الكتاب: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي
المؤلف: عبد الملك بن حسين بن عبد الملك العصامي المكي (المتوفى: 1111هـ)
المحقق: عادل أحمد عبد الموجود- علي محمد معوض
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، 1419 هـ - 1998 م
عدد الأجزاء: 4
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(عَلَيْهَا جَرَى ظَلْمٌ يعز مذاقُهُ ... فَلم ندر ظَلْمًا ذَلِك العذبُ أم خمرًا)
(بشذا المسكِ من ذكِيِّ صَلَاتي ... طابَ مِنْهُ خَتْمٌ وطابَ افتتاحُ)
فَأَما الْحسن بن أبي نمي بن بَرَكَات فَكَانَ خَليفَة الْحَرَمَيْنِ شرِيف الطَّرفَيْنِ أمه الشَّرِيفَة الحسيبة السيدة النسيبة فَاطِمَة بنت بِسَاط حملت بِهِ أمه عَام وَفَاة جده بَرَكَات بن مُحَمَّد فِي عَام أحد وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة قَالَ الإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ فِي نشآت السلافة وَلَقَد أَخْبرنِي الشريف حسن رَحمَه الله تَعَالَى شفاهاً أَن والدته حضرت حنوط جده الشريف بَرَكَات وَهِي حَامِل بِهِ فأثر فِيهَا عرف الكافور وَمَا زَالَت تلقى الدَّم حَتَّى خشِي على مَا فِي جوفها من الْحمل إِلَى أَن كَانَ شهر ربيع من عَام اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة أَخذهَا مَا يَأْخُذ النِّسَاء من الطلق فولدته بعد الْيَأْس وَذهب بظهوره عَن النَّاس كل بَأْس فَلَا شكّ أَنه كَانَ مَحْفُوظًا بالعناية الصمدانية حَيْثُ سبق فِي علم الله تَعَالَى جعله خَليفَة فِي الأَرْض مَالك الطول مِنْهَا وَالْعرض مصلحَة مِنْهُ للعباد عَامَّة ونعمة عَظِيمَة تَامَّة ينشر على الْعَالم لِوَاء عدله ويسبغ عَلَيْهِم جِلْبَاب كرمه وفضله وَيحيى مآثر جده الْمُصْطَفى وَيذكر بأقضيته مَا اندرس من أَخْبَار عدُول الخلفا وَيظْهر سر حكمته وخفي قدرته فى افْتِتَاح هَذَا الدّين الأقوم بِمُحَمد
وختمه بِأَهْل بَيته المخصوصين من بَين النَّاس بتولي الله تَعَالَى تطهيرهم من الأرجاس وَمَا زَالَ رَحمَه الله تَعَالَى صاعداً فِي نيرى الْمَعَالِي صادعاً قُلُوب أعدائه بالصعدات العوالي لائحة عَلَيْهِ مخايل السَّعَادَة وَهُوَ فِي مهوده طالعة من أفق السِّيَادَة كواكب مجده وسعوده متلمحاً فِيهِ خِصَال الغر الصَّيْد مترقباً مِنْهُ أَن يكون فِي البسالة صَاد الصناديد
(4/360)
________________________________________
فَمَا برح وَهُوَ فِي حجر وَالِده مُؤديا لَهُ الْحُقُوق رَافعا أحمضه الشَّرِيفَة على هام العيوق باذلاً لَهُ الطَّاعَة ساعياً فِي مرضاته بِحَسب الِاسْتِطَاعَة ممتثلاً مَا يصدر من الْأَوَامِر المطاعة إِلَى أَن لبس أَخُوهُ أَحْمد خلعة الإيالة والإمارة فَلبس سيدنَا الخلعة الثَّانِيَة لتَكون على ولَايَة الْعَهْد بعد أَخِيه أَمارَة فاستمر كَذَلِك حَتَّى توفّي أَخُوهُ الشريف أَحْمد فرفلت إِلَيْهِ الْخلَافَة فِي جلبابها الضافي وَأوردهُ الْملك الباذخ موارد منهلها الصافي بسعي أَبِيه المرحوم الشريف أبي نمي فِي عَام 961 إِحْدَى وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فَلبس الخلعة الأولى فَكَانَ بهَا أولى فَلم يزل مشاركاً لوالده أبي نمي فِي الْأَمر يدعى لَهُ مَعَه على رُءُوس المنابر والتوقيعات السُّلْطَانِيَّة الثعمانية إِنَّمَا ترد باسمه والتشاريف الخنكارية إِنَّمَا تصل برسمه وَلما كَانَ يَوْم الْخَمِيس الثَّامِن من جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة ورد الْخَبَر إِلَى مَكَّة المشرفة بوفاة مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان وَكَانَ الْوَاصِل بِهِ سمندر جاشنكير السُّلْطَان سليم وَالِده أرسل إِلَى بِلَاد الْيمن لإعلام مُرَاد باشا صَاحب تعز والتهائم وَإِلَى رضوَان باشا صَاحب صنعا وَالْجِبَال وَكَانَ لليمن إِذْ ذَاك باشتان وَهَذَا الانشقاق هُوَ سَبَب الْعِصْيَان والشقاق بِأَرْض الْيمن بعد أَن كَانَ لَا يحكمها إِلَّا باشا وَاحِد من حِين فتحهَا وَلَكِن كَذَا قدر فوصل سمندر الْمَذْكُور وَاجْتمعَ بالأمير الدفتردار إِبْرَاهِيم الْمَأْمُور بعمارة عين عَرَفَة فَأخْبر بِمَوْت مَوْلَانَا السُّلْطَان فَطلب إِبْرَاهِيم الْأَمِير قَاسم بك نَائِب جدة وَأمين عمَارَة الْمدَارِس السُّلْطَانِيَّة السليمانية واتفقا على الْإِرْسَال للقائد مُحَمَّد بن عقبَة حَاكم مَوْلَانَا الشريف حسن بِمَكَّة ليخبروه بذلك فأرسلا إِلَيْهِ فوصل فَأَخْبَرَاهُ فَأرْسل الْقَائِد من وقته مورقاً إِلَى مَوْلَانَا الشريف حسن وَكَانَ بالخلصية وَأرْسل الآغا مُحَمَّد بن يُونُس باش التّرْك عَسْكَر مَوْلَانَا الشريف حسن مورقاً آخر فوصل المورقان إِلَى الخلصية يَوْم الْجُمُعَة فَركب مَوْلَانَا الشريف حسن وَتوجه إِلَى مَكَّة وَكَانَ الْأَمِير إِبْرَاهِيم والأمير قَاسم أرسلا مورقاً إِلَى القَاضِي الْحُسَيْن الْمَالِكِي وَكَانَ بجدة فَركب وَوصل إِلَى مَكَّة يَوْم الْجُمُعَة واتفقت الآراء أَن يخْطب
(4/361)
________________________________________
الْخَطِيب باسم السُّلْطَان سليم ابْن المرحوم السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان وَكَانَت نوبَة السَّيِّد أبي حَامِد النجاري فأمروه أَن يذكر فِي الْخطْبَة هَذِه الألقاب اللَّهُمَّ وجدد نصْرَة الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وشيد قَوَائِم أَرْكَان الدّين المتين بِبَقَاء من جددت بِهِ أَمر الْخلَافَة الْعُظْمَى وشرفت بمقدمه تخت السلطنة وَالْملك الأسمى واخترته خير خلف عَن خير سلف وعوضت بِهِ خير عوض عَمَّن درج إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَسلف وآتيته مَا لم تؤت كثيرا من الْعَالمين ومكنته من سَرِير السلطنة والخلافة أعظم تَمْكِين وأورثته الْخلَافَة الْكُبْرَى كَابِرًا عَن كَابر وملكته الْإِمَامَة الْعُظْمَى وَالسُّلْطَان الباهر وأنرت ببراهينه من مشكاة السَّعَادَة سِرَاجًا وهاجاً وَفتحت بِهِ للرعية أَبْوَاب الْأَمْن وَالْإِيمَان فَطَفِقَ النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا السُّلْطَان الْأَعْظَم والخاقان الْأَكْبَر الأفخم مولى مُلُوك الْعَرَب والعجم مستخدم أَرْبَاب السَّيْف والقلم ملك البرين والبحرين سُلْطَان المشرقين والمغربين خاقَان الْخَافِقين والجديدين خَادِم الْحَرَمَيْنِ الشريفين السُّلْطَان ابْن السُّلْطَان ابْن السُّلْطَان السُّلْطَان سليم خَان ابْن عَبدك وفقيرك المندرج إِلَى رحمتك بِقَضَائِك وتقديرك سُلْطَان سلاطين الزَّمَان خاقَان خواقين الدوران الْفَائِق بعدله عدل كسْرَى أنوشروان المنقاد إِلَى شرعك الشريف الممتثل لأوامرك النافذة وَدينك الْحق المنيف الْوَاقِف عِنْد مُرَاد الله فَلَا يتعداه الْعَامِل فى جَمِيع أُمُوره بتقوى الله المراعى الْعدْل وَالْإِحْسَان فِيمَن استرعاه الْمُجَاهِد المرابط فِي سَبِيل الله الْغَازِي الَّذِي استوعب عمره فِي الْجِهَاد كآبائه الغر الْغُزَاة الَّذِي خرج من بَيته مُهَاجرا فأدركه الْأَجَل المحتوم واصطفاه الله إِلَيْهِ وتوفاه الدَّاخِل فِي زمرة من أنزل الله فِي شَأْنهمْ بثوابه لَهُم وَرضَاهُ {وَمَن يخرُج مِن بيتِه مهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسوله ثمَ يدٌركهُ اَلموتُ فَقَد وَقع أجره على الله} النِّسَاء 100 المرحوم برحمة الله الْملك الرَّحْمَن السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان أنزل الله عَلَيْهِ شآبيب الرَّحْمَة والغفران وَقدس روحه الشَّرِيفَة وحفه بِالروحِ وَالريحَان وَجعل الْملك كلمة بَاقِيَة فِي نجله السعيد وعقبه المديد إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأعد لَهُ ولآبائه الْكِرَام مَا يَلِيق بكرمه من أَنْوَاع الْعِزّ والكرامة يَا رب الْعَالمين ثمَّ وصل مَوْلَانَا الشريف حسن فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ هُوَ وَأَوْلَاده وَبَعض إخْوَته
(4/362)
________________________________________
والأشراف ذَوي مُحَمَّد وَسلم النَّاس عَلَيْهِ ثمَّ أَمر بالنداء على المآذن بِالصَّلَاةِ جَامِعَة فِي غَد على السُّلْطَان سُلَيْمَان فَلَمَّا كَانَ صبح يَوْم الثُّلَاثَاء ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى حضر مَوْلَانَا الشريف حسن وَمَعَهُ السَّادة الْأَشْرَاف وَجَمِيع الْفُقَهَاء الْأَعْيَان وامتلأ الْمَسْجِد بِالنَّاسِ وَجلسَ الشريف حسن بمصلاه إِلَى أَن طلعت الشَّمْس فوصل إِلَيْهِ الْأَمِير إِبْرَاهِيم الدفتردار والأمير قَاسم نَائِب جدة وسمندر جاشنكير فَقَامَ لَهُم وجلسوا كلهم عَن يَمِينه ثمَّ حضر الأفندى وَجلسَ عَن يَمِين الشريف فَوق الأميرين والجاشنكير وَكَانَ على يسَار الشريف أَخُوهُ مَوْلَانَا السَّيِّد بشير وَتَحْته القَاضِي الْحُسَيْن الْمَالِكِي فَبعد ارْتِفَاع الشَّمْس قدر رمح قَامُوا وتوجهوا إِلَى الْكَعْبَة الشَّرِيفَة ووقفوا عِنْد الْبَاب الشريف فَأَشَارَ مَوْلَانَا الشريف حسن إِلَى مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن أَن يتَقَدَّم لصَلَاة الْغَائِب ونادى الريس من أَعلَى زَمْزَم بِهَذِهِ الْخطْبَة وَهِي الصَّلَاة على الْمَيِّت الْغَائِب العَبْد الْفَقِير إِلَى الله الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله المرابط لإعلاء كلمة الله الَّذِي خرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله الْمُسْتَوْعب جَمِيع عمره فِي قتال أَعدَاء الله الْقَائِم بِنَفسِهِ وَمَاله وَجُنُوده لنصرة دين الله الْوَاقِف عِنْد مُرَاد ربه فَلَا يتعداه المراعي للعدل وَالْإِحْسَان فِيمَن ولي عَلَيْهِ واسترعاه الْمُعظم لشعائر بلد الله الْحَرَام الْمُؤَيد لآل النَّبِي عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام الْمُتَّخذ ودهم ذخيرة عِنْد الله تَعَالَى فِي العقبى عملأ بقوله تَعَالَى {قل لَا أسئلكم عليهِ أجرا إِلا المَوَدةَ فِي القُربى} الشورى 23 القامع لأعداء بَيت النُّبُوَّة والرسالة والمفيض على الْحَرَمَيْنِ الشريفين مكارمه وأفضاله السُّلْطَان الْأَعْظَم سُلَيْمَان خَان أنزل الله على شآبيب الرَّحْمَة والغفران وَجعل قَبره الشريف رَوْضَة من رياض الْجنان وحف تربته الشَّرِيفَة بِالروحِ وَالريحَان ثمَّ بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة توجهوا أَجْمَعِينَ إِلَى مصلى الشريف عِنْد بَاب الْحَزْوَرَة فقسمت الربعات ثمَّ دَعَا لمولانا السُّلْطَان سُلَيْمَان وَأهْدى ثَوَاب ذَلِك إِلَيْهِ ثمَّ دَعَا لمولانا السُّلْطَان سليم فعلوا ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ ختموا يَوْم الْخَمِيس منتصف الشَّهْر الْمَذْكُور وَكَانَ خُرُوج مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان لهَذِهِ الْغَزْوَة الَّتِي توفّي فِيهَا حادي عشري ذِي الْقعدَة الْحَرَام من سنة ثَلَاث وَسبعين وَتِسْعمِائَة رَحمَه الله تَعَالَى
(4/363)
________________________________________
وَاسْتمرّ مَوْلَانَا الشريف حسن إِلَى أَن انْتقل وَالِده الشريف أَبُو نمي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى فِي أول عَام اثْنَيْنِ وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فاستقل بِالْملكِ وأعبائه وَشد أزره بِالتَّدْبِيرِ من سَائِر جهاته وأنحائه واستخدم الحزم فِي شَدَائِد الْأُمُور الشاسعة وسلك فِي محجته الطَّرِيق الْوَاضِحَة الواسعة فصير ولَايَة الْحَرَمَيْنِ خلَافَة ومهد الْقَوَاعِد السُّلْطَانِيَّة والقوانين الحسنية بِدُونِ مَخَافَة وَجلسَ على سَرِير الْملك جُلُوس مُتَمَكن وبذل الهمة فِي إصْلَاح الرعايا بِكُل وَجه مُمكن واستصحب الْإِقْدَام فِي صعائب الْأُمُور وَثَبت الْأَقْدَام فِي المواقف الَّتِي تهب لَهُ بِالْقبُولِ ولأعدائه بالدبور وَظهر بِهِ شَأْن أهل بَيت النُّبُوَّة من الشجَاعَة وَالْقُوَّة وأذكر بِمَا أبداه من شرِيف المناقب أَحْوَال جده أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب وَله الاراء السديدة والغزوات العديدة فِي المواطن الْقَرِيبَة والبعيدة يساعده فِيهَا السَّيْف وَالْقدر ويخدمه الْفَتْح وَالظفر طالما كشف بغزواته كل غمَّة وأوضح من الْخطب كل وَاقعَة مدلهمة ووطئ بحوافر خيله سباسب تضل فِيهَا الخطا وأودية لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا القطا كم فتح بعزمه حصناً صَعب المرقى واقتحم بخيله ذرْوَة لَا يصل إِلَيْهَا نظر الزرقا يتَصَرَّف فِي السعد كَأَنَّهُ عبد بَابه ويتأمر فِي الظفر كَأَنَّهُ لَازم ركابه وَله السَّرَايَا الْكَثِيرَة وَهِي عَن التَّفْصِيل غنية شهيرة لم يُؤمر فِيهَا إِلَّا أَوْلَاده النجباء وَقل مَا أَمر غَيرهم من الأقرباء وكل سراياه لَا تعود إِلَّا بالنصرة التَّامَّة وتنبئ فِي سَائِر الْآفَاق عَن البشائر الْعَامَّة وَقد بعث جمَاعَة من أَوْلَاده الْكِرَام وَمِمَّنْ بَعثه مِنْهُم فأبان عَن الْفِعْل الْحسن السَّيِّد الْحُسَيْن بن الْحسن وَمِنْهُم الشريف أَبُو طَالب المصاحب للنصرة فقد أرْسلهُ وَعَاد بالظفر غير مَا مرّة وَمِنْهُم السَّيِّد مَسْعُود فَحصل بإرساله السُّعُود وَمِنْهُم السَّيِّد عقيل فنال فِي مبعثه غَايَة التأميل وَمِنْهُم السَّيِّد عبد الْمطلب فَأصْبح بتجهيزه للسؤدد مجتلب
(4/364)
________________________________________
وَمِنْهُم الشريف عبد الله بن الْحسن فَكَانَ بعزمه إصْلَاح جِهَات الْيمن وَجَمِيع غَزَوَاته وسراياه بالنصر مقرونة وطوالع طلائعه بالحروب مَيْمُونَة مَا اتّفق لَهُ فِي شَيْء مِنْهَا انكسار وَلَا ذمت لَهُ فِي عجاج معاركها إِذا ثار آثَار فَأَما الْعلمَاء فنشروا على رُءُوسهم علم المفاخر وترجوا لَدَيْهِ بالوقار وَلحق أَوَّلهمْ الآخر فخدموا خزائنه المعمورة بالتآليف الْحَسَنَة وَأتوا جنابه بالتصانيف اللطيفة فِي كل سنة وَأما الشُّعَرَاء فانتظموا فِي زَمَانه انتظام دراري الإكليل ولبسوا فِي أَيَّامه ثوب كل فَخر جميل وقصدوا جوده العميم من سَائِر الأقطار وَلَو جمع جَمِيع مدائحه لكَانَتْ أسفاراً كبارًا وَلَو قَالَ قَائِل إِنَّه يمدح فِي كل عَام بِنَحْوِ الْألف لأنصف فِي قَوْله وَمَا جازف وَلم يزل يتوالى عَلَيْهِم بره وَمَا انْفَكَّ متواترا عَلَيْهِم لطفه وعظفه وبشره يُجِيز على التَّأْلِيف بِالْألف الدِّينَار وَالْأَكْثَر وينصف الشَّخْص على التصنيف بالمبالغة فِي الثَّنَاء الأعطر وَمَا برح يترقى فِي مصاعد السعد ويتخطى بأخمصه هَامة الْمجد ناشراً راية عدله على مفرق اللَّيَالِي وَالْأَيَّام مُقَلدًا جَوَاهِر فَضله جيد الْأَنَام وَلما كَانَ سَابِع عشر محرم سنة وَاحِدَة بعد الْألف حضر مَوْلَانَا السَّيِّد مَسْعُود ابْن الشريف حسن وَهُوَ أكبر أَوْلَاده بعد السَّيِّد حُسَيْن بن الْحسن نِيَابَة عَن أَبِيه الشريف حسن بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَحضر أكَابِر الْعلمَاء والأعيان لقياس طول الْكَعْبَة من داخلها لوُرُود أَمر مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحَمَّد بن مُرَاد بذلك ليعْمَل لَهَا كسْوَة فذرعت بالذراع الْحَدِيد الْمصْرِيّ فَعمِلت وَأرْسلت وَورد أَمر شرِيف مِنْهُ أَيْضا أَن يخمن مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي ترخيم المطاف الشريف فذرع المطاف الأسطى سفر المعمار والمعلم مُحَمَّد الْبُحَيْرِي المهندس فَكَانَ ذرعه مكسراً بِحِسَاب الطرح ذِرَاعا فِي ذِرَاع أَلفَيْنِ وَخَمْسمِائة ذِرَاع وَقَالُوا كل ذِرَاع يحْتَاج
(4/365)
________________________________________
إِلَى أَرْبَعَة دَنَانِير يكون جملَة ذَلِك عشرَة آلَاف دِينَار وَكَانَ ذَلِك التخمين فِي تَاسِع عشري جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف ثمَّ الَّذِي تحرر عَلَيْهِ القَوْل أَن المطاف أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع صرف عَلَيْهِ عشرَة آلَاف دِينَار وَفِي هَذِه السّنة توفّي الشَّيْخ ربيع بن السنباطى السالك على الطَّرِيقَة الجميلة والممالك لأزمة كل فَضِيلَة مدحه جمَاعَة من الْفُضَلَاء ورثاه غير وَاحِد من الأدباء مِنْهُم صَاحب الريحانة بِأَبْيَات خَمْسَة آخرهَا بَيت التَّارِيخ وَهُوَ // (من الْخَفِيف) //
(قد فَقدنَا فِيهِ اصطباراً فأرِّخْ ... كلُّ صبرٍ محرم فِي ربيعِ)
ورثاه مؤرخاً الشَّيْخ حسن الشَّامي بأَرْبعَة أَبْيَات آخرهَا التَّارِيخ وَهُوَ // (من الْكَامِل) //
(وَإِذا ذكَرْتَ ربيعَ أيامٍ مضَتْ ... أرِّخْ بشوالٍ فراقَ ربيعِ)
وَفِي سنة ثَلَاث بعد الْألف لست عشرَة مَضَت من جُمَادَى الأولى توفّي مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد بن سليم ورثاه جمَاعَة من الْفُضَلَاء مِنْهُم الشهَاب أَحْمد المرحومي المغربي فَقَالَ من الطَّوِيل
(تهايل مِنْ رُكْنِ الصلاحِ مشيد ... بموتِ شهنشاه الْمُلُوك مرادِ)
(فَلم يُرَ فِي تِلْكَ الممالكِ مالكٌ ... مُرَادُ الورَى من بعد فَقْدِ مُرَادِى)
وَفِي سنة أَربع توفّي إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَشَيخ المصرين من كَانَت الْعلمَاء تكْتب عَنهُ مَا يملي مَوْلَانَا شمس الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن حَمْزَة الرَّمْلِيّ فاتح أقفال مشكلات الْعُلُوم ومحيى مَا اندرس مِنْهَا من الْآثَار والرسوم أستاذ الأستاذين وَوَاحِد عُلَمَاء الدّين عَلامَة الْمُحَقِّقين على الْإِطْلَاق وفهامة المدققين بالِاتِّفَاقِ ولد سنة تسع عشرَة وَتِسْعمِائَة بِمصْر المحروسة وَله تَرْجَمَة طَوِيلَة جميلَة وفيهَا توفّي الشَّيْخ عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ الشهير بِابْن غَانِم الْمَقْدِسِي الخزرجي شمس الْعُلُوم والمعارف بدر الفهوم واللطائف قُرَّة عين أَصْحَاب أَبى حنيفَة الراقي من معارج التَّحْقِيق أعالي الرتب المنيفة تَرْجمهُ الشَّيْخ عبد الرءوف الْمَنَاوِيّ فَقَالَ شيخ الْوَقْت حَالا وعلماً وتحقيقاً وفهماً وَإِمَام الْمُحَقِّقين حَقِيقَة ورسماً وَفِي سنة سِتّ بعد الْألف تخلف مَوْلَانَا الشريف حسن بِجِهَة ركبة وَأرْسل
(4/366)
________________________________________
أَوَاخِر ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة إِلَى أَخِيه السَّيِّد ثقبة بن أبي نمي يلْتَمس مِنْهُ أَن يلبس خلعته أكبر أَوْلَاده السَّيِّد مَسْعُود بن حسن فَلَمَّا كَانَ يَوْم العرضة خرجا إِلَى المختلع لبس السَّيِّد ثقبة خلعته وَهِي الثَّانِيَة رُتْبَة همز الْفرس وَتقدم إِلَيْهَا فلبسها متقدمه ثمَّ قَالَ للداودار احفظ خلعة سيدك فَلم يلبث السَّيِّد مَسْعُود أَن توفّي غيظاً للنَّفس الأبية والشيم الهاشمية رَحمَه الله تَعَالَى رَحْمَة وَاسِعَة وبنيت على قَبره قبَّة عَظِيمَة بَاقِيَة إِلَى الْآن وَفِي سنة سبع بعد الْألف توفّي الْعَلامَة خضر بن عَطاء الله الموصلى قَالَ فِيهِ فِي الريحانة كعبة فضل مُرْتَفعَة الْمقَام تَضَمَّنت ألسن الروَاة الْتِزَامه فَللَّه ذَلِك المتضمن والالتزام أَقَامَ بِمَكَّة مَعَ بني حسن مخضر الأكناف وصنف باسم الشريف حسن كِتَابه شرح شَوَاهِد الْكَشَّاف قلت رَأَيْت بِخَط جدي الْعَلامَة جمال الدّين العصامي مَا نَصه أشرفني الْمولى خضر بن عَطاء الله على وصلٍ كتب لَهُ بِأَمْر مَوْلَانَا الشريف الْحسن بن أبي نمي صورته الْحَمد لله حسن بن أبي نمي يَا أَبَا مُحَمَّد ريحَان بن عقبَة الدويدار سلمك الله اعط الْعَلامَة الْمُفِيد الفهامة خضر أَفَنْدِي ألف ذهب جَدِيد نصف ذَلِك حفظا لأصله خَمْسمِائَة ذهب وَهِي جَائِزَة كتابي الَّذِي صنفه باسمي الله الله كتبه صبيح بن مَقْبُول بِأَمْر سيدنَا ومولانا الشريف أيده الله بتاريخ عشر جماد أول سنة 1003 وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وبخط مَوْلَانَا الشريف بِيَدِهِ الله الله يَا ريحَان فِي نجاز ذَلِك بِسُرْعَة انْتهى رحم الله الْجَمِيع وَمن شعر خضر الْمَذْكُور قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(تبدَّلْ عنِ البرشِ المبلّدِ بالطّلاَ ... فعالمُ أَهْلِ البرشِ غمْرٌ وجَاهِلُ)
(فَمَا البرشُ إنْ فتشْتَ عَن كنهِهِ سوَى ... دويهيةٌ تصفَرُّ مِنْهَا الأناملُ)
وَفِي سنة سبع بعد الْألف طلب الشريف أَبُو طَالب من أَبِيه الشريف حسن أَن
(4/367)
________________________________________
يتَخَلَّف بالمبعوث ليلبس هُوَ الخلعة فَخرج مَعَ عَمه السَّيِّد ثقبة إِلَى المختلغ فَتقدم الشريف أَبُو طَالب وَلبس الخلعة الأولى خلعة وَالِده مُتَقَدما على عَمه ثمَّ لبس السَّيِّد ثقبة الخلعة الثَّانِيَة فَوَقع لَهُ مَا وَقع بِسَبَبِهِ لِابْنِ أَخِيه وَأورد مورده الَّذِي كرع فِيهِ فَتوفي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى حادي عشر صفر من السّنة الَّتِي بعْدهَا أَعنِي سنة ثَمَان بعد الْألف ومولانا السَّيِّد ثقبة أكبر إخْوَان الشريف حسن كَانَ مولده سنة خمس وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ رجلا عَاقِلا صبوراً متحملاً كثير الملايمة والتودد إِلَى النَّاس وَله فَضِيلَة وَشعر حسن ومفاكهة لَطِيفَة وَله من الْأَوْلَاد سِتَّة ذُكُور وَابْنَة وَاحِدَة وَكَانَ مَوْلَانَا الشريف حسن يراعيه الرِّعَايَة التَّامَّة وَكَانَ لَهُ محصول كَبِير جدا من جِهَات عديدة فَلَمَّا مَاتَ قرر لكل وَاحِد من أَوْلَاده فِي كل شهر ألف أشرفي فضَّة غير المقررات السَّابِقَة وللبنت خَمْسمِائَة أشرفي وَقَالَ لَهُم إِن وَالِدي الشريف أَبَا نمي رَحمَه الله تَعَالَى لما فرغ بالسلطنة اخْتَار أَن يكون مقرره فِي كل شهر ألف أشرفي وَأَنا أَقمت لكل وَاحِد مِنْكُم ألف أشرفي عوض الْجِهَات الَّتِي كَانَت لوالدكم أَعنِي من المعشرات وخراج الْأَرَاضِي فَإِن تِلْكَ لائقة بِصَاحِب الْأَمر وَالله يلهمكم الصَّبْر ويعظم لكم الْأجر وفيهَا توفّي رَئِيس الْأَطِبَّاء دَاوُد بن عمر الْأَنْطَاكِي المتوحد بأنواع الْفَضَائِل وَالْمُنْفَرد بِمَعْرِِفَة عُلُوم الْأَوَائِل شيخ الْعُلُوم الرياضية سِيمَا الفلسفية وَعلم الْأَبدَان القسيم لعلم الْأَدْيَان فَإِنَّهُ بلغ فِيهِ الْغَايَة الَّتِي لَا تدْرك وانْتهى إِلَى الْغَايَة الَّتِي لَا تكَاد تملك لَهُ فضل لَيْسَ لأحد وَرَاءه فَضلَة وَعلم لم يحز أحد فِي عصره مثله يكَاد لقُوَّة حدسه يسْتَشف الدَّاء من وَرَاء حجابه ويناجيه بِظَاهِر علاماته وأسبابه حكى أَن الشريف حسن لما اجْتمع بِهِ أَمر بعض إخْوَته أَن يُعْطِيهِ يَده ليجس نبضه وَقَالَ لَهُ الشريف حسن جس نبضي فَأخذ يَده فَقَالَ هَذِه الْيَد لَيست يَد الْملك فَأعْطَاهُ الْأَخ الثانى يَده فَقَالَ كَذَلِك فَأعْطَاهُ الْأَخ الثَّانِي يَده فَقَالَ كَذَلِك فَأعْطَاهُ الشريف حسن يَده فحين
(4/368)
________________________________________
جسها قبلهَا وَأخْبر كلا بِمَا هُوَ متلبس بِهِ وَحكى أَنه استدعاه لبَعض نِسَائِهِ فَلَمَّا دخل قادته جَارِيَة وَلما خرجت بِهِ قَالَ للشريف حسن إِن الْجَارِيَة لما دخلت بِي كَانَت بكرا وَلما خرجت بِي صَارَت ثَيِّبًا فَسَأَلَهُمَا الشريف وأمنها فَأَخْبَرته أَن فلَانا استفضها قهرا فَسَأَلَهُ فاعترف بذلك وَحكى الْعَلامَة شَيخنَا الشَّيْخ مُحَمَّد البابلي أَن دَاوُد الْحَكِيم الْمَذْكُور مر بِبَعْض الحارات الَّتِي يسكنهَا الضُّعَفَاء والفقراء بِمصْر فَسمع صَوت مَوْلُود حَال وِلَادَته فَقَالَ هَذَا صَوت بكري فتفحصوا عَن ذَلِك فوجدوه كَمَا قَالَ وَذَلِكَ أَن بعض البكريين تزوج ببنت فَقير خُفْيَة وَوَافَقَ حَال وِلَادَتهَا مُرُور الْمَذْكُور وَله تَرْجَمَة طَوِيلَة فِي الريحانة وَغَيرهَا وَفِي يَوْم الْخَمِيس سادس عشرى جُمَادَى الْآخِرَة من سنة ثَمَان بعد الْألف قبيل الْمغرب بِقَلِيل أَمر مَوْلَانَا الشريف حسن الشَّيْخ عبد الْكَرِيم بن محب الدّين القطبي أَن يكْتب إِلَى الْبَاب العالي بتوجيه الْأَمر إِلَى أكبر أَوْلَاده مَوْلَانَا الشريف أَبُو طَالب فَبعد أَن كتب الْعرض أَشَارَ مَوْلَانَا بِتَأْخِيرِهِ إِلَى مَا بعد الْمَوْسِم ثمَّ أرسل أَوَائِل سنة تسع فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَوصل الْأَمر الشريف السلطاني أَوَاخِر السّنة الْمَذْكُورَة بِأَن يكون مَوْلَانَا الشريف أَبُو طَالب مشاركاً لَهُ ودُعِيَ لَهما على المنابر وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سَابِع ذِي الْحجَّة الْحَرَام مِنْهَا أَعنِي سنة ثَمَان كَانَت عرضة الْمصْرِيّ وأمير حاجه بيري بك فَتوجه مَوْلَانَا الشريف حسن إِلَى العرضة هُوَ وَأَوْلَاده فَلَمَّا وصل المختلع أَشَارَ أَن يلبس خلعة الْمصْرِيّ مَوْلَانَا الشريف أَبُو طَالب فلبسها وَقبل يَد وَالِده وَأَن الخلعة الثَّانِيَة الَّتِي كَانَ يلبسهَا أَخُوهُ السَّيِّد ثقبة بن أبي نمي تلبس لثاني أَوْلَاده السَّيِّد عبد الْمطلب بن حسن فلبسها ثمَّ جَاءَ الْأَمِير الْمَذْكُور إِلَيْهِمَا فتحايوا تَحِيَّة الْإِسْلَام ثمَّ توجه الْأَمِير واستمروا موالينا واقفين إِلَى أَن وصل الْأَمِير طماس أَمِير الْحَاج الشَّامي فَلبس مَوْلَانَا الشريف حسن الخلعة الَّتِي مَعَه ودخلوا ثَلَاثَتهمْ لابسين الْخلْع وَلم يعْهَد قبل مثل ذَلِك وَسبب ذَلِك توَافق أَمِير الْمصْرِيّ والشامي فِي الْمنزل بالمختلع فِي ذَلِك الْيَوْم فألبس الشريف حسن ولديه خلعة الْمصْرِيّ وثانيتها وَأَشَارَ إِلَى أَمِير الشامى بِأَن
(4/369)
________________________________________
يتهيأ ليعرض لَهُ فِي ذَلِك الْوَقْت لضيق الزَّمَان والاحتياج إِلَى العرضة لأمير الْيَمَانِيّ فِي الْيَوْم الثانى وَهَذَا تَدْبِير حَسَنٌ لِأَنَّهُ تَدْبِيرُ حَسَنٍ ثمَّ فِي الْيَوْم الثَّانِي وَهُوَ الثَّامِن من ذِي الْحجَّة توجه موالينا الْأَشْرَاف لاستقبال الْمحمل الْيَمَانِيّ فَلبس الشريف أَبُو طَالب القفطان الأول وَالسَّيِّد عبد الْمطلب القفطان الثَّانِي وأمير الْحَاج الْيَمَانِيّ الْأَمِير فرحات الشهير باليازجي وَهُوَ من أقَارِب الْوَزير حسن باشا صَاحب الْيمن فاستمر الشريف أَبُو طَالب على ذَلِك إِلَى أَن توجه وَالِده الشريف حسن وَكَانَ مُقيما بِالْمحل الْمَعْرُوف بالبردان فتوجة مِنْهُ غازياً إِلَى جِهَة نجد فِي ثامن ربيع الآخر سنة عشرَة وَألف والفريق مُقيم بالمبعوث مشمولاً بِنَظَر الشريف أبي طَالب تَحت نَهْيه وَأمره وَأمر بِضَرْب النّوبَة على بَابه السعيد وَاسْتمرّ الشريف حسن ذَاهِبًا إِلَى أَن وصل إِلَى مَحل يُسمى فاعية فَأَقَامَ بِهِ مُدَّة من الزَّمَان وَلما كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء غرَّة جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة أصبح متوعكاً إِلَى أَن كَانَت لَيْلَة الْخَمِيس ثَالِث الشَّهْر الْمَذْكُور انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى أثْنَاء اللَّيْلَة الْمَذْكُورَة فأخفى مَوته عَن الْحَرِيم والخدم وَالصغَار والحشم إِلَى أَن طلع الْفجْر فأظهر ذَلِك وَحمل فِي تختروانه الَّذِي كَانَ يركبه فِي حَيَاته على البغال وَقد حصلت عَلَامَات ذَلِك من عصر يَوْم الْأَرْبَعَاء حَتَّى إِن أبناءه الَّذين كَانُوا مَعَه بذلك الْمحل أعدُّوا البغال والبراذين فِي الْمنَازل صوب مَكَّة لغَلَبَة ظنهم بِوُقُوع الْوَفَاة وَبعد الْمسَافَة عَن مَكَّة لتَكون كخيل الْبَرِيد الْمُسَمَّاة فِي عرف الأروام ولاقاً وَكَانَ ذَلِك رَأيا حسنا فَلَمَّا توفّي جدوا بِهِ فِي الْمسير فَسَارُوا يَوْم الْخَمِيس وَلَيْلَة الْجُمُعَة ويومها ووصلوا بِهِ إِلَى مَكَّة فِي أَوَائِل النّصْف الثَّانِي من لَيْلَة السبت وَلَوْلَا مفارقتهم الطَّرِيق بِمُوجب الظلام والمطر والغيم وتعويق السَّيْل لَهُم فى بعض الْأَمَاكِن لأمكنهم دُخُول يَوْم الْجُمُعَة مَعَ أَن الْمسَافَة تزيد على عشرَة أَيَّام وَمَا كَانَ هَذَا التَّيْسِير إِلَّا كَرَامَة للمرحوم لسرعة وُصُوله إِلَى الْبَلَد الْحَرَام وَذهب الْخَبَر بوفاته من حينها إِلَى الشريف أَبى طَالب بِجِهَة الْمَبْعُوث فبمجرد وصل الْخَبَر إِلَيْهِ قصد مَكَّة وَخلف السَّيِّد عبد الْمطلب لحفظ المراح وَمن فِيهِ فَدَخلَهَا لَيْلَة السبت فِي أول الثُّلُث الثَّانِي
(4/370)
________________________________________
قبل دُخُول جَنَازَة وَالِده وبمجرد وُصُول الْجِنَازَة شرع فِي التغسيل والتكفين وَصلى عَلَيْهِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام قبل الْفجْر وَدفن بالمعلاة وَبنى عَلَيْهِ قبَّة عَظِيمَة بَاقِيَة إِلَى الْآن رَحمَه الله تَعَالَى رَحْمَة جمة ووالى عَلَيْهِ صيب الرضْوَان وَالرَّحْمَة مَاتَ وَله من الْعُمر تسع وَسَبْعُونَ سنة وَمُدَّة ولَايَته مشاركاً لِأَبِيهِ أبي نمي وَولده أبي طَالب ومستقلاً نَحْو خمسين سنة وفيهَا توفّي السَّيِّد عبد الْمطلب بن حسن كَانَ على غَايَة من الْكَمَال وَمن مشاهير الْأَبْطَال وَكَانَ يلبس الخلعة الثَّانِيَة فِي حَيَاة أَبِيه وَكَانَ وَالِده يعْتَمد عَلَيْهِ فِي الْأُمُور الْعِظَام ويفتخر بِهِ فِي كل محفل ومقام رَحمَه الله تَعَالَى وفيهَا توفّي القَاضِي عَليّ بن جَار الله الْحَنَفِيّ الْمَكِّيّ الْقرشِي انْتفع بِهِ جمَاعَة مِنْهُم شيخ الْإِسْلَام عبد الرَّحْمَن وَأَخُوهُ القَاضِي أَحْمد ابْنا عِيسَى المرشدي وَالْإِمَام عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ وَغَيرهم لَهُ تصانيف عديدة مفيدة مِنْهَا حَاشِيَة على التَّوْضِيح وحاشية على شرح إيساغوجي لشيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا وَتَذْكِرَة مفيدة وفتاوي لَكِنَّهَا غير مَجْمُوعَة وديوان شعر مِنْهُ قَوْله // (من السَّرِيع) //
(قُلْتُ لشهْرِ الصومِ لما دنا ... مودِّعًا منِّى وداعَ الصديقْ)
(سَلِّمْ على الموسمِ باللهِ لي ... وقُلْ لَهُ أقبِلْ فَهَذَا الطريقْ)
قلت مَا ألطف قَوْله أَقبل ... إِلَخ كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَنه كعقبة فِي الطَّرِيق كَانَت فَزَالَتْ وفيهَا توفّي الملا صفي الدّين بن مُحَمَّد الكيلاني الْمَكِّيّ الشَّافِعِي الطَّبِيب الألمعي الأريب اللوذعي أفلاطون زَمَانه شرح خمرية سَيِّدي عمر بن الفارض شرحاً مُفِيدا جعله باسم مَوْلَانَا الشريف حسن وَأَجَازَهُ عَلَيْهِ إجازات عَظِيمَة يحْكى عَنهُ غرائب مِنْهَا أَنه مر عَلَيْهِ بِجنَازَة بعض الطرحاء فَدَعَا بِهِ وَأخذ من دكان بعض العطارين شَيْئا نفخه فِي أنف الطريح فَجَلَسَ من حِينه وعاش مُدَّة بعد ذَلِك فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ رَأَيْت أقدامه واقفة فَعلمت أَنه حَيّ وَمِنْهَا أَن بعض التُّجَّار كَانَ يطعن فِي مَعْرفَته فَأرْسل إِلَيْهِ بعض الْفُقَرَاء بِغُصْن
(4/371)
________________________________________
من نَبَات لَهُ رَائِحَة طيبَة فَلَمَّا شمه التَّاجِر انتفخ بَطْنه وَعجز الْأَطِبَّاء الموجودون عَن علاجه فاضطر إِلَى صَاحب التَّرْجَمَة واستعطفه فَأعْطَاهُ سفوفاً من ذَلِك النَّبَات بِعَيْنِه فَعُوفِيَ مِمَّا بِهِ وَمِنْهَا أَن بعض أَوْلَاد الشريف حسن أَصَابَته عِلّة فَأمر صفي الدّين الْمَذْكُور أَن تجْعَل لَهُ كوفية من عنبر فَفعلت فَزَالَتْ الْعلَّة ثمَّ أَصَابَت تِلْكَ الْعلَّة بِعَينهَا بعض الرّعية فَعمل لَهُ كوفية من ضفع الْبَقر فَعُوفِيَ فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ نعم الْعلَّة وَاحِدَة لَكِن ولد الشريف نَشأ فِي الرَّائِحَة الطّيبَة فَلَو عملت لَهُ من الضفع لزادت عَلَيْهِ وَالْآخر بعكسه فداوينا كلا بِمَا يُنَاسِبه وَكَانَ يَأْمر من أَصَابَهُ مرض بِالْخرُوجِ من مَكَّة وَلَو إِلَى المنحني لِأَن هَوَاء مَكَّة فِي غَايَة الِاعْتِدَال لَكِن رَائِحَة البالوعات تفسده وَلِهَذَا بنى لَهُ هُنَاكَ بَيْتا يسكنهُ من بِهِ مرض رَحمَه الله تَعَالَى وَقد رزق مَوْلَانَا الشريف حسن من الْأَوْلَاد نَحْو خَمْسَة وَعشْرين ذكرا مِنْهُم سَالم وَعلي وَأَبُو الْقَاسِم وحسين ومسعود وباز وَأَبُو طَالب وَعقيل وَعبد الْمطلب وَعبد الله وَعبد الْكَرِيم وَعبد المحسن وعدنان وَإِدْرِيس وفهد وشنبر وَعبد الْمُنعم والمرتضى وهزاع وَعبد الْعَزِيز وَعبيد الله وجود الله وبركات وقايتباى وَمُحَمّد الْحَارِث وآدَم وَمن الْإِنَاث نَحْو اثْنَتَيْنِ وَعشْرين شمسية وروضة وأرينب وصمدة وبلخشة وياقوتة وَفَاطِمَة وعزيزية وزين الحبوش وريمة وجربوعة وزين الشّرف وسلامة وكثيرة وَفَاطِمَة أَيْضا وعزيزية أَيْضا وَمنى ومزنة وحريملة وهيفاء وَرَايَة وَعزا وغيرهن آخِرهنَّ موتا ياقوتة وَمَات مِنْهُم جملَة من الذُّكُور وَالْإِنَاث فِي حَيَاته وَورثه سَبْعَة عشر ذكرا وَأَرْبع عشرَة أُنْثَى ووزع مخلفه بَين أَوْلَاده مَا عدا السِّلَاح وَالْخَيْل وَالْعَبِيد فعادتهم أَنَّهَا لصَاحب الْأَمر بعده ذكر مَا منحه الله من الفراسة المقتبسة من الحضرة النَّبَوِيَّة والخلافة العلوية فَمن ذَلِك أَنه سرقت الفرضة السُّلْطَانِيَّة بجدة المحمية وَضاع مِنْهَا قماش لَهُ صُورَة وأموال كَثِيرَة وَلم يكسر بَابهَا وَلَا نقب جدارها وَلَا أثر يُحَال عَلَيْهِ فِي معرفَة
(4/372)
________________________________________
الْمَطْلُوب والطالب بل حَبل مسدول من بعض الجوانب فَلَمَّا عرض على حَضرته الشَّرِيفَة الْكَرِيمَة هَذِه الْقِصَّة الْعَظِيمَة طلب الْحَبل الْمَذْكُور ثمَّ شمه ثمَّ قَالَ هَذَا حَبل عطار ثمَّ دَفعه إِلَى ثِقَة من خُدَّامه وَأمره أَن يَدُور بِهِ على العطارين فَعرفهُ بَعضهم وَقَالَ هَذَا حَبل كَانَ عندى اشْتَرَاهُ مني فلَان ثمَّ نَقله من رجل إِلَى رجل إِلَى أَن وصل بشخص من جمَاعَة أَمِين جدة المعمورة ثمَّ وجدت السّرقَة بِعَينهَا فِي الْمحل الَّذِي ظَنّهَا فِيهِ وَمِنْهَا أَن رجلا من التُّجَّار سرق لَهُ مَال عَظِيم بِمحل معِين فَلَمَّا رفع قصَّته إِلَى مَوْلَانَا الشريف حسن قَالَ لَهُ هَل وجدت فِي مَحل السّرقَة شَيْئا من آثَار الْعَرَب فَقَالَ وجدت هَذِه الْعَصَا فَنظر إِلَيْهَا الشريف فَوجدَ بهَا عَلامَة فَقَالَ هَذِه الْعَصَا عَلَيْهَا عَلامَة الطَّائِفَة الْفُلَانِيَّة فاتفق بسعده وبركة جده حُضُور رجل من أَعْيَان هَذِه الطَّائِفَة وَبِيَدِهِ عَصا عَلَيْهَا نَظِير الْعَلامَة الْمَذْكُورَة فَعرفهُ مَوْلَانَا الشريف حسن بِالْحَال وألزمه بتحصيل المرام فَصدق الله فراسة مَوْلَانَا الْمشَار إِلَيْهِ وَرجع المَال لصَاحبه وَمِنْهَا أَن رجلا تَاجِرًا عطاراً مغربيُّاً بِمَكَّة المشرفة هرب لَهُ عبد ثمَّ وجده فَطلب العَبْد البيع فَأَجَابَهُ لذَلِك سَيّده فَاشْتَرَاهُ رجل بِمَال عَظِيم ثمَّ أعْتقهُ فَبعد مُدَّة فقد التَّاجِر مَالا كثيرا من دكانه وَحَاصِله فَرفع قصَّته إِلَى مَوْلَانَا الشريف حسن فَأمره أَن يخفي أمره وَيتْرك ذكره ثمَّ سَأَلَ عَن مُشْتَرِي العَبْد الْمَذْكُور هَل هُوَ من أهل المَال الْكثير حَتَّى يَشْتَرِي مثل هَذَا العَبْد بِمَالِه ويعتقه وَهل سبق لَهُ عتق قبل ذَلِك فَأُجِيب بِأَنَّهُ لم يَقع مِنْهُ عتق وَلَيْسَ لَهُ مَال بل هُوَ فَقير يصرف الْفُلُوس وَظهر الْآن لَهُ نوع يسَار فَطلب الشريف العَبْد على غَفلَة ثمَّ خاطبه بِغَيْر وَاسِطَة وَعرض لَهُ بِأَنَّهُ بَلغنِي أمانتك وَأَنَّك نصحت فِي خدمَة مَوْلَاك وَأَنه قصر فِي رعايتك فطلبت البيع وَقد أصبت فِيمَا فعلته وَعرض عَلَيْهِ أَن يَجعله مقدما عِنْده ففرح العَبْد لذَلِك ثمَّ تغافل عَنهُ مُدَّة وَطَلَبه ثَانِيًا وَعرض لَهُ ببخل سَيّده وَأَنه يسْتَحق كل مَا تفعل فِيهِ ثمَّ قَالَ لَهُ بَلغنِي أَنَّك جمعت من مراجلك ثمنك وأعطيته لفُلَان يَعْنِي الْمُشْتَرى فاشتراك بِهِ وَنعم مَا فعلت فَصدق العَبْد جَمِيع مَا قَالَ لَهُ مَوْلَانَا فَأمر بحبسه بلطف وَطلب المُشْتَرِي ثمَّ قَالَ لَهُ مرادي أستخدم عبد التَّاجِر المغربي الَّذِي أَعتَقته
(4/373)
________________________________________
فَأجَاب بشكر العَبْد وَالثنَاء عَلَيْهِ وَأَنه يَلِيق بذلك وَلم يزل يتلطف بِهِ حَتَّى أقرّ بِمَا أقرّ بِهِ العَبْد فَأمر بحبسهما مَعًا ثمَّ ضربهما ضربا شَدِيدا حَتَّى أحضر جَمِيع مَا فَقده التَّاجِر إِلَّا قَلِيلا ثمَّ أَمر بصلب العَبْد وَالْمُشْتَرِي بعد التَّعْزِير والنكال الشَّديد فصلبا فتعجب الْخَاص وَالْعَام من هَذِه الفراسة المسطورة وَمِنْهَا أَن رجلَيْنِ مصري ويمني تنَازعا فِي جَارِيَة ادّعى كل مِنْهُمَا ملكهَا من غير إِقَامَة حجَّة شَرْعِيَّة وتحير فِي أَمرهمَا سَائِر الْحُكَّام من أهل الشَّرْع وَالْعرْف فَرفعت الْقِصَّة إِلَيْهِ فَلَمَّا سمع دَعْوَى كل مِنْهُمَا وعدهما بِالنّظرِ فِي أَمرهمَا فى مجْلِس ثَان ثمَّ اختلى باليمني وَسَأَلَهُ عَن اسْم الْحبّ الْحِنْطَة فَقَالَ هُوَ الْبر ثمَّ اختلى بالمصرى وَسَأَلَهُ عَمَّا ذكر فَقَالَ هُوَ الْقَمْح ثمَّ سَأَلَ الْجَارِيَة عَن اسْم الْحبّ الْمرة بعد الْمرة فَقَالَ أم بر فَلَمَّا نطقت باللغة اليمنية قَالَ لَهَا والقمح مَا هُوَ قَالَت لَا أعرفهُ فَلَمَّا تمّ ذَلِك عنَّ لَهُ اختبار مَا منحه الله من الفراسة فأحضر الْمصْرِيّ وتلطف بِهِ ووعده بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَة فاعترف بِأَنَّهَا ملك اليمني وزالت الشُّبْهَة ببركته وَوصل الْحق إِلَى مُسْتَحقّه ذكر بعض فتوحاته بِذَاتِهِ وَأَوْلَاده الْكِرَام فِي حَيَاته أَولهَا قصَّة شمر وسببها يَوْم الفريش لَا يخفى أَن فتوحات الْمُلُوك والغزوات وَمَا لَهُم من السّير والسريات لَا يُمكن ضبط الْخَاص مِنْهَا وَالْعَام سِيمَا بساداتنا حماة الْبَيْت الْحَرَام وخصوصاً مَوْلَانَا الشريف حسن جد صَاحب هَذَا الْكتاب فَمن ذَلِك قصَّة الفريش وَهِي أَنه فِي عَام ثَلَاث وَسِتِّينَ من الْقرن الْعَاشِر كَانَ أَمِير الْمَدِينَة المنورة السَّيِّد مَانع الْحُسَيْنِي وَكَانَ من أجل الْأُمَرَاء قدرا وأرفعهم ذكرا بلغ بمصاهرة موالينا وساداتنا حماة الْحَرَمَيْنِ محلا منيفاً رفيعاً وَعزا منيعاً وشوكة قاهرة وَحُرْمَة وافرة وَكَانَت عَادَة أُمَرَاء الْمَدِينَة السَّابِقين يسلمُونَ لبني عمهم من السادات بني الْحُسَيْن ولعربان عَنَزَة وضفير وَنَحْوهم مواجب ومرتبات من الْأَمْوَال الجزيلة والحبوب والأقمشة الجليلة فَمَنعهُمْ من ذَلِك الْأَمِير مَانع اسْتِخْفَافًا بهم وَعدم مبالاة فَجمع كل من الطوائف الْمَذْكُورَة جماعته وَحضر مَعَهم فَأَما السَّادة الْأَشْرَاف آل نعير فمقدمهم الْأَمِير مَنْصُور بن مُحَمَّد أَمِير الْمَدِينَة المنورة وَابْن أميرها سَابِقًا
(4/374)
________________________________________
وَأما السَّادة الْأَشْرَاف من آل جماز فمقدمهم أَوْلَاد مَوْلَانَا الْأَمِير جماز وَأما طَائِفَة العربان فمقدمهم الشَّيْخ الْمَعْرُوف بِأبي ذِرَاع وَغَيره من أكابرهم فَلَمَّا خرج ركب الْحَاج الْمدنِي على عَادَتهم أَوَاخِر ذِي الْقعدَة وَأَصْبحُوا بوادي الفريش صحبتهم الطوائف المذكورون فِي جمع من الْأَشْرَاف عَظِيم وَمن العربان بخيل وركاب مَعَ اللبوس والزانات وَأَحَاطُوا بالركب جَمِيعه وَكَانَ فِي الركب الأفندي الْأَعْظَم عبد الرَّحْمَن قَاضِي الْمَدِينَة المنورة والجناب العالي الْأَمِير مُحَمَّد ابْن حسن وَشَيخ الْحرم الْمدنِي وأعيان الْمَدِينَة من وُجُوه الْعَرَب وسادات بني الْحُسَيْن فَكَانَ موقفا شنيعاً ومنظراً قبيحاً وَقع فِيهِ قتل وسلب وَطعن وَضرب وَأهل الركب محرمون والطوائف الْمَذْكُورَة مجرمون وَسلم أعاظم الركب وأعيانه ثمَّ انفصلوا بعد أَن الْتزم لَهُم القَاضِي وَشَيخ الْحرم الْمَذْكُورَان بِحُصُول مواجبهم وعادتهم فَلَمَّا وصل خبر ذَلِك إِلَى الشريف حسن سكت على ذَلِك مطمناً خواطر الْحجَّاج حَتَّى انْقَضتْ أَيَّام الْمَنَاسِك ثمَّ أرسل سَرِيَّة من شجعان الفرسان وَأمر عَلَيْهِم السَّيِّد عجل بن عرار برسم حماية الركب الْمدنِي إِلَى وُصُوله الْمَدِينَة ثمَّ يستمرون بهَا حفظا لَهَا ولأهلها بَاطِنا وظاهراً ثمَّ بعد ذهَاب الحجيج من مَكَّة نَادَى بِالْمَسِيرِ إِلَى غَزْو الطوائف الْمَذْكُورَة فَخرج بِذَاتِهِ العزيزة فِي عَسْكَر جرار وجيش كالبحر الزخار مَا بَين سادة كرام وأعراب وأروام بالخيول الملبسة والدروع والبنادق والمدافع والشجعان الْمَشْهُورين فِي الوقائع والمجامع فَلَمَّا بَلغهُمْ أَن الْملك الْمَنْصُور الهزبر الْمَعْرُوف الْمَشْهُور قصد اللحوق بهم على كل حَال شمروا نَحْو شمر وهربوا إِلَى رُءُوس الْجبَال فقصدهم إِلَى مَنَازِلهمْ ومساكنهم وَخرب شمر الْمَذْكُور لِأَنَّهُ من أمنع مواطنهم ثمَّ قبض على أَعْيَان الطوائف الْمَذْكُورَة الَّذين شنوا الْغَارة وكبل أَشْرَافهم بالجنازير الْحَدِيد وَدخل بهم وهم أسرى بَين يَدَيْهِ مَدِينَة جده السعيد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ يَوْم دُخُوله موكب عَظِيم حَضَره مَوْلَانَا الأفندي وَشَيخ الْحرم الْمَذْكُورَان أَعْلَاهُ وَأظْهر كل مِنْهُمَا حُصُول مُرَاده وبلوغ مناه وتعجبوا من دُخُول الْأَشْرَاف بالزناجير وهم من أَوْلَاد الْأُمَرَاء وتحققوا بذلك عظم مَوْلَانَا الشريف وَقُوَّة
(4/375)
________________________________________
سُلْطَانه بمدد جده خير الورى وَكَانَ هَذَا الْغَزْو أول ظُهُور مَوْلَانَا الشريف حسن وَقُوَّة شَأْنه فِي ظلّ وَالِده الشريف أبي نمي وَأَيَّام زَمَانه وَمن ذَلِك قصَّة مضبع سَار إِلَيْهِ بِنَفسِهِ المطمئنة وَذَلِكَ فِي حُدُود عَام اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَسَببه أنة ظهر من أهل مضبع نقض للعهود وَمُخَالفَة لشرع الْملك المعبود لِأَن مضبع الْمَذْكُور حصن منيع بِأَعْلَى وَاد وسيع وَأَهله فى نعم الله رافلون وللمنعم بهَا كافرون يمْنَعُونَ كل من وصل إِلَيْهِم وَلَو علم عصيانه لديهم وَكلما حذرهم مَوْلَانَا الشريف المخالفات تخذيرا مَا يزيدهم إِلَّا طغياناً كَبِيرا فَسَار إِلَيْهِم فِي جم غفير من السادات وأتباعهم من أَعْيَان دولته الشَّرِيفَة وأمراء مَمْلَكَته المنيفة أخبر السَّيِّد نَافِع مِنْهُم أَن العساكر الَّتِي سَار بهم يزِيدُونَ على خمسين ألفا مَا بَين رَاكب وراجل ولاحق وواصل يَمرونَ على الْجبَال فيدكونها دكاً وينزلون بالرمال فيبكونها بكاً فَلَمَّا وصلوا مضبع وجدوه جيلا رفيعاً وحصناً منيعاً لَيْسَ فِي أَخذه مطمع فأحاطوا بجهاته الْأَرْبَع ثمَّ صعدوا على اسْم الله تَعَالَى تالين {إِلَّا تنصرُوُه فَقَدْ نَصره الله} التَّوْبَة 40 فَقَاتلهُمْ قتالاً شَدِيدا أفنى فِيهِ شبَابًا وأشاب مِنْهُ وليداً حَتَّى انتصر عَلَيْهِم نصرا عَزِيزًا وَفتح الله لَهُ من حصونهم فتحا مُبينًا فَضرب الرّقاب وَأخذ الْأَمْوَال ورتب فِيهِ من يحفظه من شجعان الرِّجَال وَيُقِيم بِهِ الشَّرِيعَة المحمدية على أحسن منوال ثمَّ قصد إِلَى تخت عزه مَكَّة الغراء شرفها الله تَعَالَى بِالْكَعْبَةِ الجليلة فَمر على بجيلة وَأمرهمْ بِالْتِزَام الشَّرِيعَة المحمدية فخالفوا أوَامِر الله وأوامره الْعلية فَقَاتلهُمْ إِلَى أَن طلبُوا الْعَفو وبذلوا الْأَمْوَال فأجابهم إِلَى ذَلِك وَأخذ مِنْهُم عدَّة من دروع الْحَدِيد العراض الطوَال يُقَال إِنَّهَا قريب من خَمْسَة آلَاف نَالَ مِنْهَا السَّادة الْأَشْرَاف وَجَمِيع من حضر من سَائِر الْأَطْرَاف وَصَارَ خراجها يحمل إِلَى حَضرته الشَّرِيفَة كل عَام على مر الدَّوَام وَهَذِه السّريَّة فى حكم السَّرَايَا الهاشمية إِلَى الْكفَّار من سَار فِيهَا فَلهُ أجر الْمُجَاهِد بِلَا إِنْكَار قلت ذكر الْعَلامَة الْجد جمال الدّين العصامي أَن هَذِه الْغُزَاة كَانَت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَذكر أَنه أرخها بِبَيْت كَامِل بديع هُوَ قَوْله
(صادَ الصناديدَ أعطَى المُلْكَ واجبَهُ ... حامي حِمَى بَلَدِ اللهِ الأمينُ حَسَنْ)
هَكَذَا ذكره بَيْتا مُفردا فَلم أدر أهوَ من قصيدة لَهُ أم من قِطْعَة وَهُوَ بَيت بطين الْمَعْنى رصين المبنى وَمن ذَلِك عزوة سوق الْخَمِيس وَيُسمى زهران يتَّصل بِهِ قرن ظَبْي والصفا والمخواة وجبل عَظِيم يُسمى مَلَس كَانَ من شَأْن هَذِه الْمَوَاضِع أَن سكانها لَا يورثون النِّسَاء جملَة كَافَّة خُصُوصا الْبِنْت الَّتِي منعهَا من أعظم سنَن الْجَاهِلِيَّة ومانعوها هم الْكفَّار شرعا وَمن عَادَتهم أَن يمنعوا كل من وصل إِلَيْهِم خُصُوصا العصاة لولاة الْأُمُور وَالَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ والفجور ثمَّ تكَرر مِنْهُم مَا ذكر من القبائح ونتصحهم مَوْلَانَا الشريف الْمشَار إِلَيْهِ وهددهم فَلم ينقادوا للناصح والنصائح فبرز أمره المطاع إِلَى أكبر أَوْلَاده الْكِرَام السَّيِّد الْحُسَيْن الْأسد الضرغام بدر التَّمام أَن يقصدهم فِي محالهم فَقَاتلهُمْ وَقتل أعظم رِجَالهمْ وَحَازَ نفائس أَمْوَالهم وفاز بأسر نِسَائِهِم وأطفالهم فَلَمَّا ملك الْبِلَاد والعباد وَوصل البشير بنصرته إِلَى وَالِده وجده خير وَالِد من خير أجداد برزت أوامره المطاعة أَن ينصب حَاكما شَرْعِيًّا وأميراً ليقيم نظام السّنة وَالْجَمَاعَة فتم ذَلِك على الأوضاع الشَّرْعِيَّة وَنقل خراجها إِلَى الخزائن الشَّرِيفَة الْعلية ثمَّ غزا معكال وَذَلِكَ أَنه بعد مُدَّة قريبَة برز مَوْلَانَا الشريف حسن إِلَى غَزْو معكال بأقصى الْبِلَاد الشرقية لأمور فَعَلُوهَا فِيهَا طعن على الدولة الإسلامية وحسبك السّنة النَّبَوِيَّة المبرورة الْفِتْنَة من هَهُنَا وَأَشَارَ إِلَى الْجِهَة الْمَذْكُورَة فَقَامَ مَوْلَانَا الْمشَار إِلَيْهِ فِي ذَلِك حماية لبيضة الْإِسْلَام خُصُوصا حجاج بَيت الله الْحَرَام وزوار جده مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فوصل دَارهم وَقَاتلهمْ فِيهَا احتقاراً بهم
(4/376)
________________________________________
وعساكر الْإِسْلَام الله تَعَالَى يحميها ويبلغها بسعده أقْصَى أمانيها فى جمع كَذَلِك يزِيدُونَ على خمسين ألفا وَطَالَ مقَامه فيهم حَتَّى استأصل أهل الدَّار رجَالًا وأمولا وكل من كَانَ إِلَيْهِم إلفاً فَتحدث أعداؤه المخذولون أَنه مَاتَ وَعَسْكَره انْكَسَرَ نَظِير مَا وَقع لجده
بِخَيْبَر فَلَمَّا وصل خبر ذَلِك لأهل سوق الْخَمِيس سَوَّلَ لَهُم عَدو الله أخوهم إِبْلِيس فَقتلُوا الْحَاكِم الشَّرْعِيّ والأمير الْمَذْكُورين شقاقاً مِنْهُم فِي الدَّاريْنِ فَلَمَّا عَاد مَوْلَانَا الشريف من الشرق سالما فِي النَّفس والأهل وَالْمَال غانماً ملك معكال وَمَا قرب مِنْهُ من سَائِر الْمحَال وَدخل مَكَّة على أجمل الْأَحْوَال ومشايخهم بَين يَدَيْهِ فِي الْحَدِيد والأغلال ثمَّ أَقَامُوا فِي ظلّ نعمه مُدَّة عَام كَامِل فطلبوا من فَضله وإحسانه الشَّامِل أَن يَكُونُوا خُدَّامه فِي مَحل سلطانهم وَأَن يحملوا إِلَيْهِ مَا يرضيه كل عَام من محصول أوطانهم فأجابهم إِلَى مطلوبهم وَأمر عَلَيْهِم مُحَمَّد بن عُثْمَان بن فضل حَيْثُ لم يبْق من بَيت سلطنتهم إِلَّا هَذَا النَّسْل ثمَّ عزم على غَزْو سوق الْخَمِيس لفعلهم الْمَذْكُور الخسيس فقصدهم بِنَفسِهِ الزكية افْتِتَاح سنة سبع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فَاجْتمع بسوحه من بادية مَكَّة المشرفة طوائف هُذَيْل وغَطَفَان وعدوان وَبني سعد وَمَا اتَّصل بهم من الْمُؤَلّفَة فَاجْتمعُوا بناديه الفسيح رحابه المنيع جَاره وأحزابه فَنظر إِلَيْهِم أَمِير دَار المضيف فَاسْتَكْثر مَا يجب لَهُم من المصاريف فَقَالَ على لسانهم لمولانا الشريف لَعَلَّ سَيِّدي يعجل بِالْمَسِيرِ فَإِن الْجَيْش كَبِير فَقَالَ لَهُ الشريف أجبهم عني بِأَنِّي أطْعم صَغِيرهمْ حَتَّى يشب وشابهم حَتَّى يشيب ثمَّ سَار بهم بعد مُدَّة فَلَمَّا وصل وَادِيهمْ وَنزل مخيمه الْمُعظم فِي ناديهم قَالَ لَهُم بعض عقلاء الرِّجَال اطْلُبُوا من مَوْلَانَا الصُّلْح فَأَجَابُوا جَوَاب أهل الْغرُور والهوس على سَبِيل التهكم اسألوا عَن الصُّلْح جبل ملس فَقبل تَمام القال صعدت الرِّجَال على الْجبَال وَعم الْقَتْل مُعظم الرِّجَال وَأسر
(4/378)
________________________________________
النِّسَاء والأطفال ثمَّ قبض على مائَة وَسبعين من أَشْرَافهم وكبلهم فِي الْحَدِيد فِي أَعْنَاقهم وأطرافهم فأحضروا لَهُ من الدروع وَالْأَمْوَال جملا كَثِيرَة لَا يحويها الْمقَام فَأخذ ذَلِك من جملَة الْغَنَائِم وَأقَام شَرِيعَة جده سيد العوالم ثمَّ عَاد إِلَى مَكَّة المشرفة فَدَخلَهَا فِي شهر رَمَضَان فِي موكب عَظِيم قد أَضَاء لم يسمع بِمثلِهِ فِيمَا مضى وَبَين يَدَيْهِ الْجَمَاعَات المقبوضون كل عشرَة فِي كبل حَدِيد وشيخهم مَعَ ولديه فِي الْحَدِيد رَاكب فِي حَال غير جميل ثمَّ أَمر بِذبح أَرْبَعَة عَن الْحَاكِم كَمَا ذبحوه وَذَلِكَ بِسوء مَا فَعَلُوهُ وَمن ذَلِك فِي عَام تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة سَار إِلَى نَاحيَة الشرق مرّة ثَانِيَة لمُخَالفَة وَقعت بَينهم متناهية فِي جَيش كثيف جرار ومدافع كبار تنسف الْجبَال وتفتح الْأَمْصَار فَفتح مدناً وحصوناً تعرف بالبديع والخرج والسلمية والإمامية ومواضع فِي شوامخ الْجبَال تزيد على مَا سبق بأمثال أَمْثَال فَقَوِيت شوكته وَعز سُلْطَانه وَتحقّق عِنْد ذَوي البصائر أَنه بعناية الله تَعَالَى كل حِين يَعْلُو شَأْنه ثمَّ عين من رؤسائه من ضَبطهَا على أُمُور التزمها وَشَرطهَا فَعَاد مؤيداً منصوراً وَعلم سعده منشوراً فَأخْبرهُ بعض عيونه الَّتِي يبثها فِي الْبِلَاد لتأتيه بأخبار الْعباد أَن جمَاعَة من شَوْكَة بني خَالِد تجمعُوا وتحزبوا وَمن طريقك ترصدوا وتقربوا فِي جمع من الشجعان والأبطال حَتَّى جرائد الْخَيل وكرائم الْجمال فتدارك مَوْلَانَا الْمشَار إِلَيْهِ من الحزم والعزم مَا أمكن وَقدم من قدم وَأخر من أخر وأكمن من أكمن فوافاه الْجَيْش الخالدي فَوجدَ مَوْلَانَا على غَايَة الحذر فتقابلا وتقاتلا فهرب الخالدي وانكسر فَقتل مَوْلَانَا أَكْثَرهم عددا وغنم خيلا وإبلا وعددا وَلم ينج مِنْهُم إِلَّا الهارب وَمن خيلهم ورجلهم وإبلهم إِلَّا الذَّاهِب وَهَذِه النُّصْرَة أعظم فِي صُدُور الْأَعْدَاء شَوْكَة ونكاية وَأَعْلَى منصباً وَأجل ولَايَة وَهَذِه الْمَذْكُورَات عُيُون غَزَوَاته الشهيرة وسواها كَثِيرَة كَبِيرَة ذكرما خوله الله من فصاحة اللِّسَان وبديع الْبَيَان فِي توقيعه بالبنان وَالْحكم
(4/379)
________________________________________
بِفضل الْخطاب والتوفيق للصَّوَاب فَمِنْهَا لفظ الْعِزَّة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فمولانا الْمشَار إِلَيْهِ وَجَمِيع سلفه الْكِرَام يتوجون بِهِ فِي توقيعاتهم الفخام وَلَا يخفى مَا فِي هَذِه اللَّفْظَة من جَوَامِع الْكَلم وَحسن الْأَدَب مَعَ ذى الْجلَال وَالْإِكْرَام وَالْعَظَمَة والإنعام وَالْإِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَإن العِزَّةَ للهِ جمَيعاً} النِّسَاء 139 المستوجبة لعزة كاتبها وقائلها وتواضعه مَعَ كَمَال شرفه فِي الذَّات وَالصِّفَات وَمن ذَلِك أَن جَمِيع توقيعاته يرقم فِيهَا بعد الْجَواب لفظ على الْوَجْه الشَّرْعِيّ والقانون الْمُحَرر المرعي وَهَذَا من خصوصيات مَوْلَانَا الشريف حسن الْمشَار إِلَيْهِ دَامَت رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَمن ذَلِك أَن جَمِيع مَا يرقمه من الْكَلِمَات وَلَو كثرت خَال من النقط بِحَيْثُ تتبع أهل الْخط أَكثر تحريرات مَوْلَانَا فَلم يَجدوا فِيهَا نقطة وَلَعَلَّ مُرَاده بذلك دفع الْمُمَاثلَة لخطه وَرفع المشاكلة حَتَّى يبعد عَن التزوير وَمن ذَلِك سَلَامَته من الحشو المخل والتطويل الممل وَمن ذَلِك أَن قَاضِيا من قُضَاة الْمَدِينَة الشَّرِيفَة عرض عَلَيْهِ مَكْتُوب وقف صَحِيح الْعبارَة بمحكمة الشَّرْع مضمونه أَن الْأَوْقَاف المشروحة بِهِ لَا تُؤخر إِلَّا بِشُرُوط مرعية ذكرت فِيهِ وَعين فِيهِ أموراً لَا تمكن الْإِحَاطَة بهَا إِلَّا بعد قِرَاءَة الْمَكْتُوب جَمِيعه وقراءته تحْتَاج إِلَى زمن طَوِيل فَلَمَّا وقف مَوْلَانَا الشريف حسن عَلَيْهِ قَالَ من أول نظرة هَذَا فرع من أصل يحْتَاج إِلَى اتِّصَال وَثُبُوت بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيّ فَعرض لَهُ القَاضِي الْمشَار إِلَيْهِ بِأَن مثل هَذَا يبعد تزويره وَأَن الْخصم فِي ذَلِك السَّيِّد مَانع أَمِير الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَهُوَ أميركم وَكَانَ مَوْلَانَا الشريف حسن مُتكئا فَاسْتَوَى جَالِسا ثمَّ اسْتقْبل الْقبْلَة وَقَالَ للْقَاضِي يَا مَوْلَانَا سَيِّدي ووالدي الشريف الْكَبِير أَبُو نمي لَيْسَ عِنْدِي على وَجه الأَرْض أحب مِنْهُ وَأكْرم وَمَعَ ذَلِك وَالله الْعَظِيم وَحقّ هَذِه الْكَعْبَة المدبجة لَو ارْتكب بَاطِلا مَا وافقته عَلَيْهِ فَإِن قُلْتُمْ ثَبت عِنْدِي هَذَا الْمَكْتُوب حكمت بِمُوجبِه على الْفَوْر فَعجب القَاضِي الْمَذْكُور من فرط ذكاء مَوْلَانَا وَسُرْعَة فهمه ومتانة ديانته وتحير مِنْهُ
(4/380)
________________________________________
واستحيا من قُوَّة مَعْرفَته بِالْمَقْصُودِ واستوائه جَالِسا ثمَّ ذكر وَالِده الْكَرِيم وَتَقْرِير محبته وطاعته لَهُ ثمَّ فسر بِعَدَمِ مُوَافَقَته على الْبَاطِل وَهَذَا من نور النُّبُوَّة بِلَا شكّ وَلَا ريب وَمن ذَلِك أَن جَمِيع مَا يرقمه للخاص وَالْعَام يبدؤه بِذكر الله تَعَالَى ويختمه بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَام على جده مُحَمَّد خير الْأَنَام ثمَّ يتبع ذَلِك بقوله حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل وَفِي ذَلِك مَا لَا يحد من الْخَيْر وَلَا يُحْصى وَلَا يحصر وَلَا يستقصى وَيَكْفِيك أَنه من أَفعَال الْعلمَاء العاملين والصلحاء الكاملين وَمن ذَلِك مَعْرفَته للعبارة التركية وَأكْثر اللُّغَة الفارسية وَغَيرهمَا من ألسن الْبَريَّة وَلكنه لَا يكْتب بذلك وَلَا يتَكَلَّم حذرا من غلطة لِسَان أَو سبق قلم فيستعمل الترجمان فِي الْكَلَام وَكَذَلِكَ فِي المكاتيب على الدَّوَام وَمن ذَلِك أَنه إِذا اشْتَكَى عَلَيْهِ صَاحب ظلامة أَو دَعْوَى يسمع شكواه جيمعا ثمَّ يتشاغل عَنهُ ثمَّ يستعيده مَا قَالَ فَإِن اخْتَلَّ كَلَامه اختلالاً فَاحِشا اسْتدلَّ على عدم صدقه وَأَقْبل عَلَيْهِ بِوَجْه يَلِيق بِهِ وَفِي هَذَا من الْكَمَال مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ وَهُوَ كَونه يحفظ الْقِصَّة مَعَ طولهَا من أول سَماع ثمَّ يستنبط من مُخَالفَة ألفاظها حكما بَالِغَة يقف بِسَبَبِهَا على حَقِيقَة أَمر صَاحبهَا وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا من إلهامات إلهية مستفاده من قَوْله
الْحَاكِم ينظر بِنور الله تَعَالَى ذكر كرمه وجوده وإنعامه على وفوده خُصُوصا الْعلمَاء والصلحاء والفقراء وَالشعرَاء فَمِنْهُ عِنْد زِيَارَة جده
وَذَلِكَ أَنه فِي أول عَام ولَايَته للأقطار الحجازية أخبر من يعْتَمد على نَقله أَن عطاياه للْعُلَمَاء وَالشعرَاء فَقَط كَانَت مَا يزِيد على ألفي دِينَار ذَهَبا جَدِيدا وَمِنْه وَهِي من عطاياه الشَّرِيفَة وتفرداته وأولياته المنيفة أَنه إِذا عقد نِكَاحا لنَفسِهِ أَو أَوْلَاده يطْلب أَعْلَام الْعلمَاء وأعيان الصلحاء تبركاً بحضرتهم واغتناماً لدعوتهم فَإِذا تمّ ذَلِك العقد أَمر بِكِتَابَة أَسمَاء الْحَاضِرين ثمَّ يعين لكل مِنْهُم شَيْئا
(4/381)
________________________________________
نَافِعًا من المَال مصلحاً للبال مَعَ تَمْيِيز أهل الْعلم وَالصَّلَاح والشرف وَالدّين والفلاح وَمن ذَلِك مَا أخبر بِهِ مَوْلَانَا الْعَالم الْعَامِل الْفَقِيه حَاتِم القَاضِي الشَّافِعِي بِنَاحِيَة صَبيا أَن فِي صحبته وصحبة غَيره عدَّة قصائد جَاءَ بهَا من الْيمن فِي مدح الشريف حسن وَأَنه أجَاز شعراء الْيمن مَعَ عدم حضورهم مَا يُجَاوز أَلفَيْنِ من الدَّنَانِير الذَّهَب الْجَدِيد وَأَن جَائِزَة كل شَاعِر يرسلها إِلَيْهِ مَعَ حَامِل قصيدته وَقَالَ هَذِه كَانَت عَادَته دَامَت سعادته وَذَلِكَ على الِاسْتِمْرَار مَعَ جَمِيع الشُّعَرَاء من سَائِر الأقطار وَمن ذَلِك مَا أخبر بِهِ بعض حَملَة الْقُرْآن الْعَظِيم المتشرفين بمدح جده الرَّسُول الْكَرِيم قَالَ حَضَرنَا بَين يَدي مَوْلَانَا الشريف حسن فِي صَبِيحَة لَيْلَة عرسه على بعض الشريفات المخدرات فِي جمع عَظِيم بِمَكَّة فقرأنا مَا تيَسّر من الْقُرْآن الْعَظِيم ثمَّ أنشدنا مَا يسره الله من المدائح الشَّرِيفَة فوصلت إِلَى مَوْلَانَا الشريف معشرة متوسطة مَمْلُوءَة من الذَّهَب الجلالي وَاحِد بِعشْرَة من قبل عمَّة السُّلْطَان جلال الدّين أكبر فَأمر بجميعها لأهل المديح الْمَذْكُورين مَعَ كَثْرَة مَا فِيهَا وَلم ينظر إِلَيْهَا إِلَّا نظر إحاطة لأجل الْمُكَافَأَة وَقَالَ هَذَا نصيب الْجَمَاعَة رفع الله ذَاته الشَّرِيفَة الفاخرة وَجمع لَهُ بَين خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن ذَلِك أَنه زار فِي بعض الأعوام قبر جده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ عَادَة سَادَاتنَا حماة الْحَرَمَيْنِ الشريفين لما وصلوا إِلَى الزِّيَارَة يتصدقون على جيران الحضرة النَّبَوِيَّة صَدَقَة خَاصَّة تشْتَمل على أَسمَاء الْعلمَاء والحكام والصلحاء والخدام وسكان الرَّبْط والأرامل والأيتام والعساكر السُّلْطَانِيَّة الخيالة والحصارية وخدام العمائر الخاقانية وخدام الْعين الزَّرْقَاء الروية وَلكُل اسْم قدر معِين من الأشرفية الْفضة كل أشرفي عشرَة محلقة فَأمر مَوْلَانَا الشريف حسن أَن يَجْعَل مَكَان كل أشرفي فضَّة دِينَار جَدِيد ذهب ثمَّ اتّفق لمولانا زِيَارَة ثَالِثَة صرف فِيهَا أَمْوَالًا جزيلة فِي وُجُوه مُتعَدِّدَة مِنْهَا أَنه أَمر بِالصَّدَقَةِ أَن توزع على عَادَتهَا الْقَدِيمَة فَلَمَّا صرف معظمها قَالَ لَهُ
(4/382)
________________________________________
السَّيِّد مُحَمَّد بن سعد نقيب الْأَشْرَاف بِالْمَدِينَةِ المنورة إِن فِي هَذَا الدفتر الْمُبَارك جمَاعَة كَانُوا صغَارًا فكبروا وبالعلم تقدمُوا وتصدروا فاستوجبوا من مَوْلَانَا كَمَال الْعِنَايَة ووافر الرِّعَايَة فَأجَاب جَوَابا شَامِلًا لأعلى مَرَاتِب الْفضل وَالْأَدب وَأجل مناصب السؤدد والحسب وَقَالَ إِن هَذَا الدفتر أمره لمولانا الْوَالِد الشريف أبي نمي فَيصْرف على حكمه من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان ثمَّ جدد دفتراً برسم زِيَادَة الْإِحْسَان لمن ذكرنَا عاليه من عُظَمَاء السَّادة ثمَّ أنعم على أهل الدفتر الْجَدِيد بأضعاف مَا هُوَ مُقَرر فِي الدفتر السَّابِق ثمَّ برز أمره الشريف بِأَن يعْطى لكل من وصل مَعَهم من الأتباع وَأَتْبَاع الأتباع عَطاء لائقاً بمقامه الخطير عَم الْقَرِيب والبعيد والأحرار وَالْعَبِيد وَالصَّغِير وَالْكَبِير ثمَّ تصدق صَدَقَة مخفية بعد أَن مضى ثلث اللَّيْل على العميان والمرضى وَالنِّسَاء والعاجزين من الزمنى والمقعدين قصدهم بذلك إِلَى أماكنهم قيل بِنَفسِهِ الشَّرِيفَة وَقيل مَعَ من يعْتَمد عَلَيْهِ وَمن حَسَنَاته الَّتِي تفرد بهَا أَنه كَانَ فِي كل زِيَارَة عِنْد مُنْصَرفه من بَاب الْحرم النَّبَوِيّ يَأْخُذ فِي يَده الشَّرِيفَة كيساً مملوءاً من الذَّهَب وَالْفِضَّة ثمَّ يجْتَمع عَلَيْهِ فُقَرَاء الحضرة النَّبَوِيَّة وأطفالهم لما هُوَ مُقَرر مَعْلُوم عِنْدهم من إحسانه فيلاطفهم عِنْد كل مَحل فسيح ثمَّ يَقُول أنثر عَلَيْكُم من هَذَا المَال فَإِذا قَالُوا نعم نثر عَلَيْهِم من ذَلِك جملَة فيزدحمون على أَخذ ذَلِك وَهُوَ ينظر إِلَيْهِم مَعَ كَمَال السرُور والفرح وَيسْتَمر على ذَلِك مرّة بعد أُخْرَى حَتَّى ينفذ جَمِيع مَا عِنْده وَاتفقَ لَهُ رَحمَه الله رَحْمَة وَاسِعَة فِي بعض زياراته المقبولة وَكَانَ يفعل مَا ذكر من نثر الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم فاستوقفته امْرَأَة تَشْكُو عَلَيْهِ حَالهَا فَوقف لَهَا والمطر نَازل عَلَيْهِ من غير حَائِل وَهِي آخذة بلجام فرسه مَعَ غَايَة الازدحام يَمِينا وَشمَالًا وخلفاً وأماماً فَلم يبرح حَتَّى انْتَهَت شكواها وَتركت لجام الْفرس باختيارها وهواها فَانْظُر إِلَى هَذَا الْمقَام أَيهَا النَّاظر بِعَين الْإِنْصَاف فَمَا أَجله من مقَام وَلَا غرو فَذَلِك نفح طيب سيد الْأَنَام عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام
(4/383)
________________________________________
وَمِمَّا مدح بِهِ مَوْلَانَا الشريف حسن مَا قَالَه الْعَلامَة الْفَاضِل الشَّيْخ نور الدّين عَليّ الشهير بالجم مُعَارضا لزائية الطَّيِّبِيّ وَعبد الرَّحْمَن الكثيري فَقَالَ // (من الْخَفِيف) //
(خطرَتْ فِي موشياتِ الخزوز ... وتثنَّتْ بأسمرٍ مهزوزِ)
(ونضَتْ من جفونها النعْسِ سَيْفا ... فأراقَتْ دمَ الفتَى المحروزِ)
(وأماطَتْ عَن العقيقِ فأبدَتْ ... بارقاً من وشاحِهَا الفيروزي)
(وتثنَّتْ فللحلي تناغٍ ... فِي قضيبٍ من خالصِ الإبريزِ)
(وَغدا طائرُ الجوانحِ مِنِّى ... بمديحِ المليكِ فى تغريدِ)
وَقَالَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن أبي كثير يمدحه // (من الْخَفِيف) //
(أَسْعِفِى الصَّبَّ باللقا والتلاقِى ... وانقذِيِهِ من القِلَى والتلافِى)
(وارحَمِى من يَد الهوَى أسلَمَتْهُ ... للتباريحِ مِنْ جوى وتجافِي)
(وَهْوَ وماضِى العيشِ مَا ساعَةٌ ... فِيهَا تناسى جدكم والمجونْ)
وَهَذِه السينية الْمُتَقَدّم ذكرهَا الفائح عطرها لمولانا السَّيِّد أَحْمد بن مَسْعُود بن حسن بن أبي نمي تغمده الله برحمته // (من الْخَفِيف) //
(حُثَّ قبل الصَّبَاحِ نجب كُئْوسى ... فَهْىَ تجْرِي مجْرَى الغِذَا فى النفوسِ)