الكتاب: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب
تأليف: أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي المتوفى بفاس سنة 914هـ
خرجه جماعة من الفقهاء
عدد الأجزاء: 12
بإشراف الدكتور محمد حجي
ملاحظة: [هذا الكتاب من كتب المستودع بموقع المكتبة الشاملة]
فأجاب : إذا أظهر هؤلاء القوم الذين ذكرت مذهبهم و أعلنوه و ابتنوا مسجداً يجتمعون فيه و صلوا العيد بناحية من المسلمين بجماعة ، فهذا باب عظيم يخشى منه أن تشتد وطأتهم و يفسدون على الناس دينهم ، و تميل الجهلة و من لا تمييز عنده إليهم ، فواجب على من بسط الله قدرته أن يثنيهم مما هم عليه ، فإن لم يرجعوا ضربوا و سجنوا و بالغ في ضربهم ، فإن أقاموا على ما هم عليه فقد اختلف في قتلهم . و قال ابن حبيب : فمن تاب منهم يترك إلا أن تكون لهم جماعة في موضع يلحقون إليه ، فلا يترك هذا و إن تاب ، و يسجن حتى تتفرق جماعتهم خيفة أن يلحق بهم ، و أرى أن يشهر فساد ما يعتقدون لئلا يلبسون على أحد و لئلا يسكن في قلب أحد من ضلالتهم شيء ، و هم أشد في
[447 /2]
كيد الدين من اليهود و النصارى ، لأن هذين المذهبين ، أعني اليهود و النصارى ، قد عرف الناس أنهم كفار ، و لا يلبس على الناس أمرهم ، و لا يخشى على المسلمين أن يظنوا أن عندهم حقاً .
و هؤلاء يقولون نحن مسلمون ، و يقرؤون القرآن و يخالفون مضمونه ، و يقولون نؤمن بمحمد ، و يتحدثون بالأحاديث التي تؤدي عنه . و أما هدم المسجد الذي بنوا فحق ، و جميع ما يتألفون فيه كذلك . و أيضاً فإنما يقصد به الضرار ، و قال الله عز و جل لنبيه عليه السلام في مسجد الضرار : { لا تقم فيه أبداً } ، و في هدمه ذلة لأهل دينهم ، و بقاؤه ركن لهم و ملجأ ، و هدمه يؤسس في قلوب الناس و العامة فساد ما هم عليه ، لأنهم إذا علموا أن ذلك فعل بقول أهل العلم يتيقنون أن ذلك لفساد ما هم عليه ، و اجتنبوا قربهم ، و للفعل في النفوس تأثير . و قد خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى أصحابه بالحديبية في العمرة التي صد عنها ، فأمرهم بالحلق فترددوا ، فلما نحر هديه و أمر حالقه فحلق تبادروا لمثل ذلك . و ما كانوا يشكون في قوله صلى الله عليه و سلم . و الله أسأله التوفيق برحمته .
(2/17)
________________________________________
قال القاضي برهان الدين بن فرحون رحمه الله : و اعلم أن هذين الجوابين يستفاد منهما الحكم في أمور واقعة عندنا ، يعني بالمدينة المشرفة . قال : منها ما وقع في الجواب الأول أن المسجد الذي يجتمعون فيه يُخلى منهم و يعمر بأهل السنة . و مثل هذا وقع عندنا للقاضي شرف الدين السيوطي الشافعي رحمه الله ، كان قد أخرجهم من الموضع المعروف بالمشهد و أسكنه أهل السنة ، و كتب على بابه في لوح رخام أنه افتتح هذا المكان في سنة كذا . ثم إنهم استولوا عليه بعده و صار فقيههم الشريشي يلازم الجلوس فيه و يشتغل فيه الناس ، و نشأ عن ذلك الاجتماع شر كثير ، و أثره باق عليه بعده إلى الآن . و أحدث فيه بركة صار الموضع يقصد لأجلها ، و كذلك أحدث هذا الشريشي بركة في رباط العيد و صار الرباط لأجلها مقصداً و مجمعاً لهم ، و سكن فيه الغرباء ممن يشغلهم في دينهم و يقوي تعصبهم ، و هذا كله من أعظم الفساد و الضرر . و حكم هذه المواضع أن تخلى على مقتضى الجوابين و لا تهدم ، لأنها لم تبن لاجتماعهم ، و لو أحدثوا موضعاً لاجتماعهم كما وقع في السؤال لهدم على الجواب الثاني ، و لا ينظر لكونه رباطاً أو وقفاً ، فإن المعاصي الواقعة فيه إذا لم تنحسم إلا بهدمه جاز هدمه ، و ينبغي إسكان أهل السنة في المشهد
[448 /2]
و إشراك أهل السنة معهم في الرباط المعين على وجه ينحسم معه الفساد . و يجب إزالة البركتين من الموضعين لأنهما أحدثتا في وقف لغير مصلحة تعود على الوقف ، و الذي أحدثهما ليس بناظر شرعي ، و لما يترتب عليهما من الفساد .
(2/18)
________________________________________
و ممل فعله القاضي شرف الدين المذكور أنهم كانوا ينفردون بصلاة العيد في مسجد مباين لجماعة أهل السنة فسد بابه و منعهم من الصلاة فيه و ألزمهم بالصلاة مع الناس ، فاستمر ذلك ثم أحدث بعض طلبة الشريشي حظيرة بالقرب من مسجد العيد مسجد النبي صلى الله عليه و سلم ، فصار عوام البلد يصلون العيد فيها منفردين ، و إن كانوا يظهرون موافقة إمام الجماعة ، فشوور أمير المدينة في هدمها فأذن فيه بعد أن أفتى بهدمها فقهاء الشافعية و المالكية و الحنفية ، فهدمت و زال أثرها و الحمد لله . فيجب على الحكام درء هذه المفاسد فإنها تغلق من الشر أبواباً ، و تجزل للقائم فيها أثواباً . و مما تتصل القدرة إليه ، و يجب على القضاة أن يحملوا العامة عليه كتب الأصدقة و الإشهاد فيها ، فإن ذلك أمر مهجور في المدينة و يترتب عليه من المفاسد ما لا تبرأ للحكام معه ذمه من وجوه :
أحدها : أنه كثيراً ما تتزوج المرأة قبل تمام عدتها ، فإن ذلك لا ينضبط إلا بالشهادة على الطلاق ، و كتب ذلك على ظاهر كتاب الصداق ، و لا يعتمد على شهادة شهودهم في ذلك لكثرة ما يقع منهم من التساهل في الشهادة بذلك ، لأن مذهبهم في الطلاق أنه لا يلزم إذا وقع في حال الغضب الشديد . و يشترطون أيضاً أن تكون بحضرة العدول و إلا فلا يلزم ، و كذا لو طلق مراراً في خلوة أو بحضرة جماعة غير عدول لم يلزم ، و أيضاً فالطلاق الثلاث عندهم في كلمة طلقة واحدة ، و كثيراً ما يشهد على الرجل أنه طلق ثلاثاً فيأمره الحاكم ألا يراجعها إلا بعد زوج ، فيراجعها خفية و لا يطلع الحاكم على ذلك . و لو كانت الأنكحة مضبوطة بالصداق و الطلاق و المباراة مكتوبة على ظهر الصدقات انحسم باب الفساد .
و من فوائد كتابة ذلك أنه لا يمكن أن يتصدى لذلك إلا أهل السنة ، و من لازم ذلك ألا يشهد في كتاب الصداق إلا أهل السنة فتنحسم مادة
[449 /2]
(2/19)
________________________________________
شهادتهم في الأنكحة ، و هي من أعظم المهمات التي يُبتلى بها الحاكم . و مما أهمله بعض الحكام أنهم يسألون تزكية الشهود في الغالب جرياً على عادة البلد و لا يسعهم إهمال ذلك . و لما كان الحاكم الشافعي من شأنه ألا يقبل منهم إلا من زُكي في الغالب اندلع عنه كثير من الحكومات إلى غيره ، و لو سلكوا هذا المسلك الذي هو أمر لازم شرعاً لا يسعهم غيره و التزموا الأخذ به لكان الناس يضطرون إلى شهادة أهل السنة في سائر أمورهم و معاملاتهم و بياعتهم و سائر عقودهم ، و لم ترفع إلى الحاكم شهود الإمامية إلا فيما يقع بينهم مما لا يحضره أهل السنة ، مثل قذف أو جرح أو إقرار فيخف الأمر و تكون شهادتهم مقصورة على محل الضرورة .
ثم قال : و اعلم أن ولاية حكام هذه الطائفة إذا كانوا حكاماً غير صحيحة من وجهين :
أحدهما : أن الذي ولاهم ليس هو مخالف ( كذا ) على الإمام و متغلب على البلد ، فيجري فيهم ما يجري في قضاة المتغلبين على بعض البلاد ، بل هو نائب عن السلطان الحاكم على البلد .
و الثاني : أن أمير المدينة لم يفوض إليه القضاء ، فلا يجوز له أن يحكم إلا أن يولي قاضياً .
و في مختصر الواضحة قال ابن حبيب : قال ابن الماجشون في الأمير المؤمَّر : إن فوضت إليه الحكومة قضى مع الإمرة و جاز له أن يستقضي ، و يجوز حكمه و حكم قاضيه ، و إذا لم يفوض إليه ذلك فلا يجوز حكمه و لا استقضاؤه .
(2/20)
________________________________________
و مثله في المقنع ، قال فضل بن مسلمة : انظر قولهم في الأمير المؤمر إذا فوض إليه الحكم جاز أن يستقضي ، و لم يجيزوا للقاضي أن يستقضي معه غيره إلا من عذر أو مرض أو سفر أو ما أشبه ذلك . و أما ما كتبه حكامهم على المكاتب من الثبوت فإن ذلك لا يفيد و لا يزيد المكتوب قوة ، و لا يجوز إثبات المكتوب بعلامة القاضي التي توجد عليه بخطه أنه ثبت عندي و لو كان القاضي عدلاً من أهل السنة إلا ما ذكر عن أشهب أنه أجاز الشهادة على خط القاضي ، و ليس العمل على ذلك ، و الله الموفق للصواب . انتهى .
[450 /2]
[لم يزل أهل المدينة المنورة على مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة ]
قال برهان الدين : و قد عمت البلوى بالشيعة الإمامية في المدينة النبوية و في بغداد و في غيرها من بلاد العجم و في كثير من قرى دمشق و أعمالها ، و هي مسألة استحكم فيها الفساد ، فقلّ أن يجري أمرها على السداد . و ذلك أن المدينة النبوية صلوات الله و سلامه على مشرفها كانت شاغرة من حكام أهل السنة من قديم الزمان . و الذي دل عليه كلام القاضي أبي بكر بن العربي و غيره أنها كانت شاغرة من حكام أهل السنة من سنة تسع و ثمانين و أربعمائة ، و هي السنة التي حج فيها ، لأنه ذكر في كتابه المسمى بالعواصم و القواصم أن الخطيب بالمدينة يومئذ كان من الشيعة في خبر طويل . و ذكر الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه الذي رد فيه على الإمامية أن أهل المدينة لم يزالوا على مذهب مالك رحمه الله و منتسبين إليه إلى أوائل المائة السادسة أو قبل ذلك ، ثم قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان و غيرهم من أفسد مذاهب كثير منهم ، لا سيما المنتسبون منهم إلى العترة النبوية ، و قدم بكتب أهل البدع المخالفة للكتاب و السنة ، و بذل لهم أموالاً كثيرة ، فكثرت البدعة فيها من حينئذ . فأما الأعصار المفضلة فلم تكن فيها بالمدينة النبوية بدعة في أصول الدين .
[
(2/21)
________________________________________
ترجمة ابن بشكوال المعروف بابن الفخار ]
فقوله : إن ذلك كان ابتداؤه قبل المائة السادسة بل قبل المائة الخامسة هو الصحيح لما ذكرناه عن القاضي أبي بكر بن العربي . و قد كان الإمام أبو عبد الله بن بشكوال المعروف بابن الفخار مقيماً بالمدينة النبوية ، و كان من المشاورين في الفتاوى و الأحكام . و ذكر بعضهم أنه كان إماماً في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم و لم تكن بالمدينة يومئذ بدعة ، و كانت وفاته بالمغرب سنة خمس عشرة و أربعمائة ، فلما قويت شوكتهم صار الحكام و صارت الخطابة فيهم و شهود البلد منهم و عامتها و سكان نواحيها و أهل باديتها كلهم على هذا المذهب ، و أهل السنة يومئذ قليل عددهم جداً مستضعفون بينهم إلا إمامة الصلاة كانت مضافة إلى أهل السنة ، و استمر على ذلك إلى حدود سنة خمس
[451 /2]
و ثمانين و ستمائة ، فبعث سلطان مصر إلى المدينة حاكماً شافعياً من أهل مصر و أضيفت إليه الخطابة و الإمامة ، فلم يتعرض لمنعهم من الأحكام ، فكانت جل الحكومات راجعة إليهم . و لم تزل أحكامهم نافذة إلى سنة ست و أربعين و سبعمائة ، فمنعهم أمير المدينة من الحكم بقيام القاضي تقي الدين الهوزيني الشافعي في ذلك ، فانقطعت أحكامهم .
(2/22)
________________________________________
و اعلم أن هذه الطائفة إلى يومنا هم غالب أهل البلد و كثير من نواحيها ، لا يسكنها غيرهم ، و جميع عامتها و سوقتها و أرباب الحرف و أهل البادية و الفلاحين كلهم يشهدون ، و ليس لهم عدول يقصدون للشهادة دون غيرهم ، و كذلك جميع عوام أهل السنة يشهدون . و لم يتقدم من أحد من الحكام أمر بأن لا يشهد في البلد إلا العدول ، فهم إلى الآن على ما كانوا عليه . و سألت بعض حكامهم عن المسوغ لقبول شهادة عامة البلد ، و ما حكم شهادتهم على مذهبهم ؟ فذكر أن الصحيح من مذهبهم أن الناس محمولون على الجراحة حتى تثبت العدالة ، و أن هذا الفساد و التساهل إنما كان من أجل أن البلد لم يكن لها قانون و لا ضابط ، و أن الناس كانوا فيها كأهل البادية ، و أن إهمال ذلك عن رأي أمراء المدينة و أشرافها ، فإننا لم نزل نسمع من الأمراء أنكار التعرض لإنكار ذلك ، و يقولون شهود البلد منهم .
[لا تقبل شهادة أهل البدع و الأهواء ]
فإذا تقرر هذا فلا خلاف في المذهب أن شهادة أهل البدع غير جائزة ، و لا يعتبر منهم الأمثل فالأمثل ، و لا تجوز شهادتهم لأهل السنة و لا عليهم ، و لا تجوز شهادتهم لبعضهم على بعض ، لانتفاء العدالة التي هي شرط في قبول الشهادة . هكذا نقله ابن عصمة الأشيري ، و هو بين .
و في المنتقى للباجي : و لا تقبل شهادة أحد من أهل الأهواء و إن كان لا يدعو إلى ما هو عليه . انتهى . و سواء كان مرتكباً للبدعة متعمداً أو جاهلاً أو متأولاً . و أما مذهب الشافعي رحمه الله في شهادة أهل البدع ، فقال الغزالي في كتابه الوجيز : و تقبل شهادة المبتدعة ، إذ الصحيح أنهم لا يكفرون ، و لا تقبل شهادة من يطعن في الصحابة و يقذف عائشة لأنها محصنة بنص القرآن الكريم . و أما مذهب أبي
[452 /2]
(2/23)
________________________________________
حنيفة في ذلك فقال صاحب الهداية : و تجوز شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية ، و هم من غلاة الرافضة ، يعتقدون الشهادة لأهل دينهم و شيعتهم واجبة ، فلذلك قويت التهمة فيهم . و أما غيرهم من أهل الأهواء فإنما أوقعهم في تلك البدعة تدينهم .
[أهل البدع و الأهواء في نظر الحنابلة أصناف ثلاثة ]
و أما مذهب الحنابلة فقال شمس الدين : و إن كان محكوماً بفسقهم كأهل البدع و الأهواء الذين لا نكفرهم كالرافضة و الخوارج و المعتزلة و نحوهم . قال الشافعي : أقبل شهادة أهل الأهواء بعضهم على بعض إلا الخطابية فإنهم يتدينون بالشهادة بالكذب لموافقتهم على مخالفيهم ، و لم يزل السلف و الخلف على قبول شهادتهم و روايتهم . قال ابن قيم الجوزية : و إنما منع الأئمة كأحمد بن حنبل و أمثاله قبول رواية الداعي إلى بدعته المتعلق بها و قبول شهادته و الصلاة خلفه هجراً له و زجراً ليكف ضرر بدعته عن المسلمين ، لأن في قبول شهادته و روايته و الصلاة خلفه و استقضائه و تنفيذ أحكامه رضى ببدعته و إقراراً له عليها و تعريضاً لقبولها منه . قال حرب من الحنابلة : قال أحمد : لا تجوز شهادة القدرية و الرافضة و كل من دعا إلى بدعة . و قال أيضاً ، يعني أحمد : لا يعجبني شهادة الجهمية و الرافضة و القدرية المعلنة . و قال أيضاً : من أخاف عليه الكفر مثل الروافض و الجهمية لا تقبل شهادتهم . قال بعض الحنابلة : من كفر بمذهبه كمن ينكر حدوث العالم و حشر الأجساد ، و علم الرب تعالى بجميع الكائنات و أنه فاعل بمشيئة و إرادة ، فهذا لا تقبل شهادته لأنه على غير الإسلام ، و أما أهل البدع الموافقين ( كذا ) على أصل الإسلام ، و لكنهم مختلفون في بعض الأصول كالرافضة و القدرية و الجهمية و غلاة المرجئة فهم على أقسام :
(2/24)
________________________________________
الأول : الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له ، فهذا لا يكفر و لا يفسق و لا ترد شهادته ، إذا لم يكن قادراً على تعلم الهدى ، و حكمه حكم المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان .
الثاني : الذي يمكنه السؤال و طلب الهداية و معرفة الحق ، و لكن يتركه اشتغالاً بدنياه و رياسته و معيشته ، فهذا مفرط مستحق للوعيد ، آثم بترك ما وجب
[453 /2]
عليه من تقوى الله تعالى ، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات ، فإن غلب ما فيه من البدعة و الهوى على ما فيه من السنة و الهدى ردت شهادته ، و إن غلب ما فيه من السنة و الهدى قبلت .
الثالث : الذي يسأل و يتطلب و يتبين له الهدى و يتركه تقليداً أو تعصباً أو بغضاً أو معاداة لأصحابه ، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً ، و تكفيره محل اجتهاد . فإن كان معلناً داعياً لبدعته ردت شهادته و فتاويه و أحكامه مع القدرة على ذلك ، و لم تقبل له شهادة إلا عند الضرورة كحال غلبتهم و استيلائهم و كون القضاة و الشهود منهم ، ففي رد شهادتهم و أحكامهم إذ ذاك فساد كبير ، و لا يمكن ذلك ، فتقبل للضرورة . انتهى .
[الرد على طائفة جزناية من أخماس تازا لأنهم من شيعة المهدي بن تومرت ]
و سئل فقيه تازى و مفتيها الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد المؤمن رحمه الله عن طائفة جزناية من أخماس تازى ، و نص السؤال من أوله إلى آخره : الحمد لله ، سيدي رضي الله عنكم جوابكم في قوم فارقوا الجماعة و يكفرون المسلمين ، و لا يأكلون ذبائحهم ، و لا يصلون خلفهم ، و يقولون من لم يؤمن بالمهدي بن تومرت فهو كافر ، و يفضلونه على أبي بكر و عمر رضي الله عنهما ، و يقولون من لم يعلم اثني عشر باباً من التوحيد فهو كافر ، و ينقضون الوضوء بلمس ذوات المحارم ، و يقولون من حلق ما تحت اللحية فهو مجوسي . بينوا لنا الرد عليهم في ذلك و ما يلزمهم ، و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته .
فأجاب رحمه الله بما نصه :
(2/25)
________________________________________
الحمد لله ، أكرمكم الله تعالى ، سألتم عن الطائفة التي فارقت الجماعة و اتخذت ديناً لنفسها ، فقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : « عليكم بالجماعة ، فإن حد الله على الفسطاط » ، و قال عليه السلام : « عليكم بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب الشاة القاصية » ، و قال : « من فارق الجماعة شبراً مات ميتة جاهلية » . فهؤلاء خالفوا قول نبيهم صلى الله عليه و سلم و أدخلوا في الدين ما ليس منه ، و قالوا على ما ذكرتم عنهم إن من لم يؤمن بالمهدي
[454 /2]
(2/26)
________________________________________
بن تومرت و أنه الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كافر ، بل من قال هذا و اعتقده فهو كافر ، فإنه كذب بما أخبر به صلى الله عليه و سلم في صحيح مسلم من حديث تميم الداري ، قال : « قلت يا رسول الله ، ما رأيت للروم مدينة مثل أنطاكية ، و ما رأيت أكثر منها قطراً . فقال صلى الله عليه و سلم : نعم ، و ذلك أن فيها التوراة و عصى موسى و رضراض الألواح و مائدة سليمان بن داود في غار من غيرانها ، ما من سحابة تشرف عليها بوجه من الوجوه إلا أفرغت ما فيها من البركة في ذلك الوادي ، و لا تذهب الأيام و الليالي حتى يسكنها رجل من إثرتي اسمه على اسمي و اسم أبيه على اسم أبي ، يشبه خُلُقُهُ خُلقي ، يملأ الدنيا قسطاً و عدلاً كما مُلِئت ظلماً و جوراً » . و في أبي داود من حديث أبي الطفيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : « لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً » . و في حديث آخر عن أبي داود : « حتى يبعث الله رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ، و اسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً » . و في حديث أبي داود من حديث سليمان : « لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي » . و في حديث مسلمة قالت : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : « المهدي من عترتي من ولد فاطمة » . و في حديث أبي سعيد الخدري : قال النبي صلى الله عليه و سلم : « المهدي مني ، أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ، يملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً ، يملك سبع سنين » .
(2/27)
________________________________________
و من حديث أم سلمة عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : « يبايَع بين الركن و المقام ، فيبعث إليه بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة و المدينة ، أتاه أبدال أهل الأرض و عصائب أهل العراق فيبايعونه ، فيلبث سبع سنين ثم يتوفى و يصلي عليه المسلمون » . و ذكر أبو داود بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه و قد نظر إلى ابنه الحسن فقال : إن ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه و سلم ، و سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق لا في الخلق . فهذه الأحاديث كلها في أبي داود و في مسلم و هم أئمة الحديث ، و قد أجمعوا كلهم على أنه حفيد النبي صلى الله عليه و سلم .
[455 /2]
(2/28)
________________________________________
و هؤلاء القوم الذين ذكرتم حرفوا ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم و ردوه إلى ابن تومرت ، و كذبوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم . و قد قال عليه السلام : « من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار » . و جعلوا مكان المهدي حفيد رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن تومرت ، فيقال لهم ناشدناكم الله هل المهدي بن تومرت بويع بين الركن و المقام ؟ و ثد أخبر عليه السلام بأن المهدي المعلوم يبايع بين الركن و المقام ، و يقال ناشدناكم الله هل المهدي بن تومرت بعث إليه بعث إليه بعث من الشام فخسف بهم ؟ فقد أخبر عليه السلام أن المهدي المعلوم يكون له ذلك ، و يقال لهم ناشدناكم الله هل ابن تومرت سكن مدينة أنطاكية ؟ فقد أخبر عليه السلام أن المهدي المعلوم يسكنها . ثم يقال لهم ناشدناكم الله هل ابن تومرت ذكر اسم أبيه على اسم النبي صلى الله عليه و سلم ؟ فالفرق بينهما من الوجوه التي ذكرناها أن المهدي المعلوم حفيد رسول الله صلى الله عليه و سلم من ولد فاطمة و ابن تومرت ليس كذلك ، و المهدي المعلوم يبايع بين الركن و المقام و ابن تومرت ليس كذلك ، بل لم يكن إماماً و إنما كان الإمام عبد المؤمن بن علي ، و أيضاً فإن المهدي المعلوم يملك العرب و ابن تومرت ليس كذلك ، و أيضاً فإن المهدي يملأ الأرض قسطاً و عدلاً فتكون إمامته على جميع الأقاليم كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم و ابن تومرت إنما كان بأرض المغرب ، و المهدي المعلوم يسكن أنطاكية و ابن تومرت لم يسكنها ، و المهدي المعلوم اسم أبيه على اسم أبي النبي صلى الله عليه و سلم و ابن تومرت ليس كذلك ، و المهدي المعلوم خلقه كخلق النبي صلى الله عليه و سلم من عترته و ابن تومرت ليس كذلك ، و المهدي المعلوم يأيه أبدال الشام و أهل العراق و ابن تومرت لم يكن له شيء من ذلك ، و خلافة المهدي المعلوم قريبة من نزول عيسى عليه السلام .
(2/29)
________________________________________
و قد ذكر الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : إنما يكون المهدي المعلوم بعد السبعمائة سنة ، حين سئل عنه . فهذه فروق بين المهدي حفيد رسول الله صلى الله عليه و سلم و ابن تومرت .
و أما تفضيلهم إياه على الصحابة فهو كفر صراح ، لأنه قد انعقد
[456 /2]
الإجماع من المسلمين على أن أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر ، ثم تعارضت الظنون في عثمان و علي رضي الله عنهم أجمعين . فهؤلاء خرقوا الإجماع ، و من خرق الإجماع فهو كافر يستتاب ، فإن تاب و إلا قتل . قال ابن سحنون في كتابه : أجمع الناس على أن الزعفران ليس بطعام ، فمن قال أنه طعام فقد خرق الإجماع ، يستتاب ، فإن تاب و إلا قتل ، فما ظنك بهؤلاء .
[ما قيل في علم الكلام من الذم ]
(2/30)
________________________________________
و أما قولهم : إن من لم يعلم اثني عشر باباً من التوحيد فهو كافر ، فقد خالفوا في ذلك أئمة الهدى مالك و الشافعي و أحمد بن حنبل و أبو يوسف . نقل الغزالي ، و هو شيخ الهدى ، قال : اختلف في الاشتغال بعلم الكلام ، فقيل فرض كفاية ، و قيل يحمله من قام به ، و قيل فرض عين ، و قيل حرام ، و أن التقليد يجزئ ، و لأنْ يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير من أن يلقى الله بعلم الكلام . و إلى هذا ذهب الشافعي و مالك و أحمد بن حنبل و سفيان و جميع أهل الحديث من السلف رحمهم الله . قال عبد الأعلى : سمعت الشافعي يقول : لأن يلقى العبدُ ربَّه تعالى بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام . و قال أيضاً : لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله تعالى عنه خير له من أن ينظر في الكلام . و لما مرض الشافعي دخل عليه حفص القرد يعوده ، فقال له : من أنا ؟ قال : حفص القرد ، لا حفظك الله و لا رعاك حتى تتوب مما أنت فيه . و قال الشافعي : لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد . و قال أيضاً : من كان أهلاً للكلام فلا دين له . و قال الزعفراني : قال الشافعي : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالحديد و يطاف بهم في العشائر و القبائل ، و يقال هذا جزاء من ترك الكتاب و السنة و أخذ في الكلام . و قال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب الكلام أبداً و لا يكاد نرى أحداً نظر في الكلام إلا و في قلبه دغل . و قال أحمد بن حنبل أيضاً : علماء الكلام زنادقة . و قال مالك بن أنس : أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أيدع دينه في كل يوم لدين جديد . و قال مالك : لا تجوز شهادة أهل الكلام على أي مذهب كانوا . و قال أبو يوسف : من طلب العلم
[457 /2]
(2/31)
________________________________________
بالكلام تزندق . و قال الحسن : لا تجالسوا أهل الأهواء و لا تجادلوهم و لا تسمعوا منهم . و قد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا ، و لا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيهم ، قال الغزالي : و الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق و أفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم لعلمهم بما يتولد عنه من الشر ، و لو كان الاشتغال بهذا العلم واجباً و هو من الدين لكان ذلك أهم ما يأمر به النبي صلى الله عليه و سلم و يعلم طريقته و يثني على أربابه كما علم سائر أمور الديانات ، بل نهاهم عن الكلام في القدر . و قال : إذا ذكر القدر فأمسكوا . و على هذا استمر الصحابة رضي الله عنهم ، فالزيادة على الأستاذ طغيان و ظلم ، و هم الأستاذون و القدوة ، و نحن الأتباع و التلامذة . فهؤلاء فقهاء الأمصار رضي الله عنهم متفقون على أن التقليد يجزئ ، و الدليل على أن التقليد يجزئ من طريق الأثر و النظر ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله » . فكان يكتفي منهم بكلمة التوحيد و إن كانوا من البدو الأجلاف الذين لا يعرفون النظر . و لو كان لا يجتزئ بالتقليد و لا بد من المعرفة لما أقرهم صلى الله عليه و سلم على ذلك . و أجمع المتقدمون على قبول كلمتي الشهادة من غير زيادة عليها . و يلزم من يقول إنه لا بد من المعرفة أن النصراني إذا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ثم مات من حينه قبل أن تتمكن منه معرفة أنه مات كافراً ولا يرثه المسلمون ، إنما يرثه النصارى ، و قد انعقد الإجماع على أنه مات مؤمناً و ميراثه للمسلمين . و يلزم على القول بوجوب المعرفة من جهة النظر الدور المحال ، لأن معرفة الإيجاب متوقفة على معرفة الموجب ، و معرفة الموجب متوقفة على معرفة النظر المتوقف على إيجابه .
(2/32)
________________________________________
و لعمري إن هذه الطائفة التي فارقت الجماعة كما ذكرتم و كفروا أهل الإسلام و لا يأكلون ذبائحهم و لا يصلون خلفهم أحد الطوائف الذين أخبر بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم . و لقد كان يصرح بعد ذلك بعض من قرأت عليه ، و الخبر المذكور هو قوله عليه السلام : « إن بني إسرائيل افترقت على اثنين و سبعين فرقة ، و ستفترق هذه الأمة على ثلاث و سبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة . قيل : و من هي يا رسول الله ؟ قال : من اتبع ما أنا عليه و أصحابي » . و في حديث آخر : « يحقرون صلاتكم بالنسبة إلى صلاتهم ،
[458 /2]
و صيامكم بالنسبة إلى صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية » . فأشار عليه السلام إلى التشديد كما ذكر عن هؤلاء أنه إذا شرب أحد من إناء كسروه ، و يغسلون المسجد إذا دخله أحد من أهل الإيمان ، و لا يأكلون ذبائحهم و لا يصلون خلفهم على جهة التشديد ، و قد ورد هذا الدين بالتخفيف و أنه الحنيفية السمحاء .
(2/33)
________________________________________
أما مسألة حلق اللحى الأسفل و قولهم فيه إن من حلقه فهو مجوسي ، فهذا لا يلزم عليه كفر و لا إيمان ، و إنما هو من الزينة ، و الزينة مطلوبة في هذه الشريعة ، و لهذا شرعت الخاتم و العمامة ، قال الله العظيم : { قل من حرم زينة الله } إلى قوله : { في الحياة الدنيا } . قال ابن عباس رضي الله عنه : إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي . و ترك ما تحت اللحى الأسفل تشويه و حالة مذمومة ، و قد يطول حتى يكون أكبر من اللحية فيكون أشد تشويهاً . و إنما كان عمر رضي الله عنه تركه فيما ذكر عنه إن صح لأنه يحتمل أنه لم يكن له هنالك شعر ، لأن من الناس من لا يكون له هنالك شعر . و في قوله صلى الله عليه و سلم : « قصوا الشارب و أعفوا اللحى » دليل على أن ما تحت اللحى الأسفل يحلق و لا يترك . و إنما أمر بحلق الشارب للزينة ، لأن بقاءه حتى يطول تشويه ، فكذلك بقاء ما تحت اللحى الأسفل حتى يطول . و خصال الفطرة كلها إنما أمر بها للزينة ، فيكون هذا كذلك . و أما أمره عليه السلام بإعفاء اللحية فلا يدخل ما تحت اللحى الأسفل في ذلك ، فإن اللحية من الوجه ، و الوجه ما تقع به المواجهة . و ما ذكر عن عمر رضي الله عنه لا يصح .
و بالجملة فلا يتعلق به كفر و لا إيمان ، نعم من اعتقد أن تركه واجب فقد أدخل في الدين ما ليس منه ، إذ لو كان واجباً لنقل إلينا . و قد قال ابن عبد البر : ذكر الترمذي في مصنفه قال : حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا عمر بن هارون عن أسامة بن زيد عن عمر بن شعيب عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأخذ من لحيته من عرضها و طولها ، قال : و أخبرنا محمد بن عبد الملك قال : حدثنا ابن الأعرابي قال : حدثنا الزعفراني قال : حدثنا
[459 /2]
(2/34)
________________________________________
سفيان عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يكره أن يشرب بنفس واحد ، و كان يأمر أن يأخذ من باطن اللحية . فهذا الذي ذكره ابن عبد البر و هو من أئمة الحديث نص في حلق اللحى الأسفل ، إذ ليس في اللحية باطن يؤمر بحلقه إلا هو ، لأن اللحية كلها ظاهرة ، و الباطن منها إنما هو تحت اللحى الأسفل .
و أما نقضهم الوضوء باللمس المجرد و في ذوات المحارم و غيرهن فهذا لم يقل به أحد من أئمة الهدى الأربعة إلا شيئاً ذُكر عن الشافعي فيه ضعف ، أما مالك فاشترط في اللمس اللذة ، إن التذَّ توضأ و إلا فلا وضوء عليه . و أما أبو حنيفة فقال : لا وضوء عليه حتى يتجرد أو يتعانقا و يلتقي الفرجان مع الانتشار . و قال محمد بن الحسن : الملامسة لا توجب الوضوء مطلقاً . و قال الشافعي : عليه الوضوء التذ أم لا . و وافق في ذوات المحارم أنه لا وضوء في لمسهن . و قال الشهاب القرافي : و بذوات المحارم ينقض عليه ، فإن تمسكوا بظاهر قوله تعالى : { أو لا مستم النساء } فلا يسلم أن المراد باللمس اليد ، بل المراد به الجماع . و روى ذلك عمر و ابن عباس رضي الله عنهما ، و روي أنهما اختلفا في الملامسة ، فقال سعيد بن جبير و عطاء بن أبي رباح : هو اللمس و الغمز باليد . و قال ابن عمر : هو النكاح . فخرج عليهم ابن عباس فأخبروه بما قالوا ، فقال : أخطأ الموليان و أصاب العربي ، و لكن الله تعالى كنى عنه . و روي عن ابن عباس أنه كان يقول : لا أبالي قبلت امرأتي أو شممت ريحانة . إلا أن مذهب ابن عباس هذا خالفه فيه ابن عمر و عائشة و ابن مسعود رضي الله عنهم . ففي الصحيحين البخاري و مسلم عن ابن عمر و عائشة و ابن مسعود رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : « القبلة توجب الوضوء » . ثم نعود إلى الاحتجاج بظاهر الآية ، فنقول : إن المراد بالملامسة من اليد لا نسلم أن المراد بها اللمس المجرد عن اللذة ، بل المراد بذلك اللمس المقصود به اللذة .
(2/35)
________________________________________
و يدلك على ذلك أن الملامسة هي الطلب قال الله تعالى : { و إنا لمسنا السماء فوجدناها } ، معناه : طلبناها فوجدناها . قال عليه السلام للذي طلب له أن يزوجه : « التمس خاتماً من حديد » ، معناه : اطلب . فلا يقال لمن مس التذ إلا أن يكون لمسه ابتغاء معنى يطلبه من رداءة أو جودة أو صلابة أو رخاوة . ألا ترى أنه يقال تلامس الحجر ، أي لما كانت الإرادة و الطلب
[460 /2]
مستحيلة عليهما ، فدل ذلك على أن المراد بذلك القصد إلى اللذة لا اللمس المجرد عن اللذة . و يدل على ذلك أيضاً ما في الصحيح من حديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : أنام بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم و رجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني ، معناه قرصني ، فقبضت رجلي و البيوت يومئذ ليس لها مصابيح . و في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت نائمة إلى جنب النبي صلى الله عليه و سلم ففقدته من الليل ، فلمسته بيدي فوقعت على أخمص قدميه فمضى في صلاته . و لم ينقل عنه عليه السلام أنه قال من لمس زوجته انتقض وضوؤه .
(2/36)
________________________________________
فهذه الطائفة التي خالفت ما عليه أهل السنة يلزمهم الكفر من وجوه : أحدها أنهم يكفروه أهل الإسلام و لا يأكلون ذبائحهم و لا يصلون خلفهم . و قد قال القاضي أبو بكر : من كفرنا كفرناه . فهم كفار على ما قاله . ثانيها أنهم يفضلون مهديهم ابن تومرت على أبي بكر و عمر ، و قد انعقد الإجماع من المسلمين على أن أفضل الناس بعد نبينا محمد صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر ، ثم تعارضت الظنون في عثمان و علي رضي الله عنهما . فهؤلاء خرقوا الإجماع ، و من خرق الإجماع فهو كافر ، يستتاب ، فإن تاب و إلا قتل . ثالثها أنهم ينكرون الصفات فيما حكي عنهم . رابعها تحريفهم الأحاديث الواردة في المهدي و قلبوها على ابن تومرت . و قد كان ورد فيهم ظهير من السلطان رحمه الله في مدة الترجالي أن يبحث عن أمرهم ، فاجتمع الناس عليهم في مسجد السيناتي و بحثوا فلم يوجد عندهم شيء من العلم ، و اتفق الناس حينئذ على أنهم قوم جهلة و أنهم يستتابون ، فإن تابوا و إلا قتلوا . و كنت أنا حاضراً لذلك ، فتابوا و انصرفوا ، و ما أفلتهم من القتل حينئذ إلا توبتهم على يد سيدي أبي عبد الله بن عطية رحمه الله تعالى ، فإذا ظهر عليهم بعد ذلك و أنهم لم يزالوا على بدعتهم يخاف عليهم ألا تقبل لهم توبة و يقتلون من غير استتابة ، لأنهم يصيرون حينئذ بمنزلة الزنديق الذي لا تقبل له توبة لكونه يخفي حاله ، فكذلك هؤلاء . و أنا أؤكد على من والاهم في النصيحة لهم أن ينصحهم قي الرجوع عما هم عليه ، لأنهم إن ظهر عليهم و رفع حالهم يخاف أن يؤمر عليهم
[461 /2]
بالقتل و الله سبحانه يصلح حال الجميع بمنه و كرمه . و كتب محمد بن عبد المؤمن لطف الله به . انتهى .
فصل أذكر فيه المستحسن من البدع و غيره
منها إقامة التراويح جماعة في رمضان .
و منها تحصير المساجد بدلاً من تحصيبها .
و منها قراءة الحزب فيها .
(2/37)
________________________________________
و منها الاجتماع للذكر و الدعاء يوم عرفة أو غيره من المواسم . و قد وقع التداول و التناوب فيه في مصلى العيد في القيروان بمحضر الشيخين أبي بكر بن عبد الرحمن و أبي عمران الفاسي فما أنكراه ، بل سئلا عنه فاستحسناه .
و منها الدعاء بعد المكتوبة على الصورة المعهودة .
و منها قول الرجل للآخر في العيد : تقبل الله منا و منك ، و غفر لي و لك ، و شبهه من الكلام .
و منها تزويق المساجد . و استنبط الفقهاء رضوان الله عليهم من حديث الخميصة كراهية كل ما يشغل عن الصلاة من الأصباغ و النقوش و الصنائع المستظرفة ، فإن الحكم يعم بعموم علته ، و العلة الاشتغال عن الصلاة . ابن مرزوق في شرح العمدة : و وقعت هذه المسألة بمجلس أمير المسلمين ، يعني أبا الحسن تغمده الله برحمته ، في المسجد الجامع الذي أنشأه بالعباد بمحل ضريح شيخ العارفين و المريدين أبي مدين شعيب بن الحسن رضي الله تعالى عنه بظاهر تلمسان المحروسة ، إذ لوِّنت قبلته و ذهبت و احتفل فيها الاحتفال المناسب لتلك البنية ، أرجو له أن يكتبها الله في ديوان قبوله ، و أن يبلغه من حلوله بأعلى الدرجات غاية مأموله .
فأفتى الفقيهان الإمامان أبو زيد و أبو موسى ابنا الإمام رحمة اله عليهما و من حضر من أئمة المغرب بزواله ، و أبيت لهم من ذلك . و كان إنشاء تلك البنية بما اشتملت عليه على يد العم تاصالح أبي عبد الله رحمه الله و على
[462 /2]
(2/38)
________________________________________
يدي ، و استدل علي بذلك المجلس بقول ابن عباس رضي الله عنهما يحمرونها و يصفرونها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً ، فقلت ليس فيه دليل ، لأن الذم إنما هو متوجه إما للمجموع من حيث هو مجموع ، أو لعدم عمرانها بذكر الله . و أياً ما كان فلا دلالة فيه على المقصود . و طال الكلام إلى أن استدللت بما جاء أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم في أيام الوليد و جعل فيه الفسيفساء و هي فصوص ملونة ، و لما أفضت الخلافة إليه و أشير عليه بنزعها ، فقال : لا أفعل ، لأنها أُنفقت فيها أموال . و لما بلغه أن النصارى استعظموا مسجد دمشق لما فيه من ذلك شكر فعل من فعله ، و مع ذلك فالحق منعه ابتداء .
و أما بعد عمله فلا أرى أن يزال لما أجمع عليه عمر من ذلك ، فأمر أمير المسلمين رحمه الله بإزالة ما قرب من المصلى من ذلك و ترك ما بعد منه ، و هذا مما عمت به البلوى في كل بلد لا سيما في بلاد المشرق . و يرحم الله شيخنا أبا محمد المجاصي لما وقع الكلام في المسألة قال قائل ممن حضر : هذا مثل المسجد الجديد الذي يؤم فيه الفقيه . قال : سبحان الله ، و الله ما علمت قط أنه على هذه الصورة . و الرقوم مقابلة في محرابه ، نفع الله به .
و منها تزويق المصاحف بالخواتيم .
و منها التصلية على النبي صلى الله عليه و سلم بعد البسملة في الرسائل و الألواح ، أطبق الناس على جواز ذلك ، انظر الشفا .
و منها استصباح المساجد ، لكن أجمعوا على جوازه .
و منها في الإعلام بالصبح أصبح و لله الحمد ، تمالأ الخلق عليه في كل عصر و مصر بمحضر الأئمة الثقات و لم ينكروه .
و منها الإنذار يوم الجمعة .
و منها أذان المؤذنين الثلاثة عند جلوس الإمام على المنبر .
و منها تدوين العلوم حفظاً للشريع من الضياع ، بل نص القرافي على أن إهمال ذلك حرام .
[463 /2]
(2/39)
________________________________________
و منها المنجدلة(1)و البدر(2)و الميزان لمعرفة الأوقات ، و إن كان ان العربي أنكره و بالغ في إنكاره فقد أباحه شيخه الغزالي و غيره من الأئمة .
و منها ما أحدثه الناس في القرآن من الأسداس و الأسباع و الأشكال و النقط و غير ذلك . و روي عن مالك في العتبية أنه كره أن يكتب القرآن أسداساً و أسباعاً في المصاحف ، و كره أن يشكل أو ينقط ، فأما ما يتعلم به الصبيان في ألواحهم فلا بأس به . و قيل لمالك فيما يكتب اليوم من المصاحف : أيكتب على ما أحكم الناس من الهجاء اليوم ؟ قال : لا ، و لكن يكتب على الهجاء الأول . قال : و كره مالك عمل الأعشار في المصحف بالحمرة و نحوه . و قال : يعشر بالحبر . قال غيره : و أول من أحدث الأعشار و الأخماس و الكتب في أوائل السور بالحمرة الحجاج بن يوسف .
و منها قول المؤذن أو غيره بين الآذان المشروع و الإقامة عتد بطء الناس : قامت الصلاة ، أو حضرت الصلاة ، أو حي على الصلاة .
و منها اتخاذ المحارب في المساجد و زخرفتها و تزيينها بالحمرة و الصفرة و غير ذلك كما تقدم .
و منها اقتصار الناس على حفظ حروف القرآن دون التفقه فيه . روى مالك في موطأه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مكث في سورة البقرة ثمان سنين يتعلمها . قال العلماء : معناه أنه كان يتعلم فرائضها و أحكامها .
و منها الألحان و التطريب في قراءة كتاب الله ، قال الله تعالى :{ و رتل القرآن ترتيلاً } ، يعني فصله تفصيلاً و بينه تبييناً ، و ترسل فيه ترسيلاً و لا تعجل في قراءته . قال مالك رحمه الله : لا تعجبني القراءة بالألحان ، و لا أحبه في رمضان و لا في غيره لأنه شبه الغناء . و يضحك بالقرآن فيقال : فلان أقرأ من فلان . و قال أحمد بن حنبل : سمعت أبي و قد سئل عن القراءة بالألحان ، فقال محدث . قال مالك رحمه الله في القوم يجتمعون فيقرءون السورة مثل ما يعمل أهل
[464 /2]
__________
(1) لعل الصواب : المنجانة .
(2) في نسخة : و البرز .
(2/40)
________________________________________
الإسكندرية ، و هي التي تسمى قراءة بلاد راية فمكروهة ، و لم يكن ذلك من عمل الناس . قال القاضي أبو الوليد : و إنما كرهه للمجاراة في حفظه و المباهاة بالتقدم فيه .
و منها ابتداع الكلام و الجدل و علم القياس و النظر ، و الاستدلال على سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم بأدلة المعاني و المعقول .
و منها إيثار العلم الذي ليس بنافع على العلم النافع .
و منها إيثار علم العقل و التمييز على ظاهر القرآن و الآثار .
و منها إظهار الإشارات بالمواجيد من غير علومها و لا بيان تفصيلها ، و في ذلك تضليل السامعين و حيرة الغافلين .
و منها الكلام في أن علم التوحيد مخالف لعلم الشريعة ، و أن الحقيقة تنافي العلم الظاهر و تخالفه ، و الحقيقة علم ، و هي أحد طرقات الشريعة . و علم الشريعة عنها و كيف تنافيه و هي التي أوجبته ؟ و إنما هي عزيمته و منعه ، و علم الظاهر الرخصة و السعة ، فذلك من الإلحاد في الشريعة و الوليجة بين الكتاب و السنة . و قد كان بعض العارفين يقول : نظرت هؤلاء الشاطحين فما وجدت إلا جاهلاً مغروراً أو جسوراً مستظهراً بلا شيء .
و منها الكلام في الدين بالوسواس و الخطرات من غير رد مواجيدها إلى الكتاب و السنة .
و منها التدقيق في القياس و النظر و التبحر في علم العربية و النحو و الشعر في علم اللسان . قال بعض العلماء : العلوم تسعة ، أربعة منها معروفة و هي من السنة ، و خمس محدثة لم تكن تعرف فيما سلف ، فأما الأربعة فهي علم الإيمان و علم القرآن و علم المعرفة و علم الإخلاص ، و أما الخمسة فهي علم النحو و علم العروض و علم الشعر و علم الجدل في الفقه و علم المعقول و النظر .
و منها السجع و الاعتداء في الدعاء . مر بعض السلف بقاض يدعو بسجع في دعائه ، فقال له : ويحك ، أعلى الله تبالغ ! أشهد لقد رأيت حبيباً الفارسي يدعو و ما يزيد على قوله اللهم اجعلنا خيرين ، اللهم لا تفضحنا يوم
[465 /2]
(2/41)
________________________________________
القيامة ، اللهم وفقنا للخير . و الناس يبكون من كل ناحية ، و كنا نتعرف بركة دعائه و إجابة دعوته .
و منها كثرة استعمال الماء في الوضوء و الغسل . روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : « أنه كان يتوضأ بالمد و يتطهر بالصاع » .
و منها جعل المصاحف في المسجد للقراءة ، و فيها قال مالك : و أول من جعل مصحفاً الحجاج بن يوسف . يريد أن أول من رتب القراءة في المصحف إثر صلاة الصبح في المسجد . قال ابن رشد : ما يصنع عندنا اليوم فهذا محدث ، أعني وضعه في المسجد ، لأن القراءة في المسجد مشروع في الجملة معمول به ، إلا أن تخصيص المسجد بالقراءة على ذلك الوجه هو المحدث ، و مثله وضع المصاحف في زماننا للقراءة فيها يوم الجمعة و تحبيسها على ذلك القصد .
و منها ما أحدثه المهدي الظاهري محمد بن تومرت المتقدم الذكر من إعادة الدعاء بعد الصلاة و الدعاء عليها بتصاليت(1)الإسلام عند كمال الأذان ، و تقام بتصاليت ، و هي إقامة الصلاة و ما أشبه ذلك من سورتين و أصبح و لله الحمد ، و غير ذلك .
و منها إفراد يوم الجمعة بالصيام و تخصيص ليلتها بالقيام .
و منها رفع الراية للتشبه بالصابئين عند الأذان على أنها قد عرضت عليه فكرهها عليه السلام .
__________
(1) تصاليب ، باللهجة الشلحية : هي الصلاة . و ينطقون صادها شبه زاي مفخمة مشددة .
(2/42)
________________________________________
و منها رفع النار بالليل ، لأنه رآهامن أمر المجوس ترفع دائماً في أوقات الليل بالعشاء و الصبح و في رمضان أيضاً إعلاماً بدخوله ، فتوقد في داخل المسجد ثم في وقت السحور ترفع في المنار إعلاماً بالوقت . و النار شعار المجوس في الأصل . قال ابن العربي : أول من اتخذ البخور في المساجد بنو برمك يحيى بن خالد و محمد بن خالد ، ملكهما الوالي أمر الدين ، فكان محمد بن خالد حاجباً و يحيى وزيراً ثم ابنه جعفر بن يحيي . قال : و كانوا باطنية ، يعتقدون آراء الفلاسفة فأحبوا المجوسية و اتخذوا البخور في المساجد ، و إنما كانت تطيب بالخلوق ، فزادوا التجمير ليعمروها بالنار منقولة حتى يجعلوها عند الأنس ببخورها ثابتة .
[466 /2]
و منها ضرب بوق اليهود في مساجد الرحمن بطول ليالي شهر رمضان ليعلم الناس انقضء الصلاة و لا يتحينوا السحور . و ليت شعري ما شأن هذا المقصود حتى يتوسل إليه بذلك الفجور ، لقد هان أمر الدين على أهل الدنيا حتى صيروا ما عظم الله عز و جل من قدره سخرياً . و هذا البوق صار علماً في بلاد الأندلس في رمضان على غروب الشمس و دخول وقت الإفطار ، ثم علم أيضاً بالمغرب الأوسط و الأقصى على وقت السحور ابتداء و انتهاء ، و الحديث جعل علماً على الانتهاء نداء ابن أم مكتوم . قال ابن شهاب : و كان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت . فصار الأذان مع الفنار و الراية ببلاد المغرب في حكم التبع أو كاد .
(2/43)
________________________________________
و منها الإسراف في الوقد في تلك الليالي ، و ترك أهل البطالة الدخول في الصلاة للصمود لها و الإقبال ، بل أهل الصلاة في لعب أيضاً يقيمون من يستحسن صوته ممن يتلذذ به الفساق من الشباب ، و يتواجد عليه المجان من أرباب الألحان ، فيطربون و يحزقون و يطلقونن و يرددون ، فإذا علت أصواتهم بزور الصراخ و النياحة ، و ضاقت بمكائهم و تصديتهم فسيح تلك الساحة ، سكت القارئ كأنه يتربص بهم مراجعة الإحساس ثم و يعودون . قال القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله : و قد بلغني عن بعض مساجد فاس أن الطلبة يجتمعون في حصونها على الرقص و ضرب الطيران ، و القادة تحت السقف يبادر الليل ألا ينقضي و هو لم يختم القرآن ، و أنه دخل بينهم كلب فأحدقوا به و منعوه حتى قتلوه . فالمصلي يترك واجباً و هو إقامة الحروف لغير مندوب و هو الختم فيقال ، و البطال في غمرة غفلته سال عن المواساة عن التغزال ، استخفوا اللعب في الأذان ، فجرأهم على اللعب بالصلاة و القرآن . و رب فتنة قادت محنة . { و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } . بينما نحن نتردد في صحة الصلاة فعلاً و اقتداء بالتسميع ، إذ دخله الإيقاع و الترفيل و التوقيع ، فترى المسمع يطول في تكبيرة الإحرام ، ثم ينوع صوته بالتكبير بحسب اختلاف هيئات الإمام ، و قد يكبرون من غير حاجة إما لقصد القربة أو لإظهار الأبهة .
سُكِت لهم عن اللعب في الأذان فلعبوا في الصلاة . يرحم الله ابن عمر ، قال له
[467 /2]
مؤذن : إني أحبك . فقال : لكني أبغضك . قال : لمه ؟ قال : لأنك تبقى في الأذان و تأخذ عليه الأجر .
و منها تعليق الثريات الكثيرات الأثمان في المساجد حتى يعد الإنفاق في ذلك إنفاقاً في سبيل الله .
(2/44)
________________________________________
ابن الحاج : و من البدع زيادة وقود القناديل و غيرها ، لأن في زيادة وقودها زيادة إضاعة المال ، لا سيما إن كان الزيت من الوقف ، فيكون ذلك جرحة في حق الناظر ، لا سيما إن كان لم يذكره الواقف ، و لو ذكره لم يعتبر . و قد وقع بمدينة فاس أنهم أوقدوا جامعها الأعظم فزادوا في الوقود الزيادة الكثيرة ، فجاء الشيخ الجليل أبو محمد الفشتالي رحمه الله تعالى إلى صلاة العشاء على عادته ، فرأى ذلك فوقف و لم يدخل ، فقيل : ألا تدخل ؟ فقال : و الله لا أدخل حتى لا يبقى في المسجد إلا ثلاثة قناديل أو خمسة . أو كما قال ، فامتثلوا أمره ، و حينئذ دخل . فوقع هذا الخير العظيم بتغيير شيخ واحد من الشيوخ ، فكيف و لو كان زيادة على الواحد ، فإنا لله و إنا إليه راجعون .
و منها الاجتماع على قول حضرت للصلاة ، و أصبح و لله الحمد ، و الوضوء للصلاة ، و تأهبوا للصلاة . و لقد أُلِفَتْ حتى صار الناس يستجيبون لها دون الأذان ، و ليتهم جعلوا مكانها التراسل ، فيكون المؤذنون يؤذنون مترتبين ، فإذا أزفت الصلاة تراسلوا ، فيجمعون بين غرضهم و ترك الحدث في دينهم . ثم ليتهم اتخذوا لذلك مواضع نائية عن المسجد يفعلون فيها من ذلك ما تنزه عنه المساجد ، فقد أحدث عثمان الأذان الثاني في يوم الجمعة على الزوراء ، ثم نقله هشام إلى المسجد ، فلما أنجاهم الله قدموا أمر عثمان على أمر هشام ، كما رجعوا إلى تراويح عمر في العدد دون ما حدث من بعده من الزيادة ، لكنهم لم يأثروا عمر إنما أثروا أنفسهم فأخذوا بفعله في قلة العدد ، و بما حدث من بعده في تقصير القراءة .
و منها الدعاء عقب الصلوات ، حتى كأنه من حدودها ، و ترك له الذكر المشروع و التكبير الذي كان يعلم به انقضاء الصلاة به .
ابن عرفة : مضى عمل من يقتدى به في العلم و الدين من الأئمة على الدعاء بإثر الذكر الوارد إثر تمام الفريضة ، و ما سمعت من ينكره إلا جاهل غير مقتدى به . و رحم الله بعض
[468 /2]
(2/45)
________________________________________
الأندلسيين ، فإنه لما أنهي إليه ذلك ألف جزءاً في الرد على منكره ، و الله حسيب أقوام ظهر بعضهم و لا يعلم لهم شيخ و لا لديهم مبادئ العلم الذي يفهم به كلام العرب و الكتاب و السنة ، يفتون في دين الله بغير نصوص السنة .
ابن مرزوق : تكلم بعض من أدركناه من أئمة المغرب في الدعاء المحدث عقب الصلوات في الجوامع و المساجد ، و ألحقوه بالبدع المحدثة ، و ألف بعضهم في ذلك ، و احتج عليهم بعض من أجازه بما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : « علمني دعاء أدعو به في صلاتي . فقال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً و لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك و ارحمني إنك أنت الغفور الرحيم » . و بكلام عياض في هذا المحل . و إلى المنع منه قال الشيخان الإمامان الأوحدان أبو زيد و أبو موسى ابنا الإمام رضي الله عنهما ، و قطع من الجامع الأعظم بتلمسان مدة ثم غلب الإلف و استشنع الناس هذا القطع و عاد الأمر في ذلك إلى العادة .
(2/46)
________________________________________
أبو إسحاق الشاطبي : بدعة إلتزام الدعاء بإثر الصلوات دائماً على الهيئة الاجتماعية بلغت ببعض أصحابنا إلى أن كان الترك لها موجباً للقتل عنده . حكى القاضي أبو الخطاب بن خليل حكاية عن أبي عبد الله بن مجاهد العابد أن رجلاً من عظماء الدولة و أهل الوجاهة فيها كان موصوفاً بشدة السطوة و بسط اليد ، كان نزل في جوار ابن مجاهد و صلى خلفه في مسجده الذي كان يؤم فيه ، و كان لا يدعو في أخريات الصلوات تصميماً في ذلك على المذهب ، يعني مذهب مالك ، لأنه مكروه في مذهبه ، و كان ابن مجاهد محافظاً عليه ، فكره ذلك الرجل منه ترك الدعاء و أمره أن يدعو ، فأبى و بقي على عادته في تركه في أعقاب الصلوات . فلما كان في بعض الليالي صلى ذلك الرجل المعتمة في المسجد ، فلما انقضت و خرج ذلك الرجل إلى داره قال لمن حضره من أهل المسجد : قد قلت لهذا الرجل يدعو بعد الصلوات فأبى ، فإذا كان في غدوة غد أضرب رقبته بهذا السيف . و أشار إلى سيف في يده ، فخافوا على ابن مجاهد من قوله لما علموا ، فرجعت الجماعة بجملتها إلى دار ابن مجاهد ، فخرج إليهم و قال : ما شأنكم ؟ فقالوا : و الله لقد خفنا عليك من هذا الرجل ، و قد اشتد الآن غضبه عليك لتركك الدعاء . فقال لهم : لا أخرج عن عادتي . أخبروه بالقصة ، فقال لهم و هو مبتسم : انصرفوا و لا تخافوا ، فهو الذي تُضرب رقبته غدوة غد
[469 /2]
بذلك السيف بحول الله . و دخل داره و انصرفت الجماعة على ذعر من قول ذلك الرجل ، فلما كان مع الصبح من الغد وصل إلى دار الرجل قوم من صنفه مع عبيد المخزن و حملوه حمل المغضوب عليه ، فتبعه قوم من أهل المسجد و من علم حال البارحة ، حتى وصلوا وصلوا به إلى دار الإمارة بباب جوهر من إشبيلية ، و هنالك ضربت رقبته بسيفه ذلك تحقيقاً للإجابة و إثباتاً للكرامة .
(2/47)
________________________________________
و لما رد ولد بن الصقر على الخطيب في خطبته و كذبه حين فاه باسم المهدي و عصمته أراد المرتضى من ذرية عبد المؤمن و هو إذ ذاك خليفة أن يسجنه على قوله ، فأبى الأشياخ و الوزراء من فرقة الموحدين قتله ، فغلبوا على أمره و قتلوه خوفاً أن يقول ذلك غيره فتختل عليهم القاعدة التي بنوا دينهم عليها .
و منها ذكر الصحابة و الخلفاء و السلاطين في الخطبة .
قال عز الدين : ذكرهم في الخطبة بدعة غير محبوبة ، و إنما يذكر فيها الثناء و الدعاء و الترغيب و الترهيب و تلاوة القرآن . و الأولى أن يقتصر في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما صح في الحديث و لا يزيد عليها ذكر الصحابة و لا غيرهم . و عن أصبغ : لا بأس أن يصلي على الملائكة ، و أما الدعاء للخلفاء فبدعة و لا تعمل ، و أحسنه الدعاء للمسلمين كافة ، و لا بأس بتخصيص الغزاة و المرابطين عند الحاجة ، و أكره الدوام على ذلك .
و وقع في زمن ابن عرفة أن خطيباً ترك ذكر بعض الصحابة في خطبته مستدلاً بكلام عز الدين بن عبد السلام فنسب إلى الرفض ، و سئل عنه ابن عرفة فقال : هي بدعة مستحسنة ، و الأفضل أن يذكرهم و يضيف إليهم بعض ما كانوا عليه من سيرهم من نصرته عليه السلام و بذل أنفسهم في الدين و غير ذلك من شمائلهم . و لا نص في المسألة إلا ما تقدم .
و في الطحاوي لابن عبد النور : سئل السيوري عن ذكر السلاطين في الخطب بالدعاء هل يبطلها ؟ فقال : أما ذكر السلاطين بالدعاء و غيره فليس يبطلها أو يمنع وجوبها أو يسقط فرضاً ، و ما علمت خلافاً بين أصحابنا الذين أذكر قولهم لطبقتهم في حياتهم و لا بعد وفاتهم . انتهى . و ظاهر قول ابن العربي رأيت زهاد بغداد إذا أقبل الخطيب على أهل الدنيا صرفوا أنفسهم عن السماع أنها لا تبطل الخطبة و لا الصلاة . و مثل هذا ما نقل ابن يونس حين ذكر خطبة موسى بن نصير بالقيروان ، فقيل له لِمَ
[470 /2]
(2/48)
________________________________________
لم تدع في خطبتك لأمير المؤمنين ؟ فقال : ليس هو يوم ذلك . فظاهره أنه كان يدعى لهم في ذلك الزمان ، و الزمان زمان مالك رحمه الله . قال بعض الشيوخ : و عندي أن الدعاء لهم في هذا الوقت مطلوب لكثرة أهل الفتن و المخالفين و أهل الفساد ، فيدعى لهم بما يصلحهم في أمر دينهم و دنياهم و نصرهم على هؤلاء المفسدين ، قياساً على الدعاء على الكفرة و نصر المؤمنين ، كقولك : انصرنا على القوم الكافرين . و اعترض على هذا بعض طلبة دواخل المغرب الأقصى ممن ليس له قوة علم و لا دراية بقواعد الأحكام و الشرائع على خطباء الموحدين ، و ليس كما قال . و ربما شنع عليهم أنهم إذا رأوا الخصب نسبوه إلى السلطان لأنهم يقولون أن الله أنعم على عباده بالرخاء و العافية و أقام لهم سلطاناً أصلح الله بنيته الوجود ، و ألهمه الذب عن الرعية حتى بسط الله العافية و الرخاء في الدنيا بنيته ، فاشكروا لله تعالى على ذلك و ادعوا له بإصلاح دينه و دنياه و تمكينه في الأرض .
(2/49)
________________________________________
و في مدخل ابن الحاج : أما تَرَضِّي الخطيب في خطبته عن الخلفاء من الصحابة و بقية العشرة و باقي الصحابة و أمهات المؤمنين و عترة النبي صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنهم أجمعين فهو من باب المندوب لا من باب البدعة ، و إن كان لم يفعله النبي صلى الله عليه و سلم و لا الخلفاء بعده و لا الصحابة رضي الله عنهم ، لكن فعله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لأمر كان وقع ، و ذلك أن بعض بني أمية كانوا يسبون بعض الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين على المنابر في خطبتهم ، فلما تولى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أبدل مكان ذلك الترضي عنهم . و قد قال مالك رضي الله عنه في حقه : هو إمام هدى و أنا أقتدي به . قال تاج الدين الفاكهاني رحمه الله : سمعت بعض شيوخنا يحكي أن خطيب بغداد فرغ من الخطبة يوم الجمعة و الخليفة تحته ، فنسي أن يدعو له على ما جرت به عوائدهم المبتدعة في ذلك ، و عزم على النزول إلى الصلاة ، فتذكر فعاد ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، و النسيان ليس ببدع في الإنسان ، و أول ناسٍ أول الناس . ثم قرأ : { و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما } ، ثم دعا للخليفة و نزل .
ابن مرزوق : وقع لي مثل هذا في إحدى الجمع و لا أحقق في أي البلاد كان من البلاد التي اختطبت فيها بأمير المسلمين فاضل الملوك و تقيهم و كبيرهم أبي الحسن رحمة الله عليه ، فإني نسيت الدعاء
[471 /2]
(2/50)
________________________________________
و لم أتذكره إلا مع الفراغ فقدمت فصلاً في الاعتذار ثم دعوت و قد حفظ عني ، فلما قضيت الصلاة استحسن رحمه الله الغرض ثم قال لي : و لم تكلفت النسيان محمول ، و الحب غير مدخول ، و الدعاء منك و من أمثالك في كل حين مأمول ؟ هذا معنى ما ذكر ، فذكرتها هنا منقبة جالبة للدعاء له و الترحم عليه و الضراعة إلى الله في تأييد من خلفه و توفيقه و تسديده ، فلقد أربى في سلوك أحسن المذاهب ، و التحلي بأفضل المناقب ، صانهم الله . و اتفق أيضاً أن ترك خطيب بالأندلس أن يذكر في خطبته الصحابة رضي الله عنهم في فصلهم المعتاد ، و ترك أيضاً ذكر السلطان فيها ، و بلغت أيضاً المسألة الشيخ الأستاذ أبا سعيد ابن لب فأنكر ذلك أشد الإنكار ، و رمى التارك لذلك بالرفض ، و قال : الصواب ما عليه الناس ، و ما زالت الخطوب و هذا فيها ، و لم يزل من الخطباء ورعون و متبعون السنة ما رأيناهم تركوا شيئاً من ذلك . و هذا دليل على أن له أصلاً صحيحاً . و يكفي إجماع المسلمين على استحسانه ، إذ لم ينكره أحد من العلماء . و أيضاً فمخالفة الناس في مثل هذا يؤذن بمذهب سوء ، فالواجب أن لا يترك .
و قال ابن عرفة رحمه الله : أما بدعة ذكر الصحابة رضي الله عنهم في ذلك فهو عندي جائز حسن لاشتماله على تعظيم من علم تعظيمه من الشريعة ضرورة و نظراً ، و لا يسما إذا مزج ذلك بالإشارة إلى ما كانوا عليه من نصرة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم و بذل نفوسهم في إظهار الحق و الدين . ثم قال : و أما بدعة ذكر السلاطين بالدعاء و القول السالم من الكذب فأصل وضعها فيها من حيث ذاته مرجوح ، لأنه لم يشهد الشرع باعتبار جنسها فيما أعلم ، و أما بعد إحداثها و استمرارها في الخطب في أقطار الأرض و صيرورة عدم ذكرها مظنة لاعتقاد السلاطين في الخطب ما تخشى غائلته فلا ينبغي تركه .
(2/51)
________________________________________
و منها إيقاد الشمع بجبل عرفة ليلة الثامن ، ذكره النووي أنه من البدع القبيحة ، و أنه ضلالة فاحشة جُمع فيها أنواع من القبائح ، منها إضاعة المال في غير وجهه ، و منها إظهار شعائر المجوس ، و منها اختلاط الرجال و النساء و الشمع بينهم و وجوهم بارزة ، و منها تقديم دخول عرفة قبل وقته المشروع .
و منها إيقاد الشمع ليلة مولد النبي صلى الله عليه و سلم و سابعه ، و ما في ذلك من أنواع المفاسد . و قد تصدى لتغيير ذلك و شدة النكير فيه شيخ شيوخنا
[472 /2]
الشيخ المحصل العالم أبو عبد الله سيدي محمد بن مرزوق ، برد الله ضجيعته ، و أسكنه جنته ، فانقطعت تلك المفاسد من تلمسان طول حياته رحمه الله ، ثم عادت بموته رحمه الله بل زادت .
و منها الاجتماع عشية عرفه في المسجد للدعاء تشبهاً بأهل عرفة .
و منها تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم يشرع لها تخصيصاً كتخصيص اليوم الفلاني بكذا و كذا من الركعات ، أو بصدقة كذا و كذا ، و الليلة الفلانية بقيام كذا و كذا ركعة ، أو بختم القرآن فيها ، و ما أشبه ذلك ، فإن ذلك التخصيص و العمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق أو بقصد يقصد مثله أهل الفضل كالفراغ و النشاط كان تشريعاً زائداً .
و منها الذكر الجهري أمام الجنازة ، فإن السنة في اتباع الجنازة الصمت و التفكر و الاعتبار ، و هو فعل السلف ، و اتباعهم سنة و مخالفتهم بدعة . و قد قال مالك : لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها .
و منها الدعاء بالصوامع كما يفعله المؤذنون اليوم بالأسحار ، و كذلك إنشاد القصائد بها ، إذ لم يكن ذلك في زمن السلف المقتدى بهم .
(2/52)
________________________________________
ابن مرزوق : و استحسن بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنهم القيام قريباً من الفجر ما بين الصادق من الفجر و الكاذب ، و كرهوا التقديم قبل ذلك ، و أما أهل الثغر المحروس فهم يزيدون عليهم في البكور ، و كذلك أهل الحجاز في الغاية ، و التبكير في قاعدة المغرب فاس المحروسة ، فإنه من نصف الليل لا تزال في استماع أنواع الأذكار و الأدعية و التكبير في المساجد ، و أعانهم على ذلك كثرة المياه المتدفقة الدفيئة ، و الخير لها قائم ، لا سيما الآن لما وقعت العناية و الاهتمام بأمر الصلاة أدامها الله تعالى ، و تونس و غرناطة دونها في ذلك .
و في البيان عن سحنون : كان المؤذنون إذا صعدوا المنار عاينوا ما في الدور ، و طلب أهلها منعهم من الصعود فمنعوا ، و إن كان بعض الدور على البعد بينهم الفناء الواسع و السكة الواسعة ، لأن هذا من الضرر المنهي عنه .
ابن رشد : و كذلك يجب عندي على مذهب مالك ، لأن الاطلاع من الضرر الواجب الإزالة ، و من يرى من أصحابه أن من أحدث اطلاعاً على جاره لا يقضى عليه ، و يقال للجار استر على نفسك يفرق ، فإن المؤذن ليس بمالك ، بل طالب
[473 /2]
مندوب بفعل محرم . و هكذا حكم الدور البعيدة إلا أن لا يتبين فيها الذكر من الأنثى و الهيئات ، و الله تعالى أعلم .
و منها ما يفعله المؤذنون و جرى عليه العمل بالبلاد المصرية اليوم و بالثغر و الشام و الحجاز .
ابن مرزوق : و لقد رأيت بالجامع الغربي بالثغر المحروس ثغر الاسكندرية خمسين يؤذنون بين يدي الإمام يوم الجمعة ، و فيهم من ينطق بنصف الكلم و يسكت حتى ينطق ببعضها من كلمة أخرى ، و كذلك عددت نحو هذا بجامع مصر العتيق و بجامع الأزهر و جامع الحاكم و بيت المقدس و سائر بلاد الشام ، و على ذلك العمل في الحجاز . و رأيت جماعة من كبار علمائنا بالديار المصرية ينكرونه .
(2/53)
________________________________________
ابن الحاج : أول من أحدث الأذان جماعة هشام بن عبد الملك ، فجعل المؤذنين الثلاثة الذين كانوا يؤذنون واحداً بعد واحد على المنار في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبي بكر و عمر و عثمان رضي الله عنهم ، فجعلهم الثلاثة يؤذنون بين يديه جميعاً إذا صعد على المنبر ، و أخذ الأذان الذي زاده عثمان لما أن كثر الناس ، و كان ذلك مؤذناً واحداً فجعله على المنار . فهذا الذي أحدثه هشام بن عبد الملك و لم يزد على الثلاثة الذين كانوا فيمن كان قبله يؤذنون واحداً بعد واحد شيئاً .
[بدعة الأذان و الإقامة في العيدين ]
و منها الأذان و الإقامة في العيدين ، فقد نقل أبو عمر بن عبد البر اتفاق الفقهاء على أن لا أذان و لا إقامة فيهما و لا شيء من الصلوات المسنونات و النوافل ، و إنما الأذان للمكتوبات . و على هذا مضى عمل الخلفاء أبي بكر و عمر و عثمان و علي و جماعة الصحابة رضي الله عنهم و علماء التابعين و فقهاء الأمصار . و أول من أحدث الأان و الإقامة في العيدين فيما ذكر ابن حبيب هشام بن عبد الملك ، أراد أن يؤذن الناس بالأذان لمجيء الإمام ، ثم بدأ بالخطبة قبل الصلاة كما بدأ بها مروان ، ثم أمر بالإقامة بعد فراغه من الخطبة ليؤذن الناس بفراغه من الخطبة و دخولهم في الصلاة لبعدهم عنه .
قال : و لم يرد هشام إلا الاجتهاد فيما رأياه ، إلا أنه لا يجوز اجتهاد في خلاف رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال : و حدثني ابن الماجشون أنه سمع
[474 /2]
مالكاً يقول : من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خان الرسالة ، لأن الله تعالى يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً } ، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً . و قد روي أن الذي أحدث الأذان معاوية رضي الله عنه ، و قيل زياد ، و أن ابن الزبير فعله آخر إمارته ، و الناس على خلاف هذا النقل .
[
(2/54)
________________________________________
بدعة تكرار السورة في التلاوة أو الصلاة ]
و منها تكرار السورة الواحدة في التلاوة أو في الركعة الواحدة ، فإن التلاوة لم تشرع على ذلك الوجه و لا أن يخص من القرآن شيء دون شيء في صلاة و لا في غيرها ، فصار المخصص لها عاملاً برأيه في التعبد لله . و خرج ابن وضاح عن مصعب قال : سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة { قل هو الله أحد } ، لا يقرأ غيرها كما يقرؤها ، فكرهه فقال : إنما أنتم متبعون ، فاتبعوا الأولين ، و لم يبلغنا عنهم نحو هذا ، و إنما أنزل القرآن ليقرأ و لا يخص شيء دون شيء .
و في العتبية من سماع ابن القاسم : سئل مالك عن قراءة { قل هو الله أحد } مراراً في ركعة واحدة ، فكرهه و قال : هذا من محدثات الأمور التي أحدثوا لئلا يعتقد أن أجر من قرأ القرآن كله هو أجر من قرأ { قل هو الله أحد } ثلاث مرات ، لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم « أنها تعدل ثلث القرآن » .
ابن رشد : الذي عندي في معنى تعدل أن ما رتب من الثواب على ختم القرآن ثلثه لها و ثلثاه لبقيته ، و ليس معناه أن من قرأها وحدها يكون له مثل ثواب ثلث ختمه ، و لو كان معناه ذلك لآثر العلماء قراءتها على قراءة السور الطوال في الصلاة و على قراءتها دون سائر القرآن ، و لم يفعلوا . و قد أجمعوا على أن قراءتها ثلاث مرات لا يساوي في الأجر من أحيى الليل بختمه ، و هذا كالثواب المرتب على الصلاة أكثر للنية و باقيه لغيرها من قيام و غيره ، لحديث « نية المؤمن أبلغ من عمله » . قال بعض الشيوخ ما أنكره حكاه ابن السيد عن الفقهاء و المفسرين و هو الأظهر ، حتى إن من كررها ثلاثاً يكون له ثواب من قرأ ختمة . و إنما لم يؤثر العلماء قراءتها على قراءة السور الطوال لأن المطلوب الثواب و التدبير و الاتعاظ و اقتباس الأحكام .
[475 /2]
(2/55)
________________________________________
و سئل ابن السيد رحمه الله عن معنى قوله صلى الله عليه و سلم في سورة الإخلاص : « إنها تعدل ثلث القرآن » ، و في سورة الكافرون « تعدل ربعه » و في إذا زلزلت « تعدل نصفه » .
فأجاب بأن الفقهاء و المفسرين قالوا : إن قارئ سورة الإخلاص له من الأجر و الثواب ما لقارئ جملة القرآن ، و لقارئ قل يا أيها الكافرون ربع ذلك ، و لقارئ إذا زلزلت نصفه . و ليس عندهم من الجواب عن تخصيص أحدها بالربع و الآخر بالنصف أكثر من أن الله يهب لمن يشاء ما يشاء . قال : و أما المتكلمون فقالوا : إن القرآن على ثلاثة أقسام :
1 – قسم في صفات الله و ما يجوز له و ما لا يجوز .
2 – و قسم في أمور الدنيا .
3 – و قسم في أمور الآخرة .
و قل هو الله أحد تضمنت القسم الأول فقط ، و لذلك سميت سورة الإخلاص ، لأنها أخلصت في صفات الله . و أما قل يا أيها الكافرون فليس فيها أكثر من البراءة ، و أما إذا زلزلت فالقرآن يشتمل على أمور الدنيا و على أمور الآخرة ، و هذه لم تتضمن غير أمر الآخرة فكانت تعدل نصفه . و انظر أول رسم المحرم يتخذ خرقة لفرجه من كتاب الصلاة الثاني ، و انظر العارضة لابن العربي ، و كتاب الصلاة من إكمال عياض .
(2/56)
________________________________________
قال أبو محمد الخزرجي : أخبرني أبو عبد الله القوري في المسجد الجامع بقرطبة ، قال : كنت بمصر فأتاني نعي أبي فوجدت عليه وجداً شديداً ، فبلغ ذلك الشيخ ابن غلبون المقري فوجه بي ، فأتيته فجعل يصبرني و يذكرني ثواب الصبر على المصيبة و الرزية ، ثم قال لي : ارجع إلى ما هو أعود عليك و على الميت من أفعال البر و الخير مثل الصدقة و ما شاكلها . و أمرني أن أقرأ عنه { قل هو الله أحد } عشر مرات كل ليلة ، ثم قال لي : أحدثك في ذلك بحديث ، قال : كان رجل معروف بالخير و الفضل ، فرأى في منامه كأنه في مقبرة مصر ، و كان الناس قد نشروا من مقابرهم و كأنه مشى خلفهم ليسألهم عن الشيء الذي أوجب نهوضهم به إلى الجهة التي توجهوا إليها ، فوجدوا رجلاًعلى حفرته قد تخلف عن جماعتهم ، فسأله عن القوم إلى أين يريدون ، فقال له إلى رحمة الله جاءتهم
[476 /2]
يقتسمونها ، فقال : فهلا مضيت معهم ؟ فقال : إني قد اقتنعت بما يأتيني من ولدي عن أن أقاسمهم فيما يأتيهم من المسلمين . فقلت له : و ما الذي يأتيك من ولدك ؟ فقال : يقرأ كل يوم { قل هو الله أحد } عشر مرات و يهدي إلي ثوابها . فذكر الشيخ ابن غلبون لي أنه منذ سمع هذه الحكاية كان يقرأ عن والديه { قل هو الله أحد } كل يوم عشر مرات عن كل واحد منهما ، و لم يزل بهذه الحالة إلى أن مات أبو العباس الخياط ، فجعل يقرأ عنه كل ليلة { قل هو الله أحد } عشر مرات و يهدي إليه ثوابها . قال الشيخ ابن غلبون : فمكثت على هذا مدة ثم عرض لي فتور قطعني عن ذلك ، فرأيت أبا العباس في النوم فقال لي : يا أبا الطيب ، لم قطعت عنا ذلك السكر الخالص الذي كنت توجه به إلينا ؟ فانتبهت من النوم فقلت السكر الخالص كلام الله عز و جل ، و إنما كنت أوجه إليه ثواب { قل هو الله أحد } فجعلت أقرؤها عنه رحمه الله .
(2/57)
________________________________________
و منها التحدث مع العوام بما لا تفهمه و لا تعقل معنافإنه من باب وضع الحكمة في غير موضعها ، فسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها ، و هو الغالب ، و ذلك فتنة تؤدي به إلى التكذيب بالحق أو العمل بالباطل ، و إما ألا يفهم منها شيئاً و هو أسلم ، و لكن المحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون ، بل صار في التحدث بها كالعابث بنعمة الله . ثم إن ألقاها لمن لا يعقلها في معرض الانتفاع بها بعد تعقلها كان من باب التكليف بما لا يطاق ، و قد جاء النهي عن ذلك ، فخرج أبو داود حديثاً عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن الأغلوطات . قالوا : و هي صعاب المسائل أو شرار المسائل . و خرج عن كثير بن مرة الحضرمي أنه قال : إن عليك في علمك حقاً كما أن عليك في مالك حقاً ، لا تحدث بالعلم غير أهله فتأثم ، و لا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك ، و لا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك .
[جلوس العلماء على الكراسي بدعة محدثة ]
و منها ما أحدثه المنتسبون إلى العلم و لا سيما أهل المغرب من الجلوس على الكرسي . و قد كان من هدي العلماء في قعودهم أن يجتمع أحدهم في قعوده و ينصب ركبتيه ، و منهم من كان يقعد على قدميه و يضع مرفقيه على
[477 /2]
ركبتيه . و كذلك كانت شمائل كل من تكلم في هذا العلم من قبل أن تظهر الكراسي . و كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم « أنه كان يقعد القرفصاء و يحتبي بيديه » ، و في خبر آخر : « كان يقعد على قدميه و يجعل مرفقيه على ركبتيه » . و أول من قعد على الكرسي من أهل العلم يحيى بن معاذ بالري و أبو حمزة البغدادي ، فعاب الأشياخ ذلك عليهما . و لم تكن سيرة العارفين الذين يتكلمون في علم المعرفة و اليقين ، و إنما كان جلوسهم الاحتباء . و كان يجلس متربعاً النحويون و أهل اللغة و أبناء الدنيا من العلماء المفتين ، و هي جلسة المتكبرين .
(2/58)
________________________________________
و منها قولهم كيف أصبحت ؟ و كيف أمسيت ؟ و إنما كان السلف يقولون السلام عليكم و رحمة الله . و قد جاء في الخبر : « من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه » . قال : و إنما حدث قولهم كيف أصبحت و كيف أمسيت من طاعون عمراس بالشام من الموت الذريع ، كان الرجل يلقى أخاه غدوة فيقول له كيف أصبحت من الطاعون ؟ و يلقاه عشية فيقول له كيف أمسيت من الطاعون ؟ لأن أحدهم كان إذا أصبح لا يمسي ، و إذا أمسى لا يصبح ، فبقي هذا إلى اليوم ، فنُسيت به سنة السلام . و كان من عرف حدوثه من المتقدمين يكرهه . و قال رجل لأبي بكر بن عياش : كيف أصبحت و كيف أمسيت ؟ فلم يكلمه ، و قال : دعونا من هذه البدعة . انظر الإمام أبا طالب .
و منها ، و هي من البدع المستحسنة عادة المستقبحة عبادة ، الذابح على الجزارين و اختيارهم من أهل الفضل و الدين و حملهم عليه ، حتى إن من تولى الذبح لنفسه منهم و لو كان من أهل الخير يخاف العقوبة و الفرض له في أموالهم الذي يسقط به عن مرتبة العدالة . و هذا تشبيه باليهود في قصرهم الذبح على حزانهم : « لتتبعن سنن من كان قبلكم » ، و تضييق لما وسع الله علينا و تحمل لما وضع عنا . ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر له اللحم يأتي به أهل البوادي لا يُدرى أسموا عليه أم لا ، فقال : « سموا الله عليه و كلوه » ، أي ليس لكم البحث عما قلدوه من التسمية عند الذبح و لا التوقف في أكل ذبائحهم إلى أن يعلموا أنهم سموا ، و إنما عليهم التسمية عند الأكل ، فولوهم ما تولوا و افعلوا بهم ما يجب عليكم ، و كلوا ما أحل الله لكم .
[478 /2]
و منها الحمل على الخيل و اتخاذها رواحل ، لأنه مخالف لقوله تعالى : { لتركبوها و زينة } ، و مؤد إلى فسادها في الكر و الفر ، كما يؤدي الأكل إلى إتلافها إلا أن يعارض في ذلك دليل أقوى .
(2/59)
________________________________________
و منها ما تفعله البربر الشرقية و غيرها من الحمل على البقر . و في الصحيح أن البقرة قالت للذي ركبها أنا لم نخلق لهذا ، و إنما خلقت للحرث . قال القاضي أبو عبد الله المقري : و قد سكعت أن ذلك أدى إلى فساد لحومها فصارت كلحوم الحمر .
و منها ابتداء الرجل في عنوان الكتاب باسم المكتوب إليه ، و إنما السنة أن يبدأ بنفسه ، فيكتب من فلان بن فلان . قال ابن سيرين : غاب والدي غيبة فكتبت إليه فابتدأت بنفسه ، فكتب إلي : يا بني ، إذا كتبت إلي فابدأ بنفسك في الكتاب ، فإن ابتدأت باسمي قبل اسمك لا قرأت لك كتاباً و لا رددت إليك جواباً .
و منها الجلوس عند القصاص . و عن الفضيل بن مهرار قال : قلت ليحيى بن معين : أخ لي يقعد إلى القصاص . فقال لي : انهه . قلت : لا يقبل . قال : فقلت : أهجره ؟ قال : فتبسم و سكت .
و منها الجلوس على طريق المسلمين . و قد خرج مسلم عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : « إياكم و الجلوس بالطرقات ، فإن أبيتم فأعطوا الطريق حقها . قالوا : و ما حقها يا رسول الله ؟ ال : غض البصر و كف الأذى و رد السلام و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر » .
و منها إخراج الحصا و الرمل من المساجد و فرشها بالحصر . يروى عن قتادة أنه سجد فدخلت حلفة في عينه و كان ضريراً ، فقال : لعن الله الحجاج ، ابتدع هذه البواري يؤذي المصلين . و كانوا يستحبون سجودهم على التراب تواضعاً لله تعالى .
و منها إحداث الأكل على الموائد و المناخل ، و الاستئذان في غسل الأيدي و الشبع . كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أُتي بطعام وضعه على الأرض .
[479 /2]
و منها اتخاذ الثياب الرقاق ، و قد كانوا يكرهون الثياب الرقاق و يقولون : الثياب الرقاق لباس الفسوق ، من رق ثوبه رق دينه .
(2/60)
________________________________________
و منها تشييد البناء بالجص و الآجر و هي الدرجة الأولى ، و كرهوا النقوش و التزويق في السقوف و الأبواب ، و كانوا يغضون النظر إلى ذلك . قيل : إن الأحنف بن قيس غاب غيبة فرجع و قد خضروا سقف بيته و صفروه ، فلما خرج من منزله حلف ألا يدخله حتى يقلع فأعادوه كما كان .
و منها كثرة التواليف و بنيان المدارس . قال القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله : سمعت الشيخ الآبلي يقول : إنما أفسد العلم كثرة التواليف ، و إنما أذهبه بنيان المدارس ، و كان ينتصب له من المؤلفين و البانين ، و إنه لكم قال . بيد أن في شرح ذلك طولاً . و ذلك أن التأليف نسخ الرحلة التي هي أصل جمع العلم ، فكان الرجل ينفق فيها المال الكثير و قد لا يحصل له من العلم إلا النزر اليسير ، لأن عنايته على قدر مشقته في طلبه ، ثم يشتري أكبر ديوان بأبخس الأثمان فلا يقع منه أكثر من موقع ما عوض عنه ، فلم يزل الأمر كذلك حتى نُسي الأول بالآخر ، و أفضى الأمر إلى ما يسخر منه الساخر . و أما البناء فإنه يجذب الطلبة إلى ما يترتب فيه من الجرايات ، فيقبل بهم على من يعينه أهل الرياسة للاجراء و الأفراد منهم أو من يرضى لنفسه الدخول في حكمهم و يصرفهم عن أهل العلم حقيقة الذين لا يدعون إلى ذلك ، و إن دعوا لم يجيبوا ، و إن أجابوا لم يوفوا لهم بما يطلبون من غيرهم .
[كثرة التصحيف و انقطاع سلسلة الاتصال بترك الرواية ]
(2/61)
________________________________________
و لقد استباح الناس النقل من المختصرات الغريبة أربابها ، و نسبوا ظواهر ما فيها إلى أمهاتها . و قد نبه عبد الحق في تعقيب التهذيب على ما يمنع من ذلك لو كان من يسمع ، و ذيلت كتابه بمثل عدد مسائله أجمع ، ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف و انقطعت سلسلة الاتصال ، فصارت الفتاوى تنفذ من كتب لا يدرى ما زيد فيها مما نقص منها لعدم تصحيحها و قلة الكشف عنها ، و لقد كان أهل المائة السادسة و صدر السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة الشيخ أبي الحسن اللخمي لكونه لم يصحح على مؤلفه و لم يؤخذ عنه ، و أكثر
[480 /2]
ما يعتمد اليوم ما كان من هذا النمط ، ثم انضاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كما يؤخذ من كتب المرضيين ، بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين ، و لم يكن هذا فيمن قبلنا ، فلقد تركوا كتب البرادعي على قبلها و لم يستعمل منها على كره من كثير منهم غير التهذيب الذي هو المدونة اليوم لشهرة مسائله و موافقته في أكثر ما خالفت فيه ظاهر المدونة لأبي محمد . ثم كان أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ المختصرات و شق الشروح و الأصول الكبار ، فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه و نزر حظه ، و أفنوا أعمارهم في حل لغوزه و فهم رموزه ، و لم يصلوا إلى رد ما فيه إلى أصوله بالتصحيح ، فضلاً عن معرفة الضعيف من ذلك و الصحيح . بل هو حل مقفل ، و فهم أمر مجمل ، و مطالعة تقييدات زعموا أنها تستنهض النفوس . فبينا نحن نستكثر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخ ، أبيحت لنا تقييدات الجهلة بل مسودات الشيوخ ، فإنا لله و إنا إليه راجعون . فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم و تريك ما غفل عنه الناس .
[العلاقة بين العلماء و رجال السلطة ]
و لنصلها بخاتمة تشير إلى أحوال العلماء أيضاً .
(2/62)
________________________________________
و اعلم أن شر العلماء علماء السلاطين ، و للعلماء معهم أحوال ، فكان الصدر الأول يفرون منهم و هم يطلبونهم ، فإذا حصل لهم ( )(1)أفرغوا عليهم الدنيا إفراغاً ليقتنصوا بذلك غيره . ثم جاء أهل العصر الثاني فطمحت نفوسهم إلى دنيا من حصل لهم ، و منعهم قرب العهد بالخير عن إتيانهم ، فكانوا لا يأتونهم ، فإن دعوهم أجابوا إلا القليل ، فانتقصوهم عما كان لغيرهم بقدر ما نقصوا من منابذتهم . ثم كان فيمن بعدهم من يأتيهم بلا دعوة ، و أكثرهم إن دعي أجاب ، فاستنقصوا بقدر ذلك أيضاً . ثم تطارح جمهور من بعدهم عليهم فامتنعوا عن دعاء غيرهم إلا على جهة الفضل و محبة المدح منهم ، فلم يبقوا عليهم من ذلك النزر اليسير ، و صرفوهم لأجله في أنواع السخر و الخدم إلا القليل ، و هم ينتظرون صروفهم و التصريح بالاستغناء عنهم و عدم
[481 /2]
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية : " بياض هكذا في خمس نسخ " .
(2/63)
________________________________________
الحاجة إليهم . و لا تستعظم بهذا و لعله سبب لإعادة الحال « جدعة عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاس » . و هذا كله ليظهر لك سر قوله صلى الله عليه و سلم : « لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر و ذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه خلفهم . قيل : اليهود و النصارى ؟ قال : فَمَنْ ! » و قد قص علينا القرآن و الأخبار من أمرهم ما شهدنا أكثر منه فبينا . سمعت العلامة أبا عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الآبلي يقول : لولا انقطاع الوحي لنزل فينا أكثر مما نزل فيهم ، لأنا أتينا أكثر مما أتوا . يشير إلى افتراق هذه الأمة على أكثر مما افترقت عليه بنو إسرائيل ، و اشتهار بأسهم بينهم إلى يوم القيامة ، حتى ضعفوا بذلك عن عدوهم و تعدد ملوكهم لاتساع أقطارهم و اختلاف أنسابهم و عوائدهم حتى غلبوا بذلك على الخلافة فنزعت من أيديهم ، و ساروا في الملك بسير من قبلهم مع غلبة الهوى ، و اندراس معالم التقوى . لكنا آخر الأمم أطلعنا الله من غيرنا على أقل مما ستر منا ، و هو المرجو أن يتم نعمته علينا و لا يرفع ستره الجميل عنا .
[تفسير القرآن من أصعب الأمور ]
(2/64)
________________________________________
فمن أشد ذلك ائتلافاً لغرضنا تحريف الكلام عن موضعه الصحيح ، إن ذلك لم يكن بتبديل اللفظ إذ لا يمكن ذلك في المشهورة من كتب العلماء المستعلمة ، فكيف بالكتب الإلهية ، و إنما كان ذلك بالتأويل كما قال ابن عباس و غيره . و أنت بصير بما اشتملت عليه كتب التفسير من الخلاف ، و ما حملته الآي و الأخبار من التأويلات الضعاف . قيل لمالك : لم اختلف الناس في تفسير القرآن ؟ فقال : قالوا بآرائهم فاختلفوا ، أين هذا من قول الصديق رضي الله عنه : أي سماء تظلني و أي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله عز و جل برأيي . و بعض ذلك قد انحرف عن سبيل العدل إلى بعض الميل . و أقرب ما يحمل عليه جمهور اختلافهم أن يكون منهم من علم بقصد إلى تحقيق مورد الآية من سبب أو حكم أو غيرهما ، و آخرون لم يفعلوا ذلك على التعيين . فلما طال بحثهم و ظنوا عجزهم أرادوا تصوير الآية بما يسكن النفوس إلى فهمها في الجملة ليخرجوا عن حد الإبهام المطلق ، فذكروا ما ذكروه على جهة التمثيل
[482 /2]
(2/65)
________________________________________
لا على سبيل القطع بالتعيين . بل منه ما لا يعلم أنه أريد بها لا خصوصاً و لا عموماً لكنه يجوز أن يكون المراد ، فإن لم يكن إياه فهو قريب من معناه ، و منه يعلم أنه مراد لكن بحسب الشركة لا الخصوصية ، مع جواز أن يكون هو المراد بحسب الخصوصية ، ثم اختلط الأمر . و الحق أن تفسير القرآن من أصعب الأمور ، فالإقدام عليه جرأة . و قد قال الحسن لابن سيرين : تعبر الرؤيا كأنك من آل يعقوب . فقال له : تفسر القرآن كأنك شهدت التنزيل . و قد صح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن يفسر القرآن إلا آيات معدودة ، و كذلك أصحابه و التابعون بعده . و تكلم أهل النقل في صحة نسبة التفسير المنسوب لابن عباس إليه ، إلى غير ذلك . و لا رخصة في تعيين الأسباب و أحد الظاهرين أو القريبين أو الناسخ و المنسوخ إلا بتوقيف صحيح أو برهان صريح . و إنما الرخصة في تفهيم ما كانت العرب تفهمه بطباعها فلا تسأل عنه من لغة أو إعراب و بلاغة لبيان إعجاز و نحو ذلك .
[ذم تعصب الأندلسيين و المغاربة للمذهب المالكي ]
و منها ما حكاه الباجي عن سجلات قرطبة أن لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده . قال الأستاذ أبو بكر الطرطوشي : و هذا جهل عظيم ، و التولية صحيحة ، و الشرط باطل كان موافقاً لمذهب المشترط أو مخالفاً له .
المقري : و على هذا الشرط تركب إيجاب اتباع عمل القضاة بالأندلس ثم انتقل إلى المغرب . فبينما نحن ننازع الناس في عمل المدينة و نصيح بأهل الكوفة مع كثرة من نزلها من علماء الملة كعلي و ابن مسعود و من كان معهما . ليس التكحل في العينين كالكحل . يمنح لنا محض الجمود و معدن التقليد .
اللهُ أَخَّرَ موتتي فتأخرت = حتى رأيت من الزمان عجائبا
(2/66)
________________________________________
يا لله و يا للمسلمين ! ذهبت قرطبة و أهلهاو لم يبرح من الناس جهلها ، ما هذا إلا لأن الشيطان سعى في محو الحق فينسيه ، و الباطل لا يزال يلقنه و يلقيه . ألا ترى خصال الجاهلية كالنياحة و التأبين(1)و التفاخر و التكاثر و الطعن و التفضيل و الكهانة و النجوم و الخط و التشاؤم ، و ما أشبه ذلك ، و أسماؤها كالعتمة
[483 /2]
و يثرب ، و كذلك التنابز بالألقاب و غيرها مما نهي عنه و حذر منه كيف لم تزل من أهلها ، و انتقلت إلى غيرهم مع تيسر أمرها ، حتى كأنهم لا يرفعون بالدين رأساً ، و يجعلون العادات القديمة أسَّاً . و كذلك محبة الشعر و التاريخ و النسب و ما انخرط في هذا السلك ثابتة الموقع من القلوب ، و الشرع له فينا سبعمائة و سبع و ستون سنة لا نحفظ إلا قولاً ، و لا نحمله إلا كلاً .
[ذم التوليد عموماً في كل مذهب ]
__________
(1) في نسخة : و التنافر .
(2/67)
________________________________________
المقري : و لما غلب وصف التقليد في الناس جنحوا إلى القال و القيل ، إذ لم يسمع منهم إلا ما نقلوه عن غيرهم لا ما رأوه من عند أنفسهم ، حتى كان عز الدين بن عبد السلام يقول بالرأي ، فإن سئل عن المسألة أفتى فيها بقول الشافعي ، و يقول : لم تسألني عن مذهبي . و للخمي مثل هذا في التحكيم . و إنها لإحدى كبر دواهي التقليد ، فالتقليد مذموم ، و أقبح منه تحيز الأقطار ، و تعصب النظار . فترى الرجل يبذل جهده في استقصاء المسائل ، و يستفرغ وسعه في تقدير الطرق و تحرير الدلائل ، ثم لا يختار إلا مذهب من انتصر له وحده لمحض التعصب له مع ظهور الحجة الدامغة ، ثم ينكف عن محجتها إلى الطرق الرائغة ، فلا يحمل نفسه على الحق إذا رآه ، لكن يطلب التوفيق و لو على أبعد طريق بينه و بين هواه ، { و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات و الأرض و من فيهن } . فيا أيها الحنفي أفي كل ما خالفك فيه مالك ، في حكم الله هالك ؟ ! و يا أيها المالكي أفي كل ما خالفك فيه الشافعي عميت عليه المسالك ؟ ! أصم الله سمع الهوى ما يسمع إلا ما يريد ، ألا إن ها هنا ما سواه هي من هذه الهناة ، و أحر على كبد كل مسلم من يبس اللهاة ، فإذا خالف الحق أهل كل مذهب أبقوا من رده إلى ما خالف من الحق فحاولوا سوى ذلك الحق إليه ، فإن لم يطعهم المقادة ، جروه على غير إرادة ، فتراهم يتولون النصوص التي يخالف ظاهرها مذهبهم على ما يوافقهم لا يبالون أخلوا بماله من معنى أم لا ؟
و اعلم أن أصل التقليد هو المعصية التي هي كالطبع لهذا النوع ، لأنه غلب عليه حب الخيال و الوهم ، ة قل فيه طاعة العقل و الفهم ، فالإنسان بطبعه شاعر النفس ، و المخالفة توجب صرف أكثر مدحه و ذمه إلى الجنس .
[484 /2]
(2/68)
________________________________________
و إلا فما بال باب التفضيل ، قد مُسح(1)فيه غرض الإجمال و طول التفصيل ، حتى أفضى إلى اغتياب ميت و إغضاب حي ، ثم إلى اختلال الدليل و تكلف التأويل ، ثم إلى التفسيق و التكفير ، و الدخول في أمور التخلص منها عسير ، ليت شعري ما الذي أدخل هذا في أصول الدين ! و هل يخرج الجاهل به من غمار المسلمين ؟ أم يدخل في صنوف المبتدعين ؟ ما الذي دعانا إلى أن نقفو فيه ما ليس لنا به علم ، و نتبع الظن في غير محل الإجماع و بعضه إثم . ثم إن هذا يجر إلى إيراده أحاديث الإخباريين التي جمهور ألفاظها زور ، و كثير من معانيها فجور ، و يرد أهل الغيبة القيامة و خصمهم فيها اشكالهم ، و يرد أصحاب الأخبار فيوقفهم الأنبياء و العلماء و الصلحاء و سائر أصناف الخلق ، كل يطالبهم بحق .
و منها إخراج الرواش من البيوت و تقديم القصائد ( كذا ) في الأسواق إلى الطرقات ، فإنها من المحدثات المكروهة . و مثله إخراج الميزاب و نصبها .
و منها رمي السنور الميت و الدابة على المزابل أو في الطرقات فيتأذى المسلمون بروائحها . كان شريح و غيره إذا مات لهم سنور دفنوه في دورهم ، و كان أحمد بن حنبل و أهل الورع يجعلونها داخل بيوتهم .
و منها قول الرجل إذا أتى منزل أخيه يا غلام أو يا جارية . و فيه مخالفة لأمر الله و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال الله تعالى : { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها } . قال أهل التفسير : الاستئناس : الدق و التنحنح و الحركة ، حتى يؤذن .
و منها في الجنائز اتخاذ السوابع و ضرب الفساطيط و الدفن في التوابيت و طليها بالزعفران ، و غير ذلك من محدثات الجنائز التي لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا درج عليها السلف .
و منها الوقوف عند القبر للتعزية ، فإنه مكروه . و السنة أن ينصرف الناس
[485 /2]
__________
(1) في نسخة : سُمِح .
(2/69)
________________________________________
بعد موت الميت مع وليه إلى المنزل ثم يعزوه عند منزله . قال ابن حبيب : لا بأس بالتعزية عند القبر .
و منها تأخير الصلاة على الميت و دفنه حتى يفرغ الخطيب من خطبته و صلاته إن كان في الجمعة ، و إن كان في غيرها فينتظرون بها انقضاء تلك الصلاة التي تكون ، و هي بدعة مذمومة . قال ابن الحاج : و قد وردت السنة أن من إكرام الميت تعجيل الصلاة عليه و دفنه . و قد كان بعض العلماء رحمه الله ممن يحافظ على السنة إذا جاءوا بالميت إلى المسجد صلى عليه قبل الخطبة و يأمر أهله أن يخرجوا إلى دفنه ، فجزاه تعالى خيراً عن نفسه على محافظته على السنة و التنبيه على البدعة . فلو كان العلماء ماشين على ما مشى عليه هذا السيد انسدت هذه الثلمة التي وقعت ، و هي أن من أحدث شيئاً سكت عنه فتزايد الأمر لذلك ، فإنا لله و إنا إليه راجعون .
[بدعة النداء إلى الإنصات قبل خطبة الجمعة كانت في تلمسان لا في فاس ]
و منها قول بعض الناس ما أحدث من النداء عند إرادة الخطيب أن يخطب بقوله . روى مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : « إذا قلت لصاحبك أنصت و الإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت » . أنصتوا رحمكم الله .
ابن الحاج : و العجب من بعض الناس أنهم ينكرون على مالك رحمه الله تعالى أخذه بعمل أهل المدينة و استحسنوا هذا الفعل و احتجوا على صحته بأنه من عمل أهل الشام و عادتهم المستمرة . انتهى . و استمر عمل تلمسان على رواية هذا الأثر ، و استمر عمل فاس على تركه و هو الصواب إن شاء الله .
[بدعة اتخاذ المنبر الكبير و كراسي التدريس في المساجد ]
و منها اتخاذ المنبر العالي ، فإنه من الأشياء التي تقطع الصفوف ، و تأخذ من المسجد جزءاً جيداً و هو وقف على صلاة المسلمين . قال أبو طالب : كان تقدمة الصفوف عندهم إلى فناء المنبر بدعة . و كان الثوري يقول : الصف الأول هو الخارج بين يدي المنبر .
(2/70)
________________________________________
ابن الحاج : و أما بلاد المغرب فقد سلموا من تقطيع الصفوف لكن بقيت عندهم بدعتان ، إحداهما كبر المنبر على ما هو في
[486 /2]
البلاد ، و الثانية أنهم يدخلون المنبر في بيته إذا فرغ الخطيب من خطبته ، و هذه بدعة الحجاج . و منبر السنة خلاف هذا كله ، إنما كان ثلاث درجات لا غير ، و هي لا تشغل مواضع المصلين . و أعظم من هذه البدعة بدعة اتخاذ الكراسي و إحداثها في المساجد للإقراء ، فهي غاصبة لمواضع من المسجد لا سيما و هي لا تنقل و لا تحول من مواضعها دائماً .
[لم يكن للسلف الصالح محراب ، و إنما هو بدعة مستحسنة ]
(2/71)
________________________________________
و منها الصلاة بقعر المحراب الكبير . قال ابن الحاج : و السنة الماضية إذا استوى الإمام قائماً في المحراب أن يكون قريباً من المأمومين . و قد كان الإمام في السلف رضي الله عنهم يقرب أن تمس ثيابه ثياب المأمومين ، و ذلك لفوائد : منها أنه يطرأ عليه في صلاته ما يوجب خروجه منها ، فلا يحتاج إلى كلام و لا كثير من عمل في الاستخلاف ، بل يمد يده إلى من يستخلفه فيقدمه . و منها أنه قد يسهو في صلاته فيسبحون به فلا يسمعهم ، فإذا كان قريباً منهم سمعهم في الغالب و تداركوا ما أفات ذلك بمسهم أو تنبيههم له عليه فيتدارك إصلاح ما أخل به . و منها أنه قد يكون في ثوبه نجاسة لم يشعر بها ، فإذا كان قريباً منهم أدركوها فنبهوه عليها ، إلى غير ذلك . و لم يكن للسلف رضي الله عنهم محراب ، و هو من البدع التي أحدثت ، لكنها بدعة مستحسنة ، لأن أكثر الناس إذا دخلوا المسجد لا يعرفون القبلة إلا بالمحراب ، فصارت متعينة . لكن يكون المحراب على قدر الحاجة ، و هم قد زادوا فيه زيادة كثيرة . و الغالب من بعض الأئمة أنهم يصلون داخل المحراب حتى يصير بسبب ذلك على بعد من المأمومين ، و ذلك خلاف السنة . ثم إنه يخرج بذلك نفسه من الفضيلة ، لأن باقي المسجد أفضل منه ، ألا ترى أن علماءنا رحمة الله عليهم قالوا فيمن اضطر إلى النوم في المسجد أنه ينام في محرابه ، لأنه أخف من باقي المسجد ، بل لا ينبغي له إذا كان المسجد لم يضق بالناس أن يدخل إلى المحراب ، فإن ضاق بهم فليدخل على الصفة المتقدمة ، لأنه إذا لم يدخل يمسك بوقوفه خارجاً عنه موضع صف في المسجد و هو قد يسع خلقاً كثيراً . انتهى .
و منها عدم الاكتراث و الاهتمام بتسوية الصفوف .
قال ابن الحاج :
[487 /2]
(2/72)
________________________________________
و ليحذر من هذه البدعة التي يغفلها بعض الأئمة ، و هو أنهم لا يعبؤون بتسوية الصفوف . و قد كان الأئمة من السلف رضي الله عنهم يوكلون الرجال لتسويتها ، منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ثم لا يكبرون حتى يأتي من وكلوهم بذلك فيخبروهم أنها قد استوت ، فيكبرون إذ ذاك . و قد جاء في الحديث عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال : « لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله تعالى بين قلوبكم » . و قد نقل عن السلف رضي الله عنهم أن ثيابهم كانت تنقطع من جهة المناكب أولاً لشدة تراصيهم في صلاتهم . انتهى .
[ترجمة عبد العزيز الورياغلي خطيب القرويين ]
و كان خطيب جامع القرويين و إمام الخمس به الخطيب البليغ أبو محمد عبد العزيز موسى الورياغلي رحمه الله قام بإقامة هذه الشعيرة أتم قيام سنة تسع و سبعين و ثمانمائة ، و استمر عليها إلى أن توفي رحمه الله يوم السبت غرة رمضان المعظم سنة ثمانين بعده .
قال ابن الحاج : و السنة المتقدمة أن يلي الإمام أفضل الناس علماً و عملاً ، لوله عليه الصلاة و السلام : « ليلني منكم أولو الأحلام و النهى » . و فائدته ظاهرة . و ما زال الأكابر و الفضلاء في عهد النبي صلى الله عليه و سلم و غيره من الأعصار هم الذين يبادرون إلى المساجد في أوائل الأوقات أو قبلها . فلو جاء الإمام إلى المسجد أو غيره من الفضلاء فوجدوا غيرهم ممن ليس في منزلتهم قد سبقهم لتلك المواضع التي يعهدون الصلاة فيها ، أعني من كان يستر الإمام أو يقرب منه كان سبق لتلك المواضع أحق بها منه و أولى ، و لا يقام منها اتفاقاً ، و إقامته ظلم و بدعة ، اللهم إلا أن يؤثر السابق بهذه القربة غيره من أهل الفضل و الدين فذلك له ، بل هو مندوب إليه .
(2/73)
________________________________________
و منها و هي من البدع المحرمة ، قال ابن الحاج باتفاق الأمة ، ما تفعله بعض النسوة من إفطارهن في شهر رمضان المعظم لغير عذر شرعي . و ذلك أن المرأة إذا كانت مبدنة و تخاف أنها إن صامت اخنل عليها حال سمنها فتفطر لأجل ذلك . و كذلك بعض البنات الأبكار يفطرهن أهلهن خيفة على تغير أجسامهن على الحسن و السمنة . و كذلك من كانت منهن قد عقد عليها زوجها
[488 /2]
و لم يدخل بها بعد فتترك الصوم خيفة على بدنها أن ينقص ، و كل هذا محرم ، و على من فعله ثلاثة أشياء : القضاء ، و الكفارة لكل يوم أفطره ، و الإثم .
(2/74)
________________________________________
و منها ما يفعله النساء من أسباب التسمن مستهجن قبيح . قال ابن الحاج : جمع خمسة أشياء من الرذائل ، أحدها مخالفة الشرع الشريف ، الثاني إضاعة المال ، الثالث الصلاة بالنجاسة ، الرابع كشف العورة لغير ضرورة شرعية ، الخامس أنها تتسبب في إسقاط فرض من فروض الصلاة و هو القيام ، لأن بعضهن لا يقدرن على القيام في الصلاة و كذلك الركوع في الغالب ، فتصلي جالسة ، و هي التي أدخلت ذلك على نفسها . و أما مخالفة الشرع فلما أخرجه أبو داود في سننه عن عمران بن حصين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم - و الله أعلم أذكر الثالث أم لا – ثم يظهر قوم يشهدون و لا يستشهدون ، و ينذرون و لا يوفون ، و يخونون و لا يؤتمنون ، و يفشو فيهم السمن » . و خرج مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : « إنه ليأتيني الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ، اقرؤوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً » . و أما إضاعة المال فلا يخفى على أحد أن الزيادة على الشبع من باب إضاعة المال ، إذ أنه يفعل لغير فائدة شرعية .
(2/75)
________________________________________
و أما الصلاة بالنجاسة فلأن بعضهن يعمل ( كذا ) لكثرة السمن و الشحم حتى إن يدها تقصر عن الوصول لغسل ما على المحل من النجاسة لأجل ما تسببت فيه من عبول البدن ، فإن كانت فقيرة لا تقدر على شراء من يزيل ذلك عنها فتصلي بالنجاسة ، إذ أنها لا تقدر على زوالها ، و إن كانت تجد القدرة على تحصيل من يباشر ذلك منها و يزيله عنها فتقع في كشف العورة لغير ضرورة شرعية ، و قد لا تكفيها الجارية الواحدة فتحتاج إلى زيادة فتزيد المحرمات بكثرة من يكشف عورتها لغير ضرورة شرعية ، و هي لو صلت و النجاسة معها لكانت أخف من كشف عورتها ، لأن إزالة النجاسة مختلف فيها بين العلماء ، و كشف العورة مؤكد أمره عند أكثر العلماء ، و هو الوجه الرابع ، و لأنه قد يبلغ بها السمن إلى أن يصل الشحم إلى قلبها فتطفيه فتموت به ، و قد يصعد إلى دماغها فيشوش على الدماغ فيذهب عقلها ، و قد يطفيها
[489 /2]
فتموت به ، و قد يصل إلى عينيها فيعميها فتكون هي المتسببة في ذلك كله . و قد وقع ذلك كثيراً . و قد نقل بعض السلف رضي الله عنهم أن ولده أكل و زاد على أكله المعتاد فمرض لأجل ذلك ، فقال والده : لو مات ما صليت عليه . و ما ذاك إلا أنه تسبب في قتل نفسه ، و من له فضل دين لا يصلي على من اتصف بذلك .
[بدعة اتخاذ طعام معلوم في بعض المواسم ]
و منها اتخاذ طعام معلوم في ميلاد النبي صلى الله عليه و سلم و في بعض المواسم . قال ابن الحاج : و لم يكن في عاشوراء لمن مضى طعام معلوم لا بد من فعله . و قد كان بعض العلماء يتركون النفقة فيه قصداً لينبهوا على أن النفقة فيه ليست بواجبة ، و لم يكن السلف رضوان الله عليهم يتعرضون في هذه المواسم و لا يعرفون تعظيمها إلا بكثرة العبادة و الصدقة و الخير و اغتنام فضيلتها لا بالمأكول .
(2/76)
________________________________________
و منها ما يفعله بعضهم من أنهم يتركون تنظيف البيت و كنسه عقب سفر من سافر من أهلهم و يتشاءمون بفعل ذلك بعد خروجه ، و يقولون : إن ذلك إن فعل لا يرجع المسافر . و كذلك ما يفعلونه حين خروجهم معه إلى توديعه فيؤذنون مرتين أو ثلاثاً و يزعمون أن ذلك يرده إليهم . و هذا كله مخالف للسنة المطهرة .
و منها ما أحدثه بعض النساء أن المرأة منهن إذا كانت حائضاً لا تكتال القمح و لا غيره من الطعام ، و لا تحضر موضعه لأجل حيضها . و هذا من فعل اليهود .
و منها أن يباع من النصارى شيء من مصالح عيدهم من لحم أو إدام أو ثوب . قال ابن الحاج : و لا يعارون دابة و لا يعانون على شيء من عيدهم ، لأن ذلك من تعظيم شركهم و عونهم على كفرهم ، و ينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك ، و هو قول مالك و غيره ، و لم أعلمه اختلف قوله في ذلك ، قاله في مختصر الواضحة .
و منها أن يتخذ للباسه ثوب شهرة ، فقد ورد في الحديث : « من لبس ثوب شهرة كساه الله يوم القيامة ثوب ذل و صغار ثم أشعله عليه ناراً » .
[490 /2]
[بدعة تقبيل الكاغد و الطعام ]
و منها أن يمر في الأسواق فيجد قرطاساً في سكة الطريق فيرفعه من موضع المهنة إلى موضع طاهر يصونه فيه ، ثم يقبله أو يضعه على رأسه ، فإن تقبيله و وضعه على رأسه بدعة ، و سواء كان مكتوباً أو غير مكتوب . و كذلك إذا وجد خبزاً أو غيره من الأطعمة التي لها حرمة فإنه يزيله من موضع المهنة إلى موضع طاهر يصونه فيه و لا يضعه على رأسه و لا يقبله تحرزاً من البدعة أيضاً .
و منها تقبيل قبر الرجل الصالح أو العالم فإن هذا كله بدعة .
(2/77)
________________________________________
و منها كثرة المساجد في المحلة الواحدة . و قد ورد أن من أشراط الساعة كثرة المساجد و قلة المصلين فيها . قال الإمام أبو طالب المكي رحمه الله في كتابه : و قد كانوا يكرهون كثرة المساجد في المحلة الواحدة . روي أن أنس بن مالك رضي الله عنه لما دخل البصرة جعل كلما خطا خطوتين رأى مسجداً ، فقال : ما هذه البدعة ؟ كلما كثرت المساجد قل المصلون ، أشهد لقد كانت القبيلة بأسرها ليس لها إلا مسجد واحد ، و كان أهل القبيلة يتناوبون المسجد الواحد في الحي من الأحياء . و اختلف في أيهما يصلي إذا اتفق مسجدان في محلة ! فمنهم من قال في أقدمهما ، و إليه ذهب أنس بن مالك و غيره من الصحابة ، قال : و كانوا يجاوزون المساجد المحدثة إلى المساجد العتاق . ثم مع هذا نجد الجامع الأعظم في غالب الأوقات إذا صلى الإمام يستره عامة الناس ممن لا يعرف العلم . و قد يطرأ عليه سهو فلا يجد من يسبح به و لا من يستخلفه إن جرى عليه أمر يحوجه للخروج من الصلاة ، فيكون سبباً لإفساد صلاة المأمومين . ثم إنك إذا نظرت إلى الصف الأول لا تجد فيه في الغالب من يقتدى به عكس ما كان عليه السلف و الخلف رضي الله عنهم أجمعين . و قد قال عليه الصلاة و السلام : « ليليني منكم أولو الأحلام و النهى » .
ابن الحاج : و السنة الماضية أنهم كانوا في الصف الأول الأمثل فالأمثل منهم ، ثم الثاني ثم الثالث على هذا المنهاج إلى آخرهم ، لأن الأمثل فالأمثل منهم كانوا أسرع سبقاً لتلك المواضع في
[491 /2]
المسجد من غيرهم عن مواضعهم ، و هذه سنة قد أميتت و تركت في الغالب في هذا الزمان ، و لكن و الحمد لله قد بقي منها بقية خير قائمة بهذه الشعيرة في بلد المغرب ، فإنك تجد فيها المساجد مصونة مرفعة معظمة لا ترفع فيها الأصوات و لا تدخل إلا للصلاة أو لمجالس العلم و الترتيب في الصف الأول و غيره ، فهم ماشون على ذلك الأسلوب أو قريب منه ، و لهم عادة حسنة .
(2/78)
________________________________________
و منها كراهة الجهال و من لا يعبأ به عندنا اليوم عقد النكاح في الشهر المحرم و الدخول فيه . قال صاحب المفهم : بل ينبغي أن يتيمن بالعقد و الدخول فيه تمسكاً بما عظم الله و رسوله من حرمته و ردعاً للجهال عن جهالتهم .
[بدعة اختصاص الأغنياء بالدعوة في الولائم ]
و منها اختصاص الأغنياء بالدعوة ، فقد كره العلماء رضي الله عنهم ذلك ، ثم اختلفوا فيمن فعل ذلك : هل تجاب دعوته أم لا ؟ فقال ابن مسعود : لا تجاب . و نحوه نحا ابن حبيب من أصحابنا ، و ظاهر كلام أبي هريرة وجوب الإجابة . و مقصود الحديث الحض على دعوة الفقراء و الضعفاء ، و لا تقصر الدعوة على الأغنياء كما يفعل من لا مبالاة عنده بالفقراء من أهل الدنيا . و دعا ابن عمر رضي الله عنه في وليمته الأغنياء و الفقراء ، فأجلس الفقراء على حدة و قال : ها هنا ، لا تفسدوا عليهم ثيلبهم ، فإنا سنطعمكم مما يأكلون . و هذا كله ما لم تكن في الطعام شبهة و تلحق فيه منة أو قارنه منكر فلا يجوز الحضور و لا الأكل ، و لا يختلف فيه .
و منها القول بالظاهر . نقل عياض عن بعض العلماء أن مذهب داود بدعة ظهرت بعد المائتين . قال بعض الشيوخ : و إن كان هذا تغالياً في رد العمل ، فالظواهر أيضاً على تتبع و تغال بعي عن مقصود الشارع كما أن إهمالها إسراف أيضاً .
[بدعة تقديم الجهال على العلماء في المناصب ]
و منها و هو قد طبق الأرض و انعكست فيه الحقائق و انقلب القوس فيه
[492 /2]
(2/79)
________________________________________
ركوة من تقديم الجهال على العلماء و في تولية المناصب الشرعية من القضاء و الفتوى و الشهادة و التوثيق و الخطابة و الحسبة و الأمانة في الأسواق و النظر على الأوقاف و أموال الأيتام و الغياب بالتوارث و الجاه لمن لا يصلح لها و لا حول و لا قوة إلا بالله . و حكى غير واحد الإجماع على أنها من البدع المحرمة . و قال بعضهم : إن هذه المصيبة التي ابتلي بها العباد ما جاءت إلا من قبل الأمراء و العلماء ، فإن بصلاحهم يصلح الناس و بفسادهم يفسدون . قال أبو حامد الغزالي رحمه الله : كانت سيرة العلماء مع الأمراء قلة المبالاة و إخلاص النصيحة لهم لأنهم اتكلوا على فضل الله أن يحرسهم و رضوا بحكم الله أن يرزقهم الشهادة ، فلما أخلصوا إليه النية أثر كلامهم في القلوب القاسية و أزال قساوتها ، و أما الآن فقد قيدت الأطماع ألسنة العلماء و خنقتهم فسكتوا ، و إن تكلموا لم تساعد أقوالهم أفعالهم ، ففساد الرعية بفساد الملوك ، و فساد الملوك بفساد العلماء ، و فساد العلماء باستيلاء حب الجاه و المال . و هذه هي الدنيا ، من استولى عليه حبها لم يقدر على الحسبة على الأراذل ، فكيف على الملوك الأفاضل !
[حقيقة المكس و بدعيته ]
(2/80)
________________________________________
و منها المكوس و محدثات المظالم و إقامة صور الأئمة و ولاة الأمور و القضاة و لبس الطيالسة و توسيع الأكمام و أشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن الفاضل و السلف الصالح ، فإنها أمور جدت في الناس و كثر العمل بها و شاعت فلحقت بالبدع و صارت كالعبادات المختصة الجارية في الأمة . و صورة المكس على ما نقله الشيخ أبو محمد المرجاني عن بعض العلماء أن يحكر شخص واحد أو أكثر منه سلعة لا يبيعها أحد غيره أو غيرهم ، أو من يختاره أو يختارونه و إن كثروا بشرط ألا يأخذوا السلعة إلا من جهة ، فهذا هو الذي لا يجوز الشراء منه . و مثله لابن عرفة فإنه قيل عنه إن المكس منع الناس من التصرف في أموالهم بالبيع و غيره ليختص المانع بنفع ذلك . و قال الطيبي : المكس الضريبة التي يأخذها العشار . فعلى تفسير الطيبي فأخذ الفوائد في الأبواب و القاعات و اكتراء الأسواق و الرحاب مكس ، و هو الذي كثر استعماله في العرف . و على تفسير المرجاني و ابن عرفة ليس بمكس ، و إنما هو غضب و ظلم . قال المرجاني : و الظلم هو الذي يقرر في بعض الأشياء أن من اشترى
[493 /2]
شيئاً أو باعه فعليه كذا و كذا ، فهذا لا يمتنع من شرائه و لا بيعه إذ ليس فيه إعانة . قال ابن عرفة : ما يتفق أن يكتري الإنسان حانوتاً على أن يبيع تلك السلعة بذلك الموضع غيره . قال : و أما إن اكترى الحانوت على أن يبيع له بسعر ما يريد فهو أخف و لا بأس بالشراء منه و لا سيما على القول بمنع التسعير . قيل : و انظر منع الناس من عمل الصابون فهو ليس بمكس على تفسير الطيبي ، و أما على تفسير ابن عرفة فهو بين من كراء الحانوت على أن لا يبيع بذلك الموضع غيره .
(2/81)
________________________________________
و منها إخراج شيء من تراب الحرم أو الحجارة إلى غيره . قال النووي رحمه الله في الروضة : لا يجوز إخراج شيء من تراب الحرم أو حجره إلى غيره ، و سواء في ذلك تراب نفس مكة و تراب ما حولها من جميع الحرم و أحجاره ، و لا يجوز إخراج أشجاره و لا أغصانه في الأصح . و قيل : يكره و لا يحرم . قاله القاضي بدر الدين بن جماعة في منسكه ، قال : و يكره إدخال تراب الحل و أحجاره . و قال النووي في منسكه أيضاً : ليس للحاج استصحاب شيء من الأكواز المعمولة من تراب حرم المدينة و لا الأباريق و لا غير ذلك . يريد به ما ذكره القاضي بدر الدين بن جماعة من السيح المعمولة من تراب سيدي حمزة . قال : و من أخذ شيئاً من ذلك وجب رده . و نقل ابن معلى و التادلي ذلك في منسكيهما يدل على اختيارهما لهذا الحكم و يوهم أن ذلك يجري على قواعد مذهب مالك . و هذا الحكم يحتاج إلى توقيف و دليل . قال برهان الدين بن فرحون : و يشكل ما ذكروه بأمور : منها أنهم أجمعوا على إباحة نقل ماء زمزم إلى سائر البلاد ، بل استحبوا ذلك ، و جاء أنه صلى الله عليه و سلم استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم فبعث إليه برواية من ماء زمزم ، و الماء و التراب سيان في كونهما من العناصر التي ينبني الوجود عليهما ، فلا فرق بينهما ، و لا خلاف أن ماء زمزم أعظم حرمة من التراب و الأحجار لجواز الاستجمار بالأحجار دون ماء زمزم . و قوله عليه الصلاة و السلام : « ماء زمزمزمزم طعام طعم و شفاء سقم »(1). و لم يرد أنه لا ينتفع بتراب الحرم
[494 /2]
و أحجاره إلا فيه . و كل محذور يتوقع في التراب و الأحجار يتوقع مثله في ماء زمزم الذي هو أشرف عنصراً و أعظم حرمة .
__________
(1) أي يشبع الإنسان إذا شرب ماء زمزم كما يشبع من الطعام ، و يشفى به من المرض كما يشفى بالدواء .
(2/82)
________________________________________
و منها أنهم كرهوا إدخال تراب الحل و أحجاره إلى الحرم . و هذه الكعبة الشريفة أكثر أحجارها من غير الحرم على ما ذكره ابن الجوزي و اتفق عليه نقل المؤرخين أن الكعبة نقلت من خمسة أجبل من لبنان و طور سيناء و طور زيتاء و الجودي و حراء ، فليس على هذا من حجارة الحرم غير أحجار جبل حراء ، و هو منقول عن ابن عباس و أن آدم بناه من أحجار هذه البلاد . و منها أنهم أجروا مجرى الأحجار و التراب و كسوة الكعبة ، فقال الإمام أبو الفضل بن عبدان لا يجوز قطع شيء من ستور الكعبة و لا نقله و لا بيعه و لا شراؤه و لا وضعه بين أورا المصحف ، و من حمل شيئاً من ذلك لزمه رده ، و هذا على وجه الاستحسان منه لذلك ، و النصوص مخالفة لذلك . قال الباجي : و قد استخف مالك شراء كسوة الكعبة . و قال ابن الصلاح من فقهاء الشافعية : أمر ذلك إلى الإمام يصرفه في بعض مصارف بيت المال بيعاً و عطاء ، و احتج بما رواه الأزرقي في تاريخ مكة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينزع كسوة الكعبة كل سنة فيقسمها على الحاج ، و تبعه النووي على ذلك و استحسنه .
و منها أن الإمام العالم أبا محمد بن عبد السلام بن إبراهيم بن ومصال الحاحي قال : نقلت من كتاب الشيخ العالم أبي محمد صالح الهزميري نفع الله به قال صالح بن عبد الحليم سمعت أبا محمد عبد السلام بن يزيد الصنهاجي يقول سألت أحمد بن بكوت عن تراب المقابر الذي كان أناس يحملونه للتبرك هل يجوز أو يمنع ؟ فقال هو جائز ، و ما زال الناس يتبركون بقبور العلماء و الشهداء و الصالحين . و كان الناس يحملون تراب سيدي حمزة بن عبد المطلب في قديم الزمان ، فإذا ثبت أن تراب قبر سيدنا حمزة يحمل من قديم الزمان فكيف يتمالأ أهل العلم بالمدينة على السكوت عن هذه البدعة المحرمة من هذا الأمر البعيد .
(2/83)
________________________________________
و منها أن مالكاً رحمه الله سئل عن الرجل يخرج من المسجد أعني مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً من حصى المسجد و قد تعلق بوجهه ،
[495 /2]
أيلزمه رده إلى المسجد ؟ فقال : لا يلزمه ذلك . و أرخص له في طرحه فقال السائل : يا أبا عبد الله ، إنهم يقولون إذا خرجت الحصاة من المسجد تصيح حتى ترد إلى المسجد . فقال له مالك : دعها تصيح حتى ينشف حلقها . فقال له : أولها حلق يا أبا عبد الله ؟ فقال : و من أين تصيح ؟ فألزمه بهذا الكلام إبطال ما ذكر من صياحها ، و لم يفرق بين وجوده لذلك في الحرم أو بعد خروجه منه . و في شرح التهذيب للزناتي أن رجلاً حمل حصباء من مكة و أتى بها إلى المغرب فكانت بالليل تصوت حتى منعته النوم ، فقيل له : ردها إلى موضعها و حينئذ تنام . فردها إلى موضعها أو بعثها ، فحينئذ نام . و كان شيخنا و شيخ شيوخنا أبو الفضل قاسم العقباني رحمه الله تعالى يقول : من حمل حصباء من الأماكن المشرفة و رد إلى محلها في الوقت أخرى فإنه لا حرج عليه في نقل التي حمل لوجود العوض ، كما أن من استهلك وقفاً فإنما يلزمه مثله و لو كان من المقومات كالبناء و نحوه ما لم يكن مما لا عوض له لتعلق الفضل بعينه كالحجر الأسود و كقواعد البيت فلا يسوغ ذلك . و ذكر ابن سعدون القروي أن الركن الأسود أرسله اللعين الجبائي إلى عبيد الله رأس الشيعة المهدية ، فلم يلبث أياماً حتى مات عبيد الله ، فلما دفن طرحته الأرض ، ثم دفن فطرحته الأرض ثلاثاً ، فقيل : إن هذا لأجل هذا . فردوه ، و عند ذلك استقر عبيد الله في الأرض ، لعن الله جميعهم . و في ابن بزيزة : و لا يخرج شيء من تراب الحرم و لا من حجارته إلى الحل .
(2/84)
________________________________________
قال الخطيب ابن مرزوق في شرحه لكتاب العمدة : و كذلك أدركت شيوخنا ينهون عن شراء الأواني التي تصنع بمكة خوفاً من الخروج بها و أشياء يصنعونها أهل مكة من طين و يقال فيها تربة حمزة ، و يعطونها للحاج ، و حتى كان بعضهم يتحرى من الخوص الذي يصنع فيها و الأشياء التي تصنع من الخشب و لا ما يقطع . و أما ماء زمزم شرفه الله تعالى و سقانا منه بحرمة محمد صلى الله عليه و سلم فإخراجه جائز ، و السفر به سائغ ، إذ لم يرد فيه نهي ، و إنما تردد بعض مشايخنا و توقف بعضهم في الخرق التي تباع من كسوة الكعبة شرفها الله تعالى ظاهراً و باطناً من جهة كونها محبسة عليها . و نظر بعضهم إلى أن التحبيس إنما هو على أن يبقى على البيت سنة ثم يصير منفعة لسدنة البيت ، فهو تحبيس موقت ، و التوقيت ينافي التحبيس ، و اختلفت في ذلك أنظارهم و مذاهبهم . و قد قال القرطبي في تفسيره : و قال العلماء :
[496 /2]
لا يؤخذ من كسوتها ، أعني كسوة الكعبة ، شيء فإنها تهدى إليها و لا ينقص منها شيء . و كره ابن جبير الأخذ من طيبها . انتهى كلام ابن مرزوق رحمه الله .
و منها المناكر المعتادة في معالم الصلوات و معالم الديانات . فمن ذلك ما اشتهر كونه و علم بضرورة الأحوال وجوده من ترك كثير من الناس و جمهور العوام القيام بصلاة الفرض التي هي عماد الدين ، و فصل ما بين الكفرة و المؤمنين ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « بين الرجل و بين الشرك – أو قال الكفر – ترك الصلاة » . و هذا أهم ما ينبغي الاهتمام به ، و يحق على القضاة و سائر الحكام و آحاد المسلمين و الولاة و القيام فيه و بذل الجهد و الاجتهاد في تفقد أحوال من ظاهره التقصير و الإهمال ، و على الحكام موالاة أخذ الناس بذلك و الاشتداد على الكافة فيه قبل كل شيء من سائر الأحكام ، و لذلك كتب عمر إلى عماله : إن أهم أموركم عندي الصلاة ، فمن حفظها و حافظ عليها حفظ دينه ، و من ضيعها فهو لما سواها أضيع .
(2/85)
________________________________________
و كذلك تجب المبالغة في التنكيل و العقوبة لمن تعرف منه الإضاعة و التفريط و قلة المواظبة ، و حد ذلك من الضرب الشديد إلى السيف ، و ذلك بحسب الترك القليل و الكثير و الإباية من فعلها .
[تخلف أهل الصنائع عن صلاة الجمعة منكر يجب تغييره ]
و منها إهمال كثير من الناس و أهل الأسواق و الحرف و الأجراء شهود الجمعة ، و هي من فروض الأعيان على كل مكلف غير مريض ، لا يسع أحداً من أهلها التخلف عنها لغير عذر . و قد تمالأ كثير من أهل الصنائع اليوم الأجراء و غيرهم على تركها و إطراح حضورها ، و ساعدهم على ذلك كثير من الخاصة و الأعيان الذين يستعملونهم استكثاراً بعملهم في الوقت المستحق لحضور الصلاة . و ربما كان في هذا النوع من لا يصلي صلاة جمعة و لا غيرها ما دام على شغله ، فيجب على الولاة البحث عن هؤلاء و التنقيب عمن عرف منه ذلك و الاشتداد على فاعله و المساعد عليه ، و اضطرار الكافة إلى شهود الجمعة بما يؤدي إليه الاجتهاد و يقتضيه النظر و الحال .
[497 /2]
و منها إسناد الإمامة في الصلاة في كثير من المساجد إلى العوام و الجهال ، و قد لا يحسنون شروط الإمامة و لا يعرفون أحكام الصلاة فيما تصح به و تبطل ، و ربما وجد فيهم من لا يقيم القراءة .
[قراءة القرآن بالألحان المطربة منكر يجب المنع منه ]
و منها قراءة القرآن بالألحان المطربة و الترجيع المشبه للغناء الملهي لسامعه عن الخشوع و الاعتبار و تجديد التوبة عند مواعظ القرآن ، فهذا منكر يجب المنع منه و تنزيه القرآن عنه ، بل الألحان نفسها مما ينكر في الشعر و ينبغي التنزه عن الحضور لها و سماعها ، فكيف بآيات الله تعالى و مقدس كلامه ؟ !
(2/86)
________________________________________
و منها حضور بعض النساء المتوفى أمرهن كالشولب الممتلئات لحماً اللاتي تتوقع معهن الفتنة مساجد الجماعات ، و في ذلك ضرر كثير و فساد كبير ، و إذا أدى حضورهن إلى هذا فهو منكر يجب قطعه و منعهن المسجد لأجله ، فقد منعتهن عائشة رضي الله عنها من دون هذا ، فقد قيل لها : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منعهن من الجماعات(1). فقالت : لو علم رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن . فأين زمانها رضي الله عنها حين قالت ذلك من هذا الزمان ؟ و انتشار البدع و الحدثان . فحسبنا الله و نعم الوكيل .
و منها ما قد كثر الآن و انتشر حتى عمت به البلوى ، و تلاعب قوم فيه بفساد الفتوى ، كالحلف بالطلاق و العتاق و الأيمان اللازمة ، و كتطليق الرجل امرأته ثلاثاً في كلمة واحدة مؤثر لذلك ، و كله منكر و تحريف لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و تغيير لشعائر الدين يجب قطعه إذا وقع على كل حال . فأما الحلف بالطلاق و الأيمان اللازمة و العتاق فارتكاب لنهيه صلى الله عليه و سلم إذ قال : « لا تحلفوا بالطلاق و لا بالعتاق ، فإنهما من أيمان الفساق » . و قال صلى الله عليه و سلم : « من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت » . و فيه مع ذلك التعرض للوقوع في منكر آخر و هو أن الحالف بالطلاق إذا حنث فقد لزمه الطلاق ، و قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } ، و هذا عقد على نفسه طلاقاً
[498 /2]
__________
(1) في نسخة : الجمعات .
(2/87)
________________________________________
بشرط فوجب مع وجوده ، فإذا وجب فإنما يقع عليه حين الحنث ، و ربما كان في حال حيض المرأة أو دم نفاسها أو في طهر قد مس فيه ، و هذه الأحوال لا يجوز له ابتداء الطلاق فيها ، فينبغي للحاكم حسمه ذلك كله بمنع الناس ابتداء من استعمال لفظ الثلاث و الاشتداد عليهم في قصده ، و إن أدى الاجتهاد إلى أدب فاعله بحسب ما يليق بمثله فحسن ، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم « أنه أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاثاً جميعاً ، فقام غضبان فقال : أيلعب بكتاب الله و أنا بين أظهركم » . و كان علي بن أبي طالب و عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يعاقبان الذي طلق ثلاثاً في كلمة واحدة ، و هو قول مالك . و الذي ينبغي من عقوبة من يطلب الفتوى في ذلك و أفتى بحله في واحدة أشد و أبلغ في التنكيل و الردع و الزجر لأمثاله ، لأن هؤلاء أهل الوسوسة و التشغيب على الضعفاء ، فواجب تفقد مثل هذا و إزالته من نفوس العوام ، فهو اليوم فاش ، و لا حول و لا قوة إلا بالله .
و منها المنكرات المعتادة في الشوارع و المحلات كاسترسال السكارى في مخالطة الناس و الاستطالة بآثار السكر من العبث و الهجر و ما أشبه ذلك من منكر أحوالهم ، و كذلك غيرهم من أصناف الفساق و المجاهرين بأنواع المناكر كاسترسال النساء حالتي السرور و الحزن في الإعلان بأنواع الملاهي البادية و إظهارها على الأصوات العالية في إسراف تتمادى على تلك الحال من موضع إلى موضع يتعارفنه بينهن بالزحف ، و ربما ضربن عليه بالطبل و بالدف و المزهر و يخرجن في الأزقات عاليات الأصوات باديات الوجوه . و ربما اجتمع إليهن الرجال للنظر و التعرض و نحو ذلك ، فواجب مهما عثر على شيء من ذلك القبض على فاعله و الإبلاغ في العقوبة فيه من مثله .
(2/88)
________________________________________
و منها متخذ الملاهي و أنواع الغناء المحرمات و الآلات و المزامير صناعة و حرفة ، و يكتسبون بها و يستأجرون عليها عند السرور و الحزن ، مثل الزفالين و المغنين و سائر ما لا يحل ، فهم أعوان للشياطين في تحريك النفوس لكل شر ، و ترتيب أهل المعاصي على كل منكر ، فيجب على القاضي ابتداء البحث و الكشف عمن شهر بذلك و ارتسم به و القبض على من وجد منهم .
[499 /2]
و منها تعرض الفساق و أهل الشر و الدعارة لحريم المسلمين و أعراضهم باتخاذهم المجالس على قوارع الطريق لأذى المارين من المسلمين ، إما بإطلاق القول فيهم من الغيبة و نشر العيوب و الهجر في المنطق ، و إما بالتعريض للنساء و الكشف عن عوراتهن و الاطلاع على محارمهن بالجلوس في مكان ذلك من أبواب الحمامات و مواضع تكررهن طلباً لمخاتلة الكشف عليهن و استمالتهن بالتعريض و المخالسة بالكلام ، و ما أشبه ذلك من وجوه المنكر . فواجب فيمن عرف بمثل هذه المبالغة في نهيه و زجره و العنف عليه ، و العقوبة إن كان لذلك وجه .
[تبرج النساء بأنواع الزينة ]
و منها تبرج النساء بأنواع الزينة البادية و أسباب التجمل الظاهرة على حال اختيال في المشي و استعمال منتشر الطيب و استظهار ما يستدعي الفتنة ، فهؤلاء ينبغي منعهن من التبرج على هذه الحالة . قال في الإكمال : شرط العلماء في خروجهن أن يكون بليل غير متزينات و لا متطيبات و لا مزاحمات للرجال و لا شابة مخشية الفتنة . و قال ابن سلمة : تمنع الشابة الجميلة المشهورة . انتهى .
(2/89)
________________________________________
و قال بعض الشيوخ : و في معنى الطيب اشتمالهن بالملاحف و مليح الأكسية . قال محيي الدين النووي : و يزاد لتلك الشروط أن لا يكون بالطريق ما تتقى مفسدته . قال عياض : و إذا امتنعن من المسجد فمن غيره أولى . انتهى . و كان ابن عرفة رحمه الله يفتي بمنعهن من الخروج إلى مجالس العلم و الذكر و الوعظ و إن كن منعزلات عن الرجال . قال : و إنما جاء ذلك في الصلاة و هو الصواب لا سيما في هذه الأزمنة . انتهى . و ذكر عن الشيخ سيدي أبي الحسن الصغير رحمه الله أنه لما ولي قضاء فاس و كان نساء البلد يخرجن كثيراً فجعل أعواناً في كل شارع يمنعوهن من الخروج ، و خاف مفسدة الأعوان لمباشرتهن جعل محابس من مغرا في كل شارع يلطخون بها أكسية من جاز من النساء ، فانتهين عن ذلك .
و منها اجتماع النساء في المقابر و الجبانات(1)و المواضع التي يتخذ منها
[500 /2]
مجالس للتنزه على من يمر عليهن من شبان الرجال ، و قد يعارضهن بتلك الحالة كثير من الفساق ، و ربما جلبهن إلى المرور عليهن ما اعتيد من اجتماعهن و عرف من اغراضهن . و قد يعمدن إلى نصب الأخبية على الجبانات تباهياً و زعماً أن يستتر من يطيل الجلوس منهن ، و هذا أدعى إلى الشهرة و الشر و أشد لصرف أعين الفساق و قلوبهم إلى من فيها ، مع ما يتوقع من جرأة من لا يتقي الله تعالى على مواقعة المعاصي بها للاستتار الكائن بها عن كثير من الاطلاع . هذا كله من المناكر التي يجب الاشتداد و المنع منها بحول الله . قاله ابن المناصف .
[اجتماع النساء و الرجال في سوق الغزل ]
__________
(1) في نسخة : و الحنات .
(2/90)
________________________________________
و منها اجتماعهن في بعض الأسواق التي قد يضطررن إليها كسوق الغزل و نحوه ، و ربما خالطهن الرجال و سفلة السماسرة و حدثوهن و تمازحوا بما لا يحل ، و ذلك منكر ظاهر و مدعاة إلى النزو و ارتكاب لمحارم الله تعالى ، فينبغي بعد اضطرارهن إلى ذلك أن يقدم هناك أمناء و يختار ثقاة السماسرة و شيوخهم ، و يمنع من كان متهماً من التصرف لهن ، و يعين للنساء موضعاً مستتراً يخصهن للخلوة في قضاء ما يحتجن إليه من ذلك ، بحيث لا يخالطهن من يتصرف لهن من الرجال .
و منها اتخاذ بعض الناس ما يؤول إلى أذى المسلمين و التضييق في الشوارع عليهم كتكديس المرحاضات المستخرجة من سروب المحلة و قنوات تلك الحومة و تركها كذلك في المواضع الضيقة بحيث يتنجس المار و قد يقع فيها الصبيان و الماشي ليلاً . و كذلك اتخاذ مرابط الدواب على الطرق و اتخاذ الكلاب العادية في الحومات و على أبواب الديار .
و منها ما يكون من قطر الميازيب التي تجري بالغسالة و النجاسة في موضع لا يكاد المار يسلم من لوثها ، و كذلك اتخاذ مرابط الدواب على الطرق بحيث ينال المارين من ضيق الموضع بها و تعذر الجواز بروع كثير من الناس مضرة ظاهرة ، و ربما أدركهم شيء من تلويث ثيابهم و تنجيسها بما يكون من أرواثها و أبوالها .
[501 /2]
[إرهاق البهائم و الإنسان بالأثقال منكر يجب تغييره ]
(2/91)
________________________________________
و منها ما يستخفه بعض الناس من أذى البهائم و العنف على الدواب كإثقالها بالأحمال التي لا تستقل بها و إرهاقها في سرعة المشي بالضرب و الزجر الشديد ليستخرج منها فوق وسعها ، مثل ما اعتيد فعله الآن من حمالي الزرع و نقالي الحجارة و الجبص و الخدمة من الزمالين و غيرهم ، فهذا من المناكر التي يجب الاحتساب فيها و منعهم منها ، و لا حجة له في كونها ملكه ، فإن الحيوان محترم و حفظ النفس واجب ، حتى لو اتفق أن يرى أحد و قد حمل نفسه فوق ما يطيق من ذلك و عنف عليها عنفاً يظهر منه سوء نظره لها لمنع من ذلك و قهر على إزالته و جوهد عليه إن أباه .
و منها المنكرات المعتادة في الأسواق و عقود المعاوضات كأنواع الربا في المعاملات و الأثمان و المصارفة ، و هو على وجوه : فمنها ما لا يكاد يخفى على أحد كإعطاء درهم باثنين و الزيادة في دين حل على النظرة به فهو استعجال بعض عن كل فيما لم يحل ، و أشباه ذلك من ظواهر الربا .
(2/92)
________________________________________
و منها ما قد انتشر و وقعت المجاهرة بفعله في الأسواق من غير نكير كبيع القلائد و عقود الجوهر المشتملة على شذور الذهب أو الفضة المنظومة مع غيرها من الجواهر و اليواقيت و القرنفل و نحو ذلك ، فبيع هذه الأصناف و ما في معناها منظومة في صفقة واحدة بدنانير أو دراهم فاسد لا يصلح ، كان الثمن من جنس ما في المنظوم أو من جنس غيره من الذهب و الفضة ، لأنه إن كان من جنسها ففاسد من حيث عدم التماثل في الوزن ، و إن كان من غير جنسها ففاسد من حيث إنه بيع و صرف ، إلا أن يقل ما كان من غير الجنس مع السلعة حتى يكون كالتبع ، أو تقل السلعة قلة بينة فيستخف نقداً . و الوجه في هذا أن ينقص و يباع كل على حدة بما يصح به بيعه أو يباع منظوماً بعرض غير الذهب و الفضة كالبر و الشعير و أنواع العروض فلا اعتراض فيه إذا سلم من الجهالة ببعض المنظوم و عظم القدر و الخطر . و ما تواطأ الناس عليه اليوم و أعلن بالنداء عليه في الأسواق بمحضر الخواص و الكافة من بيع اللجم و الركب و قوائم السيوف و نحو ذلك مما هو محلى بأنواع الذهب و الفضة التي لها
[502 /2]
قدر عظيم بالدنانير و الدراهم ، و ذلك فاسد إذا كان الثمن من جنس تلك الحلية إلا أن تكون تلك الحلية تبعاً كالثلث فدون ، و إن كان بغير جنسه استخف تلك الحلية قلت أو كثرت ، و كل ذلك نقداً ، و لا يصلح في شيء منه نسيئة ، و في استعمال اللجم و الركب بحلية الذهب و الفضة نظر قبل كل شيء ، لأن الذي أبيح من ذلك ما كان في المصحف و الخاتم من الفضة خاصة .
[ما لا يباح للمرأة اتخاذه من أواني الذهب و الفضة ]
(2/93)
________________________________________
و منها تزيين البيوت و الحوانيت بآنية الذهب و الفضة و اتخاذ المكاحل و المراود و طرق الغالية و القوارير لصون الدهن . و في معنى المكاحل الأمشاط و الأمرية و الأنعلة و القباقب و خرز الأنطعة بخيط الذهب أو الفضة ، فإن هذا كله من الاستعمال المحرم ، و إن كان هذا من متخذات النساء لكنها ليست من حليهن المباح لهن ، لأن حقيقة الحلي ما يتحلين به و هو متصل بهن . قالوا : و جعل الفضة على طرف المرود للاكتحال به خفيف . و يحكى أن الشيخ العوفي صاغ لابنته مكحلة من فضة و قال : غلبتني على ذلك أمها . و العوفي المذكور هذا ليس هو المؤلف ، بل أحد فقهاء تونس المتأخرين في طبقة شيوخ ابن عبد السلام .
[انتصاب الجهال للفتوى و التدريس ]
و منها المناكر العظيمة القاصمة للظهور ، المورثة للقبور ، المنجرة بتعاطي الجهال العلم و انتصابهم للفتوى و الطلب و الإلقاء ، فهذا أمر فاش قد كثرت البلوى به و عمت المصيبة به و هلكت بسببه الأديان و الأبدان . و ذلك لما ضاع العلم و قل القائم به و المناضل عنه و ذهب أهل التمييز و التحقيق ، فانهمك الناس و تعاطى العلم جهالهم و أفضوا إلى ما حذر منه نبينا محمد صلى الله عليه و سلم « في نزع الحق حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا » ، أعاذنا الله أن نكون منهم و وقانا التباعات .
قال الشيخ أبو عبد الله بن المناصف رحمه الله : و قد انتهى الحال اليوم
[503 /2]
(2/94)
________________________________________
إلى أن ينظر أحد العوام في أوراق من الفقه أو الكلام ، و يقدم على الخوض فيما يهلكه و المستمع منه ، أو يقف على مسائل من الخلاف فيختار منها بحسب ما يوافقه من شتات المذاهب و يفيده سوء نظره الكاذب ، ثم يتصدر للقول و يطلب الفتوى فيقول فيما ليس له به علم هذا حلال و هذا حرام ، و يفتري على الله الكذب . و لقد أخبرني غير واحد عن رجل من العامة أعرفه الآن ممن وقف على كلام بعض أهل الظاهر من غير تفهم لمعانيه و لا ملاقاة شيخ فيه أنه أفتى الناس مجاهراً غير مستتر و لا مستحي من الله تعالى أو مراقب لمن يقيم عليه حدوده بأشياء من الفواحش منكرة ، منها أن يمين الرجل بالطلاق و العتاق و ما أشبه ذلك من متعلقات الشروط في مثل هذا و التزام العقود لا يوجب الحنث عليه فيها شيئاً ، و يحملهم على ذلك و يريهم تسهيل سبيله ، بأن يحلف لهم بالطلاق على شيء و ضده في مقام واحد ، و يجرئهم بذلك على حدود الله تعالى ، و عن آخرين يفتون في عظيم النوازل على حسب أغراضهم بما قد سمعوه فلم يفهموه أو قاسوه فحرفوه ، من رخصة قائل أو علة ناظر في مذهب من المذاهب الشاذة و الأقوال الفاذة ، و ربما مر بنظره الفاسد في أشباه هذه الأقوال إلى استنباط أشياء لا رأس لها و لا ذنب ، يخرق في بعضها الإجماع ، فبيناه يفتي في المطلقة ثلاثاً ترد إلى واحدة ، و في جواز بيع أم الولد ، و إذا به يفتي بإباحة التيمم للصلاة و الفطر في رمضان للقادر و الصحيح المقيم ، و ما أشبه هذا من الفواحش القاصمة للظهر . و ما أشد ما أولع ضعفاء العامة بالأخذ عنهم و الاقتداء بهم ، لأن النفوس الخسيسة تنزع إلى الشر الذي هو جنسها .
(2/95)
________________________________________
فهذا النوع من أعظم المناكر المؤدية إلى استحقاق عموم العذاب الموجبة لسخط الله تعالى و مقته أشد مراتب العذاب ، فواجب على كل من مكنه الله تعالى و يسره لليسرى القبض على مثل هؤلاء و إرهاقهم العقوبة الشديدة و التنكيل المبرح حتى لا يتعاطى أحد فوق قدره ، و لا يتعدى حدود أمره ، فإن فتنة هؤلاء في الأمة أشد ضرراً من فتنة الجوع و الخوف و نهب النفوس و الأموال ، و ذلك أن من هلك هنالك فإلى رحمة الله و كريم عفوه ، و من هلك دينه فإلى لعنة الله و عظيم سخطه ، أعاذنا الله و المسلمين . و كذلك ما يتعاطاه كثير من مدعي علم الطب و معرفة الأدواء و صناعة اليد على جهل منهم بحقائقه إلا لمحة وقفوا عليها و إشارة نظروا إليها . و هذا الشأن من الطب مما
[504 /2]
تبطل خفاياه ، و تعظم زراياه ، فيسرعون في أجسام المسلمين بالأدوية القتالة و القطع و الكي و العلاج المهلك على غير علم . و لقد سمعت أن بعضهم ركب دواء لرجل ثم سأله بعد ذلك عن فعله ، فلما أخبره ذلك الرجل وثب مسروراً و قال : ما كنت أظن أنه يفعل هذا الفعل . و كان هذا الطبيب المستخف قد جربه في هذا المسكين يختبر صحة علمه و مبلغ فعله . و لمثل هذا يأتون على الكثير من النفوس و إتلاف الأعضاء و السمع و البصر بحسب اجتهاد الطبيب و جرأته . و منهم الصنف المعروفون بالغرباء و هي عندهم صناعة معلومة لها مراتب من الحيل و التخيل و المذكات(1)و إيهام العقل ، و ينقسم على وجوه كثيرة .
و منها ، و هي من البدع بالإجماع ، ما تناولته أدلة التحريم و قواعده كالمكوس و تقديم الجهال على العلماء و تولية المناصب الشرعية بالتوارث و الجاه لمن لا يصلح لها . و في مثلهم أنشد الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله :
بلينا في قوم صدروا في المجالس = لإقراء علم ضل عنهم مراشده
لقد أخر التصدير عن مستحقه = و قدم غمر جامد العقل خامده
__________
(1) في نسخة : و الحركات .
(2/96)
________________________________________
و سوف يلاقي من سعى في جلوسهم = من الله عقبى ما أكنت عقائده
علا عقله فيهم هواه أما درى = بأن هوى الإنسان للنار قائده
و منها ما يفعل على طريق التورية و التخييل و إحالة العين كمصالحه الثوب القديم بالقصارة و صقالة الكمد(1)فيوهم بذلك أنه جديد ، كالصبغ في بعض الأكسية البالية و تشويكها لاستخراج الزبين و خياطتها أثواباً يزعم أنها جديدة ، و ما أشبه ذلك من رفو الثوب المخرق و مشط قنع الحرير الواهية و عصابته ، و نحو ذلك مما يستعمل الآن كثيراً في الأسواق و يقصد خديعة المشتري . و قد يتعرف من أشباه ذلك بالمباحثة ما لا تسع الإحاطة و لا التنبيه عليه . فما علم من ذلك وجب قطعه و منع الناس من فعله ، و الاجتهاد في عقوبة من عرف به و تفقد الأسواق من مثله .
[505 /2]
و منها استرسال النساء في مجتمعهن في الحمامات و المآثم على إظهار ما يخفى من محاسنهن و حصون أجسامهن و ما يدعو إلى اطلاع بعضهن على ما لا يحل لها من الأخرى ، فإن المرأة أكثر محاسنها و خفايا جسمها يحكم لها بحكم العورة فيجب ستره عن النساء كما يجب عن الرجال . قال بعض شيوخنا : و لا سيما ما يدعو إليه اطلاع بعض الفاسقات على خفي محاسن الأخرى ، و تحرك شهوة التفاعل الذي يختار بعضهن لذته عن مباضعة الرجال . و الحكم في أدبهما على قول ابن القاسم راجع إلى اجتهاد الحاكم و هو المشهور ، و على من أنزلت منهن الاغتسال . قال بعض المتأخرين : و كثر ذكر هذه المفسدة في هذا الزمان ، و الذي يظهر من درئها في هذا الوقت أن من علم هذا من وليته أن يمنعها من الخروج إلى مواضع التهم ، و إن تمادت عليه جعل عليها أمينة ذات محرم منها ، و إن لم ينفع ذلك فيها قيدها في داره كما وقع لحمد يس في الذي قال عثرت على مرد بطاليس يفسدون و الدراري معهم و قيودهم في أرجلهم ، فصوب فعله . و قال احبسهم عند آبائهم لا في السجن .
__________
(1) في نسخة : الأكمد .
(2/97)
________________________________________
و منها البناءات التي تبنى حيث يرى النبي صلى الله عليه و سلم في المنام ، فتعمية مواضعها و تغييرها بالهدم واجب لأنه بدعة ، و بقاؤها ظاهر يخاف أن يفتن الناس بها .
و سئل ابن عرفة رحمه الله عن السارية التي بالجامع الأعظم بتونس و الناس لا يحطون عندها أنعلتهم .
فقال : لا يحط أحد نعله عندها و لا ينهي غيره عن الحط .
و منها تعطيل الملوك سنة التشميت حتى صار إذا عطس أحدهم فحمد سكت له أو قيل بدل السنة يرحمك الله بدعة نصرك الله ، و يرون أن الدعاء بالرحمة تعريض بالموت . و يروى أن الرشيد عطس بحضرة مالك فشمته مالك ، فلما خرج توعده الحاجب أن يعود لذلك ، فبعد مدة عطس بحضرته فالتفت مالك إلى الحاجب ثم قال : يا أمير المؤمنين ، أتحب حكم الله أم حكم الشيطان ؟ فقال : بل حكم الله . فقال له : يرحمك الله . و قيل : إن الحجاج بلغه أن عبد الملك عطس فشمت فرد عليه من شمته بالدعاء له ، فكتب إليه الحجاج : يا أمير المؤمنين ، بلغني أنك دعوت لمشمتك ، و { يا ليتني كنت معهم فأفوز
[506 /2] فوزاً عظيماً } . و كان السطي رحمه الله إذا عطس السلطان لا يشمت بشيء لا برحمة و لا بدعاء ، و كان ممن يقتدى به . قال ابن عرفة : و كنت أنا أقول يرحمك الله لكن سراً لأخرج من عهدة الرد في مثل هذا المحل . و العذر للسطي ، و الله أعلم ما يتقى من ذلك .
و منها تبديل حاضري مجالسهم تحية الإسلام و هي السلام عليكم بدعوى الجاهلية : أنعم الله صباحك ، أنعم الله مساءك . و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للذي قال له عموا صباحاً : « قد أبدلنا الله خيراً من تحيتك و قال السلام تحيتنا و شعارنا و أمان لذمتنا » .
(2/98)
________________________________________
و منها نداء الملوك بيا مولاي . قال المقري : و هو لفظ لا يجد منادي ربه ما يكون منه بذلك أولى . ألا ترى أن الشيطان كيف لم يستطع حمل الإنسان عليه هجمه حتى استدرجه إليه ترتيباً ، فسول لبني العباس و أصحاب المهدي أن حملوا الناس على أن ينادوهم بالسيد ، لأن العرب كانت فيهم سادات أقرهم الشرع على ذلك حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم : « قوموا لسيدكم » ، و قال : « إن سيدكم لغيور » . و ليس ذلك من الأسماء الحسنى ، لأن مالكاً كره في العتيبة أن ينادى الله عز و جل بيا سيدي ، و قال : لا يسمى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله . و لم يعرف ما روي من قوله عليه السلام السيد الله ، أو حمله على الإنكار على من ادعى السؤدد بالمقابلة كما قال الله عز و جل : { الله يستهزئ بهم } . فهذا و ما يشبهه خفف العدو عليهم مخالفة السلف في طاعة كبرهم . فلما أطاعوه في إحدى الكبر رماهم بأدهى منها و أمر .
فإن قلت : في الصحيح : « لا يقل أحدكم ربي ، و ليقل سيدي و مولاي » . قلت : و في الصحيح : « لا يقل العبد لسيده مولاي ، فإن مولاكم الله » . و الجمع بينهما باختلاف معنى المولى فيهما . و قال أيضاً في قواعده : و قد حسن الشيطان لكثير من العلماء تعليم أبنائهم أن ينادوهم بسيدي و مولاي كالعبيد ، و ذلك استكبار عن الولد و تنزيل له منزلة العبد ، حتى سمعت بعض المغرورين منهم يقول : من قال في غيبة من لا يواجه إلا بالتسويد أو التكنية قال فلان فقد اغتابه ، فحكم على السلف و الخلف بالغيبة ليعظم شاهداً و غائباً سمح الله تعالى له ، و إنما حسن لهم ما يستدرجهم به إلى رتبة { و ما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } كما فعل بالقسيسين و الرهبان . ألا ترى أن بعض
[507 /2]
(2/99)
________________________________________
العلماء انتزع من هذه الآية و ما بعدها أن الولد لا يكون عبداً ، فمن ملكه عتق عليه . كما انتزعت مثله في الزوجة من قوله تعالى جده : { لو أردنا أن نتخذ لهواً } أي زوجاً ، حتى قوله : { و له من في السموات و الأرض } لأنه نافى به الزوجة و الملك . و قد حسن لهم فيها مثلما زين في الولد ، فأزواجهم ينادونهم بلفظ السيد و المولى كما أبناؤهم . و قد كان لهم في إهلاك الملوك بذلك أكبر زاجر عن مثله ، لكنهم عموا عنه في غيرهم فأوقعه بهم . و قد اختلفت الأحاديث في قول العبد مولاي لسيده ، و الواجب توقير أسماء الرب بالتفرد حتى يرد الإذن البين و الوقوف عند موجب العلم و العمل .
[اختصاص الشرف بنسل علي و فاطمة حادث بعد القرن الثالث ]
و منها اختصاص اسم الشرف بمن لرسول الله صلى الله عليه و سلم عليه ولادة ، فإنه حادث بعض مضي ثلاثة القرون المثني عليها ، و الحكم على الشيء فرع عن تصورة ، و هو لا يتحقق و إن كان اسماً بسبب الولادة منه ثبت بالأم اعتباراً بأصله ، إذ لا ولادة له على أحد إلا بذلك { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } . قال المقري : و بذلك أفتى فقهاء بجاية الذين درجوا من أهل زماننا . و إن كان اسماً لرجوع النسب إليه لم يثبت بها ، لأنه في الأصل على خلاف الأصل فلا يقاس عليه ، و به أفتى فقهاء تونس ممن ذكروا ، و إن كان الأول أقرب لولا أنا لم نسمع فيما مضى بدخول أحد من ولد بنات علي و غيره في ذلك مع ولد بنيه حتى وقعت المسألة بتلمسان و اختلف فيها فقهاؤنا و كتبوا إلى غيرهم فوقع الأمر على ما ذكرت لك ، و لم يتحقق مدلوله فتلحق به . و قوله عليه السلام : « إن ابني هذا سيد » أولى بالمجاز من قول الشاعر :
بنونا بنو أبنائنا و بناتنا = بنوهن أبناء الرجال الأباعد
[جعل السلاسل في أعناق الجناة ]
(2/100)
________________________________________
و منها جعل الأمراء و لا سيما أمراء المغرب السلاسل و الأغلال في أعناق الجناة في المحال و حالة سوقهم للنظر في جرائمهم بين يدي الأمراء و الفقهاء . قيل لابن عرفة رحمه الله على مذهب مالك رحمه الله في جواز القياس على فعل الله ، هل يؤخذ من قوله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم و السلاسل } جواز
[508 /2]
مثل فعل هذا في العقوبات ؟ فقال : لا يؤخذ منها ذلك ، لأن هذه عقوبة أخروية و تلك عقوبة دنيوية . قيل له : إن المشارقة يفعلونه . فقال : أخطؤوا غاية الخطأ . و لم يذكر المالكية هذا إلا في اعتقال المجوس للقتل أنه يجعل القيد من الحديد في رجليه خيفة أن يهرب ، أما عنقه فلا يجعل فيه شيء . و قد كان بعض القضاة فعله قبل هذا و جُهِّل في ذلك .
و منها ما جرى به عمل القضاة في التعزير من ضرب القفا مجرداً من ساتر بالأكف و هو المسمى في عرف المغرب بالزز(1). قال سيدي أبو عبد الله محمد بن مرزوق : و هي تماثل فاؤها و عينها و لامها .
و منها غسل الأيدي للطعام . حكى القاضي عياض عن مالك رضي الله عنه أنه دخل على عبد الله بن صالح أمير المدينة ، فجلس ساعة ثم دعا بالوضوء و الطعام ، فقال : ابدؤوا بأبي عبد الله . فقال مالك : أبو عبد الله ، يعني نفسه ، لا يغسل يده . فقال : لم ؟ فقال : ليس هذا الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا ، إنما هو من زي الأعاجم ، و كان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدميه . فقال له عبد الملك(2): أترك يا أبا عبد الله ؟ فقال : أي و الله . فما عاد إلى ذلك ابن صالح . قال مالك : و لا تأمر الرجل أن لا يغسل يده ، و لكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه فلا ، أميتوا سنة العجم و أحيوا سنة العرب ، أما سمعت قول عمر : تمعددوا و اخشوشنوا و امشوا حفاة ، و إياكم و زي العجم .
[
__________
(1) الزايان مشددان مرققان ، و يستعمل حتى اليوم في كلام عامة المغرب بمعنى الإكراه .
(2) لعل الصواب : عبد الله .
(2/101)
________________________________________
القيام ليلة النصف من رجب و شعبان حدث في القدس عام 448 ]
و منها القيام ليلة النصف من رجب و شعبان . الطرطوشي في أصل قيام ليلة النصف من شعبان عن أبي محمد المقدسي ، قال : لم يكن عندنا ببيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب و شعبان ، و أول ما حدثت عندنا في سنة ثمان و أربعين و أربعمائة ، قدم علينا في بيت المقدس رجل يعرف بابن الحمرا و كان حسن التلاوة ، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف
[509 /2]
من شعبان ، فأحرم خلفه رجل ثم انضاف إليهما ثالث و رابع ، فما ختم إلا و هم في جماعة كبيرة ، ثم جاء في العام القابل فصلى معهم خلق كثير فشاعت في البلد و انتشرت في المسجد الأقصى و بيوت الناس و منازلهم ، ثم استقرت كأنها سنة إلى يومنا ، فقلت له : فأنا رأيتك تصليها في جماعة . قال : نعم ، و أستغفر الله منها .
[خدمة سابع الميت بالقراءة و غيرها لها أصل في الأثر ]
و منها ما نقله ابن أبي زمنين في مقربه عن ابن وضاح في أنكار سابع الميت ، و أنه مما أحدثه الناس و لا أصل له في الشرع ، و أنه من قبيح محدثاتهم ، لكن ذكر ابن بطال في شرح البخاري في خدمة سابع الميت بالقراءة و الأمور المعهودة في ذلك أثراً عن ابن طاوس ، قال : كانوا يستحبون أن لا يتفرقوا عن الميت سبعة أيام ، لأنهم يفتنون و يحاسبون في قبورهم سبعة أيام . انتهى .
(2/102)
________________________________________
و قول التابعي كانوا إنما يعني به أصحاب النبي عليه السلام ، و هذا أصل عظيم للسابع الذي يفعله الناس اليوم ، و يقتضي الأثر أن لا يفارق الميت و لا يترك وحده تلك الأيام السبعة و هذا يشق ، و أخذ الناس في هذه الأزمنة بحظ من ذلك . و يحسب في هذه الأيام السبعة وقت دفنه لأنه أول ذلك ، و هذه أوقات الفتنة . و قد نقل الناس أن الفسطاط ضرب على قبور أمة من علماء الإسلام كابن عباس ، و ما كان إلا لأجل الملازمة التي ذكرها ابن طاوس عن أبيه . و هذا كله أولى بالاتباع و الوقوف عنده من الكلام الذي نقله ابن أبي زمنين عن ابن وضاح .
و منها الطعام الذي يصنع للميت للقراء على الميت و غيرهم عند تمام سابعه . ذكر بعض الأصحاب أنه ممنوع و لا يجوز أكله . و قال آخرون : المحظور من مثل ذلك إنما هو فعله على أنه دين و شرعة ، و أنه من حق الميت على أوليائه ، كما يفعله كثير من الجهلة على هذا الوجه ، و يقصدون بفعله هذا القصد ، فهذه بدعة و تَقَوُّلٌ على السنة . و أما فعله على وجه الترحم على الميت و صلة الأرحام و استجلاب النفوس و استنهاض القلوب لجهة الميت بالدعاء له و الترحم عليه فلا حرج ، إذ من المقاصد المحمودة في ذلك تأنيس قرابة
[510 /2]
(2/103)
________________________________________
الإنسان و تسليتهم بوضع كنف الإحسان حتى يظهر لهم بذلك أن فيمن بقي خلفاً ممن سلف فهذا قصد حسن ، « و إنما الأعمال بالنيات ، و إنما لكل امرئ ما نوى » . فهذا أصل من الأصول المعتمدة في الأقوال و الأفعال و ليس تلقين الميت وقت دفنه مما تقدم ، لأن الأصل في العمل به في هذه الأزمنة حديث ذكره عبد الحق في كتابه العاقبة ، قال : يروى عن أبي أمامة الباهلي أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول يا فلان بن فلانة ، فإنه يقول أرشدني يرحمك الله ، و لكنكم لا تسمعون به ، فيقول اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، و أنك رضيت بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمد نبياً و بالقرآن إماماً ، فإن منكراً و نكيراً يتأخر كل واحد منهما و يقول انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا و قد لقن حجته ، و يكون الله حجتهما دونه . فقال رجل : يا رسول الله ، فإن لم يعرف أمه ؟ قال : ينسبه إلى أمه حواء » .
(2/104)
________________________________________
و منها من قرأ في الأشفاع في رمضان ، فلما بلغ سورة و الضحى أخذ يقول في كل سورة الله أكبر كبيراً و الحمد لله كثيراً و سبحان الله بكرة و أصيلاً ، فإن ذكر الله على الجملة حسن و فيه الأجر و الثواب ، و لكن على طريقة الاقتداء و الاتباع ، لا على مقتضى الأهواء و الابتداع . و من الكلمات الجامعة لخير الدنيا و الآخرة اتبع لا تبتدع ، اتضع لا ترفع ، من ورع لا يتسع . فيحسن أن يعوض من قراءة الصلاة ذكر غيرها أو يشتغل المأموم بالذكر عن سماع قراءة الإمام في الجهر ، و العبادات و وظائف الطاعات حدود و خصوص و أحوال و شروط ، و القراءة سنة تتبع و طريقة على المورد و المشرع و لا يجوز فيها العدول عما روي إلى غيرها و لا الخروج عما دخل في باب المروي و صح نقله ، و خلاف ذلك بدعة و ضلالة و تنقص مما داوم عليه عليه السلام من سنة القراءة . قال بعض الشيوخ : و لقد كان بعض المعلمين للقراءة يأمر الصبي في بدء القراءة بالاستعاذة و بالبسملة و زيادة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم بل الشروع في القراءة ، فسمع بذلك الشيخ الفاضل شيخ الإسلام في عصره أبو إسحاق بن أبي العاصي فاستحضر المعلم و أغلظ له في القول على تلك الزيادة حتى ربما أقسم له إن عاد إلى مثل ذلك ليوجعنه بالسياط ضرباً
[511 /2]
فانتهى الرجل . و هكذا ينبغي أن يفعل بذلك المبتدع المذكور ، فإن انتهى و إلا فيجب تأخيره عن الإمامة و هجره و أخذه بما يكره و يسوءه . و الحق واضح ، و الطريق لائح ، و الناكب عنه هالك ، و الله الموفق .
(2/105)
________________________________________
و منها الجهر بالذكر أما الجنازة على صوت واحد ، لأن ذكر الله تعالى و الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم من أفضل الأعمال و جميعه حسن ، لكن للشارع وظائف رتبها و أذكار عينها في أوقات ، فوضع وظيفة موضع أخرى بدعة ، و إقرار الوظائف في محلها سنة ، و تلقي وظائف الأعمال ، هو من الاتباع للسلف في الأوامر و النواهي و الأحوال . و المتلقى من الأعمال في حمل الجنائز إنما هو الصمت و التفكر و الاعتبار ، و تبديل هذه الوظيفة بغيرها تشريع ، و من البدع في الدين ، و قد قيل في قوله تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } إنه نهي عن أن يزكي ميته بذلك الفعل من قبل نفسه ليعتقد ذلك له و لميته .
و منها إنشاد الشعر و غيره في الصوانع ، فإنه من البدع التابعة ليدع ، لأن الأصل الأذان وحده ، ثم أتبع الأذكار لقصد الإيقاظ ، ثم اتبع الغناء و السماع ، و هذا كله من الإحداث و الابتداع .
[طريقة إباحية في الأندلس تشبه العكازية ]
و سئل الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله عن رجل أشهد عليه بالسماع الفاشي أنه ينتحل الطريقة الفقرية التي اشتهر بها أهل الإباحة و تحليل ما حرم الله ، و أنه متهم بطريقة أهل الزندقة الذين يظهرون الإسلام و يستترون بالكفر ، و ثبت ذلك عند الحاكم . و شهد عليه أيضاً شهود بأمور تقتضي حكماً زائداً على الحكم فيما ذكر ، شهد عليه أحدهم بأنه فسر قوله تعالى : { الحي القيوم } بأن الحي حيا المرأة ، يعني فرج المرأة ، و أن القيوم ذكر الرجل - تعالى الله عن أقوال المفترين- و شهد عليه آخر أنه قال : العبادة ثلاثة أقسام : مجازية ، و هي ما عليه هؤلاء الناس ، و أشار برأسه يميناً و شمالاً ، و عبادة حق ، و حقيقة . و شهد عليه آخر أنه قال في الختان المشروع الذي هو من خصال فطرة الإسلام الأصل في ذلك أنه لما خلق آدم خلق بزيادة فيه ، فقالوا :
[512 /2]
(2/106)
________________________________________
من أين تزال هذه الزيادة ؟ إن أزيلت من أنفه ظهرت ، أو من كذا ظهرت ، فأزيلت من ذلك الموضع الخفي . فقال له الشاهد : من أين تنقل هذا ؟ و من ذكره ؟ فقال الفقير : لا ينظر في كتاب و لا أسطار ، إنما يقول ما حصل في صدره . و شهد رابع و خامس برؤيته مع رجال و نساء على حالة اختلاط و معاطاة الخمر فيما بينهم ، و ثبت هذا العقد عند الحاكم أيضاً ، فوقع النظر في هذه الشهادات مع اختلافها في ظاهر الأمر ، و هل تقتضي حكماً أم لا ؟ فإن كل واحد من الشهود الثلاثة شهد بمعنى غير ما شهد به صاحبه ، فربما سبق إلى بادي الرأي حين لم يتواردوا على معنى واحد بعينه أن العقد غير مستقل ، لأنه لم يشهد بمعنى من تلك المعاني إلا شاهد واحد ، و الشاهد الواحد لا ينبني عليه بانفراده حكم .
(2/107)
________________________________________
فأجاب : الذي يقال و بالله التوفيق أن الشهود الثلاثة قد اتفقوا على معنى واحد يقتضي الحكم بقتله من غير استتابة . أما عدم استتابته فلاستتاره بتلك المقالات ، و أما قتله فلأن شهادتهم اجتمعت على أنه كافر بشريعة محمد صلى الله عليه و سلم . فإن الحي القيوم في أسماء الله ثابت في الشريعة قرآناً و سنة على معناه المفهوم الخاص و العام ، فتحريفه إلى ذلك المعنى الخسيس كفر يصحبه من لااستهزاء ما لا يخفى . و كل من كفر بشيء من الشريعة فهو كافر بجميعها حسبما هو منقول عن السلف الصالح ، و نص عليه أصبغ بن الفرج بعبارة أخرى فقال : من كذب ببعض القرآن فقد كذب به كله ، و من كذب به كله فقد كفر به كله ، و من قد كفر به كله فقد كفر بالله . فالتفسير لهذين الاسمين العظيمين بما ذكر تكذيب من المفسر بما أتى فيهما في الشريعة ، مثل ذلك قوله في العبادة التي يتوجه بها الخلق لربهم أنها مجاز ، فالذي هو مفهوم العموم من لفظ المجاز في هذا المساق أنه باطل و أن العبادة التي ينتحلها المسلمون باطل لا حقيقة لها و لا حاصل تحتها ، فهو أيضاً كفر بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم من الأمر بعبادة الله و التوجه إليه بها مع استهزاء و سخرية . و مثله قوله : الفقير لا ينظر في كتاب و لا أسطار ، إنما يقول ما حصل في صدره ، فإنه يقتضي الكفر بنقل الشريعة ، إذ معناه أن الفقير غير محتاج إلى المنقولات بإطلاق لاستغنائه بما يلقى إليه ، فهو نبذ للشريعة بجملتها معنى ( كذا ) الظاهر
[513 /2]
(2/108)
________________________________________
بها . هذا و إن كان لم يقل أنا لا أنظر في كتاب ، و لكنه قال : الفقير لا ينظر . فلم ينسب ذلك إلى نفسه فيحتمل أن يدخل نفسه فيهم ، و إلا فلا يلزم بذلك القول شيء ! فإن قرينة الحال تبين معنى لفظ الفقير ، و أنه يعني نفسه مع ما ثبت من تصديه إلى طريقة الفقراء الذين نسب إليهم ما نسب ، فقد اجتمع الشهود إذاً على معنى واحد ، و هو كفر المشهود عليه بما علم من دين الأمة ضرورة ، بحيث لا يعذر فيه أحد بدعوى جهالة ، فيجب قتله حتى يريح الله منه العباد و البلاد . ثم إنا نأتي بطريق آخر نبين ما تقدم ، من ذلك أن الشهود اجتمعوا على معنى واحد و هو أن الشريعة إنما المراد بها غير مقتضى لفظها من أن وراء الظاهر معنى آخر غير ما تفهم الناس منه ، و من فهمه وصل عندهم إلى المرتبة العليا . و قد حكى عياض الإجماع على كفر هؤلاء . أما بيان ذلك أن الحي القيوم فظاهر ، و أما في كون العبادة مجازاً فكذلك أيضاً ، لأن مذهب الباطنية أن الفرائض أسماء رجال أمروا بولايتهم ، و الخبائث و المحارم أسماء رجال أمروا بالبراءة منهم إلى أشباه ذلك من خطابهم الخبيث . و أما في قوله الفقير لا ينظر في كتاب ، هو معنى ما يذهب الزنادقة و الإباحية إليه من أن هذه التكاليف إنما هي للعوام ، و أما الخواص و هم الفقراء عند هؤلاء فلا حاجة بهم إلى التكليف و لا إلى العبادة ، إذ قد ترقوا من تلك الدرجة بزعمهم حسبما نقله العلماء كأبي حامد رحمه الله . فإذا تقرر هذا فلا يرتاب مؤمن في قتل صاحب هذا القول .
(2/109)
________________________________________
قال عياض : و كذلك أجمع على تكفير من قال من الخوارج إن الصلاة طرفي النهار ، و على تكفير الباطنية في قولهم إن الفرائض أسماء رجال أمروا بولائهم و الخبائث و المحارم أسماء رجال أمروا بالبراءة منهم ، و قول بعض المتصوفة إن العبادة و طول المجاهدة إذا صفت أنفسهم أفضت بهم إلى إسقاطها و أباحت كل شيء لهم و رفع عهد الشرائع عنهم ، فقد حملوا الأمر بعبادة الله على التقييد بتلك الحالة لا على ظاهرها من الإطلاق ، مع أن قوله الفقير إنما يقول ما حصل في صدره ليشبه قول من يقول إنه يوحى إليه و إن لم يدع النبوة ، و هو عند عياض أيضاً كافر بهذه الدعوى . فقد اجتمع الشهود بهذه الطريقة على الشهادة بحمل الشريعة على خلاف ما يفهم الجمهور من ظاهرها و هو معنى منتهض في الحكم على المشهود عليه بالكفر .
[514 /2]
[يحاز النسب بما تحاز به الأملاك ]
و سئل قاضي الجماعة بمراكش مؤمن بن مجاهد عن رجل قال لرجل ينتسب أموياً أثبت حريتك . و بساط الكلام يقتضي أنه شتمه بالعبودية و الرق ، و المقول له هذا ينتسب هو و أبوه و جده أموياً و قد حازوا هذا النسب على مر الأيام . فهل يكلف هذا القائل إثبات أنه من الموالي و أبناء العبيد ، إذ أصل هذا النسب في طيبة قريش و هو في غيرهم تجوز و إضاقة إليهم ؟ يكلف المقول له إثبات أنه من أنفس بني أمية دون مواليهم ، و حينئذ يحد له القائل ؟ و كيف إن صح الحكم و قد رأى هو و من حضره من أهل العلم إقامة الحد على القائل دون أن يكلف المقول له إثبات أنه قرشي ؟ بينه مأجوراً .
فأجاب : وفقنا الله و إياك ، إذا حاز هو و آباؤه هذا النسب و عرف به حمل أمره على أنهم من الصلبية ، و يحد من رماه بما ذكرت إلا أن تقوم بينة أنه من الموالي ، و بالله التوفيق .
فأجاب أبو محمد عبد الحي بن عطية : جواب الفقيه قاضي الجماعة دام توفيقه صحيح ، و بمثله يقول عبد الحق بن عطية .
(2/110)
________________________________________
و أجاب أبو محمد عبد الحق بن معيشة : جواب الفقيه الأفضل قاضي الجماعة دام توفيقه صحيح ، و بمثله يقول عبد الحق بن معيشة .
و أجاب أحمد بن أحمد : إذا كان الأمر على ما ذكرت فجواب الفقيه الأجل قاضي الجماعة أبي عمران بن حماد وصل توفيقه صحيح ، و به يقول أحمد بن أحمد .
و أجاب محمد بن الأسود : الحد لازم للقائل إلا أن يثبت ما ذكره من الاسترقاق ، و قد جرى عليه أو على سلفه ، و الله ولي التوفيق ، قاله محمد بن الأسود .
[515 /2]
و أجاب ابن الإمام : تصفحت وفقنا الله و إياك هذا السؤال و وقفت عليه ، و إذا كان الأمر على ما ذكر فيه فقد قال مالك رضي الله عنه : الناس في أنسابهم على ما حازوا أو عرفوا به كحيازة ما يكون ، من ادعى غير ذلك كلف إقامة البينة و إلا حد . و قد أصاب الحاكم حين لم يكلف المقول له إثبات نسبه فإنه ما حاز من نسبه و شهر به ، و الله أعلم . و قد تقدم لي جواب في مثل هذا السؤال ، فإن يكن فيه اختلاف فلاختلاف وقع فيه ، و الله الموفق للصواب و هو الهادي إليه برحمته .
و أجاب محمد بن الجد : قال ابن القاسم رحمه الله : من قال لعربي يا عبد جلد الحد ، و أصاب القاضي في قضائه ، و إن كان المقول له لم يحز النسب و لم يشتهر به لم يحد قائله إلا بعد إثبات المقول له ما ذكرنا . و الله المستعان ، قاله محمد بن الجد .
[من رمى ذا منصب بما لا يناسبه ]
و سئل ابن خيرة عن رجل قال لفقيه مشاور مثيل في البلد : تحبس الدواوين حولك و أرسلتهم إلى فندقي و أحرقوه . و القائل من أهل سوق الكتانين و كان أبوه فيما سلف حجاماً و ثبت عليه عقد هذه المقالة عند قاضي المكان و لم يقدر هذا القائل على الأعذار في السنة ، فما ترى وفقك الله يلزمه في ذلك ؟ بينه لنا مأجوراً مشكوراً إن شاء الله .
فأجاب : إن كان الفقيه من أهل الصون و الاستقامة و الدين و الأمانة أدب قائل ذلك ، و بالله التوفيق .
(2/111)
________________________________________
و أجاب يوسف بن أحمد أن القائل يثبت ما قال ، و إلا أدب أدباً موجعاً بالسجن و السوط .
و سئل ابن أبي صوفة عن رجل تنازع مع رجل آخر على مرج متبور ( كذا ) فقام أحدهما و قدر صاحبه المنازع له بحضرة جماعة المسلمين على المرج المذكور ، فأجابه الرجل الثاني و قال إنما المرج هو مالي و مالك و لأهل القرية
[516 /2]
(2/112)
________________________________________
و لجماعة المسلمين ، ثم انطلق بلسانه على منازعه المذكور انطلاقاً عظيماً فاحشاً من القول ، فكان من بعض ما نجهه ( كذا ) به أن قال له : إنما تريد أن تأخذ مالي كما فعلت ببني فلان ، و كما أخذت أيضاً هذه الدار التي بنيتها من مال الأيتام غصباً ، و لم يفقد من ذلك الحين نكبة . فأشهد عليه منازعة المذكور الحاضر من الناس و قيد قوله و ثبت عند قاضي البلد و سأله الانصاف منه . فشاور القاضي الفقهاء في مجلس نظره فسألهم عما يجب على القائل هذا ، فأفتوا بأن عليه الأدب الموجع . فقال الرجل المذكور : المطلوب البينة لي عليه أنه قد أسقط عني هذا الطلب . فقال له القاضي : أثبت عندي ما تدعيه ، فشهد عنده قوم لم يجز شهادتهم لمعرفته بأنهم ليسوا من أهل القبول ، فشهد عنده و قبله و قال في شهادته إنه قال للطالب ما قنعت من القيام بحقك على فلان ، فقال لي الرجل المذكور رغب إلي في أمره ، و لو رغب إلي فإني لا سعفت الراغب . فهل ترى وفقك الله أن شهادته هذه عاملة ؟ أم تراها منتقصة من أجل أنه بساط الرجل المذكور مع هذا الرجل الشاهد في الكلام و اطمأن إليه بالكلام لثقته به ؟ و هل تجب في ذلك يمين أم لا ؟ و كيف إن وجب ذلك فعلى من تراه على الطالب أو على المطلوب ؟ بين لنا ذلك كله وفقك الله . و كيف إن كان القاضي قد أحلف المطلوب بشهادة الشاهد المذكور ؟ و هل يكون مخطئاً في ذلك ؟ أو أصاب الحق إذ شهادته على الوجه المذكور ؟ و هل تجب الأيمان في القذف و الحدود ؟ و هل تكون الأيمان استبراء للحقوق ؟ و كيف إن كان الرجل المذكور قام بعقد غيره بسبب آخر بعد تاريخ الأول المذكور فأراد القيام به عليه و ثبت العقد الآخر عليه ، فهل ترى وفقك الله القيام به عليه إن أبطل حقه الأول ؟ بين لنا ذلك مأجوراً إن شاء الله .
(2/113)
________________________________________
فأجاب : قول هذا القائل هو مالك إقرار منه للمقول له بها ، و هو في قوله و مالي مدع يلزمه إثبات دعواه إن شاء الله . و إذا وثب هذا الذي هو من العوام على هذا الذي هو من أهل الهيئات و نجهه بالقول الذي ذكرت وجبت عليه العقوبة الموجعة . و قد جاء هذا لبعض الصحابة رضي الله عنهم ، و بالله التوفيق . قاله ابن أبي صوفة .
[517 /2]
و أجاب ابن عبد الخالق : على قائل هذا الأدب الموجع ، و بالله التوفيق . قاله ابن عبد الخالق .
و أجاب القاضي أبو الفضل عياض(1): لا إشكال أن ما قام به مما تأخر عن تاريخ شهادة الشاهد حق مستقل له طلبه ، و شهادة الشاهد الذي قصصت غير مبينة ، إذ لم يبين فيما أسعفه ، هل في ترك القيام ولد الخصام و التنفس من مخنقه و تركه اليوم إلى الغد ؟ أم في إسقاط حقه ؟ و إذا لم يستبن هذا للشاهد من قوله فغاية أمره أن يحلف على ما نواه في قوله هذا الشاهد لا أنه أسقط حقه بالكلية ، ثم يبقى على حقه . و شهادة الشاهد في هذا كله مما لا يحلف معها إذا صحت للمطلوب ، إذ لا تجب عليه يمين بمجرد الدعوى ، فإذا قام بها شاهد و قويت حجة الطالب أحلف المطلوب ، فإن نكل سجن حتى يحلف . و قد قيل إذا نكل حد إن كان قذفاً ، و أدب إن كان شتماً ، كما يطلق عليه و يعتق عليه في أحد القولين . و إذا انعكست المسألة في مثل سؤالك قيل للطالب احلف و تبقى على حقك ، فإن أبى قيل له لا قيام لك حتى تحلف و إلا بطل حقك . قاله ابن عياض . قال محمد بن عياض : و رأيت بخط الشيخ أبي رضي الله عنه : قال الداودي فيمن ادعى على رجل أنه شتمه ، فإن كان يعرف بينه و بينه ذلك فلا شيء عليه إلا أن يقيم بينة .
[من قال كل صاحب فندق قرنان ]
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية : " و لعل الصواب : ولد القاضي أبي إلخ " .
(2/114)
________________________________________
و سئل الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله عن رجل مر بقوم جلوس و هو يقول : كل صاحب فندق قرنان قواد و لو كان نبياً مرسلاً . فأخذ و قيد و ألقي في السجن ، و شهدت البينة بما سمعت عند السلطان ، و شهد آخرون أنهم قالو له لم قلت كذا و كذا ، فقصوا عليه الألفاظ التي شهد عليه بها الشهود ، فقال نعم قلته ، و قد أخطأت و تكلمت بما لم أعلم و كنت سكراناً . و ذكر بعض من شهد على لفظه أنه كان به رائحة مسكر ، و الرجل ليس من
[518 /2]
أهل الديانة ، و هو مخلط ظاهر السفه ، و قد عدلت البينة التي شهدت عليه ، و بقي الأمر فيه إلى ما يأتي به جواب الشيخ .
(2/115)
________________________________________
فأجاب : لمن قام به من أصحاب الفنادق أن يطلبه بشتمه إياه إن كان القائم به من أصحاب الفنادق حراً مسلماً ، فيجب له عليه من قوله قواد الأدب ، أما القرينة فإن كان الذي قام بها زوجة أو أخت أو بنت فهي المقذوفة إذا كانت حرة مسلمة و يلزمه لها حد القذف ثمانين ، و الأدب قد وجب عليه لصاحب الفندق . و إن لم يكن لصاحب الفندق امرأة ينصرف القول إليها ففي القرينة الأدب أيضاً ، و أدب اللفظتين أشد من أدب إحداهما ، فإن أخذ منه حق من قام به من أصحاب الفنادق فليعد إلى السجن و يشد في القيود شداً و يضيق عليه فيه حتى ينظر فيما يجب عليه ، فإن ظاهر اللفظ شديد . و إنما وقفت على العجلة بالقول في مثله من قبل أنكم لم تذكروا أن من شهد عليه استوعى في وصفه جميع ما جرى من لفظه ، لأن أول ما ذكرتم أنه قال كل صاحب فندق و لو كان نبياً مرسلاً ، فأمكن أن يكون قبل هذا الكلام ما يدل على أن قوله اقتصر على أصحاب الفندق في الوقت ، و الوقت لا يكون فيه نبياً ( كذا ) مرسلاً و لا غير مرسل ، و لو ادعاه كان كذاباً . و أما ظاهر لفظه كل صاحب فندق و لو كان كلاماً مبتدءاً هو وصف منه يحمله أصحاب الفنادق من المتقدمين و المتأخرين فظاهره السب للنبي المرسل إذا كان له فندق ، فقد كان من النبيين المرسلين قديماً من له الدنيا المعينة على طاعة الله و لهم الأنعام من المواشي و الخيل التي يتخذ لهذه(1)المحابس التي تسمى بهذا الاسم . و قد ذكر فيه أنه قال لمن انتهبه ( كذا ) نعم قلته ، و قد أخطأت و تكلمت بما لم أعلم و كنت سكراناً .
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية : لعله ( لها ) .
(2/116)
________________________________________
فهل فهموا عنه أنه لم يعلم ما قال من أجل أنه كان سكراناً ، فإن كان اعتذر بهذا فيكذبه بعض قلته و قد أخطأت ، فمن أين علم أنه قاله ؟ و إن كان أراد لم أعلم ما قلت أني لم أعلم أنه خطأ فهذا أشد عليه ، يظن أن الأنبياء يمكن منهم أن يوصفوا فيسبوا به ، هذا بعيد و تمثل بهم في غاية الأوصاف الدنية ما اتبع هذا فرض التعزير و لا التوقير . و ليس يستدل على المسلم الذي يكثر التخليط من الذنوب و السفه في ألفاظه من سوء حاله على القصد إلى سب
[519 /2]
المرسلين ، إنما يقع الاستدلال بصفة مخلط سفيه يجري منه الاستهزاء بكتاب الله إذا ذكر و برسول الله و ما كان من هذه النعاني التي الاستهزاء بها كفر ، و لا يستهزئ بها إلا الكافرون . و قد وصفت لكم ما حضرني من أجل رسولكم ، فإن كان عندكم زيادة بيان فصفوها وصفاً حسناً . و دم المسلم لا يقدم عليه إلا بأمر بين ، و ليس ما يقع فيه المواجهة للنصوص بالألفاظ المذمومة يجري في باب ما يرد عليه التأويلات المحتملة ، فلا بد من إمعان النظر و الاجتهاد { ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حيى عن بينة } . و الله تعالى أعلم .
[من قذف أو كفر في حال سكره ]
و سئل عن رجل معروف بالشر خرج سكراناً يقول أنا الله ، فأخذ يقذف الناس في الحدود ، فألقي في السجن و قيد ، و نحن منتظرون لجواب الشيخ في ذلك .
(2/117)
________________________________________
فأجاب : إن تبرأ في صحوه مما قال و ندم و تاب و استغفر و طلبه الناس بحدودهم جلد الحد الواجب فيما قذفهم به ، و حد واحد يكفيه ، و لكنه يؤدب بالسجن و الضرب أن يعود إلى سفهه مرة أخرى ، و يتقدم إليه أنه إن عاد إلى مثل هذا القول لم يعذر و يطالب في دمه كما يطالب الزنديق . إن هذا ليس هو كفر الأمم الذي يرتد إليه مرتد ، إنما هو كفر المتلعبين ، و يستدل على لعبهم بمعاودة هذا الأمر أو تقدمته لهم ، و بالله التوفيق . قيل له فمن أجل سكره عذر في أول مرة . فقال القائل هذا لقول قال قولاً يعلم أنه ليس كذلك . و أيضاً فالذي هذا مقداره ليس يظن به إذا لم يجر منه هذا إلا مرة واحدة أنه كان يعتقد هذا أو يظنه ، لعله لو كان غير هذا الرجل من هو أبسط . قيل له و الذي يشتم النبي صلى الله عليه و سلم في سكره يؤخذ به أول مرة لأنه ممكن منه ، و يظن به أنه يفعل هذا و يعتقده في صحوه ؟ فقال نعم .
[من سب النبي عليه السلام ]
و سئل عن رجل شهدت عليه بينة عند القاضي أنه سب سيد الأولين و الآخرين محمد صلى الله عليه و سلم ، و كان من قوله أن قال : الجمَّال يتيم أبي طالب . ثم لعن و قال فوق هذا كثيراً ، و المحضر عند القاضي بذلك . فقام عليه
[520 /2]
قوم محتسبون لوجه الله الكريم و عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و الرجل القائل هذا متصرف يمشي بين أظهر المسلمين ، فرفع المحتسبون ذلك إلى القاضي بتنفيذ ما صح عنه ، فقال القاضي ارفعوا ذلك إلى السلطان .
(2/118)
________________________________________
فأجاب : إن كان الذي ذكرتموه عن هذا القاضي الذي عنده هذا المحضر على هذا المتكلم ، فالذي شهد به عليه في وصفكم في صدر هذه الرقعة على ما وصفتم فلم يحمله على ترك هذا المشهود عليه يتصرف إلا أنه في حماية من السلطان لا تنبسط معها يد القاضي ، و يدل على صحة ذلك أنه كذلك قوله لمن قام يحتسب ارفعوا ذلك إلى السلطان . و إذا كان هذا على ما وصفتم فحلول قاضي المسلمين على هذه المنزلة يجرئ المفسدين على هذه الأمور المهلكة ، إنما الحكم الواجب في هذا المشهود عليه أن يكون من حين شهد عليه في السجن ، فإذا اتجه عليه الحق شدد عليه بالقيود إلى أن يستشار السلطان في تنفيذ قتله ، و لا يقيم ساعة في السجن مخلى من شدة القيود . و هذا إذا كانت يد قاضي المسلمين العدل المأمون ممسوكة عن تنفيذ القتل على من وجب عليه ، و ما يجب أن يمسك يد قاضي المسلمين العدل المأمون على تنفيذ شيء من الأحكام ، لأن القاضي العدل لا يعمل إلا بالحق الصحيح عنده و بمشورة المأمونين على الدين ، و هو أروح للسلطان من أن يدركه إثم في تعطيل حكم وجب تنفيذه . و أخلص له فيما بينه و بين الله تعالى إذا قلد الحكم مأموناً عدلاً من المسلمين فإن اجتهد من احتسب في القيام على هذا المنسوب إليه من مفسر القول و مجمله فليرفع هذا الأمر و ليستعن على ذلك بكل من ينتسب إلى شفاعة هذا النبي الأمي خاتم النبيين محمد رسول رب العالمين إلى الناس كافة و رحمة للعالمين ، فإنه لا عيش للأمة و لا خير لها في بقاء يسب فيه نبيها فلا يوجد من يغضب لذلك ، أعوذ بالله من المقام في زمان يكون فيه البلاء هكذا .
(2/119)
________________________________________
و إذا رفع هذا الأمر إلى السلطان فحكمه أن يقول لقاضي المسلمين قولاً يشد به عزمه شداً يرهب منه أهل الجرأة عن الفساد و التقلب في الدين ، و يسأله عن ها المشهود عليه ، فإن اعترف القاضي بهذه الشهادة أنها رفعت عنده و أنه ينظر بعد في صحتها أمره بإلقاء المشهود عليه في السجن و بالاجتهاد فيما ينتهي إليه الحكم حتى يستبين لقاضي المسلمين أنه غير ممتنع
[521 /2]
إليه استبانة واضحة في الخاصة و العامة ، فتقوم للقاضي الحجة عند الحاضر و الغائب ، فإنه إذا كان كذلك لم يبق للقاضي ما يعتذر به فيما بينه و بين الله تعالى ، و لا فيما بينه و بين المسلمين . و يتم للسلطان الذي يأمره بذلك على ما وصفناه خلاصه فيما بينه و بين الله و فيما بينه و بين المسلمين . فإذا بلغ من احتسب في هذا إلى من منتهى اجتهاده في التبليغ فقد أدى و كان الحرج بعد على من فرط فيما بلغه أن ينظر فيه ما يجب عليه { و كان الله على كل شيء مقتدراً } ، { و ما كان الله ليعجزه من شيء في السموات و لا في الأرض إنه كان عليماً قديراً } . قال الله جل ذكره : { و لو يشاء الله لانتصر منهم و لكن ليبلو بعضكم ببعض } . و اعلموا أنه قد ابتلي من نزل به مثل هذا فلم يجد إلى الانتصار منه سبيلاً ، و الله المستعان . فتدبروا جميع ما وصفت لكم فإن فيه نصيحة جامعة للخاصة و العامة و جواباً شافياً فيما سألته عنه ، و بالله تعالى التوفيق .
[الحجة في قتل من سب النبي عليه السلام من غير استتابة ]
و سئل عن الحجة في قتل من سب النبي عليه السلام .
(2/120)
________________________________________
فأجاب بأن قال : الحجة فيه قتل كعب بن الأشرف ، و ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعو المشركين إلى الإسلام فلما أمر بقتل كعب و لم يدعه حمل(1)على أن قتله كان لمعنى غير الإشراك ، و هو سب النبي صلى الله عليه و سلم . و أيضاً ابن ملجم قال : أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتله أيضاً و لم يدعه ، فمعنى ذلك أنه كان يسب النبي عليه السلام . قال : و لم يبلغنا أن من ظاهر بسب النبي عليه السلام و سبه ( كذا ) أسلم . و كان يستدل في ذلك أيضاً بقوله تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله } إلى قوله : { إثماً مبيناً } . فقرن تعالى أذى رسوله بأذاه ، و بين تعالى أنه لعن فاعل ذلك في الدنيا و الآخرة ، و أعد لهم عذاباً مهيناً . ثم أخبر تعالى عن اكتساب مؤذي المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا أنهم احتملوا بهتاناً و إثماً مبيناً ، و لم يبين ما عقوبتهم في ذلك ، فأبقاهم على ما يوجبه عليهم اكتساباً من ذلك في أحكام الإسلام بما نزل في رامي المحصنات ، أو بما بين في ذلك الاكتساب إن خالف ذلك
[522 /2]
__________
(1) في نسخة : دل .
(2/121)
________________________________________
ما يوجب الحد للمحدود . و ما وجدنا من تواعد الله على عمله باللعنة في الدنيا و الآخرة و أعد لهم العذاب ، و وجدنا أن الله تعالى تواعد بمثل وعيد من أذاه و رسوله قاتل المؤمنين عمداً ، قال تعالى : { و من يقتل مؤمناً } الآية . فقاتل العمد لا بد له من القتل إلا أن يعفو عنه المقتول نفسه أو وليه ، إلا إن كان قتل حرابة فلا عفو فيه لأحد إذا قدر عليه قبل أن يتوب ، فكذلك من سب النبي عليه السلام لا بد له من القتل . و ليس يشبه ساب النبي عليه السلام إن عفا عنه بعض الناس بالقتل ، لأن القتل الطلب فيه لمخصوصين ، و ساب النبي عليه السلام الطلب فيه على المسلمين أجمعين ، فلا يجوز عفو أحدهم ، و واجب على المسلمين إقامة الحد عليهم ، و هم الملزمون نصر الله و رسوله ، و حقه عليهم أوجب من حقوق أنفسهم عليهم ، و لا يشبه ساب النبي عليه السلام من سب رجلاً من المسلمين لأن من سب مسلماً كان المسبوب هو المقدم في أمره إن شاء رفعه إلى لاسلطان أو عفا عنه ، و كذلك إن كان المسبوب ميتاً فرفعه لورثته ، إن شاؤوا عفوا و إن شاؤوا تركوا . و ساب النبي عليه السلام ليس لأحد سعة في تركه إن سمعه حتى يوقفه ، و لو تركه بعض من سمعه لرفعه الآخر . و عفو المخلوقين عنه لا يطرح عنه تباعة ما أصاب ، فلم يشبه عرض النبي عليه السلام عرض أحد ليس بنبي .
[حكم النصراني يسب النبي عليه السلام ثم يسلم ]
و سئل عن نصراني سب النبي عليه السلام ثم أسلم ، هل ترى عليه شيئاً ؟
(2/122)
________________________________________
فأجاب : لا شيء عليه . قيل له : ألا تراه حقاً للآدميين ؟ فقال : لا ، سب النبي عليه السلام كفر و سب غيره ليس بكفر ، قال الله تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } الآية ، فقد قرن تعالى بين الحكم فيمن آذاه و بين من آذى رسوله ، ثم قال تعالى : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا } الآية ، ففصل أذاه عليه السلام من أذى المؤمنين غيره ، و جعل الحكم فيمن آذاه و آذى رسوله واحداً .
و سئل عن رجل قال : اللهم لا تدخلني في شفاعة محمد ، و لا تجعلني ممن
[523 /2]
يشفع له محمد . و ذكر أن الوقار قال بذلك و ابن التبان قال بذلك ، و الرجل ليس بجاهل ، و هو متماد على هذا القول .
فأجاب : يسأل هذا المتكلف و يقال له ما أردت بقولك لا تدخلني في شفاعة محمد إنكاراً منك أن يكون لمحمد صلى الله عليه و سلم يوم القيامة شفاعة ، فإن قال نعم فقد خالف أهل السنة بأسرهم و هذا رجل سوء ، و إن قال إنما أردت أن ألقى الله و ليس لي ذنب يدخلني النار ثم يخرجني منها بشفاعة محمد فيقال له فأسلم لك أن تسأل الله أن يغفر لك قبل أن تلقاه و أن يتوب عليك في حياتك و ليس لك أن تسأل مثل سؤالك هذا مجملاً إذا كنت مؤمناً بالشفاعة ، لأن محمداً عليه السلام شفاعته لجميع كل من في المحشر ، فيجب أن يسأل الله أن لا يجمعك في المحشر يوم القيامة ، فإن قال لم أرد هذا أيضاً فيسأل عما أراد حتى يبينه ، فإن ذكر وجهاً يعذر به علم أنه مسلم من المسألة و لم يسلم من التكليف و من التعرض بنفسه أن يشاكل قول أهل البدع ، و إن لم يأت بعذر فقد أبان عن نفسه أنه تكلم جهالة و أنه لم يسلم من السقطة و لم ينفعه الاقتداء بمن ذكر من العلماء ، إذ لعل أولئك لو سئلوا عن أنفسهم بما أرادوا تبياناً يخلصهم من معرفتها و لا ينقدهم ذلك من اسم التكلف و التخليط على الناس إن كان هذا الناقل صدق على من نقل عنه .
[من قتل لسب النبي عليه السلام فميراثه للمسلمين لا لورثته ]
(2/123)
________________________________________
و سئل عن رجل سب النبي صلى الله عليه و سلم فشهد عليه العدول و قتل و ترك مالاً و ولداً ، فهل يرثه ولده أو المساكين ؟
فأجاب : إن كان منكراً للشهادة عليه فالحكم في ميراثه على ما أظهر من قراره بالتعزير و التوقير ، و القتل له إنما هو حد ثبت عليه بالبينة ، فليس هو من الميراث في شيء . و كذلك لو أقر بالسب و تاب منه و أظهر التوبة فهو يقتل بالسب ، و إن أبى فقتل على ذلك كان كافراً و ميراثه للمسلمين يبث في فقرائهم ، و لا يغسل و لا يكفن أكثر من ستر العورة و لا يصلى عليه ، و يوارى كما يوارى الكفار ، و بالله تعالى التوفيق .
[524 /2]
[من قال كأنه وجه نكير ]
و سئل عن رجل نظر إلى وجه رجل قبيح الوجه فقال كأنه وجه نكير ، ما يلزمه ؟
(2/124)
________________________________________
فأجاب : نكير فيما عرف الناس هو اسم فتاني القبر ، و هما ملكان يعملان بطاعة الله تعالى و يشتد صوتهما على من عادى الله و رسوله فيما يريع منظرهما من أذن لهما فيه ، فبأي شيء شبه هذا القائل من هذا المرئي بنكير ؟ أروع دخل عليه من وجهه حين رآه ؟ أم أعلقه النظر إليه لذمامة منظره ؟ فإن كان هذا المعنى فشديد لأنه جرى على باب التحقير و التهوين ، فيكون أشد في عقوبته ، و ليس فيه تصريح بسب الملك المطيع لربه ، و إنما السب واقع على المخاطب بالاستقباح . و لو وقع السب على الملك لكانت العقوبة و القتل ، فلا تهراق الدماء إلا على الأمر الواضح . و في الأدب بالسجن و الضرب بالسوط نكال للسفهاء . و إن كان القول جرى على المعنى الأول فيقبح على القائل قوله و يعاقب على تشبيهه بما لم يره ، و العدل في مثل هذا أن يعلم الجاهل و يوبخ المتهاون . و أما الذي نظر إلى وجه عبوس فقال كأنه وجه مالك الغضبان ، فالعبسة في الوجه ليست منأجل تقبيح في الخلق ، إنما هي تعرو الإنسان عندما يكره ، و غضب مالك خازن النار و غلظته عليهم و شدته كل ذلك دائم ، و كذلك خزان النار ، قال تعالى : { عليها ملائكة غلاظ } الآية . غير أن هذا الرجل قد جفا في ذكر مالك المطيع لربه في غضبه عندما أنكره من عبسة هذا ، و عبسة هذا أدخلت عليه بما دخل على قلبه مما يكره ، إلا أن يكون هذا المتعبس له بسط يد في الناس فيتحلى بالعبسة ليرهب ، فيمكن أن يكون هذا القائل أراد تعييب هذا المرمي بلزومه في ظلمه صفة من لزمته هذه الصفة في طاعة ربه ، فيقول كأنه لله يغضب حين يلتزم العبسة ، فيكون هذا إن كان لهذا قصد أخف عليه ، و ما كان ينبغي له أن يتعرض إلى هذا ، و لو كان هذا القائل إنما أتى على العبوس بعبسته و احتج لها بمرأى مالك خازن النار لكان شديداً ، و لو كان يعاقب العقوبة الشديدة ، و لم يذم مالكاً من قصد هذا المقصد ، و لو قصد أحد إلى ذم مالك خازن النار و نقصه لقتل .
(2/125)
________________________________________
هذا الحكم في الملائكة كالحكم فيمن يؤذي الأنبياء بالسب و النقص ، و بالله تعالى التوفيق .
[525 /2]
[من قال أن كنت أمياً فقد كان النبي أمياً ]
و سئل عن شاب ترك ما عليه من غرة الشباب و أقلع عن ذلك و رجع لطلب القرآن و ما يحتاج إليه من مسائل دينه ، و ربما نصح أهل بلده إذا أمكنته نصيحة فيما يحتاج فيه إلى النصيحة ، فربما استثقلوا نصحه و يقولون متى صار حتى يتكلم على المسائل ، أليس قد فعل كذا ؟ أليس قد صنع كذا ؟ و الله ما يستحي ، إلى أن تكلم رجل بكلام فأخذ عليه الشاب ، فقال له الرجل اسمت يا فلان فإنك رجل أمي ، فقال له الرجل الشاب أليس أن النبي كان أمياً . فانقلب البلد و قالوا فلان كافر ، فتمادوا عليه بذلك إلى أن خاف التل ، فأردنا من الشيخ أن يبين لنا ما يلزم في ذلك ، و الشاب قد اشتد خوفه من الله تعالى و حزنه و بكاؤه إذ ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا الخطاب ، فهل تبقى عليه من الله تعالى في الآخرة تباعة إذا اعتقد أن لا عودة ؟
فأجاب : أما كافر فيخطء من أطلق عليه هذا ، و لكنه قد أخطأ هو في استشهاده بصفة النبي صلى الله عليه و سلم ، صفة النبي عليه السلام أمي آية له ، و صفة هذا بأنه أمي جهلاً منه ، و من جهالته احتجاجه بصفة النبي عليه السلام ، فإذا استغفر و تاب و اعترف و لجأ إلى الله تعالى و افتقر إليه هو خير له . و هذه المعاني من ندم عليها و جاء منيباً إليها تائباً عنها فيترك لأنها ليست مما ينتهي إلى القتل . و ما كان طريقه الأدب فطوع صاحبه النزوع عنه و الاستغفار منه و الندم عليه يوجب الكف عليه و لا يؤذى ، و إنما يرفع للحاكم في هذا المعنى من كان يصر على جهالته و يتهاون بخطيئته ، فيكون أدب الحاكم و زجره نكالاً له و لأمثاله . و ما انتهى إلى الحاكم فلا بد فيه من العقوبة عليه بحسب الاجتهاد المسدد بالصواب ، و بالله التوفيق .
[من سب التوراة جاهلاً أمر الكتب الأربعة ]
(2/126)
________________________________________
و سئل عن رجل شهد أن عبداً مملوكاً كبير السن أتى إلى يهودي فطالبه في حق له قبله فحلف له اليهودي بالتوراة ، فقال العبد لعن الله التوراة . ثم أتى شاهد آخر فشهد أني اجتمعت مع العبد فقلت له بلغني أنك لعنت التوراة ، فقال إنما لعنت توراة اليهود . فكشف القاضي عن حال العبد فشهدت بينة
[526 /2]
عادلة أن العبد كبير السن ضعيف العقل جاهل لا يدري ما الكتب الأربعة ، فأمر القاضي بسؤال الشيخ في قصته و يشرح له أمره ، فإن أتى جوابه بقتله قتله .
(2/127)
________________________________________
فأجاب : إن هذه الشهادة لم تأت ببيان ينشرح فيه إطلاق القول بجواب نطمئن إليه ، و ذلك أن الشاهد الأول لا يوجب من أجل توحده حكماً بالقتل ، و الشاهد الثاني علق القول بصفة تحتمل التأويل ، و يحتمل أن يعذر فيها الجاهل بجهالته ، لأن قوله توراة اليهود ، و هو يرى أن اليهود متمسكين ( كذا ) بشيء من عند الله و لا يعلم بأنهم خالفوا ما بأيديهم من عند الله أو حرفوه عن مواضعه ، فيحتمل أن يكون ظن أن توراتهم شيء عملوه لأنفسهم ليس من عند الله عز و جل منه شيء . و أنتم قد وصفتم حال هذا العبد و مكانه من كبر السن و ضعف العقل و الجهل ، و هذه ثلاثة أوصاف تخل بصاحبها ، و لو كان ضعف العقل قد بلغ به إلى أنه لا يعرف ما يقول ما اهتدى إلى اقتضاء الدين و لا إلى مقالة الناس ، فلم يبلغ به ضعف العقل إلى رفع الحرج عنه . و لو اتفق الشاهدان أنه لعن التوراة مجرداً كما قال الأول لضاق التأويل ، لأنه يبعد أن يكون من كبرت سنه بين المسلمين لم يسمع التوراة أنه من كتب الله تعالى الذي أنزل ، فقد أريتكم ما يريكم ما أوجب الإشكال في إطلاق جواب يمضي . و من كان أقصى أمره القتل فعاق عائق أشكل القتل لم ينبغ أن يطلق من السجن ، و لا يستطال سجنه لو أقام فيه من المدة ما عسى أن يقيم ، نعم و يحمل عنه من القيد ما يطيق ، فلعل الله أن يشرح في أمره جواباً يطمئن القلب إليه و تقوم عليه الأدلة من برهان الله عز و جل و بيان رسوله . هذا الذي عندي ، و بالله التوفيق .
و سئل ابن إسماعيل عن ذمي لعنه الله استخف بالنبي صلى الله عليه و سلم و شهد عليه قوم بالاستخفاف بالمسلمين و بنبيهم و سب كتابهم و غير ذلك ، و لم يثبت عليه قاضي بلده شيئاً من ذلك و لا نظر في شيء من أمره ، بل ظهرت محاماته له ، فوقع في بلد آخر فيقفه قاضيه و لم يلتفت إلى ما فعله قاضي بلده ، و بحث عن أمره فخاطبه ثقات البلد الذي كان فيه باستفاضة
[527 /2]
(2/128)
________________________________________
ذلك عليه و شهادة قوم بذلك عليه ، و ذكر له ذلك من وثقه ممن يقبلهم قاضي ذلك البلد ما يجب أن يعمل في أمره إذ لم يقم ذلك عند هذا القاضي مقام الثبات ، هل يسجنه أبداً بلا ضرب استبراء لأمره ؟ أو بعد الضرب ؟ أو يجتهد فيه بوجيع الضرب و يطلقه ؟ بينه مأجوراً إن شاء الله .
فأجاب : يسجنه القاضي بهذه الاستفاضة ، فإن ثبت ذلك عليه قتله القاضي ، و الله أسأله التوفيق برحمته ، قاله محمد بن إسماعيل .
(2/129)
________________________________________
و جرى بحضرة الشيخ أبي الحسن القابسي رحمه الله ذكر المشارقة و أنهم يكتمون كفرهم ، و جرى ذكر قبول توبتهم ، فقال الشيخ : يقولون لم تقتلوننا و نحن نقيم شرائع الإسلام ؟ قيل له : و أي شريعة تقيمون ؟ قال : يقولون هذا الأذان شاهد ، و نحن نقيم الجمعة و الحج . قيل له : فهم يظهرون الصوم على غير الشريعة ، و كذلك الحج إلا أنهم يعلنون . قال : فيقولون فإذا كنا عندكم كفاراً بهذا فنحن مظهرون له . قال : تقولون هل هو إلا أنكم تقولون إنا نكفر ، و لا كفر أشد من الكفر بالله ، فنحن نسره و نظهره عندكم فاقبلوا توبتنا . قيل له : أول ما وضعوا أمرهم على كفر يسرونه . قال : فالذين في هذا الوقت ليسوا هم أولئك . قيل له : فما ترى ؟ فقال : يقال لهم أنتم تسرون كفراً تستترون به وتجعلون بينكم و بين الناس فيه الإعلان و التحاب ، و إلا فاتركوا بين الناس و بين الدخول عليكم ظاهراً و اشهدوه للناس . قال : و أيضاً فإنما يدخلون فيه على أنهم يعتقدون أن الذي يسمونه الإمام علامة ينتظرونها ، إذا ظهرت هدموا الإسلام و أظهروا الكفر . فيقال لهم : فلئن أيضاً إذا استتبناكم و قبلنا توبتكم باعتقادكم لانتظار هذه العلامة و ما تعتقدون أن تعملوه إذا ظهرت عندكم من أين لنا أنكم تبتم عنه و هو شيء لا ينسى و عمله له لا يستطيع ؟ قال : فهم مثل الساحر إذا قبلت توبته ، علمه بالسحر ليس ينساه ، و عمله له لا يستطيع يعلم أنه تركه و تاب عنه . قال : و ما علمت أنه مسلم منهم في أيام أبي زيد ؟ فقال : أُكْرِهَ و لا أدري كيف كان حقيقة إكراهه ، إنما هو شيء أخبر به فبلغني أنه كان وقت دخوله خرج فذكر إلى ابن المحسبي و غيره . قيل له : و كان مستخفياً في أيام أبي زيد . فقال : ما كان إلا في الحلق فيما بلغني . قيل له : و له في الإكراه عذر مع مقامه في بلد هذه صفته مختاراً . فقال : هذه علتنا لعد ، لأنه لا يجد
[528 /2]
(2/130)
________________________________________
السبيل إلى الخلاص من ذلك . قيل له : فالذين أقاموا بمكة من المسلمين مع المشركين ؟ فقال : قد نزل فيهم القرآن : { ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } ، فكان المسلم إذا هاجر لا يرثه وارثه إذا مات و لم يهاجر . قيل : فما ترى فيمن أكره منهم لو أن الله أظفر بهم ؟ فقال : و من هذا الذي أكره منهم إذا كان مختاراً للمقام على تعظيم الفتنة .
[من جرح ليلاً فلم يعقل إلا كلام بعضهم ]
و سئل عن رجل جرح ليلاً فاشتد عليه ألم الجرح ، فسئل هل يعلم من جرحه ، فقال جاءني خمسة نفر أو أربعة ، فضاربتهم فجرحت ، و لم أعقل منهم إلا كلام رجلين فنطاس و أيوب ، فإن مت فمن هذا الجرح . فمات . و عن رجل جرح ليلاً فقيل له من جرحك ؟ فقال : كنت أرفع زرعي حتى هجم علي ثلاث طوائف من ثلاث نواحي أناس كثيرون ، فما عقلت منهم إلا كلام ثلاث رجال ، فلان و فلان و فلان ، سماهم بأسمائهم ، فإن أنا مت فمن هذا الجرح . فمات .
أجاب : أما الذي قال فضاربتهم فجرحت ، فقوله ضاربتهم أشكل المسألة ، لأنه لم يبين ما سبب هذه المضاربة ، فلعله لو لم يضاربهم ما صنعوا به شيئاً ، و لم يذكر سبباً يوجب له مضاربتهم ، و الدم شديد ليس يمكن الهجوم بالفتيا عليه ، و لو سجن فنطاس و أيوب حتى يستيقن هذا الأمر إن كان و ما سبب هذه المضاربة ، و ما الوجه الذي جاؤوا إليه ، فلعل يظهر لمن هو أقوى ممن ذكرتم . و أما الذي ذكر أنه بات يحرس زرعه فجاءه ثلاث طوائف فقد بين أنه أتى إلى ما بات يحرسه إلا أنه ما قال فجرحوني ، إنما قال إن أنا مت فمن هذا الجرح ، فليس في قوله ما يبين أن الوم هم الذين جرحوه ، فما فيه إلا الجواب الأول ، و إن اصطلحوا كلهم فهو أسلم ، و هو الذي حضر لي بعد أن اجتهدت مبلغ طاقتي ، و بالله التوفيق .
[من دمى على واحد عينه من بين جماعة ]
(2/131)
________________________________________
و سئل عن ثلاثة رجال خرجوا من منزل يعرف بحموس ، فاجتازوا بمنزل يعرف بجسطة ، فاتبعهم من هذا المنزل ثلاثة رجال سراق فلحقوهم في
[529 /2]
فحص فيه سدر كثير فناشبوهم القتال حتى شق السراق على المسافرين ، فهرب من المسافرين رجلان و بقي واحد ، فناشب أحد السراق حتى وقع معه في وسط سدرة ، و كان المسافر فوق السارق ، فصاح السارق بأصحابه الحقوني ، فإن الرجل قد ضيق علي ، فلحق السارق صاحباه فضرب أحدهما الرجل المسافر و هو فوق صاحبهما السارق في السدرة ثلاث ضربات بالسيف حتى قام عن صاحبهما و هرب منهم إلى أن وصل إلى منزله فمكث ثمانية أيام ثم مات ، فلما وصل إلى المنزل سئل عن قاتله فقال لم يقتلني أحد غير الرجل الذي فيه آثار السدرة ، فمضى رجال من أهل منزله إلى منزل السارق و كشفوا أهلها عن هذا الرجل حتى أخرجوه و نظروا جسمه فأصابوا فيه آثار السدرة ، فقالوا له إنما آثار الشوك من الركبتين إلى أسفل ، و هذا بدنك كله مأثور .
(2/132)
________________________________________
فأجاب : إذا ثبت نص هذا السؤال بالعدول كانا هما اللذان هربا من المسافرين أو غيرهما ، فقد صاروا الثلاثة محاربين . قال : و إن لم يكن إلا قول المجروح فإن كان من شهد على قوله هذا فهم عنه أن هذا الذي فيه آثار السدرة من منزل جسطة ، أو كان الذي لهم الحديث حتى انتهى إلى قوله هذا ، فها هنا إن لم يكن إلا قوله يؤخذ هذا الذي وجدت آثاره السدرة بسائر جسده إذا كان من جسطة و ينظر في عدالة من شهد على قول المجروح ، فإن شهد على قوله هذا عدلان حلف أولياء المجروح بالله الذي لا إله إلا هو خمسين يميناً قسامة أن هذا الذي به هؤلاء الآثار هو الذي قتل صاحبنا أو يقولوا هو الذي ضربه ضربة مات منها كيف ما صح عندهم ، و أن ذلك كان على الوجه من العمد إلى ذلك و المنازعة التي كانت ، ثم يسلم إليهم فإن قتلوا كان ذلك لهم ، و إن عفوا على دية أو غيرها فاستحيوا هذا القائل فيضرب مائة و يسجن سنة و يؤمر بعتق رقبة مؤمنة . و هذا إذا لم تثبت شهادة المحاربة و إنما أخذ بقول الميت . و أما إن ثبتت الشهادة أنه محارب فلا عفو فيه و لا تخير لورثة الميت ، إذ صار النظر فيهم إلى السلطان يقيم عليهم من حد الحرابة ما رأى . فإن رأى السلطان أن جرحهم في حرابتهم هذه يكفي منها ما دون القتل إذا لم تثبت البينة بالقتل و إنما هو قول المجروح لم يقتلني غير الذي ذكرت و ثبت
[530 /2]
(2/133)
________________________________________
قوله هذا كما تقدم شرحه ، فلأولياء الميت أن يقوموا بقول صاحبهم و يثبتونه على ما وصفنا ، فستحقونه كما ذكرنا من قبل هذا . و رأى السلطان أن جرح هذا السارق مشتهر ، و قطعهم في الطريق منتشر ، و رأى قتلهم فليقتلهم . فإن قتلهم بهذا فليس على ورثة الميت قسامة و لا لهم طلب . و رب حرابة يشتهر بها صاحبها في سائر الطرق حتى ينتهي الخوف منه إلى قطع السبل و فساد الأرض ، فهذا إذا قدر عليه قبل أن يتوب يقتل و لا يسأل عنه قتل أم لا . و إن أشكل شيء من أمر هؤلاء الثلاثة فلم يستبن حقيقة الاستبانة فيودعوا في السجن و يستقصى على الأمر و يعاد السؤال على ما يستقر عليه الأمر . و شأن الدم شديد ، فلا يعجل فيه حتى يستبين ، و بالله التوفيق .
[من عض يد صاحبه فنثرها فسقطت ثنيته ]
و سئل عن الحديث الذي ورد في الذي عض يد صاحبه فأندر ثنيته ، فأهدرها النبي عليه السلام ، قيل له ليس يأخذ مالك بهذا الحديث .
(2/134)
________________________________________
فأجاب : كذا قال مالك لا آخذ بهذا الحديث ، قيل له ما قاله مالك هكذا نصاً ، قال الشيخ : كذا قال مالك في هذا المعنى مسألة رواها عنه أشهب وحده أنه أوجب عليه الدية . قال الشيخ : و أنا أقول معنى المسألة التي أجاب عنها مالك تخالف نص هذا الحديث ، و أقول : إن معنى هذا الحديث أن العض في يد الرجل ظهر و بان فنثر يده من فمه فأندر ثنيته إلى خارج الفم فأخرجها خروجاً يجوز له ، و دفع عن نفسه مما يجوز له فأصاب فيه ثنية هذا ما أصاب بها . فقيل له فأصاب بفعله فهذا الذي لا يجوز له هذا الفعل الخطأ فيجب عليه العقل . فقال الشيخ : المعضوض ما صنع شيئاً ، العاض شد أسنانه على يد المعضوض فنثر المعضوض يده فأندر ثنية العاض . و إنما أوجب ندر الثنية شد العاض أسنانه على يد المعضوض ، فهو بفعله أسقط ثنيته ، و مسألة مالك اتهمه مالك فيها أن يكون لم ينته في العض إلى الحالة التي انتهت إليه في نص الحديث من ظهور أثر العض ، و أنه إنما دفع في ثنية العاض فأسقطها لداخل فمه فصار كالضارب ، فأوجب مالك عليه القود . و ذكر قول مالك في الذي مال عليه الجمل فضربه ففقأ عينه أسقط مالك عنه الغرم بثبات الخوف من صولة الجمل .
[531 /2]
[من سرق شيئاً فقال المسروق منه هو وديعة ]
و سئل عمن سرق سرقة فوجد قد أخرجها من حرزها ، فقال الذي سرقت منه هي وديعة له ، فقال لا يقبل منه . فذكر له حديث الذي خرج بجارية زوجته فذكرت زوجته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أصابها ، فاعترف الزوج بذلك ثم اعترفت بأنها باعتها منه ، فلم ير عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حداً .
(2/135)
________________________________________
فأجاب : الذي سرق أتى السرقة مستتراً ، و لو كانت الوديعة لما أتى إليها مستتراً ، و هو لو أتاها ظاهراً ما كان فيه نكير عليه و لا شيء يستحيا منه . و هذا الخارج لزوجه بجاريتها ظاهر غير مستتر بخروجها ، و إنما أسر وطأها إذ ذلك مما يكون في الحلائل و لا يبدى ، و إبداؤه في الحلائل من النكير ، فحسن التستر فيه فأشبه أن يكون كما ادعى ، و جرت فيه الأحكام الموجبة للأملاك المسقطة للحدود ، و بالله التوفيق .
قال : و يبين لك أن خروجها معه كان عن إذن سيدتها ما حدثنا به حمزة بن محمد الكناني عن أبي يعلى أحمد بن علي قال : حدثنا عبد الله بن يعلى بن أسما ، أنبأتنا جويرية قال : حدثنا حيدة عن نافع أن امرأة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان عمر يبعثه على بعض عمله ، فحملت الجارية من سيدها ، فلما بلغ ذلك المرأة أتت عمر فقالت : جاريتي بعثت بها مع زوجي تخدمه و تحفظ رحله فبلغني أنه قد أحبلها ، و لم أبع و لم أهب . فأرسل إليه فسأله عما قالت ، فقال : وهبتها لي . فقال : لتأتيني بينة أو لأرجمنك . فلما رأت ذلك امرأته اعترفت بالهبة فجلدها الحد ثمانين .
قيل للشيخ في هذا الحديث : إنه جلد المرأة و لم يذكر جلد المرأة في حدسث مالك ، فقال : إنما حمل الناس حديث مالك أن المرأة عذرت بالغيرة . قال : و لم يلتفتوا إلى أن عند جويرية خلاف ما في حديث مالك . قال : و لعلهم لم يروا مذهب الشيخ رحمه الله في مسألة السرقة من الدار على ثلاثة أوجه ، فدار مشتركة في سكنى المساكن التي فيها مباحة القاعة التي تجمعها ، فهذه من سرق منها شيء من أحد المساكن المحوزة فأخذ في الدار قطع ، كان منها أو من غيرها . و دار مشتركة المساكن و المقاصر غير مباحة القاعة التي تجمعهم لجميع
[532 /2]
الناس ، فهذه من سرق منها من أهلها من بعض أحراز أصحابه فأخذ في مباحة الدار قطع .
[من ضرب بطن رمكة فألقت جنيناً ميتاً ]
(2/136)
________________________________________
و سئل بعض فقهاء سبتة عن رجل ضرب رمكة فألقت جنيناً ميتاً .
فأجاب : عليه عشر قيمة أمه . و ذكر أنه قاسها على مسألة كتاب الحج في المحرم إذا ضرب بطن عنز من الضبا ، فأنكر ذلك عليه غيره من فقهاء البلد و قالوا عليه ما نقصها ، و كلهم لم يدع في المسألة نصاً .
فسئل عنها القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله ، فقال : فيها القولان جميعاً . ثم أخرجها منصوصة القولين جميعاً ، و الثالث قول ربيعة : أما جنين بهيمة فلا أرى في ذلك شيئاً ، و يجتهد في ذلك الإمام . قال محمد بن عياض : و رأيت في نوازل القرويين أن أبا الحسن القابسي سئل عمن ضرب بطن دابة عقوق أو أمة حامل أو شاة أو بقرة فألقت ما في بطنها من ضربه ، فقال : عليه ما نقص ذلك من قيمتها يوم صربها . و هو قول مالك . و قال غيره : عليه عشر قيمة أمه ، و الأول أحب إلينا . هكذا رأيت نسب القول بأن عليه ما نقصها لمالك ، و قد حكاه ابن المواز . و عن مالك في جنين الأمة عشر قيمة أمه . و عن الحسن ، و به يقول ابن القاسم ، و قد حكاه عن أبي الزناد خلاف ما روى عنه ابن وهب في جنين البهيمة ، و حكى إسماعيل القاضي في مبسوطه عن أبي الزناد أنه قال في جنين البهيمة : نرى في ذلك أن يقام بهيمة إذ في بطنها ولدها ، ثم تقام بعد أن تطرح جنينها ، فيكون فضل ما بين ذلك على الذي أصاب البهيمة . و قال الجوهري : أجمع العلماء على أن في جنين البهيمة ما نقص من قيمتها إلا مالكاً قال عليه عشر أمه . و رأيت في نوازل الشعبي : سئل ابن لبابة عن رجل دخلت في زرعه دابة فأدخلها في داره فأتاه ربها فقال له أعطني دابتي ، فقال لا حتى تضمن لي ما أكلت من زرعي ، و كيف إن ضمن ماذا عليه ، فقال يضمن لأنه تعدى في إدخالها داره ، و قال في الجنين عليه قيمته . فقوله في الجنين عليه قيمته هو القول بأن عليه ما نقصها لأنها إذا قومت بجنين و قومت دون جنين كان ما نقص بين القيمتين قيمة الجنين .
(2/137)
________________________________________
و لعله يريد أن يقوم الجنين على الرجا و الخوف . و حكى القاضي
[533 /2]
إسماعيل في مبسوطه عن ابن شهاب أنه قال : نرى جنين البهيمة إلى الحكم بقيمته أن البهيمة سلعة من السلع .
[السود الذين يلعبون و يغنون في الأعراس ]
و سئل محمد بن عبد الله عن هؤلاء السودان و السودانات الذين يجتمعون في اللعب في الأعراس ، هل ذلك من المناكر التي ترفع و تغير في الأعراس أم لا ؟
فأجاب : قرأت وفقك الله و سددك و أعانك على ما قلدك سؤالك و فهمت ما ذكرته فيه من خبر السودان و السودانات في الأعراس ، فينبغي أن يمنعوا من ذلك و يزجروا عنه ، و من قام معتنياً بهم و ذاباً عنهم تعاقبه على قدر اجتهادك ، و الدفوف الذين يلعبون بها تنظر في أمرها على ما توجبه السنة ، و تبقي منهم أشبههم على قدر الحاجة إليهم إن كان الحاجة توجبها السنة و الحق ، و الله الموفق . قاله محمد بن عبد الله .
[إخراج أهل الشر و الفساد من مساكنهم ]
(2/138)
________________________________________
و سئل فقهاء سبتة عن إخراج أهل الشر من مساكنهم ، و نص السؤال : جوابك أعزك الله في امرأة موسرة أعتقت غلاماً و اتخذته كالولد و ملكته كثيراً من مالها ، و هذا الغلام معلوم بالدعارة و الاستهتار ، و لها جنة هو المتصرف فيها و القائم معها ، فاستضر جيرانه بما يفعله في تلك الجنة من المعاصي و بما يأوي إليه بها من أمثاله ، و خافوه و أخرجه القاضي عنها و منعه من الدخول فيها ، ثم عاقبه و زجره المرة بعد الأخرى حتى أظهر التوبة و رجع يتصرف في الجنة ، فوهبتها له مولاته فعاد إلى أشد(1)حالته الأولى من الفساد ، فغير عليه فيها ما وجد و شدد في عقوبته ، و رأى القاضي بيع الجنة عليه ، فلما بولغ في النداء عليها بادر إلى الجنة و صرفها إلى واهبتها مولاته النذكورة لينقلها عن ملكه لئلا تباع ، و هو قد كان يفعل أولاً و هي في ملكها مثل ما كان يفعل أو أشد و هي في ملكه . فرأى القاضي أن فعله ذلك لا يمنع من بيعها عليه لمساعدتها إياه
[534 /2]
و محبتها له و كونه المتصرف لها و القائم بأمورها ، و أن جيرانه لا يأمنون طروقه إليها ، فهل ترى للاضي المذكور بيعها مما يجوز له و يمضي ؟ أم ليس له ذلك بسبب انتقال ملكها إلى مولاته ؟ و قد ذكرت لك صورة تصرفه لها و غليته عليها ، فلتجاوب في ذلك مأجوراً مشكوراً إن شاء الله تعالى .
فأجاب بعض فقهائها : إذا كان الأمر على ما ذكرته و لم يزل الغلام المذكور على الحالة التي وصفتها ، و كانت الجنة يستهتر فيها بالمعاصي و يستضر بذلك جيرانه فمن الواجب بيعها و إخراجها عن ملكه و ملك سيدته التي أباحت له التصرف فيها حتى ينقطع الضرر عن جيرانه ، فاعلم ، و بالله التوفيق .
__________
(1) في نسخة : الشر .
(2/139)
________________________________________
و أجاب محمد بن حسون : وفقنا الله و إياك ، إذا صح ما ذكرته من خروجها من يده على الوجه الذي ذكرته و كان لا يتصرف فيها عند مولاته بعد خروجها من يده بالوجه الذي ذكرتم فلا سبيل إلى بيعها ، و إن بقي على ما هو به مما ذكرته من الاستهتار و التصرف بالوجه المذموم فإن للحاكم بيعها على ما ذكره مالك في كتاب ابن حبيب .
و أجاب هارون بن الوليد : إذا تصيرت الجنة المذكورة إلى المرأة و خرجت عن ملك مولاها فتؤمر بإخراجه عنها و منعه من التصرف فيها ، فإن امتنعت من ذلك و تبين ضررها و لم تحل بينه و بينها فهي كالفاعلة لذلك لرضاها به و تماديها عليه ، و يعود النظر في ذلك عليها بالبيع على ما ذكره في كتاب ابن حبيب أو ما أدى الحاكم إلى الاجتهاد إليه في ذلك ، و بالله تعالى التوفيق .
و أجاب عمر(1)بن إسماعيل : تصفحت رحمنا الله و إياكم سؤالكم و وقفت على ما تضمنه ، و إذا كان الأمر على ما ذكرته فإن الغلام المذكور يخرج من أرض المرأة و لا يباع الجنان المذكور ، و الله المستعان .
و أجاب يوسف بن أحمد : إن أشهد بالهبة و قبلت الموهوب لها و صارت إليها الجنة لم تبع ، و بالله التوفيق .
[535 /2]
و أجاب موسى بن زكرياء الزناتي : ليس للقاضي البيع إذا انتقلت عن ملكه ، إنما للقاضي ضربه و طول سجنه أبداً حتى تظهر توبته أو ينفيه من البلد حتى لا يظهر فيه و يكف أذاه عن المسلمين ، و بالله التوفيق .
و أجاب ابن الإمام : تصفحت وفقنا الله و إياكم هذا السؤال ، و إذا كان الأمر على ما ذكر فيه لم يكن للقاضي بيع الجنة ، و صرفها إلى المرأة يمنع من بيعها ، لأنها لا تباع بصرفها على المستهتر المؤذي لجيرانه ، و في بيعها عليه اختلاف ، و يجب زجره و سجنه إلى أن تظهر توبته إذا كان بالحال الذي وصفت عنه ، و بالله التوفيق .
__________
(1) في نسخة : محمد بن إسماعيل ، و هو الصحيح . ( كذا في هامش المطبوعة الحجرية ) .
(2/140)
________________________________________
قال محمد بن عياض : حكى أبو زيد عن ابن القاسم أنه يتقدم إليه مرة بعد مرة ، فإن لم ينته و إلا خرج و كوري عليه ، فقلت له أفلا تباع ؟ قال لا ، و لعله يتوب و يرجع إلى منزله .
[مصلح من قبيلة جزنانية يقاومه العكازيون في منتصف القرن الثامن ]
و سئل الفقيه الحافظ أبو العباس القباب عن مسألة رجل يقال له داود بن الحسن و هو جزنائي النسب ، و دينهم كما عرفتم ، و لا تخفى عليكم أمورهم ، و أحدث علينا بذلك أموراً تشتت بها شملنا و راغ إلى مذهبه كثير من الناس ، و شرع أموراً لم نسمعها نحن و لا آباؤنا من قبل ، و لم نسمع أحداً من أهل العلم و لا أحداً من أهل الفضل و الدين أمر بها ، و لم نسمع من أحد أنه غيرها و جعلها هو بدعة و من تبعه عاص ، و من جملة ما يخبر أن أنكر على الفقراء الذكر بالمداومة و الشطح و التصفيق و التدوين(1)و حلق الرأس ، و قال ذلك بدعة ، و تلقيم اللقم و غير ذلك مما لا يخفى عليكم من أمور الفقراء ، و ربما ظهر لبعض الفقراء كرامات و قال إن ذلك من إبليس و إن أفعالهم بدعة ، و نسب طريقهم إلى البدعة و غلظ عليهم و أخمد أفعالهم .
و من ذلك أيضاً أن قطع مخالطة الرجال مع النساء و غض البصر ، و قطع
[536 /2]
كلام النساء من حيث يسمع الرجال كلامهن حيفة الفتنة ، و لم نسمع أحداً أمر بذلك إلا هذا المذكور .
__________
(1) في نسخة : و الترانين .
(2/141)
________________________________________
و من ذلك أنه يأمر كل من أتاه و تاب على يديه أن يصحح توبته بشرائطها ، و أن من شرائطها الندم على ما فات من تضييع فرائض الله عز و جل ، و الإخلاص فيما يفعل ، و ترك الرياء و الرياسة و الكبر و الحسد و الغيبة و النميمة و العجب ، و أن لا يسعى بقدميه فيما لا يحل له و لا يسمع بسمعه ما لا يحل له ، و زعم أن ذلك من شرائط التوبة ، و أن فعل هذه الأشياء المذكورة من آفات الدين ، و ينهاه عن مخالطة الغصاب و أكل طعامهم و أكل طعام مستغرقي الذمم ، و زعم أن ذلك هو السنة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم . ثم بعد ذلك أخذ يستفصل من كان عنده من الناس رجلاً بعد رجل في معاملاتهم في البيوع بالنقد و النسيئة و الشركات و الرهون و غير ذلك من سائر المعاملات ، و معاملاتهم بالناقص و الرد فيه و عقود الصرف كيف يفعلون فيها و السلف جر منفعه ، فوجد كثيراً منهم معاملاتهم ربى ، و أخذ أيضاً يستفصلهم في اليمين بالله فوجدهم قد ترتبت عليهم كثير من الايمان ، و زعم أنه وجدهم قد استغرق الربا أموالهم و الكفارات ، ففيأ عليهم أموالهم بعد أن حاسب كل واحد منهم نفسه على ما ترتب عليه من الربا و غيره من التبعات ، فمن وجد استغرق ماله بما ذكرناه أمره بصرف ذلك للفقراء و المساكين ، و أمره أن يؤخر الكفارات إن أحب أو يصوم في الحال ، و من وجده لم يستغرق ماله بما ذكرنا فيأ عليه ما قابل ما في ذمته من الربا و غيره و أمره بما بقي أن يخرجه في الكفارات بالإطعام في الحال أو يؤخر إن أحب .
(2/142)
________________________________________
و من ذلك أيضاً إذا ورد عليه أحد ممن يقرأ القرآن و يريد أن يقيم عنده و يتمادى على قراءة القرآن يقول له لا يجوز لك أن تقرأ القرآن و أنت جاهل بفرض العين مما فرض الله عليك من أحكام الوضوء و الصلاة و الصيام و غير ذلك من فروض العين ، و أما القرآن فنافلة إلا أم القرآن في الصلاة فإنها فرض و سورة معها على سبيل السنة ، و يأمره أيضاً بمجاهدة النفس و رياضتها و تطهيرها من آفاته المذمومة في الشرائع كالعجب و الرياء و الحسد و الكبر و الغضب و غير ذلك من المذمومات ، و ترك الغيبة و النميمة و غير ذلك
[537 /2]
مما يكثر تعداده من الأمور المحرمات ، و يقول هذا هو الفرض عليك و أم القرآن ، و ما زاد على فرض العين من الأحكام الشرعية فإنما هو فرض كفاية ، و زعم أن هذا هو الشرع المستقيم . انظر يا سيدي كيف جعل القرآن الذي هو أفضل العبادات نافلة ، و يقول له إذا حصل لك ما ذكرت لك فحينئذ ترجع إلى النافلة إن أحببت ، و جعل بعضهم يقرؤون الرسالة و بعضهم يقرؤون قواعد عياض مع مجاهدة النفس .
و من ذلك أيضاً أنه أمر كل من تاب على يديه أن لا يزوج ابنته أو وليته للفاسق كالحالف بالطلاق و الغاصب و السارق و آكل الربا و غير ذلك .
(2/143)
________________________________________
و من ذلك أيضاً أنه قال كل طالب لا يحجب زوجته و لا يرد بصره عن المحارم و لا يترك الغيبة و غير ذلك أنه فاسق مجرح الشهادة و لا تجوز إمامته . و من جملة أفعاله إذا صلى بالناس أو بأحد من أصحابه وثب قائماً من مصلاه و لا يدعو الناس ، فأنكروا عليه ذلك و قال هذا من السنة ، و من أراد أن يدعو فليفعل . و من جملة ما ترك تصبيح المؤذن عند أذان الصبح فأمر مؤذن موضعه بالأذان خاصة و أنكروا عليه أيضاً فقال هذا هو السنة إلا أن يضطر إلى التسبيح على جهة الإعلام و لا يعتقد أن ذلك سنة . و من أفعاله إذا لقيه أحد فصافحه و لم يقبل يده و قال تقبيل اليد مكروه . و أنكر أيضاً ما ما يستعمله الناس من المساء و الصباح و ترك السلام ، و قال إن ذلك بدعة و السمة إنما هي السلام . ثم أيضاً إن بعض من كان عنده زوج ابنته بربع دينار فلم ينكر عليه بل حمد فعله مع أن أحداً لم يسمع فعل مثل ذلك في بلدنا قط ، و ينسبون أفعالهم إلى البدعة لكونهم قالوا لم نسمع بهذا كما ذكرنا لكم ، و لأنهم قالوا هذا دين جزناية . و كانت العامة يصغون و يميلون إلى أقوال هؤلاء الطلبة المذكورين و يحذرون العوام من هذا الشخص و ما أخذ فيه ، و قد أشكل علينا ما يأمر به و ما ينهى عنه ( )(1)عرفنا من أشياخ إقليمنا الذين بهم نمطر و بهم يدفع عنا البلاء يحذرون من هذا المذكور
[538 /2]
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية : " كذا في الأصل ، و في عدة نسخ مقابل عليها هذه : .
(2/144)
________________________________________
و أشكل أيضاً علينا أنه إذا رفع إليه أمر العكازين الذين يطعنون عليه في أحكامه يقول لهم هؤلاء الذين يطعنون في أحكام الشرع دجاجلة ، فإن أردتم أيها العامة ظهور الحق فاسألوا الفقهاء المبرزين ، فالذي يفتونكم به وجب عليكم اتباعه ، و اهجروا الطاعن في الأحكام الشرعية من الطلبة و الفقراء حتى يتوب من الطعن في الشرع ، و إياكم أن تقتدوا إلا بالأئمة المفتين المعروفين بالدين و التقوى و العدالة المشهورين في الأمصار الذين ذبوا عن الدين و نصروه ، فاكشفوا لنا عن هذا الأمر الذي التبس علينا و حارت فيه عقولنا مما يأمر به هذا الشخص ، و ما جزاؤه في الحكم الشرعي إن كانت أفعاله بدعة و ما يدعو إليه ؟ و إن كانت أفعاله موافقة للسنة فما جزاء من تعرض له من الطلبة المذكورين و طعن في أفعاله ؟ و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته .
فأجاب : قرأت سؤالكم و وقفت عليه ، و رأيتكم أنكرتم حال الرجل الذي وصفتموه بصفات قد كنا لا نطمع بوجدان عشرها اليوم على وجه الأرض عند أحد من أهلها ، و ذلك هدى الله يهدي به من يشاء . و هذا مصداق قول النبي صلى الله عليه و سلم : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله » ، و هم كذلك ، و بهم ينزل الله المطر و يرحم العباد . و قد جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم من الأحاديث الصحيحة في فضل من أحيى سنة عند فساد الأمة ما هو معلوم و مشهور من فساد الأنة أن صار القائم بهذه الأوصاف الجميلة و المتحلي بهذه الشيم الحميدة بحيث يشك في فضله أو يسأل الناس عن فعله و قوله .
لقد ظهرت فلا تخفى على أحد = إلا على أكمه لا يعرف القمرا
* * *
و كيف يصح في الأذهان شيء = إذا احتاج النهار إلى دليل
(2/145)
________________________________________
و حق على من كان حظه العجز عن درك المعاني أن يعترف بفضل أهلها ليلاً يجتمع عليه التقصير في العمل مع جحد الحق . و قلتم في السؤال أنه أتاكم بأمور لم تسمعوها أنتم و لا آباؤكم ، و قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : « بدأ الإسلام غريباً و سيعود غريباً فطوبى للغرباء » . و جاء عنه صلى الله
[539 /2]
عليه و سلم أن « من علامات الساعة أن يصير المعروف منكراً » ، فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم . و جاء عنه صلى الله عليه و سلم : « يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر ، للعامل منهم أجر خمسين منكم قيل منهم قال بل منكم لأنكم تجدون على الخير أعواناً و لا يجدون أعواناً » أو كما قال صلى الله عليه و سلم .
(2/146)
________________________________________
و أما سؤالكم عن هذا الرجل و كونه جزنائي النسب و دينهم كما عرف ، فلا أعلم خلافاً بين أحد من الأمة أنه لا يشترط في عدالة الرجل أو فضله أو صلاحه أو عمله و قيامه بالحق صلاح قبيلته و فضلهم ، و كم من فاضل و صالح كان مشتركاً ثم من الله عليه بالهدى و صار من فضلاء هذه ، و قد قال الله سبحانه : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ، و الأحاديث الصحيحة مصرحة بعدم اعتبار النسب في التقوى . و أما قولكم إنكم لم تسمعوا أحداً من أهل الفضل و الصلاح و لا أحداً من أهل العلم أنكر تلك الأمور ، فهذا قول من لم ير أحداً من أهل العلم و لا من أهل الفضل و الصلاح . و جميع ما أمر به هذا الرجل و نهى عنه منصوص لأهل العلم على حسب ما به أمر و نهى عنه ، و كتبهم لم يملأها إلا ذلك . و لو أخذنا في ذكر ذلك مسألة مسألة لما وسعه هذا المكتوب . و قد صنف العلماء تصانيف في البدع المحدثة و ليس في هذا السؤال مسألة أمر بها هذا الرجل المذكور إلا و هي مشهورة عند العلماء ما عدا سماع كلام النساء ، فإني لا أعلم فيه إن كان لغير تلذذ منعاً ، و إنما أعلمهم منعوا التلذذ بسماع كلام النساء و غنائهن ، و أما كلامهن في غير ريبة من وراء حجاب فلا أنكره ، و سائر ما أتى به صواب حق لازم ، فمن أعانه على ذلك و عضده و قواه كان معيناً على إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم آخذاً بحظه مما جاء في فضل إحياء السنة ، و من نازعه في ذلك و آذاه و صرفه عن شيء مما ذكر هنا فإنه مطفئ للسنة و خامد للحق و معين على إظهار الباطل ، { و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } . و أما قولكم إن طلبتنا يقدحون فيما أتى به هذا الرجل و ينسبونه إلى البدع فلم يزل هذا من شأن أهل الفضل يسلط عليهم من يؤذيهم ليكون ذلك أعظم لأجورهم عند الله تعالى ، و أما الحكم الشرعي فمن آذاه و بدعه فإن قائل ذلك فيه هو المبتدع و حكمه الأدب بالضرب
[540 /2]
(2/147)
________________________________________
و السجن حتى يرجع عن ذلك ، فإن من آذى مسلماً نكل ، فكيف من آذى مسلماً قائماً بالحق داعياً إليه ! و هذا جواب ما سألتم عنه مجملاً ، و أما على التفصيل فيستدعي ذلك تأليفاً قائماً بنفسه . و هذا إنما هو جواب على تقدير صحة ما قيد في السؤال ، و بالله التوفيق لا شريك له ، و السلام عليكم و الرحمة و البركاة . و كتب أحمد القباب خار الله تعالى له و لطف به و بيمنه .
و أجاب عنه السيد الفقيه المدرس العالم القدوة المحقق المفتي أبو عمران موسى العبدوسي نفعه الله و نفع به في السؤال بعينه نصه بعد الحمد لله : الجواب كل ما قاله هذا الرجل الذي ذكرتم هو الحق الذي لا يجوز أن يعدل عنه ، و الطاعن عليه آثم ، و الله ولي التوفيق بفضله . و كتب موسى بن محمد بن معطي لطف الله تعالى به .
و أجاب أيضاً عنه الفقيه القاضي المدرس المفتي المشاور القدوة أبو عبد الله محمد بن عبد المؤمن رضي الله عنه و نفع به بما نصه و بخطه : ما أفتى به الفقيهان الجليلان المكرمان صحيح لا إشكال فيه . و كتب محمد بن عبد المؤمن لطف الله به و وفقه و سدده .
[اختلف بتلمسان شريف و فقيه فتسابا و تشاتما ]
و نزلت بتلمسان مسألة في عام ثلاثة و أربعين و ثمانمائة بين السيد أبي الفرج بن السيد أبي يحيى الشريف و الفقيه الموثق العدل أبي العباس أحمد بن عيسى البيطوي مما يرجع للجانب النبوي المعصوم ، و ها أنا أثبت نسخة الرسم الثابت في ذلك و السؤال المرتب عليه و الجواب عنه لشيخ شيوخنا الشيخ الصالح أبي العباس سيد أحمد بن محمد بن زاع رحمه الله . نص الرسم المذكور :
الحمد لله ، وقع بمحضر شهوده أمس تاريخه كلام بين الفقيه أبي الفرج ابن الشيخ الإمام علم الإسلام السيد المرحوم أبي يحيى الشريف الحسني و بين أحمد بن عيسى البيطوي في شأن تركة أبي عبد الله المدعو حمو أخي أبي الفرج المذكور للأب ، فدار الكلام بينهما إلى أن قال أبو الفرج المذكور
[541 /2]
(2/148)
________________________________________
لابن عيسى المذكور : أتريد الحق ؟ و الله ما فيك فضل . فكره وجهه ابن عيسى و قال : ماذا أجيبك به ؟ فقال أبو الفرج : نعم ، و لس فينا نحن فضل أيضاً ، لأن أمثالنا في الناس غلبت أحوالهم على الانفصال على خير(1). فقال له ابن عيسى : لست بالذي يليق بجوابك و إنما القيم به هذا الكلب . مشيراً بلفظه إلى ولده أحمد بإزائه . فقال له أبو الفرج : و ما عظم شأنك عن مشاكلتي ؟ فقال له ابن عيسى : أبوك هو الكلب ابن الكلب العر ابن العار و أبو أبيك . فقال ولده المذكور لأبي الفرج من وراء أبيه : الله يلعن الملعون أبو جدك الأول . مقالاً تاماً و ترديداً صحيحاً بينهما سمعته الأذن و وعاه القلب دون شك و لا ريب . فمن حضر جميع ما ذكر و استوعبه كما فسر و كلهم بحال صحة و طوع و جواز و عرفهم قيد بمضمنه شهادته بتاريخ سابع ربيع الأول عام ثلاثة و أربعين و ثمانمائة .
و نص السؤال المرتب عليه : الحمد لله الذي اصطفى نبيه مولانا و سيدنا محمداً صلى الله عليه و سلم و عصمه و حمى جنابه الكريم ، و طهره و جميع أهل بيته و أذهب عنهم الرجس و من تبعه من علماء دينه الحنفي و أوجب على جميع أمته تكريمه و تعزيره . و بعد رضي الله عنكم جوابكم فيما تضمنه الرسم المكتتب فوق هذا يليه من السب و قول الفحش و الزور الواقع بين أبي الفرج و هو فريق واحد و بين أحمد بن عيسى و ولده أحمد و هو فريق ثان فيما يلزم لكل واحد من الفريقين في حق صاحبه ، و ما يلزم ابن عيسى و ولده شرعاً في حق النبي صلى الله عليه و سلم إذ هتكا حرمته صلى الله عليه و سلم في سب ذريته و من انتسب إلى بيته الكريم و شرفه العميم ، و لكم الأجر ، و السلام عليكم .
__________
(1) في نسخة : على غير .
(2/149)
________________________________________
و نص الجواب ، و هو لسيدنا و شيخ شيوخنا أبي العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن زاغ رحمه الله ، و من خطه نقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، صللى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم ، رب أدخلني مدخل صدق و أخرجني مخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً ،
[542 /2]
الحمد لله رب العالمين ، و العاقبة للمتقين . هذه المسألة وقعت بتلمسان و دار الكلام فيها بين المتصدرين فيها للعلم بها و تحيرت فيها الأفكار ، و اختلفت فيها الأنظار ، فلا يسع توقيع الجواب فيها على ما جرت به العوائد في الفتاوى من الاقتصارعلى مجرد ذكر الحكم ، بل لا بد مع النظر في الحكم من مقدمات يعتمد عليها ، و تتمات و توابع تنضم إليها ، و مواعظ و زواجر من كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم يوقف عندها . قال تعالى : { و ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } . و أيضاً فإن الاختلاف المشار إليه في هذه القضية قد انتشر حتى بلغ في جانبي الإفراط و التفريط من متغال في الواجب في ذلك شرعاً على من سب من انتسب إلى الجانب النبوي حتى انتهى ذلك إلى أقصى الغايات في الحدود و هو القتل ، و من مقصر في ذلك حتى كاد لا يوجب على الشاب حداً و لا تعزيراً ، و كلا جانبي الإفراط و التفريط مذموم و لا يسلم صاحبه في الغالب من متابعة الهوى ، و الهوى شر إله عبد و شر حكم انتصب للحكم بين الناس . و الواجب على كل من تعرض إلى النظر في هذه القضية و غيرها بشهادة أو حكم أو فتيا أو شورى أو صلح أن يتقوا الله و ينصفوا و يكونوا { قوامين بالقسط شهداء لله و لو على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا و إن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } . ذكر ابن عطية أن الآية تعم القضاء و الشهادة و الخصام و التوسط بين الناس ، و أن كل إنسان مأخوذ بأن يعدل .
(2/150)
________________________________________
قلت : و يدخل في ذلك النتعرضون لكل جانب من جانبي الخصوم فإنهم مأمورون بالعدل على حد نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً . و إنما قلنا ذلك لأن كل من يوالي خصماً من الخصوم من قرابته و أصهاره و أحبابه مجبول على الانتصار له و المجادلة عنه كان على حق أو باطل ، و لا يسلم منه إلا إن وفقه الله تعالى . و المجادلة عمن يعرف منه أنه يجادل بالباطل حرام ، قال تعالى : { وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ /2] 543 /2] يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا } . نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً و يعيننا على اتباعه ، و يرينا الباطل باطلاً و يعيننا على اجتنابه .
(2/151)
________________________________________
و لنرجع إلى المقصود بالذات فنقول و الله المستعان : إن الوقيعة في آل الرسول صلى الله عليه و سلم و فيمن انتسب إلى نسبه الطاهر سببهما أمران اثنان : أحدهما الاجتراء على هتك المحارم باحتقار من انتسب إليه مع الاعتراف بما ينسب إليه بما يثبت به الانتساب ، و لا سيما إذا كان الساب يرى لنفسه فضلاً و جلالة . و ثانيهما الطعن في صحة انتساب من انتسب إليه صلى الله عليه و سلم ، و ذلك بأن يقول الطاعن فيمن يدعي الشرف إنه ليس بشريف و ربما كان ذلك عن حسد على الشرف و غل موغور في الصدور . فأما ما يتعلق بالسبب الأول و هو الاجتراء على هتك حرمة النبي صلى الله عليه و سلم فنقدم بين يدي الجواب فيه تقرير شيء من حرمة النبي صلى الله عليه و سلم و حرمة ذريته و ما يجب علينا من مراعاة ذلك ، و أن نسب النبي صلى الله عليه و سلم ليس كغيره من الأنساب . اعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه و سلم عظيمة عند الله عز و جل و عند كل مؤمن ، و مراعاة حرماته صلى الله عليه و سلم و حفظه فيها و في سائر عوالمه الشريفة واجبة على كل مسلم ، و هتك حرمته حرام . و كيف لا يكون ذلك كذلك و هو أحب الخلق إلى الله تعالى . فقد روى عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : « لما اقترف آدم الخطيئة قال : يا رب ، أسألك بحق محمد لما غفرت لي . فقال الله : يا آدم ، و كيف عرفت محمداً و لم أخلقه ؟ قال : يا رب ، لما خلقتني بيدك و نفخت في من روحك و رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك . فقال الله تعالى : صدقت يا آدم ، إنه لأحب الخلق إلي ، أما إذا سألتني بحفه فقد غفرت لك ، و لولا محمد لما غفرت لك و ما خلقتك » . قال الحاكم في هذا الحديث : إنه صحيح الإسناد .
(2/152)
________________________________________
و قال عز و جل في التحريض على تعظيم حرمات الله عموماً : { ذلك و من يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه } ، و قال تعالى : { ذلك و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } . فدل على أن من هتك حرمات الله فقد حرم نفسه من الخير ، و أن من لم يعظم شعائر الله
[544 /2]
كان بعيداً من التقوى ، و الإجماع على تحريم هتك حرماته صلى الله عليه و سلم . و قال في تعظيم حرمة النبي صلى الله عليه و سلم خصوصاً { إنا أرسلناك شاهداً و مبشراً و نذيراً لتؤمنوا بالله و رسوله و تعزروه و توقروه } ، و قال عز و جل : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } . و في الشفا لعياض ، الدر المنظم للعزفي و غيرهما من تعظيم الله عز و جل لنبيه صلى الله عليه و سلم بفنون من التعظيم ما لا ينكره مؤمن و لا يترك العمل على شاكلته إلا من كان ضعيف الإيمان مطموس البصيرة ، و حرماته صلى الله عليه و سلم التي يجب تعظيمه و توقيره فيها كثيرة ، فمن ذلك ذاته العظيمة و طلعته الكريمة ، و من ذلك شريعته صلى الله عليه و سلم و سنته ، و جاءت الآيات التي جاء بها من عند ربنا عز و جل ، فلا يتخذ شيء من ذلك هزؤاً و لا يجعله العالم بها خلفه ظهرياً ، فيكون بذلك متولياً عن ذكر الله تعالى { و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم } . و من حرماته صلى الله عليه و سلم التي يجب تعظيمها أصحابه رضي الله عنهم ، و منهم علي و الحسن و الحسين و فاطمة و أهل بيته صلى الله عليه و سلم أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً من سب السابين و لعن اللاعنين و طعن الطاعنين و إلحاد الملحدين . رزقنا الله حبهم و حب من أحبهم إلى يوم القيامة .
(2/153)
________________________________________
و من حرماته صلى الله عليه و سلم أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين ، و كذلك أصهاره و خدمة مواليه و من هو منه بسبب من المؤمنين . و من حرماته صلى الله عليه و سلم علماء أمته القائمون بشريعته المحيون لسنته الناشرون لدينه المتمسكون بحبله العاملون بعلمهم الذين لا يشترون بآيات الله و لا بعلمهم ثمناً قليلاً .
و من حرماته صلى الله عليه و سلم سائر أمته المؤمنون به التابعون لما جاء به السالكون سبيله المقتفون آثاره ، و هم إخوة في الإيمان ، فيجب أن يراعي بعضهم لبعض حق هذه الحرمة و حق هذه الأخوة . قال الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ، و قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله } . و هذه الحرمة و ما أشبهها إنما تجب مراعاتها ما لم تنهك حرمة أخص منها من
[545 /2]
حرمات الله تعالى ، فإذا انتهكت الحرمة الخاصة تلاشت الحرمة العامة الإيمانية عندها . قال تعالى فيمن ينتهك حرمة الفروج : { و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } ، و كذلك سائر الحدود و ما يلحق بها ، و الله أعلم .
(2/154)
________________________________________
و من حرماته صلى الله عليه و سلم العظيمة التي يجب برها و توقيرها و إكرامها و احترامها و القيام بواجب حقها ذريته الطيبة الطاهرة . و قد شاع تعظيم حرماته صلى الله عليه و سلم و ذاع عند الأمة خاصتهم و عامتهم حتى انتهوا في تعظيم حرماته إلى تعظيم آثار منزله كما هو مشهور بالبلاد المصرية ، فإن بها مزاراً يقال الآثار ، و هو بناء شبه خانقة و عليه أوقاف ز به قيم يقوم بشأنه و فيه بقية من معالمه صلى الله عليه و سلم كقطعة من قطعته و جزء من عثرته و كمروده و اشفائه صلى الله عليه و سلم كان يصلح بها نعله الكريم ، و الناس يردون هذا الموضع المبارك و يكثرون التردد إليه للتبرك بهذه الآثار و يلبسونها و يتمسكون بها(1)، و كذلك مداخله و مخارجه صلى الله عليه و سلم و مواطئ أقدامه الكريمة المباركة من الحرمين الشريفين ، و كذلك نعله الكريمة و تمثالها ، و قد اعتنى العلماء بتعظيم هذه الحرمات كلها . و إذا كانت هذه الآثار معظمة محترمة و إنما هي أجساد لا عقول لها ، و أشباح لا أرواح لها ، فلأن يعظم من حرماته صلى الله عليه و سلم من انتسب إلى بيته الشريف و حسبه المنيف أحرى و أولى ، و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في بقرير الفضل لأصل هذا الشرف : « فاطمة بضعة مني ، يريبني ما يريبها » ، و قال في الفرعين الطاهرين الناشئين عن هذا الفلذ و هما السبطان رضي الله عنهما : « الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة » ، و قد قال صلى الله عليه و سلم في تقرير الفضل لسائر آله : « معرفة آل محمد براءة من النار ، و حب آل محمد جواز على الصراط ، و الولاية لآل محمد أمان من العذاب » رواه المقداد بن الأسود عنه صلى الله عليه و سلم . و مما يدل على أن
[546 /2]
__________
(1) في نسخة : " و يلمسونها و يتمسحون بها " ، و هذا أنسب .
(2/155)
________________________________________
الذرية تطلق على أولاد البنت قوله تعالى : { و من ذريته داود و سليمان } إلى قوله : { و عيسى } ، فجعل عيسى من ذرية نوح و إبراهيم بواسطة مريم ، و دليل على ثبوت الشرف من قبل الأم . هذا هو مذهب أشياخنا التلمسانيين و أشياخ أشياخهم ، فثبت لأصله من الحرمة و الحقوق مثل ما للشرفاء من قبل الأب ، و ذلك لأن الشرفاء من قبل الأب لا بد أن ينتهي شرفهم إلى الشريف من قبل الأم ، لأن إدلاءهم إلى النبي صلى الله عليه و سلم إنما هو بواسطة فاطمة رضي الله عنها . و مما يدل على وجوب احترام آله و ذريته صلى الله عليه و سلم ما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم « في حجة يوم عرفة و هو على ناقته يخطب فسمعته يقول : يا أيها الناس ، قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله و عثرتي أهل بيتي » . و عن زيد بن أرقم أنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، و عثرتي لأهل بيتي ، و لن يتفرقا حتى يردا على الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » . و روي أنه صلى الله عليه و سلم سئل عن قرابته الذين وجبت علينا مودتهم ، فقال : « علي و فاطمة و أبناؤهما » .
(2/156)
________________________________________
و من ذلك ما روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : « من مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا و من مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا و من مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر و نكير ، ألا و من مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا و من مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا و من مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا و من مات على حب آل محمد مات على السنة و الجماعة ، ألا و من مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ، ألا و من مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة » . و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : « كل نسب و سبب و صهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي و سببي و صهري » . أو كما قال صلى الله عليه و سلم ، إلى غير ذلك من فضائل هذا الباب . و قد
[547 /2]
بلغ ذلك من الوضوح و الجلاء بحيث يورث المستدل عليه خجلاً كما قيل :
و كيف يصح في الأفهام شيء = إذا احتاج النهار إلى دليل
فإذا كانت مراعاة هذه الحرمة واجبة فكا من تعرض لهتكها مستحق للعقوبة على قدر اجترائه و بحسب إجرامه .
[يثبت النسب بالسماع الفاشي ]
(2/157)
________________________________________
و أما ما يتعلق بالسبب الثاني و هو القائل في مدعي الشرف إنه ليس بشريف ، فيجب أن يعذر فيه ما يثبت به الشرف و ما تصح به النسبة إليه صلى الله عليه و سلم ليعلم الواقع في ذلك المتهاون بأمره مقدار ما وقع فيه و ما يلزمه عليه ، فاعلم أنه يكفي في ثبوت هذا النسب لمدعيه السماع الفاشي و شهادته به و دعاء الناس لديه ، و يتقوى ذلك بثبوته عند القضاة لا سيما مع تقادم رسوم المنتسبين إليه بذلك و وجود كثرة الشهادات فيها و توقيع الأئمة الأعلام من العدول و العلماء و القضاة عليها كما في هذه القضية حسبما وقفت عليه فيها ، فإن لبعض رسوم السلف الذين وقع فيهم هذا النسب المذكور في السؤال مدة من نحو مائتين و تسعين(1)سنة ، و فيها شهادات كثيرة من بني ابن صاحب الصلاة و غيرهم من العلماء الأعيان و القضاة يثبتونها و يوقعون علاماتهم عليها واحداً بعد واحد من يومئذ و هلم جر إلى توقيع شيخنا الإمام العلامة القاضي الكبير الشهير قاضي الجماعة بتلمسان في أواخر القرن الثامن السيد أبي عثمان العقباني رضي الله عنه . و لو شرط في ثبوت هذا النسب العلم من وسطه و من طرفه لكان ذلك شرطاً محللاً و لما ثبت نسب لأحد بالسماع ، و قد نص العلماء على أن النسب يثبت بالسماع . قيل لابن القاسم : أيشهد أنك ابن القاسم من لا يعرف أباك و لا يعرف أنك ابنه إلا بالسماع ؟ قال : نعم ، و يقطع بها و يثبت النسب . و إذا كان هذا صحيحاً في الأنساب التي لا تعظم العناية بها عند أصحابها ، فلأن يثبت ذلك في النسب الشريف أحرى
[548 /2]
و أولى لما علم من عناية أهله به و تحفظهم عليه و إثباتهم له بالرسوم الصحيحة و كثرة الشهادات فيها ، و لما علم من تثبت القضاة فيها و رعايتهم حق النبوة فيها .
[قيل : الشرف بعد السبعمائة و أحرى بعد الثمانمائة ضعيف ]
__________
(1) في نسخة : و سبعين .
(2/158)
________________________________________
و قول من قال من أهل المائة الثامنة و من تبعهم من أهل التاسعة : الشرف بعد السبعمائة و أحرى بعد الثمانمائة ضعيف قول لا يعرف لهما فيه سلف ، و هو قول باطل لا تمكن صحته إلا أن يريد قائله إنشاء النسب إلى الشرف و إثباته في حق من لا يكون معروفاً به في زمان من الأزمنة و لا في موضع من المواضع قبل هذين القرنين ، فيكون حينئذ قولاً صحيحاً ، و لكن ذلك لا يختص بالقرنين المذكورين ، فإن هذا الحكم صحيح فيما قبلهما . و العمل على هذا القول في حق من كان مشهوراً بهذا النسب معروفاً به موروثاً عنده من أسلافه بناء على شفا جرف . و اتخاذ هذا القول ذريعة إلى الطعن في هذا النسب الشريف مع شهرة مدعيه به طامة عظيمة و غرور كبير ، و وجه بطلان هذا القول إذا أراد به صاحبه العموم في المعروف النسب بالشرف و غير المعروف أن ذلك مفض إلى إبطال الحق بعد ثبوته ، و إلى رد الصواب خطأ بعد تقرر كونه صواباً .
و بيان ذلك أن من ثبت شرفه في المائة السابعة مثلاً بما ذكرناه من الشهرة و الرسوم الصحيحة المعتبرة و دام له ذلك و استمر إلى القرن الثامن و التاسع في ذريته ، فيلزم على القول المذكور أن ينقلب ما كان حقاً مشهوراً في المائة السابعة و ثابتاً بالرسوم الصحيحة إلى كونه باطلاً ، و ما كان فيها صواباً إلى كونه خطأ بعد القرنين المذكورين ، و ذلك بمجرد مرور الأيام و الليالي عليه . و إذا فتحنا هذا الباب في هذا النسب مع ما ذكرنا من كونه لا يثبت في العادة إلا ثبوتاً قوياً صار ذلك إلى الطعن في سائر الأنساب ، مع ضعف ما يثبت به بالنسبة إلى ما يثبت به الشرف عادة ، و يلزم القائل بذلك عدم صحة الأنساب إذا مانت متقادمة إلى زمن النبي صلى الله عليه و سلم ، و أحرى ما قبله كالنسب إلى قريش أو قيس أو تميم ، سيما و ذلك الزمان زمان
[549 /2]
(2/159)
________________________________________
جاهلية لا يتقيدون بشريعة و لا بما يلزمهم الصدق في الأخبار إلا مجرد العادة . و هذه اللوازم كلها باطلة ، فيبطل ملزومها ، و هو القول المذكور . فإذا تقرر ذلك فكل من يرمي من اشتهر بهذا النسب الكريم عن نسبه مع علمه بهذه الشهرة فهو قاذف له فيلزمه حد القذف . قال في التهذيب : و من قال لعربي لست من بني فلان لقبيلته التي هو منها حد . انتهى .
و الشرفاء عرب لأنهم منسوبون إلى الحسن و الحسين بن علي بن أبي طالب ، فمن قال للشريف لست بشريف فإنه رماه عن السبطين العربيين رضي الله عنهما . و قال فيه أيضاً فيمن قال لرجل من ولد عمر بن الخطاب لست ابن الخطاب فإنه يحد لأنه قطع نسبه . و قال فيه أيضاً و إن قال لرجل لست ابن فلان لجده و قال أردت أنك لست ابنه لصلبه لأن دونه لك أب لم يصدق و عليه الحد . انتهى .
انظر كيف أوجب عليه الحد مع إمكان التأويل في كلامه و إمكان قصده لما قال ، ومع ذلك لم يعذره ، و ذلك لأن الشرع حمى حِمى الأنساب جملة حتى أوجب الحد فيها بالتعريض و حافظ عليها محافظة عظيمة ، فكيف لمن ينتسب إلى أشرف الأنساب . و قال صاحب المفيد في القذف ناقلاً عن الكافي : إنما يجب الحد بأحد المعنيين ، إما قطع نسب مسلم مشهور النسب ، أو رميه بالزنا في نفسه أو ما أشبهه . انتهى .
(2/160)
________________________________________
و اعلم أن الكلمة التي وقعت من المتسابين في هذه القضية أشرها و أشدها ما وقع من ابن عيسى و ولده ، فإذا صح ذلك عليهما و ثبت ما نسب في هذه القضية إليهما فقد وقعا في محظور عظيم و محذور شديد ، و ذلك أن اللازم لهما في ذلك أحد أمرين ، فإن كانا معترفين بالشرف لمن سباه فقد وقعا في هتك حرمة النبي صلى الله عليه و سلم هتكاً أبعدهما من خير الدنيا و الآخرة ، و قربهما من شر الدنيا و الآخرة ، و أوجب لهما المقت من الله عز و جل و سائر الأمة ، لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال الله تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذاباً مهيناً } . و إن كانا منكرين لشرف من سباه مع شهرة شرفه شهرة لا تخفى عنهما فقد وقعا في
[550 /2]
(2/161)
________________________________________
القذف فيلزمهما حد الفرية كما ذكرنا النصوص عليه . و الابتداء بالسب تعريض من المبتدئ لنفسه و لآبائه أن يسبوا ، و يقال له ما قال في غيره و زيادة ، و ذلك موجب لتعزيره و النكال له بقدر ما يليق به ، و ذلك موكول إلى نظر الإمام . فلو لم يصدر من ابن عيسى المذكور جواب لأبي فرج لما ابتدأه أبو الفرج بقوله ما فيك فضل ، لوجب تعزير أبي الفرج في ابتدائه بالسب أو التجافي غنه لكونه من ذوي الهيئات بحسب ما يراه الإمام ، و لكنه لما جاوبه ابن عيسى الوالد بنحو ما قال و بزيادة كثيرة عظيمة على ما قال أبو الفرج كان في أخذه بالمثل و قوله مثل ما قيل له في نفسه(1)مقتصاً و عاملاً على مقتضى قوله تعالى : { و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ، و نحو ذلك من الآيات . و كان فيما زاده من ذكر الآباء الفضلاء الأكابر علماً و عملاً و شرفاً و فضلاً بأسوإ ذكر متعدياً ، فتوجهت عليه العقوبة الشديدة لما جاء به من القبائح المتعددة في الشتم التي كل واحدة منها أقبوحة قائمة برأسها ، لأنه سب بأقبح سب أربعة من الشرفاء ، و هم الفقيه الأنجب أبو الفرج ، و شيخنا الإمام العالم العارف السيد أبو يحيى ، و والده شيخ شيوخنا الإمام العالم العلامة المتقي المحقق الحجة القدوة السيد أبو عبد الله الشريف ، و الرابع الشيخ الفقيه الأجل العدل الصالح الأرضى السيد أبو العباس أحمد والد سيد أبي عبد الله المذكور ، و كلهم أهل علم و فضل و جلالة قدر عند العامة و الخاصة ، فسب كل واحد من هؤلاء الشرفاء الفضلاء بأقبح سب أقبوحة عظيمة تستحق عقوبة على انفرادها ، فإذا اجتمعت مع أخواتها عظمت عقوبتها . قال عياض في الشفا : و سب آل بيته و أزواجه و أصحابه عليه السلام و تنقصهم حرام ملعون فاعله .
__________
(1) في نسخة : في نسبه .
(2/162)
________________________________________
قال : و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : « الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم ، و من آذاهم فقد آذاني ، و من آذاني فقد آذى الله يةشك أن يأخذه » . و نص في الشفا أيضاً على أنه يشدد في الأدب على من قال قولاً قبيحاً لرجل من ذرية النبي صلى الله عليه و سلم في آبائه أو من نسله أو ولده
[551 /2]
على علم منه أنه من ذريته صلى الله عليه و سلم . و نص على ذلك خليل في مختصره و أقره على ذلك شارحاه و لم يخالفاه في شيء منه . و أما ما تجاوز العقوبة في هذا الذي صدر من ابن عيسى الوالد إلى القتل لقوله لأبي الفرج و أبو أبيك بناء على أن الأب اسم جنس مضاف فيعم جميع الآباء ، آدم فمن بعده ، فشيء لا أقول به و لا أرى أن يعمل عليه ، إذ لو صح في قوله و أبو أبيك للزم في قوله أبوك فقط ، لأن الأب اسم جنس مضاف أيضاً . و لو صح ذلك في قوله أبوك للزم أن يقتل معظم الناس أو كلهم ، لأنهم في الغالب لا يسلمون من قول بعضهم لبعض لعن الله أبا فلان ، و كثيراً ما تصدر و تكرر هذه الكلمة على مر الدهر من الأبناء للآباء ، و لم يسمع من أحد من العلماء أنه أوجب في ذلك القتل ، و لم ينص على ذلك أحد من المؤلفين مع كثرة وقوع ذلك و شيوعه و اطلاع العلماء عليه في ألسنة العامة ، بل ربما يصدر من الأب لابنه و عبده و من يدل عليه بلعن الأب ، و إنما يراد به في العادة الشخص الواحد الذي هو والد الابن . و كذلك قولهم و أبو أبيه ، إنما المراد به الشخص الواحد الذي هو والد الولد لا اسم الجنس ، و كذلك لا أقول بقتل ابن عيسى لقوله مغرياً لابنه على أبي الفرج إنما القيم بجوابك هذا ، و أشار إلى ابنه بناء على أن إغراءه لابنه على ما يجيب به أبا الفرج رضًى منه بما يصدر من ابنه ، و هو سبه لأبي جد أبي الفرج الأول ، و إنما قلت إن إغراءه لا يوجب قتل ابن عيسى الوالد لوجهين :
(2/163)
________________________________________
أحدهما : أن للوالد أن يقول لنا ما أمرته إلا أن يجيب بما هو دون هذا القول ، كما ثبت في قول الذي يقول كل ما يشهد به فلان علي فهو صحيح ، فشهد فلان عليه فقال لا أرضى بما شهد به ، فإنه يقبل قوله لا أرضى بما شهد به علي لأنه باطل و أنا ما ظننت أنه يشهد علي بباطل .
و ثانيهما : أنه إذا اجتمع المتسبب و المباشر في الجناية قدم المباشر ، و هو هنا الولد . هذا ما عندي في أمر الوالد . و أما قول الولد أحمد بن أحمد بن عيسى لأبي الفرج المذكور الله يلعن إلخ ، فقول شنيع لما وقع فيه من ذكر الجد و وصفه
[552 /2]
بالأولية ، و في سبه الجد وحده عقوبة شديدة لاحتمال وقوعه على الجد الأقرب و الأبعد ، فتجب فيه العقوبة لاحتماله الجد الأبعد الذي هو النبي صلى الله عليه و سلم ، فكيف و قد وصفه بالأولية فتعين فيه الأبعد و لا يصح حمله على الجد الأقرب ، لأن الناس في أمثال هذا البساط من المشاتمة و تداري اللوم إنما يقصدون بذلك التغليظ في السب و احتقار الساب المسبوب حتى لا يبالي به و لا بأحد من آبائه ، و يريدون بوصف الآباء و الأجداد بالأولية الانتهاء إلى أقصاها و غايتها التي ينتهي المسبوب إليها ، إما في الشرف و الجلالة و إما مطلقاً ، هذا هو عرفهم في ذكر لفظ الأول في هذا البساط لا يكادون يختلفون فيه ، فإن حملناه على الجد الأول في الشرف و الجلالة تعين النبي صلى الله عليه و سلم ، و إن حملناه على الأولية المطلقة تعين آدم عليه السلام .
(2/164)
________________________________________
و حكم من سب واحداً من الأنبياء عليهم السلام إنما هو القتل كما هو منصوص عليه لغير واحد من المتقدمين و المتأخرين ، و لولا أن الخصم يدعي مدفعاً في شهادة من شهد عليه في هذه القضية على ما بلغنا عنه و إن لم يذكر في السؤال لعظم في ذلك الخطب لشناعة هذا القول و فحش ما جاء به و مج الأسماع و الطباع الإيمانية لأحد النبيين صلى الله عليهما و سلم . و لئن سلمنا احتمال قوله الجد الأول لأن يريد به أب الأب فذلك لا يخرجه عن احتمال آخر يدخل به في لفظ أحد النبيين صلى الله عليهما و سلم ، و تكون المسألة حينئذ من الوجه الرابع عند عياض المذكور في هذا الباب . قال فيه الوجه الرابع أن يأتي من الكلام بمجمل و بلفظ من القول مشكل يمكن حمله على النبي أو غيره أو يتردد في المراد به من سلامته من المكروه أو شره ، فها هنا يتردد النظر و حيرة العين و مظنة لاختلاف المجتهدين ، و وقفه استبراء المقلدين ، { ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حيي عن بينة } فمنهم من غلب حرمة النبي صلى الله عليه و سلم و حمى حمى عرضه فجسر على القتل ، و منهم من عظم حرمة الدم و درء الحد بالشبهة لاحتمال القول . و قد اختلف أئمتنا في رجل أغضب غريمه فقال له صل على النبي محمد ، فقال له الطالب لا صلى الله على من صلى عليه ، فقيل لسحنون هل هو كمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه ، فقال لا ، إذا كان على ما وصفت من الغضب ، لأنه لم يكن مضمر الشتم . ثم قال و ذهب
[553 /2]
(2/165)
________________________________________
الحارث بن مسكين القاضي و غيره في مثل هذا إلى القتل . انتهى كلام عياض . و تمام هذا الفصل في الشفا . فإن درؤوا عنه القتل بهذه الشبهات فلا تدرأ عنه العقوبة الشديدة من القيد و إطالة السجن و غير ذلك مما يراه الإمام . قال عياض في الشفا ، و قال نحوه خليل في المختصر ، قال القابسي من كان أقصى أمره القتل فعاق عائق أشكل في القتل لم ينبغ أن يطلق من السجن و لو كان فيه من المدة ما عسى أن يقيم ، و حمل عليه من القيد ما يطيق حمله . و قال في مثله : فمن أشكل أمره يشد في القيود شداً و يضيق عليه في السجن حتى ينظر فيما يجب عليه . و قال في مسألة أخرى : و لا تراق الدماء إلا بالأمر الواضح . قال : و في الأدب بالسوط و السجن نكال للسفهاء و يعاقب عقوبة شديدة . فأما إن لم يشهد عليه سوى شاهدين فأثبت من عداوتهما ما أسقطهما عنه و لم يسمع ذلك عند غيرهما فأخف لسقوطهم الحكم عنه و كأنه لم يشهد عليه ، إلا أن يكون ممن يليق به ذلك ، و يكون الشاهدان من أهل التبريز فأسقطهما بعداوة ، فهو إن لم ينفذ الحكم عليه بشهادتهما فلا يرفع الظن بهما ، و للحاكم معنى في تنكيله مواضع الاجتهاد ، و الله ولي الإرشاد . انتهى كلام عياض .
[ينبغي للشريف أن لا يغتر و أن ينظر إلى جميع المسلمين بعين الاحترام ]
(2/166)
________________________________________
تكملة لهذا الجواب : كان اللائق بأبي الفرج المذكور أن لا يواجه ابن عيسى بما ابتدأه به من قوله ما فيك فضل ، لأن أمثالهما لا يليق به ذلك ، بل كان ينبغي لأبي الفرج أن يلاحظ في ابن عيسى الوالد سنه و شيبه و ما هو متعلق به من العلم و غير ذلك مما هو له فضيلة شرعية . و لو نظر إليه بهذا العين لانسد باب هذا الشر الشنيع ، و لما وقع واحد منهما في محذور منه فيما أحسب . و قد قال تعالى : { و قولوا للناس حسناً } ، و قال تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم } . و نقول في ذلك : إن كل شريف ينبغي له أن ينظر إلى أمة النبي صلى الله عليه و سلم و إلى كل واحد من المؤمنين بعين الاحترام ، لأن له حرمة الإيمان و المتابعة للنبي صلى الله عليه و سلم كما قدمناه ، فلا ينبغي له أن ينظر إلى أحد من المؤمنين بعين الاحتقار متكبراً عليه بشرفه و بانتسابه إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، فقد قال السيد
[554 /2]
(2/167)
________________________________________
أبو العباس المرسي أو شيخه السيد أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنهما : لو كشف عن إيمان المؤمن العاصي لطبق نوره ما بين السماء و الأرض ، فما بالك بالمؤمن المطيع . و كان شيخنا الإمام العارف السيد أبو يحيى الشريف رحمه الله يقول : إن الشرفاء و إن كان لهم من الشرف و الجلالة ما لهم على سائر الأمة تعظيمهم و احترامهم و أن ينظروا إليهم بعين كونهم من ذرية النبي صلى الله عليه و سلم ، فللمؤمنين كلهم حرمة عظيمة ينبغي للشرفاء أن يراعوها لهم و يعرفوا لهم حقها ، لأن المؤمنين متشرفون بنبيهم صلى الله عليه و سلم كما تشرفت به ذريته ، و إن كان للذرية على المؤمنين درجة النسب فالمؤمنون بنبينا محمد صلى الله عليه و سلم { خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله } ، و هم جند النبي صلى الله عليه و سلم و أنصاره و أتباعه و القائمون بحقه و المتمسكون بشريعته ، و لهم فضيلة إضافة اسمهم إلى اسمه الكريم ، إذ يقال فيهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم ، و ذلك كله يوجب لهم براً و إكراماً و فضلاً و احتراماً ، كحال أبناء الملوك مع أجناد آبائهم ، و الملك لا يرضى بحيف أحد الفريقين على الآخر ، و إنما رضاه من كل فريق منهما أن يعطي صاحبه حقه ، و منصب النبي صلى الله عليه و سلم أعلى من حال الملك و فضله ، و عدله أجل من ذلك و أكبر ، صلى الله عليه و سلم و شرف و كرم . و قد قال صلى الله عليه و سلم : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً » و أمر بالتوادد و التراحم ، و نهى عن التقاطع و التدابر .
(2/168)
________________________________________
هذا كله ذكرناه فيما كان اللائق بأبي الفرج ، و قد كان اللائق بابن عيسى لما وقع من أبي الفرج ما وقع أن يتحمل ذلك منه و يلاحظ فيه كونه شريفاً منتسباً إلى العلم و متعلقاً به و أنه من ذرية الشيخين الإمامين العظيمين العالمين السيدين الكبيرين السيد أبي يحيى و والده السيد أبي عبد الله الشريف ، و كان ينبغي أن يستحيي من الانتصار لنفسه ، و من أن يأخذ لها بحق من رجل ينتمي إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، و أن يذخر الصفح عن ذلك عند الله عز و جل ثم عند النبي صلى الله عليه و سلم ، و أن يقتدي بالأئمة المسارعين إلى الخيرات العافين عن الناس ، و يقتدي بمالك لما ضربه من ضربه من آل النبي صلى الله عليه و سلم و أوقع به ذلك الواقع
[555 /2]
الشنيع فعفا مالك عنه عند قدرته عليه ، و استحيى أن يقتص من رجل من آل النبي صلى الله عليه و سلم و غفر له . هذا كله هو طريق السلامة و الغنيمة و الفضيلة للمتخلقين بمكارم الأخلاق و محاسن الشريعة ، قال تعالى : { فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولو الألباب } . حشرنا الله في زمرتهم ، و لا قطع بنا عن سنتهم و طريقتهم ، و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليماً ، و الحمد لله رب العالمين ، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .
انتهى الجزء الثاني من المعيار
(2/169)
________________________________________
[5/3]بسم الله الرحمن الرحيم
نوازل النكاح
[الحكمة في الحث على نكاح الأبكار]
*سئل شيخ شيوخنا الفقيه الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن مرزوق رحمه الله تعالى عن الحكمة في حث مولانا رسول الله صلى الله عليه و سلم على نكاح الأبكار بقوله في حديث جابر : «هَلاَّ جَارِيَةٌ تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك» . و قوله : «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْعَذَارَى» . إلى غير ذلك مما يدل على فضل نكاحهن على غيرهن ، و لم يتزوج منهن رسول الله صلى الله عليه و سلم غير عائشة رضي الله عنها .
=فأجاب : الحمد لله وحده . اعلم أن ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله : «إِنَّهُنَّ أَنْتَقُ أَرْحَامًا» . وبقوله : «الْوَلُودُ الْوَدُودُ» . فالولد مع البكر أرجى كالأرض المجمة بالنسبة إلى ما يلقى فيها ، وتكثير الولد هو مقصود النكاح الأعظم : «تَنَاكحُوا تَنَاسَلُوا» الحديث . «وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُم» . لكنه كما قال الله تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف : 46] ، و {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 14] الآية ، و {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ} [التغابن: 15] الآية . و كما قال صلى الله عليه و سلم : «الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» . وبالجملة هو فتنة ومشغلة عن الله إلا من عُصِمَ . و مقامه صلى الله عليه و سلم التجافي عن دار الغرور ، إلا ما يعين على دار البقاء ، فمال صلى الله عليه و سلم إلى ما يقل معه كون الولد المشغل عنها ، و لما كان في كثرة التزويج قطع اشتغال النفس بما جبلت عليه من الشهوة خص[6/3]به صلى الله عليه و سلم ؛ لأنه معين على الآخرة ، و اقتصر منه على النوع الذي هو أبعد من تحصيل الفتنة ؛ لأن ما وجب للضرورة قيد بقدرها ، ولذا قال : «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلاثٌ» منها النساء ، و لم يقل الولد .
(1/1)
________________________________________
فإن قلت : قد يقال : إن فتنة النساء أكثر من فتنة الولد . قلت : نعم ، ولذا مال إلى ما تقل معه و هو الثيبات ؛ لأن تذكر السبق لهن يرغب عنهن فيقل جماعهن الناشئ عنه الولد ، ألا ترى أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن يحب واحدة منهن كحب عائشة رضي الله عنها وعن سائر الزوجات . وأيضا لو كثرت أولاده لكانت كثرتهم مظنة إن يعيش بعضهم بعده ، فيكون نبيئًا على ما نقل البخاري من أنه لو عاش إبراهيم لكان نبيئًا . وذكر مثله بعض المفسرين في قوله : مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم لأنه صلى الله عليه و سلم خاتم النبيئين ، لا نبيء بعده ، فناسب حسم الطريق إلى الولد و الله أعلم .
[من تزوج من امرأة بشرط ألا يبني بها إلا بعد سنة]
*و سئل رحمه الله عمن تزوج امرأة على أنه لا يبني بها إلا إلى سنة ، فإن كان لتغربة بها لزم فإنه مشكل ؛ لأن هذا الشرط غير معلق على طلاق و لا عتاق ، وكل شرط كذلك لا يلزم ، ثم بعد مدة وجدت لابن رشد جواب هذا الإشكال ، إلا أنه ليس كذلك في الوضوح ، و لا رأيت من نبه على هذا النظر مِمَّن تكلم على المدونة .
(1/2)
________________________________________
=فأجاب : ما ذكرتموه في غاية الظهور ، وأقرب ما يقال فيه أن هذا الشرط لما كان موجبه الاستمتاع للتغرب بها كان ذلك من الضرورات ، فأشبه اشتراط ذلك للصغير الذي عطف عليه ، هكذا في المدونة . و لا شك أن هذا الصغير ليس هو الذي لا يمكن الوطء معه ؛ لأن ذلك لا يحتاج معه إلى اشتراط التأخير ، فإن التأخير بمثله لازم بالحكم ، وإنما هو و الله أعلم فيمن يمكن وطؤها ، غلا أنهم اشترطوا التأخير سنة لتتقوى وتتعلم بعض ما يصلحها مع[7/3]زوجها ، فكان هذا الشرط جائزًا ولازمًا للضرورة ، كمثل ما يجب على الزوج من إمْهَال المرأة بعد دفع صداقها مدة تهيئ مثلها فيها أمورها ، إلا أن هذا لما لم يكن البناء في العادة بدونه كان لازمًا من غير شرط ، والذي قبله لما كان اقل ضرورة لم يلزم إلا بالشرط ، هذا وجه تأخير الصغيرة ، و أما وجه تأخير الكبيرة التي تغرب لاستمتاع أهلها منها ، فالضرورة فيها أيضا تقرب من ضرورة الصغيرة ، أما أولاً : فالاستمتاع المذكور ليخفف عنها وعن أهلها بعض ما تلقاه ويلقونه من وحشة الفرقة ؛ لأن بطول المقام والتعاشر يحصل الملل ، والسنة غاية للطول في كثير من الأشياء وخصوصًا في باب النكاح ، لا سيما إن بعد البلد الذي تغرب إليه ، و أما ثانيًا : فلاحتياجها في أثناء السنة إلى تحصيل علم ما يصلحها في البلد الذي تنتقل إليه بالسؤال عن أحواله عمومًا ، وعن أحوال فصول العام خصوصًا ، وتتذكر في كل فصل ما تحتاج إليه في ذلك الفصل في المكان الذي تنتقل إليه ؛ لأن الإنسان أكثر ما يتذكر من الأحوال ما يناسب الحال الذي هو فيه ، و لا يستعد للأشياء الخفية قبل وقوعها إلا من خصَّهُ الله من ذوي الحزم وقليل ما هم .
(1/3)
________________________________________
وإذا تقرَّرَ أن في منع مثل هذا التأخير ضررًا على المرأة لما يفوتها من المصالح بتركه ، كان من الوجه الأول من الوجوه التي قسم اللخمي إليها شروط النكاح و هو الجائز ، وإذا كان جائزًا كان لازمًا بعد الاشتراط ، وإلا لم يكن لجوازه فائدة و هو ظاهر ، ونصه : فالأول –يعني من وجوه الشروط في النكاح ، أن يشترط ألا يضرّ بها في نفسها و لا في نفقة و لا كسوة و لا عشرة ، وكل ذلك جائز داخل في قوله تعالى : {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء : 19] . و قوله : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] انتهى . وظهر بما قررنا في وجه اشتراط التأخير الذي نحن فيه ، أنه لا يخرج عن معنى قوله ألا يضر بها في نفسها ، وعن معنى قوله و لا عشرة ، كما ظهر منع صدق الكبرى من قياسكم كلية ، لانتقاضها بهذا التقسيم الأول الذي ذكره اللخمي وبمسألة الصغيرة والمغربة المذكورتين في المدونة ؛ لأن دليل هذه الكبرى المدعاة ليس العقل ؛ لأنه لا مجال له في مثل هذه الأحكام الشرعية ، وإنما هو من نصوص أهل المذهب المالكي ، وللخلاف في غالب أنواع الشروط الواقعة في النكاح بين العلماء .
[8/3]ولهذا حكى العلامة المحقق الصالح القاضي العدل أبو عبد الله المقري من أخوال والدي ومن أشياخ أشياخي ، ومن أصحابهم أيضًا عن بعض أشياخه ، وغالب ظني أنه الأب رحم الله الجميع ورضي عنهم أنه كان ينهى أصحابه عن ادعاء حكم الكلية ، فإنها قل أن تسلم من النقض .
(1/4)
________________________________________
فإن قلت : بل هذا الشرط من الوجه الثاني عند اللخمي ، و هو أن يشترط أن يسقط ما تقتضيه حقوق الزوجية أن لا يخرجها عن بلدها و لا يتزوج عليها و لا يتسرى و لا يذكر في ذلك عتقًا و لا طلاقًا ، فهذا مكروه ؛ لأن فيه ضربًا من التحجير عليه ، إلى أن قال : هذا الشرط باطل عند مالك ، وله أن يخرجها . و لا شك أن حق الزوج ثابت في تعجيل الدخول ، فاشتراطهم عليه تأخيره ، هو اشتراط إسقاط ما تقتضيه حقوق الزوجية ، فيكره و لا يلزم ، و هو نص ما في سماع أصبغ عن ابن القاسم في التي اشترطوا أن لا يدخل بها خمس سنين لقوله بئسما صنعوا! والشرط باطل والنكاح ثابت جائز ، و إن أراد الدخول قبل ذلك فذلك له .
قلت : لا نسلم إن حق الزوج ثابت في تعجيل الدخول على كل حال ، بل إذا لم يعارض ذلك إذرار بالزوجة . فإذا كان ذلك قدم دفع ضرر الزوجة كما في الوجه الأول المذكور ؛ لأن ما يفعله الزوج مما يضر بالزوجة لابد وأن يكون له فيه منفعة . و قد بينا الحاجة إلى اشتراط السنة في الفرعين المذكورين .
وإضرار المرأة التأخير إليها ، و ما عليها في ترك التأخير من الضرر . و أما مسألة ابن القاسم في هذا السماع فلا تشبه مسألة المدونة لكثرة التأخير لخمس سنين وقلته لسنة ، مع ما بينا فيها من وجه الحاجة في الفرعين . و لا شك أن المرأة في مسألة السماع ممن تطيق الوطء ، لقوله : و إن أراد الدخول فذلك له . على أن أصبغ فهم أن هذا القول خلاف لقول مالك في المدونة ، و إن كان ابن رشد تأوله ، فإن أصبغ قال بإثر ما تقدم : و قال مالك : إن كان لصغر أو لظعون فلهم شرطهم . و قول مالك إنما يشبه اشتراطه تأخيرها و ما هو عندي أنا بالقوي إذا احتملت الدخول بالرجال وأطاقت الوطء انتهى . قال ابن رشد : قول ابن[9/3]القاسم صحيح على أصل المذهب في أن ما لم يقيد بتمليك وطلاق من شروط النكاح لا يلزم .
(1/5)
________________________________________
قلت : و هو مثل ما قدمتم ، ويلزمه ما لزمكم من النقض سواء . ثم قال ابن رشد : ما حكى أًصبغ عن مالك إنما هو في السنة ونحوها كما هو في المدونة ، ويريد من يمكن وطؤها ، و أما من لا تطيقه فتؤخر إليه بلا شرط كما في المدونة . و لما كان البناء قد يتأخر إذ دعت إليه الزوجة و لو لم يشترط ، ألزم مالك الشرط فيما قرب و هو السنة ؛ لأنها حد في أنواع من العلم ، كالعنين والجراح والعهدة . و قول أصبغ : و ما ذاك بالقوي إذا أطاقت : يريد أنه ليس على حقيقة القياس ، وإنما هو استحسان . انتهى مختصرًا . وأظن أن كلامه هذا هو الذي قلتم فيه : إنه ليس كذلك في الوضوح ، و هو حاصل ما بسطته أنا أولا و وجهت المسألة به ، و ما كنت طالعت كلامه حين كتبته ، وحين طالعته وظهر لي أنه موافق . حمدت الله وشكرته أن هداني لموافقة مثله . ومما يناسب المسألة أيضًا ما في سماع أشهب و ابن نافع عن مالك فيمن طلب البناء و قد أعطي الصداق ، و قال أهل الزوجة : لا حتى نُسَمِّنهَا ونحسن إليها ، قال : ليس له أن يقول : ادخلوها على الساعة ، و لا لهم أن يؤخِّرُوهَا عنه ، ولكن الوسط بقدر ما يجهزون من أمرها ويصلحون من شأنها . و قد قال تعالى : {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} . و قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : «وإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» فالوسط من ذلك هو المعروف ، قال ابن رشد : دخوله من ساعته تضييق وإضرار بها ، وتأخيره المدة الطويلة إضرار له ، فالوسط عدل ، وإذا وجب تأخير الغريم فيما حلَّ بقدر ما ييسر و لا تباع عروضه في الحين ، فالمرأة أولى بالصبر في دخولها إلى أن تصلح من شأنها ما تحتاج إليه فيما لا يضر بالزوج . انتهى . وفيه بعض الاختصار و هو كله شاهد لبعض ما اعتبرناه ، و الله أعلم .
و تأملوا ما وجه استدلاله بالسماع بقوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ؟
(1/6)
________________________________________
فإن قلت : حقق لي الفرق بين الوجهين الأولين من تقسيم اللخمي ، فإن الظاهر ببادي الرأي رجوعهما إلى نوع واحد ؛ و هو ما لا يضر بالزوجة ، فإن التزوج عليها والتسري وإخراجها من بلدها ، كل ذلك مما يضر بها .
[10/3]قلت : إلا أن الفرق أن الأول ضرر لم يأذن فيه الشرع ، و الثاني مأذون فيه ، ويدل عليه ما في سماع أًصبغ حين سئل عمن اشترطت على زوجها ألا يسيء إليها ، فإن فعل فأمرها بيدها ، فتزوج عليها أو تسرى أهذا من الإساءة ؟ قال : لا أراه منها ألا أن يكون ذلك مرجع ما يشترطون في عرفهم ، قيل : فإن ضربها ضربًا مبرحًا أو غيره ، أهو من الإساءة ؟ قال إن ضربها ضربًا خفيفًا في أمر تستأهله أدبًا فلا أراه من الإساءة بها ، و لو ضربها على غير ذلك مرارًا أو جاء من ذلك أمر مفرط ، و إن كان مرة واحدة رأيته إساءة . انتهى مختصرًا . قال ابن رشد : هذا كما قال في النكاح و التسري ؛ لأن الله تعالى أذن في ذلك وأباحه بقوله تعالى : {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية . {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} إلى غير ملومين . ومن فعل ما أبيح له فليس بمسيء ، و لا حجة للمرأة عليه في ذلك بشرطها إلا أن يعلم أنهما قصدا ذلك بسبب أو بساط . وكذا الضرب الخفيف للأدب ليس من الإساءة ؛ لأن الله تعالى أذن فيه بقوله : {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} الآية . و هذا إن علم سبب ضربها ببينة أو أقرت به ، وإلا لم يصدق الزوج وكان لها الأخذ بشرطها بعد يمينها أنه ضربها على غير سبب استوجبت عليه الأدب ، إلا الرجل الموثوق بدينه فيصدق . و أما الضرب المفرط المكرر فمن الإساءة ، إلا أن يتبين أنها استأهلته انتهى ببعض اختصار .
(1/7)
________________________________________
و هو كله بيان للفرق بين الضررين ، نعم يبقى في الوجه الأول إشكال و هو أن ذلك الضرر إذا كان منفيًا بحكم الشرع لم يحتج إلى اشتراط ، فأي فائدة في اشتراطه ؟ إلا أن يقال معناه ألا يضُرُ بها في نفسها و إن استحقت ذلك ، وكذلك ما بعده . انتهى .
[من تزوج امرأة على أحد عبدين له تختاره ، فماتا قبل الاختيار]
*و سئل رحمه الله عما في الكتاب المنسوب لأبي الحسن الصغير إذ تزوجها على أحد عبدين له والخيار لها في التعيين ، فمات قبل أن تختار أحدهما ، قال عبد الحق : ينبغي أن ترجع على الزوج بنصف كل واحد منهما ، أظن أن[11/3]صاحب هذا الكتاب نقل من تهذيب الطالب ، فإني لم أجده في النكت ، و هو مشكل ، فانظره مع قول ابن القاسم في المشتري ثوبًا من ثوبين ، فتقوم بينة على هلاكهما قبل التعيين والاختيار ، بل مع ما حكاه عبد الحق في كتاب الخيار . انتهى .
(1/8)
________________________________________
=فأجاب : الذي أظن أنه مرادكم ، أن هذه الصورة التي عزيتم لعبد الحق عقد النكاح فيها على أحد العبدين على الالتزام ، وأن مذهب ابن القاسم في مثله على ما ذكر في الثوبين ، أنهما إذا ضاعا كان ضمانهما من البائع والمشتري و إن قامت بينة بهلاكهما من غير سببه ؛ لأن أحدهما مبيع ، و المشتري في الآخر أمين ، أي فعل مقتضى هذا لا شيء للمرأة في الصورة المذكورة ؛ لأن أحد العبدين لها والآخر للزوج . والذي ساعد في التقييد عن عبد الحق على ما نقلتم مبني على أنت ضمانهما من البائع ، و لذا ترجع الزوجة هنا بنصف كل واحد منهما ؛ لأنها بمنزلة المشتري و الزوج كالبائع . ويعني بنصف قيمة كل واحد ، و لا شك أن هذا مخالف لقول ابن القاسم الذي أردتم ، و أما ما أشرتم إليه من أنه مخالف لقول عبد الحق في كتاب الخيار من النكت ، فأظن أنكم أشرتم إلى قوله فيها : اعلم أنه إذا اشترى ثوبًا من ثوبين يختار أحدهما على الإيجاب في أحدهما فضاعا جميعًا ، فسواء قامت بينة على الضياع أو لم تقم ، أحدهما من البائع والآخر من المبتاع إذ على الإيجاب أخذه و لو تلف أحدهما ببينة أو بغير بينة ، فمصيبة التالف منهما والباقي بينهما ، و لا خيار للمبتاع في أخذ قيمة الثوب الذي بقي منهما ، و في هذه المسالة إذ كان أحدهما على الإيجاب وذهبت أيام الخيار لزمه نصف كل ثوب و لا خيار له ، كان الثوبان بيده أو بيد البائع . انتهى . ولقد طالعت نسخة من تقييد أبي الحسن عند قوله في النكاح الأول من المدونة : ومن نكح امرأة على أحد عبديه إلى آخر المسألة ، فما رأيت فيها هذا الكلام الذي ذكرتم ، ولعل هذا من اختلاف تلك التقاييد ، وكذا أيضًا لم أجده في النكت .
(1/9)
________________________________________
و قول ابن القاسم الذي أشرتم إليه ما وقفت عليه صريحًا فيما ذكرتم قبل من قولكم ، بل مع ما حكاه الأولى فيها أن تقول بنقل الحكم عن قول ابن القاسم إلى كلام عبد الحق ، لصراحة مخالفة كلام عبد الحق في[12/3]الخيار لذلك الكلام واحتمال كلام ابن القاسم الذي وقفت أنا عليه ، ويحتمل أن يكون أتى بها لرجحان المعنى الذي وليها على ما قبلها ، لكن ذكر ذلك في التسهيل مع تكررها ، وجعل من ذلك في الشرح قوله تعالى : {بَلِ ادَّارَكَ} الآية . و قد يتكلف لتوجيه ذلك الكلام المعزو لعبد الحق إن صحَّ ، ولموافقته للقواعد ولقول ابن القاسم في كتاب الخيار في المدونة : وأن الزوجة كانت على خيار واختيار في أحد العبدين لا على الإلزام لأحدهما ، فإذا هلك في أيام الخيار كان ضمانها من الزوج و لو لم تقم بينة ، إلا أن يتبين كذبها ؛ لأن ضمان ما لا يغاب عليه في أيام الخيار من البائع ، و لا كان هذا النوع من بيعتين في بيعة إنما يجوز في الشيئين أو الأشياء المتساوية أو المتقاربة ، وكان من المحتمل أن تقول الزوجة هلاكهما رضيت أحدهما صداقًا لو بقي ، كان مقتضى الفقه أن يعطي الزوج نصف قيمة كل منهما لتساويهما أو لتقاربهما ، وهكذا يقول ابن القاسم فيما يغاب عليه كالثوبين إذا بيعا على خيار أحدهما واختياره ، وضاعا في أيام الخيار وقامت بينة بهلاكهما بغير سبب المشتري ، أن ضمانهما من البائع ، قال في كتاب الخيار من المدونة . قال مالك ضمان ما بيع على خيار مما لا يغاب عليه أو مما يثبت هلاكه مما يغاب عليه من البائع ، و إن قبضه المبتاع ، و ما لم يثبت هلاكه مما يغاب عليه فالمبتاع يضمنه ويلزمه الثمن . انتهى . فقال بعد هذا : ومن اشترى حيوانًا أو رقيقًا بالخيار فقبضهما إلى أن قال فيما يغاب عليه ، فإذا شهدت بين بهذا كان من البائع ، وكذلك إن ثبت هذا من الرهن والعارية والصناع كان من ربه . انتهى .
(1/10)
________________________________________
فهذا كله يدل على أن ضمان ما لا يغاب عليه و ما يغاب عليه إن ثبت هلاكه بغير سبب المشتري من البائع ، فإذا حمل الكلام المنسوب لعبد الحق في الزوجة على أنها بالخيار والاختيار لا على الإلزام لأحدهما ، كان موافقًا للقواعد ولقول ابن القاسم في الثوبين إذا بيعا على خيار واختيار لأحد ما لا على الإلزام ، و لا معارضة بينه على هذا التقدير وبين كلامه في الخيار من النكت ؛ لأن مسألة الخيار البيعُ فيها وقع على الإلزام لأحد الثوبين .
فإنما قلت : فما معنى قول ابن القاسم في المدونة قبل المسائل التي نقلت[13/3]الآن منها : ومن اشترى ثوبين في صفة واحدة فضاعا بيده في أيام الخيار لم يصدق ، ولزماه بالثمن كان أكثر من القيمة أو أقل ، و إن ضاع أحدهما لزمه بحصته من الثمن ، و لو كان المبتاع إنما أخذ الثوبين ليختار أحدهما بعشرة فضاعا ، لم يضمن إلا ثمن أحدهما و هو في الآخر مؤتمن ، و إن ضاع أحدهما ، ضمن نصف ثمن التالف ، ثم له أخذ الثوب الباقي أو رده . انتهى .
قلت : أما قوله أولا فضاعا ، و قوله ثانيًا : ضاع أحدهما لزمه ، فإنما يعني إذا لم تقم بينة بضياعه من غير سبب للمبتاع ، لدلالة النصوص التي بعد ذلك عليه .
(1/11)
________________________________________
وأما قوله : و لو كان المبتاع الخ ، فأظن أن قول ابن القاسم فيه : و إن ضاع أحدهما ضمن ، هو الذي أشرتم إليه أنه من مخالف الكلام الذي نقل عن عبد الحق ، إلا أنهما اختلفا في مراد ابن القاسم ، منها : هل أراد أنها على خيار واختيار في أحد الثوبين أو على الإلزام ، فإن كان معناه على الإلزام ، فالضمان على إطلاقه قامت بينة أولا ، و هو الذي قال عبد الحق في الخيار من النكت ، وحينئذ ، لا معارضة بينه وبين الكلام المذكور ، لأنا حملناه على الخيار في أحدهما ، و إن كان معنى كلام ابن القاسم أنه على خيار في أحدهما ، فالضمان إنما هو إذا لم تقم بينة على هلاكه بغير سببه –على ما ذهب إليه جماعة ، واللخمي يظهر من كلامه أن في الضمان في هذه الصورة خلافًا ، وأن الضمان هو قول ابن القاسم ، وعلى فهمه تأتي المعارضة التي ظهرت لكم .
وقال الشيخ أبو الحسن في تقييده : اختلف الشيوخ في هذه المسألة ، فذهب أبو إسحاق ، واللخمي ، وابن يونس ، وسحنون ، إلى أنها مسألة خيار واختيار ، واحتجوا بقول سحنون في مسالة الدنانير : معناه أن تلف الدنانير لا يعرف إلا واللاتي وذهب أبو عمران ، وابن رشد ، وعياض ، إلى أنها مسالة اختيار مجرد ، واحتجوا بظاهر اللفظ وبقوله في مسالة الدنانير يكون شريكًا ؛ لأن ظاهرة قامت على ذلك بينة أم لا انتهى . ما أريد منه باختصار . وانظر تمام كلامه في المسألة وكلام الشيوخ ، فإن خشيت السآمة وأن المقصود غير المسألة منع من جلب ذلك .
[14/3]فإن قلت : حملك الكلام المنسوب لعبد الحق على الخيار و لا اختيار لا يصح ؛ لأنه يؤدي إلى كون النكاح المذكور انعقد على خيار فيكون فاسدًا ، و هو و إن كان ضمان ما لا يغاب عليه في بيع الخيار الفاسد كالصحيح ، إلا أن قوله ترجع عليه بنصف كل منهما دليل على أن النكاح ، وقع صحيحًا ، و لا يجوز ذلك إلا أن يكون على الإلزام في أحد العبدين ، فتأتي المعارضة المذكورة لا محالة .
(1/12)
________________________________________
قلت : لا نسلم أن قوله : ترجع بكذا يدل على صحة النكاح ، لاحتمال فواته بالدخول على ما رجع إليه مالك من أن نكاح الخيار لا يفسخ بعد البناء ، و هو مما فسد لعقده ، فيكون فيه المسمى الذي خيرت فيه ، فترجع إلى قيمة نصف كل منهما ؛ لأن ضمانهما كان من البائع ، سلمنا أن قوله ذلك يدل على الصحة ، لكن الخيار لم يقع في النكاح ، وإنما وقع في الصداق ، و قد علمت أنه ليس من لوازم عقد النكاح تسمية الصداق حتى يستلزم التخيير فيه التخيير في النكاح ، فلعل النكاح كان نكاح تفويض ، ثم حين أراد تعيين الصداق أعطاها العبدين على أنها بالخيار والاختيار في أحدهما فضاعا في أيام الخيار .
لا يقال : هذا لا يجوز لأنه من فسخ الدين في الدين ، لقوله في كتاب بيوع الآجال من المدونة : "ومن لك عليه دين حال أو إلى أجل فلا تكتر منه به داره سنة" ، إلى أن قال : "ولا تبتع له منه سلع" بخيار المسألة .
لأنا نقول : إن ذلك في الدين المترتب في الذمة ، ونكاح التفويض قبل الدخول لم يترتب فيه دين بعد على ما لا يخفى ، سلمنا أن مثل هذا الخيار في الصداق يستلزم الخيار في النكاح ، لكن لا نسلم أن كل خيار في النكاح يوجب فساده ، بل إنما يفسده إذا كان على خيار يوم أو يومين كما ذكره في المدونة ، و أما على خيار المجلس أو ما قرب منذ لك فلا يفسده كما ذكره اللخمي وغيره ، فيحتمل أن تكون هذه الصورة من الخيار الجائز و إن كان بعيدًا و الله أعلم .
[15/3][جواز نكاح الأمة التي يعتق ولدها على مالكها]
*و سئل رحمه الله عن إطباق جماعة من الأشياخ على جواز نكاح الأمة التي يعتق ولدها على مالكها كأمة الأبوين ؛ لأن العلة المانعة من النكاح خوف رق الولد ، فقد يقال هو مشكل لاحتمال خروجها عن مالكها ببيع أو هبة أو موت ، و هذا الاحتمال ليس بالنادر فيلغى ، فتأمله! انتهى .
(1/13)
________________________________________
=فأجاب : ما أجازه الأشياخ هو مقتضى قوله في المدونة : وجائز أن يتزوج أمة والده . و في كتاب ابن المواز : لا بأس أن يزوجها من ولده ، و ما عطفه على أمة الوالد في المدونة من أمة الأخ والزوجة ، قيدوه بأنه إنما يجوز بشرطه ، وتركوه على إطلاقه في أمة الوالد على ما ذكره اللخمي وغيره ، و إن كان محتملا للتقييد وإنه إنما ذكر الجواز في هذا المحل من حيث الجملة ؛ لأنه في مقابلة ما منع من تزويجه أمة ابنه ، و ما استشكلتموه من هذا الحكم في هذه الصورة مشترك الإلزام بينه وبين ما أبيح من ذلك في غيرها ، وجوابه أن ما اشترط في جواز نكاح الأمة ابتداء لا يشترط فيه دوامًا ، وإلا لزم أن يفارق الأمة من تزوجها لعدم الطول وخوف العنت إذا استغنى بعد ذلك و أما من خاف اعتبار العكس في العلة ، فلما لم يشترط هذا دوامًا لم يشترط بقاء ملكية الوالد ونحوه في ذلك .
(1/14)
________________________________________
لا يقال : الفرق بينهما أن الأول إنما جاز للضرورة بخلاف هذا ، لأنا نقول : جوازه للضرورة مما يزيد الإلزام قوة ، لأم ما جاز للضرورة ينبغي أن يمنع لزوالها ، كتزوُّد المضطر لحم الميتة ، ونظيره تزويج الحرّ الحرّة على الأمة ، فإن نكاح الأمة لا يفسخ على الأصح ، ويقرب من هذا البحث البحثُ في الخلاف الذي في طلاق المريض ، هل يشترط في عدم قطعه الميراث كون الطلاق من سببه وكونه حينئذٍ من أهل الميراث أم لا ؟ ولهذا نظائر منها في الاعتكاف ، ومنها في صلاة المريض ، والمصلي بالتيمم يجد الماء ، وعلى الدابة للخوف ثم يأمن ، و قال ابن بشير : سبب الخلاف في تزويج العبد ابنة مولاه[16/3]بالجواز والكراهة مراعاة الطوارئ من الملك بالميراث ، و هو المشهور من التعليل . وألزم عليه كراهية تزويج أمة الأب ، واعتذر عنه بأن الابن و إن ورثها فإن وطأَها يبقى مباحًا له ، واعترض بأنه قد لا يباح له للشركة ، وبأن النكاح يفسخ ولابد ، وإنما يطأ بوجه ثانٍ انتهى باختصار . ولولا الإطالة لأطلنا النفس في المسألة . وتأمل قوله في المدونة : ولولا ذلك لأجزته لأنه حلال في كتاب الله ، فإنه يرفع أصل الأشكال .
[من تزوج امرأة بصيد فأحرم ثم طلقها قبل البناء والصيد بيده]
*و سئل عمن تزوج امرأة بصيد ، فأحرم بحج أو عمرة ، ثم طلقها قبل البناء بها و هو بيده ، و هذا فرع ذكرته الشافعية و ما زلت أبحث عنه في كتبنا حتى ظفرت به لابن حبيب في الواضحة في قريب من هذه المسالة بحيث يدل عليها دلالة واضحة انتهى .
(1/15)
________________________________________
=فأجاب : لعل المسألة التي رأيتم في الواضحة هي قوله في كتاب الحج : و لو استودع رجل رجلاً صيدًا ثم أحرِم المودع والمستودع والصيد مع المستودع في سفره ، فإن كانا رفيقين أو في رحل واحد فعليه أن يطلقه لأنه كان معه في قبضته دون من استودعه إياه ، و إن كان المودع في رحل والمستودع في رحل فليس على المودع أن يطلقه وكأنه خلفه في منزله ، و لا على المستودع أن يطلق صيد غيره ويغرمه و إن كانا يوم أودعه حلّين ، ولكن عليه أن يرده إليه ثم يطلقه الذي هو له إن كان محرمًا ، و إن كان حلالاً جاز له حبسه و إن كان الذي هو له غائبًا لم يكن على المستودع المحرم أن يطلقه ، ويغرمه من ماله ؛ لأن قبضه في موقع يجوز له قبضه فيه . و لو كان استودعه إياه محرمًا ردّه لصاحبه إن وجده ، فإن لم يجده أطلقه وضمنه لصاحبه ؛ لأنه كان معتديًا حين قبضه انتهى . ونقلها في النوادر عن كتاب ابن المواز من قول ابن القاسم وأشهب ، ونصُّه : وإذا أودع رجل رجلاً صيدًا في الحلّ وهما حَلاَلان في سفر ، ثم أحرم ربُّه ، فإن كانا رفيقين فليرسله ، و إن لم يكونا في رحل واحد فهو كالذي خلفه في بيته . و لو أحرم الذي هو بيده وديعة فليرده إن حضر .
[
(1/16)
________________________________________
17/3]قالابن حبيب : ثم يطلقه الذي هو له إن كان محرمًا ، و إن كان حلالاً جاز له حبسه . قال في كتاب ابن المواز : و إن غاب فلا يرسل متاع الناس ، ويضمنه إن فعل . و إن كان يوم استودع محرمًا كان عليه أن يطلقه ويضمن قيمته لربه انتهى . فإن كان ما أشرتم إليه من هذه المسألة ، فوجه دلالتها على مسألة التزويج بصيد أن تنزل الزوجة في نصفها منزلة المودع والزوج بمنزلة المستودع ، ويفصل في الزوجة بين أن تكون محرمة أم لا كما تقدم في المودع ؛ لأنها لما أنكحت على معين كان ملك جميعه أو نصفه على القولين لها . ومثلها لو كان الصيد وديعة في يده لقريب له ، فأحرم ثم مات قريبه ، فكان من بيده الصيد وديعة بعض من يرث فيه أو كان شركة بين جماعة فأحرم منن هو بيده منهم ، أو استحق حلال بعضه ، أو غير هذا من التقادير الممكنة فيه ، إلا أنه يبقى النظر هاهنا في هذا الصيد ، فإنه في بعض صور المسالة يكون بعضه للحلال وبعضه للمُحرم ، فيتردد في تغليب أحد المالكين فيجعل الحكم له ، وهل يضمن الحلال جزاء نصفه إن غلب حكمه ؟ والحرام قيمة نصفه إن غلب حكمه ؟ فيه نظر يطول البحث فيه . ومما يشبه المسألة من مسائل الأصول المناسبة هل تنخرم بمفسدة تلزم راجحة أو مساوية أو لا ؟ والشيء الواحد له جهتان ، ونحو ذلك ، فتأملوه و الله الموفق .
[من التزم لزوجته ألا يتزوج عليها فمرضت مرضًا شديدًا طويلاً]
(1/17)
________________________________________
*و سئل رحمه الله عمن طاع لزوجته أن لا يتزوج عليها زوجة سواها و لا يتسرى و لا يتخذ أمّ ولدٍ بغير إذنها ورضاها ، فإن فعل فالداخلة عليها بنكاح طالق بنفس العقد عليها طلقة واحدة ، والسرية وأمُّ الولد حرتان لوجه الله تعالى . ثم إن زوجته المذكورة مرضت بعد بنائه بها مدة من عشرين شهرًا مرضًا آل بها إلى حالة لا ينتفع بها زوجها بالجماع ، وخاف زوجها لأجل ذلك على نفسه العنت والوقوع في الزنا ، وأراد أن يتزوج غيرها يحصِّنُ بها دينه ، فهل يباح له ذلك ويسقط عنه ما التزمه من الطوع المذكور للمشقة اللاحقة له في بقائه عزبًا أم لا ؟ بينوا لنا بيانًا شافيًا .
=فأجاب : أما الإباحة فلا نزاع فيها إلا من ناحية إضاعة المال في التزويج و في غيره[18/3]من الخلاف في : إن وطئتك فأنت طالق ثلاثًا ، و قول عمر رضي الله عنها : لا تقربها وفيها شرط لأحد . و أما سقوط ما التزم للعذر المذكور فلا ، ويلزمه ما التزم مهما فعل بغير رضاها ، و لا يشبه هذا معلق الطلاق على النكاح إلى أجل يخاف العنت في الأجل ؛ لأن هذا لا يمكنه دفع هذا المحظور بشيء قبل الأجل إلا بالتزويج فأبيح له ، ويسقط طلاقه المعلق للحرج ، والخلاف في المسألة ، وصاحب السؤال يمكنه دفع المحذور بطلاق الأولى ويتزوج ، هذا إن أراد ما دامت الأولى المحلوف لها في عصمته إما تصريحًا أو نية ، ويصدق فيه مع يمينه على ذلك إن كان التزامه المذكور طوعًا بعد عقد النكاح كما هو ظاهر السؤال ؛ و إن كان في العقد فكلام آخر . و إن أراد ما عاشت المحلوف لها فهو إن طلقها كمعلق الطلاق إلى أجل ، هذا كله على المشهور المعمول به في الأحكام من مذهب مالك ، والسمح له في تقليد القول بعدم اللزوم يحتاج إلى نظر في تسوية هذه المسألة بمحل ذلك الخلاف ، وبناء على خلاف آخ في أصول أُخَر ، وتفصيل يطول تتبُّعه ، و قد أرشدت إليه فاطلبه .
[من غاب عن زوجته قبل الدخول بها]
(1/18)
________________________________________
*و سئل عن رجل غاب عن زوجته قبل الدخول ، فأرادت القطع عليه وأثبتت ما يجب إثباته مما جرت العادة به عند الموثقين ، فهل يزاد في الإثبات كونها مطيقة للوطء ، وكونها دعته إلى الدخول ، إذ لا يجب على الزوج نفقتها إلا بذلك على المشهور ؟ أم رفعُها إلى القاضي لتقطع على زوجها الغائب كالدعاء إلى الدخول ؟
=فأجاب : ما ذكرتم من الزيادة في وثيقة قطع المرأة على زوجها فقه ظاهر لابد منه ، ومجرد الرفع للقاضي بدونه ملغى لا يفيد ، إذ القاضي إنما ينفذ ما ثبت من الأحكام ، لا أن يصير الشرط غير شرط و الله أعلم .
[من التزم بالإنفاق على ربيبه]
*و سئل عمن تزوج امرأة بربيبين فصار يجري عليهما النفقة مدة من ثمانية أعوام إلى أن توفيا ، ثم قام الزوج يطلب ما أنفق من تركتهما ، ثم ادعت[19/3]الزوجة أنه تحمل لها بنفقتهما و لم تكن لها بذلك بينة ، فهل للزوج القيام بنفقته أم لا ؟
=فأجاب : إن كان للابنين مال حين إنفاقه عليهما ، فله القيام بإنفاقه ، إلا أَن تُثبت المرأة أنه التزم نفقتهما كما ذكر فلا قيام انتهى .
[من تطوع بالنفقة على رجل مدة معينة ، ومات المتطوع]
*و سئل : ابن رشد عن رجل تطوع بالنفقة على رجل حياته أو مدة من الزمان ، ثم توفي المتطوع ، هل يلزم ذلك تركته أم لا ؟
=فأجاب : يسقط عن المتطوع نفقة ما بقي من المدة لأنها هبة لم تقبض فتسقط بالموت ، و لا خلاف في هذا أحفظه ، وسواء كان المتطوع له بالإنفاق سفيهًا أو جائز الأمر .
[من تطوع بالنفقة على ربيب ، ثم طلَّق أمه وردَّها]
*و سئل عمن تزوج امرأة ولها ولد من غيره ، فتطوع بالنفقة عليه مدة الزوجية بينهما ، ثم طلقها واحدة فخرجت من العدة ، ثم تزوجها ثانية فأراد ألا ينفق عليه ؛ لأن هذا نكاح آخر ، فهل له ذلك أم لا لكونه من طلاق ذلك الملك ؟ وكيف لو طلب بالكسوة و أنها من النفقة هل له ذلك أم لا ؟
(1/19)
________________________________________
=فأجاب : بأن النفقة تلزمه ما بقي من طلاق ذلك الملك شيء ؛ لأن أمد الزوجية والعصمة واحد ، و هو يقتضي جميع الملك ، و أما الكسوة فهي غير داخلة فيما أراهُ بعد حلفه في مقطع في مقطع الحق أنه إنما أراد الطعام دون الكسوة ، وكان الشيوخ كابن زرب وغيره يوجبون عليه الكسوة ، ويحتجون بالإجماع على أنها داخلة في نفقة الحامل في قوله تعالى : {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، و لا أراه ؛ لأن النفقة و إن كانت من ألفاظ العموم فإنما تعرف عند أكثر الناس في الطعام لا في الكسوة انتهى .
ابن عرفة حاصل كلام ابن رشد هذا أن النفقة عند موضوعة للطعام والكسوة ثم تخصصت عنده عرفًا[20/3]بالطعام فقط . وتقرر في مبادئ أصول الفقه أن الأصْل عدم النقل ، و في قوله النفقة من ألفاظ العموم مسامحة ، قيل إنما قال ابن عرفة رحمه الله في قوله مسامحة ؛ لأنه لما قال النفقة من ألفاظ العموم ، وإنما العموم هنا صلاحِي لا شمولي . وأجيب بأن ابن رشد يرى أنه اسم جنس عام ؛ لأنه مُحَلًّى باللام أو مضاف .
*و سئل سيدي أبو عبد الله محمد بن مرزوق عن الفصل الأول من فصلي نازلة ابن رشد .
=فأجاب : لا يسقط عن المتطوع ما طاع به من النفقة لابن زوجته ، إلا أن طلقها ثلاثًا ، ثم يتزوجها بعد زوج .
[من تطوع بالنفقة على زوجة ابنه ، فطلقها ثم راجعها]
*و سئل الفقيه أبو الربيع اللجائي عن رجل تطوع بالنفقة على زوج ابنه ما دامت في عصمته ، فطلقها الابن طلاقًا بائنًا ثم راجعها ، فهل تعود على الأب نفقتها أم لا ؟
=فأجاب : بأن لا نفقة لها و لا يلزمه شيء .
وأجاب سيدي أبو الحسن الصغير بأنها تعود عليه ، واستدل بمسألة الكتاب أن الشرط ترجع عليه بعد المراجعة ، وبفتيا ابن رشد المتقدمة في التطوع بنفقة الربيب أنها ترجع عليه أيضًا .
[من التزم نفقة زوجته وكتب بذلك وثيقة]
(1/20)
________________________________________
*و سئل الشيخ أبو عبد الله السطي رحمه الله عام سبعة وثلاثين وسبعمائة بظاهر تلمسان عن رجل التزم نفقة الزوجة وكسوتها وكراء مسكنها وكتب بذلك وثيقة عليه ، ثم اختلفا فقال والد الزوج : هذا الالتزام المذكور لأمَد الزوجية لأن الزوج عديم ، و قال والد الزوجة : لا إلى أمد .
=فأجاب : إذا كان اللفظ الصادر من الملتزم هو نفقة الزوجة وكسوتها[21/3]وكراء مسكنها من غير تقييد ، فالظاهر حمله على أمد الزوجية لاستغراقه لها وبعد قصد ما زاد عليها ، و لا يقبل حمله على ما دون هذا إلا بموجب . و قد اتفق ابن القاسم و أشهب في الذي وهب خدمة عبده لفلان على إفادة اللفظ الاستغراق ، فإن اختلفا في أي اعتبار هو ، فرآه ابنُ القاسم باعتبار عمر العبد ، ورأى أشهب عمر فلان ، قال : و لو كان حياة العبد كان هبة لرقبته ، و لا فرق في شيء من هذا الصيغ وبين باقيها ؛ لأنها كلها من باب اسم الجنس إذا أضيف و هو مفيد للعموم على ما هو معروف عند أهل الأصول .
[من تطوع بالنفقة على أولاد زوجته دون كسوتهم]
*و سئل سيدي عبد الله العبدوسي عن رجل تزوج امرأة وتطوع لأولادها بإجراء النفقة عليهم وجميع المؤن إلا الكسوة طول زوجيتهما .
=فأجاب : بأنه لا يلزمه إسكان و لا إخدام و لا غير ذلك إلا الطعام والشراب خاصة .
[من أسقطت عن زوجها نفقة أولادها من غيره]
*و سئل الأستاذ أبو سعيد بن لب عن الزوجة إذا أسقطت عن زوجها حكم الطوع بنفقة أولادها من غيره ، هل لها ذلك وينتفع الزوج بإسقاطها أم لا ؟
(1/21)
________________________________________
=فأجاب : ليس للزوجة أن تسقط عن زوجها حكم الطوع و لا ينتفع الزوج به إن فعلت ؛ لأن حق الولد قد تعلق بالطوع ، فليس لأمهم إسقاطه و إن كانت وصيًّا عليهم ؛ لأن ولي المحجور لا يُفَوِّت عليه مالاً بغيرِ عوضٍ ، و قد نص ابن رشد في النوازل على أن المرأة ليس لها أن تسقط عن زوجها من الشروط إلا ما لا يتعلق به حق لغيرها ، كما إذا جعل لها أن تطلق نفسها إن تزوج عليها ، أو يكون طلاق المتزوجة بيدها ، في هذا وشبهه ينتفع الزوج بإسقاطها الشرط ، أما إذا تعلق بالشرط حق لغيرها فلا ، كما إذا كان الشرط[22/3]أن الداخلة عليها بنكاح طالق فهذا لا تسقط الزوجة حكمه ؛ لأنه قد تعلق به حق الله تعالى .
[من يلتزم بالإنفاق على ربيبه على أن يستغلّ ماله]
*و سئل عن الذي يلتزم لزوجته نفقة أولادها على أن يستغل ما يكون لأولادها من المال مدة الزوجية .
=فأجاب : الأصل فيها المنع لما فيها من الأوجه الفاسدة التي لا تخفى على أهل العلم ، و قد نص في المدونة على منع مسألة من يدفع دارًا على أن ينفق عليه حياته ، إلا أن المتأخرين من الموثقين جرت عادتهم بالتخفيف في ذلك إذا كان فائد المال المستغل يسيرًا ، بحيث يرى أن الغرض المقصود إنما هو التبرع بالنفقة على وجه الإحسان للزوجة ، ويكون فائد المال لا يبلغ إلا بعض النفقة ، ولذلك يعقدون في وثيقتها ما نصه : على أن يستعين الملتزم المتقدم في ذلك بفائد . ما للأولاد من المال التافه و هو كذا ، و وجه التخفيف في مثل هذا أن الملتزم للنفقة تبرع بِهَا ، فكأنه إنما تبرع بما تزيد النفقة على فائد المال إذا كانت الزيادة ظاهرة بينة ، أما إذا كان المقصود : المكايسة والانتفاع من الجهتين فلا خفاء بالمنع .
[من تطوع بتحريم من يتزوج على زوجته]
(1/22)
________________________________________
*و سئل : عمن تطوه بتحريم من يتزوج على زوجته ثم عدم الاستمتاع بها لأمور أصابتها ، وذكر أنه نوى التحريم ما دام الاستمتاع بها ممكنًا ، و قد أذنت له الآن زوجته في ذلك ، فهل يُنَوَّى في ذلك كمن شرط لزوجه طلاق من يتزوج عليها ما عاشت ، فطلقها وأراد أن يتزوج غيرها وهي حية ، وكمن وهب لزوجته طستًا تنتفع به حياته فتفرقا بطلقة وأراد أخذ الطست وادعى أنه نوى مدة الزوجية ، وكمن أسلفت زوجها دنانير على أجل فادعت إذا طلقها إنما تؤخره بها مع بقاء الزوجية .
[23/3]=فأجاب : وقفت على السؤال ، والحكم مستفاد من أصْل فقهيّ مَذهَبي ، و هو أن دعوى الحالف في يمين يُقضى عليه بها من الطلاق شبهة نية أجنبية من اللفظ ومن غالب القصد ، غير ممنوعة إذا كان وقت حلفه مأسورًا بالبينة ، بخلاف المستفتى ، ومن المعلوم أن المشهد على نفسه بتحريم الداخلة علة زوجه بنكاح حالف بالطلاق الثلاث في الداخلة ، مأسور في ذلك بالبينة في ذلك ، وطروء الداء المانع من الوطء على المرأة السليمة نادر ، والتفات النيات والمقاصد إلى الطوارئ البعيدة يستبعد قلما ينصرف إليه القصد ، و لا ينفع في ذلك إذن الزوجة لأنها يمين قد لزمت فلا تسقط إن سقطت ، وليست هذه المسألة من قبيل المسائل التي جلبها السائل ؛ لأن تلك النية فيها إما لاصقة باللفظ أو داخلة في غالب القصد ، فالمشترط لزوجه طلاق من يتزوج عليها ما عاشت ، قد وقع في لفظه يتزوج عليها و هو يقتضي بقاء زوجيتها ، ومسألة هبة الطست ورديفتها وهي التأخير بالدين ، هما من باب الإرفاق والصلة بين الزوجين ، والطلاق قاطع للصلة وهادم للزوجية ، فمنصرف القصد بالصلة إلى محلها وبقاء سببها ، لكن لهذا الرجل عند ضرورته فسحة في الخلاف في أصل المسالة ، وذلك أن تعليق الطلاق على وجود النكاح قبل حصوله فيه من الخلاف ما قد علم ، و إن كان مشهور المذهب اللزوم ، فالخلاف فيه قوي والمضطر الخائف يلتمس له المخلص .
(1/23)
________________________________________
وفي المسألة وجه آخر أقرب من هذا ، وذلك أن يطلق الزوجة القديمة طلقة تبين بها ، ثم يتزوج لمن شاء ثم يراجع القديمة فلا يكون عليه شيء عند أشهب لأن الجديدة لم تدخل على القديمة و لا تزوجها عليها ، فهذا الوجه مع مراعاة الخلاف في أصل المسألة كما ذكر يقرب الأمر لمكان الضرورة ، أما إن أراد فراق الأولى فراقًا من غير إحداث مراجعة لها على من يتزوج بعدها ، فلا يبقى خلاف و لا كلام ، لكن هذا قد يحول دونه حسن العهد وكرم النفس ، و ما جاء من الحث على ذلك في الشرع . فهذا ما ظهر تقييده في النازلة ، وتقدم قبل هذا بيسير جواب شيخ شيوخنا أبي عبد الله محمد بن مرزوق رحمه الله عن نظيره هذه ، فالتمسه في المسألة التي هذه ثانية عشر منها .
[24/3][من شرطت على زوجها أن ينفق على ابن صغير لها مدة معلومة]
*و سئل : القاضي أبو بكر بن زرب عن رجل تزوج امرأة لها ابن صغير فشرطت على زوجها أن ينفق على ابنها خمسة أعوام أو أكثر أو أقل نفقة معلومة وأجلاً معلومًا وبه تم عقد نكاحها ، أيجوز هذا النكاح وفيه هذا الشرط ؟
=فأجاب : هذا شرط غير جائز ، فإن فات النكاح بالدخول جاز ، وكان لها صداق مثلها وسقط الشرط ، فإن أدرك قبل الدخول فسخ .
[من متعته زوجته في أملاك ثم طلقها]
*و سئل : الأمير أبو عبد الله الحسن بن السلطان أبي العباس الحفصي عمن متعته زوجته في أملاك ، ثم طلقها طلقة واحدة لا يملك رجعتها ثم راجعها هل تعود المتعة أم لا .
(1/24)
________________________________________
=فأجاب : تعود ما بقي من طلاق العصمة التي جعلت له ذلك فيها شيء ، من قوله في الإيمان بالطلاق من المدونة و إن قال لزوجته كل امرأة أتزوجها عليك فهي طالق ، فطل قالمحلوف لها ثلاثًا ثم تزوج امرأة ثم المحلوف لها بعد زوج ، أو تزوجها بعد زوج ثم تزوج عليها ، فلا شيء عليه فيهما ، فأما إن طلق المحلوف لها واحدة وانقضت عدتها ، ثم تزوجها ثم تزوج عليها أجنبية أو تزوج أجنبية ثم تزوجها هي ، فإن الأجنبية تطلق عليه في الوجهين ما بقي من طلاق الملك الأول شيء ، وجه الاستدلال منها أن التزامه ظاهره فيها أبد الزوجية ، فإن كان للطلاق البائن أثر ففيهما ، وإلا فلا انتهى .
وتقدم في كلام ابن رشد ما يشهد لصحة هذه الفتوى ، و في وثائق الجزيري : و إن أعمرت زوجة زوجها في دارها أو في غيرها مدة الزوجية فطلقها الزوج ، فإن راجعها بقيت له العمرى ما بقي من طلاق ذلك الملك شيء ، فلا ينقطع إلا بالثلاث إن راجعها بعد زوج ؛ لأن قوله أمد الزوجية يقتضي أمد العصمة .
[25/3]و قد قال القاضي ابن رشد فيمن تطوع لزوجة بنفقة ابنها من غيره أمد الزوجية فطلقها ثم راجعها وأبى من الإنفاق ، أن الإنفاق لازم ما بقي من طلاق ذلك الملك شيء كما قالوا ذلك في عودة اليمين انتهى .
واعترض الشيخ الأستاذ أبو سعيد بن لب رحمه الله ما وقع للجزيري من قياس عودة الإمتاع والإعمار على عودة نفقة الربيب فقال نظمًا :
ورجعة الزوج تعود كلما = قد كان في عصمته ملتزما
من شرط أو نفقة لا تلزمه = و إن يمتع فالطلاق يهدمه
لأنه حق له قد تركه = وغيره من بعده قد ملكه
وذاك حق واجب عليه = فلم يكن إسقاطه إليه
قاس الجزيريُّ قياسًا فاسدًا = فجعل البابيبن بابًا واحدًا
وإلى هذا التفريق واعتراض الأستاذ على الجزيري أشار القاضي أبو بكر بن عاصم في رجزه في الأحكام فقال :
كذا جرى العمل في التمتيع ... بأنه يرجع بالرجوع
وشيخنا أبو سعيد فرقا ... بينهما ردًّا على من سبقا
(1/25)
________________________________________
وقال و قد قاس قياسًا فاسدًا ... من جعل البابين بابًا واحدًا
لأنه حق له قد أسقطه ... فلا يعود دون أن يشترطه
وذاك لم يسقطه مستوجبه ... فعاد عندما بدا موجبه
والظاهر العود كمن تختلع ... فكل ما تتركه مرتجع
قوله والظاهر العود إلخ .
قال شارح هذا الرجز و هو ولد مؤلف القاضي أبو يحيى رحمه الله :
والأظهر عود التمتع كالمختلعة التي تترك ما كان لها في مهرها من كالتي وسواه ، فإذا عادت الزوجية بينها وبين مفارقها عاد عليه كل ما تركت له انتهى . فانظر قوله كالمختلعة التي تترك ما كان لها في مهرها من كالتي وسواه فإنه غير سديد .
[26/3][لا يجوز إمتاع الزوج من مال الزوجة في عقد النكاح]
*و سئل : الإمام عبد الله المازري رحمه الله تعالى عن عقد ، مضمونه : علم شهداؤه كثرة وقوع إمتاع الزوج من مال الزوجة منها أو من أبيها في عقدة النكاح وكتبه في عقد منفرد ، وضمائر الزوجين منعقدة عليه ، وقراءة ذلك مع الصداق أو بعده بالمهدية أو بزويلة .
(1/26)
________________________________________
=فأجاب : بما نصه : لا خفاء بأن بقاء أمد الزوجية بين الزوجين مجهول ، وأنه لا يدر متى يقع الطلاق ومتى يقع الموت ؟ فإن كان مجهولاً وقارن العقد فالصداق المبذول من الزوج بعضه عوض عن هذا الإسكان المجهول ؛ لأن السكنى من الأعواض المالية ، وهي آكد في كونها عوضًا ماليًا من الفرج ، وإذا كانت عوضًا من الأعواض المالية ، فمحال ألا يحصل لها حظ من الصداق ، كما أن من المحال أن يشتري الرجل سلعتين فلا يجعل لأحدهما عوضًا من الثمن ، فإذا ثبت أن ذلك مما يعاوض عليه الزوج و هو مجهول ، فسد العقد فيه وكان عقد النكاح عليه فاسدًا ، ويجب فسخ النكاح المعقود عليه قبل الدخول في المشهور المعروف من المذهب إلا رواية شاذة وإما إن وقع الدخول ففي فسخه بعد الدخول اختلاف مشهور ، فإذا كان العقد على هذا فاسدًا ، فالعقود الفاسدة يجب أن تغيّر ، وتغيير المنكر من أهم الشرع الأكبر ، خطب النبي صلى الله عليه و سلم الناس في حديث بريدة حرصًا على المبالغة في تغيير الشروط الفاسدة وإبانة أحكامها ، و هذا مما يجب تغييره وإنكاره ، و إن عثر على نكاح تحقق انعقاده على هذا الشرط ، فإنه يقضي بفسخه حسبما رتبناه من المذهب ، وإذا كان اشتراط هذا يعد تدليسًا وتلبيسًا ، وإنما يكتبه الكتاب تحرزًا من أن يوقف على خطوطهم على عقد لا يجوز ، فإنهم يمنعون من كتب هذا ويحذرون منه ، وإذا علم أن هذا هو الغالب في عقود البلد المشترط فيها هذا الشرط ، أن الإسكان لا يقع بعد العقد على حال ، و إن وقع فإنه إنما يقع نادرًا من آحاد لا يميزون و لا يضبطون ، و لا يمنع هذا الشرط الفاسد إلا بحسم المادة ومنع الجميع فإنه يمنع من ذلك .
(1/27)
________________________________________
قال أهل الأصول : كل ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب . و قال[27/3]مالك رضي الله عنه في هذه المسألة : بني الأمر فيها على حماية الذريعة ومنع الجميع منها ، فقال : إن ذلك إن صحّ منهما لم يصح من غيرهما ، وأنت ترى مالكًا وأصحابه رضي الله عنهم منعوا بيع ثوب بدينار إلى شهر ثم اشتراؤه بنصف دينار نقدًا ، و إن كانت صورة البيعتين لا فساد فيها ، فخافوا أن يكون ذلك ذريعة إلى الحرام فمنعوه حماية على الإطلاق ، و قد جاء الشرع بمنع أكل شاتين إحداهما ميتة لا يدرون عينها لما اختلط الحلال بالحرام منعوا الجميع ، ومن قال بحماية الذرائع فالخطر في بقاء كثير من الحكام على المصالح ، بادر إلى إنكار هذا وحسم المادة فيه بمنع الكتاب والشهود والتقدمة إليهم ، ويؤرخ زمن المنع إن اعتذروا بجهل الحكم فيما قبله ، حتى يعلم من يقع بعد تاريخ النهي في مخالفة ما أمر به فيفعل به ما أمر الله تعالى به وبالله التوفيق .
ولما وقف الخطيب الشهير أبو القاسم ابن جزي رحمه الله على جواب الإمام أبي عبد الله المازري رضي الله عنه ، قد كثر في زمننا وبلدتنا وقوع الناس فيها ، وتفاقم الأمر فيها بإمتاع المرأة أو والدها للزوج في سكنى دارها واستغلال أرضها ، وذلك فاسد من ثلاثة أوجه :
والأول ما ذكره المازري من الجهالة في ذلك فيما يقابله من الصداق .
والوجه الثاني : أنه يجتمع في ذلك بيع ونكاح واجتماعهما ممنوع ، وذلك أن الزوج يبذل بعض الصداق في مقابلة الفرج و هو النكاح ، وبعضه في مقابلة ما يمتع فيه من المال .
(1/28)
________________________________________
والوجه الثالث : أنه يؤدي لأن يبقى النكاح بغير صداق ، فإن الذي ينتفع به الزوج من الاستغلال والسكنى ، ربما قد يكون مثل الصداق أو أكثر ، و لا سيما أن طالت مدة الإمتاع فيقابل الصداق بذلك ، فكأنه لم يعطها شيئًا ، ولكن إنما يمنع من هذا الوجه إذا كان الإمتاع شرطًا مقارنًا للعقد ، فإن كان تطوعًا بعد انعقاد العقد لم يمنع من هذا الوجه ؛ لأنه كأن المرأة أعطته حظًّا من مالها ، وذلك جائز بشرط ألا تنعقد عليه القلوب حين العقد ، ويجوز أيضًا أن يكون مقارنًا للعقد إذا كان الإمتاع في ملك غير ملك الزوجة ، ألا ترى[28/3]ما روي عن مالك أنه أجاز أن يقول الرجل لآخر تزوج ابنتي على أن أعطيك مائة دينار ، وذلك أن المائة الدينار من مال والد الزوجة لا من مالها ، و هو أشدّ من الإمتاع انتهى .
ابن عاصم وكذا لا يمتنع الإمتاع على الوجه الثاني الذي قرره الخطيب رحمه الله ، إلا إذا كان مقارنًا للعقد ، فحينئذٍ تكون له صورة البيع والنكاح ، و أما إذا كان تطوعًا بعد العقد فلا يتصور فيه ذلك .
[من تزوج امرأة أباح له والدها السكنى مدة العصمة ، والتزم ضمان الدرك]
*و سئل : ابن الحاج عمن تزوج امرأة لها دار فأباح له والدها أو أمها أو وصيها السكنى أمد العصمة دون كراء ، والتزم أحدهم ضمان الدرك في ذمته ، ثم توفي الضامن .
=فأجاب : يوقف من تركته بقدر أقل الزوجين عمرًا ، كمسألة الإحرام والموصي برقيته لرجل وبخدمته لآخر ، وانظر صور الوصايا الثاني ومسائل الإحرام حيث وقعت في المدونة ، وأحسن من هذا أن تلزم المرأة الإباحة و لا ترجع على الزوج و لا على الولي بشيء أبدًا ؛ لأن ذلك عرف جارٍ . ابن رشد ولها طلب ما اغتل من ربعها مطلقًا –قبل رشدها- أو بعده ، وتطلب من سكنى الدار ما كان قبل رشدها ، لا ما يسكن بعده على ما جرى به العمل من أحد قولي ابن القاسم في المدونة .
[من تزوج أو راجع زوجته من غير إشهاد]
(1/29)
________________________________________
*و سئل : الأستاذ أبو سعيد بن لب عن ثلاث مسائل :
إحداها : رجل طلق زوجته طلقة مملكة وراجعها منها ، فكتب له رسم بذلك بين أسطر الصداق ، و لم يقع إذ ذاك إشهاد على الزوجين ، و لا على الولي عم الزوجة عاقد المراجعة عليها و لا علم إذنه في النكاح ، إلا أنه فيما ذكر الزوج كان عالمًا بالطلاق والتراجع وبقيا على أحكام الزوجية إلى الآن ، والولي[29/3]حاضر غير غائب ، إلا أنه يمكن أن يكون الولي إنما علم بالمراجعة بعد حصول وطء و لو مرة .
وثانيها : زوجان آخران كانا قد تراجعا و لم يشهدا ، لكن المراجعة بخط القاضي كان بهذه الجهة ، واسمه مكتوب فيها ، وكان قد كتب بأعلى الصداق :
ويشهد علي بالمراجعة وطلقها الآن ثانيًا خليعًا .
وثالثها : زوجان آخران كتب في صداقهما رسم يتضمن أن الزوج كلن قد قال لزوجته أنت حاكمة نفسك وأنه قصد بذلك الصداق ، وراجعها من ذلك بصداق و ولاية أبيها ، و لم يشهد على أحد منهم ، وقامت الزوجية بينهما سنين عديدة و ولد لهما الأولاد ، إلى الآن من غير إشهاد .
(1/30)
________________________________________
=فأجاب : أنه قد ذكر أهل المذهب أن الإشادة بالنكاح وشهرته مع علم الزوجين والولي بذلك يكفي و إن حصل إشهاد ، و هذا كانت أنكحه كثير من السلف ، و هذا المعنى قد حكي عن ابن القاسم ، فحيث تظاهر الزوجان بالمراجعة وظهر علم الولي بها وبدخولهما ، فلا يقدح في صحة النكاح كما في المسألتين الأخيرتين ، وحيث لم يظهر علم الولي إلا بعد دخول الزوجين ويمكن حصول وطء قبل علمه كما فس المسألة الأولى ، فهذا هو الذي فيه النظر والأمر فيه صعب ، لكنهم ذكروا رواية أبي قرة عن ملك في رجل تزوج امرأة ثم طلقها ، أنه يجوز له تزوجها ثانيًا بأن تعقد هي على نفسها دون ولي ، وعللوا هذه الرواية بأن القصد في الولاية في النكاح النظر في الكفاءة ، وإنما يحتاج إلى النظر في هذا النكاح الأول دور ما بعده من المراجعات ، إذ حصلت الزوجية و وقع النظر في كفاءتها ، و هذا نحو ما حكي عن بعض الفقهاء أن المرأة إذا عقدت بنفسها نكاحها فهذا النكاح موقوف ، فإن وضعت نفسها في غير كفء كان للولي فسخه و إن وضعت نفسها في كفء فعلى الولي أن يجيزه ويمضيه ، فإن فعل وإلا أجازه السلطان عليه ، فعلى هذا لا تفسخ المراجعة بعد وقوعها على ما وصف من حالها ، وتنضم في القضية ضميمة أخرى تقوّي هذا الاعتبار ، وهي مراعاة قول من قال من أهل المذهب : إن الطلاق المملك[30/3]رجعي ، فإذا كانت المراجعة في هذه النازلة في بقية من العدة حسنت مراعاة هذا القول مع ما تقدم ، و قد كان ابن عتاب يراعيه في ارتداف الطلاق في العدة ويفتي بذلك ، هذا ما عندي في ذلك انتهى .
قيل : فتوى الشيخ الأستاذ رحمه الله تؤنس كثيرًا في أمثال هذه النوازل ، على أنه لا خفاء ببعد منتجعها ، وإذا قال ذلك في المراجعة بتقدير حصول الكفاءة على مقتضى رواية أبي قرة ، فأحرى أن يقولها في ابتداء النكاح ، لاعتياد الشهرة فيه أكثر من المراجعة إذا حصلت الكفاءة فيه فتأمله .
[
(1/31)
________________________________________
صبية تزوجت رجلاً وعقد عليها النكاح خالها مع وجود عم شقيق أبيها]
*و سئل : عن صبية تزوجت وعقد عليها النكاح خالها وكان لها عم شقيق أبيها علم بالنكاح وفهم منه الرضا به و لم يعقده هو و لا قدم ؛ لأنه قد حلف ، أن لا يحضر عقد نكاح و لا يتكلم فيه ، والصبية من أهل المسكنة ودناءة الحال ، وبنى بها زوجها وأقام معها نحو أربعة أشهر ، ثم طلقها طلقة واحدة ، ثم أراد مراجعتها عند القاضي ، فرأى أن النكاح مفسوخ فردَّ المرأة إلى صداق مثلها وألغى الطلاق الواقع فيه و لم يعتد به .
=فأجاب : أن هذا النكاح عقده ولي عام مع وجود الولي الخاص و لا اعتبار برضا العم إذا لم يتول العقد و لا قدم من يتولاه ، ذكر ذلك ابن الحاج في نوازله في نكاح عقده الخال مع حضور الأخ الشقيق ورضاه دون تقديم منه ، فقال : ليس حضور الأخ عقد النكاح ورضاه بعقد الخال بشيء ، حضوره كغيبته إذا لم يتول العقد و لم يقدم غيره ، و أما إن تولى غيره بغير استخلافه فلا ، و إن كان هو حاضرًا كعدمه ، فإذا صحَّ أن هذه النازلة من هذا الأصل فأنتم لم تذكروا بلوغ الصبية و لا عدم بلوغها و وصفتموها بالصبا وعُرْفُ ذلك في الشرع عَدم البلوغ ، ثم على تقدير أنها كانت بالغة لم تذكروا أنها استؤمرت و لا أنها لم تستأمر ، وتختلف الأحكام باختلاف هذه الأقسام ، والظن بكم أنكم لم تعقدوا لها حتى بلغت ، و أنها استؤمرت كما يجب . و في المسألة حينئذٍ ستة أقوال في المذهب ، أحدها أن الخيار في إمضاء النكاح ورده إلى الولي يفعل من ذلك ما يقتضيه نظره لوليته ، غلا أن يطول وتلد الأولاد فهو[31/3]ماضٍ بحاله ، وأن النكاح ماضٍ بالعقد ، وأن النكاح ينفسخ و إن أجازه الولي .
(1/32)
________________________________________
وقال إسماعيل القاضي يشبه على قول مالك أن يصير الدخول فوتًا ، و قول سحنون في السليمانية يفسخ أبدًا . قال اللخمي : يريد و إن تطاول و ولدت الأولاد ، والتفرقة بين الدنية وذات القدر ، فيصح النكاح في الدنية ، وينظر الولي في ذات القدر . واختار الشيخ أبو الحسن اللخمي أنه نكاح صحيح إن عقد بولاية صحيحة ، لكن تعلق به حق لولي آخر . ومما يؤيد ذلك تفرقة مالك على المشهور من قوله بين الدنية وغيرها ، فيثبت بهذا أن ذلك في ذات المنصب من حق الولي لأمر حق الله تعالى ، فإن وضعت نفسها في كفاءة ومن هو كفء بمثلها مضى نكاحها ، وتقوى صحة النكاح في هذه النازلة بثلاثة أوجه :
أحدها : أن المرأة دنية .
و الثاني : أن الخال قد قيل : إنه ولي من أولياء النسب ، وكذلك الأخ للأم ، ذكر أنها رواية لعلي بن زياد .
و الثالث : أن رضا الولي الأقرب وعلمه مما يسقط خياره على القول بأن له الخيار ، فلا يبقى له في النكاح مقال بعد أن علمه ورضيه ، ذكره في الوثائق المجموعة وغيرها .
(1/33)
________________________________________
وهذا الكلام في هذه النازلة إنما هو بعد الوقوع ، نعم يصح فيها النكاح بعد الوقوع ، وهي أولى بالصحة وأحق من مسألة نوازل ابن الحاج المشار إليها ؛ وهي تزويج الخال بنت أخته قبل البلوغ وهي غير محتاجة و هو ليس بوصي و لا حاضن ، ثم توفي الزوج . قال فأفتيت بأنها ترثه كما لو ردها ولي ، وقلت في نفسي : إن هذا النكاح عقدته المرأة و هو من النكاح المختلف فيه ، ثم تجاوبت فيها مع ابن رشد فرأى ذلك انتهى . فإذا ثبت هذا فيما سماه الزوج لزوجه في عقد النكاح لازم له بكل حال ، والطلاق الذي أوقعه عليها في عقد هذا النكاح لا سبيل إلى إلغائه بوجه من الوجوه ، هذا هو الحق الذي لا شك فيه ؛ لأن غاية أمره إن كان الفسخ بطلاق على بعض الأقوال ولذا أوقفه[32/3]الزوج ابتداء قبل العثور عليه ، وذلك أن النكاح المختلف في فساده فسخه إذا فسخ بطلاق على المشهور ، و هذا مختلف فيه ، والنكاح الذي للولي أو لأحد الزوجين فيه الخيار فسخه أيضًا بطلاق ، و هذا فيه للولي الخيار في بعض الأقوال ، وبحيث كتب ذلك الطلاق في كتاب نكاحها ثانيًا ، لتحسب به مع ما عسى أن يكون بعد من طلاق آخر ، فإذا كملت الثلاث حرمت عليه إلا بعد زوج ، وإلغاؤه يؤدي إلى جواز أن يوقع عليها طلقتين دونه ثم يراجعها من دون زوج ، و في ذلك استحلال المطلقة بالثلاث من غير أن تنكح زوجًا آخر ، إلا على قول ضعيف جدًّا في نازلتنا لا ينبغي أن يلتفت إليه و لا أن يعول عليه ، و لا سيما إذا جرَّ إلى الوقوع في مثل هذا ، و هو مذهب من يرى أن الدنية كذات المنصب ، وأن الفسخ واجب لحق الله تعالى ، و إن وقع الدخول من غير أن يكون فيه خيارًا الأحد ، وأن ما ليس فيه خيار للولي و لا لأحدٍ الزوجين يجب فسخه بغير طلاق ، و هذا كله تركب شذوذ على شذوذ .
(1/34)
________________________________________
وقد قال ابن القاسم : إن تزوجت المرأة بغير ولي ثم طلق الزوج قبل أن يجيز الولي وقع طلاقه عليها ، و هذا الكلام إنما ترتب هكذا على حسب استفتائكم ، و ما يقتضيه وضع سؤالكم ، وإلا فالقاضي الذي حكيتم عنه أنه نظر في النازلة نظرًا آخر لا أعرف ما عنده فيها ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، و الله ولي الجميع بفضله . قيل ترجيح الأستاذ رحمه الله إمضاء النكاح في هذه النازلة التي تكلم عليها في الوجه الثالث ، و هو رضى الولي وعلمه مما يسقط خياره ، هذا على القول بأن الخيار له ، حكى ذلك المتيطي بعد حكايته عن المغيرة الفسخ مطلقًا عن عبد المالك في الثمانية ، معللاً بقوله قبل البناء وفساده في العقد . قال ابن حبيب : ما لم يكن الأقرب حاضرًا يعلم أن غيره عقد على وليته فلا يتكلم و لا يغير ، فإن ذلك منه ممول على الرضا والتسليم .
[من تزوج بكرًا وطلب أمها بالبناء بها فامتنعت ، فاحتملها لداره مكرهة]
(1/35)
________________________________________
*و سئل : رحمه الله من قبل الشيخ الفقيه أبي العباس أحمد بن قاضي[33/3]الجماعة أبي القاسم الحسيني رحمه الله عن رجل تزوج بكرًا وطلب أمها بالبناء عليها ، إذ هي بكر في حجرها فامتنعت له ، فلقي البنت فاحتملها لداره مكرهة وخلا بها ، ثم ادعى أنه ألقاها غير عذراء ، وأنكرته هي في ذلك وادعت أنه لم يمسها هو و لا غيره و أنها باقية عذراء ، فكتب القاضي بإنكارها رسمًا وقدم القاضي امرأتين من القوابل للنظر إليها فشهدت عنده أنها غير عذراء ، فأمر القاضي حينئذٍ أم الزوجة برد ما قبضت لابنتها من الصداق ، وكتب رسمًا بإشهاد الزوج على نفسه باستيفائه من أم الزوجة جميع ما كان دفعه لها غير خمسة وعشرين درهمًا تصلكم نسخته صحبة هذا نصه ، فلما وصلت إلى هنا أتتني أم الزوجة متظلمة ، واستظهرت بعقد يتضمن نظر امرأة من أهل أندرش من القوابل العارفات بما يطلع عليه من أحوال النساء إلى الزوجة و أنها ألفتها عذراء تحت خطاب قاضيها ، وقالت لي أم الزوجة : إن كانت مطلقة فثم من يتزوجها ، و إن كانت غير مطلقة فاحكم لي على زوجها بما يوجبه الحكم الشرعي ، فأحضرت الزوج بمحضر شاهدي عدل وسألته : فاعترف بأنه حمل زوجته المذكورة وخلا بها أياما ، وأنه اعترض دونها غير مدة ، وأنه زال عنه الاعتراض فوطئها فألفها ثيبًا ، فأخبر أمها بذلك و قال لها ردي علي ما قبضتيه مني واستري علي ، وأنكرت البنت ما ذكر من الوطء ، فقالت له الأم ارجع إليها فإنها تقول : إنها باقية كما كانت ، فوطئها ثانيًا فألفاها ثيبًا كما ألفاها أول مرة ، فاشتكى للقاضي ، فأمر القاضي الأم بما تقدم وذكر أنه لم يطلقها ، و قد سألت القابلتين عما عندهما فثبتت إحداهما على شهادتها ، واعترفت الأخرى أنها لن تعاين شيئًا ، وإنما شهدت على شهادة صاحبتها مع احتمال كون الثيوبة جاءت من قبل الزوج ؛ لاغترافه بالوطء وتماديه عليه بعد اطلاعه على العيب ، فتفضلوا بالجواب عن ذلك .
(1/36)
________________________________________
=فأجاب : وقفت على مكتوبكم والرسوم المكتتبة فيها ، والحكم الذي وقع في شأنها من القاضي الذي كان قد نظر فيها ، خطأ صراح يجب رده واستئناف[34/3]الحكم في ذلك بالواجب ، وذلك أن يؤدي الزوج جميع ما وجب عليه من الصداق للبنت لدخوله بها ، لاعترافه بمسيسها وعوده إلى ذلك بعد علمه بثيوبتها التي زعم أنه وجدها بها ، و لا يعذر بما ادعاه من أمر الأم له بالعود لتعلق حقِّ البنت ، و لا حجة له بشهادة من شهد بالثيوبة من غير وصف بقدمها و لا بحدوثها ، و لا مخلص له من الصداق باعتراف البنت بأنها عذراء ؛ لأنه اعترف بما يوجب عليه العزم ، فلا يرفع ذلك عنه موجب سقوط من قبل بنت محجورة ، و هذا كله منصوص عليه من كلام الفقهاء .
(1/37)
________________________________________
قال صاحب الوثائق المجموعة وغيره : "إن تمادي الزوج على وطئها بعد معرفته بذلك فلا قيام له ، وقيل : إذا أقر الزوج بوطئها وهي سفيهة أو صغيرة ، وأنكرت هي الوطء فإن الصداق كله لها ، بخلاف أن يتقاررا أنه لم يطأها ، فإن هذا قد ينفعه ويبقى في القضية النظر في تلك العصمة ، هل انفصلت بطلاق أم لا ؟ والذي يظهر ببادئ الرأي وعامل الحال ، إن كاتب وثيقة التفاصل ظن بجهله ورعونته ، إن ذلك العيب ليوجب رد الزوجة على أهلها بغير طلاق ؛ لأنه كتب بعد ذكر التفاصل : وانفصلت الزوجية بسبب العيب المذكور على السنة كلها في ذلك ، وليته لم يذكر السنة ، وكيف تكون الجهالة والضلالة سنة في الدين ، هذا تهاون عظيم ، و لا مقال للزوج مع الأم بسبب التزامها ومفاصلتها ؛ لأنها مضطرة بما ظهر من القاضي من أحكام الجور وتركيب الجهل ، فطنت بجهلها أن ذلك حقٌّ وعدل ، فصارت مغرورة بحكم القاضي ، والواجب في شأن انفصال تلك العصمة أن يستفصل شهود التفاصل والانفصال ، فإن كانوا قد فهموا من الزوج الطلاق وأدوا على ذلك فهو كذلك ، و إن فهموا إبقاء العصمة وأدوا على ذلك قلدوا في ذلك ، وحلف الزوج أنه ما أراد طلاقها ، ويبقى على زوجيته ، وإلا طلق الآن إن شاء ، و إن لم يؤد الشهود على أحد الوجهين و لم يكن عندهم غير مضمن الوثيقة دون زيادة ، كان الظاهر منها إذا تركناه وإياها إن الطلاق وقع بينهما ، و لا معنى لقوله : "وانفصلت الزوجية بينهما بسبب العيب إلا ذلك" ، ويؤيد ذلك : حالتها إن كان قد أبانها من نفسه من ذلك التاريخ ، و لم يساكنها و لا ولج عليها ، فهذا ما عندي في النازلة ، و لا اعتبار بنظر القوابل إذا نظرن إلى البنت بعد أيام من دخول الزوج ، ,إن شهدن بأن القطع قديم فلا حجة للزوج في ذلك ؛ لأنه قد[35/3]يكون الافتضاض في أول دخوله ، وبرئ الجرح في أيام قلائل ؛ لأن العادة أنه يبرأ بالقرب ، وإنما يعتبر ذلك على ما فيه من الخلاف ، فإذا نظروا إليها صبيحة
(1/38)
________________________________________
ليلة دخولها و ما قرب منها جدًّا بحيث لا يمر من الزمان ما يمكن فيه برؤه عادة ، والصحيح مع ذلك عند الفقهاء المتأخرين ألا ينظر إلى البنت في دعوى الزوج الثيوبة لما فيه من صعوبة الوصول إلى حقيقة الأمر في ذلك المحل ، مع حصول الكشف الذي أصله الحظر لا سيما في هذه الأزمنة التي فقدت أمانة القوابل فيها في الغالب في شيء يحتاج إلى التثبت الكير والدين المتين ، والصواب عندي ألا أقول للزوج : ويلزمه جميع الصداق ، لاعترافه بموجبه و هو الوطء ، وبذلك أفتى الشيوخ في النوازل كنوازل ابن الحاج وغيرها ، والسلام من كاتبه فرج على السائل الفقيه القاضي أبي جعفر أحمد الحسيني أعزه الله .
[من زوج ابنته من رجل فتم العقد بينهما ، ثم توفيت البنت قبل الدخول بها]
*و سئل ابن رشد عمن زوج ابنته من رجل فتم العقد بينهما فبقيت مدة وتوفيت قبل الدخول ، فطلب الأب موروثه من الصداق و ما لزم زوجها من النفقة والكسوة ، وطلب الزوج موروثه مما اكتسب لها مما يشورها به ، هل يكون لكل واحد ما طلبه من صاحبه أو أحدهما أو لا شيء لواحد منهما .
=فأجاب : إن كان الأب أمضى لابنته ما يجهزها به وسلمه فللزوج ميراثه منه ، وكذا ما سمى لها من الصداق ، فيورث عنها و لا شيء على الزوج من نفقة و لا كسوة انتهى . المازري "أصل الشريعة عدم إلزام المرأة وأبيها جهازًا ، والصداق عوض عن البضع و هو المقصود ، و لو كان عوضًا عن الانتفاع بالجهاز و هو مجهول لكان فاسدًا ؛ لأن الأصل البضع و ما سواه تبع ، و في المذهب رواية شاذة غريبة : أنه ليس على امرأة تجهيز بصداقها فأحرى ما سواه ، وأظنها في وثائق ابن العطار ، والرواية الأخرى تتجهز بالصداق خاصة ، والجهازات الكائنة الآن خارجة عن مقتضى الروايات ، فإذا كانت العادة تقتضيه فينبغي أن يتحقق .
[
(1/39)
________________________________________
36/3]ونزلت هنا نازلة منذ خمسين عامًا فاختلف فيها شيخاي ، وهي إذا ماتت الزوجة البكر قبل الدخول بها فلما طلبها الأب الصداق ، طلب الزوج الميراث من القدر الذي تتجهز به .
فأفتى عبد الحميد بأن ذلك ليس على الأب ، وأفتى اللخمي : أن ذلك عليه ، وكان الشيخ الأول يقول : هب أن الآباء يفعلون ذلك في حياة بناتهم رفعًا لمعرتهن وتكبيرًا لشأنهن ، وحرصًا على الحظوة عند الزوج ، فإذا وقع موت الابنة فعلى من يجهز ، و لا تقاس عادة على عادة .
وقد تكلمت مع اللخمي لما خاطبني في هذه المسألة وسألني عن وجهها ، فأجبته بما تقدم ، وجرى بيننا كلام طويل ، فإذا تحققت العادة بشهادة الأشكال أن الآباء يلزمون على حد ما يطيقون به في حياة الأبناء ومماتهم نظر في ذلك ، وذكر أن الآباء يلزمون بما يقابل الصداق ، و هذا إنما تتفق الشهرة به لو تكرر القضاء عليهم وشوهد حتى يعلم علمهم به ، ويكتب بالعادة حين عقد النكاح وتاريخه . و هذا فيه تشغيب ، ولعلّ الصلح أقرب إلى السداد في هذا إن شاء الله . ولابن رشد في أول جنائز الشرح إذا جهز الوصي اليتيمة من مالها وأورده بيت البناء بري من الضمان وتصير اليتيمة قابضة له و إن كانت ممن لا يصلح منها القبض ، إذ ذاك أكثر المقدور عليه .
[من تزوجت وبعد مدة توفي أبوها وبيدها حلي زعمت أن أباها جهزها به]
(1/40)
________________________________________
*و سئل القاضي ابن عبد السلام عمن له ابن وابنتان دخلت الكبرى على بعلها ثم بعد دخولها بثلاثة أعوام ، توفي الأب وبيد الابنة حلي لأبيها المتوفى ، ثم توفيت البنت قبل البناء ، فطلب بقية الورثة حظهم في الحلي والأسباب التي تحت الابنة المذكورة ، فزعمت أن أباها جهزها به ، فاستظهر الورثة برسم يتضمن أن العادة الجارية ببلدهم حتى الآن أن الرجل إذا جهز ابنته بحلي أو غيره ، إنما هو على معنى العارية والتجميل بيد الابنة و إن طالت السنون ، وأنه مهما أراد استرجاع شيء منه استرجعه ، و إن كانت له ابنة أخرى حمل عليها به ، و إن مات ورث عنه ، مع أن هذا الأب كان في مدة حياته يتصرف[37/3]في الحلي والأسباب المذكورة بالعارية ، فهل يقضي لبقية الورثة بحظهم من الحلي مما هو لأبيهم أم لا ؟
=فأجاب : إّذا ثبت الرسم المتضمن للعادة الجارية وجب الأعذار في شهوده إلى الابنة ، فإن عجزت أو سلمت عمل بمقتضاه –والله أعلم .
[من تزوج امرأة وبعد مدة قدم زوجها الأول]
*و سئل فقهاء فاس عن رجل تزوج امرأة فبقي معها مدة من حمس سنين ، ثم قدم زوجها الأول فاستظهر ببينة شهدت باستمرار العصمة بينه وبين المرأة المذكورة إلى حين قدومه من مغيبه ، و قد كان غاب عنها مدة طويلة ، فأحضر الزوج الثاني وأعذر إليه في البينة فلم يأت في ذلك بمدفع ، فسُئِلت المرأة عن دعوى الزوج الأول ، فوافقته على دعواه من أنه زوج لها ، واعترفت مع ذلك أنها تزوجت الثاني من غي أن يطلقها الأول ، و لا تحققت موته و لا سمعته من أحد ، وادعت أنها إنما تزوجته ظنًّا منها أن زوجها الأول مات ، فهل يدرأ عنها الحد بقولها : ظننت أنه مات أم لا ؟ وكيف إن رجعت إلى السماع وقالت سمعت بموته ، وه ينفعها ذلك أم لا ؟ وكيف إن علم شهود الاستدعاء بنكاح الثاني مع علمهم بأنه نكاح في عصمته ، هل عليهم في ذلك درس أم لا ؟ بينوا لنا ذلك مأجورين إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله .
(1/41)
________________________________________
=فأجاب الفقيه الصالح أبو سالم إبراهيم بن عبد الله اليزناسني رحمه الله بأنه لا حدّ عليها ، و قد قالوا في عين المسألة إنه لا حد عليها ؛ لأنها تقول سمعت بموته ونعي لي ، لكن هذه إنما ذكرت ذلك بعد قولها ظننت ، و قد يكون ذلك بسبب ظنها ، و إن قلنا إن ذلك ليس بسبب الظن ، فهنا أيضًا طول الغيبة دليل على الموت ؛ لأن الغالب مع الحياة الأوبة والرجوع ، و قد يقال : إن رجوعها من الظن إلى قولها الثاني ، تعذر به لدرء الحدّ بالشبهة ؛ لأن هذه الشهادة ليست على الزنا و الله الموفق للصواب .
=و أجاب الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم بأن المرأة المذكورة يجب[38/3]عليها الحدّ إن اعترفت بإصابة الزوج وتبين كذبها فيما ذكرت من موت الأول ، وذلك بأن لا يسمع ما قالت من غيرها ، و لم تعذر بجهل و الله أعلم .
=و أجاب الفقيه أبو محمد عبد العزيز القيرواني أكرمكم الله تعالى أنه يدرأ عن المرأة المذكورة الحدّ لقوله عليه الصلاة والسلام : «ادْرَءُوا الْحُدُودَ باِلشُّبُهَاتِ» لا سيما من يجهل ذلك واله الموفق للصواب والسلام عليكم والرحمة والبركة .
(1/42)
________________________________________
=و أجاب الفقيه أبو محمد عبد الله بن يخلف القطراني ، تصفحت السؤال المذكور و وقفت عليه وفيه اضطراب ، و هو أنكم ذكرتم أن الزوج الثاني علم شهوده أن نكاحه كان في عصمة ، فإن صحَّ هذا أن الشهود كانوا عالمين بما ذكرتم وسكتوا من غير عذر يمنعهم من القيام ، فذلك جرحة في شهادتهم على مشهور المذهب ، فإذا ثبت هذا فلا يفسخ نكاح الأول ، و إن لم يثبت علمهم بذلك وإلا أقر الشهود بذلك ، فيفسخ نكاح الثاني ، وذكرتم رضي الله عنكم أن المرأة قال : إن زوجها ظن أن زوجها قد مات ، من أين أتاها هذا الظن و قد قالت : إنها لم تسمع موته من أحد ، فهذا لا يقبل منها و لا تعذر به ، فإن أقرت بأن الثاني وطئها حدت ، وإلا فلا ، و لا يقبل رجوعها لذلك ، بخلاف المقر بالزنا ؛ لأن الحد هنا قد وجب فتزيد إسقاطه ، و قد نصَّ اللخمي في كتاب القذف على أن من تزوج امرأة رجل فإن المرأة تحد ، إلا أن تكون قد نعي لها فلا تحد ؛ لأن ذلك شبهة والنساء يجهلن ذلك ، و قال ابن يونس في أثناء الكلام في المفقود ، إن امرأة المفقود إذا تزوجت في الأجل أو قبلَ ضَرْبِهِ لها ، فليفرق بينهما وتحد و لم تعذر بجهل . و قد ذكر ابن يونس عن العتيبة من رواية ابن يحيى في المنعي لها مثل ما حكاه اللخمي و الله الموفق للصواب .
(1/43)
________________________________________
=و أجاب السيد الفقيه أبو ضياء مصباح بن عبد الله اليالصوتي أكرمكم الله تعالى إذا كان الأمر على ما ذكرتموه ، كان ما ادعته المرأة المذكورة شبهة تنفي عنها الحد حد الزنى ، والرواية بذلك منصوصة لابن القاسم في امرأة أضاعها زوجها ففرت منه وتزوجت ، ثم استحقها الأول واعترف به واعتذرت له عن تزويجها ثانية بأنها ظنّت أن إضاعة الأول لها طلاق ، فقال[39/3]لا حَدّ عليها ، و لو لم تأت المرأة المذكورة في قضيتكم بما تعذر به في تأويلها لقرب غيبة زوجها ، لكان لها أن ترجع عن ذلك ، وتدعي أنه نعى لها أو طلقها أو غير ذلك من الشبهة التي تسقط الحد ؛ لأنها معترفة بالزنا لما لم يعرف زناها إلا من قولها ، كما قالوا فيمن تزوج ذات محرم منه عالمًا بالتحريم أنه علم بعلمه حدّ ، و إن لم يعلم بعلمه كان له الرجوع عن الاعتراف بالعلم ويسقط عنه الحد ، و هذا كله على الصحيح من المذهب أن المعترف بالزنا إلى غير شبهة أو يجحد ذلك الاعتراف ، وحقيقة الأمر في المسألة المذكورة أن لها الرجوع عن شبهة إلى شبهة ؛ لأن تزويجها بوجه شبهة أو بغير شبهة لا يعلم إلا من قولها ، و لا بدّ لها من العقوبة و إن درء عنها الحدّ ، وكذلك الولي والشهود لا بد من عقوبتهم لما شهدوا على نكاحها من غير ثبوت موت زوجها و لا طلاقها ، والسلام عليكم والرحمة والبركة .
[من تزوج امرأة فإذا بها في عصمة رجل آخر ، فنفقتها مدة الاستبراء على الزوج ألأول]
(1/44)
________________________________________
*و سئل الفقيه أبو عبد الله بن عبد الكريم و الفقيه أبو سالم اليزناسني عن زوج تزوج امرأة فإذا هي في عصمة رجل آخر ثم قدم الذي تزوجها الثاني في عصمته و وقفت للاستبراء ، فعلى من نفقتها في حال الاستبراء ، هل على الثاني لأنها عن سببه وقفت ، كما قالوا فيمن وطئ أمة رجل طائعة ، أو مكرهة أن نفقتها في الاستبراء على الواطئ ؛ لأنها بسببه وقفت ، و كما قال بعض الشيوخ في مسألة الأختين في النكاح الثاني ، أولا نفقة لها على الثاني لأن هذا فَسْخٌ ، و قد قال في كتاب العدة أن الفسخ لا نفقة فيه إلا أن تكون حاملاً أو تكون نفقتها على الزوج الأول لأنها في عصمته ، كما قالوا فيمن وطئ زوجة رجل يظنها أنها زوجته ، أن نفقتها على زوجها السابق في حال استبراء ، أو لا نفقة لها على الثاني لأنها ليست له بزوجة ، و لا على الأول لأنه ممنوع من وطئها ، وتكون نفقتها على نفسها ، فإن ظهر بها حمل رجعت على الثاني لأنه ولده .
=فأجاب : إن نفقة الزوجة المذكورة على زوجها الأول ؛ لأنها في عصمته[40/3]كما قال أبو عمران فيمن وطئ زوجة رجل أن نفقتها في الاستبراء على الزوج ، لا على الواطئ غلطًا .
لا يقال : إن المسألة المسئول عنها بخلاف هذه لأنها تعمدت الفساد ، ولأنها قصدت الامتناع من الوطء .
(1/45)
________________________________________
لأنا نقول لم تقصد الامتناع من الوطء ، و قد ذكر ابن يونس رحمه الله الخلاف بين الشيوخ فيمن تزوج امرأة في عدة من طلاق رجعي فحملت من الثاني ، فمنهم من قال إن النفقة على الثاني لأن الحمل له ، ومنهم من قال إن النفقة على الأول : لأنها في عصمته بعد ، وأحكام الزوجية قائمة بينهما ، ففي هذا بيان أنها لو لم تكن حاملاً ، لكانت النفقة على الزوج الأول قولاً واحدًا ، إذ قال في توجيه القول بوجوب النفقة على الثاني لأن الحمل له ، و أما ما أشرتم إليه في مسألة الأختين هل النفقة على الأول أو الثاني ، فلا قائل بوجوب النفقة على الثاني الواطئ غلطًا ، وإنما الخلاف فيها هل النفقة على الزوج الحقيقي ، أو لا نفقة على الزوج الحقيقي مرة على الواطئ غلطًا ، ,إنما نفقتها على نفسها و الله الموفق للصواب ، وكتب محمد بن عبد الكريم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
=و أجاب : الفقيه أبو سالم بن عبد الله اليزناسني ، بأن قال هذا القول الأخير من أن نفقتها على نفسها في الاستبراء هو الذي صوب ابن يونس ، والمسألة لأبي عمران ، قال لا نفقة لها على زوجها الحقيقي ، ثم قال والأول أصوب و هو بين ؛ لأنه إذا كان ذلك مع الخطأ ، فمن باب أحرى هذه العالمة ، و لم أرَ من نظر في المسألة تعرض لحكم هذه المرأة فيما أتت به من التزويج انتهى .
قيل : القول الذي نفاه صاحب الجواب الأول ، ذكره بعض المتأخرين على المدونة في مسألة الأختين ، وله وجه ظاهر وهي كونها موقوفة بسببه ، ولها نظائر في المدونة انظره . و في تشبيه هذه المسألة بمسألة الواطئ غلطًا عندي نظر ؛ لأن الواطئ غلطًا لا يلزمه السكنى و لا عليه نفقة إن ظهر حمل بها ، و لا يلحقه ولد عن أتت به من وطئه ، و في المسألة المسئول عنها يثبت ذلك[41/3]كله ، وتشبيهها بمسألة من نكح في عدة من طلاق رجعي أبين عندي و الله أعلم .
[من دخل بعد علمه بنكاح الأول ، فإنه يفسخ نكاحه]
(1/46)
________________________________________
*وكتبت من تلمسان في جمادى الأولى من سنة إحدى وسبعين وثمانمائة ، إلى شيخ الفتوى بالمغرب الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم القوري رحمه الله أسئلة عن عدة مسائل ، من جملتها إذا دخل الثاني بعد علمه بالأول ، فإن نكاحه يجوز ، وترد إلى الأول اتفاقًا ، وتستبرأ من فساد ماء الثاني ، وهل يحدّ مع ذلك وينتفي الولد وسائر لوازم الزوجية من الطلاق والإرث ، لم أحفظ لسلف أيمتنا وخلفهم في الأولى شيئًا يتضحُ إجراؤها على مسألة الأختين الواقعة في ثاني أنكحة الكتاب لوضوح الفارق ، ويتردد النظر الحاصل في إجرائها على فقه الناكح في العدة العالم بها ، وناكح ألأم وابنتها ، وناكح الخامسة وجامع الأختين ، فانظروا ذلك .
=فأجابني : بما نصهُ ومسألة دخول الزوج الثاني مع علمه بسبقية الأول ، هل يحدّ أم لا حدّ عليه على ظاهر قول كثير من الأشياخ ، من أعلامهم الإمام الحافظ أبو الأصبغ بن سهل ، فإنه لما ذكر المسألة لم يقيدها بعلم العلم ، والشيخ اللخمي قال : إنما تفوت في الشك في الأسبق ، وابن رشد قيد بعدم العلم ، وتصريحهم في وجوب الحدّ عدم الشبهة في الموطوءة ، مع حديث : «ادرءوا الحدود بالشبهات» ، مما ينفي الحد في المسألة ، و إن كان بعضهم قال ليس بحديث ، وإنما هو من كلام الفقهاء ، ومن فروعها التوارث والصداق الذي ذكرتم إلخ . وكلام الشيخ ابن محرز في ثبوته كافٍ في ذلك ، وكلام صاحب الاستلحاق و ابن عرفة والمقدمات والزرويلي شافٍ .
[من ادعى نكاح امرأة في عصمة رجل آخر ، واستظهر برسم استرعاء]
(1/47)
________________________________________
*و سئل : الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل الصباغ عن رجل قدم من تامسنا وادعى نكاح امرأة وهي الآن في عصمة رجل آخر ، واستظهر برسم استرعاء وعليه حطاب من قاضيها ونصه من أوله إلى آخره : يعرف شهوده محمد بن سعيد الجاناتي بالعين والاسم معرفة تامة ، ويعلمون أنه تزوج تاونزا[42/3]بنت عيسى بن بطان من القبيلة المذكورة ، وذلك منذ عامين اثنين سلفًا عن تاريخه ، بولاية عمها شقيق والدها المذكور المعروف عندهم بمثل المعرفة الموصوفة ، ثم لا يعلمون أن عصمة النكاح انفصلت بينهما حتى الآن ، فهل لمن ورد عليه هذا الرسم أن يحكم به ويخل به ما وقع فيه من الإجمال ؟ فمن ذلك قولهم : ويعلمون أنه تزوج تاونزا المذكورة ، و لم يفسروا كيفية علمهم بذلك ، و قد قالوا في الشاهد المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة ، أنه يسأله عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك إذا أبهمه ، وعليه يدل ما وقع لابن القاسم في المدونة نصًّا ، خلافًا لقول أشهب فيها ، وانظر ما تأول الشيوخ على مسألة الشهادة في شركة المتفاوضين . ومن ذلك أيضًا قولهم بولاية عمها و لم يضمنوا في الوثيقة أنهم لا يعلمون لها وليًّا يعقد نكاحها إلا عمها المذكور ، لاحتمال أن تكون ذات وصي أو ذات أب أو مهملة .
(1/48)
________________________________________
ومن ذلك أيضًا أن الوثيقة لم تتضمن الاستئمار كما يجب ، إذ لا يصحُّ لغير الأب أن يزوج من غير استئمار ومن ذلك أيضًا قوله : تزوج تاونزا بنت عيسى ، هل يقول ذلك مقام المعرفة أم لا ؟ و قد قالوا : إن من شرط الشهادة على الغائب أن يكون معروفًا ، فهل تصحُّ هذه الوثيقة و لا يخل بها من وقع فيها من الإجمال ، ويحكم بمقتضاها لاحتمال أن يكن القاضي الذي صحَّ عنده هذا الرسم كشف الشهود عن الوجوه التي ذكرناها ، وأدوا شهادتهم عنده مفسرة مبينة ، أولا تصحُّ هذه الوثيقة و لا يحكم بمقتضاها حتى تستبدل ويكشف الشهود عن مواضع الإجمال والاحتمال إن أمكن ذلك ، و لا يصحُّ له أن يحكم بوثيقة فيها الإجمال ، و قد أشكل علي الحكم في هذه المسألة ، فطلبت جوابكم فيها مأجورين إن شاء الله .
=فأجاب : المسألة المنصوصة فوقه أن ما وقع في الرسم المذكور من الاحتمال ، لا يوهنه إذا كان القاضي الذي ثبت عنده ذلك من أهل العلم والفضل ، على ما وقع في مسألة ابن شماخ الواقعة في أول أحكام ابن سهل كما في كريم علمكم ، وكثير من واضع الاحتمال الواقعة فيها أو كلها لا تخل به كثير إخلال ، كما في كونهم يبينوا كيفية علمهم بما شهدوا به ، و قد اختار أبو[43/3]عمر الأشبيلي و ابن عتاب و ابن سهل أن الشهادة في مثله عاملة ، و هو مقتضى المدونة من مسألة الذي أثبت فلانًا مفاوضه وتنصيص الشهود على كيفية علمهم على مقتضى ما في وثائق ابن العطار من باب الأولى لا من باب الواجب ، وكل هذا مشروح في الأول من أحكام ابن سهل . و كما في كونهم لم ينصوا على معرفتهم المرأة المذكورة ، ففي أول الكتاب المذكور في شاهد قال أشهدتني فلانة و لم يذكر أنه عرفها بالسم والعين والنسب أن شهادته عاملة .
و قوله : أشهدتني معرفة لا محالة هذا مقتضى ما في هذه المسألة مع ضعف البضاعة وقصور الباع في هذه الصناعة . وكتب محمد بن أبي الفضل الصباغ .
[
(1/49)
________________________________________
من زوج محضونته من رجل ، وشرط عليه ثورين كبيرين عند الدخول فأعطاه عجلتين]
*و سئل : أبو سالم سيدي إبراهيم بن عبد الله اليزناسني عن رجل كفل يتيمة فزوجها الكافل من رجل وشرط على الزوج المذكور ثورين اثنين كبيرين ، فلما كان وقت دخوله بها وجه في هديته للكافل عجلتين اثنتين عوضًا عن الثورين المذكورين ، فأراد الكافل المذكور أن يرد ذلك العجلتين المذكورتين على الزوج المذكور ليبدلهما بغيرهما ، قام إذ ذاك رجل أجنبي و قال للكافل : احبس العجلتين عندك واذبح من متاعك ما يزيل عنك العار ، ففعل ذلك الكافل المذكور وذبح من عنده ثورًا كبيرًا عوضًا عن العجلتين المذكورتين ، وحبس العجلتين لنفسه وبقيتا عنده حتى توالدتا وكثر نسلهما ، فاستغل الجميع مدة ، ثم ماتت اليتيمة وتركت زوجها وأولادها ، ثم إن الكافل المذكور اشترى بعد موت اليتيمة المذكورة بالعجلتين وبجميع ما نتجتا نصفًا من رمكة ، فتناسلت الرمكة المذكورة ، وبيع بعض ما نتجت بمال جسيم ، فهل للزوج عن نفسه وعن من لم يبلغ من أولاده مقال في العجلتين المذكورتين فيما نتجتا وفيما اخذ عوضًا عنهما .
(1/50)
________________________________________
أو لا مقال له في العجلتين المذكورتين و لا لمن بلغ من أولاده ، وسكت مدة بعد علمه ببيع الكافل لما ذكر وأخذه في عوضه نصف الرمكة المذكورة ، هل له مقال أيضًا أو لا مقال له ، وهل يفرق بين أن يكون موت المرأة بعد مدة يحمل فيها أمرها على الرضا بالمعاوضة المذكورة التي عاوض الكفيل بها من نفسه فلا مقال لورثتها ، أو[44/3]يكون موتها قبل مدة يحمل فيها أمرها على الرشد أو بعدها وقالوا لم نعلم بالمعاوضة التي صنعت هذا الكافل إذا لم تتضمن الصلاح والسداد على ما قيل في بيع الكافل ، ويدخلها الخلاف الداخل في بيع الحاضن إذا لم تتضمن السداد و لا الصلاح ، أو لا تصحّ هذه المعاوضة و لا يدخلها الخلاف المذكور ؛ لأن الخلاف المذكور في بيع الحاضن إنما هو إذا باع من غيره ، وهنا عاوض من نفسه ، وهل الحكم إذا باع من نفسه كالحكم إذا باع من غيره أم لا ؟ و قد قيل في الوصي أنه لا يجوز له أن يبيع من نفسه ، و لا شك أن الحاضن أخفض رتبة من الوصي ، وهل تكون هذه المعاوضة المذكورة كبيع الوكيل من نفسه ؟ جوابكم في ذلك فصلاً فصلاً مأجورين إن شاء الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
=فأجاب : أكرمكم اله تعالى هذا الذي ذكرتم في المحضون ليس من المسألة بسبيل ؛ لأن هذه المعاوضة إنما وقعت في غير ملك المحضون ؛ لأن هذه الهدية إنما هي لأكل الناس هذا في العادة .
فإن قلتم : هنا أيضًا عادة تناقص ذلك .
(1/51)
________________________________________
قلنا : هذا الذي بعث الزوج غير ما كلف عليه ، و ما بعث لا يقوم بالناس فالعوض أحسن منهما ، فهذه مصلحة لئلا يؤدي عدم السماح إلى الفراق وغير ذلك و الله الموفق للصواب . وكتب إبراهيم بن عبد الله اليزناسني انتهى . انظر قول الشيخ أن ذلك ليس بمال للمحضون ، فإذا قيل ذلك من جملة الصداق بدليل أنه لو طلقها قبل الدخول لوجب لها نصفه ، و إن مات وجب لها جميعه ، ففي هذا دليل على أنه من جملة الصداق ، وأنه مال من مالها ، و لو أرادت ألا تطعم ذلك أو أرادت أن تطعم بعضه وتمسك بعضه ، لكان ذلك لها و لا تجبر على ذلك ، و لو أطعم الحاضن وكان سرفًا لضمن السرف ، فهذا يدل على أنه مال من مالها ، إلا أن يقال لما دخل بها فقد بها فقد وجب في الوجه الذي صرفه فيه ، انظر لو طلقها قبل الدخول و قد صرف في الوجه الذي شرط له هل ترد نصفه أم لا ؟ فهل يقوم على ما قال الشيخ أنها لا ترد نصفه[45/3]أم لا ؟ لأنه ليس بمال لها وهل أكل على ملك الزوج أو على ملك الزوجة ؟ وانظر أيضًا لو اختلفا في ذلك قبل الدخول فإنهما يتخالفان ويتفاسخان ، ففي هذا كله دليل على أنه من جملة الصداق ، ومن جملة مالها حتى يصرف في الوجه المذكور .
=و أجاب : غيره بأن الجواب عن المسالة يستدعي معرفة ثلاث قواعد :
(1/52)
________________________________________
الولي في تزويج الحاضن ، و الثانية في بيع الحاضن ، والثالثة في بيعه من نفسه . القاعدة الثالثة : لا يجوز أن يبيع من نفسه فإذا باع من نفسه نظر ، فإن كان فيه محاباة فسخ البيع ما لم يفت ، وفوته بحوالة الأسواق ، قاله أبو إسحاق في الوصي ، و هو سواء لا فرق بينهما في هذا الوجه . فإذا فات لزمته القيمة ، و إن لم تكن فيها محاباة مضى ذلك و لا يرد ، و إن كانت فيه محاباة غرمها الحاضن لفوتها بطول الزمان الذي ذكرتم ، وتكون العجلتان للمحضونة ، ثم ينظر في معاوضته لها للعجلتين المذكورتين بالثور الكبير المذكور الذي ذبحه ، فإن لم تكن فيه محاباة مضى ذلك ، و إن كانت فيه محاباة غرم الكافل المحاباة ، والعجلتان له ملك ، فكل ما فعل فيها بعد ذلك فهو ماضٍ لا كلام فيه للمحضونة و لا لورثتها من بعدها ، فلا فائدة للتكلم على بعض باقي الفصول و الله الموفق .
(1/53)
________________________________________
وانظر بيع الأب عقار ولده من نفسه في المجموعة وكذلك رقيقهم ، فقال : إن كان فيه بخسٌ بيّن لم يجز ورد كله ، انظر قوله ينظر في بيع الوصي من نفسه ما لم يفت . وكذلك نقل ابن يونس عن بعض القرويين ، وهل هو تفسير للكتاب أو خلاف ؟ قال في كتاب كراء الدور والأرضين : فإن فعل أعيد ما اشترى إلى السوق ، فإن زيد عليه بيع ، وإلا لزم الوصي ما سمى . قال عياض هناك فيه دليل على أن النظر فيه يوم الحكم و إن اختلفت الأسواق ، خلاف ما قال أبو إسحاق ، و ما نقل ابن يونس عن بعض القرويين . و قال في الوصايا فإن فعل تعقب ذلك . قال عياض هناك أيضا ظاهر أنه ينظر فيه ألان ، فإن لم يكن فيه فضل ، فلا بدّ من النظر فيه يوم البيع بالقيمة والسداد ، وإذا قيم على المشتري فيما باعه الحاضن وكان تافهًا ، فإن أثبت المشتري حضانة البائع وحاجة اليتيم والسداد في الثمن ، وأنه لم يكن له مال غيره ، أو كان أحقّ ما بيع عليه ، لم[46/3]يكن لليتيم قيام ، و إن ضمن هذا كله في وثيقة الابتياع وثبت ذلك ، أغناه ذلك من المجموعة فانظر بيع الحاضن من نفسه فهو بخلاف بيع الوصي من نفسه هذا هو الظاهر عندي و الله أعلم .
[من زوج ابنته رجلاً وشرط عليه من الصداق هدية كبشًا وثورًا ، فذبح الكبش وأبقى الثور]
*و سئل : سيدي أبو الحسن الصغير عن رجل أنكح ابنته البكر رجلاً ، وشرط عليه مع الصداق هدية كبشًا وثورًا فذبح الولي الكبش وأبقى الثور ، فطلبت الزوجة الثور وامتنع الولي أن يعطيه للزوجة عل لها أخذه أم لا ؟
(1/54)
________________________________________
=فأجاب : إن الثور المذكور من جملة الصداق و إن لم تجر العادة بتسمية هذا النوع صداقًا ، و لا يكتب مع جملة ما يكتب في رسم الصداق ، وكذلك كل ما شرط الولي على النكاح أو جرت به العادة هدية ، فهو معدود من جملة الصداق ، فما صرف الأب منذ لك في مصالح البنت المنكوحة مضى و لا مقال لها في ذلك ، ولها أخذ ما حبس منه أو تركه ، وإنما قلنا من جملة الصداق ؛ لأن الزوج لم ينعقد نكاحه و لم يتم إلا بذلك ، و إن شرط الأب ذلك لنفسه فليس شرطه ذلك لنفسه مما يخرجه عن كونه صداقًا ؛ لأن جميع ذلك عوض عن البضع ، وإذا كان عوضًا عن بضع فهو ملك لها ، وإذا كان ملكًا لها أخذه حسبما تقدم ، و هذا منصوص في النكاح من المدونة ، و الله تعالى أسأله التوفيق ، وكتب علي بن محمد بن عبد الحق والسلام على من يقف عليه .
[من هربت من زوجها وتزوجت رجلاً آخر فإنها تستبرأ وترد لزوجها الأول]
*و سئل : الشيخ أبو الحسن القابسي عن امرأة هربت من تحت زوجها إلى بلد آخر ، ثم تزوجت على أنها خلية ثم استحقها الأول ، هل عليها حدَّد أم لا ؟
=فأجاب : إن أتت بعذر يشبه لم تحدّ وتستبرأ وترد إلى زوجها الأول ، و إن لم تأتِ بما يشبه حدت ، و إن جحدت الوطء لم تحدّ أيضًا .
=فأجاب : إن أتت بعذر يشبه لم تحدّ وتستبرأ وترد على زوجها الأول ، و إن لم تأتِ بما يشبه حدت ، و إن جحدت الوطء لم تحدّ أيضًا .
[47/3][من تزوج امرأة بصداق فيه كالئ فحل وهي في عصمته ثم توفيت فطالب الورثة الزوج به]
*و سئل عياض عن رجل تزوج امرأة بصداق عاجل وآجل ودخل بها وبقي معها حتى حلَّ أجل الكالئ ، وبعده بسنين توفيت المرأة المذكورة وقام ورثتها يطلبون الميراث في تركتها من صداق وغيره ، فادعى الزوج البراءة من جميع الصداق عاجله وآجله ، وكان في عقد الصداق شرط أنه لا براءة للزوج في الدفع إلا ببيِّنة ، هل تلزمه إقامة البينة أو لا ويكون القول قوله ؟ أم كيف يكون الأمر مأجورً إن شاء الله .
(1/55)
________________________________________
=فأجاب : القول قول الزوج فيما جرت العادة في دفعه من النقد قبل الدخول ، و ما عدا ذلك فالقول فيه قول الورثة .
[إذا قامت الزوجة تطالب بهدية العرس بعد افتراقهما فلا شيء لها]
*و سئل القاضي موسى بن حماد عن هدية العرس و قد افترق الزوجان بعد الدخول بمدة ، فقام الناظر للزوجة لصغرها يطلب ذلك ، وأثبت أنه عرف في البلد يحكم به الحاكم ، وأن الزوج كان أهداها ثم ارتجعها ، وقام الزوج وأثبت أنه غير عرف إلا لمن اشترطه ، وأن الحالة في البلد تختلف ، و قد علمت ما لإمامنا وأصحابنا في المسألة ، فأردت معرفة ما تختار من ذلك ، و ما تفتي به إن شاء الله .
=فأجاب : لا يمكن من ذلك بعد الفراق ، وبالله التوفيق .
=و أجاب محمد بن إسماعيل ليس للناظر في ذلك قيام بعدد الفراق و الله أسأله التوفيق برحمته .
=و أجاب : غيره من أثبت أنه عرف أولى ، والعرف كما في علمك كالشرط يقضى به لمن طلبه وبالله التوفيق .
[48/3][إذا شرط الأب على الزوج في عقد النكاح شروطًا ، فللزوجة الأخذ بشرطها]
(1/56)
________________________________________
*و سئل القاضي أبو الفضل عياض عن رجل زوج ابنته البكر التي في حجره و ولاية نظره من رجل بصداق معلوم ، وشرط عليه شروطًا انعقد عليها النكاح : أن لا يضر بها في نفسها و لا في أخذ شيء من مالها إلا بإذنها ورضاها ، فإن فعل شيئًا من ذلك فأمرها بيدها ، فأخذ شيئًا من مالها بغير إذنها ، واعترف بذلك للبينة ، وشهدوا بذلك عند الحاكم وقبل شهادتهم ، وشكت المرأة إلى والدها بذلك وبضرر أدركها من قبله ، وطال شكواها إلى أبيها بالزوج المذكور ، و لم يقدر لها والدها بحيلة ، إلى أن قال لزوجها : اتركها تمضي معي إلى عند أمها للعصير ، فمضت إلى عند أبويها وامتنعت من الرجوع إلى زوجها لكثرة ما ادعت عليه من الضرب ، فقالت : أنا أطلق نفسي عليه الآن بالشرط الذي ثبت لي عليه ، فإنه أخذ مالي بغير إذن ، فهل لها أن تأخذ بشرطها وتطلق نفسها بأي الطلاق شاءت ؟ أم ليس لها ذلك والزوج يقول : ردُّوها إليَّ ، وامتنعت المرأة من الرجوع إليه ، إذ ثبت عليه أخذ مالها بغير إذنها ، فتنا بما يجب في هذا وكيف وفقك الله إن قالت المرأة للبينة أشهدكم أني قد طلقت نفسي عليه واحدة أو أكثر من ذلك ، هل يلزم الزوج أم لا ؟ و ما توجيه السنة موفقًا مأجورًا إن شاء الله .
=فأجاب إذا ثبت لها ما ذكرت ، فلها أن ـأخذ بشرطها في صداقها قاله عياض وفقه الله .
[من تزوج يتيمة وعند الدخول ادعت أنها غير بالغ ، فطلقها ثم أراد مراجعتها]
(1/57)
________________________________________
*و سئل بلدينا الفقيه القاضي أبو علي الحسن بن عثمان بن عطية الونشريسي ، عن رجل تزوج بكرًا يتيمة أنكحه إياها أخوها للأم بحكم الكفالة والتربية ، فلما أراد الزوج البناء عليها ادعت لأنها غير بالغ ، وتنازعا في ذلك إلى أو أوقع الزوج عليها طلقة واحدة وتفرقا على ذلك ، ثم أراد أن يراجعها فقيل[49/3]لهما لا سبيل لكما إلى ذلك ، إلا أن يثبت بلوغ البنت المذكورة ، وكونها بحال الحاجة ويخاف عليها الضيعة ، فقالت البنت المذكورة : إني بالغ ، وأثبتت عند من يجب رسمًا بأن بها علامات تدل على بلوغها من إنبات وتنهيد ، وتراجعا بإنكاح الكافل المذكور ، فلما بنى الزوج المذكور على زوجه وقع بينهما شنآن ، فقالت الزوجة : إني غير بالغ وفرت منه ، وأثبتت أنها لا علامة عندها على تدل على البلوغ ، و لم يوافق الزوج على ذلك وادعى معاينة الإنبات ولمسه ، وأتى بالبينة التي شهدت له بذلك قبل المراجعة ، وجردت له الإشهاد بذلك ، ثم أتت هي وأثبتت رسمًا بعدم التنهيد والإنبات ، ثم أتى الزوج ببينة أخرى وأثبتت بها ما اشتمل عليه الرسم الرابع من أن القوابل الثقات الأمينات العارفات المرجوع إليهن فيما لا يطلع عليه الرجال من أحوال النساء ، عاينها و قد أنبتت وثديها كما بدا يظهر ، و لا يعرفن هل هذا من علامات البلوغ أم لا ؟ بينوا لنا الحكم مأجورين مثابين إن شاء الله ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
=فأجاب : الحمد لله الجواب و الله ، الموفق للصواب بفضله –أنه يجب أولاً تأمل كتاب الصداق الذي انعقدت فيه زوجية هذين الزوجين ، فإن كان فيه تصريح الشهود ببلوغها وتقريرهم على ذلك صحَّ النكاح ، و لا يحتاج مع هذا إلى تصفح الرسوم وتأملها ، واليتيمة لا تزوج إلا بعد البلوغ .
فإن قلت : هب أنهم صرحوا بالبلوغ في كتاب الصداق ، وتصريحهم بالبلوغ إنما هو على وجه الحكاية لا علة وجه الشهادة .
(1/58)
________________________________________
قلت : الحكاية المجردة جرت عادتهم بالتبري منها فيقولون قبل فلان لزوجه بزعمه ، وإذا وصفوا حكاية وراثة لا علم عندهم بصحتها ، يقولون لا وارث له سوى من ذكر في علم من علم ذلك ، فإن لم يصرحوا بالبلوغ ورجعنا إلى تصفح الرسوم وجدناها متعارضة ، و لا يمكن الجمع بينها لتأخر شهادة البينة النافية عن البينة المثبتة ، و لو كان الأمر بالعكس لأمكن الجمع .
[50/3]و لا يقال إن ذلك غير ممكن لقصر المدة التي بينهما ، فقد فرض الفقهاء أقصر من هذه المدة فقالوا في الغلام يحتلم ، والجارية تحيض في أثناء يوم من رمضان ، أنهما يتماديان على فطرهما ، وترددوا في وجوب صلاة الجمعة على الصبي يحتلم بعد أن صلى ظهرًا أربعًا ، وإذا ثبت التناقض في الرسوم المذكورة ، وجب المصير على الترجيح ، و لا شكَّ أن البينة المثبتة أولى من النافية ، لا سيما في هذا الموضوع فإن شهادة النافية آئلة إلى الطلاق ، فوجب المصير إلى المثبتة والعمل عليها ؛ لأن المصير إلى الراجح متعيّن ، وإذا أعملنا البينة المثبتة ثبت النكاح ، و لا سبيل على فسخه .
فإن قلت : إنها أثبتت التنهيد والتنهيد لا اعتبار به في البلوغ ، وأثبتت الإنبات وفيه ما علمت من الخلاف والاضطراب .
قلت : ظاهر المذهب ، أنه علامة على البلوغ ، وأيضًا لخصنا في السؤال أنها أقرت على نفسها بالبلوغ ، وإقرارها على نفسها لازم لها .
فإن قلت : ليس إعمال إقرارها بالبلوغ أولى من إقرارها بعدم البلوغ في موضعين .
قلت : إقرارها بعدم البلوغ في الموضعين ، إقرار على الغير ، لتعليق حقّ الزوج به ، بخلاف إقرارها بالبلوغ ، فهو إقرار على نفسها لا تعلّق له بغيرها ، فوجب أن يقر هذا النكاح و لا سبي إلى فسخه لما ذكرناه ، واله سبحانه ولي التوفيق ، وكتب المسلم على من يقف عليه الحسن بن عثمان بن عطية الونشريسي لطف الله به .
(1/59)
________________________________________
ولما وقف على هذا الجواب الشيخ الفقيه القاضي أبو سالم إبراهيم بن محمد بن إبراهيم اليزناسني رحمه الله ، كتب على ظهره ومن خطه وخط المجيب أولاً نقلت ما نصه :
الحمد لله لقد أحسن المجيب بمحوله وفقني اله وإياه فامضوا لازم جوابه من عدم الالتفات لبينة البنت ليس من جهة التناقض الذي أتقن إبداءه ، وفقني الله وإياه ، بل من جهة أن النظر إلى الحرة لا يجوز على المشهور الذي[51/3]عليه الأكثر ، ولكون المعتمد على إقرارها بالبلوغ أو بالإنبات الذي هو علامة البلوغ عند الأكثرين واحد قوليه في المدونة ، ولكون بينتها ضعيفة المعتمد من حيث إن البنت لما كرهت البقاء معه ، تستعمل الأشياء المزيلة للشعر بحيث يرى الناظر أو الجاس على الطريقة التي تعزى لعبد الوهاب في مثل هذا ألا شيء هناك ، وبينة الزوج لا يتطرق إليها احتمال الوهم ، و قد جاءت الروايات في المدونة على اعتبار قول المرأة فيما تصدق فيه ، واطراح البينة التي تشهد بما يقابل ذلك ، كقوله في البكر المرخي عليها الستر تدعي الإصابة وينكرها الزوج ، ويقيم البينة من لنساء أنها بكر ، أنه يغرم جميع الصداق و لا يلتفت إلى ما شهد به النساء .
(1/60)
________________________________________
ومن ذلك قوله في المطلقة تقول قد دخلت في الحيضة الثالثة ثم تكذب نفسها وينظر إليها النساء فيرين أثر الدم بأنها بأول قولها ، وهاتان المسألتان كافيتان في المطلوب ، فإذا ثبت أن المعتمد على قول المرأة فيما تصدق فيهن و لا ينظر إلى ما خالف قولها مما تشهد به عدول النساء ، فكونها معترفة بالبلوغ وقائمة بشهادة النساء بالإنباء و لم يتسرب عدول الصداق في دعواها ، فلا خلاف أنها محمولة على البلوغ بذلك القدر الذي اعترفت به ، و إن اختلفت في دلالتها على البلوغ فيما بينها وبين الناس ، والزوج هنا من الناس الذي يؤاخذها بمقتضى هذا الإقرار ، و لا يخل ببينتها بعد ذلك لو كانت لا يتطرق إليها احتمال الوهم والكذب ، وكيف و قد أبدينا تطرقهما ، و لو لم يتطرق لكان التناقض حاصلاً ، كما ذك المجيب بمحوله وبزيادة لا تخفى عنه وفقني الله وإياه ، وإنما جعلنا من جملة أدلتنا أن النظر إلى الحرة لا يجوز ، لما قال بعض الشيوخ في مسائل المدونة التي أُطرح فيها شهادة النساء بمقابل ما صدقت به المرأة أن أطرح شهادتهن لإقدامهن على ما لا يحل ، إذ النظر إلى الحرة قولة سحنون ، وتأول نحوها ابن لبابة وابن أبي زفين على المدونة ، ورد ذلك عياض رحمه الله ، وأبدى احتمالات في تأويلهما ، و قد كتبنا في المسألة جوابًا حافلاً و هو من مختصرات ما كتبت في المسألة ، لكني كنت مرهونًا من جهة قلق موصلة ، فشدوا يا أبا عبد الله أيديكم بالمجيب ، فإنه من المطلعين ، و قد وقفت لكم على اعتراضات مستحسنة ، فأجملوا المعاملة وبالله[52/3]تعالى التوفيق ، وكتب إبراهيم بن محمد اليزناسني لطف الله به انتهى .
[من أراد أن يتزوج على زوجة لها شروط في أصل عقد النكاح]
(1/61)
________________________________________
*و سئل عم المجيب أولاً القاضي السيد أبو علي الحسن بن عطية الونشريسي رحمه الله ، عن رجل أراد أن يتزوج على زوجة لها عليه شروط في أصل عقد النكاح : من أنه لا يتزوج عليها ، و لا يتسرى و لا يضربها ، ومهما فعل شيئًا من ذلك فأمرها بيدها ، فقالت له هب لي كل الذي بيدك من مال أو كذا منه لشيء سمته من عقاره ، وآذن لك في التزويج وأرضى بالمقام معك وشركتها ، وخاف إن هو أعطاها القدر الذي طلبت منه وجلست مع التي يتزوج عليها ، أن تقوم عليه بشرط الضرر إذ هي مصدقه وتطلق نفسها عليه ، فتصل هي إلى مطلبها و لا يصل هو إلى إرادته ، فقال لها : إن وهبت لك من مالي أجعله مرتبطًا بشرط مقامك معي ، وأنك مهما طلبت نفسك بأي وجه كان الفراق ، فإني عائد في الذي أعطيتك وراجع إلي ، فهل يصح ذلك ويمكن ارتباط ذلك بعضه ببعض ، وكيف إن جعل لها ذلك لما وصف وأسقط فيه الاستحفاظ ، هل يصح ذلك أن يرتبط بعضه ببعض كما ذكروا ، بيّنوا لنا ذلك و الله تعالى يتولاكم .
(1/62)
________________________________________
=فأجاب : إن شرط التصديق في الضرر إذا كان في أصل العقد ، فقال سحنون يفسخ به النكاح قبل البناء ، فإن كان قد دخل بها فلا يقبل قولها إلا ببينة على لا ضرر ، وكان بعض الشيوخ يفتي بأن من التزم التصديق في الضرر أن ذلك لا يلزمه و لا يجوز إلا بالبينة . قال بعض الفقهاء ومن هذا المعنى من زوج أجيرًا له جارية له على أنه إن رأى منه أمرًا يكرهه فأمرها بيدها ، قال مالك لا يحلّ ذلك و لا أرى أن ينكح على هذا أحد ، فإن فعل و وقع النكاح ، رأيته جائزًا قاله مالك ، قال ابن القاسم : و لا أفسخه إذا وقع و إن لم يدخل . ومثل ذلك ما تشترط المرأة على زوجها إن أضرّ بها أو شرب خمرًا أو غاب عنها فأمرها بيدها ، فهذه يكره أن يبتدأ بها النكاح ، فإن وقع كان ثابتًا ، قال[53/3]سحنون : دخل أو لم يدخل . و هذا خلاف ما قدمناه عنه . و قال عيسى : إذا وقع به النكاح مضى ولزمه الشرط . قال أًصغ : إنما يكره أن يشترط إن رأت منه ما تكره و ما لا يعجبها و ما لا ترضى فهي طالق ، فإن وقع هذا فأرى شرطه لها إن رأت ما تكره فهي طالق ، والنكاح ثابت قبل الدخول أو بعده ؛ لأنها فرطت ليس فيها طرح شيء ، فإن رأت ما تكره كانت كما شرطت .
*و سئل مالك عن الذي يزوج عبده على أن الطلاق بيد السيد .
=فأجاب : إن دخل بها وقع ما بيد السيد ، و إن لم يدخل بها خيِّر السيد ، فإن ترك الشرط وإلا فرق بينهما . أما الذي زوج أجيره جارية على أنه إن رأى منه ما يكره فأمرها بيدها ، فإن أراد بذلك ما يكرهه مما يكون مكروهًا عند الناس وضررًا بها ، فل اختلاف في أن النكاح جائز ، والتمليك لازم بمنزلة ما لو اشترطت عليه إن أضرّ بها أو شرب خمرًا فأمرها بيدها . و أما إن أراد بذلك ما يكرهه هو باختياره و إن لم يكن ذلك مكروهًا عند الناس و لا ضررًا بها يتخرج على خمسة أقوال :
(1/63)
________________________________________
أحدها : أن ذلك يكره ابتداء ، فإذا وقع جاز النكاح ولزم التمليك ، و هو قول ابن القاسم وروايته عن مالك ، و قول سحنون وعيسى .
والثاني : أنه لا كراهة في ذلك و هو قول صبغ .
والثالث : أن النكاح جائز والتمليك ساقط ، و هو قول عبد الملك على أصله أن كل نكاح ينعقد على تمليك يقع بفعل هو بيد غير الزوج إن شاء أن يفعله فعله ، مثل أن يتزوج الرجل أمته على أنه إن باعها فأمرها بيدها أو بيده أو ما أشبه ذلك ، أن النكاح جائز والشرط ساقط .
والرابع : قول محمد أن النكاح يفسخ قبل الدخول على أصله في النكاح الذي ينعقد على تمليك يقع بفعل هو بيد غير الزوج أنه نكاح فاسد ، مثل نكاح المتعة إن دخل بها سقط الشرط وهي كلها أقوال موجهة .
(1/64)
________________________________________
وأظهر الأقوال وأولاها بالصواب قول مالك وابن القاسم وسحنون[54/3]و عيسى ، و قد فرغنا من التصديق في الضرر ، وبقي الكلام على النكاح والتسري و هو لم يقع بعد ، فأراد المعاوضة عليه وذلك جائز في مذهب مالك ، قال في المدونة : و لو أسند وصيته إلى أم ولده على أن لا تتزوج جاز ، فإن تزوجت عزلت ، وكذلك لو أوصى لها بألف درهم على أن لا تتزوج جاز ، فإن تزوجت عزلت ، وكذلك لو أوصى لها بألف درهم على لأن تتزوج فأخذتها ، فإن تزوجت أخذت منها ونقلها ابن يونس ، كما جاز أن تعطي المرأة زوجها مالاً على أن يتزوج عليها ، و إن كان ذلك حلالاً لهما ، إلا أنهما منعا أنفسهما من الانتفاع بالنكاح انتفاعهما بما أخذا من المال ، فمتى رجعا عن ذلك ، رجع عليهما بما أخذا ، ونقلها اللخمي فقال : وكذلك لو كانت حرّة فأوصى إليها زوجها بمال على أن لا تتزوج فتزوجت فأجاز ذلك و إن كانت معاوضة فيها غرر ؛ لأنها تأخذ المال ثم هي بالخيار بين أن لا تتزوج ويبقى لها المال ، أو تتزوج فترد المال ، فهو تارة بيعًا وتارة سلفًا ، و قد تمسك نفسها من الأزواج عشر سنين ثم تتزوج فترد جميع المال ، و لا يحط عنها لوقوفها عن الأزواج في تلك السنين شيء . و قال في السليمانية في امرأة وضعت عن زوجها صداقها على أن لا يطلقها ، فإن طلقها فلها ما وضعت لم يجز ، قال لأنها اشترت شيئًا يشتري مثله إن شاء طلق و إن شاء أمسك وعليه أن يرد ما وضعت ، فمشى في هذه المسألة على الأصل في معاوضات الغرر ، فعلى قوله لا تجوز أيضًا في أم الولد ، وجاز شراء الرجل ليلة من امرأته أن تكون تلك الليلة عند ضرتها . لا شك أن المعاوضة على ما في المدونة صحيحة .
(1/65)
________________________________________
قال ابن يونس و لا فرق من حيث المعنى بين أن يأخذ على أن لا يتزوج ، و لا بين أن تأخذ منه على أن يتزوج أو يتسري ؛ لأن كل واحد منهما ترك عوضًا صحيحًا وانتفاعًا صريحًا ، فبذل المال لأجل ما منع منه أن يباح له الرجل إذا أخذ ترك ما احل الله له لغرضه في ذات الشرط ، والمرأة أخذت المال لصبرها على مقاسمة الشريكة ومعاناة الضرات ومقاساة الميل ومكابدة فقد الاختصاص من زمن الدخول إلى أن تبيح ، فاحتملت هذه المكابدة ، وحملها على ذلك أخذ المال ، و لا يقيد الرجل في هذا و لا المرأة ؛ لأن الآية الكريمة جمعت في التزيين حب النساء والمال لأنه متاع الحياة الدنيا ، ويكتب بينهما صكًّا بالتزام[55/3]ما اتفقا عليه ، و هذا يجيزه مالكسواء . قال في الشرط بإذنها أو لم يقل كما في مسألتنا ، وأشهب يوافقه إذا كان في الشرط إلا بإذنها ، و إن لم يكن إلا بإذنها فأذنت له أن ينكح فنكح ، ثم أرادت أن تطلق عليه قال ذلك لها ، و هذا كله منصوص في البيان وغيره . ولها أن تشترط على أن لا تطلقني أبدًا ، وعلى أنك إن طلقتني رجعت فيما أعطيت و في صداقي إن أسقطه عنه . و أما رجوع المرأة فقد تولته المدونة ، وجائز أن تعين امرأة أو أمة وتطلق في النساء والإماء على ما قال مالك . فإن أذنت له فنكح أو تسرى فندمت وأرادت أن تغير ذلك ، فليس ذلك لها بعد إذنها حتى يفارق أو يبيع فيرجع الأمر إليها .
قلت : هذا إن لم يشتر الأذن ، و إن اشترى فلا كلام لها فيما أعطي . وكتب الحسن بن عطية الونشريسي لطف الله به .
[من له زوجة وأولاد وتزوج بكرًا بالغًا على أن لها نصف النفقة والنصف الآخر للزوجة وأولادها]
(1/66)
________________________________________
*و سئل : سيدي أبو القاسم المشدالي عمن له زوجة وأولاد وخدام ، ثم خطب بكرًا بالغًا فزوجها منه أبوها وشرط عليه في عقد النكاح أن يكون لها وحدها نصف ما يأتي به من طعام أدام أو نفقة ، وللأخرى وأولادها وخادمها النصف الباقي ، وأنه متى نقصها عن النصف المذكور فهي طالق ، ثم بعد عقده عليها طلبه أبوها بالبناء عليها ، فأجابه على ذلك وأخذ في أسبابه باستحضار نقدها و ما تحتاجه للدخول بها ، و لم يطلبه الأب حينئذٍ بإجراء النفقة عليها فلما بنى بها قال له الأب : إن ابنتي طالق منك فإن إجراء النفقة واجب عليك بدعائي إياك للدخول بها ، وأنت قد علقت الطلاق على نقصها عن النصف ، فكيف بتراك الكل فأجابه الزوج بأن قال له قصدي بما التزمته من إجراء نصف النفقة عليها إنما ذلك بعد بنائها ، والعرف يشهد لي بذلك ، قال و لأن النكاح فاسد بالشرط المذكور وإنما فات بالدخول بها ، فهل ترونها طالقًا بما زعمه الأب ، أولاً لما احتاج به الزوج .
=فأجاب : وفقت على سؤالك وأمعنت فيه النظر جهد ما فتح الله لي ،[56/3]ونظرت ما أمكنني في أصل ما وقفت عليه ، وفهمت عنهم رضي الله عنهم ، و هو الواجب علينا اتباعهم ولاقتداء بهم ، أن حجة الأب داحضة من وجوه لمن تأملها يطول شرحها فصلاً فصلاً ، و ما ذكره الزوج مقبول لأنه المنقول والمعقول لا سيما بعد وقوع الدخول ، وغن سلم ما أشرتم إليه من فساد النكاح بالشرط وفيه نظر وتأمل ، وفيه يقع تحقيق النظر هل يمضي النكاح بالمسمى أو بصداق المثل ، فإنما قصد الأب لزوم الطلاق والصداق والنفقة ، و ما قصده نظيره ما أوجب به مفتي قرطبة ابن تمام في كتاب الشفعة لما فهم منه النفقة والتحيل ، فعامله بنقيض مقصوده ، فإن هذا من حيل الفجار الشفعة واجبة فأنصف لما بلغه كلامه ، وأذعن للحق ورجع إليه ، نصَّ عليها في المدارك وابن العطار والمتيطي رزقنا الله اتباعهم .
[إذا اختلف الزوجان في التسمية والتفويض]
(1/67)
________________________________________
*و سئل : سيدي قاسم العقباني عن اختلاف الزوجين في التسمية والتفويض .
=فأجاب : القول قول مدعي التفويض ، إلا أن يكون عرفهم التسمية أو تغلب التسمية ، فيترجح قول من ادعاها فيما اختاره بعض الشيوخ و هو الظاهر ، ومن دعا إلى الفرض أجيب إليه و لو لم تكن المرأة ممن يبني بها ، ومن فوائد الفرض التنصيف و الله أعلم .
قلت : ومن فوائده أيضًا وجوب جمعيه بالموت .
[كثير الإيمان بالطلاق ليس بكفء]
*و سئل : عن كثير الإيمان بالطلاق اللازمة هل هو كُفْءٌ أم لا ؟
=فأجاب : ما ذكره السائل من أن الذي زوجه الأب كثير الإيمان بالطلاق ، والإيمان اللازمة عيب يوجب للزوجة ولمن قام لها فسخ هذا النكاح لذلك ، و قد شاهدت قضاء مولاي الوالد بذلك في بكر زوجها أبوها وكان حائكًا ابن حجام فلم[57/3]يرضَ أخوها وكان من طلبة صنيعة أبيه ، واحتج عند القاضي بعدم الكفاءة فلم يقبل منه ذلك ، فقبله مولاي الوالد وفرق بينهما بسب ذلك ، وكذلك ما ذكره من تعديه في الأموال واستغرقت ذمته بالحرام ، و لم يتأت القضاء عليه بالإنفاق ، ولزم أن تكون معه تحت ضيعة ، و هذا من أعظم الضرر ، فلا يترك الأب من تزويجها حيث تضيع ويفسخ نكاحها ، فهذان وجهان آخران من وجوه الفسخ مما أوجب الفسخ ، و قد تكون وجوه أخر لا توجب ما أوجبه هذا من الفسخ و الله الموفق .
(1/68)
________________________________________
=و أجاب : أيضًا عن مسألة وهي من معنى ما تقدم فقال : ولدي الأعزّ علي ، الأحب إليَّ ، فلان حفظه الله وكان له ، وزكَّى قوله وعمله : مسألة إنكاح الفاسق بالجوارح و ما ذكره من العلماء في ذلك ، أنتم الحمد لله تقومون عليه وتستحضرونه أكمل حضور ، والتعرض لما أشار إليه السؤال أمرٌ عسير ، وموقع في خطر كبير ، وتغيير المنكر إن أدى إلى منكر أعظم منه ، يسقط وجوب الأمر به أو يحرم ، ونحن نميل في هذا الزمان لما مال إليه من قال من الشيوخ لو أخذ بهذا فسخت أكثر الأنكحة ، يشير بهذا إلى قلة من يخلو عن الفسق بالجوارح ، ولولا ستر مولانا الكريم الحليم ، لكاد الوصف يعم ، ولكن الغافر الغفور الغفار يغفر ويعفو ، و لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا . اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا ، والسلام عليكم من كاتبه عبد الله قاسم بن سعيد بن محمد العقباني لطف الله به ، و في آخر شهر الله المحرم من عام واحد وخمسين وثمانمائة . و قال أيضًا رضي الله عنه : و أما قول السائل إن الشهود بفسق الرجل مائة أو يزيدون ، فهل تشترط فيهم العدالة ويعذر فيهم أولاً ، فاعلم أن أهل الأصول اختلفوا هل يشترط في التواتر عدد مخصوص ، أو إنما ضابط ذلك ما يحصل العلم دون التفات إلى خاص من العدد ، و هذا القول الراجح عندهم ، ثم اختلف القائلون بالعدد على أقوال كثيرة : خمسة وستة واثنا عشر وعشرون وأربعون وسبعون وثلاثمائة وثلاثة عشر وأربعة عشر فمن راعى العدد فواضح ما يجري عليه .[58/3]ومن لم يراعه اعتبر الضابط فما حصل العلم كان تواترًا وخرج عن باب الشهادة ، و لم يلاحظ فيه العدالة في الأصحّ و لا إعذار فيما خرج عن الشهادة ، وظاهر كلام أهل أصول الفقه أن الراجح فيه عدم اشتراط الإسلام فضلاً عن العدالة ، وشرط قوم ذلك لكنه خلاف الراجح عندهم .
[من كان معروفًا بالإيمان بالطلاق والحرام وزعم أنه كان يزني بزوجته ، وعقد عليها بدون استبراء]
(1/69)
________________________________________
*و سئل : فقهاء بجاية رحمهم الله عن رجل معروف بالإيمان بالطلاق والحرام والحنث بذلك ، أظهر التوبة والإنابة ، وزعم أنه كان يزني بزوجته ، وأنه عقد عليها دون استبراء من ذلك الماء ، وأتى مستفتيًا ، هل يصدق أم لا ؟
=فأجاب : أبو زيد سيدي عبد الرحمن الواغليسي لا يقبل قوله و لا تجوز مساعدته على ذلك .
=و أجاب : سيدي علي بن عثمان إن جاء مستفتيًا وظهر منه الخير ، و قد وقع بينهم الوطء قبل النكاح وعقد من غير استبراء لم يلزمه ما حلف به .
=و أجاب : سيدي أبو القاسم المشدالي أن الذي يظهر لي وأعول عليه ، أن يصدق إذ هو مستفت حقيقة ، والذي قاله الأخ الفقيه أبو الحسن علي بن عثمان هو الحق عندي و الله أعلم ، لتعبيره بالوطء الذي هو مغيب الحشفة ، و هو الذي أرويه عن شيخنا أبي زيد رحمه الله ؛ لأنه الذي يوجب الأحكام كلها من كمال الصداق وإيجاب العدة والاستبراء ، وحكم المستفتي عند ابن رشد وغيره التصديق انتهى .
قيل : لسيدي أبي القاسم المذكور تقييد قولكم بالوطء الذي هو مغيب الحشفة إلى قولكم إيجاب العدة والاستبراء ، يظهر منه و الله أعلم أن ما دون ذلك لا يوجب عدة و لا استبراء ، وينبني على ذلك صحة النكاح المذكور ، ولزوم الطلاق بالإيمان المذكورة ، ويعارض ذلك ظواهر .
=فأجاب : الذي عندي في ذلك أن الصورة التي ذكرتم أن المستفتي[59/3]يصدق في فساد نكاحه إن اعترف بما لا ينعقد النكاح معه و هو مغيب الحشفة ، و ما دون ذلك هو معروف بصحة النكاح فيلحقه الطلاق ، و لا يقرّ على نكاحه لأجل العدة والاستبراء بما ذكرتم من حسم الذريعة وحفظ النسب ، فلا تعارض بين وجوب العدة والاستبراء ولحوق لطلاق احتياطًا في الطرفين ، و هذا هو الفقه ، و هو الذي أرويه عمن ذكرناه أولاً مفصلاً ، وظهور الخير ليس بشرط و الله أعلم .
[من عضل ابنته فزوجها عليه القاضي]
*و سئل : فقهاء فاس وكتب لهم بالنازلة قاضي تازى أبو الأصبغ عيسى بن محمد الترجالي رحمه الله .
(1/70)
________________________________________
ونصَّ السؤال الملقى بخطه رحمه الله : وأسلم على الشيخ الأجل المقرئ الصالح الأكمل ، أبي الضياء مصباح ابن الشيخ الصالح أبي عبد الله اليالصوتي وصل الله كرامته ، وأدام سعادته وأعرفه –عرفه اله الخيرات ، وأولى لديه عميم الميراث- أني كنت مدة ثلاث سنين حكمت على رجل من أهل تازى بأن زوجت عليه ابنته لموجب أفسره لكم في هذا الكتاب ، وذلك أن ابنته البكر رفعت إلى أن أباها يضربها بسبب تهمتها بالزنى ، فجلدها من ظهر جمعة إلى أقرب العشاء مكشوفة العورة ، وجعل عليها قرمة ، وحلق شعرها وألبسها التليس وصار يبصق في وجهها أي وقت رآها وطرحها وصار يجوعها ويطعمها ما لا تعتاد ، وبعث إلى القوابل ينظرن عورتها فصار ينظر في فرجها معهم ، ويتواعدها ويهددها بالقتل ، واتصل ذلك من فعله إلى أن وجدت فلتة ففرت بنفسها ، وأنه عضلها عن أكثر من أربعة من الخطاب ، وأن ابن الترجمان خطبها ورضيت بإنكاحه و هو كفء لها ، وأن والدها امتنع من إعطائها له ، وسألت مني النظر في مسألتها بالوجه الشرعي ، فكلفتها إثبات دعواها فاسترعت بشهود من البلد أكثرهم بالمباشرة لبعض الضرر ، وبعضهم بالسماع الفاشي المنتشر في البلد ، وزادوا مع ذلك من وجوه الضرر أنه يتحدث مع كل من يرى ويلقى من الناس بحديث زناها ، و أنها ولدت من زنى ويجتمع[60/3]عليه حين حديثه الناس لخفة عقله ، وأن الناس رغبوا عن خطبتها وفروا بسبب ذلك ، وألبسها ثناء سوء عند رجال أهل البلد ونسائهم ، وشهد مع ذلك بعض العارفين بحاله وحالها أن نكاحها صلاح وسداد في حقها لإنقاذها من عذابه ، وكونها لا يؤمن عليها مزيد فساد ، وهي راغبة في النكاح وطالبة له ، وشهدوا بكفاءة الخاطب في الحال والمآل ، فأثبت ذلك كله عندي في عقد صرّح فيه بأسماء الشهود ، فأعذرت في ذلك كله إلى الوالد وعرفته بما عولت عليه وقبلته من شهودها ، فأبحت له الدفع فيه وأجلبته في ذلك أجلاً ثم أجلاً وسجنته في خلال ذلك ، وأعلمته أنه لا
(1/71)
________________________________________
محالة له في هذا الباب ، وأن لا يوكل من ينوب عنه في الدف ، تُطلب الحضور بين يدي فأحضرت جمعًا من طلبة البلد كما حضر والدها في خلال الأجل والأعذار و قال لي بمحضرهم عجزت عن الدفع فافعل ما تراه وشهد عليه برسم ، ثم إن الحاضرين رغبوه في تولي العقد فقال إنه حلف بالطلاق ألا يعقده ، وأخبرني بيمينه عدل كان حاضرًا له ، و هو مع ذلك يقول ما تفعله هو ذلك و لا تحتاج لأحد ، فقال في محضر الفقهاء افعل ما تراه ليس لي مقال حجة ، فقلت للحاضرين امضوا كما أنتم للفقيه المقرئ أبي محمد عبد الله البطوئي -وكان به يومئذٍ يسير مرض ، فاعرضوا عليه القضية ، فإن رأى عقد النكاح عليها وأفتى به ، فأعلموني لأعقده فرغبت والدها في أن يمشي إليه و هو يقول ما تفعله هو ذلك و لا تحتاج لأحد : فقلت : له لا بدّ أن يفتي هذا المفتي وحينئذٍ تطيب نفسك ، فمضوا إلى المفتي فوجدوا عنده استفاضة الضرر ، و قال لهم إنكاحها صلاح وسداد ، لما ثبت من الضرر والعضل وأفتى بذلك ، فرجعوا عنه وكانوا ستة من خيار الطلبة ، فكلفتهم عقدًا بما أشار به هذا المفتي ، فكتبوه وشهدوا فيه ، و هو مع ذلك حاضر يردد قوله الأول ، فنظرت في موجب الحكم فألفيت الضرر والعضل ، وألفيت النص في أن كل واحد منهما كافٍ في سقوط نظره عنها وإنكاح القاضي لها ، فأظهر من يجوز كلامه من إسناد النظر إلى بعد العجز ، وأضفت إليها رواية البغداديين التي نص عليها الجلاب وغيره في غير ما ديوان ، أن الثيب من زنى يسقط إجبار الأب إياها على النكاح ، وهي و والدها معترفان بذلك ، ثم إني بعثت إليها خيار الشهود فقالت لهم إني راغبة[61/3]في النكاح وطالبة له ، و لا لي زوج غير هذا الذي خطبني الآن ، و لا أرضى إلا به ، وأضفت أيضًا على ذلك ما نص عليه من أن البنت إذا طلبت من أبيها أن يزوجها وجب عليه إنكاحها ، و ما ذكروا فيمن له بنتان صالحة وطالحة ، ورأيت أنه لما سقط عنها نظر أبيها وصار النظر إليّ ورغبت في
(1/72)
________________________________________
النكاح ، وجب عليّ إنكاحها ، ويؤيد ما يخاف عليها من الفساد ، إذ هي موصوفة به ، وفعلته مع كونها في حرز وحفظ من دار أبيها ، فكيف بها وهي موقوفة على نكاحها بمحضر الطلبة ، وأشهدت على نفسي وبينت في حال الإشهاد أنه مبني على جميع هذه الأركان ، وكتبت ذلك في سجل كبير صرح فيه بأسماء الشهود الذين شهدوا بالموجبات وبنينا الحكم على هذه الأسباب ، ودخل الزوج بها ، ثم إن والدها تشكى على مولانا السلطان أيده الله تعالى بنصره ، فبعثت عقد الحكم إلى الفقيه اليزناسني أعزه الله ونفع به ، فكتب بيده تحت سجل الحكم أنه صحيح جار على الكتاب والسنة ، وربما أشار فيها أظن أنه لا يحتاج إلى رواية البغداديين ، وأن ثبوت الضرر والعضل كاف في الحكم ، وطالعه الفقيه أبو عبد الله السطي وغيره من الفقهاء ، و وقع فيه مجلس بحضرة المولى أن ذلك الرجل يعرف حاله وانفصلت المسألة . وكان أيضًا وقف على ذلك الحكم بالأمر العلي فقهاء تازا الفقيه أبو عبد الله بن عطية مع عبد الله بن عمر المفتي أولاً ، وعبد الواحد بن أبي زيد الوادي وغيرهم ، فلم يجدوا بابًا للفسخ .
(1/73)
________________________________________
ولما ورد جواب اليزناسني و وقف عليه والدها ، أشهد على نفسه بإسقاط حقه وطيب نفسه ، وكتب ذلك عليه في رسم وبقيت الزوجة مع زوجها إلى الآن ، ثم إن والدها قام الآن وكتب لكم سؤالا محرفًا لم يذكر فيه ثبوت العضل ، و لا ثبوت الضرر ، و لا أني حكمت مستندًا لتلك الأركان المنصوصة ، فأفتيتموه رضي الله عنكم بأن النكاح يفسخن وجاء أيضًا متشكيًا للمولى نصره الله ، فوعده برجوعي من الزكاة ويعيد له مجلسًا يجمع فيه الطلبة معي ، وتعلمون رضي الله عنكم أن أبا الوليد بن رشد قال في البيان إن القاضي إذا[62/3]قلد قول قائل وحكم به لا ينقصه لتقليد قول آخر ، وأنه لا يرجع من تقليد إلى تقليد ، وإنما يرجع من اجتهاد إلى اجتهاد ، و هذا الحكم مستند لنص ابن الجلاب الذي فيه الخلاف ، والعضل الذي هو نص المدونة وغيرها ، وإلى الضرر الذي هو أيضًا منصوص ، وكل واحد من هذه كاف في الحكم ، و قد اشتدت بعض الأركان ببعض ، وانظروا رحمكم الله ذلك بنظركم السديد ، فإن رأيتم ثبوت النكاح فصرحوا بالجواب في صدر هذا الكتاب ، لئلا يحرم فرج حلال بكذبه في سؤاله ، واستحالة المسألة على خلاف ما وقعت عليه ، وهل يلزمه الأدب في كذبه في السؤال وبتلبيسه عليكم أم لا ؟ و إن رأيتم فسخ النكاح فبينوا لنا وجهه ليرجع إليه ويعمل عليه ، و الله يوفق الجميع بمنه والسلام عليكم من محبكم عيسى بن محمد الترجالي ورحمة الله تعالى وبركاته .
(1/74)
________________________________________
=فأجاب : الفقيه أبو الضياء سيدي مصباح : أكرمكم الله ، تصفحت سؤالكم و وقفت على الأركان التي بنيتم عليها الحكم في القضية المذكورة ، فتبين لي أنكم أهملتم من الركن الأول الذي هو العضل و هو العمدة في بناء حكمكم التقدم إلى والد البنت المذكورة في إنكاحها هو وإلا زوجتموها عليه ، إذ لا ترفع ولاية الأب في عضل ابنته البكر حتى يتقدم إليه فيها فيقال له : إما أن تزوجها وإلا زوجناها عليك على ما نص عليه مالك في المدونة : وعلى أنه لو تقدمتم إليه في ذلك لكان له عذر في امتناعه من نكاحها من الخاطب المذكور ، لما ثبت عنده أنه اغتال ابنته المذكورة وتحيّل في خروجها من منزل أبيها حتى تحصلت في منزل أبيه وغاب عليها فيه ، وكذلك الركن الثاني هو من معنى الأول لا ترتفع ولاية الأب عن ابنته البكر بنفس ضرره بها حتى يتقدم له فيها ، والرابع من ذلكن و أما الثالث و هو ما ذكره ابن الجلاب أن الثيب بالزنى كالثيب بالنكاح ، فإنما يصحَّ بذلك الثيوبة بولادة أو بمعاينة بينة أو باعتراف الأب مذكور على نفسه بذلك ، وإذا ثبت ذلك سقط الإجبار وكان –أعني الأب المذكور أولى بإنكاحها بإذنها على ذلك المذهب ، واختلف إذا زوجها غيره من الأولياء الخاصين على ما وقع مسطورًا في المدونة ، وأغفلتم[63/3]في حكمكم أيضًا أن يكون تزويجكم للبنت المذكورة بعد الاستبراء من يوم زنت على مضمن إقرارها ، و أما إشهاد الأب المذكور على نفسه بعد وقوفه على فتيا الفقيه الجليل أبي إسحاق اليزناسني حقه فلا ينفع ؛ لأنه إن ثبت أن تزويجكم للبنت المذكورة كان من غير ثبوت الموجبات ففسخ النكاح المذكور لحق الله تعالى على ما وصلكم من الجواب قبل هذا ، وحق الله تعالى لا يسقط بإسقاط آدمي ، فقد بان بهذا كله جوركم على والد البنت ، وبأن أيضًا أنكم صرتم له خصماء من فحوى كلامكم ، ومن قرائن أحوالكم ، ومن رسوم وقفنا عليها بيده ، فلا يقبل قولكم عليه : صحَّ وثبت عندي ، والواجب في
(1/75)
________________________________________
القضية رفع أيديكم منها وعزلكم عنها ، واستئناف النظر فيها عند غيركم ممن يراه السلطان نصر الله أهلاً لذلك ، و قد قال الشيخ أبو القاسم بن الجلاب رحمه الله إذا ذكر الحاكم أنه حكم(1).
=و أجاب : الفقيه أبو فارس سيدي عبد العزيز بن محمد القيرواني أكرمكم الله وإيانا بطاعته ، قد تصفحت ما رستم فوقه من ذكر المسألة المعضلة التي لم يتوهم بقاؤها إلى الآن ، و ما وقع فيها من الأمر الشنيع ، والفعل القبيح ، فرأينا فيما احتوت عليه وجوهًا اقتضت كلها فساد النكاح ، وجريانه على غير سنن الشريعة ، ودلت على الانحراف عنها .
منها عزل الأب من ولاية ابنته البكر الثابتة له عليها ؛ لأنه ليس للإمام أن يزوجها إذا ثبت عضله لها وإضراره بذلك حتى يقول له : إما أن تزوج وإلا زوجناها عليك كما نص عليه مالك في المدونة ، فكيف و قد ذكرتم أن بيده عقدًا يتضمن نفي عضله إياها .
ومنها : أن شهود الإضرار الذين نسب إليهم العلم بذلك ، قد أنكروا أن تكون لهم بذلك شهادة ، فهم أولى بشهادتهم إذا لم تكن عليهم بينة على أدائها عن القاضي .
[64/3]ومنها : عدم الإعذار لوالدها في البينة التي تضمنت شهادتها سقوط إجبار الأب عليها ، إذا لم يؤجله فيها إلا يومًا أو يومين ، و هذا الأجل لا يكتفي به في غير هذه النازلة ، فكيف بهذه ، فهو في حكم من لم يعذر له في الحكم ، والإعذار في الحكم لازم لا يتم إلا به ، وإلا فهو كلا حكم ، مع أنه كان في الأيام التي ندب القاضي إلى ترك الجلوس فيها للفصل بين الناس لتعذر جلب البينات فيها على الناس ، فكيف بهذا في السجن وكان سجنه في هذا الحال ظلمًا عليه وَحَيْفًا ، إذ هو طالب لا مطلوب .
__________
(1) - كذا في سائر النسخ التي وقفنا عليها ، والمعنى لا يستقيم معها . فلعل هنا سقطًا .
(1/76)
________________________________________
ومنها : تزويجه إياها قبل الاستبراء إذ لم يمضِ إقرارها بالزنى ما تكون فيه مستبرأة ، و ما توهم أن إقرارها بالزنى مسقط لإجبار أبيها على قول ، فلا يسقط إلا بعد ثبوته على ذلك القول بما يثبت به لا بإقرارها .
فتلخص من هذا أنه لا يجب المبادرة إلى فسخ هذا النكاح الذي ظهر فساده لوهاء أركانه الأربعة التي بني عليها ، مع كونه في زمن الاستبراء الذي هو من حقّ الله تعالى إن لم يثبت استبراؤها ، ويتعين ذلك على من جعل له النظر في النازلة المذكورة من غير تراخ و لا توان ، و الله الموفق للصواب بفضله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وكتب عبد العزيز بن محمد القيرواني وفقه الله .
(1/77)
________________________________________
=و أجاب الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم : الحمد لله وحده أكرمكم الله تعالى بطاعته ، وأمدكم بمعونته ، الجواب أن حكم القاضي المذكور يجب نقضه لما لم يثبت الضرر والعضل والثيوبة ، إذ لا تثبت ثيوبة بالزنى بإقرار البنت بالنظر إلى سقوط إجبار الأب عنها ؛ لأنها تتهم في ذلك أنها إنما أقرت بذلك ليسقط إجبار الأب عنها لتتوصل إلى نكاح من تريد ، حتى لو صدقت في ذلك لوجب نقضه أيضًا وفسخ النكاح ؛ لأنها رجعت عن إقرارها بالزنى بالعدول قبل أن يزوجها القاضي من الرجل المذكور ، و في رجوعها عن ذلك إقرار بثبوت الإجبار عليها ، ومما يجب به الفسخ أيضًا ، كونه زوجها منه دون استبراء ، إذ الاستبراء واجب عليها لإقرارها بالزنى ، و لا تصدق بالرجوع عن الإقرار بالزنى إلا في سقوط الحدّ ، للحديث : «ادرءوا الحدود بالشبهات» ، و لا تصدق في سقوط الاستبراء لما فيه من حق الله[65/3]تعالى ، وإذا كان الاستبراء واجبًا عليها وجب فسخ النكاح بلا خلاف ، وإنما الخلاف في تأبيد التحريم على ما هو مسطور في الأمهات . ومما يوجب فسخ النكاح أيضًا كون الزوج المذكور اعترف بمحضر القاضي المتعقب للحكم وبعض من حضر مجلسه ، أنه ألقاها بكرًا قائمة العذرة ليلة دخوله بها ؛ لأنه كذب حكم القاضي الذي بناه على ثبوت الزنى في سقوط الإجبار .
(1/78)
________________________________________
وبالجملة : إنه لا خفاء بفساد هذا النكاح و وجوب فسخه ، وإذا كان الحكم فيه الفسخ ، فإنه يجب على القاضي المتعقب للحكم أن يفسخه لكونه ابتدأ النظر في المسألة ، فيجب عليه تمامه و لا يرفع إلى غيره ، و إن توقف في الحكم من كونه صار شاهدًا على الزوج بقيام العذرة و لا يحكم بعلمه ، فلا ينبغي له أن يتوقف في ذلك إذا وجب فسخه من الوجوه المذكورة آنفًا ، نعم لو لم يجب فسخه إلا من هذا الوجه الذي صار القاضي فيه شاهدًا و لم يستقل الإقرار لغيره ممن حضر مجلسه ، لوجب عليه أن يرفع شهادته إلى غيره ، وإذا رفع شهادته إلى غيره تعين أن يكون الغير الفقيه المكرم أبا عبد الله بن عطية ، لكونه قدمه السلطان أيد الله ونصره على النظر في المسألة ، خصوصًا وقيل التقديم ونظر فيه ، وليس له أن يأبى بعد القبول والنظر فيه ، كما قالوا في الوكيل إنه ليس له عزل نفسه بعد أن قاعد خصمه مرارًا عند القاضي ، و الله الموفق ، وكتب محمد بن عبد الكريم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
=و أجاب : الفقيه الصالح أبو سالم إبراهيم بن عبد الله اليزناسني أكرمكم الله ، سؤال الزوج هل دخل بالزوجة وهي بكر أو ثيب ، لا فائدة له ؛ لأن كلا الأمرين غير مسقط للإجبار ؛ لأن الثيوبة إن كانت من فاحشة فهي لا تسقط الإجبار على المذهب ، و أما كون القاضي يقول : أنا شاهد ، فلم يقم للشهادة بل للأحكام ، فإن كان معه من يشهد غيره وكمل نِصاب الشهادة فليحكم ، و إن كان إنما يكمل به فليحكم الغير ، ويكون الحاكم من أقيم للمسألة و هو الفقيه أبو عبد الله بن عطية الذي قدمه السلطان أيده الله ونصره على الحق وأعانه عليه ، و هذا لا خفاء به و الله الموفق ، و ما منعنا من كتب الاسم إلا أنا لم نقل شيئًا ؛ لأن السؤال لا يحتاج على جواب ، والمجيب أسوأ حالاً من السائل ، وكتب براءة بخطه و هذا نصها :
[
(1/79)
________________________________________
66/3]الحمد لله وحده أكرم الله تعالى الفقيه أبا عبد الله محمد ابن الشيخ المرحوم أبي العباس بن عطية بتقواه ، وصرفه من العمل فيما يرضاه ، وذلكم أعزكم الله بطاعته ، أن إبراهيم بن العنبكي رغب إلي في الكتب في حقه إليكم ، وذكر أن بيده ظهيرًا بأنكم تحكموا (كذا) في مسألته مع ابن الترجمان ، والمسألة ظاهرة بما جرى فيها من سؤال وجواب ، و لم يبقَ إلا الحكم بما يقتضيه الشرع ، و لا كتبنا له إلا تأكيدًا لما علمنا من فضلكم ودينكم ، و لا يخيل عليكم بالباطل ، فإنا نعلم أنكم ممن لا يخدع ، فاحكم وأنت مأجور مشكور ، وكتب بذلك مريد الخير إليكم محبكم إبراهيم اليزناسني .
نسخة سؤال آخر في المسألة بعد موت القاضي الترجالي رحمه الله نصّه :
الحمد لله وحده سيدي رضي الله عنكم ، جوابكم في مسألة وهي أن قاضيًا كان زوج على رجل ابنته البكر في حجره ، لِزعمه أنه ثبت عنده ضرر الأب لها وعضله إياها عن النكاح ، و أنها ثيب من زنى في رسم استرعاء ، وأنه أعذر للأب المذكور في حل الرسم المذكور فعجز عن ذلك ، ثم توفي القاضي المذكور و ولي بعده قاض آخر ، فقام الأب المذكور يطلب فسخ هذا النكاح ، وزعم أن الضرب والعضل وسائر فصول رسم الاسترعاء المذكور لم نثبت عليه ، وأن عنده بينة تشهد على اعتراف الزوج المذكور الذي زوجها منه القاضي المذكور ، أنه وجد البنت المذكور بكرًا عذراء ، فهل يجب فسخ هذا النكاح بتقدير إثبات الأب ما يناقض فصول رسم الاسترعاء الذي زوجها به القاضي المذكور على كل من يقدر على فسخه أم لا ، فبينوا لنا ذلك مشكورين مأجورين والسلام الأتم ورحمة الله تعالى وبركاته .
(1/80)
________________________________________
=فأجاب : عنه الفقيه أبو سالم اليزناسني أكرمكم الله ، قال مالك : و لا يتعرض من ولي قضاء من قبله إلا في الجور البيّن ، و قد ثبت جوره بما اقتضاه السؤال من ثبوت ذلك . و قال أيضًا قبل ذلك إلا أن يرى الذي ولي بعده جورًا بيّنًا ، فإنه يرد الحكم ، و هذا واجب على الذي ولي إذا علم الجور و الله[67/3]الموفق . وكتب إبراهيم بن عبد الله اليزناسني وكذلك يجب الفسخ عند ثبوت الجور على كل من له قدرة على فسخه ، و هذا من تغيير المنكر الواجب على من له قدرة أن يغيره انتهى .
=و أجاب : أبو الربيع سليمان بن عبدون السريفي حفظكم الله إذا أثبت الأب ما ينحل به مستند القاضي في تزويجه الابنة المذكورة على وجه يوجب تجوير القاضي المتولي لذلك ، وجب على من ولي بعده التعرض لفسخ ذلك النكاح والمبادرة لذلك ، و لا يحل له تركه ، إذ هو نكاح بغير ولي ، و قد ثبت من حال القضية واشتهر اشتهارًا أفاد العلم متلقي ذلك ما لا يكاد يثبت له قلب مسلم ، ويجب على كل من له قدرة على تغيير المنكر ، التعرض لهذا الداهية بفسخها إن جعل له ذلك ، أو بإنهائها إلى من لا يخاف إلا الله ويرجو عظيم ثوابها و هو السلطان أيده الله ونصره ، وأصلح ظاهره وباطنه ، وبالله تعالى التوفيق ، وكتب سليمان بن عبدون والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
=و أجاب : الفقيه أبو عبد الله بن عبد الكريم : الحمد لله وحده الجواب أنه إذا أثبت الأب ما يناقض ما قضى به القاضي من تزويج البنت المذكورة ، وجب على من ولي بعده فسخ النكاح المذكور ، لتبين الجور في الحكم به ، و هو من باب تغيير المنكر الذي يجب على كل من له قدرة أن يغيره ، وكتب محمد بن عبد الكريم لطف الله به .
(1/81)
________________________________________
نسخة سؤال آخر : سيدي رضي الله عنكم ، جوابكم في مسألة وهي أن قاضيًا كان زوج على رجل ابنته البكر في حجره من رجل معين كان الأب يشتكي به أنه يخيب ابنته فامتنع الأب من إنكاحه إياها لما ذكر عنه واشتهر من تخييبه إياها إذ كان جارًا للأب ، وزعم القاضي المذكور أنه ثبت عنده ضرر الأب لها وعضله إياها عن النكاح ، و أنها ثيب من زنى في رسم استرعاء ، فجلس القاضي في المسجد في أيام العيد و قال للرجل زوج ابنتك من فلان ، فإنه ثبت عندي في الفصول المذكورة ، وأثبت عندي أنه كفء لها ، فقال له والد البنت المذكورة أنا أزوجها من كل أحد إلا منه ، فلما سمع منه ذلك ضربه[68/3]وسجنه ، فقال له خذ مني حميلاً ، فقال هذا لا يؤخذ فيه حميل ، و لم يمكنه من نسخه رسم و لا من غيره ، فبقي الرجل في السجن يومين ، وذكر أنه أعذر للأب المذكور في حلّ الرسم وأجله أجلين ، وأعذر له في ذلك كله وعجزه ، وزوجها من الرجل الذي امتنع الأب من تزويجه إياها ، ثم توفي القاضي المذكور و ولي بعده قاضٍ آخر فقام الأب المذكور يطلب فسخ هذا النكاح ، وزعم أن الضرر والعضل وسائر فصول الاسترعاء المذكور لم تثبت عليه في رسوم بيده ، وأن عنده بينة تشهد على اعتراف الزوج الذي زوجها منه القاضي المذكور أنه وجد البنت المذكورة بكرًا عذراء ، فهل يجب فسخ هذا النكاح بتقدير إثبات الأب ما يناقض فصول رسم الاسترعاء الذي زوّجها به القاضي المذكور على كل من يقدر على فسخه أم لا ؟ هذا مع أن القاضي الثاني لم يفسخ النكاح المذكور ، فبينوا لنا ذلك مأجورين مشكورين والسلام عليكم ورحمة اله تعالى وبركاته .
(1/82)
________________________________________
وبقي يا سيدي شكه في حكمه بعد وقوعه ، وسؤاله فيه لبعض الفقهاء أعزهم الله ، وسأل منهم تصفح السؤال ويكتبوا له بصحة الحكم فيمضيه ، أو بفساده فيفسخه ، إذ لو بناه على حقيقته لم يسعه السؤال فيه و لا يكون له فسخ ، فيظهر من هذا كله أنَّ لك الحكم وقع على غير أساس ، إما لخطأ الحاكم أو لغرض تتبع فيه ، فالله أعلم أي كان ، و قد تبين هذا للفقهاء أعزهم الله وجاوبوا عليه بما فيه ، كفاية وزيادة ، وإنما المسألة أولاً بنيت على ميل و لم يفارقها و الله سبحانه أعلم بالسرائر وناصر الحق و لو بعد حين ، ومعيدًا التحية عليكم والبركة .
=و أجاب : سيدي مصباح أكرمكم الله تعالى إذا كان الأمر على ما ذكرتموه ، وجب على القاضي الثاني أن ينظر في قضية الرج المذكور وليس له أن يأبى من ذلك ، فإن حكم القاضي الميت إن كان بناه على غير نص الشريعة ، بل على اتباع الغرر والهوى كما أشرتم إليه ، فإن ذلك من المنكر الذي يجب تغييره على كل من نصب للأحكام الشرعية ، و وجه الحكم في ذلك أن يعذر من جعل له[69/3]النظر في القضية إلى زوج البنت المذكورة ، فإن أثبت الآن عضل الأب المذكور لابنته المذكورة عن النكاح ، بأن خطبها له عدد من الرجال من أكفائه و لم يزوجها منهم وضر بها ، أقره عليه بعد الإعذار إلى أبيها ، و إن عجز أعني زوج البنت المذكورة عن ذلك ، فسخ نكاحه لحق الله تعالى ؛ لأنه نكاح عقده غير ولي ، إذ لا ولاية لأحد مع الأب في ابنته البكر ، فإن نظر في ذلك هذا القاضي الثاني ، فذلك أعظم في أجره ، وذلك الواجب عليه ، وإلا رفع الأمر لمن له سلطان الحكم نصره الله ، وأقام فقيهًا فاضلاً لا تأخذه في الله لومة لائم ، ينظر في القضية المذكورة ويفصلها بما يجب ، وبالله تعالى التوفيق ، وكتب مصباح بن محمد بن عبد الله اليالصوتي والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
(1/83)
________________________________________
وكذلك ذكر من تصفح هذا الحكم المذكور و قال : إنه وقع فيما حكم به الترجالي في مسألة البكر التي زوجها بغير رضا أبيها بشهادة عدلين من المبرزين أنهما شهدا بالعضل لها عن جماعة من الخطّاب ، وشهد معهما شهود كثيرة ، أكثرهم شهدوا على الضرر بالسماع الفاشي ، وبعضهم بأن الخاطب كفء لها ، وبعضهم جمع بين الأمرين ، و وقع فيه أيضًا أنه أعز إلى أبيها في سبعة من الشهود المذكورين فيه وسماهم بأسمائهم ، و وقع في هذه المسألة نزاع عظيم وأمور هائلة ، حتى انتهت إلى الخليفة أيّده الله ونصره ، وأمر بظهير أن يكتب إلى بعض الفقهاء أن ينظروا فيها بواجب الشرع ومقتضاه ، فنظروا فيها نظرًا خفيفًا مع الترجالي ، ثم تركوا النظر فيها ، ثم تشكّى أبوها مرة أخرى إلى الخليفة ، ورفع أمره أيضًا إلى فقهاء المغرب ، فجاوبوا فيها بعضهم بجواب غير تام ، وبعضهم بجواب مجمل ، وبعضهم على تقدير العضل ، فكأنهم لم يصدقوا الحكم في ثبوته عنده ، و لم يعرجوا على العضل الذي هذا العمدة في الباب ، و هو الذي تبطل به ولاية الأب عن بنته البكر على ما نصَّ عليه مالك في المدونة ، و أما ما ذكر عنه من الضرر وحلق الضفائر ، والتهديد بالسكين ، والضرب لها ، فإن ذلك كله لا حكم له في رفع ولاية أبيها عنها ، إذ يجب عليه صيانتها وحفظها إذ خاف عليها ويضمها إليه على ما نصَّ عليه مالك في النكاح الأول فلا يتعلق بهذا الفصل حكم .
[
(1/84)
________________________________________
70/3]و أما إجازته شهادة السماع في ذلك ، فهي غفلة شديدة منه ، إذ لا تجوز شهادة السماع على القول بإجازتها ، إلا في الإخبار عن الأشياء التي لا تنتقل ، كالنسب والولاء و ما أشبه ذلك ، أو يقربها في يد المدعي مع طول الأزمان في ذلم بعد أن يحلف على ذلك ، إذا السماع لعله كان عن شاهد واحد ، كذلك قال ابن محرز : و أما أن تجوز شهادة السماع في المستقبل ويحكم بها في حقوق الأبدان ، فلم يوجد أحد من أهل المذهب يقول ذلك ، وإنما حازت في الضرر بين الزوجين ؛ لأنه يؤل إلى المال ، ولذلك تحلف مع شاهدها بالضرر وترجع على الزوج بما دفعت له . و أما من شهد بالكفاءة أو بالضرر أو بهما معًا ، فلا عبرة به ؛ لأن المعوَّل عليه في الباب إنما هو العضل ، و هو المنصوص عليه ، و ما سواه باطل ، و أما إعذاره في السبعة شهود من شهود الاسترعاء مع وجود الشاهدين المبرزين في العدالة ، فهو ريبة في الحكم ، لأنهما شهدا بالعضل الذي هو العمدة في الباب ؛ لأن الحكم إذا شهد عليه عدلان ، فقد استقل واستغنى بهما عن غيرهما ، وأنه أيضًا يجب عليه أن يعذر إليه فيهما من طريق العداروة ، إذ قد يكون ذلك في الصالح المبرز في الفضل والصلاح ، وكذلك قال أصبغ في كتاب ابن حبيب قال القاضي أبو الوليد بن رشدفي بيانه و هو تفسير لقول من أجمل القول في ذلك ، كسحنون في نوازله وغيره من أصحاب مالك . فإذا ثبت هذا ، فقد حكم عليه بغير إعذار ، والحكم بغير إعذار باطل على ما قاله أهل المذهب ، فإن أنكر هذان المبرزان هذه الشهادة ، وأنهما لم يشهدا بها قط عند هذا الحاكم ، فإن الأمر يرفع إلى الخليفة لينظر فيها ، كذلك قال ابن القاسم في المجموعة ، وتأوَّل اللخمي على ابن المواز أن الحكم منقوض بإنكارهما .
(1/85)
________________________________________
وأما ما ذكر عن بعض المبرزين أن أباها حُمل إلى موضع ذكر له أن ابنته فيه ترضع الولد الذي ولدته من زنى و لم يسمّ الشاهدين ، فإن ذلك ريبة منه ؛ لأن ابن المواز قال : كان مالك وأصحابه يقولون : إذا قال القاضي ثبت عندي شاهدان بحق على فلان ، فلا يقبلا عليه حتى يشهدا عليه بين يديه ويعرفه إياهما . ومن كتاب ابن المواز نقل ابن يونس هذا المعنى . و أما ما وقع من[71/3]جواب بعض الفقهاء أن ثبت ذلك وسواء بتَّ ذلك أو قال الجواب فقط ، فإن الحكم فيه سواء ؛ لأن المراد بالقسم الثاني هو القسم الأول . واستدلَّ بعض الفقهاء على ذلك بقوله صلى الله عليه و سلم : « خذي ما يكفيكِ أنتِ و ولدك » . قالوا فيه إطلاق بجواز الفتيا ، والمراد تعليقها بثبوت ما يقول الخصم ، قال الإمام المازري رحمه الله في الْمُعْلِم : "ولهذا لا يقول كثير من الناس المفتين إذا ثبت ذلك ويحرفونه اختصارًا ، ويدخل في هذا الحكم أيضًا شهادة الأبداد(1)قال ابن الهندي في النسخة الكبرى من وثائقه : وروي في شهادة الأبداد أنها لا تقبل إذا شهد كل واحد منهم بغير نص ما شهد به صاحبه ، إن كان معنى جميع شهادتهم واحدّا حتى يتفق منهم شاهدان على نصّ واحد ، فقد أبطل شهادة الأبداد في هذه الرواية و إن اتفقت في المعنى و ما يوجبه الحكم حتى يتفقا في اللفظ والمعنى و ما يوجبه الحكم . وفيه أيضًا معنى الدعائم ولذلك أعذر في السبعة مع وجود المبرزين ، فكأن النكاح لم يستقل بهما عنده حتى يدعمه عنده السبعة, و في مثل هذا قال أبو عمر الأشبيلي رحمه الله بالدعائم تستباح الدماء ، فيكون الحكم باطلاً من هذا الوجه و الله أعلم .
__________
(1) -الأبداد –بدالين مهملين وهم المتفرقون ، واحدهم بدّ من التبديد .
(1/86)
________________________________________
وأما ما كتب به الفقيه اليزناسني بأنه إذا فسخ نكاحه وإرادته ، زوجها منه الإمام ، إنما هذا فيمن تستأمر كالثيب والبكر التي لا أب لها ؛ و أما ذات الأب فليس ذلك للحاكم و لا لغيره ، فإن احتج محتج بأن إنكاح القاضي لها ، غايته أن يكون فاسدًا ، والنكاح الفاسد يرفع إجبار الأب لها على النكاح ، قيل لا نعلم إذا كان النكاح فاسدًا و وقع الدخول برفع الإجبار إذا زوّجها أبوها برضاه ، والفسخ إنما جاء بطريق الشرع فصار مغلوبًا على الفسخ ، و أما في مسألتنا ، فصار الأب مغلوبًا عليه وزُوِّجت بغير رضاه ، فكأنها لم تخرج من ولايته ، وحكم الحاكم إذا كان فاسدًا ، لا يخرج الشيء عن اصله ، و هذا موجود في المدونة وغيرها .
[
(1/87)
________________________________________
72/3]ومما يحتجُّ به أيضًا على أبيها أنه أقر أن ابنته زنت ، وأن الثيب بالزنى كالثيب بالنكاح على ما قال ابن الجلاب ، قيل له لعل الأب ذكر ذلك حكاية عنها و لم يصدقها ، كما قال في المدونة فيمن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ، فقالت قد دخلتها فكذبها ، ثم قالت : كنت كاذبة أو لم تقل ، فإنه يؤمر بفراقها و لا يقضى عليه به ، قال و لو صدقها أولاً ، لزمه الفراق بالقضاء ، و إن رجعت عن قولها فكذلك يلزم ههنا إن صدقها ارتفع إجباره ، و إن كذبها لم يرتفع إجباره . و قوله في المدونة زوجها الإمام مكانه إذا كان قبل الدخول ؛ لأنه لو دخل بها لم يزوجها منه إلا بعد ثلاث حيض ، ومما يحتج به الأب في هذه المسألة ، أنه لم يعذر إليه ، وأن الإعذار الذي كان إليه لا حكم له لندارته وقلّته ، وإنما يضرب الأجل لما يعذر إليه أجلٌ طويلٌ من لم يعذر إليه ، و هو من باب تكليف ما لا يطاق ، قال الله تعالى : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} ، فإذا خالف القاضي الحكم الشرعي لم يلزمه حكمه ، وصار كسائر الناس فلا عبرة بحكمه ، وأيضًا فإن الأب هو الذي عجّز نفسه قبل انصرام الأجل عليه ، وكان مسجونًا في غير حق ، وكان سجنه ظلمًا وحيفًا عليه ، إذ هو طالب لا مطلوب ، ومن عجّز نفسه فله القيام بعد ذلك بحجته . و أما إذا عجّزه القاضي بانصرام الأجل والتلوم بعدها عليه ، فلا قيام له بعد ذلك على ما ذكره ابن رشد في بيانه .
(1/88)
________________________________________
ونحوه لأشهب في المبسوطة ، و قد اختلف في الإعذار هل هو قبل الحكم أو بعده ، ففي ذلك قولان حكاهما صاحب المفيد ، وأيضًا فإن البينة التي زعم أنه حكم بها ، وبنى حكمه عليها ، وبيّنه في سجلِّهِ ، وذكر فيه العضل والضرر والثيوبة وأنه أعذر إليه في ذلك كله كما يجب في فصولٍ مذكورةٍ ، لما بُحث عن البيّنة المشار إليها ، وسُئلتْ عن جميع الفصول المذكورة في الرسم ، وجدَتْ شهادتهم خارجة عن ذلك كله ، و لم تشهد بشيء من فصول السجل المذكور ، فصار ذلك منها إنكارًا لتلك الشهادة ، فلم يبق إلا قول القاضي خاصة ، فإذا كان الأمر هكذا ، فقد قال اللخمي إذا أنكرت البيّنة أن تكون شهدت بتلك الشهادة كان فيها قولان ، هل يقبل قولها وينقض الحكم ، أو يمضي ويعدّ ذلك منها رجوعًا ، قال ابن[73/3]القاسم في المجموعة يرجع الأمر إلى السلطان ، فإن كان القاضي عدلاً لم ينقض قضاؤه ، وزاد ابن يونس إنكار الشهود أو ماتوا و إن لم يعرف بالعدل ، لم ينفذ ذلك وابتدأ السلطان النظر في المسألة ، قال اللخمي قال سحنون : و لا يرجع على الشهود بشيء .
(1/89)
________________________________________
و قال اللخمي : و قال محمد بن المواز في كتاب الرجوع عن الشهادة إذا قضى القاضي بشهادة عدلين على رجل بمائة دينار ثم أنكر الشاهدان وقالا : إنما شهدنا بالمائة للآخر المشهود عليه ، والقاضي على يقين أن الشهادة كانت على ما حكم به ، قال فعلى القاضي أن يغرم المائة للمحكوم عليه ؛ لأن الشهود شهدوا بخلاف قوله ، و لا يجوز للقاضي أن يرجع على المحكوم له ؛ لأنه نقض الحكم فيما بين الحاكم والمحكوم عليه ، وأغرمه المال برجوع البيّنة ، وقع في المدونة في التي زوّجها فأجازه الوليّ ، أن النكاح لا يجوز لأنه عقده غير ولي ، فرأى أن النكاح حق لله عزَّ وجلَّ فيفسخ على هذا و إن ولدت الأولاد وطال الزمان ؛ لأن الولي لا يسقط حق الله تعالى ، ولذلك قال مالك في كتاب السرقة من المدونة في السارق إذا لم يقم عليه حتى طال الزمان وحسنت حالا السارق ، ثم اعترف بذلك أو قامت عليه بيّنة ، فإنه يقطع ، وكذلك حدّ الخمر والزنى ، فرأى مالك رحمه الله أن حقَّ الله تعالى لا تسقطه التوبة و لا طول الزمان ، فعلى هذا يفسخ نكاح التي زوّجت بغير رضا أبيها و إن طال الزمان و ولدت الأولاد ؛ لأنه حق الله تعالى يفسخ على كل حال . و أما الاعتذار بأنه لا يفسخ نكاحها لأن في عقد نكاحها وصمًا عليها و لا تجد من يتزوجها ، فهذا تعليل باطل بالاتفاق ؛ لأن ذلك يؤدي إلى تعطيل أحكام الله تعالى ، فإذا سرقت المرأة فلا تقطع يدها ، وإذا زنت فلا تجد . و قال الله تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، و قال تعالى : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ، و قال عليه السلام في العامرية : «لَوْ أَنَّ فَاطِمَة بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقتْ لَقَطَعْت يَدَهَا» .
(1/90)
________________________________________
فينبغي على هذا إذا سرقت المرأة أن لا تقطع يدها ؛ لأن المقطوعة اليد لا تجد من يتزوجها لنقصان أعضائها ، و هذا لا يقول مسلم ، فينبغي على هذا أن يفسخ نكاحها لسلامة أعضائها ؛ لأن الفساد إنما كان في عقد النكاح و لا يشينها ذلك عند الأزواج واله أعلم ، وكذلك وقع في الحكم الذي حكم به فلان في شأن البنت المذكورة ،[74/3]أنه حكم بفتوى بعض فقهاء الوقت ، والقاضي إذا حكم بفتوى مفتيه فإن كانا مقلدين ، فالحكم باطل ؛ لأن المقلد لا يقلده مثله ، وإنما يقلّد عالمًا ، و هذا معلوم في كتب الأصوليين ، و قد قال تعالى : {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} . قال القاضي عبد الوهاب : "والمقلّد لا يعرف أن يفرق بين الحق والباطل بالتقليد فبطلت فتواه" . و وقع فيه أيضًا أن البنت المذكورة لما رفعت أمرها إلى القاضي بزعمه ، واعترفت على نفسها بالزنى ، وزوجت بفور اعترافها ، و وقع الدخول بقرب ذلك في أمد لا تحيض فيه ثلاث حيض ، فالواجب في هذا النكاح أن يفسخ و إن أجازه الولي ؛ لأن الولي لا يملك إسقاط حق الله تعالى ، كذلك قال ابن الماجشون ، ذكره عنه الباجي في باب المقاسمة من المنتقى ؛ لأن من زنى بامرأة ثم تزوجها قبل الاستبراء فالنكاح يفسخ أبدًا ، وليس فيه طلاق و لا ميراث و لا عدّة وفاة ، والولد بعد عقد النكاح لا حق به فيما بعد حيضة إن أتت به لستة أشهر من يوم نكاحها ، و ما كان قبل حيضة فهو من الزنى لا يلحق به . قاله ابن أبي زيد رحمه الله في النوادر وقاله كله أصبغ . و لا يعترض هو بنقل ابن رشد في رسم الرهون من سماع عيسى من كتاب النكاح من قوله واستحسن أصبغ أن لا يتزوجها أبدًا إذا تزوجها ودخل بها وهي حامل من زنى أو في الاستبراء منه ، فإن فعل لم يمنع منذ لك بقضاء .
(1/91)
________________________________________
فإن قوله أو في الاستبراء منه أي أو في الاستبراء من الزنى ، فالضمير عائد على الزنى لا على الزوج ؛ لأن الحمل والزنى هنالك من غيره لا منه ، فلا تحل له أبدًا على نقل ابن أبي زيد عن اصبغ نسخة الكتاب الذي رفعه إبراهيم العنبكي إلى المقام العلي العلوي مشتكيًا متظلمًا في شأن ابنته المذكورة ، نصُّه : بسم الله الرحمن الرحيم ، صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم ، {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} . وأطال الله بقاء مولانا أمير المؤمنين للشرع يعلى مناره ، وللحق يظهر آثاره ، مولانا أمير المسلمين ، وناصر الدين ، المجاهد في سبيل رب العالمين ، المعز لأولياء الله المتقين ، والقامع أعداء اله الكفرة المعتدين ، والمبيد لأهل الضلالة المفسدين ، خليفة الله في أرضه ، القائم فيها بسنته وفرضه ، السلطان[75/3]العادل ، العالم العامل ، قدوة العلماء ، وإمام الصلحاء والأتقياء ، المحسن الأفضل ، الأعطف الأراق ، المنصور أيّد الله بكم الدين ، ومتّع بطول دهركم المسلمين ، ومتى لكم النصر العزيز والفتح المبين ، وأبقى حضرتكم العلية حرمًا آمنًا للقاصدين ، وكعبة عدلكم ملجأ للمستغيثين ، رفع عبدكم المستجير بعدلكم ، إبراهيم بن عبد الله العنبكي ، يقبل بساطكم الكريم ، ويلجأ فيما يشرحه إلى نظركم السديد القويم ، جرى عليه أمر عظيم أهتك حرمته ، وأضعف مهجته ، وغير كثيرًا ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ذلك أن العبد له أولاد صغار لا أم لهم تكفلهم ، و لا جدة تحضنهم ، وهم في منزله وتحت كفله وحرزه ، و لا يخرج عنهم إلا لطلب معيشة أو إصلاح حال ، آمنًا عليهم من الحدثان ، غافلاً عن مجاورة السكان .
(1/92)
________________________________________
وأن رجلاً من جيرانه بعث لابنة صغيرة من الأولاد المشار إليهم بالتعريض وغيره ويخوفها و لم يقدر عليها ، ثم استعان بأمه وأخته كان يوجههما لها برسم خدعها ، والأخذ بعقلها المرة بعد المرة ، و لم يراعِ حقَّ الجار و لا قرب الجوار ، و لا خاف من الحكام ، و لا اتقى الله تعالى و لا خاف ما عنده من الانتقام ، والعبد مع ذلك كله لم يتعرف ما جرى ، و لا عنده علم بما اعترى ، حتى انتهى الأمر إلى ما قدره الله وقضاه ، وتعرف العبد و لم يطلق على كتمانه و لا اجتراع غصته ، رفع أمره لمن له الأحكام بالمدينة ، فلم يجد لديه نصرًا ، فاستعان الفاسد بما ظهر من له وتعدى ، و لم يجد العبد بُدًّا من القصد إلى مقامكم العلي السني ، الذي جعل الله نظره السديد فوق كل نظر ، وأمره ممتثل في كل ورد وصدر ، و لا سيما في ردع المفسدين وتغيير المنكر ، وأخذ الحق المعين على من ظهر ، وإجبار قلب من فعل الفاسد قد انكسر ، فما ينهض في تنفيذ الجلاء في مثل هذه المعضلات إلا مقامكم العليّ ، الذي أقدره الله سبحانه على إقامة الحق والعدل ، ولكم يا مولانا من الأجر الجزيل ، والثواب الجميل ، ما ربنا به كفيل ، وعليه قادر ، ولمتولي الحكم ناصر ، والعبد يتوسل لمقامكم الكريم العلي الظاهر المجيد ، بحرمة الكتاب العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وبكرامة سيد المرسلين سيدنا ومولانا محمد عليه افضل الصلاة وأزكى التسليم ، فقد قمتم بإظهار شريعته أفضل قيام ، وبحرمة مولانا أمير المؤمنين ، المجاهد في سبيل[76/3]رب العالمين ، والدكم الصالح ، المظهر للمصالح ، مولانا لأبي سعيد سلفكم المبرور ، وبأسلافه الصلحاء الفضلاء الباقي هديهم على موالاة الدهور ، وبما عهد عليه مقامكم السني من العدل والإنصاف ، والانتصار للمظلوم ، والأخذ بيد المستضعف المهموم ، و قد قال عز من قائل في كتابه المنزل {
(1/93)
________________________________________
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «السُّلْطَانُ ظِلُّ اللهِ فِي أَرْضِهِ ، يَأْوِي إِلْيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ» . و قال صلى الله عليه و سلم : «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُم اللهُ فِي ظّلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ : إِمَامٌ عَادِل» . إلى آخر الحديث . والعبد ينتظر بعدلكم المألوف ، وإنصافكم الشهير ونظركم الموصوف ، ويرغب في النظر في أحواله ، وإذهاب أوحاله ، بموجب الحق الذي ينقاد إليه القوي والضعيف ، وبأمركم الذي لا يخالفه أحد من المسلمين على ما ظهر وجنابكم السامي المنيف ، و الله تعالى يبقي مقامكم الكريم عماد الدنيا والدين ، كما أظهركم قدوة في الصلاح والدين ، وأجرى على يدكم العدل لكافة القاصدين ، والعبد متصدع الفؤاد ، طالب عدلكم المعتاد ، والسلام الأتم يخص المقام الكريم ، المخصوص بالمبرة والتعظيم ، ورحمة الله تعالى وبركاته .
ونصّ نسخة السؤال النقيد في النازلة لشيوخ الشورى في تاريخ النازلة بفاس كلأها الله .
(1/94)
________________________________________
الحمد لله مدبر الأمور ، الحاكم بالعدل الذي لا يجور ، نحمده و هو العفو الغفور ، ونشهد أن لا إله إلا الله العليم بما تكنه الصدور ، وناصر من ظلم ، و ولي من اعتدى عليه في مطالبه وجرم ، وأن الله لا يظلم مثقال ذرة . ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، المؤيد بالحجة البالغة ، والبراهين الثابتة للحق ، الداحضة للبهتان ، وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه بإحسان ، وسلّم كثيرًا إلى يوم الدين ، وبعد يا سيدي رضي الله عنكم جوابكم في مسألة رجل له بنت بكر في حجره ، وتحت ولاية نظره ، فغلب على ظنه أنه تحيل على ابنته المذكورة ، ودخل عليها في منزله ، والرجل لم يعلم بذلك ، فشق ذلك عليه ،[77/3]حين تعرفه و لم يجد سبيلاً إلى الحكم عليه ، ثم جاء الولد الذي أفسد البنت المذكورة إلى دار أبيها ذات ليلة ، ليدخل عليه فانتبه والد البنت المذكورة فخرج في طلبه فأدركه فحبسه من ثيابه فتركها في يده وهرب منه فرجع والد الصبية المذكورة إلى داره فلم يجدها ، فصاح والد البنت المذكورة على شهود عدول فذكر لهم القضية ، فذهب الشهود إلى دار المفسد للبنت المذكورة ، فصاحوا عليه فسألوه عن هذه القضية وعن ثيابه أين هي ، فذكر لهم أن والد البنت صاح عليه فخرج إليه وأخذ ثيابه ، فأنكروا عليه ذلك لكون والد البنت ممن لا يشار إليه بذلك ، فأرادوا الانصراف عنه ، فردهم ورغب منهم أن يحاولوا له القضية مع والد البنت المذكورة ، فرجعوا إليه وقالوا له إن والدها حلف أن لا يزوجها إليك ، وقالوا له أين البنت فردها إلى أبيها .
(1/95)
________________________________________
فقال لهم فانظروها في مصريتي ، فدخلوا مصريته فلم يجدوها ، فرجعوا إليه ، فقال لهم انظروها بدار القاضي ، فدخلوا دار القاضي فلم يجدوها فانصرفوا ، فلما كان صبيح تلك الليلة وجدت البنت المذكورة بدار القاضي ، فردت البنت المذكورة إلى دار أبيها ، وبقيت عنده نحوًا من عامين ، فعقد عليها والدها النكاح مع طالب على أن تحمل والد البنت المذكورة بنقد ابنته بحق الطالب المذكور ، قصدًا منه للعمل بمقتضى قوله صلى الله عليه و سلم : «زَوِّجْ وَلّيَتَكَ مِمَّنْ يَتَّقِي الله» . و قوله عليه السلام : «إِذَا أَتَاكُمُ مَنْ تَرْضُونَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ فَانْكِحُوه» . فلما كان بالغد أتى الطالب المذكور إلى والد البنت المذكورة وذك له أنه تخوف من جانب المفسد للبنت المذكورة ، وسأله أن يعفو عنه ويطلقها ، ففعل والد البنت المذكورة وطلقها .
(1/96)
________________________________________
ثم إن والد الزوجة المذكور جاء إلى مدينة فاس فأوجب عليها النكاح مع رجل كان غائبًا على المدينة المذكورة ، و وكَّل من يتمم له ذلك مع الغائب المذكور إن رضي ، فلما رجع والد البنت المذكورة إلى بلده ، وجد قد استرعى عليه رسمًا يتضمن أنه عاضل لابنته المذكورة مضربها ، و أنها يب معنسة وهي بنت العشرين سنة ، فأراد أن ينصرف إلى المقلد بأمور المسلمين نصره الله تعالى وأيده لينظر في أمره ، فبعث قاضي المدينة إليه أعوانه فرده من الطريق ، فقال له زوّج ابنتك من فلان و هو المفسد للبنت فامتنع من ، فأمر عليه[78/3]بالزز والسياط إلى السلطان وسجنه يومًا واحدًا ، ثم سرحه من السجن فخرج من بلده متوجهًا إلى السلطان أيده الله بنصره في مسألته ، فما رجع حتى وجد القاضي زوَّج البنت المذكورة للمفسد لها المذكور ، فهل ينفذ الحكم على الأب المذكور على الزجه المذكور ، أم لا ينفذ لكون القاضي المذكور لم يعذر إلى الوالد المذكور في رسم العضل ، ولكون الوالد المذكور يشيع ويذيع أنه لا يعطيها لمن أفسدها ويعطيها لمن طلبها من المسلمين ، فبينوا لنا ذلك وأنتم مشكورون مأجورون ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
=فأجاب الفقيه أبو سالم اليزناسني : الحمد لله أكرمكم الله ، إن ثبت وصحَّ أن الأب كان يشيع ويذيع أنه لا يمتنع من إعطائها لمن طلبها ، وإنما امتنع من شخص معين و هو غير كفء ؛ لأن الكفاءة في الدين معتبرة بلا خلاف ، و إن كان فاسقًا فلا خلاف منصوص أن تزويج الوالد لا يصحُّ ، وكذلك غيره من الأولياء ، و إن وقع ذلك فللزوجة ولمن قام لها فسخ النكاح ، وكان بعضهم يهرب من الفتوى بذلك ، ويرى أنه يؤدي إلى فسخ كثير من الأنكحة ، فإذا كان الحاكم يؤمر بالفسخ ، فكيف يأمر هو بالإنكاح ، و لا يكون عاضلاً بالمنع من التزويج من معين ، وإنما العضل أن يطلبها الأكفاء ويثبت ذلك ، لئلا يقول من لا عبرة به طلبتها وامتنع .
(1/97)
________________________________________
قال مالك : رحمه الله و لا يكون الأب عاضلاً لابنته البكر البالغ في ردِّ أول خاطب أو خاطبين حتى يتبين ضرره ، وإذا لم يعرف من الأب في ذلك لم يهجم عليه السلطان في إنكاح ابنته ، إلا أن يتبين ضرره وإعضاله لها ، فإذا تبين وأرادت البنت النكاح وُقِفَ على هذا و قال له الإمام : إما أن تزوجها وإلا زوجناها عليك ، وحينئذٍ إن طلبت وامتنع زوَّجها الإمام ؛ لأنه أعذر إليه بقوله : إما أن تزوِّجها كما تقدم . واستدلَّ على ذلك بقوله صلى الله عليه و سلم «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» . و الله الموفق للصواب . و هذا لا خفاء به لمن اتَّبعَ الحقَّ واهتدى به و لا يتبع هواه ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .
(1/98)
________________________________________
=و أجاب الفقيه أبو الضياء مصباح : أكرمكم اله تعالى ، إذ ثبت[79/3]ما ذكرتموه فوقه بحكم القاضي المذكور على والد البنت المذكورة بالعضل ، مردود يجب نقضه لوجهين ، أحدهما كونه حكم عليه دون إعذار ، وذلك خلاف الإجماع والسنة الثانية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته إلى بعض قضاته . و الثاني تزويج البنت ممن يأبى الأب من تزويجها منه و هو أعلم بمصالح ابنته والمقدم في النظر لها . و إن ثبت على الناكح المذكور فسقه كما ذكرتم ، فهو على القاضي المذكور أشدّ وأولى في نقض حكمه ، إذ لو فعل ذلك أبوه لكان للسلطان ردّه و إن رضيت ؛ لأن ذلك من الضرر الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه و سلم هكذا وقع نصًّا في والواضحة وكتاب محمد ، وإذا وجب نقض الحكم المذكور ، فإنه يفسخ ما عقده القاضي المذكور من نكاح البنت المذكورة و إن دخلت و ولدت الأولاد ، إذ كله وقع بغير ولي ، إذ لا ولاية لأحد مع الأب في ابنته البكر ، فإنه يختص بالإجبار لما جبل عليه من الحنان والشفقة ، وهذه الصفة لا يشاركه فيها غيره . ولذلك لا يجوز بإجازة ما عقده على ابنته غيره من الأولياء على ما نصَّ عليه في المدونة وغيرها ، إلا على رواية ذكرها عبد الوهاب في الأمة يزوجها غير سيدها أن النكاح يجوز بإجازة السيد ، وألزم اللخمي ذلك في الأب إذا أفتيت عليه في ابنته البكر ، وإنما يكون الأب عاضلاً لابنته المذكورة على النكاح لو أتاه يخطبها عدد من أكفائه ، فردت على ما نصُّه عليه مالك في المدونة من قوله و لا يكون الأب عاضلاً لابنته البكر في ردِّ أول خاطب أو خاطبين حتى يتبين ضرره ، فإذا تبين قال له الإمام : إما أن تزوجها وإلا زوَّجَّناها عليك ؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» .
(1/99)
________________________________________
على أن ابن حبيب قال : لا يمنع الأب من عضل ابنته و لا يتسور عليه في نكاحها ، و قد عضل مالك بناته من النكاح و قد رغب فيهن خيار الرجال ، وفعله أهل العلم قبله وبعده ، واستحسنه اللخمي إذا كان ألأب من أهل العلم ، و قد تكون في البنت غفلة لا تقوم معها بحقِّ الأزواج ، أو يرى أنه إذا خرجت عن حكمه أفتكت أو نحوه ، فهو اعلم بمصالح ابنته وبالله تعالى التوفيق . وكتب مصباح بن محمد بن عبد الله اليالصوتي ، وتقيد بعقبه : الحمد لله ممن أشهده[80/3]الفقيه المدرس الصالح العالم العلم الأكمل ، أبو الضياء مصباح ابن الشيخ الأجل المرحوم أبي عبد الله محمد بن أبي محمد عبد الله اليالصوتي ، أن الفتوى المسطَّرة بخطه وعليها وضع اسمه حسبما ذكر في صحته وجوازه وعرفه ، و في الثامن لذي قعدة تسعة وثلاثين وسبعمائة أبو القاسم بن محمد ، وعبد الله بن محمد . وتحته أعلم بصحته الشيخ الأجل الأفضل الأسني الأطول قاضي الحضرة السنية المباركة ، أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الفقيه الصالح الأسمى المبارك المرحوم أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الرزاق أعزه الله تعالى وتولاه مجله مبارك بن أحمد بن علي ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
(1/100)
________________________________________
=و أجاب الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الأغصاوي : الحمد لله وحده ، أكرمكم الله وأدام لنا ولكم العافية ، الجواب إذا كان الأمر كما ذكرتم فوقه ، فإن هذا النكاح يفسخ إن دخل بها الزوج وطال الأمر و ولدت الأولاد ، و لا يجوز هذا النكاح بإجازة الأب ، بل يجب على كل من له قدرة على فسخه أن يفسخه ، إذ قد نصَّ مالك رحمه الله في المدونة وغيرها في البكر ذات الأب يزوجها أخوها : أن النكاح يفسخ و إن دخل بها الزوج ، و لا يجوز بإجازة الأب ، إلا أن يكون ابنًا قد فوَّض له أبوه جميع شأنه فقام بأمره فيجوز بإجازة الأب ، فإذا وجب فسخ ما عقده الأخ مع وجود الأب ، فبطريق الأولى والأحرى أن يفسخ ما عقده القاضي مع وجود ألأب ، و لا يمضي حكم القاضي على الأب وتزويجه عليه ابنته بغير رضاه على الحال الموصوفة ، لوجوه : أحدها كونه حكم عليه دون أن يعذر له في شهود الاستدعاء على ما يجب في الوجه المشروع بضرب الآجال وغيرها ، إذ لا يجوز للقاضي أن ينفذ الحكم على أحد إلا بعد الإعذار إليه ، وأن ذلك مما بنيت عليه الأحكام ، وجرى عليها العمل على ما نصَّ عليه أبو الحسن المتيطي وغيره ، واسدلوا على ذلك بأدلة ظاهرة من الكتاب والسنة .
(1/101)
________________________________________
الوجه الثاني مما يوجب فسخ هذا النكاح كونه زوجها غير كفءٍ لها في الدين ، إذ لا ريب أن الزوج المذكور فاسق بما اتصف به من الصفة المذكورة ،[81/3]و قد نصَّ أبو الحسن اللخمي وغيره على أن الكفاءة في الدين معتبرة ، قال صاحب الجواهر و لا خلاف في ذلك ، فإن زوجت من فاسق كما في مسألتكم ، فحكى الشيخ أبو الطاهر بن بشير أنه لا خلاف منصوص أن تزويج الوالد من الفاسق لا يصحّ ، قال وكذلك غيره من الأولياء ، و إن وقع وجب للزوجة أو لمن قام لها فسخ النكاح ، فإذا كان هذا في نكاح الأب إياها من الفاسق ، فكيف بإنكاح القاضي إياها من الفاسق بغير رضا الأب ، حتى لو رضي الأب بذلك لم يجز ويفسخ . قال أبو الحسن اللخمي رحمه الله في توجيه ذلك : إن الأب وكيل لابنته ، فإذا فعل الوكيل ما يرى أنه لم يحسن النظر و ما ليس بصواب ردَّ فعله . الوجه الثالث كون الأب ليس بعاضل فليس حكم القاضي على الأب المذكور بأنه عاضل لابنته من تزويجها من الرجل المذكور بصواب ، بل هو من الخطأ الذي يجب فسخه ، و لا يزال الناس بخير ما رجعوا إلى الحقِّ عند تبيينه ، إذ لا يكون عاضلاً بامتناعه من تزويجها من رجل بعينه و إن كان كفؤاً في الدين ، فكيف بهذا الرجل الموصوف بالصفة المذكورة . ومما يبين أنه ليس بعاضل ، ما ثبت من تزويج الأب ابنته المذكورة من رجلين ، و ما كان يشيعه ويذيعه من أنه لا يعطيها للرجل الذي أفسدها بعينه ، ويعطيها لكل من يطلبها من المسلمين . و لا خلاف أعلمه أن الأب لا يكون عاضلاً بامتناعه من تزويجها من رجل بعينه و إن كان كفئا لها كما قدمنا ، وإنما اختلف أهل العلم إذا امتنع الأب من تزويجها من الأكفاء على الجملة ، فقال مالك رحمه الله في المدونة : "ولا يكون الأب عاضلاً في ردِّه أول خاطب أو خاطبين حتى يتبين ضرره ، فإذا تبين ، قال له الإمام : إما أن تزوج وإلا زوجناها عليك ، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» .
(1/102)
________________________________________
و قال عبد المالك فيما حكى عنه اللخمي : للأب منعها . وليس للسلطان أن يتسور عليه في ابنته و لو طلبت ذلك الابنة ، و قد منع مالك بناته من النكاح ، و قد رغبت فيهن خيار الرجال ، وفعل ذلك أهل العلم قبله وبعده . و هذا كله ظاهر لمن يريد الحقَّ والحكم بما انزل الله و لا يتبع هواه ، وفيما ذكرنا دليل على أن حكم القاضي وتزويجه البنت المذكورة من الرجل المذكور على الحال الموصوفة ، إنما[82/3]هو بعلم قاصر ، أو لغرض في طلب الدنيا ظاهر ، {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} . و{سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} . وكتب محمد بن عبد الكريم الأغصاوي : والسلام عليه ورجمة اله وبركاته, وتقيد تحته ما نصُّه بسم الله الرحمن الرحيم ، صلى الله على سيدنا محمد وآله ، لما وقف الفقيه الأجلّ العالم المدرس المفتي أبو عبد الله محمد ابن الشيخ المكرم الفاضل أبي محمد عبد الكريم الأغصاوي على الجواب المقيد وتصفحه ، أشهد أنه جاوب بالجواب المذكور ، و إن ذلك ، هو الذي يقتضيه الفقه عنده في النازلة المذكورة ، شهد عليه بذلك .
[من هرب بصبية يتيمة وتزوج بها ، فادعت الصبية إكراهها على ذلك]
(1/103)
________________________________________
*و سئل الفقيه أبو الفض راشد بما نصُّه : يا سيدي رضي الله عنكم ، وأبقى المعارف قريرة العين ببقائكم ، الجواب في مسألة رجل من بادية هذه المدينة حرسها الله تعالى ، توجه من موضعه بالبادية المذكورة في جماعة من قبيله وبني عمه إلى قبيل آخر ، فهربوا منه بصبية بكر يتيمة إلى موضع الرجل المذكور ، فثقفها قاضي موضع ذلك الرجل عنده أيامًا كثيرة ، ثم كتب القاضي الذي كان بهذه المدينة قبل هذا إلى قاضي الموضع المذكور كتابًا بعد كتاب ، كل ذلك يأمره أن يصل بالصبية المذكورة إلى المدينة لينظر في أمرها ، فلم يصل حتى كتب ابن أبي أحمس الحدودي كتابًا ، وكتب إليه حافظ قبيله أيضًا كتابًا ، وحينئذٍ وصل بالصبية المذكورة ، فسأله قاضي المدينة المذكورة عن مسألتها ، فقال : إنها لما وصلت إلي ، أمرت بثقفيها حتى آمنت في نفسها ، وتزوجت الرجل الهارب بها تزويجًا صحيحًا ، واستظهر برسم يقتضي عقد النكاح بينهما على ما وصف ، فذكرت الصبية المذكورة أنها كانت مقهورة في نفسها عند قاضي الموذع المذكور ، وأنه مال في قضيتها مع الهارب بها لكونه ابن عمه وأنه والي بذلك قبيله ، هذا نصّ قول الصبية ، ثم استظهرت برسم يقتضي استصحاب الغصب عليها إلى حين عقد الإشهاد عليها بالنكاح ، وعليه خطاب قاضي بلدامان ، وكلا القاضيين ممن جرت العادة بقبولهما ممن[83/3]لم يؤخذ قد في ريبة ، إلا أنهما ظهر منهما في هذه المسألة ميل من كون كل واحد منهما حريصًا على قبول قوله فيها والعمل به ، وكل واحد منهما انضاف إلى من يعضده في المسألة ويقوي حجته ، حتى إن كل واحد منهما لو وجد أن يحارب الآخر لحاربه ، ومع أنهما كما عرفتم لم تظهر لواحد منهما قط جرحة ، إلا أنه ظهر لي فيهما ما ذكرته لكم وتبين لكم وتبين عندي ، ولكن قاضي موضع الهارب المذكور ، كان كتب له أن لا يحدث في القضية حدثًا حتى يصل بالصبية فلم يفعل ، فرأى مجلكم مع هذا كله طرح خطابهما معًا في هذه القضية ، وترك
(1/104)
________________________________________
العمل به في هذه المسألة الخاصة ، وأن ترد الصبية إلى مأمنها مع أوليائها ، وأن يكون ذلك بعد مطالعتكم ورأيكم المبارك ، فما ترون في ذلك ؟ جاوبوا محبكم فيه ولكم الأجر في ذلك ، و هو سبحانه وتعالى يتغمدنا بلطفه ، ويشملنا في كنفه ، وأن يجعل أفعالنا خاصة لوجهه الكريم ، ومجلكم يرغب في دعائمكم في ذلك ، و هو سبحانه يديم عزتكم ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
=فأجاب أكرمكم الله تعالى ، قد تعارضت شهادة المخاطبين لكم ، وقلتم إنهما سواء في العدالة عندكم ، فثبتا نصًّا ، و قد اتفقت شهادتهما فيما يوجبه الحكم أن الغصب تقدَّم الرضا ، فالقول قولها إنها لم تشهد بالرضا طائعة في قلبها ، وإنما أظهرت الرضا وأخفت الكراهة تقية من عودته لمثل ما فعله أولاً ، فالصواب فسخكم لما تقدم بعد يمينها المذكور ، ثم تستأنف النظر لنفسها هي و وليها ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وكتب لكم بذلك محبكم في الله تعالى بعد السلام عليكم وعلى أخينا في الله الفقيه أبي العباس ورحمة الله .
وتقيد بعقبه ما نصّه : ممن حضر فتوى الفقيه الأجل الأفضل المحقق أبي الفضل راشد حفظه الله ونفع به ، وكتب بخط يده بجميع ما تقيد أعلاه في يوم الأحد السابع عشر لربيع الأول المبارك ثمانية وثمانين وستمائة عبد اله بن محمد بن عبد الرحمن ، وعبد الرحمن بن حسن القوري .
[84/3][رجل تاجر قيسي خطب امرأة من أوربة وأهلها خطباء بتازا يعتبر كفؤًا لها]
(1/105)
________________________________________
*و سئل الفقيه أبو محمد عبد الله العبدوسي عن رجل تاجر صالح الحال ، ظاهر النجابة ، مشتغلاً بالمتجر ، لم يعرف له تخلف و لا أخذ فيما لا يعنيه ، و هو ينتسب قيسيًّا ، حاز ذلك النسب هو وأباؤه من قبل ، خطب امرأة من أوربة من قبائل البرابر إلا أن أهلها من نسل الخطباء كان بعضهم يخطب بمدينة تازا من أهل الخير ، و والدها طالب ، وهي وناسها من القدماء بتازا ، والمرأة بكر إلى نظر أخ لها بإيصاء ، من فصوله أن يزوجها ممن يرى وبما يرى ، فعقد عليها النكاح الرجل المذكور وذلك برضا منها ، وجعل لها من المهر أكثر من مهر مثلها أو هو مهر مثلها ، فقام بعض إخوانها ممن ليس بوصي بعد رضا من الوصي بعقد النكاح ، وادعى أن الرجل ليس بكفء لها ، وأقام بذلك رسمًا وأراد فسخ النكاح ، و لم يبين في الرسم وجه الردِّ بموجب الشرع ، مع أن حال الرجل هو ما وصف ، والوصي باقٍ على نظره واجتهاده في صواب النكاح واستمراره ، وكذلك الزوجة مع أنها لا مال لها تحسب بع غنية ، و لا متوسطة الحال في المال ، فهل يسمع كلامهم في ردِّ النكاح بعد عقده وموافقة الجميع الوصي ومن قام الآن بعده الكفاءة أم لا ؟ بينوا لنا ذلك مأجورين والسلام عليكم ورحمة الله .
(1/106)
________________________________________
=فأجاب إذا ثبت أن الزوج المذكور بالأوصاف المذكورة ، فهي كفاءة صحيحة معتبرة ، والاعتبار في الكفاءة عند ابن القاسم الحال والمال ، وبه القضاء وعليه العمل ، قاله أبو الحسن المتيطي وغيره ، و لا يقضي القاضي إلا بالمشهور أو بما مضى به العمل من الموثوق بعلمهم ودينهم ، و لا شكَّ أنا إن اعتبرنا النسب فهو ينتسب إلى قيس وقيس عرب ، وهي تنتسب إلى أوربة وهم بربر ، والعرب أفضل من البربر ، فهو كفء منها نسبًا ، و إن اعتبرنا المال فهو أكفأ منها كما وصفتم ، ثم إن الذين شهدوا بعدم الكفاءة أجملوا وجه ذلك ، و في حدِّ الكفاءة خلاف كثير في مذهبنا وغيره ، و قد اختلف المتأخرون[85/3]هل يقبل الإجمال في ذلك أم لا ؟ ففي أحكام ابن زياد أنهم لا يسألون عن ذلك ؟ و في غيرهم أنهم يسألون من أين علموا ذلك وعن وجهه ، و هذا الاختلاف إنما هو اختلاف في شهادة يرجع إلى اختلاف في حال الشهود ، فمن كان عالمًا بما تصحّ به الشهادة لم يسأل ، وإلا سئل ، وينبغي أن لا يختلف في ذلك اليوم عندي ، فلا بدَّ من سؤالهم لغلبة الجهل على كثير ممن ينسب إلى العلم فضلاً عن العامة ، فالواجب استفسارهم عن وجه عدم الكفاءة ، فإن لم يكن استفسارهم لموتهم ، أو لبعد غيبتهم ، أو لامتناعهم من بيان ذلك ، ردت شهادتهم ، و إن فسروا ذلك بكونه مثلاً سكيرًا أو مستغرق الذمة بالحرام ، أو بغير ذلك مما يقدح في الكفاءة شرعًا ، فإنه يعذر للوصي فيهم ، فإن لم يكن عنده مدفع فيهم فسخ النكاح ، و إن فسروا ذلك بما لا يقدح في الكفاءة شرعًا مضى النكاح ، وينبغي للقاضي وفقه الله تعالى أن يتثبت في ذلك جهده ، فإنه نكاح عقده وصي بموافقة ولي ، والزوجة بالأوصاف المذكورة ، وبالله سبحانه التوفيق .
[إعادة السؤال في المسألة السابقة والجواب عنها]
(1/107)
________________________________________
*و سئل عنها مرة أخرى بما نصُّه سيدي رضي الله عنكم ، وأدام بمنِّهِ عافيتكم ، جوابكم في نازلة وقعت عندنا ، وهي أن ابنة إلى نظر أخيها بإيصاء صحيح من قبل والدها ، جعل له فيه نكاحها قبل البلوغ وبعده ، خطبها منه ولد بالغ تاجر فزوجها منه ثم إن إخوتها للأب لم يوافقوه على ذلك ، وقالوا : علينا في ذلك معرة ، فلا نزوجها منه ، لا أنا لا نعرف نسبه و لا هو كفء لنا ، وأثبتوا رسمًا شهد فيه فقهاء البلد وصلحاؤه ، أنه غير كفء لها في حسبها ونسبها ودينها ، وقالوا : لا نوافق على هذا أصلاً ، وذكروا أنه على غير حالة مرضية ، وأرادوا فسخ ما فعل أخوهم ، فهل لهم مقال في ذلك أم لا ؟ بينوا لنا الحكم في ذلك ، يعظكم الله أجوركم ويكافئكم والسلام .
(1/108)
________________________________________
=فأجاب ولينا في الله تعالى سيدي حسن أخذ الله بيده ، وأحسن إليه في الدارين بمنِّه ، قد وردت علينا هذه المسألة وذكروا أن الرجل قيسي عربي وأنه[86/3]حاز هذا النسب ، وأنه صاحب تجارة وعفاف ، وأن نسبها دون نسبه لكونها من أوربة وهم بربر و هو من العرب ، إلى غير ذلك مما تقفون عليه في سؤالهم وجوابي عليه إن شاء تعالى ، ثم ذكرتم في سؤالكم أنه شهد فيه أنه غير كفؤ لها فيما ذكرتم ، ثم إنه لا بدَّ من استفسارهم ، فإن قالوا مثلاً هو سكير يشرب الخمر ، أو مستغرق الذمة في الربا أو الغُصوبات ، أو غير ذلك مما يقدم في الكفاءة شرعًا ، فإنه يعذر في ذلك للوصي والزوج ، فإن لم يكن عندهما مدفع فسخ النكاح ، و في حقيقة الكفاءة خلاف كثير في مذهبنا و في غيره ، والكفاءة المعتبرة عند ابن القاسم في الحال والمال وبه الحكم ، قاله أبو الحسن المتيطي وغيره . و قد اختلف المتأخرون في الشهود إذا شهدوا بالكفاءة أو عدمها ، هل يستفسرون عن وجه علمهم بذلك أو لا ؟ والذي أتقلده من القولين أنهم يستفسرون لغلبة الجهل على كثير ممن ينتسب على العلم ، فما نظنكم بالعامة الأغبياء ، فتعرفوا ما عند الشهود من بيان ما أجملوه ، واكتبوا لنا بذلك لنوقع الجواب عليه –إن شاء الله . ويا وليي أرشدكم الله تعالى وسدَّدَ نظركم ، تثبتوا في أحكامكم وخصوصًا في هذه القضية ، فإني فهمت أنه وقع فيها مصاولات ومعارضات ، وتقابلت فيها جهات ، فقدروا أنفسكم كأنكم واقفون على الصراط بين يدي الجبار جلّ جلاله بمشهد الأولين والآخرين ، فما تحكمون به حينئذٍ فاحكموا به الآن ، وإلا فاتركوا ، و لأن يسألك الله لم تركت ، خير لك من أن يسألك لم حكمت ، فأنزل الفريقين على حدّ السواء ، وثق بالله واعتمد عليه ، و لا تخف فيه لومة لائم ، فبذلك تعان وتوفق وترحم ، ويلطف الله في أمرك كله ، وكتب مسلمًا عليكم عبد الله العبدوسي لطف الله تعالى به و وفقه .
[
(1/109)
________________________________________
لا يجب على الرجل اختبار زوجته في عقيدتها]
*و سئل الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد بن مرزوق عن فتوى أفتى بها رجل ممن تصدى للإقراء وهي انه يجب على كل من به زوجة أن يسألها عن عقيدتها ، فإن وجدها معتقدة ما يستحيل في حقه تعالى ، فإنه يجب عليه أن يفارقها ؛ لأنها مشركة ، فهل يا سيدي يجب هذا ويكون[87/3]الحكم ما أفتى به أم لا ؟ وكيف الحكم فيمن وجد جاهلاً لم يعتقد غير قوله لا إله إلا الله محمد رسول الله كما تعلمونه من اكثر الناس ، بينوا لنا ذلك مأجورين مشكورين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
=فأجاب : هذه إحدى الطوام ، فمهما فتح الباب على العوام ، اختلَّ النظام ، فلا تحرك على العوام العقائد ، وليكتفِ بالشهادتين كما قال الإمام أبو حامد ، وبهذا جاءت الأحاديث الصحاح ، و لو وجب سؤال النساء عن هذا بعد التزويج ، لو وجب قبله فلا يقدم نكاح امرأة تشهد أن لا غله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، إلا بعد اختبار عقيدتها ؛ لأن من أصولهم أن ما إذا طرأ قطع ، فهو إذا قارن منع ، نعم إن بدا من بعض الزوجات معتقد سوء من دون أن يطلب ذلك منها ، نظر فيه بما يقتضي الحكم فيه ؛ لأنه كثير جدًّا لا ينضبط ، و الله الموفق بفضله ، و هو سبحانه وتعالى أعلم ، وكتب محمد بن أحمد بن محمد بن مرزوق غفر الله له ولطف بمنِّهِ ، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
[من تزوج امرأة فوجد في عقيدتها فسادًا]
*و سئل سيدي عبد الله العبدوسي عن رجل تزوج امرأة فوجد في عقيدتها فسادًا هل يجب عليه مفارقتها أم لا ؟
(1/110)
________________________________________
=فأجاب : بأن فساد العقيدة على ثلاثة أوجه ؛ منه ما هو كفر بإجماع ، ومنه ما هو بدعة يفسق معتقده و لا يكفر ، ومنه ما هو مختلف فيه هل هو كفر أم لا ؟ فأما الذي هو كفر بإجماع فحكم معتقدته حكم المجوسية لا يجوز نكاحها ابتداء ، ومن نكحها و لم يعرف بذلك فعرف به وجب عليه فراقها ، والفراق فسخ بغير طلاق ، ويثبت ذلك إما ببينة علمت ذلك منها حالة العقد عليها ، أو بإقرار منها بذلك على نفسها وتصديق زوجها لها ، و أما إن لم يصدقها فلا يقبل قولها ؛ لأنها تتهم أن تكون أرادت فراقه بدعواها ذلك ، لكن يستحب له أن يفارقها تنزهًا وتورعًا وتوقيًا للشبهات ، والإثم حزاز النفوس و إن أفتاك الناس وأفتوك ، و أما ما ليس بكفر بإجماع فلا يجب عليه فراقها ، ويجب عليه إرشادها وتعليمها ما تصلح به عقيدتها ، إن لم يكن هنالك من يكفيه ذلك منذ يحرم منها أو غيره . و أما ما هو مختلف فيه هل هو كفر[88/3]أم لا ، فينظر إلى الزوجين ، فإن اتفقا على القول بعدم التكفير ، جاز لهما البقاء على الزوجية ، و إن أخذا بالقول بالتكفير ، وجب عليهما الفراق . وكذلك إن أخذ به الزوج خاصة وجب الفراق ؛ لأن حل العصمة بيده ، و إن أخذ الزوج بالقول بعدم التكفير ، وأخذت المرأة بالقول بالتكفير ، فالقاضي يرفع الخلاف بينهما ، فإن حكم بالتكفير أوجب الفراق ، و إن حكم بعدمه ألزم المرأة البقاء معه وحكمه يرفع الخلاف . فهذا اختصار ما سألني عنه هذا الطالب منا ، كتب ذلك بخطنا ، وبسط الأدلة والحجج عليه ، و ما يعد كفرًا و ما لا يعد يستدعي كتب جوابين ، وحسب المريد إذا نزلت به نازلة في ذلك أن يسأل عنها ، وبالله سبحانه التوفيق .
[تحمل النساء المسلمات على ظاهر صحة إسلامهن وعقائدهن]
*و سئل : أيضًا هل يجب على الإنسان أن يختبر زوجته في عقيدتها أم لا ؟
(1/111)
________________________________________
=فأجاب : نقول تحمل النساء المسلمات على ظاهرهن من صحة إسلامهن وعقائدهن ، ونُكِلَ سرائرهن إلى الله سبحانه ، غير أنه إذا غلب على ظنِّهِ فساد في عقيدتها ، فإنه يباحثها في ذلك ، ويجب عليه تعليمها ما جهلت من ذلك وكان بعض الفقهاء المقتدى بهم يأمر شهود عقد النكاح باختبار عقيدة المرأة عند إرادة العقد عليها لغلبة الفساد على عقائدهن ، فكانوا يفعلون ذلك ، فهدى اله بذلك أمة عظيمة منهم إلى عقائد الحق ، وسأضع إن شاء الله تعالى تأليفًا مختصرًا فيما لا بدّ للعلماء من اعتقاده بعبارة بسيطة ، وأدلة عقلية ونقلية تُدْرِكُهَا عقولهم ، وبالله سبحانه التوفيق ، وكتب عبد الله العبدوسي لطف الله به بمنه وفضله .
[من تزوجت رجلاً و ولدت معه الأولادـ فتوفي وادعت أنها لم تقبض كالئ صداقها]
*و سئل : عن بنت بكر زوجها والدها من رجل وبنى بها وبقيت معه حتى ولدت ولدين وتوفي الزوج فطلبت صداقها لورثة الزوج ، واستظهرت به في[89/3]رسم مبلغه ألف دينا في نقد وكالئ ، وأنكره الورثة وقالوا لها اثبتيه واحلفي ، فلم تقدر على إثباته ، فسألتهم : على موروثكم صداق أم لا ؟ فقالوا لها لا علم عندنا بشيء لا ما نقد و لا ما بقي ، فهل لها صداق المثل أو على من هي اليمين هل عليها أو على الورثة ؟ والشاهد الذي كتب الصداق وحضر حينئذٍ بينهم ، طلبته المرأة أن يشهد لها فقال ما عندي باش نشهد لكني حضرت ونسيت ما كان عمل حينئذٍ ، وأنكر الرسم الذي استظهرت به أن يكون بخط يده ، فوجهوا عليه اليمين وطلبوه أن يحلف ، فهل تلزمه اليمين أم لا ؟ وكيف صفتها ؟ وهل للزوجة أن تثقف أرض الهلاك حتى تثبت ، أو تحلف من يلزمه اليمين أم لا ؟ بينوا لنا الحكم في هذه المسألة بيانًا شافيًا ، يعظم الله أجوركم ، ويديم عافيتكم ، والسلام عليكم .
(1/112)
________________________________________
=فأجاب بأن قال : المسألة المذكورة بمصوله ، اختلف فيها المتأخرون ، فمنهم من قال القول قولها في مقدار الكالتي إذا ادعت ما يشبه كالتي مثلها من مثله مع يمينها على ذلك ، إذ العادة ترك طلب الكالئ إلا عند موت أو فراق ، و أما النقد فالدخول شاهد للزوج بدفعه ، إلا أن يقرّ الورثة ببقائه أو بقاء بعضه ، ومنهم من قال لا يقبل قولها ؛ لأن الصل براءة ذمة الزوج فلا تعمر إلا بيقين ، والمجوزات كثيرة ، فقد يكون تزويجها بغير كالئ –إلى غير ذلك ، ويلزم الورثة اليمين إن ادعت عليهم معرفة ذلك وكانوا ممن يظن بهم معرفتهم- أنهم لا يعلمون في ذمة موروثهم صداقًا ، وبالأول أفتى سيدنا أبو الحسن الصغير رضي اله عنه ، وبالثاني أفتى غيره وبه أفتى ، والقاضي يرجع في الخلاف وينظر في قرائن الأحوال و لا يلزم الشاهد يمين على ما ذكرتم ، وأمره إلى اله سبحانه ، وليس لها تثقيف شيء من التركة إلا بعد ثبوت دينها ، وبالله سبحانه التوفيق .
[من أشهد على نفسه أنه زوج ابنته البكر ابن أخيه ، فلم يقبل ابن الأخ إلا بعد شهر]
*و سئل : عن رجل أشهد على نفسه بأنه زوج ابنته البكر في حجره لابن[90/3]أخيه فلان ، وبقي ابن الأخ المذكور مدة من شهر أو تقرب منه ، واتى الشهود الذين شهدوا على عمه بتزويج ابنته المذكورة منه وقبل النكاح و قال لهم اشهدوا عليَّ بأني قبلت ، وبقي مدة ومات الأب وطلب الزوج ابن أخيه البنت المذكورة ، فقامت البنت المذكورة وهربت مع رجل آخر إلى البادية ، فهل يصحُّ هذا النكاح ، أم لا لأجل ما وقع بينهما من التراخي أم لا ؟ بينوا لنا الحكم في ذلك مأجورين مشكورين والسلام عليكم .
(1/113)
________________________________________
=فأجاب : إذا لم يثبت أن ابن الأخ المذكور ردَّ النكاح حين بلغه فالنكاح صحيح ، وليس هذا من باب النكاح الموقوف المختلف فيه ، وإنما هو إيجاب من قبل ألب ، فإذا قبل ابن الأخ بعد ذلك و إن طالت المدة صحَّ ومضى ، إلا أن يكون صرَّحَ بالردّ ، أو بلغه فلم يرد و لم يجز حتى مضى من الزمان ما لا يعد فيه راضيًا ، فلا يكون منعقدًا حينئذٍ ، وبالله التوفيق .
[لا حق للزوج من مطالبة الأب بكالئ صداق الزوجة ، ويبقى تحت يد أبيها]
*و سئل : عن امرأة محجورة لوالدها وقبض لها كالئها من زوجها وصار بيده يصرفه في منافعه و ما يحتاج إليه ، وأراد الزوج المذكور أن يكون في يد زوجته أو في بيتها ، لتتجمل به إليه من الحلي وغيره ، فمنعه الوالد من ذلك ، فهل للزوج أن يطلب ذلك أو له أن يمنعه ، بينوا لنا ذلك .
=فأجاب : لا مقال للزوج فيما ذكر وإنما مقاله في النقد ، و أما الكالئ فلم تجر العادة بالتجهيز به مجملاً ، بل يبقى بيد ألب إلا أن يكون الأب غير مأمون عليه ، ويثبت ذلك فإنه ينزع من يده ويوضع على يد أمين ، و هو محمول على الأمانة والثقة حتى يثبت خلاف ذلك ، و أما الإشهاد على قبضه له فأمر لا بد منه توثقًا لها ، وبالله التوفيق .
[من زوَّجَ ابنته الصغيرة من ابن أخ له صغير ، وقبلت عنه جدته الحاضنة]
(1/114)
________________________________________
*و سئل : عن رجل زوَّجَ ابنته صغيرة من ابن أخ له صغير وقبلت عنه[91/3]جدته الحاضنة ، وبقي الحال كذلك إلى أن بلغا ، والأب طول المدة المذكورة يقرُّ بإنكاحها له ، ولولا إقرار لهربت له ، وعند الناس أنها تحضنه ، فبعد مدة طويلة أرسل الأب لابن أخيه رسولاً قال له : قل له يرفع ابنتي أو يطلقها ، أنا لا قدرة لي بها ، فقال له لا نرفع و لا حاجة لي بها ، فقيل له بعد ذلك ما قصدت بهذا القول ؟ فقال : كنت أشكت ، و أما امرأتي فلا نطلقها ، وتعلق والدها بقوله و قال له هو طلاق ، فانظروا يا سيدي في ذلك وتفضلوا بالجواب ، وكيف لو زوَّجها والدها من رجل آخر ، فلما أراد الدخول بها الثاني قام ابن أخيه مطالبًا فيها و قال ما طلقت أصلاً ، و لا شهد علي بطلاق ، و لا قلت ما قلت إلا على الوجه الذي ذكرت ، فهل يقبل قوله ويفسخ نكاح الثاني ، أم هو مفسوخ وصحَّ الأول ، بينوا لنا ذلك .
(1/115)
________________________________________
=فأجاب : قول ابن الأخ المذكور لا نرفع و لا حاجة لي بها ، محتمل أن يريد به طلاقها ، و هذا مرجوح أو يريد به أنه يفارقها في الاستقبال ، أو أنه يتركها مهملة لا مطلقة و لا مدخولاً بها ، وبساط الكلام يرجح هذا ، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه من الاحتمال ، فالقول قوله أنه لم يرد به الطلاق ويحلف على ذلك ، هذا باعتبار النظر إلى لفظه هل يقضي عليه بالطلاق أم لا ؟ وبقي النظر في أصل النكاح هل هو منعقد أم لا ؟ ينظر إلى اللفظ الذي عقد الأب به النكاح ، فإن كان إنما أوجب فيها النكاح إيجابًا من غير أن يقصد العقد عليه فقبل منه ذلك ابن أخيه بعد بلوغه ، فهذا نكاح صحيح ، والنكاح الثاني غير منعقد لوقوعه في عصمة ، كذلك إن قبل منه ذلك ابن أخيه قبل بلوغه وكان في سن من يميز معنى ذلك و لم يرده عن نفسه بعد رشده ، و إن لم يكن إيجابًا منفردًا بل قصد العقد عليه ، فهذا هو النكاح الموقوف ، و لا عبرة بقبول حاضنته لذلك ، إذ ليست ممن جعل لها ذلك شرعًا ، والمشهور في النكاح الموقوف أنه فاسد إذ أجازه من وقف على خياره عن بعد ، و هذا التفريع كله إذ ثبت إعطاء الأب لها لابن أخيه ببينة قامت على ذلك ، و أما تقاررهما على ذلك بعد عقد نكاح الثاني ، فلا يقبل للتهمة على فسخ نكاحه وبالله سبحانه التوفيق .
[92/3][هدية العروس تورث عنها ويحاسب بها الزوج]
*و سئل : عمن تزوج هديتها على عادة أهل البادية ، فقام فحوز ما دفع له و لم يطعمه لأحد ، ومن عادتهم أن الهدية يطعمونها لأهل العروس والعروسة وغيرهم ، ثم أن البنت المذكورة توفيت وقامت والدتها ومن ورثها يطلب من الزوج صداقها ، فقام الزوج و قال لهم : تعطوني هديتي ونحاسبكم ، فإنكم ما اطعمتموه لأحد ، فهل يلزمهم أن يردها للزوج أم لا ؟
-فأجاب : بأن الهدية موروثة عن البنت المذكورة ؛ لأنها محكوم لها بحكم الصداق ، فتورث عنها على فرائض الله تعالى وبالله التوفيق .
[
(1/116)
________________________________________
من زوج ابنة عمه من رجل و لم يشهد على توكيله إياه إلا رجل واحد]
*و سئل : عن بكر بالغ يتيمة مهملة كان زوجها وليها و هو ابن عمها من رجل ، وبقيت مدة من شهرين أو نحوها ثم هربت مع رجل آخر دعت على نكاحه ، فقام الزوج الأول مدعيًا نكاحها أقام بينة أن ابن عمها كان زوجها منه ، إلا أنه لم يشهد على توكيلها بأكل الطعام وغير ذلك مما جرت العادة به عند الخطبة وعقد النكاح ، حضر ذلك جمع من الناس ، إلا أنهم لم يسمعوا من البنت شيئًا هل هي راضية أم منكرة ، حاشا الرجل الواحد الذي شهد عليها بالتوكيل ، فلما سئلت الآن ، قالت نعم وكلته على أن يزوجني ممن أحب سوى هذا الرجل الذي زوجني منه ورجل آخر ، و أما هذا الذي زوجني منه فلم أرضه و لا وكلته على أن يزوجني منه . فهل يا سيدي يصحُّ هذا النكاح أم لا و لا يلتفت على قولها و لا إلى ادعائها التخصيص ، بين لنا ذلك مأجورًا موفقًا بعون الله .
-فأجاب : إن الوكالة لا تثبت في النكاح المذكور بالشاهد الواحد و لا بما انضم إليه من القرائن المذكورة ، وغاية الأمر أنها إن كانت في موضع لا يخفى عليها فيه الأمر غالبًا ، فإنها تحلف أنها ما وكلته و لا رضيت بصنيعه حين بلغها[93/3]ذلك ، و لا يلزمها النكاح ، اللهم إلا أن يثبت عليها أنها بقيت حين وقع العقد عليها فلم تنكر ذلك فيلزمها النكاح ، و أما وكالة التخصيص فلا التفات لها و لا معرّج عليها ، وبالله سبحانه التوفيق .
[من ظهر به جذام فخالعته زوجته فإن الخلع ماض]
*و سئل : عن امرأة ظهر بزوجها جذام من بعد ما ولدت معه أولاداً ، وأقامت معه سنين و لم ترفع أمرها إلى الحاكم ، وأرادت الآن ذلك وطلبته أن يطلقها من غير أن ترفع أمرها إلى القاضي ، و قال لها الزوج ، إن أردت تعجيل ذلك ، فاخلعي نفسك مني ، و وكلت من خالعها منه بشيء معلوم ، هل يصحُّ ذلك الخلع لأجل التعجيل بالطلاق أم لا ؟ بين لنا ذلك .
(1/117)
________________________________________
=فأجاب : إن الخلع ماض لا خلاف فيه ، وليست كمسألة المدونة : إذا خالعت ثم انكشف أن بع عيبًا من الجذام أو غيره مما يوجب الرد ، أنها ترجع عليه بما اخذ منها لأنها كانت املك بفراقه ، و في مسألتها لا ترجع عليه بشيء لأنها كانت قادرة على الصبر إلى أن يضرب لها الأجل إن كان يرجَى برؤه ، فإن كان لم يبر فارقته ، فلها منفعة في التعجيل .
[إذا قبل الوالد توكيل ابنته إياه ، فإنها تصير رشيدة ، و لا يجوز دعوى الحجر عليها]
*و سئل : القاضي أبو محمد عبد الرحيم اليزناسني عن رجل زوج ابنته ودخل بها الزوج وبقيت معه مدة من عشر سنين ، فوقع بينهما منازعة ، فطلبته فيما حل عليه من كالئ صداقها ، و وكلت أباها على ذلك فقبضه لها وأبرأت الزوج من ذلك ، ثم بقيت بعد ذلك مدة وطلبته بكسوتها ، فامتنع الزوج من ذلك وادعى أنها لا تحتاج إلى الكسوة ، لكونها غيبت كسوتها وطلبها في إظهارها ، فأنكرت أن يكون عندها شيء البتة ، فأراد تحليفها على ذلك ، فاستظهر عند ذلك والدها برسم يتضمن حجرها ، وأراد سقوط اليمين عنها[94/3]بسببه ، فهل له ذلك أم يكون توكيلها إياه على قبض كالئها دليلاً على رشدها ، فلا ينفعه استظهاره بالحجر إلا بعد ثبوت سفهها بعد ذلك .
=فأجاب : إن بقبول توكيلها صارت رشيدة ، استدل لذلك بعض المتأخرين بما وقع في سماع أشهب وابن نافع في استحقاق العتبية فيمن باع عليها أبوها وزوجها أصلها ، فسئلا عن ذلك فقالا وكلته ، و أما ابن رشد في تكلمه عليه فلم يتعرض لهذا الاستدلال ، و هو صحيح في المعنى لما وقع في المدونة من قوله في فعل المحجورة إذا أجاز أبوها فعلها ، قال ابن رشد أي يقول هي جائزة الأمر ، و هذا الذي استدل به المتأخرون لذلك الأمر ، و قد وقعت في وقتنا وحكم به هذا فيما يرجع للمال ، و أما هذه فاليمين عليها و إن كانت محجورة ؛ لأن النفقة والكسوة ترجع إلى البدن الذي هو من أمور الزوجية ، وكتب عبد الرحيم بن إبراهيم اليزناسني .
[
(1/118)
________________________________________
من تطوع لها زوجها في عقد النكاح أنه متى تزوجها فأمرها بيدها]
*و سئل : القاضي أبو سالم إبراهيم بن محمد اليزناسني عن امرأة كان تطوع لها زوجها في طلقة واحدة مملكة ، ثم بعد مدة أراد زوجها أن يتزوج فبادرت هي وأشهدت على نفسها أنه متى تزوج عليها فلانة معينة ، فقد أخذت بشرطها المذكور ، فلم يتزوجها حينئذٍ وبقي الأمر عن ذلك الإشهاد الأول وأبطلت حكمه وتبقى على شرطها إن أرادت بعد أن يتزوج زوجها المرأة المذكورة أن ـاخذ بشرطها فلها ذلك ، وغن بقيت في العصمة بقيت على ذلك مع بقائها على شرطها تقضي به متى أحبت ، و إن أذنت له فيها وبقيت شريكة معها فعلت إن شاءت ، بينوا لنا ما الحكم في هذه الوجوه كلها .
=فأجاب : إن تزوج عليها لزمه ما أشهدت به على نفسها في قول مالك والليث وعامة أصحاب مالك ، وخالف في ذلك أشهب و قال الطلاق باطل ، إلا ما تطلق من ذي قبل حين تزوج و قال اصبغ فقاس قوله في هذا الأصل كله بنظره[95/3]و نحن نخالفه انتهى . قوله فعلى قول الجمهور لا يجوز لها إشهادها أنها أسقطت به لانعقاد الطلاق مستوقفًا على التزويج ، وعلى قول أشهب لها ذلك والعمل جار بقول الجمهور ، و إن كان ابن رشد رحمه الله قد أجرى المسألة على إسقاط الحق قبل وجوبه فلا يسوغ لنا ترك ما نصَّ عليه الجمهور من أجل قاعدة مضطربة وبالله التوفيق .
[من فارق زوجته بطلقة خلعية مملكة]
*و سئل : عن قضية رجل فارق زوجته بطلقة ملكت بها أمرها ، و لما كانت في أثناء العدة استدعت شهودًا عدولاً وأشهدتهم على نفسها أن مفارقها المذكور ، لم يزل طول عشرته معها ، وبطول زوجيتهما يحلف بالطلاق والإيمان اللازمة ويحنث و لم يزل ذلك يتكرر منه المرة بعد المرة ، ثم إنهما بعد ذلك بعد انقضاء عدتها منه بمدة تراجعا ، فهل يقرّ هذا النكاح أم يفسخ لفساده بما ذكروا لها منذ أن تراجعا من نحو أربعة أعوام ، بينوا لنا الحكم في ذلك مأجورين والسلام .
(1/119)
________________________________________
=فأجاب : إن ثبت قولها وهي بائنة منه بحيث لا يراجعها إلا برضاها ، فليفرق بينهما إن تراجعا قبل نكاحها بزوج آخر ودخوله بها بحيث تحل للأول ، قال ابن القاسم في العتبية كل امرأة زعمت أن زوجها طلقها ألبتة فأرادت أن تتزوجه بعد ذلك قبل أن تتزوج زوجًا غيره وهي مالكة أمرها ، فإنها لا تتزوجه ، فإن تزوجته فرق بينهما قلت : فإن قالت : إني كنت ماذبة ، قال لا يقبل قولها ، انتهى نص الحاجة . و أما إن تزوجته بعهد زوج ودخوله بها على آخر شروط التحليل فالنكاح صحيح ، لكن إن قامت لها بينة أن قولها ذلك إنما كان اعتذارًا خوف أن يجشمها في المراجعة ، فإنها تصدق والنكاح صحيح ، وبالله التوفيق لا شريك له .
=و أجاب : الفقيه ابو عبد الله بن عبد المؤمن إذا كان الأمر على ما ذكرتموه ، وشهد عليه أنه كان يحلف بالإيمان اللازمة وهي في عصمته[96/3]ويحنث ، وكان الإشهاد عليها بذلك بعد أن ملكت نفسها بالخلع كما ذكرتم فلا تمكن من رجعته على المعمول به ، وبالله تعالى التوفيق .
[من عقد على أخت له يتيمة من غير توكيل منها له فحضر الناس وقامت الولاول]
*و سئل : الشريف المرذعي عن يتيمة عقد عليها أخوها النكاح بغير وكالة منها له ، غير أن الناس حضروا وطلبوا له ، وأعْطاهم وأكلوا طعامًا في الوقت ، وقامت الولاول ، وذلك منذ عامين و لم يسمع من البنت المذكورة إنكار و لا قبول إلى الآن وقبله بمدة أنكرت ذلك وقالت لم أوافق ، فقال لها زوجها الذي أراد زواجها أرسلت لك الحناء والصابون والفاكهة في الحاجوز و في الأعياد على عادة الناس حين يتزوجون ويكونون في الأملاك ، فهل إذا ثبت هذا وشهد عليها بأنها كانت تعلم أن الحناء من عنده والفاكهة ، يكون سكوتها رضا منها بالزوج ، أم لا حتى يسمع منها الإشهاد بالوكالة والرضا بالمهر نقده وكالئه ، بينوا لنا ذلك كله بينا شافيًا مأجورين مشكورين .
(1/120)
________________________________________
=فأجاب : الجواب و الله الهادي والموفق للصواب عما ذكر أعلاه أن البنت المذكورة إن أكلت من تلك الفاكهة ، وغسلت بذلك الصابون ، أم صبغت بتلك الحناء ، وسكتت طول المدة المذكورة ، فذلك كله يدل على قبولها النكاح ، مع أن تهنئة الناس لها وتسميتها بامرأة فلان و لم تنكر ، يكفي في ذلك كله ، فهي بما ذكر زوجته و الله الموفق للصواب ، وكتب مجلكم محمد بن أحمد الحسنى لطف الله به .
[من زوج ابنة أخيه من رجل وهي صغيرة مهملة قبل البلوغ من غير حاجة]
*و سئل : قاضي تازا أبو مهدي عيسى الترجالي عمن زوَّج ابنة أخ له صغيرة مهملة من رجل وكان ذلك الرجل بدار والدها يبيت بعض الليالي ويهيئ لها في ذلك فتوفيت على الحالة الموصوفة دون أن تكون قاربت البلوغ ،[97/3]فقام زوجها يطلب أرثه منها ، و قال أولياؤها : إنها تزوجت قبل البلوغ وماتت قبله ، وَأَثْبَتُوا ذلك ببينة شهدت لهم بذلك ، وطلبوا الزوج بالصداق لإقراره أنها بلغت ، بينوا لنا الحكم في ذلك .
=فأجاب : أكرمكم الله تعالى ، إذا كان الأمر كما ذكرتم ، وزوجت اليتيمة قبل البلوغ من غير حاجة ، ومات أحدهما قبل الفسخ ، فالميراث بينهما ثابت ترثه ويرثها ، ويلزم الزوج جميع الصداق المسمى في الموت قبل الدخول وبعده ، ونصفه إن طلق قبل الدخول وقبل الفسخ ، ذكر ذلك ابن رشد -رحمه الله- في سماع ابن القاسم من كتاب النكاح من البيان و الله الموفق .
[من ادعى على رجل أنه أنكحه بنته بكرًا واستظهر برسم استرعاء]
(1/121)
________________________________________
*و سئل : الفقيه سيدي أبو القاسم التازغدري عن رجل ادعى على رجل أنه أنكحه ابنته بكرًا ، فاستظهر المدعي برسم استرعاء ثابت عند بعض قضاة البوادي بشهادة رجال من البادية شهدوا بأنهم حضروا بينهما ، وعلى الرسم المذكور خطاب المسدد المذكور ، فهل يصحُّ منها الرسم ويحكم به غيره من القضاة إذا زعم خط المسدد في خطابه أو حتى يثبت عنده خطابه ، وإذا ثبت عنده ، فهل يجب الإعذار فيه ام لا ؟ وهب تجوز شهادة أهل البادية في ذلك على أهل الحاضرة ، مع قولهم إنهم حضروا مع بعض العدول و لم يسموهم أم لا ؟ وهل يطلب القائم بتعيين العدول أم لا ؟ وإذا لم يعينهم و لم يسمع بذلك في البلد ، مع أن أبا الزوجة مشهور بالبلد بحيث لا يخفى على أهلها تزويج ابنته ، فهل هي ريبة في شهاداتهم أم لا ؟ ثم عن المسدد المذكور الذي ثبت عنده هذا الرسم كان عزل وتقدم غيره بأمر السلطان ، وبقي المسدد الأول على حاله من غير تقديم سلطان بعد ذلك ، فهل يصح العقد الذي ثبت عنده أم لا ؟ ثم إن أبا الزوجة بيده ظهير بعلامة السلطان ، يتضمن ألا يحكم في القضية قاضي مدينة فاس ، وإنما يحكم فيها قاضي مدينة تازا بمحضر من الفقهاء بها ،[98/3]وبعد صدور الظهير من السلطان بنحو من ستة ايام ، حبسه خصمه وحمله إلى قاضي مدينة فاس فأخبره بالظهير الذي بيده ، فعجل عليه بالأجل من غير رضاه ، فهل يلزمه الأجل أم لا ؟ بينوا لنا ذلك .
(1/122)
________________________________________
=فأجاب : الجواب و الله الهادي إلى الحق والموفق للصواب ، أن خطاب القاضي لا يثبت إلا بالبينة ، قال القاضي ابن رشد يثبت كتاب القاضي بشهادة شاهدين أنه كتابه قاله ابن القاسم وابن الماجشون ، و قال ابن أشهب : لا تجوز شهادتهما أنه كتابه حتى يشهد أنه أشهدهما عليه ، و لا يكتفي في ذلك بالشاهد الواحد و لا بالشهادة على الكتاب بخط القاضي ، و لا أن الختم ختمه ، انتهى . و هذا بناء على أن الشهادة على الخط لا تجوز وعلى قول من أجاز الشهادة على الخط يثبت خطاب القاضي بشهادة شاهدين أنه خطه ، و أما إعمال القاضي خطاب قاض بمعرفته بخطه دون بينة تشهد عليه فلا تجوز ، فإن كان ثبت عنده ببينة فلا بدَّ منن تسميتها للخصم والإعذار له فيها ، و لا يلزمه أجل قبل تسميتها ، و أما شهادة أهل البادية في ذلك على أهل الحاضرة من غير أن يسمع شيء من ذلك في الحاضرة مع شهادة أبي الزوجة في بلده ، وأن العادة سماع ذلك وانتشاره ، فلا تجوز لأنها ريبة في شهاداتهم ، لا سيما و قد قالوا إنهم حضروا مع بعض العدول ، فالواجب أن يسألوا عن تعيين العدول ، أو يسألا الخصم القائم بالرسم ، فإذن سموا أحدًا أو عينوه يسأل عن ذلك ، وعمل على ما تبين من الأمر ، هذا كله إذا ثبتت عدالة المسدد الذي شهدوا عنده ، وإلا فشهادتهم مطروحة والرسم باطل ؛ لأن جل قضاة البادية اليوم أو كلهم غير عدول ، معلوم منهم أخذ الرشا على ثبوت العقود عندهم وكتبهم عليها فهذا المسدد محمول على ذلك حتى يثبت خلافه . و هذا أيضًا ما لم يكن معزولاً ، فإن كان معزولاً كما ذكر في السؤال ، فالرسم مطروح و إن ثبتت عدالته .
(1/123)
________________________________________
و أما حكم القاضي على الأب والأجل في الرسم المذكور فهو باطل ، إذ لا يلزم أن يتأجل إلا في رسم ثابت ، و أما ما كان على الصفة المذكورة فلا يلزمه فيه اجل ، هذا لو لم يكن القاضي الذي أجله معزولاً عن الحكم في القضية ، فكيف و هو معزول عنها وبالله التوفيق ، وكتب محمد بن عبد العزيز التازغدري لطف الله به .
[99/3[الحسم الذي ثبت بالبادية لا يصح العمل به]
*و سئل : عم رسمين أحدهما ثبت عند مسدد بالبادية ، والآخر ثبت عند قاضي بلد بأمر السلطان ، وبينهما من المدة نصف المدة الذي ثبت تاريخ رسم البادية أربعة عشر شهرًا ، والذي ثبت بالمدينة سبق تاريخه بأربعة عشر شهرًا المذكورة ، وشهوده شهود معروفون زكى بعضهم وأثنى على بعضهم خيرًا ، وممن جرت العادة بحضورهم عند ذلك العقد ومثلهم ، و لا يخفى عليكم ما بين الرسمين من التباين والتباعد ، والأمر مستراب جدًّا لا يخفى على ذي عقل سليم ، تأملوا رضا الله عنكم جميع ذلك ، و ما عسى لو أغفلته من مقتضى العقدين ، و ما تضمن أحدهما ، وأوعب لنا الجواب بأكمل وجوه التقسيم والتفسير ، وأتم ما يحتمله من الشرح والتبيين ، فربما يتعسف متأول فيتمسك منه بلفظ مشكل ، حائزًا في ذلك الاهتمام جزيل الثواب .
=فأجاب : الجواب و الله الموفق للصواب ، أن الرسم الذي ثبت بالبادية ، لا يصح العمل به لما علم من مسدد البادية من قلة المعرفة وضعف الدين ، وغير ذلك مما يمنع من الوثوق بهم ، و لو سلم صحة الرسم الذي ثبت بالبادية لم يصح الحكم به ، و لم يمكن الزوج من المرأة ، إذ هي في عصمة الرجل الذي ثبت نكاحه في الرسم الذي ثبت بالحاضرة ، و لا يصح عقد النكاح على من هي في عصمة ، فالحكم بالرسم الأول الذي ثبت في الحاضرة واجب بعد استيفاء موجبه ، والعقد الثاني باطل لا يصح الحكم به و الله الموفق ، وكتب محمد بن عبد العزيز التازغدري لطف الله تعالى به .
[
(1/124)
________________________________________
من تزوج عليها زوجها وأهملها و لم يكن يختلف إليها ، فتوفي و لم يثبت طلاقها فإنها ترثه]
*و سئل : سيدي قاسم العقباني عن امرأة بقيت مع زوجها إلى أن كبر وضعف وكفّ بصره ، ثم تزوج عليها وهي معه في بيت إلى أن توفي وطلبت إرثها منه ، فقالت المرأة الأخرى وأولياؤها لا ميراث لك لأنه قد خرج عنك ، و لم يسمع منه طلاق إلى أن توفي وهي في عصمته وحوزه .
[100/3]فأجاب : القول قول الزوجة إنها لم تزل في العصمة ، وكونه كان متخليًا عن الاختلاف إليها والدخول عليها ، لا يدلُّ على كونه طلقها ، و الله الموفق بفضله وكتب قاسم بن سعيد العقباني لطف الله به .
[ليس على الزوج أن يكسو زوجته ، إلا إذا كان نقدها لا يفي بذلك]
*و سئل : سيدي عبد الله العبدوسي رحمه الله عز وجل عن رجل تزوج امرأة بكرًا منذ سبعة أشهر سلفت ، وبنى بها حينئذٍ وكان نقدها خلاخل فضة قيمتها عشرة دنانير ذهبًا ، وأقراص ذهب من دينارين ، وعقد جوهر قيمته ستة دنانير ذهبًا ، وشقة كتان بلدية العمل ، وفضلة خام ، و وقاية شرب من نصف رطل ، وكنبوش حرير ، وثوب زردخان ، وملحفة قطن ، كل ذلك من الجديد الوسط ، وهدية طعام ، وطلبت الآن الزوجة المذكورة من زوجها المذكور أن يكسيها ثوبًا يقيها من ملحفة قطن ، أو شاية ملف ، أو غير ذلك مما هو عرف بين أمثالها ، وطلبت أيضًا فراشًا من قطيفة وغيرها ، فهل يجب لها ذلك على زوجها المذكور لخلوه من النقد ولكون جميع نقدها لم يكن فيه ما يقيها برد الليل والنهار ، أو لا يكون لها شيء لقرب العهد في البناء بها ، و لأن نقدها له خطر وبال ، ويا سيدي أراد والدها معًا زيارتها كل يوم ، و والدها وكيلها ، وأراد الزوج منعهما إلا من يوم الجمعة إلى الأخرى ، وادعى أنهما يضربان به ، فهل يقبل قوله أم لا ؟ أو لا يمنعان ؟ بينوا لنا ذلك مأجورين .
(1/125)
________________________________________
=فأجاب : الحمد لله تعالى وحده ، الجواب واله تعالى الموفق للصواب بمنه ، أنه إن كان فيما نقد لها من الشقة والفضلة والوقاية والكنبوش ، ما يكفيها لكسوة فصلها ، فلا كسوة عليه حتى تخلق هذه ، أو يأتي فصل يحتاج فيه إلى زيادة كسوة تستدفع بها البرد ، فحينئذٍ يفرض عليه ذلك ، ويفرض عليه أيضًا فراش مثلها من مثله ، و هذا كله إذا كان ما نقد لها في ذلك لا يصرف في كسوة و لا فراش ، وربما للتجمل ، و أما إن كان ذلك يباع ، أو يباع بعضه عادة ليصرف في لباسها وشورتها ، فإنه يباع من ذلك ما جرت به العادة ، فإن وفى بكسوتها وفراشها ، فلا يلزمه ذلك ، وإلا كمل الباقي ، ولبس لأبويها زيارتها كل[101/3]يوم لما يلحق الزوج من الضرر في ذلك ، ولهما زيارتها على معتاد الزيارة بين القرابة من غير ضرر يلحقه ، وحدّه بعضهم من الجمعة إلى الجمعة إلا فيما يعرض لها من مرض وشبهه ، فلهما تفقدهما واختبار حالها ، وهما محمولان في زيارتها على الأمانة وعدم تخليقها عليه ، حتى يثبت ذلك ، فإذا ثبت منعا من زيارتها إلا مع أمينة تحرسها ، بحيث لا يخلون بها يمكنان من تخليقها فيها ، وللأب إذا كان وكيلاً لها الدخول عليهما احتاج إلى مشورتها ، والرفع إليها . والقبض منها ، إلى غير ذلك مما يرجع إلى مصالحها في أمور وكالتها ، وبالله سبحانه التوفيق ، وكتب عبد الله بن محمد بن موسى بن معطي العبدوسي لطف الله تعالى به وخار له .
[إذا سلم الأب ولده لمن يكفله على وجه النظر ، فليس للأم أن تنتزعه منه]
(1/126)
________________________________________
*و سئل عن رجل له امرأة أقامت مريضة مدة من شهرين ، فتعذر إرضاعها لولدها منه ، فدفعه والده المذكور لأخت له ترضعه وتحضنه وتقوم بأموره ، على أن لا ينتزعه منها نظرًا للولد المذكور ، وإصلاحاً لشأنه ، فبقي الولد المذكور بيد عمته المذكورة مدة أربع أعوام ، وأمه المذكورة صحيحة ، لم تنازع فيه و لا طالبته ، فقالت الآن أمه المذكورة تريد انتزاعه من عمته المذكورة ، والولد المذكور مغرم بعمته ، ويخاف عليه أن انتزع منها على عقله ، و قد كان والده المذكور دفعه لعمته المذكورة على الوجه المذكور .
(1/127)
________________________________________
=فأجاب : إن كان الأمر على ما ذكره أعلاه ، فليس للأم المذكورة لنتزاع الولد من عمته بوجه و لا حال ، لوجوه منها : أن الأب سلم فيه لعمته لتكفله على وجه النظر ، و قد قالوا للأب أن يهب ولده لمن يكفله على وجه النظر ولاستصلاح أو الحاجة رفقًا به ، أما الأول فنص عليه في المدنية(1)، و أما الثاني فنص عليه في المدونة ، ونصَّ المدنية و هو من رواية ابن نافع ، قال : سألت مالكًا عن الرجل يهب ولده لإنسان ، قال : مالك الهبة إنما هي حضانة ، فإن كانت الأم حية نظر لها في أمره ، فإن كان إنما وهبه إضرارًا لأمه لم يجز ذلك ، و إن كان وهبه للنظر وطلب الخير والصلة ، جاز ذلك عليها إذا كان هيته إياه[102/3]على وجه المعروف الجائز ، ثم إن طلق أمه لم يكن له أن يأخذه ممن وهبه إياه –انتهى نصها . و قال : في النكاح الثاني من المدونة : ومن وهب ابنته لرجل لم يجز إلا أن تكون هبته إياها ليس في على نكاح ، لكن على وجه الحضانة ، أو ليكلفها له فيجوز ، و لا قول لأمها إن فعل ذلك نظرًا لحاجة وفقر ، ومنها : علوق الولد بعمته والخوف على عقله عند انتزاعه منها ، وذلك كافٍ في إسقاط الحضانة على ما هو منصوص عليه . ومنها سكوت أمه بعد ذهاب مرضها المدة المذكورة ، وذلك مسقط لحضانتها أيضًا على نظر في هذا الوجه الآخر . [لم يكن يجوز للنبي صلى الله عليه و سلم نكاح الكتابيات ، والإماء المسلمات]
*و سئل : ابن سرحان عن مسألة وهي هل كان يجوز للنبي صلى الله عليه و سلم أن ينكح كتابية حرة وأمة مسلمة ، كما يجوز ذلك لأمته أم لا ؟
__________
(1) - كتاب في قصة مالك عيسى بن دينار .
(1/128)
________________________________________
=فأجاب : تأملت المسألة التي جرت في مجلسك الكريم ، وبحضرتك أدام الله تأييدك ، فاعلم أعزك الله بعزّ طاعته أنه قد يوسع الله على الأمة ويبيح لهم أشياء هي محظورة على نبيه صلى الله عليه و سلم و قد يوسع الله على نبيه ويبيح له أشياء هي محظورة على الأمة ، فمما خفق على الأمة وشدد على النبي صلى الله عليه و سلم الوتر والسواك والأضحية ، هي عليه فرض صلى الله عليه و سلم وعلينا من طريق السنة إن شئنا فعلناه و إن شئنا تركناه ، لكن الفعل أفضل ، لا سيما الوتر والأضحية لمن قدر عليهما ، وحد الواجب عندنا ما في فعله ثواب و في تركه عقاب ، أو ما حرم تركه وأثيب فاعله ، ومن ترك الأضحية لا يعاقب و لا يحرم تركها ، والَّليل على أنها عليه صلى الله عليه و سلم فرض ، قوله صلى الله عليه و سلم : «ثَلاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبُ عَليكم : السواك والوتر والأضحية» . وكذلك لم يوسع على النبي صلى الله عليه و سلم في ترك تغيير المنكر ، بل ذلك فرض عليه ، والفرق بيننا وبينه من وجهين : أحدهما أنه لو أقر هو عليه السلام على المنكر و لم ينكره ، لكان ذلك يوجب جوازه . و الثاني : أن اله تعالى ضمن له الظفر والنصر في تغييرات المنكرات ، وليس ذلك لأمته ، وكذلك كان قيام الليل على[103/3]النبي صلى الله عليه و سلم فرضًا ، وخفف ذلك على أمته ، وقيل : منسوخ بقوله تعالى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} . وكذلك كان له عليه السلام تخيير نسائه بقوله تعالى : {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الآيتين جميعًا, وكان هذا التخيير منه كناية عن الطلاق ، و إن اخترن الحياة الدنيا كان طلاقًا .
(1/129)
________________________________________
وحظر عليه صلى الله عليه و سلم الكتابة و قول الشعر ، و وسع في ذلك على أمته لأن هذا تأكيد لحجته ، وبيان لمعجزته صلى الله عليه و سلم وحرم عليه صلى الله عليه و سلم أكل الصدقات ، لكن كان ذلك إجلالاً له ، وإعظامًا لحرمته ، وتنزيهًا له عن أكل أوساخ الناس ، لما في ذلك من الرذيلة والدناءة ، و وسع في ذلك على أمته . وقيل : إنما حرمت عليه وعلى أهل بيته ، لقول المنافقين : إن محمدًا يؤكد في الصدقات ليستغني هو وأهل بيته ، فحرمت عليه لأجل ذلك و الله أعلم .
(1/130)
________________________________________
وكذلك ضيق عليه صلى الله عليه و سلم إذا لبس لامته أن لا ينزعها حتى يلقى العدو ، وأمته في ذلك بالخيار إن شاءوا لقوا العدو ، و إن شاءوا نزعوا اللامة قبل لقائه ، و هذا توسعه لهم . وكذلك حرم عليه صلى الله عليه و سلم نكاح الإماء ، وكان ذلك لما فيه من الدناءة والرذيلة ، وحطّ المنزلة ، وسقوط المروءة . وجه آخر أنه محال أن يسترق ابن النبي صلى الله عليه و سلم و وجه آخر و هو ابين أن الشرط الذي لأجله جوز لأنته نكاح الإماء و وسع عليهم فيه ، هو موجود في الأمة ، معدوم فيه صلى الله عليه و سلم و هو خوف العنت ، قال الله تعالى : {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ} إلى قوله : {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} . و هذا معدوم في النبي صلى الله عليه و سلم ، قد نزهه الله تعالى عن خوف العنت ، واستحال وجوده فيه ، كما استحال وجود الارتداد منه صلى الله عليه و سلم و إن كان الله تعالى قد قال : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} . قال أهل العلم : هذا خطاب له والمراد به أمته ، واختلف هل كان يحرم على النبي صلى الله عليه و سلم نكاح حرائر أهل الكتاب أم لا ؟ فقيل : لا يحرم عليه ذلك لأن ذبائحهم له حلال ، وكذلك نكاح[104/3]حرائرهم كالأمة ، ولأنه قد كان يمكن أن تسلم بعد نكاحه إياها صلى الله عليه و سلم وقيل : يحرم عليه نكاح حرائر أهل الكتاب ، و هو الصواب عندي ، لما في ذلك من تلطيخه صلى الله عليه و سلم برذيلة الكفر ، و ما فيه من سقوط المروءة ، وينبغي تنزيه معدن النبوءة ومحل الرسالة عن ذلك . ودليل آخر أنه قال صلى الله عليه و سلم : «زَوْجَاتِي فِي الدُّنْيَا زَوْجَاتِي فِي الآخِرَة» . وخبره صدق ، وكيف تكون الكافرة في الآخرة بموضع يكون فيه النبي صلى الله عليه و سلم .
(1/131)
________________________________________
ودليل آخر سمح به الخاطر بعون الله تعالى ؛ و هو أن الله تعالى قال فيه للنبي صلى الله عليه و سلم : {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} . فلو تزوج عليه السلام كافرة ، لكانت أمًّ للمؤمنين ، وذلك محال أن تكون أم المؤمنين بأسرهم كافرة ، و وسع الله على أمته في ذلك ، لأنهم لا يعترضهم شيء مما ذكرنا ، وربما قال قائل : قد كانت أم النبي صلى الله عليه و سلم كافرة ، و هو أفضل من جميع المؤمنين ، قلنا لم نقل نحن يستحيل أن تكون الكافرة أم المؤمنين من جهة الفضل وعدم الفضل ، ولكن من جهة الكثرة والجموع ، كيف تكون أم المؤمنين بأسرهم كافرة ، و أما في الواحد والآحاد فغير ممتنع ، هذا الذي حضرني ، فمن كان عنده وجه أبين من هذا وأضافه إلى هذا فهو مأجور ، و أما ما وسع الله فيه على نبيه وضيق علي الأمة ، فأشياء كثيرة يطول ذكرها ، لكن نشير من ذلك إلى ما حضر الآن ، فمنها أنه صلى الله عليه و سلم له أن يتزوج بغير عدد محصور ، وضيق على أمتته وقصروا على عدد محصور . وله صلى الله عليه و سلم أن يتزوج ويطأ بغير مهر ، و لا يجوز ذلك لأمته . وقيل : كان له أن يتزوج بغير ولي وغير شهود ، وليس ذلك لأمته ، وذها لأن الولي يراد ليختار الأزواج ، ويحتاط إذ لا ينخدع ، والنساء ينخدعن ، و لا أحد خير منه صلى الله عليه و سلم ومن أخذه و لم يخدع ، والشهود إنما هم للتوقف وليس هناك حاجة تدعو إلى التوقف منه صلى الله عليه و سلم وقيل : إنه وسع له أن يتزوج صلى الله عليه و سلم محرمًا وليس ذلك لأمته ، فإنه تزوج محرمًا على ما روى ابن عباس رضي الله عنه ، واختلف هل كان له ترك القسم بين نسائه أم لا ؟ فقيل : ليس[105/3]له ذلك كأمته ، بدليل أنه كان يطاف به صلى الله عليه و سلم على نسائه و هو مريض ، ويقول : «هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ وَلاَ تُوَاخِذِنِي بِمَا لاَ أَمْلِكُ» يعني قلبه .
(1/132)
________________________________________
وقيل : لم يكن القسم واجبًا عليه لقوله تعالى : {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتئْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية . وإنما كان يقسم استحبابًا ، وأبيح له صلى الله عليه و سلم الصفي من الغنيمة ، و هو أن يصطفي لنفسه ما يشاء وليس ذلك لأمته ، وأبيح له صلى الله عليه و سلم الوصال وحظر على أمته ، فإنه نهى عن الوصال فقيل : إنك تواصل ، فقال : «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمُ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» . قيل معناه : يقوتني ويمدني بوحيه . وأبيح له صلى الله عليه و سلم الحمى لنفسه ، فحمي الأرض لرعي ماشيته ، و لم يبح ذلك لغيره من أمته ، لقوله : لا حمى إلا لله ورسوله . و قد روي عن عمر في هذا شيء ، و قد خصّ الله تعالى الأمة مع نبيها محمد صلى الله عليه و سلم بأشياء أكرمهم بها : أحلت لهم الغنائم وكانت حرامًا على من تقدم من الأنبياء والأمم ، وجعلت له ولأمته الأرض مسجدًا وطهورًا ، و لم يكن ذلك لمن تقدم . وجعلت صفوفهم كصفوف الملائكة و لم يكن ذلك لمن تقدم . وجعلت أزواجه أمهات المؤمنين من أمته لا يحللن لأحد من بعده ، وهذه كرامة له ولهم . وبعث صلى الله عليه و سلم إلى الكافة ، وبقيت معجزته بعد غضة طرية لا يبليها تقادم الأيام و لا مرور الزمان ، وهكذا إلى يوم القيامة –وهو القرآن . وجعل خاتم النبيئين . ونصر بالرعب ، فكان العدو يرهبه مسيرة شهر . وفضلت أمته بأن لا تجمع على ضلالة عصمت من ذلك . وسوى ذلك كثير لا يحصى .
(1/133)
________________________________________
ولتعلم أن قوله تعالى : {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} إنما أراد به في معنى دون معنى ، وذلك أنه لا يحل لنا نكاحهن بحال ، فهن مؤبدات التحريم كأمهاتنا حقيقة ، وحرمتهن علينا أعظم من حرمة أمهاتنا اللاتي ولدننا ، ويجوز لنا إنكاح بناتهن لو كن لهن و لا يحرمن ، ألا ترى أنه صلى الله عليه و سلم زوَّج بناته المؤمنين وهن أخوات لهم ، فزوج فاطمة عليًّا ، وزوج ابنتيه عثمان ، و قال : لو كانت لنا ثالثة لزوجناك ، فنعم الصهر أنت ، فدل ذلك على أن أزواج النبي أمهات المؤمنين في التحريم لا غير ، إذ لو كن أمهات من جميع الوجوه ، لحرَّم بناتهن على المؤمنين و الله أعلم بالصواب .
[106/3][فسخ النكاح بشرط الخدمة في العقد]
*و سئل ابن رشد عما وقع للمتأخرين في فسخ النكاح قبل البناء بشرط الخدمة في العقد ، هل يوجد للمتقدمين ؟ فلم أقف لهم على شيء إلا نظائرها في اشتراط النفقة ، فأفسدوا النكاح به قبل إذا شرط نفقة مثلها ، و لا فرق بين الموضعين ، إذ نفقة المثل والخدمة إنما يجبان ويحكم بهما مع اليسر لا مع العسر ، بخلاف اشتراط مجرد النفقة لوجوبها على كل حال ، فلم يضر اشتراطها حسبما وقع في علمك في المسألة في كتاب محمد والعتيبة ، و إن كان ابن حبيب قد أجاز اشتراط الوجهين في مسألة النفقة وحكاه عن شيوخه ، و لا فرق بين الخدمة ونفقة المثل ، ورأيت ابن الهندي أجاز التزام الخدمة و لم يذكر في ذلك الطوع ، و قال ابن العطار فيها : وكونها على الطوع أصح يشير إلى الخلاف ، فهل هذا كله للمتقدمين أو هو مستقر مقاس على مسألة النفقة ؟ لشيخي الفضل في شرح هذه المسألة بما عنده في ذلك إن شاء الله مأجورًا .
(1/134)
________________________________________
=فأجاب : تصفحت أعزك الله السؤال و وقفت عليه ، والتنظير الذي نظرت بين المسألتين صحيح عندي على ما ذكرته ، و قد اختلف على علمك في الإخدام فقيل : إن الحكم به على الزوج لزوجته كالنفقة ، إلا أنها تطلق عليه بالعجز عنه ، و هو قول ابن الماجشون . وقيل : إنه يجب عليه كالنفقة ، إلا أنها لا تطلق عليه بالعجز عنه ، و هو قول ابن القاسم ، وذهب ابن حبيب إلى أن الإخدام لا يجب على الزوج لزوجه إلا أن يكون موسرًا ، أو تكون هي من ذوات الأقدار ، و إن لم تكن من ذوات الأقدار لم يكن عليه إخدامها و إن كان موسرًا ، إلا أن يكون من ذوي الأقدار لم يكن عليه إخدامها و إن كان موسرًا ، إلا أن يكون من ذوي الأقدار الذين لا يمتهن نساؤهم في الإخدام ، فعلى القول بإيجاب الإخدام لا تأثير لاشتراطه في صحة عقد النكاح ، وعلى القول بأنه لا يجب في موضع ما ، مع اشتراطه في الموضع الذي لا يجب فيه ، فإن وقع كان له تأثير في صحة العقد يجب به فسخه قبل الدخول ، فإن طاع به الزوج بعد العقد ، جاز باتفاق و لم يك به فسخه قبل الدخل ، فإن طاع به الزوج بعد العقد ، جاز باتفاق و لم يكن فيه كلام ، وبالله التوفيق .
[107/3][للحاضنة زيارة من تحضنها بحكم شرط الصداق]
*و سئل عن الحاضنة والمريبة إذا لم تكن قرابة فطلبت الزيارة لمن حضنته بحكم شرط الصداق لهم بزيارة أهلها من النساء ، فهل يجب لها ذلك ، والمضرة في انقطاعها أشد من المضرة من بعيد الأقارب ومحارم الرجال من الرضاع والصهر ، ما تراه في ذلك ؟
(1/135)
________________________________________
=فأجاب : وقفت أعزك الله بعز طاعته على السؤال الواقع فوق هذا ، والذي أراه في هذا و الله الموفق للصواب برحمته أن يكون لها من الشرط في حاضنتها ما لها في قرابتها ؛ لأن الأحكام إنما هي للمعاني لا للأسماء ، والمعنى فيما اشترطته إنما هو أن لا يحال بينها وبين من ـأنس بها وترجو الانتفاع برؤيتها ، و قد علم بمستقر العادة أن الحاضنة أحق من المحضونة وأشفق عليها وأنفع لها من كير من قرابتها وذوي محارمها من الرضاعة ، والصهر في ذلك بمنزلة ذوي محارمها من القرابة ، وبالله التوفيق . قال أبو عبد الله محمد بن عياض إلى نحو هذا ذهب أبي رحمه الله في هذه المسألة وألف في ذلك جزءًا أتى فيه على جميع معانيها وفصولها ، فمن وقف عليه ، رأى في هذه المسألة شفاء صوره .
(1/136)
________________________________________
ومن كلامه أن معنى الأهلية المقدم ذكرها ، من يقع به الأنس والخصوصية حتى يقع الضرر والوجد بدوام فراقهم ، ويوجد الشوق والتوق بطول نأيهم ، فحيث وجدت هذه الصفة ، كان من الأهل الذين يحكم بالتزاور بينهم ، ويجبر الزوج على الإذن لهم ، و إن حدث بعد الشرط ممن يكون متهيئًا بحكم العادة والعرف لهذه الصفة من القرابة القريبة والصهر ، غير ملتفت في ذلك إلى مجرد المغيب كائنًا من كان من نسب أو صهر أو رضاع أو كافل أو مولى أو مصاقب ، إّ ليس المعنى الذي حكم له بالزيارة كونه مولى أو رضيعًا ، بل لمعنى الأهلية المشترطة التي هي التأنس والسور باللقاء ، والشوق والتوق عند التنائي ، حتى لو عدت من هذا المعنى مع وجود القرابة القريبة كالأختين يعرف بينهما تباعد وقطيعة لم يتزاورا لها قبل قط ، فلو طلبت إحداهما من زوجها زيارة ، لأخرى بمقتضى شرطها دون إقلاع عن قطيعتها و لا صلة لرحمها ، رأيت أن يحكم لها بذلك على الزوج جملة ، إذ المعنى[108/3]المطلوب من التزاور غير موجود فيهما ، فهذه و إن كانت أختًا فليس بأهل ، فكذلك غير النسب أهل إذا وجدت فيه معنى الأهلية ، كما قالوا القريب بعيد بعداوته ، والبعيد قريب بمودته . و قال إسماعيل بن صبيح : الود أعطف من الرحم ، هذا نص كلامه رضي الله عنه . ومما يشهد لذلك أيضًا قول عمر رضي الله عنه في رسالته لعلي رضي الله عنه عند توقفه عن مبايعة أبي بكر رضي الله عنه : ولعمري إنك اقرب على رسول الله صلى الله عليه و سلم قرابة ، ولكنه أقرب منك قربة ، والقرابة لحم ودم ، والقربة روح ونفس انتهى .
[من شرط لزوجته أنه كلما منعها من زيارة أحد من محارمها فأمرها بيدها]
(1/137)
________________________________________
*و سئل أبو عمران عن الرجل يشترط لامرأته أنه كلما منعها من زيارة أحد من محارمها من الرجال ، أو أحد من قربتها من النساء ، أو منعها أن تشهد لأحد منهم فرحًا أو حزنًا ، أو تؤدي إلى أحد منهم حقًّا في الوقت الذي يصلح ذلك فيه ويجوز ، أو منع أحدًا ممن ذكرنا من زيارتها ومن الدخول إليها في الأوقات المذكورة ، فأمرها بيدها ، فتريد المرأة أن تزور أهلها عن يومين أو عن ثلاثة ، وأراد الزوج منعها من ذلك حتى يكون بين الزيارة والزيارة وقت بعيد ، فما حد ذلك ؟ وكم قرر ما يكون بين الوقتين في الزيارة ؟ وهل الأبوان أوكل منذ وي المحارم في الزيارة ؟ أو هما معهم سواء في دخول ذوي المحارم في الشرط ؟ وكيف إن حدث لأهل المرأة عرس ، أو مات لهم ميت ؟ كم قدر ما تقيم عندهم بواجب الحق ؟ وهل في الزيارة وشهود الفرح والحزن مبيت للمرأة بالليل ؟ أو لا مبيت لها إن كان لها الشرط المذكور ؟
(1/138)
________________________________________
=فأجاب : أما شرط زيارة المرأة قرابتها ممن كان رحمه أمس كالوالدين والإخوة ، كان أوجب حقًّا وأحرى بالتكرار ، ما لم يخرج إلى حدِّ الإكثار ، ومن بعدت رحمه من ذوي المحارم ، كان الواجب لهم من الزيارة للشرط خوفًا من الحنث أقل ، و ما في ذلك وقت موقت إلا ما جرت به العادات مما لا يخرج على وجه مذموم في الشريعة ، وكل ما يرفع القطيعة من الزيارة ، فهو يكفي عنها ،[109/3]لأن الأصل للرجل منع امرأته من الخروج ، إلا فيما لا ينكر لهما الخروج لنحو ما جرى من القول فيما أبيح للمرأة الخروج عليه من جنائز من يختص من أقاربها ، فما زاد على نحو أولئك من ذوي المحارم للشرط المنعقد للتمليك ، فلا ينبغي أن يدخل فيه بالقضاء ، إلا ما لا يستيقن من القدر الذي لا يشك في أنه لا يكون اقل منه من الزيارة ، إلا أن يتبرع الرجل خوفًا من إشكال المقدار الذي يؤخذ بالاجتهاد ، حرزًا من خطأ المجتهدين ، فيختار التحفظ بأن لا يمنعها من كل ما يشك فيه هل هو مما يقضي به من الزيارة أم لا ؟ ولهذا الإشكال تتأكد الكراهة في هذه الشروط مع ما ذكره أهل العلم من كراهة عقد النكاح بها ، ومن كراهة الشهادة فيه من سبها ، فكل ما يتذرع به على الشبهات حسنت حمايته ، و أما الفرح والحزن ، فهما أحوج إلى المبيت من الزيارة المطلقة ، والزيارة في المصر لا يستعمل الناس المبيت فيها في الأغلب ، و إن كان في العرس أو الموت منكر ، كان للزوج منعها من شهود المنكر الظاهر ، إذ لا يحتمل الشرط على أنه قصد به المحظور ، و لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان ، و الله ولي التوفيق .
[من توجت وهي في صمة زوج آخر ، فإنها تؤدب ، ويلحق أولادها بأبيهم]
(1/139)
________________________________________
*و سئل الفقيه ابن لؤي عن رجل غاب عن أهله على سبيل التجارة ، ثم أقام في مغيبة مدة من ثلاثة أعوام ، ثم قامت زوجته عليه في غيبته وأخذت بشرطها وطلقت نفسها بعد يمينها وانقضت عدتها ، فتزوجت فأقام الزوج الثاني معها مدة فغاب أيضًا عنها ، ثم إنها بعد غيبة الثاني بمكان زوجها الأول ، وكان في غير ذلك البلد الذي كانت هي فيه ، فمشت إليه و لم تعلمه بما صنعت من طلاق نفسها و لا من زوجها الثاني ، فصارت معه على حسب ما كانت عليه أولاً ، و هو في ذلك كله لا يعلم حتى ولدت منه أولاداً ، ثم غنه أعلم هذا الزوج الأول التي هي الآن معه بما فعلته من طلاقها وتزويجها زوجًا غيره ، و أنها في عصمة ذلك الزوج الثاني ، فاعتزل عنها ، فهل يلحق به وفقك الله هؤلاء الأولاد ، وهل عليها حد أم لا ؟ وهل تعذر بالجهل أن ادعته ، بيِّن لنا الواجب في ذلك مشكورًا مأجورًا والسلام .
[110/3]=فأجاب : الأولاد لاحقون بأبيهم ، وعلى المرأة الأدب الموجع إن كان على ما ذكرت ، إلا أن تكون عالمة فتحد ، و الله المخلص قاله ابن لؤي . وهذه المسألة و ما تقدم للقابسي وفقهاء فاس من نمط واحد .
[لا يكتفي القاضي بمعرفة خط الشاهدين ، بل لابد من إحضارهما لديه]
*و سئل المازري عمن ولاَّه القاضي على المناكح فتأتيه المرأة للترويج وتخبره بطلاقها من زوج كان لها بشهادة شاهدين و هو يعرف أنه خطهما ، فهل يكلفها إحضار الشاهدين إليه أو يكتفي برؤية خطهما في شهادتهما والوقوف عليه ومعرفته ، لصعوبة الحضور عليهما ، و لأن العادة لم تجر عندهم بذلك .
(1/140)
________________________________________
=فأجاب : لا يكتفي برؤية خطهما ، لأنهما قد يحضران فينكران الشهادة ، فنكون أحق بإنكارهما منه ، والشهادة على الخط مختلف فيها ، و قد يضرب على الخطوط ، والاقتصار على هذا يمنع الذي ذكرنا فيه من القوادح ، كالاقتصار على النقل عن شاهدين حاضرين مع عدم عذرهما في الحضور لمجلس القاضي ، فإن ذلك مما يستراب ، و قد يحضران فينكران النقل عنهما ، فلم يجز النقل عنهما في حضورهما لما فيه من الاسترابة ، فكذلك هذا يمنع مع الذي أشرنا إليه فيه . قيل : إنما افتقر هنا لرفع الشهود والإعذار ، لكونه حكم حاكم بخلاف الرفع إلى الشهود ، فيجزئ خطهما أو تعريفهما لشهود النكاح ، وبذلك أفتى ابن أبي زيد فيمن تأتي ببراءة بشهادة شهود بيدها من زوج فتريد التزويج بعده ، و وقع لمالك في المرأة يموت زوجها فتأتي بشاهدين لغير حاكم فيشهدان بمعاينتهما الموت ، فإنه يزوجها بذلك ، و لا يحتاج على حاكم يحكم بالوفاة إذا كانا عدلين ؛ لأنه لو رفع إلى القاضي لفعل مثله ، وتعقد شهادة الشاهدين في وثيقة الصداق أو غيره ، لكن قبل هذا النكاح ، وإلا ولي الرفع إلى القاضي فيحكم بالموت أو بالفراق .
[الشروط التي ينبغي إثباتها عند مقدم القاضي لعقد النكاح]
*و سئل : ابن رشد عن المقدم على النكاح ما يلزمه أن يطلب من جاء من رجل أو امرأة يطلب النكاح من الشروط والمقدمات ، فحينئذٍ يعقد ، فهل يثبت[111/3]ذلك عند القاضي ، وحينئذٍ يعقده ، أو يكتفي بإثباته عنده ، وهل يأخذ الأجرة من الزوجين أو أحدهما عند تولي العقد أم لا ؟
(1/141)
________________________________________
=فأجاب : الذي يلزمه صاحب المناكح إذا جاءه رجل يطلب عقد نكاح امرأة عنده ، أن يعرف بأنها غير ذات زوج و لا في عدة منه ، وأن لا ولي لها أو لها وليّ غائب ، وأن الزوج كفؤها و إن المفروض صداق مثلها ، و إن كانت بكرًا يتيمة ، فإن فوض إليه القاضي الذي قدمه إثبات ذلك عنده ، وإلا فلا يصح أن يزوجها حتى يثبت ذلك عند القاضي فيعلمه به ، قيل و لم يتكلم على الأجرة ، وجوابها إن كان جعل له عقد الأنكحة فلا يجوز له أخذ الأجرة ؛ لأنه أخذ على الحكم وتكون رشوة ، و إن لم يكن إليه فجائز أخذه الأجرة ، وتكون على الزوجين أو أحدهما ، وترك ذلك أولى .
[امرأة طارئة تذكر أن زوجها تخلف عنها في بعض الطريق ، وتريد تطليق نفسها]
(1/142)
________________________________________
*و سئل : المازري عن امرأة طارئة من المغرب تذكر أن زوجها تخلف في بعض الطريق قبل وصوله إلى بجاية ، وأرادت أن تطلق نفسها عليه وتأتي بشهود صحبتها لا يعرفون . =فأجاب : لا يصح الحكم على زوجها بالفراق الآن لاعترافها بالزوجية وبقاء العصمة ، وادعت غيبته مقرة بالعصمة ، مدعية ما يوجب زوالها ، وعلى الطريقة الأخرى لا تؤخذ بأكثر مما أقرت به و قد زعمت وجهًا يوجب الطلاق فورًا ؛ لأنها ذكرت أنه فارقها قبل وصوله بجاية ، ومن الممكن أن يكون أخطأ طريقًا آخر قادمًا لهذا البلد طالبًا لزوجته ، وعاقه عائق عن الوصول ، فالواجب تسميته والبحث عن اسمه الذي تذكر في المواضع القريبة ، حتى يعلم أنه ليس بالقرب ليعذر إليه ، وأنه لا شيء له ينفق عليها منه ، فينظر حينئذٍ بالفراق منه بالواجب ، والشهود غير المقبولين لا يعول عليهم ، والتعويل على إقرارها ، وفيه ماذ كرنا من المذهبين ، قيل : الأصل المشار إليه هو تبعيض الدعوى وإجمالها ، فابن القاسم يبعض الدعوى فيصير مقرًّا مدعيًا ،[112/3]وأشهب لا يؤاخذه إلا بجملة كلامه ، وفيه مسائل ولها نظائر ، منها : دعوى زيادة الورم في كتاب الغرر ، ومسألة تسلف الوديعة عند تلفها ، وكذلك القراض والوديعة ، وكذلك الإقرار بوطء جارية يدعى أنها له وينكر صاحبها ، ومسألة طلقتك وأنا صبي أو مجنون ، إلى غير ذلك من النظائر ، فلهذا الأصل أشار الشيخ في فتواه .
[امرأة قدمت من بعض الجهات ، وتطلب من القاضي تزويجها]
*و سئل : أبو عمران عن امرأة تقدم بلدًا و لا يدري من أي موضع قدمت ، و لا من هي ؟ فتطلب التزويج ، هل يزوجها السلطان بغير إثبات موجب ، وكذا لو زعمت أنه كان لها زوج مات عنها أو طلقها .
=فأجاب : إن كان البلد قريبًا كتب إليه ، و إن كان بعيدًا يتعذر وصول الجواب ، أو يكون بعد أزمنة طويلة ، خلي بينها وبين ما تريده إذا لم يتبين كذبها .
[
(1/143)
________________________________________
امرأة تدعي أن لها زوجًا غائبًا غيبة القطاع ، وتطلب من القاضي تزويجها]
*و سئل : عبد الحميد عن طارئة على بلد تأتي لقاضيه فتذكر أن لها زوجًا غائبًا عنها في بلدها غيبة منقطعة ، وأخرجت صداقها مجهول الشهود ، واسم زوجها مجهول ، و لا يعرف صدقها من كذبها ، و قد شكت الضيعة ، و أنها إن بقيت حافت على نفسها وحالها الفقر ، فهل تطلق عليه بما تقدم ؟
=فأجاب : بأنه ينظر في حالها ويتثبت فيه ويتلوم حتى ييأس من وعرفة صدقها أو كذبها من حال الزوج ومكانه ، و لا مال له ، ويثبت كونها طارئة من مكان بعيد يتعذر كشف حال زوجها ، فتحلف حينئذٍ اليمين الواجب في هذا ، وعلى صدقها فيما ذكرت ، وتوقع الطلاق بشرط أن يقال : إن كان الأمر كما ذكرت .
[امرأة قدمت مع الحجاج وتقول : إنها تخشى العنت ، وتريد التزويج]
*و سئل : ابن حبيب عن امرأة تقدم المدينة مع الحجاج وتقول خفت[113/3]العنت وأردت التزويج ، و لا يعلم هل لها زوج أم لا إلا من قولها ، وهي من ذوات القدر والأولياء ، هل يزوجها السلطان أم لا ؟
=فأجاب : تزوج و لا تطلب ببينة بأنها لا زوج لها إذا كانت غريبة بعيدة الوطن ، وأحب سؤال هل معرفتها وبلدها ممن معها في الرفقة سؤالاً من غير تكليف شهادة ، فإن استراب ترك تزويجها ، وإلا زوجها ، وليست كمن مكانها قريب .
[غريبة ليس لها من يدخل عليها و لا من يخرج ، أرادت إذن القاضي لها في تزويجها]
*و سئل : ابن الضابط عن غريبة ذكرت أنها من الجبل ، لها بسفاقس سنة ونصف ، و لم يرج لها من يدخل عليها و لا يخرج ، وذكرت أنه ليس لها زوج ، وأرادت إذن القاضي في تزويجها وهي ضعيفة .
=فأجاب : إذا كشفت جماعة من الجيران عن حالها وذكروا صدقها فيما ادعت زُوِّجت .
[ما يكتب من الشروط على الطوع ، والعرف يقتضي شرطيتها]
*و سئل : ابن رشد عما يكتب من الشروط على الطوع ، والعرف يقتضي شرطيتها ، هل هو كالشرط أم لا ؟
(1/144)
________________________________________
=فأجاب : إذا اقتضى العرف شرطيتها فهي محمولة على ذلك ، و لا ينظر لكتبها على الطوع ؛ لأن الكتَّاب يتساهلون فيها و هو خطأ ممن فعله .
=و أجاب : ابن الحاج بأن الحكم للمكتوب لا للعرف ، و في المذهب ما يؤخذ منه هذان القولان ، و هو إذا اشترطت أنها بكر فوجدها ثيبًا والعرف يقتضي أن البكر هي العذراء .
[من تزوج يتيمة ولها إخوة وأم ، فنقدها صداقها ودعا إلى البناء ثم فلس]
*و سئل : أبو محمد بن خزرج عمن تزوج يتيمة ولها إخوة وأم ، فدفع[114/3]النقد إليهم ودعا إلى البناء ثم فلس وأحاطت الديون بماله واليتيمة ذات مال وكرهته .
=فأجاب : إن كان غرها بماله و لم تعلم بديونه ، فلها ردّ النكاح لأنه غير كفء لاغتراق الديون لماله .
[وليه قوم نكحها رجل طارئ مكفوف البصر من أهل الشر والفساد وبنى بها]
*و سئل : ابن زرب عن ولية القوم نكحها رجل طارئ مكفوف من اهل الشر والفساد ، فأنكر ذلك أولياؤها وذهبوا إلى فسخ النكاح و قد كان بنى بها .
=فأجاب : لا سبيل على حل النكاح إن كان قد دخل بها ، قيل له فلو لم يدخل بها فوقف قال الذي لا اشك فيه انه إذا دخل لا يفسخ النكاح .
[رجل فاسد الحال ، زوج ابنته غير كفء]
*و سئل : بعض العلماء عن رجل فاسد الحال من العرب زوَّج ابنته غير كفء ، فأنكر أخو الرجل الفاسد الحال ذلك فما ترى ؟
=فأجاب : بأنه ينظر لها السلطان وليس لأبيها الفاسد الحال أن يزوجها غير كفء ، و في النوادر قال أصبغ من زوج ابنته من رجل سكير فاسق لا يؤمن عليها لم يجز ، وليرده الإمام و إن رضيت هي به ، و في الوصي نحوه .
وفي الحديث : «مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتُهُ مِنْ فَاسِقٍ وَهُوَ يَعْلَمَ ، فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا» . أي قرابة ولدها منه ، وذلك أنه يطلقها ثم يصير معها على سفاح ، فيكون ولده منها لغير رشده ، فذلك قطع الرحم .
[115/3][من زوَّج ابنته البكر من رجل فباراها الزوج على أن وضع عنه الأب الصداق]
(1/145)
________________________________________
*و سئل : إبراهيم عن رجل زوَّج ابنته بكرًا من رجل فشجر بينهما ، فباراها الزوج على أن وضع الأب عنه الصداق ، ثم أقر الزوج بعد ذلك أنه كان يغشاها في بيت أبيها وأنه افتضها ، وثبت إقراره بذلك ، وقام الأب يريد الرجوع عليه بالصداق ، و قال : لو علمت أنك رأيتها لم أحط عنك صداقها .
=فأجاب : إن كانت المباراة انعقدت بأنه باراها قبل الدخول بها ، و لم يكن عنده مدفع فيمن يشهد عليه بالإقرار الذي ذكرت عنه ، لزمته المباراة وغرم جميع الصداق الذي نكحها عليه .
[الموثق يكتب في صداق البكر التي في حجر أبيها أنها خلو من الزوج ، و في غير عدة الوفاة]
*و سئل : ابن المكوي عن الموثق يكتب صداق البكر التي في حجر أبيها ، ويكتب في آخره : هي خلو من الزوج و في غير عدة من وفاة ، أترى ذلك من الأمر المستنكر لذات الأب الشريفة في قومها ؟ أم ترى عقده أحوط لها إذ لها ما للعامة ؟
=فأجاب : المناكح على السلامة والصحة ، و لا يحتاج إلى ذكر هذا في هذا الموضع .
[من عقد نكاحًا وغفل عن ذكر الشروط وتاريخ الكالئ]
*و سئل : اللؤلؤي عن النكاح يعقد ويغفل فيه عن ذكر الشروط وتاريخ الكالئ ، فماذا كان عند عقد الصداق ؟ قال الناكح : لست أريد أن تكتب علي شروط ، و لا أعقدها على نفسي ، وطول في أجل الكالئ . و قال المنكح : إنما غفلت عن ذكر الشروط وتاريخ الكالئ عند عقد نكاحها ، لما قد جرى في البلد من ذلك وعرف ، والشروط عندهم أمر معروف لا يعدوه أحد إلا أن[116/3]يكون خاصًّا شاذًّا ، والتاريخ الكالئ ثلاثة أعوام لا يعدوه أحد إلا الشاذ كما ذكرت لك ، هل يحمل الأمر على ما جرى في البلد أم كيف الفتيا في ذلك ؟
=فأجاب : لا يجبر على ذلك و هو بالخيار إن شاء أن ينضم إلى ما يقولون ، أو ينضموا إلى ما يقول ، وإلا ، فله الانحلال .
(1/146)
________________________________________
=و أجاب : ابن المكوي : إذا كانت أحوال الكوالئ عندهم معروفة لا تختلف ، فالنكاح نافذ جائز ، ومحمل أمره في الكوالئ على المتعارف عندهم ، و لا يلزم الزوج شروط لم يلتزمها قبل .
[من تزوج امرأة وأراد البناء بها ، فمنع جهازها إلا أن يضمن ذلك]
*و سئل : أصبغ بن خليل عن الرجل يريد البناء بأهله ، فمنع من إعطاء جهازها إلا أن يضمنه .
=فأجاب : إن ألزم نفسه ضمان ذلك لزمه ، قيل له : فإن أراد الولي أن يحبس بعض جهازها عنها إذا أراد إخراجها إلى زوجها ، فقال : ليس ذلك له إلا ما كان من العقارات والغلات والناض .
[يجوز للرجل أن يخرج بساط امرأته وفرشها إلى من يجلس عليه]
*و سئل : ابن مزين عن الرجل هل يجوز له أن يخرج بساط امرأته وفرشها ومرافقها إلى من يحل به ، ويجبرها على ذلك أم لا ؟
=فأجاب : ليس للمرأة أن تمنع زوجها من إخراج لحافها وبساطها و وسائدها ونحو ذلك إلى ضيفه ومن حلَّ به على وجه المعروف و ما لا بد منه ، إنما نكح الرجل ليدخل إلى بيت وأهل و وطاء ولحاف له وغلى ضيفه و ما لا بد منه ، ولهذا قضى على المرأة أن تتجهز بصداقها وتتخذ به الأفرشة واللحاف والمتاع والصحفة والقدح والخادم إن حمل ذلك الصداق ، كما ليس للزوج أن يسكنها بيتًا لا سقف له و لا طعام و لا أدام و لا معاش ، فكذلك ليس لها أن تخرج إليه بغير فراش و لا وطاء إنما يتزوج إلى أهل وبيت وطاء ، وشوار ،[117/3]وتتزوج المرأة لتخرج إلى مسكن وطعام ومعاش وزوج يقوم عليها . و في نوادر الشيخ أبي محمد بن أبي زيد عن كتاب ابن سحنون للزوج أن يتوطأ من جهازها ، و لا أن يعطيها ضيافه و لا عبيده إن منعته ، و لا لها أن تعطيه رقيقها فيوطئونه إن منعها .
[على المرأة أن تتجهز بقدر النقد من صداقها ، ويستكتع الزوج بها]
(1/147)
________________________________________
*و سئل : ابن الفخار عن مفتٍ يقول لا يستمتع الزوج بما ابتيع من الصداق إلا سنة لا أكثر ، وهل على المرأة أن تشتري من صداقها كسوة تلبسها عند زوجها إذا طلبها الزوج بذلك ، وهل الكسوة المبداة في الصداق في الابتياع على ثياب سريرها ، إذ الزوج لا يريد أن يكسوها إلا من الصداق .
=فأجاب : على المرأة عندنا –أعني اهل المدينة أن تتجهز على زوجها بقدر النقد مما يعرف أنه جهازها جار عندهم في البلد ، وللزوج أن يستمتع به معها حتى يخلق وتذهب عينه ، وإنما حدت السنة عند الخصام في دعوى ذهابه .
[إذا كانت أم مجدومة وأبي الزوج من مباشرة ابنتها لها ، فعلى البنت أن تشتري من يلي ذلك]
*و سئل : ابن زيد زعد عن امرأة مجذومة لها ابنة متزوجة ، فتريد الابنة أن تمضي إلى أمها لتمرضها وتغسلها وتباشرها وتفليها ، ويأبى ذلك الزوج ويقول : إنك إن فعلت ذلك عافتك نفسي و لم تقبل عليك ، وليس للمرأة أحد ، والابنة ملية تقدر أن تشتري للأم من يلي ذلك منها وهي معدمة .
=فأجاب : أرى للزوج في هذا مقالاً لأن النفوس تعاف هذا ، فإن كان للأبنة مال ، فينبغي أن تشتري للأم خادمًا تلي ذلك منها مما ينبغي لها أن تليه من ذلك ، وتؤمر بذلك ويقضى به عليها ، و هذا على أن الأم لا شيء لها ، و أما إن كانت الأم ملية فذلك عليها و إن كانت الابنة عديمة والأم عديمة ، وأبى الزوج أن يرضى بذلك للزوجة ، فإنه لا يقضى بذلك عليه ، وتكون منونة الأم فيما تحتاج إليه على من عطف عليها من المسلمين .
[118/3][امرأة ضاع كتاب صداقها وطلبت بكالئها]
*و سئل : أبو صالح عن امرأة ذهب كتاب صداقها وذلك كثير عندنا ، لما نال الناس من الفتنة وذهاب الكتب من أيديهم ، وطالبت زوجها بكالئها فقال لها مالك على شيء وهي امرأته ، وكيف إن ماتت وطلب ذلك الورثة و قد عرف أنها امرأته ، إلا أنها لا بينة لها و لا كتاب ، وعندنا مفت يقول لها صداق مثلها .
(1/148)
________________________________________
=فأجاب : إذا كان البلد معروفًا بالكالئ فمن ادعى من الزوجين ما يشبه كالئ مثلها ، كان القول قوله مع يمينه ، وكذلك في الصداق مثل الاختلاف في أثمان السلع ، وإنما صداق المثل في النكاح الفاسد مثل القيمة في البيع الفاسد إذا فاتت . وأجاب ابن لبابة : يقال للمرأة : أقيمي البينة أن زوجك أوجب على نفسه كالئًا ، فإن لم تقم البينة لم يجب لها شيء إلا يمين الزوج إن كان بانيًا .
[من خرجت إليه زوجه عند بنائه بها بشورة كثيرة ثم شجر ما بينهما فطلبته بالكسوة]
*و سئل : أبو إبراهيم عن رجل خرجت إليه زوجه عند بنائه بها بشورة كثيرة ، ثم شجر ما بينهما فطلبته بالكسوة .
=فأجاب : إذا كانا قريبي الاجتماع وكان للصداق بال ، وكانا من أهل السعة ، فليس لها أن تطلب زوجها بكسوة السنة ونحوها ، و إن لم يكونا من أهل التوسع جدًّا ، فلا تطلبه بذلك لشهور مثل نصف السنة أو نحوها ، إلا أن تكون الزوجة ممن لا ينتهي صداقها إلى أن يقيم منه وطاءها وغطاءها ونحو ذلك ، لقلته وتفاهته ، وتكون هي أيضًا ضعيفة الطاقة في مالها ، فإن لها أن تأخذه بالكسوة بعدما يدخل بها إن طلبته بذلك ، و لا يقضى للمرأة على زوجها بشيء من ذلك حتى تعرفه إلى السلطان ، حاضرًا أكان زوجها أو غائبًا ، فإذا رفعت قضى لها بذلك من يوم ترفعه على السلطان لا من قبل ذلك ، إلا أن تدعي أنه التزم لها أن تنفق على نفسها وتكتسي من مالها على أن يغرم[119/3]ذلك لها ، فإن ادعى ذلك ، لزمته اليمين إن شاء الله . و في مسائل ابن زرب إذا أرادت المرأة أن تبيع شورتها التي قامت من نقدها ، لم يكن لها ذلك حتى يمضي من المدة ما يرى أنه ينتفع الزوج بها في مثلها ، قيل له فإذا مضت سنة ، فلم يره كثيرًا وذهب إلى اكثر منها .
[للزوج حق الاستمتاع بما تتجهز به المرأة]
(1/149)
________________________________________
*و سئل : سيدي أبو الحسن الصغير عن امرأة اشترت بنقدها قطيفة تتجهز بها على زوجها ، فبقيت مع الزوج فأرادت بيعها ، فقال الزوج لي في الاستمتاع بها حق ، فهل له ذلك أم لا ؟
=فأجاب : له الاستمتاع قدر ما يرى وليس أبدًا ، والقطيفة لا تشترى لسنة في الغالب ، و قد ذكر ابن رشد -فيما أظن- أن لها التصرف في شورتها بعد مضي أربعة أعوام في بيت زوجها ، أن لها التصرف في شورتها بعد مضي أربعة العوام في بيت زوجها ، وانظر جواب ابن الفخار قبل هذا .
[من نازع صهره في الأسباب التي ظهرت ببيت البناء]
*و سئل : الأستاذ أبو سعيد بن لب عمن نازع صهره عند تمام سابع في الأسباب التي ظهرت في بيت البناء ، وطلب الوالد من الزوج لابنته كسوة وخادمًا ما كانت عليه في الصداق ، ومنع بنته من زوجها وحملها وأسبابها على داره حتى يدفع الزوج ما طلب منه .
(1/150)
________________________________________
=فأجاب : بأن لباس الزوجة بعد البناء عليها في أول حالها يكون فيما أخرجته من شورتها على العادة في ذلك ، ثم بعد ذلك يطلب الزوج بالكسوة ، وأن الإخدام إنما يجب على الزوج إذا اتسع حاله لذلك ، وكانت الزوجة ممن لا تخدم نفسها لمنصبها وحالها ، وأن لوالد البنت أن يمسك عند نفسه من الشورة ما هو زائد على قدر الحاجة في الامتهان المعتاد ، وعلى قدر نقد الزوج ، يكون عند الأب مصونًا للبنت لوقت حاجتها إليه ، فله ذلك إن طلبته وكانت لها فيه مصلحة ، وغن لم يكن فيما اورده إلا قدر الحاجة وعلى مقدار النقد ، فليس له إمساك شيء منه عن بيت البناء ، وأن دعوى الأب العارية في بعض[120/3]ما أورده بيت البناء ، يصدق فيها إذا كان في القرب ، وكان في الباقي وفاء بنقد الصداق ، قالوا والطول في هذا ما زاد على السنة . وحكى بعض شيوخ قرطبة أن ذلك ما لم يخرج السابع خاصة ، و لا مقال بعده ، و هذا ما لم يشهد بالعارية عند الإيراد ، فإن اشهد كان له ذلك و إن طال ، وأن الشاهد إذا امتنع من الأداء ثم أجاب إليه فإنه يقبل ، وإذا اختلف الحال المشهود بها على الشاهد فإنه يؤدي ما يتيقنه ويدع ما يشك ، ويجبر الأب على إسلام الزوجة لزوجها إذا خرجت إليه وتركت الزوج ، وليس له منعها من زوجها إلا أن يثبت إضراره بها في نفسها أو مالها ، فينظر لها في ذلك .
[من بنى بها زوجها وأظهر لها والدها أسبابًا في بيت البناء ، ثم توفي الوالد والأم والبنت]
*و سئل : عمن بنى بها زوجها وأظهر لها والدها أسبابًا في بيت البناء ، ثم توفي الوالد والأم والبنت ، وادعى الوارث أن جميع ما اكتسبته البنت ما عدا شورتها كان مسروقًا من مال الوالد .
=فأجاب : إن ثبت بالبينة أن تلك الأسباب كانت مسروقة من مال الوالد فهي موروثة عنه ، و إن ل يثبت ذلك وكانت في حوز البنت و في قبضتها أو تحت من كان قابضًا لها ، فهي للبنت موروثة عنها .
[
(1/151)
________________________________________
إقرارًا الأم بالمال انه بيدها للابن في عقد الشراء لازم لها]
=و أجاب : أيضًا عن مسألة تظهر من الجواب بأن قال : إقرار الأم بالمال أنه بيدها للابن في عقد الشراء ، لازم لها ولتركتها ، و لا حجة لورثتها في دفع الإقرار بوجود الشهادة بما هو أقل ؛ لأن عدم وجود الشهادة بالزيادة لا ينفي وقوعها ، فيحل الأمر بسبب اعترافها ، على أن ثم شهادة بالزائد و لم توجد ، وهي أعرف بحقيقة اعترافها و ما هو من جهتهاـ وأصل الإقرار اللزوم ، و لا ترتفع بالشكوك و لا بالظنون . و قال أيضًا الأصل استمرار الالتزامات ومضي العقود حتى يظهر ما يبطلها ، لا سيما والمرأة ألا تباشر العمل في[121/3]الأصول ، وإنما يلي ذلك عنها زوجها أو وكيلها أو وكيل زوجها ، فهذا ما حضرني الآن تقييده في النازلة على استعجال كثير جدًّا من الآتي بالسؤال ، ومزاحمة الليل والخروج إلى الفحص ، فلم يكن لي فيه من التثبت القدر الذي يرضيني ، فإن قنعتم به وحصل المقصود منه فحسن ، وإلا فأعيدوه لننظر فيه .
[اتفاق الرجل والمرأة والولي على تقدير الصداق وعقد النكاح على لسان الخاطبة]
*و سئل : عن الرجل والمرأة والولي يتفقون على تقدير الصداق ، والموافقة على عقد النكاح على لسان الخاطبة المذكورة ، فيه عقد أم لا إذ قد اتفقا على أن الجميع ما ذكر بمحوله إنما هو على لسان المرأة المذكورة .
=فأجاب : الذي يظهر من ذلك ، أن القول قول الزوج لوجهين ، أحدهما التعويل على قول الخاطبة و هو غير موجب لحكم ، و الثاني شهادة العرف ؛ لأن عادة الناس عند الخطبة التواعد على الإيجاب والانعقاد بتوقيت زمان يحضره الشهود وينبرم فيه الأمر ، فمن يدعي انبرام العقد قبل ذلك ، فهو مراع لخلاف العرف ، ودعواه غير مشبهة ، فهذا ما عندي في النازلة .
[تزويج إمام قرية امرأة من أهل الدناءة]
(1/152)
________________________________________
*و سئل : عن إمام قرية زوج امرأة من أهل التهم والدناءة في قدرها من غير أن يكون له من الولاية على ذلك شيء لا من تقديم قاضٍ و لا غيره ، وزعم أنه رأى في ذلك المصلحة للمرأة ، وقدح في إمامته بسبب ذلك ، ومن جهة الاستبراء أيضًا بسبب التهمة .
=فأجاب : قد ظهر من مقتضى السؤال ، أن المرأة المذكورة متصفة بالدناءة في قدرها وحالها ، ومشهور المذهب أن المتصفة بهذا الوصف ، يزوجها رجل من المسلمين ويعقد عليها ويصح نكاحها ، فإن لم يثبت للفقيه المذكور إذن من القاضي و لا نائبه ، فتزويجها صحيح نافذ بما لها من وصف الدناءة ، و قد[122/3]ورد نحو هذا في غير الدنيئة عند لحوق المشقة بطلب ولاية الحكم ، فقد روى ابن وهب عن مالك في المرأة الأولى لها تكون في البادية يجوز لها أن تولي أمرها أجنبيًّا ، قال : وليس كل المرأة تقدر على رفع أمرها إلى السلطان ، و أما الستبراء قبل التزويج بمجرد التهمة وسوء القالة ، فليس ذلك بمطلوب في الشريعة ، إلا في الإماء خاصة في باب البيع على خلاف فيه . أما الحرة فلا استبراء فيها ، إلا أن تثبت الخلوة الموجبة للعقوبة ، فيطلب الاستبراء احتياطيًّا للنكاح المنعقد بعدها ، وليس يقطع بوجود الفاحشة ، بدليل أنهما لا يحدان اتفاقًا إلا باعتراف أو برؤية أربعة شهداء على ما أحكمته السنة في ذلك ، و قد ظهر من هذا كله أن الفقيه المذكور لم يخالف في مشروع ، و لم يعترف بارتكاب وجه ممنوع ، فلا يحلقه في قضيته ما يعارض إمامته ، و لا ما يخالف عدالته .
[إدعاء المرأة أو وليها بأن بعض الشورة كان على وجه العارية]
(1/153)
________________________________________
*و سئل : ابن رشد عما تخرجه المرأة أو وليها في شورتها باسم الزوج كالغفارة والمحشو والقميص والسراويلات ، وربما لبس ذلك الزوج بعد بنائه بالزوجة بالأيام اليسيرة أو الكثيرة ، وربما لم يلبسها ثم تذهب الزوجة أو وليها إلى أخذ تلك الثياب ، ويزعمون أنها كانت عارية ، و أنها جعلت على طريق التزيين ، لا على طريق العطية ، فهل ترى ذلك للزوج أم لا ؟
=فأجاب : إن كان في هذه الثياب المخرجة في الشورة عرف بالبلد قد جرى فيه الأمر واستمر عليه العمل يحكم به ، و إن لم يكن في ذلك عرف معلوم ، فالقول قول المرأة أو وليها فيما يدعيان من أنها عارية أو على سبيل التزيين وبالله التوفيق .
[من أبرز لابنته شورة أكثر من قيمة النقد الذي نقدها الزوج]
*و سئل : عن الرجل يقع بينه وبين صهره زوج ابنته بقرب الزوج عليها كالعام والعامين منازعة ، و قد كان أبرز إليها بشورة أكثر من قيمة النقد ، فيريد الأب أو ولي المرأة كالوصي والكافل لها والعاقد لنكاحها ، تثقيف ما كان أبرزه لها وأخرجه عن بيت بنائها ، إلا مقدار نقدها ، و لم يظهر[123/3]من الزوج تغيير من حال الزوجة في شيء من ثيابها ، و لا هو ممن يتهم على ذلك ، وكيف إن كان ممن يخاف من قبله ، أو ظهر عليه ما يوجب الاسترابة منه ، هل الأمر في ذلك سواء أم لا ؟ بين لنا الجواب في ذلك يعظم الله أجرك ، ويجزل ذخرك .
=فأجاب : للأب أن يثقف من شورة ابنته التي إلى نظره ما يستغني عنه منها إذا خاف عليه عندها ، وكذلك الوصي وليس ذلك للولي غير الوصي ، و لا للحاضن المربي ، فإن دعا على ذلك على وجه الحسبة ، نظر القاضي فيما يدعو إليه منذ لك بما يراه على وجه الاجتهاد .
(1/154)
________________________________________
=و أجاب : ابن عتاب إن كان كتاب ألب مأمونًا على الثياب له ذمة ، فهو أحق بضبطها بعد أن يسلم لابنته منها بقدر نقدها وزائد عليه مما تتجمل به مع زوجها على التوسط في ذلك ، ويشهد على الأب بما يثقف لابنته عنده ، و إن حمل كانت أحواله غير مرضية ، وضعها الحاكم على يد من يراه ممن يرتضيه بإشهاد إن شاء الله تعالى .
=و أجاب : أبو بكر بن جماهر الطليطلي فقال : و قد شاهدت أقوامًا وضعت عند ثياب بنات خيف عليها فباعوا وأكلوا أثمانها ، وتعذر الإنصاف منهم لقلة ذات أيديهم . ابن عرفة : شاهدت شيخنا ابن عبد السلام حكم بمنع أب قبض إرث ابنه الأصغر ، فكلمته فيه فقال لي إنه فقير ، وكان الفقيه أبو إسحاق بن عبد الرفيع يحكم بذلك ، و ما تقدم حجة لهما .
[من شور ابنته وجعل قيمتها دينًا عليها]
*و سئل : ابن زرب وأبو محمد بن عمر بن عبد العزيز ، عن رجل جهز ابنته بثياب وحلي ، وأقامه عليها وخشي أن تقوم ابنته على ورثته بعد موته ، فكتب القيمة عليها دينًا ، فتوفي الرجل وقامت تطلب ميراثها مما ترك أبوها ، فقام الورثة بوثيقتهم بالقيمة عليها .
=فأجاب : إن كان الأب لم يهبها الشورة ، فلورثته أن يقوموا بالواجب[124/3]لهم ، إلا أن أبا بكر بن عمر زاد في ذلك : إن كان الوالد أقتم الشورة قيمة عدل لم يتحامل فيها على الجارية ، فذلك جائز عليها لازم لها .
ثم *سئل : عنها أبو بكر بن المعيطي فقال : إن كان الأب جهزها بماله وجعله دينًا عليها ، فللورثة الرجوع فيما يجب لهم بمقدار أنصبائهم إذا ثبت ذلك من إشهاد الأب .
[إذا ادعى الزوج أن زوجته أعطته شيئًا من شورتها]
*و سئل : ابن المكوي عن رجل نكح امرأة وأخرجت إليه مع شورتها منديلاً بشقفٍ ، فاستغنى الزوج عن قطع شيء منها ، ثم توفيت الزوجة فأراد الورثة إدخال الشقف في القسمة مع باقي تركة المرأة فلمن هي ؟
(1/155)
________________________________________
=فأجاب : الشقف للزوج إذا كان قبضها وحازها لنفسه في صحة زوجته ، إلا أن تكون هبة للثواب ، فلورثة الزوجة القيام في المثوبة ما لم يطل .
=و أجاب : ابن الهندي الجواب في هذه المسألة أن تكون الشقف موروثة عن الزوجة ؛ لأن الزوج قد اقر بأنها من شورتها التي خرجت بها إليه ، بعد يمين ورثتها أنهم لا يعلمون أنها وهبت زوجها الشقف إن ادعى الزوج ذلك ، ولهم رد اليمين على الزوج ، و إن أقام الزوج بينه عدل على هبة زوجته له الشقف هبة مبتولة وقبضها في صحتها وجوازها ، و لم يكن عند ورثته مدفع بعد ذلك إن شاء الله تعالى .
[مسافر له ابنة بكر أرادت أن تتزوج]
*و سئل : أبو محمد عمن سافر من القيروان إلى صقلية وله ابنة بكر أرادت أن تتزوج ، هل يجوز أم لا ؟
=فأجاب : إذا خرج من القيروان إلى صقلية ، فلترفع إلى القاضي يكتب إليه ، و هذا قليل فليقدم أو يوكل ، إلا أن يتبين لرده فيزوجها ، أو تطول غيبته وكشف عنه فلم يعلم أين هو في صقلية ، فيزوجها السلطان .
[125/3][من يغيب عنها أبوها وهي بكر ، ويخشى عليها الضيعة والفساد]
*و سئل السيوري عمن يغيب عنها أبوها وهي بكر ويخشى عليها الضيعة والفساد إن لم تزوج .
=فأجاب : تزوج على هذا الإمكان و لا ينتظر أبوها لما ذكر ، قلت ظاهر هذا الجواب و إن لم تطل غيبته ، و هو ظاهر لعلة خوف الفساد ، فيقوم منه مثل ما اختاره حفيد ابن رشد ، فإنه قال : ليس يبعد بحسب النظر المصلحي الذي ابتنى عليه النظر ، أن يقال : إن ضاق الوقت وخشي السلطان عليها الفساد زوجت و إن كان موضعه قريبًا .
[من أعتق جارية له وتزوجها وأصدقها جل ماله ثم مات]
*و سئل ابن زرب عن رجل أعتق جارية له وتزوجها جل ماله ، ثم مات فاعترضها ورثته .
(1/156)
________________________________________
=فأجاب : إن ذلك لها جائز ، وأصلها في كتاب الله عز وجل {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} قيل له : و هذا بمنزلة البيوع ، قال : بل هو أشد من البيوع و ما عندي شك أنه جائز ، وأفتى بعض الفقهاء عندنا أن ذلك كله لا ينفذ إلا بقبض وحيازة .
[من جهز ابنته وهي بكر وأخرج لها شورة ثم ادعى أن نصفها أخرجه للزينة]
*و سئل : ابن عتاب عمن جهز ابنته إلى زوجها وهي بكر بجهاز وأخرج لها شورة . وأقامت مع الزوج أربعة أعوام ، ثم قام الأب يزعم أن نصف تلك الشورة إنما أخرجه على وجه التزيين لها والإصلاح عليها ، وأعاره إياها على أنه ماله .
=فأجاب : إذا مضت المدة التي ذكرت ، فالأب غير مصدق فيما يدعيه من ذلك إن شاء الله . ابن سهل وكذلك الرواية عن مالك وابن القاسم وغيرهما في هذا الواضحة والعتيبة وغيرهما ، و لا خلاف أعلمه فيها .
[126/3][يصدق الأب فيما زاد على قدر النقد من الشورة]
*و سئل : عنها ابن القطان فأجاب : أن الأب مصدق فيما زاد على قدر النقد من الشوار ، و هو خطأ من القول . المتيطي : قال بعض شيوخنا الذي في الرواية إذا قام بعد طول مدة ، فلم يرَ ابن القطان هذه المدة طولاً و الله أعلم . ابن عرفة لعله نحا بها منحى مدة الخيار .
[لا دخل للورثة فيما شور الأب ابنته ليلة زفافها]
*و سئل : ابن مزين عن الجارية البكر تتخذ الشورة في بيت أبيها بصنعة يدها أو يد أمها ، أو يشتري ذلك لها أبوها ، ثم يموت الأب فيريد الورثة الدخول مع البنت .
=فأجاب : أما ما كان من ذلك قد سماه لها فأشهد أنه شورة لابنته أو لم يشهد عليه ، إلا أن الورثة يقرون أن ذلك لابنته مسمى ومنسوبًا إليها فلا دخول للورثة فيه ، وحوز مثل هذا أن يكون بيد الابنة أو الأم ، لا يستطاع حوزه إلا بمثل هذا ؛ لأنها لو طلبت كلما عملت شيئًا أو اشترى لها أبوها شيئًا أن يخرجه الأب لشق ذلك ؛ لأنه مما يستفاد شيئًا بعد شيء على أنواع شتى .
[
(1/157)
________________________________________
إذا أشهد بالنكاح أو البيع و لم ينص على الثمن أو مبلغ الصداق]
*و سئل : ابن المكوي عن النكاح والبيع إذا شهد الشهود في البيوع و لا يقفون على الثمن ، أو في النكاح و لا يقفون على مبلغ الصداق ونسوا ذلك .
=فأجاب : لا بدَّ للزوج أن يمس صداقًا وللمبتاع أن يسمي ثمنًا ، فإن أبى ، حلف الطالب إن أتى بما يشبه ولزمه النكاح ، والبيع مثله .
=و أجاب : ابن العطار بمثل ما أجاب به ابن المكوي رحمهما الله .
=و أجاب : أبو إبراهيم أرى الشهادة ساقطة ، ولست أقول بقول غيره ، وذكر أنها رواية عن أصبغ عن ابن القاسم .
[127/3][من قام يطلب كالئ ابنته بدون توكيل منها]
*و سئل : شيوخ قرطبة عن رجل قام عن ابنته كالئها من زوجها والزوج يقول بإن زوجتي لا تطلبني ، فأجاب ابن لبابة وأصبغ بن خليل ، إن طال زمن إقامتها مع زوجها سبع أو ثمان سنين ، فلا متكلم للأب إلا بتوكيلها ، وإلا فله ذلك . ونزلت في أيام سليمان بن الأسود القاضي ، فقال له القاضي : كم لك منذ زوجتها ؟ فقال منذ سبع سنين ، فقال له : قم لا كلام لك إلا بتوكيلها . ونزلت أيضًا عند القاضي محمد بن مسلمة فقال له الشيوخ : لا يجوز للأب التكلم عنها بوكالة ، وكان لبناء الزوج ثمان سنين ، قال ابن لبابة : هذا الذي أذهب إليه وأفتى به إذا مضى لها مثل هذه المدة .
=و أجاب : أبو محمد بن عبد القادر : إن رضيت بالطلب فله ذلك ، و إن كرهت لم يكن له ذلك ؛ لأن ذلك يؤدي إلى فساد حال الزوجين ، وإنما له النظر فيما يؤدي إلى الصلاح في حالها ، إلا أن يكون الزوج قد ظهر منه تنافر وإتلاف ، بحيث يعلم إن لم يطلب يتلف الكالئ و لا يوجد ما يؤخذ منه إن طلبه به يومًا ما ، فيكون له أخذه و إن كرهت ، قلت : وبهذا القول شاهدت القضاء من القضاة شيوخنا رحمهم الله .
[من شرط لزوجته أن لا يرحلها من دارها ما لم تطلبه بكرائها]
(1/158)
________________________________________
*و سئل : ابن زرب عمن شرط لزوجته في صداقها أن لا يرحلها من دارها ما لم تطلبه بكرائها ، فإن طلبته به فله أن يرحلها .
=فأجاب : ذلك جائز له ، قيل له : فإن طلب بكرائها فيما مضى ، قال : ليس ذلك يلزمه إن كانت الزوجة مالكة أمرها عالمة بالشرط ، فإن كانت مولى عليها أخذ بكراء ما مضى ، و لم ينفعه ما عقده في سقوط الكراء عنه ، قيل له : فإذا كانت ذات أب وهي في ولايته وأباح له سكنى الدار ، لأي شيء لا يضمن الأب الكراء ويحمل محمل الهبة منه له ، و لا يكون على الزوج منه شيء ، فقال : ليس هذا هبة والكراء على الزوج ، و لا شيء على الأب و وقف على هذا ،[128/3]يريد وليس للأب أن يهب مال ابنته أو ولده ، إلا أن يلتزم الأب له ضمان الدرك .
[من زوج عبده من أمته على أنه متى باعه فأمرها بيد السيد]
*و سئل : عبد الملك عمن زوج عبده من أمته على أنه متى باعه ، فأمرها بيد السيد .
=فأجاب : النكاح مفسوخ إلا أن يطول أمده وتلد منه أولاداً فيمضي ، و إن زوَّج عبده من أمته على أنه متى باعها فأمرها بيد السيد ، ثبت النكاح وسقط الشرط باع أو لم يبع ، دخل أو لم يدخل .
[من كانت له ربيبة رباها و والدها حي ، فأراد أن يزوجها]
*و سئل : ابن المكوي عمن كانت له ربيبة رباها و والدها حي ، فخطبت فأراد أن يزوجها ، من أولى بتزويجها ؟
=فأجاب : من أنكحها منهما فالنكاح جائز .
[من عقد على ابنته البكر نكاح تفويض ثم سَمَّيَا صداقها]
*و سئل : سيدي أبو الحسن الصغير عمن عقد على ابنته البكر في حجره نكاح تفويض من رجل ، ثم بعده بمدة سميا صداقها ، ثم إن الزوج رغب من الأب إسقاط ما سمياه وأن يرداه تفويضًا ففعلا ، وبقي الأمر كذلك فماتت الزوجة قبل البناء ، ما الحكم في الصداق والميراث ؟
(1/159)
________________________________________
=فأجاب : أما الميراث فيرث هو و ورثتها ، و لا يصح انتقالهما من التسمية إلى التفويض ؛ لأنه انتقال من معلوم إلى مجهول ، و قد منعوه في مسألة الخصمين يصطلحان ثم يفسخان الصلح ويعودان للخصام و إن قيل فيه إنه يجوز . وأيضًا ففي مسألتا أن الأب أسقط حق البنت بغير عوضٍ و لا لمصلحة رآها ، وذلك غير سائغ له ، إذ لا يفعل لمحجوره إلا ما يراه نظرًا ، وأي نظر في هذا ؟
[129/3][من زوج ابنة عمه يتيمة ، وأخذ هديتها فصنع بها طعامًا في داره وهي في بيت خالها]
*و سئل : عمن زوَّجَ ابن عمه يتيمة ، فأخذ ما جرت به العادة من الهدية فصنع به طعامًا في داره ، وكانت البنت في دار خالها بعيدًا من دار ابن عمها فلم ترضَ بذلك ، فلما كان بعد ذلك طلبته وقالت له : لم تصنع لي عرسًا ، إنما صنعت طعامًا في دارك ، و أما أنا فكنت وحدي و لم يدخل علي أحد و لم يخرج . =فأجاب : يغرم ذلك لأنه لم يصنعه على الصفة المطلوبة ؛ لأن ذلك إنما هو لسرورها ، انظر عند اللخمي من هذا المعنى : إذا أطعمه لمن لا يصلح .
[من كان صداقها على زوجها عينًا ، فكساها واشترى لها حليًّا ، ثم قامت تطلبه بصداقها]
*و سئل : عن امرأة كان صداقها على زوجها عينًا ، فكساها واشترى لها حليًّا ، ثم بعد سنين طلبته بصداقها ، فقال لها : أنا أقاصك من صداقك بما صنعت لك ، فقالت له : هو هبة لا من الصداق ، فقال : بل إنما صنعته من الصداق .
=فأجاب : مسألة من ادعى أن هذا من دينك ، و قال الغريم : بل هو هبة وديني باقٍ ، القول قول مدعي القضاء من الدين ، لا سيما إن كان مجانسًا للدين ، والمجانس لهذه المسألة مسألة كتاب النكاح الثاني إذا أعطاها ثوبًا فقالت : هبة ، و قال الزوج : من فرضك الذي علي ، فالقول قوله ، إلا أن يكون الثوب لا يفرض مثله لمثلها ، فالقول قولها ، انظره والعادة مسامحة الزوجين في مثل هذا فيما بينهما .
(1/160)
________________________________________
وفي أجوبة شيخنا أبي الفضل سيدي قاسم العقباني ما نصه : القول قول الزوج فيما زاد على المسمى أنه باق على ملكه لم يهبه لزوجه –والله أعلم .[130/3][من لها على أبيها دين ، فجهزها ثم توفي فادعت أن أباها جهزها من ماله]
*و سئل : بعض المشارقة عن بنت لها على أبيها دين ، فجهزها ثم مات ، فقالت : إنما جهزني أبي من مالي ، و قال الورثة : بل من دينك ، =فأجاب : القول قول الورثة ، وأخذه من قوله في كتاب الوديعة من المدونة : ومن أخذ من رجل مالاً ، فقال الواقع : إنما قضيتك من دينك الذي علي ، أو رددته إليك من القراض الذي لك عندي ، و قال الآخر : بل أودعته وضاع مني ، صدق الدافع مع يمينه .
[من تزوج بامرأة فطلب منه ما تصبغ به الثياب فدفعه ثم طلق قبل البناء وأراد الرجوع]
*و سئل : أبو إبراهيم عن رجل تزوج وطلب منه عصفر لصبغ الثياب ، فدفعه ثم طلق قبل البناء وأراد الرجوع بذلك .
=فأجاب : إن كان طاع به من غير شرط فهو هدية و لا رجوع له فيه ، و إن كان شرط عليه ، فله الرجوع بنصفه .
[من تزوج امرأة على أنها بكر ، فإذا بها ثيب من زوجين]
*و سئل : ابن الحاج عمن تزوج امرأة على أنها بكر فوجدها ثيبًا من زوج .
=فأجاب : الواجب أن ترد إلى صداق مثلها إذا ثبت ذلك ، و لا ينظر إليها النساء ، و إن كان لم يدخل بها هذا الزوج الآخر ، فهو بالخيار أن يفارقها و لا يلزمه من الصداق شيء أو يقيم ويلزمه كله .
[من تزوج صبية بكرًا فغصبت على نفسها ، فهي مصيبة نزلت بها وبالزوج]
*و سئل : عن صبية بكر تزوجها رجل فغصبت على نفسها قبل أن يبني بها زوجها وافتضت فلم يرد الزوج أن يبني بها وذهب إلى أخذ صداقه ، والغصب مشهور بقربة أولياء المرأة .
=فأجاب : بأنها مصيبة نزلت بها وبالزوج فيها ، و لا ينقص من الصداق[131/3]شيء ، فإن شاء أن يبني بها ويبقى معها ، و إن شاء أن يطلق البناء فيكون عليه نصف الصداق .
[
(1/161)
________________________________________
من تزوج امرأة بشهادة شهود ، فقامت بينة بالسماع المستفيض على أن والدها أنكحها من ابن الرجل]
*و سئل : عن رجل تزوج امرأة بشهادة شهود فأقام رجل آخر شهادة ببينة بالسماع المستفيض أو والدها أنكحها من ابن الرجل وهي صغيرة .
=فأجاب : بأنه لا سبيل إلى فسخ النكاح بما ثبت له من السماع و لا ينتفع بذلك لأن القائم بالسماع لم يحز المرأة و لا هي في عصمته و لأن الذي المرأة في عصمته قد ملكها وحازها بالنكاح ، و لا يستخرج بشهادة السماع شيء من يد حائز قال : وصفة جواز شهادة السماع في النكاح أن تكون المرأة تحت حجاب الزوج فيحتاج إلى إثبات الزوجية ، فتثبت لها لو مات أحدهما فيطلب الحي منه الميراث ، وتثبت الزوجية بالسماع المستفيض فيحكم له بالميراث ، فلو لم تكن المرأة في عصمة لأحد بزوجية فاثبت رجل أنها زوجته تزوجها بالسماع ، لم يستوجب البناء عليها بشهادة السماع ؛ لأن شهادة السماع إنما تنفع مع الحيازة للمرأة ، و هذا لم يحزها إليه .
[من شكت الضرر من زوجها وطلبت وضعها عند قوم صالحين]
*و سئل : القاضي محمد بن بشير عن رجل شكا خروج امرأته إلى الحمام أو إلى أمها ، وشكت المرأة قلة النفقة وهي ساكنة معه في حاضرة ، وزعمت أنه ليس معها في الدار أحد غيرها ، و هو يضربها وترغب أن تكون عند رجل صالح .
=فأجاب : تجعل عند أمين حتى يستبرأ ما شكت به . قال قرعوس العباس تجعل عند النساء ، وليس بجعل النساء عند الرجال .
[132/3][من أصدق امرأته ودفع إليها بعض الصداق وعجز عن بعضه وأراد الدخول]
*و سئل : عمن أصدق امرأته إليها بعض الصداق وعجز عن بعضه وأراد الدخول بها .
=فأجاب : لا يدخل بها حتى يعطيها بقية صداقها ، إلا أن ترضى بذلك لها .
[امرأة ادعى عليها رجل أنه تزوجها ، فأنكرت وقالت : إنه اغتصبها و ولدت معه الأولاد]
(1/162)
________________________________________
*و سئل : عن امرأة ادعى عليها رجل أنه تزوجها ، وأنكرت التزويج وزعمت أنها كانت عنده أجيرة ، فغلبها على نفسها وأحبلها فولدت ، وزعم هو أنه تزوجها تزويجًا صحيحًا ، و لم يكن الولد إلا لرشده ، وليس لواحد منهما ثبوت لما ادعى .
=فأجاب : إن كان الرجل لا يعرف بمثل ما رمته به المرأة وكانت في يديه متقادمة ، ويذكر أنها امرأته و إن لم يشهد على أصل ذلك ، فليس عليه بينة والقول قوله ، و إن كان أمره على خلاف ذلك استوني في أمره وكشف وسئل حتى يقع الحاكم على خبره ، ونفقة المرأة في مدة الخصام على الزوج ؛ لأنه مقر أنها زوجته .
[رجل تزوج امرأة فأصابها ارتقاء]
*و سئل : ابن عتاب عن رجل تزوج امرأة فأصابها ارتقاء ، فشاور القاضي ابن ذكوان الفقهاء فيها .
=فأجاب : بأن يرى النساء وينظرن إليها و هو قول سحنون ، وأجاب ابن القطان بأن لا يرى النساء و لا ينظرن إليها و هو قول ابن حبيب في الواضحة .
[133/3][من تزوج امرأة فوجدها ثيبًا]
*و سئل : أبو عبد الله محمد بن فرج عمن تزوج امرأة فأصابها ثيبًا .
=فأجاب : إن قال وجدتها مفتضة جلد الحد ، و إن قال لم أجدها بكرًا فلا حد عليها ؛ لأن العذرة قد تسقط من الوثبة و ما أشبهها ، ويلزمه الصداق كله ، و لا كلام له في ذلك ، و لا ينظر إليها النساء .
[تعرف اليتيمة بأنها بالغ في وجهها وقدها وخبر ثقات النساء]
*و سئل : ابن الحاج عن اليتيمة بأي شيء يعرف الشاهد أنها بالغ حتى تجوز له الشهادة عليها بذلك عند إنكاحها .
=فأجاب : يعرف ذلك في وجهها وقدها ومن يخبره بذلك من ثقات النساء .
[لا يشهد للطارئة بأنها لا زوج لها ، إلا إذا أقامت بالبلد المشهود فيه نحو ستة]
*و سئل : عن المرأة الطارئة إذا أقامت ببلد و لم يعلم لها زوج و لا سمعوا به كيف يشهد لها ؟
=فأجاب : لا يشهدون بأنهم لا يعلمون لها زوجًا إلا إذا قامت عندهم مدة طويلة نحو الستة ، فحينئذٍ تصح الشهادة .
[يباع عقار اليتيمة وتشور من ثمنه]
(1/163)
________________________________________
*و سئل : عن اليتيمة إذا زوجت وكان لها عقار و لم يك لها مال تشور به .
=فأجاب : بأن العقار يباع وتتشور من ثمنه ، وحكي عن أبي محمد بن عتاب عن أبيه أن الشيوخ المتقدمين اتفقوا على ذلك .
[يفسخ نكاح من تزوج ابنته من زني]
*و سئل : بعض المتأخرين عن رجل نكح امرأة ودخل بها كانت أمه ربتها وزوجتها منه ، ثم أتت الأم بعد ذلك معترفة بذنبها تائبة منه ، وقالت : إنها كانت[134/3]هوت ابنها هذا ، و أنها تعرضت له في ظلام حتى وطئها ، و أنها علقت منه بابنة فربتها ، و أنها تذكر له أنها يتيمة ربتها إلى أن صلحت فزوجتها منه ، وهي هذه التي في عصمته فهي ابنته وأخته لأمه .
=فأجاب : يفسخ النكاح ويقبل في ذلك قول الأم لما بلغت في فضيحة نفسها ما بلغت .
[من فقد في هزيمة بأرض العدو وترك بنتًا بالغة ، وأمها وعمها يريدان تزويجها]
*و سئل : الأستاذ أبو سعيد بن لب رحمه الله عن رجل فقد في هزيمة في أرض العدو وترك ابنتًا بالغة ، وأمها وعمها يريدان تزويجها .
=فأجاب : الحكم أنه يفتقر فيها إلى ثبوت أنها بكر بالغ في سنها ، وأن والدها مفقود في الجهة الفلانية بحيث لا يعلم له خبر و لا حياة و لا موت ، فإن زوجها القاضي على أحد القولين افتقر إلى كفاءة الزوج ، مثلية الصداق الذي بذل لها ، و إن زوَّجها العم على القول بذلك ، ترك الولي ونظره لوليته .
[من عرض زوجته للفجور فهربت منه و هو لا يعلم له مستقر و لا مال]
*و سئل : عن رجل عرض زوجته للفجور وأخرجها للفسَّاق ، وصار ينتجع بها معهم غير مكره على ذلك ، ثم إن المرأة هربت منهم وامتنعت بأهل موضع زوجها ، يدور مع الفجَّار لا يعلم لهم مستقر و لا مال .
(1/164)
________________________________________
=فأجاب : الحكم فيها أن يثبت رسم بالسماع الفاشي أنه مضر بها في معاشرته الضرر البيّن في دينها وحالها ، وتعريضها للفساد ، وإشهادها مشاهد الخنا والفجور ، ويثبت أيضًا من حاله أنه لا مال له و لا قرار بحيث تناله الأحكام الشرعية بسبب حاله المعروفة ، وأن حاله متصلة على ذلك في علم الشهود ، و هذا كله بعد رفع المرأة أمرها وسؤالها من القاضي النظر لها ، وقيامها بحقها الواجب لها في الإضرار والإنفاق ، ويكمل في هذا العقد الفصول المعتبرة فيه ، ويؤجل الأجل اليسير ، ويثبت تعذر الإعذار إليه بسبب[135/3]حاله الموصوفة ، وتحلف المرأة اليمين المعروفة في باب النفقة ، وعلى الإضرار أيضا عند جماعة و هو الصواب هنا ، وتطلق عليه بعد أن يقيم القاضي من يعذر إليه عنه ، أو ترجى له الحجة إذا حضر ، أو يجمع بين المرين احتياطًا على ما اختاره بعض المتأخرين .
[من عقد في العدة ، وتأخر الدخول عن فراغها]
*و سئل : عمن عقد في العدة وتأخر الدخول عن فراغها .
=فأجاب : ينظر لهما الآن في ذلك بحسن النظر في خصوص النازلة من ضرورة داعية إلى خشية عنت منهما ، أو مشقة وضرر بسبب ذرية بينهما ، فيدخلهما بالتحليل إذ هو قول جمهور العلماء ، وإحدى الروايتين في مذهب مالك ، و إن كانا في سعة وعلى راحة ، فالمنع أولى لأنه أحوط ، وإذا أخذ القاضي بهذا ، فلا ينبغي أن يسجل بالتحريم في مكتوب ، إذ لا ضرورة تدعوه بعد ذلك ، وحسبه أن يمنع من عقد المراجعة ويتركهما ، ورأى من ينظر لهما بعد ذلك ، فهذا بيان حكم النازلة .
[إذا مات الزوج قبل الفسخ وقبل البناء فيما فسد من النكاح لصداقه]
*و سئل : عن موت الزوج قبل الفسخ وقبل البناء فيما فسد من النكاح لصداقه .
(1/165)
________________________________________
=فأجاب : الأشهر في المذهب وجوب الميراث للزوجة ، و هو أحد الأقوال في المدونة في هذا الأصل ، و قول أشهب في كتاب ابن المواز ، وبه أفتى ابن لبابة وأضافه إلى مالك ، ومذهب غيره أن يفرض لها صداق مثلها ، قال ابن حبيب إذا وقع بعض الصداق إلى غير أجل فمات أو طلق قبل البناء ، فلا شيء عليه من مؤجل أو معجّل ، ,وكذلك بمائة دينار ، وبعبد آبق ، أو بعير شارد ، فلا شيء لها من معلوم ومجهول .
[136/3][من جهز أخته واشترى لها شوارًا وحليًّا من ماله وكتب بذلك وأشهد]
*و سئل : ابن خمير عن الرجل يجهز أخته ويشتري لها شوارًا وحليًّا من ماله ، وكتب بذلك وأشهد .
=فأجاب : إن كان أخو الجارية الذي جهزها هو وصيها ، فإنه ينتفع بإشهاد ويأخذه من مالها إذا كان جهاز مثلها ، و إن لم يكن وصيًّا لم ينتفع بما أشهد ، فإن أدرك من جهازه شيئًا أخذه ، و إن لم يدرك شيئًا لم يأخذه .
[من جهز أخته من ماله وأشهد عليه بذلك قبل]
*و سئل : عن الذي جهَّز أخته من ماله وأشهد عليه بذلك قبل الابتناء .
=فأجاب : إن كان إنما جهزها من مالها ليرجع عليها في ميراثها ، فإنه يحاسبها بما جهزها به ، و إن كان إنما جهزها من ماله ليرجع عليها في ميراثها ، فإنه ينظر إلى قيمة ما اشترى لها من ماله ، فيكون ذلك عليها إذا كانت ثيبًا ، و إن كانت بكرًا حين جهَّزها به و لم يعلمها و لم تعلم ، فإنما له ما أدرك من الجهاز ، كان فيه وفاء لما نقد أو لم يكن ، و إن كان جهزها من مال أبيها المشاع بينهما ، فحسب ذلك عليها عند الابتناء أو لم يحسبه ، ذكر الناكح له ذلك عند عقد النكاح أو لم يذكره ، فإنما له ما أدرك من ذلك .
[اليتيمة إذا غلبها البكاء و لم تصمت ، فهو إنكار منها و لا يتم النكاح]
*و سئل : ابن لبابة عن اليتيم التي يغلب عليها البكاء و لم تصمت منه .
=فأجاب : بأن قال هذا الإنكار ، و لا يتم هذا النكاح وإنما يلزمها إذا صمتت ، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم .
[
(1/166)
________________________________________
من زوَّج أخته البكر بنقد وكالئ وجعل أجل الكالئ عشرين سنة ، فلم ترضَ الأخت بذلك]
*و سئل : ع الذي يزوّج أخته البكر بنقدٍ وكالئ ويجعل الولي للكالئ أجلاً عشرين سنة من غير أمر الجارية و لا مؤامرتها ، فلما بلغها ذلك أنكرت ،[137/3]وقالت : لا أجيز النكاح و لا أرضى أن يكون أجل الكالئ إلى شهرين ، و لو علمت أنه يجعل الكالئ أجل عشرين سنة لم أرض أن يكون .
=فأجاب : إن النكاح لا يتم إلا برضا الجارية بالصداق وأجل الكالئ ، وليس للولي إلا العقد فقط ، فإن عقد من النقد ما لا ترضى ، ومن أجل الكالئ ، فذلك إليها إن شاءت أقرّت ، و إن شاءت فسخت .
[لا يحكم بنفقة العرس في الوليمة إلا أن يشترط ذلك]
*و سئل : عن نفقة العرس في الوليمة .
=فأجاب : ليس يحكم بها ، وإنما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم لعبد الرحمن بن عوف أَوْلِمْ و لو بشاة ليس بواجبٍ ، وعبد الرحمن بن عوف كان أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مالاً ، و ورثت امرأته لما حضر في ربع ثمنها ثمانين ألف درهم ، فكيف يقال لمثل عبد الرحمن بن عوف أَوْلِمْ و لو بشاة ، و لو كان أمرًا واجبًا لم يقل لمثله مثل هذا ، فقد بيّنت لك العلة ، إلا أن يكون زاد عن نقد العروسة ، إلا أن يشترط على الزوج ذلك .
[غريبة يزوّجها السلطان ويأخذ مهرها و لا يعطيها كله]
*و سئل : عن المرأة الغريبة التي يزوّجها السلطان وأخذ المهر و لم يعطها إياه .
=فأجاب : هذا غاصب غصبه منها ، وليس لها أن ترجع على الزوج بذلك .
[المناكح التي تقع في بعض الحصون والقرى ، و لا يشهد على ذلك إلا شرار القوم]
*و سئل : عن المناكح التي تكون في بعض الحصون والقرى و لا يشهد على ذلك إلا قوم شرار .
=فأجاب : لا يجوز هذا النكاح ويفسخ على كل حال ، إلا أن يستدرك قبل الدخول فيشهد على المناكح شهيدان عدلان .
[138/3][الرجل يشتري لامرأته الكسوة فيموت الورثة يريدون أخذها]
(1/167)
________________________________________
*و سئل : عن الرجل يشتري لامرأته الكسوة مثل الثوب الجديد فيموت ، فيقوم الورثة يريدون أخذه ويقولون بأنه اشتراه ليزيِّن به امرأته .
=فأجاب : إن كانت الكسوة مما يلزم الزوج أن يكسوها امرأته فماتت قبل أن تخلقها ، فهي مردودة على الزوج ، كما أنها إن خلقت كان على الزوج مثلها ، و إن كانت قد خلقت وبليت مضت للزوجة ، كانت هي الميتة أو الحية ، و إن كانت من ثياب الصون التي ليس على الزوج أن يكسوها امرأته ، فتلك لا ترد على الزوج كانت خلقة أو جديدة ؛ لأنها إنما تعد هبة من الزوج إذا علم أن الزوج كساها إياها ، و إن كان لا يعلم أن الزوج كساها إياها فهي مردودة عليه ، إلا أن تقيم المرأة البينة أن زوجها وهب لها ذلك ، قيل له : فإن كان الزوج حين كساها شهد فقال : إنما أشتري هذه الكسوة لتتزين بها امرأتي ، فإذا أردت أن آخذها وأقبضها لنفسي أخذتها ، إذا فعل مثل هذا كان ذلك له ، قيل له ، فغن مات قبل أن يأخذها و قد فعل ، قال : هي لورثته وهي مال من ماله يأخذونها .
[المرأة إذا فقدت و لم يعرف لها موضع ، تعمر ويضرب لها الأجل]
*و سئل : أبو صالح عن المرأة إذا فقدت و لم يعرف موضعها ، أتكون المرأة مفقودة فيما سمعت من أهل العلم يضرب لها أجل المفقود من الرجال والنساء ، والتعمير اليوم عند أهل العلم .
=فأجاب : تعمر ويضرب لها الأجل كما يضرب للمفقود ، والتعمير لها أقصى ما يعيش إليه أهل زماننا ، و قد سمعت ابن عاصم يقول ذلك المئة سنة ، وسمعت من يقول ثمانين سنة ، وإنما حده أن تكون مفقودة إن كان لها شرط أن لا يتزوج عليها ففقدت و لم يدر ما فعل الله بها .
[139/3][المرأة إذا لم يكن لها ثديان ترد ، وكذلك إذا أحدثت عند الجماع أو كانت بها أدرة]
*و سئل : عن المرأة إذا لم يكن لها ثديان هل ترد لذلك في النكاح أم لا ؟
(1/168)
________________________________________
=فأجاب : نعم ترد به ، قيل له وكيف إن أحدثت عند الجماع هل ترد به أم لا ؟ فقال : نعم ترد به ، قيل وكيف إن ادعت أنه من قبل الزوج ، فقال يطعمان ألوانًا شتى ، قيل له وكيف إن كانت لها أدرة كما تكون للرجال ، هل ترد بذلك في النكاح ؟ فقال : نعم ترد به .
[المرأة إذا كان في فرجها عيب ينظرها النساء]
*و سئل : عن المرأة التي يكون في فرجها عيب انكشف .
=فأجاب : بأن قال : نعم ينظر إليها أهل الفضل من النساء .
[الرجل إذا قال لامرأته إن لم أجدك عذراء فلا حق لك عندي]
*و سئل : عن رجل قال لامرأته إن لم أجدك عذراء فلا حق لك عندي .
=فأجاب : قال ابن أبي حازم الماء يذهب العذرة و لا شيء عليها ، و هذا رجل أحمق .
*و سئل : عن المرأة هل يجوز لها أن تكون قابلة لابنتها .
=فأجاب : نعم ، و لا شيء عليها .
[الرجل يخلو مع امرأة أخيه ويأكل معها ويحدثها]
*و سئل : عن الرجل هل يجوز له أن يخلو مع امرأة أخيه ويأكل معها ويحدثها .
=فأجاب : لا خير في ذلك إلا بحضرة أخيه .
[140/3][الرجل يتزوج امرأة و لا يعرف لها جهاز ، وتدخل على جهاز امرأة كانت له قبل هذه]
*و سئل : أبو عثمان سعيد بن خمير عن الرجل يتزوج المرأة و لا يعرف لها جهاز لا قليل و لا كثير ، وتدخل على جهاز امرأة كانت له من قبل هذه ، ويشتري الزوج بعد ذلك أيضًا ما يكون للنساء من الثياب والحلي ، ويقيم الزوج البيّنة أنه ابتاع ذلك كله بعد البناء بزمان ، ولك يذكر أنها عارية وسكت عن ذكر ذلك ، إلا أنها تنتفع بذلك وتتزين به ، فينزل بينهما فراق أو موت ، فتدعي المرأة ذلك كله .
(1/169)
________________________________________
=فأجاب : ليس لها مما ذكرت شيء ، إلا أن يعرف أنها خرجت به من بيتها ، أو تصدق به عليها ، أو أفادت مالاً ، وعرف ذلك واستبان واتضح ، وانه يكون كما وصفت ، و ما لم يعرف لها مال و لا تصدق عليها و لا أفادت ، فليس لها من ذلك شيء ؛ لأن الزوج يقول : أردت جمال بيتي ، وجمال امرأتي ، وزينتها بذلك ، فالقول قوله و قول ورثته بعده عن مات ، ويل لابن الخمير فيما ترى إن قالت : إني اكتسبته وجمعته ، فقال : ليس يعرف الكسب للنساء ، إلا أن يكون ميراثًا أو هبة أو صدقة ويعرف ذلك ، فحينئذٍ يجوز كما تقول إذا كانت المرأة لا يعرف لها قليل و لا كثير من قبل دخوله عليها .
=و أجاب : ابن لبابة أما ما عرف مما ابتاعه الزوج بعد البناء لامرأته من حلي أو متاع يعرف للنساء ويزين به امرأته السنة والسنين وأكثر من ذلك ، و لم يشهد لها على عطية و لا هبة فهو أحق به ، كان مما يعرف للنساء أو غير ذلك ، و ما أدخل على زوجته الثانية من متاع زوجته الأولى ، فهو أحق به أيضا ، و لا شيء للثانية فيه ، والورثة فيه بمنزلة الميت ، إلا أن يكون لها بينة على ذلك ، وإلا فلا شيء لها ، قال : و ما اكتسبه قبل ذلك أيضًا مما وصفت ، فهو له ، قيل له فالمطحنة والأكيسة والصوف لمن تكون ؟ فقال للزوج وليس في هذا شك .
[141/3][من شهد لامرأته في عقد النكاح ، أن الداخلة طالق البتة]
*و سئل : عن الذي شرط لامرأته في عقد النكاح أن الداخلة طالق البتة ، ثم تزوج عليها ، فهل يفسخ نكاحه .
(1/170)
________________________________________
=فأجاب : يفسخ و لا يقر عليه ، وليس لها نصف الصداق و لا تجبره ، قيل له : إن ابن القاسم يقول : لها نصف الصداق ، قال كذلك يقول ولست أقول به ، ولكني أقول بقول ابن الماجشون ليس لها شيء ، قيل له فمن أين يقول ابن القاسم إن لها نصف الصداق ؟ قال للاختلاف الذي جاء في هذا النكاح ؛ لأن من الناس من لا يرى فسخه . قيل : فإن دخل بها ، قال : يكون لها الصداق كاملاً ، قيل له : فإن فسخ نكاحه مع الثانية ثم طلق الأولى ، هل له أن ينكح هذه التي فسخ نكاحه ، قال : لا ، حتى تنكح زوجًا غيره ، قيل له : أليس له قد جاء أن غير المدخول بها واحدة تبينها ، ثم يكون فيها خاطبًا من الخطاب . فقال : ليس هذا في هذه ؛ لأن هذه يمين قد لزمته فيها الشرط الذي جعل لامرأته حين قال الداخلة طالق ألبتة . قيل له : فإن هذا أقام مه هذه الداخلة حتى مات عنها أترثه ؟ قال : لا ترثه وإنما يرثها إن كان له منها ولد ، قيل له : فقد قال ابن القاسم إنها ترثه ، قال : بلى ولكني لست آخذ به ، و قول أصبغ بن الفرج أحب إلي أن لا ترثه ، و وجدتها في ثمانية أبي زيد .
[رجل قيل له لم لا تزوِّج ابنتك فلانًا ، فقال : قد زوجتها ابن أخي فلانًا]
*و سئل : ابن الفخار عن رجل قيل له لم تزوج ابنتك فلانًا ؟ قال : قد زوجتها ابن أخي فلانًا ، فقام ابن الأخ بذلك ، فقال الأب : ما أردت بقولي ذلك إيجابًا ، و ما كنت إلا معتذرًا للقوم دافعًا لهم .
(1/171)
________________________________________
=فأجاب : إن ابن كنانة قال : إن طلب ذلك ابن الأخ ، و قال : قد زوجني قبل اليوم لزم العم ذلك ، و لم يقبل منه قوله : أردت دفعهم بذلك ، و إن كان ابن الأخ إنما طلب ذلك بقول العم للقوم ، ويقول : قد أقر عمي أنه زوَّجني و لم يدع أنه زوجه قبل ذلك ، لم يكن له ذلك و لم يلزمه . و قال أصبغ : أرى قول العم لازمًا[142/3]والنكاح لابن الأخ واجب ، لا نبالي بأي ذلك طلبه بهذا القول أو بنكاح كان قبله ؛ لأن النكاح ليس فيه لعب و لا اعتذار ، وهزله جد وعلى قول ابن القاسم يحلف الأب ما أراد إيجابًا و لا كان إلا متعذرًا و لا نكاح لابن أخيه .
[رجل يشترط لامرأته أن لا يتسرى عليها]
*و سئل : عبد المالك ابن الحسن عن الرجل يشترط لامرأته أن لا يتسرى عليها ، فإن فعل فأمر السرية بيدها إن شاءت باعت ، و إن شاءت أمسكت .
=فأجاب : أما البيع فلا كلام لها فيه ، و أما العتق والإمساك فذلك لها ، قيل له : فإن اشترى جارية فوطئها وهي لا تعلم ، ثم باعها من رجل فعلمت المرأة بذلك عند المشتري ، قال : لا قضاء لها إذا لم تكن في ملك الزوج ، و قد انقطع ما كان بيدها من ذلك . و قال ابن حبيب يفسخ البيع ويرد البائع الثمن على المشتري ثم تعتق على الزوج .
[المرأة إذا أخذت الكالئ من زوجها لا يلزمها أن تشتري به شورة]
*و سئل : ابن زرب المرأة يكون لها الكالئ قبل زوجها فيحل عليه بعد دخوله بها وتأخذه منه ، هل يلزمها أن تشتري به شورة .
(1/172)
________________________________________
=فأجاب : بأن قال : إنما الشورة عند البناء و قد بنى ، قيل له : فلو أن البناء تأخر وكان لها عليه كالئ حتى حلَّ أجله فأخذته و قد كانت أخذت منه النقد ، هل يلزمها التجهيز بالكالئ والنقد ؟ قال : نعم ، إذا لم يبن بها حتى حلَّ أجل الكالئ لزمها التجهيز به ، قيل له : فلو حلَّ الكالئ قبل البناء ، و قال الزوج للمرأة : خذي كالئك ، وأبت من أخذه ، و قال : لست آخذه حتى تبتني بي ، لئلا يلزمني ابتياع شورة به ، هل تجبر على أخذه ؟ فقال : نعم تجبر على أخذه وابتياع شورة به .
[143/3][رجل خطب امرأة يتيمة بكرًا بالغًا فرضيت به دون توكيل منها لوليها]
*و سئل : ابن أبي زيد عن امرأة يتيمة بكر بالغ بعث إليها رجل يخطبها له ، فأتت المرأة إلى ولي الصبية وإلى خاطبها ، فقالت لهما : إنها رضيت بالزوج ، فزوَّجها وليُّها منه من غير توكيلها ، فزارها الزوج عند أهلها ثم قامت تريد فسخ نكاحها ، و قال : إني لم أوكل على تزويجي ، قيل لها : فلم رضيت بالزيارة ودخول الزوج عليك ، فقالت : ظننت أنه يلزمني .
=فأجاب : إن كان النكاح مشهورًا وكانت الزيارة من الزوج إياها بقرب النكاح ، فالنكاح ثابت و لا حجة لها ، و إن كانت الزيارة بعد مدة طويلة ، حلفت لقد ظننت أن فعل الولي يلزمني ، وفسخ النكاح ، و إن نكلت لزم النكاح مع الاختلاف في ذلك .
[أخوان شريكان متفاوضان تزوَّج أحدهما ونقد من المال مائة دينار فتوفي]
*و سئل : ابن لبابة عن أخوين كانا متفاوضين وكان مالهما واحدًا لا يعلم لأحدهما شيء دون صاحبه ، فتزوَّج أحدهما ونقد من جملة المال مائة دينار ، وبقي الآخر لم يتزوج فلما ابتنى الناكح هلك ، فقام أخوه يريد أن يأخذ من جملة المال أيضًا مائة دينار لنفسه ، فقالت امرأة : الهالك ليس لك شيء ، لعل صاحبي نقدني من غير الشركة .
=فأجاب : لأخيه أن يأخذ من المال مثل ما نقد ، ويأخذ من بقية المال النصف .
[
(1/173)
________________________________________
من زوج ابنته من رجل فانعقد النكاح بينهما ، ثم أراد الأب أن يشترط عليه شروطًا]
*و سئل : عن رجل زوَّج ابنته من رجل بنقد وكالئ إلى أجل و لم يشترط عليه حين عقد النكاح شيئًا من الشروط ، فلما كان حين الكتاب أراد الولي أن يشترط عليه شروطًا ، أن لا يتزوج و لا يتسرى و لا يرحلها ، وأن تكون مصدقة[144/3]في الضرر ، وأشباه هذا ، فأبى الزوج من هذه الشروط و قال : لم يعقدها علي في حين عقد النكاح ، هل يجوز للأب أن يشترط ؟
=فأجاب : إن كانت الشروط لم تسم في عقد النكاح ، فلا يشترط عليه غلا الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان ، و إن كانت سميت ، لزمه ما سمي به ورضي به .
[من زوَّج ابنته من رجل ونحلها من ماله ثم فلس الأب و لم يقدر على الوفاء بالنحلة]
*و سئل : عن رجل خطب إليه رجل ابنته فزوَّجها منه بصداق مسمى ، وذكر أنه نحل ابنته كذا وكذا وساق الزوج الصداق على معنى النحلة ، ثم فلس الأب و لم يقدر أن يوفي النحلة ، فقال الزوج : إني إنما أصدقت ابنتك هذا المهر من أجل النحلة قبل البناء بها .
=فأجاب : للزوج أن يوفي له الأب بالنحلة ، ويمضي النكاح إذا كان الزوج عليها أنكح ، فإن عجز الأب عليها قبل البناء ، كان للزوج الخيار في أن يمضي النكاح و لا شيء له من النحلة ، أو يفسخه عن نفسه و لا شيء عليه ، و لا يكون ذلك إلا بأمر السلطان .
[من تزوج امرأة وساق إليها دارًا في موضع معروف ، وشرط عليه أن يبني في الدار بيتًا و لم يسم قدر البناء]
*و سئل : أبو صالح عن رجل تزوج امرأة وساق إليها دارًا في موضع معروف ، وحدت الدار و وصف بناؤها ، وشرط على الزوج أن يبني في هذه الدار في موضع كذا بيتًا من ثلاث جوائز و لم يسم قدر البنيان ، فهل يفسخ الصداق و قد دخل بالمرأة ؟
=فأجاب : لا يفسخ ويبنى لها وسطًا من البنيان .
[145/3][من ساق إلى زوجته أرضًا لكذا وكذا قفيزًا ، و في حقل كذا وكذا لكذا وكذا قفيزًا]
(1/174)
________________________________________
*و سئل : عن رجل ساق إلى زوجته أرضًا لكذا وكذا قفيزًا ، أو في حقل كذا وكذا لكذا وكذا قفيزًا ، فإن تم في هذين الحقلين ، وإلا أتم لها في حقل كذا وكذا بموضع كذا وكذا ، هل يفسخ هذا النكاح ؟
=فأجاب : بأن قال : هذا غير جائز .
[رجل تزوج امرأة وأخرج دنانير لشراء طعام ، فتفاسخوا النكاح قبل أن يؤكل الطعام]
*و سئل : ابن أبي زمنين عن رجل تزوج امرأة وأخرج دنانير ، فقال : اشتروا منها طعامًا وأطعموا ففعلوا ، ثم وقع الشر بينهم حتى تفاسخوا النكاح قبل أن يؤكل الطعام .
=فأجاب : بأن قال : قال ابن القاسم إن كان ذلك جاء من قبلهم ، فهم ضامنون لدنانيره والطعام لهم ، و إن كان ذلك جاء من قبله ، فليس له إلا الطعام إن أدركه .
[امرأة ادعت أن زوجها أمهرها جميع أملاكه و قد ضاع منها صك الصداق]
*و سئل ابن الكوي عن امرأة ادعت أن زوجها أمهرها جميع أملاكه ، فقال لها : أخرجي صداقك فما كان فيه أخذته ، فقالت : قد ضاع وذهب إن كنت تصدقني ، وإلا فاحلف لي على ما شئت ، فقال لها : إنك إنما تريدين أن تشوهيني باليمين ، احلفي أنت أن صداقك قد ضاع وأنك لم تجديه ، وكذلك الحاكم(1)إلى الإيمان ، فهل له عليها يمين أم لا ؟
=فأجاب : له ذلك .
[146/3][من أنكح ابنته من رجل ، وكذلك الزوج بدل لها نصف ماله في الأرض والدور و ما إلى ذلك]
__________
(1) كذا بياض مقدار كلمة أو كلمتين في سائر النسخ التي وقفنا عليها ، و في النسخة المطبوعة مكان البياض كلمة (بعد) كتب فوقها كذا .
(1/175)
________________________________________
*و سئل : بعض فقهاء قرطبة عن رجا أنكح ابنته بكرًا من رجل ، وأن الزوج كان بذل لها نصف ماله في الأرض والدور والكرمات والأشجار من التين والزيتون ، فكان الزوج يعمر جميع ذلك ويقبض الغلات مثل ما يفعله في ماله إلى أن هلك عنها ، وكان موته إلى سبعة أعوام من وقت دخوله بها ، وذلك أن الزوج كان قد باع لها ثيابًا بحدثان دخوله بها ، فتريد القيام في كراء أرضها و ما استغله من مالها ، ألها ذلك أم لا ؟ وهل لها القيام أيضًا فيما باعه له من ثيابها أم لا ؟
=فأجاب : إن علم أن ذلك على وجه التوسُّع لزوجها والرفق به فلا قيام لها ، و إن لم يعلم ذلك ، حلفت في مقطع الحق أنها لم تتركه طول هذه المدة إلا لتقوم في حقها ، و إنها لم توسِّع له ، و لا تركت حقها ، و لا قبضت من غلتها شيئا و لا من كراء أرضها ، و لا قدمت زوجها على النظر لها ، فإذا حلفت ، رجعت في ماله بكراء أرضها ومستغل مالها إن شاء الله .
[من تزوج امرأة ودخل بها وكان كتاب المهر بيده ، فمات الزوج وتزوجت المرأة غيره]
*و سئل : بعض فقهاء قرطبة أيضًا عن رجل تزوج امرأة ودخل بها وكان كتاب المهر بيد الناكح ، فمات الزوج ثم نكحت المرأة غيره ، فقام الآخر بمهر المرأة فشهد الشهود على خط الناكح وعلى نكاحه وبنائه .
=فأجاب : إذا ثبت نكاحه لها وبناؤه بها وشهد على خط الناكح في المهر ، ثبت عليه المهر إن كان كالئًا بعد أن تحلف المرأة أنها ما قبضت منه شيئًا ، و لا أحالت و لا استحالت ، وإنه لباقٍ لها عليه .
[من تزوج بنقد معلوم وكالئ إلى أجل ما يكلئ الناس إليه نساءهم]
*و سئل : ابن زرب عن الرجل يتزوج بنقد معلوم وكالئ إلى أجل ما يكلئ الناس إلى نسائهم .
[147/3]=فأجاب : لا يجوز ؛ لأن الناس يختلفون في تأجيل الكالئ ، منهم من يجعله إلى خمسة أعوام ، وإلى أقل ، وإلى أكثر .
[من تزوج امرأة بصداق معلوم فتوفيت ، فطلب لزوج بالشورة]
(1/176)
________________________________________
*و سئل : الأستاذ أبو عبد الله الحفار عن مسألة ؛ وهي رجل تزوج امرأة وأعطاها النقد خمسة وعشرين دينارًا ذهبية ، والكالئ عشرة من الصفة وخادم ونصف أملاكه ، فتوفيت وأحاط بإرثها زوجها وأبوها وهم يطلبون ميرثهم ، وطلب الزوج منهم الشوار فقالوا : ما معنا شيء قليل ول كثير ، فجوابكم كيف يكون العمل ؟
=فأجاب : وفقت على السؤال فوقه ، والرجل الذي أصدق المرأة الصداق المذكور إذا لم يعين له ما كانت الزوجة تجهز به من الأسباب لو عاشت ، و قال الأب : ما ذكر في السؤال من أنه لا شيء للزوجة قليل و لا كثير ، فقال القاضي ابن رشد للزوج أن يسقط الصداق عن نفسه ، و لا يعطى منه شيئًا حتى يعين له من الأسباب ما يليق بالصداق الذي بذل ، فيأخذ من ذلك ميراثه ، و إن لم يعين له شيء فلا ميراث للزوجة من الصداق .
وقال غير ابن رشد يغرم من الصداق ما يعطى لفقيرة عديمة ليس لها شيء ، فلا شيء للزوجة من الصداق غير دراهم يسيرة ، والسلام على من يقف عليه من محمد الحفار .
[إخوة زوجوا أختًا لهم وأوردوا بيت بنائها شوارًا وحليًّا ونحلوها على أن لا يبقى حق معهم]
*و سئل : عن ثلاثة اخوة شقائق كفلوا أختهم الصغيرة المهملة مدة من خمسة عشر عامًا ، وأجروا عليها بطول ذلك النفقة والصرف وسائر المؤن ، ثم زوجوها وأوردوا في بيت بنائها شوارًا وحليًّا من متروك أبويها أزيد من حظها متروكهما ، ونحلوها مع ذلك عددًا برسم شوارها ، وكان ذلك كله مشتركًا على ألا يبقى لها في متروك أبويها حق ، ثم إنها توفيت وقام الآن ورثتها يطلبون من الإخوة حظها من بقية متروك الأبوين ، فهل لها ذلك أم لا ؟
[148/3]=فأجاب : إذا كان ما أورده الإخوة لأختهم من الشورة والحلي ، يعلم ويثبت أنه أعظم وأكثر مما يجب للأخت في ميراثها في أبويها ، وأعطوها ذلك ونحلوه لها على أن لا يبقى لها ميراث في أبويها ، فليس لورثة البنت إلا ما تركت خاصة ، والسلام على من يقف عليه ، من محمد الحفار .
[
(1/177)
________________________________________
امرأة مصمودية تزوجها مصمودي في بلاد الأندلس تفويضًا ، يقدر لها صداق مثلها في البلد المشهود فيه]
*و سئل : عن امراة مصمودية تزوجها مصمودي في بلاد الأندلس تفويضًا ، كيف يقدر لها صداق المثل ، هل يعتبر بلادهم أم بلاد انعقد فيها النكاح ، واشرح لنا تقدير حال الزوج ، إذ هو ممن يرغب ، والبنت مسكينة ليس لها مال و لا جمال و لا دين لكونها دون البلوغ .
=فأجاب : وقفت على السؤال فوق هذا ، وصداق المثل معتبر في البلد الذي انعقد فيه النكاح ، فينظر من يعرفه ويعرفها ، ويعينون من الصداق ما يبذل مثله لمثلها على ما هي عليه مما يرغب فيها أو يرغب عنها ، فما وقع الاتفاق عليه من أهل المعرفة بهما ألزم الزوج غرمه ، والسلام على من يقف عليه من كتابه محمد الحفار .
[من تزوج في مرض غير مخوف ، ترثه زوجة ولها صداقها كاملاً]
*و سئل : الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن علي علاق عن رجل تزوج امرأة و هو بحال مرض و هو محتاج إلى الاستمتاع ، ومرضه غير متخوف متطاول من جرح كان له بين السبيلين يملأ ويفرغ ، كان به مدة من نحو ثلاثة أعوام ، فدخل بها وأقام معها نحو أربعة أشهر ، وذلك الجرح باقٍ على حاله يملأ ويفرغ ، فهل ترثه وتأخذ صداقها الذي سمي لها ؟ تفضلوا بالجواب على ذلك .
(1/178)
________________________________________
=فأجاب : وقفت على السؤال أعلاه وإذا كان الأمر على ما وصف فيه ، فإن للزوجة الميراث وصداقها الذي سمي لها ؛ لأنه لم يظهر كون المرض[149/3]مخوفًا ، مع أنه محتاج إلى الاستمتاع ، و قد ذكر ابن المنذر عن مالك وابن القاسم وسالم وابن شهاب أنهم قالوا : يجوز إن لم يكن مضارًا أي إن كان لحاجة الإصابة والقيام به ، و إن لم يكن لحاجة كان مضارًا . و قال الأستاذ أبو بكر الطرطوشي : إنه على رأي مالك أن المريض المخوف الذي لا يحتاج إلى الاستمتاع و قد ادى إلى حال يحجر عليه في ماله فلا يجوز تزويجه ، وذكر عن مطرف أنه أجاز ذلك جملة من غير تفصيل . و قال أبو حنيفة والشافعي إن نكاح المريض والمريضة جائز كالصحيح والسلام من كاتبه علي بن علاق .
[إذا تزوج الرجل في حال النقاهة من المرض ، فالنكاح صحيح]
*و سئل : القاضي أبو سالم سيدي إبراهيم اليزناسني عمن تزوج امرأة بكرًا و هو ناقه من المرض ، وانعقدت الشهادة عليه بذلك ، ودخل بها وبقي معها ثلاثة أعوام ، وكان بطول هذه المدة تنعقد عليه الشهادات بالصحة والطوع والجواز في جميع ما يشهد به عليه من بيع أو كراء أو غير ذلك مما يرجع للشهادة عليه ، ثم توفي وترك الزوجة المذكورة وعاصبًا ، فأثبت العاصب المذكور أن الزوج لم يزل مستصحب المرض إلى أن مات وأراد منع الزوجة من الميراث ، هل يكون العمل على ما اثبته العاصب ، أو على ما كان ينعقد على المتوفَّى بطول هذه المدة من الصحة والجواز والطوع في جميع ما يرجع إلى الشهادة عليه ؟
(1/179)
________________________________________
=فأجاب : النكاح صحيح ، وميراث الزوجة ثابت لوجوه كثيرة ، من أظهرها ثلاثة أوجه : الأول : أن بينة الصداق شهدت بصحة الزوج حين عقد النكاح ؛ لأن الناقه صحيح ، و هذا موضوع لفظ الناقه لغة ، قال الجوهري لما بيّن كون ماضيه مكسور العين كتعب ، أو مفتوحها ككلح كلوحًا ، فهو ناقه ، إذا صحَّ و هو في عقب علته ، وتأيدت صحته بما ثبت في الوثائق المعقودة عليه بعد ذلك من وصفه بالصحة ، وإذا تقرر كونه صحيحًا حين العقد ، فالمنصوص في مواضع من العتيبة و في كتب الوثائق ونوازل ابن رشد رحمه الله تقديم بينة الصحة على بينة المرض .
(1/180)
________________________________________
الثاني : لو فرضنا أن الروايات بكون البينتين تتعارض ،[150/3]فلا تعارض في مسألتنا ؛ لأن بينة الصداق والرسوم بعده قد شهدت بصحته في أوقات معينة ، وبينة المرض قد شهدت بأوقات مطلقة ، ومن شهد بمعين مقدم على من شهد بمطلق باتفاق ، لا سيما وبينة المرض لا يمكنها أن تنفي صحة الزوج في جميع المدة إذ لا يمكن ذلك إلا ممن لم يزل مع الزوج في جميع المدة ، و هذا متعذر عادة ، و إن قلنا بمذهب ابن القاسم في المدونة إذا صحا فذلك أحرى في صحة النكاح ، الثالث : لو فرضنا صحة التعارض بين بينة الصحة وبينة المرض بحيث يتجاذبان طرفي النقيض و لا يمكن الجمع ، ويكون الحكم النظر إلى الأعدل ، وكانت بينة المرض أعدل ، أو كان الحكم بتقديم بينة المرض على القول الشاذ المخرج عند الشيخ أبي الوليد ابن رشد رحمه الله ، فإن الحكم في جميع هذه الوجوه صحة النكاح ؛ لأن المريض لما عاش بعد النكاح ثلاث سنين فهو قد عقد نكاحها في أول مرض متطاول ، و لا خلاف في مذهبنا أن النكاح إذا انعقد في أول مرض متطاول ، أنه صحيح لا يفسخ ، وسواء كان ذلك المرض المتطاول مخوفًا أم لا ؟ حسبما قرره الشيخ أبو الحسن اللخمي رضي الله عنه ، وإنما جعلنا المرض الذي يطول ثلاث سنين متطاولاً لاتفاق الأطباء عن آخرهم على وصف ما زاد من الأمراض ى فصل واحد من فصول السنة بكونه مما ينتظر بجريان إلى فصل آخر ، وبهذا المعنى فسَّر جالينوس وغيره قول بقراط في كتاب الأسابيع الأمراض الصيفية تنقضي في الشتاء ، والأمراض الشتوية تنقضي في الصيف ، فقال ما نصه : واعلم أن هذا هو حد الأمراض المزمنة ، كما أن اليوم الرابع عشر حد الأمراض الحادة –انتهى موضع الحاجة منه . وهل يوصف ما زاد من الأمراض على أربعة عشر يومًا ، بل ما زاد على سبعة أيام بكونه مزمنًا ، فيه مباحث طبية ليس هذا موضع بسطها . فقد ثبت صحة النكاح على كل تقدير ، وذلك ما أردنا وبالله التوفيق .
(1/181)
________________________________________
قلت : وقعت هذه المسألة في أحكام الوزير ابن حمدين رحمه الله ، واختلف فيها اجوبة الشيوخ ، فقال القاسم بن خلف الجريري حد المرض الذي يجوز عقد النكاح فيه ، أن يبلغ بصاحبه مبلغًا لا يتصرف معه ، ويستحق أن يحجر عليه فيما فوق الثلث من ماله ، فإذا أثبت عندك أيدك الله ممن ترضى شهادته أن محمدًا نكح و هو مريض ، وثبت بمثلهم[151/3]أنه نكح و هو صحيح ، فبشهادة من شهد على المرض أتم ؛ لأن أحوال الناس على الصحة حتى يثبت المرض . فشهادة من أثبته أولى ؛ لأنه قد علم ما لم يعلمه الثاني ، والشهادة إنما وضعت للإثبات لا للنفي و الله أعلم .
وقال : أصبغ بن سعيد الذي أقول به أن شهادة من شهد بالصحة أولى ، مع مقاومة الابن الضياع مع الزوجة و قد كانا ذهبا إلى التصالح في هذا ، و هو إن شاء الله أسلم منن الجواب للمفتي والحكم به إن شاء الله ، وبالله تعالى التوفيق .
وقالممد بن يبقى بن زرب إنما يمنع المريض من النكاح مع المرض المخوف الذي يلزم البيت والفراش ، فأما مع المرض الخفيف غير المخوف الذي يخرج به فذلك جائز ، و قد أتى عبد الله بشاهد فشهد انه رأى آباه بعد نكاحه خارجًا على المسجد مرتين ، و في الحوانيت مرتين أيضًا . فهذا مرض كان يخرج معهم إلى ما قد شهد به الشهود من صحته بعد نكاحه ، فالذي أقول به أيضًا صحة النكاح . وقاتل سعيد بن أحمد بن عبد ربه : الشهود الذين شهدوا عندك بمعرفة صحة الناكح بعد بنائه بزوجته ، أحق عندي بأن يؤخذ بشهادتهم إذ كانوا عدولاً من الذين شهدوا في المرض مع اضطراب شهادتهم في المرض ، هذا الذي أقول به إن شاء الله تعالى .
(1/182)
________________________________________
وقال عبد الرحمن بن أحمد بن بقي بن مخلد : قرأت الشهادة الواقعة عندك بالصحة والعلة ، فإن كنت قبلت البينتين أخذت بالأعدل من البينة الشاهدة بالصحة سقط ميراث المرأة ، و إن كانت البينة الشاهدة في الصحة أعدل ، أخذت بأعدل البينتين ، و إن تكافأتا ، جميعًا في العدالة سقطتا جميعًا ، وليس التقاسم المذكور مما يسقط به ما شهدت به ، إذ مثل ولد ابن مومنة يعذر بالجهالة ، فهذا الذي ظهر لي و الله أعلم .
والمسؤول أن يحملك على الصواب . و قال محمد بن حارث : إن كنت -وفقك الله- قبلت شهادة من شهد عندك أنه لم يزل مريضًا حتى مات يعرفون ذلك ويقطعون به ، وقبلت شهادة من شهد أنه صح من ذلك المرض ، فالواجب أن يقضي بأعدل البينتين في ذلك ، فإن تكافأتا في العدالة سقطتا وسقط الميراث عن الزوج بما ثبت من مرضه في حين عقد نكاحه و ما شهد[152/3]به على ابن مومنة من أنه قاسم الزوجة وأرضاها ، فأرى ذلك ضعيفًا لجهل الغلام ، و إن مثله لا يعلم بمجاري الأحكام و لا بما توجبه السنة ، و قد يرد القول في كتبنا بعذر الجهل هل يجهله ، هذا ما عندي و الله أعلم ، وأساله التوفيق .
[امرأة قبضت نقد ابنتها ، وزعم صهرها أنها لم تجهزها به إليه]
**و سئل : فقهاء قرطبة عن امرأة قبضت نقد ابنتها وزعم ختنها أنها لم تجهزها به إليه ، وقالت : بل جهزتها به إليه بعلمه ومعرفته وأمره .
=فأجاب : عبد الرحمن ابن أحمد بن بقي بن مخلد : الواجب على المرأة أن تثبت عندك حيث وضعت النقد و ما يوجب لها البراءة منه فإن أثبت على ذلك ببرهان يوجب لها نظرًا ، وإلا فهي غارمة له ، واليمين على الزوج فيما ادعت المرأة أنه علم إنفاقها لهذا النقد في وجوهه ، و إن ذلك كان بأمره وتسليمه ، فإذا حلف على هذا ، وجب تضمينها لما أقرت بقبضه إن شاء الله .
(1/183)
________________________________________
=و أجاب ابن زرب على الزوج اليمين الذي ندعيه ختنته من علمه وأمره بعد أن ينصه ، فإن حل فعلى ذلك كان عليه غرمه ، و إن نكل على اليمين حلفت على ذلك ويسقط قيامه عليها ، وبقيت حجة ابنتها قبلها إن شاء الله تعالى .
=و أجاب : هاشم بن أحمد بن أمد بن خزيمة : إن كانت زينب هذه وصيًّا ، فالقول قولها فيما ذكرته من تصريف مهر ابنتها إن لم تكن لها بينة على ذلك ، و إن لم تكن وصيًّا لم تخرج من هذه الحمالة إلا ببرهان ، وإلا ضمنت ما قبضت إن شاء الله .
وقال ابن الهندي في مقالاته : وإذا قام الرجل بعد الدخول يطلب معجل صداق زوجته من الوكيل الذي وكله أبوها على أحكامها وقبض صداقها ، فإن كانت بقرب البناء مثل العام ونحوه ، فعلى الوكيل البينة بابتياع الجهاز وإيراده[153/3]بيت البناء ، و ما أثبته الأب أو الوكيل من إنفاق ذلك في مثل الشورة ، ومثل ما يصلح للنساء من الطيب وغيره ، فهو براءة لهما من ذلك .
[من تزوج امرأة بمائة دينار ، و لم يفرض عليه نقد منها و لا مهر إلا مائة بعينها]
*و سئل : القابسي عمن تزوج امرأة بمائة دينار ، شرط على نفسه ، و لم يفرض عليه نقد و لا مهر إلى مائة بعينها ، وحلف أبو الصبية بالطلاق أن لا يدخل عليها حتى يؤدي مائة دينار التي شرط على نفسه .
(1/184)
________________________________________
=فأجاب : سنة الصداق في الصدر الأول إنما كان كله معجلاً ، ثم أحدثت تفرقته فجعل فيه معجل قبل الدخول ، ومؤجل لسنين معلومة ، ثم صار إلى أن يكون المؤخر باقيًا إلى بعد الدخول يحل له على عادات صارت للناس فيه ، وزيادات عن اجل التأخير حتى غلب ذلك وصار المعروف في الناس أن الصداق مذكور الجملة ، و هو معروف عندهم بعضه قل الدخول وبعضه باق لبعد الدخول ، فمن الناس من جملة صداقه مائة ، في العادة خمسون ، ومنهم من يقلل النقد ويكثر المهر ، و هو المؤخر يعينونه عند إحكام الكتاب عند العقد ، إلا من بين فقال : الصداق كله و ما سماه معجل ذلك كله ، وقليل من يفعل ذلك ، ومن بينه هكذا فهو له ، ومن أجله و لم يبينه فهو على عادات الناس ، و ما عرف من صدقات مثل هؤلاء القوم ، ويمين الأب لا تغير حكمًا ، فإن كانت يمينه بالطلاق الثلاث ، فهو المنعقد إن جرى الحكم عليه بتفصيل المائة ، فيحنث إذا لم يستثن شيئًا ، فافهموا ما وصفت لكم ، وانظروا فيما خالط مسألتكم من الخلاص من هذه اليمين إن كانت الثلاث أو ما يتمم الثلاث .
[ما يكتبه الموثقون من كون الزوجة صحيحة العقل والبدن]
*و سئل : عما يكتبه الموثقون صحيحة العقل والبدن ، هل ينفعه هذا إن وجدها على غير ظاهر هذا الشرط ، أو حتى يشترط أني ليس لي كذا ، وليس ليَ يعدد العيوب بعينها .
[
(1/185)
________________________________________
154/3]=فأجاب : النكاح إنما هو جنس من الإجارة ، وإنما على الإنسان أن يتبرأ فيما يملكه مثل الرقيق وغيرهم ، وأيضًا فإنما يراد من المرأة تحسين المعاشرة مع الرغبة في وطئها ، و هو معنى قول ابن عمر إذ قال : ترد من الجنون لأن المجنونة ليس لها معاشرة ، و قد يريد منها الوطء فيضربه لمسه لها ، وكذلك المجذومة لا تقوم همته امرأته و لا يستطيع وطأها ، و قد يكون الجذام في موضع الوطء فيمتنع منه ، وكذلك البرص ، ورأى مالك العيب في الفرج ، وكذلك إذا منع من وطئها ، وإنما استغنى ابن عمر رضي الله عنه عن ذكره لأنه وجب الرد بالعيوب التي تؤدي إلى منع الوطء ، فإذا كان يجب الرد بسبب منعه فهو بالعيب في ذلك الموضع ألزم للرد ، وكان هذا معناه عند مالك فأفصح به مالك نطقًا ، فقال : أرى العيب في الفرج كذلك .
[من غاب عن ابنته البكر سنة الشدة مدة عام ونصف]
*و سئل : عن رجل غاب عن ابنته البكر في سنة الشدة مدة عام ونصف فزوجها أخوها ، ولها منذ بني بها زوجها سنة ونصف ، فقام الساعة يفسخ النكاح والابنة بنت أربعين سنة .
=فأجاب : إذا كان الأب دائمًا في غيبة و لم يعرف له مكان و لا يدري ما صنع و قد أصيب وجه النكاح بها وهي معه في ستر وصلاح ، فلا يفسخ تزويجها في هذه السنة ، فما ذكرتم من الأعذار يكفي في ذلك إن شاء الله تعالى ، ليست الأوقات واحدة ، فوجه النظر عندي في هذه المسألة الذي وصفت لكم .
[من تزوج امرأة بثلاثمائة دينار ، فطلب منها أبوها الابتناء بها فامتنع]
*و سئل : عمن تزوج امرأة بثلاثمائة دينار ، قيمة كل دينار ثمانية دراهم ، فطلب منه أبوها الابتناء بها فامتنع من ذلك ، وطلبه مرة بعد أخرى فقال : لا يلزمني من الصداق شيء و هو مفسوخ و لم يصح من شهود الأب إلا شاهد واحد على الصداق ، والزوج غير مليء بالصداق و لم يقدر أو يطلب الأب منه غلا ما يقدر عليه ، ويكون الباقي عليه دينًا .
[
(1/186)
________________________________________
155/3]فأجاب : إن كان عنده من الرباع ما يمكن أن يفيد من غلاتها على مر السنين ما يوفي منه هذا الصداق المأخوذ به ، أو يكون في أثمان الرباع إذا ما قيم عليه بالصداق وفاء أو قريب منه ، فليس له أن يتبرأ من المؤخر ويؤخذ بالمعجل إن كان معه من أين يوفي به ، وإذا رضي بأن يؤخذ منه ما تيسر ويؤخره بالباقي إلى يسره ، فما امتناعه إن شاء يؤدي ما تيسر فيقبل منه ويدخل ، و إن شاء التمس تمام المعجل وأجرى الرزق ، و قد زعمت أنه مقر بالنكاح ، وزعمت أنه قال : لا يلزمني من هذا الصداق شيء لأنه مفسوخ ، فإنما ادعى فسخه و لم يذكر علة بفسخ ، لم يقل : إنما شهد بالصداق شاهد واحد في هذا ، و هو مقر به ومدع لفسخه ، بل إن كان الرجل لا مال له من ربع في بلده و لا غير ذلك ، وليس له متصرف يرجى منه مكسب يقرب منه يسره ، فإنه ينظر في هذا الصداق الثقيل هل إنما يجعلونه تسمية ، والثابت منه أمر قد عرفوه ، فإن كان كذلك هو فافعلوا واقتصروا على الأمر المفهوم بينهم ، فإن كان العادة فيه ثباته كما سموا ، ومنع الزوج من الدخول حتى يأتي منه ما لا يرجى منه و إن طالت به السنون فهذا ضر يطرح ويترك وينصرف عنه إلى أمر سديد بعد فسخ الأول واستئناف عقد حديث ، هذا الذي حضرني في مسألتكم و الله أعلم .
[المعترض يطلق زوجته بعد دخوله بها بثمانية أشهر]
*و سئل : ما الذي تستحسنه في المعترض يطلق امرأته بعد دخوله بها بثمانية أشهر ، هل جميع الصداق أو نصفه ، وطلاقه في الشهر التاسع .
(1/187)
________________________________________
=فأجاب : إنما استحسن مالك إعطاء جميع الصداق في هذا إذا كان قد ضرب له اجل سنة فمضت السنة و وقع الفراق ، قال لأنه كان يطلب ذلك منه في تلذذه بها وبغير جهازها و ما يبلى من ثيابها ، كل ذلك محبوسة عليه مضروب له أجل فيه سنة فاستحسن هذا ، و أما مسألتك فلم يذكر ضرب أجل وإنما يعد ملك الأجل من يوم ترفعه ، فإذا لم يكن أجل فما يمكنني أن أرى لها غير نصف الصداق ، باختيارها سكتت و لم تدع انه أصابها فيشهد لها سترها ، فافهم ما وصفت لك وبالله التوفيق .
[156/3][من أهدى لرجل في عرسه شاة مذبوحة وطلب المكافأة على ذلك]
*و سئل : عن رجل أهدى لرجل شاة مذبوحة في عرس كان له ، فلما كان بعد العرس بمدة ، طلب صاحب الهدية بالمكافأة على هديته ، والثمن الذي اشتراها به .
=فأجاب : لم يكن الناس يطلبون المكافأة في مثل هذه الهدية ، و لم ير العلماء فيها مكافأة ، إنما أهدى لحمًا فلا شيء له عليه ، و قال أيضًا : الهدية عند الولاية ، وعند العرس ، وعند القوم من السفر ، وهذه الأشياء إنما تجري من الذي يهديها على وجه الرفق للذي يهدى إليه ، هذا الذي تقدم في سنن الإسلام ، فليس فيها مكافأة ، هذا الذي عندنا في ذلك ، فمن أحدث غير هذا ، فليس هو في سنن الإسلام ، وليس يصلح أن يدفع أحد هدية على هذا الوجه ، على أنه يكافئ إن عرض له وجه آخر ، فإن لم يعرض له شيء ، فلا شيء عليه ، فهذا غرر وعمل سوء ، فلا يدخل عليه أحد إن شاء الله .
[من زوج ابنته من رجل بمال معلوم ، فنقده ثلاثين دينارًا من كل عشرة دينار]
(1/188)
________________________________________
*و سئل : عمن زوج ابنته إلى رجل بمال معلوم فدفع إليه نقده و هو ثلاثون دينارًا _عوض من كل عشرة _دينار ، فقال الزوج : ما نؤدي من هذا شيئًا ؛ لأنه ليس بواجب علي من الله و لا من رسوله عليه السلام ، فقال : ختنه هذه سنة قد سنها الناس فيما بينهم ، فقال الزوج : قد سنَّ الناس سنة منذ ثلاثين سنة أو خمسين أو أربعين ، و أما أنا فلم أزد درهمًا واحدًا ، و لا أؤدي إلا ما أوجبه العلماء .
=فأجاب : هذا الذي يسمى حق العرس إنما هو معونة من الزوج للمرأة ، لهذا أسسه الناس لأن النقد يصرفه في ثياب وشوار ، وجعلت نفقة العرس لطيب وصباغ وحناء ، وكذا كراء حلي و إن شاءت أعتقت للجلوة ، فينبغي للزوج أن لا يخرج عن عادة الناس ، والزيادة من عند أبي الصبية على النقد في الشوار ، فقد يكون هذا ممن يطمع أنه يقدر على ذلك ، فمن قدم على من عنده دينار ، جاء[157/3]منه الزيادة لابنته ، ومن قدم على من لا دينار له فقد علم انه ليس إلا ما يدفع ، والظن يبقى معلقًا به ، وحق العرس أبين من زيادة أهل العروسة في القماش ، ما علمت أن القضاء تقضي بحق العرس ، ولكن الذي يؤخذ به الزوج لا يخرج عن عادة الناس وبالله التوفيق .
[من اشترى خادمًا رومية وأعطاها لابنه فاتخذها الابن أم ولد ثم أعتقها وتزوجها]
*و سئل : عن رجل اشترى خادمًا رومية في المهدية منذ ثلاثين سنة ، وأعطاها لابنه وقت الشراء فاتخذها الابن أم ولد له ، و ولد له منها أولاد كثيرة ثم أعتقها وتزوجها بصداق معلوم فبقيت معه مدة من الزمان ، ثم مات ومات أولاده منها وبقيت وحدها ، فأراد رجل زواجها و قال : أخاف أن تكون بقي فيها الخمس فلم يخرج منها ، فهل يجوز له زواجها ويحمل أمرها على السلامة .
(1/189)
________________________________________
فأجاب : بعد نظر وتفكر ، أما إن كان لم يبق فيها إلا الخمس ، فهو قد فوتها بإيلاده إياها إن كان ذا مال فقد لزمه قيمة ذلك الخمس حين أفاتها بالولد أو بالوطء أي ذلك كان أوفر مما يلزمه بالوطء أو بالحمل ، إذا الحكم لم يقع بعد بأخذ ذينك الوجهين ، والحوطة فيما كان أولى ، فإن كان معتقها مات موسرًا وكان اليسار له ، يلزمه ما ذكرناه من القيم ، فهو يؤخذ من ماله ؛ لأنه شيء ليس فيه خيار لمالك لو كان معينًا قائمًا يطلب ، و إن كان الواطئ المعتق معسرًا ، فالخمس باقٍ لمالكه حتى يؤدي فيتم ، و إن ودي عن المعتق الولد مضى فعله وتمت الحرية ، و إن أراد أن يؤدي بنفسه المستأنف فبأي شيء يصح له لما يعمل عليه ، فإن لم يأخذ مريد هذا إلا بنظر قاضٍ عدل يقدر على كشف ذلك حتى يصح له ما يعمل عليه ، فإن لم يجد مريد هذا أمرًا بيِّنًا يعمل عليه ، فيخرج الخمس ويعتق خمسها عن الذي أعتقها ليكون الولاء كله له ، و لا يدخل على شبهة ليسترق بها لنفسه عساه جريًا على غيره ، فهذا ما في استقصاء الخمس إن لم يكن إلا هو لمن أراد التحري والتورع على حقيقته[158/3]ولكن من له أن الأربعة الأخماس وصلت إلى مستهليها ، فإن خفاء ذلك لا يرفع الرق عمن حلَّ فيه ، إذ جميعه مطلوب ، فافهم ما وصفته لك وبالله التوفيق .
[من تزوج امرأة على صداق سبعين دينارًا ، فدفع النقد من ذلك ثم هلكت الزوجة]
*و سئل : عمن تزوج امرأة على صداق سبعين دينارًا فدفع النقد منذ لك وهوثلاثون دينارًا ثم هلكت الزوجة قبل البناء ، فكم يطلب الزوج مما بقي و إن ادعى الولي أنه أنفق النقد عليها لطول المدة عنده ، والزوج مع ذلك يطلب الدخول بها فلم يدخلوها إليه ، والولي يزعم أنه طلب الزوج بذلك وامتنع فمن تلزمه البينة في ذلك الزوج _أو الولي ؟
(1/190)
________________________________________
=فأجاب : الذي أرى أنه قد دفع النقد فلم يبقى عليه ما يمنع به المدة البعيدة ، فإن كان هذا الولي هو أبوها وهي بكر فهي بعد في ولايته حتى يثبت أه طلب الزوج بالدخول ، فالبينة على الأب ، وأنه دعا الزوج إلى البناء ، هذا الذي ظهر لي و الله أعلم .
[من خطب ابنته رجل ، فلما تراكنا قيل للخاطب : إن البنت سقطت أسنانها العليا]
*و سئل : عن رجل خطب ابنته رجل ، فلما تراكنا جاء رجل إلى الخاطب ، فقال له : إن الصبية زالت أسنانها العليا ، فوجه الخاطب إلى أب الصبية يسأله عن ذلك ، فقال : لا علم عندي وسأسأل أمها عن ذلك ، فسألها فقالت : نعم ذهب لي ثلاثة أضراس وناب ورباعية فرضي الزوج بهذا ، فبعد عقد النكاح قالت الأم لزوجها : ما أردت بهذا ؟ فأخبرها ، فقالت : له فانظر أنت بنفسك فنظر إليها فوجد الناب والرباعية والثنايا فوقع الاختلاف بينهم بين الضرس والثنايا ، فهل للزوج مقال في شيء من ذلك ، و ما الذي يلزم الأب ؟
(1/191)
________________________________________
=فأجاب : فقد إحدى الثنايا أهجن من فقد ضرس ، و إن كانت الساقطة كلها يلي بعضها بعضًا ، فهي أشد في تغيير الكلام ، و في النظر إلى الفم[159/3]والرجل قد شرط عليه سقوط ثلاثة أسنان ليس فيهن ثنية ، فإن كان لم يدخل بعد خير ، فإما رضي ، و إن قال : أرد ويسقط عني جميع الصداق ، فما أرى هذا ينتهي إليه في هذه المسألة فقد عرفه أنه يسأل مها وعنها أخبره ، والغلط اسم هاتين السنتين يمكن من النساء واليمين في هذا الموضع بين فيمن يمكن الغلط منه ، لو كان هذا الرجوع عليه و هو الأب الذي ولي عقدة النكاح و وقع الشرط عليه وجرى الخبر منه ، وبين انه لا علم له ، وذكر أنه سأل الأم ، فإذا حلف أنه ما علم و لا أخبر عن ألأم إلا ما ذكرت له ، فقد برئ ؛ لأن الزوج قد قنع بذلك الأخبار عن الأم و لو شاء لاستثبت ، فإن عزم على الفراق لم يسقط عنه شيء من نصف الصداق ، إذ هو قبل البناء ، و هو وجه الحكم عندي قد فسرته ، ولاصطلاح بعد هذا مما يحسن فيه النظر للزوجة حسن جيد وبالله التوفيق .
[من تزوج بسوسة وشرط عليه أن لا يخرجها منها ، فابتنى بها ثم أراد الخروج]
*و سئل : عمن تزوج بسوسة وشُرِطَ عليه ألا يخرجها منها ، فابتنى بها وأقام سنتين ، ثم أراد الخروج إلى القيروان فمنعه أولياؤها و هو قائم بجميع شورتها ، وحبسوا له حلة قيمتها أربعون دينارًا ، و لا بينة له بذلك ، فحلف الزوج بالمشي إلى مكة لاحلفتهم على مالي إلا بالمصحف في جامع سوسة ، فهل له الخروج بها إلى القيروان ويحلفهم على ما قال في المصحف في الجامع .
(1/192)
________________________________________
=فأجاب : أما خروجه بزوجه وانتقاله بها إلى القيروان ، فإن كان دون يمين أخذت عليه في ذلك و لا جعل له فله الخروج في أمن الطريق ، وينزل بالقيروان مكانًا مأمونًا لصلاح جيرانه وحرز مكانه ، و أما يمينه على تحليفه في المصحف ، ففي الجامع يمكنه أن يحلف بجامع سوسة وقراها المتصلة بها ، وإنما الحلف بالله الذي لا إله إلا هو ، هذا الذي يقع به الحكم ، وليس في أجل يمينه تغيير الأحكام ، و لا هي أحرى أن يحلف بالمصحف و لا يحلف به وبالله التوفيق .
[160/3][أخوان بعثا ثلاثة رجال يعقدون عليهما نكاح أختين الكبيرة للكبير والصغيرة للصغير]
*و سئل : عن أخوين بعثا ثلاثة رجال يعقدون عليهما نكاح أختين على أن يعقدوا للكبيرة آمنة للكبير ، والصغيرة فاطمة للصغير ، فقال هؤلاء الثلاثة رجال أتينا إلى أبيهما ، فقلنا : تزوج فلانة الكبيرة لفلان الكبير ، فلانة الصغيرة لفلان الصغير ، و قد أمرنا الأخوان بالعقد عليهما بعشرة عشرة لكل واحدة منهما ، فقال ألب : رضيت وهما بكران في حجره ، فدفعت الكتاب للموثق فغلظ فكتب الصغيرة زوجة الكبير ، والكبيرة زوجة الصغير غلطًا منه بذلك ، وقرئ الكتاب على الزوجين والأب ، دفع النقد غلأى ألب بحضرة الشهود ، وتم العقد و هو ساهون لم يبين لهم ذلك إلا بعد الانصراف وتمام الشهادة في الكتاب ومضي أيام من العقد .
(1/193)
________________________________________
=فأجاب : العمل على شهادة الذين ولوا العقد ، فإن كانوا عدولاً لم يضر ما وقع في الكتاب ، ويستأنف كتاب كل واحدة على العقد الأول ، و إن لم تثبت شهادتهم ، فإن كان كل واحد من الزوجين يقر بما قال هؤلاء الشهود ، فقد أقر كل واحد منهما أنه تزوج امرأة الآخر فلا سبيل له إليها ، ولكن يؤدي إليها نصف الصداق ، ولهذا تراد عدالة الشهود على العقد الأول ليسقط به عن الأزواج صداق الغلط إذا كان الأزواج مقرين كما ذكرنا ، وإذا صار الأمر لفسخ الظاهر بإقرار الأزواج وليس بشهادة الشهود وأرادوا النكاح ، فيستأنف بعقد حينئذٍ ، و إن ثبت العقد الأول بشهادة الشهود ، لم يحتاجوا إلى استئناف عقد ، وكفاهم العقد الذي أثبته العدول وبالله التوفيق .
[ينكح الرجال النساء بالأنساب ، والمهر عندهم معروف]
*و سئل : عن الناكحات عندنا إنما ينكح الرجال النساء بالأنساب ، والمهر عندنا وعروف على عاجله وآجله ، ومن كان له يسر ربما دفع المعجل عند التعريس ، و أما المؤجل فلا يطلب به إلا بعد موت أو فراق ، و هذا المعروف عندنا ، فيطول الزمان بين الزوجين وتندرس البينة على أصل الصداق ، فيحجر[161/3]الزوج المهر ، أو يموت فيحجره الورثة ، أو يموت الزوجان جميعًا فيتداعى ورثتهما بعدهما و هو كثير عندنا ، ما الجواب في ذلك ؟
=فأجاب : إذا كلن الجاحد يقول في حجوده لذلك غني قد تزوجتك بعاجل وآجل ، فماتت وليس لها عندي شيء ، فهو يكلف البينة ، وليس له إلا يمين إن لم يأت ببينة على نحو ما فسنا أولاً ، و إن قال : ما تزوجت إلا بنقد عجلته قبل دخولي ، و ما كان في صداقها آجل ، فقد ادعى ما يشبه الوجه الذي كان عليه أصل النكاحات في أول الإسلام إلى أن حدث التأجيل فيما يسمى مهرًا في هذه الأزمنة ، فالقول قوله مع يمينه و قول ورثته مع أيمانهم ، وبالله التوفيق .
[من زوَّج ابنته البكر من رجل بمائتي دينار ، مئة معجلة ومئة مؤجلة]
(1/194)
________________________________________
*و سئل : عمن زوج ابنته البكر من رجل بمائتي دينار ، مائة معجلة والأخرى مؤجلة بشهود عدول ، فأقام في ملاكها سبع عشرة سنة ، فدعي للبناء فقال : حلفت بالطلاق لا أبني بها حتى يحطوا لي من المائة المؤجلة ، فقال أهلها ما نحطه ، والأب مريض قد وصل الضرر إلى الصبية ، بيَّن لنا ما يلزمه .
=فأجاب : ليس عليهم أن يحطوا ، فإن شاء دخل و ودي الصداق ولزمه الطلاق الذي حلف به ، و إن شاء فارق البناء ولزمه نصف المائة ، و إن رأى أبوها التمسك بنكاحها أصلح لها واحسن ، فيحط شيئًا يرضى به ، فقد أجاز له ذلك بعض العلماء ، و هو إن شاء الله حسن إن كان ذلك أصلح لما في الرجل من الرغبة الموجبة للتمسك به لحسن حاله وصلاح أمره ، والاجتهاد في ذلك يسع أهلها وليس هذا لغير الأب ، فافهموا وبالله التوفيق .
[من تزوج امرأة بعد الأركان إليها من آخر وتم العقد على ذلك]
*و سئل : عن رجل فاضل عالم له ابنة خطبها منه أخوه البار به المشفق عليه ، ليزوجها ولدًا له من أهل العلم والخير ، مع دنيا ظاهرة ونعمة سابغة .
[
(1/195)
________________________________________
162/3]فبلغ ما بذله الأخ لأخيه خمسين دينارًا وخمسين دينارًا ، فقال الولد : هذا النكاح لا يكون فيه خير وكرهه ، وله عم فاضل يسعى في الأمر حتى تقارب الأمر إلى ما أراده و وقع الركون ، ولأبي الصبية ولدان مشهوران بالعقوق لأبيهما ، فأراد تمام الأمر برأيهما ، فأرسل أربعة من الثقات علماء قراء ، فأخذوا رضا الولدين وتم الأمر على جميل ، فبعد ذلك سأل أن يكتب له مهر مائة دينار ، فوقع في ذلك يمين من الوالد الخاطب لابنه ، ثم كان بعد ذلك خطبة على يد قاضي البلد ، وعند القاضي في هذا النكاح علم قديم واعتراف من أب الصبية أن أمرها موقوف لهاذ الخاطب ، وإنما أراد أبوها أن يصل بها رحمة ، ويحفظ بها دمه ، فكان من حجة القاضي وقت الخطبة هذه على الرجل باعترافه عنده أولاً ، فأجابه إلى ما أراده ، و قال : أصلح أمرأولادي وألمر تام على ما تحبه ، ففارقه على ذلك وأرسل القاضي في طلب بنيه ، فاحتالوا وتلددوا حتى حكموا أمر الصبية ، وزوجوها من رجل أجنبي ، فرأيك في الجواب لندخر علمه إن كان هذا الرجل من أهل الورع ، وهل هو من أهل العلم و قد أتى من هذا الأمر ما أتى ، وهل قطع رحمه أم لا ؟ وهل هذا النكاح منفسخ . بيِّن لنا ما عندك من ذلك لنوقف عليه علماء بلدنا ، فقد بان لهم من هذا الأمر ما قد تكلموا عليه ، وإنما الرغبة في جوابك ، وبين هذا الخاطب الآخر المتزوج ، وبين الآخر فرق كبير للذي بين حاليهما من الاختلاف ، ثم إن الذي زوجه به مائة وعشرون لا غير .
(1/196)
________________________________________
=فأجاب : ذكرت في سؤالك هذا ، أن الأمر تم على جميل ، وبعد ذلك سأله أن يكتب له مائة دينار مهرًا ، ولعلك أردت أن الأمر الذي تم على جميل هو الرجوع إلى الإركان إلى عقد النكاح على الوصف الأول من أن يكون المهر خمسون مثل النقد ، تراضوا على ذلك و لم يعقدوا عقدة النكاح لأمر يريدونه ، و قد بيّنوا أنهم قد عقدوا من الرضا على ما لا يحتاج إلى معاودة ، ثم وقفت المسألة في رفع المهر على مائة دينار ، فتوقف والد الزوج وحلف على ذلك و لم يصف يمينه على أي وجه وقعت ، وهل بقي يطلب بالرضا والإركان الذي تم أمره على جميل ، لكنك ذكرت أن كانت بعد ذلك خطبة على يد[163/3]قاضي البلد ، دل آخر ما ذكرت منها على أنها إنما كانت من أجل هذا الخاطب الأول ، و لم يصف أن الخطبة انصرمت و لا وصفت ما يدل على انصرامها ، وفيما وصفت أن القاضي احتج على أب الصبية اعترف عنده أن الصبية أمرها موقوف لهذا الخاطب ، فأجابه إلى ما أراد و قال له : أصلح لي أمر أولادي والأمر تام على ما تحبه ، ففارقه على ذلك ، فهذا الذي وصفت لي ثبت وصحَّ أنه على ما دل عليه هذا الكلام رضي ، وأركان كله ، وأنه مربوط بالأمر الذي وصفت أنه تم على جميل ، وأن يمين الخاطب إنما كانت على أنه لا يجيب إلى تمام المائة ، إذ قد تم الرضا بالمهر أنه خمسون دينارًا ، فليس في يمينه نقض ذلك الرضا ، إلا أن يتبين ما نحله بيانًا لا إشكال فيه ، واستثناء أب الصبية على القاضي أمر ابنته في مثل هذا ، لا يخرجه من إركان قد تم ، ورضا قد وقف أمر الصبية على إيجازه حسبما وصف الإركان ، فإن ثبت أن عقدهم للأجنبي وقع بعد الإركان الذي لم يجب ، والأجنبي الذي عقد له عالم ليس عنده فيه شبهة ، فقد تزوج من نهاه النبي صلى الله عليه و سلم عنها أن يخطبها على خطبة أخيه قبل أن يترك الأول ويأذن له في الخطبة ، ومن فعل ذلك بثبت ويقين ، فقد ركب النهي ، و إن كان من بلدكم من أهل العلم فقد وقفوا على صحة هذا
(1/197)
________________________________________
لمشاهدتهم إياه ، وكان كلامهم فيه أنه يفسخ ، فهو قول مالك رواه عنه ابن نافع وأشهب ، و هو الذي بنى عليه ابن المواز وعنه أجاب ، على أنه إنما هو عنده من رواية اشهب وحده ، و هو الذي في مختصر ابن عبد الحكم وسحنون ، زاد في رواية مع أشهب عن مالك و لم يفرق بين من دخل وبين من لم يدخل ، و ما يدل قول مالك هذا إلا على فسخه و لو دخل ، وكذلك ذكر ابن نافع ، وذكر ابن مزين عن ابن نافع أنه رأى إن كان قبل الدخول يفسخ ، و إن فات بالدخول لم يفسخ ، وهكذا ذكر بعض العلماء عن مالك أنه قاله و لم أجده مسندًا إلى مالك وابن الماجشون وجماعة الناس ، إلا أن منهم من يقول يستأذن الخاطب الأول ، فإن لم يأذن فليفارقها إن كان من أهل الورع ، و لا يقضى عليه بالفارق ، و هو قول ابن وهب ، وغيره يقولون يستغفر اله و لا شيء عليه ، ويثبت على نكاحه ، ورأى ابن القاسم على من فعل ذلك[164/3]عمدًا الأدب لركوبه للنهي ، و إن كان أهل بلدكم اختلفوا ، فقد ثبت لكم ما في المسألة من الاختلاف ، وعرفتك أن ابن المواز إنما بنى المذهب على الفسخ في هذا الذي تزوج من نهي عنها ثبت وبيان ، وكذلك في رواية سحنون عن ابن نافع وأشهب عن مالك فيمن خطب على خطبة أخيه ، أو باع على بيع أخيه ، إذ كان في المكان المنهي عنه ثبت ذلك وبان أنه لغير ذلك فسخ البيع ويفرق في النكاح ، و هذا الجواب أبعد من نهي النبي صلى الله عليه و سلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض ، و لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب ، وفيه فيما يؤثر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانَا ، وَلاَ يَخْطُبِ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ» ، فقد قرنه عليه السلام في النهي مع ما لا يحل المقام عليه ، وجعل له
(1/198)
________________________________________
غاية ينتهي إليها المنع ، فأشبه أن يكون كما قال تعالى : {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} ، فما انعقد قبل ذلك فسخ عقده ، ومن واعد في العدة سرًّا كان القول نقض وعده ، فإن عقد عليه بعد الأجل كان الأحسن في القول عند الحذاق حله ، و إن كان عقد الأجنبي لم يقع على بيان ثبات المكروه لم يفسخ نكاحه ، وأمرهم إلى الله عز وجل ، فافهموا وبالله التوفيق .
[من زوَّج ابنته من رجل وأحضر شهيدين وسمي لهما الصداق والزوج حاضر ساكت]
*و سئل : عن رجل زوَّج ابنته من رجل وأتى الأب بشهيدين على الزوج و لم يسم كم النقد و لا كم المهر ؟ فخلا الأب بالشهيدين و قال لهما : تزوجها بثلاثمائة دينار ، فقال الشهيدان : هذا كثير وهذه حقوق البادية ، وأنت إنما أردت أن تقرب ابن أخيك إلى نفسك ، فقال لهم : نجعلها مائة وخمسين ، وهي حقوقنا ، والزوج قريب منهم يسمع و لا يغير و لا يتكلم ، و لا قال رضيت له البينة نشهد عليك ، فبعد ذلك بحين قالوا له نشهد عليك أنك سمعت[165/3]فسكت و ما أنكرت ، و قال لهم : ما ظننت أنكم تشهدون علي بما لم آمركم به ، و لا استفهمتموني عنه ، الجواب : هل يلزم الشهود أداء الشهادة ؟ وهل يلزم الزوج أداء هذه الخمسين ومائة .
=فأجاب : إذا كان الذي جرى من الأب من الكلام على الصداق مع الشهيدين قبل العقد ، والزوج يسمع ما انتهى إليه الكلام ، وفهم الرجلان أن الزوج يسمع ما رضي به الأب من الخمسين ومائة ، ثم عقدوا النكاح على إثر ذلك ، فالخمسون ومائة قبله ثابتة ، و إن سبق العقد وكان الكلام على تسمية الصداق من بعد العقد ، فللزوج في هذا عذر ، وله أن يمتنع وليس عليه أن يفرض إلا صداق مثلها ، فإن كان صداق مثلها اقل من خمسين ومائة فيحلف أن سكوته حين سمع ما قالوا ما كان عن رضا ، و إن كان صداق مثلها اكثر من خمسين ومائة فقد رضي الأب بخمسين ومائة .
[
(1/199)
________________________________________
امرأة زوَّجها ابن عمها وأخوها غائب ثم أتى الأخ ففرق بينهما]
*و سئل : عمن تزوج امرأة وبنى بها أنكحه إياها ابن عمها بخلافتها إياه ، فأتى أخوها الغائب ففرق بينهما ، ثم قام بعد ذلك بخمسة أيام فزوجها أخوها منه ، ثم قالت المرأة : إن زوجي الأول ما أخذت منه عدة و قد جرى بينكم كره .
=فأجاب : بعد أن نظر فيها ساعة إن كان الزوج أجاب إلى التفريق والتزم بطلاق ، فقد وقع الفراق ، و هو كمن طاع بالطلاق إذا لم يكن الفراق وقع بحكم حاكم ؛ لأن تزويج ابن العم البنت برضاها في غيبة أخيها قد عقده ولي ، ففي فسخه اختلاف ، فإذا عادوا للتزويج لم يكن كالمتزوج في عدة ، إذ العدة منه من نكاح ليس بالفاسد و لا بالمكروه إلا من جهة الاختلاف ، فلست
أرى النكاح الثاني مفسوخًا ، و إن كان لم يلتزم فيه طلاقًا ، وإنما احتجز عنها وقوفًا هكذا ، فالعقدة الأولى باقية ، و الثانية مؤكدة لدوامها ، فانظروا فيما وصفت لكم إن كان لم يلتزم طلاقًا فقد بينت لكم ، و إن كان التزم طلاقًا فهذا الذي ابتدأت لكم وصفه ، إلا أن يكون التزم الطلاق لا الثلاث أو البتة[166/3]عندما قال : لا تحل له إلا بعد زوج كما أمر الله تعالى من طلّق ثلاث تطليقات ، فافهموا ما وصفت لكم .
[من تزوج بكرًا فدخل بها وادعى أنه وجدها ثيبًا]
*و سئل : أبو محمد بن أبي زيد عمن تزوج بكرًا فدخل بها ، فقال : أصبتها ثيبًا وأخبر بذلك من ساعته ، أتعرض الدارية على النساء أم لا يصدق في قوله ويؤدي صداق البكر .
=فأجاب : اختلف في ذلك ، والذي هو أحب إليَّ أن ترى النساء ، فإن قلن إن القطع الذي بها جديد لم يقبل قوله ، و إن قلن قديم النظر إلى من زوَّجها ، فإن كان أبوها أو أخوها كان عليه صداقها ، ويرجع به على أبيها أو أخيها ، و إن كان الذي زوجها له ممن لا يظن به علم ذلك ، فهي الغارة ويترك لها ربع دينارـ ويأخذ ما بقي .
[من زوَّج ابنته البكر ثم تصدق عليها بعد العقد بنصف دار]
(1/200)
________________________________________
*و سئل : ابن مشكوان عمن زوَّج ابنته البكر ثم تصدق عليها بعد العقد بنصف دار ، ثم أراد بيعها بعد أن حازها لها ويجهزها بذلك .
=فأجاب : هو الناظر بها وفعله جائز محمول على النظر حتى يتبين خلافه .
[من التزم لحفيديه بالنفقة على أن لا تتزوج أمهما ورضيت الأم بذلك]
*سئل بعض الفقهاء عن وثيقة مضمنها أن رجلاً توفي ولده وترك ابنًأ وابنة وزوجة ، فالتزم الجد المذكور نفقة حفيديه مدة أربع سنين على أن لا تتزوج الزوجة ، ورضيت بذلك والتزمت لِحَمِهَا متى تزوجت قبل أربع سنين ، كان عليها صدقة مائة لِحَمِهَا من مال نفسها ، أتؤمر بذلك وتجبر عليه ، ثم تزوجت أم الولدين قبل تمام المدة فوجبت المائة المذكورة لِحََمِهَا المذكور ، فأشهد بعد وجوبها له أن تصدق بها على حفيديه بالسواء بينهما ثم توفي قبر رشد الولدين ، فقام ورثته يطلبونها إذ لم تحذ عنه ، و قال الحفيدان : إنَّا لم نزل في كفالته فلا تفتقر لحوز ، وقالت الزوجة : التزمت شيئًا لا يلزمني ، وأنا متعلقة[167/3]بواجب الشرع في ذلك ، فهل يكون ذلك باطلاً أو صحيحًا ، وإذا صحَّ هل هو لورثة الرجل أو للحفيدين ؟
=فأجاب : وقفت على المكتوب وجميعه غير مفيد ، وقصارى ما فيه الكلام على يمين المرأة والتزامها _لِحَمِهَا ، وتزوجها قبل المدة ، و قوله : تؤمر وتجبر لازم لها بغير خلاف علمته إذ كان يمين كما ذكر و لا تجبر ، وإذا ثبت هذا سقط جميع ما ذكر .
[من التزمت لزوجها الحالي أنها مهما ردت زوجها الأول فعليها مائة دينار]
*و سئل : ابن الضابط عن امرأة التزمت لزوج تزوجها أنها متى ردت زوجها الأول كان قبله ففارقها منذ عشرين عامًا ، مائة دينار عليها قبلها و في ذمتها للزوج المذكور ، ففارقها الزوج المذكور فتزوجت الأول قبل تمام المدة فهل يلزمها ذلك أم لا ؟
=فأجاب : إذا تزوجها قبل تمام المدة ، لزمها ما التزمته له قيل وهذه تعارض
(1/201)
________________________________________
التي قبلها ، إلا أن يقال : إن الالتزام للزوج أشد من غيره ، لحديث : «إِنَّ أَحَقَّ النَّاس بِالشُّرُوط » إلى آخره ، فلهذا وجه .
[من تزوج بكرًأ فدخل بها فوجدها ثيبًا فتنحى عنها وهي باقية بداره]
*و سئل : سيدي أبو عبد الله المواق عمن تزوج بكرًأ فدخل بها فوجدها ثيبًا ، فتنحى عنها أيامًا وهي باقية بداره ، واعترف أنها أقرت له بمحضرشهيدين عدلين أن فلانًا أبكرها بدار والدها ، فقام بينهما بسبب ذلك خصام و لم يدخل بها و لا نال منها ما يناله الرجل من أهله ، و هو يريد أن يأخذ منها ما أعطاها ، و والدها يأبى ذلك ، فهل تحدّ هذه المرأة لإقرارها بالزنا ، وحينئذٍ يدخ بها هذا الزوج إن شاء الله أم لا ؟
=فأجاب : إن كان زناها بعد ما كتبت ، فهي مصيبة نزلت بالزوج ، و إن كان قبل ذلك وعقد عليها قبل الاستبراء ، فالنكاح مفسوخ ، و إن كان العقد بعد الاستبراء فمن قائل : إن ذلك عيب ترد به إن لم يتلذذ ساعة شعر بالثيوبة ،[168/3]و لا أولج و لا سكت و لا ظهر منه رضا ، وقيل : إن ذلك لا يضر في الجماع فليس من العيوب الأربعة ، فإن شاء رضي ، و إن شاء طلَّق وغرم ما يجب ، وإلى هذا ذهب القابسي وغيره ، والأولى أن يدخل بين هذين الزوجين ويتعاملان بستر الله ، إما {إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} .
[من خطب امرأة من والدها وأكل معًا طعامًا من غير أن تقع بينهما الشهادة]
*و سئل سيدي أبو عبد الله محمد بن محمد السرقسطي عمن خطب امرأة لوالدها وأكلا معًا طعامًا من غير أن تقع بينهما شهادة ، ثم توفي الخاطب بعد كتب الاستئمار ، وأكل الطعام فهل ترثه البنت المخطوبة أم لا ؟
=فأجاب : إن ثبت أن والد الزوجة البكر سمع منه أنه قال : زوجت ابنتي البكر فلانة من فلان ، وسمع الزوج أنه قال : تزوجتها ، فإنهما يتوارثان .
[من تزوج في أرض الحرب بامرأة أسيرة و ولد له معها أولاد]
(1/202)
________________________________________
*و سئل : أبو عبد الله المواق عن رجل أسره العدو وبقي في الأسر خمسة وعشرين عامًا ، فتزوج بزعمه بأرض الحرب امرأة أسيرة من أسرى شمينة وأولادها نحو خمسة من الأولاد ، فماتوا ، وبقي منهم بنت بعثها لأرض الإسلام بعد أن فداها من أيدي النصارى الذين كان هو في قبضتهم ، فأخذت في الطريق فأسرت ، فخرج هو لأرض الإسلام وفداها مرة ثانية ، وأخرجها لأرض الإسلام ويقول بنتي ، فزوجها ونحله نحلة ، ثم مات قبل بناء الزوج بها ، فوافق أخوها على ما ادعاه أبوه . و قال بعض الفضوليين هذا النكاح لا يصح ، وهذه النحلة لا تصح ، فإن هذه البنت عملت بأرض الحرب فهي بنت زنى ، وأبوها لم يدع قط ذلك و لا وفاه به ، فهل يصح هذا النكاح الذي أنكحها والدها ، وهل تصح هذه النحلة ؟ بيِّنوا لنا ذلك .
=فأجاب : للأسير أن يتزوج نصرانية لأنه قد تعذر خروجه ، وكذلك للأسير أن[169/3]يطأ زوجته الأسيرة ، فتزوج الأسير المذكور في المكتوب هذا بطرته الأسيرة المذكورة جائز ، والأمر في ذلك محمول على الصحة ، فمن قال في البنت المذكورة بنت زنى ، يجب أن يضرب ثمانين سوطًأ ، والنحلة لها صحيحة ، ونسبها ثابت .
[من تزوَّج بكرًا يتيمة وحضر في منزلها مع شهوده ، وأكلوا طعامًا والزوجة عالمة]
*و سئل : الفقيه القاضي أبو عمر بن منظور من قبل القاضي بن فضيل عن رجل تزوج بكرًا يتيمة وحضر في منزلها مع شهود وأكلوا طعامًا ، والزوجة في المنزل حاضرة عالمة بذلك غير منكرة ، مظهرة للرضا والقبول ، و لم يحضر حينئذٍ الولي ، و هذا القاضي هنالكم ، ثم إن الزوج تغافل في الاجتماع وأظهر الآن الكراهية في التزويج ، و قال : زوِّجوا ابنتكم .
(1/203)
________________________________________
=فأجاب : الذي يظهر لي في هذه القضية ؛ أن الزوج يلزمه الطلاق ونصف الصداق ، فإن المنقول عن ابن القاسم في رجل تزوج امرأة وتأخر حضور الولي ، فلما كان بعد ذلك قبل أن يحضر الولي أن الطلاق يلزمه ؛ لأن النكاح انعقد بين الزوجين على أن يكون ، فلم يتعلق فساد بالنكاح ، فلا ينحل إلا بطلاق . قال أبو الحسن اللخمي : وحيث يلزمه الطلاق ، يلزمه الصداق ، وأيضًا فإن حل هذا النكاح كان من سبب الزوج ، فيؤخذ بالصداق ، وكذلك قضية هذا الرجل مبنية أولاً على حضور الولي ، و لما امتنع من تخليص القضية ، كان حلها من فعله ، فيلزمه نصف الصداق ، كما يلزمه الطلاق .
[من مات عن ابن له صغير قام عليه ناس بديون استغرقت تركته]
*و سئل : عن الذي مات عن ابن له صغير قام عليه ناس بديون استغرقت[170/3]التركة ، من جملتها : صداق ورثة الابن المذكور عن أمه هو من قبل والده المتوفى المذكور .
=فأجاب : لا شك أن يمين القضاء منظورة من الابن الصغير ؛ لأنها بمنزلة يمين الغائب البعيد الغيبة إذا قام وكيله بحق على غريم ، فادعى الدفع لرب الحق ، فإن الوكيل يحلف ما علم بقبض موكله ويقضي له ، فإن حضر الموكل حلف واستحق القبض ، فإن نكل يحلف المطلوب ويسترد ما قبضه وكيله ، فيحلف حينئذٍ أو يرد ، فقضية هذا الصغير من هذا القبيل ، فإنه بمنزلة الغائب البعيد الغيبة ، بل هو أعذر من الغائب ، فإن الغائب كان يمكنه أن يحلف وحينئذٍ يوكل على طالب حقه ، والصغير لا قدرة له على اليمين حتى يكبر ، ثم إن الصغير هذا لابد أن يتقدم من قبلكم من يطلب حقه في تركة والده بسبب هذا الصداق المتخلف عن أمه وسب الأعذار في الديون المقدم بها على تركة والده ، فهذا المقدم يحلف أنه لا يعلم براءة الوالد المذكور من ذلك الصداق بوجه ، ويدفع له حق الابن المذكور ، هذا أعظم ما يلزم في ذهه القضية ، و الله تعالى هو الموفق بمنه .
[وصية عقدت على محجورتها نكاحًا من غير مشاورة المشرف]
(1/204)
________________________________________
*و سئل : عن وصية عقدت على محجورتها نكاحًا من غير مشاورة المشرف عليها ، فأشهد المشرف على نفسه بإبطاله وحله .
=فأجاب : ما عقدته الوصية على محجورتها من النكاح من غير مشاورة المشرف عليها في نظرها ، فأشهد المشرف على نفسه بإبطاله ، لا يتم و لا يبطل إلا بعد رفعه إلى القاضي ، ويتبين هذا بالنظر في أمور ، إحداها : أن يقال : العقد الذي يعقده الوصيان اللذان لا يستقل أحدهما بشيء و لا ينفرد به دون الآخر ، لا يشترط في عقدهما النكاح أو البيع أو غيره ، أن يكون متحد الزمان ، بل لو عقد أحدهما ثم جاء الثاني فوافق ، وأنعم فيما تقدم به صاحبه كفى ، و لم يضر وقوع أحدهما ثم جاء الثاني فوافق ، وأنعم فيما تقدم به صاحبه كفى ، و لم يضر وقوع العقد منهما مرتبًا في الزمان إذا قرب ما بينهما في ذلك ، وذها مما لا ينبغي أن يختلف فيه ، وغن كان عمل كل واحد منهما في العقد[171/3]لا يجعل له وحده حتى ينضاف إليه عمل الآخر ، كما أن السيدين لو انفرد أحدهما بالنكاح أو البيع أو غيره لم يصح وكان فاسدًا ، ومع ذلك لا يشترط في عقدهما النكاح أو البيع أو غيره اتحاد الزمان ، كما أن النكاح مثلاً في عقده حقيقة مركبة من عاقد ومعقود عليه ومعقود به وصيغة للعقد ، و لا يشترط في حصول تلك الحقيقة اتحاد زمان العقد ، لبل يجوز أن تتقدم صيغة عقد النكاح من الزوج وتتأخر من الولي ، وكذلك في البيع ، و لا يضر لو انفرد في ذلك كما ذكروا ، وكذلك مسألتنا هذه .
(1/205)
________________________________________
النظر الثاني ، أن يقال : الفرق ظاهر بين قولنا : لو انفرد أحد الوصيين ، أو أحد السيدين بالعقد لم يصح ، وبين قولنا : لو انفرد احدهم في العقد بزمان عن الآخر صحَّ ؛ لأن العبارة الأولى تقتضي أن أحدهم عقد وحده وفعل ما ليس له فعله ، إذ ليس له الاستبداد بالعقد ؛ لأنه معذول عما لصاحبه فيه ، بخلاف ما إذا فعل ما جعل له منه في زمان يتقدم على فعل صاحبه أو يتأخر عنه ، فلذلك صحَّ الثاني دون الأول ، ويتبين أن أحد الوصيين أو أحد اليدين لو أراد إنشاء عقد النكاح أو بيع أو غيره من العقود مما جعل النظر لهما معًا فيه لم يحصل له ذلك ، و لا تتم له حقيقة ذلك النكاح و لا ذلك البيع و لا غيرهما ، إذ ليس بيده إلا تحصيل بعض الحقيقة ، ومن المعلوم أنه لا يلزم من حصول البعض حصول الكل ، وأن حصول الحقائق المركبة موقوف على حصول جميع أجزائها ، و قد أشار إلى هذا المعنى الإمام أبو الوليد بن رشد في أجوبته حيث قال : لا يجوز لأحد الوصيين و لا لأحد السيدين عقد نكاح دون صاحبه ، فإن فعل كان فاسدًا ، كنكاح عقده غير ولي ، فأنت تراه في هذا الكون قد جعل فعل أحدهما دون الآخر كلا فعل حين سوى بين عقده وعقد خالٍ من الولي ، و قد قال صاحب التقريب لمسائل المدونة : قال مالك من أوصى إلى وصيين فليس لأحدهما أن يتزوج دون صاحبه ، إلا أن يوكله صاحبه ، فإن اختلفا نظر السلطان في ذلك ، قال ابن القاسم : لا يجوز لأحدهما بيع شيء و لا شراؤه لليتامى و لا أمر دون الآخر ، قال غيره : لأن لكل واحد منهما ما جعل نظره إلى صاحبه ، وكأنهما في فعلهما فعل واحد انتهى .
قلت : و هذا ظاهر في المعنى الذي ذكرته .
[
(1/206)
________________________________________
172/3]النظر الثالث العقد الذي يعقد الوصي الذي عليه مشرف في نظره أقوى من عقد الوصي الذي معه وصي آخر في نظره ؛ لأن الوصي ذا المشرف جعل له الموصي أن يعقد وأن ينشئ حقيقة العقد من نكاح وبيع وغيرهما ويحصل ذلك ، لكن لا يستقل بإنفاذ ما ينشئ من ذلك ، وإقراره إبقاء ذلك إلى المشرف في نظره ؛ لأن الموصي جعل لأحدهما الإنشاء وتحصيل حقائق العقود فقط ، وجعل للآخر إبقاءها واستمرارها بعد وجودها وحصولها ، وأنت على علم من الفرق بين الإيجاد والبقاء ، كما أنك على علم من الفرق بين الصحة واللزوم ، و قد أشار الإمام ابن رشد في أجوبته إلى هذا المعنى في قوله : فإن أنكح الوصي دون إذن المشرف ، فالعقد في نفسه صحيح ، إلا أنه موقوف على نظره إن رأى أن يجيزه أجازه ، و إن رأى أن يرده رده ، فنص لنا على أن للولي إنشاء العقد وتحصيل حقيقته ، وأن المشرف ينظر بعد ذلك في إبقاء تلك الحقيقة أو إبطالها فتأمله فهو ظاهر . ومما يدل أيضًا على هذا المعنى النظر في مقتضى مسمى لفظ المشرف ولفظ الوصي ، فإن مسمى لفظ المشرف ظاهر فيمن له تطلع على فعل غيره ونظر فيما فعله ذلك الغير ، وذلك لا يكون إلا في حقيقته موجودة محصلة بحيث يرد عليها الإبقاء والإبطال ، ومسمى لفظ الوصي إنما يرجع إلى تحصيل بعد ما أوصى بتحصيله وإيجاده فتأمله . وعلى هذا القائل أن يقال : إن المشرف على الوصي أقوى من الوصي الذي معه وصي آخر ، فإن المشرف يؤثر في الأفعال بعد حصولها بالإبطال إن شاء ، أو التصحيح ، وذلك وارد على حقائق العقود بعد حصولها ، والوصي الذي معه وصي آخر يؤثر في إبطال حقيقة بعد حصولها ، إذ لا تحصل حقيقة عقد لأحدهما دون آخر ، إذ ذاك موقوف على فعلهما معا فتأمله .
(1/207)
________________________________________
وإذا كان اختلافهما في إنشاء العقود يوجب الرفع إلى السلطان لينظر فيه حسبما نص عليه في كتاب التقريب من قول مالك مع تعذر حصولهما عند اختلافهما ، كان رفع ذلك إليه بعد حصولهما وإرادة المشرف إبطالها أحرى وأولى فتأمله . النظر الرابع في إبطال المشرف العقد الذي عقده الوصي دون مشورته وانفراده بذلك دون الرفع إلى القاضي ، و قد عرفت أن نظر المشرف إنما يكون بعد حصول العقد من النكاح[173/3]والبيع وغيرهما وتحققه في نفسه ، و قد عرفت أيضًا أن نظره في العقد قد يؤول إلى إجازته ، و قد يؤول على رده كما ذكره ابن رشد في أجوبته . و قد يسبق إلى الفهم من هذا القول أنه مخير بين الأمرين ، وأن له أن يفعل ما يشاء منهما ، لكن إذا تأملت قول ابن رشد في أجوبته, و قد يسبق إلى الفهم من هذا القول أنه مخير بين الأمرين ، وأن له أن يفعل ما يشاء منهما ، لكن إذا تأملت قول ابن رشد في النص المجتلب أولاً أن ذلك موقوف على نظره ، ظهر لك أن هذا التخيير ليس على حد التخيير بين أكل أحد الطعامين ، أو لبس أحد الثوبين ، أو الشرب من أحد الإناءين ، مع فرض التساوي ، فإن التخيير في مثل هذا لا يشترط أن يكون عن نظر وتأمل ، بخلاف مسألتنا فإن التخيير في مثل هذه لما قيل فيه إنه كان مصحوبًا بالنظر والتأمل وإمعان الفكر ، كان بمنزلة قول العلماء : إن الإمام مخير في الأسارى في خمسة أشياء ، وأنه في المحاربين مخير في أربعة أشياء ، ثم قولهم معنى هذا التخيير الإعلام بأن نظر الإمام إنما يكون في هذه الأمور لا في غيرها ، و إن فعل أحدهما دون غيره لا يكون إلا على وجه المصلحة ، و إن التخيير المخالف لهذا التقدير محرم حسبما هو مفسر في موضعه من الفقه .
(1/208)
________________________________________
وعلى هذا التخيير الذي يكون في نظر المشرف لا يكون الاختيار فيه إلا بعد الاجتهاد وإنفاذ الوسع ، فإذا رأينا منه اختيارًا خاليًا من هذا المعنى كان كلا اختيار ، فإن المأمور به لم يفعله فبقي مطلوبًا به ، و ما يصدر عنه مما يكون خاليًا من الاستعداد فيه ربما يكون منهيًّا عنه ، ويكون أيضًا جرحة فيه توجب عزله ، لظهور قلة النصح فيه وعدم المبالاة بما هو الأرجح ، و هذا إنما يحصل بمشاهدة أحوال هذا المشرف ، إذ ليس الخبر كالمعاينة ، و لما كان نظر هذا المشرف في هذه القضية مصحوبًا بعدم المبالاة برفعه إلى القاضي ، والاستظهار في ذلك بما يدل على مزيد الاحتياط للمحجورة ، أمكن أن يكون له الغضب عند عدم مشورة الوصي له قبل العقد لا مصلحة المحجورة ، ولزم حينئذٍ أن ينظر فيه القاضي حتى يتمخص فيه أحد الوجهين فتأمله . النظر الخامس في تحقيق القول بلزوم رفع مثل هذا العقد المختلف فيه بين الوصي والمشرف إلى القاضي ، و إن ردَّ المشرف له من غير رفع إلى القاضي لا يضر ، و هذا القول ينبني على إظهار وجه تقديم الأوصياء والمشرفين عليهم في نظرهم على الأيتام ، و لا شك[174/3]أنه لأجل المحافظة على أموالهم لئلا تضيع ويحصلوا على الأمور العائدة عليهم بتنمية الأموال وصلاح الأحوال إلى غير ذلك ، وأن ذلك كله من حق المولى عليهم لا من حق الولي الناظر لهم ، بخلاف ولاية الأقارب على نكاح القريبات ، فقد قيل إنه لحق الولي ، و قد قيل : إنه لحق المرة ، و قد قيل : إنه للأمرين معًا ، وقيل : غير ذلك حسبما هو مفسر في موضعه .
(1/209)
________________________________________
لكن المقصود من ذلك ههنا أن يقال : إذا اختلفت الأولياء في التزويج وانتقاء الأزواج ، فعقد أحدهم وكان الأبعد من غير مشورة الأقعد وقلنا : يتعقب هذا العقد ، فقد اختلفت العلماء في الناظر فيه والمتعقب له على قولين : أحدهما أنه السلطان ، و الثاني : أنه الولي ، و قال صاحب كتاب المنهاج في شرح مشكلات المدونة من قال من العلماء إن تعقب ما عقد الأبعد مع وجود الأقعد هو لمعنى قال المتعقب هو السلطان ، إذ هو الذي كلفه الشرع الكشف عن الأسرار وإزالة الأضرار . ومن قال منهم هو لغير معنى ، قال المتعقب هو الولي ، ثم قال ودليل هذا القول الثاني هو ما وقع لمالك في النكاح الأول في المدونة من قوله في امرأة ذات شرف ودين تزوجها رجل من قريش ذو شرف ودين بغير إذن وليها ، إن شاء أجاز و إن شاء رد ، و هذا رد و هذا ظاهر في أن للولي رد فعلها و إن لم تضع نفسها في دناءة و لا فيما تلحقها فيه معرة انتهى بالمعنى .
(1/210)
________________________________________
قلت : و هذا يدل على أن الرد في مسألة الشرف لا يكون إلا عند السلطان ، إذ هو يدل لمعنى يرجع لإصلاح المحجورة ، وحيث قيل في مسألة القريب إنه لمعنى ، قال العلماء لا ينظر فيه إلا السلطان وأيضًا فإن حق الأقعد مع حق الأبعد أقوى من حق المشرف مع الوصي ، وعلى القول بأن التعقب فيه لمعنى ، لم يجعل العلماء فيه له نظرًا فيما عقده إلا بعد ، فبأن لا يجعلوا للمشرف بعد عقد الوصي نظرًا في رد و لا قبول ، بل للسلطان أحرى وأولى ، و قد تحصل من هذا كله أن تعقب المشرف فيما عقده الوصي لا يكون إلا عند القاضي ، و أما ما وقع منه من الاستبداد فالرد لا يعتبر حتى ينضاف إليه نظر القاضي ، فتأمله و الله الموفق للصواب بمنه ، قال هذه المقالة وكتبها بخط يده العبد الفقير إلى رحمة ربه عثمان بن محمد منظور حامدًا لله العلي العظيم ، ومصليًا على نبيه محمد المصطفى[175/3]الكريم ، وعلى آله ، ومسلمًا عليه وعليهم أجمعين ، و في الثاني والعشرين من جمادى الأولى من عام ثلاثين وسبعمائة .
[من طلق زوجته طلقة مملكة وراجعها دون إشهاد غفلة منهما عن ذلك]
(1/211)
________________________________________
*و سئل : رحمه الله من غربي مقالة بما نصه : الحمد لله حق حمده ، وصلواته وسلامه على نبيه الكريم ، يا سيدي وبركتي نفعني الله بكم ، وأفاض علينا من بركاتكم ، نزلت عندي نازلة ، وشرحها : أن رجلاً تزوج امرأة بحصن أطيبة أيام كانت للمسلمين وبقيت في عصمته مدة ، ثم طلقها طلقة واحدة مملكة ، ثم أراد ارتجاعها فأخذ منها كتاب صداقها وتوجه هو وأخوها إلى القاضي إذ ذاك ، وكتب لهما الرجعة بولاية الأخ وأمرهم بالشهادة ، فبقي الحال إلى الآن ، و وقع بين الزوجين كلام وأرادت الزوجة أن يفارقها ورغبت أن تختلع منه فجاء بها إلي ، فنظرت كتاب الصداق ، فألفيت الرجعة دون شهادة ، فسألته عن ذلك ، فقال : لما كتبت الرجعة أنا وصهري ولي زوجة ، أمرنا القاضي بالشهادة فأنسينا ذلك ، إذ كان ذلك عند نزول النصارى على الحصن ، فلما كنا بسببه من الهم ، نسينا إشهاد الرجعة ، هذا نص كلامه ، والمرأة كذلك قالت : جاء إلى أخي و قال رددتك لزوجك ، فلم اعلم أن الشهادة تقع علي ، فاعتقلتهما بالسجن ، وطالعت محلكم العلي بالقضية ، وكلام أبي القاسم في وثائقه يقتضي أن الشهادة شرط كمال لا شرط صحة ، ولكنه أوجب الحد على تركها ، و قد تعقب ذلك عليه ، ورأيت التعقب وذكر الخلاف و قال : قيل يلزمهما الأدب ، أما مع لزوم الدب فقوله : إنه شرط كمال صحيح ، فانظر سيدي بما منحكم الله من العلم في ذهه القضية ، وابسطوا لي كل وجه فيها ، فإن مواضع الإشكال فيها على أعرضها عليكم ، منها : أنا إذا قلنا لهم الآن اشهدوا هذه الرجعة ، فإن اشهدوا ما حكم ما مضى من الأعوام و ما اشتركا من الأولاد ، و إن أبى الزوجان الآن عن الشهادة أو أحدهما ، فإن المرأة لم تقم تطلب الاختلاع إلا وهي قد أظهرت البغضاء ، فهل تجبر على الشهادة أم لا ؟ و هو عن قال هذه الرجعة غير صحيحة فلا ارتجع و لا اشهد على نفسي ، و إن أخذت بأحد القولين اللذين حكاهما ابن القاسم ودرأت الحد[176/3]بشبهة النكاح ،
(1/212)
________________________________________
وهذه الزوجية ما يكون مقدار الأدب ؟ وهل يكون أدب الزوج أشنع ، لكونه تولى كبر القضية ، أم هما فيه بالسوية ، عرفوني بجزئيات ذلك ، و الله ينفعكم وينفع بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وكتب مقبل أيديكم ابن منظور وفقه الله من ذكوان حرسها الله بتاريخ _في الحجة مختتم عام خمسة وثلاثين وسبعمائة .
=فأجاب : رحمه اله وكان بحال شكاية من المرض الذي توفي منه بما نصه : الحمد لله وحده الذي عندي في الوقت لمرض أصابني أن المتراجعين إن كانا أشهدا بتراجعهما في الجيران وغيرهم كفى ذلك ، و لم يعاقبا و لم يفسخ ارتجاعهما ، نص عليه صاحب الجواهر ، و إن كان غير ذلك فنظركم جميل ، و الله تعالى ينفعكم ويقيكم ويعلي مراتبكم –والسلام الكريم عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، كتب على إذن الشيخ القاضي الجليل الفاضل أبي عمر بن منظور لمرض اصابه منعه أن يكتب بيده في تمام العشرين منذ ي الحجة مختتم خمسة وثلاثين وسبعمائة .
[نكاح مستأنف عقد قبل أن يثبت أن الزوج الثاني دخل بها دخولاً صحيحًا]
*و سئل : القاضي أبو الحسن بن الحسن عن نكاح مستأنف عقد قبل أن يثبت أن الزوج الثاني دخل دخولاً صحيحًا .
(1/213)
________________________________________
=فأجاب : وصلني حفظ الله كمالكم كتابكم المبرور في قضية النكاح المستأنف ، وتأملت ما استشكلتمم فيه من عقده قبل أن يثبت دخل الناكح لها قبله حسبما جلبتموه من كلام ابن رشد أنه لي سعلى إطلاقه في كل مطلقة ؛ لأن ذات الولي لا تمنع من التزويج حتى يثبت أنها أيم ، خالية من الزوج ، و في غير عدة ، و إن كان يحتمل ذلك ؛ لأن الولي هو الذي يتولى ذلك المأخوذ بكلفة ذلك ، لما يظن به من معرفة بأحوال وليته وباطن أمرها ، وأنه لا يخفى عليه شيء من أحوالها ، ولذلك صُرِفَ ذلك كله لأمانته ، و لم تكلف وليته إثبات ما تكلف إذا كان القاضي وليها ، و لا شك أن تزويج ذات الزوج والمعتدة من طلاق و وفاة ، أعظم[177/3]مفسَدة في نظر الشرع من تزويج مطلقة بالثلاث اعتدت ثم تزوجت تزوجًا ظاهر الصحة ، ثم ثبت طلاق الزوج إياها بخطاب قاضٍ من قضاة العدل العارفين باستقلاله لديه ، ومن فصول الطلاق المخاطب به ، أنه وقع بعد البناء ، مع أن العادة المستمرة في قضاة العدل ، أنهم لا يخاطبون على طلاق يرتابون فيه ، هل هو موقعه من التيوس أم لا ؟ فإن إعلام القضاة بثبوت الحقوق المالية والبدنية مظنة الحكم بها ، وبإعمالها على ما هو متقرر في موضعه من أبواب الفقه ، وبتأمل هذا كلهن لا يبقى درك على عاقد النكاح المستأنف المذكور ، و إن قلنا : بحمل كلام ابن رشد على إطلاقه و هو خلاف الظاهر عندي لما ذكرتموه ، فتأملوه و الله ولي التوفيق بمنه ، والسلام الكريم المبارك العميم ، يخص مقامكم الأرفع ، ورحمة الله وبركاته ، وكتب ابن منظور وفقه الله في ليلة الرابع والعشرين من ربيع الثاني علم اثنين وثلاثين وسبعمائة .
[من ادعى أن بزوجه برصًا و قال والدها : إن بها لمعات في جسدها]
*و سئل : -رحمه الله- عن رجل ادعى أن بزوجه برصًا ، و قال والدها : بها لمعانا في جسدها لا يدري ما هي .
(1/214)
________________________________________
=فأجاب : بما نصه : تخصكم حكم الله كمالكم بوصول كتابكم الكريم في قضية الزوج القائم على زوجه بدعوى البرص ، فرأيت لكم فيه نظرًا جميلاً وبحثًا حسنًا حفيلاً ، والذي عندي في القضية أن النظر فيها في أمور ثلاثة : أحدها أن ما ادعاه من البرص محتاج أولا إلى إثباته ؛ لأن والد الزوجة لم يوافقه عليه ، إنما قال بابنته لمعات في جسدها لا يدري ما هي ، و لا شك أن الزوج مدع لهذا العيب فيحتاج إلى إثباته ، وإثباته تارة يكون بقيام البينة أنهم عاينوا العيب وشاهدوه قبل عقد النكاح ، وتارة بحضور البينة في حين الدعوى نساءً كن أو رجالاً ، فإن كان غموض في معرفة العيب المدعى دعي الأطباء وبقر عن موضع العيب . قال في كتاب المفيد : واختلف إذا كان العيب بغير الفرج هل ينظر إليه النساء ويخبرن عنهن أو يشق الثوب عن ذلك الموضع وينظر إليه الرجال ، فالظاهر من المذهب أن النساء يخبرن عنه ،[178/3]و قال سحنون : إن كان العيب بغير الفرج بقر عن ذلك الموضوع حتى ينظر الأطباء ، قال : و لو أصابتها علة في موضع يحتاج فيه على نظر الطبيب يبقر عن ذلك الموضع لينظر إليه الرجال .
(1/215)
________________________________________
وثانيها : أنه إذا ثبت أنه برص فإنه يبقى النظر هل هو أقدم من أمد العقد أم لا ؟ و لا شك أن القول فيه قول الولي لأمرين ، أحدهما : أن البناء بالزوجة قد وقع و قد قبض الزوج ما هو بمنزلة السلعة المبيعة ، فما يدعيه من قدم العيب يتهم فيه أن يكون يدفع العزم عن نفسه ، فمن ههنا كان القول قول الولي ، وكان الزوج مدعيًا عليه ، فعليه البيان ، و لا فرق بين قيامه بقرب البناء وبعده ؛ لأن تهمة الدفع عن نفسه قائمة في الوجهين ، ومما يشهد بصحة هذا التعليل ، ما وقع في الجواهر مما يشهد باعتبار بعد زمان القيام بالعيب عن زمان العقد من غير مبالاة بالدخول ، قال ما نصه : إذا ظهر بعد مدة من حين عقد النكاح على عيب بها ، فتداعيا أنه كان موجودًا حالة العقد ، فالبينة على الزوج ، فإن لم تكن له بينة ، فروى ابن حبيب عن مالك إن كان الولي أبًا أو أخًا فعليه اليمين ، و إن كان غيرهما فاليمين عليها ، فجعل محل اليمين محل الغرم ، وثالثها : أنه إذا قيل إن القول قول الأب وتوجه الإثبات على الزوج ، فهل يمكن من إثبات قدم العيب بأهل المعرفة أم لا بد من بينة تشهد بمعرفة قدم الرؤية أو الإقرار والذي يظهر لي جواز السماع في هذه القضية من أهل المعرفة ، و قد تقدم فيما نقلت من المفيد ما يشير إلى هذا الرأي أم لا ؟ وأيضًا فقد قال في المدونة ما علمه أهل المعرفة أنه عيب في الفرج ردت به المرأة, و هذا يقتضي أن للأطباء مدخلاً في إثبات عيوب النساء ، لكن بأن يوصف لهم الموضع ويخبرون بما عندهم في الوصف ، أما أنهم ينظرون إليه فلا ، و هذا التأويل يظهر من كلام القاضي أبي الفضل عياض في التنبيهات له ، و أما ما ذكرتم من البحث عن الأطباء وتعريفكم بذلك ، فليس عندي في القضية إلا ما عندكم ، فهذا يا أخي حفظ الله كمالكم ما عندي في هذه المسألة هذا الوقت ، ولكم الفضل في قبول العذر في هذا الجواب و الله تعالى يبقيكم لإقامة العدل ، وإحياء الحق ، والسلام
(1/216)
________________________________________
عليكم ورحمة الله .
[179/3][من ثبت سفهه هل تحمل أفعاله على الرد أو الإمضاء]
*و سئل : من جهة الفقيه أبي عبد الله البدوي بما نصه : من ثبت سفهه هل تحمل أفعاله قبل الثبوت على الرد أو على الإمضاء ، و في حكم الكسوة التي تلزم الأزواج ؟
=فأجاب : الحمد لله وقفت على كتابكم المؤثر ، ما ذكرتم من قضية الشخص الذي ثبت سفهه ، و لا شك أن الخلاف في المذهب مشهور ، وهل تحمل أفعاله عند ثبوت حاله على الرد أو على ألإمضاءن والذي اختاره الإمام أبو عبد الله المازري القول الأول ، فانظر ذلك في كتاب الحجر من الجواهر ، ولكن هذا يرجع على صداقه فرأيت والد الزوجة قد أسقط عنه معظم الصداق حين طلق قبل البناء ، و لم أره أسقط شيئًا من الكسوة التي له فيهان وحكمها عندي في اللزوم والسقوط حكم الصداق الكل بالكل ، والبعض بالبعض ، وعلى ذها له أن يطلب النصف من تلك الكسوة ، لكن وقع في نص تقييدها في الصداق إجمال وعدم بيان ، و إن أمكن صلح في القضية فهو حسن ، فهاذ ما عندي في القضية و الله تعالى يوفق الجميع بفضله والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
[ولي أراد أن يزوج وليته و قد كان كتب إيجابًا و لم يشهد فيه]
*و سئل : رحمه الله عن ولي أراد أن يزوج وليته و قد كان كتب فيها إيجابًا و لم يشهد فيه .
(1/217)
________________________________________
=فأجاب : أما قضية الولي الذي أراد أن يزوج ابنة أخيه و قد كان كتب فيها إيجابًا و لم يشهد فيه ، فالذي عندي فيها أن أقوال الولي مصدق في قوله : إنه لم يزوجها ، فإن أمر وليته مصروف إليه ، و هو المطلع على باطن أمرها ، و قد قال إنها لم تستأمر و لا رضيت ، وأبت أن تمضي حكم الإيجاب على نفسها ، وهي غير مجبرة أمرها في النكاح بيدها ، فما تقيد من الإيجاب هو في حقها كالعدم ، و قد نص صاحب كتاب التمهيد أن الولي لا يكلف شيئًا عند تزويج وليته و إن كانت غير مجبرة ، بل يكفي قوله إنها ليست في عصمة ، إذ هو المطلوب بذلك[180/3]والمأخوذ به حسبما نص عليه ابن فتحون في تمهيده في أخريات عقد الأولياء على المرأة و إن كانت غير مجبرة ، فهاذ ما عندي في الوقت ولكم الفضل في قبول العذر في اقتضاب هذا الجواب ، فإنه وجدني بحال منعني من استيفائه على ما يليق بنظركم الجميل و الله سبحانه يحفظ سعادتكم ويحرس سيادتكم بمنه .
[رجل جاء إلى زوجه بأسباب ، فلما توفيت أخذ ذلك كله لنفسه]
*و سئل : عن رجل جاء على زوجه بثياب كساها إياها ، فلما توفيت أخذ ذلك كله لنفسه و قال : إنما كسوتها إياه من غير هبة مني لها ذلك .
=فأجاب : تأملت حفظ الله أخوتكم سؤالكم ، والذي عندي في قضية الذي توفيت زوجته فاختار كل ما كان كساها له ، وزعم أنه لم يكن وهب لها ذلك يوم جاء به إليها ، وإنما جاء به إليها بقصد أن تلبسه مدة بقاء الزوجية بينهما ، فلما توفيت ضم ذلك كله وانفرد به ، وعندي أن له ذلك إذا أثبت بالعدول أن ما ضمه الآن لنفسه ، قد كان هو جاء به إلى زوجه المذكورة بمعاينة الشهود لذلك ، أو باعترافها هي لهم بذلك أيام صحتها ، فإذا ثبت ذلك حلف أن ذلك كان على وجه الكسوة لها دون الهبة والعطية وانفرد به دون الورثة ، وكذلك الحكم في الطلاق سواء ، إلا تكون تلك الكسوة قد بليت و قد استولى عليها اللباس ، فحينئذٍ تكون ملكًا للزوجة مالاً من مالها يورث عنها .
[
(1/218)
________________________________________
من أراد تثقيف شورة ابنته عنده ، مخافة غيبة الزوج عليها]
*و سئل : عمن أراد تثقيف شورة ابنته عنده مخافة غيبة الزوج عليها . =فأجاب : أما ما طلبه الأب من تثقيف الشورة عنده خوفًا أن يغيب الزوج على شيء منها ، فإن للوالد تثقيفها وحفظها لبته وصونها من الضياع ؛ لأنه القابض لبنته والناظر لها ، ما لم يثبت فيه أن ممن يتهم ببيعها أو إتلاف عينها ، فالوجه حينئذٍ أن تكون بيد أمين يتفقان عليه ، و هذا إنما هو فيما زاد على ما[181/3]اشترى بغير النقد ، وعلى ما لا بدَّ منه من غاء و وطاء مما يلبس عادة في البيوت ويفترش وينام عيه ، إذ لا بدّ من بقاء مثل هذا في بيوت البناء غرفًا وعادة ، إنما الكلام فيما زاد على هذا .
[حكم إجابة الداعي على وليمة النكاح مع ما تشتمل عليه من الملاهي]
*و سئل : الأستاذ أبو سعيد بن لب عن إجابة الداعي إلى وليمة النكاح مع ما تشتمل عليه من الملاهي وأصوات النساء والطر المزنج وغير ذلك .
=فأجاب : الحكم في حضور وليمة النكاح التي تكون على ما وصفتم جواز التخلف عنها ، و قد شرطوا في توجه الحضور على المدعو إلى وليمة النكاح خلوها عن المنكر والباطل ، و أما سماع الطر بتلك الزنوج المعروفة ، ففيه اختلاف بالإباحة والكراهية والمنع ، لكن جرت عادة الشيوخ العلماء وأيمة الفقهاء بحضور موضع ذلك وسماعه ترخصًا لمكان الخلاف .
[من تطوع بتحريم من يتزوج على زوجه ، ثم عدم الاستمتاع بها لداء أصابها]
(1/219)
________________________________________
*و سئل : عن رجل تطوّع بتحريم من تزوج على زوجه ، ثم عدم الاستمتاع بها لداء أصابها في فرجها أو بغير ذلك مما يمنعه وطأها ، وذكر أنه نوى عند التطوع على نفسه استمرار الاستمتاع بزوجه المتطوع لها ، و قد أذنت له ، الآن بعد أن أصابها ما ذكر في التزويج عليها وسلمت له في ذلك ، فهل ينوي فيما ذكر ، كمن شرط لزوجه طلاق من يتزوج عليها ما عاشت فطلقها وأراد أن يتزوج غيرها وهي بقيد الحياة ، وكمن وهب لزوجه طستًَا لتنتفع به حياتها ، ففارقها بطلقة وأراد استرجاع الطست ، وادعى أنه أراد مدة كون الزوجة في ملكه ، وكامرأة زوجها دنانير إلى أجل وادعت بعد طلاقه إياها أنها إنما أخذته بالدنانير بقية مقامه في عصمته أم لا ؟
(1/220)
________________________________________
=فأجاب : وقفت على السؤال المكتتب المقلوب ، والحكم في ذلك مستفاد من اصل فقهي مذهبي و هو أم دعوى الحالف في يمين يقضي عليه بها من[182/3]الطلاق وشبهه ، نية أجنبية من اللفظ ومن غالب القصد غير مسموعة ، إذا كان وقت حلفه مأسورًا بالبينة ، بخلاف المستفتي ، ومن المعلوم أن المشهد على نفسًا بتحريم الداخلة على زوجه بنكاح حالف بالطلاق البتات في الداخلة مأسورًا بالبينة في ذلك ، وطروء الداء المانع من الوطء على المرأة السليمة نادر ، والتفات النيات والمقاصد إلى الطوارئ البعيدة قبل حصولها مستعبد ، فلا ينصرف إليه القصد ، و لا ينفع في ذلك إذن الزوجة ؛ لأنها يمين قد لزمت ، فلا تسقط إن أسقطت وليست هذه المسألة من قبيل المسائل التي جلبها السائل ؛ لأن تلك البينة فيها إما لاصقة باللفظ ، أو داخلة في غالب القصد ، فالمشترط لزوجه طلاق من يتزوج عليها ما عاشت ، قد وقع فيه لفظة زوج عليها ، و هو يقتضي بقاء زوجيتها ومسالة هبة الطست ورد سلفها و هو التأخير بالدين ، كلتاهما من باب الإرفاق والصلة بين الزوجين ، والطلاق قاطع للصلة ، وهادم للزوجية ، فمنصرف القصد بالصلة إلى محلها وبقاء سببها لكن هذا الرجل عند ضرورته فسخه في الخلاف الذي في اصل مسألته ، وذلك أن تعليق الطلاق على وجود النكاح قبل حصوله ، فيه من الخلاف ما قد علم ، قد روى ابن وهب والمخزومي عن مالك أن ذلك الطلاق غير لازم ، كما تقول به الشافعية ، و قد أفتى ابن القاسم بأن لا يتعرض لذلك النكاح بعد وقوعه ، و قد كان المغيرة المخزومي ممن حلف أبوه على أمه بمثل ذلك ، و إن كان مشهور المذهب اللزوم ، فالخلاف فيه قوي ، والمضطر الحالف يلتمس له المخلص ، و في المسألة وجه آخر أقرب من هذا ؛ وذلك أن يطلق زوجته القديمة طلقة تبين بها ، ثم يتزوج من شاء ثم يراجع القديمة فلا يكون عليه شيء عند أشهب ؛ لأن الجديدة لم تدخل على القديمة و لا تزوجها عليها ، و هو خلاف قول ابن القاسم في
(1/221)
________________________________________
المدونة ، وغن كان ذلك طوعًا من هذا الرجل بعد عقد طاع لها به دخل أو لم يدخل ، فقول مالك : إن له بينة في أن لا يدخل ثانية على زوجه الأولى ، فهذا الوجه مع مراعاة الخلاف في أصل المسألة كما ذكر ، يقرب الأخذ به لمكان الضرورة ، أما أن أراد فراق الأولى من غير إحداث مراجعة لها على من يتزوج بعدها ، فلا يبقى خلاف و لا[183/3]كلام ، لكن هذا قد يحول دونه حسن العهد وكرم النفس ، و هذا مع ما جاء من الحث على ذلك في الشرع ، فهذا ما ظهر لي تقييده في النازلة(1).
[من اتفق مع امرأة على التزويج وشهد بالتزويج عدول على أن القاضي ولي المرأة]
*و سئل : عن رجل اتفق مع امرأة على التزويج وشهد عليهما بالزوجية عدول ، فسأل الشهود الزوجة عنت يعقد عليها من ولي فقالت للشهود القاضي ، فذهب الزوج للقاضي وكتب له بتزويجهما و وضع اسمه في الصداق ، وشرحه للشهادة على عوائدهم وذهب به الزوج ، وقبل وصوله إلى الشهود رجعت الزوجة وبدا لها في نكاح ذلك الرجل ، ورجعت به إلى القاضي وطلبت منه أن لا يزوجها منه ، والزوج يقول : قد شهد عليها بأن القاضي هو وليها وفوضت أمرها إليه ، و قد أذن في الشهادة عليه وكتب اسمه ، وعادتنا أن نكتفي بذلك في ولاية القاضي .
=فأجاب : أما مسألة النكاح فقد لزم العقد فيها وتمَّ على ما وصفتم
[من طلق زوجته وكانت له بنت منها ، فخطبها منه شخص ادعت أمها أنها أرضعته]
__________
(1) -تقدمت هذه المسألة بجوابها المطول قبل هذا ولعل المؤلف أغفل ذلك ، أو أدرجها الناسخ .
(1/222)
________________________________________
*و سئل : عمن طلق زوجته وكانت له بنت منها وبلغت البنت سن التزويج ، فخطبها له شخص وانعقدت الزوجية بينهما فيها ، فبعد انعقاد الزوجية قالت الأم المطلقة المذكورة : إنها أرضعت الزوج الذي تزوج ابنتها مع الزوجة المكورة في حولي الوضاع ، فطولبت بثبوت ذلك ، فشهد لها بثبوت قولها بنتاها وهما مالكتان أمرهما ، وهما من غير الزوج المذكور ، وامرأة واحدة أجنبية فلم يوافق الزوج على ذلك و لا أمه ، فعسى جوابكم على ذلك مأجورين مشكورين .
[184/3]=فأجاب : إن كان قد سمع من أولائكم النسوة قبل انعقاد النكاح ما ذكرته من الرضاع ، وكان مشهورًا من قولهن قبل ذلك ، على حكم الرضاع فيفسخ النكاح ، و إن كان لم يسمع من ذلك شيء من قولهن إلا بعد عقد النكاح ، وكن قد عملن به وسكتن حتى تكلمن بعد ذلك ، فالتهم قوية في عقد النكاح ، وكن قد علمن به وسكتن حتى تكلمن بعد ذلك ، فالتهمة قوية في جهتهن فلا يلتفت إلى ذلك إلا أن يتنزه الزوج إن كان في نفسه من لك شيء فيطلق إن أراد .
[من تكون له زوجتان هل يجوز له الميل لإحداهما دون الأخرى]
*و سئل : أبو عبيد الله الحفار عن الرجل تكون له زوجتان ، أن يسوي بينهما في جميع الأشياء ، فإن قسم بينهما في اليوم والليلة فيكون مع الواحدة يومًا وليلة ، وعلى الأخرى مثلها ، و لا يأتي الواحدة في يوم الأخرى و لا في ليلتها ، و لا يترك جماع واحدة لينشط لجماع الأخرى ، بل يسوي بينهما بأقصى جهده ، و ما لا يدخل تحت اختياره فلا يؤاخذ به ، كمحبة إحداهما دون الأخرى ، فإذا مال بقلبه للواحدة لم يلزمه أن يحب الأخرى ؛ لأن ذلك خارج عن كسبهن بل يؤمر ألا يفضل المحبوبة بشيء .
[من زوَّج ابنته البكر ونحلها ، فتوفي الزوج قبل أن يبني بها ، ثم زوجها ثانيًا ونحلها]
(1/223)
________________________________________
*و سئل : السرقسطي عمن زوَّج ابنته البكر ونحلها ثلاثمائة دينار من الذهب ، وتوفي الزوج قبل أن يبني ، ثم زوجها ثانيًا ونحل لها ثلاثمائة دينار أيضًا في صداقها الثاني ، ثم توفي الناحل فقامت البنت تطلب النحلتين .
=فأجاب : تأملت ما كتب بمحوله ، وجوابه والتوفيق بالله إلى إصابة طريق الصواب ، إن لم يكن عند شهود النحلة الثانية ما يدل على قصد الناحل من أن الثانية غير الأولى و أنها هي ، فإن المسألة تجري على مسألة الوصيتين
[185/3]بعددين متساويين من جنس واحد لشخص واحد ، و قال محمد ليس له إلا أحد الوصيتين و هو الأظهر ، لن الأخرى مشكوك فيها ، لاحتمال كون الموصي قصد تأكيد تأكيد إثبات الأولى إن كان قد رجع عنها ثم رجع إليها ، والاحتمال الأول جار في مسألتنا ، وتزيد بأن شأن أكثر الناس الرفع في عقد النحل لبناتهم ، ويناسب هذا القصد ذكر النحلة الأولى و الثانية عند عقد النكاح الثاني ، و لما لم يذكرا معًا دلَّ على قصد الناحل لإحداهما وهي الأولى ، وكان الشك في قصده و لا قصد مع الشك ، فالأولى التوقف عن الثانية ، إلا أن يظهر ما يوجب الحكم بها و الله ولي التوفيق(1).
[وطء الرجل امرأته ومعه في البيت صغير أو كبير نائم أو يقظان]
__________
(1) كتب في النسخة المطبوعة سؤالان و جوابهما لأبي عبد الله الحفار ، و هما مكرران مع ما سبق ، و قد سقطا في النسخ المصححة ، و لذا شطبت عليهما ، و لا داعي لإعادتهما بنفس السؤال و الجواب .
(1/224)
________________________________________
*و سئل : عن وطء الرجل زوجته ومعه في البيت أحد صغير أو كبير نائم أو يقظان ، هل ذلك على التحريم كما هو صريح كلام الشيخ المتيطي ، أو علة الكراهة كما قد يظهر من كلام غيره من الأشياخ ممن تقدمه أو خلافه ، وإذا كان بيانًا فهل يكفي في ذلك حائلاً تعليق ساتر من كتان أو غيره ، مع تحقق نوم من معه أم لا ؟ و لا يخفى ما في ذلك من المشقة العظيمة على ذي العيلة والقلة والمسكن الضيق ، و لا سيما في زمان البرد ، فلكم الفضل في بيان ذلك مأجورين مشكورين و الله سبحانه يبقي النفع بكم .
(1/225)
________________________________________
=فأجاب : وقفت على السؤال المكتوب بمحوله ، والجواب أن الكراهة في ذلك محمولة على كراهة التنزيه لا التحريم ، كما أمر بالستر عند قضاء الحاجة لما فيه من الحياء والاحتشام ، و قد جاء الحض في الشريعة على الحياء وأنه من خصال الإيمان ، ولهذا كره أن يطأ الرجل زوجه إن كان هنالك من لا يفهم و لا يسمع من صغير أو نائم ، فقد كان ابن عمر يخرج النساء والجواري حتى[186/3]الصبي في المهد ، وروي يكره أن يكون معه في البيت من البهائم ثم وكل كل ذي روح مبالغة في تحصيل الحياء والاحتشام ؛ لأنه إذا فعله بحضرة الصغير من الناس ، أسرع إلى التساهل في فعله بحضرة من يحتشم منه ، فالكراهة على التنزيه ، فهذا هو المنصوص ؛ لأنه قد ثبت إباحة الوطء و هذا هو الأصل ، إلا أن يعرض له مع ذلك كشف العورة أو غيرها مما يثبت تحريمه ، وبلفظ الكراهة نقله ابن أبي زيد قال في النوادر : من كتاب ابن المواز كره مالك أن يطأ الرجل امرأته أو أمته ومعه في البيت من يسمع حسه . وقيل عن ابن الماجشون أنه قال لا ينبغي أن يكون معه في البيت نائم أو غير نائم صغير أو كبير ، فنقله قول ابن الماجشون بعبارة لا ينبغي ، دليل على أن الكراهة على التنزيه ؛ لأن المعتاد من هذه العبارة أنها لا تقال إلا في ذلك . وكذلك ما نقله عن مالك أنه كرهه أيضًا محمول على التنزيه ؛ لأنه إذا لم تحتف به قرينة تدل على التحريم(1)
__________
(1) -هذا بياض تواطأت عليه أكثر النسخ ، وحتى المصححة منها ..
(1/226)
________________________________________
مقيدة يدل على التحريم ، فتبقى على الأصل من جواز الوطء ويكره على تلك الحال لما فيه من قلة الحياء ، وإذا لحق الحرج في ستره ما أمكنه ، فإذا شق عليه فيجعل ساترًا ويترك الحس ، و أما ما حكي في السؤال عن المتيطي ، فإن المتيطي لم يصرح به كما ذكر في السؤال ، وإنما قال : لا يجوز أن يصيب الرجل زوجته أو أمته ومعه في البيت أحد إلى آخره ، وهذه العبارة و إن كانت ظاهرة في التحريم ، لكنها ليست نصًّا فيه ، فيحتمل قوله : لا يجوز الكراهة ، إذ قد اجتمعت مع التحريم في أن كلا منهما مطلوب الترك ، و قد يتسامح بهذا الاعتبار أن يعبر عنها بلا يجوز ، و هذا أولى مع بعده من أن تحمله على الخلاف ؛ لأنه لا يعارض قول مالك وابن الماجشون بقول المتيطي فيعد خلافا ، فإن وقع منه فيحمل على الوهم و لا يعد قولاً آخر ، والسلام على من يقف عليه من كاتبه محمد الحفار .
[إذا اختلف الوصي والمشرف في تزويج محجورة فالحق للوصي دون المشرف]
*و سئل : الأستاذ أبو سعيد بن لب عن محجورة هي أكثر عمرها مع[187/3]المشرف عليها دون الوصي ، والمشرف ساكن ببلد دون بلد الوصي ، فأراد المشرف المذكور أن يزوجها بموضعه ، والوصي يريد أن يزوجها بموضعها الذي هو موضعها في الأصل وموضع والدها ومالها لمن هو كفء لها من البادية ، ويقول : إنه لا يزوجها بساحل البحر و قد جعل له الموصي في عقد إيصاء التزوج قبل البلوغ وبعده من غير استئمار ، فهل له ذلك و لا يفعل المشرف شيئًا إلا بأمره ، أم لا و الله يبقيكم .
=فأجاب : الأمر في التزويج إلى الوحي ويطلب المشرف بالموافقة ، فإن فعل فحسن ، و إن لم يوافق فليثبت عند القاضي أعني قاضي الموضع أن النكاح مصلحة لها ، وأن الزوج الذي دعا الوصي إلى تزويجه كفؤه لها ، وأن النظر لها في تزويجها منه ، ويبت عنده إباية المشرف من الموافقة ، ويسوغ القاضي للوصي الاستقلال بالإنكاح ، قال هذا كاتبه بخط يده فرج بن لب .
[
(1/227)
________________________________________
لوصي الأب أن يشتري لمحجوره من غير إثبات سداد ، وعليه أن يشاور المشرف]
*و سئل : عن وصي الأب هل يشتري لمحجوره من غير سداد ، كما يشتري لنفسه أم لا بد من السداد ، وهل يلزمه مشاورة المشرف الذي عليه فيما يشتريه ، والتوجه إليه إذ هو بأرض بعيدة من موضع الوصي برسم ذلك أم لا ؟ بيّنوا لنا الحكم في ذلك مأجورين مشكورين .
=فأجاب : وقفت وصل الله حفظكم ، واجزل من الخير حظكم ، على المسألة التي كتبتم فيها ، والحكم في وصي الأب أنه يشتري لمحجوره ويبيع عليه ، لا يفتقر في ذلك إلى إثبات سداد ، ومحمل فعله في ذلك كله على السداد حتى يثبت خلافه ، لكن عليه مشاورة المشرف فيما يفعله من ذلك .
وإذا اشترى للمحجور أو باع عليه قف ذلك على تجويز المشرف وموافقته ، إلا أن يبت الوصي السداد فيما فعل للمحجور ، فلا قول للمشرف حينئذٍ و لا رد له ، فهذا حكم المسألة ، ويستوي في ذلك حضور المشرف وغيبته ، والسلام عليكم من محبكم ومعظم قدركم فرج .
[188/3][من تزوج بكرًا كان أبوها قد فقد بأرض العدو ، وكانت وقت العقد تقول : إنها وصي من بل أبيها]
(1/228)
________________________________________
*و سئل : عن إنسان تزوج بكرًا كان أبوها قد فقد في الحصة المنهزمة بأرض العدو وكانت أمها وقت العقد تقول : إنها وصي من قبل أبيها ، و أنها تزوج دون استئمار ، فزوجها عمها وشهد على الأم بالأذن له لاحتمال وفاة الأب ، واستؤمرت البنت لاحتمال حياته ، وكتب بذلك إيجاب ، ونحلتها الأم من مالها جميع ما يظهر ببيت بنائها ، وظهر بعد ذلك من البنت الرضا لمن كان يراها من النساء ، وقبضت لها الأم المذكورة النقد بعد أشهر ، طلعت للحضرة وحرضت عليها للضم ، ثم بدا للأم والعم في ذلك ، وأفسدوا البنت ، وادعوا أنها لم تُستأمر و لا حضرت ، وقالوا : إن البنت قد أحرقت الإيجاب المذكور ، فسئل الشهود عن الشهادة فقالوا : إنهم لم يعاينوا البنت وقت الإشهاد ، وإنما عرفهم بها العم المذكور ، وقدمت البنت من يخاصم الزوج ، وأنكرت الأم الإيصاء المذكور ، فبيّن لنا أعزك الله ما يكون الحكم على البنت ، هل عليها يمين أنها لم تعلم و لا رضيت ، وهل يجب على الأم شيء في إضاعة الإيجاب ، و في إنكار الإيصاء المذكور ، و في النحلة التي نحلت إن امتنعت منها الآن ؟ وهل على العم أو على الشهود حيف أم لا ؟ وأبوها إلى الآن لم يسمع له خبر ، فعسى يا سيدي منكم جواب شاف و الله يديم بقاءكم والسلام .
(1/229)
________________________________________
=فأجاب : وقفت وصل الله سعادتكم على مكتوبكم في المسألة ، والواجب أن يسأل شهود الإيجاب عما عندهم في ذلك ، فإن أدوا الشهادة على كمال عقد علموه فقد تم العقد ، و إن شكوا في الزوجة أو في بعض أركان العقد فلم يؤدوا إلا على هذا الوجه ، فليست هذه بشهادة يحصل بها عقد ، لكنها إن أرادت تزوج غيره بعد ذلك ، فلا ينبغي أن يعقد لها حتى تحلف على ما زعمت من عدم الحضور ، والاستئمار مخافة أن تتزوج غيره وهي ذات زوج ، أو يتبرع الزوج الأول بإيقاع الطلاق عليها إن كانت زوجة ، و إن لم تحلف منعت التزويج[189/3]حتى تحلف ، أو تعترف بالحق وصحة العقد ، و قد حصل للزوجة ما نحلته لها أمها بكل حال ثبت العقد الأول أو لم يثبت ، و لا يعتبر نكول الزوجة عن اليمين في صحة العقد ، إذ لا يثبت نكاح بيمين و لا بنكول عنها .
[إذا زُوِّجَتْ بنت رجل مفقود بدون استئمار ، فالنكاح غير منعقد]
*و سئل : عن مسألة أيضًا على وجه يظهر من جوابه .
=فأجاب : وقفت وصل الله توفيقكم ، وأنهى إلى الصالحات طريقكم ، على مكتوبكم ، والحكم في ذلك أن النكاح غير منعقد ، لفقد ركن من أركانه و هو الاستئمار الواجب ، و لا اثر فيه لعدم كتب السبب المعتاد في تزويج بنت المفقود ؛ لأنه معلوم وتلافيه ممكن ، و لا يمين على البنت لحق الزوج المدعي للنكاح ، لمن ينظر في هذه الدعوى التي ادعاها من حضر الاستئمار ، فإن كانت ضعيفة غير مستندة لشيء فلا أثر لها ، و إن كانت مشبهة لاستنادها على سبب ، فلا ينبغي للقاضي أن سيمكنها من تزوّج غيره إذا أرادته إلا بعد يمينها على نفي تلك الدعوى ، لئلا تكون زوجة للزوج الأول ، فإن حلفت أباح لها التزويج ، وإلا منعها منه حتى تحلف ، ويتبرع الزوج الأول بان يشهد على نفسه بأنها إن كانت بينه وبينها زوجية ، فقد أوقع عليه طلقة واحدة بسنة طلاق غير المدخول بها وحكمه ، فهذا حكم هذه النازلة والسلام على سيادتكم الكاملة من معظمها فرج .
[
(1/230)
________________________________________