ: ويش الفرق؟
طالب: الظاهر بسفره نوى منذ أراد السفر المعصية، لكن في سفره يعني أثناء طريقه ارتكب المعصية.
الشيخ: إي، يعني العاصي بسفره الذي قصد بسفره المعصية من الأصل، سافر ليعصي الله. وأما العاصي في سفره هو الذي فعل معصية وهو مسافر، مثلًا شارب الدخان إذا سافر هل هو عاص بسفره أو عاص في سفره؟
طلبة: عاص في سفره.
الشيخ: في سفره، كذا عاص في سفره، لكن لو سافر من بلده لأن بلده ما فيها دخان، راح سافر ليشتري دخانًا من بلد آخر؟
طالب: صار عاصيًا بسفره.
الشيخ: صار عاصيًا بسفره، هذا هو الفرق بينهما.
قال: (على طاهر) هذا الشرط الأول، يشترط في الملبوس أن يكون طاهرًا، والطاهر يطلق على طاهر العين، فيخرج به نجس العين، وقد يطلق الطاهر على مالم تصبه نجاسة، كما لو قلت: يجب أن تصلي في ثوب طاهر، أي لم تصبه نجاسة.
والمراد هنا الأول، يعني الطاهر الذي هو خلاف نجس العين، عرفتم؟ لأن من الخفاف ما هو نجس العين، كما لو كان خفًّا من جلد كلب، هذا نجس العين، ومنه ما هو طاهر العين متنجس، يعني: مصاب بنجاسة، كما لو كان الخف من جلد بعير مزكى ولكن أصابته نجاسة. الأول نجاسته نجاسة عين، والثاني نجاسته نجاسة حكمية، ما هي عينية.
(1/271)
________________________________________
فعلى هذا ما المراد بقول المؤلف: (على طاهر) المراد بقوله: (على طاهر) أي: طاهر العين، فخرج به ما كان نجس العين، وعلى هذا فيجوز المسح على الخف المتنجس، لكن لا يستبيح به الصلاة؛ لأنه يشترط في الصلاة أن يكون مجتنبًا للنجاسة، إنما يستبيح به مس المصحف مثلًا؛ لأنه لا يشترط في مس المصحف أن يكون الإنسان متطهرًا من النجاسة، وإنما يشترط أن يكون متطهرًا من الحدث فقط، هذا واحد، ما رأيكم لو اتخذ الإنسان خفًّا من جلد ميتة مدبوغ؟
إن قلنا بأن الدبغ يطهره جاز المسح عليه، وإن قلنا بأنه لا يطهر كما هو المذهب فإنه لا يجوز المسح عليه.
(مباح) ما هو الدليل على اشتراط الطهارة؛ لأن المسح على نجس العين لا يزيده إلا تلويثًا، بل إن اليد إذا باشرت هذا النجس وهي رطبة مبلولة تنجست، وربما يؤخذ من قول النبي عليه الصلاة والسلام: «فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» (19). لكن معنى الحديث أدخلتهما -أي: القدمين- طاهرتين، كما يفسره بعض الألفاظ.
(مباح) احترازًا من المحرم، والمحرم نوعان: محرم لكسبه ومحرم لعينه، وكلاهما لا يصح المسح عليه، فالمحرم لكسبه كالمغصوب، والمسروق لا يجوز المسح عليه، كما لو أخذ من إنسان خفه قهرًا، هذا يسمى غصبًا أو سرقة خفية يسمى سرقة ولا يجوز المسح عليه.
وأما المحرم لعينه فمثل الحرير للرجل، لو أن الرجل اتخذ شرابًا من حرير لكان ذلك حرامًا عليه، وكذلك لو اتخذ شرابًا فيها صور؟
طلبة: حرام.
الشيخ: كذلك ما نقول: إن هذا من باب ما يمتهن، لا ما نقول؛ لأن هذا من باب اللباس، ولباس ما فيه الصورة حرام بكل حال، فلو كان على الشراب مثلًا صورة أسد أو ما أشبه ذلك أو كانت الشرابة من شعار أحد الأندية، وكان فيها صورة لاعب كرة، فلا يجوز المسح عليه؛ لأن لبس ما فيه صورة حرام، طيب ما هو الدليل أو التعليل؟
(1/272)
________________________________________
أما الدليل فلا نعلم لذلك دليلًا بينًا، وأما التعليل فظاهر؛ لأن المسح على الخفين رخصة، فلا تستباح بالمعصية؛ فالمسح على الخفين رخصة من الله وتسهيل، فكيف تستبيح هذه الرخصة بمعصية الله، ولأن القول بجواز المسح على ما كان محرمًا مقتضاه إقرار حال الإنسان على أيش؟ على لبس محرم، والمحرم يجب إنكاره، فصار التعليل إذن مركبًا من أمرين:
الأمر الأول: أن المسح على الخفين رخصة، فلا تستباح به المعصية.
والثاني: أن القول بجواز المسح على الخف المحرم مقتضاه إقرار اللابس على المعصية، وهذا لا يمكن، بل المعصية أو الشيء المحرم يجب إنكاره وإزالته فورًا، وربما نقول بالقياس على بطلان صلاة المسبل -إذا صح به الحديث- فإن المسبل إنما تبطل صلاته لأنه لبس ثوبًا محرمًا، فإذا كانت الصلاة فاسدة بلباس الثوب المحرم؛ فإن المسح أيضًا يكون باطلا فاسدًا بلباس الخف المحرم.
على كل حال يشترط في الخف أن يكون مباحًا، وقلنا: إن ضده المحرم، وهو نوعان: محرم لكسبه ومحرم لعينه.
طالب: ( ... ) طاهرًا من النجاسة ( ... ) بجامع أن الخف والنعل ( ... )؟
الشيخ: إي، هذا بالنسبة للصلاة، لكن قد نقول: امسح عليه، لكن لا تصلِّ فيها.
طالب: يعني الصلاة في الشراب أمر يأثم عليه ..
الشيخ: أيش؟
الطالب: هذه من جعل الصورة في الشراب أو مسبل يأثم على هذا الفعل، لكن الصلاة صحيحة ( ... )؟
الشيخ: على كل حال إذا صح الحديث وجب القول بموجبه، إذا صح حديث أنه لا يقبل صلاة مسبل، وأما الذي فيه صورة فلأنه محرم.
طالب: هو آثم يا شيخ.
الشيخ: كيف نقره على محرم؟
الطالب: آثم على الصورة، أما الصلاة يعني ..
الشيخ: لا أصلًا ما نصحح الوضوء، أصل الوضوء ما هو بصحيح؛ لأنه مسح على شيء محرم، أما الصلاة فستأتينا إن شاء الله تعالى؛ هل يشترط في الساتر أن يكون مباحًا، يأتينا إن شاء الله في شروط الصلاة.
طالب: ( ... ) مباحات؟
الشيخ: لا ما أبحناها، قلنا: الجمهور على عدم الإباحة.
(1/273)
________________________________________
طالب: إحنا اخترنا رأي أبي حنيفة.
الشيخ: لا، ما اخترنا ( ... ).
الشرط الثالث (ساتر للمفروض)، ويش معنى (للمفروض)؟ أي: للمفروض غسله من الرجل، يعني يشترط في الخف أن يكون ساترًا للمفروض، أي لما للمفروض غسله من الرجل.
ومعنى (ساتر) ألا يتبين شيء من المفروض من ورائه؛ سواء كان ذلك من أجل صفائه، أو كان ذلك من أجل خفته، أو كان ذلك من أجل خروق فيه.
هذه ثلاثة أشياء، يعني لا يصف البشرة لصفائه، كما لو اتخذ الإنسان جوارب من بلاستيك أو لا؟
ما هو البلاستيك بيصف البشرة؟
طالب: نعم.
طالب آخر: ( ... )؟
الشيخ: بلاستيك يعني من جنس الزجاج ..
يَثْبُتُ بنفسِه من خُفٍّ وجَوْرَبٍ صَفيقٍ ونحوِهما، وعلى عِمامةٍ لرَجُلٍ مُحَنَّكَةٍ أو ذاتِ ذُؤابةٍ وعلى خُمُرِ نساءٍ مُدَارَةٍ تحتَ حُلُوقِهِنَّ في حَدَثٍ أَصْغَرَ، وجَبيرةٍ لم تَتَجاوَزْ قَدْرَ الحاجةِ ولو في أَكبرَ إلى حِلِّها إذا لبِس ذلك بعدَ كمالِ الطهارةِ، ومَن مَسَحَ في سَفَرٍ ثم أقامَ أو عَكَسَ أو شَكَّ في ابتدائِه فمَسْحُ مُقيمٍ، وإن أَحْدَثَ ثم سافرَ قبلَ مَسْحِه فمَسْحُ مسافرٍ، ولا يَمْسَحُ قلانسَ ولفافةً ولا ما يَسْقُطُ من القَدَمِ أو يُرَى منه بعضُه، فإن لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ قبلَ الْحَدَثِ فالحكْمُ للفَوقَانِيِّ،
أنا عندي هذه الظروف اللي يحمل بها الخبز وما أشبه ذلك عندي من البلاستيك.
طلبة: ( ... ).
طالب: البلاستيك قاسٍ.
الشيخ: أنا أريد الآن بقولي: البلاستيك، هو هذا النوع، الظروف اللي تجعل فيها الخبز.
طالب: ( ... ) العموم أو الخصوص.
الشيخ: أنا ما أعرف هذا، على كل حال إن اللي يصف البشرة مثل البلاستيك أو قولوا ما شئتم؛ النايلون.
طالب: ( ... ).
(1/274)
________________________________________
الشيخ: إي نعم، بس ما هو أبيض مثل الزجاج، لكن أنا عدلت للزجاج، وإن كان الفقهاء مثَّلوا به؛ لأن الآن عندنا البلاستيك هذا يُغنِي عنه، ويمكن المشي فيه الزجاج؟ قد لا يمكن المشي فيه، على كل حال هذا لا يجوز المسح عليه؛ لأنه يصف البشرة، ويشترط الستر.
ثانيًا: أن يكون ساترًا للمفروض، بحيث لا يكون خفيفًا؛ وهو الرهيف، فإن كان خفيفًا تُرى من ورائه البشرة لم يصح المسح عليه؛ لأنه ليس ساترًا للمفروض.
الثالث: ألَّا يكون فيه خروق؛ لأنه إذا كان فيه خرق بان من ورائه المفروض، فلا يصح المسح عليه حتى قال بعض أهل العلم -وهو المشهور من المذهب-: لو كان هذا الخرق بمقدار رأس المخراز، فإنه لا يصح المسح عليه.
وهذه المسألة لا بد أن نشوف ما هو الدليل؟ يقولون: الدليل: أما ما كان خفيفًا أو ما كان فيه خروق، فلأن ما تبين فرضه الغسل، والغسل لا يجامع المسح؛ إذ لا يجتمع في عضو واحد غسل ومسْح.
وأما ما يصف البشرة لصفائه، فقالوا: لأنه يشترط الستر، وهذا غير ساتر؛ بدليل أن الإنسان لو صلَّى في ثوب يصف البشرة لصفائه فصلاته غير صحيحة؛ لأنه ما ستر؛ هذا هو التعليل.
وذهب الشافعية إلى أن الذي لا يستر لصفائه يجوز المسح عليه؛ لأن محل الفرض مستور ما يمكن يصل إليه الماء، وكونه يُرى من ورائه البشرة ما هذا عورة يجب سترها حتى نقول: إن الذي يصف البشرة لا يصح المسح عليه.
وليس في السنة، ولا حرف واحد يدل على اشتراط ستر الرجل بالخف أبدًا، فما دام ليس في السنة، وليست الرجل عورة حتى يجب سترها، فإن ما لا يستر لصفائه لا يمنع المسح عليه أو لا يمتنع المسح عليه، وهذا لا شك تعليل جيد من الشافعية.
(1/275)
________________________________________
وقال بعض أهل العلم: إن هذا ليس بشرط، أصل هذا الشرط ساقط، فلا يشترط أن يكون ساترًا للمفروض، واستدلوا لذلك بأن النصوص الواردة في جواز المسح على الخفين مُطلقة، وما ورد مطلقًا فإنه يجب أن يبقى على إطلاقه، وأي أحد من الناس يضيف إليه شرطًا آخر فعليه الدليل، وإلا فيجب أن نُطلق ما أطلقه الله ورسوله، ونُقيد ما قيده الله ورسوله.
ولأن كثيرًا من الصحابة كانوا فقراء، وغالب الفقراء لا تخلو خفافهم من خروق، وإذا كان هذا غالبًا في قوم في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، أو كان كثيرًا وإن لم يكن غالبًا، ولم يُنبِّه عليه الرسول عليه الصلاة والسلام، دل ذلك على أنه ليس بشرط، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ أنه لا يشرط أن يكون ساترًا للمفروض.
أولًا: لأنه لا دليل على ذلك، والنصوص مطلقة؛ فيجب إطلاق ما أطلقه الله ورسوله.
ثانيًا: أن كثيرًا من الصحابة فقراء، وغالب الفقراء تكون خفافهم فيها خروق، ما تخلو من خروق غالبًا، وإذا كان هذا موجودًا في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يُنبِّه عليه؛ دل على أنه ليس بشرط، يبقى علينا الآن الرد على تعليلهم، نقول:
قولكم: إن ما ظهر فرضه الغَسْل فلا يجامع المسْح، هذا مبني على قولكم بأنه لا بد من ستر المفروض، فأنتم استدللتم بالدعوى على المدَّعَى؛ يعني أتيتم بالدليل الذي هو مبني على أيش؟ على اختياركم، كيف تستدلون على المسألة بحكم أنتم بنيتموه على هذا الأمر، فمن يقول: إن ما ظهر فرضه الغسل؟
وهذا الخف جاء على وفق ما أطلقته السُّنة، فإذا جاء على وفق ما أطلقته السنة، فمن يقول: إن ما خرج من القدم ولو بقدر الخرز يكون فرضه الغسل، بل نقول: إن هذا يتبع الخُفّ، ويُمسح عليه.
(1/276)
________________________________________
وأما قولكم: إنه لا يجتمع مسح وغسل في عضو، فهذا منتقض؛ فإذا كانت الجبيرة مثلًا في نصف الذراع، اجتمع فيه مسح وغسل؛ مسح على الجبيرة، وغسل على ما ليس بجبيرة، فعلى فرض أنه لا بد من ستر كل شيء نقول: ما ظهر فيُغسل، وما استتر بالخُفّ فيُمسح كالجبيرة، هذا على تسليم أن ما ظهر فرضه الغسل، ولكننا لا نُسلِّم؛ لأننا نقول: إن قولكم ما ظهر فرضه الغسل مبنيّ على أنه يشترط أن يكون ساترًا للمفروض.
وهذا الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية هو الراجح؛ لأن هذه الأمور ما تسلم غالبًا من أيش؟
طلبة: من خروق.
الشيخ: من الخروق ما تسلم، فإذا كانت لا تسلم، فكيف نلزم الناس ونشق عليهم؟ ! ثم إنه يوجد الآن في عهدنا هذا يوجد شُراب رهيفة جدًّا؛ جوارب رهيفة، ويستعملها كثير من الناس، ويرون أن ذلك مفيد للرِّجل، وقد بَعث النبي عليه الصلاة والسلام سارية، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب، وعلى التَّساخِين (1). التساخين هي الخفاف؛ لأنها يحصل بها تسخين الرِّجل، وتسخين الرِّجل يحصل من مثل هذه الجوارب، إذن صار هذا الشرط محلّ خلاف بين أهل العلم ..
طالب: القاصر يا شيخ؟
الشيخ: القاصر إن عُد خُفًّا فهو خُفّ، مثل: لو كان يظهر الكعب، لكنه يُسمَّى خُفًّا.
طالب: يُمسح عليه ولَّا لا؟
الشيخ: يُمسح عليه نعم.
طالب: يصير الاحتياط في مثل هذا وسوسة؛ يعني لو إنسان احتاط، قال: عندي جوارب، هذا ليس فيها خرق، فأمسح على التي ليس فيها الخرق، وأترك المخروق أو أتقصد المخروق؛ لأنه يسير.
الشيخ: أقول: حسب ما يظهر من الأدلة؛ إن كان الرجحان عنده بينًا فلا حاجة للاحتياط، وإن كان الرجحان عنده يسيرًا فالاحتياط أوْلَى بلا شك.
طالب: ( ... ).
(1/277)
________________________________________
الشيخ: لا، أنا ما ألبس الجوارب ولا الخِفاف إلا نادرًا، إلا تشققت رجلي، مرة لبستها وإلَّا ما ألبسها، ترى لاحظوا ما هو عدول عن السنة، لا والله، لكن علشان ( ... ) بالمسح، وربما ينسى الواحد، ويمضي الوقت ما دري عنه، ولا سيما أن الواحد بيلبس كنادر، وبيمسح على الخفين، ومن عند الوضوء يقعد يفكه ويربطه.
طالب: شيخ، تركنا شرطًا كان ناقصًا الدرس الماضي.
الشيخ: وهو؟
الطالب: أن يكون في المدة.
الشيخ: ما بعد انتهينا يا أخي.
الشرط الثالث: إحنا الآن في شروط الخُفّ، ما هو في شروط المسح، الآن الشروط اللي إحنا نشترط أيش؟
الطلبة: شروط الخف.
الشيخ: شروط الخف: طاهِر، مُباح، ساتر للمفروض، الشرط الرابع؟
طالب: لو سمحت يا شيخ، ما ضابط الخف حينئذٍ؟ يعني ..
الشيخ: الْخُفّ: كل ما يُلبس على الرِّجل من جلود أو كتان أو صوف أو غيره لتدفئتها فهو يعتبر خُفًّا، ولَّا الأصل أن الخف ما كان من جلد، والجورب ما كان من غير الجلود.
طالب: هل يشترط يا شيخ أن يتعدَّى الكعب؟
الشيخ: ما هو شرط إلا على كلام المؤلف؛ كلام المؤلف لا بد أن يكون مغطيًا للكعب؛ المفروض كله.
الشرط الرابع: (يثبت بنفسه)؛ بمعنى أنه ما ينطلق عندما تمشي فيه؛ يعني ما يكون واسعًا بحيث إذا مشيت ( ... )؛ فلو أن رجلًا قدمه صغيرة وجد أكبر خف يلبسه بني آدم ولبسه، وقال: أنا أبغي أمسح على ها الخف هذا، والخف يتعدّى الكعبين؛ يعني ساتر المفروض، وقال: أبغي ألبس، ومعلوم أنه ما يقدر يرفع رجله، لو يرفع رجله؟ طلعت من الخُفّ، لكن يبدأ يسحب الخف، يجوز ولَّا لا؟
طلبة: لا يصح.
الشيخ: ما يصح، لكن ثبوته بنفسه لو كان لا يثبت بنفسه، ولكن يثبت إذا شددته، إذا شددته ثبت، وإذا تركته لم يثبت، يجوز ولَّا لا؟
طلبة: يجوز.
الشيخ: نعم، ولو بالشد، وكذلك لو كان لا يثبت إلا بنعلين يجوز أني ألبس النعلين عليه، وأمسح عليهما معه إلى خلعهما، إذا خلعت النعلين ما أمكن المسح.
(1/278)
________________________________________
فصار قوله: (يثبت بنفسه)؛ يعني بحيث لا يكون واسعًا لو أنه مشى فيه لانطلق من قدمه، فإن كان واسعًا بحيث ينطلق من قدمه إذا مشى فيه؛ فإنه لا يصح المسح عليه.
هل نقول مثله إذا كان يثبت بنفسه لا بِشَدِّه؟ لازم ننتبه لهذا، يقول: إن الذي يصح أن يمسح إذا شد هو أن يكون ساترًا للمفروض، لو كان غير ساتر للمفروض، لكن إذا ( ... ) بعضه على بعض ستر، يقول: إنه لا بأس به.
أما هذا إذا كان لا يثبت إلا بالشدّ يقولون: إنه لا يصح المسح عليه، لكن إذا كان يثبت بالنعلين فإنه يمسح عليه إلى خلعهما فقط، إذا خلعهما ما يمسح، إذن يثبت بنفسه نُعيد الشرط مرة ثانية، يثبت بنفسه أو بنعلين إلى خلعهما، فإن كان يثبت بشدِّه فهو على المذهب لا يجوز؛ يعني: لو فرض واحد رجله صغيرة، ولبس خفًّا واسعًا، لكنه ربطه برجله بحيث يمشي ولا يسقط، يقولون: إنه لا يصح المسح عليه.
ولكن الصحيح أنه يصح المسح عليه، ودليلنا في ذلك هو أن النصوص الواردة في المسح على الخُفَّين مُطلقة، فما دام يمكن أن ينتفع بهذا، ويمشي به، فما المانع؟
قد يكون الإنسان ما عنده إلا هذا الخف الواسع، أنتم لا تقيسوا الأمور بحالتنا اليوم، الحمد لله اليوم كل يستطيع الإنسان يجيب ما يريد، لكن لو فُرض هذا الرجل قدمه صغيرة، وليس عنده إلا خف ولده كبير القدمين، أبوه كبير القدمين، وله خُفّ واسع وهو صغير القدمين، ولا عنده إلا هذا الخفاف، وقال: أنا إذا لبسته وشددته مشيت، وإن لبستها ولم أشدّها سقطت من قدمي، وجاء يستفتي ماذا نقول له؟
طالب: على المذهب لا يجوز.
الشيخ: نقول: على المذهب لا يجوز، وعلى القول الراجح: يجوز، ووجه رجحانه أنه لا دليل على هذا الشرط.
فإذا قال قائل: ما هو الدليل؟ نقول: الدليل عدم الدليل.
طالب: لو كان يا شيخ من غير شد ووضع فيه خرقًا، على المذهب؟
الشيخ: إي نعم، ما يصح.
الطالب: كذلك؟
الشيخ: إي نعم؛ لأنهم يرون لا بد بنفسه أو بنعلين.
(1/279)
________________________________________
الطالب: لو شدّه هو ( ... ) واسع ( ... ).
الشيخ: يصح لو فرض أنها مطاطة؛ يعني يقصه؟
الطالب: إي نعم.
الشيخ: ولين بعضها على بعض فهو يصح، لكن إذا كان بشدِّه ما يصلح.
طالب: إذا لبس رجل الخف وشده، فجاء يستفتي ماذا نقول؟ على المذهب لا يجوز، والصحيح يجوز ..
الشيخ: لا العامي.
الطالب: كثير يا شيخ تقول هذا حتى ندرس؛ يعني إذا جاءت مسألة، تقول: على المذهب كذا، والصحيح كذا لماذا؟ لا نذكر الصحيح فقط في الفتوى؟
الشيخ: لا، في الفتوى ما نقول: إلا الصحيح.
الطالب: لا، أحيانًا أنت وكثير من المرات ..
الشيخ: هنا يعني؟
الطالب: هنا أو غيره، أنا ملاحظ هذا.
الشيخ: هنا، اللي عندي الآن طلبة.
الطالب: لا، حتى في الحرم مثلًا إذا سألت عن بعض الأسئلة ..
الشيخ: لا، ما نقول؛ لأن الحرم غالب اللي حولي طلبة علم، لكن لو يجيني عامّي في السوق يسألني، أقول: هذه المسألة مثلًا فيها خمسة أقول لأهل العلم، هذه مشكلة.
الطالب: طيب حتى عند الطلبة ما تقول خمسة أقوال، غالبًا تقول: المذهب كذا، والصحيح كذا.
الشيخ: إذا كان فيها أقول يعني متقاربة في الرجحان نذكرها، لكن قد يكون ما عدا القولين قد يكون ضعيفًا، فلا أقول: ما حاجة أن أقوله وأروح أجيب دليلًا وأرد عليه.
نقول: (يثبت بنفسه) هذا الصحيح أنه ليس بشرط، فإذا ثبت ولو بشدِّه أو بملئه؛ جاز المسْح عليه.
قال: (مِنْ خُفٍّ) (مِن) حرف جرّ، ومعناها التبيين، وعلى هذا فهي بيان لقوله: (على طاهِر مِن خُفّ)، فالجار والمجرور هنا بيان لطاهر.
و(من) البيانية إذا جاءت فإن الجار والمجرور يكون في موضع نصب على الحال؛ يعني حال كونه من خُفٍّ.
(وجورب) الخف واضح، هو ما يكون من الجلد، وأما الجورب فهو ما يكون من غير الجلد من الخِرَق وشبهها، فيجوز المسْح على هذا وعلى هذا، وذلك إما بالقياس، وإما بالعموم اللفظي كما في حديث: أن يَمْسحوا على التَّسَاخِين (1)؛ فإن التساخين يعم كل ما يُسخَّن الرِّجل.
(1/280)
________________________________________
وإما بالقياس على الخُفّ؛ إذ لا فرق بينهما في حاجة الرِّجل إليهما، والعِلّة فيهما واحدة.
فإذا قال قائل: ما الدليل على جواز المسح على الجوارب؟
نقول: الدليل من السُّنة؛ إما بالقياس، فيكون هذا من باب الشمول المعنوي، وإما بالعموم اللفظي كما في حديث: أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى التَّسَاخِينِ.
وأما (الموق) فإنه خُفّ قصير يُمسح عليه أيضًا، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديث أنه مسح على الْمُوقَيْن (2).
قال: (وجورب صفيق)، لماذا اشترط المؤلف أن يكون صفيقًا؟ لأنه يُشترط أن يكون ساترًا للمفروض وغير الصفيق لا يستر.
وقوله: (صفيق) هي صفة لجورب، وليست صفة لِخُفّ، لماذا؟ لأن الخُفّ لا يكون إلا صفِيقًا؛ لأنه من الجلود، الجورب هو الذي يكون صفيقًا وقد لا يكون.
قوله: (ونحوهما) نحو بمعنى (مِثْل)؛ يعني من كُلِّ ما يُلبس على الرجل سواء سُمِّي خُفًّا، أو جوربًا، أو موقًا، أو جرموقًا، أو غير ذلك، فإنه يجوز المسح عليه؛ لأن العلة واحدة.
طالب: شيخ ( ... )، الأئمة الثلاثة يمنعون المسح على الجوارب، هل هذا صحيح؟
الشيخ: ما أدري والله مذهبهم، لكنه صحيح من حيث الحكم، صحيح أنه لا فرق.
طالب: الجورب يصير تحت الكعبين، يجوز المسح عليه؟
الشيخ: الجورب إذا كان تحت الكعبين فهو ينبني على الخلاف، المذهب لا يجوز؛ لأنه لا بد أن يكون ساترًا للمفروض، والقول الثاني: يجوز ما دام باقيًا على اسمه والرِّجل تنتفع به يجوز المسح عليه.
طالب: ما يصلح شرطًا خامسًا؟
الشيخ: وهو؟
طالب: ألا يكون ( ... ).
الشيخ: هو إذا كان الخرق أوسع من الساتر، الظاهر أنه يخرج عن كونه خُفًّا، ما يُسمى خُفًّا؛ يعني مثلًا لو كان الشراب هذا مشقوق مرة نصفه هذا معناه أنه ..
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، إذا كان متفرقة لا بأس بها.
طالب: ( ... ).
الشيخ: إي نعم؛ لأنه يصدق عليه أنه خُفّ.
***
(1/281)
________________________________________
(وعلى عمامة لرجل)؛ يعني ويجوز المسح على عمامة، والعمامة: ما يُعمَّم به الرأس، ويكور عليه، وهي معروفة.
وقوله: (وعلى عمامة)، ما هو الدليل؟ الدليل حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلام مَسَحَ على عمامتة، وعلى الناصية وعلى الخفين (3). مسح على عمامتة، وقد يُعبر عنها بالخِمار كما في صحيح مسلم (4): مَسَحَ على الْخُفَّيْن والخِمار، قال: يعني العمامة، ففسر الخمار بالعمامة.
ولولا التفسير هذا لقلنا: إنه يجوز أيضًا المسح على الغتره، إذا كانت مُخمِّرة للرأس، كما يجوز في خمر النساء، لكن ما دام فُسِّرت بأن المراد بالخمار العمامة فتكون هي العمامة.
وقوله: (لرجل) يعني لا لامرأة، فالمرأة لا يجوز أن تمسح على العمامة؛ لأن لبسها للعمامة مُحرَّم؛ حيث يكون في ذلك تشبُّه بالرجال، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المتشبهات من النساء بالرجال (5). فعلى هذا يكون لبسها للعمامة مُحرَّمًا، ولا يجوز لها أن تمسح عليها.
وهل يُشترط في العمامة ما اشتُرط في الْخُفّ في أن يكون طاهِرًا ومباحًا؟
الجواب: نعم، لا بد من أن يكون طاهر العين، وأن يكون مباحًا، فلو اتخذ عمامة من حرير وهو رجل؛ لا يجوز المسح عليها، ولو اتخذ عمامة من شيء فيه صور؛ لم يَجُز المسح عليه، ولو اتخذت المرأة عمامة من حرير -لأن الحرير يجوز للنساء- كان ذلك جائزًا؟
طلبة: لا يجوز.
الشيخ: الحرير يجوز للمرأة.
طالب: العمامة لا تجوز.
الشيخ: لكن العمامة ما تجوز، إي نعم، هذه قد يغلط فيها طالب العلم، ولهذا أنا قلت من قبل قليل: عِمامة من حرير لرجل، وكان المتوقع أنكم تقولون: وهل يمكن أن تكون عمامة للمرأة؟ لكن على كل حال لا بد ..
(لرجل) كلمة رجل في الغالب تُطلق على البالغ، لكن ذكر لمن يُقابل الأنثى، ولو كان غير بالغ، ولكنه هنا ليس مرادًا؛ أعني ليس المراد لرجل بالغ فيجوز أن يلبس الصبي عمامة ويمسح عليها.
(1/282)
________________________________________
يقول: (مُحنَّكة أو ذات ذؤابة) (مُحنَّكة)؛ يعني يُدار منها تحت الحنك.
(أو ذات ذؤابة)؛ يعني تُطلق ذؤابة من الخلف لها؛ يعني يكون أحد أطرافها متدليًا من الخلف، هذه ذات الذؤابة.
و(ذات) بمعنى صاحبة، فاشترط المؤلف للعمامة شرطين: أن تكون لرجل، وأن تكون مُحنَّكة؛ يعني يُدَار منها كور تحت الحنك أو ذات ذؤابة.
مع اشتراط أن تكون مُباحة، وأن تكون طاهرة العين، كما سبق، فتكون الشروط الآن أربعة: تكون طاهرة العين، مباحة، لرجل، محنّكة أو ذات الذؤابة.
ما هو الدليل على اشتراط التحنيك أو ذات الذؤابة؟
قالوا: لأن هذا هو ما جرت العادة بلبسه عند العرب؛ أنهم يحنكونها أو يجعلون لها ذؤابة؛ ولأن المحنكة هي التي يشُق نزعها، بخلاف المكورة بدون تحنيك؛ بحيث يرفعها الرجل يمسح رأسه، لكن مُحنَّكة يشق عليه أن يخلعها، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية عارضهم في هذا الشرط، وقال: إنه لا دليل على اشتراط أن تكون محنَّكة، أو ذات ذؤابة، بل النص جاء على عمامته، ولم يذكر قيدًا آخر، فمتى ثبتت العمامة جاز المسح عليها؛ لأن الحكمة من المسْح على العمامة لا تتعين في مشقة النزع، قد تكون حكمة غير مشقة النزع وهي أنه لو حركها ربما تنفل أكوارها.
ولأنه لو مسح رأسه فتحه، في الغالب أن الرأس الذي عليه العمامة، الغالب أنه يعرق، فإذا فتحها، فقد يُصاب بلفحة هواء، ولهذا رُخِّص له أن يُبقيها على ما هي عليه، وأن يمسحَ عليها.
وهل يُشترط مع ذلك أن يمسح على ما ظهر من الرأس، أو لا يشترط؟ لا يشترط، لكن قالوا: إنه يُسَنّ أن يمسح معها ما ظهر من الرأس؛ لأنه سيظهر من الرأس الْمُقدِّمة؛ الناصية يظهر منها قليل، وكذلك أسفل الرأس، وكذلك من الخلف قليل؛ لأنه ما تشمل الرأس كله فيجوز المسح عليها، ويستحب المسح على ما ظهر، ولا يجب.
طالب: شيخ، أعِد يا شيخ العبارة؟
الشيخ: وين الشروط اللي بينّا؟ ولا بد أيضًا -على المذهب- أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة.
(1/283)
________________________________________
(وعلى خُمُر نساء) خُمُر: جمع (خِمار)، وهو مأخوذ من الْخُمرة، وهي ما يُغطَّى به الشيء، فخُمُر النساء ما تُغطي بهن رؤوسهن، ولكن اشترط المؤلف: (مدارة تحت حلوقهن)، لا مطلقة مرسلة، لا بد أن تُدار تحت الحلوق؛ لأن هذه هي التي يشق نزعها ومسح الرأس فيها.
وقد اختلف العلماء في جواز مسْح المرأة على خمارها؛ فمنهم من قال: إن هذا حرام، ولا يجوز أن تمسح المرأة على الخمار؛ لأن الله أمر بمسح الرأس: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، وإذا كان هناك خِمار، ومُسحت عليه ما مسحت برأسها، بل مسحت على هذا الحائل بخمارها؛ فلا يجوز.
ومنهم من قال: إنه جائز، ولكن ليس هناك نصوص صحيحة في هذا الباب، لكن قاسُوها على عِمامة الرجل، وقالوا: إن الخمار للمرأة بمنزلة العمامة للرجل، والمشقة موجودة في هذا وفي هذا.
وعلى كل حال، فإذا كان هناك مشقة إما لبرودة الجو، أو لمشقة النزع واللف مرة أخرى، فالتسامح في هذا لا بأس به، وإلا فالأولى ألا تمسح.
ويبقى عندنا لو كان الرأس مُلبَّدًا بحناء، أو صمغ، أو عسل، أو نحو ذلك، هل يُمسح عليه أم لا؟
الجواب: نعم، يُمسح عليه؛ لأنه ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام في إحرامه كان مُلبِّدًا رأسَه (6). فما وُضِع على الرأس من التَّلْبِيد، فهو تابِع له، وهذا يدل على أن تطهير الرأس فيه شيء من التسهيل.
وعليه فإذا كانت المرأة قد لبّدت رأسها بالحناء كما يوجد ولا سيما في الزمن السابق، فإنها تمسح عليه، ولا حاجة إلى أنها تنقض الرأس، وتحت هذا الحناء.
وكذلك لو كانت شدَّت على رأسها ما يُسمَّى تشد على رأسها حلي ويش يُسمى؟ تختلف الأعراف فيه.
طالب: الهامة.
الشيخ: تسمى الهامَة؛ لأنه حُليّ يوضع على الهامة ما عاد يسمونه عندكم؟ ما تعرفونه، وأظن هذا شيء من الحلي، كبر اليد، وفيه جواهر ولؤلؤ، ويُوضع على الرأس، هكذا يشد بشعر الرأس، ويضفر، هذا يجوز المسح عليه ولَّا ما يجوز؟
(1/284)
________________________________________
نقول: يجوز؛ لأننا إذا جوَّزنا المسح على الخمار، فهذا من باب أوْلَى.
وقد يقال: إن له أصلًا وهو الخاتَم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يلبس الخاتم (7)، ومع ذلك فإنه قد لا يمكن أن الماء يدخل بين الخاتم وبين الجلد، فمثل هذه الأشياء قد يُسامِح فيها الشرع، لا سيما أن الرأس من أصله لا يجب تطهيره بالغسل، وإنما يُطهَّر بالمسح، فلذلك خُفِّف فيه.
طالب: المشقة يا شيخ في الخمر، القناع أشد منها ( ... ).
الشيخ: إي نعم، وهذا الذي جعلهم يبيحونه.
الطالب: ( ... ) القاعدة.
الشيخ: سبحان الله العظيم، حتى بعد أنا أنسى، وأجيب.
(في حدث أصغر)، قوله: (في حدث أصغر) مُتعلق ب ـ (يجوز)، شوف الآن (يجوز في مدة معينة)، و (في حدث أصغر)، وعلى الخف بشروطه، والعِمامة بشروطها، والخمار بشروطه، فالشروط العامة أن يكون في المدة المحددة شرعًا وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، الثاني: أن يكون في حدث أصغر، هذه اثنان، الثالث: أن يكون الملبُوس طاهرًا، الرابع: أن يكون مُباحًا هذه أربعة عامة.
في الشروط الخاصة في الخُفّ: أن يكون ساترًا للمفروض، ويثبت بنفسه، العمامة ما يُشترط أن تكون ساترة للمفروض، والْخُمر في الغالب تكون ساترة للمفروض.
طالب: من حدث من بعد اللّبس.
الشيخ: لا، هذا ابتداء المدة، ما له دخل.
طالب: الطهارة.
الشيخ: بيجينا.
يقول: (في حدث أصغر)، الحدث الأصغر: هو ما أوجب الوضوء، ولكن ما هو الحدث؟
يقولون: إن الحدث هو وَصْف أيش؟ قائم بالبدن، يمنع الصلاة ونحوها مما تُشترط له الطهارة، ما هو شيء محسوس، لكنه وصف قائم بالبدن، يمنع الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة، وهو قسمان: أكبر وأصغر؛ فما أوجب الوضوء فهو أصغر، وما أوجب الغسل فهو أكبر، إذن هذه الثلاثة: الْخُفّ، والعمامة، والْخُمُر إنما تمسح في ماذا؟ في الحدث الأصغر فقط، ما هو الدليل؟
(1/285)
________________________________________
الدليل حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كُنَّا سَفْرًا ألا ننزع خفافنا إلا من جَنابة، ولكن من غائط، وبول، ونوم (8).
شوف إلا من جنابة؛ هذا الحدث الأكبر، ولكن من غائط وبول ونوم؛ هذا الحدث الأصغر، فإذن لو حصل على الإنسان حدث أكبر وهو يمسح الخفين في مدة المسح، هل يمسح أم لا؟
طلبة: لا.
الشيخ: لا يمسح؛ لأن الحدث الأكبر ليس فيه شيء ممسوح، لا أصلي ولا فرعي، إلا الجبيرة كما سيأتي، أما في حال الاختيار ما فيه شيء ممسوح حتى الشعر؛ شعر الرأس يجب أن يُغسل.
(في حدث أصغر وعلى جَبِيرة) يعني ويجوز المسح على جَبِيرة.
فيه ملاحظة: بعض العلماء يقول: إن العمامة لا يُشترط لها توقيت؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وَقَّتَها؛ ولأن طهارة العضو التي هي عليه أخفّ من طهارة عضو الخُفّ، فلا يمكن إلحاق هذا بهذا، وممن ذهب إلى هذا الشوكاني في نيل الأوطار، وجماعة من أهل العلم: على أن العمامة متى كانت عليك فامسح، إذا لم تكن عليك فامسح الرأس، ولا توقيت فيها.
قال المؤلف: (وعلى جبيرة) جبيرة (فَعِيلة) بمعنى (مَفْعُولة) ولَّا بمعنى (فَاعِلَة)؟
طلبة: فاعلة.
الشيخ: ما هي الجبيرة علشان نعرف؟ فيه فعيلة بمعنى (فَاعِلة)، وبمعنى (مَفْعُول)، الجبيرة هي أعواد تُوضع على الكسر، ثم يُربط عليها ليتلاءم الكسر، هذه الجبيرة، وبدلها الآن الجِبْس.
إذا كانت هذه هي الجبيرة تكون جبيرة بمعنى (جابِرة)، ولَّا بمعنى (مجبُورة)؟
طلبة: جابِرة.
(1/286)
________________________________________
الشيخ: بمعنى (جابِرة)، هذه ما دمنا نطلقها على الأعواد، وأما (جَبِير) للمكسور؛ فهي بمعنى (مفعول)؛ أي: (مجبُور)، ويسمى الكَسِير جبيرًا من باب التفاؤل، كما يسمون اللديغ سليمًا؛ مع أنهم ما يدروا يسلم ولَّا ما يسلم، الأرض القفر اللي ما فيها أحد، ولا ماء، ولا شيء تُسمَّى مفازة، واحد بيفوز بأرض ما فيها لا ماء، ولا نبات، ولا شيء، هذه محل فوز، ولا محل شقاء، لكن يسمونها مفازة من باب التفاؤل.
(على جبيرة) لكن لها شروط (لم تتجاوز قدر الحاجة)، هذا الشرط من الشروط ألا تتجاوز قدْر الحاجة (تتجاوز): بمعنى (تتعدَّى)، فما هي الحاجة؟
الحاجة: هي الكَسْر، وكل ما قرب منه مما يُحتاج إليه في شدها، وليس الكسر، فالكسر فقط ما يمكن تنجبر؛ فمثلًا إذا كان يمكن أن نجعل العيدان طولها شبر، أنا ما أعرف السنتي ولا ما سنتي، ممكن نجعلها شبر وشوي؟
طلبة: لا.
الشيخ: ليش؟
طلبة: لأنه زائد عن محل الحاجة.
الشيخ: لأنه زائد عن محلّ الحاجة، إذا كان ممكن نجعلها أربعة أصابع؛ يعني يمكن تنشد وتنضبط بأربعة أصابع، يمكن نجعلها خمسة؟
طلبة: لا.
الشيخ: ما يمكن، هل يجب أننا نأخذ أربطة دقيقة، أو يجوز حتى في الأربطة الغليظة؟
ننظر إن احتجنا إلى الغليظة ربطنا بها إن لم نحتجْ أخذنا الدقيق، وعلى هذا فالحاجة نفسِّرها بماذا؟ هي موضع الكسر وما قرب منه مما يُحتاج إليه في الشد؛ لو كان كسر في الأصبع، لكن يحتاج نربط كل الراحة علشان تستريح اليد، هل هذه حاجة؟
طلبة: نعم.
الشيخ: نعم، حاجة ما نقول: والله الكسر في الأصبع، لا تشد إلا الأصبع فقط، ما دمنا نحتاج إلى شد هذا الكسر فكل حاجة لنا.
الشرط الثاني يقول: (لم تتجاوز قدر الحاجة ولو في أكبر) (لو) هنا إشارة خلاف أو رفع توهّم، هي رفع توهم؛ لأنه بالأول قال: (في حدث أصغر)، ولو لم يقل: (ولو في أكبر)، لكنا نظن أنها لا يجوز المسح عليها إلا في الحدث الأصغر، وهي يجوز المسح عليها في الحدث الأكبر والأصغر.
(1/287)
________________________________________
أولًا: الدليل؛ الدليل: حديث صاحب الشجة على القول بأنه حديث تثبت به الحجة، وأنه حسن، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا» (9)، وهذا في الجنابَة؛ لأن الرجل أجنب.
والتعليل: هو أن المسْح على الجبيرة من باب الضرورة؛ والضرورة لا فرْق فيها بين الحدَث الأصغر والأكبر، بخلاف المسح على الخفين فهو رُخصة.
والجبيرة ضعيفة، ولكن يُجبر بعضها بعضًا؛ وهي جبيرة أدلتها مجبورة؛ يجبر بعضها بعضًا، ثم إنها يمكن أن نقيسها ولو من بعيد على المسح على الخفين، فنقول: إن هذا عضو مستور بما يجوز لبسه شرعًا فيكون فرضه المسح، ولكن هذا القياس فيه شيء من الضعف؛ لأن المسْح على الخفين رُخصة مُؤقّت، وهذه عزيمة وغير مؤقّت.
والمسْح على الخفين يكون في الحدث الأصغر، وهذا في الأصغر والأكبر، والمسح على الخفين يكون على أكثر ظاهر القدم، وهذه يكون على جميعها، ففي القياس شيء من النظر، لكن من حيث الأصل، وهو أن هذا العضو الواجب غسله سُتِر بما يسوغ ستره به شرعًا، فجاز المسْح عليه كالخفين؛ ولأن المسح ورد التعبد به من حيث الجملة، فإذا عجزنا عن الغسل انتقلنا إليه كمرحلة أخرى، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا مسح على الجبيرة؛ لأن أحاديثها ضعيفة، ولم يرَ أن ينجبر بعضها ببعض، ولم يرَ القياس كابن حزم -رحمه الله- فإن ابن حزم لا يرى المسح عليها.
ثم اختلف القائلون بأنه لا يجوز المسح، هل يسقط الغسل إلى غير بدل، أو يسقط إلى بدل، وهو التيمم بأن يتوضأ ويغسل ما أمكنه غسله من أعضاء الطهارة، ويتيمم عن الموضع الذي فيه الجبيرة ( ... ).
فيه، والعجز عن البعض كالعجز عن الكل؛ فيتيمم.
(1/288)
________________________________________
وقال آخرون ممن لا يرون المسح على الجبيرة: إنه لا يتيمم؛ لأنه عجز عن غسل هذا العضو فسقط كسائر الواجبات، وهذا أضعف الأقوال أنه يسقط الغسل إلى غير تيمُّم، ولا مسح؛ لأننا نقول: العضو موجود، ليس بمفقود حتى يسقط فرضه، أما لو قُطعت اليد صح، يسقط الفرض؛ فالعضو الآن موجود عجز عن التطهر بالماء فيه، فيتطهر ببدله.
وربما يعمّه قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، فإن هذا مريض، فإن الكسر أو الجرح نوع من المرض، ولكن عندما نقول: إنه لا بد من التيمم أو المسح، أيهما أقرب إلى الطهارة بالماء؟ المسح؛ لأنه طهارة بالماء، وذاك مسح طهارة بالتراب، ثم إن التيمم أيضًا قد يكون في غير محل الجبيرة؛ لأن التيمم في الكفين والوجه فقط، والجبيرة قد تكون في الذراع، قد تكون في العضد، قد تكون في الساق، وقد تكون في الفخذ، وقد تكون في البطن، ممكن، فأقرب الأقوال هذه الثلاثة هو: جواز المسح عليها، ولكن هل يجمع بين المسْح والتيمم؟
قال بعض أهل العلم: نعم، يجب الجمع بين المسْح والتيمم احتياطًا. ولكن الصحيح: أنه لا يجب الجمع بينهما؛ لأن القائلين بوجوب التيمم لا يقولون بوجوب المسح، ولا العكس، وكوننا نُوجب طهارتين لعضو واحد خلاف القواعد الشرعية ولَّا لا؟ لأنه يجب تطهير هذا العضو إما بكذا وإما بكذا.
أما أن نُوجب تطهيره بطهارتين فهذا لا نظيرَ له في الشريعة، ولا يُكلِّف الله تعالى عبدًا بعبادتين سببهما واحد، ولكن مع هذا يقول العلماء -رحمهم الله-: إن الجرح ونحوه إمَّا أن يكون مكشوفًا أو مستورًا.
فإن كان مكشوفًا فالواجب غسله بالماء، فإن تعذَّر فمسح الجرح نفسه، فإن لم يمكن ولا المسح؛ تعذَّر حتى المسح فالتيمم، وحينئذٍ يكون للجرح أو الكسر المكشوف كم حالة؟
طلبة: ثلاثة.
(1/289)
________________________________________
الشيخ: ثلاث حالات؛ يعني مراتب؛ المرتبة الأولى: الغَسْل، المرتبة الثانية: المسْح، المرتبة الثالثة: التيمُّم، على الترتيب، أما إذا كان مستُورًا بما يسوغ ستره به، فإنه ليس فيه إلا المسح فقط، قد يضره المسح حتى ولو كان مستورًا، ربما يضره المسْح، نعدل إلى التيمم، كما لو كان مكشُوفًا، هذا ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- في هذه المسألة.
يقول رحمه الله: (ولو في أكبر) (لو) ليست هنا إشارة خلاف، ولكنها رفع توهُّم، لما قال: في العمامة والخمار والخفين (في حدث أصغر)، أراد أن يرفع الوهم عن مسح الجبيرة، هل يكون خاصًّا في الحدث الأصغر أو حتى في الأكبر، فقال: (ولو في أكبر)، والفرق بين الحدث الأكبر والأصغر؛ الأكبر ما أوجب الغسل، والأصغر ما أوجب الوضوء، هذا الفرق بينهما، وأيهما أغلظ؟
الأكبر الأغلظ؛ ولهذا يحرم على من عليه حدث أكبر ما لا يحرم على من عليه حدث أصغر كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في نواقض الوضوء.
قال: (إلى حَلِّها) يعني يمسح على الجبيرة إلى حلِّها، وكسْر الحاء لحن فاحش مُغيِّر للمعنى؛ لأنه لو قال: إلى حِلِّها؛ يعني الآن هي مُحرَّمة، وهذا يفسد المعنى، ولكنها إلى حَلِّها؛ أي: إزالتها، ومتى تزال؟
تزال إذا برئ، يجب إذا برئ الجرح أن تُزال.
لو قال قائل: أبغي أخليها مع بُرْء الجرح، قلنا: هذا حرام، ما يجوز؛ لأن السبب الذي من أجله جاز الوضع والمسح قد زال، وإذا زال السبب انتفى المسبّب.
قال: (إلى حَلِّها إذا لبس ذلك بعد كمال الطهارة) (ذلك) المشار إليه الأنواع الأربعة كلها؛ الخف، والعمامة، والخِمار، والجبيرة، إذا لبسها بعد كمال الطهارة.
قال: (بعد كمال)، ولم يقل: بعد الطهارة؛ حتى لا يتجوَّز مُتجوِّز بكلمة الطهارة، ويقول: بعد الطهارة؛ أي: بعد أكثرها، بل قال: (بعد كمال الطهارة)؛ فلو أن رجلًا عليه جنابة، وغسل رجليه، ولبس الخفين، ثم أكمل الغسل، ما تقولون؟ يجوز ولَّا ما يجوز؟
طلبة: ما يجوز.
(1/290)
________________________________________
الشيخ: ما يجوز، ليش؟
طلبة: ما أكمل الطهارة.
الشيخ: ما أكمل الطهارة، صحيح أن الرِّجْلين طهرتا؛ لأن الغسل من الجنابة ما فيه ترتيب، لكن لم تكمُل الطهارة.
رجل آخر توضأ، غسل وجهه ويديه، ومسح رأسه وأذنيه، وغسل رِجله اليمنى، ثم أدخلها الخُفّ، ثم غسل اليسرى فأدخلها الخُفّ.
طلبة: ما يجوز.
الشيخ: يجوز؟
طلبة: ما يجوز.
الشيخ: أعِدْ، كيف؟ !
طلبة: ( ... ).
الشيخ: هذا رجل توضَّأ، غسل رجله اليمنى، ثم أدخلها الخف، ثم غسل اليسرى.
طلبة: ما يجوز.
الشيخ: هل يجوز ولَّا ما يجوز؟
طلبة: لا يجوز.
الشيخ: انتظر، إذا لبس ذلك بعد كمال الطهارة، هو لما لبس الخُفّ اليمنى، لبسه قبل أن يكمل الطهارة، ما كمل الطهارة، ويش باقٍ عليه؟ باقٍ عليه غسْل اليسرى، فلا بد أن يغسل اليسرى قبل أن يُدخل الرجل اليُمنى الخف.
المؤلف يقول: (بعد كمال الطهارة)، وهذا هو المشهور من المذهب؛ وذلك لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» (10).
كلمة: «طَاهِرَتَيْنِ» وصْف للقدمين، فهل المعنى أدخلتُ كُلَّ واحدة وهما طاهرتان، فيكون أدخلهما بعد كمال الطهارة؟
أو أن المعنى: أدخلت كل واحدة طاهرة، فتكون الصورة التي ذكرنا جائزة؟ يحتمل، صحيح أنه يحتمل؛ ولذلك اختلف العلماء؛ فالمذهب -كما رأيتم- لا بد أن يكمل الطهارة قبل أن يلبس الخُفّ.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه يجوز إذا طهر اليمنى أن يلبس الخُفّ، ثم يُطهِّر اليسرى ويلبس، وقال: إنه أدخلهما طاهرتين، وما أدخل اليمنى إلا بعد أن طهَّرها، ولا أدخل اليسرى إلا بعد أن طهَّرها، فيصدق عليه أنه أدخلهما طاهرتين.
ولكن -على المذهب- لو فرض أن رجلًا فعل هذا الفعل، ماذا يصنع؟ نقول: اخلع اليمنى، ثم البسها؛ لأنك إذا لبستها بعد خلعها لبستها بعد كمال الطهارة.
(1/291)
________________________________________
فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: هذا شيء نوع من العبث، إيش معنى أني أخلعها وألبسها؟ ! هذا لم يؤثِّر شيئًا، ما دام تقولون: لا يجب إعادة تطهير الرجل فقد حصل المقصود، لكن هناك حديث رواه أهل السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للرجل إذا توضَّأ فمسح خُفَّيْه أن يمسحَ يومًا وليلة (11).
فقوله: إذا توضأ ولبس خُفَّيْه، قد يُرجِّح المشهور من المذهب؛ لأن من لم يغسل الرِّجل اليسرى لا يصدق عليه أنه توضأ، وهذا ما دام هو الأحوط أيضًا فسلوكه أوْلى، ولا نجسر على شخص غسل رجله اليمنى، ثم أدخلها الخف، ثم غسل اليسرى وأدخلها الخُفّ، لا نجسر أن نقول: أعِدْ صلاتك ووضوءك، لكننا نأمر من لم يفعل ألا يفعل احتياطًا.
طالب: ما يكون نشف العضو قبل أن ( ... ).
الشيخ: كيف نشف؟
طالب: تنشيف، إذا لبس الخف اليمنى فقد نشفها قبل أن يلبس اليسرى.
الشيخ: ما يظهر هذا بغير الشيء المعتاد؛ ولهذا تقدمنا ألا ينشف العضو الذي قبله بزمن معتدل، ما يكون سببًا له، أما هذا هو اللي نشفه.
إذن المسألة كلام المؤلف: (إذا لبس ذلك بعد كمال الطهارة) يدل على -ما ذكرنا- أنه لو غسل رجله اليمنى، ثم أدخلها الخف ما صح.
طالب: استدلالهم بالحديث هل هو ( ... )؟
الشيخ: أيهم؟
الطالب: توضأ، ولبس الخف.
الشيخ: إي، لكن قال: إذا توضأ، ما يصدق عليه أنه توضأ إلا بعد أن يكمل.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، على كل حال، إحنا ويش قلنا الآن؟ أيش؟ كل حال قلنا: كوننا نُلزم الإنسان أن يُعيد صلاته إذا فعل هذا الفعل هذا شيء ما يجسر عليه، لكن كوننا نأمره ألا يفعل، هذا طيب، ونقول: بدلًا من أنك تلبسها اصبر أنت دقيقة واحدة حتى تغسل الرجل اليسرى، والبس، ثم هو أحسن لك أيضًا ألَّا تلبس حتى تُنشّف رجليك؛ لأنك إذا لبست على طول دخّلت الرجل وهي رطبة يكون براد عليك ولًّا لا؟
طلبة: نعم.
الشيخ: يكون براد عليك؛ تبرد، وربما تحصل رائحة كريهة، أليس كذلك؟
الطلبة: بلى.
(1/292)
________________________________________
الشيخ: إي نعم، كونك تبقى أحسن.
طالب: أقول: يخمر الرِّجل ويسير ..
الشيخ: هذا ما يصلح حتى لو يخمر، ما له حاجة يخمر رجله، اللهم إلا إنسان فيه شطوب في عراقيبه بيخمرها علشان يلين، يمكن.
الطالب: أقول: سبب للرائحة.
الشيخ: إي نعم، الرائحة، قُل: تسخم، ما هي تخمر.
يقول: (إذا لبس ذلك بعد كمال الطهارة) حتى الجبيرة، لو أن إنسانًا كُسِر، وراح مثلًا المستشفى يتجبَّر، يقول: لا تجبروني، لازم يروح يتوضَّأ قبل، وإن كان عليه جنابة لازم يغتسل قبل، يا ناس، الرِّجل الآن منفصل بعضها من بعض، نعم، تومئ هكذا، قال: لازم، قال: يروح يتغسل ويجيء، ولكن اشتراط كمال الطهارة في الجبيرة قول ضعيف جدًّا.
أولًا: لأن المسْح عليها عزيمة وضرورة.
ثانيًا: أنها تأتي مفاجأة، ما هي مثل الخف متى شئت لبسته. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من الأصحاب، وهو رواية عن أحمد قوية اختارها كثير من الفقهاء؛ أن الجبيرة لا يُشترط لها أن يلبسها على طهارة، وعلى هذا فيكون هذا من الفروق بين الجبيرة والْخُفّ.
وإذا شئتم أن نعُدّها -الفروق بين الجبيرة والْخُفّ- حتى نحصيها؛ لأن العِلم بالفروق والتقاسيم والضوابط هذا مُهم لطالب العلم، مثلًا نقول: الجبيرة لا تختص بعضوٍ معين، و ( ... ) تختص بعضوٍ معين؛ وهو الرِّجل في الْخُفّ، والرأس في العِمامة والخِمار بخلاف الجبيرة.
وبذلك نعرف خطأ بعض المفتين الذين أفتوا بأن المرأة يجوز لها أن تلبس (المناكير) لمدة يوم وليلة، (المناكير) جمع (مِنْكار)، ولًّا لا؟
طالب: صيغة منتهى الجموع هذه.
الشيخ: إي نعم، صيغ منتهى الجموع (مناكير).
طالب: جمع (مُنكِر) يا شيخ.
الشيخ: لا؛ لأن مناكير ما تكون إلا إذا كان المفرد خماسيًّا قبل آخره حرف عِلَّة (عصفور) و (عصافير)، (مِفتاح) (مَفاتِيح)، هذا نقول: (منكُور) خليه (منكُور) مفرد، و (مناكِير) جمع.
(1/293)
________________________________________
على كل حال نقول: هذا غير صحيح؛ لأن المسح إنما ورد فيما يُلبس على الرأس وعلى الرجل فقط؛ ولهذا لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك عليه جُبَّة شامية كان أكمامها ضيقة أراد أن ( ... ) يتوضأ عليه الصلاة والسلام ما استطاع؛ طلع إيده هكذا، وطلع من تحت حتى صبَّ عليه المغيرة (10)، لو كان المسح يجوز في مثل هذا الحال على غير الرأس والرِّجل كان يمسح على هذا الكم، ويمشي، إذن هذا فرق.
الفرق الثاني: المسح على الجبيرة جائز في الحدثين، وعلى الثلاثة الأخرى في الحدث الأصغر.
الفرق الثالث: المسح في الثلاثة مؤقت، وفي الجبيرة غير مؤقت.
الفرق الرابع: الثلاثة تُلبس لا بد على الطهارة على اختلاف بين العلماء في العِمامة والخِمار، وهذه لا يُشترط لها الطهارة.
قال المؤلف رحمه الله ..
طالب: بدأنا بتعديد الفروق بين ..
الشيخ: عددنا أظن أربعة فروق، من يأتي إلينا منها بواحد، مؤلف؟
الطالب: ( ... ).
الشيخ: قال: (ومن مسح في سفر، ثم أقام) فإنه يتم مسح مقيم، إن بقِي من المدة شيء، وإن انتهت المدة خلع؛ مثال ذلك: رجل مسافر أقبل على بلده، وحان وقت الصلاة، فمسح، ثم وصل إلى البلد، هل يتم مسح مسافر؛ ثلاثة أيام، أو مسح مقيم يوم وليلة؟
مسْح مقيم يتم؛ لأن المسْح ثلاثة أيام لمن كان مسافرًا، والآن انقطع السفر، فكما أنه لا يجوز له قَصْر الصلاة لما وصل إلى بلده، فإنه لا يجوز له أن يُتِمّ مسْح المسافر، انتهى.
فإذا كان قد مضى على مسْحه يوم وليلة، ووصل بلده، ماذا يصنع؟ يخلع؛ لأنه انتهى المسْح، وإن مضى يومان يخلع ولَّا لا؟
طلبة: يخلع.
الشيخ: يخلع، وإن مضى يوم دون ليلة.
طلبة: بقي له ليلة.
الشيخ: بقي له ليلة، ولهذا قال: (يتم مسح مقيم).
(1/294)
________________________________________
(أو عكس)، ويش معنى عكس؟ يعني مسح في إقامة، ثم سافر، فإنه يُتم مسْح مُقيم، كيف يتم مسْح مُقيم ليش؟ قالوا: تغليبًا لجانب الحظر، لنفرض أنه مسح يومًا وهو مقيم، ثم سافر، بقي عليه ليلة، تمت الليلة، ما بعد الليلة فيه مُبيح وحاظر؛ السفر يبيحه والحظر لا يبيحه، يمنعه، قالوا: فنُغلِّب جانب الحظر احتياطًا، عرفتم الآن ولَّا لا؟
الصورة واضحة، والتعليل واضح؛ لأنه بعد تمام اليوم والليلة، ما زاد على ذلك فيه مُبيح وحاظر؛ الإقامة تمنعه، تحظره، والسفر يُبيحه، فحينئذٍ يُؤخذ بالحاظر؛ لأن الأخذ بالحاظر أحوط؛ فإنك إذا خلعت وتوضأت وغسلت قدميك؛ لا شُبهة بعبادتك بعد هذا، وإن أنت مسحت؛ صار في عبادتك شبهة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» (12).
والرواية الثانية عن أحمد: أنه يُتم مسْح مسافر كالعكس؛ لأنه وُجد السبب الذي يَستبيح به هذه المدة، قبل أن تنتهي مدة المقيم، أما لو انتهت مدة المقيم؛ مثل أن تم له يوم وليلة في مسْحه، ثم سافر بعد ذلك قبل أن يمسح، ففي هذه الحال يجب عليه أن يخلع.
أما والمسح باقٍ وقد وُجِد السبب الذي تمتد به المدة فإنه يبقى، وهذه الرواية قيل: إن الإمام أحمد -رحمه الله- رجع إليها، وأنه رجع عن قوله الأول والله أعلم، لكن هذه رواية قوية؛ بأنه إذا بدأ في المسح مُقيمًا ثم سافر؛ فإنه يُتم مسْح مسافر.
فيه مسألة نذكرها استطرادًا؛ لو دخل الوقت عليه، ثم سافر، هل يصلي صلاة مسافر أو صلاة مقيم؟
طالب: صلاة مقيم.
الشيخ: المذهب: يُصلي صلاة مقيم، والصحيح أنه يُصلِّي صلاة مسافر.
هذه قريبة من هذه؛ لأنه الآن صلَّاها وهو مسافر، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، كما أنه لو دخل الوقت عليه وهو مسافِر، ثم وصل إلى بلده يُتِمّ.
(1/295)
________________________________________
يقول المؤلف: (أو شك في ابتدائه)؛ يعني هل مسح وهو مسافر أو مسح وهو مقيم؟ فإنه يُتم مسح مقيم ليش؟ احتياطًا.
وبناءً على القول الثاني يُتم مسح مسافر؛ لأن القول الثاني يقول: حتى لو تيقَّن أنه مسح وهو مقيم؛ فإن له أن يُتم مسح المسافر، لكن هذا الذي قال المؤلف: (أو شك في ابتدائه) مبني على المذهب.
فهذه ثلاث مسائل: إذا مسح في سفر ثم أقام، أو مسح مقيمًا ثم سافر، أو شك هل ابتدأ المسح في السفر أو في الإقامة؛ في هذه المسائل الثلاث الواجب عليه أن يُتم مسح مقيم.
والصحيح أنه إذا مَسح مسافرًا، ثم أقام؛ يُتم مسح مقيم، وإذا مسح مقيمًا، ثم سافر؛ يتم مسح مسافِر، ما لم تنتهِ المدة قبل سفره، فإن انتهت مدة الحضر قبل سفره فلا يمكن أن يمسح.
يقول: (وإن أحدث، ثم سافر قبل مسحه؛ فمسح مسافر) أحدث وهو مقيم.
(ثم سافر) قبل أن يمسح، فإنه يُتم مسْح مسافر؛ لأنه لم يبتدئ المسح في الحظر، وإنما كان ابتداء مسحه في السفر.
وبناءً على هذا يتبين لنا رُجحان القول الذي رجَّحانه من قبل؛ من أن ابتداء مُدة المسْح مِن المسْح لا من الحدَث، هم هنا وافقوا أن الحكم مُعلَّق بالمسح لا بالحدث، وهذا مما يُرجِّح القول الذي أشرنا إليه من قبل، ويُلزِم المذهب أو أصحاب المذهب -رحمهم الله- بأن يقولوا بالقول الصحيح، أو يطردوا القاعدة، ويجعلوا الحكم مَنوطًا بالحدث، ويقول: إذا أحدث، ثم سافر، ومسح في السفر، فيلزمه أن يمسح مسْح مُقيم، وإلا حصل تناقض.
قال: (ولا يمسح قلانس ولفافة، ولا ما يسقط من القدم، أو يُرى منه بعضُه) (لا يمسح القلانس)، ويش القلانس هذا؟ القلانس نوع من اللباس اللي يوضع على الرأس، وهي عبارة عن طاقية كبيرة شوي يلبسها الإنسان، ممكن أن نقول: نقرّبها إلى الأذهان بالقبع، تعرفون القبع؟ معروف القبع؛ شيء يُلبس على الرأس من الصوف، ويفتح للوجه.
طالب: جحفية يا شيخ.
طالب آخر: طربوش هذا.
(1/296)
________________________________________
الشيخ: يُسمى طربوش وجُحفية، على العموم هذا الذي يُلبس على الرأس يقول المؤلف: إنه (لا يمسح القلانس)، لماذا؟ لأن الأصل وُجوب مسْح الرأس عُدِل عن الأصل في العِمامة لورود النص بها، فيبقى ما عداه على الأصل؛ وهو وجوب مسْح الرأس؛ لأن الله عز وجل يقول في القرآن: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] الحائل يمنع أن نمسح بالرأس، تُستثنى العمامة؛ لورود النص بها، وعلى هذا فالقلانس لا تُمسح؛ يخلعها الإنسان، ويخلع عن رأسه، ويمسح.
وقال بعض الأصحاب -رحمهم الله-: إنه يمسح القلانس، ولا حرج إذا كانت مِثْل العمامة يشق نزعها؛ فإنها تمسح، أما ما لا يشق نزعه مثل الطاقية هذه المعروفة عندنا أو الغترة ما يمسح؛ ففرق بين الشيء الذي يشق نزعه، ويحتاج في خلعه وَرَدِّهِ إلى نوع من العناء، هذا يُمسح عليه، والشارع لا يُفرِّق بين مُتماثلين، ولا يجمع بين مفترِقين؛ لأن الشرع من لدن حكيم خبير جل وعلا، والعبرة في الأمور بماذا؟ بمعانيها، لا بصورها؛ فالعبرة بالمعاني، وما دام الشارع أجاز أن نمسح على العمامة، فما كان مثلها في مشقة النزع فإنه يُعطى حكمها.
وأما قوله: (ولفافة)؛ فاللفافة هذه في القدم؛ يعني ولا يمسح الإنسان لفافة لفها على قدمه؛ لأنها ليست بخف، فلا يشملها حكمه.
اللفافة هل يمكن أحد يلفها على رجله؟ نعم، في زمن مضى حين كان الناس في إعواز وفاقة، لا يجدون خُفًّا، فيأتي الإنسان ويأخذ خِرقًا يلفها على رجله ويربطها؛ لأن ما عندهم شيء، مثل هؤلاء لا يجوز لهم المسح؛ والعلة؛ لأن الأصل وجوب غَسْل القدم، خُولِف هذا الأصل في لابس الْخُفّ، لماذا؟ لورود النص به، فيبقى ما عداه على الأصل.
(1/297)
________________________________________
والعِلَّة في هذه، أو سوق الدليل على هذا الوجه ممكن أن نرده كما رددناه في العمامة؛ ولهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه يجوز المسْح على اللفافة، وقال: إن اللفافة يُعذر فيها صاحبها أكثر من الخف، أيما أسهل أن تخلع الخف تغسل الرجل وتلبس الخف أو أن تحل هذه اللفافة، ثم تعيدها مرة أخرى؟
طلبة: الخف أهون.
الشيخ: الخف أهون، ولَّا لا؟
طلبة: نعم.
الشيخ: فإذا كان الخف قد أباح الشرع المسح عليه، فاللفافة من باب أولى، ثم إن السرية التي بعث النبي عليه الصلاة والسلام، وأمرهم أن يمسحوا على العَصائِب وعلى التَّساخِين (1)؛ فإنه يمكن أن نأخذ من كلمة (التساخين) جواز المسح على اللفافة؛ لأنه يحصل بها تسخين القدم.
والغرض الذي من أجله تُلبس الخِفاف موجود في من يلبس اللفافة، والصحيح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذا.
قال: (ولا ما يسقط من القدم)، يعني ولا يمسح ما يسقط من القدم، وهذا بناءً على ما سبق؛ أنه يشترط ثبوته بنفسه أو بنعلين إلى خلعهما، الذي يسقط من القدم لا يجوز المسح عليه، لماذا؟ لأنه خُفّ غير مُعتاد، فلا يشمله النص، الناس ما هم يلبسون خفافًا .. نهض الإنسان رجله ليمشي، سقط الخف، ولَّا لا؟ أحد بيلبس هذا الخف؟
الطلبة: لا.
الشيخ: ما أحد لبسه، ويش الفائدة أني نزعت رجلي؟ سقط الخف، ثم أخذته، إذا خطوت أخذته، ولبست الثاني، ولما بأخطو الثانية سقط، هذا ما يمكن إلا مثلما قال الأخ بيسحب سحب رجليه، هذا يمكن ما يسقط، هم يقولون ما دام خفًّا غير معتاد فإنه لا يجوز المسح عليه، وهو -في الواقع- فيمن يمشي لا شك أنه لا يلبسه أحد، لكن لو فرضنا أن رجلًا لا يمشي؛ مريض مُقْعد، يُدخل رجله في هذا الخف لأجل تدفئتها، فهل يجوز المسح أو لا يجوز؟
طلبة: لا يجوز.
(1/298)
________________________________________
الشيخ: على كلام المؤلف لا يجوز؛ لأن الذي يسقط من القدم أيضًا سيكون واسعًا، وإخراج هذا الرَّجُل رِجْله من هذا الخف سهْل يسير؛ فيُخرجها، ويغسلها، وينشِّفها، ويردّها ثانية.
(ولا يُرى منه بعضه)؛ يعني ولا يمسح، ما يرى منه بعضه، كيف؟ يعني إذا كان الخُف يُرى منه بعض القدم؛ فإنه لا يُمسح، ولو كان البعض قليلًا؟ نعم، وهذا مبنيّ على ما سبق من اشتراط أن يكون الخف ساترًا للمفروض، فإذا كان يُرى منه بعض القدم؛ فإنه لا يمسح، وسواء كان يُرى من وراء حائل، أو يُرى من دون حائل، كيف يُرى من وراء حائل؟ مثل أن يكون خفيفًا، أو يكون زجاجًا، لو فُرض أن هذا الخف فيه مثلًا على قدْر العين زجاجة تشوف الخُف من ورائها، لكنه حائل ..
طالب: القدم.
الشيخ: القدم في الخف شيء على قدر العين من الزجاج، القدم يُرى من ورائه، ولكنه حائل ولَّا غير حائل؟
طلبة: حائل.
الشيخ: حائل، فعلى المذهب لا يجوز المسْح عليه، وسبق لنا الخلاف في هذه المسألة، وأن الصحيح جواز ذلك للإطلاق.
ثم انتقل المؤلف إلى مسألة تقع كثيرًا، قال: (فإن لبس خُفًّا على خُفّ قبل الحدَث فالْحُكم للفوقاني)، هذا يقع ولَّا ما يقع؟
طلبة: يقع.
الشيخ: يقع، مثل: الشراب والكنادر، هذا خف على خف، ونحن أولًا: نبحث هل يجوز المسح عليهما؟ قبل أن نعرف هل المسح على الأعلى ولا على الأسفل، هل يجوز المسح عليهما أم لا؟
طلبة: نعم.
الشيخ: إن كانا مُخرَّقين لم يجُز المسح عليهما على المذهب ولو سترا؛ لأن كل واحد منهما لو انفرد لم يجز المسح عليه؛ فلا يمسح عليهما؛ مثاله: لبست شرابتين واحدة مخروقة من الأسفل، وواحدة مخروقة من الأعلى، الآن الستر حاصل ولَّا غير حاصل؟
طلبة: حاصل.
الشيخ: حاصل، لكن لو انفردت كل واحدة منهما لم يَجُز المسح عليها، فلا يجوز المسح عليهما، لا على الأعلى، ولا على الأسفل، كذا؟
لو كانا صحيحين، لو كانا الْخُفَّان صحيحين؟
طلبة: يجوز.
الشيخ: جاز المسح عليهما؟
(1/299)
________________________________________
طلبة: إي نعم.
الشيخ: واضح؛ لأن كل واحد منها لو انفرد جاز المسْح عليه.
لو كان أحدهما سليمًا والآخر مُخرَّقًا؟
يقولون: إنه يجوز المسْح عليهما؛ لأنه حصل الستر، وأحدهما لو انفرد؛ جاز المسح عليه، فيجوز المسح عليهما في هذه الحال، فصار الآن إما أن يكونا مخرقين، أو سليمين، أو الأعلى سالمًا والأسفل مُخرّقًا، أو بالعكس، فيجوز المسح في ثلاث صور:
إذا كانا سليمين، وإذا كان الأعلى سليمًا والأسفل مُخرَّقًا، أو بالعكس، في هذه الصور الثلاث يجوز المسح، وإذا كانا مُخرَّقين لم يجُز المسح.
والصحيح: أنه يجوز المسح عليهما مُطلقًا، بناءً على أنه لا يُشترط ستر محل الفرض ما دام اسم الْخُفّ باقيًا.
إذا لبس خُفًّا على خُفّ، فهل الحكم للأعلى؟ يعني إذا لبس على وجه يصح المسح، فهل يكون الحكم للأعلى أو للأسفل؟
طلبة: للأعلى.
الشيخ: لا، فيه تفصيل؛ نفصّل على المذهب، وبعدين نشوف؛ إن كان قبل الحدث يقول المؤلف: (فالحكم للفوقاني)، وإن كان بعد الحدث (فالحكم للتحتاني)؛ فمثلًا هذا رجل لبس شرابًا، ثم أحدث، ثم لبس شرابًا آخر.
طلبة: للأسفل.
الشيخ: الحكم للأسفل؛ يعني لا يمكن أن يمسح على الأعلى، فإن لبس الأعلى بعد أن مسح الأسفل فالحكم للأسفل.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، أحدث، هذا رجل لبس الشّرابة، ثم أحدث ومسح عليها، ثم صار في آخر النهار برد شديد فلبس شرابة أُخرى فوق العليا، لكنه لبسه وهو على طهارة ..
طالب: طهارة مسح.
الشيخ: إي، على طهارة مسْح، هل الحكم للأول للتحتاني ولَّا للفوقاني؟
المذهب -كما ترى- الحكم للتحتاني؛ لأنه لبسه بعد الحدث، ولا يكون الحكم للفوقاني إلا إذا لبسه قبل الحدث.
وقال بعض أهل العِلْم: إنه إذا لبس الثاني على طهارة؛ جاز المسْح عليه، يجوز المسح عليه؛ لأنه يصدُق عليه أنه أدخل رجليه طاهرتين، فإذا كان يصدق عليه فالحديث: «دَعْهُمْا؛ فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» (10).
(1/300)
________________________________________
والأصحاب -رحمهم الله- نصوا على أن المسْح على الخفين رافع للحدث، ما هو كالتيمم مُبيح على رأيهم؛ فالآن لبس الخف الثاني على طهارة تامّة، فلماذا لم يَمسح؟ وهذا القول قوي جدًّا؛ لأن علّته ظاهرة، أما لو لبس الثاني وهو مُحدِث فإنه لا يمسح؛ لأنه لبسه على غير طهارة.
طالب: ( ... ).
الشيخ: نعم، الأخيرة بعد أن مسح الأول أحدث، ثم لبس الثاني وهو مُحدِث؛ فلا يمسح الآن؛ لأنه لبسه على غير طهارة.
طالب: فإذا لبس قبل الحدث الحكم للفوقاني ولَّا للتحتاني؟
الشيخ: الحكم للفوقاني يمسح الأعلى.
طالب: ولا يجوز المسح عليه؟
الشيخ: اصبر، بارك الله فيك؛ يمسح الأعلى، لكن هل يجوز أن يمسح الأسفل في هذه الحال؟ الجواب: نعم، يجوز، وإنما قال المؤلف: (الحكم للفوقاني)؛ لبيان جواز المسح عليه.
فالحاصل الآن: إذا لبِس خُفًّا على خُفّ فإما أن يكون بعد الحدث أو قبل الحدث؛ بعد الحدث من أول ما لبسه، أو بعد الحدث؛ إن كان بعد الحدث تعيَّن المسح على التحتاني؛ اللي هو الأول، ولا يجوز أن يمسح على الفوقاني بأي حال من الأحوال سواء لبس على طهارة أم لا، هذا المذهب، وإن كان قبل الحدث فالحكم للفوقاني، ويجوز المسح على التحتاني؛ لأنه الأصل.
بقينا إذا كان في الحال التي يُمسح الأعلى فيها لو خلعه بعد مسْحِه فهل يمسح ما تحته؟ يعني مثلًا رجل لبس شرابتين، وصار يمسح على العليا، وفي أثناء النهار احترّ؛ يعني: احترّ؛ تعرفونه ولَّا ما تعرفونه؟ وقال: باخلع الأعلى فخلعه، هل له أن يمسح التحتاني أو لا؟
طلبة: لا.
الشيخ: المذهب لا، وهذا فائدة قولنا: إنه يكون الحكم للفوقاني، هم يقولون: إذا مسح على الفوقاني خلاص تعلَّق الحكم به، إذا خلعه بعد مسْحه لم يُجزئه أن يمسح على ما تحته، هذا المذهب.
(1/301)
________________________________________
والقول الثاني: يجوز جعلًا للخُفَّين بمنزلة الظهارة والبطانة، ويش معنى الظِّهارة والبطانة؟ لغة جديدة دي، لو كان عنده خُف؛ يعني مصنوع من طبقتين، العليا تسمى ظهارة، والثانية: الداخلية بطانة، هذا الخف الذي له وجهان لنفرض أنه بعد مسحه تمزق الوجه الأعلى اللي هي الظهارة هل يمسح على البطانة؟
طلبة: نعم.
الشيخ: نعم يمسح حتى على المذهب ..
ويَمْسَحُ أكثرَ العمامةِ وظاهرَ قَدَمِ الْخُفِّ من أصابعِه إلى ساقِه دونَ أسفَلِه وعَقِبِه، وعلى جميعِ الْجَبيرةِ ومتى ظَهَرَ بعضُ مَحَلِّ الفرْضِ بعدَ الْحَدَثِ أو تَمَّتْ مُدَّتُه استَأْنَفَ الطهارةَ.
(باب نواقض الوضوء)
يَنْقُضُ ما خَرَجَ من سَبيلٍ، وخارِجٌ من بَقِيَّةِ البَدَنِ إن كان بولًا أو غائطًا أو كثيرًا نَجِسًا غيرَهما، وزَوالُ العَقْلِ إلَّا يَسيرَ نومٍ من قاعدٍ وقائمٍ، ومَسُّ ذَكَرٍ مُتَّصِلٍ أو قُبُلٍ بظَهْرِ كفَّهِ أو بطنِه، ولَمَسُهُما من خُنْثَى مُشْكِلٍ، ولَمْسُ ذَكَرٍ ذَكَرَه أو أُنْثُى قُبُلَها لشهوةٍ فيهما،
كخف واحد، فإذا خلع الأعلى جاز؟
طالب: أن يمسح على الأسفل.
الشيخ: أن يمسح على الأسفل، وهذا القول أيسر للناس؛ لأن كثيرًا من الناس يلبس كنادر على الشراب ويمسح الكنادر، وإذا بغى ينام خلعها، على المذهب: ما عاد يمسح على الشراب من الغد، السبب: لأنه إذا خلع الممسوح انتهى زمن المسح، ما عاد يعيده.
وعلى القول الثاني اللي أشرنا إليه يجوز يمسح على الشراب ولَّا لا؟ يجوز أن يمسح على الشراب، فإذا مسح على الشراب ولبس الكنادر يجوز يمسح عليه المرة الثانية أيضًا؛ لأنه لبسهما على طهارة.
(1/302)
________________________________________
وهذا أيسر للناس، فمن سلكه -ولا سيما إذا سُئل واستفتي بعد وقوع المسألة- فهو حسن؛ لأن اشتراط ما ذكره الأصحاب رحمهم الله في النفس منه شيء؛ يعني: كونه إذا خلع الخف الأعلى وقد مسحه بطل المسح ولم يتمكن من إعادة المسح ثانيًا على الأسفل، هذا محل نظر؛ لأن الرِجل الآن لما سترت بالخفين صار فرضها المسح، سواء على الأعلى ولَّا على الأسفل.
أما إذا كان الإنسان في سعة، فالأحسن أنه إذا خلع الممسوح الأعلى يخلع الأسفل إذا أراد أن يتوضأ، لكن أحيانًا يجيء واحد يسأل يقول: أنا أمسح على كنادر، لكن لما بغيت أنام خلعتهم، ولما قمت أصلى الفجر مسحت على الشراب ولبست، فكوننا نلزمه بأن يقضي ما فات صعب؛ يعني: ممكن أن نفتيه بهذا القول؛ لأنه أيسر، وليس هناك دليل بيِّن للمذهب في هذه المسألة.
طالب: ( ... ) إذا لبس خفًّا على خف، والخف الثاني مخرقة والثاني سليم ( ... ) الخف الفوقاني، ونعتبر أنه لا يصح المسح؟
الشيخ: لا، هم يرون أنه يصح، حتى لو كان الأعلى مخرقًا يجوز المسح عليه.
الطالب: كيف نحن نقول ..
الشيخ: هذا مما يؤيد القول الثاني؛ أن هذين الخفين بمنزلة خفٍّ واحد، وأنهما كالظِّهارة مع البطانة.
طالب: الظِّهارة والبطانة كلاهما يستران إذا كان الخف ..
الشيخ: لا يا أخي، ما هو كلاهما يستران، أنت تعرف الزربول؟
الطالب: إي نعم.
الشيخ: هو يستر كله؟
الطالب: لا.
الشيخ: إي نعم، الظِّهارة فيه بس على ظهر القدم.
طالب: اسمها أيش يا شيخ؟
الشيخ: اسمها الزُّربول.
طالب: أيش الزُّربول هذا يا شيخ؟
الشيخ: هذا موجود حتى في لغة الفقهاء، الفقهاء يقولون: الزُّربول.
طالب: ويش هو؟
الشيخ: الزُربول غير الزنبور.
طالب: ما هي الكنادر يا شيخ؟
الشيخ: لا، الزرابيل عبارة عن صوف منسوج على قدر الرِّجْل، وهذا الصوف يُلبَّس جلد من فوق طبقة واحدة، ومن أسفل طبقات مثل طبقات النعال ويخرز.
طالب: ( ... ) جلود الكنادر؟
(1/303)
________________________________________
الشيخ: لا، هذا شيء آخر، هذا يسمونه عندنا جرابات؛ جراب، أما الزُّربول فهذا ما وصفته لكم، ولهذا لو كان عندنا.
الطالب: موجود ( ... ).
الشيخ: ( ... ) من الصوف ويتحط عليه جلد من فوق، ومن أسفل جلد طبقات مثل طبقات النعال.
طالب: إذا لبس، ثم مسح، ثم لبس، فما الحكم؟
الشيخ: الحكم على المذهب: للتحتاني، المذهب: إذا مسحت شيئًا تعلق الحكم به، سواء أعلى ولَّا أسفل، وعلى القول الثاني: يقولون: ما دام لبسه على طهارة فلا حرج أن يمسح على الأعلى.
طالب: سترة الصلاة ( ... ) هل يخلعه عند الصلاة؟
الشيخ: ما يلزم يخلعه؛ إن شاء خلعه، وإن شاء لم يخلعه.
الطالب: يعني جائز خلعه.
الشيخ: إي نعم، لكن إذا عاده لازم يعيده على طهارة؛ يعني: إن كان باقيًا على طهارة ما يخالف يخلعه، ثم إذا انتهى، إلا على المذهب، فهو إذا خلعه ما عاد يصح المسح عليه.
طالب: اختيار شيخ الإسلام ( ... ).
الشيخ: واللهِ ورد فيه عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، وحمل عليه حديث: أمسح يومًا؟ قال: «نَعَمْ»، قال: يومين؟ قال: «نَعَمْ»، قال: ثلاثة؟ قال: «نَعَمْ»، وما شئت (1).
( ... ) قبل الحدث فالحكم للفوقاني، وبعده الحكم للتحتاني؛ للأسفل، هذا هو المذهب، ذكرنا رأيًا آخر؛ مخرق لكنهما خَرْقُ أحدهما يقابل سليم الآخر؛ يعني: قد ستر، فالمذهب؟
طلبة: لا يجوز.
الشيخ: لا يجوز المسح عليهما أبدًا، لا على الأعلى ولا على الأسفل؛ لأن كل واحد منهما لا يصلح للمسح بانفراده، فلا يمسح عليهما عند الاجتماع.
إذا كان الأعلى سليمًا والأسفل مخرقًا جاز المسح على الأعلى فقط، ولا يمكن يمسح على الأسفل، ولَّا لا؟ لأن الأسفل لا يصح المسح عليه، والثاني الأعلى يصح، وإن كان بالعكس؛ الأسفل سليمًا والأعلى مخرقًا جاز المسح عليهما جميعًا، يخير؛ إما على الأعلى، وإما على الأسفل، فصار يُخيَّر فيهما إذا كانا سليمين، أيش بعد؟ وإذا كان الأسفل السليم، يخير فيهما.
(1/304)
________________________________________
يمتنع مسح الأسفل إذا كان معيبًا والأعلى سليمًا، يمتنع مسحهما جميعًا إذا كان معيبين، هذا المذهب، والصحيح أنهما إذا سترا -ولو كانا معيبين- فإنه يجوز المسح عليهما.
طالب: جعلناها في الحصة الماضية ثلاث حالات فقط؛ أن يكون أحدهما معيبًا والثاني سليمًا.
الشيخ: إي، أحدهما، بس ما فصلنا.
طالب: ما فصلنا؟
الشيخ: إي.
طالب: يا شيخ ( ... ).
***
الشيخ: يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (ويمسحُ أكثرَ العِمَامة) أراد المؤلف رحمه الله أن يبين موضع المسح وكيفيته، فقال: (ويمسحُ أكثرَ العِمَامة) وجوبًا؟ إي، وجوبًا، لا بد أن يكون المسح شاملًا لأكثر العِمَامة، لو مسح جزءًا منها ما صح، وإن مسح الكل فلا حرج؛ لو أدار مثلًا يده كذا على عمامته فلا حرج، لكن لو مسح أكثرها ولا مسح اللي فوق كفى، ويستحب إذا كانت الناصيةُ بادية أن يمسح الناصية مع العِمَامة.
قال: (وظاهرَ) ولَّا (وظاهرِ)؟
طلبة: وظاهرَ.
طالب آخر: وظاهرِ بالكسر.
الشيخ: بالكسر، اختلفتم، (وظاهرِ) بالكسر؛ يعني: وأكثرَ ظاهرِ، لا يمسح الظاهر كله، وإنما يمسحُ أكثر ظاهر القدم؛ يعني: أعلاه دون أسفله وعقبه.
الدليل أن المسح مختصٌّ بالظاهر: حديث المغيرة بن شعبة: مسح خفيه (2)، فإِن ظاهره أن المسحَ بالأعلى، وحديث علي بن أبي طالب -وإن كان فيه نظر، ولكنه حسنه بعضهم- قال: لو كان الدِّين بالرأي، لكان أسفلُ الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح أعلى الخُفِّ (3)، فلما قال هكذا عَلِمْنا أن الأعلى هو محل المسح.
وأما قوله: لو كان الدِّين بالرَّأي، فهذا فيه إشكال عظيم؛ وهو أن يقال: المراد بالرأي هنا العقل، وهل الدِّين مخالفٌ للعقل؟
طلبة: لا.
(1/305)
________________________________________
الشيخ: لا، والجواب على هذا الإشكال أن يقال: مراد علي بن أبي طالب -إن صحَّ الحديث عنه– مراده بالرأي ظاهر الرأي، كما قال تعالى: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] يعني: في ظاهر الأمر.
في ظاهر الأمر قد يقول قائل: أسفل الخف أولى؛ لأنه هو الذي يباشر التراب والوساخة، فكان أولى بالمسح من أعلاه، أعلاه أنظف كيف يمسح؟ ! ولكننا نقول: عند التأمل تجد أن العقل يدل على أن مسح أعلاه هو الأولى؛ لأن المسح لا يُراد به التنظيف والتنقية، يُراد به التعبُّد، ولو أننا مسحنا أسفلَ الخُفِّ لكان في ذلك تلويثٌ له؛ زيادة، لو فرض أن فيه أذي صار ذلك تلويثًا أكثر، فصار الرأي الصحيح هو مسح أعلاه.
وكيف يمسح أعلاه؟ يقول: (من أصابعه إِلى ساقه) من أصابع الرجل إلى ساقه، وقد وردت آثارٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة، وقال بها أهل العلم: إنه يمسح بأصابعه هكذا مفرَّقة، حتى يُرى فوق ظهره خطوط الأصابع؛ يعني: ما هو ابتدأ بالراحة بالأصابع، هكذا، بالأصبع هكذا، من أصابع الرجل إلى ساقه.
(دون أسفله وعقبه) فلا يُمْسَحوا؛ لأن الأسفل والعقب ليسا أعلى القدم، والمسح إنما ورد في الأعلى، كما في حديث المغيرة في ظاهره، وفيه روايات -في حديث المغيرة- تدل على ما دلَّ عليه حديثُ علي بن أبي طالب.
قوله: (من أصابعه إِلى ساقه) إذا فرضنا أن الخُف أكبر من الرِّجْل، فهل الواجب أن يمسح ما يحاذي رؤوس الأصابع أو يمسح من طرف الخُفِّ؟ أنتم فاهمين هذه؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: هو في بعض الأحيان تكون الكندر كبيرة أكبر من القدم، هل يمسح من طرفها، ولَّا نقول: لا، الواجب أن تمسح مما يحاذي رؤوس الأصابع؟
طلبة: ما يوازي الأصابع.
(1/306)
________________________________________
الشيخ: إي، فيه عندنا ظاهر، وعندنا باطن، فظاهر أنه مسح على خُفيه أنه يمسح الخُف من طرف الخف إلى ساقه، بقطع النظر عن كون الرِّجْل صغيرة فيه أو كبيرة، وإذا نظرنا إلى المعنى -وهو الباطن- قلنا: إن هذا الخُف زائدٌ عن الحاجة، فالزائدُ لا حُكم له، ويكونُ الحكم مما يُحاذي الأصابع، فأيهما أحوط؟
طالب: الأول.
الشيخ: الأول أحوط، فنأخذ به.
وقال: (دون أسفله وعقبه) قال رحمه الله: (ويمسح على جميع الجبيرة) عندي أنا (ويمسح وعلى جميع الجبيرة) (يمسح) من الشرح الظاهر، (وعلى جميع الجبيرة) الجبيرة يمسح عليها جميعًا؛ لأن ظاهرَ حديث صاحب الشجَّة: «وَيَمْسَحَ عَلَيْهَا» (4) أنه يمسح على كل الجبيرة، وقد سبق أنه يشترط في الجبيرة ألَّا تتجاوز؟
طلبة: موضع العادة.
الشيخ: موضع العادة، فيمسح على كل الجبيرة من كل جانب، الجبيرة يعني مثل اللزقة على الجرح، أو الجبس على الكسر، أو ما أشبه ذلك.
طالب: اللزقة.
الشيخ: وكذلك اللزقة يمسح على جميع الجبيرة.
وقول المؤلف: (يمسح) في المسائل الثلاث، هذا هو المفروض، ولكن لو غسل بدل المسح هل يجزئ أو لا يجزئ؟ قال بعض أهل العلم: إنه لا يجزئ؛ لأن هذا خلاف ما جاء به الشَّرع، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (5)، فلا بد أن تمسح، ما كان الرسول يغسل خفيه، لكن مسح العمامة ما يرد؛ لأنه حتى الرأس يمسح، كذلك الجبيرة قالوا: ويمسح عليها، ثم إننا إذا غسلنا الرجل انقلبت الرخصة أيش؟
طالب: عنتًا ومشقة.
الشيخ: عنتًا ومشقة، كيف ( ... )؟ وقال بعض أهل العلم -توسط- قال: يجزئ الغسل إن أمرَّ يده عليها؛ لأن إمرار اليد معناه؟
طالب: يشمل المسح.
(1/307)
________________________________________
الشيخ: معناه: المسح، وهذا أحوط؛ أنك إذا صار عليك لزقة مثلًا على الظهر أو في أحد الأعضاء، وأردت أن تتطهر خلِّ الماء يمشي عليه، لا مانع، لكن الأحوط أن تمسح، ثم إن بعض اللزقات يكون فيها دهنية، إذا لم تمسحها يمكن ينزل الماء عنها.
طالب: بعيدة شوية.
الشيخ: ويش البعيد؟
طلبة: ( ... ).
الشيخ: ومن الأمثال المشهورة عندهم: ما يحك ظهرَك إلا ظفرُك.
طالب: جلدك.
الشيخ: أنا سمعتها (ظهرك).
طلبة: ( ... ).
الشيخ: الجلد ما هو بصحيح، الجلد كل شيء يحكه.
على كل حال، الظاهر أنه ما هنا شيء في البدن ما يطوله الإنسان، وأنتم -إن شاء الله تعالى- تجربون، لكن في غير هذا الموضع!
فهمنا كيفية المسح، صار الآن المؤلف يرى أن المسح بالنسبة للعمامة على أكثرها، بالنسبة للخف على أكثرِ ظاهرِه، ما هو على أكثره، بالنسبة للجبيرة على جميعها، فصار عندنا: أكثر، وأكثر ظاهر، وجميع.
والبحث الثاني ذكرنا فيه هذا هل يجزئ الغسل أم لا؟ وفيه للعلماء ثلاثة آراء، والأرجح أنه إذا احتاج إلى الغسل يمسح عليه، حتى لا يخرج عن صفة ما جاءت به السنة.
قال: (ومتى ظهر بعضُ محلِّ الفرض بعد الحدث) ويش معنى (محل الفرض)؟ الرِّجْل الفَرْضُ أن تُغسَلَ كلها إلى الكعبين، فإِذا ظهر من القدم بعضُ محلِّ الفرض، مثل طلع رجله حتى طلع الكعب، الآن ما عاد يمكن يلبس، لازم يستأنف الطهارة، ويغسل رجليه كلها، كذلك في الرأس، لو أنها العمامة زلت شوي، وارتفعت عما جرت به العادة فإنه لا يمسحها، بل يستأنفَ الطَّهارة، وهذا بناء على أنه يشترط للبس العمامة أن تكون على طهارة، أما على القول الثاني فلا تجد هذه المسألة بالنسبة للعمامة، أيهم؟
طالب: المسألة الأولى.
(1/308)
________________________________________
الشيخ: المسألة الأولى، إذا ظهر بعض محل الفرض فإنه يستأنفَ الطَّهارة، قلت: لو أراد يطلع الجورب أو الخف وظهر الكعب، هذا بعض محل الفرض، أما لو ظهرت الرجل كلها واضح، لكن إذا ظهر بعض محل الفرض كما لو خرج الكعب فإنه تنتقض طهارته ويستأنفها ويغسل قدميه، نقول: لأنه زال أثر المسح، الآن خلينا نفهم الحكم وبعدين التعليل.
كذلك لو فرض أن الشرابة، الشرابة ويش نسميها؟
طلبة: جورب.
الشيخ: جورب، أن الجورب ينشق وطلع طرفُ الإبهام، أو ينشق من عند العقب وطلع بعض العَقِب، فإنه ينتقض وضوؤه ويستأنف الطَّهارة من جديد، وهذا مبني على أي شيء؟ على أن ما ظهر فرضه الغسل، وإذا كان فرضه الغسل فإن الغسلَ لا يُجامِعُ؟
طالب: المسح.
الشيخ: المسح، فلا بد إذن من أن يعيد الطَّهارة، ثم يغسل قدميه، ثم يلبس.
القول الثاني في هذه المسألة: أنه ما دام على وضوئه فإنه لا ينتقض وضوؤه، وترى هذا مراد المؤلف رحمه الله (ومتى ظهر بعضُ محلِّ الفرض بعد الحدث) مراده بعد الحدث، أما لو ظهر بعضُ محلِّ الفرض أو كلُّ الفرض قبل الحدث الأوَّل فإنه لا يضر؛ يلبس ويمشي.
طالب: الحدث الأول؟
الشيخ: قبل الحدث الأول، مثل لبس خُفَّيه لصلاة الصُّبح، وبقي على طهارته إلى قُرب الظُّهر، في الضُّحى رأى أنه حر فخلع الخُف، وهو في أثناء طهارته باقٍ على طهارته لبسه ثانية، يجوز ولَّا لا؟
طلبة: يجوز.
الشيخ: يجوز؛ لأنه على الطهارة الأولى، لكن كلامه (بعد الحدث) فيقول: إنه يبطل مسحه، ولا بد أن يستأنف الطهارة من جديد.
القول الثاني في هذه المسألة: أنه لا يجب عليه استئناف الطهارة، ولو أخرج كل الرِّجل، خلع الخف مرة وهو على طهارة فطهارته باقية، وعلَّلوا ذلك بأنه لا دليل على النقض، فهذا الرجل لما مسح على الخف تمت طهارته؟ أجيبوا.
الطلبة: نعم.
(1/309)
________________________________________
الشيخ: لما مسح على الخف تمت طهارته بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي، فنقول لمن قال: إن الإنسان إذا خلع الخف بطلت طهارته ووجب عليه استئناف الطهارة، نقول له: أين الدليل؟ هات دليلًا، سوف يبحث في كل أدلة الدنيا ما يجد دليلًا على ما قال.
ثم نقول: ما تقول في رجل مسح على رأسه، وعليه شعر كثير ما يصل إلى باطن رأسه ولا بَلَل، كل الرأس مملوء من الشعر، مسح على رأسه، ثم بعد أن تم وضوؤه حلق رأسه، ينتقض وضوؤه ولَّا لا؟
طلبة: لا ينتقض.
الشيخ: ما ينتقض؟
طلبة: لا.
الشيخ: ويش الفرق؟
طالب: لا فرق.
الشيخ: لا فرق في الحقيقة، قالوا: هناك فرق، لكن أنتم أغبياء ما تعرفوه، هناك فرق، ما هو الفرق؟
قال: لأن المسح في الرأس أصلي، والمسح في الخف فرعي، كيف تسوون بين الفرع والأصل؟ وهذه تحير، ويش نقول له؟
نقول: ما دمنا اتفقنا على أن المسح تعلَّق بشيء زال، فكونه أصلي أو فرعي هذا غير مؤثِّر في الحكم، المهم أن الذي تعلقت به الطهارة -وهو الشعر في الرأس والخف في القدم- زال وراح من الإنسان فلا فرق، لكن لو قاسه رجل على من قطعت يده بعد وضوئه، يصح القياس ولَّا ما يصح؟
طلبة: ما يصح.
الشيخ: هذا نعم، ما يصح القياس؛ لأن محل الفرض زال بالكلية، صح ولَّا لا؟
طالب: نعم.
الشيخ: إي نعم، والله أعلم.
طالب: على الجبيرة.
الشيخ: ( ... ) (بعد الحدث أو تمَّت مدَّتُه استأنف الطَّهارة) أو زالت الجبيرة أو بَرِأ ما تحتها فإنه يستأنف الطهارة.
أولًا: إذا ظهر بعض محل الفرض، وهذا يدخل فيه الخف والعمامة، فإذا ظهر بعض محل الفرض، وظاهر كلام المؤلف: ولو يسيرًا، فإنه يجب عليه استئناف الطهارة، وإذا خلع نهائيًّا فهو من باب أولى أن يستأنفَ الطَّهارة.
قالوا في تعليل ذلك: لأنه لما زال الممسوح بطلت الطهارة في موضعه، والطهارة لا تتبعض، فإذا بطلت في عضو من الأعضاء بطلت في الجميع، عرفتم التعليل؟ ما هو التعليل؟
(1/310)
________________________________________
طلبة: الطهارة ( ... ).
الشيخ: لأن الطهارة زالت بزوال الممسوح، فزالت الطهارة عن العضو، وإذا انتقضت في بعض أعضائها انتقضت في سائرها، لماذا؟ لأن الطهارة لا تتبعض، هذا هو التعليل، وهذه المسألة فيها قولان لأهل العلم:
أحدهما: ما ذهب إليه المؤلف؛ بأنه إذا ظهر بعض محل الفرض؛ ظهرت بعض الرِّجل أو كل الرِّجل بطلت الطهارة، ووجب عليه الاستئناف، حتى ولو كان ظهورها بعد الوضوء بيسير قبل أن تجف الأعضاء فإنه يجب عليه الاستئناف؛ يعني: مثلًا توضأ ومسح الخفين، ثم خلعهما في الحال وهو لم ييبس، فإن طهارته تبطل؛ لأن العلة وجدت وهي: زوال الطهارة في الممسوح، فتزول في جميع الأعضاء.
وقال بعض العلماء: إنه في هذه الصورة يجزئه أن يغسل قدميه؛ لأنه لما بطلت الطهارة في القدمين والأعضاء لم تنشف بعد فإن المولاة لم تفت، وحينئذٍ يبني على الوضوء الأول، فيغسل قدميه.
القول الثالث في المسألة: أنه إذا خلعهما وجب عليه أن يغسل قدميه وكَفَاهُ، بناء على أن المولاة ليست شرطًا في الوضوء، فينبني غسل الرجلين الآن على ما سبق من غسل الأعضاء.
لكن كلا القولين الأخيرين لا ينبنيان على المذهب؛ لأن علة بطلان الطهارة في خلع الخف ليس من أجل المولاة، ولكن من أجل أن الطهارة لا تتبعض، فإذا بطلت طهارة القدم بزوال الممسوح بطلت في الجميع، فالأقوال إذنْ كم؟
طالب: ثلاثة أقوال.
الشيخ: ثلاثة أقوال.
القول الرابع اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الطهارة لا تنتقض، سواء فاتت المولاة أم لم تفت، وحجته أقوى من حجتهم؛ لأننا نقول: إن هذه الطهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعي، فإن الرجل إذا توضأ ومسح على خفيه تمت طهارته، أليس كذلك؟
طلبة: نعم.
(1/311)
________________________________________
الشيخ: بمقتضى الدليل شرعي، وما ثبت بدليل شرعي فإنه لا يرفع إلا بدليل شرعي، وإلا فالأصل بقاء الطهارة، وعلى هذا فلا ينتقض وضوؤه إذا خلع الخفين، بل يبقى على طهارته إلى أن يوجد ناقض من النواقض المعروفة المعلومة، وهذا القول هو الصحيح.
ويؤيده من القياس: أن الرجل لو مسح رأسه وعليه شعر لا يصل إلى أصوله شيء من الماء، ثم حلقه بعد ذلك فإنه لا ينتقض وضوؤه، ولا عبرة بالفرق بين كون مسح الرأس أصلًا ومسح الخفين فرعًا؛ لأننا نقول: كلا المسحين رافع للحدث، فلا فرق بين الأصلي والفرعي.
قال المؤلف رحمه الله: (أو تمَّت مدَّتُه استأنف الطهارة) إذا تمَّت مدَّته ولو كان على طهارة فإنه يجب عليه إذا أراد أن يُصلِّي أن يستأنف الطهارة.
مثال ذلك: كان مسح بالأمس في الساعة الثانية عشرة، إذا صارت الساعة الثانية عشرة اليوم تمت مدته، فلو كانت الساعة الثانية عشرة اليوم وهو على طهارة، وأراد أن يصلي الظهر قلنا: لا تصلِّ الظهر حتى تستأنف الطهارة وتغسل قدميك، لماذا؟ قال: لأنها انتهت مدة المسح، التعليل صحيح ولّا غير صحيح؟
طلبة: غير صحيح.
الشيخ: لأنها انتهت مدة المسح.
طلبة: لا، ما انتهت.
الشيخ: صحيح، لكن هل هذا مؤثر ولَّا لا؟
طلبة: لا.
الشيخ: الكلام على التأثير، ولَّا لا شك أن المدَّة انتهت، ولكن نقول: ما الذي يدل على أن انتهاء المدة يكون ناقضًا، هاتوا الدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من إجماع أهل العلم، وعلى العين والرأس.
ونحن نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم وقَّت مدة المسح ليُعرَفَ بذلك انتهاء المسح، لا انتهاء الطَّهارة، فليس الموقت هو الطهارة حتى نقول: إذا تمَّ يوم وليلة انتقضت، الموقت ما هو؟
طلبة: المسح.
(1/312)
________________________________________
الشيخ: المسح، فنحن نقول: إذا تمت المدة لا تمسح، معروف، لكن قبل تمام المدة إذا مسحت وبقيت على طهارتك، فإن طهارتك هذه قد تمت بمقتضى دليل شرعي، وما تم بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يرفع إلا بدليل شرعي، ولا دليل على ذلك، والأصل بقاء الطهارة وعدم النقض.
فإن قال قائل: أفلا توجبون عليه الوضوء احتياطًا؟
قلنا: لا شك أن الاحتياط بابٌ واسعٌ، ولكن ما هو الاحتياط؟ هل هو بلزوم الأشدِّ، أو بلزوم الأيسر، أو بلزوم ما اقتضته الشَّريعة؟ الأخير.
فإذا شككنا هل اقتضته الشَّريعة أم لا؟ فقد اختلف العلماء هل تسلك الأيسر أو الأشد؟
فقال بعض أهل العلم: تسلك الأيسر؛ لأن الأصل براءة الذِّمَّة؛ ولأنَّ الدينَ مبنيٌّ على اليُسر والسهولة.
وقال بعض العلماء: تسلك الأشد؛ لأنه أحوط وأبعد عن الشُّبهة.
ولكن عندنا في مسألة النقض أصل أصَّله لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الرَّجُل يُخيَّل إِليه أنَّه يجدُ الشَّيء في الصَّلاة، فقال: «لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» (6)، فلم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء إلا على من تيقَّن سبب وجوبه، أو لا؟
الطلبة: نعم.
الشيخ: «حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»، ولا فرق بين كون سبب الوجوب مشكوكًا فيه من حيث الواقع، كما في الحديث، أو من حيث الحكم الشَّرعي، فإن كُلًّا فيه جهالة؛ هذا جاهل بالواقع هل حصل ولَّا ما حصل؟ وهذا جاهل بالشرع هل يوجب هذا أو لا يوجب؟
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» علم أننا لا ننقض الوضوء إلا بماذا؟
طلبة: باليقين.
الشيخ: بيقين، وهنا لا يقين، بل الرَّاجح الذي يغلب على الظن أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله أصح؛ وهو أنها لا تنتقض الطَّهارة بانتهاء المدَّة؛ لعدم الدَّليل.
(1/313)
________________________________________
ونحن نقول: أيُّ إنسان يأتي بدليل فإن فرضًا علينا أن نتَّبع الدَّليل، لكن إذا لم يكن دليلٌ فليس يسوغ لنا أن نُلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به؛ لأنا مسؤولون، أهل العلم مؤتمنون على الشَّريعة، لا يمكن أن يلزموا عباد الله بما لا يلزمهم، ولا أن يحللوا لعباد الله ما حرِّم عليهم، هم أمناء كالوكلاء؛ ولهذا جاء في الحديث: أنهم ورثة الأنبياء (7).
كذلك أيضًا لو برئ ما تحت الجبيرة وجب عليه أن يستأنف الطَّهارة؛ إذا كانت في أعضاء الوضوء استأنف الوضوء، إِذا كانت في أعضاء الغسل، كما لو اغتسل من جنابة ومسح فإنه يستأنف غسل ما تحتها، ولا يستأنف الغسل كاملًا؛ لأن الغسل -على المذهب- لا تُشترط فيه الموالاة، فيغسل ما تحتها وينتهي، وكذلك لو انحلَّت الجبيرة فإنه يستأنف الطَّهارة.
الصَّحيح أنه لا تبطل طهارته لبرء ما تحت الجبيرة، ولا بانتقاضها، ويعيد شدها في الحال، أو متى شاء. والصَّحيح كما قررنا الآن: أنه لا تبطل طهارته لبرء ما تحتها ولا بانتقاضها، ويعيد شدها في الحال، أو متى شاء؛ لأن الجبيرة -على القول الرَّاجح، كما مر- لا يُشترط لوضعها الطهارة.
هذا خلاصة باب المسح على الخفين، وبه نعرف أن الممسوحات ثلاثة أشياء: خف، وعمامة، وجبيرة، والعمامة منها الخمار للمرأة، فتكون بالبسط أربعة، وبالاختصار ثلاثة: ملبوس على الرجل، وعلى الرأس، وعلى سائر الجسم، أي جسم، لكن الأخير إنما هو في الضرورة.
هل يجوز المسح على الذراعين إذا كانت الأكمام ضيقة والناس في الشتاء؟
طلبة: ما يجوز.
الشيخ: ما يجوز؟
طلبة: ما يجوز.
الشيخ: كيف ما يجوز؟
طالب: لأنه ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كانت أكمامه ضيقة، فأخرج يديه وأظهرها مع الجيب (8).
الشيخ: أظهرها من الأسفل، ما هو مع الجيب، هذا دليل صحيح؛ دليل إيجابي، لكن لو فرض أن هذا الدليل لم يرد؟
طالب: لم يَجُزْ.
الشيخ: لم يَجُزْ؟
طالب: لا يجوز.
(1/314)
________________________________________
الشيخ: نعم؛ لأن الأصل في العبادة الحظر، حتى يقوم دليل على المشروعية، فإذا قام دليل على المشروعية فعلى العين والرأس، وإلا فلا، على أن قصة الجبة التي أشار إليها واضحة.
هل يجوز المسح على المناكير؟
طلبة: ما يجوز.
الشيخ: ما يجوز؛ لأنها تشبه الأكمام.
هل يجوز المسح على الهامة؟
طلبة: نعم.
الشيخ: الهامة تعرفونها؟ الهامة: حلي من الذهب يربط على الرأس؛ يشد على الرأس.
طلبة: يجوز.
الشيخ: يجوز؟
طلبة: نعم.
الشيخ: يجوز، وأصل ذلك شيئان:
الشيء الأول: أنه يمكن أن تلحق بالخمار؛ لأن المشقة في نزعها أكثر من المشقة في نزع الخمار؛ لأنها تربط ببعض الشعر؛ يدخل الشعر في عرى فيها ويشد عليها، هذه واحدة.
ثانيًا: أنه قد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه لبَّد رأسه بالصمغ ونحوه وهو محرم (9)، تلبيد الرأس، وهذا معناه بيكون فيه حائل يمنع وصول الماء، لكن لما كان الأصل في تطهير الرأس التخفيف صار يجوز المسح على ما ستره بمثل هذه الأمور المعتادة.
***
[باب نواقض الوضوء]
( ... ) اسم فاعل لغير العاقل، وجمعُ اسمِ الفَاعل لغير العاقل يكون على (فَوَاعِل)، وكذلك لو كان لمؤنث، كـ (حوامل) جمع (حامل).
والحدث تقدم لنا: أنه وصف يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها، وأما الوضوء فهو: الطَّهارة التي يرتفع بها الحَدَث، الوُضوء بالضم، وأما الوَضوء بالفتح فهو: الماء الذي يُتَوَضَّأ به، كما نقول: طَهُور؛ للماء الذي يُتَطَهَّر به، وطُهور؛ لنفس الفعل، ونقول: سَحور؛ لما يُتَسَحَّر به، وسُحور بالضم؛ لنفس الفعل الذي هو الأكل.
نواقض الوُضُوء هي مفسداتُه؛ يعني: هي التي إذا طرأت عليه أفسدته، وهي نوعان: نوع مجمع عليه، ونوع فيه خلاف؛ أما المجمع عليه فإنه مستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا جدال فيه، وأما المختلف فيه فإنه مبني على اجتهادات لأهل العلم، وعند النزاع يجب الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولننظر.
(1/315)
________________________________________
قال المؤلف: (ينقضُ ما خَرَجَ من سَبيلٍ) (ما) اسم موصول بمعنى (الذي)، واسم الموصول للعموم، كلُّ أسماء الموصول للعموم، سواء كانت خاصَّة أم مشتركة، فالخاصة هي التي تدلُّ على المفرد والمثنى والجمع، مثل: (الذي)، و (الذين)، و (اللذان)، والمشتركة هي الصَّالحة للمفرد وغيره، مثل: (مَنْ)، و (ما)، و (ذا)، وما أشبهها، و (أل).
فهنا يقول: (ما خرج من سبيل) قلت: إن (ما) للعموم يشمل كلَّ خارج، و (من سبيل) مطلق يتناول القُبُل والدُّبر، وسُمِّي سبيلًا؛ لأنه طريق يخرج منه الخارج، والسبيل هو: القُبُل والدُّبر.
وقوله: (ما خرج) إذا قلنا بأنه عام يشمل المعتاد وغير المعتاد، المعتاد مثل أيش؟ كالبول والغائط والرِّيح من الدُّبر، هذه الثلاثة معتادة، قال الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]، وفي حديث صفوان بن عَسَّال: «وَلَكِنْ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ وَنَوْمٍ» (10)، وفي حديث أبي هريرة (11) وعبد الله بن زيد رضي الله: «لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» (6).
ويشمل أيضًا ما كان طاهرًا أو نجسًا؛ فالطاهر كالمني، والنجس ما عداه من بول ومذي وودي ودم؛ لأن الذي يمكن خروجه من القُبُل مثلًا خمسة أشياء: البول والودي والمذي والمني والدم، دم، إي نعم قد يخرج، وهذا شيء واقع، ما هو شيء مفترض، المهم أنه شامل لهذا كله، كله ينقض الوضوء.
الريح من الدبر معتادة، ومن القُبُل غير معتادة؛ ولهذا اختلف فيها الفقهاء؛ فمنهم من قال: إنها تنقض الوضوء، ومنهم من يقول: إنها لا تنقض الوضوء.
وهذه الرِّيح تخرج أحيانًا من فُروج النساء، ما أظنُّها تخرج من الذكر، وربما تخرج، لكن يمكن أنها من أندر النادر، إنما الذي يخرج كثيرًا الريح من قُبُل المرأة، فهي تنقض الوضوء، على ما صرح به فقهاؤنا رحمهم الله، ومن العلماء من يقول: إنها لا تنقض؛ لأنها غير معتادة.
(1/316)
________________________________________
هل تنقضُ الحصاة إذا خرجت من القُبُل أو الدُّبُر؟
طلبة: نعم.
الشيخ: تنقض، إي نعم، وهذا كثير أيضًا؛ لأنه أحيانًا يُصابُ الإنسان بحصى في الكلى، ثم تنزل حتى تخرج من ذكره بدون بول، فهي أيضًا ناقضة.
ولو ابتلع الإنسان خرزة، فخرجت من دبره، تنقض الوضوء ولَّا لا؟
طلبة: نعم.
الشيخ: تنقض الوضوء؛ لعموم قوله: (ينقض ما خرج من سبيل). هذا الأول، وهذا ثابت بالنص والإجماع، إلا ما لم يكن معتادًا ففيه الخلاف.
ثانيًا: (وخارج من بقية البدن إن كان بولًا أو غائطًا) (خارج) هذه معطوفة على (ما)؛ يعني: وينقضُ خارجٌ من بقيَّة البَدن، إن كان بولًا أو غائطًا، ( ... ) وهل يمكن هذا؟ نعم يمكن، لا سيما في العصور المتأخِّرة يُجرى للإنسان عملية حتى يبدأ بوله أو غائطه يخرج من جهة أخرى، فإذا خرج بول أو غائط من أيِّ مكان فهو ناقض للوضوء، سواء كان قليلًا أو كثيرًا.
ويستثنى من ذلك ومن الذي قبله أيضًا: مَنْ حَدَثُه دائم فإنه لا ينتقض وضوؤه بخروجه، مثل أن يكون فيه سلسُ بول أو سلس غائط أو سلس ريح فإنه لا ينتقض الوضوء بذلك، ولكن له حال معينة في التطهر تأتي إن شاء الله تعالى.
قال المؤلف: (وخارج من بقية البدن إن كان بولًا أو غائطًا) ظاهر كلامه: أنه لو خرجت الرِّيح من هذا المكان الذي فُتِحَ بدلًا عن المخرج، ينقض ولَّا ما ينقض؟
طلبة: لا ينقض.
الشيخ: نشوف، نحن قلنا قبل قليل: (ينقض ما خرج من سبيل) إنه يشمل الريح خارج من بقية البدن إن كان بولًا أو غائطًا؛ لأنه قيده بقوله: (إن كان بولًا أو غائطًا)، وعلى هذا فلو خرجت الريح من هذا المكان الذي فتح عوضًا عن المخرج فإنها لا تنقض ولو كانت ذات رائحة كريهة، وهذا الذي مشى عليه المؤلف هو المذهب.
والقول الثاني في المسألة: أنها تنقض الوضوء؛ الريح إذا انسد المخرج وانفتح هذا المكان صار له حكمُ الفَرج فيما خرج منه، لا في مسِّه؛ لأن مسه لا ينقض الوضوء، كما سيأتي.
(1/317)
________________________________________
قال المؤلف: (أو كثيرًا نجسًا غيرَهُما) يعني: أو كان كثيرًا نجسًا غير البول والغائط، فقيَّد المؤلف غير البول والغائط بقيدين؛ أن يكون كثيرًا، وأن يكون نجسًا.
لماذا لم يقيِّد البولَ والغائط بالكثير النَّجس؟ أما النجس فلا حاجة للتقييد؛ لأنه نجس؛ البول والغائط، أليس كذلك؟
طلبة: بلى.
الشيخ: ولأن قليله وكثيره سواء؛ كلاهما ينقض الوُضُوء.
فقول المؤلف: (أو كثيرًا) أولًا: يجب أن نعرف ما هو الكثير؟ أطلق المؤلف (كثيرًا)، والقاعدة المعروفة: أن ما أتى ولم يُحدَّدْ بالشَّرع فمرجعه؟
طلبة: إلى العرف.
الشيخ: إلى العُرف.
وَكُلُّ مَا أَتَى وَلَمْ يُحَدَّدِ
بِالشَّرْعِ كَالحِْرْزِ فَبِالْعُرْفِ احْدُدِ
كل شيء جاء مطلقًا ولم يقيده الشارع فارجع فيه إلى العرف، فنقول: الكثير هنا بحسب العرف، عرف من؟ عُرف النَّاس، إذا قالوا: هذا كثيرٌ صار كثيرًا، وإن قالوا: هذا يسير وبسيط صار بسيطًا.
وقيل: إن المعتبر عند كلِّ أحد بحسبه؛ كلُّ إنسان إذا رأى أن هذا كثيرٌ فإنه يكون كثيرًا، وإن رأى أنه قليلٌ فإنه يكون قليلًا.
لكن هذا القول فيه شيء من النظر، ما الذي فيه؟ أن من الناس من يكون عنده وسواس؛ النقطة الواحدة القليلة تكون عنده كثيرة، ومن الناس من عنده تهاون؛ لو يخرج منه لتر من الدم قال: هذا يسير بسيط؛ لأن دم البعير إذا ذبحت أكثر منه، فلا يرى شيئًا قليلًا أبدًا.
ولكن القول الصحيح: الثاني؛ أن المعتبر العرف، وهو ما عده أوساط النَّاس الذين ليسوا متطرفين لا من هنا ولا من هنا، ما عدوه كثيرًا فهو كثير، وما عدوه قليلًا فهو قليل.
ثانيًا: قوله: (نجسًا غيرَهُما) نجس احترازًا من الطَّاهر، إذا خرج من بقية البدن شيء طاهر ولو كَثُرَ فإنه لا ينقض الوضوء، مثل أيش؟
طالب: مثل العرق.
الشيخ: كالعَرَق.
طالب: واللُّعاب.
(1/318)
________________________________________
الشيخ: اللعاب، وكدمع العين إذا صار يبكي وعيونه كثيرة الماء، ولا عاد الغالب ( ... ) كثير الدمع، لكن يمكن بعض الناس يكون عنده دموع كثيرة ( ... ) يصيح، ويحصل هذا.
طالب: ( ... ).
الشيخ: المهم، كثير، وأكثر ما يمكن التمثيل به وأوضحه هو العرق؛ لأن بعض الناس شاهدناهم يعرقون عرقًا كثيرًا جدًّا في أيام الصيف؛ يعني: إذا قام من النوم كأنه أكثر من سابح، هذا لا ينتقض وضوؤه، لماذا؟
طالب: لأنه طاهر.
الشيخ: لأنه طاهر، والمؤلف قيده بقوله: (نجسًا).
(غيرَهُما) أي: غير البول والغائط، فدخل في هذا: الدَّمُ والقيءُ ودَمُ الجروح وماءُ الجروحِ، وكلُّ ما يمكن أن يخرج وهو ليس بطاهر.
ولكن هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم؛ فالمشهور من المذهب هو ما سمعتم؛ أنه إذا كان كثيرًا إما عُرفًا أو كل إنسان بحسب نفسه نقض الوُضُوء، وإن كان قليلًا لم ينقض.
ما هي الحجة في ذلك؟ الحجة في ذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قَاءَ فتوضَّأ (12)، وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فلما توضَّأ بعد قيئه، فإن الأُسوة الحسنة أن نفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقالوا أيضًا: لأنه فضلات خرجت من البدن، فأشبهت البول والغائط، لكن لم تأخذ حكمه من كلِّ وجهٍ؛ لاختلاف المخرج، فتُعطى حكمه من وجه دون وجه، البول والغائطُ قليلهُ وكثيرُه ينقض الوضوء؛ لأنه خرج مع المخرج، وغير البول والغائط ما ينقض إلا إذا كان كثيرًا، قالوا: فهو أشبه البول والغائط من وجه؛ لكونه فضلة خرجت من البدن، فأشبهته من بعض الوجوه، فتعطى حكمه.
وقال بعض أهل العلم، وهو مذهب الشافعي والفقهاء السبعة -فقهاء التابعين السبعة المشهورون- وقد جُمِعُوا في بيتين أنشدتكم إياهما سابقًا.
طالب:
إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
رِوَايَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْعِلْمِ خَارِجَهْ
(1/319)
________________________________________
فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ
سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
وقد ذكرهم العراقي في ألفيته في المصطلح.
الفقهاء السبعة، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد: يرون أن الخارج من البدن لا ينقض الوُضُوء قلَّ أو كثُر، إلا البول والغائط.
وحجتهم في ذلك: أن الأصل عدم النَّقض، وإذا كان الأصل عدم النَّقض، فمن ادَّعى خلاف الأصل فعليه الدَّليل.
قالوا: وقد ثبتت طهارته بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي، لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي، فإذا جئتم بدليل شرعي مقاوم للدليل الذي ثبتت به الطهارة فعلى العين والرأس، ونحن لا نخرج عما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا متعبَّدون بشرع الله، لا بأهوائنا، لا يسوغ لنا أن نلزم عباد الله بطهارةٍ لم تجبْ، ولا أن نرفع عنهم طهارةً واجبة، أرونا الدليل، وعلى العين والرأس.
فإذا كانت الطهارة قد ثبتت بمقتضى دليل شرعي فلا يمكن أن ترتفع إلا بدليل شرعي، والدليل الذي استدللتم به قد ضعَّفه كثيرٌ من أهل العلم؛ قاء فتوضأ (12).
ثم نقول: إن هذا مجرد فعل، ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب؛ لأنه خالٍ من الأمر، فمجرد الفعل لا يدل على الوجوب، وعلى هذا فلا يجب.
ثم إنه مقابل بحديث -وإن كان أيضًا مضعفًّا- أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم، وصلى ولم يتوضَّأ (13)، وهذا يدلُّ على أنه ليس للوجوب، وهذا القول هو القول الرَّاجح؛ أنه لا ينقض الخارج من بقية البدن وإن كثر، سواء كان قيئًا أو رعافًا أو جرحًا أو ماء جروح، أو أي شيء آخر.
(1/320)
________________________________________
فخذ الآن هذا الثاني من نواقض الوضوء صار فيه خلاف بين أهل العلم، والراجح عدم النقض به.
قال: (وزوالُ العقلِ) زوال العقل على نوعين: زوال بالكُلِّيَّة، وهو رفع العقل، وذلك بالجنون، نسأل الله العافية.
والثاني: تغطية العقل بسبب يوجب أن يرتفع العقل لمدَّة معيَّنة لسبب معلوم، مثل: النَّوم والإغماء والسكر، وما أشبهها.
هذا زوال العقل، لكنه ليس ارتفاعًا بالكلية، فزوال العقل ناقض للوضوء، ولكن هل هو ناقض أو مظنة النقض؟ فيه خلاف، العجيب مذاهب العلماء في النوم كثيرة، ثمانية مذاهب فيه، هل ينقض ولَّا ما ينقض؟ واللي يفصل فيه، واللي ما يفصل! ولكن لننظر.
الإنسان إذا زال عقله بالكلية، فإن زوال العقل هذا مظنة قوية أن يُحدِث ولا يشعر، والعلة إذا كانت منتشرة لا يمكن ضبطها، فإنه يثبت مقتضاها بأدنى شبهة أو بأدنى سبب، فحينئذٍ نقول: ما دام العلة في كون النوم ناقضًا أنه مظنة الحدث، فليرتب عليه الحكم بمجرد زوال العقل بنوم أو غيره.
وقال بعض العلماء: إن النوم ليس هو نفسه ناقضًا للوضوء، لكنه مظنة، وعلى هذا فإذا ترجح عندك أنك لا تزال على طهرك فأنت؟
طالب: طاهر.
الشيخ: طاهر، وإلا فلا، زوال العقل بالجنون وبالإِغماء وبالسكر هو في الحقيقة فَقْدٌ نهائي، وعلى هذا فيسيرُها وكثيرُها ناقضٌ، فلو صُرِعَ الرجل -والعياذ بالله- ثم استيقظَ من الصرع وجب عليه؟
طلبة: الوضوء.
الشيخ: أن يتوضأ، وكذلك لو سَكِرَ، وكذلك لو أُغمي عليه؛ سقط من شيء وأغمي عليه وجب عليه أن يتوضأ، بخلاف النوم فإنه ليس كهذا؛ ولهذا يفترق عن هذه الأشياء بأن يسيره لا ينقض الوضوء.
( ... ) انسد المخرج وانفتح غيره.
طالب: يأخذ غيره حكمه إلا اللمس.
(1/321)
________________________________________
الشيخ: لا، ما له حكمه، لم يثبت له أحكام المعتاد، إلا إذا خرج بول أو غائط لا بأس، هذا شيء واضح، لم يثبت له أحكام المعتاد، هذه ذكرناها، فلو لمس لم ينتقض الوضوء، ولو خرج منه ريح لم ينتقض الوضوء، ولو أن أحدًا جامعه لم يجب الغسل.
المهم أنه إذا انسد المخرج وانفتح غيره لم يثبت له أحكام المعتاد، فلا نقض بريح منه ولا بمسه، لكن البول والغائط؛ لأنهما بول وغائط من أي مكان خرجا نقضا الوضوء.
وقال بعض العلماء: إن كان هذا المخرج من فوق المعدة فهو كالقيء، وإن كان من تحتها فهو كالغائط، وهذا اختيار ابن عقيل من أصحابنا.
شوفوا الفقه في هذا القول، هو جيد ولَّا لا؟ يقول: إن فتحوا مثلًا، الأطباء فتحوا فتحة بحيث يخرج الطعام من المعدة نفسها، فهذا ليس كالبول والغائط، وإن كان من أسفل؛ يعني: من الأمعاء، فهو في حكم البول والغائط، ويش رأيكم في هذا؟
طالب: جيد.
الشيخ: جيد في الواقع، هذا جيد وفقه واضح، بدليل أنه إذا تقيأ الإنسان من المعدة فإنه لا ينقض الوضوء، على القول الراجح، أو ينقضه إن كان كثيرًا، على المشهور من المذهب، وأما المذهب فيقولون: إذا فتح فهو ينقض قليله وكثيره.
زوال العقل ( ... ) «الْعَيْنُ وِكَاءُ السِّهْ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ» (14)، ففيه إذنْ دليل وتعليل.
هل يستثنى من ذلك شيء؛ من زوال العقل يستثنى منه شيء؟
طالب: المجنون.
الشيخ: المجنون.
بسم الله الرحمن الرحيم، زوال العقل ناقض للوضوء كما سمعتم من الدليل والتعليل، وليس هو موضع اتفاق بين أهل العلم، بل هو موضع خلاف بين أهل العلم، ولكن القول الراجح: أنه ناقض للوضوء؛ لحديث صفوان بن عسال؛ ولأن التعليل الذي أشرنا إليه تعليل قوي، لكن هل النوم ناقض أو مظنة النقض؟
اختلف فيه العلماء فيه ثمانية أقوال لأهل العلم:
(1/322)
________________________________________
منهم من يرى أن النَّوم ناقضٌ مطلقًا يسيرُه وقليله، وعلى أيِّ صفة كان النائم؛ يقول: لأن هذا حَدَث، النوم حدث وليس مظنة الحدث، والحدث لا يُفرَّقُ بين قليله وكثيره، كالبول.
ومنهم من يقول: إن النَّوم مظنة الحدث، وأنه لا يعفى عن شيء منه إلا ما استبعد فيه الحدث.
ومنهم من قال: إن النوم مظنَّة الحَدَث، ولا ينقض منه إلا ما كان مظنة الحدث، فالمذهب أن النوم ليس بحدث، ولكنه مظنَّة الحدث، ولا يُعفى عن شيء منه إلا ما كان بعيدًا فيه الحدث؛ ولهذا قال: (إلا يسير نومٍ من قائم وقاعد).
فاستثنى المؤلف رحمه الله اليسير، واستثنى حالًا معينة من أحوال النائم، خرج باليسيرِ الكثيرُ، وخرج بقوله: (من قائم وقاعد) ما عداهما، فإن النوم ينقضه مطلقًا في حقهم؛ في حق ما عدا هاتين الحالين.
ما هو اليسير؟ اليسير يرجع في ذلك إلى العرف، فإذا قالوا: هذا يسير، فهو يسير، فتارة يكون يسيرًا في زمنه، لكن يغفل غفلة كاملة، يمكن يحلم لكن يسير، بحيث ما خرج منه شيء، أو لو خرج لشمه؛ لأنه استيقظ على طول، وتارة يكون يسيرًا في ذاته وماهيته؛ بمعنى أنه لا يغفل كثيرًا في نومه، مثل مثلًا يسمع اللي يتكلمون، ولو مثلًا يكلمه أحد انتبه بأدنى سرعة، ولو حصل منه حدث لأحس به، هذا اليسير.
فالمهم أن اليسير إذا كان من قائم وقاعد فإنه لا يضر، ولكن الصحيح في هذه المسألة ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أن النوم مظنة الحدث، فإذا نام بحيث لو أحدث لم يحس بنفسه فقد انتقض وضوؤه، وإذا نام بحيث لو انتقض وضوؤه لأحس به، فإن وضوءه باقٍ ولا ينتقض.
(1/323)
________________________________________
وبهذا القول تجتمع الأدلة؛ فإن حديث صفوان بن عسَّال -كما سمعتم- فيه تصريح بأن النوم ناقض، وقد ثبت من حديث أنس أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينتظرون العِشاء على عهد النبي عليه الصلاة والسلام حتى تخفِقَ رؤوسهم، ثم يُصلُّون ولا يتوضؤون (15)، تخفق يعني: تنزل هكذا، في بعض الألفاظ: يضطجعون (16) في رواية لأبي داود، فيحمل ما ورد عن الصحابة، على ما إذا كان الإنسان لو أحدث لأحس، ويحمل حديث صفوان على ما إذا كان الإنسان إذا أحدث لم يحس.
ويؤيد هذا الجمعِ الحديثُ الضعيف الذي أشرنا إليه: «الْعَيْنُ وِكَاءُ السِّهْ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ»، فإذا كان الإنسان لم يحكم وكاءه؛ بحيث لو أحدث ما أحس بنفسه فإنه يكون نومه ناقضًا، وإلا فلا.
لو أن أحدًا يصلي وهو ساجدٌ، غفى؛ يعني: أحس بنوم خفيف يسير، هل ينتقضُ وضوؤُه ولَّا لا؟
المذهب: ينتقض وضوؤه؛ لأنه ليس قائمًا ولا قاعدًا.
والقول الثاني: لا ينتقض، إلا إذا كان في حال لو أحدث لم يحسَّ بنفسه، فينتقض.
المؤلف رحمه الله ظاهر كلامه: (من قائم وقاعد) الإطلاق، ولكنهم استثنوا ما إذا كان محتبيًا أو متكئًا، فإنه في هذه الحال ينتقض وضوؤه من نائم وقائم، غير محتبٍ ولا متكئٍ؛ لأنه إذا كان محتبيًا أو متكئًا فإنه غالبًا يستغرق في نومه، وإذا استغرق فإنه قد يُحدِث ولا يحس بنفسه، ولكن الذي رجحناه نسلم من هذه القيود كلها، ونقول: متى كان الإنسان في نوم لو أحدث لم يحس بنفسه فهو ناقض، وإلا فلا، على أي حال كان.
طالب: إذا لم يشم منه رائحة جارُه وهو جالس بجانبه، وهو تقام الصلاة ولا يشعر بعض الناس؟
الشيخ: إي نعم، ماذا تقولون في هذا؟
طالب: إلا بنفسه.
الشيخ: الظاهر أننا نكلفه بنفسه، مشكلة بيقول جاره: هل حسيت أني أحدثت؟
طالب: إذا كان جاره ( ... ) ويعلم أنه ..
الشيخ: ربما أيضًا ( ... ) الشم، مثل غيره من الحواس، إذا ما حط الإنسان باله يمكن ما يحس.
(1/324)
________________________________________
طالب: ممكن يكون ( ... ) إذا أقيمت الصلاة ولم يشعر يا شيخ، كثير من الناس تقام الصلاة ولا يشعر، ولا واحد ( ... ).
الشيخ: الظاهر أنه يرجع للحدث نفسه، ما دام الإنسان يعرف نفسه أنه لو أحدث لأحس؛ لأن الصحيح أن النوم ما هو بنفسه حدث ..
طالب: إذا تكلم عن الجار وقال: أحدثت ( ... ) قال له: شممت منك رائحة؟
الشيخ: وإن كان الرائحة من غيره ( ... ).
طالب: ( ... ).
الشيخ: يعني هو الأحسن نعتبره ( ... ).
***
يقول: (ومسُّ ذكر متَّصل أو قُبُل بظهر كفه أو بطنه) إلى آخره.
أولًا: قال المؤلف: (مسُّ ذكر) والمسُّ لا بد أن يكون بدون حائلٍ؛ لأنه مع الحائل لا يُعَدُّ مسًّا، وهذا أظنه هو الناقض الثالث.
طلبة: الرابع.
الشيخ: الرابع، نعم، اشترط أيضًا أن يكون متصلًا، احترازًا من؟
طلبة: المنفصل.
الشيخ: المنفصل؛ يعني: لو قُطِع ذكرُ إنسان مثلًا، وأخذه شخص ليدفنه مثلًا، سواء قطع بجناية أو قطع بعلاج، أو ما أشبه ذلك، المهم أن الذكر غير متصل، فإن مسَّه لا ينقض الوضوء.
ولا بد أن يكون أصليًّا، احترازًا من؟
طالب: المصنوع.
الشيخ: المصنوع، يقول: أصليًّا احترازًا من المصنوع، المصنوع ما يسمى ذكرًا، يسمى صورة ذكر، لكن احترازًا من الخُنثى؛ الخُنثى ذكره غيرُ أصليٍّ، لأيش؟ لأنه إن تبيَّن أنه أنثى فواضح أنه زائد، وإن أشكل فإنه لا ينتقض الوضوء مع الإشكال.
استمع الآن: ذكر، متصل، أصلي، الرابع: أن يكون المس باليد؛ ولهذا قال: (بظهر كفِّه أو بطنه).
طالب: (أو قُبُل).
الشيخ: عندكم، إي صح (أو قُبُلٍ) يعني: أو مس قُبُل للمرأة، مس القُبُل نفسه ما حوله.
طالب: مذكور (أصْلِي) في الكتاب.
الشيخ: لا، ما ذكر (أصْلِي)، مذكور عندكم بالأصل؟
طلبة: نعم.
الشيخ: هو الظاهر أنه بالشرح.
طلبة: أصلي.
الشيخ: موجود؟
طلبة: (ذكر متصل أصلي).
الشيخ: يمكن في بعض النسخ، المهم لا بد أن يكون أصليًّا، (ذكر متصل أصلي).
(1/325)
________________________________________
(أو قُبُل) يعني: قُبُل امرأة، ونشترط أن يكون أصليًّا؟
طالب: نعم.
الشيخ: نشترط؛ ليخرج بذلك قُبُل الخُنثى.
وأيضًا يقول: (بظهر كفِّه أو بطنه) لا بد أن يكون المس بالكفِّ، سواء بظهره أو كفه أو حرفه أيضًا، كذا؟
طالب: نعم.
الشيخ: بظهره هذا، وأيش نقول؟
طالب: بظاهر الكف.
الشيخ: بظاهر الكف، أو بطنه؛ الراحة وبطون الأصابع، أو حرفه.
طالب: أطرافه.
الشيخ: أطرافه، فإن المس بهذه الأشياء ينقض الوضوء، وإنما نصَّ المؤلف على ظهر الكفِّ؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إن المسَّ بظهر الكفِّ لا ينقض الوضوء؛ لأن المس عادة والإمساك إنَّما يكون بباطن الكَفِّ.
يقول المؤلف: (أو بطنه ولمسهما من خنثى مشكل) (لمسهما) الضمير يعود على الذَّكَر والقُبُل، (من خنثى مشكل) الخنثى هو الذي لا يُعْلَم أذكر هو أم أنثى؟ مع أن فيه آلتي الذكر والأنثى؛ يعني: له ذَكَر وله فرج، ولكنه مُشْكِل، أمره مُشْكِل، كيف مُشْكِل؟ ما ندري يبول منهما جميعًا، وهو إلى الآن لم يتبين هل هو ذكر أو أنثى، لا بلحية ولا بغيرها، فهذا يسمى خنثى مُشْكِل؛ لأنه مُشْكِل علينا أرجل هو أم أنثى؟ لكن الخنثى المشكل لا بد من مسهما جميعًا، لأيش؟ لأنه إن مس واحدًا فهو غير أصلي، ما يدرى هل هو ذكر ولَّا زائد؟ وكذلك الفرج لا يدري هل هو قبل أو زائد؟
الآن انتبه للشروط، كم صارت الشروط؟ ذَكَر، أو قُبُل، متصل، أصلي، بظاهر الكف أو بطنه أو حرفه.
طالب: ( ... ).
الشيخ: لا، أربعة شروط، لو مسه بغير الكف ينتقض وضوؤه ولَّا لا؟
طلبة: لا ينتقض.
(1/326)
________________________________________
الشيخ: ما ينتقض الوضوء؛ لأن الأحاديث الواردة بالمسِّ إنما تكون باليد، وفي بعض الألفاظ: «إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهَا سِتْرٌ فَقَدْ وَجَبَ الْوُضُوءُ» (17)، بيده، وهذا واضح في أنه بالكف، واليد عند الإِطلاق لا يُراد بها إلا الكف، وأيش الدليل؟ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
ما هو الدليل على انتقاض الوضوء بمس الذَّكَر أو القُبُل؟ الدليل فيه الأحاديث منها:
حديث بُسْرَة بنت صفوان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَه فَلْيَتَوَضَّأْ» (18).
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهَا سِتْرٌ فَقَدْ وَجَبَ الْوُضُوءُ»، وفي رواية: «إِلَى فَرْجِهِ» (19).
والتعليل هو: أن الإنسان قد يحصُل منه تحرُّكُ شهوةٍ عند مسِّ الذَّكر أو القُبُل، فيحصل منه خارج وهو لا يشعر، فما كان مظَّنة الحدث عُلِّق الحكم به، كالنَّوم.
هذا الدليل، وهذا التعليل، وهذا الذي ذكره المؤلف هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، بناء على هذه الأحاديث.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن مسَّ الذَّكَرِ لا ينقض الوضوء، واستدلوا بحديث طَلْقِ بن علي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرَّجُل يمسُّ ذَكَرَه في الصَّلاة قال: أعليه الوضوء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا، إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ» (20).
وقالوا: إن الأصل بقاء الوضوء وعدم النقض، فلا يمكن أن نخرج عن هذا الأصل إلا بدليل متيقن، أما ما كان فيه احتمال فالأصل أن يبقى الوضوء، «لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» (6)، فإذا كان هذا في سبب الحدث فكذلك في السبب الموجب شرعًا؛ لأن الرسول يتكلم هنا عن السبب الموجب حسًّا، كذلك السبب الموجب شرعًا ما يمكن نلتفت إليه حتى يكون يقينًا معلومًا.
(1/327)
________________________________________
ولهذا من العلماء من رجح حديث طلق بن على وقال: إن مس الذكر أو مس الفرج مطلقًا لا ينقض الوضوء، سواء كان لشهوة أو لغير شهوة، وأعلوا هذا الحديث -حديث بسرة- بأنه ضعيف، وأن حديث طلق بن على أحسن منه.
ومن العلماء من قال: إنه لا ينبغي أن نرجح بين الحديثين؛ لأنه يمكن الجمع، وإذا أمكن الجمع بين الدليلين وجب المصير إليه قبل الترجيح والنسخ، وهذا صحيح ولَّا لا؟
طلبة: صحيح.
الشيخ: لأننا إذا جمعنا بين الدَّليلين فقد عملنا بهما جميعًا، لكن إذا رجحنا فقد ألغينا أحدهما، والعمل بهما مع إمكانه أوجب، كيف نجمع؟
قالوا: نجمع؛ إما بأن نحمل حديث بسرة وما شابهه على ما إذا كان لشهوة، وحديث طلق بن علي على ما إذا كان لغير شهوة.
قالوا: والتعليل «إِنمَّا هو بَضْعَة منك» يدل على هذا الحمل، فإنك إذا مسَسْتَ ذَكَرَكَ كما تمس سائر أعضائك بدون أي تحرُّكِ، صار كأنما مسست ساقك أو رجلك أو رأسك، أو ما أشبه ذلك، وحينئذٍ؟
طالب: لا ينتقض.
الشيخ: فلا ينتقض الوضوء، أما إذا مَسَسْتَه لشهوةٍ فإِنَّه ينتقض؛ لأن العِلَّة -وهي احتمال خروج شيء ناقض من غير شعور منك- موجودة، فيقول: إذا مسَّه لشهوةٍ وجب الوُضُوء، وإِذا مسَّه لغير شهوة لم يجب.
قالوا وهم يحاجُّون الحنابلة: ولنا عليكم أصل، وهو أنكم قلتم: إن مس المرأة لغير شهوة لا ينقض، ومسها لشهوة ينقض؛ لأنه مظنَّة الحدث.
أو يجمع بينهما بوجه آخر فيقال: إن حديث بُسْرة الأمر فيه للاستحباب، وحديث طَلْق الأمر فيه للوجوب، هو سأل عن الواجب؛ أعليه الوضوء؟ كلمة (على) ظاهرة في الوجوب، فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا وضوء عليه، وعلَّل بأنه بضعة، وعلى هذا، فإذا كان مسه إياه لغير شهوة فإن الوضوء مستحب، أخذًا بعموم حديث من؟ بسرة، وإذا كان لشهوة فإنه يجب الوضوء، أخذًا بالتعليل؛ «إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ».
(1/328)
________________________________________
والمسألة فيها احتمال؛ يعني: احتمال أن يكون هذا القول هو الصواب قوي، وشيخ الإسلام رحمه الله يرى أن الوُضُوء من مسِّ الذَّكَر مستحبٌ مطلقًا، ولو بشهوةٍ.
وإذا قلنا: إنه مستحب فمعناه أنه مشروع وفيه أجرٌ، وفيه أيضًا احتياط.
وأما دعوى من ادعى أنَّ حديث طَلْق بن عليٍّ منسوخ ..
طالب: أقول: ظاهر الكف، والقبل ما هو الدليل ( ... )؟
الشيخ: إي نعم، أما دليلهم في ظاهر الكف فقالوا: عموم «إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ» (17)، هذا عام، فاليد تشمل داخل الكف وظاهره، وأما القُبُل فقالوا: إن إحدى روايات حديث أبي هريرة: «إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إِلَى فَرْجِهِ» (19)، والقُبُل من الفرج.
طالب: إذا قلنا: إنها للشهوة ( ... )؟
الشيخ: هم يرون النقض مطلقًا، لشهوة ولغير شهوة.
أقول: ادعى قوم أن حديث طَلْق بن عليٍّ منسوخ، ووجهوا دعواهم بأن طلق بن علي قَدِمَ على الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يبني مسجده أول الهجرة، ولم يَعُدْ إليه بعدُ، وهذه الدعوى غير صحيحة؛ وذلك لأنه لا يُصار إلى النسخ إلا إذا تعذَّر الجمع، وهذا مسلَّم متفق عليه، والجمع هنا ممكن.
الوجه الثاني مما يبطل دعوى النسخ: أن في حديث طَلْق عِلَّة لا يمكن أن تزول، وإذا رُبِط الحُكم بعلَّة لا يمكن أن تزول فإن الحكم لا يمكن أن يزول؛ لأن الحكم يدور مع عِلَّته، ما هي العلَّة؟ «إِنَمَّا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ»، هل يمكن في يوم من الأيام أن يكون ذكر الإنسان ليس بَضْعَة منه؟
طالب: لا.
الشيخ: لا، ما يمكن، إذنْ لا يمكن النسخ.
وكأن واحدًا يهمس يقول: يمكن؛ يعني: إذا قُطِعَ، وإذا قُطِع فإذا مسه لا يضر، على كل حال، هذان وجهان من أوجه الرد أو إبطال هذه الدعوى.
(1/329)
________________________________________
ثالثًا: أن أهل العلم يقولون: إن التاريخ لا يُعلم بتقدُّم إسلام الرَّاوي أو تقدم أخذه؛ لجواز أن يكون الرَّاوي حَدَّث به عن غيره؛ بمعنى: إذا روى صحابيَّان حديثين ظاهرهما التَّعارض، وكان أحدُهما متأخِّرًا عن الآخر، فهل نقول: إنَّ الذي تأخَّر إسلامُه يكون حديثه ناسخًا لمن تقدَّم إسلامُه؟
طالب: لا.
الشيخ: الجواب: لا؛ لأنه يجوز أن يكون الذي تأخر إسلامه رواه عن غيره من الصَّحابة، أو حدثه النبي صلى الله عليه وسلم به بعد ذلك، فلا نسخ بتأخر إسلام الراوي، كما هو معروف عند أهل العلم.
وعلى هذا فنعود إلى الجمع، وهو بأحد الوجهين اللذيْن سمعتموهما؛ إما أن يحمل حديث بسرة على الاستحباب وحديث طلق على الوجوب؛ يعني: هل عليه الوضوء؟ قال: لا، ما عليه، لكن لا يمنع أن يكون مستحبًّا، وإما أن يقال: إن حديث طلق بن علي فيمن مسه مس شهوة، لا فيمن مسه مس أي عضو آخر.
طالب: حديث بسرة؟
الشيخ: لا، حديث طلق فيمن مسه لشهوة، لا فيمن مسه كأي عضو آخر؛ لأن التعليل «إِنَمَّا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ» يدل على أنك إن مسسته مس أي عضو آخر فهو عضو، وإن مسسته لشهوة انفرد بالحكم.
الخلاصة الآن نريد أن نعرف المسألة عمليًّا؛ عمليًّا نرى أنه إذا مس الإنسان ذكره استُحِبَّ له الوضوء مطلقًا، لشهوة أو لغير شهوة، وأنه إذا مسَّه لشهوة فالقول بالوجوب قوي جدًّا، ولكن ليس بظاهر؛ بمعنى أني لا أجزم به، لكن أرى أنه قوي، وأن الاحتياط أن يتوضَّأ.
قال المؤلف: (ولَمْسُهُمَا من خُنْثَى مُشْكِلٍ) فالخنثى المشكل مشكل حاله وأمره وحكمه، نسأل الله ألا يقدِّره على بني آدم، الخنثى المشكل يُعطَى أحكام الذكر والأنثى، ويراعى فيه الاحتياط، فإذا مس الإنسان ذَكَرَ خنثى مُشْكل لم ينتقض وضوؤه؛ لأنه؟
طالب: لا يُعرَف.
الشيخ: لا يُعرَف، قد لا يكون ذكرًا، هذا قد يكون عضو زائدًا، وإذا مس فرجه لا ينتقض أيضًا؛ لأنه قد يكون أصليًّا؛ الذَّكَر، والفرج زائد.
(1/330)
________________________________________