الكتاب: الأبله – الجزء الأول
المؤلف: دوستويفسكي
المترجم: سامي الدروبي
الطبعة الأولى، 2010
الجزء الأول
الفصل الأول
في صباح من صباحات نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، في نحو الساعة التاسعة، أثناء ذوبان الجليد، كان قطار وارسو يقترب من بطرسبرج مسرعاً. الرطوبة والضباب يبلغان من الكثافة أن أشعة الشمس لا تكاد تنفذ إلى الأرض؛ فيصعب على راكب القطار، إذا هو نظر من النافذة يمنة أو يسرة، أن يميز أي شيء على مسافة عشر خطوات.
كان بعض الركاب عائدين من الخارج؛ غير أن حجرات الدرجة الثالثة، وهي الحجرات الأكثر ازدحاماً بالركاب، كانت ممتلئة بأناس من متوسطي الحال، يسافرون لقضاء أعمال، وليسوا قادمين من بعيد.
وكان الجميع مكدودين متعبين مرهقين طبعًا، قد أثقل النعاس أجفأنهم واصطبغت وجوههم بصفرة كصفرة الضباب.
إن في إحدى حجرات الدرجة الثالثة راكبين قد جلس أحدهما أمام الآخر قرب النافذة منذ الصباح. كلاهما شاب؛ وكلاهما يلفت وجهه الانتباه؛ وكلاهما لا يكاد يكون معه متاع؛ وكلاهما يرتدي ثياباً ليس فيها كبير تأنق. أن من يراهما يحس أنهما يرغبان في التحادث. ولو قد أمكنهما أن يعرفا ما في كل منهما من غرابة وتفرد، لأدهشتهما هذه المصادفة التي جمعتهما هذا الجمع العجيب في حجرة من الدرجة الثالثة بقطار «وارسو – بطرسبرج».
إن أحدهما، وهو شاب قصير القامة، أجعد الشعر، أسْودهُ تقريباً، يجب أن يكون في نحو السابعة والعشرين من العمر. عيناه شهباوان، صغيرتان، لكنهما تفيضان اشتعالاً واتقاداً؛ وأنفه عريض أفطس، ووجنتاه بارزتان؛ وعلى شفتيه الرقيقتين ترتسم دائماً ابتسامة غريبة، ابتسامة ساخرة، وقحة، تشبه أن تكون مبغضة حاقدة. غير أن جبيناً عالياً مستوياً يلطف من الشعور بالنفور الذي يحسّه المرء حين يرى أسفل وجهه، الثقيل الكريه. والشيء الذي يخطف البصر فيه خاصةً إنما هو شحوبه الذي يشبه شحوب جثة، وهو شحوب يضفي على هذا الرجل هيئة الإرهاق والإعياء مع أنه يبدو متين البنية، ويضفي عليه كذلك معني المكايدة التي تبلغ حل العذاب، رغم ابتسامته المتغطرسة الفظة، ونظرته العدوانية المتكبرة.
كان الرجل متدثراً بمعطف واسع أسود، مبطن بجلد خروف، فهو يشعر بدفءٍ كامل، لم يحسَّ ببرد الليل. ولا كذلك صاحبه الذي يجلس أمامه، فلا بد أن هذا قد ارتعش من شدة البرد وشدة الرطوبة في تلك الليلة من ليالي شهر نوفمبر الروسي. وهما برد ورطوبة كان واضحاً أنه لم يتهيأ لهما. إنه متلفف برداء سميك لا أكمام له، يعلوه غطاء للرأس، كالذي يلبسه المسافرون شتاء في بلاد غير روسيا، في سويسرا أو في شمال إيطاليا مثلاً. ولكن هذا الرداء لا يصلح حتماً لسفرة طويلة طول هذه المسافة بين آيدكونن وبطرسبرج. إنه يصلح جدا لإيطاليا، ولكنه لا يلائم المناخ الروسي.
هذا الرجل الثاني الذي يرتدي هذا الرداء هو أيضاً شاب في نحو السادسة والعشرين أو السابعة والعشرين من العمر. قامته أطول قليلاً من متوسط قامات الرجال؛ خدّاه خاسفتان؛ شعره كثيف أشقر؛ له لحية صغيرة مدببة تكاد تكون بيضاء اللون؛ عيناه واسعتان زرقاوان لهما نظرة ثابتة. أن في هذه النظرة شيئاً من رقة وعذوبة، ولكن فيها ثقلاً وتعبيراً غريباً، فإذا رآها خبير أدرك أن صاحبها رجل مريض بداء الصرع. ووجه الفتى بعد هذا محبَّب إلى القلب لطيف رقيق دقيق، ولكنه شاحب اللون، بل إنه في هذه اللحظة قد ازرقّ من شدة البرد.
إنه يحمل بيده اليمنى صرّة هزيلة للملابس، ملفوفة بمنديل عتيق حائل اللون، وكان هذا كل متاعه فيما يبدو. وكان لحذاءيه نعلان سميكان، وكانت تغطي أعلى ظاهر الحذاءين لبادتان؛ وذلك كله ليس مما يستعمل في روسيا كثيراً.
وقد لاحظ جارُه، الشاب الأسمر ذو المعطف، جميع هذه التفاصيل، تسريةً عن نفسه. ثم اقتحم الصمت أخيراً فبدأ يحدثه مبتسماً تلك الابتسامة الوقحة نفسها التي تعبّر في أكثر الأحيان عما يشعر به امرؤ غليظ القلب من تكبر فظ أمام مصائب الآخرين. قال له وهو يهز منكبيه:
– برد، هه؟
فأجاب الجار بطوية سليمة ونية صادقة (ليلاحظ القارئ أن الجليد كان يذوب):
– برد جداً، فكيف يكون البرد أثناء الجليد؟ لم أكن أتخيل أن البرد يبلغ هذا المبلغ من الشدة في بلادنا. لقد فقدت عادة احتمال مثل هذا البرد.
– لا شك أنك آت من الخارج، أليس كذلك؟
– نعم، من سويسرا!
صاح الفتى الأسمر وهو يطلق صفرة ويضحك ضحكة كبيرة:
– ها.. إنها مسافة!
ودار الحديث. فكان الشاب الأشقر الذي يرتدي الرداء السويسري يجيب بنية طيبة وطوية سليمة عن جميع الأسئلة التي يلقيها عليه محدّثه، دون أن يلاحظ ما في بعضها من تزيد وتندر بل ومن وقاحة. فروى فيما رواه أنه قضى في الخارج أكثر من أربع سنين، فقد أرسل إلى هناك ليعالج من مرض عصبي غريب، هو نوع من الصرع، أو من داء «رقص سان جي»، مع ارتعاشات وتشنجات. وقد أثارت قصته تبسُّم جاره مراراً، حتى لقد أخذ جاره يضحك مقهقهاً حين سأله: «وهل شفوك؟» فأجاب: «لا، لم يشفوني!».
وأضاف الأسمر يقول مستهزئاً متهكماً:
– إيه... ما أكثر المال الذي لا بد أنك أنفقته هنالك سدىً في غير طائل! وما أجهلنا هنا إذ نوليهم تلك الثقة كلها
فهتف رجل كان جالساً قربهما:
– هذه هي الحقيقة!
إن الرجل يبدو في نحو الأربعين من عمره، ويرتدي ملابس رديئة، ويدل مظهره على أنه موظف. إنه قوي الجسم متين البنية، له أنف أحمر يتوسط وجهاً ذا بثور.
كرر الرجل يقول:
– هذه هي الحقيقة، وهم يجتذبون إلى بلادهم جميع أموالنا الروسية!
قاطعه الفتى المريض بصوت رقيق عذب فيه روح الملاينة والمصالحة:
– لا، أنت مخطئ، في ما يتعلق بي أنا على الأقل. لست أستطيع أن أناقش، لأنني لا أعرف كل ما يجري. ولكنني أقول، فيما يتصل بي، أن طبيبي قد دفع نفقات سفري من آخر ما يملك من قروش، بعد أن ظل يعالجني بالمجان سنتين.
قال الأسمر:
– عجيب! ألم يكن هناك إذاً من يستطيع أن يدفع عنك نفقات علاجك؟
– لم يكن هناك أحد! أن السيد بافلتشيف الذي كان يهتم بأمري قد مات منذ سنين. فكتبتُ عندئذ إلى الجنرالة أيبانتشين، وهي سيدة تمت إليّ بقرابة بعيدة، ولكني لم أتلق أي جواب. فهأناذا أرجع أخيراً!
– وإلى أين تنوي أن تذهب؟
– تعني أين أريد أن أنزل؟... والله... لا أدري بعد!...
– لم تقرر بعد؟
وانفجر المستمعان كلاهما يقهقهان. وسأل الأسمر:
– وهذه الصرة الصغيرة تضم كل ما تملكه حتماً، أليس كذلك؟
فقال الموظف الأحمر الأنف مزاوداً، راضياً عن نفسه كل الرضي، مزهواً بها كل الزهو:
– أراهن على أن الأمر كذلك! وعلى أنك ليس لك شيء آخر بين الأمتعة والحقائب. على كل حال: ليس الفقر عيباً!
وصدق هذا القول أيضاً، فإن الشاب الأشقر بادر يؤيده بسرعة شديدة ولهفة كبيرة!
وتابع الموظف كلامه بعد أن ضحك الاثنان ما شاء لهما السكر أن يضحكا (الغريب في الأمر أن صاحب الصرّة قد ضحك أيضاً وهو ينظر إليهما، فزاد ذلك ضحكهما قوة):
– أن لصرتك مع ذلك دلالة. صحيح أن المرء يستطيع أن يراهن على أنها لا تضم لفَّات دنانير ذهبية، دنانير نابوليون أو فردريك أو حتى دنانير هولندية، رغم أن المرء يكفيه أن يرى لبادتي حذاءيك المصنوعتين في الخارج حتى يدور في خلده ذلك... ولكن إذا أضفنا إلى متاعك القليل هذا احتمال أن يكون لك قريبة مثل الجنرالة أيبانشتين، فإن صرّتك يصبح لها عندئذ شأن كبير وقيمة عظيمة، هذا إذا صحَّ أن الجنرالة أيبانتشين قريبتك حقاً، وأنك لا تخطئ في هذا الأمر، ولو من قبيل السهو والنسيان... وذلك يحدث في كثير من الأحيان... بسبب سعة الخيال مثلاً! ...
هتف الفتى الأشقر يقول:
– هنا أيضاً أنت على صواب! إنني مخطئ تقريباً. فالجنرالة لا تكاد تمت إليّ بقربى، حتى إنني لم أدهش البتة حين لم تبعث إليّ، بجواب. لقد كنت أتوقع ذلك.
– بدَّدت مالاً لإرسال رسالتك، هِمْ!... على الأقل لا يستطيع المرء أن يأخذ عليك أنك قليل البراءة والصدق. هذه صفات محمودة! هِمْ!... أما الجنرال أيبانتشين فنحن نعرفه، لأنه في الواقع رجل يعرفه الناس كافة. أما المرحوم السيد بافلتشيف، الذي كان يعولك في سويسرا، فقد عرفناه أيضاً، هذا إذا كان هو نيقولا آندريفتش بافلتشيف حقاً، لأن الرجلين قريبان يحملان اسماً واحداً. فأما أحدهما فما يزال يعيش في القرم، وأما المرحوم نيقولا آندريفتش، المتوفى، فقد كان رجلا محترما له علاقات رفيعة وصلات عالية، وكان يملك في زمانه أربعة آلاف نفس... نعم...
أجاب الشاب وهو يتفرس في السيد الذي يبدو عليه أنه يعرف كل شيء، أجاب وهو يتفرس فيه بنظرة طويلة متفحصة:
– هو ذاك! كان اسمه نيقولا آندريفتش حقاً.
إن هؤلاء السادة «العالمين بكل شيء» يصادفون في بعض الأحيان بل قل في كثير من الأحيان بين صفوف طبقة اجتماعية معينة. أنهم يعرفون كل شيء، لأن فضولهم اليقظ وملكاتهم العقلية تلتقي جميعاً في اتجاه واحد، لخلو بالهم طبعا من اهتمامات حيوية ومشاغل جدية أخطر شأناً، كما قد يقول مفكر معاصر. على أننا حين نقول: «أنهم يعرفون كل شيء» يجب أن نفهم من ذلك أن ميدان علمهم محدود، وأن ساحة معرفتهم ضيقة. فإن علمهم يكاد يقتصر على أمور كالتالية: أين يعمل الموظف الكبير فلان، وما هي علاقاته، وما مقدار ثروته، وما هي المقاطعة التي كان حاكماً فيها، ومن هي المرأة التي تزوجها، وكم كان المهر الذي ناله من زوجته، ومن هو ابن عمه، ومن هو قريبه من الدرجة الثالثة، إلخ إلخ، وهم يعرفون ذلك كله معرفة مناسبة. وهؤلاء السادة «العالمون بكل شيء» هم في أكثر الأحيان أناس صعاليك يسيرون بأكمام مثقوبة أكواعها، ولا تتجاوز رواتبهم سبعة عشر روبلاً في الشهر، والناس الذين يعرف هؤلاء كل شيء عنهم لا يستطيعون حتى أن يتخيلوا الدوافع التي تحضهم على التماس هذه المعارف وجمع هذه المعلومات. ولكن كثيراً من هؤلاء «العالمين بكل شيء» تغريهم معارفهم هذه إغراء كبيراً، وهم يستمدون من هذه المعارف التي تساوي في نظرهم علماً حقيقياً، يستمدون منها احتراماً لأنفسهم، ويستمدون منها متعاً روحية عظيمة، وارتياحا فكريا كبيرا. ثم أن لهذه المعرفة جوانبها المغرية الجذابة. لقد عرفت علماء وأدباء وشعراء وسياسيين وصلوا بفضل هذه المعرفة إلى أهداف عالية وبلغوا غايات رفيعة، ووجدوا بواسطتها سكينة الروح وطمأنينة النفس، حتى أنهم مدينون لهذه المعرفة بما نالوا من مراكز في مجال عملهم.
لم ينقطع الأسمر عن التثاؤب طوال مدة هذا الحوار. وكانت نظرته لا تبرح تطوف بالأفق من خلال النافذة، وكان واضحاً أنه يستعجل الوصول. كان يبدو ساهماً على نحو غريب، يكاد يكون قلقاً مهموماً مغموماً، حتى أصبح سلوكه من ذلك غريباً شاذاً، فهو تارة يصغي ولا يسمع، وتارة ينظر ولا يرى، ثم ينفجر ضاحكاً حتى دون أن يعرف لماذا هو يضحك.
وفجأة قال السيد ذو البثور يسأل الشاب الأشقر حامل الصرّة:
– بالمناسبة.. هل يمكنني أن أعرف من هو السيد الذي أتشرف بمخاطبته الآن؟ ...
فأجاب الشاب الأشقر فوراً، بسلامة نية:
– أنا الأمير ليون نيقولايفتش ميشكين.
قال الموظف مفكراً حالماً:
– الأمير ميشكين، ليون نيقولايفتش ميشكين؟ لا أعرفه.. لم أسمع به يوماً. لا أقصد أنني لم أسمع بهذا الاسم، فهو اسم تاريخي ، وفي وسع المرء، بل لا بد له، أن يجده في كتاب التاريخ الذي ألفه كارامازين . لا، وإنما أنا أقصد شخصك. وإني لأعتقد من جهة أخرى أن المرء لا يصادف اليوم في أي مكان أحداً من أسرة الأمراء ميشكين، حتى أن ذكراهم قد انطفأت.
فعقب الأمير يقول بسرعة:
– طبعاً، طبعاً! لا يوجد الآن أي أمير بهذا الاسم، إلا أنا، لا بد أنني آخر رجل في السلالة. أما أسلافنا فكانوا من صغار مالكي الأطيان الذين يزرعون أرضهم بأنفسهم. والحق أن أبي قد خدم في الجيش برتبة ملازم ثان بعد أن تخرج من المدرسة الحربية. ومن المصادفات أن الجنرالة أيبانتشين منحدرة هي أيضاً من سلالة الأمراء ميشكين، لا أدري كيف! فهي الأخيرة من نوعها أيضا. صاح الموظف يقول مقهقهاً:
– هيء هيء هيء! الأخيرة من نوعها! هيء هيء هيء! أن لك طريقة بارعة في اللعب بالألفاظ.
وابتسم الأسمر هو أيضاً. أما الأشقر فقد بدا عليه شيء من الدهشة لأنه أفلح في أن يلعب بالألفاظ هذا اللعب، على رداءته.
وقال شارحًا:
– تصور أنني قلت ما قلت حتى دون تفكير فيه!
فأجابه الموظف مرحاً:
– طبعاً طبعاً، لاحظنا ذلك!
وسأله الأسمر فجأة:
– قل لي يا أمير: لا شك أنك طلبت العلم هناك عند أستاذك، أليس كذلك؟
– نعم ...
– أما أنا فلم أطلب العلم يوما...
فأضاف الأمير قائلاً كأنما ليعتذر:
– على كل حال، أنا لم أحصّل من العلم إلا شذرات أو فتاتاً، فقد كانوا يعدونني غير مؤهل لمتابعة دراسة منتظمة، بسبب حالتي الصحية!
سأله الأسمر بغتة:
– هل تعرف آل روجويين؟
– لا، لا أعرفهم. على كل حال، أنا لا أعرف إلا قلة من الناس في روسيا. هل آنتا روجويين؟
– نعم، أنا روجويين، بارفيون روجويين.
تدخل الموظف يسأل مهتماً اهتماماً كبيراً:
– بارفيون؟ انتظر... ألست واحداً من آل روجويين الذين...
فقاطعه الأسمر مفاجئاً:
– نعم، أنا واحد منهم، واحد منهم هم أنفسهم.
لم يكن الأسمر قد كلمه حتى ذلك الحين، وإنما كان يقتصر على مخاطبة الأمير.
أجاب الموظف مذهولاً محملقاً:
– ولكن... هل هذا ممكن؟
وسرعان ما اكتسى وجهه تعبيراً يفيض بالاحترام بل وبالقلق والخوف، وتابع كلامه يقول:
– ألست قريب سيمون بارفيونوفتش روجويين ذال البورجوازي الفخري الوراثي الذي توفي مخلفاً ثروة قدرها مليونان ونصف مليون؟
أجابه روجويين مستخفاً، حتى دون أن يتنازل فيشرّفه بإلقاء نظرة عليه:
– من أين تعرف أنه خلف ثروة قدرها مليونان ونصف مليون؟
ثم تابع كلامه وهو يغمز الأمير:
– عجيب أمر هؤلاء الناس! إني لأتساءل ما هذا الذي يصيبهم فإذا هم يسرعون يحومون حولك؟ لقد مات أبي منذ مدة قصيرة حقاً. وأنا واصل من بسكوف متأخراً شهراً. انظر كيف أعود إلى المنزل فقيراً معدماً أكاد أكون حافي القدمين. أن أخي، ذلك الوغد الفاجر، وكذلك أمي، لم يرسلا إليّ مالًا، ولا أبلغاني النبأ! لكأنني في اعتبارهما كلب من الكلاب! لقد بقيت طريح الفراش في بسكوف شهراً أعاني من الحمي الحارة!
صاح الموظف رافعاً يديه إلى السماء:
– والآن ستقبض مليوناً أو أكثر، دفعةً واحدة! يا رب السماء!
قال روجويين وهو يحرك يده بحركة تنم عن العصبية والغضب:
– ولكن ما شأنه هو وهذا؟ هلّا قلت لي، أرجوك! أنت تعلم أنني لن أعطيك قرشاً واحداً ولو مشيت أمامي على يديك!
– سأفعل ذلك، سأمشي على يدي، ما رأيك؟
– انظر إلى هذا الرجل؟ قلت لك: إنني لن أعطيك شيئاً، لن أعطيك شيئاً البتة، ولو لبثت ترقص أمامي أسبوعاً بكامله!
– لك ما تشاء! لا تعطني شيئاً، فأنا لا أستحق أن تعطيني شيئاً. لكن هذا لا يمنعني من أن أرقص لك. سأترك زوجتي، وأولادي الصغار، لأجيء أرقص أمامك، في سبيل ملاطفة، في سبيل ملاطفة ...
– قال الأسمر وهو يبصق اشمئزازاً:
– ليأخذك الشيطان!
ثم أضاف يقول مخاطباً الأمير:
– منذ خمسة أسابيع، كنت مثلك، تركت أبي وأنا لا أكاد أحمل إلا صرّة صغيرة. وهربت عند عمة لي بمدينة بسكوف. وهناك مرضت، ومات هو أثناء ذلك! غلبته المنية! رحمة الله على ترابه! ولكن يجب أن أقول لك: إنه أوشك أن يقتلني! صدقني يا أمير، أحلف لك. فلولا أنني هربت لقتلني حتماً!
قال الأمير في لطف وهو يتفحص بكثير من الفضول هذا المليونير الذي يرتدي ذلك المعطف الفقير:
– لا بد أنك أغضبته، أليس كذلك؟
رغم أن هذا الميراث وهذا المليون جديران بالاهتمام، فإن شيئاً آخر هو الذي أثار دهشة الأمير واهتمامه. وكان روجويين، من جهته، يبدو متلذذاً أكبر التلذذ بمحادثة الأمير. ومع ذلك يشعر المرء أنه كان يتكلم إرضاء لحاجة آلية أكثر مما كان يتكلم تلبية لضرورة داخلية. كان يتكلم تسرية عن نفسه لا تعاطفاً مع غيره؛ كان يدفعه إلى الكلام نوع من القلق، نوع من الغم؛ كان يتكلم ليوجّه نظره إلى شخص، وليحرّك لسانه. لكأنه ما يزال تحت سيطرة الحمى، بل والهذيان. أما الموظف فكان معلقاً بشفتي روجويين، أسيراً لهما، لا يجرؤ أن يحوّل عنهما انتباهه لحظة واحدة. كان يتلقف ويزن كل كلمة من كلماته كأنها من ألماس.
أجاب روجويين عن سؤال الأمير فقال:
– أما أنه غضب فقد غضب. والحق أنه لم يكن على خطأ. ولكن المذنب الأكبر في الأمر كله إنما هو أخي. ولست أقول شيئاً عن أمي، فهي امرأة عجوز، عاكفة على قراءة حياة القديسين، غارقة فيها. وهي تقضي النهار كله في صحبة نساء عجائز، وأخي سيمون هو المسيطر على المنزل، المتحكم فيه، المستبد به. لماذا لم يبلغوني النبأ، هه؟ الأمر مفهوم! صحيح أنني كنت عندئذ فاقداً وعيي. وهم يزعمون أيضاً أنهم أرسلوا إليّ برقية. ولكن البرقية وصلت إلى عمتي. وعمتي التي ترمّلت منذ ثلاثين عاماً تقضي وقتها كله، من الصباح إلى المساء، في صحبة نساء معتوهات. ليست عمتي امرأة مترهبة، ليست امرأة ممن يسمين مترهبات، بل هي شر من ذلك. فحين رأت البرقية أصابها ذعر، فحملتها إلى الشرطة دون أن تفضها، فلبثت البرقية عند الشرطة إلى هذا الحين. كونيف فاسيلي فاسيلفتش وحده ساعدني، فكتب إليّ كل شيء. أما أخي فإنه لم يجد ما هو خير من قضاء الليل يقص شراشيب الذهب من غطاء البروكار الذي يغطي تابوت أبي، بحجة أن لهذه الشراشيب «القيمة كبيرة». هل تعلم أن في وسعي أن أرسله إلى سيبيريا إذا شئت، لأن هذا العمل خرق للمقدسات!
قال الشاب الأسمر ذلك ثم التفت نحو الموظف، فأضاف:
– نعم، هذا في عرف القانون خرق للمقدسات حقا، يا فزاعة العصافير في الحقول!
فأسرع الموظف يصيح قائلاً:
– هو خرق للمقدسات طبعا، خرق للمقدسات طبعا!
– وهو يستحق النفى إلى سيبيريا، هه؟
– إلى سيبيريا، إلى سيبيريا، إلى سيبيريا رأساً!
قال روجويين يخاطب الأمير:
– هم جميعاً يظنون أنني ما زلت مريضاً، ولكني، دون أن أقول كلمة لأحد، ودون أن أطلع أحداً على شيء، ركبت القطار رغم أنني ما زلت عليلاً، وجئت أفاجئهم! سيكون عليك أن تفتح الأبواب يا أخي العزيز سيمون سيميونوفتش! أنا أعلم جيداً أنه كان يثير أبي المرحوم عليّ، ويحقنه ضدّي! يجب أن أعترف الآن بأنني قد أغضبت أبي فعلا بحكاية ناستاسيا فيليبوفنا تلك، هذا صحيح. في ذلك أنا وحدي مخطئ. لقد أغواني الشيطان الرجيم!
ردَّد الموظف قول صاحبه محاولاً أن يستجمع ذكرياته:
– حكاية ناستاسيا فيليبوفنا؟
فصرخ روجويين في وجهه غاضباً:
– لا تعرفها حتمًا!
فأجاب الموظف وقد لاح في وجهه معنى الانتصار:
– بل ربما كنت أعرفها!
– دعك من هذا الكلام! في العالم نساء كثيرات باسم ناستاسيا فيليبوفنا! أما أنت فإنك وغد وقح وقاحة فظيعة. هذه هي الحقيقة أقولها لك.
ثم أضاف يخاطب الأمير:
– آ... كنت أعرف ذلك سلفاً، كنت أعرف سلفاً أنني لن أستطيع التملص من أشخاص من هذا النوع!
أسرع الموظف يكرر قوله:
– جائز جداً أنني أعرفها. أن ليبديف يعرف أشياء كثيرة. أنت يا صاحب السمو تتنازل فتوجه إليّ اللوم، فما عساك فاعلاً إذا أنا استطعت أن أبرهن لك على أن ما أقوله هو الحقيقة؟ اسمع إذاً: أن ناستاسيا فيليبوفنا هذه التي أراد أبوك، في شأنها، أن يقنعك بالعصا، إنما تسمى بارشكوفا. ويمكن أن يقال عنها: إنها سيدة ذات مزايا، وإنها في نوعها، هي أيضاً، أميرة. ذلك أولاً. أما ثانياً فإن لها علاقة برجل اسمه توتسكي، آتانازي إيفانوفتش توتسكي، وليس لها علاقة بأحد غيره. وهو رجل من كبار الملّاكين، وهو رأسمالي ضخم يدير عدة شركات؛ وتربطه بالجنرال أيبانتشين صداقة قوية..
ذهل روجويين فصاح يقول مبهوتاً:
– عجيب! يبدو عليك أنك عالم بكل شيء حقاً! شيطان يأخذك! إنه يعرفها، إنه يعرف كل شيء!
كل شيء! ليبديف يعرف كل شيء! يجب أن أقول لك: يا صاحب السمو أنني في الآونة الأخيرة قد ظللت شهرين كاملين أطوف في كل مكان مع ليخاتشوف، الفتى ألكسي ليخاتشوف. هو أيضا كان قد فقد أباه. وإذ إنني أعرف جميع الأركان والزوايا، فقد أصبح لا يستطيع أن يخطو خطوة دون أن يصحبه ليبديف. إنه الآن في السجن بسبب ديون تراكمت عليه. ولكنه أثناء طوافنا ذاك قد أتيح له أن يعرف آرمانس، وأن يعرف كورالي ، وأن يعرف الأميرة باتزكي، وناستاسيا فيليبوفنا، وغيرهن كثير.
سأله روجويين وهو ينظر إليه نظرة شريرة، وقد اصفرت شفتاه وأخذتا ترتجفان:
– ناستاسيا فيليبوفنا؟ ما شأنها وليخاتشوف؟
أسرع ليبديف يجيب:
– لا شيء! لا شيء البتة! لا شيء إطلاقاً! لم يستطع ليخاتشوف أن يحظى منها بشيء في يوم من الأيام، رغم أمواله كلها. لا، إنها ليست مثل آرمانس، هي لا علاقة لها إلا بصاحبها توتسكي. وقد تري مساء في شرفتها بالمسرح، «المسرح الكبير» أو «المسرح الفرنسي». ومهما يثرثر الضباط عنها، فأنهم عاجزون عن أن يبرهنوا على أي شيء. هم يقولون: «ها هي ذي! انظر إليها، ناستاسيا فيليبوفنا الشهيرة تلك!»، ولكن ذلك هو كل ما يستطيعون أن يقولوه، ولا كلمة عداه، إذ ليس ثمة شيء!
قال روجويين مؤيداً، وقد اربد وجهه وانقبضت أساريره:
– هذه هي الحقيقة. وقد روي لي زاليوجيف هذا الشي ء نفسه في حينه. في ذات يوم من تلك الأيام، كنت أقطع شارع نفسكي راكضاً؛ وكنت أرتدي معطفاً قديماً لأبي، أرتديه منذ ثلاث سنين، فإذا أنا أراها تخرج من أحد المخازن فتركب عربتها. شعرت بنار تشبّ في جسمي فتحرق أحشائي حرقّا. وصادفت عندئذٍ زاليوجيف. أن زاليوجيف ليس مثلي. كان يتنزه في الشارع متأنقاً تأنق صبي حلاق، واضعاً على إحدى عينيه نظارة. أما نحن في منزل أبينا فإننا ننتعل أحذية مرقعة، ونأكل حساء كرنب. قال لي زاليوجيف: «ليست هذه المرأة لأمثالك. إنها أميرة . اسمها فيليبوفنا باراخشوفا. تعيش مع توتسكي. لا يعرف. هذا المسكين توتسكي كيف يتخلص منها. لقد تقدم في السن. بلغ الخامسة والخمسين. يريد أن يتزوج أجمل امرأة ببطرسبرج!». ثم أخذ زاليوجيف يغرس في ذهني أنني أستطيع أن أرى ناستاسيا فيليبوفنا مرةً أخرى، ذلك المساء نفسه، في شرفتها في «المسرح الكبير» الذي يعرض الليلة مسرحية باليه. هه! حاول في بيت أبينا أن تذهب إلى الباليه: لو خطر ببالك شيء من هذا لكانت عقوبتك عقوبة واحدة هي القتل! مع ذلك استطعت أن أهرب لمدة ساعة. فرأيت ناستاسيا فيليبوفنا مرة أخرى، ثم بتُّ ليلتي مسهّداً لا يعرف النوم إلى جفني سبيلا. وفي صباح اليوم التالي أعطاني المرحوم أبي سندين ماليين قيمة كل منهما خمسة آلاف روبل قائلا لي: «امض بِعْهما، ثم اذهب بعد ذلك إلى مكتب آندرييف لسداد حساب مقداره سبعة آلاف وخمسمائة روبل. أما الباقي فأعده إليّ دون أن تتسكع في الطريق. سأبقى في الدار أنتظرك». بعت السندين، وقبضت المال، ولكنني لم أذهب إلى آندرييف، وإنما أسرعت أمضي قُدُما إلى «المخزن الإنجليزي»، فاخترت قرطين للأذنين تزينهما ماستان يبلغ حجم كل منهما حجم بندقة. أنفقت في ثمنهما العشرة آلاف روبل، حتى لقد احتجت إلى أربعمائة روبل مرة أخرى، ولكن حين ذكرت اسمي أولاني التاجر ثقته. وحملت القرطين، وذهبت إلى زاليوجيف فقلت له: «والان فلنذهب إلى ناستاسيا فيليبوفنا يا صاحبي!». وسرنا في الطريق. أصبحت لا أشعر بالأرض تحت قدميّ، وكنت لا أرى شيئاً مما يجري أمامي ولا حولي! ودخلنا إلى الصالون رأساً! ها هي ذي تصل! لكنني لم أجرؤ في تلك اللحظة أن أقدّم نفسي. أن زاليوجيف هو الذي أعلن لها قائلاً: «هذه هداية من بارفيون روجويين، ذكرى للقاء الأمس، أرجو أن تتلطفي فتقبليها». فتحت ناستاسيا العلبة، وأنعمت النظر في القرطين، ثم قالت مبتسمة: «أشكر عني لصديقك السيد روجويين لفتته اللطيفة». ثم حيّتنا وخرجت. ليتني مت في مكاني ذلك اليوم! والحق أنني ذهبت إلى هناك مقدَّراً أنني لن أرجع حياً. وإنما أغاظني خاصة أن ذلك الحيوان زاليوجيف قد نسب الفضل لنفسه في الأمر كله. كنت أنا بقامتي الضئيلة وملابسي التي تشبه ملابس الخدم واقفاً هنالك محَملق العينين مدمّر النفس خجلاً. أما هو فكان يرتدي ملابس على أحدث زي، وكان متطيباً بالعطر، مجعداً شعره، وكان زاهي اللون مشرق الوجه، وقد عقد على عنقه ربطة ذات مربعات، وكان لا ينفك يهز عطفيه رقة، ويحنى ظهره احتراماً. لا شك أنها اعتقدت أنه هو صاحب الهدية وقد قلت له غاضباً حين خرجنا: «أنصحك بأن لا تفكر فيها، مفهوم؟». فقال: «وددت لو أعرف كيف ستسدد حساب سيمون بارفيونتش!». والحق أنني كنت في تلك اللحظة احترق رغبةً في إلقاء نفسي بالماء بدلاً من العودة إلى الدار. ثم قلت لنفسي: «لا، ليس للأمر أي خطورة في الواقع!». ورجعت إلى الدار كالداخل إلى النار.
دمدم ليبديف يقول وهو يلوي يديه خوفاً ويرتعش من مجرد تصور الأمر:
– الله الله... كان يتفق للمرحوم أن يرسل رجلاً من الرجال إلى العالم الآخر بسبب عشرة روبلات... فما بالك بعشرة آلاف روبل؟
قال ليبديف جملته الأخيرة هذه متجهاً بالكلام إلى الأمير.
وكان الأمير يتفرس مستطلعاً في روجويين الذي بدا في تلك اللحظة شاحباً شحوباً أشد
قال روجويين:
– العالم الآخر؟ ماذا تعلم أنت عن هذا؟
والتفت نحو الأمير يستأنف سرد قصته عليه فقال:
– لم يلبث أبي أن عرف كل شيء طبعاً. لقد أخذ زاليوجيف يروي القصة لكل من يريد أن يسمعها. أصعدني أبي إلى غرفة، وحبس نفسه معي فيها، وأخذ يؤدبني خلال ساعة كاملة. وكان يقول: «ما هذا إلا لقمة أولى لتذوق الطعم، ولكني سأعود في هذا المساء، لأهيئ لك ليلة سعيدة ونوماً مناسباً!». هل تعلم ماذا فعل بعد ذلك؟ ذهب إلى ناستاسيا فيليبوفنا بنفسه، هو الشيخ الشائب، فانحنى لها محيياً حتى بلغ بانحنائه الأرض، وأخذ يضرع إليها ويبكي. فإذا هي ترمي العلبة في وجهه آخر الأمر قائلة له: «إليك القرطين فخذهما يا لحية عتيقة! لقد أصبحا أثمن في نظري عشر مرات بعد أن عرفت أن بارفيون حصل عليهما بمجازفة خطيرة كهذه المجازفة! أبلغ بارفيون تحيتي وشكري!».
«واقترضت بعد ذلك عشرين روبلاً من سرجي بروتوشين، وركبت القطار متجهاً إلى بسكوف بموافقة أمي ومباركتها. فما وصلت إلى بسكوف حتى كنت أرتعد من الحمى. وأسرعت العجائز تعالجني وتداويني بتلاوة صفحات من حياة القديسين. فكنت مصعوقاً مبهوتاً. ثم خرجت أطوف بالكاباريهات، وأنفق فيها آخر ما بقي لي من قروش. وقضيت الليلة كلها في الشارع، منهاراً أكاد أموت من فرط السكْر. حتى إذا طلع الصباح كنت أهذي. ومما زاد الطين بلة أن الكلاب تعرّضت لي في أثناء الليل وراحت تعضني وتنهشني في كل موضع من جسمي. ولم أسترد صحوي إلا بعد كثير من العناء.
قال ليبديف وهو يضحك ساخراً، ويفرك يديه إحداهما بالأخرى:
– هيء هيء! بعد اليوم سنسمعها تغني، ناستاسيا فيليبوفنا هذه. ليست المسألة الآن مسألة قرطين يهديان إليها، فلسوف تُغمر بعد هذه الساعة بهدايا تبلغ من الكثرة أنها...
فزأر روجويين يقول وهو يمسك ليبديف من ذراعه بوحشية:
– يميناً... لو قلت كلمة واحدة عن ناستاسيا فيليبوفنا، فلأرسلنّ إليك لكمات كتلك اللكمات المتلاحقة التي... مهما تكن قد تجولت مع ليخاتشوف، فإن ذلك لا يمنعني من أن أسلخ جلدك ضربا بالسياط. – إذا جلدتني بالسوط كان ذلك دليلاً على أن في نيّتك أن تحتفظ بي قريباً منك. فاجلدني إذن! إنك إذ تجلدني تدع عليّ طابعك. هه! ها نحن وصلنا!
كان القطار يدخل المحطة فعلاً. ورغم أن روجويين قد زعم أنه غادر بسكوف خفيةً دون أن يذكر ذلك لأحد، فقد كان ينتظره في المحطة عدد من الأشخاص أخذوا يصيحون وهم يلوّحون له بطاقياتهم.
دمدم روجويين يقول وهو ينظر إليهم منتصرا ضاحكا ضحكة خبيثة:
– هه! هذا زاليوجيف أيضاً!
والتفت نحو الأمير فجأةً فقال له:
– اسمع يا أمير، لقد شعرت نحوك بعاطفة ومودة، لا أدري لماذا! ربما كان مردَّ ذلك إلى أنني التقيت بك في لحظة كهذه اللحظة. ولكنني في هذه اللحظة أيضاً إنما التقيت بذلك الوغد (قال ذلك مشيراً إلى ليبديف) فلم أحببه. زرني يا أمير. سوف نخلّصُك من لبّادتي حذاءيك البشعتين هاتين. وسأعطيك معطفاً جميلاً جداً من فراء السمور. وسأوصي لك برداء «فراك» أيضاً، «فراك» من الطراز الأول، وبصديرة لونها أبيض أو لونها هو اللون الذي تختاره! سأملأ جيوبك مالًا... وسنمضي نرى ناستاسيا فيليبوفنا... أتزورني أم لا؟
قال ليبديف ملحاً بلهجة فخمة تحاول الإقناع:
– فكر جيداً يا أمير. لا تفوّت هذه الفرصة! لا تفوتها!
نهض الأمير، ومدّ يده إلى روجويين في أدب، وأجابه بلهجة رقيقة لطيفة:
– سيسرني جداً أن أزورك. وإني لأشكر لك عاطفتك شكراً لا نهاية له. قد أجيئك في هذا اليوم نفسه إذا اتسع وقتي. يجب أن أعترف لك صادقاً مخلصاً بأنني أعجبت بك أنا أيضاً أكبر الإعجاب، ولا سيّما حين قصصت عليّ حكاية ذينك القرطَيْن المزدانين بالماس. وحتى قبل أن تحكي لي قصة القرطين شعرت نحوك بإعجاب، رغم تجهم وجهك. أشكرك أيضاً على المعطف والثياب التي تنوي أن تهديها إليّ. ذلك أنني سأكون في حاجة كبيرة إليها قريباً، ولست أملك لشراء مثلها الآن قرشاً واحداً.
– سيكون معي مال، سيكون معي مال منذ هذا المساء.
تعال زرني!
ردَّد الموظف يقول:
– سيكون معه مال، سيكون معه مال، سيكون معه مال منذ هذا المساء.
– قل لي أولاً يا أمير. أنت تحب الجنس اللطيف كثيراً؟
– أنا؟ لا! يجب أن أقول لك... لعلك لا تعلم.. ولكنني بسبب مرضي الولادي لم أعرف النساء قط!
فهاتف روجويين يقول:
– فإذا كان الأمر كذلك يا أمير، فأنت رجل كامل البراءة حقاً! والله يحب أمثالك!
قال ليبديف مؤيداً:
– نعم نعم، الله يحبهم.
وقال روجويين آمراً:
– واتبعني أنت يا حضرة الموظف!
خرج الثلاثة من حافلة القطار. لقد بلغ ليبديف مأربه أخيراً. ولم تلبث عصبة روجويين الصاخبة أن ابتعدت في اتجاه شارع فوزنسنسكي وكان على الأمير أن يدور إلى جهة ليتاينايا.
الجو يسوده الضباب وتملؤه الرطوبة. سأل الأمير المارّة. فعرف أن عليه أن يقطع ثلاثة فراسخ حتى يصل إلى حيث يريد أن يصل. فقرر أن يركب عربة.
الفصل الثاني
يسكن الجنرال أيبانتشين في منزل يبعد قليلا عن ليتاينايا، من جهة كنيسة «التجلي». وهو يملك عدا هذا المبنى الجميل المظهر الذي يؤجر خمسة أسداسه، يملك منزلاً ضخماً للاستثمار في شارع سادوفايا؛ ويملك، قرب بطرسبرج، أرضاً شاسعة ذات غلال كثيرة، كما يملك مصنعا يقع في ضواحي بطرسبرج. إنه رجل ذائع الصيت، كان في الماضي يزاول أعمال تأجير الأراضي للمزارعين، أما الآن فهو مساهم خطير الشأن في عدة شركات كبرى. فهو يُعَدَّ رجلاً واسع الثراء، يقوم بمشروعات ضخمة وله علاقات رفيعة عالية. وقد استطاع في بعض الأوساط أن يكون إنساناً لا غنى عنه على الإطلاق، ومن بين هذه الأوساط الوسط الحكومي الذي يعمل فيه. ومع ذلك كان من الأمور المعروفة الثابتة أن أيفان فيدروفتش أيبانتشين لم يحصِّل أي تعليم ولم يجن أي ثقافة، وأن حياته العسكرية قد بدأت في مدرسة من مدارس العرفاء. ومما لا شك فيه أن هذا أمر يشرّفه، ولكن الجنرال، رغم ذكائه، كان لا يخلو من بعض نقاط الضعف التي يمكن أن تغفر له على كل حال؛ من ذلك أنه كان لا يطيق أن يُشار إلى ماضيه. أما أنه ذكي وحاذق، فهذا أمر لا يسعك إلا تسلّم له به. فمن آيات ذلك مثلاً أنه قد اتخذ لنفسه مبدأ يلتزمه ولا يحيد عنه، وهو أن لا يضع نفسه في المقدمة يوماً، وأن يمَّحي متى وجب ذلك وكان كثير من الناس إنما يقدرونه لهذه البساطة بالذات، ولهذه اللباقة التي تجعله يعرف دائماً أين مكانه الصحيح فيقف فيه، وأين حدوده فلا يتعداها. ومع ذلك ليت الناس الذي يرون فيه هذا الرأي الحسن، ويحكمون عليه هذا الحكم الطيب، ليتهم يعرفون ما كان يجري أحياناً في نفس إيفان فيدروفتش هذا الذي كان واضحاً أنه يحسن المحافظة على مكانه!...
إن الجنرال أيبانتشين، رغم خبرته الواسعة في الأعمال، ورغم مواهبه الممتازة، كان يؤثر أن يظهر خادماً متحمساً لآراء غيره على أن يفرض آراءه هو. «خادم آمين، نعم، ولكن لا متملق دنيء» . وكان إلى ذلك – وهذه علامة من علائم العصر – يرى أن من شرف الإنسان أن يكون رجلاً ثابت الجنان، أن يكون روسياً حقيقياً. فمن هذه الناحية، اتفق أن حدثت له مغامرات أليمة مؤسفة، ولكن الجنرال ليس من الرجال الذين تخور عزائمهم ويدب إليهم اليأس حتى إزاء أصعب الظروف الشائكة. وبالإضافة إلى هذا، كان موفقاً في المقامرة بمبالغ ضخمة. على أنه كان لا يحاول أن يتستّر على هذا العيب الطفيف أو هذه الخطيئة اليسيرة التي يدين لها في كثير من الأحيان بأرباح طائلة. بالعكس: كان يعلنها ويذيعها.
إنه ينتمي إلى بيئة خليطة طبعًا، ولكنها بيئة غنية وذات نفوذ على كل حال. وكان هو ينتظر من المستقبل كل شيء: أن في عمره لمتسعاً، ولا بد أن يجيء كل شيء في يوم من الأيام. أن الجنرال أيبانتشين ما يزال – كما يقال – في سن هي سن القوة. أن عمره ستة وخمسون عاماً، وهو العمر الذي يتفتح فيه الرجل تفتحاً كاملاً، العمر الذي يبدأ فيه الرجل «حياته الحقة» فعلاً! صحته الحسنة، لونه النضر، أسنانه القوية رغم سوادها، جسمه المتين الشديد، وجهه الذي يعبّر في الصباح عن الاهتمام بالعمل، ويعبّر في المساء عن المرح أثناء اللعب بالورق أو في منزل صاحب السمو ، ذلك كله كان يساهم في تحقيق نجاحه حاضرا ومستقبلا، وينثر على طريق صاحب السعادة الورود.
وكانت أسرته زهراً متفتحاً. صحيح أنها لا تضم إلا وروداً، ولكن من حق الجنرال أن تكون له آمال عراض. هل هناك، في حقيقة الأمر، من هدف أخطر شأناً وأقدس قداسة من مستقبل الأسرة؟ بم يمكن أن يتعلق المرء أن لم يتعلق بالأسرة؟ كانت أسرة الجنرال تتألف من زوجته وبنات ثلاث كبيرات. لقد تزوج الجنرال وهو في شرخ الشباب، حين لم يكن إلا ملازماً أول، تزوج فتاة تكاد تكون في مثل سنه. لم تكن الفتاة متألقة لا بجمالها ولا بثقافتها. وهي عدا ذلك لم يتجاوز مهرها الذي حملته إليه خمسين نفساً؛ ولكن هذا كان بداية ثرائه والحق يقال: أن الجنرال لم ينكر في يوم من الأيام أنه تزوج قبل الأوان، لا ولا نسب هذا الزواج يوماً إلى حماسة الصبا واندفاع الشباب. وكان يحترم زوجته ويهابها، حتى لقد وصل من ذلك إلى حبها.
كانت الجنرالة، زوجة الجنرال، من سلالة الأمراء آل ميشكين، وهم أسرة عريقة جداً، وإن لم تكن متألقة كثيراً. وكانت الجنرالة تزهو بهذا المحتد النبيل زهواً كبيراً، وتستمد منه احتراماً لنفسها عظيماً. أن شخصية من شخصيّات ذلك الأوان التي كان لها تفوق، شخصية من تلك الشخصيات التي تحب أن تكون لها صفة الحماية (وهي حماية لا تكلف صاحبها أية نفقة على كل حال)، قد أراد أن يهتم بزواج الأميرة الشابة، ففتح ذلك أمام الملازم الأول الشاب أبواب الارتقاء ودفعه إليها. ولم يكن أيبانتشين في حاجة إلى أن يدفع دفعاً، بل كانت تكفيه نظرة تشجيع، فلا تغيب عنه أو تفلت منه. وعاش الزوجان سني زواجهما الطويل في وفاق تام، باستثناء مصادفات طارئة قليلة. لقد استطاعت الجنرالة، بفضل منبتها الذي يصلها بسلالة أمراء، ولأنها آخر من يحمل اسم هذه السلالة، وربما بسبب مزاياها الشخصية أيضاً، استطاعت منذ طفولتها أن تجد لنفسها حاميات لهن مراكز عليا ومنازل سامية. وبعد ذلك، وبفضل رتبته الرفيعة، أصبحت لا تشعر في المجتمع الراقي بأي حرج، بل كانت تحسي فيه بارتياح كامل وانطلاق تام.
وفي هذه السنين الأخيرة تفتحت وازدهرت بناتهما الثلاث: الكسندرا، وآديلائيد، وآجلايا، ورغم أنهن يحملن اسم أيبانتشين فحسب، فقد دخلن الحياة بأرصدة عظيمة، هي: محتد أمهن التي تنتمي إلى سلالة أمراء، مهرٌ ضخم محترم، نجاح أبيهما في المجتمع نجاحاً يبيح له أن يطمح في المستقبل إلى أعلى المناصب، ومن الأمور التي لا تفسد عليهن شيئاً، أنهن كنّ على جانب من الجمال، بما في ذلك كبراهنّ التي بلغت من عمرها خمسة وعشرين عاماً. وكان عمر الوسطى ثلاثة وعشرين؛ أما الصغرى فقد أتمت العشرين منذ قليل. والصغرى هذه يمكن أن يقال عنها: إنها بارعة الحسن فتانة الجمال حقاً، حتى لقد أخذ المجتمع يتحدث عنها كثيراً، فيمتدح جمالها ويشيد بحسنها. بيد أن هذا لم يكن كل شيء. فبنات الجنرال الثلاث كن يتألقن كذلك بثقافتهن، وذكائهن، ومواهبهن. وكان من المعروف عنهن أيضاً أنهن متحابات كثيراً، وأنهن يتساندن تسانداً كبيراً. حتى لقد تحدث الناس في هذا الصدد عن تضحيات ارتضت الكبريان أن تقدماها لأختهما الصغرى، معبودة الأسرة كلها. ولقد كن في المجتمع يتحاشين أن يضعن أنفسهن في المقدمة، حتى لقد كن مسرفات قليلاً في التواضع. فما من أحد يستطيع أن يأخذ عليهن شيئاً من عجب أو عجرفة؛ ولكن كان معروفاً مع ذلك أن لهن كبرياؤهن وأنهن يعرفن قدرهن ويشعران بقيمتهن. كانت الكبرى موسيقية، وكان آديلائيد تملك موهبة عظيمة في فن الرسم، وهي موهبة ظلت مجهولة سنين طويلة، إلى أن اكتشفت في الآونة الأخيرة بمصادفة بحتة. الخلاصة أن الناس كانت تكيل لهن المديح وتغمرهنّ بالثناء. على أن هناك ألسنة سوء طبعاً، فمن ذلك خاصةً أن بعض الناس كانوا يتحدثون بقلق وخوف عن قائمة الكتب التي قرأنها.
لم تكن الفتيات تستعجل أمر زواجهن. كن حريصات على بيئتهن الاجتماعية حرصاً كافياً، ولكن بغير غلو أو مبالغة، فكان في هذا تعارض واضح مع ما يتصف به أبوهن من طبع خاص ومطامح كبيرة وآمال عريضة.
كانت الساعة قرابة الحادية عشرة حين رن الأمير ميشكين جرس باب الجنرال. أن شقة الجنرال تقع في الطابق الأول، وهي على تواضعها تلبي مطالب منزلته ورتبته.
فتح له الباب خادم يرتدي ثياباً مزركشة من ثياب الخدم، واضطر الأمير إلى أن يقدم شروحاً طويلة لهذا الرجل الذي تفحّصه في أول الأمر مرتاباً، ونظر إليه وإلى صرَّتِه شزراً. وأخيراً، بعد أن أكد له الأمير تأكيداً قاطعاً أنه هو الأمير ميشكين فعلا، وأنه في حاجة ملحّة إلى أن يرى الجنرال لشأن مستعجل، أدخله الخادم مبهوتاً إلى حجرة مدخل صغيرة تلاصق قاعة الانتظار، وتتصل بمكتب الجنرال. وهناك عهِدَ به إلى خادم آخر يتولى الخدمة في حجرة المدخل هذه كل صباح، ويبلغ الجنرال عن وصول الزوار. أن هذا الرجل الذي تجاوز الأربعين من عمره، والذي يرتدي رداء رسمياً، يعبّر وجهه دائماً عن كثرة الهم وشدة الانشغال. ولقد كان مكلفاً بخدمة مكتب صاحب السعادة خاصة، فهو لذلك قوي الشعور بخطورة شأنه وعلو منزلته
قال يخاطب الأمير بوقار ورصانة:
– انتظر في الصالون. أما صرّتك هذه فاتركها هنا.
ثم جلس على مقعد من المقاعد بكثير من التعالي، وهو يلقي على الأمير نظرة قاسية مدهوشة.
جلس الأمير على كرسي، وبيده صرته، وقال:
– إذا سمحت، فأنا أفضل أن أنتظر هنا في صحبتك على أن أبقى وحدي هناك!
– ليس لائقاً أن تبقى في حجرة المدخل لأنك زائر. أنت ترغب في التحدث إلى الجنرال نفسه؟
كان واضحاً أن الخادم لا يكاد يستطيع أن يسلِّم بأن عليه أن يبلغ الجنرال عن وصول زائر كهذا الزائر، فقرر أن يعاود سؤاله.
بدأ الأمير يتكلم فقال:
– نعم، أرغب في التحدث إلى الجنرال نفسه لشأن من الشؤون..
فقال الخادم يقاطعه:
– لا أسألك أن تذكر لي الشأن الذي تريد أن تحدث الجنرال فيه. فإن وظيفتي تقتصر على إدخالك إليه. ولكني أعود فأقول لك: إنني في غيبة السكرتير لا أستطيع أن أبلغ الجنرال عنك.
كان ارتياب هذا الرجل يزداد دقيقة بعد دقيقة فيما يبدو. أن مظهر الأمير يختلف اختلافاً كبيراً عن مظهر الزوار المألوفين. صحيح أن الجنرال كان يستقبل في كثير من الأحيان، أن لم يكن في كل يوم، في ساعة معينة، ولا سيما من أجل «أعمال»، أفراداً من كل نوع. ومع ذلك ظل الخادم حائراً، كان يبدو له أن وساطة السكرتير لا بد منها لإدخال الأمير على الجنرال.
وسأله أخيراً على نحو إليّ تقريباً:
– إذاً... أنت قادم حقاً... من الخارج؟
ثم أخذ يغمغم، فلعله كان يريد أن يقول: «أأنت أمير من أسرة ميشكين فعلًا؟».
أجاب الأمير:
– نعم، تركت القطار منذ قليل. ولكن يخيَّل إليّ أنك أردت أن تسألني هل أنا حقاً أمير من أسرة ميشكين، ثم لم تلق عليّ هذا السؤال أدباً ولطفاً.
همهم الخادم مدهوشاً:
– هِمْ...
قال الأمير:
– أؤكد لك أنني لم أكذب عليك. لن تتعرض لأي تأنيب. أما ملابسي وصرّتي فليس في أمرها ما يبعْث على الدهشة: ليست أمتعتي الآن بالأمتعة الراقية!
– هِمْ... ليس هذا ما أخشاه. أنا مضطر أن أبلغ عنك الأمير. سيجيئ السكرتير حتماً ليراك... اللهم إلا أن... أن المزعج في الأمر إنما هو... اللهم إلا أن... ألست تريد مقابلة الجنرال لطلب معونة والتماس مساعدة؟ هل تسمح لي بأن ألقي عليك هذا السؤال؟
– لا، لا، اطمئن كل الاطمئنان... ثق كل الثقة... فإنما أنا آتٍ لأمر آخر تماماً.
– معذرة، لقد سألت هذا السؤال بعد أن رأيت ثيابك. انتظر السكرتير. أن الجنرال مشغول الآن مع الكولونيل. وبعد ذلك سيجيئ سكرتير إحدى الشركات.
– ما دمت سأنتظر مدة طويلة، فإنني أتمنى أن أرجوك أن تسمح لي بالتدخين في مكان ما، معي غليوني ومعي تبغ.
ألقى عليه الخادم نظرة دهشة واحتقار، كأنه لا يصدّق أذنيه:
– تدخن؟ تدخن؟ لا، لا تستطيع أن تدخن هنا؛ بل أن عليك أن تخجل لأن هذا خطر ببالك. هِمْ... يا له من كلام!
– عفوك! أنا لم يخطر ببالي أن أدخن في هذه الحجرة. إنني أعرف آداب السلوك وعادات المجتمع. وإنما أردت أن أذهب إلى مكان تدلني عليه فأستطيع أن أدخن فيه. إنني متعود على التدخين، ولم أدخن منذ ثلاث ساعات. على كل حال، لك ما تشاء. ولا شك أنك تعرف المثل القائل: «في دير أجنبي ... ».
جمجم الخادم رغم إراداته قائلا:
– ولكن كيف تريدني أن أبلغ الجنرال عن وصول زائر مثلك؟ أولاً ليس مكانك هنا، وإنما ينبغي أن تكون في الصالون. أنت هنا بمثابة زائر، أي بمثابة ضيف. لسوف ينالني تأنيب، ولكن أتراك تريد أن تنزل وتسكن معنا؟
أضاف الخادم تلك الجملة الأخيرة وهو يلقي، من جديد، نظرة مواربةً على الصرّة التي كان واضحاً أنها تقلقه.
قال الأمير:
– لا أظن ذلك. حتى لو دُعيت، فلن أبقى هنا. أنا إنما جئت للتعارف، ولا شيء غير ذلك.
صاح الخادم يقول مذهولاً وقد ازدادت علائم الارتياب في وجهه:
– كيف؟ للتعارف؟ فلماذا قلت لي إذاً: إنك جئت لشأن من الشؤون، لعمل من الأعمال؟
– ليس مجيئي لعمل تماماً. أقصد.. أن مجيئي لعمل أن شئت؛ أو قل: إنني جئت أسأل نصيحة. لقد جئت لأقدم نفسي خاصة، لأنني واحد من الأمراء ميشكين، والجنرالة إيبانتشين هي أيضاً آخر أميرات ميشكين، ولم يبقَ أحد غيرنا من سلالة الأمراء هذه.
صاح الخادم يقول مرتاعاً أشد الارتياع:
– معنى هذا أنك قريب من الأقرباء فوق ذلك؟
– قريب قرابة بعيدة جداً. أقصد: يمكن أن نعد قريبين إذا نحن أردنا ذلك، ولكن قرابتنا تبلغ من البعد أن من الصعب أن نعُدّ قريبين. لقد كتبت إلى الجنرالة في ذات يوم، من الخارج، لكنها لم تبعث إليّ بجواب. ومع ذلك رأيت أن من الضروري أن اتصل بها عند عودتي إلى البلاد. إذا كنت أشرح لك هذا كله، فلكي أنتزع من نفسك شكوكها، لأنني ألاحظ أنك ما تزال قلقاً. ليس عليك إلا أن تعلم الجنرال أن الأمير ميشكين يستأذن في الدخول. حتى تصبح غاية مجيئي واضحة على الفور. فإن استُقبلت كان هذا خيراً وبركة، وإن لم أستقبل فقد يكون هذا خيراً وبركة أيضاً. لكنني أحسُّ أنهم لا بد أن يستقبلوني. فالجنرالة ستريد حتماً أن ترى الرجل الوحيد الذي بقي من أسرة الأمراء التي تنتمي هي إليها. فهي تحرص كثيراً على نسبها، كما سمعت ذلك عنها.
كان حديث الأمير يصطبغ ببساطة مطلقة ومع ذلك كان الخادم يزداد حيرة واضطراباً على قدر ازدياد البساطة في حديث الأمير، فهو بحكم تجربته لا يستطيع إلا أن يدرك أن هذه اللهجة التي تصلح لحديث يدور بين انسنا وإنسان، لا تناسب حديثاً يدور بين زائر وخادم. ولما كان «الناس» أذكى كثيراً مما يتصور سادتهم، فقد انتهى صاحبنا الخادم إلى تصور حلين ممكنين: فإما أن هذا الأمير ليس إلا متشرداً أفاقاً يلتمس مساعدة، وإما أنه رجل ضعيف العقل بسيط الفكر. ذلك أن أميراً له عقل راجح وكبرياء شديدة لا يمكن أن يمكث منتظرًا في غرفة المدخل، متحدثا عن شؤونه مع خادم. وخلص الخادم إلى هذه النتيجة، وهي أنه سيكون مسؤولا في الحالتين كلتيهما.
قال للأمير ملحاً بأكبر شدة ممكنة:
– يليق بك مع ذلك أن تنتقل إلى الصالون.
فأجاب الأمير ضاحكاً:
– ها قد رأيت بنفسك أنني لو انتظرت هنالك لما استطعت أن أشرح لك تلك الأمور كلها، ولظللت قلقاً من ردائي وصرّتي. أما الآن فقد لا يكون من الضروري أن تنتظر السكرتير. أظن أنك تستطيع بنفسك الآن أن تبلغ عني.
– لا أستطيع أن أبلغ عن زائر مثلك. يجب أن يتم ذلك بواسطة السكرتير؛ لا سيما وأن الجنرال قد أوصاني منذ قليل بألا أزعجه لأي سبب من الأسباب وبأي عذر من الأعذار ما ظل الكولونيل هنا. أن جبريل آرداليونتش وحده يحق له أن يدخل دون أن يستأذن له.
– أهو موظف؟
– من؟ جبريل آرداليونتش؟ لا، هو مستخدم في الشركة. اسمع: ضع صرّتك هنا على الأقل.
– خطر ببالي هذا. يسرني أن أضع الصرّة هنا، ما دمت تأذن لي بذلك. على كل حال، أحب كثيراً أن أخلع هذا الرداء أيضاً. ما رأيك؟
– طبعاً. لا تستطيع أن تدخل على الجنرال بهذا الرداء على كل حال!
نهض الأمير، فخلع رداءه بسرعة، فبدا لابساً سترة لائقة المظهر حسنة التفصيل، وإن تكن مهترئة بعض الاهتراء؛ ولاحت تحت السترة، على الصديرة، سلسلة من معدن قد عُلقت بها ساعة فضية من جنيف.
شعر الخادم، رغم أنه صنف الأمير رجلاً ضعيف العقل، شعر بأنه ليس من اللائق أن يمضي في الحديث مع الأمير إلى أبعد مما مضى إليه حتى الآن. ومع ذلك نال الأمير شيئاً من رضاه، لا يدري هو نفسه لماذا! ولكن الأمير قد أثار فيه مع ذلك شعوراً واضحاً بالاستياء.
سأله الأمير وهو يعود يجلس في مكانه:
– والجنرالة متى تستقبل؟
– ذلك ليس من شأني أنا. والأمر مرهون بنوع الزائر. فهي مثلاً تستقبل صانعة قبعاتها في الحادية عشرة. كما أن جبريل آرداليونتش يحق له، هو أيضاً، أن يدخل عليها قبل غيره، ولو في ساعة الإفطار.
قال الأمير:
– البيوت أدفأ في الشتاء هنا من البيوت في البلاد الأخرى. والخلاء في البلاد الأجنبية أقل برداً من الخلاء هنا. ولكن ما من روسي يستطيع أن يعيش في بيوتهم، من شدة البرد فيها.
– أهم لا يدفنون إذاً؟
– بلى! يدفئون! ولكن المنازل هناك مبنية بطريقة أخرى، أقصد النوافذ والمدافئ.
– هِمْ... وهل غبت هناك مدة طويلة؟
– أربع سنين. أقصد: مكثت طول الوقت تقريباً في مكآن واحد، في الريف.
– لا شك أنك فقدت عادة الحياة في بلادنا، هه؟
– صحيح. هل تصدّق؟ إني لأشعر بدهشة أحياناً من أنني لم أنسَ اللغة الروسية نسياناً تاماً. إنني أكلمك الآن فأقول لنفسي: «إن لغتي لم تسؤ كثيراً». ولعل هذا هو السبب في أنني ثرثار إلى هذا الحد. هذه هي الحقيقة: إنني منذ الأمس اشتهي طول الوقت أن أتكلم الروسية!
– هِمْ... قلي لي: هل كنت تسكن في بطرسبرج من قبل؟
كان الخادم رغم شدة حرصه على أن يسيطر على نفسه وأن يمسك عن الكلام، لا يستطيع أن يقطع حديثاً يبلغ هذا المبلغ من اللطف والكياسة والذوق.
أجاب الأمير:
– بطرسبرج؟ لا... لم أكن أقيم بها... وإنما كنت أمر بها مروراً. ثم إنني حتى في ذلك الأوان لم أكن أعرف شيئاً هنا. فما بالك الآن وقد ازدادت الأمور الجديدة ازدياداً يجعل حتى العارفين مضطرين أن يتعلموا كل شيء من جديد. من ذلك مثلاً المحاكم الجديدة التي يكثر الحديث عنها في هذه الأيام .
هِمْ... محاكم... نعم، هنالك محاكم، لا شلك في هذا. ولكن قل لي: هل المحاكم هناك، في البلاد الأجنبية، أعدل من المحاكم هنا؟
– لا أدري. سمعت كثيراً من الثناء على القضاء عندنا. من ذلك أن عقوبة الإعدام قد ألغيت ...
– وهناك، هل يُعدمون؟
– نعم، رأيت إعداماً في فرنسا، بمدينة ليون . شنايدر هو الذي قادني إلى هناك.
– يشنقون؟
– لا... في فرنسا يقطعون الرأس.
– وهل يصرخ المعدمون عندئذ؟
– يصرخون؟ هه... أن قطع رؤوسهم يتم في لحظة. يُضجع المحكوم عليه. فيهوي على رأسه نصل آلة يسمونها مقصلة، نصل ثقيل قوي، يفصل الرأس عن الجسم فوراً. ولكن الشيء الأليم الفظيع إنما هو الإعدادات: قراءة قرار الحكم بالإعدام، إلباس المحكوم عليه، إيثاقه بالحبال، إصعاده على الصقالة. تلك هي البرهة الرهيبة! والجمهور يحتشد، وحتى النساء تتوافد، رغم أنهم لا يريدون للنساء هناك أن ترى هذا المشهد.
– فعلاً، ليس هذا مكأنهن.
– طبعاً، طبعاً! كيف يشهدن تعذيباً كهذا التعذيب؟... لقد كان المحكوم عليه، في ذلك اليوم، رجلاً يبدو عليه أنه لا يهاب ولا يخاف، رجلا ذكيا، قوي الجسم، ليس شابا صغيرا بل هو ناضج السن، اسمه نيغروس. ومع ذلك، أؤكد لك، صدقني أن شئت، أؤكد لك أنه حين اعتلى الصقالة كان يبكي، وكان أبيض اللون كورقة. أهذا ممكن؟ أليس هذا فظيعاً؟ هل يمكن حقاً أن يبكي المرء من شدة الخوف؟ لا، لم أكن أصدّق أن أحداً يمكن أن يبكي هذا البكاء خوفاً... لست أتكلم هنا عن طفل، بل عن رجل لم يسبق له أن بكى يوماً، عن رجل في الخامسة والأربعين من عمره! ما الذي يحدث للنفس في تلك الدقيقة؟ ما هذه التشنجات التي تصير إليها؟ هذه إهانة للنفس وإساءة إلى الروح. ولقد قيل مع ذلك: «لا تقتل»، فما بالهم يقتلون رجلاً لأنه قتل؟ لا، هذا شيء لا يمكن أن يقبله الإنسان! لقد شهدت ذلك المنظر منذ أكثر من شهر، وما زال يتراءى لي حتى الآن، كأنه أمام عيني، حتى لقد وافاني في أحلامي خمس مرات على الأقل.
تحمّس الأمير وهو يتكلم، وتلوّن وجهه الشاحب بعض التلون. إلا أن لهجة صوته ظلت هادئة. وكان الخادم يصغي إليه باهتمام ومحبة ومودة، حتى لكأنه لا يستطيع أن يحوّل انتباهه عن القصة. لعله كان هو أيضاً إنساناً من أصحاب الخيال.
قال الخادم:
– من حسن الحظ، على الأقل، أن الإنسان لا يتألم مدة طويلة حين يُقطع رأسه.
فاستأنف الأمير كلامه يقول بحرارة:
– هذه الملاحظة التي ذكرتها أنت الآن تخطر ببال كل إنسان. ولتحقيق هذه الغاية إنما اخترعوا تلك الآلة، أعني المقصلة. أما أنا فقد خطرت ببالي في ذلك اليوم فكرة أخرى إذ تساءلت: «تُرى ألا يمكن أن يكون هذا أسوأ؟». قد تبدو لك فكرتي هذه باعثة على الضحك، بل قد تبدو لك غريبة عجيبة، ومع ذلك فإن فكرة كهذه يمكن أن تخطر ببال أي إنسان إذا هو أعمل خياله قليلاً. فكر في الأمر: لننظر في التعذيب مثلاً. أن الآلام والجروح والوجع الجسمي، أن هذا كله يشغل النفس عن عذابها وينسيها ما قد تكابده من هول، فلا يتألم المرء عندئذ إلا من الجروح إلى أن يموت منها. والألم الرئيسي، والألم الذي هو أشد الآلام قوة قد لا يكون ألم الجروح، بل الألم الذي ينشأ عن يقين المرء من أنه بعد ساعة ثم بعد عشر دقائق ثم بعد نصف دقيقة، ثم الآن فورًا، ستترك روحه جسدها، وأنه لن يكون بعد تلك اللحظة إنساناً، وأن هذا أكيد، إنه «أكيد» خاصةً. فحين يضع المرء رأسه تحت المقصلة البتّارة، وحين يسمع انزلاقها فوقه، في ربع الثانية ذاك، إنما يشعر المرء بالخوف الأكبر. هل تعلم أن هذا الذي أقوله ليس مستمداً من الخيال فحسب؟ لقد ذكره كثيرون. وإني لأبلغ من قوة الاقتناع به أنني سأقول لك رأيي في هذا الأمر صريحاً كل الصراحة. أنا أرى أن قتل إنسان بسبب ارتكابه جريمة قتل هو قصاص لا تناسب بينه وبين الجريمة نفسها. أن قتل قاتل أفظع كثيراً من جريمة القتل التي ارتكبها ذلك القاتل. أن الإنسان الذي يقتله القتلة، إذ يذبحونه ليلاً في غابة أو غيرها، يظل إلى آخر لحظة يأمل أن ينجو. يروي الناس عن مقتولين أنهم ظلوا، بعد حزّ رقابهم، يأملون ويحاولون الفرار ويتضرعون سائلين الشفقة عليهم والرأفة بهم. أما في الإعدام فإن الأمل الأخير، الأمل الذي يجعل احتمال الموت أسهل عشر مرات يُنتزع منك «حتماً». أن صدور الحكم واستحالة الإفلات منه هما اللذان يجعلان العذاب رهيبا فظيعا. صدقني: ليس في الدنيا عذاب أشد هولاً من هذا العذاب. لو أخذت جندياً فوضعته في قلب المعركة أمام فوهة المدفع، ثم أطلقت عليه النار، لظل يحتفظ بالأمل إلى آخر لحظة. أما إذا قرأت لهذا الجندي نفسه قراراً يحكم عليه بموت «مؤكد»، فإن هذا الجندي سيفقد عندئذ عقله، أو سيجهش باكياً. من ذا الذي قرر أن الطبيعة الإنسانية تستطيع أن تحتمل تعذيباً كهذا التعذيب دون أن تهوي إلى الجنون؟ فيمَ إيقاع أذى يبلغ هذا المبلغ من السوء والعقم؟ ربما كان يوجد في هذا العالم إنسان حُكم عليه بالموت، وشُرع في تعذيبه ذلك التعذيب، ثم قيل له أخيراً: «امض فقد صدر عفو عنك!» . أن في وسع هذا الإنسان أن يحكي لكم وأن يقص عليكم. المسيح نفسه قد تكلم أيضاً عن هذا العذاب، عن هذا الخوف! لا، لا يجوز أن يعامل كائن إنساني معاملة كهذه المعاملة!
فهم الخادم الشيء الأساسي الذي يعبّر عنه كلام الأمير، رغم أنه ما كان له أن يستطيع التعبير عنه كما عبّر عنه الأمير. نعم، لقد فهم، وكان ذلك واضحاً في ما ظهر على وجهه من علائم التأثر والشفقة والحنان. وقال للأمير:
– إذا كنت ترغب في التدخين رغبة قوية هذه القوة، ففي وسعك أن تدخن، ولكن افعل بسرعة، إذ ما عساي أصنع إذا طُلبت فكُنتَ غائباً! اسمع: هناك، تحت السلم، هل ترى الباب؟ افتح الباب وادخل، فترى على اليمين حجرة صغيرة، ففي إمكانك أن تدخن في تلك الحجرة الصغيرة. ولكن لا تنس أن تفتح الطاقة، فالتدخين هنا مخالفة...
ولكن الوقت لم يتح للأمير أن يمضي إلى تلك الحجرة الصغيرة، فقد دخل إلى الغرفة شاب يحمل بيده أوراقاً، فهب الخادم يأخذ عنه فراءه. وألقى الشاب على الأمير نظرة مواربة.
تكلم الخادم فقال بلهجة من يفضي بسر، دون كلفة:
– هذا يا جبريل آرداليونتش سيدٌ يقول: أنه الأمير ميشكين، قريب الجنرالة. لقد وصل من الخارج ونزل من القطار مع هذه الصرّة. ولكن...
لم يستطع الأمير أن يسمع تتمة الكلام، لأن الخادم أخذ يتكلم بصوت خافت جداً. وكان جبريل آرداليونتش يصغي بانتباه، ويلقي على ميشكين نظرات تفيض استطلاعاً وفضولاً. وكف عن الإصغاء أخيراً، واقترب من الأمير بسرعة، فسأله بتحبب كبير وكياسة عظيمة:
– أنت الأمير ميشكين؟
إنه شاب وسيم الطلعة جداً، في نحو الثامنة والعشرين من العمر هو أيضاً، أشقر اللون، رشيق القوام، أميل إلى الطول، له لحية صغيرة جداً على طريقة نابليون الثالث، وجهه يدل على ذكاء، ويمتاز بجمال. ولكن ابتسامته مفرطة في الرقة على كونها محبّبة لطيفة، وهي تكشف عن أسنان منضودة كاللؤلؤ مفرطة في الكمال والاتساق. أما نظرته فإنها رغم كل ما فيها من بشاشة وبراءة ظاهرة، كانت تتميز بكثير من الإلحاح، وكان فيها كثير من التدقيق والبحث والتقصي.
«أغلب الظن أن هذا الشاب لا تكون له هذه النظرة نفسها حين يخلو إلى نفسه، ولعله لا يضحك قط». ذلك كان شعور الأمير.
كرر ميشكين، بسرعة، كل ما سبق أن قاله للخادم، وما سبق أن قصّه على روجويين قبل ذلك. فكان جبريل آرداليونتش في أثناء ذلك يبدو كمن ينبش ذكرياته. ثم سأله:
– ألست أنت الذي كتبت إلى إليزابت بروكوفيفنا في العام الماضي، أو في وقت أحدث، من سويسرا، فيما أظن؟
– نعم أنا.
– إذاً أنت هنا معروف، ولا شك أنهم يتذكرونك. هل تريد أن تقابل صاحب السعادة؟ سأبلغه وصولك. بعد قليل يخلو. ولكن كان ينبغي لك... كان يليق أن تكون في الصالون...
– لماذا بقي السيد هنا؟
– قلت لك. هو نفسه أراد ذلك وأصرّ عليه!
وفي تلك اللحظة فتح باب المكتب فجأة، فخرج منه ضابط يتأبط حقيبة أوراق. كان الضابط يتكلم بصوت عالٍ، ويكثر من التحيات. وصاح صوت من آخر المكتب ينادي:
– أنت هنا يا جانيا؟ تعال اذاً...
أومأ جبريل آرداليونتش للأمير بحركة خفيفة من رأسه، وأسرع يدخل المكتب، وبعد دقيقتين فتح الباب من جديد، وسُمع صوت جبريل آرداليونتش، الرنان المتودد، يقول:
– تفضل فادخل يا أمير!
الفصل الثالث
كان الجنرال إيفان فيدروفتش إيبانتشين واقفاً في وسط مكتبه ينظر إلى دخول الأمير باستطلاع شديد وفضول قوي؛ حتى لقد خطا للقائه خطوتين؛ واقترب الأمير وقدَّم نفسه.
قال الجنرال:
– حسن جداً. في أي شيء أستطيع أن أخدمك!
قال الأمير:
– ليس لي الآن أي أمر مستعجل. وليست غايتي من هذه الزيارة إلا التعارف. لا أحب أن أزعجك. إنني لا أعرف اليوم الذي تستقبل فيه، ولا أعرف العادات التي تأخذ نفسك بها... وقد جئت من محطة القطار إلى هنا رأساً... وأنا قادم من سويسرا...
ابتسم الجنرال ابتسامة خفيفة، لكنه فكّر فأسرع يكظمها. ثم فكّر مزيداً من التفكير، فغضَّ عينيه وعاد يتفحص الزائر من القدمين إلى الرأس، ثم أشار له إلى الكرسي ليجلس عليه. وجلس هو نفسه متنحياً بعض التنحي، والتفت نحو الأمير مستطلعاً نافد الصبر. وكان جانيا واقفاً في ركن من المكتب يستل أوراقاً.
أجاب إيبانتشين قائلاً:
– لا يتسع وقتي عامةً للتعارف مع أناس جدد، ولكن لما كان لك هدف حتما فإنني...
قاطعه الأمير يقول:
– كنت أحس سلفاً أنك سوف تنسب إلى زيارتي منفعة أبتغيها، أو فائدة ألتمسها. لكنني أحلف لك أنني لا هدف لي إلا مسرتي بمعرفتك.
– المسرّة متبادلة طبعا، ولكن المسرّة ليست كل شيء دائما، فقد يكون هنالك أعمال... ثم إنني لم أتوصل إلى إدراك الصلة التي يمكن أن تربطنا والعلاقة التي يمكن أن تجمع بيننا... أقصد: لست أدرك السبب الذي حملك على أن...
– ما من صلة أو علاقة... ذلك أمر لا جدال فيه... وليس هناك أشياء كثيرة تجمعنا. فلأن أكون من أسرة الأمراء ميشكين ولأن تنتمي زوجتك الكريمة إلى هذه الأسرة نفسها، فليس هذا سبباً كافياً بطبيعة الحال... إنني أدرك ذلك حق الإدراك. ومع هذا فذلك هو السبب الوحيد الذي دفعني إلى المجيء. لقد تركت روسيا منذ أربع سنين، وحين رحلت لم أكن مالكاً جميع قواي العقلية. كنت لا أعرف من الحياة شيئاً. وحتى الآن لا أعرف عنها شيئاً كثيراً. أنا في حاجة إلى معرفة أناس ذوي قلوب كريمة. على سبيل المثال: هناك الآن قضية يجب أن أحلها، ولا أدري من أي طرف أبدأ. قلت لنفسي منذ أن بلغت برلين: «هؤلاء أقرباء لي تقريباً، فسأبدأ إذاً بهم، فلعلنا نستطيع أن ينفع بعضنا بعضاً؛ وهؤلاء أناس ذوو قلوب كريمة». وقد ذُكر لي أن لك قلباً كريماً عطوفاً.
قال الجنرال مبهوتاً:
– كلام لطيف. هل أستطيع أن أعرف أين نزلت؟
– حتى الآن لم أنزل في مكان!
إذاً، حين تركت القطار، جئت إلى عندي رأساً، هه؟ و.. جئت مع أمتعتك؟
– ليس لي إلا صرّة صغيرة بها بعض الملابس، ولا شيء غير ذلك. وأنا أحملها بيدي عادةً. يتسع الوقت، من الآن إلى المساء، لاستئجار غرفة في فندق.
۔ في نبَّلْه إِذَا أن تستأجر غرفة؟
۔ نعم، طبعاً.
– ظننت من أقوالك أنك كنت تنوي الإقامة عندي.
– كان يمكن أن أفعل ذلك لو دعوتني. ومع هذا أعترف لك بأنني ما كنت لأبقى ولو دُعيت، ما كنت لأبقى بدون سبب. ذلك طبع فيَّ.
– إذاً فقد أحسنت لأنني ما دعوتك، ولا أدعوك. كلمةً أخرى يا أمير، من أجل أن نضع الأمور في نصابها. ما دمنا قد اتفقنا على أنه لا مجال للكلام عن قرابة بيننا، رغم أن هذه القرابة كان يمكن أن تشرفني طبعا، فإنه يترتب على هذا...
– يترتب على هذا أنه لم يبق لي إلا أن أنهض وأنصرف.
نهض الأمير وهو يضحك من قلبه، رغم كل ما في هذا الوضع من حرج وارتباك. وتابع كلامه يقول:
– وأؤكد لك، يا جنرال، أنني رغم قلة خبرتي ورغم جهلي بالعادات هنا، كنت أعلم حق العلم أن الأمور ستجري على هذا النحو تماماً. على كل حال، ربما كان هذا أفضل... ثم أن رسالتي لم يُرَدُّ عليها... طيب... استودعك الله، واغفر لي إزعاجك.
كانت نظرة الأمير في تلك اللحظة تفيض لطفاً وبشاشة، وكانت ابتسامته خالية كل الخلو من أي عداوة، وحتى من أي عداوة خفية مستترة، فما كان من الجنرال إلا أن توقف، وأخذ ينظر إلى الأمير بعين جديدة وأصبح وجهه يعبر تعبيراً يختلف كل الاختلاف عما كان قبل ذلك. وقد تحقق له هذا التحول في طرفة عين.
قال الجنرال للأمير بصوت يوشك أن يكون قد تغير تغيراً كاملاً:
– اسمع يا أمير: أنا في الواقع لا أعرفك؛ وربما كانت زوجتي من جهة أخرى تحب أن ترى الرجل الذي يحمل اسم الأسرة الذي تحمله هي... فانتظر إذا شئت وإذا كان يتسع وقتك.
أجاب الأمير وهو يسرع فيضع قبعته المبتلة المدوّرة على المائدة:
– هوه! وقتي يتسع كل الاتساع! وقتي خالٍ كله! أعترف لك بأنني كنت أقدِّر فعلاً أن إليزابت بروكوفيفنا قد تتذكر أنني كتبت إليها. منذ قليل، أثناء انتظاري في حجرة المدخل، خيل إلى خادمك أنني جئت ألتمس بعض المساعدات. لاحظت ذلك على نحو واضح. ولا بد أن أوامرك شديدة في هذا الصدد. أؤكد لك أنني ما جئت لهذا، وإنني لم آت إلا للتعارف حقاً. لكني أخشى أن أكون قد ضايقتك، وهذا يقلقني.
قال الجنرال وهو يبتسم ابتسامة فرحة:
– طيب يا أمير، إذا كان باطنك كظاهرك، إذا كنت كما تبدو فعلاً، فربما كانت معرفتك تسر وتبهج. ولكنك ترى طبعاً أنني أمرؤ مشغول. سأضطر حالاً إلى العكوف على بعض الأوراق أدرسها وأوقعها، وعليّ بعد ذلك أن أذهب إلى صاحب السمو، ثم أمضي إلى مكتبي. معنى ذلك أنني رغم ابتهاجي الشديد برؤية أناس لطاف محببين... أي... ولكن... أقصد أنني على ثقة بأن تربيتك الممتازة لا بد أن... ما سنُّك يا أمير؟
– ستة وعشرون عاماً.
– حقا؟ كنت أحسبك أصغر سناً من ذلك بكثير.
– نعم، يقال: إنني أبدو شاباً صغير السن. فيما يتعلق بعدم إزعاجك، سأحاول ألا أزعجك. لأنني أكره أن أزعج... ويخيّل إليّ أخيراً أننا مختلفان في الظاهر اختلافاً شديداً... لأسباب كثيرة، وأننا ليس بيننا أمور مشتركة كثيرة؛ رغم أنني في الواقع لا أصدّق هذا من جهتي: فكثيرا ما يكون الاختلاف ظاهريا، وكثيرا ما يكون ثمة في حقيقة الأمر نقاط مشتركة... أن الكسل هو الذي يدعونا إلى التسرع في تصنيف الناس والتفريق بينهم قبل أن نجد ما يحمل على ذلك أو يفرضه. أظن أنني أصبحت مضجراً مملاً، أليس كذلك؟ إنك تبدو...
– كلمةٌ أخرى: هل تملك بعض ثروة على الأقل؟ لعلك تأمل أن تجد عملاً؟ اغفر لي أنني أكلمك بهذه الفجاجة..
– أرجوك، بالعكس... إنني أفهم اهتمامك هذا وأقدّره حق قدره وأشكره لك. لا أملك الآن أي ثروة، وليس لي أي مركز، لكني سأحتاج إلى هذا طبعاً. أن المال الذي كان معي إلى الآن ليس مالي. أن شنايدر، الأستاذ الذي كان يعالجني ويعلمني بسويسرا، هو الذي أعطاني ذلك المال. وقد أخذت منه ما يكفيني للرحلة بلا زيادة ولا نقصان، فلم يبق معي الآن إلا بضعة كوبكات. في ذهني أمر من الأمور، وأنا في حاجة إلى نصائح، ولكن...
قاطعه الجنرال سائلا:
– قل لي: ممّ تنوي أن تعيش بانتظار ذلك، وما هي مشروعاتك؟
– أريد أن أعمل، بطريقة أو بأخرى...
– ها... حقاً إنك لفيلسوف. قل لي: هل عندك موهبة من المواهب؟ هل عندك كفاءات يمكن أن تهيئ لك خبز يومك؟ مرةً أخرى أعتذر عن...
– لا تعتذر! ما أحسب أن لي موهبة أو كفاءات خاصة. بالعكس: أنا رجل مريض، ولم أتابع تحصيلي. أما عن خبر يومي، فيخيل إليّ ..
قاطعه الجنرال مرةً أخرى ليزحمه بالأسئلة. فقص الأمير قصته مرةً أخرى. واتفق أن كان الجنرال قد سمع عن المرحوم بافلتشيف، حتى لقد عرفه شخصياً. لم يستطع الأمير أن يشرح لماذا اهتم بافلتشيف بتربيته وتعليمه، ولم يزد على أن قال: لعل ذلك لم يكن إلا تكريماً لذكرى صداقته القديمة بالمرحوم أبيه. لقد تيتم الأمير منذ طفولته الغضة، وقضى سنين حياته الأولى بالريف، لأن حالته الصحية كانت تحتاج إلى فضاء واسع وهواء نقي. وعهد به بافلتشيف إلى قريبات له عجائز كن يعشن في أراضيه.
وكانت له في أول الأمر خادم تشرف على تربيته، ثم أصبح له بعد ذلك مربِّ يتولى تعليمه. ورغم أنه يتذكر كل شيء تذكراً واضحاً قوياً، فإنه لم يستطع أن يقدم تعليلات كافية وتفسيرات مقنعة، لأنه – على حد تعبيره – لم يكن في ذلك الأوان يدرك الأشياء إدراكاً جيداً. وقد جعلته نوبات مرضه المتكررة يصير إلى البلاهة، فهو الآن أبله (قال الأمير كلمة: «أبله»).
وروى الأمير أخيراً أن بافلتشيف كان قد التقى في برلين بالأستاذ السويسري شنايدر، الأخصائي في هذا النوع من الأمراض. وكان للأستاذ شنايدر في مقاطعة فاليه بسويسرا مستوصف يداوي فيه المرضى بطريقة خاصة به، أساسُها الرياضة البدنية وحمامات الدوش الباردة؛ وكان أيضاً يداوي البله والمجانين، ويعنى بتعليمهم، ويهتم بتنشئتهم الروحية خاصةً. وقد أرسل بافلتشيف الأمير إلى شنايدر منذ خمس سنين. ومات هو بعد ذلك بثلاثة أعوام، دون أن يتخذ أي تدبير. ولكن شنايدر احتفظ بالأمير وظل يعالجه طوال هذين العامين الأخيرين. ولم يتوصل إلى شفائه من مرضه، لكن العلاج كانت له نتائج حسنة. ثم قرر شنايدر، تلبية لرغبة الأمير نفسه، وعلى أثر حادث جديد، أن يعيده إلى روسيا.
ظهرت على الجنرال دهشة جديدة، وسأله:
– إذاً ليس لك في روسيا أحد؟ ليس لك فيها أي قريب؟
– حتى الآن ليس لي أحد، ولكنني آمل... ثم إنني قد تلقيت رسالة.
قاطعه الجنرال قائلاً دون أن يكون قد سمع الجملة الأخيرة التي تشتمل على إشارة إلى الرسالة:
– ولكن لا بد أنك تعلمت شيئاً ما، على الأقل... لا بد أنك تعلمت مهنة من المهن... أن مرضك لن يمنعك من أن يكون لك وظيفة ما... لا أقول وظيفة صعبة... بل وظيفة ما في إدارة ما.
– طبعاً لا يمنعني مرضي من ذلك. أما عن الوظيفة فإنني أود كثيراً أن يكون لي وظيفة. إنني أحب كثيراً أن أعرف ما أصلح له وما أقدر عليه. لقد ظللت أدرس وأتعلم طوال السنين الأربع الماضية. صحيح أن دراستي لم تكن منتظمة مطردة، لأن أستاذي كان مضطراً أن يستعمل في تعليمي منهجاً خاصاً، لكنني استطعت في الوقت نفسه أن أقرأ كتباً روسية كثيرة.
– كتباً روسية؟ فأنت إذاً تعرف قواعد الإملاء وتستطيع أن تكتب بدون أخطاء.
– آ... طبعاً... مؤكد..
– عظيم، وخطك؟
– خطي ممتاز؛ بل أستطيع أن أقول من هذه الناحية أن لي موهبة. أنا خطاط فعلا.
وأضاف الأمير يقول بحماسة:
– انتظر... سأكتب لك شيئاً على الفور من قبيل التجربة.
– افعل! افعل! بل أن هذا سيكون مفيداً جداً. لقد أحببت فيك حسن إرادتك وهمتك يا عزيزي الأمير. حقاً أنك للطيف كل اللطف.
– ما أجمل أدوات مكتبك! ما أحسن هذه الأقلام، وهذه الريش... ما أروع هذا الورق! وسماكته مناسبة... و يا لها من حجرة مكتب فخمة! اسمع: إنني أعرف هذا المنظر. هو مشهد من سويسرا. أنا على يقين من أن الرسّام الذي صوّر هذا المنظر قد نقله عن الطبيعة. أنا واثق بأنني أعرف هذا المكان: هو في مقاطعة أوريـ..
– جائز جداً، رغم أنني اشتريت اللوحة من هنا. يا جانيا، اعط الأمير ورقاً. إليك ريشاً وورقاً. تفضل اجلس إلى المائدة الصغيرة.
والتفت الجنرال نحو جانيا فرآه يخرج من حقيبة أوراقه صورة فوتوغرافية كبيرة ويمدها إلى إيبانتشين. فسأله الجنرال:
– ما هذا؟ آ... هذه ناستاسيا فيليبوفنا! أهي التي أرسلت إليك الصورة؟
كذلك سأله متدفقاً في الكلام، وقد بدا عليه استطلاع قوي وفضول شديد.
أجابه جانيا:
– أعطتنيها منذ قليل، حين ذهبتُ أقدم إليها تمنياتك. لقد طلبتها منها منذ مدة طويلة. تُرى أليس في هذا الماع منها إلى أنني جئتها خالي اليدين لا أحمل لها أي هدية في مثل هذا اليوم؟
أضاف جانيا جملته الأخيرة هذه وهو يبتسم ابتسامة كريهة. فقاطعه الجنرال بلهجة جازمة:
– لا، لا، حقاً أن لك تفكيراً غريباً! أهي امرأة من تلك النساء التي تُلمع، وتغمز وتلمز؟ أنت تعرف حق المعرفة أنها ليست امرأة تنشد منفعة وتلتمس ربحاً. ثم ما عسى تكون الهدايا التي يمكن أن تهديها إليها؟ لامرأة مثلها لا يقدّم المرء إلا آلاف الروبلات! كان في وسعك طبعاً أن تقدم إليها صورتك أنت أيضاً. بالمناسبة: ألم تطلب منك صورتك حتى الآن؟
– لا، لم تطلبها حتى الآن، وقد لا تطلبها في يوم من الأيام. أنت لم تنس سهرة اليوم طبعاً يا إيفان فيدوروفتش، أليس كذلك؟ ذلك أنك واحد من ضيوف الشرف.
طبعًا طبعًا، لم أنسَ .. لم أنسَ .. سأحظر حتمًا .. هو عيد ميلادها... عيد ميلادها الخامس والعشرين... هِمْ... لا بأس يا جانيا، سأفضي إليك بسر. فأصغ إليّ: لقد بذَلتْ لي ولآتانازي إيفانوفتش وعداً بأن تعلن قرارها هذا المساء. أكون أو لا أكون. ضع هذا في الحساب، ولا تنسه!
اضطرب جانيا فجأة، حتى لقد امتقع لونه قليلاً. وسأل بشيء من اختلاج في صوته:
– هل قالت هذا حقا؟
– قطعت على نفسها عهداً منذ ثلاثة أيام. لقد بلغنا كلانا من الإلحاح واللجاجة أنها أذعنت آخر الأمر. لكنها رجتنا ألا نذكر لك شيئاً من ذلك قبل أن تحين الساعة.
كان الجنرال يتفرس في جانيا بنظرة فاحصة، وكان واضحاً أن اضطراب جانيا يسوءه.
قال جانيا مضطرباً متردداً:
– لاحظ يا إيفان فيدوروفتش أنها تركت لي حرية اتخاذ القرار كاملة إلى أن تتخذ قراراً بنفسها. ومن المتفق عليه أن تبقى الكلمة الأخيرة وأن يبقى القول الفصل لي أنا حتى في تلك الحالة.
صاح الجنرال يقول مروّعاً مذعوراً:
– ولكن هل تُراك... هل تُراك ذكرت أن...
– لم أقل شيئاً.
– أرجوك، ما الذي تريد أن تخلص إليه؟
– أنا لا أرفض. لعلني أخطأت التعبير...
قال الجنرال غاضباً دون أن يحاول كظم استيائه وكتمان امتعاضه:
– لن ينقصنا إلا أن ترفض! يا صديقي، لم تعد المسألة عندنا أن «لا» ترفض. وإنما يجب عليك أن تظهر الغبطة والامتنان والسعادة الكاملة في اللحظة التي تعلن فيها رأيها. وما الذي يجري في بيتك؟
– في بيتي؟ في بيتي يجري كل شيء وفق مشيئتي وإرادتي. أبي وحده يُجنُّ جنونه، على عادته. لقد أصبح في منتهى الدناءة. وأصبحت لا أكلمه. لكني ما زلت أقسو عليه وأغلظ له. ولولا أمي لطردته من المنزل. أمي ما تنفك تبكي طبعاً. وأختي غاضبة غضباً شديداً، لكنني أعلنت لهما إعلاناً قاطعاً واضحاً أنني سيد مصيري، وأنني لا أطلب شيئاً في البيت إلا أن أُطاع. على كل حال، هذا ما أبلغته لأختي بحضور أمي.
قال الجنرال شارد الذهن وهو يهز منكبيه ويباعد قليلا بين ذراعيه:
– أما أنا يا عزيزي فما زلت لا أفهم!.. لا شك أنك تتذكر أن نينا ألكسندروفنا، حين زارتني في الأيام الأخيرة، قد أخذت تنتحب وتشن، فلما سألتها: «ماذا بكِ»، فهمت أن الأمر الذي يؤلمها هو ما يهددهن من «تلطخ الشرف» بالعار فيما يبدو. فأين تلطخ الشرف في هذا كله؟. وددت لو أعرف أين تلطخ الشرف في هذا؟ من ذا الذي يستطيع أن يأخذ على ناستاسيا فيليبوفنا أي شيء، أو أن يروي عنها أي سوء؟ هل يمكن أن تؤاخذ على العلاقة التي بينها وبين توتسكي؟ ألا أن هذا يكون سخفاً كاملاً، لا سيما إذا نظرنا إلى الظروف الخاصة التي تحيط بالأمر. قالت لي عندئذ: «هل تدع لها أن تقترب من بناتك؟». هه! سمعت؟ غريب أمر نينا ألكسندروفنا! أن الأمر مع ذلك واضح، كيف لا تدرك...
– كيف لا تدرك وضعها؟
بهذا أكمل جانيا جملة الجنرال ليخلّصه من ارتباكه.
ثم تابع كلامه فقال:
– إنها تدرك وضعها حق الإدراك. لا تؤاخذها! ثم إنني قد أسرعت ألقنها درساً حتى تتعلم ألا تتدخل في شؤون الآخرين. على كل حال، ما يزال يسود بيتنا شيء من الهدوء، لأن الكلمة الأخيرة ما قيلت بعد. غير أن الصاعقة ستنفجر. فإذا قيلت الكلمة الأخيرة اليوم، أفلت كل شيء من عقاله.
سمع الأمير ذلك الحديث كله، رغم إكبابه في ركنه على عمله في الكتابة بالخط الجميل.
فلما أنجز عمله اقترب من المائدة، ومدّ الورقة. ودمدم يقول بعد أن أنعم النظر في الصورة بانتباه وتشوّق:
– أهذه إذن ناستاسيا فيليبوفنا؟
ثم أضاف يقول بحرارة:
– إنها رائعة الجمال حقا!
كانت الصورة الفوتوغرافية تظهر قسمات امرأة ذات جمال نادر فذ في الواقع. والمرأة ترتدي ثوباً من حرير أسود، ثوباً أنيقاً رشيقاً خالياً من البهرج والزخرف: شعرها كستنائي واضح، قد صفف تصفيفاً بسيطاً في تسريحة من الداخل؛ عيناها دكناوان عميقتان؛ في جبينها إمارات تفكير؛ وجهها يعير عن اندفاع عاطفي، ويعبّر عن شيء من تعال وكبرياء، وهو نحيل، ولا بد أن يكون شاحباً.
دُهش جانيا والجنرال من كلام الأمير، فالتفت نحوه. وسأله الأمير.
– كيف؟ ناستاسيا فيليبوفنا! أأنت تعرف ناستاسيا فيليبوفنا؟
فأجاب الأمير:
– نعم، أنا في روسيا منذ أربع وعشرين ساعة بل أقل. ومع ذلك أعرف هذه المرأة التي لا يضارع جمالها جمال.
وأسرع يروي لقاءه مع روجويين، وحكي القصة التي سمعها منه. أبدى الجنرال قلقاً، بعد أن أصغى إلى الأمير بانتباه شديد، وقال وهو يتجه إلى جانيا بنظرة مستفهمة سائلة:
– يا للنبأ!
وجمجم جانيا يقول مضطرباً بعض الاضطراب هو أيضاً:
– هي حكاية طيش لا أكثر! ابن تاجر يلهو ويقصف! سبق أن سمعت عنه.
عاد الجنرال يتكلم فقال:
– وأنا سمعت عنه أيضاً يا عزيزي! أن ناستاسيا فيليبوفنا قد روت القصة كلها بعد حكاية القرطين تلك. ولكن الأمر الآن مختلف. ربما كان الأمر الآن أمر مليون... وهناك أيضاً ذلك الوله... وهو وله خسيس طبعاً، لكنه ولهٌ مع ذلك. ونحن نعرف ما قد يفعله أمثال هؤلاء السادة بغير حرج حين يسكرون.
وختم الجنرال كلامه مفكراً حالماً يقول:
– هِمْ... أرجو أن لا يؤدي هذا إلى حادث ما!...
قال جانيا وهو يضحك ضحكة ساخرة:
– هل المليون هو ما تخشاه؟
– أما أنت فلا تخشاه، طبعاً.
قال جانيا فجأة يسأل الأمير:
– قل لي يا أمير: ما شعورك تجاهه، أتشعر أنه رجل جاد أم أنه وغد حقير لا أكثر؟ ما رأيك الشخصي؟
أحس جانيا بإحساس غريب وهو يلقى هذا السؤال، كأن فكرة جديدة فريدة قد أنارت ذهنه، فأخذت عينه تسطعان بومضاتٍ، من نفاد الصبر.
وكان قلق الجنرال صادقاً ساذجاً، فالتفت هو أيضاً نحو الأمير، ولكن دون أن يبدو عليه أنه يتوقع من جواب الأمير أشياء كثيرة.
أجاب الأمير:
– لا أدري ماذا أقول لك. لقد بدا لي على كل حال أنه شاب مشبوب الهوى جامح العاطفة إلى حد المرض. ثم إنه هو نفسه يُشعر من يراه بأنه مريض. ومن الجائز جداً أن تنتكس صحته منذ أيامه الأولى ببطرسبرج، ولا سيما إذا أخذ يشرب.
هتف الجنرال يقول متشبثا بهذه الفكرة:
– ها... هذا رأيك إذن؟
– نعم، هذا ما خيّل إليّ.
قال جانيا وهو يضحك ساخرًا:
– على كل حال، لا تحتاج مغامرة كهذه إلى بضعة أيام لكي تنفجر، حتى لقد نسمع جديدا قبل هذا المساء.
قال الجنرال:
– هِمْ... طبعاً... هذا جائز... لكن كل شيء رهن إذاً بما يخطر ببالها هي! إنك لتعرف حق المعرفة كيف تكون هي في بعض الأحيان!
ثم صاح الجنرال من جديد وقد استولت عليه حيرة شديدة، وبلبلة كبيرة:
– ماذا تريد أن تقول؟ اسمع يا جانيا، أرجوك ملحاً ألا تعاكسها وألا تعارضها اليوم كثيراً. بالعكس: حاول أن تكون... أقصد.. كن لبقاً لطيفاً كيساً... هِمْ...لماذا تلوي فمك هكذا؟ اسمع يا جبريل آرداليونتش: أن لنا أن نضع الأمور في نصابها، أن لنا ذلك! لماذا نحتمل هذا العناء كله؟ إنك لتدرك حق الإدراك أنني، فيما يتعلق بمصلحتي الشخصية في هذه القضية كلها، مغطَّى منذ زمن طويل. ولسوف أخرج منها بما يناسبني ويلائمني، بطريقة أو بأخرى. لقد اتخذ توتسكي قراراً لا رجعة عنه ولا رادَّ له. فأنا أيضاً هادئ إذاً كل الهدوء، مرتاح كل الارتياح، مطمئن كل الاطمئنان. وإذا كنت ما أزال أرغب في شيء، فهو خيرك أنت. فكّر ملياً: ألست تثق بي؟ لا سيما وأنك رجل... رجل... رجل ذكي. ثم إنني قد وضعت أملي فيك. وفي الوضع الراهن، في الوضع الراهن...
– هذا هو الشيء الرئيسي!
كذلك قال جانيا يساعد الجنرال في إتمام جملته مرة أخرى.
والتوت شفتا الفتى على ابتسامة ساخرة مسمومة أصبح لا يحاول حتى إخفاءها. وكانت نظرته المحمومة مصوّبة نحو عيني الجنرال، كأنه يريد أن يقرأ الجنرال فيها كل تفكيره. فاصطبغ وجه الجنرال بحمرة شديدة، وغضب فاستأنف كلامه وهو ينظر إلى جانيا بقسوة:
– نعم، الذكاء هو الشيء الرئيسي. ألا إنك لغريب الأطوار يا جبريل آرداليونتش! لكأنك مبتهج بوصول هذا الشاب التاجر ابتهاجك بحل يهبط من السماء! كان يجب في هذه القضية أن تبرهن على ذكاء منذ البداية. كان يجب عليك أن تفهم الموقف فهماً سليماً، وأن تقدّر الوضع تقديراً صحيحاً... و... و... وكان يجب عليك أن تعمل من الطرفين، من الجهتين... مع التزام الاستقامة والصراحة... وإلا فلا أقل من التنبيه والتحذير، حتى لا يتورط الآخرون، ولا يتعرضوا لشيء. ولقد كان في وقتك متسع لهذا. وما يزال في وقتك متسع على كل حال (هنا رفع الجنرال حاجبيه على نحو مفهوم، رغم أنه لم يبق إلا بضع ساعات. هل فهمتني؟ أتريد أم لا؟ إذا كنت لا تريد فعليك أن تقول ذلك، وأن تقوله في الوقت المناسب! ما من أحد يريدك على غير ما تحب يا جبريل آرداليونتش، ما من أحد يدافعك إلى فخ، إذا كنت حقاً أنك لا ترى في هذا إلا فخاً).
قال جانيا بصوت خافت، ولكن بلهجة ثابتة:
– بل أريد!
وخفض عينيه، وصَمَتَ مظلمَ الوجه مُرْبدّ الأسارير.
رضي الجنرال وارتاح. لقد غضب منذ قليل واندفع، أما الآن فكان واضحاً أنه نادم على غلوه في المضي إلى ذلك الحد. والتفت نحو الأمير فجأة، وقد بدا في وجهه قلق: لقد شهد الأمير الحديث، وسمع كل شيء.
لكن الجنرال لم يلبث أن استردَّ هدوءه. أن نظرة واحدة إلى الأمير كانت كافية لإعادة الثقة والطمأنينة إلى نفسه.
هتف الجنرال يقول وهو ينعم النظر في نموذج الخط الذي مدّه إليه الأمير:
– عظيم، عظيم! خط رائع! آية من آيات الفن! آية نادرة! انظر يا جانيا، انظر! يالها من موهبة!
كان الأمير قد كتب على الورقة السميكة الفاخرة، بأحرف روسية من القرون الوسطى، العبارة التالية:
«إن المطران الذليل بافنوس قد وقّع هذا بخط يده» .
وقال الأمير شارحاً بحماسة كبيرة، ولذة عظيمة:
– هذا توقيع المطران بافنوس نفسه، نقلاً عن مخطوطة يرجع عهدها إلى القرن الرابع عشر. كانت لهم في الماضي تواقيع جميلة، مطارنتنا وبطاركتنا جميعاً! ما أعظم ما فيها من ذوق، ومن عناية، ومن صبر! أليست عندك نسخة من طبعة بوجودين يا جنرال؟ انظر: هنا قلّدت نموذجاً آخر من نماذج الخط: إنه نموذج الخط المدوّر القائم الكبير، الذي عُرف بفرنسا في القرن الماضي؛ حتى أن بعض الأحرف تُكتب بأشكال مختلفة. هذه هي الكتابة العادية، كتابة عامة الكتّاب، وهي مستمدة من كتابة الخطّاطين الأصليين (اقتنيت نموذجاً منها). اعترف أن لها محاسنها. أنعم النظر في هذه «الهاء» وهذه «الطاء» المدوّرتين القائمتين. لقد قمت أنا بنقل هذا الطراز الفرنسي من الخط إلى الكتابة الروسية. كان ذلك عملاً صعباً جداً، لكنني نجحت فيه. إليك نموذجاً آخر من الكتابة، نموذجاً أصيلاً جداً، فيه طرافة عظيمة ورشاقة مدهشة. أنظر في هذه الجملة: «الاجتهاد يذلل جميع الصعاب»، هذه كتابة روسية، كتابة حكومية، أو قل: أن شئت إنها كتابة حكومية عسكرية. بهذا الخط إنما تكتب رسالة رسمية لشخصية خطيرة الشأن. وهو خط مدوّر قائم أيضاً، على جانب عظيم من الأناقة والرشاقة، يُطلق عليه اسم الكتابة «السوداء». وهو خط يبدو حالك السواد فعلاً، لكنه في غاية الجمال. أن خطاطاً محترفاً لا يمكن أن يسمح لنفسه يوماً بهذه الزيادات الطفيفة، هذه الذيول الصغيرة، هل تراها؟ ومع ذلك تستطيع أن تلاحظ أنها تضفي على الخط طابعاً خاصاً. أن المرء يقرأ فيها كل روح الكاتب العسكري. يحسّ المرء أن هذا الكاتب العسكري يودُّ أن يرخي العنان لخياله، وأن موهبته تناديه إلى ذلك، لكن الياقة العسكرية صلبة، فهي تقيده تقييداً شديداً. أن النظام العسكري يعبّر عن نفسه تعبيراً حلواً في الخط. لقد خطف بصري منذ مدة قصيرة نموذج من هذا النوع. تصوّر أنني وقعت على ذلك النموذج في سويسرا. وإليك الآن مثالاً عادياً مألوفاً للخط الإنجليزي، مثالاً صافياً نقياً للخط الإنجليزي. لا أرشق منه ولا أحلى! هو سحر كله: لؤلؤة، جوهرة! هو الكمال بعينه. وإليك خطًا هو تعديل لذلك الخط الإنجليزي بالطريقة الفرنسية. لقد أخذته من مندوب متجول لبيت من بيوت التجارة. هو الطراز الإنجليزي نفسه، غير أن الأحرف الملأى فيه أشد بروزاً وأكثر سواداً. وهذا يبدّل توازن النسب فوراً. لاحظ هذه الصفة أيضاً: أن الأحرف البيضاوية قد تبدلت هنا فصارت أكثر تدوراً، كما أن الذيول في هذا الخط مقبولة غير مرفوضة. والذيول أشد المزالق خطراً بطبيعة الحال، لذلك كان لا بد للخطاط ههنا من ذوق خارق يجنبه هذه المزالق، ولكن إذا نجح الخطاط في هذه المحاولة فوجد الأبعاد السليمة والنسب الصحيحة، حصل عندئذ على خط لا يضارع، خطٍ يعشقه المرء عشقاً.
قال الجنرال ضاحكا:
– عظيم، عظيم، إنك مطلع على أدق الدقائق وألطف اللطائف! لست يا صديقي خطاطاً فحسب، بل أنت أيضاً فنان، هه؟ ما رأيك يا جانيا؟
أجاب جانيا موافقاً:
– شيء مدهش!
ثم أضاف وهو يضحك ضحكة ساخرة:
– حتى أن هذا يدل على موهبة عظيمة يبشِّر بأنه سيكون له مهنة محترمة!
قال الجنرال:
– اضحك، اضحك ما شئت أن تضحك. إنه يملك حقاً ما يؤهله لمزاولة مهنة ممتازة. هل تعرف، يا أمير، إلى أي شخصية سنكلفك بالكتابة؟ أن في الإمكان أن تُعْطى راتباً قدره خمسة وعشرون روبلاً في الشهر، بلا تردد.
ثم أضاف الجنرال قائلاً وهو ينظر في ساعته:
– ولكن الساعة أصبحت الثانية عشرة والنصف. اسمع يا أمير، لننتقل إلى جوهر الموضوع، فأنا في عجلة من أمري، وقد لا تتاح لنا فرصة اللقاء مرة أخرى اليوم. اجلس لحظة. سبق أن قلت لك إنني لن أستطيع أن أستقبلك في أحيان كثيرة. ولكنني أرغب صادقاً في أن أبذل لك بعض العون، أن أبذل لك عوناً ضئيلاً هو القدر اللازم الذي لا بد منه ولا غنى عنه. أما فيما عدا ذلك فدبِّر أمرك على النحو الذي يحلو لك، وبالطريقة التي تراها مناسبة. سأجد لك وظيفة صغيرة في المكتب، عملاً ليس شاقاً مسرفاً في المشقة، ولكن سيكون عليك أن تجدّ وأن تجتهد. واسمع الآن ما سأقوله لك: أن صديقي الشاب جبريل آرداليونوفتش إيفولجين، الذي تراه، والذي أعرّفك به الآن، يعيش مع أسرته؛ وقد أعدّت أمه وأخته في شقتهم غرفتين مؤثثتين أو ثلاثاً، فهما تؤجّران هذه الغرف مع الطعام والخدمة لأناس موصى بهم مشهود لهم بحسن الخلق. وأنا على يقين من أن نينا ألكسندروفنا ستقدّر توصيتي بك وشهادتي لك. هذا كنز بالنسبة إليك يا أمير؛ فلا تعيش وحيداً، بل تعيش في حضن أسرة أن صح التعبير. وفي رأيي أنا أنه ليس من الخير لك أن تبقى وحيداً من اليوم الأول في عاصمة مثل بطرسبرج. أن نينا ألكسندروفنا، أم جبريل آرداليونوفتش، وباربارا آرداليونوفا، أخته، هما سيدتان أحترمهما احتراماً عظيماً، وأجلهما إجلالاً كبيراً. أن نينا ألكسندروفنا هي زوجة آرداليون الكسندروفتش، الجنرال المحال على التقاعد، الذي كان رفيقي في الجيش، لكنني قطعت جميع صلاتي به لبعض الأسباب، دون أن يمنعني ذلك من أن أكنّ له بعض الاعتبار والاحترام، إنني أشرح لك هذا كله يا أمير، من أجل أن تفهم أنني أوصي بك وأشهد لك بنفسي، وأنني إذاً أتحمل التبعة. أن أجرة المسكن، مع الطعام والخدمة، معتدل جداً، وأنا آمل أن يكون راتبك في القريب كافياً للوفاء به كفاية تامة. صحيح أن المرء يحتاج أيضاً إلى بعض المال يضعه في جيبه وينفق منه عند الحاجة، لكنني ألفت نظرك يا أمير، دون أن أريد لك أن تغضب، ألفت نظرك إلى أن من الأفضل لك ألا يكون في جيبك مال تنفق منه، لا ولا أن تملك أي مال تضعه في جيبك. ومع ذلك، لما كانت حافظة نقودك خالية كل الخلو الآن، فاسمح لي أن أقدَّم إليك خمسة وعشرين روبلاً لنفقاتك الأولى. وسنتحاسب في المستقبل طبعاً؛ وأعتقد أنه لن تكون بيننا أي صعوبة، إذا كنت حقاً ذلك الرجل الصادق المخلص الودود الذي كشف عنه حديثك. ولئن كنت أهتم بك هذا الاهتمام كله، فلأن هناك أموراً سأعهد إليك بها وسأعوّل عليك فيها، أموراً ستعرفها في المستقبل. هكذا ترى أنني أكلمك ببساطة تامة وصراحة كبيرة. آمل يا جانيا ألا ترى بأساً في أن يسكن الأمير عندكم، هه؟
أجاب جانيا مؤكداً بلهجة فيها ظرف وترحيب وبشاشة:
– بالعكس. ولسوف تكون أمي سعيدة..
– أظن أنكم أجرتم حتى الآن غرفة واحدة يسكنها ذلك الرجل الذي يسمي فرديـ... فرديـ...
– فردشتينكو .
– نعم، فردشتينكو. انه يعجبني صاحبكم فردشتينكو هذا. مهرج عفن. لا أفهم لماذا تدعمه ناستاسيا فيليبوفنا دائماً. هل صحيح أنه يمت إليها بقرابة؟
– لا، لا! ما هذه إلا مزحة إما من قرابة..
– طيب... شيطان يأخذه... فما رأيك إذن يا أمير؟ أأنت مسرور أم لا؟
– شكراً يا جنرال. لقد غمرتني بأريحيتك، مع أنني لم أطلب منك شيئاً. لا أقول هذا من باب الكبرياء. حقاً كنت لا أعرف إلى أين أذهب. صحيح أن روجويين قد دعاني إلى داره منذ قليل، لكن...
– روجويين؟.... لا... كل شيء إلا هذا! انسَ هذا السيد روجويين! تلك نصيحة أب لابنه، أو قل نصيحة صديق لصديقه إذا كنت تؤثر ذلك. ومهما يكن من أمر، فإنني أوصيك عامة بالاقتصار على الأسرة التي ستعيش معها.
قال الأمير:
– ما دمت طيباً نبيلاً إلى هذا الحد، فإنني أريد أن أستشيرك في أمر ألتمس فيه نصحك. لقد تلقيت إبلاغاً.
قاطعه الجنرال قائلاً:
– لا، اعذرني، لا أملك الآن دقيقة واحدة. سأكلم عنك إليزابت بروكوفيفنا حالاً. فإذا أعربت عن رغبتها في استقبالك منذ الآن (وهذا ما سأوصيها به)، فإنني أنصحك بأن تستغل الفرصة لتحظى برضاها. أن من الممكن أن تقدم لك خدمات عظيمة، لأنك تحمل اسم أسرتها. أما إذا لم ترغب في أن تستقبلك، فلا يسوءنك هذا، وارتقب فرصة أخرى. وأنت يا جانيا، ألق نظرةً على هذه الحسابات أثناء ذلك. لقد كسّرنا رأسنا بها أنا وفيدوسييف. ينبغي أن نفكر في إدراجها ...
وخرج الجنرال، قبل أن يستطيع الأمير أن يعرض عليه الأمر رغم محاولات عدة. وأشعل جانيا سيجارة، وقدّم للأمير سيجارة، فقبلها الأمير ولكنه لم يحاول أن يستمر في الحديث مخافة أن يزعجه أو أن يضايقه. وأخذ يتفحص المكتب. غير أن جانيا لم يكد يلقي نظرةً على الورقة الملأى بالأرقام التي أشار إليها الجنرال. كان جانيا ذاهلًا شارد اللب. حتى أن ابتسامته ونظرته وهيئته المهمومة أصبحت أثقل وطأة على صدر الأمير وأشد إيلاماً له حين اختليا.
واقترب جانيا من الأمير فجأة بينما كان الأمير قد عاد يتأمل صورة ناستاسيا فيليبوفنا، فقال له جانيا وهو يتفرس فيه تفرس من يخفي نية ويبيت أمراً.
– إذاً تعجبك هذه المرأة يا أمير؟
أجاب الأمير:
– وجه مدهش، وأنا واثق بأن القدر الذي كتب عليها قَدَرُ نادر. الوجه باش، ولكنها قاست آلاماً رهيبة، أليس كذلك؟ أن المرء يقرأ هذا في نظرتها، في هذين النتوءين، في هاتين النقطتين تحت العينين عند منبت الخدين. وجه فيه كبرياء، كبرياء شديدة! لكنني أتساءل هل هي خيّرة النفس طيبة القلب؟... آمل أن تكون كذلك! فبهذا يمكن أن يُنقَذ كل شيء!
تابع جانيا كلامه دون أن يحوّل عن الأمير نظرته المحمومة:
– قل لي: هل يمكن أن تتزوج «أنت» امرأة كهذه المرأة؟
قال الأمير:
– أنا لا أستطيع أن أتزوج أية امرأة. أنا مريض.
– وهل يمكن أن يتزوجها روجويين؟ ما رأيك؟
– هو؟ أظن يمكن أن يتزوجها حتى منذ الغد! يتزوجها ثمانية أيام، ثم قد يذبحها!
حين سمع جانيا هذه الكلمات الأخيرة التي قالها الأمير ارتجف ارتجافاً بلغ من القوة أن الأمير أوشك أن يصرخ. وأمسكه من ذراعه وقال له:
– ماذا بك؟
هنا ظهر خادم في عتبة الباب يقول:
– صاحب السمو، أن صاحب السعادة يرجوك أن تذهب إلى صاحبة السعادة، الجنرالة.
وخرج الأمير يتبع الخادم.
الفصل الرابع
تمتاز كل من الآنسات الثلاث إيبانتشين بأنها قوية الجسم نضرة زاهرة، وبأنها مهيبة الطلعة، على منكبين عريضين وصدر جميل، وذراعين لا تكادان تقلان قوة عن ذراعي رجل. وبحكم هذه الصحة وهذه القوة طبعاً، كنّ يقدّرن قيمة وجبة من وجبات الطعام حق قدرها، ولا يحاولن أن يخفين ذلك البتة.
وكانت أمهن، الجنرالة إليزابت بروكوفيفنا، يسوؤها في بعض الأحيان أن ترى هذه الصراحة في شهوتهن للطعام وإقبالهن عليه. غير أن جزءاً كبيراً من نصائحها وتوصياتها قد فقد في الواقع ما كان لهذه النصائح وهذه التوصيات من سلطان عليهن وتأثير فيهن، رغم أنهن ما زلن يصطنعن في قبولها مظهر الامتثال والإذعان؛ وقد أخذ التحالف بين الأخوات الثلاث يثير الجنرالة في كثير من الأحيان، وهي امرأة تحرص على رزانتها ووقارها أشد الحرص، وترى أن الأفضل ألا تناقش وتجادل، بل أن تقبل وتسلّم. صحيح أن المزاج كثيراً ما ينتصر ويتمرد على قرارات العقل؛ حتى لقد أخذت إليزابت بروكوفيفنا تغدو، سنة بعد سنة، أشد نزوة وأقل صبراً، بل وأجمح خيالا. ولكن لما كانت ما تزال تملك زوجاً أحسنت ترويضه حتى صار طوع بنانها، فإن زوجها هذا هو الذي كانت تصب عليه ما يطفح به قلبها. فكان الانسجام يعود عندئذ إلى المنزل، وكان كل شيء يجري بعد ذلك على ما يرام.
على أن الجنرالة ما كانت تفقد شهوة الطعام. فهي في العادة تشارك بناتها وجبة الإفطار الوفيرة التي تكاد تكون من وفرتها غداء، والتي تقدّم بعد الظهر بنصف ساعة. وتكون البنات قبل هذه الوجبة قد تناولن في أسرّتهن عند استيقاظهن من النوم فنجاناً من القهوة في الساعة العاشرة تماماً. فهذه عادة من العادات ألفنها وترسخت فيهن منذ زمن طويل. حتى إذا أزفت الساعة الثانية عشرة والنصف فرشت المائدة في غرفة الطعام الصغيرة المتاخمة للجناح الخاص الذي تحتله إليزابت بروكوفيفنا؛ فإذا كان وقت الجنرال لا يضيق عن المشاركة في هذه الوجبة العائلية الحميمة شارك فيها. أما ما تضمه الوجبة فهو، عدا الشاي والقهوة والجبن والعسل والزبدة، لحوم مشوية (أضلاع) ونوع خاص من الفطائر تحبه الجنرالة حباً خاصاً، وربما ضمت المائدة كذلك مرقا ساخنا مكثفا.
في الصباح الذي تبدأ فيه قصتنا هذه كانت الأسرة كلها مجتمعة في قاعة الطعام تنتظر الجنرال الذي كان قد وعد بالمجيء في الساعة الثانية عشرة والنصف. فلو أنه تأخر عن المجيء ولو دقيقة واحدة إذن لأسرعن يرسلن إليه من يبحث عنه. لكن الجنرال قد تقيد بالموعد تقيداً تاماً، فها هو ذا يدنو من زوجته ليحييها وليقبل يدها، فيلاحظ على وجهها تعبيراً خاصاً جداً. ورغم أنه كان في عشية ذلك النهار قد أوجس بأن شيئاً من هذا سيحدث بسبب «قصة ما» (على حد تعبيره)، ورغم أنه حين نام في المساء فكر في هذا بكثير من القلق، فقد استولى عليه خوف واعتراه رعب. وجاءت بناته فقبلنه. كان لا يبدو عليهن أنهن غاضبات، ومع ذلك كان ظاهراً هنا أيضاً أن ثمة شيئاً غير طبيعي. صحيح أن ظروفاً معيّنة كانت قد جعلت الجنرال كثير الظنون شديد الارتياب، لكنه، وهو رب أسرة خبير حاذق، قد أسرع يتخذ الإجراءات اللازمة.
لعلنا نستطيع، دون أن تُفقد قصتنا هذه مسارها ومعالمها، أن نتوقف هنا قليلاً، فنقدم ببعض الشروح. فكرةً أقرب إلى أن تكون مباشرة ودقيقة وواضحة، عن الأوضاع والظروف التي كانت عليها أسرة الجنرال إيبانتشين في الوقت الذي تبدأ فيه هذه القصة.
سبق أن أشرنا إلى أن الجنرال كان – رغم ضآلة حظه من الثقافة – (ولقد كان على كل حال يفتخر بأنه عصامي علّم نفسه بنفسه) – كان زوجاً خبيراً وأباً بارعاً. ولقد قرر خاصةً ألا يحثَّ بناته كثيراً على الزواج. وكان لا يحرص على أن «يعلق نفسه فوق رؤوسهن بغير انقطاع»، وأن يعذبهن دائماً بحب أبوي يسعى إلى سعادتهن، كما يحدث هذا في كثير من الأحيان حدوثاً طبيعياً، بغير قصد أو إرادة، حتى في أعقل الأسر التي عندها بنات للزواج.
حتى لقد استطاع أن يقنع زوجته بهذا المذهب، وتلك مهمة بالغة الصعوبة، لأنها تعارض غريزة المرأة. غير أن حجج الجنرال وأدلته قد أثمرت، لأنها كانت تتناول وقائع محسوسة ملموسة. وكان أسلوبه هو التالي: أن البنات إذا تركت لهن حرية التصرف، فلا بد أن يصلن من تلقاء أنفسهن إلى حل معقول، فيجري الأمر عندئذ سريعاً، لأنهن يقبلن عليه بقلوبهن، متخليات عن النزوات الطارئة، وعن الغلو والمبالغة؛ ولا يكون على الأبوين بعد ذلك إلا أن يراقباهن بمزيد من اليقظة والتخفي، ليجنّباهن اختياراً رديئاً أو انحرافاً سخيفاً، حتى إذا أن الأوان ساعداهن بكل ما لهما من قدرة، ووضعا ثقلهما كله في الميزان، ليقوداهن في الاتجاه السليم. هذا عدا أن ثروة الأسرة تربو سنة بعد سنة بتزايد هندسي، ومركزها الاجتماعي يعلو ويسمق، فكلما انقضى الزمن جنت البنات من ذلك نفعاً، حتى من جهة الخطبة. ولكن ذلك كله قد أضيفت إليه واقعة جديدة: هي أن البنت الكبرى قد بلغت الخامسة والعشرين بسرعة مفاجئة، كأنما على غير توقع (كما يحدث ذلك دائماً).
وفي تلك الآونة نفسها تقريباً أعرب آتانازي إيفانوفتش توتسكي، وهو رجل من علية القوم له علاقات رفيعة وثروة خارقة، أعرب مرة أخرى عن رغبته القديمة في الزواج. إنه في الخامسة والخمسين من عمره تقريباً، ذو طبع لطيف محبب ودود، وذو ذوق رفيع مرهف رقيق. كان يريد لنفسه زواجاً جميلاً. إنه يقدّر الجمال كما لا يقدّره مثله أحد. وإذ ربطته منذ مدة بالجنرال إيبانتشين صداقة كبيرة كانت تعزّزها وتقوّيها مصالح مشتركة في بعض المشروعات المالية، فقد سأله أن ينصحه كما ينصح الصديق صديقه هل يستطيع أن يخطب إحدى بناته. وهكذا فإن الحياة الهادئة الوادعة المنظمة المرتبة التي كانت تعيشها أسرة الجنرال إيبانتشين أصبحت موشكة على اضطراب يقلبها رأساً على عقب.
إن أجمل البنات الثلاث، كما سبق أن ذكرنا ذلك، إنما هي الصغرى، آجلايا، بلا مراء ولا جدال. ولكن توتسكي نفسه، رغم أثرته المفرطة، قد أدرك أنه ليس له أن يعقد آمالًا من هذه الناحية، وان آجلايا ليست له.
ومهما يكن من أمر، سواء أكانت أختا آجلايا تحبانها حباً أعمى أم كانتا تحملان لها عاطفة مسرفة في الحماسة، فالمهم أن أسرة إيبانتشين كانت تتوقع للأخت الصغرى آجلايا، بصدق وإخلاص، لا مصيراً عادياً بل حياةً تقترب أكبر اقتراب ممكن من المثل الأعلى للفردوس الأرضي. فيجب أن يكون زوجها المقبل رجلاً يتمتع بجميع صفات الكمال، وأن يحقق جميع أنواع النجاح، فضلا عما يجب أن ينعم به من ثراء. حتى أن الأختين كانتا قد قررتا فيما بينهما، دون كلام كثير لا طائل تحته، أن تضحيا بنفسيهما في سبيل آجلايا إذا اقتضى الأمر ذلك. وقد أعدت الأسرة للفتاة آجلايا مهراً ضخماً مميزاً. وكان الأبوان على علم بالاتفاق الذي تمّ بين الأختين الكبريين. ولذلك حين سأل توتسكي صاحبه الجنرال إيبانتشين أن يسدي إليه النصح، فإن الأبوين لم يشكا كثيراً في أن إحدى البنتين لن ترفض تلبية رغبتهما، لا سيما وأن توتسكي ليس من الرجال الذين تستوقفهم مسألة المهر. والجنرال رجل صاحب خبرة وتجربة، لذلك قدّر الخطوة حق قدرها؛ وإذ أن توتسكي نفسه قد فرض على نفسه، بسبب بعض الظروف، تكتماً كبيراً في المباحثات حول هذا الأمر، فاقتصر على جسّ النبض أو سبر الأرض أن صح التعبير، فإن الأبوين من جهتهما لم يذكرا للبنات إلا افتراضات غامضة وتخمينات مبهمة؛ فحصلا في مقابل ذلك من البنات على تأكيد غامض مبهم هو أيضاً، لكنه مواسٍ، بأن الكبرى ألكسندرا قد لا ترفض.
إن ألكسندرا، على كونها ذات طبع صلب وخلق ثابت، فتاة عاقلة دمثة لينة سهلة المعاشرة؛ ولقد ترتضي أن تتزوج توتسكي، فإذا تعهدت بأن تتزوجه برّت بعهدها ولم تخلف الوعد. إنها لا تنشد حياة براقة ساطعة، ولا خوف معها من مصاعب ومتاعب، ولا خوف معها من انقلاب مباغت. بالعكس: إنها تستطيع أن تجعل الحياة ناعمة وادعة يرفرف عليها الهدوء والسلام. وهي فتاة جميلة، وإن لم تكن ساطعة التألق. هل كان يمكن لتوتسكي أن يمنّي نفسه بأكثر من هذا؟
ومع ذلك ظلت القضية تتقدم بخطى بطيئة وتلمّس متوجّس. فكان توتسكي والجنرال، بفضل اتفاق ودي، يتجنبان أن يقوما الآن بأية خطوة رسمية حاسمة. وكان الأبوان نفساهما ما يزالان لا يكاشفان البنات بالأمر صراحةً. حتى لقد كان يمكن أن يلاحظ المرء أن بينهما شيئاً من الخلاف في الرأي. أما الجنرالة، بصفتها أماً، فقد أخذت تظهر شيئاً من عدم الرضي، وكان ذلك أمراً على جانب كبير من خطورة الشأن. وهناك عدا ذلك ظرف معقد شائك كان يعرّض المشروع كله للإخفاق إخفاقًا حاسماً.
إن أصل هذا الظرف «المعقد الشائك» (على حد تعبير توتسكي) يرجع عهده إلى زمن بعيد، إلى ثمانية عشر عاما خلت. فعلى مقربة من إحدى الأراضي التي يملكها آتانازي إيفانوفتش، وهي أراض تقع في أحد أقاليم وسط روسيا، كان يعيش ملأك صغير فقير الحال تقريبا. وكانت حياة هذا الرجل سلسلة من المصائب والنوازل، سلسلة تبلغ من التتابع والاتصال أنها تشبه أن تكون حكاية من الحكايات أو قصة من القصص. هو ضابط محال على التقاعد، سليل أسرة عريقة النبالة، لعلها تفوق في رفعة المحتد أسرة توتسكي. كان اسمه فيليب ألكسندروفتش باراشكوف. وقد استطاع أخيراً، وهو غارق في الديون مرهق برهن عقاراته، استطاع بالعمل الشاق والجهد المضني، وبشغل يشبه أن يكون في قسوته ومشقته شغل فلاح، أن يعود إلى استثمار أرضه الصغيرة استثماراً مناسباً. وكان أيسر نجاح يحققه، يبث فيه شجاعة خارقة، ويعيد إليه أملاً كبيراً، حتى امتلأ ثقة وطمأنينة وتفاؤلاً؛ وذهب ذات يوم إلى مركز الإقليم ليقابل أحد دائنيه الكبار، وليبرم معه اتفاقاً أو ينتهي معه إلى تسوية في حدود الإمكان. فلما كان اليوم الثالث من إقامته بمركز الإقليم رأى عميد قريته يصل إلى المركز على حصان، محترق الخدين واللحية، ويبلغه أن أملاكه قد شب فيها الحريق بالأمس في وضح النهار، فهلكت امرأته، لكن أولاده نجوا وسلموا.
لم يستطع باراشكوف أن يصمد لهذا المصاب الجديد، رغم أنه ألِفَ ضربات القدر، ففقد عقله وجُنّ، ثم مات بحمى دماغية بعد شهر واحد.
وقد بيعت أراضيه المحترقة وبيع فلاحوه المبعثرون لسداد ديونه. أما ابنتاه الصغيرتان، وعمراهما ست سنين، فقد تكرم آتانازي إيفانوفتش توتسكي فكفلهما.
تربّت البنتان أولا مع أولاد وكيل توتسكي، وهو موظف محال على التقاعد، رب أسرة كبيرة العدد، ألمانية فوق ذلك. ولم تلبث ناستاسيا أن أصبحت وحيدة، لأن أختها الصغرى ماتت بمرض السعال الديكي. أما توتسكي الذي كان يعيش في الخارج، فلم يلبث أن نسيهما كلتيهما. وبعد خمس سنين، مرّ آتانازي إيفانوفتش بالمنطقة، فخطر بباله أن يزور أراضيه هنالك، فإذا هو يلاحظ في منزله الريفي، مع أسرة وكيله الألماني، فتاة حلوة عذبة لذيذة في الثانية عشرة من عمرها، فتاة فارهة ماهرة، ذكية لطيفة، تبشر بأنها ستكون في المستقبل بارعة الجمال فاتنة الحسن. لقد كان توتسكي في هذا المجال رجلاً ذا خبرة وتجربة، لا يخطئ ظنه ولا يخيب فأله. ولم يقض في أراضيه هذه المرة إلا بضعة أيام، لكن اتسع وقته مع ذلك لأن يتخذ إجراءاته. فحدث تغير كبير في تنشئة الفتاة وتعليمها: جيء لها بمربية سويسرية هي امرأة محترمة متقدمة في السن، لها خبرة في التربية والتعليم، مثقفة، قادرة على أن تعلم، عدا اللغة الفرنسية، علوما شتى.
سكنت المربية السويسرية في المنزل الريفي، وسار تعليم الصغيرة ناستيا بخطى سريعة. فما انقضت أربع سنوات حتى انتهت دراسة ناستيا، وسافرت المربية، فجاءت عندئذ سيدة هي ملَّاكة لها أطيان تجاور أرضاً يملكها توتسكي في إقليم ناء. جاءت هذه السيدة فأخذت ناستيا تنفيذاً لأوامر آتانازي إيفانوفتش، وعملاً بسلطات خوّلها إياها. أن في تلك الأرض الصغيرة التي يملكها توتسكي جناحاً أن يكن صغيراً فإنه حديث البناء مؤثث تأثيثًا جميلاً فيه ذوق، وفيه أناقة. وكان من المصادفات التي تشبه العمد أن تلك القرية نفسها كان اسمها هذا الاسم الموحي: «أوترادنويي» .
أخذت السيدة الفتاة إلى ذلك المسكن الهادئ رأساً، ولما كانت دارها هي قريبة من ذلك المسكن، وكانت أرملة لا ولد لها، فقد أقامت مع الفتاة. وكان في خدمة ناستيا هنالك امرأةً تتولى أعمال الإنفاق والحساب وخادم شابة لكنها ذات تجربة وخبرة.
وكان المسكن (الشاليه) يضم أدوات موسيقى، ومكتبة مختارة تناسب الفتيات، ولوحات، وصوراً محفورة على الخشب، وأقلاماً، ومناقش، وألواناً؛ وكان يضم كذلك كلبةً سلوقية جميلة.
وبعد أسبوعين وصل آتانازي إيفانوفتش بنفسه...
ومنذ ذلك اليوم أصبح يؤثر تلك القرية الصغيرة المعزولة التائهة في السهوب إيثاراً عظيماً. فكان يأتيها كل صيف، يقضي فيها شهرين، أو ثلاثة أشهر في بعض الأحيان. وانقضى على هذا النحو زمن طويل هو أربع سنين هادئة وادعة سعيدة، في جو من ترف البذخ وحسن الذوق.
وفي ذات يوم من مطالع الشتاء، بعد نحو أربعة أشهر من إحدى إقامات آتانازي الصيفية في أوترادنويي، وهي إقامة لم تطل في تلك المرة أكثر من خمسة عشر يوماً، جرت شائعة أو قل سمعت ناستاسيا فيليبوفنا شائعة تقول: أن توتسكي على وشك أن يتزوج ببطرسبرج فتاة جميلة غنية نبيلة المحتد، أي أن يتزوج زواجاً يناسبه. وقد اتضح فيما بعد أن الشائعة غير صحيحة من بعض النواحي: فالزواج لم يكن إلا فكرة أو مشروعاً، وما يزال كل شيء غامضاً مبهماً. ومع ذلك ولّد هذا الحادث اضطراباً كاملاً وبلبلة تامة في حياة ناستاسيا فيليبوفنا. وسرعان ما برهنت على أنها تملك إرادة حازمة، وعزيمة قوية، وصلابة لم تكن في الحسبان؛ فإذا هي تترك مسكنها الريفي الصغير بلا تردد، وتسافر إلى بطرسبرج، وتمضي على الفور وحيدة إلى توتسكي.
ذُهل توتسكي، وأراد أن يوضح لها الأمور وأن ينتحل لنفسه الأعذار. لكنه أدرك منذ الكلمات الأولى تقريباً أن عليه أن يغيّر تغييراً تاماً، طريقة كلامه ونبرة صوته، وموضوعات حديثه الممتعة الأخّاذة التي أصابت حتى ذلك الحين نجاحاً كبيراً، وأن يغير منطقه نفسه، أن يغيّر كل شيء، كل شيء! أن أمامه الآن امرأة أخرى لا تشبه المرأة التي كان قد عرفها حتى ذلك الحين والتي تركها في شهر تموز (يوليه) بقرية أوترادنويي.
لقد اتضح قبل كل شيء أن هذه المرأة الجديدة تعرف وتفهم أشياء كثيرة، أشياء تبلغ من الكثرة أن المرء يتساءل أين عساها حصّلت مثل هذه المعارف وكيف استطاعت أن تكوّن آراء واضحة هذا الوضوح كله. هل يمكن أن يكون ذلك قد تمّ لها في مكتبتها التي هي مكتبة فتيات؟ وكأن هذا كله لم يكن كافياً أيضاً، فهي تفهم الشؤون القضائية كذلك أكمل الفهم. وفي ذهنها تصورات واضحة وضوحاً كبيراً أن لم يكن عن المجتمع كله، فعن الطريقة التي تجري بها بعض الأمور فيه. ثم أن طبعها الآن ليس طبعها في الماضي. لقد زايلها ذلك النوع من الخشية، لقد تحررت من ذلك الوجل المبهم الغامض الذي تتصف بمثله بنات المدارس الداخلية، وتحررت من تلك الاندفاعات الساذجة الحلوة التي يلطفها في بعض الأحيان حزن وقلق وخوف يمضي إلى حد ذرف الدموع.
لا، أن أمام توتسكي الآن امرأة لم يسبق أن تصورها في هذه الصورة، امرأة غريبة عجيبة، تضحك مقهقهةً بأعلى صوتها، وتمطره بوابل من سخريات مسمومة، امرأة تعلن له صراحة بأنها لم تشعر نحوه في يوم من الأيام بعاطفة غير عاطفة الاحتقار العميق الذي يبلغ مبلغ التقزز الباعث على الغثيان، وهو تقزز ملأ نفسها بعد انقضاء شعور الدهشة الأولى فوراً.
إن هذه المرأة الجديدة تعلن له أنها لا يهمها في شيء أن يتزوج حالاً أي امرأة، ولكنها مع ذلك قد جاءت بدافع الشر وحده تحول بينه وبين هذا الزواج، لا لشيء إلا لأنها تجد في ذلك مسرة، فلا يمكنها إلا أن تستجيب لنداء هذه المسرة. قالت له: «هب ذلك تسلية على حسابك. لقد أن لي أخيراً أن أضحك أنا أيضاً!».
بهذه الألفاظ إنما عبّرت عن نفسها على الأقل. قد لا تترجم هذه العبارات كل ما في قرارة فكرها. ولكن بينما كانت ناستاسيا فيليبوفنا الجديدة هذه تضحك ضحكاً مجلجلاً وهي تبسط حججها وتبدي أسبابها، كان آتانازي إيفانوفتش يدرس الموقف بينه وبين نفسه، ويحاول أن يضع شيئاً من النظام والترتيب في خواطره وأفكاره. ودامت هذه الدراسة مدة طويلة، فقد أنفق فيها آتانازي إيفانوفتش قرابة أسبوعين، ولكنه في ختام هذين الأسبوعين كان قد عزم أمره واتخذ قراره.
يجب ألا ننسى أن آتانازي إيفانوفتش كان عمره في ذلك الأوان نحو خمسين عاماً، وكان رجلاً مهيباً رصيناً، وكان ذا وضع اجتماعي قوي راسخ، وكان مركزه في المجتمع الراقي يقوم على أسس متينة مضمونة.
كان آتانازي إيفانوفتش يحب ويقدّر، أكثر من أي شيء في العالم، شخصَه وراحته ورخاءه ودعته، كما يليق ذلك برجل له مثل تلك المزايا العالية!... فأي اضطراب يعكّر الصفو، بل أي قلق يعتري مجرى الأمور، كان شيئاً لا يمكن أن يقبله أو أن يحتمله تنظيم للحياة ساهم عمرٌ كامل في إقامته وترسيخه.
وسرعان ما أوحت إلى توتسكي تجربتُه الواسعة وحصافة رأيه وصدق حكمه أنه أمام امرأة فريدة قادرة على أن تحقق وعيدها وتنفذ تهديدها، لا سيما وأنها لا تحرص على شيء في هذا العالم، وأنها لا سبيل إذاً إلى إغرائها. لا، لا! واضح أن الأمر هنا أمر آخر تماماً! أن ههنا نوعاً من اختلاط عاطفي واستياء خيالي روائي ليس له سبب واضح ولا موضوع معيّن، أن ههنا رغبة في الاحتقار لا يرتوي لها ظمأ ولا تقف عند حد، أي... أن ههنا شيئاً... سخيفاً كل السخف، شيئاً فظاً غليظاً جافياً لا يمكن قبوله في المجتمع الراقي المهذب، شيئاً هو بالنسبة إلى رجل شريف كريم بلية من عند الله.
كان يمكن طبعاً أن تعين توتسكي ثروتُه وعلاقاته، فتتيح له بسهولة أن يقوم بعمل من تلك الأعمال الخبيثة الصغيرة، البريئة كل البراءة، التي يمكن أن تخرجه من المأزق وتخلصه من الورطة. وكان واضحاً من جهة أخرى أن ناستاسيا فيليبوفنا لا تقدر أن تفعل أي شيء ضدّه ولو من الناحية القانونية القضائية مثلاً؛ لا ولا تستطيع أن تثير فضيحة ذات بال، لأن من السهل على آتانازي إيفانوفتش أن يجعلها تخفق لا محالة. ولكن ذلك كله إنما يصدق إذا تصرفت ناستاسيا فيليبوفنا تصرف جميع الناس في أمور كهذه الأمور، ولم تبتعد كثيراً عن القاعدة. ولكن نفاذ البصيرة وسداد الرأي وحصافة الحكم إنما خدمت آتانازي إيفانوفتش في هذا المجال: فلقد استطاع أن يحزر أن ناستاسيا فيليبوفنا تدرك هي نفسها إدراكاً كاملاً أنها عاجزة من الناحية القانونية القضائية، واستطاع أن يحزر أن في ذهنها شيناً آخر غير هذا، وذلك ما كان يفضحه سطوع عينيها وبريق نظراتها. إنها لعدم حرصها على شيء البتة، ولعدم حرصها حتى على شخصها (لا بد أن يكون توتسكي على جانب كبير من الذكاء ونفاذ البصيرة ليدرك في تلك اللحظة أن ناستاسيا أصبحت منذ مدة طويلة لا تحفل بشخصها البتة ولا تقيم لمصيرها أي وزن؛ لا بد لتوتسكي الريبي المستهتر المستخف الذي لا يصدّق شيئاً ولا يؤمن بشيء غير مباهج الحياة الاجتماعية، لا بد له خاصةً من كثير من الذكاء ونفاذ البصيرة ليؤمن بأن عاطفة ناستاسيا تلك جدّ لا هزل)، أقول: أن ناستاسيا فيليبوفنا، لعدم حرصها على شيء البتة، ولعدم حرصها حتى على شخصها كانت قادرة على ألا تحجم عن تحطيم حياتها تحطيماً لا رجعة عنه، وعن تدمير وجودها بأسوأ الأساليب، ولو اقتضى الأمر أن تذهب إلى سيبيريا، سجينة، لا لشيء إلا التلذذ بإهانة وإيذاء الرجل الذي تكرهه كرهاً يفوق طاقة الإنسان على الكره.
إن آتانازي إيفانوفتش لم يُخفي في يوم من الأيام أنه جبان بعض الجبن، وكان يسمّى هذا الجبن محافظة. لذلك كان لا بد أن يروّعه أن يتصور أن يُقتل أمام الهيكل، أو أن يقع له حادث آخر من هذا النوع على مرأى من الناس، حادث غير مستحب غير لائق... على أن اغتياله أو إصابته بجرح أو تلقيه بصقة في وجهه أمام الملأ أو وقوع أي حادث له لم يكن يهمه بقدر ما كانت تهمه طريقة وقوعه وصورة حدوثه على هذا النحو الذي لا يمكن أن يعد طبيعياً ولا يمكن أن يعد لائقاً مهذباً...
وبهذا نفسه إنما كانت تهدده ناستاسيا فيليبوفنا، ولو تهديداً مضمراً حتى الآن. كان يعلم أنها تعرفه معرفة عميقة، وأنها ستعرف أين تهوي عليه بضربتها، وإذ أن ذلك الزواج كان ما يزال فكرة أو مشروعاً، فإن آتانازي إيفانوفتش خضع وتراجع وأذعن واستسلم أمام ناستاسيا فيليبوفنا.
وهناك أمر آخر سهل عليه اتخاذ هذا القرار. أن من الصعب على المرء أن يتصور مدى الاختلاف بين ناستاسيا فيليبوفنا الجديدة وبين ناستاسيا فيليبوفنا القديمة، حتى من ناحية الجسد. أن ناستاسيا لم تكن في الماضي إلا بنية حلوة جداً، أما الآن... آه!... أن توتسكي قد ظل مدة طويلة لا يغفر لنفسه أنه نظر إليها أربع سنين دون أن يراها حق رؤيتها! صحيح أن انقلاباً في صلاتهما يبلغ ذلك المبلغ من المباغتة والمفاجأة لا بد أن يكون له شأن في هذا. ولكن توتسكي قد تذكر لحظات خطرت بباله فيها أفكار غريبة حين كان ينظر إلى عينيها فكأنه يوجس في أعماقها سراً خفياً مظلماً لا يدري ما هو! كانت تلك النظرة تحدّق إليه، وتثبت عليه، وكأنها تعرض له لغزاً أو أحجية أو طلسماً. وكثيراً ما خطف بصره، في أثناء السنتين الأخيرتين، انكفاء لون ناستاسيا فيليبوفنا: كانت في بعض الأحيان تشحب شحوباً رهيباً؛ والشيء الغريب أن هذا كان يزيدها جمالًا.
كان توتسكي، وهو في هذا يشبه أمثاله من السادة العجائز العابثين اللاهين القاصفين، كان في الماضي ينظر نظرة ازدراء إلى استيلائه السهل هذا على فتاة بسيطة غير ذات خبرة؛ ولكنه كان قد غيّر رأيه قليلاً في الآونة الأخيرة. ومهما يكن من أمر، فإنه قد قرر منذ الربيع الماضي أن يقف على ناستاسيا فيليبوفنا مهراً سخياً، وأن يسرع في تزويجها برجل محترم واسع الصدر رحب الفكر، له مركز في إقليم آخر (آه... ما أفظع استهزاء ناستاسيا فيليبوفنا الآن بتلك الفكرة، وسخرها منها!).
أما الآن فإن آتانازي إيفانوفتش، وقد فتنته جدة الموقف وأغوته، قال لنفسه: أن في إمكانه أن يستثمر هذه المرأة الشابة من جديد، فقرر أن يجعل إقامتها ببطرسبرج، وأن يحيطها بالترف والرخاء والبذخ. ذلك عدا أن في وسعه أن يفتخر في بعض الأوساط باستيلائه على امرأة كهذه المرأة، وأن يستمد من ذلك اعتزازاً ومباهاة وظهوراً. لقد كان آتانازي إيفانوفتش يحرص كثيراً على هذا النوع من المجد.
انقضت خمس سنين على إقامة ناستاسيا فيليبوفنا ببطرسبرج، وتوضحت في أثناء ذلك الوقت أمور كثيرة. أن وضع آتانازي إيفانوفتش ليس فيه ما يطمئن. وأسوأ ما في الأمر أنه وقد خاف مرةً، استبد به الخوف حتى أصبح لا يستطيع التخلص منه. كان خائفاً، حتى دون أن يعرف كثيراً ممّ هو خائف: كل ما هنالك أنه كان يخشى ناستاسيا فيليبوفنا. وفى خلال بعض الوقت، أثناء السنتين الأولين، أخذ يظن أن ناستاسياً فيليبوفنا تحاول أن تتزوجه. كان يفسّر صمتها عن رغبتها هذه بأنه كبرياء شديدة منها، وكان مقتنعاً بأنها تنتظر أن يفاتحها في الأمر، نافدةَ الصبر. ذلك تصور غريب في الواقع. غير أن آتانازي إيفانوفتش أصبح كثير الظنون والهواجس. فكان إذا ساورته هذه الفكرة يتجهم وجهه، وتأخذ تدور في رأسه خواطر ثقيلة. حتى إذا اقتنع فجأة، في ذات يوم من الأيام، بمناسبة حادث من الحوادث، أنه لو عرض عليها أن يتزوجها لرفضت أن تتزوجه، دُهش دهشة شديدة، بل شعر بشيء من الأسف والحسرة (ذلك هو قلب الإنسان!)، ولم يسلم بهذه الحقيقة إلا بعد مدة طويلة.
تفسير واحد بدا له معقولاً: هو أن كبرياء «هذه المرأة الخيالية الشاذة» قد بلغ من الحدة والغلو أنها تفضل أن تعبّر عن احتقارها دفعة واحدة برفض، على أن تضمن لنفسها وضعاً مستقراً ببلوغ مرتبة لا تأملها.
وأسوأ ما في الأمر أن ناستاسيا فيليبوفنا أصبحت تسيطر على الموقف مزيداً من السيطرة شيئاً بعد شيء. لقد قاومت كل إغراء من نوع مادي، مهما تكن ضخامته، وهي رغم قبولها ما أحيطت به من ترف وبذخ كانت تعيش حياة متواضعة، ولم تكد تدّخر شيئاً من مال خلال هذه السنوات الخمس.
وقد تجرأ آتانازي إيفانوفتش فعمد إلى حيلة بارعة كل البراعة لطيفة كل اللطف لتحطيم سلاسلها وفك أغلالها، فحاول بمعاونات ذكية حاذقة، على نحو خفي محكم لبق، أن يفتنها بمغريات مثالية. ولكن لا الأمراء، ولا الفارسان، ولا سكرتيري السفارات، ولا الشعراء، ولا الروائيون، حتى ولا الاشتراكيون، أمكن أن يؤثروا فيها أي تأثير. لكأن قلبها من حجر، ولكأن عواطفها قد جفّت وماتت إلى الأبد.
كانت تعيش حياة أمْيَل إلى الانزواء، تقرأ وتطالع وتدرس وتهوي الموسيقى. كانت علاقاتها قليلة، وكانت تنصرف بإيثارها إلى نساء طاعنات في السن سخيفات من زوجات الموظفين. وكانت تعرف ممثلتين، وتعرف عدداً من عجائز طيبات أخريات. وكانت تتردد على أسرة كثيرة الأولاد هي أسرة معلم طيب من معلمي المدارس الابتدائية، وكان أفراد هذه الأسرة يبادلونها الحب ويبتهجون بزياراتها. وكثيراً ما كان يجتمع عندها في المساء، خمسةُ أشخاص من معارفها أو ستة، وقلّما يزيد العدد عن ذلك. وكان توتسكي نفسه يحضر سهراتها حضوراً مطّرداً. وكان الجنرال إيبانتشين قد استطاع في الآونة الأخيرة، بعد شيء من المشقة، أن يظفر بزيارة بيت ناستاسيا فيليبوفنا. وفي الوقت نفسه، تمكن موظف صغير اسمه فردشتينكو أن يتعرف عليها بدون أي عناء. إنه نوع من مهرّج سيء التربية قليل الذوق يدّعي خفة الظل وروح الدعابة ويميل إلى الشراب والسكر.
وكانت ناستاسيا تستقبل كذلك شاباً غريباً اسمه بتتسين، هو فتى متواضع مرتب يعتني بهندامه، كان فقيراً بائساً فلما تخلص من الفقر والبؤس أصبح مرابياً. وفي آخر آونة تعرفت ناستاسيا على جبريل آرداليونتش...
يجب أن نذكر أخيراً أن سمعة عجيبة كانت تحيط بناستاسيا فيليبوفنا. أن جميع الناس يعرفون جمالها، ولكن لا شيء غير ذلك، وما من أحد كان يمكنه أن يتباهى بأنه حظي منها بشيء، ولا كان هناك أحد يمكن أن يروي عنها أية قصة. فهذه السمعة وما تمتاز به ناستاسيا من ثقافة، ومن رشاقة، ومن فكر، ذلك كله قد أوحى إلى آتانازي إيفانوفتش خطة ما. وفي تلك الفترة من الزمن إنما يقع التدخل النشيط الفعّال الذي قام به الجنرال إيبانتشين في القصة كلها.
حين سأل توتسكي صاحبه الجنرال بكثير من اللطف والمودة أن يسدي إليه النصيحة التي يسديها صديق إلى صديقه، في أمر زواجه بإحدى بناته، فإنه قد فتح له قلبه بصدق كامل وصراحة تامة، فقال: إنه عزم أمره على ألا يحجم عن استعمال «أي وسيلة من الوسائل» في سبيل الحصول على حريته، وإنه لن يعدّ نفسه في أمان ولو وعدته ناستاسيا فيليبوفنا نفسها بأنها ستدعه هادئاً في المستقبل، وأن الأقوال أصبحت لا تكفيه فلا بد له من ضمانات أكيدة وكفالات تامة. وناقش الرجلان الأمر، فقررا أن يعملا متكاتفين.
اتفقا أولاً على أن يستعملا ألطف الأساليب، وأن «يضربا على أنبل أوتار النفس الإنسانية» أن صح التعبير. فذهبا إلى ناستاسيا فيليبوفنا، وأسرع توتسكي يتكلم عما في موقفه من سوء لا يطاق. أقرّ بأنه آثم مذنب في كل أمر من الأمور، ولكنه اعترف صراحةً بأنه من حيث هو رجل شديد الشبق عاجز عن السيطرة على نفسه، لا يستطيع أن يشعر بندامة فيما يتعلق بالخطيئة الأولى التي ارتكبها. وقال: أن في نيته أن يتزوج، وأنها تملك بين يديها مصير هذا الزواج المناسب إلى أقصى حد، وأنه يستنجد بشهامتها، ونبل قلبها. وتكلم الجنرال هو أيضاً، بصفته أباً، فقال كلاماً معقولاً متزناً، تحاشى فيه أن يستدر العطف والحنان ولكنه ذكر أنه يعترف لها كل الاعتراف بحقها في تقرير مصير آتانازي إيفانوفتش، ولم يفته مع ذلك أن يبرز مذلته في كثير من الكياسة ذاكراً أن مصير ابنته، وربما مصير ابنتيه الأخريين، رهن بما تتخذه هي من قرار. فلما سألت ناستاسيا فيليبوفنا مستفهمةً «عما يراد منها على وجه الدقة»، اعترف توتسكي، صادقاً ذلك الصدق نفسه، بأنها قد بلغت من تخويفه وترويعه منذ خمس سنين أنه أصبح لا يستطيع أن يشعر بطمأنينة كاملة وأمان تام إلا إذا وافقت ناستاسيا فيليبوفنا هي نفسها على زواجه. وأسرع يضيف إلى ذلك أن هذا الذي يوحي به الآن يكون سخيفاً لولا أنه مستند إلى أسباب قوية ومدعّم ببواعث متينة. فلقد لاحظ بوضوح كامل وعرف معرفة محققة أن شاباً من أسرة طيبة جداً ومحترمة جداً، شاباً تعرفه وتستقبله في دارها، هو جبريل آرداليونتش إيفولجين نفسه، موله بحبها منذ مدة طويلة، ويتمنى أن يحظى بعطفها ولو دفع نصف حياته ثمناً لذلك؛ وهذه الاعترافات إنما أسرّ بها جبريل آرداليونتش منذ زمان طويل إليه هو، آتانازي إيفانوفتش، صادقاً مخلصاً بكل ما يحمله له من صداقة، وبكل ما يزخر به قلبه الشاب من اندفاع وحرارة؛ كما أن إيفان فيدوروفتش، حامي الفتى، يعرف الأمر منذ مدة هو أيضاً؛ ومن حق آتانازي إيفانوفتش أن يظن، إلا إذا أخطأ ظنه، أن عواطف الفتى لا تجهلها ناستاسيا فيليبوفنا أيضاً، حتى لقد خيّل إليه أنها تظهر بعض الرضى عنها وبعض الترحيب بها. وطبيعي أنه يصعب ذلك على أي إنسان آخر. ولكن إذا شاءت ناستاسيا فيليبوفنا أن تصدّق أنه، عدا مصلحته الأنانية ورغبته في تنظيم حياته، قد يريد لها الخير، فلا بد أن تدرك أن عزلتها تبدو له منذ مدة طويلة غريبة وأليمة. وهو واثق بأن هذه العزلة ليست إلا ظلمات كثيفة، وأنها ناشئة عن الكفر بإمكان أن يجدد المرء حياته. ولكنه مؤمن بأن حياتها يمكن أن تنبعث انبعاثاً رائعاً بالحب والأسرة اللذين سيضيفان عليها معنى جديداً.
وأضاف آتانازي إيفانوفتش يقول: أن مواهب قد تكون لامعة تضيع عندها، وإن رضاها هذا عن حزنها ويأسها، أي هذا النوع من الرومانسية، لا يتفق والحس السليم ولا يناسب ما تتحلى به نفس ناستاسيا فيليبوفنا من نبل.
وبعد أن كرر مرة أخرى أن الكلام في هذ الأمر يشق على نفسه أكثر من أي إنسان آخر، ختم حديثه قائلاً: إنه لا يملك إلا أن يأمل ألا تستقبل ناستاسيا فيليبوفنا بالاحتقار والازدراء رغبته الصادقة في أن يكفل لها مستقبلها بأن يقدّم إليها رأس مال مقداره خمسة وسبعون ألف روبل. وأضاف معلقاً أن هذا المبلغ مكتوب لها في وصية، فلا داعي إلى أن تعده تعويضاً... أو شيئاً من هذا القبيل... ولا داعي على كل حال إلى ألا يصدّق المرء وألا يغفر هذه الرغبة الإنسانية في تخفيف عذاب الضمير، إلخ، إلخ، إلخ.
الخلاصة أن آتانازي إيفانوفتش قال كل ما يحسن أن يقال في مثل هذه الأحوال.
ولقد تكلم آتانازي إيفانوفتش مدة طويلة ببلاغة وفصاحة، وأشار عرضاً – وهذا أمر هام جداً – إلى أن هذه هي المرة الأولى التي يجيء فيها على ذكر مبلغ الخمسة وسبعين ألف روبل، فما من أحد على الإطلاق، سمع عن هذا قبل الآن، حتى ولا إيفان فيدوروفتش.
وتكلمت ناستاسيا فيليبوفنا فأذهل جوابها الرجلين.
فلا شيء فيها الآن مما كان يسود كلامها من سخرية وعداوة وكره، ولا شيء من تلك الضحكة التي كانت ذكراها وحدها تجمّد توتسكي رعباً، بالعكس: أن المرء ليحس بأنها تكاد تكون سعيدة من قدرتها أخيراً على أن تجري مع أحد الناس حديثاً فيه إخلاص وصراحة، وفيه مودة وصداقة. واعترفت بأنها كانت تتمنى منذ مدة طويلة أن تحصل على نصيحة من صديق، وأن الكبرياء وحدها هي التي منعتها من طلب النصح حتى الآن. أما وقد تكسّر الجليد، فلا شيء يمكن أن يبهجها وأن يسعدها أكثر من ذلك.
لقد بدأت ناستاسيا فيليبوفنا كلامها وهي تبتسم ابتسامة حزينة، ثم ضحكت من كل قلبها حين قالت: إنها لن تثير زوبعة كالزوبعة التي أثارتها في الماضي؛ وإنها على كل حال قد غيّرت رأيها في أمور كثيرة منذ مدة طويلة، وإنها رغم أن قلبها لم يتغير، لا تملك إلا أن تعترف بالأمر الواقع، فما حدث قد حدث، وما مضى قد مضى، حتى إنها ليدهشها بقاء هذا الرعب في نفس آتانازي إيفانوفتش إلى الآن.
ثم اتجهت بالكلام إلى إيفان فيدوروفتش فقالت له، باحترام عميق، أنها قد سبق أن سمعت عن بناته، وإنها تمحضهن منذ مدة طويلة أصدق الاعتبار وأعمق الاحترام، وإنها لتشعر بسعادة واعتزاز متى تصورت أن في وسعها أن تنفعهن في شيء.
ولقد كان صحيحاً كذلك أن حياتها، في تلك الآونة، كانت شاقة كالحة، كالحةً إلى أبعد الحدود. لقد حزر آتانازي إيفانوفتش أحلامها. نعم، إنها تودُّ لو تنبعث، أن لم يكن بالحب فبالحياة في أسرة مع الشعور بغاية جديدة. لكنها لا تكاد تستطيع مع ذلك أن تقول شيئاً عن موضوع جبريل آرداليونتش. صحيح أنها يبدو لها أنه يحبها، وصحيح أنها تشعر من جهتها بأنه كان يمكنها أن تحبه لو آمنت بمتانة تعلقه وقوة ارتباطه، ولكن هبه صادقاً، فإنه ما يزال شاباً صغيراً، ومن الصعب اتخاذ قرار. وعلى كل حال، فإن ما يعجبها فيه أكثر من أي شيء آخر هو أنه يعمل وأنه يعول أسرة بكاملها.
وقد سمعت عنه أنه شاب نشيط، فعّال، عزيز النفس، ذو أنفة، طموح، تواق إلى الارتقاء. كما سمعت أن نينا ألكسندروفنا إيفولجينا، أم جبريل آرداليونتش، امرأة جديرة بالإعجاب، خليقة بالاحترام من جميع النواحي، وأن أخته باربارا آرداليونوفا فتاة نشيطة فعُالة ممتازة هي أيضاً. لقد كلمها بتتسين كثيراً عنهم؛ وهي تعرف أن الأسرة كلها تتحمل أنواع الشقاء مرحة متفائلة؛ وهي تود أن تتعرف إلى هذه الأسرة، ولكن بقي عليها أن تعرف هل تحسن هذه الأسرة استقبالها، وهل ترحب بها.
الخلاصة: أنها على وجه الإجمال لا تعارض فكرة هذا الزواج، لكنها ترى أن الأمر يستحق مع ذلك تفكيراً جدياً، فهي تتمنى لهذا ألا تُستحث على الإسراع كثيراً. أما فيما يتعلق بالخمسة وسبعين ألف روبل، فإن آتانازي إيفانوفتش قد أخطأ حين تحرج من الكلام عليها. فهي تعرف قيمة المال حق معرفتها، وهي لذلك تقبل هذه الهدية مغتبطة. وشكرت لآتانازي إيفانوفتش أيضاً أنه كان رقيق الشعور فلم يقل عن هذا الأمر كلمة واحدة لا للجنرال ولا لجبريل آرداليونتش. ولكنها تساءلت لماذا لا يُطلعَ جبريل على ذلك سلفاً هو أيضاً؟ فإنها لن تشعر بأي خجل من هذا المال حين تصبح عضواً في الأسرة. ثم إنها لا تنتوي أن تعتذر لأي إنسان عن أي شيء، وتحرص على أن يُعرف هذا. وهي لن تقبل أن تتزوج جبريل آرداليونتش إلا حين تقتنع بأنه لا يضمر أية فكرة سيئة عنها، لا هو ولا أسرته. ومهما يكن من أمر، فهي لا تشعر بأنها آثمة في شيء، وهي تود أن يطلع جبريل آرداليونتش على ظروف حياتها أثناء هذه السنين الخمس بمدينة بطرسبرج، وعلى صلاتها بآتانازي إيفانوفتش، وعلى الثروة التي استطاعت أن تجنيها؛ وهي أخيراً أن قبلت هذا المال، فلا تقبله ثمناً لعارها الذي لا تحس أنها مسؤولة عنه، وإنما تقبله تعويضاً عن تحطيم حياتها.
وقد بلغت من الحماسة والحرارة والحميّا أثناء تدفق لسانها بهذا الكلام كله (وذلك طبيعي جداً على كل حال) أن الجنرال إيبانتشين شعر بارتياح كبير، واعتبر القضية منتهية. أما توتسكي، المروّع المذعور إلى الآن، فإنه لم يصدّق هذا الكلام تصديقاً تاماً، وظل يخشى أن يكون تحت الأزهار أفعى.
ومع ذلك بدأت المباحثات بين الصديقين. فكانت النقطة التي تعتمد عليها حيلتهما، أعني إمكان أن تتوله ناستاسيا فيليبوفنا بحب جانيا، كانت هذه النقطة تتوضح وتتأكد شيئاً بعد شيء، حتى أن توتسكي نفسه كان يصل في بعض الأحيان إلى الاعتقاد بحظ من النجاح. وفي أثناء ذلك جرى حديث بين ناستاسيا فيليبوفنا وبين جانيا، حديث لم يتبادلا فيه إلا كلاماً قليلا، فكان حياء ناستاسيا وخفرها كانا يصدانها عن الكلام؛ ومع ذلك قبلت حبه وارتضته، لكنها أصرّت على أن تعلن له أنها لا تريد أن ترتبط بأي عهد، وأنها إلى أن يتم الزواج (إذا تم) تحتفظ لنفسها بحرية أن تقول: «لا»، حتى آخر لحظة؛ ومنحت جانيا هذه الحرية نفسها على كل حال.
وسرعان ما علم جانيا علم اليقين، بفضل مصادفة مواتية، أن اعتراض أسرته كلها على هذا الزواج، واعتراضها على شخص ناستاسيا فيليبوفنا نفسها، وهو اعتراض كانت تفضحه مشاجرات متكررة، كانت ناستاسيا فيليبوفنا تعرفه بجميع تفاصيله. ومع ذلك لم تكلمه عنه في يوم من الأيام، مع أنه كان يتوقع أن تفاتحه فيه كل يوم.
على أن هناك أشياء كثيرة أخرى ينبغي أن نقولها عن الظروف والأحداث التي أثارها مشروع الزواج هذا، والتي أثارت المباحثات بين الصديقين، ولكننا قد استبقنا منذ الآن أموراً كثيرة، لا سيما وأن بعض الظروف لم تكن تبدو في ذلك الأوان إلا شائعات غامضة جدًا.
من ذلك ما قيل من أن توتسكي قد علم، لا أدري من أين، أن ناستاسيا فيليبوفنا أصبحت لها علاقات سرية غير محدّدة المعالم ولا واضحة الغايات بالآنسات إيبانتشين؛ وهي شائعة لا يمكن أن يصدقها العقل. وفي مقابل هذا صدّق توتسكي رغم إرادته شائعة أخرى أخذت تسبب له في الليل أحلاماً ثقيلة وكوابيس مرهقة: لقد أكد له بعضهم أن ناستاسيا فيليبوفنا كانت على علم كامل بأن جانيا لن يتزوجها إلا في سبيل المال وحده، وإنه أمرؤ حقير النفس، أسود القلب، شديد الطمع، قليل الصبر، حسود، لا يحب إلا نفسه، ولا يسعى إلا وراء مصلحته؛ وقيل: أن ناستاسيا قد علمت كذلك أن جانيا أن كان قد سعى إلى الظفر بها في الماضي عاشقاً مولها، فإنه منذ اليوم الذي قرر فيه الصديقان أن يستغلا غرامه لمصلحتهما ببيعه ناستاسيا فيليبوفنا زوجة شرعية له، قد أخذ يكرهها كرهاً شديداً ويبغضها بغضاً قوياً فكأنها كابوس؛ ثم اختلطت الشهوة والكراهية في نفسه اختلاطاً عجيباً، حتى إذا قرر أخيراً، بعد تردد طويل أليم، أن يتزوج هذه «المرأة الفاسدة»، كان في قرارة نفسه قد حلف لينتقمن منها شرّ انتقام، وليجعلنها تدفع ثمن ذلك كله غالياً باهظاً. وقيل: أن ناستاسيا فيليبوفنا كانت على علم بكل شيء، وإنها كانت تدبر في الخفاء أمراً.
وقد بلغ توتسكي من الخوف أنه أصبح لا يطلع إيبانتشين على هواجسه وعلى ما يحس به من نذر الشؤم. ومع ذلك كان في بعض اللحظات يسترد رباطة جأشه ويستعيد تفاؤله ونشاطه وانتعاشه، كما يقع هذا لكل إنسان. ذلك ما حدث له، مثلاً، حين وعدت ناستاسيا فيليبوفنا أصدقاءها أخيراً بأن تعلن لهم كلمتها الأخيرة في مساء الاحتفال بعيد ميلادها.
غير أن هناك شائعة أخرى هي أغرب الشائعات وأبعدها عن أن يصدّقها العقل، شائعة تتعلق بالمحترم إيفان فيدوروفتش نفسه، كانت تتأكد شيئاً بعد شيء وا أسفاه!
كان ذلك كله يبدو من النظرة الأولى جنوناً محضاً. لقد كان من الصعب على المرء أن يصدّق أن رجلاً مثل إيفان فيدوروفتش، يمكنه في ختام حياته المشرّفة الكريمة، مع ما يملكه من سلامة الحس ورجاجة العقل وسعة التجربة وغنى الخبرة وما إلى ذلك، أن يقع هو نفسه في غرام ناستاسيا فيليبوفنا، وأن تبلغ نزوته هذه حداً يشبه أن يكون حد الوله العنيف والهوى الجارف. ماذا كان يأمل؟ أن من الصعب على المرء أن يجيب عن هذا السؤال. ولعل إيفان فيدوروفتش كان يعوّل على التواطؤ مع جانيا. ولقد كان توتسكي، على كل حال، يشتبه في وجود نوع من الاتفاق المضمر بين الجنرال وجانيا، وهو اتفاق قائم على فهم متبادل. ومن المعروف أن الرجل الذي يستسلم لهوى جارف، ولا سيما إذا كان متقدما في السن، قد يعمى عماوة كاملة، فإذا هو يرى أملاً حيث لا أمل، وإذا هو يفقد سداد الرأي وصدق الحكم فقداً تاماً، وإذا هو يتصرف تصرف صبي غُرّ مهما يكن عظيم الذكاء!
كان معروفاً أن الجنرال قد هيأ لعيد ميلاد ناستاسيا فيليبوفنا عقداً من اللؤلؤ كلفه مبلغاً ضخماً، وإنه كان يعوّل على هذه الهدية كثيراً، رغم علمه بأن ناستاسيا فيليبوفنا امرأة زاهدة في المنفعة. وكان في عشية عيد الميلاد محموماً من شدة الاضطراب، ولكنه استطاع أن يحسن إخفاء عواطفه بحذق وبراعة.
وعن ذلك العقد من اللؤلؤ إنما كانت الجنرالة إيبانتشين قد سمعت الناس يتحدثون!
صحيح أن إليزابت بروكوفيفنا قد استطاعت منذ مدة طويلة أن تدرك خفة زوجها وطيشه، حتى لقد ألفت فيه هذه الخفة وهذا الطيش واعتادت عليهما بعض الاعتياد. ولكن لم يكن في وسعها طبعاً أن تدع لحادث خطير كهذا الحادث أن يتم. أن حكاية اللؤلؤ هذه تهمّها إلى أبعد حد. وقد أدرك الجنرال الأمر في الوقت المناسب. إنه منذ الليلة البارحة قد سمع بضع كلمات ذات دلالة، وهو يوجس أن مناقشة حاسمة ستقوم اليوم.
لهذا لسبب كان الجنرال، في هذا الصباح الذي تبدأ فيه قصتنا، لا يشعر بأي رغبة في أن يتناول طعام الإفطار مع الأسرة. ولذلك كان قد قرر، حتى قبل وصول الأمير، أن ينصرف من البيت بحجة العمل. وكانت كلمة «الانصراف» تعني عند الجنرال في بعض الأحيان «الفرار»!
كان لا يطمع في أكثر من أن يقضي النهار، ولا سيما السهرة، بدون حادث ينغص عليه صفوه.
وفجأة وصل الأمير في هذا الوقت المناسب. قال الجنرال لنفسه وهو يدخل على زوجته: «الله أرسله»!...
الفصل الخامس
كانت الجنرالة شديدة الاعتزاز بنبل محتدها. ففي وسعك أن تتخيل انفعالها حين علمتْ، دون أي تمهيد، أن ذلك الأمير ميشكين نفسه، الرجل الأخير من سلالة أسرتها، الذي سبق أن سمعت عنه أشياء غامضة، ليس إلا شاباً مسكيناً أبله، يكاد يكون معوزاً، ويضطره فقره إلى قبول مساعدة أو معونة. وقد حرص الجنرال على أن يوقظ في نفس زوجته انفعالًا قوياً وأن يبعث فيها اهتماماً شديداً، ليصرفها عن الموضوع الذي كان يشغل بالها، ويتحاشى بذلك أن تخوض في موضوع عقد اللؤلؤ.
حين تكون الجنرالة في حالات قلق قصوى، فإنه تحملق بعينيها، وتردّ جسمها إلى وراء، وتأخذ تنظر إلى أمام زائغة الهيئة لا تقول كلمة واحدة.
هي امرأة فارعة القوام؛ في سنّ زوجها؛ شعرها أسمر قد ملأه الشيب لكنه ما يزال كثيفاً؛ أنفها محدودب قليلاً؛ وجهها ضامر نحيل أصفر؛ خداها خاسفتان؛ شفتاها رقيقتان منضمتان؛ جبينها عال لكنه ضيق؛ عيناها شهباوان واسعتان لهما في بعض الأحيان تعبير لا يتوقعه المرء البتة. وقد ألفت منذ القديم أن تعتقد أن لنظراتها تأثيراً كبيراً، ثم بقيت لها هذه القناعة إلى الأبد.
– أن أستقبله؟ تريد مني، أن أستقبله الآن؟ فوراً؟
كذلك قالت الجنرالة محملقة بكل ما أوتيت من قوة، محدقةً إلى إيفان فيدوروفتش النشيط الذي كان يتحرك حولها.
أسرع الزوج يجيبها موضحاً:
– لا حاجة بك إلى كثير من الاحتفال ومن التقيد بالمراسم معه، إذا كنت تريدين أن تريه يا عزيزتي. إنه لطفل حقاً، بل إنه ليثير بعض الشفقة. إنه مصاب بنوبات مرض لا أدري ما هو! لقد وصل الآن من سويسرا مرتدياً ثياباً غريبة كأنها على الزي الألماني، وليس معه قرش واحد، حتى ليكاد يذرف دموعاً. أعطيته خمسة وعشرين روبلا، وآمل أن أجد له عملاً كتابياً صغيرًا!.. وأرجوكن، يا سيداتي، أن تطعمنه، فإنه ليخيّل إليّ أنه فوق ذلك جائع جداً...
تابعت الجنرالة كلامها تقول بتلك اللهجة نفسها:
– إنك لتدهشني! جائع وذو نوبات؟ نوبات ماذا؟
– أوه! النوبات لا يصاب بها في أحيان كثيرة؛ ثم إنه يكاد يكون طفلاً، رغم أنه مثقف.
قال الجنرال ذلك ثم التفت نحو بناته مرة أخرى وأضاف:
– نويت يا سيداتي أن أجري له امتحاناً صغيراً. ليس ضاراً أن عرف ما هو عليه قادر.
قالت الجنرالة متحيرة أعمق التحير، وهي لا تنفك تجيل عينيها متنقلة من زوجها إلى بناتها ومن بناتها إلى زوجها:
– إمـ.. ـتـ.. ـحا.. ن؟
– آه... عزيزتي... لا تولي هذا الأمر شأناً كبيراً، ولا تقيمي له أي وزن! الخلاصة: افعلي ما يحلو لك. لقد قام في ذهني أن أستقبله استقبالاً لطيفاً، وأنه أدخله إلى الأسرة، لأن ذلك بدا لي عملاً حسناً وفعلاً طيباً.
– أن تدخله إلينا؟ آت من سويسرا؟...
– ما قيمة أن يكون آتياً من سويسرا؟ على كل حال، لن يكون إلا ما تريدين. ولئن تكلمت في هذا الأمر، فلأن الشاب يحمل اسم أسرتك، وقد يكون قريباً لك؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه لا يعرف حقاً أين يمكنه أن يوسّد رأسه. حتى لقد اعتقدت أن أمره سيعنيك بعض الشيء، لأنه واحد من السلالة على كل حال.
قالت البنت الكبرى، الكسندرا:
– طبعاً يا ماما، إذا كان في وسعنا أن نستقبله بلا احتفال أو كلفة أو تقيد بالمراسم، وما دام جائعاً بعد رحلة طويلة ذلك الطول، فلماذا لا ندعوه إلى أن يأكل معنا؟ لا سيما إذا كان لا يعرف إلى أين هو ذاهب..
– وهو فوق ذلك طفل حقيقي فيما يبدو، حتى ليمكن أن يلعب المرء معه لعبة «كولان مايار»!...
– لعبة «كولان مايار»؟ ما هذا الكلام؟
قاطعتها آجلايا تقول بشيء من الحزن:
– أو! ماما! كفاك تظاهراً، أرجوك...
فلم تستطع البنت الثانية، ذات الطبع الضاحك، أن تكظم مرحها، فإذا هي تنفجر مقهقهة.
وقالت آجلايا جازمة:
– أرسل إليه أن يجيء يا بابا.
فرن الجنرال الجرس وأصدر أمره بإدخال الأمير.
قالت الجنرالة بحزم:
– ولكن على شرط أن نعقد حول عنقه منشفة حين يجلس إلى المائدة. نادوا فيدور أو نادوا مافرا ليكون أحد وراءه يراقبه أثناء تناوله الطعام. أهو هادئ على الأقل حين توافيه تلك النوبات؟ ألا يحرّك يديه بإشارات؟
– بالعكس... إنه مهذب لطيف يتقن آداب المجتمع ويتقيد بها. كل ما هنالك أنه قد يكون بسيطاً ساذجاً في بعض الأحيان. ها هو ذا بنفسه على كل حال! أقدم إليك الأمير ميشكين، آخر من يحمل اسم هذه السلالة، ولعله قريب لنا، فاستقبليه بما يجب له من عاطفة. سيهيأ الإفطار يا أمير، فشرّفنا بأن... أما أنا فأرجوك أن تعذرني... لأنني مستعجل جداً، حتى لقد تأخرت..
قالت الجنرالة بهيئة وقور:
– لا نجهل المكان الذي تستعجل الذهاب إليه!
– مستعجل جداً، مستعجل جداً يا عزيزتي، حتى لقد تأخرت! ناولنه دفاتركنّ، يا سيداتي، ليكتب لكنّ شيئاً... إنه خطاط ذو موهبة نادرة! موهبة! لقد خط لي منذ برهة في مكتبي عبارة: «إن المطران بافنوس قد مهر هذا بتوقيعه»... إلى اللقاء، إلى اللقاء!
قالت الجنرالة: – بافنوس؟ مطران؟
وبينما كان زوجها يتقهقر إلى وراء، صرخت تقول ملحة محتدةً احتداداً متزايداً يشوبه قلق:
– انتظر! انتظر! إلى أين أنت ذاهب؟ من هو بافنوس هذا؟
– نعم نعم يا عزيزتي، كان في الزمان القديم المطران بهذا الاسم.. ولكن الكونت ينتظرني منذ مدة طويلة، وهو الذي حدَّد لي الساعة. يا أمير، إلى لقاء قريب...
وانسحب الجنرال مسرعاً أشد الإسراع.
قالت إليزابت بروكوفيفنا مغتاظة وهي تنقل نظرتها الحانقة نحو الأمير:
– أنا أعرف أي كونت يعني!
ثم أضافت تقول محاولة أن تتذكر وقد لاح في وجهها تبرم واحتقار:
– هيه! ما هي المسألة؟ آ... نعم... من هو ذلك المطران؟
حاولت ألكسندرا أن تتدخل (بينما كانت آجلايا تخبط بقدمها الأرض نافذة الصبر) فقالت:
– ماما!
فقالت الجنرالة جازمة:
– لا تقاطعيني يا ألكسندرا! أنا أيضاً أريد أن أعرف! اجلس هنا يا أمير، على الكرسي الذي يقع قبالتي... لا بل اجلس هنا، في الشمس؛ اقترب من الضوء لأراك رؤية أوضح. طيب... والآن حدثني عن ذلك المطران!...
بدأ الأمير يتكلم وقد ظهر في وجهه الانتباه والجد:
– هو المطران بافنوس...
– بافنوس؟ عجيب... هيه... ثم ماذا؟
كانت الجنرالة تلقي هذه الأسئلة نافدة الصبر دون أن تحوّل عنه بصرها، وكانت تصاحب كل كلمة من كلمات جواب الأمير بهزة من رأسها.
قال الأمير:
– عاش المطران بافنوس في القرن الرابع عشر، وكان يرأس صومعة للنّسك على نهر الفولغا في الإقليم الذي يسمى الآن إقليم كوستروما. وقد اشتهر بحياته التقية الورعة، وذهب مراراً إلى بلاد التتار لحل أمور مختلفة. ففي مناسبة من تلك المناسبات ذيّل إحدى الوثائق بتوقيعه، وقد رأيت أنا نسخةً منها، فأعجبني الخط، فتعلمت محاكاته. ومنذ قليل حين أراد الجنرال أن يرى خطي ليجد لي عملاً، كتبت عدة عبارات بأحرف مختلفة، فكانت إحدى هذه العبارات: «إن المطران بافنوس قد وقع هذا بخط يده»، وقد كتبتها على طريقة بافنوس في الخط، فأعجب الجنرال بها كثيراً، وإلى هذا إنما أشار منذ هنيهة.
قالت الجنرالة:
– يا آجلايا، تذكري: بافنوس؛ بلي سجّلي، فأنا أنسى كل شيء. لكني أعترف بأنني كنت أتوقع شيئاً أهمّ من هذا. أين ذلك التوقيع؟
– أظن أنه بقي على المنضدة في مكتب الأمير.
– هاتوني به حالًا.
– لكنني أستطيع أن أخطه لك مرة أخرى إذا شئت.
قالت ألكسندرا:
– طبعاً يا ماما؛ والأفضل أن نأكل الآن، فإننا جميعاً جياع.
قالت الجنرالة:
– طيب. تعال يا أمير: أأنت جائع جداً؟
– نعم، بدأت أشعر الآن بجوع؛ وإني لأشكرك أجزل الشكر.
– حسن جداً أنك مؤدب مهذب؛ وإني لألاحظ أنك لست غريباً إلى الحد الذي أرادوا أن يصلوا إليه في تصوير غرابتك. تعال، اجلس هنا، قبالتي، لأستطيع أن أنظر إليك (كذلك قالت له متحركة منشغلة مهتمة، حين صاروا جميعاً في قاعة الطعام). ألكسندرا، آديلائيد، اهتما بالأمير؟ ألا تريان أنه ليس مريضاً إلى الحد الذي...؟ ربما كنا في غير حاجة إلى المنشفة. قل لي يا أمير: هل كانوا يعقدون منشفة حول رقبتك؟
– نعم، أظن، في الماضي، حين كان عمري سبع سنين. أما الآن فقد تعودت أن أضع المنشفة على ركبتي.
– هذا ما يجب. ونوباتك؟
قال الأمير مدهوشاً بعض الدهشة:
– نوباتي؟ أصبحت الآن نادرة. مع ذلك... لا أدري! يقال: أن المناخ هنا لن يكون مناسبا لحالتي الصحية.
قالت الجنرالة مخاطبةً بناتها وهي ما تزال تصاحب كل كلمة من كلمات الأمير بهزة من رأسها:
– إنه يجيد الكلام. لم أكن أتوقع ذلك. إذاً لم يكن كل ما قيل إلا أكاذيب وترهات باطلة، كالعادة!
ثم عادت تخاطب الأمير فقالت له:
– كُل يا أمير، وقصّ علينا أين وُلدت وأين نشأت وترعرعت وتربيت. أريد أن أعرف كل شيء. أن أمرك يهمني كثيراً.
شكرها الأمير، وأخذ يكرر ما سبق أن رواه مراراً في تلك الصبيحة من النهار... أخذ يكرره وهو يأكل بشهية كبيرة..
ازداد ارتياح الجنرالة ورضاها شيئاً بعد شيء. وكانت البنات أيضاً تصغي إلى حديث الأمير بانتباه. واستُعرضت القرابة، فاتضح أن الأمير يعرف شجرة النسب معرفة جيدة، ولكنهم رغم جميع الجهود لم يتمكنوا من العثور على أي قرابة تربط الأمير بالجنرالة. كل ما هنالك أنهم يستطيعون أن يتصوروا أن بين الأسلاف الأبعدين قرابة غامضة كالقرابة التي تكون بين أبناء الأعمام. وقد سُرّت الجنرالة كثيراً بالخوض في هذا الموضوع الصعب، لأنها رغم كل رغبتها، قلما أتيح لها قبل اليوم أن تتحدث عن أجدادها، لذلك نهضت عن المائدة منتعشة انتعاشاً كبيراً. قالت:
– الأفضل أن نمضي إلى قاعة الاجتماع، فستحمل القهوة إلينا هناك.
وأضافت تشرح للأمير وهي تجرُّه:
– هي غرفة مشتركة لنا جميعاً، بل قُلْ: هي صالوني الصغير الذي نجتمع فيه حين نكون وحيدات، وتكون كل واحدة منا منصرفة إلى شؤونها: فابنتي الكبرى، ألكسندرا، تعزف على البيانو أو تقرأ أو تخيط؛ وابنتي آديلائيد ترسم مناظر طبيعية أو وجوهاً إنسانية (دون أن تنهي أي شيء في يوم من الأيام)؛ أما آجلايا فإنها لا تعمل شيئاً البتة. وأنا أيضاً يسقط الشغل من بين يدي، ولا أفلح في إنجاز شيء. ها نحن أولاء وصلنا. اجلس يا أمير، قرب المدفأة، وقصص علينا. أريد أن أعرف كيف تحكي. أريد أن أتأكد من ذلك، فإذا رأيت الأميرة العجوز بيلوكونسكايا حدثتها عنك. أريد أن تثير اهتمام الجميع. فهيّا تكلم!
قالت آديلائيد التي كانت في أثناء ذلك قد ركزت حاملة لوحاتها وتناولت فراشيها وصحن ألوانها وأخذت تنقل عن صورة مطبوعة منظراً طبيعياً كانت قد بدأت تصويره منذ مدة طويلة، قالت:
– ماما، يصعب على الإنسان كثيراً أن يحكي ويقص في ظروف كهذه الظروف التي تحيطين بها الأمير.
وجلسات ألكساندرا وآجلايا إحداهما إلى جانب الأخرى على أريكة صغيرة، وقد عقدت كل منهما يديها على صدرها، واستعدت للإصغاء إلى الحديث. ولاحظ الأمير أن انتباه الجميع منصرف إليه.
قالت آجلايا:
– ما كنت لأحكي شيئاً أو لأقص شيئاً لو أمرت بهذا أمراً على هذا النحو.
– فقالت الجنرالة:
– لماذا؟ أي شيء خارق في هذا؟ ما عسى يمنعه من الكلام؟ أن له لساناً. أريد أن أعرف كيف يجيد الحديث. اقصص ما تشاء. قل لنا هل أعجبتك سويسرا، صف لنا انطباعك الأول هناك. سوف ترين: إنه سيبدأ، وسيجيد الحديث أيما أجادة.
بدأ الأمير الكلام فقال:
– كان انطباعي الأول قوياً جداً...
فقاطعته الجنرالة النافدة الصبر، متلفتةً إلى بناتها قائلة لهن:
– هل رأيتن؟ هل رأيتن؟ لقد بدأ...
فأوقفتها ألكسندرا قائلة:
– دعيه يتكلم على الأقل يا ماما!
وهمست تقول لأختها آجلايا:
– قد يكون هذا الأمير مكاراً كبيراً، لا أبله!
فأجابتها آجلايا تقول:
– هذه حقيقة أكيدة لاحظتها منذ مدة. وإنها لدناءة منه أن يمثل دور الأبله. هل يظن أنه يجني من ذلك نفعاً ما؟
استأنف الأمير كلامه فقال:
– كان انطباعي الأول قوياً جداً. حين أخذوني من روسيا واجتزنا مدناً ألمانية، كنت لا أزيد على أن أنظر صامتاً، وكنت لا ألقي أي سؤال (ما زلت أذكر هذا) وقد حدث ذلك في أعقاب نوبات من مرضي عنيفة جداً وأليمة جداً. وقد ألفت، في أوان النوبات، حين يكثر تعاقبها، أن أُصبح في حالة انصعاق، فأفقد ذاكرتي فقداناً تاماً، وينقطع مجرى المنطق في أفكاري، (رغم أن فكري يظل يعمل) فلا يتسلسل في ذهني أكثر من فكرتين أو ثلاث. أو ذلك هو على كل حال الانطباع الذي بقي في نفسي. حتى إذا هدأت النوبة رجعت سليماً معافياً، قوياً كقوتي الآن.
«أذكر أنني أحسست حينذاك بحزن لا يطاق، حتى لقد استبدت بي رغبة في البكاء. كنت لا أزيد على أن أشعر بدهشة وقلق. لقد فاجأني كثيراً أن كل شيء حولي كان أجنبياً. نعم، لقد أصبحت في «الخارج». فهمت ذلك. أن هذا «الخارج» كله يهوي بي إلى قاع الحزن واليأس. ثم لم أخرج من تلك الظلمات خروجاً كاملاً – ما زلت أذكر هذا – إلا في المساء، بمدينة بال، عند وصولنا إلى سويسرا. إذ أن نهقة حمار في ميدان السوق هي التي أيقظتني من انصعاقي. لقد أثرت نهقة الحمار في نفسي تأثيراً قوياً، وأعجبتني إعجاباً شديداً، لا أدري لماذا؟ وفي الوقت نفسه كان كل شيء في رأسي يضيء... ».
قالت الجنرالة:
– حمار؟ غريب... ولكن لا... لا غرابة. أن بيننا نحن معشر النساء من يقعن في غرام حمار.
أضافت الجنرالة هذه الجملة الأخيرة، وهي تنظر شبه غاضبة إلى الفتيات، اللواتي كن يضحكن. وأردفت تقول:
– وذلك شيء تكلمت عنه أساطير اليونان الأقدمين. أكمل كلامك يا أمير.
تابع الأمير حديثه فقال:
– ومنذ ذلك الوقت أصبحت أحب الحمير حباً عظيماً. أصبح هذا عندي عاطفة حقيقية صادقة. وأخذت أجمع معلومات عن الحمير. لم أكن قد رأيت حماراً قبل ذلك اليوم؛ وسرعان ما عرفت أن الحمار حيوان مفيد جداً، وأنه قوي نشيط صبور قنوع ذو مقاومة وجلد. وبواسطة هذا الحمار أخذت سويسرا كلها تعجبني، فأنهى ذلك حزني.
– هذا كله غريب حقاً، ولكن دعنا... ولننتقل إلى موضوع آخر. ما الذي يضاحكك يا آجلايا، وأنت يا آديلائيد؟ لقد تحدث الأمير عن الحمار فأجاد الحديث. هو رآه بنفسه، فماذا رأيت أنت؟ أنت لم تسافري يوماً إلى الخارج.
قالت آديلائيد:
– سبق أن رأيت حماراً يا ماما!
وأضافت آجلايا:
– وأنا قد سمعت حماراً.
وأخذت البنات الثلاث تضحك. وضحك الأمير أيضاً.
قالت الجنرالة:
– هذا منكن شر وسوء! اعذرهن يا أمير، فأنهن بنات طيبات القلب، وإني لأشاجرهن دائماً، لكنني أحبهن. هن طائشات العقل مجنونات...!
قال الأمير ضاحكاً.
– لماذا؟ لو كنت في مكأنهن لما فوتُ الفرصة أيضاً. على كل حال، أنا أعشق الحمار: الحمار مخلوق طيب مفيد.
قالت الجنرالة:
– وأنت يا أمير، هل أنت طيب؟ أسألك عن هذا من باب حب الاطلاع.
وأخذ الجميع يضحكون من جديد.
وهتفت الجنرالة تقول:
– أنا أقصد ذلك الحمار اللعين، ولم يخطر الأمير ببالي. ثق يا أمير إنني لم أعقد أي....
– مقارنة؟
هكذا ساعدها الأمير في إتمام جملتها، وأضاف يقول وهو ما يزال يضحك:
– لم يساورني أي شك في هذا!
قالت الجنرالة:
– حسن جداً أنك تضحك. أنني أدرك من هذا أنك شاب طيب جداً.
أجاب الأمير:
– يتفق لي ألا أكون كذلك!
قالت الجنرالة على نحو غير متوقع:
– وأنا أيضاً طيبة؛ بل قل: أن شئت إنني طيبة دائماً، وذلك عيبي الوحيد، لأن على الإنسان ألا يكون طيباً على الدوام. إنني كثيراً ما أغضب منهن، ومن إيفان فيدوروفتش خاصةً، ولكن المؤسف المحزن هو أنني لا أكون في لحظة من اللحظات طيبة كطيبتي أثناء الغضب! منذ برهة، قبل وصولك، كنت قد غضبت فتظاهرت بأنني لا أفهم شيئاً. ذلك يحدث لي أحياناً كما يحدث للأطفال. لقد لقنتني آجلايا درساً. شكراً لك على هذا الدرس يا آجلايا. على كل حال، ما أسخف هذا كله! ترهات في ترهات!... ما أنا بالغبية إلى الحد الذي يبدو عليّ، أو إلى الحد الذي تريد أن توهَم به بناتي. أن لي إرادة قوية وعزيمة صلبة، ولست أتحرج كثيراً. تعالي إلى هنا يا آجلايا وقبليني...
ثم قالت الجنرالة حين قبلتها آجلايا على شفتيها ويدها بكثير من العاطفة:
– وكفاك عواطف سخيفة!
ثم التفتت إلى الأمير تقول له:
– واصل حديثك يا أمير. قد تتذكر شيئاً يشوق الحديث عنه أكثر مما يشوق الحديث عن ذلك الحمار!
قالت آجلايا:
– ما زلت لا أفهم كيف يستطيع المرء أن يحكي شيئاً على هذا النحو. لو طلب إليّ ما يُطلب إليه لما وجدت شيئاً أقوله.
– ولكن الأمير سيجد ما يقوله، لأن الأمير ذكي إلى أبعد حدود الذكاء؛ هو أذكى منك عشر مرات على الأقل، أو اثنتي عشرة مرة. أرجو أن تدركي هذا من الآن. برهن لهن على صحة قولي يا أمير، وأكمل. أما الحمار فنستطيع فعلاً أن ندعه الآن وشأنه. هيه، ماذا رأيت في الخارج، عدا ذلك الحمار؟
قالت ألكسندرا:
– كان الحديث عن الحمار ذكياً جداً كذلك. لقد وصف لنا الأمير حالته المرضية وصفاً شائقاً، وذكر لنا كيف أسترد حبه للأشياء على أثر صدمة خارجية. لقد طالما اشتقت أن أعرف كيف يفقد الإنسان عقله وكيف يمكن أن يسترده، ولا سيما حين يتم ذلك على نحو مباغت!
صاحت الجنرالة تقول:
– أليس كذلك؟ أليس كذلك؟ أرى الآن أنه يتفق لك أيضاً أن تكوني ذكية في بعض الأحيان. والآن كفى ضحكاً! أظن يا أمير أنك توقفت عن الكلام حين وصلت إلى وصف الطبيعة السويسرية، فماذا عن الطبيعة بسويسرا؟
قال الأمير:
– وصلنا إلى لوسيرن، وقادوني في نزهة على البحيرة. كنت أحس أن هذا جميل، ومع ذلك كنت منقبض الصدر.
سألت ألكسندرا:
– لماذا؟
فأجاب الأمير.
– أنا نفسي لا أفهم علة ذلك. إني أشعر دائماً بانقباض في صدري، وتمتلئ نفسي قلقاً حين أرى منظراً من هذا النوع أول مرة. على كل حال، كان هذا يحدث أيام كنت ما أزال مريضاً...
– أما أنا فكان يسعدني أن أرى ذلك كله. إني لأتساءل هل سنعزم أمرنا على السفر إلى الخارج في يوم من الأيام. لقد أصبحت منذ عامين لا أجد موضوعاً للوحةٍ أرسمها:
«وُصف الجنوب والمشرق منذ زمن طويل...» . يا أمير، هلّا وجدت لي موضوع لوحة أرسمها!
قال الأمير:
– لست في هذا المجال على شيء من خبرة. يخيل إليّ أنه ليس على الرسام إلا أن ينظر ويرسم.
– أنا لا أُحسن النظر.
قاطعتهما الجنرالة قائلة:
– ما بالكما تتكلمان في ألغاز؟ لست أفهم مما تقولان شيئاً! ما هذا الذي تزعمينه؟ «لست أحسن النظر»! أن لك عينين فما عليك إذاً إلا أن تنظري! وإذا لم تستطيعي أن تنظري هنا، فلن تتعلمي في الخارج أن تنظري. الأفضل أن تقول لنا يا أمير كيف تنظر أنت؟
قالت آديلائيد:
– هذا أفضل. أن الأمير قد تعلم في الخارج كيف يحسن النظر!
– لا أدري كثيراً! أنا لم أزد هنالك على أن أسترد صحتي. لا أدري هل تعلمت أن أنظر. على كل حال، كنت سعيداً طوال الوقت!
هتفت آجلايا:
– كنت سعيداً؟ أنت تعرف كيف تكون سعيداً فكيف تستطيع أن تقول إذاً: إنك لم تتعلم أن تنظر؟ لا بد أن تكون قادراً على أن تعلمنا ما تعلمت!
قالت آديلائيد وهي ما تزال تضحك:
۔ نعم، علّمنا ما تعلمت.
قال الأمير وهو يشاركهن الضحك:
– لا أستطيع أن أعلم أحداً شيئاً. إنني طوال الوقت الذي قضيته في الخارج تقريبا، قد عشت في تلك القرية السويسرية الصغيرة، ولم أكن أتركها إلا في القليل النادر لأقوم برحلة قصيرة. فماذا أستطيع أن أعلمكن؟ كل ما ظفرت به في البداية هو أنني استطعت ألا أشعر بملل وسأم. وتحسنت صحتي تحسناً سريعاً. وبعد ذلك أصبح كل يوم من الأيام ثميناً في نظري، أثمن فأثمن، وكنت أدرك ذلك إدراكاً تاماً. كنت أرقد في المساء سعيداً جداً، وأستيقظ في الصباح أشد سعادة أيضاً. أما سبب ذلك فأمر لا أدري كيف أعبّر عنه!
سألته ألكسندرا:
– هل بلغت من السعادة أنك أصبحت لا تتوق إلى شيء في غير ذلك المكان؟
– في البداية شعرت بذلك النوع من النداء، فكنت أحس من ذلك بقلق وغم. كنت أفكّر في المستقبل، وأتمنى أن أستشرف مصيري. وكنت في بعض اللحظات اضطرب اضطرابا كبيراً. أن هناك لحظات من هذا النوع كما تعلمين، ولا سيما في العزلة. كان في تلك القرية الصغيرة شلال صغير نحيل يشبه أن يكون خيطاً من ماء، يسقط من علو شاهق، ويكاد يكون عمودياً، وهو أبيض مزبد مرغٍ صاخب. إنه يسقط من علو شاهق جدا، ولكن المرء لا يشعر بالارتفاع الذي يسقط منه. أن المسافة تبلغ نصف فرسخ علواً، ولكن المرء يحسها خمسين خطوة. كنت أحب أن أسمع صوت سقوط الماء ليلاً. وفي تلك اللحظات إنما كان يزداد اضطرابي.
«وفي بعض الأحيان أيضاً، أثناء النهار، على مكان ما من الجبل، كنت أتوقف وحيداً بعد صعود طويل. من حولي أشجار صنوبر ضخمة قديمة تفوح منها رائحة الراتينج. وفي بعيد، على مستوى أدنى، تلوح قريتنا الصغيرة التي لا تكاد تُرى. والشمس تسطع. والسماء زرقاء. والصمت مطلق. فهناك إنما كنت أحس أحياناً ذلك النداء نحو المجهول، وأقدَّر أنني لو مضيت إلى أمام قُدُماً، وأوغلت إلى بعيد، إلى بعيد، وتجاوزت ذلك الخط الذي تلتقي عنده الأرض بالسماء، فسأجد جواباً عن كل شيء، وسرعان ما تنكشف لي حياة جديدة، أكثف كثافة وأعنف عنفاً وأحرُ حرارة من الحياة عندنا ألف مرة. وكنت أحلم بمدينة كبرى مثل نابولي، ملأى بالقصور، وبالصخب، وبالحركة، وبالحياة... ما أكثر الأشياء التي حلمت بها!.. ليس هناك شيء لم أحلم به! وبعد ذلك خيل إليّ أن المرء يستطيع حتى في السجن أن يجد حياة عريضة واسعة».
قالت آجلايا:
– هذه الفكرة الأخيرة المحمودة سبق أن قرأتها في كتاب مختارات حين كنت في الثانية عشرة من عمري.
وقالت آديلائيد:
– هذا كله فلسفة. أنت فيلسوف جئت تعلمنا الحكمة!
قال الأمير مبتسماً:
– قد تكونين على حق. ربما كنت فيلسوفاً بالفعل؛ ومن يدري؟ لعلني أنوي أن أعلمكن الحكمة أيضاً... هذا جائز، جائز جداً.
استأنفت آجلايا كلامها فقالت:
– فلسفتك لا تختلف، على كل حال، عن فلسفة أولامبي نيقولايفنا أرملة الموظف التي تجيء إلينا من حين إلى حين متطفلة. أن المشكلة الكبرى عندها هي السعر الرخيص والقدرة على العيش بأقل نفقة، فهي لا تحسن الكلام إلا عن كوبكات. لاحظ أنها تملك مالاً: إنها ماكرة جداً. ذلك بعينه هو شأن حياتك العريضة الواسعة في السجن، ولعله أيضاً شأنّ سنين سعادتك الأربع التي قضيتها في تلك القرية بائعاً مدينة نابولي، ربما مع تحقيق شيء من ربح، وإن لم يتجاوز الربح كوبكات.
قال الأمير:
– أما عن الحياة في السجن، فمن الجائز ألا يكون كلامي صحيحاً كل الصحة. فإنما أنا سمعت هذا الكلام من رجل قضى في السجن قرابة اثنتي عشرة سنة. إنه أحد المرضى الذين كان يعالجهم طبيبي. كان هذا الرجال يصاب أحيانًا بنوبات، وكان كثير الحركة والاضطراب والتخبط، حتى لقد حاول أن ينتحر. كانت حياته في السجن حزينة، أؤكد لكنّ ذلك... ولكن لا شك أنها كانت تساوي أكثر من كوبكات، مع أنه لم يكن له علاقات إلا بعنكبوتة وشجرة صغيرة نبتت تحت نافذته... على أنني أفضل أن أقص عليكن قصة لقاء آخر تم لي في العام الماضي. أن في الأمر الذي سأحكيه لكنّ الآن شيناً غريباً جداً، غريباً بندرة حدوثه. هو رجل اقتيد مع رجال آخرين محكوم عليهم بالإعدام، اقتيد معهم إلى المكان الذي سيتم فيه تنفيذ الحكم ، وقرئ عليهم قرار المحكمة بإعدامهم رمياً بالرصاص لجريمة سياسية. وبعد نحو عشرين دقيقة تُلي عليهم قرار الأشغال الشاقة. ولكن في الفترة التي انقضت بين تلاوة الحكم الأول وتلاوة الحكم الثاني، أي خلال العشرين دقيقة أو الربع ساعة على الأقل، عاش الرجل في يقين مطلق بأنه ميت لا محالة بعد بضع لحظات. ما كان أشد رغبتي الرهيبة في أن أسمعه يصف المشاعر التي أحسّ بها أثناء ذلك! حتى لقد أخذت ألقي عليه الأسئلة تلو الأسئلة مراراً! كان يتذكر كل شيء بوضوح خارق، ويؤكد أنه لن يستطيع نسيان تلك الدقائق في يوم من الأيام. على مسافة عشرين خطوة من صقالة الإعدام التي وقف قربها الناس والجنود، كانت قد دُفت في الأرض أعمدة ثلاثة، إذ كان هنالك عدة رجال محكوم عليهم بالإعدام. اقتيد الثلاثة الأُوَل نحو تلك الأعمدة، وشدُّوا إليها، وألبسوا لباس المحكوم عليهم بالإعدام (وهو نوع من جلباب طويل أبيض)؛ وعُصبت أعينهم حتى لا يروا البنادق. وبعد ذلك جاءت تقف، قبالة كل عمود، زمرة الجنود التي ستطلق رصاص الإعدام. أن الرجل الذي أحدثكن عنه هو الثامن في الترتيب. فكان عليه إذاً أن يذهب إلى العمود في الفوج الثالث. وجاء كاهن يبارك الرجال المحكوم عليهم بالإعدام. ولم يبق لهم من الحياة إلا خمس دقائق يعيشونها. قال لي الرجل: أن هذه الدقائق الخمس قد بدت له طويلة طولاً لا نهاية له، غنية غنى لا ينضب. بدا له أنه خلال هذه الدقائق الخمس سيعيش حيوات تبلغ من الكثرة أنه ليس في حاجة، بعد، إلى التفكير في اللحظة الأخيرة. حتى لقد رتب أموره واتخذ إجراءاته على هذا الأساس، فحدَّد الزمان الذي سيودّع فيه رفاقه وخصّص له دقيقتين، وعيّن دقيقتين أخريين للتجمع على نفسه مرة أخيرة، وترك الوقت الباقي لإلقاء نظرة على ما حوله. وإنه ليتذكر تذكراً واضحاً أنه تقيد بهذا التوزيع للوقت تقيداً تاماً. كان سيموت وهو في السابعة والعشرين من عمره ، مليئاً بالصحة والعافية، زاخراً بالنشاط والقوة. وإنه ليتذكر أنه حين ودّع رفاقه ألقى على كل منهم سؤالاً لا علاقة له بالحالة الراهنة، حتى أنه اهتم اهتماماً كبيراً بسماع أجوبتهم. حتى إذا فرغ من التوديع، جاء دور الدقيقتين اللتين نذرهما «للتجمع على نفسه» من أجل التأمل. كان يعلم سلفاً ما الذي سيفكر فيه. كان يريد أن يتصور بأقصى سرعة ممكنة وبأكبر وضوح ممكن ما سيحدث: هو الآن هنا، هو الآن حي؛ وبعد ثلاث دقائق سيصبح «شيئاً آخر»، سيصبح شخصاً آخر أو شيئاً آخر، ولكن ماذا يصبح؟ وأين يصبح؟ كان يقدّر أنه سيعرف ذلك كله خلال هاتين الدقيقين! وفي مكان غير بعيد، كانت تقوم كنيسة تلتمع قبتها المذهبة تحت أشعة الشمس. إنه يتذكر الآن شدة تحديقه إلى تلك القبة وإلى الأشعة التي كانت تنعكس عليها حينذاك. كان لا يستطيع أن ينتزع نفسه من تأمل تلك الأشعة: كان يتراءى له أن تلك الأشعة هي طبيعته الجديدة، وأنه بعد ثلاث دقائق سيندمج فيها وينصهر معها... أن تلك الحالة من عدم اليقين ومن النفرة تجاه المجهول الذي سيحين حينه كانت رهيبة فظيعة. ولكنه قال: إنه لا شيء كان أشق على نفسه عندئذ من هذه الفكرة التي كانت تدور في خاطره: «ليتني أستطيع ألا أموت! ليت الحياة تُردّ إليّ! ما أعظم الأبدية التي سأنعم بها إذا أمكن ذلك! لأحيلَنّ كل دقيقة دهراً، ولأحصينَّ جميع الدقائق لا أضيع منها واحدة، ولا أبدد منها واحدة!». وقال: أن هذه الفكرة قد صارت آخر الأمر إلى نوع من جنون حتى أصبح لا يتمنى إلا أن يُطلق عليه الرصاص.
صمت الأمير فجأة. وكان الجميع يتوقعون أن يستمر وأن يستخرج من كلامه نتيجة يختمه بها.
سألته آجلايا:
– هل انتهيت؟
فقال الأمير وكأنه يخرج من حلم:
– نعم... انتهيت!
– ولكن لماذا رويت هذا كله؟
– هكذا... تذكرته... في سياق الحديث!
قالت ألكسندرا:
– ولكنك أنهيت الكلام إنهاءٌ مباغتاً جداً. لعلك كنت تنوي يا أمير أن تستخرج منه نتيجة هي أنه ليس في الحياة لحظة تقاس قيمتها بكوبكات، وأن خمس دقائق من الحياة تساوي كنوز الأرض كلها في بعض الأحيان؟ هذا كله محمود... ولكن اسمح لي: أن ذلك الصديق الذي روى لك تلك الأهوال قد خُفِّف الحكم عليه من حكم الإعدام إلى حكم بالسجن مع الأشغال الشاقة، أليس كذلك؟ معنى هذا أنه قد وهبت له تلك «الحياة التي لا نهاية لها»، فكيف استعمل ذلك الغنى كله من بعد؟ هل عاش يحسب الدقائق فلا يضيع منها دقيقة واحدة؟
– لا... لقد ذكر لي الحقيقة هو نفسه... لأنني سألته في هذا الموضوع. إنه لم يعش بهذه الطريقة أبداً، بل بدّد دقائق كثيرة.
– هذه إذاً تجربة قاطعة: ليس في وسع الإنسان حقاً أن يعيش حياته «حاسباً». ولا بد أن لهذا علة وسبباً.
قال الأمير:
– طبعاً، لا بد أن يكون لهذا علة وسبب. ويخيّل إليّ أيضاً... لكني لا أستطيع مع ذلك أن أصدّق...
سألته آجلايا:
– هل معنى هذا أنك تتصور أن تحيا حياة فيها من الذكاء والحكمة ما ليس في حياة الآخرين؟
– نعم... خطر ببالي هذا في بعض الأحيان.
– ولا يزال يخطر ببالك؟
– نعم... أقدّر أنني أستطيعه.
بهذا أجاب الأمير وهو يبتسم تلك الابتسامة الخجلى العذبة نفسها، ناظراً إلى آجلايا. ولكنه لم يلبث أن أخذ يضحك وهو ينظر إليها من جديد مرحاً.
قالت آجلايا منزعجة بعض الانزعاج:
– يا له من تواضع!
قال الأمير:
– ما أعظم شجاعتكن! أنتن تضحكن بينما أنا قد أقلقتني هذه القصة إقلاقًا بلغ من القوة أنني حلمت بها في نومي، ولا سيما تلك الدقائق الخمس...
ونظر الأمير إلى البنات مرةً أخرى بانتباه وجَدّ.
وسألهن مضطرباً على حين فجأة، مع استمراره في التحديق إلى أعينهن:
– أأنتن غاضبات مني؟
فصاحت الفتيات الثلاث يسألنه مدهوشات:
– ولماذا تغضب؟
لأن طريقتي في الكلام تشبه طريقة إلقاء درس...
فأخذن يضحكن.
قال الأمير:
– إذا كنتن قد غضبتن، فلا تغضبن بعد الآن! أنا أعرف أنني عشت أقل مما عاش الآخرون، وإنني أفهم الحياة أقل مما يفهمها الآخرون. ولا بد أن طريقتي في الكلام غريبة!..
واضطرب الأمير اضطراباً تاماً.
قالت آجلايا بقسوة وإلحاح:
– ما دمت تقول: إنك كنت سعيداً، فلقد عشت أكثر من الآخرين لا أقل منهم. فعلام الاعتذار والمواربة؟ ولا يقلقنك خاصةً أنك تبدو كمن يلقي درساً؛ فإن هذا لم يكن فيه أي انتصار. أن المرء يستطيع بمثل تصوّفك أن يملأ بالسعادة حياة طولها مائة سنة. وسواء أأروك تنفيذ حكم بالإعدام أم مدُّوا إليك أصبعاً صغيرة، فإنك تستخرج من الأمرين كليهما فكرة فلسفية وتظل راضياً سعيداً. فما أسهل الحياة هكذا!
تدخلت الجنرالة التي ظلت تدرس وجوه المتحادثين مدة طويلة فقالت:
– ما لي أراك غاضبة حانقة دائماً؟ ثم إنني لا أفهم أيضاً عمّ تتكلمين! أي أصبع صغيرة تقصدين؟ ما هذا الهذر كله؟ أن الأمير يقول كلاماً حسناً، وإن يكن مُحزناً بعض الشيء. فلماذا تحاولين أن تثبطي همته وتدخلي اليأس إلى قلبه؟ لقد كان يضحك حين بدأ يتكلم، ثم ها هو ذا الآن مبهوت مصعوق.
– لا بأس يا ماما! وإنها لخسارة يا أمير أنك لم تشهد تنفيذ حكم بالإعدام في يوم من الأيام، وإلا لسألتك عن بعض الأمور.
أجاب الأمير:
– شهدت تنفيذ حكم بالإعدام.
صاحت آجلايا:
– رأيت إعداماً؟ كان عليّ أن أقدّر ذلك! هذا يزيد الطين بلة! فما دمت قد شهدت إعداماً فكيف تستطيع أن تدعي أنك كنت سعيداً طوال ذلك الوقت؟ ألم أكن على حق؟
وسألت آديلائيد:
– أكانت تُنفذ في قريتكم أحكام بالإعدام إذا؟
– شهدت إعداما بمدينة ليون. كنت قد سافرت إلى ليون مع شنايدر. وتم الإعدام يوم وصولنا.
عادت آجلايا تقول مصرّة ملحة:
– فماذا؟ هل أعجبك المشهد كثيراً؟ هل استخرجت منه تعاليم نافعة؟
قال الأمير:
۔ كلا، لم يعجبني البتة، حتى إنني مرضت بعده قليلاً. لكنني أعترف بأنني كنت أنظر إلى المشهد مشدوداً إليه شداً قوياً فكأنني لا أستطيع أن أحوّل بصري عنه.
قالت آجلايا معترفة:
– أنا أيضاً ما كان لي أن أستطيع أن أحوّل عنه بصري لو أتيح لي أن أشهده!
– الناس هنالك لا يحبون للنساء أن تجيء لترى هذه المشاهد، حتى أنهم يتحدثون عن أمثال هاته النساء في الجرائد.
– ذلك لأنهم يرون أن هذا ليس من شأن النساء، فكأنهم يريدون أن يقولوا: أن هذا من شأن الرجال وحدهم وأن يبروره. يا للمنطق العجيب! لا شك أنك تشاطرهم رأيهم.
قالت آديلائيد مقاطعة:
– اقصص علينا حادثة تنفيذ الحكم بالإعدام!
قال الأمير مضطرباً:
– ما كنت لأتمنى أن أفعل هذا، اليوم.
واكفهرّ وجهه.
فتدخلت آجلايا اللاذعة مرة أخرى تقول:
– لكأن حديثك إلينا في هذا الأمر يشق على نفسك ويُحْدِثُ لك ألماً.
– لا بل لأنني عن ذلك الإعدام نفسه إنما تحدثت منذ هنيهة.
– إلى من تحدثت عنه؟
– إلى خادمكم، بينما كنت أنتظر أن أستقبل...
قالت النساء الأربع تسأله:
– أي خادم؟
– ذلك الذي يمكث في حجرة المدخل... رجل شائب أحمر الوجه، كنت في حجرة المدخل أنتظر أن يستقبلني إيفان فيدوروفتش.
قالت الجنرالة:
– غريب!
وقالت آجلايا:
– الأمير رجل ديمقراطي. ولكن ما دمت قد قصصت الأمر على ألكسي، فإنك لا تستطيع أن تضنّ به علينا.
وعادت آديلائيد تقول:
– إنني أحرص على سماع هذه القصة حرصاً شديداً!
قال الأمير وهو يتلفت إليها وينتعش قليلًا (الحق أن الأمير كان يتحمس بسرعة واضحة وثقة تامة):
– منذ قليل، خطر ببالي فعلاً، حين سألتني عن موضوعٍ للوحةٍ ترسميها، خطر ببالي فعلا أن تصوري وجه رجل محكوم عليه بالإعدام، وذلك في الدقيقة التي تسبق سقوط النصل القاطع على عنقه، أي بينما هو ما يزال واقفاً على المقصلة قبل أن يضطجع على اللوح.
سألت آديلائيد:
– كيف؟ الوجه؟ الوجه واحده؟ أن هذا ليكون موضوعاً غريباً شاذاً!.. أين اللوحة في هذا؟
قال الأمير مصراً بحرارة:
– لا أدري، ولكن لم لا؟ لقد رأيت في مدينة بال، منذ مدة غير طويلة، لوحة مماثلة . وددت كثيراً لو أحدثك عنها. وسأفعل ذلك في يوم من الأيام. لقد أثرت في نفسي تأثيراً كبيراً.
قالت آديلائيد:
– ستحدثنا حتماً عن اللوحة التي رأيتها بمدينة بال، ولكن فيما بعد. أما الآن فاشرح لي لوحة الإعدام تلك. هل تستطيع أن تصفها كما تتخيلها؟ كيف يُرسم ذلك الوجه؟ أيرسم الوجه وحده، هكذا؟ وكيف هو، ذلك الوجه؟
بدأ الأمير يتكلم فقال بكل ما يملك من سلامة الطوية وحسن الإرادة، تقوده ذكرياته وكأنه نسي كل ما عدا ذلك فوراً:
– حدث ذلك قبل الموت بدقيقة. ففي اللحظة التي وضع فيها قدمه على المقصلة، بعد أن اجتاز السلم، في تلك اللحظة التفت نحوي، فرأيت وجهه وفهمت كل شيء... ولكن كيف السبيل إلى وصف هذا بكلمات؟ إنني لأتمنى كثيراً أن يتاح لك أنت أو أن يتاح لرسام آخر تصوير ذلك الوجه! الأفضل أن تكوني قد رأيت بعينيك! ولقد قدّرت أنا منذ تلك اللحظة أن هذه اللوحة يمكن أن تكون مفيدة. ويجب على المرء أن يطلع على كل ما سبق ذلك، كل ما سبقه، كله! كان الرجل يعيش في السجن، وكان يقدّر أنه سيعيش أسبوعاً على الأقل، قبل أن ينفذ فيه الحكم: كان يعوّل على أن الإجراءات الشكلية طويلة، وعلى أن الأوراق ستُرسل إلى جهة أخرى فلا تعود منها قبل انقضاء أسبوع، ولكن اتفق أن اختصرت الإجراءات لسبب من الأسباب. كان نائماً في الساعة الخامسة من الصباح. الوقت نهاية تشرين الأول (أكتوبر). وفي الساعة الخامسة من الصباح يكون الظلام ويكون برد. دخل رئيس السّجانين مع الحرس بغير ضجة ولا ضوضاء، ولمس كتفه لمساً خفيفاً. نهض الرجال على كوعه ورأى النور، فقال يسأل: «ماذا جرى؟» فقيل له: «الإعدام في الساعة العاشرة». كان لا يزال النوم في عينيه، ولم يشأ أن يصدّق أذنيه، وحاول أن يناقش، فقال: أن الأوراق لا يمكن أن تصل قبل أسبوع آخر. ولكنه حين استيقظ تماماً كف عن النقاش وصمت. ذلك ما رُوي هناك. وقال الرجل: «ولكن هذه قسوة، هكذا، على حين فجأة، دفعة واحدة!». ثم صمت من جديد، وأصبح لا يريد أن يقول شيئاً. انقضت ثلاث ساعات أو أربع في الاستعدادات: الكاهن، الإفطار الذي يشتمل على خمرة ولحم وقهوة (أليس هذا استهزاء؟ لو فكرنا في الأمر ملياً لرأينا أنه قسوة! ومع ذلك يفعله هؤلاء لبساطة قلوبهم موقنين يقيناً تاماً من أنه رأفة إنسانية!). ثم بدأ تنظيف الرجل (هل تعلمين ما هو التنظيف الذي يؤخذ به رجل محكوم عليه بالإعدام؟) ثم اقتيد خلال المدينة إلى المقصلة... أظن أن المرء، هناك أيضاً، حين يُقتاد إلى المقصلة، لا بد أن يعتقد أن حياة لا نهاية لطولها ما تزال أمامه. يخيّل إليّ أنه لا بد أن يقول لنفسه أثناء الطريق حتماً: «ما زالت حياة طويلة أمامي. بقيت ثلاثة شوارع. ثم ذلك الشارع الآخر الذي فيه دكان خبّاز على اليمين... ما يزال هناك وقت قبل أن نصل إلى دكان الخبّاز!». وفي كل جهة من حوله جمهور وصرخات وضوضاء وآلاف الوجوه وآلاف النظرات. أن عليه أن يحتمل ذلك كله، وأن يحتمل خاصةً هذه الفكرة: «هؤلاء ألوف من الناس لن يُعدم منهم واحد، أما أنا فأُعدم!». على كل حال، هذا كله يسبق الدقيقة الفاصلة. ولكن ها هو ذا السلم الذي يؤدي إلى المقصلة، وها هو ذا الرجل يقف أمام هذا السلم فيأخذ يبكي فجأة. إنه مع ذلك رجل يزخر فحولة وقوة. هو واحد من قطاع الطرق فيما يظهر. كان الكاهن يجلس قربه طوال الطريق على العربة، ولا ينفك يكلّمه. أغلب الظن أن الرجل لا يسمع من كلام الكاهن شيئاً. لقد بدأ يصغي إليه في البداية، ولكنه منذ سمع الكلمات الأولى أصبح لا يفهم. نعم، لا بد أن الأمور جرت على هذا النحو. وها هو ذا يصعد السلم أخيراً (إن أرجلهم موثقة فهم لا يستطيعون أن يتقدموا إلا بخطى صغيرة). كان الكاهن، ولعله رجل ذكي، قد كفّ عن مخاطبته، فهو لا يريد الآن أن يمدَّ إليه الصليب ليقبّله. كان الرجل منذ وصل إلى السلم قد اصفرّ اصفراراً شديداً، أما الآن، على المقصلة، فقد أصبح اصفراره كالبياض.
«لعل ساقيه كانتا لا تستطيعان حمله؛ أنهما متصلبتان كالخشاب؛ ولا بد أنه كان يشعر بغثيان، كأن شيئاً كان يعبث بحلقه. هل أحسست بشيء من هذا يوماً حين كنت تخافين، أو في لحظات مرعبة يحتفظ فيها المرء بوعيه كاملا، ولكنه يصبح بغير قدرة البتة؟ يخيّل إليّ أن الإنسان، حين يداهمه هلاك لا سبيل إلى تحاشيه، كانهيار منزل فوقه مثلاً، إنما يشعر عندئذ برغبة لا تقاوم في أن يقعد مغمضًا عينيه، وليحدث ما يحدث!...
في مثل هذه اللحظات من الضعف والوهن إنما كان الكاهن يبادر، بحركة سريعة ومن دون كلام، فيقرّب الصليب من شفتي الرجل لتقبيله، وهو صليب صغير من فضة، ذو أربعة أفرع، يقرّبه مراراً كثيرة، في كل لحظة... فمتى لامس الصليب الشفتين فتح الرجل عينيه وارتدّ إلى الحياة لحظات قليلة واستأنفت ساقاه السير. كان يقبل الصليب في نهم وشراهة، بسرعة شديدة، كأنه يستعجل التزود بشيء ما، كيفما اتفق، ولكنني لا أصدّق أن يكون قادراً في تلك الدقيقة على أن يشعر بعاطفة دينية.
«وظل الحال على هذا المنوال إلى أن رقد الرجل على لوح الخشب الذي تسقط عليه سكين المقصلة... هنالك أمر غريب: أن من النادر أن يغمى على المرء أثناء هذه الثواني الأخيرة! على العكس، يحيا الدماغ عندئذ حياة أشدّ، وأنشط، بل وأقوى، كآلة مندفعة في عملها. إنني أتخيّل قرعات الخواطر التي تقرع الرأس وتظل ناقصة، وربما كانت غريبة بل ومضحكة: (هذا الرجل الذي ينظر إليّ... أن له ثؤلولاً في جبينه. والجلّاد: أن أحد أزرار سترته صدئ...». وفي مثل هذه اللحظات يعرف المرء كل شيء، ويتذكر كل شيء. هنالك نقطة وحيدة لا يمكن نسيانها ولا يمكن تجنبها بأغماء، وحول هذه النقطة إنما يدور كل شيء. تصوري أن الأمر يظل على هذا النحو إلى آخر ربع ثانية، حين يكون الرأس قد أصبح تحت السكّين، فالرجل ينتظر... و«يعلم». إنه يسمع انزلاق الحديد فجأة فوقه. ذلك أنه يسمعه حتماً، ولا يستطيع إلا أن يسمعه. لو كنت أنا الشخص الذي ينفَّذ فيه الإعدام لتعمدت أن أتنصت، ولسمعت صوت انزلاق الحديد! قد لا يدوم هذا إلا معشار ثانية، ولكن المرء يسمع الصوت حتماً! تصوري أن هناك من يدّعون أن الرأس، بعد انقطاعه وسقوطه، ربما يظل يعلم خلال ثانية أنه انقطع وسقط!.. يا له من إحساس!... وماذا لو دام هذا الإحساس خمس ثوان؟... ارسمي المقصلة بحيث لا يرى الناظر على المستوى الأول، إلا تلك الدرجة الأخيرة التي يضع عليها الجاني قدمه. إنه يضع قدمه على هذه الدرجة، فنرى في اللوحة رأسه، ووجهه الأصفر، والصليب الذي يمده إليه الكاهن. وهو ينظر، وهو «يعرف كل شيء». أن اللوحة هي ذلك الصليب وذلك الرأس. نعم تلك هي اللوحة. أما رأس الكاهن، ورأس الجلّاد، ورأسا مساعديه، ورؤوس بعض المشاهدين، تحت، وكذلك أعينهم... أما كل ذلك فيمكن أن يُضاف إلى اللوحة خلفيةً أو ملحقات أو نوعاً من ضباب... هكذا أتخيّل أنا تلك اللوحة».
صمت الأمير، ونظر إلى المستمعات.
قالت ألكسندرا وكأنها تخاطب نفسها:
– ليس في هذا شيء من تصوف طبعاً!
واقترحت آديلائيد:
– والآن اقصص علينا كيف وقعت في الغرام!
فنظر إليها الأمير مدهوشاً؛ فقالت آديلائيد بنوع من التسرع:
– اسمع. يجب عليك أيضاً أن تحدثنا عن لوحة مدينة بال تلك؛ أما الآن فأريد أن أسمعك تقص علينا حكاية وقوعك في الغرام. لا تدافع عن نفسك، فلقد وقعت في الغرام. ثم إنك متى قصصت شيئاً، كففت عن أن تكون فيلسوفاً.
وسألته آجلايا فجأة:
– إنك متى فرغت من حكاية شيء تشعر فوراً بالخزي والعار مما قلته. فلماذا؟
قالت الجنرالة مقاطعة بلهجة حازمة وهي تلقي على آجلايا نظرة استياء:
– هذا غباء منك أخيراً!
فقالت ألكسندرا مؤيدة:
– نعم، هذا خروج علي العقل!
فقالت الجنرالة ملتفتةً نحو الأمير:
– لا تصدّقها يا أمير. إنها تفعل ذلك عامدةً بدافع الخبث والمكر. ليست قليلة الأدب إلى هذا الحد! لا تذهبن بك الظنون كل مذهب إذا رأيتهن يناكدنك هذه المناكدة! لا شك أن في رؤوسهن أفكاراً مبيتة، ولكنهن يحببنك منذ الآن! أنا أعرف وجوههن!
قال الأمير ملحاً على هذه الأقوال:
– أنا أيضاً أعرف وجوههن.
قالت آديلائيد باستطلاع وفضول:
– كيف؟
وقالت البنتان الأخريان مشوّقتين أيضاً:
– ماذا تعرف من وجوهنا؟
لكن الأمير ظل صامتاً جاداً. وانتظرت البنات جميعاً جوابه. ثم قال في رفق وجد:
– سأحكي لكنّ هذا فيما بعد!
صاحت آجلايا:
– أنت تريد حتماً أن تستثير فضولنا وأن تدعنا في بلبلة! يا للتعاظم والتفاخم!
وأسرعت آديلائيد تقول:
– طيب. ولكن ما دمت من علماء الفراسة، فلا بد أنك كنت في يوم من الأيام عاشقاً مغرماً. لم يخطئ إذاً ظني. فاقصص علينا قصة عشقك!
قال الأمير بذلك الصوت العذب الرصين نفسه:
– أنا لم أكن عاشقاً. وإنما... وإنما كنت سعيداً بطريقة أخرى.
– كيف؟ بماذا؟
– طيب. سأحكي لكن.
بذلك تمتم الأمير وقد بدا عليه شرود الفكر.
الفصل السادس
بدأ الأمير يتكلم فقال:
– في نظراتكن إليّ من شدة الاستطلاع ما يدل على أنكن قد تغضبن إذا أنا لم ألبّ رغبتكن في إرواء هذا الاستطلاع.
ثم أسرع يضيف مبتسماً:
– لا، لا، كنت أمزح! كان هناك... كان هناك أطفال، وكنت أقضي وقتي كله مع الأطفال، معهم وحدهم. هم أطفال القرية، هم كل العصبة التي تذهب إلى المدرسة. ليس معنى هذا أنني عُنيت بتعليمهم، فلقد كان يعلمهم معلم هو جول تيبو. جائز أنني كنت أعلمهم قليلاً، ولكن المهم أنني كنت أقضي وقتي كله معهم، وفي ذلك إنما أنفقت السنين الأربع التي أمضيتها هناك. لم أكن في حاجة إلى أي شيء آخر. وكنت أقول لهم كل شيء، ولا أخفي عنهم شيئاً. وقد أصبح آباؤهم وأمهاتهم وأسرهم يحقدون عليّ آخر الأمر، لأن الأولاد أصبحوا لا يستغنون عني، فهم دائماً حولي. أما المعلم فقد أصبح عدوّي الأكبر. كان لي أعداء كثيرون، بسبب الأطفال. حتى أن شنايدر نفسه أخذ يلومني. فما الذي كانوا يخشونه هذه الخشية كلها؟ أن في وسع المرء أن يقول للطفل كل شيء، كل شيء. لشد ما أدهشني دائما مدى جهل الكبار بالصغار، بل ومدى جهل الآباء بأبنائهم أنفسهم. ما ينبغي أن نخفي عن الأطفال شيئاً بحجة أنهم صغار، وأنهم لم يأزف الحين الذي يجب فيه أن يعلموا.
يا لها من فكرة مؤسفة ضارة! أن الأطفال يدركون بسهولة عظيمة أن آباءهم يرونهم أصغر سناً من أن يستطيعوا الفهم، مع أنهم في الواقع يفهمون كل شيء! (إن الكبار يجهلون أن الطفل يستطيع حتى في أخطر ظرف أن يسدي بنصيحة رائعة). وحين ينظر إليك هذا الطائر الصغير الجميل، حين ينظر إليك سعيداً واثقاً، فهل تستطيع أن تغشه دون أن تشعر بالخزي؟ إنني أسميهم طيوراً صغيرة، لأن الطيور خير ما في العالم!
«أريد أن أقول: أن الناس حقدوا عليّ في القرية، بسبب شيء معيّن على وجه التخصيص... أما المعلم تيبو، فقد كان حقده غيرة وحسداً. كان في أول الأمر لا يزيد على أن يهز رأسه ويدهش حين يرى أن الأطفال يفهمون عني فهماً واضحاً ذلك الوضوح كله، مع أنهم لا يكادون يفهمون شيئاً مما كان يعلمهم. ثم أخذ يسخر مني ويتهكم عليّ، حين قلت له: إننا لا نملك، لا أنا ولا هو، أي شيء نعلمهم إياه، وأنهم هم الذين يستطيعون بالأحرى أن يعلمونا شيئاً ما. كيف أمكنه أن يغار مني وأن يشهّر بي مع أنه كان يعيش هو نفسه مع الأطفال؟ أن المرء لتبرأ نفسه وتشفى حين يعيش مع الأطفال!... كان يوجد في مصحّ شنايدر مريض من المرضي كان إنساناً شقياً كل الشقاء بائساً كل البؤس. أن شقاءه يبلغ من الهول والفظاعة أنه قد لا يكون له شبيه أو نظير. كان يعالج هناك معالجة مجنون. ولكنني أعتقد أنه لم يكن مجنوناً، وإنما كان إنساناً يتألم ألماً رهيباً لا أكثر... فذلك هو مرضه كله. ليتكنّ تعلمن ماذا أصبح الأطفال عنده آخر الأمر! ولكن الأفضل أن أحدثكن عن هذا المريض فيما بعد. أما الآن فسأحكي لكنّ كيف بدأ هذا كله. كان الأطفال في البداية لا يحبونني. ذلك أنني كنت كبيراً جداً، وكنت أخرق جداً. وأنا أعلم أنني لست وسيم الطلعة. وهنالك عامل آخر هو أنني أجنبي. كان الأطفال في البداية يستهزئون بي، بل أنهم رموني بالحجارة حين رأوني أقبّل ماريا. ولم أكن قد قبلتها من قبل إلا مرة واحدة على كل حال.
وهنا لاحظ الأمير ابتسامات تلمّ بأفواه الفتيات اللواتي كن يصغين إلى حديثه، فأسرع يوقف التبسم قائلاً:
– لا، لا تضحكن. لم يكن ذلك حبًا. ليتكن تعرفان مدي تعاسة تلك المخلوقة، إذاً لرثيتن لحالها مثلي. كانت من قريتنا. وكانت أمها امرأة عجوزاً دبّت فيها الشيخوخة وأضناها الهرم. وقد أذِنَ لها عمدة القرية بأن تحوّل إحدى نوافذ كوخها الحقير إلى بسطة تعرض عليها ما تبيعه من بريم وخيط وتبغ وصابون بقروش قليلة تكاد تقيم بها أودها وتمسك عليها رمقها. كانت الأم مريضة متورمة الساقين دائما، فهي تظل قابعة وراء النافذة طول الوقت. وكانت ابنتها ماريا، وهي في نحو العشرين من عمرها، ضعيفة هزيلة نحيلة. لقد أضواها مرض السل منذ مدة طويلة، ولكن ذلك لم يكن يمنعها من القيام بأعمال الخدمة المضنية القاسية طوال اليوم في دور مختلفة. كانت تغسل الأرض وتنظف أواني المطبخ، وتكنس الأحواش، وتعتني بالبهائم في الحظائر. وقد أغواها فرنسي هو مندوب محل تجاري كان ماراً بالقرية فأخذها معه ثم لم يلبث أن تركها في عرض الطريق بعد أسبوع واحد، ومضى في سبيله. فعادت إلى البيت، بعد أن تسوّلت واستجدت طوال الطريق، عادت رثة الأسمال، قذرة الهيئة، مثقوبة الحذاءين. لقد ظلت تسير على قدميها أسبوعاً كاملاً، وتنام حيث يتاح لها أن تنام، فأصابها أثناء ذلك برد، وكانت قدماها مقرّحتين، وكانت يداها متورمتين متشققتين. ثم إنها لم تكن جميلة في يوم من الأيام، باستثناء عينيها الطيبتين العذبتين البريئتين. وكانت تصمت صمتا رهيبا. ذات مرة، في الماضي، أخذت تغني فجأة أثناء عملها. إني لأتذكر الآن أن جميع الناس قد دهشوا عندئذ وسخروا منها: «هه! ماريا تغني؟». فخجلت ماريا خجلا شديدا واضطربت اضطرابا كبيرا، ومنذ ذلك اليوم صمتت إلى الأبد. في ذلك الأوان كان الناس ما يزالون يعاملونها معاملة لطيفة، ولكنها حين عادت مريضة ممزقة لم يشعر أحد نحوها بأي عطف أو شفقة. ما أقساهم في مثل هذه الظروف! ما أفظع ما تتصف به آراؤهم الراسخة وأفكارهم السابقة من عنف لا رحمة فيه ولا رأفة! أمها نفسها كانت أول من استقبلها بغضب واحتقار. قالت لها: «لقد لطخت شرفي بالعار!». كانت الأم أول من أسلمها للناس يعيّرونها ويخزونها. فحين عرف سكان القرية أن ماريا رجعت، تواعدوا جميعهم تقريباً على أن يلتقوا في البيت الحقير الذي تسكنه العجوز: شيوخ وأطفال ونساء وفتيات: جمهور كبير شره متعجل! كانت ماريا مستلقية على الأرض، عند قدمي العجوز، جائعة، رثة الثياب. وكانت تبكي. فلما رأت جميع هؤلاء الناس أخفت وجهها في شعرها المنفوش وتسطحت على بطنها. كان الجميع ينظرون إليها نظرتهم إلى بهيمة نجسة دنسة. العجائز يقرّعونها ويشتمونها، والشباب يسخرون منها، والنساء يحقّرنها ويؤنبنها وينظرن إليها باشمئزاز وتقزز نظرتهم إلى دودة عنكبوت. لقد سمحت الأم بهذا كله، وكانت تهز رأسها مؤيدة محبذة. كانت منذ ذلك الحين قد تفاقم مرضها تفاقماً شديداً حتى لكأنها تحتضر. وقد ماتت فعلاً بعد شهرين. كانت تعلم أنها ستموت قريباً، ولكنها إلى أن ماتت لم تفكر في أن تصالح ابنتها. حتى إنها أصبحت لا تكلمها، وصارت تجبرها على أن تبيت عند المدخل، ولا تكاد تطعمها. وكانت الأم في حاجة دائمة إلى وضع قدميها المريضتين في ماء ساخن، فكانت ماريا تهيئ لها ذلك كل يوم، وتعتني بها، والعجوز تقبل هذه العناية صامتة، فلم تقل لماريا كلمة لطيفة في لحظة من اللحظات.
«لكن ماريا كانت تتحمل كل شيء. وبعد ذلك، حين تعرفتُ إلى ماريا، لاحظت أنها هي نفسها كانت تؤيد وتحبذ المعاملة التي عوملت بها، وتعد نفسها أحقر الناس طراً. وحين أصبحت الأم لا تستطيع أن تنهض، أصبحت عجائز القرية تأتي إليها لتعتني بها واحدة بعد واحدة، كما جرت العادة بذلك. ومنذ ذلك الوقت أصبح لا يطعم أحد ماريا قط، وأصبح الناس في القرية يطردونها، وأصبح الجميع يرفضون أن يعهدوا إليها بعمل، حتى لكأنهم يبصقون عليها، وصار الرجال كأنهم لا يعدّونها امرأة فهم ينطقون في حضورها كلمات بذيئة فاحشة. ولكنهم في بعض الأحيان، في القليل النادر، حين يكونون سكارى يوم الأحد، يرمون لها على الأرض دريهمات قليلة ليضحكوا، فتجمعها ماريا صامتة. وكانت منذ ذلك الحين قد أخذت تبصق دماً. وصارت أسمالها آخر الأمر قطعاً ممزقة، حتى أصبحت تستحي أن تظهر للناس في القرية. وكانت منذ عودتها قد أخذت تمشي حافية القدمين. وفي ذلك الأوان خاصةً إنما اندفع الأطفال – وهم عصبة يبلغ عددهم قرابة أربعين طفلاً – اندفعوا يهاجمونها بضراوة، حتى ليرمونها بالوحل. طلبت ماريا من الراعي أن يسمح لها بحراسة الأبقار، ولكن الراعي طردها. ومع ذلك أخذت تتبع القطيع إلى المرعى كل صباح، من تلقاء نفسها دون أن يأذن لها الراعي بذلك. وإذ لاحظ الراعي أنها تنفعه في عمله كثيراً، أصبح لا يطردها. حتى إنه أصبح يعطيها بقايا غدائه من الجبن والخبز أحياناً. وكان يعد ذلك إحساناً منه ونعمة كبرى يمن بها عليها.
«وحين ماتت أمها لم يخجل الكاهن من أن يذلها وأن يهينها على مسمع ومرأى من جميع الناس. كانت ماريا واقفة وراء التابوت باطمارها البالية تبكي. وكان الناس قد توافدوا لينظروا إليها سائرين وراء النعش. ففي تلك اللحظة قال الكاهن، وهو رجل ما يزال شاباً ولا يطمح إلى شيء إلا أن يكون واعظاً كبيراً، قال وهو يومئ إلى ماريا: «هذه هي التي كانت سبب وفاة تلك المرأة المحترمة (وهذا خطأ، فالعجوز مريضة منذ سنتين). ها هي ذي أمامكم لا تجرؤ أن ترفع عينيها لأن الله قد دمغها إلى الأبد، ها هي ذي حافية القدمين ممزقة الأسمال، عبرةً لجميع أولئك الذين يفقدون الفضيلة! ومن هي؟ هي ابنتها نفسها!»، وهلم جرا وهلم جرا!..
«تصوّرْنّ أن هذا الصغار من جهة الكاهن قد أرضى جميع الناس تقريباً. إلا أن شيئاً قد حدث في تلك اللحظة، هو أن الأطفال قد تحزبوا لماريا، لأنهم في ذلك الأوان كانوا قد انحازوا جميعاً إلى صفي وأخذوا يحبون ماريا. ليكن تفصيل ما حدث:
«كنت قد أردت أن أصنع شيئاً لماريا. كانت ماريا في حاجة ماسة إلى شيء من مال، ولكنني لم أكن أملك هنالك قرشاً واحداً. لم أكن أملك إلا دبوساً له فص من ماس. فلما مرّ بالقرية بائع مقايض يتنقل من قرية إلى قرية، بعته الدبوس بثمانية فرنكات. لا شك أن الدبوس تساوي قيمته أربعين فرنكاً. وأخذت أبحث عن ماريا، وحدي، مدة طويلة. فالتقيت بها أخيراً وراء سور القرية في ممر بين الجبال قرب شجرة. فأعطيتها الثمانية فرنكات، ووصيتها بأن تحرص عليها لأنني لن أملك غيرها. ثم قبّلتها وطلبت منها ألا يذهب بها الظن إلى أنني أطمع منها في سوء، ولم أقبلها لأنني مغرم بها، بل لأنني أرثي لحالها وأرأف بها كثيراً، وقلت لها: إنني لم أعدها في يوم من الأيام آثمة بل تعيسة. كنت أرغب رغبة قوية في مواساتها وتعزيتها، وفي إقناعها بأنها يجب عليها ألا تشعر بالمذلة تجاه الآخرين، ولكنها لم تفهم ذلك حتماً؛ وقد أحسست أنا بذلك على الفور، رغم أنها ظلت صامتة طول الوقت تقريباً، مطرقة إلى الأرض، خافضة عينيها، خجلى إلى أبعد حدود الخجل. فلما فرغت من كلامي قبلت يدي، فأردت أن أقبل يدها تواً، لكنها انتزعت يدها بقوة.
«وفي تلك اللحظة إنما فاجأتنا عصبة الأطفال. وقد علمت فيما بعد أنهم كانوا يراقبونني منذ مدة طويلة. أخذ الأطفال يصفرون صفيراً عالياً ويصفقون بأيديهم تصفيقاً قوياً، ويضحكون ضحكاً مجلجلاً، بينما كانت ماريا تهرب راكضة. حاولت أن أكلمهم، لكنهم رموني بالحجارة. وفي ذلك اليوم نفسه علم جميع الناس بالنبأ، علمت به القرية كلها. وسقط هذا كله مرةً أخرى على رأس ماريا. فأخذوا يحتقرونها مزيداً من الاحتقار؛ حتى لقد سمعت أنهم يريدون معاقبتها، ولكن الأمر لم يتجاوز حدود الكلام ولله الحمد! غير أن الأولاد لم يتركوا لها بعد ذلك اليوم راحة. أصبحوا يطاردونها أكثر مما كانوا يطاردونها في أي يوم من الأيام قبل ذلك، وأخذوا يرمونها بالوحل. وصارت حين يلاحقونها تحاول أن تهرب منهم، ولكن سرعان ما كانت أنفاسها تنقطع بسبب مرض السل الذي يعيث في صدرها. صاروا لا يتركونها، وأخذوا يقذفونها بأنواع السباب والشتائم. حتى لقد اضطررت مرة أن أقتتل معهم. وحاولت بعد ذلك أن أكلمهم. وصرت أحدثهم كل يوم، في كل مناسبة. فكانوا يقفون ليصغوا إلى كلامي مع استمرارهم في إطلاق الشتائم بأصوات عالية. حدثتهم عن مدى الشقاء الذي تعانيه ماريا. فما هي إلا فترة قصيرة حتى أخذوا يكفون عن إهانتي، وتعودوا أن ينصرفوا صامتين. وتوصلنا أخيراً إلى أن نتبادل الحديث. لم أخفي عنهم شيناً، بل حكيت لهم كل شيء. فكانوا ينصتون إليّ بكثير من الاهتمام، وسرعان ما أخذوا يرثون لحال ماريا، ويشفقون عليها. حتى لقد صار بعضهم يحيونها تحية لطيفة إذا التقوا بها عابرين. تلكنّ عادةً هناك: يحيي الناس بعضهم بعضاً إذا تلاقوا، سواء أكانوا متعارفين أم غير متعارفين. تخيّلن دهشة ماريا. في ذات يوم حملت إليها طفلتان طعاما، ثم جاءتا ترويان لي ذلك. قالتا: أن ماريا أخذت تبكي، وأنهما الأن تحبانها كثيراً. ولم تنقض مدة قصيرة حتى أخذ جميع الأطفال يحبونها، وحتى أخذوا يحبونني أنا أيضاً في الوقت نفسه. أصبحوا يجيئون إليّ أحياناً كثيرة، ويطلبون مني دائماً أن أحكي لهم شيئاً ما. أظن أنني كنت أجيد الحكي، فقد كانوا يحبون كثيراً أن يستمعوا لي. ثم أصبحت لا أدرس ولا أقرأ إلا لأستطيع أن أحكي لهم بعد ذلك ما درست وما قرأت. وعلى هذا النحو إنما انقضت السنين الثلاث الأخيرة من حياتي هناك. وفيما بعد، حين أخذ عليّ الناس – ومنهم شنايدر – أنني أكلم الأطفال الصغار كما لو كانوا أشخاصاً كباراً، دون أن أخفي عنهم شيئاً، كنت أجيبهم جميعاً بأن من العار أن نكذب على الأطفال، وبأن الأطفال يعرفون كل شيء حتى دون أن نحدثهم عنه، مهما نحاول إخفاءه عنهم، وبأن ما نخفيه عنهم قد يتعلمونه تعلماً فاسداً، أما أنا فأطلعهم عليه بطريقة مناسبة. وحسبُ الإنسان أن يتذكر طفولته هو حتى يدرك صحة ما أقول. لكنني لم أفلح في إقناعهم...
«كنت قد قبّلت ماريا قبل موت أمها بنحو خمسة عشر يوماً. ولكن حين ألقى الكاهن خطبته، كان جميع الأطفال قد انحازوا إلى صفي. وأسرعتُ أقصّ عليهم وأشرح لهم ما فعله الكاهن. فغضبوا جميعاً عليه، حتى أن بعضهم بلغوا من غضبهم عليه أنهم كسروا له زجاج بيته بالحجارة وقد أوقفتهم عن ذلك، مبرهناً لهم على أن عملهم هذا شر. ولكن أهل القرية كانوا قد علموا بكل شيء، وعندئذٍ إنما أخذوا يتهمونني بأنني أُضلُّ الأولاد عن الطريق القويم؛ وعلموا بعد ذلك أن الأولاد أصبحوا يحبون ماريا، فقلقوا قلقاً شديداً. ولكن ماريا كانت قد سعدت كثيراً.
«وبلغ أهل القرية من القلق أنهم حظروا على أولادهم أن يقابلوا ماريا، ولكن الأولاد كانوا يلحقون بها خفيةً إلى حيث توجد مع القطيع في مكان بعيد يقع على مسافة نصف فرسخ من القرية تقريباً، فبعضهم يحمل إليها حلوى، وبعضهم يجيء لا لشيء إلا أن يعانقها ويقول لها: «أحبك يا ماريا»، ثم يعودون إلى القرية راكضين ركضاً سريعاً. غير أن ماريا أوشكت أن تصبح مجنونة من هذه السعادة المباغتة. فهي ما كانت لتجرؤ أن تحلم بمثل هذا الانقلاب في يوم من الأيام. والحق أنها أصبحت مضطربة فرحة في آن واحد. أما الأطفال، ولا سيما البنات، فقد كانوا يحبون خاصةً أن يذهبوا إليها ليقولوا لها: إنني أحبها، وإنني أحدثهم عنها كثيراً. وحكوا لها أنهم مني إنما علموا كل شيء عنها، وأنهم الآن يحبونها ويرثون لحالها ويشفقون عليها، وأنهم سيظلون كذلك دائماً؛ وكانوا بعد ذلك يجيئون إليّ بوجوه فرحة وهيئات منهمكة ليقولوا لي: أنهم رأوا ماريا وأن ماريا تسلّم عليّ.
«وكنت أذهب في المساء إلى الشلال. أن هناك ركناً تخفيه أشجار الحور عن القرية إخفاء تاماً. فإلى هناك كان يجيء الأطفال في المساء ليلتقوا بي، حتى أن بعضهم كان يجيء خفية وسراً. أعتقد أن حبي لماريا كان يسعدهم أكبر السعادة؛ وكان هذا في الواقع هو الأمر الوحيد الذي كذبت عليهم فيه طول مدة إقامتي هناك. فإنني لم أحاول أن أبدّد أوهامهم شارحاً لهم إنني لا أحب ماريا، أي أنني لست عاشقاً لها مغرماً بها، وإنما أنا أرثي لحالها، وأرأف بها. كنت ألاحظ أنهم يفضلون أن يكون الأمر على نحو ما تصوروا وقرروا. كذلك سكتُّ وتركت لهم أن يظنوا أنهم حزروا الحقيقة!
«وكانت قلوب هؤلاء الصغار تبلغ من رقة العاطفة والحنان أنهم بدا لهم، فيما بدا لهم من أمور، أنه إذا كان صديقهم ليون يحب ماريا هذا الحب كله، فلا يجوز أن تظل ماريا رثة الثياب إلى هذا الحد، ولا أن تمشي حافية القدمين.
«تصورْنّ أنهم جاؤوها بحذاءين وجوربين، بل جاؤوها أيضاً بثوب. أما كيف استطاعوا ذلك، فهذا ما لا أفهمه. لقد تكاتفت العصبة كلها على إنفاذ الأمر. فإذا سألتهم لم يزيدوا على أن يضحكوا، البنات كن يصفقن بأيديهنّ ويقبّلننى. وكان يتفق لي في بعض الأحيان أيضاً أن أرى ماريا خفية. لقد تفاقم مرضها تفاقماً شديداً، فلا تكاد تستطيع أن تمشي. ثم أصبحت أخيراً لا تنفع الراعي في شيء، لكنها ظلت تتبع القطيع كل صباح، وتجلس منتحية منزوية. كان هنالك صخرة تهبط هبوطاً عمودياً وفيها ما يشبه أن يكون مصطبة ناتئة، فكانت ماريا تجلس في القاع على الصخرة مختفية من جميع الجهات، وتلبث على هذه الحال لا تكاد تتحرك، من الصباح حتى ساعة عودة القطيع إلى القرية. لقد أوهنها السل حتى صارت في أغلب الأحيان تغمض عينيها وتستند إلى الصخرة وتغفو غفواً ضعيفاً وهي تتنفس بكثير من العناء. وقد بلغ وجهها من الهزال أنه أصبح أشبه بهيكل عظم؛ وكان العرق يتصبب على جبينها وصدغيها.
«على هذه الحال كنت أجدها دائماً. وكنت لا أجيئها إلا للحظة قصيرة، فقد كنت أنا أيضاً أحرص على أن لا يراني أحد. فما أن أظهر لها حتى تنتفض وتفتح عينيها وتهرع تقبّل يدي. أصبحت لا أسحب يديّ حين تقبلهما، فقد لاحظت أن تقبيل يديّ يسعدها. وكانت ترتجف وترتعش وتبكي ما ظللت قريباً منها هناك. صحيح أنها حاولت أحياناً أن تتكلم، ولكن كان يصعب على المرء أن يفهم ما تقوله. كانت في بعض الأوقات كالمجنونة، من فرط انفعالها الرهيب وانشداهها المذهل.
«وكان الأطفال يصحبونني أحياناً. وقد ألفوا في مثل تلك الأحوال أن يقفوا غير بعيد، ليقوموا بمهمة الحراسة ويحمونا مما لا أدري! كان ذلك يبهجهم كثيراً! حتى إذا انصرفنا بقيت ماريا وحيدةً من جديد، لا تتحرك، مغمضة العينين، مسندةً رأسها إلى الصخرة. لعلها كانت تحلم...
«وفي ذات صباح لم تقوَ على أن تتبع القطيع، ولبثت في بيتها الصغير الخالي. وسرعان ما علم الأطفال بذلك، فجاءوا يزورونها في النهار، كلهم تقريباً. كانت مستلقية على سريرها وحيدة تماماً. وانقضى يومان لا يعتنى بها أثناءهما إلا الأطفال مناوبةً. حتى إذا عرف أهل القرية بعد ذلك أن ماريا تحتضر، جاءت عجائز تسهر عليها. يبدو أن الناس في القرية قد أخذوا يشفقون على ماريا آخر الأمر. أو هم أصبحوا، على الأقل، لا يحرّمون على أولادهم أن يروها، ولا يؤنبونهم إذا هم رأوها. وكانت ماريا طوال الوقت في حالة غفو، إلا أن نومها كان مضطرباً، وكان يمزّق صدرَها سعال رهيب. وكانت العجائز تطرد الأولاد، إلا أن الأولاد يهرعون إلى النافذة ولو لحظة قصيرة ليقولوا: «تحية يا صديقتنا الطيبة ماريا!» فكانت ماريا ما أن تراهم أو تسمعهم حتى تنتعش، فإذا هي تحاول أن تنهض على كوعها دون أن تستجيب لنهي العجائز، وإذا هي تحييهم بهز رأسها وتشكرهم. واستمر الأولاد على أن يأتوها بحلوى، لكنها أصبحت لا تكاد تأكل من حلواهم شيئاً.
«أؤكد لكنّ أنها بفضل الأولاد إنما ماتت سعيدة. وبفضل الأولاد إنما نسيت شقاءها الأسود، كأنها حصلت على غفران خطاياها، ذلك أنها ظلت إلى النهاية تعتقد أنها آثمة كبيرة. كان الأولاد يتدافعون على نافذتها تدافع العصافير تلطم الزجاج بأجنحتها، ويصيحون قائلين لها كل صباح: «نحن نحبك يا ماريا!». وماتت ماريا بسرعة. وكنت أظن أنها ستعيش زمناً أطول من ذلك كثيراً.
«عشية موتها، عند غروب الشمس، ذهبت أعودها. لا بد أنها تعرفتني. صافحتها مرة أخيرة. ما كان أشد يبوسة يدها! وفي الغداة جاء من يقول لي: أن ماريا ماتت!
«أصبح يستحيل عندئذ ضبط الأطفال. غمروا تابوتها بالأزهار، ووضعوا على رأسها إكليلا. وفي الكنيسة، امتنع الكاهن في هذه المرة عن ذكر سوءاتها. ومهما يكن من أمر، فإن الذين حضروا الدفن كانوا قلة قليلة هم عدد من الفضوليين. ولكن الأطفال هرعوا جميعاً حين وجب حمل النعش. وإذ كانوا لا يقوون على حمله فقد حاولوا أن يساعدوا وأن يعاونوا. وركضوا وراء النعش، وكانوا جميعاً يبكون. ومنذ ذلك الحين أصبح قبر ماريا ضريحاً يزوره الأطفال. فهم في كل سنة يغمرونه بالأزهار، وقد زرعوا حوله أشجار ورد.
«ولكن بعد دفن ماريا أخذ أهل القرية يضطهدونني في أمر الأولاد. وكان الكاهن والمعلم أكبر المحرّضين على اضطهادي. حرّموا على الأولاد أن يروني، وحتى شنايدر وعد بأن يسهر على تنفيذ ذلك. لكننا كنا نستطيع أن يرى بعضنا بعضاً، فنتخاطب بالإشارات من بعيد. ثم سوّيت الأمور من بعد، غير أن ما حدث كان حسناً جداً: فبفضل تلك الاضطهادات، اقتربت من الأطفال مزيداً من الاقتراب. حتى إنني في السنة الأخيرة تصالحت تقريباً مع المعلم والكاهن. أما شنايدر، فكان يكلمني كثيرا، ويناقش «مذهبي» المشؤوم في معاملة الأولاد. أي مذهب؟ لقد أطلعني شنايدر أخيراً على فكرة غريبة جداً كانت قد خطرت بباله – حدث هذا قبيل سفري مباشرةً – فقال لي: إنه مقتنع اقتناعاً تاماً بأنني أنا نفسي طفل حقاً، طفل من جميع النواحي، وإنني ليس لي من صفات الرجل البالغ الراشد إلا القامة والوجه، أما من ناحية النفس والطبع والتكوين وربما الذكاء، فما أنا بالرجل البالغ الراشد، وإنني قد أظل على هذه الحال ولو عشت ستين عاماً. ضحكتُ من كلامه ذاك. فلا شك أنه لم يكن على حق. وإلا ففي أي شيء يمكن أن أعدّ طفلاً؟ هناك شيء واحد صحيح، هو إنني لا أحب صحبة الكبار فعلا؛ لقد لاحظت هذا في نفسي منذ مدة طويلة. وما زلت لا أحب صحبة الكبار، ولا أحسن التعامل معهم. ومهما يظهروا لي من طيب ونبل، فإنني أظل أشعر بضيق ما بقيت معهم، حتى إذا استطعت أن أتركهم وأن أمضي إلى رفاقي أحسست بارتياح وغبطة؛ ورفاقي هم دائماً أطفال، لا لأنني أنا نفسي طفل، بل لأنهم يجتذبونني لا أكثر!
«إنني منذ بداية إقامتي في تلك القرية، أثناء نزهاتي التي أقوم بها في الجبل وحيداً حزيناً، كنت إذا التقيت أحياناً، ولا سيما عند الظهر، ساعة الخروج من المدرسة، بتلك العصبة الصاخبة من الأطفال الذين يركضون حاملين حقائبهم وألواحهم، صارخين، ضاحكين، لاعبين، كنت أشعر بنفسي كلها تتجه إليهم وتندفع نحوهم على حين فجأة. لا أدري كيف أفسّر هذا وكيف أعلله، ولكنني ما التقيت بهم مرةً إلا شعرت بسعادة قوية تملأ قلبي وتغمر نفسي. كنت أتوقف وأضحك سعادةً حين أرى إلى سيقأنهم الصغيرة المتحركة النشيطة المتواثبة دائماً، وحين أرى هؤلاء الصبية والبنات يركضون، وحين أراهم يضحكون أو يبكون (ذلك أن بعضهم يكونون قد اتسع وقتهم أثناء الطريق من المدرسة إلى المنزل، لأن يتضاربوا ويبكوا، ثم يتصالحوا ويستأنفوا لعبهم). كنت عندئذ أنسى حزني. وبعد ذلك، طوال تلك السنين الثلاث، أصبحت لا أستطيع حتى أن أفهم كيف ولماذا يمكن أن يشعر البشر بالضجر والسأم، أو بالحزن والأسى! لقد كان مصيري كله مع الأطفال.
«لم أفكر يوماً في أن أترك تلك القرية، ولا خطر ببالي ساعة أنني أستطيع أن أعود إلى روسيا في يوم من الأيام. كان يخيل إليّ أنني مقيم هناك إلى الأبد، لكنني فهمت أخيراً أنني لا أستطيع أن أكون عالة على شنايدر؛ وفي ذلك الأوان إنما حدث أمر خطير إلى حدّ أن شنايدر نفسه استحثني على الرحيل، وكتب إلى هنا باسمي. سوف أرى ما هو الأمر، وسوف أطلب النصح. ولعل مصيري يتغير بذلك تغيراً تاماً، ولكن المسألة ليست هنا، وليس هذا أهم شيء. فإنما الشيء الهام أن حياتي قد تغيرت تغيراً كاملا منذ الآن. لقد تركت هناك أشياء كثيرة، أشياء كثيرة جداً. لقد زال كل شيء. قلت لنفسي وأنا في القطار: «أنا الآن ذاهب إلى الناس. وربما كنت لا أعرف شيئاً. غير أن حياة جديدة قد بدأت، قررت أن أنفذ مهمتي بشرف واستقامة، وثبات وصلابة. إنني أقدَّر أن حياتي مع الناس ستكون شاقة ومملة. فقررت أن أكون مهذباً مع الجميع، وأن أكون صريحاً. لا شك في أنهم لن يطالبوني بأكثر من ذلك! وربما عدّوني طفلاً هنا أيضاً. لا بأس! ثم أن جميع الملأ يعدونني أبله! إني لأتساءل لماذا يعدّونني كذلك؟ صحيح إنني مرضت في الماضي حتى صارت أشبه بأبله. ولكن في أي شيء أنا الآن أبله، أحدّث نفسي قائلاً: «أنهم يعدونني أبله، وأنا مع ذلك ذكي، ثم هم لا يخطر لهم هذا على بال!». كثيراً ما تدور هذه الفكرة في رأسي.
حين تلقيت بمدينة برلين الرسائل الصغيرة التي استطاعوا أن يرسلوها إليّ من هناك، أدركت أخيراً مدى ما يحملونه لي من حب. أن الرسالة الأولى تثير كثيراً من الألم دائماً! ما كان أشد حزنهم حين صحبوني إلى محطة القطار. كانوا قد بدأوا يستعدون لرحيلي منذ شهر قائلين: «ليون مسافر، ليون مسافر إلى الأبد». أصبحنا نلتقي قرب الشلال في كل مساء، ونأخذ نتحدث عن فراقنا المرتقب، ونكون أحيانًا مرحين كمرحنا في السابق، لكنهم تعودوا حين يتركونني ليذهبوا إلى النوم، أن يضموني بأذرعهم ضماً قوياً فيه كثير من المحبة والحنان، وذلك أمر لم يكونوا يفعلونه من قبل. وكان بعضهم يجيئون فرادى، خفية عن الآخرين، ليعانقوني على مهلهم من دون رقيب. وفي يوم رحيلي، جاؤوا جمهرةً واحدة ليصحبوني إلى المحطة. أن المحطة تبعد عن القرية مسافة فرسخ. كانوا يكبحون شعورهم ويكظمون عاطفتهم فيمسكون عن البكاء، غير أن بينهم من كانوا لا يفلحون في ذلك فإذا هم ينشجون بأصوات عالية، ولا سيما البنات. سرنا بخطى سريعة حتى لا نصل متأخرين، لكن واحداً منهم انفصل عن الآخرين فجأة، وارتمى عليّ في منتصف الطريق، وطوقني بذارعيه الصغيرتين، وأخذ يقبلني، فاستوقف بذلك موكبنا كله. وحين ركبت وتحرك القطار صاحوا يودعوني بصوت واحد، ولبثوا في أماكنهم إلى أن اختفى القطار عن أبصارهم اختفاء تاماً. وكنت أنا أيضاً أنظر إليهم...
«اسمعنني... حين دخلت إلى هنا منذ قليل، فرأيت وجوهكن اللطيفة – أنا الآن أنعم النظر في الوجوه كثيراً – شعرت بفرح في قلبي منذ الكلمات الأولى. ولا أكتمكن أنني قلت لنفسي منذ برهة: لعلني خلقت إنساناً محظوظاً بالفعل. إنني أعرف أن المرء لا يلتقي كثيراً بأناس يمكن أن يحبهم من أول وهلة. ومع ذلك ما كدت أترك القطار حتى التقيت بكن. أنا أعلم أن على الإنسان أن يخجل من التحدث عن عواطفه إلى جميع الناس؛ ومع ذلك أراني أحدثكن عن عواطفي؛ إنني لا أحس تجاهكن أي شعور بالخجل أو العار. إنني غير اجتماعي، وقد لا أزوركن مرةً أخرى إلا بعد مدة طويلة. فلا تسئن تفسير ذلك، ولا يذهبنّ بكنّ الظن خاصةً إلى أنني لا أحرص عليكن، أو أن شيئاً قد صدر عنكن فآذاني. لقد طلبتن مني أن أصف لكنّ ما رأيته في وجوهكن. يسرني أن أفعل هذا. فأما أنت يا آديلائيد إيفانوفنا، فإن لك وجهاً سعيداً هو أقرب وجوهكن أنتن الثلاث إلى القلب. وعدا أنك جميلة جداً، فإن المرء يقول لنفسه حين ينظر إليك: «إن لها وجه أخت طيبة». إنك تواجهين الناس ببساطة ومرح، لكنك تُحسنين أيضاً سبر القلوب. ذلك ما يوحيه إليّ وجهك. وأما وجهك أنت يا ألكسندرا إيفانوفنا، فإنه هو أيضاً جميل محبب إلى القلب، ولكن ربما كنت تخفين حزناً. ليس هناك أي شك في أنك طيبة القلب، لكنك لست فرحة. أن في وجهك شيئاً يذكر بوجه «مادونا» هولباين بمدينة درسدن هذا عنك أنت. تُرى هل حزرت؟ أنت التي تعتقدين أنني أحزر. وأما أنت يا إليزابت بروكوفيفنا (قال ذلك وهو يلتفت فجأة نحو الجنرالة)، فإنني لا أحس إحساساً بل أوقن يقيناً أنك طفلة حقيقية، طفلة في كل شيء، طفلة في الخير وفي الشر على السواء، وذلك رغم كل سنك. هل غضبت لأنني أقول لك هذا؟ إنك لتعرفين رأيي في الأطفال وشعوري نحوهم. ولا يذهبن بكن الظن إلى أنني حدثتكن عن وجوهكن بمثل هذه الصراحة لأنني بسيط ساذج فحسب، فربما كانت لي فكرة أبّيتها».
الفصل السابع
حلين صمت الأمير، كان الجميع يناظرون إليه فرحين، حتى آجلايا، ولكن الفرح كان واضحاً في وجه إليزابت بروكوفيفنا خاصة.
هتفت تقول:
– هذا هو الامتحان! فيا أيتها الآنسات، أنتن اللواتي كنت تقدّرن أنه سيكون عليكن أن تحمينه حمايتكن لفتى صغير مسكين، ها هو ذا قد تكرّم عليكن فأبهجكن، ثم تحفظ فلم يعد بالمجيء إليكن إلا نادراً. ها نحن أولاء جميعاً غبيات. وإنه ليسعدني ذلك. لكن أغبانا وأدعانا إلى الضحك منه والسخرية به إنما هو إيفان فيدوروفتش. مرحى يا أمير! منذ حين، كان قد صدر أمرٌ بامتحانك!... أما ما قلته عنى من النظر في وجهي، فهو الحقيقة بعينها. أنا طفلة. وأنا أعرف ذلك. وكنت أعرف ذلك قبل أن تعرفه أنت. لقد أحسنت الإفصاح عن رأيي بكلمة واحدة. إنني أجد طبعك شبيهاً بطبعي من جميع النواحي، وإني لسعيدة بهذا. نحن كقطرتي ماء تشابها، مع فارق واحد هو أنك رجل وأنني امرأة، وأنني لم أكن بسويسرا يوماً. ذلك هو الفرق كله.
هتفت آجلايا تقول:
– لا تتعجلي كثيراً يا ماما. لقد قال الأمير منذ هنيهة إنه في جميع ما أسرّ به إلينا كان يبيت فكرة، وإنه لم يتكلم عبثاً ولهواً!
وقالت الأختان ضاحكتين:
– نعم، نعم.
– لا تسخرن يا عزيزاتي. قد يكون أمكر منكن أنتن الثلاث مجتمعات. لسوف ترون، ولكن لماذا لم تقل شيئاً عن آجلايا يا أمير؟ أن آجلايا تنتظر، وأنا أيضاً أنتظر.
– لن أقول شيئاً الآن. سأقول فيما بعد.
– لماذا؟ يخيل إليّ أنك لاحظتها ملاحظة كافية!
– آ... نعم نعم... لاحظتها كثيراً. أنت آية من آيات الجمال يا آجلايا إيفانوفنا. أنك تبلغين من الجمال أن المرء لا يجرؤ أن ينظر إليك.
قالت الجنرالة ملحة:
– أهذا كل شيء؟ وطبيعتها؟
– يصعب على المرء أن يقضي في الجمال برأي. لم أتهيأ لهذا بعد. الجمال لغز.
تداخلت آديلائيد قائلة:
– معنى هذا أنك تلقي على آجلايا لغزاً أو أحجية. حاولي أن تحزري يا آجلايا. ولكن أليست جميلة يا أمير؟
أجاب الأمير بحرارة وهو ينظر إلى آجلايا معجباً:
– جميلة جمالاً خارقاً. تكاد تكون في مثل جمال ناستاسيا فيليبوفنا، رغم أن وجهها مختلف جداً...
نظرت النساء الأربع بعضهن إلى بعض مدهوشات.
وسألته الجنرالة:
– مَن؟ ناستاسيا فيليبوفنا؟ أين رأيت ناستاسيا فيليبوفنا؟ أي ناستاسيا فيليبوفنا؟
– منذ قليل كان جبريل آرداليونتش يري إيفان فيدوروفتش صورتها.
– كيف؟ حمل إلى إيفان فيدوروفتش صورتها؟
– ليريه الصورة. أن ناستاسيا فيليبوفنا قد أهدت اليوم صورتها إلى جبريل آرداليونتش، فجاء بها هذا إلى الجنرال ليريه إياها.
صاحت الجنرالة تقول:
– أريد أن أرى الصورة! أين هي تلك الصورة؟ إذا كانت قد أهدتها إليه هو، فلا بد أنه محتفظ بها، ولا بد أنه الآن في حجرة المكتب. إنه يأتي للعمل هنا في جميع أيام الأربعاء ولا ينصرف قبل الساعة الرابعة. احضروا جبريل آرداليونتش حالا! بل لا تحضروه! فلست أموت شوقاً إلى رؤيته! يا أمير، يا صديقي، هلاً تلطفت فذهبت إلى حجرة المكتب، فأخذت تلك الصورة منه، ثم جئتني بها إلى هنا. قل له، من فضلك، إنني أريد أن أرى الصورة!
قالت آديلائيد بعد أن خرج الأمير:
– لا بأس به! لكنه بسيط مسرف في البساطة قليلاً!
فقالت ألكسندرا مؤيدة:
– نعم، مسرف في البساطة قليلاً، حتى ليصبح من ذلك مضحكاً بعض الشيء!
لا الأولى ولا الثانية كان يبدو عليها أنها تفصح عن كل رأيها، وتعبّر عن كل ما يخالج نفسها.
قالت آجلايا:
– وامع ذلك عرف كيف يحسن التصرف حين تحدث عن وجوهنا. مدحنا جميعا وسرّنا جميعا، حتى ماما. صاحت الجنرالة تقول:
– لا تتخابثي! هو لم يمدحني، ولكن أنا التي شعرت بأنني مُدحت.
سألت آديلائيد:
– هل تظنين أنه كان يحاول أن يحسن التصرف ويصل إلى الهدف؟
– يخيل إليّ أنه ليس بسيطاً إلى الحد الذي يُظن فيه.
قالت الجنرالة غاضبة:
– ها هي ذي تعيد الكرة! في رأيي أنا أنكنّ أدعى منه إلى الضحاك عليكن! صحيح أنه ساذج قليلاً، لكنه يعرف ماذا يريد – أقول هذا بأنبل معاني هذا التعبير. هو مثلي تماماً.
قال الأمير يحدّث نفسه نادماً وهو ذاهب إلى حجرة المكتب: «لا شك أنني أخطأت إذ جئت على ذكر تلك الصورة. ولكن ربما أكون قد أحسنت إذ تكلمت عنها مع ذلك... ».
إن فكرة غريبة قد أخذت تومض في ذهنه، وإن لم تكن بعدُ واضحة كل الوضوح.
إن جبريل آرداليونتش ما يزال في حجرة المكتب، غارقاً في أوراقه. كان يبدو عليه أنه يستحق فعلاً الرواتب التي كان يتقاضاها من شركة الأسهم.
واضطرب إلى أقصى حدود الاضطراب حين طلب منه الأمير الصورة، وروى له كيف علموا هناك بوجودها. وصاح يقول غاضباً حانقا مقهورا:
– آه... آه... ما كانت حاجتك إلى تلك الثرثرة كلها؟
ثم تمتم يقول من بين أسنانه:
– أنت لا تعرف شيئاً... أنت أبله!
قال الأمير:
– متأسف. قلت ما قلته من دون تفكير، أثناء الحديث. قلت: أن آجلايا تكاد تكون في مثل جمال ناستاسيا فيليبوفنا.
سأله جانيا أن يقصل عليه الأمر بالتفصيل، ففعل الأمير. فألقى عليه جانيا نظرة ساخرة.
ودمدم يقول:
– أنت مغرم بناستاسيا فيليبوفنا طبعاً...
ولكنه لم يكمل كلامه، وشرد فكره.
كان واضحاً أنه قلق. وذكره الأمير بأن الجنرالة تطلب منه الصورة.
قال جانيا فجأة، كأن فكرة مباغتة قد وافته:
– اسمع يا أمير. هناك معونة ضخمة أحب أن أطلبها منك... ولكنني... حقاً... لا أدري...
اضطراب جانيا ولم يكمل كلامه. كان يبدو نهباً لصراع داخلي، وكان يلوح عليه التردد في اتخاذ قرار.
انتظر الأمير صامتاً. وعاد جانيا يروز الأمير بنظرة ثابتة فاحصة متفرسة. ثم بدأ يتكلم ثانية فقال:
– يا أمير... إنني الآن... لسبب من الأسباب... سبب غريب كل الغرابة... بل سبب مضحك... لست مسؤولاً عنه... وهذا على هامش المسألة على كل حال... أقول: إنني الآن.. فيما أظن.. مؤاخذ قليلاً هناك... لذلك قررت أن أغيب مدة من الوقت إلا إذا دُعيت. لكنني مع ذلك في حاجة قصوى إلى أن أكلم آجلايا إيفانوفنا. لقد كتبت بضعة أسطر (كان جانيا يحمل بيده ورقة مطوية)، ولكني لا أدري كيف أوصلها إليها. فهل لك يا أمير أن تحمل هذه الورقة إلى آجلايا إيفانوفنا فوراً، ولكن إلى آجلايا إيفانوفنا وحدها، أي دون أن يرى أحد ذلك؟ هل تفهمني؟ ليس الأمر أمر سرّ كبير... ليس هناك أي شيء يمكن أن... ولكن هل تصنع لي هذا؟
أجاب الأمير:
– لا يسرني هذا كثيراً!
فألحّ جانياً قائلاً:
– آه... أمير... المسألة بالغة الخطورة بالنسبة إليّ... وقد تجيبني آجلايا... صدّقني... إذا كنتُ أتجه إليك وأستعين بك فلأن المسألة بالغة الخطورة... من ذا الذي يمكنني أن أكلفه بإيصال الرسالة إليها سواك! أن المسألة ذات خطورة... خطورة رهيبة، بالنسبة إليّ.
كان وجه جانيا يعبّر عن خوف بلغ من الفظاعة والهول أن الأمير لم يرفض وأجاب يقول وهو ينظر إلى جانيا نظرة إشفاق:
– طيب... سأنقلها.
فقال جانيا ضارعاً وقد اطمأن رو عه:
– ولكن يجب ألا يلاحظ أحد... وإني لأعتمد على عهد الشرف الذي تقطعه على نفسك يا أمير، أليس كذلك؟
قال الأمير:
– لن أري الرسالة لأحد.
أفلت من جانيا لفرط تعجله قوله:
– ليست الورقة مختومة، ولكن...
ثم أمسك عن إتمام كلامه خجلاً مضطرباً.
فأجابه الأمير ببساطة:
– لن أقرأها.
وأخذ الصورة، وخرج من حجرة المكتب.
فلما أصبح جانيا وحيداً، أمسك رأسه بيديه، وقال يحدث نفسه: «كلمة واحدة منها تكفي... فربما أقطع عندئذ صلتي بـ... ». كان من شدة انفعاله أثناء الانتظار، لا يستطيع أن يعود إلى أوراقه، وأخذ يذرع الغرفة من ركن إلى ركن...
وكان الأمير يمشى شارد اللب. لقد أدهشه إدهاشًا مزعجاً أن يكلف بهذه المهمة. بل أن مجرد تصوره رسالة يبعث بها جانيا إلى آجلايا كان يسوءه. لكنه قبل أن يصل إلى الصالون قاطعاً إليه حجرتين، توقف فجأة كمن تذكر شيئاً ما، وألقى نظرة على ما حوله، ثم اقترب من النافذة التماساً لمزيد من الضوء، وأخذ ينعم النظر في صورة ناستاسيا فيليبوفنا.
كان كمن يحاول أن يحزر شيئاً يختبئ في هذه الصورة وقد خطف انتباهه منذ قليل. لم يتركه ذلك الشعور الذي قام في نفسه حينئذ، ولكنه يحاول الآن أن يتثبت منه، على ما يظهر.
إن هذا الوجه الخارق بجماله وبشيء آخر، يخطف الآن انتباهه بمزيد من القوة. أن فيه كبرياء وعجباً، وإن فيه احتقاراً وازدراء، بل يكاد يكون فيه كره وبغض، غير أنه يعبر في الوقت نفسه عن ثقة وبراءة وسذاجة غريبة. حتى أن هذا التضاد نفسه يوقظ في النفس شيئاً من العطف والشفقة. ثم أن هذا الجمال الذي يبهر الأبصار لا يكاد يطاق: جمال الوجه الشاحب ذي الخدين الخاسفين قليلا، والعينين الساطعتين.. إنه جمال غريب؛ تأملها الأمير لحظة، ثم ثاب إلى نفسه، فألقى نظرة حواليه؛ وها هو ذا يقرب الصورة من شفتيه بحركة سريعة فيقبلها!
حين دخل الأمير الصالون بعد قليل كان وجهه هادئاً كل الهدوء. ولكنه قبل ذلك ما أن صار في قاعة الطعام (قبل الصالون بحجرتين) حتى كاد يصطدم عند الباب بآجلايا، داخلة.
لقد كانت وحيدة.
قال لها وهو يمد إليها الرسالة.
– رجاني جبريل آرداليونتش أن أنقل إليك هذا.
فتوقفت آجلايا، وتناولت الورقة، وألقت على الأمير نظرة غريبة. لم يكن في هذه النظرة أي اضطراب أو خجل. كل ما هنالك شيء قليل من دهشة؛ حتى أن هذه الدهشة كانت من طرف الأمير وحده. فكأن آجلايا كانت بهذه النظرة تطالب الأمير بأن يشرح لها كيف وجد نفسه مُقحماً في هذه القضية، وتطالبه بذلك في هدوء وتعالٍ. وارتسم على وجهها أخيراً شيء من سخرية، وابتسمت ابتسامة خفيفة ومرّت،
تأملت الجنرالة صورة ناستاسيا فيليبوفنا خلال مدة من الوقت صامتة، مع شيء من الاحتقار، وكانت ممسكة بالصورة أمامها مادةً ذراعها إلى مسافة بعيدة مسرفة في البعد.
ودمدمت تقول أخيراً:
– نعم، هي جميلة، بل هي جميلة جداً. لقد رأيتها مرتين، ولكن من بعيد.
ثم اتجهت إلى الأمير فقالت له:
– إذا هذا هو نوع الجمال الذي تحبه؟
فأجاب الأمير بشيء من الجهد:
– نعم... هذا هو...
– أقصد.. هل هو هذا بعينه؟
۔ نعم... هو بعينه؟
– لأي سبب؟
دمدم الأمير يقول رغم إرادته تقريباً، كأنه يكلم نفسه ولا يجيب أحداً:
– في هذا الوجه ألم كبير وعذاب عظيم...
قالت الجنرالة:
– على كل حال قد لا يكون هذا عندك إلا هذياناً...
ورمت الصورة على المائدة بحركة كبيرة متعالية. فتناولت ألكساندرا الصورة، واقتربت منها آديلائيد، وأخذت البنتان تنعمان النظر فيها معاً. وفي تلك اللحظة عادت آجلايا.
هتفت آديلائيد تقول فجأة وهي تنظر إلى الصورة بشراهة من فوق كتف أختها:
– يا لها من قوة!
فسألتها إليزابت بروكوفيفنا بخشونة:
– أين؟ أي قوة؟
فقالت آديلائيد بحرارة:
– أن جمالاً كهذا الجمال لهو قوة. أن جمالاً كهذا الجمال يمكن أن يقلب العالم!
وعادت إلى مسند لوحتها شاردة الذهن مفكرة.
لم تُلق آجلايا على الصورة إلا نظرة عابرة، فجعّدت عينيها، ومطت شفتها السفلى، ومضت تجلس منزوية عاقدةً ذراعيها على صدرها.
دقت الجنرالة الجرس، فدخل خادم فقالت له:
– ادع جبريل آرداليونتش. هو في حجرة المكتب.
فهتفت ألكسندرا تقول:
– ماما!
فقالت الجنرالة حاسمة، مانعةً كل جواب:
– أريد أن أقول له كلمة! كفى!
كان واضحاً أنها مهتاجة. والتفتت إلى الأمير فقالت له:
– هل ترى يا أمير؟ لم يبق عندنا هنا إلا أسرار، لا شيء إلا الأسرار! يظهر أن هذا لا غنى له... يا للغباوة! وذلك في أمر يقتضي منتهى الصراحة والوضوح والصدق والاستقامة! هناك مشروعات زواج... وليست تعجبني هذه المشروعات!...
أسرعت ألكسندرا توقفها عن الكلام من جديد قائلة:
– ماما! ماذا جري لك؟
– ماذا تريدين يا ابنتي العزيزة؟ أهي ترضيك أنت، هذه المشروعات؟ لا مانع أن يسمع الأمير... فنحن أصدقاء!... أنا وهو، على الأقل صديقان... أن الله يبحث عن الأخيار أما الأشرار وأصحاب النزوات، فما أكثرهم! ولا سيما أصحاب النزوات أولئك الذين يقررون اليوم شيئاً ويفعلون في الغد شيئاً آخر. هل تفهمين ما أقصد يا ألكسندرا إيفانوفنا؟ هنّ يقلن، يا أمير، إنني غريبة الأطوار، في حين أنني أستطيع أن أميز الأمور. ذلك أن العبرة بالقلب، أما ما عدا ذلك فسفاسف! صحيح أن الذكاء لازم أيضاً، بل قد يكون الذكاء أهمّ شيء. لا تضحكي ساخرة يا آجلايا، فأنا لا أتناقض. فالحمقاء التي لها قلب وليس لها ذكاء، لا تقلّ شقاء عن حمقاء لها ذكاء وليس لها قلب. هذه حقيقة قديمة. فأنا الحمقاء التي لها قلب وليس لها ذكاء؛ وأنت الحمقاء التي لها ذكاء وليس لها قلب؛ وذلك هو السبب في أننا كلتينا شقيتان، وفي أن كلينا نتألم وتعذب.
لم تستطع آديلائيد أن تكبح جماح نفسها، بعد أن كانت بين جميع الحاضرات أكثرهن احتفاظاً بمزاحها المرح الفرح، فقالت:
– ما الذي يشقيك يا ماما؟
فقالت الجنرالة حاسمة:
– يشقيني أولاً أن لي بنات متفيهقات كثيراً... ولما كان هذا كافياً فلا داعي إلى أن أفيض في الكلام على ما عداه! كفى ثرثرة! سنرى كيف تحسنان التصرف كلتاكما (ولست أعد آجلايا) بما تملكان من قوة فكر وسنرى هل ستستطيعين، أنت يا ألكساندرا إيفانوفنا المدهشة، أن تكوني سعيدة مع صاحبك السيد النبيل!...
وإذ رأت جانيا داخلاً، صاحت تقول:
– آ... وهذا عريس آخر...
وحيا جانيا، فأجابته دون أن تدعوه إلى الجلوس:
– صباح الخير. هيه... إذاً ستزف؟
فتمتم جبريل آرداليونتش يقول مبهوتاً مصعوقاً:
– أزف؟ كيف هذا؟... كيف أزف؟
لقد اضطرب اضطراباً فظيعاً.
– أقصد ستتزوج؟ ذلك ما أسألك عنه، إذا كان هذا التعبير يرضيك أكثر!
فكذب جبريل آرداليونتش قائلا وقد احمر وجهه من الخجل:
– لـ... لـ... لا... لن.. لن..
وألقى نظرة سريعة على آجلايا التي كانت ما تزال منتحية، ثم أشاح وجهه بسرعة. كانت آجلايا تنظر إليه بهدوء وبرود، دون أن تحوّل عنه بصرها، وكانت تراقب اضطرابه.
ألحت إليزابت بروكوفيفنا اللجوج تسأله:
– لا؟ تقول لا؟ يكفي. سأتذكر أنك في صباح يوم الأربعاء قد أجبت عن سؤالي بقولك: «لا». في أي يوم نحن؟ ألسنا في يوم الأربعاء؟
أجابت آديلائيد:
– أظن أنه يوم الأربعاء يا ماما.
– لا أحد يعرف الأيام والتواريخ. في أي يوم من أيام الشهر نحن؟
قال جانيا:
– في اليوم السابع والعشرين.
– في السابع والعشرين؟ هذا تاريخ مناسب من بعض النواحي. طيب. أستودعك الله! عندك أعمال كثيرة فيما أظن، وأنا يجب عليّ أن أرتدي ثيابي لأخرج. استرد هذه الصورة. وانقل تحيتي إلى أمك المسكينة نينا ألكسندروفنا! إلى اللقاء يا أمير، يا صديقي، يا صديقي! زرني كثيراً. أما أنا فإنني ذاهبة إلى العجوز بيلوكونسكايا خصيصاً لأكلمها عنك. واسمع يا عزيزي: إنني أؤمن صادقة بأن الله إنما أرسلك من سويسرا إلى بطرسبرج من أجلي أنا. قد تعمل شيئاً آخر، ولكنك بعثت إلى هنا من أجلي أنا خاصة. الله هو الذي شاء ذلك. إلى اللقاء يا عزيزاتي. ألكسندرا، تعالى إليّ يا صديقتي.
وخرجت الجنرالة. وتناول جانيا الصورة من على المائدة مضطرباً طائش العقل ممتلئ النفس حقداً، ثم التفت نحو الأمير وهو يبتسم ابتسامة مصطنعة:
– أنا عائد إلى بيتي يا أمير. فإذا كنت ما تزال تنوي أن تقيم عندنا، فسأقودك إلى هناك، فأنت لا تعرف العنوان.
قالت آجلايا وهي تنهض عن مقعدها:
– لحظة يا أمير. عليك أن تكتب شيئاً في دفتري (الألبوم). بابا يدعى أنك خطاط. سأجيئك بالدفتر.
قالت آديلائيد:
– إلى اللقاء يا أمير. أنا أيضاً منصرفة.
وصافحت الأمير مصافحة قوية، وابتسمت له ابتسامة فيها لطف ومودة ومحبة، وخرجت دون أن تلقي على جانيا نظرة واحدة.
قال جانيا وهو يصرف بأسنانه ويهرع نحو الأمير:
– أنت الذي ثرثرت فجئت على ذكر زواجي... يا لك من ثرثار وقح!
بهذا جمجم جانيا متعجلا بصوت خافت، وقد استعر وجهه سخطا وحنقا، والتمعت عيناه خبثا وشرا.
أجابه الأمير بأدب هادئ:
– أؤكد لك أنك مخطئ. لقد كنت أجهل كل الجهل أنك ستتزوج.
– لقد سمعت إيفان فيدوروفتش يقول منذ قليل: أن كل شيء سيتقرر هذا المساء في منزل ناستاسيا فيليبوفنا، وهذا ما نقلته إليهن. أنت كاذب! أنّى لهنّ أن يعلمن النبأ بغير ذلك. من ذا الذي كان يمكن أن يبلغهن النبأ سواك؟ ألم تشر العجوز إلى هذا إشارة مباشرة؟
– أنت أقدر مني على أن تعرف من عساه أطلعهن على النبأ، إذا كنت تحس حقاً أنه قد كان ثمة إشارة. أما أنا فلم أقل كلمة واحدة.
قاطعه جانيا يسأل محموماً:
– هل نقلت رسالتي؟ ماذا كان الجواب؟
ولكن آجلايا دخلت في تلك اللحظة نفسها، فلم يتسع وقت الأمير لأن يجيب.
قالت آجلايا وهي تضع دفترها على المائدة:
– إليك الدفتر يا أمير. فاختر منه صفحة واكتب لي شيئاً. هذه ريشة جديدة كل الجدة. لا ضير في أن تكون من معدن؟ لقد سمعت أن الخطاطين لا يستعملون ريشة من معدن.
كانت وهي تكلم الأمير كأنما لا تلاحظ حتى وجود جانيا. ولكن بينما كان الأمير يهيئ الريشة ويختار صفحة ويستعد للكتابة، دنا جانيا من المدفأة التي كانت تقف آجلايا قربها على يمين الأمير، وتمتم يقول في أذنها تقريباً، بصوت مختلج متقطع:
– كلمة، كلمة واحدة منك، فأنجو!
التفت الأمير بحركة سريعة ونظر إليهما كليهما. كان يُقرأ في وجه جانيا كرب كبير ويأس هائل. لكأنه نطق بتلك الكلمات دون تفكير، كمن يلقي بنفسه في الماء.
تأملته آجلايا بضع لحظات بتلك الدهشة الهادئة نفسها التي ظهرت عليها منذ قليل أمام الأمير؛ فكانت هذه الدهشة، وهذه البلبلة اللتان يبدو أنهما ناشئتان عن أن الفتاة لا تفهم شيئاً البتة مما يقال لها، كانتا أشد هولاً وأفظع وقعاً في نفس جانيا من أعمق احتقار وأكبر ازدراء!
سأل الأمير:
– ماذا يجب أن أكتب؟
فقالت آجلايا وهي تلتفت إليه:
– سأملي عليك. أأنت مستعد؟ اكتب: «أنا لا أصلح للمساومات». والآن ضع التأريخ، وأرني الكتابة.
مدّ الأمير إليها الدفتر. فنظرت فيه وقالت:
– عظيم! أن لك خطاً رائعاً. هذا جميل حقاً. شكراً. إلى اللقاء يا أمير! ثم أضافت وقد تذكرت شيئاً ما:
– لحظة أخرى. تعال. سأهدي إليك تذكاراً.
فتبعها الأمير، ولكن آجلايا وقفت منذ صارت في حجرة الطعام، فمدت إليه رسالة جانيا وقالت له:
– اقرأ هذا!
تناول الأمير الرسالة، ونظر إلى آجلايا متحيراً. فقالت آجلايا:
– أنا أعرف على وجه اليقين أنك لم تقرأها، وإنك لا يمكن أن تكون نجيّ هذا الرجل وحامل أسراره. اقرأ. إنني أصر على أن تقرأ.
كان يبدو أن الرسالة كُتبت على عجل. قرأ الأمير:
«اليوم يتقرر مصيري، تعلمين كيف. اليوم سأضطر أن أقطع على نفسي وعداً لا نكول عنه. ليس لي أي حق في اهتمامك بي، ولست أحمل أي أمل. غير أنك نطقت كلمة في ذات يوم، كلمة واحدة، فأنارت تلك الكلمة ظلام حياتي الحالك، وأمست منارة لي. قولي لي كلمة أخرى كتلك الكلمة، فتنقذني من الضياع! قولي فقط: «اقطع كل صلة»، فأفعل ذلك في هذا اليوم نفسه. آه... هل يكلفك باهظاً أن تقولي لي ذلك؟ إنني إذ أطلب منك هذه الكلمة لا ألتمس إلا علامة اكتراث وشفقة، لا شيء غير ذلك، لا شيء، لا شيء! إنني لا أجرؤ أن أسمح لنفسي بأي أمل، لأنني «لا أستحق». لكنني بعد كلمة واحدة منك سأرتضي فقري من جديد، وسأحتمل حالتي اليائسة فرحاً. سأستأنف الكفاح، وسيسعدني أن أكافح، وسأبعث بالكفاح بعثاً آخر، فأزخر بقوى جديدة.
«ابعثي إليّ بكلمة الشفقة تلك وحدها («لا شيء إلا الشفقة» أحلف لك!). ولا يغضبنك تهوّر رجل يائس، رجل يغرق فيتجرأ أن يقوم بجهد أخير ليتقي الهلاك.
«ج.اي.»
فلما فرغ الأمير من القراءة قالت آجلايا بلهجة قاسية:
– يزعم هذا الرجل أن كلمة «اقطع كل صلة» لا يمكن أن تعرضني لشيء ولا يمكن أن تلزمني بشيء؛ وما هذه الرسالة، كما رأيت، إلا نوع من تأكيد مكتوب. لاحظ مدي سذاجته في الإسراع إلى وضع خط تحت بعض الكلمات، ومدى الغلظة في ظهور فكرته المبيتة ونيته المخبأة وراء ذلك. وهو يعلم على كل حال أنه لو قطع كل صلة من تلقاء نفسه، بمحض إرادته، دون أن ينتظر تشجيعاً مني، وحتى دون أن يكلمني في هذا الأمر، ودون أن يستطيع أن يعقد عليّ أي أمل، لكان من الممكن أن تتحسن عواطفي نحوه، ولكان من الممكن أن أغدو صديقة له. وهو يعلم ذلك حق العلم على كل حال! لكنه رجل دنس النفس. هو يعلم ذلك لكنه يطلب ضماناً. إنه لا يستطيع أن يبني عمله على الثقة، إنه يريد أن أعطيه أملاً، في مقابل المائة ألف روبل! أما عن الكلمة التي يزعم في رسالته أنني نطقت بها فأنارت حياته، فذلك كله كذب واختلاق وقح. كل ما هنالك أنني شعرت نحوه بشيء من الشفقة في يوم من الأيام. لكنه رجل وقح لا حياء فيه، فسرعان ما قدَّر أن في وسعه أن يعقد أملاً. لقد فهمت أنا ذلك فوراً. وهو منذ ذلك اليوم يحاول أن يوقعني في الفخ، وهذا بعينه ما حاوله في هذا النهار أيضاً. ولكن كفى الآن! خذ رسالته هذه، وأعدها إليه متى خرجتما من الدار، لا قبل ذلك.
– وما هو الجواب الذي ينبغي أن أحمله إليه؟
– لا جواب، طبعاً! فذلك خير جواب. إذاً أنت تنوي أن تقيم في بيتهم؟
قال الأمير:
– أن إيفان فيدوروفتش نفسه هو الذي نصحني بهذا منذ قليل.
– فكن منه إذاً على حذر! إنني أنبهك. لن يغفر لك إرجاع هذه الرسالة التي سترجعها إليه!
صافحت آجلايا يد الأمير مصافحة خفيفة، وخرجت. كان وجهها مقطباً مكفهراً. حتى إنها لم تبتسم له وهي تحييه برأسها مودَّعة.
قال الأمير يخاطب جانيا:
– لحظة، آخذ صرتي فوراً ثم ننصرف.
قرع جانيا الأرض بقدمه من نفاد الصبر. لقد اسودّ وجهه حنقاً. وأخيراً خرج الاثنان إلى الشارع، والأمير يحمل بيده صرّته.
سأله جانيا وهو يكاد يرتمي عليه:
– هيه، الجواب؟ ماذا قالت لك؟ هل أعطيتها رسالتي؟
فمدَّ إليه الأمير الرسالة صامتاً. فتصلب جانيا كالمتجمد، وهتف يسأل:
– كيف؟ رسالتي؟ آه... لم يعطها الرسالة! كان عليّ أن أقدّر ذلك! آه... لعنة الله عليه... الآن يتضح لي كيف أنها لم تفهم إذن شيئاً منذ قليل!... ولكن كيف، كيف أمكنك ألا تعطها الرسالة؟ آه... لعنة الله على..
– عفوك. إن ما حدث هو عكس هذا تماماً. لقد سهلت لي الظروف أن أعطيها رسالتك بعد أن أعطيتنيها أنت بلحظة واحدة، مع أدق الالتزام بما أوصيتني به. وإذا كانت الرسالة بين يديّ الآن، فلأن آجلايا قد ردّتها إليّ منذ هنيهة.
– متي؟ متي ردّتها إليك؟
– عندما أنهيت الكتابة في دفترها دعتني إلى أن أتبعها (هل سمعتها؟). فلما صرنا في قاعة الطعام مدّت إليّ هذه الرسالة وطلبت منى أن أقرأها ثم أرجعها إليك.
زأر جانيا قائلاً:
– أن تقرأها؟ أن تقرأها؟ وقرأتها؟
تجمّد جانيا في وسط الرصيف وقد بلغ من الدهشة أن فمه ظل فاغراً...
قال الأمير:
– نعم، قرأتها.
– وهي التي أقرأتك الرسالة؟ هي نفسها؟
– نعم، هي نفسها. صدّقني. ما كان لي أن أقرأها قط لولا أنني أُمرت بذلك.
لبث جانيا صامتاً خلال لحظة، يبذل جهوداً كبيرة من أجل أن يفهم شيئاً، ولكنه صاح يقول فجأة:
– مستحيل! لا يمكن أن تكون قد طلبت منك قراءة الرسالة! أنت تكذب! أنت قرأت الرسالة من تلقاء نفسك.
قال الأمير بتلك اللهجة الهادئة نفسها:
– لقد قلت لك الحقيقة. صدّق أنني آسف أشد الأسف لما أحدث هذا الأمر في نفسك من انزعاج وضيق.
– ولكن، أيها الشقي، لا بد أنها قالت لك شيئاً على الأقل، حين أعادت إليك الرسالة؟ فهل حمّلتك جواباً ما؟
– نعم، طبعًا!
– فما بالك لا تتكلم إذا! ما بالك لا تتكلم!
وقرع جانيا أرض الرصيف مرتين بقدمه اليمنى المنتعلة جرموقاً من مطاط فوق الحذاء.
قال الأمير:
– ما أن أنهت قراءة الرسالة حتى قالت لي: إنك تحاول أن توقعها في الفخ؛ فأنت تريد أن تحصل منها على وعدٍ بأمل، فإذا قويتَ بهذا الوعد، أمكنك أن تقطع الصلة دون خسران، وذلك بأمل مقداره مائة ألف روبل؛ وأضافت أنك لو فعلت دون أن تساومها، أي لو قطعت تلك الصلة من تلقاء نفسك بمحض إرادتك دون أن تطلب منها أي ضمانة سلفاً، لكان من الجائز أن تفوز بصداقتها لك. أظن أن هذا هو كل ما قالته. آ... نعم... هناك شيء آخر: فحين سألتها بعد استرداد رسالتك ما جوابها، قالت: أن خير جواب هو ألا تعطي جواباً. أظن أن هذا هو ما قالته. سامحني إذا نسيت الألفاظ التي استعملتْها هي نفسها نصاً، فأنا أنقل إليك ما أظن أنني فهمته.
استولي على جانيا غضب لا حدود له، وانفجر حنقه دون أي سيطرة على نفسه، فقال وهو يصرف بأسنانه:
– ها... هكذا!... ترمي رسائلي من النافذة!... هي لا تصلح للمساومات! طيب... طيب... ولكنني سأصلح لها أنا.. ولسوف ترى!... أنا لم أقل بعد كل شيء... لسوف ترى!... لتصلنّها أخباري!..
كان يصعّر وجهه، وكان يشحب لونه، وكان يرغي ويزبد، ويهدد بقبضة يده ويتوعد. وسارا بضع خطوات وهما على هذه الحال. لم يتحرّج جانيا أمام الأمير أي تحرّج، حتى لكأنه خالي إلى نفسه في غرفته، لأنه لم يكن يعده شيئاً مذكوراً. ثم توقف وقد فجأته فكرة مباغتة، فقال يسأل الأمير:
– ولكن كيف أمكنك (وأضاف جانيا يقول بينه وبين نفسه: كيف أمكن هذا الأبله)... كيف أمكنك أن تدخل إلى خفايا أمورهن وأن تصبح محل سرّهن ولمّا ينقض على معرفتك بهن أكثر من ساعتين؟ كيف هذا؟
لم يكن ينقصه لاكتمال أنواع عذابه إلا أن تضاف إليها الغيرة. وها هي ذي الغيرة تعض الآن قلبه على حين فجأة.
أجابه الأمير قائلاً:
– هذا ما لا أستطيع أن أعلله لك!
فرشقه جانيا بنظرة خبيثة شريرة؛ وقال له:
– أمن أجل أن تهدي إليك ثقتها إنما دعتك إذاً إلى قاعة الطعام؟ لقد قالت: إنها تريد أن تهدي إليك شيئاً، أليس كذلك؟
– لا أفهم الأمر على غير هذا الوجه!
– ولكن لماذا؟ حقاً إنه لأمر عجيب!... ماذا فعلت هناك؟ كيف استطعت أن تحظى بإعجابهن؟ اسمع...
كان جانيا يضطرب بكل قواه. وكان كل شيء في نفسه مشوشا يغلي ويفور، فهو لا يستطيع أن يفلح في جمع شتات أفكاره. وتابع كلامه فقال:
– اسمع... ألا تستطيع أن تحاول أن تتذكر كل ما تحدثت فيه وأن تعيده مرتباً منظماً متسلسلاً، وأن تذكر كل ما قيل من البداية إلى النهاية؟ ألم تلاحظ شيئاً يمكنك أن تتذكره؟
أجاب الأمير:
– أوه... هذا سهل! منذ البداية، منذ دخلت وتم التعارف، تحدثنا عن سويسرا.
– دعنا من سويسرا... فلتذهب سويسرا إلى جهنم!...
– ثم تحدثنا عن عقوبة الإعدام...
– عن عقوبة الإعدام؟
– نعم، عرضاً... ثم وصفت لهن السنين الثلاث التي عشتها هناك، وقصصت عليهن قصة القروية المسكينة.
– فلتذهب القروية المسكينة إلى جهنم! أكمل...
كان جانيا يدبدب بقدميه من نفاد الصبر وشدة التململ. وتابع الأمير كلامه فقال:
– ثم ذكرت لهن كيف أن شنايدر أطلعني على رأيه في طبعي، ودفعني إلى...
– فليذهب شنايدر إلى جهنم! لا تهمني آراؤه! وبعد ذلك؟
– بعد ذلك أخذت أتكلم عن الوجوه، لا أدري بأية مناسبة، أقصد... عن تعبير الوجوه، فقلت لآجلايا إيفانوفنا أنها في مثل جمال ناستاسيا فيليبوفنا تقريباً. وعندئذ إنما أفلتت من لساني كلمات عن الصورة...
– لكنك لم تنقل إليهن ما كنت قد سمعته في حجرة المكتب، أليس كذلك؟ لم تنقله إليهن، أليس كذلك؟ لم تنقله إليهن...
– أكرر لك أنني لم أنقله إليهن...
– ولكن... عجيب... ألم تطلع آجلايا أمها على الرسالة؟
– أستطيع أن أضمن لك أنها لم تطلعها عليها. إنني لم أتركهن لحظة. ثم إنها لو أرادت أن تطلعها عليها لما اتسع الوقت لهذا.
– ولكن لعل شيئاً حدث ولم تلاحظه...
ثم صاح جانيا يقول وقد خرج عن طوره تماماً:
– يا لأبله النحس!... إنه عاجز حتى عن أن يروي الأمور على نحو مناسب!
وإذ شتم مرةً فلم يلق مقاومة، أخذ يفقد كل تحفظ شيئاً بعد شيء، كما يحدث ذلك دائماً لبعض الأشخاص. حتى لقد كان من الممكن وقد بلغ ذروة حنقه أن يمضي إلى حد البصق. لكن هذا الحنق نفسه قد أعماه. وإلا لكان قد لاحظ منذ مدة طويلة أن هذا «الأبله» الذي يعامله هو هذه المعاملة يفهم في بعض الأحيان كل شيء بسرعة عظيمة، ودقة شديدة، ويجيد الرواية إجادة تامة. غير أن شيئاً لم يكن في الحسبان قد حدث على حين فجأة.
قال الأمير بغتة:
– يجب أن ألفت نظرك يا جبريل آرداليونتش أنني في الماضي كنت مريضاً بالفعل، حتى لقد أصبحت كالأبله، ولكنني شفيت منذ مدة طويلة، وإنه ليؤلمني أن أسمع أحداً يصفني بأنني أبله. ورغم أن المرء قد يعذرك بسبب ما أنت فيه من خيبة الآمال وسقوط الأماني، فقد شتمتني حتى الآن مرتين أو ثلاث مرات، وهذا ما لا أرضى عنه البتة، لا سيما وأنه لا سبب له، وإنما أنت تندفع فيه اندفاعاً وتسترسل فيه استرسالاً بغير داع منذ أول لقاء بيننا. أفلا ترى والحالة هذه، ما دمنا الآن عند مفترق طرق، أن نفترق هنا، فتذهب يمنة وأذهب يسرة؟ أن معي خمسة وعشرين روبلاً، ولا شك أنني واجد فندقاً أبيت فيه.
أحس جانيا بخجل شديد واضطراب كبير، حتى لقد احمر وجهه من شعوره بالعار لأنه أُخذ هذا الأخذ بغتة على وجه لم يكن يتوقعه البتة.
قال معتذراً بحرارة، منتقلاً من الشتم المقذع إلى التهذيب الرقيق:
– سامحني يا أمير، ناشدتك الله... أنك لترى ما أنا فيه من شقاء. أنت لا تعرف بعد شيئاً، فلو عرفت كل شيء لغفرت لي بعض الغفران حتماً، وإن يكن سلوكي هذا لا يغتفر طبعاً...
أسرع الأمير يطمئنه قائلاً:
– لا أطلب كل هذه الاعتذارات. إني لأدرك أنك قلق مضطرب، وأن هذا هو السبب في شتمي. طيب. فلنذهب إلى بيتك. أنا من جهتي يسرّني هذا.
كان جانيا يقول لنفسه أثناء السير وهو يلقي على الأمير نظرات كره وبغض: «لا، يستحيل أن أتركه الآن. لقد أخذ مني هذا الوغد كل ما كان يريد، وها هو ذا يرمي عن وجهه القناع... أن في الأمر شيئاً مختفياً. سوف نرى. سوف يتقرر كل شيء، كل شيء، في هذا اليوم نفسه».
وكانا قد وصلا إلى الدار.
الفصل الثامن
يقع بيت جانيا في الطابق الثاني ويوصل إليه سلم نظيف فسيح نيّر، ويتألف من ست غرف أو سبع تتفاوت سعة؛ وإذا كان هذا البيت عادياً في الواقع، فلا شك أن أجرته فوق طاقة موظف متواضع يقع على كاهله عبء أسرة، ولو بلغ مرتبه ألفي روبل. لكن هذا البيت كان مهيأ كذلك لاستقبال مستأجرين مع الطعام والخدمة، ولم يسكنه جانيا وأسرته إلا منذ شهرين في أكثر تقدير، على استياء من جانيا نفسه، وبإلحاح من نينا ألكسندروفنا وباربارا آرداليونوفنا اللتين كانتا ترغبان في أن تكونا نافعتين هما أيضاً، وأن تساهما في زيادة دخل العائلة ولو قليلاً. كان جانيا يظهر امتعاضه ويعدُ هذا التدبير سقوطاً. وهو منذ أقاموا في هذا المنزل يشعر بحرج في المجتمع، حيث ألف حتى ذلك الحين أن يظهر فتى لامعاً يبشر بأن يكون له مستقبل فكانت هذه التنازلات كلها وهذا الشيوع المزعج كله بمثابة جروح عميقة في نفسه. حتى أصبح منذ بعض الوقت يثيره أبسط أمر من الأمور إثارة شديدة تخرجه عن طوره؛ وإذا كان لا يزال يرتضي أن يرضخ وأن يصبر، فما ذلك إلا لأنه عقد النية بثبات وقوة وصلابة على أن يغير هذا الوضع كله في أقصر مدة. ومع ذلك فإن هذا التغيير نفسه، والحل الذي انتهى الفتى إليه وعزم أمره عليه، قد أصبحا مسألة خطيرة، مسألة يهدّد حلها بأن تكون متاعبه وهمومه أوفر عدداً وأشد إيلاماً مما سبق.
كانت الشقة مشطورة شطرين بدهليز يبدأ من المدخل. ففي إحدى الجهتين تقع الغرف الثلاث الموقوفة على المستأجرين «الموصي بهم توصية خاصة»؛ وفي تلك الجهة نفسها، عند آخر الدهليز، قرب المطبخ، توجد حجرة صغيرة هي أضيق سائر الحجرات، يعيش فيها وينام فيها، علي ديوان عريض (كنبة)، رب الأسرة نفسه، الجنرال المتقاعد إيفولجين، الذي كانوا يضطرونه أن يكون خروجه ورجوعه من المطبخ وسلم الخدم. وفي تلك الغرفة الصغيرة نفسها يسكن أيضاً الفتي الصغير كوليا ، أخو جبريل آرداليونتش، وهو تلميذ في المدرسة الثانوية عمره ثلاثة عشر عاماً. كان هذا الفتى الصغير مضطراً هو أيضاً إلى أن ينكمش حتى يستطيع أن يعيش في هذه الغرفة وأن يطالع دروسه فيها؛ فهو أيضاً ينام على ديوان آخر أصغر، متداع، ضيق، قصير، مثقب الأغطية. وكان عليه عدا ذلك أن يعتني بالجنرال وأن «يسهر عليه»، لأن الجنرال كانت تزداد حاجته إليه يوماً بعد يوم.
أعطي الأمير غرفة الوسط، فأما التي على يمينها فكان يسكنها فردشتينكو؛ وأما التي على شمالها فما تزال خالية لم يقطنها أحد. ولكن جانيا قاد الأمير في أول الأمر إلى ذلك الجزء من الشقة، الذي تقيم فيه الأسرة. إن الجزء يتألف من غرفة استقبال يحيلونها عند الحاجة إلى غرفة طعام، ومن صالون ليس في الحقيقة صالوناً إلا في الصباح حتى إذا حل المساء أمسى حجرة مكتب فغرفة نوم لجانيا؛ وهناك أخيراً غرفة ثالثة، صغيرة مقفلة الباب دائماً، هي غرفة نوم نينا ألكسندروفنا وباربارا آرداليونوفنا.
الخلاصة: أن جميع الأشياء وجميع الأشخاص كانت في هذه الشقة محشورة متراصة تعيش في مكان أضيق من أن يتسع لها. فكان جانيا لا يكف عن الصريف بأسنانه غيظاً، وكان لا يفوت من يراه منذ أول نظرة أنه في هذه الأسرة طاغية مستبد، رغم حرصه على أن يظهر بمظهر من يحترم أمه ويوقّرها.
لم تكن نينا ألكسندروفنا وحيدة في الصالون، بل كانت تجالسها باربارا آرداليونوفنا. وكانتا كلتاهما منهمكتين في النساج بالإبرة، على تحدثهما مع زائر كان معهما هو إيفان بتتسين. إن نينا ألكسندروفنا تبدو في الخمسين من العمر. وجهها نحيل شاحب اللون؛ وتحت عينيها هالتان زرقاوان. مظهرها كله يدل على المرض، ويدل على شيء من الألم، غير أن في وجهها ونظرتها شيئاً من جاذبية. والمرء يدرك من أولى كلماتها أن لها طبعاً جاداً وخلقاً رصيناً ووقاراً صادقاً؛ وأنها رغم الألم الذي يعبر عنه وجهها، تملك جناناً ثابتاً، بل وعزيمة قوية. ثيابها متواضعة جداً، فهي سوداء، وهي على الزيّ الذي ترتديه العجائز؛ ولكن حركاتها وآدابها وحديثها وسلوكها، كل هذا يدل على أنها إنسانة عرفت كذلك بيئة أرفع من هذه البيئة وأرقى.
أما باربارا آرداليونوفنا فهي فتاة في الثالثة والعشرين من العمر، متوسطة القامة، نحيلة الجسم، إن لم يكن وجهها جميلاً حقاً، فإن فيه سرّ الفتنة بغير جمال، وآية الجذب إلى درجة الهوى. إنها تشبه أمها كثيراً، وتكاد ترتدي ما ترتديه أمها، فلا أثر في ثيابها لتبهرج أو تغندر. نظرة عينيها الشهباوين يمكن أن تكونا في بعض الأحيان مرحتين كل المرح، ملاطفتين كل الملاطفة، لكن هذه النظرة هي في الغالب الأعم رصينة مفكرة، مفرطة في الرصانة مسرفة في التفكير أحياناً، ولا سيما في هذه الآونة الأخيرة. ومن يرها يقرأ في وجهها الثبات وقوة العزيمة، ولكنه يحس أن هذا الثبات وهذه العزيمة يمكن أن يتجليا عندها بأكثر مما يتجليان عند أمها طاقة دفاقة ومبادهة أصيلة أيضاً. إن لباربارا آرداليونوفنا طبيعة مندفعة، حتى لقد كان أخوها يخاف اندفاعاتها بعض الخوف أحياناً. وكان الزائر الذي تحدثانه، يخاف اندفاعاتها بعض الخوف هو أيضاً. إنه رجل ما يزال شاباً، في نحو الثلاثين من عمره، يرتدي ثياباً متواضعة لكنها أنيقة. في آدابه رقة ولطف، وإن يكن متصنعاً بعض التصنع. تدل لحيته الصغيرة القاتمة الشقرة على أنه رجل غير مقتصر على حياة الوظيفة، أو قانع بها. إذا تحدث كان حديثه ذكياً شائقاً، لكنه في أكثر الأحيان صموت. وهو على وجه الإجمال يُحدث في النفس شعوراً بالارتياح.
كان واضحاً أن باربارا آرداليونوفنا تهمه وتعنيه، وهو لا يحاول أن يخفي عواطفه. وكانت هي تعامله بمودة وصداقة، لكنها ما تزال تتأخر في الإجابة عن عدد من أسئلة كان يظهر على باربارا أنها لا تعجبها. ولكن بتتسين لا تثبط من ذلك عزيمته ولا ييأس. وكانت نينا ألكسندروفنا تظهر له حفاوة وبشاشة، حتى لقد تعودت في الآونة الأخيرة أن تسرّ إليه بما في نفسها. وكان معروفاً من جهة أخرى أن بتتسين قد وجد لنفسه اختصاصاً هو أن يقرض مالاً بفوائد، لآجال قصيرة، على رهون مضمونة. وكانت تربطه بجانيا صداقة قوية.
قام جانيا بواجب التقديم والتعريف، ولكن على نحو متقطع. حيا أمه بكثير من الخشونة، ولم يسلم على أخته، ثم سرعان ما خرج مقتادا بتتسين.
وجّهت نينا ألكسندروفنا إلى الأمير بضع كلمات ترحيب، ثم أمرت كوليا، الذي يظهر في العتبة، بأن يقود الأمير إلى الغرفة الوسط. أن كوليا فتى مرح بشوش، في طبيعته ثقة وبساطة.
سأل كوليا الأمير وهو يدخله غرفته:
– أين أمتعتك؟
– لي صرة وضعتها في حجرة المدخل.
– سأجيئك بها حالاً. ليس عندنا خدم إلا الطباخة وماتريونا، لذلك تراني أساعد في العمل، أن فاريا تراقب كل شيء وتغضب.
– نعم.
– هل سويسرا جميلة؟
– جداً.
– فيها جبال؟
– نعم.
– طيب. سأجيئك بحزمك.
دخلت باربارا آرداليونوفنا. وقالت:
– ستهيئ لك ماتريونا سريرك. هل معك حقيبة؟
– لا شيء إلا صرّة. ذهب أخوك ليجيئني بها. لقد تركتها في حجرة المدخل.
عاد كوليا إلى الغرفة وقال يسأل:
– لم أجد شيئاً إلا هذه الصرة الصغيرة، فأين وضعت الأخرى؟
فأجابه الأمير وهو يتناول منه الصرة:
– ليس لي صرّة أخرى.
– ها... خشيت أن يكون فردشتينكو قد استولى عليها.
قالت له أخته بقسوة:
– لا تقل سخافات!
كانت باربارا تكلم حتى الأمير بلهجة خشنة تكاد تكون غير مهذبة.
قال لها أخوها:
– «يا بنتي العزيزة»! يمكنك أنت تكلميني بلهجة أرق. أنا لست بتتسين!
– بل يمكنني أن أجلدك يا كوليا؛ إنك غبي جداً.
وعادت تكلم الأمير فقالت:
– في كل ما قد تحتاج إليه تستطيع أن تتجه إلى ماتريونا. الغداء عند الساعة الرابعة والنصف. ولك أن تختار: تأكل معنا، أو يُحمل إليك الطعام في غرفتك.
وعادت تخاطب كوليا فقالت:
– تعال يا كوليا، لا تزعج السيد!
– هلمي بنا يا شديدة البأس!
وفيما كانا يخرجان اصطدما بجانيا.
قال جانيا يسأل كوليا:
– هل بابا هنا؟
فلما أجابه كوليا بأن بابا هنا، همس في أذنه ببضع كلمات. فهزّ كوليا رأسه ملبياً، وخرج يتبع باربارا آرداليونوفنا.
– كلمة أخرى يا أمير... نسيت أن أقولها لك في زحمة هذه.. هذه القصص كلها! لي رجاء أتوجه به إليك: قدّم لي هذه الخدمة – إذا كان ذلك لا يكلفك جهداً كبيراً لا طاقة لك به – وهي ألا تثرثر هانا عمّا جرى بيني وبين آجلايا، والا أن تثرثر «هناك» عما ستراه هنا. ذلك أن الأمور هنا أيضاً ليست جميلة كلها، وإن يكن هذا كله لا يعنيني.. حاول على الأقل أن تحفظ لسانك اليوم.
أجاب الأمير متضايقاً من ملامات جانيا هذه:
– أؤكد لك أني ثرثرت أقل كثيراً مما تظن.
كان واضحاً أن العلاقات بينهما تزداد سوءاً.
– على كل حال... لقد تحملت اليوم بسببك ما فيه الكفاية! الخلاصة: ذلك هو الرجاء الذي أتوجه به إليك.
قال الأمير:
– لاحظ أيضاً يا جبريل آرداليونتش أنني لم أكن مرتبطاً بشيء هناك، لم أكن قد بذلت لك أي وعد، لم تكن قد طلبت مني أي أمر: ما الذي كان ينبغي أن يمنعني عن الإتيان على ذكر تلك الصورة؟ إنك لم تسألني هذا.
قال جانيا وهو يلقي على ما حوله نظرة احتقار:
– اف. يا لها من غرفة رديئة! هي مظلمة، مع هذه النوافذ التي تطل على الفناء! من كل النواحي، لم يحالفك التوفيق حين وقعت في هذا المكان. على كل حال، ذلك أمر لا شأن لي به، ولا يهمني في قليل أو كثير. لست أنا الذي أتولى هذه التأجيرات!
ظهر بتتسين في الباب ونادى جانيا. فأسرع جانيا يودّع الأمير وخرج، رغم ما يبدو عليه من أن هناك أشياء أخرى كان لا يزال يريد أن يقولها. ولكن كان واضحاً أنه لا يعرف من أين يبدأ، وأنه متحرّج مرتبك؛ حتى أن انتقاده للغرفة لم يكن له من غرض إلا أن يخفي ما هو فيه من تشوش واضطراب وبلبلة.
ما أن فرغ الأمير من غسل وجهه ويديه، ومن ترتيب زينته بعض الشيء، حتى شُقّ الباب مرة أخرى، فدخل عليه قادم جديد.
هو رجل في نحو الثلاثين من العمر، طويل القامة، يغطي رأسه الضخم شعرٌ أحمر مجعّد، وجهه سمين زهري اللون، شفتاه سميكتان، أنفه قصير عريض، عيناه صغيرتان غائرتان في الشحم تعبّران عن سخرية وكأنهما تطرفان بغير انقطاع. في جملة شخصه شيء من وقاحة. ملابسه أدنى إلى الإهمال.
لقد شق الباب في أول الأمر شقاً ضيقاً يتيح له أن يطل برأسه فحسب؛ وأخذ هذا الرأس يفحص الغرفة خلال بضع ثوان، ثم أخذ الباب ينفتح ببطء إلى أن ظهرت قامة الشخص كلها في العتبة، ولكن الزائر لم يدخل مع ذلك، فإنما هو يكتفي الآن بالتفرس في الأمير طارفاً بعينيه، إلى أن أغلق الباب وراءه آخر الأمر، واقترب، فتناول كرسياً، وأمسك يد الأمير إمساكاً قوياً فأجلسه على الديوان قبالته.
قال وهو ينظر إلى الأمير بهيئة انتباه واستفهام:
– أنا فردشتينكو...
فقال الأمير وهو يوشك أن ينفجر ضاحكاً:
– طيب، ثم ماذا؟
دمدم فردشتينكو وهو ما يزال ينظر تلك النظرة نفسها:
– مستأجر هنا.
– تريد أن نتعارف؟
– هيه!...
بهذا نطق الزائر وهو يشعّث شعره، ثم أخذ يحدق بنظره إلى الزاوية المقابلة من الغرفة وهو يتنهد؛ ثم عاد يلتفت نحو الأمير ويسأله فجأة:
– هل معك شيء من مال؟
– كم بالضبط؟
– خمسة وعشرون روبلاً.
– أرنيها.
أخرج الأمير من جيب صدريته ورقةً مالية بخمسة وعشرين روبلاً، ومدّها إلى فردشتينكو، ففضّها هذا، وفحصها، وقلبها، ثم نظر إليها من جهة الشفافية، ثم قال مفكرا:
– غريب! لماذا يقتم لونها هكذا؟ أن أوراق الخمسة والعشرين روبلاً يقتم لون بعضها كثيراً، على حين أن بعضها الآخر يفتح لونها تماما، خذها.
استرد الأمير ورقته المالية. ونهض فردشتينكو عن كرسيه. وقال للأمير:
– جئت لأحذرك أولاً من إقراضي مالاً، لأنني سوف أطلب منك أن تقرضني، فإياك أن تلبي طلبي...
– سمعاً وطاعة.
– هل تنوي أن تدفع هنا أجراً؟
– نعم، أنوي ذلك.
– أما أنا فلا. شكراً. غرفتي إلى جانب غرفتك. هي الأولى على اليمين. هل رأيتها؟ حاول ألا تجيء إليّ كثيراً. ولكن اطمئن: سأزورك أنا. هل رأيت الجنرال؟
– لا ...
– ولا سمعته؟
– ولا سمعته طبعاً!
– سوف تراه إذاً وسوف تسمعه. ثم إنه يطلب حتى مني أنا أن أقرضه بعض المال. هأناذا نبهتك. «تنبيه للقارئ!»... أستودعك الله. هل يستطيع المرء أن يحيا إذا كان يسمي فردشتينكو؟ هه؟
– لم لا؟
– أستودعك الله.
واتجه الزائر إلى الباب.
لقد علم الأمير، فيما بعد، أن هذا السيد قد أخذ على عاتقه أن يذهل الناس بمرحه وغرابته وشذوذه، ولكنه كان لا يفلح في ذلك كثيراً، حتى أن بعض الناس كانوا يضيقون به وينزعجون منه، فكان يتألم من ذلك صادقاً، ولكن دون أن يكف عن القيام بمهمته.
عند عتبة الباب، استطاع فردشتينكو أن يضفي على نفسه شيئاً من خطورة الشأن، حين اصطدم بقادم جديد: فإنه إذ تنحى أمام هذا الزائر الجديد الذي يجهله الأمير، ليفسح له مجال المرور، قد غمز بعينه عدة مرات مؤمئاً إليه، فأتاح له ذلك أن يخرج محتفظاً بشيء من الثقة بالنفس.
القادم الجديد رجل طويل القامة؛ يبدو في الخامسة والخمسين من عمره أو يزيد؛ بدين بعض البدانة؛ وجهه محمر سمين مسطح قليلا تحيط بعارضيه لحيتان كثيفتان شهباوان؛ له شاربان؛ عيناه واسعتان جاحظتان بعض الجحوظ. كان يمكن أن يكون لمنظره كله مهابة، لولا أن فيه شيئاً من سقوط واهتراء بل ومن اتساخ. إنه يرتدي ردنجوتاً عتيقاً يكاد يكون مثقوباً عند الكوعين؛ وفي قميصه إهمال وبقع؛ ومن فمه تفوح رائحة فودكا خفيفة تشمها من قرب. ومع ذلك لا تعدم أوضاعه وحركاته أن تحدث في النفس بعض الأثر الحسن، رغم أنها محسوبة مدروسة، فهي تدل على رغبة واضحة عنده في أن يخطف البصر بوقاره.
اقترب الشخص من الأمير بغير تعجل، وهو يبتسم ابتسامة باشة هاشة، وتناول يده صامتاً، وظل ممسكاً بها يتأمل وجهه في انتباه كأنه يتعرف ملامح لا يجهلها.
ودمدم يقول برفق ولكن بوقار:
– إنه هو، هو. هو كما لو كان حيا. لقد سمعتهم ينطقون هذا الاسم المعروف العزيز، فاستيقظ في نفسي ماض كامل... أنت الأمير ميشكين؟
– نعم.
– أنا الجنرال إيفولجين، متقاعد بائس. هل يمكنني أن أسألك عن اسمك واسم أبيك؟
– ليون نيقولايفتش.
– نعم، نعم، هو بنفسه! أنت ابن صديقي، بل أستطيع أن أقول: إنك ابن صديق طفولتي، نيقولا بتروفتش.
– كان اسم أبي نيقولا لفوفتش.
– لفوفتش، نعم، لفوفتش...
كذلك صحّح الجنرال، ولكن دون تعجل، بل بثقة تامة، كأنه لم ينس قط، وإنما زل لسانه بغلطة.
وجلس، وأمسك الأمير بيده هو أيضاً، وأجلسه قربه.
– لقد حملتك بذراعيّ!
قال الأمير:
– أهذا ممكن؟ لقد انقضى على موت أبي عشرون عاماً.
– نعم، عشرون عاماً، عشرون عاماً وثلاثة أشهر. لقد كنا في المدرسة معاً، وما لبثت أن التحقت أنا بالسلك العسكري...
– أبي أيضاً خدم في الجيش، كان ملازماً ثانياً في لواء فاسيلكوفسكي .
– بل في لواء بييلوميرسكي. لقد نقل إليّ لواء بييلوميرسكي عشية وفاته تقريباً. وكنت أنا هناك، وباركته إلى الأبد. وأمك...
هنا صمت الجنرال برهة قصيرة كأنما أوقفته عن الكلام ذكرى حزينة.
فقال الأمير:
– ماتت هي أيضاً بعد ستة أشهر، من إصابة ببرد.
– لا، لم تمت من إصابة ببرد، أبداً، صدّق كلام رجل عجوز. كنت أنا هناك. وقد شهدت جنازتها هي أيضاً. لقد ماتت من حزنها على فقد أبيك، لا من إصابتها ببرد. نعم، إنني أتذكرها هي أيضاً، الأمير! آه... يا لعهد الشباب! بسببها إنما أوشكنا، أنا والأمير، مع أننا صديقا طفولة، أوشكنا أن يقتل كل منا صاحبه.
أخذ الأمير يصغي إلى الجنرال بشيء من الشك والارتياب.
– كنت مولّها بحب أمك منذ أن كانت خطيبة، منذ أن كانت خطيبة صديقي. ولاحظ الأمير ذلك، فاضطرب اضطراباً شديداً، وجاءني ذات صباح في الساعة السابعة، فأيقظني من نومي. ارتديت ثيابي مذهولاً، وساد صمت... صمت منه وصمت مني!... أدركت كل شيء. أخرج أبوك من جيبه مسدسين. مبارزة من خلال منديل. دون شهود. فيم الشهود مادام كل منا سيرسل صاحبه إلى الآخرة بعد قليل. حشونا المسدسين. نشرنا المنديل. اتخاذنا مكانينا. أطبق كل منا بفوهة مسدسه على قلب صاحبه، وأخذ ينظر إليه محدِّقاً في عينيه. وفجأة انبجست الدموع من العينين، وارتجفت اليد: انبجست الدموع من عينيه وعيني في آن واحد، وارتجفت يده ويدي معا! ثم إذا كل منا يرتمي بين ذراعي صاحبه طبعاً، وإذا نحن نتبارى في الكرم، فالأمير يصرخ قائلاً: «هي لك»، وأنا أصرخ: «بل هي لك».. الخلاصة... الخلاصة... سوف تسكن معنا، أليس كذلك؟
قال الأمير مدمدماً بشيء من السرعة:
– نعم، ربما بعض الوقت..
صاح كوليا يقول وقد ألقى نظرة من الباب:
– ترجوك ماما يا أمير أن تجيء إليها.
فهمّ الأمير أن ينهض، ولكن الجنرال وضع يده اليمنى على كتفه، وعاد يجلسه على الديوان بحركة صداقة؛ وقال له:
– لما كنت صديقاً وفياً لأبيك فإنني أحرص على أن أنبّهك: أنا كما ترى قد سقطتُ ضحية لظروف فاجعة، ولكن دون أن يصدر عليّ حكم. أن نينا ألكسندروفنا امرأة نادرة. وباربارا آرداليونوفنا، ابنتي، فتاة نادرة! والظروف تجبرنا على أن نؤجّر غرفاً مفروشة، وهذا سقوط لا أعرف كيف أسميه... سقوط يصيبني أنا، أنا الذي كنت أوشك أن أعين حاكماً عاماً. وسنكون سعداء باستقبالك على كل حال. غير أن في بيتي مأساة!
ألقى عليه الأمير نظرة استفهام في كثير من الاستطلاع.
قال الجنرال إيفولجين:
– يُدبّر هنا زواج، زواج نادر. زواج بين امرأة مشبوهة وشاب يمكن أن يصبح فتى مرموقاً في البلاط الإمبراطوري. يريدون أن يدخلوا تلك المرأة إلى بيتي، قرب ابنتي وزوجتي. ولكنني لن أدع لها أن تدخل إلى هذا البيت ما ظللت أتنفس! سوف أتمدد على عتبة الباب، فلا تستطيع أن تدخل إلا إذا مرّت فوق جسدي. أصبحت لا أكلم جانيا، بل صرت أتحاشى أن ألقاه. إنني أنبّهك إلى هذا عامداً، لأنك لا بد أن تلاحظه على كل حال، ما دمت ستقيم معنا. ولكنك ابن صديقي، ومن حقي أن آمل...
قالت نينا ألكسندروفنا منادية، وقد جاءت إلى الباب بنفسها هذه المرة:
– هلّا تفضلت يا أمير فأدركتني في الصالون.
هتف الجنرال يقول:
– تصوري يا عزيزتي. لقد اتضح أنني قد هدهدت الأمير بذارعيّ!
ألقت نينا ألكسندروفنا على الجنرال نظرة لوم، ثم ألقت على الأمير نظرة استفهام؛ لكنها لم تقل شيئاً. وتبعها الأمير. فما أن وصلا إلى الصالون وجلسا، وما أن أخذت نينا ألكسندروفنا تقول للأمير شيئاً بصوت خافت وعلى عجل، حتى دخل الجنرال نفسه إلى الصالون فجأة. فسرعان ما صمتت نينا ألكسندروفنا، وعكفت على حياكتها متضايقة تضايقاً واضحاً، ولعل الجنرال قد لاحظ تضايقها، لكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في إظهار مرح مزاجه. وهتف يقول مخاطباً نينا ألكسندروفنا:
– ابن صديقي! وعلى نحو لم أكن أتوقعه! لقد كففت حتى عن أن أحلم بهذا الأمر منذ مدة طويلة! ولكن من الممكن، يا عزيزتي، أنك أصبحت لا تتذكرين المرحوم نيقولا لفوفتش؟ إنك قد عرفته مع ذلك... بمدينة تفير !
قالت نينا ألكسندروفنا:
– لا أتذكر نيقولا لفوفتش.
ثم التفتت إلى الأمير تسأله:
– أهو أبوك؟
قال الأمير:
– نعم، هو أبي.
ثم أضاف يقول للجنرال مصححاً على خجل:
– لكن يخيّل إليّ أنه لم يمت بمدينة تفير، بل بمدينة إليزابتغراد. لقد قال لي بافلتشيف...
قال الجنرال مصراً:
– بل مات بمدينة تفير. فقد نقل إلى تفير قبيل وفاته بقليل، بل حتى قبل أن يتطور مرضه ذلك التطور المشؤوم. كنت أنت صغيراً جداً في ذلك الوقت، فلا تستطيع أن تتذكر النقل ولا السفر. أما بافلتشيف فمن الجائز جداً أنه أخطأ، رغم أنه كان رجلاً ممتازاً.
– هل عرفت بافلتشيف أيضاً؟
– كان إنساناً نادر المثال. لكنني أنا كنت شاهد عيان، باركت أباك وهو على فراش الموت.
قال الأمير مرةً أخرى:
– لكن أبي مات متهماً، وإن كنت لم أستطع أن أعرف السبب في يوم من الأيام. لقد مات في المستشفى.
– أوه! السبب هو قضية الجندي كولباكوف، وليس هناك أي شك في أن أباك كان سيخرج من المحاكمة بريئاً.
سأله الأمير بشوق شديد واستطلاع قوي:
– صحيح؟ أأنت متأكد؟
هتف الجنرال يقول:
– طبعاً طبعاً. لقد انفضت المحكمة دون أن تصدر حكماً. قضية مستحيلة! بل يمكن أن يقال: إنها قضية محفوفة بالسر. مات قائد حاميتنا، النقيب لاريونوف، فكلف الأمير بأن يكون قائداً للحامية بالنيابة. وفي ذلك الحين ارتكب الجندي كولباكوف عمل سرقة، إذ سطا على أغراض لرفيق من رفاقه، ثم باع المسروقات وشرب بثمنها خمرة. طيب. هنا قرَّعه الأمير وهدّده بالجلد، وذلك بحضور الرقيب والعريف. طيب. عاد كولباكوف إلى الثكنة، واستلقي على مضجعه، فما انقضي ربع ساعة حتى كان ميتاً. طيب. ولكن هذه الحالة لا يتوقعها أحد، وتكاد تكون مستحيلة. ودفن كولباكوف على كل حال. وكتب الأمير تقريراً بالواقعة، فشطب اسم كولباكوف من قائمة الجنود. هل هناك ما هو خير من هذا؟ ولكن ما أن انقضت على هذا الحادث ستة أشهر، بعد أن كان الجنود يُستعرضون كل يوم، حتى ظهر الجندي كولباكوف من جديد في السرية الثالثة من الكتيبة الثانية من فوج مدفعية نوفو زمليانسكي ، وهو الفوج الذي ينتمي إلى ذلك اللواء نفسه وإلى تلك الفرقة نفسها!
هتف الأمير متعجباً وقد بلغ ذروة الدهشة:
– كيف هذا؟
فتدخلت نينا ألكسندروفنا فجأة فقالت وهي تنظر إلى الأمير نظرة حزن تقريباً:
– لا، ليس الأمر كذلك! هذا خطأ! «زوجي مخطئ».
– «مخطئ»؟ هذا تسرع في الحكم! اجهدي أن تحلي بنفسك سراً كهذا السر! لم يفهم أحد من الأمر شيئاً. لقد كان يمكن أن أكون أول القائلين: «هذا خطأ». ولكنني شهدت الأمر بعيني رأسي، وعُينت عضواً في اللجنة. فدلّت جميع المواجهات على أن الرجل هو ذلك الجندي نفسه كولباكوف الذي دُفن قبل ستة أشهر على النحو الذي توجبه الأنظمة العسكرية، من قرع الطبول وما إلى ذلك. أنا أسلّم بأن هذه الحالة نادرة جداً، حتى لتكاد تكون مستحيلة، ولكن...
هنا دخلت باربارا آرداليونوفنا، فقالت تعلن لأبيها:
– غداؤك جاهز يا بابا.
– آ... عظيم... لقد أخذت أشعر بالجوع حقاً. ولكن يمكن أن يقال: أن هذه الحالة سيكولوجية...
قالت فانيا متململة:
– حساؤك سيبرد!
فجمجم الجنرال يقول وهو يترك الغرفة:
– حالا، حالا...
وسُمع يتم كلامه وهو في الدهليز: «وذلك رغم جميع التحريات!».
قالت نينا ألكسندروفنا للأمير:
– سيكون عليك أن تغض الطرف عن أمور كثيرة في آرداليون ألكسندروفتش إذا بقيت عندنا. ومع ذلك آمل أنه لن يزعجك كثيراً. إنه يتناول وجبات طعامه وحيداً. أظن أنك تسلّم معي بأن لنا جميعاً عيوبنا و... خصالنا التي قد تكون غريبة شاذة، حتى أن لبعض الناس من هذه العيوب وهذه الخصال أكثر مما لأولئك الذين يشار إليهم بالأصبع. أريد أن أطلب منك هذا الطلب ملحة: إذا اتفق أن كلمك زوجي عن أجرة الغرفة فقل له: إنك دفعتها لي. إذا دفعت له مبلغاً فسيحسب طبعاً، ولكنى أرجوك أن تقيد بهذه القاعدة التي ذكرتها لك. ماذا يا فاريا؟
كانت فاريا قد دخلت الغرفة، ومدت إلى أمها صورة ناستاسيا فيليبوفنا دون أن تقول شيئاً. فارتعشت نينا ألكسندروفنا، ارتعشت أول الأمر بنوع من الرعب، ثم أخذت تنعم النظر في الصورة لبعض الوقت وقد ظهر على وجهها شيء من مرارة. وأخيراً ألقت على فاريا نظرة استفهام فقالت فاريا:
– هذه هدية أرسلتها إليه اليوم. وسيتقرر كل شيء في هذا المساء.
قالت نينا ألكسندروفنا مكررةً جملة ابنتها بصوت خافت ولهجة بائسة:
– هذا المساء! إذاً لم يبق مجال لأي شك، ولا محل لأي رجاء.
إنها بإهداء هذه الصورة إليه قد أعلنت كل شيء. ولكن أهو الذي أراك الصورة؟
أضافت نينا ألكسندروفنا هذه الجملة الأخيرة مدهوشة.
أجابت الفتاة:
– تعلمين أننا أصبحنا منذ شهر لا نكاد نتخاطب. أن بتتسين هو الذي روى لي كل شيء. أما الصورة فقد رأيتها ملقاة على الأرض قرب المائدة فلممتها.
قالت نينا ألكسندروفنا للأمير وهي تلتفت إليه فجأة:
– كنت أريد أن أسألك يا أمير... والحق أنني من أجل هذا إنما رجوتك أن تأتي إلى هنا... كنت أريد أن أسألك: أنت تعرف ابني منذ مدة طويلة؟ يخيّل إليّ أنه قال: إنك اليوم وصلت من مكان ما، أليس كذلك؟
قدّم الأمير شروحاً موجزة، مسقطاً أكثر من نصف الوقائع، فكانت نينا ألكسندروفنا وفاريا تصغيان إليه بانتباه.
قالت نينا ألكسندروفنا:
– أنا لا أحاول أن أعرف شيئاً عن جبريل آرداليونتش حين ألقي عليك هذه الأسئلة. فما ينبغي أن تخطئ الظن في هذا المجال. وإذا كان هناك ما لا يريد ابني أن يعترف لي به من تلقاء نفسه، فإنني لا أحرص على أن أعرفه من غيره. وإذا كنت أكلمك في هذا الموضوع فلأنه قال منذ قليل، بحضورك، ثم قال بعد انصرافك: «إنه مطلع على كل شيء، فلا داعي إلى التكلف والتصنع!». فما معني هذا؟ أي... أود لو أعرف مدى...
في تلك اللحظات دخل جانيا وبتتسين. وسرعان ما صمتت نينا ألكسندروفنا. وظل الأمير جالساً إلى جانبها، بينما ابتعدت فاريا قليلاً. وكانت صورة ناستاسيا ما تزال ظاهرة على منضدة نينا ألكسندروفنا، أمامها تماماً. فلما لمح جانيا الصورة قطب حاجبيه، واكفهرّ وجهه، وتناولها غاضبا، فرماها على مكتبه الذي يوجد في أقصى الغرفة.
سألته نينا ألكسندروفنا فجأة:
– هل في هذا اليوم يا جانيا؟
– ماذا في هذا اليوم؟
بهذا أجاب جانيا منتفضاً. ثم هجم على الأمير فجأة يقول:
– آ... فهمت... عدتَ تثرثر! أهذا مرض فيك يا صاحب السمو...
قاطعه بتتسين يقول:
– أنا المذنب يا جانيا، أنا وحدي من دون غيري.
فالقي عليه جانيا نظرة استفهام. فجمجم بتتسين يقول:
– هذا أفضل يا جانيا، لا سيما وأن القضية قد سوّيت، بمعنى من المعاني.
قال هذا ثم ابتعد، وجلس قرب المائدة، وأخرج من جيبه ورقة ملأى كتابةً بالقلم الرصاص، وأخذ ينظر فيها.
ظل جانيا واقفاً، مكفهرّ الهيئة مربدّ الوجه، ينتظر انفجار مشكلة عائلية، بكثير من القلق. حتى إنه لم يخطر بباله أن يعتذر للأمير.
قالت نينا ألكسندروفنا:
– ما دام كل شيء قد سوّي، فإن إيفان بتروفتش على حق طبعاً. أرجوك أن لا تقطّب يا جانيا وألا تهتاج. لن أسألك عمّا لا تريد أن تقوله له من تلقاء نفسك، وأؤكد لك أنني مذعنة كل الإذعان. فلا تقلق.
قالت ذلك من دون أن تترك حياكتها. قالته بهدوء ظاهر. فدهش جانيا، لكنه صمت حذراً متروياً، وأخذ ينظر إلى أمه منتظراً أن تفصح بمزيد من الوضوح. أن المشاجرات العائلية قد أزعجته حتى الآن كثيراً، وكلفته ثمناً غالياً. ولاحظت نينا ألكسندروفنا هذا الحذر وهذا التروي من جانبه، فأضافت تقول وهي تبتسم ابتسامة مرة:
– ما زلت تشك، فلا تصدقني. اهدأ بالًا. لن ترى دموعاً ولا ضراعات، مني على الأقل. أن رغبتي الوحيدة هي أن تكون سعيداً. أنت تعرف ذلك جيداً. إنني مذعنة القدري، لكنّ قلبي سيظل معك دائماً، سواء أبقينا معاً أم افترقنا. وأنا مسؤولة عن نفسي وحدها فأتحدث بلساني وحده؛ أما أختك فلا تستطيع أن تطالبها بمثل هذا. هتف جانيا يقول راشقاً أخته بنظرة سخر وكره:
– آه... هي أيضاً! أماه: إنني أكرر على مسامعك اليمين التي سبق أن حلفتها لك: ما دمت حياً فلن يجرؤ أحد في يوم من الأيام أن ينتقص من احترامك. أياً كان الشخص المقصود، أيةً كانت الإنسانة التي ستجتاز عتبة بابنا، فإنني سأعرف كيف أفرض عليها توقيراً كاملاً وكيف ألزمها باحترام مطلق.
لقد بلغ جانيا غاية السرور والحبور. كان ينظر إلى أمه بهيئة تعبّر عن المصالحة، وتكاد تزخر رقة وحناناً.
– ما كنت أخشى عليك من شيء يا جانيا، فأنت تعرف ذلك حق المعرفة. وما من أجل نفسي قلقت وتعذبت طوال هذه المدة. يقال: أن كل شيء سيسوّى بينكم هذا المساء؟ فما الذي سيسوّى؟
أجاب جانيا:
– لقد وعدت بأنها ستعلن رأيها هذا المساء في بيتها. فإما أن توافق وإما أن ترفض.
– لقد تحاشينا أن نتكلم في هذا الأمر منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع، وحسنا فعلنا. أما الآن وقد تقرر كل شيء، فإنني لا أجد بداً من أن ألقي عليك هذا السؤال: كيف أمكنها أن تعلن لك موافقتها بل وأن تهدي إليك صورتها بينما أنت لا تحبها؟ هل يمكن لامرأة لها مثل هذه... هذه الـ...
– هذه التجربة أو الخبرة...
– ليس هذا ما كنت أريد أن أقوله. هل يمكن أن تكون قد استطعت أنت أن تخدعها إلى هذا الحد؟
إن سخطاً شديداً وحنقاً رهيباً قد داخلا هذا السؤال بغتةً. فظل جانيا صامتاً، وفكّر لحظة، ثم أجاب دون أن يحاول إخفاء سخريته:
– ها قد انقدت للاندفاع والاهتياج من جديد يا ماما! إنك لم تستطيعي حتى الآن أن تسيطري على نفسك وتتحكمي بمشاعرك؛ وعلى هذا النحو إنما كانت تبدأ الأمور عندنا دائماً، فتشب النار في البارود. لقد قلت: إنك لن تلقي لا أسئلة ولا ملامات، وها هي ذي الأسئلة والملامات تُستأنف! لندع هذا الأمر، فذلك خير وأبقى... أؤكد لك! حسبك أنك أظهرت حسن النية وطيب الإرادة. لن أتركك في يوم من الأيام، بأي حال من الأحوال! غيري كان يفرَّ من أخت كهذه الأخت. انظري كيف تحدجني ببصرها! حسبنا هذا! لقد كنت مبتهجاً أشد الابتهاج... ولكن كيف عرفت أنني أحاول خداع ناستاسيا فيليبوفنا؟ أما فاريا، فلتفعل ما تشاء. وكفانا هذا الآن!
كان جانيا يزداد حرارة وحماسة عند كل كلمة جديدة، وكان يسير في الغرفة بلا هدف. أن أمثال هذه المحادثات سرعان ما تصبح هي النقطة الحساسة لدى جميع أفراد الأسرة.
قالت فاريا:
– قلت: إنني سأترك هذا البيت متى دخلت هي، هذا عهد أقطعه على نفسي ولن أخلفه.
هاتف جانيا يجيبها:
– عناداً! وعناداً إنما ترفضين زواجك أيضاً. لماذا تلوين شفتيك على هذا النحو احتقاراً واشمئزازاً؟ لست أعبأ بشيء يا باربارا آرداليونوفنا... في وسعك أن تنفذي مشروعاتك منذ الآن إذا شئت. لقد بدأت أسأم منك وأضيق بك!
وإذ لاحظ جانيا أن الأمير ينهض صاح يقول له:
– كيف تقرر أخيراً أن تتركنا يا أمير؟
كانت تداخل صوت جانيا عندئذٍ تلك الدرجة من الاهتياج التي يكاد يكون الإنسان فيها مسروراً من غضبه، فهو ينقاد له بدون أي تحفظ، بل يسترسل فيه بتلذذ متزايد، وليكن ما يكون!
وكان الأمير قد التفت ليردّ عليه، لكنه إذا أدرك في تعبير وجهه المتشنج أنه لم يبق ثمة إلا القطرة التي يطفح بها الكيل، أشاح وجهه وخرج دون أن يقول كلمة واحدة. وفهم بعد لحظات، من الأصداء التي كانت تصل إليه من الصالون، أن الحديث قد أصبح منذ انصرافه أشد صخباً وأكثر انفلاتاً.
اجتاز القاعة الكبيرة حتى حجرة المدخل ليصل إلى الدهليز فإلى غرفته. فلما بلغ الباب المفضي إلى فسحة السلم سمع أحداً وراء الباب يحاول أن يشدَّ حبل الجرس. ولكن الجرس كان معطلاً فيما يظهر، فهو لا يزيد على أن يتحرك تحركاً ضعيفاً دون أن يُسمع له أي صوت. فسحب الأمير المزلاج، وفتح الباب، فإذا هو يتقهقر مذهولاً مرتعشاً بجسمه كله: كانت ناستاسيا فيليبوفنا واقفة أمامه، وسرعان ما عرفها من صورتها. فلما لمحته ناستاسيا ومضت عيناها بمعنى الضيق والانزعاج، وأسرعت تلج حجرة المدخل، فتصدم الأمير بكتفها عند دخولها، وتقول له بلهجة حانقة هي تنضو عنها معطفها:
– إذا كنت من الكسل بحيث لا تحمّل نفسك عناء إصلاح الجرس، فلا أقل من أن توجد في حجرة المدخل حين يقرع الباب قارع! ها هو ذا يُسقط معطفي، مذهولا!
كان المعطف قد رقد على الأرض فعلا. ولم تنتظر ناستاسيا فيليبوفنا أن يساعدها الأمير في خلع المعطف، فرمته على ذراعيه بحركة من كتفها دون أن تنظر إليه، ولم يتسع وقت الأمير لأن يتلقاه.
– كان عليهم أن يطردوك من الخدمة. أبلغهم وصولي.
أراد الأمير أن يقول شيئاً، لكنه كان قد بلغ من الاضطراب أنه لم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة؛ وها هو ذا يتجه نحو الصالون وعلى ذراعه المعطف الذي رفعه من الأرض.
– الآن يأخذ معطفي! ما بالك تأخذ المعطف؟ هأ هأ هأ! قل لي: ألست مجنوناً بعض الشيء؟
قفل الأمير راجعاً، وحدّق إليها كالمتجمد. فلما ضحكت ابتسم هو أيضاً، ولكنه ما يزال عاجزاً عن تحريك لسانه بكلمة. في اللحظة الأولى، حين فتح لها الباب، اصفرّ لونه. أما الآن فإن الدم يزدحم في وجهه.
هتفت ناستاسيا فيليبوفنا ممتعضة وهي تقرع الأرض بقدمها:
– ما هذا الأبله؟ إلى أين تذهب هكذا؟ ستبلغ عن وصول من؟
تمتم الأمير:
– عن وصول ناستاسيا فيليبوفنا. فسألته بقوة:
– كيف تعرفني؟ أنا لم أرك يوماً! هيّا أبلغ عن وصولي... ما هذه الصرخات؟
أجاب الأمير وهو يتجه نحو الصالون:
– يتشاجرون.
ودخل عليهم الأمير في لحظة حاسمة: كانت نينا ألكسندروفنا متأهبة لأن تنسى نسياناً كاملاً أنها «مذعنة لكل شيء». كانت تدافع عن فاريا. وإلى جانب فاريا يقف بتتسين الذي كان قد ترك ورقته المطروسة كتابة. أما فاريا فلم يكن يبدو عليها كثيراً أنها فقدت سيطرتها على نفسها. ليست هذه الآنسة من النوع الخواف. ومع ذلك كانت فظاظات أخيها تصبح في كل كلمة أشد غلظة وأثقل وطأة، فهي لا تطاق. ولقد اعتادت الفتاة في مثل هذه الأحوال أن تكف عن المناقشة، فهي لا تزيد على أن تنظر إلى أخيها صامتة معبّرة بوجهها عن السخرية، دون أن تحوّل بصرها عنه لحظة واحدة. إنها تعرف هذا التكتيك، وهي قادرة على أن تمضي فيه إلى أقصى حدوده.
في تلك اللحظة بعينها إنما دخل الأمير إلى الغرفة معلناً:
– ناستاسيا فيليبوفنا هنا!
الفصل التاسع
خيّم صمت شامل. نظر الجميع إلى الأمير كأنهم لا يفهمون، ولا يريدون أن يفهموا. تجمّد جانيا رعباً.
إن زيارة ناستاسيا فيليبوفنا، ولا سيما في مثل هذه اللحظة، هي في نظر كل واحد منهم أدعى حدث إلى الدهشة والعجب، وأبعث حدث على الحيرة والارتباك، على الأقل لأن ناستاسيا فيليبوفنا تجيء أول مرة. لقد ظلت حتى الآن متكبرة متعالية، فلم تعرب في أحاديثها مع جانيا عن أية رغبة في معرفة أسرته، بل لقد أصبحت لا تجيء على ذكرها كأنما لا وجود لها. ورغم أن جانيا قد سرّه بمعنى من المعاني إرجاء مثل هذا الحديث الذي يزعجه ويحرجه كثيرا، فإنه في قرارة نفسه قد حقد على ناستاسيا وحمل لها ضغينة. ولقد كان على كل حال يتوقع منها وخزات وسخريات في حق أهله أكثر مما كان يتوقع منها زيارة. كان يعلم علم اليقين أنها مطلعة على كل ما كان يجري في بيته بخصوص خطوبته لها، وعلى كل ما كان ايراه ذووه من رأي فيها. فقيامها بهذه الزيارة «الآن»، بعد إهداء الصورة، في يوم عيد ميلادها، في اليوم الذي سبق أن وعدت بأنها ستقرر فيه مصيرها، إن قيامها بهذه الزيارة الآن يشير إلى قرارها ويدل عليه.
لم تطل البلبلة التي أحدثها دخول الأمير: فها هي ذي ناستاسيا فيليبوفنا بشخصها تظهر في إطار الباب، ثم تدخل الغرفة فتصدم الأمير مرة أخرى صدمة خفيفة.
– أخيراً ظفرت بأن أدخل... لماذا تربطون جرسكم؟
كذلك قالت ناستاسيا فيليبوفنا مرحةً وهي تمد يدها إلى جانيا الذي صار إلى جانبها بوثبة واحدة.
وأردفت تسأله:
– ما لي أرى وجهك منقلباً؟ قدَّمني إلى الحضور من فضلك.
كان جانيا قد فقد كل سيطرة له على نفسه، فقدّمها إلى أخته فاريا، فتبادلت المرأتان نظرة غريبة قبل أن تمد كل منهما يدها إلى الأخرى. كانت ناستاسيا فيليبوفنا تضحك وتختبئ وراء قناع من المرح المصطنع، أما فاريا فلم تحاول أن تخفي شيئاً، فنظرتها ظلت مظلمة ثابتة ولم يظهر في وجهها حتى طيف ابتسامة مما توجبه أبسط مبادئ الأدب والتهذيب. فاغتاظ جانيا من ذلك حتى كادت تنقطع أنفاسه. ولكن أوان ردَّها إلى الصواب قد فات؛ لذلك اقتصر على أن رشقها بنظرة تبلغ من امتلائها بالتهديد والوعيد أنها قرأت فيها عنفاً شديداً فأدركت قيمة هذه اللحظة عند أخيها، فبدا عليها أنها أرادت أن تتساهل فاصطنعت لناستاسيا فيليبوفنا ما يشبه أن يكون ابتسامة (ما يزال أهل هذا البيت يسرفون في حب بعضهم بعضاً).
وجاء دور نينا ألكسندروفنا فأصلحت الحال بعض الإصلاح، رغم أن جانيا، من فرط اضطرابه طبعاً، قد قدّم ناستاسيا فيليبوفنا إليها بعد تقديمها إلى أخته، ثم زاد على ذلك فذكر اسم أمه قبل أن يذكر اسم ناستاسيا.
ولكن ما أن بدأت نينا ألكسندروفنا كلامها فقالت: «يسرني جداً أن...» حتى التفتت ناستاسيا فيليبوفنا نحو جانيا بحركة سريعة دون أن تدع للأم أن تكمل جملتها، وصرخت تقول له بعد أن استقرت على كنبة صغيرة قرب النافذة، دون أن تُدعى إلى الجلوس:
– أين حجرة مكتبك؟ و... أين السكان الذي يستأجرون عندكم غرفاً مع الطعام والخدمة؟ عندكم مستأجرون، أليس كذلك؟
احمرّ وجه جانيا احمراراً رهيباً، وهم أن يثأثئ بجواب؛ لكن ناستاسيا فيليبوفنا كانت قد تابعت كلامها تقول:
– أين يمكنكم أن تُسكنوا مستأجرين؟ ليس لك حتى حجرة مكتب!
ثم التفتت فجأة نحو نينا ألكسندروفنا فقالت لها:
– هل التأجير يدر ربحاً على الأقل؟
حاولت نينا ألكسندروفنا أن تجيب فقالت:
– التأجير يورث متاعب كثيرة. وكان ينبغي أن يدر ربحاً بطبيعة الحال، غير أن...
ولكن ناستاسيا فيليبوفنا كانت قد انقطعت عن الإصغاء إليها، لأنها التفتت إلى جانيا وصاحت تقول له:
– ما لي أرى وجهك منقلباً هذا الانقلاب! رباه! ما هذا الوجه الذي له الآن؟
كان وجه جانيا قد تشوه فعلاً بعد بضع لحظات من ذلك الضحك. لقد بارحه فجأةً ما أحسه في أول الأمر من ذهول، وما بدا على وجهه في أول الأمر من شَدهٍ مضحك مبعثه الخوف. أن شفتيه الآن منعقفتان متشنجتان، وقد أخذ يُحدَّق بنظرة ثابتة خبيثة شريرة، دون أن ينطق بكلمة واحدة، ودون أن يحوّل بصره لحظة واحدة، أخذ يحدّق إلى وجه هذه الزائرة التي ما تزال تضحك.
غير أن ملاحظاً آخر كان موجوداً هناك، ملاحظاً لم يكن هو أيضاً قد استطاع أن يتحرر من حالة البكم التي أغرقته فيها رؤية ناستاسيا فيليبوفنا. لكنه رغم أنه بقي مغروساً في مكانه من إطار الباب كأنه «وتد»، قد استطاع أن يلاحظ اصفرار جانيا وأن يرى ما طراً على وجهه من تغير ينذر بشر. إن ذلك الملاحظ هو الأمير. وها هو ذا يتقدم إلى الأمام خطوةً على غير إرادة منه، حتى لكأنه آلة، وكان مروّعاً بعض الورع، وقال لجانيا:
– اشرب قليلا من ماء، واكفف عن النظر هكذا...
كان واضحاً أنه قال ذلك كله من دون أي حساب، بل ومن دون أية نية خاصة، وإنما هو انقاد لاندفاعة أولى. لكن أقواله هذه كان لها أثر خارق، فكأن كل ما كان يعتمل في نفس جانيا من حنق وغيظ وسخط قد انصب على الأمير دفعة واحدة، فها هو ذا يمسكه من كتفه، ويحدق إليه بنظرةٍ فيها انتقام وحقد وكره، صامتاً كأنه عاجز عن أن ينطق بكلمة. فسرى في الجمع كله انفعال شامل، حتى أن نينا ألكسندروفنا أطلقت صرخة صغيرة. وقلق بتتسين فتقدم خطوة إلى أمام. وكان كوليا وفردشتينكو قد ظهرا في الباب فوقفا مذهولين مشدوهين؛ وظلت فاريا وحدها خافضة رأسها، ولكنها تراقب الأحداث بانتباه. كانت قد لبثت واقفةً إلى جانب أمها، عاقدةً ذراعيها على صدرها.
لكن جانيا لم يلبث أن عاد إلى صوابه تقريباً، فأطلق ضحكة عصبية، ثم استرد وعيه كاملاً، وصاح يقول بصوت حاول أن يجعله مرحاً طبيعياً:
– ماذا دهاك يا أمير؟ أتراك طبيباً؟ لقد كدت تخيفني.
والتفت إلى ناستاسيا فيليبوفنا، وأضاف يقول:
– ناستاسيا فيليبوفنا، اسمحي لي أن أقدّمه... هو من أثمن الناس، وإن كنت لا أعرفه أنا نفسي إلا منذ هذا الصباح...
نظرت ناستاسيا فيليبوفنا إلى الأمير محتارة. وقالت:
– أمير؟ أهو أمير؟ تصوروا أنني منذ قليل، حين رأيته في حجرة المدخل، قد ظننته خادماً، فأرسلته إلى هنا ليبلغ عن وصولي! هأ هأ هأ!.
قال فردشتينكو وقد اقترب مسرعاً، مبتهجاً بأن الضحك قد استؤنف:
– لا بأس! لا بأس! حصل خير على كل حال...
– كدتُ أسيء معاملتك يا أمير، فاغفر لي، أرجوك!.. فردشتينكو، ماذا تفعل هنا في مثل هذه الساعة؟ كنت آمل على الأقل ألا أصادفك أنت هنا..
قالت ناستاسيا فيليبوفنا ذلك، ثم سألت جانيا ثانية، وهو ما يزال ممسكا كتف الأمير يقدّمه إليها ويعرّفها به:
– ماذا تقول؟ أي أمير؟ ميشكين؟
فقال جانيا:
– هو مستأجر عندنا.
واضح أن الأمير قد قُدّم على أنه شخص طريف نادر (جاء في الوقت المناسب جداً ليخرجهم من وضع خطأ)، حتى لقد كاد يُدفع نحو ناستاسيا فيليبوفنا دفعاً؛ بل أن الأمير سمع كلمة «أبله» سمعاً واضحاً يدمدم بها أحدهم وراءه على سبيل الشرح والتفسير، ولعل قائلها هو فردشتينكو.
تابعت ناستاسيا فيليبوفنا كلامها وهي تفحص الأمير من قمة الرأس إلى أخمص القدمين بدون تحرّج:
– قل لي: لماذا لم تصحح لي خطئي منذ قليل، حين ارتكبت في حقك... تلك الغلطة الرهيبة؟
كان يبدو على ناستاسيا توق شديد إلى سماع جوابه، لاقتناعها سلفاً بأن هذا الجواب سيبلغ من الحماقة أنها لن تستطيع إلا أن تضحك منه.
تمتم الأمير يقول:
– لقد دُهشت من رؤيتك فجأة أمامي...
– وكيف عرفت أنني أنا؟ أين التقيت بي قبل اليوم؟ عجيب... يخيّل إليّ حقاً أنني سبق أن رأيته في مكان ما!... واسمح لي أن أسألك أيضاً لماذا جمدت في مكانك لا تتحرك... ماذا وجدت فيّ من شيء يبلغ هذا المبلغ من... الفتنة؟
قال فردشتينكو مجعداً وجهه:
– هيّا... أجب... لماذا لا تجيب؟ آه... حين أفكّر فيما كان يمكن أن أجيب به علي مثل هذا السؤال لو كنت في مكانك!.. طيب يا أمير... ما أنت في الحقيقة إلا عبيط!...
قال الأمير لفردشتينكو ضاحكاً كذلك:
– ولكن أنا أيضاً كان يمكنني أن أقول أشياء كثيرة لو كنت في مكانك.
ثم تابع كلامه مخاطباً ناستاسيا فيليبوفنا:
– في هذا الصباح خطفت صورتك بصري. وبعد ذلك تحدثت عنك مع آل إيبانتشين، و... في ساعة مبكّرة من هذا الصباح، حين كنت بالقطار، حتى قبل وصولي إلى بطرسبرج، حدثني عنك بارفيون روجويين كثيراً. وفي اللحظة التي فتحت لك فيها الباب، في تلك اللحظة نفسها كنت بخاطري، فإذا أنا أراك أمامي.
– ولكن كيف عرفت أنني أنا؟
– عرفت ذلك من رؤيتي للصورة، و...
– وماذا؟
– ولأنني إنما كنت أتخيلك هكذا؛ وأيضاً لأنني كنت كمن سبق أن راك في مكان ما.
– ولكن أين؟ أين؟
– يخيل إليّ أنني سابق أن رأيت عينيك... ولكن هذا مستحيل!... لم يكن ذلك إلا... أنا لم أعش هنا قط. لعل ذلك حدث في حلم أثناء النوم...
هتف فردشتينكو قائلاً:
– مرحى أمير! لا، لا، إنني أسحب جملتي التي قالتها... أسحبها!... أحسنت...
ثم أضاف:
– رغم أن هذا كله إنما هو في الحقيقة سذاجة وبراءة من جانبه!
كان الأمير قد نطق تلك العبارات القليلة بصوت مختلج متقطع مشوّه، حتى لقد كان يتوقف عن الكلام في كثير من الأحيان ليسترد أنفاسه. كان كل شيء فيه يدل على انفعال شديد. وكانت ناستاسيا فيليبوفنا تتأمله باستطلاع قوي، لكنها كفّت عن الضحك.
وفي تلك اللحظة نفسها جلجل صوت قادم جديد من وراء الجمهور الكثيف الذي كان يحتشد حول الأمير وناستاسيا فيليبوفنا، فشطر الجمهور شطرين أن صح التعبير. إنه رب الأسرة، الجنرال إيفولجين بشخصه، يقف الآن أمام ناستاسيا فيليبوفنا. كان يرتدي بدلة «فراك» تحتها قميص نظيف، وكان شارباه مدهّنين مطّيبين.
كان هذا فوق ما يستطيع جانيا أن يطيق وأن يحتمل.
أن جانيا شاب مغرور مفتون بالظهور ممتلئ حبا لنفسه إلى درجة الهوس. وقد عمد خلال هذين الشهرين الأخيرين إلى جميع الوسائل ليضفي على شخصه شأناً خطيراً وليحلها منزلة هامة. وإذ شعر أنه ما يزال مبتدئاً في الطريق الذي رسمه لنفسه، وإذ كان غير واثق من قدرته على المضي إلى آخر الشوط، فقد قرر مستميتاً أن يتصف سلوكه في بيته بأكبر الوقاحة، فكان في بيته طاغية مستبداً، ولكنه لا يجرؤ أن يفعل هذا أمام ناستاسيا فيليبوفنا التي تركته في بحران الشك إلى آخر دقيقة، وكانت تسيطر عليه بلا رحمة، حتى لقد خلعت عليه لقب «الشحاذ النافد الصبر»، وهو لقب نقل إليه أنها وصفته به، فآلى على نفسه ليجعلنها تدفع ثمن ذلك في المستقبل غالياً، مع احتفاظه بذلك الأمل الصبياني وهو أن يحل كل المشكلات وأن يصالح جميع المتناقضات.
وهو الآن ما يزال مضطراً أن يشرب هذه الكأس المرة حتى الثمالة؛ والأنكى من ذلك أن عليه في مثل هذه اللحظة أن يتحمل تعذيباً يُعدّ أقسى أنواع التعذيب عند إنسان مغرور، ألا وهو أن يحمَرّ خجلاً ومذلة أمام أهله في بيته. فسرعان ما خطر بباله هذا الخاطر: «هل يستحق الثواب كل هذا العذاب في آخر حساب؟».
إن ما يحدث الآن أمام عينيه لم يكن قد تخيله أثناء هذين الشهرين الأخيرين إلا ليلاً، وكان ذلك كابوساً يجمّده رعباً ويحرقه خجلاً! أن اللقاء في داخل أسرته بين أبيه وناستاسيا فيليبوفنا يتم الآن أخيراً. لقد كان يحاول في بعض الأحيان، ليزعج نفسه، ويعذب نفسه، أن يتخيّل الجنرال أثناء حفلة العرس، ولكنه لم يستطع في يوم من الأيام أن يُكمل رسم هذه اللوحة الأليمة، فسرعان ما كان يتركها. لعله كان يبالغ في تضخيم هذه البلية تضخيماً كبيراً، ولكن هذا ما يحدث دائماً للأشخاص المغرورين. لقد اتسع وقته خلال هذين الشهرين لأن يفكر ولأن يتخذ قراراً؛ وآلى على نفسه ليردنّ أباه إلى الصواب مهما كلف الأمر، ولو إلى حين، حتى لقد يبعده عن بطرسبرج إذا اقتضت الحال ذلك، سواء أوافقت أمه أم رفضت. وهو قبل هذه اللحظة بدقيقتين، أي عندما دخلت ناستاسيا فيليبوفنا، قد بلغ من البهت والشدّة أنه نسي نسياناً تاماً احتمال ظهور آرداليون ألكسندروفتش، فلم يحتط للأمر أي احتياط، ولم يتخذ أي تدابير! وها هو ذا الجنرال يظهر الآن أمام جميع الناس؛ وأكثر من ذلك، أنه يجيء كالمتهيئ لاحتفال فخم، فهو يرتدي بدلة «فراك»، وذلك كله في اللحظة التي لا تحاول فيها ناستاسيا فيليبوفنا إلا أن «تتحين فرصة للاستهزاء به والتهكم على أسرته» (كان هو من هذا على يقين تام). وإلا فما عسى أن يكون مغزى زيارتها؟ أجاءت تلتمس صداقة أمه وأخته، أم جاءت لتهينهما في عقر دارهما؟
ثم أن الشك ينتفي انتفاء تاماً متى رأى المرء موقف كل من المعسكرين. فأما أمه وأخته فقد جلستا متنحيتين كمن أدركهما إذلال، وأما ناستاسيا فيليبوفنا فقد كان يبدو عليها أنها نسيت حتى وجودهما في الغرفة!... ولئن استمرت في اتخاذ هذا الموقف، فإن ذلك يدل حتماً على أنها تخفي فكرة وتبيت نية!
استولى فردشتينكو على الجنرال ليقدّمه فقال الجنرال وهو ينحني بوقار ويبتسم برصانة:
– آرداليون ألكسندروفتش إيفولجين. جندي قديم جار عليه الدهر، أب لأسرة يسعدها أن تأمل أن تدخل في عدادها سيدة تبلغ هذا المبلغ من الروعة..
ولم يكمل كلامه. فإن فردشتينكو قد أسرع يدس تحته كرسيا؛ وإذ أن الجنرال يكون ضعيفا على ساقيه بعد وجبات الطعام في العادة، فقد تهالك على الكرسي، بل قل: نه انهار على الكرسي انهياراً، ولكن دون أن يشعر من ذلك بأي اضطراب أو خجل. جلس أمام ناستاسيا فيليبوفنا تماماً، وتناول يدها، ثم حمل أصابعها إلى شفتيه بحركة بطيئة مدروسة مع اصطناع هيئة اللطف والبشاشة والتودد. كان الجنرال، بوجه عام، يصعب إحراجه أو إرباكه أو بلبلته. وليس يخلو مظهره الخارجي، إذا استثنينا شيئا من الإهمال في ملبسه، ليس يخلو من مهابة، وكان هو لا يجهل ذلك. حتى لقد استُقبل في الماضي في أرقى مجتمع، ثم لم يطرد من المجتمع الراقي طرداً نهائياً إلا منذ سنتين أو ثلاث سنين. ومنذ ذلك الحين إنما أخذ ينقاد لبعض مواطن الضعف فيه بدون تحفظ. ولكنه حافظ على شيء من الطلاقة والجاذبية.
بدا على ناستاسيا فيليبوفنا سرور عظيم بظهور آرداليون ألكسندروفتش الذي كان واضحاً أنها سبق أن سمعت عنه.
وأراد آرداليون أن يتكلم فقال:
– علمت أن ابني...
– آ... نعم... ابنك!... أنت أيضاً ظريف لطيف! لماذا لا تجيء إليّ أبداً؟ أأنت الذي تختبئ أم أن ابنك هو الذي يخبئك؟ أنت على الأقل تستطيع أن تزورني دون أن تعرّض سمعة أحد لخطر...
استأنف الجنرال الكلام فقال:
– أبناء القرن التاسع عشر وآباؤهم...
وصاحت نينا ألكسندروفنا تقول بصوت عال:
– ناستاسيا فيليبوفنا، تفضلي فاسمحي لآرداليون ألكسندروفتش بالانصراف لحظة، فأنهم يطلبونه...
– أسمح له؟ أرجوك... لقد سمعت عنه كثيراً فأنا أرغب في معرفته منذ مدة طويلة! ما هي الأعمال التي تناديه؟ أليس محالاً على التقاعد؟ لن تتركني يا جنرال، لن تنصرف، أليس كذلك؟
– أتعهد لك بأن يزورك شخصياً، أما الآن فهو في حاجة إلى شيء من الراحة.
هتفت ناستاسيا فيليبوفنا تسأله وهي تلوي شفتها استياء كطفلة مغناج انتُزعت منها لعبتها:
– آرداليون ألكسندروفتش، يزعمون أنك في حاجة إلى راحة...
فأسرع الجنرال يتكفل بجعل وضعه أدعى إلى الإضحاك أيضاً، إذ قال يخاطب زوجته بلهجة متفخمة ونبرة لائمة، وهو يحمل إحدى يديه إلى موضع القلب من صدره:
– عزيزتي، عزيزتي...
فسألت فاريا أمها بصوت عالي:
– ألا تريدين أن تخرجي يا ماما؟
فأجابتها أمها:
– لا يا فاريا، سأبقى إلى النهاية!
لا يمكن إلا أن تكون ناستاسيا فيليبوفنا قد سمعت السؤال والجواب، ولكن مرحها لم يزدد من ذلك إلا شدة وقوة. وأخذت تمطر الجنرال بالأسئلة، فما انقضت خمس دقائق حتى كان الجنرال يفيض في الهذر وسط ضحكات الحفل كله.
شدّ كوليا حافة سترة الأمير، وقال له:
– أنت على الأقل، أخرجه إلى مكان ما! ألا تستطيع أن تفعل ذلك؟ أرجوك...
وكانت تلمع في عيني الصبي المسكين دموع استياء. وأضاف الصبي يقول بينه وبين نفسه:
– لعنك الله يا جانيا!
استرسل الجنرال في الإجابة عن أسئلة ناستاسيا فيليبوفنا، فقال:
– نعم، كنت صديقاً حميماً لإيفان فيدروفتش إيبانتشين في الواقع. فأنا وهو والمرحوم الأمير ليون نيقولايفتش ميشكين الذي أتيح لي اليوم أن أفرح بضمّ ابنه إلى صدري بعد فراق عشرين عاماً، كنا لا نفترق، كنا أشبه بالفرسان الثلاثة: آثوس، وبورثوس، وآراميس. ولكن... واحزناه!... واحد منا هو الآن في القبر، مضى ضحية النميمة ورصاصة لئيمة؛ والثاني يمثُل أمامك وما يزال يصارع النمائم والرصاصات...
هتفت ناستاسيا فيليبوفنا تسأله متعجبةً:
– الرصاصات؟
– هي هنا، في صدري، أصابتني أثناء حصار كارس ، وما زلت أحسّها حين يسوء الجو. ثم إنني أحيا كما يحيا فيلسوف: أتجول، أتنزه، ألعب «الداما» بمقهى كبورجوازي اعتزل العمل، وأقرأ جريدة «الاستقلال» . ولكنني قطعت صلتي بصاحبنا بورثوس – إيبانتشين قطعاً تاماً، منذ ثلاث سنين، في أعقاب حادث وقع في القطار بصدد كلب ضغير...
سألته ناستاسيا فيليبوفنا باستطلاع شديد:
– كلب صغير؟ ما تلك القصة؟ كلب صغير؟ في القطار؟...
وكانت كأنها تحاول أن تتذكر شيئاً ما.
– أوه! هي قصة سخيفة لا تستحق أن تُروى، حدثت لي مع مسز سميث، صاحبة الأميرة بيلوكونسكايا، قصة لا تستحق أن تحكي.
هتفت ناستاسيا فيليبوفنا تقول فرحة:
– بل أقصصها عليّ، يجب أن تقصها عليّ حتماً!
قال فردشتينكو:
– أنا أيضاً لا أعرفها بعد. «هذا من الأمور الجديدة».
قالت نينا ألكسندروفنا بصوتها الضارع مرة أخرى:
– آرداليون ألكسندروفتش!
وصرخ كوليا يقول:
– بابا، أنهم يطلبونك...
بدأ الجنرال يحكي القصة مسروراً فقال:
– قصة سخيفة تُحكى بكلمتين. منذ سنتين تقريبًا، بعد تدشين خط السكة الحديدي بين...، كنت مسافراً بالقطار لأعمال هامة جداً تتعلق بتسليم منصبي (وكنت قد ارتديت الثياب المدنية منذ ذلك الحين). قطعت تذكرة سفر بالدرجة الأولى، فلما صرت في حجرة القطار جلست أدخن، بل قولي: إنني استمررت أدخّن، لأنني كنت قد بدأت أدخن قبل ركوب القطار؛ وكنت وحيداً في الحجرة. ولئن لم يكن التدخين ممنوعاً، إنه ليس مباحاً على كل حال. وإنما جرى العرف بالتسامح في أمره، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص. وكان زجاج النافذة مخفوضاً. وفجأةً، قبل انطلاق رنة الإيذان بتحرك القطار، دخلت الحجرة سيدتان وصلتا في آخر لحظة، ومعهما كلب صغير، وجلستا قبالتي. إن إحداهن ترتدي ثياباً تبلغ غاية الأناقة، لونها أزرق سماوي. والثانية أقل أناقة من الأولى ترتدي ثوباً من حرير أسود فوقه كاب. والسيدتان كلتاهما على شيء من الجمال، ولكنهما متعاليتان متكبرتان. وكانتا تتحدثان باللغة الإنجليزية. استمررت أنا في التدخين. ولقد فكرت في الأمر طبعاً، لكنني قررت مع ذلك ألا أكف عن التدخين، على أن أدير وجهي نحو زجاج النافذة الذي ظل مخفوضا. كان الكلب الصغير فوق ركبتَيْ السيدة التي ترتدي ثوباً أزرق بلون السماء، وهو كلب صغير جداً جداً، لا يكاد يتجاوز حجمه حجم قبضة اليد، جسمه أسود وقوائمه بيضاء... كلب نادر كل الندرة. وكان في رقبته طوق من فضة عليه نقوش، بقيت أنا ساكناً صامتاً. لكنني لاحظت أن السيدتين تبدوان مستاءتين، بسبب السيجار طبعاً. فإحداهما تتفرس في وجهي من خلال نظارة تمسكها بيدها. ظللت لا أردُّ بشيء، ما دامتا لا تقولان لي شيئاً! لو كلمتاني على الأقل، لو طلبتا مني ألا أدخن، إذن لكان يمكن أن أُلام... إن للبشر لغة يتخاطبون بها، إن لهم لساناً يتكلمون به. لكن السيدتين لبثتا صامتتين!... وفجأة... من دون أي إنذار... أؤكد لك أن ذلك تمّ من دون أي إنذار... كأن السيدة قد فقدت عقلها... انتزعت السيدة ذات الثوب الأزرق... انتزعت من يدي السيجار، ورمته من النافذة، واستمر القطار يسير، بينما أنا أنظر إليها مبهوتاً مصعوقاً. إنها امرأة وحشية، وحشية فعلاً، وحشية تماماً، رغم أنها جميلة، بضة، طويلة، شقراء، زاهية اللون، (بل زاهية اللون كثيراً). صعقتني بنظرتها صعقاً. وهأناذا، دون أن أقول كلمة واحدة، وبأدب كامل، بل بأدب يبلغ غاية الرقة، أمدُ أصبعيَّ إلى الكلب، فأحمله بهما من جلد رقبته حملاً لطيفاً... و... أرميه من النافذة ليلحق بسيجاري. لم يكد يتسع وقته لأن يعول أعوالة صغيرة!... واستمر القطار يسير.
هتفت ناستاسيا فيليبوفنا تقول وهي تنفجر ضاحكة وتصفق بيديها كصبية صغيرة:
– أنت شيطان!
وزأر فردشتينكو يقول:
–مرحى! مرحى!
وابتسم بتتسين هو أيضاً، رغم أنه كان هو أيضاً قد دُهش واستاء من دخول الجنرال. وحتى كوليا أخذ يضحك، حتي لقاد صرخ يقول: «مرحي!».
واصل الجنرال كلامه يقول متحمسا، ظافرا:
– كنت على حق، كنت على حق جداً. فإذا كان السيجار ممنوعاً في حجرة القطار، فالكلاب أوْلى أن تكون ممنوعة أيضاً.
صرخ كوليا يقول متحمساً:
– مرحى، بابا! عظيم، رائع! لو كنت في مكانك لفعلت مثل الذي فعلت أنت حتماً!
سألت ناستاسيا فيليبوفنا نافذة الصبر:
– وماذا فعلت تلك السيدة؟
أظلم وجه الجنرال، ثم قال:
– هي؟ هنا جرت الأمور مجرى سيئاً: فبدون أن تقول كلمة واحدة، بدون أي تمهيد، صفعتني! قلت لك: إنها امرأة وحشية، وحشية تماما!
– وأنت؟
خفض الجنرال عينيه، ورفع حاجبيه، وأعلى كتفيه، وزمّ شفتيه، وباعد ذراعيه، وقال أخيراً بعد صمت:
– لم أستطع أن أكبح جماح نفسي؟
– هل ضربتها ضربا شديدا؟
– لا، أحلف لك! لقد أحدث الأمر يومئذٍ فضيحة، لكنني لم أضربها ضرباً شديداً. لم يكن ذلك مني إلا ردّ فعل، لا لشيء إلا أن أبعدها. غير أن الشيطان دبّر لي هنا «مقلباً» لعيناً! فالسيدة التي تلبس ثوباً أزرق بلون السماء اتضح أنها إنجليزية، وأنها مرافقة الأميرة بيلوكونسكايا، بل وتكاد تكون صديقتها. تخيّلي الدراما: إغماءات، دموع، حداد (كان الكلب الصغير أثيرهما)، صيحات الأميرات الست والسيدة الإنجليزية! ولقد ذهبت أعرب عن أسفي وأقدم اعتذاري طبعاً، حتى لقد كتبت رسالة، غير أني لم أُستقبل، لا أنا ولا الرسالة، ونشأ عن ذلك شقاق بيني وبين إيبانتشين بطبيعة الحال. فهأناذا الآن مشنّع عليّ، منفيّ عنهم، مبعد من صحبتهم!
سألت ناستاسيا فيليبوفنا فجأة:
– ولكن اسمح لي، كيف يمكن هذا؟ لقد قرأت منه خمسة أيام أو ستة، في «الاستقلال» (وأنا أقرؤها بانتظام)، قرأت هذه القصة نفسها تماماً! حدث هذا على خط السكة الحديدية الذي يحاذى شاطئ نهر الراين، بين رجل فرنسي وامرأة إنجليزية: هي انتزعت منه سيجارة على النحو الذي وصفت، وهو رمي كلبها الصغير القزم من النافذة بالطريقة التي ذكرت؛ وكل شيء جري على نحو ما جرى لك دون أي اختلاف، فحتى ثوب السيدة كان أزرق بلون السماء!
احمر وجه الجنرال احمراراً شديداً. واحمر وجه كوليا أيضاً، وأمسك رأسه بيديه. وأسرع بتتسين يشيح وجهه. فكان فردشتينكو وحده ما يزال يضحك ملء حلقه. أما جانيا، فالأفضل ألا نتكلم عنه. لقد ظل هنالك يعاني ألماً أخرس لا يطاق!
تمتم الجنرال يقول لناستاسيا فيليبوفنا:
– أؤكد لك أن هذا الشيء نفسه قد حدث لي...
وصاح كوليا:
– فعلاً وقع لأبي حادث مزعج مع مسز سميث، خادم بيلوكونسكايا. أنا أتذكر هذا.
عادت ناستاسيا فيليبوفنا تلح مصرة في غير رحمة ولا شفقة:
– كيف يحدث لك هذا الشيء نفسه؟ أتتكرر قصة واحدة في طرفي أوروبا، بجميع تفاصيلها، حتى الثوب الأزرق الذي لونه كلون السماء؟ سوف أرسل إليك العدد الذي قرأت فيه قصة تلك الحادثة من جريدة «الاستقلال البلجيكي».
وتابع الجنرال كلامه ملحاً:
– لاحظي مع ذلك أن الحادث الذي وقع لي عمره سنتان!
– آ... إذا كان الأمر كذلك، فـ... طبعاً.
قالت ناستاسيا فيليبوفنا هذا وهي تضحك كأنما قد اعترتها نوبة هسترية.
قال جانيا بصوت مرهق، وهو يمسك أباه من كتفه:
– بابا، أرجوك أن تخرج معي قليلاً... أريد أن أقول لك كلمتين.
كان كره لا نهاية له يسطع في نظرته.
وفي تلك اللحظة دوّى في المدخل صوت الجرسي قويا عنيفا يكاد ينخلع له الجرس انخلاعاً، فكان يدل على زيارة غير عادية. فأسرع كوليا يفتح الباب.
الفصل العاشر
سرعان ما سُمعت ضوضاء جمهور آتية من حجرة المدخل. أن من كان في الصالون يدرك أن عدة أشخاص قد دخلوا، وأن آخرين ما يزالون يدخلون. كانت أصوات كثيرة تتكلم في آن واحد، وتصرخ عند المدخل وعند السلم الذي ظل بابه مفتوحاً. واضح أنهم زوار غريبون عجيبون. أخذ جميع من في الصالون ينظر بعضهم إلى بعض متحيراً. واندفع جانيا إلى الصالون الكبير، غير أن عدداً من الأشخاص كانوا قد دخلوا إلى هناك.
صاح صوت يعرفه الأمير، صاح يقول:
– آ... هأنت ذا يا يهوذا، يا خائن! سلامٌ جانيا، يا وغداً عريقاً! وصاح صوت آخر يقول مؤيداً:
– نعم، إنه هو، هو نفسه!
لم يبقَ لدى الأمير أي شك. أن أحد الصوتين هو صوت روجويين، وأن الصوت الآخر هو صوت ليبديف.
تجمّد جانيا على العتبة مبهوتاً مصعوقاً، وأخذ ينظر صامتاً، دون أن يحاول اعتراض دخول هؤلاء الأشخاص العشرة أو الاثني عشر الذين كانوا يجتاحون الغرفة وراء بارفيون روجويين.
كانت هذه العصبة خليطاً عجيباً، يتميز أفرادها لا بتنوعهم فحسب، بل بفوضاهم كذلك، حتى أن بعضهم دخلوا كما هم، بفرواتهم ومعاطفهم وكانوا يبدون جميعاً سكارى بعض الشيء، رغم أن أحداً منهم لم يكن سكران فعلاً. وكان يظهر عليهم جميعاً أن كلاً منهم في حاجة إلى الآخرين يشدُّ بهم أزره، ويستمد منهم شجاعته. ما كان لواحد منهم أن يجرؤ على أن يدخل لو كان وحيدا، ولكنهم كانوا كمن يدافع بعضهم بعضا إلى الدخول دفعا. حتى روجويين الذي كان على رأسهم، إنما كان يدخل محاذراً؛ فكان يبدو مظلم الوجه مشغول البال إلى درجة الهياج. أما الآخرون فلم يكونوا إلا «كورساً» هو فيه المغني أو قل: لم يكونوا إلا عصبةً عليها أن تساعده قليلاً. كانت العصبة تضم، عدا ليبديف، كانت تضم زاليوجيف الذي عني بتجعيد شعره عناية كبيرة، وترك فروته في حجرة المدخل، ودخل طليقاً متبختراً، ووراءه شخصان أو ثلاثة أشخاص من هذا الطراز نفسه كان واضحاً أنهم أبناء تجار؛ وكان في العصبة كذلك رجل يرتدي معطفاً على الزي العسكري، ورجل قصير سمين مفرط في السمنة ما ينفك يضحك بغير انقطاع؛ ورجل ضخم، بدين هو أيضًا، بدانة غير عادية، يكاد يبلغ طوله مترين، متجهم الوجه شديد الصمت، لا بد أنه كان يعوّل على قبضتي يديه كثيراً؛ وطالب من طلاب الطب؛ وبولندي مرح. وعلى فسحة السلّم سيدتان تنظران إلى حجرة المدخل ولا تجرؤان أن تدخلا. فأغلق كوليا الباب أمامهما وشدّ المزلاج.
– سلام جانيا الوغد! إنك لم تكن تتوقع أن ترى بارفيون روجويين، أليس كذلك؟
هكذا ردّد بارفيون روجويين حين وصل إلى باب الصالون فوقف أمام جانيا. ولكنه في تلك اللحظة نفسها، لمح في الصالون، قبالته تماماً، على حين فجأة، لمح ناستاسيا فيليبوفنا. واضح أنه كان أبعد ما يكون عن تخيل إمكان أن يراها هنا. فما أن رآها حتى أحدثت رؤيتها في نفسه تأثيراً خارقاً، فإذا هو يبلغ من الشحوب وانكفاء اللون أن شفتيه أصبحتا زرقاوين.
قال في رفق بصوت خافت، كأنما هو يحدث نفسه، وقد شلّ فلا يدري ماذا يفعل:
– ما يقال صحيح إذاً. انتهى الأمر!...
ثم قال مخاطباً جانيا من بين أسنانه، وهو ينظر إليه نظرة تفيض بغضب حانق لا يُغالب:
– طيب... سنتحاسب!...
لقد انحبست أنفاس روجويين، فلم يكد يستطيع أن ينطق بهاتين الكلمتين مقطعتين إلا بكثير من العناء. وتقدم في الصالون، ولكنه حين أبصر نينا ألكسندروفنا وفاريا على حين فجأة، توقف شاعراً ببعض الخجل رغم كل انفعاله. ودخل ليبديف وراءه، يتبعه كظله، وقد نال منه الانكسار. ثم دخل الطالب، فالعملاق ذو القبضتين الهائلتين؛ ودخل وراءهما زاليوجيف يحيي ذات اليمين وذات الشمال؛ ثم دخل الرجل القصير السمين يحاول أن يشق لنفسه طريقاً. إن وجود السيدات قد كبحهم قليلاً، وكان واضحاً أنه يربكهم إرباكاً كبيراً، ولكن المرء يحس أن هذا الإرباك سيزول متى حانت لحظة «البدء»... فإن وجود السيدات لن يحول دون الفضيحة متى تُطلق إشارة «البدء».
قال روجويين في ذهول، ولكن مع شيء من الدهشة:
– كيف؟ أأنت أيضاً هنا يا أمير؟ وما تزال اللبادتان على حذاءيك؟ وتنهّد. لكنه كان قد نسى الأمير وعاد ينقل بصره إلى ناستاسيا فيليبوفنا، وهو يقترب منها مزيداً من الاقتراب، كأنما يجذبه إليها مغناطيس.
وكانت ناستاسيا فيليبوفنا، هي أيضاً، تتفرس في الدخلاء قلقة مستطلعة.
وأخيراً ثاب إلى جانيا صوابه. فقال بصوت عال وهو يلقى على الدخلاء نظرة قاسية، مخاطباً روجويين بخاصة:
– اسمحوا لي! ما معنى هذا؟ أأنتم هنا في إسطبل أيها السادة؟! أمامكم هنا أمي وأختي...
قال روجويين من بين أسنانه:
– نرى أنهما أمك وأختك.
وزاد ليبديف يقول:
– واضح أنهما أمك وأختك.
وأغلب الظن أن صاحب القبضتين القويتين قدّر أن الحين قد حان، فإذا هو يهمهم.
فصاح جانيا رافعا لهجته إلى درجة الانفجار، قائلا:
– كفى! أرجوكم أولاً أن تنتقلوا إلى الغرفة الأخرى، واسمحوا لي بعد ذلك أن أسألكم...
ضحك روجويين ضحكة شريرة ساخرة دون أن يتحرك من مكانه وقال:
– عجيب! لم يتعرفني! ألم تتعرف روجويين؟
– هبني التقيت بك في مكان ما، فإنني...
– هه! التقيت بي في مكان ما! أنسيت إذاً أنك منذ أقل من ثلاثة أشهر قد سلبتني بالقمار مائتي روبل هي ملك أبي؟ لقد مات الشيخ المسكين قبل أن يتسع وقته لمعرفة ذلك. أنت جررتني إلى اللعب، وصاحبك كونيف تولى الغش. أفلا تتعرفني إذا؟ في وسع بتتسين أن يشهد. على كل حال، يكفي أن أخرج من جيبي ثلاث روبلات، وان أريكها حتى تركع وتسير على أربع إلى فاسيلفسكي آملاً في الحصول عليها. هذا أنت! تلك هي نفسك الخسيسة! وإنما جئتُ الآن أيضاً لأشتريك كلك بالمال! لا تنظر إلى حذاءيّ فأنا أملك يا صاحبي مالاً كثيراً، وفي وسعي أن أشتريك أنت وجميع ذويك... لو شئت اشتريتكم جميعاً، جميعاً!...
كان روجويين يزداد اندفاعاً، ويبدو أشد سكراً لحظة بعد لحظة. وهتف يقول:
– لا، لا تطرديني يا ناستاسيا فيليبوفنا! قولي لي كلمة واحدة لا أكثر: أأنت مقبلة على الزواج به أم لا؟
ألقى روجويين هذا السؤال كما يلقيه إنسان يشعر بأنه هالك، وخاطب ناستاسيا فيليبوفنا كما يخاطب إنسان إلهه المعبود، ومع ذلك كان في لهجته جرأة هي جرأة من حُكم عليه بالإعدام فلم يبق هنالك ما يخاف أن يضيع منه.
وراح ينتظر الجواب بقلق قاتل!
شملته ناستاسيا فيليبوفنا بنظرة ساخرة متعالية. ولكنها حين ألقت بصرها على فاريا ونينا ألكسندروفنا ثم على جانيا، غيّرت موقفها، وقالت تجيبه في رفق وجد، بصوتٍ تلوح فيه الدهشة:
– لا، أبداً، ماذا دهاك؟ ثم كيف خطر ببالك أن تلقي عليّ هذا السؤال؟
هتف روجويين يقول كمن جُنّ فرحاً:
– لا؟ لا؟ صحيح أنك لن تتزوجيه؟ لقاد زعموا لي أنك ستتزوجينه... آه... طيب. يا ناستاسيا فيليبوفنا! هم يدّعون أنك وعدت جانيا بأن تتزوجيه... كيف تتزوجين هذا... هذا الـ... أذلك ممكن؟ لقد قلت لهم هذا. إن في وسعي أن أشتريه كله بمائة روبل، فإذا أعطيته ألف روبل أو قولي ثلاثة آلاف روبل في سبيل أن يعدل عن الزواج، لهرب عشية الزواج تاركاً خطيبته. أليس هذا صحيحاً يا جانيا، يا سافل؟ ألن تقبل الثلاثة آلاف روبل؟ خذ! إليك هي! من أجل هذا إنما جئتُ اليوم! لقد جئت لأحصل على توقيع منك بالعدول عن الزواج. قلت سأشتريك، ولسوف أشتريك فعلا!
صرخ جانيا يقول وهو يحمرُّ ثم يصفرُّ، ثم يصفر ثم يحمر:
– اذهب من هنا! أنت سكران!
أحدثت هذه الصرخة انفجارات أصوات. كانت عصبة روجويين لا تنتظر منذ مدة طويلة إلا أول استفزاز. وها هو ذا ليبديف يهمس في أذن روجويين ببعض الكلام مهتماً أشد الاهتمام.
أجاب روجويين:
–أصبتَ يا سيادة الموظف! أصبتَ يا أيها السكّير! ولم لا، أخيراً؟
ثم هاتف يقول وهو ينظر إلى ناستاسيا فيليبوفنا كالمجنون، فتارةً برعب وتارة بجرأة تشبه أن تكون وقاحة:
– ناستاسيا فيليبوفنا! إليك ثمانية عشر ألف روبل! و... هناك مبالغ أخرى!...
قال ذلك ووضع أمامها، على منضدة صغيرة، حزمة ملفوفة بورق أبيض، ومربوطة بخيط.
ولم يجرؤ أن يكمل فكرته، لم يجرؤ أن يتم ما كان يريد أن يقوله.
همس ليبديف في أذنه مرة أخرى يقول مرتاعاً:
– لا، ليس هذا...
كان واضحاً أن ضخامة المبلغ قد روّعته، وأنه يقترح تخفيضه. فأجابه روجويين:
– لا يا صاحبي، هنا أخطأت... هنا أنت غبي...
وإذ رأى شرراً يقدح في نظرة ناستاسيا فيليبوفنا، ثاب إليه صوابه، وأخذ يرتجف، وأضاف يقول:
– بل نحن كلانا غبيان، أنت وأنا... آه... ما كان أشد حماقتي حين سمعت لك.
أضاف روجويين هذه الجملة الأخيرة بلهجة فيها ندم عميق.
فبعد أن لاحظت ناستاسيا فيليبوفنا بكثير من الانتباه كيف انقلب وجه روجويين وتشوّه، انفجرت تضحك فجأة، ثم أضافت تقول بلهجة خالية من الكلفة، طافحة بالوقاحة، وهي تنهض عن الكنبة كأنما لتنصرف:
– ثمانية عشر ألف روبل، لي أنا؟
وكان جانيا يراقب المشهد منقبض القلب.
صاح روجويين يقول:
– بل أربعون ألفاً، أربعون ألفاً، لا ثمانية عشر!... لقد وعدني بتتسين وبسكوب بأن يدفعا لي أربعين ألف روبل في الساعة السابعة! أربعون ألف روبل عداً ونقداً!...
أصبح المشهد دنيئاً حقاً، ولكن ناستاسيا فيليبوفنا ظلت تضحك، ولم تعزم أمرها على الانصراف، كأنها تتعمد أن يطول المشهد. وقد نهضت نينا ألكسندروفنا وفاريا، هما أيضاً، ووقفتا تنتظران صامتتين مروّعتين ما عسى أن ينتهي إليه الأمر. فأما فاريا فعيناها تلتمعان؛ وأما نينا ألكسندروفنا فقد هزّها تعاقب الأحداث هذا هزاً قوياً كل القوة فهي ترتجف حتى لتكاد تسقط مغشياً عليها.
– إذا كان الأمر كذلك، فإنني أرفع المبلغ إلى مائة ألف. نعم، في هذا اليوم نفسه سأدفع مائة ألف روبل. بتتسين، ساعدني في جمع هذا المبلغ، ولك حسابك!
همس بتتسين قائلاً وهو يقترب منه بحركة نشيطة ويمسك ذراعه:
– أنت سكران: سوف نستدعى الشرطة! أين تظن نفسك؟
قالت ناستاسيا فيليبوفنا كأنما تثيره وتحرّضه:
– الخمرة هي التي تتكلم!
فأخذ روجويين يصرخ قائلاً وقد ازدادت حماسته ازدياداً كبيراً:
– لا، أنا لا أكذب! سوف تقبضين مائة ألف روبل! هذا المساء! سوف أبرهن على أنني لا أتباخل!
هنا أرعد صوت آرداليون ألكسندروفتش على حين فجأة يقول غاضباً مهدداً وهو يتقدم نحو روجويين:
– ما معنى هذا كله أخيراً؟
إن هذه الاندفاعة المباغتة التي لم يكن يتوقعها أحد من العجوز بعد أن ظل صامتاً حتى ذلك الحين، قد أحدثت أثراً مضحكاً، فانطلقت ضحكات هنا وهنالك.
قال روجويين وهو يضحك ساخراً:
– من أين خرج لنا هذا؟ تعال معنا أيها العجوز فتشرب حتى تسكر!
فصرخ كوليا الذي كان يبكي عاراً وغضباً:
– هذه دناءة!
وصاحت فاريا فجأة وهي ترتعش غضباً من قمة رأسها إلى أخمص قدميها:
– هل يُعقل ألا يكون بينكم واحد يُخرج هذه الوقحة من هنا؟
فأجابت ناستاسيا فيليبوفنا تقول بمرح فيه احتقار:
– أأنا أوصف بأنني وقحة؟ ما كان أغباني حين جئت لأدعوهم إلى سهرتي! انظر كيف تعاملني أختك يا جبريل آرداليونتش!
ظل جانيا بضع لحظات كالمصعوق من اندفاعة أخته، ولكنه حين لاحظ أن ناستاسيا فيليبوفنا عازمة في هذه المرة فعلاً على أن تنصرف، هاجم على فاريا كالمجنون فأمسك يدها بحنق شديد.
وهتف يسألها وهو ينظر إليها كمن يريد أن يحيلها إلى رماد على الفور:
– ماذا فعلت؟
كان قد خرج عن طوره، وأصبح لا يدري ماذا يصنع.
صرخت فاريا تقول وهي ترشق أخاها بنظرة انتصار وتحدٍ:
– ماذا فعلت؟ وأنت إلى أين تجرني؟ أتراك تريد مني، أيها الرجل الساقط، أن أقدَّم إليها اعتذاري هي التي أهانت أمك، وغطّت بيتك كله بالعار؟
ولبثا على هذه الحال بضع لحظات، وجهاً لوجه.
كان جانيا ما يزال ممسكاً يد أخته بيده. وحاولت فاريا أن تخلص يدها مرةً أو مرتين بكل ما تملك من قوة، لكنها لم تفلح، فإذا هي بعد ذلك تخرج عن طورها فتبصق في وجه أخيها.
صرخت ناستاسيا فيليبوفنا تقول:
– هذه فتاة حقاً! يا بتتسين! أهنئك!
زاغ بصر جانيا، ونسي نفسه تماماً، فرفع يده يريد أن يضرب أخته بكل قواه. وكان يمكن أن تسقط يده على وجهها، لولا أن يداً أمسكت ذراع جانيا بانطلاقة سريعة فأوقفتها. لقد وقف الأمير بين الأخ وأخته.
قال الأمير حازماً، ولكنه كان يرتعش بجميع أعضائه هو أيضاً، كما يحدث في أثر اضطراب شديد:
– ما هذا؟ أما كفاكم؟!...
فزأر جانيا قائلا وهو يترك يد فاريا:
– أأظل أجدك دائماً في طريقي؟
وكانت يد جانيا قد أصبحت طليقة، وكان قد بلغ ذروة السخط، فإذا هو يُنزل بيده على وجه الأمير بصفعة قوية.
صاح كوليا يقول وهو يرفع ذراعيه:
– آه... آه... رباه!..
وانطلقت هتافات التعجب من كل جهة. كان الأمير أصفر اللون، يحدّق إلى عيني جانيا بنظرة غريبة مثقلة لوماً، وكانت شفتاه المختلجتان تحاولان أن تنطقا بشيء ما، وكانت ابتسامة عجيبة غير مألوفة تشنجّهما فما تستطيعان أن تقولا شيئاً. واستطاع أخيراً أن يتلفظ فقال:
– أنا، لا ضير أن ضربتني... أما هي... فلن أسمح لك بأن تضربها!...
ولكنه فقد سيطرته على نفسه فجأة، فترك جانيا، وأمسك رأسه بيديه، واتجه نحو الحائط، وقال بصوت متقطع:
– آه... لشد ما ستشعر بالخزي والعار من فعلتك!
وكان جانيا كالمصعوق فعلا.
هرع كوليا إلى الأمير يقبله ويواسيه، وتبعه روجويين وفاريا وبتتسين ونينا ألكسندروفنا... تبعه الجميع، حتى الشيخ آرداليون ألكسندروفتش.
تمتم الأمير قائلاً وهو ما يزال يبتسم تلك الابتسامة غير المألوفة:
– ليس هذا بشيء! ليس هذا بشيء!
وصرخ روجويين:
– لسوف يندم على ما فعل. السوف تخجل يا جانيا من أنك أسأت إلى مثل... هذه النعجة (لم يجد كلمة أخرى). دعهم يا أمير، يا صديقي؛ وتعال... فسوف تري كيف يعرف روجويين أن يحب!
– تأثرت ناستاسيا فيليبوفنا، هي أيضاً، أشد التأثر من فعلة جانيا وموقف الأمير. إن وجهها الذي يكون في العادة شاحب اللون والذي يعبر في العادة عن شرود الذهن، وذلك ما لا يتفق كثيراً مع ضحكها الذي كانت تصطنعه اصطناعاً منذ قليل، قد غيّرته الآن عاطفة جديدة. هذا واضح كل الوضوح. ومع هذا يحس المرء أنها لا تحرص على إظهار ذلك، فهي تحاول أن تحافظ على ما كان يعبّر عنه وجهها من سخرية.
وفجأة تذكرت السؤال الذي أثاره الأمير منذ قليل، فدمدمت تقول على حين بغتة، ولكن بشيء من الجد والرصانة منذ الآن:
– حتماً، سبق أن رأيت هذا الوجه قبل الآن!
فهتف الأمير فجأة يقول بلهجة عتاب عميق، لكنه عتاب فيه مودة وصداقة:
– وأنت، ألا تشعرين الآن بخجل؟ أنت لست تلك المرأة التي حاولوا أن يصفوها بما وصفوها به!...
دُهشت ناستاسيا فيليبوفنا، وحاولت أن تبتسم كأنما لتخفي شيئاً ما. وبعد أن ألقت نظرة على جانيا اتجهت نحو باب الصالون مضطربة. لكنها حتى قبل أن تصل إلى حجرة المدخل، عادت راجها فجأة، فاقتربت من نينا ألكسندروفنا فتناولت يدها وحملتها إلى شفتيها. ودمدمت تقول بصوت سريع، وبحرارة، واقد اشتعال وجهها واحمرّ:
– لقد حزر. صحيح أنني لست هكذا...
ثم استدارت وخرجت، ولكنها بلغت من السرعة في هذا كله أن أحداً لم يتسع وقته لأن يعرف لماذا هي رجعت أدراجها؛ كل ما هنالك أنهم رأوها تكلم نينا ألكسندروفنا ببضع كلمات همساً، ولعلهم رأوها تقبّل يدها. غير أن فاريا رأت كل شيء، وسمعت كل شيء، وتابعتها بنظراتها مدهوشة.
عاد إلى جانيا رشده، فاندفع ليصحب ناستاسيا فيليبوفنا، لكنها كانت قد خرجت، فأدركها في السلّم.
صرخت تقول له:
– لا تصحبني! إلى اللقاء في هذا المساء! لا تتخلف! هل سمعت؟
فعاد جانيا مضطرباً، مفكراً، واجماً. أن لغزاً ثقيلا يجثم الآن على قلبه، بل هو الآن أثقل مما كان. وطافت صورة الأمير أيضاً بخاطره...
وقد بلغ من عمق الاستغراق أنه لم يكن يرى انسحاب عصبة روجويين التي كان أفرادها يصدمونه في المدخل متدافعين متعجلين ترك المنزل في إثر رئيسهم. كانوا جميعاً يتناقشون بحرارة شديدة وصوت عال. وكان روجويين نفسه يمشي إلى جانب بتتسين، ويكلمه ملحاً في شيء لابد أنه خطير ولا يحتمل أي تأخير. حتى إذا مرّ أمام جانياً قال له:
– خسرت يا جانيا!
فتابعهم جانيا بنظرة قلقة.
الفصل الحادي عشر
ترَكَ الأمير الصالون وحبس نفسه في غرفته. وسرعان ما أسرع إليه كوليا ليواسيه. كان يبدو على الصبي المسكين أنه أصبح لا يستطيع الانفصال عنه. قال له:
– أحسنت إذ انصرفت. ستسوء الأمور مزيداً من السوء هناك. يحدث هذا في جميع الأيام. كل ذلك بسبب ناستاسيا فيليبوفنا تلك.
قال الأمير:
– في أسرتك، يا كوليا، آلام كثيرة متراكمة.
– نعم، هذا صحيح. والحق أننا ليس لنا أن نشكو. فالذنب كله ذنبنا. ولكن لي صديقاً هو أشقى منا أيضاً. هل تريد أن أعرّفك به؟
– بسرور كبير. أهو أحد رفاقك؟
– نعم، تقريباً. سأشرح لك الأمر فيما بعد. إنها جميلة، ناستاسيا فيليبوفنا، أليست كذلك؟ لم يسبق لي أن رأيتها حتى الآن، رغم كل ما بذلت في سبيل ذلك من جهود. كانت اليوم باهرة حقا، باهرة! كان يمكنني أن أغفر لأخي جانيا كل شيء لو كان يتزوجها عن حب. أما أن يأخذ مالاً فهذا هو العيب!
– نعم، أخوك لا يعجبني كثيراً.
– أفهم ذلك جيداً، ولا سيما بعد الذي فعله بك... هل تريد أن أقول لك رأيي؟ هناك مواضعات اجتماعية وأحكام شائعة لا أطيقها البتة. يكفي أن يقوم مجنون أو معتوه أو حتى وغد مجرم، يكفي أن يقوم وهو في حالة هذيان بصفع أحد الناس حتى يتلطخ شرف الرجل الذي تلقى الصفعة، إلى الأبد، فإذا هو لا يستطيع أن يغسل الإهانة إلا بالدم! اللهم إلا أن يمشوا أمامه ركعاً ضارعين إليه أن يصفح ويغفر. في رأيي أن هذا طغيان واستبداد، وأنه سخف! وذلك هو موضوع الدراما التي كتبها لرمينتوف بعنوان: «الحفلة المقنعة» ، والتي أجد أنها تافهة بلهاء، بل ومخالفة للطبيعة. يجب أن نذكر على كل حال أن تلك الدراما هي من الأعمال التي كتبها لرمينتوف في طفولته تقريباً...
– أعجبتني أختك كثيراً.
– أرأيت كيف بصقت في وجه جانيا؟ شُجاعةٌ فاريا! ومع هذا فإنك أنت لم تبصق، وما أظن أن مردَّ ذلك إلى نقص في شجاعتك. هه! ها هي ذي بنفسها. صدق المثل: اذكر الذيب وحضّر القضيب. كنت أعلم أنها لا بد أن تجيء! إن فيها نبلاً وشهامة، وإن تكن لها عيوب ونواقص أيضاً.
كانت أول حركة من فاريا أنها قالت:
– أنت لا عمل لك هنا ولا شأن. اذهب إلى أبيك. لا بد أنه يُضجرك يا أمير؟
– لا، بالعكس.
– ها هي ذي الأخت الكبرى تندفع وتثور! ذلك هو عيبها. ولكن، بالمناسبة، لقد ظننت أن أبانا سيتبع روجويين. لا بد أنه نادم الآن على أنه لم يفعل.
وأضاف كوليا يقول وهو يخرج:
– يستحسن فعلاً أن أذهب إليه فأرى ما هنالك!
قالت فاريا:
– الحمد لله! استطعت أن أقود ماما وأن أرقدها، ولم يحدث انفجار جديد. جانيا غارق في خجله وهمومه. هنالك ما يدعوه إلى ذلك على كل حال!... يا له من درس!... لقد جئت لأشكرك، ولأسألك أيضاً ألم تكن تعرف ناستاسيا فيليبوفنا قبل اليوم؟
– لا، لم أكن أعرفها.
– فلماذا قلت لها إذاً، وجهاً لوجه، إنها ليست «تلك» المرأة؟ ألا أن من الجائز أن تكون قد حزرت الواقع!... على كل حال، طاش عقلي، وتاه فكري، فأصبحت لا أفهم من الأمر شيئاً! لا شك في أنها كانت تنوي أن تهيننا. ذلك واضح. وقد سبق أن سمعت عنها أشياء كثيرة غريبة. ولكن إذا صدق أنها جاءت لتدعونا أنا وماما، فكيف نفسّر أنها بدأت بمعاملة ماما تلك المعاملة الغريبة؟ أن بتتسين يعرفها جيداً. وقد قال: إنه لم يستطع أن يعلل سلوكها منذ قليل. وموقفها ذاك من روجويين؟ إن من يحترم نفسه لا يسمح لنفسه بمثل هذه اللغة، في منزل... وأمي قلقة عليك كل القلق أيضاً.
قال الأمير وهو يحرك يده بحركة عدم الاكتراث:
– ما هذا بشيء!
– إنه لغريب مع ذلك أنها أطاعتك...
– كيف... أطاعتني؟
– حين قلت لها: أن عليها أن تشعر بالخجل، فإذا هي تتغير وتتبدل دفعة واحدة.
ثم أضافت فاريا وهي تبتسم ابتسامة خفيفة:
– أن لك عليها نفوذاً وسلطاناً يا أمير!
وفُتح الباب، ودخل جانيا من حيث لم يكن يُتوقع دخوله البتة. وحتى رؤية فاريا لم تحمله على التردد. تلبث عند العتبة لحظةً، ثم دنا من الأمير وقد بدا في وجهه الحزم والثبات، وقال فجأة بانفعال قوي:
– يا أمير، لقد كنت آنا دنيتاً، فاغفر لي يا عزيزي!
كانت قسمات وجهه تعبر عن ألم كبير وعذاب شديد. فتأمله الأمير مشدوهاً ولم يجب فوراً. فأسرع جانيا يكرر قوله نافد الصبر:
– اغفر لي، أرجوك، اغفر لي. هل تريد أن أقبل يدك؟
فما كان من الأمير، وقد تأثر تأثراً شديداً، إلا أن عانقه بذراعيه دون أن يقول كلمة واحدة. وتبادل الرجلان القبلات صادقة.
قال الأمير أخيراً وهو يسترد أنفاسه بكثير من العناء:
– ما كان ليخطر ببالي أنك قادر على هذا... كنت أظن أنك غير قادر عليه..
– علي الاعتراف بأخطائي؟.. إني لأتساءل كيف أمكنني أن أعدّك أبله، أنت الذي ترى ما لا يستطيع الآخرون أن يلاحظوه في يوم من الأيام. إنه ليكون مفيداً أن أجري معك حديثاً... ولكن... ربما كان السكوت افضل!..
قال له الأمير وهو يومئ إلى فاريا:
– وهذه إنسان آخر يجب عليك أن تستغفره!
فصاح جانيا قائلا وهو يشيح بوجهه عن أخته:
– لا، لا، هؤلاء جميعاً أعداء لي. تأكد يا أمير أنني قمت بمحاولات كثيرة وبذلت جهوداً كبيرة. لا، هنا لا يغفرون غفراناً صادقاً قط!
فقالت فاريا فجأة:
– بل سأغفر لك!
– وهل تذهبين هذا المساء إلى بيت ناستاسيا فيليبوفنا؟
– أذهب، إذا أمرتني بأن أذهب. ولكن احكم في الأمر بنفسك: هل يمكنني الآن أن أظهر هناك؟
– ما دامت ليست «تلك». إنك ترين الألغاز التي تقوم في أذهاننا عنها؟ ألا إنها لتجيد التمثيل!...
قال جانيا ذلك وضحك ضحكة ساخرة خبيثة.
– أنا أدرك أنها ليست ما يتراءى لنا، وأن في جعبتها «مقالب» أخرى. ولكن ما هي تلك «المقالب»؟ ثم انتبه يا جانيا! أأنت تعرف رأيها فيك على الأقل؟ صحيح أنها قبّلت يد ماما، ولنفرض أن سائر الأمور تمثيل، ولكنها مع ذلك قد سخرت منك وتهكمت عليك! هذه مذلات لا تساويها خمسة وسبعون ألف روبل! لا يا أخي! عهدي فيك أنك قادر على الشعور بعواطف نبيلة، لذلك تراني أقول لك هذا الكلام. صدّقني. أنت نفسك لا تذهب إليها هذه الليلة! حذار أن تذهب! لسوف يجري الأمر كله مجرى سيئًا!
قالت فاريا ذلك، وأسرعت تخرج من الغرفة منفعلة أشد الانفعال...
قال جانيا وهو يضحك مستهزئاً:
– كذلك هنّ جميعاً! هل يتخيّلن أنني أنا نفسي لا أعرف؟ لا شك أنني أعرف أكثر مما يعرفون!
وهنا جلس جانيا على الديوان، فكان واضحاً أنه ينوي إطالة زيارته.
تجاسر الأمير فقال خجلاً وجلاً:
– إذا كنت تعرف، فلماذا اخترت إذاً هذا التعذيب عالماً أن خمسة وسبعين ألف روبل لا تساويه؟
فدمدم جانيا يقول:
– ليس هذا هو الأمر. ولكن قل بالمناسبة، فأنا أحرص على أن أعرف رأيك: هل هذا «التعذيب» تساويه خمسة وسبعون ألف روبل أم لا تساويه؟
– أعتقد أنها لا تساويه.
– مفهوم. وعارٌ أن يتزوج الرجل على هذه الشروط.
– عارٌ جدًا!
– طيب... فاعلم أنني سأتزوج مع ذلك، واعلم أنني الآن أشد ثقة ويقيناً مما كنت من قبل. فمنذ قليل، كنت ما أزال متردداً، أما الآن فقد انتهى الأمر! لا تقل شيئاً! أنا أعرف ماذا تريد أن تقول...
– لا أريد أن أتكلم عمّا ظننت أني سأتكلم عنه. كل ما هنالك أنني مدهوش من ثقتك ويقينك.
– مِمَّ؟ من ثقتي ويقيني؟
– من ثقتك أولاً بأن ناستاسيا فيليبوفنا ستتزوجك حتماً، وأن هذا أمر مفروغ منه؛ ومن ثقتك ثانياً بأن هذه الخمسة وسبعين ألف روبل ستُلقى في جيبك رأساً. أقول هذا رغم أنني أجهل أشياء كثيرة على كل حال.
اقترب جانيا من الأمير بحركة نشيطة. وقال:
– طبعاً، أنت لا تعرف كل شيء. وإلا فلماذا كان يمكن أن أقبل احتمال هذا الثقل كله؟
– يخيّل إليّ أن ذلك يحدث في كثير من الأحيان: يتزوج الرجل طمعاً في مال، ولكن المرأة هي التي تستولي على المال!
دمدم جانيا يقول واجماً مفكراً قلقاً:
– لـ... لا! لن تجري الأمور هذا المجرى في زواجنا!.. هناك... ظروف معينة...
ثم أسرع يضيف:
– أما عن جوابها فلم يبق ثمة أي شك فيه! ما الذي يدعوك إلى افتراض أنها قد ترفضني؟
– لا أعرف أكثر مما رأيت. وقد قالت باربارا آرداليونوفنا، هي أيضاً، منذ قليل...
– هيه! هن يقلن هذا الكلام، لأنهن لم يبق لهن ما يقلنه! أما روجويين فقد كانت تسخر منه، ثق بهذا. ذلك شيء ميَّزته واضحاً، ذلك شيء لا يخفى عن البصر. عانيت منذ قليل لحظة قلق، ولكنني أرى الآن رؤية واضحة. اللهم إلا أن يكون حكمك مبنياً على سلوكها مع أمي وأبي وفاريا؟
– وعلى سلوكها معك.
– هب ملاحظتك صحيحة. ولكن ليس إلا روح الانتقام الأبدية لدى النساء. أن ناستاسيا فيليبوفنا امرأة سريعة الاهتياج، شديدة التأذي، كثيرة الأنانية: لكأنها موظف من الموظفين المنسيين في كشوف الترقيات! لقد حرصت على أن تثبت لهم قوة شخصيتها، وعلى أن تظهر لهم احتقارها... لهم... ولي أنا أيضاً، أن شئت. هذا صحيح. لست أنكره... لكنها ستتزوجني مع ذلك. إنك لا تستطيع أن تتخيل الألاعيب التي يمكن أن تدفع إليها الكبرياء. أن هذه المرأة تعدني شخصاً جديراً بالاحتقار، لأنني على علمي بأنها خليلة رجل آخر، أرضى أن أتزوجها في سبيل المال صراحةً. ولكنها لا يخطر ببالها أن شخصاً آخر كان يمكن أن يخدعها بطريقة أحقر وأدنأ، كأن يأخذ يحدثها مفيضاً مسهباً عن الأفكار اللبرالية والآراء التقدمية وتحرير المرأة وما إلى ذلك، ليجرّها بعد ذلك من أنفها! إن في وسعه بمثل هذه الأساليب أن يقنع هذه المجنونة إقناعاً سهلاً كل السهولة، يقنعها بأنه لا يختارها إلا «لنبل قلبها، وكثرة محنها»، مع أنه في حقيقة الأمر لا يفكر إلا في مالها. أما أنا فلا أحظى بالقبول والرضى، لأنني أكره المواربة... ولكن كان عليّ في الواقع أن ألجأ إلى ذلك الأسلوب! ثم قل لي: ما الذي تفعله هي؟ ألا تفعل هذا الشيء نفسه؟ فلماذا إذاً تحتقرني، وتمثل هذا التمثيل كله؟ السبب بسيط: هو أنني أرفض أن أرضح، وأظهر العزة والكبرياء أنا أيضاً! على كل حال، سوف نرى...
– أتراك أحببتها من قبل؟
– نعم، في بداية الأمر. ولكن كفى! هناك نساء لا يصلحن لأن يُتخذهن إلا خليلات. لا أدعي بهذا القول: إنها كانت خليلتي. فإذا رضيت أن تكون عاقلة وأن تعيش هادئة، رضيتُ بذلك أنا أيضاً، أما إذا أخذت تتمرد وتثور، فسرعان ما سأتركها فاراً بالمال. لا أريد أن أكون أضحوكة، ذلك أهم شيء عندي!
قال الأمير بحذر:
– يخيّل إليّ أن ناستاسيا فيليبوفنا ذكية، فكيف تقع في الفخ إذا كانت توجس هذا الشقاء كله سلفاً؟ في وسعها أن تتزوج رجلاً آخر ذلك ما يثير دهشتي...
– هنا يكمن الحساب كله! إنك لا تعرف كل شيء يا أمير.. ثم إنها مقتنعة على كل حال بأنني أحبها حباً يبلغ الجنون.. أؤكد لك ذلك... وأغلب الظن عندي أنها هي أيضاً تحبني على طريقتها، فكما يقول المثل: «من يحب حباً قوياً يعاقب عقاباً شديداً». طوال حياتها ستظل تعدني أسيراً تعذّبه (ولعل ذلك هو ما تحتاج إليه)، مع حبها إياي على طريقتها في الوقت نفسه. إنها تهيئ نفسها لهذا، فذلك هو طبعها. إنها امرأة روسية إلى أقصى حد، أؤكد لك هذا. أما أنا فإنني أخبئ لها أيضاً مفاجأة. إن ما حدث بيني وبين فاريا منذ قليل كان طارئاً عرضياً، لكنه يفيدني: لقد استطاعت أن تتأكد من تعلقي بها، ومن أنني سأقطع جميع الصلات في سبيلها. هأنت ذا ترى أنني أنا أيضاً لست غبياً إلى ذلك الحد. لا شك أنك تجدني كثير الثرثرة. جائز جداً يا أمير أنني أخطئ إذ أفضي إليك بهذه المسارّات كلها. ولكني ما هجمت عليك هذا الهجوم إلا لأنك أول إنسان نبيل ألقاه في حياتي! لا تأخذ كلمة «الهجوم» هذه بمعنيين: لستَ حاقدا عليّ لما حدث منذ قليل، أليس كذلك؟ لعل هذه أول مرة أتكلم فيها مفتوح القلب منذ سنتين. الشرفاء هنا قليل: أشرفهم بتتسين. ولكن يخيّل إليّ أنك تضحك؟ ألا تضحك؟ إن الأوغاد يحبون الشرفاء كثيراً. ألم تكن تعرف هذه الحقيقة؟ وإذ أنني... ولكن قل لي حقاً: فيم أنا وَغْدٌ؟ هلّا قلت لي هذا صريحاً صادقاً! لماذا يقلدونها جميعاً فيعدوني وَغْدًا؟ تصوّرْ فوق ذلك أنني حين أسمع كلامها وأسمع كلامهم آخذ أعدُّ نفسي وغداً مثلما يعدونني كذلك! ذلك هو الصغار وتلك هي الحقارة في الواقع!
قال الأمير:
– أما أنا فلن أعدك بعد اليوم وغداً. الحق أنني منذ قليل كنت على شك أن أعدَّك وغداً بالفعل. ولكنك أفرحتني الآن كثيراً! هذا درس سأنتفع به في المستقبل، وهو ألا أحكم على الناس قبل أن تكون لي خبرة بهم. أنا الآن أرى أنك لست وغداً، بل أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إنك لست حتى رجلاً فاسداً. في رأيي إنك إنسان عادي جداً، ربما على شيء من ضعف الإرادة وقلة الأصالة.
ابتسم جانيا ابتسامة مريرة، ولكنه لزم الصمت. ولاحظ الأمير أن رأيه لم يحظ برضى جانيا. فخجل من ذلك كثيراً، وصمت هو أيضاً.
سأله جانيا فجأة:
– هل طلب منك أبي مالًا؟
– لا.
– سيطلب، فلا تعطه. أما أنه كان إنساناً لائقاً جداً، فهذا أمر أتذكره كل التذكر. لقد كان يُستقبل في أرقى مجتمع. ما أسرع ما يترددون ويسقطون، هؤلاء الناس اللائقون جميعاً! أمر غريب! يكفي أيسر تغير في ظروف حياتهم حتى يهووا إلى الدرك الأسفل، ثم لا يبقى منهم شيء، فكأنهم بارود اشتعل فاستحال كله دخاناً! أؤكد لك أنه كان في الماضي لا يكذب أبداً كما يكذب الآن! كل ما هنالك أنه كان شديد التحمس، فانظر كيف صار الآن! هذا ذنب الشراب طبعاً. هل تعلم أنه يعول خليلة؟ ثم إنه الآن ليس كذاباً بغير أذى. إنني لا أفهم كيف تصبر عليه ماما هذا الصبر كله، وكيف تتسامح معه هذا التسامح كله! هل روى لك قصة حصار «كارس»؟ أو قصة حصانه الأبلق الذي طفق يتكلم؟ إنه يصل إلى هذا الحد أحياناً.
قال جانيا ذلك وانفجر يضحك ضحكاً مجلجلاً. ثم سأل الأمير:
– ما بالك تنظر إليّ هكذا؟
– أدهشني ما في هذا الضحك من صراحة وصدق. أرى أنك ما تزال قادراً على أن تضحك كما يضحك طفل. ومنذ قليل، حين دخلت لتصالحني، سألتني: «هل تريد أن أقبل يدك؟». هذا بعينه هو ما يفعله طفل حين يستغفر من ذنب. ما زلت قادراً إذاً على هذا النوع من الكلام الطيب والاندفاع الصادق! فما بالك تنساق هذا الانسياق في تلك القصة المشبوهة، قصة الخمسة وسبعين ألف روبل. حقاً أن ذلك ليبدو لي مستحيلاً لا يصدّق.
– فما هي النتيجة التي تستخرجها من هذا كله؟
– إنني أتساءل ألست تتسرع في سلوكك كثيراً؟ أليس الأفضل أن تفكر أولا؟ قد تكون باربارا آرداليونوفنا على حق...
قاطعه جانيا قائلا:
– ها... درس في الأخلاق!... أما أنني ما زلت صبياً صغيراً فذلك أمر أعرفه أنا نفسي. وأكبر دليل على ذلك أنني أثرت معك مثل هذا الحديث.
وتابع جانيا حديثه فاضحاً نفسه كفتي جُرحت كبرياؤه:
– لكنني لا أرتضي هذا الزواج بدافع الحساب وحده يا أمير. وإلا لكان من الممكن أن تخطئ حساباتي، فما زلت لا أملك لهذا الأمر كل عدته من دماغ قوي وعزيمة صلبة. وإنما أنا أقبل هذا الزواج مدفوعاً بهوى عنيف جامح، وميلٍ عارم لا يغالَب، لأن لي هدفاً رئيسياً. لعلك تظن أنني متى قبضت هذه الخمسة وسبعين ألف روبل، فسأشتري لنفسي مركبة فخمة. فاعلم إذاً أن الأمر ليس كذلك. السوف آخذ عندئذ في إبلاء سترة عتيقة عمرها ثلاث سنين، ولسوف أعدل عندئذٍ عن جميع علاقاتي بالمنتدى. ما أقل القادرين في بلادنا على المضي في طريقهم قدما لا يحيدون، وان تكن نفوسهم جميعاً نفوس مرابين! أما أنا فسأصمد وسأتابع السير إلى النهاية. فإنما المهم أن يسير المرء إلى النهاية. تلك هي المشكلة! كان بتتسين، في السابعة عشرة من عمره، يبيت في الشارع ويبيع سكاكين. بدأ كفاحه ببضعة كوبكات. وهو يملك الآن ستين ألف روبل. ولكن ما أقسى الجهود التي بذلها والمصاعب التي قاساها في سبيل ذلك أما أنا فأستطيع أن أتخطى جميع تلك المصاعب فأبدا برأس مال كبير على الفور. فما أن تمض خمس عشرة سنة حتى يشير إليّ الناس بالبنان قائلين: «هذا إيفولجين، ملك اليهود!». أنت تصفني بإنني خالي من الأصالة. فاعلم يا عزيزي الأمير أن أكبر إهانة يمكن أن تلحقها بإنسان في عصرنا ومن جنسنا هي أن تنعته بأنه محروم من الأصالة والإرادة والمواهب الخاصة، وأن تقول عنه: إنه رجل عادي. إنك لم ترض حتى أن تعدُّني وغداً ذا قيمة؛ وإني لأعترف لك بأنني أوشكت منذ قليل أن ألتهمك التهاماً بسبب ما قلته في حقي! لقد آلمتني أكثر مما آلمني إيبانتشين ذاك الذي يظن أنني لن أتورع عن أن أبيعه امرأتي (لم يصرح بهذا، ولكنه يضمره، وهذه سذاجة منه، فإنه لم يحاول حتى أن يسبر ما بنفسي). هذا كله يثيرني منذ مدة طويلة يا صديقي، وذلك هو السبب في أنني محتاج إلى مال. فمتى حصلت على المال، أصبحت على جانب كبير من الأصالة، ثق بهذا! من هذه الناحية خاصة إنما يجب أن يوصف المال بأنه حقير وبغيض، لأنه يضفي على صاحبه حتى الموهبة! وسيستمر الحال على هذا المنوال إلى نهاية العالم. قد تقول لي: أن هذا الكلام كله صبياني، أو قد تقول لي: إنه كله شعر. لا ضير... ليزدد الأمر بذلك سخفاً، ولكنه سيتحقق. سأسير إلى نهاية الشوط، وسأصمد. صدق المثل: «يضحك جيداً من يضحك آخراً». لماذا يعاملني إيبانتشين هذه المعاملة؟ أعن خبث وشر؟ لا... وإنما هو يعاملني هذه المعاملة لأنني شخص يمكن إهماله تماماً، فليس له قيمة أو وزن. أما حين أصبح... على كل حال، كفى الآن كلاماً. لقد أزف الوقت... ثم أن كوليا قد أطلّ بأنفه مرتين، ربما ليناديك إلى الغداء. أما أنا فأخرج.. سآتي إليك أحياناً. لن تتضايق كثيراً عندنا، فلسوف يتبنونك الآن جميعاً! حذار أن تفضحني. يخيل إليّ أننا لا نستطيع أن نكون إلا أصدقاء أو أعداء. قل لي يا أمير: لو أنني قبّلت يدك منذ قليل (كما اقترحتُ ذلك صادقاً) أكنت أصبح بعد ذلك عدوّك لهذا السبب؟
قال الأمير وهو يضحك بعد لحظة من تفكير:
– حتماً! ولكن ليس إلى الأبد، بل إلى حين، فإنك ما كنت لتستطيع أن تصمد طويلاً، فلا بد أن تغفر لي أخيراً.
قال جانيا:
– هيه... هيه!... أرى أن على المرء أن يكون حذراً كل الحذر معك. إنك حتى في هذا الجواب قد استطعت أن تدسّ شيئاً من سم. من يدري! لعلك عدوا بالمناسبة: هأهأهأ!... لقد نسيت: خيل إليّ منذ قليل أن ناستاسيا فيليبوفنا أعجبتك كثيراً، هل هذا صحيح؟
– نعم، تعجبني!
– أأنت مغرم بها؟
– لـ... لا!
– ومع ذلك احمرّ لونك، وظهر العذاب في وجهك. طيب ليس هذا بشيء. لن أسخر منك. إلى اللقاء. هل تعلم أنها امرأة متمسكة بالفضيلة؟ هل تستطيع أن تصدّق ذلك؟ لعلك تظن أنها خليلة الآخر، توتسكي؟ أخطأ إذاً ظنك! ما هي خليلته، وذلك منذ زمن طويل! هل لاحظت خراقتها وخجلها في بعض اللحظات؟ تلك هي الحقيقة. إن أصحاب مثل هذه الطباع هم الذين يحبون أن يسيطروا. طيب. أستودعك الله!
انسحب جانيا بكثير من اليسر والطلاقة والسهولة، فكان عند خروجه أحسن حالاً وأصفى مزاجاً منه عند دخوله.
أما الأمير فقد لبث جامداً نحو عشر دقائق، لا يتحرك.
وأطل كوليا برأسه من الباب من جديد. فقال له الأمير:
– لن أتغدى يا كوليا، فقد أفطرت عند آل إيبانتشين منذ قليل فأكلت كثيراً من الطعام.
فدخل كوليا، ومدَّ إلى الأمير رسالة. إنها ورقة مطوية ممهورة بتوقيع الجنرال. يستطيع من ينظر إلى كوليا أن يقرأ في وجهه مدى الألم الذي يشعر به وهو يناول الأمير الرسالة. وقرأ الأمير الرسالة، فنهض وتناول قبعته.
قال كوليا خجلان مضطرباً:
– ليس المكان بعيداً، هو على مسافة خطوتين من هنا. بابا جالس إلى مائدة أمام زجاجة. إني لأتساءل كيف استطاع أن يقنعهم بأن يسقوه ديناً. أرجوك يا عزيزي الأمير ألا تذكر لأحد إنني نقلت إليك هذه الرسالة. لقد حلفت ألف مرة ألا أعود إلى فعل هذا أبداً، ولكنني أشعر بشفقة عليه. ثم أرجوك أن لا تصانعه وتجامله؛ أعطه بضعة نقود واكتف بهذا!
– كنت أنوي أنا نفسي يا كوليا أن... إنني في حاجة إلى أن أرى أباك... لسببٍ ما... هيّا بنا!...
الفصل الثاني عشر
قاد كوليا الأمير إلى «مقهى – بلياردو» قريب من المنزل، قبل شارع ليتاينايا، يقع في قبو على الطريق. فإلى اليمين، في حجرة صغيرة خاصة، كان آرداليون ألكسندروفتش جالساً إلى مائدة كما يجلس زبون قديم، وقد وُضعت أمامه زجاجة، وكان يقرأ جريدة «الاستقلال البلجيكي» فعلاً. كان ينتظر الأمير. فما إن أبصره حتى ترك جريدته وشرع يفيض في شرحٍ طويل حار لم يفهم الأمير منه شيئاً كثيراً على كل حال، لأن الجنرال كان في الواقع قد ثمل. وقاطعه الأمير يقول:
– ليس معي ورقة عشرة روبلات، ولكن إليك ورقة خمسةٍ وعشرين روبلاً، فبدّلها ورُدَّ إليّ خمسة عشر روبلاً، وإلا بقيت بغير كوبك واحد!
– آ... طبعاً... طبعاً.. تأكد أن هذا سيتم فوراً.. فوراً!..
– ثم أن هناك شيئاً أريد أن أسألك عنه يا جنرال: ألم تزر ناستاسيا فيليبوفنا في يوم من الأيام؟
صاح الجنرال يقول في نوبة اختيال وغطرسة وسخريه:
– أنا؟ لم أزرها في يوم من الأيام؟ أتسألني أنا هذا السؤال؟ مراراً يا عزيزي مراراً!... لكنني انقطعت عن زيارتها آخر الأمر حتى لا يكون في ذهابي إليها تشجيع على مصاهرة غير لائقة. لقد رأيت بعينيك وكنتَ شاهدًا على ما حدث منذ قليل: إني فعلت كل ما يستطيع أن يفعله أب ليّن متسامح. لكن أباً من نوع آخر سيدخل المشهد بعد الآن، ولسوف نرى عندئذ: هل المحارب القديم المظفر هو الذي سينتصر على المؤامرة ويحبطها، أم أن «غادة كاميليا» وقحة هي التي ستستطيع أن تدخل أسرة نبيلة كريمة المحتد!
– إنما أردت أن أسألك ألا تستطيع، بصفتك من رواد منزلها، أن تدخلني هذا المساء إلى بيت ناستاسيا فيليبوفنا؟ ولا غنى لي عن أن يتم الأمر في هذا المساء نفسه. أنا في حاجة إلى أن أراها، لكنني لا أعرف كيف أدخل عليها. صحيح أنني قُدّمت إليها منذ قليل، ولكنني غير مدعو، هي تقيم في هذه الليلة حفلة. على أنني مستعد أن أخالف بعض الأصول، ولو تعرضت لأن أكون أضحوكة، في سبيل أن أدخل إليها بطريقة أو بأخرى.
هتف الجنرال يقول بحماسة:
– ذلك يطابق فكرتي كل المطابقة يا صديقي الشاب.
ثم أردف يقول وهو يأخذ المال ويضعه في جيبه:
– أنا لم أزعجك بالمجيء إلى هنا من أجل هذا الأمر التافه (يقصد المال). وإنما استدعيتك لأقترح عليك أن تصحبني في هجوم على ناستاسيا فيليبوفنا! الجنرال إيفولجين والأمير ميشكين! ما أقوى الوقع الذي سيحدثه هذا التحالف في نفسها! سأتظاهر بأنني أزورها مهنئاً بعيد ميلادها، فأعرف عندئذٍ كيف أفرض إرادتي أخيراً، لا بطريقة مباشرة، بل بطريقة غير مباشرة، ولكن الأمران واحد. وسيعرف جانيا عندئذ ما الذي يجب عليه أن يعمله: فإما أن يختار أباً أحقّ بالاعتبار وأجدر بالاحترام وإما.. أن صح التعبير... إلى آخره... وليكن ما يكون! أن فكرتك خصبة جداً. سنتحرك في الساعة التاسعة، ما يزال في الوقت متسع.
– أين تقيم ناستاسيا فيليبوفنا؟
– في مكان بعيد عن هانا، قرب «المسرح الكبير»، في عمارة ميتوفتسوف، المطلة على الميدان تقريباً، بالطابق الأول... ولن يكون عندها ناس كثير، رغم أن الليلة عيد ميلادها، وسيتفرق الحفل في ساعة مبكرة.
تقدم المساء كثيراً، وما يزال الأمير جالساً يصغي إلى الجنرال وينتظره، والجنرال ما ينفك يشرع في سرد حكايات جديدة لا ينهي أي واحدة منها. كان، حين وصل الأمير، قد أمر بزجاجة جديدة لم ينته من شربها إلا بعد ساعة.. ثم طلب زجاجة أخرى، فكان مصيرها مصير سابقتها. ومن حقنا أن نفترض أن الجنرال قد اتسع وقته لأن يقص على الأمير سيرة حياته كلها تقريباً. ونهض الأمير أخيراً، وأعلن أنه لا يستطيع أن ينتظر أكثر مما انتظر... فسكب الجنرال لنفسه آخر قطرات الزجاجة، ونهض متجهاً نحو باب الخروج مترنح الخطو بعض الترنح. كان الأمير في حالة كرب شديد، وكمد قوي. لم يستطع أن يشرح لنفسه كيف أمكنه أن يعتمد على الجنرال وأن يركن إليه بمثل هذه الغباوة وهذه البلاهة. والحق أنه لم يكن قد اعتمد عليه أو ركن إليه قط، وإنما هو عوّل عليه ليستطيع الدخول إلى بيت ناستاسيا فيليبوفنا، ولو دفع ثمن ذلك فضيحة صغيرة. غير أنه لم يتصور أن تقع فضيحة ضخمة.
كان الجنرال قد أخذ منه السكر كل مأخذ، فانطلق لسانه فصيحاً فصاحة متدفقة لا ينضب معينها، فهو لا ينفك يتكلم بغير انقطاع أو تباطؤ، وهو لا يني يتحدث بانفعال وقد «امتلأ قلبه دموعاً». وكان مدار حديثه على ما أصاب أسرته من انهيار ودمار نتيجة لسوء سلوك أفرادها، وعلى أنه قد آن الأوان لأن يضع لهذا التدهور حداً آخر الأمر.
ووصل الرجلان إلى شارع ليتانيانا. ما يزال الثلج يذوب. وهذه ريح باردة رطبة عفنة تصفر في خلال الشوارع. العربات تهدر في الوحل، والخيول المترفة والأفراس الخسيسة تضرب الأرض بحوافرها المنعّلة. والمشاة يطوّفون على طول الأرصفة جمهوراً مبتلاً بالماء، بينه سُكارى.
قال الجنرال:
– هل ترى الطوابق الأولى المضيئة من هذه العمارات؟ إنها جميعاً يسكنها رفاقي القدامى، وأنا... أنا الذي خدمت أكثر منهم وتألمت أكثر منهم، أمشي على قدميّ في اتجاه «المسرح الكبير»، إلى بيت امرأة سيئة السمعة مشبوهة الأخلاق! رجل في صدره ثلاث عشرة رصاصة... ألا تصدقني؟ ومع ذلك فمن أجلي وحدي إنما أرسل بيروجوف برقية إلى باريس، وترك سيباستوبول المحاصرة إلى حين، ثم حصل نيلاتون، كبير أطباء البلاط بباريس، باسم العلم، إذنا بالمرور إلى سيباستوبول المحاصرة ليفحصني. وكانت القيادة العليا على علم بما حدث. «آه أن إيفولجين هو الذي أصيب بثلاث عشرة رصاصة!..» كذلك كانوا يتحدثون عني. هل ترى، يا أمير، ذلك المنزل، هناك؟ في ذلك الطابق الأول يسكن رفيقي القديم الجنرال سوكولوفتش مع ذريته النبيلة المحتد، الغفيرة العدد. إن ذلك المنزل، وثلاثة منازل أخرى في شارع نفسكي ومنزلين آخرين بشارع مورسكايا، هي الآن كل حلقة علاقاتي، أقصد علاقاتي الشخصية. لقد أذعنت نينا ألكسندروفنا للظروف منذ مدة طويلة. أما أنا فما أزال أتذكر... بل أتجرأ فأقول ما أزال أذوق بعض الراحة في صحبة رفاقي القدامى ومرؤوسيّ الذين ما يزالون يعبدونني عبادة إن صح التعبير. ذلك الجنرال سوكولوفتش مثلاً... على أنني منذ مدة طويلة لم أزره ولا رأيت آنا فيدورونا... أنت تعلم يا أمير: حين يصبح المرء عاجزاً عن استقبال أحد في بيته، فإنه يُضطر أخيراً إلى الانقطاع عن زيارة الآخرين... ومع ذلك... همْ!... يخيّل إليّ أنك لا تصدقني... ولكن، بالمناسبة، لماذا لا أدخل على هذه الأسرة اللطيفة ابن خير أصدقاء طفولتي؟ الجنرال إيفولجين والأمير ميشكين! سوف ترى هنالك فتاة رائعة، ماذا! بل فتاتين، بل ثلاث فتيات، هن زينة المجتمع وزينة عاصمتنا: جمال، ثقافة، فكر.. قضية المرأة، قصائد، ذلك كله ستراه هناك وقد انصهر في تنوع موفق منسجم! ناهيك عن أن كل واحدة منهن تملك مهراً مقداره ثمانون ألف روبل عداً ونقداً، على الأقل، وهذا لا يفسد شيئاً بطبيعة الحال، رغم جميع قضايا المرأة والقضايا الاجتماعية... الخلاصة: يجب عليّ حتماً أن أدخلك إلى هذه الأسرة، يجب عليّ ذلك حتماً، هذا وأحب يقع على عاتقي! الجنرال إيفولجين والأمير ميشكن! تصور وقع ذلك في النفوس!
قال الأمير يسأله:
– الآن؟ حالا؟ فهل نسيت إذاً أن...
– لم أنس شيئاً البتة! ادخل من هنا! اصعد هذا السلم الرائع! يدهشني أن السويسري غائب. ولكن هذا اليوم عطلة، والسويسري يغيب في يوم العطلة. لم يطردوا ذلك السكّير حتى الآن. إن سوكولوفتش هذا مدين لي بكلي سعادة حياته، وبكل نجاحه وارتقائه في عمله، مدين بذلك لي وحدي دون غيري. ولكن... ها نحن وصلنا.
كف الأمير عن الاعتراض على هذه الزيارة، فكان يتبع صاحبه طائعاً حتى لا يثير حنقه، وهو يأمل أن يتبدد الجنرال سوكولوفتش وأسرته كلها رويداً رويداً كما يتبدد سراب، وأن يتضح أن هذا الجنرال لم يوجد في يوم من الأيام، فيعودا يهبطان بهدوء وأمان وسلام. فما كان أشد ذعر الأمير حين أخذ يفقد ذلك الأمل: ذلك أن الجنرال كان يقوده على السلم قيادة رجل واثق بأنه سيجد أصدقاءه، وهو ما ينفك يذكر للأمير مزيداً من التفاصيل عن سيرة حياتهم وأوصاف أشخاصهم بوضوح شديد ودقة رياضية. حتى إذا بلغا «الطابق الأول»، توقفا يمنةً، أمام باب شقة غنية، فأمسك الجنرال قبضة الجرس، فهمّ الأمير أن يهرب، ولكن ظرفاً خاصاً أوقفه عن الهرب لحظة. قال الأمير:
– لقد أخطأت يا جنرال، فإنني أرى على الباب صفيحة كتب عليها اسم كولاكوف، وأنت تريد أن تقرع جرس سوكولوفتش.
قال الجنرال:
– كولاكوف... كولاكوف لا يدل على شيء. البيت بيت سوكولوفتش، وأنا أقرع جرس بيت سوكولوفتش. لا يهمني كولاكوف ولا أعباً به ولا اكترث له... ثم ها هم يفتحون الباب.
فُتح الباب فعلاً، وظهر خادم أعلن أن «سادته قد خرجوا».
أخذ آرداليون ألكسندروفتش يكرر بصوت فيه حزن عميق:
– خسارة، خسارة حقاً أن يخرجوا في هذا اليوم بعينه!
ثم قال يخاطب الخادم:
– قل لهم إذن يا صاحبي: أن الجنرال إيفولجين والأمير ميشكين قد جاءا يؤكدان لهم احترامهما، ويعبران لهم عن شديد أسفهما...
وفي تلك اللحظة، ظهر وراء الباب المفتوح شخص آخر لعله الناظرة أو المربية. إنها سيدة في نحو الأربعين من العمر، ترتدي ثوباً قاتم اللون، اقتربت مستطلعة محاذرة، حين سمعت اسمي الجنرال إيفولجين والأمير ميشكين.
قالت وهي تتفرس في الجنرال بانتباه:
– إن ماريا ألكسندروفنا ليست في البيت. لقد ذهبت مع الآنسة ألكساندرا ميخائيلوفنا إلى منزل جدتها.
– ألكسندرا ميخائيلوفنا أيضاً؟ يا لسوء الحظ. أرجوك أن تتفضلي فتنقلي إلى ألكسندرا ميخائيلوفنا تحيتي واحترامي، آملاً أن تتذكرني.. الخلاصة: أبلغيها أنني أرجو لها من كل قلبي أن تتحقق تمنياتها التي أعربت عنها مساء يوم الخميس أثناء سماعها موسيقا شوبان. سوف تتذكر... انقلي إليها أخلص مودتي وأصدق أمانيّ! الجنرال إيفولجين والأمير ميشكين!
قالت السيدة وقد اطمأنت:
– لن أنسى أن أنقل إليها ذلك!
وبينما كانا يهبطان السلّم استمر الجنرال يعبّر بحماسة لم تفتر عن أسفه وحزنه لأنه لم يجد أحداً في المنزل، فحرم الأمير بذلك من عقد صلة جميلة رائعة.
– هل تعلم يا عزيزي؟ إنني لأكاد أكون شاعراً؟ هل لاحظت ذلك؟
ثم ختم كلامه يقول فجأةً على نحو لا يمكن توقعه:
– ولكن... ولكن يخيل إليّ أننا أخطأنا تماماً. لقد تذكرت الآن أن آل سوكولوفتش يسكنون في عمارة أخرى، وأعتقد أنهم الآن بموسكو. نعم، لقد أخطأت بعض الخطأ، ولكن... لا قيمة لهذا!
قال الأمير مبهوتاً:
– أودُّ أن أعرف شيئاً واحداً. هل يجب أن أعدل عدولاً تاماً عن الاعتماد عليك؟ أليس الأفضل أن أذهب إليها وحدي؟
– تعدل؟ تعتمد؟ وحدك؟ ولكن لماذا؟ لماذا والأمر عندي أمر رئيسي تتوقف عليه أشياء كثيرة، ويرتبط به مصير أسرتي؟ لا يا صديقي! إنك لا تعرف إيفولجين حق معرفته. من قال: «إيفولجين» فقد قال: «صخرة». «اعتمد على إيفولجين اعتمادك على صخرة». ذلك ما كان يُقال عني منذ أن كنت في فصيلة الفرسان أول عهدي بالجيش. وإنما ينبغي لي، قبل أن نذهب إلى هناك، أن أمر مروراً عابراً بمنزل ألفت منذ بضع سنين أن أريح فيه نفسي قليلاً بعد الشدائد والمحن...
– أتريد أن تمر إذن بمنزلك؟
– لا بل أريد أن أذهب إلى الكابتينة تيرنتيف، إلى أرملة الكابتن تيرنتيف، مرؤوسي القديم... بل وصديقي... فعند الكابتينة إنما تبعث نفسي، وهناك إنما أرمي نوائبي وأحزاني العائلية.. وإذ كنت أجد نفسي اليوم أرزح تحت وطأة عبءٍ روحي ثقيل، فإنني...
دمدم الأمير يقول:
– أظن أنني قد ارتكبت حماقة كبرى حين أزعجتك... ثم إنك الآن... أستودعك الله!
صاح الجنرال يقول:
– مستحيل، لا يمكنني أن أدعك تمضي هكذا يا صديقي الشاب! هي أرملة، هي ربة أسرة تعرف كيف تجد في نفسها أوتاراً تهز كياني كله! لن تطول زيارتي لها أكثر من خمس دقائق. أنا أستقبل في هذا البيت بغير كلفة أو حرج، حتى لكأنني في بيتي. سأرتاح بعض الراحة، وسأرتب زينتي قليلاً، ثم نمضي بعربة إلى ميدان «المسرح الكبير». ثق بأني في حاجة إليك طوال السهرة. انظر. هذا هو المنزل. لقد وصلنا.
– آه... كوليا... أوصلت منذ الآن؟ هل مارتا بوريسوفنا هنا، أم أنت وصلت في هذه الليلة؟
أجاب كوليا واقد اصطدم بهما عند باب الفناء:
– أوه! لا! أنا هنا منذ مدة طويلة، عند هيبوليت. لقد ساءت صحته مزيداً من السوء، واضطر أن يرقد في الفراش هذا الصباح. كنت قد نزلت لأشتري أوراق لعب.
وإذ لاحظ كوليا حالة أبيه، صاح يقول وهو يتفحص وضعه ومشيته:
– ولكن ما هذا يا بابا! الله الله! الخلاصة... هلمّ نصعد!
إن لقاء كوليا هذا دفع الأمير إلى أن يتبع الجنرال في دخوله إلى بيت مارتا بوريسوفنا، على ألا يمكث هنالك إلا دقيقة واحدة. لقد كان الأمير في حاجة إلى كوليا. أما عن الجنرال فقد قرر الأمير أن يتركه على كل حال، وأصبح لا يغفر لنفسه أنه فكّر في الاعتماد عليه. وطال الصعود حتى الطابق الثالث على سلم الخدمة.
سأل كوليا أباه أثناء صعود السلّم:
– هل تنوي أن تعرّف بالأمير؟
– نعم يا عزيزي، سوف أعرّف به: الجنرال إيفولجين والأمير ميشكين... ولكن... كيف... هي مارتا بوريسوفنا؟
– هل تعلم يا بابا؟ الأفضل ألا تذهب إليها. لسوف تلتهمك التهاماً! انقضت على غيابك ثلاثة أيام، وهي تنتظر أن تحمل إليها مالاً. لماذا وعدتها بذلك؟ هكذا أنت دائماً، دبّر أمرك الآن!
وقفوا في الطابق الثالث أمام باب واطئ. كان الجنرال قد خارت عزيمته وبارحته شجاعته، فهو يدفع الأمير إلى أمام، محتمياً به. دمدم يقول له:
– أنا سأبقى وراءك. أحب أن أحدث لها مفاجأة!
دخل كوليا أول الداخلين. وظهرت على الباب سيدة مثقلة الوجه بالخضاب، ترتدي نعلين باليين وقميصاً فضفاضاً، قد ضفرت شعرها غدائر صغيرة، وهي في نحو الأربعين من العمر، فما أن ظهرت حتى انعدمت المفاجأة التي أرادها الجنرال انعداماً. فإنها ما كادت تلمحه حتى طفقت تشتم وتلعن قائلة:
– هذا هو! هذا هو الوغد النجس الوقح! قلبي حدثني بأنه آتٍ...
تمتم الجنرال قائلا وهو يصطنع ابتسامة بريئة:
– فلندخل، لا قيمة لهذا!
ولكن هذا لم يكن غير ذي قيمة. فما أن قطعوا حجرة المدخل المظلمة الواطئ سقفها، فصاروا في غرفة ضيقة أثاثها نصف دستة من كراسي القشي، ومائدتان للعب، حتى استأنفت ربة البيت بكاءها تقول بلهجة دامعة مدروسة يبدو أنها مألوفة لها معهودة فيها:
– ألا تخجل أيها الهمجي، أيها الطاغية المستبد الذي يسوم أسرتي سوء العذاب، أيها الشرير الزنديق الكافر؟ لقد نهبتني ومصصت دمي، أفلا يكفيك هذا؟ إلى متى أظل أتحملك، يا رجلاً بلا حياء ولا شرف؟
جمجم الجنرال يقول مرتعشاً محتاراً مفلول السلاح:
– مارتا بوريسوفنا، مارتا بوريسوفنا! هذا... هذا هو الأمير ميشكين. الجنرال إيفولجين والأمير ميشكين!
قالت الكابتينة فجأة تخاطب الأمير:
– هل تصدقني إذا قلت لك: أن هذا الرجل الوقح لم يرحم أولادي اليتامى، لم يرأف بهم، لم يشفق عليهم؟ لقد سلب كل شيء، أخذ كل شيء، باعه أو رهنه، ولم يترك لي شيئاً. ما عساي صانعةً بإيصالات الدين هذه كلها أيها المحتال الماكر الذي لا ضمير له؟ أجبني أيها الوغد، أجبني أيها الجشع الذي لا يشبع: بم أطعم أولادي اليتامى؟ هكذا يجيء دائماً: سكران حتى لكأنه ميت من فرط السكر، عاجزاً عن الوقوف على ساقية! ماذا فعلتُ أنا حتى استحققت غضب الله، أيها اللص الدنيء السافل! أجبني!
ولكن الجنرال كان عاجزاً عن الصمود أمام العاصفة. قال:
– مارتا بوريسوفنا، خذي... هذه خمسة وعشرون روبلاً.. هي كل ما أستطيعه الآن بفضل صديقي النبيل جداً! يا أمير! لقد أخطأ ظني خطأ قاسياً! هذه هي الحياة..
ثم ثأثأ يقول بمشقة، واقفاً في وسط الغرفة، مترنحاً إلى جميع الجهات:
– ولكن... اعذرني الآن... إنني أشعر بضعف... أرجو أن تعذراني! لينوتشكا، عزيزتي... إليّ بوسادة!
أسرعت لينوتشكا ، وهي صبية في الثامنة من عمرها، فجاءت بوسادة وضعتها على الديوان المهترئ القاسي المنجّد بقماش مشمّع. فجلس الجنرال، وكان واضحاً أن هناك أشياء كثيرة ما يزال يريد أن يقولها. لكنه ما أن مس الديوان حتى مال إلى جانب والتفت نحو الحائط ونام نومًا عميقًا. وبحركة فيها كثير من الاحتفال والتألم أشارت مارتا بوريسوفنا للأمير إلى كرسي قرب مائدة اللعب، فجلس الأمير عليه، وجلست هي قبالته، وأسندت خلها الأيمن إلى يدها، وأخذت تتنهد وهي تتأمل الأمير صامتة. واقترب من المائدة ثلاثة أولاد، بنتان وصبي، كبراهم لينو تشكا، فوضعوا أيديهم على المائدة جميعاً، وأخذوا يلاحظون الأمير بانتباه هم أيضاً. وظهر كوليا، خارجاً من الغرفة المجاورة.
قال له الأمير:
– يسعدني جداً أنني وجدتك هنا يا كوليا، فلعلك تستطيع أن تساعدني. إنني في حاجة إلى أن أذهب إلى ناستاسيا فيليبوفنا حتماً. وقد طلبت من آرداليون ألكسندروفتش منذ حين أن يقودني إلى بيتها، ولكن ها هو ذا قد نام. فهل لك أن تصحبني إلى هناك، لأنني لا أعرف الشوارع ولا الاتجاه؟ لكنني أعرف العنوان: ميدان «المسرح الكبير»، عمارة ميتوفزيفا.
– ناستاسيا فيليبوفنا؟ إنها لم تقطن ميدان «المسرح الكبير» في يوم من الأيام. ثم أن أبي لم يضع قدمه في بيتها قط، إذا أردت أن تعرف الحقيقة. غريب أنك ظننت أن في وسعك أن تعتمد عليه. إنها تسكن غير بعيد عن فلادميرسكايا، بشارع «الأركان الخمسة». إن بيتها أقرب كثيراً من ميدان «المسرح الكبير». الساعة الآن هي التاسعة والنصف. وإنه ليسرّني أن أقودك إلى مسكنها.
وسرعان ما خرج كوليا والأمير. واضطرا أن يمضيا سيراً على الأقدام، لأن الأمير لم يكن قد بقي معه ما يدفع منه كراء عربة، مع الأسف!
– كنت أود لو أعرّفك بهيبوليت. إنه الابن الأكبر لهذه الكابتينة ذات القميص الفضفاض. لقد كان في الغرفة المجاورة. إنه مريض، وقد ظل راقداً طوال هذا اليوم. لكنه فتى غريب الأطوار. هو سريع التأذي. وقد خيّل إليّ أنه قد يخجل إذا أنت جئت في مثل هذا الوقت... أنا أقل شعوراً بالحرج منه. لأن الرجل أبي، على حين أن المرأة أمه، ولا عار يلحق بالذكر كالعار الذي يلحق بالأنثى. قد يكون هذا خطأ من الأخطاء التي يرتكبها المجتمع في أحكامه، إذ يجعل لأحد الجنسين غلبةً على الجنس الآخر. إن هيبوليت فتى رائع، لكنه مستعبد لبعض الآراء الاجتماعية السائدة.
– قلتَ: إنه مريض بالسل؟
– نعم، وأعتقد أن من الخير له أن يموت بسرعة. لو كنت في مكانه لتمنيت أن أموت حتماً. إنه يرثى لحال أخيه وأختيه. لو كان في وسعنا أن نستأجر شقة مستقلة، لو كنا نملك مالاً ندفعه أجراً لشقة مستقلة، لتركنا أسرتينا وعشنا معاً. هذا حلم لنا. هل تعلم أنه غضب غضبًا شديدا حين قصصتُ عليه حالتك؟ هو يزعم أن من الجبن والحقارة أن يتلقى المرء صفعةً ثم لا يدعو خصمه إلى مبارزة. يجب أن نذكر أنه على درجة من الحنق كان لا بد لي معها من الانقطاع عن التحدث إليه. إذاً دعتك ناستاسيا فيليبوفنا إلى بيتها أنت أيضاً على الفور؟
قال الأمير:
– لا، لم تدعني.
فصاح كوليا قائلاً وهو يقف في وسط الرصيف:
– فكيف تستطيع إذاً أن تذهب إليها؟ لا سيما و... أنت.. ترتدي مثل هذا اللباس، بينما هي تقيم حفلة فخمة ذات أبهة؟
– حقاً لا أدري كيف سأستطيع أن أدخل. أن استُقبلت كان بها، وإلا فلا. أما عن ملابسي، فليس في يدي حيلة.
– ولكن هناك سبب يدعوك إلى الذهاب؟ أم تراك لا تبغي إلا أن «تقضي بعض الوقت» في صحبة مجتمع محترم؟
– لا... الواقع أن... أعني... هناك سبب يدعوني إلى الذهاب إليها حقاً. يصعب عليّ أن أوضح ما بنفسي، ولكن...
– أما ما هو ذلك السبب، فهذا أمر يخصك أنت ولا شأن لي به. غير أن الشيء الذي يهمني هو ألا تدعو نفسك، بغير سبب، إلى سهرة تضم هذه النخبة الفتانة من «غادات كاميليا»، وجنرالات، ومرابين. فلولا أن هناك سبباً يدعوك إلى الذهاب، إذن لسخرت منك واحتقرتك يا أمير! معذرة! ليس ثمة إلا قلة من أناس شرفاء، ولا يكاد يوجد أحد يستحق الاحترام. إن المرء مضطر أن ينظر إليهم من فوق، ومع ذلك تراهم جميعاً يطالبون بالاحترام. وفي طليعتهم فاريا. هل لاحظت يا أمير أن جميع الناس في عصرنا هذا مغامرون؟ ولا سيما عندنا، في روسيا، في وطننا الحبيب! أما كيف أمكن أن يحدث هذا كله، فذلك ما لا أفهمه! لقد كان كل شيء يبدو متين القواعد راسخ الأسس، والآن... أن جميع الناس يقولون هذا الكلام ويكتبونه في كل مكان. أن جميع الناس يتهمون. والآباء يتراجعون أول المتراجعين، ويحمرون خجلا من عاداتهم القديمة وأخلاقهم الماضية. إليك هذا المثال: أبٌ بمدينة موسكو يوصي ابنه بأن «لا يصدّه شيء» في سبيل الحصول على مال . تحدثوا عن هذا في الجرائد. انظر أيضاً إلى أبي الجنرال! انظر إلى أين وصل! ولكن هل تعلم؟ يخيّل إليّ أن الجنرال رجل شريف مع ذلك. أحلف لك! الفوضى والشراب هما وحدهما أفسداه! الأمر كذلك، أؤكد لك! خسارة! إنني أخاف أن أعلن هذا الرأي، لأن الجميع يضحكون عليه ويسخرون منه. شيء مؤسف حقا! وبماذا يتفوقون عليه أولئك الأذكياء؟ هم جميعاً مرابون، جميعاً بغير استثناء! أن هيبوليت لا يؤاخذ المرابين ولا يستنكر عملهم. هو يزعم أن الربا ضرورة، ويتكلم عن إيقاع اقتصادي، وعن مد وجزر، وما لا أدري أيضاً! شيطان يأخذهم! هذا يضايقني كثيراً من هيبوليت، ولكن هيبوليت حانق! تصور أن أمه الكابتينة تأخذ مالاً من الجنرال، ثم تقرضه من هذا المال نفسه بالربا لأسبوع! يا للعار! وهل تعلم أن أمي، أمي أنا، أقصد نينا ألكسندروفنا، الجنرالة، ترسل إلى هيبوليت أمتعة ومالاً، بل وتساعد بواسطته إخوته الصغار لأن أمهم تهملهم! وكذلك تفعل فاريا أيضاً.
– هأنت ذا ترى بعينيك إذاً يا كوليا! أنت تزعم أن لم يبق هناك أناس شرفاء أقوياء، ولم يبق هناك إلا مرابون. فما قولك بأمك وما قولك بفاريا؟ أليستا قويتين؟ أليس دليلا على قوة الخلق عند الإنسان أن يساعد الناس في مثل هذه الظروف؟
– إن فاريا تفعل ما تفعله حبا للظهور وميلا إلى التفاخر، حتى لا تكون دون أمها. أما أمي... فقولك عنها صحيح... إنني أحترمها؟ نعم إنني أحترمها وأبرر سلوكها. حتى أن هيبوليت نفسه يشعر شعوري، رغم إن عواطفه قد قست قسوة تامة. كان في أول الأمر يسخر من أمي ويعد ذلك منها صغاراً وحطة، أما الآن فقد أخذ يتأثر بعض التأثر أحياناً. هِمْ... أنت تعد ذلك إذن قوة. سأسجل هذا. إن جانيا يجهله. ولو سُئل لوصفه بأنه تشجيع على الرذيلة.
أفلت من الأمير قوله رغم إرادته، بينما كان غارقاً في أفكاره:
– ها... جانيا يجهله؟ يخيّل إليّ أن جانيا يجهل أشياء كثيرة أخرى!
قال كوليا:
– هل تعرف أنك تعجبني كثيراً يا أمير؟ إن الحادث الذي وقع منذ ذلك الحين لا يبارح ذهني.
– أنت أيضاً تعجبني كثيراً يا كوليا.
– اسمع: على أي نحو تقدّر أن تعيش هنا؟ أنا سوف أجد لنفسي عملاً بعد حين، فاكسب بعض المال، فإذا عشنا معاً، أنت وهيبوليت وأنا، كان في وسعنا أن نكتري شقة وأن نستقبل الجنرال في بيتنا، فما رأيك؟
– أقبل ذلك بسرور عظيم، على كل حال سوف نرى في المستقبل. أما الآن فأنا مضطرب... مضطرب جداً. ماذا؟ وصلنا؟ في هذا المنزل؟... ما أفخمه مدخلاً! حتى أن هناك سويسرياً. طيب!... لا أدري يا كوليا كيف يمكن أن تجري الأمور.
كان الأمير مضطرباً حائراً، حقاً!
قال كوليا يشجعه:
– سوف تقص عليّ كل شيء غداً! لا تدع للوجل سبيلاً إلى نفسك. اسأل الله أن يمدّك بعونه، لأنني أشاركك جميع آرائك. أستودعك الله. أنا عائد إلى هناك، وسأروي هذا كله لهيبوليت. أما أنهم سيستقبلونك، فكن من ذلك على يقين، لا تخش شيئاً! إنها امرأة غريبة الطبع متفردة! اصعد هذا السلم. البيت في الطابق الأول. سيدلك عليه السويسري.
الفصل الثالث عشر
كان الأمير أثناء صعود السلم يشعر بقلق شديد، ويحاول أن يستجمع شجاعته بكل ما يملك من قوة. وكان يحدث نفسه قائلاً: «أسوأ الاحتمالات ألا أستقبل، وأن يأخذوا عني فكرة سيئة، أو أن يستقبلوني ليستهزئوا بي ويتهكموا عليّ طيب... لا بأس!». والواقع أن ذلك ليس ما كان يخشاه. غير أنه لم يكن يجد جوابا مطمئنا عن هذا السؤال: «ماذا جاء يعمل هنا، ولماذا جاء؟». ذلك أنه حتى لو أتيح له أن يقول لناستاسيا فيليبوفنا: «لا تتزوجي هذا الرجل، لا تضيعي نفسك، فهو لا يحبك، وإنما يحب مالك وحده، وأنه قال لي ذلك هو نفسه، وأن آجلايا إيبانتشين قالته لي كذلك، وإنني جئت لأنقل إليك هذه الحقيقة». فإن من المشكوك فيه أن يكون هذا صحيحاً صادقاً من جميع الوجوه. وكان الأمير يلقي على نفسه سؤالاً آخر لا سبيل إلى حله، سؤالاً يبلغ من الخطورة أنه كان لا يجرؤ حتى على أن يفكر فيه، ولا يستطيع أن يسلم به، ولا يعرف كيف يصوغه. ولكن أيةً كانت شكوكه وأنواع قلقه، فقد دخل أخيراً، وطلب ناستاسيا فيليبوفنا.
أن ناستاسيا فيليبوفنا تشغل شقة إن لم تكن واسعة جداً فهي مجهزة أحسن تجهيز. إنها أثناء إقامتها ببطرسبرج مدة هذه السنين الخمس، قد أغدق عليها آتانازي إيفانوفتش إغداقًا كبيراً خلال فترة معينة في أول الأمر. كان لا يزال يأمل أن يحافظ على حبها، وكان لا يزال يعوّل على أن يفتنها بالرخاء والترف، لعلمه بأن الإنسان يألف الرخاء والترف بسهولة كبيرة، فيصعب عليه بعد ذلك أن يستغني عنهما متى أصبحا ضرورة من الضرورات شيئاً بعد شيء. ولقد كان توتسكي وفيا للعادات القديمة لا يغيّر منها شيئا، وظل يؤمن بأن للحواس سلطاناً لا يُقهر، فهو لذلك يحترم هذا السلطان احتراما لا حدود له. وكانت ناستاسيا فيليبوفنا لا تكره الترف بل وتحبه، لكنها – وهذا هو الشيء الغريب – لم تُستعبد له، حتى لكأنها قادرة على أن تستغني عنه في كل لحظة؛ بل إنها حاولت عدة مرات أن تعلن ذلك، فدُهش توتسكي وانزعج. على أن هناك أشياء كثيرة في ناستاسيا فيليبوفنا كانت تدهشه وتسوؤه (حتى لقد بلغ بعد ذلك حدُ احتقارها). فإلى جانب عامية الناس الذين كانت تحيط نفسها بهم أحياناً، وهذا يكشف عن ميل طبيعي فيها، أخذت تظهر لديها ميول أخرى غريبة كل الغرابة، هي خليط وحشي عجيب من أذواق شتى تجعلها قادرة على أن تحب وتستعمل أشياء أو وسائل لا يمكن أن يقبل استعمالها إنسان أوتي حظاً من رقى النفس وعلو الثقافة. لعل آتانازي إيفانوفتش كان يمكن أن يفتنه مثلاً أن يراها تتظاهر أحياناً بأنها تجهل جهلاً ساذجاً بريئاً أن الفلاحات الروسيات لا يلبسن ملابس داخلية من قماش الباتيستا مثلما تلبس هي؛ فلو فعلت لكان ذلك منها شيئاً جميلاً أخاذاً. أن جميع الجهود التي بذلها آتانازي إيفانوفتش في المرحلة الأولى من تربيتها وتعليمها إنما كانت تهدف إلى بلوغ مثل هذه النتيجة، وفقاً للبرنامج الذي وضعه على أساس خبرته الواسعة العميقة. لكن ثمرات جهوده خيبت آماله وا أسفاه! ومع ذلك فقد بقي في ناستاسيا فيليبوفنا شيء يفرض نفسه عالي آتانازي إيفانوفتش، هو تفرد نادر يفتنه ويغريه ويغويه، وظل متسلطاً عليه مستبداً به، حتى بعد أن تداعت جميع الآمال التي عقدها على هذه المرأة الشابة.
استقبلت الأمير خادمةً (كانت ناستاسيا فيليبوفنا لا تستخدم إلا نساء) فأصغت إلى كلامه وهو يطلب منها أن تبلغ عنه ناستاسيا فيليبوفنا، أصغت إلى كلامه دون أن تظهر عليها أية حيرة، فدُهش الأمير من ذلك دهشة كبيرة. فلا حذاءاه المتسخان، ولا قبعته العريضة حوافها، ولا معطفه الذي ليس له أكمام، ولا هيئته المضطربة، لا شيء من ذلك كله أحدث في نفسها أي تردد. وقد ساعدته في خلع معطفه، ورجته أن ينتظر في حجرة المدخل، وأسرعت تبلغ عنه فوراً.
كان المدعوون عند ناستاسيا فيليبوفنا هم أصحابها المألوفين. حتى لقد كان عدد الناس في عيد ميلادها هذا أقل مما كان في أعياد ميلادها السابقة. فمنهم أولاً وقبل كل شيء آتانازي إيفانوفتش توتسكي، وإيفان فيدوروفتش إيبانتشين، وكانا يظهران كلاهما كثيرا من التودد والبشاشة، ولكن كان يبدو عليهما مع ذلك نوع من قلق ثقيل سببه توقهما الواضح المحرق إلى أن يعرفا أخيراً ما وعدت به ناستاسيا فيليبوفنا من إعلان إجابتها في موضوع جانيا. وكان هناك جانيا بطبيعة الحال. كان يبدو هو أيضاً قاتم المزاج كثير التفكير، حتى إنه من فرط ذلك يوشك أن يكون «قليل الأدب»، فهو في أكثر الأحيان معتزل منزوٍ صامت. وهو لم يجرؤ أن يصطحب فاريا، ولكن ناستاسيا فيليبوفنا لم تلمح إلى ذلك ولم تشر إليه، بينما هي، في مقابل ذلك، ما أن سلّمت عليه حتى ذكرته بالحادثة التي وقعت له مع الأمير. ولم يكن الجنرال إيبانتشين قد علم بالأمر بعد، لذلك أظهر اهتماماً وأصغى منتبهاً. فطفق جانيا عندئذ يقص، بلهجة جافة وأسلوب متحفظ ولكن بصراحة مطلقة، ما قد جرى بعد الظهر، وأضاف إلى ذلك أنه قد مضى إلى الأمير يستغفره. وذكر في هذه المناسبة، بحرارة وحماسة، الرأي الذي ذهب إلى أن الأمير أبله، فاستغرب ذلك الرأي تماماً، إذ هو يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الأمير «رجل يعرف ماذا يريد». وقد أصغت ناستاسيا فيليبوفنا إلى هذا الرأي بكثير من الانتباه، وكانت تلاحظ جانيا مستطلعة مستغربة.
لكن الحديث سرعان ما انحرف نحو روجويين الذي شارك في الحادث مشاركة رئيسية هو أيضاً، وأثار هو أيضاً اهتمام آتانازي إيفانوفتش وإيفان فيدوروفتش إثارة كبيرة. وقد اتفق أن استطاع بتتسين أن ينقل بعض المعلومات الخاصة عن روجويين الذي ظل حتى الساعة التاسعة من المساء تقريبا يسعى هنا وهناك لتنفيذ غرضه وتحقيق مأربه. لقد كان روجويين يصر إصراراً شديداً على أن تُجمع له المائة ألف روبل في ذلك المساء نفسه.
قال بتتسين أثناء حديثه:
– صحيح أنه سكران، ولكن يبدو أن المائة ألف روبل ستُجمع له أخيراً، مهما تكن المصاعب. كل ما هنالك أنني لا أدري هل يتم ذلك في هذا اليوم نفسه، ولا أدري هل يكون المبلغ كاملاً. غير أن الذين يعملون في الأمر كثيرون، فهناك كنيدر، وهناك تريبالوف، وهناك بيسكوب.
وختم بتتسين كلامه قائلا:
– أن روجويين مستعد لدفع أي فائدة عن هذه القروض، وذلك لأنه في سكْرين، سكر الخمرة وسكر فرحته الأولى.
هذه الأنباء كلها قد استقبلها الحضور باهتمام مكفهر بعض الشيء. وكانت ناستاسيا فيليبوفنا صامتة، وكان واضحاً أنها لا تريد أن تفصح عن رأيها؛ وكذلك جانيا من جهة أخرى.
لعل الجنرال إيبانتشين كان في قرارة نفسه أشد قلقاً من أي شخص آخر: أن اللآلئ التي قدَّمها في النهار قد استُقبلت بأدب فاتر وكياسة جامدة حتى لكأن شيئاً من سخرية كان يخالط ذلك الأدب وتلك الكياسة. وبين جميع المدعوين كان فردشتينكو مشرق المزاج مرحاً، فكان يضحك ضحكاً مجلجلاً، كما يحسن ذلك في يوم عيد، وكان ضحكه في بعض الأحيان بغير مناسبة تدعو إلى الضحك، لا لشيء إلا لأنه قد فرض على نفسه هذا الدور، دور المهرج. أما آتانازي إيفانوفتش الذي اشتُهر هو نفسه بأنه محدث بارع لبق، والذي كان في السهرات الماضية هو من يمسك زمام الحديث ويوجه دفته، فإنه في حالة اضطراب ليست معهودة فيه.
وأما المدعوون الآخرون، وعددهم قليل على كل حال، فهم: معلم مدرسةٍ عجوز يرثي المرء لحاله، ولا يدري إلا الله لماذا دُعي إلى هذه الحفلة؛ وشاب في ريعان الصبا لا يعرفه أحد من الحضور، خجول خجلاً رهيباً، صموت صمتاً عنيداً؛ وسيدة جريئة في نحو الأربعين من عمرها كانت في الماضي ممثلة؛ وسيدة شابة جميلة جمالاً رائعاً، ترتدي ثياباً أنيقة أشد الأناقة غنية كل الغنى، لكنها قليلة الكلام جداً.
كان هؤلاء جميعاً لا عاجزين عن تنشيط الحفلة فحسب، بل كانوا عاجزين حتى عن العثور على موضوع لحديث.
لذلك كان ظهور الأمير في هذه الظروف أمراً مناسباً جاء في محله وفي أوانه. ولئن أحدث الإبلاغ عن وصوله شيئاً من الحيرة والبلبلة، ورسم على الشفاه ابتسامات دهشة، لا سيما وأن الحضور قد أدركوا من إمارات الاستغراب التي لاحت في وجه ناستاسيا فيليبوفنا أنها لم تكن قد خطر ببالها أن تدعوه قط، فإن ناستاسيا فيليبوفنا ما لبثت بعد بادرة الاستغراب الأولى هذه أن أظهرت على حين فجأة رضىً وارتياحاً بلغا من القوة أن أكثر المدعوين أسرعوا يتهيؤون لاستقبال الزائر الذي قادته المصادفة استقبالاً فرحاً مرحاً.
قال إيفان فيدوروفتش يختم كلامه:
– رغم أن براءته الساذجة هي التي تتحمل تبعة ذلك، ورغم أن تشجيع ميول من هذا النوع أمر خطر على كل حال، فليس سيئاً أن خطرت بباله فكرة المجيء الآن، وإن يكن ذلك شذوذا؛ حتى لقد يحمل إلينا شيئاً من مرح، إذا صدق ما أعرفه عنه.
وأسرع فردشتينكو يقول:
– ولا سيما أنه دعا نفسه بنفسه!
قال الجنرال يسأل بخشونة، لأنه يكره فردشتينكو:
– أي ضير في هذا؟
– عليه أن يدفع رسم الدخول!
– أمير اسمها ميشكين ليسي كرجل اسمه فردشتينكو!
بهذا أجاب الجنرال مندفعاً، ولم يكن قد استطاع أن يعتاد أن تضمه هو وفردشتينكو سهرة واحدة يكونان فيها ندّين.
أجاب فردشتينكو وهو يضحك ضحكة ساخرة:
– على مهلك يا جنرال! عليك أن تراعي فردشتينكو وأن تداريه. إن لي هنا حقوقاً خاصة.
– ما هي هذه الحقوق الخاصة؟
– أتيح لي في المرة الماضية شرف شرحها للحفل. ومع ذلك يسرني أن أكرر لسعادتك ما سبق أن شرحته. أن جميع الناس هنا يا صاحب السعادة، كما تستطيع أن تلاحظ ذلك، يملكون فكراً، أما أنا فمحروم من الفكر. ومن باب التعويض عن ذلك حصلت على إذن بأن أقول الحقيقة، لأن كل إنسان يعلم أن الحقيقة لا تنتمي إلا إلى المحرومين من الفكر. أضف إلى ذلك أنني أحب الانتقام، ومرد هذا أيضاً إلى أنني محروم من الفكر. فأنا أحتمل الإساءات والإهانات مذعناً، ما ظل الرجل الذي أساء إليّ وأهانني محتفظاً بما له من حظوة، حتى إذا بدت أولى علائم فقده الحظوة، تذكرت الإساءة أو الإهانة التي ألحقها بي، فثأرت لنفسي، فرفست ولبطت، على حد التعبير الذي استعمله في وصفي إيفان فيدوروفتش بتتسين ذات يوم، وهو رجل لا يرفس أحداً ولا يلبط أحداً قط. هل تعرف حكاية كيرلوف «الأسد والحمار» يا صاحب السعادة؟ هما نحن، أنت وأنا، يا صاحب السعادة! لقد كُتبت الحكاية عنا نحن.
قال الجنرال غاضباً:
– أراك تفرط مرة أخرى!
وكان فردشتينكو لا ينتظر إلا هذا ليستمر في كلامه، وليمضي إلى أبعد من ذلك، فاستأنف كلامه يقول:
– ما بك يا صاحب السعادة؟ لا تقلق! أنا أعرف مكاني يا صاحب السعادة. فإذا قلت: إننا، أنت وأنا، الأسد والحمار اللذان تحدثت عنهما الحكاية، فمن المفهوم أنني أحتفظ لنفسي بدور الحمار، بينما أنت الأسد يا صاحب السعادة، كما ورد في حكاية كيرلوف :
أسد قوي يرهب الغابات
فقد القوى إذ دب فيه الهرم
فأنا الحمار يا صاحب السعادة.
أفلت من لسان الجنرال قوله بغير تروٍ ولا تبصر:
– في هذه النقطة، أوافقك على رأيك!
ذلك كله كان فظاظة وغلظة طبعاً؛ وكان واضحاً أنه مبيت ومقصود. غير أن فردشتينكو كان قد ملك إلى الأبد حق أن يكون مهرجاً. حتى لقد صاح يقول في ذات يوم: «ثم إنني إنما أُستقبل هنا لهذا الغرض، وإنما يُحتفظ بي هنا لهذا الغرض، أعني من أجل أن أتكلم بهذه الطريقة. وإلا فهل يمكن أن يُستقبل رجل مثلي؟ أنا أفهم ذلك وأدركه... هيّا!... هل من المقبول أو من المعقول أن أوضع، آنا فردشتينكو، جنباً إلى جنب مع سيد نبيل مرهف الفكر والشعور مثل آتانازي إيفانوفتش؟ لا بد لي إذاً أن أخلص من ذلك إلى هذه النتيجة، وهي أنني لا يتيسر لي هذا إلا لأنه غير مقبول وغير معقول!».
ولكن فردشتينكو كان رغم عاميته وابتذاله يفلح أحياناً في أن يكون لاذعاً جداً؛ فكان ينبغي للذين يريدون أن يُستقبلوا في دار ناستاسيا أن يتحملوا فردشتينكو. ولعل فردشتينكو قد أدرك منذ البداية أن ناستاسيا فيليبوفنا أخذت تستقبله لأنه استطاع أن يزعج توتسكي منذ أول يوم. كما أن جانيا قد تحمّل منه عذاباً لا نهاية له. فبهذا المعني عرف فردشتينكو أن يكون ذا نفع كبير وفائدة عظيمة لناستاسيا فيليبوفنا.
قال فردشتينكو وهو يراقب بطرف عينه أثر كلامه في ناستاسيا فيليبوفنا:
– أما الأمير فسيأخذ يغنى لنا أغنية على الموضة.
فقالت ناستاسيا فيليبوفنا بخشونة:
– لا أظن ذلك يا فردشتينكو، وأنا أنصحك بأن لا تندفع كثيراً
– آ... إذا كان ينعم بحماية خاصة، فلم يبق عليّ ألا أن أكون رقيقاً لطيفاً، وأن...
لكن ناستاسيا فيليبوفنا كانت قد نهضت دون أن تصغي إلى كلامه، ومضت تستقبل الأمير.
قالت وهي تظهر أمام الأمير فجأة:
– يؤسفني أنني نسيت من تعجلي أن أدعوك منذ قليل. وإنني ليسرني جداً أن تهيئ لي بنفسك فرصة شكرك وتهنئتك على ما تملك من روح التصميم.
كانت وهي تتكلم تنظر إلى الأمير بانتباه، محاولة أن تفسّر لنفسها سبب مجيئه.
ولقد كان يمكن أن يردَّ الأمير على كلماتها اللطيفة، لكنه كان مبهوراً مبهوتاً فلم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة.
وقد لاحظت ناستاسيا فيليبوفنا ذلك مسرورةً مبتهجة. لقد كانت في ذلك المساء في أبهى حلة وأجمل زينة، وكان منظرها يحدث في النفس أثراً قوياً.
أمسكت الأمير من يده، وقادته إلى حيث كان المدعوون. وقد توقف الأمير على حين فجأة قبيل دخول الصالون وأسرع يهمس في أذنها منفعلاً انفعالاً شديداً:
– كل شيء فيك رائع كامل.. حتى نحولك وشحوبك.. لا يمكن أن يتمنى لك المرء غير هذا... لقد بلغت من قوة الرغبة في المجيء إليك أنني... معذرة... سامحيني...
قالت ناستاسيا فيليبوفنا ضاحكة:
– لا تعتذر، وإلا أفقدت بادرتك غرابتها وطرافتها. كانوا على صواب حين قالوا: أن فيك غرابة وتفرداً. إذن أنت تعدني رائعة كاملة؟
– نعم.
– هنا أنت تخطئ، رغم أنك تعدُّ أستاذاً في فن الحزر والتنبؤ. سأذكرك بذلك في هذا المساء نفسه...
وقدمت الأمير إلى ضيوفها الذين كان أكثر من نصفهم قد عرفه من قبل. وسرعان ما وجد توتسكي شيئاً لطيفاً يقوله. وبدا على الحفل شيء من الانتعاش، وأخذوا جميعاً يتكلمون ويضحكون. وأجلست ناستاسيا فيليبوفنا الأمير إلى جانبها.
صرخ فردشتينكو يقول وقد طغا صوته على جميع الأصوات:
– أي غرابة حقاً في مجيء الأمير؟ أن المسألة واضحة جلية.
فقال جانيا فجأة بعد أن ظل أخرس حتى ذلك الحين:
– بل المسألة واضحة كل الوضوح، جلية كل الجلاء! لقد ظللت أراقب الأمير هذا اليوم بلا انقطاع تقريباً، منذ اللحظة التي رأى فيها صورة ناستاسيا فيليبوفنا على مكتب إيفان فيدوروفتش. وإني لأتذكر تذكراً واضحاً أن فكرة قد قامت في ذهني حينذاك، وترسخت الآن في نفسي قوية، حتى أن الأمير نفسه قد أسرّ إليّ باعترافات عنها، أقول هذا عابراً...
نطق جانيا تلاث العبارة كلها بجد كبير لا يخالطه أي مزاح، حتى أن وجهه كان مكفهراً، فأثار ذلك شيئاً من الدهشة.
أجاب الأمير يقول وقد احمر وجهه:
– أنا ما أسررت إليك بأي اعتراف، ولم أزد على أن أجبتُ عن سؤال ألقيته أنت عليّ.
أعول فردشتينكو يقول:
– مرحى! مرحى! هذا كلام فيه صدق على الأقل، فيه صدق وحذق.
وضحك الجميع مقهقهين. فقال بتتسين بصوت خافت فيه اشمئزاز:
– لا تصرخ هذا الصراخ يا فردشتينكو!
وقال إيفان فيدوروفتش:
– لم أكن أتوقع منك، يا أمير، «لمحات» من هذا النوع، لمحات لا يجيد مثلها إلا... إلا... لقد كنت أتصورك فيلسوفاً لا أكثر! آلا أن على المرء أن يخشى الماء الساكن!
– حين رأيت كيف يحمَرُّ الأمير احمرارَ فتاة بريئة لمزحة بريئة، انتهيت إلى أن هذا الشاب النبيل يضمر قلبه أشرف النيات ويضم أجمل المشاعر!
كذلك قال: بل زأزأ يقول على دهشة من الحضور كافة، معلمُ المدرسة الأهتم الذي يبلغ من العمر نحو سبعين عاماً، والذي لبث صامتاً خلال ذلك الوقت، وكان لا يتوقع أحد منه أن ينطق بكلمة واحدة طوال السهرة. فانطلقت الضحكات مجلجة مزيداً من الجلجلة. وظن العجوز المسكين أن الناس تضحك لنكتته الفكهة فأخذ يشاركهم الضحك وهو ينظر إليهم، حتى ألمت به نوبة سعال شديد. وكانت ناستاسيا فيليبوفنا تحب هذا النوع من الرجال الشيوخ والنساء العجائز الذين يتصفون بشيء من الغرابة والتفرد والشذوذ، بل كانت تحب حتى ضعاف العقول، فأخذت تلاطفه وتدلِّلَه، حتى لقد قبلته، ثم أمرت بأن يُصب له فنجان آخر من الشاي. وطلبت من الخادمة أن تجيئه بخمارها فدثرته به وأمرت بإضافة حطب إلى الموقد.
وحين سألت الخادمة عن الساعة، أجابتها الخادمة بأن الساعة هي العاشرة والنصف. فقالت ناستاسيا فيليبوفنا تخاطب الحفل:
– ألا تشربون شمبانيا أيها السادة؟ لقد حضّرت الشمبانيا، فعسى أن تجعلكم الشمبانيا أكثر مرحاً؛ فارفعوا التكليف، أرجوكم...
إن هذه الدعوة إلى الشراب، ولا سيما بعبارات تبلغ هذا المبلغ من السذاجة، قد بدا صدورها عن ناستاسيا فيليبوفنا غريباً كل الغرابة. أن الجميع يعرفون التقيد بالقواعد الصارمة والآداب الدقيقة التي كانت تسود حفلاتها السابقة. لقد أخذت السهرة تنتعش ولكنها فاقت في انتعاشها المألوف في أمثالها. لم يرفض أحدٌ الشمبانيا: قبلها الجنرال أولا، ثم السيدة المتبرجة، فالشيخ المسكين، ثم فردشتينكو، ثم قبلها الجميع آخر الأمر. لقد قبل توتسكي، هو أيضاً، كأساً من الشمبانيا، بغية أن يسبع شيئاً من روح الدعابة اللطيفة على المجرى الجديد الذي جرت فيه السهرة. لكن جانيا وحده لم يشرب شيئاً. أما ناستاسيا فيليبوفنا التي تناولت كأساً كذلك، وأعلنت أنها ستشرب أثناء السهرة ثلاث كؤوس على الأقل، فقد كان من الصعب على المرء أن يفهم شيئاً من حركاتها المفاجئة العنيفة، وضحكها العصبي الذي لا موضوع له، والذي تتخلله فترت تفكير متجهم صامت. قدّر بعضهم أنها تعاني من حمى. وبدأوا يلاحظون أخيراً أنها تنتظر هي نفسها شيئاً ما، فهي تلقي نظرات كثيرة متكررة على ساعة الجدار، وهي قد أخذ يظهر عليها نفاد الصبر وشرود الفكر.
سألتها السيدة الجريئة قائلة:
– كأنك تعانين شيئًا من الحمى!
فأجابتها ناستاسيا فيليبوفنا، مصفرّة الوجه فعلاً، جاهدةً أن تكبح ارتعادها:
– بل إنني أعاني حمّى شديدة، لذلك تدثرت بخماري.
فقامت من حولها حركة اضطراب وقلق.
اقترح توتسكي قائلا وهو ينظر إلى إيفان فيدوروفتش:
– ماذا لو تركنا مضيفتنا ترتاح؟
فهتفت ناستاسيا فيليبوفنا تقول بإلحاح ذي دلالة:
– لا، أبداً أيها السادة! أنا أصر على أن تبقوا. إنني لا أستطيع الاستغناء عن وجودكم هذا المساء.
وإذ كان جميع الضيوف تقريباً يعلمون سلفاً أن قراراً يبلغ مبلغاً كبيراً من خطورة الشأن سيُتَّخذ في أثناء هذه السهرة، فقد بدت لهم هذه الكلمات مثقلة بالمعاني. وتبادل الجنرال وتوتسكي نظرة جديدة. وسرت في جانيا رعشة.
قالت السيدة الجريئة:
– يستحسن أن ننظّم «لعبة صغيرة».
فصاح فردشتينكو يقول متحمساً:
– أنا أعرف لعبة جديدة رائعة. هي على كل حال لعبة لم تُجرّب إلا مرة واحدة، ثم لم تنجح!
سألته السيدة الجريئة:
– ما هي هذه اللعبة؟
– اجتمعنا في ذات يوم لفيفاً من الأصحاب. فلما شربنا قليلاً – والحق يقال – اقترح أحدهم أن يقص كل واحد منا، دون أن ينهض عن المائدة، قصة عن نفسه، على شرط أن يكون في قرارة ضميره مقتنعاً بأن القصة التي سيرويها هي أسوأ فعل ارتكبه في حياته، وعلى شرط أن يكون صادقاً كل الصدق، خاصة أن يكون صادقاً كل الصدق فلا يكذب البتة!
قال الجنرال:
– فكرة عجيبة!
– ليس هناك فكرة أعجب منها يا صاحب السعادة، ولكن هذا نفسه سرُّ حسنها.
قال توتسكي:
– شيء مضحك! لكنه مفهوم! نوع مقلوب من التباهي والمفاخرة!
– لعل هذا بعينه هو ما كانوا ينشدونه يا آتانازي إيفانوفتش.
قالت السيدة الجريئة:
– أمثال هذه اللعب تبكي أكثر مما تضحك!
قال بتتسين:
– لعبة سخيفة!
سألت ناستاسيا فيليبوفنا:
– وهل نجحت اللعبة؟
– لم تنجح! جرت الأمور مجري سيئاً! صحيح أن كل واحد روى حكاية، وذكر أموراً صادقة كثيرة، حتى أن بعضهم كان يجد في رواية قصته لذة – تصوروا! – ولكنهم جميعاً شعروا بالخزي والعار آخر الأمر، ولم يقووا على متابعة اللعبة إلى نهايتها! يمكن أن نقول بوجه عام: أن اللعبة كانت مسلية، ولكن في بدايتها طبعا!
قالت ناستاسيا فيليبوفنا وقد تحمست فجأة:
– يحسن حقاً أن نجرب! حقاً يجب علينا أن نجرّب هذه اللعبة أيها السادة! إنني ألاحظ أننا لم نستطع حتى الآن أن نخلق جواً مرحاً في هذا المساء، ليت كل واحد منا يقبل أن يقصّ شيئاً ما... من هذا النوع طبعاً، إذا هو أراد... فكل واحد حر، هه؟ ولعلنا نستطيع أن نمضي في هذا إلى آخر الشوط. على كل حال، اللعبة طريفة جدا!..
قال فردشتينكو:
– فكرة عبقرية! غير أن السيدات معفيات... السادة وحدهم هم الذين سيقصّون!... وسنحدد دور كل واحد بالقرعة، كما فعلنا في المرة السابقة، هذا لا بد منه! والذي لا يريد أن يروي حكاية، له أن يمتنع طبعاً... ولكن لا بد أنكم توافقون على أن هذا لن يكون لطيفاً منه! ليكتب كل واحد اسمه على ورقة أيها السادة، ولنضع الأوراق كلها في قبعة، هنا! وسيتولى الأمير سحب الأوراق واحدة بعد واحدة بالقرعة. مهمتكم بسيطة جداً. على كل واحد منكم أن يقص قصة أسوأ فعل ارتكبه في حياته. وهذا سهل جداً أيها السادة! سوف ترون! حتى إذا لاحظت في ذاكرة أحدكم توانياً، توليت أنا تنشيطها!
كانت الفكرة مستهجنة فلم ترض أحداً. فبعضهم تقطبت حواجبهم واكفهرت وجوههم، وبعضهم رسموا على شفاههم ابتسامات ساخرة. واحتجّ بعضٌ آخر، ولكن دون إلحاح شديد، مثل إيفان فيدوروفتش الذي كان لا يريد أن يُسخط ناستاسيا فيليبوفنا والذي كان قد لاحظ مدى افتتانها بهذه الفكرة الغريبة، ربما لما تتصف به هذه الفكرة من غرابة توشك أن تكون استحالة. ولقد كانت ناستاسيا فيليبوفنا امرأة لا ينثني عزمها ولا تتراجع عن رغباتها متى قررت أن تظهر هذه الرغبات، ولو كانت نزوات شاذة لا تجديها نفعا. وإنها الآن لفي حالة تكاد تكون هسترية، فهي تتحرك كثيراً وتضطرب اضطراباً شديداً وتضحك ضحكاً تشنجياً، ولا سيما في الرد على ما كان يبديه توتسكي من احتجاج قلق. كانت عيناها القاتمتان تسطعان، وقد ظهرت على خديها الشاحبين بقعتان حمراوان. ولعل ما في وجوه بعض المدعوين من تجهم واشمئزاز كان يزيد ضرام رغبتها الساخرة في إزعاجهم؛ ولعل ما كان يرضيها في تلك الفكرة التي اقترحها فردشتينكو إنما هو استخفافها واستهتارها وقسوتها. حتى لقد أيقن بعضهم أن ناستاسيا فيليبوفنا تبيّت نية ما. على أن الحضور قد قبلوا الاقتراح أخيراً، فالفكرة طريفة شائقة على كل حال، وهي بالنسبة إلى بعضهم مغرية أشد الإغراء، وكان فردشتينكو أكثر الحضور نشاطا وحركة.
قال المراهق الصموت سائلاً في خجل:
– فماذا لو كانت القصة يستحيل على المرء أن يرويها... بحضور سيدات؟
فأجابه فردشتينكو قائلا:
– ما عليك في هذه الحالة إلا أن تمتنع عن روايتها. يا للشباب الساذج! لكأنه لا توجد أفعال أخرى سيئة كثيرة!
قالت السيدة الجريئة صائحة:
– أما أنا فلا أدري ماذا أختار من بين أفعالي السيئة!
فعاد فردشتينكو يكرر:
– النساء معفيات من ضرورة رواية شيء. لكنهان معفيات فحسب. أما من شاءت منهن أن تذكر شيئاً من وحي ذاتها ومن تلقاء نفسها، فلها أن تفعل ذلك مشكورة. والرجال أيضاً معفيون إذا أزعجتهم هذه اللعبة كثيرا.
سأل جانيا:
– ولكن كيف أبرهن على أنني لا أكذب؟ إذا كذبت فقدت اللعبة كل معناها. ومن ذا الذي يمكن ألا يكذب؟ إن كل واحد سوف يكذب، هذا أكيد!
صاح فردشتينكو يقول في نوبة من حماسة شديدة:
– يكفي أن نرى أحد الأشخاص يكذب حتى نشعر من هذا وحده بمتعة. أما أنت يا جانيتشكا فليس لك أن تخشى الكذب حقاً، لأن الفعل الذي هو أسوأ ما ارتكبت في حياتك من أفعال سيئة يعرفه الجميع منذ الآن. تصوروا كذلك أيها السادة، تصوروا بأي عين سينظر كل منا إلى الآخر غدا بعد جميع القصص التي سنرويها!
سأل توتسكي بوقار ورصانة:
– أهذا ممكن؟ أهذا جدّ حقاً يا ناستاسيا فيليبوفنا؟
قالت ناستاسيا فيليبوفنا ساخرة:
– من يخشى الذئب لا يذهب إلى الغابة**!
وعاد توتسكي يقول ملحاً، بينما كان قلقه يزداد ويشتد شيئاً بعد شيء:
– لكن اسمح لي يا سيد فردشتينكو: كيف يمكن أن تجعل من هذه اللعبة لعبة مجتمع؟ أؤكد لك أن الألعاب التي من هذا النوع لا تنجح أبداً. ولقد قلت أنت نفسك: أن هذه اللعبة لم تنجح مرة.
– كيف لم تنجح؟ ألم أقصص في المرة الأخيرة كيف اتفق لي أن سرقت ثلاثة روبلات؟ ألم أقصص ذلك؟
– صحيح. ولكن لم يكن في وسعك أن تقص القصة على نحو يظهرها صادقة. فيصدقك المستمعون، أليس كذلك؟ لقد ذكر جبريل آرداليونتش منذ هنيهة – وهو في ذلك على صواب – أنه يكفي أن يشم المستمع رائحة كذب في القصة حتى تفقد اللعبة معناها. أن الحقيقة غير ممكنة هنا إلا بالمصادفة، أو بنوع فاسد من حب الظهور لا يمكن قبوله ولا يمكن تصوره في هذا المكان.
صاح فردشتينكو قائلا:
– يا لك من رجل مرهف الفكر لطيف الحس حقا! إنك لتثير دهشتي يا آتانازي إيفانوفتش. انظروا أيها السادة: إنه حين نبّه إلى أنني لم أستطع أن أتحدث عن سرقتي على النحو الذي يجعلها تشبه الحقيقة قد أفهمنا بألطف أسلوب وأنعم طريقة أنني في الواقع لم يكن في إمكاني أن أرتكب جريمة السرقة (إذ ليس من اللائق أن يتحدث المرء عن مثل هذه الأمور)، رغم أنه ربما كان في قرارة نفسه مقتنعاً كل الاقتناع بأن فردشتينكو يمكن أن يسرق! ولكن هلموا يا سادتي هلموا: أصبحت الأسماء في القبعة، ومنها اسمك أنت آتانازي إيفانوفتش، فالجميع إذاً موافقون. ابدأ يا أمير!
أغطس الأمير يده في القبعة دون أن يقول شيئاً، وأخرج منها أول ورقة فكانت ورقة فردشتينكو، ثم سحب الثانية فكانت ورقة بتتسين، ثم سحب باقي الأوراق واحدة بعد واحدة، فكانت الثالثة ورقة الجنرال، وكانت الرابعة ورقة آتانازي إيفانوفتش، وكانت الخامسة ورقته هو، وكانت السادسة ورقة جانيا، إلخ. ولم تكن السيدات قد وضعت في القبعة أوراقاً.
هاتف فردشتينكو يقول:
– يا لسوء حظي! لقد كنت آمل أن يخرج اسم الأمير أول اسم، وأن يخرج اسم الجنرال بعده! من حسن الحظ على كل حال أن اسم إيفان فيدوروفتش يأتي بعد اسمي، فهذه مكافأة لي أو تعويض. واضح إذاً يا سادة أنني أنا الذي يجب أن أكون القدوة الحسنة في هذه اللعبة، ولكن ما يؤسفني أكثر من أي شيء آخر في هذه اللحظة هو أنني أمرؤ تافه كثيراً وأنني لا أتميز بشيء، فحتى رتبتي ليس لها أي شأن. ما قيمة أن يكون فردشتينكو قد ارتكب عملاً سيئاً في الواقع؟ وما هو أسوأ أعمالي؟ حقاً إنه ليصعب عليّ الاختيار! اللهم إلا أن أقص حكاية السرقة تلك نفسها، فأبرهن لآتانازي إيفانوفتش أن من الممكن أن يسرق المرء دون أن يكون لصا.
– لقد استطاعت أن تقنعني أيضاً يا سيد فردشتينكو أن من الممكن أن يجد المرء متعة ولذة في أن يروي قصص أعمال قذرة، حتى دون أن يكون أحد قد طلب منه ذلك. على كل حال... معذرة يا سيد فردشتينكو!
قالت ناستاسيا فيليبوفنا تحسم الموقف بلهجة فيها تململ وانزعاج:
– أبداً يا فردشتينكو! لقد أسرفت في التطريز والتوشية حتى لتكاد لا تفرغ من ذلك!
ولاحظ الجميع أنها بعد نوبة الضحك الأخيرة التي انتابتها، قد ارتدت فجأة إلى نوع من الحذر المتجهم، وإنها أصبحت أسهل استثارة وأسرع اهتياجاً. ولكنها ما تزال تصرُّ على تنفيذ نزوتها بإلحاح عنيد مستبد. كان آتانازي إيفانوفتش في مثل الجحيم عذابا. وقد أحنقه كذلك موقف إيفان فيدوروفتش الذي كان يحتسي كأس الشمبانيا هادئاً، ولعله كان عازماً على أن يقصّ قصة متى جاء دوره.
الفصل الرابع عشر
هتف فردشتينكو يقول:
– أنا إنما أثرثر كثيراً لأنني يعوزني الفكر. ولكني سأبدأ. لو كان لي فكر كفكر آتانازي إيفانوفتش أو إيفان فيدوروفتش، للبثت أنا أيضاً صامتاً ساكناً طوال السهرة كلها. يا أمير، اسمح لي أن أسألك هل توافقني على هذا الرأي: يخيّل إليّ أن عدد اللصوص في العالم أكبر من عدد غير اللصوص، حتى لقد يمكن القول: إنه ما من إنسان لم يسرق طوال حياته شيئا ما. هذا انطباع شخصي. لا أستنتج منه مع ذلك أن ليس في العالم إلا لصوص، رغم أن القول بهذا الرأي كثيراً ما أغراني، أعترف لك بذلك. فما رأيك أنت؟
قالت داريا ألكسيفنا (السيدة النشيطة الجريئة):
– ما أسخف هذا الكلام! ما أغبى هذا الهذر! ليس ممكناً أن يكون جميع الناس قد سرقوا شيئاً ما. أنا لم أسرق شيئاً في يوم من الأيام.
– أنت لم تسرقي في يوم من الأيام يا داريا ألكسيفنا، ولكن ما قول الأمير الذي أرى أنه احمر وجهه؟
قال الأمير وكان قد احمر وجهه فعلاً:
– يخيل إليّ أنك على حق فيما تقول، ولكنك تبالغ كثيراً.
– ولكن ألم تسرق أنت نفسك شيئاً ما في يوم من الأيام يا أمير؟
تدخل الجنرال يقول:
– كلام مضحاك سخيف! هلاً فكرت فيما تقول يا سيد فردشتينكو؟
وقالت داريا ألكسيفنا حاسمة:
– أمرك بسيط: إنك حين أُحرجت خجلت أن تروي شيئاً، لذلك تحاول أن تجر الأمير معك، لأنه لا يملك عن نفسه دفاعاً.
قالت ناستاسيا فيليبوفنا بشدة وقسوة:
– فردشتينكو! لك أن تقصّ أو أن تسكت. ولكن لا تهتم إلا بنفسك؟ لقد آخذت تفقدني صبري!
– حالاً يا ناستاسيا فيليبوفنا، ولكن ما دام الأمير قد اعترف (وإني لألح على هذه النقطة، لأن ما قاله إنما هو اعتراف حقاً)، فأنا أتساءل عما عسى أن يقصه علينا شخص آخر (لا أسميه) إذا هو أراد أن يقول الحقيقة يوماً. أما أنا أيها السادة، فالحق أن ما سأرويه لكم ليس شيئاً كثيراً، فهو بسيط غاية البساطة، وهو عدا ذلك غبي وبشع. لكنني أؤكد لكم مع ذلك أنني لست لصاً، وإنني ارتكبت فعل السرقة ذاك دون أن أدري لماذا! لقد حدث ذلك منذ ثلاث سنين، في فيلا صديق من الأصدقاء، هو سيمون إيفانوفتش اشتينكو، في يوم أحد. كان عنده ضيوف، ولما انتهى الغداء بقي الرجال يتجاذبون أطراف الحديث أمام كأس. وخطر ببالي أنا أن أطلب من ماريا سيمونوفنا، ابنة صاحب الدار، أن تعزف لنا شيئاً على البيانو. فلما اجتزت إحدى الغرف لمحت على منضدة عمل ماريا إيفانوفنا ورقة نقدية خضراء بثلاثة روبلات لا شك أنها كانت قد أخرجتها لحاجة من حاجات الدار. لم يكن في الغرفة أحد. تناولت الورقة ودسستها في جيبي. لماذا؟ لا أدري! إنني لا أعرف السبب الذي لعله دفعني إلى ذلك. ولكنني أسرعت أعود إلى المائدة. ولبثت هنالك أنتظر، منفعلاً بعض الانفعال. كنت أثرثر بلا توقف، وأروي فكاهات، وأضحك. ثم جلست قرب السيدات. وبعد انقضاء قرابة نصف ساعة، لوحظ اختفاء الورقة النقدية، فسُئل عنها الخدم. وحامت الشبهة حول داريا، الخادمة. أظهرت كثيرا من الاهتمام والاستطلاع، وشاركت في الاستجوابات، حتى لأتذكر أنني، حين ارتبكت داريا ارتباكاً تاماً، أخذت أقنعها بضرورة الاعتراف، وحلفت برأسي لأضمننّ لها تسامح ماريا إيفانوفنا، وذلك على مسمع ومرأى من جميع الحضور. فكان هؤلاء ينظرون إليّ، وكنت أشعر بلذة عظيمة من تدفقي في الكلام والوعظ بينما الورقة النقدية في جيبي. وفي مساء ذلك اليوم نفسه شربت بالمال خمرة في أحد المطاعم: دخلت فأمرت لنفسي بزجاجة من خمر «لافييت». لم يحدث قبل ذلك أن طابت زجاجة على هذا النحو دون أن آكل شيئاً. ولكنني كنت أستعجل إنفاق ذلك المال. على أنني لم أشعر بأي ندم خاص، لا في ذلك الحين، ولا بعده. ولا أعتقد أن في إمكاني أن أرتكب ذلك الفعل مرة أخرى. صدّقوني: أن الأمر لا يهمني. انتهت القصة. هذا كل شيء.
قالت داريا ألكسيفنا مشمئزة:
– لكني أعتقد أن هذا العمل ليس أسوأ عمل ارتكبته في حياتك طبعا!
وعقّب آتانازي إيفانوفتش:
– بل ليس هذا عملاً وإنما هو حالة نفسية مرضية.
وسألت ناستاسيا فيليبوفنا دون أن تحاول إخفاء تقززها:
– وماذا جرى للخادمة؟
– طردوها في اليوم التالي طبعاً. ذلك بيت شديد لا يتهاون في أمر كهذا الأمر!
– وتركت لهم أن يطردوها؟
– هه! فهل كنتم تريدون إذاً أن أشي بنفسي وأعترف بفعلتي؟
بذلك أجاب فردشتينكو، وقد دُهش، على كل حال، من الأثر السيء الذي أحدثته قصته في نفوس الحضور.
هتفت ناستاسيا فيليبوفنا تقول:
– ما أقذر هذا العمل!
– هوه! أتطلبون من إنسان أن يروي أسوأ فعل ارتكبه في حياته ثم تريدون أن يكون هذا الفعل ناصعاً متألقاً؟ أن أسوأ الأفعال قذر دائماً يا ناستاسيا فيليبوفنا. لسوف يثبت لنا ذلك إيفان بتروفتش بعد قليل. ثم أن كثيراً من الناس يظهرون بمظهر باهر، ويوهمون بأنهم مثال الفضيلة لأنهم يملكون الثراء! وما أكثر الذين يملكون الثراء في هذه الأيام! ولكن ليتنا نعرف الوسائل التي استعملوها للوصول إلى ذلك... إنهم لا يتورعون عن شيء، ولا يتحرجون من شيء!
الخلاصة: أن فردشتينكو قد خرج عن طوره، وأصبح سليط اللسان ناسياً نفسه متجاوزاً كل حد. إن كشرة خبيثة تجعِّد الآن وجهه. لعله كان يتوقع أن تحدث قصته في نفوس سامعيه أثراً غير هذا الأثر تماماً، مهما بدا توقعه هذا غريباً. إن هذا النوع من «الزلات» الرديئة و«التباهي الخاص»، على حد تعبير توتسكي، أمر مستمر مألوف عند فردشتينكو، وهو يناسب طبعه، ويعبّر عن خلقه.
ارتعدت ناستاسيا فيليبوفنا غضباً، وحدّقت فيه بنظرة ثابتة، فسرعان ما استولى عليه رعب شديد، فصمت وقد جمّده الخوف من أن يكون قد أسرف قليلاً.
قال آتانازي إيفانوفتش يقترح متهكماً:
– ألا نحسن صنعاً إذا نحن اكتفينا بهذا؟
فقال بتتسين:
– هذا دوري أنا، لكنني أستعمل حقي في الرفض، فلا أروي شيئا.
– ترفض؟
– لا أستطيع يا ناستاسيا فيليبوفنا. ثم إنني أعد مثل هذه اللعبة غباوة وحماقة!
قالت ناستاسيا فيليبوفنا وهي تلتفت نحو إيبانتشين:
– يا جنرال، أعتقد أن الدور دورك الآن. فإذا امتنعت أنت أيضاً فقد انهارت لعبتنا كلها، ولسوف يؤسفني ذلك كثيراً، لأنني أنوي أن أقصّ في الختام قصة عمل مأخوذ «من حياتي أنا». لكنني لا أريد أن أفعل ذلك قبلك وقبل آتانازي إيفانوفتش، إذ لا بد أن تشجعاني.
قالت ناستاسيا فيليبوفنا جملتها الأخيرة هذه ضاحكة. فهتف الجنرال يقول بحرارة وحماسة:
– أوه! إذا كنت تَعِدين بذلك، فإنني مستعد أن أروي لك قصة حياتي كلها. وأعترف لك بأنني قد هيأت قصة أحكيها متى جاء دوري..
تجرأ فردشتينكو فقال وهو ما يزال خَجلاً بعض الشيء، لكنه يبتسم ابتسامة وقحة مع ذلك:
– يكفي أن يراك المرء يا صاحب السعادة حتى يحزر ما شعرت به من لذة أدبية في سبك قصتك.
وألقت ناستاسيا فيليبوفنا على الجنرال، هي أيضاً، نظرةً خاطفة، وابتسمت. ومع ذلك كان يستطيع المرء أن يرى أن أعصابها كانت تزداد توتراً، وآن اضطرابها كان يزداد شدة. وارتعش آتانازي إيفانوفتش حين علم أنها ستقص، هي أيضاً، حكاية ما.
بدأ الجنرال كلامه فقال:
– لقد اتفق لي، أيها السادة، كما يتفق لكل إنسان، أن ارتكبت في حياتي أفعالا لا توصف بأنها أنيقة جداً، ولكن أغرب ما في الأمر أنني أعد القصة القصيرة التي سأرويها لكم الآن هي أسوأ فعل اقترفته في حياتي. صحيح أن خمسة وثلاثين عاماً على وجه التقريب قد انقضت على حدوث تلك القصة، ولكنني لم أستطع قط أن أحرّر ذاكرتي من ذلك الانطباع الذي يقبض صدري. هي حكاية غبية جداً على كل حال. كنت لا أزال أيامئذٍ في الجيش برتبة مرشح؛ وإنكم لتعرفون ما المرشح: دم يغلي ويفور، وجيب خالي إلا من قروش معدودة. وكان لي تابع اسمه نيكيفور يهتم بالقيام بأعباء البيت اهتماماً شديداً؛ فهو يوفر ويقتصد، ويرتق ويرفع، ويمسح الأرض ويلمُع البلاط، بل هو يسرق من كل مكان كل ما يتاح له أن يسرقه خلسة ليزيد به رزقي. كان يمتاز بأمانة تامة واستقامة نادرة وشرف لا يضارع. أما أنا فكنت في معاملته الرجل الذي يوصف بأنه قاس، ولكنه عادل. ولقد بقينا في الحامية مدة من الوقت بمدينة صغيرة. كنت قد أعطيت سكناً في ضاحية من الضواحي، عند أرملة ملازم ثاني محال على التقاعد. هي عجوز قصيرة في الثمانين من عمرها أو في نحو ذلك. وكان بيتها الخشبي يشبهها بلىّ وتداعياً وتهدماً، وكانت تبلغ من الفقر أنها ليس عندها حتى خادمة تساعدها في أعمال البيت. غير أن الشيء الذي تتميز به خاصة هو أنها كان لها في الماضي أسرة كبيرة العدد وأقرباء كثيرون. وتعاقبت السنون فبعضهم ماتوا وبعضهم سافروا أو نسوها. أما زوجها فكانت قد دفنته منذ ما يقرب من خمسة وأربعين عاماً. وقد احتفظت خلال مدة طويلة بفتاة حدباء هي بنت أختها، وكانت الفتاة فيما يروى عنها شريرة خبيثة كساحرة، حتى لقد عضت خالتها في أصبعها ذات يوم، لكن الفتاة ماتت أخر الأمر هي أيضاً، فأصبحت العجوز تدبر أمورها بنفسها وحيدة منذ ثلاث سنين. وكنت أشعر عندها بضجر شديد وسأم قوي، فليس ثمة ما يمكن أن أعقد عليه أملاً. وأخيراً سرقت من دجاجي في ذات يوم ديكاً. وظل الأمر غامضاً، ولكن لا يمكن أن يكون السارق أحداً غيرها. وقد تشاجرنا تشاجراً عنيفاً في موضوع الديك، واستطعت بعد ذلك بمدة قصيرة أن أحصل على إذن بتغيير مسكني تلبية لطلبي، فأرسلت إلى ضاحية أخرى عند بائع طويل اللحية كثير الذرية. إنني أتذكر هذا كأنني أراه اليوم. انتقلنا أنا ونيكيفور فرحين، وتركنا العجوز لخزيها وعارها. وبعد ذلك بثلاثة أيام، عدت إلى البيت من التدريب فبادرني نيكيفور بقوله: «لقد أخطأت، سيادتك، إذ تركت للعجوز وعاء الحساء، فإنني لم يبق عندي وعاء أصبُّ فيه الحساء». فتجمدت من الدهشة طبعاً وقلت: «كيف تركنا لها وعاء الحساء؟»، وأخذ نيكيفور يشرح لي الأمر، فتبيّن أن العجوز قد رفضت عند رحيلنا أن تردَّ إليه وعاءنا، زاعمةً أنها تحتفظ به بديلاً عن آنية كنت قد كسرتها لها، وأنني أنا الذي اقترحت عليها ذلك. فلما شرح لي نيكيفور ذلك، فار دم «المرشح» في عروقي طبعاً، بسبب حقارة هذه المرأة وصغارها، فإذا أنا أثب وأطير؛ فما وصلت إلى العجوز حتى كنت خارجاً عن طوري، ووجدتها جالسةً في المدخل وحدها، منزوية في ركن من الأركان كأنما لتحتمي من الشمس، مسندة خدها إلى يدها. فنزلت عليها نزول الصاعقة، وأخرجت لها كل ذخيرتي من الشتم والسب: «يا كيت وكيت!»... على الطريقة الروسية... هل لاحظتم؟ لكنها بدت لي غريبة عجيبة: فهي ما تزال جالسة أمامي تحدَّق إليّ بعينيها الجاحظتين دون أن تجيبني بكلمة واحدة، وما تزال نظرتها غريبة غرابة شديدة، وكأنها كانت تترجح قليلاً. وهدأت أخيراً، ونظرت إليها، وسألتها، فظلت صامتة لا تجيب. فلبثت متحيراً من هذا الصمت، في جو هذه الشمس الغاربة وهذا الذباب المدندن؛ ثم اضطربت أخيراً فقفلت راجعاً. وقبل أن أصل إلى داري استدعيت إلى القيادة، واضطررت أن أمرّ بسريتي، ثم لم أعد إلى بيتي إلا في الليل. فكانت الكلمات الأولى التي بادرني بها نيكيفور هي: «هل تعلم، سيادتك، أن صاحبة البيت ماتت منذ قليل؟» فسألته: متى؟ فقال: اليوم في هذا المساء، ربما منذ ساعة ونصف ساعة. إذاً فقد ماتت لحظة كنت أغرقها بالشتائم والسباب! بلغتُ من قوة الشَّده إنني لم أثب إلى رشدي إلا بعد وقت. أصبحت العجوز لا تفارق فكري، حتى لقد حلمت بها في الليل. صحيح أنني أمرؤ لا أؤمن بالخرافات ولا أتطير، ولكنني ذهبت في اليوم الثالث أشيع جنازتها واحضر دفنها. وصرت مع مضي الزمن أفكر في هذه القصة مزيداً من التفكير. لا أزعم أن هذه القصة قد احتلت فكري كله، ولكنني أقول: إنها كانت تنبثق في ذهني على حين فجأة، فأشعر بانزعاج واضطراب. وفهمت أخيراً ما الذي كان يفجؤني أكثر من أي شيء آخر: هذه امرأة، أو قل بلغة هذا العصر ذي النزعة الإنسانية: هذه كائن حي، عاشت زمناً طويلاً حتى نسيها الموت. ولقد كان لها في الماضي أولاد، وزوج، وأسرة، وأقرباء. وكان ذلك كله يغلي ويفور من حولها أن صاح التعبير، وكانت تحوطها ابتسامات من كل صوب؛ وفجأة لم يبق من ذلك كله شيء، وغاب بما يشبه أن يكون ضربة سحر، فإذا هي تبقى وحيدة مثل... مثل ذبابة خريف، كأنها تحمل على ظهرها لعنة العصر. وقادها الله أخيراً إلى نهايتها، فطارت هي أيضاً في ذات مساء لطيف من أماسي الصيف عند غروب الشمس. هذه فكرة زاخرة بالعبر طبعاً. ولكن المرشح الشاب، بدلاً من أن يغمرها بالدعوات وبدلاً من أن يذرف العبرات، يضع يديه على خاصرتيه، وينفخ صدره، ويمطر العجوز المحتضرة، بوابل من الشتائم المقذعة ثأراً لنفسه، لأنها سلبته وعاء الحساء. لا شك في أنني أثمت، ذلك أمر لا جدال فيه. ورغم أنني أصبحت منذ زمن طويل أعدَّ ذلك الفعل غريباً عني، لتقادم العهد أولا، ولتغيّر طبعي ثانياً، فما زلت أشعر بأسف وحسرة، حتى إنني أدهش من ذلك، لا سيما وإنني إن كنت آثماً ولا شك، فلست آثماً كل الإثم: فما الذي حملها على أن تموت في تلك اللحظة نفسها؟ من الواضح على كل حال أن عذر ذلك العمل السيئ أن له بواعث نفسية، وأنه ثمرة حالة سيكولوجية. ومع ذلك لم يهدأ بالي هدوءً تاماً ولم تطمئن نفسي طمأنينة كاملة، إلا حين قررت، منذ نحو خمسة عشر عاماً، أن أقف مبلغاً من المال على ملجأ من الملاجئ لإيواء امرأتين عجوزين، لتكون أيامهما الأخيرة من حياتهما الأرضية أخف وطأة على نفسيهما بفضل ظروف معاشية أفضل. حتى إنني أنوي أن أستمر في وقف هذا المال إرثاً. تلكم هي القصة كلها. أعود فأقول: لعل في حياتي آثاماً أخرى، ولكن هذا الفعل الذي رويت لكم الآن قصته هو الذي يبدو لي أسوأ عمل ارتكبته في حياتي.
فما أن أنهى الجنرال كلامه حتى انبرى فردشتينكو يقول:
– إنك، يا صاحب السعادة، بدلاً من أن تروي لنا قصة أسوأ عمل ارتكبته في حياتك، رويت قصة أفضل عمل قمت به في حياتك، فخيبت بذلك فأل فردشتينكو.
وقالت ناستاسيا فيليبوفنا بهدوء وإهمال:
– حقاً يا جنرال... ما كنت أتصوّر أن يكون لك قلب طيب! خسارة..
فسألها الجنرال وهو يضحك ضحكة تحبب وتلطف:
– خسارة؟ لماذا؟
وشرب جرعة من الشمبانيا، بشيء من الاعتزاز.
جاء الآن دور آتانازي إيفانوفتش الذي هيأ نفسه لرواية قصة هو أيضاً. كان الحضور يقدّرون أنه، كما فعل إيفان فيدوروفتش، لن يرفض أن يروي قصة، وكان بعضهم، لأسباب معينة، ينتظرون قصته بكثير من الشوق واللهفة، وهم يلقون على ناستاسيا فيليبوفنا نظرات مختلسة.
وبوقار عظيم يتفق ومهابته، أخذ آتانازي إيفانوفتش يسرد واحدة من «قصصه اللطيفة» بصوت هادئ عذب. (يجب أن نذكر عابرين أن آتانازي إيفانوفتش رجل طويل القامة مهيب الطلعة، على شيء من الصلع والشيب؛ بدين بعضي البدانة، خداه زاهيتان رخوتان خاسفتان قليلاً. أسنانه صناعية. يرتدي ثياباً أنيقة فضفاضة، ويلبس قميصاً ناصع البياض. يداه البضتان البيضاوان تخطفان الانتباه. في بنصر يده اليمنى خاتم ثمين من ماس). فكانت ناستاسيا فيليبوفنا طوال مدة سرده قصته لا تنفك تنعم النظر في شريط الدانتيلا الذي يزدان به كمها والذي كانت تقرصه بأصبعين من يدها اليسرى، فلم يُتح لها أن تنظر إلى القصَّاص ولو مرة واحدة.
بدأ آتانازي إيفانوفتش كلامه فقال:
– إن الشيء الذي يسهّل مهمتي هو أنني مضطر اضطراراً مطلقاً أن أروي أسوأ فعل ارتكبته في حياتي. فلا مجال في مثل هذه الحالة لأي تردد، فالضمير وذاكرة القلب يمليان عليّ اختيار القصة ويفرضانها فرضاً. يجب عليّ أن أعترف، وأنا أشعر بغير قليل من المرارة، أن بين الأعمال الطائشة و... الصبيانية التي ارتكبتها والتي قد يكون عددها لا نهاية له، أن بين تلك الأعمال عملاً نقشت ذكراه في نفسي عميقة فلا سبيل إلى نسيانها. حدث ذلك منذ قرابة عشرين عاماً. كنت عندئذ في إقامة قصيرة بالريف عند أفلاطون أوردنتسيف الذي انتخب منذ برهة وجيزة ماريشالاً للطبقة النبيلة، وكان يقضي أعياد آخر العام في أراضيه مع امرأته الشابة. وكان عيد ميلاد آنفيسا ألكسيفنا يقع في تلك الفترة نفسها، فكانت تُهيّأ لهذه المناسبة حفلتا رقص. وفي ذلك الأوان كانت الرواية التي ألفها ألكسندر دوما الابن «غادة الكاميليا» رائجة رواجاً عظيماً في المجتمع الراقي، وكانت قد أحدثت في ذلك المجتمع ضجة كبيرة. وهي في رأيي عمل أدبي لا يمكن أن يموت، بل ولا يمكن أن يشيخ. كانت جميع السيدات في الريف متحمسة له أشد التحمس، ولا سيما اللواتي قرأنه. فجمال القصة، وطرافة الموقف، وأصالة الشخصية الرئيسية، والتصوير المرهف لبيئةٍ ملأى بالأمور الجذابة، وجميع تلك التفاصيل الأخَّاذة المنثورة في الكتاب (كاستعمال باقات من أزهار الكاميليا بيضاء وحمراء على التناوب)، الخلاصة أن الكتاب، في جملته وتفصيله، كان قد أحدث أثراً كبيراً هزّ نفوس الناس هزاً قوياً. وأصبحت أزهار الكاميليا موضة يتهافت عليها الناس تهافتاً شديداً، ويسعون إليها سعياً محموماً، ويريدون شراءها مهما يكن الثمن. وإني لأسألكم: هل يمكن أن يوجد كثير من أزهار الكاميليا في مقاطعة صغيرة حين يريد جميع الناس أن يشتروا أزهار الكاميليا لحفلات الرقص، ولو لم تكن حفلات الرقص هذه كثيرة. وكان بطرس فورخوفسكي في ذلك الأوان يموت حباً وهياماً بآنفيسا ألكسيفنا. لست أدري حتى هذه اللحظة هل كان بينهما شيء، أقصد هل كان يمكن أن يساوره أمل جدي. وإنما المهم أن المسكين أخذ يسعى هنا وهناك كالشيطان المسعور بغية الحصول على أزهار كاميليا لحفلة الرقص التي ستقام بمناسبة عيد ميلاد آنفيسا ألكسيفنا... وكان قد عُرف أن الكونتيسة سوتسكي (من بطرسبرج) وهي صديقة زوجة الحاكم، وصوفيا بسبالوفا، ستجيئان حتماً ومعهما باقات من أزهار الكاميليا البيضاء. فكانت آنفيسا ألكسيفنا ترغب في أن يهدي أحد إليها أزهار كاميليا حمراء ليكتمل بها تأثيرها وسحرها. فكان أفلاطون التعيس في أشد الضيق وأكبر الحرج. إنكم تعلمون ما واجبات الزوج: لقد تورط فوعد بباقة من أزهار الكاميليا الحمراء. ولكن ما العمل؟ أن كاترين ألكسندروفنا ميتستشيفا، التي هي أرهب منافسة لآنفيسا ألكسيفنا في كل شيء، والتي يمكن أن توصف العداوة بينهما بأنها عداوة تبلغ درجة الطعان، كانت قد نشلت من المنطقة كل ما فيها من أزهار الكاميليا قبل حفلة الرقص بيوم واحد. فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أن آنفيسا ألكسيفنا انتابتها نوبات بكاء، وأغمي عليها، إلخ! لقد هلك أفلاطون! أن من الواضح أن بطرس إذا استطاع في هذه اللحظة الحاسمة أن يحصل على الباقة المطلوبة، فستحقق أموره تقدماً كبيراً. إن العرفان بالجميل والشعور بالامتنان لا حدود لهما في حالات كهذه الحالات. أخذ بطرس يسعى هنا وهناك كمن مسّه جن، ولكن الأمر كان مستحيلاً، حتى إنه لا مجال للتفكير فيه! وهأنا ذا ألقى بطرس، عشية عيد ميلاد آنفيسا، عند جارةٍ من جيران أسرة أوردنتسيف، فأراه مشرق الوجه متهلل الأسارير.
سألته:
– ماذا حدث؟
– وجدت، أوريكا !
– إنك لتدهشني حقاً! كيف وجدت؟ وأين؟
– بمدينة إيكايسك (مدينة صغيرة بالمقاطعة المجاورة تقع على مسافة لا تكاد تبلغ عشرين فرسخاً) يوجد هنالك تاجر طويل اللحية واسع الثراء، اسمه تريبالوف يعيش مع امرأته وحيدين ويتخذان عصافير الكناري بمثابة أولاد، ويهويان الأزهار هوى عظيماً، وعندهما أزهار كاميليا.
– ولكن هذا أمر غير مضمون. ما لو منعها عنك؟
– سأركع عندئذٍ أمامه، وأظل قابعاً على قدميه إلى أن يوافق، ثم لا أنصرف قبل أن يعطيني الأزهار!
– متي تسافر إليه؟
– غداً في الفجر، الساعة الخامسة.
– طيب. أسأل الله أن يمدك بعون من عنده!
شعرت حقاً بسعادة كبيرة له. وعدت إلى دار أسرة أوردنتسيف. وفيما كنت أهمُّ بالمضيّ إلى السرير لأنام، خطرت ببالي على حين فجأة فكرة من أطراف الفكر. فسرعان ما ذهبت إلى المطبخ، فأيقظت سافيلي، الحوذي، ووعدته بخمسة عشر روبلاً إذا هو قرن الخيل بالعربة في خلال نصف ساعة. فما انقضى نصف ساعة حتى كانت العربة تنتظرني عند الباب طبعاً. وقد أُبلغت في أثناء ذلك أن آنفيسا ألكسيفنا قد انتابها صداع، وآلمت بها حمى، وأنها تهذي.
ركبت العربة، وانطلقنا. وتوقفت بعد الساعة الرابعة بقليل أمام نزل إيسايسك أنتظر طلوع الفجر، فما أن طلع الفجر حتى استأنفت المسير؛ وفي الساعة السابعة كنت عند تريبالوف أحدثه في أمري. قلت له:
– هل عندك أزهار كاميليا؟ كن أباً رحيماً، ساعدني، أنقذني، فأنحني لك حتى الأرض محيياً شاكراً.
ورأيت الشيخ طويل القامة، مبيض الشعر، قاسي الهيئة، رهيباً مخيفا. وسمعته يقول:
– لـ... لا... لا! لا تحاول! إنني أرفض!
وهأناذا أسقط على قدميه، وأنبطح... نعم أنبطح انبطاحاً تاماً كاملا. فخاف الرجل، وقال يناديني:
– ما هذا الذي تفعله يا بني؟ ما هذا الذي تفعله؟ رباه!
فصحت أقول له:
– أن حياة إنسان هي المعرّضة للخطر!
– طيب.. طيب... خذ أزهار الكاميليا... وكان الله معك!
فأخذت أجني أزهار كاميليا حمراء! كانت أزهاراً رائعة، فتانة! جنيت كل ما ضمته منها حديقته. وتنهد الشيخ. فأخرجت من جيبي ورقة نقد بمائة روبل. فقال:
– لا يا بني، لا تلحق بي هذه الإهانة!
فقلت له:
– طيب، إذا كان الأمر كذلك، فتفضل بدفع هذه المائة روبل لمستشفى المدينة ترفيهاً عن المرضى.
قال:
– هذا، هذا شيء آخر يا عزيزي! هذا عمل طيب نبيل، عمل يُرْضي الله. سأقدم هذه الهبة نيابة عنك.
أعجبني ذلك الشيخ، ذلك الشيخ الروسي الأصيل، الأصيل حقاً، الأصيل حتى الأرومة، ذلك الشيخ الذي ينتمي إلى ما يسمى باسم «الطبقة الكريمة حقا».
وعدت أدراجي مفتوناً بالنجاح الذي حققته، ولكنني سلكت طرقاً ملتوية، حتى لا ألتقي ببطرس. فما أن وصلت حتى أرسلت الباقة إلى آنفيسا ألكسيفنا لتفاجأ بها متى استيقظت من نومها. وفي وسعكم أن تتصوروا دهشتها، وامتنانها، والدموع التي ذرفتها اعترافا بالجميل! وهذا هو أفلاطون الذي كان أمس متهدماً مدمّراً ميتاً، ها هو ذا يرتمي على صدري ناشجاً. وا أسفاه! ذلك هو شأن جميع الأزواج دائماً منذ ابتدع... الزواج الشرعي! لا أجرؤ أن أضيف شيئاً إلى ما قلت، عدا أن جميع آمال ذلك المسكين بطرس انهارت منذئذٍ انهياراً لا قيام لها بعده! ولقد قدّرت في أول الأمر أنه سيذبحني إذا عرف الدور الذي قمت به في هذه القضية، حتى لقد تأهبت للأمر واستعددت، ولكن حدث ما لم يكن في وسعي حتى أن أتصور أن في الإمكان أن يحدث: لقد أغمي عليه، وفي المساء أخذ يهذي، وفي اليوم التالي كانت قد انتابته الحمى الدماغية، فهو يجهش باكيا مع تشنجات شديدة كطفل. حتى إذا أبلّ من مرضه بعد شهر، طلب نقله إلى القوقاز . قصة كأنها رواية من الخيال. وانتهى به المطاف إلى أن قُتل في القرم؛ وكان أخوه ستيفان فورجوفسكي قد اشتهر في ذلك الأوان قائداً متفوقاً لإحدى كتائب الجيش.
لا أنكر أنني ظللت خلال سنين طويلة أعاني من عذاب الضمير: لماذا طعنته تلك الطعنة؟ ولقد كان يمكن أن يهون الأمر في نفسي لو أنني كنت هائماً مثله بحب آنفيسا ألكسيفنا. ولكن الأمر ليس كذلك، وإنما كان «شطارة» مني أو «شيطنة» لا أكثر. ومن يدري؟ فلولا أنني سلبت الفتى باقة الزهر تلك، لجاز أن يكون إلى الآن حياً، سعيداً، بل مغموراً بسعادة طافحة، ولما خطر بباله أن يمضي إلى مقاتلة الأتراك».
أنهى آتانازي إيفانوفتش سرد قصته وقوراً رصيناً كما بدأها. ولاحظ الحضور أن عيني ناستاسيا فيليبوفنا قد قدحتا شرراً، وأن شفتيها قد اختلجتا حين ختم آتانازي إيفانوفتش كلامه. فأصبحتا محطّ الأنظار المستطلعة. هتف فردشتينكو يقول بصوت دامع، إذ أدرك أنه أصبح يحسن بل يجب أن يقول كلمته:
– ضحكوا على فردشتينكو! خدعوه! غشوه! ذلك هو ما يسمي خداعا وغشا!
– لم يجبرك أحد على شيء! كان عليك أن تفهم اللعبة فهماً أصحّ. كان عليك أن تتعلمها من أناس أذكياء.
أن داريا ألكسيفنا هي منذ مدة طويلة الصديقة الوفية والشريكة الدائمة للسيد توتسكي.
قالت ناستاسيا فيليبوفنا بإهمال وفتور:
– أنت على حق يا آتانازي إيفانوفتش. أن هذه اللعبة مضجرة مملة تبعث السأم في النفس، وقد أن لنا أن ننتهي منها. سأقص عليكم الآن ما وعدتكم به، ثم ننتقل جميعا إليّ اللعب بالورق.
قال الجنرال مؤيدا بحرارة:
– ولكن يجب أن نسمع القصة التي وعدتنا بها قبل كل شيء!
قالت ناستاسيا فيليبوفنا بصوت واضح دون أن تتحرك، قالت تخاطب الأمير:
– يا أمير، أن صديقيَّ العزيزين، الجنرال وآتانازي إيفانوفتش، يصران كثيراً على أن أتزوج. فقل لي رأيك: أيجب أن أتزوج أم لا؟ سوف أقرر لنفسي ما تقرره أنت لي.
اصفرّ وجه آتانازي إيفانوفتش، وجمد الجنرال، والتفتت جميع الرؤوس نحو الأمير، وحدّقت إليه جميع الأعين. وتجمّد جانيا في مكانه.
سألها الأمير بصوت يضعف وينطفئ:
– تتزوجين... من؟
فأجابته ناستاسيا فيليبوفنا بذلك الصوت نفسه، الثابت القاطع الواضح:
– جبريل آرداليونتش إيفولجين.
ساد الصمت بضع لحظات. كان الأمير كمن يجهد أن ينطق بكلمة واحدة دون أن يستطيع ذلك، وكأن حملاً ثقيلاً كان يجثم على صدره فيسحقه سحقاً. ثم همس يقول أخيراً وقد استردَّ أنفاسه بكثير من المشقة والعناء:
– لـ... لا... لا تتزوجيه!
فقالت ناستاسيا فيليبوفنا تخاطب جبريل آرداليونتش بصوت فيه سلطة واضحة وفيه شيء من أبهة:
– ذلك ما سيكون. هل سمعت قرار الأمير؟ إنه يتضمن جوابي أنا أيضاً. فلنفرغ من هذه القضية دفعة واحدة إلى الأبد!
تمتم آتانازي إيفانوفتش يقول بصوت مرتجف:
– ناستاسيا فيليبوفنا!
وأضاف الجنرال بصوت مؤثر لكنه قلق:
– ناستاسيا فيليبوفنا!
وسرت في الحضور همهمة، وظهرت بينهم حركات انفعال.
فقالت ناستاسيا فيليبوفنا وهي تتفرس في وجوه ضيوفها مدهوشة:
– ماذا أيها السادة؟ علام هذا الانفعال؟ وفيم استطالت وجوهكم هذه الاستطالة؟
ثأثأ توتسكي متلعثماً متعثراً في الكلام:
– ولكن... تذكري يا ناستاسيا فيليبوفنا أنك وعدت... من تلقاء نفسك... دون ضغط أو إكراه... وكان في وسعك... إلى حد ما.. أن تداري وتراعي... لا أكاد أستطيع أن... ربما كنت مضطرباً... لكن... على كل حال... الخلاصة: الآن... في لحظة كهذه اللحظة، وأمام هذا الحفل كله من الناس، وبهذه الطريقة... نختم بهذه «اللعبة الصغيرة» قضية هي على هذا الجانب العظيم كله من خطورة الشأن، قضية هي قضية شرف وقلب... قضيةٌ يتوقف عليها...
– حقاً لا أفهمك يا آتانازي إيفانوفتش. إنك تخبط في كلامك خبط عشواء! أولاً: ما معنى قولك هذا: «أمام هذا الحفل كله من الناس»؟ ألسنا هنا أصحاباً حميمين؟ وما اعتراضك على هذه «اللعبة الصغيرة»؟ لقد نويت حقاً أن أروي حكاية. وهأنا ذا فعلت. أليست حكايتي جميلة؟ ما الذي يجرّدها في نظرك من الجد. ويضفي عليها طابع اللعب؟ ألم تسمعني أقول للأمير: «سأقرر لنفسي ما تقرره أنت إليّ؟ فلو قد قال: «نعم» لوافقت فوراً، أما وأنه قال: «لا»، فقد رفضت. فكيف تستطيع أن تصف ذلك بأنه خال من الجد، بينما كان مصيري كله مرهوناً بكلمة واحدة. هل يمكن أن يكون هناك جدً أكبر من هذا الجدّ؟
دمدم الجنرال يقول وهو لا يستطيع أن يكظم غيظه من هذه السلطة المهينة التي مُنحت للأمير:
– ولكن لماذا الأمير؟ ثم، ما مجيء الأمير إلى هنا؟ ماذا جاء يعمل؟
– أنا إنما استشرت الأمير، لأنه أول شخص آمنت بأنه مخلص لي إخلاصاً تاماً كاملاً. لقد آمن بي منذ أول نظرة ألقاها عليّ، وأنا أؤمن به أيضًا.
وأخيراً نطق جانيا فقال بصوت مرتجف وقد شحب لونه وانعقف فمه بجعدة عجيبة:
– لم يبق لي إلا أن أشكر لناستاسيا فيليبوفنا ما عمدت إليه من لطف عظيم ورهافة قصوى... في حقي. طبعاً كان لا بد أن تجري الأمور هذا المجرى. ولكن... الأمير... في هذه القضية... إنما...
–... يسعى إلى الحصول على الخمسة وسبعين ألف روبل، أليس كذلك؟
بهذا قطعت ناستاسيا فيليبوفنا كلام جانيا فجأة. وتابعت تقول:
– أهذا ما كنت تريد أن تقوله؟ لا تدافع عن نفسك! هذا ما كنت تريد أن تقوله حتماً! يا آتانازي إيفانوفتش، لقد نسيت نسياناً تاماً أن أضيف ما يلي: استردّ الخمسة وسبعين ألف روبل، واعلم أنني أعتقك مجاناً! يكفي هذا! أنت أيضاً محتاج إلى أن تتنفس! تسع سنين وثلاثة أشهر! غداً تبدأ الحياة الجديدة! أما اليوم فنحتفل بعيد ميلادي، وهذه أول مرة أستقل فيها بنفسي، وأتحرر من غيري! يا جنرال، استردّ أنت أيضاً لآلئك، واهدها إلى زوجتك! إليك اللآلئ! خذها! وسوف أترك هذه الشقة منذ غد، فلا سهرات بعد اليوم أيها السادة!
قالت هذا الكلام ونهضت كأنما لتخرج.
فارتفعت أصوات من كل صوب تناديها:
– ناستاسيا فيليبوفنا! ناستاسيا فيليبوفنا!
واضطرب الجميع، وبارحوا أماكنهم، وأحاطوا بها، وأخذوا يصغون في قلق شديد إلى أقوالها المتقطعة المحمومة الهاذية. كانوا يشعرون جميعاً بأن في هذا نوعاً من اختلال، أو من جنون، دون أن يفهموه، أو أن يستطيعوا تعليله لأنفسهم.
وفي تلك اللحظة ونّ جرس الباب على حين فجأة دقة قوية تشبه من جميع النواحي الرنة التي ترجّعت في بيت جانيا بعد الظهر من ذلك اليوم.
فهتفت ناستاسيا فيليبوفنا تقول:
– ها... جاءت الخاتمة! أخيراً! الساعة هي الحادية عشرة والنصف. أرجوكم أن تجلسوا أيها السادة. لقد حان موعد الخاتمة!
قالت ذلك وعادت تجلس. وكانت تنبض على شفتيها ضحكة غريبة. وصمتت تنتظر انتظاراً محموماً وهي تنظر إلى الباب.
دمدم بتتسين يقول لنفسه:
– لا شك في أنه روجويين قد جاء بالمائة ألف روبل!
الفصل الخامس عشر
دخلت الخادمة كاتيا مرتاعة أشد الارتياع، وقالت:
– حدث ما لا يعلمه إلا الله يا ناستاسيا فيليبوفنا! هناك نحو عشرة أشخاص اجتاحوا حجرة المدخل سُكارى يطلبون الدخول. وقد سألوني أن أبلغ عن وصول روجويين، وزعموا أنك على علم بالأمر.
صحيح يا كاتيا، أدخليهم فوراً!
– حقا؟ أدخلهم جميعاً... يا ناستاسيا فيليبوفنا؟ أن حالتهم فظيعة، أنهم مخيفون!
– جميعاً، أدخليهم جميعاً يا كاتيا، لا تخشي شيئاً، أدخليهم حتى آخرهم، وإلا دخلوا دون أن تأذني لهم بالدخول. هل تسمعين الضجة التي يحدثونها منذ الآن؟ إنها عين الضجة التي أحدثوها بعد الظهر من هذا اليوم!
ثم قالت ناستاسيا فيليبوفنا ملتفتة إلى ضيوفها:
– أيها السادة، ربما أزعجكم أن أستقبل عصبة كهذه العصبة بحضوركم. أنا آسفة. سامحوني. ولكن لا بد من ذلك. إنني أرغب كثيراً في أن توافقوا على أن تكونوا شهودي في هذه الخاتمة، ولكن لكم ما تشاؤون طبعاً!
استمر الحضور في دهشتهم يتهامسون ويتبادلون النظرات. لقد أصبح واضحاً كل الوضوح أن ذلك كله كان محسوباً مرتباً مهيأ، وأنه بات من المستحيل إكراه ناستاسيا فيليبوفنا على ترك فكرتها، رغم أنها قد جنّت طبعاً! وكان حب الاطلاع قد استبد بهم جميعاً، ولم يكن هناك ما يدعو أحداً منهم إلى أن يرتاع ارتياعاً شديداً على كل حال. لم يكن بين الحضور إلا سيدتان اثنتان: داريا ألكسيفنا، وهي امرأة محنكة سبق أن رأت في حياتها أموراً كثيرة، وليس ترويعها بالأمر السهل. تلك هي السيدة الأولى. أما الثانية فهي تلك المرأة المجهولة الصموت التي كانت على جانب عظيم من الجمال. لكن المجهولة البكماء، كانت في أغلب الظن عاجزة عن أن تفهم أي شيء. إنها ألمانية كانت مارةً ببطرسبرج، وهي تجهل الروسية. ورغم أنها لم تصل إلا منذ مدة قصيرة، فقد جرت العادة أن تُدعى إلى بعض الحفلات. إنها ترتدي ثياباً جميلة فاخرة. وتصفّف شعرها كأنها متأهبة لدخول مسابقة، فالناس يدعونها إلى الحفلات كصورة فتانة تزيّن السهرة، تماماً كما يُزين البيت بلوحة أو آنية خزف أو تمثال أو قطعة أثاث ثمينة تُستعار من الأصدقاء في المناسبات.
وأما عن الرجال فإن بتتسين، مثلاً، صديق للفتى روجويين. وفردشتينكو يشعر بأنه أشبه بسمكة في الماء. وجانيا الذي لم يستطع بعدُ أن يثوب إلى رشده، كان يشعر شعوراً لا يقاوَم، رغم أنه شعور مبهم، بحاجة إلى أن يبقى حتى النهاية مسمّراً في مكانه أمام الناس. ومعلم المدرسة العجوز الذي لم يفهم شيئاً كثيراً مما كان يحدث، قد أوشك أن يجهش باكياً، وكان يرتجف من الخوف ارتجافاً، لشعوره بجو القلق والخشية حول ناستاسيا فيليبوفنا التي يحبها كما يحب حفيدته؛ ولكنه يؤثر أن يموت على أن يترك ناستاسيا فيليبوفنا في لحظة كهذه اللحظة. وفيما يتعلق بآتانازي إيفانوفتش، فإنه كان لا يستطيع طبعاً أن يعرّض نفسه لأحداث من هذا النوع تسيء إليه وإلى سمعته، ولكنه كان مرتبطاً بهذه القضية ارتباطاً شخصياً قوياً، فهو مشدود إليها لا يستطيع منها فكاكاً، رغم المجرى الجنوني الذي أخذت تجري فيه! لذلك قرر أن يبقى حتى النهاية، صامتاً مع ذلك، مكتفيا بالمشاهدة كما يقتضي وقاره، وكما تقضي كرامته ومهابته! والجنرال إيبانتشين الذي سبق أن أهين قبل لحظات كان الوحيد الذي يحق له أن يزداد غضبه لما يراه من هذه الأنواع الجديدة من الشذوذ، كظهور روجويين مثلا. أن من كان في مثل رتبته، حسبه تساهلاً وتنازلاً أن يرضى المشاركة في سهرة تضم أشخاصاً مثل بتتسين أو فردشتينكو. لقد غلبه الهوى على أمره، فسقط تلك السقطة. ولكن الشعور بالواجب واعتبار الرتبة والمركز، واحترام الذات، قد انتصرت أخيراً، فأصبح لا يطيق وجود روجويين وعصبته. لذلك التفت نحو ناستاسيا فيليبوفنا يريد أن يعبّر لها عن ذلك، ولكن ما أن فتح فمه وهم بالكلام حتى قاطعته تقول:
– آ... جنرال... لقد نسيتك. ولكن ثق أنني قد تنبأت باعتراضك. فإذا كنت متضايقاً، فإنني لا ألح عليك ولا أحب أن أحتجزك، رغم أنك أنت من أرغب أقوى رغبة في أن يكون بقربي هذه اللحظة. مهما يكن من أمر، فأنا أشكر لك المتعة التي هيأتها لي معرفتي بك، وأشكر لك التفاتاتك الكريمة التي أعتز بها، ولكن إذا كنت تخشى أن...
فهتف الجنرال يقول وقد استولت عليه نوبة من روح الفروسية السمحة السخية:
– عفوك يا ناستاسيا فيليبوفنا! لمن تقولين هذا الكلام؟ لأبقينّ بقربك ولو لمجرد الإخلاص لك والتفاني في سبيلك، فإذا وُجد خطر من الأخطار مثلاً... ثم إنني متعجب أشد التعجب، أعترف لك بذلك. أريد أن أقول: أن من الممكن أن يفسدوا السجاد، حتى لقد يكسرون شيئاً من الأشياء... فالحق أنه ما ينبغي أن يُسمح لهم بالدخول أبداً يا ناستاسيا فيليبوفنا!
قال فردشتينكو معلناً:
– هذا روجويين بشخصه!
وهمس الجنرال يسأل آتانازي إيفانوفتش مسرعاً:
– ما رأيك؟ ألا تظن أنها جُنّت؟ لا أقصد بالجنون معناه المجازي بل معناه الطبي، الطبي..
فأجابه توتسكي قائلاً بشيء من المكر والخبث:
– قلت لك منذ زمان طويل أن بها استعداداً للجنون...
– تضاف إلى ذلك الآن حالة الحمى هذه..
كانت عصبة روجويين تتألف تقريباً من أولئك الأفراد أنفسهم الذين كانت تتألف منهم بعد الظهر من ذلك اليوم؛ وإنما أضيف إليها الآن شيخ ضئيل فاسق كان في زمانه مديراً لصحيفة حقيرة من الصحف التي تقدّم إليها الرشوات خوفاً من التشهير ويُروى عنه أنه رهن أسنانه الذهبية ليشرب بثمنها خمراً؛ وقد أضيف إلى العصبة أيضاً ملازم ثان محال على التقاعد، يشبه ذلك الذي رأيناه بعد الظهر متميزاً بقبضتي يديه القويتين؛ وهو في الحق ندٌّ له ومنافس، بالمهنة والوظيفة معاً! إن جميع أفراد عصبة روجويين كانوا لا يعرفونه، ولكنهم التقطوه في الطريق على رصيف شارع نفسكي، الذي تغمره أشعة الشمس، حيث كان يستوقف المارة ليطلب منهم مساعدة، بأسلوب يشبه أسلوب مارلنسكي ، زاعماً لهم أنه «كان هو نفسه في الماضي يهب لكل سائل من السائلين عشرة روبلات أو خمسة عشر روبلاً». ولم يلبث الندّان المتنافسان أن شعرا بعداوة متبادلة، فالسيد ذو القبضتين يرى أنه قد أهين إهانة مباشرة حين ُضمّ هذا «السائل» إلى الجماعة، ولكنه بحكم طبعه الصموت كان لا يزيد على أن يصدر همهمات كهمهمات دب، ويقابل بأشد الاحتقار محاولات التودد الكثيرة، والانحناءات اللطيفة التي كان يقوم بها «السائل» إظهاراً لأدبه ورقيه. كان واضحاً أن الملازم الثاني هو من أولئك الذين يؤثرون، من أجل أن يشقوا لأنفسهم طريقاً، يؤثرون حسن التصرف وبراعة التدبير على استعمال القوة والعنف؛ هذا إلى أن قامته أقل ضخامة من قامة السيد ذي القبضتين القويتين. وقد أشار عدة مرات، بطريقة مرهفة، دون أن يثير نقاشاً صريحاً، ولكن بشيء من التفاخر والتباهي، إلى أفضلية الملاكمة الإنجليزية (البوكس)، مفصحاً بذلك عن أنه رجل غربي المذهب والاعتقاد. فكان السيد ذو القبضتين الضخمتين، حين يسمع كلمة «البوكس»، لا يزيد على أن يبتسم ابتسامة تهكم وغضب، وكان لاحتقاره كل مجادلة، يقتصر بين الفينة والفينة، في صمت وبما يشبه المصادفة، على أن يُظهر أو يمدّ إلى أمام ذلك الشيء الوطني جداً، الروسي جداً: قبضة ضخمة نامية العضلات كثيرة العقد مغطاة بشعر أحمر. فكان يتضح للجميع حينذاك أن هذا الشيء الوطني جداً إذا هو هوى على هدفه بإحكام، استطاع أن يهشمه تهشيماً.
وكما لوحظ بعد الظهر من ذلك اليوم، لم يكن أحد من عصبة روجويين سكران سكراً شديداً، وذلك بفضل جهود روجويين الذي ظل طوال النهار لا تغيب عن فكره زيارة ناستاسيا فيليبوفنا في بيتها. وقد اتسع وقته هو نفسه لأن يصحو من السكر صحواً شبه كامل. ولكنه في مقابل ذلك، بعد جميع تلك المشاعر التي عاناها في ذلك اليوم العجيب، والتي لا تشبه في شيء كل ما سبق أن عرفه طوال حياته، كان مرهقاً مخبولاً. أن شيئاً واحداً قد ظل ماثلاً في ذهنه وفي ذاكرته وفي قلبه بغير انقطاع. ومن أجل ذلك كان قد قضى وقته كله. منذ الساعة الخامسة بعد الظهر حتى الساعة الحادية عشرة من المساء، وهو في حالة هم وغم وقلق لا حدود لها، قضى وقته كله ساعياً هنا وهناك عند أمثال كندر وأمثال بيسكوب اللذين شارفا على الجنون هما أيضاً من كثرة ما تحركا في سبيل قضاء حاجته وتدبير أمره. المهم على كل حال أن المائة ألف روبل، عداً ونقداً، التي ألمعت إليها ناستاسيا فيليبوفنا الماعاً خاطفاً ساخراً، وغامضاً كل الغموض، قد أمكن جمعها قروضاً بفوائد باهظة تبلغ من الفداحة أن بيسكوب نفسه كان يستحي أن يتحدث فيها مع كندر إلا همساً.
وكما حدث بعد الظهر من ذلك اليوم، كان روجويين يتقدم عصبته ويسير في طليعتها، وكان رجاله يمشون وراءه، مدركين لتفوقهم، شاعرين مع ذلك بشيء من الخشية. وكانت ناستاسيا فيليبوفنا هي التي يخشونها خاصةً، لا يدري إلا الله لماذا! حتى لقد كان بعضهم يتصور أنهم «سوف يُرمون إلى أسفل السلّم». وكان زاليوجيف، المغوي الأنيق، واحداً من هؤلاء. غير أن بينهم رجالًا آخرين، ولا سيما صاحب القبضتين الجبارتين، كانوا في قرارة أنفسهم يحتقرون ناستاسيا فيليبوفنا احتقاراً مطلقاً، بل وكانوا يكرهونها كرهاً شديداً، وكانوا يشعرون أنهم إنما ذهبوا إلى بيتها ذهابهم إلى مدينة محاصرة. ومع ذلك فإن الترف العظيم الذي رأوه في الحجرتين الأوليين، وجميع هذه الأشياء التي لم يتح لهم طوال حياتهم حتى أن يحلموا بمثلها، والأثاث النادر واللوحات الجميلة وتمثال فينوس الكبير، كل هذا قد أحدث في نفوسهم احتراماً لا سبيل إلى مغالبته، بل وأحدث في نفوسهم ما يشبه الخوف. على أن هذا لم يمنعهم طبعاً من أن يتسللوا إلى الصالون وراء روجويين قليلاً قليلاً، بفضول وقح، رغم ما شعروا به من خوف. ولكن حين رأى صاحب القبضتين الضخمتين و«السائل» وبضعة أشخاص آخرين، حين رأوا الجنرال إيبانتشين بين المدعوين، خارت قواهم حتى هموا أن ينسحبوا إلى الغرفة المجاورة، إلا واحداً منهم هو ليبديف الذي لم يتزعزع، حتى لقد كان يمشي مع روجويين جنباً إلى جنب تقريباً، لإدراكه قيمة مبلغ هو مليون وأربعمائة ألف روبل يحمل روجويين بيده منه مليوناً كاملاً. يحسن أن نلاحظ مع ذلك أن الجميع، ومنهم ليبديف العارف بالقانون، كانوا لا يدركون حدود سلطتهم على وجه الدقة، ولا يعلمون هل كل شيء مباح لهم الآن حقاً أم هو غير مباح. ففي بعض اللحظات كان ليبديف مستعداً لأن يحلف أن كل شيء مباح، وفي لحظات أخرى كان ينتابه قلق ويشعر بالحاجة إلى أن يتذكر بعض مواد القانون – استعداداً للطوارئ – ولا سيما المواد التي تشجع وتطمئن.
أما الأثر الذي أحدثه صالون ناستاسيا فيليبوفنا في نفس روجويين فكان مختلفاً عن الأثر الذي أحدثه في نفوس أصحابه كل الاختلاف. فإنه ما أن أزيحت الستارة أمامه، فأبصر ناستاسيا فيليبوفنا، حتى أصبح كل ما عداها لا وجود له في عالمه، كما حدث له هذا بعد الظهر، غير أنه حدث الآن على نحو أتم وأكمل. واصفرّ وجهه وتوقف لحظة من الوقت. إن المرء يستطيع أن يتصوّر شدة خفقان قلبه. حدّق إلى ناستاسيا فيليبوفنا بضع لحظات، وجل الهيئة زائغ العقل، لا يحوّل عنها بصره. ثم اقترب من المائدة فجأة كمن فقد عقله وهو يكاد يترنح، فاصطدم أثناء خطوه بكرسي بتتسين وداس بحذاءيه الوسخين شريط الدانتيلا الذي يزين حافة الثوب الأزرق المترف الباذخ الذي ترتديه الألمانية الصموت الرائعة الجمال. فلم يعتذر عن ذلك، بل ولم يلاحظه. فلما دنا من المائدة وضع عليها شيئا غريبا كان قد دخل به ممسكا إياه بيديه كلتيهما. هو حزمة سميكة من ورق، يبلغ علوُّها نحو اثني عشر سنتيمتراً ويبلغ طولها نحو ستة عشر؛ قد لُفّت بعدد من أعداد جريدة «أنباء البورصة» ، وأحكم ربطها بخيط متين. وضع روجويين الحزمة على المائدة، ووقف، ولبث على هذه الحال متهدل الذراعين لا ينطق بكلمة واحدة، كالمتهم الذي ينتظر صدور حكم المحكمة. لم تتغير ثيابه التي كان يرتديها بعد الظهر، فيما عدا منديل من حرير أخضر وأحمر معقود حول عنقه بدبوس ضخم من ألماس على شكل فراشة، وفيما عدا خاتم كبير له فص ضخم من ماس تزدان به أصبع متسخة من أصابع يده اليمني.
وكان ليبديف قد توقف على مسافة بضع خطوات من المائدة. أما الآخرون فكانوا، كما سبق أن ذكرنا ذلك، يتسللون إلى الصالون قليلاً قليلاً. وقد هرعت كاتيا وباشا ، خادمتا ناستاسيا فيليبوفنا، هرعتا هما أيضاً، وأخذتا تلقيان من وراء الستارة نظرات مبهوتة قلقة.
قالت ناستاسيا فيليبوفنا تسأل روجويين بعد أن تفرست فيه محدّقة مستطلعة، قالت تسأله وهي تومئ بعينها إلى «الشيء»:
– ما هذا؟
فأجاب روجويين يقول بما يشبه أن يكون زفرة:
– مائة ألف!
– وفى بوعده مع ذلك... هل رأيتم؟ اجلس من فضلك. هنا، على هذا الكرسي. سأقول لك شيئاً بعد قليل. من هؤلاء الذين جئت بهم؟ كل العصبة التي كانت معك بعد الظهر؟ طيب، فليدخلوا. يستطيعون أن يجلسوا على ذلك الديوان هناك، وعلى هذا الديوان الآخر، وعلى هذين المقعدين... ماذا ينتظرون؟ ما بالهم لا يدخلون؟ ألا يريدون أن يدخلوا؟
كان بعضهم قد شعروا بالوجل فعلاً، فانسحبوا إلى الغرفة المجاورة واستقروا بها ينتظرون الأحداث، ولكن بعضاً آخر بقوا فجلسوا حيث دعوا إلى الجلوس، مؤثرين مع ذلك أن يظلوا بعيدين عن المائدة، ولا سيما في الأركان، فمنهم من لا يزال يرغب في الإمحاء فعلاً، ومنهم من كان يسترد جرأته بسرعة تفوق الحد الطبيعي.
وجلس روجويين على الكرسي الذي عينته له هو أيضاً، لكنه لم يبق جالساً مدة طويلة، فما لبث أن عاد ينهض ولم يجلس بعد ذلك. وشيئاً فشيئاً أخذ يميز المدعوين ويتصفح وجوههم. فلما رأى جانيا ابتسم ابتسامة مسمومة ودمدم يقول بينه وبين نفسه: «هه!». ولاحظ وجود الجنرال ووجود آتانازي إيفانوفتش فلم يضطرب أي اضطراب، بل ولم يشعر بأي استغراب. ولكنه حين أبصر الأمير إلى جانب ناستاسيا فيليبوفنا لبث مدة طويلة لا يستطيع أن يحوّل عنه نظرته المدهوشة، وكأنه عاجز عن أن يعلل لنفسه هذا اللقاء. إن من يراه يحسن في بعض اللحظات أنه يعاني نوبة هذيان حقاً. فهو، عدا الانفعالات التي كابدها طوال هذا اليوم، كان قد قضى الليلة الماضية كلها في القطار، ولم يكن قد نام خلال ثمان وأربعين ساعة تقريباً.
قالت ناستاسيا فيليبوفنا وهي تلتفت نحو ضيوفها وقد ظهر في وجهها تحدٍ زاخرٌ بتململ محموم:
– يا سادة، هذه مائة ألف روبل! هنا، في هذه الحزمة القذرة: أن هذا الرجل الذي ترون. قد صرخ يقول كالمجنون بعد الظهر من هذا اليوم إنه سيجيئني في المساء بمائة ألف روبل، وقد انتظرته. إنه يجيئني بالمال ليشتريني. بدأ بثمانية عشر ألف، ثم ارتفع بوثبة واحدة إلى أربعين ألفاً، ثم ارتفع أخيراً إلى المائة ألف التي ترون. لقد وفى بوعده على كل حال! هيه.. ما أشد اصفرار وجهه!.. حدث هذا كله منذ مدة قصيرة في بيت جانيتشكا. ذهبت إلى الأسرة التي كانت ستصير أسرتي، ذهبت أزور أمّه، فإذا بأخته تصرخ في وجهي قائلة: «هل يمكن ألا يكون هناك أحد يُخرج هذه الوقحة؟». ورمت وجه أخيها ببصقة في الوقت نفسه. قوية الشكيمة!
قال الجنرال بلهجة العتب، وقد أخذ يفهم القضية قليلاً على طريقته:
– ناستاسيا فيليبوفنا!
فقالت ناستاسيا:
– ماذا يا جنرال؟ أتراك تعدَّ كلامي هذا غير لائق؟ كفاني تمثيلاً! لقد ظللت سنين، في شرفتي من «المسرح الفرنسي»، أعرض نفسي مثالاً للفضيلة التي لا سبيل إلى الاقتراب منها، وظللت أفرُّ كالمتوحشة من جميع أولئك الذين كانوا يلاحقونني ويطاردونني، وظللت اصطنع هيئة البراءة المتكبرة المتعالية، فما كان ذلك كله إلا سخافة وجنونا! انظر... لقد جاء رغم ذلك، رغم تلك السنين الخمس التي قضيتها متمسكةً بأهداب الفضيلة، جاء يضع المائة ألف روبل على المائدة؛ ولا شك في أنهم أعدوا عربات الترويكا، وأن العربات تنتظرني. لقد قدّر لي سعراً هو مائة ألف روبل! يا جانيتشكا، أرى أنك ما تزال غاضباً مني. ولكن هل صحيح أنك أردت أن تدخلني في أسرتك، أنا التي «أصلح لأمثال روجويين»! ألم تسمع ما قاله الأمير منذ قليل؟
تمتم الأمير بصوت مختلج:
– أنا لم أقل: إنك تصلحين لروجويين؛ أنت لم تُخلقي لمثل روجويين.
انفجرت داريا ألكسيفنا تقول فجأة:
– ناستاسيا فيليبوفنا! كفى يا عزيزتي! كفى يا يمامتي! إذا صحّ أنك أصبحت لا تطيقينهم، فما الذي يحملك على مداراتهم؟ ولكن هل من الممكن أن تقبلي الرحيل مع هذا الرجل، ولو في سبيل مائة ألف روبل؟ صحيح أن مائة ألف روبل ليست شيئاً يسيراً! ولكن ما عليك إلا أن تأخذيها، هذه المائة ألف روبل، ثم تتخلصي من الرجل الذي قدمها إليك. ذلك ما يجب فعله مع أمثال هؤلاء الناس. لو كنت في مكانك لعرفت كيف أسيّرهم جميعاً...
كانت داريا ألكسيفنا قد بلغت حدّ الغضب. إنها امرأة طيبة القلب، سريعة التأثر.
قالت لها ناستاسيا فيليبوفنا مبتسمة:
– لا تغضبي يا داريا ألكسيفنا! لقد كلمت جانيا دون غضب. هل وجهت إليه أي لوم؟ صحيح أنني لا أستطيع أن أفهم الآن كيف أمكن أن أبلغ من الغباء حدّ الطمع في الدخول إلى أسرة كريمة شريفة. لقد رأيت أمه، وقبلت يدها. أما عن سلوكي في بيتك يا جانيتشكا فقد تعمدته تعمداً، من أجل أن أدرك، مرة أخيرة، المدى الذي يمكن أن تمضي إليه: وإني لأعترف لك بأنك أثرت دهشتي. كنت أتوقع أشياء كثيرة. لكنني لم أتوقع هذا! كيف تريد أن تتزوّجني وأنت تعلم أنه قدّم إليّ لآلئ كتلك اللآلئ عشية زواجك تقريباً، وإنني قبلت أخذها؟ وروجويين؟ إنه في بيتك نفسه، أمام أمك وأختك، إنما ساوم عليّ. ورغم ذلك جئت تطلبني للزواج، حتى لتكاد تصطحب أختك. أصحيح إذاً ما قاله عنك روجويين من أنك مستعد في سبيل ثلاثة روبلات أن تزحف منبطحاً على بطنك حتى جزيرة فاسيلفسكي ؟
قال روجويين فجأة بصوت خافت، ولكن بلهجة فيها اقتناع كامل:
– إنه مستعد أن يفعل ذلك!
وتابعت ناستاسيا فيليبوفنا كلامها تقول:
– لو كنت تموت جوعاً لعذرتك. ولكن يظهر أنك تقبض رواتب طيبة! ثم إنك، عدا العار، لا ترفض أن تتزوج امرأة تكرهها «ذلك أنك تكرهني، فأنا أعرف ذلك حق المعرفة». لا، لا، إنني مستعدة لأن أصدّق الآن أن رجلاً مثلك يمكن أن يقتل في سبيل أن يحصل على مال! هذا شأن جميع الناس الآن. أنهم ظامئون إلى المال ظمأ يأخذون سكيناً فيلفونها بحرير، ويتسللون بهدوء ورفق وراء رفيق لهم ليذبحوه كما يُذبح خروف . قرأت عن هذا حديثاً. يمكن أن توصف بأنك رجل لا حياء له. وأنا أيضاً امرأة بغير حياء، ولكنك أسوأ مني. أما صاحب باقة الأزهار، فلا أتكلم عنه الآن...
هتف الجنرال يقول آسفاً أشد الأسف:
– أأنت من أسمع يا ناستاسيا فيليبوفنا؟ أتقولين مثل هذا الكلام، أنت ذات الشعور الرقيق، والفكر المرهف؟ ما هذه اللغة؟ ما هذه التعابير؟
أخذت ناستاسيا فيليبوفنا تضحك قائلة:
– أنا الآن سكرى يا جنرال، أحب أن ألهو وأقصف! إن هذا اليوم يومي، هو يوم ميلادي، هو يوم فرحي الذي انتظرته طويلًا! يا داريا ألكسيفنا، إنك ترينه، ذلك السيد، «صاحب أزهار الكاميليا»، الذي يضحك هناك، الذي يضحك منا...
– أنا لا أضحك يا ناستاسيا فيليبوفنا. أنا لا أزيد على أن أصغي بأكبر انتباه.
كذلك ردَّ توتسكي على ناستاسيا فيليبوفنا بوقار ورصانة. وتابعت ناستاسيا كلامها تقول:
– إنك ترينه. لماذا عذبته طوال خمس سنين دون أن أردّ إليه حريته؟ هل كان يستحق مني ذلك العناء كله؟ إنه ما يجب أن يكون، لا أكثر من ذلك ولا أقل... ولسوف يحكم عليّ بأنني أنا المذنبة في حقه. لقد ضمن لي تنشئةً راقية وتربية عالية... وعالني كما تُعال كونتيسة، وما أكثر ما أنفق في سبيلي من مال! حتى لقد عثر لي هناك علي رجل شريف ليتزوجني، وعثر لي هنا على جانيتشكا. وفوق ذلك كله، هل تصدقين أنني لم أعاشره خلال تلك السنين الخمس كلها، وإنما كنت آخذ ماله وأظنني صاحبة حق فيه؟ إلى هذا الحد اختلطت في عقلي الأمور! تقولين لي: إن عليّ أن أخذ المائة ألف روبل وأن أطرد هذا الشاب الذي يهديها إليّ إذا كنت أشمئز منه. الحق أنني أشمئز... لقد كان في وسعي أن أتزوج، منذ زمن طويل... وكان في وسعي أن أتزوج رجلاً خيراً من جانيا، ولكن ذلك أيضاً كان يثير اشمئزازي. لماذا قضيت إذن هذه السنين الخمس أشحذ كرهي وأغذي بغضي؟ هل تصدقين أنني بلغت حذ التساؤل أحياناً منذ أربع سنين: «لماذا لا أتزوج صاحبي آتانازي إيفانوفتش؟». كان ذلك يخطر ببالي من قبيل الحقد والشر. الله يعلم ما الذي كان يجول في فكري حينذاك! وكنت أستطيع طبعاً أن أجبره على أن يتزوجني! هو نفسه كان لا يرجو خيرا من ذلك، هل تصدقين؟ صحيح أنه كان يكذب ولكنه كان ملتهبًا فلا يطيق صبرًا. أحمد الله على أنني قد أتيح لي أن أفكّر فانتهيت إلى أنه لا يستحق مني كل ذلك الكره! فبلغت عندئذ من شدة الاشمئزاز منه أنني لو طلب أن يتزوجني لرفضت. واستمر ذلك التمثيل خمس سنين! لا، لا، من الأفضل أن أنزل إلى الشارع، فهناك مكاني! أو أن ألهو وأقصف مع روجويين، أو أن أعمل غسّالة منذ الغد! ذلك أن كل ما أحمله ليس ملكي، فإذا انصرفت رميت له كل شيء، كل شيء، حتى آخر خرقة، ومن ذا الذي يمكن أن يريدني بعد ذلك، بعد أن أصبح فقيرة معدمة؟ اسألي جانيا هل يريدني بعد أن أفعل هذا؟ حتى فردشتينكو لن يقبل!...
قاطعها فردشتينكو قائلا:
– جائز ألا يرغب فيك فردشتينكو! إنني رجل صريح! ولكن في مقابل ذلك، يمكن أن يتزوجك الأمير في هذه الحالة. إنك الآن تشتكين، فهلّا نظرت إلى الأمير! أنني أراقبه منذ مدة طويلة...
التفتت ناستاسيا فيليبوفنا إلى الأمير مستطلعة. وسألته:
– أهذا صحيح؟
فقال الأمير لاهثاً:
– صحيح.
– أتتزوجني كما أنا، بدون شيء؟
– نعم يا ناستاسيا فيليبوفنا...
دمدم الجنرال يقول:
– وهذا شيء جديد!... كان يمكن أن نتوقع ذلك!
وحدّق الأمير بنظرة قاسية أليمة نافذة إلى وجه ناستاسيا التي ما تزال تتفرس فيه.
قالت وهي تلتفت نحو داريا ألكسيفنا من جديد:
– هذا شخص آخر يتقدم! وإنه ليفعل راضياً، أنا أعرف ذلك. لقد وجدت محسناً، وإن يكن صحيحاً في أغلب الظن ما يقال من أنه... قليلاً! ولكن بأي مورد تقدّر أن تعيش يا أمير إذا بلغ بك الحب مبلغ اتخاذي زوجةً لك، أنا التي أصلح لمثل روجوين؟...
قال الأمير:
– أنا أعدك امرأة صالحة شريفة يا ناستاسيا فيليبوفنا، وأنت لا تصلحين لروجويين ولا خُلقت لمثله.
– أنا؟ أنا امرأة صالحة شريفة؟ أنا؟
۔ نعم أنت.
– أوه!... هذا كلام خيالي مستمد من الروايات!.. هذه حكايات قديمة يا أمير، يا صديقي. لقد أصبح الناس في هذه الأيام أعظم ذكاء وأشد فطنة، وما ذلك كله إلا سفاسف وترهات! ثم.. أيّ زوج عساك تكون أنت الذي ما تزال في حاجة إلى مربية تُعنى بأمرك؟
نهض الأمير وقال بصوت مختلج وجل، ولكنه بلهجة تعبّر في الوقت نفسه عن اقتناع عميق:
– أنا لا أعرف شيئاً يا ناستاسيا فيليبوفنا... أنا لم أر شيئاً... إنك على حق... ولكنني... أعتقد أنك أنت التي تسبغين عليّ شرفاً إذا ارتضيتني زوجاً. أنا لست شيئاً. أما أنت فأنت قد تألمت، وأنت قد خرجت طاهرة نقية من جحيم كهذا الجحيم. وذلك شيء كثير، لماذا تشعرين بالعار وتريدين أن ترحلي مع روجويين؟ إنها الحمى... لقد رددت إلى السيد توتسكي السبعين ألف روبل، وأنت تقولين: إنك ستتركين له كل شيء، كل ما هو موجود في هذا المكان. ما من أحد هنا قادر على أن يفعل ما تفعلين. إنني... يا ناستاسيا فيليبوفنا... إنني أحبك. أنا مستعد لأن أموت في سبيلك يا ناستاسيا فيليبوفنا. لن أسمح لأحد أن يقول فيك كلمة سوء يا ناستاسيا فيليبوفنا... وإذا كنا فقيرين، فلسوف أعمل يا ناستاسيا فيليبوفنا...
هنا سُمع صوت فردشتينكو وليبديف يضاحكان ساخرين. واستاء الجنرال نفسه فأصدر هذا الصوت «هِمْ»! ولم يستطع بتتسين وتوتسكي أن يمتنعا عن التبسم، ولكنهما لم يلبثا أن كبحا ابتسامتهما. أما سائر الحضور فكانوا فاغري الأفواه من الدهشة.
وتابع الأمير يقول بذلك الصوت الوجل نفسه:
– ولكن من الجائز ألا نكون فقيرين البتة، بل غنيين جداً يا ناستاسيا فيليبوفنا. على أنني لست متأكداً من شيء. يؤسفني إنني لم أستطع حتى الآن أن أعرف شيئاً طوال هذا اليوم، ولكنني تلقيت وأنا بسويسرا رسالة من موسكو بعث بها إليّ رجل اسمه السيد سالازكين، وفيها يبلغني أن عليّ أن أطالب بحقي في ميراث يظهر أنه ضخم جداً.. إليك الرسالة...
وأخرج الأمير من جيبه رسالةً بالفعل.
دمدم الجنرال يقول:
– أليس هذا هذياناً؟ أترانا في مستشفى مجانين؟
وخيم الصمت لحظة.
سأل بتتسين:
– هل قلت: أن الرسالة قد بعثها إليك سالازكين يا أمير؟ هذا رجل معروف جداً في بيئتنا، هو رجل مشهور من رجال الأعمال، فإذا صحّ أنه هو الذي بعث إليك بهذه الرسالة، فإن في وسعك أن تثق به كل الثقة، وأن تطمئن إليه كل الاطمئنان. من حسن الحظ أنني أعرف توقيعه، فقد كان لي عمل معه في الآونة الأخيرة. فإذا سمحت لي أن ألقي على الرسالة نظرة فقد أضئ لك الأمر.
مدّ الأمير إليه الظرف صامتاً، بيدٍ مرتعشة.
وانتفض الجنرال قائلاً وهو يلقي على الحضور نظرة مبهوتة:
– ماذا؟ ماذا؟ أميراثٌ حقاً؟
وانصبت جميع الأنظار على بتتسين بينما هو يقرأ الرسالة. لقد ألهبت الرسالة فضول الحاضرين بنار جديدة. أصبح فردشتينكو لا يستطيع الاستقرار في مكانه. وصعق روجويين فهو يلقي نظرات حائرة مضطربة قلقة على الأمير تارةً وعلى بتتسين تارةً أخرى، وينقل بصره بينهما بغير توقف. وأصبحت داريا ألكسيفنا أثناء هذا الانتظار كالجالسة على إبر. ونفد صبر ليبديف نفسه فترك ركنه، وحنى جسمه نصفين يحاول أن يقرأ الرسالة من فوق كتف بتتسين، وكأنه يتوقع أن يُصفع صفعة قوية من لحظة إلى أخرى معاقبةً له على فضوله.
الفصل السادس عشر
أعلن بتتسين أخيراً وهو يطوي الرسالة ويردها إلى الأمير، أعلن يقول:
– هذه قضية مؤكدة. سوف ترث، دون القيام بأي مسعى خاص، ثروة طائلة جدا، آلت إليك من خالتك في وصية لا مجال للطعن فيها على الإطلاق.
صاح الجنرال يقول:
– غير معقول!
وكان انطلاق صيحته أشبه بدوي انفجار.
ولبث الآخرون فاغري الأفواه من التعجب.
عندئذ أخذ بتتسين يشرح الأمر، مخاطباً إيفان فيدوروفتش خاصة، فقال: إن للأمير خالةً ماتت منذ خمسة أشهر، هي الأخت الكبرى لأمه، ولكن الأمير لا يعرفها معرفة شخصية ولم يرها في يوم من الأيام؛ وهي من أسرة بابوشين، وكان أبوها تاجراً من الطبقة الثالثة بموسكو، أفلس ثم مات فقيراً معوزاً؛ لكن الأخ الأكبر لهذا الرجل، وقد مات منذ مدة قصيرة، كان يحتل مكانا عاليا في عالم التجارة. فلما مات ابناه منذ سنة في غضون شهر واحد، مرض من شدة الحزن مرضاً شديداً ومات. وكان أرمل، وليس له إلا وريث واحد هو ابنة أخيه، خالة الأمير، التي كانت امرأة فقيرة جداً تعيش في بيت أناس غرباء. وحين آل إليها هذا الميراث كانت مصابة بداء الاستسقاء وكانت تُحتضر. لكنها أسرعت تكلف سالازكين بأن يبحث عن الأمير، حتى لقد اتسع وقتها لأن تكتب وصيتها. ويبدو أنه لا الأمير ولا الطبيب الذي كان ضيفاً عليه بسويسرا أرادا أن ينتظرا الإبلاغ الرسمي أو أن يعمدا إلى التثبت من الأمر: وإنما وضع الأمير الرسالة في جيبه وقرر أن يجيء إلى روسيا...
وختم بتتسين كلامه مخاطباً الأمير فقال:
– الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أقوله لك هو أن هذا الأمر كله لا بد أن يكون ثابتاً لا جدال فيه لا من جهة الواقع ولا من جهة الحق، وإن في إمكانك أن تعد أقوال سالازكين في هذا الموضوع بمثابة مال في جيبك. أهنئك يا أمير. من الجائز أن تنال أنت أيضاً مليوناً ونصف مليون، أن لم يكن أكثر من ذلك. لقد كان بابوشكين واسع الثراء.
جأر فردشتينكو يقول:
– مرحى لآخر رجل من سلالة الأمراء ميشكين.
وأعول ليبديف يقول بصوت مخمور أبحّ:
– مرحى!
وقال الجنرال مصعوقا من الدهشة:
– وأنا الذي أقرضته خمسة وعشرين روبلاً كما يُقرض رجل بائس!... هأهأهأ!... أمر أغرب من الخيال!... طيّب!... تهانيّ يا عزيزي، تهانيّ!...
قال الجنرال ذلك ونهض متجهاً نحو الأمير ليقبّله، واقتدى به آخرون فأسرعوا يحدقون جميعاً بالأمير. وحتى أولئك الذين كانوا قد انسحبوا إلى الغرفة المجاورة أخذوا يظهرون في الصالون من جديد. وقامت ضوضاء مضطربة، فمن أحاديث مبهمة، إلى صيحات تعجب، بل وإلى صرخات نداء تطالب بشامبانيا. وأخذ الحضور يتزاحمون ويصدم بعضهم بعضاً كأنما أصابتهم جميعاً حمى. حتى لقد كادوا ينسون ناستاسيا فيليبوفنا خلال برهة من الوقت، وكادوا ينسون أنها سيدة في بيتها رغم كل شيء. ولكنهم تذكروا شيئاً بعد شيء، في وقت واحد على وجه التقريب، أن الأمير قد عرض عليها منذ هنيهة أن يتزوجها. فإذا بهذا التذكر يفاقم الحالة ويجعل الوضع أشد إمعاناً في الجنون. وقد دُهش توتسكي أعمق الدهشة، لكنه كان لا يزيد على أن يرفع كتفيه، حتى ليكاد يكون الشخص الوحيد الذي ظل جالساً. أما الآخرون فقد كانوا جميعاً يحتشدون حول المائدة متسببين بفوضى. ولقد أكدوا فيما بعد أن ناستاسيا فيليبوفنا إنما فقدت عقلها في تلك البرهة.
كانت ناستاسيا فيليبوفنا قد لبثت جالسةً، وظلت بعض الوقت تجيل على الحضور نظرة غريبة مدهوشة، كأنها لم تفهم ما حدث، فهي تبذل جهوداً كبيرة من أجل أن تفهم. ثم التفتت إلى الأمير فجأةً، فحدّقت إليه بانتباه، عابسة مهدّدة. ولكن ذلك لم يدم إلا لحظة قصيرة. فلعلها قد ظنت أن الأمر لم يكن إلا مزاحاً أو سخرية، حتى إذا رأت الأمير تخلصت من ذلك الوهم بسرعة، وعادت إلى الوجوم والتفكير؛ وها هي ذي الآن تبتسم وكأنها لا تعرف كثير لماذا تبتسم...
ودمدمت تقول بلهجة ساخرة:
– إذاً سأصبح أميرة حقاً!
وألقت نظرةً على داريا ألكسيفنا دون إرادة منها، ثم انفجرت تضحك. وتابعت كلامها فقالت:
– هذه خاتمة لم تكن في الحسبان... ليس... هذا ما كنت أتوقعه... هيه أيها السادة! ما بالكم تظلون واقفين، هلّا تفضلتم فجلستم وهنأتمونا أنا والأمير! يخيل إليّ أن أحداً قد طلب شامبانيا. هلّا أصدرت أوامرك يا فردشتينكو؟ يا كاتيا، ويا باشا (هكذا نادت خادمتيها حين لمحتهما فجأة على الباب) تقدّما إليّ! سوف أتزوّج، هل سمعتما؟ سوف أتزوج الأمير، إنه يملك مليوناً ونصف مليون؛ هو الأمير ميشكين، وسوف يتزوجني!
هتفت داريا ألكسيفنا تقول وقد هزتها هذه الأحداث هزاً عميقاً:
وليكن الله معك! لقد أن الأوان...
تابعت ناستاسيا فيليبوفنا كلامها:
– طيب يا أمير... اجلس بقربي، هنا، وإليك الشمبانيا. وهيّا يا سادة، اشربوا نخب صحتنا!
أعولت أصوات كثيرة تهاتف:
– مرحى!
واحتشد عدد كبير من الحضور حول زجاجات الشمبانيا، واحتشد حولها خاصة جميع أفراد عصبة روجويين على وجه التقريب. غير أن كثيراً من الحضور قد أحسوا، رغم صراخهم، ورغم استعدادهم لمزيد من الصراخ، أن الجو قد أخذ يتغير، على ما كان في الأحداث من غموض وإبهام؛ واضطرب بعضهم فبدأ ينتظر التتمة مرتاباً قلقاً؛ وتهامس بعضهم يقول: إن الحالة عادية جداً، والأمراء كثيراً ما يتزوج أحدهم أية امرأة، حتى لقد يتزوج فتاة غجرية يختطفها اختطافا.
أما روجويين فقد كان جامداً ساكناً يراقب المشهد وقد انعقف وجهه بتجعيدة حيرى.
وجاء الجنرال إلى الأمير خلسة من جانب، وهمس يقول له مرتعباً وهو يشده من كمه:
– يا أمير، يا عزيزي، ثب إلى رشدك!
فرأته ناستاسيا فيليبوفنا وسمعت كلماته، فإذا هي تنفجر ضاحكة ضحكاً مجلجلاً، وتقول:
– لا يا جنرال، أنا نفسي الآن أميرة، سمعتَ ذلك بأذنيك، ولن يسمح الأمير الآن بأن أُهان. يا آتانازي إيفانوفتش، أنت على الأقل هنئني. سوف أستطيع بعد الآن أن أجلس في كل مكان إلى جانب زوجتك. ما رأيك؟ أليس لمثل هذا الزوج نفع؟ مليون ونصف مليون... وهو عدا ذلك أمير... وفوق هذا كله يقال: إنه أبله... فهل هناك ما هو خير من ذلك؟ الآن إنما ستبدأ الحياة حقاً! فات الأوان يا روجويين، جئت متأخراً! خذ حزمتك. سوف أتزوج الأمير. أنا أغنى منك.
لكن روجويين كان قد أدرك أخيراً ما يجري. فارتسمت على وجهه علامات ألم لا سبيل إلى مغالبته، وضمّ يديه إحداهما إلى الأخرى متضرعاً، وأفلتت من صدره أنه توجع، ثم هاتف يقول للأمير:
– تنازل عن طلبك!
فأخذ الحضور يضحكون من حوله.
وانبرت داريا ألكسيفنا تجيب منتصرة:
– يتنازل لك أنت طبعاً، أليس كذلك؟ انظروا إلى هذا الفلاح الذي يُلقي ماله على المائدة! إن الأمير يتخذها زوجة له، أما أنت فتجيء لفضيحة!
– أنا أيضاً أتزوجها. فوراً. في هذه اللحظة. وسوف أدفع كل شيء...
قالت داريا ألكسيفنا مستاءة:
– انظروا إلى هذا السكران الخارج من الخمّارة! يجب أن يُطرد!
واشتد الضحك.
فقالت ناستاسيا فيليبوفنا وهي تلتفت نحو الأمير:
– هل تسمع يا أمير؟ انظر كيف يساوم فلاح ليشتري خطيبته!
قال الأمير:
– إنه سكران، وهو يحبك كثيراً.
– ألن تخجل من أن خطيبتك قد أوشكت أن تهرب مع روجويين؟
– كنت تعانين من حمّى وما تزالين، فكأنك كنت تهذين.
– ألن تخجل أيضاً حين يقال لك في المستقبل: أن زوجتك كان يعولها توتسكي خليلةً له؟
– لا، لن أخجل!... أن ذلك لم يحدث بإرادتك!
– ألن تأخذ عليّ هذا الأمر في يوم من الأيام؟
– أبداً!
– انتبه! لا تورط نفسك على مدى الحياة!
قال الأمير برفق وهدوء، وبعاطفة تشبه أن تكون شفقة:
– ناستاسيا فيليبوفنا، لقد قلت لك منذ لحظة: أنني أعد موافقتك شرفاً لي، وإنك أنت التي تشرفينني، لا العكس! وقد ابتسمت أنت لأقوالي هذه، وسمعتُ من حولي ضحكات. جائزٌ أن تعبيري كان مضحكاً جداً، وأني كنت أنا نفسي مضحكاً جداً، لكني أعتقد بأني أفهم أين هو الشرف، وأنا على يقين من أنني قلت الحقيقة. منذ قليل، كنت تريدين أن تضيّعي نفسك تضييعاً لا عودة منه ولا رجعة عنه، لأنك لو فعلت لما غفرت لنفسك ذلك السلوك في يوم من الأيام. وأنت مع ذلك لم تأثمي في شيء. يستحيل أن تكون حياتك قد ضاعت ضياعاً تاماً. ما قيمة أن يكون روجويين قد سعى إليك، وما قيمة أن يكون جبريل آرداليونتش قد حاول أن يخدعك؟ علام العودة إلى هذا بغير انقطاع؟ أن ما فعلته أنت لا يقدر عليه إلا قليل من الناس، أكرر لك هذا. أما الرحيل مع روجويين فقد اتخذت فيه قرارات وأنت مريضة. وإنك ما تزالين مريضة إلى الآن. وما تزالين تعانين من حمّى، وخير ما يمكن أن تفعليه في هذه اللحظة هو أن تمضي إلى فراشك فتنامي. ولو قد تبعتِ روجويين لتركته منذ الغداة ومضيت تعملين غسّالة. إنك ذات كبرياء وشمم يا ناستاسيا فيليبوفنا؛ ولسوف أعتني بك وأسهر عليك. في هذا الصباح، حين رأيت صورتك، أحسست أنني أرى وجهاً أعرفه. لقد شعرت فوراً بأنك قد سبق أن ناديتني... سوف... سوف أحترمك كثيراً يا ناستاسيا فيليبوفنا.
بهذا ختم الأمير كلامه بغتة على غير توقع، واحمّر وجهه حين تذكر نوع الناس الذين كان يتكلم أمامهم.
وكان بتتسين قد خفض رأسه حياء، وأطرق إلى الأرض. وقال توتسكي بينه وبين نفسه: «هو أبله، نعم، لكنه يعرف أن لا شيء يساوي المديح. يعرف هذا بالفطرة!». ولاحظ الأمير أيضاً ما كان من شرر في نظرة جانيا الذي كان يحدجه من ركنه حانقاً كأنه يريد أن يحيله رماداً.
وهتفت داريا ألكسيفنا تقول وقد فاضت نفسها عاطفة وحناناً:
– هذا ما يسمى قلباً طيباً!
ودمدم الجنرال يقول بصوت خافت:
– رجل مثقف، لكنه ضائع!
وقالت ناستاسيا فيليبوفنا:
– شكراً يا أمير؛ ما من أحد قال لي مثل هذا الكلام حتى الآن. كانوا يضعون لي سعراً ويحدّدون لي ثمناً، ولكن ما من رجل شريف طلبني للزواج في يوم من الأيام. هل سمعته يا آتانازي إيفانوفتش؟ ما هو الأثر الذي أحدثته في نفسك كلمات الأمير؟ أغلب الظن أنك تجد هذا كله يكاد يكون بعيداً عن اللياقة والحشمة؟.. يا روجويين، انتظر لحظة! على كل حال، لا أرى أنك تنوي الانصراف. ما يزال من الجائز أن أرحل معك. إلى أين كنت تريد أن تأخذني؟
فقال ليبديف من الركن الذي هو فيه:
– إلى إيكاتيرنهوف .
بينما لم يزد روجويين على أن ارتعش، وكان ينظر بكل عينيه وكأنه لا يصدّق أذنيه. كان مصعوقاً كمن ضرب على رأسه بغتة.
وهتفت داريا ألكسيفنا تقول مروّعة:
– ما هذا الذي تقولينه يا عزيزتي؟ أتراك جُننت؟
فصاحت ناستاسيا فيليبوفنا تقول وقد انفجرت ضاحكة ونهضت واثبة:
– هل أخذت كلامي مأخذ الجد إذن؟ أأنا أرضى أن أضيّع حياة بريء؟ ذلك أمر خليق بأن يفعله آتانازي إيفانوفتش. فهو أمرؤ يحب أن يفسد على الأبرياء حياتهم. هلمّ نرحل يا روجويين. هيئ حزمة الأوراق المالية! ليس أمراً هاماً أن تريد أن تتزوجني. حسبك أن تدفع مالاً. ومن الجائز ألا أقبل أن أتزوجك. هل تصورت أن تقدم لي الزواج وأن تحتفظ لنفسك بالمال؟ لست غبيةً إلى هذا الحد. أنا أيضاً قليلة الحياء خالعة العذار! لقد كنت خليلة توتسكي أعاشره سفاحاً!.. يا أمير، أنت الآن في حاجة إلى آجلايا إيبانتشين لا إلى ناستاسيا فيليبوفنا. ولو ارتكبت هذه الحماقة لأصبحت مضغةُ في الأفواه، ولأشار إليك بأصبعه حتى رجلٌ مثل فردشتينكو! أأنت لا تخشى ذلك؟ ولكنني أنا أخاف أن أكون سبب ضياعك، وأخاف أن تلومني على هذا في المستقبل. أما ما تقوله عن الشرف الذي أُسبغه عليك إذا أن تزوجتك. فإن توتسكي يعرف من أمر هذا الشرف ما يجب أن يعرف! أما أنت يا جانيتشكا فقد خسرت آجلايا إيبانتشين. هل تعلم ذلك؟ لولا أنك ساومت معها، لتزوجتك حتماً. هكذا أنتم جميعاً. ينبغي لكم أن تختاروا بين المرأة الشريفة والغانية البغي، وليس ثمة خيار آخر! فإن لم تفعلوا ذلك تحيرتم وارتبكتم واختلطت أموركم... انظروا إلى الجنرال كيف ما يزال فاغراً فاه!
قال الجنرال مردَّداً وهو يرفع منكبيه:
– هذه مدينة سَدوم، هذه مدينة سدوم! ...
كان الجنرال قد نهض هو أيضاً. وكان جميع الحضور قد وقفوا على كل حال. وكانت ناستاسيا فيليبوفنا كمن جن جنونها.
قال الأمير في أنين وهو يلوي يديه حسرة ولوعة:
– أهذا ممكن؟
فردَّت ناستاسيا فيليبوفنا تقول:
– أكنت تظنه مستحيلاً؟ قد أكون أنا نفسي ذات كبرياء وشمم، مهما أكن قليلة الحياء خالعة العذار! لقد قلت منذ هنيهة: إنني امرأة كاملة. يا لهذه المرأة الكاملة التي تلقي بنفسها في الوحل لا لشيء إلا أن تفخر بأنها ركلت بالقدمين مليوناً ولقب أمير! أأنا أصلح لك زوجة بعد هذا؟ يا آتانازي إيفانوفتش، لقد رميتُ المليون من النافذة فعلاً، فكيف أمكنك أن تتصور أنني سأعد نفسي سعيدة بأن أتزوج جانيتشكا مدفوعةً إلى ذلك بإغراء الخمسة وسبعين ألف روبل التي تدفعها؟ خذها، خذ روبلاتك البالغة خمسة وسبعين ألفاً يا آتانازي إيفانوفتش (إنك لم توصلها حتى إلى مائة ألف، فتفوّق عليك روجويين). أما جانيتشكا فسوف أتولي مواساته بنفسي. لقد خطرت ببالي فكرة. والآن أريد أن ألهو وأقصف. ألست من بنات الشوارع؟ قضيت عشر سنين في سجن. وقد أن لي أن أصبح سعيدة. هلم يا روجويين، هياء نفسك! لنرحل!
فزأر روجويين يقول وقد كاد يُجنّ فرحاً:
– لنرحل! هيه! أنتم... نريد خمراً! أف!..
– هيء خمراً. سوف أشرب. وهل سنسمع موسيقا؟
– نعم، سنسمع موسيقا، سنسمع موسيقا...
كذلك أجاب روجويين، فلما رأى داريا ألكسيفنا تتقدم نحو ناستاسيا فيليبوفنا، جأر يتابع كلامه قائلا:
– لا تقتربي! لا تقتربي! إنها لي أنا! كل شيء لي أنا! هي ملكتي! انتهي الأمر!
كان يختنق فرحاً. وكان يدور حول ناستاسيا فيليبوفنا صارخاً يقول لكل واحد: «لا تقترب!». وقد تجمعت عصبته كلها في الصالون. فبعضهم يشرب، وبعضهم يصرخ ويضحك ضحكاً صاخباً، وجميعهم مهتاج يشعر بفرح غامر. وكان فردشتينكو يحاول منذ ذلك الحين أن يجد له مكاناً بينهم.
وتحرك الجنرال وتوتسكي مرةً أخرى يريدان أن ينسحبا. وكان جانيا قد حمل قبعته بيده هو أيضاً، لكنه ظل أخرس لا ينطق بحرف، وظل جامداً لا يتحرك، كأنه عاجز عن انتزاع نفسه من المشهد الذي يجري أمامه.
– لا تقترب!
كذلك كان يجأر روجويين.
فانفجرت ناستاسيا تضحك وتقول له:
– ما بالك تعول هذا الأعوال؟ أنا ما زلت في داري سيدة نفسي. تكفي إشارة واحدة مني حتى تُطرد شر طردة. أنا لمَّا آخذ مالك بعد. ما يزال المال في مكانه. هاته إلى هنا. أعطني الحزمة كلها. أهذه الحزمة هي التي تضم مائة ألف روبل؟ فظاعة! ولكن ماذا بك يا داريا ألكسيفنا؟ أكان يجب على حقاً أن أفسد حياته؟ (سألت هذا السؤال وهي تومئ إلى الأمير). كيف يمكنه أن يتزوج وهو ما يزال في حاجة إلى مربية أطفال؟ سوف ينوب الجنرال عن مربية أطفال، سوف يقوم له بهذا الدور. انظري كيف يحوم حوله ويدلله! انظر يا أمير: إن خطيبتك قد أخذت المال لأنها مومس، وأنت كنت تريد أن تتزوجها! ولكن ما بالك تبكي؟ أتجد في هذا مرارة شديدة؟ أضحك مثلي...
كذلك تابعت ناستاسيا فيليبوفنا كلامها وقد تلألأت على خديها، هي أيضاً، دمعتان كبيرتان. وواصلت تقول:
– اتكل على الزمن. سوف ينقضي كل شيء. لأن يغيّر المرء رأيه الآن خير من أن يغيّره في المستقبل... ولكن ما بالكم تبكون جميعاً؟ هذه كاتيا تذرف الدموع هي أيضاً. لماذا تبكين يا كاتيا، يا صغيرتي؟ سوف أترك لكما أنت وباشا أشياء كثيرة. لقد اتخذت لهذا الأمر ما يجب اتخاذه من تدابير. والآن، وداعاً! أنت الفتاة الشريفة، كنت أجبرك على أن تخدميني أنا العاهرة! هذا أفضل يا أمير! حقاً هذا أفضل! وإلا فسوف تحتقرني في النهاية، فلا تتحقق لنا سعادة. لا تحلف الأيمان المغلظة، فلن أصدّقك. ما كان أسخف أن أوافق على أن نتزوج!... لا يا أمير، إن الأفضل أن نفترق على صداقة، لأنني أنا أيضاً حالمة، فلو تزوجنا لما كان في ذلك أي خير! ألم أحلم بك أنا أيضاً؟ إنك على حق: لقد حلمت بك زمناً طويلاً، منذ أن كنت بالريف، عنده. قضيت هناك خمس سنين، وحيدة تماماً. فكنت أنتقل من خواطر إلى خواطر، ومن أحلام إلى أحلام، حتى وصلت إلى تصور رجل مثلك، طيب، شريف، رقيق، غبي بعضي الغباء أيضاً، يأتيني على حين فجأة فيقول لي: «ما أنت بآثمة يا ناستاسيا فيليبوفنا. إنني أحبك وأعبدك!». نعم كنت أسترسل في الأحلام أحياناً إلى درجة الجنون! فإذا بهذا الرجل يصل، ليقضي شهراً أو شهرين كل عام، ثم يتركني مهانة ملطخة الشرف بالعار مهتاجةً مدنسة. أردت ألف مرة أن ألقي بنفسي في الغدير، لكنني كنت جبانة، فأعوزتني الشجاعة... والآن، أأنت مستعد يا روجويين؟
– كل شيء مهيأ!
ورددت عدة أصوات تقول:
– كل شيء مهيأ!
– وعربات الترويكا تنتظر تحت، مع أجراسها.
تناولت ناستاسيا فيليبوفنا حزمة الأوراق المالية بيديها. وقالت:
– يا جانيا، خطرت ببالي فكرة. أريد أن أعوّض عليك خسارتك لماذا ينبغي أن تفقد كل شيء؟ يا روجويين، هل تعتقد أنه مستعد أن يزحف منبطحاً حتى فاسيلفسكي في سبيل ثلاثة روبلات؟
– نعم، إنه مستعد أن يزحف منبطحاً.
– فاسمع إذاً يا جانيا. أريد أن أتأمل نفسك مرةً أخيرة. لقد عذبتني طوال ثلاثة أشهر. وجاء الآن دوري أنا. هل ترى هذه الحزمة؟ إنها تضم مائة ألف روبل! سوف أرميها في الموقد، على مراي من جميع الحضور، ليكونوا كلهم شهوداً. فمتى أمسكت النار بها من كل جهة، فأسرع أنت إلى الموقد، ولكن بدون قفازين، بل عاري اليدين، واشمر كمُك واستلّ الحزمة من النار. فإذا أفلحت في ذلك كانت المائة ألف روبل لك أنت! لن يكون عليك إلا أن تتحرق أصابعك قليلاً، ولكن المكافأة مائة ألف روبل، فكّر في الأمر! هل يستغرق استلالها وقتاً طويلاً؟ لا... وفي أثناء ذلك سيتاح لي أن أعجب بنبل نفسك وعلوّ همتك، بينما أنت تنشل مالي من النار! الجميع شهود على أن المال سيكون مالك أنت! أما إذا لم تنشل أنت الحزمة من النار فسوف تحترق الحزمة. لن أسمح لأحد بأن ينتشلها. ابتعدوا جميعاً إلى وراء، إلى وراء! المال مالي أنا! هو ثمن ليلتي مع روجويين! هل هذا المال مالي يا روجويين؟
– لك أنت يا فرحتي، لك أنت يا ملكتي!
– فابتعدوا إذن إلى وراء، ابتعدوا كلكم، أنا أفعل ما أشاء، لا تضايقوني! يا فردشتينكو، حرّك النار لتشتعل جيداً!
فأجابها فردشتينكو يقول مصعوقاً:
– لا تطاوعني يداي يا ناستاسيا فيليبوفنا!
فهتفت ناستاسيا فيليبوفنا تقول:
– طيب، طيب
وأمسكت الملقط، فحركّت الجمر، حتى إذا ارتفعت ألسنة اللهب، رمت الحزمة في الموقد.
صرخ الجميع، حتى أن كثيرين منهم رسموا على أنفسهم إشارة الصليب. وارتفع من جميع الجهات صياح يهتف:
– مجنونة، مجنونة!
وهمس الجنرال في أذن بتتسين قائلاً:
– أليس الأفضل أن نوثقها بالحبال؟ أو أن نستدعي... هي مجنونة، أليس كذلك؟ مجنونة حقًا؟
فأجابه بتتسين بصوت خافت، شاحب الوجه مرتعش الجسم عاجزاً عن تحويل بصره عن الحزمة التي أخذت النار تمسك بها:
– لـ... لا! ليس هذا بالجنون تماماً.
فاتجه الجنرال عندئذ إلى توتسكي يسأله:
– مجنونة، أليست مجنونة؟
فدمدم إيفانوفتش يقول شاحبَ الوجه هو أيضاً:
– ألم أقل لك: إنها امرأة «طريفة»؟
– مائة ألف روبل!
وسمعت من جميع الجهات صيحات تقول:
– يا لطيف يا رب!
احتشد الحضور جميعاً قرب الموقد، يحاولون جميعاً أن يروا، ويطلقون جميعاً صيحات الدهشة... حتى لقد اعتلى بعضهم كراسيَّ وراح ينظر من فوق رؤوس الأخرين. وكانت داريا ألكسيفنا قد أسرعت إلى الغرفة المجاورة مروّعة الهيئة توشوش كاتيا وباشا. وكانت الألمانية الجميلة قد ولّت هاربة.
جأر ليبديف قائلاً وهو يزحف على ركبتيه أمام ناستاسيا فيليبوفنا، ويمد ذراعيه نحو الموقد:
– ماتوشكا! أيتها الملكة القادرة على كل شيء. هذه مائة ألف روبل! مائة ألف! رأيتها بعيني، حُزمت أمامي! ماتوشكا الرحيمة! مريني فأرمي جسمي كله في الموقد، وأضع في النار رأسي الأشيب!... أن عندي امرأة مريضة... فاقدة الساقين... وثلاثة عشر طفلاً هم جميعاً يتامى. لقد دفنت أبي في الأسبوع الماضي. أنهم يتضورون جوعا. ناستاسيا فيليبوفنا!
كذلك زأزأ ليبديف، وأخذ يزحف نحو الموقد.
فصرخت ناستاسيا فيليبوفنا تقول وهي تدفعه:
– إلى وراء! ابتعدوا جميعاً، ماذا تنظر يا جانيا؟ لا تستح! هلمّ! هذه فرصتك!
لكن جانيا كان قد تحمل كثيراً خلال ذلك النهار وتلك الليلة، ولم يكن قد تهيأ لهذا الامتحان الأخير الذي لا يُتوقع! انشطر الحشد أمامه شطرين، فإذا جانيا يصبح قبالة ناستاسيا فيليبوفنا وجهاً لوجه، على مسافة ثلاث خطوات. كانت واقفة عند الموقد تنتظر، دون أن تحوّل عنه نظرتها الملتهبة الثابتة. أن جانيا يقف الآن برداء «الفراك»، حاملاً قبعته بيديه، صامتاً لا يجيب ولا يتحرك، عاقداً ذراعيه على صدره، يتأمل اللهب.
وكانت ابتسامة تائهة تطوف بوجهه الشاحب شحوباً شديداً.
صحيح أنه كان لا يستطيع أن يحول عينيه عن النار، وعن الحزمة التي أخذت تسودّ، غير أن شيئاً جديداً كان يبدو أنه اجتاح نفسه واستولى عليها. لكأنه حلف ليحتملنّ التعذيب حتى النهاية، فهو لا يبدي حراكاً؛ حتى أصبح واضحاً للجميع بعد بضع لحظات أنه لن ينتشل الحزمة من النار، أنه لا يريد ذلك.
وكانت ناستاسيا فيليبوفنا تصرخ قائلة له:
– ستحترق الحزمة، فتكون أنت الملوم؛ ولتشنقنّ نفسك حزناً وكمداً بعد ذلك. لست أمزح!
إن النار التي نبعت في أول مرة من بين حطبتين خامدتين قد بدا عليها بعد ذلك أنها أخذت تنطفئ تحت وطأة الحزمة. غير أن لهباً رقيقاً أزرق ما يزال عالقاً بطرف من الحطبة. وأخيراً جاءت شرارة دقيقة طويلة تمس الحزمة، ثم تجري على طوال الورقة التي تلفها حتى زواياها، ثم إذا بالنار تمسك الحزمة كلها فجأة، فيخرج منها لهب ساطع. وإذا بالحضور جميعاً يصيحون!
عاد ليبديف يعول قائلا وهو يتجه نحو الموقد من جديد:
– ماتوشكا!
ولكن روجويين أمسكه ودفعه.
ولم يكن روجويين نفسه إلا نظرة جامدة. كان لا يستطيع أن يحول بصره عن ناستاسيا فيليبوفنا. وكان يشعر من ذلك بنشوة وسكر. كان في السماء السابعة.
كان يهتف قائلاً وقد جُنّ جنونه ثملاً:
– هذه ملكة حقاً! هذه من بلدنا فعلاً! من منكم، يا عصابة من أوغاد، يستطيع أن يفعل مثل الذي تفعل؟
وكان الأمير يراقب المشهد حزيناً صامتاً.
قال فردشتينكو مقترحاً:
– أنشلها بأسناني إذا كوفئت بورقة واحدة قيمتها ألف روبل.
فجأر الرجل ذو القبضتين الضخمتين الذي كان واقفاً وراء الجميع، جأر يقول وقد اعترته نوبة كرب هائلة:
– أنا مستعد أن أنتشلها بأسناني أيضاً.
ثم صاح يقول وقد رأي اللهب:
– إنها تحترق! سوف يحترق كل شيء!
وهتف الجميع بصوت واحد:
– أخذت تحترق! أخذت تحترق!
واندفع الجميع تقريباً نحو الموقد. قالت ناستاسيا:
– جانيا! لا داعي إلى التحرج! لا تستح! أقول لك هذا آخر مرة!
أعول فردشتينكو قائلاً وهو يهجم على جانيا كالمسعور ويشده من كمه.
– هلمّ أيها المتبجج! سوف يحترق المال! أوه! نحس!
تصدى جانيا لفردشتينكو فدفعه عنه بكل قواه، واستدار، ومشي نحو الباب، لكنه ما أن خطا خطوتين حتى ترنح وسقط على الأرض. فصاح الحضور يقولون:
– إغماء!
وعاد ليبديف يزعق ضارعاً:
– ماتوشكا! سوف تحترق!
وزأر الحشد من كل جهة:
– سوف تحترق بلا سبب!
وصرخت ناستاسيا فيليبوفنا منادية:
– يا كاتيا، يا باشا، جيئاه بماء، وجيئاه بخمرة!
ثم أمسكت الملقط، وانتشلت الحزمة. كانت الورقة التي تلف الحزمة قد احترقت كلها تقريباً وهلكت، ولكن أمكن أن يُرى فوراً أن ما بداخلها لم يمسسه أذى. كانت الحزمة ملفوفة بثلاث صحائف من ورق الجرائد، وكان المال سليما. تنفس الجميع الصعداء.
قال ليبديف بحنان:
– لعل ورقة واحدة بألف روبل قد فسدت، ذلك في أكثر تقدير. أما الباقي فسليم لم يمسسه سوء.
هتفت ناستاسيا معلنة وهي تضع الحزمة قرب جانيا:
– هذه الأموال كلها له! الحزمة كلها له! هل تسمعون كلامي يا سادة؟ لقد ملك من القوة ما أتاح له ألا يأخذها. لقد صمد! هذا دليل على أن كبرياءه ما تزال أكبر من جشعه. لا تقلقوا، سوف يفيق من إغمائه! ولولا أنه قد أغمي عليه لكان من الممكن أن يقتلني!... هه، ها هو ذا يفيق منذ الآن! يا جنرال، يا إيفان فيدوروفتش، يا داريا ألكسيفنا، يا كاتيا، يا باشا، يا روجويين، هل سمعتموني؟ أن الحزمة كلها له، له هو، لجانيا! أهديها إليه وأملّكه إياها، تعويضاً له... عما لا أدري! قولوا له ذلك! فلتبق الحزمة بقربه. يا روجويين هلّم، سِرْ! وداعاً يا أمير، هذه أول مرة أرى فيها كائناً إنسانياً! وداعاً، آتانازي إيفانوفتش! و«شكراً».
وسارت عصبة روجويين كلها نحو باب الخروج بضجة وصخب وضوضاء وصراخ يدوي في البيت كله، سارت تتبع روجويين وناستاسيا فيليبوفنا.
وفي القاعة ألبستها كاتيا وباشا معطفها؛ وهرعت الطباخة مارتا من مطبخها. فقبلتهنّ ناستاسيا فيليبوفنا جميعاً. سألنها وهنّ يبكين ويقبلن يديها:
– هل يمكن يا ماتوشكا أن تتركيني حقا؟ ولي أين عساك تذهبين؟ وفي يوم عيد ميلادك، في يوم كهذا اليوم؟
– أذهب إلى الشارع يا كاتيا، سمعت ذلك. هناك مكاني. إلا أن أعمل غسّالة. سئمت آتانازي إيفانوفتش. أبلغنه سلامي، ولا تُظنُنَّ بي سوءًا...
وهرع الأمير نحو باب الخروج. كان الجميع قد أخذوا يستقرون في عربات الترويكا الأربع التي كانت أجراسها تتحرك بغير انقطاع. واستطاع الجنرال أن يدركه في السلّم. قال له وهو يمسك ذراعه:
– ما هذا يا أمير؟ ثب إلى عقلك. اتركها! لقد رأيت كيف هي، أقول لك هذا قولة أب...
نظر إليه الأمير ولكن دون أن يقول كلمة واحدة. ثم انتزع ذراعه منه، وهبط السلّم راكضاً.
واستطاع الجنرال وهو واقف على درجات المدخل الذي بارحته عربات الترويكا منذ هنيهة، استطاع أن يرى الأمير يثب إلى أول مركبة ويصبح مهيبا بالحوذي: «إلى ايكاتر نهوف! اتبع عربات الترويكا!». ثم وقفت مركبة الجنرال الفخمة أمام درجات المدخل، فركبها، ومضى إلى منزله بآمال جديدة وحسابات جديدة، وبعقد اللآلئ الذي حاذر أن ينساه! وفي وسط تلك الحسابات، تراءت له صورة ناستاسيا فيليبوفنا الفتانة الأخاذة مرةً أو مرتين فتنهد يقول: «خسارة، خسارة حقاً! امرأة ضائعة! مجنونة! نعم... ولكن ما أصبح الأمير يحتاج إليه الآن ليس امرأة مثل ناستاسيا فيليبوفنا... فلعل من الخير أن جرت الأمور هذا المجرى».
إن أقوالاً فيها عبر كهذه العبر تقريباً قد نطق بها شخصان آخران من ضيوف ناستاسيا فيليبوفنا قررا أن يسيرا معاً بضع خطوات. فقد قال إيفان فيدوروفتش بتتسين يخاطب آتانازي إيفانوفتش:
– هل تعلم يا آتانازي إيفانوفتش؟ يظهر أن في بلاد اليابان تقاليد من هذا النوع: يذهب الشخص المهان إلى الشخص الذي أهانه فيقوله له: «أنت أهنتني فلذلك جئتك الآن أبقر بطني أمامك» ، ثم يبقر بطنه على مرأى من الشخص الذي أهانه، ولعله يشعر بارتياح كبير ورضى عظيم كأنه انتقم لنفسه فعلاً. ما أكثر الطبائع العجيبة في هذا العالم يا آتانازي إيفانوفتش!
فأجابه آتانازي إيفانوفتش مبتسماً:
– فأنت ترى إذاً أن شيئاً من هذا القبيل هو ما حدث الآن. هِمْ.. أمر فكه على كل حال... وتشبيه بديع! ولكنك رأيت بنفسك يا صديقي العزيز جدا إيفان فيدوروفتش إنني قد فعلت من جهتي كل ما كان في وسعي أن أفعله. لا يمكنني أن أفعل المستحيل على كل حال! يجب أن توافقني على هذا. ولكن يجب أن توافقني أيضاً على أن هذه المرأة كانت لها مواهب رفيعة، وميزات ساطعة! لو استطعت، منذ قليل، أن أجيز لنفسي، وسط مدينة سدوم تلك، أن أفصح عمّا يدور في خاطري، لوددت أن أجيبها بقولي: إنها هي نفسها أكبر مبرّر وأعظم مسوّغ لي تجاه جميع تلك التهم! من ذا الذي يمكنه ألا تغويه هذه المرأة في بعض الأحيان إلى حد يفقد معه عقله... وسائر ما عدا ذلك! انظر إلى ذلك الجلف روجويين الذي أتاها بمائة ألف روبل! هَبْ كل ما حدث هناك منذ قليل عرضاً طارئاً، واندفاعاً رومانسياً لا داعي إليه، لكنه في مقابل ذلك غني بالألوان، طريف أعظم الطرافة! عليك أن تعترف بهذا! آه... حين أفكر فيما كان يمكن أن يخرج من اجتماع طبع كهذا الطبع وجمال كهذا الجمال!... لكن كل شيء ضاع، رغم جميع جهودي، بل ورغم كل ما هيأته لها من أسباب التربية والثقافة! هي ماسة لم يمكن صقلها. قلتُ ذلك غيرَ مرة.
قال آتانازي إيفانوفتش ذلك، وزفر زفرة عميقة.
الجزء الثاني
الفصل الأول
بعد يومين اثنين من أحداث السهرة التي شهدناها في بيت ناستاسيا وختمنا بها الجزء الأول من قصتنا، أسرع الأمير ميشكين يسافر إلى موسكو ليعني بأمر الميراث المفاجئ الذي آل إليه على غير توقع. وقد زعم بعضهم في ذلك الأوان أن هناك أسباباً دعت الأمير إلى الإسراع في السفر. ولكننا لا نستطيع في ما يتعلق بهذا الأمر، وكذلك في ما يتعلق بجميع الأحداث التي وقعت للأمير بموسكو، أو التي وقعت له طوال مدة غيابه عن بطرسبرج عامة، لا نستطيع أن نقدم إلا معلومات قليلة. لقد دام غياب الأمير ستة أشهر تماماً. ومع ذلك فحتى الذين كانت تحضهم أسباب معينة على أن يهتموا بمصيره، لم يستطيعوا أن يعلموا عنه إلا أشياء قليلة جداً طوال تلك المدة. صحيح أن هناك شائعات كانت تصل إلى مسامع بعضهم في أحيان نادرة، ولكن تلك الشائعات كان أكثرها غريباً عجيباً، وكانت متناقضة في جميع الأحيان على وجه التقريب. وكان أفراد أسرة إيبانتشين التي لم يتسع وقت الأمير حتى لتوديعها قبل سفره، أكثر الناس اهتماماً به وتقصّياً لأنبائه. ثم إن الجنرال قد التقى به أثناء تلك الفترة، حتى أنهما تناقشا نقاشاً جاداً مرتين أو ثلاث مرات. غير أن الجنرال لم يذكر لأسرته شيئاً عن لقائه بالأمير. والواقع أن السكوت عن ذكر الأمير في الآونة الأولى التي أعقبت سفره، أي خلال شهر كامل تقريباً، كان قاعدة في منزل الجنرال إيبانتشين. الجنرالة إليزابت بروكوفيفنا وحدها أعلنت في البداية أنها «قد أخطأت فيه خطأ قاسياً». ثم أضافت بعد شهرين أو ثلاثة أشهر قولها: «إن أبرز سمة في حياتها هي أنها تُخدع في أمر الناس دائماً» ولكنها في هذه المرة لم تذكر اسم الأمير، وأطلقت حكمها غامضاً مبهماً. واغتاظت من بناتها بعد عشرة أيام فختمت كلامها بهذه العبارة: «كفاني أخطاء! لا خطأ بعد الآن!».
لا نستطيع إلا أن نذكر في هذه المناسبة أنه قد ساد المنزل خلال مدة طويلة نوعٌ من اعتكار المزاج، شيء من الثقل والتوتر، جوٌ مليء بأمور غير معلنة يمكن أن يثير الشقاق في كل لحظة. كان جميع من بالمنزل مكتئباً مظلم النفس. والجنرال مشغول بمساعيه وأعماله ليلاً ونهاراً: إنه ما شُوهد في حياته كلها أكثر انهماكاً بالعمل وأكثر جداً ونشاطاً منه في هذه الفترة، ولا سيما في وظيفته. إن ذويه لا يكادون يرونه. أما الآنسات إيبانتشين فكنّ لا يعبّرن عما يدور في أذهانهن بصوت عالٍ. ولعلهن كنّ لا يتحدثن فيما بينهن إلا قليلاً. أنهن فتيات فيهنّ كبرياء وأنفة، بل فيهن أيضاً حياء وخفر حتى حين يخلو بعضهن إلى بعض؛ ولكن هذا لا ينفي طبعاً أنهن يفهم بعضهن عن بعض لا من أول كلمة فحسب، بل من أول نظرة أيضاً. فلا يكون ثمة داع إلى كلام كثير في بعض الأحيان.
الشيء الوحيد الذي كان يمكن أن يلاحظه ملاحظ غريب عن البيت، لو أمكنه أن يوجد فيه، هو أن الأمير، كما تدل على ذلك بعض العلامات، وهي قليلة على كل حال، وقد أشرنا إليها من قبل، أن الأمير قد استطاع أن يحدث في أسرة إيبانتشين انطباعاً خاصاً، رغم أن الأمير لم يظهر في منزل هذه الأسرة إلا مرة واحدة كانت من جهة أخرى طارئة عارضة. قد لا يكون ذلك الانطباع إلا حب اطلاع، تعلله وتفسّره ما وقع للأمير من أحداث غريبة، وما عرف في حياته من مغامرات عجيبة. غير أن ذلك الانطباع قد بقي في نفوس أفراد الأسرة.
وشيئاً فشيئاً، غابت الشائعات التي انتشرت في المدينة أول الأمر، غابت هي نفسها في ظلام المجهول. صحيح أن بعض الناس كانوا يتحدثون عن أمير صغير ساذج (لم يكن يستطيع أحد أن يعيّن اسمه على وجه الدقة) قد ورث ثروة طائلة على حين فجأة، وتزوج امرأة فرنسية كانت مارةً بالبلاد مروراً عابراً، فهي راقصة معروفة من فرقة «الكانكان الفرنسي» التي تعمل في «قصر الأزهار» بباريس. غير أن ناساً آخرين كانوا يؤكدون أن الذي ورث تلك الثروة الطائلة إنما هو جنرال، وأن تاجراً روسياً شاباً، ثرياً ثراء لا يُحصى، هو الذي تزوج راقصة الكانكان الفرنسية؛ وأن هذا الشاب قد أحرق على لهب شمعة – لا لسبب غير التباهي – سبعين ألف روبل من الأوراق المالية على وجه التمام والكمال.
ولكن انتشار الشائعات سرعان ما انقطع بفضل بعض الظروف. لقد لبث روجويين مع أفراد عصبته أسبوعاً في محطة إيكاترنهوف، غارقين في مجون رهيب يوما بعد يوم، وهو مجون شاركت فيه ناستاسيا فيليبوفنا. حتى أذا انتهى الأسبوع سافر روجويين على رأس أفراد عصبته إلى موسكو (ولعل بين هؤلاء من كان يمكن أن يروي شيئاً)؛ وعلم العدد القليل من الناس الذين يمكن أن يهتموا بهذا الأمر، علموا من شائعات أخرى، أن ناستاسيا فيليبوفنا قد هربت واختفت غداة يوم الرحيل إلى إيكاترنهوف، وأمكن أن يُعرف أنها سافرت إلى موسكو. فأدرك الناس أن هناك صلة بين هروبها وبين سفر روجويين.
وسرت شائعات أيضاً عن جبريل آرداليونتش إيفولجين الذي كان معروفاً في بيئته هو أيضاً. غير أن حادثاً وقع له سرعان ما برّد حرارة ألسنة السوء، بل انتهى إلى وقف جميع الأقاويل السيئة في حقه وقفاً تاما: لقد مرض مرضا شديدا، وانقطع عن الظهور في المجتمع، وغاب حتى من مكتبه، ثم أبلّ من مرضه بعد شهر، غير أنه لسبب من الأسباب ترك عمله في شركة الأسهم، وحل محله موظف آخر. ولم يظهر كذلك في منزل أسرة إيبانتشين، واضطر الجنرال، هو أيضاً، أن يتخذ لنفسه سكرتيراً آخر. ولقد كان في وسع أعداء جبريل آرداليونتش أن يفترضوا أنه قد بلغ من الشعور بالعار مما حدث له أنه أصبح يستحي أن يظهر في الشارع. ولكن الحقيقة هي أنه كان مريضاً حقاً: كانت تعتريه نوبات وسواس، وكان كثير الوجوم، شديد السوداوية، سريع الاهتياج.
وفي ذلك الشتاء نفسه تم زواج باربارا آرداليونوفنا وبتتسين. فرأى جميع الذين يعرفونهما أن هناك علاقة مباشرة بين هذا الزواج وبين تصميم جانيا على ألا يعود إلى عمله، فهو الآن ليس عاجزاً عن مساعدة أسرته فحسب، بل هو نفسه أصبح في حاجة إلى مساعدة، بل يكاد يحتاج إلى أنواع خاصة من العناية.
ولنذكر، مستطردين، أن اسم جبريل آرداليونتش أصبح هو أيضاً لا يُلفظ أبداً في منزل أسرة إيبانتشين، فكأن جبريل آرداليونتش لم يوجد في يوم من الأيام، لا في هذا المنزل ولا في العالم. ومع ذلك عرف جميع أفراد الأسرة (بل عرفوا ذلك بسرعة كبيرة) أمراً هاماً يتعلق به: ففي تلك الليلة التي كانت ليلة حاسمة في حياته، بعد الحادث الأليم الذي وقع له في بيت ناستاسيا فيليبوفنا، لم ينم جانيا حين عاد إلى بيته، بل ظل ينتظر عودة الأمير كالمحموم من نفاد الصبر. وكان الأمير قد سافر إلى إيكاترنهوف هو أيضاً، فلم يعد منها إلا بعد الساعة الخامسة من الصباح. فدخل عليه جانيا عندئذ غرفته، ووضع أمامه على المائدة حزمة الأوراق المالية التي تجففت أطرافها من نار الموقد، والتي كانت ناستاسيا فيليبوفنا قد وهبتها له أثناء أغمائه. ورجا الأمير ملحاً أن يتولى ردَّ هذه الهدية إلى ناستاسيا فيليبوفنا في أول مناسبة. ولقد كان جانيا، حين دخل على الأمير، في حالة نفسية عدائية ساخطة. ولكن يظهر أن الرجلين قد تبادلا أقوالاً مكث بعدها جانيا عند الأمير ساعتين كاملتين لم ينقطع في أثنائهما عن البكاء نشيجاً مريراً. وافترقا أخيراً على مودة وصداقة.
هذا النبأ الذي وصل إلى جميع أفراد أسرة إيبانتشين كان صحيحاً كل الصحة، كما ثبت ذلك فيما بعد. إنه لعجيب طبعاً أن يمكن وصول هذا النوع من الأنباء إلى علم أناس آخرين بمثل تلك السرعة الشديدة. من ذلك مثلاً أن كل ما حدث في بيت ناستاسيا فيليبوفنا قد عُرف في منزل أسرة إيبانتشين في اليوم التالي بتفاصيل كثيرة. وفيما يتعلق بالأنباء الخاصة بجبريل آرداليونتش كان يمكن أن نفترض أن باربارا آرداليونوفنا هي التي نقلتها إلى أفراد أسرة إيبانتشين، لأنها جاءت إلى الآنسات إيبانتشين فسرعان ما قامت بينها وبينهن صلات عميقة، وهذا أمر أثار أشد الدهشة في إليزابت بروكوفيفنا. ولكن باربارا آرداليونوفنا رغم أنها وجدت أن من الضروري – لا ندري لماذا؟ – أن تعقد تلك الصلات الوثيقة بأسرة إيبانتشين، لم تحدث الآنسات عن أخيها حتماً. فإنها هي أيضاً امرأة ذات كبرياء، على طريقتها الخاصة، وإن تكن قد قبلت أن تربطها صداقة بأولئك اللواتي طردن أخاها طرداً على وجه التقريب. في الماضي، رغم أنها قد عرفت الآنسات إيبانتشين، كانت لا تراهن إلا نادرا. وهي حتى الآن، على كل حال، لا تكاد تظهر في الصالون قط، وإنما تأتي من مدخل الخدمة كأنها عابرة عبوراً. إن إليزابت بروكوفيفنا لم تُظهر لها في يوم من الأيام بشاشة أو ترحيباً، لا في الماضي ولا في الحاضر، وإن تكن تحمل لأمها نينا ألكسندروفنا كثيراً من الاعتبار، وتقدرها قدراً كبيراً. فكانت تُدهش وتغضب، وتعزو تلك العلاقات الجديدة التي قامت بينهن وبين فاريا إلى النزوة وحدها، وإلى استبداد بناتها اللواتي أصبحن على حد تعبيرها «لا يعرفن حقاً ماذا يخترعن من أساليب لمضايقتها». ولكن ذلك كله لم يمنع باربارا آرداليونوفنا من مواصلة زياراتها، سواء قبل زواجها أو بعد زواجها.
بعد سفر الأمير بشهر أو يزيد قليلاً، تلقت الجنرالة إيبانتشين رسالة من الأميرة العجوز بيلوكونسكايا التي سافرت قبل خمسة عشر يوماً إلى موسكو لزيارة ابنتها الكبرى المتزوجة هناك. فأحدثت تلك الرسالة في نفس الجنرالة بعض الأثر؛ ورغم أنها لم تنقل من مضمون هذه الرسالة شيئاً إلى بناتها أو إلى زوجها، فقد أدرك ذووها من علامات كثيرة أن في نفسها غلياناً بل واضطراباً. إنها تُجري مع بناتها أحاديث غريبة، في موضوعات غير مألوفة. كان واضحاً أنها تريد أن تفضي بما في نفسها، لكنها تلجم لسانها لسبب من الأسباب. إنها، يوم تلقت الرسالة، قد أظهرت للجميع عاطفة رقيقة، حتى إنها قبلت آجلايا وآديلائيد، واعترفت أمامهما بأخطائها وعيوبها فلم تعرف البنتان ماذا كانت تلك الأخطاء ولا ما هي طبيعة تلك العيوب. وقد أصبحت العجوز متسامحة متساهلة على حين فجأة حتى في معاملة إيفان فيدوروفتش الذي ظلت غاضبة منه ساخطة عليه مدة شهر كامل. ولكن العجوز عادت منذ الغد تندم على الرقة والحنان اللذين أظهرتهما بالأمس، ووجدت السبيل إلى مشاجرة الجميع حتى قبل أن يحين موعد العشاء. ثم عاد الجو يصفو في المساء من جديد، فبقيت الجنرالة هادئة المزاج طوال أسبوع، وذلك أمر لم يحدث لها منذ زمن بعيد.
ولكن الجنرالة تلقت رسالة أخرى من الأميرة بيلوكونسكايا بعد أسبوع، فقررت في هذه المرة أن تتكلم. فأعلنت أن «العجوز بيلوكونسكايا» (كانت الجنرالة لا تسمي الأميرة أثناء غيابها إلا بهذا الاسم) قد بعثت إليها بمعلومات مطمئنة جداً عن ذلك «الشاب الغريب الأطوار.. الأمير». لقد استطاعت العجوز أن تهتدي إلى الأمير بموسكو، وحصلت على معلومات عنه، حتى لقد اطلعت على أشياء حسنة جداً في حقه. وقد زارها الأمير، فأحدث في نفسها أثراً يكاد يكون خارقاً. «ذلك أمر يراه المرء من مجرد أنها دعته أن يزورها كل يوم ساعة أو ساعتين، وأنه يزورها فعلاً بانتظام، وأنها لم تضجر منه حتى الآن». بهذا ختمت الجنرالة كلامها وأضافت أن الأمير أصبح بفضل «العجوز» يُستقبل في أسرتين أو ثلاث من أرقى الأسر. «حسنٌ أنه لا يبقى معتكفاً في بيته كناسك، وأنه لا يظهر خجولاً كغبي».
حين أطلعت الأم بناتها على هذه الأمور، لاحظن أنها أخفت عنهن مع ذلك كثيراً من فقرات الرسالة. ولعلهن عرفن هذا من باربارا آرداليونوفنا التي تستطيع أن تعرف بل تعرف حتى كل ما يعرفه بتتسين عن الأمير بموسكو؛ وبتتسين لا بد أن يعرف أكثر مما يمكن أن يعرف أي شخص آخر. لكنه رجل متكتم أشد التكتم في شؤون الأعمال، وإن يكن يُطلع فاريا على بعض الأمور طبعاً. هكذا سرعان ما تفاقم شعور العداوة الذي تحمله الجنرالة لباربارا آرداليونوفنا.
ومهما يكن من أمر، فقد تكسّر الجليد وأصبح يمكن التحدث عن الأمير جهاراً على حين فجأة.
وعدا ذلك تأكد تأكداً واضحاً، مرةً جديدة، أن مرور الأمير بمنزل أسرة إيبانتشين قد أحدث انطباعاً خارقاً وولّد اهتماماً شديداً. حتى الجنرالة أدهشها الأثر الذي خلقته في بناتها أنباء موسكو. أما البنات فقد أدهشهن أن أمهن التي سبق أن أعلنت لهن جهاراً أن «أبرز سمة في حياتها هي أنها تخدع في أمر الناس دائماً»، لم يمنعها ذلك من أن تعهد بالأمير في موسكو إلى حسن رعاية العجوز بيلوكونسكايا «ذات السلطة الكبيرة»، لا سيما وأنها قد اضطرت حتماً أن تتضرع إليها، لأن «العجوز» امرأة ليس إقناعها بالأمر السهل.
ولكن ما أن تكسّر الجليد، وما أن دارت الريح حتى أسرع الجنرال، هو أيضاً، يذكر ما كان يعلم. ولكنه اقتصر على «جانب الأعمال من الأمر»، اقتصر على هذا الجانب وحده دون غيره. فاتضح أنه، في سبيل مصلحة الأمير، قد كلف شخصين من موسكو، هما أهل للثقة ومن أصحاب النفوذ الكبير في الوقت نفسه، بأن يسهرا على الأمير، وأن يسهرا خاصةً على وكيله سالازكين. أن كل ما قيل عن الميراث أو قل عن «أن هناك ميراثاً» قد اتضح أنه صحيح، لكن مقدار الميراث أصبح في الحساب الأخير أقل كثيراً مما ظن في بداية الأمر. فلقد كانت التركة مضطربة متشابكة، وكانت مثقلة بالديون، كما أن ورثةً أدعياء تقدموا يطالبون بحقوقهم في الميراث؛ والأمير نفسه تصرّف تصرفاً بعيداً عن تصرف رجل من رجال الأعمال، رغم جميع النصائح التي أسديت إليه. «كان الله في عونه، طبعاً». لقد أصبح الجنرال، بعد أن انكسر جليد الصمت، يسعده أن يقول هذا الكلام بإخلاص كامل، ذلك أن هذا الشاب «رغم أنه... قليلا» يستحق كل خير. لكنه قد ارتكب بعض الحماقات. من ذلك مثلاً أن الذين ادعوا أن لهم على التاجر المتوفى ديوناً قد أبرزوا للمطالبة بحقوقهم مستندات يمكن إنكارها أو إهمالها ، حتى أن بعضهم لم يبرزوا أية وثائق على الإطلاق، لأنهم أدركوا حقيقة الأمير وحزروا طبيعته. فهل تصدقون ماذا حدث؟ لقد أرضاهم الأمير كلهم تقريباً، رغم ملاحظات أصدقائه الذين برهنوا له على أن هؤلاء الناس ليس لهم أي حق شرعي. ولكنه فعل ذلك لأنه ظهر أن بعضهم قد أصابه ضرر بالفعل.
وقد أكدت الجنرالة أن الأميرة بيلوكونسكايا قد كتبت إليها شيئاً بهذا المعنى، وأن ذلك «غباء طبعاً، غباء شديد، ولكن لا سبيل إلى شفاء رجل أبله». هذا ما أضافته الجنرالة بلهجة قاطعة، وإن يكن وجهها قد فضح رضاها عن سلوك «الأبله» المزعوم، وارتياحها له. الخلاصة أن الجنرال لاحظ أن امرأته مهتمة بالأمير حتى لكأنه ابنها، وأنها من جهة أخرى تبدي لابنتها آجلايا عاطفة كبيرة وحناناً عظيماً. فلما رأى ذلك اتخذ الوضع الذي يليق اتخاذه في الأمور الهامة، إلى حين.
لكن هذه الحالة النفسية الحسنة لم يطل عمرها أيضاً. فما أن انقضت خمسة عشر يوماً حتى حدث تغير مفاجئ آخر. فأظلم وجه الجنرالة من جديد، أما الجنرال فإنه بعد أن هزّ منكبيه مرتين أو ثلاثاً عاد يرضخ «لجليد الصمت». وجلية الأمر أن الجنرال كان قد تلقى قبل أسبوعين خبراً سرياً مقتضباً لكنه مؤكد، يقول: أن ناستاسيا فيليبوفنا التي كانت قد اختفت في موسكو ثم عثر عليها روجويين، قد اختفت مرة أخرى ثم اهتدى إليها روجويين مرة ثانية فوعدته بأن تتزوجه. وها هو ذا الجنرال يعلم بعد ذلك بأقل من أسبوعين أن ناستاسيا فيليبوفنا قد هربت مرة ثالثة، قبيل مثولها مع روجويين أمام الكاهن في الكنيسة للزواج، وأنها الآن مختبئة بمكان ما في الأقاليم؛ وان الأمير ميشكين قد اختفى هو أيضاً، تاركاً جميع شؤونه لوكيله سالازكين، «فإما أنه سافر معها وإما أنه مضى يلاحقها، فذلك أمر مجهول، ولكن لا بد أن هناك شيئاً». ذلك ما استنتجه الجنرال. وقد تلقت إليزابت بروكوفيفنا، هي أيضاً، أنباء مزعجة. الخلاصة أن الناس بمدينة بطرسبرج أصبحوا بعد سفر الأمير بشهرين لا يجيئون على ذكره إلا لماماً، أما أسرة إيبانتشين فإن جليد الصمت، لم يتكسر فيها بعد ذلك. ولكن باربارا آرداليونوفنا واصلت زياراتها للآنسات.
وإذا تركنا الآن جميع تلك الشائعات وجميع تلك الأنباء، وجب علينا أن نذكر أن سلسلة من التغيرات قد حدثت في أسرة إيبانتشين عند اقتراب فصل الربيع، وهي تغيرات لم تسمح للأسرة كثيراً أن تفكر في الأمير، لا سيما وأن الأمير لم يدلّ على وجوده، ولعله لم يشأ أن يدل على وجوده. ففي أثناء الشتاء تقرر شيئاً فشيئاً أن تسافر الأسرة لقضاء الصيف في الخارج، أعني أن تسافر إليزابت بروكوفيفنا وبناتها، لأن الجنرال لا يستطيع طبعاً أن يجيز لنفسه تضييع وقته في «تسليات لا طائل فيها ولا جدوى منها». وقد تم اتخاذ هذا القرار بعد إلحاح شديد وإصرار مستمر من قبل الأخوات الثلاث اللواتي كن على يقين من أن أبويهما إذا لم يوافقا على قيامهن برحلة إلى الخارج، فإنما يكون مرد ذلك إلى اهتمامهما الدائم بتزويجهن والبحث لهن عن عرسان.
ولعل الأبوين قد اقتنعا من جهتهما بأن العرسان يمكن أن يتقدموا في الخارج أيضاً، وبأن رحلة يقمن بها في الصيف لا تعطل شيئاً، حتى ربما «تسهّل الأمور».
ويحسن أن نذكر هنا أن الزواج الذي كان مزمعاً أن يتم بين آتانازي إيفانوفتش توتسكي وكبري بنات إيبانتشين قد انفسخ من تلقاء نفسه، وأن توتسكي لم يتقدم بأي طلب رسمي لخطبة الفتاة. ولقد تم ذلك على نحو طبيعي جداً، دون مناقشات كثيرة، ودون أي صراع في داخل الأسرة؛ كل ما هنالك أن أحداً أصبح لا يجيء على ذكر هذا الموضوع بعد سفر الأمير، لا من هذا الطرف ولا من ذاك. ولا شك أن هذا كان أحد أسباب الجو الثقيل الذي خيّم على منزل أسرة إيبانتشين، وإن تكن الجنرالة قد أعلنت منذ تلك اللحظة أنها مستعدة أن «ترسم إشارة الصليب بكلتا يديها حمداً لله وشكراً». أما الجنرال فإنه رغم اعترافه بأنه مخطئ مذنب، قد ظل معتكر المزاج متجهم النفس مدة طويلة، لأنه كان آسفاً على آتانازي إيفانوفنا حقاً: «الثروة طائلة كهذه الثروة، ورجل بارع هذه البراعة!». وعلم الجنرال بعد ذلك بمدة قصيرة أن آتانازي إيفانوفتش قد أغوته امرأة فرنسية من المجتمع الراقي كانت مارّة بالبلاد، وهي مركيزة من أنصار الشرعية، وأن الزواج قد حُدّد موعده، وأن المركيزة ستأخذ آتانازي إيفانوفتش إلى باريس أولا، ثم إلى مكان بمقاطعة بروتانيا بعد ذلك. قال الجنرال: «يتزوج فرنسية؟ لقد ضاع إذًا!».
كان آل إيبانتشين يهيئن إذاً رحلة الصيف. غير أن حدثاً جديداً جاء يغيّر كل شيء على حين فجأة، فيتأجل السفر مرة أخرى، ويفرح الجنرال وزوجته من ذلك فرحاً كبيراً. أن أميراً اسمه «شتشـ...» ، وهو شخصية معروفة، معروفة بأحسن الصفات، قد وصل إلى بطرسبرج قادماً من موسكو. إنه واحد من أولئك الرجال المثقفين ثقافة حديثة، الفعالين النشيطين، الشرفاء المستقيمين، المتواضعين الذين يريدون أن يكونوا نافعين بكل صدق وإخلاص، والذين يعملون بغير انقطاع، ويتميزون بذلك الاستعداد النادر الثمين لأن يستعملوا نشاطهم دائماً. إنه لا يحاول أبداً أن يضع نفسه في مقدمة الناس ويتحاشى ما يقوم بين الأحزاب من اضطراب عقيم وبلاغة لا طائل تحتها؛ ولا يعد نفسه بين رجال الصف الأول، ولكنه كان مع ذلك يدرك دلالة الأحداث الجارية والتبدلات القائمة إدراكاً سليماً. كان في أول الأمر موظفاً بالدولة، ثم شارك في جهاز الحكم المحلي (زمتوف) . وكان إلى ذلك عضواً مراسلاً في عدة جمعيات علمية روسية، وكان له في هذا المجال شأن محترم. وقد ساهم، متعاوناً مع مهندس من أصدقائه، في رسم مسار سليم لواحد من أهم خطوط سككنا الحديدية التي كان تنفيذها مزمعاً في ذلك الحين. إن عمره خمسة وثلاثون عاماً. وهو ينتمي إلى أرقى طبقة في المجتمع، ويملك ثروة «ممتازة، متينة، لا يمكن جحودها» على حد تعبير الجنرال نفسه الذي أتيح له بمناسبة عمل من الأعمال الهامة أن يلتقي بالأمير عند الكونت، رئيسه في سلم الوظيفة.
ومن غرائب طبع الأمير أنه كان لا يتحاشى أبداً أن تكون له اتصالات «برجال الأعمال» الروس. وقد اتفق أن تعرف أيضاً إلى أسرة الجنرال. فأحدثت فيه آديلائيد إيفانوفنا، البنت الوسطى من بنات الجنرال، أثراً قوياً. فلما كان مطلع الربيع أعلن رغبته في زواجها. وقد أعجبت به إليزابت بروكوفيفنا ورضيت عنه. وكان طبيعياً أن تأجلت الرحلة. وعيّن للزواج موعد في الربيع.
وكان يمكن أن تتم الرحلة في وسط الصيف أو في نهايته، ولو اقتصر الأمر على نزهة تقوم بها الأم إليزابت بروكوفيفنا وابنتاها اللتان تبقيان لها، لولا أن شيئاً جديداً آخر قد حدث. ففي نهاية الربيع (وكان زواج آديلائيد قد تأخر وتأجل إلى منتصف الصيف). أدخل الأمير «شتشـ...» إلى منزل أسرة إيبانتشين شاباً يمت إليه بقرابة بعيدة، لكن بينهما معرفة قوية. هو شاب يوجين بافلوفتش ر... ، في نحو الثامنة والعشرين من العمر، ضابط من ضباط الإمبراطور ، يتمتع بحظ كبير من الجمال، ينتمي إلى «سلالة شهيرة»، وينعم عدا ذلك بأنه مرهف الفكر، مرح الطبع، لامع، «عصري»، «مثقف ثقافة نادرة»، ويملك ثروة طائلة. ولكن الجنرال ريَّاب دائماً فيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة. لذلك راح يستطلع حقيقة الأمر، فانتهى «إلى أن الشاي غني حقًا فيما يظهر، ولكن لابد من مزيد من التحقق والتثبت». وعدا ذلك فإن هذا الضابط الذي يُنتظر له «مستقبل عظيم» قد كتبت العجوز بيلوكونسكايا من موسكو توصي به خيراً، وتكيل له مديحاً كبيراً. كل ما هنالك أن سمعته كانت تشوبها شوائب صغيرة: علاقات غرامية و«غزوات»، قام بها الشاب فحطّم بعض القلوب الحساسة، على ما يقال.
فحين رأى الشاب آجلايا أصبح يلازم منزل آل إيبانتشين ملازمة شديدة. ولئن لم يقل شيئاً حتى الآن، ولو في صورة تلميح، فإن الأبوين أصبحا يعتقدان أنه لا مجال للتفكير في السفر إلى الخارج هذا الصيف. أما آجلايا، فلعلها كانت ترى رأياً آخر.
ذلك كله حدث قبيل عودة بطل قصتنا إلى المسرح. كانت الظواهر الخارجية تدل على أن الأمير المسكين ميشكين كان قد نسيه أهل بطرسبرج في تلك الفترة نسياناً يكاد يكون تاماً، فلو خطر بباله أن يعود إلى الظهور بين أولئك الذين كانوا يعرفونه، لبدا كالهابط من السماء.
بقي علينا مع ذلك أن نروي واقعة من الوقائع قبل أن نفرغ من هذه المقدمة.
بعد سفر الأمير، بقي كوليا إيفولجين يعيش كما كان يعيش في الماضي، فهو يذهب إلى المدرسة، ويتردد على صديقه هيبوليت، ويعتني بأبيه، ويساعد فاريا في الأعمال البيت فيشتري لها ما يجب شراؤه من السوق. غير أن المستأجرين قد تبعثروا بسرعة: فردشتينكو ترك المنزل بعد أحداث سهرة ناستاسيا فيليبوفنا بثلاثة أيام، وسرعان ما غاب عن الأعين، فليس يراه أحد، وليس يُسمع عنه أحد شيئاً. كل ما هنالك أنه كان يقال عنه، ولكن بغير جزم أو قطع، أنه كان يسكر في مكان ما. وبرحيل الأمير رحل عن البيت آخر مستأجر. فلما تزوجت فاريا بعد ذلك مضت نينا ألكسندروفنا ومضى جانيا يسكنان عندها في منزل بتتسين بحي اسماعيلوفسكي . أما الجنرال إيفولجين فقد حدث له في تلك الفترة نفسها تقريباً حادث لم يكن في حسبانه قط: لقد أودع السجن بسبب ديون عليه. ذلك أن صديقته أرملة الكابتن طالبت بسداد سندات تصل قيمتها إلى ما يقرب من ألفي روبل، وهي سندات كان الجنرال قد وقّعها لها في فترات مختلفة. وقد دُهش الجنرال من ذلك دهشة هائلة. لا شك أن الجنرال المسكين قد وقع «ضحية إيمانه العظيم بنبل القلب الإنساني». لقد ألف تلك العادة المطمئنة، وهي أن يوقع سندات كيفما اتفق، فلم يخطر بباله أن في الإمكان أن تُستعمل هذه السندات في يوم من الأيام. كان يظن أن الأمور تقف عند حدود توقيع السندات. ولكن هذا الحادث خيب آماله وبدّد أوهامه. فكان يهتف قائلاً وقد جلس إلى مائدة مع أصدقاء جدد في سجن تاراسوف أمام زجاجة خمر وهو يحدثهم عن حصار كارس، وعن قصة الجندي الذي بُعث من الموت حياً، كان يهاتف قائلا: «فكيف يثق المرء بالناس يعد هذا، كيف يمحضهم ثقته النبيلة؟».
والحق أنه كان يعيش في السجن حياة مريحة ممتعة جداً. حتى لقد كان بتتسين وفاريا يقولان: انه وجد هنالك مكانه الملائم له، وكان جانيا يشاطرهما هذا الرأي تماماً. إن المسكينة نينا ألكسندروفنا وحدها كانت تبكي بكاء مراً على غير مرأى من أحد (وكان ذلك يثير دهشة أفراد أسرتها)، وكانت رغم مرضها المستمر تجرُّ نفسها كلما أمكنها ذلك، فتخرج من حي اسماعيلوفسكي، وتمضي تزور زوجها.
ولكن منذ «حادثة الجنرال» (على حد تعبير كوليا)، أو منذ زواج فاريا على وجه العموم، أفلت كوليا من سلطة أسرته إفلاتاً يكاد يكون تاماً، حتى لقد بلغ من ذلك أنه أصبح لا يعود إلى البيت للمبيت إلا نادراً. كان يقال: إنه قد عقد صلات جديدة كثيرة، وأنه عدا ذلك اكتسب شهرة كبيرة في سجن المدنيين. فكانت نينا ألكسندروفنا لا تستطيع الاستغناء عنه أثناء زياراتها لزوجها في السجن. وكفَّ أهله في البيت عن مساءلته؟ ولو من باب حب الاطلاع. أن فاريا التي كانت من قبل قاسية في معاملته أشد القسوة، أصبحت لا تلقي الآن أي سؤال عن سبب غيابه. أما جانيا فكان في بعض الأحيان (وهذا ما أثار دهشة ذويه) يثرثر معه بمودة كبيرة، رغم كآبته وسوداويته، وذلك أمر لم يسبق أن حدث في الماضي قط، لأن جانيا المعتز بعمره البالغ سبعة وعشرين عاماً كان لا ينتبه أي انتباه بشوش إلى أخيه الذي لا تتجاوز سنه الخامسة عشرة، بل كان يعامله معاملة خشنة، ولا يطلب من الأسرة كلها إلا أن تكون قاسية معه، ولا يفتأ يهدد بأنه «سيشدُّ له أذنيه»، فكان هذا يخرج كوليا عن «حدود قدرة الإنسان على الصبر والاحتمال». أما الآن ففي وسعنا أن نقول: أن كوليا يكاد يكون في بعض الأحيان حاجةً ماسة لأخيه لا غني له عنها. وكان كوليا قد فوجئ بأن جانيا ردّ المال، وكان لذلك مستعداً لأن يغفر له أشياء كثيرة.
بعد سفر الأمير بثلاثة أشهر، عرفت أسرة إيفولجين أن كوليا قد تعرّف على أسرة إيبانتشين، بل أن الآنسات كنّ يحسنّ استقباله كثيراً. لقد علمت فاريا النبأ بسرعة، رغم أن كوليا لم يعتمد على وساطتها للتعرف على أسرة إيبانتشين وإنما تولى تقديم نفسه بنفسه. وشيئاً فشيئاً أحبته الآنسات إيبانتشين. ونظرت إليه الجنرالة في أول الأمر نظرة شزراء، لكنها أخذت تحبه هي أيضاً حين عرفت «أنه صريح وأنه لا يداهن ولا يتملق». فأما أن كوليا كان لا يحاول أن يتملق أحداً فذلك أمر صحيح كل الصحة. وقد عرف كيف يضع نفسه في موضع الند، وفي موضع المستقل؛ ولئن كان يقوم أحياناً بقراءة بعض الروايات أو المجلات للجنرالة، فما ذلك إلا لأنه كان فتي خدوماً على الدوام. على أنه قد تشاجر مع إليزابت بروكوفيفنا تشاجراً قاسياً، مرة أو مرتين، فنعتها بأنها مستبدة طاغية، وأعلن لها أنه لن يضع قدمه في منزلها بعد الآن. فأما المرة الأولى فكانت بسبب «قضية المرأة»، وأما المرة الثانية فكانت بمناسبة هذه المشكلة: أيّ الفصول أنسب لاصطياد البلابل. ومهما يبدو لكم الأمر غريباً، فإن الجنرالة قد أرسلت إليه غداة غدٍ خادماً يحمل إليه منها رسالة ترجوه فيها أن لا يتخلف عن المجيء إليها. فلم يعاند كوليا، وجاء إليها في الحال. كانت آجلايا وحدها لا يسرها وجوده كثيراً – لا يدري أحد لماذا؟ – وكانت تنظر إليه من علٍ. ومع ذلك كان مكتوباً عليها أن تحدث لها على يديه هو مفاجأة. ففي ذات يوم – وكان ذلك في أسبوع عيد الفصح – انتهز كوليا فرصة اختلائه بها لحظة، فمدَّ إليها رسالة كان قد طُلب منه أن ينقلها إليها بنفسه دون واسطة، فتسلمتها منه بيدها ذاتها. ألقت آجلايا نظرة تهديد على هذا «الفتى الوقح»، ولكن كوليا خرج دون أن ينتظر حدوث شيء آخر غير ذلك. وفضت الفتاة الرسالة فقرأت ما يلي:
«لقد أوليتني شرفاً عظيماً في ذات يوم، حين وثقت بي واطمأننت إليّ. ولعلك نسيتني الآن نسياناً تاماً. فلا أدري كيف تجرأت على أن أكتب إليك هذه الكلمة. لكنني أحسست برغبة لا تقاوم في أن أذكّرك بي، أن أذكّرك أنت خاصة. مراراً كثيرة كان يمكن أن تنفعينني كثيراً أنت وأختاك، لكنك كنت أنت الوحيدة التي أراها بخيالي منكن. إنني في حاجة ماسة إليك. أنت لي ضرورة لازمة، لازمة جداً. ليس هناك ما أطلبه منك، ولا ما أرويه لك عني. وليس هذا ما كان يمكن أن يحضني على الكتابة إليك. ولكن أقوى رغبة تجيش في نفسي هي أن أعلم أنك سعيدة، فهل أنت سعيدة؟ ذلك هو كل ما أردت أن أقوله لك.»
ابن عمك: الأمير ل. ميشكين
بعد أن قرأت آجلايا هذه الرسالة القصيرة المضطربة الخالية من الانسجام، احمرّت فجأة، ولبثت مطرقة تفكر. يصعب علينا أن نتابع مجرى خواطرها. لقد طرحت على نفسها هذا السؤال، فيما طرحت من أسئلة أخرى: هل أطلع أحداً على هذه الرسالة! وأخيراً رمت الرسالة في درج منضدتها، بينما انفرجت شفتاها عن ابتسامة ملغزة ساخرة.
وفي الغد تناولت الرسالة ودسّتها في كتاب ضخم مجلد تجليدا سميكاً. هذا ما كانت تفعله دائماً بالأوراق التي تحب أن تهتدي إليها بسرعة. وانقضى أسبوع قبل أن يخطر ببالها أن تنظر في عنوان الكتاب: «دون كيشوت دولامانش» . لا ندري لماذا جعلها هذا العنوان تنفجر ضاحكة. لا ولا ندري هل أطلعت أختاً من أختيها على الرسالة.
ولكنها حين أعادت قراءة الرسالة وَمَض في ذهنها سؤال: هل يُعقل أن يختار الأمير هذا الصبي الوقح المتغطرس رسولاً، وربما رسولاً وحيداً؟ وسألت كوليا عن هذا الأمر، مع استمرارها على مخاطبته بتعالٍ وخيلاء. ولكن «الصبي»، على سرعة تأذيه في العادة، لم يلق بالاً إلى هيئة الاحتقار التي ظهرت على آجلايا. وشرح لها باختصار، وبشيء من الجفاف أو الخشونة، أنه قد أعطى الأمير عنوانه استعداداً للمصادفات، وأنه عرض عليه خدماته، وذلك قبل أن يغادر الأمير بطرسبرج، ولكن هذه المهمة جاءت بتكليف من الأمير، وأن هذه الرسالة هي الرسالة الأولى التي تلقاها منه. ومن أجل أن يبرهن كوليا على صحة قوله، أظهرها على الرسالة التي وجهها الأمير إليه شخصياً. فلم تتحرج آجلايا أي تحرج من قراءة تلك الرسالة التي كان نصها ما يلي:
«عزيزي كوليا، أرجو أن تسلم آجلايا إيفانوفنا الرسالة المختومة المرفقة. وأتمنى لك صحة جيدة».
مع أخلص العاطفة من صديقك:
الأمير ل. ميشكين
قالت آجلايا بلهجة الأسف وهي تردّ الرسالة إليّ كوليا:
– إنه لشيء مضحك مع ذلك أن يمنح مثل هذا الصبي كلّ هذه الثقة.
ثم ابتعدت وقد لاحت في وجهها علامات احتقار.
كان ذلك أكثر مما يستطيع أن يطيق كوليا الذي استعار لهذه المناسبة من جانيا منديله الأخضر الجديد دون أن يشرح له السبب. فأحس بالإهانة إحساساً قاسياً.
الفصل الثاني
نحن الآن في مطلع حزيران (يونيه): الجو في بطرسبرج رائع منذ أسبوعين. إن أسرة إيبانتشين تملك في بافلوفسك فيلا مترفة أنيقة. آخذت إليزابت بروكوفيفنا تتحرك وتسعى بكل قوة على حين فجأة لتذهب إلى هناك. فما انقضى يومان إلا وقد تم الانتقال.
وبعد هذا السفر بيوم أو يومين وصل الأمير ليون نيقولايفتش ميشكين من موسكو بقطار الصباح. لم يجي إلى المحطة أحد لانتظاره واستقباله، لكنه حين نزل من حافلة خيّل له فجأة أنه يميّز في الجمهور المحتشد حول المسافرين عينين ملتهبتين كانتا تتفرسان فيه تفرساً غريباً. حاول أن يعرف مصدر تلك النظرة، لكنه لم يميز بعدئذ شيئاً. لعل ذلك لم يكن إلا وهماً، لكن هذا الوهم قد ترك في نفسه أثراً مزعجاً، ولم يكن الأمير في حاجة إلى هذا ليكون حزيناً مهموماً مغموماً. كان ثمة شيء يبدو أنه يشغل باله ويقلق نفسه.
ركب عربة أقلّته إلى فندق غير بعيد عن شارع ليتانيايا. فاستأجر في ذلك الفندق الذي لم يكن باهر المنظر، استأجر غرفتين صغيرتين معتمتين أثاثهما سيئ. وأسرع يغسل يديه ووجهه، ويبدل ثيابه دون أن يطلب شيئاً، وخرج متعجلاً كمن يخشى أن يضيع وقتاً أو أن تفوته زيارة.
لو أن شخصاً من الأشخاص الذين عرفوه قبل ستة أشهر، يوم وصوله إلى بطرسبرج، لو أن شخصاً من أولئك الأشخاص رآه في تلك البرهة، للاحظ تحسناً ملحوظاً واضحاً في مظهر الأمير. ولكن ذلك لم يكن من الأمر إلا ظاهره فحسب. إن ملابسه وحدها قد تغيرت تغيراً كاملا: إن رداءه الآن قد أعده له خياط من أحسن الخياطين بموسكو. ومع ذلك كان يعيب هذا الرداء أنه مسرف في الانقياد للموضة (ذلك دائماً شأن الخياطين الذين يملكون من حسن الإرادة أكثر مما يملكون من رهافة الذوق)، ولا سيما بالنسبة إلى شخص لا يفهم من أمور الزينة شيئاً. فلو رآه ملاحظ ميّال إلى السخرية لاستطاع إذا هو أنعم النظر في الأمير أن يجد فيه ما يبعث على الضحك والاستهزاء. ولكن ما أكثر الأشياء التي يمكن أن تبعث على الضحك والاستهزاء!
ركب الأمير عربة وأمر الحوذي بأن يقوده إلى حي «الرمال» . وسرعان ما اهتدى هنالك في أحد شوارع مجموعة رودجستفنسكي إلى العنوان الذي كان يبحث عنه ويسعى إليه: إنه بيت صغير من خشب، بيت لطيف المظهر، أدهشته نظافته والعناية به. تحيط به حديقة مزروعة أزهاراً، نوافذه المطلة على الشارع مفتوحة، ومن خلالها يسمع صوت حاد يكاد يكون صارخا هو صوت رجل يبدو أنه يقرأ كتاباً أو يلقي خطاباً. والصوت تقطّعه انفجارات ضحك من حين إلى حين. دخل الأمير فناء البيت، وصعد درجات المدخل، ودقّ الباب، ففتح له، فسأل عن «السيد ليبديف».
قالت طباّخة مشمورة الأكمام إلى الكوعين، وهي تومئ بيدها إلى مدخل الصالون:
– هو ذا!
إن هذا الصالون، المغطاة جدرانه بورق أزرق قاتم، كان معتنى بنظافته، بل كان فيه شيء من أسراف في التأنق: يتألف أثاثه من مائدة مستديرة؛ وديوان؛ وساعة برونزية ذات نواس، تحت غطاء من زجاج؛ ومرآة ضيقة مثبتة في الحائط؛ وثريا صغيرة قديمة تتدلى فيها قطع الكريستال، معلقة بالسقف بسلسلة من برونز.
في وسط تلك الغرفة كان يقف السيد ليبديف بنفسه، مديراً ظهره إلى الباب الذي دخل منه الأمير، مرتدياً قميصاً بغير سترة من شدة الحر، متدفقاً في حديث مسهب بلهجة عاطفية وهو يلطم صدره. وكان سامعوه: فتى في الخامسة عشرة من عمره يقظ الهيئة فطناً ذكياً، قد أمسك بيده كتاباً؛ وفتاة في نحو العشرين من عمرها ترتدي ملابس الحداد وعلى ذراعها طفل صغير؛ وبنيةً في الثالثة عشرة ترتدي ثياب الحداد أيضاً وتضحك ملء حلقها؛ ثم شخصية غريبة مستلقية على الديوان: إنه فتى في نحو العشرين من عمره، حسن الهيئة وسيم الطلعة أسمر اللون طويل الشعر كثيفه، واسع العينين أسودهما، وعلى وجهه زغب خفيف بمثابة لحية وعارضين. وكان يبدو على هذا الفتى أنه ما ينفك يقاطع خطاب ليبديف ليعارضه، وعن ذلك إنما كانت تنشأ نوبات الضحك لدى جمهور المستمعين في أغلب الظن.
– لوكيان تيموفئتش! لوكيان تيموفئتش! عجيب أمرك! هلّا نظرت من هنا!... آه... على كل حال، افعل ما يحلو لك!...
وخرجت الطباخة محمرّة الوجه غضباً، وهي تحرك ذراعيها بحركة العجز.
والتفت ليبديف، فلما رأى الأمير، ظل مبهوتاً خلال بضع لحظات، ثم أسرع نحوه مبتسماً ابتسامة ذليلة، لكنه توقف عند العتبة من جديد، متجمداً من الدهشة، وتمتم يقول:
– صا.. صاحب السمو الأمير! .
وفجأة، وكأنه ما يزال عاجزاً عن السيطرة على نفسه وامتلاك زمام إرادته، استدار على عقبيه واندفع نحو الفتاة التي ترتدي ملابس الحداد وتحمل على ذراعيها طفلا صغيرا، اندفع نحوها بلا سبب ظاهر، فتقهقرت الفتاة إلى وراء، أمام هذه الهجمة التي لم تكن في الحسبان. لكنه سرعان ما تحول عنها، وأخذ يتهجم على البنية التي عمرها ثلاثة عشر عاماً، والتي ما تزال عاجزة عن أن تسيطر على ضحكها أو أن تلجمه؛ فلم تملك أن تحتمل صراخه ففرّت إلى المطبخ بوثبة واحدة. وخبط ليبديف الأرض بقدمه ليروِّعها مزيداً من الترويع، ولكنه حين التقت نظرته بنظرة الأمير الذي كان خجلاً أشد الخجل، قال شارحا:
– ذلك.. للاحترام! هىء هىء!...
فبدأ الأمير يقول:
– إنك لتخطئ جداً إذ..
لكن ليبديف لم يمهله لإتمام كلامه، بل قاطعه يقول:
– حالا، حالا...، بسرعة الريح...
وغاب ليبديف من الغرفة مسرعا.
أخذ الأمير يتأمل الفتاة والصبي والشخصية المضطجعة على الديوان مدهوشاً. لقد كانوا جميعاً يضحكون. فأخذ يضحك مثلهم.
قال الفتي:
– ذهب يرتدي «الفراك».
قال الأمير:
– ما أكثر ما يضايقني هذا كله!... لقد كنت أعوّل على... ولكن قل لي: أهو مثلًا...
– سكران؟ تريد أن تسأل أهو سكران؟ لا، ما هو بالسكران البتة! كل ما في الأمر أنه شرب ثلاث كؤوس، أو أربعاً، وربما خمساً، حتى لا يخل بالقاعدة لا أكثر!
كذلك صاح صوت انطلق من على الديوان.
وقد همّ الأمير أن يجيب المتكلم، ولكن سبقته الفتاة التي كان وجهها الحلو الجميل يعبّر عن أكبر الصراحة. قالت:
– إنه لا يشرب كثيراً في الصباح قط. فإذا أردت أن تكلمه في أعمال، فافعل. هذا هو الوقت المناسب. أما حين يعود إلى البيت مساء، فإنه يكون ثملاً في بعض الأحيان. وقد أصبح يتفق له الآن، ولا سيما في الليل، أن يطفق يبكي، ثم يأخذ يقرأ لنا في الكتاب المقدس بصوت عال، لأن أمنا ماتت منذ خمسة أسابيع.
قال الفتي الراقد على الديوان:
– لئن هرب فلأنه يصعب عليه أن يجيبك. أراهن أنه الآن يحاول أن يخدعك ويضللك، وهو الآن بسبيل اجترار الضربة التي يهيئها لك.
– منذ خمسة أسابيع ماتت، منذ خمسة أسابيع فقط...
كذلك صاح يقول ليبديف وقد عاد إلى الصالون مرتديا «الفراك»؛ وطرفت عيناه، وأخرج من جيبه منديلاً يجفف به دموعه. وأردف يقول:
– يتامى! إنهم يتامى!
قالت الفتاة:
– ما هذا يا بابا؟ لماذا ارتديت رداء مهترئاً مثقباً؟ أن عندك هناك، وراء الباب، ردنجوتاً جديداً. أما رأيته إذا؟
– اسكتي يا جرادة! أهذه أنت؟
قال ليبديف ذلك وخبط الأرض بقدمه ليخيفها، لكنها في هذه المرة لم تزد على أن ضحكت، وقالت:
– لماذا تحاول أن تخيفني؟ أنا لست تانيا . لن أهرب. اسمع. سوف توقظ ليوبوتشكا ، وسوف تعاودها تشنجات. علام هذا الصراخ؟
صاح ليبديف يقول بحركة رعب مفاجئة:
– دعي لسانك ملتصقا بسقف حلقك، فلا تحركيه!
ثم أسرع نحو الطفلة التي كانت نائمة على ذراعي الفتاة، فرسم عليها إشارة الصليب عدة مرات وهو زائغ الهيئة. وقال:
– احفظها يا رب! صنها يا رب! احمها يا رب!
ثم أضاف يقول متوجّهاً إلى الأمير:
– هذه الطفلة هي ليوبوف، ابنتي أنا وُلدت لي بزواج شرعي جداً من امرأتي هيلينا التي ماتت أثناء الوضع. وهذه الطائر اللقلق هي ابنتي فيرا، ترتدي ملابس الحداد.. أما هذا.. أما هذا.. أوه.. فهذا..
– لماذا تقطع كلامك؟ أكمل! لا تضطرب!
هتف ليبديف قائلا بحماسة:
– يا صاحب السمو، هل تابعت في الجرائد أنباء قاتل أسرة جيرامين ؟
فأجابه الأمير مدهوشاً:
– نعم.
– هذا هو قاتل آسرة جيرامين بنفسه! هذا هو بعينه!
قال الأمير:
– ما معنى هذا الكلام؟
فأجاب ليبديف:
– لنتفاهم: أنا أتكلم بطريق الرمز والكناية. أريد أن أقول: إنه هو القاتل المقبل لأسرة جيرامين أخرى، إذا وُجدت أسرة جيرامين أخرى. إنه يستعد لهذه الجريمة.
أخذ الجميع يضحكون، وخطر ببال الأمير أن ليبديف لعله كان يسترسل في هذه التهريجات لأنه كان يتنبأ بأسئلة يلقيها عليه الأمير فلا يعرف بماذا يجيب عنها، فهو إذاً يريد إرجاء الأمر وكسب الوقت.
صرخ ليبديف يقول بلهجة رجل أصبح لا يسيطر على نفسه:
– إن هذا الفتى ثائر متمرد مدبر مؤامرات. هل في وسعي أنا أن أعدّ لسان الأفعى هذا، أن أعدّ هذا الزاني، أن أعدّ هذا الشيطان الرجيم، ابناً لأختي آنيسيا؟ ابناً وحيداً لأختي آنيسيا؟
– اخرس أيها السكير! هل تصدق يا أمير أنه قد وضع في رأسه الآن أن يصبح محامياً. إنه يريد أن يتعلم مهنة المماحكة، ويتمرن على البلاغة والفصاحة، حتى إذا كلم أولاده كلمهم بلهجة الخطابة! منذ خمسة أيام ترافع في محكمة الصلح . ترافع لمصلحة من؟ إن امرأة عجوزاً كانت قد ناشدته أن يحامى عنها ضدّ مراب نذل سلبها خمسمائة روبل هي كل ما تملك. فهل دافع عن المرأة العجوز؟ لا... وإنما ترافع لمصلحة المرابي، وهو يهودي اسمه سايدلر، لأن هذا المرابي وعده بخمسين روبلاً...
صحّح ليبديف كلام ابن أخته قائلا بصوت تبدل الآن تبدلا تاماً، فكأنه لم يصرخ منذ هنيهة:
– خمسين روبلاً إذا ربحت القضية؛ أما إذا خسرتها فخمسة روبلات فحسب!
– وقد أخفق طبعاً! فالقضاء اليوم غير ما كان بالأمس. أنهم لم يزيدوا على أن ضحكوا منه. هذا لا ينفي آنها ظل معتزاً بمرافعته اعتزازاً كبيراً. اسمع ماذا قال في المرافعة: (سادتي القضاة النزيهين، تصوروا أن موكلي، وهو شيخ مسكين كسيح يعيش من عمل شريف، تصوروا أن موكلي هذا هو الآن بسبيل أن يفقد آخر لقمة خبز. تذكروا الأقوال الحكيمة التي قالها المشرّع: «واحكموا بين الناس بالرحمة» ) فهل تتصور أنه يلقي على مسامعنا هذه المرافعة في كل صباح كما ألقاها هناك؟ إننا نسمعها اليوم خامس مرة. كان يرددها لحظة وصولك منذ برهة. فإلى هذه الدرجة هو مفتون بها. يتلوها ويتلمظ. وهو يستعد الآن للدفاع عن موكل آخر من هذه الطينة نفسها. أنت الأمير ميشكين، فيما أظن، ألست الأمير ميشكين؟ لقد حدثني عنك كوليا كثيراً، وقال: إنه لم يرَ في حياته رجلاً أذكى منك.
فقال ليبديف مؤيدا:
– نعم نعم، ليس في العالم رجل أذكي منه!
– هذا كاذب. كوليا يحبك صادقاً، أما هذا فهو يمسح ظهرك لينال حظوتك. وأنا لا أنوي البتة أن أتملّقك، تستطيع أن تصدّقني. ولكنك لا يعوزك الحس السليم: فاحكم بيني وبينه.
واتجه الشاب المستلقي على الديوان إلى خاله يسأله:
– هه... ما رأيك في أن يفصل في قضيتنا الأمير؟ لقد أراحني جداً أنك جئت يا أمير!
قال ليبديف بلهجة قاطعة، وهو يلقي نظرة بغير إرادة منه على «الجمهور» الذي عاد يتحلق حوله.
– بكل سرور
قال الأمير مقطباً حاجبيه:
– ما المسألة؟
لقد كان الأمير مصاباً بصداع فعلاً، ولكنه كان عدا ذلك يزداد اقتناعاً، لحظة بعد لحظة، بأن ليبديف يخادعه ويسعى إلى مهرب ويحاول التملص.
قال ابن الأخت:
– هأنا ذا أعرض لك المسألة. أنا ابن أخته. ففي هذه النقطة، خلافاً لعادته، لم يكذب. وأنا لم أتمم دراستي، لكني أريد إتمامها، وسوف أتمها لأنني أملك قوة الإرادة. وبانتظار ذلك أريد، لأعيش أن أُعيَّن موظفاً في مصلحة السكة الحديد براتب قدره خمسة وعشرون روبلاً. إنني أعترف، على كل حال، بأنه ساعدني مرتين أو ثلاثاً. ولقد كان معي عشرون روبلاً، فخسرتها في القمار، نعم يا أمير! هل يمكنك أن تصدّق ذلك؟ لقد بلغت من الحطة والدناءة والصغار إنني خسرتها في القمار!
صاح ليبديف يقول:
– خسرتًها مع رجل نذل، رجل نذل كان ينبغي لك أن لا تدفع له شيئًا!
تابع الشاب كلامه فقال:
– أما أنه نذل فهذا صحيح، ولكن كان من واجبي أن أدفع. وأما أنه وغد حقير، فهذا ما أُسلّم به، ولكن ليس لأن الرجل قد ضربك ضرباً مبرحاً فحسب، بل لأسباب أخرى كثيرة أيضاً، يا أمير، الرجل ضابط مطرود من الجيش، ملازم محال على التقاعد، كان أحد أفراد عصبة روجويين، وكان يعطي دروساً في الملاكمة. إن جميع أفراد تلك العصبة هائمون الآن على وجوههم منذ تخلص منهم روجويين. على أن أنكى ما في الأمر إنني كنت أعلم أنه وغد دنيء، وحقير، وتافه لا يصلح لشيء، ومع ذلك غامرت بآخر روبلات أملكها مقامراً معه (لعبنا لعبة البالكي) قلت لنفسي: إذا خسرت ذهبت إلى الخال لوكيان، فما زلت أثقل عليه حتى يساعدني. تلك هي الدناءة، ذلك هو الصغار! الصغار المحض! لقد كان ذلك حقارة واعية!
قال ليبديف مؤيداً:
– نعم، حقارة واعية!
أجاب ابن الأخت يقول بحرارة وهمّة:
– لا تسرع إلى التباهي بالانتصار! إنه يتعجل كثيراً في الابتهاج! وقد جئت إلى خالي – يا أمير – واعترفت له بكل شيء. تصرفت تصرفاً نبيلاً، لم أدار نفسي ولا دافعت عن خطئي. بالعكس: اتهمت سلوكي أقسى الاتهام، ونعته بأبشع النعوت، وأدنته أشد الإدانة. الجميع هنا يشهدون بذلك. ومن أجل أن أدخل الوظيفة التي أهدف إلى دخولها، لا بد لي حتما من الارتفاع بمستوى ملابسي، ذلك أنني أرتدي اسمالاً بالية وخرقاً رثة. بل انظر إلى حذاءيَّ! إنني لا أستطيع أن أتقدم إلى وظيفتي الجديدة بهذه الثياب. وإذا أنا لم أتقدم خلال المهلة المحددة، فسيُعين للوظيفة شخص آخر، فأبقى عندئذ عاطلاً عن العمل، ولا يدري إلا الله متى أجد وظيفة أخرى! أنا الآن لا أطلب منه أكثر من خمسة عشر روبلاً. وله عليّ عهد أن لا ألجأ إليه بعد اليوم قط، وأن أردّ إليه آخر قرش له عليّ في غضون ثلاثة أشهر. ولسوف أفي بوعدي. أنا أعرف ما هو العيش على الخبز و«الكفاس» طعاماً وشراباً خلال أشهر بكاملها، ولكنني قوي الإرادة قادر على الاحتمال. في غضون ثلاثة أشهر أكون قد كسبت خمسة وسبعين روبلاً. فإذا أضفنا إلى القرض الذي أطلبه منه الآن ما سبق أن أقرضني من مبالغ أخرى يكون مجموع الدين الذي له عليّ خمسة وثلاثين روبلاً. فسأملك إذن من المال ما أبرئ ببعضه ذمتي. أما الفوائد فليطلب من الفوائد ما يشاء، وليأخذه الشيطان! أهو لا يعرفني؟ اسأله يا أمير: أرددتُ إليه المال الذي ساعدني به أم لا؟ هو غاضب عليّ لأنني دفعت لذلك الملازم. ليس هناك سبب آخر. ذلك هو شأنه: لا شيء له، إذن لا شيء لغيره!
صاح ليبديف يقول:
– وهو لا ينصرف! إنه مضطجع هنا حيث تراه، لا يريد أن يتحرك!
– سبق أن قلت لك: لن أنصرف قبل أن تعطيني ما أطلبه منك. لماذا يبدو عليك التبسم يا أمير؟ كأنك لا تستحسن فعلي.
قال الأمير كأنما على مضض:
– لست أبتسم، ولكنني أرى أنك مخطئ قليلاً.
– بل قل صراحة إنني: مخطئ تماما. لا توارب. لماذا كلمة «قليلًا» هذه؟
– إذا شئتَ: إنك لمضحك حقاً!
– أتظن أنني لا أدرك أن طريقتي هذه خالية من الكياسة؟ أنا أعلم أن المال ماله، وأنه يستطيع التصرف فيه كما يشاء، وأنني أبدو كمن يريد أن يسلبه إياه. ولكنك لا تعرف الحياة... أنت يا أمير! إذا لم يلقّن المرء أمثال هؤلاء الناس درساً فلا يُنتظر منهم شيئاً. ولا بد من تلقينهم درساً. إن ضميري طاهر نقي: أقول لك ذلك صادقاً كل الصدق، مخلصاً كل الإخلاص؛ لن ألحق به أي ضرر، لن أصيبه بأي آذى، سأردّ إليه ماله، مع الفوائد أيضاً فماذا يريد أكثر من ذلك؟ لأي شيء يصلح إذا لم يقدم خدمة؟ بل انظر كيف يتصرف هو نفسه. اسأله عن سلوكه مع الآخرين وعن فنه في خداع الناس. بأية وسائل أصبح مالكاً لهذا المنزل؟ إنني مستعد لأن أقطع رأسي إذا ثبت أنه لم يغششك حتى الآن، وأنه ليس بسبيل التفكير في أسلوب يخدعك به مزيداً من الخداع. أتبتسم؟ ألا تصدّق ما أقول؟
قال الأمير:
– يخيل إليّ أن هذا كله ليس له كبير صلة بقضيتك.
– أنا مضطجع هنا منذ ثلاثة أيام، فما أكثر ما رأيت خلال هذه المدة!
بهذا هتف الشاب دون أن يصغي إلى كلام الأمير؛ وتابع يقول:
– هل تتصور أن عنده شكوكاً وشبهات حول هذه الملاك، حول هذه الفتاة التي أصبحت اليوم يتيمة، حول ابنة خالتي التي هي بنته؟ إنه يبحث في كل ليلة عن عشيق لعلها خبأته في غرفتها، ويتسلل إلى هنا بخطى كخطى الذئب ينظر تحت ديواني الذي أرقد عليه عسى أن يجد شيئاً. لقد أطاش الشك صوابه. إنه يرى لصوصاً في جميع الزوايا والأركان. يثب عن سريره في الليل كل لحظة، ويمضي يتثبت من أن الأبواب والنوافذ قد أحكم إغلاقها، حتى إنه يذهب إلى الموقد يفتشه. ويتكرر ذلك في ليلة واحدة سبع مرات أحياناً. في المحكمة يترافع عن أوغاد وأوباش. وهنا ينهض في كل ليلة ثلاث مرات أيضاً ليصلي وليتجه إلى الله بدعائه. يجثو على ركبتيه في الصالون ويظل يلطم جبهته بالأرض ويرتل ويتضرع مدة نصف ساعة. لا شك أن هذا ثمرة السكر. لقد صلى على روح كونتيسة باري . سمعته بأذنيّ هاتين. وسمعه كوليا أيضاً. الخلاصة: لقد فقد العقل تماماً!
قال ليبديف وقد احمر وجهه احمراراً شديداً وغضب غضباً قوياً:
– هل رأيت يا أمير، هل سمعت كيف يتهكم عليّ ويستهزئ بي. قد أكون سكّيراً، وقد أكون زير نساء، وقد أكون لصاً، وقد أكون إنساناً مسيئاً من جميع النواحي، غير أن هناك شيئاً لا يعرفه هذا الرجل الذي يحقّرني الآن، وهذا الشيء هو أنني أنا الذي كنت أقمّطه وأنظفه حين كان طفلاً في المهد. كنت أقضي ليالي بكاملها ساهراً عليه مع أمه، أختي آنيسيا، التي توفي عنها زوجها وهوت إلى حضيض الفقر والبؤس. رغم أنني كنت لا أقل عنهما فقراً وبؤساً، فقد كنت أعتني بهما إذا مرضا، وأمضي أسرق حطباً من عند البواب؛ وكان بطني خاوياً في أكثر الأحيان، لكنني كنت أغني وأصفق بأصابعي لينام الطفل. لقد دللته وأسرفت في تدليله، ثم ها هو ذا الآن يضحك عليّ ويسخر مني. ثم أي ضير يلحق بك أنت، إذا أنا رسمت إشارة الصليب مصلياً على روح كونتيسة باري؟ يا أمير، منذ ثلاثة أيام، قرأت سيرة حياتها لأول مرة في موسوعة من الموسوعات. ولكن هل تعلم أنت من هي كونتيسة باري؟ تكلم: أتعلم أم لا؟
دمدم الشاب بلهجة ساخرة:
– لكأنك الإنسان الوحيد الذي يعلم ذلك!
قال ليبديف يجيبه:
– هي كونتيسة خرجت من حمأة العار فأصبحت شبه ملكة، حتى أن إمبراطورة كبيرة خاطبتها بقولها: «يا بنة عمي» في رسالة كتبتها بخط يدها. وعند تنصيب الملك (هل تعرف ما هو تنصيب الملك؟) تطوَّع كاردينال هو سفير البابا ليلبسها جوربيها الحريرين؛ كان يعد ذلك شرفا له، رغم علو مقامه، وقداسة منصبه! هل تعلم ذلك؟ أرى في وجهك أنك تجهل هذا. فكيف ماتت هذه الكونتيسة؟ أجب إن كنت تعلم!
– دعني وشأني! إنك تضجرني!
– اسمع كيف ماتت. بعد جميع تلك الأمجاد، وبعد تلك المكانة التي جعلتها نصف ملكة، جرّها الجلاد سامسون إلى المقصلة، رغم أنها كانت بريئة، وذلك ليدخل المسرة والبهجة إلى نفوس العاميات من نساء باريس. وقد بلغت من الذعر والرعب أنها لم تفهم شيئاً مما كان يُراد أن يُفعل بها، فلما أحست أن الجلاد يحني رقبتها ليضعها تحت سكين المقصلة، ويدفعها إلى أمام ركلاً بقدميه، بينما الناس من حولها يضحكون مقهقهين، أخذت تصرخ قائلة: «لحظة واحدة أخرى يا سيدي الجلاد، لحظة واحدة أخرى!» . إذن لعل تلك اللحظة هي التي ستشفع لها عند الله فيغفر لها، ذلك أنه لا يمكن أن يتخيل المرء عذاباً للنفس الإنسانية أكبر من ذلك العذاب! هل تعلم ماذا تعني كلمة «عذاب»؟ إنها تعني تلك اللحظة بعينها! حين قرأت الفقرة التي تذكر صرخة الكونتيسة ضارعة أن تُمهل لحظة واحدة، انقبض قلبي كأنما أمسك بها فكّا كماشة. أي ضير يصيبك أنت، أيها التافه، إذا أنا خطر ببالي أن أدعو الله لتلك الخاطئة الكبيرة أثناء صلواتي قبيل الرقاد؟ لئن فعلت ذلك، فربما لأن أحداً لم يدر في خلده حتى الآن أن يصلي على روحها أو أن يدعو لها أو حتى أن يرسم من أجلها إشارة الصليب. لسوف يبهج قلبها حتماً، في الحياة الآخرة، أن تحسّ أنه قد وُجد على هذه الأرض خاطئ مثلها صلّى على روحها ولو مرة واحدة! ما بالك تضحك ساخراً؟ ألست تؤمن بهذا أيها الملحد؟ وما مدى علمك بهذه الأشياء أنت؟ ثم إنك قد سمعت كلامي فنقلته محرّفاً أو ناقصاً: أنا لم أصل على روح كونتيسة باري فحسب، وإنما قلت: «اللهم هب راحة النفس للخاطئة الكبيرة الكونتيسة باري، ولجميع أولئك اللواتي يشبهنها!». وهذا يختلف كثيراً عما نقلته أنت، ذلك أن في العالم الآخر كثيراً من الخاطئات الكبيرات اللواتي عرفن تقلب الحظ، وقاسين من ظروف الحياة، وتوجعن من عذاب الاحتضار والانتظار. ولقد دعوت أيضاً لك ولأمثالك، أمثالك من الوقحين الذين طلقوا الحياء وخلعوا ثوب الحشمة! هكذا صليت أنا، ما دمت تقحم نفسك في التنصت على صلواتي!
قاطع ابن الأخت خاله قائلاً:
– طيب طيب... كفى هذا! صلّ كما تشاء، وليأخذك الشيطان! لا حاجة إلى الصراخ...
ثم التفت إلى الأمير فأضاف يقول بلهجة اصطنع فيها السخرية:
– ويجب أن نقول لك: يا أمير أن عندنا عالماً هو خالي هذا! أكنت لا تعرف ذلك؟ إنه يقضي وقته الآن عاكفاً على قراءة جميع أنواع الكتب والمذكرات التي من هذا النوع!
قال الأمير وقد بدأ يشعر نحو الشاب بكره:
– مهما يكن من أمر، فإن خالك رجل لا يخلو... من قلب!
قال الشاب:
– أماديحك هذه ستصعد إلى رأسه، فتطيش عقله. انظر كيف يتلذذ بمذاقها منذ الآن، واضعاً يده على صدره، مضيقاً فتحة فمه! صحيح أنه ليس خالياً من الإحساس! لكنه رجل خدّاع، وهو فوق ذلك سكّير، وهنا البلية! لقد اختل عقله كسائر أولئك الذين أدمنوا على السكر زمناً طويلاً. لذلك ترى كل ما فيه يتفكك. أنا أسلّم بأنه يحب أولاده، وأنه كان يعامل المرحومة معاملة فيها احترام... بل إنه يحبني أنا أيضاً، والحمد لله على أنه لم ينسني في وصيته.
– لن أورثك شيئاً!
قال الأمير بصوت جازم وهو يتحول عن الشاب:
– اسمع يا ليبديف، إنني أعرف بالتجربة أنك رجل جد في شؤون الأعمال متى شئت... ولست أملك من الوقت إلا قليلاً جداً... فإذا كنت... معذرة... نسيت اسمك واسم نسبتك إلى أبيك، فهلّا ذكرتني بهما؟
– تيـ... تيـ... تيموفئي.
– ثم؟
– لوكيانوفتش.
فانفجر الجميع ضاحكين من جديد. وهتف ابن الأخت يقول:
– لقد كذب! كذب حتى في ذكر اسمه. يا أمير، ليس اسمه تيموفئي لوكيانوفتش بل لوكيان تيموفئتش! قل لنا لماذا كذبت؟ لوكيان أو تيموفئي، ألا يستوي الأمران؟ وأي فرق بالنسبة إلى الأمير أن يكون اسمك لوكيان أو تيموفئي؟ يميناً أنه يكذب للكذب... لأنه تعود أن يكذب!
سأل الأمير وقد نفد صبره:
– هل صحيح ما يقول؟
– صحيح. اسمي لوكيان تيموفئفتش.
بهذا اعترف ليبديف ذليلاً خافضاً عينيه طائعاً واضعاً يده على قلبه منا جديد.
– ولكن لماذا كذبت إذا؟ يا رب السماء!
تمتم ليبديف يقول وهو يخفض رأسه مزيدًا من الخفض:
– من المذلة!
– لا أرى أين المذلة في هذه الكذبة! آه... ليتني أعرف فقط أين أجد كوليا.
أضاف الأمير هذه الجملة الأخيرة وقد بدا عليه أنه يهمُّ أن ينصرف. فقال الشاب:
– سأقول لك أين كوليا.
فأسرع ليبديف يقاطعه قائلاً:
– لا، لا!
وتابع الشاب كلامه فقال:
– بات كوليا الليلة عندنا، ومضى في الصباح يبحث عن الجنرال الذي أخرجته أنت من سجن الديون يا أمير، لا يعلم إلا الله لماذا! أمس وعد الجنرال أن يأتي إلى هنا ليبيت، ولكنه لم يظهر. ولعله ذهب يسكن على بعد خطوتين من هذا المكان في «فندق الميزان». فلا بد إذاً أن يكون كوليا هناك. إلا أن يكون قد ذهب إلى بافلوفسك يزور أسرة إيبانتشين. كان يريد أن يذهب إليهم منذ أمس، إذ كان معه مال. ستجده إذا إما في «فندق الميزان» وإما في بافلوفسك.
هتف ليبديف يقول:
– في بافلوفسك، في بافلوفسك! أما الآن فلنذهب إلى الحديقة، من أجل أن... نشرب هناك القهوة...
قال ليبديف ذلك وأمسك الأمير من ذراعه فجرّه إلى الخارج، إلى فناء يفضي إلى الحديقة من باب صغير.
الحديقة صغيرة، لكنها جميلة. وبفضل حسن الجو كانت الأشجار جميعها في تفتح كامل.
أجلس ليبديف الأمير على دكة من خشب مدهون بلون أخضر، أمام مائدة مثبتةٍ في الأرض، خضراء اللون هي أيضاً. وجلس أمامه. وجيء بالقهوة بعد لحظة، فلم يرفضها الأمير. وظل ليبديف يحدّق إلى عيني الأمير بشراهة، مفرطاً في الإكرام والمراعاة.
قال الأمير وهيئته هيئة إنسان يفكر في شيء آخر لا صلة له بما يقول البتة:
– لم أكن أعرف أن لك ملكاً.
قال ليبديف كأنما ليستأنف شكاواه:
– يتامى!
ولكنه سرعان ما كفت عن ذلك.
كان الأمير ينظر إلى أمام، ذاهلاً، فلا شك أنه قد نسي العبارة التي قالها منذ لحظة عن ملك ليبديف. وانقضت دقيقة. إن ليبديف ما يزال يحدّق إلى محدّثه منتظراً شرحاً أوسع.
قال الأمير وكأنه عاد إلى شعوره:
– طيب، ماذا؟ ها... نعم... أنت تعلم الأمر حق العلم يا ليبديف. لقد جئتُ اليوم عقب الرسالة التي تلقيتها منك. فتكلم!
اضطرب ليبديف، وأراد أن يقول شيئاً، لكنه لم يزد على أن نطق بأصوات غير مفهومة. فكان الأمير يصبر عليه، ويبتسم ابتسامة حزينة.
– يخيل إليّ آنني أفهمك جيداً يا لوكيان تيموفئفتش. كنتَ لا تتوقع مجيئي طبعاً. كنت تقدّر أنني لن أترك عزلتي عند تلقي أول رسالة لم تبعثها إليّ إلا من باب تبرئة الذمة. ولكنها أنت ترى أنني جئت. هلمّ... لا تحاول أن تخدعني. انقطع عن خدمة اثنين في آن واحد. لا يجب أن يكون لك سيدان. إن روجويين موجود هنا منذ ثلاثة أسابيع. أنا أعرف كل شيء. هل استطعت أن تبيعه هذه المرأة كما فعلت في المرة الماضية؟ قل الحقيقة.
– بل اكتشفها بنفسه، هذا الشيطان الخبيث!
– لا تشتمه: يظهر أنه أساء معاملتك.
– قال ليبديف مهتاجاً:
– أشبعني ضرباً، نعم، أشبعني ضرباً. وفي قلب موسكو حرّض عليّ كلبه الفظيع، كلبه السلوقي الرهيب، فظل الكلب يطاردني من أول الشارع إلى آخره.
– إنك تعدني طفلاً يا ليبديف. قل لي: أهي تركته جادةً حين تركته بموسكو منذ مدة قصيرة؟
– جادةً، جادةً، بل إنها قد تركته هذه المرة قبيل الاحتفال بالزواج... كان يعدُّ الدقائق بانتظار أن يحين موعد الاحتفال بالزواج. هربت من موسكو إلى بطرسبرج، فجاءت إليّ رأساً تقول: «أنقذني، هيئ لي عندك مأوى يا لوكيان، ولا تذكر للأمير شيئاً». إنها تخشاك أكثر مما تخشاه أيضاً يا أمير، وذلك هو السر!
قال ليبديف ذلك وحمل أصبعه إلى جبينه متخابثاً. سأله الأمير:
– والآن، هل قرّبت بينهما من جديد؟
– يا سمو الأمير العظيم... هل كان يمكنني أن أعارض هذا التقارب بينهما؟
– طيب. سأستطلع الأمر بنفسي. ولكن قل لي: أين هي الآن؟ عنده؟
– لا، لا. إنها ما تزال تعيش وحدها. وهي تقول: «أنا حرة». اعلمْ يا أمير إنها تلح كثيراً على هذه النقطة. إنها ما تنفك تكرر: «ما أزال أملك حريتي كاملة». ما تزال تقيم في شارع بطرسبرجسكايا، عند زوجة أخي، كما ذكرت لث هذا في رسالتي.
– أهي الآن هناك؟
– نعم. اللهم إلا أن تكون في بافلوفسك، فلعلها انتهزت فرصة جمال الجو، فمضت تصطاف عند داريا ألكسيفنا. إنها تكرر دائماً قولها: «أنا أملك حريتي كاملة». أمس تباهت باستقلالها أمام نيقولا آرداليونوفتش (كوليا). هذه علامة سيئة.
وأخذ ليبديف يبتسم.
– هل يزورها كوليا في أحيان كثيرة؟
– صبي طائش، صبي لا أفهمه، عاجز عن المحافظة على سر.
– هل كان ذهابك إليها منذ مدة طويلة؟
– إنني أذهب إليها كل يوم، بلا تخلف!
– إذن ذهبت إليها أمس؟
– لا. منذ ثلاثة أيام لم أرها.
– خسارة أنك سكران قليلاً يا ليبديف! ولولا ذلك لألقيت عليك سؤالاً آخر.
أجاب ليبديف وهو يمسك أذنه:
– لا، لا، لم أشرب شيئاً البتة.
– قل لي: على أي حال تركتها؟
– هِمْ... تركتها على حال امرأة تبحث.
– امرأة تبحث؟
– نعم، امرأة تبحث بغير انقطاع، كأنما هي فقدت شيئاً. أما زواجها المرتقب، فإن مجرد تفكيرها فيه يثير اشمئزازاها، وهي تغضب إذا حُدّثت فيه. وقد أصبحت لا تعبأ «بصاحبنا» أكثر مما تعبأ بقشرة برتقالة، بل قال: إنه أصبح لا يوقظ في نفسها إلا شعوراً بالهول. إنها تمنع أي إنسان من أن يأتي على ذكره... وهما لا يلتقيان إلا في حالات الضرورة القصوى... وهو يدرك ذلك حق الإدراك. ولكن لا بد لها من الإذعان أخيراً، فلن تفلت منه!.. إنها قلقة، ساخرة، ملتبسة، سريعة الاهتياج!
– ملتبسة سريعة الاهتياج؟
– نعم، سريعة الاهتياج. من ذلك أنها أوشكت أن تشد شعري أثناء حديث بسيط قام بيني وبينها في زيارتي الأخيرة لها.
سأله الأمير وقد قدّر أنه لم يسمع كلام ليبديف سماعاً واضحاً:
– كيف؟
– سأقول لك. لقد حدث هذا بينما كنت أقرأ لها رؤيا القديس يوحنا. إن للسيدة خيالاً مضطرباً قلقاً. هيء هيء! وقد لاحظتُ لديها، عدا ذلك، ميلاً بارزاً إلى المناقشات الجدية والموضوعات الخارقة. إنها تؤثر هذه الموضوعات، وترى أن محادثتها فيها دليل على احترامها. هذا هو الواقع. وأنا متمكن جداً من تأويل رؤيا القديس يوحنا التي أدرسها منذ خمس عشرة سنة، وقد وافقتني على رأيي حين قلت لها: إننا وصلنا إلى العهد الذي يمثله الحصان الثالث، الحصان الأسود الذي يمسك راكبه ميزاناً بيده. ذلك أن كل شيء في عصرنا هذا يُزان بميزان وينظم بعقد، وليس لأحد من هَمٍّ إلا أن يبحث عن حقه ويسعى إليه. «ثمنية قمح بدينار»، و«ثلاث ثمنيات شعير بدينار» . وهم فوق ذلك يريدون جميعاً أن يحتفظوا بحرية الفكر وطهارة القلب، وصحة الجسم، وجميع ما وهب الله. لكنهم لن يصلوا إلى هذا بطرق الحق وحدها. لأن الحصان الشاحب لونه سيظهر هو وراكبه الذي اسمه «الموت» والذي يتبعه «الجحيم». هذه هي الموضوعات التي نعالجها حين نلتقي، فتتأثر بها تأثراً قوياً.
سأله الأميرُ وهو ينظر إليه مدهوشاً:
– هل تؤمن أنت نفسك بهذا كله؟
– أؤمن وأؤوّل. إنني، وأنا الفقير العاري، لست إلا ذرة في الزوبعة الإنسانية. من ذا الذي يحترم ليبديف؟ أن كل واحد يجرّب مكره فيه، ويكاد يركله برجليه أن صح التعبير. ولكنني في مجال التأويل أساوي أكبر سيد من السادة. تلك هي ميزة الذكاء. إن فكري المتوقد قد أفزع عظيماً من العظماء ذات يوم فأخذ يرتعش على مقعده. حدث ذلك منذ سنتين، قبيل أعياد الفصح، أن صاحب السعادة نيل ألكسيفتش، حين سمع عني أيام كنت تحت أمرته في الوزارة، استدعاني إلى مكتبه خصيصاً، وسألني: «هل صحيح أنك أستاذ في تأويل النبوءات الخاصة بالأعور الدجَّال؟»، فلم أكتمه أن هذا حق، وأخذت أقرأ عليه وأشرح له النص المقدس. ولم أحاول أن ألطّف ما يشتمل عليه النص من تهديد بأخطار رهيبة، بل توسعت في شرح الرموز وغصت إلى أعماق معنى الأرقام. وقد أخذ يضحك في أول الأمر، ولكنه أزاء دقة الأرقام ووضوح المقارنات، لم يلبث أن أخذ يرتعش، ثم رجاني أن أطوي الكتاب وأن أنصرف. وأمر لي في عيد الفصح بمكافأة. ولم ينقض على ذلك أسبوع حتى فاضت روحه وذهبت إلى بارئها.
– ما هذا الذي تقوله يا ليبديف؟
– هو الحقيقة بعينها، فقد سقط من مركبته بعد العشاء، فاصطدم صدغه بحجر حائط فمات على الفور. إن سجلات وظيفته تدل على أن عمره كان ثلاثة وسبعين عاماً. وهو رجل يضرب لونه إلى حمرة، أبيض الشعر، معطر دائماً، مبتسم بغير انقطاع، كطفل. وقد تذكر بطرس زاخارتش عندئذ زيارتي له فقال: «تنبأت أنت بما حدث له».
نهض الأمير لينصرف. فدُهش ليبديف، حتى لقد آلمه أن يراه متعجلاً هذا التعجل. فجازف وقال له بلهجة فيها كثير من الإكرام والمداراة والمراعاة:
– أرى أنك أصبحت لا تكترث!
فأجاب الأمير يقول منزعجاً:
– الحق أن صحتي سيئة. إنني أشعر بثقل في رأسي. قد يكون مردُّ هذا إلى مشقة السفر.
قال ليبديف على وجل واستحياء:
– تحسن صنعاً إذا مضيت ترتاح وتستجم في الريف.
فظل الأمير واقفاً واجماً. وتابع ليبديف كلامه يقول:
– أنا مثلاً، سأذهب إلى الريف مع جميع أفراد الأسرة بعد يومين أو ثلاثة أيام. هذا أمر لا غنى عنه لصحة الطفل الوليد؛ وسيتيح لي السفر إجراء جميع الإصلاحات اللازمة هنا. وإلى بافلوفسك إنما سأذهب أنا أيضًا.
قال الأمير يسأله فجأة:
– وأنت أيضاً ستذهب إلى بافلوفسك؟ ها... إذن يذهب جميع الناس هنا إلى بافلوفسك! وتقول: إن لك هنالك منزلاً ريفياً، أليس كذلك؟
– لا، يذهب جميع الناس إلى بافلوفسك. ولكن إيفان بتروفتش بتتسين قد تنازل لي عن إحدى الفيلات التي حصل عليها هناك بثمن بخس. المكان جميل، مميز، مخضوضر. وتكاليف المعيشة غير باهظة، والمجتمع راق، وسوف نستمتع هناك بالموسيقى . ذلك هو السبب في أن بافلوفسك يرتادها الناس كثيراً. على أنني سوف أكتفي بجناح صغير، أما الفيلا...
– هل أجّرتها؟
– لـ... لا... لم أؤجرها تماماً.
قال الأمير يقترح عليه فجأة:
– أنا أستأجرها.
واضح أن ما كان ليبديف يريد أن يصل إليه إنما هو هذا الطلب. إن هذه الفكرة تدور في ذهنه منذ ثلاث دقائق. ولم يكن مع ذلك يبحث عن مستأجر، فإن هناك شخصًا أعلن له أنه «قد» يستأجر الفيلا. وكان هو يعلم أن كلمة «قد» هذه تعدل اليقين. لكنه تصوّر فجأة النفع التي سيجنيه من تأجير الفيلا للأمير، فسمح لنفسه بهذا على أساس أن المستأجر الآخر لم يثبت وعده بالاستئجار. قال يخاطب نفسه: «هذا نزاع جديد يلوح في الأفق، وهذه هي الأمور تجري مجرى جديداً كل الجدة!». لذلك استقبل اقتراح الأمير بنوع من الحماسة، فلما سأله الأمير عن الكراء رفع يديه بحركة تعني أنه لا يكترث بالكراء، وأنه لا يطمع في منفعة.
قال الأمير:
– طيب. سأدفع لك ما يرضيك. سوف أسأل عن السعر، فلا تخسر شيئًا.
وكانا على وشك أن يخرجا من الحديقة. فإذا بليبديف يدندن قائلا، وهو يتواثب حول الأمير فرحاً:
– في وسعي يا أمير، في وسعي يا أمير، إذا أنت شئت ذلك، أن أبلغك أمراً هاماً جداً عن المسألة التي تهمنا...
توقف الأمير. وتابع ليبديف كلامه:
– إن داريا ألكسيفنا تملك، هي أيضاً، فيلا في بافلوفسك...
– وبعد؟
– إن الشخصية التي يعنينا أمرها هي صديقتها، ويظهر أنها تنوي أن تتردد عليها كثيراً في بافلوفسك. أن لها هدفاً.
– أي هدف؟
– آجلايا إيفانوفنا...
– هوه! كفي يا ليبديف!
لذلك قاطع الأمير ليبديف ممتعضاً امتعاض إنسانِ مُسَّت فيه نقطة موجعة. وأضاف:
– ليس هذا هو الأمر. الأفضل أن تقول لي: متى تنوي أن تسافر. واعلم أن الإسراع في السفر يناسبني أكثر مما يناسبني الإبطاء، لأنني أقيم في الفندق...
كان الرجلان قد اجتازا الحديقة وهما يتحدثان. ولم يرجعا إلى المنزل، بل عبرا الفناء متجهين نحو باب الخروج.
قال ليبديف بعد لحظة تفكير:
– أرى أن من الخير أن تترك الفندق في هذا اليوم نفسه، فتأتي تقيم هنا، ثم نسافر معا إلى بافلوفسك بعد غد.
قال الأمير شارد الذهن، وهو يصل إلى الشارع:
– سوف آري.
تابعه ليبديف بنظره. وقد أدهشه هذا الشرود المفاجئ في الأمير الذي نسي أن يودِّعه حين خرج، بل غفل حتى عن تحيته. أن هذا النسيان لا يتفق وما عهده ليبديف في الأمير من حسن الآداب وبشاشة المعاملة ولطف السلوك.
الفصل الثالث
الساعة تقارب الثانية عشرة ظهراً. كان الأمير يعرف أنه لن يجد في المدينة من آل إيبانتشين إلا الجنرال الذي تمنعه أعماله من مغادرة المدينة، حتى أن هذا نفسه ليس مؤكداً.
خطر ببال الأمير أن الجنرال قد يستعجل أخذه إلى بافلوفسك؛ ولكنّ الأمير يحرص كثيراً على زيارة يجب أن يقوم بها قبل أن يذهب إلى بافلوفسك. فقرر أن يبحث عن المنزل الذي كان لا بدّ أن تقوده إليه تلك الزيارة، ولو ترتب على ذلك أن يصل إلى دار آل إيبانتشين متأخراً، وأن يؤجّل رحلة بافلوفسك إلى الغد.
والمسعى الذي سيقوم به الأمير يشتمل على بعض المخاطر من بعض النواحي، ولذا كان ارتباكه وكان تردده. وكان يعلم أن المنزل الذي يجب أن يهتدي إليه يقع في شارع «الباسلاء» الذي لا يبعد عن شارع «الحدائق». فقرر أن يتجه إليه من هذه الجهة آملاً أن يعزم أمره أثناء الطريق على قرار حاسم.
فلمّا اقترب من تقاطع شارعين أدهشه الاضطراب الشديد الخارق الذي اجتاحه واستولى عليه. لم يكن يتوقع أن يحسّ بقلبه يخفق هذا الخفقان القوي. ولفت نظره أحد المنازل من بعيد. أغلب الظنّ أن غرابة مظهر هذا المنزل هي التي لفتت نظره. وقد تذكر بعد ذلك أنه قال عندئذ لنفسه: «لا شك أن المنزل الذي أبحث عنه هو هذا». وتقدّم مدفوعاً بفضول شديد ليتحقق من صدق تخمينه، مع شعوره سلفاً بأنه سيزعجه أن يصدق ظنّه. المنزل عمارة كبيرة مظلمة ذات ثلاثة طوابق، ليست بذات طراز، واجهتها خضراء اللون وسخة. إن عدداً قليلاً جداً من المباني التي من هذا النوع والذي يرجع عهدها إلى نهاية القرن الماضي ما يزال قائماً في هذا الحيّ من بطرسبرج (حيث يتغيّر كل شيء بسرعة). إنها مباني متينة، سميكة الجدران، واسعة النوافذ جداً، تُحصّن شبابيكها أحياناً بقضبان حديدية في الطابق الأرضي الذي تشغله دكان صرّاف (من ملّة الخصيان ). إنّ المخصيّ الذي يملك الدكان يسكن عامّة في الطابق الذي يعلوها. وإنّ ظاهر هذه المنازل كباطنها جفوةً وعبوساً: فكل شيء يبدو للمرء فيها بارداً، مُوصَداً، سرّياً، دون أن يستطيع المرء مع ذلك أن يحلل بواعث هذا الشعور بسهولة. لا شك أن التزاوج بين الخطوط المعمارية في هذه المنازل يشتمل على شيء يُشعر بالسّرّية والخفاء. ويندر أن يسكن هذه المنازل إلا تجار.
اقترب الأمير من باب الفِناء، وقرأ على لوحة معدنية: «منزل روجويين، بورجوازي فخري وراثي ». وتغلب على تردّده فدفع بابًا ذا زجاج ودخل، فانغلق الباب وراءه محدثاً ضجة. وصعد إلى الطابق الأول على السُلّم الكبير. إن السُّلم مبنيّ بأحجار غليظة، غائب في الظل بين جدران مدهونة بلون أحمر. كان الأمير يعرف أن روجويين يحتل مع أمّه وأخيه كل الطابق الأول من هذا المبنى الكئيب. فتح له الخادم الباب؛ ودون أن يخبر بوصوله، قاده خلال سلسلة من الغرف: دخلا أولاً إلى قاعة عرض، جدرانها تحاكي المرمر، وأرضها من خشب السنديان، وأثاثها الثقيل الغليظ من طراز عام 1820؛ ثم وَلَجا سلسلةً من حجرات صغيرة يقطعها المرء بلفّ ودوران وتعرُّج. ثم صعدا درجتين أو ثلاث درجات، ثم هبطا درجتين أو ثلاث درجات، وفي النهاية قرعا باباً، ففتح لهما بارفيون سيميونوفتش روجويين بنفسه. فلمّا رأى روجويين الأمير جمد في مكانه ذاهلا، واصفرّ لونه، حتى صار يشبه، خلال بضع لحظات، تمثالاً من حجر. إن نظراته المحدّقة الثابتة تعبّر عن ذعر ورعب، وإنّ فمه تقلّصه ابتسامة مبهوتة. لقد بدا له حضور الأمير حادثاً لا يتصوّره العقل، بل حادثاً يكاد يكون معجزة. ودُهش الزائر من هذا، رغم أنه كان يتوقع أن يحدث حضوره أثراً من هذا النوع.
قال الأمير وهو يشعر بالحرج:
– ربّما كان مجيئي مزعجاً يا بارفيون، فلذا صحّ هذا فسوف أنصرف.
فقال بارفيون وقد ثاب إلى رشده:
– لا، أبداً! تفضل ادخل!
كان الرجلان يتخاطبان بصيغة المفرد. لقد أُتيح لهما أن يلتقيا بموسكو كثيراً وطويلاً، حتى لقد اشتملت لقاءاتهما على لحظات تركت في نفس كلّ منهما أثراً لا يُمحَى. ولم يلتقيا بعد ذلك منذ أكثر كم ثلاثة أشهر.
ما يزال وجه روجويين شاحباً، وما تزال تشنجات خفيفة خاطفة تقلّص هذا الوجه. ورغم أنه أدخل الزائر فإنه ما يزال يشعر باضطراب لا حيلة له في دفعه. ودعا الأمير إلى الجلوس على مقعد قرب المائدة، ولكنّ الأمير حين التفت إلى رجويين مصادفة، تجمّد في مكانه تحت نظرة غريبة غرابة هائلة كان يلقيها عليه رجويين، حتى لكأنها تخترقه اختراقاً؛ وعادت إلى ذهنه في الوقت نفسه ذكرى حديثة، أليمة، مبهمة؛ فبدلاً من أن يجلس، لبث واقفاً، ساكناً سكوناً كاملاً، محدِّقاً إلى عيني رجويين بنظرة ثابتة خلال لحظات. فأخذت عينا رجويين تسطعان ببريق فيه مزيد من القوة، وابتسم رجويين أخيراً ولكن ابتسامته كانت تشي باضطرابه وحزنه.
وتمتم يقول للأمير:
– لماذا تنظر إليّ هذه النظرة الثابتة؟ اجلس.
فجلس الأمير، وقال:
– بارفيون، كلّمني بصراحة، أكنت تعلم أنني سأصل إلى بطرسبرج اليوم؟
أجاب رجويين وهو يبتسم ابتسامةً مُرّة:
– كنتُ أقدَّر أنك قد تجيء، وها أنت ذا ترَى أنّني لم يُخطى تقديري، ولكن كيف كان يمكنني أن أحزر أن وصولك سيكون في هذا اليوم نفسه؟
كان العنف والحنق في لهجة هذا السؤال الذي ألقاه رجويين والذي كان في الوقت نفسه جواباً، باعثاً جديداً للأمير على الدهشة.
فقال الأمير:
– وهبْك عرفت أنني سأصل «في هذا اليوم نفسه» فلماذا تغضب هذا الغضب؟
– وأنت، لماذا تُلقي عليّ هذا السؤال؟
– لأنني هذا الصباح، بينما كنت أنزل من القطار، لاحظت في زحمة الجمهور عينان تشبهان كلّ الشبه العينين اللتين تحدَّق بهما إليّ من ورائي منذ برهة.
فجمجم رجويين يقول مرتاباً:
– غريب! تُرى، هما عينا من؟
ولكن خُيِّل إلى الأمير أنّ رجويين قد ارتعش.
قال الأمير:
– لا أدري، كان ذلك في زحمة الجمهور، ومن الجائز على كل حال أن أكون قد توهّمت. أصبحت تنتابني أوهام كثيرة من هذا النوع في الآونة الأخيرة، لقد صرت، يا عزيزي بارفيون، في حالة قريبة من الحالة التي كنت عليها قبل خمس سنين، أيام كانت تعتريني نوبات.
دمدم بارفيون قائلا:
– جائز أنك كنت فريسة وهم، لا أدري!
وتغيّرت ابتسامة التلطف التي كانت مرتسمة على شفتيه في تلك اللحظة؛ وظهرت ابتسامةٌ جديدة تعبّر عن مشاعر متفرّقة وعواطف شتى، كان عاجزاً عن أن يؤلف بينها.
قال يسأل:
– أأنت مسافر إلى الخارج مرّة أخرى؟
ثم أضاف فجأة:
– هل تتذكر كيف التقينا في الخريف الماضي في قطار بسكوف – بطرسبورج... هل تتذكر معطفك ولبّادتَي حذاءيك؟
وأخذ رجويين في هذه المرّة يضحك بخبث صريح ومكر واضح، سره أن يطلق لهما العنان.
سأله الأمير وهو يلقي نظرة على الحُجرة:
– هل استقرّ بك المقام هنا تماما؟
– نعم، أنا هنا في بيتي، أين تريد لي أن أذهب؟
– نحن لم نلتقِ منذ مدّة طويلة. وقد سمعت عنك أشياء يصعب عليّ أن أصدّقها.
أجاب رجويين بجفاف:
– ما أكثر ما يقوله الناس!
– ولكنك طردت عُصبتك كلها، ولجأت إلى منزل أهلك، وأصبحت لا تهرب منه، هذا شيء حسن. هل المنزل لك أنت؟ أم هو مشترَك بين الأسرة كلها؟
– هو لأمّي، وشقتها تقع في الجهة الأخرى من الممرّ.
– وأين يسكن أخوك؟
– أخي سيميون سيميوفيتش يسكن في جناح.
– أهو متزوّج؟
– هو أرمل. ما حاجتك إلى معرفة هذا؟
نظر إليه الأمير دون أن يجيب. لقد أصبح واجماً شارد الذهن، فكأنه لم يسمع السؤال. ولم بُلِحّ روجويين، بل سكت ينتظر.
ولبث الاثنان صامتَين برهة من الوقت.
قال الأمير:
– تعرّفتُ منزلك من أول نظرة، من على مسافة مائة متر!
– كيف هذا؟
– لا أدري كيف أعبّر لك. إن لمنزلك هيئةً هي هيئة أسرتك كلها، وهيئة طراز حياتك. ولكن إذا سألتني أن أشرح لك مصدر هذا الشعور عندي، لم أستطع أن أفعل. أغلب الظن أن هذا نوع من الهذيان، حتى أنني أرتعب حين أرى مدّي تأثري بهذه الأمور. لم تكن في ذهني أية فكرة عن المنزل الذي تسكنه، ولكن ما أن رأيته حتى قلت لنفسي: «هذا بعينه نوع المنزل الذي لا بدّ أن يسكنه!»
قال رجويين وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ غامضة، دون أن يفلح في إدراك الفكرة المبهمة التي قالها الأمير:
– حقاً! وإنّ جدّي هو الذي بنى هذا المنزل، وقد سكنه دائماً أناس من ملة «الخصيان»، هم آل خلودياكوف، ولا يزالون يستأجرونه حتى اليوم.
قال الأمير وهو ينظر حواليه:
– ظلام حالك! إنّك تعيش في غرفة معتمة جداً.
كانت الحجرة غرفة واسعة، عاليا سقفها، لا يدخلها ضوء، مزدحمة بأشتات من الأثاث: مناضد، مكاتب، خزائن ملأى بالسجلات والقراطيس. وكان هناك ديوان عريض منجّد بجلد أحمر لا شك في أن رجويين يستعمله سريراً. ولاحظ الأمير على المائدة التي كان روجويين قد أجلسه بقربها، لاحظ كتابين أو ثلاثة كان أحدها، وهو «كتاب التاريخ» الذي ألفه سولوفييف ، مفتوحاً على صفحة محدّدة بشريطة. وقد عُلّقت بالجدران بضع لوحات زيتية ذات أُطُر مزخرفة، وقد بلغت من القتامة والتشحُّر أن المرء لا يكاد يميز فيها شيئاً البتة. غير أن هناك صورة رجل بالحجم الطبيعي لفتت نظر الأمير، هو رجل في نحو الخمسين من العمر، يرتدي ردنجوتاً أجنبيّ التفصيلة ولكنه طويل الحواف، ويتدلى على عنقه وسامان، وله لحية متناثرة قصيرة شائبة، ووجه مجعد أصفر، ونظرة متجهمة عابسة.
سأل الأمير:
– أليس هو أباك؟ فأجاب روجويين يقول مبتسماً ابتسامة سيئة كأنما هو يتأهّب لأن يقذف بمزحة ثقيلة في حقّ أبيه:
– نعم، هو بعينه!
– هل كان ينتمي إلى ملّة «المؤمنين القدامى»؟
– لا! كان يذهب إلى الكنيسة. ولكنه كان يزعم فعلاً أن الشعائر القديمة كانت أقرب إلى الحق. وكان عدا ذلك يحترم «ملّة الخصيان». وكانت حجرة مكتبه هي هذه الحجرة التي نحن فيها الآن. لماذا سألتني هل كان ينتمي إلى المؤمنين القدامى»؟
– هل ستحتفلون بالعُرس هنا؟
– ها... هنا...
كذلك أجاب روجويين الذي أوشك أن يرتجف عند سماع هذا السؤال المفاجئ غير المتوقع.
– هل سيتمّ الزواج في القريب؟
– أنت تعلم أن هذا لا يتوقّف عليّ أنا.
– بارفيون، أنا لست عدوّك، ولست أنوي أن أعرقل أيّ أمر من أمورك، أو أن أقف عقبة في طريقك. أكرّر لك هذا الآن كما سبق أن أعلنته لك ذات مرّة، في لحظة شبيهة بهذه اللحظة، إنك لتعلم أنني لست الذي منع زواجك حين كان على وشك أن يتمّ بموسكو. ففي المرّة الأولى «هي» التي هرعت لي لحظة زفافكما تقريباً لترجوني أن أنقذها منك. هذه كلماتها، أكرّرها لك بنصّها. ثم هربت مني أنا أيضاً، فاهتديت أنت إليها وقُدتها إلى الكنيسة مرّة أخرى للزواج. والآن يقال لي أنها فرّت منك من جديد وجاءت تلوذ ببطرسبرج، هل هذا صحيح؟ إنّ ليبديف هو الذي أبلغني النبأ، وبسبب ذلك إنما جئت، ولقد علمت أمس، في القطار، من فم أحد أصدقائك القدامى – وهو زاليوجيف، إذا أردت أن تعرف من هو– علمت أنكما عدتما فترابطتما. إن رجعتي إلى بطرسبرج ليس لها إلاً هدف واحد: هو أن أقنعها أخيراً بأن تسافر إلى الخارج لتستردّ صحّتها، فهي في رأيي مريضة جسماً وروحاً. رأسها، خاصّة، مريض؛ وحالتها تتطلب عناية كبيرة، ولا أنوي أن أصحبها، وإنما أريد أن أرتّب سفرها دون أن أشارك فيه. أقول لك الحقيقة خالصة، ولكن إذا صدق أنكما رتبتما أموركما من جديد، فلن أظهر أمام عينيها قط، ولن أضع قدمي في بيتك. أنت تعلم أنني لا أخدعك، لأنني كنت صادقاً معك على الدوام، لم أكتمك رأيي في هذا الأمر يوماً؛ قلت لك دائماً إنني أعتقد بأنها ستضيع حتماً إذا هي ارتبطت بك، ولسوف تضيع أنت أيضاً... بل قد يكون ضياعك محتوماً أكثر من ضياعها. إذا انفصلتما من جديد، سرني ذلك كثيرا، لكنني لن أساعد في تحقيق هذه القطيعة بينكما. فاطمئن إذن، ولا يخالجنّك فيَّ ريب، ولا تساورنّك شبهة. إنك تعلم حقيقة الأمر: أنا لم أكن منافساً حقيقياً، لك في يوم من الأيام، حتى حين لجأت إليّ ولاذت بي. ها أنت ذا تضحك: إنني أعرف سبب ضحكك. نعم لقد عشنا هناك، أنا وهي، منفصلين؛ بل لقد عاش كل واحد منا في فيلا مستقلة: «أنت على علم تام بهذا». ألم أشرح لك قبل الآن «أنني أحبّها لا حباً بل شفقة». أعتقد أن التعريف صادق. ولقد صرّحت لي حينذاك بأنك تفهم ما أريد أن أقول. فهل هذا صحيح؟ هل فهمت حقاً؟ ما أشدّ هذا الكره الذي في نظرتك! إنما أنا أتيت لأهدّى بالك بارفيون، أقول هذا وأرحل ثم لا أرجع قط. وداعاً.
نهض الأمير، فقال له بارفيون برقة ورفق، ولم يكن قد نهض، وإنما هو ما يزال مسنداً رأسه إلى يده اليمنى:
– ابق معي قليلا، فإنّي ما رأيتك منذ مدة طويلة.
فعاد الأمير يجلس، وساد صمت، ثم قال روجويين:
– حين لا تكون أمامي يا ليون نيقولايفتش، فإنني سرعان ما أشعر بكُره شديد لك، وحقد قويّ عليك، إنني في خلال هذه الأشهر الثلاثة التي لم أرَك أثناءها كنت أبغضك في كل لحظة من اللحظات، فلو استطعت لسرّني أن أقتلك بالسمّ حتماً... يميناً لو استطعت لفعلت ذلك!... هذه هي الحقيقة. ولكن كرهي لك زال خلال ربع الساعة هذا الذي قضيناه معاً، فإذا أنت عزيز في نفسي كما كنت عزيزًا فيها من قبل. ابق معي قليلًا...
أجابه الأمير بمودة وصداقة، محاولاً أن يخفي عواطفه تحت ستار ابتسامة خفيفة:
– حين أكون بقربك فإنك تثق بي، حتى إذا ابتعدت عنك بارحتك ثقتك وعدت ترتاب فيّ من جديد. إنك تشبه أباك!
– أثق بك حين أسمع صوتك. أنا أدرك حق الإدراك وأفهم كل الفهم أنني لا يمكن اعتباري مساوياً لك، لا يمكن اعتباري نداً لك...
قال الأمير وهو ينظر إلى روجويين مدهوشاً:
– لماذا أضفت هذه الجملة الأخيرة؟ ها أنت ذا تغضب من جديد!
– نحن هنا، يا صديقي، لا نُسأل رأينا، وإنما تُرتّب الأمور دون استشاراتنا!
وصمت روجويين برهة ثم أردف يقول بصوت خافت:
– كلُّ واحد منا يحب بطريقته الخاصة، أي أنّنا مختلفان في كل شيء. فأنت مثلاً تقول إنك تحبها شفقة؛ أمّا أنا فلا أشعر نحوها في الواقع بأية شفقة. ثم أنها تكرهني كرهاً عميقاً كاملاً. إنني أراها الآن في أحلامي كل ليلة: أراها مع شخص آخر، وأراها تسخر مني. وهذا بعينه ما يحدث في الواقع يا عزيزي. إنها ستتزوجني أنا، ولكنها لا تفكّر في أكثر مما تفكّر في حذاءين أبدلتهما منذ لحظة. هل تصدقني إذا قلت لك إنني لم أرها منذ خمسة أيام، خوفاً من أن أذهب إليها؟ فلو ذهبت إليها لسألتني لماذا جئت... لشدّ ما غمرتني بالخزي والعار منذ الآن!.
– بالخزي والعار؟ ماذا تقصد؟
– كأنك لا تعرف! لماذا هربت من الكنيسة حين كنا على وشك الزفاف؟ ألم تهرب من أجل أن تفرّ معك؟ أنت نفسك سلمت بهذا منذ برهة.
– عجيب. ألا تصدقني حين أقول لك إن...
– ألم تجلّلني بالخزي والعار حين قامت في موسكو بمغامرة مع ضابط من الضباط اسمه زمتيوجنيكوف؟ أنا أعرف هذه الحقيقة الآن معرفة اليقين، وقد حدث الأمر يعد أن حدّدَت هي نفسها يوم العُرس!
هتف الأمير يقول:
– مستحيل!
فقال روجويين باقتناع:
– أنا على يقين من هذا. قد تزعم لي أنت أنها ليست كذلك. قل هذا الكلام لغيري يا عزيزي! قد تتصرف معك أنت تصرّفاً آخر، حتى لقد يُشعرها مثل هذا الفعل عندئذ بهول رهيب. أُسلّم لك بذلك. ولكنها معي لا يزعها وازع كهذا، ولا يساورها تورّع من هذا النوع! هذه هي الحقيقة. إنها لا تعدّني شيئاً مذكوراً، إنها لا تقيم لي أي وزن! إنني أعلم علم اليقين أن علاقة نشأت بينها وبين ذلك الضابط كيللر الذي كان يمارس الملاكمة، لا لشيء إلا لتجعلني هزأة! إنك لا تعرف مدَى ما لقيت منها بموسكو من عذاب، ولا تعرف ما أنفقت بسببها من مال!...
سأله الأمير مروَّعًا:
– فلماذا تفكر في تزوجها الآن؟
لم يُجِب روجويين بشيء في أول الأمر، وحدج الأمير بنظرة ثابتة ثاقبة، ثم قال بعد برهة صمت:
– لم أذهب إليها مرّة واحدة منذ خمسة أيام. إنني أخشَى دائماً أن تطردني. إنها ما تنفكّ تكرر قولها: «ما زلت حرّة التصرُّف بنفسي. فإذا شئتُ طردتك طرداً تاماً وسافرت إلى الخارج».
وأضاف روجويين يقول كالمستطرد، وهو يلقي على الأمير نظرةً ثابتةً مُلحّة:
– سبق أن حدّثتني هي عن هذا. صحيح أنها تتكلم أحياناً بغير قصد إلا أن تخيفني، إنها تجد فيّ دائماً ما يمكن أن تتخذه موضوعاً للتندُّر والضحك. وفي أحيان أخرى تقطب حاجبيها ويكتسي وجهها طابع الهم والغام، وتسكن فلا تناطق بحرف: وذلك هو ما أخشَاه أكثر من أي شيء آخر. قلت لنفسي في يوم من الأيام: لن أذهب إليها فارغ اليدين، فماذا حدث؟ لإن الهدايا التي حملتها إليها لم تزِد على أن حرّضتها مزيداً من التحريض على السخرية بل وعلى الغضب، حتى لقد أعطت خادمتها كاتيا شالاً رائعاً أهديته إليها، شالًا لعلها ما رأت مثله في حياتها قط، رغم الترف الذي كانت تعيش فيه. وأمّا أن أسألها تحديد يوم الزواج فذلك أمر لن أجازف فأفعاه. ما أحلَى وضع الخطيب الذي لا يجرؤ حتى أم يزور مَن ستكون زوجته! لهذا تراني أقبع في بيتي! حتى إذا نفد صبري، ونضبت مقاومتي، مضيت خلسةً أحوم حول منزلها أو أختبئ في ركن من الشارع. وفي ذات مرّة بقيت واقفاً أمام باب منزلها كالحارس إلى مطلع الصبح تقريباً. كان قد تراءى لي أنني ألاحظ شيئاً ما. ولا شك أنها رأتني من النافذة، فها هي ذي تصرخ قائلةً: «ما عساك تستطيع أن تفعل بي إذا رأيت أنني أخونك؟» وإذ لم أُطِق صبراً أجبتها قائلاً: «أنت تعرفين».
سأله الأمير:
– ما الذي تعرفه؟
– أنّى لي أن أعلم!
قال روجويين ذلك وهو يضحك ضحكة ساخرة. وواصل كلامه فقال:
– لم أستطِع، بموسكو، أن أفاجئها مع أحد، رغم أنني تجسّست عليها مدّة طويلة. فأخذتها مرّة وقلت لها: «لقد وعدتني بأن تتزوّجيني. وستدخلين أسرة محترمة. هل تعرفين ماذا أنتِ؟ انظري ماذا أنت!»
– أقلتَ لها هذا؟
– نعم.
– فماذا قالت؟
– قالت: «أنا لا أوافق على أن أكون زوجتك؛ وربما كنت لا أرضاك خادماً!».
فأجبتها:
– وأنا لن أتحرّك من هذا المكان.
فقالت:
– وأنا سأنادي كيللر ليضعك خارج الباب.
فهجمت عليها، فما زلت أضربها حتى تغطّى جسمها ببقع زرقاء.
صاح الأمير:
– هذا مستحيل!
فقال روجويين مؤكداً بصوت خافت، ولكن عينيه كانتا تلتمعان:
– بل هذه هي الحقيقة أقولها لك خالصة. وظللت يوماً ونصف يوم على وجه الدّقة لا أنام ولا أشرب ولا آكل ولا أغادر الغرفة. ظللت راكعاً على ركبتي أمامها أقول لها:
«سأفطس، لكنّني لن أخرج ما لم تكوني قد غفرت لي، وإذا وضعتني على الباب مطروداً، مضيت أنتحر غرقاً، إذ ما عساي أصبح بدونك؟». وظلت هي طول النهار كالمجنونة، فتارةً تبكي، وتارةً تريد أن تقتلاني بسكّين، وتارة تشتمني، واستدعت زاليوجيف وكيللر وزمتيوجنيكوف وسائر الأخرين، لتريهم حالي ولتذلني أمامهم، وقالت:
– هلمّوا نذهب إلى المسرح هذا المساء عصبة واحدة، وليبقَ هو هنا إذا لم يشأ أن ينصرف، فلست مضطرة أن أقبع بالبيت لأحرسه.. سيقدّم إليك الشاي دون أن أكون حاضرة يا بارفيون سيميونوفتش؛ لا بد أنك اليوم جائع.
ورجعت من المسرح وحيدة وقالت لي:
«أنهم جبناء رعديدون... أنهم يخافون منك، ويريدون أن يخيفوني أنا أيضاً منك. قالوا لي: «إنه لن ينصرف هكذا... إنه لا يتورّع عن قتلك، ولكنني، أنا، حين سأمضي إلى غرفتي للنوم بعد قليل، لن أقفل الباب بالمفتاح، فانظر إلى أي حدّ أخاف منك! أريد أن تعرف هذا وأن تراه. هل شربت شايًا؟»
– لا، ولن أشرب.
– تريد أن تظهر أنفة وكبرياء، ولكن هذا لا يناسبك كثيراً.
وفعلت ما قالت. لم تقفل الباب بالمفتاح. وحين خرجت في الصباح من غرفتها أخذت تضحك، قالت:
– أتراك جننت؟ أتريد أن تموت من الجوع حقاً؟
قلت لها:
– اغفري لي!
– لا أريد أن أغفر لك. ولقد أنبأتك بأنني لن أتزوجك. هل لبثت على هذا المقعد طوال الليل بدون أن تنام؟
– نعم، لم أنم لحظة واحدة.
– ما أعظم هذا المكر!. ألن تحتسي شيئاً من الشاي؟ ألن تتعشّى أيضاً؟
– قلت لك. لا أريد إلا أن تغفري لي.
– ليتك تعلم إلى أي حدّ لا يناسبك هذا الوضعّ إنه لا يناسبك أكثر مما يناسب البقرة أن يوضع على ظهرها سرج . أتراك تتصور أنك بهذا تخيفني؟ ولكن فيم يهمّني أنا أن يكون بطنك خاوياً؟ هه!...
« غضبتْ، لكن غضبها لم يدُم طويلاً، وعادت إلى التهكُّم علي. أدهشني أن يزول غضبها بمثل تلك السرعة، مع ما يتصف به طبعها من حقد وميل إلى الانتقام. عندئذ خطر ببالي أنني في نظرها أهون شأناً من أن تحقد عليّ مدّة طويلة. وكان ما خطر ببالي حقاً. فقد سألتني:
– هل تعرف ما البابا في روما؟
فأجبتها:
– سعمت عنه.
قالت:
– هل درست التاريخ العام يوماً يا بارفيون سيمونتش؟
– لم أدرس شيئاً.
– إذاً سأعطيك كتاباً تقرأ فيه غضب بابا من إمبراطور ، فاضطر أن يظل ثلاثة أيام لا يشرب ولا يأكل، جاثياً على ركبتيه، حافي القدمين، عند مدخل قصره، إلى أن تفضل فعفا عنه وغفر له. هل تتصور ما قد دار في ذهن الإمبراطور الراكع من أفكار خلال تلك الأيام الثلاثة، وما قد حلف بينه وبين نفسه من أَيْمان؟ ولكن انتظر: سأقرأ عليك هذا بنفسي.
«وركضت تجيء بالكتاب، وقالت لي: «هي أشعار». وأخذت تقرأ عليّ فقرة يدور الكلام فيها على مشاريع الانتقام التي آلى ذلك الإمبراطور على نفسه لينفذنّها، بينما كان راكعاً مذلًا خلال تلك الأيام الثلاثة. وأضافت تسألني: «هل يمكن أن لا يعجبك هذا يا بارفيون سيميونوفتش؟».
قلت لها:
– أنّ كلّ ما قرأته صحيح.
– ها... إنّك ترى هذا صحيحاً. وإذن فلعلك أنت أيضاً تقول لنفسك: «حين تصبح زوجتي، فالأذكّرنّها بهذا اليوم، ولأنتقمنّ لنفسي!».
– لا أدري! ذلك ممكن!
– كيف لا تدري؟
– لا أدري. ليس هذا ما أفكر فيه الآن.
– في أيّ شيء تفكر إذاً؟
– إليك ما أفكّر فيه: حين تنهضين، وتمرّين بقربي، فإنني أنظر إليك، وأتابعك بعينيّ، وأسمع حفيف ثوبك، فيسقط قلبي؛ وحين تغادرين الغرفة، أتذكر كل كلمة من كلماتك بلهجتها؛ وطوال الليل لم أفكّر في شيء، وإنما كنت أصغي إلى أنفاسك، ولاحظت أنّك تحرّكت في سريرك مرّتين...
قالت ضاحكة:
– ولعلك نسيت اللكمات التي هويت بها عليّ أيضاً؟
– ربما كنت أفكر فيها، لا أدري
– فماذا إذا لم أغفر لك ولم أتزوّجك؟
– سبق أن قلت لك: أُلقي بنفسي في الماء فأموت غرقاً.
قالت وقد شرد فكرها:
– وقد تقتلني قبل أن تلقي بنفسك في الماء؟
ثم غضبت وخرجت. وبعد ساعة عادت فقالت لي عابسةً:
– سوف أتزوجك يا بارفيون سيمونوفتش، لا لأنني أخشاك، فانه ليستوي عندي أن أهلك بهذه الطريقة أو بتلك. لكنني لا أجد مخرجاً أفضل من هذا المخرج، اجلس. سوف تؤتَى بعشائك، وإذا تزوّجتك فسأكون امرأة وفيّة، فلا يراودنّك شك في هذا، ولا تقلق.
وأضافت تقول بعد برهة صمت:
– كنتُ أعُدَّك من قبل خادماً حقيقياً، لكنّني كنت مخطئة.
وهنا حدّدت موعد زواجنا. غير أنها هربت منّي بعد أسبوع ولجأت إلى ليبديف، ولما وصلتُ إلى بطرسبرج قالت لي: «أنا لم أعدل عن زواجك، لكنني أريد أن أتمهل، فما زلت حرّة التصرُّف بنفسي، فانتظر أنت أيضاً، إذا شئت أن تنتظر». إلى هذه المرحلة وصلنا الآن... ما رأيك في هذا كله يا ليون نيقولايفتش؟»
فأجاب الأمير وهو ينظر إلى روجويين بحزن:
– ما رأيك أنت؟
فهتف روجويين قائلاً:
– هل لي أنا مِن رأي؟
وأراد أن يضيف شيئاً، لكنه أمسك عن الكلام، وقد آلم به كرب شديد.
نهض الأمير من جديد لينصرف. وقال بصوت خافت ولهجة حالمة، كأنما هو يجيب عن سؤال خفيّ يطرحه هو نفسه على نفسه:
– على كل حال، لن أخلق لك أي صعوبة، ولن أضع أمامك أي عثرة.
قال روجويين وقد انتعش وسطعت عيناه:
– هل تعرف ما سأقوله لك؟ إنني لا أفهم أن تتنازل لي عنها هذا التنازل. أتكون قد كففت عن حبّها تماماً؟ كنت في السابق حزيناً مغموماً. لاحظت أنا هذا بوضوح. ولماذا جئت إلى هنا مسرعاً ذلك الإسراع كله؟ أمن باب الشفقة؟
قال روجويين ذلك وقد تقلصت شفتاه بابتسامة ساخرة. فسأله الأمير:
– أتظن أنني أكذب عليك وأخدعك؟
– لا. إنني أثق بك. لكنني لا أفهم موقفك. لا بدّ أن شفقتك أعنف من حبي.
والْتمع في عيني روجويين كُره تعجز الكلمات عن التعبير عنه.
قال الأمير مبتسماً:
– إن حبك القوي يشبه الكره الشديد. حتى ليكادان يختلطان. وإذا انقضت هذه العاطفة يوماً فسيكون الأمر عندئذ أنكَى وأدهى، يا عزيزي المسكين بارفيون، أنا الذي أقول لك هذا...
– ماذا؟ أتعتقد أنني سأذبحها؟
ارتعش الأمير. وقال:
– ستكرهها يوماً من الأيام كرهاً رهيباً، بسبب هيامك بها الآن، وبسبب ما تتحمّله اليوم من آلام. أمّا أنها يمكن أن تفكر في تزوّجك، فهذا شيء لا أفهمه حقاً، فحين أنبئت به لم أكد أصدّقه، وشعرت منه بحزن. لقد سبق أن غيّرت رأيها مرّتين فتركتك قبل الاحتفال بالزفاف. معنى هذا أنها كانت تُوجِس شيئاً... فما الذي يمكن أن يردّها الآن نحوك؟ أهو مالك؟ من السخف أن نفترض هذا الافتراض، لا سيما وأنك قد بدّدت منذ الآن جزءاً كبيراً من ثروتك. فهل يكون السبب هو الرغبة في الزواج لا أكثر من ذلك؟ ولكن في وسعها أن تجد زوجاً آخر غيرك. وأي زوج آخر خير لها منك، لأنك أنت قد تذبحها، ولعلها توجس هي ذلك وتتنبّأ به. أيكون جموح هواك، أو عنف هيامك هو الذي يجذبها إليك؟ قد يكون الأمر كذلك... لقد سمعت أن هناك نساءً يعشقن هذا النوع من العشق... ولكن...
وأمسك الأمير عن الكلام وشرد فكره.
سأله روجويين الذي كان يرصد أيسر حركة من حركات وجهه:
– لماذا تبسّمت حين نظرت إلى صورة أبي؟
– لماذا تبسّمت؟ تبسّمت لفكرة خطرت ببالي، هي أنّك لولا هذا الهيام الذي يعذبك، لأصبحت تشبه أباك خلال فترة وجيزة من الزمن: تحبس نفسك في هذا المنزل مع زوجة مطيعة بكماء ولا يسمع منك أحد إلا كلاماً قليلاً قاسياً، ولا تصدّق إنساناً بل ولا تشعر بالحاجة إلى أن تثق بإنسان، وتكتفي بأن تجمع المال في الظل والصمت. وفي أكثر تقدير، تهتمّ عند نهاية العمر بالكتب القديمة، وترسم إشارة الصليب بإصبعين..
– اسخر مني! لقد قالت لي هذا الكلام نفسه منذ مدة غير طويلة، حين نظرت إلى هذه الصورة. ما أغرب التقاء رأيكما هذا الالتقاء!
سأله الأمير متحيراً:
– ماذا؟ هل جاءت إلى بيتك؟
– نعم، وتأملت الصورة طويلاً وسألتني عن المرحوم، وختمت كلامها قائلة: «ذلك ما كنت ستصير إليه بمُضي الزمن، إن لك أهواء عنيفة عارمة يا بارفيون سيميونتش، أهواء تبلغ من العنف والعرامة أنها يمكن أن تؤدّي بك إلى سيبيريا، إلى السجن، لولا أنك ذكي، ذلك أنك ذكيّ جداً (تلك كانت كلماتها بنصّها، صدّق أو لا تصدّق. وكانت هذه أول مرّة تقول لي فيها ذلك). وأضافت تقول: «كان يمكن أن تترك جميع السخافات التي تتعلق بها اليوم؛ وإذ أنك محروم من الثقافة، فإنك كنت ستنصرف عن كل شيء إلا جمع المال. كنت ستبقى في بيتك، كأبيك، مع أصحاب ملتك «الخصيان»، حتى لقد ينتهي بك الأمر إلى اعتناق ملتهم. إنك تحب المال حباً يبلغ من القوّة أنك قد تجمع لا مليونين بل ربما عشرة ملايين، ولو اقتضى ذلك أن تموت جوعاً فوق أكياس الذهب التي تملكها، لأنك تفعل كل شيء بهوى شديد وولع عنيف، ولا يقود خطاك إلا الهوى الشديد والولع العنيف!». ذلك ما قالته لي بنصّه، كلمة كلمة على وجه التقريب. لم تكن قد كلمتني بهذه اللغة في يوم من الأيام. إنها لا تحدّثني عادةً إلا في سفاسف وتُرّهات، أو هي تأخذ تسخر مني وتتهكم عليّ. وفي تلك المرّة بدأت بالاستهزاء، ثم تجهم وجهها وأظلم، واستعرضت المنزل كله كأنها كانت تشعر بخوف من شيء ما. قلت لها: «سوف أغيّر هذا كله، وأعيد ترتيبه، أو سوف أشتري منزلاً آخر لزواجنا. فأجابتني قائلةً: «لا، لا، ما ينبغي تغيير شيء هنا. سنعيش على هذا النسق نفسه. أريد أن أقيم بقرب أمك حين أصبح زوجتك». وعرّفتها بأمّي. فأظهرت لها احتراماً كاحترام البنت لأمّها. إن أمّي مريضة منذ سنتين، وقد أصبحت لا تملك قواها العقلية كاملة؛ ولا سيما بعد أن مات أبي، فكأنها ارتدّت إلى الطفولة منذ ذلك الحين. ساقاها مشلولتان، وهي لا تتكلم، ولا تزيد على أن تحرّك رأسها بإشارة لمن يقصدونها. إذا لم تؤتً بطعامها فقد تظل يومين أو ثلاثة لا تطلب شيئاً. وقد تناولتُ يد أمّي اليمنى، فضممت أصابعها لرسم إشارة الصليب، وقلت لها: «باركيها يا أمي، فسوف تكون زوجتي». وعندئذ قبّلت يد أمي بحرارة وقالت: «أنا على يقين من أن أمّك تألّمت كثيراً». وحين لمحت هذا الكتاب الذي تراه سألتني: «أأخذت تقرأ تاريخ روسيا إذن؟» (هي التي قالت لي ذات يوم بموسكو: «يجب عليك أن تتثقف قليلاً، فتقرأ «تاريخ روسيا، مثلاً – تأليف سولوفييف – لأنك لا تعرف شيئاً البتة!). وأضافت تقول: «أحسنت. استمرّ! سأضع لك بنفسي قائمة بالكتب التي يجب عليك أن تقرأها قبل كل شيء، هل تريد؟». لم تكن قد كلمتني بهذه اللهجة في يوم من الأيام، أبداً. دُهشت دهشة شديدة.. ذهلت... شُدهت... ولأول مرّة تنفست كما يتنفس إنسان عادت إليه الحياة.
قال الأمير بصدق:
– يسُرّني هذا كثيراً يا بارفيون، يسُرّني كل السرور، من يدري؟ قد يشاء الله أن يجمع بينكما.
فصاح روجويين يقول مندفعاً:
– لن يكون هذا أبداً!
– اسمع يا بارفيون: إذا كنت تحبها هذا الحب كله، فهل يُعقل أن لا تحرص على أن تستحق اعتبارها واحترامها؟ وإذا كنت تحرص على ذلك، فهل يُعقل أن تيأس من الوصول إليه؟ لقد قلت لك منذ قليل إنني لا أفهم كيف قبلت أن تتزوجك. ولكن لا بدّ أن يكون لقبولها هذا سبب، وإن كنت لا أدركه، لا يمكن أن يشك المرء في هذا. إنها مقتنعة بحبك، ولكنها مقتنعة أيضاً بأنّ لك مزايا معيّنة. لا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، وما ذكرته لي الآن يأتي مؤيداً ومصدّقاً لاعتقادي هذا. أنت نفسك تقول إنها استطاعت أن تخاطبك وأن تعاملك بطريقة مختلفة كل الاختلاف عن الطريقة التي كانت تعمد إليها من قبل في مخاطبتك وفي معاملتك. أنت كثير الشك شديد الغيرة، وذلك هو السبب في أن خيالك ضخّم الشرّ الذي لاحظته فيها. مما لا شك فيه أن رأيها فيك ليس سيئاً إلى الحدّ الذي يصوّره لك وهمك، ويعبّر عنه لسانك، وإلا كان علينا أن نسلّم بأنها إذا تزوّجتك فإنها تحكم على نفسها، عامدة متعمّدة، بأن تهلك غرقى أو مذبوحة، هل هذا معقول؟ من ذا الذي يمضي إلى الموت بإرادته واعيا بصيرا؟
كان بارفيون يُصغي إلى كلمات الأمير المختلجة المرتعشة، وهو يبتسم، ولم يسَع الأمير إلا يقول له مغموماً:
– ما هذه النظرة العابسة المشؤومة التي تلقيها علي يا بارفيون؟
فهتف روجويين يقول أخيراً:
– أن تهلك غرقى أو مذبوحة! هيه... صحيح... إذا تزوّجتني فمن أجل أن تُذبّح بيدي حتماً! لا... هل يُعقل يا أمير أن لا تكون قد فهمت حقيقة الأمر في هذه القضية كلها بعد؟
– لا أُدرك ماذا تعني.
– جائز أن لا تفهمني على كل حال!... يزعم بعضهم فعلاً أنّك على شيء من..! إنها تحب رجلاً آخر. هل فهمت؟ إنها تحب الآن رجلاً آخر كما أحبها أنا. وهذا الرجل الآخر، هل تعلم من هو؟ إنه «أنت»! ماذا؟ ألم تكن تعرف هذا؟
– أنا!
– نعم، أنت. لقد بدأت تحبّك منذ حفلة عيد ميلادها. لكنها تقدّر أنه يستحيل عليها أن تتزوّجك، لأنها لو تزوّجتك لجلّلتك بالعار، ولأفسدت مستقبلك. هي تقول: «الناس تعلم مَن أنا». إنها تؤكد هذا الكلام، ولم تتحرّج أن تعلنه جهاراً. هي تخشى عليك أنت أن تضيعك وأن تلطخ شرفك بالعار. أمّا أنا ففي وسعها أن تتزوّجني، فليس في هذا ضير. تلك هي قيمتي عندها، وذلك هو قدْري في نظرها. احفظ هذا.
– ولكن كيف أمكن أن تهرب منك وأن تلجأ إليّ ثم تهرب مني..
– لتعود إليّ؟ هه... هل يستطيع المرء أن يعرف ماذا يدور في رأسها، وماذا يجول في خاطرها؟ هي الآن في حالة من حُمّى! يوماً تصيح قائلة لي: «إنني أتزوجك كما يلقي المرء نفسه في الماء، فلنتزوج بأقصَى سرعة!»، وتمضي تتعجل الاستعدادات بنفسها، وتحدد يوم الزفاف... حتى إذا اقترب ذلك اليوم خافت أو راودتها أفكار أخرى أو ساورتها خواطر أخرى لا يدري ما هي إلا الله! لقد رأيتها بعينيك: إنها تبكي، وتضحك، وتتخبط هنا وهناك كالمحمومة. فأيّ غرابة في أنها هربت منك أنت أيضاً؟ لقد هربت منك لأنها أدركت عنف الهوَى الجارف الذي تحمله لك، كان بقاؤها بقربك فوق طاقتها. زعمت منذ قليل أنّني اهتديت إليها أو عثرت عليها بموسكو. ليس هذا صحيحاً. إنها هي التي سارعت إلى هاربة منك، وقالت لي: «حدّد يوماً للزواج، أنا مستعدّة! أحضر شمبانيا وهلم نسمع الغجريات!». وكانت تصرخ. لولاي لألقت نفسها في الماء منذ مدة طويلة. أؤكد لك. وإذا كانت لا تلقي بنفسها في الماء حتى الآن، فربما كان ذلك يرجع إلى أنها تراني أفظع من الموت غرقاً، إنها تتزوّجني حنقاً وغيظاً.
هتف الأمير يقول:
– ولكن كيف ترضي أنت أن... كيف...
ولكنه لم يكمل كلامه. وكان ينظر إلى روجويين مروَّعاً، فسأله روجويين وهو يضحك ضحكاً ساخراً:
– لماذا لا تكمل سؤالك؟ هل تريد أن أقول لك في أي شيء تفكر في هذه اللحظة؟ إنّك تسأل نفسك: «كيف يمكن أن تتزوجه الآن؟ كيف يمكن قبول مثل هذا الزواج والسكوت عنه». ذلك هو شعورك وتلك هي عاطفتك حتماً...
– أعود فأكرر لك يا روجويين إنني لم أجئ إليك لهذا الغرض، وإنّ الفكرة التي كانت في ذهني ليست هذه الفكرة.
– جائز أن لا تكون قد جئت لهذا الغرض، وأن لا تكون الفكرة التي كانت قائمة في ذهنك أول الأمر هي هذه الفكرة، ولكن لا شك في أن هذا هو ما تفكر فيه الآن. دعك من المماحكة! لماذا اضطربت هذا الاضطراب كله؟ هل كنت لا تعرف شيئاً من ذلك حقاً؟ إنك لتدهشني!
تمتم الأمير يقول وقد بلغ ذروة الانفعال:
– ذلك كله غيرة يا روجويين! هذا مرض. إنك تفقد الاعتدال والقصد... إنك تغالي وتبالغ... ولكن ما هذا الذي عندك؟
فأسرع بارفيون ينتزع من يدي الأمير سكيناً صغيرة تناولها الأمير من على المائدة بقرب الكتاب دون وعي، وقال له وهو يعيد السكين إليّ مكانها:
– دعها!
وواصل الأمير كلامه فقال:
– لكأنني كنت أوجس هذا كله حين وصلت إلى بطرسبرج... لم أكن أحبّ أن أجيء... كنت أريد أن أنسَى كل ما يربطني بهذه المدينة ويشدّني إليها، وأن أستأصله من قلبي استئصالًا! هيّا... أستودعك الله!...
– ولكن ما هذا الذي عندك؟
كان الأمير، أثناء الكلام، قد تناول السكين مرّة أخرى ذاهلاً. فانتزع روجويين السكين من يده، ورماها على المائدة. السكين ذات شكل بسيط شائع، قبضتها من قرن وعل، ونصلها يبلغ طوله نحو خمسة عشر سنتمتراً، وعرضها يناسب هذا الطول.
فحين لاحظ روجويين دهشة الأمير من انتزاع السكين من يديه مرتين، تناول السكين غاضباً ودسها في الكتاب ثم رمي الكتاب على مائدة أخرى.
سأله الأمير ذاهلاً مستغرقاً في تفكيره:
– أأنت تستعمل قطاعة ورق!
– نعم...
– لكنها سكين حديقة.
– وهل يستحيل قطع صحائف الورق بسكين حديقة؟
– لكنها... جديدة تماما.
– أي ضير في هذا؟ ألا أستطيع أن أشتري سكيناً جديدة؟
كذلك صاح روجويين وقد انتابه حنق شديد. وكان غضبه يزداد عند كل كلمة يقولها الأمير.
ارتعش الأمير وحّق إلى روجويين، ثم قال ضاحكاً وقد ثاب إليه وعيه كاملا:
– ما دهانا؟ اعذرني يا عزيزي، فإنني حين يثقل رأسي ويعاودني مرضي كما حدث لي الآن... أصبح ذاهلاً ذهولاً مضحكاً. ليس ذلك هو السؤال الذي كنت أريد أن ألقيه عليك... نسيت ما الذي كنت أريد أن أسألك عنه. أستودعك الله.
قال روجين:
– ليس هذا هو الطريق.
– نسيت!
– من هنا! سأريك الطريق!
الفصل الرابع
اجتازا الحجرات نفسها التي سبق أن قطعها الأمير. كان روجويين يتقدّمه قليلاً. ودخلا الصالون الكبير الذي كانت معلقة بجدرانه لوحات هي جميعها صور أساقفة ومناظر طبيعية لا يميز المرء فيها شيئاً. إن فوق الباب المفضي إلى الغرفة المجاورة لوحة شكلها غريب، فطولها يبلغ مترين وعلوّها لا يزيد على ثلاثين سنتمتراً. إنها تمثل يسوع المسيح، المخلص، لحظة نزوله عن الصليب.
ألقى الأمير على الصورة نظرةً سريعة وكأنه تذكر شيئاً ما، لكنه لم يتوقف. وهم أن يتخطى العتبة. كان يشعر بانقباض في صدره وثقل في قلبه، ويتعجّل مغادرة هذا المنزل. لكن روجويين توقف فجأة أمام اللوحة، وقال:
– جميع هذه اللوحات التي تراها هنا إنما اشترَى المرحوم أبي كل واحدة منها بروبل أو روبلين في مبيعات عامّة. كانت له هذه الهواية، وقد فحص اللوحات رجل خبير، فوصفها جميعها بأنها غير ذات قيمة، إلا هذه التي تراها فوق الباب والتي اشتراها أبي بروبلين أيضاً... فقد وصفها بأنها ليست غير ذات قيمة. وقبل وفاة أبي، وُجد من عرض عليه أن يشتريها منه بثلاثمائة وخمسين روبلاً؛ حتى أن سافليف، إيفان دمترتش سافليف، وهو تاجر ثري من كبار هواة الصور، قد عرض عليه أربعمائة روبل ثمناً لها. وفي الأسبوع الماضي عرض على أخي سيمون سيمونوفتش خمسمائة روبل؛ ولكنني رفضت واحتفظت بها لنفسي.
قال الأمير وقد اتسع وقته للتدقيق في اللوحة، وإنعام النظر إليها:
– ولكن.. ولكن هذه اللوحة منسوخة عن لوحة أوهانس هولباين . ويخيّل إليّ أنها نسخة ممتازة، رغم أنني لست على جانب كبير من الخبرة والدراية في هذا المجال. لقد رأيت هذه اللوحة في الخارج، ولا أستطيع أن أنساها. ولكن ماذا... ماذا بك؟.
كان روجويين قد ترك اللوحة فجأة، واستأنف السير، صحيح أن ما كان قد اعترَي روجويين من ذهول واهتياج يمكن أن يعلل تقلبات مزاجه هذه. غير أن الانقطاع المباغت عن حديث لم يكن الأمير هو الذي بدأه قد أثار دهشة الأمير؛ كما أن امتناع روجويين عن الردّ على سؤاله بدا له غريباً كذلك.
وها هو روجويين يسأل الأمير علي حين فجأة بعد بضع خطوات:
– قل لي يا ليون نيقولايفتش... كنت أريد منذ مدّة طويلة أن ألقي عليك هذا السؤال: – أأنت تؤمن بالله أم لا؟
قال الأمير على غير إرادة منه:
– ما أغرب سؤالك... وما أغرب نظرتك!...
ودمدم روجويين يقول بعد صمت، كأنه قد نسي سؤاله مرّة أخرى:
– إنني أحب أن أنظر إلى هذه الصورة!
فهتف الأمير يقول وقد ساورته فكرة مباغتة:
– هذه الصورة! أن هذه الصورة يمكن أن تُفقد بعض الناس إيمانهم!
فقال روجويين مؤيدا كلام الأمير على غير توقع:
– حقاً... إنها تفقد المرء إيمانه!...
وكانا قد بلغا باب الخروج، فقال الأمير وهو يتوقف فجأة:
– كيف؟ أنا قلت كلامي من باب المزاح تقريباً، وأنت تأخذه مأخذ الجدّ! لماذا سألتني منذ لحظة هل أؤمن بالله؟
– لا لشىء... هكذا... وكنت أريد أن أُلقى عليك هذا السؤال من قبل. أن في هذه الأيام أناساً كثيرين لا يؤمنون بالله. لقد عشت في الخارج، فهل صحيح ما كان يقوله لي أحد السكيرين من أن الذين لا يؤمنون بالله هم في بلادنا، روسيا، أكبر عدداً منهم في أي بلد آخر؟ لقد قال لي ذلك السكير: «الإلحاد أسهل علينا منه على الآخرين، لأننا سرنا شوطاً أبعد...».
وابتسم روجويين ابتسامة مُرّة. إنه حين ألقى سؤاله كان قد فتح الباب فجأة، وانتظر خروج الأمير واضعاً يده على قبضة الباب. ودُهش الأمير، لكنه تخطى العتبة، وتبعه روجويين إلى فسحة السلّم مغلقاً الباب وراءه نصف إغلاق. وبقي الرجلان واقفين وجهاً لوجه، وكأنهما لا يعرفان إلى أين وصلا من أمرهما ولا ما الذي يجب عليهما أن يفعلاه.
قال الأمير وهو يمدّ إلى روجويين يده:
– طيّب... أستودعك الله!
فدمدم روجويين وهو يشدّ على اليد الممدودة إليه شداً قوياً، ولكن على نحوٍ آليّ تماماً.
– أستودعك الله.
وهبط الأمير درجةً ثم التفت يستأنف الكلام مع روجويين. كان واضحاً أنه لا يريد أن يتركه على تلك الحالة، قال له مبتسماً، وقد شحذت همته، عدا ذلك، ذكرَى مباغتة:
– فيما يتعلق بالإيمان، أذكر أنني في الأسبوع الماضي قد حدثت لي أربع مقابلات في غضون يومين، ففي ذات صباح، أثناء سفري على خط جديد من خطوط السكة الحديدية، ظللت أثرثر مدّة أربع ساعات مع رجل اسمه سـ... ، كنتُ تعرّفت إليه حينذاك. كنت قد سمعت عن هذا الرجل كثيراً قبل ذلك، فعرفت فيما عرفت أنه ملحد. إنه رجل واسع الثقافة، غزير الاطلاع، قد سرّني أن أتيحت لي فرصة المنافسة مع عالِم يبلغ ما يبلغه هذا الرجل من وفرة الاطلاع. وكان فوق ذلك إنسانا جمّ التهذيب، فكان يكلمني كما يكلم قرينٌ قرينه، أو كما يكلم نداً له في سعة العلم وسداد الرأي. إنه لا يؤمن بالله، غير أن هناك شيئاً خطف انتباهي في مناقشته هو أنه طوال مدّة حديثنا لم يُبدِ أنه يواجه الموضوع الحقيقي، أو يعالج المسألة الحقيقية. ومما فاقم دهشتي أنني قبل ذلك، كلما التقيت بزنادقة أو قرأت كتباً تذهب هذا المذهب، كان يبدو لي دائماً أن هؤلاء الناس لا يتكلمون عن المسألة الحقيقة، وإن كانوا يتكلمون عنها في ظاهر الأمر. وقد عرضت على الرجل شعوري هذا، ولكن لعلني عرضته عليه عرضاً مضطرباً مبهماً أو لعلني لم أحسن الإفصاح ولم أحسن التعبير، لأن الرجل لم يفهم من كلامي شيئاً البتة... وفي المساء حللت بنُزُل للمبيت، وكانت جميع المناقشات، عند وصولي، تدور على جريمة ارتُكبت في الليلة السابقة، خلاصتها أن اثنين من الفلاحين ليسا شابين ولا كانا سكرانَين، وهما صديقان منذ مدّة طويلة، قد قرّرا بعد احتساء الشاي أن يستأجرا غرفة يبيتان فيها. ولكنّ أحدهما كان قد لاحظ منذ يومين أن رفيقه يملك ساعة من فضة معلقة بحبل أصفر ومزدانة بلآلئ من زجاج، ولم يكن الرفيق قد رأى هذه الساعة في حوزة رفيقه من قبل. ليس الرجل لصاً، بل كان أميناً مستقيماً؛ لا ولا كان فقيراً إذا قيس بغيره من الفلاحين. غير أن هذه الساعة قد أعجبته وأغرته إلى حدّ أصبح لا يستطيع معه أن يقاوم وان يصمد. فلمّا رأى رفيقه ينكفئ إلى الجهة الأخرى، استلّ سكّينه، وتسلّل من وراء محاذراً، وحسب ضربته، ورسم إشارة الصليب رافعاً عينيه إلى السماء، وتمتم يدعو الله بلهجة مُرة: «اغفر لي يا رب، باسم يسوع المسيح!»، ثم ذبح رفيقه بضربة واحدة، كما يُذبح خروف، وأخذ منه ساعته.
انفجر روجويين يضحك ضحكاً شديداً كمن اعترته نوبة عصبية. فكان الضحك يثير الدهشة بعد المزاج القاتم الذي كان يستبدّ به منذ قليل، وأخذ روجويين يصرخ في تشنّج، والضحك يخنقه:
– هذا ما يعجبني! هذا أجمل من كل شيء! الأول لا يؤمن بالله البتّة، والثاني يؤمن به إيماناً يبلغ من القوّة أنه يذبح الناس وهو يتلو دعاءه... لا يا أمير، لا يا أخي، هذا شيء لا يمكن اختراعه اختراعاً. آ...آ...آ! لا، لا، هذا أجمل من كل شيء حقاً!...
وما أن هدأ روجويين قليلاً، وإن كان الضحك ما يزال يُرعش شفتيه على تشنّج، حتى استأنف الأمير كلامه فقال:
– وفي صباح اليوم التالي خرجت أتجول بالمدينة قليلاً، فرأيت جندياً سكران، قد اختلّت ثيابه تماماً، وراح يمشي على الرصيف الخشبيّ مترنحاً. وها هو ذا يقترب مني ويقول لي «اشترَ منّي هذا الصليب يا سيدي، إنه من فضة، وأنا أبيعك إياه بعشرين كوبكا». رأيت في يده صليباً مربوطاً بشريط أزرق مهترئ لا بذ أنه انتزعه من عنقه منذ قليل. ولكن الصليب من قصدير صرف، ذلك أمر تراه العين من أول نظرة، هو صليب كبير الأبعاد، من الطراز البيزنطي، ذو ثمانية أفرع. أخرجت من جيبي عشرين كوبكاً، وأعطيتها للسكران، ولم ألبث أن علقت الصليب بعنقي. ما كان أعظم فرحه بأنه استطاع أن يغش مارداً ساذجاً! وانطلق على الفور يشرب بثمن صليبه خمراً، لا شك في ذلك البتة! كان كل ما ألاحظه في روسيا يحدث في نفسي تأثيراً قوياً. كنت في الماضي لا أفهم من أمر بلدي شيئاً، كنت جاهلاً جهلاً مطبقاً. وفي البلاد الأجنبية، أثناء السنين الخمس التي عشتها فيها، لم أكن قد احتفظت عن روسيا إلا بذكرَى خيالية. تابعت سيري وأنا أقول لنفسي: «لا، سأنتظر مدة أخرَى قبل أن أدين هذا الخائن. الله وحده يعلم ما يحدث في قلوب السكارَى الضعيفة!»، وبعد ساعة، بينما كنت عائداً إلى النُّزّل، صادفت امرأة طيبة تحمل رضيعاً. إن المرأة ما تزال شابة، ولعل الطفل في الأسبوع السادس من عمره. لقد ابتسم لأمه لأول مرة منذ ولادته، ابتسم لها منذ لحظة، فإذا هي ترسم على نفسها إشارة الصليب بكثير من التُّقَى. سألتها (وكنت أسائل الناس دائماً): «لماذا رسمت إشارة الصليب أيتها الشابة؟». فأجابتني قائلةً: «كفرحة الأم التي ترى أول ابتسامة في ثغر ابنها هي فرحة الربّ حين يرى من علياء سمائه مذنبا يدعوه دعاء صادقاً من أعماق قلبه». إنها فلاحة بسيطة تلك التي عبّرت لي، بهذه الألفاظ نفسها تقريباً، عن فكرة تبلغ هذا المبلغ من الرهافة، فكرة تنتسب هذا الانتساب الصادق إلى المسيحية، فكرة تعبّر دفعة واحدة عن روح الديانة المسيحية كلها، وهي أن الرب أبونا جميعاً، وأنّ فرحة الرب بالإنسان كفرحة الأب بابنه! هذه فكرة أساسية من أفكار المسيح! هي أم، طبعاً... ومن يدري؟ فلربما كانت زوجة ذلك الجنديّ. اسمع يا بارفيون، لقد سألتني عن هذا الأمر منذ قليل، فإليك جوابي: إن جوهر العاطفة الدينية مستقل عن جميع البراهين، وجميع الأفعال السيّئة وجميع الجرائم وجميع مذاهب الإلحاد. إن في هذه العاطفة شيئاً لا يمكن أن تدركه ولا يمكن أن تناله أدلة الملحدين في يوم من الأيام. وسيظل الأمر على هذا النحو أبد الدهر. غير أن أهمّ شيء هو أن هذا يلاحظ في النفس الروسية أسرع ما تكون الملاحظة، وأوضح ما تكون الملاحظة، وتلك هي النتيجة التي أخلص إليها. هذه قناعة من أُولَى القناعات التي تكوّنت في نفسي عن بلادنا روسيا. هناك أمور كثيرة يجب أن تُعمل يا بارفيون، أمور كثيرة يجب أن تُعمل في عالمنا الروسي، صدّقني! تذكر لقاءاتنا وأحاديثنا بموسكو... لم أكن أرغب أيّة رغبة في أن أعود الآن إلى هنا. ولم أكن أتصور أن أجدك على هذه الحال أبداً. وكفى هذا!... أستودعك الله... إلى اللقاء! أسأل الله أن يكون معك!...
قال الأمير ذلك ثم استدار وأخذ يهبط السلّم. فلما وصل إلى الفسحة الأولى، صرخ بارفيون يسأله من فوق:
– ليون نيقولايفتش! ذلك الصليب الذي اشتريته من الجندي، هل هو معك الآن؟
فأجابه الأمير وقد توقف من جديد:
– نعم، هو معي.
– أرنيه.
هذه غرابة أُخرى! تردّد الأمير، ثم صعد درجات السلّم، وأخرج الصليب من قميصه دون أن ينزعه عن عنقه. فقال روجويين:
– هب لي هذا الصليب.
– لماذا؟ هل أنت...
– احملُه وأعطيك صليبي فتحمله...
– تريد أن نتبادل صليبينا ؟ ليكن فلاك يا بارفيون لذا شنت!
– سوف يسعدني هذا. فلنكن أخوّين.
انتزاع الأمير صليبه القصديري، وانتزع بارفيون صليبه الذهبيّ، وتبادلا الصليبين. كان بارفيون صامتا لا يتكلم، ولشد ما كانت مؤلمة الدهشة التي شعر بها الأمير حين لاحظ أن الريبة والابتسامة المُرّة التي تكاد تكون ساخرة ما برحتا ظاهرتين في وجه أخيه في الصليب، أو قل على الأقل أنهما تظهران ظهوراً واضحاً في بعض اللحظات. وأخيراً تناول روجويين يد الأمير صامتاً، ولبث جامداً لا يتحرّك خلال برهة كأنما هو عاجز عن اتخاذ قرار، ثم جرّ الأمير في النهاية وراءه قائلاً له في دمدمة خافتة لا تكاد تُسمَع: «تعالَ». فاجتازا فسحة الطابق الأول، وقرعا جرس الباب المقابل، فسرعان ما فتحت الباب امرأة عجوز محدودبة الظهر ترتدي سواداً وتضع على رأسها منديلاً، فلما رأت روجويين انحنت أمامه انحناء شديداً دون أن تتكلم. فسألها روجويين عن أمر من الأمور مسرعاً، واقتاد الأمير يدخله البيت دون أن ينتظر جوابها. واجتازا مرّة أخرى حجرات كثيرة مظلمة، نظيفة نظافة خارقة، أثاثها قديم بارد متقشف مكسوّ بأغطية بيضاء؛ ودون أن يطلب روجويين الإبلاغ عن حضوره، أدخل الأمير رأساً في غرفة صغيرة لها مظهر صالون، يقطعها حاجز من خشب الأكاجو الملمّع، وفي طرفي الحاجز بابان صغيران، ووراءه غرفة النوم في أغلب الظنّ. في ركن من الصالون، على مقعد قرب المدفأة، كانت تجلس امرأة عجوز صغيرة، لا يبدو أنها طاعنة في السنّ كثيراً، لكنّ شعرها قد ابيض تماماً، وعقلها قد ارتدّ إلى الطفولة (يقتنع المرء بذلك منذ أول نظرة). إنها ترتدي ثوباً من صوف أسود، وتلفّ عنقها بمنديل كبير أسود، وتضع على رأسها طاقية ناصعة البياض مزدانة بأشرطة سوداء. وكانت قدماها موضوعتين على دكة صغيرة. وبقربها تجلس عجوز أخرَى، أكبر منها سناً، شديدة النظافة، مرتدية ثياب الحداد أيضاً، وعلى رأسها طاقية بيضاء هي الأخرى. لا شك أنها قريبة فقيرة من قريبات العجوز الأولى. وكانت الثانية تحيك بالإبرة جورباً. لا بدّ أنهما تبقيان على هذه الحال طوال الوقت لا تتكلمان. فحين رأت العجوز الأولى روجويين والأمير ابتسمت لهما، وحنت رأسها عدة مرات بإشارات تعبّر عن العاطفة والرّضى.
قال لها روجويين بعد أن قبّل يدها:
– أماه، هذا صديقي الكبير الأمير ليون نيقولايفتش ميشكين. لقد تبادلنا صليبينا. وكان لي بمثابة الأخ في فترة ما بموسكو، وله عليّ أفضال كثيرة. باركيه يا أماه، كما لو كان ابنك. انتظري يا أماه، سأساعدك في ضمّ أصابعك...
ولكن العجوز رفعت يدها اليمنى قبل أن يتسع وقت روجويين لأن يلمسها، فضمّت ثلاثاً من أصابعها، ورسمت إشارة الصليب فوق رأس الأمير ثلاث مرات بكثير من التُقى والخشوع، ثم حنت له رأسها من جديد بإشارة وَدُود حنون.
قال بارفيون:
– تعال الآن يا ليون نيقولايفتش. فمن أجل هذا وحده إنما جئت بك إلى هنا...
وأضاف يقول للأمير حين بلغا السُّلّم:
– إنّها لا تفهم شيئا مما يقال لها، ولم تفهم شيئا من كلامي، ومع ذلك باركتك. معنى هذا أنها أرادت ذلك من تلقاء نفسها... طيب... أستودعك الله... لقد آن الأوان لنا كلينا.
قال روجويين ذلك وفتح الباب. فهتف الأمير قائلاً وهو ينظر إليه نظرةً فيها عتب رقيق:
– دعني أعانقك على الأقل قبل أن أنصرف!
وأراد الأمير أن يحتضنه بذراعيه. ولكن بارفيون ما كاد يهم أن يرفع ذراعيه حتى عاد يسبلهما. إنه لم يستطع أن يعزم أمره. وأشاح وجهه حتى لا يرَى الأمير. وجمجم يقول بصوت مبهم وهو يضحك ضحكة غريبة:
– لا تخف! لن أقتلك من أجل ساعة، وإن كنت قد أخذت صليبك!
لكن وجهه انقلب فجأةً، فإذا هو يشحب شحوباً رهيباً، وإذا شفتاه تأخذان بالارتجاف، وإذا عيناه تسطعان. ورفع ذراعيه، وعانق الأمير عناقاً قوياً، وقال بصوت لاهث:
– خذها ما دام هذا هو القدر هي لك! إنني أتنازل لك عنها!.. تذكّر روجويين!
ثم ترك الأمير دون أن يلقي عليه نظرة، وعاد يدخل مسرعاً ويغلق الباب وراءه بقرقعة شديدة.
الفصل الخامس
الوقت متأخر، فالساعة قاربت الثانية والنصف. لم يجد الأمير الجنرال إيبانتشين في بيته. فوضع بطاقته، وقرر أن يمضي إلى فندق «الميزان» عسَى أن يجد فيه كوليا، أو يترك له كلمة إذا لم يجده. فقيل له في الفندق أن نيقولا آرداليونتش قد خرج في الضحَى، وطلب أن يُذكر لمن يسأل عنه «أنه قد يعود في نحو الساعة الثالثة، فإذا بلغت الساعة الثالثة والنصف قبل أن يعود فيكون معنى ذلك أنه سافر بالقطار إلى بافلوفسك ليزور الجنرال إيبانتشين، وأنه سيتغدى هناك». بقي الأمير في الفندق ينتظر، وانتهز الفرصة فأمر لنفسه بغداء.
ولكن كوليا لم يظهر لا في الساعة الثالثة والنصف، ولا في الساعة الرابعة. فخرج الأمير من الفندق وأخذ يمشي على غير هدَى. إن بطرسبرج تعرف عند بداية الصيف في بعض الأحيان أياماً لذيذة مضيئة دافئة. ولقد كان ذلك اليوم واحداً من تلك الأيام النادرة، كأنما على عمد. ظلّ الأمير يطوف في المدينة زمناً من دون هدف أو غاية. إنه لا يعرف المدينة معرفة جيدة. وكان يتوقف أحياناً عند مفارق الطرق أمام بعض المباني، أو يتلبّث في الميادين والساحات، أو يقف على بعض الجسور. وفي لحظة من اللحظات داخل مطعم حلوى ليستريح قليلا. لقد كان ينعم النظر في المارة باستطلاع قويّ وفضول شديد أحياناً، ولكنه في أكثر الأحيان لا يلاحظ المارّة، ولا يعرف أين هو. إنه الآن في حالة قلق عميق وتوتّر أليم، وهو في الوقت نفسه يشعر بحاجة قصوى إلى العزلة. إنه يريد أن يخلو إلى نفسه وحيداً، وأن يستسلم لألم ذلك التوتر استسلاماً سلبياً، فلا يسعى إلى أي مخرج منه؛ وهو يدفع سيل الأسئلة التي كانت تغزو قلبه ونفسه، يدفعها عنه مشمئزا؛ ويجمجم قائلا لنفسه من دون أن يشعر تقريباً: «أنا مسؤول عن هذا كله؟».
وفي نحو الساعة السادسة وجد نفسه على رصيف خط السكة الحديد الذي يصل بين تسارسكوي وسيلو. إن العزلة قد أصبحت ثقيلة الوطأة على نفسه فهو لا يطيقها ولا يحتملها. إن اندفاعةً جديدة قد استولت على قلبه بقوة وحرارة، وإنّ ضياء ساطعاً قد أنار الظلمات التي كانت تملأ نفسه بالغم والقلق. اشترَى تذكرة سفر إلى بافلوفسك، متعجّلاً أن ينطلق بأقصَى سرعة. غير أن هناك شيئاً كان يلاحقه ويطارده ولا شك، شيئاً واقعياً لا خيالياً كما لعله كان يظن. فما أن همّ أن يركب القطار، حتى رمى تذكرة السفر على الأرض، وغادر المحطة واجماً مفكراً مضطرباً. وبعد قليل، حين صار في الشارع، بدا كأنه تذكر شيئاً ما على حين فجأة، كأنه أدرك شيئاً غريباً جداً كان يقلقه منذ مدة طويلة. لقد باغت نفسه مشغولاً بأمر ما برح يلازمه منذ زمن، لكنه لم يكن قد لاحظه حتى ذلك الحين، إنه منذ كان في فندق «الميزان»، وربما قبل ذلك، قد أخذ فجأة يبحث عن شيء من حوله بين الفينة والفينة. إنه كان ينسى هذا الشيء أحياناً، حتى لقد كان ينساه مدة طويلة، مدة نصف ساعة، لكنه ما يلبث أن يلتفت بغتة من جديد، ليعود يبحث من حوله قلقاً.
ولكنه ما أن لاحظ في نفسه هذه الاندفاعة المَرَضية التي كانت حتى ذلك الحين غير شعورية والتي كانت قد استولت على نفسه منذ مدة طويلة، حتى انبجست أمامه على حين فجأة ذكرى أخرى اهتم بها اهتماماً قوياً. تذكّر أنه حين لاحظ أنه ما انفك يبحث عن شيء ما حوله، إنما كان واقفاً على الرصيف أمام الواجهة الزجاجية لإحدَى الدكاكين، وأنه كان يُنعِم النظر بكثير من الاستطلاع والاهتمام في الأشياء المعروضة داخل الواجهة. فأصرّ عندئذ على أن يتحقق من أنه قد وقف أمام تلك الدكان فعلاً، منذ ما لا يزيد عن خمس دقائق تقريباً. فإذا لم يكن وهماً من أوهام الخيال لا أكثر، أفلا يكون من الجائز أنه خلط بين الأمور؟ هل لتلك الدكان وتلك الأشياء المعروضة في واجهتها وجودٌ حقاً؟ ذلك أنه كان يحسن فعلاً، منذ مطلع النهار، أنه في حالة مرضية تكاد تكون نفس الحالة التي كان يحسّها في الماضي عند بداية نوبات مرضه القديم. كان يعلم أنه يصبح في تلك الفترات ذاهلاً إلى أبعد حدود الذهول، وأنه يتفق له عندئذ أن تختلط عليه الأشياء وتتشابه عليه الوجوه، إذا هو لم ينتبه إليها انتباهاً خاصاً مشدوداً. غير أن هناك سبباً خاصاً كان يدفعه إلى التحقق من أنه وقف أمام تلك الدكان فعلاً حينذاك. لقد كان بين الأشياء المرتبة في الواجهة الزجاجية شيء نظر إليه حتى لقد قدّر له ثمناً هو ستون كوبكاً. إنه يتذكر هذا الأمر رغم شروده ورغم اضطرابه. فإذا كانت تلك الدكان موجودة، وإذا كان ذلك الشيء موجوداً في الواجهة بالفعل، فإنما يكون قد توقف هناك بسبب ذلك الشيء. ويترتب على هذا أن هذا الشيء قد همّه في ذاته إلى درجة بعيدة فلفت انتباهه حتى في حالة الاختلاط الأليمة تلك التي كان عليها حين خرج من المحطة. مشى الأمير وهو ينظر إلى اليمين بما يشبه أن يكون خوفاً، وقلبه يخفق من شدة القلق وفرط نفاد الصبر. ولكن ها هي ذي الدكان. لقد وجدها أخيراً! كان قد ابتعد عنها قرابة خمسمائة خطوة حين قرر أن يقفل راجعاً. وها هو ذا الشيء الذي قدر له ثمناً هو ستون كوبكاً. قال الأمير مؤكداً تقديره: «نعم، ستون كوبكاً، إنه لا يساوي أكثر من ذلك!». وضحك. لكن ضحكه كان هستيرياً. وشعر بثقل في قلبه، وانقباض في صدره! وهو يتذكر الآن تذكّراً واضحاً أنه منذ قليل، في هذا المكان نفسه، أمام هذه الواجهة ذاتها، قد التفت بقوّة، كما التفت في الصباح حين فاجأ نظرة يلقيها عليه روجويين. فلما تأكد أنه لم يخطئ الظنّ (وذلك أمر كان موقناً به يقيناً مطلقاً حتى قبل أن يتحقق منه)، ترال الدكان وبتعد مسرعاً. إن عليه أن يفكر في هذا كله بأقصَى سرعة. لقد وضح الآن أن ما حدث في المحطة لم يكن وهماً كذلك، وأنّ شيئاً واقعياً لا شك أنه ذو صلة بكل قلقه السابق قد حدث له فعلاً. إلا أن نوعاً من نفوز داخلي لا يقاوم قد تغلب عليه أيضاً، فلم يشأ أن يفكّر. لقد عدل عن التفكير عدولاً تاماً، وها هو ذا يفكر في أمور أخرى.
تذكّر، فيما تذكّر، أن نوبات الصرع التي كان يعانيها، كانت تشتمل على لحظة تسبق النوبة بزمن قصير جداً (وذلك حين توافيه النوبة أثناء اليقظة لا أثناء النوم)، لحظة يضطرم فيها ذهنه فجأةً وسط الحزن وظلمات النفس والاختناق، وتستعر فيها جميع قواه الحيوية دفعة واحدة، فيتضاعف إحساسه بالحياة، ويشتد وعيه لذاته. إن الفكر والقلب يشرقان عندئذ بضياء ساطع، فإذا باضطرابه وشكوكه وقلقه ومخاوفه تهدأ على الفور، وتصير إلى نوع من طمأنينة عُليا زاخرة بوعي لعلة العلل وغاية الغايات. غير أن تلك اللحظات أو الومضات ليست، بعدُ، إلا استشرافاً للهنيهة الأخيرة، للثانية الأخيرة التي تبدأ بها النوبة. هي ثانية لا تُطاق طبعاً. ولقد كان إذا فكر في هذا بعد أن تعود إليه صحته، كان يقول لنفسه: ما هذه الومضات وهذه الإشراقات التي نظنّ أنها ومضات وإشراقات «وعي أعلى، ومن ثمّ حياة عُليا»، ما هي إذاً إلا مرض، ما هي إلا فساد الحالة السليمة، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن ثمة حياة عُليا، بل حالة يجب أن تعدّ من أدنى الحالات!... ومع ذلك قاده هذا إلى استنتاج مفارق غريب إلى أبعد حدود المفارقة والغرابة فقال يحسم الأمر: «أيّ ضير في أن تكون هذه الحالة مرضاً، أي ضير في أن تكون هذه الحالة حالة توتر غير سويّ، ما دامت النتيجة، أي ما دامت تلك اللحظة التي يتذكرها المرء ويتأملها حين تعود إليه صحته تبدو له أعلى درجة من درجات الاتّساق والانسجام والجمال، وما دامت تحدث له عاطفة لا عهد له بها ولا خطرت بباله، هي عاطفة التمام والامتلاء، والقصد والاعتدال، والسكينة والطمأنينة، والاندماج بالصلاة في أعلى مركّب للحياة؟» كانت هذه التعبيرات الضبابية تبدو له مفهومة تماماً، رغم أنها ما تزال ضعيفة غير قوية. أمّا أن ثمة «جمالاً وتواصلاً بالصلاة» و«مركّباً أعلى للحياة» في حقيقة الأمر، فذلك ما لم يكن يراوده فيه ريب ولا يمكن أن يقبل فيه أي شك. ذلك أن ما يحسه في تلك اللحظات ليس أخيلة سراب أو رؤى أحلام مرضية باطلة، كتلك التي تنشأ عن الحشيش أو الأفيون أو الخمر، مما ينحدر بالعقل ويفسد النفس. إن في إمكانه أن يحكم في هذا حكماً سليماً عند الخروج من حالته المرضية. لا، لا، أن تلك اللحظات إنما هي جهد خارق في سبيل الوعي – إذا كان لا بد من وصف تلك الحالة بكلمة – وهو في الوقت نفسه التعبير المباشر عن الوعي ذاته. وإذا كان يتفق له أن يقول لنفسه بوضوح وجلاء في تلك الثانية، أعني في تلك اللحظة الأخيرة التي تسبق الغيبوبة: «نعم، إن المرء مستعدّ لأن يهب حياته كلها في سبيل هذه اللحظة»، فإنه كان واثقاً كل الثقة بأنّ هذه اللحظة تساوي حياةً بكاملها حقاً. على أنه كان يحرص حرصاً شديداً على الجانب الجدلي المنطقي من استنتاجه، فإنّ خبال العقل واضطراب النفس وبلاهة الذهن كانت تبدو له نتيجة واضحة لتلك «اللحظات العليا»، فلو أراد أحد أن يشرع في مناقشة جادّة معه حول هذا الموضوع لرفض المناقشة. لا شك أن استنتاجه، أعني تقديره لتلك الثانية، كان يشتمل على خطأ، ولكن واقعية الإحساس ذاته كانت تفرض نفسها عليه وتقلقه. كيف يمكنه أن لا يقيم وزناً للواقع، كيف يستطيع أن لا يعبأ بالواقع؟ ذلك أن ما حدث له قد حدث له حقاً، في الواقع؛ ولقد قال لنفسه فعلاً أثناء تلك الثانية أن هذه الثانية بما تحمله إليه من سعادة غير ذات حدود، يمكن أن تساوي حياة بكاملها.
لقد قال ذات يوم لروجويين أثناء لقاءاتهما بموسكو: «في تلك اللحظة يصبح ما جاء في رؤيا يوحنا مفهوما عندي، وهو قوله الخارق: «لن يكون يومئذ زمان» . وقد أضاف الأمير يقول حينئذ مبتسماً: «لعل هذه اللحظة هي تلك اللحظة نفسها التي لم تتسع لأن ينسكب خلالها على الأرض ماء الجرّة التي قلبها النبي محمد حين وافته غيبوبته، لكنه استطاع خلالها أن يرَى وأن يتأمّل جميع السماوات».
نعم، كان يتفق له بموسكو أن يلقى روجويين في أحيان كثيرة، وكانت تجري بينهما أحاديث في موضوعات أخرى أيضاً.
«لقد قال لي روجويين منذ قليل إنني كنت له بمثابة أخ. إن روجويين يتكلم بهذه اللغة اليوم لأول مرّة». هذا ما خطر ببال الأمير. خطر بباله وهو جالس على دكة تحت شجرة في «حديقة الصيف». كانت الساعة في نحو السابعة من المساء. الحديقة خالية. وهذه سحابة دكناء تحجب الشمس عند غروبها. الهواء خانق كأنما توشك أن تهب زوبعة. والأمير مرتاح إلى حالة التأمّل هذه. كان بذكرياته وفكره يتعلق بأي شيء يقع عليه بصره. إن هذا يسُرُّه ويرضيه. وكان ما ينفك يشعر برغبة في نسيان شيء ما، شيء راهن، شيء أساسي. ولكنه ما أن ينظر حواليه حتى تعود إليه الفكرة المحاصرة التي كان يودّ أن يتخلص منها. لقد تذكر، في لحظة من اللحظات، الحديث الذي جرى بينه وبين خادم المطعم عن جريمة القتل الغريبة كل الغرابة، التي وقعت منذ مدّة قصيرة، وأثارت كثيراً من الصخب والمناقشات. ولكنه ما كاد يتذكر هذا حتى حدث له شيء غريب أيضاً.
إن رغبة ذات قوة خارقة لا تغالب، رغبة توشك أن تكون غواية، قد سلبته إرادته. فنهض عن الدكة التي كان جالساً عليها، وخرج من الحديقة، ومضى قُدُماً نحو الضفة اليمنى. إنه منذ قليل، حين كان على أرصفة نهر نيفا، قد سأل أحد المارة عن ذلك الحيّ من أحياء بطرسبرج، الذي يقع وراء النهر، فدله الرجل عليه، لكن الأمير لم يذهب إلى ذلك الحيّ حينذاك. ولم يكن يفيده أن يذهب إليه اليوم على كل حال. لقد حصل على العنوان منذ مدة طويلة، وكان سهلا عليه أن يهتدي إلى منزل قريبة ليبديف لكنه كان على شبه يقين من أنه لن يجدها في بيتها. «لا شك أنها سافرت إلى بافلوفسك، وإلاً لكان كوليا قد ترك كلمة في فندق «الميزان»، كما اتُّفق على ذلك». فإذا كان يتجه الآن إلى منزل قريبة ليبديف، فإنه لا يفعل ذلك من أجل أن يراها. إن هناك شيئاً آخر يغريه بالذهاب إلى هناك، شيئاً هو فضول مظلم أليم. إن فكرة جديدة مفاجئة قد ومضت في ذهنه...
ولكن كان يكفي الآن أن يسير وأن يعرف إلى أين هو يسير حتى يأخذ يمشي من جديد دون أن يلاحظ إلى أين هو يسير. وأصبح ينفر أشد النفرة من الإيغال في تحليل «فكرته المباغتة»، بل لقد أصبح يستحيل عليه ذلك.
وأخذ يُنعِم النظر في كل ما يقع عليه بصره، مركّزاً انتباهه تركيزاً أليماً... أخذ ينظر إلى السماء وإلى نهر نيفا. حتى لقد حاول أن يشرع في حديث مع طفل التقى به. لعل حالته المرضيّة كانت تتفاقم. إن العاصفة تقترب، ولو ببطء. إن رعداً يُسمع منذ الآن في بعيد. وأصبح الهواء خانقاً جداً.
وبدون سبب من الأسباب، استيقظت في ذهن الأمير ذكرَى ابن أخت ليبديف، الذي رآه منذ ساعات، وأخذت تفرض نفسها عليه بغير انقطاع، كما تفرض نفسها على المرء جملة موسيقية تحاصره فيظل يردُّدها وقد ضاق بها أشدّ الضيق. شيء غريب: أن ابن أخت ليبديف يتراءى له الآن بملامح القاتل الذي جاء ليبديف نفسه على ذكره حين عرّفه بابن أخته، والذي كان الأمير قد قرأ قصته منذ مدة قصيرة. كان الأمير، منذ وصوله إلى روسيا قد قرأ كثيراً وسمع كثيراً عن أمثال هذه القصص؛ وكان يتابع هذه المسائل باهتمام شديد وإصرار عنيد. حتى إنه أثناء حديثه مع خادم المطعم قد أظهر اهتماماً قوياً بتلك الجريمة نفسها التي كانت أسرة جيرامين ضحيتها. وهو يتذكر الآن أن الخادم الفتى ليس بالغبيّ البتة، فيه رصانة ووقار، وفيه روية وتعقل، «ولكن الله وحده يعلم ما حقيقته. إن من الصعب على المرء أن ينفُذ إلى أعماق أناس جدّد في بلد جديد». وبدأ الأمير مع ذلك يؤمن بالنفس الروسية إيماناً قوياً حاراً. ألم يلاحظ، خلال هذه الأشهر الستة، أشياء كثيرة، جديدة عليه، لا عهد له بها من قبل، ولم تخطر له ببال، ولا كان يتوقعها بحال من الأحوال؟ ولكن نفس الآخر ظلمات، والنفس الروسية ظلمات، ظلمات فوق ظلمات، أمام كثير من الناس. ها هو ذا قد ارتبط بروجويين، منذ مدة طويلة، ارتباطاً وثيقاً، ارتباطاً «أخوياً»، ولكن هل هو يعرف روجويين؟ ثم إن هذا كله يشتمل في بعض الأحيان على كثير من الغموض والفوضى والاضطراب والاختلاط والصّغار! وابن أخت ليبديف ذاك... يا له من فتى دعيّ دنيء كريه! «فعلاً، بماذا أسأت إليه؟ (كذلك تساءل الأمير) أهو الذي قتل أولئك الأشخاص الستة؟ يبدو أنني أخلط... شيء غريب!... إنني أشعر بدوار... ولكن ما أجمل وألطف محيّا ابنة ليبديف الكبرَى... تلك التي كانت تحمل الطفل بين ذراعيها!... وما كان أصفى تعبير وجهها، وما كان أروع ضحكتها التي تكاد تكون ضحكة طفلة صغيرة!». غريب أن ينسى ذلك الوجه وأن لا يتذكره إلا الآن! إن ليبديف الذي يقرع الأرض بقدميه ليروّعهم، لعله يحبّهم جميعاً أعظم الحُب، لعله يعبدهم عبادة. والأمر الثابت الذي لا شك فيه ولا يقل يقيناً عن أن اثنين زائد اثنين تساوي أربعة، هو أن ليبديف يحب ابن أخته كذلك حباً عظيمًا.
ثم كيف أمكنه أن يتولى إصدار حكم مبرم عليهم، هو الذي وصل منذ مدة قصيرة؟ كيف يحق له أن يصدر أحكاماً من هذا النوع؟ هذا ليبديف نفسه: ألم يظهر اليوم أنه لغز؟ أنه مشكلة؟ هل كان يتوقع أن يجد ليبديف هكذا؟ هل عرفه حتى اليوم في هذه الصورة؟ ليبديف وكونتيسة باري... رباه! إذا قُتل روجويين فإنه لن يُقتل على هذا النحو المشوّش على الأقل. لن يكون هناك فوضى كهذه الفوضى. سلاح يُطلب صنعه وفقاً لرسم معين، وستة أشخاص يُذبحون دُفعة واحدة في نوبة هذيان وجنون! لا، إن روجويين لا يطلب صنع سلاح وفقاً لرسم معيّن... ولكن هل ثابتٌ إذاً أن روجويين سيقتل؟ ارتعش الأمير، وهتف يخاطب نفسه وقد اصطبغ وجهه بحمرة شديدة من الشعور بالخجل والعار: «أليست جريمةً، أليست حِطّة مني أن أفترض هذا الافتراض بمثل هذه الصراحة السفيهة؟».
وتسمّر في مكانه مذهولاً. لقد تذكّر فجأةً محطة بافلوفسك التي كان فيها منذ حين، ومحطة نيقولا، والسؤال المباشر الذي ألقاه عليه روجويين عن «النظرة»، وصليب روجويين الذي يحمله هو الآن معلقاً بعنقه، ومباركة أم روجويين التي قاده إليها روجويين من تلقاء نفسه، والمعانقة التشنجية الأخيرة، وتنازل روجويين له عن حبيبته تنازلاً نهائياً أعلنه روجويين منذ قليل وهو على سُلّم البيت. وبعد ذلك يفاجئ نفسه باحثا متصلا عن ما حوله... وتلك الدكان... وذلك الشيء المعروض في الواجهة الزجاجية، الذي قدّر له ثمناً هو ستون كوبكاً... يا للحطة والصّغار!... وها هو ذا الآن يسير إلى «هدف خاص» تدفعه إليه تلك «الفكرة المباغتة». كان الكمد والألم قد استوليا على نفسه استيلاءً تاماً. وأراد الأمير أن يعود إلى الفندق رأساً. حتى لقد استدار وأخذ يمشي في اتجاه الفندق، لكنه لم يلبث أن وقف بعد دقيقة واحدة، ففكر وعاد يسير في اتجاهه الأول.
وكان قد بلغ الضفة اليمنى وأصبح غير بعيد من المنزل. قال لنفسه مبرّراً: لا شك أنه لا يذهب الآن إلى هناك لتحقيق ذلك الغرض نفسه، ولا من أجل تلك «الفكرة الخاصة» ذاتها. كيف أمكن أن يخطر بباله هذا؟ نعم، لقد عاوده مرضه، ذلك أمرٌ لا ريب فيه: ولعل نوبةً ستوافيه في هذا اليوم نفسه. فمن اقتراب النوبة إنما تنشأ هذه الظلمات جميعها، والنوبة هي التي حملت إليه تلك «الفكرة». ولكن الظلمات تبدّدت، والشيطان ولى هارباً، ولم يبق هنالك شكوك... أن قلبه يفيض الآن فرحاً! وإنه منذ زمن طويل لم يرَها «هي»، وهو في حاجة إلى أن يراها، و... نعم... إنه يودُّ لو يرى روجويين. فلو رآه لأمسك يده وذهبا إليها معاً. إن قلبه طاهر نقيّ... أهو منافس لروجويين؟ ليذهبنّ إلى روجويين منذ اليوم التالي ليقول له إنه رآها. ألم يهرع إلى هنا، كما قال ذلك روجويين منذ قليل، لسبب واحد هو أنه يريد أن يراها؟ لعله سيجدها مع ذلك في بيتها، فهو ليس متأكداً من أنها سافرت إلى بافلوفسك.
نعم، ينبغي الآن توضيح كلّ شيء، حتى يستطيع هؤلاء وأولئك من الناس أن يقرأ بعضهم ما في قلوب بعض بغير التباس أو اشتباه. فلا يكون بعد اليوم تنازلات ظلماء محمومة كتنازل روجويين، بل أفعال يقبلها المرء بحرّية ووضوح. هل يعجز روجويين عن تحمُّل الوضوح؟ لقد ادّعى أنه يحب هذه المرأة حباً لا يشتمل لا على عطف ولا على شفقة أو رأفة. صحيح أنه أضاف إلى ذلك قوله: «لعل شفقتك أكبر من حبي». ولكنه قد تقوّل على نفسه. هِمْ!... أن يأخذ روجويين في قراءة كتاب، أليس هذا وحده فعلاً يشتمل على عطف أو على بداية عطف؟ أليس وجود هذا الكتاب بين يديه دليلاً على أنه أدرك إدراكاً كاملاً ما يجب أن يكون عليه موقفه إزاء هذه المرأة؟ لا، إن في نفسه شيئاً أعمق من الوّله. وهل وجه هذه المرأة لا يوقظ في النفس الوّله؟ وهل يمكن أن يوقظ وجهها وَلهاً في هذه الآونة؟ إن وجهها لا يأسر النفس كلها إلا بالألم والعذاب اللذين يعبر عنهما، إنه...».
هنا أحسّ الأمير بذكرى كاوية أليمة تلسع قلبه. نعم، ذكرى أليمة. تذكر العذاب الذي سبق أن عاناه حين لاحظ فيها علائم جنون لأول مرّة. إنّ ذلك الاكتشاف قد رماه في هوّة اليأس حينذاك. كيف أمكنه أن يتركها حين هربت منه إلى روجويين؟ كان ينبغي له أن يندفع في ملاحقته ومطاردتها بدلاً من أن ينتظر أنباءها وأخبارها.
ولكن... هل يمكن أن لا يكون روجويين قد لاحظ أعراض جنونها حتى الآن؟ «هِمْ... إن روجويين ينسب كل ما تفعله إلى دوافع أخرى هي دوافع الهوَى! إن غيرته خطأ وضلال. ماذا أراد أن يقول بافتراضه ذاك الذي أفصح عنه منذ قليل؟». (واحمرّ الأمير فجأةً وأحسّ في قلبه بما يشبه أن يكون ارتجافاً).
ولكن ما فائدة العودة إلى هذه الذكريات؟ إن هناك جنوناً في الطرفين كليهما. أمّا فيما يتعلق به هو، فقد كان الأمير يرى أن من غير المعقول أن يحب الإنسان هذه المرأة حب غرام، بل لقد كان يرى أن ذلك أمر قاسي وغير إنساني. قال الأمير يحدّث نفسه: «نعم، أن روجويين قد تقوّل على نفسه ظالماً. أن له قلباً يزخر بالعاطفة، وهو قادر على أن يتألم وعلى أن يشعر بالشفقة. وحين سيعرف الحقيقة كلها، حين سيقتنع بأنّ هذه المرأة مخلوقة بائسة مختلة العقل شبه مجنونة، فلن يسعه إلا أن يغفر لها كل الماضي، وكل آلامها. ولسوف يصبح لها عندئذ خادماً وأخاً وصديقاً ومعيناً. سوف يردّه العطف إلى الطريق القويم، وسوف تكون هي له تعليماً من التعاليم، لأنها القانون الأساسي وربما القانون الوحيد الذي يحكم الوجود الإنساني». ما أشدّ ندم الأمير الآن على السلوك الذي سلكه مع روجويين، وهو في نظره سلوك غير شريف، سلوك لا يغتفر، لا، ليست النفس الروسية هي الظلمات، ليست هي اللغز، وإنما اللغز نفسه هو، لأنه أمكن أن يتخيّل تلك الشناعة. إن روجويين قد وصفه بأنه أخ، لا لشيء غير بضع كلمات فيها حرارة ومودّة قالها له بموسكو، فما باله هو... ولكن ذلك كله لم يكن إلا مرضاً، لم يكن إلا هذياناً... سوف ينقضي كل هذا. ما أغرب تلك الهيئة المتجهمة التي بدت على روجويين حين قال له منذ قليل إنه «بسبيل فقد إيمانه»! لا بدّ أن الرجل يعاني ألماً رهيباً. هو يدّعي أنه «يحب أن ينظر إلى لوحة هولباين»: ليست المسألة أنه يحب أن ينظر إليها، بل المسألة أنه يشعر بحاجة إلى ذلك. إن روجويين ليس ذا طبيعة ملتهبة فحسب، بل هو كذلك ذو مزاج مناضل: إنه يريد استرداد الإيمان الذي فقده، يريد استرداده بأي ثمن، مهما يكلفه ذلك من عناء. إنه يشعر الآن بضرورة ذلك، وهو من هذا في ألم شديد... نعم، الإيمان بشيء، الإيمان بأحد! ولكن ما أغرب تلك اللوحة، لوحة هولباين!...آ... هذا هو الشارع، وربما هذا هو المنزل الذي أبحث عنه... نعم، هذا هو المنزل: رقم 16، «دار زوجة الموظف فليسوف». هذه هي الدار.
قرع الجرس، وطلب ناستاسيا فيليبوفنا.
فأجابته صاحبة الدار بنفسها قائلة إن ناستاسيا فيليبوفنا قد سافرت منذ الصباح إلى بافلوفسك، وإنها نزلت ضيفة على داريا ألكسيفنا، «وإنها قد تمكث عندها بضعة أيام». إن السيدة فليسوفا امرأة قصيرة في نحو الأربعين من العمر مدببة الوجه حادة العينين، لها نظرة ماكرة فاحصة. سألت الزائر عن اسمه وقد لاح في وجهها شيء من معنى السرّ. فأراد الأمير في أول الأمر أن لا يجيب عن سؤالها، لكنه ما لبث أن عدل عن رأيه، فعاد ليرجوها ملحّاً أن تنقل اسمه إلى ناستاسيا فيليبوفنا. فسجلت السيدة هذه التوصية بكثير من العناية والاهتمام، مصطنعة لهجة خاصة هي لهجة المسارّة فكأنها تريد أن تقول: «لا تخف. لقد فهمت!». يظهر أن اسم الزائر قد أحدث في نفسها أثراً قوياً. ألقى الأمير عليها نظرة ذاهلة، واستدار على عقبيه، وعاد يسير في الطريق المؤدية إلى فندقه. لكنّ حالته الآن لا تشبه الحالة التي كان عليها حين قرع جرس باب السيدة فليسوفا. لقد تغير مظهره كله في طرفة عين: فهو الآن يسير شاحب الهيئة، واهن العزم، معذب النفس، قلقاً مضطرباً؛ ركبتاه تترنحان، ابتسامة حائرة تلم بشفتيه المزرقتين: إن «فكرته المباغتة» قد جاء الآن ما يؤكدها ويبررها. وأحسن الأمير مرّة أخرى أن الشيطان سيطر عليه. فما الذي حدث فأكد فكرته وبرّرها؟ لماذا يعتريه مرة أخرى هذا الارتجاف، وهذا العرق البارد، وهذه الظلمات الكثيفة في النفس؟ ألأنه رأى «تينك العينين» من جديد؟ ولكن ألم يتعمّد أن يترك «حديقة الصيف» لغرض واحد هو أن يراهما؟ تلك كانت «فكرته المباغتة». لقد شعر برغبة قوية عنيفة في أن يرَى «تينك العينين» اللتين رآهما منذ قليل ليقتنع اقتناعاً نهائياً بأنه سيجدهما لا محالة هناك، قرب تلك الدار. فإذا كان قد رغب في رؤيتهما تلك الرغبة القوية الحارة كلها، فلماذا أُرهق هذا الإرهاق كله واضطرب ذلك الاضطراب كله حين رآهما، كأنه أمام حادث لم يكن في حسبانه؟ نعم، إنهما نفس «تينك العينين» (لا مجال للشك في هذا الآن) اللتين رشقتاه بنيرانهما صباحا في محطة نيقولا وسط الجمهور حين نزل من القطار. وهما نفس «تينك العينين» (تماما) اللتين شعر بثقلهما على كتفيه، بعد الظهر، في منزل روجويين، حين كان يهُمّ أن يجلس، لقد أنكر روجويين ذلك. حتى لقد سأل وهو يبتسم ابتسامة متقلصة باردة كالصقيع: «هما عينا مَن؟». وهاتان العينان نفسهما، رآهما الأمير مرّة أخرى، مرّة ثالثة في ذلك اليوم نفسه، قبل برهة قصيرة، في محطة خط تسارسكوي ، عندما هَمّ أن يركب القطار مسافراً لرؤية آجلايا. لقد راودته عندئذ رغبة محمومة مسعورة في أن يقترب من روجويين وأن يقول له «هما عينا مَن؟». ولكنه خرج من المحطة مسرعا، ثم لم يثُب إليّ وعيه إلا أمام دكان بائع سكاكين، فقدَّر لشيء رآه في الواجهة الزجاجية، شيء له نصاب من قرن الوعل، قدّر له ثمناً هو ستون كوبكًا.
إن شيطاناً عجيباً رهيباً قد استولى عليه استيلاءً نهائياً، وأصبح لا يريد أن يتركه. فذلك الشيطان هو الذي أوحَى إليه أثناء تأمّله جالساً تحت شجرة زيزفون في «حديقة الصيف»، أن روجويين يلاحق كل خطوة من خطواته منذ الصباح، حتى إذا عرف أنّ الأمير لن يسافر إلى بافلوفسك (وهذا وحده نبأ رهيب عنده) قرّر أن يذهب «إلى هناك»، إلى حي بطرسبرج القديمة، ليترقّب ما حول الدار وحول ذلك الرجل الذي عاهده في ذلك اليوم نفسه «على أن لا يزورها»، وقال له: «إنه لم يأت إلى بطرسبرج لهذا الغرض».
حينئذ هرع الأمير إلى تلك الدار باندفاعة مباغتة. فأي غرابة إذن في أن يلقى هنالك روجويين؟ إنه لم يرَ إلا رجلاً شقياً بائساً تعذبه خواطر مظلمة لكنها مفهومة. ثم إن ذلك الرجل السيئ الحظ لم يحاول أن يختبئ، نعم، لا شك أن روجويين قد كذب حين أنكر أثناء الحديث الذي جرّى بينهما بعد الظهر. لكنه في محطة تسارسكوي قد ظهر دون اختباء تقريباً. وإذا كان قد اختبأ أحد فإنّ الأمير هو الذي اختبأ لا روجويين الذي يقف الآن قرب الدار. لقد وقف روجويين منتظراً على الرصيف المقابل، على مسافة خمسين متراً، عاقداً ذراعيه فوق صدره. واضح أنه لا يحاول الاختباء، حتى لكأنه يرغب في أن يُرَى. إن موقفه هو موقف المتهم، هو موقف القاضي، لا موقف ال... موقف مَن... فعلا؟
ولكنّ الأمير، بدلاً من أن يقترب منه، مضى مبتعداً كأنه لم يلمحه، مع أنّ أعينهما قد التقت، فلماذا؟ (نعم، لقد التقت أعينهما، وتبادلا نظرة). ألم يكن ينوي قبل ذلك هو نفسه أن يمسك يده وأن يذهب إلى هناك، في صحبته؟ ألم يكن ينوي أن يمرّ به في اليوم التالي ليقول له إنه ذاهب إليها؟ ومنذ قليل، في منتصف طريقه إلى الدار، ألم يتحرّر من شيطانه حين غمرت نفسه فرحة مفاجئة؟ أم تُرَى كان في شخص روجويين أو قل في الوضع العام لهذا الرجل، «طوال ذلك اليوم»، أي في مجموع أقواله وحركاته وأفعاله ونظراته، شيء يمكن أن يبرَّر توجّسات الأمير الرهيبة وإيحاءات شيطانه المثيرة؟
ذلك كله كان يشتمل على ملاحظات تخطف البصر، ولكن يصعب تحليلها وترتيبها، ويستحيل كذلك أن يُنسَب إليها أساس منطقي. ومع ذلك، رغم هذه الصعوبة، ورغم هذه الاستحالة، كانت تُحدِث انطباعاً إجمالياً لا يمكن التخلص منه، انطباعاً يتحوّل من تلقاء نفسه إلى اقتناع مطلق.
اقتناع، ولكن بماذا؟ آه... لشدّ ما كان السخف العجيب و«الدناءة المنحطة في هذا الاقتناع» والصّغار الشديد في «هذا التوجُّس»، لشدّ ما كان هذا كله يعذّب الأمير؛ وما أعنف اللوم والتقريع اللذين كان الأمير يأخذ بهما نفسه لهذا كلّه! كان الأمير يقول لنفسه مكرّراً معنفاً بلهجة الاتهام والتحدي: «أفصح عن ذلك الاقتناع بصراحة على الأقل، إن كنت لا تجرؤ! عبّر عن فكرتك بوضوح، بدقة، بغير مواربة ومداورة! آوه! أنا إنسان غير مستقيم، غير شريف! (هذا ما كان يضيفه وقد اعترته نوبة استياء وتخَضّب وجهه بحمرة شديدة). بأي عين سأجرؤ أن أرَى هذا الرجل بعد الآن طوال حياتي؟ آه... يا لهذا اليوم! يا رب! ما هذا الكابوس الثقيل!...»
وفي ختام هذه العودة الطويلة الشاقة من حيّ بطرسبرج القديمة، جاءت دقيقة استبدّت بالأمير خلالها رغبة قوية لا تقاوم في أن يذهب إلى روجويين فوراً، وأن يعانقه ساكباً دموع الندامة، وأن يقول له كل شيء، فيفرغ من هذه القضية دفعة واحدة. ولكنه كان قد وصل إلى الفندق..
إن الفندق، والممرات التي فيه، والغرفة التي نزلها الأمير، والمبنَى نفسه، إن ذلك كله قد أثار انزعاج الأمير إلى أقصى حدّ، منذ أول وهلة. وقد شعر عدة مرات خلال ذلك النهار بنفور خاص واشمئزاز شديد حين كان يتصور أن عليه أن يعود إلى ذلك الفندق. وها هو ذا الأمير يقول مخاطباً نفسه: «ولكن ماذا أصابني؟ إنني أشبه امرأة مريضة... فأنا أؤمن اليوم بجميع أنواع التوجسات ومشاعر التنبّؤ!». قال الأمير ذلك لنفسه بلهجة فيها غضب وسخرية. وحين وافته هذه الفكرة، توقف أمام الباب الكبير. إن حادثاً واحداً من بين جميع أحداث النهار يحتكر في هذه اللحظة فكره، لكن الأمير يواجهه الآن «بهدوء وبرود»، «مالكاً كامل عقله»، «لا من خلال كابوس ثقيل». لقد تذكر السكين التي كانت على مائدة روجويين. وها هو ذا يتساءل مستغرباً فكرته نفسها: «ولكن أي غرابة في أن يكون على مائدة روجويين ما يشاء من سكاكين؟». وتضاعف استغرابه حين تذكر، على حين فجأة، توقفه بعد الظهر أمام دكان بائع السكاكين. وها هو ذا يهتف قائلاً: «ولكن! عجيب!.. أي علاقة يمكن أن تكون بين.. ». ولم يكمل جملته. إن نوبة جديدة من الشعور بالخجل والخزي، بل ومن الشعور بالكمد واليأس تقريباً، قد سمّرته في مكان أمام الباب. ولبث جامداً برهة من الوقت لا يتحرّك. إنها لظاهرة تحدث كثيراً، أن تستيقظ في ذهن المرء ذكرى لا تطاق، ذكرى رهيبة، فإذا هي تشلُّه عن الحركة بضع ثوانٍ. قال الأمير يكرّر لنفسه متجهم الوجه مظلم الهيئة: «نعم، أنا إنسان بلا قلب، أنا رجل جبان!»، وتحرّك إلى أمام ليدخل، ولكنه... توقف من جديد.
إن مدخل الفندق، وهو في العادة قليل الضوء، كان عندئذ مظلماً ظلاماً حالكاً، بسبب اقتراب هبوب العاصفة التي أعتمت نهاية ذلك النهار. وقد هبّت العاصفة في اللحظة التي عاد فيها الأمير، وأخذت تهطل أمطار غزيرة كالسيول. فلمّا همّ الأمير أن يدخل بعد وقفة قصيرة عند عتبة الباب الخارجية، لمح في الداخل على حين فجأة، رجلاً واقفاً في الظلام على أول السُلّم. كان يبدو على هذا الرجل أنه ينتظر شيئاً، لكنه سرعان ما غاب في مثل لمح البصر سرعةً. وإذا لم يميّز الأمير قسمات وجهه، فإنه لا يستطيع أن يقول جازماً من هو على وجه الدقة لا سيّما أن بشراً كثيرين يمرّون هناك، ففي كل فندق حركة لا تنقطع، والناس بين داخل وخارج وسائر في الممرات. غير أن الأمير قد اقتنع على الفور اقتناعاً تاماً لا يتزعزع بأنه قد تعرّف ذلك الرجل وأن ذلك الرجل لا يمكن أن يكون أحداً آخر غير روجويين. وها هو ذا يسرع مقتفياً أثره مطارداً خطاه على السلّم. إنه محطم القلب. وقال لنفسه واثقاً: «سيتضح الآن كلُّ شيء!».
إنّ السلّم الذي اندفع فيه الأمير يفضي إلى ممرات الطابق الأول والطابق الثاني. إنّه سلّم من حجر، كسلالم جميع المباني القديمة، وهو مظلم ضيّق، يصعد ملتفاً حول عمود ضخم. وقد جُعلت في هذا العمود عند الفسحة الأولى فجوة لا يزيد طولها عن قدم ولا يزيد عرضها عن نصف قدم عمقاً، فيستطيع رجل أن يقف فيها. فلما وصل الأمير إلى هذه الفسحة لاحظ على الفور، رغم الظلام، أنّ أحداً كان مختبئاً في الفجوة، فأراد في أول الأمر أن لا يكترث بالأمر وأن يتخطى الفسحة دون أن ينظر إلى يمين ولكنه لم يكد يتقدّم خطوة واحدة حتى أصبح لا يستطيع أن يسيطر على نفسه فالتفت.
عندئذ التقت بعينيه العينان اللتان التقتا بهما بعد الظهر، «العينان نفسيهما»، التقتا بعينيه فجأة. إن الرجل الذي كان مختبئاً في الفجوة قد تقدّم خطوة ليخرج منها. وبقي الرجلان واقفين وجهاً لوجه، متلامسين تقريباً، خلال ثانية. ثم أمسك الأمير الرجل من كتفيه وجرّه في السّلم نحو الضوء ليتفرّس فيه مزيداً من التفرَّس.
سطعت عينا روجويين، وتقلّصت شفتاه بابتسامة حنق. ورفع يده اليمنى التي كانت تشهر أداة من الأدوات. لم يخطر ببال الأمير أن يصدّه. ولكن الأمير تذكر، فيما بعد، أنّه صرخ يقول:
– روجويين! لا أصدق هذا!
لقد بدا للأمير عندئذ أن شيئاً ما يفغر أمامه على حين فجأة. إن ضياء «داخلياً» ذا سطوع خارق قد أثار نفسه. لعل الأمر لم يدُم إلّا نصف ثانية. ولكن الأمير احتفظ بذكرى واضحة واعية عن النبرة الأولى للصرخة الفظيعة التي انطلقت من صدره والتي تعجز جميع قواه عن كبحها. ثم انطفأ شعوره في لحظة، وغاب في الظلمات.
لقد اعترته نوبة صرع، وذلك أمر لم يحدث له منذ زمن طويل جداً. تعلمون أن هذه النوبات تباغت المريض مباغتةً، فيتشوّه عندئذ وجهه وتتشوّه نظرته تشوّهاً سريعاً لا يُصدّق. إن تشنجات وتقبُّضات تقلّص جسمه كله وقسمات وجهه جميعها. وإنّ أنّاتٍ رهيبة لا يتصوّرها الخيال ولا يمكن أن تشبّه بشيء، تخرج عندئذ من صدره. هي أنّات ليس فيها ما يذكّر بالإنسان؛ ويصعب بل ويستحيل أن يتخيّل المرء حين يسمعها أن هذا المسكين هو الذي يطلقها، وإنما يميل به الظنّ إلى الاعتقاد بأنها صادرة عن كائن آخر مختبئ في داخل المريض. هذا، على الأقل، ما يقوله كثير من الأشخاص حين يريدون أن يصفوا شعورهم إزاء تلك الأنّات. إن منظر المريض الذي اعترته نوبة الصرع يحدث في نفوس كثير من الناس رعباً لا سبيل إلى مغالبته.
لعل روجويين قد شعر بمثل ذلك الرعب المفاجئ. ولعل هذا الرعب المفاجئ حين أضيف إلى انفعالات أخرَى هو الذي جمّده في مكانه فأنقذ الأمير من طعنة السكين التي كانت ستقتله لا محالة. لم يتسع وقت روجويين لأن يدرك النوبة التي جندلت خصمه. ولكنه حين رأى خصمه يترنح ويسقط منقلباً على السلم فجأة، مصطدماً برأسه على إحدَى الدرجات، أسرع يهبط الدرجات أربعاً أربعاً، متحاشيًا الجسم المتمدد، وولَّى هاربًا من الفندق كالمجنون.
وكان من شأن التشنجات والتقبّضات أن دحرجت الجسم درجة درجة (وكان عدد الدرجات لا يزيد على خمس عشرة) حتى أسفل السلَّم، ولم تمض خمس دقائق حتى اكتُشف فاحتشد الناس من حوله. وكانت بركة من الدم تحيط برأسه فأثار ذلك شكوكاً وشبهات: أحادثة طارئة أم جريمة مقترفة؟ غير أن عدداً من الأشخاص لم يلبثوا أن أدركوا أن الأمر أمر نوبة صرع. وتعرّف خادم الفندق الأمير، فقال إنه نزيل من نزلاء الفندق قدم في هذا الصباح. ثم تبدّدت الشكوك والشبهات تبدُّداً تاماً بفضل مصادفة سعيدة جاءت في أوانها.
إن كوليا إيفولجين الذي كان قد وعد بأن يأتي إلى فندق «الميزان» قبل الساعة الرابعة ثم عدل عن رأيه فسافر إلى بافلوفسك، قد رفض، لسبب لم يكن في الحسبان، أن يتغدى عند الجنرال إيبانتشين؛ وعاد إلى بطرسبرج، وأسرع إلى «فندق الميزان» فوصله في الساعة السابعة من المساء. فلمّا وجد الرسالة التي تبلغه أن الأمير بالمدينة، هرع إلى العنوان المشار إليه في الرسالة. فقيل له في الفندق أن الأمير قد خرج. فنزل إلى قاعة الطعام ينتظره وهو يحتسي الشاي ويصغي إلى أنغام الأرغن الآلي. وشاءت المصادفة أن يسمع النبوءة أن الرجل قد يكون هو الأمير، فأسرع إلى مكان الحادث فتعرّف الأمير فعلاً. وسرعان ما اتُخذت الإجراءات اللازمة فأصعد الأمير إلى غرفته. وقد ثاب إلى الأمير بعض شعوره، لكنه لم يستردّ وعيه كاملاً إل بعد مدة طويلة. وقال الطبيب الذي استُدعي لفحص جروح الرأس إن الإصابات بسيطة ليس فيها خطر، ونصح للرضوض بكمادات. وبعد ساعة من الزمن كان الأمير قد عاد يعي كل ما يحيط به وعياً كاملاً. وعندئذ نقله كوليا بالعربة من الفندق إلى دار ليبديف. فاستقبله استقبالاً فيه كثير من الاهتمام والرعاية والاحترام. حتى لقد قدّم ليبديف في سبيله موعد السفر إلى الريف، فبعد ثلاثة أيام كان الجميع في بافلوفسك.
الفصل السادس
إن منزل ليبديف في الريف فيلا صغيرة لكنها مريحة بل وجميلة. والجزء المُعَدّ للتأجير منها قد أُوليَ عناية خاصة. ففي الشرفة الواسعة المُطلة على الشارع عند مدْخل الدار وضعت أحواض كبيرة من خشب مدهون باللون الأخضر، فيها شجيرات برتقال وليمون وياسمين صُفّت صفاً لا بدّ أن يكون له أجمل الأثر، في تقدير ليبديف وفي حسابه. إن عدداً من هذه الشجيرات قد اشتُري مع العقار نفسه؛ وبلغ ليبديف من إعجابه وافتنانه باصطفافها على الشرفة أنه انتهز فرصة بيع بالمزاد فاشترى عددا آخر من نوعها؛ فلمّا نقلت الشجيرات كلها إلى الفيلا ووضعت في مكانها، أصبح ليبديف يهبط درجات الشرفة عدة مرات كل يوم ليتأمّل منظرها من الشارع، حاسباً في كل مرة الزيادة التي سيطلبها من المستأجر.
أعجب الأمير بالفيلا كثيراً، وكان ما يزال واهن الجسم، خائر القوة، محطّم البدن. الواقع أنه منذ وصوله إلى بافلوفسك، أي في اليوم الثالث الذي انقضَى على نوبة الصرع، كان قد استردّ مظهر الصحة والعافية، ولكنه لمّا يشعر بأنه أبل إبلالاً تاماً. وقد أسعده أن يرى من حوله ناساً خلال تلك الأيام الثلاثة: كوليا الذي لا يكاد يتركه، وأسرة ليبديف (باستثناء ابن الأخت الذي رحل لا يُعْرَف إلى أين)، وليبديف نفسه. حتى لقد سرّه أن زاره الجنرال إيفولجينا ببطرسبرج قبل سفره.
وفي ذلك المساء الذي وصل فيه إلى بافلوفسك، اجتمع حوله على الشُرفة عدد من معارفه، رغم أن الوقت متأخر: جاء جانيا أول من جاءوا، فلم يكد يتعرّفه الأمير من شدّة تغيّره وفرط نحوله وهزاله؛ ثم جاءت فاريا ومعها بتتسين، وكانا يصطافان في بافلوفسك أيضاً. وكان الجنرال إيفولجين يلبث عند ليبديف طوال الوقت تقريباً، وكأنه انتقل معه، وكان ليبديف يبذل قصاراه ليبقيه بقربه وليمنعه من مقاربة الأمير. وكان يعامله معاملة الصديق للصديق، ويبدو على الرجلين كليهما أنهما صديقان منذ عهد بعيد. وقد رآهما الأمير عدة مرات في أثناء تلك الأيام الثلاثة يندفعان في محادثات طويلة، فكانا يصيحان حتى ليبدو عليهما أنهما يتناقشان في مسائل علمية، وذلك أمر كان واضحاً أنه يلقى هوًى في نفس ليبديف. فمن رآهما قال إن ليبديف أصبح لا يستطيع الاستغناء عن الجنرال.
وكان ليبديف يتّخذ هذه الاحتياطات إزاء أسرته أيضاً، مداراة للأمير ومراعاةً له، منذ إقامتهم في الفيلا. فكان بحجة عدم إزعاج الأمير لا يدَع لأحد أن يدنو منه، فمتَى أظهر أولاده أنهم ماضون إلى الشُّرفة التي يجلس فيها الأمير، قرع الأرض بقدمه وركض وراءهم، رغم أن الأمير قد رجا أن لا يُبعَدوا عنه. وكانت فيرا نفسها، التي تحمل الطفل بذراعيها، لا تنجو من حركاته هذه، وكان يردّ على اعتراضات الأمير قائلاً:
– إن رفع التكليف هذا لا بدّ أن يؤدّي إلى قلة الاحترام، إذا نحن أجزناه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ ذلك يكون من جانبهم مجافاةً للياقة والكياسة...
فكان الأمير يعترض قائلا:
– لماذا؟ أؤكد لك أن رقابتك وقسوتك لا تزيدان على أن تحزناني. قلت لك مراراً إنني أشعر بسأم وضجر من الوحدة، وإنك تضاعف هواجسي ومخاوفي حين أراك ما تنفك تحرّك يديك بإشارات وإيماءات، وتسير على رؤوس الأصابع.
كان الأمير يلمح بذلك إلى العادة التي ألِفها ليبديف خلال هذه الأيام الثلاثة وهي أن يدخل عليه في كل لحظة، فيطرد جلساءه بحجة توفير الهدوء والسكينة للمريض. كان ليبديف يبدأ بأن يشق الباب، فيُدخل منه رأسه، ويتفحّص الغرفة كأنما ليتحقق من وجود الأمير فيها، ومن أنه لم يهرب؛ ثم يدنو من المقعد خلسة على رؤوس الأصابع، فيروع الأمير أحياناً بظهوره المفاجئ غير المتوقع، ويسأله بغتة أهو في حاجة إلى شيء؟ فإذا رجاه الأمير أخيراً أن يدعه وشأنه خرج طائعاً دون أن يقول كلمة واحدة، سائراً على رؤوس الأصابع أيضاً، محرِّكاً بيديه بإشارات وإيماءات كذلك، كأنما ليوهم بأنه لم يدخل إلا عابراً، وأنه لم يبق ثمة ما يضيفه، وأنه خارج ولن يعود. ولكنّ ذلك لا يمنعه من أن يظهر مرّة أخرى بعد ربع ساعة، إن لم يكن بعد عشر دقائق.
وكان كوليا الذي يُسمح له أن يلقى الأمير في كل لحظة بغير حظر وأن يبقى معه ما شاء أن يبقى، يثير غيرة ليبديف الذي كان يقف وراء الباب في بعض الأحيان نصف ساعة يتجسس على حديثه مع الأمير، ولم يغب عن بال كوليا طبعاً أن ينبه الأمير إلى ذلك. قال الأمير يحتج على ليبديف:
– إنك تحجر عليّ كأنك وليّ أمري. وأنا أفهم أن يكون الأمر على غير هذه الحال، على الأقل هنا في الريف. فاعلم أنني سأستقبل مَن أريد استقباله، وأنني سأذهب إلى حيث يحلو لي أن أذهب.
فأجابه ليبديف محرّكاً ذراعيه:
– طبعاً، بدون أدنى شك!
فنظر إليه الأمير من الرأس إلى القدمين:
– قل لي يا كوليان تيموفئفتش: هل نقلت إليّ هنا الخزانة الصغيرة التي كانت عندك في بطرسبرج، فوق سريرك؟
– لا، لم أنقلها!
– كيف؟ أتركتها هناك؟
– لا سبيل إلى نقلها. فلو أردت نقلها لوجب انتزاعها من الجدار. إنها مثبتة في الجدار تثبيتا قويا متينا.
– قد يكون ثقة خزانة مثلها هنا؟
– نعم، بل ثمة خزانة أفضل منها. وهذا أحد الأسباب التي دفعتني إلى شراء هذه الفيلا.
– آ... ومن هو ذلك الشخص الذي حجبت عنه الوصول إلى غرفتي منذ ساعة؟
– هو... هو الجنرال. نعم، صحيح، لم أسمح له أن يدخل. ليس هذا المكان مكانه. يا أمير، إنني أحترم هذا الرجل احتراماً عميقاً. إنه... إنه رجل عظيم، ألا تصدّقني؟ طيب... السوف ترَى!... ومع ذلك فإنّ الأفضل يا سموّ الأمير أن لا تستقبله في بيتك.
– هلاً سمحت لي أن أسألك لماذا يجب أن لا أستقبله في بيتي؟ ولماذا أراك الآن، يا ليبديف، تقف على رؤوس الأصابع وتظل تدنو مني دنوَّ مَن يريد أن يفضي إليّ بسرّ همساً في الأذن؟
أجاب ليبديف فجأة، وهو يلطم صدره بيده، قائلاً بلهجة مؤثرة:
– مَن حطتي وصَغاري! إنني أحسّ ذلك. هذا حطة وصَغار! ولكن ألا يمكن أن يكون الجنرال مضيافاً إلى حدّ الغُلُوّ، بالنسبة إليك؟
– مضيافاً إلى حدّ الغُلوّ؟ ماذا تريد أن تقول بهذا الكلام؟
– نعم، مضيافاً إلى حذ العُلُوّ! هو أولاً يهيئ نفسه لأن يستقرّ في منزلي ساكناً مقيماً. هبنا قبِلنا هذا على كل حال. ولكن المهم أنه لا يشعر بحرج، فسرعان ما يحشر نفسه في الأُسرة. لقد سبق أن درسنا معاً روابط القرابة التي تجمعنا، فلاحظنا أننا أقرباء بالمصاهرة. وأنت أيضاً تمُتُ إليه بقربى من جهة أمك. شرح لي ذلك أمس. فإذا كنت أنت قريبه، فنحن إذن قريبان يا سموّ الأمير. على كل حال، هذه مسألة بسيطة... لا تعدو أن تكون نقطة ضعف يسيرة في الجنرال وليس لها نتائج ذات بال. لكنه قد أكد لي قبل لحظة أنه طوال حياته، منذ حصل على رتبة مرشَّح إلى اليوم الحادي عشر من شهر حزيران (يونيه) من العام الماضي، لم يقل عدد الضيوف في بيته كلّ يوم عن مائتي شخص، فالمائدة لا تخلو في لحظة من اللحظات: فمن إفطار إلى غداء إلى شاي إلى عشاء خلال خمس عشرة ساعة متصلة غير منقطعة. وقد قال إن هذه الحال دامت ثلاثين عاماً بلا انقطاع، فلا يكاد يتسع الوقت أثناء ذلك لتجديد غطاء المائدة؛ وما أن ينهض ضيف لينصرف حتى يجيء ضيف آخر فيحل محله. وفي أيام الأعياد، ولا سيّما أعياد الأسرة الإمبراطورية، كان عدد ضيوف الجنرال يبلغ ثلاثمائة. وقد بلغ عددهم سبعمائة عند الاحتفال بالذكرى الألفية لروسيا . شيء رهيب. إن قصة كهذه القصة لا تبشر بخير، وإنه لمن الخطر أن يستقبل المرء في بيته أناساً يبلغون هذا المبلغ من كرم الضيافة. لذلك تساءلت ألا يمكن أن يكون الجنرال مضيافاً إلى حد الغلوّ، بالنسبة إليك، وبالنسبة إليّ أيضاً.
– ولكنني لاحظت أنكما كنتما على أتم وفاق، فهل كان ظني خطأ؟
– إنني أحمل هذره على محمل المزاح، بروح الأخوّة، فأن نكون قريبين بالمصاهرة فهذا لا يضيرني، بل هو شرف لي. إنني أعدُّ الجنرال شخصاً ممتازاً رغم ضيوفه المائتين ورغم الحفلة الألفية. أعلن هذا صادقاً كل الصدق، مخلصاً كل الإخلاص. لقد قلت لي منذ هنيهة يا أمير أنني أدنو منك دُنوّ مَن يريد أن يفضي إليك بسرّ يملكه. فاعلم أن لديّ سراً أريد أن أفضي به إليك: هناك إنسانة أعلمتني منذ برهة أنها تتمنّى كثيراً أن تلقاك خفيةً.
– لماذا خفية؟ مستحيل. سأذهب إليها بنفسي، اليوم إذا لزم الأمر.
عاد ليبديف يقول وهو يجري إشارات كبيرة.
– لا، لا. ليست مخاوفها هي ما تظنّ أنت. بالمناسبة. إن الشيطان يأتي كل يوم سائلاً عن صحّتك.
– أنت تصفه دائماً بأنه شيطان. وأرَى أن هذا يوجِب الشبهة والشك!
أجاب ليبديف مسرعاً:
– لا مجال لشبهات وشكوك. وإنما أردت أن أقول إنه ليس هو من تخشاه تلك الإنسانة. إن مخاوفها ترجع إلى غير هذا!
سأله الأمير منزعجاً من اصطناعه هيئة السرّ:
– إلى ماذا ترجع مخاوفها؟ قل بسرعة!
فأجاب ليبديف ضاحكاً:
– ذلك هو السرّ!
– سرُّ مَن؟
– سرُّك. لقد منعتني أنت نفسك يا سموّ الأمير أن أتكلم أمامك..
بهذا تمتم ليبديف. وإذ لاحظ مغتبطاً مبتهجاً أنه استطاع أن يثير حب الاستطلاع عند محدِّثه، أضاف يقول:
– إنّ تلك الإنسانة خائفة من آجلايا إيفانوفنا.
فقطّب الأمير حاجبيه ثم قال بعد دقيقة صمت
– يميناً لأتركّن منزلك يا ليبديف! أين جبريل آرداليونتش وأسرة بتتسين؟ عندك؟ هل جئت بهم إلى هنا أيضاً؟
– سيأتون، سيأتون. وسيأتي الجنرال أيضاً بعدهم. سأفتح أبوابي كلها، وسأنادي بناتي جميعهن، جميعهن في هذه اللحظة نفسها.
بهذا همس ليبديف مذعوراً وهو يحرّك يديه ويركض من باب إلى باب.
وفي تلك اللحظة ظهر كوليا في الشرفة آتياً من الشارع، فأعلن أن زائرات هن اليزابت بروكوفيفنا وبناتها الثلاث واصلاتٍ وراءه.
فقال ليبديف يسأل مضطرباً لهذا النبأ أشدّ الاضطراب:
– أيجب أن أُدخل أُسرة بتتسين وجبريل آرداليونتش أم لا؟ أيجب أن أسمح للجنرال بالمجيء؟
قال الأمير ضاحكاً:
– لِمَ لا؟ فليدخل مَن يشاء أن يدخل. أؤكد لك يا ليبديف أنك فهمت علاقاتي فهماً خطاً منذ أول يوم. أنت في ضلال متصل مستمر. ليس هناك أيُّ سبب يدعوني إلى أن أختبئ عن أحد.
فحين رآه ليبديف ضاحكاً اعتقد أن من واجبه أن يقلّده، فأخذ يضحك هو أيضاً. كان واضحاً أنه مسرور أشدّ السرور رغم اضطرابه الشديد.
كان النبأ الذي أعلنه كوليا صحيحاً: لم يكن كوليا يتقدّم أفراد أسرة إيبانتشين إلا بضع خطوات، ليبلغ عن قدومهن. وهكذا دخل زوّار مِن جهتين في آن واحد: فأفراد أسرة إيبانتشين جئن من جهة الشّرفة، بينما جاء بتتسين وجانيا والجنرال إيفولجين من شقة ليبديف.
إنّ كوليا هو الذي أعلم أسرة إيبانتشين بمرض الأمير وبوصوله إلى بافلوفسك. وكانت الجنرالة حتى ذلك الحين في حيرة أليمة. كان زوجها قد نقل إلى الأسرة، أمس الأول، بطاقة الأمير، فاستنتجت إليزابت بروكوفيفنا بدون أي تردُّد أن الأمير لن يتأخر عن المجيء إلى بافلوفسك لزيارتهن. وعبثاً حاولت الآنسات أن يعترضن على استنتاجها بأن الأمير الذي لبث ستة أشهر لا يكتب إليهن قد لا يستعجل زيارتهن، فربما كانت له ببطرسبرج مشاغل أخرى – من ذا يعرف شؤونه؟ وقد ضاقت الجنرالة بهذه الاعتراضات وانزعجت منها، وأعلنت أنها مستعدة لأن تراهن على أن الأمير سيجيئ في اليوم التالي كأقصى حدّ. وانتظرته في اليوم التالي طوال الصباح، ثم انتظرته على الغداء، ثم انتظرته أخيراً في السهرة. فلمّا هبط الليل اعتكر مزاجها واشتدت شراستها، فصارت تشاجر الجميع، ولكن دون أن تقحم اسم الأمير في مشاجراتها طبعاً. ولم تُشر إليه في اليوم التالي كذلك. ولكنّ آجلايا أفلتت منها هذه الملاحظة أثناء العشاء، قالت: «إنّ ماما غضبى لأنّ الأمير لم يجئ إلينا»، فأسرعت الجنرالة تقول: «ليس هذا خطأه»، ونهضت غاضبة وغادرت المائدة!
ووصل كوليا أخيراً في المساء، فأبلغهنّ أنباء الأمير، وحكى لهنّ كلّ ما عرفه عمّا وقع له. فكان هذا فرحة انتصار لأليزابث بروكوفيفنا؛ ومع ذلك طفقت تؤاخذ كوليا، فقالت معرَّضة به: «يقضي هنا أياماً بكاملها فلا نعرف كيف نتخلّص منه، حتى إذا احتجناً إليه غاب فكأنه مات!». أوشك كوليا أن يغضب حين سمع قولها: «فلا نعرف كيف نتخلص منه»، لكنه كبح شعوره وأرجأ غضبه. ولقد كان يمكنه أن يغفر كل الغفران في الواقع لولا أن التعبير يبلغ هذا المبلغ من جرح الإحساس وإيذاء الكرامة، نعم كان يمكنه أن يغفر كل الغفران، لشدة اغتباطه بما ظهر على إليزابث بروكوفيفنا من انفعال واضح وقلق بيّن حين علمت بمرض الأمير. وألحّت الجنرالة طويلا على ضرورة إيفاد رسول إلى بطرسبرج ليجيء بطبيب شهير يعتني بالأمير المريض، فثنتها بناتها عن ذلك، ولكنهن لم يشأن أن يقصّرن عن أمّهن حين أعلنت فجأة أنها تريد أن تزور المريض.
قالت وهي تتحرّك هنا وهناك:
– ما ينبغي أن تثنينا أو تصدّنا قواعد البروتوكول إذا كان الفتى على فراش الموت! أهو صديق للأسرة أم لا؟
قالت آجلايا:
– ولكن «لا تنزل الماء ما لم تضمن المخرج!» .
– طيب. لا تذهبي أنت. وذلك أفضل. لأن أوجين بافلوفتش سيجيئ، فلا بد أن يكون أحدّ في استقباله.
وقد أسرعت آجلايا، بعد هذا الحوار، تنضمّ إلى أمها وأختيها طبعاً؛ وكانت تلك نيّتها منذ البداية على كل حال. ووافق الأمير «شتشـ...» الذي كان يصحب آديلائيد، على أن يرافق السيدات تلبية لطلب الفتاة. وكان منذ مدّة طويلة، منذ أن صارت له علاقات بأسرة إيبانتشين، قد اهتمّ اهتماماً شديداً بسماع كلامهنّ عن الأمير. وكان يعرف الأمير، فقد التقى به قبل نحو ثلاثة أشهر في مدينة صغيرة بالريف، وقضى معه خمسة عشر يوماً؛ وقص أموراً عن هذا الشاب الذي كان يحمل له أجمل المحبة وأطيب المودة. لذلك رضي، مبتهجاً ابتهاجاً صادقاً، أن يشارك في زيارة صاحبه القديم. ولم يكن الجنرال إيفان فيدوروفتش بالمنزل ذلك اليوم، ولا كان أوجين بافلوفتش قد وصل.
لا تزيد المسافة بين فيلا أُسرة إيبانتشين وفيلا ليبديف على ثلاثمائة خطوة.
وحين دخلت الجنرالة على الأمير كان أول شعور مزعج أحست به هو أنها وجدت حوله جمهرة كبيرة من الناس، لا سيما وأن شخصين أو ثلاثة أشخاص منهم كانوا ممن تكرههم. يضاف إلى ذلك أنها دهشت كثيراً حين تقدّم إليها الأمير فرأت شاباً يدل ظاهره على أن صحته جيدة، ويرتدي ثياباً أنيقة، ويبدو عليه المرح والبشر، بدلا من أن ترَى الفتى العليل الذي كانت تتوقع أن تراه؛ فوقفت لا تصدّق عينيها، فما كان أشدّ فرح كوليا الذي كان في وسعه أن يطلعها على حقيقة الأمر قبل أن تخرج من دارها، ولكنه حرص على أن لا يفعل، لأنه تنبأ ماكراً بالغضب المضحك الذي لا بدّ أن تُظهره حين ترى صديقها العزيز في صحّة جيدة!
حتى لقد مضى كوليا في الوقاحة إلى أبعد من ذلك، فأعلن انتصاره وتباهى بنجاحه، ليجعل اليزابث بركوفيفنا تبلغ من الغضب اقصى ذروة. لقد كان كوليا يخز الجنرالة دائماً، وكانت وخزاته في بعض الأحيان جارحة جداً، رغم ما بينهما من صداقة.
ردّت عليه الجنرالة قائلة وهي تجلس على المقعد الذي قدّمه لها الأمير:
– صبرك يا عزيزي، لا تتعجّل هذا التعجّل كله! لا تفسد انتصارك!
وأسرع ليبديف وبتتسين والجنرال إيفولجين يقدّمون مقاعد للآنسات. قدّم الجنرال كرسياً لآجلايا. وقرّب ليبديف كرسياً آخر للأمير «شتشـ...» وهو ينحني أمامه انحناء شديدا باحترام عظيم. وحيّت فاريا الآنسات بكثير من الحرارة والتودُّد على عادتها، وأخذت تتهامس معهنّ.
قالت الجنرالة:
– صحيح يا أمير أنني كنت أقدِّر أن أجدك في السرير، من فرط ما ضخّمت مخاوفي الأمور؛ وإني لأعترف لك، حتى لا أكذب، بأنني تضايقت كثيراً حين رأيتك طلق المحيّا منذ قليل، ولكنني أحلف لك أن هذا التضايق لم يدُم إلاً دقيقة واحدة هي المدة التي كان لا بد منها للتفكير. إنني حين أفكر يصبح سلوكي أسلمَ وكلامي أعقل وأرشد. أظنّ أن هذه حالتك أنت أيضاً. يجب أن أقول لك إنني لو كان لي ابن مريض لما سُررت بشفائه أكثر من سروري بشفائك. فإذا لم تصدّق كلامي كان هذا عاراً عليك لا علي. ولكن هذا الولد الخبيث يسمح لنفسه بأن يدبر لي مكائد أنكى كثيراً من هذه المكيدة. يظهر أنك ترعاه وتحميه. فاعلم إذاً أنني في ذات يوم قريب سأحرم نفسي من متعة وشرف صحبته، صدّقني...
صاح كوليا يقول:
– ولكن ما هو الذنب الذي ارتكبته؟ لو قد أكدت لك أن الأمير أبلَّ من مرضه تقريباً لما ارتضيت أن تصدقيني. لقد كنت تريدين أن تتصوريه راقداً على فراش الموت. تلك صورة تشوّقك أكثر...
قالت إليزابت بروكوفيفنا تسال الأمير:
– أأنت باقٍ هنا مدة طويلة؟
– الصيف كله، وقد أزيد.
– أنت وحيد؟ ألم تتزوج؟
أجاب الأمير مبتسماً من سذاجة الجنرالة في إلقاء هذا السؤال:
– لا، لم أتزوج.
– لا تبتسم! ذلك يمكن أن يحدث. لكنني أفكر في الاصطياف: لماذا لم تنزل عندنا؟ إن في دارنا جناحاً بكامله لا يشغله أحد. على كل حال، هذا شأنك أنت.
ثم أضافت تسأل بصوت خافت وهي تومئ بعينها إلى ليبديف:
– أأنت مستأجر عند هذا الشخص؟ ما باله يتلوّى طول الوقت؟
وفي تلك اللحظة ظهرت فيرا في الشرفة خارجة من شقة ليبديف. إنها على عادتها تحمل الطفل في ذراعيها. وكان ليبديف يدور حول الكراسي لا يعرف ماذا يعمل بنفسه ولكنه لا يعزم أمره على أن ينصرف، وها هو ذا يهجم فجأة على ابنته ويأخذ يحرّك يديه بإشارات كثيرة ليبعدها، حتى لقد نسي نفسه فقرع الأرض بقدمه.
أسرعت الجنرالة تسأل:
– أهو مجنون؟
– لا، ولكنه...
– فلعله ذاً سكران؟...
ثم أضافت تقول بعد أن ألقت نظرة على سائر الزوار:
– لست تُغبط على هؤلاء الذين يحيطون بك ويصحبونك. على كل حال، هذه فتاة لطيفة، فمن تكون هذه الفتاة؟
– هي فيرا لوكيانوفنا، ابنة ليبديف هذا.
– آ... هي لطيفة حلوة حقاً... أريد أن أتعرف إليها.
ولكن ليبديف الذي سمع أقوال المديح هذه تزجيها إليزابت بروكوفيفنا، كان قد أخذ يقود ابنته نحوها ليقدّمها إليها.
قال في أنين وهو يقترب باحترام وإجلال:
– يتامى! إنهم يتامى. والطفل الذي تحمله بذراعيها يتيم أيضا. هذه أخته ليوبوف، ابنتي التي وُلدت لي من زواجي الشرعي جداً بزوجتي إيلينا التي توفاها الله أثناء الوضع منذ ستة أسابيع... نعم... هي للطفل بمثابة أم، رغم أنها ليست إلا أخته، ليست إلا أخته، ليست إلا أخته فحسب....
– وأنت أيها الرجل لست إلا غبياً فحسب. اغفر لي صراحتي. وكفى الآن هذا!
ثم أضافت تقول وقد اعترتها نوبة استياء مفاجئة:
– أحسب أنك تدرك ذلك بنفسك!
فأجاب ليبديف وهو ينحني باحترام عميق:
– هذه هي الحقيقة بعينها!
سألته آجلايا:
– قل لي يا سيد ليبديف: يدّعي بعضهم أنك تفسر رؤيا يوحنا، فهل هذا صحيح؟
– هذه هي الحقيقة بعينها! ما برحت أفسّرها منذ خمسة عشر عاماً.
– سمعت عنك، بل أظن أن الجرائد جاءت على ذكرك.
– قال ليبديف وقد أخذ يشعر بفرح:
– لا. الجرائد تكلمت عن شارح آخر مات فحللت محله.
– هلّا سررتني، ما دمنا جيراناً، فجئت إليّ ذات يوم لتفسّر لي بعض فقرات من رؤيا يوحنا. إنني لا أفهم منها شيئاً.
وكان الجنرال إيفولجين جالساً إلى جانب آجلايا يحرقه العذاب من أنه لا يستطيع التدخل في الحديث، فإذا هو يقول الآن فجأة:
– لا أستطيع أن أُعفي نفسي من واجب تنبيهك يا آجلايا إيفانوفنا إلى أن هذا كله ليس إلا تدجيلاً منه، صدّقيني...
وتابع الجنرال إيفولجين كلامه يقول:
– صحيح أن للحياة في الريف حقوقها، كما أن لها مسرّاتها. ولأن يستقبل المرء في بيته رجلاً دخيلاً من أجل أن يشرح له رؤيا يوحنا فهذه نزوةٌ كغيرها من النزوات، ولعلها نزوةٌ بارعة الذكاء، لكنني... مالك تنظرين إليّ مدهوشة؟ اسمحي لي أن أقدّم لك نفسي: أنا الجنرال إيفولجين. لقد حملتك على ذراعي يا آجلايا إيفانوفنا.
دمدمت آجلايا تقول وهي تبذل جهوداً من أجل أن لا تنفجر ضاحكة:
– سعيدة بمعرفتك. أنني أعرف باربارا آرداليونوفنا ونينا ألكسندروفنا.
غضبت اليزابت بروكوفيفنا حتى احمرّت أشدّ الاحمرار، إن الغضب الذي كظمته في قلبها مدّةً طويلة كان في حاجة إلى أن ينطلق. وكانت لا تطيق احتمال الجنرال إيفولجين الذي سبق أن عرفته في الماضي منذ زمن بعيد، فقالت له باندفاع:
– أنت تكذب، يا عزيزي، على عادتك! أنت لم تحمل ابنتي على ذراعيك في يوم من الأيام!
فانبرت آجلايا تؤيد كلام الجنرال فجأة فتقول:
– بلي يا ماما، أنت نسيت. لقد حملني على ذراعيه فعلا، كان ذلك في مدينة تفير التي كنا نقيم بها أيامئذ. كان عمري ست سنين، ما زلت أتذكّر هذا. وقد صنع لي قوساً وسهماً وعلمني الرماية فاصطدت حمامة. ألا تتذكر أننا اصطدنا معاً حمامة؟
وهتفت آديلائيد تقول:
– وأعطاني خوذة من كرتون وسيفاً من خشب. أنا أيضاً أتذكّر.
وزادت ألكسندرا فقالت:
– أنا أيضاً أتذكر. حتى لقد تشاجرتما على الحمامة الجريحة، فوُضعت كلّ واحدة منكما في ركن. واضطرّت آديلائيد أن تتسمّر في مكانها مع خوذتها وسيفها.
حين ذكّر الجنرال آجلايا بأنه حملها على ذراعيه، فإنه لم يكن يبغي إلا أن يقول شيئاً ما ليجري معها حديثاً، كما يفعل كلما أراد أن يتعرّف إلى شبان أو شابات.
ولكن شاءت المصادفة، بما يشبه العمد، أن يكون كلامه في هذه المرة صحيحاً، لأنه ذكّر بواقعة صادقة كان قد نسيها هو نفسه، فلمّا قالت آجلايا على غير توقع أنهما اصطادا حمامة معاً، عادت إليه ذاكرته دفعة واحدةً، فتذكر كل شيء بأدق تفاصيله، كما يحدث ذلك في أحيان كثيرة للشيوخ حين يتذكرون ماضياً بعيداً. إنه ليصعب علينا أن نقول ما هو الشيء الذي أثار انفعال الجنرال المسكين من تلك الذكرى (وكان ثملا على عادته)، ولكن مما لا شك فيه أنه قد انفعل انفعالاً قوياً وتأثر تأثراً شديداً. فصاح يقول:
– أتذكر، نعم أتذكّر كل شيء! كنت عندئذ كابتن. وكنت أنت صغيرة جداً، لطيفة حلوة!... يا نينا ألكسندروفنا!... يا جانيا!... كان ذلك في الزمن الذي استُقبلت فيه عندكم...
قالت الجنرالة:
– فانظر إلى أين صرت الآن! على أن الشراب لم يخنق فيك العواطف النبيلة، ما دمت تتأثر هذا التأثر من تلك الذكرى. ولكنك عذبت امرأتك عذاب الشهداء. وبدلاً من أن تكون قدوةً ومثالاً لأولادك أخذت تستدين وتستدين إلى أن وُضعت في السجن. اذهب من هنا يا صاحبي! انسحب إلى أي مكان، إلى ما وراء الباب، إلى ركن من الأركان، لتبكي براءتك القديمة الذاهبة، فلعل الله أن يغفر لك ويتوب عليك! هيّا، اذهب! إنني أكلمك جادّة لا هازلة. لا شيء ينفع في إصلاح المرء كما تنفعه ذكرى ماضيه نادماً!
لم يكن ثمّة داع إلى مزيد من الكلام: لقد كان الجنرال يملك الحساسية المفرطة التي يملكها المدمنون عادةً، وكان يؤلمه كما يؤلم سائر الساقطين أن يتذكر أيامه السعيدة. فها هو ذا ينهض ويتجه نحو الباب طائعاً صاغراً، فسرعان ما أشفقت عليه اليزابت بروكوفيفنا، فصاحت تناديه قائلة:
– آرداليون ألكسندروفتش، صديقي، انتظر دقيقة! نحن جميعاً خطاة آثمون. فمتى شعرت بأنّ ضميرك قد هدأ بعض الهدوء واستردّ شيئاً من السكينة والطمأنينة، فتعال إليّ زائراً لنتحدّث لحظة عن الماضي. من ذا الذي يستطيع أن يؤكد أنني لم أرتكب من الذنوب أضعاف ما ارتكبت أنت؟ ولكن أستودعك الله الآن، اذهب، انصرف، فليس لك هنا شأن...
أضافت تقول هذه العبارة الأخيرة فجأةً وقد روّعها أن رأته عائداً. همّ كوليا أن يلحق بأبيه، ولكن الأمير قال له:
– الأفضل أن لا تتبعه الآن. وإلا اعتكر مزاجه وفسد ما ينعم به من صفاء وسعادة!
فقالت اليزابت برو كوفيفنا:
– صحيح! دعه! ستلحق به بعد نصف ساعة.
وجازف ليبديف فقال:
– هذا تأثير قول الحقيقة للإنسان مرّة في حياته: لقد تأثر حتى الدموع.
فأسرعت آليزابت بروكوفيفنا ترده إلى مكانه قائلة له:
– وأنت أيضاً يا صاحبي، لا بدّ أنك سيّد مدهش إذا صدق ما سمعته عنك!
أخذ وضع كل واحد من الزوّار المجتمعين على الشرفة يتضح شيئاً بعد شيء. واستطاع الأمير أن يدرك دلائل عاطفة المودّة التي تحملها له الأميرة وبناتها. فقال لهنّ بلهجة صادقة أنه قبل زيارتهنّ كان قد عقد النية على أن يذهب إليهن في ذلك اليوم نفسه رغم سوء حالته الصحية، ورغم أن الوقت متأخر. فأجابته إليزابت بروكوفيفنا، وهي تلقي على الزوّار نظرة ازدراء، إن إنفاذ تلك النيّة ما يزال ممكناً. فلم يلبث بتتسين، وهو رجل مهذب مساير، أن نهض على الفور وانسحب إلى شقة ليبديف. وقد أراد أن يقتاد ليبديف، ولكنه لم يحصل منه إلا على وعد بأنه سيدركه في الحال. وكانت فاريا تتحدّث مع الفتيات فلم تتحرّك. وقد سُرّت هي وجانيا من انصراف الجنرال. وانصرف جانيا بعد بتتسين بقليل. إنه خلال الدقائق القليلة التي قضاها على الشرفة بحضور أسرة إيبانتشين قد حافظ على موقف متواضع رصين، ولم يضطرب بتأثير نظرة السيطرة التي ألقتها عليه أليزابت بروكوفيفنا مرتين من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. أن الذين عرفوه من قبل لا بدّ أن يبدو لهم الآن أنه تغيّر تغيراً كبيراً، وقد أحدث وضعه أثراً حسناً جداً في نفس آجلايا.
– أظن أن جبريل آرداليونوفتش هو الذي خرج الآن، أليس كذللك؟
هكذا سألت آجلايا فجأةً، على عادتها في الميل إلى مقاطعة حديث الآخرين أحياناً على حين بغتة، دون أن توجّه الكلام إلى أحد بعينه.
فأجاب الأمير بقوله:
– نعم هو.
قالت آجلايا:
– كدت أنكره فما أعرفه. لقد تغيّر كثيراً... لقد تحسّن!
قال الأمير:
– سرّني تغيره هذا أعظم السرور.
وأضافت فاريا تقول بلهجة تعبّر عن شفقة ويخالطها فرح خفيّ:
– كان مريضا جدا.
وسألت اليزابت بروكوفيفنا بنبرة فيها غضب ويكاد يكون فيها ذعر:
– في أي شيء تحسّن؟ من أين جئت بهذا؟ إنني لا أرَى فيه شيئاً تحسّن؟ ما الذي تجدينه أنت؟
صاح كوليا يقول فجأة وكان ما يزال واقفاً قرب كرسيّ أليزابت بروكوفيفنا:
– لا شيء أحسن من «فارس فقير» .
قال الأمير «شتشـ...» وهو يضحك:
– هذا رأيي أيضاً.
وأعلنت آديلائيد قائلة:
– وهو رأيي كذلك.
فسألت الجنرالة وهي تحدَّق إليهما بنظرة فيها حيرة وغضب:
– أي «فارس فقير»؟
ثم أضافت تقول غاضبة حين رأت أن آجلايا احمرّ وجهها:
– لا بدّ أنها سخافة من السخافات إما «الفارس الفقير» هذا؟
قالت آجلايا بلهجة فيها غطرسة شديدة:
– أهذه أول مرة يشوّه فيها هذا الصبي، الأثير عندك، أقوال الآخرين؟
كانت آجلايا تعتريها نوبات غضب في كثير من الأحيان، ولكن انقيادها لنوبات الغضب يصحبه دائماً شيء يبلغ من سذاجة الطفولة وخراقة التصرف أن المرء لا يملك أحياناً إلا أن يضحك حين يراها. وكان هذا الضحك يخرجها عن طورها لأنها لا تستطيع أن تجد له تفسيرا، وكانت تتساءل كيف يستطيع هؤلاء الناس وكيف يجسرون على أن يضحكوا من سلوكها.
وحين قالت آجلايا عبارتها الأخيرة في حق كوليا ضحكت أختها وضحك الأمير «شتشـ...». حتى أن الأمير ليون نيقولايفتش نفسه لم يستطع أن يحبس ابتسامة، وإن يكن وجهه قد احمرّ لا ندري لماذا! أمّا كوليا فقد انتصر وطفق يضحك ملء حلقه. فغضبت آجلايا، فزادها ذلك جمالاً. إن الاضطراب والغضب اللذين شعرت بهما قد ضاعفا فتنتها الأخاذة.
وعادت تكلم فقالت:
– ألم يسبق لهذا الصبيّ أن شوّه أقوالك نفسها في أحيان كثيرة؟
قال كرليا:
– أنا لم أزد على أن كررت صيحة من صيحات الإعجاب التي تطلقينها، فمنذ شهر، حينما كنت تقرأين «دون كيشوت»، قلت إنه لا شيء أحسن من «فارس فقير». لم أكن أعرف من ذا الذي كنت تقصدين حينذاك: أهو دون كيشوت، أم أوجين بافلتش، أم شخص آخر؟ وإنما المهمّ أن أقوالك كانت تعني أحداً ما. وقد جرّى حول هذا حديث طويل طويل...
قالت إليزابت بروكوفيفنا بلهجة حادة:
– أرَى يا صديقي أنك تسمح لنفسك بالإسراف قليلاً في ما تمضى إليه من افتراضات...
فتابع كوليا كلامه مماحكاً:
– أأنا الوحيد؟ لقد تكلم الجميع في هذا وما زالوا يتكلمون: فمنذ لحظة واحدة قال الأمير «شتشـ...». وآديلائيد إيفانوفنا والآخرون أنهم من أنصار «الفارس الفقير». فهذا الفارس موجود إذاً بالفعل، وفي رأيي أننا كان في وسعنا جميعاً أن نعرف من هو، لولا آديلائيد إيفانوفنا.
سألت آديلائيد ضاحكة:
– ما ذنبي أنا؟
– ذنبك أنك لم تقبلي أن ترسمي لنا صورة وجهه! إن آجلايا إيفانوفنا قد رجتك أن تفعلي حتى لقد أمدّتك بجميع تفاصيل اللوحة كما تتصوّرها هي، ألا تتذكرين؟ ولكنك لم تشائي...
– ولكن كيف كان في وسعي أن أفعل، ومن ذا الذي كان يمكنني أن أصوّره؟ إن «الفارس الفقير» هو كما وُصف لي رجل لم يرفع أمام أحد حافة خوذته الفولاذية، فما هو الوجه الذي يجب أن أهبه له؟ ماذا أصوّر؟ أأصوّر حافة خوذة؟ أأصوّر وجهاً ليس وجه أحد؟
صاحت الجنرالة تقول منزعجة:
– لست أفهم شيئاً؟ ما حافة الخوذة هذه التي تتكلمون عنها؟
وكانت الجنرالة في الواقع قد بدأت تحدّد شخصية صاحب هذا اللقب (الذي لعله قد تمّ تخيّله منذ مدة طويلة)، أعني لقب «الفارس الفقير».
غير أن الأمر الذي أثار استياءها خاصة، إنما هو ما رأته في هيئة الأمير ليون نيقولايفتش من اضطراب كاضطراب طفل في العاشرة من عمره. فهتفت تقول:
– أما لهذه السخافات من آخر؟ هلاً شرحتم لي أخيراً قصة «الفارس الفقير» هذه؟ أهذا سرّ كبير لا يجوز الاقتراب منه؟
ولكن الجميع لم يزيدوا على أن استمروا في الضحك.
فتدخل الأمير «شتشـ...» أخيراً فقال ليحوّل الحديث عن مجراه:
– الأمر أمر قصيدة روسية غريبة بعض الغرابة، لا أكثر من ذلك. هي أبيات من قصيدة لا ذنب لها ولا رأس، تُصوّر فارساً فقيراً. فمنذ نحو شهر، في ذات مساء بعد العشاء، كنا قد ضحكنا كثيراً ونحن نبحث على عادتنا عن موضوع للوحة الجديدة التي سترسمها آديلائيد إيفانوفنا. إنك لا تجهلين أن هذا البحث عن موضوع للوحات آديلائيد إيفانوفنا قد أصبح واجباً من واجبات الأسرة منذ زمن طويل. وفيما نحن نبحث، وقعنا على موضوع «الفارسي الفقير».. ولست أدري من ذا الذي خطرت بباله فكرته قبل الآخرين.
صاح كوليا يقول:
– هذه فكرة آجلايا إيفانوفنا!
وتابع الأمير «شتشـ...» كلامه فقال:
– جائز جداً. ولكنني لا أذكر، فبعضهم ضحك من الموضوع، وبعضهم أكد أنه ليس ثمّة موضوع أرفع منه ولا أسمى، ولكن لا بدّ على كل حال من أن نخلع على «الفارس الفقير» وجهاً. فأخذنا نبحث عن وجه بين وجوه جميع الناس الذين نعرفهم، ولكن أحداً منهم لم يقع عليه الاختيار، ووقف الأمر عند ذلك الحدّ. هذا كل شيء، ولا أدري لماذا خطر ببال نيقولا آرداليونوفتش أن يعيد هذا الأمر إلى الأذهان. فإنّ ما كان مسلياً ومناسباً منذ شهر قد أصبح اليوم غير ذي قيمة.
قالت إليزابت بروكوفيفنا بلهجة قاطعة:
– لأنّ ثمّة غمزاً مضمراً، غمزاً جارحاً مؤذياً.
قالت آجلايا:
– لا شيء من ذلك البتة، وليس ثمّة إلا التعبير عن احترام عميق.
نطقت آجلايا تلك الكلمات بلهجة فيها رصانة شديدة غير متوقّعة. فهي لا تسيطر على أعصابها سيطرة تامّة كاملة فحسب، بل يبدو عليها أيضاً من بعض القرائن أنها الآن مسرورة باتساع نطاق المزاح. وقد حدث هذا الانقلاب في نفسها حين لوحظ أن اضطراب الأمير قد أخذ يشتد مزيداً من الاشتداد.
– يضحكون كالمجانين، ثم إذا بهم يتحدّثون فجأةً عن احترامهم العميق! جنون مطبق! لماذا الاحترام؟ أجيبيني فوراً: من أين جاءك هذا الاحترام العميق بغتة بلا سبب ظاهر؟
فقالت آجلايا تجيب عن السؤال الذي ألقته عليها أمّها ثائرة، قالت تجيب بتلك اللهجة الرصينة الوقورة نفسها:
– تكلمت عن احترام عميق، لأن تلك الأشعار في القصيدة تتحدّث عن رجل قادر على أن يكون له مثل أعلى، وقادر متى حدّد لنفسه ذلك المَثّل الأعلى أن يؤمن به إيماناً أعمى، وعلى أن ينذُر له حياته كلها. وهذا أمر ليس شائعاً في زماننا الحاضر. إن القصيدة لا تعيِّن لنا المثل الأعلى الذي يؤمن به «الفارس الفقير»، ولكننا نرى بوضوح أن ذلك المثل الأعلى نوع من صورة مضيئة هي «آية الجمال الطاهر النقيّ»؛ حتى إن الفارس العاشق يلف عنقه بمسبحة بدلاً من أن يلفعه بمنديل. صحيح أن هناك أيضاً شعاراً غامضاً مبهماً ملغزاً تعبُر عنه هذه الأحرف الثلاثة «آ.م.ب» التي رسمها على ترسه.
فانبرى كوليا يصحّح قائلا:
– ہل «آ.م.د».
فردّت آجلايا غاضبة:
– بل «آ.م.ب.»، ولا أتراجع. من الواضح على كل حال أن الفارس الفقير كان لا يقيم أي وزن لما هي عليه سيّدته، ولا لما كانت تفعله. حسبه أنه اختارها وآمن «بجمالها الطاهر النقي» حتى ينحني أمامها إلى الأبد. وميزته أنه، ولو أصبحت بعد ذلك لصة، يظل يؤمن بها ويظل مستعداً لأن يدافع عن جمالها الطاهر النقي. يبدو أن القصيدة أرادت أن تجسّد في صورة استثنائية فذة قوة فكرة الحب الفروسي طبعاً. ولكنّ هذا المثل الأعلى يصل في «الفارس الفقير» إلى أعلى درجاته، ويبلغ حدّ التقشّف والنسك والزهد. يجب أن نعترف بأنّ القدرة على الشعور بمثل هذه العاطفة، التي تقتضي بذاتها شكيمة قوية وطبعاً صلباً وإرادة عنيدة، هي شيء لا يُستهان به، وهي شيء محمود جداً من جهة ما، بصرف النظر عن دون كيشوت هنا. إنّ «الفارس الفقير» هو دون كيشوت، هو دون كيشوت جدّي لا هزلي. إنني لم أفهمه في البداية، حتى لقد ضحكت منه وتندّرت عليه، أما الآن فإنني أحب «الفارس الفقير»، وأحترم جسارته وإقدامه خاصة.
صمتت آجلايا، إنه ليصعب على المرء حين ينظر إليها أن يعرف أكانت جادّة فيما قالته أم كانت هازلة.
– فاعلمي أن هذا «الفارس الفقير» رجل غبي رغم كل ما وصفته به من جَسَارة وإقدام. وأنت يا صغيرتي قد تدفّقت تلقنيننا درساً كاملاً، فصدّقيني إذا قلت لك أن هذا لا يناسبك. وهو على كل حال لا يطاق. ما هي أشعار تلك القصيدة؟ أنشديني أبياتها، لا بدّ أنك تحفظينها. إني أحرص على سماعها أشدّ الحرص، أنا لم أُطِق الشعر في حياتي، فلعلّ ذلك كان مني إحساساً أشبه بالنبوءة. تجمّل بالصبر يا أمير، ناشدتك الله، واضح أن الصبر خير ما يمكن أن نتذرّع به أنا وأنت.
أضافت الجنرالة قولها هذا تخاطب الأمير. وكان واضحاً أنها مستاءةً أشدّ الاستياء، ممتعضةً أكبر الامتعاض.
أراد الأمير أن يقول شيئاً، ولكنه كان قد بلغ من الاضطراب أنه لم يستطع أن ينطق بكلمة. آجلايا وحدها التي أجازت لنفسها هذه الجرأة كلها في «تلقين درسها»، كانت لا تُظهر أي اضطراب، بل وكانت تبدو راضية عن نفسها، مغتبطةً بما قالته. وها هي ذي تنهض على الفور بمثل ذلك الوقار نفسه وبمثل تلك الأبهة نفسها، كأنها كانت متهيئة لإنشاد تلك الأشعار، فهي لا تنتظر إلا أن يدعوها أحد إلى ذلك. وها هي ذي تتقدم إلى وسط الشرفة، وتقف قبالة الأمير الذي ما يزال جالسا على كرسيه.
نظر الجميع إليها بشيء من الدهشة، كان الأمير «شتشـ...»، وأختاها، وأمها، وجميع الحضور تقريباً، يشعرون بحرج وضيق إزاء هذا الاندفاع الطفولي الذي يقدّرون أنه سيتجاوز حدود القصد والاعتدال. ولكن كان واضحاً أن آجلايا مفتتنة أشدّ الافتتان بهذه الطريقة في التمهيد لإنشاد القصيدة. وهمّت إليزابت بروكوفيفنا أن تحملها على العودة إلى الجلوس مكانها؛ ولكن في اللحظة التي أوشكت فيها الفتاة أن تنشد قصيدتها، صعد من الشارع إلى الشرفة زائران جديدان آخذان في الحديث بصوت عالي. أنهما الجنرال إيفان فيدوروفتش إيبانتشين وفتى يتبعه. فأحدث ظهورهما دهشة.
الفصل السابع
إن الشاب الذي يصحب الجنرال في نحو الثامنة والعشرين من عمره، طويل القامة، حسن التكوين، له وجه وسيم ذكي، وعينان واسعتان تفيضان نشاطاً ومكرا. أبت آجلايا حتى أن تلتفت إليه واستمرّت تنشد قصيدتها متظاهرةً بأنها لا تنظر إلا إلى الأمير، ولا تتجه إلى أحد غيره. فأدرك الأمير أنها تخفي وراء ذلك نيّة، غير أن مجيء الزائرين الجديدين خفف ارتباكه قليلاً على كل حال. فما لإن رآهما حتى نهض نصف نهوض، وحرّك رأسه من بعيد يحيّي الجنرال تحيّة فيها مودّة، وأوصى بإشارة من يده أن لا يُقطع إنشاد القصيدة. ثم مضى يقف وراء كرسيه، مستنداً بكوعه الأيسر علي ظهر المقعد، ليسمع تتمّة القصيدة وهو في وضع أكثر طلاقة وأقل إضحاكا من وضع رجل غاطس في مقعد. وانبرت اليزابت بروكوفيفنا من جهتها تهيب بالزائرين أن يتوقفا، وذلك بحركة من يدها قامت بها مرّتين.
اهتمّ الأمير اهتماماً شديداً بالشاب الذي يصحب الجنرال. وأحسّ أنه قد يكون أوجين بافلوفتش رادومسكي الذي سمع عنه كثيراً، وفكر فيه غير مرّة. غير أن اللباس المدني الذي كان يرتديه هذا الشاب قد حيّره، ذلك أنه قد سمع أن أوجين بافلوفتش عسكري لا مدني . وكانت ابتسامة ساخرة تطوف بشفتي الزائر الجديد طوال مدّة إنشاد القصيدة. فكأنّ الشاب كان يعرف، هو أيضاً، قصة «الفارس الفقير».
قال الأمير يخاطب نفسه: «لعله هو الذي اخترع هذا».
أمّا آجلايا فكانت حالتها النفسية مختلفة كل الاختلاف، إن التصنُّع والافتعال اللذين بدأت بهما إلقاء القصيدة قد حلت محلهما عاطفة رزينة ملأى بمعنى الأشعار التي كانت تُلقيها. وكانت تنطق كل كلمة من الكلمات نطقاً يبلغ من قوّة التعبير وجمال البساطة أنها في آخر إنشادها لم تأسر انتباه السامعين فحسب، بل برّرت كذلك، بإبراز قوّة الوحي وعمق الإلهام في هذه القصيدة، برّرت الأبهة التي اصطنعتها منذ قليل حين نصبت قامتها في وسط الشُرفة. إن في وسع المرء أن لا يرَى الآن في ذلك التصنع إلا علامة احترام بالغ ذكيّ غير محدود تحمله الفتاة للقصيدة التي تولت إلقاءها. كانت عيناها تسطعان؛ وسرت في وجهها الجميل، مرّتين، رعدةً حماسة لا تكاد تدرّك.
وإليكم ما أنشدته:
فقيراً كان الفارس
وصموتاً وبسيطاً،
ومظلماً كان وجهه وشاحباً،
وكانت نفسه جسورة وصريحة.
لاحت له رؤيا
حفرت في قلبه
أثرا عميقا
التهبت نفسه منذ ذلك اليوم.
حوّل عينيه عن النساء،
فإلى أن ووري التراب،
لم يخاطب امرأة بكلمة.
لا بمنديل لفعها،
ولم يرفع أمام أحد
حافّة خوذته الفولاذية.
بحب طاهر امتلأ قلبه
ظل وفياً لرؤياه،
وبدمه على ترسه
كتب: نون. فاء. باء.
وفي صحارَى فلسطين
بينما الفرسان بين الصخور
يهبّون إلى القتال
ذاكرين أسماء سيداتهم
كان يصيح بحماسة عاتية قائلاً:
يا ضياء السماء، أيتها الوردة المقدسة!
ومنقضّاً كالصاعقة،
كان يجندل الأعداء.
وحين عاد إلى قلعته البعيدة
عاش فيها معتزلاً ناسكاً،
وظلَ صامتاً، وحزيناً،
ومات كمجنون.
حين تذكر الأمير تلك اللحظات فيما بعد، عذبت فكره مسألةٌ لا يجد إلى حلها سبيلاً: كيف أمكنهم أن يجمعوا بين عاطفة صادقة هذا الصدق، جميلة هذا الجمال، وبين سخرية سافرة غير محجبة، سخرية سيئة ذلك السوء كله؟ لم يراوده شك في أن ثمّة سخرية. السخرية واضحة لها ما يؤكدها: أن آجلايا قد سمحت لنفسها أثناء الإلقاء أن تبدّل الأحرف «ألف، ميم، باء» بالأحرف: «نون، فاء، باء». هو واثق بأنه لم يخطئ السمع (وذلك ما جاء البرهان عليه فيما بعد). وكيف كان الأمر فإنّ مزحة آجلايا – ذلك أن المسألة لا تعدو أن تكون مزحة مهما تكن جارحة ومهما تتضمن من خفة وطيش – إنما كانت مبيتة مقصودة. فالجميع ما برحوا منذ شهرين يتكلمون عن «الفارس الفقير» ويضحكون.
على أن الأمير حين رجع إلى هذه الذكريات فيما بعد، اقتنع بأن آجلايا قد نطقت هذه الأحرف «نون، فاء، باء» دون أن تضفي عليها لهجة مزاح أو تهكُم، ودون أن تبرزها إبرازاً يظهر معناها الخبيء. بالعكس؛ لقد نطقتها برصانة تبلغ من الهدوء، وبساطة تبلغ من البراءة والسذاجة أن المرء يمكن أن يظنّ أن هذه الحروف موجودة فعلاً في نص القصيدة المطبوع.
ومهما يكن من أمر، فإن الأمير لم يلبث أن شعر بعد سماع القصيدة بضيق شديد وألم قاس. أن إليزابت بروكوفيفنا لم تلاحظ تبديل الأحرف وما يختبئ وراء هذا التبديل من تلميح. وكل ما أدركه الجنرال إيفان فيدوروفتش هو أن هناك أشعاراً تُنشد. أمّا السامعون الآخرون فقد أدرك كثيرون منهم قصد آجلايا فأدهشتهم جسارتها هذه ولكنهم صمتوا فكأن شيئاً لم يكن. وأمّا أوجين بافلوفتش فإنه لم يدرك فحسب (وهذا ما برهن عليه الأمير)، بل حاول أن يفصح أيضاً عن أنه أدرك، فزاد مقدار السخرية في ابتسامته.
هتفت الجنرالة تقول في اندفاعة إعجاب صادق، منذ انتهى إنشاد القصيدة:
– رائع! لمن هذه الأشعار؟
فصاحت آديلائيد تقول:
– هي لبوشكين يا ماما... لا تُشعرينا بالخزي والعار! كيف يمكن أن يجهل أحد أنها لبوشكين؟
فقالت إليزابيت بروكوفيفنا بلهجة مُرّة:
– أن المرء يمكن أن يصبح من معاشرتكنّ أشدّ غباوةً وأكثر جهلا! هذا معيب! عليكن أن تأتينني بقصيدة بوشكين هذه متي رجعنا إلى البيت!
– أظن أننا ليس في بيتنا شيء من شعر بوشكين.
قالت ألكسندرا:
– بلى! عندنا مجلدان مهترئان ملقيان في البيت منذ عهد بعيد!
– يجب إرسال أحد إلى المدينة فوراً لشراء كتب بوشكين. فليذهب فيدور أو ألكسي في أول قطار. والأفضل أن يذهب ألكسي. آجلايا، تعالي! قبليني! لقد أحسنت إلقاء القصيدة إيّما إحسان!
ثم هتفت تهمس في أذنها قائلة:
– ولكن إذا كانت نبرتك في إلقاء القصيدة صادقة، فإنني أرثي لحالك. وإذا كنت قد أردت أن تسخري منه فإنني لا أؤيد شعورك. وفي الحالين كان الأفضل أن لا تُلقي هذه القصيدة. هل تفهميني؟ اذهبي الآن يا آنسة، سنعاود الكلام فيما بعد، لقد طال مكوثنا هنا.
في أثناء ذلك الكلام كان الأمير قد سلم على الجنرال إيفان فيدوروفتش إيبانتشين الذي قدّم إليه أوجين بافلوفتش رادومسكي.
– لقد أدركته في الطريق. ذهب من القطار إلى البيت رأساً فقيل له إنني جئت إلى هنا ألتحق بسائر الأسرة...
قال أوجين بافلوفتش مقاطعاً:
– وقد علمت أيضاً أنك هنا؛ وإذ كنت أرغب منذ مدة طويلة لا في التعرف إليك فحسب، بل وفي التماس صداقتك أيضاً، فإنني لم أشأ أن أضيع وقتاً... أأنت مريض؟ إنني لم أعرف هذا إلا منذ لحظة...
أجاب ليون نيقولايفتش وهو يمدّ إليه يده:
– شُفيت شفاء تامّاً، ويسعدني أن أتعرّف إليك، لقد سمعت عنك كثيراً، حتى إنني تحدّثت في أمرك مع الأمير «شتشـ..».
تصافح الرجلان بعد تبادل هذه الأقوال المهذبة، ثم حدّق كل منهما إلى عيني الآخر. وسرعان ما أصبح الحديث عاماً. ولاحظ الأمير، الذي أصبح الآن يلاحظ بسرعة ويقظة، حتى لقد يرى أشياء لا وجود لها، لاحظ أن الجميع قد أدهشهم أن يروا أوجين بافلوفتش مرتدياً ثياباً مدنية لا عسكرية. وقد بلغت دهشتهم من القوّة أنها محت سائر ما عداها من مشاعر. لا بدّ أن تغيير الثياب هذا يدل على وقوع حادث هام. وتحيرت آديلائيد وألكسندرا فبادرتا إلى سؤال صاحب الشأن عن الأمر. وبدا على الأمير «شتشـ...»، وهو قريب الشاب، قلق شديد. وكان الجنرال منفعلاً انفعالاً يكاد يخالط صوته. آجلايا وحدها كانت هادئة كل الهدوء، فألقت على أوجين بافلوفتش نظرة فضول وكأنها تتساءل هل تناسبه الثياب المدنية أكثر مما تناسبه البزّة العسكرية، وما هي إلا لحظة حتى أشاحت بوجهها عنه ثم لم تهتم به قط. وامتنعت إليزابت بروكوفيفنا عن سؤاله كذلك، رغم أنها لعلها شعرت ببعض القلق هي أيضاً. وأحسّ الأمير أن هناك شيئاً من الفتور تشعر به الجنرالة نحو أوجين بافلوفتش.
ردّ إيفان فيدوروفتش يقول مجيباً عن جميع الأسئلة:
– دُهشت أشدّ الدهشة... لم أصدّق عينيّ حين رأيته بثياب مدنية لا عسكرية ببطرسبرج. ما هذا التغيير المفاجئ؟ ذلك هو اللغز! إنه هو نفسه أول المنادين بأنّ على المرء أن لا يحطم الكراسي .
وخرج من الحديث الذي دار حول هذا الموضوع أنّ أوجين بافلوفتش كان منذ زمن طويل قد أفصح عن نيّته في ترك الخدمة العسكرية. ولكنه كان، كلما أثار هذا الموضوع، يتكلم بلهجة تبلغ من قلة الجدّ أن أحداً لم يصدّقه. ذلك عدا أنه اعتاد أن يخلع على الأمور الهامة الخطيرة صفة الهزل، فلا يعرف أحد أيصدّقه أم لا يصدّقه، ولا سيما حين يتعمّد هو نفسه أن يحير الناس وأن يضلهم في شعاب الظنون!
قال رادومسكي مرحاً:
– لكنني لا أدع الخدمة العسكرية إلا إلى حين، لا أدعها إلا بضعة أشهر، أو سنة في أكثر تقدير.
فقال الجنرال بحرارة وهمّة:
– لكنني لا أرَى ضرورة هذا، في حدود معرفتي بشؤونك وأعمالك على الأقل.
– ألا يجب عليّ أن أزور أطياني؟ ألم تنصحني أنت نفسك بذلك؟ ثم إنني أودّ أن أقوم برحلة إلى الخارج...
وسرعان ما انحرف الحديث، ولكن القلق ظل ظاهرا، فاعتقد الأمير أن أمراً خطيراً يختبئ تحت هذا التبدِّل.
قال أوجين بافلوفتش سائلاً وهو يدنو من آجلايا:
– هل عاد «الفارس الفقير» إذاً إلى بساط البحث؟
فما كان أشدّ دهشة الأمير حين ردّت عليه الفتاة بنظرة مشدوهة مستفهمة، كأنما لتُفهمه بأن «الفارس الفقير» لم يكن موضع بحث بينهما في يوم من الأيام حتى أنها لم تفهم ماذا يريد أن يقول؟
Tuvitter: @ketab_n 457________________
وكان كوليا ما يزال في جدال مع إليزابت بروكوفيفنا، فهو ما يفتأ يردد قائلًا:
– فات الأوان، فات الأوان، لا يمكن إرسال أحد إلى المدينة في هذه الساعة ليجيء بكتب بوشكين. سأظل أكرّر هذا ثلاثة آلاف مرة إذا لزم الأمر: فات الأوان!
قال أوجين بافلوفتش وهو يبتعد عن آجلايا مسرعاً:
– فعلاً... فات الأوان... الوقت متأخر الآن... أظنّ أن المتاجر ستغلق أبوابها ببطرسبرج بعد قليل، فالساعة قاربت التاسعة.
قال ذلك وهو ينظر في ساعته.
وقالت آديلائيد:
– انتظرنا حتى الآن، ففي وسعنا أن ننتظر إلى غد.
وأضاف كوليا:
– لا سيّما وأنه لا يليق بأبناء المجتمع الراقي أن يهتموا بالأدب كثيراً. اسألي أوجين بافلوفتش. لأن يملك المرء عربة ذات مقاعد صفراء وعجلات حمراء، فذلك أرقى وأميز.
قالت آديلائيد:
– لقد اقتبست هذا أيضاً من كتاب يا كوليا!
فقال أوجين بافلوفتش معقباً:
– صحيح أن كل ما يقوله من قراءات، فهو قادر علي أن يتلَو عليكم صفحات بكاملها مستمدّةً من مجلات نقدية، وقد سعدت بمعرفة حديث نيقولا آرداليونتش منذ زمن طويل؛ ولكنه في هذه المرة لا يردّد جملة قرأها، وإنما هو يُلمح إلى عربتي ذات المقاعد الصفراء، التي تجري على عجلات حمراء فعلاً. ولكنني أحب أن أقول لك إنني أبدلت عربتي تلك، فجاء كلامك متأخراً عن الوقت المناسب.
أصغى الأمير إلى كلام رادومسكي... فلاحظ أن الشاب يسلك سلوكاً لا مأخذ عليه، وأنه متواضع مرح. وأعجبه فيه خاصّة أنه يعامل كوليا معاملة فيها مودّة الندّ للندّ، حتى حين يناكده كوليا.
– ما هذا الذي تجيئني به؟
كذلك قالت إليزابت بروكوفيفنا تسال فيرا، بنت ليبديف، التي وقفت أمامها فجأةً، مثقلة الذراعين بعدّة كتب كبيرة الحجم أنيقة التجليد تكاد تكون جديدة.
قالت فيرا:
– هذا بوشكين! هذا شاعرنا بوشكين! أمرني بابا بأن أهدي إليك كتبه.
فقالت إليزابت بروكوفيفنا مدهوشة:
– كيف؟ أهذا معقول؟
– لا، لا، ما هذا بهديّة! ما هذا بهديّة! ما كان لي أن أجيز لنفسي ذلك!
هكذا قال ليبديف محتجاً وقد ظهر وراء ابنته على حين فجأة. وتابع كلامه يقول:
– وإنما أتنازل لك عن هذه الكتب بيعاً بسعر الشراء. إنها نسخة أسرتنا من مؤلفات بوشكين، طبعة آننكوف ، التي أصبح العثور عليها الآن مستحيلاً. أتنازل عنها بيعاً بسعر الشراء. إنني يا صاحب السعادة أقدّمها إليك باحترام، على نيّة أن تبيعها إياها فتُشبع بذلك نهمها النبيل إلى المباهج الأدبية.
– إذا كنت تبيعها فأنا أشكر لك ذلك. لا تخف، لن تخسر شيئاً. ولكن كفاك تلوّياً وتعقفاً، أرجوك!.. سمعت عنك أنك غزير الاطلاع جمّ المعرفة، فسنتحدث معاً في يوم من الأيام. هل تتولى حمل الكتب إليّ بنفسك؟
قال ليبديف وهو يظهر سروره ورضاه بحركات شتى من التلوي والتعقف.
– بكل احترام وإجلال...
وانتزع الكتب من يدي ابنته.
– حسن. ائتني بها. إنني أعفيك من الاحترام والإجلال، ولكن لا تضيع الكتب!
ثم أضافت تقول وهي تحدّق إلى عينيه:
– ولكني أشترط أن لا تتخطى عتبة باب بيتي، فإنني لا أنوي أن أستقبلك هذا اليوم. غير أن في وسعك أن ترسل إليّ ابنتك فيرا حالا إذا شئت. لقد أعجبتني كثيراً.
قالت فيرا لأبيها بلهجة تدل على نفاد الصبر:
– لماذا لا تقول شيئاً عن أولئك الذين ينتظرون هناك؟ إذا لم تدخلهم فسوف يقتحمون الباب. لقد بدأوا بإحداث صخب وضجّة.
ثم أضافت تخاطب الأمير الذي كان قد تناول قبعته:
– يا ليون نيقولايفتش، إن في بيتك أربعة أفراد ينتظرونك منذ مدة طويلة، ويحدثون جلبة لأن أبي لا يسمح لهم بأن يدخلوا عليك.
سألها الأمير:
– من هم هؤلاء الزوّار؟
– يدّعون أنهم يجيئون إليك لعمل من الأعمال، لكنهم أناس لا يتورعون أن يستوقفوك في الشارع إذا لم يُسمح لهم بالدخول. فالأفضل يا ليون نيقولايفتش أن تدخلهم وتتخلص منهم. عبثاً حاول جبريل آرداليونوفتش وبتتسين أن يفاوضوهم، أنهم لا يريدون أن يسمعوا شيئا البتة!
قال ليبديف وهو يحرّك يديه بإشارات كثيرة:
– هذا ابن بافلشتشيف! ابن بافلشتشيف. لا داعي إلى استقباله، لا داعي.. أن هؤلاء الناس لا يستحقون أن تصغي إليهم وتسمع كلامهم، بل إنه لا يليق بك يا سمو الأمير أن تزعج نفسك من أجلهم. نعم، لا يستحقون...
هاتف الأمير بانفعال عميق:
– ابن بافلشتشيف؟ آه!... أنا أعلم أن... ولكني عهدت إلى جبريل آرداليونوفتش أن يهتم بهذه القضية. هو نفسه قال لي منذ لحظة إن...
هنا ظهر جبريل آرداليونوفتش في الشرفة خارجاً من شقة الأمير. وظهر بعده بتتسين. إن ثمة ضجة تُسمع من الغرفة المجاورة. وإن صوت الجنرال إيفولجين المدوّي يحاول أن يطغى على أصوات عدة أشخاص آخرين. هرع كوليا يستطلع بواعث الجلبة.
قال أوجين بافلوفتش:
– شيء شائق جدا!
فحدّث الأمير نفسه بقوله: «هو إذاً على علم بالأمر».
وقال الجنرال إيفان فيدوروفتش متحيّراً وهو يسأل بنظره جميع الوجوه، كأنما يدهشه أن يكون الوحيد الذي يجهل هذه الحكاية الجديدة:
– ابن بافلشتشيف؟ هل يمكن أن يكون هناك شخص هو ابن بافلشتشيف؟
أيقظ الأمر اهتمام الجميع، وشحذ انتباههم. فما كان أشد دهشة الأمير حين رأى أن قضية شخصية لا تتعلق بأحد غيره قد أثارت هذا الاهتمام كله لدّى جميع الحضور.
قالت آجلايا وهي تقترب من الأمير برصانة ووقار:
– الأفضل أن تسوّي هذه القضية فوراً، وأن تسوّيها «بنفسك». اسمح لنا بأن نكون جميعاً شهوداً لك. إنهم يريدون أن يلطخوك يا أمير. فعليك أن تبرّئ نفسك تبرئة ساطعة باهرة. إنني لأبتهج سلفاً حين أتصوّر أنك فاعل ذلك.
وهتفت الجنرالة تقول:
– أنا أيضاً أتمنى أن يوضع حدّ لهذا الادّعاء الدنيء! لقنهم درساً قاسياً يا أمير، لا ترأف بهم، لقد صدّعوا رأسي بهذه القضية، ما أكثر ما زعلت لأجلك. إنه لمن الشائق أن تراهم. ادعهم إلى المجيء. سنبقى هنا. فكرة آجلايا فكرة حسنة.
ثم قالت الجنرالة تسأل الأمير «شتشـ...»:
– هل سمعت عن هذه القضية يا أمير؟
– نعم، سمعت عنها، بل سمعت عنها في بيتكم أنتم، إنني أحب كثيراً أن أرَى هؤلاء الشبّان.
– هم عدميون ، أليس كذلك؟
قال ليبديف وهو يتقدم خطوة ويكاد يرتجف، من شدة الانفعال:
– لا، ليسوا عدميين بمعنى الكلمة، هم فئة أخرَى، من نوع على حدة! ابن أختي يزعم أنهم أكثر غلوّاً من العدميين. تخطئ يا صاحب السعادة إذا ظننت أنك بحضورك ستربكهم وتخيفهم. هؤلاء فتية لا يهابون أحداً. إن بين العدميين أناساً مثقفين على الأقل، حتى لقد تجد بينهم علماء. أما هؤلاء فهم يفوقون العدميين لأنهم أناس عمليون. صحيح أنهم منحدرون من العدميين، ولكنهم منحدرون منهم على نحو غير مباشر، بطريقة مواربة. أنهم لا يعبّرون عن أنفسهم بمقالات في الجرائد، بل يمضون إلى الوقائع رأساً. لا يعنيهم مثلاً أن يبرهنوا على أن بوشكين لا نفع فيه ولا جدوى منه ، ولا يعنيهم أن يبرهنوا على أن من الواجب تقسيم روسيا وتجزئتها. لا، هذه أمور لا تهمّهم. وإنما يرون أن من حقهم، متى رغبوا في شيء من الأشياء، أن لا يصدّهم عنه أي عائق وأن لا تعترضهم أية عقبة، فإذا اقتضى الأمر أن يقتلوا ثمانية أشخاص فعلوا دون تردَّد. إنني أنصحك يا أمير بأن لا...
لكن الأمير كان قد مضى يفتح الباب للزوّار. وقال وهو يبتسم:
– إنك تتجنى عليهم يا ليبديف. صحيح أن ابن أختك قد سبب لك متاعب كثيرة. لا تصدقيه يا إليزابت بروكوفيفنا. أؤكد لك أن أمثال جورسكي وأمثال دانيلوف ليسوا إلا حالات فردية استثنائية. أما هؤلاء الشبان... فأنهم مخطئون لا أكثر!... على أنني أوثر أن لا أتحدث معهم هنا أمام الجميع. معذرة يا إليزابت بروكوفيفنا: سوف يدخلون، فأقدمهم إليكم وأعرّفكم بهم، ثم أخرج معهم. ادخلوا أيها السادة، تفضلوا...
والحق أن الأمير كانت تشغل باله وتعذبه فكرة أخرى. كان يتساءل أليست هذه مكيدة مدبرة لهذه الساعة بعينها ولهذا الاجتماع نفسه، لا من أجل أن تتاح له فرصة الانتصار، بل من أجل أن تهيأ له أسباب التلطخ بالخزي والعار؟ ومع ذلك كان يأخذ على نفسه انقياده لمثل هذا «الشك الشاذ الخبيث!»، ويشعر من ذلك بحزن شديد، حتى لكأنه يمكن أن يموت من الشعور بالخزي والعار على الفور لو استطاع أحد أن يكتشف أن فكرة كهذه الفكرة قد خطرت بباله أو دارت في خلده!
وحين ظهر الزوّار كان مستعداً أصدق الاستعداد لأن يعُدّ نفسه أحط الناس قاطبة من الناحية الأخلاقية بين هؤلاء الذين يحيطون به.
دخل خمسة أشخاص: أربعة قادمين جدد، ووراءهم الجنرال إيفولجين الذي كان يبدو منفعلاً أشدّ الانفعال، وكان يبدو أن نوبة فصاحة وبلاغة قد استولت عليه واستبدّت به. قال الأمير يحدّث نفسه مبتسماً: «لا شك في أن هذا معي!». وكان كوليا قد تسلل إلى الجماعة، فهو يتحدث بحرارة إلى هيبوليت، أحد أفراد العصبة، وكان هيبوليت يصغي إلى كلامه مبتسماً ابتسامة عدم التصديق.
أجلس الأمير القادمين. أنهم شبّان في غضارة العمر، يكادون أن يكونوا مراهقين، حتى ليستغرب المرء أن يُستقبلوا بهذا الاحتفال كله وهم في هذه السنّ. وحين رأى إيفان فيدوروفتش هؤلاء الصبيان الأغرار – وكان يجهل كل شيء عن هذه «القضية الجديدة» ولا يفهم منها شيئاً البتة – استاء استياء شديداً، حتى لقد كان يمكن أن يعترض ويحتج لولا أن صدّه عن ذلك ما لاحظه لدى امرأته من اهتمام عنيف بشؤون الأمير الشخصية، وهو اهتمام كان يبدو له في الوقت نفسه غريباً عجيباً. على أنه بقي ولم ينسحب، مدفوعاً إلى ذلك بحب الاطلاع من جهة، وبحب فعل الخير من جهة أخرى، فلعله يمكن أن يكون نافعاً، ولعله يستطيع أن يفرض مهابته بما له من سُلطة. ولكن التحية التي حيّاه بها الجنرال إيفولجين من بعيد حين دخل، قد أضرمت استياءه من جديد، فاكفهرّ وجهه وقرر أن يلوذ بالصمت فما ينطق بحرف.
بين الزوّار الشبّان الأربعة كان واحد منهم على الأقل في نحو الثلاثين من عمره. إنه ذلك الملاكم الليوتنان المتقاعد الذي كان أحد أفراد عصبة روجويين، والذي كان يتباهى بأنه أعطى في الماضي صدقة قدرها خمسة عشر روبلاً. في وسع المرء أن يقدّر أنه قد انضمّ إلى الآخرين رفيقاً يشد أزرهم ويثبت عزيمتهم ويهب على مساعدتهم إذا اقتضى الأمر. وبين صحبه الثلاثة، كانت المنزلة الأولى وكان الدور الأكبر لذلك الذي يسمّى «ابن بافلشتشيف»، رغم أنه كان هو نفسه يعرّف نفسه للناس باسم أنتيب بوردوفسكي. إنه فتى أشقر؛ في وجهه بثور؛ ثيابه فقيرة قذرة؛ يبلغ ردنجوته من الاتساخ أن كُمّيه يلمعان؛ تدل صدرته الوسخة المعقودة أزرارها حتى النحر أنه لا يلبس تحتها قميصاً؛ يلفع عنقه منديل من حرير أسود ملطخ متلفف كحبل؛ يداه غير مغسولتين؛ نظرته تعبّر عن مزيج من سذاجة ووقار؛ نحيل الجسم أميل إلى الطول؛ يبدو في نحو الثانية والعشرين من العمر، لا يكشف وجهه لا عن أي سخرية ولا عن أي تفكير، لا يقرأ المرء في هذا الوجه إلا امتلاء غبياً بليداً بما يظن أنه حقه، وألا حاجة غريبة مستمرّة في الوقت نفسه إلى الشعور بأنه مساء إليه مهان؛ يتكلم بلهجة فيها انفعال؛ وفي كلامه المتدفق السريع المتردد الذي يضيع جزءاً من الألفاظ ما قد يوهم بأنه ثأثاء أو بأنه أجنبيّ مع أنه روسي صرف.
وكان يصحبه ابن أخت ليبديف الذي سبق أن عرفه القارئ، وكان يصحبه كذلك هيبوليت. إن هيبوليت فتى في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من العمر. ينم محيّاه عن ذكاء، لكن وجهه دائم التقلص، يحمل طابع المرض الرهيب الذي يأكله أكلاً. إنه نحيل أشدّ النحول، حتى لكأنه هيكل من عظم؛ وهو شاحب اللون، كالشمع اصفرارًا؛ له عينان ساطعتان متقدتان، وعلى خديه بقعتان حمراوان؛ وهولا ينفك يسعل بغير انقطاع؛ وكل كلمة من كلماته، وكل زفرة من زفراته تصحبها حشرجة تقريباً. واضح أنه بلغ المرحلة الأخيرة من مرض السّل، فإذا رآه المرء قدَّر أنه لن يعيش أكثر من أسبوعين أو ثلاثة. كان يبدو مرهقاً، فما كاد يدخل حتى تهالك على كرسيّ قبل أن يجلس الآخرون.
وقد دخل رفاقه وهم يفتعلون شيئاً من الأبهة والاحتفال. كان يبدو عليهم أنهم مرتبكون بعض الارتباك، لكنهم يصطنعون خطورة الشأن كأنهم يخشون أن يعرضوا مهابتهم للضياع. وذلك وضع يتعارض تعارضاً غريباً مع ما اشتُهروا به من أنهم أناس يستخفّون بالسفاسف الاجتماعية ولا يعبأون بالآداب السخيفة التافهة، وأنهم لا يعرفون إلا قانونا واحدا هو مصلحتهم.
دمدم «ابن بافلشتشيف» يقول معرّفا بنفسه:
– آنتيب بوردوفسكي.
وقال ابن أخت ليبديف معرّفاً بنفسه، ناطقاً اسمه بوضوح وتمييز كأنما هو يعتز به:
– فلاديمير دوكتورنكو.
وتمتم الليوتنان القديم قائلا في التعريف بنفسه:
– كيللر.
وصاح الزائر الأخير يقول بنبرة غير متوقعة:
– هيبوليت تيرنتيف.
جلس هؤلاء كلهم صفاً واحداً أمام الأمير. حتى إذا فرغوا من تقديم أنفسهم وذكر أسمائهم عبسوا وقطبوا، وأخذوا ينقلون طاقياتهم من يدٍ إلى يد، زيادة في إظهار قوّة البأس. كان كلٌّ منهم متأهباً لأن يتكلم، لكنه يلتزم الصمت، ويتخذ وضع الانتظار والاستفزاز ولسان حاله يقول: «لا يا صاحبي، لن تخدعنا وتغرر بنا!». أن المرء ليحسّ أنهم متى قيلت الكلمة الأولى التي تحطّم الجليد فسوف يندفعون في الكلام جميعاً في آن واحد ويقاطع كل منهم الآخر ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
الفصل الثامن
بدأ الأمير الكلام فقال:
– لم أكن أتوقع أن أرى أحداً منكم يا سادة. ولقد كنت أنا نفسي مريضاً حتى هذا اليوم. أما قضيتك (قال الأمير ذلك متجهاً بالكلام إلى آنتيب بوردوفسكي)، فإنني قد عهدت بها منذ شهر إلى جبريل آرداليونوفتش، كما أنبأتك بذلك في حينه. ثم إنني لا أرفض أن أبحث معكم الأمر بنفسي. ولكن لا بدّ أنكم توافقونني على بحث هذا الأمر الآن... فإذا كنتم تقدّرون أن البحث لن يطول فإنني أقترح عليكم أن تنتقلوا معي إلى غرفة أخرى... إن عندي في هذه اللحظة أصدقاء، وأرجوكم أن تصدّقوا أن...
فقاطعه ابن أخت ليبديف قائلاً بلهجة فيها شدّة وتسلط، دون أن يرفع صوته مع ذلك:
– أصدقاء... ليكن عندك ما شئت من أصدقاء... ولكن اسمح لنا أن نعلن أنك كان في وسعك أن تسلك معنا سلوكاً أقرب إلى الأدب والتهذيب، وأن لا تجعلنا ننتظر في حجرة المدخل ساعتين.
فما أن قال ابن أخت ليبديف هذا الكلام حتى اندفع آنتيب بوردوفسكي يقول فجأةً وقد بلغ ذروة الانفعال:
– طبعاً... طبعاً... وأنا أيضاً... انظروا كيف يتصرف الأمراء!.. أنا لست خادمك! ولكنني... ولكنني...
كانت شفتاه تختلجان وكان صوته يرتجف من فرط الغيظ، وكان الزبد يخرج من فمه فقاعات تتفجر، وكان تدفقه في الكلام يبلغ من السرعة أنه أصبح بعد عشر كلمات لا يُفهم البتة.
وقال هيبوليت بصوت صارخ:
– نعم هذه أساليب الأمراء!
ودمدم الملاكم قائلًا:
– لو كان هذا السلوك موجّهاً إليّ، أعني لو أن هذا الأسلوب استعمل معي لا مع بوردوفسكي، لكنت...
قال الأمير:
– صدّقوا يا سادة أنني لم أعلم بوجودكم هنا إلا منذ دقيقة واحدة.
وعاد ابن أخت ليبديف يقول:
– لسنا نخشى أصدقاءك مهما يكن شأنهم يا أمير، لأننا على حق.
واستأنف هيبوليت زعيقه فقال وقد ازدادت حرارته ازدياداً واضحاً:
– من ذا الذي أجاز لك – اسمح لي أن ألقي عليك هذا السؤال – من ذا الذي أجاز لك أن تعرض قضية بوردوفسكي لحكم أصدقاءك؟ قد لا نكون مستعدين لأن نقبل هذا الحكم. إننا نعرف ما عسى أن تكون قيمة هذا الحكم؟
ارتبك الأمير من هذا الاستهلال أشدّ الارتباك، فلم يعرف كيف يدسن في زحمة هذا الكلام جوابا. قال:
– لكنني سبق أن قلت يا سيد بوردوفسكي أن في وسعنا، لذا أنت لم تشأ أن تشرح الأمر هنا، في وسعنا أن ننتقل، إلى غرفة أخرى على الفور. وأعود فأقول لك إنني لم أعلم بحضوركم إلا في هذه البرهة.
وعاد بوردوفسكي يغمغم وهو يلقي حوله نظرة ريب وشك، ويزداد اندفاعا على قدر شعوره بقلة الثقة:
– ولكن لا يحق لك، لا يحق لك، لا... لا يحق لك.. أن أصدقاءك... هه! لا يحق لك...
ثم توقف عن الكلام فجأة كأنّ شيئاً قد تحطم فيه؛ ومال بجسمه إلى أمام، ثم حدّق إلى الأمير، كما لو كان يريد أن يسأله، حدّق إليه بعينيه الحسيرتين اللتين تخدّدهما أوردة صغيرة حمراء.
فبلغ الأمير من الدهشة في هذه المرة أنه لم يجد كلمة يقولها، ونظر هو أيضاً إلى بوردوفسكي محملقاً.
وفجأة نادته إليزابت بروكوفيفنا قائلة له:
– اقرأ هذا في هذه الجلسة نفسها يا ليون نيقولايفتش، فإنّ له علاقة مباشرة بقضيتك.
وأسرعت تمدّ إليه جريدة أسبوعية ساخرة ، ودلته بإصبعها على مقالة في الجريدة. إن ليبديف الذي كان يريد أن تنظر إليه الجنرالة نظرة حسنة كان قد استل تلك الجريدة من جيبه لحظة دخول الزوّار، فوضعها تحت بصر الجنرالة مشيراً لها إلى عمود مؤشر عليه بالقلم الرصاص. فإذا بالأسطر القليلة التي اتسع وقتها لأن تقرأها تحدث في نفسها أعمق الاضطراب.
تمتم الأمير يقول خجلاً أشدّ الخجل:
– لعل الأفضل أن لا تكون القراءة جهاراً، سأطلع على المقالة وحدي... فيما بعد...
فما كان من إليزابت بروكوفيفنا إلا أن انتزعت الجريدة من يدي الأمير بحركة تململ وتذمّر، قبل أن يستطيع الأمير أن يلقي على المقالة غير نظرة سريعة، ثم مدّت الجريدة إلى كوليا وقالت له:
– طيّب... اقرأ أنت... اقرأ على الفور... واقرأ بصوت عالي... اقرأ جهارا... هل سمعت؟ جهاراً، جهارا!...
إن إليزابت بروكوفيفنا امرأة شديدة الاندفاع، حتى لقد ترفع في بعض الأحيان جميع المراسي دون تفكير ناضج، وتقلع في عرض البحر رغم العواصف. شعر إيفان فيدوروفتش بقلق. وبينما كان الحضور حائرين مرتبكين منتظرين، فض كوليا الجريدة وأخذ يقرا، بصوت عال، المقالة التي أسرع ليبديف يدله عليها:
كادحون وأحفاد أمراء
قصة سرقة وقعت اليوم وتقع كل يوم
تقدّم! إصلاح! عدالة!...
«تحدث أمور غريبة في هذه البلاد التي يسمّونها روسيا المقدّسة، في هذا الزمان، زمان الإصلاحات والمشروعات الرأسمالية الكبرى والروح القومية ونزوح الملايين إلى البلاد الأجنبية في كل عام وتشجيع الصناعة واضطهاد العاملين، الخ، الخ، وإذ إننا لن نفرع من هذا التعداد أيها السادة فلننتقل إلى الواقع:
«إنّ حدثاً غريباً قد وقع لواحد من أبناء أرستقراطيتنا الإقطاعية المتوفاة رحمها الله!... أن أسلاف هؤلاء الأبناء قد خسروا كل شيء في القمار بالروليت. ووجد آباؤهم أنفسهم مضطرين أن يخدموا في الجيش مرشحين أو ملازمين، ثم ماتوا على وجه العموم تحت وطأة ملاحقات قضائية لمخالفات «بريئة» ارتكبوها في حق أموال ائتمنوا عليها وعُيّنوا لها محاسبين.
«ويشب أولادهم، كبطل قصتنا، كما يشُبّ أولاد بلهاء، أو يقبض عليهم لجرائم اقترفوها فيبرئهم القضاء ليتيح لهم فرصة إصلاح حالهم، أو يسببون فضيحة من تلك الفضائح التي تدهش الرأي العام ويجللون بعار جديد هذا العصر الذي أصبح يجلله العار بما فيه الكفاية منذ الآن.
«لقد عاد صاحبنا ابن سلالة الأمراء، عاد إلى روسيا من سويسرا منذ ستة أشهر، بعد أن اتبع هنالك علاجاً لشفائه من البلاهة (كذا)، وهو يرتجف برداً تحت معطف ليس له حتى بطانة. يجب أن نعترف بأنه كان أمرؤًا ذا... بصرف النظر هنا عن المرض اللطيف الذي سافر إلى سويسرا لمعالجته (معالجة البلاهة، تصوروا هذا!)، فإنّ أمره يأتي مصدقاً للمثل الروسي القائل: «لا حظ إلا لفئة من الناس» . وسنعرض عليكم الوقائع فاقضوا في المسألة بأنفسكم: لقد أصبح هذا الشاب يتيماً في طفولته منذ نعومة أظفاره، لأنّ أباه مات، فيما يقال، حين كان سيمثل أمام المجلس الحربي لتبديده في القمار أموال ساريته كضابط ملازم، وربما أيضاً لأنه جلد بكثير من السخاء واحداً من مرؤوسيه (تذكروا الزمان القديم أيها السادة!). وحين مات أبوه كفله ورباه ملاك روسي محسن غني جداً. أن ذلك الملاك – ولنطلق عليه اسم «ب...» – كان يملك في ذلك العصر الذهبي أربعة آلاف نفس، أربعة آلاف من الأقنان (الأقنان! هل تفهمون معنى كلمة الأقنان هذه أيها السادة؟ أما أنا فإنني لا أفهمها ولا بدّ لي من الرجوع إلى معجم لأدرك معنى هذه الكلمة. فالمرء لا يكاد يصدق هذا الأمر رغم أنه قريب العهد ). أغلب الظنّ أنه كآن واحداً من أولئك الروس الكسالى الطفيليين الذين يقضون حياتهم الخالية العاطلة في الخارج، ففي الصيف يذهبون إلى مناطق المياه المعدنية وفي الشتاء ينتقلون إلى قصر الأزهار» بباريس، فينفقون هنالك مبالغ خرافية! نستطيع أن نؤكد أن ثلث الأتاوات التي كان الفلاحون في عهد القنانة يدفعونها لأسيادهم إنما كانت تنتقل إلى يدي مالك القصر الأزهار» (الرجل السعيد!).
«مهما يكن من أمر، فإنّ ذلك الرجل اللاهي قد نشأ اليتيم كما ينشأ أمير، فعين له مربين ومربيات (جميلات طبعاً!) كان يأتي بهن من باريس. ولكن هذا الابن الأخير من أبناء تلك السلالة الشهيرة كان أبله. فرغم كل الجهود التي بذلتها المربيات اللواتي تمّ إغراؤهنّ في القصر الأزهار»، فإن تلميذنا قد بلغ العشرين من عمره دون أن يستطيع تعلم أية لغة أجنبية، وحتى دون أن يستطيع تعلم اللغة الروسية. على أن جهل اللغة الروسية أمر يغتفر! وأخيراً نبتت فكرة سخيفة في ذهن ذلك السيد «ب... »، الذي كان يؤمن بالعبودية، فاعتقد أن في الإمكان أن يكتسب الأهبل ذكاء في سويسرا. على أن هذه الفكرة لا تخلو من منطق: فإنّ هذا الطفيليّ، هذا الملاك، كان لا بدّ أن يتصوّر أن أي شيء يمكن أن يُشترَى بالمال كسائر الأشياء، ولا سيما في سويسرا. وهكذا وُقفت خمس سنين لمعالجة سليل الأمراء في تلك البلاد تحت إشراف أستاذ شهير، وأنفقت في ذلك آلاف الروبلات. ولم يصبح الأبله رجلاً ذكياً بطبيعة الحال، ولكن يزعم بعضهم أنه أخذ يشبه الإنسان بعض الشبه.
«هنا مات «ب...» فجأة. ولم يترك أي وصية طبعاً. وكانت أعماله وشؤونه المالية فوضى، مضطربة أشدّ الاضطراب. وورثه جمهور من الورثة الطامعين الشرهين الذين لا يكترث أحد منهم بأن يعول أبناء سلالة نبيلة وأن يساعدهم من باب الإحسان على الشفاء في سويسرا من بلاهة وُلدوا بها. ولكنّ سليل أسرة الأمراء الذي نتحدث عنه حاول أن يخدع البروفسور الذي يعالجه، فأخفى عنه نبأ موت الرجل المحسن إليه، واستطاع بذلك أن يحمله على أن يعالجه بالمجّان سنتين أخريين. ولكن البروفسور نفسه كان دجالاً بارعاً: فإنه إذ أقلقه أخيراً أن لا يقبض شيئاً من مريض يلتهم الطعام بشهوة ابن الخامسة والعشرين من العمر، ألبس قدميه لبّادتي حذاءيه، وخلع على كتفيه معطفا مهترئا، ورخله على نفقته إلى روسيا في الدرجة الثالثة من القطار ليخلص منه سويسرا.
«ويمكن أن يُظنّ أن الحظ قد أدار ظهره لبطلنا. ولكن الحقيقة ليست هذه: أن الحظ الذي يحلو له أن يبيد بالمجاعة أقاليم بأكملها قد أغدق جميع نعمه على هذا الأرستقراطي الصغير دفعة واحدة، مثله في ذلك كمثل تلك السحابة التي تحدّثنا عنها حكاية كريلوف ، تلك السحابة التي مرّت فوق حقول يابسة من الظمأ، ثم مضت تهطل مطراً غزيراً فوق البحر المحيط. ففي اللحظة التي كان فيها صاحبنا سليل الأمراء عائداً من سويسرا إلى بطرسبرج مات رجل من أقرباء أمه (سليل أسرة من التجار طبعاً)، هو تاجر عجوز ذو لحية لم يخلف أولاداً وكان ينتمي إلى ملة «الراسكولنيك» . وقد ترك ميراثاً لا يماري فيه أحد، يقدّر ببضعة ملايين عداً ونقداً (شيء يمكن أن يسوّي قضيتنا، أليس كذلك أيها القارئ العزيز؟). ترك هذا الميراث لصاحبنا سليل أسرة الأمراء، لصاحبنا البارون الذي كان يعالج في سويسرا من البلاهة!
«عندئذ تغيّرت الموسيقى. إن صاحبنا البارون الواضع على حذاءيه لبّادتين، رأى نفسه بعد أن غازل امرأة مغناجاً شهيرة، رأى نفسه محاطاً بجمهور من الأصدقاء والأصحاب. لقد اكتشف لنفسه أقرباء. أكثر من ذلك أن آنسات نبيلات كثيرات أصبحن يحترقن رغبة في أن يتزوّجنه زواجاً شرعياً، إذ هل يمكنهنّ أن يجدن عريساً أفضل من شاب أرستقراطي، صاحب ملايين، أبله؟ عريساً اجتمعت فيه كافة المزايا في آن واحد؟ ما كان لهن أن يعثرن على عريس مماثل، ولو بحثن عنه في ضوء قنديل، أو أوصين عليه وفقاً لمقاييس!...
صاح إيفان فيدوروفتش يقول وقد بلغ ذروة الاستياء:
– هذا... أصبحت لا أفهمه!
ودوَّت صيحات تعجّب في كل جهة من الجهات.
قالت إليزابت بروكوفيفنا آمرة:
– فليقرأ، فليقرأ مهما كلف الأمر. يا أمير، إذا كفت عن القراءة فسوف نزعل!
وكان واضحاً أن إليزابت بروكوفيفنا كانت أقلهن سيطرة على نفسها وكبحاً لجماحها!
لم يكن ثمة مفرّ. تابع كوليا قراءته مختلج الصوت محمراً أشدّ الاحمرار من فرط الانفعال:
«وبينما صاحبنا المليونير الجديد يشعر أنه انتقل إلى السماء السابعة إن صحّ التعبير، حدث ما لم يكن متوقعاً قط. ففي ذات صباح جاء إليه زائر ذو وجه هادئ قاسٍ، يرتدي ثيابا بسيطة لكنها محترمة. وأخذ هذا الرجل الذي تتميّز لغته بأنها مهذّبة رضية معقولة في آنٍ واحد، والذي يدل تفكيره، على أنه ليبراليّ الاتجاه، أخذ يشرح له الغرض من زيارته بإيجاز. هو محام مشهور جاء من قِبَل شاب وكّله عنه في تولي شؤونه. وليس ذلك الشاب إلا ابن المرحوم «ب...»، رغم انه يحمل اسماً آخر. إن المرحوم «ب...» الذي كان في شبابه رجلاً داعراً فاسقاً قد أغوّى فتاة فقيرة شريفة كانت رغم حالة العبودية التي هي فيها قد تربت تربية أوروبية (واضح أنه استعمل ما كانت تجيزه القنانة للسادة من حقوق). فلمّا لاحظ ما ستنجبه هذه العلاقة من ثمرة قريبة لا مفرّ منها أسرع يزوّج الفتاة لرجل نبيل الخلق كان له عمل صغير بل وكانت له وظيفة رسمية، وكان يحب الفتاة منذ عهد بعيد. وقد ساعد العروسين في أول الأمر، ولكن الزوج لم يلبث أن رفض مساعداته أنفةً وشمماً وكبرياء. فما انقضى بعض الوقت حتى كان «ب...» قد نسي شيئاً فشيئاً صديقته القديمة والطفل الذي وُلد له منها. ثم مات، كما ذكرنا، دون أن يكتب وصية.
«فهذا الابن الذي وُلد لصاحبنا «ب...» بعد زواج أمه، والذي تبناه الرجل الطيّب القلب فحمل الولد اسمه، أصبح بغير مورد بعد وفاة الرجل الطيب زوج أمه، وأصبح مسؤولاً عن أمه المريضة الكسيحة. كانت أمه تعيش في إقليم ناء من الأقاليم. وقد استقرّ هو في العاصمة، فكان يجني رزقه شريفاً بإعطاء دروس خاصة في بيوت أسَر من التجار، فاستطاع بذلك أن يقيم أوَده وأن يعول نفسه خلال مدة دراسته في المدرسة الثانوية، ثم استطاع بعد ذلك أن يتابع دراسة عُليا بغية التهيُّؤ لمركز في المستقبل. ولكن ما الذي يمكن أن تدرّه لك دروس خاصة تعطيها في بيوت أسَر من التجّار الروس الذين يدفعون أجر الساعة عشر كوبكات، ولا سيما حين يكون عليك أن تساعد أماً مريضة كسيحة؟ وقد ماتت أمه في الإقليم النائي بعد ذلك، فلم يكد يخرجه هذا مما هو فيه من عُسر وضيق.
«والآن يطرح سؤال: ما عسى يكون تفكير صاحبنا سليل الأمراء في هذا الأمر إذا هو أراد العدل والإنصاف؟ أغلب الظنّ أنك تقدّر أيها القارئ العزيز أنه قال لنفسه: أن «ب...» قد غمرني بفضله ونعمه طوال حياته. وقد أنفق عشرات الألوف من الروبلات على تعليمي ومربياتي وعلاجي بسويسرا، وأنا اليوم مليونير، بينما أرى ابنه النبيل ذاك، البريء من أخطاء أبٍ طائش نسّاء، يرهق نفسه في إعطاء دروس خاصة. أن كلّ ما أنفقه عليّ أبوه إنما كان ينبغي أن يعود إليه شرعاً وإنصافاً! إن جميع تلك المبالغ الضخمة التي ضحّى بها أبوه في سبيلي ليست ملكي في حقيقة الأمر. فلولا خطأ ارتكبه الحظ الأعمى لكان ينبغي أن تؤول إلى ابن «ب... »، وأن ينتفع هو بها لا أنا، لأن «ب...» لم يقفها عليّ إلا من باب النزوة أو الخفة أو النسيان. فلذا كنت رجلا شريفا كل الشرف، مرهف الشعور تماما، عادلاً كل العدل، لوجب أن أهب لابن ذلك الرجل الذي أحسن إليّ وأنعم عليّ نصف ميراثي. ولكن لمّا كنت رجلاً مقتصداً قبل كل شيء، وكنت أعلم حق العلم أن مطالبته لا تستند إلى أي أساس قانوني فسوف أمتنع عن مقاسمته ملاييني. على أنني إذا لم أردّ إليه الآن، على الأقل، عشرات الألوف من الروبلات التي أنفقها عليّ أبوه لشفائي من بلاهتي، فإنني أرتكب عملاً دنيئاً كل الدناءة، حقيراً كل الحقارة (نسي أن يضيف إلى ذلك أن عمله يكون عندئذ «مفتقراً إلى بُعد النظر وحُسن التبصُّر بالعواقب»). أن المسألة لا تعدو أن تكون مسألة ضمير وعدل وإنصاف. إذ ما الذي كان يمكن أن يصير إليه لو أن «ب...» لم يكفلني ولم يتولّ تربيتي، وانصرف باهتمامه إلى ابنه لا إليّ؟».
«ولكن لا، أيها السادة! إن أبناء سلالات الأمراء لا يفكرون في الأمور هذا التفكير! هل تصدّقون أن صاحبنا سليل أسرة الأمراء هذا الذي نشأ في سويسرا لم يستجب أي استجابة للحجج الدامغة والأدلة القوية التي ساقها له المحامي (يجب أن نذكر هنا أن المحامي حين قبل أن يتولّى شؤون مصالح الشاب إنما فعل ذلك من باب الصداقة، ورغم إرادة الشابّ تقريباً) مُوضحاً ما تُوجبه قواعد الشرف وأخلاق الكرم ومبادئ العدل، بل ويوجبه أبسط إحساس بالمصلحة ذاتها.
«ولو اقتصر الأمر على ذلك لهان وأمكن احتماله. ولكن إليكم ما حدث مما لا يمكن غفرانه ولا يمكن أن يُلتمس له عذر بأي مرض من الأمراض. إن هذا المليونير الذي لم يخلع لبّادتي البروفسور عن حذاءيه إلا منذ برهة قصيرة، لم يستطع حتى أن يفهم أن هذا الشاب النبيل الذي كان يضني جسمه في العمل حتى لكأنه يقتل نفسه به قتلاً لم يتجه إليه طالباً الرأفة به والتصدَّق عليه، وإنما هو يطالبه بدَين صريح، وهذا الذين إذا كانت تعوزه المؤيّدات القانونية فهو التزام يوجبه الحق. ذلك عدا أن الشاب لم يطلب شيئاً بنفسه، لأن أصدقاء له هم الذين كانوا يتدخلون في الأمر نيابة عنه. وهذا هو صاحبنا سليل أسرة الأمراء يصطنع هيئة التعاظم، ويستل من جيبه ورقة نقدية قدرها خمسون روبلاً، فيقدّمها إلى الشاب النبيل صدقة وقحة، وهو يشعر بكل ما يشعر به من كبر وخيلاء، مليونير يعتقد أن كل شيء مباح. ألا تصدقون أيها السادة؟ إنكم مستاؤون ثائرون! إنكم تطلقون صيحات استنكار! ومع ذلك فإنّ هذا هو ما حدث! طبيعي أن المبلغ قد رُدّ إليه فوراً، بل أُلقي في وجهه إلقاء إن صحّ التعبير!
«ما عسى تكون نتيجة هذه القضية؟ لمّا كانت هذه القضية تفتقر إلى أساس قانوني، فإنه لم يبق إلا أن تُعرض على الرأي العام. فنحن لذلك ننقل هذه القصة إلى قرائنا مؤكدين لهم صحتها وصدقها. وقد نظم أحد شعرائنا الساخرين المشهورين بهذه المناسبة أبياتاً جميلة تستحق أن يكون لها مكان في وصف أخلاقنا وعاداتنا لا بالأقاليم وحدها بل في العاصمة أيضاً. فإليكم هذه الأبيات:
ظل ليوفا أعواماً خمسة
يختال بمعطف شنايدر
يقضي وقته على عادته
في أنواع السفاسف والتُرّهات.
حتى إذا عاد وعلى حذاءيه لبادتان ضيقتان.
ورث مليون روبل.
إنه يرتل صلواته بالروسية.
لكنه يسرق الطلاب.
حين انتهى كوليا من القراءة أسرع يناول الأمير الجريدة، ومضى يعتصم بركن من الأركان دون أن يقول كلمة واحدة، دافناً وجهه في يديه. كان يشعر بخزيٍ لا يطاق، وكانت نفس الطفل التي هي نفسه لمّا تأنف بعدُ حقارات الحياة ودناءتها، فهو مضطرب الآن اضطرابًا يفوق كل وصف. كل يخيل إليه أن شيئاً خارقاً للعادة قد حدث، شيئاً سيعقبه انهيار كل شيء من حوله دفعة واحدة، وأنه سبب هذه الكارثة كلها بمعنى من المعاني، لأنه قرأ هذه المقالة بصوتٍ عالي جهارًا.
واتفق أن جميع الحضور قد راودهم شعور من هذا النوع.
أحست الفتيات بضيق وحياء. وكبحت إليزابت بروكوفيفنا غضبها الذي بلغ أقصى حدّ. ولعلها كانت تشعر بندم مُرّ على إقحامها نفسها في الأمر. فهي الآن صامتة لا تتكلم.
أمّا الأمير فكان يعاني المشاعر التي يعانيها الأفراد الخجولون جداً في مثل هذه الحالات: كان يحسّ بعار هذه الأفعال التي يقوم بها هؤلاء الزُّوّار إحساساً بلغ من القوّة أنه لبث لحظة من الوقت لا يجرؤ أن ينظر إلى أحد. وكان بتتسين وفاريا وجانيا وحتى ليبديف، كانوا جميعاً يشعرون بخجل شديد واضطراب قوي. وأغرب ما في الأمر أن هيبوليت و«ابن بافلشتشيف» كان يبدو عليهما، هما أيضاً، أنهما مدهوشان. وكان ابن أخت ليبديف يصطنع هيئة عدم الرضى وقلة الارتياح. واحتفظ الملاكم وحده بهدوء كامل، فكان يرفع شاربيه بوقار ويغض عينيه لا حرجاً بل تواضعاً كريماً، وشعوراً بانتصار صريح، كان واضحاً أنه معجب بالمقالة إعجاباً شديداً.
دمدم إيفان فيدوروفتش يقول:
– الشيطان وحده يعلم مصدر هذه الدناءة! لكأنّ خمسين حقيراً اشتركوا في تلفيق حكاية تبلغ هذا المبلغ من الخِسّة!
قال هيبوليت وهو يرتجف أشدّ الارتجاف من فرط الغضب:
– اسمح لي أن أسألك، يا سيدي العزيز: بأيّ حق تفترض هذه الافتراضات الجارحة؟
وجمجم الملاكم يقول وقد ارتعش فجأةً وأخذ يعقف شاربيه بينما أخذت كتفاه وجسمه تهتز بارتعادات:
– هذه، هذه، هذه إهانة، يا جنرال، بالنسبة إلى سيد نبيل، بالنسبة إلى رجل يجب أن تسلّم بأنه سيد نبيل.
قال الجنرال بلهجة قاسية وقد أغضبه هذا الكلام أشدّ الغضب:
– أولاً أنا لست «سيدك العزيز»؛ وثانياً ليس عندي ما أوضحه لك أو أعتذر به إليك.
ثم نهض وتحرّك حركة من يريد أن ينزل من الشرفة دون أن يضيف كلمة واحدة، ولكنه لبث واقفاً على الدرجة العُليا، مديراً للحضور ظهره. لقد أزعجه أن يرى إليزابت بروكوفيفنا لا يخطر ببالها أن تنصرف، حتى في هذه اللحظة.
هتف الأمير يقول وقد امتلأ غماً وانفعالاً:
– أيها السادة، أيها السادة، دعوا لي أن أشرح لكم أمري، وأن أبسط لكم عذري. أرجوكم: دعونا نتكلم على نحو يتيح لنا أن يفهم بعضنا عن بعض. ليس لدي ما أعقّب به على هذه المقالة، فلا تعودُنّ إليها. ولكن اعلموا أيها السادة أن ما حوته باطل كل البطلان. أقول لكم ذلك لأنكم تعلمونه كما أعلمه. ألا إن هذا عار. لسوف يدهشني أشدّ الدهشة أن أعرف أن واحداً منكم هو الذي كتب هذه المقالة.
قال هيبوليت:
– حتى هذه اللحظة لم أكن أعرف عن هذه المقالة شيئاً. ولست أؤيدها أو أحبّذها.
وأضاف ابن أخت ليبديف إلى ذلك قوله:
– أمّا أنا فكنت أعلم بوجودها... لكنني لو استُشرت لما نصحت بنشرها. إن نشرها سابق لأوانه.
فتمتم ابن «بافلشتشيف» يقول:
– وأنا كنت على علم بأمرها، ولكن هذا حقّي... إنني...
فسأله الأمير وهو يتفرّس فيه مستطلعاً مستغرباً:
– ماذا؟ أأنت الذي لققت هذا كله؟ مستحيل...
قال ابن أخت ليبديف:
– ليس من حقك أن تلقي أسئلة كهذه الأسئلة.
– أنا لم أزد على أن عبّرت عن دهشتي من أن يكون السيّد بوردوفسكي قد استطاع أن... ولكن... على كل حال أريد أن أقول لكم ما يلي: ما دمتم قد نشرتم هذه القضية في الجرائد، فإنني لا أرى السبب الذي أغضبكم منذ قليل حين أردت أن أتكلم فيها أمام أصدقائي.
دمدمت إليزابت بروكوفيفنا تقول مستاءة:
– أخيراً!...
ونفد صبر ليبديف فانسل فجأة بين الكراسي وهو يكاد يكون محموماً، وقال:
– هناك شيء نسيت أن تضيفه يا أمير: هو أنك إذا كنت قد استقبلت هؤلاء الناس وأصغيت إلى كلامهم، فإنما فعلت ذلك مدفوعاً بنبل نفسك وطيب قلبك. لم يكن من حقهم أن يطالبوا بذلك، لا سيّما وأنك عهدت بالقضية إلى جبريل آرداليونوفتش. فهذا دليل جديد على فرط طيب قلبك. وأنك لتنسَى أيضاً يا سموّ الأمير أنك الآن في صحبة أصدقاء مختارين مصطفين لا تستطيع أن تضحّي بهم في سبيل هؤلاء السادة. فأنت وحدك تملك أن تطرد هؤلاء، وتلك مهمّة يسرّني أنا كثيراً، بصفتي صاحب البيت، أن...
نادَى الجنرال إيفولجين يقول من آخر الغرفة بصوت قويّ:
– هذا صحيح كل الصحة.
وبدأ الأمير يتكلم فقال:
– كفى يا ليبديف، كفى...
غير أن صيحات استياء واستنكار تفجّرت من كل جهة فغطت على كلمات الأمير...
وصرخ ابن أخت ليبديف صرخة غلب صوتها سائر الأصوات، فقال:
– لا يا أمير، معذرة؛ أصبح هذا غير كافٍ. يجب الآن أن توضع النقط على الحروف، إذ لا يبدو أن هناك رغبة في فهمنا. إن بين الحضور هنا من يدلي بحجج قانونية فيهددنا بالطرد. ولكن هل تظن يا أمير أننا نبلغ من الحماقة حداً يجعلنا لا ندرك نحن أنفسنا أن قضيتنا خالية من أي أساس قانوني وأن القانون لا يجيز لنا أن نطالبك بروبل واحد؟ إننا لكوننا ندرك هذه الحقيقة إنما نقف على أرض الحق الإنساني، الحق الطبيعي، الحق الذي يمليه الحسّ السليم والضمير الصادق. ليس أمراً ذا بال أن لا يكون الحق مكتوباً في نص قانوني بالٍ عتيق، لأنّ الإنسان الذي يملك عواطف نبيلة ومشاعر شريفة، أعنِي الإنسان الذي يملك سداد الرأي وسلامة الحكم، من حقه أن يبقي وفياً لتلك العواطف والمشاعر، حتي في الحالات التي تغفلها نصوص القانون المكتوب ولا تتكلم عنها. وإذا كنا قد جئنا إلى هنا دون أن نخشى الطرد (الذي هددتنا به منذ لحظة) بسبب مطالبتنا – ذلك أننا «نطالب» ولا «نرجو» – وبسبب أن مجيئنا قد تم في ساعة غير مناسبة (والحق أن مجيئنا لم يتمّ في ساعة متأخرة، وإنما أنت حجزتنا في حجرة المدخل)، فإننا لم نفعل ذلك إلا لأننا قدّرنا أن نجد فيك إنساناً سديد الرأي سليم الحكم أي إنساناً ذا شرف وضمير.
«نعم، هذه هي الحقيقة، فنحن لم نأتك أذلّاء نستجدي نعمك وآلاءك كطفيليين، وإنما دخلنا رافعين رؤوسنا، أحراراً لا يقدّمون رجاء بل يبلّغون إنذاراً (هل سمعت؟ إنذاراً لا رجاء. لاحظ هذا). إننا نلقي عليك هذا السؤال جهاراً دون لف أو دوران: أتعتقد أنك على حق أم على باطل في قضية بوردوفسكي؟ هل تعترف أن بافلشتشيف قد أحسن إليك وأنعم عليك، وبأنك ربما كنت مدينًا له بحياتك؟ وإذا كنت تعتقد بهذه الحقيقة الواضحة فهل تنتوي وهل تجد أن من الإنصاف والعدل، بعد أن أصبحت مليونيراً، أن تعوِّض ابن بافلشتشيف الذي يعيش الآن حياة بؤس، دون أن يصدّك عن ذلك أنه يحمل الآن اسم بوردوفسكي؟ أنعم أم لا؟
«فإذا قلت «نعم»، أي إذا كنت تملك ما تسمونه بلغتكم شرفاً وضميراً، وما نسمّيه نحن سلامة الحكم – وهذه تسمية أصدق – فما عليك إلا أن تبادر إلى إرضائنا ثم لا نعودنّ إلى الكلام في هذا الأمر أبداً؛ ما عليك إلا أن تسوّي القضية دون أن تنتظر منا لا رجاء ولا شكراً، لأن ما ستفعله لن تفعله من أجلنا بل من أجل العدل.
«أما إذا رفضت إرضاءنا، أي إذا قلت «لا»، فسننصرف فوراً، فتقف القضية عند هذا الحذ. لكننا نحرص على أن نقول لك دون تهيُّب، أمام هؤلاء الناس جميعاً، إنّك إنسان غليظ الفكر منحط الثقافة، وإنك لن يحق لك بعد الآن أن تعُدّ نفسك رجلاً ذا شرف وضمير. إننا نطالب، ولا نستجدي!... ».
وتوقف ابن أخت ليبديف عن الكلام. لقد تكلم مهتاجاً أشدّ الاهتياج.
وتمتم بوردوفسكي يقول وقد احمرّ وجهه احمرارا شديدا.
– إننا نطالب، نطالب، نطالب، ولكننا لا نستجدي!...
بعد الخطبة التي ألقاها ابن أخت ليبديف سرت في الجمع حركة شاملة، وسُمعت دمدمات متصلة، رغم أن كل واحد كان يميل ميلاً واضحاً أن يتحاشى إقحام نفسه في هذه القضية، إلا ليبديف الذي كان مهتاجاً مضطرباً. (شيء غريب: إن ليبديف، على كونه مناصراً للأمير، كان يبدو عليه نوع من الاعتزاز العائلي أثناء كلام ابن أخته؛ فكان يجيل على الحضور نظرات يتجلى فيها رضًى خاص ومسرّة واضحة).
بدأ الأمير يتكلم فقال بصوت خافت بعض الخفوت:
– في رأيي أن في كلامك نصف حق يا سيد دوكتورنكو، بل إنني لأسلّم بأنّ فيه أكثر من نصف حق، وكان يمكن أن أوافقك كل الموافقة لولا أنك أغفلت في حديثك أمراً من الأمور. وهذا الأمر لا أملك أن أقوله لك على وجه الدقة... المهم أن أقوالك يُعوزها شيء ما حتى تكون صحيحة كل الصحة. ولكن فلنتكلم في القضية نفسها أيها السادة، فهذا أوْلى. قولوا لي: لماذا نشرتم تلك المقالة؟ ألا تعتقدون أن فيها من التمائم بقدْر ما فيها من ألفاظ؟ رأيي أيها السادة أنكم ارتكبتم عملاً منحطا.
– اسمح لي...
– يا عزيزي...
– آه... هذا... هذا...
كذلك صاح الزائرون معاً في آن واحد وقد ظهرت عليهم علائم الاهتياج.
وأجاب هيبوليت بصوته الحادّ:
– أمّا عن المقالة فقد سبق أن قلت لك إنني لا أؤيدها ولا أحبذها، لا أنا ولا غيري. إن كاتبها هو هذا (قال هيبوليت ذلك وهو يومئ إلى الملاكم الجالس قربه). أُقرُّ لك بأنها مقالة غير لائقة، كتبها رجل غير مثقف، بأسلوب هو أسلوب أمثاله من العسكريين المُحالين على التقاعد. إنه رجل أحمق، وإنه فوق ذلك غشاش، أوافقك على هذا. وأنا أكرر هذا الكلام على مسامعه كل يوم. ولكنني أضيف إلى ذلك أنه كان على بعض الحق: إن النشر حق يملكه جميع الناس شرعا، ويملكه إذا بوردوفسكي. وإذا تضمنت المقالة سخافات فهو مسؤول عنها. أمّا الاعتراض الذي أعلنته منذ قليل باسمنا جميعاً، وهو الاعتراض الخاص بحضور أصدقائك، فإنني أعتقد أن من الضروري أن أعلمكم أيها السادة أن ذلك الاعتراض لم يكن له هدف إلا تأكيد حقنا. فالواقع أننا كنا نريد أن يكون ثمّة شهود، حتى لقد اتفقنا نحن الأربعة على هذا قبل أن ندخل، نقبل الشهود أياً كانوا، ولو كانوا أصدقاءك، إذ ما داموا لا يستطيعون أن يجحدوا حق بوردوفسكي (وهو حق بديهي كالرياضيات) فمن الأفضل أن يكونوا أصدقاءك، لأنّ ذلك يظهر الحقيقة بوضوح أكبر وجلاء أعظم.
قال ابن أخت ليبديف مؤيداً:
– نعم لقد اتفق رأينا على ذلك.
فاعترض الأمير يقول مدهوشاً:
– إذا كانت هذه نيّتكم، فلماذا أحدثتم تلك الجلبة كلها وذلك الشغب كله منذ الكلمات الأولى من الحديث بيننا؟
كان الملاكم يحترق رغبة في أن يقول كلمة، فتدخل يقول بلهجة فيها تودَّد (نستطيع أن نخمّن أن وجود السيدات قد أثر في نفسه تأثيراً قويا):
– فيما يتعلق بالمقالة يا أمير، أعترف لك بأنني كاتبها فعلاً، رغم أن صديقي الممراض قد نقدها نقداً لاذعاً، وذلك أمر أغفره له كما أغفر له ما عداه بسبب حالة الضعف التي هو فيها. ولكن كتبتها ونشرتها على شكل رسالة صحفية في جريدة واحد من أصدقائي الخُلّص. الأشعار وحدها ليست لي، وإنما نظمها شاعر ساخر مشهور. وقد قرأت المقالة لبوردوفسكي، حتى أنني لم أقرأها كلها، فأسرع يأذن لي بنشرها. لاحظ أنني لم أكن في حاجة إلى موافقته لنشرها. فالنشر حق عام، نبيل، مفيد؛ وإني لأرجو يا أمير أن تكون أنت نفسك أكثر ليبرالية من أن تنكر حق النشر...
– لست أنكر حق النشر، ولكن لا بدّ لك أن تعترف بأنّ مقالتك تتضمن...
– تتضمّن أشياء قاسية بعض القسوة... أهذا ما تريد أن تقول؟ ولكن هذه الأشياء لها ما يسوّغها من اعتبارات المصلحة الاجتماعية بمعنى من المعاني. عليك أن تعترف أنت نفسك بذلك. ثم هل يستطيع المرء أن يفوّت فرصة كهذه الفرصة؟ نحن لا يهمنا الجُناة، فمصلحة المجتمع فوق كلّ مصلحة! أمّا فيما يتعلق بما ورد في المقالة من أمور ليست صحيحة صخة تامّة، أقصد بعض المبالغات في التعبير، فيجب عليك أن تعترف أيضاً أن العبرة بالغاية المنشودة والنية المعقودة، والهدف المقصود. فإنما المهم أن نقدّم مثالاً مفيداً، ثم يتسع وقتنا بعد ذلك للمناقشة في حالات خاصة. وأمّا فيما يتعلق بالأسلوب أخيراً، فهو الفكاهة الساخرة طبعاً، والناس جميعاً يكتبون بهذا الأسلوب؛ عليك أن تعترف أنت نفسك بذلك، هأ هأ هأ!...
صاح الأمير يقول:
– لكنكم ضللتم الطريق أيها السادة، أؤكد لكم ذلك. لقد نشرتم المقالة وأنتم تتصورون أنني لا أريد أن أصنع شيئاً البتة للسيد بوردوفسكي، فحاولتم على أساس هذا الافتراض أن تخيفوني وأن تنتقموا مني. ولكن ما أدراكم؟ لعلني أنوي إرضاء السيد بوردوفسكي. وها أناذا أعلن لكم الآن بقول قاطع على رؤوس الأشهاد أن تلك هي نيتي...
صاح الملاكم يقول:
– أخيراً! هذا قول حكيم نبيل يصدر عن إنسان حكيم نبيل!
وتنهدات إليزابت بروكوفيفنا وهي تقول على غير إرادة منها:
– رباه!
ودمدم الجنرال قائلاً:
– هذا لا يطاق!
وتضرع الأمير يقول:
– اسمحوا لي يا سادة، دعوني أبسّط لكم القضية! منذ نحو خمس أسابيع، زارني في «ز»، يا سيد بوردوفسكي، زارني مندوبك رجل الأعمال تشيباروف. لقد رسمت له في مقالتك صورة أخّاذة جداً، يا سيد كيللر (أضاف الأمير ذلك ضاحكاً وهو يلتفت نحو الملاكم)، غير أن هذا الشخص لم يعجبني البتة في الواقع. لقد أدركت منذ أول لحظة أن تشيباروف هذا هو المحرّض في القضية كلها، وأنه هو الذي ورّطك يا سيد بوردوفسكي، مستغلاً بساطتك... أقول لك هذا بكل صراحة.
ثأثأ بوردوفسكي يقول وقد بلغ الغيظ منه كل مبلغ:
– لا يحق لك... إنني... أنا...أنا لست بسيطاً...
وقال ابن أخت ليبديف بلهجة الواعظ الناصح:
– لا يحق لك أن تفترض مثل هذه الافتراضات!
وصات هيبوليت يقول بصوته الحادّ:
– هذا شيء رهيب فظيع! هذا افتراض جارح كاذب مهين، وليس له بالقضية أية علاقة!
أسرع الأمير يبرّئ نفسه قائلاً:
– عفوكم عفوكم يا سادة! اعذروني، أرجوكم. لقد قدّرت أن الأفضل أن يتكلم الطرفان كلاهما بصراحة تامة. ولكن لكم ما تشاؤون. أجبت تشيباروف بأنني لغيابي ببطرسبرج قد أسرعت أرجو صديقاً لي بأن يتابع هذه القضية، وقلت لتشيباروف إنني سأنقل النتيجة إليك أنت يا سيد بوردوفسكي. ولا أكتمكم أيها السادة أن تدخل تشيباروف هو الذي جعلني أحسّ بأن في الأمر غشاً. آه... لا تزعلوا يا سادة، ناشد تكم الله! لا تزعلوا!
كذلك هتف الأمير مرتاعاً حين رأى بوردوفسكي يعود إلى الاهتياج، وحين رأى أصحابه يهبون إلى الاعتراض والاحتجاج. وتابع كلامه فقال:
– حين أقول أن المطالبة بدت لي محاولة غش ونصب، فإن قولي لا يمكن أن يتناولكم أنتم. لا تنسَوا أنني كنت لا أعرف حينئذ أي واحد منكم. حتى لقد كنت أجهل أسماءكم، إنني لم أحكم على الأمر إلا من خلال تشيباروف. إنني أتكلم بصورة عامّة... ليتكم تعلمون كم خُدعت منذ آل إليّ هذا الميراث!
قال ابن أخت ليبديف بلهجة السخرية:
– أنت ساذج سذاجة رهيبة يا أمير!
وزاد هيبوليت على ذلك فقال:
– وأنت عدا ذلك أمير ومليونيرّ فرغم ما قد تملك من طيبة النفس وبساطة القلب، لا يمكنك أن تخرج على القانون العام.
فقال الأمير يجيب بسرعة:
– جائز، جائز جداً، وإن كنت لا أفهم عن أي قانون عام تتكلم. ولكني أتابع كلامي، فأرجوكم أن لا تهتاجوا في غير داع إلى اهتياج، لأنني – أقسم لكم – لا أنتوي أن أسيء إلى شعوركم البتة! ما هذا يا سادة؟ ألا يستطيع المرء أن يقول كلمة صدق دون أن تثوروا؟
«لقد ذُهلت حين علمت بوجود شابّ يقال له «ابن بافلشتشيف»، وحين علمت بحالة البؤس التي ذكر لي تشيباروف أنه يعيش فيها. إن بافلشتشيف كان المحسن إليّ وكان صديق أبي (آه يا سيد كيللر، لماذا كتبت في مقالتك عن أبي أشياء تبلغ هذا المبلغ من البعد عن الحقيقة؟ إنه لم يسلب أموال سريته في يوم من الأيام، لا ولا أساء معاملة أحد مرؤوسيه قط. إنني أؤمن بهذا كل الإيمان. كيف استطاعت يدك أن تخط نميمة كهذه النميمة؟). وإن ما قلته عن بافلشتشيف لا يمكن قبوله البتة. أنت تزعم أن هذا الإنسان النبيل كان داعراً فاسقاً، وأنه كان خفيفاً طائشاً. وأنت تقول هذا الكلام بثقة كاملة كأنما أنت تذكر الحقيقة. والواقع خلاف هذا تماماً. لقد كان بافلشتشيف أعفّ إنسان في العالم! وكان عدا ذلك عالماً مرموقاً؛ كان يراسل عدداً من الشخصيات العلمية، وقد وهب أموالا كثيرة في سبيل تقدَّم العلم. أمّا عن شهامته وأعماله الخيّرة فقد كنت على حق حين كتبت أنني كنت في ذلك الحين شبه معتوه أو أبله أو أهبل. وأنني كنت لا أستطيع أن أدرك من ذلك شيئاً البتة (ومع هذا كنت أتكلم الروسية وأفهمها). ولكنني الآن قادر على أن أقضي برأيي في كل ما أتذكره...
صرخ هيبوليت يقول:
– اسمح لي... دعك من العاطفيات. ما نحن بأطفال. لقد كنت تريد أن تمضي إلى جوهر القضية. والساعة الآن قد تجاوزت التاسعة. لا تنس هذا!
فأسرع الأمير يوافق قائلاً:
– ليكن يا سادة، أريد ذلك حقاً. هأناذا أعود إلى القضية. قلت لنفسي بعد شيء من الشك والارتياب: لعلني مخطئ، ولعل بافلشتشيف أن يكون له ابن. غير أن الشيء الذي كان يبدو لي صعب التصديق هو أن يعمد ذلك الابن، بمثل هذه الخفة كلها ومثل هذا الطيش كله، أن يفضح سرّ ولادته وأن يلطخ شرف أمه علانية، للناس قاطبة. ذلك أن تشيباروف كان قد هدّدني بإذاعة الفضيحة ونشرها...
هتف ابن أخت ليبديف يقول:
– يا للحماقة!
وصاح بوردوفسكي قائلا:
– لا حق لك، لا يحق لك!...
وانبرّي هيبوليت يقول بصوته الحادّ وقد اهتاج اهتياجاً شديداً:
– ليس الابن مسؤولاً عن فجور أبيه، وليست الأم مذنبة!
فقال الأمير خجلاً:
– فهذا في رأيي أدْعَى إلى مداراة الأم والامتناع عن التشهير بها.
قال ابن أخت ليبديف وهو يضحك ضحكة ساخرة:
– لست ساذجاً فحسب يا أمير، فلعلك تتجاوز حدود البساطة..
وسأله هيبوليت بصوت لم يبق فيه شيء طبيعي:
– وأي حق كان لك أنت؟
– لم يكن لي أي حق، لم يكن لي أي حق...
كذلك أسرع الأمير يضيف إلى كلامه. ثم تابع فقال:
– أنت هنا على صواب، أعترف لك بذلك. لكنني لم أستطع أن أمتنع عن ذلك التفكير. ثم سرعان ما قدّرت أن انطباعي الشخصي يجب أن لا يكون له في القضية أي تأثير. فمتى كان من واجبي أن أُرضي السيد بوردوفسكي عرفاناً بجميل بافلشتشيف وتحية لذكراه، فسيّان أن أحترم السيد بوردوفسكي وأن لا أحترمه... وإذا كنت قد حدّثتكم عن ترددي أيها السادة، فإنني لم أفعل ذلك إلا لأنه كان قد بدا لي أنه من غير الطبيعي أن يكشف عن سرّ أمه للناس كافة... الخلاصة: إن هذا الدليل خاصة هو الذي أقنعني بأن تشيباروف لا بدّ أن يكون وغداً ورّط السيد بوردوفسكي في هذا الغش باحتيالات محسوبة.
صاح الزوّار يقولون:
– آه... هذا كلام يتجاوز جميع الحدود!
حتى إن بعضهم اندفع ينهض.
– أيها السادة! إن هذا الدليل نفسه هو الذي جعلني أخمّن أن السيد بوردوفسكي المسكين التعيس هذا لا بدّ أن يكون متخلّف العقل محدود الذكاء، فهو لا يحسن أن يدفع عنه مكر الماكرين وأن يحمي نفيه من أحابيل الغشاشين، فزادني ذلك شعورًا بواجب مساعدته ما دام «ابن بافلشتشيف»، ذلك بثلاث طرق: أن أدرأ عنه تأثير تشيباروف أولاً، وأن أوجّهه وأرشده بإخلاص ومحبة ثانياً، وأن أدفع له عشرة آلاف روبل ثالثاً، وهو المبلغ الذي يساوي في حسابي ما أنفقه عليّ بافلشتشيف.
صاح هيبوليت يسأل:
– ماذا؟ عشرة آلاف روبل فقط؟
وهتف ابن أخت ليبديف:
– هيّا يا أمير، لست قديراً في علم الحساب، أو قُل إنك قدير في علم الحساب أكثر مما يجب، رغم ما تصطنعه من بساطة.
وأعلن بوردوفسكي قائلا:
– لا أقبل هذه العشرة آلاف روبل!
فهمس الملاكم يقول له بسرعة وهو يميل عليه من وراء كرسي هيبوليت:
– اقبلْ يا آنتيب!
وزأر هيبوليت يقول:
– أعتذر يا سيد مشكين! عليك أن تفهم أننا لسنا أغبياء. نحن لسنا أولئك الأغبياء المفرطين في الغباوة الذين يفترضهم ضيوفك فيما يبدو، لسنا أولئك الأغبياء الذين تتصورهم هاته السيدات اللواتي ينظرن إلينا وهنّ يبتسمن ابتسامة احتقار، أو يتصورهم خاصة هذا السيد الذي ينتمي إلى المجتمع الراقي (قال ذلك وهو يشير إلى أوجين بافلوفتش)، هذا السيد الذي لم أتشرف بمعرفته طبعاً، ولكنني سمعت عنه أشياء كثيرة...
قال الأمير بحرارة مضطرمة:
– اسمحوا لي، اسمحوا لي أيها السادة. لقد أخطأتم فهمي مرة أخرى. يجب أن أذكر أولاً أنك يا سيد كيللر قد قدّرت ثروتي تقديراً بعيداً عن الصحة كل البعد: فأنا لم أقبض ملايين، ولعل ما أملكه لا يزيد على ثُمن أو عُشر ما تظنون. ثم أن ما أُنفق عليّ بسويسرا ليس عشرات ألوف الروبلات: لقد كان شنايدر يتلقى ستمائة روبل في السنة؛ وهذا المبلغ نفسه لم يُدفع إلا في السنين الثلاث الأولى. أمّا عن المربيات الجميلات، فإنّ بافلشتشيف لم يأتِ بمربية من باريس في يوم من الأيام. فهذه أيضاً نميمة. أعتقد أن المبالغ التي أنفقت عليّ تقل كثيراً عن عشرة آلاف روبل، لكنني وافقت على ذلك الرقم. لا بدّ لكم من التسليم بأنني كنت أردُّ دَيناً فلا أستطيع أن أقدّم للسيد بوردوفسكي مبلغاً أكبر من ذلك الدّين، مهما تكن عاطفة المحبة التي أحملها له. ذلك أن الشعور بأبسط قاعدة من قواعد الذوق يمنعني من أن أظهر بمظهر من يتصدّق عليه، في حين أنني أردُّ إليه ديناً. لا أدري أيها السادة كيف يمكن أن تفهموا عني هذا الأمر. ولكنني أردت أن أفعل أكثر من ذلك، فأهب للسيد بوردوفسكي هذا العاثر الحظ، صداقتي ودعمي. لقد لاحظت أنه خُدع وأنه غُرِّر به، فلولا ذلك لما رضي عن دناءة كدناءة نشر ذلك المقال الذي كتبه السيد كيللر مشهّراً فيه بأمه. ولكن ما بالكم تغضبون من جديد أيها السادة؟ لسوف ينتهي بنا الأمر إلى أن لا نفهم شيئاً البتة.
وختم الأمير كلامه قائلًا:
– صدق ظنّي إذن! لقد اقتنعت الآن اقتناع المشاهدة والعيان بأن تخميني كان صحيحا صادقا...
قال الأمير ذلك منتعشاً، دون أن يلاحظ أن سامعيه كانوا أثناء محاولته تهدئتهم يزدادون غضباً وغيظا.
سألوه حانقين:
– ماذا؟ بماذا اقتنعت؟
أجاب الأمير:
– استطاعت أن أرى السيد بوردوفسكي على مهل، فعرفت حقيقته بنفسي... إنه رجل بريء، ولكن الجميع يخدعونه ويغررون به. هذا إنسان لا يملك عن نفسه دفاعاً، فيجب عليّ إذن أن أحميه. ثم أن جبريل آرداليونوفتش الذي كلفته بمتابعة هذه القضية ثم لم تصلني أنباؤه منذ مدة طويلة بسبب سفري وبسبب مرضي أثناء الأيام الثلاثة التي قضيتها ببطرسبرج، أقول أن جبريل آرداليونوفتش هذا قد أطلعني على نتائج تحرّياته منذ ساعة، في أول لقاء بيننا، فأبلغني أنه كشف النقاب عن جميع مرامي تشيباروف وأهدافه، وأنه يملك البرهان القاطع على أن جميع افتراضاتي عن هذا الرجل صحيحة. أنا أعلم تماماً أيها السادة أن كثيراً من الناس يعُدُّونني أبله. فلما سمع تشيباروف أنني إنسان مبسوط الكفّ، وأن انتزاع المال مني أمر يسير. قدّر بأن في وسعه أن يخدعني بسهولة، مستغلاً ما أحمله للمرحوم بافلشتشيف من شعور الشكر والامتنان ومن عاطفة العرفان بالجميل. غير أن الأمر الأساسي... ما بالكم أيها السادة؟ أرجو أن تصغوا إلى كلامي حتى النهاية... أقول أن الشيء الأساسي هو أنه ثبت الآن بالدليل القاطع أن السيد بوردوفسكي ليس ابن بافلشتشيف! لقد أبلغني جبريل آرداليونوفتش هذا الاكتشاف منذ هنيهة، مؤكداً أن ثمّة أدلة ثابتة وبراهين قاطعة. فما قولكم؟ إنه ليصعب على المرء أن يصدّق هذا الكلام بعد جميع ما عوملت به من إهانة وإذلال! واسمعوني جيداً: إن ثمة أدلة ثابتة وبراهين قاطعة. أنا نفسي لمّا أصدّقها بعد. أؤكد لكم أنني لا أستطيع تصديقها. ما زلت أشك في صحّتها، لأن جبريل آرداليونوفتش لم يتسع وقته لأن يذكر لي جميع التفاصيل. غير أن هناك واقعة أصبحت ثابتة لا مجال للشك فيها، هي أن تشيباروف وغد، فهو لم يقتصر على أنه أضل السيد بوردوفسكي المسكين، وإنما أضلكم أنتم جميعاً أيها السادة، أنتم الذين جئتم إلى هنا على نيّة نبيلة وغاية شريفة هي أن تدعموا صديقكم وأن تسندوه (ذلك أنه في حاجة إلى الدعم والسند، فهذا أمر أفهمه حق فهمه). لقد ورّطكم تشيباروف، ورطكم جميعاً في قضية غش ونصب واحتيال، لأنّ هذه القضية ليست إلا غشاً ونصباً واحتيالا.
هتف الجميع يقولون من كل جهة:
– كيف؟ غش ونصب واحتيال؟ كيف هذا؟ ليس هو «ابن بافلشتشيف»؟ كيف يمكن أن يكون هذا؟
أصبحت عصبة بوردوفسكي كلها في حالة انصعاق!
قال الأمير:
– هي قضية غش ونصب واحتيال طبعاً! إذا ثبت الآن أن السيد بوردوفسكي ليس ابن «بافلشتشيف»، فإن مطالبته تصبح غشاً ونصباً واحتيالاً لا أكثر (هذا إذا كان يعرف الحقيقة طبعاً). ولكن الواقع أنه خُدع وغرّر به. إنني ألحّ على هذه النقطة لأبرّئه مرن الجُرم، وأزعم أن بساطته تجعله جديراً بالشفقة عاجزاً عن الاستغناء عن سند يدعمه. وإلا كان يمكن أن يُعَدّ شريكاً في الغش والنصب والاحتيال في هذه القضية. لكنني مقتنع منذ الآن أنه لا يفهم من الأمر شيئاً؛ ولقد كنت أنا نفسي على هذه الحال إلى حين سفري إلى سويسرا. كنت أتمتم بأقوال غير مترابطة... كنت أريد أن أعبّر فما توافيني الكلمات... إنني أدرك هذا! وأنا أشفق عليه وأرثي لحاله وأتعاطف معه، لأنني كنت في مثل وضعه تقريباً. فمن حقي إذاً أن أتكلم عن هذا الأمر. وإني لأعلن لكم في الختام، رغم أنه لا وجود الآن لأحدٍ هو «ابن بافلشتشيف»، أعلن لكم أنني ما زلت متمسكاً بقراري، ما زلت مستعداً لأن أدفع للسيد بوردوفسكي مبلغ عشرة آلاف روبل، تحيّة لذكرى «بافلشتشيف». لقد كنت أنوي، قبل السيد بوردوفسكي، أن أقف هذا المبلغ على إنشاء مدرسة، تمجيداً لذكرَى بافلشتشيف. ولكن أصبح يستوي الآن عندي أن أقف هذا المبلغ على إنشاء مدرسة أو أن أهبه للسيد بوردوفسكي، لأنه إن لم يكن «ابن بافلشتشيف» فهو قريب من ذلك، ما دام قد اعتقد صادقاً بأنه ابن بافلشتشيف، نتيجة للتضليل والخداع الذي كان ضحيته. استمعوا إلى جبريل آرداليونوفتش أيها السادة. فلنفرغ من هذا الأمر دفعةً واحدة. لا تغضبوا، والا تضطربوا! اجلسوا! سيشرح لكم جبريل آرداليونوفتش القضية كلها؛ وإني لأعترف بأنني أحترق شوقاً إلى معرفة التفاصيل. هو يقول انه ذهب إلى بسكوف يا سيد بوردوفسكي، وقابل أمك التي لم تمُت كما زعمت المقالة... اجلسوا أيها السادة! اجلسوا»!
جلس الأمير هو نفسه، واستطاع أن يُجلس أصدقاء السيد بوردوفسكي الذين كانوا يضطربون ويتحركون ولا يستقرون على حال. لقد ظل ربع ساعة يتكلم بعاطفة حارة، وصوت قوي، وتدفق سريع، واندفاع شديد، محاولاً أن يسيطر على صيحات التعجّب وصرخات الاستنكار! وهو الآن نادم ندماً مُراً على أن أفلتت مننه تعبيرات وأقوال كان يتمنى أن لا تفلت. فلولا أنه استثير وأُخرج عن طوره إن صحّ التعبير لما أجاز لنفسه أن يفصح بمثل هذا الوضوح وهذه القسوة عن بعض تخميناته، ولما أجاز لنفسه أن ينساق هذا الانسياق في صراحة زائدة لا داعي إليها ولا محل لها. فما أن جلس حتى أحسّ بندامة أليمة تقبض قلبه: إنه لا يكتفي الآن بمؤاخذة نفسه على أنه «أهان» بوردوفسكي إذ وصفه على رؤوس الأشهاد بأنه مصاب بالمرض الذي ذهب هو إلى سويسرا لمعالجته، بل يزيد على ذلك فيلوم نفسه على أنه عامله معاملة فظة خالية من اللطف والذوق إذ عرض عليه العشرة آلاف روبل الموقوفة على إنشاء مدرسة، عرضها عليه صدقة أمام جميع الناس. قال الأمير يخاطب نفسه: «كان ينبغي لي أن أنتظر فأقدّمها إليه غداً في خلوة بيني وبينه. هذه خرافة لا سبيل إلى إصلاح ما أفسدته! نعم، إنني أبله، أبله حقاً!». بهذا ختم الأمير كلامه لنفسه وهو يشعر بأشدّ الخجل والخزي والعار!
بعد ذلك، تلبية لدعوة الأمير، تقدّم جبريل آرداليونوفتش الذي ظل متنحّياً حتى ذلك الحين ولم ينطق بكلمة واحدة، تقدّم نحو الأمير وجلس إلى جانبه وأخذ يشرح، بصوت واضح رصين، المهمة التي عهد بها إليه، فانقطعت الأحاديث فجأة، وأخذ جميع الحضور، ولا سيما بوردوفسكي، يصيخون السمع باهتمام قوي وفضول شديد.
الفصل التاسع
اتّجه جبريل آرداليونوفتش بالكلام في أول الأمر إلى بوردوفسكي الذي كان مضطرباً اضطراباً واضحاً وكان يحدّق إليه منتبهاً أشدّ الانتباه، وقد امتلأت نظرته دهشة. قال له جبريل آرداليونوفتش:
– لا شك في أنك لن تنكر ولن تجحد، جاداً، أنك وُلدت بعد انقضاء عامين على الزواج الشرعي بين أمك المحترمة وأبيك الموظف بوردوفسكي. إنه لمن السهل جدا تحديد تاريخ ميلادك بواسطة وثائق ثابتة وسجلات دقيقة. أمّا تزوير هذا التاريخ في مقالة السيد كيللر، ذلك التزوير الذي يهين كرامة أمك ويهين كرامتك في آن واحد، فإن تفسيره الوحيد هو خيال السيد كيللر الذي كان يظن أنه يخدم بذلك مصلحتك إذ يجعل حقك أوضح. لقد صرّح السيد كيللر بأنه قرأ لك المقالة قبل نشرها، ولكنه لم يقرأها كاملة... فمما لا شك فيه أنه أسقط من قراءته تلك الفقرة...
قاطع الملاكم يقول:
– فعلاً، لم أقرأ له تلك الفقرة. ولكن جميع الوقائع إنما نقلها إليّ شخص مطلع، وأنا...
قال جبريل آرداليونوفتش:
– معذرة يا سيد كيللر، دعني أكمل كلامي. أعدك بأننا سنتكلم عن مقالتك في الوقت المناسب، فتقدّم إلينا عندئذ ما لديك من تفسيرات. أمّا الآن فالأفضل أن نتبع تسلسل العرض. لقد حصلت، بمصادفة محض وبمعاونة أختي باربارا آرداليونوفتش بتتسينا، حصلت من صديقتها الحميمة فيرا ألكسيفنا زوبكوفا، وهي أرملة صاحبة أملاك، على رسالة كان المرحوم نيقولاي آندريفتش بافلشتشيف قد كتبها إليها منذ أربعة وعشرين عاماً حين كان في الخارج. وبعد أن اتصلت بفيرا ألكسيفنا اتجهت، عملاً بإشارتها، إلى كولونيل محال على التقاعد اسمه تيموني فيدوروفتش فيازوفكين، وهو واحد من أقرباء المرحوم كان صديقاً حميماً له. فاستطعت أن أحصل منه على رسالتين أخريين من نيقولاي آندريفتش مكتوبتين من الخارج هما أيضاً. إن المقابلة بين التواريخ والوقائع المذكورة في هذه الوثائق الثلاث تثبت بدقة رياضية لا تدع مجالاً لأيّ اعتراض أو أي شك، أن نيقولاي آندريفتش عاش في ذلك الأوان بالخارج خلال ثلاث سنين، وأنّ سفره إلى الخارج إنما تمّ قبل ولادتك بسنة ونصف سنة على وجه الدقة يا سيد بوردوفسكي. وأنت تعلم أن أمّك لم تخرج من روسيا طوال حياتها... ولن أقرأ لك الآن تلك الرسائل لأننا في ساعة متأخرة، ولكنني أقرر الواقعة فحسب. فإذا شئت يا سيد بوردوفسكي أن نلتقي غداً عندي، بحضور شهودك (وليكن عددهم ما شئت!) وأن تجيء بخبراء في الخطوط، فلسوف تضطر إلى التسليم بالحقيقة البديهية التي أذكرها لك. إني من هذا العلي يقين. ومتى سلمت بهذه الحقيقة، سقطت القضية كلها من تلقاء نفسها طبعاً.
استولت على جميع الحضور، من جديد، حركة انفعال عميق. ونهض بوردوفسكي عن كرسيّه فجأة. وقال:
– إذا كان الأمر كذلك فقد خُدعت إذاً، نعم خُدعت، ولكن ليس تشيباروف هو الذي خدعني، ويرجع هذا إلى زمن بعيد، بعيد جداً! لا أريد خبراء في الخطوط، ولن أجيء إليك. إنني أصدقك. وأتنازل عن دعواي... وأرفض العشرة آلاف روبل... أستودعكم الله!.
قال بوردوفسكي ذلك وهو يتناول قبعته، ويدفع كرسيه، ويهم أن يخرج.
فقال له جبريل آرداليونوفتش بلهجة تصطنع الرقة والعذوبة:
– ابق قليلا، ولو خمس دقائق، إذا كنت تستطيع ذلك، يا سيد بوردوفسكي. أن هذه القضية تكشف أيضاً عن أمور خطيرة الشأن جداً، ولا سيما بالنسبة إليك، وهي على كل حال أمور تبلغ غاية الطرافة. وفي رأيي أنك لا تستطيع أن تستغني عن معرفة هذه الأمور، وقد تغبط نفسك على أنك جلوت المسألة كلها وأخرجتها إلى النور...
جلس بوردوفسكي دون أن يقول كلمة واحدة، جلس مائلاً برأسه إلى الأمام، على وضع إنسان مستغرق في التفكير أعمق الاستغراق. وجلس أيضاً ابن أخت ليبديف الذي كان قد قام ليخرج معه. لقد كان يبدو عليه الاضطراب والتشوش، وإن لم يفقد هدوء الأعصاب ولا هيئة الوقاحة. وكان هيبوليت مظلم الوجه حزين النفس، مصعوقا بعض الشيء، هذا إلى نوبة من سعال قد استبدّت به في تلك اللحظة وبلغت من القوّة أن منديله تلطخ بالدم. وبدت على الملاكم أمارات الانشداه، وهتف يقول مخاطباً بوردوفسكي بلهجة فيها مرارة:
– آ... ألم أقل لك يا آنتيب... منذ مدة... أمس الأول... أن من الجائز فعلاً أن لا تكون ابن بافلشتشيف!
فاستُقبل هذا الاعتراف بضحكات مخنوقة. وعجز اثنان أو ثلاثة عن كظم شعورهم فانفجروا يضحكون في قهقهة مجلجلة.
تابع جبريل آرداليونوفتش كلامه فقال:
– أن لهذا الأمر اليسير الذي كشفت لنا عنه الآن يا سيد كيللر لقيمة كبيرة. وفي وسعي أن أؤكد مع ذلك، بناءً على أدق المعلومات، أن السيد بوردوفسكي، على علمه الكامل بتاريخ ميلاده، كان يجهل أن بافلشتشيف كان مقيماً في تلك الآونة بالخارج، حيث قضى الشطر الأكبر من حياته دون أن يعود إلى روسيا إلا فترات قِصاراً. ثم إن تلك السفرة كانت أهون شأناً في ذاتها من أن تحفظها، بعد انقضاء اكثر من عشرين عاماً عليها، ذاكرةُ أقرب المقرّبين إلى بافلشتشيف من أصدقائه، ناهيك عن أن ذاكرة السيد بوردوفسكي الذي لم يكن قد وُلد في ذلك الأوان. صحيح أن تقصّي أمر تلك الرحلة إلى الخارج لا يبدو متعذراً أو مستحيلاً، ولكن يجب أن أعترف أن جهود التقصّي التي بذلتها أنا كان يمكن أن تؤدي إلى نتيجة، وأنّ المصادفة هي التي يسّرت لي جمع ما جمعته من معلومات، بحيث كان يمكن أن لا تثمر مثل تلك الجهود، وأن لا يكون لها أي حظ من النجاح، لو قام بها السيد بوردوفسكي، أو حتى تشيباروف، هذا إذا خطر ببالهما أن يفعلا ذلك. ولكن من الجائز أن ذلك لم يخطر لهما ببال...
قاطع هيبوليت يقول في غضب:
– اسمح لي يا سيد إيفولجين، علام هذا اللغو الطويل كله؟ (معذرةً!). لقد أصبحت القضية واضحة وعرفنا جوهر الأمر. فلماذا هذا الإلحاح المؤلم الجارح؟ أم تُراك تريد الافتخار ببراعتك فيما قمت به من بحوث، وتريد أن تُظهر الأمير وتظهرنا على ما تملك من مواهب الباحث المتقصّي والمحقق المتحرّي؟ أم أنت تريد أن تعذر بوردوفسكي وأن تبرّئه بالبرهنة على أن الجهل هو الذي قاده إلى هذه الحالة؟ ولكن هذه وقاحة أيها السيد العزيز! إن بوردوفسكي ليس في حاجة إلى أن تتفضل عليه بالتبرئة، فاعلم ذلك! هذه إهانة له، ما أغناه عن هذا وهو فيما هو فيه الآن من وضع مؤلم محرج. كان عليك أن تدرك هذا، وأن تفهمه...
قال جبريل آرداليونوفتش مقاطعاً:
– طيب يا سيد تيرنتيف! كفى! هدّئ من روعك! لا تندفع كثيرًا! أعتقد أنك مريض جداً، أليس كذلك؟ إنني أشاطرك ألمك. لقد أنهيت كلامي، إذا كنت تريد ذلك! أو قل إنني مستعدّ لأن أختصر الوقائع التي كان لا يخلو من فائدة، في رأيي، أن تُعرف كاملة...
أضاف إيفولجين ذلك وقد لاحظ في الحضور حركة تشبه أن تكون رغبة في الاستماع إليه. وتابع كلامه فقال:
– فمن أجل أن أنير الأشخاص الذين يهتمون بهذه القضية إنما أحرص على أن أبيّن، والبراهين في يدي، أن أمك يا سيد بوردوفسكي قد حظيت من بافلشتشيف بأنواع من الرعاية والعناية لأنها كانت أخت خادمة شابة من بلد نيقولاي آندريفتش، خادمة أحبها في شبابه الأول وكان يمكن أن يتزوجها حتماً لولا أنها ماتت فجأة. إنني أملك براهين ثابتة على هذه الواقعة التي لا تُعرف إلا قليلاً بل قُل نسيت نسياناً تاماً. هذا وأستطيع أن أشرح لك كيف كفل السيد بافلشتشيف أمك حين لم يكن عمرها إلا عشر سنين فأنفق على تعليمها ووقف لها مهراً كبيراً. إن علامات التعلّق هذه قد ولّدت بعض المخاوف لدى أقرباء السيد بافلشتشيف، وهم كثيرون جداً، حتى ظنّ بعضهم أن الرجل سيتزوج الفتاة التي كفلها. ولكن أمك حين بلغت العشرين من عمرها تزوجت موظفا بمصلحة المساحة اسمه بوردوفسكي، زواجاً قائماً على الميل، وهذا كله أستطيع أن آتي ببراهين عليه. وقد جمعت كذلك بيانات دقيقة توضح أن أباك، السيد بوردوفسكي، الذي لم يكن يملك أي موهبة تمكنه من النجاح في الأعمال الحرة، قد بادر إلى ترك الوظيفة بعد قبض مهر أمك، وهو خمسة عشر ألف روبل، واندفع في مشروعات تجارية، فخُدع وفقد رأس ماله، ثم لم يستطع تحمّل هذه الضربة فأخذ يشرب، فدمّر بذلك صحته ومات قبل الأوان، بعد زواجه بسبع سنين أو ثماني سنين. وقد شهدت أمك نفسها أنها عاشت في أعقاب موت أبيك حياة فقر مدقع وعوز شديد، حتى لقد كان يمكن أن تضيع لولا المساعدة السخية الكريمة المتصلة التي قدّمها إليها بافلشتشيف إذ خصّها بإيراد سنوي بلغ ستمائة روبل. وهناك شهادات لا حصر لها تدل على أن بافلشتشيف قد محضك منذ طفولتك أشدّ العطف وأكبر الحنان. ويُستدل من تلك الشهادات، وقد أيّدتها أمك، على أن سبب ذلك العطف وذلك الحنان هو في الدرجة الأولى أنك كنت في طفولتك الأولى عيّ اللسان ضعيف الجسم هزيلاً نحيلاً، وكان بافلشتشيف طوال حياته – وأنا أملك البرهان على ذلك – يشعر بعطف خاص على أولئك الذين أساءت الأقدار أو أساءت الطبيعة معاملتهم، ولا سيما إذا كانوا أطفالا، وفي رأيي أن لهذه الخاصة شأنها الكبير في القضية التي تهمنا الآن. وأستطيع أخيراً أن أتباهى بأنني حققت اكتشافاً رئيسياً هو الاكتشاف التالي: إن العاطفة القوية التي كان يحملها لك بافلشتشيف (والتي بفضلها دخلت المدرسة وتابعت تعليمك بإشراف إدارة خاصة) قد جعلت أقرباءه وأصدقاءه يتصورون شيئاً فشيئاً أنك قد تكون ابنه، وأنّ أباك الشرعي قد لا يكون إلاً زوجاً خانته امرأته، غير أن من الضروري أن نضيف إلى ذلك أن التصوّر لم يبلغ من القوة حدّ الاقتناع الكامل الشامل إلا في السنين الأخيرة من حياة بافلشتشيف، حين أخذ المحيطون به يخشون أن يكتب وصيته بينما كانت الوقائع الأولى قد نسيت وبينما كانت التحريات قد أصبحت مستحيلة. ولعل هذا الظنّ قد وصل إلى مسامعك يا سيد بوردوفسكي ولعله استولى على فكرك. وكانت أمك، التي تشرفت بمعرفتها شخصياً، على علم بهذه الشائعة أيضاً، ولكنها ما تزال تجهل أنك صدّقت هذه الشائعة أنت ابنها (أخفيت أنا عنها ذلك). يا سيد بوردوفسكي، لقد وجدت أمك المحترمة، في بسفوك، مريضة معوِزة أشد العوز بعد وفاة بافلشتشيف. وقد أعلمتني، ودموع الاعتراف بالجميل تملا عينيها، أنها إذا كانت ما تزال تعيش، فإنما هي تعيش بفضلك وبفضل مساعدتك. وهي تعقد على مستقبلك آمالاً كباراً، وتؤمن إيماناً حاراً بأنك ستنجح...».
نفد صبر ابن أخت ليبديف فصاح يقول:
– هذا يتجاوز كل حدّ أخيراً! ما فائدة هذه القصة الروائية كلها؟
وتحمّس هيبوليت فقال:
– هذه وقاحة مثيرة!
ولكن بوردوفسكي لم يقل كلمة، بل لم يتحرك.
وردّ جبريل آرداليونوفتش وهو يبتسم ابتسامة ماكرة ويتهيّأ لخاتمة قارصة، فقال:
– ما فائدة هذا؟ فائدته أولاً أن يستطيع السيد بوردوفسكي الآن أن يقتنع بأن بافلشتشيف قد أحبه مدفوعاً لا بغريزة الأبوة بل بعظمة النفس. فهذه الواقعة وحدها كانت تتطلب أن تقرَّر ما دام السيد بوردوفسكي قد أكد وأيّد منذ قليل، بعد قراءة المقالة، مزاعم السيد كيللر. أقول هذا لأنني أعدُّك رجلاً مهذباً يا سيد بوردوفسكي. وفائدة ذلك ثانياً أنه قد اتضح الآن أن نيّة النصب والاحتيال لم تكن لها وجود حتى عند تشيباروف. إنني أحرص على الإلحاح على هذه النقطة، ذلك أن الأمير قد قال منذ لحظة، أثناء احتدام المناقشة، إنني أشاطره شعوره بأن في هذه القضية المشؤومة محاولة غش ونصب واحتيال. بالعكس: إن الجميع هنا كانوا صادقين. قد يكون تشيباروف محتالا كبيرا، ولكنه في الحالة الراهنة لم يكن إلا رجلا بارعاً ومحامياً محترفاً ومشاكساً لجوجاً. كان يأمل أن يربح مالا كثيراً من حيث هو محام، وكان حسابه لا يتصف بالبراعة فحسب، بل يتصف كذلك بأنه يقوم على أساس قويّ: لقد كان يعتمد على ما يتميّز به الأمير من أنه رجل سهل العطاء، ومن أنه يقدّس ذكرَى المرحوم بافلشتشيف، ومن أنه أخيراً (وخاصةً) يفهم واجبات الشرف والتزامات الضمير فهماً فروسياً. أمّا السيد بوردوفسكي فيمكن أن نقول عنه إنه بسبب بعض اقتناعاته، قد انقاد لتأثير تشيباروف وتأثير المحيطين به انقياداً جعله يتورط في هذا الأمر بدون أية منفعة شخصية تقريباً، وإنما لخدمة قضية الحقيقة والتقدم والإنسانية بمعنى من المعاني. أما وقد انجلت الآن جميع الوقائع، فمن الواضح أن السيد بوردوفسكي رجل صادق رغم جميع المظاهر، ففي وسع الأمير أن يعرض عليه مساعدته الودية ومعونته الفعلية التي عرضها عليه منذ قليل بمناسبة كلامه عن المدارس وعن بافلشتشيف، بل في وسعه أن يعرضها عليه الآن بمزيد من طيب الخاطر وطوع الإرادة.
صاح الأمير يقول بلهجة فيها ذعر صادق:
– قف يا جبريل آرداليونوفتش! اسكت!
ولكنّ الأوان كان قد فات، فها هو ذا بوردوفسكي يصرخ قائلاً في حنق شديد:
– قلت... قلت ثلاث مرات أنني أرفض هذا المال. لا... لن آخذه... لماذا آخذه؟ أنا لا أريده! إنني ذاهب...
قال ذلك وركض إلى الشرفة، فأدركه ابن أخت ليبديف وأمسكه من ذراعه وهمس له ببعض الكلام. فعاد عندئذ مسرعاً، فاستل من جيبه ظرفاً كبيراً غير مفضوض ورماه على منضدة صغيرة كانت بقرب الأمير، قائلاً:
– إليك المال!... ما كان ينبغي لك أن تجرؤ على أن تقدّمه إليّ! إليك المال!...
وقال دكتورنكو شارحاً:
– هي الروبلات المائتان والخمسون التي أبحت لنفسك أن ترسلها إليه صدقةً بواسطة تشيباروف.
قال كوليا متعجباً:
– المقالة لا تشير إلا إلى خمسين روبلاً!
قال الأمير وهو يقترب من بوردوفسكي:
– أنا آثم في حقك، أنا آثم جداً في حقك يا بوردوفسكي، ولكنني لم أرسل إليك هذا المبلغ صدقة. صدّقني. وما زلت آثماً في حقك حتى الآن... أثمت في حقك منذ قليل (كان الأمير مشوشاً مضطرباً؛ كان يبدو متعباً موهناً، وكانت أقواله مفككة). لقد تكلمت عن غش ونصب واحتيال... ولكن ذلك لا يتناولك أنت. إنني أخطأت. قلتُ أنك مريض مثلي... مثلي، ولكن لا، ما أنت مثلي. أنت تعطي دروساً، وأنت تساعد أمك. ولقد قلت أنك لطخت شرف أمك، والحقيقة أنك تحبها. هي نفسها تقول ذلك... لم أكن أعلم... لم يحدثني جبريل آرداليونوفتش عن هذا كله من قبل. إنني أخطأت. وقد تجرّأت فعرضت عليك عشرة آلاف روبل، فكان هذا مني إساءة. كان ينبغي لي أن أتدبر الأمر بطريقة أخرَى... وقد أصبح هذا مستحيلاً الآن، لأنك تحتقرني...
قالت إليزابت بروكوفيفنا:
– هذا مستشفى مجانين!
فقالت آجلايا مؤيدة وقد أصبحت لا تستطيع السيطرة على نفسها وكبح جماح غضبها:
– هو حتماً مستشفى مجانين!
ولكن كلماتها ضاعت في خضم لغط شامل وجلبة كاملة. الجميع يتكلمون الآن ويتناقشون بصوت عالي. فبعضهم يتشاجرون، وبعضهم يضحكون. وكان إيفان فيدوروفتش إيبانتشين ساخطاً حانقاً، ينتظر إليزابت بروكوفيفنا انتظار رجل أسيء إلى مهابته وأهينت كرامته. وأراد ابن أخت ليبديف أن يدّس كلمة أخيرة، فقال:
– طيب يا أمير! يجب أن ننصفك فنعترف لك بأنك تحسن الاستفادة... من مرضك (إذا أردنا أن نستعمل كلمة مهذبة). لقد بلغت من الحذق والبراعة في عرض صداقتك ومالك أنه أصبح يستحيل على رجل شريف أن يقبلهما في أية صورة من الصور، وعلى أي شكل من الأشكال... هذا إفراط في السذاجة أو إفراط في المكر... أنت أدرَى بذلك من أي إنسان على كل حال.
هاتف جبريل آرداليونوفتش يقول، وكان في أثناء ذلك الوقت قد فض الظرف الذي يضمّ المال:
– اسمحوا لي يا سادة: ليس في الظرف مائتان وخمسون روبلا، بل مائة روبل فحسب. إنني أذكر هذا يا أمير تحاشياً لكل التباس قد يؤدي إلى سوء تفاهم!
قال الأمير لجبريل آرداليونوفتش وهو يحرك يده بإشارة تململ:
– دع هذا! دع هذا! فأسرع ابن أخت ليبديف يردّ بقوله:
– لا، لا تدع هذا! أن قولك «دع هذا» فيه إهانة لنا يا أمير! إننا لا نتخفّى، إننا نتكاشف صراحة: نعم، ليس في الظرف إلا مائة روبل لا مائتان وخمسون. ولكن الأمرين واحد. أليس الأمران واحد؟
أجاب جبريل آرداليونوفتش بلهجة فيها دهشة ساذجة:
– لا، ليس الأمران واحداً!
فصرخ ابن أخت ليبديف يقول غاضباً حانقاً:
– لا تقاطعني. لسنا أغبياء إلى الحد الذي تظنّ يا سيادة المحامي. واضح أن مائة روبل ليست مائتين وخمسين روبلاً. لكن الشي الهامُّ هنا إنما هو المبدأ. أمّا أن ينقص المبلغ مائة وخمسين روبلاً فذلك أمر تفصيلي. أن الشيء الأساسي هو أن بوردوفسكي لا يقبل صدقتك وأنه يرميها في وجهك أيها الأمير العظيم! فمن هذه الناحية، وعلى هذا الأساس يستوي أن يردّ مائة وأن يردّ مائتين وخمسين. لقد رأيت بنفسك منذ قليل أنه رفض عشرة آلاف. ولولا أنه رجل شريف لما ردّ حتى هذه المائة روبل! إن المائة وخمسين روبلاً الناقصة إنما دُفعت لتشيباروف لقاء نفقات سفره حين مضى يلقى الأمير. لك أن تسخر من خراقتنا ومن جهلنا في شؤون الأعمال. وقد بذلت قصارك لتتندّر بنا وتضحك علينا في كل حال. ولكن لا تسمحَنّ لنفسك بأن تقول أننا أناس غير شرفاء! أيها السيد العزيز، نحن مسؤولون جميعاً عن دفع المائة وخمسين روبلاً للأمير، نعم، سوف نردّ إليه المبلغ كاملاً مع الفوائد ولو اضطررنا أن نردّه روبلاً روبلاً. إن بوردوفسكي فقير. ما هو بالمليونير. وقد قدم إليه تشيباروف فاتورة الحساب بعد رحلته. وكنا نأمل أن نربح... مَن ذا الذي يمكن أن لا يفعل الذي فعل، لو كان في مكانه؟
صاح الأمير «شتشـ...» يقول:
– يا له من سؤال!
وهتفت إليزابت بروكوفيفنا:
– أمور تدفع المرء إلى الجنون!
وقال أوجين بافلوفتش ضاحكاً، وكان قد ظل يلاحظ المشهد مدة طويلة دون أن يتحرّك:
– هذا يذكّر بالمرافعة التي ألقاها في الآونة الأخيرة محام شهير كان موكله قد قتل ستة أشخاص ليسرقهم. لقد أشار المحامي إلى الفقر ليبرر الجريمة، وختم كلامه بهذه الكلمات تقريباً: «واضح أن الفقر هو الذي أنبت في ذهن موكلي فكرة قتل أولئك الأشخاص الستة. من ذا الذي يمكن أن لا تنبت هذه الفكرة في ذهنه لو كان في مكانه؟». لقد قال المحامي كلاماً من هذا النوع. ومهما يكن من أمر فقد كان استدلاله في منتهى الطرافة والفكاهة!
قالت إليزابت بروكوفيفنا فجأة وهي ترتعش أشدّ الارتعاش من فرط الغضب:
– كفى كفى! آن لنا أن نضع حداً لهذا اللغو السخيف والهذر التافه!
كانت إليزابت بروكوفيفنا في حالة اهتياج رهيب. وها هي ذي، وقد ردّت رأسها إلى الوراء ولاحت في وجهها علائم التهديد، ترشق الحضور جميعهم بنظرة تحد واستفزاز، لا تميّز فيهم بين أصدقاء وأعداء. إن حنقها الذي طال كظمه ينفجر أخيراً وينطلق عارماً قوياً. كانت في حاجة إلى أن تقاتل وتعارك، كانت في حاجة إلى أن تهوي على أي مخلوق بأقصى سرعة. فسرعان ما أدرك الذين يعرفونها أن شيئاً خارقاً يحدث الآن في نفسها. لقد قال إيفان فيدوروفتش في الغد للأمير «شتش...» أن هذه النوبات تعتريها أحياناً، ولكنها قلما تكون على مثل هذه الدرجة من العنف – فلعلها لا تبلغ هذا الحدّ من القوة إلا مرة كل ثلاث سنين!
صاحت إليزابت بروكوفيفنا تقول:
– كفى يا إيفان فيدوروفتش! دعني! لماذا تقدّم إليّ ذراعك الآن؟ إنك لم تخرجني من هذا المكان قبل هذه اللحظة، وأنت الزوج ورب الأسرة فكان ينبغي لك أن تجرّني من أذني لو بلغتُ من الحماقة حدّ الامتناع عن طاعتك وأتباعك. كان ينبغي لك أن تفكر في بناتك على الأقل! لأهتدينّ إلى طريقي الآن بدونك، بعد هذه المهانة التي سأظل أحمرّ خجلاً منها طوال سنة بكاملها!.. انتظر، عليّ أن أشكر الأمير أيضاً!.. شكراً يا أمير على هذه البهجة العظيمة التي هيّأتها لنا! كيف ارتضيتُ لنفسي أن أبقى هنا لأصغي إلى كلام هؤلاء الشبّان؟ يا لها من حطّة! يا لها من حطّة!... فوضى، فضيحة، جرصة، لا يرَى المرء مثلها حتى في كابوس! هل هناك أناس كثيرون من هذا النوع؟... اسكتي يا آجلايا! اسكتي يا الكسندرا! ليس هذا شأنكما!... لا تدُر حولي هذا الدوران يا أوجين بافلوفتش، إنك تثير أعصابي!...
وعادت تخاطب الأمير فتقول:
– أهكذا إذاً يا عزيزي؟ أنت الذي تستغفرهم؟ لا تؤاخذني على أنني سمحت لنفسي أن أهدي إليكم ثروة... هكذا يقول لهم»!...
والتفتت إلى ابن أخت ليبديف فقالت فجأة:
– وأنت أيها الوقح ما الذي يضحكك؟ هذا يقول: «نحن نرفض المبلغ المعروض، إننا نطالب ولا نستجدي!» كأنه لا يعلم أن هذا الأبله سيمضي يعرض عليهم صداقته وماله منذ الغدا أليس هذا ما ستفعله يا أمير؟
أجاب الأمير بصوت رقيق مغلوب:
– نعم!
فعادت تهاتف قائلة لدكتورنكو:
– هل سمعته؟ ذلك بعينه هو ما تعوّل عليه. لكأنّ هذا المال في جيبك منذ الآن. فإذا كنت تتظاهر بالشمم والعظمة، فإنك لا تفعل ذلك إلا لتخدعنا.... لا يا عزيزي، اخدع غيري أن استطعت، أمّا أنا فإن لي عينين تبصران... إنني أرى لعبتك!
هتف الأمير:
– إليزابت بروكوفيفنا!
فاقترح الأمير «شتشـ...» قائلاً وهو يبتسم ويصطنع أكبر الهدوء:
– فلننصرف يا إليزابت بروكوفيفنا! آن الأوان وأكثر! ولنأخذ الأمير معنا.
كانت الآنسات منحنيات حتى لكأنهن مروّعات. أمّا الجنرال فكان مروّعاً بالفعل. وكانت الدهشة تُقرأ في جميع الوجوه. وكان بعض الذين بقوا في الخلف يضحكون خفية ويتهامسون. وكانت هيئة ليبديف تعبّر عن أقصى الوجد والنشوة.
قال ابن أخت ليبديف، وهو يشعر مع ذلك بغير قليل من الحرج:
– الفوضى والفضائح يا سيدتي موجودة في كل مكان!
فأجابت إليزابت بروكوفيفنا تقول بحنق متشنج:
– ليس إلى هذا الحدّ، ليس إلى هذا الحذ!
وأضافت تقول للذين حاولوا أن يهدّئوها:
– هلاً تركتموني وشأني! دعوني وشأني!
واتجهت إلى أوجين بافلوفتش فقالت:
– إذا استطاع محام أن يعلن في المحكمة، كما ذكرت أنت نفسك منذ هنيهة يا أوجين بافلوفتش، أنه يرى أن من الطبيعي جداً أن يقتل أمرؤ ستة أشخاص بدافع الفقر، فهذا دليل على اقتراب الساعة. لم أسمع في حياتي شيئاً من هذا القبيل. الآن أصبح كل شيء واضحاً لي. انظروا إلى هذا الثأثاء مثلاً (قالت ذلك وهي تشير إلى بوردوفسكي الذي كان ينظر إليها مشدوهاً): أهو يتورّع عن أن يقتل؟ أراهن على أنه سيقتل أحداً. قد لا يأخذ العشرة آلاف روبل، قد يرفضها بشرف وإباء. ولكنه ما يلبث أن يعود في الليل، فيذبحك ويسرق المال من صندوقك بشرف وإباء أيضاً! لن يعدّ ذلك عملاً إجرامياً. سوف يعدّه «نوبة يأس نبيل»، أو يعُدّه بادرة إنكار ورفض، أو ما لا أدري أيضاً!.. هه... العالم مقلوب، الناس يسيرون على رؤوسهم لا على أقدامهم. إن فتاة تربت في منزل أبيها تقفز اليوم إلى الشارع قائلة لأمها: «يا ماما، تزوّجت بالأمس فلاناً، كارلتش أو إيفانتش، فأستودعكم الله!». هل ترون هذا حسناً؟ هل تعُدّونه أمراً لائقاً؟ هل تجدونه شيئاً طبيعياً؟ أهذه قضية المرأة؟ انظروا إلى هذا الصبي (قالت ذلك مشيرة إلى كوليا) لقد زعم لي منذ مدة أن قضية المرأة هي ذلك بعينه. هب أمّك غبية حمقاء! أن هذا لا ينفي أن عليك أن تعاملها معاملة إنسانية!... لماذا دخلتم منذ قليل بتحدّ واستفزاز كأنكم تقولون: «إننا نتقدّم، فلا تتحرّكوا! أعطونا جميع الحقوق ولكن إياكم أن تقولوا بحضورنا كلمة واحدة. أحيطونا بجميع أنواع الرعاية والمداراة، ما تعرفون منها وما لا تعرفون. ولكنا سنعاملكم نحن كما يعامل أحقر خادم!...». إنهم يسعَون إلى الحقيقة، ويستندون إلى الحق، ولكنّ ذلك لا يمنعهم من أن يفتروا على الأمير في مقالتهم افتراء الكفرة. «ونحن نطالب ولا نستجدي. لن تنالوا منا أية كلمة تعبر عن الشكر، لأن ما تفعلونه إنما تفعلونه لراحة ضميركم أنتم!» يا لها من أخلاق رائعة! كيف لا تدرك أنك حين تعفي نفسك من أي شكر فإنما تتيح للأمير أن يجيبك من جهته بأنه غير مضطر أن يشعر بأي امتنان نحو بافلشتشيف، لأن بافلشتشيف لم يفعل ما فعله، هو أيضاً، إلا لراحة ضميره. فكيف تعوّل إذاً على شعور الأمير بالامتنان نحو بافلشتشيف؟ إن الأمير لم يقترض منك مالا، فهو غير مدين لك بشيء. فعلى أي شيء اعتمدت إذا لم تكن قد اعتمدت على ذلك الشعور بالامتنان؟ ولماذا ترفض إذاً ذلك الشعور؟ ألا أن هذا لضلال! هؤلاء أناس يتهمون المجتمع بالقسوة والتجرد من الإنسانية لأنه يجلل بالعار فتاة أُغوِيَت؛ وهم حين يفعلون ذلك يعترفون بأنّ الفتاة المسكينة تتألم من المجتمع. فكيف يجيزون لأنفسهم، والحالة هذه، أن يذيعوا خطيئتها بواسطة الجرائد على أشرار الناس وأن يدّعوا أنها تتألم من هذا التشهير بها؟ ألا إن ذلك لجنون! ألا إن ذلك لتبجّح وادّعاء! إنهم لا يؤمنون بالله ولا بالمسيح. ولكنّ الغرور والصّلف يأكلان نفوسهم أكلاً، ولينتهين بهم الأمر إلى أن يلتهم بعضهم بعضاً. أنا أقول لكم ذلك. أنا أتنبأ لكم به! أليس هذا جنوناً وفوضى وجرصة؟ وانظروا من بعد إلى هذا الرجل الذي لا حياء له، إلى هذا الرجل الذي يستغفرهم! هل يوجد أناس كثيرون من أمثالكم؟ أتضحكون ساخرين؟ ألأنني أذللت نفسي بالتورُط في الكلام معكم؟ نعم، لقد أذللت نفسي بذلك حقاً، ولا سبيل إلى إصلاح الأمر... أمّا أنت، أيها التافه الذي لا يصلح لشيء (وجّهت هذا الكلام إلى هيبوليت)، فإنني أنهاك عن الضحك مني! إنه لا يكاد يستطيع التنفس، ولكنه يفسد الآخرين. لقد أفسدت لي هذا الصبي (قالت ذلك مشيرة إلى كوليا من جديد). فهو لا يحلم إلا بك. إنك تلقنه الإلحاد. أنت لا تؤمن بالله، مع أنك ما تزال، أيها السيد الصغير، في سن يجوز فيها جلدك!.. على كل حال، اذهبوا جميعاً إلى جهنم! يا ليون نيقولايفتش، أصحيح أنك ستذهب إليهم غدا؟ أتذهب إليهم فعلاً؟
ألقت على الأمير هذا السؤال وهي تكاد تختنق غيظاً. فأجابها الأمير بقوله:
– نعم، سأذهب.
– إذا صدق هذا فلا أريد أن أعرفك بعد اليوم!
وهمّت بالانصراف فجأةً، ولكنها لم تلبث أن التفتت تسأله وهي تشير إلى هيبوليت:
– أتذهب إلى هذا الملحد أيضاً؟
وأضافت صائحة تقول بصوت غير معهود فيها، وقد هجمت على هيبوليت الذي أخرجتها ضحكته الساخرة عن طورها:
– ما لي أراك كمن يسخر مني؟
فصاحت أصوات تناديها من كل جهة:
إليزابت بروكوفيفنا! إليزابت بروكوفيفنا!
وهتفت آجلايا تقول بصوت قوي:
– ماما!... هذا عيب!...
كانت إليزابت بروكوفيفنا قد وثبت على هيبوليت فأمسكت ذراعه تشدُّها شداً قوياً بحركة مندفعة، وتتفرّس في وجهه بنظرة تفيض حنقاً وسخطا.
قال هيبوليت بهدوء ورصانة:
– لا تجزعي يا آجلايا إيفانوفنا. لسوف تدرك أمك أن المرء لا يهجم على مريض يُحتضَر... وإني لمستعدّ على كل حال لأن أشرح لها لماذا كنت أضحك... سوف يريحني كثيراً أن أفلح في أن...
غير أن نوبة سعال رهيب قد اعترته فجأة ولم يستطع أن يكبحها.
هتفت إليزابت بروكوفيفنا تقول وهي تترك ذراع هيبوليت وتنظر إليه مذعورة بعض الذعر، حين رأته يمسح الدم الذي طفر إلى شفتيه:
– محتضر لا يكف عن إلقاء خُطَب! ماذا تريد أن تقول؟ أولى بك أن تمضي إلى فراشك فترقد...
أجابها هيبوليت قائلاً بصوت ضعيف محجوب يشبه أن يكون همساً:
– ذلك ما سأفعله. فما أن أصل إلى البيت حتى أرقد في فراشي. سأموت بعد خمسة عشر يوماً، أنا أعرف ذلك. إن الدكتور «ب..ن» نفسه قد أعلن لي هذا في الأسبوع الماضي. لذلك سأودعكم بكلمتين، إذا أذنت لي.
صاحت إليزابت بروكوفيفنا تقول مروّعة:
– أحسب أنك فقدت عقلك! ما هذه الحماقة! عليك أن تعالج نفسك. ليس الوقت وقت أحاديث وخطب. امض امض إلى سريرك!..
قال هيبوليت مبتسماً:
– سأرقد في سريري... وسأرقد رقاداً لا قيام بعده. أمس أردت أن أرقد منتظراً الموت، ثم أمهلت نفسي يومين ما دامت ساقاي تستطيعان أن تحملاني... بغية أن أجيء معهم اليوم إلى هنا... ولكنني تعبت حقًا...
قالت له إليزابت بروكوفيفنا وهي تقدم إليه بنفسها كرسي:
– فاجلس إذا! اجلس! لماذا تبقى واقفا؟
قال هيبوليت بصوت منطفئ:
– شكراً. اجلسي أمامي ولنتحدث... يجب أن نتحدّث حتماً يا اليزابت بروكوفيفنا... إنني أصرُ على هذا الآن... (أضاف ذلك مبتسماً من جديد). لاحظي أن هذا اليوم هو آخر يوم أقضيه في الهواء الطلق بين الناس. وبعد خمسة عشر يوماً سأكون تحت التراب حتماً. فهذا إذاً وداع للبشر وللطبيعة بمعنى من المعاني. إنه ليسرّني جداً، رغم أنني لست عاطفياً كثيراً – هل تصدّقين؟ – أن يتمّ هذا في بافلوفسك؛ فهنا أرَى الخضرة والأشجار على الأقل...
قالت اليزابت بروكوفيفنا وكان ارتياعها يزداد دقيقة بعد دقيقة:
– أهذا أوان الإكثار من الكلام؟ إنك تعاني حُمّى شديدة. منذ قليل كنت تصيح صياحاً قوياً، كنت تعول إعوالاً شديداً. وها أنت ذا الآن لا تكاد تستطيع أن تتنفس.
– لن أتأخر عن الخلود إلى الراحة. لماذا لا تريدين أن تستجيبي لرغبتي القصوَى؟.. هل تعلمين أنني أحلم منذ مدة طويلة بأن ألقاك يا اليزابت بروكوفيفنا؟ لقد سمعتا عنك كثيرًا... من كوليا... الذي هو الشخص الوحيد الذي لم يهجرني... الشخص الوحيد تقريباً... أنت امرأة أميَل إلى الطرافة والغرابة والتفرّد... أدركت هذا الآن... هل تعلمين أنني أحببتك بعض الحب؟...
– ربه! ما كان أغباني حين أوشكت أن أضربه!
– إن آجلايا إيفانوفنا، إذا لم يخطئ ظني، هي التي نهتك عن ذلك! أليست هي ابنتك آجلايا إيفانوفنا؟ إنها تبلغ من الجمال أنني ما أن أبصرتها هنا حتى عرفتها، رغم أنني لم أكن قد رأيتها قبل اليوم قط.
وأردف هيبوليت يقول وهو يبتسم ابتسامة خرقاء مرتبكة:
– دعي لي على الأقل أن أتأمل الجمال لآخر مرة في حياتي! أنت هنا مع الأمير، ومع زوجك، ومع حفل بكامله. فلماذا ترفضين أن تلبي آخر رغبة لي؟
صاحت اليزابت بروكوفيفنا تقول:
– أعطوني كرسياً!
ولكنها لم تنتظر أن يعطيها أحد كرسياً، بل تناولت بنفسها مقعداً من المقاعد وجلست قبالة هيبوليت. ثم قالت تأمر كوليا:
– كوليا، اصحبه إلى البيت في الحال؛ وغداً لن يفوتني أنا نفسي أن...
– إذا أذنت لي، طلبتُ من الأمير فنجان شاي. إنني أشعر بتعب شديد. ألم تكوني تريدين، يا اليزابت بروكوفيفنا، أن تصطحبي الأمير إلى بيتك لاحتساء الشاي؟ فابقوا إذاً هنا، ولنقض لحظة معاً. لا شك أن الأمير سيأمر لنا جميعاً بشاي. اغفري لي تصرفي هذا... ولكنني أعلم أنك طيبة القلب نبيلة النفس. وكذلك الأمير... نحن جميعاً طيبون إلى درجة تبعث على الضحك...
تحرّك الأمير. وخرج ليبديف من الشرفة راكضاً، وأسرعت فيرا تتبعه.
قالت الجنرالة فجأة:
– أنت على حق. تكلم، ولكن في رفق وهدوء، ولا تدع للهيجان سبيلاً إلى نفسك. لقد أثرت حناني... يا أمير، ما كنت لتستحق أن أشرب الشاي في بيتك، ولكنني أبقى مع ذلك، دون أن أعتذر لأحد. نعم، دون أن أعتذر لأحد! وإلا كان ذلك مني سخفاً! على كل حال، إذا كنت قد أسأت معاملتك يا أمير، فإنني أعتذر إليك وأطلب مغفرتك، إذا أنت أردت طبعاً!
ثم أضافت تقول لزوجها وبناتها بلهجة حانقة كل الحنق كأنها حاقدة عليهم من إساءة كبيرة ألحقوها بها:
– ولستُ أجبر أحداً أن يبقى معي، فإنني أستطيع أن أرجع إلى البيت وحدي...
ولكنهم لم يدعوها تتمّ كلامها، بل أسرعوا يقتربون منها، ويحيطون بها، ويسعون إليها. وما لبث الأمير أن رجا الجميع أن يبقوا لاحتساء الشاي، واعتذر عن أنه لم يبادر إلى هذا من قبل. حتى الجنرال إيبانتشين هشّ وبشّ فقال بضع كلمات تطيّب الخواطر وتهدئ النفوس، وسأل إليزابت بروكوفيفنا أليست تشعر في الشرفة بشيء من البرد، حتى لقد هم أن يسأل هيبوليت منذ متى التحق بالجامعة، ولكنه أمسك. وامتلأ أوجين بافلوفتش والأمير «شتش...» مرحاً وفرحاً على حين فجأة. وعبّر وجها آديلائيد وألكسندرا عن السرور والرّضى رغم احتفاظهما بمعنى الدهشة والتعجّب. الخلاصة أن الجميع قد أسعدهم إسعاداً واضحاً أن نوبة الغضب التي اعترت اليزابت بروكوفيفنا قد انقضت بسلام، إلا آجلايا وحدها، فقد ظلت عابسة الوجه صامتة متنحية. وبقي الجميع، لم يشأ أحد منهم أن ينصرف، حتى الجنرال إيفولجين. ولكن ليبديف همس يقول له شيئاً لا بدّ أنه لم يُرضه، فغاب في ركن من الأركان.
واقترب الأمير من بوردوفسكي وصحبه يدعوهم إلى احتساء الشاي دون أن يستثني أحداً. فجمجموا يقولون بصوت أجشّ أنهم سوف ينتظرون هيبوليت، ثم أسرعوا ينسحبون إلى زاوية من الشرفة حيث جلسوا جنبا إلى جنب.
لا بدّ أن ليبديف كان قد أمر بإعداد الشاي لأصحابه منذ مدة طويلة، لأن الشاي قد قُدّمت فوراً.
ودقت الساعة الحادية عشرة.
الفصل العاشر
بلّل هيبوليت شفتيه بفنجان الشاي الذي قدّمته إليه فيرا ليبديفا، ثم وضع الفنجان على منضدة صغيرة، ثم ألقى على ما حوله نظرة محرجة مرتبكة تكاد تكون زائغة.
وقال متدفّقاً:
– انظري إلى هذه الفناجين يا إليزابت بروكوفيفنا. إنها من خزف، بل هي من أجمل الخزف فيما أظنّ. إن ليبديف يحتفظ بها دائماً في خزانة صغيرة وراء زجاج... ولا يستعملها قط... لا شك في أنها كانت جزءاً من مهر زوجته... وقد أخرجها اليوم تكريماً لك من غير شك.. فإلى هذا الحدّ وصل سروره واغتباطه...
أراد هيبوليت أن يضيف شيئاً آخر، لكن الكلمات لم تُواِفه.
فهمس أوجين بافلوفتش يقول في أذن الأمير:
– ها هو ذا يضطرب ويرتبك... لقد كنت أتوقع ذلك. هذا خطر، أليس صحيحاً؟ تلك علامة ثابتة على أن خبث نفسه وسوء سريرته سيوحيان إليه تصرفاً يبلغ من الشذوذ أن اليزابت بروكوفيفنا نفسها لن تطيق احتماله.
ألقى عليه الأمير نظرة سائلة مستفهمة. فتابع أوجين بافلوفتش كلامه فقال:
– ألا تخشى التصرُّفات الشاذة؟ أنا أيضاً لا أخشاها... حتى أنني أتمناها، على الأقل عقاباً لصاحبتنا الطيبة إليزابت بروكوفيفنا. يجب أن تنال هذا العقاب في هذا اليوم نفسه. لا أريد أن أنصرف قبل ذلك. أتراك مصاب بحمّى؟
أجاب الأمير متململاً:
– سأجيبك فيما بعد. لا تمنعني من الإصغاء.
كان الأمير قد سمع اسمه يُذكر. إن هيبوليت يتحدث عنه. فهو يقول ضاحكاً ضحكاً عصبياً:
– ألا تصدّقين هذا؟ كنت أتوقع أن لا تصدّقيه. أمّا الأمير فسوف يصدّقني دفعة واحدة، ولن يُدهش البتة.
قالت إليزابت بروكوفيفنا وهي تلتفت إيه:
– أتسمعه يا أمير؟ أتسمعه؟
وكان الجميع يضحكون من حولهم. وكان ليبديف يصطنع هيئة القلق ويدور أمام الجنرالة.
– هو يدّعي أن هذا المهرّج مؤجّرك قد راجع مقالة هذا السيد، أعني المقالة التي قُرئت لك هذا المساء والتي تتناولك.
نظر الأمير إلى ليبديف مدهوشاً.
واستأنفت اليزابت بروكوفيفنا كلامها وهي تضرب الأرض بقدمها قائلة:
– ما بالك تصمت؟
فدمدم الأمير يقول وهو ما يزال يحدّق إلى ليبديف:
– إني لأرَى أنه قد راجع المقالة حقاً.
فالتفتت إليزابت بروكوفيفنا نحو ليبديف بقوة وسألته:
– أهذا صحيح؟
فقال ليبديف بثقة تامّة وهو يضع يده على قلبه:
– هذه هي الحقيقة بعينها يا صاحب السموّ.
فصاحت الجنرالة تقول وقد وثبت على كرسيها:
– لكأنه يتباهى بهذا!
فتمتم ليبديف قائلاً وقد أخذ يلطم صدره ويحني رأسه شيئاً بعد شيء:
– أنا رجل منحط أنا رجل منحط!
– لا يعنيني أن تقول إنك منحط! هو يظنّ أنه يكفيه أن يقول «إنه منحط»، حتى يخرج من المأزق وحتى يبرّئ ذمته. يا أمير، مرّة أخرى أسألك: ألا تستحي أن تعاشر أمثال هؤلاء الناس؟ أنني لن أغفر لك هذا أبداً.
قال ليبديف بلهجة فيها اقتناع وعاطفة:
– سيسامحني الأمير!
وأسرع كيللر يقترب من اليزابت بروكوفيفنا، فيقف أمامها، ويقول بصوت منفجر:
– من باب الكرم وحده يا سيدتي، ومن أجل أن لا أفضح صديقاً معرُضاً للأذى، إنما سكتُّ منذ قليل عن مراجعته لمقالتي فلم أجئ على ذكرها ولا أشرت إليها، رغم أنه اقترح رمينا إلى أسفل السلم كما سمعت ذلك بأذنيك. ففي سبيل أن أقرّر الحقيقة أعترف الآن بأنني استعنت به في ذلك فعلاً ونقدته ستة روبلات أجراً. لم أطلب إليه أن ينقّح الأسلوب، وإنما طلبت إليه أن يكشف لي، بصفته مصدراً مطلعاً، على وقائع كنت أجهل أكثرها. فكلُّ ما ورد ذكره في المقالة عن لبّادتي الحذاءين اللذين كان ينتعلهما الأمير، وعن إشباع الأمير نهمه على نفقة البروفسور السويسري، وعن الخمسين روبلاً التي ذكرت بدلاً عن المائتين وخمسين المدفوعة فعلاً، كلّ هذه المعلومات كان هو مصدرها. وقد نقدته ستة روبلات أجراً على هذا لا على تصحيح اللغة وتنقيح الأسلوب.
قاطع ليبديف كلام كيللر فقال نافد الصبر بصوت يزحف من ذله زحفا أن صحّ التعبير، بينما كانت الضحكات تتضاعف من حوله:
– يجب أن ألفت النظر إلى أنني لم أراجع من المقالة إلا الجزء الأول. فإننا حين وصلنا إلى الجزء الثاني اختلفت آراؤنا حتى لقد تشاجرنا بصدد فكرة جئت بها، فعدلت عن تصحيح الجزء الثاني من المقالة. فلا يمكن إذاً أن أعدّ مسؤولاً عما تضمه من أخطاء كثيرة وأقاويل كاذبة.
– ذلك ما يشغل باله!
كذلك هتفت اليزابت بروكوفيفنا.
قال أوجين بافلوفتش يسأل كيللر:
– هل تسمح لي أن أسألك متى تمت مراجعة المقالة؟
فأجابه كيللر طائعاً:
– صباح أمس. اجتمعنا اجتماعاً تعاهدنا فيه على أن يبقى الأمر بيننا سراً مكتوماً لا نطلع عليه أحداً.
قالت اليزابت بروكوفيفنا:
– ذلك بينما كان يزحف أمامك معلناً لك ولاءه وإخلاصه. يا لهؤلاء البشر! في وسعك أن تحتفظ ببوشكين، ولا تظهرن بنتك عندي قط!
وأرادت اليزابت بروكوفيفنا أن تنهض، لكنها وقد رأت هيبوليت يضحك، حوّلت غضبها إليه قائلةً:
– ماذا يا عزيزي؟ هل آليت على نفسك أن تتخذني هنا هزؤا؟
فأجاب هيبوليت وهو يبتسم ابتسامة خرقاء:
– معاذ الله! لكنك يا اليزابت بروكوفيفنا قد خطفت انتباهي بما تتصفين به خاصّة من غرابة لا يصدقها العقل! أعترف لك بأنني تعمّدت أن أثير موضوع ليبديف. كنت أتوقع الأثر القوي الذي لا بدّ أن يحدثه فيك هذا الموضوع، فيك أنت وحدك، لأن الأمير سيغفر له حتماً، بل لا شك في أنه قد غفر له منذ الآن؛ ولعله قد وجد لفعلته عذراً. أليس هذا صحيحاً يا أمير؟
كان هيبوليت يلهث، وكان انفعاله الغريب يقوَى عند كل كلمة يقولها.
قالت إليزابت بروكوفيفنا غاضبة وقد فاجأتها لهجة صوته:
– هيه، وماذا؟
فتابع هيبوليت كلامه قائلاً:
– سبق أن سمعت عنك أشياء كثيرة من هذا النوع... بفرح شديد... لقد تعلمت أن أحترمك أعظم الاحترام.
كان يتكلم وفي هيئته ما يدل على أنه يريد أن يعبر عن شيء آخر يختلف كل الاختلاف عما كان يقوله. وكان حديثه المتدفق يكشف في الوقت نفسه عن رغبة في السخرية وعن اضطراب مشوّش. إنه يلقي حواليه نظرات شك وريب، ويرتبك ويتيه عند كل كلمة جديدة. وكانت هيئته التي هي هيئة مريض بالسُل، وعيناه الملتمعتان، ونظرته المتحمّسة، كان ذلك كله أكثر مما يحتاج إليه الحاضرون جميعاً لينصرفوا بانتباههم إليه انصرافا تاما.
وتابع كلامه يقول:
– رغم أنني لا أعرف من آداب المجتمع شيئاً (وذلك ما أعترف به)، كان يمكن أن يدهشني أن أراك تمكثين في جمع كجمعنا هذا الذي تعُدّينه غير لائق، وكان سيدهشني أن أراك تتركين... لهاته الفتيات أن يسمعن قضية شائكة فاضحة، رغم أن قراءة الروايات قد سبق أن علمتهنّ كل شيء. ومهما يكن من أمر، فمن الجائز أنني أعلم... لأنّ أفكاري تضطرب وخواطري تختلط. ولكن مما لا شك فيه على كل حال أن أحداً غيرك ما كان ليرضى أن يبقى... تلبية لطلب صبيّ (نعم، صبيّ، إنني أعترف بهذا أيضاً) فيقضي السهرة معه، ويشارك في كلّ شيء، وإن احمرّ خجلاً من ذلك في الغد... (على أنني أُقرُّ بأنني أخبط في التعبير خبط عشواء). ذلك كله يبدو لي خليقاً بأن يُحمَد، ويبدو لي جديراً بأن يُحترم كل الاحترام، رغم أن وجه زوجك يعبّر تعبيراً واضحاً عن مدى انزعاج سيادته مما يجري هنا... هيء هيء!...
أخذ هيبوليت يقهقه، واضطرب فجأةً، ثم هزته نوبة سعال شديدة حالت بينه وبين الاستمرار في الكلام مدة دقيقتين.
قالت إليزابت بروكوفيفنا بلهجة باردة جافة، وهي تُلقي عليه نظرة استطلاع خالية من التعاطف:
– ها هو ذا يختنق! كفي يا صغيري! كفي! حسبك هذا!
وتدخّل إيفان فيدوروفتش غاضباً فقال وقد نفد صبره:
– دعني أنبّهك إلى شيء أيها السيد الصغير. إن زوجتي هي هنا عند الأمير ليون نيقولايفتش، جارنا وصديقنا المشترك. فلست أنت، أيها الفتى، في أي حال من الأحوال، من يحق له أن يحكم على أفعال اليزابت بروكوفيفنا، ولا أن يعبر جهاراً، بحضوري، عما تظن أنك تقرؤه في وجهي. مفهوم؟
ثم تابع كلامه وهو يزداد اندفاعا وحماسة:
– ولئن بقيت هنا، فإنما بقيت، أيها السيد، مدفوعاً بعامل المفاجأة وحب الاطلاع، وذلك حين رأيت هؤلاء الشباب الذين يثيرون حب الاطّلاع بغرابتهم فعلاً. ولقد بقيت أنا أيضاً كما أبقَى أحياناً في الشارع حين أرَى شيئاً يمكن أن يُعَدّ... أن يُعَدّ...
قال أوجين بافلوفتش محاولاً إسعاف صاحبه:
– أن يعدّ شيناً غريباً نادرًا.
فأسرع الجنرال يقول وقد تورط في البحث عن تشبيه:
– نعم، هذه هي الكلمة. مهما يكن من أمر فإنّ ما يبدو لي باعثاً على الدهشة ومثيراً للحزن إن صحّ التعبير هو أنك أيها الفتى لم تستطع حتى أن تدرك أن إليزابت بروكوفيفنا لم تمكث الآن معك إلا لأنك مريض ولأنها أيقنت أنك مشارف على الموت، فكانت الشفقة هي التي ألهمتها سلوكها إذ سمعت أقوالك التي تثير الرحمة والرأفة. فما من لطخة أيها السيد يمكن أن تنال من اسمها أو مزاياها أو منزلتها الاجتماعية...
ثم ختم كلامه بقوله وقد احمز وجهه غضباً:
– اليزابت بروكوفيفنا، إذا كنت تريدين الانصراف فلنودّع صاحبنا الأمير الطيّب ولـ...
فقاطعه هيبوليت بلهجة فيها رصانة غير متوقعة، وكان يحدّق إلى إيفان فيدوروفتش بنظرة حالمة:
– أشكر لك هذا الدرس يا جنرال.
قالت آجلايا وهي تنهض، بلهجة تدل على الغضب ونفاد الصبر:
– هلمّي ننصرف يا ماما، فإنّ هذا الأمر يمكن أن يطول كثيراً.
قالت اليزابت بروكوفيفنا بوقار وهي تلتفت نحو زوجها:
– دقيقتين أخريين من فضلك يا عزيزي إيفان فيدوروفتش. أظن أنه مصاب بنوبة حمّى، وأنه يهذي لا أكثر. أرى هذا في عينيه. لا يمكن أن نتركه وهو على هذه الحال. يا ليون نيقولايفتش، أليس في وسعه أن يبيت عندك، حتى لا يكون ثمة اضطرار إلى نقله إلى بطرسبرج۔
ثم أضافت تقول مخاطبة الأمير «تشتش...»:
– هل سئمت أو ضجرت أيها الأمير العزيز؟
ثم قالت تخاطب ألكسندرا:
– تعالي يا ألكسندرا، رتّبي شعرك قليلاً يا عزيزتي.
وراحت إليزابت بروكوفيفنا ترتّب شعر ابنتها، مع أنه لم يكن يُعوزه أي ترتيب، ثم قبلتها، والواقع أن هذه القبلة كان هي الغرض من مناداة الفتاة إليها.
عاد هيبوليت يقول وقد خرج من أحلامه:
– كنت أظنك قادراً على شيء من التطوّر الفكري... نعم، ذلك ما كنت أريد أن أقوله لك (أضاف ذلك مرتاحاً ارتياح إنسان تذكر شيئاً مَنسياً). انظر إلى بوردوفسكي: هو يريد صادقاً أن يدافع عن أمه، أليس كذلك؟ ولكنه في نهاية الأمر لطخ شرفها بالعار. انظر إلى الأمير: إنه يرغب في أن يساعد بوردوفسكي، وهو إذ يمحضه أرق العاطفة وينفحه المال إنما يصدر عن أحسن نية وأكرم شعور، ولعله بيننا الإنسان الوحيد الذي لا يكرهه ولا ينفر منه. وها هما مع ذلك يقفان أحدهما من الآخر موقف العدوّ! هأ هأ هأ!... أنتم جميعاً تكرهون بوردوفسكي لأنه يتصرف مع أمه تصرُّفاً ليس فيه لباقة وأناقة فيما ترون، أليس كذلك؟ هو كذلك؟ هو كذلك، هه؟ إنكم جميعاً متعلقون تعلقاً مسعوراً بجمال الأشكال ولطف الآداب في السلوك (كنت أقدّر منذ زمن طويل أنكم لا تحفلون إلا بهذا)، فاعلموا أن أحداً منكم لعله لم يحبب أمه كما أحب بوردوفسكي أمه. أنا أعلم أنك أرسلت إلى هذه المرأة مالاً بواسطة جانيا دون أن يعلم بذلك أحد. ألا أنني لمستعدّ أن أراهن على أن بوردوفسكي سيتّهمك الآن بقلة اللباقة وعدم المداراة تجاه أمه. نعم، حقاً، ها هاً هأ!...
وهذه نوبة جديدة من الاختناق والسعال تقطع تلك الضحة التشنُّجية التي صاحبت كلماته الأخيرة.
قالت إليزابت بروكوفيفنا نافدة الصبر وكانت لا تحوّل عنه نظرتها القلقة:
– أهذا كل شيء؟ هل قلت كلّ ما تريد أن تقوله؟ فاذهب الآن إذاً إلى سريرك. إن بك حُمّي، آه... رباه!.. ها هو ذا يستأنف..
اتجه هيبوليت بالكلام إلى أوجين بافلوفتش فجأة، وقال له بلهجة حانقة:
– أتضحك؟ لماذا تضحك دائماً مني؟ لقد لاحظت ذلك واضحاً!
وكان أوجين بافلوفتش يضحك فعلاً.
– إنما أردت أن أسألك يا سيد... هيبوليت... معذرة... نسيت اسم أسرتك...
قال الأمير:
– السيد تيرنييف.
– آ... نعم...شكراً يا أمير. لقد ذُكر لي اسمه منذ قليل، لكنّ هذا الاسم بارح ذاكرتي... أردت أن أسألك يا سيد تيرنييف هل ما قيل لي عنك صحيح؟ لقد قيل إنك تعتقد أنه يكفيك أن تخطب في الشعب، من نافذة بيتك، خلال ربع ساعة، حتى يقتنع الجمهور بآرائك فورا، فيتبعك، هل هذا صحيح؟
أجاب هيبوليت محاولاً أن يستجمع ذكرياته:
– يجوز جداً أن أكون قد قلت هذا الكلام.
ثم أضاف فجأة وقد اندفع من جديد وحدج أوجين بافلوفتش بنظرة ثابتة:
– نعم، قلت ذلك الكلام حتماً، فماذا تستنتج من ذلك؟
– لا شيء البتة. فإنما ألقيت هذا السؤال من باب حب الاطلاع.
وصمت أوجين بافلوفتش. وظل هيبوليت يحدّق إليه وكأنه ينتظر التتمة قلقًا.
قالت إليزابت بروكوفيفنا تسأل أوجين بافلوفتش:
– هيه؟ هل أنهيت كلامك؟ انهه بسرعة يا صديقي، فقد أن له أن يمضي إلى النوم. أم تُراك لا تدري كيف تُنهيه؟
كانت اليزابت بروكوفيفنا منزعجة انزعاجاً شديداً.
فاستأنف أوجين بافلوفتش كلامه فقال مبتسماً:
– لعلني أميل إلى أن أضيف ما يلي: إن كل ما سمعته من رفاقك يا سيد تيرنييف، وكل ما قلته أنت نفسك بموهبة لا مجال لنكرانها يرتدّ في رأيي إلى النظرية التي تطمع في جعل الحق منتصراً على كل شيء، قائماً فوق كل شيء، بل مبعداً عن كل شيء، ربما دون سعي في أول الأمر إلى معرفة هذا الحق. لعلني كنت مخطئاً.
– أنت مخطى حتماً. حتى إنني لا أفهمك عنك... ثم ماذا؟
وصعدت من زاوية بالشرفة دمدمة. كان ابن أخت ليبديف يهمهم متكلماً بصوت خافت.
واستأنف أوجين بافلوفتش كلامه فقال:
– لم يبقَ عندي ما أقوله تقريباً. وإنما أردت أن ألفت النظر إلى أن هذه النظرية ليس بينها وبين النظرية القائلة بأنّ الحق للأقوى، أي بأنّ الحق لقبضة اليد وتحكُّم الفرد، وتلك هي الطريقة التي سُوّيَت بها الأمور في أكثر الأحيان، أقول ليس بين هاتين النظريتين إلا خطوة واحدة. لقد تلبّث برودون على نظرية القوة هذه التي تخلق الحق. وفي أثناء حرب الانفصال رأينا كثيراً من الليبراليين، بل كثيراً من الليبراليين المتطرّفين، ينحازون إلى صفّ المزارعين بحجة أن الزنوج، من حيث هم زنوج، يجب أن يُعَدُّوا أدنى منزلة من البيض، وأن للبيض جق الأقوى...
– ثم...؟
– أرَى أنك لا تجحد حق الأقوى.
– ثم؟
– أنت لا تتناقض على الأقل. لقد أردت أن ألفت النظر إلى أن المسافة ليست بعيدة بين حق الأقوى وحق النمور والتماسيح، وحتى حقّ أمثال دانيلوف وجورسكي.
–لا أدري... ثم؟
كان هيبوليت لا يصغي إلى أوجين بافلوفتش إلا بأذن واحدة. كان لا يقول: «ثم؟» إلا انسياقاً مع الحديث، دون أن يُولي هذه الكلمة أي اهتمام، أو أن يودعها أي معنى.
– لم يبق عندي ما أضيفه... ذلك كل ما أردت أن أقوله.
قال هيبوليت يختم الكلام على نحو لم يكن متوقعاً:
– الواقع أنني لا أغضب منك ولا أحقد عليك.
وعلى غير شعور تقريباً، ابتسم ومدّ يده إلى أوجين بافلوفتش.
دُهش أوجين بافلوفتش، ثم اصطنع هيئة فيها كثير من الجدّ ليلمس اليد التي مدّها إليه هيبوليت، كأنه هو يقبل صفحه وعفوه. وأضاف يقول بلهجة فيها ذلك الاحترام نفسه، ولكن فيها التباساً كذلك:
– لا أملك إلا أن أشكر لك تلطّفك معي إذ تركت لي أن أتكلم، فقد لاحظت في أحيان كثيرة أن أصحابنا الليبراليين لا يدعون للآخرين أن يكون لهم رأي شخصي، وأنهم يردّون على معارضيهم فوراً بإهانات أو بحجج أدْعى إلى الأسف من الإهانات نفسها...
قال الجنرال إيفان فيدوروفتش:
– هذا صحيح كل الصحة.
ثم انسحب إلى أقصى الشرفة من جهة المخرج جاعلاً يديه وراء ظهره، وأخذ يتثاءب برماً متململا.
قالت إليزابت بروكوفيفنا فجأة تخاطب أوجين بافلوفتش:
– هيا... كفالي يا صديقي... لقد أضجرتني!
وقال هيبوليت وهو ينهض مسرعاً ويرسم بيده حركة تعبّر عن الحيرة والارتباك، ويلقي حواليه نظرة زائغة خائفة:
– آن الأوان... لقد احتجزتكم... أردت أن أقول لكم كل شيء... كنت أقدِّر أنكم جميعاً... هذه آخر مرّة... كان ذلك مني نزوة خيال...
واضح أنه كان ينتعش ويتحمّس نوبات نوبات، ويخرج في الفينة بعد الفينة من حالة تشبه الهذيان، حتى إذا عاد إليه وعيه كاملا، كان يستجمع ذكرياته ويعرض في أكثر الأحيان شذرات أفكار لعله كان منذ زمن طويل قد أنضجها وحفظها على ظهر القلب أثناء الساعات الطويلة الفارغة التي كان يقضيها في السرير منعزلاً مؤرِّقاً!
وأضاف يقول بلهجة جافة:
– طيّب... وداعاً! هل تظنون أن من السهل عليّ أن أقول لكم: «وداعاً»؟ هأ هأ هأ!...
ضحك ضحكة ساخرة متحسّرة لأنه فكر في خراقة سؤاله، وإذ آلمه أنه لم يستطع التعبير عن كل ما كان يريد أن يقوله صرخ يقول بلهجة غاضبة:
– يا صاحب السعادة، يشرّفني أن أدعوك إلى حضور جنازتي، هذا إذا رضيت أن تتنازل فتلبي الدعوة، وإنني... أدعوكم جميعاً أيها السادة، أدعوكم أن تنضمّوا إلى الجنرال!...
وأخذ يضحك، لكن ضحكه كان ضحك إنسان فقد عقله. صُعقت اليزابت بروكوفيفنا، فتقدّمت نحوه خطوة، وأمسكت ذراعه. فحدّق إليها بنظرة ثابتة، وهو ما يزال يضحك ذلك الضحك نفسه الذي تجمّد على وجهه إن صحّ التعبير.
– هل تعلمون أنني جئت إلى هنا لأرَى الأشجار؟ هذه هي الأشجار... (أشار إلى أشجار الحديقة بحركة من يده). ليس في هذا ما يبعث على الضحك والاستهزاء، أليس كذلك؟
ثم أضاف يقول بلهجة رصينة، مخاطباً اليزابت بروكوفيفنا:
– يخيل إليّ أن هذا ليس فيه ما يبعث على الضحك والاستهزاء.
وعاد حالماً على حين فجأة من جديد، ثم رفع رأسه بعد لحظة وأخذ يتفحّص الحضور باحثاً عن واحد منهم. كان يبحث عن أوجين بافلوفتش الذي كان قريبا منه كل القرب، على يمينه، والذي لم يتحرك من مكانه. ولكن هيبوليت كان قد نسي ذلك فهو يستكشف ما حوله باحثاً عن الرجل. فلمّا أبصره أخيراً هتف يقول متعجباً:
– ها... لم تنصرف! لقد ضحكت ضحكاً طويلاً منذ قليل، حين تصورت أنني أريد أن ألقي من نافذة بيتي خطاباً يدوم ربع ساعة! ألا فليكن ماثلاً في ذهنك أنني لم أبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، وأنني لبثت راقداً على فراشي واضعاً رأسي على وسادتي زمناً طويلاً أنظر من تلك النافذة وأفكّر... في جميع الأشياء... التي... إنك تعلم أن الموتَى لا أعمار لهم. لقد عاودتني هذه الفكرة في الأسبوع الماضي أثناء ليلة أرق... هل تريد أن أقول لك ما الذي تخشونه أكثر مما تخشون أي شخص آخر؟ إنكم تخشون صدقنا رغم ما تحملونه لنا من احتقار! هذه أيضاً فكرة وافتني في الليل بينما كان رأسي على الوسادة... أتظنين أنني أردت أن أتهكم عليك منذ قليل يا إليزابت بروكوفيفنا؟ لا لم تكن هذه نيتي. أنا لم أكن أبغي إلا أن أمدحك... لقد قال لي كوليا أن الأمير عاملك معاملة طفلة...... هذا صحيح... ولكن ماذا؟ لقد كنت أريد أن أضيف شيئاً آخر...
قال ذلك وخبأ وجهه في يديه وفكر لحظة.
– ها... نعم... تذكرت: حين تهيأت منذ قليل للانصراف خطر ببالي فجأةً ما يلي: هؤلاء أناس لن أراهم مرّة أخرى بعد اليوم أبداً، أبداً. لا ولن أرى الأشجار مرة أخرى. ولن يقع بصري بعد الآن إلاً على جدار الآجر الأحمر من منزل ماير... أمام نافذتي... فقلت لنفسي: اشرح لهم هذا كله... حاول أن تُفههم. هذه حسناء رائعة الجمال... وأنت رجل ميت... فقدّم نفسك بهذه الصفة... قل لهم «إن في وسيع ميت أن يتكلم بغير تحفظ»... وإن الأميرة ماريا ألكسيفنا لن تقول عن هذا شيئاً ... هأ هأ هأ... ألا تضحكون؟ (ألقى هذا السؤال وهو يجيل بصره حواليه مرتاباً). سأقول لكم إنني أثناء رقاد رأسي على الوسادة كانت توافيني خواطر كثيرة. فاقتنعت، في ما اقتنعت به، بأنّ الطبيعة ساخرة جداً... لقد قلتم منذ قليل أنني ملحد، ولكن هل تعلمون أن الطبيعة.. لماذا عدتم تضحكون؟ ألا إنكم لقساة عتاة!
قال ذلك فجأة وهو يثبت على مستمعيه نظرة حزن واستياء. ثم ختم كلامه قائلا بلهجة مختلفة كل الاختلاف، لهجة فيها رصانة واقتناع، كأن ذكرى أخرى قد ومضت في ذهنه:
– أنا لم أفسد كوليا.
قالت إليزابت بروكوفيفنا معذّبةً:
– لا أحد يسخر منك، لا أحد... السوف نستدعي لك في الغد طبيباً آخر. إن الطبيب الأول قد أخطأ. ولكن اجلس! إنك لا تقوى على الوقوف! وأنت تهذي...
ثم صرخت اليزابت بروكوفيفنا تقول مضطربة أشدّ الاضطراب وهي تُجلسه على مقعد:
– آه... ماذا نفعل له الآن؟
والتمعت على خدها دمعة صغيرة.
فلبث هيبوليت مذهولاً خلال لحظة من الزمن، ثم رفع يده، ومدّها خجلًا وجًلا فلمس تلك الدمعة الصغيرة، وطافت بوجهه ابتسامة طفل.
قال فرحاً:
– إنك لا تعلمين مدّى ما أشعر به نحوك من... إن كوليا يحدّثني عنك دائماً بحماسة عظيمة... إنني أحب حماسته. أنا لم أفسده! هو الوحيد الذي أودعه خواطري وأفكاري. لكم تمنيت أن يشارك الجميع في هذا الميراث، ولكن لم يكن ثمّة أحد، لم يكن ثمة أحد... ولقد تمنيت كذلك أن أكون رجلاً فعّالاً. ذلك من حقي... وما أكثر الأشياء التي كان يمكن أن أتمناها أيضاً! أما الآن فقد أصبحت لا أرغب في شيء، وأصبحت لا أريد أن أرغب في شيء. لقد آليت على نفسي أن لا أتمنى بعد اليوم شيئاً، فليبحث الآخرون بعدي عن الحقيقة! نعم، إن الطبيعة ساخرة!
وأضاف يقول بحرارة:
– لماذا تخلق الطبيعة أفضل الناس لتسخر منهم بعد ذلك؟ هذا ما تعمد إليه الطبيعة: حين أظهرت البشر على الإنسان الوحيد الذي عُدّ الإنسان الكامل في هذا العالم، عهدت إليه برسالة أن ينطق بأقوال كانت سبباً في سفح دماء بلغت من الغزارة أنها لو سُفحت مرّة واحدة لخنقت الإنسانية! إنها لسعادة أن أموت! ذلك أنني إذا لم أمت فقد يطلق لساني كذبة رهيبة بدافع من الطبيعة!... أنا لم أفسد أحداً... لقد أردت أن أحيا لسعادة الناس جميعاً... أردت أن أحيا لاكتشاف الحقيقة ونشرها... كنت أنظر من نافذتي إلى جدار منزل البشر، نعم، جميع البشر! وهأنذا يتاح لي، مرة واحدةً طوال حياتي، أن أجد نفسي على صلة لا بجميع البشر، بل بكم وحدكم، فماذا كانت النتيجة؟ لا شيء! كانت النتيجة آنكم تحتقرونني. هذا دليل على أنني غبي أحمق، على أنني أمرؤٌ لا خير فيه ولا فائدة منه، وعلى أنني قد آن لي أن أزول! وحين أزول، فلن أخلف ورائي أية ذكرَى: لن أترك أي صدّى، لن أترك أي أثر، لن أترك أي عمل! لم أنشر أي رأي، لم أُذِع أية قناعة! لا تضحكوا من غبيّ أحمق! انسوه! انسَوا كل شيء! أرجوكم أن تنسَوا! لا تكونوا قُساةً! هل تعلمون أنني لو لم يصبني مرض الشل لانتحرت؟!...
كان يبدو عليه أنه يريد أن يفيض في الكلام مزيداً من الإفاضة، وأن يتحدث مدة طويلة أيضاً، ولكنه لم يستطع أن يستمر، فتهاوى في مقعده، وغطى وجهه بيديه، وأخذ يبكي كطفل صغير.
عادت اليزابت بروكوفيفنا تكرر سؤالها:
– ماذا نفعل له الآن؟ هلّا قلتم؟
وهرعت إليه فتناولت رأسه وشدّته إلى صدرها شداً قوياً. كان هيبوليت ينشج نشيجًا عنيفًا. قالت تخاطبه:
– كفى كفى! لا تبك، كفى بكاء! إنك لطفل طيب! سيغفر الله لك بسبب جهلك. هيّا! كفى! كن رجلًا!... وإلا شعرت بعد ذلك بخزي وعار...
قال هيبوليت وهو يحاول أن يرفع رأسه:
– لي هناك أخٌ وأخوات، صغار مساكين أبرياء... ستُفسد هي أخلاقهم! إنك أنت قديسة... أنت نفسك طفلة، فأنقذيهم! انتزعيهم منها... إنها... هي... عار...آه... ساعديهم، أنجديهم! لسوف يردّ الله إليك الحسنة أضعافاً مضاعفة! أنجديهم حباً بالله، حباً بيسوع!
صاحت تقول في غضب:
– هلّا قلت لي ما الذي يجب علينا أن نفعله الآن يا إيفان فيدوروفتش! هلّا تفضلت فخرجت عن صمتك الوقور المهيب! إذا لم تتخذ قراراً فالأقضينّ الليلة كلها هنا! لقد سئمت النزول على مشيئتك، والخضوع لاستبدادك!
كانت تتكلم بحماسة شديدة واندفاع قوي، وتطالب بجواب على الفور. وفي مثل هذه الظروف يلتزم الحضور الصمت ولو كانوا كُثُراً، ولا يزيدون على الاهتمام السلبي والاستطلاع. أنهم يتحاشون الإفصاح عن شعورهم وإعلان رأيهم، وإن كانوا يُبدون ذلك كله بعد مدة طويلة ولقد كان بين الحضور حينذاك أناس قد يبقون إلى مطلع الصبح دون أن ينطقوا بكلمة واحدة. فهذه كانت باربارا آرداليونوفا التي ظلت منتحية طوال السهرة، دون أن تفتح فاها بكلمة واحدة، ولكنها كانت في الوقت نفسه منتبهة أشدّ الانتباه إلى كل ما كان يقال – ولعل هناك أسباباً كانت تدعوها إلى ذلك وتحضُّها عليه.
قال الجنرال:
– يا صديقتي العزيزة، رأيي أن ممرّضة تسهر عليه خير له من كل هذا الاضطراب الذي تضطربينه؛ ومن المفيد أن يقضي الليل هنا رجل هادئ المزاج أهل للثقة. على كل حال، يجب أن نطلب إلى الأمير أن يصدر أوامره... ثم نترك المريض فوراً ليرتاح. ويمكن أن نعود إلى الاهتمام به في الغد.
قال دكتورنكو يسأل الأمير بلهجة حانقة لاذعة:
– أوشك الليل أن ينتصف. ونحن منصرفون. فهل يأتي معنا أم يبقى عندك؟
قال الأمير: – تستطيعون أن تبقوا معه إذا شئتم.
فانبري كيللر ينادي الجنرال بحماسة:
– يا صاحب السعادة، إذا كان ينبغي أن يقضي الليل هنا رجل أهل للثقة، فإنني يسرّني أن أضحّي في سبيل صديقي... هذا إنسان ذو نفس كبيرة لطالما عددته رجلاً عظيماً يا صاحب السعادة! صحيح أنني أنا بغير ثقافة، ولكنه هو، حين يتكلم، تتساقط من فمه لآلئ، لآلئ يا صاحب السعادة!
أشاح الجنرال وجهه متململاً برماً.
وقال الأمير يجيب عن الأسئلة الحانقة التي ألقتها عليه أليزابت بروكوفيفنا:
– سوف يسرَّني أن يبقى. إن من الصعب عليه طبعاً أن ينصرف.
– أظن أنك تنام؟ إذا كنت لا تريد أن تتولى أمره فسأنقله إلى بيتي. آه... يا رب!... أرى أن الأمير نفسه لا يكاد يستطيع الوقوف على قدميه. أتراك مريضاً يا أمير؟
إن إليزابت بروكوفيفنا كانت قد توقعت بعد الظهر أن ترى الأمير راقداً على فراش الموت. فلمّا رأته قائماً بالغت في تقدير إبلاله من مرضه. إن نوبته الأخيرة، والذكريات الكاوية التي ترتبط بها، والمتاعب والانفعالات التي عاناها في هذه السهرة بسبب موضوع «ابن بافلشتشيف» أولاً، وبسبب حالة هيبوليت بعد ذلك، إن هذا كله قد أهاج ما يتصف به من حساسية مريضة وانفعالية شديدة فإذا هو يصير إلى حالة تقارب الحمّى. ثم أن همّاً جديداً، بل قل خشية جديدة أخذت تُقراً الآن في عينيه: لقد كان ينظر إليّ هيبوليت في قلق كأنما هو يتوقع منه انفجاراً جديداً.
ونهض هيبوليت على حين فجأة شاحب الوجه شحوباً رهيباً. إن سحنته المنقلبة تعبّر عن شعور فظيع بالعار، شعور مرهق يتجلى خاصة في النظرة المبغضة الكارهة المذعورة التي كان يجيلها على الحضور، ويتجلى في الابتسامة التائهة الزائغة الماكرة الساخرة التي كانت تقلص شفتيه المرتعشتين، ثم خفض عينيه، وجرّ نفسه بخطًى مترنحة نحو بوردوفسكي ودكتورنكو اللذين كانا ينتظرانه عند مخرج الشرفة، وهو ما يزال يبتسم تلك الابتسامة نفسها. كان يريد أن ينصرف معهم.
هتف الأمير يقول:
– ذلك بعينه ما كنت أخشاه! كان لا بد أن يحدث هذا!
فالتفت هيبوليت نحوه فجأةً وقد اعترته نوبة حنق مسعورة ترعش جميع قسمات وجهه، وقال يخاطبه:
– آ... ذلك ما كنت تخشاه؟ كان لا بدّ أن يحدث هذا؟ ألا فاعلم إذاً أنه إذا كان هنا شخص أكرهه (زأر يقول هذا الكلام بصوت حادّ صافر يصاحبه رشاش لعاب) – وأنا أكرههم جميعاً جميعاً – فإنّ ذلك الشخص هو أنت، أنت! أنت أيها اليسوعي المنافق المرائي، المعتوه الأبله، المليونير المحسن. إنني أكرهك أكثر مما أكره أي إنسان وأي شيء في هذا العالم. لقد أدركت حقيقتك منذ زمن طويل فأخذت أكرهك. إنني منذ اليوم الذي سمعت فيه عنك نفرت منك وأبغضتك من أعماق قلبي... أنت الذي استدرجتني إلى هذا الفخ! أنت الذي أطلقت من نفسي نوبة الهذيان هذه، لقد دفعت رجلا محتضراً إلى أن يجلّل نفسه بالخزي والعار. أنت أنت المسؤول عن حطتي وضغارى ودناءتي! لو علمت أنني سأعيش لقتلتك! ما أنا في حاجة إلى إحسانك. لا أريد أن يُحسن إليّ أحد. هل تسمعني؟ لا أريد إحسان أحد! لقد أصابتني نوبة هذيان. فليس من حقك أن تستمد من هذا انتصاراً!... إنني ألعنكم جميعاً، ألعنكم جميعاً إلى الأبد...
دمدم ليبديف يقول لإليزابت بروكوفيفنا:
– لقد أخجله وأخزاه أنه بكى. «كان لا بد أن يحدث هذا».
ما أعجب الأمير! لقد قرأ قرارة نفسه وأعماق ضميره!
لكن اليزابت بروكوفيفنا لم تتنازل أن تنظر اليه. كانت منتصبة بشموخ وكبرياء، مرفوعة الرأس، تتصفح وجوه هؤلاء «الناس التافهين»، بفضول يسوده احتقار. وحين أنهى هيبوليت كلامه، هز الجنرال منكبيه، فرمقته عندئذ بنظرة غاضبة، شملته من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، كأنها تحاسبه على هذه الحركة وتطلب منه تفسيراً لها، ثم لم تلبث أن أسرعت تلتفت إلى الأمير فتقول له:
– شكراً يا أمير، يا صديق أسرتنا الغريب الأطوار، شكراً على هذه السهرة الممتعة التي ندين بها لك. أحسب أنك الآن فرح بأنك استطعت أن تشركنا نحن أيضاً في أعمالك الجنونية! كفى هذا! يا صديقي، لا أقلّ من أن نشكر لك أنك أتحت لنا أن نعرفك حق معرفتك!...
وبحركات حانقة غاضبة أخذت ترتّب خمارها بانتظار أن ينصرف «هؤلاء الناس». وفي هذه الأثناء وصلت عربة تقلهم، أتى بها ابن ليبديف، الطالب في الكلية، الذي كان دكتورنكو قد أوفده منذ ربع ساعة ليجيء بمركبة. وسرعان ما اعتقد الجنرال أن من واجبه أن يضيف كلمة صغيرة إلى الأقوال التي نطقت بها امرأته، فقال:
– الحق يا أمير أنني... أنا نفسي... لم أكن أتوقع أن... بعد كل شيء، بعد كل علاقات الصداقة التي تجمعنا!... وأخيراً يا أليزابت بروكوفيفنا...
صاحت آديلائيد تقول وهي تسرع نحو الأمير وتمدّ يدها إليه:
– ما هذا الذي تقولون؟ كيف يمكنكم أن تعاملوه هذه المعاملة؟
فابتسم لها الأمير ابتسامة تائهة. إلا أن وشوشة متعجّلة لم تلبث أن لسعت أذنه لسع النار. أن آجلايا هي التي دمدمت تقول له هامسة:
– إذا لم تطرد هؤلاء الناس الأدنياء فوراً، فلأكرهنّك طوال حياتي، طوال حياتي، ولأكرهنّك وحدك!
كانت تبدو خارجة عن طورها، ولكنها أشاحت عن الأمير من قبل أن يتسع وقته لأن ينظر إليها.
على أن الشرفة كانت قد خلت من كلّ من يمكن طرده: كانوا قد استطاعوا أن يضعوا المريض في العربة كيفما اتفق، وكانت العربة قد تحركت منصرفة.
– هل تعتقد أن هذا سيدوم مدة طويلة يا إيفان فيدوروفتش؟ ما رأيك؟ هل تظنّ أن سيكون عليّ أن أحتمل هؤلاء الصبية الأشرار المسيئين زمناً طويلاً؟
– ولكن يا صديقتي... أنا من جهتي مستعدّ طبعاً... والأمير...
ومدّ إيفان فيدوروفتش يده إلى الأمير مع ذلك، ولكنه قبل أن يتسع وقت الأمير لمصافحته، أسرع يجري وراء اليزابت بروكوفيفنا التي كانت تهبط درجات الشرفة مظهرةً غضبها في صخب. أمّا آديلائيد وخطيبها وألكسندرا فقد ودّعوا الأمير بمودّة صادقة. وكان أوجين بافلوفتش معهم، وهو الشخص الوحيد الذي كان مشرق المزاج منشرح النفس. وقد دمدم يقول بابتسامة فيها أكبر التلطُّف:
– حدث ما كنت أتوقعه! ولكن من المؤسف يا صديقي المسكين أنك قد أصابك من ذلك ألم وعذاب.
وخرجت آجلايا دون أن تودّع الأمير.
على أن هذه السهرة كانت تهيئ مفاجأة جديدة. لقد كان على أليزابت بروكوفيفنا أن تقع لها مقابلة ما يمكن أن تدور في خَلَد أحد. فقبل أن تصل إلى أسفل السُّلّم المفضي إلى الطريق (الذي يدور حول الحديقة) كانت تجري أمام فيلا الأمير مركبة باهرة هي عربة فخمة يجرّها حصانان أبلجان، وفيها سيدتان ترتديان أجمل حُلّة، فما أن صارت العربة على مسافة عشرة أمتار من الفيلا حتى وقفت فجأة، والتفتت إحدى السيدتين بحركة سريعة كأنها لمحت شخصاً تعرفه هي في حاجة ملحّة إلى أن تراه بسرعة.
وصاحت السيدة تقول بصوت واضح متناغم:
– أوجين بافلتش! أهذا أنت؟
فارتعش الأمير لهذه الصرخة، ولعل أحداً آخر قد ارتعش أيضاً. وتابعت السيدة كلامها تقول:
– ما أسعدني بالعثور عليك أخيراً! لقد أوفدت إلى المدينة رسولين ظلا يبحثان عنك طوال النهار فلم يظفرا بطائل.
تسمّر أوجين بافلوفتش في وسط السُلم كأن صاعقة قد نزلت عليه. وتوقفت اليزابت بروكوفيفنا في مكانها أيضاً، ولكن دون أن يظهر عليها ما ظهر عليه هو من علائم الذهول. ورمقت السيدة الوقحة بنظرة فيها ذلك التعالي الشديد نفسه وذلك الازدراء الكبير نفسه الذي اشتملت عليه نظرتها إلى أولئك «التافهين» منذ قليل، ثم سرعان ما حوّلت بصرها إلى أوجين بافلوفتش متفحّصة مستفهمة!
تابع ذلك الصوت نفسه يقول:
– لديّ نبأ يجب أن أزفّه إليك. لا تُقلقنّك سندات كوبفر . لقد لبّى روجويين طلبي فاشتراها بفائدة ثلاثين في المائة. فتستطيع أن تطمئن خلال ثلاثة أشهر على الأقل. أمّا بيسكوب وسائر أولئك الأوباش فسنتفق معهم آخر الأمر على حل بغير خصام. معنى ذلك أن الأمور كلها تجري على ما يرام. فابتهج وافرح! إلى اللقاء غداً!
واستأنفت العربة جريها ولم تلبث أن غابت.
هتف أوجين بافلوفتش يقول وقد احمر وجهه استياء وأخذ يلقي على ما حوله نظرات دهشة وذهول:
– هذه مجنونة! إني لأجهل كل الجهل ماذا أرادت أن تقول. ما تلك السندات التي تكلمت عنها؟ مَن هي هذه المرأة؟
حدّقت إليزابت بروكوفيفنا إليه ثانيتين أخريين، ثم استدارت واتجهت نحو منزلها يتبعها ذووها. وعاد أوجين بافلوفتش إلى الأمير في الشُرفة بعد دقيقة. وكان الأمير في حالة انفعال شديد واضطراب قوي.
– ألا تدري حقاً ماذا كان معنى ذلك يا أمير؟
فأجابه الأمير متأثرًا هو نفسه تأثُّرًا مؤلمًا:
– لا أدري!
– لا؟
– لا!
قال أوجين بافلوفتش وهو ينفجر ضاحكاً:
– أنا أيضاً لا أدري! إنّ قصة السندات هذه لا تخصّني ولا شأن لي بها، أقسم لك على ذلك. ولكن ماذا بك؟ كأني بك تتهاوَى...
– لا... لا... أؤكد لك أن لا...
الفصل الحادي عشر
انقضت ثلاثة أيام قبل أن يهدأ حنق آل إيبانتشين هدوءً كاملاً. وكان الأمير، على عادته، ينسب إلى نفسه كثيراً من الأخطاء وينتظر صادقاً أن يعاقب. ومع ذلك كان قد اقتنع هذه المرة، منذ البداية، أن اليزابت بروكوفيفنا لا يمكن أن تكون قد غضبت منه هو، وإنما غضبت من نفسها. لذلك احتار أشدّ الحيرة وحزن أكبر الحزن حين رأى أنهم ظلوا حاقدين عليه ثلاثة أيام. وهناك أحداث أخرى عديدة غذّت قلقه في أثناء ذلك. وكان أحد تلك الأحداث خاصةً هو الذي أهاج مزاجه الشكّاك وطبعه الريّاب شيئاً بعد شيء خلال هذه الأيام الثلاثة (كان الأمير يؤاخذ نفسه في الآونة الأخيرة على أنه يترجح بين حدّين أقصيين، فهو تارةٌ «واثق ثقة سخيفة في غير محلها»، وهو تارةٌ «شديد الشك والحذر والرّيب إلى درجة مظلمة دنيئة»). المهم أنه في نهاية اليوم الثالث كانت حادثة السيدة الغريبة الأطوار التي أطلت من عربتها الفخمة ونادت أوجين بافلوفتش، كانت هذه الحادثة قد تضخمت في نفسه واتخذت أبعاداً مخيفة محيرة ملغزة. وكان اللغز يطرح في ذهنه (ناهيك عن وجوهه الأخرى) السؤال التالي: أتقع تبعة هذا «العمل الشاذ» الجديد على عاتقه هو أم تقع تبعته على عاتق..؟ لكنه كان لا يمضي إلى حدّ النطق باسم. أمّا الأحرف الأولى من الاسم، وهي: ن، ف، ب، فلم تكن في اعتقاده إلا مزحة بريئة من مزاحات الأطفال لا يستطيع المرء أن يتوقف عندها إذا هو لم يشأ أن يقع في الخزي والعار.
على أن الأمير قد سعد، في غداة تلك السهرة الفاضحة التي كان يعّذ نفسه «سببها» الرئيسي، قد سعد بزيارة الأمير «شتش...» وآديلائيد اللذين كانا عائدين من نزهة في الصباح، فمرّا به قائلين «أنهما يريدان «خاصة» أن يستطلعا أخبار صحته.». وقد لاحظت آديلائيد أثناء دخولها في الحديقة شجرة قديمة رائعة كثيفة مجوّفة الجذع كثيرة التشقّق تحمل أغصانها الطويلة ذات العقد أوراقاً فتية نضرة، فأصرّت إصراراً شديداً على أن ترسمها، ولم تكد تتكلم أثناء الزيارة التي دامت نصف ساعة إلا عن هذه الشجرة. وأبدى الأمير «شتش...» كثيراً من التحبب والتودُّد وكان كيساً لبقاً على عادته. سأل الأمير عن الماضي وأيقظ ذكرى الأحداث التي يرجع عهدها إلى أولى العلاقات التي قامت بينهما، حتى انه لم يكد يتكلم عمّا جرى في الليلة البارحة.
ونفد صبر آديلائيد أخيراً فاعترفت مبتسمة بأنهما جاءا خفية، ولم تزد على ذلك شيئاً، غير أن هذا الاعتراف كان كافياً لإفهام الأمير أن أبويها، ولا سيما إليزابت بروكوفيفنا ليسا راضيين عنه. ومع ذلك لم ينبس الأمير «شتش...»، ولا نبست آديلائيد، أثناء زيارتهما، بكلمة واحدة عن الجنرالة، ولا عن آجلايا، حتى ولا عن إيفان فيدوروفتش.
وحين انصرفا لإتمام نزاهتهما لم يدعوا الأمير إلى اصطحابهما. أمّا أن يدعواه إلى زيارتهما فذلك أمر لم يكن محل بحث أصلاً. وقد أفلتت من آديلائيد بهذه المناسبة عبارة ذات دلالة، فإنها إذ تكلمت عن لوحة من لوحاتها المرسومة بالألوان المائية وأظهرت رغبتها فجأة في أن يراها الأمير، قالت: «ما السبيل إلى أن أستطيع أن أريَك الصورة في وقت أقرب؟ اسمع!... سأرسلها إليك هذا اليوم نفسه مع كوليا إذا جاء إلى دارنا، أو أجيئك بها أنا نفسي غداً أثناء نزهتي مع الأمير.» وقد أسعدها، حين أوحت بهذه الفكرة، أن تكون قد وُفّقت إلى حل المسألة حلاً حاسماً يرضي الجميع.
وفي لحظة التوديع تقريباً بدا على الأمير «شتش...» أنه تذكر شيئاً ما على حين فجأة. قال يسأل الأمير:
– بالمناسبة، ألا تعرف يا عزيزي ليون نيقولايفتش، من تلك السيدة التي نادت أوجين بافلوفتش أمس من عربتها؟
قال الأمير:
– هي ناستاسيا فيليبوفنا؟ ألم تتعرفها؟ لكنني لا أدري مع من كانت!
قال الأمير «اشتشد...» بحرارة:
– أعرفها لأنني سمعت عنها؟ ولكن بماذا صاحت؟ أعترف لك بأنّ ما قالته كان في نظري لغزاً... في نظري أنا وفي نظر الآخرين.
أجابه الأمير بكثير من البساطة:
– تكلمت عن سندات على أوجين بافلوفتش لا أدري ما هي؛ وقالت إن هذه السندات قد انتقلت تلبية لطلبها من يدي مُراب إلى يَّي روجويين الذي سيُمهل أوجين بافلوفتش فترة من الوقت.
– ذلك ما سمعته يا عزيزي الأمير، لكنه ليس معقولًا! إن أوجين بافلوفتش لا يمكن أن يكون قد وقع أي سند! إنه غنيّ جداً... صحيح أن هذا حدث له في الماضي بسبب خفّته وطيشه... أمّا أن يكون رجل له ثروة طائلة كثروته، قد وقع سندات لمُراب من المرابين وأصبح قلقاً لاقتراب موعد دفعها، فذلك شيء مستحيل. ثم إنه لشيء مستحيل أيضاً أن تكون العلاقة بينه وبين ناستاسيا فيليبوفنا حميمة إلى هذا الحدّ، وأن تُرفع بينهما الكُلفة فإذا هي تخاطبه بصيغة المفرد دون تحرُّج. ذلك هو اللغز الرئيسي. إنه يحلف بأغلظ الأيمان أنه لا يفهم من ذلك شيئاً البتة، وإني لأصدّقه كل التصديق. لذلك رغبت أن أسألك يا عزيزي الأمير هل تعرف عن هذا الأمر شيئاً. أقصد: هل وصلت إلى مسامعك شائعة من الشائعات مثلا؟
– لا، لا أعرف عن هذه القضية شيئاً، وأؤكد لك أنني لا شأن لي بها.
– ما أغربك اليوم يا أمير، حقاً إنني أنكرك ولا أعرفك! هل يمكن أن يكون قد خطر ببالي أن لك مشاركة ما في قضية كهذه القضية؟ دعك... أنت اليوم في غير حالتك الطبيعية.
قال ذلك ثم عانقه وقبله.
قال ليون نيقولايفتش:
– مشاركة ما في «قضية كهذه القضية»؟ ولكنني لا أرَى هنا أية قضية.
أجاب الأمير «شتش...) بلهجة جافة:
– ليس هناك أي شك في أن هذه المرأة قد أرادت الإساءة إلى أوجين بافلوفتش، بطريقة من الطرق، مسندة إليه، أمام شهود، أعمالاً ليست أعماله ولا يمكن أن تكون أعماله.
بدا الاضطراب على الأمير ليون نيقولايفتش، لكنه ظل يحدّق إلى محدّثه بنظرة مستفهمة. وظل محدّثه صامتاً لا يتكلم.
فدمدم الأمير يقول أخيراً بلهجة فيها شيء من نفاد الصبر:
– ولكن أليست المسألة مسألة سندات فحسب؟ ألم يكن مدار الكلام أمس على سندات لا أكثر؟
– غريب. إنني أقول لك الأمر وما عليك إلا أن تحكم بنفسك: ما عسى أن يكون هنالك من شيء مشترك بين أوجين بافلوفتش وبين تلك... أو بينه وبين روجويين أيضاً؟ أعود فأقول لك إنه يملك ثروة طائلة. أنا أعرف هذا من مصدر مطلع موثوق به. وهو عدا ذلك متأكد أنه سيرث من عمه. كل ما في الأمر أن ناستاسيا فيليبوفنا...
قطع الأمير «شتش...» كلامه من جديد: كان واضحاً أنه لا يريد أن يقول عن المرأة الشابة أكثر مما قال.
فسأله ليون نيقولايفتش فجأة بعد لحظة صمت:
– ألا يبرهن هذا على أنه يعرفها، على كل حال؟
– جائز جداً. هو رجل متنقل الهوى مولع بالمباهج! مهما يكن من أمر، فهما إذا كانا قد تعارفا فإنما تعارفا في الماضي. لا بدّ أن تعارفهما يرجع عهده إلى سنتين أو ثلاث سنين. كان في ذلك الأوان ما يزال على صلة بتوتسكي. أمّا الآن فلا يمكن أن يجمعهما شيء. وكيف كان الأمر فإنّ الصلة بينهما لم تكن في يوم من الأيام حميمة إلى الحدّ الذي يسمح لهما بأن يتخاطبا بصيغة المفرد. أنت نفسك تعلم أنها كانت غائبة إلى هذه الآونة الأخيرة، وأنها ظلت مختفية لا يعثر عليها أحد. وما يزال كثير من الناس يجهلون أنها عادت. لم ألاحظ عربتها إلا منذ ثلاثة أيام.
قالت آديلائيد:
– عربة فخمة!
– نعم فخمة!
وانصرف الزائران وهما يُظهران للأمير أرق العواطف، حتى لكأنه أخوهما.
خرجت للأمير من هذه الزيارة إشارة هامّة. صحيح أنه اشتبه في الأمر اشتباهاً قوياً منذ الليلة البارحة (وربما قبل ذلك)، لكنه لم يكن قد جرُؤَ حتى الآن أن يرى أن مخاوفه في محلها. أمّا الآن فقد اتضحت له الأمور: إن الأمير «شتش...»، على تأويله الحادث تأويلاً خطاً، يقارب الحقيقة مع ذلك، ويحزر على كل حال أن ثمة «مكيدة». (قال الأمير يحدث نفسه: ولعله يدرك الأمر إدراكاً صحيحاً بينه وبين نفسه، ولكنه لا يريد إعلان إدراكه ويتعمّد تأويل الحادث تأويلاً خطا). هناك شيء يخطف الانتباه خاصة: هو أنهما جاءا (ولا سيما الأمير «شتش...») آملين أن يحصلا على إيضاح ما؛ وهذا يعني أنهما يعُدّان الأمير ضالعاً في «المكيدة». ثم إذا كانت القضية هي هذه، وكانت تحمل كل هذا الخطر كله، فذلك دليل على أن تلك «المرأة»، تسعى إلى هدف رهيب. ولكن ما هو ذلك الهدف؟ سؤال فظيع! «وكيف يمكن صرفها عنه؟ أن من المستحيل إيقافها عن بلوغ غاياتها وتحقيق أهدافها». ذلك أمر يعرفه الأمير بالتجربة. «هي مجنونة! مجنونة».
ولكن ما أكثر هذه الأسرار التي تتزاحم في تلك الصبيحة من اليوم! إنها تقتضي أن توضَّح كلها على الفور، وذلك ما أغرق الأمير في ذهول عميق.
وجاءت فيرا ليبديفا حاملة ليوبوتشكا بين ذرعيها، فسرَّى عنه ذلك قليلاً. وظلّت تثرثر بعض الوقت مرحةً، ثم جاءت أختها الصغرَى فلبثت فاغرة الفم من الدهشة، ووصل أخيراً ابن ليبديف، الطالب في المدرسة الثانوية، فأكد له أن «كوكب الأفسنتين» الذي تذكر رؤيا يوحنا أنه سقط من السماء على الأرض عند ينبوع المياه إنما هو في رأي أبيه تنبّؤ بشبكة خطوط السكة الحديدية التي تمتدّ اليوم على أرض أوروبا. لم يشأ الأمير أن يؤيد هذا الزعم، واتفق على أن يسأل ليبديف نفسه في هذا الأمر لدّى أول مناسبة.
روَت فيرا ليبديفا للأمير أنّ كيللر قد أقام عندهم منذ أمس، وأضافت أن جميع الظواهر تدلّ على أنّه لن يغادرهم قريباً، لأنه وجد ههنا مجتمعا يناسبه، وانعقدت صداقة بينه وبين الجنرال إيفولجين. وقد أعلن أنه لا يمكث عندهم إلا ليكمل تعليمه ويحسّن ثقافته.
أخذ الأمير، على وجه العموم، يزداد سروراً بصحبة أولاد ليبديف يوماً بعد يوم.
ولم يظهر كوليا في ذلك النهار: فقد ذهب إلى بطرسبرج في ساعة مبكرة من الصباح. (وكان ليبديف قد سافر منذ الفجر هو أيضاً لأعمال شخصية).
غير أن الزيارة التي كان الأمير ينتظرها نافد الصبر إنما هي زيارة جبريل آرداليونوفتش الذي كان لا بد أن يجيء في أثناء النهار. وقد وصل بين الساعة السادسة والساعة السابعة، بعد العشاء فوراً. فلما رآه أخيراً اعتقد أنه أمام شخص لا بدّ أن يعرف جميع خفايا الأمر حق معرفتها. وكيف يمكن أن لا يعرف جانيا جميع خفايا الأمر وهو الذي يملك مساعدين مثل باربارا آرداليونوفنا وزوجها؟ غير أن العلاقات بينه وبين الأمير كانت تتسم بطابع خاص بعض الشيء. صحيح أن الأمير قد كلفه بقضية بوردوفسكي ورجاه مُلحاً أن يهتمّ بها. ولكن رغم علامة الثقة هذه، ورغم ما جرى بينهما قبل ذلك، تبقى هنالك موضوعات يتحاشيان التحدَّث فيها ويتجنبان الكلام عنها، وذلك بنوع من اتفاق صامت. كان الأمير يحسن في بعض الأحيان أن جبريل آرداليونوفتش يتمنى من جهته لو تنعقد بينهما صداقة وتقوم بينهما صراحة بغير حدود. وفي هذا الصباح مثلاً، حين رآه داخلاً، شعر بأن جانيا يعتقد أنه قد آن الأوان لتحطيم الجليد وتحقيق التفاهم في جميع الأمور (كان الزائر مع ذلك متعجّلاً، فلقد كانت أخته تنتظره عند ليبديف لشأن مُلحّ يجب أن يسوياه بينهما).
ولكن لئن توقع جانيا حقاً أن يلقي عليه الأمير وابلاً من أسئلة متعجّلة، وأن يكشف له عن أمور كثيرة على غير إرادة منه، وأن يفضي إليه بما يعتلج في قرارة نفسه، فقد أخطأ خطاً كبيراً. لقد ظلّ الأمير طول مدة الزيارة التي دامت عشرين دقيقة، ظل غارقاً في خواطره، حتى ليكاد يكون ذاهلاً. ولم يُلق الأسئلة المتوقعة، أو قل لم يُلق السؤال الهام الذي كان ينتظره جانيا. لذلك ارتأى جانيا أن من المناسب أن يتحفظ هو أيضاً فلا يسترسل. صحيح أنه ظل طلق اللسان كثير الكلام، ولكنه في ثرثرته الخفيفة المتوددة اللطيفة، تحاشى أن يلامس النقطة الأساسية.
روى فيما روى أن ناستاسيا فيليبوفنا لم تصل إلى بافلوفسك إلا منذ أربعة أيام، وأنها قد جذبت أنظار الناس وأثارت انتباههم. وذكر أنها تقيم عند داريا ألكسيفنا، في منزل صغير مريح بشارع «البحارة»، ولكن مركبتها تكاد تكون أفخم مركبة في بافلوفسك. وقد احتشد حولها منذ الآن جمهور من الموَلَّهين، فيهم الشباب وفيهم الشيوخ؛ وثمة فرسان يواكبون مركبتها في بعض الأحيان. وهي على عادتها شديدة التدقيق في اختيار معارفها، فلا ترضى أن يكون بقربها إلا صفوة منتقاة. غير أن هذا لا ينفي أنها محاطة بما يشبه أن يكون فصيلة من الحرس مستعدّة للدفاع عنها أتمّ الاستعداد متى مسّت الحاجة إلى ذلك. وبسببها فسخ خطوبته رجل من المزارعين في بافلوفسك، وكاد جنرال عجوز أن يلعن ابنه. وهي تصطحب أثناء نزهاتها بالمركبة، وفي كثير من الأحيان فتاة بارعة الجمال في السادسة عشرة من عمرها تمُتُ بقربَى بعيدة إلى درايا ألكسيفنا. والفتاة موهوبة في الغناء، فصوتها يجتذب انتباه أهل الحيّ إلى منزلهم في المساء. هذا وإنّ ناستاسيا فيليبوفنا تعنى بهندامها أشدّ العناية. فملابسها بسيطة، لكنها في غاية الذوق والأناقة، فإذا أضفنا إلى ذلك جمالها ومركبتها أدركنا لماذا تثير غيرة جميع السيدات.
وأفلت لسان جانيا فقال: أمّا حادث الأمس السخيف فلا شك في أنه مدبّر، ولا يمكن أن تكون هي المسؤولة عنه، فيجب أن يُعرف الجاني، وإلا تجنى الناس عليها وقالوا فيها سوءاً، وذلك ما سيحدث قريباً على كل حال.
كان يتوقع أن يسأله الأمير لماذا يرى أن حادث الأمس مدبر، ولماذا يعتقد أن الناس لن يلبثوا أن يقولوا في ناستاسيا سوءاً.
ولكنّ الأمير لم يُلق أي سؤال عن هاتين النقطتين.
وذكر جانيا بعد ذلك معلومات مفصّلة عن أوجين بافلوفتش، دون أن يكون الأمير قد سأله عن شيء من ذلك أيضاً. وإنّ كلام جانيا عن أوجين بافلوفتش لأمر غريب، لا سيما وأنه كان يُقحَم في الحديث إقحاماً. قال جانيا فيما قال: إنه يعتقد أن أوجين بافلوفتش لم تكن بينه وبين ناستاسيا فيليبوفنا علاقات في يوم من الأيام؛ وأنه حتى في الوقت الحاضر لا يكاد يعرفها، فقد قُدّمت إليه مرّة واحدة منذ ثلاثة أيام أو أربعة أثناء النزهة. ومن المشكوك فيه أن يكون قد زارها في بيتها مرة واحدة ولو بصحبة أشخاص آخرين.
أمّا مسألة السندات فمن الجائز أن تكون صحيحة (حتى أن جانيا يعُدّها مكيدة). صحيح أن أوجين بافلوفتش يملك ثروة كبيرة، غير أن «شيئاً من الفوضى يسيطر على إدارة أملاكه»...
وانقطع جانيا عن الكلام في هذا الموضوع الغريب، ثم لم يزد شيئاً عن فعلة ناستاسيا فيليبوفنا بالأمس، عدا الإشارة التي ساقها من قبل.
وأخيراً جاءت باربارا آرداليونوفنا تبحث عن جانيا، لكنها لم تمكث عند الأمير إلا دقيقة واحدة استطاعت خلالها أن تبلغه (دون أن يسألها عن شيء أيضاً) أن أوجين بافلوفتش يقضي هذا اليوم ببطرسبرج وقد يقضي هناك الغد أيضاً، وأن زوجها (إيفان بتروفتش بتتسين) هو الآن ببطرسبرج فأغلب الظنّ أنه ذهب إلى هناك للاهتمام بشؤون أوجين بافلوفتش. واضح أن في الأمر شيئاً. وأضافت إلى هذا عند انصرافها أن إليزابت بروكوفيفنا معتكرة المزاج في هذا اليوم فهي ترهق من حولها أشدّ الإرهاق، وآجلايا – وذلك شيء أغرب – قد تشاجرت مع الأسرة كلها، لا مع أبيها وأمها فحسب، بل مع أختيها أيضاً. «ليس ذلك بالأمر الحسن بتاتاً». حتى إذا فرغت من ذكر هذا النبأ ذكراً يشبه أن يكون عارضاً (وهو نبأ له في نظر الأمير شأن خطير كل الخطورة) انصرفت هي وأخواها. ولم يقل جانيا كلمة واحدة عن «ابن بافلشتشيف»، سواء من باب إظهار التواضع، أو بغية «مداراة عواطف الأمير». غير أن ذلك لم يمنع الأمير من أن يشكر له، مرة أخرى، ما تحمّله من مشقة وما تكلفه من عناء لإنهاء تلك القضية.
سُرّ الأمير أعظم السرور حين صار وحيداً، فهبط من على الشرفة، واجتاز الطريق إلى الحديقة. كان يريد أن يفكر، وكان هناك قرار يجب عليه أن يتخذه، وهو قرار من تلك القرارات التي لا يفكر المرء فيها، وإنما يعزم أمره عليها دُفعة واحدة. وها هو ذا تستولي عليه رغبة مفاجئة رهيبة في أن يدع كل شيء في مكانه، فينصرف مسرعاً حتى دون أن يودّع أحداً، ويرجع إلى حيث كان في البعد والعزلة. كان يوجس أنه إذا بقي في بافلوفسك ولو بضعة أيام أخرى، فسيغوص في هذه البيئة غوصاً لا مخرج له منه بعد ذلك قَط. غير أنه لم يهَب لنفسه عشر دقائق من التفكير، ولم يلبث أن أيقن أن الهروب «مستحيل»، وأنه يكاد يكون جُبناً وحقارة. أن من طبيعة المشكلات المطروحة عليه أنه لا يحق له أن لا يحلها أو على الأقل أن لا يقف جميع جهوده على إيجاد حل لها.
وعلى هذه الحال النفسية إنما عاد الأمير إلى بيته دون أن يتنزّه أكثر من ربع ساعة. وشعر في تلك اللحظة أنه شقي أكبر الشقاء.
وكان ليبديف غائباً فاستطاع كيللر أن يدخل على الأمير أثناء السهرة. لم يكن كيللر سكراناً، لكنه كان في حالة نفسية تحضّه على البوح والمُسارّة والنجوى. فسرعان ما أعلن للأمير أنه جاء ليقصّ عليه قصة حياته كاملة، فعلى هذه النية إنما بقي في بافلوفسك. ولو أراد الأمير أن يطرده لما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولرفض الرجل أن ينصرف كل الرفض. ولقد أراد أن يندفع في حديث طويل مفكّك، ولكنه ما أن قال بضع كلمات حتى انتقل إلى الخاتمة فاعترف بأنه «أمرؤ لم يبق له ذرّة من خلْق» (وما ذلك إلا بسبب زوال اعتقاده بالله) حتى إنه بلغ من هذا حدّ الإقدام على السرقة. قال:
– هل تستطيع أن تتصور أمرًا كهذا؟
قال الأمير:
– اسمع يا كيللر، لو كنت في مكانك لما اعترفت بهذا، إلا في حالة الضرورة المطلقة. ثم إن من الجائز جداً أن تكون الآن متجنّياً على نفسك عن عمد...
– أنا لا أقول هذا إلا لك أنت، لك أنت وحدك، وليس لي من ذلك إلا هدف واحد هو أن أحاول الارتقاء بأخلاقي. لن أتحدث عن هذا لأحد، وسأحمل سرّي إلى قبري. ولكن ليتك تعلم يا أمير مدى صعوبة الحصول على مال في عصرنا هذا! أين لي بالمال؟ اسمح لي أن ألقي عليك ذلك السؤال. إن المرء لا يسمع إلا جواباً واحداً: «هات لنا ذهبا وماسا فنقرضك على رهن». والذهب والماس هما ما يُعوِزني. هل تستطيع أن تتصور هذا؟ ولقد غضبت آخر الأمر فقلت بعد لحظة: «وهل تقرضونني مالاً برهان أحجار زمرد؟»، فقالوا: «نعم، نقرض مالاً برهن أحجار زمرد»، فقلت وأنا أتناول قبعتي لأخرج: «هذا حسن، شيطان يأخذكم، يا لكم من أوغاد!». أقسم لك!
– هل كنت تملك إذن أحجار زمرّد؟
– أحجار زمرّد؟ آه يا أمير! إنك ما تزال تنظر إلى الحياة نظرة فيها هدوء وبراءة وسذاجة يمكن أن توصّف بأنها ريفية!
كان شعور الأمير بالخجل من سماع مسارّات كيللر أكبر من شعوره بالشفقة عليه. وومضت في ذهنه فكرة. تساءل: «ألا يمكن أن يُصنع من هذا الإنسان شيء بإحداث تأثير حسن فيه؟». لكنه استبعد لأسباب شتى أن يكون هذا التأثير الحسن تأثيره هو، لا من باب التواضع بل بسبب طريقته الخاصة في مواجهة الأمور. وشيئاً فشيئاً استغرقا في الكلام وبلغا من الاهتمام بالتحادث معاً أنهما لم يخطر ببالهما أن يفترقا. وأسرع كيللر يعترف بأفعال يتراءى للمرء أن من المستحيل على أحد أن يعترف بها. وكان يؤكد عند كل اعتراف بأنه نادم ندماً صادقاً وبأنّ عينيه تفيضان دموعاً»، غير أن ذلك لم يمنعه من أن يعرض أخطاءه بلهجة اعتزاز، وأن يعرضها في بعض الأحيان عرضاً فيه من قوة الهزل وشدّة الإضحاك أنه والأمير قد انتهيا إلى الإغراق في الضحك كضحك المجانين. قال الأمير أخيراً:
– المهم أن فيك ثقة كثقة الأطفال وأنّ لك صراحة يندر مثلها. هل تعلم أن هذا كافٍ ليحمل المرء على أن يغفر لك أموراً كثيرة؟
فقال كيللر مؤيداً كلام الأمير وقد رق قلبه من التأثر:
– نفسي نبيلة، نبيلة وذات شهامة! ولكنّ المسألة يا أمير أن هذا النبل لا يوجد إلا وجوداً مثالياً، فوجوده وجود بالقوّة لا بالفعل إن صحّ التعبير! إنه لا يتحقق في الواقع أبداً. ولمّ هذا؟ ذلك ما لا أفهمه.
– لا تيأس. يمكن أن نقول الآن على وجه اليقين أنك قد كشفت لي عن قرارة نفسك. يخيل إليّ على الأقل أنه يستحيل أن يُضاف أي شيء إلى ما كشفت للي عنه. أليس هذا صحيحاً؟
فصاح كيللر يقول بلهجة إشفاق ورحمة:
– يستحيل؟ آه يا أمير! إنك ما تزال تحكم على الناس بأفكار هي أفكار رجل سويسري...
قال الأمير متحيرا مدهوشا:
– هل يمكن أن يكون ثمة أشياء تُضاف إلى ما ذكرته؟ ولكن هلّا قلت لي يا كيللر ما الذي تنتظره مني حين بُحت لي بهذه الأمور، ولماذا جئت إليّ؟
– ما الذي كنت أنتظره منك؟ أولاً: لبساطة نفسك سحرها وفتنتها، وإنّ المرء ليجد متعة في الحديث معك برهة من الزمن. إنني أعرف على الأقل أن أمامي رجلاً يمتاز بفضيلة لا سبيل إلى الشك فيها؛ وثانياً... ثانياً...
لم يكمل كيللر كلامه.
قال الأمير بلهجة فيها كثير من الجدّ وفيها صراحة يمازجها شيء من حياء:
– ألعلك كنت تريد أن تقترض مني مالا؟
فارتعش كيللر. وحدّق إلى عيني الأمير مشدوهاً، وضرب المائدة بقبضة يده ضربة قوية وقال:
– هذه بعينها طريقتك في إفحام الناس! آه يا أمير! إن لك براءة وسذاجة لم يعرف العصر الذهبي مثلها، ثم إنك بنفاذك السيكولوجي العميق تخترق المرء اختراق السهم. ولكن اسمح لي يا أمير، هذا أمر يحتاج إلى تفسير... ذلك أنني مذهول حقاً! صحيح أن نيّتي كانت هي أن أقترض منك مالاً، ولكن ألقيت عليّ السؤال وكأنك لا تجد في هذا ما يستحق المؤاخذة فكأنّ الأمر طبيعي تماماً...
– نعم، هو منك طبيعي تماماً.
– وهذا لا يثيرك؟
– ولماذا يجب أن يثيرني؟
– أصغ إليّ يا أمير: لقد بقيت في بافلوفسك منذ مساء أمس، أولاً بسبب اعتباري العظيم للأسقف الفرنسي بوردالو (لقد فُتحت زجاجات عند ليبديف حتى الساعة الثالثة من الصباح)، وثانيا وخاصة (أقسم لك بجميع الصلبان أنني أقول الحقيقة) لأنني أردت أن أبوح لك بحقيقة أمري كاملة صادقة بغية الارتقاء بأخلاقي. وعلى هذه الفكرة إنما نمت ممتلئ العينين بالدموع في نحو الساعة الرابعة من الصباح. هل تصدّق الآن إنساناً زاخر النفس بالمشاعر السامية والعواطف النبيلة؟ إنني حين غفوت غارقا بالدموع في الداخل والخارج على السواء (ذلك أنني بكيت ناشجاً، فأنا أتذكر هذا) قد هاجمتني فكرة جهنمية، فتساءلت: «ماذا لو اقترضت منه مالاً بعد أن أعترف له؟. وعلى هذا النحو إنما أعددت اعترافي طبقاً صغيراً من طعام أضع فيه حشائش مُشهّية وأرشه بدموع سخية، وأهيئه لإثارة عاطفتكم واقتراض مائة وخمسين روبلاً. ألا تجد في هذا حطةً وصَغارا؟
– لا شك عندي في أن الأمور قد جرت على هذا النحو، ولا تعدو المسألة أن تكون تصادفاً. فكرتان التقتا في ذهنك عَرَضاً. هذه حادثة شائعة جداً قد ألفتها وتعوّدتها أنا نفسي. وأعتقد أن هذا غير حسن. هل تعلم يا كيللر أن ذلك هو الشيء الذي آخذه على نفسي؟ أن ما قلته الآن عن نفسك، يمكن أن أقوله أنا عن نفسي.
وتابع الأمير كلامه يقول بلهجة إنسان تهمّه هذه المسألة كثيراً، فهو يفكر فيها تفكيراً عميقاً:
– حتى لقد اتفق لي أن قدّرت أن جميع الناس هم على هذه الشاكلة، وعددت ذلك دليلاً على براءتي مما أتّهم به نفسي، إذ لا شيء أصعب على المرء من مناهضة هذه الأفكار «المزدوجة». إنني أقول هذا عن خبرة وتجربة. لا يدري إلا الله من أين تجيء هذه الأفكار المزدوجة ولا من أين تنبجس! ولكن هأنت ذا تصف ذلك بأنه حطة وصغارّ سيكون عليّ إذاً أن أعود إلى التخوّف من مثل هذه الظاهرة! على كل حال، لست أهلاً لأن أحكم عليك، مع ذلك لا أحسب أن كلمة الحطة أو الصّغار هي هنا في محلها. ما رأيك؟ لقد عمدت إلى المكر والحيلة محاولاً أن تبتز مني بدموعك مالا، ولكنك تحلف أنت نفسك أن اعترافك كان له هدف آخر، هدف نبيل منَزَّه عن الغرض مبرّأ من المنفعة. أمّا المال فقد كنت تريده لتقصف وتلهو، أليس كذلك؟ وهذا، بعد اعتراف كالاعتراف الذي أقدمت عليه، هو سقوط أخلاقي طبعاً، ولكن أنى للمرء أن يتخلص من مجون أصبح فيه عادةً راسخة؟ ذلك مستحيل. وماذا إذاً؟ أن من الأفضل أن يعمد المرء في مثل هذا الأمر إلى حكم ضميره. ما رأيك؟
كان الأمير يحذق إلى كيللر بنظرة متحيرة إلى أقصى حدود التحيّر، كان واضحاً أن مسألة ازدواج الفكر تشغل باله منذ زمن طويل.
صاح كيللر يقول:
– بعد أقوال كهذه الأقوال التي أسمعها منك، أصبحت عاجزاً عن أن أفهم كيف أمكن أن يصفوك بأنك أبله.
فاصطبغ وجه الأمير بخمرة خفيفة.
– إن الواعظ بوردالو لم يراع صاحبه، أمّا أنت فقد راعيتني وحكمت عليّ حكماً إنسانياً. فمن أجل أن أعاقب نفسي، ومن أجل أن أبرهن لك على مدّى تأثري، فإنني أعدل عن المائة وخمسين روبلاً، وأكتفي بخمسة وعشرين، فهذا هو المبلغ الذي أحتاج إليه، مدّة أسبوعين على الأقل. لن أعود لأسألك مالاً قبل انقضاء خمسة عشر يوماً. لقد أردت أن أسرّ آجاشكا، ولكنها لا تستحق ذلك كثيراً. آه يا أميري العزيز! ألا فليبارك الله فيك!
هنا داخل ليبديف عائداً من بطرسبرج، فلمّا رأى ورقة بخمسة وعشرين روبلاً في يدَي كيللر قطب حاجبيه. غير أن كيللر، وقد ملك المال، لم يلبث أن انصرف. فسرعان ما أخذ ليبديف يكيل له الذم.
فقال له الأمير أخيراً:
– إنك تظلمه. لقد ندم ندما صادقا.
– ولكن ما قيمة ندمه؟ هو كندمي بالأمس: «أنا منحط!». هذه كلمات!...
– ماذا؟ أكانت هذه كلمات لا أكثر؟ لقد ظننت أنا...
– اسمع. لك، لك وحدك سأقول الحقيقة، لأنك تنفذ إلى قرارة قلب الإنسان: أن الأقوال والأفعال، أن الأكاذيب والحقائق، تختلط عندي بصدق كامل. ففي الحقائق والأفعال إنما يتجلى ندمي وتتجلى توبتي، صدّقني أو لا تصدّقني... يميناً أن الأمر كذلك. أمّا الأقوال والأكاذيب فإنها تأتيني من فكرة جهنمية (لا تبرح ذهني) بها أحسّ أنني مدفوع إلى خداع الناس والاستفادة حتى من دموع الندامة والتوبة! أحلف لك بشرفي أن الأمر كذلك! ما كان لي أن أقول هذا الكلام لشخص آخر غيرك، وإلا لضحك أو لبصق اشمئزازاً! أمّا أنت يا أمير فسوف تحكم عليّ حكماً إنسانياً.
هتف الأمير يقول:
– هذا الكلام نفسه قد قاله لي الآخر؛ ويبد وعليكما كليكما أنكما تعتزان وتتباهيان! لست أفهم. ولكنّ الآخر أصدق منك، أنت الذي تجعل الكذبة حرفةً لك. هيّا! كفى رياء وتصنُّعاً يا ليبديف! لا تضع يدك على قلبك. أليس لديك ما تحب أن تقوله لي؟ إنك لم تأت إليّ بغير هدف...
أخذ ليبديف يجعُد وجهه ويلوّي جسمه.
قال الأمير:
– لقد انتظرتك طوال النهار لألقي عليك سؤالا. قل لي الحقيقة من أول كلمة، ولو مرّة واحدة في حياتك: ألم تشارك مشاركة ما في حادثة المركبة أمس؟
أخذ ليبديف يتلوّى من جديد، ثم طفق يضحك، ثم فرك يديه، ثم عطس. لكنه لم يعزم أمره على أن ينطق بكلمة.
– أرَى أنك شاركت في الأمر.
– لم أشارك إلاّ مشاركة غير مباشرة فحسب! أقول لك الحقيقة خالصة. كان دوري كله في القضية هو أن أُبلغ شخصاً ما في الوقت المناسب أن في داري ناساً، وأن بين هؤلاء الناس فلاناً وفلاناً...
صاح الأمير يقول بلهجة تدل على نفاد الصبر:
– أعرف أنك أرسلت إلى هناك ابنك. هو نفسه قال لي ذلك منذ قليل.
قال ليبديف وهو يقوم بحركات إنكار:
– أنا لا شأن لي في الأمر. إن هذه المكيدة من تدبير أشخاص آخرين؛ بل إنها لنزوة أكثر مما هي مكيدة.
– ولكن ما المسألة؟ اشرح ما بنفسك، ناشدتك الله! هل يمكن أن لا تدرك أن هذه القضية تمسّني مباشرة؟ ألا ترى أنهم يحاولون تلطيخ سمعة آوجين بافلوفتش؟
هتف ليبديف يقول وقد عاد ينقبض:
– أيها الأمير، أيها الأمير العظيم، إنك لا تتيح لي أن أقول لك الحقيقة كلها. لقد حاولت غير مرة أن أبسّطها لك، ولكنك لم تدّع لي أن أكمل كلامي في لحظة من اللحظات...
صمت الأمير وفكّر، ثم قال في مشقّة وعناء، بلهجة تكشف عن أنه يعاني صراعاً نفسياً عنيفاً:
– طيّب... قل لي الحقيقة.
فسرعان ما بدأ ليبديف يقول:
– أن آجلايا إيفانوفنا...
ولكن الأمير صرخ يقول له مندفعاً:
– اسكت...
كان الأمير محمرّ الوجه من الغضب والاستياء وربما من الخجل والحياء. وتابع كلامه فقال:
– مستحيل. هذا كله سخف. هذا كله تلفيق منك أو من أناس مجانين مثلك. إنني أمنعك من أن تكلمني في هذا الأمر يوماً!
في وقت متأخر من الليل، في نحو الساعة الحادية عشرة، وصل كوليا مع حصاد أنباء بعضها من بطرسبرج وبعضها من بافلوفسك. فأوجز رواية الأنباء الآتية من بطرسبرج (وهي تتعلق بهيبوليت وحادثة الأمس) مؤجّلاً الحديث المفصّل عنها إلى وقت آخر، متعجّلاً الانتقال إلى الكلام عن أنباء بافلوفسك. كان قد رجع من بطرسبرج منذ ثلاث ساعات، وذهب إلى دار إيبانتشين رأساً، دون أن يعرّج على الأمير. «رهيب ما يحدث هناك». والسبب الأول للفضيحة هو حادثة المركبة طبعاً. ولكن لا شك أن حادثاً آخر قد وقع، حادثاً لا يعرفه لا هو ولا الأمير. «وقد تجنبت طبعاً أن أتجسس أو أن أسأل أحداً. ثم أنهم قد أحسنوا استقبالي حتى لقد أحسنوا استقبالي أكثر مما كنت أتوقع. ولكنهم لم يقولوا كلمة واحدة عنك يا أمير». وها هو ذا النبأ المثير: لقد تشاجرت آجلايا مع ذويها بشأن جانيا. لا يعرف أحد تفاصيل المشاجرة، ولكن من المعروف أن جانيا هو سببها، ولا شك في أن الباعث على المشاجرة كان هاماً خطيراً، لأن المشاجرة كانت قوية عنيفة. كان الجنرال قد رجع إلى البيت متأخراً، متجهم الهيئة عابس الأسارير، يصحبه أوجين بافلوفتش الذي استُقبل بكثير من الترحيب وكان باشًا مشرق المزاج كثير اللطف والتودّد. وهذا نباً ثان أهم شأناً: أن اليزابت بروكوفيفنا قد استدعت باربارا آرداليونوفنا التي كانت مع بناتها، وحظرت عليها، دون ضجيج، أن تدوس قدماها أرض بيتها بعد الآن في يوم من الأيام؛ وقد أبلغتها هذا الحظر بكثير من الكياسة والتهذيب على كل حال. عرفت هذا من فاريا بنفسها». هذا ما أضافه كوليا. وحين خرجت فاريا من عند الجنرالة وودعت الآنسات كانت الآنسات لا يعرفن أن باب هذا المنزل قد أُغلق دونها إلى الأبد وأنها تتركهنّ إلى غير رجعة.
قال الأمير متحيّراً:
– مع ذلك جاءت إليّ باربارا آرداليونوفنا في الساعة السابعة.
– وفي الساعة الثامنة إنما أُمِرَت بأن لا تعود. إنني متألم لفاريا وجانيا... صحيح أنهما لا ينفكّان عن تدبير المكائد، فتلك عادة لا يملكان التخلص منها. أنا لم أستطع أن أعرف ماذا يدبران، ولست أحرص على أن أعرف ذلك. ولكنني أؤكد لك يا عزيزي الأمير الطيب أن جانيا له قلب نبيل. هذا رجل ضائع من نواح كثيرة، له مزايا تستحق أن تُعرف ولن أغفر لنفسي يوماً أنني لم أفهمه قبل هذه المدة. لا أدري ألا يزال عليّ أن أتردد على آل إيبانتشين بعد الذي حدث لفاريا. صحيح أنني منذ اليوم الأول قد احتفظت باستقلالي كاملاً، وجعلت بيني وبينهم مسافة، ولكن الأمر يحتاج إلى تفكير مع ذلك.
قال الأمير:
– إنك لتخطى إذا أخذتك بأخيك شفقة. لئن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه فلأن جبريل آرداليونوفتش أصبح خطراً في نظر اليزابت بروكوفيفنا. معني ذلك أن بعضي آماله قد تأكدت.
هتف كوليا يسأل مذهولاً:
– أي آمال؟ ماذا تعني؟ أتراك تتصور أن آجلايا... ذلك لا يمكن...
لزم الأمير الصمت.
وتابع كوليا بعد دقيقة أو دقيقتين من سكوت:
– أنت رياب شكاك إلى درجة رهيبة يا أمير. لقد لاحظتُ منذ بعض الوقت أنك تهوي إلى ريبة فيها غلوّ، حتى أخذت لا تصدّق شيئاً، وحتى صارت تفترض كل شيء... ولكن هل تُراني استعملت كلمة «الريبة» في محلها؟
– أظنّ، رغم أنني لست واثقاً أنا نفسي كل الثقة.
صاح كوليا يقول فجأة:
– مع ذلك أستردّ هذه الكلمة. لقد اهتديت إلى كلمة تفصح عن فكرتي إفصاحاً أصدق. أنت لست ريّاباً، وإنما أنت غيور. إن جانيا يوقظ في نفسك غيرة جهنمية بسبب امرأة متكبرة.
قال كوليا ذلك ونهض عن مكانه واثباً، وأخذ يضحك ضحكاً لعله لم يضاحك ضحكاً مثله في حياته. وازداد ضحكه حين رأي الأمير يتخضّب وجهه بالحُمرة. لقد فتنه أن يتصوّر أن الأمير غيور بسبب آجلايا. ولكنه سكت منذ لاحظ أن ألم الأمير صادق. وأخذا يتكلمان منذئذ بكثير من الرصانة والجدّ، فدام حديثهما ساعة أخرى، أو ساعة ونصفاً.
***
في اليوم التالي سافر الأمير إلى بطرسبرج، واضطر أن يمكث هنالك إلى ما بعد الظهر لأمر مُلحّ مستعجل. فلمّا عاد إلى بافلوفسك في نحو الساعة الخامسة صادف إيفان فيدوروفتش بالمحطة. فأمسكه هذا من ذراعه بقوة، وبعد أن ألقى نظرات خائفة ذات اليمين وذات الشمال، أصعده إلى مركبة في الدرجة الأولى من القطار. لقد كان يحترق رغبة في أن يكلمه في مسألة هامّة.
قال إيفان فيدوروفتش للأمير:
– أرجوك أولاً، يا أميري العزيز، أن لا تؤاخذني ولا تحقد عليّ. إذا كان ثمة ما تلومني عليه فإنني آمل أن تنساه. لقد أوشكت أن أجيء إليك بالأمس، لكنني لا أدري ما الذي كان يمكن أن تتصوره أليزابت بروكوفيفنا لو أنني فعلت... ذلك لي جحيم حقاً. لكأن مخلوقاً ملغزاً كأبي الهول قد سكن منزلنا. أنا لا أفهم من الأمر شيئاً. أمّا أنت فأنت في رأيي أقلنا ذنباً، رغم أنك سبب كثير من التعقيدات التي حدثت. حُب الخير للبشر شيء ممتع يا أمير. ولكن ما ينبغي للمرء أن يسرف قط. لعلك عانيت هذه الحقيقة أنت نفسك بالتجربة. صحيح أنني أحب طيب القلب ونبل النفس وأقدَّر إليزابت بروكوفيفنا، لكن...
وظل الجنرال يتكلم على هذا المنوال مدّة طويلة، ولكنّ كلامه كان مفكّكاً تفكّكاً شديداً. كان واضحاً أنه خائف مضطرب إلى أبعد حدود الخوف والاضطراب، من حادث لا سبيل إلى فهمه البتة.
قال أخيراً وهو يدخل في حديثه شيئاً من وضوح:
– لا شك عندي في أنك غريب عن الأمر، فلا شأن لك فيه. لكنني أرجوك رجاء الصديق أن تنقطع عن زيارتنا زمناً، إلى أن تدور الريح.
ثم هاتف يقول بحرارة:
– أمّا أوجين بافلوفتش فإنّ كل ما يُشاع عنه إنما هو أراجيف دنيئة ووشايات كاذبة! نحن إزاء محاولة تشهير وخطة تآمر. ثمة مكيدة يهدف منها إلى قلب كل شيء رأساً على عقب، وإلى إحداث الشقاق والخلاف بيننا. اسمع يا أمير، إنني أقول لك الحقيقة بصراحة. ما من كلمة نُطقت حتى الآن بيننا، نحن وأوجين بافلتش، هل تفهم؟ لا شيء يربطنا في الوقت الحاضر. غير أن تلك الكلمة يمكن أن تُنطق. وقد تُنطق في القريب، بل قد تُنطق من لحظة إلى أخرى. وذلك ما يُراد منعه. لماذا؟ ما الغرض من ذلك؟ ما هي النية المختفية وراءه؟ هذا ما لا أستطيع أن أدركه. أن هذه المرأة محيرة شاذّة. إنني أخاف منها أشدّ الخوف؛ إن خوفي منها يؤرّقني ويحرمني من النوم. وانظر إلى تلك المركبة الفخمة، وتلك الخيول الصهباء... ذلك ما يُسمّيه الفرنسيون أناقة! من ذا الذي يهيئ لها هذا المستوى من العيش؟ يميناً لقد راودتني في يوم من الأيام هذه الفكرة الآثمة، وهي أن أوجين بافلتش هو الذي يهيئ لها ذلك. ولكن من الواضح أن هذا الرأي لا يمكن أن يصمد للدحض. لماذا تحاول إذاً إحداث الشقاق بيننا؟ ذلك هو اللغز! أمن أجل أن تحتفظ إلى جانبها بأوجين بافلوفتش؟ لكنني أكرر لك وأحلف لك أنه لا يعرفها وأنّ الكلام الذي قالته اختراع وتلفيق. وما أشدّ تلك الوقاحة في أن تخاطبه بصيغة المفرد على ذلك النحو عبر الشارع! تلك مكيدة مدبّرة لا أكثر! واضح أن علينا أن ننبذ هذه المكيدة باحتقار وأن نضاعف احترامنا لأوجين بافلوفتش. ذلك ما أعلنته لإليزابت بروكوفيفنا. والآن أُفضي إليك بالرأي الذي أُكنّه في قرارة نفسي: إني مقنع اقتناعاً عميقاً بأنها تحاول أن تنتقم بهذا مني أنا، بسبب ما جرى من قبل، هل تتذكر؟ ومع ذلك فإنني لم أخطى في حقها يوماً ولا أسأت إليها. إن وجهي ليحمرّ خجلاً كلما فكرت في ذلك الأمر. ها هي ذي تعود الآن إلى الظهور بعد أن ظننت أنها غابت إلى الأبد. أين ذهب روجويين؟ لقد كنت أحسب أنها أصبحت منذ مدة طويلة زوجة روجويين.
الخلاصة أن الجنرال كان حائراً أشدّ الحيرة. ولقد ظل طوال ما يقرب من ساعة، وهي المدة التي استغرقتها مسافة الطريق بالقطار، يجري الحديث مع نفسه، فهو الذي يلقي الأسئلة وهو الذي يجيب عنها، ضاغطاً على يدي الأمير، مفلحاً في إقناعه على الأقل بأنه لا يساوره ظل من شك فيه. وتلك هي النقطة الجوهرية بالنسبة إلى الأمير. وتكلم في آخر الأمر عن عمّ أوجين بافلوفتش الذي يشغل منصب رئيس لإحدّى الإدارات ببطرسبرج. فقال إنه «رجل في نحو السبعين من عمره، ذو مركز مرموق، يحب مباهج الحياة ويقبل على ملذّات المائدة، أي أنه – باختصار– شيخ ما يزال نضر الرغبات... هأ ها! وأنا أعلم أنه سمع عن ناستاسيا فيليبوفنا، حتى أنه التمس الحظوة بنعمها. وقد زرته منذ قليل. إنه لا يستقبل الآن بسبب سوء صحته، ولكنه غنيّ، غنيّ. وإنّ له نفوذاً وتأثيراً و... أطال الله عمره! غير أن أوجين بافلتش سيرث ثروته كلها... نعم... لكنني مع ذلك خائف.. إن في الهواء نذير شرّ يحلق تحليق خفاش، فأنا خائف، خائف...،.
الفصل الثاني عشر
في الساعة السابعة من المساء، كان الأمير يتهيّأ للقيام بنزهاته في الحديقة، فإذا بأليزابت بروكوفيفنا تظهر في الشرفة وحيدة، وتتجه نحوه.
قالت:
– أولاً، لا يذهبن بك الظنّ إلى أنني جئت أطلب منك الصفح. فتلك حماقة! أنت وحدك مرتكب جميع الأخطاء ومقترف جميع الذنوب!
لزم الأمير الصمت.
– أأنت مذنب أم لا؟
– لا أكثر منك ولا أقل. على أننا لم نذنب عن عمد وقصد، لا أنا ولا أنت. منذ ثلاثة أيام اعتقدت أنني مذنب آثم. أمّا الآن فقد اقتنعت بعد التفكير بأن لا شيء من ذلك!
– أ... هكذا أنت طيب، اجلس واسمع، لأنني لا أنتوي أن أبقى واقفة.
جلس الاثنان.
قالت:
– ثانياً، لا داعي إلى كلمة واحدة عن أولئك الأشقياء! سأمكث عشر دقائق للتحدث معك. لقد جئت أسألك عن أمر من الأمور (لا يعلم إلا الله إلى أي شيء ذهب ظنك)، فإن نطقت بكلمة واحدة عن أولئك الوقحين، فلأنهضنّ منصرفة على الفور، وليكوننّ ذلك فراقًا بيني وبينك.
قال الأمير:
– طيب.
– اسمح لي أن أُلقي عليك سؤالاً: هل بعثت برسالة إلى آجلايا منذ شهرين أو شهرين ونصف شهر، حوالي أعياد الفصح؟
– ن... نعم...
– بأي مناسبة؟ في أي موضوع؟ ماذا تضمّنته تلك الرسالة؟ أرني الرسالة!
كانت عينا اليزابت بروكوفيفنا تقدح شرراً، وكانت ترتعش من فرط نفاد الصبر.
أجاب الأمير مدهوشاً مرتاعاً:
– ليست تلك الرسالة معي، وإذا كانت ما تزال موجودة فهي مع آجلايا إيفانوفنا...
– لا تراوغ! ماذا كتبت لها في تلك الرسالة؟
– لست أراوغ، وليس ثمّة ما أخشاه. إنني لا أرَى السبب الذي كان يمكن أن يمنعني من الكتابة إليها...
– اسكت. سنتكلم من بعد. ماذا تضمّنت تلك الرسالة؟ لماذا احمرّ وجهك؟
فكر الأمير لحظة.
– لا أعرف ماذا يدور في رأسك من خواطر يا أليزابت بروكوفيفنا. ولكنني أرَى أن تلك الرسالة قد أورثتك كثيراً من الاستياء. لاحظي أن في وسعي أن لا أجيب عن سؤال كهذا السؤال الذي تُلقين. لكنني من أجل أن أبرهن لك على أنه ليس ثمة ما أخشاه بصدد تلك الرسالة، وعلى أنني لست نادماً ولا خجلان من كتابتها (حين قال الأمير هذا الكلام تضاعفت حُمرة وجهه)، فسأتلوها عليك، لأنني أحفظ مضمونها على ظهر قلب فيما أظنّ.
وأخذ الأمير يتلو نص الرسالة كلمة كلمة تقريباً.
قالت إليزابت بروكوفيفنا بعد أن أصغت بانتباه شديد، قالت بلهجة فظة شرسة:
– يا له من خلط! ما المعني الذي تقصده من هذه السخافات؟
أجابها الأمير:
– أنا نفسي لا أعرف حق المعرفة. أن ما أعلمه هو أن عاطفتي كانت صادقة. كانت تنتابني هنالك لحظات حياة عنيفة وآمال كبيرة.
– أي آمال؟
– يصعب عليّ أن أشرح هذا، ولكن تلك الآمال ليست ما يغلب على ظني أن تفكيرك ينصرف إليها الآن. إن تلك الآمال... تتصل بالمستقبل، وترتبط بفرحة التفكير في أنني لعلني لم أكن «هنالك» أجنبياً. وقد غمرتني سعادة بالعودة إلى الوطن، فتناولت القلم في ذات صباح مشمس، وكتبت لها تلك الرسالة. لماذا كتبت الرسالة إليها هي؟ لا أدري. هناك لحظات يريد فيها المرء أن يكون بقربه صديق.
وأضاف الأمير يقول بعد صمت:
– فلعل ذلك الشعور هو الذي قادني ووجّهني.
– أتراك محباً؟
– لا والله. لقد كتبت إليها كما يكتب أخ إلى أخته. حتى لقد ذيلت رسالتي بهذا التوقيع: «أخوك».
– هه! خيال بارع! فهمت!
– يشق على نفسي جداً أن أجيب عن أسئلة كهذه يا أليزابت بروكوفيفنا.
– أعلم. غير أن هذا لا يعنيني البتة. اسمع، قل لي الحقيقة كما لو كنت تتكلم أمام الله: أكاذب أنت فيما تقول أم لا؟
– لست كاذباً.
– أأنت تقول الحقيقة حين تؤكد أنك لست محبّاً؟
– يخيل إليّ أن هذا صادق صدقاً مطلقاً.
– آ... «يخيّل إليك»! هل الصبي هو الذي حمل إليها الرسالة؟
– رجوت نيقولا آرداليونوفتش أن...
قاطعته اليزابت بروكوفيفنا في غضب:
– الصبي، الصبي! أنا لا أعرف نيقولا آرداليونوفتش. قل الصبي!
– نيقولا آرداليونوفتش...
– بل الصبي، قلت لك...
ردّ الأمير يقول بلهجة ثابتة، ولكن دون أن يرفع صوته:
– لا، ما هو بالصبي، إنه نيقولا آرداليونوفتش.
– طيب... طيب... سأجازيك على هذا بمثله...
كظمت أليزابت بروكوفيفنا انفعالها دقيقة لتستردّ أنفاسها ثم سألته:
– وما معني «الفارس الفقير»؟
– لا أدري. حدث هذا في غيابي. لا شك في أنه مزاحة من المزاحات.
– ما أحلى أن يعلم المرء هذا كله دفعة واحدة! ولكن هل يمكن أن تكون قد اهتمّت بك؟ لقد وصفتك هي نفسها بأنك «طِرْح» وبأنك «أبله».
قال الأمير بلهجة العتب، ويكاد يكون همساً:
– كان في وسعك أن تعفيني من نقل هذا الكلام إليّ.
– لا تزعل. هذه فتاة مستبدْة متسلطة، طائشة اللُّب؛ إنها طفلة أفسدها الدلال!... قد تفتتن بشخص من الأشخاص فإذا هي تهينه على رؤوس الأشهاد، وتضحك عليه أمام أنفه. أنا نفسي كنت هكذا. ولكنني أرجوك أن لا تتغنى بالانتصار، وأن لا تسكر بنشوة الظفر. هي ليست لك يا صغيري. إنني أرفض أن أصدّق. لن يكون هذا في يوم من الأيام! أقول ذلك لتعزم أمرك منذ الآن. اسمع: أحلف لي أنك لم تتزوّج «الأُخرَى».
قال الأمير وهو ينتفض دهشة:
– ما هذا الذي تقولينه يا آليزابت بروكوفيفنا؟
– ولكن ألم توشك أن تتزوجها؟
دمدم الأمير يقول خافضاً رأسه:
– أوشكت أن أتزوجها.
– فأنت إذاً تحبها «هي»؟ وأنت إنما جئت إلى هنا من أجلها «هي»، من أجل تلك المرأة؟
أجاب الأمير:
– ما من أجل أن أتزوجها جئت.
– هل في العالم شيء مقدس عندك؟
– نعم.
– احلف أنك لم تجئ لتتزوج من «تلك المرأة».
– أحلف على ذلك بما تشائين.
– صدّقتك، قبّلني. هأنذا أتنفس أخيراً بحرّية. ولكن اعلم أن آجلايا لا تحبّك، ورتّب أمورك على هذا الأساس. لن تصبح آجلايا زوجتك ما بقيت أنا على قيد الحياة. هل سمعت؟
– سمعت.
بلغ الأمير من شدّة الاحمرار أنه أصبح لا يستطيع أن ينظر إلى اليزابت بروكوفيفنا وجهاً لوجه.
– ضع هذا في رأسك. لقد انتظرتك انتظار العناية الإلهية (وكنت لا تستحق ذلك)، وبللت وسادتي في الليل بالدموع – أوه! لا بسببك أنت يا صديقي، اطمئن! فإن لي حزناً آخر، حزناً لا يتغير مدى الدهر. ولكن إليك السبب الذي جعلني أنتظرك نافدة الصبر: إنني ما زلت أعتقد بأنّ الله هو الذي أرسلك إليّ صديقاً وأخاً. ليس لي أحد اشدّ به أزري، إلا العجوز بيلوكونسكايا، التي سافرت هي نفسها، ناهيك عن أنها كانت قد أصبحت من الشيخوخة غبية كشاة من الشياه! والآن ليس عليك إلا أن تجيبني بكلمة نعم أو بكلمة لا على هذا السؤال: هل تعلم لماذا قذفت «تلك المرأة» بتلك الصيحة من داخل مركبتها في ذلك اليوم؟
– أحلف لك أن لا شأن لي بالأمر، ولست أعرف شيئاً!
– يكفيني هذا! صدّقتك. أن لي رأياً جديداً في هذا الموضوع، ولكنني في صباح الأمس كنت ما أزال أعُدّ أوجين بافلتش مسؤولاً عن كل ما حدث. لقد لازمتني هذه الفكرة طوال أمس الأول وطوال صباح أمس. أمّا الآن فقد انتهيت إلى الموافقة على رأيهم: واضح أنه قد سُخر منه واستهزئ به كمعتوه. كيف؟ لماذا؟ ما الغاية من ذلك؟ إن الحركة في ذاتها مشبوهة غير شريفة. على كل حال، لن يتزوج آجلايا. أنا أقول لك هذا! مهما يكن رجلاً ممتازاً، فلن أرضى أن يتزوجها. حتى قبل هذا الحادث كنت متردّدة. أمّا الآن فقد اتخذت قراري وعزمت أمري: «ضعني أولاً في تابوتي وادفنّي في قبري، ثم زوّج ابنتك»، ذلك ما قلته اليوم لإيفان فيدوروفتش مقطّعةً كلماتي. ها أنت ذا ترى مدى ثقتي بك. هل تري ذلك؟
– أراء وأفهمه.
حدّقت اليزابت بروكوفيفنا إلى الأمير بنظرة نافذة. لعلها كانت تحترق شوقاً إلى معرفة الأثر الذي أحدثه في نفسه كلامها عن أوجين بافلتش.
– أنت لا تعرف شيئاً عن جبريل آرداليونوفتش إيفولجين؟
– آ... أعرف أشياء كثيرة.
– هل تعرف أنه على صلات بآجلايا؟
قال الأمير مدهوشاً:
– أجهل هذا كل الجهل. ماذا؟ تقولين إن جبريل آرداليونوفتش على صلات بآجلايا إيفانوفنا؟ مستحيل!
– الأمر حديث العهد. إن أخته هي التي شقت له الطريق طوال فصل الشتاء.
عاد الأمير يكرر باقتناع بعد أن ظل شارد الذهن مضطرب النفس برهة من الوقت:
– لا أصدّق شيئاً من هذا الكلام. لو صحّ ذلك لعرفته حتماً.
– أتظن أن جبريل آرداليونوفتش كان سيأتي معترفاً لك بسرّه باكياً فوق صدرك؟ يا لك من ساذج غُرّ!... إن جميع الناس يخدعونك ويضللونك مثل... مثل... أفلا تستحي أن تمحضه ثقتك؟ ألست ترى أنه يضحك عليك ويغرّر بك؟
قال الأمير بصوت خافت ولهجة لا تخلو من اشمئزاز:
– أعرف أنه يغشنّي أحياناً. وهو لا يجهل أنني أعرف ذلك...
ولم يكمل الأمير فكرته.
– هكذا إذا؟ تعلم أنه يغشك ثم تظل تُوليه ثقتك. لم يكن ينقص إلا هذا. على أن ذلك هو ما يمكن أن يُنتظر منك. فعلام الاستغراب؟ رباه! لا يوجد في العالم كله رجلان من نوعك. وهل تعلم أن جانيا هذا أو فاريا هذه قد جعلاها على صلات بناستاسيا فيليبوفنا؟
صاح الأمير يسأل:
– مَن؟
– آجلايا.
– لا أصدق. هذا مستحيل. ما الغاية من ذلك؟
وكان قد نهض عن مكانه واثباً.
قالت آليزابت بروكوفيفنا:
– أنا أيضاً لا أصدّق ذلك، رغم أن هناك أدلة وبراهين. إنها فتاة ذات نزوات، فتاة جامحة الخيال طائشة العقل فتاة شريرة، شريرة، شريرة! إنني مستعدّة لأن أكرر لك ألف سنة أنها شريرة! وبناتي كلهن أصبحن الآن على هذه الشاكلة، حتى تلك الدجاجة المبتلة، ألكساندرا! ولكن آجلايا قد أفلتت من بين يدي وانتهي الأمر، ومع ذلك لست أصدّق هذا أنا أيضاً.
ثم أضافت تقول لنفسها:
– ربما لأنني لا أريد أن أصدّقه.
ثم نادت الأمير فجأةً تسأله:
– لماذا لم تجيء؟ لماذا لبثت ثلاثة أيام لا تجيء؟
كرّرت سؤالها نافدة الصبر.
فأخذ الأمير يعدّد الأسباب التي حالت بينه وبين المجيء. لكنها قاطعته مرّة أخرى وقالت له:
– جميع الناس يعُدّونك غبياً ويغشونك! لقد كنت أمس بالمدينة، وإني لأراهن أنك مضيت تجثو أمام ذلك الوغد ضارعاً إليه أن يقبل منك العشرة آلاف روبل.
– لا. لم يخطر ببالي أن أفعل. ولم أرَه. ثم إنه ليس وغداً. لقد تلقيت منه رسالة.
– أرنيها.
سحب الأمير من محفظة أوراقه رسالة مدّها إلى إليزابت بروكوفيفنا. وهذه هي الرسالة:
«سيدي، ليس لي حتماً، في نظر الناس، أي حقّ في أن أظهر شيئاً من الشعور بالكرامة. فالناس يعُدّونني أهون شأناً وأحقر قيمة من أن أفعل ذلك. ولكن نظرة الناس إلى الأمور ليست نظرتك أنت. إنني مقتنع أشدّ الاقتناع يا سيدي بأنك كنت أفضل من سائر الناس. لست أشاطر دوكتورنكو رأيه، بل أخالفه في هذه النقطة. لن أقبل منك كوبكًا واحدًا في يوم من الأيام. ولكنك أنجدت أمي، فأنا محمول على أن أشكر لك صنيعك رغم أن هذا ضعف. على كل حال، لقد رجعت عن رأيي فيك، واعتقدت أن من واجبي أن أبلغك ذلك. وإني لأتنبأ بأننا لن تقوم بينا أية علاقة بعد الآن».
آنتيب بوردوفسكي.
«حاشية: إن المال الناقص لإكمال مبلغ المائتي روبل الذي أدين لك به سيردُ إليك مع الزمن حتماً».
قالت إليزابت بروكوفيفنا وهي تنهي قراءة الرسالة ثم ترميها:
– يا للسخف والحماقة! ما كان هذا الكلام ليستحق أن يُقرأ. ممّ تضحك؟
– اعترفي مع ذلك بأن قراءة هذه الرسالة قد سرّتك.
– كيف؟ تسُرّني قراءة هذا الهذر الدعيّ السخيف؟ ألست ترَى إذن أن جميع هؤلاء الناس قد أضلهم الزهو والعجب والغرور؟
– صحيح، ولكنه اعترف بأخطائه، وقطع صلته بدكتورنكو. وعلى قدر غروره وزهوه كلّفه عمله هذا ثمناً باهظاً. آ... يا لك من طفلة صغيرة يا اليزابت بروكوفيفنا.
– أتُراك تودّ أن أصفعك على وجهك؟
– لا، لا أحرص على ذلك البتة! كلّ ما هنالك أنني ألاحظ أن قراءة هذه الرسالة قد ملأت نفسك ارتياحاً، وأنك تخفين ذلك. فيم تخجلين من عواطفك؟ إنك هكذا في كل أمر.
صاحت اليزابت بروكوفيفنا تقول واثبة عن مكانها، شاحبة اللون من فرط الغضب:
– حذار أن تضع قدميك في بيتي بعد اليوم! إياك أن يظهر أنفك في عتبة بابي بعد الآن!
– وبعد ثلاثة أيام تسعَين أنت إليّ! ما هذا؟ ما بالك تحمرّين خجلاً من أنبل عواطفك؟ لم هذا؟ إنك لا تزيدين بذلك على أن تعذّبي نفسك.
– لن أستدعيك ولو رقدتُ على فراش الموت. سأنسَى اسمك. بل لقد نسيته.
قالت ذلك وأسرعت تبتعد عن الأمير.
صرخ الأمير يقول لها:
– على كل حال، لقد حُظر عليّ أن أزورك.
– ماذا؟ مَن حظر عليك ذلك؟
– آجلايا إيفانوفنا هي التي تحظر عليّ أن...
– متى حدث هذا؟ تكلم، مالك لا تتكلم؟...
– في هذا الصباح، أرسلت تبلغني أن عليّ أن لا أدوس أرض داركم بعد اليوم قط...
شُدهت اليزابت بروكوفيفنا. ومع ذلك أخذت تفكر.
ثم هتفت تقول فجأة:
– كيف؟ من أرسلتْ لإبلاغك ذلك؟ الصبي؟ بكلام؟
– بل برسالة.
– أين الرسالة؟ أعطنيها! فوراً!
فكر الأمير لحظة، ثم سل من جيب صدرته مزقة ورق كان مكتوباً عليها ما يلي:
«الأمير ليون نيقولايفتش، إذا كنت تنوي، بعد كل الذي حدث، أن تدهشني فتجيء تزورنا بدارنا، فثق أنني لن أكون من أولئك اللواتي ستسرّهنّ زيارتك».
آجلايا ايبانتشينا.
لبثت إليزابت بروكوفيفنا شاردة الفكر لحظة، ثم أسرعت إلى الأمير، فأمسكت يده، واقتادته صائحة وقد استولى عليها اهتياج شديد واضطراب كبير:
– حالاً تعال! في هذه اللحظة نفسها!
– لكنك ستعرّضينني لـ....
– أعرّضك لأيّ شيء؟ ساذج! غبي! حتى لكأنك لست برجل! هيا! سأرى كل شيء بنفسي، بعيني رأسي...
– اسمحي لي أن آخذ قبعتي على الأقل...
– هي ذي، قبّعتك القذرة، هيّا! إنك عاجز حتى عن اختيار قبعة فيها ذوق!...
ثم تمتمت اليزابت بروكوفيفنا تقول وهي تجرّ الأمير في أثرها دون أن ترخيه لحظة واحدة:
– كتبت ذلك... كتبت ذلك بعد المشهد الذي جرّى منذ قليل... كتبته في غمرة الاندفاع...
ثم أضافت تخاطب الأمير:
– لقد تحيّزت لك منذ قليل. قلتُ صراحةً إنك غبيّ لأنك لا تجيء... ولولا ذلك لما كتبتْ إليك رسالة تبلغ هذا المبلغ من الحماقة، وتبلغ هذا المبلغ من قلة الاحتشام! أن هذا لهو قلة احتشام من جانب فتاة نبيلة المحتد، حسنة التربية، ذكية، نعم ذكية!
وتابعت تقول:
– هِمْ... ولعلها مغتاظة أيضاً من تغيّبك. ذلك جائز. ولكنها لا تُدرك أنه لا يُكتب مثل هذا الكلام لرجل أبله يفهم الأمور فهماً حرفيا كما حدث ذلك فعلا.
ولاحظت أنها أسرفت في القول، فصاحت تسأله:
– مالي أراك تمدُّ أذنيك؟ إنها في حاجة إلى مهرّج من نوعك. لقد حُرمن من مثلك منذ مُدة طويلة. ذلك هو السبب في أنها تسعَى إليك! أنا مفتتنة أعظم الافتتان، لأنها ستجعلك أضحوكة!... إنك لم تسرقها! إنها في هذه اللعبة بارعة! نعم بارعة... حاذقة!...