الكتاب: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان
المؤلف: شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قِزْأُوغلي بن عبد الله المعروف بـ «سبط ابن الجوزي» (581 - 654 هـ)
تحقيق وتعليق: [بأول كل جزء تفصيل أسماء محققيه]
محمد بركات، كامل محمد الخراط، عمار ريحاوي، محمد رضوان عرقسوسي، أنور طالب، فادي المغربي، رضوان مامو، محمد معتز كريم الدين، زاهر إسحاق، محمد أنس الخن، إبراهيم الزيبق
الناشر: دار الرسالة العالمية، دمشق - سوريا
الطبعة: الأولى، 1434 هـ - 2013 م
عدد الأجزاء: 23 (الأخير فهارس)
أعده للشاملة/ فريق رابطة النساخ برعاية (مركز النخب العلمية)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
وفي هذه الغزاة قتل رجلٌ من رهطِ سَعْدِ بن عُبادةَ هشامَ بنَ صُبابة من بني عامر خطأً, لأنَّه ظنَّه من المشركين، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، قدم أخوه مِقْيَسُ بنُ صُبابةَ من مكة، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، جئتك مُسْلِمًا وأريد دِيَةَ أخي، فأمر له بِدِيَتِهِ، وأقام بالمدينة أيامًا، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدًا وقال (1): [من الطويل]
شَفَى النَّفسَ أن قد بات بالقاعِ مُسنَدًا ... تُضَرَّجُ ثَوْبَيْهِ دِماءُ الأَخادعِ
وكانت همومُ النفس من قبل قتلهِ ... تُلِمُّ فتَحْميني وِطاءَ المضاجعِ
حَلَلْتُ به وِتْري وأدركت ثُؤرَتي ... وكنت إلى الأوثانِ أَوَّلَ راجع
وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قوله، فأهدرَ دمَه، وقُتِل يوم الفتح لِما نذكر.
* * *
وفي هذه الغزاة كان حديث الإفك، وحديثه في "الصحيحين" (2).
قال الإِمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمر، عن الزُّهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيَّب وعروةُ بن الزبير وعلقمةُ بن أَبي وقَّاص وعبيدُ الله بن عبد الله بن عُتْبةَ بن مسعود عن حديث عائشة - رضي الله عنها - حين قال لها أهلُ الإفْكِ ما قالوا فبرَّأَها الله تعالى ممّا قالوا، قال الزهري: كلُّهم قد حدَّثني بطائفةٍ من حديثها، وبعضُهم
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 293.
(2) وفي هذه الغزوة نزلت آية التيمم وقيل في غير هذه الغزوة، أخرج البخاري (334)، ومسلم (367) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناسُ معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة أقامت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ليسوا على ماء ليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فاصبنا العقد تحته.
وانظر الاختلاف في وقت نزول التيمم في "فتح الباري" 1/ 434.
(3/325)
________________________________________
كان أوعى لحديثها من بعض، وبعضُ حديثهم يَصْدقُ بعضًا، ذكروا أنَّ عائشةَ قالت:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَراد سَفَرًا أَقْرعَ بين نسائهِ، فأيَّتهُن خرج سهمُها خرج بها معه؛ قالت: فأقرع بينَنَا في غزاةٍ غَزاها، فخرج فيها سَهمي فخرجتُ معه، وذلك بعد ما أُنزِل الحِجابُ، وكُنتُ أُحملُ في هَوْدَجي وأنزل فيه أو وأُتْرَكُ فيه، حتى إذا فرغَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من غزوتهِ تِلك وقَفَلَ يريدُ المدينةَ ودَنَوْا منها، آذَنَ ليلةً بالرَّحيلِ، فقُمتُ ومشيتُ حتى جاوزتُ الجيشَ، فلمَّا قضيت شأني، أَقبلتُ إلى الرَّحْلِ فلمستُ صَدْري فإذا عِقْدٌ لي من جَزْعِ أَظفارٍ قد انقطع، فرجعتُ ألتِمِسُ عِقْدي فحبسني ابتغاؤه، وأَقبل الرَّهط الذين كانوا يَرْحَلونَ لي فاحتملوا هَودجي، فَرَحلوه على بعيري وهم يَحسَبُون أني فيه، وكان النساءُ إذ ذاك خِفافًا لم يُهَبَّلْهُنَّ ولم يَغْشَهُنَّ اللحمُ ولم يَثْقُلْنَ، وإنما كُنَّ يأكُلْنَ العُلْقَةَ من الطعامِ، فلم يستنكرِ القومُ حين حملوا الهَودَج وكنتُ جاريةً حديثةَ السِّنِّ، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدتُ عِقدي بعد ما استمرَّ الجيشُ، فجئتُ منازِلَهم وليس فيها داعٍ ولا مجيب، فتَيمَّمتُ منزلي الذي كنتُ فيه وظننتُ أن القوم سَيفقدونني فيرجعُون إليَّ، فبينَا أَنا جالسةٌ غلبَتْني عينايَ فنمتُ، وكان صفوان بن المُعطَّل السُّلَمي - ثم الذَّكواني - قد عرَّس من وراء الجيش، فادَّلَج فأصبح عند منزلي، فَرَأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فأَتاني فعَرَفَني حين رآني، وقد كان يراني قَبْلَ أن يُضربَ الحجابُ، فاستيقظتُ باسْتِرجَاعِه حين عرَفَني، فخمَّرتُ وجهي بجلبابي، ووالله ما كلَّمني كلمةً ولا سمعتُ منه غيرَ اسْتِرجاعِه، وهَوَى حتى أناخ راحلته ووطئ على يدَيْها فركبتُها، وانطلقَ بي يقودُها حتى أتينا الجيشَ - أو فانطلق يقود بي راحلتَه حتى أَتينا الجيشَ - بعد ما نزلوا معرّسين أَو مُوغِرين في نَحْرِ الظَّهيرةِ.
قالت: فهلك مَنْ هلك في شأني، وكان الذي تولَّى كِبْرَهُ منهم عبدُ الله بن أُبيِّ بن سَلول، وقدِمنا المدينةَ فاشتكيتُ بها شهرًا، والناسُ يُفيضون في قول أَهلِ الإفكِ، ولا أشعر بشيءٍ من ذلك، وقد يَريُبني في وجعي أَنَّي لا أرى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخُلُ فيقول: "كيفَ تِيكُم" ثم ينصرفُ، فذلك الذي يَريبني، ولا أشعر بالشرَّ حتى خرجتُ بعد ما نَقِهْتُ من مرضي، وخرجَتْ معي أُمُّ
(3/326)
________________________________________
مِسْطَح قِبَلَ المناصِعِ وهو مُتَبَرَّزُنا، وكنَّا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليلٍ، وذلك قَبلَ أن نَتَّخِذَ الكُنُفَ قريبًا من بيوتِنا.
فانطلقتُ أنا وأُمُّ مِسْطَح - وهي ابنة أبي وُهْم بن المُصَّلب بن عبد مناف، وأُمها بنت صخر بن عامر، خالةُ أبي بكرٍ الصديق، وابنها مِسْطَح بن أُثاثة بن عبَّاد بن المطَّلب - وأَقبلنا قِبَل بيتي حين فَرَغنا من شأنِنا، فعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَح في مِرطِها فقالت: تَعِسَ مِسْطَح، فقلتُ لها: بئسَ ما قُلتِ! أَتَسُبِّين رجلًا قد شهد بدرًا؟ فقالت: ألم تسمعي يا هَنَتاه ما قال؟ قلتُ: وما ذاك؟ فأخبرَتْني بقولِ أَهلِ الإفكِ، فازدَدْتُ مَرَضًا على مرضي، فلمّا رجعتُ إلى بيتي، دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كيفَ تيكُم"؟ فقلت: أَتَأذَنُ لي أَن آتي أَبَوَيَّ؟ وأنا أُريدُ أن أتيقَّنَ الخبرَ منهما، فأذِنَ لي فجئتُ أَبويَّ فقلتُ لأُمي: يا أُمَّاه، ماذا يتحدَّثُ الناسُ؟ فقالت: يا بُنيَّةُ، هوِّني عليكِ، فوالله لقلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضيئة عند رجلٍ يحبُّها ولها ضرائر إلاّ أَكثرن عليها، فقلتُ: سُبحان الله، أَوَ قَدْ تحدَّث الناسُ بهذا؟ قالت: نعم.
فبكيتُ ليلتي حتى أَصبحتُ، لا يَرْقَأُ لي دمعٌ ولا أكتَحِلُ بنومٍ , وأَصبحتُ أَبكي، فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ بنَ أَبي طالبٍ وأُسامةَ بن زَيدٍ حين استلبث الوحيُ يستشيرُهما في فِراق أَهله، فأما أُسامةُ فأشار عليه بما يعلمُ من براءة أَهله، وبالذي يعلمُ في نفسِه من الوُدَّ لهم وقال: يا رسولَ الله، هم أهلُك ولا نعلمُ إلا خَيْرًا، وأما علي فقال: لم يُضيّقِ الله عليكَ، النساءُ سواها كثير، وإن تسألِ الجاريةَ تَصْدُقْكَ، قالت: فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَرِيْرةَ وقال لها: "هَلْ رَأَيتِ من عَائشةَ ما يَريبُكِ"؟ فقالت: لا والذي بعثك بالحقِّ، إنْ رَأيتُ منها أَمرًا أغْمِصُه عليها أكثرَ من أنّها جاريةٌ حديثةُ السنَّ، تنامُ عن عجينِ أَهلها، فيأتي الدَّاجنُ فيأكلُه.
فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أُبيِّ فقال: "يَا مَعَاشرَ المُسلِمينَ، من يَعْذِرُني مِن رَجُلٍ قَد بَلَغَني أَذاهُ في أَهْلِي، وواللهِ مَا عَلِمتُ على أَهْلِي إلَّا خَيرًا، [ولَقَد ذَكَروا رَجَلًا مَا] كانَ يَدخُلُ على أَهْلِي إلَّا مَعي، ومَا عَلِمتُ عليه إلَّا خَيرًا" فقام سعد بن معاذ الأنصاري أحدُ بني عبد الأشهل فقال: يا رسولَ الله، أنا أُعذرك منه، إنْ كان من الأَوسِ، ضربنا عُنُقَه، وإن كان من إخواننا الخزرج، أَمَرْتنا
(3/327)
________________________________________
ففعلنا فيه أَمركَ، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلًا صالحًا، ولكن احتملته الحَميّةُ، وكانت أُم حسَّان بن ثابت بنتَ عمِّه من فَخذِه، فقال لسعدِ بن معاذ: لعَمْرُ الله لا تقتلُه ولا تقدرُ عليه، فقام أُسَيْد بن حُضَير وهو ابن عمّ سعد بن معاذ فقال لسعد بنُ عُبادة: كذبتَ لعَمْرُ اللهِ، إنَّك لمُنافقٌ تجادل عن المنافقين، فثار الحيّانِ: الأَوسُ والخزرجُ، حتى هَمُّوا أن يَقْتَتِلُوا، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ على المِنْبر، فلم يَزَل يُخفّضهم حتى سَكَتُوا وسكَتَ.
قالت: وبكيت يومي وليلتي القابلةَ، لا يرقأُ لي دمعٌ ولا أَكتحلُ بنومٍ، وأَصبح عندي أَبواي، وأَنا أَظن البكاء قد فَلَق كبدي، فبينما هما جالسانِ عندي وأنا أبكي استأذَنَتْ عليّ امرأة من الأنصارِ فدخَلَت فجلَسَت تبكي معنا، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلَّم وجَلَس، ولم يكن يَجلِسُ عندي منذُ قِيلَ ما قِيل، وقد مَكَث شهرًا لا يُوحَى إليه في أَمري بشيءٍ، فتشهَّد حين جَلَس ثم قال: "أمَّا بَعدُ يَا عَائشةُ، فإنَه قد بَلَغَني عنكِ كَذا وكَذا، فإن كُنتِ بَريئةً، فسيُبرِّئُكِ اللهُ، وإن كُنتِ ألمَمتِ - أو هَمَمتِ - بذَنبٍ فاستَغفِري اللهَ وتُوبي إليه، فَإِنَّ العبدَ إذا اعتَرَفَ بذنبٍ ثم تَابَ تَابَ اللهُ عليه".
قالت: فلمّا قضى مقالته قَلَص دمعي حتى ما أُحِسُّ منه قَطرة، وقلت لأَبي: أَجبْ عنَّي، فقال: واللهِ لا أَدري ما أَقولُ، فقلت لأُمِّي: أَجيبي عني، فقالت كما قال أبي، فقلت - وأنا جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ لا أقرأُ كثيرًا من القرآن -: والله قد عرفتُ أَنَّكم سمعتم بهذا حتى استقرَّ في نُفوسِكُم وصدَّقتُم به، ولئن قلتُ: إنَّي بريئةٌ - والله يعلمُ أَني بريئةٌ - ما تصدِّقوني، [ولئن اعترفت لكم بأمرٍ - واللهُ عَزَّ وَجَلَّ يعلم أني بريئةُ - تصدّقوني] وما أَجد لي ولكم مَثَلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] , ثم تحوَّلتُ واضطجعتُ على فراشي وأنا أعلم أن الله يُبرِّئني، ولكن ما كنتُ أَظُن أَن الله يُنزِلُ في شأني قُراَنًا أو وحيًا يُتلى، أَنا أَحقَرُ في نفسي من أَن يتكلَّمَ اللهُ فيَّ بقُرآنٍ يُتلى، وإنّما كنتُ أَرجو أن يُريَ اللهُ رسولَه في المنامِ رؤيا يبرّئني بها.
قالت: فوالله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيتِ، حتى أَنزل الله على نبيه، فأَخذه ما كان يأخذُه من البُرَحاءِ عند الوحي، حتى إِنه ليتحدَّر منه مثلُ الجُمانِ من العَرَقِ في اليوم الشاتي من ثِقَلِ القول الذي أُنزل عليه.
(3/328)
________________________________________
قالت: فَسُرَّيَ عنه وهو يضحك، فكان أولُ كلمةٍ تكلَّم بها أَن قال: "يَا عَائشةُ، احمَدي الله وأَبشِرِي، فإنَّ الله قد برَّأَكِ" فقالت لي أُمي: قومي إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: لا أَقومُ إليه، ولا أَحمَدُ إِلا اللهَ الذي أَنزل براءتي من السماء. وأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] العشر آيات.
قالت: وكان أَبو بكرٍ يُنْفِقُ على مِسْطَحٍ لِقَرابته منه وفقرِه، فقال: والله لا أُنفق عليه أبدًا بعد ما قال في عائشة، فأنزل الله {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] فقال أبو بكر: بلى، إني أُحبُّ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مِسْطَح ما كان يُجري عليه، وقال: والله لا أنزعُها عنه أَبدًا.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينبَ بنتَ جَحْشٍ عن أَمري فقال: يا زينبُ، ما رأيتِ؟ ما بلغَكِ؟ فقالت: يا رسول الله، أَحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ عليها إلَّا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تُساميني من أَزواجه فعصمها الله بالورعِ، وطَفِقَت أُختُها حَمْنةُ بنت جحش تجادلها فهلكَت فيمن هلك من أَصحابِ الإفك. قال ابن شهاب: فهذا ما انتهى إلينا من أَمرِ هؤلاء الرهط. أخرجاه في "الصحيحين" (1).
وأَمَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحسّان بن ثابت وحمنةَ بنت جحش ومِسْطَح فضُربوا الحدَّ لأنهم الذين أشاعوا الفاحشة (2).
وقال مسروق: دخلتُ على عائشة وعندها حسان بن ثابت يُنشدها وقد أَلقت له وسادةً بعد ما عمي: [من الطويل]
حَصانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ ... وتُصبحُ غَرْثى من لُحومِ الغوافلِ
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (25623)، والبخاري (4750)، ومسلم (2770)، وما بين معقوفين زيادة من مسند أحمد. قولها: يهبلن: من هبله اللحم إذا كنز عليه وركب بعضه بعضًا، و"العلقة": أي قدر ما يمسك الرمق. "عرس" أي: نزل آخر الليل. "فاستعذر من عبد الله" أي: طلب العذر من عقوبته، أي: بيَّن أنه إن عاقبه فهو معذور. "البرحاء" شدة الكرب. "الجمان": اللؤلؤ الصغار.
(2) "السيرة" 2/ 302، وأخرجه أحمد في "مسنده" (24066) دون تصريح بأسمائهم من حديث عائشة قالت: لما نزل عذري، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم.
(3/329)
________________________________________
فقالت له عائشة: لكنك لستَ كذلك، فقلتُ لها: أَتأذنين لهذا أَن يدخُلَ عليك وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] فقالت: وأيُّ عذابٍ أَشدُّ من العمى، أليس قد ذهب بصره وكَسَعَ (1).
وهذا البيت من أبياتٍ يعتذر بها حسان إلى عائشة هو أولها، وبعده (2): [من الطويل]
حَليلَةُ خيرِ النَّاس دُنيا ومَنصِبا ... نبيُّ الهُدى والمَكْرُماتِ الفَواضِلِ (3)
عقيلةُ حيٍّ من لؤيِّ بن غالبٍ ... كرامِ المساعي مجدُهم غيرُ زائلِ
مهذَّبةٌ قد طيَّب الله ذكرها ... وطهَّرها من كل شرٍّ وباطلِ (4)
فإن كان ما قد قيل عَنِّيَ قلتُه ... فلا رفَعَت سوطي إليَّ أناملي
وإن الذي قد قيل ليس بلائطٍ ... بكِ الدهرَ، بل قولُ امرئٍ بيَ ماحِلِ (5)
وكيف ووُدّي ما حَيِيتُ ونُصرتي ... لآل رسولِ الله زَيْنِ المحافلِ
له رُتَبٌ يعلو على الناسِ فضلُها ... تُقَصِّرُ عنها سَوْرَةُ المتطاولِ (6)
فقالت عائشة رضوان الله عليها لمسروقٍ: إِنه كان يُنافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت: ما سمعت أحسن من قول حسان، وما تمثَّل به إلا رجوت له الجنة، فإنه هو القائل لأبي سفيان (7): [من الوافر]
هَجوتَ محمدًا فأَجبتُ عنه ... وعندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ
__________
(1) أخرجه البخاري (4146)، ومسلم (2488) وفيه: وأي عذاب أشد من العمى؟ قالت له: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وتزن: تتهم، وغرثي: أي خميصة البطن، كناية عن عدم استغابة الناس وأكل لحومهم.
(2) الأبيات في "السيرة" 2/ 306.
(3) لم نقف على هذا البيت في ديوان حسان، ولا في غيره من المصادر.
(4) في الديوان: "خيمها" بدل ذكرها، والخيم: الطبع والأصل.
(5) اللائط: اللصيق، والماحل: الواشي النمام.
(6) السورة: الوثبة.
(7) الأبيات في ديوانه ص 64 والخبر أخرجه ابن أبي الدنيا في "الأشراف على منازل الأشراف" (58)، وأبو يعلى في "مسنده" (4640).
(3/330)
________________________________________
فإنَّ أبي ووالدَتي وعرضي ... لعِرْضِ محمَّدٍ منكم وِقاءُ
أتشتُمُهُ ولستَ له بكفءٍ ... فَشرُّكُما لخيرِكُما الفِداءُ
وقال الزهري: قال لي الوليد بن عبد الملك: أَبَلَغَكَ أن عليًّا كان فيمن قذف عائشة؟ فقلت: لا, ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن عائشة قالت لهما: إنَّ عليًّا كان مُسلَّمًا في شأنها (1).
وقال الزهري: كتب إليَّ الوليد بن عبد الملك: الذي تولى كِبْرَه منهم علي بن أبي طالب. قال: فكتبت إليه: حدثني سعيد بن المسيب، وعروة، وعلقمة وعبيد الله بن مسعود كلهم يحدث عن عائشة، أن الذي تولى كِبْرَه منهم عبد الله بن أبي (2).
وقالت امرأةُ أبي أيوب الأنصاري لأبي أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ فقال: سبحانكَ، هذا بهتان عظيم، ثم قال: يا أم أيوب، لو كنتِ بدلَ عائشة أكنتِ تفعلينه؟ فقالت: لا والله. فقال: فعائشة والله خيرٌ مِنْكِ وأَطْهرُ (3).
وقال الواقدي: غاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزاة ثمانية وعشرين يومًا، وقدم المدينةَ لهلال رمضان (4).
وفيها: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينبَ بنت جَحْش في ذي القعدة، في قول الواقدي (5). والأصح أنه تزوجها قبل حديث الإفك (6)، لِما رَوينا عن عائشة أنها قالت: وهي التي كانت تُساميني، ولقولها: وذلك بعد ضرب الحجاب، والحجاب إنما ضُرِب في تزويجه - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش بن رِئاب بن يَعْمَر بن صَبِرةَ بن مرة، من بني أسد بن خُزَيْمةَ، وأمها أمَيْمَةُ بنت عبد المطلب عمةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) أخرجه البخاري (4142).
(2) أخرجه البخاري (4749) مختصرًا دون ذكر قصة الوليد بن عبد الملك، وأخرجه مطولًا وبتمامه عبد الرزاق في "تفسيره" 3/ 52، والطبراني في "الكبير" 23/ (145).
(3) "السيرة" 2/ 302.
(4) "المغازي" 1/ 404.
(5) انظر طبقات ابن سعد 10/ 110 - 111، و"تاريخ الطبري" 2/ 562، و"المنتظم" 3/ 225.
(6) وقيل كان في السنة الثالثة، انظر "الإصابة" 4/ 313، والذي في "الفتح" 1/ 378: أنه تزوجها في السنة الخامسة.
(3/331)
________________________________________
قال ابن عباس: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب من أخيها عبدِ الله بن جحشٍ على زيد ابن حارثةَ مولاه، وكان قد تبناه، فكان زيد مولى في الإِسلام، غريبًا في الجاهلية، فلما خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه أجابت، فلما علمت أنه خطبها لزيد أنكرت وأبت وقالت: أنا بنت عمتك، تزوجني مولىً لا أرضاه. وأبى أخوها عبد الله ذلك، وكانت بيضاءَ جميلة فيها حِدَّةٌ، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] , فقالت: رضيت. وجعلت أمرها بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفعل أخوها كذلك، فزوَّجها زيدًا وساق إليها عشرة دنانير وستين درهمًا ودرعًا وخمارًا ومِلْحَفَةً وإزارًا، وخمسين مُدًّا من طعام، وثلاثين صاعًا من تمر، فأقامت عند زيد حينًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل رابك منها شيء؟ " قال: هي سيئة الخلق، وتتعظَّمُ علي بشرفها، وتؤذيني بلسانها.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصبر عن زيدٍ ساعة، فغاب عنه يومًا فجاء إلى بيته يطلبه فلم يجدْه، وقامت إليه زينب فقالت: ليس ها هنا، فادخلْ، فداك أبي وأمي. وعَجِلت زينب أن تلبس ثوبها لمّا قيل لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الباب، فوثبت عَجِلَةً فأَعْجبتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فولى يُهَمْهِمُ بشيء لم يُفْهَمْ منه إلا "سبحان مُقَلَّبِ القلوبِ أو مصرَّفِ القلوب ... " وجاء زيدٌ إلى بيته فأخبرته زينبُ بما كان، فقال: هلَّا عرضتِ عليه الدخول؟ قالت: قد فعلت وأبى. قال: فهل قال شيئًا؟ قالت: نعم، قال كذا وكذا. فجاء زيد إليه فقال: يا رسول الله، بلغني أنك جئت إلى منزلي فهلّا دخلت؟ لعل زينب أعجبتك، أأُفارقها؟ فقال له: "أَمسكْ عَليكَ زَوجَكَ". فما استطاع زيد إليها سبيلًا بعد ذلك اليوم، ففارقها واعتزلها.
فبينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عند عائشة إذْ أخذته غَشيةٌ فأفاق، ثم قال: "من يذهبُ إلى زينب فيبشَّرها، أن الله قد زَوَّجنيها من السماء، ثم قرأ {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] الآيات (1).
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 10/ 99، وقد ردَّ العلماء هذا الخبر وأمثاله، ونزهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عما نسب إليه فيها، انظر أحكام القرآن لابن العربي 3/ 1531، والشفا للقاضي عياض 2/ 425، والمفهم للقرطبي 1/ 406، وفتح الباري 8/ 523.
(3/332)
________________________________________
قال ابن عباس: فلو كتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لكتم هذه الآية: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] (1). قال ابن مسعود: ما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آيةٌ أشدُّ عليه منها. ولما تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال المنافقون: أيتزوجُ الرجلُ زوجةَ ابنه؟ فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) [الأحزاب: 40] , وما كانوا يدعون زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما كانوا يدعونه زيد بن محمَّد، حتى نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (3) [الأحزاب: 5].
قالت عائشة: فأخذني ما قَرُبَ وما بَعُد لِما أَعْلَمُ مِن جمالها، وأخرى وهي أعظم الأمور، وهي: أن الله زَوَّجها، فكانت تَفْخَر علينا بذلك، وخرجت سَلْمى خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبشرتها بذلك فأعطتها أوضاحًا كانت عليها (4).
وقال أنس: لما انقضت عِدَّةُ زينب بنت جحش قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة: "اذهَبْ فَاذكُرني لها". قال زيد: فلمّا قال لي ذلك عَظُمت في عيني أو في نفسي، فذهبت إليها فجعلت ظهري إلى الباب وقلت: يا زينب، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكُرُكِ، وقد بعث بي إليك. فقالت: ما كُنْتُ لأُحدِثَ شيئًا حتى أُؤامر ربي. فقامت إلى مسجدها، وأنزل الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] , فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها بغير إذن. انفرد بإخراجه مسلم (5).
ومن حديث أنس قال: وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حتى أنزل الله، وكان أول ما نزل في مُبْتنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش، أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها عروسًا، فدعا القوم فأصابوا من الطعام، ثم خرجوا وبقي رَهْطٌ منهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأطالوا المُكْثَ، فقام وخرج وخرجتُ معه لكي يخرجوا، فمشى ومشيتُ معه حتى جاء
__________
(1) لم نقف عليه من حديث ابن عباس، وأخرجه البخاري (4612)، ومسلم (177) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 41.
(3) "الطبقات الكبرى" 3/ 41.
(4) "الطبقات الكبرى" 10/ 99.
(5) صحيح مسلم (1428) (89).
(3/333)
________________________________________
إلى عَتَبَةِ حُجْرةِ عائشة، وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه حتى إذا دخلَ على زينب فإذا هم جلوسٌ لم يقوموا، فرجعَ ورجعتُ معه، حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا فَضُرِبَ بيني وبينه السترُ وأُنزل الحِجابُ. أخرجاه في "الصحيحين" (1).
وفيه: فلم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولم على امرأة من نسائه ما أوْلَم على زينب، فإنه ذبح شاة وأطعم خبزًا ولحمًا (2).
* * *
وفي هذه السنة كانت غزاة الخندق (3) - وهي غزاة الأحزاب - في شوال، وقيل: في ذي القعدة.
وسبب هذه الغَزاةِ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لما أجْلى بني النضير عن ديارهم، خرج سلَّامُ بن أبي الحُقَيْق، وحُيَيَّ بن أخْطَب، وكِنانةُ بن الربيع، في نفر من اليهود، فقَدِموا مكة ودَعَوْا قريشًا إلى حربِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: نحن معكم حتى نستَأْصِلَ شأن هذا الرجل. فقالت لهم قريشٌ: أَنتم أصحاب كتابٍ وعلمٍ، أَدينُنا خيرٌ أم دينُ محمَّد؟ فقالوا: دينُكم، وأنتم أَوْلى بالحق منه، فَسَرَّ قُرَيْشًا ذلك، ونَشِطوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتفقوا معهم على ذلك، وأرسل أبو سفيان إلى القبائل، فجاؤوا إليه من كل وجه، وجَمعَ الأَحابيشَ، وانضمت إليه أَسَد وغَطَفان وغيرُهم، فعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن أبي طلحة، وساروا في عشرة آلاف، ومعهم ثلاث مئة فرس، وألفَا بعيرٍ، وقيل: وخمس مئة، وأربعة آلاف دارع، ووافاهم عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ في أُلوفٍ من غَطَفانَ وفَزارةَ.
ولما نزل أبو سفيان مَرَّ الظهران، وافته سُلَيْمٌ في سبع مئة رجل عليهم سفيان بن عبد شمس السُّلَمي أبو أبي الأعور الذي كان مع معاوية بِصِفِّين، وكان سفيان حليفًا لأبي
__________
(1) أخرجه البخاري (5166)، ومسلم (1428) (93).
(2) أخرجه البخاري (5171)، ومسلم (1428) (90).
(3) انظر "السيرة" 2/ 214، و"المغازي" 2/ 440، و"الطبقات الكبرى" 2/ 62، و"أنساب الأشراف" 1/ 409، و"تاريخ الطبري" 2/ 564، و"دلائل النبوة" 3/ 392، و"المنتظم" 3/ 227، و"البداية والنهاية" 4/ 92.
(3/334)
________________________________________
سفيان بن حرب، وجاءت بنو أسد يقودها طُليحة بن خُوَيْلد الأسدي في ألف، وجاءت أشجع في أربع مئة يقودهم مسعود بن رُخَيْلة، وجاءت بنو مُرَّةَ في أربع مئة يقودها الحارث بن عوف، ووافاهم جميع اليهود فصاروا عشرين ألفًا.
وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق وقال: هو عندنا في بلاد فارس. وأشار أيضًا بعمل المِنْجَنيق وقال: إنه يعمل عندنا بفارس يدفع العدو. وسلمان يومئذ حر (1).
وقال الواقدي: هذا أول مشهد شهده (2).
وخط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق من أُطُم الشيخين، طَرفِ بني حارثة إلى المَذادِ، وجعل كلَّ أربعين ذراعًا بين عشرة (3).
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة آلاف من المسلمين نزلوا قريبًا من سَلْعٍ جعلوه وراء ظهورهم، والخندق بينهم وبين الكفار.
واستخلف على المدينة ابنَ أُمَّ مَكْتوم، وأَمَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذراري والنساء والضُّعفاء، فَرُفِعُوا في الآطام.
قال: وخرج يوم الاثنين لثمانِ ليالٍ مَضَيْنَ من ذي القعدة، وحمل لواءه زيد بن حارثة، وحمل لواءَ الأنصارِ سعدُ بن عبادة، وصار المسجد والبنيان وراءَ الخندق، ورتَّب على المدينةِ الحرسَ، فيهم: سلمةُ بن أسلم، وزيد بن حارثه، وجَعلَ شِعارَ المسلمين "حم لا ينصرون".
قال ابن إسحاق: فبينمَا هم على ذلك إذ طلعت طلائع الأحزاب، فقال المؤمنون: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (4) [الأحزاب: 22]. وأقبل أبو سفيان في قريش، فنزل بمُجْتَمعِ الأسيال بين الجرفِ
__________
(1) إشارة سلمان بالمنجنيق كانت في غزوة الطائف، كما في "المغازي" 3/ 927، و"تخريج الدلالات" ص 491.
(2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 567.
(3) "تاريخ الطبري" 2/ 568.
(4) "السيرة" 2/ 247.
(3/335)
________________________________________
والغابةِ (1) في عشرة آلاف، وجاءت غَطفان وأهل نجد فنزلوا بِذَنَبِ نَقَمَى إلى طرف أُحد، وأحدق باقي القبائل بالمدينة، وأبطأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة من المسلمين، وجعلوا يتسللون إلى أهاليهم.
وكان جُعيلٌ عمل مع جماعة فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرًا (2).
وكان سلمانُ رجلًا قويًا، فاختصم فيه المهاجرون والأنصار، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سلمانُ مِنّا أهلَ البيت" (3).
قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان، وحُذَيفة بن اليَمان، والنعمان بن مُقْرِّن المُزَني، وستة من الأنصار في أربعين ذراعًا، قال حذيفة: فظهرت علينا في الخندق صخرةٌ كسرت مَعاوِلنا، فأتى سلمانُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على جانب الخندق فأخبره بها، فقام ونزل إلى الخندق وضربها فانصدعت، وبرق منها بَرْقَةٌ أضاءت منها ما بين لابتيها - يعني المدينة - حتى كأنها مصباح، وكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ضربها ثانيًا وثالثًا وهي تَبْرُقُ كذلك، فسأله سلمان فقال: "أَمَّا في البَرقَةِ الأُولى: فإنِّي رَأَيتُ منها قُصُورَ الحِيرَةِ ومَدائنَ كِسْرَى، كأَنَّها أَنْيَابُ الكلَابِ، فأَخبرَني جبريلُ - عليه السلام - أنَّ أُمَّتي سَتَظهرُ عَليها، وأَمَّا في الثَّانية: فأَضاءَتْ لي القُصُورُ الحُمْرُ من أَرضِ الشَّامِ والرُّومِ، وأَخبرَني جبريلُ أنَّ أُمَّتي سَتَظهرُ عليها، وأمَّا في الثَّالثة: فَأَضَاءتْ لي قُصُورُ صَنْعَاءَ، وأَخبرني جبريلُ أنَّ أُمَّتي سَتَظهرُ عليها". فاستبشر المسلمون، فقال المنافقون: يا عجبًا، أيمنِّيكم الباطلَ، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن صنعاء والشام، وأنها ستُفْتَحُ لكم وأنتم تحفِرون الخندق، ولا تستطيعون أن تخرجوا من المدينة! وأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)} (4) [الأحزاب: 12].
__________
(1) هكذا جاءت في النسخ الخطية، وهي كذلك عند الطبري 2/ 570، وفي "السيرة" 2/ 219: زَغَابة، وهو ما رجحه ياقوت في "معجم البلدان" 3/ 141.
(2) انظر "السيرة" 2/ 217، و"المغازي" 2/ 447، وصار المسلمون يرتجزون:
سماه من بعد جعيل عمرًا ... وكان للبائس يومًا ظهرًا
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (6040)، والحاكم 3/ 691 من حديث عبد الله المزني، وانظر "السيرة" 2/ 224.
(4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 4/ 77، والطبري في "تاريخه" 2/ 567 - 570، والبيهقي في "الدلائل" 3/ 419 - 420.
(3/336)
________________________________________
فكان أبو هريرة يقول لما فتحت هذه الأمصار في زمن عُمَر وما بعده: افتحوا ما بدا لكم فوالذي نفسُ أبي هريرة بيده ما فتحتم مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلاّ وقد أعطي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - مفاتيحَها (1).
وقال جابر: مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم يحفرون الخندق ثلاثًا لم يذوقوا طعامًا، فقالوا: يا رسول الله، إن ها هنا كُدْيَةً مَن الجبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُشُّوهَا بالمَاءِ"، فرشوها، ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ المِعْوَل والمِسْحاة، ثم قال: "بِسْمِ اللهِ"، وضرب ثلاثًا فَصارت كثيبًا مُهالًا. قال جابر: فحانت مني التفاتة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شد على بطنه حجرًا. أخرجاه في "الصحيحين" (2).
وقال البراء بن عازب: رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ينقلُ معنا التراب ويقول:
واللهِ لولا اللهُ ما اهتدَيْنا ... ولا تصدَّقْنا ولا صَلَّيْنا
فأَنْزِلَنْ سَكينةً علَيْنا ... وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقَيْنا
والمُشرِكونَ قد بَغَوا علينا ... إذا أرادوا فتنةً أبينا
يرفع صوته وقد وارى التراب بياضَ إبطيه. أخرجاه في "الصحيحين" (3)، والأبيات لعبد الله بن رواحة.
قال أنس: وكانوا يُؤْتَوْنَ بملء كَفًّ من شعير، فَيُصْنَعُ لهم بإهالَةٍ سَنِخةٍ، ويوضع بين أيديهم والقوم جياعٌ وهي بشِعَةٌ في الحَلْق ولها ريح منكرة. انفرد بإخراجه البخاري (4).
ولما استقر نزول الكفار على المدينة، خرج حُيَيُّ بنُ أَخْطَب إلى كعب بن أسد صاحبِ عَقْدِ بني قريظة، وكان كعب قد وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قومه، وعاهده أن لا يُعينَ عليه، فلما علم كعب بمجيء حيي، أغلق باب الحصين دونه، فناداه: يا كعب،
__________
(1) "السيرة" 2/ 219، و"تاريخ الطبري" 2/ 570.
(2) البخاري (4101)، ومسلم (2039) بقصة المجاعة التي أصابتهم ووضعه - صلى الله عليه وسلم - الحجر على بطنه، وهذا لفظ أحمد في "مسنده" (14211).
(3) أخرجه البخاري (3034)، ومسلم (1803)، واللفظ للحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (852).
(4) البخاري (4100).
(3/337)
________________________________________
افتح لي. فقال: لا أفتح لك، إنك امرؤ مَشؤوم، وقد عاهدتُ محمدًا فلم أرَ منه غيرَ الوفاءِ والصدقِ، فلستُ بناقضٍ ما بيني وبينه، فقال: ويحك افتح الباب، فقال: ما أنا بفاعل، فقال: والله ما أغلقتَ بابَك دوني إلا خوفًا على جَشيشتك (1) لئلا آكلَ مَعك منها، فأَحْفَظَ ذلك كعبًا ففتح له الباب، فدخل وقال: يا كعب قد جئتك بعِزِّ الأبد وببحرٍ طام: أبي سفيان في قريش، والأحابيش، وقبائل العرب، فأنزلْتُهم حولَ المدينة في عشرين ألفًا، وعاهدتهم أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدًا وأصحابه، فقال له كعب: جئتني بذل الدهر، وجَهامٍ (2) قد أُهريقَ ماؤه، ورعد وبرق ليس فيه مطر، فَدَعْني وما أنا عليه مع محمَّد، فلم أر منه ما أكره، فلم يزل بكعب يفتله في الذِّرْوَةِ والغارب (3) حتى سمح له بنقض العهد الذي كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه إن رجعت قريش وغَطَفانُ، ولم يصيبوا من محمَّد شيئًا أنه يدخل معه حصنه فيصيبَه ما أصابه.
ولما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ندب جماعة من أصحابه منهم: سعد بن عبادة، وعبد الله ابن رواحة، وخوّاتُ بن جُبَير، وقال: "انطلقوا إلى قريظة، واعْلَموا لنا عِلْمَها فإن كان حقًّا فالْحَنوا لَحْنًا ولا تفشوه، فَتَفُتُّوا في أعضاد الناس وإن كان كعب على الوفاء فأذيعوه". فخرج إليهم، فإذا هم أبلغ مِمّا بلغه عنهم، فعادوا وأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" (4).
واشتد الحصار على المسلمين، وجاؤوهم من فوقهم ومن أسفلَ منهم حتى ظن المؤمنون الظنونَ، ونَجمَ النفاقُ وتحدث المنافقون، وقال معتِّب أخو بني عمرو بن عوف: يَعِدُنا محمدٌ أن نأكل كنوزَ كِسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط (5).
__________
(1) الجشيشة: طعام يصنع من البر، يطحن غليظًا.
(2) الجهام: السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه.
(3) الذروة والغارب على ظهر البعير، وأراد بذلك أنه لم يزل يخدعه كما يخدع البعير إذا كان نافرًا فيمسح باليد على ظهره، حتى يستأنس فيجعل الخطام على رأسه.
(4) انظر "السيرة" 2/ 220 - 222، و"المغازي" 2/ 455 - 459، وعندهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين".
(5) انظر "السيرة" 2/ 222.
(3/338)
________________________________________
وقال أوسُ بن قَيْظي أحد بني حارثة: يا رسولَ الله، إن بيوتنا عورةٌ - أي خالية -، فَأْذَنْ لنا أن نرجع إلى ديارنا فإنها خارجَ المدينة. وكان ذلك عن رأي رجال من قومه المنافقين (1).
فلم يأذن لهم وأقاموا محاصَرين بضعًا وعشرين، ولم يكن بينهم قتال إلا الرميُ بالنبل يتناوبون عليهم.
قال أنس: لما اشتد القتال جاءهم أبو سفيان بن حرب، وخالد بن الوليد، وعكرمة ابن أبي جهل، وعمرو بن العاص، وضرار بن الخطاب الفهري، ووجوه القبائل والأحابيش، واستمر القتال بينهم عامَّةَ النهار، وفاتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعُ صلوات، فلما رجع الناسُ إلى منازلهم، أمر بلالًا فأذَّنَ وأقام لكل صلاة (2).
ولما طال الأمر، كتب أبو سفيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: باسمك اللهمَّ أحلف باللات والعُزَّى، وإساف ونائلة وهُبَل، لقد سِرْتُ إليك لأستأصِلَكَ وأصحابَك، فرأيتُك قد اعتصمتَ بمكيدة ما كانت العرب تعرفها، وإنما تَعرفُ ظِلَّ رماحها وشبا سُيوفها، وما فعلتَ هذا إلا فرارًا من سيوفنا ولقائنا، وإن لك مني يومًا كيوم أُحدٍ والسلام.
وبعث بالكتاب مع أبي أسامة الجُشَمي، وأراد بالمكيدة الخندق، فقرأه أبي بن كعب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يكتب جوابه، فكتب: "بسم اللهِ الرَّحمن الرَّحيم، من محمدٍ رَسول الله إلى صَخرِ بن حربٍ، أما بعد، فقد أتاني كتابك يا أحمقَ بني [غالب] وسفيهَهم، وقديما غرك بالله الغرور، وسيحولُ الله بينكَ وبينَ ما حَاولتَ، ويجعلُ لنا العاقِبةَ، ولَيأتينَّ عليكَ يومٌ أكسِرُ فيه اللاَّت والعُزَّى، وإسافَ ونَائلةَ، وهبلَ، والسلام (3) ".
ولما اشتد الحصارُ على الناس، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عُيَيْنَةَ بنِ حِصْن، والحارثِ ابنِ عَوْفٍ بن أَبي حارثة المُرِّي (4)، وهما قائدا غطفان، فصالحهما على أن يعطيَهما
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 222 و 246.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 65.
(3) انظر "المغازي" 2/ 492 - 493، و"أنساب الأشراف" 1/ 411، وما بين معقوفين زيادة منه.
(4) في النسخ: المزني، وكذا جاء في "الإصابة" 1/ 286، وفي "السيرة" 2/ 223: المري، ولعله هو الصواب. انظر "جمهرة النسب" ص 418.
(3/339)
________________________________________
ثُلُثَ ثمار المدينة، ويرجعا بمن معهما. فأجابا وكتب بينهما كتاب الصُّلح، ولم يبق إلا الإشْهادُ. فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعدَ بن معاذ وسعدَ بن عبادة في ذلك، فقالا: يا رسول الله، آلله أمرك بهذا أم رأيٌ رأيتَ من عندك؟ فقال: "لَو أَمَرني اللهُ ما شَاوَرتُكُما، ولكنْ رأيتُ العربَ قد رَمَتكُم عن قَوسٍ واحدَةٍ، وكَالَبُوكُم من كلِّ جانبٍ، فأردتُ أن أكسِرَ شَوكَتَهم عنكم". فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وإياهم على شِرْكٍ وعبادةِ أوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يَطْمعون أن يأكلوا منها تمرة واحدة إلا قِرىً أو بيعًا، فحين أكرمنا الله بالإِسلام، وأعزَّنا بك نعطيهم أموالنا، والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنتُم وذَاكَ". فتناول سعد الكتاب فَمحاه وقال: ليَجْهَدوا علينا جهدهم.
وكان عيينة بن حصن والحارث بن عوف قد جاءا مُستخفيين من أبي سفيان ليشهدوا الصلح، فمد عيينة بن حصن رجليه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أسيد بن حضير: يا عينَ الهِجْرِسِ (1)، اقبضْ رِجلَيْكَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا أخذت الذي فيه عيناك، والله لا نُعطيكم إلا السيف، والله يا رسول الله إن كانوا ليأكلون العِلْهِزَ من الجَهْد، وما طمعوا بهذا. فقاما وهما يقولان: والله لا نُدْرِكُ من هؤلاء شيئًا (2).
وكان فوارسُ من قريش يقاتلون ويترامَون منهم: عَمرو بن عَبد وُدّ بن أبي قيس أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهُبَيْرَةُ بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله، وضِرار بن الخطاب الفِهْري، ومِرْداسُ (3) من بني محارب بن فِهْر، وغيرُهم قد لبسوا للقتال، فجاؤوا يومًا للقتال مشاة وركبانًا، فوقفوا على الخندق، فلما تأملوه عجبوا وقالوا: مكيدة ما كانت العرب تعرفها، فقال بعضهم: مع محمَّد رجل من فارس يدلُّه على مثل هذا، يعنون سلمان الفارسي.
ثم قصدوا مكانًا ضَيِّقًا من الخندق فاقتحموه، وجالت خَيْلُهم في السَّبْخَةِ بين
__________
(1) الهجرس: ولد الثعلب.
(2) "المغازي" 2/ 478 - 479، والخبر فيه مطول.
(3) هكذا جاءت العبارة في النسخ، وفي "السيرة": ضرار بن الخطاب الشاعر ابن مرداس، وهو الصواب، انظر "الإصابة" 2/ 209
(3/340)
________________________________________
الخندق وسَلْع، وأقبل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في نفر من الصحابة - رضي الله عنهم -، فأخذ عليهم الثُّغْرة التي اقتحموها وأقبلتِ الفرسانُ تُعْنِقُ نحوهم (1).
ذكرُ مَقْتَلِ عمرو بن عبد وُدّ:
قال الواقدي: لم يشهد عمرو أحدًا، وإنما قاتل يوم بدر قتالًا شديدًا، فأُثخِنَ بالجِراحات وهرب إلى مكة، فلما كان يومُ الخندق خرج مُعْلمًا ليُرى مكانه، وهو يومئذ ابنُ سبعين سنةً، وكان يُعَدُّ بأَلْفِ مقاتل، فدعا إلى البِراز، فلم يبرز إليه أحد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لهُ"؟ فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكرَّم وجهه: أنا، فعمَّمه بيده وأعطاه سيفه ذو الفقار، فبرز إليه وناداه: يا عمرو، إنك عاهدت الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى خَطْبَيْن (2) إلا أجبته إلى أحدهما. قال: أجل. قال: فإني أدعوك إلى الله ورسوله والإِسلام. فقال: لا حاجة لي في ذلك. قال: فأنا أدعوك إلى البراز. فعرفه، فقال: ولم يا ابن أخي فوالله ما أُحِبُّ أن أَقْتُلَكَ. فقال علي - رضي الله عنه - وأرضاه: ولكني أُحِب أن أقتلك. وناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تقدم على اسم الله. فعند ذلك غضب عمرو وأنشد: [من مجزوء الكامل]
ولقد بُحِحْتُ من النِّدا ... ءِ لجمعِهم هَل مِن مُبارِزْ
وَوَقفتُ إذ جَبُنَ الشُّجا ... عُ توقُّفَ البَطلِ المناجِزْ
إنَّي كذلِكَ لم أَزلْ ... متسرِّعًا نحو الهَزاهِزْ
إنَّ الشجاعةَ في الفتى ... والجودَ من خير الغرائز
فأجابه عليٌّ رضوان الله عليه: [من مجزوء الكامل]
لا تعجلنَّ فقد أَتا ... كَ مُجيبُ صوتِك غيرُ عاجزْ
ذو نيَّةٍ وبَصيرةٍ ... والصَّدقُ منجى كلَّ فائزْ
إنَّي لأَرجو أَن أُقيـ ... ـمَ عليكَ نائحةَ الجنائزْ
مِن ضَربةٍ فوهاءَ يَبْـ ... ـقَى ذكرُها عند الهزاهزْ
__________
(1) "السيرة" 2/ 224، "تاريخ الطبري" 2/ 573 - 574.
(2) في "السيرة": خلتين.
(3/341)
________________________________________
وفي رواية: فقال له عمرو: فارجع فإنك شاب. فأغلظ له علي - رضي الله عنه - في القول، فغضب وعَرْقَبَ فرسه. ثم تجاولا ساعةً وثار بينهما الغبار، فانجلى عن عمرو وهو قتيلٌ، اختلفا ضربتين سبقه علي - رضي الله عنه - ففلق رأسه، ويقال: أن عمرًا جَرح عليًا -- عليه السلام - في رأسه، ولما قَطع يَدَ عَمروٍ انقضَّتْ عُقابٌ فأخذت كفه وفي خِنْصَرِه خاتمُه، فحملتِ الخِنْصَر وطارت إلى مكة فألقته فعرفته أُختُه، فقالت: قتل أخي. فلما عاد أبو سفيانَ إلى مكةَ، قالت: من قتلَ أخي؟ قالوا: علي بن أبي طالب، فقالت (1): [من البسيط]
لو كان قاتلُ عمروٍ غَيْرَ قاتِلهِ ... لطال حزني عليه آخر الأبدِ
لكنَّ قاتلَه مَنْ لا يُقادُ به ... من كان يُدْعى أبوه بيضةَ البلدِ
ولما قُتِلَ عمرو ولَّت خيولُ أهله وأصحابه خارجةً من الخندق منهزمة، وقتل معه رجلان: مُنَبَّه بنُ غَنم بن عبيد بن السبّاق بن عبد الدار، أصابه سهم فأثْخَنه فمات بمكَّةَ منه، ومن بني مخزوم نَوْفل بن عبد الله بنِ المُغيرة، وكان ممن اقتحم الخندق، فرمَوْه بالحجارةِ وقد تورّط فيه فنادى: يا معاشر العرب، قِتْلَةٌ أحسنُ من هذه. فقتله علي رضوانُ الله عليه، وقيل: الزبير رضوان الله عليه. فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبيعَهم جُثَّته، فقال: "لا حاجَةَ لنا في جِيفَتِهِ ولا في ثَمَنِهِ، فإنَّه خبيثٌ، خُذوه". فأخذوه (2).
وقال ابن إسحاق: وكانت عائشة رضوانُ الله عليها وأمُّ سعدِ بن معاذ - رضي الله عنه - في أُطُمٍ من آطامِ بني حارثة، فمر سعدُ بن معاذ وعليه دِرْعٌ مُقَلَّصة قد خرج منها ذِراعُه وهو يقول: [من الرجز]
لبِّثْ قليلاً يشهدِ الهيجا حَمَلْ ... لا بأسَ بالموتِ إذا جاءَ الأَجَلْ
قالت عائشة: فقلت: يا أمَّ سَعْد، وَدِدْتُ أن دِرْعَ سَعْدٍ أسبغُ مما هي، فإني أخاف عليه. قالت: فرماه حِبّان بن قيس بن العَرِقَة بسهم فقطع أكحله، وقال: خُذْها وأنا ابن العَرِقَةِ، فقال سعد - رضي الله عنه -: عَرَّقَ الله وَجْهَكَ في النار، اللهمَّ إن كنتَ أَبقيتَ من حَرْبِ
__________
(1) البيتان في "ثمار القلوب" ص 496 وفيه أن القائلة ابنته، وفي "المنتظم" 3/ 234 أنها أمه.
(2) سياق القصة مأخوذ من عدة مصادر لا عن الواقدي وحده، وقد وردت في "المغازي" 2/ 470 - 471، كما ذكر المصنف، والسياق من ابن إسحاق كما في "السيرة" 2/ 224 - 225، و"تاريخ الطبري" 2/ 573 - 574 - وهي عندهم دون ذكر أبيات الشعر - والبيهقي في "الدلائل" 3/ 437 - 439، و"المنتظم" 3/ 232.
(3/342)
________________________________________
قريش شيئًا فأبقني لها فإنه لا قومَ أحبُّ إلي أن أجاهدَهم من قومٍ كذَّبوا رسولَك، وآذَوْه، وأخرجوه، اللهمَّ ولا تُمِتْني حتى تُقِرَّ عَيْني من بني قريظة، واجعله لي شهادة (1). وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: واقتحمتُ حَديقةً فيها نفرٌ من المسلمين، فيهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وفيهم رجل عليه تَسْبِغَةٌ لا يُرى منه إلا عيناه، والتسبغة: المِغْفر. فقال لي عمر: إنك لجريئةٌ ما جاء بك؟ وما يدريك لعله يكون تحوُّزٌ أو بلاءٌ. فوالله ما زال يلومُني حتى وَدِدْتُ أن الأرض انشقت ساعتئذٍ فدخلت فيها، فكشف الرجل عن وجهه فإذا هو طلحة بن عُبَيْد الله، فقال لعمر: ويحك يا عمر، قد أكثرتَ، فأين الفرار؟ أين التحوُّزُ إِلا إلى الله تعالى (2)؟
وقال عبدُ الله بن كعبِ بن مالك: ما أصاب سَعْدًا يومئذٍ إلا أبو أُسامةَ الجُشَمي، حليفُ بني مخزوم، رماه بالسهم في أكحله (3).
حديث نُعَيْم بن مسعود الغطفاني:
قال علماءُ السَّيَرِ: كان نُعيمُ بنُ مسعودٍ صديقًا لبني قُريظة، نديمًا لكعب بن أسد يَقْدمُ عليه فيكرمُه ويُزَوَّدُه من التمر، فلما اشتد الأمر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، قال نُعَيْمٌ: فأوقع الله الإِسلام في قلبي، فكتمت قومي ذلك، وأتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلًا، فقال: "مَا جَاءَ بِكَ؟ " فأخبرته بإسلامي، وقلت: قد كتمتُه عن قومي، فَمُرْني بما شئت، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَذِّل عنَّا ما استطعت، فإن الحربَ خَدْعَةٌ". فخرج نُعيمٌ فأتى بني قُريظة، فرحَّبوا به وقالوا: ما جاء بك؟ فقال: قد عرفتم وُدِّي إياكم، وكان صديقًا لهم في الجاهلية، قالوا: صدقت ولا نَتَّهِمُك في شيء. فقال: إن قريشًا وغطفانَ ليسوا من أهل هذه البلاد، وإنما جاؤوا طلبًا للغنائم، فإن أصابوها وإلا رجعوا إلى بلادهم، وخلَّوْا بينكم وبين محمدٍ، ولا طاقةَ لكم به، فلا تقاتلوه معهم
__________
(1) "السيرة" 2/ 226 - 227، و"تاريخ الطبري" 2/ 575.
(2) "تاريخ الطبري" 2/ 576.
(3) "تاريخ الطبري" 2/ 576 - 577.
(3/343)
________________________________________
حتى تأخذوا رهائنَ من أشرافهم. فقالوا: نِعْمَ الرأيُ رأيتَ، ونِعْمَ ما أشرتَ به.
ثم خرج من عندهم وأتى أبا سفيان ومن معه من قريشٍ، فقال: يا معاشرَ قريش، قد علمتم وُدي إياكم وفِراقي محمدًا، وقد بلغني أمرٌ فاكتموه عَليَّ. قالوا: وما هو؟ قال: إن بني قريظةَ قد ندِموا على نقضِ العهد بينهم وبين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وقد أرسلوا إليه يقولون: قد نَدِمْنا على ما فعلنا، فهل ترضى عنا بأن نأخذَ من أشراف قريش وغطفانَ أُناسًا رهائن، فندفعَهُم إليك فتضربَ أعناقهم؟ قال: نعم، فإن بَعَثَتْ إليكم يهودُ تطلبُ رهائنَ فلا تُعْطوهم.
ثم خرج فأتى غَطَفانَ، فقال لهم كما قال لقريش، فلما كانت ليلةُ السبت، أرسل أبو سفيان ورؤوسُ غطفانَ إلى بني قريظةَ يقولون: لسنا بدار مُقام، وقد هلك الخُفُّ والحافِر فأعِدوا للقتال غدًا حتى نناجزهم. وكان الرسول عكرمةَ بنَ أبي جهل ووجوهَ قريشٍ وغطفان، فقالت بنو قريظة: إن غدًا يومُ السبت، والعملُ علينا فيه حرامٌ، ومع هذا فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهائنَ من أشرافكم يكونوا بأيدينا ثِقةً، فإننا نخشى أن تُضَرِّسكُم الحرب فترحلوا عنا وتتركونا ومُحمَّدًا في قُطْرٍ واحد، فيستأصلَنا. فلما رجعت الرسل إليهم قالوا: صدق نُعيمٌ والله. ثم أرسلوا إلى قريظة: إِنّا لا ندفع إليكم أحدًا، فإن شئتم أن تخرجوا فتقاتلوا وإلا فلا. فقالت قريظة: صدق والله نعيم. وانخذل الفريقان (1).
حديثُ صَفيةَ بنتُ عبد المطلب - رضي الله عنها - مع اليهودي:
كانت صفيةُ - رضي الله عنها - في حِصْنِ فارعٍ، وهو حصنُ حسّانَ بنِ ثابتٍ، قالت: وكان حسانُ معنا فيه مع النساء والصبيان، فجاء يهودي فجعل يُطيفُ بالحصنِ وليس بيننا وبين قريظة من يَدْفَعُ عنا، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في نُحور أعدائهم لا يقدرون أن يصلوا إلينا، ولا يدفعون عنا.
قالت: فقلت: يا حسان، والله ما آمنُ هذا اليهوديَّ أن يَدُلَّهم على عَوْراتِ الحِصن فيأتون إلينا، فانزل فاقتله.
__________
(1) "السيرة" 2/ 229 - 231، و"المغازي" 2/ 480، و"تاريخ الطبري" 2/ 578.
(3/344)
________________________________________
فقال حسان: يا بنت عبد المطلب، قد عَرَفْتِ ما أنا بصاحبِ هذا، وكان حسانُ من أجبن الناس. قالت: فلما يَئِستُ منه اعتَجَرْتُ وأخذتُ عمودًا ونزلتُ ففتحتُ باب الحصن، وأَتَيْتُه من خلفِه فضربته بالعمود حتى قتلتُه، وصعدتُ الحصن فقلت: يا حسان، أنزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعْني من سَلْبه إلا أنه رجل. فقال: يا بنت عبد المطلب، ما لي بِسَلَبِهِ حاجةٌ (1).
حديث رحيلهم:
خذلهم اللهُ وأَيْبَسَ ضُرُوعَ مواشيهم، وأرسل عليهم رياحًا شديدة باردة فأظلمتِ الدُّنيا، وجعلت تكفأُ قدورهم وترمي آنيتهم. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] الآيات. وتقلَّعتِ الأوتادُ، وطَفِئت النيرانُ، وجالت الخيل بعضُها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعبَ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيدُ كلَّ حي يقول: يا بني فلان، هَلمُّوا إلي. فإذا اجتمعوا إليه، قال: النجاءَ النجاءَ أُتيتم، فانْهَزموا من غير قتال.
وقال محمَّد بن كعب القُرَظي: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفةَ بن اليمانِ: يا أبا عبد الله، رأيتُم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نَجْهَدُ، قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناهُ يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا ولفعلنا، فقال حذيفة: يا ابن أخي، والله لقد رأيتُني ليلة الأحزابِ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق في ليلة باردة لم أجد قبلها ولا بعدها بردًا أشدَّ منه، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هُوِيًّا من الليل، ثم التفت إلينا وقال: "مَن يَقومُ فَيذهَبُ
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 228، و"تاريخ الطبري" 2/ 577، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 442 - 443.
وقال السهيلي في "الروض الأنف" 2/ 193 - 194: ومحمل هذا الحديث عند بعض الناس أن حسانًا كان جبانًا شديد الجبن، وقد دفع هذا بعض العلماء وأنكره، وذلك أنه حديث منقطع الإسناد، وقال: لو صح هذا لهجي به حسان، فإنه كان يهاجي الشعراء، كضرار وابن الزبعرى وغيرهما، وكانوا يناقضونه ويردون عليه، فما عيَّره أحد منهم بجبن ولا وسمه به، فدلَّ هذا على ضعف حديث ابن إسحاق، وإن صح فلعل حسان أن يكون معتلًا في ذلك اليوم بعلة، منعته من شهود القتال، وهذا أولى ما تأول عليه. وانظر "سبل الهدى والرشاد" 4/ 564.
(3/345)
________________________________________
إلى هَؤلاءِ القَومِ فَيأتِينَا بخَبرهِم، أَدخَلَه الله الجنَّةَ" فما قام أحد منا من الخوفِ والبردِ والجوعِ، فعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ثلاثًا. فلما لم يقم أحدٌ، دعاني فقال: "قُم يا حُذيفةُ" فلم يكن لي بُد من القيام حين دعاني، فقلت: لبيك يا رسول الله، وقمت حتى أتيته وإن جَنْبَيَّ ليضربان، فمسح على رأسي ووجهي ثم قال: "ائتِ هَؤلاءِ القومَ حتى تأتيَني بخبرهم، ولا تُحدِثَنَّ شيئًا حتى تَرجِعَ إليَّ"، ثم دعا لي فقال: "اللهمَّ احفظهُ من بَين يَدَيْه ومِن خَلفِهِ، وعن يَمينِهِ وعن شِمَالِهِ، ومِن فَوقِهِ ومِن تَحتِهِ".
قال: فشددت عليّ أَسلابي، وأخذت قوسي وأَسْهُمي، وانطلقت أمشي كأنما أمشي في حَمَّامٍ حتى دخلت في القوم، وأرسل الله عليهم ريحًا قَطَعَتْ أَطنابَ خيامهم، وذهبت خيولهم، فلم تدع لهم شيئًا حتى أهلكته، وأبو سفيان قاعد يصطلي، فأخذتُ سهمًا ووضعتُه في كَبِد قَوْسي وأردتُ أن أرميَهُ، فذكرتُ قولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُحدِثَنَّ حَدَثًا حتى ترجعَ" فرددت سهمي إلى كنانتي، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريحُ وجنودُ الله بهم، قام فقال: يا معاشر قريش، ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو، فأخذت بيد جليسي فقلت: من أنت؟ فقال: سبحان الله ما تعرفني؟ ! أنا فلان بن فلان، فإذا هو رجل من هَوازن، فقال أبو سفيان: يا معاشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مُقام، ولقد هلك الكُراع والخُفُّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلَغَنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذا الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل.
ثم قام إلى جَمَلِهِ وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوقف على ثلاث قوائم، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، وسمعتْ غطفانُ بما صنعت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم، وهزم الله الأحزاب، فرجعتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته الخبر، فضحك حتى بدت ثناياه في سوادِ الليل، وذهب عني الدَّفْءُ، فأدناني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنامَني عند رجليه، وألقى عليّ طرف ثوبه، وألزق صدري ببطن قدمه (1).
وقد أخرج مسلم بمعناه عن حذيفة فقال فيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُم يا حُذَيفَةُ" فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي إلَّا أن أقوم، فقال: "لا تَذْعَرْهُم"، قال: فأردت أن أَرْميَ
__________
(1) "السيرة" 2/ 231 - 233، و"المغازي" 2/ 488 - 490، و"تاريخ الطبري" 2/ 579 - 580.
(3/346)
________________________________________
أبا سفيان ولو رميته لأصبتُه، فرجعت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما فرغتُ قُرِرْتُ فألبسني فَضلَ عباءة كانت عليه، فلم أزل نائمًا حتى أصبحت، فقال: "قم يا نَوْمانُ" وفيه: فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمّام (1). معناه: من شدة الخوفِ، يشير إلى حرارة الفَزَع.
وللبخاري، عن سليمان بن صُرَد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُجْليَ الأحزابُ عنه -: "الآنَ نَغزُوهُم ولا يَغزُونَنَا، نحنُ نسِيرُ إلَيهم" (2) أي: نغزوهم في ديارهم. فغزاهم عام الفتح.
وقال الواقدي: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الأحزاب يوم الإثنين والثلاثاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر. قال جابر: فعرفنا البِشْرَ في وجهه (3). وكان من دعائه: "اللهمَّ مُنْزِلَ الكتاب سريعَ الحساب، اهزم الأحزاب" وفي رواية: "ومجري السحاب اهزمهم وزلزلهم". أخرجاه في "الصحيحين" (4).
قوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أي: من فوق الوادي من قِبل المشرق، عليهم مالك ابن عوف النَّصْري، وعيينةُ بن حِصْن، وطُليحةُ بن خويلد الأسدي، وحُييُّ بن أخطب في بني قريظة، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} يعني: من بطن الوادي من قِبَل المغرب: أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه من الأحابيش، وأبو الأعور عمرو بن سفيان من قبل الخندق، ولم يقتل من المسلمين في غزاة الخندق سوى ستة نفر من الأنصار:
منهم: عبد الله بن سهل بن زيد الخزرجي من الطبقة الأولى، وأمه: الصَّعْبة بنت التيِّهان بن مالك، شهد عبد الله بدرًا وَأحدًا، ورماه رجل من بني عوف بسهم في الخندق فقتله.
ومنهم: كعب بن زيد بن قيس، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه: ليلى بنت عبد الله الأنصارية، شهد بدرًا، وأحدًا، وبئر معونة، وارتُثَّ في ذلك اليوم، واستُشْهِدَ بالخندق، قتله ضِرار الفِهْري، وليس له عَقِبٌ.
__________
(1) مسلم (1788).
(2) البخاري (4110).
(3) "المغازي" 2/ 488.
(4) البخاري (4115)، ومسلم (1742) من حديث عبد الله بن أبي أوفى.
(3/347)
________________________________________
وفيها: كانت غزاة بني قريظة (1).
قال علماء السير: لما انصرف الأحزاب عن المدينة، لحق أبو سفيان بمكة، وعُيينةُ بنجد، والأعراب بأماكنها، دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت عائشة - رضي الله عنها -، ووضع المسلمون سلاحهم، فجاء جبريل - عليه السلام - مُعْتَجِرًا بعِمامةٍ من إستبرق، وقيل: كانت سوداء، قد أرخى ذُؤابتيها بين كتفيه، وهو على بَغْلةٍ عليها قَطيفةٌ أو رِحالةٌ من ديباج، فوقف عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: "يا محمَّد، عَذيرُكَ (2) من مُحاربٍ! أَوَ قَدْ وَضعتَ السَّلاح، واللهُ يأمُرُكَ أن تَسيرَ إلى بني قُريظَةَ". فخرج راكبًا على حمار عُرْيٍ والناس يمشون بين يديه، ودعا عليًا رضوان الله عليه فدفع إليه لواءه، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مَكتوم، وسار إليهم في ثلاثة آلاف من المسلمين، وستة وثلاثين فرسًا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة، أو القعدة (3).
وقال له جبريل - عليه السلام -: إني مُزلزلٌ عليهم حُصونَهم.
وقد روى الإِمام أحمد رحمة الله عليه، عن عائشة رضوان الله عليها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من الأحزاب، دخل إلى المُغْتَسلِ ليغتسل، فجاءه جبريل - عليه السلام - فقال: أَوَقَدْ وضعتم السلاح، ما وضعت الملائكة أسلحتها، أو ما وضعنا سلاحنا أو أسلحتنا بَعْدُ، اِنْهَدْ إِلى بني قريظة.
قالت عائشةُ: كأني انظر إلى جبريل من خلل الباب قد عصب رأسه من الغبار في زقاق بني غَنْم (4).
فسار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاصرهم بضع عشرة ليلة. وفي رواية: خمس عشرة
__________
(1) "السيرة" 2/ 233، و"المغازي" 2/ 496، و"الطبقات الكبرى" 2/ 70، و"أنساب الأشراف" 1/ 414، و"تاريخ الطبري" 2/ 581، و"المنتظم" 3/ 238، و"البداية والنهاية" 4/ 116.
(2) أي: هات من يعذرك.
(3) "المغازي" 2/ 497، و"الطبقات" 2/ 70.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24994)، وقوله: "في زقاق بني غنم" هو من حديث أنس الآتي، ولم نقف عليه من حديث عائشة.
(3/348)
________________________________________
ليلة، فاشتد عليهم البلاء ولم ينصرهم أحد، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ وكان مُثْخَنًا من الجرح الذي أصابه يوم الخندق.
وللبخاري، عن أنس قال: كأنِّي أَنظُرُ إلى غُبار ساطع في سكة بني غَنْم، موكب جبريل حين سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة (1).
وعن ابن عمر قال: لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب قال: "لا يُصَلَّيَنَّ أحدٌ العَصرَ إلَّا في بَني قُريظَةَ". فأدرك بعضهم العصرَ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يُرِدْ ذلك مِنّا. فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يُعَنِّفْ منهم أحدًا. أخرجاه في "الصحيحين" (2).
قال ابن إسحاق: وسار علي - عليه السلام - بالراية حتى إذا دنا من الحصون، سَمع مقالةً قبيحة في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع، فلقيه في الطريق فقال له: يا رسول الله، لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: "أَظنُّكَ سَمعتَ لي مِنهم أَذًى" قال: نعم، قال: لو قد رأوني لم يقولوا شيئًا من ذلك.
فلما دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حصونهم، ناداهم: "يَا إخْوَةَ القِرَدَةِ والخَنازِيرِ، هَل أَخْزاكُمُ اللهُ وأَنَزلَ بِكُم نِقْمتَهُ؟ " فقالوا: يا أبا القاسم، ما كنتَ جهولاً. ومرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه فقال: "هل مرَّ بكم أحدٌ؟ " قالوا: نعم، مرَّ بنا دِحْيَةُ بنُ خليفةَ الكَلْبي على بغلة شهباء عليها قَطيفةٌ من ديباج. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَلكَ جبريلُ - عليه السلام - بُعِثَ إلى بَني قُريظَةَ، يُزَلزِلُ عَليهم حُصُونَهُم، ويَقذِف الرُّعبَ في قُلُوبهم". ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بئر من آبارهم، وتلاحق به الناس (3).
وقال الواقدي: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت عائشة رضوان الله عليها، جاءه جبريل - عليه السلام - وعلى ثناياه النَّقع، فقال له: إلى بني قريظة (4).
وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن معاذ في المسجد قبة، وترك عنده امرأة من
__________
(1) أخرجه البخاري (4118).
(2) أخرجه البخاري (4119)، ومسلم (1770)، وعند مسلم: الظهر بدل العصر.
(3) "السيرة" 2/ 234، و"تاريخ الطبري" 2/ 582.
(4) "المغازي" 2/ 497.
(3/349)
________________________________________
المسلمين يقال لها: رُفَيْدَة، كانت تداوي الجرحى، وتقوم على المرضى تحتسب فعلها عند الله تعالى، وكان كَلْمُ سَعْدٍ قد انفجرَ (1).
وقال هشام (2): حاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار، وكان حُييَ بن أخطب قد دخل في حصن كعب بن أسد وفاءً لكعبٍ بما عاهده عليه، فلما تيقنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير منصرف عنهم حتى يُناجزَهم، اجتمعوا وتشاوروا، فقال لهم كعب بن أسد: قد نزل بكم ما تَرَوْنَ فاختاروا إحدى ثلاث: إما أن نبايعَ هذا الرجل ونصدِّقَه وقد علمتم أنه نبي مُرْسَلٌ، وأنه الذي قد وجدتم نَعْتَه في كتابكم، فآمنوا به، واحقنوا دِماءَكم، وأحرزوا أموالكم وأولادكم ونساءكم، فأبَوْا وقالوا: لا نتركُ دينَنا، قال: فتعالَوْا حتى نقتلَ أبناءَنا ونساءنا، ونخرجَ بسيوفنا، فإما أن نُقْتَلَ أو نَظْفَرَ، فإن قُتِلنا لم يكن وراءنا هَمٌّ، وإن ظَفِرنا فما نعجزُ عن اتخاذ الأبناء والنساء. قالوا: فإذا قتلنا أهلنا فأي عيش يبقى لنا بعدهم.
قال: فإن أبيتم فالليلةُ ليلةُ السبت ومحمدٌ وأصحابه آمنون من خروجنا إليهم، فأخرجوا فلعلنا أن نصيب منهم غِرَّة، فقالوا: لا تُفْسِدْ علينا سبْتَنا فنُمْسَخَ كما مُسِخَ غيرُنا. فقال لهم: يا إِخْوَةَ القِرَدَةِ، والله ما بات أحدكم منذُ ولدته أمه ليلة من الدهر حازمًا!
ثم اتفقوا فيما بينهم أن يرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبوا منه أبا لُبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ليستشيروه في أمرهم، وكانوا حلفاء الأوس.
قال أبو لبابة: فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهَب إلى حُلفَائِكَ، فإنَّهم أَرسَلُوا إليكَ من بَينِ الأَوسِ والخَزرَجِ"، فدخلت إليهم فمشَوْا إلي، وبكى النساءُ والصبيانُ وقالوا: نحن مواليك دون الناس كلهم، وقد عرفت ما صنعنا في أمرك وأمر قومك يومَ الحدائقِ ويومَ بُعاثٍ، وكلَّ حَرْبٍ كنتم فيها، وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، وخيَّرنا بأن [لا] يفارقنا حتى ننزل على حكمه، فماذا ترى؟ فإنا قد اخترناك على غيرك. فرقَّ لهم وقال: نعم فانزلوا على حكمه. وأشار إلى حلقه إِنه الذبح.
__________
(1) "السيرة" 2/ 239.
(2) هكذا جاء في النسخ، ولعله ابن هشام.
(3/350)
________________________________________
قال أبو لُبابةَ: فوالله ما زالَت قدمي عن مكانها حتى ندمت واسترجعت، وقلت: خُنْتُ الله ورسولَه، ونزلتُ، وإنَّ لحيتي مبتلةٌ بالدموع والناس ينتظرون رجوعي إليهم، فأخذت طريقًا من وراء الحِصنِ إلى المسجد، فربطت نفسي إلى ساريةٍ، وبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - صنيعي. فقال: "دَعُوه حتَّى يُحْدِثَ الله فيهِ ما يَشَاءُ، لو كانَ جاءَني لاسْتَغفَرتُ له، فإذْ لم يَأتِني وذَهَب، فَدعُوهُ". فأقام سبعًا لا يأكل ولا يشرب في حَرٍّ شديد وقال: لا أزال كذا حتى أفارقَ الدنيا أو يتوبَ الله علي.
قالت أم سلمة: فرأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَحُلُّ رباطه، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرفع صوته يكلمه ويخبره بتوبته، وما يدري كثيرًا مما يقول من الجَهْدِ والضعفِ، ولقد كان الرباط حَزَّ في ذراعه، وكان من شَعَرٍ، وكان يداويه بعد ذلك دهرًا (1).
وقال ابن إسحاق: نزلتْ توبةُ أبي لبابة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سَلَمةَ. قالت: فقلت: ألا أُبَشَّره؟ قال: "بَلَى". فناديته: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. فثار الناس ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكونَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يطلقني بيده. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطلقه (2).
قال الواقدي: وأسلم في تلك الليلة جماعة من قُرَيظة والنَّضير منهم: عمرو بن سُعْدى القُرَظي، وكان قد أبى أن ينقض ما بينه وبيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نقضت قريظة، وقال: لا أَغْدِرُ بمحمد. فخرج في تلك الليلة، فمر بحرسِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيهم محمَّد بن مسلمة فلم يعرض له، فذهب فلا يدرى أين سلك (3).
قال البلاذري: ومن أشراف قريظة أسيد بن أعصم الساحر أخو لبيد، ورفاعة بن زيد بن التابوت, والزَّبِير بن باطا، وقردم بن كعب، وكعب بن أسد، وكان المشار إليهم، في آخرين (4).
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 235 - 237، و"المغازي" 2/ 503 - 508، وسياق القصة منهما جميعًا.
(2) "السيرة" 2/ 237.
(3) "المغازي" 2/ 503 - 504.
(4) "أنساب الأشراف" 1/ 333، وذكرهم البلاذري في معرض حديثه عن عظماء اليهود فذكرهم، لا أنهم أسلموا.
(3/351)
________________________________________
ولما أصبحوا، نزلوا على حُكْمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتواثبت الأوس وقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دونَ الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج ما فعلت، يشيرون إلى بني قينقاع الذين شفع فيهم عبد الله بن أبي. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعَاشِرَ الأَوْسِ، أَمَا ترَضَوْن أَن يحكُمَ فيهم رَجلٌ مِنكُم؟ " قالوا: بلى. قال: "فَذَاكَ سعدُ بنُ معاذٍ". قالوا: رضينا، فقال: "عَليَّ بسَعدِ بن مُعاذٍ". فجيء به على حمار وعليه إِكافٌ من ليف، فجعلوا يقولون: يا أبا عمرو، حُلفاؤك ومواليك ومَنْ قَدْ عَلِمْتَ. وسعد يقول: أنا لا أبالي في الله لومة لائم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احكُم فِيهم". فقال: أحكم فيهم أن يُقْتَلَ مُقاتِلُهم، وتُسبى ذراريهم، وتُقْسَمَ أموالُهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد حكمت فيهم بحكم الله ورسوله، وأنزلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار ابنة الحارث، امرأةٍ من بني النجار (1).
وكان من حكم سعد أن يقتل كل من جَرت عليه الموسى (2). قال عطية القُرَظي: وكانوا يقتلون من أنبت، فكنت فيمن لم يُنْبِت (3). ثُمَّ كُتِّفوا، وجعل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن سلام، ثم جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق الذي هو اليوم سوقُ المدينة، وحفر لهم الخنادق، وخدَّ لهم الأخاديد، وأُخْرِجوا رَسْلاً فضربت أعناقهم، وكان عِدَّتُهم من الست مئة إلى السبع مئة أو ثمان مئة، وقيل: أربع مئة، وفيهم كعب بن أسد، وحُيَيُّ بن أخطب، وعَزَّال بن شمويل (4).
ولما جيء بحُييِّ بنِ أخطب، كان عليه حُلَّةٌ قضاعية (5) قد شقَّقها من كل جانب لئلا يلبسَها غيرُه، ويداه مجموعةٌ إلى عُنُقه، فلما رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والله ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنه من يَخْذُلِ اللهَ يُخْذَلْ، وهذا أمر قَدَّره الله، ومَلْحمةٌ كتبها على بني إسرائيل، ثم قُدَّمَ فَضُرِبَتْ عنقه (6).
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 239 - 240.
(2) انظر "المنتظم" 3/ 239.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (22659).
(4) انظر "السيرة" 2/ 240 - 241، و"تاريخ الطبري" 2/ 590.
(5) هكذا في النسخ، وفي "السيرة": "فقَّاحية" وهي التي تضرب إلى الحمرة.
(6) "السيرة" 2/ 241.
(3/352)
________________________________________
وكان الزَّبِير بنُ باطا يكنى أبا عبد الرحمن قد منَّ على ثابت بن قيس بن شمّاس؛ أخذه يوم بُعاث أسيرًا، فجز ناصيته وأطلقه. وكان الزَّبير شيخًا كبيرًا فرآه ثابت في ذلك اليوم فعرفه وقال له: هل تعرفني؟ فقال: وهل أجهلك؟ قال: فإني أريد اليوم أن أجزيك بِيَدِكَ عندي، فقال: إن الكريم يجزي الكريم.
فجاء ثابتٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستوهبه منه وعرَّفه يَدَهُ عنده فوهبه له، فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وهب لي دمك. فقال: شيخٌ كبيرٌ لا مال ولا أهل، فما يصنع بالحياة؟ فاستوهب ثابت ماله، وأهله وولده وأتاه فأخبَره، فقال: أي ثابت ما فعل الذي كأَنَّ وَجْهَه مرآةٌ صَقيلةٌ يترآى فيها العذارى وجوههن، كعبُ بن أسد؟ قال: قتل، قال: فما فَعَل سيِّدُ الحاضِر والبادي حُيَيُّ بنُ أخطب؟ قال: قتل، قال: فما فعل مُقَدَّمُنا إذا شدَدْنا، وحامينا إذا كررنا: عَزّال بن شمويل قال: قتل. وعدَّ جماعة، وثابت يقول: قتلوا. فقال له: يا ثابت، فإني أسألك بيدي عندك إلَّا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعدهم خَيْر حتى ألقى الأحبة. فقال له: تلقاهم في نار جهنم، فقتله (1).
وقالت عائشة رضوان الله عليها: لم يقتلْ من نسائهم إلا امرأةٌ واحدة، والله إنها لقاعدة عندي تتحدث وتضحك ظَهْرًا وبطنًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق يقتلُ رجالَهم، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ فقالت: ها أنا والله. فقلت لها: مالك ويلك؟ قالت: أُقتلُ. قلت: ولم؟ قالت: لحَدَثٍ أحدثته. فذهبوا بها فضربوا عنقَها، فلا أنسى طيبَ نَفْسِها، وكثرةَ ضحكها. وقد عَرَفَتْ أنها تُقْتَلُ، وهذه المرأة رمت على خَلَّاد بن سويد رحًا فقتلته، فقتلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أموالهم، ونساءهم وأولادهم بين المسلمين، ووُجِدَ في حصونهم ألفٌ وخمس مئة سيف، وألف رمح، وألف وخمس مئة ترس، وأموالٌ عظيمة، ومواشي كثيرة، فكانت السُّهمانُ بعد ما أَخرجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخُمْسَ على ثلاثة آلافٍ ونَيِّفًا وسبعين سهمًا، للفارس سهمان (3)، وللراجل سهم، واستعمل على
__________
(1) "السيرة" 2/ 242 - 243، والقائل له هذه المقالة هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -.
(2) "السيرة" 2/ 242.
(3) في "السيرة": للفرس سهمان، ولفارسه سهم.
(3/353)
________________________________________
الخُمس مَحْمِيَةَ بنَ جَزْءٍ الزُّبيدي، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن زيد الأنصاري إلى نجد بسبايا من قريظة، فابتاع له بها خيلًا وسلاحًا (1).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَهب ويَعتق من الخُمس، واصطفى رَيحانة بنت عمرو بن جُنافة، وكانت عنده حتى توفي عنها وهي في مِلكه، وكان أراد أن يتزوجها فأبت، وقالت: إذا كنت في المِلْكة، كان أخفَّ عليَّ وعليك. ولما سباها، أقامت مدة على يهوديتها، فهجرها حتى أسلمت، وبشره بإسلامها ثعلبةُ بنُ سَعْيَةَ فَسُرَّ بها (2).
* * *
وفيها: سقط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفرس، فجُحش على شقه الأيمن.
قال الإِمام أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمَّد بن عمرو، حدثنا علي بن خلَّاد، عن أبيه، عن ثابت، عن أنس قال: سَقَط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فَرَس، فَجُحِشَ شِقه الأَيمنُ، فدخلوا عليه فصلى بهم قاعدًا وأشار إليهم أن اقعدوا، فلما سلم قال: "إِنَّما جُعِلَ الإمامُ إمامًا ليُؤْتَمَّ به، فلا تَختَلِفوا عليه، فَإذا كَبَّر فكَبِّروا, وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا صَلَّى قاعِدًا فَصلُّوا خلفه قعودًا". أخرجاه في "الصحيحين (3) ".
* * *
وفيها فُرضَ الحج (4)، قال الإِمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمر، عن الزهري، عن نافع، عن ابن عمر قال: قدم وفْدُ ضِمامِ بن ثَعلبةَ من بني سَعْد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة خمس من الهجرة، فذكر لهم فرائض الإِسلام من الصَّلاة، والزَّكاة، والصَّيام، والحجَّ (5).
__________
(1) "السيرة" 2/ 244 - 245، وانظر 2/ 361.
(2) "السيرة" 2/ 245.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (12656)، والبخاري (805)، ومسلم (411)، وقوله: "فلا تختلفوا عليه" هو من حديث أبي هريرة عند البخاري (722) ومسلم (414).
(4) في "البداية والنهاية" 4/ 180: أنه فرض في سنة ست وهو الأصح كما رجحه ابن حجر في "الفتح" 3/ 378.
(5) لم نقف عليه في "المسند" من حديث ابن عمر، وهو في "المسند" (2254) من حديث ابن عباس، وليس فيه ذكر للسنة الخامسة.
(3/354)
________________________________________
فصل وفيها توفي
جُلَيبيب (1)
من بني ثعلبةَ، حليف الأنصار، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار.
قال الإِمام أحمد: حدثنا عفان، وقال ابن سعد: حدثنا عارم قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن كِنانة بن نُعَيم العَدَوي، عن أبي بَرْزَةَ الأسلمي: أن جُلَيبيبًا كان امرءًا من الأنصار، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لأحدهم أيَّمٌ، لم يزوَّجْها حتى يُعْلِمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ألَهُ فيها حاجةٌ أم لا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم لرجل من الأنصار: "أَتُزوَّجني ابْنَتَك"؟ قال: نعم. قال: "لَستُ أُريدُها لِنَفْسِي" قال: فَلِمَن؟ قال: "جُلَيبيب"، قال: حتى أستأمر أُمَّها، فأَخبرها. فقالت: حَلْقى، لَعَمْرُ اللهِ لا أُزوِّجُها، فلما قام أبوها ليأتيَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت الفتاةُ من خِدرها: من خطبني إليكما؟ قالا: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: أفتردَّانِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره؟ ادْفَعاني إليه، فإنه لا يُضَيِّعُني.
فذهب أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: شأنك بها، فزوِّجْها من شئت. فزوَّجها جُلَيْبيبًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهمَّ صُبَّ عليهمُ الخَيْرَ صَبًّا، ولا تَجعَل عَيشَهُما كدًّا". فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغزى له، قال: "هَل تَفْقِدُونَ من أَحَدٍ"؟ قالوا: نفقد فلانًا وفلانًا. فقال: "ولَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيبيبًا. فَاطْلُبُوه"، فوجدوه في القتلى إلى جانب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا منَّي وأنا مِنهُ"، فوضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ساعديه حتى حفروا له، ماله سَريرٌ إلَّا ساعِدَيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وضعه في قبره. قال ثابت: فما كان في الأنصار أيِّمٌ أنْفَقَ منها (2).
وقول المرأة: "حلقى" بإسكان اللام مخففة معناه: أصابها وجع في حلقها.
خلاّد بن سُوَيْد
ابن ثعلبةَ الأنصاري الخزرجي (3) من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه عَمْرة بنت
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 5/ 393، و"المنتظم" 3/ 241، و"الإصابة" 1/ 242.
(2) أخرجه ابن سعد "الطبقات الكبرى" 5/ 393 - 394، وأحمد في "مسنده" (19784).
(3) "الطبقات الكبرى" 5/ 491، و"تاريخ الطبري" 2/ 593، و"المنتظم" 3/ 242، و"الإصابة" 1/ 454.
(3/355)
________________________________________
سعد خزرجية، شهد العقبة مع السبعين، وبدرًا، وأحدًا، والخندق، ووثبت عليه بَنانةٌ من حِصْنٍ لبني قريظة فشدخت رأسه، فقتلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به - وقد ذكرناه - ولمّا قتل، جاءت أمه مُنْتَقِبَةً فقيل لها: أتنتقبين وقد قُتِلَ خَلادٌ؟ فقالت: إن كنت رُزِئتُ خَلّادًا فما رُزِئتُ حياءَ وجهي.
سعد بن معاذ (1)
ابن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، أبو عمرو، من الطبقة الأولى من الأخيار، وأمه: كَبْشةُ بنتُ رافع بن معاوية خزرجية، أسلمت وبايعت. وأسلم سعد على يَدَيْ مُصْعَبِ بن عمير، فأسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل، وشهد بدرًا وأحدًا وثبت يومئذ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآخى بينه وبين أبي عُبيدة بن الجراح، وقيل: بينه وبين سعد ابن أبي وقاص.
وقال أبو المتوكل: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحمَّى حظُّ كلِّ مُؤمِنٍ مِنَ النَّارِ"، فسألها سعد فلزمته، فلم تفارقه حتى مات (2).
قال أبو سعد: وكواه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنار مرتين بسبب جرحه، وكان جُرحَ في الخندق.
وقال سعدٌ لمّا جرح: اللهمَّ إنك تعلمُ أنه ليس أحدٌ أحبَّ إلي أن أجاهدَهم فيك من قومٍ كذَّبوا رسولك وأخرجوه، اللهمَّ وإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان قد بقي من حرب قريش شيء فأبقني أجاهدهم فيك، اللهمَّ إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافْجُرْها واجعل موتي فيها. فانفجرت من ليلته، فلم يَرُعْهُم - وفي المسجد معه قومٌ من بني غِفار - إِلاّ والدمُ يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قِبَلِكُم؟ فإذا جرح سعد يَغْذو دَمًا، فما زال يسيل حتى مات (3).
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 3/ 388، و"المنتظم" 3/ 242، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 279، و"الإصابة" 2/ 37، و"البداية والنهاية" 4/ 126.
(2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 389.
(3) أخرجه البخاري (4122)، ومسلم (1769) (67) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(3/356)
________________________________________
وقال جابر: رُمِيَ سعدُ بنُ معاذٍ يومَ الأحزاب فَقُطِعَ أكحلُه، فحسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنار، فحسمه أخرى فانتفخت يده فنزفه، فلما رأى ذلك قال: اللهمَّ لا تُخرجْ نفسي حتى تُقِرَّ عيني من بني قريظة. فاستمسك عِرْقُه فما قطر منه قطرة، فلما نزلوا على حكمه - وكانوا أربع مئة - فَقُتِلوا، انفتق عِرْقُه فمات (1).
وقالت عائشة رضوان الله عليها: انفجر جرح سعد وقد كان برأ، فحضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر، والذي نفسي بيده إني لأَعْرِفُ بكاء أبي من بكاء عمر. قيل لها: فكيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع؟ قالت: كانت عيناه لا تدمعان على أحد ولكنه إذا وَجِدَ فإنما هو آخذ بلحيته (2).
وقال ابن إسحاق: إنما توفي سعد قبل قتل بني قريظة وقسمة أموالهم، ويقال: مرت به عَنْز وهو مضطجع في المسجد فأصابت جُرحه، فما رَقَأ حتى مات. (3)
وقال الواقدي: كانت وفاتُه في ذي القعدة وهو ابن سبع وثلاثين سنةً، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحمل جِنازته بين العَمودَيْنِ مقدار ثلاثين ذراعًا، وحفروا قبره فوجدوا منه رائحة المسك، ودفن بالبقيع (4).
وعزّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمه فيه وقال لها: "ابنك أول من ضحك الله إليه" (5).
وقال ابن سعد، يرفعه إلى رجل من الأنصار قال: لما قَضى سعدٌ في بني قريظة ثم رجع، انفجر جرحه، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فأخذ رأسه فوضعه في حِجره، وسُجِّيَ بثوب أبيض إذا مُدَّ على وجهه خرجت رجلاه، وكان رجلًا أبيضَ جسيمًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ إنَّ سَعْدًا قد جَاهَدَ في سَبيلِكَ، وصَدَّقَ رَسولَكَ، وقَضَى الذي عَليه، فَتقبَّلْ رُوحَهُ بِخَيرِ ما تَقَبَّلْتَ بهِ رُوحًا". وسمع سعد كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففتح
__________
(1) أخرجه مسلم (2208) مختصرًا، والترمذي (1582)، وأحمد في "مسنده" (14773).
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 391.
(3) لم نقف عليه في "السيرة" ولا غيرها من المصادر التي تأخذ عن ابن إسحاق، وأورده ابن سعد في "الطبقات" 2/ 73.
(4) "المغازي" 2/ 527 - 528.
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (27581) من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن.
(3/357)
________________________________________
عينيه، ثم قال: السلام عليك يا رسول الله، أما إني أشهد أنك رسول الله. فلما رأى أهل سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وضع رأسه في حجره ذُعِروا من ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أمَر مِنْ ملائكتِه عَدَدَكُم ليشهدوا وفاة سعد" (1).
وقال الحسن: لما مات سعد، وكان سمينًا جَزْلًا، جعل المنافقون وهم يمشون خَلْفَ جِنازته يقولون: لم نرَ كاليوم رجلًا أخف. وقالوا: تدرون لم ذلك؟ لِحُكْمِه في بني قريظة، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والذي نَفْسِي بيَدِه لَقَد كَانَتِ المَلائِكَةُ تَحمِلُ سَرِيرَهُ". (2)
وقال ابن عمر رضوان الله عليهما: بلغني أنه شهد سعد بن معاذ سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد ضُمَّ صاحبُكم ضمَّةً، ثم فُرَّجَ عنه (3) ".
وفي رواية: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي في جنازته على رؤوس أصابعه، فقيل له في ذلك: فقال: أمَا قَدَرتُ أَن أَضَعَ قَدمي على الأَرْضِ مِن كَثْرةِ ما نَزَلَ مِنَ الملائِكَةِ في جَنَازتهِ (4) ".
وفي رواية ابن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذا العَبدُ الصَّالِحُ الذي تَحرَّكَ له العَرشُ، وفُتِحتْ له أَبوابُ السَّماءِ، وشَهِدَه سَبعونَ ألفًا مِنَ الملائِكَةِ لم يَنزِلوا الأرضَ قبلَ ذَلكَ، ولَقَد ضُمَّ ضَمَّةً، ثم أُفرِجَ عنه (5) ".
وفي رواية عن سعيد المقبري قال: لما دَفَنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعدًا قال: لو نجا أحد من ضَغْطَةِ القبر، لنجا سعد، ولقد ضُمَّ ضمة اختلفت منها أضلاعه من أثر البول (6).
وقال جابر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَد اهتَزَّ العَرشُ لمَوتِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ" (7).
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 3/ 395.
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 397.
(3) "الطبقات الكبرى" 3/ 397.
(4) لم نقف على هذه الرواية.
(5) "الطبقات الكبرى" 3/ 398.
(6) "الطبقات الكبرى" 3/ 398.
(7) أخرجه البخاري (3803).
(3/358)
________________________________________
وقالت أسماء بنت يزيد: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سعد بن معاذ: "أَلَا يَرقأُ دَمعُكِ ويَذهَبُ حُزنُكِ، فإنَّ ابنَكِ أَوَّلُ مَن ضَحِكَ الله لَه، واهتَزَّ له العَرشُ" (1).
وروى الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَقَد اهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لوفاةِ سَعدٍ". فرحًا به، قوله: فرحًا به، تفسير من الحسن (2).
وقال البخاري يرفعه إلى جابر بن عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اهتَزَّ العَرشُ لموتِ سَعدِ بن معاذٍ". فقال رجل لجابر: فإن البراءَ يقول: "اهتَزَّ السَّريرُ". فقال: إِنَّه كان بين هذين الحيين ضغائنُ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لموتِ سَعدِ ابن معاذٍ" (3).
وعن البراء: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتيَ بثوبِ حريرٍ فجعلَ أصحابُه يتعجَّبون من لينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمناديلُ سَعدِ بن مُعاذٍ في الجنَّةِ أَلْيَنُ مِن هَذا" (4).
وأُتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم بجُبَّةٍ من ديباجٍ منسوجةٍ بالذهب، بعث بها أُكَيْدِرُ دُوْمةِ الجَنْدَل في غَزاةِ تبوك، فعجب الناسُ منها، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَعجَبونَ منها، لَمَنادِيلُ سَعدٍ في الجنَّة أَحسَنُ مِمَّا تَرَونَ" (5).
وكان لسعد - رضي الله عنه - من الولد: عمرو وعبد الله، أمهما هند بنت سِماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل.
وكان لعمرو بن سعد من الولد تسعة نفر وثلاث نسوة، منهم: عبد الله بن عمرو، قُتِلَ يومَ الحَرَّة، ولسعدِ بن معاذٍ عَقِبٌ (6).
أسند سعد الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (27581) وتقدم قريبًا.
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 401.
(3) أخرجه البخاري (3803).
(4) أخرجه البخاري (3802)، ومسلم (2468).
(5) أخرجه البخاري (2615)، ومسلم (2469) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
(6) "الطبقات الكبرى" 3/ 389.
(3/359)
________________________________________
ذكر أخي سعد لأبيه وأمه:
واسمه: عمرو (1)، من الطبقة الأولى من الأنصار وليس له عقب، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عُمَيْر بن أبي وقاص، شهد عمرو بدرًا، وقتل: يوم أحد، وكان له يومَ قُتِلَ ثنتان وثلاثون سنةً.
عَمرة بنت مسعود (2)
ابن قيس بن عمرو، أم سعد بن عُبادة الخزرجي، توفيت وسعدٌ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدُوْمَةِ الجندل، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى قبرها فصلى عليها، وسأله سعد عن نَذْرٍ كان عليها، فقال: "اقضِهِ عَنها" (3)
أسلمت عمرة، وبايعت، وتوفيت في شهر ربيع الأول.
وقال ابن عباس: قال سعد بن عبادة: يا رسول الله، إن أمي ماتت وأنا غائب عنها، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: "نَعَم". قال: يا رسول الله، فإني أُشهِدُك أن حائطي المِخْرافَ صدقةٌ عنها (4).
وقال قتادة: سمعت الحسن يحدث عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت، فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت فأتصدق عنها؟ قال: "نعم". قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "سَقْيُ المَاءِ". قال: فتلك سقايةُ آلِ سعد بالمدينة (5).
وكان الحسن يقول: قد شرب أبو بكر وعمر من سقاية أم سعد (6).
وهب بن مِحْصَن بن حُرْثان (7)
أبو سنان الأسدي أخو عُكّاشة، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، وأحدًا، والخندق، وتوفي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحاصر بني قُريظة، وله أربعون سنة.
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 3/ 402، و"الإصابة" 3/ 17.
(2) "الطبقات الكبرى" 10/ 419.
(3) أخرجه البخاري (2761)، ومسلم (1638) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -.
(4) أخرجه البخاري (2762).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (22459).
(6) "الطبقات الكبرى" 3/ 568.
(7) "الطبقات الكبرى" 3/ 87، و"تاريخ الطبري" 2/ 593، و"الإصابة" 4/ 96.
(3/360)
________________________________________
السنة السادسة من الهجرة
فيها: كانت سرية محمد بن مَسْلَمة الأنصاري (1) لعشرٍ خَلَوْنَ من المحرم إلى القُرَطاءِ، بطنٍ من بني كلاب، كانوا ينزلون ماءً يقال له: البَكَرات قريبًا من ضَرِيَّةَ، وبين ضَرِيَّةَ والمدينةِ سبعُ ليال، فشنَّ عليهم الغارة، وأسر ثُمامةُ بن أُثال الحَنَفي وقتل منهم جماعة، وساق مئة وخمسين بعيرًا، وثلاثة آلاف شاة، وغاب عن المدينة تسع عشرة ليلة.
وفيها: كانت غزاةُ بني لِحيان (2) في ربيع الأول، وقيل: في جمادى الأولى. خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في مئتي رجل، واستخلف عليها ابنَ أم مَكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، وسار نحو عُسْفانَ في طلب ثأر خُبَيْب بن عدي وأصحابه، وسلك على جبل يقال له: غُراب قريبًا من المدينة في طريق الشام، ثم عطف نحو ناحية المَحَجَّة فنزل على ماء لبني لَحيان يقال له: غُرَان، في واد بينه وبين عُسْفان خمسُ ليالي حيث كان مُصابُ أصحاب بئر مَعونة، فنزل هناك فترحَّم عليهم واستغفر لهم.
وسمعتْ به بنو لحيان فهربوا إلى رؤوس الجبال، وبعث أبا بكر رضوان الله عليه في عشرة، فوصل إلى كُراعِ الغَميم ليُرْعِبَ أهلَ مكة، وقيل: في هذه الغزاة مر رسول - صلى الله عليه وسلم - بقبر آمنة بعُسْفان.
وفيها: كانت غزاة الغابة (3) في ربيع الأول، ويقال لها: غزاة ذي قَرَدٍ، وهي على بَريدٍ من المدينة.
__________
(1) "المغازي" 2/ 534، و"الطبقات الكبرى" 2/ 74، و"أنساب الأشراف" 1/ 454، و"المنتظم" 3/ 249، و"البداية والنهاية" 4/ 149.
(2) "السيرة" 2/ 279، و"المغازي" 2/ 535، و"الطبقات الكبرى" 2/ 74، و"أنساب الأشراف" 1/ 415 - 416، و"تاريخ الطبري" 2/ 595، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 364، و"المنتظم" 3/ 249، و"البداية والنهاية" 4/ 81.
(3) "السيرة" 2/ 581، و"المغازي" 2/ 537، و"الطبقات الكبرى" 2/ 76، و"أنساب الأشراف" 1/ 416، و"تاريخ الطبري" 2/ 596، و"المنتظم" 3/ 251، و"البداية والنهاية" 4/ 150.
(3/361)
________________________________________
قال ابن إسحاق: رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزاة بني لحيان، فأغار عُيَيْنَةُ بنُ حِصْن بن بدر الفَزاري في خيل غَطَفان على لِقاحِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت عشرين لَقْحةً ترعى بالغابة، وفيها رجل من بني غَطَفان وامرأة، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة، وكان عيينة في أربعين فارسًا. وقيل: إن الرجل الراعي كان ابن أبي ذر، وجاء الصَّريخُ إلى المدينة فنودي: يا خيلَ اللهِ اركبي. وهي أول ما نودي بها في المدينة، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عُبيدة بن الجرَّاح وسَلَمة بن الأكوع في آثارهم.
قال البخاري: حدثنا حسان، عن محمد بن طلحة، عن حُميد، عن ثابت، عن سَلَمة بن الأكوع قال: خرجتُ قبل أن يؤذَّن بالأولى، وكانت لِقاحُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترعى بذي قَرَد، فلقيَني غلامٌ لعبد الرحمن بن عوف، فقال: أُخِذَتْ لِقاحُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: من أخذها؟ قال: غطفان. فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاهُ. قال: فأسمعتُ ما بين لابَتَيْها - أو لابَتَيِ المدينةِ - ثم اندفعت على وجهي فأدركتهم يسقون على الماء، فجعلت أرميهم بنبلي وكنت راميًا، وأقول: أنا ابن الأكوع، اليومُ يومُ الرُّضَّعِ. وأَرْتَجِزُ حتى استَعَدْتُ اللِّقاح منهم، واستلبت ثلاثين بُرْدَةً.
قال: وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس معه، فقلت: يا نبي الله، قد حَمَيْتُ القومَ الماءَ. فقال: "يا ابنَ الأَكْوَعِ، مَلكْتَ فَأَسْجِح". قال: فرجعنا، وأَرْدَفَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته حتى دخلنا المدينة. وهو حديث طويل متفق عليه (1).
وفيه قال سلمة: فرجعنا من (2) الحديبية إلى المدينة، فنزلنا منزلًا، بيننا وبين بني لحيان جَبَلٌ - وذكر ما يدل على أن هذه الغزاة بعد غزاة الحديبية - وبنو لحيان مشركون، فاستغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن رَقيَ ذلك الجبلَ في تلك الليلة طليعةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. قال سلمة: فرقيته مرتين أو ثَلاثًا، ثم قَدِمْنا فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهره مع غلامه رَباح، فخرجت معه بفرس طلحة، وذكر غارةَ عبد الرحمن الفزاري على المدينة، وأَخْذَهُ ظَهْرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقَتْلَ راعيه.
قال سلمة: فقلت: يا رَباحُ، خذ هذا الفرسَ، فأبلغه طلحةَ بن عُبَيْد الله، وأَخْبر
__________
(1) أخرجه البخاري (4194)، ومسلم (1806) والحديث بهذا السياق انفرد بإخراجه مسلم كما سيأتي.
(2) في النسخ: إلى؟ !
(3/362)
________________________________________
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المشركين قد أغاروا على سَرْحِه، ثم قمت على أَكَمَةٍ فاستقبلت المدينة وناديت: يا صَبَاحَاهُ ثلاثًا، ثم خرجتُ في آثار القوم أرميهم بالنبل، فألحقُ رجلًا فأصكُّه (1) سَهْمًا حتى خَلَصَ نَصْلُه إلى كتفيه، وأقول: خذها وأنا ابن الأكوع، فما زلت أرميهم وأعْقِرُهم، فإذا رجع فارس إليَّ جلست في أصل شجرة ثم أرميه فأعقِره، حتى دخلوا في مضايق الجبل، فجعلت أعلو على الجبل وأرميهم بالحجارة حتى خَلَّصْتُ ظَهْرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمَعَهُ، وألقَوْا أكثر من ثلاثين بُردةً، وثلاثين رمحًا، ولا يطرحون من شيء إلا جعلت عليه آرامًا (2) من الحجارة يعرفها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، حتى إذا أتوا متضايِقًا من ثَنِيَّةٍ أتاهم فلان بن بدر الفزاري، فجلسوا يَتَضَحَّوْنَ، وجلست على رأس قَرْنٍ، فقال الفزاري: ما هذا؟ فقالوا: لقينا منه البَرْحَ، ما فارقنا منذ غَلَّس، يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا، فقال: فليقم إليه نفر منكم أربعة.
قال: فصعد إلي منهم أربعة، فلما أمكنوني من الكلام قُلْتُ لهم: هل تعرفوني؟ قالوا: لا، قلت: أنا سلمة بن الأكوع والذي كَرَّمَ وَجْهَ محمد - صلى الله عليه وسلم - لا أطلب رجلًا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيُدركَني. فرجعوا، وإذا بفوارسِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلَّلون الشجَرَ وفي أوائلهم الأَخْرَمُ الأَسَدي على إثره أبو قَتادَةَ الأنصاري، وعلى إثره المِقدادُ بن الأسود الكِندي.
قال: فأخذت بِعِنان الأَخرَم، وقلت: يا أخْرَم، احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، فقال: يا سلمة، إن كنتَ تؤمنُ بالله واليوم الآخر، وتعلم أنَّ الجنةَ حقٌّ والنار حق، فلا تَحُلْ بيني وبين الشهادة. قال: فخلَّيته، فالتقى هو وعبد الرحمن الفزاري، فعثر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحوّل على فرسه، ولحق أبو قتادةَ فارسُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الرحمن فطعنه فقتله، فوالذي كرَّم وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - لتبعتهم أعدو على رِجْلَيَّ حتى ما أرى ورائي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا ولا غبارهم شيئًا حتى يعدِلُوا قبل غروب الشمس إلى شِعْبٍ فيه ماء يقال له: ذا قَرَدٍ ليشربوا منه وهم عطاش قد ولَّوْا هاربين، قال: فحلَّيْتُهم عنه (3)، فما ذاقوا منه
__________
(1) صكه: ضربه.
(2) الآرام: الأعلام.
(3) أي: أجليتهم عنه.
(3/363)
________________________________________
قطرة. قال: ويخرجون فَيشتدون في ثَنِيَّةٍ، فأعدو فألحق منهم رجلًا فأصكُّه بسَهْم في نُغض (1) كتفه وقلت: خذها وأنا ابن الأكوع. فقال: يا ثكلته أمه، أكْوَعُه بُكْرَةَ (2)؟ قلت: نعم يا عدوَّ نفسه.
قال: وأوردوا فرسين على ثنيَّةٍ، فجئت بهما أسوقُهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولحقني عامرٌ بسطيحةٍ فيها مَذْقَةٌ من لبن، وسطيحةٍ فيها ماءٌ فتوضأت وشربت، فأتيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على الماء الذي حَلَّيْتهم عنه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ تلك الإبلَ، وكلَّ بُرْدَةٍ ورُمحٍ استنقذته من المشركين، وكلَّ شيءٍ خلَّصتُه، وإذا بلال قد نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم وهو يشوي منها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله، خَلِّني، وأَنْتَخِبُ من القوم مئة رجل فأتبعُ القوم فلا أُبقي منهم مُخبِّرًا إلا قتلته. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه في ظل النار، وقال: "يا سَلَمةُ، أَتُراكَ كُنتَ فَاعِلًا"؟ قلت: نعم والذي أكرمك، فقال: "إِنَّهم الآَنَ ليُقْرَوْنَ في أَرضِ غَطَفانَ". فجاء رجل من غطفان فقال: نحر لهم فلان جَزورًا، فلما كشطوا جلده رأوا غبارًا، فقالوا: أتاكم القوم، فخرجوا هاربين، فلما أصبحنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرُ فُرسانِنَا اليَومَ أَبو قَتَادَةَ، وخَيرُ رَجَّالَتِنا سَلَمةُ".
قال: وأعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهمين: سهم للفارس وسهم للراجل، فجمعهما لي جميعًا، ثم أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على العَضْباءِ راجعين إلى المدينة.
قال: فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3). وسنذكر تمام الحديث إن شاء الله تعالى في غزاة خيبر.
__________
(1) هو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف، وقيل هو أعلى الكتف.
(2) أي: أأنت الأكوع الذي كنت بكرة هذا النهار.
(3) إلي هذا الحد الذي ذكره المصنف انفرد بإخراجه مسلم (1807). وأما ذكر قصة خيبر فهي من المتفق عليها، وقال الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" 1/ 587: في هذا الحديث ذكر الإغارة على السرح، وقصة عامر وارتجازه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لأعطين الراية" مما قد اتفق البخاري معه على معناه، ولكن فيه من الزيادة والشرح ما يوجب كونه من أفراد مسلم.
(3/364)
________________________________________
وفيها: كانت سرية عُكَّاشةَ بن مِحْصَن إلى الغَمْر (1)، في ربيع الآخرة، وهو ماء لبني أسد على ليلتين من فَيْد، ويقال له: غَمْر مرزوق، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) في أربعين رجلًا منهم ثابت بن أَقْرَم، وشجاع بن وهب، فنزل ماءهم فهربوا، فساق مئتي بعير إلى المدينة.
وفيها: كانت سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القَصَّةِ (3)، في ربيع الآخر، وبين ذي القَصَّةِ والمدينةِ أربعةٌ وعشرون ميلًا من ناحية الرَّبَذةِ، وكان مع محمد عشرة من الأنصار، فَبَدرهُم العدوُّ فقتلوهم، ونجا محمد جريحًا مُثْخنًا.
وفيها: كانت سرية أبي عبيدةَ بن الجراح - رضي الله عنه - إلى ذي القَصَّة أيضًا (4)، يطلب ثأرًا له، للذين قُتِلوا مع محمد، وكان هناك أنمار، وثعلبة، ومحارب، وكان أبو عبيدة في أربعين رجلًا، فلما بلغهم مجيئه هربوا في الجبال، فاستاق نَعَمَهمُ إلى المدينة،
__________
(1) "المغازي" 2/ 550، و"الطبقات الكبرى" 2/ 81، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"تاريخ الطبري" 2/ 640، و"المنتظم" 3/ 253، و"البداية والنهاية" 4/ 178.
(2) كذا، والذي في المصادر أن الذي خرج هو عكاشة.
(3) "المغازي" 2/ 551، و"الطبقات الكبرى" 2/ 81، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"تاريخ الطبري" 2/ 641، و"المنتظم" 3/ 254، و"البداية والنهاية" 4/ 178.
(4) "المغازي" 2/ 552، و"الطبقات الكبرى" 2/ 82، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"تاريخ الطبري" 2/ 641، و"المنتظم" 3/ 255، و"البداية والنهاية" 4/ 178.
وقد جعل المصنف خروج أبي عبيدة لطلب الثأر وسريته خروجًا واحدًا، وقد ذكر علماء السير أن خروج أبي عبيدة خروجان، الأول: بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أربعين رجلًا إلى مصارع القوم، فلم يجدوا أحدًا، ووجدوا نعمًا وشاء فساقه ورجع كما ذكر ذلك ابن سعد 2/ 82، والبلاذري 1/ 455، وابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 255 عقب سرية محمد بن مسلمة.
وأما الثاني: السرية التي خرج فيها كانت بعد شهر من سرية محمد بن مسلمة، وقصتها: قالوا: أجدبت بلاد بني ثعلبة وأنمار، ووقعت سحابة بالمِراض إلى تَغْلَمَين، والمراض على ستة وثلاثين ميلًا من المدينة، فسارت بنو محارب وثعلبة وأنمار إلى تلك السحابة، وأجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة وهو يرعى بهيفا - موضع على سبعة أميال من المدينة - فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلًا من المسلمين حين صلوا المغرب، فمشوا إليهم حتى وافوا ذا القصة مع عماية الصبح، فأغاروا عليهم فأعجزوهم هربًا في الجبال، وأصاب رجلًا واحدًا، فأسلم وتركه، فأخذ نعمًا من نعمهم فاستاقه ورثة من متاعهم، وقدم بذلك المدينة، فخمَّسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقسم ما بقي عليهم.
(3/365)
________________________________________
وأصابوا رجلًا واحدًا فأسلم، فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفيها: كانت سرية زيد بن حارثة (1) إلى بني سُليم في ربيع الآخر، وكانوا بمكان يقال له: الجَموم، بينه وبين المدينة أربعةُ بُرُدٍ، فمروا بامرأة من مُزَيْنَةَ يقال لها: حليمة، فدلَّتهم على العدو وساعدهم زوجها (2)، فأصابوا من بني سُليم نَعَمًا وأسرى وشاءً، فلما عاد زيد إلى المدينة، حمل المرأة وزوجها ووهب الجميع لزوجها (3).
وفيها: كانت سرية زيد أيضًا إلى العيص (4)، في جمادى الأولى، وبينه وبين المدينة أربعة أميال، في مئة وسبعين راكبًا يطلب عِير قريشٍ، جاءت من الشام، أخذها وما فيها، وأسر أبا العاص بن الربيع زوج زينب - عليها السلام - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدم به المدينة.
وقال الواقدي: هرب أبو العاص من زيد، فدخل المدينة ليلًا وأتى باب زينب - رضي الله عنها - فاستجار بها فأجارته، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الفجر، صاحت زينب - عليها السلام -: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع.
فلما سلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَمِعتُم ما سَمِعتُ"؟ قالوا: نعم، قال: "فَوَالذي نَفسِي بِيَده ما عَلِمتُ بشَيءٍ ممَّا كَانَ، حتى سَمِعتُ ما سَمعتُم، إنه يُجِيرُ على النَّاس أَدناهُم، وقد أَجرتُ مَن أَجارَتْ زَينَبُ"، ثم قال: "يا بُنيَّةُ، أَكرِمي مَثواهُ، ولا يَخْلُصْ إليكِ؛ فإنَك لا تَحِلِّينَ له" ثم ردَّ عليه ماله. وخرج أبو العاص إلى مكة، ثم عاد إلى المدينة مسلمًا.
وذكر موسى بن عقبة: أن الذي أسر أبا العاص إنما هو أبو بَصير وأبو جَندل، قال: لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير بعد قتل جُحيش: "اذهَبْ أَينَ شِئتَ". خرج في خمسة نفرٍ كانوا قدموا معه من مكة مسلمين، فنزلوا بين العِيص وذي المَروْة يقطعون الطريق
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 2/ 83، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"تاريخ الطبري" 2/ 641، و"دلائل النبوة" 4/ 84، و"المنتظم" 3/ 256، و"البداية والنهاية" 4/ 178.
(2) الصواب أنهم أسروه فيمن أسر.
(3) العبارة في "الطبقات": وهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمزنية نفسها وزوجها.
(4) "المغازي" 2/ 553، و"الطبقات الكبرى" 2/ 83، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 84، و"المنتظم" 3/ 256، و"البداية والنهاية" 4/ 178.
(3/366)
________________________________________
على قريش، وأفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين راكبًا أسلموا وهاجروا، وكرهوا أن يَقْدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في هدنة المشركين، فلحقوا بأبي بَصير، وكان أبو بَصير يَؤُمُّ بأصحابه، فلما قدم أبو جندل كان هو الإمامَ، واجتمع إليهم أُناس من بني غِفار وأسلمَ وجُهَينَة، وطوائفُ مسلمون حتى بلغوا ثلاث مئة مقاتل، فأرسلت قريش أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهم أن يَقْدِموا عليه، وشكَوْا إليه ما يلاقون منهم، ولم يزل أبو بصير وأبو جندل وأصحابُهما بذلك المكان حتى مرَّ بهم أبو العاص من الشام في رِفْقة من قريش، فأخذوهم وأخذوا ما معهم، ولم يقتلوا منهم أحدًا لأجل أبي العاص وخَلَّوْا سبيله، فقدم المدينة فجاء إلى زينب - عليها السلام -، واستجار بها، وكلَّمها في أصحابه وما أُخِذَ لهم. فكلَّمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقام خطيبًا وقال: "إنَّا صَاهَرنَا أُناسًا، وصَاهَرنا أَبا العاصِ فَنِعم الصِّهْرُ وجَدناهُ، وإنَّه أَقَبَل من الشَّام ومَعَه رِفقَةٌ، فأَخَذَهم أَبو جَنْدَلٍ وأَبو بَصِيرٍ، وأَخَذوا ما كانَ مَعَهم، وقد سَأَلتني زَينبُ أَن أُجِيرَهُم، فَهَل أَنتُم مجيرونَ أَبا العاصِ وأصحابَه"؟ قال الناس: نعم.
وبلَغ أبا بصيرٍ وأبا جندلٍ، فردوا عليهم جميع ما أخذوه حتى العِقالَ، وكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بالقدوم عليه (1).
* * *
وفيها: كانت سريةُ زيدٍ - أيضًا - إلى الطَّرَفِ (2) ما دون النُّخَيل على ستة وثلاثين ميلًا من المدينة قريبًا من المِراضِ في خمسةَ عشر رجلًا، فأغار على بني ثعلبة وعاد سالمًا.
* * *
__________
(1) "دلائل النبوة" 4/ 174 - 175.
(2) "المغازي" 2/ 555، و"الطبقات الكبرى" 2/ 84، و"أنساب الأشراف" 1/ 455، و"تاريخ الطبري" 2/ 641، و"دلائل النبوة" 2/ 84، و"المنتظم" 3/ 257، و"البداية والنهاية" 4/ 178.
(3/367)
________________________________________
وفيها: كانت سرية زيد - أيضًا - إلى حِسْمى (1) وراء وادي القُرى، فيها جبالٌ شواهقُ مُلْسُ الجوانب لا يكاد القتامُ (2) يفارقها في جمادى الآخرة.
قال الواقدي: وسببها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث دِحْيَةَ بنَ خليفةَ الكَلْبي إلى قيصر ملك الروم بكتابه، ثم عاد وقد أجازه قيصر وكساه، فلقيه الهُنيد بن عارض في ناسٍ من جُذام فقطعوا عليه الطريق، وأخذوا ما كان معه وأسروه. فسمع قوم من بني الضُّبَيب فاستنقذوه منهم، فلما قدم دِحية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبره، فبعث زيدًا في خمس مئة وردَّ معه دِحْيَةَ، وكان يسير ليلًا ويكمُنُ نهارًا حتى بغتهم، فقتل الهُنيدَ وأباه وابنه، وجماعةً من قومه، وسبى مئة من الرجال والنساء، وأخذ ألف بعير، وخمسة آلاف شاة، وكان فيهم قومٌ من جُذام، فقدم زيد بن رِفاعة الجُذامي المدينة بكتاب كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتبه له ولقومه ليالي الهجرة، فأسلم وقومه، فرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميع ما أخذوه منهم، وقال له زيد بن رفاعة: يا رسول الله، لا تحرِّم علينا حلالًا ولا تحل حرامًا. فقال: "كَيفَ أَصنَعُ بالقَتْلَى"؟ فقال أبو يزيد بن عمرو - وكان من قوم رفاعة -: أطلق لنا من كان حيًا، ومن قتل فهو تحت قدميَّ هاتَيْن. قال: صدق، فردَّهم عليه.
قال المصنف رحمه الله: وقول الواقدي إن هذه الواقعة كانت بسبب دحية عند رجوعه من عند قيصر، وهمٌ لأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كتب إلى قيصرَ وغيرِه بعد غزاة الحديبية في آخر هذه السنة، وجاءه الجواب في سنة سبع من الهجرة.
وفيها: كانت سرية عبد الرحمن بن عوف (3)، إلى دُوْمة الجندل إلى كلب، وعمَّمه رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بيده وقال له: "اغْزُ بسْمِ اللهِ، وعلى بَرَكةِ اللهِ، ولا تَغُلَّ ولا تَغْدِر، ولا تَقتُلْ وَليدًا ولا امْرأَةً". فسار حتى وصل إلى ماء بين خيبر وفَدَك يقال له: الهَمَج، فوجد
__________
(1) "السيرة" 2/ 612، و"المغازي" 2/ 555، و"الطبقات الكبرى" 2/ 84، و"أنساب الأشراف" 1/ 456، و"تاريخ الطبري" 2/ 641 - 642، و"دلائل النبوة" 4/ 84، و"المنتظم" 3/ 258، و"البداية والنهاية" 4/ 179.
(2) القتام: الغبار.
(3) "السيرة" 2/ 631، و"المغازي" 2/ 560، و"الطبقات الكبرى" 2/ 85، و"أنساب الأشراف" 1/ 456، و"تاريخ الطبري" 2/ 642، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 85، و"المنتظم" 3/ 259، و"البداية والنهاية" 4/ 179.
(3/368)
________________________________________
رجلًا فأمّنه وسأله عنهم، فدلَّه عليهم، فصَبَّحهم وقت الغارة، فأسر سيدهم الأصبغ بن عمرو الكلبي فأسلم، وتزوج عبد الرحمن ابنته تماضر، فهي أم ولده سلمة بن عبد الرحمن، وهرب بعضهم فأخذ منهم خمس مئة بعير وألفي شاة (1).
وفيها: كانت سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى فَدَك (2) في شعبان وفيها بنو سعد بن بكر، وكانوا قد عزموا على إمداد يهود خيبر، فأغار عليهم، وأخذ منهم خمس مئة بعير وألفي شاة، وكان معه مئة راجل.
وفيها: في رمضان كانت سرية زيد بن حارثة إلى أم قِرْفَةَ (3) بوادي القرى، على سبع مراحل من المدينة.
وسببه: أن زيدَ بن حارثة خرج إلى الشام تاجرًا في جماعة، فلما عاد إلى وادي القرى لقيه جماعة فيهم أمُّ قِرْفةَ، فأخذوا ما كان معهم، وقتلوهم، وأثخنوا زيدًا بالجراح، فارتُثَّ بين القتلى ثم تحامل في الليل إلى المدينة، وأقام حتى اندملت جراحه، وكان قد نذر أن لا يغتسل من جنابةٍ حتى يغزوَ أُمَّ قرفة، فسار إليها في جيش كثيف فقتل مَن كان بالوادي، وأخذ أم قرفة فربطها بين بعيرين وساق بها حتى قطعها نصفين، ومثَّل بها. وكانت عجوزًا كبيرة منيعة يضرب بها المثل: لو كنت أعز من أم قرفة، ما زاد على هذا. واسمها: فاطمة بنت ربيعة، وقيل: بنت ربعة، وقيل: بنت حذيفة بن بدر، وأخذ سلمة بن الأكوع ابنتها سلمى، وقيل: حارثة بنت مالك، فسأله النبي - صلي الله عليه وسلم - يهبُها له، فأهداها لخاله حَزْن بن أبي وهب، فولدت له عبد الرحمن بن حزن، ولما عاد زيد إلى المدينة طرق باب رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فقام إليه عريانًا واعتنقه وقبله.
وقال الهيثم بن عدي: كان أبو بكر - رضي الله عنه - أمير هذه السرية، والأصح: أن السرية التي كان أبو بكر رضوان الله عليه أميرها، وجرت له الواقعة مع سلمة كانت في سنة تسع.
__________
(1) هذا السياق لهذه السرية مخالف لما ورد في المصادر، بل فيه خلط سريتين: سرية عبد الرحمن وسرية علي - رضي الله عنهما -.
(2) انظر "المغازي" 2/ 562، و"الطبقات الكبرى" 2/ 86، و"أنساب الأشراف" 1/ 456، و"تاريخ الطبري" 2/ 642، و"دلائل النبوة" 4/ 84 - 85، و"المنتظم" 3/ 260، و"البداية والنهاية" 4/ 178.
(3) انظر "السيرة" 2/ 617، و"المغازي" 2/ 564، و"الطبقات الكبرى" 2/ 86، و"أنساب الأشراف" 1/ 456، و"تاريخ الطبري" 2/ 642، و"المنتظم" 3/ 260.
(3/369)
________________________________________
قال سلمة: خرجت مع أبي بكر في سرية، فأخذتُ امرأةً معها ابنةٌ لم يكن في العرب أحسنُ منها، فلما قدمنا المدينة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا سَلَمةُ، هَبْها لي". فقلت: هي لك يا رسول الله، والله ما كشفت لها ثوبًا. فبعث بها إلى مكة ففدى بها أسارى من المسلمين (1).
* * *
وفيها: كانت سرية عبد الله بن رَواحة (2) إلى أُسَيْرِ بن رِزام (3) اليهودي بخيبر في شوال، وكانت اليهود قد أمَّرته عليها بعد قتل أبي رافع، فسار في القبائل يحرضهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث إليه عبدَ الله ابن رواحة، وعبدَ الله بن أُنَيس، وآخرَ، فلما جاؤوا إليه قالوا له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استعملك على خيبر، فاقدم عليه ليحسن إليك. فخرج معهم فلما وصل قَرْقَرةَ، ندم وعزم على الهرب، ففهم عبد الله بن أنيس حاله فقال: أغَدْرًا يا عدو الله، فقتله.
* * *
وفيها: كانت سرية كُرْز بن جابر إلى العُرَنِيِّين (4)، في شوال، في عشرين فارسًا. قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا ابن أبي عدي، عن حُمَيد، عن أنس قال: أسلَمَ ناسٌ من عُرَيْنةَ فاجتوَوا المدينة، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو خَرَجتُم إلى ذَوْدٍ لَنا فَشَربتُم من أَلْبانِها" - ما قال حميد، وقال قتادة عن أنس: "وأَبْوَالِها" - فلما صَحُّوا كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وساقوا الذَّوْدَ وهربوا، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم، فأُخِذوا، فقَطَّعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيديَهم وأرجلَهم، وسَمَر أَعينهم، وتركهم في
__________
(1) سيذكرها المصنف في السنة السابعة.
(2) انظر "السيرة" 2/ 618، و"المغازي" 2/ 566، و"الطبقات الكبرى" 2/ 88، و"أنساب الأشراف" 1/ 457، و"المنتظم" 3/ 262.
(3) في "السيرة": اليسير بن رزام، وقال ابن هشام: ويقال: رازم.
(4) انظر "السيرة" 2/ 640، و"المغازي" 2/ 568، و"الطبقات الكبرى" 2/ 89، و"أنساب الأشراف" 1/ 457، و"تاريخ الطبري" 2/ 644، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 85، و"المنتظم" 3/ 263، و"البداية والنهاية" 4/ 179.
(3/370)
________________________________________
الحَرَّةِ حتى ماتوا. أخرجاه في "الصحيحين (1) ".
قال الواقدي: وكانت اللِّقاح خَمْس عشرة غِزارًا، فردّها إلى المدينة، وفقدوا منها واحدة نحروها، ويقال لها: الحناء، والذي خرج في آثارهم يسار مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة نفر، وقيل: هم الرعاة، فعطفوا عليهم فقطعوا يد يسار ورجله، وغَرسوا في لسانه وعينيه شوكًا حتى مات، فبعث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - كُرْز بن جابر الفهري في خمسين فارسًا، فجاء بهم إلى المدينة، ففعل بهم ما ذكر أنس، وهذا كُرز هو الذي أغار على سَرْح المدينة، وخرج رسول الله - صلي الله عليه وسلم - خلفه فلم يدركه، ثم منَّ الله عليه بالإسلام، وقتل يوم الفتح، لما يذكر إن شاء الله تعالى.
* * *
وفيها: كانت غزاة الحُدَيْبية (2)، وهي شجرة حَدْباء على تسعة أميال من مكة، وقيل: هي اسم بئر.
قال ابن إسحاق وغيره: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة معتمرًا في ذي القعدة لا يريد حربًا، واستنفر مَنْ حوله من الأعراب الذين يسكنون قريبًا من المدينة ليسيروا معه مخافة أن تَصُدَّهُ قريش عن البيت، فأبطأ عليه كثير منهم، فخرج في المهاجرين والأنصار، ولحقه بعض القبائل فصلى ركعتين، وركب راحِلَته القصواءَ بعد ما أحرمَ بعُمْرةٍ ليأمن الناس منه، وساق الهَدْيَ ليعلمَ الناسُ أنه جاء معظَّمًا للبيت، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخرج يوم الإثنين لهلال ذي القعدة، ولم يأخذ معه من السلاح إلا السيوف في القُرُبِ، وأشْعَرَ بُدْنَهُ في شقها الأيمن، وساق الصحابة بُدْنَهم وأشعروها، وكان في البُدْنِ جَمَلُ أبي جهل الذي غنمه يوم بدر، وكان في رأسه بُرَةٌ من فضة ليغيظ به الكفار.
وفي "المسند": عن ابن عباس قال: أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة بَدَنَةٍ فيها جملُ أبي
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12042)، والبخاري (233)، ومسلم (1671).
(2) انظر "السيرة" 2/ 308، و"المغازي" 2/ 571، و"الطبقات الكبرى" 2/ 91، و"أنساب الأشراف" 1/ 417، و"تاريخ الطبري" 2/ 620، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 90، و"المنتظم" 3/ 267، و"البداية والنهاية" 4/ 164.
(3/371)
________________________________________
جهل، في أنفه بُرَةٌ من فضة ليغيظ به المشركين (1). ولم يذكر في الحديبية.
وقال هشام (2): كان معه سبعون بَدَنةً، البَدَنَةُ عن عشرة أنفس، وهذا يدل على أنهم كانوا سبع مئة.
وفي الصحيح: أنهم كانوا بضع عشرة مئة (3). وقال ابن عباس: كانوا ألفًا وخمس مئة، وقيل: ألفًا وثلاث مئة (4)، ويحتمل أنهم كانوا حين خرجوا من المدينة سبع مئة، ثم لحقهم الناس فزادوا على ألف فارس.
قال الواقدي: وأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه أم سلمة، فلما كان بعُسْفان لقيه بُسْر بن سفيان الخزاعي، وقيل: إنما لقيه بغَدير الأَشْطاط، فقال له: يا رسول الله، أو يا محمد، هذه قريش سمعت بمسيرك، فأَجْمَعَتْ على صدِّك عن البيت الحرام، وقد خرجوا بالعُوذِ المَطافيل، قد لبسوا جلود النمور، ونزلوا بذي طُوى يَأْلونَ بالله لا تدخُلُها عليهم أبدًا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدَّموه إلى كُراع الغَميمِ، وقدَّموا مئتي فارس مع خالد (5).
قال المصنف - رحمه الله -: وذكر الطبري في "تاريخه": أن خالد بن الوليد كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ مسلمًا، وأن عكرمة بن أبي جهل خرج من مكة في خمس مئة فارس، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخالد بن الوليد: "هَذا ابنُ عَمِّكَ قَد أَتَاكَ في الخَيلِ". فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله، قال: فيومئذ سمي سيف الله. ثم قال خالد: يا رسول الله، ارم بي حيث شئت، فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشِّعب فهزمه، فأنزل
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2362).
(2) لعله ابن هشام، انظر "السيرة" 2/ 308 - 309.
(3) الحديث مروي عن عدد من الصحابة: فأخرج البخاري (4153)، ومسلم (1856) من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: كانوا خمس عشرة مائة. وأخرج البخاري (4155)، ومسلم (1857) من حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: كان أصحاب الشجرة ألفًا وثلاثمئة. وللبراء بن عازب - رضي الله عنه - عند البخاري (4150) قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة مئة. ولسلمة بن الأكوع عند مسلم (1807) قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن أربع عشرة مئة.
(4) أخرجه الطبري في "تاريخه" 2/ 621.
(5) "المغازي" 2/ 579 - 580.
(3/372)
________________________________________
الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [الفتح: 24] الآية (1).
قال المصنف - رحمه الله -: والعجب من الطبري أن يذكر مثل هذا، ولا خلاف بين عُلماء النقل أن خالد بن الوليد أسلم في سنة ثمان من الهجرة.
قال ابن إسحاق: ولما قال بسْر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال، قال: "يا وَيْحَ قُريشٍ، ماذا عليهم لو خَلُّوا بَيني وبَين سائِرِ العربِ، فإنْ هُم أَصابُوني كان الذي أَرادُوا، وإنْ أَظْهَرَني اللهُ عليهم دَخَلُوا في الإِسلامِ وافِرينَ، واللهِ لا أَزالُ أُجاهِدُهم حتى يُظْهِرَ اللهُ أَمْرَه، أَو يَفْرق بَين سَالِفَتي وذاقِنَتي"، ثم قال: "مَن يخرج بنا على غير الطَّريقِ التي هُم عليها"؟ فقال رجل من أسلم: أنا. فسلك بهم طريقًا وَعِرَةً بين الشِّعاب، فشق ذلك على المسلمين، ثم خرجوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُولُوا: نَستَغفِرُ اللهَ ونَتُوبُ إليهِ". فقالوها، فقال: "والذِي نَفْسِي بِيَدهِ إنَّها لَلحِطَّةُ التي عُرِضَت على بني إِسْرائِيلَ، فلم يَقبَلُوها، وبدَّلُوها، ولم يَقُولُوها"، ثم قال: "اسْلُكُوا ذَاتَ اليَمينِ" في طريق يخرجه إلى ثَنِيَّةِ المُرار على مهبط الحديبية من أسفل مكة. فلما رأت قريش قَتَرَة الجيش، وأنه قد خالفهم في طريقهم، رجعوا ناكصين إلى مكة.
ولما سلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثَنِيَّةِ المُرار، بَركت ناقتُه، فقال الناس: خَلَأَتِ القَصْواءُ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما خَلَأت، ولا هُو بخُلُقٍ لها، ولكِنَّها حَبَسَها حابِسُ الفِيلِ عن مَكَّةَ، أَمَا والله لا تَدْعُوني قُرَيشٌ اليومَ إلى خُطَّةٍ يَسأَلوني فيها صِلَةَ الرَّحِم أو رُشْدًا إلا أَعطَيتُهم إيَّاها" (2).
وقد أخرج الإمام أحمد والبخاري - رحمهما الله - حديثًا رفعاه إلى المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية يُريد زيارة البيت، لا يُريد قتِالًا، وسَاق معه الهَدْيَ سبعين بَدَنَةً، وكان الناس سبعَ مئةِ رجلٍ، فكانت كل بدنة عن عَشَرَةٍ، حتى إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعُسْفان، لقيه بُسر بن سفيان الكَعْبي، فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجت معها العُوذُ المَطَافيل قد لبسوا جُلودَ النُّمور، معاهدون الله أن لا تدخُلَها عليهم عَنْوَةً أبدًا، وهذا خالد بن الوليد
__________
(1) "تاريخ الطبري" 2/ 622.
(2) "السيرة" 2/ 309 - 310.
(3/373)
________________________________________
في خيلهم قد قدَّموه إلى كُراع الغَميم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا وَيْحَ قُرَيشٍ، لَقد أَكَلَتهُمُ الحَربُ، ماذا عليهم لو خَلَّوْا بيني وبينَ سائرِ النَّاسِ، فإنْ أَصابُوني كانَ الذي أَرَادُوا، وإنْ أَظْهَرَني اللهُ عليهم دَخَلُوا في الإسلامِ وهم وَافِرُونَ، وإنْ يَفعَلُوا قَاتَلُوا وبهم قُوَّةٌ، فماذا تَظنُّ قُرَيشٌ؟ واللهِ لا أَزَالُ أُجَاهِدُهم على الذي بَعَثَني اللهُ عليه - أوله - حتى يُظهِرَه اللهُ، أو تَنفَرِدَ هذه السَّالِفَةُ"، ثم أمر الناس فَسَلكوا ذات اليمين بين ظَهري الحَمْض على طريقٍ تخرجه على ثَنِيَّةِ المُرار والحديبية من أسفل مكة.
قال: فسلكوا بالجيش تلك الطريق، فلما رأت قريش الجيش قد خالفوهم عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى مكة، ولما سلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثَنِيَّةَ المُرار بركت ناقته، فقال الناس: خَلَأَتْ. قال: "ما خَلَأَت وما هو بخُلُقٍ لها، ولكِنْ حَبَسَها حَابِسُ الفيلِ، أما والله لا تَدعُوني قُرَيشٌ اليومَ إلى خُطَّةٍ يَسأَلوني فيها صِلةَ رَحِمٍ إلا أَعطَيتُهم إيَّاها".
ثم قال للناس: "انزِلُوا". فقالوا: يا رسول الله، ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس. فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهمًا من كِنانته، فأعطاه رجلًا من أصحابه، فنزل في قَليب من تلك القُلُبِ فغرزه فيه، فجاش الماء حتى ضرب الناس عنه بعَطَن، فلما اطمأن الناس (1) إذا بِبُدَيْل بن وَرْقاءَ الخُزاعي في رجال من خُزاعة، فقال لهم كقوله لبُسْر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش، فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تَعجَلون على محمد، إن محمدًا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرًا لهذا البيت معظِّمًا لحقه، فاتهموهم.
قال محمد بن إسحاق: قال الزهري: وكانت خزاعةُ عَيْبَةَ نُصْحٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشركُها ومسلمها، لا يُخفون عنه شيئًا كان بمكة، قالوا: وإنْ كان إنما جاء لذلك، فلا والله لا يدخلها أبدًا علينا عَنْوةً، ولا تتحدث بذلك العرب.
ثم بعثوا إليه مِكْرَزَ بن حَفْص أحدَ بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هذا رَجُل غَادِرٌ". فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كلَّمه بنحو ما كلَّم به أصحابه، فرجع إلى قريش فأخْبَرهم.
فبعثوا إليه الحِلْسَ بنَ علقمة الكِنَاني وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله
__________
(1) في "المسند": فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(3/374)
________________________________________
- صلى الله عليه وسلم - قال: "هذا مِن قَومٍ يَتَأَلَّهونَ، فابعَثُوا الهَدْيَ". فلما رأى الهَدْيَ يسيل عليه من عُرْض الوادي في قلائده قد أكل أوبارَه من طول الحبس عن مَحِلِّه، رجع ولم يصلْ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعظامًا لما رأى، فقال: يا معاشر قريش، قد رأيتُ ما لا يَحلُّ صَدُّه، الهَديَ في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن مَحِلِّه، فقالوا: اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
فبعثوا إليه عُرْوةَ بن مسعود الثقفي فقال: يا معاشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد من التعنيف وسوءِ اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعتُ من أطاعني من قومي، ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتَّهم. فخرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس بين يديه فقال: يا محمد، قد جمعتَ أوباشَ الناس وجئت بهم لبيضتك لتفُضَّها، إنها قريش قد عاهدت الله أن لا تدخلها عليهم عَنوةً أبدًا، وايْمُ اللهِ لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدًا.
قال: وأبو بكر - رضي الله عنه - قاعدٌ خَلْفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: امْصَصْ بَظْر اللّاتِ والعزى، أنحن ننكشف عنه؟ فقال: من هذا يا محمد؟ فقال: "ابنُ أَبي قُحافَةَ". فقال: أما والله لولا يدٌ كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها، ثم تناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمغيرةُ بن شعبة واقف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديد، فقرع يده بقائم سيفه وقال: اكفُفْ يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل والله أنْ لا تصلَ إليك، فقال: يا محمد، من هذا؟ قال: "ابنُ أَخيكَ المُغيرةُ بنُ شُعبةَ". قال: يا غُدَرُ، وهل غَسَلْتَ سوأتك إلا بالأمس؟ ! فكلَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كلَّم به أصحابه، فقام من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ وضوءًا إلا ابتدروه، ولا يَبْصُق بُصاقًا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شَعْرِه شيءٌ إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: إني والله جئت قيصرَ وكِسْرى والنجاشي في مُلكهم، والله ما رأيت مَلِكًا قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشيء أبدًا، فَرَوْا رأيكم.
قال: وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك بعث خِراشَ بنَ أُمية الخُزاعي إلى مكة وحمله على جمل له يقال له: الثَّعلب، فأرادت قريش قتله فمنعهم الأحابيش حتى أتى
(3/375)
________________________________________
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا عمر ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بها من بني عدي أحدٌ يمنعني، وقد عَرَفَتْ قريشٌ عداوتي إيَّاها، وهذا عثمان بن عفان أعزُّ مني.
فبعث إليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد، وإنما جاء مُعَظِّمًا لحُرْمةِ هذا البيت، وزائرًا له.
فخرج عثمان حتى أتى مكة، فلقيه أبانُ بنُ سعيد بن العاص فنزل عن دابته، وحمله بين يديه، وردف خلفه، وأجاره حتى يُبَلِّغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى عثمانُ أبا سفيان ووجوهَ قريش، فبلَّغهم رسالةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطُفْ، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: واحتبسته قريش عندها، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عثمانَ قد قتل.
قال محمد بن إسحاق: فحدثني الزهري: أن قريشًا بعثوا سهيل بن عمرو، وقالوا: ائت محمدًا، فصالحه على أن يَرْجِعَ عنا العام، فوالله لا تتحدَّثُ العرب أنه دخل علينا عَنْوة أبدًا. فأتاه سهيل، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَد أَرادَ القَومُ الصُّلحَ حينَ بَعَثوا هذا الرَّجلَ" فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تكلَّما وطال الكلام بينهما، وتراجعا، واستقر الصلح.
فلما الْتَأَم الأمر ولم يَبْقَ إلا الكِتابُ، وثب عمر فأتى أبا بكر فقال له: يا أبا بكر، أَوَلَيْسَ برسولِ الله، أَوَلسنا بالمسلمين، أَوَليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نُعطي الذِّلَّةَ في ديننا، فقال أبو بكر: الزم غَرْزَهُ حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد.
ثم أتى عمرُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال: "أَنَا عبدُ اللهِ ورَسُولُه، لَن أُخَالِفَ أَمرَهُ ولن يُضيِّعَني". قال عمر: فما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتقُ مِنَ الذي صنعتُ مَخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خَيْرًا.
ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: "اكْتُب: بِسْمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيمِ"، فقال له سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهمَّ. فقال
(3/376)
________________________________________
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم: "اكتُب: [باسْمِكَ اللَّهمَّ] هذا ما صَالَحَ عليه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُهَيلَ ابنَ عَمْرٍو". فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله، لما قاتلتك، ولكن اكتب: محمد ابن عبد الله. قال: اكتُب: فكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عَشْرَ سنين يأمنُ فيها الناس، ويكفُّ بعضُهم عن بعض، وعلى أنه من أتى محمدًا بغير إذن وليه ردَّه عليهم، ومن أتى قريشًا ممن مع محمد لم يردّوه عليه، وأن بيننا عَيْبَةً مكفوفةً، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأن من أحب أن يدخل في عَقْد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عَقْد قريش وعهدهم دخل فيه.
فدخلت خزاعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان في الكتاب: أن يَرْجِعَ عنا عامنا هذا فلا يدخلَ مكة، وإذا كان العام القابل خرجنا عنها، فدخلها بأصحابه ويقيم فيها ثلاثًا معهم سلاح الراكب، لا يدخلها بغير السيوف في القُرُبِ.
فبينا علي يكتب الكتاب إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد، قد أَفلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرجوا لا يشكُّون في الفَتْح لرؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأَوْا ما رأَوْا من الصلح والرجوع وما تحمَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسه، دخلهم من ذلك أمرٌ عظيم حتى كادوا يَهْلِكون. ولما رأى سهيلٌ أبا جندلٍ، قام إليه فضرب وجهه وقال: يا محمد، قد تَمَّتِ القضيةُ بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: "صَدَقتَ" فقام إليه فأخذ بتلابيبه. فصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معاشرَ المسلمين، أتردونَني إلى المشركين فيفتنونني عن ديني. قال: فزادَ الناسَ شرًا إلى ما بهم. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا جَندَلٍ، اصبِرْ واحْتَسِب، فإنَّ اللهَ جَاعِلٌ لكَ ولِمَن مَعَك من المُستَضعَفينَ فَرَجًا ومَخْرَجًا، إنَّا قد عَقَدنا بَيننا وبينَ القَومِ صُلْحًا، فأعطيناهُم على ذَلكَ عَهدًا، وأعطونا على ذلك عهدًا، وإنَّا لن نَغْدِرَ بهم".
قال: فوثب عمر بن الخطاب وجعل يمشي إلى جنب أبي جَنْدَل ويقول: اصبر أبا جَنْدَل، فإنما هم المشركون وإنما هم دم كلب. ويُدْني إليه قائمَ السيفِ رجاءَ أن يأخذَهُ منه فيضربَ به أباه.
قال: فضَنَّ الرجل بأبيه، فلما فرغا من الكتاب وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في
(3/377)
________________________________________
الحَرم وبعضه في الحل، فقام وقال: "أَيُّها النَّاسُ، انْحَروا واحلقُوا". فما قام أحد، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمِّ سَلَمةَ فشكا إليها الناسَ، فقالت: يا رسول الله، قد دخلهم ما رأيتَ فلا تكلِّمَنَّ منهم إنسانًا، واعْمِدْ إلى هَدْيكَ حيث كان فانحره واحلق رأسك، فلو قد فعلتَ ذلك فعله الناس. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعل ذلك، فقام الناس ينحرون ويحلقون حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وَسَطِ الطريق نزلت سورة الفتح.
وجاء نِسْوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} إلى قوله: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلّق عمر رضوان الله عليه امرأتين كانتا له في الجاهلية، فتزوج إحداهما معاويةُ بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة (1).
قال موسى بن عقبة: وتفلَّت رجلٌ من أهل الإسلام من ثقيف يقال له: أبو بَصير بن أُسَيْد، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا مهاجرًا، فبعث في أثره الأخنسُ بن شَريق رجلين من بني مِنْقَر، أحدهما مولى، والآخر جحش بن خليفة من أنفسهم، وجعل لهما جُعْلًا في إحضاره، فدفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهما، فخرجا به حتى إذا كانا بذي الحُلَيْفةِ سلَّ جحش سيفه ثم هزه وقال: سأضرب بسيفي هذا في الأوس والخزرج يومًا إلى الليل. فقال له أبو بَصير: أَوَ صارِمٌ سيفُك هذا؟ قال: نعم. قال: ناولنيه لأنظر إليه. فلما قبضه ضربه به حتى بَرد، ويقال: بل تناول سيف المِنْقري وهو نائم فقطع به إسارَه ثم ضربه به حتى برد، وطلب الآخر ففرَّ مذعورًا حتى دخل المسجد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأى هذا ذُعْرًا". فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قُتِلَ والله صاحبي، وإني والله لمقتول. وجاء أبو بَصير بسَلَبِ المقتول فقال: يا رسول الله، خمِّسْه. فقال: "إذا خَمَّسْتُه لم أَفِ لهم بالذي عَاهَدتُهم عليه، ولكِنْ عليك بسَلَبِ صاحِبِكَ واذهَب حيثُ شِئتَ".
وقيل: جاء أبو بَصير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويلُ امِّه مِسْعَرُ حَرْبٍ لو كان له رجال". فلما سمع
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (18910)، والبخاري (2731).
(3/378)
________________________________________
ذلك، عرف أنه سيرجع إليهم فخرج إلى سِيفِ البحر، وتفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عِصابة، فما يسمعون بعِيرٍ خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوها، فقتلوهم وأخذوا أموالَهم، فأرسلت قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرَّحِمَ لَما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فإنه آمن، فأرسل إليهم. وأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] حتى بلغ: {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}، وكانت حَمِيَّتُهم أنه لم يُقِرّوا ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وحالوا بينه وبين البيت. وقد أخرجه الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" أتم من هذا (1).
قال ابن إسحاق: والذي نزل بالسهم إلى القَليبِ ناجيةُ بن عمير الأسلمي سائقُ بُدْن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما نزل وقفت عليه جارية من الأنصار وقالت: [من الرجز]
يا أَيُّها المائِحُ دَلْوِي دُونَكا
إنِّي رَأَيتُ النّاس يَحْمَدونكا
يُثنُونَ خيرًا ويُمجِّدونَكا
فقال وهو في القليب:
قد علمتْ جاريةٌ يمانِيَهْ
أنِّي أنا المائِحُ واسمي نَاجِيَهْ (2)
وقد فرقت العرب بين المائح والماتح، فجعلت النقطتين اللتين من تحت لمن تحت، واللتين من فوق لمن فوق.
وقال جابر بن عبد الله: عَطِشَ الناس يوم الحديبية، وبين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَكْوَةٌ يتوضأ منها، إذ جهش الناس إليه أو نحوه، فقال: "ما شأنكم"؟ قالوا: يا رسول الله، ليس لنا ماء نشرب منه ولا نتوضأ به إلا ما بين يديك. فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده في الرَّكوة فجعل الماء يفيض من بين إصبعيه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قال سالم بن أبي الجعد: فقلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مئة ألف لكفانا، لكنا كنا خمس عشرة مئةً.
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (18928)، والبخاري (2731)، والحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (2860).
(2) "السيرة" 200/ 310 - 311.
(3/379)
________________________________________
أخرجاه في "الصحيحين" (1).
تفسير الألفاظ الغريبة:
"العوذ المطافيل": هي النِّياق التي وَضَعَت، لأن أولادَها تعوذ بها وأطفالها يأوون إليها.
و"قَتَرةُ الجيش": غبرته.
و"خَلَأَت الناقة": مثل حَرَنتِ الفرس.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حَبَسَها حَابسُ الفيلِ" وهو الله تعالى، فعل بها كما فعل بالفيل لما جيء به لهدم البيت.
فإن قيل: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء زائرًا معظِّمًا للبيت، فما معنى حِران الناقة؟
فالجواب: إن فيه إشارةً إلى تعظيم البيت، أي: من جاء معظمًا له، هكذا حاله. فكيفَ من جاء مقاتلًا.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنَّما أُحِلَّت ليَ ساعةً من نهارٍ" لمكان الضرورة.
و"جاش": اضطرب وزخر. و"الجَهْشُ": أن يفزعَ الإنسان إلى غيره، وهو يريد البكاء.
وقوله: "ضَرب الناس بعَطَن" أي: تُرِكَت الإبل لتشرب من كثرة الماء. و"المعاطن": مبارك الإبل عند الماء للشرب.
قال الواقدي: ولما رجع الحُلَيْس إلى قريش، وأنكر عليهم حبس البُدْن وقالوا له: أنت أعرابي لا علم لك. غضب وقال: والله ما على هذا حالفناكم، ولا عليه عاقدناكم، أن تصدوا عن بيت الله من جاء له معظّمًا، والذي نفسُ الحليسِ بيده لتُخَلُّنَّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأَنْفِرَنَّ بالأحابيش نفرةَ رجل واحد. فقالوا: كُفَّ عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به (2).
__________
(1) أخرجه البخاري (4152)، ومسلم (1856) (72)، ولم يخرج مسلم إلا قوله: لو كنا مائة ألف لكفانا ... وانظر "الجمع بين الصحيحين" (1577).
(2) "المغازي" 2/ 599 - 600.
(3/380)
________________________________________
و"الأوباش": الأخلاط من الناس.
وبيضة كل شيء: حوزته، ويقال: هم الأهل.
وقول أبي بكر - رضي الله عنه -: "امصص بَظْرَ اللّات والعزى": هو سب لطاغية ثقيف وهي صنمهم.
وأَخْذُ عُروةَ بلحية رسول - صلى الله عليه وسلم -: إنما هو على عادة العرب في الملاطفة عند الكلام.
والغَرْزُ: موضع الركاب.
وقول عمر - رضي الله عنه - ما قال إنما كان إعزازًا للدين لا اعتراضًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم باطن الأمر فوقف مع الظاهر، ثم ندم واستغفر ربه.
وقوله: "بيننا عيبةٌ مكفوفةٌ" أي: مُشْرَجة، وأراد بالعِياب القلوب، ومعناه: في صدورنا بقية من الغِلِّ والخِداع.
وقوله: "لا إسلال" أي: السرقة الخفيفة و"الإغلال": الخيانة.
و"الثمد": الماء القليل، وقيل: البئر لا مادة لها، وأعداد مياه الحديبية، العَدُّ: الذي لا انقطاع لمادته.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَيلُ امِّه مِسعَرُ حَربٍ". معناه: كلمة تعجُّبٍ من الإِقدام، و"سِيْفُ البحر" جانبه.
واسم أبي بَصير: عتبة بن أَسيد، والرجلان: حبيش بن جابر، ومولاه: كوثر، والمقتول: حبيش، والهارب: كوثر.
ولما بلغ سهيل بن عمرو، قتلُ أبي بَصير صاحبهم أسند ظهره إلى الكعبة وقال: والله لا يفارق ظهري الكعبة حتى يَدُوا الرجل. فقال له أبو سفيان: إن هذا والله السَّفهُ، والله لا يَدُوه أبدًا (1).
والمرأة التي طلقها عمر - رضوان الله عليه -: قريبة بنت أبي أمية، فتزوجها معاوية، وابنة جَرْوَل الخزاعي، وهي: أم كلثوم بنت عمرو بن جرول، وهي: أم عبد
__________
(1) "السيرة" 2/ 324.
(3/381)
________________________________________
الله، تزوجها أبو جهم (1).
قال المِسْوَر: كانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بعد ما شرط سهيل بن عمرو على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد إليهم من جاء مسلمًا، وكانت أم كلثوم عاتق فجاء أهلها يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُرْجِعها إليهم، فلم يرجعها لِما نزل فيهن: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآيات إلى قوله: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (2) [الممتحنة: 10].
قال عروة: فأخبرتني عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحنهن بهذه الآية إلى قوله {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 10].
قال: فمن أقرت بهذا الشرط منهن، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد بايَعْتُكِ" كلامًا يُكلِّمُها به، والله ما مسَّتْ يده يد امرأة قط في المبايعة، وما بايعهن إلا بقوله (3).
وقال ابن عباس: لما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أهل مكة الكتاب، وفيه: من أتاه منهم رده عليهم، ومن أتى مكة من أصحابه لم يردوه عليه، وختم الكتاب، جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة، وزوجها مسافر من بني مخزوم وكان كافرًا - وقال مقاتل: إن زوجها صيفي بن الراهب - فقال: يا محمد، اردد علي زوجتي فقد شرطتَ لنا ما شرطتَ، وهذه طينةُ الكتاب لم تجفَّ بعد. فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} (4) [الممتحنة: 10] أي: اختبروهن، فيستحلفن أنهن ما خرجن بسببٍ غير الإسلام، فحلفت سُبيعةُ فأعطى زوجَها مهرَها، وما أنفق عليها ولم يردَّها عليه. فتزوجها عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يردُّ من جاءَهُ من الرجال، ولا يردُّ من جاءه من النساء بعد الامتحان، ويعطي أزواجهن مهورَهن وما أنفقوا عليهن.
وقال مجاهد: كان عند طلحةَ بن عُبَيْدِ الله أروى بنتُ ربيعةَ بن الحارث بن عبد
__________
(1) "السيرة" 2/ 327.
(2) أخرجه البخاري (2711).
(3) أخرجه البخاري (2713).
(4) انظر "تفسير البغوي" 4/ 332.
(3/382)
________________________________________
المطلب، فَفَرَّقَتْ بينهما هذه الآيةُ يعني قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، وكان طلحةُ قد هاجرَ وهي على دينها بمكة، ثم أسلمت فتزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، وكانت فيمن فرَّ من نساء الكفار فلم يردَّها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وزوَّجها خالدًا.
وكانت آمنة بنت بشر عند ثابت بن الدحداحية ففرت منه وهو يومئذ كافر، فزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهلَ بنَ حُنَيفٍ فولدت له عبدَ الله بنَ سَهْلٍ.
قال ابن عباس: وكان جميعُ من لحق بالكفار من نساء المسلمين المهاجرين راجعاتٍ عن الإسلام ستَّ نِسْوَةٍ:
أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب كانت تحت عِياض بن شدّاد الفهري.
وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما أراد أن يهاجر أبت وارتدت.
وأم كلثوم بنتُ جَرْوَل كانت تحت عمر أيضًا.
وبَرْوَع بنت عقبة كانت تحت عثمان بن عفان (1) - رضي الله عنه -.
وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة وزوجها عمرو بن عبد ود.
وهند بنت أبي جهل كانت عند هشام بن العاص بن وائل. فأعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهور نسائهم من الغنائم (2).
وقال سلمة بن الأكوع: قدمنا الحديبية مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن أربعَ عشرة مئة وعلينا خمسون شاةً لا تُروينا، فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جَبَا الرَّكيّةِ، فإمَّا دعا وإما بَصَقَ فيها فجاشت فسَقَيْنا واستَقَينْا، ثم دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبيعة في أصل الشجرة، قال: فبايعتُه أوَّلَ الناس، ورآني أَعزلَ فأعطاني حَجَفَةً أوْ دَرَقَةً، ثم قال في أوسط الناس: "بَايِعْ"، فبايعته، ثم قال في آخر الناس: "أَلَا تُبايْعِني يا سَلَمةُ" فقلت: يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم وآخرهم، قال: فبايعته الثالثة، ثم قال لي: "يا سَلَمةُ، أينَ
__________
(1) في تفسير البغوي 4/ 333، وفتح الباري 5/ 348 أنها كانت تحت شماس بن عثمان.
(2) انظر "تفسير البغوي" 4/ 334.
(3/383)
________________________________________
حَجَفَتُك - أو دَرَقَتُك - التي أَعْطَيتُكَ"؟ فقلت: يا رسول الله، لقيني عمي عامر وهو أعزل فأعطيته إياها فَضِحَكَ فقال: "إنَّكَ كالذي قَال: اللَّهمُّ ابْغِني حَبِيبًا هو أَحَبُّ إليَّ مِن نَفْسِي".
ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشينا بعضُنا في بعض واصطلحنا، قال: وكنت تبيعًا لطلحة بن عُبَيْد الله أسقي فرسه وأَحُسُّه وأخْدُمه وآكُل من طعامه، وتركتُ أهلي ومالي مهاجرًا إلى الله ورسوله، فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا في بعض أتيت شجرة فكَسَحْتُ شوكَها واضطجعت في أصلها وإذ قد أتاني أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحولت إلى شجرةٍ أُخرى فعلَّقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينا هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا لَلْمهاجرين، قُتل ابن زُنَيم فاخْتَرَطْتُ سيفي ثم شَدَدْتُ على أولئكَ الأربعةِ وهم رقود فأخذت سلاحَهم فجعلته ضِغْثًا في يدي، ثم قلت: والذي كرَّم محمدًا لا يرفع أحدٌ منكم رأسه إلا أخذتُ الذي فيه عيناه، ثم جئت بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء عمي عامر برجل من العَبَلاتِ يقال له: مِكْرز بن هَوْذةَ يقودُه على فرسٍ مُجَفَّفٍ في سبعين من المشركين يقودهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنظر إليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "دَعُوهُم، يَكُنْ لَهم بَدءُ الفُجورِ وثِناهُ" فعفا عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... } [الفتح: 24] الآية، قال: ثم رجعنا إلى المدينة فنزلنا منزلًا وبيننا وبين بني لِحْيان جَبَلٌ وهم مشركون، فاستغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن رَقى الجبل طليعةً، قال: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثًا (1).
وعن أنس بن مالك قال: لما كان يومُ الحديبية هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ ثمانونَ رجلًا من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غِرَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا عليهم وأُخِذوا فَعفا عنهم، ونزل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... } الآية (2).
تفسير ألفاظ غريبه:
__________
(1) أخرجه مسلم (1807).
(2) أخرجه مسلم (1808).
(3/384)
________________________________________
"الجَبَا": بالفتح مقصور: نَثيلةُ البئر وهي ترابها الذي حولها تَراه من بعيد، و"الرَّكية": البئر قبل أن تُطوى.
وقوله: "قتل ابن زُنَيم": ليس في الصحابة من يقال له ابن زنيم إلَّا سارية وأخوه أنس.
و"الضِّغث": الحزمة من العيدان تجمع.
و"العَبَلات": حي من قريش نُسِبوا إلى أمهم يقال لها: عبلة، وأمية الصغرى يقال لهم: العبلات، لأن أمهم اسمها عبلة.
و"التجافيف": كل ما يمنع وصول الأذى إلى الإنسان.
وعن جابر قال: نحرنا بالحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البَدَنَةَ عن عشرة والبقرة عن سبعة. متفق عليه (1).
وقوله: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرارًا" هذه بيعة الرضوان، وسببها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عثمان إلى مكة فاحتبسته قريش عندها وبلغ المسلمين أنهم قتلوه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أبرح حتى أناجزهم"، وكان هذا قبل الصلح.
وقال إياس بن سلمة [عن أبيه]: بينا نحن على الحديبية إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، قال: فَثُرْنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو تحت الشجرة فبايعناه (2).
قال الواقدي: وأول من بايعه سنان بن أبي سنان الأسدي (3)، وقيل: أبو سنان (4)، وهو وهم؛ أبو سنان قُتِل في حصار بني قريظة (5).
وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيمينه على شماله وقال: "هذِه عن عُثْمانَ" يعني: أنه ما غاب إلا في حاجة الله ورسوله.
__________
(1) أخرجه مسلم (1318)، وهو من أفراده كما في "الجمع بين الصحيحين" (1613).
(2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 632. وما بين معقوفين زيادة منه.
(3) انظر "المغازي" 2/ 603.
(4) انظر "السيرة" 2/ 316.
(5) بل صوب ابن حجر أنه أبو سنان، وأن الذي مات في حصار بني قريظة غيره. انظر "الإصابة" 4/ 95 - 96.
(3/385)
________________________________________
قال ابن إسحاق: ولم يتخلف عن البيعة أحد (1)، وفيهم نزل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18].
قال يزيد بن أبي عبيد: قلت لسلمة بن الأكوع: على أيِّ شيء بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية؟ قال: على الموت. أخرجاه في "الصحيحين" (2).
وقال جابر بن عبد الله: بايعنا نبي الله يومَ الحديبية على أن لا نَفِرَّ (3).
وعن مَعْقِل بن يسار أنه شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية وهو رافعٌ غصنًا من أغصان الشجرة بيده عن رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبايع الناس، قال: فبايعوه على أن لا يفروا، وهم يومئذ ألف وأربع مئة (4).
قال جابر: إلّا الجَدَّ بنَ قَيْسٍ فإنه اختفى تحت شجرة، وفي رواية: تحت بطن بعيره يستتر به من الناس (5). وكان منافقًا.
وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يَدخُلُ النَّارَ أَحَدٌ ممَّن بايَعَ تَحتَ الشَّجَرةِ" (6).
وقال جابر: جاء عبدٌ لِحاطبِ بنِ أبي بلتعة يشكو سيِّده فقال: والله يا رسول الله، ليدخُلَنَّ حاطبٌ النار، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَذَبتَ لا يُدخُلُها، إنَّه قد شَهِدَ بَدرًا والحُديبِيَةَ". انفرد بإخراجه مسلم (7).
وقال جابر: كنَّا يوم الحديبية ألفًا وأربع مئة فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنتُمُ اليَومَ خَيْرُ أَهلِ الأَرضِ". أخرجاه في "الصحيحين" (8).
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 316.
(2) أخرجه البخاري (4169)، ومسلم (1860).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (14114).
(4) أخرجه مسلم (1858).
(5) أخرجه مسلم (1856) (69)، ولم نقف على الرواية الأولى.
(6) أخرجه أحمد في "مسنده" (14778).
(7) أخرجه مسلم (2495).
(8) أخرجه البخاري (4154)، ومسلم (1856) (71).
(3/386)
________________________________________
وقال ابن عمر: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الشجرة أنا وأبي، ثم رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان تحتها، كانت رحمة من الله، قيل لنافع: فعلى أي شيء بايعوه؟ على الموت؟ قال: لا، على الصبر (1).
وقال ابن إسحاق: كانوا إذا مروا على الشجرة صلوا عندها، فأمر عمر بن الخطاب رضوان الله عليه بقلعها لئلا يتخذوها حَنانًا (2).
وقال حبيب بن أبي ثابت: أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء الذين قتلهم عليٌّ رضوان الله عليه بالنَّهْروان، فقال: كنا بصِفِّين، فلما استحرَّ القتل بأهل الشام اعتصموا بتلًّ، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلى عليٍّ بمصحف وادْعُهُ إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك، فجاء به رجل وقال: بيننا وبينكم كتاب الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23]، فقال علي - رضي الله عنه -: نعم أنا أولى بذلك، بيننا وبينكم كتابُ الله، قال: فجاءته الخوارج ونحن ندعوهم يومئذ القرَّاء وسيوفهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ما ننتظر بهؤلاء القوم الذين هم على التل؟ أَلا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فتكلم سهل بن حُنَيف وقال: أيها الناس، اتَّهموا أنفسكم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني الصلح - الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركين ولو نرى قتالًا لقاتلنا، فجاء عمرُ فقال: أَلَسنا على الحقِّ وهم على الباطل؟ قال: "بَلَى"، قال: أَلَيس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: "بَلَى"، وذكر بمعنى ما تقدم، قال: وأنزل الله سورة الفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه ذلك فقال: أَوَفَتْحٌ هو؟ قال: "نعم" فطابت نفسه ورجع (3).
وقال أبو وائل: قال سهل بن حُنَيْفٍ: اتَّهموا رأيكم، فلقد رأيتُنا يوم أبي جندل لو نستطيع أن نردَّ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددناه - أو أرددناه يعني: أبا جندل - والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر أفظعناه إلا أَسْهَل بنا إلى أمرٍ نعرفه، إلا هذا الأمر
__________
(1) أخرجه البخاري (2958) من قوله: رجعنا من العام المقبل.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 96.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (15975).
(3/387)
________________________________________
ما ندري كيف هو، ما شددنا منه خُصْمًا إلا انفتح خُصْمٌ آخرُ (1).
"الخُصْمُ": جانب العِدْلِ وزاويتُه، وخُصْمُ كل شيء جانبه وناحيته. وأشار سهل إلى يوم صفين وهو كناية عن انتشار الأمر وصعوبة تلافيه.
ومعنى قوله: "اتهموا رأيكم" أن الإنسان قد يرى رأيًا والصواب في غيره كما رأى عمر رضوان الله عليه ثم بان له أن الصواب ما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعناه أن عامة من صَدَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيت أسلموا كأبي سفيان وسهيلِ بن عمرو وغيرِهما، وقد أظهر الله تعالى من أصلابهم من أَعزَّ بهم الدينَ.
قال ابن إسحاق: ولما فرغوا من الكتاب أَشهدوا رجالًا من المسلمين منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومن المشركين مِكْرَز بن حَفْص وحويطب بن عبد العزى وغيرهما (2).
وقال المِسْوَرُ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يَحْلِقَ وكان الذي حلق رأسَه خِراشُ ابنُ أمية بنَ الفضل الخزاعي (3).
وقال البخاري: الذي حلق رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معمر بن نضلة بن عوف (4).
وقال ابن عباس: حلق رجالٌ يوم الحديبية وقصَّر آخرون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ اللهُ المُحلِّقينَ" قالوا: يا رسول الله، والمقصِّرين، فقال: "يَرحَمُ اللهُ المُحلِّقينَ" قالوا: والمقصِّرين، فقال: "يَرحَمُ اللهُ المُحلِّقينَ" قالوا: والمقصِّرين, قال لهم "والمُقَصِّرينَ" قالوا: فلم ظاهَرْتَ التَّرحمَ على المحلِّقينَ دون المقصِّرين؟ قال: "لأَنَّهمُ لم يَشُكُّوا" (5).
__________
(1) أخرجه البخارى (3181)، ومسلم (1785) (95)، وأحمد (15974).
(2) انظر "السيرة" 2/ 319، ووقع في "السيرة": محمود بن مسلمة بدل: محمد، وهما أخوان.
(3) انظر "السيرة" 2/ 319، وأخرجه البخاري (1811) شطره الأول.
(4) لم يذكره البخاري في "صحيحه" بل هو من زيادات الحميدي في "الجمع" (1352)، قال: قال أبو مسعود: زاد ابن جريج: وزعموا أن الذي حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معمر بن عبد الله بن عوف بن نضلة. وانظر "الفتح" 3/ 562.
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (3311).
(3/388)
________________________________________
وقال الواقدي: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية بضعة عشر يومًا، وقيل: عشرين يومًا ثم انصرف راجعًا إلى المدينة فنزل عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1] فهنأَه المسلمون (1). وقال عمر: أَفَتْحٌ هُو؟ قال: "نَعَم".
قال جابر: ما كنا نَعُدُّ فتح مكة إلا يوم الحديبية بهذه السورة.
ولما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم خيبر لم يُعْطِ إلا من شَهِدَ الحديبية.
وقال البراء: أنتم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية (2).
وقال الشَّعْبي في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} قال: فتح الحديبية، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفتح عليه خيبر وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس (3).
وقال أنس: المراد به فتح مكة. وقال مجاهد: خيبر. والأول أشهر.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة عن أنس قال: نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] الآية مَرْجِعَهُ من الحديبية، فقال: "لَقَد أُنزِلَت عليَّ آيةٌ أَحبُّ إليَّ مما على الأرضِ" ثم قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هنيئًا لك مريئًا فنحن ما يُفعلُ بنا؟ فنزلت: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5]، إلى قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا}. أخرجاه في "الصحيحين" (4).
وقال الواقدي: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام المقبل في الشهر الذي صُدَّ عنها فيه، وذلك قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} (5) [البقرة: 194].
وفي هذه الغزاة مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبر أمه بالأبواء فنزل وصلى عندها ركعتين وبكى وأبكى الناس (6).
__________
(1) "المغازي" 2/ 616 و 618.
(2) أخرجه البخاري (4150).
(3) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" 3/ 225.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13035)، والبخاري (4172)، ومسلم (1786).
(5) "المغازي" 2/ 731 - 732.
(6) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 95.
(3/389)
________________________________________
ولمسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: استأذنت ربي في زِيارَةِ قَبرِ أُمِّي، فأَذِنَ لي، واسْتَأْذَنتُه في الاستِغْفارِ لها فزُجِرْتُ، أو لم يُؤذَن لي" (1).
وقال كعب بن عُجْرة: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ونحن محرمون وقد حصره المشركون، وكانت لي وَفْرَةٌ فجعَلَتِ الهوامُّ تسَّاقَطُ على وجهي، فمر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَيُؤذيكَ هَوامُّ رَأسِكَ"؟ قلت: نعم، فأمره أن يحلق، ونزل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} (2) [البقرة: 196] الآية.
وفي هذه الغزاة صاد أبو قتادة حمار وحش، قال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم، فرأيت حمار وحش فحملت عليه فصدته وأتيت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرت له أني لم أكن محرمًا وإنما صِدْتُه لكَ، فأمر أصحابه فأكلوا ولم يأكل حين أخبرته أنه صيد له (3).
وعن نافع مولى أبي قتادة: أن أصحابه أحرموا عام الحديبية ولم يحرم، ورأى حمار وحش وشدّ عليه فعقره، ثم جاء به فأكلوا منه، قال: وخبأت عضده معي فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عن ذلك فقال: "إنَّما هوَ طُعمَةٌ أَطعَمَكُم اللهُ، فَكُلوا فهو حَلالٌ" (4).
وأخرجه الحميدي وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَل مَعَكم منه شيءٌ"؟ قلت: نعم، فناولته العضد فأكلها وهو محرم (5).
وفي هذه الغزاة نزل قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} [الواقعة: 75] قال زيد بن خالد الجهني: صلّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: "هَل تَدرُونَ مَاذا قَال
__________
(1) أخرجه مسلم (976).
(2) أخرجه البخاري (4191)، ومسلم (1201) (82).
(3) أخرجه البخاري (1822)، ومسلم (1196).
(4) أخرجه البخاري (2914)، ومسلم (1196) (57)، وأما قوله: "فكلوا فهو حلال" فهو من رواية صالح بن كيسان عن نافع عن أبي قتادة، انظر "الجمع بين الصحيحين" (721).
(5) الجمع بين "الصحيحين" (721).
(3/390)
________________________________________
رَبُّكُم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال أَصبَحَ من عبادي مُؤمِنٌ بي كافِرٌ بالكَوكَبِ، مُؤمِنٌ بالكَوْكَبِ كافِرٌ بي، فأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنا بِنَوءِ كَذا وكَذا فذلِكَ كافِرٌ بي مُؤمِنٌ بالكَوْكَبِ، ومَن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب" (1). ولمسلم بمعناه، وفيه: فنزل قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} (2).
"السماء": المطر، لأنه يأتي من السماء فنسب إليها.
و"الأنواء": ثمانية وعشرون نوءًا، أي: نجمًا معروفة، فكانت العرب تنسب إليها المطر.
* * *
وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسلَ، قال ابن عباس: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستةَ نفر في ذي الحجة عند مرجعه من الحديبية مصطحبين: حاطب بن أبي بلتعة اللخمي إلى المقَوْقِس، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني صاحب دمشق، ودِحْيَة بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وسَليط بن عمرو العامري إلى هَوْذَة بن علي الحنفي، وعبد الله بن حُذافة السَّهمي إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضَّمْري إلى النجاشي (3).
قال عكرمة: وكان كل رسول يتكلم بلسان القوم الذي أرسل إليهم. وقيل: إنهم خرجوا أول المحرم سنة سبع من الهجرة.
قال الواقدي: لما كتب الكتب قيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ الخاتم من فضة وفصه منه.
قال ابن سعد: فقيل لأبي العالية: ما كان نقشه؟ قال: صدق الله. وإنما الخلفاء
__________
(1) أخرجه البخاري (846)، ومسلم (71)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (17061).
(2) أخرجه مسلم (73) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، ولفظه: "أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء "كذا وكذا" قال: فنزلت هذه الآية {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 222، و"تاريخ الطبري" 2/ 644. وانظر "السيرة" 2/ 606 - 607.
(3/391)
________________________________________
بعده ألحقوا "لا إله إلا الله" سطر "محمد" سطر "رسول الله" سطر (1).
وقال أنس: لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب كتابًا إلى الروم قالوا: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من فضة، قال أنس: كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقشه: محمد رسول الله (2).
وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّي قدِ اتَّخذْتُ خاتمًا، ونَقَشتُ عليه محمدٌ رسُولُ اللهِ، فلا تَنقُشُوا عليه" (3).
وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَسْتَضيئوا بنارِ المُشرِكينَ، ولا تَنْقُشُوا في خَواتِيمِكُم عَربيًّا" (4).
أما الاستضاءةُ بنار المشركين فأخْذُ آرائهم، وأما النقش العربي فقال الحسن: لا تنقشوا عليه محمد رسول الله.
وعن الشعبي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب في هذه الكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال: وكان يكتب في صدر الإسلام باسمك اللهمَّ كما كانت تكتب قريش حتى نزل قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]، فكتب بسم الله، حتى نزل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] فكتب: بسم الله الرحمن، حتى نزل قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] فكتبها (5).
وفي رواية: وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى صاحب البحرين (6).
قال ابن سعد: وقد كتب لجماعة لم يضبط لهم تاريخ، وكتب لأساقفة نجران
__________
(1) الخبر عند ابن سعد في "الطبقات" 1/ 409: ما كان نقش خاتم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صدق الله، ثم ألحق، بعده محمد رسول الله.
وأخرج أبو الشيخ في "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - " عن أنس قال: كان فص خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - حبشيًا وكان مكتوبًا عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، "لا إله إلا الله" سطر، و"محمد" سطر و"رسول الله" سطر.
(2) أخرجه البخاري (2938)، ومسلم (2092) (56).
(3) أخرجه البخاري (5877)، ومسلم (5092).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (11954).
(5) "الطبقات الكبرى" 1/ 227.
(6) انظر "السيرة" 2/ 607.
(3/392)
________________________________________
ورهبانهم: "أن لا يُغيِّرَ عليهم ما هُم فيه وما تَحتَ أيديهم، ولا يُغَيَّرَ أُسْقُفٌّ عن أُسْقفته، ولا راهِبٌ عن رَهبانيَّته، ولا كاهنٌ عن كهانَتِه" (1).
قال المصنف رحمه الله: وقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلًا إلى الأطراف إنما الكلام فيمن بعثه في هذه السنة.
فصل: فأما حاطب حليفُ بني أسد بن عبد العزى فإنه سار إلى المُقَوْقِس صاحبِ الإسكندرية، فقبله وأكرمه، وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوابه: قد علمت أنه قد بقي نبي وقد أكرمتُ رسولك، وأهدى إليه هدية، وجعل كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حُقٍّ من عاج وختم عليه ودفعه إلى قَهْرمانته وقال: احتفظي به (2).
وعاد حاطب من عنده في سنة سبع من الهجرة، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
فصل: وأما شجاع فهو حليف حرب بن أمية، شهد بدرًا، كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يده كتابًا إلى الحارث بن أبي شَمِر: سلامٌ على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له وأني رسوله، فأجب ليدوم لك ملكك. والسلام (3).
قال شجاع: فأتيتُه وهو بغوطة دمشق يهيئ الأموال لقيصر وكان قاصدًا إلى البيت المقدس، فأقمت على بابه أيامًا لا أصل إليه، وكان له حاجب يقال له: مري، فقلت له: أخبره بأني رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنك لا تصل إليه [حتى يخرج] في يوم كذا وكذا، وجعل يسألُني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفته وما يدعو إليه، فكنت أحدثه فيرق حتى يغلِبَهُ البكاءُ ويقول: هذه والله صفته في الإنجيل، وأنا أؤمن به وأصدقه وأخاف من الحارث أن يقتلني، قال: وكنت في ضيافة الحارث وإكرامه إلى أن جلس يومًا ووضع تاجَه على رأسه وأذن لي في الدخول عليه، فدخلت ودفعت إليه الكتاب فقرأه ورمى به وقال: من ينتزع مني ملكي، أنا سائر إليه ولو كان باليمن، ثم عرض الناس
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 1/ 229.
(2) انظر "الطبقات" 1/ 224.
(3) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 652.
(3/393)
________________________________________
وأمر بالخيل أن تُنْعَلَ وقال: أخبرْ صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره بالخبر وبما قد عزم عليه، فكتب إليه قيصر لا تَسِرْ إليه ولا تتعرضْ له، فدعاني وأمر لي بمئة مثقال من الذهب، ووصلني حاجبه مري بنفقة وكِسْوة وقال: اقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام. قال: فقدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبلغته ما جرى فقال: "بادَ مُلكُه" وأقرأتُه سلام مري فقال: وعليه السلام.
ومات الحارث عام الفتح وتمزق ملكه (1).
فصل: وأما دِحْيَةُ فقدم بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[على قيصر] قال الإمام أحمد رحمه الله: حدَّثنا يعقوب، حدَّثنا ابنُ أخي ابنِ شِهاب، عن عمه محمدِ بنِ مُسلم، أخبرني عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبدَ الله بن عباس أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام وبعث بكتابه مع دِحْيَةَ الكلبي وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفعه إلى عظيم بُصرى ليدفعه إلى قيصر، فدفعه عظيمُ بُصرى إلى قيصر، وكان قيصرُ لما كَشَف الله عنه جنود فارس، مَشَى من حِمصَ إلى إِيلْيَاء على الزَّرَابي تُبسَطُ له، قال ابن عباس: فلما جاء قيصرَ كتابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين قرأه: التمسوا لي من قومه من أسألُه عنه.
قال ابن عباس: فأخبرني أبو سُفيان بنُ حَرب أنه كان بالشام في رجال من قريش قدموا تِجارًا، وذلك في الهدنة التي كانت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، قال أبو سفيان: فأتاني رسول قيصر فانطلق بي وبأصحابي حتى قدمنا إِيلْيَاء فأُدخلنا عليه، وإذا هو جالس في مجلس ملكه، عليه تاجه، وحوله عظماء الروم، فقال لتَرْجُمانه: سلهم أيهم أقرب نسبًا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبًا إليه، قال: ما قرابتُك منه؟ قلت: هو ابن عمي، وقال أبو سفيان: وليس في الرَّكب يومئذ رجل من بني عبد مَناف غيري، فقال قيصر: ادن مني، فدنوت، وأمر أصحابي فَجُعِلوا خلف ظهري عند كتفي ثم قال لتَرْجُمانه: قل لأصحابه: إني سائل هذا عن هذا الرجل
__________
(1) "الطبقات" 1/ 224 - 225، و"المنتظم" 3/ 289.
(3/394)
________________________________________
الذي يزعم أنَّه نبي، فإن كَذبَ فكَذِّبوه، قال أبو سفيان: فوالله لولا الاستحياء أن يأْثُر عني أصحابي الكذب لكذبته حين سألني، ولكن استحييت أن يأْثُروا عني الكذب فصدقته، ثم قال لتَرْجُمانه: قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ فقلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القولَ فيكم أحدٌ قبله؟ قال: قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتَّبعوه أم ضُعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أفيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتدُّ أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: قلت: لا. قال: فهل يَغْدِرُ بأَحدٍ؟ قال: قلت: لا، ونحن الآن في مدَّةٍ ونحن نخاف ذلك. قال أبو سفيان: ولم تُمكِّني كلمةٌ أُدْخِلُ فيها شيئًا أنتَقِصه بها غيرها لأني أخاف أن يؤثر عني. قال: فهل قاتَلْتُموه أو قَاتلَكُم؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان حربكم وحربه؟ قلت: سجالًا نُدَال عليه مرَّةً، ويُدال علينا أُخرى. قال: فما يأمرُكم؟ قلت: يأمرُنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ويأمرنا بالصلاةِ والصِّدْق، والوَفاء والعَفاف، والمحافظة على العهود، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام. قال: فقال لتَرْجُمانه حين قلت ذلك له: قل له: إني سألتك عن نسبه فزعمتَ أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله قط؟ فزعمت أنْ لا؛ فقلتُ: لو كان أحدٌ قال هذا القول قبله، قلت: رجلٌ يأتمُّ بقولٍ قيل قبله. وسألتك: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أنْ لا، فقلتُ: لم يكنْ ليكذبَ على الناس فكيف على الله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فزعمت أنْ لا، فقلتُ: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجلٌ يطلب مُلْكَ آبائه. وسألتك: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فزعمتَ أن ضعفاءَهُم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتمَّ. وسألتك: هل يرتد أحد سَخْطةً لدينه. بعد أن يَدْخُلَ فيه؟ فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشَتُه القلوبَ لا يَسْخَطُه أحد. وسألتك هل يغدِر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل. وسألتك هل قاتلتموه؟ فزعمت أنه قد فعل وأن الحرب بينكم تكون دُوَلًا تُدالون عليه ويُدالُ عليكم، وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة.
(3/395)
________________________________________
وسألتك: ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده لا شريك له ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصدق، والصلاة، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وهذه صفة نبي، قد كنتُ أعلم أنه خارج، ولكن لم أظن أنه منكم، وإن يكن ما قلت فيه حقًّا فيوشك أن يملك موضع قدميَّ هاتين، والله لو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لُقيَّهُ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
قال أبو سفيان: ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر به فقرئ عليه فإذا فيه: "بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ: من محمَّدٍ عبدِ اللهِ ورَسولِهِ إلى هِرَقْلَ عظيم الرُّومِ سَلامٌ على من اتَّبع الهُدَى، أمَّا بعدُ: فإنِّي أَدعوكَ بدِعَايةِ الإسلامِ، أَسلِمْ تَسلم، يُؤْتِكَ الله أجرَكَ مرتين، فإن توليت فعليكَ إثمُ الأَرِيسيِّينَ - يعني الأكَرَة - و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
قال أبو سفيان: فلما قضى مقالته، علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم، وكثر لَغَطُهم، فما أدري ماذا قالوا، وأمر بنا فأخرجنا.
قال أبو سفيان: فقلت لأصحابي: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كَبْشَة؛ هذا ملك بني الأصفر يخافه، قال أبو سفيان: فوالله ما زلت ذليلًا مُستَيقِنًا أن أمره سيظهر حتى أدخل الله الإسلام قلبي، وأنا كاره.
أخرجاه في "الصحيحين" و"المسند" (1).
وللبخاري: وكان ابن الناطور - صاحبُ إِيلْيَاء وهِرَقْلَ - أُسْقُفَّهُ على نصارى الشام، فحدَّث أن هِرَقْلَ حين قدم إِيلْيَاء أصبح يومًا خبيث النَّفْس، فقال بعض بَطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناطور: وكان هرقل حزَّاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: رأيت الليلة حين نظرتُ في النجوم مَلِكَ الخِتان قد ظهر، فمن يَخْتَتنُ من هذه الأمة؟ فقالوا: اليهود فلا يُهِمَّنَّكَ شأنُهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيها من اليهود، فإنه ليس يختتنُ سواهم، فبينا هم على ذلك إذ أُتي هرقلُ برجل أرسله إليه ملكُ
__________
(1) أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773)، وأحمد (2370).
(3/396)
________________________________________
غسَّان يخبره عن خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال هرقلُ: انظروا أمختتن هو أم لا؟ قال: فنظروا فإذا هو مختتن، فأخبروه، فسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا مَلِكُ هذه الأمةِ قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له بروميَةَ وكان نظيره في العلم يخبره، وسار هرقل إلى حمص ولم يَرِمْ حِمْصَ حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافقُ رأي هرقل على خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي، فأَذِن هرقل لعظماء الروم: هل لكم في الصلاح والرشد وأن يَثْبُتَ ملكُكُم فَتُبايِعُوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصةَ حُمُرِ الوَحْشِ إلى الأبواب فوجدوها مُغَلَّقة فقال: عليّ بهم فدعاهم وقال: إني اختبرت شدتكم في دينكم، فرأيت منكم الذي أَحْبَبْتُ، فسجدوا له ورضوا عنه، وكان ذلك آخر شأن هرقل (1).
وقد ذكر هذا الحديث أرباب السير، فقالوا:
قال ابن عباس، حدثني أبو سفيان قال: كنا قومًا تِجارًا وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنهكتنا وذهبت أموالنا، فلما كانت الهدنة بيننا وبينه، خرجتُ في نَفَر من قريش تجارًا إلى الشام، وكان وجهُ متجرنا غزَّةَ، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرض الشام من فارس وأخرجهم منها، وانتزع صليبه الأعظم، وكانوا قد سَلَبوه إيَّاه، وكانت حِمص منزله، فخرج يمشي على قدميه حين ردَّ الله عليه ما ردَّ، فصلى في بيت المقدس شكرًا لله تعالى وكانت تُبْسَطُ له البُسُطُ، ويلقى عليها الرَّياحينُ، فلما وصل إلى إيلْيَاء وقضى صلاته فيها ومعه بطارقته، أصبح ذات يوم مهمومًا يُقلِّبُ طرفه في السماء، فقيل له: ما لك؟ فقال: رأيت مَلِكَ الخِتانِ قد ظَهَر، فقال له بطارقته: ما نعلم أنَّه يختتن إلا اليهود، وذكر بمعنى ما تقدم، وقال: فبينا هم على ذلك إذ أتى رسولُ صاحبِ بُصرى برجل من العرب وكانت الملوك تَهادى الأخبار بينَها، فقال الرسول: أيها الملك، هذا من العرب من أهل الشاء والإبل، يحدث عن أمر عَجَبٍ حَدَثَ في بلادهم فَسَلْهُ عنه، فقال قيصر لتَرْجُمانه: سَلْهُ عن هذا الحديث الذي حدث ببلاده؟ فقال: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي وقد اتَّبعه ناسٌ، وخالفه ناس، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة وقد تركتهم على ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري (7).
(3/397)
________________________________________
فقال قيصر: جَرَّدوه، فجرَّدوه فإذا هو مختونٌ فقال قيصر: هذا والله الذي رأيت، لا ما تقولون، فأطلقه ثم دعا صاحب شُرطَتِه، وقال: اقلب لي الشام ظهرًا وبطنًا حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل الذي قد ظهر بالحجاز.
قال أبو سفيان: فوالله إننا بغَزَّةَ إذ هجم علينا صاحب الشُّرطةِ فقال: أنتم من قوم هذا الرجل؟ قلنا: نعم، فقال: قوموا إلى الملك، قال: فانطلق بنا فدخلنا عليه فقال: أنتم من رَهْطِ هذا الرجل؟ قلنا: نعم، قال: فأيكم أمسُّ به رحمًا؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا - وايْمُ الله ما رأيت رجلًا كان أمكرَ من ذلك الأَقلف - فقال: ادْنُهْ، وأقعدني بين يديه وأقعد أصحابي خلفي، وقال: إني مسائله، فإن كذب فردوا عليه.
قال أبو سفيان: فوالله لو كذبت ما ردوا علي ولكني كنت امرأً سيدًا أتكرم على الكذب، وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبتُه أن يحفظوا ذلك عليّ، ثم يتحدثوا به عني، فلم أكذبه، ثم قال: أخبرني عن هذا الرجل ما يدعي؟ فجعلت أزهد له شأنه وأصغر له أمره وهو لا يلتفت إلي، وقال: أنبئني عما أسألك عنه من شأنه، فقلت: سل. فقال: كيف نسبُه فيكم؟ قلت: هو من أَمْحضِنا نَسَبًا.
قال: فهل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول فهو يتشبه به؟ قُلت: لا. قال: فهل كان فيكم ملكًا فسلبتموه ملكه فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه؟ قلت: لا. قال: فأخبرني عن أتباعه من هم؟ قلت: الضعفاء والمساكين وأحداث من الغِلمان والنِّساء، فأما ذوو الأنساب والأشراف من قومه فلم يتبعه منهم أحد. قال: فأخبرني عمن تبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قلت: ما تبعه أحد ففارقه. قال: فهل يَغْدِر؟ قلت: بيننا وبينه هدنة ولا نأمن فيها من غدره. ولم أجد شيئًا مما سألني عنه أن أغمزه فيه غيرها فوالله ما التفتَ إليها مني، ثم كر علي الحديث.
فقال: سألتك عن نسبه فقلت: إنه محض من أوسطكم نسبًا، وكذلك الأنبياء، فإن الله لا يختار نبيًا إلا من أوسط قومه نسبًا ... وذكر بمعنى ما تقدم، وقال لأبي سفيان: قم، قال: فقمت من بين يديه وأنا أضرب إحدى يدي بالأخرى وأنا أقول: لقد أَمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة إذ أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه بالشام (1).
__________
(1) "تاريخ الطبري" 2/ 646 - 648، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 381 - 383.
(3/398)
________________________________________
قال الزهري: فحدثني أسقفٌّ للنصارى أدركته زمن عبد الملك بن مروان أنه أدرك ذلك من أمرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهرقل وعَقَلَهُ قال: لما قدم عليه دِحْيَةُ بكتابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى صاحب له بروميَةَ كان يقرأُ الكتبَ يخبره بأمر الكتاب ويصف له ما فيه، فكتب إليه صاحبه وكان يكتب بالعبرانية والعربية: إنه النبي الذي كنَّا ننتظره، لا شك فيه فاتَّبِعْهُ وصدِّقْهُ، فجمع بطارقته في دسكرةٍ (1) ثم أغلق الأبواب واطَّلع عليهم من عُلِّيةٍ له، فخافهم على نفسه، وقال: يا معاشر الروم إنه قد أتاني كتابُ هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه والله النبي الذي كنَّا ننتظره ونجده في كتبنا فهلموا نصدِّقه ونتَّبِعه فتسْلَم لنا دُنْيانا وأُخرانا. قال: فنخروا نَخْرةَ رجلٍ واحد، ثم ابتدروا الأبواب فوجدوها مغلَّقةً فردَّهم وقال: إنَّما اختبرتكم فسجدوا له ورضوا عنه.
وقال ابن إسحاق: قال هرقل لدحية: والله إني لأعلم أنه نبي ولكني أخاف على نفسي، ولكن اذهب إلى ضغاطر الأسقف واذكر له أمر صاحبك.
فجاء إليه دِحيَةُ وعرَّفَهُ صفةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يدعو إليه فقال: هذا صاحبك والله نبي، وهو الذي نجد صفته في كتبنا، ثم دخل بيتًا فنزعَ السواد عنه واغتسل ولبس ثيابًا بيضاء وأخذ عصاه وخرج إلى الروم في الكنيسة فقال: يا معاشر الروم إنه قد جاء كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله تعالى، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله. فوثبوا إليه فقتلوه، فرجع دحية إلى هرقل فأخبره بما جرى فقال: والله إن ضغاطر عندهم والله أعظم مني وأجوزُ قولًا، فكيف آمنهم على نفسي (2)؟ !
وفي رواية: أن هرقل قال لهم: هذا هو النبي المبعوث الذي بشر به عيسى وإني مُخيِّركم بين ثلاثةِ أَشياء: إما أن نَتَّبِعه فتسلم لنا بلادنا ودماؤنا وأموالنا، وإما أن نؤدي إليه الجزية فنكسر بها شوكته، وإما أن نصالحه على أرض سورية ويدع لنا الروم.
فقالوا: أما دُخُولُنا في طاعته فكيف نفعل هذا ونحن أكثر أموالًا ورجالًا وأبعد بلادًا، وأما أداء الجِزْية فكيف نعطي العرب الذل والصَّغارَ ونحن أَعزُّ منهم، وأما أن
__________
(1) بناء على هيئة القصر، فيه منازل للخدم والحشم.
(2) "تاريخ الطبري" 2/ 649 - 650، و"دلائل النبوة" 4/ 384.
(3/399)
________________________________________
نعطيه أرض سورية ويدع لنا الروم فكيف نعطيه بلادنا وأموالنا وأوطاننا، لا كان ذلك أبدًا، فوالله ما دعتنا ضرورة إلى ذلك.
فقال: والله لتُؤَدُّنَّ أحد الأشياء الثلاثة إذا ضغطكم في بلادكم، ثم سار حتى وصل الدرب والتفت إلى الشام وقال: السلام عليك يا سورية، سلامَ مودِّع، ثم مضى حتى دخل القسطنطينية (1). فكان آخر العهد به. ويقال: إنه مات مسلمًا. وسورية أرض الشام وحَدُّها درب الروم.
ورجع دِحْيَةُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخَبَرَ فقال: كان أحزمَ القوم.
وقال موسى بن عقبة: خرج أبو سفيان إلى الشام تاجرًا فقدم على قيصر فأرسل إليه قيصر يسأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاءه قال: أخبرني عن هذا الرجل أيظهر عليكم؟ قال: ما ظهر علينا إلا مرَّةً وأنا غائب، ثم غزوتهم مرتين فبقرنا البطون وجدعنا الأنوف وقطعنا الذكور. فقال قيصر: أتراه كذابًا أو صادقًا؟ قال: بل هو كاذب. فقال قيصر: لا تقولوا هكذا، فإن الكذب لا يظهر به أحد، فإن كان فيكم نبيًا فلا تقتلوه فإن أفعلَ الناس لذلك اليهودُ (2).
فصل: وأما سَليطُ بن عمرو العامري فإنه قدم على هَوذة بن علي الحنفي ودفع إليه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الإسلام فقرأه وكتب إليه: ما أحسنَ ما تدعونا إليه وأجلَّه وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك.
وأجاز سَليطًا بجائزة ونفقةٍ وثياب من نسج هَجَر، فقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: "والله لو سألني سيابةً من الأرض ما أعطيته، باد ملكه" فمات عام الفتح، وكان من عقلاء الملوك (3).
والسَّيابة بفتح السين: البلحةُ.
__________
(1) "تاريخ الطبري" 2/ 651.
(2) "دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 385 - 386 عن موسى بن عقبة.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 225 - 226، و"المنتظم" 3/ 290.
(3/400)
________________________________________
فصل: وأما عبدُ الله بنُ حُذافةَ السَّهْمي فقدم على كسرى.
قال الواقدي: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب إليه:
"بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ، من محمدٍ رَسولِ اللهِ إلى كِسْرَى عَظيمِ فارِسَ، سَلامٌ على من اتَّبع الهُدَى وآمَن باللهِ ورَسولِهِ، وشَهِدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ إلى الناس كافة {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70] الآية، أما بعدُ: فإنِّي أَدعوكَ بِداعِيَةِ اللهِ، فأَسْلِم تَسلَم، فإن أبيتَ فعليكَ إثمُ المجوسِ. والسَّلامُ".
فلما قرأ كتابه خرقه وقال: يكتبُ إلي مثلُ هذا وهو عبدي، ثم كتب إلى باذان عاملِه باليمن أنِ ابعث إلى هذا الرجلِ الذي بالحجاز رجلين من عندك جَلْدين فليأتياني به.
فبعث قَهرمانَه بابَوَيْه وكان كاتبًا حاسبًا ورجلًا آخر من الفرس يقال له: خُرَّخُسره وكتب معهما كتابًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمره بالانصراف معهما إلى كسرى، وبلغ قريشًا ففرحوا، وقالوا: كفيتم أمره فقد نصب له العداوة ملك الملوك كسرى، فقدم الرجلان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخلا عليه وكلَّمه القهرمان وقال: إن شاهنشاه قد كتب إلى الملك باذان يأمره بإنفاذك إليه، وقد بعث بي لتنطلق معي، فإن فعلت كتب فيك الملك كتابًا إلى ملك الملوك ينفعك عنده ويكف عنك، وإن أبيت فهو مَن قد علمت، وإنه مهلكُكَ وقومَك ومخرب بلادك، وكانا قد حَلقا لِحاهما وأعفيا شواربهما، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النظر إليهما فقال: "وَيلَكُما مَن أَمَركُما بهذا"؟ قالا: ربنا، يعنيان كسرى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكنَّ ربِّي اللهُ أَمَرَني بإعفَاءِ لِحيَتي وقصِّ شَارِبي" ثم قال: "ارجِعا حتى تأتِياني غدًا" وأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الخبرُ من السماء أنَّ الله قد سَلَّط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا في ليلة كذا، فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول؟ فإنَّا قد نَقِمْنا عليك ما هو أيسر من هذا؟ أفنكتب عنك بهذا إلى الملك، قال: نعم وقولا له: "إنَّ دِيني وسُلطَاني سَيبلُغُ مُلكَ كِسْرَى، ويَنتهي إلى مُنتَهى الخُفِّ والحافرِ، وقولا له إن أَسْلَمتَ أعطيتك ما تحت قَدمَيكَ ومَلَّكتك على قومِكَ من الأَبناء" ثم أعطى خُرَّخسره مِنطَقَةً بها ذهب وفضة أَهداها له بعضُ الملوكِ، وخَرَجا من عنده، فقدما على باذان فأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا ملك، وإني لأراه كما يقول نبيًا، ولننظر ما قال،
(3/401)
________________________________________
فإن كان حقًّا فهو نبيٌّ مُرسلٌ، وإن لم يكن فسنرى فيه رَأْيَنا.
فلم يلبث أن قدم عليه كتاب شِيرُويه بن كسرى يقول فيه: أما بعد: فإنِّي قد قتلتُ كِسْرَى ولم أقتله إلا غَضَبًا لفارس لِما كان استحل من قتل أشرافها وسوءِ سيرته، وما قتلته إلّا برأيهم، فانظر من قبلك فخذ عليه الطاعة، والرجل الذي كتب إليك أبي بسببه فلا تُهِجْهُ حتى يأتِيكَ أمري فيه. والسَّلام.
فلما قرأ كتابه قال: آمنت أن هذا الرجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأَسلَم وأسلم معه الأبناء ومن كان باليمن من فارس، فكانت حمير تقول: لخُرَّخسره: ذو المِعْجَزة، للمنطقة التي أعطاه إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي بلسان حمير كذلك، فبنُوه اليوم ينسبون إليها (1).
وسأل باذان قَهْرمانَه: هل مع الرجل شُرَطٌ؟ قال: لا، قال: هو نبي.
وقال الزهري: كتب كسرى إلى باذان: بلغني أن رجلًا خرج بمكة يزعم أنه نبي، فسر إليه فاستتبه، فإن تاب وإلَّا ابعث إليَّ برأسه. فبعث باذان كتاب كسرى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ قَد وَعَدَني أَن يَقتُلَ كِسْرى في وَقتِ كَذا في شَهرِ كَذا" فقُتل في الوقت الذي ذكره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم باذان ومن كان عنده من الفرس باليمن (2).
وقال الواقدي: قُتل كسرى ليلة السبت لست ساعات مضين من جمادى الأولى سنة سبع من الهجرة. وقيل: لعشر مضين منه سنة ست من الهجرة.
وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا هَلَكَ كِسْرَى فلا كِسْرَى بعدَهُ، وإذا هَلَك قَيصَرُ فلا قَيصَرَ بعدَهُ، والذي نَفْسِي بيَدِه لَتُنْفقَنَّ كُنوزُهُما في سبيلِ الله". متفق عليه (3).
وكان كما قال، لأن أمر فارس انحل بعد أَبرويز، وكذا هرقل ما عاد إلى الشام واستولى المسلمون في مدة يسيرة على العراق والشام.
__________
(1) "تاريخ الطبري" 2/ 654 - 657، و"المنتظم" 3/ 282 - 283، وانظر "الطبقات الكبرى" 1/ 223.
(2) "السيرة" 1/ 69.
(3) أخرجه البخاري (3120)، ومسلم (2918).
(3/402)
________________________________________
فصل: وأما عمرو بن أمية الضمري فإنه قدم على النَّجاشي الأصحم ملك الحبشة، وكان قد كتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"سَلامٌ عليك، أما بعدُ: فإنِّي أَحمد إليكَ اللهَ الذي لا إلهَ إلا هُو، الملكُ القدوسُ السَّلامُ المؤمِنُ المُهيمنُ العزيزُ الجبَّارُ المتكبِّرُ، وأَشهَدُ أنَّ عيسى بنَ مريمَ روحُ اللهِ وكلمتُه أَلْقاها إلى مريمَ العذراءِ البَتُول الطيِّبة الحَصِينة، فحملَت بعيسَى فَهو مِن روح اللهِ، وإنِّي أدعوكَ إلى الله وحدَهُ لا شَريكَ له، وأن تَتَّبعني وتُؤمِنَ بي، فإنِّي رسولُ الله وحدَه لا شَريكَ له واستوصِ خيرًا بابن عمِّي جعفر وبمَن مَعَه من المُسلِمينَ وتواضَع لهم ولا تتكَبَّر عليهم، والسَّلام".
فكتب إليه النجاشي:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى محمد رسول الله من النَّجاشي الأصحم بن أبجر، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، والحمد لله الذي هداني للإسلام، وقد بلغني كتابك فيما ذكرت [من أمر عيسى، فورب السماء والأرض، إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت] ثُفروقًا وقد عرفتُ ما بعثتَ به إلينا، وقد قرَّبنا ابن عمك وأصحابَه، وأشهد أنَّك رسول الله، وقد أسلمتُ على يد ابن عمِّك وبايعته وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثتُ إليك بابني أرها بن الأصحم، وإنِّي لا أملك إلا نفسي وإن شئت أن آتيكَ بنفسي فعلت (1)، والسَّلام.
قال ابن إسحاق: فذكروا أنه بعث بابنه في ستين من الحبشة في سفينة ومعه هدايا حَبِرَة، فغرق في وسط البحر.
وقال الواقدي: لما قرأ النجاشي كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عن سريره وجلس على الأرض تواضعًا لله تعالى وقال: لو قدرت على إتيانه لأتيته.
"الأصحم": الأسود يضرب إلى الصفرة، وقيل: هو لقب لملوك الحبشة و"الثفروق" قمع البُسْرةِ وقيل: قمعُ التمرة.
__________
(1) في النسخ: وإن شئت أتيتك بنفسي فعلت، والمثبت من "تاريخ الطبري" 2/ 652 - 653، و"المنتظم" 3/ 287 - 288.
(3/403)
________________________________________
قال ابن إسحاق (1): ثم كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك كتابًا آخر إلى النجاشي بأن يزوِّجه أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ويبعث إليه بجعفر ومن عنده من المسلمين، فأخذ الكتاب وجعلهما في حُقًّ من عاج وقال: لا تزال الحبشة بخير ما دام هذان الكتابان بين أظهرهما.
قال أنس: وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
قال المصنف: وظاهر هذا القول أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - نجاشي آخر ولم ترد الأخبار بذلك، والظاهر أن المشار إليه هو الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وفيها: ذبح أبو بُردة بن نِيَار قبل صلاة العيد فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُعيد الأضحية.
قال البراء بن عازب: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّ أَوَّلَ ما نَبدَأُ بهِ في يَومِنا هذا: أَن نُصلِّي، ثم نَرجِع فَنَنْحر، فَمَن فَعَل ذلِكَ فَقَد أَصابَ سُنَّتنا، ومَن ذَبَح قَبلَ الصَّلاةِ، فإنَّما هوَ لَحمٌ قَدَّمه لأَهلهِ ليسَ مِنَ النُّسُك في شيءٍ". قال: وذَبح خالي أبو بُردة بن نِيَار فقال: يا رسول الله، ذبحتُ قبل الصلاة وعندي جَذَعةٌ خيرٌ من مُسِنَّةٍ، قال: "اجعَلْها مَكانَها، ولَن تجزئَ - أو توفي - عَن أَحَد بَعدَكَ". أخرجاه في "الصحيحين" (3).
* * *
وفيها: وقع طاعون بالمدينة فأفنى الخلق، وهو أول طاعون وقع في الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وَقَعَ بأَرضٍ وأَنتُم بها، فَلا تَخرُجُوا منها، وإِنْ سَمِعْتُم بهِ في أَرضٍ فَلا تَقْرَبُوها" (4).
* * *
__________
(1) في "تاريخ الطبري" 2/ 653 عن الواقدي.
(2) أخرجه مسلم (1774)، وقال ابن حجر في "الفتح" 8/ 129: والجمع بين القولين أنه كاتب النجاشي الذي أسلم وصلى عليه لما مات، ثم كاتب النجاشي الذي ولي بعده وكان كافرًا.
(3) أخرجه البخاري (968)، ومسلم (1961).
(4) أخرجه البخاري (5728)، ومسلم (2218) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -.
(3/404)
________________________________________
وفيها: تزوج عمر بن الخطاب رضوان الله عليه جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح، فولدت له عاصم بن عمر فطلقها عمر - رضي الله عنه - بعد ذلك فتزوجها يزيد بن جارية (1)، فولدت له عبد الرحمن بن يزيد، فهو أخو عاصم لأمه.
* * *
وفيها: أجدبت الأرض فاستسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
قال أنس بن مالك: أصابت الناسَ سَنةٌ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر يوم الجمعة إذ قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا أن يسقينا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وما في السماء قَزَعةٌ، فثار سحابٌ أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته، قال: فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره، فقال: يا رسول الله، غرق المال وتهدم البناء، ادع الله لنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: "اللَّهمَّ حَوَالينَا ولا عَلينا" قال: فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة مثل الجَوْبةِ، حتى سال وادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحيةٍ إلّا حدّث بالجَوْدِ. أخرجاه في "الصحيحين" (3).
وقد رواه الهيثم بن عدي، وفيه أن الأعرابي أنشد: [من الطويل]
أتيناك والعذراء يَدمى لبانُها ... وقد شُغِلَتْ أُمُّ الرّضيع عن الطِّفْلِ
وليس لنا إلا إليك فِرارُنا ... وليس فِرار الناس إلّا إلى الرُّسلِ
فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه إلى السماء وقال: "اللَّهمَّ اسْقِنا غَيثًا مُغِيثًا، عامًّا طَبَقًا سحًّا" فنشأت سحابةٌ من وراء سَلْعٍ مثلُ التُّرس ثم انتشرت وأمطرت سبعًا، فشكى الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللَّهمَّ على الآكَامِ والظِّرابِ والجبالِ والأوديةِ ومنابتِ
__________
(1) في النسخ: عبد الرحمن بن زيد بن حارثة، والمثبت من "الطبقات الكبرى" 7/ 86، و"تاريخ الطبري" 2/ 642، وانظر "المنتظم" 3/ 291.
(2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 642، و"المنتظم" 3/ 291.
(3) أخرجه البخاري (933)، ومسلم (897) (9).
(3/405)
________________________________________
الشَّجرِ". قال: فتقطعت وخرجنا نمشي في حر الشمس.
وفي رواية: فانجاب السحاب مثل الإكليل عن المدينة فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "للهِ دَرُّ أبي طالبٍ لو كان حيًّا لَقَرَّت عينُه، فمن يُنشِدُنا قوله؟ فقام علي - رضي الله عنه - فقال: تريد قوله (1): [من الطويل]
وأبيض يُستسقى الغَمامُ بوجههِ ... ثِمالُ اليَتامى عِصمةٌ للأَراملِ
يَلُوذُ به الأَقْيالُ مِن أَهلِ هاشمٍ ... فهم عندَه في نِعمةٍ وفَواضلِ
وهذان البيتان لأبي طالب في أبيه عبد المطلب لما استسقى فسُقي.
وفيها: وَقَفَ عمر بن الخطاب رضوان الله عليه أموالَه (2).
قال ابن عمر: أصاب عمر أرضًا بخيبر فاستأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها فقال: "إن شِئتَ حَبَستَ أَصلَها وتَصَدَّقت بها". فتصدق بها في الفقراء والقربى والرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضَّيف، لا جناح على مَن وَلِيها أن يأكل منها بالمعروف غير متأثِّلٍ فيها مالًا. أخرجاه في "الصحيحين" (3).
* * *
وفيها: ظاهرَ أوس بن الصامت من امرأته، واسمها خولة بنت مالك بن ثعلبة، وقيل في نسبها غير ذلك، وقيل: خويلة، وقيل: فاطمة، وقيل: جميلة. والأول أشهر (4).
قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن تميم بن سَلَمة، عن عروة، عن عائشة، قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءَت المُجادلةُ إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في ناحية البيت لا أسمع ما تقول، فأنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} (5) [المجادلة: 1] الآية.
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الدعاء" (2180)، والبيهقي في "الدلائل" 6/ 141.
(2) انظر "المنتظم" 3/ 291.
(3) أخرجه البخاري (2764)، ومسلم (1632).
(4) انظر "المنتظم" 3/ 291.
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (24195).
(3/406)
________________________________________
وقد حكى الثعلبي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن اسمها جميلة، وكانت حسنة الجسم، فرآها أوس بن الصامت ساجدة في صلاتها، فنظر إلى عجزها، فلما انصرفت أرادها فامتنعت عليه، فغضب وكان امرءًا فيه سرعة ولَمَم، فقال: أنت عليَّ كظهر أمي، وكان الظهارُ والإيلاءُ من طلاق الجاهلية، فقال لها: ما أظنك إلا قد حرمت علي، فقالت: لا تقل ذلك، ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسله، فقال: إني لأستحي منه أن أسأله عن مثل هذا، قالت: فدعني أسأله، قال: سليه، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أغسل شق رأسه فقالت: يا رسول الله، إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابةٌ غَنِيَّةٌ ذاتُ مالٍ وأهلٍ، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي، وتفرق أهلي، وكبر سني، ظاهر مني، وقد ندم، فهل من شيء تبعثني به؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَرُمْتِ عليه". فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت صحبتي ونفضتُ له بطني. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أراك إلا حرمت عليه، ولم أُؤمر في شأنك بشيء" فجعلت تراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قال لها حرمت عليه هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، اللهمَّ فأنزل على لسان نبيك، وكان هذا أوَّلَ ظِهارٍ كان في الإسلام. فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر فقالت: انظر في أمري جُعلتُ فداك يا رسول الله، فقالت لها عائشة: اقصري حديثك ومجادلتك أما تَرَيْنَ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه أخذه مثل السُّبات، فلما مضى الوحي قال: "ادْعِي زَوجَكِ" فجاء فتلا عليه الآيات {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] الآيات، وبيَّن حُكْمَ الظِّهار، وجعل فيه الكفارة، ثم قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَل تَستَطيعُ أنْ تَعتِقَ رَقَبةً"؟ قال: إذًا يذهب مالي كله وأنا قليل المال. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَهَل تَستَطيعُ أن تَصُومَ شَهرين مُتَتابعَينِ"؟ فقال: يا رسول الله، إني إن لم آكل في النهار ثلاث مرات كَلَّ بصري وخشيت أن تَعْشوَ عيني. قال: "فَهَل تَستَطيعُ أن تُطْعِمَ سِتينَ مِسكِينًا"؟ قال: لا إلَّا أن تعينني على ذلك.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني مُعينُكَ بخمسةَ عَشَر صاعًا، وأنا داعٍ لكَ بالبركةِ" فأعانه
(3/407)
________________________________________
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر صاعًا، ونزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] الآية (1).
قال الزهري: كان الظهار طلاقًا في الجاهلية، فنقل الشرع أصله، ونقل حكمه إلى تحريم مؤقت بالكفارة. وكذا الإيلاء.
وخولة هذه هي التي مرَّ بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد ما ولي الخلافة ومعه الجارود العبدي فسلَّم عليها، فقالت له: إيهًا يا عمر، عهدتك بالأمس في سوق عكاظ تدعى عُميرًا تَزَع الصبيان بعصاك، ثم لم تذهب الأيام والليالي حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام والليالي حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أن من خاف الوعيد قرب عليه البعيد ومن حذر الموت خشي الفوت. فبكى عمر، فقال لها الجارود: لقد أغلظت لأمير المؤمنين، فقال له عمر: مه، دعها، أما تعرفها؟ هذه خولةُ التي سمع الله كلامها من فوق سبع سماواته، فعمر أولى أن يسمع كلامها (2).
* * *
وفيها: سابق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناقته العضباء وهو اسمها، فَسُبِقَتْ.
قال أنس: كانت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تُسمَّى العضباء، وكانت لا تكاد تُسْبَقُ، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، حتى عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في وجوههم وقالوا: يا رسول الله سُبقت العضباء، فقال: "حقٌّ على اللهِ أنْ لا يرفعَ شيئًا من الدُّنيا إلَّا وَضَعه". أخرجه البخاري (3). وفي رواية: أن لا يُرْفَعَ شيءٌ من الدنيا ... وذكره (4).
* * *
__________
(1) تفسير الثعلبي 6/ 125 - 126.
(2) أخرج الخبر ابن شبة في "أخبار المدينة" (760).
(3) أخرجه البخاري (2872).
(4) أخرجها النسائي في "الكبرى" (4417).
(3/408)
________________________________________
فصل وفيها توفيت
أم رُومان (1)
بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس، وقيل: أم رومان بنت عامر بن عميرة بن ذُهْل، وذكره إلى كنانة، وقيل: أم رومان بنت الحارث بن الحويرث بن قيس بن غنم. امرأة الحارث بن سَخْبَرة بن جُرثومة بن عاديةَ الأزدي، قدم بها من السَّراة إلى مكة وولده منها، فحالف أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - ثم مات بمكة، فتزوجها أبو بكر - رضي الله عنه - فولدت له عائشة وعبد الرحمن - رضي الله عنهما -.
أسلمت أم رومان بمكة قديمًا وبايعت وهاجرت إلى المدينة مع أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبناته، وكانت امرأةً صالحةً، توفيت في ذي الحجة سنة ست من الهجرة، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبرها وقال: "مَن سَرَّه أن يَنظُرَ إلى امرأةٍ من الحُورِ العِينِ فَلينظُر إلى أُمِّ رُومان".
وقال بعض العلماء: عاشت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دهرًا طويلًا وروت عنه الحديث (2). وأخرج لها البخاري حديثًا واحدًا (3).
عتبة بن أَسِيد (4)
ابن جاريةَ الثقفي أبو بصير، وأمه سالمة، قرشية، وهو من الطبقة الأولى من
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 10/ 262، و"المنتظم" 3/ 291، و"الإصابة" 4/ 450.
(2) هو قول أبي نعيم في "معرفة الصحابة"، ونفى الخطيب سماع مسروق من أم رومان وجعله من المرسل كما في "تحفة الأشراف" 13/ 79 - 80، وقال ابن حجر في "الفتح" 7/ 438: وعمدة الخطيب ومن تبعه في دعوى الوهم الاعتماد على قول من قال: إن أم رومان ماتت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أربع، وقيل: سنة خمس، وقيل: ست، وهو شيء ذكره الواقدي، وهو لا يتعقب الأسانيد الصحيحة، وذكر الزبير بن بكار بسند منقطع فيه ضعف: أن أم رومان ماتت سنة ست في ذي الحجة، وقد أشار البخاري إلى رد ذلك في "تاريخه الأوسط" و"الصغير" فقال بعد ذكر أم رومان في فصل من مات في خلافة عثمان: روى علي بن يزيد، عن القاسم قال: ماتت أم رومان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ست، قال البخاري: وفيه نظر، وحديث مسروق أسند. أي أقوى إسنادًا وأبين اتصالًا.
(3) وهو حديث الإفك (3388) عن مسروق قال: سألت أم رومان، الحديث.
(4) انظر "الطبقات" 5/ 180، و"المنتظم" 3/ 292، و"الإصابة" 2/ 452.
(3/409)
________________________________________
المهاجرين، وقد ذكرنا قصته زمن الحديبية، وأن قريشًا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخله ومن معه إلى المدينة، فكتب إليه فجاءه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مريض قد أشرف على الموت، فوضعه على عينيه وجعل يقرأُه ويبكي، ومات وهو في يده، فغسله أصحابه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه بناحية العِيصِ وبنوا عليه مسجدًا، وقدموا المدينة، فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترحم عليه واستغفر له.
قال موسى بن عقبة: تولى أمره أبو جندل بن سهيل.
مُحرِز بن نَضْلَة (1)
ابن عبد الله بن مُرَّةَ، أبو نَضْلَة الأسدي، من الطبقة الأولى من المهاجرين، وكان يلقب: فُهَيرة، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عُمارة بن حَزم. شهد محرز بدرًا وأحدًا والخندق، وقتل يوم الغابة، وهي غزاة ذي قَرَد سنة ست مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال صالح بن كيسان: قال محرز بن نضلة: رأيت سماء الدنيا فرجت لي حتى دخلتُها، فانتهيت إلى السماء السابعة وسدرة المنتهى، فعرضتها على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان أعبر الناس، فقال: أبشر بالشهادة، فقتل بعد ذلك بيوم.
خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغابة يوم السَّرْح، وهي غزوة ذي قَرد سنة ستٍّ، قتله مسعدة بن حكمة.
شهد محرز بدرًا، وهو ابن إحدى أو اثنتين وثلاثين سنة، وكان يوم قتل ابن سبع أو ثمان وثلاثين سنة. والله أعلم (2).
* * *
__________
(1) انظر "الطبقات" 3/ 89، و"الإصابة" 3/ 368.
(2) جاء في آخر الجزء الثاني من نسخة كوبريللي: تم الجزء الثاني من مرآة الزمان بحمد الله وعونه وحسن توفيقه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه.
(3/410)
________________________________________
مرآة الزمان في تواريخ الأعيان
تصنيف
شمس الدين أبي المظفر يوسف بن قز أوغلي بن عبد الله
المعروف بـ «سبط ابن الجوزي» (581 هـ - 654 هـ)
حقق هذا الجزء وعلق عليه
محمد بركات
عمار ريحاوي
الجزء الرابع
[7 - 10 هـ]
(4/)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(4/2)
________________________________________
مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ
[4]
(4/3)
________________________________________
السنة السابعة من الهجرة
فيها كانت غزاةُ خيبر (1).
قال الطبري: لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية أقام بالمدينةِ بقيَّةَ ذي الحجّة، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم. وقال ابن إسحاق: كانت في صفر (2). وقال الواقدي: في جُمادى الأولى. واستخلف على المدينةِ سِباعَ بنَ عُرْفُطة (3)، ودفع لواءه إلى عليِّ ابن أبي طالب - رضي الله عنه -. وقيل: إلى الحُبابِ بن المنذر (4).
وقال موسى بن عقبة: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رايتين، ولم تكنِ الراياتُ قبل خيبر وإنَّما كانتِ الألوية. وكان شعارُهم "يا منصورُ، أَمِتْ". وساروا إلى خيبر، وهي على ثمانيةِ بُرُدٍ من المدينةِ. وأَخرج معه أُمَّ سَلَمة، ومضى بالجيشِ حتى نزل قريبًا من خيبر، فقال له الحباب بن المنذر: يا رسولَ الله، اِنزلْ بين حصونهم لِنَقْطعَ عنهم الأخْبارَ والمادةَ، فنزل وادي الرَّجيع، بين خَيبر وغَطَفان، فحالَ بينهم، لأنهم كانوا مظاهرين لهم على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (5). فلما سمعت غَطَفانُ بنزولهم هناك جمعوا جمعًا عظيمًا لِيُساعِدوا اليهودَ، ثم خافوا على أهلهم وأموالهم فتخلَّوْا عنهم (6). ونازل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصونَهم، وكانت كثيرة، منها: القَموصُ، حصنُ كِنانةَ بن أبي الحُقَيْقِ، ونَطاةُ والصَّعْب والكَتيبةُ والوَطيحُ وناعِم والسَّلالم، وهو أحصنُها، وقيل: نطاةُ. ولم يعلموا بنزولهِ - صلى الله عليه وسلم -، حتى بَغَتهم، وكانوا قد خرجوا أوَّلَ النهار على عادتهم معهم المَساحي
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 328، و"المغازي" 2/ 633، و"الطبقات الكبرى" 2/ 100، و"أنساب الأشراف" 1/ 420، و"تاريخ الطبري" 3/ 9، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 194، و"المنتظم" 3/ 293، و"البداية والنهاية" 4/ 181.
(2) في "السيرة" 2/ 328: المسير إلى خيبر كان في المحرم، وفي موضع آخر 2/ 341: وكان فتح خيبر في صفر. والقول بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر في صفر هو للواقدي في "المغازي" 2/ 634.
(3) في "السيرة" 2/ 328: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي.
(4) بل دفع للحباب بن المنذر الراية، وراية إلى سعد بن عبادة، انظر "الطبقات" 2/ 101.
(5) انظر "المغازي" 2/ 643 - 644.
(6) انظر "السيرة" 2/ 330.
(4/5)
________________________________________
والفؤوسُ للعمل، فلم يشعروا برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد نزلَ بساحتهم فقالوا: محمدُ والخميسُ، فولَّوْا هاربين إلى حصونهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهُ أكبر خَرِبَتْ خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساءَ صباحُ المنذَرِين" (1). قال الواقدي: فقاتلهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قتالًا شديدًا، وقُتِلَ من أصحابه جماعة (2).
وأَوَّلُ حصنٍ افتتحه حصنُ ناعم، وعنده قُتِل محمود بن مَسْلَمة، ألقت عليه امرأةٌ رحًى فقتلته، ثم فتح حِصْنًا حِصْنًا، فلما رأوا ذلك التجؤوا إلى نطاةَ والوَطيح والسَّلالم (3).
حديث مَرْحَب:
واختلفوا في قاتله، فروى الإمام أحمد رحمه الله يرفعه إلى بُرَيْدَة قال: حاصرنا خيبر، وأخذ أبو بكرٍ اللواءَ فلم يُفْتح له، ثم أخذه عُمَرُ فَلم يُفْتَحْ له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي دافعٌ اللِّواءَ غَدًا إلى رَجُلٍ يُحِبُّه اللهُ ورَسولُه [ويُحبُّ اللهَ ورَسُولَه] لا يَرجعُ حتى يُفْتَح له، أو على يَديه". قال: فَبقينا طيِّبةً نفوسُنا أن الفتح غَدًا، فلما صلى الفَجر قام فدعا باللِّواء، والناسُ على مصافِّهم، ودعا عليًا، فقال له: "اذهبْ فانزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام" فأخذ اللواء فبرز إليه مرحب وهو يقول: [من الرجز]
قد عَلِمَتْ خيبرُ أني مَرْحَبُ ... شاكي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجرَّبُ
أَطْعَنُ أحيانًا وحينا أَضْرِبُ ... إذا الليوثُ أقبلت تلهَّبُ
ثم قال: هل من مبارز؟ فقال علي:
أنا الذي سمَّتْني أمي حَيْدَرَهْ ... كليثِ غاباتٍ كريه المنظَرَهْ
عَبْلُ الذراعين شديدُ القَسْورهْ ... أَضْرِبُ بالسيفِ رقابَ الكَفَرَهْ
ثم ضرب رأس مَرْحَبٍ بالسيف فقتله، وجاء برأسه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَسُرَّ به ودعا له (4).
وحكى الطبري عن بُرَيْدةَ قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ربما أخذتْه الشَّقيقةُ فلم يخرجْ
__________
(1) أخرجه البخاري (4198)، ومسلم (1801) (120). وانظر "السيرة" 2/ 329 - 330.
(2) انظر "الطبقات" 2/ 101.
(3) انظر "المغازي" 2/ 645.
(4) الحديث بهذا السياق ليس عند أحمد، وحديث بريدة عند أحمد (22993) إلى قوله: فدعا عليًا، وفيه أنه كان =
(4/6)
________________________________________
إلى الناس، فأخذ أبو بكرٍ الراية فقاتل ورجع، ثم أخذ عمرُ فقاتل ورجع، ثم أخذها عليٌّ - عليه السلام -، فبرز مَرْحَب وعليه مِغْفَرٌ مُعَصْفرٌ يمانٍ، وعلى رأسه حَجَرٌ قد ثقبه مثلَ البيضة، فضربه عليٌّ فَقَدَّ البيضةَ ورأسَه حتى وقع في أضراسه، وفتح الله الحصن (1).
وقال موسى بن عقبة وابن إسحاق: لما برز مَرْحَبٌ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ لهذا؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسولَ الله، فبرز إليه فضرب محمدًا بالسيف فاتقاه بِدَرَقَتِه فنشب فيها، وضربه محمد بالسيف فقتله. فخرج أخوه ياسر فقال:
قد علمت خيبرُ أني ياسرُ
شاكِ السلاحِ بطل مُغاوِرُ
إذا الليوثُ أقبلت تبادرُ
وأحجمت عن صولتي المغاوِرُ
أن حماي فيه موت حاضر
فبرز إليه الزبيرُ بن العوام فقالت صفيةُ: أَيقتلُ ابني يا رسول الله؟ فقال: بل ابنك يقتله، فضربَهُ الزبير فقتله (2).
وقال أبو رافع مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: خرجنا مع علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلى الحصن لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِرايتِه، فخرجوا إلينا فقاتَلونا، فطَرَح علي تُرسَه من يده وتناول بابًا كان عند الحصن، فَترَّس به، فلم يزلْ في يده حتى فتح الله على يده، ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في سبعةِ نفرٍ نجتهد أن نَقْلِبَ ذلك البابَ فلم نقدر عليه (3).
وقال ابن إسحاق: حاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتح حصونهم إلا الوطيحَ والسلالمَ، فتحصن من بقي منهم فيهما، [حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم ويحقن
__________
= أرمد فتفل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عينيه، وفي (23031) القصة مطولة، فيها ارتجاز مرحب دون ارتجاز علي - رضي الله عنه -، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهب فانزل بساحتهم" فأخرجه البخاري (4210)، ومسلم (2406) من حديث سهل ابن سعد، وأخرجه أحمد قريبًا من هذا السياق مطولًا (16538) من حديث سلمة بن الأكوع.
(1) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 12 - 13.
(2) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 10 - 11، و"دلائل النبوة" 4/ 217 - 218.
(3) انظر "السيرة" 2/ 335، وأخرجه أحمد في "مسنده" (23858).
(4/7)
________________________________________
دماءهم، ففعل، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حاز الأموال كلها، فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] يسألونه مثل ذلك. وكان الذي مشى بينهم مُحَيِّصةُ بن مسعود أخو بني حارثة، فلم يزل أهلُ خَيبر على ذلك حتى سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعاملهم بالأموال على النِّصْفِ، فعاملهم على أنه متى شاء أن يُخرجَهمُ أخرجهم، وصالحه أهل فَدَك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئًا للمسلمين، وفَدَكٌ خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم لم يُوجِفُوا عليها بخيلٍ ولا رِكابٍ (1).
وقال ابن عمر: أتى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ خيبر عند الفجر، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قَصْرِهم، وغلبهم على الأَرْضِ والنخيل، وصالحهم على أن يحقُنَ دماءَهم ولهم ما حملَتْ رِكابُهم، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - الصفراءُ والبيضاءُ والحَلْقَةُ والسِّلاحُ، وشرطوا أن لا يكتموه شيئًا وأن يُخْرجَهم، وإن كتموا شيئًا فلا ذِمَّة لهم ولا عهد، فلما وجد المال الذي غَيَّبوه في مَسْكِ الجمل سبى نِساءهم وغلب على الأرض والنخيل ودفعها إليهم على الشطر، وكان ابن رواحة يخرُصُها عليهم ويضمنهم الشطر (2).
وكان جبَّار بن صخر الأنصاري يخرصُها أيضًا (3).
وعن ابن عباسٍ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع خيبر أرضَها ونخلها مقاسمةً على النِّصْفِ (4).
حديث الغنائم:
قال علماءُ السِّيَرِ: وأمر رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالغنائمِ، فجُمعت، واستعمل عليها فَرْوَةَ بنَ عمرو البَياضي، وكان المسلمونَ ألفًا، والخيلُ مئتي فرسٍ، وكان مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - نساءٌ مسلماتٌ، فرضَخَ لَهُنَّ من الفَيءِ، ولم يَضْرِبْ لهنَّ بِسَهْمٍ، وكانت المقاسمةُ على خمسةِ أسهُمٍ: سهمٌ لله والرسول، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، والمساكين،
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 337، و"تاريخ الطبري" 3/ 14 - 15، وما بين معقوفين زيادة منهما.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 104، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (5199)، والمَسْك: الجلد.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 533.
(4) أخرجه أحمد في "المسند" (2255). وبهذا الخبر يتم الجزء الثاني من النسخة الخزائنية.
(4/8)
________________________________________
وابن السبيل، وطعمةٌ لأزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقُسِّمت خيبر على أهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، ولم يغب عنها إلا اليسير، ولم يحضُرْها جابرُ بنُ عبدِ الله، فأعطاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منها كَمَنْ حَضَرها (1).
قال ابن سعد: ولما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، جعل نِصْفَ سهمه لنوائبهِ ونَوازِله، فلما صارت الأموال بيده لم يكنْ للمسلمينَ مَنْ يعملُها، فدفعها إلى اليهودِ، يعملونَها على نِصْفِ ما يخرجُ منها، فلم يزالوا كذلك إلى زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأجلاهم إلى الشام، وقسم الأموال بين المسلمين (2). لِما نذكر.
حديث صفية بنت حيي - رضي الله عنها -:
كانت قد رأت في منامِها وهي عروسٌ بكِنانةَ بن أبي الحُقَيْقِ أن قمرًا وقع في حِجْرِها، فقصَّت رؤياها على كِنانة، فلطمها، فاخضَرَّت عينها، قال: وما ذاك إلّا لأنك تَتَمنَّيْنَ مَلِكَ الحجازِ محمَّدًا.
فلما فُتِحت خَيْبَرُ أُتيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكنانة وكان عنده كَنْزُ بني النضير، فسأله عنه فأنكر، فقال رجلٌ من اليهود: رأيت كِنانةَ يُطيفُ كلَّ غداة بهذه الخَرِبَةِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرأَيتَ إِن وَجَدناهُ عندكَ، قَتَلنَاكَ؟ " قال: نعم، فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بتلك الخَرِبةِ فحُفرت، فأخرج منها بعض الكنز، فسأله عن الباقي فأنكر، فدفعه إلى الزبير وقال: "عذَّبه حتى يُقِرَّ بالباقي" وكان الزبير يقدح بزَنْدٍ في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه إلى محمد بن مَسْلَمةَ، فقتله بأخيه محمود بن مَسْلمة.
ولما وصلت صفية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألها عن عينها فأخبرته فَعَجِبَ (3).
وفي حديث أنسٍ الذي رواه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر، قال: فصلَّيْنا عندها صلاةَ الغَداةِ بغَلَسٍ، فركبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة وأنا رديفُ أبي طَلحةَ، فأجرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زقاق خيبر، وإنَّ رُكْبتِي لتَمَسُّ فَخِذَ نبي الله، وانحسر الإزار عن فخذِ
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 349، ورضخ: أعطى وقسم.
(2) انظر "الطبقات" 2/ 107 - 108.
(3) انظر "السيرة" 2/ 336، و"تاريخ الطبري" 3/ 14.
(4/9)
________________________________________
نبي الله فإني لأرى بياضَ فَخِذه، فلما دخل القرية قال: "اللهُ أَكبَرُ خَرِبَت خَيبرُ؛ إنا إذا نَزَلنا بقوم فَساء صباحُ المنذَرين" قالها ثلاثًا، وقد خرج القوم إلى أعمالهم فقالوا: محمدٌ والخَميسُ، فأصبناها عَنْوةً، فجُمع السَّبْيُ، فجاء دِحْيَةُ فقال: يا رسول الله، أعطني جاريةً من السَّبْيِ، فقال: "اذهَبْ فَخُذ جارِيَةً" فأخذ صفيَّةَ بنت حيي، وذُكِرَ أن رجلًا (1) قال: يا رسول الله، أعطيت دِحْيَةَ صفية بنت حيي سيدة بني قريظة والنضير! ما تصلح إلا لك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادعوه". فجاء بها، فلما نظر إليها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذ جارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيرَها". قال: ثم إن نبي الله أعتقها وتزوجها. فقال ثابت لأنس: يا أبا حمزة، ما أَصْدَقها؟ قال: نَفْسَها، أعتقها وتزوجها، حتى إذا كُنّا بالطريق جَهَّزَتْها أمّ سُلَيْمٍ، فأهدَتْها له من الليل، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عروسًا، فقال: "مَن كانَ عندَهُ شَيءٌ فَلْيجئْ بهِ" وبسط نِطْعًا، فجعل الرجل يجيء بالبُرِّ والرجلُ يجيء بالسمن، قال: وأحسبه ذكر السَّوِيقَ، قال: فحاسوا حَيْسًا، وكانت وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
وعن أنسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: "الْتَمِسُوا لي غُلامًا مِن غِلمانِكُم يَخْدُمُني" فخرج أبو طلحة يُرْدِفُني وراءه، فكنت أخدم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أسمعُه يكثرُ أن يقولَ: "اللَّهمَّ إنِّي أَعوذُ بكَ مِن الهمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَل، والبخلِ والجُبنِ، وضَلَعِ الدَّيْن وغَلبةِ الرجال" فلم أزل أَخْدُمُه حتى أقبلنا من خيبر، وأقبل بصفية بنت حُيَيّ قد حازها، فكنتُ أراه يُحَوِّي لها بعباءةٍ أو بكساءٍ، ثم يُرْدِفُها خلفه، حتى إذا كنا بالصَّهْباء صَنَع حَيْسًا في نِطْعٍ، ثم أرسلني فدعوت رِجالًا فأكلوا، فكان ذلك بناءَه بها، ثم أقبل حتى بدا له أُحُدٌ، فقال: "هَذا أُحُدٌ، هذا جَبَلٌ يُحبُّنا ونُحبُّه" فلما أشرف على المدينة قال: "اللَّهمَّ إنِّي أُحَرِّمُ ما بينَ لابَتَيْها، كما حرَّمَ إبراهيمُ - عليه السلام - مكَّةَ، اللَّهمَّ بارِكْ لهُم في صَاعِهم ومُدِّهم". أخرجاه في "الصحيحين" (3).
وقال موسى بن عقبة: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دِحْيَة مكان صفية ابنتي الربيع بن أبي الحُقَيْق.
__________
(1) في (أ) و (خ): دحية، والمثبت من صحيح البخاري ومسلم.
(2) أخرجه البخاري (371)، ومسلم (1427) (84).
(3) أخرجه البخاري (5425)، ومسلم (1365).
(4/10)
________________________________________
وعن ابن عباسٍ قال: لما أراد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجَ من خيبر قال الناس: الآنَ نَعلمُ أَسُرِّيَّةٌ صَفِيَّةُ أمَّ امرأةٌ؟ فإن كانت امرأة [فإنه سيحجبها، وإلا فهي سرية، فلما خرج أمر بستر فسُتر دونها، فعرف الناس أنها امرأة]، ولما أراد أن يركب أدنى فَخِذَهُ منها لتركب عليها، فأبت إجلالًا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ووضعت ركبتها على فَخِذِه فحملها، فلما كان الليلُ ودخل الفُسطاطَ وهي معه جاء أبو أيوبٍ الأنصاريُّ فوضع رأسه على باب الفُسْطاط، فلما أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع حركته فقال: من هذا؟ قال: أنا خالد، قال: ما شأنك؟ قال: يا رسول الله جاريةٌ شابةٌ حديثةُ عَهْدٍ بعُرْسٍ وقد صَنَعْتَ بأهلها وزوجِها ما صنعت، فإن تَحرَّكَتْ، كنتُ قريبًا مَنك، فقال: "يَرْحَمُكَ الله يا أبا أَيوب" (1).
وقال ابن إسحاق: أُتِيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بصفيةَ وامرأةٍ أخرى معها، فَمَرَّ بهما بلالٌ على قتلى يهود، فلما رأتهم المرأة التي مع صفية صاحت وصكَّت وَجْهَها وحَثَتْ على رأسها الترابَ، فلما رآها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَغْرِبُوا عنِّي هذه الشَّيطانَة" وأمر بصفِيَّةَ فَحِيزَتْ خلفه، وأَلقى عليها برِدائه، فعرف الناسُ أنه اختارها لنفسه، وقال لبلال: "أَنُزِعَتْ منكَ الرَّحمةُ حيثُ تمرُّ على قتلى رجالهما" (2)
[ذكر من استشهد بخيبر]
ثَقْف، وقيل: ثقاف بن عمرو بن سُمَيْط، أخو مالك ومِدْلاج، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، من حلفاء بني عبد شمس، شهد بدرًا وأحدًا والخندق والحديبية، وقتله أُسير اليهودي في يوم خيبر (3).
الحارث بن حاطب بن عمرو بن عبيد، وأمه أمامة بنت الصامت بن خالد، والحارث من الطبقة الثانية من الأنصار، وهو الذي بعثه (4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطريق
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 2/ 109 - 110 وما بين معكوفين منه.
(2) "السيرة" 2/ 336.
(3) طبقات ابن سعد 3/ 91.
(4) في طبقات ابن سعد 3/ 427: ردّه، وهو الصواب.
(4/11)
________________________________________
لَمَّا توجَّهَ إلى بدر إلى بني عمرو بن عوف لشيءٍ بلغه عنهم، وضرب له بأَجْرِه وسَهْمِه، وشهد أحدًا والخندق والحديبية، فلما حاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر رماه رجل من حصنٍ بحَجَرٍ فدمغَه، وهو أخو ثعلبة بن حاطب لأبيه وأمه، وفي ثعلبة نزل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] وسنذكره إن شاء الله.
ربيعةُ بن أكثم بن سخبرة بن عمرو، أبو يزيد الأسدي من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا وأحدًا وهو ابن ثلاثين سنة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورماه الحارث اليهودي أبو زينب من النَّطاةِ بحجر فقتله في حصار خيبر، وهو ابن سبع وثلاثين سنة.
رفاعة بن عبد المنذر بن رفاعة بن زَنْبَر، أبو رافع أخو أَبي لبابة الأنصاري، شهد رفاعة بدرًا، وله رؤيةٌ وروايةٌ (1).
عامر بن الأكْوَعِ سنان بن عبد الله بن قُشير من بني أفصى، من الطبقة الثانية من المهاجرين، أسلم الأكوع قديمًا هو وابناه عامرٌ وعمرو، وصحبوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وعامرٌ عمُّ سَلَمة بن الأكوع، فسلمة بن عمرو بن سنان، وسنان هو الأكوع (2).
قال سلمة: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر فَسِرْنا فقال رجل من القوم لعامر: ألا تُسْمِعُنا من هُنَيَّاتِكَ، وكان عامر رجلًا شاعرًا، فنزل يحدو بالقوم ويقول:
تاللهِ لولا اللهُ ما اهتدينا
ولا تصدَّقْنا ولا صَلَّينا
ونحن عن فضلِكَ ما استغنَينا
فثبِّتِ الأقدامَ إن لاقَيْنا
وأَنْزِلَنْ سكينةً علينا
فاغفِر فداءً لك ما اقتنَيْنا
__________
(1) الترجمتان في طبقات ابن سعد 3/ 89، 422.
(2) انظر "السيرة" 2/ 328.
(4/12)
________________________________________
إنا إذا صيح بنا أَتَيْنا
وبالصياح عَوَّلوا علينا
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن هذا؟ " قالوا: عامر، قال: "يَرحَمُه اللهُ"، فقال رجل من القوم: وَجَبَتْ يا نبيَّ الله، لولا مَتَّعْتَنا به.
وقيل: إن القائل عمر بن الخطاب رضوان الله عليه.
وخرج مَلِكُهم مَرْحَب يخطر بسيفه ويقول:
قد علمت خيبرُ أني مَرْحَبُ ...... الأبيات المتقدمة.
وقال:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاك السلاح بطل مُغاوِرُ
ثم التقيا، فاخْتَلفا ضَرْبتين، فوقع سيفُ مَرْحَب في تُرس عامرٍ، وذهب عامر يَسْفُلُ له فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله، فكانت فيها نَفْسُهُ. قال سلمة: فخرجت فإذا بِنَفَرٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بطلَ عملُ عامرٍ، قَتَلَ نَفْسَه، قال: فأتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله بطَلَ عملُ عامر، قال: "مَن قالَ ذلكَ"؟ قال: قلتُ: نَفَرٌ من أصحابك، قال: "كَذَب مَن قالَ ذلكَ، بل له أَجْرُه مَرَّتَين" (1).
وفي رواية عن سلمة قال: أتينا خيبر فحاصرناهم وأصابتنا مَخْمَصَةٌ شديدة، ثم إن الله فتحها، فلما أمسى الناس اليومَ الذي فتحت فيه خيبر، وأوقدوا نيرانًا كثيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذه النِّيرانُ؟ على أيِّ شيءٍ يُوقِدُونَ"؟ قالوا: على لحوم الحُمُرِ الإِنسِيَّة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَهريقُوها واكسِرُوا القُدُورَ" فقال رجل: يا رسول الله أو نَغْسِلُها؟ فقال: "أَو ذلك" فلمَّا تصافَّ القوم كان سيف عامرٍ فيه قِصَرٌ، فتناولَ به يهوديًا ليضربه فرجع ذُبابُ سيفه فأصاب ركبته فمات منها، فلما قَفَلوا قال سلمةُ: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاحبًا شاكيًا، قال سلمة: فأخذ بيدي أَو هوَ آخِذٌ بيدي، فقلت: فدًى لك أبي وأمي، زعموا أنَّ عامرًا حَبِطَ عمله، فقال: "من قاله"؟ قلت: فلانٌ وفلانٌ وأُسَيْدُ بنُ الحُضَيْر، فقال: "كَذَبَ مَن قاله، إنَّ له لأَجْرَينِ" وجمع بين أصابعه أَو أُصْبَعَيْه
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 2/ 105، و 5/ 208، وانظر "السيرة" 2/ 328.
(4/13)
________________________________________
"إنه لَجاهِدٌ مُجاهِدٌ، قلَّ عَرَبيٌّ مشى بها مثلَهُ" (1).
وفي رواية: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شكُّوا فيه وقالوا: رجل مات بسلاحه، وقال سلمةُ: يا رسول الله إن قومًا ليهابون الصلاة عليه، فقال: "كذبوا" (2) وذَكَرَهُ. متفق عليه.
ومعنى يهابون الصلاة عليه: أي الدعاء له، ومعنى يسفُل: أي يَخْطُرُ يده إلى أسفل.
وروى ابن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن عامرًا يعوم في الجنة عوم الدُّعْمُوصِ (3). وهو دُويبةٌ تغوص في الماء.
محمودُ بنُ مَسْلَمةَ بن سلمة بن خالد، حليف بني عبد الأشهل، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه خُليدَةُ بنت أبي عُبَيْدٍ، شهد أُحُدًا والخندقَ والحديبية، ألقت عليه امرأة (4) بخيبر رحًى قَسَمَتِ البَيْضَةَ على رأسه فمات، فَقُبِرَ هو وعامر بن الأكوع في قبرٍ واحدٍ لأنهما قُتِلا في يوم واحد، وقبرهما في غارٍ بالرَّجيع، وله رؤية ورِوايةٌ. وفي ذلك اليوم قُتِلَ مَرحَب.
النعمانُ بنُ ثابت بن النعمانِ بن أُمية بن البُرَك وهو امرؤ القيس، وكُنْيةُ النعمان: أَبو ضَيَّاح - بضاد معجمة [وياءٍ] مشدَّدة وحاء مهملة - شهد بدرًا وأحدًا والخندقَ والحديبيةَ وخيبرَ وقُتِلَ بها شهيدًا، ضَربه رجلٌ منهم بسهم فأطَنَّ قِحْفَ رأسه، وليس له عَقِبٌ.
* * *
قال الواقدي: قُتِلَ من المسلمين في غزاة خَيبر ستةَ عَشَرَ رجلًا، ذكرنا أعيانهم، ومن اليهود سبعون رجلًا (5). منهم الحارث - أبو زينب التي سَمَّت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ومرحبٌ وياسرٌ وأُسَيْرٌ وكِنانةُ بن أبي الحُقَيْقِ، وغيرُهم.
__________
(1) أخرجه البخاري (6148)، ومسلم (1802).
(2) هي رواية لمسلم (1802) (124).
(3) "الطبقات" 5/ 209.
(4) في "الطبقات" 4/ 247: أن مرحب اليهودي هو الذي ألقى عليه الحجر.
(5) "المغازي" 2/ 700 وعنده: خمسة عشر من المسلمين، وثلاثة وتسعون رجلًا من اليهود.
(4/14)
________________________________________
وعن أبي هريرة قال: شهدنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خيبرَ، فقال لِرجلٍ ممن يدَّعي الإسلام: "هَذا مِن أَهلِ النَّارِ" فلما حضَر القتالُ قاتل الرجل قِتالًا شديدًا، فأصابه جِراحةٌ، فأُخبِرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقتاله، فلما كان في الليل لم يَصْبِرْ على ألم الجِراح فقتل نفسه، فأُخْبِرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللهُ أكبَرُ، أَشهَدُ أَنِّي عبدُ اللهِ ورَسولُه" ثُمَّ أَمرَ بلالًا فنادى في الناس: "إِنه لا يَدْخُلُ الجنةَ إلا نفسٌ مُؤمنةٌ أو مُسلِمةٌ، وإنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هذا الدينَ بالرجلِ الفَاجِرِ". أخْرَجاه في "الصحيحين" (1).
ولما فرغ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر أهدت له زينبُ بنت الحارث اليهودية - ابنة أخي مَرْحَب، امرأةُ سَلَّام بن مِشْكَم - شاةً مَصْلِيَّةً، وكانت قد سألت: أَيُّ الأعضاءِ أحبُّ إليه؟ فقيل لها: الذراعُ، فأكثرت فيه السُّمَّ، وجاءت بالشاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَتَناول من الذراع مُضغَةً فلم يُسِغْها، فلفظَها، وكان عنده بِشْرُ بن البراء بن مَعْرور فأخَذَ [كما أخذ] رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأساغها، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ هَذا الذِّراعَ لَيُخْبِرُني أنَّه مَسمُومٌ" فدعا بها فسألها فاعترفت، فقال: "ما حَمَلَكِ على هَذا"؟ فقالت: بلغتَ مِنْ قومي ما قد بلغتَ، فقلتُ: إن كان نبيًّا، فَسَيُخْبَرُ، وإن كان مَلِكًا، استرحنا منه (2).
قال البخاري: فَعفا عنها ولم يقتلها (3).
وقال الواقدي: الثابتُ عنْدنا أنه قتلها (4).
وقال الهيثم: لما مات بِشْر بن البراء دفعها إلى أوليائه، فقتلوها به.
وفيها: حرَّمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لُحومَ الحُمُرِ الإنْسِيَّة، وقد كانت مباحةً قبل ذلك.
قال أبو ثعلبة: غزوتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر، فأصبنا بها حُمُرًا من الحُمُرِ الإنسية فذبحناها، وأُخْبِر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر عبد الرحمن بن عوف فنادى في الناس: "إنَّ
__________
(1) أخرجه البخاري (3062)، ومسلم (111).
(2) "السيرة" 2/ 337 - 338.
(3) لم نقف عليه عند البخاري.
(4) انظر "المغازي" 2/ 677 - 678.
(4/15)
________________________________________
لُحومَ الحُمُر الإِنسِيَّةِ لا تَحلُّ لِمَن يَشهَدُ أَنِّي رَسولُ اللهِ" (1).
وقد روى هذه السُّنَّة جماعة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب (2) وجابر بن عبد الله (3)، والبراء بن عازب (4).
وكذا يَحْرُمُ أكلُ البغال عند عامة الفُقهاءِ والعلماء، وعند مالك رحمة الله عليه لا يَحْرُم شيء من ذلك لقوله - عليه السلام - لغالب بن أبجر وكان له حُمُر: كُلْ من سَمينِ مالِكَ (5). إلَّا أَنه مَنْسُوخٌ بحديث خيبر.
وقال جابر: حرَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لحومَ البغال، وكلَّ ذي ناب من السباع، وذي مِخْلَبٍ من الطير (6).
[وفيها: ] نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسقي الرجل ماءَه زَرْعَ غَيره.
قال رويفع بن ثابت البَلَوِيُّ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر: "مَن كانَ يُؤمنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، فلا يَسقِي ماءَهُ زَرعَ غيرِه، مَن كانَ يُؤمِن باللهِ واليَومِ الآخِرِ، فلا يَقَع على امرأةٍ مِنَ السَّبيِ حتى يَسْتَبرِئها" (7).
* * *
وفيها: قدم جعفرُ بن أبي طالب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر، فقام إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتنقه وقَبَّلهُ وقال: "ما أَدرِي بأَيِّهما أُسَرُّ: بقُدومِ جَعفر أو بفتح خيبر" (8) وسأل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمينَ أن يُسْهموا له ولأصحابه، ففعلوا.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمة الله عليهما: حدثني أبي، عن علي بن المَديني
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (17741).
(2) أخرجه البخاري (5115)، ومسلم (1407).
(3) أخرجه البخاري (4219).
(4) أخرجه البخاري (4226)، ومسلم (1938).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (24826)، وابن أبي عاصم (1162).
(6) أحمد في "مسنده" (14463).
(7) أخرجه أبو داود (2158)، وأحمد في "مسنده" (16997).
(8) أخرجه الحاكم 3/ 230، وانظر "السيرة" 2/ 359.
(4/16)
________________________________________
قال: كنتُ جالسًا في مجلس مالك بن أنس، فاستأذن عليه سفيان بن عُيينة، فأذِنَ له فدخل فسلَّم، وقال: السلام خاصٌّ وعام، السلام عليك أبا عبد الله، فقال مالك: وعليك السلام أبا محمد ورحمةُ الله وبركاته، وقام إليه فصافحه، وقال: لولا أنَّ المعانقة بِدْعَةٌ لعانَقْتُكَ، فقال سُفْيان: قد عانق من هو خير مني مَنْ هو خيرٌ منك، قال مالك: رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وجعفرًا؟ قال: نعم، قال مالك: ذاك خاصٌّ وليس بعامًّ، فقال سفيان: ما عَمَّ جعفرًا يعمنا وما خصَّه يَخُصُّنا. ثم قال سُفْيان: يا أبا عبد الله أتأذن لي أن أُحَدِّثَ في مجلسك؟ قال: نعم، حدثنا عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: أن جعفر بن أبي طالب لما قدم من أرض الحبشة تَلقَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعتنقه وقال: جعفرٌ أَشْبَهُهُم بي خَلْقًا وخُلُقًا (1).
* * *
وفيها: قَدِمَ أبو هريرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر.
قال الواقدي: قدم الطُّفَيْلُ بن عَمْرو الدَّوْسيُّ وقومُه المدينةَ بعدما أسلموا، في سبعين راكبًا، وفيهم أبو هريرة، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فخرجوا إليه، فلقوه هناك، فأسهم لهم، وقَدِموا معه المدينة فقال الطفيل: يا رسول الله لا تُفَرِّقْ بيني وبين أصحابي، فأَنْزَلَهُم حَرَّةَ الدجاح، وقال أبو هريرة: لما أقبلتُ أُريدُ الإسلام كان معي غلام ضلَّ عني وأقبل غلامي بعد ذلك وأنا جالس عند رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا هريرة هذا غلامك قد أتاك، فقلت: يا رسول الله إني أشهدك أنه حر.
وفي رواية: لما قدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت وأنا في الطريق: [من الطويل]
يا ليلةً من طولِها وعنائها ... على أنها من دارةِ الكفر نَجَّتِ
فقدمتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعتُه، فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام فقال: هذا غلامك، فقلت: هو حر لوجه الله (2).
وفي أفراد البخاري، عن أبي هُرَيْرَةَ قال: أتَيْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بعدما
__________
(1) أخرج القصة ابن عساكر في "تاريخه" 58/ 365.
(2) انظر "الطبقات" 1/ 304، و 5/ 231.
(4/17)
________________________________________
افتتحها، فقلت: يا رسول الله أَسْهِم لي، فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تُسْهِمْ له، قال أبو هريرة: فقلت: يا رسول الله هذا قاتِلُ ابنِ قَوْقَل، فقال ابن سعيد بن العاص: واعجبًا لِوَبْرٍ تدلَّى علينا من قُدوم ضَأنٍ، ينعى عَليَّ قَتْلَ رجلٍ مسلم أكرمه الله بيَدَيَّ ولم يُهنّي بيده، أو على يده. قال عنبسةُ بن سعيدٍ راوي الحديث: فلا أدري أسهم له أم لا (1)؟
وأخرج البخاري بمعناه فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أَبان بن سعيد بن العاص على سَرِيَّةٍ من المدينةِ قِبَلَ نجدٍ، فَقدِم أبان وأَصحابه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر بعدما افتتحها. قال أبو هريرة: فقلتُ: يا رسولَ الله، لا تَقْسِمْ لهم. فقال أبان: وأنت بهذا يا وَبْرُ انْحَدَر من رأس ضال. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أَبانُ، اجْلِسْ". فلم يقسِم لهم (2).
الوبْر بإسكان الباء: دويبة تشبه السِّنَّوْر (3). والقَدوم: بالتخفيف ما تقدَّم من الشاة. ورواه البخاري: ضال، وهو جبل. وغيره يقول: ضأن. والتدلّي: النزول. وابن قَوْقل: رجلٌ من الأنصارِ. وابنُ سعيد هو أَبان. وإنما قال ذلك احتقارًا لأَبي هريرة.
وقيل: إنه لم يُسْهم له. وسنذكرُ أَخبار أَبي هريرة إن شاء الله تعالى في سنة ثمانٍ وخمسين.
وفيها: كانت غزاةُ وادي القُرى (4).
قال أبو هريرة: خرجنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر فلم يغنم ذهبًا ولا فِضَّةً، وغَنِمنا المتاعَ والطعام والثيابَ، ثم انطلقنا إلى وادي القُرى مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ومع رسولِ الله عبدٌ - أهداه له رجل جاءه من جُذام يُدعى رفاعة بن زيد من بني ضُبَيب - يُقال له: مِدعَم. فلما نزلنا الوادي قام العبد يحلُّ رحله، فجاءه سهم عائر فقتله، فقلت: هنيئًا له الجنة، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلَّا والذي نَفسُ محمدٍ بيده، إن شَمْلَتَهُ الآن لتَحتَرقُ عليه
__________
(1) أخرجه البخاري (2827).
(2) البخاري (4238).
(3) في النسخ: "الأمر" والمثبت من "فتح الباري" 7/ 492.
(4) انظر "السيرة" 2/ 338، و"المغازي" 2/ 707، و"تاريخ الطبري" 3/ 16، و"المنتظم" 3/ 297، و"البداية والنهاية" 4/ 218.
(4/18)
________________________________________
في النَّار، أو تحترقُ عليه نارًا" وكان قد غَلَّها من فَيْءِ المسلمين يَوْمَ خَيبر، فسمع ذلك رجلٌ من الصحابة فقال: يا رسول الله أصبت شِراكين لنَعْلٍ لي، فقال: "هذا لَكَ شِراكانِ مِن نارٍ" (1).
واختلفُوا في غزاة وادي القرى: هل هي داخلة في غزاة خيبر أو منفردة عنها؟
وفيها: كانت ليلة التَّعريسِ.
قال الترمذي: حدَّثنا محمود بن غَيلان، حدَّثنا النَّضْر، عن صالح بن أبي الأَخضر، عن الزُّهري، عن ابن المُسَيِّب، عن أبي هريرة قال: لما قفلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبرَ أسرى ليلةً، حتى إذا أدركه الكَرى أَناخَ فعرَّسَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هَل مِن رَجلٍ يَحفَظُ علينا الطَّريق لعلَّنا نَنامُ"؟ فقال بلال: أنا يا رسولَ الله، فنزل ونزل الناس، فنام وناموا، وقام بلالٌ يُصلي، فصلى ما شاء الله، ثم استند إلى بعيرِه واستقبل الفجر بطَرْفِه فغلبته عينُه فنام، فلم يُوْقِظْني إلَّا حر الشمس، فكان أوَّلَ من هَبَّ من نومِه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما صنَعْتَ يا بِلالُ"؟ فقال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفوسكم، فقال: "صدقْتَ" ثم سار غير كثير، ثم أناخ فتوضَّأ وصلى ركعتين ثم صلى الفَجْرَ (2).
ولمسلمٍ: عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لِيَأخُذْ كُلُّ رَجلٍ رَأسَ راحلته، فإنَّ هَذا مَنزِلٌ حَضَرنا فيه الشَّيطانُ" قال: ففَعلنا، فدعا بالماء فتوضأ ثم صلى ركعتين قبل صلاة الغَداة، ثم أقيمت الصلاة فصلى الغَداة (3).
* * *
وفيها: نزلت آية التيمم، وقيل: في غزاة ذات الرقاع، وقيل: في غزاة المريسيع.
قال البخاري: حدَّثنا عبد الله بن يوسف، أَنبأنا مالكٌ، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ أسفارِه، حتى إذا كنا بالبَيْداءِ - أو بذات الجيش - انقطع عِقْدٌ لي، فأقام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على
__________
(1) أخرجه البخاري (6707)، ومسلم (115).
(2) أخرجه الترمذي (3163).
(3) أخرجه مسلم (680) (310).
(4/19)
________________________________________
التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، أو وَلَيْسَ معهم ماء، فأتى الناسُ أبا بكرٍ فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشةُ؛ أقامتْ بالناس على غير ماء، فجاء أبو بكر فأغلظ لها، قالت: ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نائمٌ، رأسُه على فَخِذي، وقال ما شاء، وجعل يَطْعُنُ بيده في خاصرتها، قالت: ولا يمنعني من التحرك إلا مكانُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنام حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آيةَ التيمم، فقال أُسَيْدُ بنُ حُضَيْر وهو أحد النقباء: ما هي بأول بركتِكُم يا آل أبي بكر، ما نزل بكِ أمرٌ تكرهينَه إلا جعل الله للمسلمين منه فرجًا ولكِ منه مخرجًا. قالت: فَبَعَثْنا البعيرَ الذي كان تحتي أو كنت عليه فإذا العقد تحته (1).
وفيها: كانت قصة الحجَّاج بن عِلاط بن خالد بن ثُوَيْرَةَ السُّلَمي (2)، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين، شهد فتح خيبر.
قال أرباب السير: كانت تحته أمُّ شَيْبَة أختُ بني عبد الدار، وكان كثير المال، فلما رجع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا رسول الله إن لي أموالًا بالحجاز وبمكة، وذهبي عند أُمِّ شيبة، وإن عَلِمَتْ بإسلامي هي ومَنْ عنده مالي ذهب، فَأْذَنْ لي في الذهاب قبل أن يفشو الخبر، فأذن له وقال: قل ما شئت.
قال الحجاج: فخرجت وأسرعت المسير، فلما كنت بالثنية البيضاء رأيت رجالًا يتجسَّسون أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريش وقد علموا أنه صار إلى خيبر وهي قريةُ الحجاز، ريفًا ومَنَعَةً ورجالًا وعُدَّةً وسِلاحًا، فلما رَأَوْني قالوا: الحجاجُ؟ ! ولم يكونوا علموا بإسلامي، فقالوا: أخبرنا عن القاطعِ، فقلت: عندي من الخبر ما يسرُّكم، فالتبطوا بجانِبَيْ ناقتي يقولون: إيه يا حجَّاجُ، فقلت: هُزِمَ هَزيمةً لم يُهْزَمْ مثلَها قطُّ وأُسِر وقُتِلَ أصحابُهُ قتلًا ذريعًا، وأرادت اليهودُ قتله فقال رؤساؤهم: دَعُوه حتى نَبعثَ به إلى مكَّةَ فيقتلونه بين أظهرهم بِمنْ كان أصاب من رجالهم، ففرِحوا وانطلقوا إلى أهلها فبشَّروهم، فقلتُ: أَعينوني على جمع مالي من غُرَمائي حتى أَقْدُمَ على خيبر فأَشتري من الذين أصابوا من أموال محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ قبل أن يسبقَني التُّجَّار، فجمعوا مالي في أسرع وقت، وجئت إلى صاحبتي فأخذتُ ما كان عندها وقلت لها
__________
(1) أخرجه البخاري (334).
(2) انظر "السيرة" 2/ 345، و"الطبقات" 5/ 157، و"تاريخ الطبري" 3/ 17.
(4/20)
________________________________________
مثلَ ما قلت لهم، ولما شاع الخبر بمكة التقاني العباس فقال: ويحك يا حجاج، ما الذي جئت به؟ فقلت: اذهب إلى مكان كذا، فأخذتُ جميعَ مالي وخرجت، فقلت له: أبشر فَتَح الله على ابن أخيك خيبرَ وتركتُه عروسًا على بنت ملك خيبر، وقد أسلمتُ وجئتُ أَخَذْتُ مالي خوفًا من أَن أُغْلَبَ عليه، فاكتُمْ عني ثلاثًا. فلما كان بعد ثلاث لبس العباس حُلَّةً وتخلَّقَ ثم خرج يطوف بالبيتِ، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التَّجَلُّدُ في المصيبةِ، فقال: ويلكم فتح الله خيبرَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعرسَ بابنة ملكهم، وأحرز رسولُه أموالَهم ونخيلَهم وقسَّمها بين المسلمين، فقالوا: من جاء بهذا الخبر؟ قال: الذي جاءكم بما جاءكم به لقد دخل عليكم مسلمًا وأخذ أمواله وانطلق ولحق رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون معه، فقالوا: قُتِلْتَ عدوَّ الله، أما واللهِ لو عَلِمْنا لكان لنا وله شأن من الشأن. فلم يلبثوا أن جاء الخبر بذلك، فأعتق العباس في ذلك اليوم عبدًا له يقال له: أبو زبيبة.
وقال موسى بن عقبة: لما سمع العباس بِما أخْبَرَ بهِ الحجاجُ أولًا أراد أن يقوم فلم يقدر على القيام.
* * *
قال الواقدي: وفيها رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب - عليها السلام - على أبي العاص بن الربيع - رضي الله عنه - (1)
وفيها: قدمت أم حبيبة - رضي الله عنها - بنت أبي سفيان من الحبشة على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة، وكان قد كتب إلى النجاشي فزوَّجه إيَّاها، وكانت قد هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش فتنصَّر ومات هناك.
وعن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: رأيت في المنام كأنَّ عبيدَ الله بنَ جَحْشٍ زوجي بأسوأ حال، وأشوهِ صورة، ففزعتُ وقلتُ: تَغيَّرتْ واللهِ حالُه. فإذا هو يقول حين أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في هذا الدين فلم أر دينًا خيرًا من دين النصرانية، وكنتُ قد دِنْتُ بها، ثم دخلتُ في دينِ محمد، ثم رجعت
__________
(1) "تاريخ الطبري" 3/ 21.
(4/21)
________________________________________
إلى النصرانية، قالت: فقلت له: والله ما خِيْرَ لك، وأخْبرتُه بما رأيت له فلم يحفَلْ بي، وأكبَّ على الخمر يشربُه حتى مات، فرأيت في المنام كأن آتيًا يقول: يا أمَّ المؤمنين، ففزعْتُ، وأوَّلْتُها أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يتزوجني، قالت: فما هو إلا أن انقضت عِدَّتي، فما شعرتُ إلَّا بجارية النجاشي يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابِه ودُهْنِهِ تستأذن عَلَيَّ، فأذِنْتُ لها فدخلتْ، وقالتْ: الملك يُسَلِّمُ عَلَيْكِ ويقول: إِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليَّ أن أزَوِّجَه إيَّاكِ، فقلت: بشَّرك اللهُ بالخير، فقالت: وَكِّلي من يُزَوِّجُك، فأرسلتُ إلى خالدِ ابنِ سعيد بن العاص فوكَّلْتُه، وأعطيت أبرهةَ سِوارَيْنِ من فِضَّةٍ وخَدَمَتَيْنِ كانتا في رِجْلي وخواتيم فضة كانت في أصابعي سرورًا بما بشَّرتني به، فلما كان العَشِيُّ أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن كان هناك من المسلمين فحضروا وخطب النجاشي خطبة بليغة؛ حَمِدَ الله وأثنى عليه وصلى على رسوله وقال: أما بعدُ فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلي أن أُزَوِّجَه أم حبيبة، فأجبته إلى ما دعاني إليه وأصْدَقْتُها من مالي أربع مئة دينار وصبَّها بين يدي القوم، فحمد الله خالد بن سعيد وصلى على رسوله وقال: قد أجبت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما سأل، فبارك الله لرسوله. ثم حضَر الطعامُ فأكلوا وانصرفوا.
وفي روايةٍ: أنَّ أم حبيبة دفعت إلى أبرهة خمسين دينارًا فلم تقبلها وردت عليها جميع ما أعطتها وقالت: إن الملك أمرني أن لا أَرْزَأَكِ شيئًا، وإني قد أَسْلَمْتُ وبايعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أمر الملك نساءه أن يبعثنَ إليك بكلِّ ما عندهُنَّ من العِطْر - ثم جاءتني بعودٍ وعَنْبرٍ ومسكٍ وحُلِيٍّ كثيرةٍ - فقَدِمْتُ بذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبريه أَني قد بايعته وهذه حاجتي إليك، قالت: فلما قدمت عليه أخبرته فقال: وعليها السلام، ولما بلغ أبا سفيان قال: ذاك الفحل الذي لا يُقدَعُ أَنْفُه (1).
وفي تزويج أم حبيبة نزل قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} (2) [الممتحنة: 7].
قال الواقدي: وبعث النجاشي أم حبيبة - رضي الله عنها - مع شُرَحْبيل بن حَسَنَة.
* * *
__________
(1) "الطبقات" 10/ 95 - 96.
(2) "الطبقات"10/ 97.
(4/22)
________________________________________
وفيها: قدم حاطب بن أبي بلتعة (1) من عند المُقَوْقِس صاحب الإسكندرية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهديَّةٍ، وهي أربعُ جوارٍ منهن مارية وهي أم إبراهيم - عليه السلام - ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسيرين، وبغلتُه الدُّلْدُل، وحماره اليعفور، وأَلْفُ دينار من ذهب وعشرين ثوبًا، وخَصِيٌّ يقال له: مأبور، شَيْخٌ كبير كان أخًا لمارية، أقام على دينه حتى قدم المدينة.
وكان حاطب قد دعا مارية وسيرين إلى الإسلام فأسلما قبل وصولهما إلى المدينة، فأنزلهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أم سُلَيْم بنت مِلْحان، وكانت أُمُّ إبراهيم وضيئةً بيضاءَ جميلةً جَعْدَةً من كورةِ أَنْصِنا، فَوطِئها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بملك اليمين، ثم حولها إلى مالهِ بالعالية، كان قد أخذه من بني النضير وكان يأتيها فيه، وكانت في مَشْرَبةٍ تعرف بمشربةِ أم إبراهيم - والمشربة: المَنْظَرةُ - وكان الخصيُّ يختلف إليها، فكثَّر الناس فيه وقَالوا: عِلْجٌ يَدْخُلُ على عِلْجَةٍ، فبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا عليًا رضوان الله عليه وقال: انطلق، فإن وجدته عندها فاقتله، فقال: يا رسول الله إذا بعثتني أكون كالسِّكَّةِ المُحْماةِ أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فقال؟ فأقبلتُ متوشَّحًا بالسيف وإذا به عندها فاخترطت السيف فأقبلت نحوه، فلما رآني صَعِد نخلةً هناك وألقى نفسه على قفاه وشغر برجليه فإذا هو أَجَبُّ مَمْسوحٌ، ليس له قليل ولا كثير، فأغمدتُ السيف وأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: "الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت" (2).
قال الواقدي: إنما أمر بقتْله لأنه كان كافرًا لم يسلم.
وقال المنافقون: إنه فحل فأكذب الله المنافقين.
وأما سيرين فوهبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسانَ بنِ ثابتٍ فأولدها عبد الرحمن.
وأما بغلته الدُّلدُل فبقيت إلى أيام معاوية.
وأما حماره اليعفور فَنَفَقَ في حِجَّة الوداع عند منصرفه منها.
__________
(1) "تاريخ الطبري" 3/ 21، وانظر "الطبقات" 10/ 201.
(2) انظر "تاريخ ابن عساكر" 3/ 236، و"البداية والنهاية" 5/ 304.
(4/23)
________________________________________
ولما قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب المقوقس قال: "ضَنَّ بمُلكِهِ".
وفيها: قدم أبو موسى الأشعري (1) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ في خمسين رجلًا ومعه إِخْوتُه وكانوا قد ركبوا من اليمن في سفينة وأرسوا بجُدَّة، فلقوه وقد قَفَل من خيبر.
قال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَقدُمُ عليكم غَدًا قَومٌ هم أَرَقُّ قُلوبًا للإسلامِ منكُم". قدم الأشعريون فيهم أبو موسى الأشعري، فلمّا دَنَوْا من المدينة جعلوا يرتجزون؛ يقولون:
غَدًا نَلقَى الأَحبَّه
محمدًا وحِزبَه
فلما قدموا تصافَحوا، فكانوا أوَّلَ من أحدث المصافحة. أخرجه الإمام أحمد (2) رحمة الله عليه.
وفيها: كانت سرية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى هَوازن (3) في شعبان إلى مكان يقال له: تُرَبَةُ، على أربعِ ليالٍ من مكة، وقيل: على أربعة أميال، في ثلاثين راكبًا فانهزموا وعاد إلى المدينة.
وفيها: كانت سرية أبي بكر رضوان الله عليه إلى نجد (4)، قال سلمة بن الأكوع: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر إلى فَزارة وكنت معه، فلما دَنَوْنا من الماءِ عرَّسَ وشنَّ الغارةَ وقت الصبح، فقتلتُ سبعةً من الكفار، ورأيت عُنُقًا من الناس فيهم الذراري فخشيتُ أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم ورميت بِسَهْمٍ بينهم وبين الجبل، فلما رأَوْه قاموا -
__________
(1) "الطبقات" 1/ 300، و"المنتظم" 3/ 304.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (12582).
(3) "المغازي" 2/ 722، و"الطبقات" 2/ 110، و"تاريخ الطبري" 3/ 22، و"المنتظم" 3/ 301، و"البداية والنهاية" 4/ 221.
(4) "المغازي" 2/ 722، و"الطبقات" 2/ 111، و"تاريخ الطبري" 3/ 22، و"المنتظم" 3/ 301، و"البداية والنهاية" 4/ 220.
(4/24)
________________________________________
أي: وقفوا - وإذا أنا بامرأة من فَزارة عليها قَشْعٌ من أَدَم معها ابنةٌ لها من أجمل العرب، فجئت بها إلى أبي بكر فنفَّلني ابنتها، فلم أكشف لها ثوبًا [حتى قدمت المدينة، ثم باتت عندي فلم أكشف لها ثوبًا حتى لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق فقال: "يا سَلَمَةُ، هَب لي المَرأْةَ" فقلت: يا نبي الله، والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبًا، فسكت حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق ولم أكشف لها ثوبًا، فقال: "يا سَلَمةُ، هَبْ لي المَرأة، لله أبوك" فقلت: هي لك يا رسول الله قال: ] فبعث بها إلى مكة ففدى بها أسرى المسلمين.
وفيها: كانت سرية بشير بن سعد إلى بني مرة (1)، في شعبان بناحيةِ فَدَك في ثلاثين راكبًا، وقيل: في ثلاثين راجلًا، فساق أموالهم ونَعَمهم فأدركوه فقتلوا أصحابه وجُرِحَ في كعبه فاَرتُثَّ بين القتلى فَعاد إلى المدينة.
وفيها: كانت سرية علي - عليه السلام - (2) إلى بني سعد في شعبان، فَهزمهم وساق أموالهم إلى المدينة.
وفيها: كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى المَيْفَعةِ (3)، وراءَ بطن نخلةَ في رمضان إلى بني عدي وبني غزال، في مئةٍ وثلاثين رجلًا فاستاقوا النَّعَمَ والشاءَ.
وقال ابن إسحاق: إنما كانت إلى يُمْنٍ وجُبَارٍ.
وفيها: كانت سرية أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - إلى الحُرقات من جُهَيْنةَ (4).
قال أسامة: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحُرْقةِ أو الحُرْقات من جُهَيْنةَ، فصبَّحناهم فقاتلناهم، قال: وكان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا وإذا أدبروا كان
__________
(1) "المغازي" 2/ 723، و"الطبقات" 2/ 112، و"تاريخ الطبري" 3/ 22، و"المنتظم" 3/ 302، و"البداية والنهاية" 4/ 221.
(2) هي سرية علي بن أبي طالب إلى فدك، تقدم ذكرها عند المصنف في السنة السادسة.
(3) "السيرة" 2/ 622، "المغازي" 2/ 726، و"الطبقات" 2/ 112، و"تاريخ الطبري" 3/ 22، و"المنتظم" 3/ 303.
(4) أدرجها أصحاب السير مع سرية غالب كما في "السيرة" 2/ 623، و"الطبقات" 2/ 112، و"تاريخ الطبري" 3/ 22، و"المنتظم" 3/ 303.
(4/25)
________________________________________
حاميهم، قال: فَغَشيتُه أنا ورجل من الأنصار، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاري وقتلته أنا، وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أُسامةُ، أقَتَلْتَهُ بَعدَما قال لا إِلَه إلا اللهُ"؟ فقلت: يا رسول الله، إنما كان متعوِّذًا من القتل، قال: فكرّرها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
وفي رواية عن أسامة: أنه قال: لما قَتَلْتُه عرض في نفسي منه شيء، فَذُكِرَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَنْ لَكَ بلا إِله إلَّا الله يَومَ القِيامة"؟ قال: قلت: يا رسول الله قالها مخافةَ القتل، فقال: "أَلَا شَقَقتَ عَن قَلبِه حتَّى تَعلَمَ مِن أَجلِ ذلك أَم لا؟ مَن لَك بلا إِله إلَّا اللهُ يَومَ القيامة" فما زال يقول ذلك حتى وددت أني لم أسلم يومئذ. أخرجاه في "الصحيحين" (1).
ولمسلم: كيف تَصْنَعُ بلا إله إلا الله، قال: وأسامة يقول: يا رسول الله استغفرْ لي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزيده على ذلك (2).
وفيها: كانت سرية بَشيرِ بن سَعْدٍ إلى الجِنابِ (3) مِن خيبر ووادي القرى، في ثلاث مئة رجل، وكان قد جمع عُيَيْنَةُ بنُ حصن في ذلك المكان جمعًا كثيرًا، فقدم حُسَيْل بن نُوَيْرةَ الأَشجَعي فأخبر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأَنَّ عُيَيْنَةَ قاصدُهُ، فأرسل إليه بشيرَ بنَ سَعْدٍ فانهزم عيينة، فساق بشير النَّعمَ والشاءَ إلى المدينة وقتل عبدًا لعيينة.
وفيها: كانت عمرة القضاء (4) في ذي القعدة، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لهلال ذي القعدة - وهو المسير الذي صده المشركون فيه - في ألفين، وقادَ مئة فرس، معه السلاح، وساق ستين بَدَنةً، وجعل عليها ناجية بن جُنْدب الأَسلمي، واستخلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري، فلما سمعت به قريش صعدوا إلى الجبال ودخلوا في الشعاب.
__________
(1) أخرجه البخاري (4269)، ومسلم (96)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (21802).
(2) مسلم (97).
(3) "المغازي" 2/ 727، و"الطبقات" 2/ 113، و"تاريخ الطبري" 3/ 23، و"المنتظم" 3/ 303.
(4) "السيرة" 2/ 370، و"المغازي" 2/ 731، و"الطبقات" 2/ 113، و"تاريخ الطبري" 3/ 23، و"دلائل النبوة" 4/ 313، و"المنتظم" 3/ 304، و"البداية والنهاية" 4/ 226.
(4/26)
________________________________________
وقال أنس: لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل مكة استأذن أَهْلَها فأذنوا له، فدخلها من الثَّنِيَّةِ التي تُطْلِعُ على الحَجون، وبين يديه عبد الله بن رواحة آخِذٌ بزمام ناقته يرتجز ويقول: [من الرجز]
خَلُّوا بني الكفارِ عن سبيلهِ
خَلُّوا فكلُّ الخَيْرِ مع رسولهِ
يا ربِّ إني مؤمن بقيلهِ
أَعْرِفُ حقَّ الله في قَبولهِ
نحن ضربناكُم على تَأْويلهِ
كما ضربناكُم على تنزيلهِ
ضربًا يُزيلُ الهامَ عن مَقيلهِ
ويُذْهِلُ الخليل عن خليلهِ
فقال له عمر بن الخطاب: يا ابن رواحة أفي حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَلِّ عنه يا عمرُ، فلَهِيَ أَسْرَعُ فيهم مِن نَضْحِ النَّبلِ" (1).
وقال ابن عباس: اصطف من بقي من الكفار بمكة عند دار الندوة لينظروا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه، فلما دخل المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده الأيمن منه ثم قال: "رَحِمَ اللهُ امرءًا أَراهُم مِن نَفسِهِ قُوَّةً" ثم استلم الركن اليَماني، وخرج يُهَرْوِلُ وأصحابه معه يفعلون ذلك، فهرول ثلاثة أشواط ومشى باقيها، وإنما فعل ذلك لأن المشركين قالوا: قد وَهَنَتْهم حُمّى يثرب، فرمل في الطواف وسعى بين الصفا والمروة فصار ذلك سُنَّةً، ثم فعله في حجة الوداع (2).
وعن ابن عباس قال: قدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد وَهَنَتْهُم حُمَّى يثرب فقال المشركون: إِنَّه يَقْدُمُ اليوم قومٌ قد وَهَنَتْهُم الحمّى ولقوا منها شرًّا، فأَطْلَعَ الله نبيَّهُ على ما قالوا،
__________
(1) أخرجه الترمذي (2847)، وابن حبان في "صحيحه" (5788)، وانظر "السيرة" 2/ 371.
(2) "السيرة" 2/ 371.
(4/27)
________________________________________
فأمرهم أن يَرمُلوا ثلاثةَ أشواط وأن يمشوا بين الرُّكْنين، فلما رَمَلوا قال المشركون: أهؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى وهنتهم، هؤلاءِ أجلدُ منا (1).
وقال ابن الكلبي: خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة ومعه الخيل، واستعمل على الخيل محمد بن مسلمة وعلى السلاح بشير بن سعد، وبلغ قريشًا فخافوا منه، فبعثوا إليه مِكْرزَ بن حفص فلقيه بمَرِّ الظهران، فقال: يا محمد ما عُرِفْتَ صغيرًا وكبيرًا إلا بالوفاء، فما هذا السلاح؟ فقال: ما أَدْخُلُ عليكم به وإنما يكون قريبًا مني، فرجع فأخبرهم فاطمأنوا (2).
وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا حُجَيْنُ، حدَّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراءِ بن عازبٍ قال: اعتمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي القَعْدَة فأبى أهل مكة أن يَدَعُوْهُ يدخل مكة، حتى قاضاهم أن يعود في العام المقبل ويقيمَ بها ثلاثة أيام، وذكر حديث الكتاب وأَنْ لا يدخل مكة من السلاح إلا السيف في القِرابِ ولا يخرج من أهلها أحد إلا من أراد أن يتبعه، فلما دخلها ومضى الأجل أتوا عليًا وقالوا: قل لصاحبك يخرج عنا، فقد مضى الأجل، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
وللبخاري ومسلم زيادة: فتبعتهم ابنةُ حمزةَ تُنادي: يا عمِّ، يا عمِّ، فتناولها عليٌّ فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونَكِ ابنةَ عمك فاحتمليها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أحق بها هي ابنة عمي، وقال جعفر: بنت عمي وخالتُها تحتي، وقال زيد: بنت أخي، فقضى بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: "الخالَةُ بمنْزِلَةِ الأُمِّ" وقال لعلي: "أَنتَ منِّي وأَنا منكَ" وقال لجعفر: "أَشبَهتَ خَلْقِي وَخُلُقِي" وقال لزيد: "أَنتَ أَخُونا ومَولانا" (4).
واختلف العلماء في اسم بنت حمزة: فقيل: أمامة، وقيل: عنزه، وقيل: فاطمة، وخالتُها أسماء بنت عميس.
__________
(1) أخرجه البخاري (1602)، ومسلم (1266)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (2639).
(2) انظر "المغازي" 2/ 734.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (18635).
(4) أخرجه البخاري (2699)، ولم نقف عليه عند مسلم، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (858).
(4/28)
________________________________________
وقال الواقدي: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثلاثًا، فجاءه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش فقالوا: قد انقضى الأجل فاخرج عنا، وكان قد تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية، زَوَّجَها به العباس وهي خالة عبد الله بن عبد العزى (1).
وقال البلاذُري: [وكانت ميمونة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند] أبي سَبرة بن أبي رُهْمٍ وتوفي، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا رافعٍ مولاه ومعه أوس بن خَوْليّ الأنصاري إلى العباس فزوَّجه إياها بمكة، فلما قال له المشركون: اخرج عنا قال: ما ضَرَّكم لو تركتموني فأعرستُ عندكم وصنعتُ لكم طعامًا فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك، ووكَّلوا به جماعةً منهم حُوَيْطب (2).
قال ابن إسحاقَ: فقال لهم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - رضي الله عنه -: البلدُ بلدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلد آبائه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مهلًا يا سعيدُ، أو: مَهْ، وخَلَّف رسولُ الله أبا رافع عند ميمونة، فخرج بها على قلوصٍ، فجعل أهل مكة يُنَفِّرونه ويقولون: لا باركَ اللهُ لك (3).
ولما خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة نادى مناديه: لا يبقى بها أحد من المسلمين. قال هشام: والصَّحيحُ: أن العباسَ زوَّجه بها بموضع يقال له: سَرِف وبنى بها فيه لَمَّا حلَّ من عمرته عند عودته إلى المدينة. وتوفيت بهذا المنزل في سنة إحدى وستين، وسنذكرها هناك إن شاء الله تعالى.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: حدَّثنا عفان بن مسلم، حدَّثنا وهيب، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجَ مَيمونةَ وهو مُحرمٌ. متفق عليه (4).
وعن ابن عباس أيضًا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَزوَّج ميمونةَ وهما مُحرمانِ (5).
__________
(1) "المغازي" 2/ 739.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 534 - 535، وما بين معقوفيق زيادة منه.
(3) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 535.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2273)، والبخاري (1837)، ومسلم (1410).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (2200).
(4/29)
________________________________________
وفيها: كانت سرية ابن أبي العَوْجاءِ إلى بني سُلَيْم في ذي الحجة (1): لما رَجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عُمرَةِ القضاء، فنزل ابن أبي العوجاء بساحة بني سُلَيم في خمسين رجلًا فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة لنا فيه واستمدوا الأَمداد من كل ناحية، فقاتلَ هو وأصحابه قتالًا شديدًا حتى قتل منهم عامتهم، واَرْتُثَّ ابن أبي العوجاء في القتلى فتحامل حتى قدم المدينة.
فصل وفيها توفي
بِشْرُ بن البراء (2)
ابن معرور بن صخر بن خَنْساء الأنصاري، وأمه خُليدةُ بنت قيس أشجعية، وأبوه البراء شهد العقبة ومات بالمدينة في صفر قبل قدومِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها مهاجرًا بِشَهْرٍ، وبِشْرٌ من الطبقة الأولى، شهد العقبة وبدرًا وأحدًا والخندق والحديبية وخيبر وأكل مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من الشاةِ المسمومةِ.
واختلفوا في وفاته: فقيل: إنه لَمَّا أكل من الشاةِ ماتَ مكانه، وقيل: بعد شهر، وقيل: أقام شهورًا إلى آخر السنة.
قال موسى بن عقبة: لما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرني أنه مسموم" قال بشر: والذي أكرمك لقَدْ وَجَدْتُ ذلك في أكلي الذي أكلت، وذكره، وفيه: فلم يَقُمْ بِشْر من مكانه حتى عادَ لَوْنُه مثل الطَّيلَسان وماطَلَهُ وَجَعُه حتى كان لا يتحوَّلُ إلا ما حُوِّلَ، واحتجم يومئذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الكاهل، حجمه أبو هلال مولى بني بياضه بالقَرْنِ والشفرة، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده ثلاث سنين حتى كان مرضه الذي توفي فيه فقال: "ما زَالَت أُكلةُ خَيبرَ تُعاودُني، وهذا أَوانُ قَطْعِ أَبْهَري" (3)
__________
(1) "المغازي" 2/ 741، و"الطبقات" 2/ 115، و"تاريخ الطبري" 3/ 26، و"دلائل النبوة للبيهقي" 4/ 341، و"المنتظم" 3/ 306، و"البداية والنهاية" 4/ 235.
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 528، و"المنتظم" 3/ 306، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 269، و"الإصابة" 1/ 150.
(3) وأخرجه البخاري (4428) من حديث عائشة.
(4/30)
________________________________________
فكان المسلمون يرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدًا مع ما أكرمه الله به من النبوة (1).
والأَبْهَرُ: عِرقٌ في القلب إذا انقطع مات صاحبه.
ولما مرض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَضَ موتهِ دخلت عليه أم بشر تعودُهُ فقال لها ذلك (2).
وكان لبشر ابنة يقال لها: سُلافة، وأمها حُمَيْمَةُ بنتُ صَيْفي من بني سَلِمة، تزوجها [أبو] قتادة بن ربعي بن بَلْدَمة من بني سَلِمةَ، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن (3).
وأُمُّ بِشْرٍ خُليدةُ بنت قَيس بن ثابت بن خالد بن أشجع، أسلمت وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروت عنه.
عن محمود بن لبيد، عن أم بِشْر أنها قالت: يا رسول الله، تَتَعارفُ الموتى؟ فقال: "تَرِبَت يَداكِ، النَّفسُ الطَّيَّبةُ طَيرٌ في الجنَّة، فإنْ كانَ الطَّيرُ يتَعارَفُونَ في رُؤوسِ الشَّجرِ، فإنَّهم يَتعارَفُون" (4).
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت أم بشر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضِه الذي مات فيه وهو محموم فَمَسَّتْهُ، وقالت: ما وجدتُ مِثْلَ وَعْكٍ عَلَيْكَ على أَحَدٍ، فقال: "كما يُضاعَفُ لنا الأَجرُ، كَذلِكَ يُضاعَفُ عَلينا البَلَاءُ" وقال: "ما يَقولُ النَّاسُ"؟ قالت: زعموا أن بك ذات الجَنْبِ، فقال: "ما كانَ اللهُ ليُسَلِّطَها عليَّ، وإنَّما هي هَمزَةٌ من الشَّيْطان، ولكنَّه من الأُكْلَة التي أَكَلتُ أَنا وابنكِ يَومَ خيبرَ، ما زَالَ يُصِيبني منها عِدادٌ، حتى كان هذا أَوانُ انقطاع أبْهَري" (5).
ثُويبةُ مولاة أبي لهب (6)
وهي التي أرضعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلبن ابنها مسروحٍ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَصِلُها
__________
(1) أخرج الخبر عن موسى بن عقبة البيهقي في "الدلائل" 4/ 263 - 264.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (23933).
(3) الصواب أنها ابنة البراء، فهي أخت بشر، انظر "الطبقات" 10/ 373.
(4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 10/ 296.
(5) أخرجه ابن سعد 10/ 297.
(6) "المنتظم" 3/ 307، و"الإصابة" 4/ 257 - 258.
(4/31)
________________________________________
ويحسنُ إليها، واختلفوا في إسلامها، وذكرها أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله من جملة النساء اللاتي لهن صُحْبَة ورُؤيَةٌ (1).
حليمة بنت أَبي ذُؤيب (2) السعدية
التي أرضعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أسلمت هي وزوجُها ودخلت على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فاحترمها وثنى لها وسادة وبسط لها رداءه وقال: "أُمِّي أُمِّي" (3). حدثت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
سعدُ بنُ خَوْلَةَ (4) بن سعيد
حليف بني عامر بن لؤي، وهو من أهل اليمن، أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وهو من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا وأُحُدًا والخندقَ والحديبية.
قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: كنت معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فمرضتُ مرضًا أشْفَيتُ منه على الموت، فعادَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إن لي مالًا كثيرًا وليس يَرِثُني إلا ابنةٌ لي، أَفَأُوْصي بِثُلثَيْ مالي؟ قال: "لا"، قلت: فبالشطر؟ قال: "لا"، قلت: فثلث مالي؟ قال: "الثُّلثُ، والثُّلثُ كَثيرٌ، إنَّكَ يا سَعْدُ، أن تَدَعَ وَرَثَتكَ أَغنِياءَ خَيرٌ لكَ مِن أَن تَدَعَهُم عَالةً يَتكَفَّفُون النَّاسَ، إنَّك يا سَعدُ، لَنْ تُنْفِقَ نَفَقةً تبتَغِي بها وَجهَ اللهِ إلَّا أُجِرْتَ عليها، حتى اللُّقمةَ تَجعَلُها في فِي امرَأتِكَ" قال: قلت: يا رسول الله، أُخَلَّفُ بعد أصحابي؟ قال: "إنَّكَ لنْ تُخَلَّفَ فتَعملَ عَمَلًا تَبتَغي بهِ وَجْهَ الله إلَّا ازْدَدْتَ بهِ دَرَجةً ورِفْعَةً، ولَعلَّك أن تُخلَّفَ حتى يَنفَعَ الله بكَ أَقوامًا ويَضُرَّ بكَ أَقوامًا آخرين، اللَّهمَّ أمضِ لأَصحابي هِجْرَتَهم ولا تَردَّهُم على أعقابِهِم، لكنِ البائِسُ سَعْدُ بن خَوْلَة" يرثي له النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان مات بمكة. أخرجاه في "الصحيحين" (5).
ومعناه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكرهُ لمن هاجر إلى المدينة أن يُقيمَ بعد نُسُكِه بمكَّةَ.
__________
(1) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 237.
(2) "الإصابة" 4/ 274.
(3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 93.
(4) "الطبقات الكبرى" 3/ 378.
(5) أخرجه البخاري (1295)، ومسلم (1628).
(4/32)
________________________________________
وقيل: إن سعد بن خولة إنما دخل مكة لحاجةٍ ويعود فأدركه الموت، وله رؤية وصحبة.
وقيل: هو مولى أبي رُهْم. وقيل: مولى حاطب بن أبي بلتعة.
وقيل: إن امرأته ولدت بعد وفاته بأَربعين يومًا فمرَّ بها أبو السنابل (1) فقال: أراك تتهيّأين للأَزواج، لا، إلَّا بعد أربعة أشهر وعشرٍ، فأخبرتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "انكَحِي مَن شِئْتِ" (2).
الوليد بن الوليد بن المغيرة (3)
أبو الوليد، من الطبقة الثانية من المهاجرين، كان أبوه من المستهزئين برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأمه أميمة بنت الوليد من بَجيلة، خرج مع الكفار يوم بدر وهو على دينهم، فأسره عبد الله بن جحش بن رِئاب، وقيل: سَليطُ بن قيس من الأنصار، فقدم في فدائه أخواه خالد وهشام، وأبى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفعه إلا بشِكَّةِ (4) أبيه، وكانت درعًا فَضفاضةً وسَيْفًا وبَيْضةً، فأبى ذلك خالدٌ وأطاع هشام أخوه لأبيه وأُمه فَفَدَوْهُ بأربعةِ آلاف درهمٍ، وقوَّمُوا الشِّكَّةَ بألف درهم منها، وقيل: بمئة دينار ودفعوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما خرجا إلى ذي الحُلَيْفةِ أفلت منهما إلى المدينة فعادا إليه، وقالا: هلّا كان ذلك قبل أن تَخْرُجَ من أيدينا مأَثَرَةُ أَبينا يعني الشِّكَّةَ؟ فقال: ما كنت لأُسلم حتى أَفْتَدِيَ، لئلا تقول قريش: إنما أسلم فرارًا من الفِداء، فرجعا به إلى مكة وحبساه فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنُتُ ويقول في قنوته: "اللَّهمَّ أنجِ الوَليدَ بن الوَليدِ، وسَلَمةَ بنَ هِشامٍ، وعيَّاشَ بنَ أبي رَبيعةَ" الحديث، وهو في "الصحيح" (5)، ثم إنه أفلت من مكة إلى الساحل فأقام مع أبي بصير يقطع الطريق على قريش، فلما مات أبو بصير قَدِمَ المدينةَ فأقام بها حتى توفي فبكته أم سَلَمة - رضي الله عنها - وقالت: [من مجزوء الكامل]
__________
(1) في النسخ: "أبو السائل" والمثبت من "الطبقات" 10/ 272.
(2) أخرجه البخاري (5318).
(3) "الطبقات" 4/ 123، و"المنتظم" 3/ 309، و"الإصابة" 3/ 639.
(4) الشَّكة: ما يلبس من السلاح.
(5) البخاري (804)، ومسلم (675) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(4/33)
________________________________________
يا عينُ بَكِّي للوليـ ... ــد بن الوليد بن المغيرهْ
كان الوليد بن الوليـ ... ـــد أبو الوليد فتى العشيرهْ
فسمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تَقُولي كَذا، وقُولي {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19] " (1).
وكان قد وُلدَ للوليدِ ولد فسمّاه الوليد، وكُنِّيَ به، فغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمَه وسماه عبدَ الله (2).
ولعبد الله بن الوليد ابن اسمه سلمة، ولسلمة ابن اسمه أيوب ورث دار خالد بن الوليد بالقَعدد.
وقيل: إن الوليد أفلت من الوثاق بمكة فقدم المدينة، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عيّاشٍ وسَلَمة، فقال: تركتهما في ضيق وشدة وهما في وَثاقٍ: رِجْلُ أَحَدِهما مع رِجْلِ صاحبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق حتى تنزل على القَيْنِ فإنه قد أسلم واحْتَل في إخراجهما"، فانطلقَ فأخْرجهما، فقدموا المدينة، وتبعهم خالد ونفَرٌ من قريش إلى عُسفان ثم رجعوا عنهم (3).
وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" له حديثًا، فقال: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حِبان، عن الوليد بن الوليد بن المُغِيرة المخزومي أنه قال: يا رسولَ الله، إني أجد وَحْشَةً، فقال: "إذا أَخَذْتَ مَضجِعَكَ فَقُل: أَعُوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّةِ من غَضَبهِ وشَرِّ عِبادِه، ومِن هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وأَن يَحضُرونِ، فإنَّه لا يَضُرُّكَ وبالحَرَى أَن لا يَقْرَبكَ" (4).
* * *
__________
(1) "الطبقات" 4/ 124 - 125.
(2) "الطبقات" 4/ 125.
(3) "الطبقات" 4/ 124.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (16573).
(4/34)
________________________________________
السنة الثامنة من الهجرة
فيها: قَدِمَ عمرو بن العاص وخالدُ بن الوليد وعثمانُ بن طلحة العَبدري على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في صَفَر إلى المدينةِ مسلمين (1).
قال عمرو: كنت للإسلام مجانِبًا مباعدًا معانِدًا، حضرتُ بدرًا مع الكفار فنجوتُ، وحضرت أحدًا والخندق فنجوتُ، فقلت في نفسي: كم أُوْضِعُ! فوالله لَيَظْهَرَنَّ محمدٌ على قريش، فلحقت بمالي بالوَهْطِ (2)، فلما حَضَرَتِ الحديبيةُ وانصرف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بالصلح، قلت: والله لَيَدْخُلَنَّ محمدٌ مكَّةَ من قابل، ولئن دخلها فليست لنا بمنزل، وكنت أقول: لو أسلمتْ قريشٌ ما أَسْلَمْتُ، فقدمتُ مكَّة فجمعت رجالًا من قريش كانوا يرون برَأْيي ويسمعون مني ويُقَدِّموني فيما نابَهم فقلت لهم: إني لأرى محمدًا يعلو الأمور عُلُوًّا مُنْكرًا، وإنِّي قد رأيت رَأْيًا فما تَروْن فيه؟ قالوا: وما ذاك؟ قلت: نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمدٌ على قومِنا، كنا تحت يد النجاشي أحبَّ إلينا من أن نكون تحت يدِ محمدٍ، وإن ظهر قومُنا، لا يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: هذا الرأي. فجمعنا أَدَمًا كثيرًا هًدِيَّةً وكان يحب الأَدَمَ، فقدمنا عليه فوالله إنّنا لعنْدَهُ إذ قدم عليه عمرو بن أمية الضَّمْري وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه في شأن جعفر وأصحابه وتزويجِ أُمِّ حبيبة، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: لو سألت النجاشيَّ فأعطاني عمرًا فضربت عنقه فترى قريش أنني قد قتلتُ رسولَ محمدٍ، فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبًا بصديقي هل معك هدية؟ قلت: نعم، الأَدَمُ الكثير فقدَّمْتُه إليه، فأعجبه وفرَّق منه شيئًا في بطارقته وأمر بحفظ الباقي، فلما رأيت طيبَ نَفْسِه قلت له: أَيُّها الملكُ، رأيت رجلًا خرج من عندك وهو رسول رجلٍ هو عَدُوُّنا قتل أشرافَنا ووتَرَنا، فادفعه إلي لأقتله. فغضب غضبًا شديدًا ورفع يده فضرب بها أنفي، فظننت أنه قد كُسِرَ، فلو انشقت الأرضُ لدَخَلْتُ فيها فرقًا
__________
(1) "السيرة" 2/ 276، و"المغازي" 2/ 741، و"تاريخ الطبري" 3/ 29، و"المنتظم" 3/ 314، و"البداية والنهاية" 4/ 236.
(2) في النسخ: بالرهط، والوهط: قرية بالطائف كانت لعمرو بن العاص. معجم البلدان 4/ 943.
(4/35)
________________________________________
منه، وسال الدم على ثيابي ووجهي من أنفي، وأصابني من الذل ما لا أقدر أن أصفه، وقال: ويحكَ أعطيك [رسولَ] رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - منْ يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى فتقتله. فقلت: أيها الملك أكذلك هو؟ قال: إيْ والله، وَيْحَكَ يا عَمْرو أطِعني واتَّبعه، فإنَّه والله على الحق وسيظهر على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون. فقلت: أيها الملك لو ظننتُ أنك تكره ذلك ما سألتك، فاستحيا مني، فقلت: أَتُبايعني على الإسلام وقد غيَّر الله ما في نفسي، فبسط يده فبايعتُه، فدعا بطَسْتٍ فغسل الدم عني وكساني غير ثيابي، فخرجت إلى أصحابي وكتمتُ إسلامي وأتيت إلى موضع السفنِ فوجدت سفينةً قد شُحِنَت فركبتُ فيها حتى إذا انتهوا إلى الشُّعَيْبةِ (1) خَرجتُ منها ومعي نفقة، فاَبْتَعْتُ بعيرًا وخرجتُ أريدُ المدينةَ، حتى إذا كنت بالهَدَّةِ إذا برجلين فتأملتهما فإذا خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة فقلت: أين تريدان؟ فقال خالد: نُريد محمدًا فقد دخل الناس في الإسلام فلو أقمنا لأُخِذْنا برِقابنا كما تُؤخذ الضبع برقبتها في مغَارها، فقلت: والله وأنا أريد محمدًا، فسرنا نحو المدينة وإذا بصائح يصيح: يا رباح، فتفاءلنا به، فلما رآنا قال: قد أعطت مكة المقادةَ بعد هذين، فظننتُ أنه يعني خالدًا وإيّايَ، ثم ولى مدبرًا إلى المسجد يُبَشِّرُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بقدومنا وقد أَذَّنَ العصرُ فأنَخْنا ولبسنا صالح ثيابنا ودخلنا المسجد، فلما رآنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تهلَّلَ وجهُه والمسلمون حوله قد سُرُّوا بقدومنا، فتقدم خالد وعُثمانُ فأسلما، ثم تقدمت إليه، فوالله ما هو إلا أن جلستُ بين يديه فلم أستطع أن أرفع طَرْفي إليه حياءً منه، فقلت: أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرْني ما تأَخَّر، فقال: "إنَّ الإسلامَ يَجُبُّ ما قَبلَهُ، والهِجْرَةَ تَجُبُّ ما قَبْلَها" (2).
وفي رواية: فقلت: على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، قال: "نعم".
وأما خالدُ بن الوليد - رضي الله عنه - فقال: لما أراد الله بي من الخير ما أراد قذف في قلبي الإسلامَ وحَضَرَني رُشْدي، وقلت: كنت في هذه المواضعِ كُلِّها على محمد، وليس موطنٌ أحضره إلَّا وأَنْصَرِفُ وأنا أرى في نفسي أنني مُوْضِعٌ في غيرِ شيء، وأَنَّ محمدًا
__________
(1) هو مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز، وكان مرفأ مكة ومرسى سفنها.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (17777)، وانظر "السيرة" 2/ 76 - 278، و"المغازي" 2/ 741 - 745.
(4/36)
________________________________________
سيظهر، ودافَعَتْه قريشٌ يوم الحديبية بالرَّاحِ فقلت: أين المذهبُ؟ أَخْرج إلى هرقل فأدخل في النصرانية وأترك ديني وأقيم مع عجمٍ رومٍ أصير تبعًا لهم وذلك عيب علي؟ ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عامَ عمرة القضاء فتغيَّبْتُ فكتبَ إليّ أخي: لم أر أعجبَ من ذهابِ رأيك عن الإسلام وعَقْلُكَ عَقْلُكَ، ومِثْلُ الإسلام يجهله أحد؟ ! وقد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنك فقلت: يأتي الله به فقال: "ما مثلُ خالدٍ مَن يَجْهَلُ الإسلامَ" فاستَدْرِكْ يا أخي ما فاتك.
فلما جاءني كتابه نشطتُ للخروج وسرَّتني مقالةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجمعتُ الخروجَ إلى المدينة وطلبت مَنْ أُصاحبُ، فلقيمت عثمان بن طلحة فأخبرته بما أريد، فأسرع الإجابة وخرجنا جميعًا فأدلجنا سَحَرًا فلما كنا بالهَدَّةِ إذا بعمرو بن العاص فقال: مرحبًا بالقوم، فقلنا: وبك، فقال: إلى أين؟ قلنا: نريد رسول الله، فقال: وأنا أيضًا أريد ذلك، فقدمنا المدينة في أول يومٍ من صفرٍ سنة ثمان فسلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنُّبوة، فرد بوجه طَلْقٍ فقلت: يا رسول الله، اغفر لي كلَّ ما صنعتُ، فقال: "الإسلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَه". وتقدم عمرو وعُثمان فأسلما، قال خالد: فوالله ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أسلمتُ يَعْدِلُ بي أحدًا من أصحابه (1).
وروى الواقدي (2) عنه قال: أوقع الله الإسلام في قلبي فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية خرجت في خيل المشركين فلقيته بعسفان فقمت بإزائه فصلى بأصحابه الظهر، فَيَمَّمْتُ أن أُغيرَ عليه، ثم لم يصحَّ عزمي وكانت خيرةً، فأطلعه الله على ما في نفسي، فصلى بأصحابه صلاة الخوف، وقت العصر فوقع ذلك مني موقعًا، وقلت: الرجلُ ممنوعٌ منا ومن غيرنا، ثم افترقنا فلما صالحته قريشٌ يومَ الحديبيةِ قلت في نفسي: أين أذهب؟ أذهب إلى النجاشي وهو قد اتبع محمدًا، وأصحابُه آمنون عنده؟ أفأخرج إلى هرقل فأتنصر وأقيم عنده؟ أو أقيمُ بمكة في داري؟ فبينا أنا في ذلك إذ قدم علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في عُمْرَةِ القضاء فتغيَّبْتُ ولم أشهد دُخُولَه، وكان أخي الوليد بن الوليد معه فأرسل إلي أخي ... وذكر بمعنى ما تقدم، فأجمعت الخروجَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 5/ 26 - 27.
(2) في المغازي 2/ 746 - 749.
(4/37)
________________________________________
فلقيت صفوان بن أمية، فقلت: يا أبا وهب ما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن أَكَلَةُ رَأْسٍ، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قَدِمْنا عليه واتبعناه فإن شرفَه شرفُنا. فقال: لو لم يَبْق من قريشٍ غيري ما تبعتُه أبدًا. فافترقنا وقلت: رجلٌ موتورٌ يطلب وِتْرَه، قُتِلَ أبوه وأخوه ببدر وعمُّه بأُحد، فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثلَ ما قلت لصَفْوانَ فردَّ علي كما ذكر صفوان، فقلت: فاطْوِ ما قلتُ لك، فلقيت عُثمانَ بنَ طَلْحَةَ فقلت له: إنما نحن بمنزلةِ ثَعْلَبٍ في جُحْرٍ لو صُبَّ عليه ماءٌ لخَرجَ، فقال: صدقت. واتَّعَدْنا بَطْنَ يَأْجَج فوافَينا، وأدْلَجْنا، فلقينا عمرو بن العاص بالهَدَّةِ فرافقنا إلى المدينة، فلقيني أخي فقال: أَسْرِعْ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في انتظاركم، فدخلنا عليه فأسلمنا.
وقال خليفة بن خياط: كان إسلام خالد بين الحديبية وخيبر (1). وإسلام عمرو بن العاص سنة ست (2). وهو وهم، والأصح أن إسلامهما كان في هذه السنة في صفر.
وفيها: كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوِّح بالكُدَيْد (3)، في ربيع الأول، وكان في بِضْعةَ عَشَرَ رجلًا، فأخذوا الحارث بن مالك بن البَرْصاء فقال لهم: خرجت لأُسلم فقال له غالب: إن كنت خرجتَ لهذا فما يضرُّك رباطُ يوم وليلة، فربطه وسلَّمه إلى رُوَيْجلٍ وقال له: إن نازعك وثاقه فاحتزَّ رأسَه، فلما قدم المدينة أسلم واستاق غالبٌ أموالَهم ونَعمَهم.
وفيها: كانت سرية غالب (4) أيضًا إلى [مُصابِ] أصحاب بشير بن سعد، فساق نعمهم وعاد إلى المدينة في ربيع الأول.
وفيها: كانت سرية كعب بن عمير الغِفاري (5) إلى ذات أطلاح بناحية الشام بعد
__________
(1) "تاريخ خليفة" ص 86.
(2) "تاريخ خليفة" ص 79.
(3) انظر "السيرة" 2/ 609 و"المغازي" 2/ 750، و"الطبقات" 2/ 116، و"تاريخ الطبري" 3/ 27، و"المنتظم" 3/ 314، و"البداية والنهاية" 4/ 222.
(4) انظر "الطبقات" 2/ 117، و"المنتظم" 3/ 315، و"البداية والنهاية" 4/ 221. وما بين معقوفين زيادة من المصادر.
(5) انظر "المغازي" 2/ 752، و"الطبقات" 2/ 119، و"تاريخ الطبري" 3/ 29، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 357، و"المنتظم" 3/ 316، وجاء عند الطبري: عمرو بن كعب بدل كعب بن عمير، وانظر "الإصابة" 3/ 11 - 12.
(4/38)
________________________________________
وادي القرى، وهو مكان كثير الطَّلْح, في خمسة عشر رجلًا، وكانت قضاعةُ بذاتِ أطْلاح في خلق كثير، فقاتلوهم فأصابوا أصحاب كعب وعاد كعب إلى المدينة جريحًا.
وقيل: كان أمير هذه السرية عمرو بن كعب الغِفاري.
وفيها: كانت سرية سعد بن زيد بن مالك بن كعب بن عبد الأشهل (1)، في رمضان إلى مناةَ بالمُشَلَّلِ فهدمها.
وفيها: كانت غزاة مؤتة (2) في جمادى الأولى.
وسببها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رسولًا اسمه الحارث بن عُمَيْرٍ الأَزْدي، وقيل: ابن عمرو الأزدي إلى صاحب بُصرى بكتابٍ، فلما نزل أرْضَ مؤتة وهي أدنى أرض البلقاء إلى الحجازِ عَرَض له شُرَحْبيل بنُ عَمْرو الغساني فقتله، ولم يُقْتَلْ للنبي - صلى الله عليه وسلم - رسولٌ سِواه، وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فنَدَبَ المسلمين للمسير إلى الشام فخرجوا فعسكروا بالجُرْف في ثلاثة آلاف فارس، وأمّر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة، قال: "فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة" وعقد لزيدٍ لواءً أبيضَ ودفعه إليه، وخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُشَيِّعُهم وقال لهم: ائتوا مقتل الحارث بن عُمَيْر فادعوا من هُناكَ إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلَّا قاتلِوهم واستعينوا بالله عليهم، ولم يزل معهم إلى ثَنِيَّةِ الوَداع. وودَّعَ الناسُ بعضُهم بعضًا فبكى عبد الله بن رواحة فقال الناس: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما أبكي على الدنيا ولا صَبابةً بها، ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فقد أخبرني أني وارد ولم يخبرني أني صادر، فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردَّكم إلينا سالمين، فقال: [من البسيط]
لكنني أسألُ الرحمنَ مغفِرةً ... وضربةً ذات فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدا
أو طعنةً بيَدَي حَرَّان مُجْهِزَةً ... بحربةٍ تُنفِذُ الأحشاءَ والكَبِدا
__________
(1) انظر "الطبقات" 2/ 136، و"تاريخ الطبري" 3/ 66، و"المنتظم" 3/ 330.
(2) انظر "السيرة" 2/ 373، و"المغازي" 2/ 755، و"الطبقات" 2/ 119، و"تاريخ الطبري" 3/ 36، و"المنتظم" 3/ 318، و"البداية والنهاية" 4/ 241.
(4/39)
________________________________________
ثم مَضَوْا حتى نزلوا أرض الشام فبلغهم أن هِرَقْلَ قد نزل أرض البلقاءِ في مئة ألف من الروم وانضمت إليه المُسْتَعْرِبةُ من لَخْمٍ وجُذام وبَلْقَيْن وغيرِهم في مئة ألف، فأقاموا ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا: نكتبُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره بعددِ عدونا، قال ابن رواحة: يا قوم والله إن الذي تكرهون لَلَّذي خرجتم له تطلبون الشهادةَ، إنا لا نقاتل الناس بِعُدَّةٍ ولا قُوَّةٍ ولا كَثْرةٍ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانْطَلِقُوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إمّا ظهورٌ وإمّا شهادةٌ، فقال الناس: صدق والله ابنُ رواحة، وساروا حتى نزلوا أرض مَعان، فبلغهم أن هِرَقْلَ قد نزل البلقاء في الروم والقبائل المستعربة، وكان على ميمنة العرب شُرَحْبيلُ بنُ عمرو الغساني وعلى الميسرة مالك بن زافلة والروم في القلب، وساروا حتى بلغوا مَشارف قرية عند مؤتة، وانحاز المسلمون إلى مؤتة وجعلوا على الميمنة قطبَةَ بن قَتادة العُذْرِي وعلى الميسرة عُبادة بن مالك الأنصاري وزيد وجعفر وابن رواحة في القلب.
وفي معان يقول عبد الله بن رواحة: [من الوافر]
أقمنا ليلتينِ على مَعانٍ ... وأعقب بعْدَ فَترتهم جُمُومُ
فَرُحْنا بالجيادِ مسوَّماتٍ ... تنفَّسُ في مناخِرِها السَّمومُ
إلى مأب نسيرُ مَسيرَ عَجْلٍ ... ولو كانت بها عَرَبٌ ورُومُ
فرام الله أعينهم فجاءت ... عوابس والغبار لها يَريمُ
بذي لَجَبٍ كأن البِيْضَ فيه ... إذا جُليت تُماثِلُها النجومُ
وكان زيَد بن أرقم مقيمًا في حجر ابن رواحة، قال زيد: فكنت معه في هذه الغزاة فبينا هو يسير إذ تَمثَّلَ: [من الوافر]
إذا أدنيتني وحملتِ رَحْلي ... مسيرةَ أربعٍ بعد الحِساءِ
فشأنُك فانعمي وخلاكِ ذَمٌّ ... ولا أَرجعْ إلى أهلي ورائي
وعادَ المسلمون وغادَرُوني ... بأرض الشَّام مُشتهي الثَّواءِ (1)
هنالِكَ لا أُبالي هَجْرَ خِلٍّ ... من الخِلّان مُنْقطعِ الإِخاءِ
__________
(1) في النسختين (خ) و (أ): مسهر البرا؟ والمثبت من السيرة 2/ 376، والطبري 3/ 38.
(4/40)
________________________________________
قال زيد: فبكيت وارتفع صوتي فقال: يا لكع أتأنف لي بالشهادة؟ ! وترجع إلى المدينة على ناقتي، وكان كما قال، ثم التقى الفريقان فتقدم زيد بن حارثة فقاتل في نحر العدو قتالًا شديدًا لم يُرَ مثله، فمالوا عليه فاقتَسَمتْهُ الرماح فشاط عليها - أي هلك - فنادى الناس أين جعفرُ؟ فقال: ها أنا ذا وأخذ الراية وتقدم فقاتل قتالًا عظيمًا، فلما أَلحَمَهُ القتالُ اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، وهو أول من عَقَر فرسًا في الإسلام، ثم ارتجز: [من الرجز]
يا حبذا الجنةُ واقترابُها
طيّبةً وباردًا شرابها
والرومُ رومٌ قد دنا عذابها
عَلَيَّ إن لاقيتها ضِرابُها
ولما أخذ جعفرٌ الرايةَ جاءه الشيطان فمنّاهُ الحياةَ وكرَّه إليه الموتَ فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلبي؟ ثم قاتل حتى قتل، فنادى الناس عبدَ الله بنَ رواحة في جانب العسكر ومعه ضِلَعُ جمل يَنْهَشُه ولم يكن ذاق طعامًا قبل ذلك بثلاثة أيام فرمى بالضِّلَعِ ثم قال: وأنتِ مع الدنيا، ثم تقدم فقاتل فأصيبت أُصبعه فجعل يقول: [من الرجز]
هل أنت إلَّا أُصبعٌ دَميتِ
وفي سبيل الله ما لَقِيتِ
يا نفس إلَّا تُقتَلي تموتي
إن تفعلي فِعْلَهما هُديتِ
هذا حياضُ الموتِ قد صَليتِ
وما تَمنيتِ فقد لقيتِ
وإن تأخرتِ فقد شَقيتِ
ثم قال: يا نفس إلى أي شيء تتوقين؟ إلى فلانةٍ فهي طالق ثلاثًا، وإلى فلان وإلى فلان - غِلْمان له - هم أحرار، وإلى معجفٍ - حائطٍ - فهو لله ولرسوله ثم قال:
(4/41)
________________________________________
يا نفسُ مالك تكرهينَ الجنَّهْ
أُقسم بالله لتنزلِنَّةْ
طائِعةً أو لتُكْرَهِنَّهْ
فَطالما قد كنت مطمئنَّهْ
هل أنت إلا نطفةٌ في شَنَّهْ
قد أجْلبَ الناس وشدوا الرَّنَّهْ
ولما قُتِلَ عبد الله بن رواحة صاح ثابتُ بنُ أَقْرم: يا قوم اتفقوا على واحد منكم فقالوا: أنت، فقال: ما أنا بفاعل، فاصطلحوا على خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء.
وقال الهيثم: دفع عبد الله بن رواحة الراية إلى ثابت فدفعها ثابت إلى خالد وقال: أنت أعرفُ مني بالقتال، فقال خالد: لا بل أنت أحق، يعني أن ثابتًا كان قد شهد بدرًا، فقال ثابت: خذها أيها الرجل فوالله ما أخذتُها إلا لك فأخذها وواقع القوم فانحازوا.
وأخرج البخاري عن خالد أنه قال: لقد انقطعت في يدي يوم مُؤتة تسعةُ أسياف فما بقي في يدي إلَّا صفيحةٌ يَمانِيَةٌ (1).
وقال الواقدي: انهزم المسلمون يوم مؤتة أقبح هزيمة، فلما أخذ خالد الراية انهزم الروم أقبح هزيمة.
وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، حدَّثنا الأسود بن شيبان [عن خالد بن سُمَير]، قال: قدم علينا عبد الله بن رَباح فاجتمعَ عليه الناس، فقال: حدَّثنا أبو قَتادة فارسُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَيْشَ الأمراء وقال: "عَليكُم زيدُ بنُ حارِثَةَ، فإنْ أُصيبَ زيدٌ فجعفرٌ، فإنْ أُصيبَ جعفرٌ فعبدُ الله بن
__________
(1) أخرجه البخاري (4265).
(4/42)
________________________________________
رَواحةَ" فوثب جعفر فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما كنت لأرهب أن يستعمل علي زيد، فقال: "امْضُوا، فإنَّكَ لا تَدرِي أيُّ ذلكَ خيرٌ" فانطلق الجيش فلبثوا ما شاء الله، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر وأمر أن ينادى: الصلاةُ جامعة، فاجتمع الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا أُخْبِرُكُم عن جَيشِكُم هذا الغازي؟ إِنَّهُم انْطَلَقُوا حتى لَقُوا العَدُوَّ، فأُصيبَ زيدٌ شَهيدًا فاستَغْفِرُوا له" فاستغفر له الناس، ثم قال: "فأخَذَ اللِّواءَ جعفرٌ، فشدَّ على القَوْمِ حتى قُتِلَ شَهيدًا، فاستَغفِرُوا له، ثم أَخَذ اللِّواءَ عبدُ الله بنُ رَواحَةَ فأَثْبتَ قَدَميهِ حتى قُتلَ شَهيدًا، فاستَغفِرُوا له، ثم أَخَذَ اللِّواءَ خالدُ بنُ الوليدِ" ولم يَكُن مِنَ الأُمَراءِ هو أمَّر نَفسَهُ، ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبعه وقال: "اللَّهمَّ هُو سَيفٌ مِن سُيوفِكَ فانْصُرْهُ" فسُمي خالدٌ يومئذٍ سَيف اللهِ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "انْفِرُوا فأمِدُّوا إِخوانَكُم ولا يتخلَّفَنَّ أَحَدٌ منكُم" فَنَفَر النَّاسُ في حرٍّ شديد مشاة وركبانًا (1).
وعن أبي هريرة قال: رُفِعَت الأرضُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى مصارع القوم فَنَعاهم واحدًا واحدًا، فلما أخذ خالدٌ اللواءَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الآنَ حَمِيَ الوَطيسُ" (2).
وقال ابن إسحاق: قدم جيشُ مؤتةَ إلى المدينة لم يُفْقَد من أعيانهم إلّا الأمراءُ الثلاثةُ ونفرٌ يسير، وخرج الناسُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - معهم، فجعلوا يحثون في وجوههم الترابَ ويقولون: يا فُرَّارُ، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لَيسُوا بفُرَّارٍ، ولكنَّهم الكُرَّارُ إنْ شاءَ الله تعالى" وكان قد حمل عبد الله بن جعفر بين يديه (3).
ذكر من استشهد يوم مؤتة
جابر بن عمرو بن زيد، أبو كلاب (4) النجَّاري، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه شيبة بنت عاصم نجارية.
قال ابن عبد البَرِّ: شهد جابر بدرًا وأحدًا والخندق والعقبة، وجعله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (22551).
(2) انظر "الطبقات" 2/ 120، و"دلائل النبوة" 4/ 369.
(3) "السيرة" 2/ 382.
(4) هكذا جاء في النسخ، والصواب: وأبو كلاب بن عمرو. فهما أخوان، انظر طبقات ابن سعد 4/ 339 - 340.
(4/43)
________________________________________
يوم بدر على الساقة (1).
قال ابن سعد: كان له ثلاثة إخوة صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم: الحارث استشهد يوم اليمامة وقيسٌ قُتِلَ يومَ مُؤتَةَ (2).
جعفر بن أبي طالب، أبو عبد الله - رضي الله عنه -، كان أَسَنَّ من علي كرَّم الله وجهه بعشرِ سنين، أسلم قديمًا قبل دخولِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دارَ الأرقمِ، وكان يسمى: ذا الهِجْرتَيْن، ويكنى أبا المساكين لأنه كان يتلطَّفُ بهم، وكان من المهاجرين الأولين، والمقدَّمَ بالحبشة على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمترجِمَ عنهم عند النجاشي، واختط له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دارًا بالمدينة إلى جانب مسجده، وآخى بينه وبين معاذ بن جبل، وأنكر الواقدي ذلك، لأن المؤاخاة كانت قبل بدر، ثم انقطعت بآيةِ الميراث وجعفر يومئذ بالحبشة (3).
ذِكْرُ مَقْتَلِه:
قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: أَمَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة زيدَ بنَ حارِثةَ، ثم جعفرًا، ثم ابنَ رواحة وكنت معهم في تلك الغزاة، فالتمسنا جعفرًا فوجدناه في القتلى ووجدنا فيما أقبلَ من جسده بضعًا وسبعين ما بين طعنةِ رمح وضربةِ سيف ورمية سهم، ليس في دبره منها شَيْءٌ. أخرجه البخاري (4).
وقال الواقدي: ضربه رومي فقطعه نصفين، فوقعَ أحد نصفيه في كَرْمٍ، فوجدوا في نصفه ثلاثين جراحة (5).
وقال البخاري: كان ابن عمر إذا سلم على عبد الله بن جعفر يقول: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين (6). لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك.
وقال ابن [سعد] رَفَعَهُ إلى أبي عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رأيت أصحاب مؤتة
__________
(1) في الاستيعاب (2099)، وطبقات ابن سعد 3/ 479 أن الذي شهد العقبة وبدرًا وجعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الساقة هو قيس.
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 479، ولم يذكر أن موت قيس كان في مؤتة.
(3) انظر "الطبقات" 4/ 32.
(4) أخرجه البخاري (4261).
(5) "الطبقات" 4/ 35.
(6) أخرجه البخاري (3709).
(4/44)
________________________________________
في الجنة على سرر متقابلين، ورأيت جعفرًا مَلَكًا ذا جناحين مضرَّجًا بالدماء مصبوغَ القَوادِمِ" (1).
وقال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مرَّ بي البارحةَ جعفرٌ في نفر من الملائكة له جناحان مُخضَّبَ القوادم بالدم، يريدون أرض بيشة (2).
قال الشعبي: بيشة من أطيبِ أراضي اليمن وأحسنِها، قريبةٌ من قبر هود - عليه السلام -، يجتمع إليها الشهداء والصائمون.
قال الجوهري: بيشة - بكسر الباء - اسم موضع، قال الشاعر (3):
سقى جَدَثًا أَعراضُ غَمْرةَ دُوْنَه ... وبيشةَ وَسْميُّ الربيع ووابِلُه
وقال عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: جاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت جعفر فوجدهم يبكون عليه فقال: "لا تَبْكُوا على أَخِي، فإنَّه يَطِيرُ في الجنَّة" فحَلَق رُؤُوسَهُم، وقال: "أَمَّا مُحمدٌ: فَشبيهٌ بعَمِّنا أبي طَالِبٍ، وأمَّا عبدُ الله: فَشبيهٌ بخَلْقِي وخُلُقي" ثم صنع لهم طعامًا وجعلهم معه في أهله، وقال: "أنا وَلِيُّهُم في الدُّنيا والآخِرةِ" (4).
وقال الواقدي: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأولاد جعفر وهم ثلاثةٌ: عبدُ الله ومحمدٌ وعونٌ، وأمهم أسماء بنتُ عُمَيْس فشمَّهم ودمعت عيناه وقال لأمهم: "استَوصي بهم خيرًا" ولم تكن علمت، فقالت: وما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: "أصيبَ جَعفرٌ وأَصحابُه في هذا اليَومِ" فأخذت تصيح فقال: "لا تَفعَلي فإنَّه يَطيرُ في الجنَّة بجَناحَينِ" ثم دخل على فاطمة - رضي الله عنها - وهي تبكي وتقول: واعمَّاه، فبكى وقال: "يا بنيةُ، على مثلِ جعفرٍ فلتَبكِ البَواكي" (5).
__________
(1) "الطبقات" 2/ 120 - 121 ضمن حديث طويل.
(2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 4/ 36 دون ذكر بيشة، من حديث عبد الله بن المختار.
(3) هو الشمردل بن شريك اليربوعي، والبيت في "الصحاح" (بيش)، وفي "الوافي بالوفيات" 16/ 106.
(4) الطبقات 4/ 34.
(5) "المغازي" 2/ 766.
(4/45)
________________________________________
وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" عن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما - بمعناه، وذكر له في أوله: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا واستعمل عليهم زيد بن حارثة، ثم جعفرًا، ثم ابن رواحة، وذكر فيه: ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليهم، وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعِدَ المنبر وأخبر بمصارع القوم، ثم أمهل ثلاثًا، ثم أتى آل جعفر فقال: "لا تَبْكُوا على أَخِي بعدَ اليوم، ادْعُوا لي بَني أَخِي" فجيء بنا كأننا أَفراخٌ فدعا بالحلَّاقِ فحلَقَ رؤوسنا ثم قال: "أَمَّا محمدٌ فَشبيهٌ بعمِّنا أبي طالبٍ، وأمَّا عبدُ اللهِ فَشَبيهٌ بخَلْقي وخُلُقي" ثم أخذ بيدي فأشالها وقال: "اللهمَّ اخْلُفْ جَعفَرًا في أَهلِه، وبارِك لِعَبدِ اللهِ في صَفَقةِ يمنيه - قالها ثلاثًا -" فجاءت أُمُّنا فذكَرَتْ يُتْمنا فقال: "العيلةَ تخافين [عليهم] وأَنا وليُّهمُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ" (1).
وفي "المسند" أيضًا عن عبد الله بن جعفر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اصْنَعُوا لآلِ جَعفرٍ طَعَامًا، فَقد جاءَهُم ما يَشغَلُهُم، أو أَمرٌ يَشْغَلُهُم" (2).
وقال هشام: حضرت أَسْماءُ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "وعَليكُمُ السَّلامُ" فقالت له: يا رسول الله، على من تَرُدُّ السلامَ؟ فقال: "هذا جَعفرٌ في كَبْكَبةٍ مِنَ الملائِكَةِ يُسَلِّمونَ عليَّ، وقد عوَّضه الله بجَناحَينِ" وفي رواية: "أَخَذَ اللِّواء بيدِه اليُمنى فقُطِعَتْ، ثم باليسرى فقطعت، فَعُوِّض بالجناحين فلذلك سُمِّي الطَّيار بجَناحَيهِ حيث شاء" (3).
وقال سعيد بن المسيب في مراسيله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مُثِّلوا لي في الجنةِ في خيمةٍ مِن دُرَّةٍ، كلُّ واحدٍ على سرير من ذَهَب، ورأيتُ في عنقِ زيدٍ وابنِ رَواحةَ صُدودًا، وأمَّا عُنُق جَعفَرٍ فَمُستَقيمٌ ليس فيه صُدودٌ، قال: فقيلَ لي: إنَّهما لما غَشِيَهما الموتُ كأنَّهما صَدَّا بوَجهَيهِما، أما جَعْفَرُ فإنَّه لم يَفْعَلْ" (4). والصدود: الإعراض.
وحكى شيخنا موفق الدين رحمه الله عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: وجدنا ما بين صَدْرِ
__________
(1) أخرجه أحمد في "المسند" (1750).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (1751).
(3) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6936)، والحاكم 3/ 232 من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -.
(4) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9562).
(4/46)
________________________________________
جَعْفَر ومنكبيه وما أقبل منه تسعينَ جراحة ما بين ضربة وطعنة ورمية (1).
قال الشيخ موفق الدين أيضًا: ولما جاء رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَعْيُ جعفر وأصحابِه بكى وقال: "أَخَوَايَ ومُؤْنِسَايَ ومُحَدِّثَايَ" يعني جعفرًا وزيدًا (2).
وكان سِنُّه يوم قتل سبعًا وثلاثين سنة، لأنه كان أسن من علي - عليه السلام - بعشر سنين، وقيل: كان له خمس وعشرون سنة، وقيل: ثلاثون سنة، وقيل: إحدى وأربعون سنة، والأول أقرب للصواب.
ذكر أولاده:
وهم: محمد، وعبد الله، وعون.
فأما محمد فكان صغيرًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنيته أبو القاسم، تزوج أم كلثوم بنت عمه علي بعد موت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
واختلفوا في وفاته:
فذكر الأموي في "مغازيه" أنه كان مع محمد بن أبي بكر حين بعثه علي - رضي الله عنه - واليًا على مصر، فلما قتل محمد بن أبي بكر هرب محمد بن جعفر إلى فلسطين، فاستجار بأخواله من خثعم فأجاروه، فطلبه معاوية منهم وقال للذي هو عنده: ادفعه إلينا، فقال: والله لا أدفعه إليك أبدًا، فقال: إنك لأَوْرَه، أي أحمق، فقال له الرجل: إني والله لأَوْرَه حين أقاتِلُ عن ابن عمك وأُقَدِّمُ ابن أختي حتى تَقْتُلَهُ، فأعرضَ عنه، فلم يزل عنده حتى مات (3).
وقال الهيثم: استشهد بِتُسْتَر.
وذكر أبو الفرج الأنصاري: أنه قتل يوم صفين، برز له عبيد الله بن عمر بن الخطاب فاعتنقا ووقعا عن فرسيهما ميتين. وليس هذا القول بشيء.
__________
(1) التبيين 114، وأخرجه الطبراني في "الكبير" (1464).
(2) التبيين 115، وانظر "الاستيعاب" 1/ 548 بهامش الإصابة.
(3) التبيين 119 - 120.
(4/47)
________________________________________
وكان لمحمد ولد اسمه: القاسم، تزوج أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر، وأُمهما زينبُ بنت علي - عليها السلام -، وأم زينب فاطمة - عليها السلام -، فولدت له طلحة وفاطمة، فتزوج فاطمة بنت القاسم حمزة بن عبد الله بن الزبير.
وأما عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما - فسنذكره إن شاء الله تعالى في سنة ثمانين.
وأما عون بن جعفر فكان غلامًا على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الهيثم: ادعى رجل اسمه المساور أنه ابن عون فأَقَرَّ به عبدُ الله بن جعفر وأعطاه عشرة آلاف درهم وزوجه ابنةً له كانت عمياء، فلما مات عبد الله نفاه أولاده، وليس لعون عَقِبٌ (1).
أسند جعفر - رضي الله عنه - الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه ابنه عبد الله، وأبو موسى الأشعري، وابن عمر، وعمرو بن العاص، وابن مسعود، وعائشة، وأم سلمة وغيرُهم - رضي الله عنهم -.
* * *
حُنَيف بن رِئاب [بن الحارث] بن أمية من بني عمرو بن عوف، من الطبقة الثانية من الأنصار، شهد أحدًا والمشاهدَ كُلَّها معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، واَستُشْهِدَ يومَ مؤتة، وكان له ولد يقال له: رِئاب، شهد الحديبية وبايع تحتَ الشجرةِ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقُتِل يوم اليمامة شهيدًا (2).
زيد بن حارثة بن شَراحيل بن عبد العزى بن امرئ القَيْس بن عامر، أبو أسامة الكَلْبي، مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ويقال له: زيد بن محمد، وزيد الحِبِّ، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأمه سُعْدى بنت ثعلبة بن عبد عامر من طيئ، زارت قومها ومعها زيد وهو غلامٌ يَفَعةٌ فأغارت عليهم خيل لبني القَيْن بن قُضاعة فاحتملوا زيدًا فوافوا به سوقَ عكاظ فباعوه، فاشتراه حَكيم بن حِزام بن خويلد لعمته خديجةَ بنت خويلد رضوان الله عليها بأربع مئة درهم، وقيل: ست مئة، فلما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة رضوان الله عليها وهبته له فتبناه.
__________
(1) المعارف 206، والتبيين 120.
(2) تاريخ دمشق 5/ 372 (مخطوط)، وما بين معكوفين منه.
(4/48)
________________________________________
ويقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشتراه لما خرج إلى الشام في تجارة لخديجة، وهو وهم.
وقال ابن عبد البَرِّ: تبناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة بثمانِ سنين (1)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكبر منه بعشر سنين.
ولما اشتد حزن أبيه عليه حين فقده أقام مدة يَنْشُده ويبكي وقال الشعر، فمن قوله (2): [من الطويل]
بَكيتُ على زيدٍ ولم أَدرِ ما فَعَل ... أَحَيٌّ فَيُرجى أَم أتى دونَه الأَجَلْ
فَوَالله ما أدرِي وإن كنْتُ سائِلًا ... أَغالَكَ سهلُ الأَرْضِ أم غَالك الجبلْ
أَلا لَيتَ شِعري هل لك الدَّهْرَ رجعةٌ ... فَحَسبي من الدُّنيا رجوعُكَ لي بَجَلْ
تُذكِّرُنيهِ الشَّمسُ عند طُلوعِهِا ... وتَعْرِض ذِكراه إذا قارَبَ الطَّفَلْ
وإن هبَّتِ الأرواحُ هيَّجْنَ ذِكْرَهُ ... فيا طول ما حزني عليه ويا وَجَلْ
سأُعْمِلُ نَصَّ العِيسِ في الأرض جاهِدًا ... ولا أَسْأَمُ التَّطوافَ أو تسأمَ الإبِلْ
حياتيَ أو تأتي عليّ مَنِيَّتي ... وكلُّ امرئ فانٍ وإن غَرَّهُ الأَمَلْ
وأُوصي به كعبًا وعَمْرًا كِلَيْهِما ... وأُوصي يزيدًا ثم من بعدهِ جَبَلْ
أراد كعب بن شراحيل أخا حارثة، وأما عمرو فهو ابن عم حارثة وهو عمرو بن الحارث بن عبد العزى، وكنيته أبو بشر، وهو جد محمد بن السائب الكلبي، وأما يزيد فهو أخو زيد بن حارثة لأمه وأبيه، وهو يزيد بن كعب بن شراحيل، وأما جبل: أراد جبلة، وهو أخو زيد لأمه وأبيه.
وذكر بعض النساب، أن حارثة تزوج امرأة من طيئ وقيل: من بني نَبْهان، فأولدها جبلة وأسماء وأسامة وزيدًا ثم توفيت أمهم وبقوا عند جدهم لأمهم، وأراد حارثة حَمْلَهم إلى أهله فأبى جدهم وقال: عندي أرفق لهم، ثم تراضوا على أن يَحملَ جبلةَ وأسماء وأسامة ويبقى زيد عنده، فجاءت خيل من تِهامةَ من فَزارة فأغارت على طيئ فسبت زيدًا فوافت به سوق عكاظ، فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث، فقال لخديجة: "رأيت في السوق غلامًا من صفته كذا وكذا" يصف عقله وأدبه، فأمرت خديجة ورقة
__________
(1) في "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 1/ 545: فتبناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين.
(2) الأبيات في "الطبقات" 3/ 39.
(4/49)
________________________________________
ابن نوفل فاشتراه من مالها، فوهبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتبنّاه إلى أن جاء رجل من كَلْب فنظر إلى زيد فعرفه فقال: أنت زيد بن حارثة؟ فقال: بل أنا زيد بن محمد، فقال: إن أباك وعمومتَك وإخوتَك قد أتعبوا الأبدان وأنفقوا الأموال بسببك (1).
وقيل: حجَّ قومٌ من كلب فرأَوْه بمكة فعرفهم وعرفوه، فقال: هل فيكم من يبلغُ أهلي هذه الأبيات: [من الطويل]
ألِكْني إلى قومي وإن كنت نائيًا ... بأني قطينُ البيتِ عند المَشاعرِ
فكُفُّوا عن الوَجْدِ الذي قد شَجاكمُ ... ولا تُعْمِلوا في الأرض نَصَّ الأَباعرِ
فإني بحمد الله في خَيْرِ أُسْرَةٍ ... كرامِ مَعَدٍّ كابرًا بَعْدَ كابرِ
فقالوا: نعم، وانطلقوا فأخْبَروا أهلَه، فخرج أبوه حارثة وكعب ابنا شراحيل فقَدِما مكَّةَ، فسألا عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: هو في المسجد، فدخلا فإذا هو في الحِجْرِ قاعدٌ فسلما عليه وقالا: يا ابنَ عبدِ المطلب، يا ابن سيَّدِ قومه أنتم أهلُ الله وجيرانُه وسكانُ حَرَمِه تفكُّون العاني وتطعمون الجائع وتكسونَ العاري وتحملون المنقطع، فقال: "ما الذي بكما"؟ قالا: جئناك في فداء زيدٍ ابننا فامنن علينا أَو أَحسن في فدائه إِلينا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهلَّا غَيرَ ذلك"؟ قالا: وما هو؟ قال: خيراهُ، فإنِ اختارَكُما، فهوَ لكُما بغيرِ فِداءٍ، وإنِ اختارَني، فما أنا بالذي أخْتارُ على مَنْ يَختارُني أَحدًا" فقالا: أحسنت والله لقد زِدْتَ على النِّصَفِ، فدعاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "يا زَيْدُ، أتَعْرِفُ هذين"؟ قال: نعم، هذا أبي وعمي، فقال: "أنا مَنْ قد عَلِمْتَ ورأيت صُحبَتي، فاخْتَرني أو اخْتَرْهُما" فقال: ما أنا بالذي أختارُ عليك أحدًا، أنت مني بمنزلة الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيدُ، أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأَهْلِكَ؟ قال: نعم، إني قد رأيت من هذا الرجل أشياءَ ما أنا بمفارقه ولا أختار عليه أحدًا أبدًا. فلما قال ذلك قام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحِجْرِ وفيه أعيانُ قريش فقال: "يا مَن حَضَرَ مِنَ المَلأ، اشهَدُوا أَنَّ زَيدًا ابني، أَرِثُه ويَرِثُني" فلما سمع ذلك أبوه وعمه طابت نفوسُهما وانصرفا شاكِرَيْن، فدعي من ذلك اليوم زيد بن محمد زمانًا حتى جاء الإسلام (2).
__________
(1) انظر "تاريخ ابن عساكر" 10/ 137.
(2) "الطبقات" 3/ 39 - 41.
(4/50)
________________________________________
وزوجه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش وطلَّقها وتزوجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المنافقون: تزوجَ محمد زوجة ابنه فنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40] الآية، ونزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] فدعي يومئذٍ زيد بن حارثة. ونُسب كل من تبنَّاه إلى أَبيه (1).
وقال أسامة بن زيد: كان بين رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وبين زيدٍ عشرُ سنين، رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أكبر منه، وكان رجلًا قصيرًا آدم شديد الأُدْمَةِ في أنفه فَطَس (2).
قال المصنف رحمه الله: قوله: "كان آدم شديد الأُدْمَةِ" وَهْمٌ ولين، ففي حديث محرز المدلجي لما رأى أقدام زيد وأسامة، قال الدارقطني: وكان زيد أبيضَ أَحمرَ أشقرَ، وأسامة أسود (3).
وكُنْيَتُهُ أبو أسامة، وهو أول من أسلم من الموالي، شهد بدرًا وأحدًا والخندق والحديبية، واستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة لما خرج إلى المرَيْسيع، وأمَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبع أو تسع سرايا وكان من الرماة المذكورين.
وقالت عائشة رضوان الله عليها: لو عاش زيد لاستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأمة (4).
وقال ابن عباس: لم يسم أحد من الصّحابة باسمه في القرآن إلّا زيد {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب: 37].
وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عمه حمزة فأوصى حمزة - رضي الله عنه - إليه.
وقال أسامة بن زيد - رضي الله عنه -: اجتمع جعفر وعلي وزيد بن حارثة فقال جعفر: أنا أَحَبُّكُم إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال عليٌّ كذلك، وقال زيد كذلك، فقالوا: انطلقوا بنا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - نسأَلْهُ، فقال أسامة: فجاؤوا فاستأذنوا عليه فقال: "اخْرُج فانظُرْ مَنْ
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 3/ 41، وفيه: ودُعي الأدعياء إلى آبائهم.
(2) "الطبقات" 3/ 42.
(3) "سنن الدارقطني" (130).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (26410).
(4/51)
________________________________________
هَؤُلاءِ"؟ فخرجت فقلت: هذا جعفر وعلي يزيد ولم أقل: أبي، فقال: "إئْذَن لَهُم" فدخلوا فقالوا: يا رسولَ الله، من أَحبُّ النَّاس إليكَ؟ قال: "فاطمة"، قالوا: نسألُك عن الرجالِ؟ فقال: "أَمَّا أنتَ يا جعفرُ، فأشبَهَ خُلُقُكَ خُلُقي، وأَنتَ مني وشَجَرتي، وأمَّا أَنت يا عليُّ، فَخَتَني وأبو ولديَّ، وأَنا منكَ وأَنتَ منِّي، وأَمَّا أنتَ يا زيدُ، فَمولايَ ومنِّي وأَحبُّ القوم إليَّ" أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه في مسند أُسامةَ - رضي الله عنه - (1).
وقالت عائشة رضوان الله علها: ما رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عُرْيانًا قط إلَّا مرَّةً واحدةً؛ جاء زيدُ بنُ حارِثَة من غَزاةٍ فاستفتح فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوتَه فقام عُرْيانًا يجر ثوبَه فاعتنقه وقَبَّله (2).
وعن الهيثم وابن عبد البَرَّ عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: حدثني أبي قال: اكتريتُ دابَّةً من الطائف إلى مكة فمال بي الكاري إلى خَرِبة فقال: انزل فنزلت فإذا هي مملوءة قتلى، فأراد أن يقتلني فقلت: دعني أُصَلِّي ركعتين فقال: صَلِّ فقد صَلَّى هؤلاء قبلك فما نفعهم صلاتُهم، قال: فصلَّيْتُ ركعتين وأتاني ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين، فسمع صوتًا يقول: لا تَقْتُله، فخرج يطلب الصوتَ وهابه وعاد ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين فسمع صوتًا يقول: لا تقتله، فخرج يطلب الصوت وعاد ثالثًا، فبينا أنا كذلك إذا بفارس قد أقبل وبيده حربة فيها شعلة نار فطعنه بالحربة فقتله، فقلت: من أنت؟ فقال: ملك لما دعوت في المرة الأولى، كنت في السماء السابعة، فلما دعوت الثانية كنت في السماء الرابعة، فلما دعوت الثالثة كنت في السماء الدنيا، فقيل لي: أدركه، فأتيتك (3).
وقال أبو قتادة فارسُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما أصيب زيد بن حارثة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهله فَجَهَشَتْ إليه ابنة زيد، فبكى حتى انتحب فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: "شَوقُ الحَبيبِ إلى حَبيبِهِ" (4).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (21777).
(2) أخرجه الترمذي (2732).
(3) "الاستيعاب" (بهامش الإصابة) 1/ 548 - 549.
(4) "الطبقات" 3/ 44.
(4/52)
________________________________________
وقال علي - عليه السلام -: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيتُ جَعفَرًا يَطِيرُ في الجنَّةِ تَدمى قادِمَتَاه، ورَأَيتُ زَيدَ بنَ حارِثَةَ دُونَ جَعفَر، فقلتُ: ما أَظُنُّ زَيدًا دونَ جَعفر، فقال لي جِبريلُ: لَيسَ زيدٌ بدُونِ جَعفَرٍ، وإنَّما فضَّلْنا جَعفَرًا لقَرابَتهِ مِنكَ" (1).
استشهد زيدٌ وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقيل: ابن ثلاث وخَمْسين سنة.
ذكر أولاده
كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد زَوَّجَ مولاتَه وحاضِنَتَهُ زيدَ بن حارثة فولدت له أسامة وكان زيد يكنى به، وكانت تزوجت في الجاهلية قَبْلَ زيدٍ عبيدَ بنَ عمر (2) بن بلال الخزرجي، فولدت له أيمن فكنيت به، استشهد أيمن يوم خيبر.
وقال محمد بن السائب: قدِمَتْ أم كلثوم بنت عقبة - وأمها أروى بنت كُرَيْز وأم أروى أمُّ حكيمٍ البيضاءُ بنت عبد المطلب - مهاجرةً إلى المدينة، فخطبها جماعة منهم: زيد بن حارثة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، فاستشارت أخاها لأمها عثمانَ رضوان الله عليه فقال: استشيري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشارته فأشار عليها بزيد، فتزوجته فولدت له زيد بن زيد، مات وهو صغير، ورُقيَّةَ ماتت في حِجْر عُثمان - رضي الله عنه -، وطلَّقَ زيد أُمَّ كُلثوم فتزوَّجَها عبدُ الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ثم عمرو بن العاص، ولما طلَّق زيدٌ أم كلثوم تزوج دُرَّة بنتَ أبي لهب، ثم طلَّقها وتزوج هند بنت العوام (3).
وأخرج الإمام أحمد رحمه الله في "المسند" لزيد حديثًا واحدًا عن أسامة بن زيد، عن أبيه زيد بن حارثة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ جبريلَ أَتاه في أَوَّلِ ما أُوحِيَ إليهِ فَعَلَّمهُ الوُضُوءَ والصَّلاةَ، فلمَّا فَرَغَ مِنَ الوُضُوءِ أَخَذَ غَرْفَةً مِنَ الماءِ فَنَضَح بها فَرْجَه" (4).
* * *
__________
(1) "الطبقات" 4/ 35.
(2) في "الطبقات" 10/ 212: عبيد بن زيد.
(3) "الطبقات" 3/ 43.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (17480).
(4/53)
________________________________________
سراقة بن عمرو بن عطية، وأمه عُتَيْلَة (1) بنت قيس نجارية، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، أبلى يوم مؤتة بلاء حسنًا وليس له عَقِب.
عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الأنصاري الخزرجي، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه كبشة بنت واقد، وكنيته أبو رواحة، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو عمرو، وهو أحد النقباء الاثني عشر، شهد العقبة مع السبعين، وبدرًا وأُحُدًا والخندق والحديبية وعُمْرةَ القضاء وخيبر، واستخلفه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في غزاة بدر الموعد، وبعثه بشيرًا إلى أهل العالية بغزاة بدر، وأرسله إلى أُسير بن رِزام اليهودي فقتله بخيبر، وظلَّ يَخْرُصُ كلَّ عامٍ نخل خَيْبَرَ إلى أن استُشْهِدَ.
وقال موسى بن عقبة: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر يَخْرُصُ نَخْلهم ويقاسِمُهم، جعلوا يُهدون له من الطَّعامِ وجمعوا من حُلِيِّ نسائهم وقالوا: هذا لك وخفِّفْ عنا وتهاونْ في القَسم. فقال: يا معاشر يهود، والله إنكم لَمِنْ أبغض خلق اللهِ إليَّ، وإنما بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَدْلًا بينه وبينكم، فلا إِرْبَ لي في دنياكم ولن أحيفَ عليكم، وإنما عرضتم علي السُّحْتَ وأَنا لا آكله، فلما أقام الخَرْصَ خيَّرَهم فقال: إن شئتم ضمنت لكم نصيبكم وإن شئتم ضمنتم لنا وقمتم عليه، فاختاروا أن يَضْمَنوا ويُقيموا عليه. وقالوا: يا ابن رواحة هذا الذي تعملون، به تقومُ السماء والأرض، وإنما يقومان بالحق.
وقال أبو الدرداء: لقد رأيتُنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره في اليوم الشديد الحر، [حتى] إنَّ الرجلَ ليضَعُ يَدَهُ على رأسه من شدة الحر وما في القوم صائمٌ إلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وعبدُ الله بن رواحة (2).
وقال النعمان بن بشير: أغمي على خالي عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تبكي وتقول: واجَبَلاه وارُكْناه، وتُعَدِّد عليه، فلما أفاق قال: ما قلتِ شيئًا إلا وقيل لي: أنت كذلك؟ (3).
__________
(1) في النسخ: عقيلة، والمثبت من طبقات ابن سعد 3/ 480.
(2) أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122) (109).
(3) أخرجه البخاري (4267).
(4/54)
________________________________________
ومدح عبدُ الله بن رواحة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا، وكان شاعرًا فصيحًا، واستنشده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنشد: [من البسيط]
يا هاشم الخَيْرِ إن الله فضلكم ... على البرية فضلًا ماله غِيَرُ
إني تَفَرَّسْتُ فيك الخيرَ أعرِفُه ... والله يعلم أَنْ ما خانني البصرُ
أَنتَ النبيُّ ومن يُحْرَمْ شفاعته ... يَومَ الحسابِ فقد أَوْدى به القدرُ
فَثبَّتَ الله ما آتاكَ من حَسَنٍ ... تَثبيتَ موسى ونصرًا كالذي نُصِرُوا
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأَنتَ يا عبدَ اللهِ فثبَّتَكَ اللهُ أَحسَنَ الثَّباتِ" (1).
وقال قيس بن أبي حازم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن رواحة: "انزل، فَحرِّك بنا الرِّكابَ" فقال: يا رسول الله قد تركتُ قولي، فقال له عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: اسمع وأَطِع، فنزل وجعل يقول:
يا رب لولا أنت ما اهتدينا ...... الأبيات
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهمَّ ارحَمهُ" فقال عمر: وجبت (2).
ومعنى قوله: "تركت قولي" لما نزل قوله تعالى {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)} [الشعراء: 224] قال ابن رواحة: هل ترى أنا منهم وترك الشعر، فنزل قوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227] الآية (3).
وقد رثاه ورثى أصحابه - رضي الله عنهم - حسان بن ثابت فقال: [من الطويل]
تأَوَّبَني ليلٌ بِيَثْرِبَ أَعْسَرُ ... وهمٌّ إذا ما نَوَّمَ القومُ مُسْهِرُ
لذكرى حبيب هيجت ليَ عَبْرةً ... سَفوحًا وأَسباب البكاءِ التذكُّرُ
بلى إن فِقْدانَ الحبيبِ بَليَّةٌ ... وكَمْ من كريمٍ يُبْتلى ثم يَصْبِرُ
رأيتُ خِيار المؤمنين تتابعوا ... بمُؤتَةَ منهم ذو الجناحَينِ جَعفرُ
وزيدٌ وعبدُ الله اِبنُ رواحة ... تداعوا وأسباب المنيَّةِ تخطرُ
__________
(1) انظر "الطبقات" 3/ 489، و"تاريخ دمشق" 2/ 6، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 234.
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 488.
(3) "الطبقات الكبرى" 3/ 489.
(4/55)
________________________________________
غَداةَ [مضوا] بالمؤمنين يقودُهم ... إلى الموت مَيْمونُ النقيبةِ أَزْهَرُ
أَغَرُّ كضَوْءِ البدر من آل هاشمٍ ... أَبيٌّ شريف القدر يَقْظانُ أَحْورُ (1)
وليس لابن رواحة عَقِبٌ، وقد روى الحديث فأخرج له البخاري حديثًا موقوفًا (2).
وعن عبد الله بن رواحة أنه قدم من سفرٍ ليلًا فتعجل إلى امرأته، فإذا في بيته مصباح، وإذا مع امرأته صبي، فأخذ السيف فقالت امرأته: إليك عني فهذه فلانةُ تُمشطني، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فنهى أن يطرق الرجل أهله ليلًا (3).
وعن عكرمة مولى ابن عباس: أن عبد الله بن رواحة كان مضطجعًا إلى جنب امرأته، فقام وخرج إلى الحُجْرة فواقع جارية له، وانتبهت امرأتُه فلم تره، فخرجت فإذا هو على بطن الجارية، فرجعت وأخذت شَفْرةً وخرجت فلقيها فقال: مهيم؟ فقالت: أما إني لو وجدتُكَ حيث كُنْتَ لَوَجَأْتُك بها فقال: وأين كنتُ؟ فقالت: على بطن الجارية فقال: ما كنت، قالت: بلى، قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقرأ القرآن وهو جُنبٌ، فقالت: فاقرأ فقال: [من الطويل]
أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الصبح طالع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أَنَّ ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجعُ
فقالت المرأة: آمنت بالله ورسوله وكذبت بصري، قال: فغدوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته فضحك حتى بدت نواجذه (4).
قال الإمام أحمد رضوان الله عليه: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الحجاج، عن الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله بنَ رواحة في سَرِيَّةٍ فوافق ذلك يومَ الجمعة فقدَّمَ أصحابه وقال: أَتَخَلَّفُ فأصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجُمُعَة ثم ألحقهم،
__________
(1) الأبيات في السيرة 2/ 384 وما بين معكوفين منها.
(2) هو حديث الإغماء المتقدم عند المصنف، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (3020)، وجاء في النسخ بعد قوله: موقوفًا: "رفعه"، ولم يتضح لنا المراد منه، فأثبتناه هكذا.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (15736).
(4) أخرجه الدارقطني في "السنن" 1/ 120، وانظر سير أعلام النبلاء 1/ 138.
(4/56)
________________________________________
فلما صلى رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "لو أَنْفَقْتَ ما في الأَرضِ ما أَدرَكْتَهُم" (1).
عبد الله بن الربيع بن قيس بن عامر الخزرجي، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه فاطمة بنت عمرو نجارية، شهد العقبة وبدرًا واستشهد بمؤتة.
عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، من الطبقة الأولى من المهاجرين وأمه صفية بنت المغيرة مخزومية، وكان اسمه الحكم فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله.
عَبَّاد بن قيس بن عَبَسة، وقيل: عُبادة بن قيس بن أمية، من الطبقة الأولى من الخزرج شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
عبيد بن المُعلَّى بن لَوْذان الزُّرَقي، وأمه إِدامُ بنتُ عَوْفٍ نجارية، وهو من الطبقة الثانية من الأنصار.
قيس بن عمرو بن زيد (2) بن مَبْذول، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه شَيْبَةُ بنتُ عاصم، شهِد المشاهد كُلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقُتِلَ معه يوم مؤتة أخوه لأبيه وأُمِّه: جابرٌ.
مسعود بن سُوَيد بن حارثة، من بني عدي بن كعب، من الطبقة الأولى من المهاجرين.
وهب بن سعد بن أبي سَرْح بن الحارث بن حبيب بن جَذيمة بن مالك بن حِسْلٍ بن عامر بن لؤي، وأمه مُهانَةُ بنت جابر من الأشْعريين، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا في قول أكثرهم، وشهد أحدًا والخندق والحديبية وخيبر، ولما هاجر إلى المدينة نزل على كلثوم، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سويد، فقتلا جميعًا يوم مؤتة شهيدين، ووهبٌ ابنُ أربعين سنةً (3).
* * *
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (1966).
(2) وهو قيس بن أبي صعصعة.
(3) انظر التراجم السالفة في طبقات ابن سعد (على الترتيب) 3/ 499، 5/ 12، 3/ 494، 4/ 404، 3/ 479، 4/ 131، 3/ 377.
(4/57)
________________________________________
وفيها: كانت سرية عمرو بن العاص إلى ذات السَّلاسِل (1)، وهي وراء ذات القُرى، وبينها وبين المدينة عشر ليالٍ في جمادى الأولى، وقيل: كانت قبل غزاة مؤتة.
قال أبو محمد ابن حزم: بلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن جَمْعًا من قُضاعةَ قد جمعوا للغارة على المدينة، فعقد لعمرٍو لواءً أبيضَ ورايةً سوداءَ، وبعث معه ثلاث مئة من المهاجرين والأنصار، فبلغه أن القوم في جمع عظيم، فبعث رافع بن مَكِيْثٍ الجُهَني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمدُّه، فأمدَّه بأبي عبيدةَ بن الجراح - رضي الله عنه - في مئتين من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر رضوان الله عليهم، وإنما أمَّرَ عمرو بنَ العاص وقدَّمه على من ذُكِرَ لأنَّ جَدَّته أمَّ العاص بن وائل من قُضاعة، وقيل: من بَليٍّ، وأمَّره لهذا المعنى، وأوصى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة - رضي الله عنه - أن لا يخالف عمرًا فأدركه بأَرْضِ جُذام بذات السلاسل، وجاء وقت الصلاة فتقدم أبو عبيدة، فقال عمرو: أنا الأمير وأنت جِئْتَ مَدَدًا، فقال: يا عمرو، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصاني وقال "لا تختلفا"، فإن عصيتني أطعتك، دونَك فصلِّ بالنَّاس، فصلَّى، وساروا نحو القوم فهربوا، فغنم المسلمون أموالهم وبعثوا بها إلى المدينة، وكتب عمرو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا يخبره بهزيمةِ العدو وَوَطْءِ بلادِهم، وأنْفَذَهُ مع عوف بن مالك الأشجعي (2).
وقال عمرو: لما بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ ذاتِ السلاسل، فاحتلمتُ في ليلةٍ باردةٍ شديدةِ البَرْد فأشفقت إنِ اغتسلتُ أن أَهْلِكَ، فتيمَّمْتُ ثم صلَّيْتُ بأصحابي صلاةَ الصُّبحِ، فلما قدِمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرتُ له ذلك فقال: "يا عمرو صلَّيْتَ بأصحابكَ وأنت جُنُبٌ؟ " فقلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إنِ اغتسلتُ أن أهلِك، وذكرت قولَ الله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فتيممت ثم صليت، فضحك ولم يقل شيئًا (3).
قال ابن إسحاق: ومنع عمرو أصحابه أن يُوْقِدوا في تلك الليلة نارًا وكانت ليلة
__________
(1) "السيرة" 2/ 623، و"المغازي" 2/ 769، و"الطبقات الكبرى" 2/ 121، و"تاريخ الطبري" 3/ 32، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 397، و"المنتظم" 3/ 321، و"البداية والنهاية" 4/ 273.
(2) انظر "الطبقات" 2/ 122.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (17812).
(4/58)
________________________________________
باردةً، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فسأله فقال: كان في أصحابي قِلَّةٌ وفي العدوِّ كَثْرَةٌ فخشيت فقال: "أصبتَ" (1).
وفيها: كانت سرية الخَبَطِ (2)، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث مئة من المهاجرين والأنصار قِبَلَ جُهينةَ، فأصابهم جَهْدٌ عظيم، فأكلوا الخَبَط حتى صارت أشداقهم كأشداق الإبل.
قال الإمام أحمد: حدَّثنا حسن بن موسى، حدَّثنا زهير، حدَّثنا أبو الزبير (3)، عن جابر قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمّر علينا أبا عبيدة نتلقَّى عيرَ قريش وزوَّدَنا جِرابًا من تمر، لم يَجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يُعْطينا تمرةً تمرةً، قال: فكيف كنتم تَصْنَعونَ بها؟ فقال: كُنَّا نَمُصُّها ثم نشرب عليها الماء فتَكْفِينا إلى الليل قال: وكنا نَضرِبُ بعصِيِّنا الخَبَطَ ثم نبلُّه بالماء فنأكله، قال: وانطلقنا إلى ساحل البحر فرُفِعَ لنا على ساحل البحر مثل الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العَنْبَر قال أبو عبيدة: مَيِّتَةٌ، ثم قال: لا، بل نحنُ رسلُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيله وقد اضطررنا فكُلوا، فأقَمنا عليه شهرًا ونحن ثلاث مئةٍ حتَّى سَمِنّا، ولقد رأيتُنا نَغْتَرِفُ من وَقْبِ عينيه بالقِلال الدُّهْنَ، ونقطع منه الفِدَرِ كقَدْرِ الثور، قال: ولقد أخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلًا فأَقعدهم في وَقْب عينه وأخذ ضِلَعًا من أضلاعه فأقامها ثم رَحَل أعظم بعير معنا فمر من تحتها وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا له ذلك فقال: "هوَ رِزْقٌ أَخرَجهُ الله لَكُم، فَهَل مَعَكُم مِن لَحمِهِ شَيءٌ فَتُطعِمُونا؟ " فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأكله. أخرجه مسلم (4).
* * *
__________
(1) وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (4540).
(2) "السيرة" 2/ 632، و"المغازي" 2/ 774، و"الطبقات" 2/ 122، و"تاريخ الطبري" 3/ 32، و"دلائل النبوة" للبيهقي 4/ 406، و"المنتظم" 3/ 322، و"البداية والنهاية" 4/ 276.
(3) في النسخ "أبو الوليد" والمثبت من مصادر التخريج.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (14338)، ومسلم (1935)، وأخرجه البخاري (4360) من طريق وهب بن كيسان عن جابر. قوله: "وقب": هو النقرة التي تكون فيها الحدقة. و"الفدر": جمع فَدْرة، وهي القطعة من اللحم و"وشائق" أن يؤخذ اللحم فيغلى قليلًا ولا ينضج، ويحمل في الأسفار.
(4/59)
________________________________________
وفيها: كانت سَرِيَّةُ أبي قَتادَةَ الأنصاري إلى خَضِرةَ (1)، وهي أرض مُحارب بنجد، في شعبان، بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ستة عشر رجلًا، فشنُّوا الغارة على غَطَفان، وقتلوا أَشْرافهم، وساقوا مئتي بعير وألفي شاة وأربعَ نِسْوَة.
وقيل: كان أميرُ هذه السَّرِيَّةِ عبدَ الله بنَ أبي حَدْرَد الأسلمي، وهو وَهْم؛ لأن سرية ابن أبي حَدْرَد إلى قيس بن رفاعة الجشمي في شعبان.
هذا ذكرُ سرية عبد الله بن أبي حَدْرَد:
قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا يعقوب، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد (2) بن أبي عون، عن جدته، عن عبد الله بن أبي حَدْرَد الأسلمي أنَّه ذكر أنَّه تزوج امرأة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعينه في صَداقِها، فقال: "كَم أَصْدَقتَها؟ " قال: مئتي درهم، قال: "لو كُنتُم تَغْرِفُونَ الدَّراهِمَ من وَادِيكُم هذا ما زِدْتم، ما عِندي ما أُعطيكَ" قال: فمكثتُ، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثني في سريَّة نحو نجد وقال: "لَعَلَّك أَنْ تُصيبَ شيئًا فأُنَفَّلَكَهُ".
قال: فخرجنا حتى جئنا الحاضِرَ مُمْسينَ، فلما ذهبت فَحمةُ العِشاء، بَعَثَنا أميرُنا رَجُلَيْنِ رَجُلَيْنِ فأَحطنَا بالعسكر، وقال: إذا كَبَّرْتُ وحَمَلْتُ فكبَّروا واحمِلُوا، قال: وسمعت رجلا منهم يصيح: يا خَضِرةُ، فتفاءلتُ بأَنا سنُصيبُ منهم خَضِرة، فلما أغْنَمنا كبَّر أميرُنا وحمل، فكبَّرنا وحملنا، وكلُّ اثنين مِنَّا في ناحيةٍ، قال: فمر بي رجل في يده سيف فاتَّبعته، فقال لي صاحبي: إن أميرنا عهد إلينا أن لا نُمْعِنَ في الطَّلبِ، فقلت: والله لأَتْبَعَنَّهُ، فتبعته ورميته بسهم على جُرَيْداءِ مَتْنِه فوقع، وقال: اُدْنُ يا مُسلمُ إلى الجنة، فلم أَدْنُ إليه ورميته بسَهْم آخرَ فأثخنتُه فرماني بالسيف فأخطأني، وأخذت السيف فقتلته به واحتززتُ به رأسه، وشددنا عليهم فأخذنا نَعمًا كثيرًا وغَنِمْنا وانصرفنا، فأصبحت فإذا بعيري مقطورٌ ببعير عليه امرأةٌ شابَّةٌ جميلةٌ، فجعلَتْ تلتفتُ إلى خلفها وتكثرُ الالتفات، فقلتُ لها: إلى أيَنَ تلتفتينَ؟ فقالت: إلى رجل لو كان حيًّا لخالَطَكُم، قال: وظننت أنَّه صاحبي، فقلت: والله قد قَتَلْتُه وهذا سيفه، وهو معلَّق في قَتَبِ البعير
__________
(1) "المغازي" 2/ 777، و"الطبقات" 2/ 123، و"تاريخ الطبري" 3/ 34، و"المنتظم" 3/ 323.
(2) في النسخ: "عبد الله" والمثبت من أحمد.
(4/60)
________________________________________
الذي أنا عليه، وغِمْدُ السيف الذي ليس فيه شيء معلَّقٌ بقَتَبِ بعيرها، فلما قلت لها ذلك قالت: دونَكَ هذا الغمد فشِمْهُ فيه إن كنت صادقًا، فأخذته فشِمْتُه فطبَّقته، فلما رأت ذلك بكت، وقدمنا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني من ذلك النَّعم الذي قَدِمْنا به (1).
وقال الواقدي: كان عبد الله بن أبي حدرد قد تزوج امرأة، فاستعان برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في مهرها، فقال: "كَم مَهْرُها"؟ قال: أصدَقْتُها مئتي درهم، فقال: "سُبحان اللهِ، لو كُنتُم تأخُذُونَ الدَّراهِمَ مِن بَطن وادٍ ما زِدْتُم على هذا، ما عِندِي ما أُعطِيكَ" فأقمتُ أيامًا وأقبل قيس بن رِفاعةَ الجُشَمي في جيش كثيفٍ فنزل الغابةَ يريد أن يجمع النَّاسَ على حَرْبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلين من المسلمين وقال: "اخرُجُوا إلى هذا الرجُلِ، وأتُوني بخَبرِه" وأعطانا شارِفًا عجفاءَ فحملنا عليها أحدَنا فما قامت حتَّى دعمها الرجالُ من خلفها وقال: "تبلَّغُوا علَيها واعتَقِبُوها"، قال: فخرجنا إلى الحاضِرِ عشيّةً مع غُروبِ الشَّمس، وكمنْتُ في ناحية وكمن صاحباي في ناحية، وقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبَّرتُ فكبَّروا وشدوا معي على القوم، ثم كبَّرتُ وكبَّرا وشددنا عليهم، وكان لهم راعٍ فأبطأ عليهم، وكان قيسُ بن رِفاعةَ قد خَرجَ في طلبه بنفسه، قال عبد الله: ومرّ بي فرميتُه بسَهْم فوقع في فؤاده فمات وسيفه في عنقه، فوثبت إليه فقطعت رأسه، ثم شددنا على القوم فصاحوا: النَّجاءَ النَّجاءَ، واستَقْنا إبلًا كثيرة وغَنِمنا وجئنا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضَعْتُ رأس قيس بين يديه فدعا لي وأعانني بثلاثة عشر بعيرًا، فسقت مهر امرأتي من بعضها (2).
وفيها: كانت سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بَطْنِ إِضَم (3)، جبل بينه وبين المدينة ثلاثةُ بُرُدٍ، وكان في السَّرية مُحَلَّمُ بنُ جَثَّامة اللَّيثي وعبدُ الله بن أبي حَدْرَد المذكورُ آنِفًا.
قال عبد الله: فلقينا عامِرَ بنَ الأَضْبط الأشْجعي على قَعودٍ، فسلَّم بتحية الإسلام فأمسكنا عنه، وحمل عليه مُحَلَّم بنُ جَثّامةَ فقتله لشيء كان في نفسه وأَخذ بعيره وسَلَبه،
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (23882).
(2) "المغازي" 2/ 777 - 780.
(3) "الطبقات" 2/ 123، و"تاريخ الطبري" 3/ 35، و"المنتظم" 3/ 323، وفي "السيرة" 2/ 626 غزوة ابن أبي حدرد.
(4/61)
________________________________________
فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرناه الخبر، فأنكر علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] الآية (1).
قال المصنف رحمه الله: وهذا أحد الأقوال في سبب نزول هذه الآية.
والثاني: أن المقداد خرج في سرية إلى قوم، فوجدهم قد تفرقوا وبقي منهم رجلٌ كثيرُ المالِ، فقصده المقداد فقال: أشهد أن لا إله إلَّا الله، فقتله، فنزلت هذه الآية (2).
والثالث: أن رجلًا من بني سُلَيمٍ مرَّ على نفر من المسلمين ومعه غنم فسلم عليهم فقالوا: ما سلَّم إلَّا مُتَعَوِّذًا، فقتلوه وأخذوا غنمه (3).
والرابع: أنها نزلت في سرية كان فيها أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أغار على قوم فهربوا وبقي منهم رجل قد أسلم يقال له: مِرْداس، فسلَّم عليهم، فقتله أسامة (4).
وقيل: إنَّما كان أميرُ السرية غالبَ بنَ فَضالةَ وأسامة معه.
وقال الواقدي: إنَّما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه السرية في رمضان، وكانوا ثمانيةً، ثم خرجوا إلى غزاة الفتح فبلغهم خروجه فوافَوْه بالسُّقْيا (5).
وفيها: عُمِلَ المنبرُ، وقيل: في سنة سبع، قيل: عمله غلام للعباس يقال له: كِلاب، وقيل: صُباح، وقيل: غلام لامرأة من الأنصار يقال له: مِيْنا.
وقال أبو هريرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب إلى جذع في المسجد، فشق عليه القيام فقال له تميم الداري: يا رسول الله، ألا أصنع لك منبرًا كما يصنعون بالشام؟ فشاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فقالوا: لا بأس به، فقال العباس بن عبد المطّلب: يا رسول الله،
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (23881).
(2) أخرجه الطّبرانيّ في "الكبير" (12379) من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فيها المقداد بن الأسود ... وأخرجه الواحدي في "أسباب النزول" ص 165 من حديث سعيد بن جبير قال: خرج المقداد بن الأسود في سرية ....
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (2023) من حديث ابن عباس.
(4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 5/ 263 - 264.
(5) انظر "الطبقات" 2/ 123 - 124.
(4/62)
________________________________________
إن لي غلامًا يقال له: كلاب، أَعمَلُ النَّاس لهذا، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "مُرهُ فَليَعْملْه"، فأرسله إلى أَثْلِ الغَابة فقطع أَثْلةً، وعمل فيها دَرَجَتَيْنِ ثُمَّ جاء به فوضعه موضعه اليوم، فجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقام معه وقال: "مِنبَري هذا على تُرْعَةٍ من الجنة، وقَوائمهُ رَواتِب في الجنَّةِ" ثم سنَّ الإيمان على الحقوق عند منبره وقال: "مَن حَلَفَ عند مِنبَري كاذِبًا فَلْيَتبوَّأ مَقْعَده مِنَ النَّارِ" (1).
وعن جابرِ بن عبد الله قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ ما بينَ مِنْبَري إلى حُجرَتي رَوضةٌ مِن رِياضِ الجنَّةِ، وإنَّ مِنْبَري على تُرْعَةٍ من تُرَعِ الجنَّةِ" (2).
وقال جابرٌ: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ إلى جذع نخلة، فقالت امرأة من الأنصار كان لها غلام نجار: يا رسول الله إن لي غلامًا نجارًا، أفلا آمره يتخذ لك منبرًا تخطب عليه؟ قال: "بلى"، قال: فاتخذ له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة خطب على المنبر، فإنَّ الجذع الذي كان يقوم عليه كان يئنُّ كما يئنُّ الصبي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا بكى لِما فَقَدَ مِنَ الذِّكْرِ". انفرد بإخراجه البُخاريّ (3).
وعن جابر بن عبد الله قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خَطَب يستند إلى جِذع نخلة من سَواري المسجد، فلما صُنِعَ له منبره واستوى عليه اضطَربت تلك الساريةُ كحنين الناقة، حتى سمعها أهل المسجد، حتى نَزل إليها فاعتنقها فسكتت. أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4).
ولم يزل المنبر على حاله حتَّى حج معاويةُ بعْدَما بُويعَ، فزاد فيه ستَّ درجات، فشق ذلك على الصحابة - رضي الله عنهم - وقالوا: غيَّر آثارَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابتدع في الإسلام، فقال لهم سعيد بن المسيب: يا قوم لا تعجبوا من هذا واعجبوا من مروان بن الحكم كيف يقوم مقامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يميت السُّننَ ويحيي البدع.
وكان عزمُ مُعاويةَ إذا عاد من الحج نقْلَ المِنبرِ إلى الشام، فلما قفل من الحج أمر
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 215.
(2) أخرجه أحمد في "المسند" (15187).
(3) أخرجه البخاري (3584)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (14206).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (14142).
(4/63)
________________________________________
بنقله فأظلمت الدنيا وزُلزلت وجاءت الصواعقُ من كل مكان، فتركه وبقي على تلك الحال مدة أيام بني مروان، فلما ولي السفاح ردَّهُ إلى ما كان عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقيت آثاره.
* * *
وفيها: كانت غزاةُ الفتحِ في رمضان (1)، أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعد مؤتة جمادى الآخرة ورجب وشعبان.
قال الواقدي: كانت خزاعة في الجاهلية قد أصابوا رجلًا من بكر وأخذوا ماله، فمر رجل من خزاعة على بني الدِّيل بعد ذلك فقتلوه، ووقعت الحرب بينهم (2).
قال ابن إسحاق: كان الذي أهاج الحرب بين خزاعةَ وبكرٍ، أن رجلًا من بني الحضرمي يقال له: مالك بن عَبَّاد خرج (3) تاجرًا، فلما توسَّط أرض خُزاعةَ عَدَوْا عليه فقَتَلُوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجلٍ من خزاعة فقتلوه، واستمرتِ الحربُ، فمرَّ بنو الأسود بن رِزْن - وهم ذُؤَيب وكُلْثوم وسَلْمى - فقتلوهم عند أنْصاب الحرم بعرفة، وكان بنو الأسود يُدَوْن في الجاهلية بدِيَتَيْن لفَضْلِهم في بني بكر. فبينا بنو بكرٍ وخزاعة على ذلك جاء الإسلام فحجز بينهم، فلما كان صلحُ الحديبيةِ دخلت خزاعةُ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبكرٌ في قريش، على ما تقدم.
قال الواقدي: وكانت خزاعة حُلَفاءَ لعبد المطلب، فجاءت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية بكتاب الصلح فقرأه أبيّ بن كعب عليه وفيه:
باسمك اللَّهم، هذا حلف عبد المطّلب بن هاشم لخزاعة، إذْ قَدِمَ عليه سَرَواتُهم وأهل الرأي منهم، غائبُهم مُقِرٌّ بما قضى عليه شاهدهم، إن بيننا وبينهم عهودَ الله وعقودَه، ما لا يُنسى أبدًا، ما أشرفَ ثَبير وثبت حِراء، وما بَلَّ بحرٌ صُوفة، لا يزداد
__________
(1) "السيرة" 2/ 389، و"المغازي" 2/ 780، و"الطبقات الكبرى" 2/ 124، و"تاريخ الطبري" 3/ 42، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 3، و"المنتظم" 3/ 324، و"البداية والنهاية" 4/ 278.
(2) "المغازي" 2/ 781.
(3) في "النسخ" مالك بن عباد بن خلف، وما أثبتناه من "السيرة" 2/ 389، و"تاريخ الطبري" 3/ 43.
(4/64)
________________________________________
فيما بيننا وبينكم إلّا تَجَدُّدًا أَبَدَ الدهر سَرْمدًا.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أعرَفَني بحقِّكُم وأَنتم على ما أسْلَفتُم عليه مِنَ الحِلْفِ، وكلُّ حِلفٍ كانَ في الجاهِليَّةِ لا يَزيْدُه الإسلامُ إلَّا تَأكِيدًا" (1).
ولمسلم: عن جابر بمعناه، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وأَيُّما حِلْفٍ في الجاهِليَّةِ لم يَزِدهُ الإسلامُ إلَّا شِدَّةً، ولا حِلْفَ في الإسلام" (2).
قال الواقدي: وكان آخرَ ما كان بين خزاعة وكنانة وبكر أن أنس بن رهم الدِّيلي هجا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعه غلامٌ من خزاعةَ فضربه فشجَّه، فثار الشرُّ مع ما كان بينهم من العداوة، فلما دخل شعبان هذه السنة كلَّمت بكرٌ أشرافَ قريش في النُّصرة على خزاعة، فأعانهم على ذلك صفوان بن أميَّة ومِكْرَزُ بن حفص وحُوَيْطبُ بن عبد العزى وعِكرمةُ بن أبي جهل ولم يشاوروا أبا سفيان بن حرب، وقيل: إنهم شاوروه فأبى عليهم، ثم اتَّعدوا الوتيرَ: ماءٌ قريب من مكّة، وخرج رؤساء قريش بمن معهم إلى بكر، ورأس بكر نوفل بن معاوية الدِّيلي، فبيَّتُوا خزاعةَ ليلًا وهُمْ غارُّون، فلم يزالوا يقاتِلونهم حتَّى انتهَوْا إلى الحرم ودخلوا دارَ زَيْدِ بن وَرْقاء، وعاد رؤساء قريش في عمايةِ الصُّبْحِ إلى منازلهم وهم يظنون أنهم لم يُعْرَفوا وأَنَّ هذا لا يبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. وقَتَلوا من خُزاعة عشرين، فلما أصبحوا ندمت قريشٌ وعرفوا أنَّه سببٌ لنقض العهد بينهم وبين رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
وجاء الحارثُ بن هشام وعبدُ الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان بن حربٍ وأخبراه بما فعل القومُ، فقال: هذا أمر لم أشهده ولم أغب عنه وإنه لشرٌّ، والله ليغزونا محمد، ولقد حدثتني هند بنت عتبة أنها رأت رؤيا كرهتها، رأت دمًا أقبل من الحَجون يسيلُ حتَّى وقف بالخَنْدَمةِ، فكره القومُ ذلك، فقال له الحارث: ما لها سِواك؛ اُخْرجْ إلى محمد فكلِّمه في تجديد العهد وزيادة المدة.
__________
(1) "المغازي" 2/ 781 - 782.
(2) أخرجه أحمد (16761)، ومسلم (2530) من حديث جبير بن مطعم، وليس من حديث جابر.
(3) "المغازي" 2/ 783 - 784.
(4/65)
________________________________________
وقيل: إن أبا سفيان قال ذلك ابتداء، فخرج أبو سفيان ومولى له على راحلتين وهو يرى أنَّه أول من يخرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسرع السير (1).
وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضوان الله عليها صبيحة كانت الوَقْعة بالوَتير: "يا عائِشَةُ، قد حَدَثَ في خُزاعةَ أَمرٌ"، فقالت: أفَترى قُريشًا تجترئ على نقض العهد بينك وبينهم وقد أفناهم السيف؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَنقُضونَ العَهدَ لأَمرٍ يُريدُهُ الله تعالى بِهِم". قالت عائشة: لخير أو لشر؟ قال: "لخيرٍ" (2).
فخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبًا من خزاعة يستنصرون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ويخبرونه بالذي أصابهم من قريش، فقوموا المدينة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ورأسُ خزاعة عمرو بن سالم، فاستأذن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الإنشاد فأذن له فقال: [من الرجز]
لا هُمَّ إنِّي ناشدٌ محمدًا
حِلْفَ أَبينا وأَبيكَ الأَتْلدا
قد كُنْتُمُ وُلْدًا وكُنّا والدا
ثُمَّتَ أسلمنا ولم نَنْزعْ يدا
إن قريشًا أَخْلفوكَ المَوعِدا
ونَقَضُوا مِيثاقَكَ المؤكَّدا
فانصر هَداكَ الله نَصرًا أَيِّدا
وادعُ عبادَ الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تَجرَّدا
في فيلقٍ كالبحر يجري مُزْبِدا
هم بيَّتونا بالوَتير هُجَّدا
__________
(1) "المغازي" 2/ 785 - 786.
(2) "المغازي" 2/ 788.
(4/66)
________________________________________
فقتَّلونا رُكَّعا وسُجَّدا
وزَعموا أن لست تدعو أَحَدا
وهُم أَذَلُّ وأَقلُّ عَدَدا
فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يجر طرف ثوبه ويقول: "لا نُصرتُ إنْ لم أَنصُر بني كَعبٍ بما أنصُرُ منه نَفسِي" (1). وقال: "وكأنَّكُم بأبي سُفيانَ بن حرب وقَد جاءَ يقولُ: جدِّدِ العَهدَ وزِدْ في المدَّةِ وهو راجع بسَخَطِه".
وكان القوم لما خرجوا من المدينة تفرقوا، وسلك بديل بن أصرم الطريق في نَفرٍ يسير، فلقيهم أبو سفيان فقال: أين كنتم؟ قال بديل: كنا في الساحل نصلح بين الناس في قتيل، قال: فهل أتيت محمدًا بيثرب؟ قال: لا نعلم أنه قد كان بالمدينة. فلما ارتحل بديلُ قام أبو سفيان إلى مباركهم ففتَّ أبعار إبلهم، فوجد فيها النوى فتيقن ذلك، فقدم المدينة فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إنِّي كنتُ غائبًا عن صلح الحديبية فجدِّدِ الهدنةَ وزِدْ في المدَّةِ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولهذا قَدِمتَ"؟ قال: نعم، قال: "فَهَل حَدَثَ منكُم حَدَثٌ"؟ قال: معاذ الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَنَحنُ على مُدَّتِنا وصُلْحِنا يَومَ الحُديبيةِ".
فقام من عنده فدخل على ابنته أُم حبيبة - رضي الله عنها - فلما ذهب ليجلس على فراشِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته دونه، فقال: أرغبتِ بهذا الفراش عني، أو بي عنه؟ فقالت: بل هو فراشُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤٌ مشركٌ نَجِسٌ، فقال: يا بنية، لقد أصابك بعدي شر، فقالت: هداني الله للإسلام وأنت تعبد حجرًا لا يسمع ولا يُبْصِر، واعجبًا مِنْكَ يا أَبَتِ، وأنت سيد قريش وكبيرها. فقال: أفَأتْرُكُ ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد، ثم قام من عندها، فلقي أبا بكر - رضي الله عنه - فقال له: يا ابن أبي قحافة كلِّمْ محمدًا، أو تُجيرُ أنتَ بين الناس، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: جواري في جِوارِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم لقي عمرَ رضوانُ الله عليه فكلَّمه بمثل ما كلَّم به أبا بكر، فقال عمر: أنا أكلِّمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! والله لو وجدت الذَّرَّ يُقاتلكُم لأعْنتُها عليكم، فقال أبو سفيان: جُزِيتَ من فتى رحمٍ شرًا.
__________
(1) "المغازي" 2/ 790 - 791.
(4/67)
________________________________________
ثم دخل على عثمان رضوان الله عليه فقال: ليس في القوم أحد أقربُ بي وأمسُّ رحمًا منك، فقال: جواري في جِوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
فدخل على فاطمة - رضي الله عنها - وعندها علي رضوان الله عليه والحسن والحسين رضوان الله عليهما يَدِبّانِ بين يديهما فقال لها: يا بنت محمد، أَجيري بين الناس، فقالت: أنا امرأة، فقال: قد أجارت أختك أبا العاص بن الربيع وأجاز ذلك محمدٌ، فقالت: هذا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مُري أحدَ ابنيك هذين أن يجير بين النَّاس، فقالت: هما صَبِيَّان وليس مثلُهما يُجير، فقال لعلي رضوان الله عليه: يا أبا الحسن، أجر بين النَّاس أو كَلَّم محمدًا، فقال: ويحك يا أبا سفيان ليس أحد منا يستطيع أن يكلِّمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يكره، فقال: أشِرْ عليَّ. قال: ما أجد لك شيئًا مثل أن تقوم فتجير بين النَّاس، فإنَّك سَيَّدُ بني كنانة، قال: فهل ينفعني؟ قال: لا أظن ذلك ولكن لا أجد لك غيره (2).
فقام وصاح: ألا إنِّي قد أجرتُ بين النَّاس، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنتَ تَقولُ هذا يا صخرُ" ثم ركب راحلته وسار نحو مكّة وكانت غَيْبتُه قد طالت واتهمته قريش وقالوا: قد صبأ واتبع محمدًا وكتم إسلامه، فدخل على امرأته هِنْد ليلًا، فقالت: قد طالت غيبتك حتَّى اتَّهَمَكَ قومُك، فإن كنت مع طول غيبتك جئتهم بنُجحٍ فأنت الرجل، ثم دنا منها وجلس مَجلِسَ الرجلِ من امرأته فجعلت تقول: ما الخبر؟ قال: لم أجد إلَّا ما قالَ عليٌّ، فضربت برجلِها في صدره وقالت: قم قُبَّحْتَ من رسولِ قومٍ، فلما أصبح حلق رأسه عند إِساف ونائلة وذبح لهما ومسح بالدم رؤسهما إبراءً لما اتهمته به قريش، ثم سأله أعيان قريش عما جرى فأخبرهم، قالوا: فأجاز محمد قولك؟ قال: لا، قالوا: والله ما زاد عليّ على أن لَعِبَ بك (3).
وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضوان الله عليها: "جَهِّزينا ولا يَشعُر أَحدٌ"، فكتمت ذلك (4).
__________
(1) "المغازي" 2/ 791 - 793.
(2) "المغازي" 2/ 793 - 794.
(3) "المغازي" 2/ 794 - 795.
(4) "المغازي" 2/ 796.
(4/68)
________________________________________
ولما أجْمَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المسير إلى مكّة كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى صفوان بن أميَّة وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وأعيان قريش يخبرهم الخبر، ودفع الكتاب إلى سارة مولاة المطلب - وقيل: اسمها كَنود من مُزينةَ - وجعل لها جُعْلًا على أن تبلغ الكتاب إلى قريش، فجعلته في رأسِها وفتلت عليه قُرونَها وخرجت به، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الخبرُ من السماء، فقال لعلي والزبير - رضي الله عنهما -: "أَدركا المَرأَةَ فإن معها كتابَ حاطبٍ إلى الكفار بما أزْمَعْنا عليه"، فخرجا فأدركاها بذي الحليفة، فاستنزلاها وفتَّشا رحلها وفتشاها فلم يجدا شيئًا، فقال علي رضوان الله عليه: والله لتخرجن الكتاب أو لأكْشِفَنَّكِ، فلما رأت الجدَّ حلَّت قُرونها وأخرجته، فرجعا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا حاطبًا وقال: "ما دَعاكَ إلى هذا"؟ فقال: يا رسول الله، والله إنِّي مؤمن بالله ورسوله ما غيَّرْتُ ولا بدَّلْتُ، ولكن ليس لي في مكّة عشيرةٌ وأهل، وولدي بين ظهرانيهم فصانَعْتُهم عليهم. فقال عمر رضوان الله عليه: دعني أضرب عنقه فقد نافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما يُدرِيكَ يا عمرُ، لَعلَّ اللهَ اطلَعَ على أهلِ بدرٍ، فَقالَ: اعمَلُوا ما شِئتُم فقد غَفَرتُ لَكُم". وأنزل الله تعالى في حاطب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الآية (1).
وقد أخرجا القصة في "الصحيحين" أن عبد الله بن أبي رافع سمع عليًّا يقول: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والزبيرَ والمقدادَ فقال: "انطَلِقُوا حتَّى تأتوا رَوْضَةَ خاخٍ، فإنَّ بها ظَعينَةً معها كتابٌ، فخُذُوه منها". فانطلقنا إليها تَعادَى بنا خَيْلُنا حتَّى أتينا الرَّوضة، فإذا نحن بالظَّعينةِ، فقلنا: أخرجي الكتابَ، فقالت: ما معي كتاب، فقلت: لُتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لتُلْقينَّ الثياب، قال: فأخرجت الكتاب من عِقاصِها، فأتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا حاطِبُ، ما هذا"؟ فقال: لا تَعْجَلْ عليَّ يا رسول الله، إنِّي كنت امرءًا ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان مَن معك من المهاجرين لهم قراباتٌ يَحمون أهاليهم بمكة، فأحببتُ إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا - أو فيهم يدًا - يحمدون بها قرابتي، وما فعلتُ ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني ولا
__________
(1) "السيرة" 2/ 398، و"المغازي" 2/ 797 - 798.
(4/69)
________________________________________
رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد صَدَقَكُم". فقال عمر: دعني أضرب رَقَبَةَ هذا المنافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه قد شَهدَ بدرًا، وما يُدرِيكَ لَعلَّ الله اطَّلَعَ على أَهلِ بَدرٍ، فقال: اعْمَلُوا ما شِئْتُم فَقَد غَفَرتُ لَكُم". متفق عليه (1).
و"روضة خاخ": مكان قريب من المدينة.
و"العِقاص": الخَيْط الذي يعقص به الشعرُ الملصق القريب.
قال البلاذري: ومضت سارة من فورها إلى مكة وكانت مُغَنِّيةً، فأقبلت تهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتتغنى بذلك، فأمر يوم الفتح بقتلها (2).
وقال الثعلبي: هي سارة مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكّة إلى المدينة بعد بدر بسَنَتين فقال لها: "أمسلمة جئت؟ " قالت: لا، قال: "أفمهاجرة؟ " قالت: لا، قال: "فما جاء بك؟ " فقالت: أنتم الأهل والعشيرة والموالي، وقد ذهب مواليَّ واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتحملوني وتكسوني، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " [أَينَ] أنتِ مِن شَبابِ أَهلِ مكَّةَ"؟ وكانت مغنية نائحة، فقالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر. فحث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطّلب فكسوها وحملوها، فأتاها حاطب حليف بني أسد بني عبد العزى فكتب معها إلى أهل مكّة كتابًا وأعطاها عشرة دنانير.
وقال مقاتل: أعطاها عشرة دنانير وكساها بُرْدًا، وكتب معها إلى أهل مكّة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يريدكم] فخُذوا حِذْركم. وخرجت تريد مكّة، ونزل جبريل فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل عليًا وعمارًا وعمر والزبيرَ وطلحةَ والمقدادَ وأبا مَرْثَدٍ الغنويَّ وكانوا فرسانًا وقال: "انطَلِقُوا إلى رَوضَةِ خاخ فإنَّ بها ظَعِينَةً مَعَها كِتابٌ من حاطِبٍ إلى المُشرِكينَ، فَخُذُوهُ منها وخَلُّوا سَبيلَها، وإنْ لم تَدفَعْه إليكُم فاضرِبُوا عُنُقَها". فلما وصلوا إليها سألوها فأنكرت، ففتشوها فلم يجدوا معها شيئًا فهموا بالرجوع، فقال علي: والله ما كَذَبَنا ولا كُذبنا وسلَّ سيفَه، وقال: أخرجي الكتاب وإلا ضربت
__________
(1) أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494).
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 424، وليس فيه: فأمر بقتلها.
(4/70)
________________________________________
عنقك، فلما رأت الجدَّ أخرجتهُ من ذوائبها قد خبأته في شعرها، فخلوا سبيلها، فرجعوا بالكتاب وذكر بمعنى ما تقدم (1).
ذِكْرُ مسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكّة:
كتب إلى القبائل فقدم عليه إلى المدينة أَسلمُ وغِفارُ ومُزينةُ وجُهينةُ وأشجعُ، وبعث إلى بني سُليم فوافوه بقُدَيْدٍ، فأما جميع العرب فخرجوا معه من المدينة في عشرة آلاف.
قال علماء السير: وخرج يوم الأربعاء بعد العصر لعشر مضين من رمضان وهو صائم، واستخلف على المدينة أبا رُهْم كلثومَ بن حُصَين الغِفاري، وعلى الصلاة ابنَ أم مكتوم، وسار في المهاجرين والأنصار، ووافته القبائل على المياه.
قال الواقدي: لقيه العباس بن مرداس بقُدَيد في ألف من بني سليم وأنس بن عباس (2)، وكان أنس وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة في بني سُلَيْم وفيهم قيس بن نُشْبَة، فسمع كلامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى بني سليم وقال: والله لقد سمعت تراجم الروم، وهَمْهَمةَ فارس، وكَهانة الكُهَّانِ، وقصائد العرب، فما يُشبه كلام محمد شيئًا من ذلك، فأسلموا ترشدوا، فأسلموا وكان لهم صنم وله سادن يقال له: غاوي بن عبد العزى، فدخل يومًا على الصنم فرأى ثعلبين يبولان عليه فقال:
أَربٌّ يبول الثعلبانِ برأسه ... لقد ذَلَّ من بالت عليه الثعالب
ثم شد على الصنم فكسره وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا فقال له: "ما اسمك"؟ فقال: غاوي بن عبد العزى، فقال: "أَنتَ راشدُ بنُ عبدِ رَبِّه" وحَسُنَ إسلامه، وأقطعه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رُهاطًا وفيها عين يقال لها: عين الرسول، وعقد له لواءً على قومه وقال: "خَيْرُ سليمٍ راشِد" وكان يَقْدُمُ سُلَيْمًا أنسُ بن عباس يوم الفتح (3).
ولما نزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -قُدَيْدًا وافته القبائِلُ من الأعراب الذين حول المدينة: أسْلَم
__________
(1) انظر تفسير الثعلبي 9/ 291، و"أسباب النزول" للواحدي ص 447 - 448.
(2) في "الطبقات": أنس بن عياض بن رعل. وفي "الإصابة" 1/ 70: أنس بن عباس بن رعل، نقلًا عن "الطبقات".
(3) انظر "الطبقات" 1/ 265 - 266، ورواية البيت في كتب اللغة: "يبول الثُّعْلُبانُ"، والثُّعلُبان: ذكر الثعالب. أدب الكاتب 1/ 22، وفقه اللغة 1/ 1278.
(4/71)
________________________________________
وغِفار ومزينةُ وجهينةُ وأشجع ونحوهم، فعقَد لهم الراياتِ وفرَّقها فيهم، ولحقه عُيَينةُ ابنُ حِصن بالعرج والأقرع بن حابس بالسُّقْيا (1).
قال البلاذري: ولقيه العباس بن عبد المطلب بذي الحليفة قد أظهر إسلامه، فأمره أن يبعث بثقله إلى المدينة ويعودَ ليشهدَ فتح مكّة وقال له: "يا عَمِّ، هِجرتُكَ آخِرُ هِجرَةٍ، كما أنَّ نُبُوَّتي آخِرُ نبوَّةٍ" (2).
وعمّى الله الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبرٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يدرون ما هو فاعِلٌ.
وقال الواقدي: نَزلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرج، ولا يعلم النَّاس أين يقصد إلى قريش أو إلى هوازن أو إلى ثقيف، فقال كعب بن مالك: أنا أعلم لكم علمه، فجاء فجثا بين يديه وقال: [من الوافر]
قضينا من تِهامةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وخيبرَ ثُمَّ أَجمَمْنا السُّيوفا
نُسائِلُها ولو نَطَقت لقالَتْ ... قَواطعُهنَّ دَوسًا أو ثَقيفا
ولستُ لمالك إن لم تَرَوْها ... بساحة دارهم مِنّا ألوفا
ونَنتَزغُ الخيام ببطن وَجٍّ ... ونَتركُ دارَهم منهم خُلُوفا
فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئًا، فلما نزل مَرَّ الظهران تيقنوا أنَّه قاصدٌ مكَّةَ (3).
وعن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكَدِيدَ ثم أفطر (4).
قال الزهري: وكان الفِطْر آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يؤخذ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالآخِر فالآخِر. أخرجه مسلم (5).
وقال ابن عباس: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فصام حتى بلغ عُسْفان، ثم دعا بماءٍ
__________
(1) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 51 - 52.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 425.
(3) "المغازي" 2/ 802.
(4) أخرجه البخاري (1944)، ومسلم (1113).
(5) مسلم 2/ 785.
(4/72)
________________________________________
فرفعه على يده ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكّة، وذلك في رمضان، وكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر (1).
وأخرجه الحميدي وفيه: خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في عشرة آلاف وذلك على رأس ثماني سنين ونصف من هجرته أو من مقدمه المدينة، فسار بمن معه من المسلمين إلى مكّة يصوم ويصومون حتى بلغ الكَديد، وهو ما بين عُسْفانَ وقُدَيْد أفطر وأفطروا، فلم يزل مفطرًا حتى انسلخ الشهر فصبَّح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة لثلاث عشرة مضت من رمضان (2).
ولمسلم: عن جابر قال: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُراعَ الغَميم وصام الناس، قيل له: قد شق على الناس، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم وصام البعض، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أُولئكَ العُصاةُ" (3).
قال الواقدي: ولما كانتِ الليلةُ التي نزل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ الظهران خرج أبو سفيان بن حرب وحكيمُ بن حزام وبُدَيْلُ بن ورقاء الخزاعي - وكان نازلًا بمكة - يتجسَّسون الأخبار، فقال العباس - رضي الله عنه -: واسوءَ صباحاه، والله لئن بَغَت ابن أخي قريشًا في دارها ودخل مكّة عَنْوَةً إنه لَهلاكُ [قريشٍ] آخرَ الدهر، قال: فجلست على بغلةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيضاء وقلت: أَخْرُجُ إلى الأَراك لعلي أرى حطَّابًا أو صاحبَ لبن يدخل مكّة فيخبرهم بمكانِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأتونه فيأخذون منه أمانًا.
قال العباس: فوالله إنِّي لأطوف في الأَراك إذ سمعت صوتَ أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وأبو سفيان يقول: والله ما رأيت نيرانًا مثل هذه، فقال بُدَيْلٌ: هذه نيرانُ خُزاعةَ، وكانوا قد أوقدوا في تلك الليلة عشرة آلاف نار، فقال أبو سفيان: خزاعة أقلُّ من ذلك وأذلُّ، قال العباس: فناديته: أبا سفيان، فَعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم، فقال: لبيك، فداك أبي وأمي ما وراءك؟ قلت: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دَلَفَ إليكم في عشرةِ آلافٍ من المسلمين ولا قِبَلَ لكم به، وقلت: اركب على
__________
(1) أخرجه البخاري (1948)، ومسلم بعد (1113).
(2) "الجمع بين الصحيحين" (978)، وأخرجه البخاري (4275) و (4276).
(3) مسلم (1114).
(4/73)
________________________________________
عَجُزِ هذه البغلة فأستأمنُ لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوالله لئن ظَفِرَ بك لَيَضْرِبَنَّ عُنقَكَ، قال: فَرَدِفَني فخرجت أَركضُ البَغْلةَ، فكلّما مررت بنارٍ قالوا: هذا عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته، حتَّى مررتُ بنارِ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما رأى أبا سفيان عرفه فقال: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدوَّ الله بغير عقد ولا عهد، ثم اشتد نَحو رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وركَضْتُ البغلةَ حتى اقتحمت باب القبة فسبقته، ثم جاء فقال: يا رسولَ الله، هذا عدوُّ الله ابنُ حرب قد أمكن الله منه فدعني أَضْرب عنقه، قال: فقلت: فإني قد أجرته فلا سبيل عليه، فأكثر عمر القول، فقلت: يا ابن الخطاب والله ما تَفْعَلُ هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان رجلًا من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال: مهلاً يا عباس، فوالله إن إسلامَك يومَ أسلمتَ كان أحبَّ إلي من إسلام الخطَّابِ لو أسلم، لأنَّ إسلامَك سرَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -[فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] "قد أجرنا من أجرتَ وأمنّا من أمنتَ فاذهب به حيثُ شئت، حتَّى تغْدوَ به عليَّ الغَداة"، قال: فذهبتُ به إلى منزلي ثم عدتُ به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "ويحَكَ يا أبا سُفيانَ، ألم يأْنِ لكَ أن تَعلَمَ أنِّي رسولُ الله" فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما هذه ففي النَّفس منها شيء، فقال له العباس: ويحك أسلم وإلا قتلك، فأَسْلَمَ (1).
وروي أنَّه قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلَّا الله؟ " فقال: بلى بأبي أنت وأمي، قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع الله إله لأغنى عنا شيئًا. ثم أسلم.
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عم، اذهب به فاحبسه عند خَطْم الجبل بمضيق الوادي حتَّى يمرَّ عليه جندُ الله، قال العباس: فقلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجلٌ يُحِبُّ الفَخْرَ فاجعل له شيئًا يكون له فخرًا له في قومه، فقال: "مَن دَخلَ دارَ أَبي سُفيانَ فهو آمِنٌ، ومَن أَغلَقَ بابَه فهو آَمِنٌ". ومضيت به إلى خَطْمِ الجبل وجعلتِ القبائلُ تمر به فيقول: من هؤلاء؟ فأقول سُلَيم، فيقول: مالي ولسُلَيْم، ويمر بجُهَيْنةَ فيقول: من هذه؟ فأقول جهينة، فيقول: مالي ولجهينة، كذلك حتى أقبل موكبُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والكتيبةُ الخضراءُ وفيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرون والأنصار في الحديد لا يُرى منهم إلَّا الحَدَقُ
__________
(1) "المغازي" 2/ 816 - 818.
(4/74)
________________________________________
فقال: من هؤلاء؟ قلت: كتيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لقد أوتي ابن أخيك ملكًا عظيمًا، فقلت: ويحك إنَّما هو النبوة، فقال: نعم، فقلت: اِلحقْ بقومك فحذَّرهم، فذهب سريعًا حتَّى دخل المسجد فصرخ بأعلى صوته: يا معاشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبَلَ لكم به، قالوا: وما ترى؟ قال: من دخل داري فهو آمن، قالوا: ويحك فما تُغني عنا دارك؟ قال: من دخل المسجد أو أغلق بابه فهو آمن، ثم جاء ليدخل داره فقالت له هند: وراءك قبحك الله، فإنَّك شرُّ وافدٍ (1).
فإن قيل: فلم خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار أبي سفيان؟ قلنا: لوجهين:
أحدهما: لما ذكر العباس.
والثاني: لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوذي بمكة ونالت قريش منه دخل دار أبي سفيان فأَمِنَ (2). قال الزهري: فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكافأته على ذلك وحَقْنَ دمِه، لأنَّ قلوب أصحابه - رضي الله عنهم - كانت حَرَّى عليه.
وحكى الطبري في إسلام أبي سفيان وجهًا آخر:
عن ابن عباس قال: لقي أبو سفيان بن حرب وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنيق العُقاب بين مكّة والمدينة، فحجبهما، فقالت أم سلمة: يا رسول الله، ابنُ عمك وصِهْرُكَ، تشير إلى أبي سفيان وأخيها عبد الله، فقال: "لا حاجة لي بهما بعدما قالا وفعلا" فخرج الخبر إليهما، وكان مع أبي سفيان ولدٌ له صغير فقال: والله لتأذنن لي أو لآخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبنَّ في الأرض حتى نموت جُوعًا وعطشًا، فأذن لهما بعدما رقَّ لهما، فلما دخلا عليه أسلما، وقال أبو سفيان أبياتًا في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها:
وهادٍ هداني غير نفسي ونالني ... مع الله من طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ
فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده في صدر أبي سفيان وقال: "أنت فعلت هذا" (3).
__________
(1) "المغازي" 2/ 822 - 823.
(2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 6/ 9 - 10 من حديث ثابت البناني مرسلًا.
(3) "تاريخ الطبري" 3/ 50 - 51، وانظر "السير" 2/ 400 - 401، و"البداية والنهاية" 4/ 287، وهذه القصة وردت في جميع المصادر عن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، لا ابن حرب كما عند المصنف.
(4/75)
________________________________________
قال المصنف رحمه الله: وهذه رواية شاذة.
وقد أخرج الحميدي من أفراد البخاري حديثًا: عن [هشام بن] عروة بن الزبير، عن أبيه قال: لما سار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكَّةَ عامَ الفتح وبلغ ذلك قريشًا، خرج أبو سفيان وحكيمُ بن حزام وبُدَيْلُ بن ورقاء يتحسسون الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مَرَّ الظهران، فإذا هم بنيرانٍ كأنها نيرانُ عَرَفَةَ، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنَّها نيرانُ عرفة، فقال بديلُ بن وَرْقاء: هذه نيران بني عمرو بن عوف، يعني الأنصار، فقال أبو سفيان: هم أقلُّ من هذا، فرآهم ناس من حرسِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأدركوهم فأخذوهم، فأتَوْا بهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم أبو سفيان، فلما سارَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال للعباس: "احتَبسْ أَبا سُفيانَ عندَ خَطْمِ الجبَلِ حتَّى يَنظُرَ إلى المُسلمِينَ" فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمرُّ عليه كتيبةً كتيبةً، فمرت كتيبة فقال للعباس: من هذه؟ قال: غِفار، فقال: مالي ولغِفار، ثم مرت جُهينة وبنو سليم وسعد بن هُذَيْم وهو يقول كذلك، حتَّى أقبلت كتيبةٌ لم يَرَ مثلَها قال: من هذه؟ قال: الأنْصار عليهم سعد بن عبادة بيده الرايةُ، فلما رأى سعدٌ أبا سفيان قال له: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستَحلُّ الكعبة - والملحمة: الحربُ - فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذِّمار - بذال معجمة - يوم يحمي الإنسان أهله، كأنه تمنى ذلك، ثم جاءت كتيبة وهي أجلُّ الكتائب فيهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرون ورايته بيد الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان قال له: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ما قال؟ قال: كذا وكذا، قال: "كَذَبَ سَعدٌ، ولكِنْ هَذا يَومٌ يُعظِّمُ اللهُ فيه الكَعْبةَ".
وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُركَزَ رايتُه بالحَجون، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد أن يدخل مكّة من أعلاها من كَداء، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كُدًى، فَقُتِلَ من خيل خالد بن الوليد يومئذٍ رجلان: حُبَيشُ بنُ الأَشعر وكُرْزُ بنُ جابر الفِهْري. انفرد بإخراجه البخاري (1).
وقال نافع بن جبير: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام لما رَكَزَ رايته بالحَجون: يا أبا عبد الله أههنا أَمَرَكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركُزَ الرايةَ؟ قال: نعم (2).
__________
(1) أخرجه البخاري (4280)، والحميدي في "الجمع بين الصحيحين" 3/ 325 - 326.
(2) أخرجه البخاري (2976).
(4/76)
________________________________________
وفي رواية الواقدي: أَنَّ سعدًا نادى أبا سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذلَّ الله قريشًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اليومَ يومُ الرَّحمة، اليوم أَعزَّ اللهُ قُريشًا" (1).
و"كَدَاءُ": بالمد وفتح الكاف: موضع بأعلى مكّة. و"كُدَى" بضم الكاف والقَصر: موضع بأرضٍ أسفَلَ مكّة. قال ابن إسحاق: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير - رضي الله عنه -: أقم هنا عند الحَجون بالراية ولا تبرحْ مكانك حتَّى آتيك، وكان في طريق خالد بنو بكر بن عبد مناف والأحابيش، كانت قريش قد استنفرتهم فمنعوا خالدًا من الدُّخُول فقاتَلهم فانهزموا، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أوصى خالدًا والزبير رضوان الله عليهما وقال لهما: "لا تقاتلا إلَّا من قاتلكما".
وقال الواقدي: أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزبيرَ أن يدخل من كَداء وسعد بن عبادة من كُدى، ولما عزم سعدٌ على الدخول سمعه رجل من المهاجرين يقول: اليوم يوم الملحمة وتُسْتَحلُّ الحرمة، فقال: يا رسول الله لا نأمن أن يكون لسعد في قريشٍ اليومَ صَوْلَةٌ؛ إنه يقولُ كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: "أَدْرِكْه فخذِ الرَّاية منه وادخُلْ بها ولا تُقاتِلْ أَحَدًا إلَّا أَن يُقاتلَكَ"، ولما قال سعد ما قال شق ذلك على قريش، فعارضت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت (2): [من الخفيف]
يا نَبيَّ الهدى إليك لجا حيْـ ... ـيُ قُريشٍ ولاتَ حينَ لَجاءِ
حين ضاقَتْ عليهمُ سعةُ الأَر ... ضِ وعادَاهم إله السَّماءِ
إِنَّ سعدًا يُريدُ قاصمة الظهـ ... ـرِ بأَهل الحجونِ والبطحاءِ
خَزْرجيٌّ لو يستطيعُ من الغيـ ... ـظِ رمانا بأَنْجُمِ العوَّاءِ
فانهينه فإنه الأَسد الأسوَ ... دُ والليثُ والغٌ في الدماءِ
فلئن أَقحم اللواءَ ونادى ... يا حماةَ اللواءِ يوم اللقاءِ
لتكونَنَّ بالبقاعِ قُريشٌ ... نهبةَ القاعِ في أكفِّ الإِماءِ
إنه مصلتٌ يديرُ لها الرأ ... يَ صَموتٌ كالحيَّةِ الرَّقطاءِ
__________
(1) "المغازي" 2/ 821 - 822.
(2) انظر "السيرة الشامية" 5/ 335، وقد وقع اضطراب في أوراق النسخ أعدنا ترتيبها.
(4/77)
________________________________________
وَغِرُ الصدر لا يَهمُّ بشيءٍ ... غير سفكِ الدما وسبي النساءِ
وقيل: إن الشعر لضرار بن الخطاب الفهري.
وروى ابن إسحاق عن أم هانئ أنها جاءت إلى فاطمة فقالت: ألا تعذريني من زوجك، استجار بي رجلان من أحمائي من بني مخزوم فزعَمَ زوجُكِ أَنه يقتلُهما، فقالت فاطمة: ومالك والمشركين تجيريهم علينا، فوجَدَتْها أشدَّ من زوجها، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجارهما (1).
وقال الواقدي: دخل الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة على أم هانئ يومَ الفتح فاستجارا بها، فدخل عليها أخوها علي - رضي الله عنه - فلما رآهما شَهَرَ السَّيْفَ عليهِما، فقامت إليه أم هانئ فاعتَنَقَتْهُ وقالت: أتصنع بي هذا من بين سائر النَّاس لتبدأَنَّ بي قبلهما، فقال: أتجيرين المشركين؟ ! وخرج.
قالت: فأتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: "قد أَجَرنا مَنْ أَجَرْتِ وأمَّنَّا مَن أمَّنْتِ" فرجعت إليهما فأخبرتهما فرجعا إلى منازلهما، فقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هما جالسان في ناديهما، فقال: "لا سَبيلَ عليهما قَد أمَّنَّاهُما"، ثم قال الحارث: فاستحييتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أراه وقد قاتلته في كل موطن، ثم أذكر بِرَّه وصِلَته فجئته مسلمًا فقال: "الحمدُ لله الذي هَداكَ للإسلَامِ" (2).
وقال الواقدي: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وهو على ناقته وعلى رأسه المِغْفَرُ وأبو بكر - رضي الله عنه - إلى جانبه، فرأى بنات سعيد قد نشرن شُعورَهُنَّ وهُنَّ يَلْطمن وجوهَ الخيل بخُمُرِهِنَّ، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لأبي بكر رضوان الله عليه: أنشدني قول حسان فأنشد (3): [من الوافر]
تظلُّ جيادُنا مُتَمطِّراتٍ ... يُلَطِّمُهُنَّ بالخُمُرِ النَّساءُ
واختلفوا إلى من دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية على ثلاثة أقوال:
__________
(1) "السيرة" 2/ 411.
(2) "الطبقات" 6/ 83 - 84.
(3) "المغازي" 2/ 831.
(4/78)
________________________________________
أحدها: إلى علي رضوان الله عليه وقد ذكرناه.
والثاني: إلى الزبير - رضي الله عنه -.
والثالث: إلى قيس بن سعد بن عبادة.
قال ابن الكلبي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقيس: "اذهب إلى أبيك فخذ منه الراية" فجاء قيس إلى أبيه فقال: ادفع إليّ الراية فامتنع وقال: لا أسلمها إلَّا بأمارة، فعاد قيس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فدفع إليه عمامته فعرفها سعد فدفع إليه الراية (1). قال الكلبي: فأحب رسول الله أن لا يخيب قصد المرأة ولا يشق على سعد فدفع الراية إلى ابنه.
وقال الواقدي: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالدًا أن يدخل من الليط أَسفل [مكة وفيها أسلم وسليم] (2) وغفار وجهينة ومزينة، وكان خالد على المجنِّبة اليُمنى، والزبير - رضي الله عنه - على اليسرى، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أَذاخِرَ فنزل بأعلى مكّة وضربت له قبة هناك.
وكان صفوان بن أمية، وعكرمةُ بن أبي جهل، وسُهيل بن عمرو، وأوباش قريش والعبيدُ قد اجتمعوا بالخَنْدَمَة ليُقاتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان خالد في مقابلتهم فانهزموا، وكان حِماسُ بن قيس بن خالد البكري قَبْلَ مَقْدَمِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَريشُ نَبْلاً له ويُصْلِحُه، فقالت له امرأته: لمن تصنع هذا؟ فقال: لمحمد وأصحابه، فقالت: والله ما أرى شيئًا يقوم لِمُحمدٍ، فقال: والله إني لأرجو أن أُخْدِمَكِ بعض أصحابه، ثم قال:
إن يُقبلوا اليوم فمالي عِلّهْ ... هذا سلاح كاملٌ وأَلَّهْ
ثم شهد الخندمة، وأقبل منهزمًا حتَّى أتى بيته، فدخل فقالت له زوجته: أين الخادم الذي وعدتني به ما زلت منتظرتك منذ اليوم؟ فقال: دعي عنك هذا، أَغْلقي بابي فمن أغلق بابه فهو آمن، فقالت: ويحك، أَلم أَنْهَكَ عن قتالِ محمدٍ؟ فقال: [من الرجز]
إنك لو شهدتِ يوم الخَندمهْ
إذ فَرَّ صَفْوان وفَر عِكْرِمهْ
وأبو يزيد قائمٌ كالموتَمَهْ
__________
(1) انظر "المغازي" 2/ 822.
(2) ما بين معقوفين زيادة لإيضاح النص، انظر "السيرة" 2/ 407، و"تاريخ الطبري" 3/ 57.
(4/79)
________________________________________
واستقبلتهم بالسيوفِ المسلمهْ
يَقْطعْنَ كلَّ ساعدٍ وجُمجمهْ
ضربًا فلا تَسْمَعُ إلَّا غمغمَهْ (1)
لهم نَهِيتٌ خلفنا وهَمْهَمَهْ
لم تنطقي في اللوم أَدنى كلمهْ (2)
قال هشام: دَخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، وأُسَيد بن حُضير رضوان الله عليه في كتيبته الخضراء، على ناقته القصواء، وكان نهى عن القتال، فرأى بارقة السيوف فأرسل إلى خالدٍ وقال: أَلم أنْهَكَ عن السيفِ؟ فقال: ما وقع في أُذني إلَّا ضَعِ السيفَ، إنهم قاتلوني فقاتلتهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَمر الله خيرٌ.
قال الواقدي: قُتِل من المشركين بالخَنْدَمةِ أَربعةٌ وعشرون من قريش، وأَربعةٌ من هُذَيْل، واستُشهد من المسلمين ثلاثةٌ: كُرْزُ بن جابر بن حُسَيْل أَبو عبد الرحمن الفِهري، وأُمه أسماء بنت مالك فِهريَّةٌ، وهو من الطبقة الثالثةِ من المهاجرين، وهو الذي أَغار على سَرْحِ المدينةِ وأَخذ لقاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة الثانيةِ من الهجرة، ثم منَّ الله عليه بالإسلام في السَّنةِ الثَّانية أيضًا، وشهدَ الحديبيةَ وخيبر (3).
وعن أبي هريرة قال: أَقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح فدخل مكَّةَ، وبعث الزُّبير على إحدى المجنَّبتين، وبعث خالدًا على المجنَّبةِ الأُخرى، وبعثَ أَبا عبيدةَ على الحُسَّرِ، فأَخذوا بطن الوادي، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبةٍ، وقد وبَّشَت قريشٌ أَوباشَها وقالوا: نُقَدِّمُ هؤلاءِ، فإن كان لهم شيءٌ، كُنّا معهم وإن أُصيبوا، أَعطينا الذي سُئِلنا.
قال أبو هريرة: ففطن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: "اهتِفْ بالأَنصارِ" فهتفتُ بهم فجاءوا فأَطافوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَلا تَرَوْنَ إِلى أَوْباشِ قُريشٍ وأَتْباعهم"؟ ثم قال
__________
(1) الغمغمة: أصوات الأبطال في الحرب.
(2) النهيت: صوت في الصدر. والهمهمة: صوت في الصدر أيضًا. وانظر الخبر في "المغازي" 2/ 827، و"تاريخ الطبري" 3/ 57 - 58، وانظر "السيرة" 2/ 408.
(3) انظر "الطبقات" 5/ 97 - 98. وعند الواقدي في "المغازي" 2/ 828: أنهما رجلان، والثاني هو: خالد الأشعر، ويقال: حبيش بن خالد الأشعر. انظر "الطبقات" 5/ 197 - 198.
(4/80)
________________________________________
بيدَيْهِ إحداهما على الأخرى "احصُدُوهم حَصدًا حتى تُوافوني بالصَّفا" قال: فانطلقنا فما يشاء أَحد منّا أن يقتل منهم من شاء إلا قتله، وما أَحد منهم يُوجِّه إلينا شيئًا، فجاء أبو سفيان فقال: أُبيدَتْ أَو أُبيحت خَضراءُ قريش، لا قُريشَ بعد اليوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَغلَقَ بابَه فَهو آمِنٌ، ومَن دَخَل دارَ أَبي سُفيانَ فهو آمِنٌ" فغلق النَّاسُ أبوابهم، وأَقبل النَّاس إلى دار أبي سفيان، وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[إلى] الحِجْرِ وطاف بالبيتِ وفي يده قوسٌ قد أَخَذَ بِسِيَتِهِ، فأَتى في طوافه على صنم إلى جانب البيتِ يعبدونه، فجعل يطعن بها في عينه ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] ثم أتى الصفا فعلاه حيثُ ينظر إلى البيت ورفع يديه، وجعل يذكر الله بما شاء أَن يذكره ويدعوه [والأنصار تحته, قال] يقول بعضهم: أَما الرجلُ فقد أدركَتْه رغبةٌ في قرابته، ورأفةٌ بعشيرته، وجاءه الوحي، وكان إذا جاء لم يرفع أَحدٌ منا طَرْفَه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى يقضي. فلما قضى رفع رأسه وقال: "يا معاشرَ الأَنصارِ، أَقُلتُم كَذا وكَذا"؟ فقالوا: نعم، فقال: "كَلاَّ، ما اسمي إذًا، إنِّي عبد الله ورسولُه، هاجرتُ إلى الله وإليكم، فالمَحْيا مَحياكُم، والمَماتُ مماتُكُم"، فأقبلوا يبكون ويقولون: والله ما قُلنا إلَّا ضِنًّا بالله ورسوله، فقال: "إنَّ اللهَ ورَسُولَهُ يُصدِّقانِكُم". انفرد بإخراجه مسلم (1).
وعن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح وحولَ الكعبة ثلاث مئةٍ وستون صنمًا، فجعل يطعنُها بعودٍ في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]. أَخرجاه في "الصحيحين" (2).
وقال هشام: ما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكَّة إلَّا محرمًا، إلَّا في يوم الفتح فإنَّه دخلها وعليه السلاح. ولما استقر في المسجد طافَ وسعى وجلس في ناحية المسجد.
وعن أَبي هريرة قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتح مكّةَ وعليه عمامةٌ سوداء ورايتُه سوداء ولواؤه أسود (3).
__________
(1) أخرجه مسلم (1780)، وأحمد في "مسنده" (10948)، وما بين معقوفين منه.
(2) أخرجه البخاري (2478)، ومسلم (1781).
(3) أورده الواقدي في المغازي 2/ 824. وأخرج مسلم (1358) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكّة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام.
(4/81)
________________________________________
قال الواقدي: والتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بَعْضِ الأَنصارِ فقال له: كيف قال حسَّان ابن ثابت؟ فأنشده: [من الوافر]
عَدِمنا خَيْلَنا إن لم تَرَوْها ... تُثير النَّقْع من طرفي كَداءِ (1)
وهو إقواء من أبياتٍ أَوَّلُها:
عَفَت ذاتُ الأَصابعِ فالجِواءُ ... إِلى عَذْراءَ منزلُها خَلاءُ
كأنَّ سلافةً من بيتِ رأسٍ ... يكونُ مِزاجَها عسلٌ وماءُ
ونَشربُها فَتَتركُنا ملوكًا ... وأُسْدًا ما يُنَهْنِهُنا اللِّقاءُ
عَدِمنا خَيلنا إن لم تَروْها ... تَسيلُ بها كُديٌّ أَو كَداءُ
يُنازِعْنَ الأعنَّةَ مُصغياتٍ ... على أكتافها الأَسَلُ الظِّماءُ
تظلُّ جيادُنا متمطِّراتٍ ... يُلَطَّمُهُنَّ بالخُمُرِ النساءُ
فإِمَّا تُعْرِضُوا عنا اعْتَمرنا ... وكانَ الفَتْحُ وانكشَفَ الغِطاءُ
وإلَّا فاصبروا لِجلادِ يَومٍ ... يُعينُ الله فيه مَنْ يشاءُ
وجبريلٌ رسولُ الله فينا ... وروحُ القُدْسِ ليس له كِفاءُ
لنا في كلِّ يوم من مَعَدٍّ ... قِتال أو سِبابٌ أو هِجاءُ
هَجَوْتَ محمَّدًا فأجَبْتُ عنه ... وعِنْدَ الله في ذاكَ الجزاءُ
أتذكرُهُ ولستَ له بكُفءٍ ... فشرُّكُما لخيرِكُما الفِداءُ
ومَنْ يَهجو رَسولَ اللهِ مِنكم ... ويَمدَحُهُ ويَنصُرُه سَواءُ
فإنَّ أبي ووالدتي وعِرْضي ... لِعرضِ محمد منكم فِداءُ
وعن أبيّ بن كعب قال: لما كانَ يومُ أُحُدٍ قُتِل من الأَنْصار ستّون رجلًا وستّةٌ من المهاجرين، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كان لنا يومٌ مثلُ هذا من المشركين لنُرْبيَنَّ عليهم، فلما كان يوم الفتح قال رجل لا يُعْرَفُ: لا قُريشَ بعد اليوم، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمِنَ الأسودُ والأبيضُ إلَّا فلانًا وفلانًا، ناسٌ سمّاهم رسول الله
__________
(1) "المغازي" 2/ 825. ورواية "السيرة" 2/ 422:
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداءُ
وعليه فلا إقواء.
(4/82)
________________________________________
- صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَصبِرُ ولا نُعاقِبُ" (1).
وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدّثنا يحيى، عن حسين المعلِّم، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لما فُتِحت مكَّةُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُفُّوا السِّلاحَ، إلَّا خُرْاعةَ عن بَني بَكْرٍ" فأذِنَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك حتى صلى العصر، ثم قال: "كُفُّوا السِّلاح" فلقي رجل من خزاعة رجلًا من بني بكر عِنْدَ المُزْدَلِفة فقتله، وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقام خطيبًا مُسْنِدًا ظهرَهُ إلى الكعبة فقال: "إنَّ أَعدَى النَّاسِ على الله مَن قَتَل في الحَرَمِ، أو قَتَلَ غَيرَ قاتِلِه، أو قَتَلَ بذُحُولِ الجاهليَّةِ" (2).
وقال الحارث بن البرصاء: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم الفتح: "لا تُغزى قريش بعد هذا اليومِ إلى يوم القيامة" يعني على: كفر (3).
ذكر حديث أَخْذِ المفتاح:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: لما دخلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفَتْحِ إلى مكّة بعث إلى أم عُثمان بن طلحة أَنِ: "ابعثِي إلينا مِفتاحَ البَيتِ" قالت: لا واللات والعزى لا أبعث به إليه، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَبعث إليها من يأخذه منها قَهْرًا، فقال ابنها عثمانُ: يا رسول الله، إنَّها حديثة عهد بكفر فابعثني إليها، فقال له: "اذهب" فجاءها فقال: يا أماه، قد حدث أمر غير الذي كان، فإن لم تَدْفعي المِفتاحَ قُتِلْتُ أنا وأخي، فدفعته إليه، فجاء به مسرعًا، فلما دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثر فَوقَع المفتاحُ من يده، فقام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فحنا عليه وفتح الباب ودخل، فَقام عند أركان البيت وأرجائِه يدعو، ثم صلى ركعتين بين الأسطوانتين ثم خرج، فقام على الباب، فتطاول إليه العباس رجاء أن يجمع له بين السقاية والحِجابة، فقال: "يا عُثمانُ، خذ ما أعطاكم الله، خذوها خالدةً
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (21229). قوله: "لنربين" أي: لنزيدن على ما قتلوا منا.
(2) أحمد في "مسنده" (6681). والذَّحْل: الثأر.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (15404).
(4/83)
________________________________________
تالدةً لا يَنْزِعُها عنكم إلا ظالم" (1).
وفي "زاد المسير": عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلب مفتاحَ البيت يوم الفتح من عُثمان بن طلحة، فذهب عثمان ليعطيه إياه فقال له العباس: بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية، فكفَّ عثمانُ يده مخافة أن يُعْطِيَهُ للعباس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عُثمانُ، هاتِ المفتاحَ" فأعاد العباس قوله، وكف عثمانُ يدَه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هاتِ المفتاحَ إنْ كُنتَ تُؤمنُ بالله واليومِ الآخِرِ" فقال: هاكه يا رسول الله بأمانة الله، ففتح البيت ودخل فنزل جبريل بهذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (2) [النساء: 58].
قال العلماء: هذه الآية وإن نزلت على سبب فهي عامة في الودائع وغيرها من الأمانات.
وقال الواقدي: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالًا أن يمضي إلى عُثمان بن طلحة ويأتيه بالمفتاح، فجاء بلال إليه وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة -[ومفتاح الكعبة] يومئذ عند أمه وهي بنت شُهَيْد - فقال لها عُثمان: يا أماه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل يطلب المفتاح، فقالت له: أعيذك بالله أن تكون الذي يذهب بمأثُرةِ قومِه، فقال: لتدفعنَّه إلي أو ليأتينك غيري فيأخذه منك، فأدخلته في حُجْزَتها وقالت: أي رجل يدخل يده ها هنا؟ ، فبينما هما على ذلك إذ سمع صوت أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما في الدار وعمر يقول: أخرج يا عُثمان، فقالت أمه: يا بنيَّ خُذْهُ أنت أحب إلي من أن يأخذه غيرك، فأتى به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فناوله إياه ... وذكر الحديث (3).
قال الواقدي: وقد سمعت في المفتاح وجهًا آخر عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يوم الفتح على بعير لأسامة بن زيد، وأسامة رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (38055)، وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (9073) من حديث الزهري بنحوه. وأخرج الطبراني (11234) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم" وانظر "السيرة الشامية" 5/ 357.
(2) "زاد المسير" 2/ 114.
(3) "المغازي" 2/ 833، والحُجْزَةُ: مَعقدُ السراويل والإزار. اللسان (حجز).
(4/84)
________________________________________
بلال وعثمان بن طلحة، فلما بلغا رأس الثنية أرسل عثمان فجاءه بالمفتاح فاستقبله به، قالوا: وكان عثمان قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص مسلمًا قبل الفتح، فخرج معنا من المدينة (1).
وقال الواقدي: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبض السقاية من العباس وقبض المفتاح من عثمان، فلما جلس قال: "ادعوا إليَّ عثمان" فدعي له عثمان بن طلحة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] قد قال لعثمان بن طلحة يومًا بمكة وهو يدعوه إلى الإسلام والمفتاح بيد عُثمان: "لعلَّكَ يا عثمانُ ترى هذا المفتاح بيَدِي أَضَعه حيثُ شِئتُ"، فقال له عثمان: لقد هَلكَت قُريشٌ وذلَّت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَل عَمَرَتْ وعَزَّت". فلما دفع إليه المفتاح وولى ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "يا عُثمان، أَتَذكُر يَومَ كَذا وكَذا؟ " فذكر عثمان فقال: أشهد أنك رسول الله (2).
وعن ابن عباس قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه ثم قال: "أَيُّها النَّاسُ، إنَّكم مِن آدَمَ وآدَمُ من التَّرابِ" ثم قرأ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] ثم قال: "يا مَعاشِرَ قُريشٍ، ماذا تَرونَ أنِّي فاعِلٌ بِكُم؟ " قالوا: خيرًا، قال: "اذهَبُوا فَأَنتُمُ الطُّلَقاءُ". فأعتقهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان الله أمكَنَهُ من رِقابهم وكانوا قباله، فلذلك يسمون الطلقاء (3).
ثم قال: "ألا كل دَيْن ودَمٍ ودَعْوى ومأَثُرةٍ كان في الجاهلية فهو تحت قدمي، وأول ما أضَعُ دمَ ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب" (4) وذكر بمعنى ما ذكر الواقدي ثم قال: "يا معاشر قريش قد أذهب الله عنكم نَخْوَةَ الجاهلية".
وابن ربيعة بن الحارث اسمه آدم، وقيل: إياس، وقيل: تَمَّام، كان مسترضعًا في بني سعد أصابه حجر فقتله.
قال ابن عباس: إنما خطب بعد الظهر، وفي رواية: خطب في اليوم الثاني.
__________
(1) "المغازي" 2/ 833 - 834.
(2) "المغازي" 2/ 837 - 838، وما بين معقوفين زيادة منه.
(3) انظر "المسيرة" 2/ 412، و"تاريخ الطبري" 3/ 61.
(4) هذا الحديث إنما هو في حجة الوداع لا في الفتح كما أخرجه مسلم (1218).
(4/85)
________________________________________
قال عكرمة: حدثني ابن عباس قال: وقف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالحَزْوَرةِ وقال: "واللهِ إنَّكِ لَمِنْ أَحَبِّ أَرْضِها إليَّ، وإنَّكِ لخيرُ البلادِ أو لَخيرُ أَرضِ اللهِ، ولَولا أنَّ قَومَكِ أَخرَجُوني مِنْكِ لَما خَرَجتُ" (1). "وإنَّما أُحِلَّت لي ساعةً مِن نَهارٍ، وقَد عادَت كحُرْمتِها بالأمسِ" (2).
وعن أبي هريرة قال: لما فتح الله على رسوله مكة قام فيهم فحَمِد الله وأثنى عليه ثم قال: "إنَّ اللهَ حَبَسَ عن مكَّةَ الفيلَ، وسَلَّطَ عليها رسُولَه والمؤمنِينَ، وإنَّما أُحِلَّت لي ساعةً مِن نهارٍ"، ثم قال: "هي حَرامٌ إلى يَومِ القِيامَةِ لا يُعْضَدُ شَجَرُها، ولا يُنَفَّر صَيدُها، ولا تَحلُّ لُقَطَتُها، ومَن قُتِلَ له قتيلٌ فهو بخير النظرين: إمَّا أن يفدى، وإمَّا أن يَقْتُلَ". فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه، فقال: يا رسول الله، اكتبوا لي. فقال: "اكتبُوا لأَبي شاهٍ". قيل: للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي؟ ما يكتبون له؟ قال: خطبته التي سمعها. متفق عليه (3).
صعود بلال على ظهر الكعبة:
فأذَّنَ وصعد وقريش في رؤوس الجبال، منهم الخائف ومنهم من يطلبُ الأمان، فلما قال: "الله أكبر" تزعزت بيوتُ مكّة، فلما قال: "أشهد أن لا إله إلَّا الله" خرَّت الأصنام سجَّدًا، فلما قال: "وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله" تقول جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم حيث لم يسمع نهيق عَبْدِ بني جُمَح على ظهر الكعبة، قد لعمري رفع لك ذكرك، أما الصلاةُ فنصلي، ولكن والله ما نحب من قتل الأحبة أبدًا. وقال خالد بن سعيد بن العاص: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم ير هذا اليوم ولم يسمع هذا الصوت. وقال الحارث بن هشام: واثكل أُماه ليتني مِتُّ قَبل اليوم. وقال الحكم بن مروان: هذا والله الحدث العظيم، أن يصيح عبد بني جمح ينهق على بنيَّة أبي طلحة.
وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطًا من الله فسيُغيّره، وإن كان لله فيه رضى
__________
(1) لم نقف عليه من حديث ابن عباس، وأخرجه أحمد في "مسنده" (18715) من حديث عبد الله بن عدي الزهري - رضي الله عنه -.
(2) أخرجه البخاري (104)، ومسلم (1354) من حديث أبي شريح العدوي - رضي الله عنه -.
(3) البخاري (2434)، ومسلم (1355).
(4/86)
________________________________________
فسيقره. وقال أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئًا، لو قلت شيئًا لأخبرته هذه الحصاة، وجاء رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الوحيُ بما قالوا، فجاء إليهم ووقف عليهم وقال: أنتَ قلت كذا وأنت قلت كذا، فقال أبو سفيان: وأنا قلتُ شيئًا؟ فقال: لا، وضحك (1).
وقالت أم هانئ: ذهبتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح فوجدته يغتسل وابنته فاطمة تستره بثوب، فسلَّمتُ عليه، فقال: "مَن هذِه؟ " فقلت: أنا أم هاني بنت أبي طالب. فقال: "مَرحَبًا يا أُمَّ هانئ". فلما فرغ من غُسْلهِ قام فصلى ثماني ركعات مُلتحفًا في ثوب واحد، فلما انصرف من صلاتِه قلتُ: يا رسول الله، زعم ابنُ أبي أنه قاتلٌ رجلًا قد أجرتُه، فلانُ بن هبيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أَجَرْنا مَن أَجَرْتِ يا أُمَّ هانئ". وكان ذلك ضُحىً. أخرجاه في "الصحيحين" ولمسلم بمعناه (2).
وعنها قالت: لما فتح الله على رسولِه مكَّة فرَّ إليَّ رجلان من أحمائي من بني مخزوم، فأجَرْتُهما وأدخلتُهما بيتي، فجاء أخي فقال: لأقتلنهما، فقلت: إني قد أجرتُهما، وأَغلقتُ عليهما بابي، ثم جئت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكَّة فوجدته يغتسل من جَفْنَةٍ فيها من أَثر العَجين، وابنته فاطمة تسترُه بثوبٍ، فلما فرغ من غُسْلِه أخذ ثوبه فتوشحه، ثم ركع ثماني ركعات من الضحى، ثم أقبل عليّ وقال: "مَرحَبًا وأَهلًا يا أُمَّ هانئ، ما جاءَ بكِ؟ " فأخبرته الخبر فقال: "لَيسَ بقاتِلِهما" (3).
ذِكْرُ النفرِ الذين أَباح رسول الله دِماءَهم:
وهم أَنس بن زُنَيمٍ بن عمرو بن عبد الله من كنانة، وهو أخو ساريةَ بنِ زُنَيمٍ صاحب وقعة نهاوَنْد، والحارثُ بنُ نُقَيد، وصفوان بن أُمية، وعبدُ الله بن خَطَل، وعبد الله بنُ سعد بن أبي سَرْح، وعكرمةُ بن أبي جهل، ومِقْيَسُ بن صبابةَ، ووحشي قاتل حمزة، وهَبّار بن الأَسود.
ومن النساءِ: سارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب، وفَرْتنى، وقُرَيبَةُ، وهند
__________
(1) انظر "المغازي" 2/ 846.
(2) أخرجه البخاري (357)، ومسلم (336).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 12/ 452، وأحمد في "مسنده" (26892).
(4/87)
________________________________________
بنت عتبة امرأة أَبي سفيان بن حرب.
فأما أنس بن زنيم فكان قد نقل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قد هجاه، فقال يعتذر (1): [من الطَّويل]
أَنتَ الذي تُهدى مَعَدٌّ بأمرِهِ ... بلِ الله يَهديها وقال لَكَ اشهَدِ
فما حَمَلَت مِن ناقَةٍ فَوقَ رَحْلِها ... أبرَّ وأَوفَى ذِمَّةً مِن مُحمَّدِ
أَحثَّ على خيرٍ وأوسعَ نائلًا ... إِذا راحَ يهتزُّ اهتزازَ المهنَّدِ
وأكسى لبُرْدِ الخالِ قبل احْتِذائِهِ ... وأعطى لرأسِ السابِح المتجَرِّدِ
تعلم رسولَ الله أنَّكَ مُدْرِكي ... وأنَّ وعيدًا مِنْكَ كالأَخْذِ باليدِ
تعلَّمْ رسولَ اللهِ أنكَ قادِرٌ ... على كلِّ سكن من تِهامٍ ومُنْجِدِ
ونُبِّي رسولُ الله أَني هَجْوْتُه ... فلا رفَعَتْ سَوْطي إليَّ إذًا يدي
سوى أنني قد قلتُ يا ويحَ فِتْيةٍ ... أُصيبوا بنحسٍ يَومَ طَلْقٍ وأَسْعُدِ
ذُؤَيبًا وكُلثومًا وسَلمى تَبايَعُوا ... جميعًا فإِلَّا تَدمعِ العينُ أكْمَدِ
على أن سَلْمى ليس فيهم كمِثْلهِ ... وإخوته أَوْ هَلْ ملوكٌ كأَعْبُدِ
فإنِّيَ لا عِرضًا خَرَقْتُ ولا دَمًا ... هرقت، ففكّر عالم الحق واقْصُدِ
وتعلم أن الركبَ ركبُ عُوَيْمرٍ ... هُمُ الكاذِبُونَ المُخْلِفُو كلَّ مَوْعِدِ
يشير إلى خزاعة وما نَقلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه، عَنَى ذؤيبًا وكُلثومًا وسَلمى وكانوا من سادات العرب يُدَوْنَ بدِيَتَيْنِ لفضلهم في بني بكر، وهم: بنو الأسود بن رَزْن مروا على خزاعة فقتلوهم عند أنصاب الحرم، فكانوا سببًا لإعانةِ قريشٍ على خُزاعةَ (2).
لما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله إن أنس (3) بنَ زُنَيْم الدِّيلي هجاك، فأهدر دمه، فلما قال هذه الأبيات كلَّمه فيه نوفل بن معاوية الدَّيلي سيِّدُ بكر، وقال: يا رسول الله كذبتْ عليه خزاعةُ، وأطنب فيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد عفوت عنه".
__________
(1) السيرة 2/ 424، والمغازي 2/ 789، والطبقات 6/ 151 - 152.
(2) انظر "السيرة" 2/ 424، وطبقات ابن سعد 6/ 151.
(3) في النسخ: أنيس، والمثبت من السيرة 2/ 424.
(4/88)
________________________________________
وقال بُدَيْل بن أَصْرَم يرد على أنس (1): [من الطَّويل]
بكى أنسٌ رَزْنَاً فأعوزه البُكا ... وأشفق لَمَّا أوقَد الحربَ مُوقِدُ
ويبكي على سلمى وكلثومَ بعدَه ... سقاهم بكأس الموت قيسٌ ومَعْبَدُ
* * *
وأمَّا الحارث بن نقيد (2) بن وهب بن عبد بن قصي بن كلاب، ويقال له: الحويرث، كان شديدًا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يهجوه ويهجو أصحابه ويؤذيه، فلقيه علي - رضي الله عنه - يوم الفتح فقتله كافرًا (3).
وكان له ولد اسمه جبير بن الحارث من التابعين، قال الواقدي: أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرو عنه شيئًا. وقال ابن عبد البر: في صحبته نَظَر (4). وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، روى عن أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما وغيرهما، وروى عنه عروة بن الزبير وابن المسيب وغيرهما، شهد اليرموك، فسمع صائحًا يصيح: يا خيل الله اركبي، يا معاشر المسلمين هذا يوم من أيام الله تعالى قاتلوا فيه بلا حياء. قال: فتأملتُه فإذا به أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد.
* * *
وأمَّا صفوان بن أمية فهرب يوم الفتح حتى أتى الشُّعَيْبَةَ ومعه غلامه يَسار فقال له: ويحك انظر من تَرى، فنظر فقال: هذا عمير بن وهب، فقال صفوان: ما أصنع بعمير، والله ما جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمدًا فلحقه، فقال: يا عمير ما كفاك ما صنعت
__________
(1) لم نقف على هذين البيتين بهذه الرواية في المصادر، ورواية "السيرة" 2/ 425:
بكى أنس رزنًا فأعوله البكا ... فألَّا عديًا إذ تُطَلُّ وتُبعَدُ
بكيتَ أبا عبس لقرب دمائها ... فتُعذِرَ إذ لا يوقد الحرب مُوقد
أصابهم يوم الخنادم فتية ... كرامٌ فَسَل منهم نفيل ومعبد
هنالك إن تسفح دموعك لا تلم ... عليهم وإن لم تدمع العين فاكمدوا
(2) في النسخ: "معبد" والمثبت من "الطبقات" 7/ 5 في ترجمة ابنه جبير.
(3) انظر "المغازي" 2/ 857، و"أنساب الأشراف" 1/ 431.
(4) "الاستيعاب" بهامش الإصابة 1/ 232.
(4/89)
________________________________________
بي؛ حمَّلْتني دَيْنَكَ وعيالَكَ وجئت تريدُ قتلي، فقال: أبا وهب، جُعِلْتُ فِداكَ جئتك من عندِ أَبرِّ النَّاس وأوصلِ الناس وقد أَمَّنَك، فقال: والله لا أرجع معك حتَّى تأتيني بعلامةٍ أَعْرِفُها، فرجع وقال: يا رسول الله قال كذا وكذا، فقال: "خذ عِمامتي" وهي البُرْدَةُ التي دخل بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح مُعْتَجِرًا بها، فعاد بها إليه فجاء معه فوافى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلِّي العصرَ، فوقف حتَّى سلَّم وناداه: يا محمد إن هذا جاء ببردك وزعم أنك أَمَّنْتَني فقال: "نعم أَبا وهب"، فأقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حاله حتَّى خرج معه إلى هَوازن وهو كافِرٌ.
وأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعير سلاحًا، فقال: أطَوْعًا أو كُرْهًا؟ قال: "بل عارِيَّة مؤداة" فأعاره مئة دِرْعٍ وسلاحًا وحمله إلى حنين وشهد حنَيْنًا والطائِفَ وهو على شركه، ثم رجع إلى الجِعْرانة، فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في الغنائم ينظر إليها وصفوان معه، فجعل ينظر إلى شِعْبٍ مُلئ نَعَمًا وشاءً ورِعاءً، فأدام النظر إليه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمُقه فقال: "أبا وَهبٍ، يُعجبُكَ هذا الشِّعْبُ؟ " قال: نعم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هُوَ لَكَ وما فِيهِ"، فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفسُ أحدٍ بمثل هذا إلا نفسُ نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأسلم مكانه (1).
وكانت تحته فاختةُ بنت الوليد بن المغيرة، فأسلمت قبله ففرَّقَ الإسلامُ بينهما، فلما أسلم رُدَّت عليه بالنِّكاح الأول (2)، وقيل: بنكاحٍ جديد.
وأمَّا عبدُ الله بنُ خَطَل فقال أنس: دخل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتح مكَّة وعلى رأسه المِغْفَرُ، فلما نزعه جاءه جبريل فقال: ابن خَطَل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقْتُلُوه" فقتلوه (3).
قال أبو بَرْزَةَ الأسلمي: أخرجتُه من بين أَستار الكعبةِ فضربت عنقه بين الركن والمقام، وهربت قَيْنتاه، فقُتِلَت إحداهما وعاشت الأخرى إلى زمن عثمان رضوان الله
__________
(1) "المغازي" 2/ 853، و"الطبقات" 6/ 111 - 112، و"أنساب الأشراف" 1/ 435، و"المنتظم" 5/ 332، و"تاريخ دمشق" 24/ 112، و"السيرة الشامية" 5/ 379 - 380.
(2) "الطبقات" 6/ 111.
(3) أخرجه البخاري (1846)، ومسلم (1357).
(4/90)
________________________________________
عليه، فكُسِرَ ضِلَعٌ من أضلاعها فماتت فقضى عثمان فيها بثمانية آلاف درهم، الستة آلاف دِيَتُها وألفين تعظيمًا لأَمْرِ الجنايةِ في الحرم (1).
* * *
وأمَّا عبد الله بن سعد بن أبي سرح فأمه مُهانةُ بنت جابر من الأشعريين، قدمت على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمة، فأحسن إليها ووصلها، فعادت إلى مكة مرتدة تهجوه وتهجو المسلمين، فصادفها علي رضوان الله عليه يوم الفتح فقتلها (2).
وعبد الله أخو عثمان رضوان الله عليه من الرَّضاعة، فلما كان يومُ الفتح جاء إليه وقال: أنت أخي من الرضاعة فكلِّمْ محمدًا فِيَّ، فإنَّه إن رآني قتلني، فإن ذنبي أعظم الذنوب. فلم يُرَعْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا وعثمانُ - رضي الله عنه - آخذٌ بيد عبد الله فقال: يا رسولَ الله، أخي من الرَّضاعة، فأعرض عنه، فردَّد عليه الكلام وأكبَّ عليه يقبِّلُ رأسَه ويقول: فداك أبي وأمي، قال: "نعم" وكان رجلٌ من الأنصار نذر أن يقتله وكان حاضِرًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هلَّا وَفَّيتَ بنَذرِكَ" فقال: انتظرتك أن تومئ إليَّ، فقال: "الإيماءُ خيانةٌ، ما كانَ لنبيًّ أَنْ يُومئَ" (3).
* * *
وأما عكرمة بن أبي جهل فإنه هرب يوم الفتح، فاستأمنت له زوجته رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأمَّنَه، فخرجت في طلبه، وكان قد ركب البحر فهبَّ بهم فجعل النَّواتي يَدْعون الله ويُوَحِّدونَه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى، فقال: هذا إله محمد الذي يدعو إليه فأرجعوني، فرجع ثم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوقف بين يديه ومعه امرأته فقال: إلامَ تدعو؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلَّا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصَّلاة وتؤتي الزكاة ... وعدَّ له خصال الإسلام. فقال عكرمة: والله ما دعوتَ إلَّا إلى
__________
(1) "المغازي" 2/ 859 - 860.
(2) لم نقف في مصدر من المصادر أن عليًا قتل مهانة ولا أنها قتلت ولا أسلمت، وإنما ذكر البلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 432 - 433 أن الذي قتلها علي يوم الفتح هي سارة صاحبة كتاب حاطب، وذكر صاحب "السيرة الشامية" 5/ 341 أنها أسلمت وعاشت إلى خلافة عمر بن الخطاب. والله أعلم.
(3) "المغازي" 2/ 855 - 856، و"الطبقات" 6/ 130 - 131.
(4/91)
________________________________________
الحق. ثم أسلم، وردَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأته بالنكاح الأَول (1).
وأما مِقْيسُ بن صبابة فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدر دمه، فلما كان يومُ الفتحِ شرب الخمرَ وأصبح مصطبحًا في ندامى له، فعلم بمكانه نُميلةُ بنُ عبد الله فأتاه فوجده يترنم: [من الوافر]
دَعيني أَصطَبِح بَكْرًا فَإنِّي ... رَأيتُ الموتَ نقَّبَ عن هشامِ
ونَقَّب عن أَبيك أبي يزيدٍ ... أَخي القَيْناتِ والشَّرْبِ الكِرامِ
بهم أَرسَت رَواسِيَ من ثَبيرٍ ... ومن ثَوْرٍ ولم يُصْمم صَمامِ
تُغنيني الحمامُ كأنَّ رَهْطي ... خُزاعةُ أو أناسٌ من جُذامِ
قال: فبادره نُميلةُ فضربه بالسيف حتى برد.
ويقال: إنه خرج وهو يتمثل بين الصفا والمروة، فرآه المسلمون فقتلوه (2).
* * *
وأما وحشي فهرب إلى الطائف، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُسْلِمًا (3).
* * *
وأما هبَّار بن الأسود فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدر دمه فهرب يوم الفتح.
قال جبير بن مطعم: كنت جالسًا معَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجده بالمدينة منصرفه من الجِعِرَّانةِ فطلعَ هبَّارُ بن الأسود، فنظر إليه القوم وقالوا: هذا هبَّارٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَد رَأَيتُه"، وأراد بعض القوم أن يقوم إليه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجْلِس" فوقف عليه هبار وقال: السلام عليك يا رسول الله، وذكر الشهادتين، ثم قال: لقد هربت منك في البلاد وأردت اللحاق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وفضلك وبرك وصفحك، واعتذر طويلًا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد عَفوتُ عنك، وقد أحسنَ الله إليكَ إذ هَداكَ للإسلامِ، والإسلامُ يَجُبُّ ما قَبلهُ". وخرجت سلمى مولاةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: لا أنعم
__________
(1) "المغازي" 2/ 851 - 852، و"الطبقات" 6/ 85 - 86.
(2) "المغازي" 2/ 860 - 861. وفيه أنه خرج وهو ثمل فيما بين الصفا والمروة.
(3) "المغازي" 2/ 862 - 863.
(4/92)
________________________________________
الله بك عينًا، أنت الذي فعلت وفعلت، فقال: "إنَّ الإسلامَ مَحا ذلكَ" (1)
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سبَّه وقال له: "سُبَّ من سَبَّكَ" (2).
* * *
وأما هند بنت عتبة فأسلمت.
ولما قتل النفر الذين عيَّنَهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سُمع النوح عليهم بمكة، وجاءه أبو سفيان بن حرب فقال: فداك أبي وأمي، البقيةَ على قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتل قرشي بعد اليوم صبرًا" يعني: على كفر (3).
* * *
وطُلبَ عبدُ الله بنُ الزَّبَعْرى فهرب إلى نجران، فحصنوا حصنهم، وأرسل حسانُ بن ثابت إلى ابن الزَّبَعْرى بأبيات منها: [من الكامل]
لا تَعدَمَنْ رَجُلًا أحلَّكَ بُغْضُه ... نَجرانَ في عيشٍ أحَذَّ لئيمِ
بَلِيَتْ قَناتُكَ في الحروبِ فأُلفِيَتْ ... خَمّانةً جوفاء ذاتَ وُصومِ
غَضَبُ الإلهِ على الزَّبَعْرى وابنه ... وعذابُ سُوءٍ في الحياة مقيمِ
فلما وقف على الأبيات تهيَّأ للخروج، فقال له هبيرة: أين تريد؟ قال: محمدًا، قال: تتبعه؟ قال: نعم، قال: يا ليت أني رافقتُ غيرك، والله ما ظننت أنك تتبع محمدًا أبدًا، قال: على أَيّ شيء أُقيمُ عِنْدَ الحارثِ بن كعب وأدع ابن عمي خير النَّاس وقومي وداري، وجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والحمد لله الذي هداني للإسلام، لقد عاديتك وأَجْلَبْتُ عليك، وركبت الفرس والبعير، ومشيت على قدمي في عداوتك، ثم هربت منك إلى نجران ... واعتذر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحمدُ للهِ الذي هَداكَ إلى الإسلامِ، والإسلام يَجُبُّ ما قَبْلَهُ" (4).
__________
(1) "المغازي" 2/ 857 - 858، و"الطبقات" 6/ 60.
(2) "المغازي" 2/ 859، و"الطبقات" 6/ 62.
(3) "المغازي" 2/ 862، والحديث أخرجه مسلم (1782) من حديث مطيع بن الأسود.
(4) "المغازي" 2/ 847 - 848، و"الطبقات" 6/ 108 - 109.
(4/93)
________________________________________
وقال لما أسلم (1): [من الكامل]
منعَ الرُّقادَ بلابلٌ وهمومُ ... والليلُ معتلجُ الرواقِ بَهيمُ
مِمّا أَتاني أَنَّ أَحمدَ لامَني ... فيه، فبتُّ كأَنَّني محمومُ
يا خَيْرَ مَنْ حملتْ على أَوصالِها ... عيرانةٌ سُرُحُ اليدين غَشُومُ
إِنِّي لمعتَذِرٌ إليك منَ الذي ... أَسْدَيْتُ إِذْ أَنا في الضلالِ أَهيمُ
أَيام تأمرني بأسوأ خُطَّةٍ ... سَهْمٌ وتأمرني بها مخزومُ
وأما هُبيرة فأقام بنجران ومات بها كافرًا.
وأسلمت أم هانئ فكتب إليها لَمّا بلغه إسلامُها في أبيات (2):
فإن كنتِ قد تابعتِ دينَ محمَّدٍ ... وقطَعَتِ الأَرحامَ مِنك حِبالُها
فكوني على أعلى سحوق بهضبةٍ ... مُلَمْلَمةٍ حَمراءَ يَبْسٍ بلالُها
* * *
وأما سهيل بن عمرو فقال: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة أغْلَقْتُ بابي، وأرسلت إلى ابني عبد الله أن يطلب لي جوارًا من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فإني لا آمن القتل، وجعلتُ أتذكَّرُ آثاري وما فعلتُ يوم الحُدَيْبِيَةِ، وقتال رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ مَوْطنٍ، وطلب لي عبد الله أمانًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هو آمن" وقال لمن حوله: "من لقي منكم سُهَيْلًا فلا يُحِدَّ النظر إليه، فإن له عَقْلًا وشَرفًا وَلْيَخْرُجْ من بيته آمنًا"، فأخبره ابنه بمقالةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سهيل: كان والله بَرًّا صغيرًا وكبيرًا.
وكان سهيل يُقْبِلُ ويُدْبِرُ ولا ينظر إليه أحد، وخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين وهو كافر فأسلم بالجِعِرَّانة (3).
ذِكْرُ مُبايعةِ النِّساء:
قال أبو حبيبة مولى الزبير: لما كان يوم الفتح أسلمت هند بنت عتبة، وأم حكيم
__________
(1) الأبيات في "السيرة" 2/ 419.
(2) الخبر في "السيرة" 2/ 420 - 421، و"المغازي"، 2/ 848 - 849.
(3) "المغازي" 2/ 846 - 847، و"الطبقات" 6/ 123.
(4/94)
________________________________________
بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وكلثوم بنت المعدل كنانية امرأة صفوان بن أمية، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، ونسوةٌ من قريش، فأتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالأَبْطح وعنده زوجتاه وابنته فاطمة ونساء من بني عبد المطلب فبايعنه، فقالت هند: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتمسني رَحِمُك يا محمد، فإني امرأة مؤمنةٌ بالله، ثم كشفت عن نقابها وقالت: هند بنت عتبة، فقال لها: "مَرحبًا بكِ" فقالت: والله يا رسول الله، ما كان على الأرض من أهل خِباء أَحبُّ إلي من أن يَذِلّوا من خِبائك، ولقد أصبحتُ وما على الأرض من أهل خِباء أحبُّ إِليَّ من أن يَعِزُّوا من أهل خبائك. فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأ عليهن القرآن وبايعهن، فقالت هند: يا رسول الله ألا نصافحك؟ فقال: "إنَّي لا أُصافِحُ النِّساءَ" (1).
وقال الهيثم: جاءت هند متنكرة في النساء إلى الصفا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس عنده، وعمر بن الخطاب رضوان الله عليه قائم على رأسه وبيده السيف صَلْتًا، فبايعه النَّاس وهند قد أرسلت خِمارَها على وجهها خوفًا من القَتْلِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبايعكُنَّ على أَن لا تُشرِكنَ باللهِ شَيئًا". قلْنَ: نَعم. قال: "ولا تَزْنين". فقالت هند: وهل تزني الحرَّة. فقال: "ولا تَسْرِقنَ ولا تَقْتُلنَ أَولادَكُنْ". فقالت: أما الأولاد فإنا ربَّيْناهم صغارًا وقتلتموهم كِبارًا، وأمَّا السَّرقة فقد كنت أصبت من مال أبي سفيان ولا أَدري أيحلُّ لي ذلك أم لا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنَّكِ لهِنْدٌ؟ "، قالت: نعم. فقال: "مَرحبًا وأَهْلًا". وكان أبو سفيان حاضِرًا فقال: أما ما مضى فأنت منه في حِلًّ، ومنَ الآن فلا. فقالت: يا رسول الله اعف عني. فقال: "عَفا الله عنكِ" (2).
وهذا بمكة، وأمَّا في المدينة فقد بايعه معظم نساء الأنصار.
ولما أسلمت هند كَسَرَت كلَّ صنم كان في بيتها وقالت: لقد كنا منهم في غرور، وأهدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جدْيَيَنِ مَرْضُوفَيْن وسقاء من لبن، فأتت الجارية خيمته فاستأذنت، فأذن لها فدخلت وسلمت وقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية وهي معتذرة إليك، وتقول: إن غنمنا اليوم قليلة.
__________
(1) "الطبقات" 10/ 224 - 225.
(2) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 61 - 62.
(4/95)
________________________________________
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بارَكَ اللهُ لكُم في غَنَمِكُم وأَكثَر أَولادَها". فرجعت الجارية إليها فأخبرتها فَسُرَّت بذلك (1).
ذكر إسلام أبي قُحَافة:
قالت أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ - رضي الله عنها -: لما كان عامُ الفتح ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي طوى، قال أبو قحافة لابنة له صغيرةٍ أصغر ولده: يا بُنيَّةُ أشرفي بي على أبي قُبَيْسٍ، وكان قد كُفَّ بَصرُه، فأشرفت به عليه فقال: ماذا ترَيْن؟ فقالت: أرى سوادًا مُجْتمعًا وأرى رجلًا يَشْتَدُّ بين ذلك السواد، فقال: تلك الخيل، أسرعي بي إلى منزلي، فخرجت به سريعًا حتى هبطت الأَبْطح، فلقيتها الخيل وفي عنقها طوق من وَرِق فاقتطعه إنسان من عُنِقها، فلما دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد خرج أبو بكر رِضوانُ الله عليه فجاء بأبيه يقودُه، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وهلّا تركتَ الشيخَ في بيته حتَّى كنتُ أَجيئُه"، فقال: يا رسول الله، هو أحق أن يمشيَ إليك، فأجلسه بين يديه ثم مسح على صدره وقال: "أَسلِمْ تَسْلَم" فأسلم، ثم قام أبو بكر رضوان الله عليه فأخذ بيد أخته وقال: أنشد الله والإسلامَ رجلًا رَأى طوق أختي فردَّه، قالها مرارًا، فما أجابه أحد فقال: يا أُخَيَّةُ احتسبي طوقكِ، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقَليل (2).
* * *
وجاء أبو أحمد الأعمى بن جحش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني لما هاجرتُ إلى الله ورسوله باع أبو سفيان داري بأربع مئة دينار وأُريدُ ثمنَها، فكان أبو سفيان حاضرًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا تَرضى بها دارًا في الجنَّةِ؟ " قال: بلى (3).
ذكر إسلام عُتْبةَ ومُعتِّب ابني أَبي لهب:
وأمهما أم جَميل بنت حَرْب، حَمَّالة الحطب، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح للعباس
__________
(1) "المغازي" 2/ 868 - 869.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (26956) دون قوله: فوالله إن الأمانة في النَّاس اليوم لقليل.
(3) "الطبقات" 4/ 96.
(4/96)
________________________________________
- رضي الله عنه -: "أينَ ابنا أَخيكَ عُتْبةُ ومُعتِّبٌ"؟ فقال: حاضران، فجاء بهما فَسُرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهما، وخرجا معه من فوره وشهدا حنينًا وثبتا، وأصيبت عين مُعتِّبٍ يوم حنين، وأقاما بمكة بعد الفتح، ولم يقم بها أحد من بني هاشم سواهما (1).
ولما دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة قيل له: ألا تنزلُ بَعْضَ بيوتك؟ فقال: "وهل ترك لي عَقيلٌ من منزل" (2).
وكان عَقيلٌ قد باع منزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنازل بني هاشم، فضربت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُبَّةٌ بالحَجون، فكان يمشي من الحَجونِ إلى المسجد وقتَ كل صلاة.
وقال ابن عباس: كان لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - صديقٌ من ثقيف أو دوس، فلقيه يوم الفتح براويةٍ من خمر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَما عَلِمتَ أنَّ اللهَ حَرَّمَها"؟ فسارَّ غلامه بشيء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما الذي قُلْتَ له؟ " قال: قلت له: اذهب بها إلى الزورة فبعها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الذي حَرَّمها حَرَّم ثَمَنَها" فأمر بها فأُفْرِغَتْ بالبطحاء. انفرد به مسلم (3).
ذكرُ ما استسلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المال:
استسلف من عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم، واستقرض من صفوان بن أمية خَمْسين ألف درهم، ومن حُويطب بن عبد العزى أربعين ألفًا، فقسم الجميع بين أصحابه من أهل الضعْفِ، فلما فتح الله عليه هوازن أَوْفى الجميع وزادهم.
ذكر تجديد أنصاب الحرم:
وكان أَوَّلَ من وضعها آدمُ وإبراهيم وجبريل يريه ذلك، ثم لم تُحرّكْ حتى كان إسماعيل فجدَّدها، ثم لم تُحَرَّكْ حتى كان قصي فجددها، ثم لم تحرك حتى كان يوم الفتح فجدَّدَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب رضوان الله عليه
__________
(1) "الطبقات" 4/ 55 - 56.
(2) أخرجه البخاري (1588)، ومسلم (1351) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -.
(3) أخرجه مسلم (1579)، وأحمد في "مسنده" (2041).
(4/97)
________________________________________
[فبعث مخرمةَ بنَ نوفل وأَزهر بنَ عبدِ عوف وحُوَيطبَ بنَ عبد العُزّى وسعيد بن يربوع المخزومي فجددوها، ثم كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه -] فبعث هؤلاء النفر فجددوها، ثم حج معاوية [فبعثهم فجددوها]، ثم جددها عبد الملك بن مروان (1).
* * *
وفي هذه الغزاةِ تزوجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مليكة بنت داود الليثية (2). وقيل: اسمها عَمْرة بنت كعب، وقيل: إنها كنانية، وأنه دخل بها وماتت عنده (3).
وقال الزهري: ما تزوج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كِنانية قط، ولا دخل بهذه (4). وهي التي استعاذت منه، وتزوجها قبل الفتح، وقيل: بعده، وكان أبوها قُتلَ يوم الفتح.
قال البلاذري: كانت حَدَثة جميلة، فجاء إليها بعض أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت لها: ألا تستَحينَ أن تنكحي قاتلَ أبيك؟ فاشمأزت، وقالت: فكيف أصنع؟ فقالت لها: إذا جاء إليكِ فقولي: أعوذ بالله منك، ففعلت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد عذت بمعاذ" وفارقها (5). والتي قالت لها عائِشةُ رضوان الله عليها.
وقال أبو حصين الهذلي: قَدِمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكَّةَ امرأةٌ من نساءِ بني سعد بن بكر بِنِحْيٍ مملوءٍ سَمْنًا وجرابٍ فيه أَقِطٌ، فدخلت عليه وهو بالأَبطح، فانتسبت له فعرفها ودعاها إلى الإسلام فأسلمت، فقبل هديتها، وسألها عن حليمة فأخبرته بوفاتها فذرفت عيناه، ثم سألها: "من بقي منهم؟ " فقالت: أخواك وأختاك وهم والله محتاجون إلى بِرَّكَ وصِلَتك، ولقد كان لهم موئِلٌ فذهب، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين أهلُك؟ " فقالت: بذات أَوْطاس، فأمر لها بكسوة وأعطاها حمل ظعينة ومئتي درهم، فانصرفت وهي تقول: نِعْمَ والله المكفول كنت صغيرًا، ونعم المرءُ كبيرًا عظيمَ البركة (6).
__________
(1) المغازي 2/ 842 وما بين حاصرتين منه.
(2) رجح ابن حجر أن اسمها مليكة بن كعب. انظر "الإصابة" 4/ 410.
(3) "الطبقات" 10/ 143، و"أنساب الأشراف" 1/ 548 - 549.
(4) "الطبقات" 10/ 144.
(5) "أنساب الأشراف" 1/ 548، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد عذت بمعاذ" إنما قاله لأسماء بنت النعمان بنت الجون الكندية، انظر "أنساب الأشراف" 1/ 546.
(6) "المغازي" 2/ 869.
(4/98)
________________________________________
فصل في المتعة
حدَّث الربيع بن سَبْرَةَ الجُهَنيُّ عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فأقمنا خمس عشرة ما بين يوم وليلة، فأذن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المتعة، فخرجت أنا وابنُ عمٍّ لي، فلقينا فَتاةً من بني عامر بن صعصعةَ كأنها البكرة وأنا قريب من الدَّمامة، وعليّ برد جديد وعلى ابن عمي بُرْدٌ خَلَق وابنُ عمي وَسيمٌ، فقلنا لها: هل لك أن يستمتع منك أحدُنا؟ قالت: وهل يصلح ذلك؟ قُلنا: نعم، فجعلت تنظرُ إلى ابن عمي، فقلتُ لها: بُردي هذا بُرْدٌ جَديد وبرد ابن عمي خلَقٌ، قالت: برد ابن عمك لا بأس به، فاستمتع منها، فلم نَخْرجْ من مكة حتى حرَّمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
قال المصنفُ رحمه الله: وقد اختلف الناس في جواز المتعة، فعامة العلماء على أنها باطلة، وروي جوازها عن جماعة منهم علي (2)، وابن عباس (3)، وجابر بن عبد الله (4)، وأبي سعيد الخدري (5) وعطاء بن أبي رباح، وابن جُرَيْج، وابن أبي مُليكة، وطاووس (6) وحكاه أصحابنا.
قال ابن عبد البَرِّ: حرَّم مالكٌ المتعة في أهل المدينة والشافعي في أهل الحجاز، وأبو حنيفة في أهل الكوفة، والأوزاعي في أهل الشام، والليث في أرض مصر،
__________
(1) أخرجه مسلم (1406) (20)، وأحمد في "مسنده" (15346).
(2) لم نقف على قول لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في جواز المتعة، بل ورد عنه النهي عنها، وهو، كما سيذكره المصنف بعد قليل، دليل على أن علي بن أبي طالب يرى النسخ كما قال البخاري عقب (5119): وقد بينه علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه منسوخ.
(3) أخرجه البخاري (5116) عن أبي حمزة قال: سمعت ابن عباس يسأل عن متعة النساء، فرخص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة أو نحوه؟ قال: نعم.
وقال الترمذي عقب (1121): وإنما روى عن ابن عباس شيء من الرخصة في المتعة، ثم رجع عن قوله حيث أخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيذكر المصنف عدول ابن عباس عن هذه الرخصة.
(4) أخرجه البخاري (5117)، ومسلم (1405) عن جابر وسلمة بن الأكوع قالا: خرج علينا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أذن لكم أن تستمتعوا يعني متعة النساء.
(5) ذكره ابن قدامة في "المغني" 7/ 136.
(6) انظر "المغني" 7/ 136.
(4/99)
________________________________________
والحسن في أهل البصرة.
واحتجَّ من أباحها بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، وبأحاديث منها:
ما روي عن ابن مسعود قال: غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس معنا نِساءٌ، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ثم رخَّص لنا في المتعة، وكان أحدنا يأخذ المرأة أو ينكِح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ ابن مسعود {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] متفق عليه (1).
ولعامة العلماء قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] والمتعة ليست من هذا القبيل، ألا ترى أنها ترتفع من غير طلاق ولا يجري بينهما توارث.
وأخرج البخاري عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية (2).
وكذا قال عمر: أباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة ثم حرَّمها.
وأما الآية فالمراد بها الاستمتاع بطريق النكاح المؤبد لا المؤقت، لأنه وسيلة إلى الأغراض المطلوبة من التناسل والتوالد وغيره، والتوقيت يبطله.
وروي أن عروة بن الزبير قال لابن عباس: أهلكت نفسَك وأهلكت الناسَ، فقال له: وما هو يا عُرَيُّ؟ قال: إِباحةُ المتعةِ، وقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عنها فقال: أُخْبِرُكَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخبرني عن أبي بكر وعمر، فقال عروة: هما كانا أعلم بالسنة منك.
وقال سعيد بن جُبير: قيل لابن عباس: لقد أكثرت في المتعة حتى سارت بها الركبان، وقال فيها الشاعر: [من البسيط]
أقول وقد طال الثواء بنا معًا ... يا صاح هل لكَ في فتوى ابن عباسِ
__________
(1) أخرجه البخاري (5075)، ومسلم (1404).
(2) أخرجه البخاري (5115) وأخرجه أيضًا مسلم (1407).
(4/100)
________________________________________
يا صاحِ هل لك في بيضاءَ آنسِةٍ ... تكونُ مثواك حتى رجعةِ الناسِ
فانزعج ابن عباس وقال: ما إلى هذا ذهبت، ثم قام خطيبًا في يوم عرفة وقال: أيها الناس إن المُتعةَ حرامٌ كالميتةِ والدمِ ولحمِ الخنزير (1).
وقال جابر بن يزيد: والله ما فارق ابن عباس الدنيا حتى رجع إلى قول الصحابة في تحريم المتعة.
وكان عمر رضوان الله عليه يقول: والله لا أوتى برجل أباح المتعة إلا رجمته (2).
* * *
وبثَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سراياه حول مكة وهو مقيم بها وسيَّر خالد بن الوليد لهدم العُزَّى، فخرج في ثلاثين فارسًا فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هَدَمْتَها"؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: "فَهَل رَأَيتَ شَيئًا"؟ قال: لا، قال: "فَإِنَّكَ لم تَهدِمْها، فارجعْ إِليها" فرجع وهو متغير، فجرَّد سيفه، فخرجت امرأة عُريانةٌ سوداءُ ناشرة شعرَها، قال خالد: فأخذني في ظهري قُشَعْرِيرَة وأقبل إليها وبيده السيف فضربها فجزَلَها اثنتيْنِ، ثم رجع إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: "تِلكَ العُزَّى، وقد يَئسَت أَن تُعبدَ بِبلادِكُم أَبَدًا". وكان هدمُها لخمس بقين من رمضان، وسادِنُها أفلح بن النَّضْرِ السُّلَميُّ (3).
* * *
وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطُّفَيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكَفَّيْنِ صنمَ عَمْرو بن حُمَمَةَ الدَّوْسي فهدمه وحَرَّقَهُ بالنار (4).
ذكر هدم سُواع صنم هُذَيل:
قال عمرو بن العاص: انتهيت إليه وعنده السادن فقال: ما الذي تريد منه؟ قلت:
__________
(1) أخرجه البيهقي في "السنن" 7/ 205.
(2) أخرجه مسلم (1217).
(3) "الطبقات الكبرى" 2/ 135، وانظر "السيرة" 2/ 436 - 437.
(4) "الطبقات" 2/ 145.
(4/101)
________________________________________
أَمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهدمه، فقال: لا تَقْدِرُ؛ إنه يمتنع عليك، فقلت له: وأنت إلى الآن في الباطل، وهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنوت منه فَهدمته وقلت للسادن: كيف ترى؟ فقال: أسلمت لله رب العالمين (1).
ذكر مسير خالد إلى بني جَذِيمةَ:
لما افتتح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة بعث خالدَ بنَ الوليدِ داعيًا ولم يبعثه مقاتلاً، فخرج حتى نزل على بني جَذيمة بن عامر بن مناة بن كنانة وهم على ماء لهم يقال له: الغُمَيصاء، وكانوا قد أصابوا في الجاهلية عمه الفاكه بنَ المغيرة وعوفًا أبا عبد الرحمن - رضي الله عنه -، فلما غشيهم أخذوا السلاح، فقال خالد: إن الناس قد أسلموا فَضعوا السلاح، وأبى جَحْدَم - رجل منهم - أن يضع سلاحه، وقال: يا بني جَذيمة، إنه خالد، ولا والله ما بعد وضع السلاح إلاَّ الإِسارُ وما بعد الإِسارِ إلاّ ضَرْبُ الأعناق، فقالوا: يا جَحْدم، تريد أن تُصيبَ دِماءَنا، فإن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب وأَمِنَتِ الناس، فلم يزالوا به حتى أخذوا سلاحه، فنزل خالد وأمر برجال منهم فأسروا وضربت أعناقهم، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللَّهمَّ إنِّي أبرأُ إليك ممَّا عَمِلَ خالدُ بن الوليدِ" ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: "اخرُج إلى هؤلاءِ القومِ فدِ دِماءَهم وأَموَالَهمَ، واجَعْل أَمرَ الجاهليةِ تحت قَدمَيْكَ" وأعطاه مالًا، فخرج فوَدَى دماءهم وأموالهم حتى أعطاهم ثمنَ مِيْلَغَةِ الكلب، وبقيت بقيةٌ من المال فقال: أعطيكم هذا احتياطًا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما لا يعلم وفيما لا يعلمون فأعطاهم إياه، ثم قَدِمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستقبل القبلةَ ورفَع يديه حتى رُؤي بياض إبطيه، ثم قال: "اللَّهمَّ إنِّي أَبرَأُ إليكَ ممَّا فَعَل خالدُ بن الوليدِ" (2).
وقال ابن سعد: لما رجع خالد من هَدْمِ العزى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مقيم بمكة بعث إلى بني جَذيمة داعيًا إلى الإسلام لا مقاتلًا، فخرج في ثلاث مئة وخمسين من المهاجرين والأنصار وبني سُليم، فقيل لبني جَذيمة: هذا خالد في المسلمين، فقالوا:
__________
(1) "الطبقات" 2/ 135 - 136.
(2) "السيرة" 2/ 428 - 430.
(4/102)
________________________________________
ونحن مسلمون قد صلَّينا وبَنينا المساجدَ وأذَّنّا فيها وصدَّقْنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم خالد: ما أنتم؟ فقالوا: مسلمون، وقال: فما بالُ سلاحكم عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوةً فَخِفْنا أن تكونوا هم، فأخذنا السلاح لندفع عن أنفسنا، قال: فضعوا السلاح، فقال لهم جَحْدم: ويحكم يا بني جذيمة، والله إنه خالد، ولا يريد منا ما يراد بالمسلمين وقد عرفتموه، فما زالوا يكلِّمونه حتى ألقى سيفه وقالوا: نحن مسلمون وقد فتح الله مكة، فقال: والله ليأخذنَّكم بما تعلمون من الأحقاد القديمة، فقال خالد: استأسروا، فاستأسروا وأمر بهم فكُتِّفوا ودَفَع إلى كلِّ رجلٍ من المسلمين الرجلَ والرجلين فباتوا في وَثاقٍ، فكانوا إذا جاء وقت الصلاة كلَّموا المسلمين فيصلون ثم يربطون، فلما كان في السحر والمسلمون قد اختلفوا بينهم، فقائل يقول: إنّما أسرهم ليذهبَ بهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وناس يقولون: إنما يختبرهم ليبلوَ طاعتهم، فلما كان وقت السحر نادى مناديه: من كان معه أسيرٌ فليدافّه، والمدافَّةُ الإجهاز عليه بالسيف، فأما بنو سُلَيْم فقتلوا كلَّ أسيرٍ في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأطلقوا أسراهم، وكان في الجيش عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - فأطلق أسيره (1).
قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خالدَ بن الوليد إلى بني جَذيمة فدعاههم إلى الإسلام، فلم يجيبوا ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صَبَأْنا. وذُكر أنهم لما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَروه بما صنع خالد، فرفع يديه وقال: "اللَّهمَّ إنَّي أَبرَأُ إليكَ ممَّا صَنَعَ خَالدٌ" مرتين (2).
وقال الواقدي: لما أرسل المهاجرون والأنصار أسراهم غضب خالد، فقال له أبو أسيد الساعدي: اتق الله يا خالد، والله ما كنا لنقتل قومًا مسلمين، قال: وما يدريك؟ فقال: قد سمعنا إقرارهم بالإسلام ورأينا مساجدهم (3).
ولما قدم خالد على النبي - صلى الله عليه وسلم - عاب عليه عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ما صنع وقال:
__________
(1) "الطبقات" 2/ 136 - 137.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (6382).
(3) "المغازي" 3/ 877.
(4/103)
________________________________________
يا خالد، أخذت القومَ بأمر الجاهلية قاتلك الله، وأعان عمر - رضي الله عنه - على خالدٍ، فقال خالد: أخذتُهم بقتل أبيك، فقال عبد الرحمن: كذبت والله لقد قتلتُ قاتلَ أبي بيدي، واستشهد بعثمانَ - رضي الله عنه - فقال: نعم، ثم قال عبد الرحمن: ويحك يا خالد، ولو لم أقتل قاتل أبي أكنت تقتل قومًا مسلمين بأبي في الجاهلية؟ فقال: من أخبرك أنهم أسلموا؟ فقال: أهلُ السَّرِيَّةِ كلُّهم (1).
ذكر من شهد الفتح ومدة مُقام النبي - صلى الله عليه وسلم -:
شهد مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الفتح عشرةُ آلافٍ من المهاجرين والأنصار والقبائل، وقيل: شهده اثنا عشر ألفًا، وبُرَيدةُ بن الحُصَيْب في خمس مئة وخزاعةُ في خمس مئة.
وأقام بمكة تسع عشرة ليلة يَقْصُرُ، وإذا سلَّم من صلاته يقول: "يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْرٌ".
وقيل: أقام خمس عشرة ليلة، وقيل: عشرين ليلة، وكان قُدومُه لعشر ليالٍ بقين من رمضان، واستخلف على مكة عتَّابَ بنَ أَسِيْد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أميرًا وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقيل: ابن عشرين، ومعاذَ بن جبل يعلَّمهم السُّنَنَ والفقه.
* * *
وفيها: كانت غزاةُ حُنَيْن (2) في شوال، وحُنَيْن: اسم موضع، وقيل: جبل بتهامة، وقيل: وادٍ إلى جانب ذي المجاز: بينه وبين مكة ثلاث ليال.
وسبب هذه الغزاة، لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة بلغه أن أشراف ثقيف وهوازن اتفقوا وجمَّعوا، وجعلت هوازن أمرها إلى مالك بن عوف النَّصْري وهو يومئذ ابنُ ثلاثين سنةً، وكان في ثقيف سيدان: قاربُ بن الأسود بن مسعود، وذو الخِمار سُبَيْع
__________
(1) "المغازي" 3/ 880، وانظر "السيرة" 2/ 431.
(2) "السيرة" 2/ 437، و"المغازي" 3/ 885، و"الطبقات" 2/ 138، و"أنساب الأشراف" 1/ 438، و"تاريخ الطبري" 3/ 70، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 119، و"المنتظم" 3/ 331، و"البداية والنهاية" 4/ 322.
(4/104)
________________________________________
ابن الحارث، ويقال له: الأحمر بن الحارث (1)، وتجمعت كلها إلى هوازن، وكان مالك بن عوف قد مضى بنفسه إلى الطائف ودعاهم إلى قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابوه، وخرج غيلان بن سلمة الثقفي ومعه ثقيف وعشرة من ولده على عشرة أفراس، ولم يحضرها من هوازن كعبٌ ولا كِلابٌ.
وحضرها دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ في بني جُشَم وهو ابن ستين أو سبعين ومئة سنة، شيخ كبير لا يراد منه إلا رأيُه ومعرفتُه بالحروبِ، وكان شيخًا مُجرّبًا قد ذهب بصره وأَمْرُ الناسِ يومئذ ثقيفٍ وغيرها إلى مالك بن عوف النَّصْري، وأمرَ الناسَ فجاؤوا بأموالهم ونسائهم وأهلهم فنزلوا بأَوْطاس وادٍ عند حُنَيْن فعسكروا به، والأمدادُ تأتيهم من كل ناحية.
وأمرُ جُشَم إلى درَيْد بن الصِّمَّةِ [بن بكر بن] (2) علقمة بن خُزاعة بن غزية بن جشم ابن معاوية بن بكر، وقد جعلوه في شجارٍ مثل الهودج يقاد به على بعير، فلما نزل الناس (3) لمس بيده الأرض وقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوْطاس، فقال: نعم [مجال الخيل، لا حَزْنٌ ضَرِس، ولا سهل دَهِسٌ، مالي] (4) أسمع رُغاءَ البعير، ونُهاقَ الحمير، ويُعارَ الشاءِ، وخُوارَ البقر، وبكاء الصغير، قالوا: ساق مالكٌ مع الناس أولادَهم ونساءَهم وأموالهم، فقال: يا معاشر هوازن، أمعكم من بني كلاب أحد؟ قالوا: لا، قال: فمعكم من بني كعب بن ربيعة أحد؟ قالوا: لا، قال: فهل معكم من بني هلال بن عامر؟ قالوا: لا، فقال دريد: لو كان خيرًا ما سبقتوهم إليه، ولو كان ذِكْرًا وشرفًا ما تخلفوا، فأطيعوني وارجعوا وافْعلوا كما فعلوا، فأَبَوْا عليه، فقال: أين مالك؟ فدُعِيَ به فقال: يا مالك، إنك مقاتلٌ رجلًا كريمًا وأنت رأسُ قومِكَ، إن هذا اليوم كائن له ما بعده من الأيام، يا مالك مالي أسمع رُغاء البعير، ونهاق الحمير، وخوار البقر، ويعار
__________
(1) في "السيرة" 2/ 437: وأخوه أحمر بن الحارث.
(2) ما بين معقوفين زيادة من "تاريخ دمشق" 17/ 231.
(3) في "المغازي": "الشيخ".
(4) ما بين معقوفين زيادة من "السيرة" و"المغازي"، و"الحزن": المرتفع من الأرض، و"الضرس" الذي فيه حجارة محددة، و"دهس": لين كثير التراب.
(4/105)
________________________________________
الشاء، وبكاء الصغير؟ فقال: سُقْتُ مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، قال دريد: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهلَه ومالَه وولده وشاءه حتى يقاتِلوا عنهم، فنفض دريد يده وقال: راعي ضأن، ماله وللحرب، وهل يردُّ المنهزمَ شيءٌ؟ إنها إن كانت لك، لم يَنْفَعْكَ إلا رجل بسيفه ورمحهِ، وإن كانت عليك، فُضِحْتَ في أهلك ومالك، يا مالكُ، إنك لن تصنع بتقديم بَيْضَةِ هوازن إلى نُحور الخيل شيئًا، فإن كانت لك لحِق بك مَنْ وراءَكَ، وإن كانت عليك ألفاكَ ذلك وقد أحرزت أهلَكَ ومالَكَ. فغضب مالك وقال: والله لا أُغَيِّرُ أمرًا أَصنعُه، إنك قد كَبرتَ وكبر عملك وحدث بعدك من هو أبصر منك بالحرب. فقال دريد: يا معاشر هوازن، والله ما هذا لكم برأي، هذا فاضحكم في عورتِكم وممكِّنٌ منكم عدوَّكم، ولاحقٌ بحصن ثقيف وتارِككم، فانصرفوا ودعوه. فسلَّ مالكٌ سيفه ثم نكسه، وقال: والله يا معاشر هوازن لتُطيعُنَّني أو لأتكئنَّ على السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكرٌ، فقال بعضهم لبعض: والله لئن عصينا مالكًا وهو شاب ليقتلن نفسه ونبقى مع دريد شيخ كبير لا قتال فيه، فأَجْمعوا رأيهم على مالك، فلما رأى ذلك دريدٌ قال: هذا يوم لم أشهده ولم أَغِبْ عنه: [من مجزوء الرجز]
يا ليتني فيها جَذَعْ
أخُبُّ فيها وأَضَعْ
أقود وَطْفاءَ الزَّمَعْ
كأنَّها شاةُ صَدَعْ
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكّة في عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار والقبائل الذين شهدوا معه الفتح، وفي ألفين من أهل مكة من الطُّلقاء، وكان المشركون أربعة آلاف فقال قائل: لن نُغْلَبَ اليوم من قِلَّةٍ، فلما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ساءَه (1).
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرُ الأصحابِ أربَعةٌ، وخَيرُ السَّرايا
__________
(1) "السيرة" 2/ 437 - 440، و"المغازي" 3/ 885 - 889.
(4/106)
________________________________________
أَربعُ مئةٍ، وخَيرُ الجيوشِ أَربعةُ آلافٍ، ولا يُغلبُ اثنا عَشرَ ألفًا من قِلَّةٍ كَلمتُهُم واحدةٌ" (1).
وقال أبو واقد الليثي: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين، وكان لكفارِ قريش ومَنْ سواهم شجرةٌ عظيمةٌ خضراءُ يقال لها: ذات أنواط، يأتونها في كل سنة يُعَلِّقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها ويعكفون عليها يومًا، فبينا نحن نسيرُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتينا شجرة عظيمة خضراء فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: "اللهُ أَكبَرُ، قُلتُم والذي نَفسِي بيَدهِ كما قالَ قَومُ مُوسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] لتَأخذُنَّ سَنَنَ مَن قَبلكم" (2).
قال: وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء، لعشر ليالٍ خَلَوْنَ من شوال (3).
وقال أمية بن عبد الله بن عثمان بن عفان: بعث مالك بن عوف عيونًا ممن معه، فأتوه وقد تقطعت أوصالُهم فقال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالًا بيضًا على خَيْلٍ بُلْقٍ، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فما ردَّه ذلك عن وجهه (4).
ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنَ أبي حَدْرَدٍ الأسلميَّ فقال له: انطلق فادخل في الناس حتى تأتيني بأخْبارِهم، فانتهى إلى خِباء مالك فسمعه وهو يقول لأصحابه: إن محمدًا لم يلق قط مثل المرة، وإنما لقي قومًا أغْمارًا لا عِلم لهم بالحرب فيظهر عليهم، فإذا كان في السحر فصفوا مواشيكم وأبناءكم ونساءكم من ورائكم، ثم اكسروا جفون سيوفكم واحملوا حملة رجل واحد، فإنكم تلقونه بعشرين ألف سيف.
وهذا يدل على أنهم كانوا عشرين ألفًا.
ورجع ابن أبي حَدْرَدٍ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخْبَرهُ، فقال عمر: كذب ابن أبي حَدْرَدٍ، فقال ابن أبي حدرد: لئن كذَّبتني يا عمر، فلطالما كذَّبتَ بالحق، فقال عمر رضوان الله
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2718).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (21897).
(3) "المغازي" 3/ 892.
(4) "المغازي" 3/ 892.
(4/107)
________________________________________
عليه: أتسمع يا رسول الله ما يقول؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَق، كُنتَ ضالاَّ فَهَداكَ اللهُ" (1).
وخرج من مكة رجالٌ فُرسانًا ومُشاةً ينظرون لمن تكون الدائرة، فيصيبون من الغنائم، ولا يكرهون أن يكون الصَّدْمُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
وخرج أبو سفيان بن حرب في أثر العسكر، كلما مرّ بترس ساقط أو رمح أو متاع من متاع النبي - صلى الله عليه وسلم - حمله على بعيره، والأزلام في كنانته حتى أَوْقَر جمله.
وخرج صفوان ولم يُسْلِم وهو في المدة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، وحكيم بن حزام، وحُويطب بن عبد العزى، وسُهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة، والكل ينظرون لمن تكون الدائرة وهم خلف الجيش (2).
وعبّأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه صُفوفًا في السحر، وعقد الألوية ووضع الرايات مع أهلها، فكان لواءُ المهاجرين بيد علي - رضي الله عنه -، ولواء الخزرج بيد الحُبابِ بن المنذر، وقيل: مع سعد بن عُبادة، ولواء الأوس بيد أُسيد بن حُضَيْر، ورايةٌ بيد عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، ورايةٌ بيد سعد بن أبي وقاص، في كل بطن وقبيلة لواء أو راية (3).
ذِكْرُ القتال:
انحدر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه وقد مضت مقدمته على تعبئته في وادي حُنين، وركب بغلته الدُّلدُل، وظاهَرَ بِدِرْعَيْنِ، ولبس المِغْفَرَ والبَيْضَةَ.
وقال أنس بن مالك: لما انتهينا إلى وادي حنين وهو وادٍ من أودية تِهامة، له مضايقُ وشُعَبٌ، فاستُقْبِلنا من هوازن بشيء، لا والله إنْ رأيتُ مثله قط، من السَّوادِ والكَثرةِ، قد ساقُوا نِساءهم وأموالهم وأبناءَهم وذراريهم، ثم صَفُّوا صفوفًا، فجعلوا النساءَ فوق الإبل وراء صفوف الرجال، ثم جاؤوا بالإبلِ والبقرِ والغنمِ فجعلوها وراءَ ذلك لئلا يفرُّوا، فلما رأينا ذلك السوادَ حسبناه رجالًا، فبينا نحن في غَبَشِ الصُّبْحِ إنْ
__________
(1) "المغازي" 3/ 893، وانظر "السيرة" 2/ 439 - 440.
(2) "المغازي" 3/ 894 - 895.
(3) "المغازي" 3/ 895 - 896.
(4/108)
________________________________________
شَعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضيق الوادي وشُعَبهِ، فحملوا علينا حملة رجل واحد، فانكشفتْ أوَّل الخيول مُوَلِّيةً، وتَبعهم أهلُ مكة وتبعهم الناسُ منهزمين لا يَلْوُون على شيء، فسمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والتفت عن يمينه ويساره والناس مُنْهزمون وهو يقول: "يا أَنصارَ اللهِ، وأَنصارَ رَسُولِهِ، أنا عبدُ اللهِ ورَسُولُه، أنا عبدُ اللهِ ورَسُولُه" ثم تقدم بحربته، فوالذي بعثه بالحق ما ضربنا بسيف ولا طعنَّا برمح حتى هَزَمَهُم الله، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العسكرِ وأمر بأن يُقتل كلُّ من قُدِرَ عليه منهم، وجعَلَت هوازن تؤول وثاب من انهزم من الناس (1).
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: سبق رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مالكُ بن عوف إلى الوادي، فانحطّ بهم في عَمايةِ الصبح، وثارت في وجوههم الخيلُ فشدَّت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين، وانحازَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ اليمين ثم قال: "أَيُّها الناسُ، هَلُمُّوا إليَّ، أنا رسُولُ اللهِ، أنا مُحمدٌ" ومعه رَهْطٌ من أهلِ بيته ورَهْطٌ من المهاجرين، والعباسُ آخذٌ برأسِ بَغْلته البيضاء، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليها قد شَجرها، وثبت معه من أهلِ بيته علي ابن أبي طالب رضوان الله عليه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأيمن بن عبيد، وهو ابن أم أيمن، وأسامة بن زيد، وثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما.
قال: ورجلٌ من هَوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء على رأس رمحٍ طويل أمام هَوازن، وهوازن خلفه، إذا أدرك الناسَ طَعنَ برمحه، وإذا فاته الناسُ رفعَ رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فلما انهزم مَنْ كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من جُفاة أهلِ مكة، تكلَّم رجالٌ منهم بما في أنفسهم من الضِّغْنِ (2).
وعن جابر قال: لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ما رأى قال: "يا عباسُ اصرَخْ بالأَنْصار" فنادى العباس: يا أصحاب السَّمُرةِ، فأجابوه: لبيكَ لبيكَ، فجعل الرجلُ منهم يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر عليه، فيقذف درعه ويأخذُ سيفَه وقوسه ثم يَؤمُّ الصوتَ، حتى اجتمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم مئة، وأشرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ركائبه
__________
(1) "المغازي" 3/ 897 - 898، وفيها: تولّي وثاب.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (15027).
(4/109)
________________________________________
وقال: "الآن حَميَ الوَطِيسُ".
وروى عبد الله بن بُرَيْدَةَ عن أبيه قال (1): انكشف الناسُ يومَ حُنينٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق معه إلا رجل يقال له: زيد، أخذ بعنان بغلته الشهباء فقال له: "وَيحكَ ادعُ النَّاسَ"، فنادى: أيها الناسُ، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه أحد، فقال: "ادعُ الأنصارَ" فنادى: يا معشر الأنصار، فلم يجبه أحد، فقال: "خُصَّ الأوسَ والخزرجَ" فنادى: يا معشر الأوسِ والخزرج، فلم يجبه أحد، فقال: "ويحكَ ادعُ المهاجرينَ، إن للهِ في أعناقِهم بيعتَيْنِ وهذا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْعوهُم" فأقبل منهم ألف قد كسروا جفون سيوفهم، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم مشوا قُدُمًا حتى فتح الله على يديه (2).
وعن العباس - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم حنين التقى المسلمون والمشركون، فولَّى المسلمون يومئذ، ولقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما معه إلا أبو سفيان بن الحارث آخذ بثَفَرِ (3) بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذتُ بلجامها وكنت رجلًا صيِّتًا، فقال: "يا عباسُ، اصرخ بالأنصار: يا أصحاب السَّمُرةِ" فناديت، فأقبلوا كأنهم الإبلُ إذا حنَّت إلى أولادها، يقولون: لبَّيكَ لبَّيكَ، وثاب الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الآنَ حميَ الوَطيسُ" ثم أخذ بيده من الحصى فرماهم به ثم قال: "انْهَزمُوا ورَبِّ الكَعبَةِ" فانهزموا، وركَضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغلته خَلْفَهم (4).
وقيل: لما ناداهمُ العباسُ - رضي الله عنه - رجعوا وهم يقولون: الكرة بعد الفرة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهمَّ إنِّي أَنشُدكَ وعْدَكَ، اللَّهمَّ لا ينبغي لهم أَن يظهروا علينا" (5).
وقال هشام بن الكلبي: ثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مئة رجل من أهل بيته وغيرهم.
وسأل رجلٌ البراءَ بن عازب فقال: أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حُنَيْن؟ فقال
__________
(1) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" 5/ 129.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 417، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 181، وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.
(3) الثفر: بالتحريك، السَّيْر في مؤخر السرج.
(4) "المغازي" 3/ 898 - 899.
(5) "المغازي" 3/ 899.
(4/110)
________________________________________
البراء: لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفِرَّ؛ كانت هوازن ناسًا رُماةً، وإنّا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسِّهام، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحارث آخذٌ بلجامها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أنا النَّبيُّ لا كَذِبْ أَنا ابْنُ عَبدِ المُطَّلِبْ". أخرجاه في "الصحيحين" (1).
وقال سلمة بن الأكوع: لما غَشَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عن بغلته ثم قبض قَبْضةً من الأرض واستقبلهم بوجهه وقال: "شاهت الوجوه" فما خلق الله منهم إنسانًا إلا ملأ الله عينيه ترابًا بتلك القبضة، فولوا منهزمين، وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائمهم بين المسلمين (2).
وقال البلاذري: قال العباس - رضي الله عنه -: كنت آخذًا يومَ حنين بحكمَة بغلةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل نفر من كِنانة يريدونه فدنا منه أحدهم، فاحتضنت الرجلَ وصحت بأقرب موالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليَّ وقلت: اضربه ولا تتق مكاني ولا تُبالي أَيَّنا قُتِلَ، فقتله المولى، ثم جاء آخرُ يريدُه ففعلت به كذلك، حتى قتلنا ستة أنفس من القوم، فقبَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهي.
وفي يوم حنين يقول العباس: [من الطويل]
نصرنا رسولَ الله في الحرب سبعة ... وقد فرَّ من قد فرَّ عنه فأقشعوا
وثامِنُنا لاقى الحِمامَ بسَيْفِهِ ... بما مسَّه في الله لا يتوجع
يعني نفسه وابنه الفضل وعلي بن أبي طالب وأبا سفيان بن الحارث وأسامة بن زيد وأبا رافع وأيمن بن أم أيمن (3).
ذكرُ أقوالِ أهلِ الأضْغَانِ:
قال أبو سفيان بن حرب: ما تَنْتهي هزيمتهُم إلاّ إلى البحر، وأخرج الأزلامَ من كِنانتهِ يستقسم بها، فقال له رجل مِن أَسلم يقال له أبو مغيث: أما والله لولا أني سمعت
__________
(1) أخرجه البخاري (4317)، ومسلم (1776).
(2) أخرجه مسلم (1777).
(3) المذكورون هنا سبعة فقط، والثامن اختُلف فيه، انظر أنساب الأشراف 3/ 7 - 8، والاستيعاب 1/ 245.
(4/111)
________________________________________
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قتلك لقتلتك.
وصرخ كَلَدةُ بن الحنبل وهو مع أخيه صفوان بن أمية وهما مشركان: ألا بَطَلَ السحرُ اليومَ، فقال له صفوان: اُسْكت فضَّ الله فاك، فوالله لأن يَرُبَّني رجلٌ من قُريش أحبُّ إلي من أن يربَّني رجلٌ من هوازن (1).
وقال سهيل بن عمرو: لا يجتبرُها محمد وأصحابه، فقال عكرمة بن أبي جهل: إن هذا ليس بقول، إنما الأمر بيد الله ليس إلى محمد منه شيء، إن أُديل عليه اليوم فإن له العاقبة غدًا، فقال له سهيل: والله إن عهدك بخلافه لحديث، فقال له: يا أبا يزيد إنا كنا والله نُوضِعُ في غير شيء وعقولنا عقولنا، نعبد حجرًا لا يضر ولا ينفع (2).
وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: خرجتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين وقد أضمرت غِرَّته وقلت: عسى أن أصيب بثأرِ قريش، فلما اختلطَ الناسُ اخترطتُ سيفي وقصدتُه، فلما رفعت يدي رفع لي شُواظٌ من نارٍ كالبرق فسقط السيف من يدي، وناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أعيذُك بالله يا شيبة" أَطْلعه على ما كان في نفسي، فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأحببتُه، فهو أحب إلي من سمعي وبصري (3).
ذِكْرُ هزيمة المشركين:
كانت الهزيمة أولاً على هوازن، فخلَّفوا الذَّراري، ثم تنادوا: يا حماة السوء اُذكروا الفضائح، فتراجعوا فانكشف المسلمون. فقال الطُلقاءُ بعضهم لبعض: اخذُلوه فهذا وقته، فانهزموا، فهم أول من انهزم.
وقال جابر بن عبد الله: لما انكشف الناسُ والله ما رجعت راجعةُ هزيمتهم حتى وجدنا الأسرى عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُكتَّفين، ولما انكشفَ الناسُ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحارثة بن النعمان: يا حارثة كم ترى من الرجال الذين ثبتوا؟ قال: فحزَرْتُهم فكانوا مئة رجل (4).
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 443 - 444.
(2) "المغازي" 3/ 910 - 911.
(3) "المغازي" 3/ 909 - 910.
(4) "المغازي" 3/ 900.
(4/112)
________________________________________
وكان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انهزم الناس وبقي في المئة الصابرة: "اللهمَّ لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان" فقال له جبريل عليه السلام: لقد لُقِّنْتَ الكلماتِ التي لَقَّنَ اللهُ موسى يوم فلق البحر أمامه وفرعون خلفه (1).
ويقال: إن المئة الصابرة يومئذ ثلاثة وثلاثون من المهاجرين، وسبعة وستون من الأنصار.
وقصد أبو دجانة الرجلَ الذي كان على الجمل الأحمر وبيده رايةٌ سوداء على رمح طويل، وكان قد أكثر القتل في الناس، فعرقَبَ جَمَله وشدَّ عليه هو وعلي فقتلاه (2).
وبلغت هزيمةُ المسلمين مكّة، ثم تراجعوا، فأسهم لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعًا، وجعلت أم سُليمٍ تقول: يا رسول الله أرأيت هؤلاء الذين فروا عنك وخذلوك، لا تعْفُ عنهم إذا أمكنك الله منهم، اقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين، فقال: "يا أم سُلَيْمٍ قد كفى الله" (3).
ولقد قَتل أبو طلحة يومئذ عشرين بطلًا وسَلَبهم.
ولما حمل المسلمون على المشركين قتلوهم وأسرعوا إلى قَتْل الذُّريَّة [فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما بالُ أقوامٍ ذَهَب بهم القَتل حتى بَلغَ الذُّريّة] أَلا لا تُقْتَلُ الذُّريةُ" قالها ثلاثًا، فقال أُسيد بن حضير: أليس هم أولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوَليسَ خيارُكُم أولادَ المُشرِكينَ، كلُّ نَسَمةٍ تُولَدُ على الفِطْرةِ، حتى يُعْرِبَ عنها لسَانُها، فأَبَواها يهوِّدَانها ويُنَصِّرانِها" (4).
وقال جبير بن مُطْعِمٍ: لما تراءينا نحن والقوم رأينا سوادًا لم نر مثله قط، فأقبل مثل الظلمة السوداء من السماء حتى أظلمت علينا وعليهم وسدت الأفق، فنظرنا فإذا وادي حنين يسيل بنمل أسود مبثوث لم نشك أنه نصر أيَّدَنا الله به (5).
__________
(1) "المغازي" 3/ 901.
(2) "المغازي" 3/ 902.
(3) "المغازي" 3/ 903 - 904.
(4) "المغازي" 3/ 904 - 905، وما بين معقوفين زيادة منه، وأخرجه أحمد في "مسنده" (15589) من حديث الأسود بن سريع.
(5) "السيرة" 2/ 449، و"المغازي 3/ 905، و"دلائل النبوة" 5/ 146.
(4/113)
________________________________________
وقال رجل من المشركين: التقينا نحن وأصحاب محمد فلم يقفوا لنا حَلْبَ شاةٍ، فلما كشفناهم جعلنا نخترقهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء - يعني رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فلاقانا رجال بيضُ الثياب، حسانُ الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، فرجعنا ورَكِبونا (1).
وحُكيَ أيضًا عن رجل يقال له: شجرة من بني نصر أنه قاله بعدما انهزموا، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "تلك الملائكةُ".
وقال الواقدي: نزلت الملائكة يوم حنين، سيماهم عمائم حمر قد أرخوها، فنظر إليهم الكفار فانهزموا (2).
وقال مالك بن أوس بن الحدَثان: حدثني عِدَّةٌ من قومي أنهم رأوا يومئذ رجالاً بيضًا على خيلٍ بُلْقٍ، عليهم عمائم حمرٌ، أرخوها بين أكتافهم بين السماء والأرض، كتائب كتائب، ما يستطيع أحد من الرعب ينظرُ إليهم (3).
وهربت ثقيف بعد أن قُتِلَ منهم مئة رجل تحت راياتهم حتى دخلوا حصن الطائف.
وقال أبو قتادة: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين، فاستدرت له فأتيته من ورائه فضربته بالسيف على حَبْلِ عاتقه، فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأَرْسلني، فلقيتُ عمرَ بنَ الخطاب - رضي الله عنه - فقال: ما بال الناس؟ فقلت: أَمْرُ اللهِ، ثم رجع الناسُ وجلس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَن قَتَلَ قَتيلًا فَلهُ سَلَبُه إذا كانت له بيِّنَةٌ" فقمت وقلت: من يشهدُ لي، ثم جلستُ، وقمت ثانيًا وثالثًا فقال: "مَالَكَ يا أبا قَتادَةَ؟ " فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله وسَلَبُهُ عندي، فأرضه من حقه، فقال أبو بكر: لاها اللهِ إذًا، لا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ من أُسْدِ الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سَلَبَه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صدق فأعطِهِ إيَّاه" قال: فأخذت الدرع فابتعت به مَخْرَفًا، فإنّه لأول مال تأثَّلْتُه في الإسلام.
__________
(1) "المغازي" 3/ 906.
(2) "المغازي" 3/ 905.
(3) "المغازي" 3/ 906.
(4/114)
________________________________________
أخرجاه في "الصحيحين" (1).
وهذا الحديث يتضمن فتوى أبي بكر رضوان الله عليه بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومرّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة مقتولةٍ، وكان قد قدَّم خالدًا في مقدِّمتهِ مع بني سُلَيم فأرسل إليه وقال: "لا تَقتُلنَّ امرأةً ولا عَسِيفًا" (2) أي: أجيرًا.
وفي رواية: "ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت".
وجاءته الشيماءُ بنت الحارث بن عبد العزى أُخته من الرضاعة بعد أن أتعبوها من المشي وهي تقول: والله إني أخت صاحبكم، ولا يُصَدِّقُونها، فلما دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا محمد إني أختك من الرضاعة، فقال: "وما علامة ذلك"؟ قالت: عضضتني في إبهامي هذه وأنا مُتورِّكَتُكَ بوادي السرور ونحن نرعى بَهْمَ أبيك وأبي، وأَرَتْهُ مكان العضَّةِ، فعرف العلامة وقام لها قائمًا وبسط لها رداءه ثم أجلسها عليه، ورحَّب بها وسألها عن أمه وأبيه فأخبرته بموتهما، فدمعت عيناه، وخيَّرها بين المقام عنده وبين الرجوع إلى أهلها، وأسلمت فأحسن إليها ووهبها ثلاثة أَعْبُدٍ وجاريةً، فأحدهم يقال له: مكحول، فزوجوه الجارية (3). ثم عادت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجِعِرّانةِ فأعطاها نَعَمًا وشاءً (4).
وهرب مالك بن عوف إلى حصن الطائف.
ذِكْرُ الغَنائمِ:
كانت الإبل أربعًا وعشرين ألفًا، والبقر ثلاثة آلاف، والغنم أربعين ألفًا، ومن الخيل ألفان، ومن السبايا ستة آلاف، وقيل عشرة آلاف، ومن الفِضَّة شيء كثير، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإصدار الجميع إلى الجِعِرّانةِ ليعودَ إلى الطائف، وولَّى مسعودَ بنَ عمرو القاري ذلك، وقيل: استعمل على السبي مَحْمِيةَ بن جَزْءٍ.
__________
(1) أخرجه البخاري (3142)، ومسلم (1751).
(2) "المغازي" 3/ 912، وأخرجه أحمد في "مسنده" (17610) من حديث حنظلة الكاتب.
(3) "السيرة" 2/ 458، و"المغازي" 3/ 913 - 914.
(4) "المغازي" 3/ 914.
(4/115)
________________________________________
وقال الحَريش بن هلال القريعي من شعراء الحماسة (1): [من الوافر]
شَهِدْنَ مع النبيِّ مُسَوَّماتٍ ... حُنَيْنًا وَهْيَ داميةُ الحوامي (2)
ووقعة خالدٍ شهدَتْ وحكَّت ... سنابكَها على البلد الحرامِ (3)
نُعرِّضُ للسيوف إذا التقينا ... وُجوهًا لا تُعَرَّضُ للِّطامِ
ولستُ بخالعٍ عَنِّي ثِيابي ... إذا كَرَّ الكُماةُ ولا أُرامي
ولكنِّي يجولُ المُهرُ تحتي ... إلى الغاراتِ بالعضْبِ الحُسامِ
ذكر من استشهد من المسلمين في ذلك اليوم:
أيمن بن عُبَيْد بن زيد، وقيل: ابن عمرو (4) الخزرجي، وهو ابن أم أيمن مولاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أخو أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - لأمه، وهو من الطبقة الثالثة، وثبت يوم حنين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووقاه بنفسه، وقُتِلَ بين يديه، ويقال له: الحبشي - رضي الله عنه -.
آبي اللَّحْمِ، واسمه الحُوَيْرثُ بن عبد الله، وقيل: اسمه عبد الله بن عبيد بن مالك، من بني غِفار، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وإنما سمي آبي اللحم لأنه أبى أن يأكل من اللحم ما ذبح على النصب والأصنام.
سراقةُ بن الحارث بن عدي الأنصاري من بني العَجْلان.
أبو عامر الأشعري، واسمه عُبَيْد، وقيل: عبد الله، وقيل: عبيد الله بن وهب، حليف بني تميم رهطِ أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وهو عم أبي موسى الأشعري، قال أبو نعيم: قتله دُريد بن الصِّمة. وهو وهم لأن دريدًا كان شجاعًا شيخًا كبيرًا عاجزًا عن القتال، وإنما قتله سلمة بن دريد.
وقال أبو موسى الأشعري: لما فرغ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من حُنَيْن بعث أبا عامر على جيش إلى أَوْطاس، فلقي دُرَيْدَ بن الصمة، فقُتِلَ دريدٌ وهزم الله أصحابه.
__________
(1) الأبيات في الحماسة، وفي "السيرة" 2/ 433 هي للحجاج بن حكيم السلمي.
(2) المسومات: المعلمات. والحوامي: ما فوق الحافر.
(3) سنابكها: مقدم أطراف الحوافر.
(4) نسبه في "الطبقات" 5/ 368: أيمن بن عبيد بن زيد بن عمرو بن بلال ... بن خزرج.
(4/116)
________________________________________
قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر فرُميَ أبو عامرٍ في رُكبته، رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه وقلت: يا عم، من رماك؟ فقال: ذاكَ قاتلي الذي رماني تَراه؟ فلحقت الرجل فلما رآني ولّى هاربًا، فاتَّبَعْتُه وجعلت أقول: ألا تستحي، فوقف فالتقينا، فقتلته ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت له: قد قَتَل الله صاحبك، فقال: انزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماءُ، قال: فانْطَلِقْ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأقرِئه مني السلام واسأله أن يستغفر لي، ثم لِتَخْلُفْني على الناس، ومكث يسيرًا ومات، فلما رجعتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخلت عليه وهو في بيت على سرير مُرْمَل وعليه فِراش وقد أثر رِمال السرير في ظهره وجنبه، فأخبرته خبر أبي عامر، فدعا له واستغفر، فقلت: ولي، فقال: "اغفرِ اللَّهمَّ لعبدِ اللهِ بنِ قيسٍ ذَنبَهُ، وأَدخِلْهُ مُدْخَلًا كريمًا يومَ القيامةِ" (1).
وقال الواقدي: بارز أبو عامر عشرة فقتل تسعة، وبرز له العاشر وهو مُتَعمِّمٌ بعمامة صفراء فقال أبو عامر: اللهمَّ اشهد، فقال الرجل: اللهمَّ لا تشهد، فضرب أبا عامر فأثبته، فحملوه وبه رَمَقٌ، واستخلف أبا موسى الأشعري ففتح الله عليه، وقتل قاتلَ أبي عامر وجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستغفر لأبي عامر، فقال له أبو موسى: يا رسول الله، فهذا لأبي عامر فادع لي، فقال: "اللَّهمَّ اغفِر لأبي موسى، واجْعَلهُ في أَعْلَى أُمَّتي" (2).
يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب، جمح به فرسه، فقتله المشركون.
ذكر من قتل من الكفار:
قتل منهم زيادة على المئة، وقيل: تسعون، وقيل: سبعون، فمن أعيانهم:
دُرَيد بن الصِّمَّة (3)، واسم الصمة: معاوية، وكنية دريد: أبو قُرة الجُشَمي، وهو الذي خَطَبَ الخنساء ابنةَ عمرو بن الشريد فلم تُجِبْهُ فقال: [من الوافر]
كفاك الله يا ابنة آل عمرو ... من الفتيان أمثالي ونفسي
أَتَزْعمُ أنني شيخ كبيرٌ ... وهل أَنْبأْتُها أني ابنُ أمسِ
__________
(1) أخرجه البخاري (4323)، ومسلم (2498).
(2) "المغازي" 3/ 915 - 916.
(3) انظر ترجمته في "تاريخ دمشق" 17/ 231.
(4/117)
________________________________________
ودريد يعد في الشعراء الفرسان، ووفد على الحارث بن أبي شَمِر الغَسَّاني.
وقال أبو حاتم: كان مالك بن عوف يخرج بدريد في الحروب يتيمَّن برأيه، ولم يخالفه إلا في هوازن.
ذكر مقتله:
يقال: إن أبا عامر الأشعري قتله، فرماه ابنه سلمة بن دريد بسهم فقتل أبا عامر.
وقال الواقدي: لما انهزم الناس يوم حنين أتوا الطائفَ، وعسكر ناس منهم بأَوْطاس، وتوجه بعضهم نحو نَخْلَةَ، فبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم، فأدرك ربيعةُ بن رُفَيعْ بن وهبان السلمي دريدَ بن الصمة، فأخذ بخِطام جمله وهو يظن أنه امرأة وهو في شِجارٍ له (1)، فأناخ الجملَ، وإذا فيه شيخ كبير ابن ستين ومئة وهو لا يعرفه، فقال له دريد: ما تريد؟ قال: قتلك، قال: وما تريد إلى المُرْعِشِ الكبير الفاني الأَدْرَدِ (2)، فقال الفتى: ما أُريد إلى غيره ممَّن هو على مِثْلِ دينه، فقال له دُرَيد: من أنت؟ فانتسب له، وضربه بسيفه فلم يُغْنِ شيئًا، فقال دريد: بئس ما سلَّحتكَ أُمُّكَ، خذ سيفي من وراء الرَّحْل في الشِجار واضرب به وارفع عن العِظامِ واخفض عن الدماغ، فإني كنتُ كذلك أقتُلُ الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قَتْلتَ دُرَيْد بن الصمة، فربَّ يوم قد منعت فيه نساءك، فلمّا ضَرَبَهُ تكشَّف عَجُزُه وبطونُ فَخْذَيْه فإذا بها مثلُ القراطيس من ركوب الخيل، فلما رجع ربيعةُ إلى أمه أخبرها فقالت: والله لقد أعتق دُرَيْدٌ أُمَّهاتٍ لك ثلاثًا في غَداة واحدة وجزَّ ناصية أبيك، فقال الفتى: لم أشعر (3).
فقالت عَمْرة (4) في قتل ربيعةَ دريدًا: [من الوافر]
جَزى عني الإلهُ بني سُلَيْمٍ ... وأَعقَبَهم بما فَعلوا عَتاقِ (5)
وأسْقَانا إذا قُدنا إليهم ... دِماءَ خِيارِهم عندَ التلاقِي
__________
(1) الشجار: هو مركب مكشوف دون الهودج.
(2) الأدرد: الذي لا سن له.
(3) "المغازي" 3/ 914 - 915، وما بين معقوفين زيادة منه، وانظر "السيرة" 2/ 453 - 454.
(4) هي عمرة بنت دريد بن الصمة، والأبيات في "السيرة".
(5) في السيرة: وعقتهم بما فعلوا عَقاق.
(4/118)
________________________________________
فربَّ عظيمةٍ دافَعْتَ عنهم ... وقد بَلغَت نُفوسُهم التَّراقِي
وربَّ مُنَوِّهٍ بكَ من سُلَيْمٍ ... أَجَبْتَ وقد دعاكَ بلا رِماق
وربَّ كريمةٍ أَعْتَقْتَ منهم ... وأُخرى قد فَكَكْتَ مِنَ الوَثاق
فكانَ جَزاؤُنا مِنْهم عُقوقًا ... وهمًّا ماعَ منهُ مُخُّ ساقِ
وهرب سَلَمةُ بنُ دريد مع مالك بن عوف، فلما طلع مالك على ثَنيَّةٍ قال لأصحابه: قفوا حتى يمضيَ ضُعفاؤكم ويلحقوا بإخوانكم، ووقف حتى مضوا (1).
واختلفوا في سِنِّ دريد، فقيل: ستون ومئة سنة، وقيل: مئة وسبعون سنة، وقيل: مئتا سنة وعِشْرون سنةً.
وقال أبو عبيدة: كان دُريد ميمونَ النقيبة، غزا مئة غزوة، وأدرك أوَّلَ الإسلام ولم يسلم حتى قُتِلَ كافرًا.
وكانت بنو يربوع قتلوا الصِّمةَ، فأوقع بهم دريدٌ فقتلهم.
وكان له إخوة: عبد الله وعبد يغوث وقيس وخالد بنو الصِّمة، وأمهم جميعًا ريْحانةُ بنت معدي كَرِب الزبيدي أخت عمرو، وكان الصِّمة سباها (2) ثم تزوجها، فأولدها بنيه، وفيها يقول أخوها عمرو: [من الوافر]
أَمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ ... يُؤرّقني وأصحابي هجوع
وأما عبد الله فيقال له: العارض، أغار هو ودريد على نَعَمٍ لقيس فاستاقوها، فلما كانوا ببعض الطريق نزل عبد الله في مكان، فقال له دريد: لا تفعل، فجاءت قيسٌ فأحاطت بهم، فأول من قتل عبد الله وكان أشجع إخوة دريد، فقال دريد: [من الطويل]
أَمَرْتُهُمْ أَمْري بِمُنْعَرَجِ اللِّوى ... فلم يستبينوا الرُّشْدَ إلا ضُحى الغَدِ
فلما عَصَوني كنتُ منهم وقد أرى ... غَوايتهم وأَنَّني غَيْرُ مُهْتَدِ
وما أنا إلاَّ من غَزِيَّة إِنْ غَوت ... غَوَيْتُ وإن تَرْشُد غَزيةُ أَرْشُدِ
فقلت لهم ظُنّوا بأَلفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَراتُهم في الفارسيّ المُسَرَّدِ
__________
(1) "المغازي" 3/ 916.
(2) في النسخ: "سماها"، والمثبت من الأغاني 10/ 4.
(4/119)
________________________________________
وإن يكُ عَبْدُ الله خَلّى مكانَه ... فما كان وَقَّافًا ولا طائِشَ اليَدِ
كميشُ الإزارِ خارجٌ نصفُ ساقِه ... بَعيدٌ من الآفات طلاَّعُ أَنْجُدِ
قليلُ التَّشكِّي للمصيباتِ حافظٌ ... منَ اليومِ أعقابَ الأحاديثِ في غَدِ
صَبا ما صَبا حتَّى علا الشَّيبُ رَأْسَه ... فلمَّا علاه قال للباطل ابعُدِ
وأوَّلها:
أَرَثَّ جديدُ الحَبْل مِن أُمِّ مَعْبَدِ ... بعاقبةٍ وأخلفت كلَّ موعد
وأُمُّ معْبَد: امرأة دريد، لما جزع على أخيه عاتبت وصغَّرت أمر أخيه عبد الله، فألحقها بأهلها وكان عبد الله يكنى أبا فُرغان، وأبا ذُفافَة، وأبا أوفى.
واليوم الذي قتل فيه يسمى: يوم اللِّوى، واليوم الذي ظهر فيه دريد يسمى: يوم الدلائل، فإنه أخذ بثأر أخيه وقتل سادات غطفان واستَقْراهم حيًّا حيًّا.
وأما عبدُ يغوث بن الصِّمة فقتله بنو مُرَّة.
وأما قَيسُ بن الصمة فقتله بنو كلاب.
وأما خالد بن الصمة فقتله بنو الحارث بن كعب (1).
وأنزل الله تعالى في قصة حنين {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} الآية [التوبة: 25].
غزاة الطائف (2)
وسار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من فَوْرٍ على تعبئته وقد تحصَّن القومُ بحصنهم، وقدَّم خالدَ بن الوليد في مقدَّمتهِ.
وكان عروةُ بن مسعود وغَيْلانُ بن سَلَمة بجُرَشَ يتعلَّمان عمل الدباباتِ والمجانيق لأجل حصنهم (3).
__________
(1) الأغاني 10/ 5.
(2) "السيرة" 2/ 478، و"المغازي" 3/ 922، و"الطبقات الكبرى" 2/ 145، و"تاريخ الطبري" 3/ 82، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 156، و"المنتظم" 3/ 341، و"البداية والنهاية" 4/ 345.
(3) "السيرة" 2/ 478، و"المغازي" 3/ 924.
(4/120)
________________________________________
وسلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نَخْلةِ اليمانية ثم على لِيَّةَ، وابتنى بها مسجدًا بيده، وأصحابهُ ينقلون إليه الحجارة.
وأُتي يومئذٍ برجلٍ من بني ليث قتلَ رجلًا من هُذيلٍ فسلَّمه إلى هذيل فقتلوه، وكان أوَّلَ دمٍ أُقيد في الإسلام، وحرقَ قصرَ مالك بن عوف بلِيَّة ولم يكن به أحدٌ، ومالك بن [عوف في] (1) حصن ثقيف، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل قريبًا من الطائف، فجاءهم النَّبْلُ كأنَّه الجرادُ، حتى أُصيبَ من المسلمين أناسٌ، فقال له الحُبابُ بن المنذر: إن كان نزولك يا رسول الله عن أمرٍ، سلَّمنا، وإن كان عن غيرِ أمرٍ، فالرأيُ أن نتأخَّر، فقال: "انظروا مَكانًا مُرتَفِعًا" فنزلوا في موضع مسجد الطائف خارجًا من القرية، وأبو محجن يرمي من فوق الحصن بمعابل (2) كأنها الرماحُ ما يسقُطُ له سَهْمٌ، وخرج من الحصنِ امرأةٌ ساحرةٌ فاستقبلت الجيش بعورتِها، يدفعون بذلك عن حصنهم (3).
وشاور رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في ذلك، فقال له سلمان: قد كُنَّا بفارسَ ننصُبُ المجانيق [وإن لم يكن المنجنيق] (4) طال الثواءُ، فأمره بعملهِ ونصبه على الحصن، وعمل يزيدُ بن ربيعةَ دبابتين، ونثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَسَكًا من عيدانٍ حول حصنهم، ودخل المسلمون تحت الدبابتين وهما من جلود البقر، وقاتلوا ثم رجعوا إلى جدار الحصن ليحصروه، فرمى عليهم القوم سكك الحديد المُحْماةَ بالنار فأحرقوا الدبابتين، وخرج بعض المسلمين منهما، فسُمِّيَ: يوم الشَّدْخَةِ، ورماهم القومُ بالنَّبْلِ فقتلوا جماعةً، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع أعنابهم وتحريقها، فنادى منادي القوم: يا محمدُ، لمَ تقطعُ أموالَنا؟ إما أن تأخذَها إن ظَفِرت علينا، وإمّا أن تدَعَها لله والرَّحِمِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي أدَعها لله والرَّحمِ" فتركها (5).
وتقدَّم أبو سفيان بن حرب والمُغيرةُ بن شعبةَ إلى ثقيفٍ فقالا: أمِّنونا حتى نتكلَّم،
__________
(1) ما بين معقوفين زيادة لتوضيح النص.
(2) المعابل: جمع مِعبَلَة، وهي: نصل طويل عريض.
(3) "المغازي" 3/ 925 - 926.
(4) ما بين معقوفين زيادة من "المغازي".
(5) "المغازي" 3/ 927 - 928.
(4/121)
________________________________________
فأَمّنوهما. فدَعَوا نساءً من قريشٍ ليخرجنَ إليهما وهما يخافان السبيَ عليهن، منهن ابنة أبي سفيان كانت عند عروة بن مسعود ولم يكن عروةُ حاضرًا، والفِراسِيَّةُ بنتُ سُويد بن عمرو بن ثعلبة عند قارِب بن الأسود، وامرأةٌ أُخرى (1).
وكان رجلٌ يقومُ على الحِصْنِ فيقول: روحوا يا رعاءَ الشاء، يا عبيد محمد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ روّحه إلى النار" فرماه سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - بسهم فوقع في نَحْرهِ، فهوى من الحصن ميِّتًا، فَسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك (2).
ورمى أبو محجن عبدَ الله بنَ أبي بكرٍ - رضي الله عنهما -، ثم أُخرجَ السهمُ من الجرحِ وبرِئ واندمل، وأمسك أبو بكر [السهمَ عنده، وتوفي عبدُ الله، وقدمَ أبو محجن في خلافةِ أبي بكر]، فأخرج له السهم وقال: هل تعرف هذا يا أبا محجن؟ فقال: [كيف] لا أعرفُه وأنا بَرَيتُ قدحه ورِشْتُه ورميتُ به ابنك، والحمد لله الذي أكرمه بيدي ولم يُهنِّي بيده (3).
ونادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيما عبدٍ نزل إلينا من الحصن فهو آمن، فنزل جماعةٌ منهم: أبو بكرة نُفَيعُ بن الحارث بن مسروح، وكان [عبدًا] للحارث بن كَلَدةَ، وكُنِّي بأبي بكْرة لأنه نزل من الحصنِ في بكْرةٍ، فسلَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمرو بن العاص يعلِّمُه القُرآنَ والسُّنَنَ، وكذا فعل بالباقين؛ دفع إلى كلَّ واحدٍ من المسلمين رجلًا يمونُه ويعلِّمه (4). فلما أسلم هل الطائف تكلَّموا فيهم ليُرَدُّوا إلى الرِّقِّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أولئك عتقاء الله، لا سبيلَ لكم عليهم" فبلغ ذلك من أهل الطائفِ.
وقال ابن إسحاق: ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل عبدٍ إلى مولاه لمّا أَسلم مواليهم.
وقال عُيَيْنةُ بن حصنٍ: يا رسول الله، ائذن لي حتى آتي الحصن فأُكلِّمهم، فأذن له فجاءهم وقال: أَدنو منكم وأنا آمِن؟ فعرفه أبو محجن فقال: أَدْنُوه، فدخل الحصنَ فقال: فداكم أبي وأُمي، واللهِ لقد سرَّني منكم ما رأيتُ، واللهِ إنْ في العربِ أحدٌ مثلكم، واللهِ ما لاقى محمد مثلكم قطُّ، ولقد ملَّ المُقامَ فاثبتوا في حِصْنِكم فإنه حصين، وسلاحكُم كثيرٌ. فلما خرج قالت ثقيف لأبي مِحْجَن: إنا كَرِهْنا دخوله علينا،
__________
(1) "المغازي" 3/ 929، وانظر "السيرة" 2/ 483 - 484.
(2) "المغازي" 3/ 929 - 930.
(3) المغازي 3/ 926، وما بين حاصرتين منه.
(4) "المغازي" 3/ 931 - 932.
(4/122)
________________________________________
وخَشينا أن يُخبِرَ محمدًا بخَللٍ رآه في حصنِنا. فقال أبو محجن: لا تخافوا، فليس على محمدٍ أشدُّ منه وإن كان معه. فلمّا رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ما الذي قُلْتَ لهم؟ قال: قلتُ لهم: ادخلوا في الإسلامِ؛ فواللهِ لا يبرحُ محمدٌ عُقْرَ داركم حتى تنزِلوا، فخُذوا لأنفسكم أمانًا، فإنه قد نزل ساحة غيركم: بني قينقاع والنضير وقُريظة وخيبر أهل العِدَّةِ والحَلْقةِ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كذبتَ، قلتَ لهم كذا وكذا، الذي قال، فقال عُيينةُ: أَستغفرُ اللهَ، فقال عمر - رضي الله عنه -: دعْني أَضرب عُنُقَه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتحدَّثُ الناسُ أَني أَقتلُ أصحابي". وأَغلظ له أبو بكر - رضي الله عنه - وقال: ويحك يا عُيينة، إنّما أنت أبدًا تُوضعُ في الباطل، لنا مِنْكَ من يوم بني النضير وقريظة وخيبر والخندق، تُجْلِبُ علينا وتقاتِلُنا بسيفك، ثم أسلمتَ كما زعمتَ فتحرِّضُ علينا عدوَّنا؟ ! فقال: أستغفرُ اللهَ وأتوب إليه، لا أعود إليه أبدًا (1).
ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة - رضي الله عنها - وعندها عبد الله بن أبي أمية والمخنث يقول له: إن فتح الله عليكم الطائفَ غدًا فعليك بابنة غَيْلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأم سلمة: "لا يَدخُلْ هذا عليكِ" (2).
ذكر رحيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال ابن إسحاق: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر رضوان الله عليه وهو محاصرٌ ثقيفًا: "يا أبا بكر إني رأيت كأنني أُهْدِيَت لي قَعْبَةٌ مملوءة زُبْدًا، فنقرها ديكٌ فهرَاق ما فيها". فقال: يا رسول الله، ما أظنك تدرك منهم ما تريد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا أنا، ما أرى ذلك".
ثم إن خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص السُّلَمِيَّةَ امرأة عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك الطائف حُلِيَّ باديةَ بنتِ غَيْلان بن سلمة أو حُلِيَّ الفارعةِ بنت عَقيل وكانتا من أجمل نساء ثقيف، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنْ لم يَكُن أُذِنَ لي في ثَقيفٍ"، فخرجت إلى عمر بن الخطاب رضوان الله عليه فأخبرته،
__________
(1) "المغازي" 3/ 932 - 933، و"الطبقات" 6/ 177 - 178.
(2) أخرجه البخاري (5235)، ومسلم (2180).
(4/123)
________________________________________
فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: "نَعَم" فقال: ألا أُوذِنُ الناسَ بالرحيل؟ قال: "بَلَى" فأذَّن فيهم بالرحيل (1).
وبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حنظلةَ بن الربيع ابن أخي أكثم بن صيفي إلى أهل الطائف ينظرُ هل يريدون الصلح أم لا؟ فدخل عليهم فسألهم فقالوا: الموتُ دونَ ذلك، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ونادى سعيد ابن عمرو بن عِلاجِ الثقفي من الحصن: ألا إن الحي لمقيم، فقال عيينة: أجل والله، مَجَدةٌ كِرامٌ، فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة تمدح قومًا مشركين وقد جئت تنصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! فقال: إني والله ما جئت أقاتل معكم ثقيفًا، ولكن أردت إذا فتح محمد الطائفَ أن أُصيب من ثقيف جاريةً فأتَّطِئَها لعلها أن تلد ذكرًا، فإن ثقيفًا قومٌ مذاكِير (2).
فلما ولّى عيينةُ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا الأحمق المطاعُ" (3).
وقال أبو هريرة: لما مضت خمسةَ عَشَرَ يومًا من حصارهم استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نوفلَ بن معاوية الدِّيلي فقال: "مَا تَرَى؟ " قال: يا رسول الله ثَعْلَبٌ في جحر إن أقمت عليه أخَذْتَه، وإن تركته لم يضرك شيئًا، قال: ولم يؤذن له في فتحها، فأذَّن عمر في الناس بالرحيل فضَجُّوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فاغدُوا على القِتال" فغدَوْا فأصاب المسلمين جراحاتٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا قَافِلُونَ إنْ شاءَ اللهُ" فسرُّوا بذلك وجعلوا يرحلون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك (4).
وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وعشرين ليلة - والله أعلم - وكل ذلك يصلي ركعتين.
وقال أبو إسحاق الثعلبي: حاصر الطائف إلى آخر شوال. فلما دخل ذو القعدة وهو شهرٌ حرامٌ لا يَحِلُّ القتال فيه انْصَرفَ عنهم، وكان معه من نسائه أم سلمة وأخرى قيل: هي زينب بنت جحش.
__________
(1) "السيرة" 2/ 484.
(2) "السيرة" 2/ 485.
(3) المغازي 3/ 937، والطبقات 6/ 178.
(4) "المغازي" 3/ 936 - 937.
(4/124)
________________________________________
ولما رحل عن الطائف قيل له: ادع عليهم، فقال: "اللهمَّ اهد ثقيفًا وائتِ بهم" (1) فاستجاب الله دعاءه.
ذِكْرُ المُسْتَشْهد من المسلمين:
سعيد بنُ سعيد بن العاص بن أمية، وعُرْفُطةُ بن حباب (2) بن حبيب، وقيل: الحباب بن جُبير، وعبد الله بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - رمي بِسَهْمٍ فمات بالمدينة منه، وعبد الله بن أبي أمية مات من رميةٍ رُميها يومئذٍ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، والسائب ابن الحارث [بن قيس بن عدي، وأخوه عبد الله بن الحارث، وجليحة بن عبد الله بن محارب، والحارث] (3) بن سهل بن أبي صَعْصَعة، والمنذر بن عبد الله بن وَقْش بن ثعلبة، ورُقَيْم بن ثابت بن زيد بن لَوْذان، وقيل: ويزيد بن زمعة بن الأسود، جمح به فرسه إلى حصن الطائف فقتلوه، وثابت بن ثعلبة (4) بن زيد بن حَرام.
ومما قيل في الطائف من الشعر لما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة وحنين قول كعب بن مالك قبل نزوله على الطائف (5): [من الوافر]
قضينا من تِهامةَ كلَّ رَيْبٍ ... وخيبرَ ثم أَجْمَمْنا السُّيوفا
نُخبِّرُها ولو نطقت لقالت ... قواطِعُهنَّ دوسًا أو ثقيفا
فلستُ لمالك إن لم يزركم ... بساحة داركم منها ألوفا
وننتزع العُروشَ ببطن وَجًّ ... وتُترك دارُكم منكم خُلوفا
نجاهد لا نبالي من لقينا ... أَأَهلكنا التِّلادَ أَم الطريفا
بأمر الله والإسلام حتى ... أقَمنا الدين مُعْتَدِلاً حنيفا
__________
(1) أخرجه الترمذي (3942)، وأحمد في "مسنده" (14702) من حديث جابر - رضي الله عنه -.
(2) ضبطه ابن حجر في "الإصابة" 1/ 301 عند ذكر والده الحباب: بضم المهملة والموحدتين الأولى خفيفة. وفي ترجمته 2/ 475 قال: وضبط ابن إسحاق أباه بجيم ونون، وابن هشام بمهملة مضمومة بعدها موحدة.
(3) ما بين معقوفين زيادة من "السيرة" 2/ 486 - 487، و"المغازي" 3/ 938.
(4) هو: ثابت بن الجزع، واسم الجذع ثعلبة. "الإصابة" 1/ 190.
(5) الأبيات في "السيرة" 2/ 479.
(4/125)
________________________________________
ذكر رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجِعِرّانةِ:
خرج من الطائف، ففي منحدره إلى الجِعِرَّانةِ لقيه سراقة بن مالك بن جُعْشُم الذي تبعهم في طريق المدينة لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال سراقة: فدفعت الكتابَ الذي كتبه لي أبو بكر وناديتُ: أنا فلان وهذا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرفني، فقال: "اُدْنُ" فدنوت، فقال: "هذا يَومُ وَفَاءٍ وبِرٍّ" فأسلمت وسقت إليه الصدقة (1).
وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجِعِرَّانة والغنائم والسبي بها، وقد اتخذ للسبي حظائر يستظلون بها من حر الشمس، وكان السبي ستة آلاف، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر بن سفيان الخزاعي أن يقدم مكة فيشتري للسبي ثيابًا يكسوهم بها ففعل (2).
ذِكْرُ ما فَرَّق من السَّبْيِ:
أعطى عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - جارية منهن فوطئها بالملك بعد أن حاضت. وأعطى صفوان بن أمية أخرى، وعلي بن أبي طالب أخرى يقال لها: رَيْطة، وأعطى عثمان رضوان الله عليه أخرى اسمها زينب بنت خُناس (3) فوطئها فكرهته، وأعطى عمر - رضي الله عنه - جاريةً فأعطاها لابنه عبد الله، فبعث بها إلى أخواله بني جمح بمكة ليصلحوها حتى يطوف بالبيت ثم يعود إليها قال: فبينا أنا أطوف بالبيت وفي عزمي أن أعود إليها فأطأها، فلما خرجتُ من المسجد وإذا بالناس يَشْتَدُّون، فقلت: ما لهم؟ قالوا: رُدَّ سَبْيُ هوازن، فقلت لأهلها: دونكم إياها، فأخذوها.
وأعطى جبير بن مطعم جارية فلم يطأها، وأعطى طلحة بن عبيد الله وأبا عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام - رضي الله عنهم - جواري فوطئوهن، وهذا كله بحنين، فلما رجع إلى الجِعِرانة أقام يتربص أن يقدم عليه وفد هوازن (4).
__________
(1) أخرجه الحميدي في "مسنده" (902)، والطبراني في "الكبير" (6602)، وانظر "المغازي" 3/ 941.
(2) "المغازي" 3/ 943.
(3) "في "السيرة" 2/ 490، و"المغازي" 3/ 944: بنت حيان.
(4) "المغازي" 3/ 943 - 944.
(4/126)
________________________________________
وقال أنس: نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أوطاس: "أَلاَ لا تُوطأُ الحَبَالى حتى يَضعْنَ، ولا غَيرَ الحَبَالى حتى يَستبرِئْنَ بحَيضَةٍ" (1).
وعن سلمة بن الأكوع قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها (2).
وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما رجل وامرَأةٍ تَوافَقَا، فَعِشْرَةُ ما بَينهُما ثَلاثُ لَيالٍ، فإنْ أَحَبَّا أَن يَتَزايَدا، أَو يتَّارَكا" فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة (3).
ذكر وفد هوازن:
لما أصاب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب من أموال هوازن وسباياهم أدركه وفدهم بالجِعِرَّانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، نحن الأهل والعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يَخْفَ عليك، وقام خطيبهم زهير بن صُرَد فقال: يا رسول الله، إنّما في الحَظائر من السبايا خالاتُك وعماتُك وحواضِنُك اللاتي كن يكْفُلْنَك، ولو كنا ملَكَنا ابن أبي شمر الغسَّاني أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا بِرَّهما وعائِدتَهما وعَطْفَهما، وأنت خير المكفولين، وأنشده (4): [من البسيط]
اُمنُنْ علينا رسولَ اللهِ في كَرَمٍ ... فإنك المرءُ نَرْجوه ونَدَّخِرُ
اُمنُنْ على بيضةٍ اِعْتَاقَها قَدَرٌ ... مُمَزَّقٌ شملُها في دَهْرها غِيَرُ
اُمنُنْ على نِسوَةٍ قد كنتَ تَرْضَعُها ... إذ فُوكَ يَملؤُهُ مِن مَحضِها دِرَرُ
اللاَّئي إذْ كنتَ طفلًا كنت تَرضَعُها ... وإذ يزينُك ما تأتي وما تذرُ
ألا تداركها نعماءُ تَنشُرُها ... يا أرجَحَ الناس حِلْما حين يُخْتَبَرُ
لا تجعلنّا كمن شالت نَعامتُه ... واستبقِ منّا فإنا معشر زُهُر
إنا لنَشْكُرُ آلاءً وإن قَدُمَتْ ... وعندنا بعد هذا اليوم مُدَّخَر
__________
(1) أخرجه أبو داود (2157) من حديث أبي سعيد الخدري، ولم نقف عليه من حديث أنس.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (16552).
(3) أخرجه البخاري (5119).
(4) الأبيات في "المغازي" 3/ 950 - 951.
(4/127)
________________________________________
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِساؤُكُم وأَبناؤُكُم أَحبُّ [إليكم أم أموالكم؟ " فقالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحبُّ] (1) إِلينا، فقال: "مَا كانَ لي ولبَني عَبدِ المطَّلبِ فهوَ لكُم، وإذا صلَّيتُ الظهرَ بالناسِ فَقُومُوا وقُولُوا: إنا نَستَشفِعُ برسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى المُسلِمينَ وبالمُسلمينَ إلى رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في أَبنائِنَا ونِسائِنَا"، فلما صلوا الظهر فعلوا ما أمرهم به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم" وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لله ورسوله، وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال العباس بن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم [فلا، فقالت بنو سليم: ] بلى ما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ستة فرائض من أَوَّلِ فَيءٍ نُصيبُه" فقال المسلمون: رضينا وسلمنا، ودفعوا ما كان بأيديهم من السبي إلى أهاليهم (2).
وكان عيينةُ قد اختار من السبي عجوزًا كبيرة وقال: هذه أم الحي، لعلهم أن يُغلوا بفِدائها وعسى أن يكون لها في الحي نسبٌ، فجاء ابنها إليه فقال: هل لك في مئة من الإبل؟ قال عيينة: لا، فانصرف وجعلت العجوز تقول لابنها: دعه فوالله ليتركني بغير فداء، فرجع الفتى إليه فقال عيينة: هل لك فيما دعوتني إليه؟ قال: لا أزيدك على خمسين ناقة، فقال عيينة: خذها بغير شيء لا بارك الله لك فيها، لا حاجة لي إليها، فقال ابنها: هي عُريانةٌ، فأَخَذ لها منه شملة (3).
وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن قدرتم على بجاد - رجلٍ من بني سعد بن بكر - فلا يفوتنكم" وكان قد أحدث حدثًا فظفر به المسلمون فأتوا به، وكانت الشيماء أخت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، فسألته فيه فأطلقه لها (4).
ولما ردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هوازن نساءهم وأبناءهم اتبعه الناس يقولون: يا رسول الله اقسِم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعَتْ رِداءهُ، فقال: "أَيُّها
__________
(1) ما بين حاصرتين مستدرك من "السيرة" 2/ 489.
(2) "السيرة" 2/ 489 - 490، و"المغازي" 3/ 950 - 952.
(3) "المغازي" 3/ 952 - 954، وانظر "السيرة" 2/ 490.
(4) "تاريخ الطبري" 3/ 80 - 81.
(4/128)
________________________________________
الناسُ، رُدُّوا عليَّ رِدَائي، فَوَالذي نَفسِي بيَدهِ، لو كانَ لَكُم بِعَدَدِ شَجَرِ تِهامَةَ نَعمًا لقَسمتُه عليكُم، ثم ما ألفيتُموني بَخيلًا ولا جَبانًا ولا كذَّابًا" (1).
حديث الغار:
عن أبي سعيد قال: أصبنا سبايا يوم حنين، فكنا نلتمس فِداءهُنَّ، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العزل فقال: "اصنَعُوا ما بَدا لَكُم، فما قَضَى اللهُ فهو كائنٌ، ولَيسَ مِن كلِّ الماءِ يكونُ الولدُ". انفرد بإخراجه مسلم (2).
وقال أبو سعيد: كانت اليهود تزعم أن العزلَ: الموْؤدةُ الصُّغْرى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذبتِ اليَهودُ، ولو أَرَادَ اللهُ أنْ يَخلقَهُ لم يَستَطعْ أحَدٌ أنْ يَصرِفَهُ". أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" (3).
ذكر ما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤلفة قلوبهم:
أعطى أبا سفيان بن حرب مئة بعير، وابنه معاويةَ مئة بعير، وحكيمَ بن حِزام مئة بعير، والنَّضْرَ بن الحارث (4) بن كَلَدَة بن علقمة مئة بعير، والعلاء بن جارِيةَ الثقفي مئة من الإبل، وسهيل بن عمرو مئة من الإبل، وحويطب بن عبد العزى مِئةً من الإبل، وسهل بن مُطعِم مئة من الإبل، وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر دون المئة (5).
وأعطى مَخْرمة بنَ نوفل الزهري وعُمير بن وهب الجُمَحي وهشام بن عمرو، وأعطى سعيد بن يَربوع بن عامر بن مخزوم خمسين من الإبل.
وأعطى عبّاس بن مِرداسَ السُّلمي أباعِرَ (6) فسخطها، وعاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:
وإيقاظِيَ القومَ أَن يرقُدُوا ... إذا هَجَعَ الناسُ لم أَهْجَعِ
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (16775) من حديث جبير بن مطعم.
(2) أخرجه مسلم (1438) (133) واللفظ لأحمد في "مسنده" (11438)
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (11477).
(4) ويقال: الحارث بن الحارث، كما في "السيرة" 2/ 493.
(5) في "السيرة" 2/ 493، و"المغازي" 3/ 946: أنه أعطاه مئة بعير.
(6) في النسخ: "أبا عامر" والمثبت من السيرة" 2/ 493.
(4/129)
________________________________________
فأصبحَ نَهْبي ونَهْبُ العُبَيـ ... ـدِ بينَ عُيينةَ والأَقْرعِ
وقد كنتُ في الحَربِ ذا تُدْرَإٍ ... فلم أُعْطَ شيئًا ولم أُمْنَعِ
إلا أَفائِلَ أُعْطِيتُها ... عديدَ قوائمها الأربعِ
فما كان حِصنٌ ولا حابِسٌ ... يفوقان مِرداسَ في مَجْمَعِ
وما كنت دون امرئٍ منْهما ... ومن تَضَعِ اليومَ لا يُرْفَعِ
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهَبُوا فاقْطَعُوا لِسَانَهُ" فزادوه حتى رضي (1).
وقال الواقدي: أخذ بلال بيده ليذهب به فيقطع لسانه فقال: يا معاشر المسلمين انقطع لساني، وأعطاه مئة من الإبل (2).
وقال صفوان بن أميَّة: أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ (3).
وقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطيت عيينة والأقرع وتركت جعيل بن سُراقة الضَّمْري؟ ! فقال: "والذي نَفسِي بيَدهِ، لَجعيلٌ أَحَبُّ إليَّ من طِلاعِ الأرض كلها مثل عيينةَ والأَقرعِ، ولكنِّي تَأَلَّفتُهما لِيُسْلِما، وَوَكَلْتُ جُعَيْلًا إلى إسلامِهِ" (4).
وجُعيل من الطبقة الثانية من فقراء المهاجرين، شهد أُحدًا وما بعدها وكان صالحًا (5).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غنم فضة كثيرة، فقال أبو سفيان بن حرب: يا رسول الله أصبحت أكثر قريش مالاً! فتبسم، فقال: أعطني من هذا المال، فقال لبلال: "يا بلال زِنْ لأبي سفيان أربعين أوقية" فأعطاه ومئة من الإبل، فقال أبو سفيان: فداك أبي وأمي إنك لكريم، لقد حاربتك فنعم المُحارَبُ كنت، ثم سالمتك فنعم المسالَمُ كنت، جزاك الله خيرًا (6).
__________
(1) "السيرة" 2/ 493 - 494، والأفائل جمعُ أفيل، وهي الصغار من الإبل.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 5/ 162، والخبر فيه أوضح مما هنا.
(3) "الطبقات" 6/ 112.
(4) "السيرة" 2/ 496، و"المغازي" 3/ 948.
(5) انظر "الطبقات" 4/ 231، وفيه: اسمه جعال.
(6) "المغازي" 3/ 944 - 945.
(4/130)
________________________________________
وقال حكيم بن حزام: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحنين مئة من الإبل فأعطانيها، ثم سألته مئة فأعطانيها، ثم سألته مئة فأعطانيها، ثم قال: "يا حكيمُ بنَ حزامٍ، إنَّ هذا المالَ خَضِرَةٌ حُلْوٌ، فَمن أَخَذَه بسخَاءِ نفسٍ، بُورِكَ له فيهِ، ومَن أَخَذَه بإشرافٍ، لم يُبارَكْ له فيهِ، وكانَ كالذي يَأكُلُ ولا يَشبَعُ، واليدُ العُليا خَيرٌ مِنَ السُّفلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ".
فكان حكيم يقول: والذي بعثك بالحق لا أَسْأَلُ أحدًا بعدك شيئًا. وكان عمر بن الخطاب رضوان الله عليه يقول: أيها الناس إني أشهدكم على حكيم أنِّي أدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه (1).
قال الواقدي: والثابت أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى هؤلاء من الخُمْسِ (2).
وأَمَر زيدَ بنَ ثابتٍ بإحصاءِ الغَنائم ففعل، وكان أبو حذيفة العدوي يتقاسم الغنم (3).
ذكر معاتبة الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
قال أبو سعيد الخُدري: لما أصاب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الغنائمَ يوم حُنينٍ، وقسم في المنافقِين من قريش وسائر العرب ولم يعطِ الأنصار شيئًا، وَجَدوا في نفوسهم وقالوا: لَقِيَ واللهِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قومه، فقال سعدُ بن عبادة: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنْصار قد وجدوا في نفوسهم عليك، قال: "ولم"؟ قال: لأنك قسمت الغنائم في قريش والعرب، ولم يك فيهم من ذلك شيء، قال: "فأَينَ أنتَ من ذلكَ يا سعدُ"؟ قال: ما أنا إلاّ امرؤ من قومي، قال: "فاجْمَعْ لي قَومَكَ"، فجمعهم في حظيرة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا فحَمِدَ الله وأثنى عليه وقال:
"يا مَعاشِرَ الأنصارِ، أَلَم آتكُم ضُلَّالًا فَهَداكُمُ اللهُ بي؟ وعَالةً فَأَغناكُمُ اللهُ بي؟ وأَعَداءً فَألَّفَ بينَ قُلُوبكُم بي"؟ ، قالوا: بلى، قال: "أَلاَ تُجيبُونَني" قالوا: وما نقول؟
__________
(1) أخرجه البخاري (1472)، ومسلم (1035)، وأما قوله: "وابدأ بمن تعول" فهو قطعة من حديث أخرجه البخاري (1427)، ومسلم (1034) من حديث حكيم بن حزام أيضًا، وهذا اللفظ بأجمعه من المغازي 3/ 945.
(2) "المغازي" 3/ 948.
(3) انظر "المغازي" 3/ 949.
(4/131)
________________________________________
قال: "قُولُوا، ولو شِئتُم لَقُلتُم فُصُدَّقْتُم: جِئتَنَا طرِيدًا فَآوَيناكَ، وعَائِلاً فآسَيْنَاكَ، وخائفًا فأَمَّناكَ، ومَخذْولاً فنَصرناكَ"، فقالوا: المنُّ لله ورسوله. فقال: "أَوجَدْتُم في لُعاعَةٍ مِنَ الدُّنْيا أَلَّفْتُ بها قومًا ليُسْلِموا، وَوَكَلْتُكُم إلى إسلامِكُم؟ أَلاَ ترضَوْنَ أَن يذهبَ الناسُ إلى رحالهم بالشَّاءِ والبَعيرِ، وتذهبون إلى رِحالِكُم برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والذي نَفسي بيَدهِ، لو أنَّ الناسَ سَلَكُوا شعْبًا وَسَلكتِ الأنصارُ شِعْبًا، لَسَلكْتُ شِعْبَ الأَنْصارِ"، فبكى القوم حتى اخْضَلَّتْ لِحاهُم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله (1).
ذكر إسلام مالك بن عوف النّصري:
[وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوفد هوازن، وسألهم عن مالك بن عوف: ما فعل؟ ] (2) فقالوا: هو بالطائف، فقال: "أخبروه فإن أتاني مُسلمًا رَدَدْتُ عليه أهلَه ومالَه وأعطيتُه مئةً من الإبل" فأُخْبِرَ مالكٌ فخرج من حصن الطائف فحبسوه (3)، فأمر براحلته فهيئت، وأمر بفرس له فأُتي به، فخرج ليلًا حتى لحق برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالجِعِرانة أو بمكَّةَ، فردّ عليه ماله وأهله، وأعطاه مئة من الإبل، واستعمله على من أسلم من قومه (4).
* * *
وفي هذه الغزاة قال ذو الخُويصرة واسمه - حُرقوص بن زهير - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اعدل فما عدلت.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: أتى ذو الخويصرة التميمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم الغنائم بحنين فقال: يا محمد، قد رأيتُ ما صنعتَ، فقال: "وكيفَ"؟ قال: لم أَرَكَ عَدَلْتَ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "إذا لم يكُنِ العَدلُ عِندي، فَعِندَ مَن يَكُونُ؟ ! " فقال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، فقال: "دَعهُ، فإنَّه سيكونُ لهذا
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (11730).
(2) ما بين معقوفين زيادة من "السيرة".
(3) هكذا جاء النص في نسخنا، وجاء في "السيرة": فخرج إليه من الطائف، وقد كان مالك خاف ثقيفًا على نفسه، أن يعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ما قال، فيحبسوه، فأمر ....
(4) "السيرة" 2/ 491.
(4/132)
________________________________________
شِيعَةٌ يتعَمّقون في الدِّين حتى يمرُقونَ منه كما يُمرقُ السّهمُ مِن الرَّمِيَّة" (1).
وذكر الطبري: أنّ ذا الخُوَيصرة قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مالٍ بعثه علي - عليه السلام - من اليمن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
[عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي من اليمن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (3) بذهبة في أديم مقروظٍ لم تُحَصَّلْ من تُرابها، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة: بين زيدِ الخيل، والأقرعِ بن حابس، وعيينةَ بن حِصْن، وعلقمةَ بن عُلاثَةَ أو عامرِ بن الطُّفَيْلِ، فوجدَ من ذلك بعضُ الأنصار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ تَأَمَنُوني وأنا أَمينُ مَنْ في السَّماءِ يَأْتينِي خَبرُها صَباحًا ومَسَاء"؟ . ثم أتاه رجل غائرُ العينينِ مشرفُ الوجنتينِ، ناشِزُ الجبهةِ، كثُّ اللحيةِ، مشمِّرُ الإزارِ، محلوقُ الرأسِ فقال: اتّقِ الله يا رسولَ الله، فرفع رأسه إليه وقال: "وَيحكَ، أليسَ أَحَقُّ أَهلِ الأَرض أن يَتَّقيَ اللهَ أَنَا؟ " ثم أَدْبَرَ، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلَعلَّه يكونُ قد صلَّى" فقال خالد: رُبَّ مصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لم أُوْمَر أَن أُنَقِّبَ عن قلُوبِ النَّاسِ، ولا أَشقّ بُطُونَهم" ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "سَيخرُجُ مِن ضِئضِئِ هذا .. وذكره" (4).
فصل في المؤلفة قُلوبهم
فمنهم: الأَقْرع بنُ حابس التَّميمي المجاشعي، جُبَيْر بن مُطْعِم بن عدي، الحُرُّ بن قيس، الحارث بن هشام بن المغيرة، حويطب بن عبد العزى، حكيم بن حزام، حكيم ابن طليق، خالد بن قيس، سعيد بن اليربوع، سهيل بن عمرو، صَخر بن حرب، صفوان بن أمية، العلاء بن جارية الثقفي، العباس بن مِرداس السُّلَمي، عبد الرحمن بن يربوع، علقمة بن عُلاثة، عُمَيْر بن وهب، عمر بن مرداس، عمر بن مالك أبو السنابل، عيينة بن حِصْن، قيس بن عدي، قيس بن مَخْرمةَ، مالك بن عوف، مَخْرَمةُ بن نوفل،
__________
(1) "السيرة" 2/ 496، وأخرجه أحمد في "مسنده" (11537).
(2) "تاريخ الطبري" 3/ 92.
(3) ما بين معقوفين زيادة من مصادر التخريج.
(4) أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064).
(4/133)
________________________________________
معاوية بن أبي سفيان، الحارث بن علقمة بن كَلَدَة وأخُوه النَّضْر، هشام بن عمرو، وقيل: زيد الخيل.
قال عمرو بن العاص: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس بين أصحابه يتحدَّثُ يُقْبِلُ بوجهه على أهلِ الرُّتَب يتألَّفُهم بذلك، فكان يقبل بوَجْههِ وحديثهِ عليَّ، حتى قلتُ: ما في أصحابه أحدٌ أحبُّ إليه مني، فسألته يومًا عن شيء ووَدِدْتُ أني لم أكن سألته فقلت: يا رسولَ الله، أَيما أحبُّ إليك أنا أم أبو بكر؟ فقال: "أَبُو بَكرٍ" فقلت: عمر فقال: عمر، وذكر عثمان وعليًا وجماعةً من أصحابه وهو يقول: فلان لمن أذْكُرُه ولم يذكرني، فعلمت أنه كان يتألَّفُني (1).
وقال أنس: كان الرجل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء يعطاه من الدنْيا، فلا يمشي حتى يكون الإسلامُ أَحبَّ إليه من الدنيا وما فيها (2).
وقال الشعبي: لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم أحدٌ، إنّما كانوا على عَهْدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما وَليَ أبو بكر رضوان الله عليه انقطعت الرشا (3).
وقال الشافعي: المؤلفة قلوبهم صِنْفان: مسلمون مجاهدون في سبيل الله، ومشركون أشراف مُطاعون، فالمشركون لا يُعْطَوْن شيئًا، أما المسلمون فأَرى أن يُعْطَوْا من الخُمْس ما يُتَألَّفُون به سوى سهامهم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتألَّفُ أقْوامًا في صدر الإسلام (4).
وقال أبو جعفر محمد بن علي: سهم المؤلفة قلوبهم ثابت لم يتغير.
قال المصنف رحمه الله: وكان أشدَّهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيينةُ بن حِصْن بن حذيفة بن بدر من بني فَزارة، [واسم فزارة] (5) عمرو، فضربه أخ له ففزره، وكنيته أبو مالِكٍ، ويقال لهم: بنو اللَّقيطة لأن جدَّتهُم وُجِدت لَقيطةً فَنُسِبوا إليها، وجدُّه حذيفةُ
__________
(1) أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 15 وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (12050).
(3) ذكره البيهقي 7/ 20.
(4) "الأم" 3/ 209.
(5) ما بين معقوفين زيادة من "الطبقات" 6/ 174.
(4/134)
________________________________________
كان سيَّدَ غَطفان وقتلته بنو عبس، وابنه حِصْن كان سيدًا قتلته بنو عَقيل، وكان عيينة سَبَب الفِجار الثاني، لأنه أغار على سوق عُكاظ.
وأسلم قبل الفتح وكان منافِقًا، وارتدَّ وقاتل المسلمين مع طُليحة، ثم عاد إلى الإسلام فقبله أبو بكر رضوان الله عليه وأمَّنه. وعاش إلى زمن عثمان - رضي الله عنه - ودخل عليه، فقال له: يا عثمان، سِرْ فينا بسيرة عمر، فإنه أعطانا حتى أغنانا، فقال: والله ما كنتَ راضيًا بسيرة عمر، ثم قال له: هل لك إلى العشاء؟ فقال: إني صائم، فقال: أتواصل؟ فقال: وما الوصال؟ قال: تَصِلُ يومَك بليلتِك، فقال: لا، صيامُ الليل أهونُ عليّ من صيام النهار. وذهبت عيناهُ في أيام عثمان - رضي الله عنه - ومات فيها، ولم يضبط تاريخُ وفَاته.
وأما الأقرع بن حابس بن عِقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي، وكان سَيِّدَ قومِه، واسمه فراس، ولقب الأقرع لقرعٍ كان في رأسه، وهو نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحُجُرات، شهد حُنَينًا والطائف، قيل: وفتحَ مكة، وأسلم قبل الفتح، وشهد مع خالد بن الوليد مشاهده كلها واليمامة، ولم يذكر تاريخ وفاته، وقيل: إنه استعمل على جيش فدخل الجوزجان فأُصيبَ هو والجيش، وروى الحديث.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدَّثنا عفان، حدَّثنا وُهَيب، حدَّثنا موسى بن عُقبة، حدَّثني أبو سلمة ابنُ عبد الرحمن، عن الأقْرعِ بن حابِسٍ أنه نادى: يا رسول الله من وراءِ الحجرات، فقال: يا رسول الله، إن حَمْدي لزَيْنٌ، وإن ذمي لشَيْن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاكَ اللهُ عزَّ وجَلَّ" (1).
وأما العباس بنُ مِرْداس بن أبي عامر، أبو الهيثم، وقيل: أبو الفضل السُّلَمي، وكان [العباس بن] (2) مِرداس ممّنْ حرَّم شربَ الخمر في الجاهلية وقيل: هو أول من حرَّمها.
وقال الزبير بن بكار: كان العباس فارِسًا شاعرًا، وأسلم قبل الفتح، ووافى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بقُدَيْدٍ في ألف فارسٍ من قومه. وقيل: في تسع مئة عليهم الدروع والسلاح التام، وبأيديهم القنا. وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين، ولم ينزل مكة
__________
(1) مسند أحمد (15991).
(2) ما بين معقوفين زيادة من "الإصابة" 2/ 272.
(4/135)
________________________________________
ولا المدينة بل البادية، وكان يغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع إلى بلاد قومه، وكانت له بدمشق [دار] وبقيَّةٌ (1).
وقال أبو الفرج الأصبهاني (2): كان العباس فارسًا شاعرًا، شديد العارضة والبيان، سيدًا في قومه من كِلا طرفيه، وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وأمه الخنساء بنت عمرو بن الشريد.
ذكرُ رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجِعِرانة إلى المدينة
وأقام بالجِعِرانة ثلاث عشرة ليلة، وخرج منها ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعْدة ليلًا، فأحرم من مُصَلّاهُ، فلم يزل حتى دخل مكة واستلم الركن، ويقال: إنه لما نظر إلى البيت قطع التلبية وأناخ راحلته عند باب بني شيبة، ودخل وطاف ثلاثة أشواط يرمل فيها وتمم طوافه، ثم خرج فسعى بين الصفا والمروة على راحلته، وحَلَق رأسه عند المروة أبو هند عَبْدُ بني بياضة، وقيل: حلقه خِراش بن أمية، ولم يَسُقْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هَدْيًا، ثم خرج من مكة فسلك على الجِعِرانة، ثم على سَرِف حتى انتهى على مَرِّ الظهران. واستعمل على مكة عتَّاب بنَ أَسِيد وقال له: "استعملتك على أهل الله" وخلَّفَ معاذ بن جبل وأَبا موسى الأشعري يُعَلِّمانِ الناسَ القرآنَ والفِقْهَ، وأقام الحج في هذه السنة عتاب بن أسيد، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مُدَّتِهم (3).
وقدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة يومَ الجمعةِ لثلاثٍ بَقيْنَ من ذي القعدة.
وفيها: تزوجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الكلابيةَ، واسمها: فاطمة بنت الضحاك، وقيل: عَمْرَةُ بنت يزيد بن عُبَيْد بن كِلاب، وقيل: العالية بنت ظبيان، وقيل: هي التي استعاذت منه فقال لها: "الحقي بأهلك"، فكانت تقول: أنا الشقيةُ. وقيل: إنها من بني بكر بن
__________
(1) هكذا جاء في نسخنا، وجاء في "الطبقات" 5/ 162: ولم يسكن العباس بن مرداس مكة ولا المدينة، وكان يغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرجع إلى بلاد قومه، وكان ينزل بوادي البصرة وكان يأتي البصرة كثيرًا، وبقية ولده ببادية البصرة وقد نزل قوم منهم البصرة. وما بين معقوفين زيادة من "تاريخ دمشق" 26/ 403.
(2) "الأغاني" 14/ 294.
(3) "المغازي" 3/ 959 - 960.
(4/136)
________________________________________
كلاب، ولما وصفها أبوها لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وأزيدك أنَّها لم تمرض قط، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لهذه عند الله من خير" فطلَّقها.
وقيل: إنه دخل بها، ولما خَيَّر نساءه اختارت قومها ففارقها.
وقيل: وجد بكَشْحِها بياضًا ففارقها، وتوفيت سنة ستين في قومِها (1).
وفيها: وَفَدَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - امرؤ القيس بن عابس بن المنذر بن امرئ القَيْس بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن كِنْدةَ، وهو ثور بن عقيل بن سبأ بن يَشجُب بن يعرُب بن قحطان الكندي، فأسلم ورجع إلى بلاده، ولما توفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثبتَ على إسلامه ومنع قومه من الردة لما ارتَدَّ بعضهم مع الأشعث بن قيس، وهو من الطبقة الرابعة ممن وفد وشهد اليرموك، ونزل بَيْسان من أرض الشام.
وفيها: طلَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سودة بنت زمعة، فجعلت يومها لعائشة - رضي الله عنها - فردَّها، وقيل: إنّه عَزَم على طلاقها فتركها.
وفيها: غلا السعر بالمدينة فقالوا: يا رسولَ الله سعِّر لنا، فقال: "إنَّ اللهَ هو الخَالِقُ البَاسِطُ الرزَّاقُ المُسَعِّرُ، وإنِّي لأَرجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ ولا أَحَدٌ يُطالِبُني بمَظْلِمةٍ ظَلمتُه إِيَّاها" (2).
وفيها: قَدِمَ عُرْوَةُ بن مسعود الثقفي من الطائف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفيها: وُلِدَ إبراهيمُ - عليه السلام - ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مارية، في ذي الحجة، وكانت قابلته سلمى مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته، فأخْبَرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فوهب له عبدًا، وعقَّ عن إبراهيم شاةً يوم سابعِهِ، وحلق رأسه وتصدق بوزنه فضةً على المساكين، ودفن شعره في الأرض، وشقَّ مولدُه على نساءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا مثلَ عائشة رضوان الله عليها (3).
وتنافس فيه نساءُ الأَنْصار، أَيهنَّ ترضعه، فدفعه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أُمِّ بُرْدَة بنت المنذر بن زيد وزوجها البراء بن أوس أَنْصاري، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقيل عندها، وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثُلَّةُ غنَمٍ يروح عليها، ولبنُ لِقَاحٍ، فقال لعائشة: "انظُرِي إلى
__________
(1) "الطبقات" 10/ 136 - 137.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (14057) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
(3) انظر "الطبقات" 1/ 112.
(4/137)
________________________________________
شَبَهي" فقالت: ما أرى شبهه، فقال: "ألا تَرَيْ إلى بَيَاضِه ولَحمِهِ" (1).
وقال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولد لي البارحة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، فجاءني جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم". قال أنس: ودفعه إلى أم سيف، امرأة قَيْنٍ بالمدينة، فجاء يومًا وقد امتلأ البيت دُخانًا، فقلت لأبي سيف: أمسك فقد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمسك، ودعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبي فضمَّه إليه، وقال ما شاء اللهُ أن يقول (2).
وفيها توفيت
زينبُ بنتُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -
وأمها خديجة - رضي الله عنها -، وكانت أكبرَ بناته، وزوجُها: أبو العاص بن الربيع في الجاهلية ثم أسلم، وكانت زينب - عليها السلام - أسلمت قبله بست سنين، فردَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنكاح الأول، لم يحدث شهادة ولا صَداقًا. ورُويَ أنه ردَّها بنكاحٍ جديد وولدت له عليًا وأمامة، فأما علي فتوفي وقد ناهز الحُلُمَ، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح وهو رديفُه على ناقته وقيل: إنه عاش بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو وهم.
وأما أمامةُ فهي التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحملها في الصلاة على عاتقه فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها (3).
وأهدى النجاشي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حِلْيةً فيها خاتمٌ من ذهب، فبعث به إلى أمامة، وقال: "تحلَّيْ بهذا يا بُنيَّة" (4).
ولما توفيت فاطمةُ - عليها السلام - تزوَّج علي رضوان الله عليه أمامةَ، زوجه إياها الزبير بن العوام - رضي الله عنه - وكان أبو العاص أوصى إليه، ولما احْتُضِرَ علي - عليه السلام - قال لها: لا آمن أن يَخْطُبَكِ هذا الطاغيةُ بعد موتي - يعني معاوية - فإن كان لك في الرجال حاجةٌ فقد رضيت لك المغيرة بن نَوْفل عشيرًا.
__________
(1) "الطبقات" 1/ 114.
(2) "الطبقات" 1/ 113.
(3) أخرج البخاري (516)، ومسلم (543) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا ركع وسجد وضعها، وإذا قام حملها.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24880).
(4/138)
________________________________________
فلما انقضت عِدَّتُها كتب معاوية إلى مروان بن الحكم يأمره أن يخطبها عليه وبذلَ لها مئة ألف دينار، فأرسلت إلى المغيرة وأخبرته وقالت: هذا خطبني، فإن كانت لك بي حاجة فأَقْبِل، فجاء إلى الحسن - عليه السلام - فخطبها إليه فزوَّجه إياها (1).
وقال ابن سعد: لما قُتِلَ عليٌّ رضوان الله عليه خطبها معاوية، فقال لها المغيرة بن نوفل: أتتزوجين بابن آكلة الأكياد، فلو جعلت أمرك إلي، قالت: نعم، فقال: قد تزوجتُكِ، قال ابن أبي ذئب: فجازَ نِكاحُهُ (2).
وقال شيخنا موفق الدين رحمه الله: أهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلادة من جَزْعٍ فقال: "لأَدْفَعَنَّها إلى أَحَبِّ أَهلِي إليَّ" فقال النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمامة بنت زينب فعلَّقها في عنقها (3).
وقال الواقدي: كانت أم أيمن وسودة بنت زمعة وأم سلمة فيمن غَسَّل زينب - عليها السلام -، وقال لهنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغْسِلْنَها وِتْرًا: ثلاثًا أو خَمسًا أو سَبعًا، واجعَلْنَ في الماءِ سِدْرًا وفي الأخيرةِ كافورًا، وابْدَأْنَ بميَامِنِها ومواضعِ الوُضوءِ منها". قالت أم عطية: فجعلنا رأسها ثلاثة قرون: ناصيتها وقرنيها، وألقَيناه خلفها، ثم دفع إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إزاره وقال: "أَشْعِرْنَها إيّاهُ" ففعلنا، ثم أدنَيْناها منه فصلى عليها ونزل في قبرها (4).
وقال أنَس: شهدنا ابنة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس على القَبْرِ وعيناه تدمعان فقال: "هَل فيكُم رجلٌ لم يقارِف الليلةَ"؟ فقال أبو طلحة: نعم أنا، قال: "انزل" فنزل في قبرها (5)، سلامُ الله ورحمته ورضوانه عليها.
عروة بن مسعود
ابن معتِّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف، وهو قسي بن منبِّه
__________
(1) انظر "الإصابة" 4/ 237.
(2) "الطبقات" 10/ 40.
(3) التبيين 225.
(4) انظر "الطبقات" 10/ 35، وأخرجه البخاري (1253)، ومسلم (939) من حديث أم عطية - رضي الله عنه -.
(5) أخرجه البخاري (1285).
(4/139)
________________________________________
ابن بكر بن هوازن بن منصور، أَبو يَعْفور الثقفي، وأُمه سُبيعةُ بنت عبد شمس بن عبد مناف بن قُصيّ.
قذف الله في قلبه الإسلام فقدِم المدينةَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم في ربيع الآخر فسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بإسلامه، ونزل على أبي بكر رضوان الله عليه وقال: يا رسولَ الله، ائذنْ لي أن أذهبَ إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، فأقدُمُ عليهم بِخَيْرِ ما وفد وافِدٌ على قومِه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم إذًا قَاتِلُوكَ" فقال: يا رسولَ الله، لأنا أَحبُّ إليهم من أَبكارِ أولادهم، ثم استأذنه ثانيًا، فقال له مِثْلَ قوله الأول، وقال له: يا رسولَ الله، لو وجدوني نائمًا ما أَيقظوني، ثم استأذنه ثالثًا فقال له: "إن شِئتَ فاخرُجْ".
فسار إلى الطائف فقدمه عَشِيًّا ودخل منزلَه ليلًا، فأنكر قومُه دخولَه منزِلَه، فحيَّوْه بتحيَّةِ الشرك فقال: عليكم بتحية أهل الجنةِ، ثم دعاهم إلى الإسلامِ فاتهموه وقالوا: واللاتِ والعُزّى لقد وقع في نفوسنا حيث لم تحلقْ رأسَكَ أنك قد صبأتَ، ونالوا منه فحلُم عنهم، وخرجوا من عنده يأتمرون كيف يصنعون به، حتى إذا طلع الفجرُ أَوفى على غُرْفَةٍ له فأذَّن بالصلاة، فرماه رجلٌ من رهطه من الأحلافِ يقال له: وهب بن جابر بسَهْمٍ، وقيل: إنّ الذي رماه أَوسُ بن عوفٍ من بني مالكٍ وهو أَثبت، وكان عروةُ من الأحلافِ فأصابَ أكحله فلم يرقأ دمُه، وحَشَد قومُه ولبسوا السلاحَ، وفعل الآخرون كذلك، فلمّا رأى عروةُ ذلك قال: لا تقتلوا بي، فإني قد تصدَّقْتُ بدمي على قاتلي لأُصلحَ بينكم، فهي كرامةٌ أكرمني الله بها، وهي الشهادةُ ساقها الله إليَّ، ثم قال: أشهدُ أن محمدًا رسولُ الله، أخبرني أنكم تقتلوني، ثم قال لرهطهِ: ادفنوني مع الشُّهداء الذين قُتِلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يرتحلَ عنكم، فدفنوه معهم، وبلغَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قتلُه فقال: "مَثلُ عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الصلاة فقتلوه" (1).
* * *
__________
(1) "المغازي" 3/ 960 - 961، و"الطبقات" 8/ 64 - 65.
(4/140)
________________________________________
السنة التاسعة (1) من الهجرة
فيها: قدم وفدُ بني أَسدٍ في أولِ المحرَّم إلى المدينة، وفيهم: طُلَيْحَةُ بن خُويلد بن نوفل، وكان يُعَدُّ بأَلفِ فارسٍ. وكان في الوفد ضرار بن الأزور والحضرمي بن عامر، فقال حضرمي: يا رسول الله، لقيناك مُتَدَرِّعين الليل البهيم في سنة شهباء لم تبعثْ إلينا بعثًا ولم تُرسِلْ إلينا رسولًا، ثم أسلم طُليحة وأخوه سلمة والقومُ، ثم ارتدّ طُليحة وأخوه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2)، ويقال: إن فيهم نزل قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17].
وفيها: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى هلال المحرم المُصَدِّقين إلى العرب، فبعث بُريدةَ إلى أسلم وغفار، وعبادَ بنَ بِشرٍ إلى سُلَيْمٍ ومُزَيْنَة، ورافعَ بنَ مَكِيثٍ إلى جُهَيْنَةَ، وعمرو بنَ العاص إلى فَزارةَ، والضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كِلاب، وبُسْر بن سفيان إلى بني كعب، وابن اللُّتْبيَّة الأَزْدي إلى بني ذُبْيان، وبعث رجلًا من بني سعد على صدقاتِهم.
وقيل: إنما سعى على بني كعب نُعيم بن عبد الله النَّحَّام العدوي، فجاء وقد حلَّ بنواحيهم من بني تميم بنو عمرو وهم يشربون على غدير بذات الأشطاط، وقيل: وجدهم على عُسْفان، فأمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منها الصدقة، فَحَسَرَتْ عليه خزاعة الصدقة من كل ناحية، فاستنكر ذلك بنو تميم وقالوا: ما هذا؟ أتؤخذ أموالكم منكم بالباطل؟ فقاموا إلى السلاح، فقال الخزاعيون: نحن قوم نَدينُ بدينِ الإسلام وهذا من ديننا، وقال التميميون: والله لا يصل إلى بعير منها أبدًا، فهرب المصدِّقُ خوفًا على نفسه، والإسلام يومئذٍ لم يَعُمَّ العربَ، وقَدِمَ المُصَدِّقُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر، وأخرجت خزاعةُ بني تميم من بلادهم، وقالوا: لولا قرابتكم لما وصلتم إلى بلادكم، ليدخُلَنَّ علينا من محمدٍ بلاءٌ وعداوة، وعلى نفوسكم، فقال
__________
(1) في النسختين: السابعة، وهو خطأ.
(2) ثم أسلم طليحة بعد وفاة أبي بكر، وقال ابن سعد: وأسلم طليحة إسلامًا صحيحًا ولم يغمص عليه في إسلامه، وشهد القادسية ونهاوند مع المسلمين. "الطبقات" 6/ 156.
(4/141)
________________________________________
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لِهؤلاءِ الذين فَعَلوا ما فَعَلوا"؟ فقال عيينةُ بن حِصن: أنا والله لهم، أتبع آثارهم وآتيك بهم إن شاء الله فترى فيهم رأيك أو يُسْلموا.
وخرج في خمسين فارسًا من العرب ليس منهم مُهاجريٌّ ولا أَنْصاريٌّ، وكان يكمن بالنَّهارِ ويسير بالليل، حتى انتهى إلى العَرج، فاقتصَّ آثارهم فوجدهم قد عدلوا من السُّقيا يريدون أرض بني سُليم، فنزلوا في صحراء وسرَّحوا مواشيهم والبيوت خُلوف ليس فيها إلا النِّساءُ ونفرٌ، فاخذ منهم أَحَدَ عَشَرَ رَجلًا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيًّا، وقَدِمَ بهم المدينةَ فحبسهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في دار رملة بنت الحارث (1).
وفيها: قدم وفد تميم بهذا السبب وهم عشرة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب بن زُرارة، والزِّبْرِقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، وتميم (2) بن سعد، وعمرو بن الأَهتَم، والأقرع بن حابس، ورياح بن الحارث بن مجاشع، فدخلوا المسجد قبل الظهر وسألوا عن سَبْيِهم فأُخبروا أنهم في دار رملة، فجاؤوهم فبكى الذراري والنساءُ، فرجعوا حتى دخلوا المسجد ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ في بيت عائشةَ رضوان الله عليها وقد أذَّن بلال الظُّهرَ والناس ينتظرون خروجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتعجلوا خروجه، فنادَوْا: يا محمد، اخرج إلينا، فقال بلال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج الآن، وخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأقام بلالٌ الصلاةَ فتعلقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلِّمونه ويقولون له: أتيناك بخطيبنا وشاعِرِنا فاستمع لهم، وصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ، ثم دخل بيته فصلى ركعتين، ثم خرج فجلس، فقام عطارد بن حاجب فخطب وقال:
الحمد لله الذي له الفضل علينا، والذي جعلنا ملوكًا وأعطانا الأموال نفعل بها المعروف، وجعلنا أَعزَّ المَشْرِق وأكثرهم مالًا وعددًا، فمن مِثْلُنا في الناس، فمن فاخَرنا فَلْيُعَدِّدْ مثلَ ما عَدَّدْنا، ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله، أقول هذا إلا أن يأتي من يقولُ ما هو أفضل منا (3).
فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس بن شمّاس: "قُم فأَجِبهُم" فقال: الحمد لله الذي
__________
(1) "المغازي" 3/ 973 - 975.
(2) ذكره ابن حجر في "الإصابة" 1/ 185 وقال: كان في وفد تميم الذين قدموا وأسلموا، وذكره أيضًا 3/ 567 في نعيم وقال: ذكره ابن سعد فيمن قدم في وفد تميم.
(3) انظر "السيرة" 2/ 562.
(4/142)
________________________________________
خلق السماواتِ والأرضَ، وقضى فيهما أمره، ووَسِعَ كلَّ شيءٍ علمُهُ، ثم كان فيما قدَّر لنا وأنعَم علينا أن اصطفى من خلقه رسولًا، أكرم الناس نَسبًا، وأشرفهم حسبًا، وأحسنهم زِيًّا، وأصدقهم حديثًا، أنزلَ عليه كتابَهُ، وجعله أمينًا على خلقه، وكان خِيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان بالله، فآمن به المهاجرون من قومه، ثم كنا أول الناس إجابةً له، فنحن أنصارُ الله ورسولهِ، نقاتِلُ الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلّا الله، فمن آمن بالله ورسوله مَنع منَّا دمَه وماله، ومن كفر بالله ورسولهِ جاهدناه وكان قتله علينا يسيرًا. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. ثم قَعَدَ.
فقالوا: يا رسولَ الله، ائذن لشاعِرنا، فأذن له، فقام الزبرقان بن بدر فقال: [من البسيط]
نحن الملوك فلاحيٌّ يعادِلُنا ... فينا الملوك وفينا تُنْصَبُ البِيَعُ
وكم قَسَرْنا من الأحياءِ كُلِّهِمُ ... عند النِّهاب وفَضلُ الخير يُتَّبَعُ
ونحن نُطعِمُ عند القَحْطِ ما أَكلُوا ... من السَّديفِ إذا لم يُؤنَسِ القَزَعُ
وننحر الكُومَ عَبْطًا في أَرومتِنا ... للنَّازلين إذا ما استُنْزِلوا شَبِعوا
ولا ترانا إلى حَيٍّ نُفَاخِرُهم ... إلا استَعاذوا وكادَ الرأسُ يُقْتَطَعُ
فمَن يُفاخِرُنا في النَّاس نَفْخَرُهُ ... فيَرجعُ القَولُ والأخْبَار تُسْتَمَعُ
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان: "يا حسانُ، أَجبْ" فقام قال: [من البسيط]
إنَّ الذَّوائبَ من فِهْرٍ وإخْوَتِهم ... قد شرَّعوا سُنَّةً للناسِ تُتَّبَعُ
أكرِمْ بقومٍ، رسولُ الله شِيعتُهم ... إذا تفرَّقتِ الأهواءُ والشِّيَعُ
وأَنَّهم أفْضَلُ الأحياءِ كُلِّهِم ... إنْ جَدَّ بالناسِ جِدُّ القولِ أو شَمِعُوا
قومٌ إذا حاربوا رَدُّوا عَدُوَّهُمُ ... أو حاوَلُوا النَّفْع في أشْياعِهم نَفَعوا
إن كان في الناس سَبَّاقون بَعدهُمُ ... فكلُّ سَبْقٍ لأَدْنى سَبقهم تَبَعُ
أَهْدى لهم مِدَحًا قلبٌ يُؤازِرُهُ ... فيما أحب لسان حائكٌ صَنَعُ
من أبيات (1).
__________
(1) المغازي 3/ 977 - 978، والسيرة 2/ 563 - 564.
(4/143)
________________________________________
وخلا الوفد بعضهم إلى بعض فقالوا: والله خطيبُهم أبلغُ من خطيبنا، وشاعرهم أَشعرُ من شاعِرنا وهم أَحْلَمُ منّا، وأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} [الحجرات: 4] وردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأسرى والسبي وأجازهم فأحسن جوائزهم، وكان عمرو بن الأهتم في رِحالهم وظَهْرِهم ومن أحدثهم سِنًّا، وقيس بن عاصم يبغضه فقال: يا رسول الله إنه قد تخلَّفَ غلام منا في رحالِنا وهو حَدَثٌ لا شرَف له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن كان فإنَّه وافدٌ وله حقٌّ". فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أعطى واحدًا من القوم، وبلغ عمرًا فقال يهجو قيس بن عاصم: [من البسيط]
ظَلِلْتَ تغتابُني سِرًّا وتشتُمني ... عند الرسول فلم تصدقْ ولم تُصِبِ
سُدْناكمُ سُودَدًا رَهْوًا (1) وسؤدَدُكُم ... بادٍ نواجذهُ مُقْعٍ على الذَّنَبِ
إن تُبغضونا فإن الرومَ أصلُكُمُ ... والروم لا تملكُ البغضاءَ للعرب
وقال أبو إسحاق الثعلبي: جاءت بنو تميم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادوا على الباب: يا محمد اخرج إلينا، فإن مدحَنا زَيْنٌ وذمنا شيْنٌ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "إنما ذلكم الله، مدحُه زَيْنٌ وذمُّه شَينٌ". فقالوا: نحن أناسٌ من بني تميم جئنا بشاعِرنا وخطيبنا لنُشاعِرَكَ ونفاخِرَكَ.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بالشَّعرِ بُعثتُ، ولا بالفخارِ أُمرتُ ولكن هاتوا" فقال الزبرقان لشاب فيهم: قم فاذكر فضْلَكَ وفضْلَ قومك، وذكر بمعنى ما تقدم.
ثم إن حسانَ بنَ ثابتٍ أنشد بعد إجابته لشاعرهم بالأبيات المتقدمة: [من الطويل]
نصرنا رسولَ الله والدينَ عَنْوَةً ... على رُغْمِ عاتٍ من مَعَدٍّ وحاضِرِ
فأَحياؤنَا مِنْ خَيْرِ مَنْ وَطِئَ الحَصا ... وأمواتُنا من خيرِ أَهْلِ المقابرِ
فقام الأقرع وقال: قد قلت شعرًا فاسمعه مني، فإني ما جئت لِما جاءَ له هؤلاء، فقال: "هات" فقال: [من الطويل]
أتيناكَ كَيْما يَعْرِفَ الناسُ فَضْلَنا ... إذا جاء أَمْرٌ عند ذكر المكارمِ
__________
(1) في النسخ: نهزًا، والمثبت من السيرة 2/ 567، وانظر المغازي 3/ 980.
(4/144)
________________________________________
وأَنا رُؤوسُ الناس من كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كَدارِمِ
وأَنَّ لنا المِرْباعَ في كلِّ غارَةٍ ... تكون بنَجدٍ أو بأَرْضِ التَّهائمِ
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا حسان أجبه" فقال: [من الطويل]
بني دارم لا تَفْخَروا إنَّ فَخركُم ... يعود وَبالًا عند ذِكْرِ المكارمِ
هَبِلْتُم، علينا تفخرون؟ وأَنْتُم ... لنا خَوَلٌ مِنْ بين ظِئرٍ وخادِمِ
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد كُنْتَ غَنيًّا يا أَخَا بني دارمٍ أن تذكرَ الناس ما كانوا قد نَسوه" فكان قوله - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ من قول حسان.
ثم عاد حسان إلى شعره فقال:
فإن كُنْتُمُ جِئتُم لحقْنِ دمائِكم ... وأموالِكم أن تُقْسَموا في المقاسِمِ
فلا تجعلوا لله نِدًّا وأَسْلِموا ... ولا تَفْخَروا عِنْدَ النبي بدارِمِ
وإلاَّ وربِّ البيتِ مالت أكفُّنا ... على هامِكم بالمرهفاتِ الصوارمِ
فقال الأقرع: والله إن محمدًا لَمُؤْتى له! تكلَّمَ خطيبُهم فكان أحسنَ قولًا، وتكلَّم شاعرهم فكان أشعرَ من شاعِرنا، ثم قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنك محمدٌ رسولُ الله.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما يَضُرُّك ما كان قَبْلَ هذا". ثم أعطاهم وكساهم وارتفعتِ الأصواتُ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] الآيات، يعني جفاة بني تميم (1).
* * *
وفيها: كانت سرية قُطبَة بن عامر إلى الخَثْعمِ، في صَفَر (2).
وفيها: كانت سرية الضَّحَّاكِ بنِ سفيان الكلابي إلى القُرَطاءِ إلى بني كِلاب في ربيع الأول (3).
__________
(1) تفسير الثعلبي 5/ 522 - 524، والخبر بتمامه في "تاريخ دمشق" 12/ 409 - 411، وانظر "السيرة" 2/ 564 - 567.
(2) "المغازي" 3/ 981، و"الطبقات" 2/ 148، و"المنتظم" 3/ 358.
(3) "المغازي" 3/ 982، و"الطبقات" 2/ 149، و"المنتظم" 3/ 359.
(4/145)
________________________________________
وفي ربيع الأول وَفَدَ وَفْدُ عبد قيسٍ إلى المدينة.
قال الواقدي: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البحرين أن يَقْدُمَ عليه عشرون رجلًا من عبد القيس، فقدموا ورَأْسُهم: عبدُ الله بن عوف الأشجُّ، وفيهم الجارود العبدي، ومنقذ بن حيان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مرحبًا بكم وأهلًا، نِعْمَ الوَفْدُ وَفْدُ عَبْدِ القَيْس، أيُّكم الأشجُّ" وكان دَميمًا فقال: أنا، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الأشجُّ: يا رسول الله، المرءُ بأَصْغَرَيْهِ قلبهِ ولسانِه، فقال له: "فيك خَصْلتان يحبهما الله ورسوله: الحِلْمُ والأناةُ" فقال: أشيء حدث أم جُبِلْتُ عليه؟ فقال: "لا بل جُبِلْتَ عليه"، وكان الجارودُ نصرانيًا فأسلم وحسن إسلامَهُ، واسمه بشر، وأنزلهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دار رملة ومسح على وجه منقذ بن حيان، ثم أعطاهم جوائزهم وأحسن إليهم وانصرفوا (1).
وفيها: كانت سرية الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب، غير السرية الأولى (2).
وفيها: وَفْدُ بكر بنِ وائل، في ربيع الأول، وكان فيهم بشير بن معبد السَّدوسي وأُمُّهُ الخَصاصيّة أزْدِيّةٌ، قال هشام: هي أُمُّ أَحدِ أجدادِهِ، وأسلم وحَسُنَ إسلامه وصار من أهل الصُّفَّةِ، وماشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فأخذ بيده وقال له: "يا ابن الخصاصية، ما أصبحت تنقم على الله حيث أصبحتَ تُماشي رسول الله"؟ فقال: ما أصبحت أَنْقِمُ شيئًا، قد أعطاني ربي كل خير (3).
وكان في الوفد حسَّانُ بنُ حَوْط، بحاءٍ مهملة، وفيه يقول بعض ولده (4): [من الرجز]
أنا ابنُ حسان بن حوطٍ وأبي
رسولُ بكرٍ كلها إلى النَّبي
* * *
__________
(1) انظر "الطبقات" 1/ 271 - 272.
(2) لم نقف عليها ولعلها كانت في بعثه على الصدقات.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (20787).
(4) "الطبقات" (1/ 272).
(4/146)
________________________________________
وفيها: كانت سرية علقمة بن مُجَزِّز المُدْلجي إلى جُدَّة في ربيع الآخر (1)، بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناسًا من الحبشة تَراآهُمْ أهلُ الشُّعَيْبَةِ: - ساحلٍ بناحية مكَّةَ - في مراكِب، فبعث علقمةَ في ثلاث مئة رجلٍ، فانتهى إلى جزيرة في البحر، فخاضَ الماءَ إليهم فهربوا مِنه فانْصَرف، فلما كان ببعض المنازل استأذنه بعض الجيش في الانصراف حيث لم يَلْقَوا كَيْدًا، فأذِنَ لهم، وأمّر عليهم عبدَ الله بنَ حُذافةَ السَّهْمي، وكان فيه دُعابةٌ فنزلوا ببعض [الطريق] وأوقدوا نارًا يصطلون بها، فقال عبدُ الله: عزمت عليكم إلا تواثبتُم في هذه النار، فقام بعض القوم فتحجَّزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها قال: اجلسوا، إنما كنت أضحك معكم، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَن أَمَركُم بمَعصِيَةٍ فَلا تُطيعُوهُ" (2).
وفيها: كانت سرية علي - رضي الله عنه - في ربيع الآخر إلى الفُلْسِ (3) صنمِ طيّئ، بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في خمسين ومئة رجلٍ من الأنصار على مئة بعير وخمسين فرسًا، فأجنبوا الخيل واعتقبوا الإبلَ حتى أغاروا على حيٍّ من أحياء العرب، وسألوا عن محلَّةِ آلِ حاتمٍ فَدُلُّوا عَليها، فشنُّوا الغارة مع الفجر فسَبَوْا حتى ملؤوا أيديهم من السبي والنَّعم والشاء، وهَدَموا الفلْسَ وكان صنمًا لطيء.
وفي رواية: خرج ومعه رايةٌ سوداء مع سهل، ولواء أبيض مع جبار بن صخر، وبين يديه دليلٌ خِرِّيتٌ، فسلكَ بهم طريق فَيْد، فلما انتهى بهم إلى موضع قال: قد بقي بينكم وبين الذي تُريدون يوم، فإن سرتم نهارًا رآكم رعاؤهم فيُنذِروا بكم، ولكن أَقيموا يومكم ها هنا ونمشي ليلتنا فَنُصَبِّحُهم في عماية الصبح، فنزلوا وسرَّحوا إبلهم، فبعث علي رضوان الله عليه أبا قتادة والحُبابَ بنَ المنذر وأبا نائلة على خيولهم يطوفون حول العسكر، فوجدوا غُلامًا أسودَ، فقالوا: من أنت؟ فقال: أطلب بُغْيتي، فأتَوْا به عَليًّا فشدد عليه، فقال: أنا غلام من طيء، بعثوني إلى هذا المكان وقالوا: إن رأيت خيل محمد فَطِرْ إلينا. فقال علي رضوان الله عليه: ما ترَوْنَ؟
__________
(1) "السيرة" 2/ 639 - 640، و"المغازي" 3/ 983، و"الطبقات" 2/ 149، و"المنتظم" 3/ 359.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (11639).
(3) "المغازي" 3/ 984، و"الطبقات" 2/ 150، و"المنتظم" 3/ 360.
(4/147)
________________________________________
فقال جبار بنُ صَخْرٍ: أرى أن نَسري ليلًا على خيلنا والعبدُ معنا حتى نصَبِّحَهُم، فقال: سيروا واجعلوا العبد دليلًا وهو مكتوف يردفه بعضهم عقبه، فلما ابهارَّ الليل وقف وقال: أخطأت الطريق وتركْتُها ورائي فرجع بهم مقدارَ ميل ثم قال: أنا على خطأ، فقال علي رضوان الله عليه: أنا منك على خُدَعة، قدَّموه فاضْرِبوا عنقه. فلما رأى السيف قال: أرأيتكم إن صدقتكم أينفعني؟ قالوا: نعم، قال: فإني صنعت ما رأيتم لأنه أدركني ما يدرك الناس من الحياءِ فقلتُ: أقبلتُ بالقوم أدلهم على الحي من غير مِحْنَةٍ، فلما عايَنْتُ القتل كان لي عذرٌ، الحيُّ منكم قريب. فتَسمَّعوا نُباحَ الكلاب، فصبَّحوهم وَقت السَّحَر وسَبَوْا وأخذوا النساء والأموال، فنظرت جاريةٌ إلى العبد وهو موثوق فقالت: هذا عمل رسولِكم أَسْلَمَ، فقال: يا ابنة الأكارم والله ما فعلت حتى قُدّمْتُ لتُضْرَبَ عنقي.
وأصابوا أُخْتَ عدي بن حاتم فعزلوها ناحِيةً (1).
وقال هشام: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخت حاتم في حظيرة، فمرَّ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادته: يا محمد أنا ابنةُ سيد قومي، كان أبي يحمي الذِّمارَ، ويفكُّ العاني، ويَقْري الضَّيْفَ، ويُشْبعُ الجائع، ويُطْعِمُ الطعامَ، ولم يردَّ طالبَ حاجةٍ قط. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذه صِفَةُ المؤمنينَ، لو كانَ أَبوكِ مُؤمنًا تَرحَّمنا عليه، أَطلِقُوا عنها، فإنَّ اللهَ يُحبُّ مكارِمَ الأَخلاقِ".
* * *
وفي ربيع الآخر قدم وفْدُ تُجيب، وكانوا ثلاثة عشر، ساقوا صدقاتِ أموالِهم إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فسُرَّ بهم وأنزلهم وأحسن إليهم وأجازهم بأكثر مما كان يجيزُ الوفود، وقال: "هل بقي منكم أحد"؟ قالوا: غلام خَلَّفْناهُ في رحالنا، فدعاه وقال: "ما حاجتُكَ"؟ فقال: أن تدعو لي بأن يغفر الله لي ويجعل غِنايَ في قلبي، فدعا له، وأمر أن يُعطى مثل ما أعطى واحدًا مِنْهم، ورجعوا إلى بلادهم، ثم وافَوْا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالموسمِ سَنَةَ عشر فسألهم عن الغلام، فقالوا: ما رأينا أقنع منه بما رزقه الله تعالى،
__________
(1) "المغازي" 3/ 984 - 987.
(4/148)
________________________________________
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأرجو أن نموت جميعًا" فمات الغلامُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في يومٍ واحدٍ (1).
* * *
وفي ربيع الآخر بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الوليدَ بن عُقْبة بن أبي مُعَيْطٍ مُصَدِّقًا إلى بني المصطلق من خُزاعةَ وكانوا قد أسلموا وبَنَوُا المسجد، فلما دنا منهم الوليد خرج إليه عشرون رجلًا يتَلقَّوْنه بالجزور والغنم فرحًا به، فلما رآهم ولَّى راجعًا إلى المدينةِ وأخبرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّهم لقوْه بالسلاح وحالوا بينه وبين الصدقةِ، فهمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليهم من يغزوهم، وبلغ القوم، فقدم عليه الذين لقوا الوليد وقالوا: يا رسول الله هل ناطقَنا أو كَلَّمنا كلمةً واحدةً؟ فأنزل الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} الآية [الحجرات: 6]. وقيل: كان بين الوليد وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمعوا به تلقَّوْه تعظيمًا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فظنَّ أنهم يريدون قتله فهابهم ورجع (2).
وفيها: قدم عدي بن حاتم إلى المدينة في جمادى الأولى.
قال عدي بن حاتم: ما كان رجلٌ من العرب أشدَّ كراهيةً لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مني، لأني كنت رجلًا نصرانيًا شريفًا في قومي مَلِكًا عليهم، فخِفْتُ على مُلْكي ونَفْسي، فقلت لغلامي: أَعْدِدْ لي إبلًا سِمانًا فاحْتَبِسْها قريبًا مني، فإذا سمعت بجيش محمد وطئَ البلاد فآذنّي، فجاء يومًا فقال: هذه جيوشُ محمد، فاحتملتُ بأهلي وقلت: ألحقُ بالشام فأكون عندَ النَّصارى، وخلَّفتُ ابنةَ حاتمٍ بالحاضِر، وجاء علي بن أبي طالب فأصابها فيمن أصابَ وقدم بها على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سبايا طيّءٍ، وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - هربي إلى الشام، فجعل ابنة حاتم في حظيرةٍ، وذكر بمعنى ما تقدم من قولها: هلك الوالد وغاب الوافد، فلما كان في اليوم الثالث قال لها: "قد مَنَنْتُ عليك فلا تخرجي حتى تجدي من قومك ثِقةً". قالت: فقدم قوم من قُضاعة فَقلت: يا رسولَ الله قد قدم ركبٌ من قومي لي فيهم ثقة وبلاغٌ، قال: فكساني وأعطاني وحملني ودفع إلي نفقةً،
__________
(1) "الطبقات" 1/ 279 - 280.
(2) "السيرة" 2/ 296، و"المغازي" 3/ 980، و"الطبقات" 2/ 148.
(4/149)
________________________________________
فخرجتُ معهم حتى قدِمْتُ الشامَ.
قال عدي: فواللهِ إني لقاعدٌ في قومي إذ نظرت إلى ظعينةٍ تضرب إليّ، فقلت: ابنةُ حاتم؟ ! فإذا هيَ هيَ، قال: فخرجتُ، فقدِمْتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسجده، فسلَّمْتُ عليه فقال: "مَنِ الرجُلُ"؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام وانطلق بي إلى منزله، فلقيته امرأة ضعيفةٌ فاستوقفَتْه فوقف لها، فكلَّمَتهُ في حاجتها فقضاها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملِكٍ، ثم دخل بيته وناولني وِسادةً من أدَمٍ حَشوُها من ليف وقال: "اجلِسْ عليها" فجلست عليها وجلس هو على الأرض، فقلت في نفسي: والله ما هذا بمَلكٍ، ثم قال: "إيهِ يا عديُّ، أَلَمْ تَكُ رَكوسِيًّا"؟ قلت: بلى، قال: "أَلَم تَسِرْ في قَومِكَ بالمِرْباعِ"؟ قلت: بلى، قال: "فإن ذلك لم يك في دينك".
الركوسيون: قرية من النصارى والصابئين. والمِرْباعُ: ما يأخذُه المقدَّمُ من الغنيمة، ومعناه: أن الغنائم لم تَحِلَّ لأحد إلا لهذه الأمَّةِ.
فقلتُ في نفسي: هذا نبيٌّ مرسلٌ يعلم ما نجهل، فقال: "لعلَّه إنما يمنعُكَ مِن الدُّخولِ في هذا الدِّينِ ما تَرَى من حَاجَتِهم، فَواللهِ لَيوشِكُ أن يَفيضَ المالُ فيهم، حتى لا يُوْجَدَ من يأخُذُهُ، [ولعلَّك إنما يمنعُكَ ما ترى مِن كَثرةِ عَدوِّهم وقلَّةِ عدَدِهم، فَوالله ليوشِكَنَّ يُسمع بالمرأةِ تخرجُ من القادسيَّةِ على بعيرِ، حتى تزورَ هذا البيت لا تخافُ] (1)، ولعلَّكَ إنما يمنعُكُ مِن الدُّخولِ فيه ما ترى من المُلكِ والسُّلطانِ، فَواللهِ لَيوشِكَنَّ أن تَسْمَع بالقُصُورِ البيضِ في أَرْضِ بابلَ قد فُتِحَتْ".
وأسلم عدي وكان يقول: قد مضت اثنتان وبقيت واحدة، رأيتُ القصورَ البيضَ قد فُتِحَتْ، ورأيت الظَّعينةَ تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئًا حتى تأتي، وايْمُ اللهِ ليفيضَنَّ المالُ حتى لا يوجد من يأخُذُهُ (2).
* * *
__________
(1) ما بين معقوفين زيادة من "الطبقات".
(2) "السيرة" 2/ 578 - 581، و"الطبقات" 6/ 214 - 217، و"تاريخ الطبري" 3/ 112 - 115.
(4/150)
________________________________________
وفي جمادى الآخرة قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واثِلَةُ بن الأَسْقَعِ وهو يتجهَّزُ إلى تبوك فأسلم، ورجع إلى قومه فهجره أبوه وقال: والله لا أكلمه أبدًا، وسمعته أختُه فأسلمت وجهَّزتْهُ إلى تبوك، فلحق برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فجهزه مع خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِر دومةَ، فجاء بسَهْمه من الغنيمةِ إلى كَعْب بن عُجْرَةَ، وكان قد حمله من المدينة إلى تبوك على جمله، وكان واثلةُ قد قال: من يَحْمِلُني وله سهمي؟ فقال له كعب: إنما حملتُك للهِ، ولم يأخذْ منه شيئًا (1).
وفيها: كانت غزاة تبوك (2).
كانت الأنباط يَقْدُمونَ المدينة من الشام بالزيت ودقيقِ الحُوَّارَى، فكانت أخبارُ الشام عند المسلمين بهذا السبب، فقدمت قادمةٌ مِنْهم فأخبروا أن الرومَ جمعت جموعًا كثيرةً بالشام، وأن هِرَقْلَ رَزَقَ أصحابه رِزْقَ سَنةٍ، وأجلبت معه لَخْم وجُذامٌ وغَسَّان وعاملةُ وغيرهم، ونزلوا البلقاء، وعسكروا بها، وتخلف هِرَقلُ بحمص، وأنه يأتي إليهم ويقصدون الحجاز.
قال الواقدي: ولم يكن شيء من ذلك ولم يكن عدوٌّ أخوف [عند المسلمين منهم]. وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغزو غزاةً إلا ورّى بغيرها لئلا تذهب الأخبارُ حتَّى كانت غزاةُ تبوك، كان الحرُّ شديدًا واستقبل سفرًا بعيدًا وعدوًا كبيرًا، فجلَّى للناسِ أمره ليتأهبوا، وأخْبَرهم بالوجه الذي يريد، واستنفر القبائل وأهل مكّةَ، ورغَّبهم في الجهادِ، وذلك في زمنِ عسْرَةٍ من الناس وجَدْبٍ من البلاد وحين طابت الثِّمارُ، فالناس يحبون المقامَ في ثمارهم وظلالهم، وتكرهُ الشُّخوصَ عنها.
وأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بحمل الصدقات، فأول من جاء أبو بكر رضوان الله عليه بمالهِ كلَّه، وهو أربعةُ آلاف درهم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل أبقيت شيئًا"؟ قال: أبقيتُ الله ورسولَه.
وجاء عمرُ رضوان الله عليه بنصف ماله فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل أبقيت شيئًا"؟
__________
(1) "المغازي" 3/ 1028، و"الطبقات" 5/ 129 - 130.
(2) "السيرة" 2/ 515، و"المغازي" 3/ 989، و"الطبقات" 2/ 150، و"تاريخ الطبري" 3/ 100، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 212، و"المنتظم" 3/ 362، و"البداية والنهاية" 5/ 2.
(4/151)
________________________________________
قال: نعم نصف مالي، وبلغه ما جاء به أبو بكر رضوان الله عليه فقال: والله ما استَبقنا إلى خَيْرٍ قط إلا سبقني إليه أبو بكر.
وجهَّز عثمان بن عفان رضوان الله عليه ثلثَ الجيشِ، وقيل: جاء بألف بعير والفِ دينار فصبَّها في حِجْرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقلبها ويقول: "ما ضرَّ عثمانَ ما فعل بعد هذا".
وحمل عبدُ الرحمن بنُ عَوْفٍ - رضي الله عنه - مئتي أُوْقية، وحمل معظم الصحابة - رضي الله عنهم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحمل العباس وطلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مَسلمة مالًا، وحمل عاصم بنُ عديٍّ تِسْعينَ وَسْقًا من تَمْرٍ (1).
وقال هشام: جلسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وحضَّ على الصدقة في سبيل الله، فجاءه العباسُ عمُّه بسبعين ألفًا، وعثمان بالف دينار ومئتي بعير.
وقال ابن إسحاق: أنفق عثمان رضوان الله عليه في ذلك الوجه نفقةً عظيمةً لم ينفق أحدٌ أعظمَ منها، وحمل على مئتي بعير (2).
وحمل كلُّ أحد حتى النساء كن يبعثْن بمعاضِدِهن وخلاخيلهن وخواتيمهن وغير ذلك.
وضرب عسكرُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في ثنيَّةِ الوداع والناس كثير لا يجمعهم كتاب ولا ديوان، واستخلف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة سِباعًا الغفاري، وقيل: محمد بنَ مَسْلَمةَ، وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، وخلَّفَ عليًا رضوان الله عليه في أهله، فقال: يا رسول الله خلَّفتني في النساء والصبيان؟ فقال: "أَلَا تَرضَى أَن تكُونَ منِّي بمنزِلَةِ هارُونَ من موسى" (3).
وعقد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الألوية والراياتِ على الثنية، فدفَع لواءَه الأعظمَ إلى أبي بكر
__________
(1) "المغازي" 3/ 990 - 991.
(2) "السيرة" 2/ 518.
(3) انظر "السيرة" 2/ 519، والحديث أخرجه البخاري (4416)، ومسلم (2404) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.
(4/152)
________________________________________
رضوان الله عليه، ورايته العظمى إلى الزبير - رضي الله عنه -، وراية الأوسِ إلى أُسَيْد بن حضير، ولواءَ الخزرج إلى أبي دُجانةَ، وقيل: إلى الحباب بن المنذر.
وكانوا يرحلون عند مَيْلِ الشمس فما يزالون إلى الليل (1). وكان سيرُهم في خامسِ رجب، وقيل: في عاشره.
وكان قد تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفرٌ من المسلمين أبطأت بهم النِّيَّةُ من غير شكٍّ منهم ولا ارتيابٍ، فمنهم: كعبُ بن مالك، ومُرارةُ بن الربيع، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة (2).
ولما سار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك كان يتخلف رجلٌ، فيقولون: يا رسول الله تخلَّف فلان فيقول: "دعوه، إن يكُ فيه خَيْرٌ، فسَيُلْحِقْه الله بكم، وإن يك غير ذلك، فقد أراحكم الله منه"، فلاح راكبٌ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُن أبا ذَرٍّ" فقالوا: هو أبو ذر، فقال: "يَرحمهُ اللهُ يَمشِي وَحدَهُ" (3).
ورجع أبو خيثمة بعد مسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله في يومٍ حارٍ، فوجد امرأتين له قد رشَّت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماءً وهيأت له فيه طعامًا، فلما نظر إلى ذلك قال: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الضَّحِّ والريحِ والحرِّ، وأبو خيثمةَ في ظلٍّ وماء بارد وطعام مهيَّأٍ وامرأة حسناء، مقيمٌ في ماله، ما هذا بالنَّصَفِ، ثم قال لأهله: لا أدخل عريشَ واحدةٍ منكما حتى ألحق برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فهيِّئا لي زادًا، ففعلتا، ثم قدَّم ناضِحَه وارتحل في طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أدركه بتبوك حين نزلها، وقد كان وافق عُمَيْر بنَ وهبٍ الجمحيَّ في الطريق فقال له: تخلَّفْ عني فلي ذنب، فلما دنا قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبلٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُن أبا خَيثمةَ" فلما وصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره الخبَرَ فدعا له وقال خَيرًا (4).
وحين مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالحِجْرِ ونزله ليستقي الناس من بئرها قال: "لا تشربوا من
__________
(1) "المغازي" 3/ 996.
(2) "السيرة" 2/ 519.
(3) "السيرة" 2/ 523 - 524، و"دلائل النبوة" 5/ 221 - 222.
(4) "السيرة" 2/ 520 - 521.
(4/153)
________________________________________
مائها ولا تتَوضَّؤا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلِفُوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئًا" ثم ارتحل حتى نزل على البئرِ التي كانت تشرب منها الناقة، وأسرع الناسُ إلى دخولِ الحِجْر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَدخُلونَ على قومٍ غَضِبَ اللهُ عليهم؟ ".
ولما نهاهم عن الشُّربِ من مياه الحجر قال: "لا يَخرجنَّ أَحدُ منكم اللَّيلةَ إلا وَمَعه صاحبٌ له" ففعل الناس ما أمرهم به، إلا رجلين من بني ساعدة، خرجَ أحدهما لحاجته، والآخَرُ في طلب [بعيرٍ له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خُنِقَ، وأما الذي ذهب في طلب] بعيره فاحتَملته الريحُ فطرحَتْه بجبلِ طيّء، فأُخْبِرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَلَم أَنهكَمُ أَن يخرجَ رَجلٌ منكم إلا وَمَعه آخَرُ" ثم دعا لِلَّذي خُنِقَ فشفي، وأما الآخر فإن طيِّئًا أهدته للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما قَدِم من تبوك (1).
وأصبح الناسُ في طريق تبوك على غير ماء، فشكَوْا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - العطشَ. قال عبد الله بن أبي حدرد: فرأيته استقبل القبلةَ فدعا، ولا والله ما رأيت في السماء سحابًا، فما برح يدعو حتى إني لأَنْظُرُ إلى السحاب يتألف من كل ناحية، فما رامَ مقامَه حتى سحَّت علينا السماءُ بالرِّواءِ، ثم كشف الله عنا السماء من ساعتها وإن الأرضُ [إلا غدر تناخس فسقى الناس وارتَوَوا] (2)، فقلتُ لرجل من المنافقين: أبقي بعد هذا شيء؟ فقال: سحابةٌ مارةٌ (3).
ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سار، حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقتُه، فخرج أصحابه في طلبها وعنده عُمارةُ بنُ حَزْمٍ الأنصاري، وكان في رَحْلِ عُمارةَ زيدُ بنُ اللُّصَيْت، فقال زَيدٌ: أليس محمد يزعم أنَّه نبي ويخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمارة: "إنّ رجلًا قالَ كذا وكذا، وإني لا أعلمُ إلا ما علَّمني الله، وقد دلَّني الله عليها، وإنها في الوادي الفُلاني قد حبستها شجرة بزمامها". فانطلقوا فجاؤوا بها، فرجع عمارة إلى رحله فأُخْبِر الخبرَ فقال رجلٌ: إنَّ زَيْدًا قال هذه المقالةَ قبلَ أن يأتي، فقام إلى زيد فوجأ عنقه وقال: يا عدو الله، في رَحْلي داهيةٌ ولا أدري، اُخْرُج عني. فيقال: إن زيدًا تاب، وقيل: لم يزل مُصِرًّا حتى هلك (4) والله أعلم.
__________
(1) "السيرة" 2/ 521 - 522، وما بين حاصرتين منه.
(2) في النسخ الخطية: "وإن الأرض لا عذرًا فسقى وأروى" والمثبت من "المغازي".
(3) "المغازي" 3/ 1008 - 1009.
(4) "السيرة" 2/ 522 - 523.
(4/154)
________________________________________
حديثُ مسجدِ الضِّرار
قال يزيد بن رومان: أقبلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل بذي أَوان، وقد جاءه من أصحاب مسجد الضرار: مُعَتِّبُ بنُ قُشَيْر، وثعلبة وخِذَام، وأبو حبيبة، وعبد الله بن نَبْتَل، فقالوا: يا رسولَ الله إنّا رُسُلُ مَنْ خَلْفَنَا من أصحابنا، وإنا قد بنينا مسجدًا لذي العِلَّةِ والحاجةِ والليلةِ المطيرةِ، ونحن نحبُ أن تأتِيَنا فتصليَ بنا فيه - ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتجهز إلى تبوك - فقال: "إني على جَناحِ سفر، فإذا قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلَّيْنا بكم فيه"، فلما عادَ من تبوك ونزل بذي أوان، أتاه خبره وخبر أهلهِ من السماء، وكانوا إنّما بَنَوْهُ لأبي عامرٍ الراهبِ، فكان بالشَّام هاربًا، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فابنوا لي مسجدًا، فإني قادمٌ بخيول الروم من عند قيصر فأُخْرِجَ محمدًا وأصحابه، وكان الذي بنوه اثني عشر (1).
وقال الثعلبي: جاء المنافقون إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه أن يصلِّيَ فيه، فدعا بقميصِهِ ليلبَسه ويأتيَهم فأنزل الله عليه خبرَ السماء وما هموا به، فدعا مالكَ بنَ الدُّخشُم ومعن ابن عدي وعامر بن السَّكَن وقال: "اذهَبُوا إلى هذا المسجدِ الظَّالمِ أهلُه فاهدموه" (2).
وقال ابن إسحاق والواقدي: بعث مالك بن الدخشم وعاصم بن عدي وقال لهما: "انطَلِقا إلى هذا المسجدِ الظالم أهلُهُ فاهدماهُ واحرقاه". فخرجا مُسْرِعَيْنِ، وأخذ مالك سَعَفًا من النخل وأشعل فيه نارًا، وانتهيا إليهم بين المغرب والعشاء وهم فيه وإمامهم يومئذ مُجَمِّعُ بن جارِيَة، قال عاصم: فأَحْرقْناه وهدمناه وثبت فيه منهم زيدُ بن جارية بن عامر فاحترقَتْ إِلْيَتاهُ، وجَعَلْناهُ مع الأرض وتفرَّقُوا، فلما قِدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ أعطاه لعاصم بن عديًّ يتخذه دارًا، فقال: ما كنت لأتَّخِذَ مسجدًا - قد نزل فيه ما نزل - دارًا، وإني لفي غِنىً عنه، أَعْطِه يا رسول الله ثابتَ بن أقرم، فأعطاه ثابتًا، وكان قد احترق معه دار وديعة بن ثابت ودار عامر إلى جنبها، وكان أبو لبابة بن عبد المنذر قد أعانهم فيه بخشب، وكان غير مغموصٍ عليه في النفاق، فلما هدم أخذ أبو لبابة خشبه ذلك فبنى به منزلًا (3).
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 529، و"المغازي" 3/ 1045 - 1046.
(2) تفسير الثعلبي 3/ 247.
(3) "السيرة" 2/ 530، و"المغازي" 3/ 1046 - 1047.
(4/155)
________________________________________
والذين أسَّسوا مسجد الضِّرار كانوا خمسة عشر رجلًا (1)، فأنزل الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} الآية [التوبة: 107].
وقال الثعلبي: أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ ذلك المسجد كناسة يلقى فيها الجِيفُ والنَّتنُ والقُمامةُ.
ومات أبو عامر بالشام وحيدًا فريدًا غريبًا، وفيه يقول كعب بن مالك: [من الوافر]
معاذ الله من فعلٍ خبيثٍ ... كسَعيكَ في العَشيرةِ عبد عمروٍ
وقُلْتَ بأنَّ لي شَرفًا وذِكرًا ... فَقِدْمًا بِعْتَ إيمانًا بكُفْرِ
وقال الثعلبي: سأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلًا منهم: بماذا أعَنْتَ في هذا المسجد؟ قال: بسارية، فقال عمر - رضي الله عنه -: أبشر بها في عنقك في نار جهنم.
وروي: أن بني عمرو بن عوف الذي بَنَوا مسجدَ قُباء سألوا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه في خلافته ليأذن لمجمِّع بن جارية أن يَؤُمَّ بهم في مسجدهم فقال: لا ولا نِعْمة، أليس بإمامِ المسجد الضِّرار؟ فقال له مجمِّع: لا يا أمير المؤمنين، فوالله لقد صلَّيْتُ وأنا لا أعلم ما أضْمَروا عليه ولو علمت ما صلَّيتُ فيه، كنت غُلامًا قارِئًا للقُرآنِ وكانوا شُيوخًا قد عَشَوْا لا يقرؤون من القرآن شيئًا، وكنت أظنهم يتقرَّبون إلى الله ولم أعلم بما في نفوسهم. فعذره عمر رضوان الله عليه وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قُباء (2).
وروي عن ابن عباس، أن المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى مسجد قباء. وروي أنه مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة يومَ الخميس عاشر رمضان، فبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين وجلس، وكان قد تخلَّف عنه رَهْطٌ من المسلمين والمنافقين، فصفحَ عن المنافقين ولم يَعْذِرْ مَنْ تخلَّف من المسلمين إلا من كان عاجزًا، ومدح ذوي الأعذار من المسلمين.
__________
(1) عدهم ابن إسحاق اثني عشر رجلًا، وسلف أنهم كذلك، انظر "السيرة" 2/ 530.
(2) تفسير الثعلبي 3/ 247.
(4/156)
________________________________________
قال أنس: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من غزاة تبوك ودنا من المدينة قال: "إنَّ بالمدينةِ أَقوامًا، ما سِرْتُم مَسيرًا ولا قَطَعتُم واديًا إلا كانوا مَعَكم فيه"، فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: "وهُم بالمدينةِ، حَبَسهُم العُذْرُ". أخرجه البخاري (1).
قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا
لما قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك لم يُعْذِرْ مَنْ تخلَّفَ عنه من المسلمين من أهل القُدرة، منهم: كعب بن مالك الشاعر، ومُرارة بن الربيع العَمْري، وهلال بن أُميَّةَ، وهم من الأنْصار، تخلفوا من غير عُذرٍ مع صحَّةِ إسلامهم، وإنهم لم يُغْمَصوا بالنِّفاق، فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم، ونهى الناسَ عن كلامهم حتى نزلت تَوْبَتُهم في القرآن.
وقد أخرج حديثهم الإمام أحمد والبخاري ومسلم رحمة الله عليهم:
عن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائدَ كَعْبٍ من بَنِيهِ حين عَمِيَ قال: سمعتُ كعبَ بنَ مالكٍ يحدث حديثه حين تخلَّفَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، قال كعب: لم أتخلَّفْ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ غزاها إلّا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت عن غزوة بَدْرٍ ولم يعاتِبْ أحدًا تخلف عنه، إنّما خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عِيرَ قُريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غَيْرِ ميعادٍ، ولقد شهدتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام وما أُحبُّ أن لي بها مشهد بَدرٍ، وإن كانت بدرٌ أَذكَرَ في الناس منها.
وكان من خبري حين تخلَّفتُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، أني لم أكن قطُّ أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلَّفْتُ عنه في تِلْكَ الغزوةِ، ولم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتَّى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا واستقبل عَدوًّا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أَمْرَهُم ليتأهبوا أُهْبَة غزوِهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرٌ ولا يجمعهم كتابٌ حافِظٌ، فَقلَّ رجلٌ يريدُ أن يتغيَّب إلا ظنّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله عز وجل، وغزا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوةَ حين طابتِ الثمارُ والظلالُ، فتجهز
__________
(1) أخرجه البخاري (4423).
(4/157)
________________________________________
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهزَ معهم فأرجع ولم أقضِ شيئًا وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتَّى استمرّ بالناس الجِدُّ، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غادِيًا والمسلمون معه، ولم أَقْضِ من جهازي شيئًا، ثم غَدَوْتُ فرجعتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى حتَّى أسرعوا وتفارطَ الغَزْوُ، فهممت أن أَرْتَحِلَ فأُدْرِكَهم فيا ليتني فَعلتُ ثم لم يُقَدَّرْ ذلك لي، فطفِقْتُ إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحْزِنُني أنَّني لا أرى لي أُسْوةً إلا رجلًا مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلًا ممَّن عَذَرَ اللهُ من الضعفاء، ولم يذكُرْني رسولُ الله حتَّى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: "ما فَعَل كَعبُ بنُ مالكٍ؟ " فقال رجلٌ من بني سَلمة: يا رسولَ الله، حبسه بُرْداه والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ، فقال له معاذُ بن جبل: بئس ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينا هو على ذلك رأى رجلًا مُبَيَّضًا يزولُ به السرابُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُن أَبا خَيثَمةَ" فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الَّذي تصدق بصاعِ التمر حين لمزهُ المنافِقون.
قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجه قافِلًا من تبوك، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقول: بِمَ أخْرجُ من سَخَطه؟ وأستعين على ذلك بكلِّ ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظلَّ قادِمًا زاح عني الباطلُ حتَّى عرفت أني لن أنجوَ منه بشيء أبدًا، فأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وصبَّح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إذا قدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجد فركَعَ فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءَهُ المخلَّفون فطفِقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رَجلًا، فقبلَ منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكَلَ سرائرهم إلى الله تعالى، حتَّى جئتُ, فلما سَلَّمت تبسم تَبَسُّمَ المغْضَبِ، ثم قال: "تعالَ"، فجئت أمشي حتَّى جلستُ بين يديه، فقال لي: "ما خلَّفكَ؟ أَلَم تكُن قدِ ابْتَعتَ ظَهْرَكَ"؟ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إني والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سَخَطهِ بعُذْرٍ، لقد أُعطيتُ جَدَلًا، ولكني والله لقد علمتُ لئن حدَّثتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ ترضى به عني ليوشِكَنَّ الله أن يُسخِطَك عَلَيَّ، ولئن حدثتك حديثَ صِدْقٍ تَجِدُ عليَّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، والله ما كان بي من عذر، والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسرَ منى حينَ تخلَّفْتُ عنك. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(4/158)
________________________________________
"أمّا هذا فَقد صَدَقَ، فَقُم حتَّى يقضيَ اللهُ فيك".
فقمتُ، وثارَ رجالٌ من بني سَلِمَةَ فاتَبعوني فقالوا لي: والله ما علمناكَ أذْنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عَجَزْتَ في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذَرَ إليه المخلَّفُون، فقد كان كافيك ذَنْبَكَ استغفارُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والله ما زالوا يُؤَنِّبوني حتَّى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكَذِّبَ نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت من هما؟ قالوا: مُرارةُ بن ربيعة العَمْريُّ، وهلال بن أمية الواقِفيُّ، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا لي فيهما أسوة، قال: فَمَضَيتُ حين ذكروهما لي.
قال: ونهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامِنا أيُّها الثلاثةُ مِنْ بَيْنِ من تخلَّفَ عنه. قال: فاجتَنبَنا الناسُ، أو قال: تَغيَّروا لنا حتَّى تنكَّرت إلى نفسي الأرضُ فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأمّا صاحبايَ فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أَشَبَّ القوم وأَجْلَدَهُم، فكنت أخرجُ فأشهدُ الصَّلاةَ وأطوف في الأسواقِ ولا يكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأسَلِّمُ عليه وهو في محله بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرَّكَ شَفتيه لردّ السلام أم لا؟ ثم أُصَلِّي قريبًا منه وأُسارِقُه النَّظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نَظر إليَّ، وإذا التفتُّ نحوهُ أعرض عني.
حتَّى إذا طال عليَّ ذلك من جَفْوةِ المسلمين مشيتُ حتَّى تسوَّرْتُ جدار حائطِ أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبُّ الناس إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلامَ، فقلت له. يا أبا قتادة، أَنْشُدُكَ بالله هل تعلمُ أني أُحِبُّ الله ورسوله؟ قال: فسكتَ، فعدتُ فأنشدته، فقال: اللهُ ورسولُه أعلمُ، ففاضت عينايَ وتولَّيْتُ حتَّى تسوَّرْتُ الجدارَ.
فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نَبَطيٌّ من نَبَطِ أهل الشّام ممن قدم بالطعام يبيعُه بالمدينة يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ فطفِقَ الناسُ يشيرون له إلي، حتَّى جاءني فدفع إلي كتابًا من ملك غسان وكنت كاتبًا فقرأته، فإذا فيه: أما بعد، فإنّه قد بلغَنا أن صاحِبك قد جفاك، ولم يَجْعَلْكَ الله بدارِ هوان ولا مَضْيعةٍ، فالحَق بنا نُواسِكَ. قال: فقلتُ حين قرأتُها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيمَّمْتُ بها التَّنُّورَ فسجرتها.
(4/159)
________________________________________
حتَّى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحيُ إذا رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أُطَلِّقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزِلْها فلا تقرَبْها، قال: وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتَّى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأةُ هلال بن أمية رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: يا رسول الله، هلال بن أمية شيخ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: "لا، ولكن لا يقربنَّكِ" فقالت: إنه والله ما به حركةٌ إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتك فقد أذن لامرأةِ هلال ابن أمية أن تخدمه، قال: فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يدريني ماذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنتُه فيها وأنا رجل شاب.
قال: فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نهى عن كلامنا، قال: ثم صَلَّيْتُ صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيتٍ من بيوتِنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت عَلَيَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرضُ بما رَحُبت، سمعتُ صوتَ صارخٍ أَوْفى على سَلْعٍ يقول بأعلى صوته: يا كعبَ بنَ مالكٍ، أبشر، قال: فخررتُ ساجدًا وعرفتُ أنْ قد جاءَ الفَرجُ.
قال: وآذنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ بتوبةِ الله علينا حين صلى صلاة الفَجر، فذهب الناسُ يبشروننا، فذهب قِبَلَ صاحبيَّ مُبَشِّرون، وركض إليَّ رجلٌ فرسًا، وسعى ساعٍ من أسلمَ قِبَلي، وأوفى على الجبل، فكانَ الصوتُ أسرع من الفَرسِ، فلما جاءني الذي سمعتُ صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوتُهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعَرْتُ ثوبَيْنِ فلبستُهما، وانطلقتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلقاني الناس فَوْجًا فَوْجًا يهنَّئونني بالتوبة، ويقولون: ليهنِكَ توبةُ الله عليكَ، حتَّى دخلتُ المسجدَ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حوله الناس، فقام طلحةُ بنُ عُبيد الله يهرولُ حتَّى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلَّمتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهُوَ يَبْرُقُ وجهه من السرور: "أَبْشِر بخيرِ يومٍ مرَّ عليكَ منذُ ولَدَتكَ أمُّكَ" قال: فقلت: أَمِنْ عِنْدِكَ يا رسولَ الله، أم من عند
(4/160)
________________________________________
الله؟ قال: لا، بل من عند الله، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سُرَّ استنار وجهُه حتّى كأنّ وجهه قطعةُ قَمَرٍ، قال: وكنا نَعرِف ذلك، قال: فلما سلمتُ بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمْسِكْ بعضَ مالكَ فهو خيرٌ لك"، قال: فقلت: فإني أُمْسِكُ سَهْمي الَّذي بخيبر، قال: فقلت: يا رسولَ الله، إن الله إنما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنّ من توبتي ألِّا أحَدِّثَ إلا صدقًا ما بقيتُ، قال: فوالله ما علمتُ أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحْسَنَ مما أبلاني اللهُ، ووالله ما تعمَّدْتُ كَذبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي.
قال: فأنزل الله عز وجل {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} حتى بلغ {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} حتى بلغ {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117 - 119].
قال كعب: والله ما أنْعمَ الله عليَّ من نِعمةٍ قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صِدقي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذبته فأهْلِكَ كما هَلَك الذين كذبوا [فإن الله قال للذين كذبوا] حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحد، فقال الله سبحانه وتعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} إلى قوله {الْفَاسِقُينَ} [التوبة: 95].
قال كعب: كنا خُلِّفْنا أيُّها الثلاثةُ عن أمر أولئك الذين قَبِل منهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين حَلَفُوا له، فبايعهم واستغفرَ لهم وأرجأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمْرَنا حتَّى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وليس الَّذي ذكر الله مما خُلِّفْنا تخَلُّفَنا عن الغزو، إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرَنا عمن حَلَف له واعتذر إليه فقبل منه (1).
وفي حديث إسحاق بن راشد: ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلامي وكلام صاحبيَّ، ولم يَنْهَ عن كلامِ أحدٍ من المتخلفين غَيرنا، فاجتَنَبَ الناسُ كلامَنا، فلبثتُ كذلك حتَّى طال
__________
(1) أحمد في "مسنده" (15789)، والبخاري (4418)، ومسلم (2769).
(4/161)
________________________________________
عليَّ الأمر، وما من شيء أهم إليَّ من أن أموتَ فلا يصلي علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يموتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأكون من الناس بتلك المنزلةِ، فلا يُكَلَّمني أحد منهم ولا يسلِّم عليّ ولا يصلي عليَّ. قال: فأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه - صلى الله عليه وسلم - حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أم سلمة - رضي الله عنها -، وكانت أم سلمة - رضي الله عنها - مُحْسِنَةً في شأني مَعْنِيَّةً بأمري، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أُمَّ سَلمة، تِيْبَ على كعبٍ" قالت: أفلا أرسل إليه فأُبشَّرُهُ؟ قال: "إذًا يَحْطِمَكُمُ الناسُ فيمنَعُونَكُم النَّوْمَ سائرَ اللَّيلِ"، حتَّى إذا صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر آذنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله علينا (1).
ونزل في غزاة تبوك جُمْلَةٌ من سورة براءة.
ولما رجع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك قال له العباسُ بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: يا رسول الله، إني أُريدُ أن أمدحكَ. فقال: "قل لا يَفضُضِ اللهُ فاكَ"، قال: فقال (2): [من المنسرح]
مِنْ قبْلِها طِبْت في الظَّلال وفي ... مُستودَعٍ حيث يُخْصَفُ الوَرَقُ
ثم هبطت البلاد لا بَشَرٌ ... أنتَ ولا مُضْغَةٌ ولا عَلَقُ
بل نطفةٌ تركبُ السَّفينَ وقد ... ألْجَم نَسْرًا وأهلَه الغَرَقُ
وَرَدْتَ نارَ الخليلِ مُكتَتمًا ... فيها زمانًا ولست تحترق (3)
تَنَقَّلُ من صُلْبٍ إلى رَحمٍ ... إذا مضى عالَم بدا طَبَقٌ
حتَّى انتهى بيتكَ المهيمنُ من ... خِنْدفَ علياء تحتها النُّطُقُ
وأنت لما ولدت أشرقت الـ ... أرضُ وضاء من نورِكَ الأُفُقُ
فنحن في ذلك الضِّياء وفي النو ... رِ وسُبْلِ الرشادِ نَخْتَرِقُ
وفي هذه السنة تتابعت الوفود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري (4677).
(2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (4167) من حديث خريم بن أوس، وانظر منال الطالب 440.
(3) في سمط النجوم العوالي 1/ 164، وسبل الهدى والرشاد 5/ 470:
وردتَ نارَ الخليل مكتتمًا ... في صلبه أنتَ كيف يَحترقُ
(4/162)
________________________________________
وفد الطائف:
كان عمرو بن أمية أخو بني علاج مهاجرًا لعبد ياليل بن عمرو بن عمير، فجاء عمرو إلى باب عبدِ ياليل، فقيل له: عمرو واقف على بابك، فقال: هذا شيء ما كنت أَظُنُّه، وكان عمرو أَمْنَعَ في نفسه من ذلك، فخرج إليه ورحَّب به فقال له عمرو: إنه قد نزل بنا أمرٌ ليس معه هِجرَةٌ؛ إنه قد كان من أمْرِ هذا الرجلِ ما رأيتَ، وقد أسلَمَتِ العربُ كلُّها، وليس لكم بحربهم طاقة فانظروا في أمركم، فعند ذلك ائتمرت ثقيف، وقال بعضهم لبعض: الا تَرَوْنَ أنَّه لا يأمنُ لكم سِرْبٌ ولا يخرج منكم أحد إلا اقْتُطِعَ، فاتفقوا على أن يُرْسِلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا، فكلموا عبد ياليل فأبى أن يفعل، وخشي أن يفعلوا به إذا رجع كما فعلوا بعُرْوَةَ، وكانوا هم الذين أرسلوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قتلوه، وقال لهم عبدُ ياليل: لستُ فاعِلًا حتَّى تبعثوا معيَ رجالًا، فبعثوا معه خمسةً: رجلين من الأحلاف، وثلاثةً من بني مالك. من الأحلاف: الحكم بن وهب ابن مُعَتِّب، وشرَحْبيلُ بنُ غَيْلان بن سلمة بن معتِّبٍ، ومن بني مالك: عثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف، ونُمَيْرُ بن خَرَشَةَ، فخرج بهم عبد ياليل وهو نابُ القَوْمِ وصاحبُ أمرهم، فلما فصلوا قناةَ، لقوا بها المُغيرةَ بنَ شُعْبَة يرعى رِكابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت رعايتها نُوَبًا على أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآهم ترك الرِّكابَ عندهم وضَبَرَ يشتَدُّ ليبشَرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بهم، فلقيه أبو بكرٍ - رضي الله عنه - فأخبره بقدومهم وأنهم قد جاؤوا يريدون الإسلام وأن يكتبَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا شرطوا فيه شروطًا على قومهم وبلادهم، فقال له أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: أَقْسَمْتُ عليك بالله لا تَسْبِقني إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى أكونَ أنا الَّذي أُبشره، ففعل، ودخل أبو بكرٍ - رضي الله عنه - فأخبر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بقدومهم فسر، وقال لهم المغيرةُ: إذا دخلتُم على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فحيوهُ بتحية الإسلام، فلما دخلوا عليه حيوه بتحية الشِّرْكِ، فضرب عليهم قُبَّةً فَي المسجد، وكان خالدُ بن سعيد بن العاص يمشي بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كانوا يأكلونَ الطعامَ يأتيهم من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى يأكل هو منه، حتَّى أسلموا وبايعوا، وكتب لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا، وسألوه أن يَدَعَ لهم اللَّاتَ ولا يهدمها إلى ثلاث سنين، فأبى، فقالوا: سنة، فأبى، فسألوه فقالوا: شهرًا بعد قدومهم فأبى عليهم، وسألوه أن يُعفِيَهم
(4/163)
________________________________________
من الصلاة وأن يكسروا أوثانَهم بأَيْديْهم: فقال: "أما الصلاةُ، فلا خَيرَ في دينٍ لا صلاةَ فيه" وأعفاهُم أن يكسر غيرُهم أوثانهم وأمّر عليهم عثمانَ بنَ أبي العاص الثقفي وكان من أحدثهم سِنًّا، وإنما كان حريصًا على الفقه وتعلُّمِ القرآن.
قال عثمان بن أبي العاص: آخرُ كلامٍ كلَّمني به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذِ استعملني على الطائف فقال: "خفِّفِ الصلاةَ على الناس" حتَّى وقِّتَ لي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} وأشباهَها من القرآن (1).
وفي "المسند": "جوَّز في صلاتِكَ واقْدُرِ الناسَ بأَضْعفِهم، فإنَّ فيهمُ الصّغيرَ والكبيرَ وذا الحاجةِ" (2). وفي "المسند": "واتَّخِذْ مؤذَّنًا، فلا يَأخُذ على أذانه أجرًا" (3).
وكان قدومهم في رمضان، فلما أسلموا صاموا، وكان بلال - رضي الله عنه - يأتيهم بفطرهم فيقولون: يا بلال، ما نرى الشمس توارت بَعْدُ، لما يرون من السَّدَفِ، فيضعُ بلالٌ يدهُ فيه ويأكل منه، ويقول: ما جئتكم حتَّى أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويأتيهم بسحورهم وقد تخوَّفوا الفجرَ وأمسكوا ويقولون: يا بلالُ، قد أصبحتَ، فيقول: نزلتُ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتسحَّرُ. ولما توجّهوا إلى الطائف بعث معهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان بن حرب والمُغيْرة بن شُعبة لهدم اللَّاتِ، فلما قدما الطائف قال المغيرة لأبي سفيان: تقدَّمْ، فقال: أنت أولى بالدخول على قومك، وأقام أبو سفيان في ماله بذي الهَدْمِ، فلما دخلَ المغيرةُ على اللَّاتِ علاها بمِعْوَلٍ يضربُها، وقامَ دونه بنو معتَّب بالسلاح خشيةَ أن يُصابَ كما أُصيب عروةُ بن مسعود، وخرج نساءُ ثقيف حُسَّرًا يبكين عليها، ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهًا لكِ، آهًا لكِ، ثم بعث إلى أبي سفيان بمالها وحُلِيِّها (4).
وكان أبو مُلَيْحٍ بن عُرْوَةَ وقاربُ بنُ الأسود لما قُتِلَ عروةُ قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلما، وقال لهما: "توَلَّيا خالكما أبا سفيان بن حرب" فقال أبو مليح: يا رسول الله،
__________
(1) "السيرة" 2/ 538 - 540، و"المغازي" 3/ 962 - 968.
(2) أخرجه أحمد (17910).
(3) أخرجه أحمد (16270).
(4) "السيرة" 2/ 540 - 542.
(4/164)
________________________________________
اقض دينَ أبي من مال الطَّاغية؟ قال: نعم، وقال له قارب بن الأسود: يا رسول الله، وعن الأسود فاقضه، فإن عروة والأسود كانا أَخَوَيْنِ لأبٍ وأمٍّ، فقال رسول الله: فإن الأسود مات وهو مشرك، فقال قارب: يا رسول الله إنما الدَّيْنُ علي وأنا الَّذي أُطالَبُ به، فإذا فَعَلْتَ وَصَلْتَ مُسْلِمًا.
وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي سفيان أنِ اقض دَيْنَ عروة والأسود من مال الطاغية، ففعل (1).
وكانت سَدَنَةُ الطاغية من ثقيف بنو العجلَان.
قال هشام: كان سبب إسلام ثقيف أن مالكَ بن عوف النَّصْريَّ لما قدِمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجِعِرّانةِ وردَّ عليه ماله وأهلَه أسلم وحَسُنَ إسلامُه، واستعمله على القبائل، فقال له: يا رسول الله، أنا أكفيك ثقيفًا، فأزعجهم بالغارات والنَّهْبِ، فلما رأت ذلك ثقيفٌ مشوا إلى عبدِ ياليل وسألوه أن يقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدم هو وابناه في سبعين رجلًا وهم رؤساؤهم.
* * *
وفيها: في رمضان قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب ملوك حمير وهَمْدان باليمن بإسلامهما، وبعث إليه زرعة بن ذي يزن (2) مالك بن مرة الرهاوي، فَسُرَّ بهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكتب إليهم بعد البسملة: "من محمدٍ رسولِ الله إلى ملوكِ هَمدانَ والمعافِر وحمير - وسماهم - أما بعد: فإني أَحْمَدُ إليكُم الله الَّذي لا إلَه إلا هو، والحمدُ للهِ الَّذي هَداكُم للإسلام، وإنا لَقينا رسُولكم ونحن قافلون من أرض الروم فبلَّغَنا رسالتكم، فأقيمُوا الصلاة وآتوا الزكاة وأدوا خُمْسَ أموالكم إلى الله ورسوله، وما يجب عليكم من الصدقات، وعليكم عُشْرُ ما سقت العيون والسماء ... وذكر أسنان الإبل والبقر والغنم وما يجب فيها". وفيه: "وعلى كل حالم وحالمة من اليهود والنَّصارى دينار أو قيمتُه من المعافِر".
__________
(1) "السيرة" 2/ 542.
(2) في "السيرة" 2/ 588: زرعة ذو يزن، وانظر "الطبقات" 1/ 306.
(4/165)
________________________________________
وقوله: وحالمةٍ: سهو من الكاتب أو الراوي، لأن المرأة لا جزية عليها بالإجماع.
والمعافر: ضَرْبٌ من ثيابِ اليَمَنِ.
* * *
وفيها: قدمَ وفدُ فزارةَ، وكانوا سبعة عشر رجلًا ومنهم الحرُّ (1) بن حصن، وكان أصغرهم سنًا، فلقوه عند رجوعه من تبوك وهم على رحالٍ عِجاف، فسألهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أَسْنَتَتْ (2) بلادُنا وهلكتْ مواشينا، وسألوه الدعاءَ لبلادهم بالحيا، فخطب ودعا لهم، فقال: "اللهمَّ اسق بلادك عاجلًا نافعًا، سقيا رحمةٍ لا سقْيا عذاب، اللهمَّ حوالينا ولا علينا". فعادوا إلى بلادهم وقد سقوا (3).
وفيها: قدم وفد هَمْدان (4)، وفيهم ذو المشعار مالك بن نَمَط فقام فقال: يا رسول الله أتَتْكَ نَصِيَّةٌ من همدان من كل حاضر وبادٍ، أتوك على قُلُص نواجٍ مُتَّصِلَةٍ بحبائلِ الإسلام، لا تأخُذُهُم في الله لومةُ لائم، من مِخْلافِ خارِف، وعهدهم لا يُنْقَضُ عن سنة ما قام لَعْلَعُ (5) وجرى اليَعْفُور بصلع، فكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
هذا كتابٌ من محمد رسول الله لِمخلاف خارف وأهل جِنابِ الهَضْب وحِقافِ الرَّمْل، لوافدها ذي المِشْعار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه، على أن لهم فِراعَها ووِهاطها وعَرارَها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون عُلَّافَها ويرعون حِقافها، وليأمن ذِمِّيهم وضامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقةِ: الثلب والنابُ والفَصيلُ والداجن والكبش الحواريُّ وعليهم فيه الضَّالع والقارِحُ.
تفسيره: "النصية" من الإبل والقوم والمال: خياره، و"القَلوص" من النوق: بمنزلة الجارية من النِّساء، و"النواج": النّاجيةُ بصاحبها. والمخلافُ: لأهل اليمن واحدُ المخاليف، وهو كورها، ولكل مخلاف اسم يعرف به، و"اليعفور": اسم واد،
__________
(1) في النسخ: "الحارث" وانظر "الإصابة" 1/ 324.
(2) أسنتت: أجدبت من قلة المطر.
(3) "الطبقات" 1/ 257، و"المنتظم" 3/ 353.
(4) السيرة 2/ 597 - 598.
(5) لعلع: اسم جبل.
(4/166)
________________________________________
و"صلع": موضع لا يُنْبِتُ، و"الفِراع": أعالي الجبال، و"الوَهْطة": ما اطمأن من الأرض، و"العَرار": نَبْتٌ طيِّبُ الريح، و"العُلَّف": بتشديد اللام، ثمرُ الطَّلحِ، و"الحِقافُ": الرِّمال، و"الثِّلْبُ": الجمل الَّذي انكسرت أنيابه من الهَرَمِ وتناثر ذَنَبه، و"النَّاب": المسِنَّةُ من النوق، و"الفارض": البقرة الكبيرة، و"الداجن": الشاة تألف البيوت، و"الضِّلَعُ": الغَمْزُ في مَشْيِ البعير، و"القارح": ما أتت عليه خمس سنين.
وفيها: وَفَد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَفْدُ الداريين.
قال زياد بن أبي هند الداري، عن أبيه (1): قدِمْنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ونحن ستة أنفس: تميم الداري وأخوه نُعَيْم بن أوس، والفاكه بن النعمان، وزيد بن قيس، وأبو هند بن عبد الرحمن، وأخوه الطيب بن عبد الله، فَسَمَّاهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -[عبد الرحمن] (2) فأسلمنا وسألناه أن يعطينا أرضًا من أرض الشام، فأعطانا، وكتب لنا في جِلدِ أديم كتابًا فيه شهادة العباس وخُرَيْم بنِ قيس وشُرَحْبيل بن حسنة (3).
قال أبو هند - فهو صاحب الحديث -: فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة هاجرنا إليه، وسألناه أن يجدد لنا كتابًا.
وفي رواية: فقالوا: ما شئتم؟ فقال تميم: أرى أن أسأله بيت المقدس وكُورَها، فقال أبو هند: أخاف أن لا يتمَّ لنا ذلك لأنه يكون بها ملك العوب، فقال تميم: فسألُه بيت جبرين، فقال أبو هند: فهذا أكبر، اطلبوا منه عين، وجبرون، وبيت إبراهيم، وطلبناه فكتب لنا، ثم قال: "إذا سمعتم أني قد هاجرت فاقدموا عليّ"، فلما هاجر قدموا عليه فجدد لهم الكتاب.
وقال الكلبي: قدم وفد الداريين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند منصرفه من تبوك وكانوا عشرة، فمنهم: تميم ونُعَيْم ابنا أوس بن خارجة، [ويزيد بن قيس بن خارجة (4)]
__________
(1) في النسخ: "زياد بن هند". والمثبت من الطبراني، و"الإصابة" 2/ 236.
(2) ما بين معقوفين زيادة من المصادر.
(3) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2548)، والطبراني في "الكبير" 22/ (806). وجاء عندهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمّى الطيب: عبد الرحمن، وعند الواقدي 2/ 695، وابن سعد في "الطبقات" 1/ 296 أنَّه - صلى الله عليه وسلم - سمَّى الطيب عبد الله.
(4) ما بين حاصرتين ليس في النسخ وهو من الطبقات 1/ 296.
(4/167)
________________________________________
والفاكه بن النعمان بن جبلة بن صفَّارة، وعزيز ومرة ابنا مالك (1)، والطيبُ وأبو هند ابنا ذر، وجبلة بن مالك بن صفّارة، وهانئ بن حبيب بن هانئ، وخارجة بن أسود (2)، وقيل: وأسود بن جبير اللخمي، فأهدى هانئ بن حبيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خَمْر وأفراسًا وَقَباءً مُخَوَّصًا بالذهب - أي مَنْسوجًا - فقبِلَ القباءَ والأفراس وردَّ الخمر، وقال: "إن الله حرم شُرْبها وبَيْعَها" فانْطَلَقَ فأَهْرقها في بقيع الجُحْفَةِ، وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القباء للعباس - رضي الله عنه - فباعه من يهودي بثمانية الآف درهم. وسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزيزًا: عبدَ الرحمن، والطَّيِّبَ: عبدَ الله، فقال له تميم: يا رسول الله إن لنا جيرةً من الروم ولهم قريتان يقال لإحداهما: حِبْرى، والأخرى: بيت عينون، فإن فتح الله عليك بالشام فهبهما لي، فقال: "هما لك" (3).
وقال الواقدي: وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنُعيم بن أوس وأخيه تميم بن أوس: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما أنطى محمد رسول الله نعيم بن أوس وأخاه تميمًا الداريَّيْنِ حِبْرى وبيت عَيْنُونَ بالشام، سَهْلها وجَبَلها وماءَها وأنْباطها وبقرها، ولعقبهِ من بعده، لا يحاقهما فيها أحد ولا يلج عليهم فيها بظلم، فمن ظلمهم وأخذ منهم شيئًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وكتب علي بن أبي طالب (4).
وقال الهيثم: نسخة الكتاب: هذا ما أنطى محمدٌ رسولُ الله لتميم الداري وأصحابه، أنْطاهم عين، وحَبْرون، والمرْطومَ بيت إبراهيم بذمتهم، وجميع ما فيها، نَطية بتَّةً، وهي لأعْقابهم من بعدهم أبد الآبدين، فمن آذاهم فيه آذاه الله. وشهد أبو بكر ابن أبي قحافة - رضي الله عنه -، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية ابن أبي سفيان وكتب، وأقاموا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حتَّى توفي، وقام أبو بكر رضوان الله عليه فأعطاهم ذلك، وأوصى لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمئة وَسْقٍ من تَمْر خيبر.
__________
(1) في النسخ: "وعزيز بن مرة بن مالك"، والمثبت من طبقات ابن سعد 1/ 296.
(2) لم نقف على من اسمه خارجة بن أسود، ولا أسود بن جبير ضمن وفد الداريين في شيء من المصادر، ولا من ذكرهم في الصحابة، وذكر ابن سعد والواقدي بدله: يزيد بن قيس بن خارجة.
(3) "الطبقات" 1/ 296.
(4) انظر "الطبقات" 6/ 255.
(4/168)
________________________________________
وكتب أبو بكر رضوان الله عليه إلى أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -: أما بعد، فامنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفَسَاد في قُرى الداريين، وإن كان أهلها قد أجلوا عنها وأراد الداريون أن يزرعوها فلهم ذلك، وإن أراد أهلها الرجوع إليها فهي لهم وهم بها أحق (1).
و"المرطوم": هو بيت إبراهيم - عليه السلام - وهو موضع قبره، و"حِبْرى" قرية إلى جانب المَرْطوم.
ترجمة تميم الداري
وكنيته: أبو رُقَيَّةَ، ولم يكن له ولدٌ ذكَرٌ، إنما كانت له هذه البنتُ فكُنِّيَ بها. قاله يعقوب بن سفيان.
وقال ابن عبد البَرِّ: لم يُولَدْ له ولدٌ غَيْر رُقَيَّة، وكان نَصْرانيًّا فأسلم سنة تسع من الهجرة (2).
وتميم من الطبقة الرابعة من الصحابة، نزل المدينة، وتحوّل إلى الشّام بعد قتل عثمان - رضي الله عنه -، وكان يقرأُ القرآن في ركعة، وربما ردّدَ الآية الواحدةَ إلى الصباح، وكان يشتري الرداء بألف درهم فيصلي فيه بالليل.
وفي تميم نزل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية [المائدة: 106].
وقال الحميدي عن ابن عباس: خرج رجل من بني سَهْمٍ مع تميم الداري وعدي بن بَدَّاء، فمات السهمي بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلما قدموا بتَرِكَتِه فقدوا جامًا من فضةٍ مُخَوَّصًا بالذَّهَبِ، فأحلَفَهُما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم وُجدَ الجامُ بمكَّةَ، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي بن بَدَّاء، فقام رجلانِ من أوليائه فحلفا لشهادتُنا أحقُّ من شهادَتهما وأن الجام لصاحبهم، فنزلت الآية، الكلام على الحديث (3).
وقال تميم: خرجتُ من الشام إلى الحجاز حين بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأدركني الليل
__________
(1) "تاريخ دمشق" 11/ 66.
(2) "الاستيعاب" 1/ 184.
(3) كذا وردت هذه العبارة هنا، وهي دليل على كلام مختصر، والحديث أخرجه البخاري (2780)، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (1129).
(4/169)
________________________________________
في وادٍ فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة، فناداني منادٍ: عُذْ بالله، فإن الجن لا تجترئ على الله؛ قد خرج الرسولُ الأمين، وصلينا خلفه بالحَجونِ وأسلمنا واتَّبعناه، وذهب كيد الجن ورميت الشياطين بالشهب، فانْطَلِقْ إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبحتُ أتيتُ دَيْرَ أيوب وفيه راهبٌ فأخبرته، فقال: صدقَ، نجدُهُ يخرج من الحرم، وهو خير الأنبياء فلا تُسْبَقْ إليه. فقدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ فأسلمت (1).
وهو أول من قصَّ في أيام عمر رضوان الله عليه، فقال له: ما تقولُ؟ قال: أقْرأ عليهم القرآن وآمرهم بالخَيْرِ وأنهاهم عن الشر، قال: افعل، فكان يقصُّ يومًا واحدًا في الجمعة، فلما قام عثمان رضوان الله عليه استزاده يومًا آخر (2).
ومرّ به عمر رضوان الله عليه وهو يقص ومعه ابن عباس، فقال له: سَلْه عن زلَّةِ العالِمِ، فقال تميم: لأن العالِمَ إذا زلَّ زلَّ الناسُ فيؤاخَذ بهم (3)، فقال عمر - رضي الله عنه -: أحسنت.
وقال أبو سعيد الخدري: أول من أسرج المسجدَ تميمٌ الداري (4).
وسكن تميمٌ دمشقَ، ثم انتقل إلى فلسطين، فتوفي بها سنة أربعين، قاله الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى، وقبره ببيت حبرون.
وروى الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه من الصحابة: ابن عباس وأنس وأبو هريرة وغيرهم، وقدم مصر لغزو البحر فروى عنه جماعة من المصريين، وأخرج له الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" ثمانية أحاديث.
وقد روى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث الجسَّاسةِ عن تميم الداري: كانت فاطمة بنت قيس من المهاجرات الأُوَلِ، وسألها الشَّعْبيُّ - واسمه عامرُ بن شَراحيل من شَعْب هَمْدان - فقال: حدثيني حديثًا سَمِعتيه من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لا تُسْنديه إلى أحدٍ غيره، فقالت: لئن
__________
(1) "الطبقات" 6/ 255.
(2) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (5400) من حديث الزهري، وأحمد في "مسنده" مختصرًا (15715) من حديث السائب بن يزيد.
(3) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1449)، والخطيب في "الجامع لآداب الراوي" (389).
(4) أخرجه ابن ماجه (760).
(4/170)
________________________________________
شئتَ لأفعلَنْ، فقال لها: أَجَلْ، حدَّثيني، قالت: نكحتُ ابنَ المغيرة وهو من خَيْرِ شباب قريش يومئذ، فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تَأَيَّمْتُ خطبني عبد الرحمن بنُ عوفٍ في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وخطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] على مولاه أسامةَ بن زيد، فلما كلَّمني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قلتُ: أمري في يَدِك فأنْكِحني من شئتَ، فقال: "انتَقِلي إلى أمِّ شَريك" وأُمُّ شريك امرأة غنيَّةٌ من الأنصار، عظيمة النفقة في سبيل الله، ينزل عليها الضِّيفانُ، فقلت: سأفعل، فقال: "لا تَفْعلي، إنَّ أُمَّ شَريكٍ كثيرةُ الضِّيفانِ، وأَكْرهُ أن يَسقُطَ خِمارُكِ وَينكَشِفَ الثَّوبُ عن ساقَيْكِ، فيرى القَوْمُ منك بعضَ ما تَكرهينَ، ولكِن انْتَقِلي إلى ابنِ عمِّكِ، ابنِ أُمِّ مكْتُومٍ". فانتقلتُ إليه، فلما انقَضَتْ عِدَّتي سمعنا نداءَ منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي: الصلاةَ جامعةً، فخرجت مع النساء إلى المسجد، فصَلَّيْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت من النَّساء اللاتي بين ظهور القوم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال: "ما جَمَعتُكُم لرَغبَةٍ ولا لِرَهْبةٍ، ولكِنْ جمَعتكُم لأنَّ تميمًا الداري حدَّثني حديثًا وافَقَ ما كُنتُ حَدَّثتُكُم عن المسيحِ الدجَّالِ، حدَّثني أنَّه رَكِبَ في سفينةٍ بحريةٍ مع ثلاثينَ رجلًا من لَخْم وجُذام، فلعب بهم الموجُ شهرًا في البحر، ثم أَرْفؤوا إلى جزيرةٍ في البحرِ حينَ تغرُبُ الشمسُ، فجلسوا في قاربٍ ودخلوا الجزيرةَ، فَلَقِيتهم دابَّةٌ أَهْلَبُ كثيرُ الشَّعَرِ، لا يَدرون ما قُبُلُه من دُبُرِه، فقالوا: ويلكِ ما أنتِ؟ قالت: أنا الجسَّاسةُ، قالوا: وما الجسَّاسةُ؟ قالت: أيُّها القومُ، انْطَلقوا إلى هذا الرجلِ الَّذي في الدَّير فإنّه إلى لقائكُم بالأشواقِ، قال: فلما سَمَّت لنا رجلًا فرِقْنا منها أنْ تكُونَ شَيطانةً - أو شيطانًا - فانْطَلقنا سِراعًا حتَّى دَخَلنا الدَّيرَ فإذا فيه أعظمُ إنسانٍ رأيناهُ قطُّ خَلْقًا، وأشدُّهُ وثاقةً، مجموعةٌ يداه إلى عُنقه، ما بين رُكبتيه إلى كَعبهِ بالحديدِ، قلنا: ويلَكَ ما أنتَ؟ قال: قد قَدَرتُم على خَبري، فأَخبرُوني ما أَنتُم؟ قالوا: نحن أُناسٌ من العَرَب ركبنا في سفينةٍ بحريةٍ فصادَفْنا البحر حين اغْتلمَ، فلعب بنا الموجُ شهرًا ثم أَرْفأنا إلى جزيرتكَ هذه، فجلَسنا في أَقْرُبها فدخَلْنا الجزيرةَ فلقينا دابةٌ أَهْلبُ كثيرُ الشَّعَرِ .. وذكر القصة إلى قوله: فإنّه إلى خَبركم بالأشواق فأقبلنا إليكَ سراعًا وفزعنا منها، ولم نأمَنْ أن تكونَ شيطانةً، فقال: أَخبروني عن نخل بَيْسانَ؟ قلنا: عن أيِّ شيء تَسْتَخبر؟ قال: أسألكم
(4/171)
________________________________________
عن نخلها هل يثمر؟ قلنا: نعم، قال: يوشك أن لا يُثْمِرَ، قال: أخبروني عن بحيرة طبريّةَ؟ قلنا: عن أيِّ شأنها تستخبرُ؟ قال: أسألكم هل فيها ماء؟ قلنا: هي كثيرة الماء، قال: إنّ ماءَها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زُغَر؟ قلنا: عن أيّ شأنها تَسْتخبرُ؟ قال: هل فيها ماء وهل يَزرَعُ أهلها بماء العين؟ قلنا: نعم هي كثيرةُ الماءِ وأَهلُها يزرعُون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأُمِّيينَ ما فَعَلَ؟ قلنا: قد خرج من مكَّةَ ونزل يَثْربَ، قال: قَاتَلتْهُ العَربُ؟ قُلنا: نَعَم، قال: كيفَ صَنَع بهم؟ فأَخبرناهُ أنَّه قد ظَهَر على من يَليهِ منَ العَرَبِ وأَطاعُوهُ، فقالَ: قد كانَ ذلك؟ قلنا: نَعَم، قال: أما إنَّ ذلك خير لهم أن يُطيعوهُ، وإنّي مُخبِرُكم عني، أنا المسيحُ، وإنِّي أُوْشِكُ أن يؤذنَ لي في الخُروج فأخرجَ، فأَسيرُ في الأرضِ فلا أَدَعُ قريةً إلا هَبطْتُها في الأربعينَ ليلةً غيرَ مكَّةَ وطَيبةَ: هما مُحَرَّمتانِ عليَّ كِلتاهُما، كلَّما أَردتُ أن أَدخُلَ واحدةً مِنها استَقبَلني مَلَكٌ بيدهِ السيفُ صَلْتًا يصدُّني عنها، وإنَّ على كل نَقْب منها ملائكةً يحرُسُونها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطَعَن بمِخْصَرَتهِ في المِنْبَرِ: "هذه طيبةُ" يعني المدينة. قال: فإنّه أعجَبني حديثُ تميمٍ أنّه وافقَ الَّذي كُنْتُ أُحدَّثكم عنه وعن مكَّةَ والمدينةَ، إلا أنّه من بَحْرِ الشام أو بحر اليمن لا من قِبَلِ المشرق ما هو من قبل المشرق" يكرره وأومأ بيده إلى المشرق.
قالت: فحفظتُ هذا من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا حديث طويل أخرجه الحميدي (1) من أفراد مسلم.
* * *
وفيها: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سمعان بن عمرو الكلابي كتابًا يدعوه إلى الإسلام، فرقَعَ به دَلْوَه، فقالت له ابنته: عَمَدْتَ إلى كتاب سيدِ العرب فرقعتَ به دلوك ستصيبك قارِعةٌ، فمرت به سريةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فاستباحوا كل شيء كان له، فهرب، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا، فرد عليه من ماله ما لم يُقسَم (2).
* * *
__________
(1) أخرجه مسلم (2942) والحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (3536).
(2) "الطبقات" 1/ 242.
(4/172)
________________________________________
وفيها: وَفَدَ وَفْدُ بني البَكَّاء، وهم: معاوية بن ثَوْر بن عُبادة وهو يومئذ ابن مئة سنة، ومعه ابنه بِشر، والفُجَيْعُ بن جُنْدَع (1)، وعبد عمرو، فأكرمهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأجازهم، فقال له معاوية بن ثور: يا رسول الله، إني قد كَبرت فامسح على وجه ابني بِشر، فمسح عليه ووهبه أَعْنُزًا عُفْرًا - أي بيضاء - فكانت السَّنَةُ تُصيب بني البكَّاءِ ولا تصيبهم، وفي ذلك يقول محمد بن بِشْر بن معاوية: [من الكامل]
وأبي الَّذي مَسَحَ الرَّسُولُ بوجههِ ... ودعا له بالخَيْرِ والبَرَكاتِ
أعطاه أحمدُ إذ أَتَاهُ أَعْنُزًا ... عُفْرًا ثَواجِلَ لَسْنَ باللَّجِباتِ
يملأْنَ رِفْدَ الحَيَّ كلَّ عَشِيَّةٍ ... ويعودُ ذاك المَلْءُ بالغَدَواتِ
بُورِكنَ مِن مِنَحٍ وبُورِكَ مانِحًا ... وعليه منِّي ما حَييتُ صَلاتي
وكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا فهو عند الفُجيع وقومه (2).
وفيها: قدم وفد بني عُقيل بن كعب، وفيهم ربيع بن معاوية بن خفاجةَ بن عمرو بن عقيل، وعقال بن خويلد وغيرهما، وأخذ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام، وقال لعقال ابن خويلد: قُلْ أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن هُبَيْرة بنَ النُّفاضة نِعْمَ الفارسُ يوم قرني لبان (3) - اسم موضع. فقال له: قل أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن الصريح تَحْت الرِّغْوة، فقال ثلاثًا له، فأَسْلَم، فكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقيق، ويُسمى: عقيق بني عُقيل، وفيه عيون ونخل، وكتب لهم في أديم أحمرَ (4).
* * *
وفي هذه السنة جرت قصة ثعلبة بن حاطب أحد المنافقين.
قال أبو أمامة الباهلي: جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، اُدْعُ الله أن يرزقَني مالًا، فقال: "وَيْحَكَ يا ثَعْلَبةُ، أَمالَك في رسولِ الله أُسوةٌ حَسَنةٌ، والذي نَفسي بيدهِ، لو أَردْتُ أَن تسيرَ الجبالُ معيَ ذَهَبًا وفضةً لَسَارت". ثم
__________
(1) في طبقات ابن سعد 1/ 263: والفجيع بن عبد الله بن جندح.
(2) "الطبقات" 1/ 262 - 263، والثواجل: العِظام البطون.
(3) في النسخ: "موليان" والمثبت من "الطبقات".
(4) "الطبقات" 1/ 260 - 261.
(4/173)
________________________________________
أتاه ثانيًا وثالثًا، فقال: يا رسولَ الله، ادعُ الله أن يرزقني مالًا، فوالذي بعثكَ بالحقِّ لئن رزقني الله مالًا لأؤدِّيَنَّ إلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم ارزُقْ ثعلبةَ مالًا" قالها مرتين، فاتَّخذ غَنَمًا فنمت كما يَنْمو الدودُ، وضاقت عليه المدينةُ فتنحى عَنْها، ونزل واديًا من أوديتها وهي تزداد، وكان يصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظُّهرَ والعَصْرَ ويصلي في غنمه باقي الصلوات، ثم كثرت فتباعد عن المدينة وانقطع عن الصلوات والجُمَعِ، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ذات يوم فقال: "ما فَعَل ثَعلبةُ"؟ فقالوا: يا رسول الله، كَثُرَ ماله فأبْعَد عن المدينة، فقال: "يا وَيحَ ثعلبةَ"، وأنزل الله آية الصدقات، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من بني سُلَيم وآخر من جُهينةَ على الصدقات وقال لهما: "مرَّا بثعلبةَ وببني سُلَيم"، فمرَّا بثعلبةَ فقرآ عليه أسنان الصدقة، فقال: ما هذه إلّا جزية، انطلِقا حتَّى تفرُغا ثم عودوا إليَّ، فذهبا إلى بني سُليم فاستقبلهما رجل من بني سُليم بصدقته وقد عزل لهما خِيارَ ماله، فقالا: ما هذا عليك، فقال: خُذَاها طيِّبةً من نفسي. وعادا إلى ثعلبةَ فلم يعطهما شيئًا، وقال: حتَّى أرى رأيي. وأقبلا لمّا رآهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال قبل أن يتكلما: "يا وَيحَ ثعلبةَ" مرتين، فأخبراه بقول ثعلبة وفِعلِ السُّلمي، فأنزل الله في ثعلبة: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] الآيات وعند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من أقارب ثعلبة، فخرج حتَّى أتاه فقال: ويحكَ يا ثعلبُ، قد أنزل الله فيكَ كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتَّى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يقبل صدقته، فقال: "إنّ الله مَنَعني أن أَقبَلَ صدقَتكَ" فحثى الترابَ على رأسه وجعل يبكي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا فِعْلُكَ بنَفْسكَ، قد أَمَرتُكَ فلم تُطِعْني". وتوفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبلْ منه شيئًا، ولما وَلِيَ أبو بكرٍ - صلى الله عليه وسلم - أتاه فعرض عليه أَخْذَ الصَّدقةِ فقال: لم يأخُذْها مِنْكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أفآخذها منك أنا؟ ثم مات أبو بكر - رضي الله عنه -، وقام عمر - رضي الله عنه - فجاءه يعرِضُها عليه، فقال له كذلك، ثم قام عثمان - رضي الله عنه - فجاءه فعرضها عليه، فقال: لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر، أفأقْبَلُها أنا؟ ولم يأخذ منه شيئًا، فمات في أيام عثمان - رضي الله عنه - (1).
* * *
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (7873)، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 289، وفي "الشعب" (4357) وقال: وفي إسناد هذا الحديث نظر، وهو مشهور فيما بين أهل التفسير، وإنما يروى موصولًا بأسانيد ضعاف.
(4/174)
________________________________________
وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبان بن سعيد بن العاص بن أمية على الصدقات إلى البحرين، وأبان من الطبقة الثالثة من المهاجرين، وأمه: هند بنت المغيرة المخزومي، وأبوه كنيته: أبو أُحَيْحَةَ، مات كافرًا بالطائف، وكان له أولاد: أبان، وعمرو، وخالد، وعبيدة، والعاص، أما خالد وعمرو فأسلما قديمًا وهاجرا إلى الحبشة، وأما العاص وأبان وعبيدة فخرجوا إلى بدر مع الكفار، فقتلَ عليٌّ العاص كافرًا، وقتلَ الزبير - رضي الله عنه - عبيدة كافرًا، وأفلتَ أبانُ صاحبُ هذه الترجمة، فكاتبه أخواه خالدٌ وعمرو من الحبشة: أَسْلِم، فقال: لا أَدَعُ دينَ آبائي، وأقام بمكة على كفره، حتَّى كان زَمَنُ الحُدَيْبية، ودخل عثمان - رضي الله عنه - إلى مكة رسولًا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجاره، ثم قدم خالد وعمرو من الحبشة سنة سبع مع أصحاب السفينتين وكتبا من الشُّعَيْبةِ إلى أبان وهو بمكّة: اقدُم علينا، فقدِم عليهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فأسلم وحسن إسلامه، وولَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقات البحرين سنة تسع فسار إليها، وأقام بها حتَّى ارتدتِ العربُ بعد وفاةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قد جمع مئة ألف، فقدم بها على أبي بكر - رضي الله عنه - فسُرَّ به، وكان معه ثلاثُ مئة من عبد القَيْسِ، فأكرمهم أبو بكر - رضي الله عنه -، وقال له: ارجع إلى عملك، فقال: والله لا عملتُ لأحدٍ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُكْرِهه أبو بكر - رضي الله عنه - (1).
* * *
وفيها (2): رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا والغامدية.
[وقد روى القصة جماعة من الصحابة منهم بريدة بن الحصيب، وجابر بن سمرة، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعمران بن الحصين وغيرهم.
فأما حديث بريدة فقال [أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال] (3): كنت جالسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل
__________
(1) "الطبقات" 5/ 8 - 12.
(2) من هنا تبدأ نسخة كوبريللي والمرموز لها بـ (ك) وما فيها من زيادات على النسختين (خ، أ) يوضع بين معكوفين.
(3) ما بين حاصرتين زيادة من (ك).
(4/175)
________________________________________
يقال له: ماعز بن مالك، فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، وأريد أن تطهرني، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِع"، فلما كان من الغد أتاه، فاعترف عنده بالزنا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِع"، ثم أرسل إلى قومه، فقال: "ما تَعرِفُون من ماعِزِ بن مالكٍ الأَسْلَمي، هَل تَرونَ به بأْسًا، أو تُنْكِرون من عَقلِه شيئًا"؟ فقالوا: لا، ثم عاد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثالثة والرابعة، فأرسل إلى قومه، فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل من صالحينا، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحفر له حفرة إلى صدره، ثم أمر الناس أن يرجموه.
قال بريدة: كنا نتحدث - أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ماعزًا لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يطلبه، وإنما رجمه عند الرابعة (1).
وقال أحمد رحمة الله عليه: حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن سعد، أخبرني أبي يزيد ابن نعيم بن هزَّال، عن أبيه قال: كان ماعز بن مالك في حِجر أبي، فأصاب جاريةً من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما صنعت، لعلَّه يستغفر لك، فخرج، فأتاه، فقال: يا رسول الله، إني زنيتُ فأقم علي كتاب الله، فأعرض عنه إلى أن أتاه الرابعة، فقال: "إنَّكَ قد قُلْتَها أَربَعَ مرَّاتٍ، فبِمَن؟ " قال: بفلانة، قال: "هَل ضاجَعْتَها؟ هل جامَعْتَها؟ " قال: نعم، فأمر به، فرجم، فوجد مَسَّ الحجارةِ، فخرج يشتد، فلقيه عبد الله ابن أُنَيس، فنزع له بوَظِيفِ بعير، فقتله، فذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال: "هَلَّا تَركتُموه، لَعلَّه يَتوبُ، فيَتُوبَ اللهُ عليه، يا هزَّالُ، لو كُنتَ سَترتَه بثَوبِكَ كانَ خيرًا لكَ مِمَّا صَنَعتَ بهِ" (2).
وروى ماعز عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمانٌ باللهِ وَحدَهُ، ثم الجِهادُ، ثم حَجَّةٌ مَبرُورَةٌ - أو بَرَّةٌ - تَفْضُل سائِرَ العَمَلِ، كما بينَ مَطلِعِ الشَّمسِ إلى مَغربِها" أخرجه الإمام أحمد رحمه الله (3).
وقال بريدة (4): كنت جالسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءته امرأة من غامدٍ، فقالت: يا
__________
(1) أخرجه أحمد بتمامه في "المسند" (22942)، ومسلم دون قول بريدة الأخير (1695). ومن هنا إلى بداية حديث الغامدية ساقط من (ك).
(2) أحمد في "مسنده" (21890).
(3) أحمد في "مسنده" (19010).
(4) في (ك): "وبهذا الإسناد عن بريدة قال" وكأنه جمع بين حديث ماعز وحديث الغامدية.
(4/176)
________________________________________
رسول الله، إنِّي قد زنيتُ وأُريد أن تطهرني، فقال لها: "ارْجِعي" فجاءته ثانيًا وثالثًا، فاعترفت عنده، فقال لها: "ارْجِعي" فقالت: فلعلَّك أن تردَّني كما ردَدْتَ ماعزًا، فوالله إني لَحُبلى، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا الآنَ فاذْهَبي حتَّى تَلِدِي"، فلما وَلَدت جاءت بالصبي تحمله، فقالت: ها قد وَلَدت، قال: "فاذْهَبي فأَرْضِعيه حتَّى تَفْطمِيه". فلما فطمته، جاءت به، وفي يده كِسْرةُ خبز فقالت: يا نبي الله، هذا الصَّبي قد فطمته، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبي، فدفعه إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فحفر لها حفرة، فجعلمت فيها إلى صدرها، ثم أمر الناس أن يرجُموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى به رأسَها، فنضح الدم على وجه خالد، فسبَّها، فقال - عليه السلام -: " [مهلًا يا خالد] فَوَالذي نَفسِي بيَدِه، لقد تابَت تَوبَةً، لو تابَها صاحبُ مَكْسٍ لغُفِرَ له". وأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى عليها، ودُفنت. انفرد بإخراجه مسلم (1).
وروى الجماعة بقية الحديث مشابهًا لحديث بريدة، وقد اختصرناه.
* * *
وفيها (2): لاعَنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين رجل وامرأته.
روى الأَعمَش، عن إبراهيم بن عَلقمة، عن ابن مسعود قال: كنَّا جلوسًا عشيةَ الجمعة في المسجد، فقال رجل من الأنصار: أَحدُنا إذا رأى معَ امرأَتِه رجلًا قتله قتلتموه، وإن تكلم حديتموه، وإن سكت سكتَ على مضض أو غيظ؟ ! والله لئن أصبحت صالحًا لأسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فسأله كما سأل ابنَ مسعود، فقال: "اللَّهمَّ افتح" يرددها، فنزلت آية اللِّعان، فابتلي ذلك الرجل مِن بين الناس، فجاء هو وامرأته، فتلاعنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم قال في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، والتعنت المرأة أيضًا (3).
__________
(1) أخرجه مسلم (1695) (23)، وأحمد في "مسنده" (22949).
(2) الخبر ليس في (ك).
(3) أخرجه مسلم (1495).
(4/177)
________________________________________
وفي أفراد البخاري، عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سَحماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "البَيِّنةَ، أو حدٌّ في ظَهرِكَ" فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البيِّنة؟ ! وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البَيِّنَةَ وإلا حدٌّ في ظَهرِكَ"، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، وليُنزلنَّ الله ما يُبرِّئ ظهري من الحد، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إلى قوله: {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6]. فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، فجاءت، وقام هلال، فشهد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهُ يَعلَم، إنَّ أَحدَكُما كاذِبٌ، فَهَل منكُما تائِبٌ؟ ". ثم قامت، فشهدت، فلما كان عند الخامسة، وقَّفوها، وقالوا: إنَّها موجبةٌ، قال ابن عباس: فتَلكَّأَت، ونَكَصت حتَّى ظنَّنا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضحُ قومي سائِرَ اليوم، فمضت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظُروها، فإن جاءَت به أَكْحَل العينَينِ، سابغَ الألْيَتَين، خَدَلَّجَ السَّاقَين، فهو لشَريك بن سَحماء" فجاءت به كذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَولا ما مَضَى مِن كِتابِ اللهِ لَكانَ لي ولَها شَأنٌ" (1).
* * *
وفيها: أسلم كعب بن زهير بن أبي سُلمى الشاعر (2)، وكان خرج كعب وأخوه بُجَير (3) بن زهير إلى أبرق العَزَّاف، وكان قريبًا من زرود، فقال بجير لأخيه: أقم أنت في النعم حتَّى آتي هذا الرجل، فأسمع كلامه، وأعرف ما عنده، فأقام كعب، ودخل بجير على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فدعاه إلى الإسلام، فأسلم، وبلغ كعبًا، فقال: [من الطويل]
أَلَا أَبلِغا عنَّي بُجَيرًا رسالةً ... على أيِّ أمرٍ دِنْتَ غيرك دلكا
على خُلُق لم تُلفِ أُمًّا ولا أبا ... عليهِ ولم تُدرك عليه أَخًا لكَا
سقاك أبو بكر بكأسٍ رويَّةٍ ... وأَنْهَلَك المأمون منها وعلَّكا
فاتصل ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهدر دمه، وقال: "مَن لَقيَ كَعبًا فلْيقتُلْهُ"، فكتب إليه
__________
(1) أخرجه البخاري (4747). قوله "سابغ الأليتين": تامهما، و"خدلج الساقين": عظيمهما.
(2) الخبر في (ك) إلى هنا فقط.
(3) في (أ) و (خ): "يحيى" والمثبت من "الإكمال" 1/ 191 و"الإصابة" 1/ 138.
(4/178)
________________________________________
أخوه بُجَير يخبره بذلك، ويقول: النجاء، وما أظنك ناجيًا، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاءه أحد قط يفوه بالشهادتين إلا قَبله، ولم يؤاخذه بما تقدم قبل الإسلام، قال كعب: فقدمت المدينة، فأنخت راحلتي على باب المسجد، ودخلته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس بين أصحابه مثل موضع المائدة من القوم، وهم متحلقون حوله حلقة ثم حلقة ثم حلقة، فيقبل على هؤلاء مرة، ثم على هؤلاء، فدنوت منه، وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقال: "مَن أَنْتَ؟ " قلت: كعب بن زهير، فقال: "الَّذي يَقولُ ما يَقُولُ؟ " ثم أقبل على أبي بكرٍ - رضي الله عنه - فاسْتَنشَدَه الشعر إلى أن قال:
سقاك أبو بكر بكأس روية ... وأنهلك المأمور ......
فقال: يا رسول الله، ما قلتُ هكذا، قال: "فَكَيفَ قُلتَ؟ " قال: قلت: وأنهلك المأمون بالنون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَأمُونٌ والله" ثم اسْتنشَدني، فأنشدته: [من البسيط]
بانَت سُعادُ فقلبي اليوم متبولُ ............
فلما بلغت إلى قولي:
نُبِّئتُ أنَّ رسولَ الله أَوعَدَني ... والعفوُ عندَ رسولِ الله مَأمولُ
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والعفوَ عندَ رسولِ الله مأمولُ"، فلما قلت:
لا تأخذنَّي بأقوالِ الوُشاةِ ولم ... أُذنبْ ولو كَثُرتْ فيَّ الأقاويلُ
فقال: "لا"، ثم أعطاني بردته من على كتفيه، فبعتها بعد بعشرين ألفًا (1)، وهي التي اشتراها معاوية، فكانت عند بني أمية، ثم انتقلت إلى بني العباس.
* * *
وفيها: آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه شهرًا.
واختلفوا في سببه على أقوال:
أحدها: حديث العسل، قالت عائشة رضوان الله عليها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ الحلوى والعسلَ، وكان إذا صلى العصر دار على نسائه، فيدنو منهن، فدخل يومًا على
__________
(1) الخبر في "دلائل النبوة" 5/ 207، وانظر "السيرة" 2/ 501.
(4/179)
________________________________________
حفصة، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبسُ، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عُكَّةَ عسلٍ، فسقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، فقلت: والله لنحتالن له، فذكرتُ ذلك لسودة، وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك، فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافيرَ؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي: ما هذه الريح؟ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشتد عليه أن يوجد منه ريح، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة من عسل، فقولي له: جَرَسَت نحلُهُ العُرْفُط، وسأقول له ذلك، وقولي أنت له يا صفية، فلما دخل على سودة قالت له ذلك، ودخل على صفية فقالت له مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت له: الا أسقيك يا رسول الله منه؟ فقال: "لا حاجةَ لي فيه". أخرجاه في "الصحيحين" (1).
والثاني: أن حفصة بنت عمر - رضي الله عنهما - استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تزور أباها فأذن لها، فلما خرجت من البيت، أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مارية القِبطية، فجاءت، فواقعها في بيت حفصة، وجاءت حفصة، فرأت الباب مقفلًا، فجلست تبكي عند الباب، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآها تبكي ووجهه يقطر عرقًا، فقال لها: "ما يُبكيكِ؟ " فقالت: إنما أذنت لي حتَّى تدخل أمتك بيتي، وتقع عينها في فراشي وفي يومي، ما رعيت حقي، ولا حفظت حرمتي، ما كنت تصنع هذا بامرأة من نسائك، فقال لها: "اسكُتي، فهي حرامٌ عليّ، أَلْتمسُ بذلك رضاكِ، فلا تُخبري بهذا امرأةً منهنَّ، هو عندك أمانة" ولما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند حفصة، قرعت الجدار الَّذي بينها وبين عائشة رضوان الله عليها وقالت: الا أبشرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حرم عليه أمته مارية، فقد أراحنا الله منها، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على جميع أزواجه، وأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية [التحريم: 1 - 2]. في العسل ومارية (2).
والثالث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح شاة، فقسمها بين أزواجه، وبعث منها إلى زينب بنت جحش، فردته، ثم أرسل إليها، فردته، فاستشاط غضبًا، فآلى منهن.
وقال البخاري: حدَّثنا أحمد بن محمد المُزني، حدَّثنا عمرو بن يحيى، عن جده،
__________
(1) البخاري (5268)، ومسلم (1474) (21).
(2) الخبر عند البغوي في "تفسيره" 4/ 363.
(4/180)
________________________________________
عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن المرأتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللتين قال الله تعالى فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] حتَّى حج عمر، وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل، وعدلت معه بالإداوة، فتبرَّز، ثم أتاني، فسكبت على يديه، فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}؟ فقال عمر: واعجبًا لك يا ابن عباس، قال الزهري: كره والله ما سأله عنه، ولم يكتمه، قال: هما عائشة وحفصة، ثم ساق الحديث، فقال:
كنا معاشر قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، فغضبت يومًا على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت ذلك، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليراجعنه، وتهجره إحداهن من اليوم إلى الليل، قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتهجره إحداكن إلى الليل؟ قالت: نعم، قلت: قد خاب من فعلَت ذلك منكن وخسرت، أفتأمن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعيه، ولا تسأليه شيئًا، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك جارتك، هي أوسم منك، وأحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، يريد عائشة رضوان الله عليها، قال: وكان لي جار من الأنصار، قال: فكنا نتناوب النزول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فينزل يومًا، ويأتيني بخبر الوحي، وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدث أن غسان تنعِل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يومًا، ثم أتاني عشاء فضرب بابي، ثم ناداني، فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم، قلت: وما ذاك؟ جاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأهول، طلَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخَسِرت، قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون.
حتَّى إذا صليت الصبح شددت عليَّ ثيابي، ثم نزلت، فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في مشربة، قال: فأتيت غلامًا له أسود، فقلت: استأذن لي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو استأذن لعمر، فدخل، ثم خرج، وقال: قد ذكرتك له فصمت، فخرجت، فجلست عند المنبر وإذا
(4/181)
________________________________________