الكتاب: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب
تأليف: أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي المتوفى بفاس سنة 914هـ
خرجه جماعة من الفقهاء
عدد الأجزاء: 12
بإشراف الدكتور محمد حجي
ملاحظة: [هذا الكتاب من كتب المستودع بموقع المكتبة الشاملة]
وبلغنا عن أحد اتباع المنكِر أنه قال ما حاصله: لا نزاع في أصل الأدعية, وإنما النزاع في تحقيق الكيفية, إذ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص جليُّ في أن دعاءه بما نقل من الدعوات الواقعة أدبار الصلوات كان جهراً منه, بحيث يتلقاه المصلي خلفه من لفظه في الحال قبل السؤال عن مقتضاه, فالتوقف عن رفع الصوت والتجميع لازم حذراً من الوقوع في الممنوع. والمقصود يحصل من المطلوب باستعمال الدعاء سراً على الانفراد.
والجواب أن الأصل في الأشياء التي تذهب النفوس إلى التلطف بها والإخبار عنها الكلام الذي هو الأصوات المقطعة والعبارات المختلفة, ومن يدعي خلاف ذلك من تغليب الفوْع وإدخال الشك في الحاصل من التصديق المحض فعليه بالدليل. ونقول مع ذلك: الأصل في الكلام الحقيقة, ومنها بقاء الألفاظ على أوضاعها, ومبادرة الفهم إلى الحقائق أقوى من مبادرته إلى الكجاز. ونحن نتمسك في أمور باستصحاب الأصول إلى أن يقع النقل بموجب فالترجيع من غير مرجع باطل, والقول فيما يرجع إلى الدين بمجرد الشهوة أيضاً باطل. والذي يسبق إلى الذهن ويصح بالاستقراء في العقل أن الإنسان
[
(1/382)
________________________________________
295/1] إذا قال سمعت فلاناً يقول كيت وكيت إنما يحمل على أنه تلقاه شفاهاً منه وسمعه يتكلم جهراً به, وأن سامعه وعى مقاله عند سماعه من لفظ قائله, لا أنه علمه بالتوهم والتوسُّم, أو بعد استعمال الوسائط والوسائل والسماع من الغير عن القائل. ومن هذا الباب وقع الكلام في المراسل, والمراسل عند المحدثين هو ما أرسله التابعي وقال فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ذكر الصحابي, والمنقطع ما أرسله الراوي دون التابعي. ووقع الإجماع على أن من سمع الحديث من التابعي عن الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقوى طمأنينة لصحة حديثه, ثم من سمعه من الصحابي كان أعلى درجة في قوة الطمأنينة وإن كان الوهم والنسيان جائزاً على البشر, حتى إذا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ارتفعت أسباب التحذير وانسدت أبواب الاحتمالات. وإذا كان على ما تقرر, فقد ثبت في الصحيح ما فيه الحجة الماحية لشبهة المعترض. ومنه عن زيد بن أرقم أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دبر كل صلاة: اللهمَ ربنا وربَّ كلِّ شيء أنا شهيد أنك أنت الربُّ وحدك لا شريك لك. ربنا وربَّ كل شيء أنا شهيدٌ أن محمداً عبدك ورسولُكَ الحديث بطوله, وعن عبد الله بن الزبير أنه عليه السلام كان يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملكُ وله الحمدُ وهو على كل شيءٍ قدير لا حول ولا قوة إلا بالله ولا إله إلا الله ولا نعبد إلا الله الحديث وفي بعض طرقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة قال بصوته الأعلى: لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لهُ الخ. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُوصيكَ يا معاذُ لا تَدَعَنَّ في دُبُر كل صلاة أن تقول اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك, إلى غير ذلك مما جاء في هذا الباب.
(1/383)
________________________________________
ولفظة كان الواقعة في الأحاديث توذن على ما قاله أهل العلم بكثرة الفعل والمداومة عليه.
وجه آخر من الرد على من ظن أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم دبر الصلاة كان سراً لا جهراً أو شك فيه, وهو ما ورد عن أبي هريرة أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبَّر في الصلاة سكت هُنيهة قبل أن يقرأ, فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي رأيت سُكوتك بين التكبير والقراءة
[296/1] ما تقول؟ قال أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب الحديث. والمراد بالسكتة هنا السكوت عن الجهر لا مطلق القول وقوله ما تقول يشعر بأنه فهم أن هناك قولاً. وفي مضمن هذا الحديث دلالة واضحة على أن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم دبر الصلاة المكتوبة كانت جهراً, إذ لو كانت سراً لم تنقل على الأوجه المتقدمة, ولكان قد سأل عن مقتضاها أبو هريرة كما قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما رآه سكت بين التكبير والقراءة بأبي أنت وأمي ما تقول؟ أو غير أبي هريرة مثلاً من المصلين خلفه, ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم, فدل على انه لم يكن, ورسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأيمة وفيه الأسوة الحسنة.
(1/384)
________________________________________
والمختار أن كل ما اتي به الرسول عليه السلام فالإتيان بمثله متعين إلا إذا دل على خلافة دليل منفصل, لقوله تعالى واتّبعُوهُ لعلَّكُم تهتدون والاتباع عبارة عن الاتيان بمثل ما أتى به المتبوع. وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ دَعَا إلى هَدي كان له مِنْ الأجر مثلُ أجور مَن تبعه لا يُنقص ذلك من أُجورهم شيئاً. ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه لابنقص ذلك من آثامهم شيئاً. ومعناه كالحديث المتقدم الذي أوله من سَّنَّ في الاسلام سنة حسنة فله أجرها. قال بعض الشراح له: الهدي هديان, هدي دلالة وإرشاد وبيان, وهو الذي يضاف إلى الرسول والقرآن والعباد, والهداية الثانية بمعنى التأييد والعصمة والتوفيق, وهي التي تفرد بها الباري جل جلاله. وكذلك روي عن العتبي في العقل أنه عقلان, قال: فعقل تفرد الله عز وجل بصنعه, وعقل يستفيده المرء بأدبه وتجربته؛ ولا سبيل إلى العقل المستفاد إلا بصحة العقل المركب في الجسد, فإذا اجتمعا قوى كل واحد منهما صاحبه تقوية النار في الظلمة نور البصر.
والكلام هنا يطول, فنرجع فنقول, في الكتاب العزيز: مَن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيبٌ منها الآية. وفيها تأويلات منها أن الشفاعة الحسنة هي الدعاء للمؤمن. وفي الحديث: أيمتكم شُفعَاؤُكُم. ولاشك في أن من أخذ منهم بالدعاء جهراً دبر كل صلاة ولم يخص به نفسه دون المصلين خلفه وأخلص فيه نيته واستشعر عند تأمين عباد الله المؤمنين تأمين الملائكة
[
(1/385)
________________________________________
297/1] المكرمين, فاغتنم ما لتلك الساعة المباركة من الفضل الثابت بصريح النقل فقد دل على خير وإرشاد إلى طريق بِرٍّ وبين بقوله وفعله وجه حق؛ وأنَّ من ذهب إلى المخالفة اليوم في ذلك كله وعده من محدثات الأمور العائدة على فاعلها بالملامة, فقد تعرض إلى وقوع في المحظور, اللهم ما كان محدثاً داعياً إلى زيادة في الدين لم يثبت لها من أصل في الشرع فلا منازع في المنع. قال ابن الأثير: ومثاله ما أحدثه الروافض من عيد ثالث وقد كان هذا المنكر لدعاء الأيمة بالمساجد يهتم بما أفصح به الآن من ذلك ودعا إليه أيام حياة شيخه الأستاذ الإمام, أبو سعيد بن قاسم بن لب, وبلغه مقاله إذ ذاك فراجعه رحمه الله وأرضاه بجزء حسن قيده في النازلة سماه لسان الأذكار والدعوات مما شُرح في أدبار الصلوات, ومنه ما نصه: وربما يتعلق في المسألة بنهي مالك رضي الله عنه عن التزام أبواب من النوافل مخافة أن يعتقد فيها أهل الجهل لحاقها بالفرائض, كما كره صيام ستة أيام من شوال مع ما ورد فيها من الترغيب, فيقال أولاً إن هذا شيء متنازع فيه بين الأيمة, والأصل القيام بالمشروع والمسارعة إلى فعله وأن لا يعارض ذلك بما عسى أن يعتقده جاهل بسبب جهله. ألا ترى أن الوضوء والصلاة وسائر الوظائف المشروعة فرائض وسنناً وفضائل يقام بها ويثابر عليها, ولم يقل أحد بترك نوافلها مخافة اعتقاد الوجوب فيها ثم قال: وإن الدعاء والذكر بعد الصلاة لا يوجد من يعتقد وجوبه لا من الخاصة ولا من العامة, وكثير من الناس ينصرف ويترك الإمام يدعو ولا يبالي, وأكثر الناس لا يدعو إذا صلى وحده. فإجراء ذلك الالتفات المالكي في هذا الموضع وأمثاله جهالة ظاهرة, لأنه قد أشكل على العلماء في محله الذي ورد عنه النص فيه, فكيف بأن يعدى إلى غيره.
(1/386)
________________________________________
فمن وقف على ما تقدم من مقتضى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة بأمره, وفعله الأيمة بعده, وهم الأسوة والقدوة, وظهر له ان انكار العمل في ذلك على المسلمين في هذه الأزمنة أحق بالإنكار والزجر والردع, حيث وفق الله سبحانه هذه الأمة المحمدية في هذه الأعصار التي عاد فيها الإسلام متصفاً بالغربة إلى العمل بما هو مقتضى القرآن والسنة, ثم يقوم عليهم بالتبديع والتضليل والتخطية والصد عن سبيل المثوبة ومصلحة الدنيا والآخرة, فهذه جهالة عظيمة, والخلاف كثير وظواهر الشريعة هي الجادة يجب الرجوع
[298/1] إليها عند اشتباه الطرق واختلاف الفرق. وما حمل من أنكره إلا أنه أبصرما أمامه ولم يلتفت إلى ما خلفه ووراءه, ووقف على بعض مسائل في المذهب لم يهتد لواضح سبيلها ولا شعر بوجهها ودليلها, ولا علم اختلاف العلماء في أصلها, ولم يعطها من الفهم والتأمل حقها, ورأى أنَّ العمل بغير ما انتهى إليه فهمه فيها, فظن أن لا علم إلا ما علم, ولا فهم إلا ما فهم, فاستحقر العامة وجهَّل الخاصة, ورأى أنه وحده على الجادة, وصار في قيامه على الناس بالنكير, كما قال في المثل إنْبَاضٌ مِن غير تَوتِير وحَادٍ ليسَ لهُ بَعير, انتهى المنقول من الجزء المذكور.
وإن قال قائل: هذا الكلام فيه تحامل على الرجل المنكر لما ذكرتم فإنه لم يقصد على ظاهر حاله بإنكاره غير التوثيق للنفس الضعيفة والاحتياط بالوقوف عند الحدود البينة وعدم الإقدام على ما ليس يراه من السنة.
(1/387)
________________________________________
فالجواب له: أخذ المنكر بما فيه مخالفة جماهير المسلمين وتخطيه جميع من عاصره أو مضى قبله من المتقدمين جرأة كبيرة وجسارة عظيمة. وفي الرد على مرتكب هذه الطريقة وجوه كبيرة: منها ما وقع في كتاب البخاري, باب الحجة على من قال أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة وما كان يغيب بعضهم من مشاهدة النبي عليه السلام وأمور الإسلام. قال أحد الشارحين له وهو ابن اللجام في مجموع: هذا الباب يرد به على الرافضة وقوم من الخوارج زعموا بأن أحكام النبي عليه السلام وسنته منقولة عنه نقل تواتر, وأنه لا سبيل إلى العمل بما ينقل نقل تواتر. وقولهم في غاية الجهل بالسنن وطرقها, فقد صحت الأثار أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بعضهم السنن والأحكام عن بعض, ورجع بعضهم إلى ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وانعقد الاجماع من الجمهور على العمل بخير الآحاد, فبطل قول من خرج عن ذلك.
وفصل آخر منه ما نصه: الاعتصام بالجماعة كالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله, لقيام الدليل على توثيق الله تعالى ورسوله عليه السلام صحة الاجماع وتحذيرها من مفارقته, لقوله تعالى: ومن يُشاقق الرسول مِن بعد ما تَبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى. وقوله تعالى كنتم خير
[299/1] أمةٍ أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهوْن عن المنكر. وهاتان الآيتان قاطعتان على أن الأمة لا تجتمع على ضلال, وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك فهماً له من كتاب ربه عز وجل, فقال: لاتجتمع على ضلالٍ, ولايجوز أن يكون أراد جميعها من عصره إلى قيام الساعة, فإن ذلك لا يفيد شيئاً, إذ الحكم لا يعرف إلا بعد انقراض جميعها, فعلم أنه أراد أهل الحل والعقد من كل عصر.
(1/388)
________________________________________
نقول: ومن الأمور التي هي من الشهرة بمثابة المعلوم بالضرورة استمرار عمل الأيمة في جميع الأقطار على الدعاء أدبار الصلوات في مساجد الجماعات, واستصحاب الحال حجة عند الجميع. ومن هذا الباب ما قاله بعض العلماء عند التكلم في تعيين ليلة القدر أن اتفاق المسلمين في الأمصار على الختم في الجوامع في رمضان ليلة سبع وعشرين دليل واضح أنها هي. وكذلك الدعاء دبر الصلاة جاء الترغيب فيه على الجملة, ولم يرد المنع منه في الشريعة, واجتماع الناس عليه بالمساجد في المشارق والمغارب منذ الزمنة المتقادمة من غير نكير إلى هذه المدة من الأدلة على جوازه واستحسان الأخذ به وتاكيده عند علماء الملة. والبيان بالفعل أجلى من القول. ولا يعتبر في المجميعن جملة الأمة إلى يوم القيامة كما تقدم, والمعتبر في كل فن أهل الاجتهاد فيه وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره, فيعتبر في الكلام المتكلمون وفي الفقه الفقهاء, قاله الإمام. وعنه: إذا استدل أهل العصر الأول بدليل وذكروا تأويلاً, واستدل أهل العصر الثاني بدليل آخر وذكروا تأويلاً آخر, فلا يجوز إبطال التأويل القديم. وفي التنقيح: حقيقة الاجماع اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة أما في القول أو في الفعل والاعتقاد. وحسبنا ما ذكرناه من الأدلة, وفيه الغنية الكافية للناظرين بعيد البصيرة في المسألة.
ولنختم الكلام بالدعاء الذي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم, ورد أنه قلما كان يقوم من مجلس حتى يدعو به لأصحابه, وهو ما نصه: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك, ومن طاعتك ما تدخلنا به جنتك, ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا, ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا, واجعله الوارث منا, واجعل
[
(1/389)
________________________________________
300/1] ثأرنا على من ظلمنا, وانصرنا على من عادانا, ولا تجعل مصيبتنا في ديننا, ولا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا. ونحن نقول مثل ذلك في أعقاب الصلوات وأبعاض الوقت.
[صلاة الرغائب في أول ليلية جمعة من رجب بِدْعَةٌ]
وسئل: النووي عن صلاة الرغائب المعروفة في ألو ليلة جمعة من رجب, هل هي سنة أو فضيلة أو بدعة؟
فأجاب: هي بدعة قبيحة منكرة أشد انكار, مشتملة على منكرات, فيتعين تركها والاعراض عنها, وانكارها على فاعلها. وعلى ولي الأمر وفقه الله تعالى منع الناس من فعلها فإنه راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته. وقد صنف العلماء كتباً في انكارها وذمها وتسفيه فاعلها. ولا يغتر بكثرة الفاعلين لها في كثير من البلدان, ولا بكونها مذكورة في قوت القلوب او إحياء علوم الدين ونحوهما, فإنها بدعة باطلة. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو ردٌ. وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: كلُّ بدعة ضلالة. وقد أمر الله تعالى عند التنازع بالرجوع إلى كتابه فقال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول, ولم يأمر باتباع الجاهلين, ولا بالاغترار بغلطات المخطئين.
[صلاة النافلة بغير وضوء عمداً فسوق]
وسئل: الشيخ أبو القاسم التازغدري عن كلام وقع في مسألة, هي أن من صلى نافلة بغير وضوء عامداً, هل يكتب له اجر في الذكر الذي تتضمنه وإن كان عاصياً من وجه آخر, فقال بعض من حضر هذا اختلف فيه هل هو فاسق أو كافر, فأنكر عليه القول بكفره فألزم إثباته به, ثم أحضر سفراً ذكر أنه من شرح مسلم للنووي ذكر فيه أنه فاسق, ثم قال وحكى عن أبي حنيفة أنه كافر إذا كان متهاوناً.
فأجاب: بأن قال: لا يصح هذا القول لأنه قد تقرر من مذهب أهل السنة وإجماعهم أن من أتى ذنباً فليس بكافر, وإنما يقول بكفره المعتزلة. وقد
[
(1/390)
________________________________________
301/1] علم أن أبا حنيفة رضي الله عنه إمام من أعلام أيمة المسلمين المقتدى بهم في العلم والدين, فلا يصح أن يضاف إليه هذا القول, لأن ذلك يؤدي إلى خرق اجماع المسلمين, وإلى أن أبا حنيفة من أهل الاعتزال, وكلا الوجهين ممنوع. وما حكي عنه في ذلك فعنه جوابان:
أحدهما: أن نقول لا نسلم صحة النقل, ومساق النووي له يشعر بالتبري من النقل وأنه لا يصح عنده لقوله وحكى عن أبي حنيفة, ولم يقل وقال أبو حنيفة. والظاهر بطلان هذا النقل لأوجه: أحدُهما لزوم ما تقدم من خرق الاجماع أو ارتكابه الاعتزال, والثاني أنه قد علم من مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن من ترك صلاة الفريضة عمداً غير كافر ولا يجب عليه قتل وإنما يضرب ضرباً زاجراً. فإذا كان لا يكفره بترك الفريضة التي هي ثانية دعائم الاسلام, فكيف يكفره بصلاة ركعتين على غير وضوء. والثالث أن كثيراً ممن اتبعه في الفقهيات على مذهب المعتزلة في الاعتقادات, فقد يكون هذا الحاكي عنه معتزليا ويكذب فيما ينقل عنه ليقوي به مذهب الاعتزال أو يلبس بذلك على الضعفاء ليقتدوا بصحته فيميلوا إليه, أو يكون فاسقاً ممن يريد التلبيس على المسلمين. وكثيراً ما وقع مثل هذا في الكتب, فقد وقع في كتاب الأغاني للأصبهاني من النسبة لإمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه ما لا يليق بمنصبه وإمامته ويعلم كذبه قطعاً. وكذلك وقع في كتاب المعارف لابن قتيبة وصف أبي حنيفة وسفيان الثوري وغيرهما من الأيمة رضي الله عنهم بما هم منزهون عنه ومبرؤون منه مما اختلقه الفساق المستخفون بالدين الطاعنون في أيمة المسلمين. ومثل هذا في الكتب كثير
(1/391)
________________________________________
الجواب الثاني أنا لو سلمنا صحة النقل عن أبي خنيفة وأنه قال فيه أنه كافر, فلا نسلم أن مراده الكفر الذي هو ضد الايمان, لأن الكفر قد جاء في الأحاديث الصحاح اطلاقه على بعض المعاصي, فقد يكون أبو حنيفة رضي الله عنه أطلق عليه كفراً تغليظاً على فاعله وزجراً له عن العودة لمثل ذلك. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتان في الناس هما بهم كفرٌ الطَّعن في النسب والنياحة عن الميت. فهل يسوغ لأحد حمل الكفر هنا على ضد
[
(1/392)
________________________________________
302/1] الايمان؟ وقال عليه السلام ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط, ورأيت أكثر أهلها النساء قالوا بم يا رسول الله؟ قال بكفرهن. قيل أيكفرن بالله؟ قال يكفِرُن العشير ويكفرن الاحسان. فدل على أن الكفر محتمل, ولهذا حسن السؤال عن مراده, ثم إنه أخبر بما أخبر به من أنه لم يرد الكفر بالله. وقال عليه السلام: سبابُ المسلم فُسوقٌ وقتالهُ كفرٌ. ولا يصح أن يحمل الكفر هنا على ضد الايمان لقوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فسماهم الله تعالى مؤمنين مع اقتتالهم, ثم قال تعالى إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم. ومن هذا المعنى قوله عليه السلام لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. الحديث. وقوله عليه السلام ثلاث من كن فيه فهو منافق الحديث. ومثل هذا كثير. وهذه الاطلاقات ليست على ظاهرها وكل واحد منها مؤول بما يناسب المعنى الذي خرج عليه. وقد قال تعالى اعملوا ما شئتم وقال: فاعبدوا ما شئتم من دونه. فلو كان كل ما يرد من الكلام يحمل على ظاهره لكان هذا إباحة للعصيان والكفر. وإنما المراد به التخويف والتهديد. وقد قال عبد الملك بن الماجشون: ينبغي صرف اللفظ إلى معنى بخارجه وإلا بطلت الأمور. قال الله تعالى: فاعبدوا ما شئتم من دونه. وقال: فاسجدوا لله واعبدوه. فهذا امر والأول نهي, واللفظ سواء. فلا ينبغي لأحد أن يعتمد على ما يرى في الكتب حتى يكون عارفاً بقواعد العلم ومقاصد العلماء ومقتضيات الألفاظ وما يحمل على الحقيقة منها والمجاز, لأنه إذا كان عارفاً بذلك فهم الأمور على وجهها, فما جرى منها على القواعد حمله عليها, وما خرج عنا رده بالتأويل إليها. فإن لك يكن عارفاً بذلك فحظه السؤال والتقليد, فإن لم يفعل وعول على فهم نفسه وقع في الخطأ أو الكفر وهو لا يشعر, فيحسب أنه على شيء وهو على غير شيء, فنعوذ بالله من الجهل المركب.
(1/393)
________________________________________
هذا تحقيق القول في المسألة, والله ولي التوفيق, والمسؤول أن يهدي إلى سواء الطريق انتهى.
قلت: من معنى قوله فلا ينبغي لأحد أن يعتمد على ما يرى في الكتب الخ قول الإمام أبي عبد الله بن عرفة رحمه الله في شامله: قول الارشاد القولُ بالجهة ملزومٌ للكفر وهو قول الآمدي, ومذهب أهل الحق
[303/1] من أهل المِلَل تنزيهه عن الجهة والمكان, مع نقل عياض في أواخر كتاب الصلاة من الإكمال في حديث قوله صلى الله عليه وسلم للجارية: أين اللهُ؟ ما نصه: الظواهر الواردة بذكر الله في السماء كقوله تعالى آمنتم من في السماء, أولها من قال بإثبات جهة فوق له تعالى من غير تحديد ولا كيف يردها للمحدثين والفقهاء وبعض المتكلمين من الأشعرية, فعزا ما جعله الإمام ملزوماً للكفر على من ذكر من الأشعرية وغيرهم, وما أدى علام اعتمد في نقله.
هذا وقد اغتر بعض الجهلة ممن يرى لنفسه مشاركة في العلوم في قوله بالجهة لله تعالى, صرح بذلك في مجلس تدريس كان بين يدي الأمير السلطان أبي الحسن المريني بتونس في أواسط هذا القرن في قراءتي في الدرس المذكور حديث مسلم المذكور بحضرة شيوخ جلة, منهم شيخنا ابن عبد السلام وأبو عبد الله السطى وأبو عبد الله بن هارون وغيرهم, فأنكروا عليه مقالته, فأحضر لهم قول عياض هذا. وأعوذ بالله من زلة العالم عقلاً ونقلاً انتهى.
[305/1] نوازل الجنائز
[تأويل حديث لقنوا موتاكم لا إله إلا الله]
وسئل: الإمام سيدي أبو زيد بن الإمام بمجلس درسه, وفي المجلس الإمام أبو اسحاق ابراهيم بن حكم السلوي والإمام القاضي أبو عبد الله المقري حين قرأ القارىء حديث لقنوا موتاكم لا إله إلا الله, فقال الأستاذ ابن حكم: هذا الملقن محتضر حقيقة ميت مجازاً, فما محتضريكم إلى موتاكم؟ والأصل الحقيقة.
فأجاب: بجواب لم يقنع به الأستاذ ابن حكم.
(1/394)
________________________________________
وأجاب المقري بأن قال: زعم القرافي أن المشتق إنما يكون حقيقة في الحال مجازاً في الاستقبال مختلفاً فيه في الماضي إذا كان محكوماً به, أما إذا كان متعلق الحكم كما هنا فهو حقيقة مطلقاً اجماعاً. وعلى هذا التقرير لا مجاز فلا سؤال.
لايقال: إنما احتج على ذلك بما فيه نظر.
لأنا نقول: إنه نقل الاجماع, وهو أحد الأربعة التي يطالب مدعيها بالدليل كما ذكر أيضاً, بل نقول أنه أساء حيث احتج في موضع الوفاق, كما أساء اللخمي في الاحتجاج على وجوب الطهارة ونحوها, بل هذا اشنع لكونه مما علم كونه من الدين ضرورة. ثم إنا لو سلمنا نفي الاجماع فلنا أن نقول ان ذلك إشارة على ظهور العلامات التي يعقبها الموت, لأن تلقينه قبل ذلك إن لم يدهش فقد يوحش, فهو تنبيه على وقت التلقين, أي لقنوا من
[306/1] تحكمون بأنه ميت. أو نقول إنما عدل عن الاحضار لما فيه من الايهام. إلا ترى اختلافهم فيه هل أخذ من حضور الملائكة؟ ولا شك أن هذه حالة خفية تحتاج في نصبها دليلاً على الحكم على وصف ظاهر يضبطها, وهو ما ذكرناه. أو من حضور الموت؟ وهو أيضاً مما لا يعرف بنفسه بل بالعلامات. فلما وجب اعتبارها وجب كون تلك التسمية إشارة إليها والله تعالى أعلم انتهى.
قال سيدي أبو عبد الله بن مرزوق: ولعله من الإيماء إلى علة الحكم والإشارة إلى وقت نفع تلك الكلمة النفع التام, وهو الموت عليها, لاحال الحياة من احتضار أو غيره. أي لقنوهم ليموتوا عليها وتنفع. ومثله فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أي دوموا عليه ليموتوا عليه فيتم نفعُه, والله تعالى أعلم.
[حكم التلقين عند الشافعية]
وسئل: الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله عن هذا التلقين الملفوظ به عند الشافعية.
(1/395)
________________________________________
فأجاب: التلقين هو الذي نختاره ونعمل به, وذكره جماعة من أصحابنا الخراسانيين. وقد روينا فيه حديثاً من حديث أبي أمامة ليس بالقائم اسناده ولكن اعتضد بشواهد وبعمل أهل الشام به قديماً. قال وأما تلقين الطفل الرضيع فما له مستند يعتمد ولا نراه, والله سبحانه أعلم. قال محيي الدين النووي: والصواب أنه لا يلقن الصغير مطلقاً سواء كان رضيعاً أو أكبر, ما لم يبلغ ويصير مكلفاً والله تعالى أعلم.
[ما يجوز مسه من أعضاء الميت عند غسله]
وسئل: سيدي أبو عبد الله بن مرزوق عن قول ابن عبد السلام في كتاب الجنائز: انظر كيف جاز لكل واحد منهما مس وجه الآخر ويديه, مع أنه لا يجوز ذلك في الحياة, فإنه مشكل, لن وجه الحرة وكفيها ليسا بعورة, وكل ما ليس بعورة يجوز مسه. وبهذا يظهر وجه قول مالم: إذا يممها بلغ على كوعها, وتيممه على المرفقين. وما ذلك إلا لأن ذراع الرجل ليس بعورة
[307/1] فيجوز لها ان تنظر غليه فجاز لها ان تمسه, وذراع المرأة عورة لا يجوز النظر إليه فلم يجز له أن يمسه. وأنكر الحافظ بن القطان قول من قال لا ينظر الرجل إلى عورة نفسه قائلا: ما جاز مسه جاز النظر إليه قطعاً. وهكذا تفسيره لقول المصتف: فإن كان جنباً فقولان, أي في الصلاة عليه, والذي يظهر في غسله لأن ذكر المسألة في الكلام على غسله, ولأن القولين هكذا حكاهما غير واحد من الأيمة.
(1/396)
________________________________________
فأجاب: ما أشار غليه الشيخ من النظر ظاهر, لأن تلك المباشرة لما امتنعت حال الحياة وجب أن تمتنع حال الممات, أصله مباشرة غير ما ذكر من أعضاء التيمم. فكما لا تجوز مباشرة كل من الأجنبي أو الأجنبية جسد الآخر بالغسل بعد الموت لامتناع ذلك منهما في الحياة كذلك, لا تجوز مباشرة احدهما الآخر بالتيمم لامتناع ذلك في الحياة. والجواب والله اعلم إنما أباحوا هذا التيمم للضرورة إلى تحصيل طهارة هذا الميت الذي لا ترجى له طهارة بعدها, كما وجهوا به القول بأن الميت أولى بالماء المشترك بينه وبين الجبن الحي منه, وما وجب للضرورة قيد بقدرها. ولما كان التيمم ينوب عن الطهارتين عند الضرورة اقتصر عليه في هذا المحل جمعاً بين مصلحة الميت ومصلحة المنع من مس الأجانب, وكان تيمم المرأة إلى الكوع اقتصاراً على أقل ما يجزى في التيمم, لأن طلب الستر في حقها بالنسبة إلى الرجل آكد منه في حق الرجل بالنسبة إليها. ولذلك تيممه هي إلى المرفقين فتوصله غاية التيمم. وإنما قلنا إن طلب سترها منه آكد من العكس, لأن عورتها بالنسبة إليه جميع جسدها في قول, وفي آخر ما عدا الوجه والكفين. وحكمها هي فيما تراه منه كحكمه فيما يراه من ذوات محارمه, هذا هو المشهور.
وقال ابن رشد في النكاح من البيان: وقيل كحكمه فيما يراه منها, وهو بعيد, ويلزم عليه أن لا ييمم النساء الرجال الأجنبين إلا إلى الكوع, ولا يوجد في شيء من مسائلنا. انتهى. ومن جهة المعنى ان الذي يدعو إليه هذا اللمس من الفجور هو من الرجل الحي مع امرأته الميتة أمكن من عكسه لوصوله إلى ما يريد من جماعها على التمام دونها. فلما كان الداعي في حقه
[
(1/397)
________________________________________
308/1] أقوى ناسب أن يحرم عليه مس ما زاد على أقل ما يمكن في التيمم سداً للذريعة. ولما كان هذا الداعي في المرأة أضعف ناسب أن يباح لها الوصول إلى غاية التيمم, وهو في غاية الوضوح. فظهر أن جواز هذا التيمم إنما هو للضرورة لا لجواز المس الذي يستلزمه جواز النظر فيما ليس بعورة كما ذكرتم. ونظير المس هنا للضرورة مس ما يحتاج إلى مداواته من جسد كل منهما, فيقتصر على أقل ما يمكن مما لابد منه ولا يتعدى إلى غيره. وكما قالوا فيما إذا أنكر الرجل الجب وشبهه أنه يمس من فوق الثوب ويبقى الثوب على ما يوالي الداء من المرأة إن كان في غير الفرح, وكالنظر في العورة في المرآة لمن أنكر البلوغ على القول به أو داء الفرج كما وصف ابن عات في طرره ونحو ذلك.
(1/398)
________________________________________
وقولكم لأن وجه المرأة إلى قولكم يجوز مسه, فيه نظر, إذ لقائل أن يمنع حكم القضيتين على بعض التقادير. أما الصغرى فإن أردتم ليسا بعورة بالنسبة إلى الصلاة فمسلم, وإن أردتم بالنسبة إلى نظر الأجنبي إليهما الذي هو مقصودكم فلا نسلم كونهما ليسا بعورة ولا كونهما يجوز النظر إليهما من الأجنبي, بل المذهب أو مشهوره خلاف ذلك. قال في الرسالة: وليس في النظرة الأولى بغير تعمد خرج, ولا في النظر إلى المتجالة ولا في النظر إلى الشابة لعذر من شهادة عليها وشبهه, وقد أرخص في ذلك للخاطب. انتهى. وقال في موضع آخر: ولا يخلو رجل وامرأة ليست منه بمحرم, ولا بأس أن يراها لعذر من شهادة عليها او نحو ذلك أو إذا خطبها. وأما المتجالة فله أن يرى وجهها على كل حال انتهى. فقوله في المتجالة أن يرى وجهها دليل على ان الذي نُفي أن يرى من الشابة هو الوجه ليتوارد النفي والاثبات على محل واحد. ومفهومه أن النظرة الثانية المقصودة والنظر إلى الشابة لغير عذر حرجا, وما فيه حرج فهو محرم. وكذا قول ابن الجلاب ولا بأس أن ينظر الرجل إلى وجه امرأة أبيه الخ ما ذكر من المحارم, فإن فيه دليلاً على انه لا يجوز النظر إلى وجه غير من ذكر منهن. وفي جامع المقدمات ولا يجوز له أن ينظر إلى الشابة إلا من عذر من شهادة أو علاج أو عند إرادة نكاحها انتهى. وقال في النكاح الأول من البيان حين تكلم على مسألة الخاطب إلى
[
(1/399)
________________________________________
309/1] من يريد نكاحها: فأما نظر الرجل إلى وجه المرأة بإذنها دون أن يغتفلها إذا أراد نكاحها فأجازه مالك, كما يجوز له النظر إلى وجهها في الشهادة لها أو عليها. ومن أهل العلم من لم يجز ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي لاتُتبع النظرة النظرة, فإنما لك الأولى وليست لك الثانية. فتحريمه الثانية التي هي باختياره دليل على أنه لا يجوز لأحد ان ينظر إلى وجه امرأة إلا بنكاح أو حرمة تبيح ذلك. وقول مالك هو الصواب, لأنه إنما حرم من النظر إلى وجه المرأة ما كان لغير معنى يبيحه من نكاح أو شهادة انتهى. ومثل هذا من النصوص الدالة على تحريم النظر إلى الوجه كثير. وقد ذهب بعضهم إلى أن المسألة أعني النظر إلى وجه الشابة الأجنبية من غير عذر ولغير شهادة ذات قولين, ورأى غير واحد أنهما قائمان من المدونة من كتاب الايمان بالطلاق وكتاب الظهار. أما الأول فقوله في آخره: فهي كمن طلقت ثلاثاً ولا بينة لها فلا تتزين له ولا يرى شعراً ولا وجهاً إن قدرت. وأما الثاني فقوله في المظاهر الذي لم يكفر: ولا يقبل ولا يباشر ولا يلمس ولا ينظر إلى صدرها ولا إلى شعرها حتى يكفر, وجائز أن ينظر إلى وجهها, وقد ينظر غيره إليه انتهى. فرأوا أن اللفظ الأول الدال على منعه للأجنبي, والثاني على جوازه. وعندي أن الذي يوخذ من المدونة المنع ليس غيره, ولا حجة فيما في كتاب الظهار أنها زوجة بعد. وقد اختلف في تلذذه منها بما دون الوطء, والنظر أخف من ذلك. ويدل على ما اخترناه قوله: وجائز أن يكون معها في بيت ويدخل عليها بلا إذن إذا كان تؤمن ناحيته انتهى. ومعلوم أن الأجنبي لا يجوز له مثل هذا مع الأجنبية. وأما قوله وقد ينظر غيره إليه فهو جزئية لإتيانه معها بسور الجزءية, والجزئية إنما تصدق على بعض الوجوه, فيحمل على حالة العذر. وانظر كلام الاشارة إلى ما اخترناه.
(1/400)
________________________________________
وقال في الإيمان بالطلاق من التنبيهات: قال بعضهم ظاهره أن الأجنبي لا ريى وجه الأجنبية, وهو ليس بعورة عند مالك. وأهل العلم لا يريها إياه في الصلاة فليس على ظاهره. وقال مالك في الموطأ: وقد يرى غيره وجهها, وإنما اختار ألا تُمكِّنهُ لأنه ينظر للذة, وكذا لا يجوز لأجنبي نظره إليه على الوجه اجماعاً. انتهى باختصار. وهو مثل ما ذكرتم. وفي الاستدلال على أن الوجه ليس بعورة بحيث يجوز نظر
[
(1/401)
________________________________________
310/1] الأجنبي إليه بابدائه الصلاة نظر, لأن عورة الصلاة والعورة التي يجوز النظر إليها نوعان مختلفان. ولذلك يوجد أحدهما دون الآخر, فالمحرم ينظر إلى ضراع ذات محرمه وغير ذلك من أطرافها, ولا يجوز ابداؤها ذلك في الصلاة. والزوج يرى من زوجته أكثر ومن نفسه ما لا يجوز ابداؤه في الصلاة. والعورة في نفسها تختلف أحكامها في الصلاة فإن أبدت الحرة شعرها أو صدرها أو ظهور قدميها أعادت في الوقت خاصة على المشهور, وذلك حرام على الأجنبي النظر إليه. وفي العورة الحقيقية تعيد أبداً كالرجل. والنظر إلى العورة من الرجل لا يحل بحال مع الاختيار, وطلب ستر العورة لذات الصلاة في الخلوة مختلف فيه. فدل جميع هذا على أن للعورة بالنسبة إلى النظر حكماً وبالنسبة إلى الصلاة حكماً آخر, يدل على طلب ستر الوجه للحرة أنها لو صلت متنقبة لم تعد, قالوا لأنها بالغت في الستر. ولما كان الرجل لا يطلب منه ذلك كره في حقه, وكذا يجوز لها حال إحرامها بالحج والعمرة أن تسدل ثوباً على رأسها من غير ربط ولا إبرة قَصْدَ ستر وجهها. وكذا ما روي عن عمر رضي الله عنه من الأمر بتغيير هيئة الإماء في ذلك مخافة التباسهن بالحرائر. وقد قال تعالى يَا أَيُّها النَّبي قُل لأَزواجك وبَناتِكَ ونساء المُؤمنينَ إلى قوله تعالى ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يُؤذَينَ. ومع ابداء الوجه كمال المعرفة. وأما الكبرى فمنع صدقها كلية ظاهر, إذ ليس بين نظر العورة وجواز المس ربط عقلي, وهو ظاهر, ولا حكمي لوجود كل منهما بدون الآخر. أما وجود المس بدون نظر فكما في غسل عورة الميت. قال ابن الحاجب والأشهر أن يفضي الغاسل بيده إليها إن احتاج, وإلا فبخرقة وهي مستورة. ونص الباجي على شيء من هذا. وكيفية غسل المرأة ذات محرمها إن لم يكن رجال على القول بأن لها ذلك من تحت ثوب أو العكس. وتأملوا كلام اللخمي في ذلك.
(1/402)
________________________________________
وكغسل الانسان محل الأذى منه كما حكى ابن القطان عمن قال لا ينظر الرجل إلى عورة نفسه وهو الصحيح إلا لضرورة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: إنِ استَطَعْت أنْ لا يضرَى أحدٌ عَورتَك فافعل. والمخاطب بفتح الطاء داخل في عموم متعلق خطابه كالذي بكسرها.
وكما في معالجة بعض الأدواء التي تحتاج إلى مسها فيما لا يجوز النظر إليه ولم تدع إليه ضرورة. وانظر قول عائشة رضي الله عنها: ما رأيت منه ولا
[311/1] رأى مني, تعني العورة منه صلى الله عليه وسلم ومنها, مع أن نظر أحد الزوجين ذلك من صاحبه جائز, وإن كرهه بعضهم للطب. وأما وجود النظر بدون اللمس فكما في المصحف بالنسبة إلى المحدث, وكذا المسجد للجنب, وكذا النجاسات. وكما في نظر العدول لعورة الزانين قصداً للتحمل, وكما في النظر إلى فرج الخنثى وما يخرج من بول من أحدهما وكعورة الصغير, فإن ابن يونس ذكر في فصل الخنثى من فرائضه أنه يجوز النظر إلى عورته. وكما فيما يحتاج إلى الشهادة فيه من العيوب الكائنة بمحل لا يجوز مسه.
(1/403)
________________________________________
وتأملوا قول اللخمي في فصل غسل الميت: وأما غسل المرأة زوجها فلا بأس أن يشاركها في ذلك النساء في صب الماء من غير مس, فقد بان رهذه الأشياء أن الكلية المذكورة غير مطردة ولا منعكسة. وبان قطعاً بطلان قول من قال ما جاز مسه جاز النظر إليه قطعاً. ولو سلمنا جواز النظر إلى وجه الأجنبية الشابة وكفيها فلا نسلم جواز مس ذلك منها, لأن المفسدة الناشئة أقوى من الناشئة عن النظر, لأن ما يحركه النظر من اللذة يقصر عن ما يحركه المس وحده, فأحرى ما يحركه مجموعهما المتلاومان غالباً في هذه الصورة. ولذا رتب الفقهاء على المس من الأكام مالم يرتبوه على النظر, فجعل اللمس بقصد اللذة بنقص الوضوء وإن لم يلتذ لأنه مظنتها, واللذة بالنظر لا تنقص على الأصح. وانظر امتناعه صلى الله عليه وسلم من مس أيدي النساء عند البيعة كما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم مَا مَسَّتْ يداه امرأةٍ لا يملكُ عصمتها قط, إنما كان يُبايِعُهُن كلاماً. بل إنما تكلمه واحدة منهن في بعض المواطن, ولولا الضرورة لم يتعرض لذلك, فإما لأن اللمس لا يجوز وإن جاز النظر, أو لأنهما معاً لا يجوزان وهو الظاهر. وإذا ورد الأمر بالمباعدة بين أنفاس الرجال والنساء ورد النهي عن التلذذ بسماع أصواتهن مخافة الفتنة, فكيف بالنظر إلى أشرف عضو في أشباحهن؟ وهل يجمع المحاسن أو أكثرها إلا الوجه, فكيف بلمسه بهد ذلك؟ فقد جمع المس من الالتذاذ نحواً مما جمع أبو نواس منه على تفسير من فسر قوله: ألا فاسقني البيت. وما حكيتم من تفسير الشيخ لقول ابن الحاجب: فإن كان جنباً فقولان, أظنكم أردتم شرحه لقول المصنف, وإن كان الشهيد جنباً فقولان بقوله, يعني هل من شرط ترك الصلاة على الشهيد سلامته من الجنابة أو لا
[
(1/404)
________________________________________
312/1] يشترط ذلك, لأن غسل الملائكة لحنظلة رضي الله عنه فضيلة له غير متعبد بها انتهى. وما شرح به هو الأنسب لكلام المصنف لأنه إنما ذكر هذه المسألة في فصل الصلاة على الميت لا في فصل غسله. وهنا ذكره ابن شاس أيضاً. فالمؤاخذة التي تشيرون إليها إنما هي على ابن الحاجب, وأما الشارح فمتبع كلامه, ولابن هارون اعتراض على كلام المصنف يشير إلى نحو من اعتراضكم واعتذار غير مرضي من طريق العربية فانظروه. والاعتذار لذكر هذا الفرع في فصل الصلاة أنه لما كان فيه قولان باعتبار الغسل وقولان باعتبار الصلاة, والخلاف في الصلاة يستلزم الخلاف في الغسل لأنه إنما شرع لها اقتصر بذكره على أحد الفصلين, لأن ذكره في كل منهما باعتبار كل من الحكمين المتلازمين ينافي الاختصار, وذكره في فصل الصلاة دون فصل الغسل, لأن ذكر المستلزم للشيء كذكر ذلك الشيء. وإذا صح أن في كل من الصلاة والغسل قولين كما حكي ابن شاس وغيره, لم يكن ذكر غير واحد من الأيمة قولين في الغسل مرجحاً لذكر هذا الفرع في فصل الغسل كما أشرتم إليه من أن الأولى شرحه بذلك لفوات هذه النكتة. وأما أن الصلاة تستلزم الغسل فقد أشار إليه ابن الحاجب بقوله: ولا يغسل من لا يصلي عليه لنقص او كمال. وذكر ابن شاس عن ابن حبيب إذا كان الجسد مقطعاً لا يصلي عليه, وعلل بأن الصلاة لا تكون إلا بعد الغسل وهو لا يمكن غسله.
[تلقين الميت وقت دفنه]
وسئل: الأستاذ أبو سعيد بن لب رحمه الله عن تلقين الميت وقت دفنه, هل ورد فيه شيء من الشريعة أم لا؟
(1/405)
________________________________________
فأجاب: أما تلقين الميت بعد دفنه فالأصل في العمل بذلك في هذه الأزمنة حديث ذكره عبد الحق في كتاب العاقبة له قال: يروى عن أبي أمامة الباهلي أنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول فلان بن فلانة, فإنه يسمعُ ولا يجيب, ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة الثانية, فإنه يستوي قاعداً, ثم ليقل يل فلان ابن فلانة يقول أرشدني رحمك الله, ولكنكم لا تسمعون به, فيقول أُذكر ما خرجت عليه من الدنيا, شهادة أن لا إله إلا الله
[313/1] وأن محمداً رسول الله, وأنك رضيت بالله رباً, وبالاسلام ديناً, وبمحمدٍ نبياً, ويالقرآن إماماً, فإن منكراً ونكيراً يتأخر كل واحدٍ منهما ويقول إنطلق بنا ما يقعدنا عن هذا وقد لُقِّن حُجتهُ, ويكون الله حُجَّتَهُما دونه. فقال رجل يا رسول الله: فإن لم يعرف أُمه؟ قال ينسبه إلى أمه حواء. والأصل في القراءة على الميت عند دفنه الحديث المشهور في حديث يس اقرؤُوهَا على مَوتَاكُم فخصه قوم بحالة الاحتضار, وأطلقه آخرون.
[التسبيع للميت وضرب الفسطاط على القبر]
وسئل: عن خدمة سابع الميت بالقراءة والأمور المعهودة في ذلك, ويذكر الناس في ذلك أثراً عن طاوس.
(1/406)
________________________________________
فأجاب: وسألتم عن سابع الميت وأثر طاوس الوارد فيه, ونصه على ما نقله ابن بطال في شرح البخاري عن ابن طاوس عن طاوس قال: كانوا يستحبون ألا يتفرقوا عن الميت سبعة أيام لأنهم يفتنون ويحاسبون في قبورهم سبعة أيام انتهى. وقول التابعي كانوا يعني به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا أصل عظيم للسابع الذي يقعله الناس اليوم. ويقتضي الأثر أن لا يفارق الميت ولا يترك وحده تلك السبعة أيام, وهذا يشق, فأخذ الناس في هذه الأزمنة بحظ من ذلك, ويحسب في هذه السبعة أيام وقت دفنه, لأنه أول ذلك ومبدأ أوقات الفتنة. وقد نقل الناس أن الفسطاط ضرب على قبر أيمة من علماء الاسلام كابن عباس, وما كان ذلك إلا لأجل الملازمة التي ذكرها طاوس. وهذا كله أولى بالاتباع والوقوف عنده من الكلام الذي نقله ابن أبي زمنين في مقربة عن ابن وضاح في انكار سابع الميت وأنه مما احدثه الناس ولا أصل له في الشرع, وانه من قبيح محدثاتهم.
[الجهر بالتهليل على صوت واحد أمام الجنازة]
وسئل: عما يفعله الناس في جنائزهم حين حملها من جهرهم بالتهليل والتصلية والتبشير والتنذير ونحو ذلك على صوت واحد أمام الجنازة, كيف حكم ذلك في الشرع؟
فأجاب: السنة في اتباع الجنائز الصمت والتفكر والاعتبار. خرج
[
(1/407)
________________________________________
314/1] ابن المبارك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اتَّبَعَ جَنَازةً أَكْثَرَ الصَّمْتَ وأكثر حَدِيثَ نفسه. قال فكانوا يرون أنه يحدث نفسه بأمر الميت وما يرد عليه وما هو مسؤول عنه. وذكر أن مطرفاً كان يلقى الرجل من إخوته في الجنازة وعسى أن يكون غائباً فما يزيد على التسليم يعرض عنه اشتغالاً بما هو فيه, فهكذا كان السلف الصالح, واتباعهم سنة ومخالتهم بدعة. وذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل صالح مرغب فيه في الجملة, لكن للشرع توقيت وتحديد في وظائف الأعمال, وتخصيص يختلف بختلاف الأحوال, والصلاة وإن كانت مناجاة الرب وفي ذلك قرة عين العبد تدخل في اوقات تحت ترجمة الكراهة والمنع. أن لله يحكم ما يريد.
[التقدم في الصلاة على الجنازة]
وسئل: هل يجوز لبعض المأمومين أن يكون أمام الجنازة في الصلاة عليها؟
فأجاب: قد وقع في كلام اللخمي نفيُ الخلاف في منع التقدم على الجنازة عند الصلاة عليها بناء على الشفاعة, فالمصلي يشفع فيها كالمشير إليها.
[الجهر بالذكر أمام الجنازة]
وسئل: عن الجهر بالذكر أمام الجنازة على صوت واحد كيف حكمه؟
فأجاب: إن ذكر الله والصلاة على رسوله عليه السلام من أفضل الأعمال, وجميعه حسن, لكن للشرع وظائف وقتها, وأذكار عينها في اوقات وقتها, فوضع وظيفة موضع أخرى بدعة, وإقرار الوظائف في محلها سنة. وتلقي وظائف الأعمال في حمل الجنائز إنما هو الصمت والتفكر والاعتبار, وتبديل هذه الوظائف بغيرها تشريع, ومن البدع في الدين, وقد قيل في قوله تعالى فلا تُزَكُّوا أنْفُسَكم نهي عن أن يزكي بعض الناس بعضاً تزكية السمعة والمدح للدنيا. وكأن ولي الميت يزكي ميته بذلك الفعل من قبل نفسه ليعتقد ذلك له ولميته انتهى. وقال أيضاً: المنقول عن السلف الصالح رضي الله عنهم في المشي مع الجنائز هو الصمت والتفكر في فتنة القبر وسؤاله وشدائده
[
(1/408)
________________________________________
315/1] وأهواله, وكان أحدهم إذا قدم من سفره فيلقاه أحد إخوانه بين يدي الجنائز لم يزد على السلام إقبالا على الصمت واشتغالا بالتفكر في أحوال القبر, والخير كله في اتباعهم وموافقتهم في فعل ما فعلوه وترك ما تركوه.
[شرح حديث: إنما الصبر عند أول صدمة]
وسئل: عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ولفظه على ما في الكتاب كما في علمكم, حدثنا شعبة عن ثابت البناني, سمعتُ أنس بن مالك يقولُ لامرأةٍ مِنْ أهله: تعرفين فُلانة؟ فقالت نعم. قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بها وهي تبكي عند قبر فقال لها اتقي الله واصبري, فقالت إليك عني فإنك خِلْوٌ مِنْ مُصِيبتي, قال فجاوزها ومضى, فمر بها رجل فقال, ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت ما عرفته. قال إنه لرسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قالت والله ما عرفتُك, فقال النبيُّ صلى اله عليه وسلم: إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ. فبعض قال عن المراد بالحديث تعريف المرأة بالصبر عند أول صدمة لأجل ما اتفق لها من فقد صاحب القبر الذي كانت تبكي عليه, وبعض قال إنما ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه جفته بكلامها, واستشهد على مقالته بقوله صلى الله علي وسلمقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر. فقلت العالم أبقاه الله يشرح لنا معنى الحديث مأجوراً موفقاً إن شاء الله.
(1/409)
________________________________________
فأجاب: أعرفكم أني وقفت على مكتوبكم, والمقصود بالحديث إنما هو أنه عليه السلام عرض على المرأة الصبر, وتحمل مشقته إنما هو عند حدوث المصيبة وأول وقوع النائبة, لأن ذلك الوقت تضعف فيه النفس ويعتريها الجزع عن الضبط والتأسي بعاقبة الأمر, وبعد ذلك تأنس بمصابها وترجع إلى سكونها وتأخذ في سلوها فلا يكون في الصبر حينئذ ما يغلب, ولا في تحمله ما يقهر ويضعف, لأن السالي عن المصائب لا يستحق له اسم الصبر. يقول تعالى: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة الآية: فإن الصبر في وقت إصابة المصاب. ولم يرد كلام الرسول عليه السلام قد أُوذِيَ موسى بأكثر من هذا فصبر في مثل هذا, ولا معنى له هنا, والسلام عليكم من كاتبه فرج ورحمة الله تعالى وبركاته.
[
(1/410)
________________________________________
316/1] وكتب رضي الله عنه مجاوباً على مسألة الدعاء للميت ومعزياً بالمصاب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. يا أخي وصل الله لكم أسباب السعادة, ورزقنا وإياكم لديه الحسنى والزيادة, تحصكم تحية محبكم, والقائم بودكم, فرج بن لب رحمه الله. أحمد الله سبحانه إليكم وأسأله ان يسبغ نعمه عليكم, وأعرفكم أنه وصلني كتابكم تذكرون فيه من فقدتم وبمن أصبتم, أعظم الله لكم الأجر, ورزقكم الرضى والصبر, فلا حول ولا قوة إلا بالله, ما شاء الله, إنا لله وإنا إليه راجعون, لله ما اخذ وله ما اعطى, وكل شيء عنده باجل مسمى, فاحتسبوا الأجر عند الله, فما يزال المؤمن مصاباً في ولده وحامته حتى يلقى الله وليس له خطيئة. وحامة الرجل خاصته وأقرباؤه. ولهذا يعد اهل الفضل والدين الاصابة بفقد القرابة باباً من أبواب الكرامة, لأنه ثواب وأجر ساقه الله للعبد, والموت لابد منه على كل حال. فمن الناس من يكرم بسبب ما يعطى في ذلك من المثوبة, ومنهم من يمنع ذلك كأن يتوفى وهو لم يفقد قط أحداً من حامته. فمن نظر هذا النظر رأى أن الفقد عطية من الله سبحانه للفاقد, فتكون حاله بذلك إلى السرور أميل, ونفسه إلى رجاء الخير فيه أقرب. رزقنا الله الرضى بقاضئه, وجعل أسعد يوم لقائه بفضله ورحمته.
[قولهم: وأنت خير منزول به]
(1/411)
________________________________________
وأجاب عن مسألة تظهر من الجواب فقال: وسألتم عن قول القائل للميت يخاطب الله تعالى: وأنت خير منزول به, على من يعود ذلك الضمير؟ فاعلموا انه يعود في الأصل على الموصوف بمنزول, لأنه وصف قام مقام الموصوف بعد, أي وأنت خير منزل به. والضمير المجرو في موضع رفع مفعولٌ لم يسم فاعله بمنزول. والمعنى أنه يقول: وأنت خير من نزل به, كما يقال: فلان أكرم من نزل به. ثم تقول إن شئت هو أكرم منزول به. فهذا جواب ما عنه سألتم, والله سبحانه يرحم من فقدتم ويبرد ضريحكم, وينور عليهم قبورهم, ويجعل الجنة ميعاداً بيننا وبينهم, ويلحقكم(1) بعده جناح العافية, ويستعملنا وإياكم في الطاعة, ومعاد السلام عليكم.
[317/1] [نعي الميت من منار الجامع]
وسئل عن أهل موضع عادتهم إذا مات لهم إنسان يصعد أحدهم في ربع النهار في المنار في الجامع الأعظم ويقرأ شيئاً من القرآن ويذكر ما يفعل المؤذن بالليل ثم يدور في المنار ويقول مات فلان وجنازته في كذا, إلى أشياء كثيرة من نحو هذا.
فأجاب إن ذلك من أشد النعي الذي جاء النهي عنه في الحديث, فالواجب التقدم فيه بالنهي عنه والمنع لقبحه بفعله في الصوامع التي لم يشرع فيها إلا الاعلان بالأوقات لإقامة شرائع الصلوات.
[عشاء القبر]
وسئل عن الطعام الذي يصنع للقراء على الميت وغيرهم عند تمام سابعه, ذكر ذلك بعض الناس هنا انه ممنوع ولا يجوز أكله, وفاعله ما قصد غير الترحم على الميت وصلة الأرحام.
__________
(1) كذا (بالقاف) في المطبوعة الحجرية وبعض المخطوطات؛ ولعل الصواب يلحفكم (بالفاء).
(1/412)
________________________________________
فأجاب إن المحظور من مثل ذلك إنما هو فعله على انه دين وشرعة, وأنه من حق الميت على أوليائه, كما يفعله كثير من الجهلة على هذا الوجه, ويقصدون بفعله هذا القصد, فهذه بدعة وتقول على السنة. وأما فعله على الوجه الذي أشرتم إليه من استجلاب النفوس واستنهاض القلوب بالدعاء له والترحم عليه فلا حرج, إذ من المقاصد المحمودة في ذلك تأنيس قرابة الانسان, وتسليتهم بموضع كنف الاحسان, حتى يظهر لهم بذلك أن فيمن بقي خلفاً من سلف, فهذا قصد حسن, وإنما الأعمال بالنيات, ولكل امرىء ما نوى. فهذا أصل من الأصول المعتمدة في الأقوال والأفعال.
[البناء على القبور]
وسئل عن البناء على القبر كيف يكون؟
فأجاب أما البناء على القبر فيعمل منه المباح في الضرع وهو تسنيمه بالبناء والحائط القصير من غير تسقيف إذا كان البناء في حريم مخافة الدفن حوله بالمجاورة القريبة ليلاً يتكشف عليها انتهى. ابن عبد الحكم: لا تنفذ
[
(1/413)
________________________________________
318/1] وصية بالبناء على القبر. وقيد اللخمي ببناء البيوت, ولا بأس بالحائط اليسير ارتفاعه حاجزاً بين القبور لتعرف. ابن عرفة وفتوى ابن رشد بهدم بناء على قبر نحو عشرة أشبار دليل حمل الكراهة على التحريم. وأفتى ابن رشد بوجوب هدم ما بني في مقابر المسلمين من السقائف والقبب والروضات, وأن لا يبقى من جدارتها إلا قد ما يميز به الرجل قبر قريبه لئلا يأتي من يريد الدفن بذلك الموضع, وذلك قدر ما يمكن دخوله من كل ناحية دون باب, ونقض ذلك لربه. قال وإن كان بناؤها في ملك بانيها فحكمها حكم بناء الدور انتهى وقيده ابن عرفة بما إذا كان في محل لا يأوي إليه الفساد. قال ابن عبد السلام وإن فعل ذلك فإنه يزال منه ما يستر أهل الفساد ويترك باقيه. وفي التنبيهات: اختلف في بناء البيوت عليها إذا كانت في ارض غير محبسة وفي المواضع المباحة وفي ملك الانسان, فأباح ذلك ابن القصار, وقال غيره ظاهر المذهب خلافه انتهى. قال في التوضيح: وأما الموقوفة كالقرافة التي بمصر فلا يجوز فيها البناء مطلقاً, ويجب على والي الأمر أن يأمرهم بهدمها حتى يصير طولها عرضاً وسماؤها أرضاً انتهى. ولما صحح الحاكم في لاالمستدرك أحاديث النهي عن البناء والكتب قال, وليس عليها العمل لأن أيمة المسلمين شرقاً وغرباً مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذه الخلف عن السلف انتهى. وقال بعض الشيوخ لا يسلم له لأن أيمة المسلمين لم يفتوا بالجواز ولا أوصوا بفعل ذلك بقبورهم, بل تجد أكثرهم يفتي بالمنع ويكتب ذلك في تصنيفه. وغاية ما يقال أنهم يشاهدون ذلك ولا ينكرون. ومن أين لنا انهم يرون ذلك ولا ينكرون تلك الأحاديث لإمكان الجمع بأن يحمل ما في الأحاديث على البناء المشرف كما كانت الجاهلية تفعل, وتصحيحه أحاديث النهي عن الكتب خلاف قول ابن العربي. ولما لم تصح أحاديث النهي عن الكتب تسامح الناس فيه حتى فشا وعم الأرض وليس فيه فائدة إلا التعليم لئلا يدثر القبر.
(1/414)
________________________________________
وسمع ابن القاسم أكره البناء على القبر وجعل أبلاطه المكتوبة(1) فقد نص مالك في هذه الرواية على منع الكتب. وإن سلم ما ذكره الحاكم من العمل فإنما يجوز
[319/1] ذلك على وجه لا تَطَؤُهُ الأقدام كالكتب في الرخامة المنصوبة عند رأس الميت, وأما على صفيح القبر فلا, لأن فيه تعريضاً للمشي عليها انتهى.
وسئل بعض الشيوخ عمن اوصى أن تدفن إجازته معه.
فأجاب بأنها لا تنفذ, وإن قيل أن الميت لا ينجس بالموت, لنه قد ينفجر فيتلوث ما فيها من الآيات والأسماء. واستحسنوا أن توضع في القبر ساعة ثم تزال كقضية القطيفة يعنون في مطلق الوضع لأن القطيفة لم تخرج بعد. وكان الشامي فقيهاً متزهداً في طبقية ابن عبد السلام, ممن قرأ معه البودري. فلما حضرته الوفاة اوصى أن تدفن إجازته معه, وكأنه رأى أن الميت لا ينجس بالموت. وحكى ابن بشكوال أن محمد بن يحيى بن الحذا عهد أن يدخل في أكفانه كتابه المعروف بالانباه على أسماء الله, فنشر ورقه وجعل بين القميص والأكفان نفعه الله بذلك.
قلتُ: في تنفيذ هذه الوصية مع توقع ما ذكر من الانفجار فتتلوث أسماء الله الحسنى نظر ظاهر.
وسئل بعضهم عن زيارة قبر الميت مدة السابع للترحم عليه والاستغفار له.
فأجاب نص في الاكمال عن القرويين على جواز ذلك والتسهيل فيه. ومنعه الأندلسيون وشددوا الكراهة فيه, واتفقوا على منع ما كان من ذلك للمباهاة والفخر.
وسئل الشيخ أبو عبد الله السطي رحمه الله من قبل السلطان أبي الحسن رحمه الله حين توفي الشيخ أبو عبد الله بن هارون وزوجه في تعيين من يقدم منهما في الأقبار.
فأجاب الأمر واسع.
وسئل ابن عرفة رحمه الله عمن ماتت زوجته فأراد زوجها دفنها في مقبرته, وأراد عصبتها دفنها في مقبرتهم.
فأجاب بان القول قول عصبتها أخذاً من قول المدونة وتنتوي البدوية مع أهلها لا مع أهل زوجها لفقد النص فيها. انتهى.
__________
(1) في نسخة: وجعل البلاطة المكتوبة.
(1/415)
________________________________________
فكتبت للشيخ أبي عبد الله القوري رحمه الله سنة غحدى وسبعين من
[320/1] تلمسان بهذه المسألة مع جملة مسائل, فقلت له: هل ما زعمه الشيخ رحمه الله من فقد النص فيها صحيح أم لا؟ وإن رأيتم شيئاً فعينوا لنا في أي كتاب هو؟
فأجابني بما نصه: ومدفن الزوجة نص صاحب الاستغناء أن القول لعصبتها, ولو كان لزوجها منها ولد.
وسئل الشيخ سيدي أبو القاسم العبدوسي عن زيارة قبور الوالدين هل يسافر الإنسان لها؟ أو يستفغر لهما من مكانه؟ وما وجه خروجه صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع ليلاً ولم يستغفر لهم من مكانه؟ وهل محمل القراءة محمل الدعاء والاستغفار أو محملهما محمل الأعمال التي لا ينتفع بها إلا صاحبها؟ وهل يخرج لزيارة قبور العلماء والصلحاء والشهداء من غير أهل بدر ممن لا يقطع بهم كما يخرج لزيارة الوالدين؟ وما يطلب بزيارتهم, هل انتفاع الزائر فيدعو المء عند قبورهم بما يخصه من امر دينه ودنياه, لأن بعض الناس يقولون أن قبورهم مظان الإجابة لأنهم أحياء في الحقيقة؟ أو إنما يطلب انتفاع الميت. فإن قلت انتفاع الميت, فما وجه خصوصه بالخروج والاستغفار لهم دون سائر المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وما وجه قوله صلى الله عليه وسلم إني كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجراً هل أراد بذلك عموم قبور المؤمنين؟ أو خصوص قبور الوالدين والقرابات والأنبياء والصالحين؟ وكذلك الذين يزورون قبور الوالدين والقرابات في الأعياد والموالد من غير أن توافق زيارتهم يوم الخميس والاثنين, فإن سئلوا عن ذلك قالوا هي أيام خصها الله بما خصها, فنحن نحب إن نصل فيها القرابات, فهل هذه سنة فيقرون عليها؟ أو بدعة فيخرجون عنها؟
(1/416)
________________________________________
فأجاب أما مسألة زيارة قبور الوالدين فنعم تزار, ويخرج لها كانت قريبة أو بعيدة, ولا يعترض علينا النبي صلى الله عليه وسلم لا تُشَدُّ الرحالُ إلا لثلاثةِ مساجد. إذ معناها شدها للصلاة لا لغير ذلك. وممن نص على ذلك الإمام أبو الحسن ابن بطال في شرح البخاري, وأبو حامد الغزالي في الاحياء. وأما خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل البقيع فإنما خرج بالأمر ليتبركوا بسماع كلامه وكونه بينهم والاستغفار أمر زائد. وممن نص على
[321/1] ذلك شهاب الدين القرافي, وكونه كان بالأمر في البخاري ومسلم, وليودعهما كما وقع في مسلم كالمودع للأحياء وللأموات. وأما القراءة على القبر فنص ابن رشد في الأجوبة, وابن العربي في أحكام القرآن له والقرطبي في التذكرة على أنه ينتفع بالقراءة, أعني الميت, سواء قرأ على القبر أو قرأ في البيت وبعث الثواب له, او في بلد إلى بلد. وأما شهاب الدين في القواعد فنص على أنه لا ينتفع بذلك إلا إذا قرأ على القبر مشافهة, وهو قول خارج عن المذهب ينحو إلى مذهب الشافعي.
(1/417)
________________________________________
وأما الخروج إلى زيارة قبور الصالحين والعلماء فجائز طال السفر أو قصر. وممن نص على ذلك الإمام أبو بكر بن العربي في القبس في شرح الموطأ, والإمام الغزالي في الاحياء في كتاب الحج وكتاب السفر. قال الغزالي: ويعتقد أنه ينتفع بالميت, وقال كل من ينتفع به حياً ينتفع به ميتاً. وقال ابن العربي: إنما ينتفع الميت بالحي لا الحي بالميت, والذي يعتقد أن الحي ينتفع بالميت, لكن هل يتوسل به إلى الله فيقول بحق هذا الصالح افعل لي كذا؟ فهذا هو نص معروف الكرخي رضي الله عنه, نص عليه في الحلية, أو إنما يعتقد ان البقعة بقعة مباركة يدعو فيها الله من غير توسل, هذا هو الذي عليه عمل الشيوخ. وقد كان الشيخان والدي رحمه الله وسيدي عبد الله الفشتالي يعلمانه للناس. أخبرني بذلك من أثق بقوله. ويكون تخصيص زيارة قبورهما على القول بأن الميت هو الذي ينتفع زيادة رتبتهما على رتبة غيرهما, فاختصا بالخروج والسفر دون غيرهما من المؤمنين. وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور فإنما كان اول الإسلام حيث كانت الجاهلية تعظم القبور وربما عبدتها, فحصن عقائد المؤمنين بالنهي, فلما استقر الأمر أباح الزيارة. ذكر ذلك القاضي أبو الفضل عياض والقرطبي. وأما تخصيص زيارة ثبور القرابات في الأعياد فبدعة عظيمة إن كان الاعتقاد أن في ذلك اليوم زيادة على غيره من الأيام, وإن كان لتفرغه ذلك اليوم من اشغاله فوجد فرغة فلا بأس بذلك. نص عليه القاضي أبو الوليد بن رشد في جامع البيان في زيارة القرابة الأحياء في الأعياد وكذلك الأموات.
وسئل سيدي قاسم العقباني عمن جرت عادته بزيارة قبر الصالحين
[322/1] فيدعو هناك ويتوسل بالنبي عليه السلام وبغيره من الأنبياء صلوات الله على جميعهم, ويتوسل بالأولياء والصالحين ويتوسل بفضل ذلك الولي الذي يكون عند قبره على التعيين؟ وهل يجوز التوسل بعم نبينا أم لا؟
(1/418)
________________________________________
فأجاب يجوز التوسل إلى مولانا العظيم الكريم بأحبائه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وقد توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما, وكان ذلك بمشهد عظيم من الصحابة والتابعين, وقبل مولانا وسيلتهم وقضى حاجتهم وسقاهم. وما زال هذا يتكرر في الذين يقتدى بهم فلا ينكرونه, وما زالت تظهر العجائب في هذه التوسلات بهؤلاء السادات نفعنا الله بهم وأفاض علينا من بركاتهم. وورد في بعض الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ بعضَ الناس الدُّعاء فقال في أوله قُل: اللهم إني أُقسمُ عليك بنبيك محمد نبي الرحمة. فقال الإمام الأوحد عز الدين بن عبد السلام: هذا الخبر إن صح يحتمل أن يكون مقصوراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم, ولا يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء, لأنهم ليسوا في درجته, وأن يكون هذا إنما خص به نبينا على علو درجته ومرتبته انتهى.
قلتُ: جاء هذا فيمن يتعلق بالقسم على مولانا العظيم, لا فيما يرجع إلى التوسل إلى الله سبحانه, والله الموفق بفضله.
وسئل الأستاذ أبو سعيد بن لب: هل يشترط في حق المأمومين في صلاة الجنائز أن تكون الجنازة أمامهم؟ وذوكر بما وقع في تبصرة اللخمي حين تكلم على المشي مع الجنازة, وقوى القول بأن المشي أفضل, وضعَّف من وجه خلافه بكونهم شفعاء, فإن الشفاعة إنما هي في الصلاة خاصة.
فأجاب إن كلام اللخمي كاف في المسألة حيث قال: ولا خلاف أنه لا يجوز حين الشفاعة وهو وقت الصلاة أن يجعل الميت عن خلفه ويتقدم ويشفع(1) الخلاف, ولا يصح تقييد اطلاقه بالإمام, لأن مبناه على مسألة
[
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية: "هكذ هذا البياض بعدة نسخ. وانظر أوائل نوازل سيدي عبد القادر الفاسي".
(1/419)
________________________________________
323/1] المشي أمام الجنازة أو خلفها, ومسألة المشي تعم, إذ لا إمام فيها ولا مأموم. وقد جعل حال الصلاة هي حال الشفاعة, إذ لم تأت شفاعة في غيرها, وجاءت الأحاديث بشفاعة الجماعة المصلية على الجنازة: من صلى عليه أربعون شَفَعُوا فيه, ومَنْ صلى عليه مائة شفعوا فيه. ولم تر شفاعة الصلاة منوطة بالإمام وحده, فإذن لا فرق في استقبال الجنازة بين الإمام والمأموم. ولم ينقل من العمل ولا من الأقوال أن تكون الجنازة خلف المصلين عليها الإمام وغيره. وأورد بعض الناس شبهة في هذا بالصلاة على الغائب عند من يجيزها, فيلزمه تقديم المصلين عليها لإمكان حصول هذا المعنى عند غيبتها, لكن هذا حال ضرورة مع إمكان أن يكونوا خلفها فلا يلزم في موضع السعة وتعيين المتقدم. وقد كنت وقفت على اتفاق في المسألة ككلام الفخمي, لكني لم أعثر عليه الآن والسلام.
وسئل السرقسطي عما عليه الناس إذا توفي لهم احد يوقدون في البيت الذي توفي فيه مصباحاً سبعة أيام كل ليلة, فهل هذا من السنة او من البدع المضلة؟
فأجاب ما ذكر من ايقاد المصباح في البيت الذي يموت فيه الميت سبعة أيام بدعة منكرة يجب تغييرُها والنهي عنها.
وسئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله عن ثواب القراءة المهدى للميت, هل يصل أم لا؟ وهل يعلم الميت بالزائر أم لا؟
(1/420)
________________________________________
فأجاب أم ثواب القراءة فمقصور على القارىء ولا يصل على غيره, لقول الله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وقوله إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وقال تعالى: من عمل صالحاً فلنفسه والعجب من الناس من يثبت ذلك بالمنامات, وليست المنامات من الحجج الشرعية التي تثبت بها الأحوال, ولعل المرئي في ذلك من تخبيط الشيطان وتزيينه. ولا يجوز أهداء شيء من القراءات ولا من العبادات, إذ ليس لنا أن نتصرف في ثواب الأعمال بالهبات كما نتصرف في الأموال بالتبرعات. والظاهر أن الميت يعرف, لأنا أمرنا بالسلام عليهم, والشرع لا يامر بخطاب من لا يسمع. ولما وفد رسول الله صلى الله
[324/1] عليه وسلم على قليب بدر قال: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول: وقد ذهب بعض العلماء إلى أن أرواح الموتى بأفنية القبور, ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم يعذبون في قبورهم. والوقوف عند رأس الميت والاستغفار له مشروع.
[الإمام مالك لا تعجبه زيارة القبور]
وسئل مالك عن زيارة القبور للاعتبار.
فأجاب بأن قال ما يعجبني. فقيل له أنه يعتبر, فقال ما يعتبر؟ إنما يرى تراباً.
[ملك الموت وكيل بقبض كل روح مخلوقة]
وسئل ابن لبابة عن قول الله عز وجل كل نفسٍ ذائقة الموتِ.
فأجاب إن مَلَكَ الموت وكيل بقبض كل روح خلقها الله تعالى حتى الذرة والصؤابة, فلا تكن في شك من هذا.
وسئل أبو زرعة العراقي عن أرواح غير البشر من الملك والجان هل يقبضها عزرائيل أو غيره؟ وهل فيه اختلاف أم لا؟ وما القول في سائر ذوات الأرواح من الدواب والوحوش والطيور؟
فأجاب لا أعلم في ذلك شيئاً صريحاً, لكن ظاهر الحال أن الذي يتولى ذلك هو ملك الموت المعروف وأعوانه, وإنا لا نعلم للموت سوى مَلَكٍ واحد وأعوانه. فمن ادعى للموت ملكاً سواه في الملائكة والجن والبهائم فعليه بيانه, ومن جعله ملك الموت في كل معنى فقد تمسك بظاهر ما ورد في ذلك, مع أن الخواص في هذا بغير يقين تكلف مع عدم الاحتياج إلى معرفة ذلك.
(1/421)
________________________________________
[أين تكون الأرواح بعد الموت]
وسئل ابن برجان عن أرواح المؤمنين أين تكون بعد الموت وقبل يوم القيامة؟ فإن قلتم أنها في جنة المأوى كما قاله بعض العلماء, فهل أرواح
[325/1] عصاة المسلمين معهم أم لا؟ فإن قلتم أنها معهم فكيف يعاقبون بعد ذلك؟ وإن قلتم مع أرواح الكفار فأين فائدة الإيمان؟
فأجاب الحمد لله. ذكر ابن حبيب عن علمائنا أن المؤمن إذا دخل قبره تذهب روحه إلى عليين, وبها تجتمع أرواح المؤمنين, وهي على صورة طير بيض إلى يوم القيامة بالغداة والعشي, ثم تأوي إلى جنة المأوى في ظل إلى قناديل من نور معلقة بالعرش. وإنما سميت جنة المأوى لأن أرواح المؤمنين تأوي إليها. وأما أرواح الكفار والفساق فيذهب بها بعد فتنتها وعذابها إلى سجين, وهي صخرة عظيمة سوداء على شفير جهنم فيها تجتمع أرواح الأشقياء والفجار والكفار في أجواف طير سود تعرض على النار بالغداة والعشي إلى يوم القيامة. والأشقياء المذكورون مع الكفار هم الذين لا يعرفون جواب الحق عن سؤال الملكين في القبر. والله أعلم بذلك, وهو المسؤول ان يعيننا على الحق في المحيا والممات, إنه مجيب الدعوات.
وأجاب الفقيه أبو العباس أحمد بن عيسى البجائي فقال: أرواح العباد ومأواها على أربعة أقسام, أما أرواح السعداء غير الشهداء ففي عليين وهو موضع في الجنة, وأما أرواح من أراد الله انفاذ الوعيد فيه من العصاة ففي سجين مع أرواح الكفار. قال بعض الأشياخ وفي إلحاق العاصي بالكافر اشكال والله تعالى أعلم.
[مرض الصغار وموتهم ودخولهم الجنة]
وسئل الشيخ أبو عبد الله المسفر عما يصيب أولاد المؤمنين الصغار من شدة المرض ولزوم البكاء, لمن يكون ثوابه؟ هل للولد أو لأبويه؟ وهل يسأل الصغير في قبره كالكبير أم لا؟ وهل يدخلون الجنة ضغاراً كما ماتوا أم كباراً؟
(1/422)
________________________________________
فأجاب أما الثواب ففي من يكون له منهم خلاف. وظاهر حديث الموطأ ثبوت الثواب للطفل وللقيم عليه, فإنه جاء أن المرأة أخذت بضبع صبي كان معها فقال: ألهذا حج يا رسول الله؟ قال نعم, ولك أجر. وأما فتنة القبر في حق الطفل, فظاهر حديث أبي هريرة ثبوته قال صلى النبي
[326/1] صلى الله عليه وسلم على صبي لم يعمل خطيئة قط فسمعته يقول: اللهم اعفُ عنه وعافه من فتنة القبر. وظاهر ما في مسلم يقتضي أن الأطفال الصغار في الجنة حيث قال أبو هريرة في حديث ابن حيان: صغارهم دعاميصُ الجنة, يلقى أحدُهُم أباه أو قال أبويه فيأخذُ بثوبه أو قال بيده كما آخذُ أنا بصنيفة ثوبك هذا, فلا يتناهى أو قال حتى يُدخلهُ الجنة. ودعاميص الجنة صغارهم. وقيل في وقله تعالى: يطوف عليهم ولدان مخلدون أن الولدان صغار المؤمنين.
وسئل الخطيب المواق عمن لم يعقل من الصغار هل يسألون في قبورهم أم لا؟
فأجاب قال البلالي ولا يلقن الطفل, فظاهره أنه لا يسأل.
[الأطفال إذا ماتوا يجتمعون بآبائهم في المحشر والجنة]
وسئل غيره عن الأطفال إذا ماتوا, هل ياتون إلى الدور والقبور ويجتمعون مع آبائهم في المحشر وفي الجنة إن كان ورد في هذا نصٌّ أم لا؟
(1/423)
________________________________________
فأجاب قال ابن يونس عن ابن حبيب: وأرواح المؤمنين خاصة تطلع قبورها ومواضع أجسادها, وقد صارت الأجساد رميماً ذاهبة وراجعة, ثم تأوي إلى جنة المأوى تكرمة من الله تعالى لها. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسليم على القبور وزيارتها انتهى. وهذا عام في الأطفال وغيرهم والله أعلم. وقد جاء ما يدل على أنهم مجتمعون مع آبائهم في الجنة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مُسلمين يَمُوت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله بفضل رحمته إياهم الجنة. قال يقال لهم ادخلوا الجنة, فيقولون حتى يدخل آباؤنا فيقال ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم. ففي هذا دليل أنهم يجتمعون مع آبائهم في المحشر وفي الجنة.
وسئل المواق عن السابع الذي يعمل للميت ويحضره القراء وغيرهم من الرجال ويحضره النساء ويجلسن قريباً من الرجال, فهل يمنعن من الحضور مع
[327/1] الرجال؟ أم يؤمرن أن يجلسن بعيداً من الرجال؟ بينوا لنا ذلك مثابين مأجورين.
فأجاب كا سيدي أبو القاسم ابن سراج رحمه الله يقول: بدعة الضلالة أن يحكم على حكم من أحكام الشريعة بغير حكمه, فلا فرق بين من يقول عن المباح مستحب أو واجب, أو يقول عنه مكروه أو حرام. والفلاح كله منوط بالوقوف عند حدود الله, ومن يتعد حدود الله فكما قال سبحانه. والصفة المذكورة مباحة بدليل أن رسول الله صلى اله عليه وسلمأمر العواتق والحيض وذوات الخدور يخرجن في الفطر والأضحى في صحيح مسلم. فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. وقصارى مدرك المفتي في مسألة السابع ان يقول هو مباح, ومن تركه وفعل خيراً منه فهو سابق بالخيرات, وإن تركه ولم يفعل خيراً منه فهو ظالم لنفسه.
وسئل ابن لبابة عن الذي يموت وهو معروف بالفسق والشر أَأُصَلِّي عليه وأحضر جنازته؟
فأجاب لا, دعه لغيرك إلا أن يلزمك ذمام الصلاة, وإنما يرغب في شهود جناوة الصالحين.
[
(1/424)
________________________________________
تُقرأ سورة يس عند الاحتضار, لا عند الغسل والدَّفْن]
وسئل أبو اسحاق الشاطبي عن سورة يس بالجمع عند غسل الميت.
فأجاب إن في تلك القراءة ما في قراءة الحزب, وتزيد بأنها قراءة القرآن في موضع إزالة الأقذار والأوساخ التي يُنزَّهُ القرآن عنها, ويكفي المؤمن أنه لم يكن من عمل السلف, وإنما جاء في قراءة يس ما جاء عند الاحتضار لا عند الغسل ولا عند الدفن ولا غيرهما.
وسئل أيضاً عن تصبيح القبر سبعة أيام بعد الدفن. هل يثبت ما نقل فيه أنه كان معمولاً به عند السلف؟ وهل تجوز قراءة القرآن على القبور بالجمع كما يفعله الناس اليوم؟
[328/1] فأجاب إن تصبيح القبر هو يسمى في القديم المأثم. قال الطرطوش فأما المأثم فممنوعة بإجماع العلماء. والمأثم هو الاجتماع في المصيبة, وهي بدعة منكرة, ولم ينقل فيه شيء, وكذلك ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث والرابع والسابع والشهر والسنة, فهو طامَّة. قال وقد بلغني عن الشيخ أبي عمران الفاسي, وكان من أيمة المسلمين, أن بعض أصحابة حضر صبحة(1) فهجره شهرين وبعض الثالث حتى استعان الرجل عليه فقبله وراجعه. قال وأظنه استتابه ألا يعود. وقد حكى عياض الرخصة فيه عن أهل القيروان بعد أن أشار إلى أن ذلك بدعة لم تكن في السلف. وأنت ترى ما حكى عن أبي عمران الفاسي وهو من أكابر أهل القيروان, فالله اعلم بصحة ما نقله عياض. وكذلك ما حُكِي عن ابن طاوس عن أبيه لا يثبت والله أعلم. واما قراءة القرآن على القبور جميعاً هو نحو ما تقدم. والله أعلم. وأما قراءة القرآن على القبور جميعاً هو نحو ما تقدم.
وسئل ابن عتاب عمن أقرت بدين وأوصت به لقوم وأوصت أنهم يأخذونه بغير يمين وأوصت أن يضرب على قبرها خباء ويقرأ القرآن على قبرها بأجرة ذكرتها.
__________
(1) في نسخة: أن بعض أصحابه صبَّحة.
(1/425)
________________________________________
فأجاب إقرارها بالدين جائز ويكون للموصى له بلا يمين وهو قول ابن القاسم. وقال غيره بيمين لأن الحق لغير الميت. واختلف في ضرب القبة والخباء على القبر فاجازه قوم وكرهه ىخرون, وأرى إنفاذ الوصية لاختلاف العلماء. ابن سهل وهو عندي خلاف لما في سماع عيسى فيمن أوصى بنائحة تقام عليه أنه لا يجوز, ولا فرق بينهما انتهى.
قال بعض الشيوخ هذا ضعيف, قال ابن عتاب وما عهدت به للقاري على قبرها نافذ كالاستيجار على الحج, وهو رأي شيوخنا, بخلاف وصيتها بمال لمن يصلي عنها او يصوم.
وسئل ابن لب عن البناء على المقابر.
فأجاب وأما مسألة البناء على القبر بناء مسجد أو صومعة فقد قال مالك في مقبرة داثرة فيها مسجد فيه لا بأس به, وإنما أباحوه في الداثرة
[329/1] دون الجديدة, لأنه يخاف في الجديدة نبش العظام وذلك لا يجوز, فإن أُمِن من ذلك بأن يكون فوق القبور دون حفر يصل إلى مواضع العظام فذلك جائز. وما في الحديث من النهي عن اتخاذ القبور مساجد فإن ذلك مخافة أن تعبد القبور كما كان اتفق لمن سلف قبل هذه الأزمنة, فلا حرج إلا من ناحية نبش القبور خاصة. ابن الحاج في مدخله: اتفق العلماء رحمة الله عليهم أن الموضع الذي دفن فيه المسلم وقف عليه ما دام منه شيء موجوداً فيه حتى يفنى, فإذا فني حينئذ يدفن غيره فيه, فإن بقي شيء من عظامه فالحرمة قائمة لجميعه, ولا يجوز أن يحفر عليه ولا يدفن معه غيره ولا يكشف عنه اتفاقاً, إلا أن يكون موضع قبره قد غصب. وقد امتن الله بذلك في كتابه العزيز حيث يقول ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً, فالستر في الحياة ستر العورات, وفي الممات ستر جيف الأجساد وتغير أحوالها, فكان البنيان في القبور سبباً إلى خرق هذا الاجماع, وانتهاك حرمة موتى المسلمين في حفر قبورهم والكشف عنهم.
[انتقاد الونشريسي نبش القبور بتلمسان بعد انتقاله إلى فاس]
(1/426)
________________________________________
قلتُ: من هنا نتعلم أن ما وقعت به الفتوى بتلمسان سنة ست وسبعين من إباحة حفر القبور ونبشها لإنشاء سور أو برج مكانها مع عدم الضرورة الملجئة لذلك خطأ صراح, ولا يحل ولا يباح(1).
وسئل سيدي أبو عبد الله محمد بن مرزوق عن مقبرة لها ثمانون سنة وأزيد, وإذا حفر فيها لميت توجد بعض عظام الموتى, فهل يجوز الدفن فيها أم لا؟ وهل حد أهل العلم في ذلك حداً أم لا؟
فأجاب أما امقبرة فلا يجوز تغييرها أبداً. وما وقع في طرر ابن عتاب من حرثها بعد سنين سماها فليس بالقوي, مع احتمال للتأويل عندي, واتلله أعلم.
قلتُ: ونص ما في الطرر من كتاب الاستغناء: أخبرني بعض الشيوخ عن وهب أن المقبرة تحرث من العشر سنين فصاعداً إذا ضاقت عن الدفن فيها. وقال غيره لا يجوز لأحد أخذ حجارة المقابر العادية, ولا تزال عنه لأنه حق لأهلها, ولا ينشأ بها قنطرة ولا مسجد ولا يكشف عنها. وعلى هذا
[330/1] المعنى لا يجوز حرثها, لأن في ذلك تبديلها وتغييرها لأنها من الأحباس لا تغير. وقال بعد هذا: وما حرث مما عفي من المقابر أو مما لم يعف بالكراء, ويجعل ذلك في أكفان الفقراء والمساكين وحفر قبورهم. فانظره. انتهى.
[حمل تراب المقابر للتبرك]
وسئل أحمد بن بكوت عن تراب المقابر الذي كان الناس يحملونه للتبرك هل يجوز أو يمنع؟
فأجاب هو جائز ما زال الناس يتبركون بقبور العلماء والشهداء والصالحين. وكان الناس يحملون تراب سيدي حمزة بن عبد المطلب في القديم من الزمان. فإذا ثبت أن تراب قبر سيدنا حمزة يحمل من قديم الزمان, فكيف يتمالأ أَهْلُ العلم بالمدينة على السكوت عن هذه البدعة المحرمة؟ هذا من الأمر البعيد.
قلتُ: من هذا القبيل ما جرى عليه عمل العوام في نقل تراب ضريح الشيخ أبي يعزى وتراب ضريح الشيخ أبي غالب النيسابوري للاستشفاء من الأمراض والقروح المعضلة.
__________
(1) قد يكون مثل هذا الانتقاد من أسباب غضب ملوك تلمسان على الونشريسي وخروجه إلى فاس.
(1/427)
________________________________________
وسئل أبو علي القوري عنها(1).
فأجاب إن خشي أن يكون خالطه أجزاء من الميت فهو نجس, وإلا فالتبرك في الحقيقة إنما هو باستعمال ما كانوا عليه من الأوصاف الدينية واستعمال الأمور الشرعية. وقد رأى الحسن البصري الناس يزدحمون على جنازة رجل صالح, فقال تزدحمون على نعشه ولا تزدخمون على عمله.
وسئل أبو عبد الله المواق عن مقبرة قديمة داثرة أتى عليها السيل ودثرت هل يجوز حرثها وازدراعُها أم لا؟ فإن كان يجوز ففيم يصرف فائدها؟
فأجاب قد قيل بجواز حرثها ويجعل كراؤها في مؤنة دفن الفقراء, وقد يترجح هذا القول في النازلة أعلاه لأجل تغطيتها بالسيل.
وسئل عن الجنازة يكون الإمام قد كبر تكبيرتين أو ثلاثاً ومن ساق
[331/1] جنازة أخرى, هل يُجزئُها ما أدرك من التكبير. أو يبتدىء بعد صلاة أخرى؟
فأجاب لابد أن يبتدىء الصلاة على هذه الجنازة التي سبقت بعد أن كبر على غيرها, وكذلك أيضاً إذا كانت جنازة محجوبة عنه لم يرها حتى شرع في الصلاة فإنه ينوي التي رأى, فإذا سلم استأنف الصلاة على غيرها.
[قراءة القرآن وإهداؤه للميت]
وسئل الأستاذ أبو عبد الله الحفار عن قراءة الإنسان القرآن ويهديه للميت.
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية: "في بعض النسخ "القروي".
(1/428)
________________________________________
فأجاب هذا على قسمين: أحدهما أن يقرأ الإنسان وينوي أن تكون القراءة عن الميت, ويكون القارىء نائباً في القراءة. فهذا القسم الصحيح أن يكون الميت لا ينتفع بالقراءة. والقسم الثاني أن يقرأ لنفسه ويهب الثواب الذي يؤتيه الله على القراءة يهب ذلك الثواب للميت, فهذا القسم على هذا الوجه ينتفع به الميت. فإذا قرأ الإنسان على هذا الوجه ووهب الثواب للميت وصل ذلك للميت وانتفع به إن شاء الله تعالى. الأبي: رأيت لبعضهم أن القارىء للغير عن صرح أو نوى قبل قراءته أن ثواب قراءته للغير كان ثوابها للغير, وإن كان إنما نوى الثواب بعد القراءة فإنه لا ينتقل, لأن الثواب حصل للقارىء, والثواب إذا حصل لا ينتقل. وهذا المذهب هو الذي كان يختار الشيخ. فهذه الوقاف والتحابيس على القراءة على الغير على القول بالانتقال الأمر فيها واضح وأما على عدم الانتقال فثواب القراءة الحرف بعشر للقارىء, وللمحبس ثواب اعانته والتسبب في ذلك لحديث المُعين على الخير كفاعله. وقال أيضاً وانظر ثواب الايقافات على من يقرأ القرآن لمن يكون ثواب القراءة على ما جاء أن الحرف بعشر حسنات لمن تكون العشر, هل للقارىء أو للمحسن؟ فكان الشيخ أبو عبد الله بن عرفة رحمه الله يقول هما شريكان في ذلك, ولا يبطل ثواب القارىء لكونه يقرأ بإجارة, وهما في ذلك بمنزلة رجل استأجره قوم أن يؤمهم, فإن فضل الجماعة مشترك بين الجميع, وأظنه أنه كان يقول قبل هذا أن العشر للقارىء, وللمحبس ثواب الاعانة على الخير. وقال أيضاً وانظر ما يتفق من الايقافات على اجتماع القراء لقراءة الحزب مضى العمل ببلد إفريقية عليه وعلى تنفيذ الوصية به. وقد فعله الشيخ لنفسه
[
(1/429)
________________________________________
332/1] ولزوجته, واختلف جوابه لمن يكون ثواب التلاوة التي في الحرف بعشر, فقال مرة هو للقراء, وإنما يكون للمحبس الاعانة على قراءة القرآن وثواب التسبب في إدامة حفظ القرآن. وكان رحمه الله أراد ادخال بعض القراء في قراءة الحزب للذي أوصت به زوجته فاعتذر له ذلك القارىء بأنه كان ألزم نفسه أن ثواب كل ما يقرأ من القرآن لوالته فقبل عذره. وكان قبل هذا يقول أن الثواب في ذلك إنما هو للمحبس, والأمر في ذلك والله أعلم على الخلاف في انتقال ثواب القراءة انتهى. وقال المنثوري حدثني شيخ شيوخي أبو سعيد بن لب رحمه الله قال, خطر لي خاطر خير, والعاصي قد يخطر له خاطر خير, فأردت أن أجعل على نفسي وظيفة من ذكر أو تلاة وترددت في أي أفضل, فأنشدت في النوم:
إذا الأحباب فَاتُهَمُ التلاقي ... فلا صِلةٌ بِأفضلَ من كتاب
(1/430)
________________________________________
فلما استيقظت علمت أن قراءة القرآن أفضل. وقال أيضاً حدثني الأستاذ ابن عمر عن الأستاذ أبي الحسن القرطبي عن الرواية أبي عمر بن حوط الله عن القاضي أبي الخطاب عن أبي القاسم بن بشكوال عن أبي محمد بن يربوع عن أبي محمد الخزرجي قال, أخبرني أبو عبد الله القروي(1) في المسجد الجامع بقرطبة قال: كنت بمصر فأتاني نعي أبي, فوجدت عليه وجداً شديداً, فبلغ ذلك الشيخ أبا الطيب بن غلبون المقري فوجه لي فأتيته, فجعل يصبرني ويذكر لي ثواب الصبر على المصيبة والرزية ثم قال لي: ارجع إلى ما هو أعود عليك وعلى الميت من أفعال البر والخير, مثل الصدقة وما شاكلها. وأمرني أن أقرأ عنه قُل هُو اللهُ أحدٌ عشر مرات كل ليلة ثم قال لي أحدثك في ذلك بحديث, قال كان رجل معروف بالخير والفضل, فرأى في منامه كأنه في مقبرة مصر وكأن الناس نشروا من قبورهم وكأنه مشى خلفهم ليسألهم عن الشيء الذي أوجب نهوضهم إلى الجهة التي توجهوا إليها, فوجد رجلا على حفرته قد تخلف عن جماعتهم, فسأله عن القوم إلى أين يريدون, قال إلى رحمة جاءتهم يقتسمونها, فقال له فهلا مضيت معهم, فقال أني قنعت بما
[
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية: "في نسخة: القوري". ولعله الصواب.
(1/431)
________________________________________
333/1] يأتيني من ولدي عن أن أقاسمهم فيما ياتيهم من المسلمين. فقلت له: وما الذي يأتيك من ولدك؟ فقال يقرأ قُل هُو اللهُ أحدٌ كل يوم عشر مرات ويهدي إلي ثوابها, فذكر الشيخ ابن غلبون لي أنه منذ سمع هذه الحكاية كان سقرأ عن والديه قُل هُو اللهُ أحدٌ في كل يوم عشر مرات عن كل واحد منهما, ولم يزل بهذه الحالة إلى أن مات أبو العباس الخياط, فجعل يقرأ عنه كل ليلة قُل هُو اللهُ أحدٌ عشر مرات ويهدي ثوابها إليه. قال الشيخ ابن غلبون فمكثت على هذه النية مدة ثم عرض لي فتور قطعني عن ذلك, فرأيت أبا العباس في النوم فقال لي يا أبا الطيب لم قطعت عنا السكر الخالص الذي كنت توجه به إلينا؟ فانتبهت من منامي وقلت الخالص كلام الله عز وجل, وإنما كنت أوجه ثواب قُل هُو اللهُ أحدٌ, فرجعت أقرأها عنه رحمه الله انتهى.
(1/432)
________________________________________
وفي نوازل ابن رشد: إذا قرأ الرجل ووهب ثواب قراءته لميت جاز ذلك وحصل للميت أجره وحصل له نفعه. وقال القرافي في الفرق الثاني والسبعين والمائة: مذهب أحمد بن حنبل وأبي حنيفة أن القراءة يحصل ثوابها للميت إذا قرأ عند القبر حصل للميت أجر المستمع. والذي يتجه أن يقال لا يقع فيه خلاف أنهم يحصل لهم بركة القرىن لا ثوابه, كما تحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده. والذي ينبغي للإنسان ألا يهمل هذه المسألة, فلعل الحق هو الوصول إلى الموتى, فإن هذه أمور مغيبة عنا وليس عنا وليس فيها حكم شرعي, وإنما هو في أمر واقع هل هو كذلك أم لا؟ وكذلك التهليل الذي جرت عادة الناس يعملونه اليوم ينبغي أن يعمل, ويعتمد في ذلك على فضل الله تعالى وما يسره, ويلتمس فضل الله بكل سبب يمكن ومن الله الجود والاحسان. وقال بعضهم: ومن البدع البناء على القبور وتجصيصها وشد الرحال إلى زيارتها. وقال عليه السلام: إذا طُيِّن القَبرُ لم يسمع صاحبه الآذان ولا الدعاء ولا يعلم من يزوره, فلا تُطيِّنوا قبور موتاكم, دعُوهُم يسمعون الذِّكر. ولا يزال تُراب القبر يُسبح الله مالم يُطيِّن القبرُ كُلَّ يوم عشر مرات حتى يُغفر لصاحبه. ابن عبد البر: كل عبادة أو زيارة أو رباط أو غير ذلك من الطاعة
[
(1/433)
________________________________________
334/1] غير الصلاة فإنه يلزمه الاتيان إليه. وحديث لا تُعمَلُ المَطِي مخصوص بالصلاة. وأما زيارة الأحياء من الإخوان والمشيخة ونذر ذلك والرباط ونحوه فلا خلاف في ذلك, والسنة تهدي إليه من زيارة الأخ في الله والرباط في الأماكن التي يرابط فيها. وتوقف بعض الناس في زيارة القبور وآثار الصالحين, ولا توقف في ذلك كأنه من العبادات غير الصلاة, ولأنه من باب الزيارة والتذكر لقوله زُورُوا القبور تُذكِّركُم الموتَ. وكان صلى الله عليه وسلم يأتي حراء وهو بمكة, ويأتي قباء وهو بالمدينة, والخير في اتباعه صلى الله عليه وسلم واقتفاء آثاره قولا وفعلا, لاسيما فيمن ظهرت الطاعة فيه انتهى.
[إخراج الميت الصالح بالزغاريد]
وسئل بعض التونسيين عن إخراج الميت الذي يظن صلاحه بالولاول والتزغريت(1).
فأجاب بأنه بدعة ينبغي أن يأمر بقطعها من يمتثل أمره, ولم يثبت فيما علمت قول يقال عند الخروج بالجنازة كان السلف الصالح يستعملونه.
[صنع الفخار من تراب القبور]
وسئل بعض الأفريقيين عن الذي يصنع الفخار من تراب القبور.
فأجاب لا يحل ذلك ولا يستعمل الفخار, وأن باع من ذلك شيئاً وفات وجب فسخه, ويرد الثمن إن علم المشتري, وإلا تصدقق به.
[كيف يدعي لولد الزنى]
وسئل أبو عمران كيف يدعى لولد الزنى؟
فأجاب يدعو لوالدته, فيقال اجعله لها سلفاً وذخراً وفرطاً وأجراً, ويكون كذلك ويشفع لها في الآخرة وليس عملها مما يزيل عنه حكم
[
__________
(1) التزغريت: تصحيف شعبي للفظ" زغردة" الفصيح, وتحريف لمعناه كذلك, إذ هو في الأصل هدير يردده الفحل في حلقه, بينما يطلق عندنا- كالولاول- على هدير خاص تردده النساء عند الفرح.
(1/434)
________________________________________
335/1] الولادة. ألا ترى أنه ينفق عليها في حياتها وترثه؟ ألا ترى أن من الناس من يقول ترث ماله كله وهي أولى من العصبة؟ فهو ولدها على كل حال انتهى. وكان ابن عرفة رحمه الله يقول: أنه يدعى لأبويه معا, لأن امور الآخرة مبنية على الحقائق, وأمور الدنيا محمولة على الظاهر.
[يدعى الناس يوم القيامة بأمهاتهم]
وسئل أيضاً هل يدعى العباد يوم القيامة بأمهاتهم أو آبائهم؟
فأجاب قد جاء أنهم يدعون لأمهاتهم لئلا يفتضحوا, وما يصح ذلك. قيل يريد الصواب أن يدعوا بآبائهم لجري الأحكام كلها على ذلك من جميع ما يتعلق بالنسب والله اعلم.
[القراءة في أجزاء القرآن في صباح القبر]
قيل وما أحدث من القراءة على القبر والتكرر إليه وجرت عادة المتأخرين من القرويين وغيرهم برفع ختمة ذات أجزاء في اليوم الآخر من مدة التكرر إليه في جدث(1) الدفن, ويأخذونها أجزاء ويقرأونها. كان الشيخ أبو الحسن العبدلي ينكر ذلك ويقول أن الجمع لا يخلو من محدث أو جنب فيمس أجزاء القرآن وهو كذلك إما جهلاً أو جرأة. ويقول: أصل مذهب مالك أنه لا ينتفع بعمل الأبدان, وهذا منه. ابن حبيب: ضرب الفسطاط على قبر المرأة أجوز منه على قبر الرجل, وضربه ابن الحنفية على قبر ابن عباس وأبقاه عليه ثلاثة أيام, وفعلته عائشة على أخيها عبد الرحمان فأمر ابن عمر بنزعه وقال إنما يظله عمله. وذكر ابن الرقيق أن الفساطيط ضربت على قبر ابن سحنون وبقيت حتى هجم على الناس الشتاء, ولم يذكر أنه أنكره أحد, وهذا اشد مما روي في قبر ابن عباس.
[للمؤمن في شدة الموت أجر]
وسئل الأستاذ أبو عبد الله الحفار هل مع المؤمن في شدة الموي أجر وهل يرى الميت قرابته أم لا؟
[
__________
(1) في نسخة: في حدث.
(1/435)
________________________________________
336/1] فأجاب الذي قال أن شدة المرض من كثرة الذنوب قول جاهل يتكلم في العلم بما يظهر له, فيقع على أم رأسه. قالت عائشة رضي الله عنها لا أكره شدة الموت لأحد بعد ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أصابه شدة في مرضه الذي توفي منه. ويقول ذلك الجاهل ما قال. وقال العلماء أن الله يشدد المرض على بعض العباد فيكون ذلم كفارة له حتى يلقى الله وقد غفر له. وأما لقاء الأموات والقربات بعضهم لبعض, فإن كانوا من أهل السعادة يتلاقون, ومن يكون منهم على غير استقامة فيذهب به عنهم ولا يتلاقى معهم حسبما ثبت في الحديث. ابن العربي في العارضة: الباري سبحانه وتعالى بقرته وحكمته يخفف اخراج الروح من الجسد ومفارقتها له ويشددها بحسب ما يكون عنده من أحوال العبد, فتارة يشددها عذاباً وذلك على الكافر, وتارة يشددها كفارة وذلك على المذنب, وتارة يشددها رفعة في الدرجات وزيادة في الحسنات وذلك في الولي, وتارة يشددها حجة على الخلق وتسلية وقدوة وأسوة كما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الموت انتهى.
[منكر ونكير]
وسئل القاضي أبو عبد الله بن عبد المؤمن عن منكر ونكير هل هما عدد كثير سميا بذلك الاسم؟ أو ليس هما إلا ملكين وهب الله لهما القوة يطوفان أقطار الأرض كلها ويقفان على كل ميت ويسألنه في قبره؟
فأجاب أما منكر ونكير فهما شخصان هائلان مهيبان عليهما الصلاة والسلام, يقعدان الميت في قبره سويا ذا روح وجسد فيسألانه عن التوحيد والرسالة, أعطى لهما الله سبحانه وتعالى تلك القوة كما أعطاها لملك الموت على أنه قد قيل أن له أعواناً.
[كراهة النداء على جنازة الغريب]
وسئل سيدي عبد الله العبدوسي رحمه الله عن النداء على جنازة الغريب والإعلام بها, هل هو مكروه أو حرام؟ وما حكم القراءة بين يدي الجنازة؟ وكذلك ما يفعله الفقراء من الذكر أمامها.
[
(1/436)
________________________________________
337/1] فأجاب أماتنا الله وإياكم على السنة والاسلام, ببركة نبيه عليه السلام. أما النداء على جنازة الغريب بغريب فبدعة, بل النداء على الجنازة بالمسجد بدعة منكرة. ولا عبرة باستمرار عمل الناس عليها في المساجد العظيمة, ويجب المنع من ذلك لمن قدر عليه. وكذلك يجب قطع الفقراء من الذكر أمامها على ما جرت به العادة لأنه بدعة ومباهاة وربما ذكروا الجليل جل جلاله في موضع نجس يمزون به. ويقال لولي الجنازة ما تعطيه للفقراء تأثم عليه أعطه للمساكين صدقة عن وليك الميت فذلك أنفع وأبقى لكما إلى الآخرة. ونبه الناس على أن الفرض على الجنازة تباعة في الذمة, لأن الناس أو أكثرهم لا يحضرون إلا حياء أو تقية, بل يعرفون بالموت, فمن سهل عليه حضر. وكذلك صباح القبر المعهود اليوم بدعة محرمة, والميت مطالب بهذا كله إن لم ينههم عن تركه, وكذلك ما يجعلونه من الأقنعة والثياب الصقلية على قبة نعش النساء فهو من باب المباهاة والفخر فهو ممنوع, والجنازة على الاعتبار والتذكير والاستبصار والاقبال على أمر الآخرة. وكان السلف الصالح رضي الله عنهم يبكون ويحزنون حتى لا يدري الغريب بينهم ولي الميت من غيره, والله في(1) محاسبة الأحباس فأنت المطالب بها والمسؤول عنها, وقد ضاق الكاغد فضاق الجواب, والله سبحانه ولي التوفيق.
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية: "بياض بقدر كلمة".
(1/437)
________________________________________
قلتُ: قال محيي الدين النووي: في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَعَىَ النجاشِيَّ إلى أصحابه. وروينا في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ميت دَفَنُوه باللَّيل ولم يَعلَمِ به: أفلا كُنتُم آذنتُمُوني به. قال العلماء المحققون والأكثرون من أصحابنا وغيرهم: يستحب إعلام أهل الميت وقرابته وأصدقائه لهذين الحديثين. قالوا والنعي المنهي عنه غنما هو نعي الجاهلية, وكان عادتهم إذا مات منهم شريف بعثوا إلى القبائل راكباً يقول ناعياً فلان او ناعياً العرب, أي هلكت العرب بمهلك فلان, ويكون مع النعي ضجيج وبكاء. وذكر صاحب الحاوي من أصحابنا وجهين لأصحابنا في اتحباب الانذار بالميت وإشاعة موته بالنداء والإعلام, فاستحب ذلك للميت القريب لما فيه من كثرة المصلين عليه والداعين
[338/1] له. وقال بعضهم يستحب ذلك للغريب ولا يستحب لغيره. قال والمختار استحبابه مطلقاً إذا كان مجرد إعلام انتهى. وقال في المعلم: النعي بسكون العين الإخبار بموت الميت: واختلف في الإخبار بالموت, والحديث حجة للمجيز, وحملوا النهي على نعي الجاهلية, وهو ما صحبه صراخ وما كانوا يفعلونه, كانوا إذا مات فيهم شريف بعثوا راكباً ينعاه في القبائل, فنهى الشرع عن ذلك, وكرهه حذيفة وابن المسيب وبعض أصحاب ابن مسعود.
وقال حذيفة لا تخبروا بي احداً فإني أخاف أن يكون نعياً. وكره مالك الإعلام به على أبواب المساجد وفي الأسواق ورىه من النعي انتهى. ابن بزيرة: ويجوز الإعلام بالجنازة دون رفع الصوت إجماعاً, واختلف فيه برفع الصوت, فكرهه مالك واستحبه ابن وهب. ويتفق بتونس أن ينادى في الأسواق عن موت رجل من الصالحين, فرآه ابن بزيرة وابن عرفة من النعي. وقال بعض الشيوخ الظاهر أنه ليس منه, وهو وإن كان بدعة لكن لمصلحة شهود الصلاة عليه والتبرك به وبآثاره انتهى.
[حمل الطعام لمن مات له ميت]
(1/438)
________________________________________
وسئل الشيخ أبو الحسن القابسي عن الرجل يموت له الميت فيرسل إلى القريب منه فيأتيه ناس فيعمل أهل القرية قصاعاً بطعام.
فأجاب ما أعرف لهذا العمل سنة وما أحب الأكل منه, وما أدري هل يضيق أكله على الناس والله أعلم. ولعله أيضاً لا يقدر أحد من أهل القرية يتخلف عن العمل من قبل أنه إن تخلف يسب ويؤذى فيصير عمله من باب التقية والذب عن نفسه, فإن كان هكذا فهو أشد.
[تسبيح القبور]
وسئل عن تصبيح القبور.
فأجاب بأن قال: ما معنى هذا ؟ فقيل أن قوماً يقولون انه بدعة. فقال أهؤلاء القوم إذا كان عندهم يحضرون, قيل نعم ؟ فقال هذا كلام لغير الله. قيل له سمعناك تذكر انه أحدث من سنة سبع, فهل رأيت أحداً من العلماء يحضره؟ فقال أما أبو محمد بن أبي زيد فقد كان يحضره ويحضر له حتى جلس
[339/1] بعد في الدار. قال وأما حضر (كذا)(1) فقد كانوا يحضرون النِّعالي وغيره, وما سمعت فيه نكيراً. قيل له فالطعام الذي يعمل الناس في الجنائز ليلة الثالث؟ فقال لعمري أنه بشيع. قال وأما ابن التبان في جنازة امه فلم يكن يخرج لصباح القبر إنما كان يجلس حتى إذا انقضى الناس عنه قام فمضى هو ومن يختص به. قال الشيخ وبتنا عنده ليلة الثالث وعمل الناس الطعام وفرق الشوى على الناس تلك الليلة.
قال الشيخ وماتت أم بني صدور المشائخ, فلما كان صباح قبرها أتي شيخ إلى الشيخ أبي اسحاق السبائي فجعل يصف له جميع من حضر عندهم, فقال سبحان الله نعم يا أخي يقضي ذمام المؤمنين, ويرى عند المخالفين أن المؤمنين يغني(2) بعضهم ببعض.
__________
(1) في هامش النسخة المطبوعة: "في بعض النسخ بياض في محل اللفظة التي جعل عليها كذا".
(2) في نسخة: يصبر.
(1/439)
________________________________________
قيل للشيخ أبي الحسن: قيل عنك أن رجلا أتاك فقلت له لِمَ لَمْ تحضر صباح قبر فلان عند رجل فقير؟ فقلت أنت له لو كان رجلا غنياً مضيتم, فأما إذ هو فقير فلا تمضوا, ثم أمرته بالسير, فقال ما نذكر هذا, ثم قال وما يدخل في السير إلى الفقير هو إلا زيارة ليس في الفقير ذمام. ولما قال الشيخ هذا قال لولا أنهم يدخلون فيه أشياء يجتمع الناس عند الدار ويقعدون, فما فهمت عنه تصريح كراهة. قال الشيخ ولم أسمع بالمشرق فيه نكيراً. قال وأما أهل بلدنا فكانوا ينكرونه.
وسئل عن مقبرة قديمة تدارس قبورها فوثب عليها رجل بجانبه لها حائط فأدخل بعضها في حائطه وغرس أشجاراً فيه وزرعه.
فأجاب بأن قال: عليه أن يقلع الأشجار ويرد البقعة إلى ما كانت لجماعة المسلمين, وما انتفع به فيما مضى إنما عليه في ذلك كراء البقعة كم تساوي بالدراهم, فيتصدق بتلك الدراهم.
وسئل عن رجل يحجر في مقبرة المسلمين بالبناء على موضع ليدفن فيه من يموت له, ثم يريد بعد ذلك هدم ما بنى وبيع حجره, وربما مات بانيه
[340/1] ولا يسمع منه شيء فيريد ولده من بعده بيعه, وربما تطاول إلى بيع ذلك الحجر ولد الولد, فهل يجوز لمن طلب بيع ما ذكرناه من البناء من بانيه أو وارثه ؟ وهل يجوز تحجير المقابر في مساقي المراجل المتخذة للمسلمين في أفنية المدينة؟ وهذا الباني قد ترك في الحيطان كوة يخرج منها المجتمع من الماء في ساحة الحجر عليه حتى يصل إلى المدخل.
(1/440)
________________________________________
فأجاب أما التحجير على القبور فصواب(1), فكيف بالتحجير على الأمكنة في القبور؟ ليس بوجبها لمحجرها لو احتاج إلى الدفن فيها من لم يحجر عليها ما منعه من ذلك تحجير من حجر عليها. ليست أرض المقبرة أرض موات تكون لمن يحييها بقطيعة من السلطان فيما قرب منها, أرض المقبرة قد صارت عدة للموتى فليس لأحد ان يحجر فيها شيئاً حتى يحتاج إليه, ففي حين الحاجة تكون أولى بدفنه منها. هذا وجه الحق والصواب. وإذا نزع الباني نفسه ما قد بناه فكذلك يؤمر, إذا مات وقد أبقاه مبنياً فأي طاعة لله في بقائه؟ فينفذ فيها ما طريق ما شيد من ذلك إلا طريق الفخم والتفخيم, فأي فائدة فيها؟ وأما الميت فلا منفعة له فيه.
فإن قيل يحجره عن المارة. قيل له فمن أين له؟ أفي ربعه أم في ربع واهب له؟ ما حكمه إلا حكم العامة. وقد يستحق من ذلك سِتْراً من الشمس في حين جلوس زوّار القبور عندنا بفنائها ببناء لا بقاء له وأنقاض لا قيمة لها. فأما في زماننا هذا فما الصواب إلا أن تبقى القبور واضحة لا ستارات لها ولا جدار قائم, ولا خير في(2) وراء القبور من الرجال والنساء بشيء من البناءات إلا كحكمهم فيما توهم بينهم أن له أن يعمل فيه عملاً لينتفع به غيره, فاستحق ذلك المكان من هو أولى به فطرح له بعضه فيكون ذلك لبانيه او لورثته, فيتصدق به لأنه ليس من ماله مثل يتصرف فيه كما قد قيل فيمن بنى مسجداً فاستحقَّت لأرضُه بعد ذلك ملكاً يوقن منه العوض المرغب فيه. ومسألتك ليس منها ما يرغب فيه فتصرف الأنقاض إليه, ولا يمكن الآذن أن يأذن في بقائه كما للمسجد قد يجوز ربعا ومسجداً
[
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية: "لعله ليس بصواب".
(2) بياض بالمطبوعة وغيرها.
(1/441)
________________________________________
341/1] بإذنه, فافهم ما وصفت لم إن وجدت إلى ذلك سبيلاً, وإلى إحياء الحق فيه وصولا. وكذلك ما ذكرت من المتحجر للقبور في المسائل وهي أشد, بل لا تترك أصلاً إلاَّ للتحجير, فبعد الدفن عن المسائل المستعدة لمواجل المسلمين, لأنه يضربها ويتقادم الزمان وتندرس القبور وتخرج رمم الموتى فتكرر على الناس مواجلهم. وليس ينظر من الشيء في مبتدئه, إنما ينظر في عاقبته, فيحمى من الأذى في عاقبته كما يحمى في بدايته. قد شرحت لك ما حضرني في مسألتك فاعمل إن وجدت أعواناً وبالله التوفيق.
مسألة تكلم عليها بعض الفضلاء من أصحابها القادمين على حضرة فاس من حاضرة غرناطة, وهو الفقيه أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله البقني ونص قوله فيما سألت, ولو شاء الله ما فعلت, بعض عدول فقهاء فاس هل أنكر أحد من علمائها قديماً وحديثاً ما جرى عليه العامة من الناس من ستر الموتى بالحرير, إذ كان جالساً حذائي بالمسجد الأعظم والجنائز تنصرف من الصلاة ونحن برأى منها, فكأني كنت له حمة إذ كلمته بهذه الكلمة.
(1/442)
________________________________________
وأجابني بان قال: هذا غير منكر. فقلت له: لم أسألك أنت عن هذا, إنما سألتك عن غيرك, هل بلغك أو تعرفت أنت منكراً لذلك ام لا ممن سلف ومضى من العلماء بهذه الجهات؟ فأبى إلا النكر عليّ والتعالي, والاستهزاء بي والتظاهر علىّ والتغالي, ولجّ مصرحاً بجواز ذلك على كل حال, من غير نظر ولا استشكال, وأبى إلا الملاجة, وسوء المحاجة, مسترسلاً غاية الاسترسال, متوغلاً في قلة النصفة وكثرة الاسترذال, مدعياً أن لا نظر في ذلك, ولا استشكال فيما هنالك, ولا سلكت قط تلك المسالك, وكأنه يقول لا تستحق جواباً على سؤالك, فبلغ تبقى العجب إلى النهاية, بل إلى ما وراء الغاية, فهلا سلك مسالك الكنف السهل, وتحلى بحلى المجادة والفضل, وتخلق بأخلاق العدالة, المضادة للرذالة, والسخرية والاستهزاء والنذالة, وهلا ارتدى برداء التلطف, واشتمل اشتمال الصماء على النصفة والتعطف, ولاسيما لاورد غريب, متسمت بسمت الفقهاء قريب, فضلاً عن أن يستفيد مني ما في ذكري, إذ مَنْ حفِظ حجة على من لم يحفظ أو ارتاب في أمري, واختبر سري وجهري, بل سلك مسلك الأعداء, ويرحم الله أبا الدرداء, استغفر الله لحق الأعراض, من غير تنزيل
[342/1] إلى الجواهر والأعراض, إذ الإغضاء من مثل هذا واجب, وعدم المبالاة بقوله وفعله لازب. ولقد والله نصوا على منع ذلك, وقد جرت به فتاوى الشيوخ وإنكارهم حتى كان بعض من مضى من الأيمة رحمهم الله يأمر بأن ينزع ذلك ولا يصلي على الجنازة وهي مستورة بالحرير, ومنعهم من ذلك لوجوه: أحدها شغل قلب المصلي بها وإدخالها عليه ما يوجب تشويشه.
الثاني المباهاة والافتخار وما عليه عامة الناس في ذلك من التناهي في المباهاة, إذ لا خفاء أن الحامل لهم عليه ما هو إلا المباهاة والافتخار, وفلان جعل كذا وفلان جعل كذا وفلان جعل كذا, وهما فيما بينهما يتفاخران في تلك الزينة وأيهم جعل أشرف من صاحبه.
(1/443)
________________________________________
الثالث اتفاق المال في غير وجه شرعي, ونحن مأمورون بإنفاقه في محله على الوجه السائغ شرعاً.
الرابع التبذير فإنهم لم يقفوا عند حد وكلف الغني الفقير مالا يَجِدُ فدخلوا تحت التبذير والسرف.
الخامس أن لباس الحرير غنما رخص للنساء الأحياء للزينة, والأصل تحريمه لعموم قوله عليه السلام إنما يَلبسُ الحريرَ مَن لا خلاقَ له. ثم إن الشارعصلوات الله عليه أباحه للنساء للزينة المرادة شرعاً الجارة للنسل وبقاء عالم الإنسان. ولو قال قائل ممن شأنه التنزل للجزئيات كاللخمي والقرافي وغيرهما إن الهرمة التي لا أرب للرجال في وطئها بحال لا يجوز لها لباسه لكان مما يقال, لكن الشرع إنما يجيء جُمليّاً لا جزئياً. فإذا نظر الناظر المنصف في تلك الزينة حكم عليها أنها ليست تلك الزينة حقيقة.
السادس أن هذا الاستعمال ليس للميت فيه زينة, وهي أغلوطة إنما تزينوا بها أهل الجنازة وظهرت طبقتهم في تلك الزينة ومرتبتهم فيها وما ليتهم وقدرتهم حيث جعلوا على ميتهم سيما من الحرير أو الذهب تمتاز بها أنثاهم من ذكرهم, ولم ترجع إلى الميتة بوجه. وذلك غير خاف على أحد ولا هي ممن تصح في حقه.
السابع أن ذلك المقام مضاد للزينة مغاير لتلك الحالة, فإن تلك الحالة مقام اكتراث وترحم وتواضع مع الله وتهمم, ومقام عزاء وصبر وقدوم على قبر, وهو كما جاء أول منازل الآخرة الحديث المشهور.
فينبغي لأهل الميت أن يتخلقوا بأخلاق مناسبة للحالة, ويتلقوها بفعال /343/ جميلة وحسن حالة, فإن هذا من قصد التظاهر للدنيا وزينتها والتفاخر في غير محلها ولغير أهلها. وأين هذا مما خرجه ابن المبارك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذل اتبع جنازة. أكثر الصمت وأكثر حديثَ نفسهِ بأمر الميِّت وما يردُ عليه وما هو مسؤول عنه.
(1/444)
________________________________________
وكان الرجل يلقى الرجل من إخوانه في الجنازة وعسى أن يكون غائباً فما يزيد على التسليم يُعرض عنه اشتغالا بما هو فيه. فهذا كان شأن السلف الصالح, واتباعهم سنة ومخالفتهم بدعة. وهذا هو الوجه الثامن, وهو ان تلك الحالة بدعة لم تكن وقعت في الصدر الأول. وقال عليه السلام: كُلَّ عمل ليس عليه أمرنا فهو ردُّ. وفي رواية من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌّ. وفيه للعلماء كلام, وليس هذا موضع بسطه. وهذا إذا عريت البدعة عن هذه المقاصد الذميمة, والمآخذ المغايرة للشريعة الكريمة, فما أبعده عن الروح والسّرّ, ومقام أهل الديانة والفضل والبر! من قال أو ظن أن ذلك سائر أو جائز, فهذا مدركي في المسألة, وعلى هذا وقفت في النازلة فيما رأيته معتبر, ومغربة خبر. ولو سأل سائل في حضور هذه الجنائز التي صحبها ما ذكر هل يباح للإنسان أن يتخلف عنها كما أباحوا التخلف عن الوليمة التي تصحبها وتحضرها المنكرات لكان وجهاً من السؤال جيداً. وما العجب كل العجب إلا في العامّيّ يبين له فيبصر فيستبصر ويتلقى بالقبول التام, والتسليم العام, من جاء منهم مستفت مستخبر, ولا تجد من ينتمي لصنف الفقهاء يتحلى بهذه الحلية, ويتردى في الغالب بهذه الأردية, بل لا تجد عامة الفقهاء أبداً يوجهون ما عليه العامة, ولو سلك الناس أكبر طامة, لقام لها فقيه منتصر, بل فقهاء كل منهم لنصرتهم منتظر, ويلتمس لهم المخارج ويعتذر, ولا ينتهي عن ذلك ولا يزدجر.
(1/445)
________________________________________
ومن هنا قال ابن المبارك ومثله يسلك هذا السلوك, وهل أفسد الدين إلاّ الملوك؟ البيت أو الأبيات. ورضي الله عن طاوس حيث قال: ما أرى الله تعالى يعذب هذا الخلق إلا بذنوب العلماء. وما أبدع قضية أبي حازم مع الزهري رحمها الله. وليت شعري لو سئل فقيه جزل عن عدل جعل على بنته الميتة ستر حرير, هل يكون ذلك جرحة في عدالته وفسقاً فيه أم لا؟ ليت شعري ماذا يكون الجواب؟ ولها نظير. نقل القباب رحمه الله أن الذي يعطي لزوجه دراهم للحمام تدخله بالنهار مكشوفة العورة أو ترى عورة غيرها كما هو
[344/1] الشان اليوم والواقع كثيراً ان ذلك جرحة في عدالته وفسق فيه, فيستغفر الله. والسلام يعتمد من يقف عليه من كاتب ذلك عبيد الله أحمد البقني وفقه الله ولطف به انتهى.
فأجاب الفقيه أبو حفص عمر الجزنائي بما نصه:
(1/446)
________________________________________
الحمد لله. إنما تتوهم الإباحة في ذلك حيث يكون المقصود به ستر الجنازة فقط, هناك يتأمل هل يكون ذلك مباحاً أم لا في حق الرجال والنساء, فيقال مثلاً في حق الرجال والنساء, لأن الرجال سقط عنهم التكليف بالموت, والنساء كان ذلك مباحاً لهن بالأصالة, فمن باب أحرى الآن, او يقال لا يجوز في حق الجميع لأن الرجال ذلك حرام عليهم يالأصالة, وأن النساء إنما أُبيح لهن ذلك لأجل الزينة, وليس هذا محل الزينة, إذا لو كان ذلك محل الزينة لأبيح لهن الحلي؛ أو يقال يبقى ذلك على ما كان عليه, فيباح للنساء دون الرجال. هذا كله إذا قصد به مجرد الستر. وأما عرفنا اليوم إنما هو الفخر والمباهاة, وليس هو مقام الفخر والمباهاة, وإنما هو مقام التضرع والخضوع وإظهار الذلة والمسكنة وشدة الافتقار إلى الله تعالى. والفخر والمباهاة منهي عنه في غير هذا المقام, فمن باب أحرى هذا المقام. والناس اليوم والعياذ بالله ارتكبوا هذه البدعة العظيمة حتى أن من لم يكن عنده ذلك يستعيره, فإن لم يجده عارية اكتراه. وغالب الأحوال أن ذلك الحرير إنما زائد على الستر, فهذه مصيبة نزلت بنا, فأقول إنا لله وإنا إليه راجعون, والسلام على من يقف عليه من كاتبه والرحمة والبركة.
(1/447)
________________________________________
وتقيد بعقب هذين الجوابين بخط بعض أصحابنا ما نصه: الحمد لله المسؤول من سيادة سيدنا الفقيه الإمام العالم العلم العلامة المحقق المقتن وحيد عصره وفريد دهره أبي العباس أحمد الونشريسي جبر الله العظيم صدعه, وأمن خوفه وسكن روعه, ومنّ عليه باللطف العظيم, والبرء العميم, حتى تقر عينه بجبر صحته, وإعادة قوته, وليس ذلك على ربنا بعزيز سبحانه جل ربنا وتعالى, أن يتصفح ما احتوت عليه هذه الورقات من كلام الفقيه الخطيب الغرناطي أبي العباس البقني وكلام الشيخ الفقيه المدرس أبي حفص عمر بن عبد الرحمان الجزنائي, والبحث الذي بحث معهما كاتب هذه الأحرف, فأردت من كمال فضلكم وإحسانكم وجميل عوائدكم أن تمعنوا النظر فيما خطه كل واحد منا وتخرج لنا ما يثلج الصدر والله تعالى بفضله وإحسانه يبقى لنا
[345/1] بركاتكم, ويعيد علينا بفضله ولطفه صحتكم وعافيتكم, فإنه على ذلك قدير, وبالإجابة جدير, والسلام فيما يخص مقامكم العزيز ورحمة الله تعالى وبركاته.
فأجبت عما سطروه وكتبوه وقرروه بما نصه:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
الجواب والله سبحانه ولي التوفيق بفضله أن هذه النازلة التي ابتكر الكلام فيها وأثار الخوض في حكمها عندنا بهذه العدوة المغربية في هذا الوقت صاحبنا الأخ في الله والولي في ذاته, والفقيه الإمام الفاضل أبو العباس أحمد بن الفقيه الخطيب البليغ الناصح الصالح الأعرف المفتي أبي محمد عبد الله البقني الغرناطي الأصل نزيل فاس المحروسة بالله, يمن الله قصده, وأعلى في رتب العلماء الأعلام مجده, قد سئل عن حكمها في أواخر القرن الماضي قبل هذا شيخ شيوخ البلاد الأندلسية, وخطيب حضرتها العلمية, ومفتيها الأستاذ المحقق المدقق الأعرف العالم العامل العلامة العلم الرحال أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لب, تغمده الله برحمته, وأسكنه فسيح جنته. ونص السؤال:
(1/448)
________________________________________
وسئل وسئل عن سترهم لبعض موتاهم بثياب الحرير والذهب, وهل يمتنع المصلي إذا كان إماماً من الصلاة عليها بسبب ذلك أم لا؟
فأجاب قد اختلف المذهب في التكفين في الحرير للرجال والنساء بالإباحة والمنع والكراهة بالتفرقة بين الصنفين, وذلك الساتر أقرب لظهوره. وقد يصحبه في الغالب قصد التظاهر بالدنيا وزينتها والتفاخر بها في غير محلها ولغير أهلها, فيدخل المنع من هذا الوجه, مع أن الإباحة هي الأصل. وقد كان بعض الأيمة يامر بنزع ذلك الساتر عنها ثم يصلي عليها. والحق أن لا تأثير له إلاَّ من ناحية قلب المصلي, وله أصل في الشريعة.
وأجاب عنها أيضاً بما نصه: أما الصلاة على جنائز الأطفال والإناث وعليهم أثواب الحرير والذهب فليس فيه منع. وقد اختلف في تكفين المرأة في ثوب حرير وهذا أقرب. وكان بعض الأيمة يأمر بنزعه عن النعش وحينئذ يصلى عليها, ويرى أنه وضع زينة الدنيا في غير محلها, وتفاخر بالدنيا بعد
[
(1/449)
________________________________________
346/1] زوالها, وهو نظر لا بأس به انتهى. فإن كان مراد الفاضل أبي العباس بقسمه في قوله ولقد والله نصوا على منع ذلك وجرت به فتاوى الشيوخ وإنكارهم حتى كان بعض من مضى الخ هذا الشيخ أعني الأستاذ أبا سعيد فقد أريتك نص جوابيه. فقابل بل قوله أولاً ولقد الخ وقوله آخراً فما أبعده عن الروح والسر, ومقام أهل الديانة والفضل والبر, من قال أو ظن أن ذلك جائز سائغ, تجد بينهما من البون والبعد ما يخالف فتوى أبي سعيد, وذلك الساتر أقرب لظهوره, ولقوله مع أن الإباحة هي الأصل, ولقوله والحق أن لا تأثير له إلا من ناحية قلب المصلي. فإذا لم يقترن بهذا الساتر ووضعه على أنعشة العواتق والأبكار قصد التفاخر والمباهاة فليس إلاَّ الإباحة, كما قال, إذ هي الأصل, ومرجوحيته حينئذ بالعرض وفساد القصد لا بالذات, والكلام مع سلامة القصودات. وتعليل الأستاذ المنع من ناحية قلب المصلي لا يوجب تحريماً كما اقتضاه فهمكم, وقثاراه الكراهية حسبما استنبط الفقهاء رضوان الله عليهم من حديث الخميصة كراهية كل ما يشغل عن الصلاة من الأصباغ والنقوش والصنائع المستظرفة, فإن الحكم يعم بعموم علته, والعلة الاشتغال عن الصلاة. وقد نزلت هذه المسألة بمجلس السلطان أبي الحسن رحمة الله عليه اواسط القرن الثامن في المسجد الجامع الذي أنشأ فناءه وشيد أرضه وسماه بمحل ضريح الشيخ الصالح المبرأ من كل وصم وعيب, شيخ العارفين أبي مدين شعيب, من عباد تلمسان, إذ لُونت قبلته وذُهِّبت واحتفل فيها كا الاحتفال المناسب لتلك البنية الرفيعة.
(1/450)
________________________________________
فأفتى الفقيهان الإمامان الشيخان الراسخان الشامخان, أبو زيد, وأبو موسى ابنا الإمام ومن حضر من أيمة المغرب بزواله, وأفتى آخرون بإباية من ذلك, ولكل من الفريقين حجج يطول بسطها. ثم في قول أبي العباس في الوجه الثاني من الوجوه المقتضية للمنع عنده من وضع الساتر المذكور على الأنعشة, إذ لا خفاء أن الحامل لهم عليه ما هو إلا المباهاة والافتخار شيء, لأن عبارة متبوعه الأستاذ أبي سعيد: وقد يصحبه في الغالب قصد التظاهر بالدنيا وزينتها, فبينما من البون ما لا يخفى على من له أدنى مسكة. ثم لنا أن نمنع ما ادعاه من الحصر؛ بل نقول التعليل به قد لا يتمّ لخفائه, إذا السرائر موكولة إلى الله, وادعاه الحصر في مثل هذا إساءة ظن بعام المسلمين وخاصهم, صالحهم وطاحهم, وما ينبغي ذلك بل نقول /347/ الحامل لهم عليه بحسب القصد الول تمييز هذا النوع من العواتق والأبكار لتنبعث قلبو من شاهدهُّهن وميزهن بعلامتهن عن النوع الأخر على الإخلاص في الدعاء لهن والترحم عليهن والاستغفار لهن مع استحضار ما لهن من الشفوف ومزيد مزية الشهادة الخاصة بهن في ذلك المقام, بشهادة الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم في قوله عند الذكر اعداد الشهداء: والمرأةُ تموتُ بجُمع, وهي المجتمعة العذراء التي لم تفض ختمها ولا فك طابعها في بعض الأقوال(1).
__________
(1) وفسر "الجُمْع" أيضاً بالمراة تموت وفي بطنها ولد, وكلاهما ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل عنها من حمل أو بكارة.
(1/451)
________________________________________
وأيضاً موتهن يوجب كثرة الأسف عليهن بفوات مظنة كثرة الولد, وإليه الاشارة بقوله صلى الله عليه وسلم إنهن أعذبُ أفواهاً وأنتقُ أرحاماً وأبقى مودة وأرضى باليسير من الجماع. وبقوله صلى الله عليه وسلم: الولود الودود, وبقوله: عليكم بالأبكار. وبقوله هلا جارية تلاعبها. وبقوله فأين أنت من العذراء. قالوا فالولد مع البكر أرجى كالأرض المجمة بالنسبة إلى ما يلقى فيها ويبذر, وتكثير الولد هو مقصود النكاح الأعظم: تناكحوا تناسلوا فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة والذكر بعد العمر ثان, وزينة الدنيا متاع فان, وابتغوا ما كتب الله لكم إلى غير ذلك مما لسنا الآن لتتبعه واستقصائه.
وقوله في الوجه الثالث إنه انفاق للمال في غير وجه شرعي,
نقول نمنع ان يكون هذا الانفاق للمال في غير وجه حسبما تقدم من أن الأصل الإباحة, وأيضاً إن لم يفعل ذلك يحصل للنفوس البشرية استيحاش ومنافرة, وليس ذلك من مكارم الأخلاق, بل هو مضادٌّ لما حث الشرع عليه من عدم التقاطع والتدابر. والمؤمن مع المؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً. وكل ما يؤدي إلى قطع ما أمر الله به أن يوصل فمطلوب الترك, وعكسه عكسه.
[لا بأس بالقيام للإكرام والاحترام]
ونظير هذا المعنى قول عز الدين بن عبد السلام في مسألة القيام: لا بأس بقيام الإكرام والاحترام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاقوموا لسيدكم هذا, يعني سعد بن معاذ. وكذلك قال لبني قريظة, فلا بأس بالقيام للوالدين والعلماء والصالحين. وأما في هذا الزمان فقد صار تركه
[
(1/452)
________________________________________
348/1] مؤدياً على التباغض والتحاسد والتقاطع والتدابر, فينبغي أن يفعل دفعاً لهذا المحذور, ولكون تركه صار وسيلة على ذلك. وقال صلى الله عليه وسلملا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله غخوانا كما أمركم الله, فهذا لا يؤمر به لعينه بل لكونه صار وسيلة إلى هذه المفاسد في هذا الوقت. ولو قيل بوجوبه لم يكن بعيداً لأنه قد صار تركه إهلنة واحتقار لمن جرت العادة بالقيام له. ولله أحكام تحدث عند حدوث أسباب لم تكن موجودة في في الصدر الأول. ويرحم الله عيسى بن مسكين إذ قال لصاحب له في صوم تطوع أمره بفطره: ثوابك في سرور أخيك المسلم بفطرك أفضل من صومك, ولم يأمره بقضائه: فأين مسألتنا من هذه؟ مع ما فيها من مخالفة قوله تعالى ولا تُبطلوا أعمالكُم وقوله أوفوا بالعقود. قال عياض قضاؤه واجب, ولم يذكره لوضوحه.
ومن أمثال هذه الجزئية والشواهد الدالة عليها لفعل القناع وبذل العوض فيه لمن عجز عن تملكه واقتنائه كثير, والمحافظة على ايصال ما أمر الله به أن يوصل واصلاح ذات البين لا يخفي رجحانه على ذي عقل سليم, ولا سيما في شيء لم يهدم قاعدة شرعية, ولا أبطل سنة مرعية. فالأمر في هذا وأمثاله واسع والخطب فيه سهل. ولا معنى للتهويل والتشنيع, والتوبيخ والتقريع وإن كان الشيخ أبو محمد عبد الله العبدوسي رحمه الله نحا في بعض فتاويه إلى هذا المنحى الذي سلكتموه, ونصه: وكذلك ما يجعلونه من الأقنعة والثياب الصقلية على قبة نعش النساء فهو من باب المباهاة والفخر فهو ممنوع, والجنازة على الاعتبار والتذكير والاستبصار والإقبال على أمر الآخرة. وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يبكون ويحزنون حتى لا يبقى الغريب بينهم ولي الميت من غيره انتهى.
وقوله في الوجه الخامس إن لباس الحرير إنما رخص للنساء الأحياء للزينة, والأصل تحريمه مطلقاً الخ.
(1/453)
________________________________________
نقول: ذكر العلماء رضي الله عنهم أن الحرير كان مباحاً في صدر الاسلام للرجال والنساء, ثم طرأ التحريم في حق الرجال دون النساء, فقال قوم في حكمة النهي عنه في حق الرجال لئلا يتشبهوا بالنساء.
فإن قلتُ: في صحيح مسلم أن عبد الله بن الزبير خطب فقال لا تلبسوا
[349/1] نسائكم الحرير, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة, وهذا عموم في الذكور والإناث, وهو مستند أحد الأقوال العشرة عند العلماء.
قلتُ: روى أبو عيسى عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: هذان مُحرمان على ذكور أُمتي حِلٌّ لإناثها. قال عيسى حديث حسن. فلبس النساء الحرير في كل الأحوال وإباحته لهن يمنع كونه رخصة, كما قال المجيب, لنه لو كان كذلك لكان التحريم في حقهن باقياً كما قيل فيما رخص فيه من الميتات, وعُفي عنه من النجاسات, وليس الأمر كذلك.
[الحكمة والمظنة في اصطلاح القهاء]
وقوله: ولو قال إن العجوز الهرمة التي لا أرب للرجال في وطئها بحال لا يجوز لها لبسه لكان مما يقال.
(1/454)
________________________________________
نقول: طرد هذا البحث يوجب توهم قائله أن علة مشروعية تجمل النساء بالحلى من النقدين وخالص الحرير صلاحيتهن للوطء فعلا, وهذا عين التعليل بالحكمة. وفيه بين الأصولين اختلاف. واختار الغزالي والفخر في معالمه وطائفة من الأصوليين منع التعليل بها, ويحكى عن الشريف, ونحا إليه في المحصول, وارتضاه فريق من الأصوليين جواز التعليل بالحكمة والحكمة في اصطلاح المتشرعين هي المقصود من إثبات الحكم أو نفيه, وذلك كالمشقة التي شرع القصر والإفطار لأجلها. وأما المظنة فهي عبارة عن أمر ظاهر منضبط يظن عنده وجود الحكمة المقصودة للشارع من شرع الحكم المرتب عليها, فإنه مظنة المشقة التي هي حكمة الترخص, وإنما نصب الشراع صلى الله عليه وسلم السفر وجعله دليلاً على جواز الفطر والقصر, لأن المشقة التي شرع الحكم لأجلها مضطربة غير منضبطة ولا ظاهرة, لأنها تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والحالات, فالأمير والمترفة لاينالهما من المشقة ما ينال غيرهما ممن ليس في معناها. وكذلك السفر في بعض الفصول قد لا ينال فيه من المشقة ما ينال في غيره وكذلك في بعض الحالات العرضة في بعض الأسفار من شدة سير او غيره. فلو جعل الشارع صلى الله
[
(1/455)
________________________________________
350/1] عليه وسلم المشقة علة دالة على عدم جواز الفطر والقصر لكثر الشغب واضطراب العلل والأحوال ولم تنضبط لعدم انضباط المشقة كما تقرر في المثال, بخلاف السفر الطويل فإنه ظاهر منضبط, والمشقة التي هي حكمة القصر والافطار توجد عنده غالباً, فأناط صاحب الشرع الحكم بها رفعاً للخبط والشغب والاضطراب. وكذلك الصيغة في البيع والنكاح وغيرهما منبقية العقود جعلها الشارع دليلاً على الرضى, لأن من شرط المعارضة رضى البائع والمبتاع إلا من جبره الحق, وذلك في مسائل أثبتناها في بعض ما قيدنا. والرضى أمر باطن خفي لا يمكن الاطلاع عليه للبشر, والصيغة إيجاباً وقبولاً مظنة. فأناط الشارع الحكم بها لظهورها. فإذا تقرر هذا وفهم من معنى الحكمة والمظنة باللازم على طرد ما أبداه الفاضل من البحث وودان اللخمي أو القرافي ممن له مسيس بالتنازل للجزئيات أن لا يقصر ولا يفطر الملك ولا المترفة لانتفاء علة الترخص فيهما. وهي المشقة عنده عملاً بالدوران, وهذا شيء لا يقال.
ويلزم على طرد قوله أيضاً في العجوز التي تناهى هرمها كثيراً أن لا تشرع الزينة من الحلي والحلل للرتقاء لامتناع الوطء فيها عقلاً بل أحرى على قياس قوله, لأنه إذا كان يمنع الهرمة من التجمل بالحلي والحلل لانتفاء سببه عنده فيها مع كون المانع من التلذذ بها عادياً ومع أن لكل ساقط لاقطاً, فأحرى وأولى الرتقاء التي المانع من وطئها عقلي كما قدمنا.
ويلزم عليه أيضاً أن لا تشرع في حق الجذماء والبرصاء والقرعاء والبخراء والخشماء وكل من لا يتلذذ به منهن إلا على زحف واشمزاز إن كن أيمات أو رضي الأزواج بأدوائهن, ولا يفوه بالتزام مُوجب هذه الإلتزامات في ظني في مسألة الهرمة إلى القول يمنعها من لبس الحرير لانتفاء ثمرته في حقها, قد تنازل وتواضع لاعتبار الهرم والشباب والقبح والجمال, لكنه في غير هذا الوجه, فلينظر في ترجمة النفقات والشهادات من تبصرته رحمه الله تعالى.
(1/456)
________________________________________
وقوله في السادس من الوجوه إن هذا الاستعمال ليس للميت فيه زينة.
[351/1] نقول ولا لأهله, وإنما وضعوا على ميتهم الذي أصيبوا بفقده من الساتر المخصوص والعلم المنصوص المعتاد في عرفهم ما يمتاز به عن جنس الموتى لا غير. وقد أمرنا بتحسين الكفن مع تعريضه للمهلة والبلى, فهذا منه مع إزالته عنه عند الإقبار. وادعاء المفتي على أولياء الجنازة المغالطة في تلك الزينة بقوله وهي أغلوطة غلط أو مغالطة, وحكم على البواطن, وما كان المفتي ليعلم الغيب ويحكم على البواطن. قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله, فليكل الأمر في السرائر إلى الذي يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون, حتى يصرحوا بالأفكار الردية شرعاً؛ ثم حينئذ يسأل عن مقتضى تلك الأفكار, فيجب بما يقتضيه من كراهة أو تحريم في نظره أو نظر مقلده وإمامه . وقد نص بعض أيمة الهدى على أن ما جرى به عمل الناس بغير المذهب للضرورة سائغ جائز. وتذكر ما جرى به عمل أيمة المسلمين في شرق الأرض وغربها من نقش القبور والكتب عليها, وأخذه الخلف عن السلف مع تصحيح الحافظ الحاكم في مستركه أحاديث النهي. قال ابن العربي: وليس فيه فائدة إلا التعليم لئلا يدثر القبر. فانظر إلى قوله رحمه الله وليس فيه فائدة إلا التعليم ففيه دلالة واضحة لما عللنا به ساتر الحرير من التمييز والتعليم على نوع خاص من الموتى, فلا ترى فيه عوجاً ولا أمتا. وسكوت أعلام العلماء عن النكر والتغيير مع قدرتهم أكبر حجة وأعظم دليل للجواز, وفي ضمن مخالفتهم والانحراف عنهم نسبتهم إلى القصور أو التقصير أو رميهم بالمداهنة والموافقة على منكر الابتداع, وهم في العلم والعمل به بمكان مكين.
لا يقال: اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال.
(1/457)
________________________________________
لأنا نقول: الكلام في تحقيق كون الحق مخالفة ماعليه الناس في هذا الساتر ولم يبين حتى يحكم عليه. ثم انظر وتأمل ما على الفاضل من درك التداخل في بعض الوجوه التي عدّد, وأبرق بها وأرعد, مع ما فيها من التناقض, وهو حشو وتسويد للورق من غير فائدة عائدة, ولا نكثة زائدة. أما التداخل فبين الوجه السادس والثاني, فيرجع الوجهان إلى وجه واحد. وأما التناقض قيبين الوجهين المذكورين وبين الوجه السابع, فإنه جعل في الوجه الثاني والسادس فائدة الزينة وثمرتها للأولياء, وفي السابع للميت في
[352/1] قوله فأين هذا من قصد التظاهر بالدنيا وزينتها والتفاخر في غير محلها ولغير أهلها.
وقوله فأين هذا مما خرجه ابن المبارك الخ.
نقول ليس فيه شيء من وضع الساتر المذكور جنساً وكيفية ما ينافي حديث ابن المبارك من كثرة الصمت وحديث النفس وحسن السمت. والقضية غير مانعة الجمع فلا يتم الاستدلال به على بيان ما أراد من ذلك المحمل, ويدفع به تفسير ذلك المجمل.
وقوله: والوجه الثامن أن تلك الحالة بدعة الخ.
نقول: كان من حق هذا الفاضل أن ينظر أولاً في نفس هذا الفعل, هل له أصل في الشرع أم لا؟ وعلى أن لا أصل له, فهل هو مذموم أم لا؟ وعلى كونه بدعة مذمومة, ما علة ذمها؟ فيذكر حينئذ من العلل والأسباب المقتضية للذم ما يناسبه من الوجوه الذي أقتضاها نظره السديد, وأوضحه فيما مر من التعديد. وأما على ما انتحله فهو تعليل بالاسم إن كان لفظ البدعة عنده ملزوماً للتحريم, وهذه أعني التعليل بالاسم مذهب ظاهري مرفوض, وإن كان ليس من لازم لفظ البدعة التحريم فقد ذكر العلة دون المعلول تصوراً وتصديقاً.
[حقيقة البدعة]
(1/458)
________________________________________
وسئل وعند هذا نقول: حقيقة البدعة على ما حققه بعض من حقق النظر ودققه من مشائخ المذهب عبارة عن طريقة في الدين مخترعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد إلى الله سبحانه. قال وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة, وإنما يخصها بالعبادات. وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية. فانظر فقد يتردد النظر الجامد, والفكر الخامد, في انطباق أحد نوعي هذين الحدَّين على نازلة الساتر والقناع التي الخوض فيها ام لا؟ ولاشك في ان نازلة الساتر من الأعمال العادية, فعلى الرأي الأول فالمنع من تسميتها بدعة واضح الظهور,
[353/1] وعلى الرأي الثاني فهذا مما تردد فيه, هل قصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية أم لا؟ والظاهر لا.
وقوله: في الاستدلال وقال عليه السلام كُل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردُّ.
نقول: نص الأيمة المحققون من علمائنا رضي الله عنهم وأرضاهم على أن المقلد الصرف مثلي ومثل من اشتملت عليه هذه الأوراق من الأصحاب وأكبر منا طبقة وأعلى منزلة وأطول يداً ممنوع من الاستدلال بالحديث وأقوال الصحابة رضي الله عنهم, بل ذلك عندهم من الأوليات. قالوا وإنما يستعظم عدم استدلال المقلد بذلك ويشنع القول فيه الجهال, حتى نقل أبو بكر بن خَيرْ أنَ على تحريمه إجماع الأمة. فإذا علمت هذه ووقفت على ما رسمت فيه فالواجب على هذا الفاضل أن لا يتكلم على هذا الحديث باعتبار اقتناص الأحكام منه رداً وقبولا لأنه إن فعل زجره لسان الحال وقال له: ليس هذا بعشك فادرجي, وأنشده:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
- - -
خلِّ الطريق لمن يبني المنار به ... وابْرُزْ ببرزة حيث اضطرك القدر
- - -
(1/459)
________________________________________
وايراد ما للمحدثين في هذا من المجال الرحب يخرجنا إلى حد الإسهاب الممل. ثم الحديث المستدل به يستدل به من له أهلية الاستدلال بالحديث وهم المجتهدون على أن النهي يدل على فساد المنهى عنه, وأين النهى المتناول لهذه النازلة نصاً أو ظاهراً حتى يستدل له بالحديث, إذ لم يرد فيه عن الشرع أمر خولف فيحكم عليه بالرد والفساد, فلا تقوم للمستدل به حجة, ولا تتضح له في موارد الحجاج محجة.
وقوله فهذا مدركي في المسألة, وعلى هذا وقفت في النازلة.
نقول: لا يخفى بعد تمهيد ما قدمنا ما على هذا الفاضل من الدرك فيما ابداه من المدرك.
[354/1] وقوله وعلى هذا وقفت في النازلة.
نقول: من الحق عليك أيها الفاضل أن تعين الموقوف عليه وتضيفه إلى ناقله أو قائله بنصه.
ونصُّ الحديث إلى أصله ... فإنَّ الوثيقة في نصِّهِ
وقد أريناكم صدر هذا الكتاب من أجوبة شيوخ بلدكم المعتبرين ما يقضي بعجرفتكم فيما نقلتم عنهم, فإنهم أقدم من تكلم على النازلة في ظني.
أَعد نظراً يا عبد قيس لَعَلَّمَا ... أضاءت لك النار الحمار المقيدا
وتحسِبُونَهُ هَنّيِاً وهو عندَ الله عظيمٌ.
أَوْرَدَهَا سَعْدٌ وسعد مُشتمِلْ ... ما هكذا تُوردُ يا سعدُ الإبل
وقوله وفيما رأيته معتبر, ومغربة خبر
نقول بموجبه.
وقوله: ولو سُئل الخ.
نقول: قد حل هذا الفاضل بهذا الكلام كل ما عقد, لأن النازلة عنده وعلى رأيه ورأي من جرت على حرفتها فتاويه بزعمه مِن أعظم المنكرات جزماً, فكيف يُشكِّك في حضور المكلف وحلوله بمحل المنكرات, فخاتمة كتبه تهدم عليه جميع ما تقدم من احتجاجه.
وقوله: وليت شعر لو سئل فقيه جزل الخ
(1/460)
________________________________________
نقول: الجواب أن لا تجريح ولا تفسيق, وهذا هو التحقيق لأنا قدمنا من جواب شيخ شيوخ بلدكم أن الأصل الإباحة, وغاية حال الستر والقناع الكراهة, إذ لا يكون أسوأ حلاً من التكفين فيه. ومذهب المدونة, وهو المشهور في المذهب, كراهة التكفين في الحرير تنزيهاً في حق الرجال والنساء لا تحريما على ما فيه من مزيد السرف في التكفين بما لا خفاء به. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتعلقان إلا بواجب أو حرام عند المحققين, ومن
[355/1] شرطه القطع به كوجوب الصلاة وتحريم الخمر لا مختلفاً فيه كشرب النبيذ.
وقوله: ولها نظير إلى لآخره.
نقول: مسألة القباب ليست بنظيرة لهذه في ورد ولا صدر, للإجماع على تحريم كشف العورة والنظر إليها لغير النكاح والملك المبيح, وفي عيوب الفرج على القول الصحيح. فبذل العوض من السيد والزوج على الدخول والحلول بمحل المنكر والتلبي به من اعظم المناكر وأسمجها, والتمالؤ على تعاطيه والإعانة عليه من اعظم الفسوق والمروق, فعلى فاعل ذلك السجن الطويل والعقوبة الشديدة والأدب الموجع إن قدر على المنع ولم يفعل, ولا يبلغ الحال بمتعاطى الستر والقناع الذي الكلام فيه هذا المبلغ بل ولا يدانيه. وهذا من أعظم الفروق. فقد نظرتم بغير مماثل ولا نظير, فنستغفر الله الذي إليه المصير, وهو بحالنا بصير, إذ هو بالإجابة جدير, فنعم المولى ونعم النصير. وليكن هذا آخر ما نعلق به الغرض من التبرك بألفاظ الفاضل أبي العباس وقاه الله شر الجنة والناس, مع ما أنا عليه في هذا الوقت من البطالة والأعراض, بترادف العلل والأمراض, وتعذر كثير من الآمال والأغراض, أسأل الله حسن الخاتمة.
وأما الفاضل أبو حفص عمرَّ الله داره ببقائه, ومنحنا حظاً وافراً من صالح دعائه, فقوله إنما نتوهم الإباحة في ذلك حيث المقصود به ستر الجنازة فقط هنالك, يتأمل إلى آخر ما ذكر بعد الهلهلة.
(1/461)
________________________________________
نقول إن مجرد وضع الساتر على القبة إذا لم يتصل به ما ينقله عن حكم الإباحة من الهواجس والقصودات الفاسدة, فأي مانع يمنعه حتى يدين فيه الهلهلة ويجري فيه على زحف وتشكُّك من النقول والمقالات ما قيل في التكفين سواء, ويجعل الإباحة مع انتفاء علل النفوس وسلامات القصودات متوهمة, ليت شعري ما يوجب هذا والحمل على مسألة التكفين ضعيف أو ساقط, لأن القول بلإباحة التكفين فيه اللازم في نازلة الساتر الاباحة الأحروية, لأن التكفين في الحرير لياس, فيدخل في عموم النهي ويندرج فيه, فإذا استثنى وأخرج على هذا القول من طي ذلك العموم فريق الرجال
[356/1] لانتفاء علة المنع في حقهم وهي الخيلاء والبطر والكبر بالموت, وأُبقِي على الأصل في حق النساء, كان هذا نوع من التخصص بالمعنى, والتفات إلى ارتفاع المعلول بارتفاع علته, وهو العكس, وفيه ما فيه من العلل الشرعية, ومع كونه مسمى لباس فأحرى وأولى ما وضع على حائل وليس من مُسمى اللباس في شيء. فتصور الإباحة الأحروية على هذا القول في غاية الجلاء والوضوح. وأما على القول بمنع التكفين فيهما فلا يلزم عليه المنع هنا لتمحض السرف فيهما. أما الرجال فَلِلْعمل بحكم الاستصحاب. وأما في حق النساء فلانتفاء ثمرة الإباحة عنهن بالموت فلم يبق إلا لمحض السرف في حقهن لغير معنى. وهذا عكس الذي قبله حكماً وتوجيهاً مع الالتفات أيضاً إلى كونه في الرجال مسمى لباس, فبقي المنع فيه على أصل العموم لتناول اللفظ له, ولا كذلك الساتر لبعده عن الكفن ومباينته له في الاسم والمسمى. وأما على القول بالتفرقة بين الرجال والنساء فقد جعله من توابع الحياة فيهما فكان غاية في الحسن, فلا يتم الحاق الساتر بالتكفين فيه في جريان الخلاف لوضوح الفارق, فليس إلا الإباحة على مقتضى كافة الأقوال الثلاثة في التكفين قطعاً دون توهم.
وقوله: والنساء كان ذلك مباحاً لهن بالأصالة فمن باب أحرى الآن.
(1/462)
________________________________________
نقول: في تصور هذه الأحروية المباركة نظر ظاهر, لأن إباحته لهن في الحياة إنما كان لغرض التجمل ولتحسين مراهن في نظر الأزواج والسادات, وقد تخلَّفَتْ هذه العلة الباعثة على اباحة شرعية التجمل لهن بالحرير وغيره, فتنتفي الإباحة لانتفاء علتها. هذا كان القياس والأصل, ولكن أجيز لهن في بعض الأقوال استصحاباً للأصل مع ما فيه من الكسر في العلة, وهو وجود الحكم مع انتفاء المدعى علة. فكيف نتصور الأحروية المسكينة على هذا ؟ ولأجل ملاحظة هذا المعنى الذي أشرنا إليه منع في القول الآخر تكفينها في الحرير دفعاً للإنكسار المذكور.
وقوله: ولو كان ذلك محل الزينة لأبيح لهن الحلي.
نقول: ليت شعري ما بيان الملازمة بين الحلي والحرير على القول بجواز
[357/1] تكفينهن فيه, لأن الكفن من كسوة الميت وقد أمرنا بتحسينه, واتخاذه من خالص الحرير لا يخرجه عن مسماه, ولا كذلك الحلي, فإنه خارج عن مسمى الكفن بالكلية لفظاً ومعنى. فالزينة بعد الموت إنما هي بمسمى كفن, وهي مطلوبة شرعاً ولا شيء من الحلي بمسمى كفن ولا هو مطلوب للشرع بعد الممات, فلا تتم له هذه الملازمة. وكما لا يصلح الحلي للتكفين فكذلك لا يصلح للتمييز والتعليم كالساتر والقناع. ولأن السرف فيه أشد والله أعلم.
وقوله: وأما عرفنا اليوم إنما هو الفخر الخ.
(1/463)
________________________________________
نقول: ما نشاهد أنهم يأتون بالأقنعة والوقايات فيضعونها على قباب النساء, ولم نسمع من عاقل ولا سفيه من أوليائهن أنه يتعاظم بذلك ويتفاخر قولا, ولا أخبرنا بنيته وسوء طويته, ومطلق الفعل لا دلالة له وضعاً. والمتبادر للأذهان السليمة من مطلق ذلك الفعل التمييز, ثم المميز يتفاوت غالباً حسنه جنساً ونوعاً بتفاوت أقدار أوليائها وعلو منازلهم في الدنيا بالجاه واليسار, وقصد المباهاة والفخر لا يعلم إلا من قبلهم ولا يخطر ببال المشاهد له والناظر إليه إلا بالاخطار. ومن زعم أن أهل الوقت إنما يفعلون ذلك إظهار للفخر والمباهاة, وشق على بواطنهم التي لم تنط الشرع بها في غير البياعات الأجلية وما جرى مجراها حكماً, فقد أساء الظن بهم, وتحامل على خلفهم وسلفهم, سامحه الله وغفر له.
[أقسام البدعة]
وقوله: والناس اليوم والعياذ بالله ارتكبوا هذه البدعة العظيمة الخ.
نقول: الفاضل أبو خفص عمر لم يبين في كتبه حكم هذه البدعة, هل هو التحريم أو الكراهة؟ وأصحابنا وإن اتفقوا على إنكار البدع في الجملة فالتحقيق الحق عندهم أنها خمسة أقسام:
الأول: بدعة واجبة إجماعاً وهي تدوين قواعد الوجوب كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع والدثور, فإن تبليغها لمن بعد واجب إجماعاً, وإهماله حرام إجماعاً.
[358/1] الثاني: بدعة محرمة إجماعاً, وهي ما تناولته أدلة التحريم وقواعده كالمكوس وتقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشرعية بالتوارث والجاه لمن لا يصلح لها.
الثالث: بدعة مندوب إليها, كصلاة التراويح وإقامة صور الأيمة والقضاة والولاة بالملابس والمراكب, وهو خلاف ما كان عليه الصحابة, فإن التعظيم في الصدر الأول كان بالدين, فلما اختل النظام وصار الناس لا يعظمون إلا بالصور كان مندوباً لنظام الخلق.
(1/464)
________________________________________
الرابع: بدعة مكروهة, وهو ما تناولته قواعد الكراهة, كتخصيص الأيام الفاضلة بنوع من العبادة. ومن الزيادة على القرب المندوبة كالتسبيح ثلاثاً وثلاثين والتحميد ثلاثاً وثلاثين والتكبير والتهليل أكثر مما حده الشرع فهو مكروه لما فيه من الاستظهار على ما وقَّتَهُ الشرع وقلة الأدب معه, فإن شأن العظماء إذا حدوا شيئاً أن يوقف عنده, ويعد الخروج عنه قلة أدب.
الخامس: بدعة مباحة وهو ما تناولته قواعد الإباحة, كاتخاذ المناخل لإصلاح الأقوات, واللباس الحسن والمسكن ونحوه, فالحق في البدعة إذا عرضت أن تُعرض على قواعد الشرع, فأي القواعد اقتضتها ألحقت بها. وبعد وقوفك على هذا التحصيل والتأصيل لا تشك أن قوله صلى الله عليه وسلم كُلُّ بدعةٍ ضَلاَلةٌ من العام المخصوص كما صرح به الأيمة رضوان الله عليهم, فإذا كان مخصوصا فقد اختلف الأصوليين في الاحتجاج بالعام المخصوص, فأثبته العلماء وأنكره ابن أبان وأبو ثور وغيرهما. وعلى صحة الاحتجاج به في الباقي فمن أي أقسام البدع المتقدمة هذه البدعة التى الكلام فيها؟ لم يبينه المجيب, إلا أن وصفه إياها بالعظم واستعاذته منها يدكّان ظاهرة على أنها عنده بدعة محرمة قبيحة منكرة مذمومة مذموم فاعلها. وهذا توريك منه على ما زعم من شهادة العرف واطراده بقصد المباهاة, فإن ثبت قصد المباهاة في وضع الساتر المذكور, فلا يستوحش حكم التحريم فيه, كبناء المباهاة على القبر, وزيارة أول سابعة على قصد المباهاة. فقد حكى القاضي في الإكمال اتفاق المذهب على منعه, وإنما الخلاف في زيارته للترحم عليه والاستغفار له, فأجازه القرويون ومنعه الأندلسيون
[359/1] وشدَّدو الكراهية فيه, إلا أن في إثبات قصد المباهاة في المسألة عسر كبير (كذا) لا يخفي.
وقوله: فهذه مصيبة نزلت بنا فأقول إنا لله وإنا إليه راجعون.
(1/465)
________________________________________
نقول: لما تقرر عنده ما تقرر من أمر هذه البدعة وأنها ليست بخفيفة بل هي من المصائب الكثيفة حسن منه أن يختم جوبه بالاسترجاع, إ هو السنة عند المصائب والنوائب, ثبتنا وإياكم على السنة وحسن الاتباع, ووقانا وإياكم شر الابتداع, وكل ما تشمئز منه النفوس وتستّد الأسماع, بجاه من انعقد على كماله لسان الإجماع.
وأما الفاضل المذكور جعله الله عند اسمه, ونفعه بعلمه وذكاء فهمه, فقد غاص على مطالع ما تقدم بعقله المصيب, وضرب بكتيبة عقب كتب كل من الفاضلين بأوفر حظ وأجزل نصيب, زاده الله طرفاً, وبارك له فيما قيده عليهما وسطاً وطرفاً, فنقول:
وقوله: وقد ثبت عن الفقيه ابن عرفة إلى آخره.
نقول: هذه الفتوى التي أضافها إلى شيخ الاسلام, ولبنة التمام, على هذه الصفة أبي عبد الله بن عرفة, لم أقف عليها ولا أتقلّدُ القول بها, والذي وقفت عليه من كلام محي الدين النووي ما نصه: والانحناء بالرأس مكروه, والسلام الإشارة من غير نطق مكروه في حق الناطق مستحب في حق الأخرس. فإن كان المسلم عليه بعيداً جمع بين النطق والإشارة. والسجود الذي يفعل بين يدي المشايخ ونحوهم حرام شديد التحريم. وهذا والله اعلم مع عدم تقبيل السبابة المشار بها ضميمة تقبيلها كالشائع الفاشي في عرفنا فتشتد الكراهة عنده, والله اعلم, وتتأكد. وخرج(1) أنس رضي الله عنه أنه قال : قال يا رسول الله, الرجلُ مِنا يلقَى أخاهُ وصديقَهُ أينحَني لهُ؟ قال لا قال ولم يات معارض لهذا الصريح عن الانحناء, ولا يغتر بمن يخالفه ممن ينسب إلى فقه أو فضل, فإن الاقتداء إنما برسول الله صلى الله عليه وسلم, لقوله تعالى وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهو. وليحذر الذين يُخالفون عن امره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. وقال بعض
[
__________
(1) هنا بياض.
(1/466)
________________________________________
360/1] الموفقين ولا يخفى على من له ذوق في العلم أن الاعتماد القوي أو الأقوى, فيما يصدر عن أيمة الفتوى, كالأيمة الأربعة وغيرهم, إنما هو على قولهم لا على فعلهم, وإنما يكون الفعل حجة من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة رضي الله عنهم المجتهدين في الأحكام لا المقلدين على خلاف في مذهب الصحابة انتهى. ولما ذكر محي الدين أيضاً الرغائب المعروفة في اول ليلة جمعة من رجب, وقرر ما اشتملت عليه من الرذائل والمنكرات قال: وقد صنف العلماء كتباً في ذمها وإنكارها وتسفيه فاعلها, ولا يغتر بكثرة الفاعلين لها في كثر من البلدان ولا بكونها مذكورة في قوت القلوب وإحياء علوم الدين ونحوهما, فإنها بدعة باطلة. وتذكر نقل اللخمي عن سحنون أنه زّوَّجَ أمته غرمه على إن سرق زيتونة كان أمر امرأته بيده, وقبله الأكثرون, وتعقبه ابن بشير بأنه فعل بشر, وهو لا يدل على جواز فعل أو لزومه إلا من وجبت عصمته فأنت ترى هذه النصوص كيف صرحت بأن العلم لا يحتج بفعله وإنما يحتج بقوله, فاحتجاجكم على الخصم بفعل شيخنا وشيخ شيوخنا فاتح أقفال معضلات المعاني, وفاتح المآخذ والمباني, سيدنا البركة أبي الفضل قاسم العقباني, برد الله ضجعته, وأكرم مآله ورجعته, إن شاهدته منه عيانا, وللاحتجاج فيه بياناً, لا ينهض لكم حجة عليه لما تقدم من النصوص, ولما فيه من المصادرة, وهو الاستدلال بمحل النزاع والخصم لايسلمه. وانظر هذا مع ما قدمنا, وقد نص أيمة الهدى الخ وقابله به. وقد يتخرج الجواز في الإشارة بالأصبع وتقبيلها على ما قدمنا من فتوى عز اليدن بن عبد السلام الشافعي بإباجة القيام, وإن ناقشه في ذلك ابن الحاج في مدخله بمطول من الأدلة أجاد في تقريرها ما شاء رضي الله عنهما. والجامع بينهما أن القيام فيه غوائل تكبر في المقوم له, وغوائل تدابر وتقاطع فيمن لم يقم له إلى غير ذلك. فكذلك هذه الإشارة بالأصبع وتقبيلها عند السلام بها والله أعلم.
(1/467)
________________________________________
وقوله: ودليل هذا الفقيه الخ.
نقول: الفقيه أبو حفص, سدده الله, لم يذكر في جوابه لحكم الإباحة دليلاً عاماً ولا خاصاً. وإنما أشار إلى التردد فيه على تسليم صحة محله, وهو كونه ستراً ليس إلا. وهذا القدر لا يوجه عليه من الاعتراض ما وجّهتم. نعم
[361/1] يتعقب عليه بأنه شك, والشك لا يكون حكماً. وقد بالغتم في الانحناء على الفقيه أبي حفص والأمر دون ذلك, فلا يخفى ما في بقية كلامكم من المسامحة, سامحنا الله وإياكم, وختم لنا ولكم بالحسنى, وسلك بنا وبكم المنهج الأسنى. قاله وخطه العبد المستغفر الفقير إلى الله, الآوي إلى كرم مولاه, المسلم على من يقف عليه, الراغب في توجيه صالح دعائه إليه, أحمد بن يحيى بن محمد بن علي الونشريسي, وفقه الله, حامداً ومصلياً ومسلماً على خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم كثيراً أثيراً. وذلك في الخامس لشهر رمضان المعظم من عام تسعة وتسعين وثمانمائة, عرفنا الله خيره وبركته.
[363/1] نوازل الزكاة
[القمح والشعير جنسان عند الشافعي وكذلك الذهب والفضة]
سأل الشيخ أبو القاسم السيوري رحمه الله تعالى: هل يصح عن الشافعي أنه قال لا يجمع بين الذهب والفضة والقمح والشعير في الزكاة أم لا؟
فأجاب ذلك صحيح عنه, وله وجه صحيح, ورجحه في سؤال آخر وأخذ به عبد الحميد الصائغ أيضاً. قيل من هنا أخذ أن الشيخ مال لمذهب الشافعي في أن القمح والشعير جنسان في الربويات, وفي السلت نظر عنه, هل هو من القمح أو من الشعير؟ وأما الذهب والفضة, فمذهب ابن لبابة فيه كالشافعي, وكذا المعز مع الضان في جمعهما في الزكاة. وإن كان وقع في المدونة ما يوهم ذلك بعد أن حكم بالجمع من قوله وهم أصناف في البيوع انتهى.
(1/468)
________________________________________
قلتُ: أحفظ من خط شيخ شيوخنا الإمام أبي الفضل ابن الإمام رحمه الله أن الشيخ أبا القاسم السيوري أقسم بالمشي إلى مكة ان لا يفتي بمذهب مالك في ثلاث مسائل: إحداهما هذه, والثانية مالك لا يقول بخيار المجلس والسيوري يثبته وفاقاً لابن حبيب والشافعي. والثالثة التدمية البيضاء, مالك يُعْمِلُها والسيوري يهملهما وفاقاً لابن كنانة وبه جرى العمل. وقيدت من خط المحدث الحافظ الخطيب أبي عبد الله ابن رشيد(1) رحمه الله
[364/1] أن الشيخ محمد بن عبد الملك قاضي مراكش كان يقول: الشعير الذي هو مع القمح جنس واحد إنما هو ما قارب القمح في الدقيق كشعير الحجاز وبعض البلاد, وأما المتباعد فلا. وهو تنبيه حسن لو قيل به انتهى. وقال الأبي في كتاب التفليس من شرح مسلم: وكان ابن الحباب من شيوخ شيوخنا يحكي أنه بتونس جماعة من الظاهرية, فكان بعضهم يشنّع ويقول: القط أفقه من مالك في المسألة, فإنه إذا رُميت له لقمتان إحداهما شعير والأخرى قمح فإنه يأنف عن الشعير ويقبل على الأخرى. قال وما حُكِي عن السيوري أنه حلف بالمشي إلى مكة ليخالفن مالكاً في المسألة فمبالغة. ولا يقال حلفه على الظن الذي قيل فيه إنه من الغموس, لأنه إنما حلف على أن يخالف وقد فعل.
[تؤخذ الزكاة من الغاصب]
وسئل عن الغصاب يعطون زكاة غنمهم ولا يقدر على رد ما في أيديهم إلى أربابها, هل يقبل منهم؟
فأجاب تؤخذ منهم وتعطى لأهل الحاجة إذا لم يقدر ردها لأربابها, ولا يعرفون ولا تمكن معرفتهم, وغير المحتاج لا يأخذ, وكذلك المقتدي به, قيل أجري وأخذها منهم مجرى أقوال مستغرق الذمة وظاهرالمدونة أن الزكاة تؤخذ منهم من قوله فيمن غصب ماشية فكانت الزكاة تؤخذ منها أجزأت عن أربابها. إلا أن يقال إن هؤلاء معلومين (كذا) وكأن الغاصب نائب عنهم, بخلاف من لم يعلم وتعذرت معرفتهم.
[
__________
(1) في المطبوعة الحجرية: "ابن رشد" وبهامشها: "في نسخة: ابن رشيد". وهذا الأخير هو الصحيح.
(1/469)
________________________________________
تسقط زكاة قدر ما يأخذ الكلمة من الزرع والزيتون]
وسئل عما يأخذ الأعراب قطيعة على الزرع وحب الزيتون من العين, هل يسقط زكاة ما يقابله أم لا؟ وبعض الأعراب يزكي, فهل يشترى من الفقراء الشاة المأخوذة منهم أم لا؟
فأجاب يؤمرون بالزكاة المذكورة, ويسقط من الزكاة قدر ما ذكرت مما يؤدونه.
[365/1] وسئل عن أهل الزرع والزيتون يحرز عليهم الأعراب والسلطان الزرع والزيتون قبل حصاده أو قطافه وعصره, ويجعلون عليهم مالاً كثيراً عيناً, ويؤخرون قبضه بعد حصاده أو بشهر أو شهرين, هل يسقط عنهم من الزرع بقدر ما ألزموه من المغارم ويزكى ما بقي؟ أو يزكى ذلك كله؟
فأجاب يسقط من الزكاة بقدر ما أخذ منهم وإنْ لم يؤخذ من عينه.
[التخريص في الثمر]
وسئل عن التخريص في الثمر.
فأجاب يقدر مع اليبس, ولا يخرص الزيتون, لكن إذا انتهى إلى غاية أمره, فإن كان فيه خمسة أو سق أخذ منه
وأجاب ابن محرز بأن الثمر الذي لا يؤكل إلا رطباً يقدر ما فيه أن لو يبس وعليه يعول.
[من باع زيتونه زكى ثمنه أو ما خرج منه زيتاً عند المشتري]
وسئل عمن باع زيتونة لغير ثقة في أخباره بما يحصل منه, فهل يعمل على خبره؟ أو يؤدِّي من ثمنه وهو أكثر مما أقر به المشتري من الزيت؟
فأجاب إن فعل أجزأه, وإن زاد عليه بيسير استظهاراً للذي من العصر فحسن.
وسئل عمن له جنات منها ما يعمل بالسانية ومنها ما يعمل بالماء الكصير أو الصغير, ولهما رجال يعملون بإجارات مختلفة, فالذي يعمل في السانية له بالخمس, والآخر بالعشر, فهل تجوز الإجارة أم لا؟ فما يؤخذ منه هل يطلبون بزكاته؟ أو إنما يزكي رب الأصل؟
فأجاب لا تجوز هذه الإجارة والزكاة على رب الأرض.
[تعطى الزكاة لفقراء البلد وللغرباء]
وسئل عن قادمين على بلد هل يعطون من الزكاة كما يعطى فقراء البلد؟ أو يخص بها أهل البلد؟
[
(1/470)
________________________________________
366/1] فأجاب أهل البلد هم الذين يعطون. قيل كان اكثر من لقيناه يقول يعطون كأهل البلد, وبعضهم يفرق أن يقيم أربعة أيام فأكثر أولاً, ويخرج فيها من الكلام ما في تلك. والصواب الإعطاء مطلقاً لأنه إما من أهلها أو ابن سبيل, وكل واحد له حق بنص التنزيل. واحتج الشيخ المفتي بقوله صلى الله عليه وسلم خُذها مِن أغنيائِهم ورُدَّها في فُقرائِهم, والإضافة تقتضي الخصوصية, فيكون من باب تخصيص العموم بخبر الآحاد, وفيه خلاف, ويراها من باب نقل الزكاة. ومنعها سحنون وأوجب الإعادة. والمشهور الجواز, بل هو راجح إذا كانت حاجة المنقول إليهم أشد, وأشار إليه مالك في المدونة. الباجي وهذا إذا نقل ذلك إلى مسافة القصر, وأما دونه فهم في حكم البلد الواحد. وعندي أن يجري على الخلاف في مسمى قوله تعالى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. وفيه ثلاثة أقوال.
[تعطى الزكاة لولي المعتوه ولا تعطى لتارك الصلاة]
وسئل عن فقير خالط عقله شيء, هل يعطي من الزكاة؟ وكذا قليل الصلاة؟
فأجاب من فقد عقله سقطت الصلاة عنه ويعطي لوليه من الزكاة ما ينفقه عليه, وإن لم يكن كذلك في عقله فيعاد السؤال عليه. وقيل الصلاة لا يعطى من الزكاة.
[اليتيمة الخادمة في الدار تعطى من الزكاة]
وسئل عن كافل يتيمة تخدمه وهو يطعمها ويكسوها, هل تعطى من الزكاة ما ترتفق به في كسوتها أو تتجمل به في العيد أو متى تزوجت؟
فأجاب ليس مثل هذا تسألني عنه مع كثرة المسائل التي عندك, فعللها معلومة وما تنبني عليه موجود عندك. قيل لم يعطه جواباً حقيقياً وأحاله على ما عنده. والذي سمع من الشيخ ابن عرفة رحمه الله انها تعطى من الزكاة ما يصلحها من ضروريات النكاح, والأمر الذي يراه القاضي حسناً في حق المحجور. وقيل الصواب إن قابل شيء من الزكاة خدمتها فلا تجزئي, لأنه
[367/1] قد صون بها ماله. وكذا إن لم يصون ويعلم أنها لو لم تخدمه لم يعطها شيئاً فلا يعطيها أيضاً.
[
(1/471)
________________________________________
تعطى الزكاة للفقيرات ولو عملن وكان لهن أخ عني]
وسئل عن فقيرات لهن عمل يد وأخ يردفهن, هل يعطين من الزكاة؟
فأجاب يعطين. فقيل له إن منهن من يتهم بمال وهو ينكر, فقال إن قويت التهمة فهي شبهة فمن أعطاه أجزأه. وفي أحكام الشعبي: لا يقبل قول الرجل أن عنده من يستحق كفارة الأيمان إلا بالبينة, ولو كان فاضلاً ديناً لم يقبل قوله, لأن شهادته تجر إلى نفسه.
وسئل عن فقراء في بلد قربهم قرية أخرى فيها فقراء, هل يبدأ بفقراء بلده أم لا؟ وكيف إن كان الخارجون أحوج؟
فأجاب : يبدأ بفقراء بلده ويعطى الآخرون ما فضل عنهم, هذا المستحب.
[تعطى الزكاة للفقير ولو كان له ولد غني]
وسئل السيوري عن أحد الأبوين فقير له ولد غني يأبى أن يطلب نفقته منه, هل يعطى من الزكاة؟
فأجاب بأنه يعطى من الزكاة, قيل لأنها لا تجب له إلا بالحكم, فإذا ترك الطلب فكأنه لم يكن له ولد.
[الدنانير والدراهم المشوبة]
وسئل عمن له دنانير أو دراهم مشوبَة في كم تجب الزكاة فيها؟ وهل يخرج من عينها أو قيمتها؟ وعمن له عين أقامت عنده أحد عشر شهراً ثم اشترى بها سلعاً غير فارٍ فهل يستأنا(1) بالزكاة حتى تباع السلع أو لتمام حولها؟
[368/1] فأجاب أما الأولى فينتظر إلى ما فيها من الخالص من الذهب والفضة, فإن حصل زكى من عينها على حساب المائتين مسكوكة خمسة دراهم. ومن عنده عشرون ديناراً من دنانير الوقت مخلوطة فلا زكاة عليه فيها حتى يبيع.
[الدراهم المغشوشة]
وسئل عمن له مائتا درهم من هذه السكة هل يعطي منها خمسة دراهم من دراهم هذا الزمان؟ وهل يجوز له التارطل بها وبعضها أفضل من بعض وقبولها الناس فيربحون فيها أو يدفعونها لأنها لا تظهر نحاساً كما تظهر الأخرى؟ وهل يقطع في ثلاثة دراهم منها ويحلف عليها في الجامع؟
__________
(1) كلمة عامية معناها ينتظر.
(1/472)
________________________________________
فأجاب لا زكاة في مائتي درهم من هذه ولا يقطع ولا يحلف في ثلاثة دراهم منها في الجامع, ومراطلتها تجوز عند أشهب, إذ لا يتهم على أن يأخذ دنيّاً بجيّد.
وسئل عمن وجبت عليه الزكاة وفي بلده فقراء لا تحفظ له في دينهم, وفيما بعد منهم قوم لهم تحفظ في دينهم.
فأجاب الحاضرون يعطون أحب إليَّ, فإن أخرج إلى الآخرين شيئاً ووصل إليهم أجزأه إن شاء الله, وكذا إن دفع إلى وكيل الحاضر.
[دفع الزكاة للأقارب]
وسئل عمن له أقارب فقراء, هل يعطيهم من زكاة ماله؟ وهل يفضلهم على غيرهم إن أبحث إعطاءهم؟ وكيف يحسب ما يجد من الطعام؟ هل المعتبر ما وصل لداره؟ أو هذا مع ما خرج عنه لمن يتولى سقيه وحصاده ودراسه وذروه؟ ومن هؤلاء من يستأجر من يسقي الزرع بجزء معلوم ومن يعمل هل يخرج عن هذا الجزء أم لا؟
فأجاب أما تفضيلهم على غيرهم فلا, إلا أن يخصهم لشدة فقر أو دين أو يعطيهم كغيرهم إذا سلم من أن يعطيهم لدفع مذمة الناس عن
[369/1] نفسه. وكل ما خرج بعد الطيب للحصاد والدارس والإجارة فيحسبه, وإن دفعه مساقاة على القول بتسويغها في الزرع فحكمه حكم زكاة المساقاة, وهو بين.
[من دفع جهلاً أكثر مما يجب عليه في الزكاة]
وسئل الشيخ ابو محمد عبد الحميد الصائغ عمن له زرع في سانية تشرب الدلو, فوجد فيها نصاباً فأخرج منه العشر جهلا أنه يلزمه نصف العشر, ثم وجد زرعاً يخرج منه العهشر, فهل يحاسب بقدر ما زاد جهلا في الأول أم لا؟
فأجاب يخرج العشر عن هذا الآخر كاملاً ولا يجتزىء بالأول. قيل إن وجد ذلك بأيدي الفقراء أخذه, كما إذا دفع الكفارة أو الزكاة لمن يستحقها من عبد أو غني, فإن فاتت فلا تسترجع. وكمسألة من عوض من صدقته جهلا أن ذلك يلزمه, وفي هذا الأصل اختلاف في مسألة من صالح عن دم الخطأ وظن ان ذلك يلزمه.
[لا يحاسب الفقراء بالنفقة على الزرع]
وسئل عما ينفق في الزرع والزيتون من الأجرة, هل يحاسب بها الفقراء لاسيما على القول أنهم شركاء أم لا؟
(1/473)
________________________________________
فأجاب الصواب أنه على أرباب الأموال كالزريعة والسقي والعمل. ووقع لبعض من تقدم كلام فيه نظر, وما قدمته مضي عليه العلماء.
[زكاة العنب الذي لا يتزبب]
وسئل الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الأغصاوي عن أهل بلد لهم عِنَبٌ لا يتزبب وإنما يعصرونه ويصيرونه رُبّاً, فطولبوا بالزكاة على الوجه الشرعي, غير ان الإمام أبده الله حملهم في صفة خرصِهِ على قول عبد الملم, وهو ان يعتبر فيه النصاب عنباً على حاله كما في عملكم حفظكم الله. فإذا صح الخرص فيه هذا القول, فما الواجب المخرج منه؟ هل العشر من عينه عنباً؟ أو قيمة العشر على ما يساوي في كل موضع من البلد
[370/1] المذكور؟ فإذا قلتم إن الواجب فيه قيمة العشر, فإن قيمة العنب لا تعرف بهذا البلد لكونه لا يباع فيه, وإنما يعرف ما يخرج منه عصيراً أو بعد طبخه, إذ العصير والرُّب هو الذي يباع عندهم, فهل يجوز إخراج قيمة العصير الخارج من العشر؟ أو قيمة العشر عنباً على ما يساوي في أقرب المواضع على البلد المذكور؟ بين لنا ذلك.
فأجاب بما نصه: الجواب إذا كان كما وصفتم تعين أن تخرج زكاة العنب ربُاً, إذ هو أحظى للمساكين, وهو مقتضى ما قاله الشيخ أبو الوليد ابن رشد رحمه الله. ونص ما قاله: ولو كان لا يتزبب لم يلزمه أن يخرج الرب إلا عن شاء, ويخرج قيمة عشره, وإن أخرج حباً وصرفه في المساكين أجزأه. فتلخص من كلامه أنه إن شاء أخرج ربُّاً أو قيمة عشره او العشر حباً. فإذا كان هذا في موضع يباع فيه العنب وتعرف قيمته, فإنه يتعين في مسألتكم إخراج الزكاة ربُّاً. وقد قال ابن رشد آخر كلامه: وينبغي أن يفعل ما هو أرفق بالمساكين, والذي هو أرفق خير لهم, والله الموفق لا رب غيره ولا معبود سواه. وكتب بن عبد الكريم الأغصاوي.
[لا يعتبر الجفاف في الزيتون بخلاف التمر]
وسئل الشيخ أبو الحسن اللخمي رحمه الله عن قول ابن سحنو يعتبر الجفاف في الزيتون كالتمر.
(1/474)
________________________________________
فأجاب هذا ليس بصحيح في القياس, ولا أرى أن ينظر إلى نقصه إذا يبس, بخلاف التمر, لأنه لا ينتفع به إلا بعد يبسه. والزيتون ينتفع به وقت خرصه, وعصره وقت خرصه أحسن منه بعد يبسه, وإنما يتركه في الأنذار اشتغالاً بخرص غيره أولاً, وليس تركه للإنتفاع به. والقصد بطيبة عصره قرب خرصه قبل يبسه, ولهذا كان الجواب فيه بخلاف التمر, ونقله الصقلي عن السليمانية.
[إذا استغنى النخل أو زرع السقي بالمطر أخرج منه العشر]
وسئل عن زرع السقي أو النخل إذا استغنى بالمطر عن القرب والزيادة بالماء.
[371/2]
فأجاب عليه زكاة العشر, وإن لم تستغن عن السقي على العادة والمطر قليل زكى الجميع نصف العشر.
[من يملك شيئاً لا يكفيه يعطى من الزكاة]
وسئل عن شيخ زمن له بيت يكريه بنحو الدرهمين في الشهر, وغرفة تصدق بها على ولده وهو يسكن معه, أترى أن يعطى من الزكاة والكفارة وليس له من أن يعيش إلا من كراء ذلك البيت ولا يكفيه؟ وهل يكفي من أعطاه من ذلك أم لا؟
فأجاب إذا كان كسب الشيخ ما ذكرت فهو من عداد الفقراء, فيأخذ من الزكاة والكفارة كما يأخذون.
[من صرف زكاته كلها لأخته أجزأته]
وسئل عمن صرف زكاته كلها لأخته.
فأجاب ذلك يُجزىء عنه وهو أفضل من جعله زكاته في غيرها.
[دفع الزكاة للأقارب]
وسئل هل يسوي بين قرابته والفقراء في الزكاة؟ أو يؤثرهم أو يفضلهم عليهم؟ وكذا تفضل بعض قرابته على بعض؟
فأجاب اختلف المذهب في ذلك, واختار أن يفضل قرابته ويوسع عليهم, وهو الذي تقتضيه الأحاديث, فإن كان في الزكاة اتساع فيفضل الشقيق على الكلالة ولا يحرم الآخر, فلا أرى لرب المال أن يخص بزكاته إلا من تقن أنه من أهل الصلاة, فإن شك فلا يعطيه, فإن فعل أجزأه والكفارة كذلك. ويعطي الأوسط من الشبع المعتاد عندهم, كان أكثر من مد أو أقل, ويعطي معه الإدام.
(1/475)
________________________________________
وأجاب القيرواني أبو الطيب إعطاء القرابة أولى عندي ممن يساويهم في الفقر, ويعطي على قلة الزكاة وكثرها. وإن كان لا يعطف عليهم وليس لهم مرفق فلا بأس بإعطائهم قوت سنة. ودفع الزكاة إلى الأصلح حالاً أولى
[372/1] من دفعها لسيء الحال, إلا أن يخشى عليه الموت فيعطى. وإذا غلب على الظن أن المعطى له ينفقها في المعصية فلا يعطى ولا يجزىء إن وقعت. ومن لا يلزمه نفقته وليس في عياله ولا عادة برفقه فيحوز له إعطاؤهم, وليجتهد في ذلك, إلا أن يقصد محمدتهم ولا دفع مذمتهم.
وأجاب أبو عِمْرَانَ عن مسألة إيثار القرابة إن لم يجر محمدتهم ولا دفع مذمتهم وصح ذلك فله الإعطاء كما يعطي أمثالهم من فقرهم وحاجتهم وتعطفهم.
وسئل عمن له رأس مال يتجر به وغالب تصرفه في مداينة الناس أكثر من الحكرة بماله من سلعة, وغالب سلعته طًولُ إقامتها وإعطائها ديناً واقتضاء متقطع, ويأخذ من هذا ثلث ما عليه, ومن الآخر ربع ما عليه إلى غير ذلك, وربما دخل حول على حول, هذا دأبه لقلة إنصاف الناس فلا تنضبط له الأحوال فيما يؤدي زكاته.
فأجاب إذا لم يمكنه تحصيل حول كامل على حدة, وأكثر حالته على ما وصفته, فحكمه حكم المدير يقوم ما عنده, ويزكي ويجعل لنفسه شهراً يستمر بالزكاة عنده. قيل هذا قول الفقهاء إذا اختلطت أحوال الاقتضاءات ضم الأخير منها للأول إذا كانت للحكرة. وأما الإدارة فيجعل لنفسه شهراً من السنة وهل أول السنة الثانية أو وسطها أو مخير؟
وسئل عمن باع زيتونه أو غلة نخله فأخرج العشر من الثمر, هل يجزئه ذلك أم لا؟ وإنما لم يستثن عشر المساكين في البيع لكون المشتري لا يؤمن عليه ذلك. وما ترى فيمن أخرج عشر الثمر وقد باعه بسراً هل يجزيه أم لا؟ لأنه لا يصير تمراً إلا بعد الجداد وتعليقه في السقف الشهرين, وحينئذ ييبس وتأخيره هكذا يضر بالفقراء.
(1/476)
________________________________________
فأجاب إذا كان استثناء جزء المساكين يؤدي إلى دخول الضرر والنقص فيجوز البيع, وهو أفضل لهم. وتقدم الجواب أن إخراجه بُسْراً جائز, لأن الغالب من تمار قفصه أنها تجد بُسْراً ثم تصير تمراً, فليس في
[373/1] بقائها عنده منفعة, والذي يأخذه أقدر عليه, إن شاء عجل المنفعة وإن شاء أبقاه تمراً.
وأجاب الصائغ: يترك إلى أن يصير تمراً وييبس.
وأجاب عن مسألة البيع وعدم استثناء العشر لأن المشترين غير مأمونين بأنه يخرج من الثمن.
[الإنسان وكيل في تفرقة زكاته فليجتهد]
وسئل عمن له قريبة فقيرة لا تقدر على التسول والتصرف, هل يخصها بماله قدر من زكاته أم لا؟
فأجاب يعطيها على قدر الاجتهاد, وهو في تفرقة زكاته كالوكيل, فعليه الاجتهاد.
[تقديم زكاة الفطر بيومين أو ثلاثة, وتأحيرها]
وسئل هل تجوز زكاة الفطر قبل الفطر بيومين وثلاثة وهو واجد, هل يأثم في ذلك أم لا؟
فأجاب إخراج زكاة الفطر قبل الفطر بيومين وثلاثة مختلف فيها هل تجزىء أو لا؟. وإذا كان الأمر فيها على ما ذكرت أنهم يستعدونها ليوم الفطر رأيت أن تجزىء, وتأخيرها عن يوم الفطر غير جائز إذا كان واجداً. وإذا أخر زكاة الحب أو الثمر هذه المدة مع وجود من يستحقها كان مأثوماً. وقيل كان الشيخ الإمام ابن عرفة رحمه الله يجيز تقديمها أول رمضان ويفتي أهل البلاد إذا أخذها منهم العمال أول الشهر قيمة أنها تجزىء, فخالف في الأمرين جميعاً للضرورة إلى ذلك, بل نقل بعضهم عنه أنه كلما أخرجها ولو قبل الشهر أنه يجزئه, والأول هو المعلوم منه, وهو يجزي على مسألة ما لم يجب وجرى بسبب وجوبه. ومنه مسائل من تقديم الزكاة قبل الحول, والكفارة قبل الحنث وغيرها, ذكرها القرافي وغيره.
[374/1] [حكم تحلية الصبيان, وهل في حليهم زكاة؟]
وسئل الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله عن حلي الصبيان, هل تسقط الزكاة فيه؟ وفي جواز تحليتهم؟
(1/477)
________________________________________
فأجاب قد أوعبنا الكلام في زكاة الحلي في شرح التلقين. وذكرنا اختلاف الناس فيه وسبب اختلافهم, فينظر فيه, وقد أشار ابن شعبان إلى وجوب زكاة الصبيان بناء على منع تحليتهم بذلك قياساً على الكبار لأنهم وإن لم يكونوا متعبدين في أنفسهم, فالبالغون الذين يملكون أمرهم مخاطبون فيهم على إجرائهم على حكم المكلفين وتمرينهم عليه في مثل هذه المعاني, كما أمرنا أن نخاطبهم بالصلاة ونضربهم عليها وإن كانوا غير مكلفين بها. وبعض أشياخنا يرى أن المدونة يقتضي ظاهرها خلاف ذلك لقوله في كتاب الحج منها أنه لا بأس أن يحزم الصبيان وفي أيديهم الأسورة. وإذا جاز تمكينهم من لباسه والتجمل به سقطت الزكاة فيه لكونه مما يقتنى اقتناء مباحاً. وكشف الغطاء عن هذه المسألة وما يتعلق بها تطلع عليه من الأسرار التي كشفناها في كتاب شرح التلقين لما ذكرنا مذهبنا فيه ومذهب المخالف وبالله التوفيق.
وسئل عمن ابتلي به المسلمون من هؤلاء العرب الذين اقتطعوا أراضيهم ورباعهم ومنازلهم واقتسموها بالسيف وحالوا بينهم وبينها, فيخرج الناس إلى الحرث والحصاد وجمع الزيتون مستوفرين مستعجلين إلى الرجوع إلى مدائنهم, يخاف كل واحد منهم إن تأخر عن أصحابه على نفسه وماله, يتركون في الحرث أرضهم ويحرثون غيرها بحكم وقسم العرب, ويتركون كثيراً من زيتونهم عند جمعه لبعدهم عنه وعدم تمكنهم من الأسباب فيه والمخاصمة عليه, فيحتاجون لضرورتهم أن يستأجروا على جمع الزيتون قبل طيبه بثلثه وربما كان بنصفه, ولو وجدوا العافية لجمعوه على مهل بعد طيبه بأيديهم وعبيدهم, ويستأجرون على حصاد الزرع سبعة أيام بدينار لكل حصاد غير طعامه, ويكون على نقله إلى المدينة بثلث دينار لكل حمل, فربما بلغ كراؤهُ وحصاده للضرورة المتقدمة قدر نصف الزرع وأكثر من ذلك. ولو وجدوا العافية لتولوه بأنفسهم وعبيدهم كما تقدم, والمساكين شركاؤهم فيه
[
(1/478)
________________________________________
375/1] بعشرة. وربما كان أصحابه الزرع مستورين فقراء غارمين, وهل يخرج من ذلك كله ما يلزمه من أجرة وكراء ونفقة, ثم يكون للمساكين عشر ما بقي كما يلزم جميع الشركاء فيما اشتركوا فيه, لاسيما مع ما جاء فيما هو أوكد من هذا منم التخفيف على أرباب الثمار في خرص الزكاة بأن يترك لهم قدر ما يأكلون كما جاء عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بالتخفبف وأمر به بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فإذا خفف عنهم ما كانوا يأكلون, فكيف بما ينفقونه من أموالهم عنه؟ أو يُؤدّونه ضرورة بغير اختيارهم؟ وقد احتج لبعض من أسقط الزكاة عنهم في الخرص لما يأكلونه بقوله تعالى كُلوا مِن ثمرهِ إذَا أثمرَ وآتُوا حقّهُ يومَ حَصَادِه.
(1/479)
________________________________________
فأجاب أما ما سألت عنه من الاتيجار على جمع الزيتون بجزء منه وذلك قبل طيبه, فإن المسألة منصوصة في الدواوين المشهورة وهي الاستيجار على حصاد الزرع أو جمع الزيتون بجزء منه أو بجزء مما يجمع منه كل يوم إلى غير ذلك مما ذكره في كتاب الجعل والإجارة من المدونة وغيرها. فإن كان إنما أشكل عليك كون ذلك قبل الطياب لكون بيع الثمر قبل الطياب لا يجوز, فإن بيع الثمر قبل الطياب إنما بشرط التبقية, وأما بشرط القطع فجائز. فإذا عقد هذا على أن يقطع على الفور فهذا أحرى بالجواز, وأما بيعه على التبقية فإن ذلك يمنع إذا شرط النقد, وأما لو شرط وقف الثمن على سلامة الثمر, فإن سلمت الثمر إلى الزهو والطياب صح البيع وانتقد الثمن, وإن هلكت الثمار قبل الزهو فلا ثمن على المشتري ولا يلزمه دفعه, فإن هذا مما كان الشيخ أبو القاسم السيوري رحمه الله يجيزه, ويرى أن تعليل الحديث يقتضي جوازه لقوله في الحديث: أرأيت إن منع الله فيما يأخذ أحدكم مال أخيه فإنما أشار إلى ما في هذا من الغرر وأكل المال بالباطل. فإذا كان معلقاً إنفاذ هذا البيع على ارتفاع الغرر وسلامة المبيع وبقائه إلى أن يزهو فيجد حينئذ بجزء منه, ويبقى النظر أيضاً على هذا الوجه في استيجار رجل بعينه والعمل بجزء منه , ويبقى النظر أيضاً على هذا الوجه في استيجار رجل بعينه والعمل يشرع فيه إلى أَمَدٍ بعيد أو قريب, وهذا مما يتسع القول فيه في مثل هذه المسألة على الطريق التي أشرنا إليها وبالله التوفيق.
وأما ما سألت مما يؤدي عن أجرة الحصادين فإن ذلك غير محسوب على
[
(1/480)
________________________________________
376/1] المساكين عند الجمهور من العلماء, لأنه سبحانه قال: وآتوا حقهُ يومَ حَصَادِه, فأوجب فيه الحق قبل الحصاد, فاقتضى ذلك أن ما قبل الحصاد لا مطالبة فيه على المساكين, وإذا حاول هذا المزكي أن يرجع على المساكين بجزءهم من إجارة الحصاد ويأخذ بعض الطعام في ذلك ويبيعه لم يمكن من ذلك, لأنه يصير يبيع عليهم ما لم يستحقوه, ولو حالو في الثمار المخروصة مثل هذا بأن يبيع جزءاً من الثمر بعد جذاذه ويأخذ جزءاً منهم لم يمكّن من ذلك, لأنه أخذ من مال المساكين بغير وجه مستحق, فيجري الأمر في الثمر والزرع مجرى واحد على ما أشرت إليك. وأما تخفيف الخرص فأمر آخر وبالله التوفيق.
[أكل طعام من لا يزكي]
وسئل الشيخ أبو محمد بن أبي زيد هل يؤكل طعام من لا يزكي؟
فأجاب في موضع أنه لا بأس بأكله, وفي موضع آخر قال: ومعاملته جائزة وأكل طعامه من غير عوض مكروه إذا دام بحيث يظن استغراق ذمته بها.
قيل إن كان فقيراً او ابن سبيل لا شيء بيده فهو جائز لأنه من أهل الزكاة وإن لم يكن كذلك فيجري الأمر على دين الزكاة, فمن يجعله كغيره فيجري على هبات مستغرق الذمة, ومن يضفعه عن غيره فالإحتياط عدم الأكل, وقد مر السيوري نحوه, ومن يجعله كالمعينات فيشتدّ الأمر, لأن المعينات من حقوق أربابها فلا يتصرف فيها إلا في باب وجوب المؤاساة, وهذا ليس منها.
[من يستحق الزكاة]
وسئل عمن يستحق الزكاة.
فأجاب من لا يكون عنده نصاب العين أو ما قيمته من العروض كذلك, وإن كان من الطعام أكثر من خمسه أوسق ولم تساو نصاب العين فلا يضره, وإن ساواه فلا يعطى. وإن كان له نصف نصاب عينا ومن العروض ما يساوي النصف الأخر فلا يعطى, فلو كانت له كتب فقه قيمتها كثيرة فقال هذا لا غتاء له عنها.
[377/2]
[مِلْكُ كتب الدراسة لا يمنع من أخذ الزكاة]
(1/481)
________________________________________
قيل: أما قوله من له كتب فقه فقال: لا غناء له عنها, فكان شيخنا ابن عرفة يقول: إن كانت فيه قابلية فيأخذها ولو كثرت كتبه جداً, وإن لم تكن فيه قابلية فلا يعطى منها شيئاً إلا أن تكون كتبه على قدر فهمه خاصة فتلغى. وهذا كله على القول بجواز بيعها, وعلى المنع فهي كالعدم. وعلى مذهب المدونة من الكراهة فقال بعض المغاربة لا تمنعه من أخذ الزكاة, ولا تباع عليه الدَّين لأنه مكروه, والشرع لا يجبر على مكروه, الأبي: والحاصل أن الضروري للإنسان لا يمنعه من الأخذ, والضروري لكل إنسان بحسبه, كالفرس لمن هي له كرجليه, كما يتفق لبعض الموحدين ولبعض المرابطين الفقراء, فإن الفرس لا يمنعه من الأخذ, وكالتهذيب والتنبيهات وابن محرز وعبد الحق لمن فيه قابلية الطلب, وكابن يونس واللخمي والبيان والتعاليق لمن فيه قابلية التدريس.
وسئل عمن آثر قرابته بالصدقة.
فأجاب يكره ذلك لعلة القرابة, ولا بأس به لعلة فقرهم يسترهم ويعفّهم عن المسألة.
[لا يجوز ذبح شاة الزكاة والتصدق بها]
وسئل عمن وجبت عليه في زكاة غنمه فذبحها وتصدق بها على الفقراء والمساكين.
فأجاب لا تجزئه لذبحه إياها. فكيف إن أمر رجلاً فقال له اذبحها وتصدق بها. قيل فظاهره أنه لا تجزئه لأن يد وكيله كيده, ولأجل هذه وقعت مسألة وهي أن رجلاً عجن دقيقاً كثيراً للخبز, فظن أن الماء وقعت فيه فأرة, وكان زمن مسغبة. فأفتى ابن عرفة رحمه الله بأن يشترى بثمن بَخْسِ ويصرف لأهل السجن, ووكل رجلاً على أن دفع من زكاته وقال له تصرف فيما يظهر لك في حق أهل السجن, وإن رأيت شراء هذه فافعل, فاشتراها وجعلها ثريداً ولم يدخله لِبَيْتِ النار خشية عرقه فيتنجس قاعته, والنار لا تظهر على الصحيح, ولم يحجر عليه أنه يشتريه بما دفعه إليه. وهذه الفتيا قريبة المأخذ سهلة حسنة.
[378/2]
وسئل عمن وجبت عليه زكاة فاشترى بها ثياباً أو طعاماً وتصدق به .
فأجاب ابن القاسم يقول لا تجزئه, وأشهب يقول تجزئه.
[
(1/482)
________________________________________
لايُجزىء بناء مسجد بمال الزكاة]
وسئل عمن وجبت عليه زكاة هل يبني بها المسجد؟
فأجاب بأنها لا تجزئه على قولهما معاً.
[ما يأخذه الولاة من الزكاة يجزىء]
وسئل عن أخذ الولاة الزكاة هل تجزى أم لا؟
فأجاب إن كان ملك إفريقية جعل له اقتضائها أجزأته, وهو قول أكثر أصحابنا, وإن كان غيره أعاد ذلك احتياطاً فحسن للإختلاف فيه.
قيل: هذا شبه فتوى الشيخ ابن عرفة فيما يأخذه أعراب إفريقية من بلاد الظهائر, إن كانوا خدمة أجزأ, وإن خالفوا على أميرها فلا تجزىء
وسئل عن الذي يجهز الأمتعة إلى مثل بادية مكة ومصر وهو مدير, فأتاه شهره الذي يقوّم فيه, أيقوّم ما حضر معه من ماله فقط؟ أو هذا وما غاب عنه من ماله؟
فأجاب هذا يقوّم إن صح عندي سلامة ما بعث به وأنه وصل إلى الموضع الذي بعث به إليه ونض ثلثه فعليه زكاته, ويكون حوله يوم نضوضه إلا أن تكون بضائع كثيرة يجهزها شيئاً بعد شيء, ومنها ما يتعجل بيعه ويتأخر, فإذا كثُرت هذه البضائع حتى لا يضبط أحوالها كان مقام المدير فيها وفي غيرها, فيكون عليه حينئذ عند الحول تقديم ما حضر منها وزكاته. وينظر فيما غاب عنه فإذا عرف سلامته ووصوله إلى قوام وأمن نظر إلى قيمته يوم تَمَّ حوله هذا فأخرج زكاة ذلك, بيعَ بَعد ضلك أو تأخر بيعه فهو سواء, إلا أن يكسد ذلك عليه فيدخل في حولين فقد اختلف فيه, فابن القاسم يحمله على الإدارة المتقدمة, وسحنون يخرجه منها. هذا معنى قول مالك في المدونة في الذين يجهزون الأمتعة إلى البلدان, إنما يريد الذي تكثر عليه التجارات,
[379/1] فأما الذي له المال والمالان يجهزهما ففي مختصر ابن عبد الحكم لا زكاة عليه حتى ينض, ولا يكون كالمدين حتى يكون ما ذكرنا.
[إعطاء الزكاة الكثيرة لفقير واحد]
وسئل عمن عليه زكاة كثيرة هل يعطيها لواحد بعينه؟ وهل حد مالك أو أحد من أصحابه كَمْ أكثرُ ما يُعطي الفقير؟ وهل يعطيها لواحد وفي البلد من هو مثله أو أحْوج منه؟
(1/483)
________________________________________
فأجاب إذا كثرت الزكاة فرق ذلك بالاجتهاد, وآثر المستور والمتعفف ومن لا يسأل وذا العيال. وإذا كثر المال كان أقوى في كثرة من يعطي. وأكثر ما قال أصحاب مالك أنه لا يعطي نصاباً, لكن أقل منه, يعني أقل من مائتي درهم أو أقل من عشرين ديناراً. واستحب بعضهم إعطاء أربعين درهماً: وذو العيال والمال كثير يعطى نحو المائة درهم, وهذا استحسان واجتهاد. ولو أعطى أكثر من هذا وثم أحوج منه فقد أخطأ وأجزأ ؟
[متى يجوز للإنسان أن يسأل الصدقة]
قيل في تبصرة ابن محرز عن ابن القصار: من كان معه ما يقوم به لأدنى عيشة لم يجز له أن يسأل, وإن لم يكن له شيء فالمسألة له حلال, ويجوز ان يعطى في دفعة واحدة ما يقوم بعيشه إلى آخر عمره.
[تسقط الدراهم المدفوعة جبراً من قيمة الزرع المزكَّى]
وسئل أبو الطيب عن قوم يخرص عليهم زرعهم ويحال بينهم وبينه حتى يدفعوا دراهم عيناً, فحينئذ يَخلىَّ بينهم وبينه, كيف تلزمهم الزكاة؟
فأجاب يحسب جميع ما أخرج من الزرع من الدراهم وتُحَطُّ من قيمة الزرع ويُزكى ما بقي.
وأجاب أيضاً: أما الدراهم التي يَغْرَمُ لأجل الحزر فتحسب على ما رموها عليه دون غيره مما لم يغرَم عليه شيء, ويحسب قيمته يوم الغرم.
[380/1] [تسقط الدراهم المدفوعة جبراً من قيمة الزرع المزكي]
وأجاب ابن محرز عما يغرمه السلطان على حرز الزرع, فالأقوى في نفسي أنه يزكي الجميع ولا يسقط لأجل الغرم شيء. ومن قال يحط عنه بقدر المال فإنما ينظر إلى ما يتحصل منه يوم درسه يسقط قدر المال من قيمته يومئذ لا يوم حرزه.
قيل: الذي كان يختاره الإمام ابن عرفة رحمه الله وجوب الزكاة مطلقاً قياساً على النفقة على الزرع وإن عظمت, وكان يأخذه من المدونة. والمختار عندي إن كانت الجائحة خاصة به فلا يحسب ما غرم, وإن عمت مع غيره اعتبرت قياساً على الأكرية فيما يخص منها.
[لا تجب الزكاة على الشركاء حتى يكون لكل نصاب]
(1/484)
________________________________________
وسئل التونسي متى تجب زكاة التمر بعد يبسه؟ أو ولو بقيت فيه بعض مايتة؟
فأجاب لا تجب الزكاة على الشركاء حتى يكون في نصيب كل واحد نصاب, ويخرص بعد تقدير يبسه وذهاب مائيته ونشافه.
[شريكان حولهما مختلف]
وسئل أبو بكر بن عبد الرحمان عن شريكين لهما عروض ودنانير وبضائع, ووقت خروج زكاتهم مختلف. فإذا قبضت دراهم في حصة أحدهما, هل يخرجها؟ وهل يلزمه إذا باع بشيء إخراج زكاته؟ وهل يزكيا (كذا) مالهما من غائب؟ وكيف لو نَضَّ بعد الحول بشهر أو شهرين أو من يوم ابتداء السنة؟
فأجاب على كل واحد منهما أن يزكي عند حوله, فإن كانا ممن يدير لزم كل منهما زكاته عند حلول أجله, ويقوم عروضه ويزكي دينه إن كان على ملى, وإن كانا غير مديرين لم يقوما عروضهما, وزكي كل واحد ما نّضَّ له إن كان عند حلول أجله وفيه ما تجب فيه الزكاة. وما غاب عنهما من مال لا يعلمان ما هو وهل سالم أم لا, فلا زكاة حتى يقدم عليهما أو يقدم علمه فيزكيهما. ومالهما من عروض فباعاه بعد الحول بشهر أو أكثر زكياه عند قبض ثَمَنِه, وحوله من حينئذ إذا كانا محتكرين, وكذا كل عرض أو شيء بينهما فزكاته من يوم قبض الثمن, وحوله من حينئذ إذا كان ضم الآخر إلى ما قبله.
[381/1] وسئل أبو عمران الفاسي عن زكاة التمر إلى يبسه.
فأجاب لا يأثم, ولكنه يوصي بذلك.
وأجاب السيوري أنه لا يلزم خروج الزكاة إلا بعد اليبس, لقوله صلى الله عليه وسلم: ليس فيما دُونَ خمسةِ أوْسُقٍ مِنَ التمر صَدقةٌ, فذكر التمر, وما قاله أبو الطيب غير صحيح. وكذا ما قاله في العنب, والسنة محكوم بها على كل قول. وما تقدم من إخراجهم له فما تنشرح نفسي لغرامته.
[من وعد سائلاً بالزكاة ثم دفعها لآخر]
وسئل بعض الأفريقيين عمن طلبه سائل فوعده لوقت كيل الناس, فلم يات في ذلك فأعطاه لآخر ثم جاء يطلبه.
فأجاب لا يلزمه شيء, إذ لا يصح إلا بالقبض, وهو وعده ولم يدخله في شيء.
[
(1/485)
________________________________________
من أعطى جميع تمر حائطه للمساكين ونوى دخول الزكاة]
وسئل عن مستغرق الذمة يعطي حائطه بعد الخرص للمساكين عن تباعاته وليست لمعينين ونوى دخول الزكاة في ذلك ولم يأكله, وربما كانت الثلاثمائة عينا أو عروضًا.
فأجاب تجزئة الزكاة لأنها قد حضرت بعد, وتجزئة عما في ذمته من الدنانير. وعن أبي حفص العطار إذا حبس جماعة على مسجد حوائط, كل إنسان حبس نخلاً, زكاة عن المسجد, وإذا كانت الحوائط المحبسة تزكى لأجل أن الزكاة تصرف إلى السبيل والصدقة والرقاب فلا يجوز أن نزكيها نحن لأجل أن التمر للمساكين, لأن الساعي ينظر فيها بالاجتهاد, فقد يكون اجتهاده في صرفها لغير الفقراء.
[يُزكى تمر حوائط المسجد]
وسئل عنها أبو عمران فقيل له عن رجال جماعة حبسوا على مسجد أو على حصن نخلاً او زيتوناً, حبّس كل واحد منهم حبساً على حدته, وفي
[382/1] جميع ما حبسوا ما تجب فيه الزكاة أو يكون في بعضها ما يجب فيه الزكاة.
فلا يزكي(1) إلا ما تجب فيه الزكاة خاصة, لأنّ المسجد لا يسمى مالكاً, فيجمع عليه ما حبس عليه إنما يزكي كما ذكرنا.
قيل: هذا هو الأصل الجاري في المذهب في أن الحبس إنما يستغل على ملك المحبس وإن مات ويحيى بالذكر. وقول أبي حفص مُراعاة لهذا لكن أخذ بالاحتياط.
وسئل ابن الحاج عن كرم تحبس على قريش.
فأجاب تجب الزكاة في عصيره كالحبس على قوم معينين.
[أجرة نقل الزكاة]
وسئل الباجي عن أجرة نقل الزكاة إذا رأى الإمام نقلها.
فأجاب إن احتاج الأمير إلى نقلها, فروى ابن القاسم عن مالك تنقل من الفيء, وعن ابن القاسم يبيعها ويبتاع عوضها في بلد تفريقها.
[جواز أخذ صدقة مستغرق الذمة]
وسئل أبو جعفر الدّاودي عمن أحاطت المظالم بذمته ولم يعرف أربابها يتصدق بالصدقة, هل يسوغ أخذها؟
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية : "هكذا في خط المصنف, وفيه إسقاط, ولعل أصله: فقال لا تزكي الخ. ثم وقفت على اختصار المعيار هذا, وفيه: فأجاب الخ".
(1/486)
________________________________________
فأجاب ما تصدق به عن أهله هو على وجه التوبة والتبري فجائز أخذه, وما يتصدق به عن نفسه فلا أجر له فيه, والأحوط أن لا يقبل منه. ولو اعتقد آخذه أنه حق الفقرا فأخذ منه على هذا الوجه لكان وجهاً محتملاً, وإن أخذ ذلك عن أمر يقوم به للمسلمين وهو ممن يسوغ له الأخذ من بيت مالهم لكان هذا سبيله, لأنه لو تاب لأمر بصرفه كذلك فلا يضر قصده إعطاؤه لذلك.
قيل: قوله تصدق به عن نفسه لا أجر له, هذا إنما يتخرج على مذهب القرويين أنه كالمضروب على يديه. ولهذا كان سيدي أبو الحسن
[383/1] المنتصر رحمه الله يمر على سبالة ابن طاهر, وكان صاحب أشغال تونس يقول هذا الرجل وقع على دراهم حلال حتى صرفها هنا ليكثر لصاحبها ثوابها, لما رأى من كثرة الواردين عليها لكونها جاءت بين الطرق. ومن يقول إنه ليس مضروباً على يديه أو يجوز له التصرف بالصدقة والهبة وغيرهما فثوابه محسوب له وتباعته عليه والله أعلم. وكذا يجري هذا المال مجرى الفيءْ فهو واسع أيضاً.
[تعطى الزكاة لأيتام في كفالة من لا يصلي]
وسئل بعض الأفريقيين عن أيتام تحل لهم الزكاة, وعندهم خديم غير متقي ولا يصلي, فهل يحرمون من أجله من الزكاة أو يعطون؟
فأجاب يعطون من الزكاة ويأكل خديمهم منها بالإجارة, وقد بلغت محلها يتصرفون فيها كيف شاءوا.
وسئل عياض عمن يأكل بدينه.
فأجاب هو كأحد الغاصبين لاسيما إن كان يظهر خلاف ما يبطن كالمرائي بالصلاح والغرار ليس منهم ليأكل بذلك ما لا يحل له فهو من الآكلين للسحت.
[يعتبر الجفاف في التمر والزيتون والعنب]
وسئل أبو إسحاق الأشيري عن بسر قفصه يجدونه بسراً لبرد البلد ولا يطيب في رؤس النخل في الأغلب, فهل يخرج زكاته كذلك؟ أو حتى تيبس ويدفعه كذلك للمساكين تمراً؟ أو يخير في الأمرين؟ وربما غصبت قبل الجذاذ أو أفسدها المطر, فهل يخرج قبل الجذاذ كذلك بسراً أم لا؟
(1/487)
________________________________________
فأجاب الذي يجذ بسراً أو يصير تمراً إنما يراعى النصاب بعد يبسه, فإذا كان نصاباً تمراً وجبت فيه الزكاة وإلا فلا. وإذا خرص صنع به ما شاء وأخرج بعد يبسه تمراً وجب عليه. وعن سحنون لا ينظر إلى وقت رفع الزيتون حتى يجف ويتناهى, فإذا كان نصاباً بعد التجفيف أخرج من زيته. وعن بعض أهل
[384/1] العلم أن قوله يشير إلى ما في المدونة وغيرها والاحتياط أولى, وعن ابن عبد الحكم يجوز إعطاؤهم من العنب عنباً. وعليه فقد يجزى أهل قفصه أن يعطوا رطباً أو بسراً ولا أقول به.
قيل هذا الذي اختاره اللخمي وحكاه عن ابن مسلمة أيضاً.
[لا زكاة فيما يأخذُه اللّقاطون والمستوهبون]
وسئل الإمام ابن عرفة رحمه الله عما يأخذه اللقاطون من الزرع.
فأجاب إن كان تركه على أن لا يعود إليه فلا زكاة عليه فيه, وهو من الساقطة المعفو عنها, وإلاَّ زكَّى ما ينوبهم بالتحري. وأما ما يأخذ المستوهبة فإن دفع ذلك منه مثل أن يكون الموهوب من خدمة السلطان أو الأمير أو العرب فهو بمنزلة الجائحة لا زكاة, وإلا فقيه الزكاة.
[لا زكاة في الفول الأخضر]
وسئل عن الفول الأخضر إذا بيع كذلك.
فأجاب الزكاة على المبتاع إذا جزّه يابساً, وإن جزه أخضر فلا زكاة. لأنه من الحبوب التب لا يجوز بيعها على التبقية إلى يبسها كالحنطة انتهى.
قيل: ورأيت لبعض المتقدمين أنه تتعلق به الزكاة كذلك, فعل هذا زكاته على البائع حتى يشترطها على المشتري.
[أخذ السلطان الزكاة عن أقل من النصاب, أو أكثر من الواجب]
وسئل عمن يأخذ منه السلطان زكاة ماله وهو أقل من نصاب, وعند الرجل المذكور ما يكمل به النصاب, هل يجزئه أخذ السلطان زكاة ماله أم لا؟ وكيف إن كان ما يأخذ بايم الزكاة هو أكثر من الواجب, هل يُجزِىء الزائد على ما بيده أم لا؟
فأجاب بأنه يجزىء ما قابل المأخوذ منه خاصة, ولا يعتبد بما زاد ويزكي عما بيده وأن فيه لمغمزاً.ً
[تأخير الزكاة الحالّة قبلُ إلى يوم عاشوراء]
(1/488)
________________________________________
وسئل هل يرخص لمن وجبت عليه زكاة قبل يوم عاشوراء في تأخير
[385/1] إخراجها إليه إذا كان موسماً للمساكين يبرزون فيه ويلحون في الطلب ولا يعذرون من لا يعطيهم فيه قياساً على لزوم تأخير الزكاة عن حلول حولها قبل مجيء السعادة إلى مجيئهم, والسعادة أحد مستحقيها. فهل يسهل تأخيرها لمستحقيها بأنفسهم؟
فأجاب إن كيوم عاشوراء قريباً من حلول حول الزكاة جاز التأخير إليه, وإن بعد وجب التقديم. ومع شدة الحاجة يجب التقديم مطلقاً.
قيل: وكثيراً أما يفعل هذا اليوم يأخذها المرابطون ويجرونها على من يرد عليهم من الأضياف والأعراب وغيرهم من أبناء السبيل. وكان الشيخ أبو محمد الشيبي رحمه الله ينكره ويقول لا يجوز ولا يجزىء لأنهم صونوا بها أموالهم ويؤخرونها عن مستحقيها فلم يخرجوها في محلها.
[زكاة الزيتون الذي غادره أهله]
وسئل عن زيتون الساحل ونحوه من زيتون إفريقية المستنبت.
فأجاب مرة مرة ن أخذ منه نصاباً زكىي وإلا فلا. وقال مرة إن أخذه من رسم واحد محدود زكاه, وإن أخذه من فدادين فلا.
قيل: وهذا الخلاف منه يقتضي انه لم يثبت له أصل عنده يرجع إليه والصوابُ أحد وجهين, إما أنه كالشعراء لجلاء أهله لاسيما على من يقول إنه يجوز إحياؤه ولو كان مملوكاً, ويزكي قليل ما يأخذ وكثيره, لأن أصله لبيت المال, كما لو حبّس على فقراء غير معينين.
[جواز شراء الطعام للفقراء من الزكاة أيام المسغبة]
وسئل الشيخ أبو الحسن القابسي عمن وجب عليه زكاة, فربما جاز به الرجل المريض والمرأة المريضة والصبي من هؤلاء الضعفاء وهو يصيح من الجوع, فهل له أن يشتري لهم الخبز ويعطيهم؟
فأجاب إذا راى من هذا الأمر ما لابدّ منه فيدفع من الفضة لرجل ثقة يقول له هذه صدقة على الضعيف وهو يشتكي الجوع كما ترى فاشتر له بها خبزاً واطعمه إياه فهو إن شاء الله مؤد عنه.
[386/1] وسئل عنها أحمد بن نصر الفقيه, فأفتى بإجازته.
[لا تجب نفقة الأب الفقير الذي له مكسب على ابنه]
(1/489)
________________________________________
وسئل عن رجل له والد فقير وزوجه فارتحل إلى الدمنة وليس به علة إلا رجاء في الصدقات وأخذها وتزويج امرأة وطلاق أخرى ولا يبالي أضريرة كانت أوغيرها, فطلب ابنه في النفقة عليه, فقال له الابن ارجع إلى القيروان وأنا أنفق عليك وتكون يدي مع يدك, فأبى. هل يلزم الابن النفقة عليه؟
فأجاب إن رجع إلى الابن فأنفق عليه وقام بحوائجه على قدره فهو حسن,وغن أبي أن يرجع إلى عند الابن فهو قد تعلق بباب من أبواب التكسب ولا يحل له أن يأخذ صدقة فريضة, كان كمن عنده غنى ولا تطوع إلا ممن يعلم أن عنده من ينفق عليه. فإن أبي من ترك ذلك كان على قاضي المسلمين أن يزجره عن ذلك.
وسئل عن هؤلاء الذين ينزلون فيأخذ منهم سلطان الوقت العشر, هل يجوز أن يشتري منهم التسعة؟
فأجاب لا بأس به لأن القوم مختارون في السفر إلى هذا السلطان على هذا الأداء.
قيل له: فإن قدم هؤلاء القوم على بعض سلاطين هذا السلطان فصالحه على هذا العشر بشيء هل يكون بمنزلة ما لو أخذ السلطان منه العشر؟
فقال: ما هو إلا قريب, وما أعلم فيه ضيقاً إلا أن يحبّ إنسان أن يفعل. قال وليس يشبه هذه الغنيمة إذا أخذ السلطان خمسها غصباً, لأن الغنيمة وجبت للمسلمين بالإيجاب, وهؤلاء مختارون للسفر لهذا السلطان. قال وما أوجب أن أضيّق على الناس ما هو غير ضيق عليهم, لو ضيقنا هذا لألزمنا اليهود والنصارى من أخذ منهم هذا السلطان من الجزية فصيرها هذا كزكاة المسلمين.
قيل للشيخ أبي الحسن إن الشيخ أبا محمد يقول: يجزىء ما أخذ هؤلاء
[387/1] القوم من العشر, فقال إنما هو شيء حكيته عن غيري أرى أنه الشك منى عن ابن اللباد. قال الشيخ: وما مات الشيخ أبو محمد حتى رجع عن القول به.
[قبول وديعة الظالم وردها إليه]
وسئل عن السلطان الجائر الظالم يأخذ العشر يأكلها(كذا) ويغرم الناس بلا حق, واودع عند رجل ذلك المال فقبله منه مداراة.
(1/490)
________________________________________
فأجاب إن أكرهه على الإيداع ولم يجد منه بُدّاً ولا امتناعاً وأكرهه على الأخذ منه لم يلزم غرم, والمقام في بلد لابد فيه من هذا غير طيب والله ولي التوفيق.
وسئل عن الحديث الذي جاء فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب, فقال عليه السلام ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقرياً فأغناه الله ورسوله. وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً قد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله. وأما العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها.
فأجاب بأن قال: معنى قول النبي عليه السلام في العباس هي عليه صدقة ومثلها معها أي أن عليه أن يخرجها ومثلها معها عقوبة لمنعه إياها, وليس معناه أنها له يأكلها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحلُّ الصدقة لآل محمدٍ, فهم لا يأكلون صدقات الناس فكيف بصدقاتهم.
[زكاة الحاجّ إلى مكة يتجر في سفره]
وسئل عن رجل يخرج من بلده إلى مكة فيبيع ويشتري, وربما عدم العين فيعامل ببعض ما معه, ثم يرجع إلى بلده, فربما باع في بعض البلدان التي يمر بها ذاهباً وراجعاً, فيصل إلى بلده قبل تمام الحول فيبيع, كيف يعمل تعذر عليه بعض ما معه فيتركه, وربما بقيت له أموال على الناس, كيف يعمل في تزكية ما وصفنا؟ وكيف ترى في نقل ما وجب عليه من زكاة إلى بلده إذا وجبت عليه في غير البلد؟
فأجاب إذا كان المتقلب في السفر يتجر فيه بماله يدخل ويخرج ولا
[
(1/491)
________________________________________
388/1] يرقب حوالة الأسواق, إنما يبيع بيع الجلابين فهذا مُدير أينما حل عليه حول زكى على ما معه من الناضّ وقيمة ما معه من العروض. وإذا باع العرض بالعرض وقد نضّ في سنته شيء من العين فإنه يقوّم عند كل حولٍ العروض التي معه ويضيف قيمته إلى ما معه من العين إن كان معه عين, وتبر العين مقامه مقام العين في وجوب الزكاة فيه. وإذا كان سفره لا يستكمل فيه حول زكاته حتى يرجع إلى بلده فكما وصفت لك يفعل في بلده إن حضر معه عين أو كان قد نضَّ له حوله عين, فإنه يقوَّم عند حلول حوله سلعته التي قدمبها ويحسب ديونه الحالة المرجو قبضها وقيمة الديون الآجلة إذا حل (حلول)(1) حول زكاته قبل حلول آجال ديونه التي له فيقيّم ما ذكرته لك, بهذا إن شاء الله. وأما إذا حلت زكاته في غير بلدك فوجب عليك إخراجها حيث خلت, فهي لفقراء ذلك الذي الموضع الذي حلت فيه إن كان فيه فقراء, وإلا فللأول من تقلاه من فقراء الأمكنة هو أسلم لك. وإن أخّرت منها شيئاً إلى بلدك أجزأك إذا أنفذت ذلك, ولكنه ليس يزول من ضمانك إن كنت تجد له آخذاَ قبل وصولك, فافهم ما وصفت لك وبالله التوفيق.
[الفرق بين ضمان ما ضاع من الهدي والزكاة]
وسئل عن الفرق بين الهدي إذا وجب على القارن بعرفة اتفق فيه ابن القاسم وأشهب أنه من رأس المال وإن لم يوص به, وبين الزكاة إذا حل عليه الحول في المرض قال ابن القاسم إن لم يوص بها فلا شيء عليهم, وقال أشهب إذا أوصى بها أخرجت من رأس ماله.
__________
(1) نبه في هامش المطبوعة الحجرية على زيادة كلمة (حلول) بخط المؤلف, والصواب اسقاطها.
(1/492)
________________________________________
فأجاب الهدي له محل لا يجوز أن يفعل قبله, فإذا مات فقد تبين حقيقة أنه مات قبل المحل ولم يهد, والزكاة يمكن أن يكون إخراجها قبل حلول على قول من يرى أنا تجزئه إذا فعل ذلك. قال وأيضاً أصل الزكاة غير أصل الهدي إذا ساقه لما وجب عليه وإن قلده وأشعره عليه بدله, والزكاة إذا أخرجها فضاعت من غير تفريط لا شيء عليع, فافترق أصلاهمُا.
[389/1] [الدنانير المغشوشة يعتبر قدر الذهب الخالص فيها]
وسئل ابن رشد عمن بيده عشرون ديناراً فأكثر شرقية, هل يزكى وزنها كالمرابطية الخالصة؟ أو يقوّمها المدير كالعروض؟ أو يراعي ما خلص من الذهب منها فقط, فتجب الزكاة في قدر ما يحصل إن كان نصاباً فأكثر؟
فأجاب لا تجب الزكاة إلا بقدر نصاب خالص لا يشوبه نحاس ولا غيره, فيخرج ربع عشره ذهباً أو دراهم بقدره, إذ لا تقويم في العين,
وسئل أيضاً عن نحوها, فقال: من بيده عشرون ديناراً شرقية أو عيادية هل يعتدُّونها أو الخالص منها؟
فأجاب لا تجب الزكاة إلا في عشرين ديناراً من النحاس ومن كل ما يشوبه كالمرابطية. وقيل تجب الزكاة في عشرين مثقالاً منها مشوبة بنحاس أو غيره, والأول الصحيح.
[لا يتقطع الدين الذي على الفقراء في الزكاة]
وسئل عمن له دين على فقراء, هل يقطعه عليهم فيما وجب له عليهم من زكاته, أم لا؟
فأجاب لايجوز فعله ولا يُجزىء إن فعل.
[تخصيص القرابة بالزكاة]
وسئل عنم يخص قرابته بزكاته.
فأجاب إن فعل أجزأه, وإن وجد أحوج منهم فالاختيار أن لا يَخُصَّهم.
وسئل عن تخريص الزرع.
فأجاب لا يجوز تخريصه على المأمون, واختلف في غير المأمون على قولين, والأصح جوازه إن وجد من يحسن.
[390/1] وسئل سيدي عيسى الغربيني عن أصناف الزكاة, هل المعتبر موضع الملك أو موضع الزرع إذا كان بينهما مسافة النقل؟
فأجاب المعتبر موضع الملك الذي هو الزرع والماشية إذا كان بينهما من المسافة ما لا يصح فيه النقل, وإن كانت المسافة قريبة فلا يفترق الحال والله أعلم.
[
(1/493)
________________________________________
من يملك أرضاً لا تكفيه في معاشه يُعطى من الزكاة]
وسئل سيدي أبو عبد الله الزواوي عمن له أرض لا تقوم به منافعها, فإن باعها ضاع حاله أبداً, هل يُعْطِي من الزكاة ما دام محتاجاً أم لا؟
فأجاب يُعْطِي له من الزكاة والله أعلم.
[من اضطر إلى أكل زرعه أخضر زكّى قدره يابساً]
وسئل عمن وصلته الحاجة وله زرع أخضر فأكل منه شيئاً قبل يبسه, هل يجوز أن يخرج زكاته حينئذ وهو أخضر أم لا؟
فأجاب يترك شيئاً من ذلك الحب الذي حصده أخضر بعد معرفته بملكيته, فينظر ما بين الكيلين من الأخضر واليابس, فيجعل ذلك جزء ويسقط مكيلة الأخضر ويخرج العشر من اليابس بحساب ما يصح من العدد بعد الاسقاط والله أعلم.
[يُعطي المزكي لولده الخارج عن نفقته]
وسئل سيدي على بن عثمان عمن قال لرجل زكاتي بيدك أصرفها حيث بدا لك, زعنده من أولاده من هو خارج عن نفقته ممن يطلب العلم وهو مستحق لها, هل له أن يعطيه أم لا؟ فإن منعتم, هل يلزمه غرمها إن فعل أم لا؟
فأجاب له أن يعطي لهم كغيرهم من الفقراء والله أعلم.
[يزكى الزرع على ملك المستغرق الذمة]
وسئل عن رجل توفي وعليه صداق لزوجته وترك زرعاً أخضر ولا شيء
[391/1] له تبدأ فيه الزوجة بصداقها, فطاب الزرع بعد وفاته بأشهر واستحصد ودرس وهذب فكان مجموعه ما تجب فيه الزكاة, إلا أنه لا يفي بما عليه من مهر الزوجة, هل تخرج منه الزكاة أم لا؟ فإن قلتم بإخراجها فعلى مِلكِ مًن تخرج؟ فإن الرجل مات قبل تعلق الوجوب به, والزوجة لم تملك ذلك وإنما تعلق حقها به, فيحتاج إلى نقل الملك حيث يسوغ بحكم وصي أو قاض, والورثة لم يحصل منه بأيديهم شيء, وهل هذا الزرع بعد وفاة الميت على مِلكِ الورثة أم لا؟
فأجاب الزرع يزكى على ملك الميّت لأجل استغراق الدين له. قاله عبد الحق وغيره.
[من يأخذ الزكاة وليس من أهلها فاسق]
(1/494)
________________________________________
وسئل سيدي أحمد بن عيسى عمن عنده من الماشية والأرض وغير ذلك من الممتلكات ما لو باعه لكان فيه كفاية عام أو أزيد, لكنه ممن يقصده الضياف ولا يعذره أحد, وإن بخل مزق عرضه, يأخذ الزكاة ويصان بها عن عرضه في إطعام الأضياف, وما بيده من الماشية والأرض وغير ذلك لم يزل مذخراً لغير العام الذي هو فيه لم يمس منه شيئاً, وإذا لم يجد من يعطيه زكاة رجع لبيع ذلك, وهو على هذه الحالة مدة عمره, وهو غير مستغرق الذمة بما ذكر, فهل يجوز لمن يعتقد أنه من أهل الفضل أكل طعامه؟ وهل يجوز مبايعته فيما يأخذ من الزكاة على الحالة المذكورة؟ وهل تجوز إمامته وشهادته إن داوم على ذلك؟
فأجاب من وصف بما ذكر لا يؤكل طعامه ولا تجوز إمامته ولا شهادته ما دام متصفاً بذلك, فإن تاب إلى الله وعلم منه صحة ذلك جازت شهادته وإمامته. وأما معاملته فجائزة إن كانت بالنقد من غير محاباة, وإلا لم تجُزْ, والله تعالى أعلم.
وسئل سيدي عبد الرحمان الوغليسي عمن عنده كفاية سنة أو أكثر وهو مع ذلك يأخذ الزكاة ويضايق الضعفاء والمساكين في أخذ الزكاة, هل يسوغ له ذلك أم لا؟ وإن قلتم لا يسوغ فهل تجوز شهادته وإمامته أم لا؟
[392/1] فأجاب لا يسوغ له ذلك, وهو ساقط العدالة مُتَعَدٍّ ظالم.
وسئل عن قاتل الروح التي حرم الله ولم يمكّن نفسه من أولياء المقتول هل تعطي له الزكاة أم لا؟ وهل تُجزىء من أعطاها له أم لا؟
فأجاب لا تعطى له, وغيره من أهل الديانة أولى. ومن أعطى له أجزأه والله أعلم.
[من غاب زوجها الفقير ولم يترك لها نفقة تعطى من الزكاة]
وسئل عن فقير سافر لأجل الحاجة التي لحقته وعليه دين كثير ولم يخلف لزوجته شيئاً ولا يعرف أحد هل هو حي أو ميت, فلحق الزوجة من ذلك ضرر كثير هل يعطى لها من الزكاة أم لا؟ ولم يكن ترك كفيلاً ولا مَالاً.
فأجاب تعطى إذا كانت على الحالة المذكورة والله اعلم.
[من ادعى الفقر صُدِّق وأعطي من الزكاة]
(1/495)
________________________________________
وسئل عن طلبة يأتون من أرض بعيدة بحيث لا يعلم حالهم يطلبون الزكاة, ولم يجد الإنسان من يسأله عن حالهم, ويقولون نحن ضعفاء, هل يصدقون ويعطى لهم منها أم لا؟
فأجاب يصدقون في ذلك إن لم يمكن الكشف عن حالهم والله أعلم.
[يعطى المحتاج من الزكاة ولو ملك فارساً وخادماً]
وسئل عمن له فرس من طلبة العلم, هل يجوز له أخذ الزكاة لكونه اتصف بقراءة العلم وله مزية على غيره؟ أم لا ويكون كسائر الطلبة؟ وبين لنا إن لم يجز هذا فربما قد يراه أحد يفعل هذا فيفعل كفعله. وأيضاً هل ثَمَّ مزية في العلم إذا اتصف الإنسان بها يجوز له كسب الفرس والخادم ويأخذ الزكاة معها؟ بين لنا الحكم في ذلك.
فأجاب إذا كان مثله يركب الفرس ولا يستغنى عنها وليس فيها فضل بحيث إذا باعها يشتري بثمنها فرساً تكفيه ويفضل من ثمنها ما يكفيه او يستعين به, جاز له أخذ الزكاة إذا لم يكن في الفضل ما يكفيه والله أعلم.
[من أعطى زكاة ماله لمن يستحقها هو في حكم من لم يخرجها]
وسئل عمن يعطي زكاة ماله لمن لا يستحقها هل يوكل طعامه أم لا؟
[393/1] وهل يجب على من تعلق به قضاء حوائج الناس من مسافر أو مقيم أن يقضي حوائج من هذه صفته مثل تارك الصلاة ومانع الزكاة وأمثالهم من الفسقة بالجوارح؟ أو يرد عليهم مالهم من أيذي العمال الظلمة وأشباههم من أشياخ الرعايات ومن اللصوص والغصاب إذا أخذوه منه ويعينه على دفع المظالم عنه؟
فأجاب إذا أعطاها من لا يشك ولا يختلف فيه أنها لا تجوز له فلا تجزئه, وله حكم من لم يخرجها. فإن لم يستغرق منها كره أكل طعامه, ويهجر بعد أن ينهى ويرشد ولم يقبل. وأما صرف الظلم عنه فلا يمنعه عصيانه والله أعلم.
[من عاش في كفالة الغير لا يأخذ الزكاة]
وسئل عن رجل له عمة وجدة ينفقان عليه وهو يقرأ وبيده بقرة, هل يجوز له أخذ الزكاة أم لا؟
فأجاب لا يجوز له إذا كان في كفالة من ذكرت.
[من ترك زكاته في مكان مأمون لا يضمنها إذا تلفت]
(1/496)
________________________________________
وسئل عمن يدفع زرعه من الأندر ويخرج ما وجب عليه من العشر ويتركه في الندر لعدم حضور المساكين, والأندر مخوف أو يشك فيه. بين لنا ما يضمن من ذلك وما لا يضمن.
فأجاب لا يتركه في الأندر إلا أن يكون مأموناً. وإن ضاع في المأمون فلا ضمان وإن تركه في غير المأمون وضاع ضَمِنَ.
[إذا دفع المبتدع زكاته لمثله ثم تاب أجزأته]
وسئل عن زكاة من هو جاهل بالعقائد إذا دفعها لمثله وتاب بعد ذلك وعرف الأحكام في العقائد, هل يجزئه ما دفع لمن قلنا أم لا؟
فأجاب تجزئه والله أعلم.
وسئل عن مرابطين يتقدمون على أصحابهم ليعدون (كذا) ما يجب عليهم من الزكاة أو قطيع الأرض للرجل المذكور أو شبهه إما ثلاثين ذهباً أو أربعين أو أقل أو أكثر, ويترك ما ينويهم من ذلك ولا يفضونه بعد ذلك
[394/1] بينهم على قدر ما ينويهم الغني منهم والفقير, فهل يجوز لهم التمسك بذلك أم لا يفضونه على أصحابهم؟ أم كيف يعمل فيه؟
فأجاب قد ذكرنا أن ذلك لا يجوز وأنه مظلمة, فمنزلة هؤلاء الذين يتوسطون في ذلك منزلة أشياخ القبائل فيما يتولون من ذلك وما يقبضونه, وذلك إعانة على الظلم. وأما الزكاة فمن أعطاها طوعاً لغير من يصرفها في مصارفها التي بين الله تعالى في كتابه, فهي لم تزل في ذمته, فليعمل على أدائها, وإلا طولب بها يوم الحساب ومن قبضها من الولاة جبراً ولم يفرقها في محلها فهي في ذمة من قبضها والله تعلى أعلم.
[من حابى بالزكاة لفقه أو جاه لا تجزئه]
وسئل عن مرابطين يقتدى بهم, وعندهم في محلتهم من يستحق الزكاة, وعلى بعضهم ديون كثيرة, وفيهم شخص فقيه يعتقدونه ويستفتونه في المسائل وهو مستحق للزكاة لكنهم يؤثرونه في إعطاء الزكاة, وهو أيضاً يأخذ من غيرهم ويطلبون له بوجوههم ويرعونه غاية الرعاية, وغيره من الضعفاء ممن كان معه يعطونه اليسير من الزكاة هل يضرهم حالة الضعفاء من أجل محاباة الفقيه المذكور دونهم أم لا؟
(1/497)
________________________________________
فأجاب لا يجوز أن تعطى له لأجل الفقه والجاه, وضعفاء الموضع أولى بزكاة اهل الموضع, لاسيما إن كانوا لا يأخذون شيئاً من غير أهل الموضع وإن أعطوها لغيرهم أجزأت ما لم يكن ذلك لجاه أو محاباة أغراض من أمورالدنيا. وإنما تعطى كما أمر الله للفقراء والمساكين, وإنْ تساووا ترجح الأدين والأفضل والله أعلم.
[تبعث الزكاة لمن غاب في طلب العلم]
وسئل سيدي عبد الله الشريف عن قوم جمعوا زكاتهم لشخص غائب ليس هو في وطنهم, وغيبته في طلب العلم, وهو أشد حاجة في ذلك, فهل تجزئهم تلك الزكاة أم لا؟ وعلى الإجزاء فهل يبيعونها ويصرفون له ثمنها أم لا؟
فأجاب إن كان أشد حاجة جاز أعطاء الزكاة إياه ولا يبيعونها إلا بوكالته والله تعالى أعلم.
[395/1] وسئل سيدي علي الأشهب عن رجل ممن يشتغل بطلب العلم لا يعلم له غير كساء, وهي من قيمة الثلاثة الدنانير ذهباً أو تنقصُ, وهو ممن تتأكد حاجته إلى النكاح, هل يستحق شيئاً من الزكاة لما ذكرنا أم لا؟
فأجاب يأخذ المذكور من الزكاة لاتصافه بالفقر المذكور الموجب كونه من أصنافها والله تعالى أعلم.
[تدفع الزكاة لأهل البيت إن خيف عليهم الضياع]
(1/498)
________________________________________
وسئل سيدي محمد بن مرزوق عن رجل شريف أضربه الفقر, هل يواسي بشيء من الزكاة أو صدقة التطوع؟ وقد علمتم ما في ذلك من الخلاف. وحالة هذا الرجل وغيره من الشرفاء عندنا لاسيما من له عيال تحت فاقة. فالمراد ما نعتمده في ذلك من جهتكم, فإني وقفت على جواب الإمام ابن عرفة قال فيه: المشهور من المذهب أنهم لا يعطون من الزكاة. وبذلك أحتج على تكلمت معه في ذلك من طلبة بلدنا, فقلت له إن وقفنا مع هذا وشبهه مات الشرفاء وأولادهم وأهاليهم هزالاً, فإن الخلفاء قصّروا في هذا الزمان في حقوقهم, ونظام بيت المال وصرف ماله على مستحقه فسد. والأحسن عندي أن يرتكب في هذا أخف الضررين, ولا ينظر في حفدة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يموتوا جوعاً, فعارضني بما قلت لكم وبما قاله الشيخ ابن رشد في الأجوبة.
فأجاب المسألة اختلف العلماء فيها كما علمتم, والراجح في هذا الزمان أن يعطي, وربما كان إعطاؤه أفضل من إعطاء غيره والله تعالى أعلم.
[تعطى الزكاة للسفيه ومن قلت غيرته]
وسئل بعض الفاسيين عن يتيم فقير, هل يعطى له من الزكاة مع سفهه أم لا؟ وعن رجل لا يغير على زوجته ويرى الرجال جلوساً معها ولا ينكر, هل تعطاه الزكاة أم لا؟
فأجاب أما اليتيم فتعطاه الزكاة مع سفهه, وتجعل بيد عدل من
[396/1] عدول الموضع. وأما الرجل الذي لا ينكر على زوجته فتعطى له ولكن يؤثر عليه أصحاب التقوى إلا أن يخاف عليه والله تعالى أعلم.
وسئل عن أيتام فقراء تعطاهم الزكاة, وكان يخدمهم من لا يحل له أخذها ولا يتقي, هل تعطى لهم الزكاة أم لا؟ لأن خديمهم ينتفع بشيء منها.
فأجاب تعطاهم الزكاة ويأكل خديمهم بالإجازة لا بالصدقة, وقد بلغت محلها فلهم أن يفعلوا فيها ما شاءوا والله تعالى أعلم.
[الزيتون المحبس على المسجد أو المساكين لا زكاة فيه]
(1/499)
________________________________________
وسئل محمد بن عبد الحكم عن الرجل يحبس زيتونه على المسجد على أن تباع ثمرته في كل عام ويشترى من الثمر حصر ويقام بالوقيد من زيته, فيفضل من ثمن الزيتون مال ويحول عليه الحول, هل تجب الزكاة في الزيتون الذي يرفع في كل سنة؟ أو تجب الزكاة في المال الذي فضل من ثمن الزيتون وقد حال عليه الحول؟ وكيف اوصى للمساكين بغلة زيتون تباع ويتصدق بها على المساكين؟ هل في ذلك الزيتون زكاة؟ وكيف إن كانوا مساكين بأعيانهم؟
فأجاب ليس في هذا كله زكاة.
وسئل عنها محمد بن ابراهيم.
فأجاب إذا بلغ ما يرفع من الزيتون خمسة أوسق وعصر زيتاً فإنه يخرج منه العشر, ثم إن بيع الزيت للمساكين إذا صحت فإنه إذا جمع الزيتون وكان فيه كيل خمسة أوسق فغنه يخرج الزكاة عن الزيتون نفسه ويقسمون بقيته.
[تعطى الزكاة لتارك الصلاة]
وسئل أيضاً هل يعطى الرجل زكاته لمن يعلم أنه لا يصلي وأنه يضيع الوضوء؟
فأجاب إذا كان مقراً بالاسلام فلا بأس أن يعطى من الزكاة.
[397/1] وسئل عن الذي لا يؤدي زكاته هل يؤكل طعامه أم لا؟
فأجاب لا يؤكل طعامه ولا أحب مصاهرته, وإن مات فلا بأس بالصلاة عليه.
[يكرى على حمل الزكاة منها إلى حيث يكون المساكين]
وسئل ابن لبابة عن اخراج الزكاة في القفار والكراء منها على حملها حيث يكون المساكين.
فأجاب إذا لم يكن في الموضع الذي يرفع فيه الزرع مساكين فإن أكرى من عنده فهو أحب إلي, وإن أبى أو شح فليكن من الزكاة.
قيل له: إن الكراء قد يكون على المناصفة.
فقال: يحتاط على ذلك جهده فإن لم يجد إلا على المناصفة فليكن على ما يجد.
وسئل ابن القزاز عمن أعطى لرجل من زكاته مائة دينار وله بنات وعورة وضعف.
فأجاب إذا كان مستحقاً لها متعففاً لا يسأل فقد أجاز أهل العلم أن يعطى مثل هذا.
[يبعث بالزكاة إلى الأسارى المسلمين بدار الحرب]
وسئل أبو صالح عمن بعث بزكاة ماله إلى الأسارى من المسلمين بدار الحرب لما هم فيه من الجوع والعري والحاجة.
(1/500)
________________________________________
فأجاب هو حسن وزكاته مجزئة عنه, قاله ابن عبيد.
[مقار الدراهم والدنانير والأوقية بغرناطة في مطلع القرن التاسع]
وسئل الأستاذ ابو عبد الله الحفار عن المقدار الذي تجب فيه الزكاة من الدراهم السبعينية ومن العين الجاري ببلدنا, والأوقية الشرعية من أواقينا.
فأجاب تجب الزكاة من دراهمنا في سبعة عشر ديناراً ذهبية, وذلك مائة وسبعة وعشرون ديناراً ونصف دينار فأكثر. والأوقية الشرعية من أواقينا
[398/1] ثلاث اواقي وأربعة بتقريب يسير. ونصاب الذهب عشرون ديناراً من الذهب, ووزن الدينار الشرعي اثنان وسبعون حبة من حبوب الشعير المتوسط, يتضاعف هذا العدد من حبوب الشعير عشرون مرة ويوزن ذلك بدنانير فيكون ذلك مقدار النصاب من دنانير وقتنا. وتجب الزكاة من أقداحنا اليوم في أربعين قدحاً, ويعتبر ذلك بالكيل لا بالوزن. قاله محمد الحفار.
[مقدار صاع زكاة الفطر بغرناطة أيضاً]
وسئل عن مقدار الصاع الذي تؤدي به الزكاة من كيلنا اليوم إن كان المعتبر الكيل, أو من وزننا إن كان المعتبر الوزن, وما الأرجح الحب أو الدقيق؟ وهل يعطى الضعيف الذي معه قوت ذلك اليوم؟ إذ لا يوجد من لا يملك في ذلك اليوم في الغالب.
فأجاب مقدار الصاع من كيلنا بغرناطة ونواحيها مد ممسوح من غير كيل ولا وزن أو أقل من ذلك بيسير. والذي يضبط ذلك بتقريب أن يعرف الإنسان أربع حفنات بكلتا اليدين من القمح أو غير ذلك, فهو مقدار الصاع الشرعي, لكن من الرجل المتوسط اليدين في الكبر والصغر. وإذا أراد إرفاق المساكين بالدقيق فيلزنه بالقمح الذي طحن منه أو الذرة او غيرهما, لأن الكيل في الدقيق لا يصح, والوزن في زكاة الفطر لا يصح ويجوز في أزمنتنا أن يعطى الضعيف الذي له قوت يوم العيد, لجريان عادة الناس ان لا يكسبوا ولا يخدموا إلا بعد بطالة والله أعلم.
[الفقراء شركاء أرباب المال]
(2/1)
________________________________________
وسئل عن مسأليتن: الأولى منهما من أخرج زكاة ماله واشترى بها أثواباً ليدفعها للمساكين يرى أن ذلك مصلحة لهم, إذا دفعت إلى الفقير دراهم تصرف فيها وبقي عرياناً, فهل الأوْلَى أن يفعل هذا أو يدفعها دراهم؟ وإذا دفع أثواباً هل يكون ذلك قيمة في الزكاة أم لا؟ والثانية فيمن له بنت مسكينة في داره تخدمه فخطبت للزوج فأراد أن يشتري لها أثواباً يجهزها بها من زكاته هل له ذلك أم لا؟ وهل إن كانت المسكينة لا تخدمه ولا هي عنده فهل يشتري لها أثواباً لزواجها من زكاته أم لا؟
[399/1] فأجاب أما الذي يشتري بزكاته أثواباً ويكسوها للمساكين فمُخطىء في ذلك لا تجزئه زكاته, والمصلحة التي ظهرت له لم يلتفت إليها الشرع إنما تخرج الزكاة من عين المال الذي وجبت فيه الزكاة, ويدفع ذلك للمساكين يفعلون بها ماشاءوا من أكل وشرب أو غير ذلك, ولا يحجر على الفقير لأن الفقراء شركاء أرباب المال. يجزىء إخراج القيمة في الزكاة حتى يجبر الإمام الناس عليها, أما مع الاختيار فلا. وأما غعطاء الزكاة في شوار بنت قد كفيت مؤونة النفقة والكسوة فلا تجزىء, كانت البنت في بيت الإنسان أو خارجة عنه, لأنها غنية بمن ينفق عليها ويكسوها, لأنها غنما تعطى لفقير ليس عنده كفاية وقد عين الشرع مصارف الزكاة في الأصناف الثمانية, وإنما تعطى من صدقة التطوع. وقد قال مالك رحمه الله تعالى لا يعطى من الزكاة في ثمن كفن ميت ولا بناء مسجد.
[المد النبوي المجلوب من المدينة إلى الأندلس]
وسئل عن فقيه قال لا تخرج زكاة الفطر إلا بمد النبي صلى الله عليه وسلم ولا تخرج بغيره.
(2/2)
________________________________________
فأجاب هذا خطأ من القول, لأن مده عليه السلام لا يتمكن منه كل أحد يستغنى عن زكاة الفطر من يتعذر عليه وجود المد المذكور, هذا لا يقوله محصل. والحاج الذي جلب المدّ من المدينة إن كان صادقاً, فالمد الذي جلب يقطع بانه ليس على مقدار مُدِّه عليه السلام, إذ مقداره على ما عبر ست عشرة أوقية من القمح. والمعوّل عليه مقداره ما يعلم من الأيمة المقتدى بهم الذين يلزم الوقوف عنده ما حدوه. وهذه مسألة شهيرة مفروغ عنها. والذي نقل من يعتمد عليه أنه قال: وجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان في أن مد النبي صلى الله عليه وسلم الذي تؤدى به الصدقات ليس أكبر من رطل ونصف ولا أقل من رطل وربع, قال بعضهم رطل وثلث. وليس هذا اختلافاً ولكنه على حسب وزانة المكيل من تَمر أو برٍّ أو شعير. والرطل المذكور اثنا عشر أوقية, فإذا زيد عليه ثلثه وهو أربع أواقي صار المجموع ست عشرة أوقية, وذلك رطل.
وجاوب القاضي لما بلغه بعض ما أفتى به الخطيب الأستاذ أبو عبد الله
[
(2/3)
________________________________________
400/1] الحفار رحمه الله بان قال: يا أخي حفظ الله أخوتكم: الذي سمعتموه مني أن زاكة الفطر قدرها صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم, أربعة أمداد بمده عليه السلام, وأنها إذا أخرجت لم تخرج إلا بكيل مثل صاع النبي صلى الله عليه وسلم, أو بمثل مده هو الصواب الذي لا يخالف فيه عاقل. وأما الفقيه الذي قال إنها تخرج بالوزن أربعة أرطال فإنه إلى اسم الجهل والغي أقرب منه إلى اسم العلم والفقه, لأنه قد أخل بقاعدة شرعية, وتعرض لحل عُروةٍ دينية. ويظهر لك هذا في رجلين وجب على كل واحد منهما زكاة الفطر فوجب على أحدهما قمح لأنه جل عيش أهل بلده, ووجب على الآخر شعير لأنه جثلُّ عيش أهل بلده, فاستفتيا هذا الفقيه فأمر كل واحد منهما أن يخرج أربعة أرطال ففعلا بحسب ما أمرهما به, فإنه يقطع ولابد ان أحدهما قد عدل عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فرض عليه من زكاة فطره وتعدى الحد وجاوز القصد, لأن صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان يسع أربعة أرطال من الشعير فإنه يسع أكثر من ذلك من القمح, وإن كان يسع أربعة أرطال من القمح فإنه يسع أقل من ذلك من الشعير. فإذا أخرج كا واحد منهما أربعة أرطال فقد أعطى كل واحد منهما أكثر مما وجب عليه أو أقل مما وجب عليه, وذلك غير مجزىء. أما الأقل فظاهر, وأما الأكثر فلما رواه أشهب عن مالك رحمه الله أنه قيل له أيؤدي الرجل زكاة الفطر بأكثر؟ فقال لا, بل بمد النبي صلى الله عليه وسلم, وثم إن أراد أن يفعل خيراً فليفعله على حدته. ويشهد باختلاف الموزونات ما روي عن عبد الله بن عمر وابن حنبل أنه قال: ذكر لي أبي أنه عبر مد النبي عليه السلام رطلاً وثلثاً في المد. قال ولا يبلغ هذا المقدار في التمر. ثم قال: ووجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان في أن مد النبي عليه السلام الذي تؤدى به الصدقات ليس أكبر من رطل ونصف ولا أقل من رطل وربع.
(2/4)
________________________________________
وقال بعضهم رطل وثلث, وليس هذا اختلاف, وإنما وزانة المكيل من التمر والبر والشعير انتهى. فتأمل كيف الوزن. وأما قول الفقيه إن المد متعذر وإنه إذا وجد قطع أنه ليس ملء مد النبي عليه السلام فقول واهي المبني, مختل المعنى, لأنه يلزمنا قوله هذا في الرطل, إذ لا فرق بينهما. هذا ما حضر من الجواب والسلام. وفي أواخر ربيع الأول من عام سبعة وتسعين وسبعمائة.
[401/1] [لا زكاة على الشركاء في الماشية إذا لم يملك كلٌّ نصاباً]
وسئل عن رجلين بينهما خمسة وأربعون رأساً من المعز والغنم على السوية هل تجب عليهما الزكاة وبذل المال للعامل وقاية من ظلمه وخلاصاً من حَيْفِهِ أم لا ؟
فأجاب لا تجب الزكاة على أحد حتى يبلغ ما يملك من الماشية حد النصاب ولا يلفّق ملك أحد إلى مِلْكِ غيره. فمن قصر ملكه عن النصاب فلا زكاة عليه. وأما مسألة بذل المال للعامل فذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجوز أن يعطي الظالم شيئاً على أن يسقط المظلمة أو يخففها, لأن ذلك عون له على الظلم, إذ لو اجتمع الناس على الحق لترك ذلك. ومن العلماء من قال إذا خاف الإنسان من الظالم أن يريد في ظلمة بما يعطيه, والظالم في أخذه مال المسلم بغير حق ظالم في الخقيقة لنفسه, متعض لمقت الله وسخطه, فليشفق على نفسه, والله المخلص للجميع.
وسئل ابن سراج عمن وجبت عليه شاة واحدة في الزكاة.
فأجاب بأنه يتصدق على مستحقها ولا يخرج ثمنها إلا إن أخذ منه جبراً, وأن لم يعلم بع العداد ولا المشرف فإنه يتصدق بها ولا يخبر أحداً منها بذلك وأما إن علما به وأخذاها منه أو قيمتها بقصد الزكاة فذلك جائز يجزئه ولا يفتقر إلى إعادتها. والسلام على من يقف على هذا من كاتبه محمد بن سراج.
[من تطوع بنفقة ربيبه لا تلزمه فطرته كالأجير]
وسئل الأستاذ أبو سعيد بن لب رحمه الله عمن تطوع لزوجته بنفقة أولادها من غيره, هل يلزمه زكاة الفطر عنهم أم لا؟
(2/5)
________________________________________
فأجاب الذي يظهر من كلام الفقهاء أن ذلك لا يلزمه, لأن زكاة الفطر ليس وجوبها مرتبطاً بوجوب النفقة ارتباطاً مطلقاً, بل لابد من اعتبار السبب الموجب, وهو حق القرابة أو الملك, حتى إن النفقة إذا وجبت لعوض كنفقة الأجير فإن زكاة الفطر لا تجب معها. نص على ذلك ابن حبيب
[402/1] في الواضحة واللخمي في التبصرة. وهو وجه القول بعدم لزوم الرجل إخراج زكاة الفطر عن زوجته, لأن قائل هذا يرى أن النفقة عوض الاستمتاع.
[لا يزكي الصانع مصنوعاته إلا إذا باعها واستقبل بثمنها حولاً]
وسئل عن الصناع يمر عليهم الحول وبأيديهم من مصنوعاتهم ما إذا قوموها وأضافوها إلى مالهم من النقد اجتمع فيه نصاب, هل يجب عليهم التقويم ويزكون ما حضر بأيديهم أم لا ؟
فأجاب بأن قال: الحكم في ذلك أن الصناع يزكون ما حال الحول على أصله من النقد الذي بأيديهم إذا كان نصاباً, ولا يقومون صناعتهم, ويستقبلون بأثمانها الحول, لأنها فوائد كسبهم استفاوها وقت بيعهم, إلا أن ما وضع الصانع صناعته من جلد او خشب أو حديد او نحو ذلك يقومه المدير مجرداً من الصناعة إذا كان اشتراه للتجارة.
[زكاة المال للسلف, والمدفون والمغصوب]
وسئل اتلقاضي أبو عبد الله بن عقاب رحمه الله عما وقع في الزكاة في الثمن المعجوز عن تنميته كالمغصوب والمدفون أن الزكاة واجبة على الخلاف المعلوم, وقالوا في العين الموقوفة أقوى في العجز لأن الأولى موجودة وقابلة للنماء, وهذه لا يتمكن لقيام المانع الشرعي, وهو إبطال ما لأجله وقفت.
(2/6)
________________________________________
فأجاب المال الموقوف للسلف معجوز عن تنميته, لأن العجز المتوهم فيه إنما هو في المالك له, وعجز غير المالك عن تنمية المال ليس بمسقط للزكاة, وإنما المسقط العجز عن التنمية بالنسبة إلى المالك, والمالك هنا غير عاجز. أعني المالك الذي يزكي هذا المال على ملكه, وهو الذي أوقفه, لأنه حين أوقفه للسلف ترك تنمية أبداً اختياراً منه لا عجزاً, إذ لو شاء أن ينص على تنميته ويوصى بذلك لفعل. وينزل كونه الآن بيد من هو موقوف بيده منزلة كونه بيد وكيل ربه ولا يسقط زكاة المال كونه بيد وكيل ربه, ولا يقال فيه والحالة هذه أنه معجوز عن تنميته. فلذلك يزكى ما دام موقوفاً على يديه لم يستسلف, فإذا استسلف فينظر لعدد الأعوام, فإنه يزكي لعام واحد
[403/1] على حكم زكاة الدين. فإذا تقرر هذا وضح الفرق بينه وبين المال المغصوب, لأن المال المغصوب مالكه عاجز عن تنميته مقهور على ذلك غير مختار.
فإن قلتُ: المال المدفون إنما تسقط زكاته إذا طلبه دافنه يتفقده ولم يجده, لا قبل ذلك. فهو في حين طلبه وفقده الآن عاجز عن تنميته مغلوب مقهور على ذلك كالمغصوب منه.
قلتُ: وظاهر سؤالك النسوية بين المغصوب والمدفون, وليس الأمر كذلك, لأن المغصوب الاتفاق على أنه لا يزكى لماضي السنين إذا لم يرد معه ربحه. إلا ما حكاه عبد الحق عن ابن القصار في هذا الثاني وضعفه. وأما المدفون فالخلاف في تزكيته لماضي السنين شهير في المذهب, وهو قول مالك في كتاب محمد. ولمالك في المجموعة يزكى لعام. قال ابن رشد وهو أصح الأقوال. وإيراد المدفون في السؤال إنما هو بناء على ما صححه ابن رشد. فأما قولك أن الذي يظهر أن المال الموقوف للسلف أقوى الخ فليس كذلك(1).
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية: "بياض في خط المصنف".
(2/7)
________________________________________
أقول: لكن مالكها ممنوع من ذلك قهراً, والموقوف للسلف لم يمنع من تنميتها قهراً, وإنما ذلك بجعله واختياره كما تقدم. وهذا السؤال الذي أوردت أصله للشيخ خليل قال: في النفس من تزكية المال الموقوف للسلف شيء, وينبغي أن يتخرج فيه الخلاف من المال المعجوز عن إنمائه, وعزب عنه رحمه الله ما عزب عنك من هذا الفرق, ولصحة هذا الفرق لم يحك أحد من أهل المذهب في الموقوف للسلف خلافاً لا نصاً ولا تخريجاً والله تعالى أعلم.
[دين الكفارة لا يسقط الزكاة بخلاف دين الزكاة]
وسئل عن اتفاقهم أن دين الكفارة لا يسقط الزكاة, وقالوا في أحد القولين أن دين الزكاة مسقط, ولا تظهر قوة الثاني على الأول, وكلاهما واجب بالقرآن.
[404/1] فأجاب كون دين الكفارة لا يسقط الزكاة, كذا حكاه المازري عن المذهب, ولم يحك أحد فيه خلافاً. وكون ذلك مناقضاً لحكايتهم الخلاف في دين الكفارة أشار إليه ابن رشد, ثم فرق بأن الزكاة تتوجه المطالبة بها من الإمام العادل. وإن منعها أهل بلد قاتلهم عليها. وهذ الفرق غير صحيح, لأن الكفارات حكمها حكم الزكاة في مطالبة الإمام بها وإجبار الناس عليها. قال اللخمي: الذي يقتضيه المذهب أن الكفارات مما يجبر الإنسان على إخراجها, ولا توكل إلى أمانته ولا إلى قوله. قال وهذا هو الأصل في الحقوق التي لله في الأموال, فمن كان لا يؤدي زكاته أو وجبت عليه كفارات أو عتق عن ظهار أو قتل أو هدي فامتنع من اداء ذلك أنه يجبره على إنفاده, وقاله ابن المواز فيمن وجبت عليه كفارت فمات قبل اخراج ذلك أنها تؤخذ من تركته إذا لم يفرط. والخلاف في الكفارات هل هي على الفور أو على التراخي إنما هو في حق من كان يعتقد أنه يخرجها, وأما من يعلم منه جحودها وأنه يقول لا شيء عليه فإنه لا يؤخرها.
(2/8)
________________________________________
قلت: ويظهر الجواب بأن الفرق بينهما أن الكفارات غير منحصرة في المال, لأنها تكون بالصوم والعتق, فليست ماليه محضة اتفاقاً, بخلاف دين الزكاة فإنه مالي محض اتفاقاً. ولا يرد بكون مالك لا يعرف في كفارات الصوم لا عتقاً ولا صوماً, لأن مجرد وجود الخلاف في الكفارات هل تكون بغير المال مع الاتفاق في الزكاة يكفي في الفرق. وأيضاً فإن كلام مالك هذا مشكل حتى قال فيه تقي الدين في شرح العمدة لما تكلم على حديث الأعرابي أن هذه المسألة التي وقعت لمالك معضلة زباء ذات وبر(كذا) لا يهتدي لتأويلها.
فإن قلتُ: هل بمكن الفرق بينهما بأن الكفارات مختلف فيها هل هي على الفور أو التراخي بخلاف دين الزكاة ؟
قلتُ: لا, لما يلزم من اعتبار ذلك في الديون المؤجلة, وأن لا تسقط الزكاة بها, والله تعالى أعلم.
[من له مالان حولهما مختلف وربحت تجارته بأحدهما دون تعيين]
وسئل شيخنا أبو عبد بن العباس رحمه الله عن قول ابن عبد
[405/1] السلام عند قول ابن الحاجب: ولو كان بيده خمسة محرمية, قال لو نجر في خمسة منهما فصارت عشرين, ولم يدر أهي المحرمية أو الرجبية, زكى لحول الأخيرة. ولو امر أن يزكي لحول الأولى للزم زكاته قبل حوله إذ من المحتمل أن تكون هي الأخيرة انتهى.
قد يقال: و يلزم على أمره بالزكاة لحول الأخيرة تأخير الزكاة عن محلها, إذ يحتمل ان تكون هي الأولى, فلم رجحتم احد الاحتمالين على الآخر؟ إلا أن يقال ارتكب أخف الضررين بتأخيرها لحول الثانية, إذ ضرر رب المال بإخراجها قبل الحول أشد من ضرر الفقراء بالتأخير لغير وجه. ثم قال ابن عبد السلام: لو خلط الخمسين ثم أخذ منهما خمسة الخ يقال أيضاً هذا مشكل من وجهين:
(2/9)
________________________________________
الأول: أن قول لا زكاة حتى تبلغ بربحها أربعين, ظاهره إذا بلغت العشرين فأكثر ونقصت عن الأربعين ولو بجزء قل لا زكاة. قد يقال إذا بلغت عشرين فأكثر تزكى عند حول الثانية على كل احتمال, إذ من المحتمل أن تكون الخمسة هي الأولى أو الثانية أو مركبة منهما أن كانت من الأولى فواضح لولا ما عرضنا من الاحتمال الذي تلزم عليه الزكاة قبل الحول, فتؤخر الثانية كما تقدم في الفرع الأول, وإن كانت من الثانية أو مركبة فتزكى بحول الثانية ونقص الأولى او نقصهما معاً, وأياً ما كان فتضم أولاها ناقصة إلى الثانية اتفاقاً. فقوله لا تزكى حتى تبلغ أربعين مشكل أن بقي على ظاهره.
الثاني: سلمنا أنها لا تزكى حتى تبلغ أربعين, فقوله يزكى عشرين في المحرم وعشرين في رجب, يقال هذا أيضاً لا يتمشى إلا إذا كانت الخمس المتجر فيها مركبة منهما معاً على السواء, فيفض الربح على السواء, ولا علم عندنا بذلك. بل من جملة المحتملات أن تكون هذه الخمسة دينار منها من الأولى وأربعة من الثانية, فإذا فضت الأربعون على الخمس والأربعة أخماس
[406/1] صارت الأولى أيضاً ناقصة فتضم إلى الثانية, فالنظر إذا زكاتها لحول الثانية على كل تقدير, والله تعالى أعلم.
(2/10)
________________________________________
فأجاب بما نصه: الحمد لله حفظكم الله وتولاكم, وأدام النفع وبقاء رسم العلم بكم ورقاكم. بعد السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته فقد وقفت على مخاطبتكم المشرقة, ومباحثكم الرائقة المرفقة, زادكم الله من فضله, وأكثر للمسلمين أمثالكم بمنه وطوله, فوقعت مني موقعاً, وصادفت من محل القبول موضعاً. أما ما أشرتم إليه في المسألة ايراداً واعتذاراً فصواب, إذ غايته في الأولى تأخير الزكاة عن محلها, وفي الثانية ما علل به ابن عبد السلام, فكلامه مشيراً إلى الجواب. ولنصرف عنان القول إلى الايراد الثاني, فهو من أهم ما تصرف إليه العناية بالجد وترك التواني, فنقول والله المستعان, وعليه التكلان, في خلط الخمستين وأخذ خمسة منبهمة كلام صحيح في النظر والاعتبار, وحكه في محك النقد وعرضه على المعيار, إذ لا يتحقق للمرحمية ربح يضم إليها فتتم نصاباً فتزكى لحولها إلا بتمام أربعين, وما عداه يؤدي إلى احتمال ايقاع الزكاة قبل محلها, وما يؤدي إليه بها قبل نضوض ربح هذه, يريد أو تلفت. وأما لو بقيت لزكى إذا باع بخمسة وثلاثين أو ما زاد عليها بما كان. وقول ابن عبد السلام فلا زكاة حتى يبلغ برحها أربعين, لا يعني به نفي الزكاة عن عشرين لو باع بها أو ثلاثين أو غير ذلك من الزائد على العشرين, نعم يزكى ذلك لحول الثانية, فالمنفي زكاة الفض لا مطلق الزكاة, فهو يزكى ما نقص عن أربعين لرجب, ولا يزكى نصفه في المحرم والآخر في رجب, وإنما يفضُّ في أربعين فأكثر وما دون ذلك مع بقاء الخمسة التي لم يتجر فيها بخمسة وثلاثين فأكثر, ومع ذهابه لأربعين فأكثر. ألا تراه قال إذا بلغت أربعين يزكى عشرين في المحرم وعشرين في رجب؟ فكلامه نفياً واثباتاً في زكاة مخصوصة, وهي زكاة الفض, لا في مطلق الزكاة لأنه مما لا يتوهم. وما أوردتم عليه من التقسيم وارد لو أراد نفي الزكاة مطلقاً وبقي على ظاهره, وفي كلامكم غاية الانصاف حيث قلتم مشكل إن بقي على ظاهره.
(2/11)
________________________________________
وأما ما ذكرتم من الإشكال في بلوغ الأربعين واختماله, فنقول في حله مستعينين بالله
[407/1] جل اسمه عليه, هنا أصل نبني عليه ونرجع إليه(1), وهو أنه مهما فض الربح فيما تساوت فيه أقدام التنازع فكمل النصاب في هذه وفي هذه فلا ضم فترد كل لحولها. ولذا بقيت الخمسة التي لم يتجر بها فباع بخمسة وثلاثين زكى كلا لحولها لكماله برحه نصاباً. ومهما فض الربح فلم تكمل الأولى بربحها نصاباً ضمت بربحها إلى الثانية, فلهذه العلة كان الافتراق والضم لا لغيرها, فلذا كان احتمال الخمسة من أحدهما أو خلطهما تساويا أو تفاضلا مطرح, إذ الأصل الاستواء لعدم الترجيح والله سبحانه أعلم.
[قاعدة الشك في الشرط يوجب الشك في المشروط]
فأجاب عن المسألة الفقيه أبو العباس سيدي أحمد بن زاغ بما نصه: الحمد لله. الجواب في المسألة عن البحث الأول أن الزكاة لا تجب في الأموال الحولية إلا عند تيقن حلول الحول, ولا يقين إلا عند حلول الثانية, وأما حول الأولى فلا يقين عنده, لاحتمال أن لا يكون بقي من الأولى شيء. ويرجع هذا الجواب إلى القاعدة المشهورة من ان الشك في الشرط يوجب الشك في المشروط. فالشك في حلول الحول يوجب الشك في وجوب الزكاة, وذلك كالشك في دخول الوقت فإنه يمنع من الدخول في الصلاة.
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية: "في نسخة: يبنى عليه ويرجع إليه".
(2/12)
________________________________________
والجواب عن البحث الثاني أن كلام ابن عبد السلام وإن كان ظاهراً فما ذكرتم, ويرد عليه من الايرادات ما أوردتم, فيجب تأويله وتأويله عندي أن قوله لا زكاة حتى تبلغ بربحها أربعين, معناه لا زكاة عند حلول الأولى حتى تكون أربعين حينئذ فيجب الفض, فإن نقصت حينئذ ولو ديناراً واحداً فلا زكاة فيها, لأن اعتبار الفض في هذا الفرض لابد منه, وهو يمنع من كمال النصاب إذا كانت ناقصة عن الأربعين ولو ديناراً. وبعد إن ظهر لي هذا التأويل سيق لي ابن ادريس فوجدت في كلامه ما يحقق هذا التأويل, قال ناقلاً عن كتاب ابن سحتون: وفيه أن خلطهما, يعني الخمسة والخمسة, واشترى بخمسة ماباع بخمسة وثلاثين, فإن كانت الخمسة المتروكة باقية فقد
[408/1] كملت بها الأربعون, فالحكم ما تقدم, يعني من الفض, وإن أنفقها أو ضاعت قبل حولها زكى الخمسة والثلاثين لحول الثانية, لأن الخمسة المشترى بها نصفها من الولى ونصفها من الثانية. فإذا فض الربح عليها لم يكمل النصاب في الأولى فوجب إضافتها إلى الثانية, وهو واضح. انتهى. فأحسن تأمله تخرج إلى تأويلنا. وإنما قال نصفها من الأول ونصفها من الثانية مع خلطهما واحتمال عدم التصنيف بين عين المأخوذ والمتروك, لأن مبنى هذه المسائل على حكم المال يتداعاه اثنان. وبهذا يخرج الجواب عما ذكرتم من الاحتمالات في آخر البحث, والله تعالى أعلم.
وأجاب فقيه الجزائر أبو الحسن سيدي علي بن محمد الحلبي بما نصه: الحمد لله. يا سيدي ومحل اعتقادي, تصفحت ما وجهتموه, فرأيت ما استشكلتم ظاهر الاشكال, يعسر على مثلي منه الانفصال, لكن يا سيدي لم أجد من مساعفتكم في الجواب بداً, وأجهدت في ذلك نفسي جهداً, وها أنا يا سيدي قيدت لكم ما ظهر لي من جوابها مستعينا بالله, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قولكم: يلزم على امره بالزكاة لحول الأخيرة تأخير الزكاة عن محلها.
(2/13)
________________________________________
قلنا: هذا النوع من الفوائد يشترط في وجوب زكاته مرور الحول أو ما هو في حكمه, والشك في الخمسة المأخوذة من أي المالين هي يفضي إلى الشك في وجود شرط وجوب ... زكاتها وهو الوقت, والشك في حصول الشرط المقتضي يسقط الطلب بالمقتضى, فلا يقال في حق لم يجب بعد أنه مؤخر عن محله.
وقولكم: ظاهره إذا بلغت العشرين فأكثر ونقصت عن الأربعين ولو بجزء قل لا زكاة فيها الخ.
ظاهر كلامه كما قلتم أنه لا زكاة فيها ولو بلغت حول الثانية ناقصة عن الأربعين, ولو كانت أكثر من العشرين, وأن الحكم بنفي الزكاة عنها يعم جميع الأزمنة ما قبل حول الثانية وما بعده, وهذا العموم الذي يفهم من كلامه يخصصه بالمعنى قوله فيزكى عشرين في المحرم وعشرين في رجب, فإنه
[409/1] يدل على انه نفى عنها الزكاة إن نقصت عن الأربعين عند حلول الأولى لا عند حلول الثانية, وهذا ظاهر, إذ لا يقال بعد المحرم يزكى عشرين في المحرم. ويشهد لهذا التخصيص نقل ابن عرفة عن النوادر مثل هذه الصورة, فإنه قال: ومن كتاب ابن سحنون: لو أفاد خمسة عشر ديناراً ثم ثلاثة, وربح في مشترى ثلاثة منها بعد خلطها ثلاثاً بقيتا على حول إحداهما ولو ربح ستة كانت الأولى على حولها. الشيخ: يريد إن ربحها قبل أن يضمهما حول أخراهما انتهى.
واستشكالكم فض الخمسة وربحها على حول الخمسين نصفين مع الاحتمالات التي ذكرتم ظاهر.
(2/14)
________________________________________
والجواب عنه والله اعلم أن ذلك جار على قول مالك في المالين المختلطين مما لا يعرف بعينه أن ما ذهب منهما وما بقي يفض على المقدار المختلط دون مراعاة احتمال ذهاب أحد المالين دون الآخر, فبني مالك أمره في ذلك على مراعاة الأجزاء المختلطة حسبما أشار إليه الشيخ أبو الحسن الصغير في تضمين الصناع, وابن أبي زيد في كتاب الوديعة من النوادر. ويجري أيضاً الفض المذكور هنا على قول ابن القاسم الذي يقول: يقسم المختلط على حسب الدعوى. وقد قال القرافي في تنقيحه: الخلط إما شائع أو بين الأمثال, وكلاهما شركة انتهى. والله تعالى أعلم.
[410/1] نوازل الصيام والاعتكاف
[من سمع بظهور هلال شوال وأفطر ثم تبين خلاف ذلك]
وسئل الشيخ القاضي أبو القاسم بن سراج عن أهل وطن اخبروا بظهور هلال شوال بموضع آخر, فمنهم من صدق وأكل, ومنهم من ترددت نيته.
فأجاب إن عيد الفطر المسؤول عن لم يثبت أنه كان يوم الخميس بشهادة من يعتد به, فمن أفطر ذلك اليوم فعليه القضاء, ولا كفارة عليه لأنه مُتأوِّلٌ غير منتهك. وأما من رآه وتحققه من غير شك, أعني رأى هلاله فأفطر فهو غير آثم فيما بينه وبين الله, وكان من حقه أن لا يفطر كما قال مالك في الموطأ, لاوهو المشهور في المذهب. ولا يجوز أن يبني الإنسان في رؤية الهلال إلا على عدلين محققي العدالة فأكثر, وعلى جماعة يعلم أنهم صادقون بالعادة. ولا يجوز أن يعتمد في الأخبار أنه قد ثبت رؤية الهلال إلا على رجل صادق عنده, وأما المتردد ولم يفطر فصومه صحيح.
[شروط الشهادة على رؤية الهلال]
وسئل عن الرسم الوارد برؤية الهلال المذكور.
(2/15)
________________________________________
فأجاب الرسم المشار إليه في السؤال لا يعول عليه, لأن نائب القاضي الذي أعلم بثبوته إعلاماً مطلقاً أظهر به جهله وعدم معرفته بما يشترط في الشهادة على رؤية الهلال. وذلك أن الرسم كان فيه أربعة شهود, وكتب على الأول أنه عدل, وعلى الثاني اثنى عليه, ولم يكتب على اسم الثالث والرابع شيئاً, ثم عليه بثبوته فلان. ووجه الصواب في هذا أن لو
[411/1] كتب بأداء الشهود وعدالة الأول والثناء على الثاني, فإن كان شهد عند القاضي الوارد عليه هذا الخطاب شهود أخر تعاضدت شهادتهم بهذا وإلا فلا يعمل عليه بمجرده, لأن الهلال لا يثبت إلا بشهادة عدلين فأكثر أو بعدد يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة حسبما ذكروه في ذلك, ولا يكتفى بمجرد الكتاب في التزكية. فتبين بهذا أن اعلام المعلم بثبوت الرسم اعلاماً مطلقاً جهل وقلة علم بما يشترط في الشهادة على الهلال, وقد بين وجه مستنده. ولا خلاف أن القاضي إذا بين مستنده وهو خطأ أنه ينقض حكمه. ولو كان هذا الرسم في حق آدمي ما كان يحكم به إلا بعد الاعذار وتقرير الشهود وغير ذلك مما يشترط في الحكم حسبما هو مقرر في كتب الأحكام. وأما حق الله تعالى كثبوت الأهلة فلا اعذار فيه. فلا يعول على ما ثبت فيه إلا بشرطه.
(2/16)
________________________________________
فإذا تقرر هذا فيقال: لا يجوز الإفطار اعتماداً على ذلك الرسم بمجرده, ومن أفطر وجب عليه القضاء, والظاهر أنه لا كفارة عليه لأنه معتمد على من قلده ممن أفتاه بذلك ولم يكن منتهكاً, ومن شرط موجب الكفارة الانتهاك. وأما المفتى بجواز الإفطار اعتماداً على ذلك الرسم خاصة فلا إشكال في جرأته وجهله, لأنه يدل على عدم اطلاعه ومعرفته بما يشترط في الإعلام وحكم ما يرد عليه وما يعد تزكية من الألفاظ المزكى بها, ومراتب الشهود والشهادة على غير ذلك. ولو علم هذا أو مسألة منها واحد لما أفتى بما أفتى. فقد ارتكب أمراً عظيماً. قال تعالى ولا تَقْفُ ما ليس لك به علمٌ على قوله مسئولاً. وقال تعالى قُلْ أرَأيْتُم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتُم منه حراماً وحلالاً. في هاتين الآيتين عظة للمفتي, كما قال بعض العلماء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ أفتى بغير علم كان إثمُهُ على من أفتاهُ. وفي الحديث أجرؤُكُم على النار أجرؤُكم على الفُتْيَا. ومحمل هذا على من لم يعتمد على مستند صحيح. وفي العتبية عن مالك رضي الله عنه أنه قال: إذا كان من يشار إليه يفتي بالجهالة سرت في الناس. وقال أيضاً: إذا كان الشيء من أمر دينك فعليك أيضاً فيه بالثقة, فلن ينجيك أن تقول سمعت. وقد كان يقال: كفى بالمرء (كذا) فهذا ما حضر من الكلام على هذه المسألة, ومن خالف فيه أو في بعضه فعليه الدليل. قاله ابن سراج.
[412/1] [اضرام النار لإعلام القرى الأخرى برؤية الهلال]
وسئل عن اضرام النار من قرية إلى أخرى إعلاماً برؤية الهلال.
فأجاب النار توقد علامة على رؤية الهلال حسبما ذكر إذا كان قد حصل لأهل القرية ثقة من أهل القرية الأخرى أنهم لا يوقدون النار إلا إذا رأوا الهلال بنوا عليه وإلا فلا, قاله ابن سراج.
وسئل عن الصوم والإفطار بمجرد الخبر.
فأجاب لا ينبغي لأحد أن يعتمد في صومه وفطره بمن لا تعرف عدالته, فإن أفطر فلا كفارة عليه لأنه متأول.
(2/17)
________________________________________
وأما القرية إذا لم يكن فيها قاض ولا من يعتني بارتقاب الهلال فيعتمد على من أخبره من أهل العدالة أنه رآه وإن كان واحداً, سواء كان من اهل القرية أو غيرها, أو يكتفي أيضاً بخبر الواحد العدل بحصول الرؤية على شرطها في قرية أخرى. قاله ابن سراج.
[عدد الشهود غير العدول في الرواية المستفيضة]
وسئل اللخمي رحمه الله إذا رأى الهلال جماعة من الناس ممن لا يقتدى لهم بشهادة ولا ترجى لهم تزكية في الوقت, كم قدر العدد الذي يحكم بشهادتهم؟
فأجاب ليس لعدد من يصام بشهادته إذا كان غير عدل أمر محصور لا يتعدى, إلا أنه متى وقع العلم بصدقهم صام الناس مالم يكونوا دون الخمسة.
[إذا روقب الهلال ليلاً فلم ير, ثم ثبتت رؤيته نهاراً]
وسئل عبد الحميد الصائغ عن أهل مدينة التمسوا هلال شوال ليلة ثلاثين في الغيم فلم يروه, فلما أصبحوا قدمت رفقة كبيرة نحو الأربعمائة أو أقل أو أكثر, فذكروا انهم رأوا الهلال بالقرب من هذه المدينة نحو خمسة عشر ميلا رؤية ظاهرة, فخرج جماعة من العدول أو غيرهم ليحتبروا ذلك من
[413/1] الواصلين قبل وصولهم المدينة, فسألوا خلقاً منهم, فمنهم من قال سألت مائتين وستين رجلاً, ومنهم من قال سألت من أول الرفقة على آخرها, ومنهم من قال سألت أكثر من خمسة وأربعين حتى قطعوا على ذلك وعلموه يقيناً, ولم يبلغهم أنه حكي عن احد من الناقلين خلاف ذلك, واتفقت شهادة الكل على رؤية واحدة في وقت واحد رؤية ظاهرة فاشية, ودخلوا المدينة واستفاض ذلك في الناس, فهل يحكم بشهادتهم ويفطر الناس ويصلون العيد؟ أو لا يجوز الفطر ويتمادى الناس على الصوم ؟
(2/18)
________________________________________
فأجاب عن ذلك بخط يده: قد نزل مثل هذا السؤال في القيروان, وأهل العلم موجودون والمحققون متوافرون, وكان الذي أخبروا من الرفقة أقل من العدد الذي ذكرت, فاتفق أهل التحقيق ممن كان في ذلك على ايجاب الحكم بقولهم, وحملوا الناس على الصوم, إذ كان ذلك نزل يالقيروان في هلال رمضان. وهذه المسألة ظاهرة بينة ولها مدخل في الأصول, إذ يتعلق بها من الأحكام باب كبير. فإذا وقع العلم لسامع قولهم وقطع بما قالوه لم يلتفت إلى إعراض من أعرض ممن لم يحكم الأمر ولا عنده من العلم ما يميز به هذه المسألة وأشباهها, فإنا لله إليه راجعون على ذهاب العلم والعلماء.
وكتب في المسألة جواباً ىخر لكون الجواب الأول لم يصل, ومن جملته: وذكرت أن مثل هذا نزل يالقيروان وأهل التحقيق من العلماء كثير, فجعلوا لمن سمع قول أهل الرفقة ممن يميز العلم الواقع في النفس وغلبة الظن والشك, وهما رجلان عدلان فقالا وقع لنا العلم بما قاله أهل الرفقة أنه يجب المصير إلى ما شهدوا به. هذا هو الصواب إن شاء الله تعالى. ومن وقع له العلم الضروري بقول أهل الرفقة, أو بقول من كان أكثر من الأربعة لزمه الصوم. وهذا قول من حقق النظر من شيوخنا.
وسئل اللخمي عن ذلك أيضاً.
فأجاب بصحة الجواب المتقدم, ثم قال: والذي عليه أهل العلم من القاضي أبي بكر بن الطيب وغيره, أنه متى وقع العلم من المخبرين لا يراعي عدد القوم ولا حرية ولا ذكورية. وعن ابن عبد الحكم: وقد يشتهر من
[414/1] الرؤية ما لا يحتاج لشهادة ولا تعديل, مثل القرية يشهد فيها العدد الكثير من الرجال والنساء والعبيد, ولا يمكن تواطؤهم على الباطل, فيلزم الصوم من باب الاستفاضة لا من باب الشهادة, فقد اخبر أم مثل هذا لا يفتقر على عدالة. وإذا رجع المنكر إلى الافطار فقد رجع إلى الحق وهو المراد, ولو طالع الكتب لظهر له ذلك, والمجابات فيما يقع من ذلك اجمل بالسنة والقرآن, وما أحد منا معصوم.
(2/19)
________________________________________
وأجاب الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السنوسي المعروف بابن العابد: ما ذكرته ووصفته صحيح مستقيم, فلا شك فيه, وهو مشهور مذهب مالك وأصحابه. ثم ذكر قول ابن عبد الحكم المتقدم, ونقله عن ابن أبي زيد والقابسي. قال وروي عن ابن الماجشون: إذا استفاض في بلد لزم من لم يستفض عنده الصوم, ويُجزىء وإن لم يبيت, وجعله أقوى من الشهادة. وخولف في هذا وقيل لا يجزئهم لعدم التبييت, لكنه يوجب فرض الصوم عليهم. وعن ابن القاسم في أهل حصن أسلموا فشهد بعضهم لبعض, فشهادتهم جائزة ويتوارثون بذلك. وأما المتحملون فإن كان عددهم كثيراً فشهادة بعضهم لبعض جائزة. وعن ابن القاسم وأصبغ العشرون عدد كثير, وأباه سحنون. وزاد القفصي عن ابن أبي زيد ثلاثون يقبل قولهم وكلهم لا يبالون كانوا رجالاً او نساء او عبيداً أو خدماً أو كيف كان ذلك, ولم ينظر الفقهاء على قول شيء من المتكلمين فلجؤوا للعدد وهو اجتهاد إلا أنه لابد أن يكونوا لا تلحقهم التهمة ولا ينظر في ذلك للعدالة. وأما العدد القليل فلا إلا ببينة مسلمين من تجار وأسارى عدول.
وفي النوادر عن ابن ميسر إذا أخبرك عدل بأن الهلال ثبت عند الإمام أو عند أهل بلد ذلك من باب الأخبار. قال أبو محمد كما ينقل الرجل إلى أهله وابنته البكر فيلزم ذلك. وعن ابن القصار مذهب مالك قبول الخبر المنتشر المستغي عن العدد لكثرتهم كمراتب الصلاة وأركان الحج التي لا يتم إلا بها, وتحويل القبلة إلى الكعبة وشبهه من الشرائع المتواترة الأخبار عنه عليه الصلاة والسلام, وهو مما يوجب العلم ويقطع المعذرة ويقطع بصدق مخبره, وهذا مما لا اختلاف فيه بين فقهاء الأمصار, ولا ينكره إلا من خرج عن
[
(2/20)
________________________________________
415/1] الجماعة وخالف جماعة المسلمين. وبمثله تعرف أخبار الأنبياء والملوك والدول والأسلاف وما لم يشاهد من البلاد, ومن أنكر ذلك لزمه أن يتوقف عن نعرفة هذه الأشياء, فيتبين حينئذ عوار مذهبه ومكابرته وخروجه عما عليه العقلاء. وإذا أتى من العدد ما تطمئن النفوس غليه لكثرته ويتحقق عدم تواطئهم على الكذب أوجب قبول قولهم والعلم والعمل بذلك, ومن شرح الله صدره وفهمه يجب عليه قبول ما أوردته, ولا يرد بنحو إطراء النفوس وما لا حجة لأحد في رده.
[صفات خبر التواتر]
وسئل الصائغ عن صفة التواتر وهو من معنى ما تقدم.
فأجاب خبر التواتر له أوصاف إذا ثبتت وجب العلم, وإن اختل واحد لم يجب العلم. منها علمهم بما أخبروا عنه, وأن يكونوا مضطرين على العلم الحاصل لهم يخبرون به من عملهم الضروري, الثالث أن يزيد عددهم على الأربع, ولا يقع العلم بأربع فأقل. وهذه الشروط عند أهل التحصيل تحصل العلم, وغير ذلك حيرة وتخليط.
وفي أسئلة القفصي عن اللخمي: ليس العدالة شرطاً في صحة الشهادة في الاستفاضة, بل لو كانوا نصارى او مستجرحين (كذا) لصحت.
وأجاب عبد الجليل الربعي من ظن أن الخبر المتواتر يحتاج في صفة ناقله إلى العدالة فهو غير يصير بما يتكلم عليه. من هذا لو كان نقلة التواتر كفاراً لأوجب خبرهم العلم, هذا إجماع اهل السنة وغيرهم من اهل البدع.
وسئل عن معنى قولهم لا يصح التواتر حتى يستوي طرفاه ووسطه.
فأجاب بأن قال: هو أن ينقل قوم عن قوم, ثم قوم عن آخرين, أعني قرنا عن قرن. وتأويله ان يخلق الله في قلوب الناقلين صدق ما سمعوه ممن أخبرهم يعلمونه ضرورة ويكون من قبلهم أيضاً كذلك. ولا يحتاج في هذا إلى استواء العدد في كل طبقة, بل يصح ان يكون طبقة خمسين والأخرى عشرين والثالثة خمسة عشر, ويحصل العلم ضرورة لكل طبقة.
[416/1] [من رأى الهلال وحده عمل بمقتضى ما رأى]
وسئل اللخمي عمن رأى هلال رمضان وحده فبيت الصوم, هل يأمر أهله بالصوم أم لا ؟
(2/21)
________________________________________
فأجاب بان قال: ذكر ذلك ابن حبيب عن ابن الماجشون, بل قال يحمل أهله على ذلك ولو رأى هلال شوال وحده لم يجز له أن يبيت الصوم وله أن يأكل إذا خفي له ذلك. وعن عبد الملك: يفطر أهله بقوله, وصلى صلاة العيد في بيته ولا يصليه بالغد. قيل وفي المسألة قول آخر أنه لا يفطر بالفعل وذكر بعضهم أنه المشهور. ونزلت بتونس واشتهرت الرؤية غير أنها لم تثبت عند القاضي, فأفطر بعض من يشار غليه وأمر بعض العوام بالفطر, فسمع ذلك الشيخ الإمام أبو عبد الله ابن عرفة رحمه الله فقال: لو أُدِّب لكان لذلك أهلاً أي لأن فيه افتياتاً على القضاءة ومفسدة والذي قاله واضح إن كانت القضاة متيقظين متواضعين, وأما لو كان فيهم أنفة أو لم يكونوا محافظين فالصواب مع الأول
[انفراد اثنين مستوري الحال برؤية الهلال]
وسئل اللخمي عن رجلين صفتهما تقتضي العدالة لكن لم تسبق لهما شهادة ولا تزكية عند القضاة, يشهدان في رؤية الهلال ليلة سحاب هل يجب العمل بشهادتهما؟ وقد ذكر في الموازية عدم جواز شهادتهما.
فأجاب إذا كان بحيث وصفت وجب العمل بشهادتهما عند أهل ذلك البلد من الصوم والفطر وغير ذلك. وما ذكر عن محمد غير صحيح ولا يقتضيه مذهب مالك ولا أصحابه. وإنما يعتبر حال السائل(1) في نفسه وقت يخبر عن علمه, فعليه يعول القاضي. وكذا أفتى أبو محمد الشقراطسي وغيره, وهذا بين إن لم تكن السماء مصحية, ولو كانت مصحية فظاهر المدونة كذلك. وقال سحنون: أي ريبة أعظم من هذا ؟ يريد أنه لا يعمل بها. وقال يحيى بن عمر: إن نظروا إلى صوب واحد فكما قال سحنون, وإن نظروا على جهات فكما قال مالك. ونقل القفصي عن الإشراف لابن المنذر واختلف أهل العلم إذا رأى الهلال أهل البلد دون غيرهم, فروى عن
[417/1] عكرمة والقاسم وسالم واسحاق أن لكل قوم رؤيتهم, وقال قوم إنه يعم جميع من أدركهم خبره, وهو قول الليث والشافعي وأحمد, ولا أعلمه إلا قوال المدني والكوفي.
[
__________
(1) في نسخة: الشاهد.
(2/22)
________________________________________
هل يعتمد الحاكم على العلم الحاصل له من التواتر؟]
وسئل الصائغ عن رجل من أهل العلم بالأصلين يذكر أن سامع شهادة, أعني خبر من ليس بعدل, إذا كثروا وقع العلم بخبرهم, وأن سامع خبرهم لا يحكم بقولهم على مذهب من لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه هكذا ظهر لي قولهم, لأن سامع قولهم صار بمنزلة شاهد واحد علم شيئاً فإذا حكم بما سمع منهم فكأنه حكم بعلمه هكذا ظهر لي. وفرَّق هو بين خبرهم عن الهلال وغيره بما تراه أنه في ذلك, وهذه ألفاظه بِنَصِّها: ولو أخبر الحاكم أهل التواتر الذي يُوجب خبرهم العلم أنَّ لزيد قِبَلَ عَمْر ومالاً ووقع العلم بصحة ما قالوه لم يجز له الحكم بما علمه إلا عند من يجيز حكم الحاكم بعلمه, واما من لا يجيز ذلك فلا يجوز له الحكم إلا بشهادة العدول دون الحكم بالعلم. ومسألة الهلال ليست هكذا, بل يجب على الناس الإفطار إذا علموا طلوع هلال شوال. ألا ترى أن مالكاً يلزم الرجل الصوم إذا رأى هلال رمضان وحده, وكذا يأمره بالفطر إذا رأى هلال شوال وحده إذا خفي له الفطر أو كان مسافراً, ولم يوجب عليه ألا يحكم بالهلال حتى يشهد به العدول. وإنما يرجع إلى شهادة العدول عند العلم انتهى كلامه. فما تقول في هذا وفي من يمنع من رأى هلال شوال من الفطر بالأكل بل بالنية خاصة في أوجهه ؟ وما الصواب؟
فأجاب ما ذكرت من أمر الهلال فالصواب أنه من ناحية الخبر وليس طريقة الشهادة, وبه قال بعض شيوخنا وقاله من تقدم من أهل العلم لكن لم يقل به مالك, بل جعل طريقة الشهادة, ولم يجعله خبراً. ومن أمره بالفطر بالنية فلئلا يغتر بخبره فلا يصدق في الرؤية فيؤدي للتهمة والنظر في أمره, فمنع لحماية الذرائع. وإذا أخبر الحاكم من وقع العلم بخبره فيحصل شاهدين ممن يعلم طريق العلم ويميز بين غلبات الظنون والشك والاعتقاد والعلم سمعاً ممن أخبرهم, فإذا وقع العلم لسامعه كان معرفة المعلوم على
[
(2/23)
________________________________________
418/1] ما هو عليه. والحكام الآن لا يباح لهم الحكم بعلمهم, بل لو قيل إن ذلك ليس فيه خلاف اليوم م بعد. ولو كنت أبيح لهم الآن الحكم بعلمهم لكان هو الأحسن عندي لكن منعهم من الحكم في هذا الوقت هو الحق والصواب.
[تلفق شهادة الشهود ولو لم يكونوا من بلد واحد]
وسئل عن التماس الناس هلال شعبان, وكان السحاب فلم يره أكثرهم وزعم اثنان أنهما رأياه خلال السحاب وآخرين كذلك وهم ليسوا بعدول, وفيهم مظاهر بالمعاصي, وذكر رجل ىخر انه رآه, فهل تلفق هذه الأخبار بعضها على بعض ويقع العمل بها والمشكل منها حكاية الناقل هل هو كالمخبر عن نفسه أو اخفض ؟ وجاء رجل من تونس وأخبر أنه رآه بها لكنه غير عدل, فهل يضاف بعضها على بعض, لكنها بمواضع شتى؟ وكيف لو رآه آخر بالقيروان وآخر بسفاقس وآخر بمهدية وأخر بهوارة وآخر بقابس وآخر بطرابلس, وليس في الجميع عَدْلٌ فهو يحصل العلم أم لا ؟ فإذا حصل العلم في قلب سامعها صح الحكم بها على أحد القولين في الهلال الذي لكل قوم رؤيتهم. وقال أيضاً كنت مريضاً في شهر رمضان بقفصة فأفطرت وصام الناس بها ثلاثين يوماً, ثم بلغني أن أهل سوسة أفطروا على النقص فقضيت الصوم برؤيتهم. ولم يبلغني لكل قوم رؤيتهم, فما تراه في ذلك ؟
فأجاب اختلف المتقدمون في صوم رمضان هل بشهادة شاهدين, أو طريقة الخبر فليلزم بخبر الواحد, وهو الظاهر عندي, وذهب غليه من شافهته ممن حقق النظر, فينظر إلى من يميز العلم من غلبة الظن فيسمع من المخبرين ما وصفت, فإذا وقع بالشهر وهو عدل وجب الصوم إذا حصل العلم بخبرهم وهو أكثر من أربعة. وتقارب المواضع التي ذكرت هي كالإقليم الواحد, والقضاء عليك لليوم الذي ذكرت إذا هو كالموضع الواحد.
وأجاب غيره بعد مقدمة: إن الله سبحانه أجرى العادة في الأعداد التي تقوم بهم الشهادة أن إخبارهم الضروري وهو شأن ما ذكرت من الأربعة عدولاً كانوا او مجرّحين. وأمّا الخامس الذي ذكرت ناقلاً, فمن قال
[
(2/24)
________________________________________
419/1] الخمسة تُحصِّل العلم الضروري فناقل هذا عن واحد لا يحصله, فلم يبق إلا الأربعة في أنفسهم. وأما ما ذكرت من خبر البعيدين من المكان, فمن أخبر عن نفسه فهم مضافون إلى هذا, إذا اختلاف البقاع واتحادها لا تؤثر في خبر المخبرين, لأنه لو أثر لكان تأثير العلة للمعلول او الشرط للمشروط أو الأدلة عليها, وكلها ممتنعة هنا. أما العلل العقلية فحكمها أن توجد بالذوات التي تحصل بها الأحكام, والبقاع ليست موجودة بذوات المخبرين ولا بذوات أخبارهم فبطل ان تكون علة. ولا يقال إنها علل شرعية لعدم النص على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع. ولا يقال إن البقاع في الحبر شرط لا عقليها ولا سمعيها, لأن العقل لا دليل فيه على ذلك, وليس في نصوص السمع ما يقتضي ذلك, وليس البقاع أدلة على وجوب حصول العلم بالحبر إذا اجتمع أهله, لأنّا قد نسمع الأخبار من مخبرين مفترقين في الجهات ويحصل لنا العلم بخبرهم. وأيضاً فإن اجتماعهم في مكان واحد من أبواب المحال, إذ من حق المخبرين منهم في المكان ان يكون مانعاً لغيره من الكون فيه, وكل ذلك يُفضى إلى أن اجتماعهم في البقاع وافتراقهم فيها ليس بمؤثر في جعل خبرهم طريقاً إلى العلم. وأما ما ذكرت من الحديث فقد تقدم لك الجواب فيه, وجملته أن المراد به أن القوم إذا رأوه وجب عليهم أن يعملوا برؤيتهم لقطعهم ذلك, ولم يفتقروا إلى متابعة غيرهم, ويكون ما فعلوه حكماً شرعياً ما ضياً في حقهم.
(2/25)
________________________________________
ثم اعلم انه لو بلغ المخبرون إلى عدد يجاوز عدد الشهادات لكنا مفتقرين مع ذلك عند سماع أخبارهم إلى الرجوع إلى أنفسنا ووجودِنا لَهَا مطمئنة قاطعة لما أخبروا عنه, وليست كذلك, هذا مما لابد منه, فإن وجدناها قاطعة بذلك حكمنا به ووجب علينا الصوم عند ذلك, إذ لابد لمن كان عالماً بان يومه من رمضان من صيامه, وإنما يبقى النظر في الحكم بذلك من قبل القضاء على الناس, لاختلال الأصل الذي ينبني عليه القضاء بذلك, وهو حكم الحاكم بعلمه إذا لم يكن هناك بيِّنة على قول من رأى ذلك من الناس. وإنْ لم نجد أنفسنا مطمئنة بل مترددة أو ظانة علمنا عند ذلك أن في المخبرين ظاناً وبحث (كذا). ومن لم يخبر عن اضرار فيجب ترتيب ذلك وتنزيله على حسب ما ذكرته لك والله الموفق.
[420/1] وأجاب غيره: أما شهادة الاستفاضة فالصحيح عند أهل النظر قبولها وإن وردت من قوم مفترقين, ولا يراعى فيها وقوع العلم بعدها, إذ نقلها من شاهدها نقله وعلمه اضطراراً.
[يُفطر من يجهده الصوم أو يزيده ضعفاً]
وسئل اللخمي عما بيح الفطر من الأعذار.
فأجاب هو الذي لا يستطاع الصوم معه إلا بجهد ومشقة, وإن كان متصرفاً لقوله سبحانه يُريدُ الله بِكم اليُسر ولا يريدُ بكم العُسرَ.
وسئل ابن أبي زيد: إذا كان الصوم يضره ويزيده ضعفاً أفطر, ويقبل قول الطبيب المأمون أنه يضربه, ويفطر الزَّمِن إذا أضربه الصوم وكذا كل صوم يبح الفطر.
[اختلافهم في جواز إفطار المتطوع بالصوم لغير ضرورة]
وسئل السيوري عن المتطوع بالصوم يدعى لوليمة, فهل يجيب ويفطر ويقضي؟ أو يفعل واحداً منها؟ وكيف إن لم يكن علم حتى حصل في الموضع فعرض عليه حتى يفطر أو لا؟ وكيف لو حلف له على الفطر هل يطيعه أو يحنثه؟
(2/26)
________________________________________
فأجاب لا يجوز له الفطر ويحنثه إن حَلف له انتهى. وفي المدارك عن عيسى بن مسكين انه قال لصاحب له في صوم تطوع أمره بفطره: ثوابك في سرور أخيك بفطرك عنده أفضل من صومك, ولم يأمره بقضائه.عياض قضاؤه واجب ولم يذكره لوضوحه. قال ابن عرفة وهو خلاف المذهب. قيل لعله اتبع مذهب الشافعي في هذا, ولا يكون قول القاضي ترك إيجاب القضاء لوضوحه واضحاً. إذ لم يأمره الشافعي بالقضاء ويقول هو أمير نفسه, ومن خُيِّر ابتداء خُيِّر دواماً. وروري عن الشيخ أبي علي حسن الزبيدي أنه قال لصائم متطوع حضره جماعة: كُلْ ونعلِمك فائدة, فلما أكل أخذ بأذنه وقال له: إذا عقدت مع الله عقداً لا تنقضه. قال ابن عرفة لعله علم منه عزمه على الفطر متأولاً. قيل هذا الذي أشار إليه الشيخ أبو علي هو
[421/1] الواقع في العتبية عن حسين بن رستم حضر صنيع قوم فعزم عليه على الفطر وهو صائم, فقال إني أكره أن أخلف الله ما وعدته.
وسئل هل صح عندك زيادة يوم في الصوم, وكذا سمعنا أنه وقع في صقلية والسائل من أهل قفصة ؟
فأجاب بأنه لم يثبت عندي الآن شيء أجيبك به, وما ذكر لك عني أو عن أهل صقلية لم يثبت, فاقض يوماً لكل شهر تبرأ من الشك. وأما لكل قوم رؤيتهم فلا.
وأجاب الشقراطسي أبو محمد التوزري: أما ما ذكرت من المنع أن لكل قوم رؤيتهم فما فيه ما يلتبس, بل الروايات فيه واضحة عن عبد المالك وغيره, وهل يثبت ذلك عند الخليفة او غيره, والبحث في ذلك عن العدالة او بأمر أظهر منه. ولو أطلق ذلك لِكُلِّ قوم رؤيتهم مع اختلاف الرائين وكثرة نواحيهم وقلة أهل الموضع وكثرة آخرين واختلاف مطالع الهلال بالغيم وغيره لأدَّى ذلك إلى ما لا يخفى عليك.
وسئل إن كان صح عندك زيادة يوم فأخبرنا بقضيته.
فأجاب بخطه: صح ذلك فيؤمر الناس بالقضاء.
وسئل عن اختياره في حد البلوغ من السنين إذا لم يكن حيض ولا احتلام ولا إنبات, والسؤال عن ذلك من أجل الصوم.
(2/27)
________________________________________
فأجاب اختياري إنْ لم يكن حيض ولا احتلام لا يقام الحد حتى يبلغ من السنين مبلغاً لا يبلغه أحد إلا وقد بلغ. وأما الصوم فإذا أقر أخذ به.
[إذا نظر الصائم وأمذى وجب عليه القضاء]
وسئل عن الصائم يتذكر أو ينظر فلا ينعظ ويجلس ساعة ثم يمذي.
فأجاب يجب عليه القضاء في رمضان والصوم واجب.
[من فرّط في قضاء رمضان فعليه فدية]
وسئل ابن لبلبة عن الذي فرط في قضاء رمضان إلى سبع سنين.
[422/1] فأجاب يغرم لكل يوم فرط فيه في قضائه سبعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم مع القضاء. وقد قيل إنه ليس عليه إلا غرم مد لكل يوم وإن فرط, والأول أحب إلينا والذي عليه جماعة الناس.
وسئل ابن رشد عمن يصيبه العطش الشديد فيشرب, هل يأكل بعده ويجامع في يموه أم لا؟
فأجاب اختلف فيها, والصحيح أن عليه القضاء والكفارة إلا أن يتأول أو يرى جوازه.
[إذا قلع الصائم ضرساً جاز له ان يستعمل الدواء ويقضي]
وسئل عمن قلع ضرساً من وجع كان به وبقي ثقب إن جعل عليه لُوبًانٌ سكن وإن أزاله عاوده الوجع العظيم وهو في رمضان, هل يزيلها أم لا؟
فأجاب إن كانت حاله كما ذكر جاز له وضع اللوبان, ويقضي ذلك اليوم إن اضطر إليه.
[غزل الكتَّان وغبار الصانع]
وسئل بعض الشيوخ عن غزل النساء الكتان وترييق الخيط بفيها.
فأجاب إن كان الكتان مصرياً فجائز مطلقاً, وإن كان دمنياً له طعم يتحلل فهو كذوي الصناعات, إن كانت ضعيفة ساغ لها ذلك, وإن كانت غير محتاجة فيكره في نهار رمضان والله أعلم.
وأجاب ابن قداح: إذا غزلت الكتان المعروف فوجدت طعم ملوحته في حلقها بطل صومها, وإلا فلا. التونسي: في غبار الدقيق والجبس والدباغ لصانعه نظر, لضرورة الصنعة وإمكان غيرها. وحكى ابن شاس الخلاف في غبار الجباسير ومثله غبار الكتان وغبار الفحم وغبار خزن الزرع, فالحكم في الكل على هذا النحو.
[لا قضاء على من يلقي الدم من صدره]
وسئل ابن أبي زيد عن المرأة تلقي الدم من صدرها في رمضان.
[
(2/28)
________________________________________
423/1] فأجاب لا قضاء عليها. قيل معناه إذا لم يرجع إلى حلقها, ولو رجع لقضت كالقيء في الوجهين. وهذا إذا وصل إلى حيث يمكن إلقاؤه, وإن لم يصل فحكمه حكم باطن الجسد.
وسئل ابن جماهر عن الرجل يَبصق الدم وهو صائم في شهر رمضان أو غيره.
فأجاب يدفع ما استطاع, وصيامه تام عن شاء الله.
وسئل عن رجل جرى من أسنانه دم في شهر رمضان نهاراً, أيفطر ذلك؟
فأجاب هو اعلم بنفسه, إن تيقّن انه وصل إلى حلقه وابتلعه أعاد النهار.
[لا يضر الكحل في الصوم إذا لم يصل إلى الحلق]
وسئل عن الرجل او المرأة تكتحل في رمضان بكحل إثمد من الحجر اليابس أيجوز ذلك ؟
فأجاب هو أعلم بنفسه إن وصل إلى حلقه فلا يجوز, وإن لم يصل اكتحل منه إن شاء ولا حرج عليه.
وسئل عن رجل وجد بين أسنانه نهاراً في رمضان فتات الخبز أو قطع اللحم.
فأجاب لا يبتلعه وصيامه تام.
وسئل عز الديت عمن دمي فمه وهو صائم فلم يبتلع الدم ولم يغسل فمه منه, هل يفطر بابتلاعه ريقه النجس أم لا؟
فأجاب بأن ابتلاع الصائم الريق النجس لا يحل ويبطل صومه, لأن الرخصة إنما وردت في ريق يجوز ابتلاعه, لما في لفظه من المشقة. فإذا كان ابتلاعه محرماً في الصوم وغيره بنجاسته, بطل الصوم بابتلاعه, لانتفاء السبب المرخص في جواز ابتلاعه.
[424/1] وسئل عمن يبيت ناوياً للصوم فيستيقظ عند الفجر فلا يجد في نفسه شهوة الأكل, فهل يستحب له السحور أم لا؟
فأجاب بأن الغرض من السحور التقوي على الصوم, وهو من باب التقوِّي على العبادة إذا شقت ربما ملتها النفوس فتتركها لشدة مشقتها أو ملتها, والرب لا يمل من عطائه وتوفيقه حتى يمل العبد من طاعته.
[لا يجوز الفطر في قضاء رمضان إلا لعذر]
وسئل هل يجوز الفطر في قضاء رمضان عمداً او لا؟ وإن أفطر بجماع فهل عليه كفارة أم لا؟
(2/29)
________________________________________
فأجاب إن الفطر في قضاء رمضان والواجب لا يجوز إلا لعذر, ولأن الرخصة في الخروج إنما وردت في النافلة, وقد وسع الشرع في النوافل ما لم يوسع في الفرائض, وكذا عندنا في الواجبات. فإن أفطر وجب عليه القضاء بغير خلاف, وفي وجوب قضاء القضاء إن أفطر ولو تكرر قولان قائمان من لاالمدونة, ولا خلاف عندنا أنه لا كفارة عليه.
وسئل عمن يصوم تطوعاً فيقول له اثنان من أهل الطب إن الصوم يضر ببصره أو يسهر فيقولن له السهر يضرّ به, فهل يحرم عليه الصوم والسهر أم لا؟
فأجاب إن المريض إذا علم منه أنه يتضرر في جسمه ضرراً ظاهراً لم يكن له ان يضر بنفسه وقد اختلف في ذلك.
[ما الأفضل في صوم التطوع: السَّرد أو الغبّ؟]
وسئل عمن مطيق للصوم ولا يخاف منه ضرراً ولا يضيع حقاً. هل هذا أفضل من صوم يوم وفطر يوم, فإن سرد الصوم أفضل. فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذلك, وفي اللفظ الآخر: أَفضلُ الصيام صِيامُ أخي دَاووُد, وكان يصومُ يوماً ويُفطرُ يوماً. أيجوز سرد الصوم لهذا المذكور أفضل من الغب(1) لأن من جاء بالحسنة فلهُ عشرُ أمثالها, ومن يعمل
[
__________
(1) يظهر ان هنا بتراً سقط فيه لفظ "فأجاب...". وقد نبّه على ذلك صاحب الطبعة الحجرية فكتب في الهامش: "قد قال مختصره في هذا المحل عن هنا كلاماً غير مرتبط فانظره".
(2/30)
________________________________________
425/1] مثقال ذرة خيراً يره. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاصي: لا أفضل من ذلك, لأنه قال له في الحديث: فإذا فعلت ذلك نِفهَتْ نَفْسُكُ وغارت عينُك. ولكن أكثر الصحابة ما كانوا يسألون عن أفضل الأعمال إلا ليختاروا لأنفسهم, فكأنه قال إن الصوم أفضل. وقد سأل سائل أيُ الأعمال أفضلُ؟ فقال الجهادُ في سبيل الله. وسأله آخر فقال أيُّ الأعمال أفضلُ؟ فقال برُّ الوالدين. وسأله آخر فقال الصلاةُ على أولِ ميقاتها. لأنه صلى الله عليه وسلم فهم كل واحد منهم أنه سأل عن أي أعماله أفضل, فأجابه على ما فهم من قصده, فكأن كل واحد منهم سأله عن أي أعماله أفضل فأجابه على ما فهم عنه. وهذا لفظ عام ورد على سبب خاص واقترن به ما يدل على قصره على سببه. وكذلك قوله أفضل الصيامِ صيامُ أخي داوود محمول على من سأل أي غب الصوم أو تفريقه أفضل. ويجب أن يحمل على ما ذكرت توفيقاً بين الأحاديث على حسب الإمكان مع ما ذكرته من القرائن الدّالة على أنهم ما سألوا عن الأفضل إلا ليختاروا لأنفسهم والله اعلم.
وسأل أصبغ بن محمد عن صبية من ثلاثة عشر عاماً أنبتت وملكت ولم تر الحيض هل يلزمها الصيام أم لا؟
فأجاب لا يلزمها الصيام إن شاء الله تعالى.
وسئل عن رجل مخدور أو امرأة خدر منها شقها الواحد لا تحركه وهي تأكل كما كانت تأكل في صحتها أو أكثر, هل يلزمها الصيام أم لا؟
فأجاب إن كانت تطيق الصيام فيلزمها الصيام إن شاء الله تعالى.
[معنى تصفيد الشياطين في رمضان]
وسئل الشيخ أبو الحسن القابسي عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الشياطين تُصفَّدُ في رمضان, ونحن نجدها توسوس في ومضان,
فأجاب بأن قال: قد يوسوس وهو مصفد. ثم قال كنت بالمنستير في
[
(2/31)
________________________________________
426/1] بعض الرمضانات وكان بها رجل من أهل القرآن وكانت به عرضة تصرعه, قال الشيخ فأنا جالس حتى أتوني فقالوا لي صرع فلان, ثم سألوني عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في تصفيد الشياطين, فقال قلت لهم الحديث حق وما يصيب افنسان في هذا عيان, فيحتمل والله أعلم ان يكون معنى قوله عليه السلام وصُفدت الشياطينُ أي كفرة الجن الذين يسمون شياطين, ةإن المؤمنين من الجن لا يصفدون, فيكون الوسواس وتزيين المعاصي إنما يقع من فساق الجن ومن دونهم المسلمون منهم, ويعدونها معاصي مؤمني المسلمين يعصون, فكيف بمؤمني الجن والكفار منهم يصفدون دون المؤمنين لأنه عليه السلام قال فيه تصفد عن بعض الأعمال دون بعض, فقال القول بأن معناه يحتمل بعض الشياطين دون بعض أولى, وأولى من هذا أن يقال لا أعلم لنا, قد قالها النبي صلى الله عليه وسلم رواها عنه العلماء, لأنه إذا لم يذكر لنا المعنى قد يحتمل أن يكون المعنى غير ما قلناه مما هو خير وأحسن مما تأولناه.
[من يصوم الدهر يفطر إذا احتاج إلى التداوي]
وسئل عن رجل عليه صيام الدهر فاحتاج إلى التداوي.
فأجاب بقول ابن وهب إنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً.
وسئل سيدي عبد الرحمان الواغليسي عمن كثر حنثه بالصوم واستغرق عمره, هل يديم الصوم, وهل يفطر في السفر والمرض؟ أو إذا بلغه الضعف لحق الزوجة أم لا؟
فأجاب يلزمه الصوم مدة حياته, ويفطر لمشقة المرض والسفر, ولا يفطر لحق الزوجة.
[السواك في ليل رمضان ونهاره]
وسئل عمن استاك ليلاً في رمضان ثم ظهر أثره من الغد, هل يلزمه القضاء والكفارة أم لا؟
[427/1] فأجاب السواك إذا بقي أثره في الفم أفطر وعليه القضاء ولا كفارة عليه, والله اعلم.
(2/32)
________________________________________
قلتُ: قال ابن عتاب: لا يجوز الاستياك بأصول الجوز في ليل أو نهار في الصوم, فإن فعل فعليه القضاء. وعن ابن لبابة وابن الفخار ونحوه في كتاب الانباه أن من استاك به عامداً في نهار رمضان عليه القضاء والكفارة. ووجهه أن السواك لما كانت أجزاؤه تنحل وتمشي مع الريق فكأنه قاصد للفطر, ووجه الآخر أنه غير قاصد للانتهاك ولأنه من ريقه, فأشبه فلقة الطعام تبتلع مع الريق, وكان مقتضى هذا التوجيه أن لا قضاء, لكن عليه القضاء لما فعله مختاراً. وعن ابن أبي محمد صالح إن استاك بالجوز عامداً في الليل فأصبح على فيه عليه القضاء والكفارة, وقيل عليه القضاء خاصة وهو المشهور.
[الإفطار في يوم الشك]
وسئل أبوعبد الله الزواوي(1)عن يوم الشك, هل يجب الامساك في اوله حتى يثبت بمن يأتي من السفار وغيرهم أم لا ؟
فأجاب ينبغي الامساك في أوله حتى يسفر النهار. وأما من أفطر فيه بعد ثبوت الرؤية فقولان, والمشهور القضاء والكفارة. وأما الامساك في بقيته بعد ثبوت الرؤية فواجب باتفاق, وأما قضاؤه بعد ثبوته فواجب بإجماع, والله تعالى اعلم.
[صيام يومي عرفة وعاشوراء]
وسئل الإمام أبو عبد الله بن عرفة لم كان صوم عرفة كصوم سنتين ويوم عاشوراء كصوم سنة؟
فأجاب بأن يوم عرفة محمدي, ويوم عاشوراء موسوي.
[428/1] [لا شيء في دخول الذباب في فم الصائم]
وسئل سيدي قاسم العقباني عن الذباب يدخل فم الصائم, هل في المذهب قائل بوجوب الكفارة؟ وفيمن لم ينو الصوم ونوى الفطر في رمضان لكنه لم يفطر, هل تلزمه الكفارة أم لا؟ والمشموم الطيب هل في المذهب من يقول أنه يفطر أم لا؟
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية: "في نسخة: المازري".
(2/33)
________________________________________
فأجاب لا أعلم في مسألة الذباب قولاً بوجوب الكفارة, والقول بوجوب القضاء شاذ, المعروف خلافه. ومشهور المذهب فيمن أصبح بنية الفطر ولم يأكل ولم يشرب أن عليه الكفارة, وقال أشهب لا كفارة عليه. والشم لا أعلم من يقول فيه بإفطار, وإنما يكره في مذهب بعض أهل العلم, والله الموفق بفضله.
[الحناء في الرأس لا تفطر]
وسئل الأستاذ ابو سعيد بن لب رحمه الله عمن جعل الحناء في رأسه هل يفطر أم لا؟
فأجاب أما الحناء للصائم في رأسه, فإن وجد طعمها في حلقه فلا شيء عليه. والصواب ترك الصائم لذلك إلا مع العلم بأنها لا تصل بمجرى عادته.
[من حلف بالطلاق ألا يفطر على حار ولا بارد]
وسئل فقهاء بغداد عن رجل حلف بطلاق امرأته وهو صائم ألا يفطر على حار ولا بارد.
فأجاب أبو نصر بن الصباغ إمام الشافعية بحنثه, إذ لابد من الفطر على أحد هذين
وأجاب أبو اسحاق الشيراري بعدم حنثه قائلاً لأنه يفطر على غيرهما وهو دخول الليل, لقوله عليه السلام إذا أقبل الليلُ مِنَ هَا هُنا وأدبر النهار مِنْ هَا هُنا فقد أفطر الصائم. والليل ليس بحار ولا بارد. وفتوى ابن الصباغ أشبه بمذهب مالك, لأنه يعتبر المقاصد, ومقصود الحالف
[429/1] المطعومات, وفتوى أبي إسحاق صريح مذهب الشافعي الذي يعتبر الألفاظ. قال بعضهم واستدلاله بعيد, لأنه ليس بمراد فيه الفطر الحسي ولا الحكمي, بل معناه فقد حل للصائم الفطر, وإلا لم ينعقد صوم الوصال. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل وقد ذكر عياض التأويلين والصواب ما قلناه.
[430/1] ... نوازل الإعتكاف
وسئل القابسي عن رجل من أهل مكة نذر اعتكافاً بعسقلان.
(2/34)
________________________________________
فأجاب بأن قال: الذي قالوا في الصوم إنه يلزمه, فقيل نعم, فالاعتكاف؟ فقال إنما يلزمه الصوم بعسقلان, لأنه يحرس ويرابط. أورأيت لو نذر أن يصوم بالكوفة أكان يلزمه؟! وأما الاعتكاف فالاعتكاف لا يصح إلاَّ في الأمن, فيخرج عن مكة يعتكف فيها, فقال فيما فهم من جوابه أنه لا يعتكف قيل يصير لعمل المطي إلى غير الثلاثة مساجد, فلم ينكر ذلك ولم يشك أنه أبى من الاعتكاف.
[يخرج المعتكف لمرض والديه لا لموتهما]
وسئل عن أبي المعتكف إذا مات, هل يخرج له أم لا؟
فأجاب إذا مات أبو المعتكف لم يخرج إليه, وإن مرض خرج. والفرق بينهما أن في خروجه إليهما للمرض رفقاً بهما, وإذا ماتا فإنما عليه ألا يضيعا, فإذا كان من يحفظهما حتى يدفنا فما عليه غير ذلك.
[يجوز الاعتكاف داخل الكعبة]
وسئل ابن الحاج عن الاعتكاف هل يجوز داخل الكعبة أم لا ؟
فأجاب يجوز الاعتكاف داخل الكعبة لأنها مسجد, قال الله تعالى فولِّ وجهكَ شطرَ المسجدِ الحرام, وقال صلى الله عليه وسلم إلاَّ المسجدَ
[431/1] الحرَام وتجوز النافلة فيها, ولا يضر أن يرقى إليها بدرج, كالمسجد يرقى إليه كذلك, وهو جائز فيه.
[لا يجوز الاعتكاف في مسجد الدار الخاص]
وسئل بعض الشيوخ عن الاعتكاف, هل يجوز في مسجد الدار أم لا ؟
فأجاب لا خلاف أن الاعتكاف لا يكون غلا في مسجد مباح لكافة الناس لا حجر فيه على احد. وأما من بنى مسجداً ليختص به هو وقرابته وجيرانه فلا يجوز فيه الاعتكاف ولا الجمع ليلة المطر انتهى.
[432/1] نَوازل الحَج
وسئل القاضي أبو الحسن سيدي بن محسود عمن حج في هذا الزمان.
فأجاب غرر بنفسه, وإن تخلف فمعذور. وقال أبو موسى عِيسَى بن مناس أن حنث بمشي فلا يباح له الخروج, وخروج الخارج اليوم على مكة معصية ولا يؤجر, وليؤخر الناس حتى يفرج الله.
[الجهاد أفضل من الحج في حق الأندلسيين]
وسئل ابن رشد عمن لم يحج من أهل الأندلس في هذا الوقت, هل الحج أفضل له او الجهاد؟ وكيف لو حج الفريضة؟
(2/35)
________________________________________
فأجاب فرض الحج ساقط في زماننا هذا عن الأندلس لعم الاستطاعة. وهي القدرة على الوصول مع الأمن على النفس والمال. وإذا سقط الفرض صار نفلاً مكروهاً للضرر, فبان أن الجهاد الذي لا تحصى فضائله أفضل, وهو أبين من ان يسأل عنه. وموضع السؤال فيمن حج الفريضة والسبيل مأمونة. هل الحج أفضل أو الجهاد؟ واختار الجهاد لما ورد فيه من الفضل العظيم. وأما من لم يحج وسبيله مأمونة فيتخرج على الفور أو على التراخي. وهذا ما لم يتعيَّنْ فرض الجهاد, فإن تعين فهو أفضل من حجة الفريضة قولا واحداً.
وأما غير أهل الأندلس كالعدوتين, فإن خافوا على أنفسهم وأموالهم فهم كالأولين, وإن لم يخافوا فالجهاد عندي لهم أفضل من تعجيل الحج, إذ
[433/1] هو على التراخي على الصحيح مما تدل عليه مسائل المذهب. وهذا في غير من يقوم بفرض الجهاد, وأما من قام بفرضه من أجناد المسلمين فالجهاد واجب عليهم, إذ لا يجب تعجيل الحج عليهم. وقال ابن طلحة في المدخل: ولقد لقيت في بلاد المغرب وأنا قاصد الحج من المغرب ما اعتقدت معه أن الحج ساقط عن أهل المغرب بل حرام, لما يركبونه من المخاطرات.
[الحج ساقط عند تحقق أخطار الطريق]
وأجاب الأستاذ أبو بكر الطرطوسي بأنه حرام على أهل المغرب, فمن خاطر وحج فقد سقط فرضه, ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: والعجب ممن يقول أن الحج ساقط عن أهل المغرب وهو يسافر من قطر إلى قطر ويخرق البحار ويقطع المخارق في مقاصد دينية ودنيوية, والحالُ واحدٌ في الخوف والأمن والحلال والحرام وإنفاق المال وإعطائه في في الطريق وغيره لمن لا يرضى. وفي نوازل الحج: أفتى أبو عمران وأبو بكر ابن عبد الرحمان بسقوط فرض الحج عن اهل الأندلس منذ زمان. فقال حسون وقد وجداه في الطريق: الغالب السلامة, وكان في سنة تسع عشرة(1). ويذكر عن عبد الحق مثله.
__________
(1) في نسخة: سبع عشرة.
(2/36)
________________________________________
وأفتى ابن حمدين في رجل قادر على الحج بجسمه وماله انه إن كان من الأندلس أو قطر مجاور لها وهو قادر على الجهاد أنه آكد عليه من الحج, والنفقة فيه أفضل.
وسئل المازري عن سقوط فرض الحج في هذا الزمان.
فأجاب هذا السؤال لا يخفى جوابه, ولا يمكن لمحصل أن يطلق القول فيه, ولكن الذي لا يخفى أن الحاجَّ متى وجد السبيل ولم يخف واجبات على نفسه وماله أن يفتن في دينه وأن يقع في منكرات أو اسقاط واجبات من صلوات أو غيرها, فإنه لا يسقط وجوب عنه. وإن كان يخاف على نفسه الهلاك او لا يصل على ذلك إلا ببذل الكثير من ماله لظلمه في الطريق والغرامة
[434/1] تجحف بماله وتضربه ضرراً شديداً, فإن الحج ساقط في هذه الحال على ما نص عليه أصحابنا. وإن كان أيضاً يقع في ترك الصلوات حتى تخرج أوقاتها أو يأتي ببدل في وقتها ولم يوقعه في ذلك إلا السفر للحج, فإن هذا السفر لا يجوز, وقد سقط عنه فرض الحج. وإن كان إنما يرى منكرات ويسمعها, فهذا باب واسع يفتقر فيه إلى معرفة تمييز عين المنكر, ووجه التخلص منه والكلام عليه عموماً لا يحسن, إذ يمكن التفضيل. هذا هو التحقيق في هذه المسألة وتفاوض فيها الحاضرون وتنازعوا في ذلك وأكثروا القول والتنازع, فقائل لا يسقط الفرض, وآخر يوجبه, وتوقف آخرون, فإذا في أخريات الناس الواعظ أبو الطيب رحمه الله وكنا ما أبصرناه, فأدخل رأسه في الحلقة وخاطب اللخمي, وقال يا مولاي:
إن كان سَفْكُ دمي أقصى مُرَادِكُمُ ... فما غَلَتْ نَظْرَةٌ منكم بسفك دم
(2/37)
________________________________________
فاستحسن اللخمي هذه النادرة من جهة طريق التصوف لا من جهة طريق الفقه. والضابط في هذا ما قدمناه. قيل وبالجملة إن من هانت عليه نفسه في طلب مرضاة الله وترك الدنيا وزخرفها وتخيل ما يحصل له في حضرة الله وميزان رحمته وإحسانه, فلا يبالي أي حالة جاء. ومن حصل له ذوق يرى ذلك ويعرف. فالله أسأل أن يرزقنا من ذلك النصيب الوافر الذي تقربه أعيننا, وتتلذذ به من طاعة الله وعظيم غفرانه بمنه وكرمه.(1)
[لا يجب الحج إذا كان الطريق مخوفاً]
وسئل اللخمي عمن أراد الحركة إلى الحج, وطريق البر في هذا الوقت متعذر, فأراد ركوب البحر فخوف أيضاً من ركوبه وقيل له أن الغالب عليه الغرور والخوف من الروم والتغرير بما يتقى على المراكب وأنت معذور في ذلك. فهل يسوغ في مذهبك ركوب البحر على ما يخشى؟ وهل يلزم الرجل
[435/1] في هذه الأوقات المبادرة بالحج أو التراخي لأحوال القُطاع في الطريق؟ وهل هو مأثوم إن تراخى وأدركه الموت قبل أن يحج وهو واجد لم يمنعه إلا خوف البر وركوب البحر على الغرر؟ وقد ذكر لنا عن بعض الشيوخ الفقهاء المتقدمين أنه رأى أن فرض الحج قد سقط ولا يأثم من تأخر في هذه الأحوال, فبين لنا مذهبك في ذلك.
فأجاب الطريق اليوم من أسكندرية وما بعد ذلك على مكة على صفة لا يلزم معها فرض الحج ولا يأثم من تأخر لهذه الأحوال.
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية: الحمد لله, وقع في اختصار هذا الكتاب عقب هذا الجواب ما صورته: قلت: ولقد رأيت في مناسك سيدي يوسف الفاسي أو غيره من إخوته أن هذه العبارة وهي قوله يسقط الحج, فيها سوء أدب, لأن فرائض الله لا يقول أحد فيها يسقط, والنسخ لم يكن إلا في زمنه صلى الله عليه وسلم, أو كلاماً هذا معناه. انتهى.
(2/38)
________________________________________
وسئل فيمن خرج خاجاً في طريق مخوف على غرر ويغلب على ظنه أنه لا يسلم، هل يكون ممن ألقي بيده إلى التهلكة؟ أو هو مأجور بسبب قصده إلى فريضة الحج أو التقرب إلى الله تعالى في التنقل بالحج ان كان قد حج الفريضة؟ أم ليس بمأجور ولا مأثوم؟
فأجاب الحج مع هذه الصفة من الغرر ساقط، وتحامله بعد ذلك لا يسلم فيه من الاثم.
وسئل الصائغ من قبل المازري فقال: كتبت إليه وقد خطر لي في الحركة إلى الحجاز وأملت ركوب البحر لتعذر الطريق في البر، وقد بقيت في ذلك حيراناً وأدركني منه خوف، فكيف ترى في ركوب البحر للحج على ما فيه من الأغرار.
فأجاب عن ذلك: نفعكم الله باعتقادكم وجعل ثوابكم الجنة ولا خيب لكم الرجاء، وأجاب لكم وفيكم الدعاء، وأعطاكم من أثمر ثمرة خير الدنيا والأخرة بلا محنة. رغبتي مثل ما رغبتم، والدنيا قريب أمرها، وحق لنا ان نتبع ما قال مولانا جل وعلا: وَاتَّقُوا يوماً تُرْجَعُون فَيِه الى اللهِ ثُمَّ تُوَفىَّ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَت وهُمْ لا يُظْلَمون. الجد الجد فقد حان الأمر وضاق الوقت وظهرت الفتنة وألفتها القلوب، وقد قال عمر رضي الله عنه اتقوها (1) بالتقوى إنا لله وإنا إليه راجعون. ما أعظم المصيبة! الشخ هو المطاع، اتقوها
[436/1] والهوى هو المتبع، واعجاب كل ذي برأيه، أعوذ بالله من الخذلان ومن الحور بعد الكور، وصلّى الله على النبي محمد خاتم النبين وآله وصحبه وسلم. ما ذكرته من أمر الحج فاصبر حتى يظهر للطريق والسفر وجه، والله يأجرك على اعتقادك وأعظم لك الأجر، وبالله استعين.
[الحج على التراخي في مذهب مالك]
وأجاب ابن محرز : الأظهر من مذهب مالك أن الحج على التراخي، والذي خشى العنت وهو يرى أن لم ينكح زنى ويغلب على ظنه ذلك فليتزوج، فإن التزوج له فرض عليه للفور.
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية : "هنا بياض في خط المصنف مقدار كلمة".
(2/39)
________________________________________
قيل ومن هذا الذي أشير إليه في ركوب البحر مسألة واقعة، وهو أنه جرت العادة عندنا بالسفر في البحر مسألة واقعة، وهو أنه جرت العادة عندنا بالسفر في البحر في مراكب النصارى ويكرونها للمسلمين من أفريقية إلى الإسكندرية إلى ناحية بلاد المغرب كذلك، وربما غدروا في بعض الأوقات فكان الشيخ الإمام أبو عبد الله بن عرفة رحمه الله يحكي أنه كالتجارة إلى أرض الحرب، وفيها ما ذكره المتقدمون من شديد الكراهة، وهل هي جرحة أم لا؟ والصواب اليوم أنه خلاف في حال، فإن كان أمير تونس قوياً يخاف النصارى منه إذا غدروا أو أساؤوا العشرة فهو خفيف، وإلا كان خطراً. وفي عرضة أخرى قال الصواب أنه خطر، لكن رأيت بعض أهل الفضل والعلم يسافرون معهم ورآها ضرورة لتعذر طريق البر أباحت له ذلك، كان يذكر هذا عن القباب أحد فقهاء فاس، وابن إدريس أحد فقهاء بجاية، ولكن اشتهر عنهم أنهم من أهل الدين والعلمن وعندي أن هذا من باب تقابل الضررين فينفي الأصغر والأكبر.
وسئل السيوري هل الحج اليوم على الفور ويجرح تاركه أم لا؟
فأجاب من قال أنه على الفور فهو مطلق في اليوم وقبله وبعده، والبحر موجود السفر فيه في علمي وغالب الحال ولو تعذر فيه، وخروجه في البر يصل من موضع إلى موضع حتى يبلغ والغالب السلامة لزم ذلك على الفور، ولو متى قدر على أحد القولين، ولا يخرج حتى يغلب على ظنه أنه إن تأخر فاته الحج.
/ ص437/ وسئل أيضاً هل الحج على الفور أو التراخي؟ وما يستحسن منه؟
فأجاب اختلف قول مالك هل هو على الفور أو التراخي، وفي المدونة في جزاء الصيد ما يدل على التراخي، وهو الأرجح مادام في رجاء من القدرة على الخروج بسبب المال والطريق والبدن، فإذا غلبَ على ظنه إن تأخر لم يقدر على الخروج لزمه الخروج حينئذ إذا وجد سبيلاً، ولا يجوز التراخي عن ذلك.
[لا يترك الحج من منعته والدته منه]
وسئل ابن أبي زيد عمن أراد الحج فمنعته والدته أو أذنت له وهي كارهة.
(2/40)
________________________________________
فأجاب تنبغي مبادرته للفرض، وليتطف في رضاها، فإن لم ترض فليخرج إن شاء الله. وتنبغي المبادرة بالفرض، فإن التأخير لا يزيد إلا شراً ولا يأتي خير ينتظر. وإنما استحب مالك الاقامة إلى السنة الأخرى في منعه أبواه.
قيل: ظاهر فتوى الشيخ أنه على الفور، وهي رواية البغداديين، وظاهر نقل محرز وابن رشد وابن العربي وغيرهم أنه على التراخي، وأخذه اللخمي من قول مالك: لا تخرج له معتدة وفاة، ومن رواية ابن نافع يؤخرها عامين لاذن الأبوين. وأخذه ابن رشد من سماع اشهب: لا يعجل بتحنيث من حلف إلا تخرج زوجته بخروجها له ولعله يؤخر سنة. ومن قول سحنون: لا تسقط شهادته حتى يصل للستين، وهو أخذه من مَسألة المعتدة لوجوبها فوراً إجماعاً وتقدمها، وضعف ابن بشير أحذه من مسألة الأبوين لوجوب طوعها.
[الحج بالمال الطيب]
وسئل ابن محرز عمن أراد الحج بمال طيب الكسب، وله ضيعة كانت يد السلطان عليها، وشهد عدول على السماع من الثقات وغيرهم أن بني عبيد غصبوها لأجدادهم وصارت لهم الآن بشراء أو ميراث، هل هي شبهة يتحرى لأجلها؟
[438/1] وما تقول في أهل بلد كانوا يجرون مياههم على رسوم معروفة وغيرتها الآن يد غالبة وأفسدتها وساعدهم من له يد، وخاف هذا على فساد ضيعته إن أجراها على ما تقدم على الإستقامة وغرم من ساعده عليها، فدخل مع الناس في السقي على ما آل إليه الأمر، فهل في غلتها حرج على من يحج بها أم لا؟
وما تقول فيمن له نعمة طائلة فقربه السلطان وجعله ناظراً على جهة فاكتسب أموالاً أخرى ثم عدا عليه السلطان فأخذ منه مالاً فباع ضيعته مما كان له قبل الولاية فاشتراها رجل، فهل عليه جناح أن يتسلف من غلتها ما يحج به؟
(2/41)
________________________________________
وما تقول في رجل باع طعاماً وزيتاً وتمراً بدراهم ضربت بدار السكة فعلها السلطان وولى أمرها رجلاً ظالماً لما حضر الناس عليه وصارت سكة البلد كلها هي التي تخرج من تحت يد هذا الرجل الظالم، فهل يحج بهذه الدراهم والوقت فيه فساد؟ فما يظهر للشيخ؟
فأجاب الحج قربة، فلا ينفق فيه إلا الطيب من الكسب. فقد رُويَ عنه في الحديث صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَنْ حَجَّ بمَالٍ حَرَام فَقَال لَبِّيْكَ نودي لا لّبَّيْك وَلاَ سَعْدَيك، فارجع مأزُوراً غَيْرَ مأجُورٍ. فأما الضيعة التي كانت يد السلطان عليها وثبت فيها ما ذكر فليس في هذا ما يخشى، وليحج بغلتها أو ثمنها إن بيعت.
وأما المياه التي أجريت بغير حق وعلى خلاف الرسم القديم فهو شديد غير أنه لا تجرى غلة هذه الجنات ويجب عليه التحلل من أصحاب المياه أن قدر وعرف من جار عليه من ماله(1)، وإن لم يعرف تصدق به على الفقراء وليس عليه أكثر. ولو أخذ من المال قدر ما كان يناله قبل الفساد أو أقل لم يضره ولا يبالي بتغيره.
[439/1] وأما الضيعة التي باعها من ذكرت حاله فبيعه ماضي وثمنها حلال أكله والحج به لصاحبه أو مستوهبه أو متسلفه.
وأما ما غلب على الناس من السكة المضروبة فهو أشد من كل ما تقدم، ولا تنبغي النفقة منها على حال في الحج أو غيره إذا تمكن من الضرب القديم قبل هذه السكة، ولو تعذر ذلك بكل وجه أخذ من هذه السكة ما يقيم أوده في زمان إقامته، ولا يستعين بها في حج ولا غيره، وهي كأكل الميتة. وعن القاسم بن محمد لو أن الدنيا كلها حرام لم يكن للإنسان بد من مؤونته.
__________
(1) في نسخة: في مائه. (ط . ح).
(2/42)
________________________________________
وأجَاب السيوري عنها فقال: الضيعة المبدأ بذكرها ليس فيها بأس اختلطت أو إنفردت . وأما الماء الموصوف فلا يحل للإنسان أن يأخذ ماء غيره من أجل أنه إن تركه أخذه غيره بغير حق، بل متى قدر على رده لصاحبه وجب عليه رده إليه، فما فات من ذلك تحلل من صاحبه برد حقه إليه أو قيمته أو المصافحة عنه، وإن فات عند صاحبه شيء من حقه قاصه بماله عنده، والغلة تطيب له إذا تحلل منفعة. وأما مسألة الضيعة المبيعة ممن ذكرت من عمل السلطان فهي مسألة خلاف، لكن الوقت وشدته أرجو خفته.
[الحج بالمال الحرام]
وسئل بعضهم عمن حج بمال حرام، أترى ذلك مجزياً عنه ويعرم المال لأصحابه؟
فأجاب أما في مذهبنا فلا يجزئه، وأما في قول الشافعي فذلك جائز ويرد المال ويطيب له حجه انتهى. فإذا قلنا بالأجزاء فمذهب جماعة من المالكية والشافعية عدم القبول منهم القرافي والقرطبي من أصحابنا، والغزالي والنووي من الشافعية. قال برهان الدين: ورأيت في بعض الكتب عن مالك رحمه الله عدم الأجزاء وأنه وقف في المسجد الحرام في الحج ونادى: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس، من حج بمال حرام فليس له حج، أو كلام هذا معناه. ووجد التادلي بخط الشيخ الفقيه الصالح أبي إسحاق إبراهيم بن يحيى المعروف بابن الأمين القرطبي من تلامذة
[
(2/43)
________________________________________
440/1] ابن رشد على ظهر شرحه لكتاب الموطأ ما نصه: قال أحمد بن خالد، قال ابن وضاح: يستحب لمن حج بمال فيه شبهة شيء أن ينفقه في سفره وما يريد من حوائجه ويتحرى أطيب ما يجد فينفقه من حين يحرم بالحج فيما يأكل ويلبس من ثياب إحرامه وشبه هذا. ورأيته يستحب هذا ويعجبه أن يرى أنه, وذكره عن بعض السلف. ونقل ابن الحاج عن كتاب ابن المواز والعتبية: قال ابن القاسم قال مالك رحمه الله لا بأس أن يحج بثمن ولد الزنى. وفي كتاب الطراز للقاضي أبي الدعائم سند بن عنان المالكي المصري: إذا حج بمال مغصوب ضمنه وأجزأه حجه, وهذا قول الجمهور. وعن الإمام أحمد بن حنبل لا يجزئه وحجه باطل.
قلت: وأنشد بعضهم في هذا المعنى لبعض الحنابلة, وهو من القول بالموجب.
يحجون بالمال الذي يجمعونه ... حراماً إلى البيت العتيق المحرم
ويزعم كلٌ أن تحط رحالهم ... تُحطُّ ولكن فوقهم في جهنم
[من ترك عرفة الغروب أجزأه]
وسئل اللخمي عمن نفر من عرفة قبل الغروب, هل يُجزِئُه أم لا؟
فأجاب بأنه قال به بعض الناس, وفي المذهب ما يؤيده وهو الأصح عندي. قيل: ما ذكره هو قول يحيى بن عمر في قوم هربوا من عرفات قبل تمام وقوفهم لفتنة كسنة العلوي أجزأهم. وذكر مثله في النوادر عن سحنون, وخرجه اللخمي أيضاً من قول مطرف وابن الماجشون في المغمى عليه.
وسئل الصائغ هل صح عن الشافعي أن الوقوف بعرفة يجزىء قبل الغروب, والتأخير إليه مستحب, ومن وقف عشية يوم النحر غلطاً هل يجزئه أم لا؟
فأجاب الدافع قبل الغروب وبعد الزوال تم حجه عند الشافعي وأبي حنيفة, وعن الشافعي وجوب الدم عليه فيه قولان, وروي فيه حديث عن النسائي وأبي داوود. وفي كتاب ابن المواز ما ينظر في قولهما. وإذا وقف يوم النحر مجتهداً فقد أتى بما أمر به, وعليه جماعة من أهل العلم, ولها تعلق
[
(2/44)
________________________________________
441/1] بأصول الفقه فيه اتساع, وهو أصل الشافعي إن كل ما لا يؤمر به في القضاء لا يكون القضاء الأصل, كالأكل ناسياً في رمضان, وكالخطأ في وقوف عرفة. وفي هذه الحجاج نظر, وما تقدم أظهر.
وسئل الفقيه أبو محمد سيدي عبد النور محمد بن أحمد العمراني فقيل له: جوابكم فيمن أراد الحج لأداء فرضه, وتوقف في أمر السبيل المشترط في لزومه ما هو, هل يتعين ما كان عليه في الزمان الأول من امنه بأحكام الإمامة المعتبرة؟ أو يكفي في ذلك ما هو عليه الآن من انقياد من يخاف منه لرجل معين يسمى غفيراً جرت العادة بالسلامة معه غالباً, إما بإعطاء مال من جهة السلطان أو جماعة الحاج أو من غير مال أو يكفي؟ وإن كان معتبراً هل يعتبر فيه احتمال خروجه عن العادة يوما ما إما بموت أو غير ذلك, فلا يلزم الحج ولا يراعي؟ وإذا خاف الحاج على ماله مع الجهل بما يؤخذ منه على ما الأمر الآن عليه, ما الحكم؟ وفي علمكم ما نص الفقهاء عليه من اعتبار ما يجحف وما لا يجحف من غير جهل بشيء من ذلك, بينوا لنا جميع ذلك بياناً شافياً يعظم الله اجركم ويعينكم على القيام بحقه فيما أولاكم, والسلام عليكم.
(2/45)
________________________________________
فأجاب أكرمكم الله وأدام لنا ولكم التوفيق والعافية. المكثر في السؤال من البحث والنسنسة, يخشى عليه من قبيح الوسوسة. والحق أبلج, والباطل لجلج. والذي أعتقد أن فريضة الحج ساقطة عن اهل هذا الأفق منذ زمان, فكيف اليوم بما استفاض وشاع من غلبة خوف الطريق من بلد رياح إلى أقصى أفريقية من استضعف من ركوبات الحج فنهب واستبيح مثل الذي كان ووقع في دولة السلطان أبي عنان رحمه الله, ومن كثر عدده من الحاج وقويت شوكتهم مثل الذي كان في العام الفارط, فقد كانوا اجتمعوا على ما استفاض في آلاف كثيرة تزيد على العشرين ألفاً من رجال وخيل, ومع ذلك فقد صاروا لا يسالمهم إل من ضعف عن قتالهم, ومن قوي من القبائل قاتلهم وقاتلوه وقتلهم وقتلوه, ولم يتخلصوا بعد القتل والقتال إلا بغرم عظيم من الأموال, وقع لهم ذلك في غير موضع حتى صعب على جمع منهم الانقلاب والمرجع, ومثل هذا لا يبقى معه ريب في شروط الوجوب. ومما
[
(2/46)
________________________________________
442/1] يزيد في ذلك يقيناً أن الذين أدركنا من مشايخنا ومشايخهم ومشايخ مشايخهم, والكل من كبار العلماء وأهل العلية في الذين, ومن كان في أزمنتهم من كبار الأولياء المقطوع بولايتهم لاشتهار كراماتهم وعلو مقاماتهم, وكان كثير منهم لم يحج مع توفر شرائط وجوب الحج في حقهم ما عدا الطريق السابلة, فهل يليق بمقامهم من العلم والدين أن يكون الحج واجباً عليهم ويتركوه عامدين؟ فإن كان ذلك لم يكونوا صالحين, ولكانوا عاصين فاسقين, ولكانت الولاية مجانة في حقهم. هذا وزمانهم كان أصلح من وقتنا, وحالهم في كل شيء أفضل من حالنا, فهذا أعظم دليل على أن فساد الطريق, واقع على التحقيق, وأن أكثر من يحج اليوم المتفردون الذين لا يحملون زاداً ولا راحلة, ليس لهم شيء من المال, وإنما يتعيشون بالسؤال, فأؤلئك مخفون لا يخافون شيئاً. ومع ما قررناه وقلنا من سقوط الوجوب فالجواز لم يرتفع, ولمن وجد نية لحمله على ارتكاب الأخطار, والتقلب في الأطوار بقضاء الأوطار, فسمحت(1) له بالوصول إلى تلك الديار الأقدار, فإنه إذا بلغ موضعاً ترفع فيه الموانع والأعذار, صار من أهل الوجوب فأمر به, وقضى ما قُسِم له من أربه. هذا الذي عندي بينته لكم على ما ترونه لتعلمونه (كذا) والله تعالى ولي التوفيق والارشاد لنا ولكم بمنه, والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وكتب عبد النور بن محمد العمراني لطف الله به.
[سبب جعل البيت في الطواف عن اليسار]
وسئل الشيخ الصالح المجاور أبو العباس أحمد بن محمد بن مرزوق رحمه الله من قبل ولده الخطيب الراوية المحدث الرحال السيد أبي عبد الله بما نصه: سألت أبي رحمه الله ونحن نطوف بالبيت الحرام زاده الله تشريفاً فقلت له: لم كان البيت يجعل الطواف إلى جهة اليسار, ولم يجعل إلى جهة اليمن وهي أشرف؟
فأجاب بأن قال سريعاً: يا بني إن القلب على جهة اليسار, فجعل
[
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية: "في خط المؤلف فسنحت بالنون لا بالميم.
(2/47)
________________________________________
443/1] الشق الذي هو محل القلب إلى جهة البيت ليكون إقرب موافقة لقوله تعالى أفْئِدَةً مِنَ الناس تهوِي إلَيْهم. فقلت له: إن الطّبيعين وأهل التشريح أطبقوا على أن محل القلب الحقيقي هو الوسط لا الجهة اليسرى ولا اليمنى, نعم وضع رأسه مائلا ذات اليمين قليلاً وإبرته مائلاً ذات اليسار قليلاً. ثم وقفت المسألة فأنهيتها إلى الفقيه العارف الطبيب أبي عبد الله الشقوري فقال لي: ما قلت للأستاذ حق, إلا أني أقول الحكمة في ذلك وجهان:
أحدهما أن جهة اليمين أقوى من جهة اليسار, وذلك مشاهد, والطواف سير دوري, ولا شك أن أبعد الجهات إلى المركز الذي هو جهة البيت أقوى حركة من الجهة التي هي أقرب إليه, فجعل الشق الأيمن الأقوى إلى الحيز الذي الحركة فيه أقوى, والشق الأيسر الأضعف إلى الحيز الذي الحركة فيه أضعف ليتعادلا.
الوجه الثاني إن جهة اليسار من القلب هي محل الروح ومنبعه, ومنه ينبعث في الشريان الأعظم المسمى بالأبهر إلى جميع الجسد, ولذلك تجد حركة النبض في الجهة اليسرى, والروح أشرف ما في الجسد, فجعل ذلك الشق مواجهاً للبيت الشريف ليكون الإقبال على بيت الله بما هو أشرف.
[يمر الشامي بميقات أهل المدينة ولا يُحْرِمُ منه]
وسئل القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله قال, كنت جالساً ببيت المقدس عند القاضي شمس الدين بن سالم فسألني بعض الطلبة بمحضره فقال: إنكم معشر المالكية تبيحون للشامي يمر بالمدينة أن يتعدى ميقاتها إلى الجحفة, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن عين المواقيت لأهل الآفاق" هُوِ لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن. وهذا قد مر على ذي الحليفة وليس من أهلى فيكون له.
فأجاب بأن قال: قلت له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مِنْ غَيْر أهلهنَّ أي من غير أهل المواقيت, وهذا سلب كلي, لأنه من بعض
[
(2/48)
________________________________________
444/1] أهل المواقيت قطعاً, فلما لم يتناوله النص رجعنا إلى القياس, ولا شك انه لا يلزم أحداً أن يحرم قبل ميقاته وهو يمر به, لكن من ليس من أهل الجحفة لا يمر بميقاته إذا مر بالمدينة, فوجب عليه الاحرام من ميقاتها, بخلاف أهل الجحفة فإنها بين أيديهم وهم يمرون عليها, فسكت السائل.
[استئجار من يحج عن الميت]
وسئل القابسي رحمه الله عمن دفع إليه مال ليحج به فصد عن البيت أو مات في الطريق, فأعطى بقدر إجارته إلى موضع الذي مات فيه أو صد عنه
فأجاب يستأجرون للميت مرة أخرى من الموضع الذي صد عنه الأجير او مات فيه. قيل له: وما الفرق بين من دفع له المال ليحج به عن ميت من بعض الآفاق, فاعتمر عن نفسه وحج عن الميت من مكة؟ قال فيه ابن القاسم لا أرى ذلك يجزئه عن الميت, وعليه أن يحج حجة أخرى عن الميت كما استؤجر, وبين من دفع إليه مال ليحج به عن ميت فقرن الحج والعمرة, نوى العمرة عن نفسه والحج عن الميت, قال فيه ابن القاسم أراه ضامناً للمال, كأنه أخذ نفقتهم واشترك في عملهم غير ما آجروه. ثم قال ابن القاسم في الأولى انه يحج أخرى عن الميت, وقال في الأخرى يؤخذ منه المال, لأن القران هو في القلب, فيقال له أنت خنت في نيتك فلا سبيل إلى ابقاء المال في يدك إذ أظهرت خيانتك وفساد عملك قيل له, لقد قيل أن معنى المسألة الأولى أنه أخذ المال على الإجارة, والثانية على البلاغ, فلم يعجبه.
[الوصية بالحج تخرج من الثلث]
وسئل عن الورثة يدفعون مالا لمن يحج به عن ميتهم, وقد أوصى بذلك, وكان المدفوع جميع الثلث, فدفعوه على البلاغ, فسقط أو لم يكف.
فأجاب عليهم في أموالهم التمام, لأنهم لو شاؤوا استأجروا ولم يدفعوه على البلاغ.
[445/1] [السعي بين الصفا والمروة, وطواف الإفاضة]
وسئل عن السعي بين الصفا والمروة أول دخول مكة, هل يقال فيه فرض؟
(2/49)
________________________________________
فأجاب بأن قال: نعم, قيل له فيُجزىء تطوع العمل في الحج عن العمل الفرض فيه؟ فقال نعم, واحتج في هذا بقول ابن الماجشون, وقال لأن الحج لما أحرم فيه فقد التزم أن يأتي بكل عمل يكون في الحج على ما هو عليه من فرض أو غيره. فإذا عمله ونوى به التطوع لم يضره, لأنه على النية التي أحرم بها, فلا يحولها ما يدخل بعدها, ثم قال: ألا ترى أنه كذلك مذهبه في الصلاة؟ قيل له نعم, فى الصلاة اختلاف, فقد يجري في الحج اختلاف كما في الصلاة, فقال لا, ما يحتمل أن يجري فيه, وذلك أن الحج إذا نوى رفضه بعد الدخول فيه لم يرتفض, والصلاة إذا نوى رفضها ارتفضت. وأيضاً فإن الحج إذا عمل فيه عملاً ينهى عنه أن يعمله فيه ليس له قطعه, ولكن يتمه على عمل الحج ويقضيه, والصلاة إذا عمل فيها عملاً ينهى عنه أن يعمله فيها قطعها ولم يتمها, ثم يعيد ذلك الحج. قيل له إذا نسي طواف الافاضة أو شوطاً منه حتى خرج من مكة أو انتهى إلى بلده, فقال يرجع إذا نسيه أو نسى شوطاً منه. قيل: وكيف لم يفسد ذلك حجه؟ لأنّ الطواف فرض, فإذا لم يأت به لم يأت بحج تام فيقضيه. فقال قال الله تعالى ومَنْ يعظم شعائر الله فإنها مِنْ تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مُسمى ثم محلها إلى البيت العتيق. فالبيت العتيق يقع خارجاً من اجلها الذي حلوله يمنع من قضاء المتر وبعد انقضاء أيام الرمي كلها, وما جاوز أيام الرمي كلها فقد خرج عن الأجل المسمى المحدود لشعائر الحج, فالأيام التي بعد خروج أيام الحج الرمي كلها واحدة ليس فيها أجل مسمى يوضع فيها بعينة التطوف بالبيت العتيق إذا ترك إلى آخر الشعائر, إذ هو في موضعه في كتاب الله تعالى. وإذا كان كذلك فهو متى فعل من بعد أيام منى فهو من أوقات الاتيان له, غير أنه فعل بقرب حلول الشعائر فهو الأولى له, إذ السنة بيَّنت أن الافاضة بعد رمي جمرة العقبة في يوم النحر جائزة لعاملها,
[
(2/50)
________________________________________
446/1] وإن كانت الشعائر لم تستوف كلها(1) ما في القرآن يجيز تأخير طواف الافاضة إلى آخر الشعائر, وآخر المسمى للشعائر انقضاء أيام منى, فلم يبق إلا الطواف لمن أفرده فلم يضره التأخير ولم يكن له عليه شيء إذا فعل بالقرب ولم يدخله بذلك تفرقة بينة. فإذا رجع إلى بلاده ولم يأت بالطواف أو لم يستكمله, رجع إلى وفاء ذلك نسكاً لذلك, لمكان التفرقة وما أدخل بين عمل الحج وبينه من الأسفار والتصرفات القاطعة بين الحج وعمله. أما الأيام التي طاف فيها فهي نظيرة بالوقت الذي أذن له بالقرآن في التأخير إليه, فافهم ما وصفت لك.
انتهى الجزء الأول0
__________
(1) في هامش المطبوعة الحجرية: "بياض في خط المصنف".
(2/51)
________________________________________
ابسم الله الرحمن الرحيم
المعيار المعرب، والجامع المغرب، عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب
تأليف أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي
المتوفي بفاس سنة 914 هـ
خرجه جماعة من الفقهاء
بإشراف الدكتور محمد حجي
الجزء 2
نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للملكة المغربية
1401 هـ ـ 1981 م
جميع الحقوق محفوظة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
بالمملكة المغربية ـ الرباط
ودار الغرب الإسلامي ـ بيروت
لصاحبها: الحبيب اللمسي
ص. ب 5787/113
[5/2]
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
نوازل الصيد والذبائح والأشربة والضحايا
[ أهل الثغور المجاورة لمكان الصيد يقدمون على غيرهم في شراء الصيد ]
*وَسُئِلَ الشيخ أبو الحسن القابسي عن الصيادين يدخل إليهم تجار المنستير إلى الجزيرة فيشترون منهم، وربما اشتروه منهم عند القنطرة قرب قصر ابن الجعد فلا يصل إلى الحصون منه شيء، لأنهم يمضون به في الأحمال إلى المدن، فيطلب منه رجل شيئاً يسيراً، فلا يصل إليه.
وظهر لي أنه من يلقي السلع، فأخذت عليهم ألا يبيعوا إلا قرب الحصن فيدركه المقل والمكثر، فهل يجوز لهم بهذا أم لا؟.
=فَأَجَابَ: أنه من تلقى ما جيء إلى مكان فقد ركب ما لا يَحِلُّ له، ويؤخذ منه الشيء الذي تلقاه، فيباع في المكان حيث السوق الذي يجتمع إليه، بما يسوى فيه، ما لم يزد على الثمن الذي اشتراه به فلا يباع بزيادة، إنما يباع بما يسوى في المكان إذا يسوي مثل الثمن الذي اشتراه به أو أقل، فإذا سوى أكثر كان لأهل المكان أخذه بمثل الثمن لا زيادة عليهم.
قال: وأما الصيادون بالطراريح وغيرها وهم من سكان الحصون لا يسكن إلا الرباط للحرس، وسائر الطاعات وبحر المنستير من أخرجه حكم.
[5/2]
[6/2]
(1/1)
________________________________________
ما التصيد عندي في بحرها إلا كالاحتشاش والاحتطاب من شعاريها، لا يسع منه الانتفاع لغير من بها إلا بما لا ضرر عليهم فيه، ولا منفعة لهم في تركه، إذ ليس هو شيء تناله الأيدي كما ينال ما في البر من الاحتشاش والاحتطاب، وتفسير هذا الكلام: أن من يصيد في هذا البحر من سكان المنستير أنه يرد به سوقها، فمن أحب اشترى، وليس له أن يبخس البائع في الثمن، ولا يسعر له ثمن، إنما يباع بالقسم الذي قسمه الله في الوقت من غلاء أو رخص، وما فضل بعد شراء مَنْ بالمنستير لأكلهم صرفه صائده حيث شاء، ويبيعه ممن شاء.
وإذا كان هذا الصائد إنما يرد ما اصطاده من هذا البحر إلى هذا السوق، فلا يصلح لأحد أن يشتريه منه لا عند البحر ولا عند توجهه إلى السوق من التلقي، والتجار الذين يسكنون الحصون إنما هم رفق للسكان، فإذا أضروا بالساكن زال الرفق منهم، وزال سكناهم عن صفة الرباط وشروطه، وصاروا إلى التكسب كأهل الأسواق، فمُنِعوا من ذلك للضرر، ويجبرون إلاَّ سكنى في الحصون لمن أضر بأهلها في وجه من الوجوه، ومن ورد على هذا المكان من التجار يريد الصيد فيه ليذهب به إلى سائر الأمكنة غير المنستير، فليس له أن يضر بمن يصيد في المنستير، فإذا أخذ أهل المنستير حاجتهم من ذلك لم يكن إن شاء الله على أولئك بأس فيما صادوه من هذا البحر إذا سلم من ضرر أهل المكان والتضييق عليهم، لأن صيد البحر ليس هو في البر حتى يصاد، وتركه لا منفعة فيه لمن يريد الاستعداد بإبقائه في ذلك المكان فلا وجه لمنع الناس من الانتفاع بما هذه منزلته الذي ظهر لي في البحر المنستير.
[ أكل الطيور التي ذبحها الصيادون ]
(1/2)
________________________________________
*وَسُئِلَ عن قوم يصيدون طيراً في الليل يدخلون إليه في قصب لهم، يبيت عليه فيرقى رجل على سلم فيأخذه بيده، و يعطيه إلى رجل آخر غيره، فيذبح ما أعطاه و احد بعد و احد، و يتحفظ في ذبحه و يستدل في الظلام بمنقاره، فإذا أخرجوه من القصب أزالوا رؤوسه و انتفعوا بها و أتوا بها إلى السوق
[6/2]
[7/2]
من غير رؤوس، و الذابح الذي يتولى ذلك الأمر و عرفه، هل لأحد أن يعترض عليهم في بيعه بسوق المسلمين؟.
=فَأَجَابَ: إن كان هذا الذابح مسلماً مؤمناً عالماً بالذبح و بموضعه عارفاً أنه لا يصلح له بتشديخ رأس العصفور قبل ذبحه، فالأمر محمول على الصحة و السلامة غير ممنوع من يبيعه و لا متنع بشرائه إلا لمن و رع منه بعلمه أن يكون فيه ذبحه من يشدخ الرؤوس قبل الذبح. و هذا إذا لم تعرف حقيقتة في طائر بعينه، لم يكن محرماً، و إنما يتنزه عنه أهل التقى، إلا أن يكون يعلم أن أكثر من يصيد هذا العصفور فيشدخون رؤوسها شدخا يقتلها، فهذا لا يحل، و يجب الأخذ على الصيادين في ذلك حتى لا يفعله أحد منهم، و من فعله يشدد عليه و عقوبته الضرب و السجن، و لا يؤكل صيده حتى يعلم و يستقين أنه تاب عن ذلك العمل، و إذا قدم لجميع من يصيد ألا يشدخون الرؤوس قبل الذبح و عرفوا بفساد ذلك و نهوا عنه ثم لم يطلع لهم على معاودة، فالأمر على ظاهره، و من توقَّى لنفسه فلا بأس عليه، و لا يمنع الأسواق مما ظاهره السلامة
فهذا شرح ما سألت عنه و بالله التوفيق.
لا ينتف الطير حيا ] ]
*وَسُئِلَ عن نتف الطير حيا؟.
=فَأَجَابَ: لا يصلح لأنه يوجعه، و قال: لا ينبغي لأحد أن يأخذ فأراً ميتاً فيطعمه للقط.
[ جواز اتخاذ الكلب للصيد و حراسة الماشية ]
*وَسُئِلَ سيدى عبد الرحمن الوغليسي، هل يجوز اتخاذ كلب في البادية يحرس الماشية بالليل أم لا؟ و هل من أهل العلم من يقول بجواز اتخاذه في البادية مطلقا أم لا؟.
(1/3)
________________________________________
=فَأَجَابَ: يجوز اتخاذ الكلب للماشية ليلاً و نهاراً، و لم أقف على جواز ذلك لغير الماشية و الزرع و الصيد و الله أعلم.
[7/2]
[8/2]
[ لا يؤكل ما قطع من الصيد من رِجْلٍ و نحوها ]
*وَسُئِلَ بعضهم عن قولهم: إذا قطع من الصيد يده أو رجله أو فخذه أو جناحه أو خطمه لم يوكل ما بان منه، و قد يقال: فعل الصائد أو الجارح يلزم منه أكل المبان.
=فَأَجَابَ: تمنع الصغرى، بل فعل الصائد سبب الذكاة، و الأصل في المسببات الشرعية أن تكون متأخرة عن أسبابها لا مقارنة، و المبان مقارن، فيجب طرحه، و إن رُدَّ بمنع المسببات الأصل تأخيرها بدليل مسألة إن بعتك فأنت حر، أجيب بالاحتياط للعتق، و لذا نقل عبد الحق عن بعض شيوخه أنه قال: إن قال: إن بعتك فأنت صدقة لم ينقض البيع و ارتضاه.
فإن قيل: يلزم فيما إذا جزأه نصفين أن لا يوكل لما ذكرتم.
=أجيب: بمنع تصور التبعية.
فإن قيل: يلزم الرأس.
=أجيب: بأنه لا تقع الإبانة إلا بعد انفاذ المقاتل و الله أعلم.
[ حكم المنخنقة و أخواتها ]
*وَسُئِلَ الأستاذ أبو عبد الله الحفار عن المنخنقة و أخواتها، و كذلك المشقوقة الكرش، و كذلك العقدة إذا ألقيت إلى الجسد كلها؟.
=فَأَجَابَ: و قفت على ما كتبت أعلاه، هذا المنخنقة و أخواتها لها ثلاثة أحوال:
الأولى: ألا تنفذ مقاتلها و ترجى حياتها و تُذَكَّى و تؤكل باتفاق.
الحالة الثانية: أن تنفذ مقاتلها فلا تؤكل.
الحالة الثالثة أن لا تنفذ مقاتلها، لكن أُيس من حياتها، فيختلف هل تعمل فيها الذكاة أم لا؟
وأما العقدة إذا تركت لجهة الجسد فاختلف في أكلها، و الصحيح من القولين جواز الأكل، و أما المشقوقة الكرش، فكذلك يختلف فيها، و صحَّح ابن رشد جواز أكلها.
[8/2]
[9/2]
[ يؤكل دجاج الكتابين إذا سلوا عنقة ]
*وَسُئِلَ عما ذكره ابن العربي عند قوله تعالى { و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } إذ سئل عن النصراني يسل عنق الدجاجة ثم يطبخها، هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاما.,
(1/4)
________________________________________
=فقال: تؤكل لأنها طعامه، بينوا لنا ذلك، و هل ذلك قول في المذهب تجوز الفتيا به أم لا؟ و هل يجوز للإنسان في خاصة نفسه أن يقلده و يعمل به أم لا؟ و قال بعد ذلك كل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه، و ما الذي كذبهم الله فيه؟
=فَأَجَابَ: و قفت على السؤال عنها فوق هذا الجواب من مسألة فك النصراني رقبة الدجاجة هل يأكلها المسلم معه أو يأخذها منه؟ فأفتى القاضي ابن العربي بجواز بجواز ذلك، فلم يزل الطلبة و الشيوخ يستشكلونها و لا إشكال فيها عند التأمل، لأن الله تعالى أباح لنا طعامهم الذي يستحلونه في دينهم على الوجه الذي أبيح لهم فيه الذكاة فيما شرعت لهم فيه على الوجه الذي شرعت، و لا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا في ذلك الحيوان المُذكى و لا يستثنى من ذلك إلا ما حرمه سبحانه علينا على الخصوص، كالخنزير، و إن كان من طعامهم و يستحلونه بالذكاة التي يستحلون بها الأنعام و كالميتة.
وأما ما لم يحرم علينا على الخصوص فهو مباح لنا كسائر أطعمتهم، و كل ما يفتقر إلى الذكاة من الحيوانات، فإذا ذكوا على مقتضى دينهم حل لنا أكله، و لا يشترط في ذلك موافقة ذكاتهم لذكاتنا، و ذلك رخصة من الله و تيسير علينا، و إذا كانت الذكاة تختلف في شريعتنا، فتموت ذبحا في بعض الحيوانات و نحرا في بعض و عقرا في بعض و قطع عضو كرأس و شبهه كما هي ذكاة الجراد، أو و ضع في ماء حار كذلك كالحلزون، فإذا كان هذا الاختلاف موجودا بالنسبة إلى الحيوانات، فكذلك قد يكون شرع في غير ملتنا سل عنف الحيوان على وجه الذكاة، فإذا اجتزأ الكتابي بذلك أكلنا طعامه كما أّن لنا ربنا سبحانه، و لا يلزمنا أن نبحث عن شريعتهم في ذلك، بل إذا رأينا ذوي دينهم يستحلون ذلك أكلنا كما قال القاضي، لأنها طعام أحبارهم و رهبانهم، و إنما و قع الإشكال في هذه المسألة لما كان سل عنق الحيوان عندنا لا يستباح به
[9/2]
[10/2]
(1/5)
________________________________________
أكل الحيوان بل يصير ميتة فصارت الطباع نافرة عن الحيوان المفعول به ذلك، فحين أباح القاضي ذلك من طعام أهل الكتاب و قع استشكاله، و لا إشكال فيه على ما قررته، و على المحمل الذي ذكرته حمله بعض أئمتنا المتأخرين.
وأما الذي كذبهم الله فيه فمن أمثلته: الربا، فإن اليهودي يعمل بالربا، و يستحله، و يأكله فهو طعامه، فلا نستحله و لا نأكله، لأن الله تعالى قد كذبهم في ادعائهم حليته في قوله تعالى { و أخذهم الربا و قد نهوا عنه } فهذا جواب كلام القاضي في المسألتين.
وأما قولكم هل ذلك قول المذهب؟ و هل تجوز به الفتيا أم لا؟ فهذا كلام منكر مشكل، لأن ظاهره أن يفتى به من تعاطي من المسلمين ذلك
، و لا خلاف أن المسلم إن سل عنق الدجاجة أو غيرها من الحيوان إنها ميتة، و إنما كلام القاضي في المسلم إذا كان مع كتابي، ففعل الكتابي ذلك، هل يأكل المسلم من ذلك الطعام أم لا؟ فقال القاضي: يجوز للمسلم أكله، لأن المسلم يفعل ذلك بحيوان، فقولكم: هل ذلك قول المذهب، و هل تجوز الفتيا به؟ كلام غير محصل، بل أن أهل المذهب كلهم يقولون و يفتون: أن أكل طعام أهل الكتاب حلال لنا إلا ما خصص من ذلك كما تقدم، فهذه المسألة مما لا يختلف فيها، و لا يتوقف عن الفتيا بها، إنما و قع استشكال كلام القاضي، و لا إشكال فيها إذا تُأُمل على الوجه الذي قرر.
[ عدد المقاتل في الحيوان ]
*وَسُئِلَ ابن السراج عن المقاتل في البهيمة كم عددها. و ما هي.
=فَأَجَابَ: المقاتل انتشار الدماغ و قطع النخاع و هو المخ الأبيض في السلسة، و قطع الأوداج، و ثقب المصير الأعلى و هو المعدة و ما قرب منها، و انتثار الحشوة و هي ما حواه البطن من الأمعاء و الكلية و الكبد و الرئة و القلب و غير ذلك.
واختلف في ثقبها و انتشقاها من غير انتثار و لا قطع و الصحيح جواز الأكل، و اختلف أيضا في انشقاق الودجين من غير قطع و في اندقاق العنق و السلسلة من غير قطع النخاع جواز الأكل.
[10/2]
[
(1/6)
________________________________________
11/2]
[عمل الذكاة في منفوذ المقاتل]
*وَسُئِلَ الأستاذ أبو سعيد فرج بن لب هل تعمل الذكاة في المنخنقة إذا ذكيت، فوجدت منفوذة المقاتل، و ما معنى انتثار الدماغ و الحشوة؟ و ما هي الحشوة و القصب و المعاء؟ و مات معنى قول العلماء المقاتل خمسة، و لم يذكروا القلب فيها؟ و المشاهد أنه أسرع موتا إذا أصيب من غيره، و كذلك الكلا و الرئة، و ما وجه اختلافهم في شق الودجين و إلى حيث ينتهي المصير العلى؟ و بماذا يتميز من الأشفل؟ و ما ذكر ابن رشد في المشقوقة الكرش عن ابن مرزوق من بيع الجزار لها إذا بين ما وجهه تبيين الجار؟ و كيف يكون لفظ التبيين، و هل رض النخاع كقطعة؟ أو الثقب اليسير فيه كالقطع؟
=فَأَجَابَ: اما المفوذ المقاتل من تلك الأسباب المذكورة في الآية فقد اختلف المذهب و أهل العلم و خارج المذهب في إعمال الذكاة فيه قولين:
فقال في المدونة في الشاة يخرق السبع بطنها، أو يشق أمعاءها لا توكل، لأنها لا تلحق على حال.
قالوا و قد روي عن ابن القاسم أنها توكل و إن انتثرت الحشوة و بهذا المذهب كان يفتي كثير من فقهاء الأندلس كابن لبابة و ابن خالد و غيرهما بناء على قوله تعالى في الآية { إلا ما ذكيتم } استثناء متصل، و معنى انتثار الدماغ أن ينتثر المخ الذي في الصفاق و يبرز عنه شيء منفصلا عنه.
ومعنى الحشوة التي يسميها الناس الدوارة و أصلها في جوف مصرانها من الأثقال، و معنى انتثارها: خروج تلك الأثقال بقطع شيء من تلك المصران أو بشقه الشق الفاحش الذي يبرز عنه ما فيه من الحشوة، و قيل: انتثارها عبارة عن خروج الدوارة من البطن و عن محلها من الجوف بشق البطن.
(1/7)
________________________________________
وقد رُد هذا القول على قائله بأنها قد تبرز سالمة من القطع و يحاول ردها و يُخاط عليها و يعيش صاحبها، و معن القصب و الأمعاء و ذلك عبارة عن مصران الجوف سوى الحشوة المذكورة، و أما كلامهم في المقاتل و لم يعدوا القلب معها فقد كان و قع في هذا الكلام فيما سلف و انفصل فيه على انه من المقاتل، و أنه داخل المعنى في فري الأوداج و قطع الحلقوم، لأن ذلك في
[11/2]
[12/2]
كلامهم عبارة عن قطع محل الذكاة، و قد علم أن محلها أيضا المنحر فيما ينحر و ما كان المنحر مقتلا إلا لوصول آلة النحر إلى القلب كذلك و الذبح سواء و اكتفوا في العبارة بالمذبح عن ذكر المنحر و هما سواء، و الكليتان و الرئة في معنى القلب للاتصال به في الجوف، و الاختلاف الذي في شق الودجين من مصير الحشوة انبنى على شهادة هل يلتئم و يصح أم لا؟ و الصحيح فيما قالوا أنه يلتئم و يعيش الحيوان بعد ذلك بخلاف القطع و الانتشار جملة فإنه لا يلتئم أصلا، و المصير الأعلى هو منفذ الطعام و الشراب، و هو المرئ الذي تحت الحلقوم، و ينتهي إلى رأس المعدة، و لا خلاف أنه مقتل بخلاف المصير الأسفل فإن فيه اختلافا بين الفقهاء، و وجه و جوب البيان أن البهيمة حينئذ تكون معيبة من جهة الحلية، و بيع المعيب يجب فيه البيان، لأنه قد يرع بعض الناس فلا يريد أكله، و في رض النخاع خلاف هل يلحق بقطعه أم لا؟ و الصحيح أن لا، فإنه قد يَبْرأ إلا أن يعتريه فساد بحيث يكون لابد من فصله عن مقره، فحينئذ يكون مقتلا، و ثقبه في معنى رضه، إلا أن ينفصل منه شيء من ذلك، فإنه مقتل على الصحيح، و الذي هو منه مقتلباتفاق قطعه بفصل بعضه من بعض.
[ المصران الأعلى مقتل باتفاق المذهب ]
*وَسُئِلَ أيضا عن نطيحة مخروقة المصران بقرب المعدة و قع اختلاف فيها بين ناس؟
(1/8)
________________________________________
=فَأَجَابَ: و قفت على المسألة و الحكم أن خرق المصير الأعلى الذي هو مجرى الطعام و الشراب مقتل باتفاق المذاهب، لكن الخلاف المذهبي فيما أنفذت مقاتله هل تعمل فيه الذكاة أم لا؟ و المشهور أنها لا تعمل فيه و أنه في حكم الميتة، و قد روي عن ابن القاسم: أنه يؤكل بالذكاة و إن كان منثور الحشوة، و سبب الخلاف ما قد علم من الاحتمال في الاستثناء الذي في الآية { إلا ما ذكيتم }
فذهب كثير من أهل المذهب و الأكثر إلى أن الاستثناء لم يتناول ما أنفذت مقاتله، إذ هو فيما مات و ذهبت جماعة إلى تناوله لكل ذات حياة من المنخنقة و ما بعدها، و هذا الراجح في النظر و المفهوم بالأثر الذي جاء
[12/2]
[13/2]
في الغنم التي كانت ترعاها جارية لكعب بن مالك، فأصيب منها شاة فذبحتها و أباح النبي صلى الله عليه و سلم أكلها، و قد أضاف ابن العربي هذا القول للموطأ، و اختار هو و اللخمي و غيرهما من المتأخرين إلا أن إنفاذ المقاتل إن كان في محل الذكاة بحيث يفيتها فلا يختلف في تحريم أكلها، فالطريقة المثلى في النازلة و أمثالها أن لا تباع تلك النطيحة في أسواق المسلمين، و أن يخلي بين صاحبها و بينها يأكلها إن شاء و ينتفع بها، لكن إن أطعم منها أحدا بصدقة أو غيرها فليبين له ذلك، إذ قد يكون ممن يرع عن مثلها، و إن اشترى منها أحد على خصوص فعلى البائع البيان، فهذا ما حضر تقييده.
[ هل تعمل الذكاة في منفوذ المقاتل؟ ]
*وَسُئِلَ عن اختياره في المنفوذ المقاتل هل تعمل في الذكاة أم لا؟ و ذُكر باستحسان كلام اللخمي رحمه الله في الأطعمة.
=فَأَجَابَ: نستحسن في مسألة المنفوذ المقاتل ما استحسنتم من أن الذكاة تعمل فيه، و هو الصحيح، و به كان أبو بكر رحمه الله يفتي به و إياه كان يختار و نتقلده، ما لم يكن المقتل المنفذ محل الذكاة فيحصل الفوت. انتهى.
(1/9)
________________________________________
*وَسُئِلَ عن ثور و قطع فاندق عنقه، فوجد النخاع أعني الجلد الذي يضم المخ صحيحا دون قطع و لا ثقب، إلا أن المخ المعقود قد انحل و سال عن الموضع المدقوق.
=فَأَجَابَ: مسألة الثور المدقوق الظهر حتى انفصل مخ النخاع بعضه من بعض فيها خلاف، هل يؤكل بالذكاة أم لا؟ و الصحيح جواز الأكل، و لا يباع إلا البيان.
[ جدي رضع حمارة مرارا يؤكل بعد مدة ]
*وَسُئِلَ عن جدي رضع حمارة مرارا هل يؤكل أم لا؟.
=فَأَجَابَ: إن كان قدم عهده برضاعة الحمارة زيادة على الأربعين يوما فلا حرج في أكله، و إن كان قريب العهد بذلك ترك حتى تمر له تلك المدة ثم يؤكل.
[13/2]
[14/2]
[ أعمال الذكاة في المنخنقة و أخواتها ]
*وَسُئِلَ سيدي علي بن عثمان عن المنخنقة بحبل و نحوه، و عن الموقودة بحجر و عصى تذبح و هي محققة الحياة حين الذبح، هل تعمل فيها الذكاة أم لا؟.
=فَأَجَابَ إن كانت غير منفوذة المقاتل عملت فيها الذكاة على المشهور و الله تعالى أعلم.
[ تحلل أجزاء النحل في العسل لا يضر ]
*وَسُئِلَ سيدي أبو عبد الله الزواوي عن النحل هل هو من خشاش الأرض الذي قالوا: إن ذكاته كالجراد أم لا؟ فإن قلتم: إنه كالخشاش فهو يغتفر تحليل أجزائها في العسل، لأن أجزاءها لا تنفك عن العسل أم لا؟
=فَأَجَابَ هو من خشاش الأرض، و يؤكل به الجراد، و لا يضر ذلك العسل إذا كان بقى بعض أجزائه فيه لأنه مما لا ينفك عنه غالبا، و الله تعالى أعلم.
[ المتردية التي لم تنفذ مقاتلها ]
*وَسُئِلَ سيدي عبد الرحمن الوغليسي عن البقرة أو الشاة إذا تردت من جبل فيصيبها ما لا تعيش منه عرفا عند أهل الماشية، غير أنها سالمة المقاتل هل يكون ذلك سببا لتحريمها أم لا؟
=فَأَجَابَ: فيه خلاف، و المشهور: أنها توكل إذا ذبحت و اقترنت بذلك علامة الحياة مثل أن تركض برجلها أو تحرك ذنبها أو تطرف بعينها أو يجري نفسها و الله تعالى أعلم.
(1/10)
________________________________________
*وَسُئِلَ عمن ضرب أنسية فكسر عظم رأسها إلا أنه لم يفسد دماغها، هل تؤكل بذكاة أم لا؟ و كذلك إن توارت للجازر على هذه الصفة و ماتت، هل تؤكل أم لا؟
=فَأَجَابَ: تؤكل و الله أعلم.
[14/2]
[15/2]
[ الوحش السكران بالضرب تصح ذكاته ]
*وَسُئِلَ عمن يذبح الوحش أو غيره، و هو سكران بالضرب مغلوب.
=فَأَجَابَ: يؤكل إذا كان محقق الحياة عند الذبح، و الله تعالى أعلم.
*وَسُئِلَ عمن يطبخ القمح فيما شأنه أنه يسكر و يرميه للطير، فإذا التقطه سكر، هل يذبحه في حالة سكره؟ أو تعمل الذكاة فيه حتى يذهب عنه السكر؟
=فَأَجَابَ: يجوز ذلك و الله تعال أعلم.
[ أجاز غير مالك من الأئمة أكل ما ذبح من القفا ]
*وَسُئِلَ الفقيه السكوني من علماء تونس عن ثور ذبح فكلت السكين فقلبها الذابح إلى فوق و قطع بها بقية الأوداج فأفتى بأكله فعوتب في ذلك.
=فَأَجَابَ: بأن الزمان فيه مسغبة، و قد أجاز من سوى مالك من الأئمة الثلاثة أكل الذبيحة إذا كانت من القفا فأحرى هذه للضرورة، و إن كان هذا الذي نقل عن الأئمة حفيد ابن رشد فسكتوا عنه.
[ الإجماع على و جوب النية في الذكاة ]
(1/11)
________________________________________
*وَسُئِلَ شيخنا الحاج القاضي العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن قاسم بن سعيد العقباني، عن قولهم: الإجماع على و جوب النية فيما تمحض للعبادة، و على نفي الوجوب فيما هو معقول المعنى، و اختلف فيما فيه شائبتان، و قد نصوا على أن الذكاة تفتقر للنية بإجماع مع قولهم: هل شرعت لإزهاق النفس بسرعة، أو لاستخراج الفضلات النجسة؟ و هذا يقتضي أنها معقولة المعنى، فكيف يحسن الإجماع على و جوبها؟ و كذلك إن قلتم فيها شائبتان، و هذا يتنافى مع القاعدة المذكورة، و إجماعهم على و جوبها في الذكاة يقتضي إنها محض عبادة طردا للقاعدة، و بعد تسليم كونها محض عبادة يشكل أيضا مع قولهم التعبد لا يفتقر إلى نية إلا إذا فعله الإنسان في نفسه، و أما إذا فعله في غيره كغسل الإناء من و لوغ الكلب و غسل الميت فلا يفتقر إلى نية، و الذكاة إنما هي فعل في الغير.
[15/2]
[16/2]
(1/12)
________________________________________
=فَأَجَابَ: لما تقرر من قولهم المشروعات المطلوب فعلها إما أن تكون صور أفعالها كافية في المصلحة المطلوبة منها أو لا، فإن كان الفرد الأول كرد الديون و الغصوب و الودائع فلا يحتاج فيه إلى نية، و إن كان الثاني و هو أن لا تكون صورته كافية في تحصيل مصلحته المطلوبة من إيقاعه فلا بد فيه من النية، و ذلك يتناول الأمور التعبدية كلها، فإنها شرعت لتعظيم الرب تعالى و إجلاله، و الإجلال إنما يحصل بالقصد، و حيث تعرض هذه القاعدة على فعل ذكاة الحيوان المباح أكله بها تجده من المهيع الثاني، فإن الله سبحانه لما تفضل على هذا النوع البشري و من عليه منة لا يقوم له فيها بشكر، و من أعظمها أن خصه بالعقل الذي هو أشرف مخلوق، و فضله على كثير ممن خلق تفضيلا أباح له إتلاف كثير من الحيوان فيما يقوم بتغذية روحه الحيواني فلا يستبيح قطعه من لحم الحيوان المباح إلا مع القصد لاستباحته بما لا يستباح إلا به، و لولا أن في تلك الصورة الخاصة و ضعا شرعيا يتعبد به و نقف عنده مع إرادة الامتثال فيه لكان الإتلاف بإنفاذ مقتل من المقاتل كافيا في تحصيل الغرض من تناول اللحم كما هو الأمر عند بعض النصارى و الصابئين و المجوس، و إزهاق النفس بسرعة و استخراج الفضلات قدر مشترك في سائر المقاتل، بل العقر بالحديد في و سط القلب أوجز في إزهاق النفس من الذكاة، فالورود على فعل الذكاة من غير نية لا تحصل به إباحة لفقد المبيح، و إنما يصير كفعل غيره من عقر المقاتل، كمن توضأ للتبرد فقصاراه حصول النظافة لا غير، لا يستبيح بذلك أداء المكتوبة و لا النافلة، فإذا تقرر أن الذكاة محض عبادة و من ثم قالوا: بلزوم النية فيها إجماعا، فاستشكال ما يرد على ذلك من قولهم التعبد لا يفتقر إلى نية إلا إذا فعله الإنسان في نفسه أما في غيره فلا، كغسل الإناء من و لوغ الكلب، و غسل الميت، ينفصل عنه بتقييد ذلك في المثال الذي ذكرتم بكون الفعل في الغير مما لا تعلق له بتعبد
(1/13)
________________________________________
الفاعل فعلا يجب إيعابه و تكملته، فإن من غسل الإناء من و لوغ الكلب غسلة واحدة و جاء غيره و أكمل الغسلات لم يكن في ذلك خلل في تطهيره و زوال لضرره، و كذلك في غسل الميت فلا يفتقر ذلك لنية لعدم قوة الملابسة بين الفعل
[16/2]
[17/2]
و الفاعل ضربة واحدة بخلاف ما كان على خلاف ذلك كحج الإنسان بالصبي الصغير فإنه لا يقوم أحد أنه يحرم عنه بلا نية أو يطوف عنه أو يسعى أو يقف إن كان يطاف به في الذراع، كما انه لا يمكن أن يفتتح عنه نسكا من المناسك ثم يكمل غيره باقيها، و كذلك الذكاة لا يمكن أن يقطع الإنسان الحلقوم و آخر الأوداج، فكانت النية في مثل ذلك و اجبة بخلاف المثال الي أورد أو استشكل الفرق الذي تبين بواضح الانفصال، و الله الموفق للصواب بفضله، و هو المسؤول أن يديم بكم الإمتاع كما جعل للمسلمين بكم الانتفاع و السلام عليكم من محبكم و معظمكم محمد بن قاسم العقباني.
=وَأجَابَ عن السؤال قاضي الجزائر سيدي عبد الحق: اعلم حفظكم الله أن ما ذكرتم فيه الإجماع فقد ذكر فيه بعض الشيوخ قولين، و على تسليم الإجماع فتمحض العبادة فيه ظاهر، و ذلك لما كان المشركون يستبيحون أكل ما لم يذك، و بعض أهل الكتاب يستبيحون الأكل بأي فعل فعلوه في الحيوان فجعل الشرع الذكاة في موضع مخصوص على جهة مخصوصة مقرونة بالتسمية، ليفارق المشركين في الذكاة، و بعض أهل الكتاب في موضع خاص، و التسمية لمن يبيحها بغير تسمية أو يسمون لأصنامهم، فمن أجل هذا كلها و جبت النية فيها إجماعا، و ما ذكر أن لإزهاق النفس بسرعة أو لإخراج الفضلات، فإنما هو حكمه باعثة لذلك، و الحكمة ليست بعلة على ما هو المنصوص في كتب الأئمة، هذا إذا قلنا: أن الإجماع معلل، و إذا قلنا: إنه يعلل فلا يحتاج إلى رفع ما ذكرته، و أما عدم النية في غسل الميت فالقياس عند ابن رشد و جوبها، و إن كان اتفاق أهل المذهب يأتي على غير قياس فكيف بالإجماع؟ و الله تعالى أعلم.
(1/14)
________________________________________
=وَأجَابَ شيخنا أبو عبد الله بن العباس رحمه الله: تصفحت السؤال فوقه فرأيت أدلتها منصوصة في غير محلها، و الغلط في ذلك إنما نشأ عن المقدمة القائلة الإجماعه على و جوب النية فيما تمحض للعبادة، و سبب الغلط جاء من الاشتراك في النية، فإن النية المقسمة إلى ما يجب بالإجماع و إلى ما يسقط بإجماع و إلى مختلف فيع في نية القربة إلى الله عز و جل، و نية الذكاة ليست منها، و إنما هي القصد إلى الذكاة احترازا من العبث أو الأمر الاتفاقي، فاشترط القصد إلى الحلية ليلا تكون ميتة فتندرج فيما حرم الله من الميتة و ما عددته علة فهو.
[17/2]
[18/2]
معدودة في حكمه المشروعية في المحل المخصوص على الصفة المخصوصة ,
والذكاه من الأمور الشرعية المباحة , بمعنى أنها لا تتطلب طلبا جازما. ولكن
معناها ان من أراد أكل ما شرعت فيه الذكاه فلا بد من شروطه . ولو كان
الكلام في نية التقرب لذكر ما يليق بمحلها وما لا يليق من أفعال وتروك , وما
تمكن فيه وما لا تمكن. ومما يوضح لك ان ما بنيت عليه مقدماتك ليس محل
النزاع صحه ما ذكاه الكتابي لنفسه بشرائطه , وجواز أكله بإجماع , وثبوت
الخلاف في مذهب مالك فيما ذكاه الكتابي لمسلم , وليس من أهل القربة , لفقد
شروطها , والله اعلم .
تؤكل ذبيحة الكتابي دون صيده
وسئل سيدي " أبو عبد الله بن عقاب " عن اتفاق عامتهم على أعمال ذكاه
الكتابي فيما يذكيه لنفسه بشروطه المذكورة , وقالوا في المعروف من المذهب لا
يوكل ما صاده لنفسه مع ان الاصطياد أحد نوعى الذكاه , والشروط المذكورة
في الذكاه يمكن حصولها في الصيد كالقصد للاصطياد الذي هو مقابل القصد
للذكاه , وكون المصيد به محرما كذلك أيضا .
فاجاب أما مسالة صيد الكتابي وكون المشهور فيها معارضا لاصل
المذهب في أكل ذبيحته , فقد اعترض هذا التعارض كثير من الشيوخ
" كاللخمى والباجى وابن رشد وابن العربي " , واختاروا قول" ابن وهب واشهب"
(1/15)
________________________________________
باباحه صيده . واقول ان الجواب عن هذا التعارض ينبنى على أربع قواعد :
الأولي القول بالعموم . الثانية القول بالمفهوم , الثالثة تخصيص العموم
بالمفهوم , الرابعة امتناع القياس على الرخص . وبيان القاعدة الأولى ان قوله
تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لك عموم, فيتناول ما ذبحوه وما
صادوه بناء على القاعدة الأولى وهى القول بالعموم. وقوله تعالى وما علمتم
من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما امسكن عليكم خطاب
للمسلمين , دليله انه لا يؤكل ما صاده غير المسلم . وكذا قوله تعالى يا أيها
الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله الايه خطاب للمؤمنين على
أحد التأويلين وهو أنها داله على الاباحه , وأنها في الحلال لا في المحرم /18/
[18/2]
[19/2]
ودليله ان غير المسلم بخلاف ذلك بناء على القاعدة الثانية , وهذا مفهوم
مخصص للايه الأولى بناء على القاعدة الثانية .
ولا يقال: المفهوم لا يخصص به لان دلاله العام منطوق, والمنطوق لا
يعارض المفهوم.
لانا نقول : لو لم يخصصه به للزم أبطال أحد الدليلين واعمالهما معا ما
أمكن الجمع بينهما أولى .
فإذا تقرر هذا فنقول : الفرق بين ذبيحة الكتابي وصيده في كون العموم
خصص بالمفهوم في آيه الصيد , ولم يخص المفهوم في آيه التذكية وهى قوله
تعالى إلا ما ذكيتم هو ان الأصل التخصيص في الجميع, لكن وردت السنه
بالرخصة في ذبيحة الكتابي لما ثبت في قوله صلى الله عليه وسلم أكل من الشاه
التي أتت بها اليهودية مسمومة من غير ان يسال هل ذبحها يهودي أو مسلم ,
مع ان الغالب فيها تأتى به اليهودية انه من ذبيحة أهل دينها , فثبت بهذا
الرخصة في ذبيحة الكتابي . واذا كان ذلك رخصه لم يصح قياس صيد الكتابي
عليه, عملا بالقاعدة الرابعة وهى امتناع القياس على الرخص .
فان قيل : حقيقة الرخصة انه المشروع لعذر, مع قيام المحرم لولا العذر
وقد ظهر من تقريرك قيام المحرم , فأين العذر ها هنا ؟
(1/16)
________________________________________
قلت : العذر هو الحاجة إلى مخالطه أهل الكتاب بسبب الجزية وغير
ذلك . وهى داعيه لأكل طعامهم , والغالب الذبيحة , والصيد قليل , بالنسبة
اليها , والضرورة داعيه إلى الأول لغلبته دون الثاني لندوره والله تعالى اعلم .
تعمل الذكاه فيما يخاف عليه الموت من المرض
وسئل سيدي " أبو عبد الله بن مرزوق " عن ثور مرض وصار يرمى
مصارينه قطعا قطعا من دبره وخيف عليه الموت, فهل تنفع فيه الذكاه ام لا؟
فاجاب تنفع الذكاه في الثور ان كان ما أصابه من المرض والله اعلم.
[19/2]
[20/2]
صيد الخنزير لأكل اختيار حرام , وللضرورة يذكى
وسئل عما وقع (لابن عرفه) في مختصره ونصه: قال "اللخمى" صيد
الخنزير ليأكله اختيارا حرام وان كان مضطرا, قال الوقار يستحب له نيا
ذكاته .
قلت: فيه نظر, لان الرخصة تعلقت به من حيث كونه ميته لا من حيث
ذاته, وتذكيه الميته لغو .
لقائل ان يقول : يرد عليه سؤالان :
الأول قبوله لنقل" اللخمى " عن الوقار , وفيه خلل , لان نص ما في
مختصر الوقار : واذا أصاب المضطر ميته خنزيرا أكل ما احب , فان احب
أكل الخنزير لم يأكله إلا ذكيا . فظاهر قوله لم يأكله إلا ذكيا تحتم الذكاه خلاف
نقل " اللخمى " عنه . وأظن " المازرى " اعتمد على نقل شيخه " اللخمى " فانه قال : ولو
اضطر في مخمصه لأكل خنزير واستحب له ان ينوى ذكاته.
السؤال الثاني : استشكاله لتذكيه الخنزير واحتجابه على لغوها. وجوابه
ان الخنزير ليس بحرام دائما في جميع الحالات , بل في حاله الاختيار. فأما في
حاله الضرورة فهو مباح , فيقال حينئذ هو حيوان برى ومباح , وكل حيوان
كذلك تجب ذكاته . ولم يحفظ ابن زرقون قول الوقار, ولذا اقتصر على قول
" الباجى " : وان وجد ميته وخنزيرا فالأظهر عندي ان يأكل الميته .
فاجاب نقل الشيخ" ابن عرفه " رحمه الله عن " اللخمى " هنا انما هو بالمعنى
الذي يستلزمه كلامه , والا فليس في كلام " اللخمى " صيد الخنزير ليأكله حرام.
(1/17)
________________________________________
وبين عبارته فيما نقل عن الوقار وعبارة " اللخمى " فرق . ويتبين ذلك بنقل كلام
(اللخمى), ونصه : الثاني, يعنى من أقسام نية الاصطياد الراجعة إلى حال صيد
الخنزير, نيته قتله لا لغير ذلك, وليس ذلك من الفساد . ثم قال بعد
الاستدلال بالحديث الكريم, وعلى هذا مذهب مالك انه يجوز قتله ابتداء , إلا
ان تصيب إنسانا حاجه تبيح أكله , فيستحب له ان ينوى الذكاه , قاله أبو بكر
الوقار انتهى .
فقوله قاله أبو بكر الوقار ليس فيه من الصراحة نسبه الاستحباب إلى
[20/2]
[21/2]
الوقار ما في عبارة شيخنا" ابن عرفه " , لا عبارة " اللخمى " فيها أجمال واحتمالات
بعضها اقرب من بعض, فان من محتملاته عند من لم ير كلام الوقار رجوعه
إلى الفصل كله أو إلى قسم الحاجة . ويحتمل ان يرجع إلى اصل مشروعيه
الذكاه . لا إلى استحبابها . والاستحباب انما هو من اختار " اللخمى" , ووجهه
ما سنذكره ان شاء الله تعالى . ولما استشعر " اللخمى" عند ذكره استحباب ذكاته
انكار ذلك , إذا ليس مما شرعت فيه كما اقتضاه نص شيخنا بادر لعزوه الوقار,
إما ليتقوي به فيما اختار كأنه يقول وقد قال" الوقار" ما هو أقوى من
الاستحباب , وان كنت أنا لا أرى ذلك , بل نقف عند الاستحباب , لاشعار
ظاهره عبارة الوقار بالوجوب إذا ذكرتم . واما للخروج عن عهده الذكاه فيه
ونسبتها إلى الوقار بتأويل كلامه على استحباب ذكاته.فانه اقرب إلى الوصول
من الوجوب فيما رآه . وهذا الاحتمال الأخير من قولي . ويحتمل ان يرجع إلى
هنا هو الصواب في فهم كلام " اللخمى " ان لم يكن نقل من كلام الوقار إلا هذا
الذي نقلتم . وبالجمله , فالمخالفة واضحة بين كلام الشيخ والوقار, فالاستدراك
على الشيخ أقوى منه على " اللخمى" . ومن اجل ذلك تجدني كثيرا فيما أريد نقله
بالكتابة من كلام الناس أتحفظ على ألفاظهم مع ثقل ذلك على ومحبتي في
الاختصار , والنقل أمانة . وما وقفت على كلام الشيخ هنا ولا على كلام
(1/18)
________________________________________
الوقار , واذا صح التأويل بان الاستحباب من كلام " اللخمى " لما ظهر له من
صحته ويرتفع الاعتراض عنه , " فالمازرى " أحرى أنت تنتفي عنه المواخذه . إذ لم
يعز كلامه لأحد , بل أفتى بما ترجح عنده . واختاركم هنا هو ظاهر كلام
الوقار الذي نقلتم , وهو تفصيل ما يقتضيه نظر الشيخ , وكلام " اللخمى "
" والمازرى" وسط بينكما , واخذ من كلا قوليكما, وخير الأمور أوسطها . ونكته
الخلاف بينكم وبين الشيخ ما تقرر في علم الاصول وقدمنا الاشاره اليه عند
الكلام عن فتوى " اللخمى " بالتيمم للذي يحدث ان مس الماء وهو الخلاف في حقيقة
ما رخص فيه للضرورة , هل انقلب حكمه من التحريم إلى التحليل حتى يلتحق
بمباح الأصل ؟ وهذا هو الذي يأتي على مقتضى استدلالكم على وجوب الذكاه
أو لم يزل على ما هو عليه من التحريم إلا انه ارتفع الاثم الذي يستحقه
فاعل المحرم اختيار عن فاعله اضطرارا ؟ وهذا الذي يفهم من " حد ابن
الحاجب " ويرى غير واحد انه التحقيق, وهذا هو الذي يأتي على نظر الشيخ
[21/2]
[22/2]
وما ذهب إلى " اللخمى" استحسان , ولعلهما ذهبا إلى ذلك لتعارض
دليلي القوى عندهما فقالا باستحباب الذكاه , إذ لا تزيده إلا خيرا , إلا انه ان
كان حلالا مطلقا في تلك الحال فالذكاه واجبه وان كان حراما إلا ان الاثم
ارتفع عن أكله للضرورة , فالضرورة وان لم يكن لها معنى فيه لكونها انما
شرعت لاستباحه مباح الأصل للأكل والاستعمال أو لاستباحه استعمال
جلود بعض المحرمات . لأنها أسرع لموته وانفع لاستخراج الفضلات المؤذية
لاكلها مع الدم الخارج بالذكاه . وهذا أيضا من أسباب ما شرعت الذكاه له فلا
اقل من استحبابها . ونظير هذا الاستحسان ما قيل في غسل المستحاضه
بعد انقطاع حيضها , وما ذكر من المدونة من روايه " ابن وهب " في أيام
الاستظهار للمعتادة وذلك قوله : قال عنه " ابن وهب " ورأيت ان احتاط لها
فستظهر وتصلى وليس عليها احب إلى من ان تترك الصلاة وهى عليها .
(1/19)
________________________________________
انتهى .
وفى قول الشيخ الرخصة تعلقت به من حيث كونه ميته لا من حيث
ذاته. نظر,فان ظاهره الايه خلافه , إذ هو فيما قسيم الميته , كما ان كل واحده
من المعطوفات عليها قسيم لها , والرخصه في ظاهر الايه متعلقة بكل واحده
من تلك الأشياء والخنزير منها , والرخصه تعلقت به من حيث ذاته لا من
حيث كونه ميته, عكس ما ذكر . فلو قال ان الرخصة تعلقت به من حيث
كونه محرما لا من حيث كونه محللا اعتبارا بأحد القولين فيما رخص فيه لكان
أولى بالصواب.
ثم نقول : قوله من حيث كونه ميت , أما ان يعنى كونه ميته حسا وهو
باطل في حياته, أو حكما باعتبار ان ذكاته لم تشرع للمضطر وهو باطل أيضا ,
لأنها مصادره إذ ذلك محل النزاع , أو حكما باعتبار أكله وانه محرم أكله كما
يحرم أكل الميته وهو مسلم , ولا يلزم معه لغو ذكاته عند الاضطرار اليه , لان
لغو الذكاه انما هو اعتبار الميته حسا أو حكما . ولا نسلم ان الخنزير الحي عند
الضرورة إلى أكله بحكم الميته كذلك , وقياسكم الذي ركبتموه على مطلوبكم
حسن جدا من حيث ضرورة القياس , وان كان لابد من حيثيات أخر في
المقدمتين استغنيتم عن ذكرها لظهورها وظهور ما قصدتم بها.
[22/2]
[23/2]
وقولكم في أول الجواب الخنزير ليس بحرام دائما . قد علمتم ان مبنى
ذلك على القول بانقلاب الحكم فيما رخص فيه , واما على القول الآخر
فالصادق الاثبات اي حرام دائما , وهو الذي اعتبر الشيخ . فقد بان ان كلا
منكما بنى احتجاجه على قول من القولين, وقد علمت ان الاستدلال بمثله من
مسائل الخلاف مصادره وترجيح من غير مرجح , إذ يقول كل من المتناظرين
لصاحبه ليس اعتبارك هذا القول بأولى من اعتبار القول الآخر . ويرد على
قولكم الخنزير ليس بحرام دائما شك, وتقريره ان يقال لهذا الكلام مفهومان
يرادان بل شك, أحدهما حلال في وقت الضرورة , الثاني انه حرام في وقت
الاختيار , بل قد صرحتم بهما. واعتبار كل من هاتين القضيتين يقدح في
(1/20)
________________________________________
صدق قضيه الأصل القائلة ليس بحرام دائما . وبيان ذلك انه إذا صدق انه
حلال في وقت الضرورة صدق انه حلال مطلقا.لوجوب صدق المطلق عند
صدق المقيد , واذا صدق حلال مطلقا صدق حلال دائما , والا لصدق نقيضه
وهو ليس حلال مطلقا . لكن هو كاذب لما ثبت من صدق مقابله وهو حلال
مطلقا.فيصدق نقيضه الذي هو حلال دائما , لكن هذا كاذب إجماعا . وقد قلنا
ان صدقه لازم لصدق حلال مطلقا . فإذا كذب هو بالإجماع كذب ملزومة
الذي هو حلال مطلقا , واذا كذب المطلق كذب المقيد الذي هو حلال في
وقت الضرورة , واذا كذب هذا أيضا وهو لازم ليس بحرام دائما يكذب هذا
الملزوم, فيصدق وهو حرام دائما , وهو مختار الشيخ , واذا صدق أيضا انه حرام
في وقت الاختيار وصدق انه حرام مطلقا لما تقدم من صدق المطلق بصدق
المقيد, واذا صدق حرام مطلقا حرام دائما, والا صدق نقيضه وهو ليس
بحرام مطلقا, وقد كان الصادق حراما مطلقا, هذا خلف . واذا صدق حرام
دائما كذب ليس بحرام دائما وهو المطلوب , ولا يخفى أيراد مثل هاتين
الصورتين المشتبهين على لازم مدعى الشيخ, وهو ان الخنزير حرام دائما
فيؤدى ذلك إلى كذب هذه القضية أيضا, لكنه محال , لأنه يؤدى إلى كذب
النقيضين. ثم لا يخفى حل هذه الشبهة ولا من أين نشأت , وانما ذكرتها لأنها
من الملح المستظرفات , ويمكن في هذا المحل أيراد أمثال لها كثيره على وجوه
شتى بعبارات مختلفة والله اعلم .
[23/2]
[24/2]
عصر الزيتون والشهد وفيهما دود
وسئل " ابن عرفه " رحمه الله عن الدود يكون في الزيتون وفى العسل , ولا
يمكن تخليصه منهما, هل يعصران بدودهما أم ل ا؟ وكيف ان أمكن تخليصه لكن
بمشقه كثيره ؟ وهل يمنع أكل الشهد أم لا ؟
فاجاب ظاهر الروايات عندي ان دود الطعام كغيره , فلا يعصر ما
ذكر إلا بعد أزالته . وقول " ابن الحاجب " لا يحرم أكل دود الطعام معه وقبوله
شيخنا " ابن عبد السلام وابن هارون " لم أر لذلك كله نص روايه يرجع إليها
(1/21)
________________________________________
فيه , إلا قول " أبى عمر " : رخص قوم في أكل دود التين وسوس الفول الطعام
وفراخ النحل لعدم النجاسة فيه , وكرهه جماعه ومنعوا أكله انتهى .
قلت : وهذا لا يوجد في المذهب, وقول التلقين : وما لا نفس له سائله
كالعقرب هو كدواب البحر لا ينجس ما مات فيه, وكذلك ذباب العسل ,
والباقلا ودود النحل يدل على مساواته لسائر الحشائش والله اعلم .
من أكل ثمره فوجد دوده حيه
وسئل " اللخمى " عمن أكل ثمره فوجد فيها دوده حيه, فهل يبتلعها أو
يلقيها؟ وكيف ان ابتلعها بعد العلم بذلك, هل ابتلع طاهرا أو نجسا فيوتم ؟
ومثله دوده النحل وشبهه.
فاجاب تقدم الكلام على دود الثمر والعسل انه ليس بحرام.
من رفع يده قبل اتمام الذكاه ثم أتمها
وسئل " عبد الحميد الصائغ " عمن إذا أمر السكين على جلد الشاه
فتضطرب فيصبر ساعة من غير اتمام الذكاه ولا رفع يده ثم يتمادى على
ذكاتها , فهل يكره ويؤثر فيها شيئا أم لا ؟ وما مذهبك في جواز الغلصمه إلى
البدن؟
فاجاب الصواب امرار اليد من غير تراخ , ويؤكل ما قطع أوداجه ,
لأنه لا يعيش في العادة من قطعت أوداجه , أعنى لا تطول حياته.
[24/2]
[25/2]
أجاب " ابن محرز " : الذي يذكى فيغلب على تمام التذكية أو يرى انه قد
تم ثم تبين انه لم يتم, فان رجع بالفور فأتم ذكاته أكلت, وان تباعد
لم تؤكل. فان قطع من الحلقوم والأوداج الأقل والذي بقى الأكثر, فلا خلاف
انه لا يؤكل إذا تباعد. وان كان الباقي هو الأقل ففيها اختلاف العلماء.
وعندنا لا يؤكل إلا بتمام الذبح وهو قطع الأوداج والحلقوم .
أجاب أيضا إذا رفع يده ليختبر ثم ردها بالقرب أو للوقت فأنها
تؤكل , وانما يعتبر الطول والقرب لا قطع الأوداج والحلقوم . وأما الذي مر في
القطع ثم استرد قبل رفع يده فأتم فلا يضره وتؤكل الذبيحة .
أكيله السبع ومنفوذه المقاتل
وسئل وقيل له أجاب بعض الشيوخ عما يأخذ السبع من الغنم فيشق
(1/22)
________________________________________
جوفه. ونسخه الجواب: الشاه تؤكل إذا شق الجلد وأخذها من وقتها
ولم يقطع نخاعها, واختلف إذا أصاب شيئا من مقاتلها نخعها أو قطع المصير
أو الكرش هل تؤكل أم لا؟ والقياس الأكل للإجماع إلا ما شذأنها إذا
اعتلت أو صارت إلى الموت فسوبقت بالذكاه أنها لا تؤكل. فبين لنا ما عندك في
منفوذ المقاتل ولها حياه ظاهره, هل تؤكل كما تقدم من الجواب أم لا؟ وقد
كانت نزلت في رمح مركوز فمشى بعير بجواره فضربه الرمح في حلقه فجرى
البعير والدم يسيل, فبودر إلى نحره خوفا من الموت وبيع لحمه. وأخرى وهى
قوم نصبوا للوحش فوحل غزال برجله في المنصبة فهذا الغزال بنفسه بقوه مرارا
فانخلع من الغزال طابق منه وهرب الباقي منه, ثم حكم عليه وذبح
وبقى الربع معلقا في محله. فالذي كان عندي ان البعير والغزال لا يؤكلان
بعد الذكاه لا حياه الباقي منهما مستعارة. فهل تدخل هذه المسالة في المسائل
قبلها مما أنفذت مقاتله وان الصواب أكله على ما اختاره الشيخ المتقدم ؟
فاجاب الصواب عندي إذا ذبحت الشاه والحياه بها قائمه كما قال وقاله
من العلماء المتقدمين من له قدم في العلم وبه قال بعض أصحابنا إلا انه
[25/2]
[26/2]
لا يباع حتى يتبين, وكذا لا يطعمه لغيره حتى يتبين, إذ قد يرغب غيره في
الأكل. فالاحتجاج والمطالبة بالحجاج يطول أمرها, وليست بمسالة واحد اكتب
بالحجاج عليها. والبعير والغزال أمرهما على ما تقدم من وجوب الحياة فيهما
ظاهره بينه كالذي أصيب منها المقتل, إلا انه لا سبيل إلى البيع حتى يتبين
لمشتريها ويعرف بخلاف العلماء في ذلك. وكذلك مسالة الرافع يده قبل التمام
يجرى على هذا, تعمل الذكاه فيها إذا كانت حياتها ظاهره بينه. وأما ربع
الغزال الذي بقى وحده فلا يوكل . وأما الطائر الذي يضرب فيسقط, فان
ذكاه وحياته مجتمعه قائمه أكل, وان أدراك في غمره الموت يضرب وليس يبين
الحياة فلا يوكل, لأنه قد يكون موته من السقطة.
صلق البيض مع آخر فاسد, وذكاه الجراد
(1/23)
________________________________________
وسئل فقيل له هل رأيت بخط بعض الشيوخ وقد سئل عن البيض المصلوق
إذا صلق مع آخر فاسد انه لا يؤكل, والصواب أكله. ورأيت بخطه اختلف
في الجراد فقيل يذكى , وعلى هذا يحتاج إلى التسمية عند التذكية وينوى بما
يقع منه الذكاه. وإذا طبخ المذكي والميته لم يؤكل المذكي لسقى الميته له,
وهذه الرواية فيه , وقد يستحب ذلك للاختلاف فيه هل يحتاج لذكاه أم لا ؟
ولأنه لا ينفك منه الميت. وفيه أيضا ان القدر يطبخ فتسقط فيه الجرادة
فلا تؤكل لعدم تذكيتها , ويؤكل ما في القدر معها ولا يكون نجسا, فما
الراجح عندك فيها؟ فقيل فيها إنها نشره حوت ينشره في كل عام مرتين أو من
صيد البر فيحتاج إلى نية الذكاه, وهل تذكى بقطع أرجلها أو أيديها
أو أجنحتها أو في الحلق وزوال رأسها على القول بوجوب التذكية؟
فاجاب القول في البيض كما ذكر, ووجه القول بعدم أكله لأنه يشرب
من الفاسد, ووجه القول بأكله لعدم شربه من الأخرى ان قشر البيض
لا تتحلل أجزاؤه , بل هو في يابس كالحديد وشبهه إذا كان مع غيره
لا يدخله ما معه, والعيان يصدقه, وهو إذا صلق وجعل معه زعفران أو نيل
ثم ينظر إلى بياضه, فان وجد فهو يداخله, وان لم يوجد فلا يداخله فعليه
يتخرج الخلاف .
[26/2]
[27/2]
الخلاف في الغلصمه المنحازة إلى البدن عند الذكاه
وسئل عن الشاه تذبح فتصير الغلصمه وهى الجوزه وتسمى العقده
والحلقوم إلى البدن, فما اختيار كمن الخلاف فيها؟ وعن أجوبه من شيوخنا
الموتى: فيما أجابني به " أبو القاسم بن محرز " : الأظهر في المذهب أكلها,ومن
تورع لم يأكلها. ومما أجابني به " أبو الطيب الكندي " : لا اختار أكلها
ولا احرمها, ومن تصدق بها على الفقراء كان أخف . وأجابني " السيورى " أما
الغلصمه فما فيها حديث يرجع اليه , والحيوان كل ما يؤكل منه لا يؤكل إلا
بذكاه بإجماع, والغلصمه مختلف فيها, فلا يحل أكل ما اجمع على تحريمه إلا
(1/24)
________________________________________
بذكاه اجتمع الناس فيها . وما ذكرته عن " ابن أبى زيد " لا اعرفه, وكذا أبو حفص
والداودى , وكنت كتبت لهما ان لا يفتيا في الغلصمه بشيء لشده الخلاف فيها.
وكان عندي ان أبا مصعب اخبر عن أهل المدينة انهم لا يراعون الغلصمه
ولا يلتفون إليها. " ابن حارث " : إنها تؤكل مطلقا, وكثير من يسال عنها هل
يذكر له الخلاف ويتحرى لنفسه ما احب واشتهى . ولو نزلت بجزار فاراد
بيعها, فهل يمنع من ذلك إذا كثر من يشترى منه؟ أو يباع له مع التعيين؟
وان لم يوثق به في التعيين فهل يتصدق به عليه احب أم كره, ؟ أو يؤمر من غير قضاء ولا يحال بينه وبينهما ويترك يأكلها أو يدخرها أو يصنع بها ما شاء؟
وكيف لو غلب على الصدقه بها, هل يغرمها من أجيره عليها كالغضب
للحلال؟ وبلغني عن (السيورى) انه قال تدفن الذبيحة التي حيزت الغلصمه
فيها إلى البدن, تدفن بموضع لا يوصل فيها . فما تراه في هذه وفى الصدقه
على ربها ؟ وما اختيارك في الشاه المريضة إذا ذبحت فسال دمها ولم تتحرك
وكانت حيه قبل الذبح بلا شك فقال الذابح يدل عليه سيلان الدم؟
فاجاب الصواب عندي أكلها. وما ذكرته عن شيخنا " أبى القاسم " فيه
انما تعلق به من الاشراف "لابن المنذر" , وإذا حك مع الاصول لم يثبت,
والصواب أكلها. ومن احتاط بترك أكلها ان كان له من النظر ما يؤديه إلى
ذلك فلا يبيعها أو يتصدق بها حتى يبين, فان لم يوثق به في البيان فيجعل معه
من يوثق به وان لم يوجد إلا بأجره وتكون من عند البائع. وما ذكرته من
الدفن فيه صعوبة مسالة اجتهادية مختلف فيها , فيفتى بدفنها الا ان يكون ظهر
[27/2]
[28/2]
له من اجتهاده التحريم فيعمل في نفسه وحاله ما هو مطلوب باجتهاده وإلا
بغيره ممن هو بصفة التقليد يخبره بما ظهر له. ومن سالك عنها فبين له خلاف
المتقدمين والمتأخرين فيها. والشاه إذا كانت حيه في حال الذبح أكلت سال
دمها أو لم يسل, إذ الذكاه وقعت في حيه. هذا الذي يظهر لي.
ذكاه الشاه المريضة
(1/25)
________________________________________
وسئل مره أخرى عن شاه مريضه تأكل وترقد وربما مشت أياما فخاف
عليها أربابها الموت,فجاء الجزار فقال إنها على آخر رمقها, فامسكها الجزار
وذبحها ربها فجرى منها دم مخلوط بماء ولم يظهر منها تحرك جمله فخاف ربها من ذلك, فقال الجزار تحركت في يدي والدم السائل متوسط , الأشبه انه قليل.
ولما نحرها بعد سلخها سال منها دم قليل من المنحر وتحركت يدها بعد كمال
الذبح وقبل السلخ بوقت يسير. وما ترى في الشاه ذبحت فوجد في بطنها
خروف تم خلقه ونبت شعره أو لم يتم خلقه ولم ينبت شعره, والخروف داخل
السلا؟ فهل يجوز أكل السلا الموجود في بطن النعجة أو لا يجوز؟ وهو يخرج
بخروج الولد؟
فاجاب أما المريضة فينظر إلى حين الذبح ووضع السكين, فان كانت
حيه لم يلتفت بعد ذلك إلى غيره. وأما السلا فلا يؤكل لأنه بائن من النعجة.
إذا ذبحت بهيمة ووجدت مصارينها مقطعه أكلت
وسئل "ابن سحنون"عن رجل وقف على ثور راقد فقال لصاحبه ما خبر
الثور؟ فقال أشبعته الشعير, فقال بعينه على أن اذبحه ففعل, فذبحه فإذا هو
قد تقطعت مصارينه.
فاجاب أرى بيعه جائزا. فقيل له أيجوز أكله؟ قال نعم.
وسئل " السيورى" عن شاه أو دجاجه مريضه خيف عليها الموت فذبحت
فسال دمها ولم تتحرك, فهل تؤكل أم لا؟ وأفتى بعض الطلبه بعدم أكلها
فطرحت, فهل يلزم شئ أم لا ؟ وكذا ديك أطعم العجين ليسمن فدخل في
حلقه فخيف فذبح فسال الدم ولم يتحرك ونزلت, وقيل فيها لا يحل أكلها .
[28/2]
[29/2]
وبلغني عن بعض أصحابك الموتى انه حكى عن "مالك" أن سيلان الدم في مثل
هذه المسائل دليل الحياة وان لم تكن حركه, فهل هو صحيح أم لا؟
فاجاب إذا ذكاها وهو يستقين حياتها ما عندي غير ذلك.
بعير ضربه رمح مركوز ضربه قاتله لا تعمل فيه الذكاه
وسئل عن مسالة البعير فقيل له مشى فوجد رمحا مركوزا فضربه في
الحلق فسال دم وانكسر في حلقه فمر وهو يجرى من شده ما نزل به, فنحر
(1/26)
________________________________________
وبيع لحمه. فهل يسترد الثمن من البائعين؟ وهل يوكل ما بقى من اللحم أم
لا؟
فاجاب لا يوكل ويرد الثمن إذا كان قد أصابه في الأول ما لا يعيش
معه .
لا تباع ذبيحة اليهود المحرمة عليهم (طريفة) للمسلمين
وسئل عن قوم يهود ذبحوا الغنم لأنفسهم, فربما خرج لهم في ذلك
شئ يسمونه طاهورا فيبيعون ذلك ولا يبينونه, وما علمنا أن أحد منهم بين
ذلك. ومنهم من يذبح وهو جزار هذه صنعته ويبيع للمسلمين , فهل يمنع من
ذلك كل المنع؟ ويومر من وجد من اليهود بالبلد أن يذكروا ما يخرج طاهورا
ويتقدم اليهم وينهوا اشد النهى , فمن اطلع عليه عوقب؟ بين لنا ذلك .
فاجاب إذا وقع في ذبيحتهم ما لا يستحلونه فيبيعونه للمسلمين
ولا يبينونه فيمنعون من البيع في الأسواق , ولو في موضع يشترى منهم أهل
الأسواق .
تؤكل الإبل والبقر التي تعرقب ثم تذبح
وسئل "ابن أبى زيد" عن الإبل والبقر إذا عرقبها ثم أدركت ذكاته , وذلك
في عرس أو غيره, فهل تؤكل أم لا ؟
فاجاب بأنها توكل .
وسئل "القابسى" عن طائر يذبحه رجل فيضطرب في يده فيرفع السكين
ثم يعيدها فيتم الذبح , أتوكل؟
[29/2]
[30/2]
فاجاب فيها اضطراب يبين أصحابنا , فمنهم من قال هي بمنزل من
شك في صلاته فيخرج ثم يرجع بالفور فيتم صلاته وتجزئه , فكذا هذه
توكل , ومنهم من قال هي بمنزله من سلم على شك ثم رجع للإصلاح
فلا تجزئه , فكذلك هذه إذا رفع يده متيقن التمام ثم رجع فأتم فلا توكل .
قال " القابسى " : وسئل عنها ( أبو محمد ) فأجاب عنها مره بالأكل ومره بعدمه ,
فقيل له فما تقول أنت ؟ فذكر جواب " السيورى " المتقدم أما أن يحصل فيها ما
تعيش معه أم لا .
من سلخ محل الذبح ثم ذبح
وسئل عن رجل أراد ذبح تيس فعمد ألي إلى موضع منبت الشعر من
شدقيه فسلخ الجلد من ذلك الموضع إلى أن بلغ المذبح ثم ذبح .
فأجاب يجب على فاعل ذلك الأدب الوجيع بعد التقدم إليه في أن لا يفعله .
(1/27)
________________________________________
وأما الذبح بعد سلخ ذلك الموضع فينظر فيه , فان كان ذلك السلخ يكون
متلفا لا يحيى التيس بعد ترك لم يوكل بذلك الذبح , لأن الذكاه أريد به , وانما أخطا الفاعل
بما قدم من الفعل قبل الذكاه في الحالة , فلا يعود واحد إلى هذا الفعل .
يقتل القط والنمل المؤذيان
وسئل عن القط يؤذى ويأكل الفرخ أيقتل ؟
فاجاب إن عرف صاحبه أمر بالكف عن لأذى أو يضمن . ثم قال
الشيخ قيل " لابن طالب " قط أذانا هل يقتل ؟ قال نعم يقتل . ثم قال " ابن طالب
ابن ادام " إذا قتل قتل , فكيف البهائم ؟ وكان يأمرنا ونعلمه بالنمل الذين
كانوا يوذونه في سقفه , وكان لا ينكر علينا أن نقتله .
قال " القابسى " : وحدثنا بعض شيوخنا زياد أو غيره , عن " أبى عبد الله
الوقار الباجى " أنه قال : إذا وقعت نمله في قفيز دقيق لم يوكل , قيل له وايش
كان هذا الوقار ؟ قال كان من أصحاب "حمديس .
[30/2]
[31/2]
إذا تخلل الخمر طهر إناؤه
وسئل عن الرجل يعمل الخل فإذا هو كان في أول بدايته يغلى ويطلع في
الوعاء فإذا هو انتقض , فإذا صار خلا وطلب ان يصب منه صاحبه وصار الخل إلى
موضع الغليان أولا , هل يضره هذا ؟ أو كيف وجه العمل فيه إذا أراد ان
يصب ؟
فاجاب ان ما قصد به الخل فالعمل في صنعته من كثره الماء فيه غير
العمل فيما قصد به المسكر , كذا سمعت . وان ما قصد به الخل وأصاب
عامله وجه الصنعه ليس بتخمر ولا يكون مسكرا , فإذا كان كذلك ثم قصر
المكان الذي بلغ إليه الغليان , لان الغليان ليس هو الذي يحرم العصير , إنما
يحرمه ان يكون مسكرا , فإذا لم ينته إلى السكر لم ينجس وقد قالوا في الخمر
تتخلل في إنائها يجوز أكلها , ولم يشترطوا ما سالت أنت عنه , وما ذلك إلا
أنه إذا تخللت تخلل كل ما علق بالإناء منها لأنها ما دامت في الاناء فما علق
في الاناء منها فهو تخلل معها . فافهم وجه الكلام وبالله التوفيق .
الشاه القصير الذنب تجزئي في الأضحية
(1/28)
________________________________________
وسئل " السيورى " عن الشاه القصير الذنب من اصل خلقتها لا يعيبها
ولا ينقص من ثمنها .
فاجاب تجزئ في الأضحية . زاد ( ابن قداح ) : وان كان اقل من الثلث في
العادة.
يعطى من الأضحية للأجير والقريب والجار ونحوهم
وسئل هل يعطى من الأضحية للأجير ولمن يرجوا ان ينتفع به بسبب ما
يعطيه ؟ مثل من يخدم امرأته ويعلم ولده ولسقائهم بالأجر , وليست مما تدخل
في الأجر , لكن مكارمه بسبب خدمتهم , وهل قيل في الأولاد أنها غله
كالصوف واللبن فتكون الضحية بالخروف أخف من غيره ؟ أو لم يقل أحد ان
الخروف غله يستوي مع غيره ؟ وكذا في أكل اللحم فيما سوى الأضحية ؟
فاجاب ان كان لولا ما يعطيه من الضحية لم يخدمه ولم ينصفه في
[31/2]
[32/2]
الخدمه أو في وجه من وجها فلا يجوز ذلك , وان كان مكارمه لا لما ذكرناه
ولا في معناه فهو جائز . واختلف في أولاد الغنم هل هي غله آم لا , ولا شك
ان ما ثبت أنه ولد عند بائعه فهو أخف , وكذا ما غلب على الظن أنه ولد
عنده .
وسئل " التونسي " عن ذلك .
فاجاب : جائز أن يعطى من الضحية في أجاره ذابحها , وجائز ان يعطى منها لمن
يخدم الإنسان ويختص به , لأنه جائز , إلا أن يأكلها كلها فلا حرج عليه في
إعطاء من يخدمه . وأما كون الخروف غله فليس من قول أهل المدينة . قيل في سماع ( ابن القاسم ) : لا باس بإعطاء الظئر النصرانية تطلب فروه أضحية ابنها
ومن لحمها . ( ابن عرفه ) هذا يدل على إعطاء القابلة والفرن والكواش
ونحوهم , ومنعهم بعض شيوخ بلادنا .
تذبح الأضاحي بعد ذبح إمام الصلاة
وسئل " ابن رشد " عن ذبح الأضاحي , هل هي معتبرة بذبح الإمام الذي
تؤدى اليه الطاعة أو إمام الصلاة ؟
فاجاب : المعتبر في ذبح الضاحى الإمام الذي يصلى بالناس لأن
الأضحية معتبرة بالصلاة . والله ولى التوفيق .
إذا لم يخرج الإمام ضحيته إلى المصلى
وسئل من بعض طلبه بلنسيه فقيل له : جوابكم رضى الله عنكم في
(1/29)
________________________________________
نازله رأيتها عندكم ومسألة تقع في قطركم , وهى ان الإمام بكم يوم عيد
الأضحى لا يخرج أضحيته إلى المصلى فيذبحها عند انصرافه من الخطبة .
واعلم أعزك الله ان ذلك جائز وأن الأولى به اخراجها إلى المصلى . ثم ان
الناس ينصرفون بانصرافه ويوقعون الذبح , والإمام المذكور لا يذبح إلا عند
انصرافه إلى داره , وأكثر الناس يسبقونه بالوصول إلى دورهم فيوقعون ذبحهم
قبل ذبحه . فهل نقول ان عليهم الأعاده بإيقاعهم الذبح قبله ؟ أم نقول انهم
فعلوا ما يجب عليهم ولا يفتقرون إلى إيقاع ذبحه قبلهم والمراعاة للوقت؟
[32/2]
[33/2]
وهو قد أساء في تأخير الذبح وتركه إخراجه إلى المصلى فيوقع الذبح قبلهم .
نزلت عندنا بمرسيه وتذاكرنا فيها وذهبنا إلى مطالعه رأيك والوقوف عند فتياك ,
ولم أر أكرمك الله لأحد في هذا الغرض الذي ذهبت أسألك عنه كلاما ,
فتدبره بفضلك مأجورا مشكورا .
فاجاب تصفحت رحمنا الله واياك سؤالك هذا ووقفت عليه , والذبح
يوم النحر للضحايا مرتبط بذبح الإمام أضحيته على مذهب الإمام ( مالك ) رحمه
الله , فيجب على أهل بلد وقريه تصلى فيها صلاه العيد بجماعه أن لا يذبحوا
ضحاياهم حتى يذبح إمامهم الذي صلى بهم صلاه العيد . فمن ذبح قبل أن
يذبح إمامه وان كان بعد ان صلى وخطب فلا تجزئه أضحيته عند مالك
وأصحابه والشافعي وأصحابه , وعليه ان يعيدها على ما جاء من أن أبا برده
ابن نيار ذبح أضحيته قبل أن يذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعيد أضحية
أخرى . قال " أبو برده " لا أجد إلا جدعا يا رسول الله , قال وان لم تجد إلا
جدعا فاذبح . وقد قيل ان قول الله عز وجل يا أيها اللذين آمنوا لا تقدموا
بين يدي الله ورسوله نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يذبح رسول الله صلى الله
عليه وسلم , فأمرهم أن يعيدوا . ومن السنه أن يخرج الإمام أضحيته إلى
المصلى فيذبحها بيده عند فراغه من الصلاة والخطبة كي يذبح الناس بعده ,
(1/30)
________________________________________
وقد اختلف ان لم يفعل ذلك وأخر ذبح أضحيته حتى ينصرف إلى داره فيذبح
من غير تزان ولا تأخير . فان ذبح أحد قبل ذلك لم تجزه , وهو مذهب ابن
القاسم . وقيل ليس عليهم أن يؤخروا بعد صلاته إلا القدر الذي كان يذبح
فيه أضحية لو أخرجها إلى المصلى على السنه في ذلك , فمن ذبح بعد ذلك
أجزاته أضحيته , ذهب إلى هذا أبو مصعب من أصحاب مالك , وهو أظهر
من قول " ابن القاسم " . وأما ان منع الأمام من ذبح الأضحية مانع من عذر
غالب , فيلزم الناس انتظاره إلى زوال الشمس , وهو أخر وقت صلاه العيد ,
فان أمكنه الذبح إلى ذلك وإلا ذبحوا هم وأجز أتهم ضحاياهم . وذهب
أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الذبح مرتبط بصلاة الإمام لا بذبحه ,بدليل ما
روى عن " البراء بن عازب " قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
[33/2]
[34/2]
يوم الأضحى إلى البقيع فبدا فصلى ركعتين ثم اقبل علينا بوجهه ثم قال : ان أول
نسكنا في يومنا هذا ان تبدا بالصلاة ثم نرجع فننحر . فمن فعل ذلك فقد
وافق سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم عجله لاهله وليس من النسك في
شئ فقام خالي فقال يا رسول الله إني ذبحت وعندي جذعه خير من مسنة
فقال اذبحها ولا تجزى أولا توفى عن أحد بعدك . وما روى عن " جندب " قال :
يصلى فقال من كان قد ذبح قبل الصلاة فليعد فإذا صلينا فمن شاء ذبح
ومن شاء لا يذبح وما روى عن" أنس بن مالك " أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلى ثم خطب فأمر من كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحه . وهذا
لاحجه فيه على مالك رحمه الله , إذا ليس من أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بالاعاده لمن ضحى قبل الصلاة ما يدل على أجازه ضحية من ذبح بعد الصلاة
قبل ذبح الإمام , بل قد جاء عنه أنه أمر بالاعاده على ما ذكرنا من رواية " أبى
برده بن نيار " , واستدلوا لمذهبهم أيضا بحجج من طريق النظر لا تصح عند
أعمال النظر الصحيح , وبالله التوفيق .
(1/31)
________________________________________
وسئل الأستاذ " أبو سعيد بن لب " رحمه الله عن الأمام الذي يعتر ذبحه
يوم النحر .
فاجاب : وقع كلام في الإمام الذي يعتبر ذبحه , أهو الخليفة أم لا
الصلاة ؟ والظاهر أن المتقدمين من الفقهاء أغفلوا بيانها , وتعرض المتأخر ون
للفحص عنه فاختلفوا فيها . ومثار الخلاف فيها ظاهر , وهو أنه عليه السلام
كان المفتدى به في ذلك ثم الخلفاء بعده , فهل ذلك لأجل الامامه الكبرى
أو لإمامه الصلاة ؟ ذلك كله محتمل . قال " القرافى " : الإمام فيها هو الإمام المعتبر
شرعا , أما هؤلاء الذين يملكون بالقهر فحكم الناس معهم حكم من لا إمام
لهم , يقتدون بأقرب الأيمه إليهم بالتحري ورجح بعض الشيوخ طريقه ابن
رشد , لأن التضحية من توابع الصلاة , وهى معتبرة معها , فيظهر اعتبارا
إمامها . إلا ترى أن الحنيفه وجماعه يعتبرون الصلاة وقوعا , والشافعية فيما ذكر
" عبد الوهاب " وغيره يعتبرون الصلاة وقتا أي قدر ما تصلى فيه من الوقت وان
لم تفعل .
[34/2]
[35/2]
يستحب للمضحى ألا يحلق شعره إذا أهل ذو الحجة حتى يضحى
وسئل عمن يريد أن يضحى , هل له حلق شعره وتقليم أظفاره أم لا ؟
فاجاب : يستحب عند ( ابن القصار ) لمن أراد التضحية أن لا يقص شعره
ولا يقلم اظفاره إذا أهل ذو الحجة حتى يضحى . قال بعض الشيوخ : وعادتي
التنبيه على استحباب ذلك في الخطب وفى المجالس لمن أراد الأخذ بالفضيلة في
القصد إلى ذلك وبعدا عن الوقوع في المنوع على قول من يقوله , ولا سيما
والخطب في ذلك يسير . وقد كنت حفظت الاستحباب في ذلك قديما في عهد
الصغر من سيدي (ابن إسحاق ابن العاصي ) رحمه الله وغيره .
وسئل بعض التونسيين عن قولهم لا يذبح المضحى أضحيته إلا بعد
ذبح الإمام , هل المعتبر الإمام الذي تؤدى اليه الطاعة أو إمام الصلاة ؟
فاجاب : في ذلك التنازع بين الشيوخ , فعند ابن رشد المراد إمام الصلاة
إذا كان مستخلفا على ذلك . والصواب في بلاد افريقيه في البلد الذي فيه الإمام
(1/32)
________________________________________
الذي تؤدى اليه الطاعة ان يكون المعتبر ذبح السلطان , وفى غير بلد السلطان
المعتبر إمام الصلاة , لقول " ابن المناصف " وغيره : يجوز عند مالك كتب القضاة
إلى القضاة من غير اذن الإمام الذي ولاهم عليه , لأنه في ضمن ما ولاهم عليه ,
إلا إذا صرح بالنهى عن ذلك فلا يتعدوا ما ولاهم عليه . وهو مفهوم قول " ابن رشد " إذا كان
مستخلفا على ذلك , لأن مفهومه ان لم يكن مستخلفا على ذلك فالمعتبر
السلطان , وهو الموجود ببلاد السلطان بافريقيه لأن العادة جرت بذبحه , فهو
كالمستثنى لهذا النوع من عموم ما ولى عليه قاضى بلده , والله تعالى اعلم .
وسئل سيدي " عبد الرحمان الواغليسى " عن شاه الأضحية إذا اشتريت
بالدراهم ثم عدمت الدراهم , هل يجوز أن تعطى قيمتها طعاما أم لا ؟
فاجاب : يجوز ذلك والله اعلم .
لا يجوز بيع الكساء المنسوج من صوف الأضحية
وسئل عن صوف الأضحية إذا نسجها الفقير في كساء وألجأته الضرورة
[35/2]
[36/2]
إلى بيعها كضرورة الدين أو مثله إذ لا يجد إلا هي , أو نفقه الزوجة , هل
يجوز ذلك أم لا ؟
فاجاب لا يجوز ذلك والله أعلم .
إطعام الأجير من الأضحية جائز
وسئل " ابن برجان " عمن يستأجر أجيرا سنه بأجره معلومة , وعلى أن عوله
الأجير ومئونته على المستأجر في بيته ومع عياله , فهل يجوز أن يطعمه من لحم
اضحيته أم لا ؟
فاجاب إطعامه على وجه المعروف جائز والله أعلم .
وسئل سيدي " أبو القاسم الغبرينى " عن الخرزة التي توجد في البقره
المضحى بها هل يجوز بيعها أم لا ؟
فاجاب أنه لا يجوز بيعها , وهى كغيرها من أجزائها . والله أعلم .
يجوز للفقير ان يبيع ما تصدق به عليه من الأضحية
وسئل سيدي"عمران المشدالى " عمن تصدق بشيء من أضحيته على
فقير ,هل يسوغ للفقير بيع ما تصدق به عليه من ذلك ؟
فاجاب ذكر الشيخ (أبو الحسن اللخمى ) في ذلك قولين واستحسن القول
بالبيع .
وأجاب غيره بأن قال : قال في المدونة : ولا يبيع من أضحيته لحما الخ ,
(1/33)
________________________________________
وظاهره أن من تصدق عليه بشيء من الأضحية أو وهب له فانه لا يجوز بيعه
لعدوله عن قوله ولا يباع كما قال في الرسالة إلى قوله ولا يبيع , فانه انما
خاطب المضحى , وهو قوله أصبغ قياسا على الزكاة إذا بلغت محلها . وقيل ان
بيعه لا يجوز , قاله " مالك " . وبالأول قال " ابن رشد " , واضطرب من كان معاصرا
(لابن عبد السلام ) فيها حتى ألف بعضهم على بعض . وزعم الشيخ ( أبو محمد
ابن عبد السلام بن غالب المسراتى القبيرانى ) في وجيزه أن الأول هو المشهور ,
وقبله حينئذ , وفيه نظر , لأن ادعاء المشهور في مخالفه من خالف إمام المذهب
لا يمكن إلا ان يكثر قائله وكانت أصوله تشهد له والله تعالى أعلم .
[36/2]
[37/2]
يجوز إطعام الضيف من الاضحيه
وسئل " أبو الحسن ابن الحديدي " عن الأضحية أيطعم منها ربها الضيف
وأجير خدمه البيت أو البناء أو الحفار أو الحصاد أو الخياط أو النفاض ؟
فاجاب : له ان يطعم منها الضيف ويصنع منها الطعام ويأكله كل
مسلم , بخلاف اليهودي وأجير الخدمه ومن ذكرت معه , فانه ليس له ان
يستعين في نفقه واحد منهم بشيء منها لا لحما ولا ودكا , ولا غيره , والله
أعلم .
إذا مرضت شاه الأضحية وذبحت قبل يوم العيد جاز بيع لحمها
وسئل سيدي " قاسم العقبانى " عن رجل اشترى شاه بنيه الضحية , في أيام
العيد , فلما كانت ليله العيد مرضت وخيف عليها فذبحت هل لربها بيع لحمها
أم لا ؟
فاجاب : له بيع لحمها في المشهور لما حدث بها من العيب ما لا يجزئ به ,
والله الموفق بفضله .
إذا اختلط جلد أضحية بغيره عند دباغ تصدق بثمن جلد
وسئل عن دباغ عنده نحو الستين جلدا في الدباغ , وفيها جلد أضحية
فاختلط بها وجهل وأراد بيعها , هل يبيعها كلها ويتصدق واحد منها ؟ أو
يختار منها واحدا وتجرى فيه أحكام الضحايا ؟ أو يحرم بيعها كلها كاختلاط
الميتة بالذكية ؟
فاجاب يسوغ له بيعها واحدا واحدا , إذ ما من واحد يقصد إلى بيعه
(1/34)
________________________________________
إلا والظن القوى انه ليس جلد الأضحية , وذلك مسوغ للبيع . فإذا أتمها
أخذ منها ثمن جلد , ثم ينوى أنه جلد الأضحية الذي كان اختلط عليه
وتصدق بذلك كما اختار ( ابن القاسم ) , أو اشترى ماعونا يستعمله في داره كما
كان يستعمل الجلد كما اختار (سحنون ) والله الموفق بفضله .
[37/2]
[38/2]
استشكال قول المازرى عن القابسى : لا يباع ما ذبح قبل صلاه العي
وسئل " أبو عبد الله محمد بن مرزوق " رحمه الله عن قول " المازرى " في المعلم
عن " القابسى " : لا يباع ما ذبح قبل صلاه العيد , لحديث " هي خير نسيكتك " . قال "عياض " : وفيه نظر , فانظر هل نظر إلى مجرد الاستدلال ؟ أو استشكال الحكم
وهو المنع من البيع ؟ وفى اقتصار(المازرى ) على نقل هذا عن " القابسى " فقط
مناقشه , ومن حقه ان ينقله عن "ابن القاسم " حسبما وقع له ذلك في ( العتبيه ) , إلا ان يريد (المازرى ) انفراد ( القابسى ) بالاستدلال بالحديث . ولعل محل
نظر (عياض ) انما هو استدلال( القابسى ) , والذي ينقدح لي في بسطه ان الفقه
جمع أحاديث الباب . وفى بعض طرق " مسلم " : فإنما هو لحم قدمه لاهله ليس من النسك في شئ ,فهذا ظاهر أو نص في جواز البيع لاقتران الجملة
الابتدائية بانما الحاصره , ثم لم يكتف بذلك حتى أردف ذلك بجمله أخرى
مؤكدة لمضمون السابقة , ودل عن ليس بنسك إلى قوله من النسك في شئ
لكمال التأكيد والمبالغة في نفى نسكه , فجاء على تركيب قوله تعالى ومن يفعل
ذلك فليس من الله في شئ ,ولا يخفى على من له ذوق ما في هذا من كمال
التبرى , وهذا الدليل الدال على انتفاء كونه نسكا , فيجوز حينئذ البيع لا
يقاومه ولا يقاربه حديث " هي خير نسيكتك " ,لأنه سماها نسيكه مجازا لاعتقاد
(أبى برده ) فيها ذلك . والقرينه لهذا المجاز حديث "فإنما هي لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شئ .وأما (ابن زرقون ) فقد اتفق له هنا قصور حيث غفل عن
كلام " القابسى " ونص العتيبه فانظروا.
(1/35)
________________________________________
فاجاب نص المعلم على ما في الإكمال : قال الإمام "أبو الحسن
القابسى " فيه دلاله على ان ما ذبح قبل الإمام انه لا يباع وان كان لا يجزئه ,
لأنه سماه نسيكه , والنسك لا يباع انتهى . وبعده قال " القاضي " وفى هذا نظر
انتهى . وكلام ( القابسى ) محتمل لأن يكون قصد استنباط الحكم من دليله
المذكور , ويحتمل وهو أظهر الاحتمالين ان يكون نبه على ان هذا اللفظ من
دلائل الحكم المقرر من أن ما ذبح قبل الإمام وقصد به النسك جهلا لا يباع .
وانما كان هذا أظهر الاحتمالين لأن هذا الحكم مشهور من قول " ابن القاسم "
في ( العتبيه ) في هذه وفى نظائرها ومن قول غيره أيضا , فكيف يخفى مثله على
[38/2]
[39/2]
مثل (القابسى والمارزى ) ؟ ولو تيقن قصده بهذا الاستنباط الحكم لم يقل اخذ عليه
كما يوخذ على (المارزى ) ان كان قصده انفراد ( القابسى ) به . وأما " القاضي " فكلامه
يحتمل لما ذكرتم من كلا الأمرين على البدل , ولثالث وهو ان يكون نزاعه في
الأمرين حميعا إلا ان للراجح أيضا صرف نظره إلى الاستدلال , كما انه
الراجح عند "القابسى " ليتوارد على محل واحد . والظاهر ضعف النظر
لا بالنسبة إلى الحكم ولا بالنسبة إلى دليله .
أما الحكم فلشهرته ولشهره أصوله وكثرتها في مذهبنا , قال في ( العتبيه ) في
نص هذه المسالة مع نظير لها سماع عيسى عن "ابن القاسم " في رسم باع
شاه من كتاب الضحايا : وسئل " ابن القاسم " عن الرجل يظن ان يوم التروية
من أيام النحر فينحر فيه , وهل له ان يبيع لحم تلك الأضحية ؟ قال لا يبيعه
ويضحى بأخرى , وهو مثل من نحر قبل الإمام يوم النحر انه يعيد أخرى ولا
يبيع من تلك الشاه شيئا انتهى .
ومن نظائرها أيضا ما ذكر قبلها في السماع المذكور من رسم أوصى ان
ينفق على أمهات أولاده , في الرجل يخطى فيذبح غير كبشه الذي أعده
للأضحية والمذبوح لغيره فان للذي ذبح كبشه أخذ لحمه لا غير ,
(1/36)
________________________________________
أو وأخذ قيمته يوم ذبحه , قال ولا أرى للذابح ان أعطى القيم أن يبيعه , وليأكله
أو يتصدق به , وأكرره له بيعه انتهى , باختصار . وفى النوادر : قال " ابن حبيب "
ومن جهل فضحى بما لا يجزئه من ذات عيب فلا يبيع لحمها وان أبدلها لأنه
ذبحها نسكا وان جهل أو لم يعلم بالعيب , وكذلك الذي يضطرب قبل الذبح
فيكسر رجلها أو يقفا عينها فتمادى فذبحها فلا تجزئه , ولكن لا يبيع لحمها
انتهى , ويشبه ان يكون أشار في الضحايا من المدونة إلى أصل هذه المسالة
بقوله : قلت فان باعها واشترى دونها ما يصنع به وبفضله الثمن ؟ قال " مالك "
لا يجوز أن يستفضل من ثمنها شيئا , وأنكر الحديث الذي جاء في مثل هذا
انتهى . ووجه مناسبته لمسألتنا انه منع ان يصرف ما نوى به القربة إلا فيما
نواه , ولو لم يتم ما نواه . وهذه اشاره اجماليه وعليك إتمامها تفصيلا . وتممها
محمد فقال : ان اشترى بدون الثمن مثلها أو خيرا منها تصدق بالفضلة .
وقريب منه لابن حبيب أبين من هذه الاشاره قوله في الحج الثاني هدى
[39/2]
[40/2]
التطوع , ثم قال بعد ذلك هذا قال " مالك " : وكل هدى مضمون ملك قبل
محله فلصاحبه ان يأكل منه ويطعم من شاء من غنى أو فقير , لأن عليه بدله ,
ولا يبيع من ذلك لحما ولا جلدا ولا حبلا ولا خطاما ولا قلائد . ولا يستعين
بذلك في ثمن البدل انتهى . فهذا كما ترى جعل له حكم الهدى المجزئ في
منع البيع وان لم يكن مجزئا , وما ذلك إلا لما نوى به من القرب وأنه على
صورتها . وله في المدونة وغيرها غير نظير يمنع من تتبعه كون القصد خلافه ,
ومنه ما نظرت به المسالة من ظهور العيب في عبد أعتق عن واجب وما
ذكروا في الوصايا بالعتق . ومن هذا الأصل الأمر باتمام الحج الفاسد أو بعض
الصوم الفاسد . وأجرى أحكامه على أحكام الصحيح وان كان لا يجزئ
وأصل ( ابن القاسم ) إتمام الفاسد في العبادات وان كان لا يعتد به , كقوله فيمن
(1/37)
________________________________________
صام أربعه عن ظهار ين ثم ذكر انه نسى منها يومين مجتمعين لا يدرى
موضعهما انه يصوم يومين يصلهما ويقضى شهرين . ومن ذلك قوله فيمن كان فى
التشهد فشك في محل سجده انه يسجد ويأتي بركعة , وكذلك ما يناسب
الاتيان بركعة من فروع هذه المسالة , ولا يبعد ان يكون من هدا قوله فيمن
صام يوما قضاء عن مثله في رمضان , ثم ذكر في أثنائه انه كان قضاه أنه لا
يتمه . كما لا يبعد ان يكون من جنس هذا الأصل ترتيب أحكام النكاح
الصحيح على الفاسد التي لا ملك فيما العقده فيه للبائع , والجامع لهذا المعنى إعطاء
الفاسد حكم الصحيح . وقد يستدل لهذا الحكم بقوله تعالى ولا تبطلوا
أعمالكم . والمراد ترتيب ما يختص بكل عمل عليه , وهذا عمل يترتب عليه
منع البيع فلا يبطل .
معنى الشرعي يشمل ما هو صحيح وفاسد
لا يقال : الأعمال الشرعية : والفاسد ليس بشرعي
لأنا نقول لا نسلم ان معنى الشرعي الصحيح خاصة . بل ينطلق
شرعا على الصحيح والفاسد على المختار في ذلك , خرج من الايه ما دل
[40/2]
[41/2]
الدليل الشرعي على أبطاله , فيبقى ما لا يدل على ذلك فيه منهيأ عن
أبطاله . وأما دليله من الحديث الكريم فمن قوله صلى الله عليه وسلم خير
نسيكتك من وجوه .
الأول تسميتها نسيكه , والأصل في الاطلاق الحقيقة
, فيجب الحمل
عليه عملا بالدليل السالم عن المعارض ودعواه .
قولكم في جمع أحاديث الباب يجب العمل على المجاز , لقوله صلى الله
عليه وسلم " ليس من النسك في شئ "لما في هذا التركيب من المبالغة في نفى
النسيكه عنها على ما لا يخفى . قلنا :سيأتي جوابه .
الثاني أنه صلى الله عليه وسلم سوى بين الأولى والثانية في أضافتها إلى
المخاطب بوصف النسيكه , فوجب اعطاء الأولى حكم الثانية في منع البيع إذ
هو من لوازم النسك . هذا والاشتراك في الملزوميه يوجب الاشتراك في اللازميه
ويؤيد انه لو لم يقصد ترتب أحكام النسيكه على الأولى لقال خير شاتك أو
ذبيحتك ونحوه .
(1/38)
________________________________________
فان قلت : بل تخصيصها بالاضافه اليه دليل على ان تسميتها نسيكه انما
هو بالمجاز لاعتقاد المخاطب ذلك , وإلا لقال خير النسيكتين أو النسكين ونحوه
من دون تقييد بالاضافه إلى المخاطب ليثبت كونه كذلك في نفس الأمر أو
باعتبار الحكم الظاهر المشروع من تحريم بيع وغيره .
قلت : هذا مشترك الالزام , إذ لو صح ما ذكر السائل للزم ان لا
تكون الثانية نسيكه حقيقة , فيجوز بيعها , وبطلان اللازم ظاهر لا لملازمه
ما ذكر المسائل .
لا يقال : مقتضى الأصل ان لا تكون الثانية أيضا نسيكه حقيقة
كالأولى , لأنها من السن الذي لا يجزئ في هذا النسك , وانما ذلك رخصه في
حقه , ولذلك أضيفت اليه , لكن خصصت الثانية بقوله صلى الله عليه وسلم
" تجزئك " , فبقيت الأولى على الأصل الذي اقتضاه تخصيص الاضافه من ان
ذلك ليس بنسك حقيقة .
[41/2]
[42/2]
لأنا نقول الذي خصصت به الثانية كونها تجزئه . لا تسميها نسيكه ,
وأيضا أخباره صلى الله عليه وسلم بأنهما نسيكتاه دليل انهما نسيكتان في نفس
الأمر , إما مطلقا أو باعتبار المخاطب , وعلى كل حال فانهما من النسك
الشرعي , لقوله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي قضى بكونها
كذلك إما ابتداء فيهما , أو تقريرا لاعتقاد المخاطب فيهما , أو ابتداء في الثانية
وتقريرا لاعتقاده في الأولى وهو الظاهر .
الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم خير , فانه أفعل تفضيل , الاصل فيه
اقتضاء المشاركة بين المتفاضلين في الشيء الذي وقع فيه التفضيل إلا مجازا ,
لكن الأصل عدمه وعدم الدليل الدال عليه , فهذا هو الخير الذي وقع فيه
التفضيل هنا هو في الثانية باعتبار الثواب المرجو في القربة اتفاقا فليكن
كذلك في الأولى عملا بهذا الأصل السالم عن المعارض ودعواه , إذ لو كان
المراد بالخير في الأولى خير الدنيا لكان على خلاف الأصل الذي اقتضاه أفعل
من المشاركة إذ لا مشاركة بين خير الدنيا والآخر إلا في الاسم . فثبت بهذه
(1/39)
________________________________________
الوجوه ان الأولى نسيكه حقيقة , وكل نسيكه لا تباع , فالأولى لاتباع . ومما
يوافق الاستدلال بمثل هذا اللفظ من بعض وجوهه قوله صلى الله عليه وسلم
لأبى برده حين قال "عجلت نسيكتى : اعد نسكا ", فسماه نسكا . وهذا للفظ
قوى في تسميته بذلك لانه لم يضفه اليه .
ولا يقال : قوله أعد لما أقتضى عدم الاعتداد بالأولى دل انه لا يسمى
نسكا شرعيا .
لأنا نقول :الاعاده تقتضي مادتها التعلق بمثل المعاد , وادعاء التخصيص
في تلك المثلية يحتاج إلى دليل , الأصل عدمه , إلا ما دل العقل على انه لابد
من التخالف فيه . وأيضا فالمسمى الشرعي ليس معناه الصحيح على ما اختاره
( ابن الحاجب ) من الأقوال فيه حسبما نص عليه في باب المبين والمجمل . ومما
يوافق الوجه الأولى من وجوه هذا الاستدلال ما في أول كتاب الضحايا من
" مسلم " من تسميه الأولى أضحية , وفى آخر الباب أيضا من حديث " أنس " قال :
"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أضحى فوجد ريح لحم فنهاهم أن يذبحوا , قال من كان ضحى فليعد ,فسماها رسول الله صلى الله عليه
[42/2]
[43/2]
وسلم ضحية بما دل عليها الاشتقاق , والأصل الحقيقة فلا تباع . وأما ترجيح
المجاز بقوله صلى الله عليه وسلم ليس من النسك في شئ فنفى عنها معنى
النسيكه نفيا عاما , فيقال هذا العموم المشار اليه مستفاد من شئ على ما لا
يخفى , فلم يبق إلا ان يستفاد من النسك , وحينئذ تمنع دلاله اسم الجنس
المفرد المحلى بأل على العموم , كما هو أحد القولين فيه . ومثل هذا البحث
( لابن عبد السلام ) في أول كتابه عند قول (ابن الحاجب ) والدم المسفوح نجس .
سلمنا دلالته كذلك على العموم على ما اختاره ( ابن الحاجب ) وغيره , لكن لا
نسلم ان أل فيه للعموم أو لتعريف الجنس , بل هي للعهد , أى ليس من
النسك المجزى في الضحايا أو في شئ من صور الأجزاء لا للفقراء ولا
ينافى أن يكون له غير هذا الحكم من أحكام نسك الضحايا , كتحريم البيع
(1/40)
________________________________________
المتنازع فيه . سلمنا ان أل في النسك للعموم , لكن يجب تخصيصه بالمجزى
للقرينه الدالة عليه , وهى كون سياق الكلام فيما يجزى أضحية وما لا يجزى ,
ولا يلزم نفى ما سوى ذلك من أحوال , والجمع بين الدليل الدال على كونها
من النسك وهى تسميتها بذلك كما مر , والدليل الدال على انها ليست منه كما
اعتبرتموه .
ولا يقال : ليس الجمع بينهما ما ذكرتم من حمل النسك على المجزى
باعتبار هذا دون الآخر ترجيح من غير مرجح , بل ان لم يترجح الجمع بكون
نسيكه مجازا بما ذكر من التأكيد في سلب النسيكه عنها , فلا أقل من أن يقابل
هذان الوجهان من الجمع فيتساقطان , ويبقى تقابل الدليلين على حاله
فيساقطان أيضا فلا يبقى دليل على منع البيع .
لأنا نقول : الجمع بين الدليلين ما أمكن أولى من إلغائهما أو إلغاء
أحدهما وقد أمكن إما بتأويلنا أو بتأويلكم فلا يتساقطان . وما ذكرتم من
تقابل وجهي الجمع أو أرجحيه , ما جمعتم به غير مسلم , بل الراجحيه لما جمعنا به على ما نص عليه ( ابن الحاجب ) وغيره في ترجيح بعض المتون على
بعض عند تعارضها , أن تخصيص العام منها أولى من تأويل الخاص , لكثره
[43/2]
[44/2]
الأول وقله الثاني بالنسبة اليه , وهذه هي عين مسألتنا . وأيضا لو سقط
الاستدلال بخير نسيكتك على منع بيع الأول لكون تسميتها بنسيكه مجازا لسقط
الاستدلال به على منع بيع الثانية أو على كونها نسيكه حقيقة , لان هذا الفظ
دل من وجهه واحده على شيئين على سبيل النصوصيه , وكل لفظ كذلك لا
يعمل في واحد منهما دون الآخر . أما على القول بمنع استعمال اللفظ في حقيقته
ومجاز فظاهر , لانه عنده حينئذ إما فيهما أو مجاز فيهما فيستويان في
الأحكام , هذا على القول بجوازه حقيقة . وأما على القول بجوازه مجازا لا
حقيقة فأظهر في لزوم التالي للمقدم كما ذكرنا . ولا يخفى عليك بعد هذه
النكتة الأخيرة والخروج إلى هذا الأصل ما يؤول اليه البحث في هذا المسالة ,
(1/41)
________________________________________
فلنقتصر على ما أشرنا اليه من مباديه , واليك تمامه : سلمنا أن ما جمعتم به
أرجح وان تسميته الأولى نسيكه مجازا لكنكم بنيتم بحثكم في تضعيف منع
البيع واباحته على ان عله منع البيع متحدة , وهى كونها نسكا ضحية , وعلى
ان هذه العلة انتفت , فان تسميتها نسيكه مجاز , فينتفي الحكم , ونحن من
وراء المنع في المقامين .
أما الأول فلجواز كون منع البيع معللا بقصد الذابح النسك وان جهل
كونه مجزيا كما أشرنا إلى هذا الأصل فيما تقدم , وكما نص عليه (ابن حبيب ) في
التضحى بالمعيبة كما تقدم , والجامع ان كلا منهما لا يجزئ أضحية , فتبين عدم
انحصار عله منع البيع فيما ذكرتم . ولعل قصد ( أبى برده ) النسك بألاول هو
الموجب لأضافتها اليه في قوله صلى الله عليه وسلم " نسيكتك " أى بجعلك الأول
كذلك .
واما الثاني على تقدير تسليم الأول فمبنى على اشتراط عكس العلة , وفيه
من الخلاف ما قد علمت . فتلخص من هذا ان استدلال ( القابسى ) أو غيره
على منع البيع بلفظ الحديث ليس هو من حيث أن يقتضي كونها نسكا مجزئا
في الأضحية , فانه منفى بقوله " ليس من النسك في شئ " بل من حيث قصد
النسك بها . وربما يقوى هذا الاعتبار قوله في الحديث ان هذا " يوم اللحم فيه
مكروه أو اللحم فيه مغروم وأنى عجلت نسيكتى لأطعم أهلي وجيراني أهل دارى "
وفى معناه أيضا قوله " وذكر هبه من جيرانه " وهذا يدل على أنه قصد
[44/2]
[45/2]
بهذه الذبيحة التقرب إلى الله تعالى أما ضحية أو صدقه , وهو قصد مانع
البيع .
تنبيه : قولهم سماها نسيكه مجازا لاعتقاد ( أبى برده ) ذلك ظاهر الاشاره
بنقلك إلى اعتقاده القربة بالطلاق واعتقاده كذلك حقيقة لا إلى اعتقادها
قربه مجازا , لأنا لا نطلع على ذلك , ولأن الظاهر من أمره اعتقاد الحقيقة ,
وحينئذ يكون المعنى سميت قربه مجازا لاعتقاده ( أبى برده ) كونها قربه حقيقة ,
(1/42)
________________________________________
وحينئذ يقال هذه عله غير مطابقة لمعلولها ومحتاجة لنص يدل " خير نسيكتك "على اعتبارها
علاقة مصححه للإطلاق المجازى . قد يجاب عن هذا الأخير بأنه قيل مثله في
مثل قوله تعالى أصحاب الجنه يومئذ خير , وأي الفرقين خير , فسمى ما هم
فيه خير لاعتقادهم ذلك وان كان الأصح في وجه التسمية غير هذا . والاشبه
في الحديث ان يقال سميت ذلك مجازا إما على معنى القول بالموجب لأنه
سماها نسيكه في قوله "عجلت نسيكتى " واما من المشاكله وهو تسميه الشيء
باسم غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا نحو :
وقالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه
فقلت اطبخوا لي جبه وقميصا
أى خيطوا لي , وتقديرا نحو صبغه الله . والحديث محتمل لأن يكون من
التحقيق أو التقدير . وأما ( ابن زرقون ) وان قصر في البحث عن النقل فقد بان
فضله في ترجيحه ما وافق النقل حيث قال : هو الظاهر أنه لا يجوز , وقد تقدم
قول النبي صلى الله عليه وسلم " خير نسيكتك " , فسماها نسكا لأنه قصد بها
النسك انتهى . واستدلاله موافق لما قدمنا .
يكره طعام العقيقه ويجوز للمدعو ان يأكل منه
وسئل سيدي " على بن محسود " عن طعام العقيقه الذي كره مالك الدعوة
اليه , هل يحل لمن دعى اليه أكله إذا أجاب أم لا ؟
فاجاب : أما ما ذكرت من كراهه مالك لذلك , فانما كرهه للصانع لا
للمصنوع اليه , وأكله حلال , وانما كرهه لصانعه من أجل السمعه والفخر .
وأما ما كان منه قبل السابع أو بعده فلا كراهه فيه لأنه لا يعتد به عقيقه ولا
يجزئ عنها , وكذلك ما لا يجزئ فيها , والله تعالى اعلم .
[45/2]
[46/2]
[46/2]
[47/2]
نوازل الأيمان والنذور
الأصل افراد كل يمين بكفارتها وعدم اشراكها مع غيرها
سئل سيدى " أبو عبد الله الشريف التلمسانى " رحمه الله من قبل شيخ
الشيوخ بغرناطه الخطيب الأستاذ " أبى سعيد فرج بن لب الغرناطى " رحمه الله
عمن حلف بثلاثه أيمان بالله فحنث فيها فكفر عنها بعتق واطعام وكسوه ,
(1/43)
________________________________________
ونوى ان كل واحد من هذه الثلاثه عن الأيمان الثلاثه , قال ابن المواز لا يجزئه
ذلك , وقد بطل العتق , ويجتزئ من الاطعام بثلاثه مساكين , ومن الكسوه
بثلاثه أيضا , فيكسو سبعه ان أحب ويطعم سبعه ويكفر عن يمين اخرى بما
أحب من طعام أو كسوه أو عتق , وان أحب أن يكسو ما بقى من الكفارتين
أو يطعم , فليكس سبعه عشر أو يطعم سبعه عشر , لأن الذى صار له من
الكفارات من الكسوه ثلاثه ومن الاطعام ثلاثه . قال " اللخمى " هذا غلط ,
وأرى ان يحتسب بثمانيه عشر على القول ان له ان يجمع فى الكفاره الواحده
بين الاطعام والكسوه , وعلى القول الاخر بمنع التلفيق يحتسب بتسعه , لأنه
أطعم عشره عن ثلاثه ايمان تجزئه منها ثلاثه عن كل يمين , ويبطل مسكين
واحد لأنه اشرك فيه , وهكذا فى الكسوه انتهى كلام " اللخمى " , وذكر
" ابن أبى زيد قول ابن المواز " كما وقع له ولم ينبه فيه على شئ , وقال " ابن بشير "
اذا بنينا على نفى التلفيق فقال " ابن المواز " فيمن أشرك فى ثلاث كفارات
فأطعم وكسا وأعتق أنه يكتفى بسته مساكين وهو ثلث كفارتين لأن العتق بطل
للتبعيض وقد اعتقد ان ثلث كل واحده من الكفارات مجزئه عن واحده فتبطل
سبعه من كل واحده من الكسوه والاطعام لأنها ثلثا العشره بالكسوره وتبقى
[47/2]
[48/2]
ثلاثه عن كل واحده ويبطل العتق جمله لأنه لا يتبعض , وأنكر " اللخمى " هذا
ورأى ان تجزئه تسعه لأنه لفق من كل واحده من الكفارات الثلاث ثلاثه
فجاء من الجميع تسعه , والذى قاله " ابن المواز " ان واحده قد قصدت بالعتق
فيبطل ما يقابلها جمله , " واللخمى " رأى ان القصد بالكفارات عن الثلاث
فيحتسب منها بثلاثه عن كل كفاره فيتحصل من ذلك تسعه انتهى .
قلت : والذى يظهر لى من مقصد " ابن المواز " وتفسير " ابن بشير " ان العتق
لما بطل بتبعيضه بطلت كفاره براسها اعتبارا بقصد الشرع فى ان العتق كفاره ,
والاطعام كذلك والكسوه كذلك , ولما اصحبه المكفر للكفارتين الباقيتين
(1/44)
________________________________________
والاطعام والكسوه وأوقعه منهما موقع الثلاث من الثلثين على اقتراق بطل
ببطلانه ما قابله من كل واحده اعتبارا بقصد المكفر ولم يسلم له انه من المقابله
فى الكفارتين ولا الثلث من هذه والثلث من هذه وهما اللذان خلفا الرقبه عند
سقوطها منهما للذى ضمها , ثم يسقط كسر الكفارتين وذلك اثنان يبقى سته منهما
معا فضم منهما خلف العتق وبطل المصاحب وهو المقابل , وابطاله ليس بقوى فى
النظر , وهو بمنزله ما يقوله فقهاء المذهب فى الصفقه اذا جمعت حالا وحراما
أنه يبطل الجميع فى احد القولين .
فأجاب الحمد لله , قلت مستعينا بالله متوكلا عليه : أما مسأله " ابن
المواز " ففرضنا فيها يتبين بتمهيد أصل وهو من المكفر له ثلاث حالات :
الحاله الاولى : ان يفرد كل يمين بكفارته وهذه الحاله يقطع فيها
بالجزاء بل الاجماع عليه .
الحاله الثانيه : أن يشترك بين الأيمان فى الكفارات بذكر " ابن المواز " عن
" ابن القاسم " قولا بالاجزاء قال أظنه قول مالك , وقولا بعدمه قال وقاله
أشهب .
قلت : وعدم الاجزاء هو مذهب المدونه وهو الصحيح , لأن الكفارات
الملفقه زائده على الكفارات الثلاث البسائط لصحه سلب كل واحده منهن
عنها , فكان فى الحكم باجزائها ابطال للنص الوارد فى الحصر فى الثلاثه
البسائط , وكل ما يكر على الأصل بالابطال فهو باطل , فالقةل بالجزاء
باطل . ولذلك بطل اخراج القيم فى الزكوات والكفارات .
[48/2]
[49/2]
فان قلت : لما كانت الكفارات الثلاث متحده المرتبه حتى تمكن المكلف
من اختيار كل واحده منهن , لزم أن يكنت سواء فى معنى التكفير اى الجبر
والحلف عن البر الفائت بالحنث , ثم لا يضر تفاوتهن بعد ذلك فيما عدا الخلفه
ولذلك لما قصر الصيام عنهن فى الرتبه لم يشرع خلفا الا بشرط العجز عنهن
كلهن . واذا تساوين فى معنى التكفير كانت نسبه الجزء الواحد منهن الى كل
جمله منهن اى كفاره كانت نسبه واحده , لما علم أن نسبه الشئ الواحد الى
(1/45)
________________________________________
الأشياء المتساويه نسبه واحده , ولذلك يلزم ان يكون جزء كل جمله مساويا
للجزء النظير له من الأخرى فى معنى التكفير , فكانت خمسه الكسوه مساويه
لخمسه الاطعام , ولزم صحه القول بالتلفيق . ولهذا المعنى اختار " اللخمى "
القول به لسد كل واحد منهما مسد الاخر . كالتلفيق بين عشره دنانير ومائه
درهم فى تكميل النصاب , فان كل واحده من النقدين كالاخر فى معنى النماء
الحاصل بمعالجه التجاره , وفى تقويم المقومات وفى عدم تعلق الاغراض
بأعيانها , وفى الأمر المناسب لوجوب الزكاه وهو الغنى , فانه نعمه تستدعى
شكرا . فلما اتحد وهو اخراج ربع العشر فيهما لزم كونها سواء فى نعمه الغنى ,
اذ تتفاوت النعمه بتفاوت الشكر , ولهذا الأمور التى ذكرناها لم يتلفق بين
أجزاء العين والحرث والماشيه نصاب , ثم التلفيق بين النقدين فى ذلك بالجزء
لا بالقيمه , فلذلك لم تجب الزكاه على من عنده عشره دنانير وعشرون درهما
تساوى عشره أو بالعكس .
قلنا : نحن لم ندع ان التلفيق بين الكفارتين اخراج بالقيمه , بل قلنا ان
المانع من اخراج القيمه مانع من هذا التلفيق وهو ابطال ما دل عليه النص
من تعين الواجب . وأما تلفيق النصاب من النقدين فهو زياده على محل الحكم
وفرق بين الزياده على الحكم المنصوص والزياه على محله حسبما بسطه
الأصوليون فى كتبهم , فثبت أن المشهور ةالحق متطابقان على عدم الاجزاء وهو
المطلوب .
الحاله الثالثه : ان يرسل المكفر الكفارات ارسالا فلا يقيدها فى نيته
بافراد ولا تشريك , فالمذهب متفق على الاجزاء فى هذه الحاله , بل نقل
" الطرطوشى " الاجماع على ذلك .
[49/2]
[50/2]
فان قيل : لم يحملوا حاله الاطلاق على حاله التشريك كما لو قال هاتان
الدران لزيد وعمرو .
قلنا : لما كان عرف الشرع فى الكفارات الانفراد وكان فعل المكفر بناء
على حكم المشرع وامتثالا لأمره وجب حمل امره على الانفراد تصحيحا لفعله ,
(1/46)
________________________________________
اذ هو قابل للتحقيق عند الاطلاق , ولذلك لو شرك لم يحمل على الصحهع
لانضياف المانع من القبول الى الفعل وهو نيه التشريك , ولما لم يكن فى مسأله
الدارين عرف فى الانفراد لم يحمل عليه . وتقر ربما ذكرناه ان الأصل فى الاطلاق
الانفراد , وان نيه الافراد مؤكده للأصل ونيه التشريك ناقله عن الأصل
وصارفه الى غيره .
وبعد تمهيد هذا الأصل نرجع الى مسألتنا فنقول : اذا شرك بين
الكفارات فى الأيمان كانت نيه التشريك مقرره لثلث كل كفاره فى محلها
الأصلى وناقله لثلثيها عنه الى غيره , فوجب ان يبطل من كل كفاره ثلثاها
المنقولان من محلهما , وتبكل فى العتق الثلاثه جميعا لأنه لا يتبعض ولا يصح
الا ثلث الطعام وثلث الكسوه وذلك سته بعد الغاء الكسر . وأما الوجه الذى
بسطتموه وقررتموه أتم تقريرفلا يخفى ما فيه من الضعف كما اشرتم اليه . وأما
تنزيلكم ذلك منزله الصفقه فلا تجمع حلالا وحراما , فى كريم علمكم أن ذلك
موجه بأحد أمرين : اما جهاله الحلال حين العقده وذلك مبطل للصفقه , وهو
أمر خاص بالمعاوضات لا يتعدى الى التبرعات كهبه سلعه وخمر , واما
الاحتياط لأمر التحريم لاتحاد العقد فيعم جميع المعاملات معاوضاتها وتبرعاتها ,
فينبغى ان يتأمل هذا التشبيه على أى وجه من الأمرين يكون , فهذا تمام
النظر فى مسأله الأيمان والله تعالى أعلم .
الطريق اللمتاز , لسلوك مسأله ابن المواز , لابن لب
وسئل الأستاذ " أبو سعيد بن لب " عن هذه السأله ورسمها بالطريق
الممتاز , لسلوك مسأله " ابن المواز " , فقال رضى الله عنه : وبعد فانى سئلت عن
مسأله من الأيمان ونصت لابن المواز على وجه من الغموض وعدم البيان حتى
لقد رماه قوم بالغلط فى منحاه , ورأوه عادلا عن الاصابه فى مرماه , لم يهتد
[50/2]
[51/2]
عندهم فيها الى طريق نظر , ولم يسلك لقصد سبيلها على أثر , فأوضحت
طريقها الذى امتاز بسلوكها عليه , واشار بسديد نظره اليه , وذلك على قدر
(1/47)
________________________________________
ما وصل اليه علمى , وأدركه بعد الاستانه بالله فهمى , وانما هو شئ أبديته
ليظهر , ومدرك رسمته لينظر , والله المستعان وعليه التكلان .
ونص المسأله : من كتاب الأيمان فى رجل حلف بثلاث أيمان فحنث فيها
فكفر عنها بعتق واطعام كسوه ونوى أن كل واحده من هذه الثلاثه عن الأيمان
الثلاثه , قال " ابن المواز " لا يجوز ذلك وقد بطل العتق , ويجتزئى من الاطعام
بثلاثه مساكين ومن الكسوه بثلاثه أيضا , فيكسو سبعه ان أحب ويطعم سبعه ,
ويكفر عن يمين أخرى بما أحب من اطعام أو عتق أو كسوه . وان أحب ان
يكسو ما بقى عن الكفارتين أو يطعم فليكس سبعه عشر أو يطعم سبعه عشر
على القول لأن الذى صار له من الكفارات من الكسوه ثلاثه ومن الاطعام
ثلاثه . قال " أبو الحسن اللخمى " : هذا غلط , ورأى أن يحتسب بثمانيه عشر
على القول ان له أن يجمع فى الكفاره الواحده بين الاطعام والكسوه , وعلى
القول الاخر بمنع التلفيق , فيحتسب بتسعه لأنه أطعم عشره عن ثلاثه ايمان
يجزئه منها ثلاثه عن كل يمين ويفضل مسكين واحد لأنه أشرك فيهما وهكذا فى
الكسوه انتهى . وذكر " ابن الحاجب " المسأله وصحح الاجزاء بتسعه على القول
بنفى التلفيق كما قاله " اللخمى " , وقد ذكر " ابن أبى زيد " فى نوادره قول " ابن
المواز " كما وقع ولم ينبه فيه على شئ فينظر فيه ان شاء الله فى وجه التخطئه وفى
وجه الصحه . أما التخطئه عند من زعمها فلأن الرقبه بطلت مجزأه اثلاثا من ثلاث
كفارات كما وزع المكفر , وبقى ما بقى من الاطعام حكم الرقبه
بالتبعيض على هذا الوجه صح أن يحتسب بالاجزاء الباقيه اما من الاطعام أو
من الكسوه , لأن المكفر نوى أنها أجزاء من الكفارات الثلاث فيبقى عليها
كذلك الاثنتين من عشرتين فيبطلان للكسر ونبقى له تسعه من الاطعام عن
ثلاث كفارات وكذلك من الكسوه , فبانت بهذا صحه ما قاله " اللخمى " , وقد
سبقه اليه " التونسى " وقال انه الأصوب وظهر فى ذلك الغلط فى قول " ابن المواز "
(1/48)
________________________________________
من وجهين : أحدهما أنه أبطل بعد العتق ثلثى كفاره وثلثى أخرى , مع أن
المكفر اعتمد ذلك من كفارته , والاخر أنه عين السته المجزيه ان قصرها على
ثلاث من الاطعام عن ثلاث من الكسوه , وهذا لا يبدو له وجه لأن المقصود
[51/2]
[52/2]
بعد سقوط العتق والكسر اسقاط التلفيق , خاصه على المشهور , فيعتد بما شاء
من أحد الجانبين , الا ترى ان شرك بين ثلاث أيمان فى اطعام عشره وكسوه
عشره يجزئ على نفى التلفيق بتسعه من أيهما شاء الاطعام أو الكسوه , وان شاء
منهما ثلاثه من جهه وسته من اخرى , ومثل هذا لا يسمع فيه نص على جهه
معنيه اذا زال التلفيق , وقد قال " ابن القاسم " فى كتاب " ابن المواز " فيمن عليه
كفاره فأطعم عنها خمسه وكسا خمسه , قال ليضف الى أيهما شاء ما يتمه
ويجزيه , واذا بطل العتق فى مسأله ابن المواز صارت الى المسأله المذكوره
الان , وهى تشريك ثلاث أيمان فى كسوه واطعام , أما وجه تصويب كلام
" ابن المواز " فقد تعرض له " ابن بشير "فى تنبيهه بكلام فيه غموض لم يكشف فيه
عن المقصود ونصه : اذا بنينا على نفى التلفيق فقال " ابن المواز " فيمن أشرك فى
ثلاثه كفارات فأطعم وكسا وأعتق انه يكتفى بسته مساكين وهو ثلث كفارتين
لأن العتق باطل للتبعيص , وقد اعتقد أن ثلث كل واحد من الكفارات يجزيه
عن واحده فتبطل سبعه من كل واحده من الكسوه والاطعام , لأنها ثلث
العشره بالكسور , وتبقى ثلاثه عن كل واحده فيبطل العتق جمله لأنه
لا يتبعض , وأنكر " أبو الحسن اللخمى " هذا ورأى أن تجزئه تسعه . لأنه لفق من
كل واحده من الكفارات الثلاث ثلاثه فجاء من الجميع تسعه . والذى قاله " ابن
المواز " التفات الى واحده قصدت بالعتق فيبطل ما قابلها جمله , " وأبو الحسن " رأى
أن القصد بالكفارات عن الثلاث فيحتسب منها عن كل كفاره فيحصل من
ذلك تسعه انتهى . والذى ظهر فى مسأله أن " اللخمى " اعتمد ترتيب المكفر
(1/49)
________________________________________
على فساده فألغى ما الغى أبقى والقاعده أن الفاسد يطرح , فاذا
طرح الترتيب الفاسد بمقارنه العتق المبعض ورجع الى الترتيب المشروع وهو
اعتاق واطعام وكسوه وجب ابطال العتق جمله واحده لأنه موزع على الكفارات
فتسقط كفاره ويبقى ما سوى ذلك العتق لكفارتين , وذلك عشرون مسكينا ,
فيسقط اثنان من العشرين للكسر وتبقى ثمانيه عشر يلتفت فيها الى أمر الفساد
الذى فى فعل المكفر فى كفارتين حيث كان قد أصحب تلك الجمله بثلثى
الرقبه ثلثا مع سته , وثلثا مع سته , فيبطل هذا العدد كله . لأثر الفساد ,
وسلم للمكفر سته ثلث الكفارتين ثلاثه من اطعام وثلاثه من كسوه , وأصل
الفساد عنده مقارنه العتق المبعض للاطعام والكسوه فى الكفاره الواحده ,
[52/2]
[53/2]
وينظر مذهب " ابن المواز " فى هذا الى أحد القولين فى صفقه البيع اذا جمعت حلالا
وحراما أنها باطله كلها , ولما كانت نيه المكفر ان كل ثلث من الاطغام
والكسوه مصحوبا بجزء من الرقبه صارت الكفاره الواحده على حكم الرقبه فى
منع الضم على وجه الاعتداد لأنها كانت كفاره عتق .
وقد كنت لخصت عباره أخرى عن هذا المعنى أردت اجتلابها هنا لعل
المقصود يتضح بها . وذلك أنه لما نوى المكفر توزيع الكفارات على الأيمان
صارت عده كل كفارف , ثلث رقبه وثلث اطعام وثلث كسوه فاعتقد اجزاء
الثلث من الكفارات الشرعيه وقد بطل العتق جمله بالتبعيض فلزم عند "ابن
المواز " ان يكون مبطلا لما صحبه فى الكفاره الواحده المشروعه من الكسوه
والاطعام وقد صحت من كل كفاره ثلثاها فى ترتيب المكفر فيجب ابطال
ذلك القدر من كل كفاره عندما يضم من اطعام وحده أو من كسوه وحدها
بعد سقوط العتق فيبطل اذا من كل عشرين عشر فى الاطعام ولكسوه سبعه
بالكسور ولا يعلم عن مصاحبه الرقبه الا ثلث الاطعام وثلث الكسوه دون
كسر فيها لبطلان الكسر اتفاقا . وبيان ذلك ان هذا المكفر رتب الكفارات
(1/50)
________________________________________
ترتيبا فاسدا غير مشروعا فوجب عرض ذلك على الترتيب المشروع ليظهر ما
يصح منه ويبطل لوجه فسبب ذلك أربعه أحكام .
أحدها : ضم أجزاء الرقبه لجهه كفاره واحده من الكفارات الثلاث
فيكمل لذلك كفاره لكن تكون باطله لأنه كان قد بعضها فظهر أنها فى ذمته .
والثانى : ضم الاطعام والكسوه لجهتى الكفارتين لأنه لما وجب ضم
أجزاء الرقبه بالحكم حتى صارت كفاره واحده فى ذمته وهى التى بطلت وجب
أيضا أن يضم اليها فى اعتقاد المكفر من اطعام وكسوه الى كفارتين فاحاز جميع
الاطعام والكسوه اليها وخلص لهما وحدهما .
والثالث : أن لا تلفق كفاره واحده من الاطعام والكسوه معا بل يعودان
لهما وهذا على المشهور .
والرابع :أن يبطل من جميع الاطعام والكسوه ما صحب من جزء الرقبه
فى توزيع المكفر للكفارتين خاصه اذ قد خلص لهما جميع الاطعام والكسوه كما
[53/2]
[54/2]
سبق فلم يكن لكفاره ثالثه اعتبار فى توزيع الكسوه والاطعام اذ قد وجب فى
ذلك من الحكم أشده وهو بطلان كفاره برأسها .وهذا الحم الرابع هو مذهب
" ابن المواز " والقدر الذى صحب كل جزء من أجزاء الرقبه فى الكفارتين ثلثا كل
واحده منهما فيبطل اذ ثلثا عشر الاطعام عشر الكسوه ومجموعهما مع
الكسور أربعه عشر , فلم تسلم له الا ثلاثه من الاطعام وثلاثه منالكسوه
وعليه كفاره كامله وثلثا ثانيه وثلثا ثالثه لأنك اذا نظرت الى ما يبطل بسبب
وثلثى رأس من العشره الواحده تضمه الى مثله من العشره الأخرى وتصحح
الكسر تكمل أربعه عشر وتبقى له منها سته كما تقدم , وعلى هذا المعنى يتنزل
كلام " ابن بشير " كما سيأتى بعد أن شاء الله .
فان قيل : لعل " ابن المواز " فيما ذهب اليه لم يبن قوله على بطلان شئ
من الاطعام والكسوه بسبب المقارنه للرقبه , واذ أبطل كفاره واحده لأجل
العتق المبعض , وأبطل أيضا من الكفارتين الباقيتين ثلا بسبب التشريك بين
الاطعام والكسوه فى ترتيب المكفر , فيبطل اذا من كل واحده منهما فى ترتيبه
(1/51)
________________________________________
الثلثان , ثلث العتق المبعض , وثلث لأجل التلفيق من الجنسين تبقى له منهما
ثلثهما , وذلك سته ارؤس بعد سقوط الكسر .
فيقال : أما أولا فهذا نفس نظر " اللخمى " الذى لزم الغلط فى مخالفته
ما يقتضيه من الحكم . وقد نص " ابن البشير " أن قول " ابن المواز " ينبنى على نظر
اخر ينتفى عن الغلط بسببه . الا ترى على ذلك النظر ان الرقبه لم تبطل الامجزاه
أثلاثا من ثلاث كفارات فى ترتيب المكفر وبقيت الرؤوس مجزاه أيضا كذلك
فعادت المسأله اذ لم يبق للعتق المبعض أثر بعد سقوطه الى مسأله من شرك بين
ثلاث ايمان فى اطعام عشره وكسوه عشره وقد تقدمت . وأما ثانيا فلان الثلثين
اللذين بطلا على ذلك النظر أحدهما جزء الرقبه مطلقا والاخر جزء الاطعام
أو جزء الكسوه أحدهما لا بعينه , اذا بطل أحدهما صح الاخر , وقد بطلت
عند " ابن المواز "زياده الى العتق ثلثا الاطعام مع ثلثى الكسوه وصح ثلثهما معا
وذلك ان الابطال على ذلك النظر ورد على الاخر فى ترتيب المكفر , وورد
الابطال فى مذهب " ابن المواز " على الاطعام والكسوه بعد ضمهما بجملتهما فأبطل
[54/2]
[55/2]
ثلثى كل واحده منهما , فقد بين المذهب " ابن المواز " مقتضى ذلك الطريقه فى
الأحكام جمله .
وبالجمله : فلا يصح أن يكون منع تلفيق كفاره من هذين الجنسيين ,
أعنى الكسوه والاطعام , سببأ لابطال شئ لكل واحد منهما على البت , وانما
يكون سببا لاستقلال شئ من أحدهما لا بعينه والاعتداد من الاخر بقدره
ومن هاهنا لا يحسن اطلاق لفظ البطلان فى مثل هذا على أحد الجانبين لصحه
الاعتداد به ان شاء المكفر ترك مقابله , بخلاف الرقبه فانها باطله كلها اذ
لا اختيار للمكفر فى شئ منها , وهم قد أطلقوا فى مذهب " ابن المواز " لفظ
البطلان على الجانبين كما وقع كلام " ابن بشير " بيان ذلك , وانما سرى من
حكم الرقبه . الا ترى انهم لم يحكوا خلافا عن " ابن المواز " ولا عن غيره فى
(1/52)
________________________________________
مسأله مشرك ثلاث كفارات فى اطعام وكسوه كما سبق ولم يوجب بطلان ما لم
يبطل هناك الا دخول العتق المبعض اذ لا سبب سواه ثم يعود النظر الى كلام
" ابن بشير " .
فقوله : وقد اعتقد ان ثلث واحده من الكفارات يجزئه عن واحده ,
يعنى ان المكفر اعتقد اعتقادا فاسدا بأن ثلث الرقبه وثلث الاطعام أو ثلث
الكسوه يجزئه عن كفاره واحده من الكفارات المشروعه بعد ذلك العتق الفاسد
من كل كفاره من كفاراته بثلثيها . الا ترى أن هذا الكلام بعقب قوله لأن
العتق باطل للتبعيض , ثم قال فتبطل سبعه من كل واحده من الكسوه
والاطعام لأنها ثلثا العشره بالكسور .
يقول : لما اعتقد هذا المكفر الاجتزاء من الكفارات الشرعيه بثلثه طرح
والعتق الفاسد الى الترتيب المشروع , ولما كان قوله اخر هذا الكلام ويبقى
ثلث عن كل واحده يقتضى عموم الكفارات الثلاث قالب بعقبه ويبطل العتق
جمله لأنه لا يتبعض , وذلك أن كلامه فى بطلان الثلثين وبقاء الثلث مظنه لأن
يقال فما بال الكفاره الأخرى لم تصح له أيضا ؟ فذكر أنها فيه بوجه بطلان
السبعه من العشره عند " ابن المواز " على ما قدم بأن العتق قد شاب كل واحده
من تلك الكفارات بنسبه فيبطل ما يقابله على تلك التجزئه , ولا يستقيم أن
يزيد فيبطل المقابل الا ما قدم من بطلان السبعه من كل عشره لأنها المقصود ,
[55/2]
[56/2]
وهو موضوع مخالفه " اللخمى " , وانما هذه عباره جامعه لما فصله قبل , " فاللخمى " لم
يبطل المقابل فحصلت للمكفر تسعه , " وابن المواز " أبطل المقابل فحصلت له
سته على ما سبق . انتهى
المحالف باللسان العجمى تجب عليه الكفاره اذا حنث
وسئل سيدى " ابو عبد الله محمد ابن مرزوق " عما وقع فى نسخه من
النكت " لعبد الحق " فى كتاب ( الجنائز ) عن " أبى عمر " ان الحالف بالعجميه اذا حنث
لم تجب عليه الكفارهبل تستحب , وهذا غريب محلا وحكما , أوهذا خطأ
لسقوطه من كثير من النسخ , وفى مختصر ( الوقار )ما نصه : ومن حلف بالله
(1/53)
________________________________________
بشئ من اللغات فحنث فعليه الكفاره .
فأجاب هذا غريب كما ذكرتم , ولغرابته وقع فى محل الأموات . أقرب
ما يتأول له ان صح ذلك فى حق الجاهل بذلك اللفظ اذا لقنه كقول " ابن
الحاجب " فى الطلاق ولا أثر للفظ يجهل معناه كاعجمى لقن او عربى لقن
انتهى . والا ففى صحيح البخارى ( الله يعلم الالسن كلها ) , قاله فى الاسارى اذا
لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا وقالوا صبانا أنهم مسلمون كما فى حديث " ابن عمر
مع خالد رضى الله عنهم أجمعين . ومثله فى الموطأ وغيره , وفى الأيمان بالطلاق
من المدونه : ومن طلق بالعجميه لزمه ان شهد بذلك عدلان يعرفان العجميه
انتهى .
قال " عبد الحميد " عن بعض المذاكرين هذا يبين أن من طلق بغير ألفاظ
الطلاق وأراد الطلاق انه يلزمه , لأن الاعجمى قد تكلم بغير الطلاق لأنه انما
تكلم بلسانه , فكأنه عبر عن الطلاق بغيره , فالزموه ذلك , وكذلك الذى عبر
عن الطلاق بغير اسمه يلزمه الطلاق الذى أراد .
ولا يقال انه طلق بقلبه بل انما أوقع الطلاق بارادته بالكلام الذى تكلم
به وهذا الذى قاله " صحيح " .
قلت : أما لزوم الطلاق لمن طلق بالعجميه عارفا بمدلول اللفظ الصادر
منه فبين , وأما قياس من طلق بغيرألفاظ الطلاق عليه فليس يبين , لأن
المطلق بالعجميه انما طلق باللفظ المرادف للطلاق كما لو طلق بلفظ البته
[56/2]
[57/2]
أو الحرام أو نحوه من الكنايات الداله على الطلاق , فانه يلزمه وان لم ترادف
لفظ الطلاق , فأحرى ان يلزم بما يرادفه كما رادفه الاعجمى , والذى طلق
بغير لفظ الطلاق ليس معه فى التحقيق الا النيه وهى بمجرها لا توجب طلاقا
على المختار , وقولهم ان معها لفظا لا يجدى شيئا لأن لفظ غير الطلاق
أو مرادفه لا يعتبر , ألا ترى أنه أراد أن يقول أنت طالق فقال اسقنى الماء ,
انها لاتطلق حتى ينوى أنها بما تلفظ به طالق , ولم يعتبر كونه لفظا مصاحبا
لنيه الطلاق , فاذا قصد النطق بلفظ الطلاق لزمه ولو ادعى أنه لم ينو طلاقا
(1/54)
________________________________________
فى القضاء وفى الفتيا على الأكثر الا ان كانت معه قرينه , فدل هذا كله على
أن المعتبر فى لزوم الطلاق هو التلفظ باللفظ الموضوع له أو بمرادفه ولو من غير
لغته .
فان قلت : لم يلزمه الطلاق اذا أوقعه بغير لفظه النيه كما ذكرت
بل بها وباللفظ الذى ينوى به الطلاق فصارت نيته باللفظ الدلاله على الطلاق
كطلاق الاعجمى .
قلت : دلاله لفظ الاعجمى على الطلاق ليست بالنيه بل لوضع اللفظ
لذلك , ويعلم ذلك بما قال " اللخمى " فى كتاب ( الصلاه ) من أن أهل ذلك
اللسان نقلوه خلفا عن سلف على ذلك وقد كان منم مومنون انتهى .
وناوى الطلاق باللفظ انما استعمله فيه بوضع جديد لكن مثل ذلك
لا يعيره دالا عليه فلم يبق الا النيه , , وانما قلنا انه لا يصيره دالا عليه. لقوله
تعالى ان هى الا اسماء سميتموها أنتم واباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا تعجبون كيف يصرف الله عنى سب قريش
يسبون مذمما وأنا محمد ) ,أو كما قال صلى الله عليه وسلم فدل أن من نوى
باللفظ غير مدلوله على سبيل الوضع الجديد لا يحكم له بحكم اللفظ
الموضوع لذلك المراد , ولهذا البحث والله اعلم ذهب اشهب الى أن الطلاق
لا يلزم بغير لفظه الا أن يعلق عليه الطلاق بنيه , واختاره " ابن عبد السلام " ,
قال لأن ألفاظ الطلاق الوارده شرعا ان كانت متعبدا بها كما فرض لبعضهم
امتنع الالحاق , وان كانت معقوله المعنى كما هو مذهب الجمهور فشرط القياس
وجود الجامع وهو معدوم هنا , وبقى فى هذا زياده تحقيق منع من اتمامه كونه
[57/2]
[58/2]
عارضا لم يقصد , وما ذكر هذا المذاكر من القياس هو النص فى المدونه وغيرها
وانما ذكره تصحيحا للحكم لا تخريجا , ويدل على صحه تاويلنا الفره الذى
نقلتم بحمله على الجاهل بالعجميه قول " سحنون " فى مدونته وسألت " اب
القاسم " عمن افتتح الصلاه بالعجميه لا يعرف العربيه , ما قول " مالك " فيه
(1/55)
________________________________________
فقال : سئل " مالك " عن الرجل يحلف بالعجميه فكره ذلك وقال أما يقرأ
أو ما يصلى ؟ انكارا لذلك , أى يتكلم بالعربيه لا بالعجميه فى الصلاه , قال وما يدرى
الذى قال هو كما قال ان الذى حلف أنه الله ما يدريه أنه هو الله أم لا . وقال
"مالك " : أكره ان يدعو الرجل بالعجميه فى الصلاه , قال ولقد رأيت مالكا
يكره للعجمى ان يحلف بالعجميه ويستثقله . قال واخبرنى " مالك بن أنس " ان
عمر بن الخطاب رضى الله عنه نهى عن رطانه الاعاجم وقال انها خب
انتهى . وخفف فى سماع " ابن القاسم " الدعاء بالعجميه فى الصلاه لمن لا يفصح
بالعربيه لقوله فيه لا يكلف الله نفسا الا وسعها . ودليله ضد التخفيف للجاهل
بالعجميه هو ظاهر , وقوله ما يدريه دليل على انه جاهل بمدلول اللفظ ,
وحينئذ لا تلزمه كفاره . ويمكن ما حكاه " عبد الحق " ان صح على ظاهره فى العالم
باللغتين والجاهل بالعربيه , أما العالم فمحمل الكراهه فى قول " مالك " وحمل
نهى عمر رضى الله عنه عن رطانه الاعاجم على التحريم , اذ هو الأصل فيه ,
وعلى عموم النهى لاعلى خصوصه بالمسجد أو بحضره من لا يحسن العجميه
لكونه من التناجى , كما حكى " ابن يونس " وغيره فى تأويله , ويؤيده ما ورد فى
بعض الاحاديث (ان من لم بالعجميه اختيارا نقص من أجره ) ,والمعاقبه على
الفعل بالنقص من الأجر الثابت دليل على تحريمه .
لا يقال : معنى النقص من الأجر ما كان يستحقه لو تكلم بالعربيه .
لانه خلاف الظاهر , ولنا لا نسلم استحقاقه الأجر على التكلم بالعربيه
فى أمر مباح . ولئن سلمنا انه يوجر على الكلام بها من حيث ان التكلم بها
طاعه لا من حيث ان المتكلم فيه مباح , لكنه يلزم ان لا تكون خصوصيه فى
هذا الحديث للمتكلم بالعجميه على تقرير كونها مباحه , لأن فاعل كل مباح
ينقص من اجره بمعنى ما يستحقه أن فعل بدل ذلك المباح طاعه وتخصيص
[58/2]
[59/2]
(1/56)
________________________________________
أحاد البلغاء لغير قائد ممتنع , فالشارع أجدر . فاذا ثبت التحريم ويحلف العالم بها
لم يمنع أن تجب عليه الكفاره .
أما أولا فلان النهى يدل على فساد المنهى عنه ومعنى فساده عدم ترتب
اثار عليه .
وأما ثانيا فلان من حلف بما يحرم الحلف به كاللات والعزى اذا لم
يقصد تعظيما لم يلزمه كفاره وانما يلزمه الاستغفار وان يقول لا اله الا الله , كما
قال صلى الله عليه وسلم ., وكذا من حلف بالاباء ونحوه ,. وأما الجاهل
بالعربيه فيحتمل أن لا تلزمه كفاره لاحتمال أن تكون اليمين بالعربيه متعبدا
بها فى هذه الشريعه لقوله صلى الله عليه وسلم ( من كان حالفا فليحلف بالله أو
ليصمت ) , وتكون اليمين بهذا اللفظ الكريم ونحوه من الالفاظ الداله على
الذات الشريفه والصفات الكامله من ألفاظ العربيه مقصودا لذاته , لاسيما مع
ما تقرر فى هذه الشريعه من أنه تعالى لا يسمى الا بما سمى به نفسه أو على
لسان نبيه أو اجتمعت الأمه عليه . فاذا كانت الاسماء توقيفيه لم يجز الحلف
بغير ما ورد ولو لمن لا يحسن العربيه . واذا لم يجز له ذلك كان حالفا بما يحرم
فلا تلزمه كفاره . وكما انه لا يقرأ بغير العربيه ولا يحرم الا بها على المشهور
كذلك لا يحلف الا بها , وهذا هو وجه الجمع بين المسألتين فى المدونه والله
أعلم .
أو نقول : سلمنا انه لا يجوز الحلف بالعجميه , لكن ما يدرى الاعجمى
الذى يحسن العربيه ان ما نطق به من لغته مرادف لما يحلف به فى العربيه ,
والا كان عالما باللغتين فيعود الكلام اليه , وقد تقدم , ولعل هذا هو مراد مالك
بقوله ما يدريه ان الذى قال هو الله . ومثله قوله فى غير المدونه لما سئل عن
جواز ما يكتب فى الحفائظ من كعسلهون ما أدرى ولعله كفر .
" ولابن البنا المراكشى الحابى التعالمى " رحمه الله كلام فى فتيا " مالك " هذه لم
يرتضها . وأما قول " اللخمى " فعلى هذا لو علم أن ذلك اسمه عز وجل بذلك
(1/57)
________________________________________
اللسان لجازان يدعوه به فى الصلاه . ان الله عز وجل علم ادم الاسماء كلها
وسمى نفسه سبحانه بكل لسان واعلم كيف يدعونه بلسانهم وقال عز من
قائل : " وما ارسلنا من قومه رسول الا بلسان " انتهى . فهو كلام منه فى جواز
[59/2]
[60/2]
الدعاء بالعجميه لا فى جواز اليمين بها , والدعاء أوسع من اليمين , اذ
لا يشترط فيه لفظ مخصوص ويكون بالنيه .
فان قلت : كما ألزمه " مالك " الطلاق بها ولم يقدحخ فى ذلك تجويز أن يكون
اللفظ الذى نطق به لا يدل على الطلاق كذلك يلزمه اليمين .
قلت : الطلاق يلزم بالشك على خلاف فيه واليمين لا تلزم بالشك ,
وأيضا الطلاق من الايمان التى ينظر فيها الحكام ويقضى فيها الحنث ولذا
شرط فى المعونه فى لزوم الطلاق شهاده عدلين يعرفان العجميه , ولا عبره
بذلك فى اليمين التى لا ينظر فيها الحكام ,لأن المكلف موكول فيها الى أمانته .
فاذا قام عنده شك فى مرادفه ما حلف به من لغه لما يحلف به أهل العربيه كما
قال " مالك " سقطت الكفاره عنه . وأيضا الطلاق يقع بغير اللفظ الموضوع له
اذا نوى به الطلاق كما تقدم , واليمين ليس كذلك على أن فى لزوم الطلاق
بغير لفظه خلافا كما أشرنا اليه والله أعلم .
من لزمته يمين على نفى العلم فحاف على البت وجب عليه اعادتها
وسئل القاضى " أبو عبد الله المقرى " رحمه الله من قبل السلطان أبى عنان
رحمه الله فقال ما نصه : سألنى السلطان نصره الله عمن لزمته يمين على نفى
العلم فحلف جهلا على البت هل يعيد اليمين أم لا ؟
فأجبته : باعادتها , وذكر أن من حضره من الفقهاء أفتوه بأن لا تعاد لأنه
أتى بأكثر مما أمر به على وجه يتضمنه . فقلت : اليمين على وجه الشك
غموس , قال " ابن يونس " الغموس الحلف على تعمد الكذب أو على غير يقين ,
ولا شك أن الغموس محرمه منهى عنها , والنهى يدل على الفساد , ومعناه فى
العقود عدم ترتب أثره عليه , فلا أثر لهذه اليمين , ويجب أن تعاد . وقد يكون
(1/58)
________________________________________
من هذا اختلافهم فيمن اذنها السكوت فتكلمت , هل يجتزئ بذلك والاجراء
هنا أقرب لأنه الأصل والصمات رخصه لغلبه الحياء .
فان قلت : البت أصل ونفى العلم انما يعتبر عند تعذره .
قلت : ليس رخصه كالصمات , وليس المحل بالذى يحرم فيه الكلام .
[60/2]
[61/2]
ألا ترى الثيب ولو تمسك بالأصل وجعل كلام الشيب للضروره قلنا ليس
التحريم كالتحريم والله أعلم .
من حلف بالله ثم بالمصحف لا تتكرر وعليه الكفاره
وسئل " ابن أبى زيد " عمن حلف بالله أن لا يفعل كذا ثم كرر اليمين
على ذلك بالمصحف .
فأجاب بأن الكفاره لا تتكرر .
من من حلفت بصدقه أكثر من ثلث ما لها فللزوج رده
وسئل عن ذات زوج حلفت بصدقه شئ معين من مالها , وعليا دين
أن أزيل كان المحلوف به أكثر من الثلث وان لم يزل كان أقل من الثلث فهل
يعتبر ثلثها بعد المحاسبه أم لا ؟
فأجاب بأنه لا يعتبر ثلثها الابعد المحاسبه بالدين فان بقى ما تكون
الصدقه ثلثه مضى وان كان أكثر فللزوج رده .
مخرج الكفاره من مال المحجور والسفيه ان كان لهما مال والاصاما
وسئل عن المحجور اذا حنث باليمين بالله تعالى هل يكفر بأحد
الاصناف الثلاث ان كان مال أو لحاجزه منه من ذلك فيصوم .
فأجاب من لم يبلغ فلا يمين عليه , ومن بلغ من السفهاء فالكفاره علسه
فى ماله , ومن لا مال له صام الا ان يكفر عنه وليه .
من وجبت عليه كفاره وعليه دين أخرج الدين أولا
وسئل عمن حلف بالصدقه وعليه دين .
فأجاب يؤدى دينه ومهر امرأته فان بقى شئ تصدق بثلثه .
جلوس الرجل للقيام بعياله خير من سفره
وسئل عمن له زوجه وأولاده وهو ذو ضعيه تقوم بجميعهم تعلق قلبه
بالسفر كل سنه رجاء الفضل ويترك زوجته وأولاده بالضيعه , هل الراجح
سفره أو اقامته لطلب قوت عياله ؟
[61/2]
[62/2]
فأجاب ان نذرذلك فعليه الوفاء , وان لم ينذره فأرجو ان يكون
جلوسه للقام بعياله أفضل .
من حلفت بصوم عام حت يعود ولدها الغائب فمات بعد يسير
(1/59)
________________________________________
وسئل " ابن البر " عمن حلفت بصوم عام لا أكلت خبزا لزوجها حت
يقدم ولدها الغائب , فبعد أيام يسيره توفي ولدها قبل قدومه , فهل تحنث أم
لا واذا حنثت هل يلزمها تتابع الصوم أم لا
فأجاب ان كان لقدوم الولد عاده مخصوصه تحرتها ولا تأكل حت
ينصرم , وان لم تكن عاده فعن مالك ف الحالف ليذبحن حمامات يتيمه فقام
من غير تراخ فألفاها ميته فلا حنث عليه لأن موتها فرغت اليتيم من
الاشتغال , وتضمن يمين هذه المرأه ان كان ممن يقدم ولا قدوم له لأنه مات
فلا تتعلق اليمين فان احتاطت وصامت فلا بد من التتابع لأنه الغالب من
قصد الحالفين الا ان تكون لها نيه ف التفريق .
من حلف لا يكلم زوجته فلا يحنث اذا دق الباب ففتحت له
وسئل " السيور " عمن حلف ان لا يكلم زوجته ال مده , فدق الباب
ففتحت له , هل يحنث أم لا
فأجاب لا حنث عليه .
من حلف عل زوجته لا خرجت اليوم ولا غدا
فخرجت بالغد , فعليه كفارتان
وسئل عمن حلف لزوجته بالمش ال مكه غلطا ونيته اليمين بالله تعال
لا تخرج اليوم للموضع الفلان , فقالت له زد فقال ولا غدا , فقالت له زد
فقال ولا غدا , فقالت زد فقال ولا بعد غد , هل السكوت قطعا عن اليمين
الأولي أم لا فخرجت بالغد اليه .
فأجاب يحنث وتكون عليه كفارتان .
[62/2]
[63/3]
من أشكل عليه أمر يمينه نطر الي بساطها
وسئل عمن له أم وزوجه فأمرهما بعمل ثوب واشتر لهما قطنا وأنفق ف
غزله ونسجه , فقالت له أمه يقوم عليك رخيصا , فحلف بالايمان تلزمه لا
يأخذ منه الا ما أنفق , وهو لا يعرف الا بعض ثمن القطن وأعط ف قيام
الثوب كتانا ولا يعرف كم رطل دخله .
فأجاب يتحفط في يمينه وينطر الي المقصود ف يمينه ويعول عليه , وان
خالف حنث .
ف اليمين بالمصحف كفاره اذا حنث
وسئل عمن حلف لزوجته بحق المصحف لا كلمتني لأمد فاستطاله
فكلمها ما يلزمه في يمينه
فأجاب تلزمه كفاره واحده .
من ذكر المشي الي مكه لا فعل كذا ولم يقصد الحلف فلا شئ عليه
(1/60)
________________________________________
وسئل عمن يقول المشي الي مكه لا فعلت ولا يريد بها اليمين هل عليه
يمين أم لا
فأجاب اذا قصد ما وصفه ولم يرد عل المشي لا شئ عليه .
من حلف ليتزوجن ان وجد مالا وزوجه صالحه
فلا يلزمه البحث والطلب
وسئل " أبو الحجاج بن أب العربي " عمن حلف بالمشي ال مكه ليتزوجن
في هذا العام أو اللذين يليانه ان وجد سعه ومن يصلح , فهل يومر بالبحث
والطلب ف الثلاثه الأعوام . أو أول كل عام خاصه وهل يوقف عن زوجته
حتي يتزوج ام لا
فأجاب لايحنث الحالف الا بمضي الثلاثه الاعوام اذا وجد ف اثنائها
من يصلح بالشرطين المذكورين . وأما بحثه ووقوفه عن زوجته فلا معني له .
[63/2]
[64/2]
وأجاب غيره : يومر بالبحث ف الثلاثه الأعوام , الا انه لا يحنث الا
بمرورها كلها اذا وجد ف اضعافها من يحصل الشرطين , وكذا اذا لم يبحث ولم
يجد حنث بمضيها ايضا .
اذا حلفت الزوجه لا لبست ثياب وحل زوجها فليس له اكراهها
وسئل عمن له ثياب وحل فكساهما زوجته ثم شاجرها فأزالهما ثم أعاد
ذلك عليها ثم شاجرها فأزالهما ثم أعادهما وفعل ذلك مره بعد اخر ,
فحلفت بصوم العام لا لبستهما , وحلف هو بالطلاق ثلاثا لتلبسنهما , فمن
يلزمه الحنث منهما وهل يكرهها ان أراد ذلك أم لا وهل تحنث بذلك
الاكراه ام لا
فأجاب ليس له اجبارها عل لبس ذلك , فان أكرهها فأر ان لا
يمنعها من الصوم .
من حلف لزوجته لا دخلت دارا فصعدت سطحها , قبل منه قصده
وسئل " السيوري " عمن حلف لزوجته لا دخلت دار جارتها فصعدت عل
سطحها هل يحنث أم لا وكيف لو قال لم أتحقق اليمين الذ حلفت به وربما
اعتزل زوجته ثم قال تحققت بعد ذلك
فأجاب بانه يقبل منه .
من حلف ليغضبن زوجته
وكان يعلم ان السفر يغضبها وسافر بر في يمينه
وسئل عمن غاطته زوجته فحلف ليشغلن سرها وليغضبنها وهو يعلم
أن السفر والغيبه مما يغيطها , فهل يبادر بالسفر ويبريه أم لا
فأجاب اذا علم انه يغيطها بذلك فعله ويبريه .
مده العيد عل قدر ما يعرفه الناس بينهم
(1/61)
________________________________________
وسئل عمن حلف لا دخل للدار ولا أكل طعاما ف هذا العيد فما قدر
العيد ؟
[64/2]
[65/2]
فأجاب العيد عل قدر ما يعرفه الناس بينهم , قيل فتوي شيوخنا بتونس
ان اخره فتح الربع للبيع والشراء الفتح المعتاد , ولا ينطر لتقد
مه ف بعض
الصور لخروج الجيش ولا تأخره لغير ذلك كمسأله حصاد الزرع في (المدونه) اذا
اخلف ذلك العام اذ لا تعتبر الصور النادره .
تحمل الايمان عل بساطها والمعان المقصوده للحالف لا عل الالفاط
وسئل " ابن الحاج " عمن قال والله ان اعطيت حاجه في دار ان خرجت
الا خروجها ففعلت .
فأجاب حنث فيها بطلقه واحده وه الت تخرج بها من عصمته ان
شاء الله .
وسئل " ابن رشد " عن امرأه توف عنها زوجها وكان ساكنا معها ف دار
الاماره بالبلد الذ توف فيه اذ كان اميرا فيه , فلما وضع في نعشه وخرج به
من باب دار الاماره ال قبره وخرجت مع نعشه وفرغ من دفنه وه عل شفير
قبره , قال لها قائل قومي فارجعي ال دارك , فقالت مجيبه ال ا دار تعني ,
قال لها الي دارك المعروفه التي خرجت منها , فقالت ثلث مالي علي المساكين
صدقه وصوم سنه يلزمني ورقيقي احرار لوجه الله تعالي لا رجعت الي تلك
الدار ابدا , أين الوجوه الت كنت أعرفهم فيها واسكنها معهم فلما كان بعد
زمان تزوجها أمير تلك البلده الساكن في دار الاماره بها , فأجبرها عل السكني
معه فيها ولم يوسعها في ذلك عذرا وقد كانت أخرجت الثلث من مالها بعد
هذا اليمين لحنث اخر لزمها قبل وزال عن ملكها ما كانت تملك من الرقيق في
وقت اليمين المذكوره أجبنا في ذلك موفقا مأجورا .
فأجاب تصفحت السؤال الواقع ف بطن هذا الكتاب ووقفت عليه ,
ولا حنث عل هذه المرأه الحالفه في رجوعها ال سكني دار الاماره مع زوجها
الأمير في ذلك البلد , لأن الطاهر من أمرها انها كرهت الرجوع اليها عل غير
الحال التي كانت عليها مع زوجها المتوفي وحلفت علي ذلك اذ دعاها القائل
(1/62)
________________________________________
اليها حين قال لها ارجعي الي دارك , فلا شئ عليها ف رجوعها عل الحال
التي كانت عليها مع زوجها المتوفي , اذ لم تحلف علي ذلك . هذا الذ أراه
[65/2]
[66/2]
وأقول به في زلك وأتقلده ,لأن الايمان انما تحمل علي بساطها وعلي المعاني
المفهومه من قصد الحالف بها لا علي ما تقتضيها الفاطها في اللغه , وهو أصل
مذهب مالك رحمه الله , فمن ذلك قوله في رواية "أشهب" عنه في الذي سأله
النقيب عن أمرأته ان كانت حاضره أم لا فحلف بالطلاق انها الان في البيت
اذ كان تركها فيه وهي لم تكن فيه في ذلك في ذلك الحين اذ كانت خرجت منه اليه
الحجرة, فقال انه لا حنث عليه , لان يمينه انما خرجت علي سوال النقيب اياه
عن حضورها.
ومن ذلك ايضا قال " ابن القاسم " ف الذ خرج لشتر لاهله لحما
فوجد عل المجزره زحاما فحلف لا يشتر لاهله ذلك اليوم لحما ولا عشاء
فرجع فعاتبته امراته عل ذلك , فخرج فوجد لحما ف غير المجزره فاشتراه , انه
لا حنث عليه اذا كانت يمينه لكراهيت الزحام ف المجزره . واهل العراق يخالفون
في ذلك ويرون الحالف حانثا لما لفط به ف يمينه , ولا يعتبرون في ذلك نيه ولا
بساطا ولا معني , وذلك خطا بين في الفتوي لان الاحكام انما ه لمعاني
الالفاط المعتبره المفهومه منها دون طواهرها , ولو اتبعت طواهرها دون معانيها
المفهومه منها ف كل موضع لعاد الاسلام كفرا والدين لعبا . قال الله تعالي
فاعبدو ما شئتم من دونه.فكان ذلك فيما هر منها امرا والمراد به النهي
والوعيد اذ هو المفهوم منه , ومثله قوله تعالي لابليس " واجلب عليهم بخيلك
ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم " الايه ومن هذا المعني قوله
تعالي في قضيه شعيب وما ذكر فيها من قول قومه انك لانت الحليم الرشيد
لان طاهره المجد والثناء ومرادهم به غير ذلك من السب والاستهزاء . ومثل هذا
كثير في القران والسنن المتواتره وبالله تعالي التوفيق ولا شريك له .
(1/63)
________________________________________
وسئل " القابسي " عمن قسم عل اهله تمرا بالعدد فقالت له زوجته اخترت
لي الصغار فحلف بالطلاق لا اشتري تمرا الا شهر فاشتري ربع مد لوزا
فوجد فيه ثمره فاخذها واكلها.
فأجاب ان كان المراد ان التمره دخلت عليه في كيل اللوز فحقه ان
يردها ولا ياكلها فان ادرك اللوز باقيا وفي له ربع مد منه فان فات أو بقي
يسير منه مضي الثمن وأكل التمره عوضا عن قدرها من اللوز , غير ان البائع
[66/2]
[67/2]
لعله لا يرضي , فان رضي بذلك وقد بقي له من الربع مد شئ فلا يصلح أكلها
انما أكلها من أجل البيع فيحنث , وان أوفاه البائع حقه من اللوز وسامحه في
التمرة خفت ان تكون هبة لأجل البيع , هذا ما هر ولم أجد سببا لغيره .
من حلف لا سكنت عنده أمه لم يحنث بكثرة ترددها عليه
وسئل " اللخمي " عمن حلف بشئ للفقراء لا سكنت عنده أمه فكانت
تتكرر اليه .
فأجاب لا يلزمه بالتردد شئ , اذ لم يحلف عليه , ولو ثبت سكناها
لأمر لما حلف عليه ولم يجبر .
من حلف ألا يبيع سلعه لفلان فاشتراها له اخر
وسئل " ابن أبي زيد " عمن حلف ألا يبيع سلعه من فلان فاشتراها اخر
لنفسه ثم قال انما اشتريتها للمحلوف عليه وقد كذبتك .
فأجاب يحنث ويمضي البيع الا ان يشترط عليه انه ان اشتراها لفلان
فلا بيع بينه وبينه , فيفسخ البيع ولا حنث عليه .
وسئل عمن حلف بعتق عبده ان باعه فتصدق به علي ابنه الصغير فأراد
بيعه عليه .
فأجاب أراه يحنث . قيل هذا جار علي أصل المذهب ان فعله لولده
كفعله لنفسه في مسائل السلم وغيرها . وقد يتخرج يتخرج الخلاف فيه من مسأله
الاعتصار , وهي مسأله اذا اسلم عبد النصرانيه وزوجها مسلم فوهبت العبد
لولدها الصغير فلا يخرج ذلك عن ملكها لأن لها الاعتصار , واختلف اذا
تصدقت به عليهم علي قولين .
من حلف بالمشي الي مكه فعجز عنه أجزأته الكفارة
وسئل " المازري " عن الحالفين بالمشي الي مكه في هذا الوقت , هل يفتي
(1/64)
________________________________________
لهم بكفاره اليمين لما في المشي من المخاطرة في النفس والمال .
فأجاب تجزئه الكفارة عند ( مالك ) وأصحابه , وهو المشهور عنه والمعروف
[67/2]
[68/2]
عند أهل المدينه , وما ذكرته من الرخصه للضروره لا تنقض المذاهب , ولكن
يبقي مطلوبا اذا وجد سبيلا . وروي عن " ابن القاسم " أنه أفتي ولده بالكفارة في
هذا , وهي شاذه لم يعرفها جمهور علماء أفريقيه , وانما ذكرها ( أبو بكر بن
اللباد ) , فان أراد السائل التكفير حتي يجد سبيلا احتياطا لنفسه كان أولي به .
وكذا سئل " السيوري " هل قول " ابن الوهب " فيها بكفاره اليمين قال ما
حكيت عن " ابن القاسم وابن وهب " لم يصح عنهما فيما علمت .
كل حلف مخرج اللجاج
وجبت فيه كفاره يمين كالحلف بصوم عام
وسئل عنها " اللخمي " وقيل انه مذهب ( لعائشه ) , فقال لا يباعده القياس
ولكن ان أحب أن يكفر حتي يجد سبيلا كان حسنا , وقال الصائع يكفر حتي
يجد الطريق , وقال غيره ان أحب أن يحتاط فليفعل , اذ قال بها جمله من أهل
العلم , ونقل ابن الحاج فيمن حلف بالله والمشي الي مكه أنه يكفر باطعام
عشرة مساكين مد ونصف لكل مسكين , ويكون علي نيه الحج متي أمكنه .
وأفتي " ابن خالد " بكفارة يمين , وحكاه " ابن عبد الحكم عن ابن القاسم "
أنه أفتي رجلا بذلك ولم يذكره غيره .
أفتي " ابن زرقون " بكفارة يمين فعورض في ذلك فقال لا يلزمه في حقيقه
مذهب مالك شئ لتعذر السفر . ومن يفتيه بالكفارة انما هو علي مذهب من
يري بها فيه , قيل نقلها غيره أنه أفتي فيها بمذهب الليث , قال وان عدت
أفتيناك بمذهب " مالك " . وكذا حكي الوجهين ف كتاب ( ابن سحنون ) في الحالف
بصوم العام أنه تلزمه كفارة يمين لأنه لم يخرج مخرج القربة , وحك " ابن بشير"
أنهم وقفوا علي قولة " لابن القاسم " ان كل ما خرج مخرج اللجاج والغضب في
هذه الشرعيات فان فيه كفارة يمين وأنه أدرك الأشياخ يميلون الي هذا المذهب
ويعدونه نذرا في معصية .
(1/65)
________________________________________
المراة كالرجل في اليمين
وسئل هل توجد رخصة للنساء اليوم في كثرة ايمانهن بصوم سنه وصدقة
المال وادخالهن عل أنفسهن وأزواجهن
[68/2]
[69/2]
فأجاب يمين النساء كالرجل بصدقة المال , وفيه الخلاف المشهور أنهن
يفارقن الرجل في ذات الزوج اذا تصدقت بأكثر من ثلث مالها . والمراة
والرجل في هذا يومران ولا يجبران لأجل أن اليمين من هذا لم تخرج بقصد
التبرر فتمضي بحكم الأوامر الواردة وقد رويت عن " ابن القاسم " في مثل هذا
روايه ( شاذه والمشهور معلوم ) . وكذا يمينها بصوم سنه جار علي ما اذا أنذرت مالا
يضربه كركعتين وصوم يوم لم يمنعها صوما ولا صلاه , وان أضر به النذر ككثير
الصلاه والصوم والحج فله منعها ويبقي في ذمتها . " أبو عمر " : هذا في غير
الموقت , وفي سقوط الموقت بخروجه قولان في ( المدونه ) , اذا علمت المرأة أن
زوجها يحتاج اليها فلا تتطوع بالصوم . الباجي : وكذا السريه أم الولد , وان
علمت أنه لا حاجة له بها في الغالب نهارا مثل ان يكون مسنا لا ينشط , فهذا
لا حق له في الاذن وخادم الخدمة بخلاف السريه لا يحتاج الي اذنه في
صومها , الا أن تضعف عن الخدمه فتكون كالعبد لا يأتي ما يضعف به الا
باذن السيد . وهذا قول " مالك " . (ابن شعبان ) : اختلف في صوم العبد وان كان
لا يضربه , يعني اذن السيد , فقيل لا باس به , وقيل لا يجوز وبه أقول . لأحد
علي زوجة ولا علي عبد وان أضعفه . قال " مالك " في المجموعة : ومن صام منهم
باذن أو بغير اذن فلا يقطع صومها , والطاهر أنه ليس له جبرها علي التاخير في
قضاء رمضان الي شعبان لأن لها أن تبادر لابراء ذمتها , قال وانطر هل للزوج
أو السيد اجبارهن علي الفطر مع عدم الاذن والمعرفة بالحاجة والتلبس
بالصوم , وفي (ابن يونس ) عن ( السليمانيه ) : اذا تلبست بصلاة التطوع أن له
قطعها وضمها اليه .
من حلف بالمشي الي مكه ومشي حتي عجز فركب , فلا شئ عليه
(1/66)
________________________________________
وسئل بعضهم عمن حلف بالمشي فمشي فعجز فركب وأهدي هل يعود
ثانيه ويمشي ما ركب أم لا
فأجاب يجزئه المشي الأول . وقد سئل " مالك " عن ذلك فقال : أين
بلدك فقال مصر . فقال بلدك بعيد ولا شئ عليك , ( اللخمي ) : ان قرب
[69/2]
[70/2]
كالمدينه عاد , وان بعد كافريقيه لم يعد , وان توسط كمصر فروايتان عن مالك
زطاهر المدونه الرجوع .
من حلف ليبيعين سلعه معينهفلا يلزمه بيعها ببخس الثمن
وسئل " التونسي " عمن حلف ليبيعن سلعه له سماها , فأعطي فيها بخس
ثمن فندم علي يمينه وأراد أن يبيعها لجار له بذلك رجاء أن يردها اليه , وقصد
بها جار لذلك .
فأجاب لا يبيعها لمن ذكرت لأنها مواطاة منه , ولا يبيعها الا من بعيد
منه , وأما أعطي فيها من بخس ثمن فان كثيرا فلا يلزمه بيعها به
وليستوق حتي تبلغ قيمتها أو تقارب وانما يمينه علي الثمن المعتاد عادة فلا
يلزمه بيعها بنصف ثمنه , اذ ليس بمعتاد , الا أن يقصده مثل أن يكره مقامها
في ملكه فينوي ما أعطيت فيها من قليل أو كثير فيلزمه ذلك . قيل أصل هذه
المسأله في كتاب ( الايلاء ) اذا حلف ليحين ولم يحضر الابان لم يزل مسترسلا
علي زوجته حتي يحضر الا بان فانرها بجميع فصولها فهي فيها .
في النذر الذي لا مخرج له لغو اليمين
وسئل " السيوري " : هل قال أحد ان لغو اليمين جاريه في كل الايمان
كاليمين بالله نعالي أم لا
فأجاب : أما النذر الذي لا مخرج له ففيه لغو اليمين في المذهب وان
سمي له مخرجا من صدقه أو عتق أو غيره فلا أعلم فيه خلافا في حنثه الا
اليمين بالله تعالي فلا كفارة فيه عندنا خلافا للشافعي .
من شك هل حلف بتحبيس أو صدقه عمل علي ما غلب علي طنه
وسئل عمن نازع جاره في حدود ضيعه فحلف ليقلعنها الي وقت ففات
الوقت بعذر وشك هل حلف بتحبيس الضيعه للجامع أو بصدقه عليه .
فأجاب اذا غلب علي طنه شئ عمل عليه من تحبيس أو صدقه , وان
استوي الطرفان في الشك حبس الضيعه وأخرج قيمتها صدقه نقدا .
[70/2]
[
(1/67)
________________________________________
71/2]
من تطوه بشئ ثم حلف ليرجعن فيه فلا رجوع له
وسئل عمن حلف ليرحعن فيما عمله لابنته عن زوجها من نقد ومهر .
فأجاب لا رجوع له فيما فعله , قيل فان قضي عليه ذلك جري علي
الخلاف في الاكراه الشرعي .
من حلف ليحجن هذا العام فمنعته الفتنه فلا شئ عليه
وسئل عمن حلف بصدقة ثلث ماله ليحجن هذا العام ولا رجع من
المهدية حتي يحج وهو من أهل قفصه فأتي المهدية فبلغه عن المشرق الفتنة
والجوع والهلاك فرجع , هل يجب عليه شئ أم لا
فأجاب : هذه تجري علي مسأله اذا صد بعدو والمعروف لأنه معذور ويحل
بل قال بعض أهل المذهب ويجزئه عن حجه الفريضه والمعروف خلافه . وقال
تجر علي مسأله من حلف ليفعلن كذا فأكره علي عدم فعله والمعروف أنه
يحنث , بخلاف الحالف علي النفي , وعطفه قوله ولا رجع يعني في هذه السنة
ولو حمل ذلك علي العموم لجنث برجوعه , لأنه مطلق في الزمان فان لم يمكنه
الان فيمكنه فيما يستقبل .
لا شئ علي من أكره علي ضد المحلوف عليه
وسئل " المازري " عمن كانت يمينه علي بر فأكره علي الفعل , أو علي حنث
فأكره علي الترك .
فأجاب لا شئ عليه في الأول , واختلف الثاني هل يحنث أم لا
مثل أن يحلف ليأكلن رغيفا أو فرخ حمام فأكره علي عدم أكله , ومثال الأول ان يحلف
علي زوجته أن لا تخرج من الدار وكانت لغيره فأخرجها القاضي , وقال بعض
شيوخنا فيها قولان , وأخذهما من مسألتين في المذهب وليس فيها عندي الا
قول واحد , ويتأول ما وقع في المسأله من وجه الحنث أنه حلف علي فعل
الغير ووجه عدمه قياسا علي الاكراه في نفسه , والمسألتان هما اذا حلف أن لا
يدخل فاقتحمت به الفرس , والأخري سئل عمن حلف لامرأته ان لا تخرج
فوقعت فتنه أو انهدمت الدار فخرجت فقال يحنث وتؤولت هذه الروايه بأنها
لو قعدت لم يضرها ذلك فيكون قولا واحدا .
[71/2]
[72/2]
وسئل عمن جر له مع أبيه كلام في دخول الحمام نهارا فحلف بالله
(1/68)
________________________________________
وبكل ما يعيش فيه حرام لا دخل حماما ما دام في هذا البلد وفي سفرته هذه ,
ثم سئل في دخول ولده الحمام ليلا دون نهار , هل يفعل ذلك أم لا
فأجاب اطلاق لفطه يقتضي عدم دخوله ليلا ونهارا , وبساط يمينه
يقتضي تخصيصه بالنهار , وهذا يرجع لنيه الحالف فيما بينه وبين الله تعالي
فان كانت يمينه انما هي لشئ اقتضاه النهار دون الليل فلا شئ عليه لدخول
اليل فيما بينه وبين الله تعالي , وينطر في ذلك ان اقامت عليه بينه بيمينه .
تخرج الكفاره من غالب قوت المخرج
وسئل " اللجمي " عمن يخرج في الكفارة.
فأجاب ان وافق قوته وقوت عياله أهل البلد أخرج منه , واختلف ان
خالف . والذي اخذ به اعتبار قوته فقط .
يجز في الكفارة أقل من مد في زمن الضيق
وسئل " الصائغ " هل يجزي أقل من مد في زمن الشدائد لعموم الايه في
الوسط .
فأجاب تنتزل كفارة الايمان عند ضيق السعر اذ الاجتهاد والتحديد كلفة
ومشقة والاجتهاد أولي .
من لا يعطي الفقير الا نصيبه من الكفارة دون من يزعم أنهم معه
وسئل " الشعبي " عمن زعم أنه في عدد يريد ان يأخذ بقدرهم من
الكفارات .
فأجاب لا يقبل ذلك منه حتي يعلم بغير قوله فينطر لقدر ما ثبت
عدده , والا أعطي شخصه خاصا ولو كان ثقه يعرف بالحالة الحسنة لم يقبل
قوله لأنه بالجر لنفسه , هذا من باب الورع .
جمع الكفارات ودفعها لأقل عدد من المساكين مكروه
وسئل " السيسوري " عمن أعطي مائة لعشرة مساكين عن عشرة أيمان ,
[72/2]
[73/2]
أو أعطي لعشرة مساكين ألف مد عن مائة كفارة , مد عن كل يمين,والكل في
مجلس واحد ,هل يجزئه أم لا وهل مد القيروان بها كمد النبي صلي الله عليه
وسلم اولا وكذا من سائر البلدان وهل الامر متحد أو مختلف اذا اختلفت
أنواع الطعام أم لا
فأجاب ما ذكرته من تكرار الكفارة في الدفع فقد كرهها في المدونه ,
وان نزل مضي واجزأ وهو صواب , ويفعله اذا كان نطرا من كونهم اولي من
(1/69)
________________________________________
غيرهم , وأما مد القيروان فليس هو مد النبي صلي الله عليه وسلم وان كان
قاله بعض من كان بها وغلط فيه , لكنه ينر الي المد النبوي, ويطعم أهل
كل بلد الوسط من عيشهم في الغدا والعشاء, وهو قول مالك وهو القول
الصحيح ,. وقول ابن القاسم ترخص من قول بعض الناس يجزيء الغداء دون
العشاء والعكس.
المد النبوي هو المعتبر في الكفاره وفي زكاة الفطر
وسئل " التونسي " : عن كفارة اليمين لمن عيشهم التمر.
فأجاب الاصوب في ذلك عندي ان يخرج وسط التمر من الشبع في
غالب عاده أهل التمر , ولا يقدر ذلك بمد قمح , واما تقليل الكفارة حتي
تكون نصف مد لشدة عرضت فلا يكون هذا , وان اجتزؤوا به في الشده فانما
هو للضروره , وكذا لو كانوا يأكلون في الرخاء مدين فهذا ايضا انما يكون
لمبالغتهم في الشبع والا فالاوسط مد . وقد اختلف اصحابنا في الكفارة فقيل
مد وثلث وقيل مد ونصف بمده صلي الله عليه وسلم , وهو ازيد من مدا
القروي بشئ يسير , قدره بعض الناس ان العشرة امداد نبويه قدر اثني عشر
مد أو أقل قليلا قرويه . وقد قال مالك حيث ما أعطي بمد النبي صلي الله
عليه وسلم القمح اجزاءهم فقطع انه وسط الشبع ف كل موضع .
المد النبوي يساوي مدا وثمن مد قروي
وسئل " ابن محرز " عن المد الذي تخرج به الفطره لأن مد بلدنا مد
وثمن بالقدم وبه كنا نعط الفطره الي ان وصل ( أبو الحسن علي ابن الجاروز )
فقال لا يجزئ العطا بهذا المد فأمرنا أن نعطي بمد يكون في التقدير
[73/2]
[74/2]
مد الاثمنا بالقروي , فمن كان يعطي أربعه بمدنا رجع يعطي ثلاثة ولا يجزئ
الا به .
فأجاب أخطا ابن الجاروذ , والذي كنتم عليه من اعطاء مد وثمن في
زكاه الفطر وكفارة الأيمان صواب فألزموه . وكذا قال " التونسي " وقال أخطا ابن
الجاروذ وكذب علي مد النبي صلي الله عليه وسلم , وما ذكر باطل من غير
شك , وليس مدنا بأكبر من مده صلي الله عليه وسلم . وانما اختلف الناس في
(1/70)
________________________________________
قدر نقص مدنا عنه , فسمعت الشيخ " أبا بكر بن عبد الرحمان " يقول : كان عند
الشيخ (أبي محمد ) مد يذكر أنه مد السائي وانه معير علي مده صلي الله عليه
وسلم , وقال بعض أصحابنا عشرة امداد وهذا أكثر ما سمعنا في نقص المد
القروي . وحكي عن " أبي عمران " أنه راه وأنه يأمر باخراج ثمنين وهو أحفط .
المعتبر من التمر الشبع
سئل " التونسي " : اذا أخرج عشرة أمداد من التمر في بلد عيشهم
بذلك .
فأجاب انما يخرج وسط الشبع منه , لأن الوسط انما هو من القمح ,
وغيره لابد أن يزيد , ولا يخفي الوسط .
انما يخرج التمر لا الرطب في الكفارة وزكاه الفطر
وسئل عمن قوتهم التمر وربما كان قوتهم الرطب , فهل يجوز اخراجه
عن الفطرة والكفارة أم لا
فأجاب الذي عندي انما يجزئ من التمر الذي قد استحكم نشافه
وأمكن ادخاره , لا من الرطب وان اقتيت به في بعض الأوقات , لأن الغالب
اقتيات التمر ولأن الرطب ينقص اذا جف , فلو أخرج منه أربعه أمداد نقصت
اذا جفت عن أربعه أمداد التمر , فيكون مخالفا لحديث ( أبي سعيد ) ونهي النبي
عليه السلام " عن الرطب بالتمر متمائلا للمزابنه " . ولو أخرج أكثر من الصاع
من الرطب لخالف الحديث لأنه محدود , ولو أخرج عدل الشبع من الرطب في
الأيمان أرجو أن يجزئه لأنه ليس فيه توقيت , واذا كان يأكل أنواع التمر كبيسا ( كذا )
واشداخ وغير ذلك فلينر معطم أكله وأكثره وأقربه من وقت الاخراج , ولو أكل
[74/2]
[75/2]
أكثر العام نوعا فلما كان زمن الفطرة أو الكفارة أكل جنسا اخر وجب اخراجه
من الأكثر الا أن يطول زمان انتقال ما يخرج منه , وهذا مذهب من اعتبر
قوت المكفر, ومن أعتبر قوت الناس نطر الي الغالب من قوتهم ذلك الوقت
فيخرج منهز
من غذي عشرة فقراء وعشاهم بمقدار عشرة امداد أجزاءفي الكفارة
وسئل عمن وجبن عليه كفارة يمين فأراد أن يكفر عنه فغذي عشرة
فقراء وعشاهمعشرة أمداد قمحا بريعها دقيقا غير لو أحفها من الادام, هل
يجزيء ذلك أم لا.
(1/71)
________________________________________
فأجاب أذا أعطاهم من الطعام ما يخرج من عشرة أمداد قمحا يمده
صلي الله عليه وسلم فأكلوه في غداء أو عشاءأجزأ, لأنه لو أعطاهم اياه قمحا
فأكلوه في مره واحده اجزأ فقد زادهم طحينه وخبزه.
يكفر كل واحد من أهل البلد بما ياكل
وسئل عبد المنعم. بأي شيء يكفر اليمين. يعضهم يأكل
القمحوبعضهم يأكل الشعيرويعضهم التمر وجل البلدالشعير.
فأجاب . يكفر كل احد بما يأكل لقوله تعالي من أوسط ما تطعمون
أهليكم.
وسئل السيوري عمن قوته وقوت موضعه الزبيب والاقطاني أو الأقط
أو اللبن أو الدخن أو الأرز أوالعلس, هل يجزيءاخراجه في كفارةاليمين أو
لا. وهل يجزيء خلافخ اذا أخرج القيمه أم لا. كالزكاه, اذاأخرج بالمد
القروي في كل موضع هل يجزيء أو لا .وذا كان قوته وقوت أهل البلدالشعير
فأخرج القمح هل يجزيء أم لا.
فأجاب من ذكرت من الأصناف اذا كان عيشهم يجزيء لأن النص
تناولها من أوسط ما تطعموناهليكم, ويبقي الخلاف فيها وما علمت فيها خلافا,
وانما وقع الخلاف في زكاة الفطر في البروالقطنيه والدراهم,ووقفت علي
الخلاف في الدراهم في كفارة اليمين.وعندنا لا يجزيء وعند غيرنا يجزيء.
[75/2]
[76/2]
والمد جائز بالقيرواني بغير زياده في غيرها من البلدان, وقول مالك هو الصحيح ,
لأنهم يرون أن يعطي الغداء والعشاء . ومن أعطي القمح وهو خير من قوته
أجزأ.
من القزم يدفع نصف جنانه للمسجد لزمه
وسئل بعض الفقهاء عمن باع جنانا من رجل, وقد قال ان بعته
ثلاثة أعوام يكون ماعندي للمسجد.
فأجاب يمضي البيع ويومر البائع أن يدفع الثمن للمسجد, ولا يجبر أن
كان أراد الثمن والا فسخ البيع.
وسئل عمن حلف بماله للمسجد وحنث.
فأجاب . يومر ولا يجبر حكاهما ابن سهل.
الستثناء بالقلب في الحلف لا يفيد
وسئل عمن يحلف بحمالة المسجد ونفعهويحنث ويقول باطنيغير ما
أطهرت ,هل ينفعه أم لا.
فأجاب الأستثناء بالقلب لا يجزيء, وانما يجزيء نطقا يحرك به لسانه
(1/72)
________________________________________
وان لميطهره, ابن حبيب . الا أن يستحلف فلابدمن اطهاره.
من حلف لا أقمت أو لاسكتت خرج في أول وقت الامكان والاحنث
وسئل ابن ابي يزيد عمن لا أقام في هذه البلد في هذه السنةفأقام
بعد يمينهمده يمكنه الرحيل قبل تمام السنه فلم يفعل.
فأجاب هو حانث بأقامته بعد يمينه, وكذا بقوله لا سكنت وانما يفترق
الأمر في قوله لا نتقلن ولارحلن, فهذا لا يحنث بالمقام, اذ لم يضرب أجلا
يتجاوزه أو ينوي أستعجال ذلك فيؤخر,فان كان يمينه بالطلاق منع من وطء
أمرأته حتي ينتقل . واختلف ما الذي يبرأ فيه من الاقامه, فقيل شهر وقيل
خمسة عشر يوما .
[76/2]
[77/2]
من حلف أن يغسل ثيابه بنفسه
شفقة علي أمهفأعانته , فلا حنث عليه
وسئل عمن له والده كبيره فأرادت غسل ثياب له وله نحو عشرين
ثوبا, فلما غسلت نحو الثلاثه أو الأربعه من الثياب أرادت استقاء من
زير بقربها في الدار فمشت اليه فوقعت في مشيها فأرجعته فرق لها ولدها
فرمي الثياب ليغسلها وقال عليه المشي الي مكه ان غسل هذه الثياب الا أنا,
فأبت فنحاها عاي الجفنه فدارت من خلفه فوضعت يدها فيها فعركت ثوبا
بيدها فقال لها لا تحنثيني فتركت فغسل بقيتها وأراد رفع المشقه عنها, فأستقت
الماء من الزير بعد يمين ولدها ولم يرد بيمينه استقاء ماء ولا غيرهوانما أراد
غسل الثياب فقط .
فأجاب ان كان الذي صنعت بيدها في الثوب بعد يمينه لم تصنع فيه
ما يجعل عن الحالف كلفه فيما وليته من غسل الثوب المعروك فلا حنث عليه
ان شاء الله, وأما استقاؤها من الزير فليس في طاهر يمينه ما يدل عليه فليس
عليه شيء في الطاهر الا أن تكون نيته لا يتولي الغسل والسقايه الا هوفيجري
علي قصده الحنث والله أعلم .
من حلف أن يصرف أقل من شريكهأجبر علي التمام وحنث
وسئل ابن عرفه عن رجلين بينهما زرع علي السويه, فأخرج
تسعة أجزاء واخرج الأخر بالغد ثمانيه, فقال له صاحبه زد رجلا فقال
(1/73)
________________________________________
ما يجب عاي الأنصف عمل أجير وحلف لا يدفع غير ذلك وحلف الخر لياتين
برجل نطير الول .
فأجاب يجب عليه أن يأتي برجل لمقابلة عمل صاحبه ويحنث , فان
تطوع رجل باخراج ذلك فان قصد الحالف أنه لا يدفع الا نصف رجل
لاجا أنه ما عنده غير ذلك فلا حنث عليه , وان قصد عدم اخراج الرجل
راسا لما حصل عنده من اللجاج حنث , فلم أراد أن يزيدعلي نصف اجره
الرجل ويأتي برجل فقال ان كان قصده أنه لا يخرج الا نصف الجره خاصه
شحا منه علي متاعه فلا حنث عليه .
[77/2]
[78/2]
من استحلفه اللصوص علي مال بيده أنه له والحال أنه مال قراض
وسئل عمن استحلفه اللصوص علي مال بيده أنه له فحلف لهم وهو
مال قراض .
فأجاب . ان كان له في مال القراض ربح فهو كماله والا فهو كمال
الغير والمشهور أنه ليس باكراه .
من حلف علي أمرأته لا تخرجالي دار أبيها الا في فح أو حزن
وسئل بعضهم عمن حلف لأمرأته لا تخرج لدار أبيها الا في قرح
أوحزن قتزايد لوالدها ولد.
فأجاب . زيادة الولد عنده فرح , وموته بعد ذلك حزن , وموت عبده
النفيس ليس بحزن لأن الأيمان لم تقع علي هذا ,قاله سحنون .
من حلف لا يجتمع مع أخيه في فرح أو حزن
فلا شيء عليه اذا حضر جنازته
وسئل ابن البرا عمن خطب البن اخيه من أخيه فلم يسعفه فحلف
لا حاضره في فرح ولا حزن , فمات المحلوف عليه , فهل للحالف حضور دفنه
وتكفينه وتعزيته أم لا .
قأجاب بأنه يحضره بعد الموت اذا قصد الحالف ايالم نفس اخيه قي
عدم أجتماعه معه فيما جرت العادهلائتلاف القرابه به , فاذا مات فلا ايلام ,
الا أن يزيد بقوله لا حاضره ولا حضر كل ما ينسب اليه قصد المباعده والقطيعه
فحضور جنازته هو مما ينسب اليه .
وقد سئل مالك عمن حلفت لا تحضر لأختها محيا ولا مماتا , فماتت بنت
أخنها فأرادت أنتطارها عند باب المسجد لتصلي عليها , ويمينها بالمشي الي
مكه , فكره مالك ذللك لها وهي لم تعز ولم تهن ولم تحضر مشهدها , والحنث
(1/74)
________________________________________
يكون بأقل سبب , فترك ذللك أحسن الا أن قوله قوي في أرادة الحياه ولما
عرف عادة بايلامه بعدم حضوره .
[78/2]
[79/2]
كل ما أجمعت الأمه علي أنه من أسمائه تعالي تنعقد به اليمين
وسئل السيوري عن حديث ان لله تسعة وتسعين اسما الحديث.
قأجاب بأنه لا يسمي الا ما
سمي به نفسه في كتابه او أجتمعت الأمه
عليه أو حديث متواتر ولم يأت من طريق الحاد . واختلف الناس هل يسمي
بما لم يأتي به من نص قياسا علي ماوقع عليه النص ولا منعه عقل ولا سمع
ومعناه صحيح , هل يجوز أو يمنع أو يتوقف فيه .
من قالت كل ماغزلته صدقه لزمها ماتوت من غزل أو ثمنه
وسئل بعض القرويين عن المراه تقول كل ما غزلته بأطفاري من صدقه .
فأجاب يلزمها ما ألتزمت , فان أرادت الغزل أخرجته , وأن أرادت
ثمنه أخرجته .
وسئل عمن حلف ليشترين دار يزيد .
فأجاب . يأنه يشتريها بثمن مثلها في الوقت فان طلبوا منه ثمنا فاحشا
فلا تلزمه يمين .
من تصدق علي مسجد بزيت لا يجتاجها
بيعت الزيت وجعلت في مصلحته
وسئل عما نذر أن يشعل قنديلا في مسجد ما دلم حيا فأتاه رجل
بزيت .
فأجاب بأنه يباع ويشتري بثمنه ما يصلح بالمسجد لغناه بزيت الأول .
وسئل عما يجتمع من تخلف المؤذنين علي أن يأكلوه.
فأجاب لا بأس يذلك اذا كان علي وجه النشاط والمواطبه .
من حلف علي طعام أخته فلا بطعام زوجها
وسئا عمن حلف لا يأكل من طعام أخته فأكل من طعام زوجها .
[79/2]
[80/2]
فأجاب لاشئ عليه الا أن يريد طعاما تصنعه فصنعت طعاما لزوجها
فانه يحنث بأكله .
من قبض اجرته علي عمل لم يشرع فيه حنث اذا حلف انه لا مال له
وسئل عمن قبض اجرته علي عمل شئ لم يشرع فيه وحلف أنه
لا يملك شيئا .
فأجاب بأنه قد حنث لأن الاجرة ملكها وضمانها منه .
وسئل : عمن حلفت ان تنكح ابنتها فلانة ولا تراها في دار .
فأجاب ان كانت يمينها علي الأمرين حنثت بأحدهما وان كان قصدها
ان نكحت فلانة فلا تراها في دارفنكحت فلا تحنث الا اذا رأتها حيث
ذكرت .
(1/75)
________________________________________
من حلف علي رجل لياكلن بر بثلاث لقم
وسئل عمن حلف علي رجل ليأكلن .
فأجاب بأنه يبرا بثلاث لقم وقيل ان كان أول الطعام فلا تبرئه الثلاث
وان كان في اخر ابرأته .
وسئل : عمن حلف لا يعمل الا ما يعمل الشرع .
فأجاب لا يخبر القاضي بيمينه , ولا يترك شيئا بما يحكم له به .
وسئل عمن حلف أن لا يأكل عن فلان ولا هذه ورفع شيئا من
الأرض .
فأجاب بأنه قد خرج مخرج المبالغة ومقصوده ان لا يأكل عنه قليلا
ولا كثيرا , فان أكل فقد حنث .
من حلف لا يعيد مع أهله خرج عن بلده
ورجع في ثاني عيد الفطر ورابع الأضحي
وسئل عمن حلف أن لا يعيد مع أهله .
[80/2]
[81/2]
فأجاب يخرج من بلده الي بلد اخر ولو قربت مسافته , ولا يرجع الا في
اليوم الثاني ان كان عيد الفطر , وان كان عيد الأضحي فلا يرجع الا بعد ثلاثه أيام .
من حلف لا أكل ما خبزته زوجته
وسئل عمن حلف لا أكل لزوجته خبزا فأكل ما خبزته قبل اليمين .
فأجاب ان كانت نيته فيما يستقبل فلا شئ عليه والا حنث .
من حلف لا يحضر وليمة امتنع عليه أكل أي طعام صنع لها
وسئل عمن حلف أن لا يحضر وليمة .
فأجاب لا يحضر في الصباح ولا في الثالث ولا فيما يفعل من الطعام
لأجل الوليمة .
وسئل عمن خرق لرجل ثوبا وحلف ليغرمنه .
فأجاب لا يبرأ الا بالقيمة يوم الخرق لا بغيرها , ويجوز بعد معرفة قيمه
الثوب أن يعطيه ما راضيا عليه بالقيمة وأكثر منها ولا يجوز بدونها الا أن تكون
له نية .
وسئل عمن يقول لأصحابه ان فعلت كذا فأنا أشبعكم ففعل .
فأجاب يندب الي ذلك ولا يقضي عليه .
يكفي الناذر لصدقه أو صوم اخراج درهم وصوم يوم
وسئل عمن نذر صدقه ولم يقدرها .
فأجاب يجزئه درهم : وكذلك نذر صوم يجزئه يوم ويستحب ثلاثه
أيام , الا أن تكون عادة الحالف صوم العام .
لا محذور في زيارة العلماء وقبور الصالحين واثارهم
وسئل عمن نذر زيارة قبر رجل صالح أو حي .
[81/2]
[82/2]
فأجاب يلزمه ما نذر وان عمل فيه المطي . " ابن عبد البر " : كل
(1/76)
________________________________________
عبادة أو زيارة أو رباط أو غير ذلك من الطاعة غير الصلاة فيلزمه الاتيان اليه ,
وحديث "لا تعمل المطي "مخصوص بالصلاة . وأما ريارة الأحياء من الاخوان
والمشيخة ونذر ذلك والرباط ونحوه فلا خلاف في ذلك , والسنه تهدي اليه من
زيارة الأخ في الله والرباط في الأماكن التي يرابط بها . وتوقف بعض الناس في
في زيارة القبور وأثارة الصالحين ,ولا يتوقف في ذلك لأنه من العبادات غير
الصلاة ولأنه من باب الزيارة والتذكير لقوله : زوروا القبور تذكركم الموت ,
وكان صلي الله عليه وسلم يأتي حراء وهو بمكة ., ويأتي قباء وهو بالمدينة , والخير
في اتباعه صلي الله عليه وسلم واقتفاء اثاره قولا وفعلا , لا سيما فيمن طهرت
الطاعه فيه .
من حلف بالله ونوي صوم عام لزمته كفارة يمين
وسئل عمن حلف بالله ونوي صوم عام كذا .
فأجاب يكفر اذا حنث كفارة يمين , لأن اسم الله لا يقبل الكناية
بوجه .
من التزم عن غيره كفارة يمين لزمته ولا شئ علي الحانث
وسئل عمن التزم الكفارة عن غيره اذا حنث .
فأجاب يلزم الملتزم الوفاء بها وعهدتها عليه ولا شئ علي الحالف .
من حلف لا أكل طعام شخص فأكل طعام شريكه
وسئل " القابسي " عن رجل حلف أن لا يأكل لرجل طعاما أبدا فأكل
عند شريكه طعاما وهو لا يعلم , وهو شريكه في كل ما عندة شركه مفاوضة .
فأجاب ان أكل عنده مما للشريك أن يطعمه علي وجه الاستيلاف
للحريف فيكون ذلك من وجه التجارة التي تجر المنفعة اليها فالاكل حانث ,
وان كان علي غير هذا حتي يكون الشريك متعديا فيما أطعم هذا فليس علي
الاكل حنث ان شاء الله .
[82/2]
[83/2]
من حلف لحلفن خصمه بالمصحف لم يسجب له
وسئل عمن حلف بالمشي الي مكة لا حلف خصمه الا بالمصحف في
جامع سوسة .
فأجاب أما ما أراد أن يحلف بالمصحف وحلف عليه بالمشي الي مكة
فلا يحلفه الا بالله الذي لا اله الا هو , هذا الذي يقع به الحكم , وليس من أجل
(1/77)
________________________________________
يمينه تغير الأحكام , ولست أفتي احدا أن يحلف بالمصحف ولا يحلف به .
من حلف بالله وبالمصحف لزمته كفارة واحدة اذا حنث
وسئل عمن يحلف بالله وبالمصحف علي شئ واحد ثم يحنث ماذا عليه
من الكفارة , أكفارة واحدة أم كفارتان
فأجاب كفارة واحدة تجزئ الحالف بالمصحف , لأنه انما يقصد الي اليمين
بالقران الذي هو كلام الله , فاذا قال وحق الله وحق المصحف . فانما قال
وحق الله وحق كلامه . ومن حلف هكذا فهو حالف بيمين واحدة كأنه يقول
والله المتكلم والله السيميع العليم والله البصير وكل هذا يمين واحدة تجزئه .
من حلف أن يتصدق بما يجعل له من أجر عمله
تصدق بما زاد علي حاجته
وسئل عمن حلف أن لا يعمل قبالة وقال متي هو عملها فالأجرة
التي أخذ فيها صدقة لوجه الله تعالي فاضطر الي عمل القبالة .
فأجاب اذا اضطر اليها فعمل بها مرة وتصدق بأجرتها لم ترجع عليه
اليمين بعد الا أن يكون مراده بقوله متي كلما عملت القبالة فالأجرة التي اخذ فيها
صدقه فهذا أشد عليه , فان مراده واضطر الي ذلك فعمل بمقدار ما يلزمه
من فرض نفقة أهله الذين تلزمه نفقتهم ونفقة نفسه الواجبة فهو في سعة من
ذلك ان شاء الله , وان فضل بيده بعد لوازم النفقات شئ تصدق به , هذا
الذي حضرني في مسألتك والله أعلم .
[83/2]
[84/2]
من نذر صدقة لم يعينها تصدق بما يتصدق به في الأيمان
وسئل عن امرأه تنازعت مع أخري فقالت لها الصدقة علي واجبة
لا حضرت لنا فرحا ولا حزنا تعني المرأه التي تنازعت معها أجملت فيها نفسها
وقرابتها واستثنت في نفسها ولا من لي عليه حكم .
فأجاب ما لم تحضر لهم المرأة المحلوف عليها فليس عليها شئ . فان
حضرت عندها أو عند من حلفت عليه أنها لا تحضر عنده حنثت بالصدقة
فان كانت سمت صدقة شئ معين تصدقت به , وان كانت انما قالت الصدقة
فقط هكذا ولم تجعل في نفسها التي تصدقت به ما هو , فلتتصدق بشئ يكون
(1/78)
________________________________________
بصدقة مثله الايمان , وهي أعلم بما قصدت اليه , فان ايقنت أنها لم تقصد الي
شئ , فما تصدقت به علي من يستحق الصدقة فهو يجزيها ان شاء الله .
من حلف بصدقه ثيابه وهو فقير أمسكها وأخرج قيمتها شيئا فشيئا
وسئل عن امرأة ذكرت أنها فقيرة وتمسكنت وبكت حلفت بصدقة ازارها
لا تلبسه ابنه لها فلبسته وجعلت تذكر فاقتها وحاجتها .
فأجاب بأن قال لها قوميه ثم أمسكيه وأخرجي قيمته شيئا فشيئا كلما
وجدت شيئا , ثم قد أفتي به " أبو الفضل " رجلا أتاه ذكر أنه حلف بصدقة ثيابه
فحنث وهو فقير , فقال له أخرج قيمتها شيئا فشيئا كلما وجدت شيئا وتيسر
لك .
من حلف لا يشهد وتعينت في حقه شهادة أداها وحنث في يمينه
وسئل عن رجل رأي ما الناس عليه من الشهادات اذا شهدوا ومن
التشدد عليهم , فحلف أنه لا يشهد شهادة أبدا ولم يذكر في وقت يمينه
التعديل والتجريح , ولو ذكرهما لأدخلهما في نيته , فهل له أن يعدل أو يجرح
فأجاب تعديله وتجريحه للبينات شهادة , لأن مقالته انما تكون عند
الحاكم أو عند من ينقلها الي الحاكم عنه , وقد كانت يمينه خطأ منه اذا لزمته
شهادة وليس من يقوم بها الاهو ولا ينفع فيها الا شهادته , فعليه أن يؤدي
شهادته ويحنث في يمينه ما كانت , والله ولي التوفيق .
[84/2]
[85/2]
من علق فعل طاعه علي اراده شخص لزمته
وسئل سيدي " محمد بن مرزوق " عمن قال لله علي صلاه أو صوم
أو حج ان شاء زيد , فان المنصوص للشافعيه عدم اللزوم ان شاء زيد .
ويستفاد في المدونه اللزوم وهو مشكل , لأن هذه عبادة لأجل الناس , وكل
عبادة أجلهم باطلة , لأن الحامل له عليها مشيئة فلان , ولا معني لايقاع
العبادة لأجلهم الا نحو هذا . وأما بيان الكبري فالشريعة طافحة بأن من
شرط العبادة الأخلاص . نعم يمكن أن يكون المانع من الحج مثلا أو الجهاد
أو صوم الدهر المحافطة علي قلب الأبوين , فيعلق الولد شيئا من هذه
(1/79)
________________________________________
العبادات علي مشيئة أحدهما , فاذا شاء لزمه ذلك , فان طاعتهما في ترك هذه
فواضح , وان عم فمشكل .
فأجاب لا شك أن مقتضي المدونه اللزوم كما ذكرتم , من ذلك قوله في
كتاب الأيمان والنذور , ولا استثناء في طلاق ولا عتاق ولا مشي ولا صدقة ,
ولو قال في ذلك ان شاء فلان لم يلزمه شئ حتي يشاء فلان انتهي . ومن
تمليك المرأة بقوله لها ان شئت أو شاء فلان , ومن ذلك قوله في العتق الأول .
من قال انها طالق ان شاء الله لزمه الطلاق حالا
وسئل " ابن القاسم " عمن قال لأمته انت حرة ان رضيت أو هويت
أو شئت أو أردت حتي متي يكون لها ذلك
فقال : ذلك لها وان قاما من مجلسهما , مثل التمليك في المرأة . ثم قال
بعد : وان قال لها أنت طالق ان شئت أو شاء فلان لم تطلق حتي ينطر ما شاء
فلان , ولو قال ان شاء الله لم ينفعه وطلقت مكانها انتهي . ولم تقع هذه في
الكتاب , أعني قوله طالق ان شئت , علي أن الاسناد للمتكلم الاهنا .
فان قلت : ليس الطلاق والعتق من النذر حتي يذكر دليلا علي لزوم
النذر المعلق علي مشيئة فلان وبمشيئته .
قلت : بل حكم الجميع واحد . ألا تري الي قول " ابن الحاجب والنذور "
[85/2]
[86/2]
والطلاق والعتق علي صفة فيهن تسمي يمينا وهي في التحقيق تعليق انتهي .
وكذلك نص عليه ابن بشير وغيره , وهذا ايضا من النصوص الدالة علي لزوم
مثل هذا النذر , ومثله لابن الجلاب . ولا اشكال في لزوم مثل هذا النذر اذ
لا فرق بينه وبين ما لزمه الشافعية من قولهم ان شفاء الله مريضي في كونه
معلقا علي مجهول الوقوع محتمله , فكما يلزمه ان وقع شفاء المريض يلزمه ان
وقعت مشيئة زيد , لأن كلا منهما وقت للصوم الملتزم , ولو كان الصوم عندما
يشاؤه زيد لزيد لكانم الصوم عندما يشفي المريض , لشفاء المريض , لكن الصوم
المريض لا معني له فكذلك الصوم لزيد , وانما المعني أصوم لله ان شفي
المريض , وأصوم ان شاء زيد ذلك , فالصوم لله لمشيئته زيد ذلك , كما أن من
(1/80)
________________________________________
قال لله علي أن أصوم يلزمه الصوم لله لمشيئته اياه , وكما لا يعد ذلك لأجل
الناس الذي هو نفس الملتزم كذلك صومه لله انشاءزيد ذلك لا بعد ذلك
عبادة لأجل زيد , وصاري الأمر أنه وكل زيدا علي أن عنه من الصوم
ما يصح له أن يشاءه , فهذه عبادة الله لأجل مشيئة الناس اياه , وباب
النذور كله من ذلك . لأن عبادة الله أما بالزام الله اياه اما بالزام الناس أنفسهم اياها
أو من أقاموه مقان أنفسهم في الالزام , فالنذور عبادة الله لأجل شميءة الناس
اياها , فلو كان هذا النذر قادحا لأمتنع الأتيان بالنذر مطلقا شاءه الناذر لنفسه
أو شاءه له غيره , وانما العبادة التي تمنع لأجل الناس ما يقصد بها التمليك
للمعبود كالكفار الذين يعبدون المخلوقين من الناس , أو مايقصد ثوابها منهم
وهي عبادة المرائي الذي يعبد لتحصيل مصلحه من الناس أو دفع مفسده
منهم ولا يريد
ثواب الله خالصا , فقولكم في الصغري هي عبادة لأجل الناس
الن عنيتم بأحد هذين المعنيين عبادة الكفار والمرائي فممنوع قول هذه العباده
المعلقة علي مشيئة زيد من احد النوعين , وحكم الكبري أرادتها بأحد هذين
المعنيين مسلم , أن عنيتم كونه لله الا أنها معلقة علي مشيئة الناس فممنوع
وحكم الكبري حينئذ أن أردتها بأحد المعنيين يسلم أيضا ولا ينتج القياس
لعدم تكرر الوسط , وان أردتها بهذا بهذا المعني فممنوع قولكم الشريعه طافحه بأن
من شرط العباده الأخلاص , قلنا صحيح لكن معني معني الأخلاص أن لا يريد
العباد بالعباده غير الله لا علي الأنفراد ولا مع الشركة , وكذلك هو هنا فانه
انما يصوم أو يصلي لله لكن جعل وقت تلك العباده المخلصه لله مشيئة زيد
[86/2]
[87/2]
اياها كما لو نذر صوما يأتي ولا غيار عليه , فقح أن هذا القياس من
المغالطات , فان المغلط نشأ من أشتراك لفط الوسط وهو قولكم لأجل الناس
فان معناه في الصغري لأجل شميئتهم ولا لغير ذلك ولا يسلم حكمها
(1/81)
________________________________________
الاعلي هذا المعني , وهو في الكبري ان لميسلم حكمها لا يصح الا بأحد
المعنيين الممنوعين في الصغري , فلا تلاقي بين المقدمتين المسلم حكمها اذا
لتباين معني الوسط فيهما لا تنتجان , واذا أخذ في الكبري بالمعني الذي سلم
أخذه به في الصغري فحكمها ممنوع , فاذا طهر تعددمعاني قولكم لأجل
الناس لم يصح الحضر قي قولكم ولا معني لايقاع العباده لأجلهم الا نحو
هذا , ولو كانت العباده لأجل مشيئة الناس تمنع الأخلاص لمنعت منه مشيئة
الأبوين في الصور التي استثنيتموها , اذ لا فرق في امتناع اخلاص العباده
للناس أو مشاركتهم فيها مع المعبود بحق وهو الله جل جلاله بين الأبوين
وغيرهما وهو في غاية الوضوح .
فان قلت .العباده عند مشيئة الأبوين مل منع منه لله سبحانه لا لهما .
قلت . وكذا العباده عند مشيئة زيد لله تعالي لا لزيد .
فان قلت . جري في بحثكم أن قصاري الأمر أنه وكل زيدا علي أن
يشاء عنه هذا ولا يصلح , لأن النذر من باب الأيمان والوكاله لا تجوز في مثل
يمين ولا طهار لأن خقيقتها نيابه فيما تتعين فيه المباشره , وحينئذ قالأشكال باق
علي الحكم الذي ذكر في المدونه , اما لما ذكر أولا جوابكم لا يتم بهذا القدح
واما لهذا الأعتراض المذكور الأن .
قلت . ما ذكرناه عن أمر الوكاله ليس هو المعتمد في الجواب وانما ذكرناه
تأنيسا , وانما معتمدنا تحقيق معني العباده لأجل الناس الذي جاء الأشكال من
اطلاقه , وقد فسرناه بما لا اشكال فيه , وأيضا فاليمين التي لا تصح فيها
الوكاله هي التي يحلفها اللنسان علي صحة مليعتقده فهي متضمنه للخبر عن
فعل غير الوكيل ولا يدري الوكيل حقيفة ما يحلف عليه , وأما النذر فتسميته يمينا مجاز ,
وانما هو في الحقيقه تعليق كما ذكر ابن الحاجب , وكما صحت النيابه فيما ذكر معه من
الطلاق والعتق كذلك تصح فيه , وأيضا فاليمين التي تمنع فيه النيابه هي التي يعقدها
الوكيل , واما هذه فمعتقده قد عقدها الموكل وانما في تحصيل ما.
[
(1/82)
________________________________________
87/2]
[88/2]
علقت عليه . وأنطر هل يعارض قول أهل المذهب لا نيابه في اليمين مع ما
وقع في العتبيه , وكتاب ابن المواز من لزوم اليمين لمن قال لغيره أحلف ويميني
في يمينك .
من نذر صلاة كرعتين جالسا جازله القيام
وسئل . عمن نذر ركعتين جالسا , قال ابن شاز جاز أن يصليهما قائما ,
قد يقال لم لا يلزم القعود كما لزم المشي في الحج . فلم لزم المشي وهو مرجوح
بالنسبه الي الركوب ولم يلزم القعود وهو مرجوح بالنسبه الي القيسام . الا أن
يقال راجحيه القيام مجمع عليه بخلاف رجحان الركوب , وما أري انه
يتخرج في هذه الخلاف الكائن في غسل الرأس بدلا من مسحه في الوضوء
لأن غسله في الوضوء غير مشروع والقيام هنا مشروع .
فأجاب أنما جاز لناذر الصلاه جالسا أن يأتي بها قائما لأن القيام للصلاه
في محله هي الهيئه المطلوبه , وانما الجلوس كالرخصه والتوسعه علي المصلين
ترغيبا في تحصيل الأجر بالعباده العطيم موقعها من الدين وتحريضا علي
الأستكثار منها , ومع ذلك فأجر الجالس علي النصف من أجر القائم , فمن
نذر مايحصل له نصف أجر فأتي بما يحصل له لأجرا كلملا فقد أتي بالمطلوب
وزيادة لا محاله , ولهذا ايضا لم يختلفوا اذا افتتحها جالسا ثم شاء القيام
فله ذلك , انما أختلفوا في العكس وافتتحعا قائما فأجازه ابن القاسم
كما أنه له ذلك ابتداء ومنعه اشهب لأنه أنتقل من الاعلي الي الأدني , ومن
الأصل الي الفرع , ولما كان في الصوره الأولي متننقلا من الفرع الي الأصل
أتفقي علي الجواز لأنها الحاله المطلوبه ابتداء , والتنطير بالمشي والركوب
لا يستقيم , اذ ليس احدهما أصلا للأخر ,بل كل منهما أصل مقصود بنفسه
كما قصد الأخر , وأنما وقع الخلاف في الأفضل منهما كما أختلف في الفضل
بين الحج النقل والفرض ونحو ذلك مكن العبادات المتفاضله , وكما لا يجزيء
ناذر الحج الغزو أو العكس كذلك لا يجزيء ناذر المشي الركوب لأن كلا
(1/83)
________________________________________
أصل نفسه , ولأن من نذر عبادة مرجوجه بالنسبه الي عبادة أخري
لا تتضمنها لا يجزئه الأتيان بالراجحه المخالفه لها في الجنس بمجردما فيها من
الرجحان , ولا لما تحفف الزوم في نذر كثير من العبادات لجواز تركهاوالاتيات.
[88/2]
[89/2]
بأفضل منها . والركوب مع المشب كذلك لأن القريه تثبت بالمشي لما فيه من
أتعاب النفس كالصوم ولما فيه من التواضع وغير ذلك و والقربه بالركوب لما فيه
من ب1ل المال وأراحة النفس لأستعانه علب عبادة أخري, وأما
التنطير بالغسل مع المسح فلا يصح لما ذكرتم , نعم لو كان مدرك جواز القيام
في هذا الفرع كونه راجحا بالنسبه الي الجلوس أو كونه أتي فيه بالواجب
وزياده كالغسل مع المسح لو صح التنطير به لأمكن خروج الخلاف فيه من
مسائل . أما بأعتبار الرجحان , فمنها من كان في موضع احد المساجد الثلاثه
التي ينذر المشي لها والتزام المشي الي غير ماهو فيه , فعلي القول أنه
لا يأتي بغير ما هو فيه وان كان أفضل مما هو فيه , يلزمه هنا أن يصلي جالسا ,
وأما بأعتبار الأتيانالواجب وزيادة , فمنهم قولهم من نذر المشي الي مكه حاجا
ان العمره لا تجزئه , فلو نواه معتمرا هل يجزئه الحج أم لا . المشهور لا يجزئه
والشاذ يجزئه , فعلي المشهور هنا يصلي جالسا . ومنهم من نذر هديا معينا مما
لا يصل فانه يبيعه ويعوض من جنسه ان بلغ أو أفضل علي الأصح فعلي
القول الصحيح يصلي جالسا , الي غير ذلك من المسائل , ومن هذا أيضا
الخلاف فيمن وجب عليه شاة في خمسة ذود فأعطي بعيرا.
فان قلت . وهل يتخرج فيها الخلاف ممن كان فرضه التيمم لخوف الموت
ان أغتسل لعله أو لبرد فتجشم مشقة الغسل .
قلت , لا , لأن الغسل هنا منهي عنه , وانما أختلف في أجزائه بعد وقوعه
للخلاف في النهي هل يقتضي الفساد أو لا وليس القيام ينهي عنه بل مرغب
فيه .
من قال علي أن أصوم هذا الشهر يوما أجزأه صوم يوم واحد.
وسئل عن أبي أساق التونسي وفي كتاب ابن سحنون ومن قال
(1/84)
________________________________________
لله علي أن أصوم هذا الشهر فعليه أن يصوم يوما واحدا منه , هذا أوضح
لأن يوما بدل من شهر , وقد ذكر ابن الحاجب أن يدل البعض مخصص وقد
انكر عليه ويشهد لهقوله تعالي( ولله علي اناس حج البيت لمن أستطاع اليه
سبيلا) وينبغي أن يقال وكذا بدل الأشتمال كوهبتك عبدي ماله وداري
سكناها وعبدي خدمته وغنمي صوفها ولبنها ونخلي ثمرها ونحو هذا , فيناقش ابن.
[89/2]
[90/2]
الحاجب في أقتصاره علي بدل البعض ,الا أن يجاب بأن بدل الأشتمال قي
معناه فلذلك سكت عنه , وأنطروا لو قال نسائي طوالق فلأنه وفلانه وسكت
وله أربع . وذكر ابن سهل في القائل عبيدي أحرار فلان وفلان وله عبيد سواهما
فقيل يلزمه عنق الجميع وقيل بل الذي سمي فقط , والذي يطهر رجحان
القول بأنه لا يلزمه الا عتق من سمي خاصة علي ما تقدم من كون بدل
البعض مخصصا ,وان كان هذا لا يسميه النحويون بدلا ويتحتم فيه الرفع
فهي من جهة المعني كالبدل , وأنطر هل يوجه القول الاخر بأن هذا من باب
موافقة الخاص لحكم العام وذلك لا يوجب تخصيصا علي الصحيح , ومن
الغريب أن الفخر استبحارهفي علم الأصول أتفق له سهو في هذا فذكر
في تفسيره أن قوله تعالي ( والملائكه يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في
الأرض ) عام يخصصه قوله تعالي في غافر ( ويستغفرون للذين امنوا )بل حقه
أن يقول هي مخصصه بنحو قوله تعالي (ما كان للنبي والذين لأمنوا أن
يستغفروا للمشركين الايه ) عن ابن سحنون . ان نذر أن يصوم هذا اليوم
شهرا فعليه أن يصوم مثل ذلك اليومثلاثين يوما , قد سلم هذا التونسي
وغيره وفيه أشكال , والطاهر يبادي الرأي أنه يلزمه كل يوم سمي بأسم ذلك
اليوم الذي أشالر اليه في نذره من شهر واحد فقط .وبيانه أنه قال علي أن أصوم
هذا الشهر شهرا فشهرا منصوب علي الطرفيه فكأنه ألتزم أن يصوم كل يوم
سمي باسم اليوم البذي اشار اليه في شهر من اشهور , فاذا صام في أي شهر
(1/85)
________________________________________
كان كل يوم يسمي باسم ذلك اليوم المشار اليه في نذره فقد حصل يقينا
الوفاء , كما لو قال لله علي صوم يوم الخميس شهرا قاذا صام كل خميس
اشتمل عليه الشهر فقد أجزأ , وكذلك لوجعل مكان الشهر عاما فصام كل
خميس بالعام فانه يطهر انه قد وفي بنذره, كما لو حلف لأزورنه يوم الخميس
عاما أو شهرا فانه يبرأ اذ كان يزوره كل خميس في العام أو في الشهر , ولو
فال علي أن أصوم هذا اليوم حياتي لأجزأ صوم كل يوم سمي بأسم ذلك
اليوم الذي أشار اليه في نذره , فتأملوا هذا وانطروا ما عندكم فيه.
فأجاب الذي يطهر لي في حكم الفرع الذي نقله التونسي عن
ابن سحنون, ونقله الشيخ عنه ايضا في النواادر أنه انما ألزمه في قوله لله علي
أن أصوم هذا الشهر يوما , يوما من الشهر المذكور لأن هذا اللفط يحتمل ثلاثه .
[90/2]
[91/2]
معان , أحدهما أن يكون هذا الشهر مفعول أصوم واليوم بدل منه يدل بعض
من كل كما ذكرتم والعائد محذوف أي يوما منه , الثاني أن يكون الشهر طرفا
لليوم ويوما مفعول أصوم , الثالث عكسه وهوأن يكون يوما هو الطرف الواقع
فيه الصوم وهذا الشهر هو المفعول , ولا يحتمل اللفط من حيث الطاهر غير
هذه المعاني . ولما كان المعني الثالث محالا عقلا تعين الحمل علي احد الأولين
والازم علي كل منهما انما هو صوم يوم واحد من ذلك الشهر . واما نذره ان
يصوم هذا اليوم شهرا فانما الزمهان يصوم مثل ذلك اليوم ثلاثين لأن هذا
اللفط يحتمل أن يكون معناه أصوم كل يوم يوافق اسم هذا اليوم من الشهور
كما ذهبتم اليه , أو أصوم مثل هذا اليوم مرة واحده في شهر أو يكون شهرا
بدلا من هذا اليوم بدل كل من بعض عكس ما هو المشهور من بدل البعض
من الكل قاله بعضهم في قوله امريء القيس . كأني غذاة البين يوم تحملوا .
فجعل يوما بدل من غداه . أو يكون بدل الشيء من الشيء , أو يكون
بدل البعض من الكل, علي أن يكون معني اليوم الزمان الخاص الذي
(1/86)
________________________________________
هو فيه نحو الله تعالي (اليوم أكملت لكم دينكم ) ويجوز أن يكون اليوم طرفا
وشهرا مفعول أصوم الواقع في اليوم . أو يكون المعني أصوم من الأيام المسمي
باسم هذا اليوم شهرا , فهذه سبعة معاني يحتملها هذا اللفط , وانطر هل يزاد
عليها معني يدل الغلط والبدء . فعلي اعتبار المعني االاول الذي اتخزتم أكثر ما
يلزمه ان يصوم من لمثال ذلك اليوم الموافق في الاسم خمسة وعلي الثاني يلزمه
واحد وعلي باقي الاحتمالات غير السابع يلزمه ايام شهر يكامله من غير تعيين
أيام مسمات فان صامه بالهلال أجزأ ناقصا علي المشهور والا فقولان علي نطر
طاهر في استفادة هذا الخكم من الاحتمال الثالث , ويحتمل أن يزاد غلي الشهر
يوما ان صح بدلا البدا فتأملوه , وعلي الاختمال السابع سلزمه ثلاثون يوما
مسماه باسم ذلك اليوم الذي أشار اليه . وانما تعين الاحتمال السابع المفتي به
دون غيره لأن لفط النذر لما احتمل اكثر وأقل بطل الاقل لأن الذمه لا تتيقن
براءتها , وهو الاحتمال الأول والثاني , وبطل ماعذا السابع أنها وان
شاركته في كونها الأكثر الا أنه بقي احتمال كون اسم اليوم مقصودا فلا تبرأ
الذمه بيقين الا بالمفتي به أنه يستلزم اكثر وتعين الأيام المسماه وهو في
غاية الوضوح وهذا علي القول في هذه القاعده أنه لا يبرأ الا باللأكثر , واما علي .
[91/2]
[92/2]
انه يبرأ بالأقل فانه يلزمه صوم بوم واحد من المسمب بذلك اليوم في شهر من
الشهور كما هو الأحتمال الثاني , ويشبه أن يكون ما اخترتموه انتم استحسانا
حكما بين حكمين وهو غايه في الحسن وان كان من احداث قول ثالث .
قال ابن الحاجب في الصيام . وكره مالك نذر الصوم أو غيره بشرط
أو غيره , ويجب الوفاء بالطاعه منه , فان كان اللفط محتملا لأقل لأكثر ففي
براءته بالأقل قولان , مثل نذر شهر أو نصف شهر .
وفيها ان صام شهرا بالهلال أجزأه ناقصا , وأما بغيره فيكمل انتهي .
(1/87)
________________________________________
وفي كلامه ونقله بحث لسنا الأن لتصحيحه وتحريره , وانما المراد التنبيه علي
النص علي أصل القاعده , ومنها في الايمان وقد علمتم ان هذا الخلاف انما هو
اذا لم تكن للناذر نبة ولم يكن لفطه نصا في شيء بل محتمل كما في هذا الفرع
ولهذا الخلاف نطائر , ومنها من هذا الباب لو نذر يوما بعينه فنسبه ,
وغير ذلك من الفروع التي ذكر ابن الحاجب في هذا المحل . ومنها اذا تحقق
الطلاق وشك أواحده هو أو ثلاث . وان كان في ثبوته مغمز , وشبيه من تيقن
لاطهاره وشك في الحدث , الشك في الفجر لمريد الأكل في رمضان , ووجه
البراءه بالأقل براءة الذمه بالأقل فيما زاد عليه , ووجه لزوم الأكثر تحقق عمارة
الزمه بالألتزام فلا تبرأ الا يقين و كمن شك أصلي ثلاث ركعات أم أربعا .
ومن نسي صلاة لا بعينيها . وانطر هذا من قولهم فيمن نذر هديا مطلقا ان
الشاة تجزيء فاكتفي بالأقل , ونطير ما حافطوا عليه من عدد الأيام وأسمائها في
هذا المحل محافطتهم علي العدد والحريه فيما اذا أوصي بعنق عشرة من عبيد
وله خمسون وما ضارعها من المسائل كما في أول الوصايا الأول ومن العتق
الأول من المدونه , وبسط التنطير لا يخفي فلا تطيل به , وأما توجيهكم لزوم
صوم يوم واحد في اللفط الأوا فانه يدل فحسن , وقد يقال ان جعله مفعولا وهذا
الشهر طرفا أحسن لوجوه , الأول ان البدل يحتاج الي تقدير ضمير لأن ذلك
حكم بدل البعض والأشتمال وهو لا يحتاج اليه , والثاني أن البدل تخصيص
وهوخلاف الأصل فاعاؤه يحتاج الي دليل وهذا الأعراب علي الأصل ,
الثالث أن في هذا الحكم علي تقدير البدليه نطرا , لأن البدل وأن كان حقيقه
عند النحاة التابع المقصود بالحكم بلا واسطه , الا أن ذكر المبدل منه اولا قبل .
[92/2]
[93/2]
الاتيان بالبدل يتعلق به حكم فيبعد الاتيان بالبدل بعد ذلكك كتعقب الاقرار
بالرافع , أو الاقرار بالأقل بعد الأقرار بالأكثر , لا سيما والتخصيص بالبدل لم يعرف
(1/88)
________________________________________
لغير اين الحاجب فينبغي أن لا يقبل , ولولا أن هذه المسأله من باب
التبرعات , والأصل رد المكلف بها الي نيته , لكان في هذا الحكم مغمز ,
وعلي جعل لايوم مفعولا وهذا الشهر طرفا لا يلقانا شيء من ذلك , ولعل هذا
البحث الثالث هو الذي رأي في القائل عبيدي أحرار فلان وفلان من قال
بعتق جميعهم , ويقوي ذلك عنده تغليب حق الادمي في العتق ان كان من
التبرعات , ولعل الحكم في الطلاق ولزوم طلاق الجميع لأنه أقوي في اعتبار
اللزوم من العتق , وهوالذي يناسب مذهب البصريين في المسألتين
المشهورتين , وهو اذا قال لنسائه احداكن طالق أو أمرأته طالق ولم ينو معينه أو
نواها ونسيها , فان المصريين قالوا عن مالك أنهن يطلقن كلهن , وقال
المدنيون يختار , واذا قال في العتق مثل ذلك لعبيده فقال المصريون وكثير من
غيرهم يختار . والفرق بينهم علي قول المصريين عسير جدا , وقد تكلم الناس
في ذلك من المتقدمين والمتأخرين وأطالوا في شيء منه ما تطمئن النفس
وقد أطال القرافي في قواعده في ذلك وزعم أنه حققه , وبحث معه في
ذلك الامام العلامه المحقق ابو موسي بن الامام من أشياخ من أشياخنا رضي
الله عنهم , ونقلت محل كلامهما وكلام غيرهما وبحثت معهما بما انتهت
اليه قريحتي الخامده وأودعت ذلك كله كتابي المنزع النبيل , في شرح
مختصر خليل , يسر الله في تمامه يمنه وفضله .
وأما ما ذكرتم من أن ابن الحاجب أنكر عليه جعل بدل البعض
مخصصا , فما علمت من انكر ذلك عليه غير الأصبهاني قائلا فيه نطر فان
المبدل في حكم الطرح والبدل قد أقيم مقامه فلا يكون مخصصا له انتهي .
وهذا الأعتراض ان تأملته انما هو تقرير للتخصيص لا رفعه , فان قوله في
حكم الطرح ان عني بالمعني لأن البدل هو التابع المقصود بالحكم فمسلم
وهو معني التخصيص , لأن البدل بين أن اللفط العام المذكور قبله هو مقصور
علي ما دل عليه البدل دون سائر مادل عليه اللفط العام , وان عني في الحكم
(1/89)
________________________________________
الطرح في اللفط وأنه لا حكم له في اللفط أصلا لا من حيث الدلاله ولا .
[93/2]
[94/2]
عيرها فعناد , فانه ملفوط به وله أعم من البدل . ولو بطل كون البدل
مخصصا بهذا الأعتبار بطل كل مخصص ولاسيما الأستثناء فانه أشد مشابهه
بالبدل من غيره لأن المستثني منه مطرح من جهه ارادة مدلوله بعد ذكر المستثني .
هذا من حيث الجملة ولو كان قد اختلف في تقرير الدلاله فيه الخلاف
المعلوم , واطن هذا الغلط نشأ من حمل قولهم المبدل منه في حكم الطرح علي
ان مرادهم في حكم الطرح لفطا . ونطير هذا الوهم امتناع الزمخشري من
اعراب ان أعبدوا الله من قوله تعالي ( ما قلت لهم ألا ما امرتني به أن اعبدوا
الله ) بدلا من الضمير في به طنا من ان المبدل منه في قوة الساقط فتبقي الصلة
فلا عائد وهو وهم , لأن العائد موجود فلا مانع وانما نية الطرح من جهة
المعني قال ابن هشام في أول كتابه المغني . وأما مناقشتكم ابن الحاجب في كونه
لم يجعل بدل الأشتمال مخصصا حتي قلتم ولعله سكت عنه لكونه بمعني يدل
البعض فالجواب ان حد المخصص عند ابن الحاجب صادق علي بدل البعض
كما أشرنا اليه اذ هوعلي ما أختاروا وان كان فيه بحث , قصر العام علي
بعض مسمياته , وبدل العض من مسميات العام وقد قصر عليه .
وأما بدل الأشتمال فكونه بدل المصدر ومعناه من الأسم لم يدخل في
مدلول العام قط لأن المصدر اسم معني فلا يدخل في اسم العين , لأنهما
حقيقتان متغايرتان , فلا يدخل بدل الأشتمال في حقيقة التخصيص , فلذا لم
يذكره ابن الحاجب كغيره من الأبدال , وان كانت العلةفي غير بدل الأشتمال
غير ما ذكرنا في علته , وعلي هذا تطلفر شراحه كلهم حتي قال الأصبهاني
المنكر عليه ما قال في بدل البعض وخصص المحض بدل البعض بكونه
مخصصا دون الابدال الباقيه لكونها غير مساويه له وقال . وانما خص بدل
البعض لأن غيره من الابدال لا يكون مخصصا اما لعدم التناول كبدل الغلط
(1/90)
________________________________________
أو الأشتمال أو لعدم الاخراج كبدل الكل . وقال اعلامه الشيرازي وعله
تخصيص بدل البعض بذلك دون غيره من الابدال لا يخفي علي الذكي
الفطن , اذ لا يتصور التخصيص في غيره بطهر بالتأمل , واستدلالكم علي
صحة كون بدل البعض مخصصا بالايه الكريمه صحيح لو تعين كون من بدلا
وقد بغير ذلك ككونه فاعلا بحج وان كان ابن ابي الربيع وغيره رد هذا
الاعراب من جهة المعني ومن جهة الصناعة بما لا أرتضيه فتأملوه , والمثالان .
[94/2]
[95/2]
الذي ذكرتم من الطلاق والعتاق لم اقف علي النص في عينها , وأصول
المذهب تقتضي أن يقال . ان ذكر بعض ذكر الجمع ثلاثه وسكت عما بعدها
وادعي فائل ذلك انه يري الخصوص لأولا بقوله نسائي وعبيدي وان من ذكر
في تفسير هو مراده أولا فانه يقبل , وان ذكر اثنتين بعد الجمع وادعي-نية
الخوصوص ايضا فعلي القول بأن اقل الجمع اثنان يقبل ايضا وعلي القول بأنه
ثلاثة لا يقبل , وهذا كله ان كانت مرافعة أو بينه أو أقرار . ولعل هذا مدرك
ما حكيتم من الخلاف عن ابن سهل في المثال المذكور . ورأي من بعتق
الجميع , وان دعي نية التخصيص من سمي انه أدعي ما خالف فيه طاهر
اللفط النيه لأن طاهر الجمع عنده الثلاثه فما فوق فلا تقبل نيته , أما أن لم
تكن له نية في الخصوص ولا في تفسير الجمع بما ذكر من ثلاثة أو أقل فأنه
يطلق الجميع علي ماذكر ولم يذكر وفي العتق نطر . ويدل علي قوله أنه ادعي
نية ولزوم الجميع ان لم يدعها المسألتان اللتان أشرنا اليهما وهما احدي نسائي
أو أحد عبيدي فانهما قريبتا الشبه بهاتين المسألتين , وكذا في الحلال علي حرام
من الخلاف اذا أخرج الزوجه , وهنا أقوي في القبول للنطر بما ادعي نية . وفي
الايمان من النوادر من المجموعة . قال ابن الماجشون ان حلف بالطلاق في مال
ليدفعنه وقت كذا وله نساء , فقال نويت فلانه فذلك له , وهي النيه فيها ,
ويحلف ما اراد الا هذه , ولو حلف بتحريم ما احل الله له وقد علم من حلفه
(1/91)
________________________________________
ما عنده من الزوجات فهن اجمع طوالق بالنيه لأنه لم يخص بعضا من بعض ,
واذا لم يعلم الذي حلفه تعدد ما عنده , فان قال لم انو أن أعم انما أردت
واحده غير معينة حلف أنه لم يرد أن يعم ولا نوي ولحدة بعينها طلقت عليه
بالنية بعد يمينه ما نوي غيرها ولا عم . ولو قال حلفت بطلاق زينب ونويت
واحدة وليس زينب , فانه تطلق عليه واحدة يختارها بعد ان يحبف ما نوي
واحدة بعينها الا ما نوي من التي ليست عنده . ولو قال حرام علي ما أحل لي
وصاحبه لا يعلم أن عنده أكثر من ولحدة وقال أردت زينب وسميتها له ولم أرد
أحدا ممن عنده فانه يطلق عليه نساؤه أمع بالبته انتهي . فهذه المسائل تدل
علي انه ان نوي بمن ذكر بعد الجميع التفسير قبلت نيته , وان لم ينو ذلك
طلق الجميع , وقد يقال انه قبوله هنا أجري للأنه اذا قبل ادعاؤه نية الخصوص
من غير نطق فمع النطق أحري .
[95/2]
[96/2]
ومما يقرب من النص في فرع الطلاق مافي الوصايا من النوادر وقال
ومن المجموعه قال ابن كنانه فيمن قال في مرضه خيار رقيقي أحرار , فقيل
له . من خيارهم . فقال فلان وفلان , قال لا يعتق الا من سمي ولا
عتق لباقيهم . ومن المجموعه قال سحنون ومن أوصي أن يعتق عليه بعض عبيده
فليعتق ما لا يشك أنه بعضهم وهو عبد واحد ولا يكون نصف عبد بعض
عبيده , ومن قال بعض رقيقي أو قال حر فأما قوله حر فهو واحد من
اثنين أو ثلاثه , وان قال أحرار فهم اثنان من ثلاثه فأكثر منها أنتهي .
وذكر ايضا فرع سحنون في كتاب العتق . وذكره ايضا ابن يونس في
الوصايا . وما قاله في أحرار أنه يصدق علي اثنين من ثلاثه فأكثر يدل علي أن
التفسبر في اثنين من هذين الفرعين يقبل , وان أقل الجمع . اثنان . وفرع ابن كنانه
أيضا قوي في المشابهه من حيث قال أنه لا يعتق الا من سمي , فانه يقتضي
التخصيص بمن سمي ولو كان فيهم من الخيار غير من سمي . وقوته تقتضي
(1/92)
________________________________________
أن العمل علي التسميه ولو سمي اثنين بعد صيغة الجمع . فطاهر هذه النصوص
موافق لما طهر لكم من ترجيح القول بلزوم عتق من سمي فقط وهو في غاية
الطهور في الفرعين وفي العتق أقوي لقول الأكثر انه يجتاز من يعتق في أحد
عبيدي ولم ينو أحد أو نواه ونسبه .
وأما قولكم. وانطر هل يوجه القول اخر بأنه موافقة الخاص حكم
العام ولا يخصص علي الصحيح .
فأقول . اما مع ادعائه نية التخصيص أولا وأنه أراد بنسائي وعبيدي من
فسر بالتعين فليس منها , اذ لا موافقة علي هذا التقدير فان العام يدل علي من
عينه وغيره , والخاص علي هذا التقدير انما أريد هو خاصة مع اخراج غيره ,
ونطير هذا الأحتجاج احتجاجهم علي القول بأن دية اليهودي الثلث فانه لا يصح
التمسك بالأجماع فيه واحتجاجهم علي ان المباح ليس جنس الواجب وردهم
علي القول الأخر في المسألتين فتأملوه , فلو كان هذا من موالفقة الخاص حكم
العام الذي يمنع التخصيص لكان التخصيص ببدل البعض من ذلك قيما
استدللتم منقوله تعالي ( ولله علي الناس حج البيت لمن أستطاع اليه سبيلا)
الأيه , ولكان التخصيص بالشرط والصفه من ذلك وبطلان التالي يدل علي
فساد المقدم , وأما الذي يوافق الخاص فيه حكم العام ولا مخصص مثل ما .
[96/2]
[97/2]
مثل به ابن الحاجب من قوله صلي الله عليه وسلم دباغها طهورها نع أيما
اهاب من غير ان ينص علي ان الحكم الخاص بشاة ميمونة , فحينئذ يقال لا
مناقاة , واما مع حصر الحكم علي محل التخصيص ينص أو قريته فالخاص
مخالف لحكم العام لا موافق له في مسلأتنا مع ادعاء نية التخصيص فانه يقول
مل أردت بنسائي الا من عينت منهم , ومن هنا يتبين أن قول الفخر
ويستغفرون لمن في الأرض عام بخصصه ( ويستغفرون للذين امنوا لا
لغيرهم ) ومن في الأرض يعم الذين أمنوا وغيرهم بحسب الوضع ومع قطع
النطر عن ادلة التخصيص اذا تقررت المخالفة بطل توجيه القول المذكور بأنه
(1/93)
________________________________________
من موالفقة الخاص حكم العام فيتعين أن يكون وجهه هو ما أشرنا اليه فبل
انه ادعي نية ما يخالفه طاهر اللفط بناء علي أن أقل الجمع ثلاثة والله أعلم ,
وأما ان قال لم أرد الخصوص فلا ينبغي أن يختلف في لزوم تطليق الجميع لأنه
حينئذ يكون من موافقة الخاص حكم العام .
ويشبه هذا البحث ما قرره (القرافي ) في كثير من كتبه : (القواعد والذخيرة )
واختصاره علي الجلاب , وكتاب وضعه في الايمان وقطف عليه من الفرق بين
النية المذكورة والمخصصة , وأشار الي أنه ذهب عن كل من لقي من أهل
العصر فلا يكادون يتعرضون عند الفتاوي اليه ويقولون للحالف لا ألبس ثوبا
ونوي الكتان لا حنث عليه بغيره وهو خطأ باجماع , قال وكشف الغطاء أنه ان
نوي باللف العام كل أفراده حنث بكل منها وكانت نيته مؤكدة لصيغة
العام , وان أطلقه بغير نية ولا بساط ولا عادة جارية حنث أيضا بكل فرد
للوضع , وان نوي بعض أفراده وغفل عن البعض الاخر غير متعرض له بنفي
ولا اثبات حنث في البعض المنوي باللفط والنية وفي الاخر باللفط فانه مستقل
بالحكم غير مجتاج الي النية بصراحته , فان الصريح لا يحتاج الي غيره , وان
أطلقه ونوي اخراج بعض أفراده فانه لا يحنث بذلك البعض لأن نيتة مخصصة
لعموم اللفط بخلاف الأولي . قال وسبب الغلط الغفلة عن شرط المخصص
وهو كونه منافيا للمخصص وقصد بعض الأفراد مع الغفلة عن الاخر لا ينافي
مقتضي اللفط فلم توجد حقييقه المخصص لفوات شرطه انتهي محصول ما ذكر
مختصرا . ورد عليه جماعة ممن ألف عليه وغيرهم , منهم العلامة المحقق السيد
[97/2]
[98/2]
أبو موسي ابن الامام من أشياخ أشياخنا رحمهم الله بما يطول جلبه والبحث
فيه .
وتأملوا كثرة ما وقع من مسائل المذهب أنه لا يحنث بغير ما نوي , ولا
يقيدون بأن ذلك أن يتعرض عند نية ما نوي من الأفراد الي اخراج
غيره , فلو كان ما ذكره صحيحا لنبهوا عليه , ال أن يقال نية الحالف بعض
(1/94)
________________________________________
الأفراد عند اليمين تستلزم اخراج غيره كمن حلف لا دخلت دار فلان ونوي
شهرا . وما لقيت قريشا ونوي فلانا , وما شربت لبنا ونوي لبن ضأن , ولا
أكلت سمنا ونوي سمن بقر , ولا كلمته ونوي مشافهة , ولا مال لي نوي في
علمي , ولا أذنت لها في مخرج ونوي في غيبتي , ولا أكل سميذا ونوي
خالصا , ولا لبس ثوبا ونوي وشيا , وبعضها في المدونه . ونوقش في كلامه بما
نقل في فرق ثلاثين ومائه من الخلاف في تأثير النية تقييدا وتخصيصا في الدلول
عليه التزاما فقال : الحنفية لا توثر , وبقية الفرق توثر كالمطابقة , ومثله بقوله
والله لا أكلت , وذكر عن الشافعية والمالكية أنه يجوز أن ينوي مأكولا بعينه فلا
يحنث بغيره , قالوا ونقله هذا الخلاف يناقض ما نقل من الاجماع .
قلت : وفيما ألزم نطر منع من ذكره ما يستدعيه الكلام من الطول , كما
منع ذلك من ذكر ما قال وما قيل عليه اذ لا يمكن نقله والغفلة عما فيه من
البحث , لكنها مسألة يحتاج الي تحقيقها من يتعرض للفتيا خصوصا في الايمان .
تنبيهان : الأول قولكم وان كان هذا لا يسميه النحويون بدلا ويتحتم
فيه الرفع والنصب ويزيدون الا أن ينوي معه معطف محذوف كما هي عبارة
التسهيل قال : وما فصل به مذكور فكان وافيا ففيه البدل والقطع , وان كان غير
واف تعين قطعه الا أن ينوي معطوف محذوف .
الثاني قال " أبو حيان " في شرح ( التسهيل ) : رد " السهيلي بدل البعض
والاشتمال الي بدل الشئ من الشئ وهما لعين واحدة فقال : العرب تتكلم
بالعام وتريد الخاص , وتحذف المضاف وتنويه , فأكلت الرغيف ثلثه انما أريد
أكلت بعض الرغيف ثم ما يكون ذلك البعض فقيل ثلثه , ولذا أضيف الثلث
الي الضمير وذلك الضمير هو الرغيف يدل علي لأنه بدل مما هو مضاف الي
الرغيف مثله وهو البعض , لأن البدل هو المبدل منه فلا مزيد . وكذلك بدل
[98/2]
[99/2]
المصدر من الاسم انما هو في الحقيقة بدل من صفة مضافة اليه لأن الاعجاب
(1/95)
________________________________________
في أعجبتني الجارية انما هو لصفة من صفاتها , فحذفت المضاف اليها وأقمتها
مقامه , ثم بينت تلك الصفة بقولك حسنها أو نحوها . واذا لم يكن بد من اضافة
امصدر الي ضمير الاسم لأنه بدل مما هو مضاف الي الاسم فقد عادت أسماء
البدل كلها الي بدل الشئ من الشئ . قال " ابن الأثير " وكذلك ينبغي أن
يكون لأنه تفسير فلا يكون الا في معني الأول ومطابقا له انتهي . ولا يخفي
عليك ما في الكلام من الضعف والتدافع في قوله تتكلم بالعام وتريد
الخاص وفي تقديره المضاف فتأملوه .
من حلفت لتخرجن الخادم أو تخرج هي من الدار , فانها تنوي
وسئل الأستاذ " أبو سعيد بن لب " رحمه الله عن امرأة أغضبتها خادمها
فقالت المرأة صيام العام يلزمها كما يلزمها طوق ثوبها لأخرجنك فان ردك
سيدك تعني زوجها ما نبقي في هذه الدار . فهل لهذه الحالفه وجه تخرج به من
الحنث ولو ببيعها من زوجها فترجع بغير اختيارها , أو بغير ذلك من الوجوه
فأجاب وقفت علي السؤال فوق هذا , وأقول والله المستعان وهو الموفق
للصواب , ان اليمين علي الاخراج من موضع الانتقال عنه محملها عند الفقهاء
بحسب مقتضي اللفط انما هو علي غير التأبيد , فلا يحنث الحالف بالرجوع الي
ذلك الموضع بعد خمسة عشر يوما في قول " ابن القاسم " , أو بعد زيادة ما عليها
في قول " مالك " .
وقد استحب ( ابن القاسم ) أن لا يرجع اليه الا بعد شهر , وروي ابن
كنانة وابن المواز أن لا حنث في الرجوع اليه بعد ما قل أو كثر من الزمان .
وقد فسر " ابن رشد " الأقل بيوم وليلة وقد حمل التحديد بخمسه عشر يوما
أو بالشهر علي استحسان وليس بقياس . وهذا كله مذكور في ( العتبييه والموازية
والمبسوطة ) , وبسط الكلام في ذلك ابن رشد في ( البيان ) . وبعد تقرر هذا الأصل
يرجع الكلام الي النازلة المسئول عنا , وذلك أن الحالفة فيها حلفت علي
شيئين , أحدهما اخراج الخادم من الدار , والاخر ترك بقائها هي فيها ان رد
(1/96)
________________________________________
الخادم اليها زوج الحالفة , فيجب أن تسأل الحالفة , فان قصدت ألا تساكن
[99/2]
[100/2]
الخادم تأبد عليها حكم اليمين , ولا يخرجها عن ذلك بيع الخادم من زوجها
لتعلق اليمين بالخادم نفسها وعلي عينها من غير اعتبار بملك معين , الا أن
تكون الحالفة قصدت ذلك حين حلفت . وان كانت لم تقصد ترك المساكنة
وانما قصدت منه تأديب الخادم باخراجها أو خروجها هي عنها ان غلبها الزوج
فردها في يوم الاخراج أو بعد ذلك قبل أن تشاء هي ردها , فلا حنث عليها
ان ردت خادمه بعد مرور الزمان المسوغ لذلك علي ما تقدم . وان اتفق رد الزوج
لها قبل اختيار الحالفة لذلك فلتخرج ساعتئذ من الدار وتمكث عنها المدة
المعتبرة علي ما سبق ثم تعود ولا حنث عليها , ثم بتقدير وقوع الحنث في تلك
اليمين علي أي وجه وقع فلا يتحتم وجوب صيام العام عليها بأمر لا يسوغ
غيره , وان كان اطلاق الروايات المذهبية يقتضي ذلك , فقد حكي الاجتزاء
في ذلك بكفارة يمين , حكي مثله عن " ابن القاسم وابن وهب " , وهو المشهور
من مذهب الشافعية . قال " ابن عبد البر " هو أولي ما قيل في هذا الباب .
اذا كان المقصود من اليمين الزجر عند الغضب فلا شئ فيها
وقد علم من مقاصد الناس اليوم في هذا الزمان الايمان عند اللجاج
والغضب انها عن ذلك المقصد بمعزل , بل لا تنصرف مقاصدهم حينئذ الا الي
التشديد علي النفس في الزام المحلوف عليه ان ترك خاصة . ووقع لمالك رحمه
الله ما يشير الي هذا المعني عند تمحيص ما يقصده الناس من ذلك , ذكر " ابن
حبيب " أن أعرابيا سأل مالكا عن ناقة له نفرت فانصرفت , فقال لها تقدمي
فأنت بدنة , يعني هديا الي بيت الله , فقال له مالك أردت زجرها بذلك
فقال نعم قال لا شئ عليك , قال أرشدت ياابن أنس , قال " ابن رشد " في
كلامه علي هذه المسأله : لم يوجب عليه اخراجها اذ لم تكن له نية في ذلك ,
انما قصد زجرها لا القربة الي الله تعالي في اخراجها , , قال وهو الأطهر لقول
(1/97)
________________________________________
الني صلي الله عليه وسلم " انما الاعمال بالنيات "انتهي باتهاء القول في بسط
الجواب علي السؤال المكتتب صدر هذا الصفح , والله المرشد والمخلص
بفضله .
[100/2]
[101/2]
نوازل الجهاد
وسئل من قبل القاضي بقفصه أبي يحيي ابن عقيبة شيخ شيوخنا أبو عبد
الله سيدي محمد بن مرزوق عن قولهم في كتاب ( الجهاد ) ولو قتل قتيلين
متعاقبين من قال له الامام ان قتلت قتيلا فلك سلبه فله سلب الأول فقط ,
ولو قال من قتل منكم قتيلا فله سلبه فلمن قتل منهم قتيلا أو أكثر سلبهم ,
فانطروا الصوره الأولي فانها مشكلة علي القول بأن النكرة في سياق الشرط
تعم , وفي مختصر الوقار اذا قال ان وضعت غلاما فهو حر فوضعت غلامين
عتق الأول منهما خروجا وهذا كفرع ان قتلت قتيلا فتأملوه .
فأجاب أما مسأله الجهاد فجواب سحنون فيها علي مقتضي مذهب
المخالف , وذلك الحكم يشهد لما اعتبرناه في عموم شيطانا في بعض كلامنا علي
قوله تعالي نقيض له شيطانا ,وأن ذلك العموم ليس بالوضع بل لما عرض له
من كونه محمولا علي كل فرد من أفراد اللفط العام , فعمومه لحمله علي العام
شرطا كان ذلك العام أو غيره , فلا خصوصية لكونه في سياق الشرط كما تقول
في الكل الافرادي كل رجل يشبعه رغيف استفادة العموم من غير الفاطها
للقرائن المنفصلة .
والحاصل أن عموم شيطانا لكونه بعض محمول علي عام وهو موضوع
القضية الكلية لا لكونه في سياق الشرط اذ لا فرق في افادته العموم هنا بين
كونه من في قوله ومن يعش شرطية أو موصولة وقد عرض ذلك لقتيلا المذكور
مع من , ولم يعرض المذكور مع ان , فيبقي علي أصله من عدم العموم , وذلك
أن قتيلا المذكور في صلة من يجب أن يكون عاما لكونه في صله العام , وان
[101/2]
[102/2]
كانت شرطية فلكونه من تمتمها , فكما يصدق من علي كل قاتل يصدق قتيلا
بعده علي كل قتيل , فللقاتل سلب الاول والاخر . وقتيلا المذكور مع انه نكرة
(1/98)
________________________________________
في سياق الثبوت لم يعرض له اعتبار عموم وانما هو متعلق الفعل المطلق لكونه
مثبتا وفاعله لا عموم فيه لتشخصه فيقي علي اصله من الاطلاق , ووجب أن
يكون للقاتل سلب الأول خاصة لأنه أول الدرجات التي صدق فيها ذلك
المطلق فيحمل عليه لتحققه , وما زاد عليه لا يدخل الا بدليل , الأصل
عدمه , ويزداد هذا الطريق وضوحا بما تقرر في الايمان أن الحنث في مثل ان
دخلت دارا أو أكلت خبزا فأنت طالق لا يتكرر الفعل , وانما يتكرر ان كان
اللفط يدل عليه كمهما وكلما , واضطرب في متي . وحاصله أن قتلت قتيلا
قضية لا عموم في شئ من أجزائها الا ما هو محل النزاع , أما باعتبار اسور
فلأنها مهملة , لأن الاهمال في الشرطيات المتصلة باطلاق لفط ان والمهملة في
قوة لفط الجزئية لأنها المتحقق فيها فتحمل علي الجزءية في جميع متعلقاتها , وأما
باعتبار موضوعها فلأنها شخصية , ومن قتل قتيلا قضية كلية , لأنها لما كانت
عامة للموضوع قام لها ذلك مقام السور الكلي , اذ سور القضايا الكلية ما دل
علي عمومها وليس هو بمنحصر فيما ذكر المنطقيون , لأن ما ذكروه من ذلك انما
هو علي سبيل المثال كذا نص عليه شيوخنا , منهم ابن عرفة رضي الله عنهم ,
والتفتازاني وابن سيناء وغيرهم من المحققين .
فان قلت : لو لم يعم قتيلا المذكور مع ان لما تناول كل من يصدق
عليه هذا اللفط , بل يكون خاصا ببعضه وليس كذلك .
قلت : ان عنيت عموم الصلاحية وانه يصدق علي كل من يصلح له
علي البدل فمسلم , وهذا معني عموم المطلق , وليس الكلام فيه . وان عنييت عموم
الشمول المستغرق لما يصلح له ضربه فممنوع لأن هذا هو أول المسأله الذي
هو محل النزاع . وقد أشار القرافي في الذخيرة الي توجيه حكم هذه المسألة بكلام
أطنه لا يخلص مع أن كلامه في النسخة التي طالعت منه يقتضي عكس الحكم
المنقول , ولم أجد في الوقت غيرها فلذلك تركته فتأملوه .
فان قلت : ما ادعيتموه من العموم في قتيل المذكور مع من , ينتقض بما
(1/99)
________________________________________
حكي ابو محمد في بعض أبواب هذا الفصل من النوادر عن كتاب ابن .
[102/2]
[103/2]
سحنون ونصه . واذا قاتلنا الخوارج مع قوم من أهل الحرب استعانوا بهم
علينا فقال الأمام من قتل قتيلا فله سلبه فان من قتل خارجيا فليس له سلبه
وله سلب الحربيانتهي . فهذا ينافي العموم .
لنما يعم اللفط ما يصح أن يراد به باعتبار المقامات والذي يرد
بالقتيل في هذا المقام من يحل دمه وماله وهم الكفار الحربيون , والخارجي وان
حل قتله حال القتال لم يحل ماله , فكما لا يدخل في هذا اللفط المفتون طلما
من مؤمن أو كافر , ولا ينعكس عمومه , كذلك لا يدخل الخارجي ولا
يكسر , وتطير هذا البحث الأشكال المشهور الذي يود علي النكره بعد لا
العامله عمل ليس , فانه يقال انه نكره في سياق النفي ولم تعم نفي المثني
والمجموع كما عمت التي بعد العامله عمل ان , وكلن هذا السؤال عكس
السؤال في قتيلا بعد ان عندمن يري عمومه , فان هذه نكرة ثابته وعمت و
وتلك منفيه ولم تعم .
والجواب . ما ذكرناه من ان اللفط انما يعم ما وضع له ولما كانت النكرة
المرفوعةبعد لا المراد بها الواحد لا جرم عم النفي كل واحد ولا مدخل له في
المثني ولا المجموع اذ ليس من مدلولاته . ولما كانت التي بعد لا العاملة
عمل ان المراد بها الجنس من حيث هو انتفي الواحد وغيره , فكل عم ما
وضع له . وربما وجه حكم ان قتلت قتيلا بوجه حكم ان وضعت غلاما .
لاشتراكهما في اهمال القضية واطلاق الفعل وتشخص الفاعل والله تعالي أعلم .
وسئل عن قول الأمام ابن عرفه رحمه الله في مختصره. وروي ابن نافع
في الأسيرة تقول لزوجها . افدني وأضع عنك مهري وهو خمسون دينارا ففداها
بعبد قيمته خمسون دينارا , قال لا شيء له من مهرها الا أن يفديها جاهلا انها
امرأته ز
قلت . فرض جهله مع وضع مهرها عنه متناف انتهي .
قد يقال . يرتفع هذا التنافي الذي ادعاه الشيخ بتقدير الأستثناء منقطعا
(1/100)
________________________________________
أي لكن فداها جاهلا فله ذلك . والحامل علي اعتقاد التنافي تقديره
الاستثناء متصلا , وقريب من هذا اتفق للطيبي في شرحه للحديث الذي
أخرجه البخاري . من قذفه مملوكه بريئا اقيم عليه الحد يوم القيامةالا أن
يكون كما قال , قال الطيبي قوله الا أن يكون كما قال مشكل , لأن قوله بريئا .
[103/2]
[104/2]
يأباه , وموجب حصول هذه الأشكال اعتقاد كون الاستثناء متصلا , ولو قدره
منقطعا ما وقع في ذلك. ومثل هذا التركيب في المدونة , قال فيها . ومن
أبتاع عبدا أو أستري راحلة باعها بمائة دينار صفقة واحدة جاز ان لم يشترط
خلف الراحلة ان هلكت , وان اشترط ذلك لم يجز الا ان يكون الكراء
مضمونا انتهي .
فاجاب وقع في كتبكم بخطكم منم رواية ابن نافع نقص من اللفط
وأصلحنه من النوادر فانه نقله من كتاب ابن سحنون وما تأولتموه جوابا عما
أورده شيخنا رحمه اللهمن الشكال يكون الأستثناء منقطعا في غاية الحسن ,
ونطيره في الكلام أكثر من ان يحصي . ويجب أن يكون تقديره هنا لكن ان
فداها جاهلا فله الرجوع عليها بما فداها به . الا أن المعني فيسقط ضداقها
عنه . فتأمله . ويطهر لي في تأويل الرواية وجه خر يحما الاستثناء علي
الاتصال , وذلك بان تتوافق الاسيرة مع زوجها علي ما ذكر , ثم تباع الاسيرة
بمكان اخر فتطلب العدو مفاددتها بعبد الزوج المذكور فيفديها الزوج به وهو لا
يعلم انها زوجته المذكورة . وحينئذ يكون عليها الخمسون التي هي قيمة
العبد فيقاضيها به فيما عليه من الصداق , ولاسيما علي القول بوجوب المقاضاه ز
وانطر هل يمكن في الاتصال وجه اخر وهو أن يكون الضمير في له من قوله لا
شيء له من مهرها عائد علي زوج المرأة بالاطلاق لا علي الزوج المذكورأولا ,
ويكون من الاستغناء عن ذكر مفسر الضمير بذكر ما هو له كل كما ذكر في
التسهيل وجعل منه قوله تعالي (ولا ينفقونها في سبيل الله) أي النفقات , فالضمير
(1/101)
________________________________________
كل استغني عن تفسيره بذكر ما هو جزء منه وهما الذهب والفضة .
وأما الحديث الكريم فيحتمل أن يكون الاستثناء فيه متصلا اما علي
التأويل الخير في رواية ابن نافع , أس الا أن يكون جنس المملوك , أو علي ان
يكون معني بريئا في الطاهر عن سيده القاذف استحق السيد ان يجلد في
الاخرة وان كان العبد غير بريء في نفس الأمر , كما يستحق من العقوبة في
الدنيا ان لم تقم علي جانبها فيها لأقيمت عليه في الاخرة الا أن يعفو الله
ويكون هذا كما قال في كتاب القذف من المدونة وان علم المقذوفمن نفسه
أنه قد زنا فحلال له ان يجده .
[104/2]
[105/2]
قلت . انما حد القاذف في الدنيا ليبري في الطاهر لاانا لا تتوصل لحال
الباطن , ولاطهور كذب القاذف . ولما فيه من صيانة الاعراض المحرم تناولها
وتحريم المال والنفس , ونحن نحكم بالطاهر والله يتولي السرائر , حتي لو
اطلعنا علي باطل المقذوف وعلمنا منه أنه زني كما لو أقر أو قامت عليه
بينة لسقط الحدلتبين صدق القاذف , بل لو لم يحد القاذف حتي زني المقذوف
لزال احصان المقذوف , ويسقط الحد علي نزاع في هذا الحكم , هذا بالنسبة
الي احكام الخلق . أما الدار الأخرة حيث لا حاكم الا العليم الخبير المطلع
علي خائنة الاعين وما تخفي الصدور يومتبلي السرائر , فلا يحد قاذف من زني
لأنه صادق.
نعم يطالب بانتهاكهع حرمة المعصوم لا بجد القذف كما لو تبين صدقه في
الدنيا , وفيه بعد نطر لأحتمال ان يقال . ما ترتب من الدنيا ولم يستوف فيها
استوفي في الاخرة . نعم يبقي في الحديث مع النطر الي هذه القاعدة اشكال
علي مقتضي المذهب من أن قاذف العبد لا يجد في الدنيا , لفوات شرط الحد
فيه وهو الاحصان البذي هو الحرية والاسلام والعفاف علي نزاع في هذا
الاخير , وأحكام الاخرة تابعة لأحكام الدنيا في مثل هذا . فاذا كان هذا في
عبد ليس للقاذف فكيف بعبده . الاأن يقال . الحد الذي يقام عليه في الاخرة
(1/102)
________________________________________
حسبما دل عليه الاستثناء في الحديث , المراد به التعزيز فيرتفع الاشكال . واما
لفط المدونه ففيه أبحاث منع من ذكرها كون الأتيان به لم يقصد لذاته بل
للتنطير خاصة , وجعل في الكراء للجنس يقرب في التأويل الأخير قي
الرواية والله تعالي أعلم .
وسئل عن قول ابن حزم في مراتب الأجماع . واتفقوا علي أنه لو نزل
عدو كافر بساحة المسلمين وقالوا ان لم تعطونا مال فلانأستأصلناكم , لم يحل
أن يعطوا ذلك ولو خيف استئصال المسلمين . انطروا قوله هذا فهو عبيد
جدا , بل الطاهر أنه اذا خيف ذلك وجب اعطاؤهم اياه , ويقومون له اما
قيمته أو مثله , بعد ان يحاسب بما ينويه . وقد نقل ابن اسحاق أنه عليه السلام
هم ان يصالح عيينة بن حصن بثلث ثمار المدينة حتي ثناه عن ذلك المقداد ,
ولا يقال قد يكون ذلك بعد أن يسترضي لأصحاب الثمار لأن من البعيد أن ...
[105/2]
[106/2]
يكونو كلهم من يعتبرأذنة وليس فهم يتيم.
فأجاب أما بعد هذا النقل يلوح ببادي الرأي وقبل التثبت كما ذكرتم
وقولكم الطاهر أنة اذا خيف ذلك وجب اعطاؤهم اياه ؛ وقوله هو لم يحل أن
يعطوة ذلك قولان عل طرفي نقيض. لقائل أن يقول بعد تسليم ما ذكر ابن
حزم : والصواب التوسط وأن الاعطاء للخوف وتركة وتحمل مقتضي الوعيد
جائز, وان الضمان هو علي الامر لا علي متولي الامر بالاكراة. هذا هو الطاهر
من نقل الشيخ أبي محمد في كتاب الاكراه من النوادر , فانه ذكر في ترجمة
الاكراة علي اخذ مال رجل إلي اخرها من كتاب ابن سحنون بعد أن نقل عن
المخالف أن الكفر والقذف لا يحلان لضرورة الاكراه كما أحل أكل الميتة
للضرورة علي أكل الميتة , قال محمد قد أفسدو هذة العلة بإجماعهم معنا عل
أن من اكرة بتهديد بقتل أو قطع عضو أو ضرب يخاف منه التلف عل أن
يأخذ مال فلان فيدفعه الي المكره له او امره بذلك أمروهو يخاف إن لم يفعل
ناله بعض ما وصفنا . أنه في وسعة من مال الرجل ودفعه اليه , ويضمن الامر
(1/103)
________________________________________
ولا ضمان علي المأمور ,وقال من خالف انما يسعه ذلك ما دام حاضرا عند
الامر, فأما أن ارسله ليفعل ذلك فخاف إن طفر بة ان يفعل بة ما يهدده به
فلا يسعه ان يفعل ذلك , إلا أن يكون معه رسول الامر فخاف أ، يرده الية
إن لم يفعل , فيكون كالحاضر سواء, قال أبو محمد :وإنما ينطر ف هذا إن كان
المكرة يرجو الخلاص إن لم يفعل فلا يسعه أن يفعل كان معه رسول أو لم
يكن, وان كان لا يأمن نزول الفعل به وسعه أن يفعل كان معه رسول أو لم
يكن انته . وانطر تمام كلامه...
وقال في أول كتاب الاكراه : قال محمد وقال سحنون وغيره من أصحابنا
إذا أكره بوعيد بقتل أو قطع عضو أو ضرب يخاف منه تلف بعض أعضائه ولا
يخاف تلف نفسه أو بقيد أو بسجن علي أن يكفر بالله أو يشتم النبي صلي
الله عليه وسلم أو يقذف مسلما لم يسعه ذلك , وإنما يسعه ذلك مع خوف
القتل لا بغير ذلك , وله أن يصبر حتي يقتل ولا يفعل ذلك وهو مأجور وهو
أفضل له , قال سحنون وكذلك لو أكره بما ذكرنا علي أكل الميتة ولحم
الخنزير وشرب الخمر لم يسعه أن يفعل ذلك الا لخوف القتل فقط وذكر ابن..
[106/2]
[107/2]
سحنون أن اصحابنا وغيرهم أجمعو علي أنه لا يسعه قتل غيرة من المسلمين
ولا قطع يدة بالاكراه , ولا أن يزني . وأما علي قطع يد نفسه فيسعه ذلك
انتهي...
فتعبيرهم في مسألة الاكراه عل أخذ مال الغير بقوله يسعه ذلك , وكذا
في جميع الباب , إنما يقتضي أصل جواز الفعل لا وجوبه , بل صرح سحنون
أنه ان أكره عل قذف مسلم بالقتل فله أن يصبر حتي يقتل وهو مأجور وذلك
أفضل له , وإذا كان هذا في القذف ففي المال أحري لقوله صلي الله عليه
وسلم في حجة الوداع " ألا ان دمائكم وأموالكم وأعراضكم " وفي بعض
الروايات أحسبه قال " وأعراضكم عليكم حرام " الحديث . وكذا قوله صلي الله
عليه وسلم " أمرت أن يقاتل الناس حتي يقولو لا اله الا الله فإذا قالوها
عصمو مني دمائهم وأموالهم الإ بحقها وحسابهم علي الله " , فذكر المال في
(1/104)
________________________________________
هذا الحديث محقق, والشك في العرض. وأيضا فان حفط المال من
الضروريات الخمس , وليس حفط العرض منها الا أن يقال هو من المكمل
لاحد الضروريات وهو حفط النسل , ولذلك شرع حد القذف . ولئن سلم هذا
فالضروري بالاصاله أقوي من مكمله .
فإن قلت:فعلي هذا لو قال إنه لا يسع أخذ مال الغير بالاكراه كما لا
يسع قتله بهو كاستوائهما معا في كونهما من الضروريات الخمس , لما كان
بعيدا وهو من غير ما قال ابن حزم ..
قلت: لا يبعد , وقد يقال كونهما من الضروريات لا يوجب استواءهما
لتفاوت مراتب الضروريات , فأقواها حفط الدين , ثم النفس , ثم العقل, ثم
المال فهو في الدرجه الاخيره منها . وفي الثانيه من حفط النفس فانها مقدمة
عليه بدرجه.وأيضا فالاكراه بالقتل وما قد يؤدي اليه علي أخذ مال الغير من
باب تعارض مفسدتين: خوف اتلاف نفس المكره بفتح الراء واتلاف المال ,
وارتكب أخفهما وهو المال علي ما قدمنا من تفاوت مرتبتيهما . وأما في الاكراه
علي القتل فالمفسدتان متساويتان , إذ ليس اتلاف هذه النفس المعصومه بأولي
من اتلاف مماثلها , ولهذا والله أعلم فرق سحنون ومن قال بقوله بين المال
والنفس ..
[107/2]
[108/2]
فإن قلت : ما ذكرت من مسائل الاكراه هذه غير ما ذكر ابن حزم , فان
المكره هنا واحد , وهناك المسلمون بأجمعهم فلا يستويان ..
قلت : لا فرق فان حرمه المسلم الواحد كحرمه جميع المسلمين كما أشار
اليه ابن بشير في الجهاد . قال الله جل جلاله : " من أجل ذلك كتبنا علي بني
إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس
جميعا ومن أحياها فكانما احيا الناس جميعا ." وقال صلي الله عليه وسلم :
" المؤمن للمومن كالبنيان يشد بعضه بعضا, وكالجسد إذا اشتكي بعضه اشتكي كله ."
وقال " لا يحل دم امري مسلم الا باحدي ثلاث.. " الحديث . وهذا يقتضي أنه
لا يحل بغير ذلك والاثار في هذا المعني كثيرة..
(1/105)
________________________________________
وفي أجوبة ابن رشد ما يوافق هذا ويوافق الحكم الذي ذكر ابن حزم
الا ان جواب ابن رشد عن النفس لا عن المال , ونصه : وأما السوال عن
العدو إن قال ادفعو الينا رجلا يسمونه والا هدمنا البيت أو نبشنا قبر نبيكم ,
فمن المسائل التي بيتها أهل الزيع في الناس ليلزموهم بزعمهم استباحه نفس
محرمه أو حرمته صلي الله عليه وسلم فيسخرون بالدين واهله , والنبي صلي الله
عليه وسلم أكرم علي الله من ذلك , وكما عصمه من الناس حيا يعصمه منهم
ميتا , ولو وصلو والعياذ بالله الي قبره الشريف لهابوه وتبركو به , ولم يزل
النصاري يتبركون بقبر أبي ايوب الأنصاري رضي الله عنه لمكانه من النبي
صلي الله عليه وسلم , فكيف به صلي الله عليه وسلم , ولا بد من الجواب عن
السؤال لدفع طعن الطاعن لا أن ذلك يقع فانه محال بفضل الله تعالي,
فنقول : إن الواجب كان يكون علي جميع المسلمين أن يموتو عن اخرهم ولا
تستباح حرمته صلي الله عليه وسلم ولا يدفع اليهم الرجل الذي طلبوه
ليقتلوه, إذا ليس هو اولي أن يكون فداء لحرمته من كل واحد منهم وقد قال
صلي الله عليه وسلم :" والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب
إليه من نفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين " وقال سعد بن الربيع
للذي التمسه يوم أحد في القتلي اخبر قومكم أنهم لا عذر لهم عند الله ان قتل
رسول الله صلي الله عليه وسلم وواحد منهم حي , وحرمته صلي الله عليه
وسلم حيا وميتا سواء.. وقال صلي الله عليه وسلم " كسر عطم المسلم ميتا
[108/2]
[109/2]
ككسره وهو حي "يريد في الاثم فكيف به صلي الله عليه وسلم انتهي
مختصرا..
وقد علمت ما يفهم من كلام ابن الحاجب من أنه لا قائل في مذهب
مالك بخلاف هذا الا ما للخمي في الجهاد من حرق جماعه من المسلمين
للكفار الطالبين لهم في البحر , وذلك قوله وأرجو إذا كان معهم النفر اليسير
من المسلمين ان يكون خفيفا لان هذه ضروره الي اخر كلامي. وهو الذي
(1/106)
________________________________________
حكي عنه ابن الحاجب وحكي غيره ايضا بقوله : وروي اللخم أنه لو خافت الي
قوله وهو مما انفرد به كما انفرد بالطرح بالقرعه من السفن . وقال أيضا ان لو
خيف علي استيصال الاسلام إحتمل القومين كالشافعي , وذكر أيضا في كتابه
الاصلي في فصل المرسل بقوله : وإن كان ملائما الي قوله وشرط الغزالي الي ان
تكون المصلحه ضرورة كليه , الا أن في قوله وهو مما فرد به نطر , فاني رايت
في المعونه وفي الاشراف لعبد الوهاب في كتاب الجهاد حين ذكر أخذ المسلمين
رهائن من المشركين واسلمو ا بايدينا انا نردهم اليهم ولا يجوز لنا حبسهم
خلافا لمن ابي ذلك ما نصه : ولان إذا لم نردهم لم نأمن من غدرهم بالمسلمين,
لانهم إنما يهتمون ما دامو علي دينهم , ومراعاه العامه اولي من مراعاه الواحد
والاثنين انتهي.
وفي النوادر :قلت , يعني سحنون , فإن حاصرناهم وقالو إن لم ترحلو ا
عنا والا قتلنا اسراكم عندنا وسالهم الاساري الرحيل , قال إن كانو علي اياس
من فتحه فليرتحلوا , وإن كانو أشرف عليهم وهم منه علي اليقين فلا يتركو
وإن قتلو الاساري, وقاله الاوزاعي وسفيان انتهي . واذا جاز التعرض لقتل
المسلمين بمجرد ما يرجي من فتح الحصن وهو جلب منفعه , فاحري ان يجوز
يدرء مفسده عامه لا مفسده اعطم منها. وهي استيصال الاسلام المستلزم
ذهاب أقوي الضروريات التي هي حفط الدين , والقاعده ان رد المفاسد
بالا طلاق اولي من جلب المصالح بالاطلاق, فكيف بهذه المفسده .
وهذا كله مما يعارض نقل ابن حزم المذكور ويرد قول من قال في اختيار
اللخمي إنه مماانفردبه , الا أنه علي خلاف مقتضي قوله في الجهاد من
[109/2]
[110/2]
المدونة . واذا كان مسلم في حصن العدو أو مركب لم أري أن يحرق أو يغرق
لقول الله تعالي ( لو تزيلوا اعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) انتهي .
وتامل نقل ابن يونس مع ما نقلنا من النوادر , ورأيت في فصل الاكراه
(1/107)
________________________________________
من أحكام ابن عبد الرفيع ما يوافق ما نقلتم عن ابن حزم ونصه . ومن هدد
بقتل أو بغيره علي ان يقتل رجلا أو يقطع يده أو يأخذ ماله أو يزني بأمرأه أو
يبيع متاع رجل فلا يسعه ذلك وأن علم أنه ان عصي أوقع ذلك به , وان
فعل فعلي القود وغرم ما أتلف وبحد ان زني , ويضرب ان ضرب ويأثم قال ابن حبيب
انتهي . وفي ذكره المال مع هذه الأشياء مخالفة لنقل النوادر كما تري , فان صح
ما ذكر هذا الرجل كان في المال قولان , وقد يوافقه ما نقل نت الباب الثاني من
كتاب الاكراه من النوادر من الأبهري ونصه . قال ابو بكر محمد بن عبد الله
الأبهري وكل تحريم فيما بين العبد وبين الله سبحانه اذا اجبر عليه النان فلا
شيء عليه , وله ما يفعله من خاف علي نفسه من قتل أو ضرب أو طلم
يخاف علي أهله ونفيه وماله وأشياء ذلك , واما عن هتك حق ادمي ودمه فلا
يفعل ذلك لأن حرمته ليست بأوكد من حرمة الأخر انتهي , وهو مما يوافق نقل
ابن حزم , وطاهر قول حق ادمي دخول المال فيوافق ما ذكر ابن عبد الرفيع
ووقع بعد هذا في النوادر لابن المواز ما يدل علي ان المكره , بفتح الراء ,
يضمن ما اتلف من مال الغير ويرجع بما غرم علي من أكرهه .
وتلخيص ما ذكر في النوادر عن سحنون هو ما قدمته في بعض أجوبتي
عند الكلام مع المازي علي ترك الجمعة لخوف القتل , وانطر قوله في كتاب
الرجم من المدونة . واذا دعاك امام عادل عارف بالسنة الي قوله فعليك
طاعته , وأما الجائز فلا , الا ان تعلم الخ فانه يوافق مانقلنا في القتل
والقطع .
فان قلت مسائل الاكراه هي بين المسلمين , وأحكامهم وان كان طواهرها
يقتضي العموم و لكن الغرف بين الفهاء انما يفرضونها بين المسلمين وبين
أحادهم , فلا يلزم جريان حكمها في مسألة ابن حزم , لأن في ذلك اتفاقا من
المسلمين علي استباحة حرمة واحد منهم وهضمه لأجل الكفار وذلك لا يحل
كما أشار اليه ابن رشد في القتل , وهو نص الغزالي الوجيز كما تراه .
(1/108)
________________________________________
قلت . ماذكره السائل غير بعيد من الصواب , وانما أحتجت الي تنطير
[110/2]
[111/2]
مسألة ابن حزم بما وقع في المذهب من مسأل الاكراه ونحوها لاني لم اجد في
عين النازلة ينا لأيمة المذهب .
وفي المذهب اشاره لأصل المسأله لا تقنع , من ذلك قوله في الجهاد من
المجونة . واذا طلب السلابه طعاما أو امر خفيفا رأيت ان يعطوه ولا يقاتلوا
انتهي . وقال اللخمي . في قوله الشيء الخفيف دليل علي ان المطلوب قادر
علي الامتناع , ولو كان مغلوبا لجاز ان يعطي الجميع انتهي . وفيما قاله
اللخمي نطر يطول ذكره , لكن هذا الكلام في المحارب المسلم . ويحتمل ان
يكون حكم الكافر عندهم بخلاف ذلك لأنه لا يعطي شيئا كما قال ابن حزم ,
ويوافقه قول ابن الحاجب , ونقله ابن شاس ايضا في المحرم المحصور بعدو
ولا يجوز قتال الحاضر مسلما او كافرا ولا اعطاه مال للكافر . ومفهونه ان المسلم
يعطاه , ولكنه يكون من معني قوله أول كتاب الحج . والمعتبر الا من علي النفس
والمال , وفي سقوطه بغير المجحف قولان .
وللمسأله نعلق بمهادة المسلمين الكفار علي مال يعطيه المسلمون , هل
يجوز ذلك أم لا .قال الغزالي في وجيزه وحين ذكر شروط المهادة . الثالث ,
يعني من الشروط , أن يخلو من شرط فاسد كشرط ترك مسلم في ايديهم
أو مال مسلم في ايديهم , وكذا ألتزم مال فهو فاسد الا اذا طهر الخوف
انتهي. فقد منع منها علي مال مسلم , والذي أجازه للخوف هو ما يعطيه
الامام وفيه موافقة لنقل ابن حزم , وعلي هذا المنحي جواب ابن رشد ولم
أر من ذكر مسألة المهاده من المالكية غير أصبغ المشتهر بابن المناصف في كتاب
سماه الانجاد في أبواب الجهاد , ولم يذكر فيها قولا لمالكي , ونصه . والوجه
الثالث , يعني من أقسام المهادنة , أن يكو علي مال يؤديه المسلمون , ففي
جوازه خلاف . وروي عن الأوزعي أنه لا يجوز الا لضرورة وشغل من
المسلمين علي حربهم من قتال عدوهم أو فتنة شملت المسلمين , فاذا كان
(1/109)
________________________________________
ذلك فلا بأس وروي نحوه عن سعيد بن عبد العزيز , وقد فعله معاويه
أيام صفين وعبد الملك ابن مروان لشغله بقتال ابن الزبير. وقال الشافعي .
لا خير في ان يعطيهم المسلمين شيئا بحال أن يكفوا عنهم , لأن
القتل للمسلمين شهاده , والسلام أعلي أن يطلما لكثرة العدو فلا بأس أن يعطوا شيئا .
[111/2]
[112/2]
ليتخلصوا منهم , لأنه من الضروريات الجائز فيها ما لا يجوز في غيرها , قال
ابن المناصف والأرجح عند ما ذكر الشافعي أن ذلك لا يجوز الا الخوف
الأستيصال , واستدل مجيزه لكل ضرورة بحديث ذكره أبو عبيد في كتاب
الموال بسنده , أن رسول الله صلي الله عليه وسلم عرض علي عيينة بن
حصن في وقعة الأحزاب ثلث تمر المدينة علي أن يخذل الأحزاب بانصرافه
بمن معه من غطفان فأبي الا شطره فأستشار رسول الله صلي الله عليه
وسلمالسعدين فقالا يا رسول الله ان أمرت بشيء فأفعله فقال رسول الله
صلي الله عليه وسلم لو أمرت لم أستشركما ولكنه رأي اعرضه عليكما قالا
فانا نري الا نعطيهم الا السيف قال رسول الله صلي الله عليه وسلم
فنعم , قالوا فقصده صلي الله عليه وسلم الي المصالحة بالتمر دليل الجواز ,
وبعد تسليم انه متكلم في رفعه لا حجة لهم فيه , لأن صلي الله عليه وسلم
لم يفعل ولا أمر بفعله , انما كانت مشورة استقر اخرها علي ان لا يفعل , فهو
ال الاستدلال علي المنع أقرب , قثم ان ما اريد من ذلك لم يكن من لمجرد الهدنه
بل لتحذيل العدو , وهو من مكايد الحرب , فعو كجعل واجاره علي شيء
يفعل انتهي . وهو كلام حسن , وحاصله هل يعطي المسلمون مالا للكفار علي
أن يهادونهم أم لا . قولان . وطاهره ان هذا المال من بيت المال , لأن الأمام
هو المتولي عقد المهادنه علي ماذكر الغزالي أو من جميعهم .
وأما مساعفة الكفار بمال مسلم معين من غير طيب نفس منه بذلك علي
مهادنة الكفار فينبغر أن لا يجوز كا ذكر ابن حزم , وقد قال صلي اللع عليه
(1/110)
________________________________________
وسلملا يحل مال المسلم بغير طيب نفس منه أو كطما قال صلي الله عليه وسلم ,وقال
تعالي ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة
عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما ) فقرن تعالي بين
النهي عن اخذ المال بغير رضي وبين القتل , وفد افتي ابن رشد في القتل انه
لا يجوز ان خيف الاستيصال , فكذلك المال والله أعلم , وما يهولون به من
استيصال الاسلام من أختلاف اهل الزيغ كما قال ابن رشد , وقد سأل رسول
الله صلي الله عليه وسلم ربه أن لا تستباح بيضة امته فأعطاه ذلك , وقال
صلي الله عليه وسلم . لا تزال طائفة من أمتي طاهرين علي الحق , الحديث . وقال ..
[112/2]
[113/2]
تعالي ( ليطهره علي الدين كله )
واذا كان فرض خوارق العادات ليس من دأب الفقهاء كما قال المازري
وغيره , ففرض المحال شرعا ينبغي الا يكون من دأب المسلمين فضلا عن
دأب الفقهاء , فهذا الفرض من شيم أهل الزيغ والتعطيل كما فال ابن رشد
في أجوبته , والله تعالي أعلم .
لا يقتل السري من أطفال أهل الحرب ونسائهم الا اذا قاتلوا المسلمين
وسئل الفقيه ابن العباس المريض عن اطفال أهل الحرب ونسائهم اذا
اسروا وقد كانوا يحاربون مع كبارهم , هل يحكم لهم بحكم الذكور الكبار .
وكيف ان لم يكن منهم الا حمل الحجارة لمقاتلتهم . وكيف ان برزوا للقتال علي
أرجلهم . هل يجب مدافعتهم دفعا يصدهم عن القتال أو يقتلون ان أمكن
قتلهم في حال قتالهم . وما الحكم في شيوخهم الذين لا قدرة لهم علي قتال
وعالمهم المنفرد في كنيسة لعبادة الهتهم .
فاجاب اعلم ان النهي قد ورد عن قتال الطفال والنساء نهيا مطلقا لم
يخص به حاله من حالة , لكن تصرف علمؤنا في ذلك بدقيق نطرهم , فقالوا
من برز من هذين الصنفين لقتالنا ومدافعتنا راجلا أو راكبا بسلاحه أو عصاه
أو حجارة فلنا مقاتلته , فاذا أدي ذلك الي قتله فلا لوم , لأنا لو لم نفعل
(1/111)
________________________________________
وتركنلهم وقتالنا لأدي لقتلنا مع استطاعتنا عل كفهم , والمتسبب في قتا نفسه
حرام . وأما المأخوز منهم اسيرا وقت المدافعة أو بعدها فلا يقتل الأطفال
المحقق صغرهم , وأما المشكوك في بلوغه فالأكثر لا يرون قتله ابتداء لفعله
صلي الله عليه وسلم في بني قريطة , وابن القاسم ممن يرون قتله .
واما النساء فان كن يقاتلن بالسلاح ففي قتلهن بعد أن يرد (كذا ) القتال
واسرهن خلاف , فمن علمائنا من منع قتل المرأه لأنه انما يباح قتلها في وقت
المحاربة فكان ذلك موجب اباحة قتلها و وأن ذهب المانع فارتفع لزواله عنها
القتل , ومنهم من اجاز قتلهن بعد السر اعتبارا بجوازه حالة قتلها , ومنهم من
فصل فقال ان كانت هذه قتلت احدا حالة مقاتلتها قتلت والا فلا , وأجراها
هذا القاتل علي حكم المحارب اذا طفر به بعد ان قتل , وعلي هذا قال في
الواضحة ان المقاتلة منهن بالحجارة , يعني من أعلي السور أو من حيث
[113/2]
[114/2]
يمكنهن , ولا يقتلن برميهن أحدا فيقتلن وأباح سحنون قتالها وقتلها حالة
المقاتله بمثل ما قاتلت به . أما ان لم يكن منهن الا حراسة رجالهن واعانتهن
بالصياح والاستغاثة فلا يبيح ذلك قتلهن .
وأما الشيوخ الذين لا نهضة لهم بمحاربة من نازلهم من أهل الاسلام
ولا يستعان برأيه ولا بتدبيره , والمقعد الذي لا يكر ولا يفر ولا يعين بحمل السلاح
ولا حجارة ولا يلتمس منهم تدبير , فقال سحنون قتلهم مباح كما يقتل الأعمي
والمريض , ولم يبح ذلك ابن الماجشون ولا ابن وهب ولا ابن حبيب , ومثله عن
مالك , وقال بعض شيوخنا المحققين هذا خلاف في حال . فمن كان له من
هؤلاء رأي وتدبير قتل والا فلا . وأما الراهب المتخلي عنهم لعبادته ولم يدخل
معهم في مشورة ولا بعث اليهم بتدبير , فالمشهور من مذهب مالك أنه
لا يقتل , وقيل يقتل لعموم الأمر بقتل الكفار , وفي الواضحة أن من وجد من
الرهبان في غار أو دار فحكمه حكم المنقطع في صومعته ويعرف بسيماه , ومن
(1/112)
________________________________________
قاتل منهم قتل . واذا انهزم جيش الكفار وهرب راهبهم معهم فأخذ لم يقتل
ان قال هربت لأجل الخوف منكم . وللمسلمين اذا طفروا بالراهب وخافوا ان
يدل العدو عليهم ويخبرهم أن يحبسوه عندهم . والله أعلم .
الخروج بالمرأة والمصحف للحرب
وسئل أيضا عن رجل من أهل الجزيرة أو من غيرها تحرك الناس لغزو
بلاد العدو دمره الله ومحاصرته في حصنه , وأراد هذا الرجل التوجه معهم
بزوجته لاحتياجه اليها في ضرورياته ولحمل مصحفه ليقرأ فيه رغبة في الأجر
وتوقيا ان أشكل عليه شئ عند قراءتها فينطر فيه , هل يباح ذلك أم لا وما
تقول أيضا في مركب للمسلمين التقي مع مراكب العدو في الموسطة وأيقن
المسلمون بالعطب لا محالة اما بالغرق أو بالقتل , هل للمغلوب أن يستسبل للقضاء
حتي يدركه الموت بما أراد الله أو يختار موتا علي موت
فأجاب ان كان هذا المتوجه بامرأته سافر بامرأته مع جيش تومن
السلامه معه غالبا فله ذلك , فقد كان النساء في زمنه صلي الله عليه وسلم
يخرجن للغزو , وسواء كان ذلك في بر أو بحر , وحديث أم حرام أصل في
[114/2]
[115/2]
الباب , وان كان الجيش قليلا لا يومن معه العطب فلا يخرج بها خيفة أن
تحصل بيد العدو ولا خفاء بما ينشأ عن ذلك . وأما المصحف فلا يرفع اليها
بحاله خيفة سقوطه منه فتناله يد الكفار فيمتهنونه , وقد جاء النهي عن السفر
به لأرض الكفرة , وقد قال كثير من علمائنا في مسلم باع بجهله مصحفا من
حربي أنه يفسخ بيعه صونا له أن يمسه الكافر , وقيل لا يفسخ شراؤه ولكنه
يجبر علي بيعه , وكذلك الخلاف فيمن باع منهم عبدا مسلما . ألا تري أن عبد
اليهودي أو النصراني اذا أسلم فانه يباع عليه ولا يترك بيده لحرمة
الاسلام , فكيف بالمصحف والله أعلم .
اذا عقدت دولة " مسلمة " صلحا مع الكفار لزمها وحدها
وسئل بعض الفقهاء عن الكفار ينعقد بينهم وبين الأيمة من المسلمين
عهد وصلح , هل يلزم ذلك من لم يعاهدهم اهل الشام ومصر
(1/113)
________________________________________
ويحاربهم أهل افريقية والأندلس .
فأجاب انما استعمل يجير علي المسلمين أدناهم اذا كان امام المسلمين
واحدا وأمرهم واحد مجتمع , فحيئذ يكون من أجار أهل الحرب لزم جواره
ذلك سائر المسلمين في الكف عن قتالهم وقتلهم وسبيهم . وأما مع تفرق
الملوك والدول واختلاف الكلمة فلا , وانما يلزم الجوار أهل الأقليم الذين
أجاروا ولا يلزم أهل الأندلس جوار أهل الشام ومصر والله أعلم .
يجوز لكبير البلد مصالحة المغيرين
علي مال يدفعه لهم ويرجع به علي أهل البلد
وسئل شيخنا سيدي " قاسم العقباني " عن أهل قرية جاءها أعراب خيلا
ورجالا بنجوعها , فقاتلهم من بقي بها يوما واحدا , وكان الجل من أهل
القرية قد فر بنفسه وبماله وبما خف من متاعه , ومقاتلة هؤلاء الاعراب يزيد
راجلهم علي ألفي رجل وفارسهم علي خمسمائة فارس , وناشبوا القتال من
جهات , فلما كان عشية يوم القتال طلب كبير البلد تمييز من بقي بالقرية من
الرجال المقاتلين فوجدهم عددا يسيرا وشاع الخبر عن الاعراب أنهم يعودون
لقتالها من الغد بأضعاف ما جاؤا به أمس , فاشتد الخوف وفر من القرية ليلا
[115/2]
[116/2]
نحو الثلاثين رجلا , فقام هذا الكبير وصالح عن قريته لما خاف من فسادها
كبيرا من كبراء أفراد العرب بمائة دينار ذهبا , فدفع الله عن القريه فسادهم
وقتالهم بسبب مصانعة هذا الرجل عن خزائن أهلها وما بقي بها من الأمتعة
وهو الأكثر طاهرا او مخيفا , فهل له مطالبة أصحاب الخزائن والأمتعة بما ينوبهم
من الغرامة في ذلك كما قال " سحنون " في الرفاق بأرض ( المغرب) يقتطع عليهم
الأعراب الطريق فيقوم رجل منهم فيصانعهم بشئء يعطيه لهم علي من حضر
وعلي من غاب من أهل الامتعة , كما هو في كريم علمكم , وحين استدان
الرجل بما صنع من مصانعة من ذكر من أهل القرية أشهد من حضر أنه انما
يفعله مصانعة عن مطامير الناس وأمتعتهم حاضرهم وغائبهم , فهل له عليهم
به رجوع أم لا
(1/114)
________________________________________
فأجاب للرجل الرجوع علي أهل القرية بما صنع من المال علي حفط
أموالهم وانقاذ أمتعتهم من أخذ الغصاب . ومسألة اللصوص التي أشرتم اليها
ومسألة الخقير يعطي مالا علي أموال التجار وأهل القافلة الي غير هذا من
المسائل التي تشهد بلزوم هذا المعني . وفي كتاب الحمالة في ( المدونة ) ما يقتضيه
لكن من علم منه من أهل القرية أنه كان يخلص ماله بغير شئ أو بأقل مما
ينوبه في هذه المحاصة كان له المقال , والله الموفق بفضله .
يجوز قتل المحاربين واتباعهم اذا انصرفوا
لكن لا يجهز علي جريحهم وأسيرهم ومنهزمهم
وسئل سيدي " عبد الرحمن الواغليسي " عن محاربين أتوا لأخذ أموال قوم
وضرب رقابهم فشرعوا في ذلك واخذوا بعض المال وجرحوا اناسا من أهل
الموضع فأعاثهم الله بقوم جاءوا لاعانتهم فانهزموا فتبعهم أهل الموضع فقتلوا
منهم ناسا , فهل يجوز لهم ان يتبعوهم حتي يؤيسوهم من الرجوع اليهم
أو يرجعوا عنهم حين الهزيمة وان رجعوا عنهم بغير قتال رجعوا اليهم في
الوقت أو بعد وصولهم لأهليهم وقالوا هؤلاء ما فيهم نجدة , هل يكون من
قتليباح مال البواد أحدا منهم مجاهدا أو قاتل نفس بغير حق
فأجاب يجوز اتباعهم اذا لم تومن عودتهم , ومن أثقلته الجراح وبقي
وتمكن منه لم يجز الاجهاز عليه وكذلك أسيرهم ومنهزمهم , والله تعالي أعلم .
[116/2]
[117/2]
يباح مال البواد المحاربين عموما حتي يتحقق أهل الحلال منهم
وسئل سيدي " أبو عبد الله بن عرفة " رحمه الله عن السلطان اذا طفر بفرقة
من بوادي افريقية وجلهم مستغرق الذمة .
فأجاب باباحة أموالهم عملا بالأغلب حتي يتحقق أهل الحلال منهم ,
لأنهم عصاة بمكاثرة المحاربين وتكثير سوادهم . قيل فلم يجعل لهم حرمة من
بان نفسه ولم يخالطهم , وهذا اذا وجد مندوحة عنهم , وان لم يجد فهو كالمكره
في بلاد الحرب اذا لم يستطع الخروج من بلادهم وخاف علي نفسه أو ماله
وأهله وولده . ولذا قال بعض علمائنا ما أصابه المسلمون من غاشية المسلمين
(1/115)
________________________________________
الساكنين بين أطهر المشركين أجراها بعضهم علي مسألة الحربي يسلم فيهاجر
أو لم يهاجر وببلد الحرب أهله وولده وماله , وهي في كتاب الجهاد والنكاح
الثالث منها . والذي اختاره من القولين قول أشهب وسحنون لعموم قوله عليه
السلام : لا يحل ما لا امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه , وقوله : كل
المسلم علي المسلم حرام .
اسير رهن ولده في فدائه ومات
وسئل " أبو صالح " عن رجل من المسلمين اسر بدار الحرب فجعل ولده
رهنا في فدائه بمائة دينار.؛ ثم أقبل الي دار الاسلام ليبيع ماله ويصالح في فداء
ولده مما رهنه فيها , فبينما هو يعالج اذ مات .
فأجاب تخرج المائة من رأس مال أبيه الميت , كان الولد صغيرا
أو كبيرا , لأنها دين علي الميت لهذا الولد المرهون .
وسئل أيضا عن الذين جعلوا اولادهم رهائن عن أهل الحصن
أو طلب اليهم في ذلك وخافوا الغلبه علي أهل الحصن فجعلوهم رهائن بمائتي
دينار .
فأجاب بان علي جميع أهل الحصن كل من تحصن فيه الفدية علي قدر
انتفاعهم بذلك . قيل له فالغني والفقير والقوي والضعيف والمرأة والصبي
والكثير العيال سواء فقال يعطي كل واحد علي قدر الا نتفاع .
[117/2]
[118/2]
يدفع كل أهل البلد المحاربين للعدو
قسطا من الجعل المخصص لطلائع الحراسة
وسئل عن أهل بلد محاربين للعدو اجمع رجالهم وشيوخهم علي أن
يخرجوا طلائع الي فجاج وجاه العدو مثل خمسين فارسا ونحو ذلك , يقتسمون
علي أربع فجاج , تحرز كل طائفة منهم الفج الذي تكون عليه , علي أن يجزي
لهم في البلد علي كل زوج شئ معلوم الي أجل معلوم ويكونون في الفجاج
الي أجل معلوم , وكيف أن اطفر الله المحرزين بالفجر سرية من العدو مقبلة
الي دار الاسلام فهزموهم وأخوا خيلهم , اتري لاصحابهم المحرزين في غيرها
من الفجاج حقا فيما اصاب هؤلاء ام لا حق لهم في ذلك وكيف ان اشهدوا
علي انفسهم وقت خروجهم الي الفجاج ان ما أصابوا من غنيمة العدو
(1/116)
________________________________________
اتراهم شركاء أم لا وهل فيما اصابوا علي هذا الوجه خمس ام لا.
فاجاب ينطر الي كل من ينفعه ذلك الحرز ويحوطه فيلزمه ذلك بقدره
وقدر انتفاعة ولا يخص به اهل الازواج دون غيرهم , وما أصاب اهل كل فج
فهو لهم بعد الخمس ولا يجوز لهم أن يخرجوا علي انهم شركاء فيما أصابوا
علي هذا الوجه خمس ( كذا) .
اذا هرب الاسري المسلمون
من سفينه العدو المعاهد لا يردون اليها
وسئا ابن سراج عن مسلمين ماسورين بأيدي النصاري هربوا من
الجفن الذي كانوا به وهو رأس بمرسي من مراسي المسلمين .
فأجاب الذي يترجح من جهه الفقه والله الموفق انه لا يجب غرم
فديهم ولا ردهم , لان المراكب اليوم بالعاده تنزلت منزلة بلادهم وعاقلهم ,
لأنهم لا يسرحونهم فيها ولا ينزلونهم منزله اموالهم التي أخذوا الامان عليها.
وقد ذهب أكثر أصحاب مالك فيما ذكر ابن حبيب , الا ابن القاسم , الي
انهم لا يمكنون من الرجوع بهم ويجبرون علي تركهم بالقيمه فكيف هربوهم
بأنفسهم
[118/2]
[119/2]
لا باس باتخاذ رقعة من كسوة الكعبة راية
وسئل بعضهم عن رجل عنده رقعة من كسوة الكعبة شرفها الله تعالي
وهو يريد ان يتخذ منها راية , فهل يجوز ذلك ام لا
فأجاب اتخاذ الرايه للجهاد مقصد جليل فلا بأس أن يستعمل فيه
الرقعة من كسوة الكعبة ان شاء الله .
أسني المتاجر في بيان احكام من غلب علي وطنه ولم يهاجر , وما
يترتب عليه من العقوبات والزواجر
لأحمد بن يحيي الونشريسي
وكتب الي الشيخ الفقيه المعطم الخطيب الفاضل القدوة الصالح البقية ,
والجملة الفاضلة النقية , العدل الأرضي أبو عبد الله بن قطية , أدام الله سموه
ورقيه , بما نصه :
الحمد لله وحده . جوابكم ياسيدي رضي الله عنكم ومتع المسلمين
بحياتكم في نازلة , وهي ان قوما من هؤلاء الأندلسيين الذي هاجروا من
الأندلس وتركوا هناك الدور والأرضين واجنات والكمات وغير ذلك من أنواع
الأصول وبذلوا علي ذلك زيادة كثيرة من ناض المال , وخرجوا من تحت حكم
(1/117)
________________________________________
الملة الكافرة وزعموا انهم فروا الي الله سبحانه بأديانهم وأنفسهم وأهليهم
وذرياتهم وما بقي بأيديهم او أيدي بعضهم من الأموال , واستقروا بحمد الله
سبحانه بدار الاسلام تحت طاعة الله ورسوله وحكم الذمة المسلمة ندموا علي
الهجرة بعد حصولهم بدار الاسلام وسخطوا وزعموا انهم وجدوا الحال عليهم
ضيقة وأنهم لم يجدوا بدار الاسلام التي هي دار المغرب هذه صانها الله
وحرس أوطانها ونصر سلطانه بالنسبة الي التسبب في طلب أنواع المعاش علي
الجملة رفقا ولا يسرا ولا مرتفعا , ولا الي التصرف في الأقطار أمنا لائقا , وصرحوا
في هذا المعني بأنواع من قبيح الكلام الدال علي ضعف دينهم وعدم صحة
يقينهم في معتقدهم , وأن هجرتهم لم تكن لله ورسوله كما زعموا , وانما
كانت لدنيل يصيبونها عاجلا عند وصولهم جارية علي وفق اهوائهم , فلما لم
[119/2]
[120/2]
يجدوها وفق اغراضهم صرحوا بذم دار الاسلام وشأنه , وشتم الذي كان
السبب لهم في هذه الهجرة وسبه , وبمدح دار الكفار وأهله والندم علي مفارقته ,
وربما حفط عن بعضهم انه قال علي جهة الانكار للهجرة الي دار الاسلام التي
هي هذا الوطن صانه الله : الي ها هنا يهاجر من هناك , بل من هاهنا تجب
الهجرة الي هناك وعن اخر منهم ايضا انه قال : ان جاء صاحب قشتاله الي هذه النواحي
نسير اليه فنطلب منه ان يردنا الي هناك يعني الي دار الكفر , وعن بعضهم أيضا
أنهم يرومون اعمال الحيلة في الرجوع الي دار الكفر معاودة للدخول تحت
الذمة الكافرة كيف أمكنهم , فما الذي يلحقهم في ذلك من الاثم ونقص رتبة
الدين والجرحة وهل هم به مرتكبون المعصية التي كانوا فروا منها ان تمادوا
علي ذلك ولم يتوبوا ولم يرجعوا الي الله سبحانه منه وكيف من رجع منهم بعد
الحصول في دار الاسلام دار الكفر والعياذ بالله هل يجب علي من قامت
عليه منهم بالتصريح بذلك أو بمعناه شهادة أدب أو لا حتي يتقدم اليهم فيه
(1/118)
________________________________________
بالوعط والانذار فمن تاب الي الله سبحانه , ترك ورجي له قبول التوبة , ومن
تمادي عليه أدب , او يعرض عنهم ويترك كل واحد منهم وما اختاره فمن ثبته
الله في دار الاسلام راضيا فله نيته وأجره علي الله سبحانه , ومن اختار الرجوع
الي دار الكفر ومعاودة الذمه الكافرة فهو يذهب الي سخط الله , ومن ذم دار
الاسلام منهم تصريحا او معني ترك وما عول عليه بينوا لنا حكم الله تعالي في
ذلك كله , وهل من شرط الهجرة ان لا يهاجر أحد الا الي دنيا مضمونة
يصيبها عاجلا عند وصوله جارية علي وفق غرضه حيث حل بلدا من نواحي
الاسلام او ليس ذلك بشرط بل يجب عليهم الهجرة من دار الكفر الي دار
الاسلام , الي حلو أو مر أو وسع أو ضيق أو عسر أو يسر بالنسبة الي أحوال
الدنيا , وانما القصد بها سلامة الدين والأهل والولد مثلا , والخروج من حكم
الملة الكافرة الي حكم الملة المسلمة الي ما شاء الله من حلو أو مر أو ضيق
عيش أو سعته ونحو ذلك من الأحوال الدنياوية , بيانا شافيا , مجردا مشروحا
كافيا , يأجركم الله سبحانه . والسلام الكريم يعتمد مقامكم العلي ورحمة الله
تعالي وبركاته .
فأجبته بما هذا نصه
[120/2]
[121/2]
الحمد لله تعالي وحده , والصلاه والسلام علي سيدنا ومولانا محمد بعده .
الجواب عما سألتم عنه , والله سبحانه ولي التوفيق بفضله , أن الهجرة
من أرض الكفر الي أرض الاسلام فريضة الي يوم القيامة , وكذلك الهجرة من
أرض الحرام والباطل بطلم أو فتنة . قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :
"يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " .أخرجه البخاري والموطأ وأبو داوود والنسائي .
وقد روي " أشهب " عن مالك : لا يقيم أحد في موضع يعمل فيه بغير الحق .
قال في ( العارضه ) : فان قيل فاذا لم يوجد بلد الا كذلك قلنا يختار المرء أقلها
اثما , مثل أن يكون بلد فيه كبر وبلد فيه جور خير منه , أوبلد فيه عدل
(1/119)
________________________________________
وحرام وبلد فيه جور وحلال خير منه للمقام , أو بلد فيه معاص في حقوق الله
فهو أولي من بلد فيه معاص في مطالم العباد . وهذا الأنموذج دليل علي ما
رواه . وقد قال " عمر بن عبد العزيز " رضي الله عنه فلان بالمدينة وفلان بمكة
وفلان باليمن وفلان بالعراق وفلان بالشام امتلأت الأرض والله جورا وطلما
انتهي . ولا يسقط هذه الهجرة الواجبة علي هؤلاء الذين استولي الطاغية لعنه
الله علي معاقلهم وبلادهم الا تصور العجز عنها بكل وجه وحال , لا الوطن
والمال , فان ذلك كله ملغي في نطر الشرع قال الله تعالي :الا المستضعفين
من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك
عسي الله ان يعفوا عنهم وكان الله عفوا غفورا .فهذا الاستضعاف المعفو عمن
اتصف به غير الاستضعاف المعتذر به في اول الاية وصدرها وهو قول الطالمي
أنفسهم كنا مستضعفين في الأرض , فان الله تعالي لم يقبل قولهم في الاعتذار
به , فدل علي أنهم كانوا قادرين علي الهجرة من وجه ما , وعفا عن
الاستضعاف الذي لا يستطاع معه حيلة ولا يهتدي به سبيل بقوله فأولئك عسي
الله أن يعفو عنهم ,وعسي من الله واجبة . فالمستضعف المعاقب في صدر الاية
هو القادر من وجه , والمستضعف المعفو عنه في عجزها هو العاجز من كل
وجه , فاذا عجز المبتلي بهذه الاقامة عن الفرار بدينه ولم يستطع سبيلا اليه ولا
طهرت له حيلة ولا قدر علبيها بوجه ولا حال , أو كان بمثابة المقعد أو المأسور أو كان
مريضا جدا أو ضعيفا جدا فحينئذ يرجي له العفو ويصير بمثابة المكره علي
[121/2]
[122/2]
التلفط بالكفر , ومع هذا لابد أن تكون له نية قائمة أنه لو قدر وتمكن لهاجر
وعزم صادق مستصحب أنه ان طفر بمكنة وقتا ما فيها هاجر . وأما المستطيع بأي
وجه كان وبأي حيله تمكنت فهو غير معذور وطالم لنفسه ان أقام حسبما تضمنته
الايات والأحاديث الواردة قال الله تعالي :يأيها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي
(1/120)
________________________________________
وعدوكم اولياء تلقون اليهم بالموده وقد كفروا بما جاءكم من الحق الي قوله
ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل .
وقال الله تعالي : ياأيها الذين امنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا
يالونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الايات ان كنتم تعقلون .وقال تعالي : لا يتخذ المومنزن الكافرين أولياء من دون المومنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في
شئ الا أن تتقوا منهم تقاه ويحذركم الله نفسه وال الله المصير . وقال تعالي : ولا تركنوا الي الذين طلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون . وقال تعالي : بشر المنافقين بأن لهم عذابا اليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المومنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا . الي قوله ولن يجعل الله للكافرين علي المومنين سبيلا . وقال
منوا لا تتخذوا عدوي
تعالي : ياأيها الذين امنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا .
وقال تعالي : ياأيها الذين امنوا لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء
بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الطالمين . وقال تعالي : ياأيها الذين امنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزؤا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله ان كنتم مؤمنين واذا ناديتم الي الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون . وقال تعالي : امنا وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون
الصلاة ويوتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله والذين امنوا فان حزب الله هم الغالبون .
وقال تعالي : ان الذين توفيهم الملائكة طالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا
[122/2]
[123/2]
(1/121)
________________________________________
كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعه فتهاجروا فيها فأولئك مأويهم جهنم وساءت مصيرا الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسي الله أن يعفو
عنهم وكان الله عفوا غفورا . وقال تعالي : تري كثير منهم يتولون الذين كفروا لبيس ما قدمت لهم أنفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يومنون بالله والنبي وما أنزل اليه ما اتخذوهم أولياء ولكن
كثيرا منهم فاسقون .والطالمون أنفسهم في هذه الاية السابقة انما هم تاركون
للهجرة مع القدرة عليها حسبما تضمنه قوله تعالي الم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها . فطلمهم أنفسهم انما كان بتركها وهي الاقامة مع الكفار
وتكثير سوادهم وقوله توفاهم الملائكة فيه التنبيه علي ان الموذبح علي ذلك
والمعاقب عليه انما هو من مات مصرا علي هذه الاقامة , وأما من تاب عن ذلك
وهاجر وأدركه الموت ولو بالطريق فتوفاه الملك خارجا عنهم فيرجي قبول توبته
وان لا يموت طالما لنفسه , ويدل علي ذلك أيضا قول الله تعالي ومن يخرج من
بيته مهاجرا الي الله ورسوله الي قوله وكان الله غفورا رحيما .
فهذه الايات القرانية كلها أو أكثرها ما سوي قوله تري كثيرا منهم الي
اخرها نصوص في تحريم الموالاة الكفرانية . وأما قوله تعالي :يا أيها الذين امنوا
لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء بعض ومن يتولهم منكم
فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الطالمين ,فما أبقت متعلقا الي التطرق لهذا
التحريم . وكذا قوله تعالي :يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم
هزؤا ولعب منالذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله انا
كنتم مؤمنين .
وتكرار الايات في هذا المعني وجريها علي نسق وتيرة واحدة مؤكد
للتحريم ورافع للاحتمال المتطرق اليه , فان المعني اذا نص عليه وأكد
بالتكرارفقد ارتفع الاحتمال لا شك , فتتعاضد هذه النصوص القرانية
(1/122)
________________________________________
والأحاديث النبوية والاجماعات القطعية علي هذا النهي , فلا تجد في تحريم هذه
الاقامة وهذه الموالاة الكفرانية مخالفا من أهل القبلة المتمسكين بالكتاب العزيز
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد , فهو
[123/2]
[124/2]
تحريم مقطوع به من الدين كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزي وقتل النفس بغير
حق وأخواته من الكليات الخمس التي اطبق أرباب الملل والأديان علي
تحريمها , ومن خالف الأن في ذلك أورام الخلاف من المقيمين معهم والراكنين
اليهم فجوز هذه الأقانة وأستخف أمرها وأستسهل حكمهافهو مارق من
الدين ومفارق لجماعة المسلمين ومحجوج بما لا مدفع فيه لمسلم ومسبوق
بالاجماع الذي لا سبيل الي مخالفته وخرق سبيله .
قال زعيم الفقهاء القاضي ابو الوليد ابن رشد رحمة الله في أول كتاب
التجارة الي أرض الحرب من مقدماته . فرض الهجرة غير ساقط , بل الهجرة
باقية لازمة الي يوم القيامة , واجب لاجماع المسلمين علي من أسلم بدار الحرب
أن لا يقيم بها حيث تجري عليه أحكام المشركين , وأن يهجرها ويلحق بدار
المسلمين حيث تجري عليهم أحكامهم . قال رسول الله صلي الله عليه وسلم. أنا
بريء من كل مسلم مقيم مع المشركين , الا هذه الهجرة لا يحرم علي
المهاجر بها الرجوع الي وطنه وان عاد دار ايمان واسلام كما حرم علي
المهاجرين من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم الرجوع الي مكة الذي
اذخره الله لهم من الفضل في ذلك . قال فاذا وجب بالكتاب والسنه واجماع
الأمه علي من أسلم بدار الحرب أن يهجره ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين
المشركين ةيقيم بين أطهرهم ليلا تجري عليهم أحكامهم , فكيف يباح لأحد
الدخول الي بلادهم حيث تجري عليهم أحكامهم في تجارة أو غيرها . وقد كره
مالك رحمة الله أن يسكن أحد ببلد يسبب فيه السلف , فكيف ببلد يكفر فيه
بالرحمان , وتعبد فيه من دونه الأوثان , لا تستفر نفس أحد علي هذا الا مسلم
مريض الايمان أنتهي .
(1/123)
________________________________________
فان قلت . المستفاد من كلام صاحب المقدمات وغيره من الفقهاء
المتقدمين صورة طرو الاسلام علي القامه بين أطهر المشركين , والصورة
المسئول عنها هي صورة طرو الأقامة علي أصالة الأسلام , وبين الصورتين بون بعيد
فلا يحسن الستدلال به علي الصورة المسئول الأن عن حكمها .
قلت . تفقه المتقدمين انما كان في تارك الهجرة مطلقا . ومثلوا ذلك
بصورة من صوره وهو من أسلم في دار الحرب واقام , وهذه المسئول عنها أيضا صورة
[124/2]
[125/2]
ثانية من صوره لا تخلف الأولي الممثل بها الا في طرو الاقامة خاصة ,
فالصورة الأولي الممثل بها عندهم طرأ الأسلام فيها علي الأقامة , والصورة
الثانية الملحقة فيها علي الأسلام . واختلاف الطرو فرق
صوري وهو غير معتبر في استدعاء قصر الحكم عليه وانتهاءه اليه , انما خص
من تقدم من أيمة الهدي المفتدي بهم الكلام بصورة من أسلم ولم يهاجر , لأن
هذه الولاة الشركية كانت مفقوده في صدر السلام وغرته , ولم تحدث علي ما
قيل الا بعد مضي مئات السنين , وبعد أنقراض أيمة الأمصار المجتهدين
فلذلك شك لم يتعرض لأحكامها الفقهيه أحد منهم , ثم لما نبغت هذه المرة
المولاة النصرانية في المائة الخامسة وما بعدها من تاريخ الهجرة وقت استيلاء
ملاعين النصاري دمرهم الله علي جزيرة صقلية وبعض كور الأندلس . سئل
عنها بعض الفقهاء وأتفهموا عن الأحكام الفقهية المتعلقة بمرتكبها .
فأجاب . بأن أحكامهم جارية علي أحكام من أسلم ولم يهاجر , وألحقوا
هؤلاء المسئول عنهم والمسكوت عن حكمهم بهم , وسووا بين الطائفتين
في الأحكام الفقهية المتعلقة بأموالهم وأولادهم ولم يروا فيها فرقا بين
الفريقين , وذلك لأنهما في موالاة الأعداد ومساكنته ومداخلتهم وملابستهم وعدم
مبيانتهم وترك الهجرة الواجبة عليهم والفرار منهم وسائر الأسباب الموجبة لهذه
الحكام المسكوت عنها في الصورة المسئول عن فرضها بمثاية واحدة , فألحقوا
(1/124)
________________________________________
رضي الله الأحكام المسكوت عنها في هؤلاء المسكوت عنهم بالأحكام
المتفقة فيها في أولئك , فصار أجتهاد المتأخرين في هذا مجر الحاق المسكوت عنه
بمنطوق به مساو له في المعني في كل وجه , وهومنهم رضي الله عنهم عدل
من النطر وأحتياط في الأجتهاد وروكون الي الوقوف مع من تقدم من أيمة الهدي
المفتدي بهم , فكان غاية في الحسن والزين .
وأما الحتجاج علي تحريم هذه الأقامة من السنة فما خرجه الترمذي أن
النبي صلي الله عليه وسلم سرية الي خثعم فأعتصم ناس بالسجود
فأسرع فيهم القتل وبلغ ذلك النبي صلي الله عليه ويلم فأمر لهم بنصف
العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أطهر المشركين قالوا يا رسول
الله ولم قال لا تتراءي ناراهما . وفي الباب أن النبي صلي الله عليه وسلم
[125/2]
[126/2]
قال لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فهو
منهم . والتنصيص علي المقصود بحيث لا يخفي علي أحد
ممن له نطر سليم , وترجيح مستقيم , وقد ثينا في الحسان من المصنفات الستة
التي تدور عليها وحي الأسلام . قالوا ولا معارض لها لا ناسخ ولا مخصص
ولا غيرهما , ومقتضاهما لا مخالف لهما من المسلمين وذلك كاف في الاحتجاج
بهما . وهذا مع اعتضادهما بنصوص الكتاب وقواعد الشرع وشهادتهما لهما , وفي
سنن أبو داوود من حديث معاوية قال . سمعن رسول الله صلي الله عليه
وسلم يقول لا تنقطع الهجرة حتي تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتي تطلع الشمس من
مغربها . وفيه حديث ابن العباس قال . قال رسول الله صلي الله عليه وسلم
يوم فتح مكة لا هجرة بعد الفتح لكن جهاد ونية وان أستنفرتم فأنفروا
وقال ابو السليمان الخطابي . كانت الهجرة في أول الأسلام مندوبا اليها غير
وذلك قوله سبحانه وتعالي (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في
الرض مراغما كثيرا وسعة ) نزل حين أستدي أذي المشركين علي المسلمين
بمكة ثم وجبت الهجرة علي المسلمين عند خروج النبي صلي الله عليه وسلم
(1/125)
________________________________________
الي المدينة, وامروا بالأنتقال الي حضرته ليكونوا معه فيتعاونوا ويتطاهروا ان
حزبهم أمر وليتعلموا أمر دينهم وليتفقهوا فيه , وكان عطم الخوف في ذلك الزمان
من قريش وهم أهل مكة , فلما فتحت مكة وبخعت بالطاعة زال ذلك المعني
وأرتفع وجوب الهجرة وعاد الأمر فيها الي الندب والاستحباب , فهما هجرتان ,
فالمنطقه منهما هي الفرض , والباقية هي الندب , فهذا وجه الجمع بين
الحديثين علي ان بين الاسنادين ما بينهما . اسناد حديث ابن عباس متصل
صحيح , واسناد معاوية فيه مقال انتهي .
قلت . هاتان الهجرتان اللتان تضمنهما حديث معاوية وحديث ابن عباس
هما الهجرتان اللتان انقع فرضهما بفتح مكة فالهجرة الأولي من الخوف علي
الدين والنفس كهجرة النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه المكيين فانها كانت
عليه فريضة لا يجزيء ايمان دونها , والثانية الهجرة الي النبي صلي الله عليهوسلم في
داره التي أستقر فيها فقدبايع من قصده علي الهجرة وبايع اخرين علي
الاسلام , واما الهجرة علي أرض الكفر فهي فريضة الي يوم القيامة .
[126/2]
[127/2]
قال ابن العربي في الأحكام : الذهاب في الأرض ينقسم الي ستة أقسام
الأول : الهجرة وهي الخروج من دار الحرب الي دار الاسلام , وكانت فرضا في
ابان النبي عليه السلام , وهذه الهجرة باقية مفروضة الي يوم القيامة , والتي
انقطعت بالفتح هي القصد الي النبي صلي الله عليه وسلم حيث كان , فان
بقي في دار الحرب عصي ويختلف في حاله , وانطر بقية أقسام الهجرة فيها .
وقال في العارضة : ان الله حرم أولا علي المسلمين ان يقيموا بين أطهر
المشركين بمكة , وافترض عليهم أن يلحقوا بالنبي بالمدينة . فلما فتح الله مكة
سقطت الهجرة وبقي تحريم المقام بين أطهر المشركين , انما كان اعتصامهم في الحال .
نعم انه لا يحل قتل من بادر الي الاسلام اذا رأي السيف علي رأسه باجماع من
الأيمة ولكن قتلوا لأحد معنيين , اما لأن السجود لا يعصم , وانما يعصم الايمان
(1/126)
________________________________________
بالشهادتين لفطا , واما لأن الذين قتلوهم لم يكونوا يعلمون أن ذلك يعصمهم وهذا
هو الصحيح , فان بني جذيمة لما أسرع خالد فيهم القتل قالوا صبأنا ولم يحسنوا
ان يقولوا أسلمن فقتلهم , فوادهم النبي صلي الله عليه وسلم لخطأ خالد ,
وخطأ الامام وعامله في بيت المال .
قال وهذا يدل أنه ليس بشرط الاسلام قول لا اله الا الله محمد
رسول الله علي التعيين . وانما وداهم نصف العقل علي معني الصلح
والمصلحة , كما ودي أهل جذيمة بمثلي ذلك علي ما اقتضته حال كل واحد في
قوله . وقد اختلف الناس فيمن أسلم وبقي بدار الحرب فقتل أو سبي أهله
وماله فقال مالك حقن دمه وماله لمن أخذه حتي يجوز بدار الاسلام , وقيل
عنه انه يجوز ماله وأهله وبه قال الشافعي , والمسألة محققة في مسائل الخلاف
مبنية علي أن الحربي هل يملك ملكا صحيحا أم لا وان العاصم هل هو
الاسلام أو الدار فمن ذهب الي أنه يملك ملكا صحيحا تمسك بقوله عليه
السلام : " هل ترك لنا عقيل من دار " , وبقوله صلي الله عليه وسلم : " أمرت أن
أقاتل الناس حتي يقولوا لا اله الا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم
وأموالهم الا بحقها " . فسوي بين الدماء والأموال وأضافها اليهم , والاضافة
تقتضي التمليك , ثم أخبر عمن أسلم منهم أنه معصوم , وذلك يقتضي أن لا
[127/2]
[128/2]
يكون لأحد عليه سبيل . وتمسك أيضا من أتبعه ماله بقوله صلي الله عليه
وسلم : " من أسلم علي شئ فهو له " . وبقوله صلي الله عليه وسلم : " لا يحل
مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه " .وأما مالك وأبو حنيفة ومن قال
بقولهم فعندهم أن العاصم انما هو الدار , فما لم يحز المسلم ماله وولده بدار
الاسلام , والا فما أصيب من ذلك بدار الكفر فهو فئ للمسلمين , وكأن
الكفار عندهم لا يملكون , بل أموالهم وأولادهم حلال لمن يقدر عليها من
المسلمين كدمائهم , فمن أسلم منهم ولم يحز مالا ولا ولدا بدار الاسلام فكأنه
(1/127)
________________________________________
لا مال له ولا ولد , وكأن اليد للكفار كما ان الدار لهم وليست يد صاحبه
الاسلامي يدا اذا كان بين أطهرهم .
وقال " ابن العربي " أيضا : العاصم لدم المسلم الاسلام , ولماله الدار , وقال
" الشافعي " : العاصم لهما جميعا هو الاسلام وقال " أبو حنيفة العاصم " المقوم لهما
هو الدار والموثم هو الاسلام , وتفسير ذلك أن من أسلم ولم يهاجر حتي قتل
فانه تجب فيه الكفارة عنده دون الدية والقود , ولو هاجر لو جبت الكفارة
والدية علي عاقلته , قيل فعلي هذا دمه محقون عند مالك والشافعي , وقتله خطأ
لا دية فيه عند أبي حنيفة وانما فيه الكفارة خاصة , وهو الطاهر من قول
المفسرين واحتجوا في ذلك بقوله تعالي : والذين امنوا ولم يهاجروا ما لكم من
ولا يتهم من شئ حتي يهاجروا وبقوله تعالي : فان كان من قوم عدو لكم
وهو مومن فتحرير رقبة مؤمنة ولم يذكر دية : قالوا والمراد بهذا المومن انما هو
المسلم الذي لم يهاجر , لأنه مؤمن في قوم أعداء فهو منهم لقوله تعالي :ومن
يتولهم منكم فانه منهم فهو مومن من قوم عدو , فلما ذكر الدية في أول الاية
في المومن المطلق وفي اخرها في المؤمن الذي قومه تحت عهدنا وميثاقنا وهم
الذميون وسكت عنها في هذا المومن الذي قومه تحت عهدنا وميثاقنا وهم
الذميون وسكت عنها في هذا المومن الذي بين الأعداء دل علي سقوطها ,
وأنه انما أوجب فيه الكفارة خاصة , هذا حكم دمه .
قال " ابن العربي " : وهذه المسأله خراسانية عطما لم تبلغها المالكية ولا
عرفتها الايمة العراقية , فكيف بالمقلدة المغربية احتج أصحاب أبي حنيفة علي
أن العاصم الدار بأن التحرز والاعتصام والامتناع انما يكون بالحصون
والقلاع , وأن الكافر اذا صار في دارنا عصم دمه فصار كالمال اذا كان
[128/2]
[129/2]
مطروحا علي الطريق لم يلزم فيه قطع , واذا حوز بحوزه كان مضمونا بالقطع .
واحتج الشافعي بقول النبي صلي الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس " ,
(1/128)
________________________________________
الحديث فنص علي أن العصمة للنفس والمال امنا تكون بكلمة الاسلام . ولو
أن مسلما دخل الي دار الحرب فانه معصوم الدم والمال والدار معدومة . وأما
قول أصحابنا ان الاسلام عاصم النفس دون الولد والمال , وقول أصحاب أبي
خنيفة ان التحرز والتعصم يكون بالقلاع فكلام فكلام فاسد , لأنه تعلق بالعصمة
الحسية التي يكتبسها الكافر والمحارب ولا يعتبرها الشرع , وانما الكلام علي ما
يعتبره الشرع . ألا تري ان المحارب من المسلمين والكافر يتحصنان بالقلاع
ودمهما وأموالهما مباحان , أحدهما علي الاطلاق , والثاني بشرط أن يستمر ولا
يقلع , ويتمادي ويتمنع , ولكن المال انما يمنعه احراز صاحبه له بكونه معه في
حرز .
قلت : بقول " الشافعي " قال " أشهب وسحنون " ,وهو أختيار أبي بكر بن العربي
حسبما تضمنه كلامه الان . وبقول مالك قال أبو حنيفة وأصبغ بن الفرج ,
واختاره ابن رشد وهو المشهور عن مالك رحمه الله . ومنشأ الخلاف ما مر
تقريره , وأجري الفقيه القاضي الشهير أبو عبد الله بن الجاج وغيره من
المتأخرين مال هذا المسلم المسئول عنه المقيم بدار الحرب ولم يبرح عنها بعد
استيلاء الطاغية عليها علي هذا الخلاف المتقدم بين علماء الأمصار في مال من
أسلم وأقام بدار الحرب , ثم فرق ابن الحاج بعد الالحاق والتسوية في هذه
الأحكام الملحقة بأن مال من أسلم كان مباحا قبل اسلامه , بخلاف مال
المسلم , لأن يده لم تزل ولا تقدم له في وقت ما كفر يبيح ماله وولده يوما
للمسلمين , فليس لأحد عليهما من سبيل وهو راجح من القول وواضح من
الاستدلال والنطر , وطاهر عند التأمل لمنشأ الخلاف الذي تقدم بيانه علي ما لا
يخفي .
ويعتضد هذا الفرق بنص اخر مسأله من سماع يحيي من كتاب ( الجهاد )
ولفطه : وسألته عمن تخلف من أهل برشلونة من المسلمين عن الارتحال عنهم
بعد السنة التي أجلت لهم يوم فتحت في ارتحالهم فأغار علي المسلمين تعوذا مما
(1/129)
________________________________________
يخاف من القتل ان طفر به , فقال ما لأراه الا بمنزلة المحارب الذي يتلصص
[129/2]
[130/2]
بدار الاسلام من المسلمين , وذلك أنه مقيم علي دين الاسلام , فان أصيب
فأمره الي الامام يحكم فيه بمثل ما يحكم في أهل الفساد والحرابة . وأما ماله فلا
أراه يحل لأحد أصابه انتهي محل الحاجة منه . ابن رشد : قوله انهم في
غارتهم علي المسلمين بمنزلة المحاربين صحيح لا اختلاف فيه , لأن المسلم اذا حارب
فسواء كانت حرابته في بلد الاسلام أو في بلد الكفر الحكم فيه سواء . وأما
قوله في ماله انه لا يحل لأحد أصابه فهو خلاف طاهر قول مالك في ( المدونة ) في
الذي يسلم في دار الحرب ثم يغزو المسلمون تلك الدار فيصيبون أهله وماله
ان ذلك كله فئ اذ لم يفرق فيها بين أن يكون الجيش غنم ماله وولده قبل
خروجه او بعد خروجه .
قلت : فطاهر كلام ابن رشد هذا يؤذن بترجيح خلاف ما رجحه
معاصرة وبلديه القاضي أبو عبد الله بن الحاج في مال هؤلاء المسؤول
عنهم وأولادهم فتأمله , وقال بعض المحققين من الشيوخ يطهر ان الأحكام
الملحقة بهم في الأنفس والأولاد والأموال جارية علي المقيميين مع النصاري
الحربيين علي حسب ما تقرر من الخلاف وتمهد من الترجيح , ثم ان حاربونا
مع أوليائهم ترجحت حينئذ استباحة دمائهم , وان أعانوهم بالمال علي قتالنا
ترجحت استباحة اموالهم , وقد يرجح سبي ذرايهم للاستخلاص من أيديهم
وانشاءهم بين اطهر المسلمين امنين من الفتنة في الدين , معصومين من معصية
ترك الهجرة .
وما ذكر في السؤال من حصول الندم والتسخط لبعض المهاجرين من
دار الحربيين الي دار المسلمين لما زعموه من ضيق المعاش وعدم الانتعاش زعم
فاسد , وتوهم كاسد , في نطر الشريعة الغراء , فلا يتوهم هذا المعني ويعتبره
ويجعله نصب عينه الا ضعيف اليقين, بل عديم العقل والدين , وكيف يتخيل
هذا المعني يدلي به حجة في اسقاط الهجرة من دار الحرب , وفي بلاد الاسلام
(1/130)
________________________________________
أعلي الله كلمته مجال رحب للقوي والضعيف , والثقيل والخفيف , وقد وسع
الله البلاد فيستجير بها من اصابته هذه الصدمة الكفرانية والصاعقة النصرانية ,
في الدين والأهل والأولاد , فقد هاجر من جلة الصحابة وأكابرهم رضوان الله
عليهم الي أرض الحبشة فرارل بدينهم من أذي المشركين أهل مكة جماعة
[130/2]
[131/2]
عطيمة , ورفقة كريمة , منهم جعفر ابن أبي طالب , وأبو مسلمة بن
عبد الأسد , وعثمان بن عفان , وأبو عبيدة بن الجراح , وحال أرض الحبشة
ما قد علم . وهاجر اخرون الي غيرها وهاجروا أوطانهم وأموالهم وأولادهم
واباءهم ونبذوهم وقاتلوهم وحاربوهم تمسكا منهم بدينهم ورفضا لدنياهم .
فكيف بعرض من أعراضها لا يخل تركه بتكسب بين أطهر المسلمين
ولا يؤثر رفضه في متسع المسترزقين , ولا سيما بهذا القطر الديني المغربي صانه
الله وزاده عزا وشرفا , ووقاه من الأغيار والأكدار وسطا وطرفا , فانه من
أخصب ارض الله أرضا , وأشيعها بلادا طولا وعرضا , وخصوصا حاضرة فاس
وأنطارهم , ونواحيها من كل الجهات وأقطارها , ولئن سلم هذا الوهم , وعدم
صاحبه والعياذ بالله العقل الراجح والرأي الناجح والفهم , فقد أقام علما
وبرهانا علي نفسه الخسيسة الرذلة بترجيح غرض دنياوي حطامي محتقر , علي
عمل ديني أخروي مدخر , وبئست هذه المفاضلة والأرجحية وخاب وخسر من
اثرها ووقع فيها , أما علم المغبون في صفقته , النادم علي هجرته , من دار
يدعي فيها التثلت وتضرب فيها النواقيس ويعبد فيها الشيطان ويكفر
بالرحمان , أن ليس للأنسان الا دينه , اذبه نجاته الأبدية وسعادته الأخروية ,
وعليه يبذل نفسه النفيسة فضلا عن جلة ماله , قال الله تعالي : يأيها الذين
امنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم
الخاسرون . وقال تعالي : انما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر
عطيم . واعطم فوائد المال وأجلها عند العقلاء انفاقه في سبيل الله وابتغاء
(1/131)
________________________________________
مرضاته , وكيف يقتحم بالتشبث ويترامي ويتطارح أو يتسارع من أجله الي
موالاة العداة , وقد قال تعالي : فتري الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم
يقولون نخشي أن تصبنا دائرة الخ .والدائرة في هذه النازلة فوات التمسك
بعقار المال , فوصف بمرض القلب وضعف القين . ولو كان قوي الدين
صحيح اليقين واثقا بالله تعالي معتمدا عليه ومسندا طهره اليه لما أهمل قاعدة
التوكل علي علو رتبتها ونمو ثمرتها وشهادتها بصحة الايمان ورسوخ اليقين .
[131/2]
[132/2]
واذا تقرر هذا فلا رخصة لأحد ممن ذكرت في الرجوع ولا في عدم
الهجرة بوجه ولا حال , وأنه لا يعذر مهما توصل الي ذلك بمشقة فادحة
أو حيلة دقيقة , بل مهما وجد سبيلا الي التخلص من ربقة الكفر . وحيث
لا يجد عشيرة تذب عنه وحماة يحمون عليه ورضي بالمقام بمكان فيه الضيم علي
الدين والمنع من اطهار شعائر المسلمين , فهو مارق من الدين منخرط في سلك
الملحدين . والواجب الفرار من دار غلب عليها أهل الشرك والخسران الي دار
الأمن والأمان . ولذلك قوبلوا في الجواب عند الاعتذار بقوله : ألم تكن أرض
الله واسعة الخ . أي حيثما توجه المهاجر وان كان ضعيفا فانه يجد الأرض
واسعة ومتصلة فلا عذر بوجه لمستطيع وان كان بمشقة في العمل أو في الحيلة
أو في اكتساب الرزق أو ضيق المعيشة الا المستضعف العاجز رأسا الذي
لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا . ومن بادر الي الفرار , وسارع في الانتقال من
دار البوار الي دار الأبرار , فذلك أمارة طاهرة في الحال العاجلة لما يصير اليه
حاله في الاجلة , لأن من يسر له العمل الصالح كان مأمولا له الطفر والفوز ,
ومن تيسر له العمل الخبيث كان مخوفا عليه الهلاك والخسران , جعلنا الله
واياكم ممن يسر لليسري , وانتفع بالذكري .
وما ذكرت عن هؤلاء المهاجرين من قبيح الكلام وسب دار الاسلام ,
وتمني الرجوع الي دار الشرك والاصنام , وغير ذلك من الفواحش المنكرة التي
(1/132)
________________________________________
لا تصدر الا من اللئام , يوجب لهم خزي الدنيا والاخرة وينزلهم أسوا
المنازل . والواجب علي من مكنه الله في الأرض ويسره لليسري أن يقبض علي
هؤلاء وأن يرهقهم العقوبة الشديدة والتنكيل المبرح ضربا وسجنا حتي لا
يتعدوا حدود الله , لأن فتنة هؤلاء أشد ضررا من فتنة الجوع واخوف ونهب
الأنفس والأموال . وذلك أن من هلك هنالك فالي رحمة الله تعالي وكريم
عفوه . ومن هلك دينه فالي لعنة الله وعطيم سخطه , فان محبة الموالاة الشركية
والمساكنة النصرانية والعزم علي رفض الهجرة والركون الي الكفار والرضي
بدفع الجزية اليهم ونبذ العزة الاسلامية والطاعة الامامية والبيعة السلطانية ,
وطهور السلطان النصراني عليها واذلاله اياها فواحش عطيمة مهلكة قاصمة
للطهر يكاد أن تكون كفرا والعياذ بالله , وأما جرحة المقيم والراجع بعد الهجرة
والمتمني الرجوع وتأخيره عن المراتب الكمالية الدينية من قضاء وشهادة وامامة
[132/2]
[133/2]
فما لا خفاء فيه ولا امتراء ممن له أدني مسكة من الفروع الاجتهادية ,
والمسائل الفقهية . وكما لا تقبل شهادتهم كذلك لا يقبل خطاب حكامهم , قال
" ابن عرفة " رحمه الله : وشرط قبول خطاب القاضي صحة ولا يته ممن تصح
توليته بوجه احترازا من مخاطبة قضاة أهل الدجن كقضاة مسلمي بلنسية
وطرطوشة وموصرة عندنا ونحو ذلك انتهي .
القاضي والعدل المقيمان بدار حرب اضطرارا لا يقدح ذلك في عدالتيهما
وسئل الأمام " أبو عبد الله المارزي " رحمه الله في زمانه عن أحكام من
صقلية من عند قاضيها أو شهود عدول , هل يقبل ذلك منهم أم لا مع أنها
ضرورة ولا تدري اقامتهم هناك تحت اهل الكفر هل هي اضطرارا
أو اختيارا
فأجاب القادح في هذا وجهان , الأول يشتمل علي القاضي وبيناته من
ناحية العدالة , فلا يباح المقام في دار الحرب في قياد أهل الكفر , والثاني من
ناحية الولاية اذ القاضي مولي من قبل أهل الكفر . والأول له قاعدة يعتمد
(1/133)
________________________________________
عليها في هذه المسأله وشبهها وهي تحسين الطن بالمسلمين ومباعدة المعاصي
عنهم فلا يعدل عنها لطنون كاذبة وتوهمات واهية كتجويز من طاهرة العدالة ,
وقد يجوز في الخفاء وفي نفس الأمر أن يكون ارتكب كبيرة الا من قام الدليل
علي عصمته . وهذا التجويز مطرح , والحكم للطاهر اذ هو الراجح , الا أن
يطهر من المخايل ما يوجب الخروج عن العدالة , ويبقي الحكم لغلبة الطن بعد
ذلك . والحكم هو مستفاد من قرائن محصورة فيعمل عليها , وقرائن العدالة
مأخوذة من أمر مطلق فتلغي وقد امليت من هذا طرفا في شرح البرهان .
وذكرت طريقة أبي المعالي وطريقي لما تكلمنا فيما جري بين الصحابة من
الوقائع والفتن رضي الله عنهم أجمعين .
وهذا المقيم ببلد الحرب ان كان اضطرارا فلا شك أنه لا يقدح في
عدالته , وكذا ان كان تأويله صحيحا مثل اقامته ببلد أهل الحرب لرجاء هداية
[133/2]
[134/2]
أهل الحرب أو نقلهم عن ضلالة ما وأشار اليه الباقلاني , وكما أشار اصحاب
مالك في جواز الدخول لفكاك الأسير , أما لو أقام بحكم الجاهلية والاعراض
عن التأويل اختيارا فهذا يقدح في عدالته , واختلف المذهب في رد شهادة
الداخل اختارا لتجارة , واختلف في تأويل المدونة فيها أشد , فمن طهرت
عدالته منهم وشك في اقامته علي أي وجه فالأصل عذرة لأن جل الاحتمالات
السابقة تشهد لعذره , فلا ترد لاحتمال واحد الا أن تكون قرائن تشهد أن
اقامته كانت اختيارا لا لوجه . وأما الثاني وهو تولية الكافر للقضاة والأمناء
وغيرهم لحجز الناس بعضهم عن بعض فواجب , حتي ادعي بعض أهل
المذهب أنه واجب عقلا , وان كان باطلا تولية الكافر لهذا القاضي . اما
بطلب الرعية له واقامته لهم للضرورة , وفي كتاب الأمان في مسألة الحالف
ليقينك حقك الي أجل اقام شيوخ المكان مقام السلطان عند فقده لما يخاف
من فوات القضية , وعن مطرف وابن الماجشون فيمن خرج علي الامام وغلب
علي بلد فولي قاضيا عدلا فأحكامه نافذة انتهي .
(1/134)
________________________________________
قلت : وأفتي شيوخ الأندلس فيمن كان في ولاية الثائر المارق عمر بن
حفصون أنه لا تجوز شهادتهم ولا قبول خطاب قضاتهم . واختلف في قبول
ولاية القضاء من الأمير غير العدل . ففي ( رياض النفوس ) في طبقات علماء
افريقية لأبي محمد بن عبد الله المالكي قال " سحنون " اختلف أبو محمد عبد الله
بن فروخ وابن غانم قاضي افريقية , وهما من وراة مالك رضي الله عنه , فقال
ابن فروخ لا ينبغي لقاض اذا ولاه أمير غير عدل أن يلي القضاء ؛ وقال " ابن
غانم " يجوز أ، يلي وان كان الأمير غير عدل , فكتب بها الي مالك , فقال
مالك : أصاب الفارسي يعني ابن فروخ , وأخطأ الذي يزعم أنه عربي يعني
ابن غانم انتهي .
وقال " ابن عرفة " : لم يجعلوا قبوله الولاية للمتغلب المخالف للامام جرحة
لخوف تعطيل الأحكام انتهي . هذا ما يتعلق بهم من الأحكام الدنيوية وأما
الاخروية المتعلقة بمن قطع عمره وأفني شيبه وشبابه في مساكنتهم وتوليتهم
ولم يهاجر أو هاجر ثم راجع وطن الكفر وأصر علي ارتكاب المعصية الكبيرة الي
[134/2]
[135/2]
حين وفاته واعياذ بالله , فالذي عليه السنه وجمهور العلماء أنهم معاقبون
بالعذاب الشديد , الا انهم غير مخلدين في العذاب بناء علي مذهبهم الحق في
انقطاع عذاب اهل الكبائر وتخليصهم بشفاعة سيدنا ونبينا ومولانا محمد صلي
الله عليه وسلم المصطفي المختار , حسبما وردت به صحاح الأخبار. والدليل
علي ذلك قوله عز وجل ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء , وقوله : قل ياعبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم , وقوله وان ربك لذو
مغفرة علي طلمهم , الا أن قوله تعالي ومن يتولهم منكم فانه منهم وقوله
عليه السلام أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أطهر المشركين , وقوله عليه
السلام فمن ساكنهم أو جامعهم فهو منهم شديد جدا عليهم . وما ذكرتم عن
(1/135)
________________________________________
سخيف العقل والدين من قوله الي ها هنا يهاجر في قالب الازدراء والتهكم .
وقوله السفيه الاخر ان جاز صاحب قشتالة الي هذه النواحي نسير اليه الخ
كلامه البشيع , ولفطه الشنيع , لا يخفي علي سيادتكم ما في كلام واحد
منهما من السماجة في التعبير , كما لا يخفي ما علي كل منهما في ذلك من الهجنة
وسوء النكير , اذ لا يتفوه بذلك ولا يستبيحه الا من سفه نفسه , وفقد والعياذ
بالله حسه , ورام رفع ما صح نقله ومعناه ولم يخالف في تحريمه أحد في جميع
معمور الارض الاسلامية من مطلع الشمس الي مغربها لغراض فاسدة في نطر
الشرع لا رأس لها ولا ذنب , فلا تصدر هذه الأغراض الهوسية الا من قلب
استحوذ عليه الشيطان , فأنساه حلاوة الايمان , ومكانه من الاوطان , ومن
ارتكب هذا وتورط فقد استعجل لنفسه الخبيثه الخزي المضمون في العاجل
والاجل , الا أنه يساوي في العصيان والاثم والعدوان والمقت والسماجة
والابعاد والانتقاص واستحقاق اللئيمة والمذمة الكبري , التارك للهجرة بالكلية
بموالاة العداء والسكني بين أطهر البعداء لأن غاية ما صدر من هذين
الخبيثين عزم وهو التصميم وتوطين النفس علي الفعل وهما لم يفعلا .
اختلاف الأشاعرة في المواخذة بالعزم
وقد اختلف أيمتنا الأشاعرة في المواخذة به , فنقل الامام أبو عبد الله
المازري رحمه الله عن كثيرين أنه غير مواخذ به رأسا , لطاهر قوله عليه
[135/2]
[136/2]
السلام : ان الله تجاوز لامتي ما حدثت به أنفسها . وقال القاضي " أبو بكر
الباقلاني " انه مواخذ به , واحتج له بحديث : " اذا اصطف المسلمان بسيفهما
فالقاتل والمقتول في النار . قيل يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول
قال انه كان حريصا علي قتل صاحبه" ,فاثمه بالحرص . وأجيب بأن اللقاء واشهار
السلاح فعل وهو المراد بالحرص , وقال في ( الاكمال ) : بقول القاضي قال عامة
السلف من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين , لكثرة الاحاديث الدالة علي المواخذة
(1/136)
________________________________________
بعمل القلب , وحملوا أحاديث عدم المواخذة علي الهم . قيل " للثوري " : أنواخذ
بالهمة قال اذا كانت عزما . لكنهم قالوا انما يواخذ بسيئة العزم لأنها معصية
لا بسيئة المعزوم عليه لأنها لم تفعل , فان فعلت كتبت سيئة ثانية , وان كف
عنها كتبت حسنة . لحديث: " انما تركها من جراي ".
قال " محي الدين النووي " :تطاهرت النصوص بالمواخذة بالعزم كقولة
تعالي :ان الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين امنوا , وقوله تعالي :
اجتنبوا كثيرا من الطن ان بعض الطن اثم .وقد اجمعت الأمة علي حرمة
الحسد واحتقار الناس وارادة المكروه انتهي . واعترض هذا الاحتجاج بأن
العزم المختلف فيه ماله صورة في الخارج كالزني وشرب الخمر , وأما ما
لا صورة له في الخارج كالاعتقادات وخبائث النفس من الحسد ونحوه فليس
من صور محل الخلاف , لن النهي عنه في نفسه به وقع التكليف فلا يحتج
بالاجماع الذي فيه .
وليكن هذا اخر ما طهر كتبه من الجواب عن السؤال المفيد الموجه من
قبل الفقيه المعطم الخطيب الفاضل القدوة الصالح البقية , والجملة الفاضلة
النقية , السيد أبي عبد الله بن قطية , أدام الله سموه ورقيه . وينبغي أن يترجم
هذا الجواب ويسمي بأسني المتاجر , في بيان احكام من غلب علي وطنه
النصاري ولم يهاجر , وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر , والله اسأل أن
ينفع به , ويضاعف الأجر بسببه , قاله وخطه العبد المستغفر الفير المسلم عبيد
الله أحمد بن يحيي بن محمد بن علي الونشريسي وفقه الله . وكان الفراغ مذ
كتبه يوم الاحد التاسع عشر لذي قعدة الحرام من عام سنة وتسعين وثمانمائة
عرفنا الله خيره .
[136/2]
[137/2]
تشدد المؤلف في الزام الأندلسيين بالهجرة بعد سقوط غرناطة
وكتب الي الفقيه أبو عبد الله المذكور ايضا بما نصه :
الحمد لله , والصلاة والسلام علي رسول الله . جوابكم ياسيدي رضي
الله عنكم ومتع المسلمين بحياتكم في نازلة , وهي رجل من أهل مربلة
(1/137)
________________________________________
معروف بالفضل والدين تخلف عن الهجرة مع أهل بلده ليبحث عن أخ له فقد
قبل في قتال العدو بأرض الحرب , فبحث عن خبره الي الان فلم يجده وأيس
منه , فأراد ان يهاجر فعرض له سبب اخر وهو أنه لسان وعون للمسلمين
الذمييين حيث سكناه ولمن جاورهم ايضا من أمثالهم بغريبة الاندلس يتكلم
عنهم مع حكام النصاري فيما يعرض لهم معهم من نوائب الدهر ويخاصم عنهم
ويخلص كثيرا منهم من ورطات عطيمة بحيث انه يعجز عن تعاطي ذلك عنهم
أكثرهم , بل قل ما يجدون مثله في ذلك الفن ان هاجر , وبحيث انه يلحقهم
في فقده ضرر كبير ان فقدوه . فهل يرخص لهم في الاقامة معهم تحت حكم
الملة الكافرة لما في اقامته هناك من المصلحة لأولئك المساكين
الذميييين مع أنه قادر علي الهجرة متي شاء أولا يرخص له اذ لا رخصة لهم
ايضا في اقامتهم هناك تجري عليهم أحكام الكفر , لا سيما وقد سمح لهم في
الهجرة مع أن أكثرهم قادرون عليها متي أحبوا وعلي تقدير أن لو رخص له
في ذلك فهل يرخص له ايضا في الصلاة بثيابه حسب استطاعته اذ لا تخلو
ديارهم في خدمة المسلمين الذمييين حسبما ذكر بينوا لنا حكم الله في ذلك
مأجورين مشكورين ان شاء الله تعالي والسلام الكثير يعتمد مقامكم العلي
ورحمة الله تعالي وبركاته .
فأجبته بما نصه :
الحمد لله تعالي وحده . الجواب والله تعالي ولي التوفيق بفضله , أن الهنا
الواحد القهار , قد جعل الخزية والصغار , في أعناق ملاعين الكفار ,
سلاسلا وأغلالا يطوفون بها في الاقطار , وفي أمهات المدائن والأمصار , اطهارا لعزة
[137/2]
[138/2]
الاسلام وشرف نبيه المختار . فمن حاول من المسلمين عصمهم الله ووفرهم
انقلاب تلك السلاسل والأغلال في عنقه فقد حاد الله ورسوله وعرض بنفسه
الي سخط العزيز الجبار , وحقيق أن يكبكبه الله معهم في النار , كتب الله
لاغلبن انا ورسلي ان الله لقوي عزيز فالواجب علي كل مؤمن يؤمن بالله
(1/138)
________________________________________
واليوم الاخر السعي في حفط رأس الايمان , بالبعد والفرار عن مساكنة اعداء
حبيب الرحمام , والاعتلال لاقامة الفاضل المذكور بما عرض من غرض الترجمة
بين الطاغية وأهل ذمته من الدجن العصاة لا يخلص من واجب الهجرة ولا
يتوهم معارضة ما سطر في السؤال من الاوصاف الطردية لحكمها بالواجب الا
متجاهل أو جاهل معكوس الفطرة , ليس معه من مدارك الشرع خبرة , لأن
مساكنة الكفار , من غير أهل الذمة والصغار , لا تجوز ولا تباح ساعة من نهار ,
لما تنتجه من الأدناس والاوضار , والمفاسد الدينية والدنيوية طول الأعمار .
منها أن غرض الشرع أن تكون كلمة الاسلام وشهادة الحق قائمة علي
طهورها عالية علي غيرها منزهة عن الازدراء بها ومن طهور شعار الكفر
عليها . ومساكنتهم تحت الذل والصغار تقتضي ولا بد أن تكون هه الكلمة
الشريفة العالية المنيفة سافلة لا عالية ومزدري بها لا منزهة , وحسبك بهذه
المخالفة للقواعد الشرعية والاصول وبمن يتحملها ويصبر عليها مدة عمرة من
غير ضرورة ولا أكراه .
ومنها أن كمال الصلاة التي تتلو الشهادتين في الفضل والتعطيم والاعلان
والطهور لا يكون ولا يتصور الا بكمال الطهور والعلو والنزاهة من الازدراء
والاحتقار . وفي مساكنة الكفار , وملابسة الفجار , تعريضها للاضاعة والازدراء
والهزء واللعب . قال الله تعالي واذا ناديتم الي الصلاة اتخذوها هزؤا ولعبا ذلك
بأنهم قوم لا يعقلون ,وحسبك بهذه المخالفة ايضا .
ومنها ايتاء الزكاة . ولا يخفي علي ذي بصيرة , وسريرة مستنيره , أن
اخراج الزكاة للامام , من أركان الاسلام , وشعائر الانام , وحيث لا امام
فلا اخراج لعدم شرطها , فلا زكاة لفقد مستحقها . فهذا ركن من أركان
الاسلام منهد بهذه الموالاة الكفرية , وأما اخراجها لمن يستعين بها علي المسلمين
فلا يخفي ايضا ما فيه من المناقضة للمتعبدات الشرعية كلها .
[138/2]
[139/2]
ومنها صيام رمضان , ولا يخفي أنه فرض علي الأعيان , وزكاة الابدان .
(1/139)
________________________________________
وهو مشروط برؤية الهلال ابتداء وانقضاء , وفي اكثر الأحوال انما تثبت الرؤية
بالشهادة , والشهادة لا تؤدي الا عند الايمه وخلفائهم , وحيث لا امام لا
خليفة فلا شهادة الشهر اذ ذاك مشكوك الأول والاخر في العمل الشرعي .
ومنها حج البيت , والحج وان كان ساقطا عنهم لعدم الاستطاعة لأنها
موكولة اليهم , فالجهاد لاعلاء كلمة الحق ومحو الكفر من قواعد الاعمال
الاسلامية , وهو فرض علي الكفاية وعند مسيس الحاجة , ولا سيما بمواضع
هذه الاقامة المسئول عنها وما يجاورها , ثم هم اما ضرورة مانعة منه علي
الاطلاق كالعازم علي تركه من غير ضرورة , والعازم علي الترك من غير ضرورة
كالتارك قصدا مختارا , واما مقتحمون نقيضه بمعاونة أوليائهم علي المسلمين اما
بالنفوس واما بالاموال فيصيرون حينئذ حربيين مع المشركين , وحسبك بهذه
مناقضة وضلالة .
وقد اتضح بهذا التقرير نقص صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وجهادهم
واخلالهم باعلاء كلمه الله وشهادة الحق واهمالهم لاجلاها , وتعطيمها وتنزيهها
عن ازدراء الكفار , وتلاعب الفجار . فكيف يتوقف متشرع أو يشك متورع في
تحريم هذه الاقامة مع استصحابها لمخالفة جميع هذه القواعد الاسلامية
الشريفة الجليلة , مع ما ينضم اليها ويقترن بهذه المساكنة المقهورة مما لا ينفك
عنها غالبا من التنقيص الدنياوي وتحمل الذلة والمهانة , وهو مع ذلك مخالف
لمعهود عزة المسلمين ورفعة أقدارهم وداع الي احتقار الدين , واهتضامه ,
وهو أمور أيضا تصطك منها المسامع .
منها الاذلال والاحتقار والاهانه , وقد قال عليه السلام : "لا ينبغي لمسلم
أن يذل نفسه , وقال : اليد العليا خير من اليد السفلي .
ومنها الازدراء والاستهزاء ولا يتحملهما ذو مروءة فاضلة من غير
ضرورة .
[139/2]
[140/2]
ومنها السب والاذاية في العرض , وربما كانت في البدن والمال .
ولا يخفي ما فيه من جهة السنة والمرؤة .
ومنها الاستغراق في مشاهدة المنكرات , والتعرض لملابسة النجاسات ,
(1/140)
________________________________________
وأكل المحرمات والمتشابهات .
نهي عمر بن عبد العزيز عن الاقامة بالأندلس
ومنها ما يتوقع مخوفا في هذه الاقامة , وهو أمور أيضا : منها نقض العهد
من الملك والتسلط علي النفس والاهل والولد والمال .
وقد رو ي أن عمر بن عبد العزيز نهي عن الاقامة بجزيرة الأندلس مع
أنها كانت في ذلك الوقت رباطا لا يجهل فضله , ومع ما كان المسلمون عليه
من القوة والطهور ووفور العدد والعدد , لكن مع ذلك نهي عنه خليفة الوقت
المتفق علي فضله ودينه وصلاحه ونصيحته لرعيته خوف التغرير , فكيف بمن
ألقي نفسه وأهله وأولاده بأيديهم عند قوتهم وطهورهم وكثرة عددهم ووفور عددهم
اعتمادا علي وفائهم بعهدهم في شريعتهم , ونحن لا نقبل شهادتهم بالاضافة
اليهم فضلا عن قبولها بالاضافة الينا , وك
يف نعتمد علي زعمهم بالوفاء مع ما
الأخبار في معمور الاقطار .
ومنها الخوف علي النفس والاهل والولد والمال ايضا من شرارهم وسفائهم
ومغتاليهم , هذا علي فرض وفاء دهاقينهم وملكهم . وهذا أيضا تشهد له العادة
ويقر بها الوقوع .
ومنها الخوف من الفتنة في الدين . وهب أن الكبار العقلاء قد يامنونها ,
فمن يؤمن الصغار والسفهاء وضعفة اذا انتدب اليهم دهاقين الأعداء
وشياطينهم .
ومنها الخوف من الفتنة علي الأبضاع والفروج . ومتي يأمن ذو زوجة
او ابنه أو قريبة وضيئة أن يعثر عليها وضئ من كلاب الأعداء , وخنازيرهم
البعداء , فيغرها في نفسها ويغترها في دينها ويستولي غليه وتطاوعه ويحال بينها
[140/2]
[141/2]
وبين وليها بالارتداد والفتنة في الدين , كما عرض لكنه المعتمد بن عباد , ومن
لها من الأولاد . أعاذنا الله من البلاء , وشماتة الأعداء .
ومنها الخوف من سريان سيرهم ولسانهم ولباسهم وعوائدهم المذمومة الي
المقيمين معهم بطول السنين , كما عرض لأهل أبلة وغيرهم , وفقدوا اللسان
العربي جملة .واذا فقد اللسان العربي جملة فقدت متعبداته . وناهيك من فوات
(1/141)
________________________________________
المتعبدات اللفطية مع كثرتها وكثرة فضلها.
ومنها الخوف من التسلط علي المال باحداث الؤطائف الثقيلة والمغارم
المجحفة المؤدية الي استغراق المال واخاطة الضرائب الكفرية به في دفعة واحدة
في صورة ضرورة وقتية أو في دفع . واما أستناد الي تلفيق من العذر والتأويل
لا تستطيع مراجعتهم فيه ولا مناطرتهم عليه , وان كان في غاية من الضعف
ووضوح الوهن والفساد , فلا يقدم علي ذلك خوفا من أن يكون سببا لتحريك
دواعي الحقد وداعيه لنقض العهد والتسلط علي النفس والأهل والولد , وهذا
يشهد له الوقوع عند من بحث بل ربما وقعفي موضع النازلة المسئول عنها
زفي غيرة غير مرة . فقد ثبت بهذه المفاسد الواقعة والماتوقعة تحريم هذه الاقامة , وحطر
هذه المساكنة المنحرفة عن الاستقامة , من جهات مختلفة متعاضده مؤدية الي
معني واحد , بل قد نقل الايمة حكم هذا الأصل الي غيره لقوته وطهوره في
التحريم , فقال امام دار الهجرة ابو عبد الله مالك بن انس رضي الله عنه . ان
أية الهجرة تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تغير فيها السنن
ويعمل فيها بغير الحق فضلا عن الخروج والفرارمن بلاد الكفرة وبقاع
الفجرة و ومعاذ الله أن تركت لأهل التثليث أمة فاضلة توحده , وترضي بالمقام
بين أطهر الانجاس الأوجاس وهي تعطمه وتمجده , فلا فسحة للفاضل
المذكور في اقامته بالموضع المذكور للغرض المذكور , ولا رخصة له ولا لأصحابه
فيما يصيب ثيابهم وأبدانهم من النجاسات والأخباث , اذ العفو عنها مشروط
بعسر التوقي والتحرز , ولا عسر مع أختيارهم للاقامة , والعمل علي غير
استقامة , والله سبحانه أعلم , وبه التوفيق , وكتبا مسلما علي من يقف عليه
من أهل لا اله الا الله العبد المستغفر الفقيرالحقير الراغب في بركة من يقف
عليه وينتهي اليه عبيد الله أحمد بن يحيي بن محمد بن علي الونشريسي وفقه
[141/2]
[142/2]
مسألة في شراء أموال أهل غيره من الروم .
(1/142)
________________________________________
وقع البحث فيها بين الفقيه ابي يحي بن عاصم والفقيه الخطيب أبي
غبد الله السرقسطي رحمهما الله ورضي عنهما . ونص كلام أبي عبد الله
السرقسطي مجاوبا لأهل بسطة .
يا أخي وصاحبي وصلتني كتبكم في القضية الغيرية وعرفت منها ان
مستندكم في فتياكم بحرمة شراء أموالهم من الروم أن لهم عهدا وأمانا منا مثل
ما للروم , فلذلك لا نشتري أموال أهل غيره ممن غلبهم عليها .
والجواب عن هذا أن نقول . ان أردتم بالعهد والأمان ما قضي به
الشرع من حرمة مال المسلم علي المسلم الا ان طابت به نفسه فيلزمكم عليه
أن لا يشتري من الحربي ما غلب المسلم عليه من ماله , ولا نقسم في الغنائم
ما عرفنا أنه لمسلم غير معين , لأنا علي شك من طيب نفس مالكه المسلم ,
والنص بالجواب موجود , وأطنكم لم تريدوا هذا , وان أردتم بالعهد والأمان
ما عقده أمير المسلمين أيده الله للروم علي الهدنة وترك الحرب وأنه شامل لأهل
غيره لكونهم تحت قهر الطاغية فقيه نطر من حيث ان الروم كانت قبل الهدنة
دماؤهم ورقابهم وأموالهم مباحة لنا , ودماء أهل غليرة محترمة وبقي النطر في
أموالهم هل هي محتروة لأنها لمسلم . أو مباحه لأنها في دار حرب . ولست أذكر
فيها لمالك ولا لأحد من أصحابه نصا , غير ان القضي ابي عبد الله بن الحجاج
ذكرها في نوازله وأجراها علي مسألة الحربي يسلم ويخرج الينا أو يبقي بداره
فيدخلها المسلمون ويأخذون ماله , هل يكون له أو غنيمة . والقولان في المدونة
وصحيح أنه لاغنيمة بنصوص الأحاديث الصحيحه أن مال المسلم حرام
علي المسلم الا عن طيب نفس منه .
وفي هذا الأجراء نطر من حيث ان الحربي مباح الدم والمال والرقبة ,
فاذا أسلم أحرز ذمه ورقبته باتفاق , ويبقي الخلاف في ماله مادام بدار
الحرب . واما المسلم الموحد الذي لم يسبق اسلامه كفر فلم يكن قط مباح الدم
والرقبة لعدم وجود المبيح فيه وهو الكفر , وما لزم في دمه ورقبته يلزم في ماله ,
(1/143)
________________________________________
لأن علة الأحترامهي الاسلام ( وكل المسلم علي المسلم حرام دمه
[142/2]
[143/2]
وعرضه وماله ) فكيف يسوي بين ما كانت حرمته أصلية وبين من كانت
حرمته طارئة غير أصلية , واذا ثبتت الحرمة لمال مسلم الأصلي استصحبناها
حتي تسقط بدليل صحيح , وليس كونه بدار الحرب مسقطا لحرمته حتي يقوم
الدليل عليه . ألا تري قول أشهب فيمن اشتري ببلاد العدو من السبي
شيئا فترك به عجزا عنه فدخلت خيل فأخرجته أنه له لا لمن أخذه وأخرحه هو
الصحيح من حيث انه قد ملكه , وتركه اياه مكروها وعاجزا لا يسقط ملكه
عنه . ألا تري أن من ندت له بقرة وتوحشت أن ملكه باق عليها ولا توكل بما
يوكل به الوحش بقاء مع الأصل . ألا تري أن القول الصحيح في الصيد يند
من صاحبه فيأخذه أخر أنه للأول يأخذه من الثاني ولو بعد عشرين سنة , وهو
قول ابن عبد الحكم استصحابا لأصل الملك وبقاء معه , الي غير ذلك من
المسائل .
فان صح أن مال أهل غيره كان محترما ولم يطرأ عليه ما يبيحه لم ينزل
منزلة مال الروم في كونه حصلت به حرمة بالعهد مانعة لنا من شرائه ممن
غلبهم عليه , وبقي لنا النطر فيهم ولا شك أنهم كانوا تحت ذمة الرومي
وعهده فنقض عهده وغدر بهم , وهم بمنزلة من كانوا تحت طاعة امام المسلمين
وعاهد الطاغية وعقد معه عقدة الهدنة الي مدة فلم يوف وغدر وحارب
واستولي علي طائفة من المسلمين واموالهم , فما أخذه بعد الغدر والنقض للعهد
بمثابة ما اخذه بعد انقضاء زمالنه في غير غدر ولا نكث في جواز الشراء منه في
جهاد الغنيمة .
قيل لابن القاسم , أرأيت أهل ذمتنا لو سرقوا اموالا لنا أو عبيدا فكتموا
ذلك كما تكتم السرقات واخفوه حتي حاربواوذلك بأيديهم , ثم صالحوا علي
أن راجعوا الي حالهم من غرم الجزية التي كانت عليهم , أيوخذ منهم ما سرقوا
قبل المحاربة وقبل الصلح الذي أستحدثوزا .
قال لا. واري ان يوفي لهم بالعهد ولا ينزع شيء مما حاربوا عليه ثم
(1/144)
________________________________________
صالحوا وهو في أيديهم . فانطر كيف حكم لما أخذوه في حال ذمتهم وبقي
عندهم حتي حاربوا بحكم ما أخذوا بعد المحاربة في انه لا ينزع نت أيديهم ,
واذا لم ينزع من أيديهم جاز للمسلم شراؤه منهم . ومسألتنا أبين في جواز
[143/2]
[144/2]
الشراء من هذه , لأن أخذ المال فيها وقع بعد النقض والحرب . وقال أيضا في
نقر من العدو نزلوا بأمان فلما فرغوا فسرقوا بعض عبيد المسلمين وذهبوا بهم ثم
عادوا بهم ونزلوا علي أمان ولم يعرفوا وأرادوا بيعهم . لا يخرجون من أيديهم ,
وأري أن يوفي لهم لأنهم أحرزوهم , يريد حين بلغوا ديارهم وصاروا حربا .
وانطر الي قوله في السؤال وأرادو بيعهم , وقوله في الجواب وأري أن يوفي
لهم , فانه يقضي بتمكنيهم من البيع لهم وجواز شرائهم منهم , واخذ جواز
الشراء من هذه المسألة أقوي من أخذه من التي قبلها . وهذا فيما أخذوه حالة
كونهم تحت ذمة ثم حاربوا . أما ما أخذوه بعد النقض للذمة والعهد
فلا يتوقف في جوازه ان شاء الله . ووجهه والله أعلم أن ما أستحلوه بأخذهم
له في حال الحرب أو قبلها وبقي بأيديهم حتي حاربوا لهم فيه شبهة ملك
اقتضت جواز شرائه , كما أن أنكحتهم يمضيها الأسلام اذا اسلموا
واستحلوها, وان كان الاسلام يمنع ابتداء العقد عليها . انتهي .
اختلاف نطر المفتين الأندلسين في حرمة أموال المدجنيين .
وطالع بذلك الفقيه ابا يحيي ين عاصم المذكور فجلوبه بما نصه .
سيدي وصل الله حفطكم تأملت مكتوبكم ووقع مكني موقع الأعجاب به
علي الحملة , وطهر لي فيه من النطر ما أعرضه عليكم , وذلك أنه يتضمن جملة
مسائل .
احداها . ما ألتزمتم في الأحتمال الذي طننتم أنه غير مراد وذلك طاهر اللزوم .
والثانية . ما أبديتم من النطر في الاحتمال الثاني , وذلك النطر يوجب
أحترم أهل غليرة وأمثالهم أحرويا , اذ لم يلتئم كونها محترمة قبل العهد
أن ينقصها العهد شيئا كان لها ثابتا , كما الشأن فيما يجتمع فيه مانعان , كل
(1/145)
________________________________________
واحد مستقل بمنع الحكم من جهته , كقول النبي صلي الله عليه وسلم . لو لم
تكن لي ريبة لما حلت لي من أجل الرضاعة . وهنا يقول أهل غليرة نحوا
من قول الأشقاء في المشتركة , ومن الدليل علي كونهما مانعين من استباحة ذلك
المال أنا او قرضنا أهل غليرة ارتدوا , والعباد بالله , لما حلت لنا اموالهم لأجل
العهد , وتحل علي قياس قولكن لالغائكم معني العهد وارتفاع حرمة الاسلام
بالارتداد . ولو فرضنا أن النصاري غدروا بنقض الهدنة لما حلت لنا أموال
[144/2]
[145/2]
اهل غليرة غنيمة علي القول الصحيح الذي رجحتموه , لأنه مال مسلم . ولو
كان احترام المال قبل العهد موجبا لالغاء العهد فيه لكان القدر المتفق عليه
مما يبقي للرهبان من أموالهم سائغا لنا أشتاؤه ممن غلبهم عليه لما كان محترما
قبل العهد كرقبة الراهب ودمه , فلا يعمل فيه مقتضي العهد . وهذا بعيد
جدا , لكن ان ثبت بدليل خاص ان العهد مع الطاغية غير عامل
فيمن عصي الله من المسلمين بدخول تحت ذمته فلا كلام , وان لم يوجد ذلك
فالأطهر أن تتأكد حرمته بالعهد , لنقل ابن سحنون عنه . ومهادنة الأمام
الطاغية بعد محاصرته اياه أو قبل توجب عموما في عمالتهما , الا أن يخصص لها
حسبما حكاه ابن عرفة . فما الطن اذا نص علي الموضع في عهد المهادنة كمثل
غليرة , وزذلك طاهر لمن باشر عقدة هذه المهادنات , فانه ينص فيها علي شمول
الازمان لكل من تحت ايالة المسلمين أو النصاري من مسلم أو نصارني
أو يهودي في أنفسهم واموالهم , وان المسلمين أن يطلبوا من ينقصهم من
مسلم أو نصراني أو يهودي أو أموالهم , كمال أن للنصاري أن يطلبوا من ينقصهم
من نصراني أو مسلم أو يهودي أو اموالهم مثلا بمثل سواء بسواء .
والثالثة . حكم أموال المدجنين واجراء ابن الحاج لها علي مال الحربي
يسلم , وهذه المسألة رفعت فديما بين شيخنا أبيب القام بن سراج رحمة الله
فأفتي بأياحة قسم أموالهم لسرية غنمتها , وبين شيخنا أبي الحسن علي بن
(1/146)
________________________________________
سمعت رحمة الله فأفتي بمنع ذلك , واستطهر علي الشيخ رحمة الله بكل
صحيح من النقل أصيل من الرأي , وفتياه بذلك موجوده في جملة نوازله .
والرابعة ز البحث في اجراء ابن الحاج , وذلك حسن جدا موافق لنطر
شيخنا ابي الحسن علي بن سمعت رحمة الله في المسألة بعينها .
والخامسة . التسوية بين أهل غليرة في غدورهم وبين طائفة ممن كان تحت
طاعة الامام في غدرهم قبل انقضاء زمان الهدنة , وذلك صحيح ان ثبت ان
عقد الطاغية عليهم المهادنة لغو .
والسادسة . التسوية بين ما غدر الطاغية فيه في زمان الهدنة ينقضها من
مال , وبين ما صدر منه أخذه بعد انقضاء زمانها , وفي ذلك نطر , لأن ما أخذه
النصاري بعد انقضاء زمان الهدنة لاخفاء أنها تكون لهم فيه شبهة ملك هي
[145/2]
[146/2]
التي انقضت نفوذ المقاسم فيه ان لم يأت ربه قبلها فلا يأخذه بعدها الا بالثمن
علي ما في علمكم من المذهب , وما اخذوه في زمان الهدنة مع بقائها
فلا اشكال في كونه لربه متي وجده أخذه دون ثمن كاستخقاقه من مسلم .
ويبقي متوسطا بينهما ما اخذوه في زمان الهدنة نقضا لها , واجراؤه علي سرقة
أهل الذمة في حال كونهم تحتهال , ثم نقضهم بعدها وعودتهم لحالتهم الأولي من
الذمة , وعلي سرقة النازلين بأمان ثم عودتهم لأرضهم ثم للنزول بالأمان
طاهر , الا أنه يمكن أن يفرق بين هاتين القضيتين وبين تبك القضية بعقد
الأمان في هاتين لأخذ المال فلم يمكن انتزاعه منه , ولذلك قال والأمان شديد ,
وهو هناك مغقود لمن أخذ منه المال فتأملوه .
والسابعة . كون ما احرزه الكفار يوجب له شبهة ملك فيه , وذلك
أوضح من ان يستطهر عليه , هذا ما طهر لي بحسب ما أنا عليه من شغل
البال وقصور النطر , فلكم الفضل والاغضاء عن الواقع فيه من نقص . ومعاد
السلام عليكم والرحمة والبركة .
استحالة اجتماع حرمتي اسلام وعهد في مال واحد .
فجاوب علي ذلبك الخطيب أبو عبد الله السرقسطي بما نصه .
(1/147)
________________________________________
الحمد لله . يا سبدي وصل الله اليكم أسباب العافية ومد لكم في العمر
وبارك لكم فيها خولكم من صحة الادراك وجودة النطر . أردت مراجعتكم
لاشكال عرض لي فيما قيدتم , وهو انكم ذهبتم الي أجتماع حرمتي العهد
والاسلام في أهل غليرة , يؤخذ فيه بمقتضي كل واحدة منهما ما امكن , ان
بطلت حرمة الاسلام فيه بتغلب الكفار عليه امتنع ابتياعه منهم لحرمة العهد ,
وكما استحيل اجتماع كفر واسلام في رجل واحد , يستحيل اجتماع حرمتي
اسلام وعهد في مال واحد . مما بين ذلك ان حرمة مال المسلم يرفعها
تغلب الكافر الحربي عليه , وحرمة مال المعاهد لا يرفعها تغلب غيره عليه . وحرمة
مال المعاهد تنقضي بانقضاء عهده , وحرمة مال المسلم لا تنقضي بانقضاء
[146/2]
[147/2]
اسلامه , لأنه لوحكم بزندقته فقتل كان ماله لورثته , وان حكم بردته وقف
ماله علي القول المعروف , فان راجع الاسلام رجع اليه , وان قتل كان فيئا .
وحرمة مال المسلم يسقطها الأستحقاق , وحرمة مال المعاهد لا يسقطها
الاستحقاق , الي غير ذلك , واذا كان العقد الواحد لا يجمع شيئين مختلفي
الحكم علي المشهور كالبيع والنكاح , فأولي أن لا يجمعهما المحل الواحد .
ومما يزيده بيانا أن تحريم الاستمتاع بالزوجة يقع بالطلاق الرجعي
وترفعة الرجعة , وبالطلقة البائنة ويرفعه النكاح من غير توقف علي شرط اخر ,
وبالثلاث ويرفعه النكاح بعد نكاح الغير ودخوله , فهذه تحريمات ثلاث
لا تجتمع ولا الثنتان منها في أمرأة واحدة لتضاد أحكامها .
ومن ذلك . تحريم الجنبية أصلي يرفعه النكاح , وتحريم الزوجة طاريء
علي حل النكاح وهما لا يجتمعان في الأجنبية , فلو حرمها الأجنبي ثم نكحها لم
تحرم عليه الا أن يعاقه علي تزوجها علي المشهور . ولا يقال باجتماع التحريمين
فيها ان علقه , لأن المعلق لم يسبق العقد وانما وقع عليها وهي زوجة لا قبل
ذلك .
ومن ذلك أن تحريم الميته مثلا أزم لها , وتحريم بيع الغرر عارض ,
(1/148)
________________________________________
ولا يقبلهما محل واحد , لأن محل هذا غير محل هذا , ومن ذلك أن المحل
الواحد لا يقبل وجوبين أصليا وعارضا كصلاة الطهر لا تقبل النذر , فلو نذرها
المكلف بها لم يزدها نذرة وجوبا ولا زاد في حكمها ولا نقص منه .
ومن ذلك أن رمضان محل للصيام مخصوص , فل صامه لكفارة أو نذر
في ذمته لم يصح لرمضا ن لأنه لم ينوه ولا لغيره لأن الزمان لا يقبل الغير ,
فهذا كله وما يشبهه مما يكثر اذا تتبع يدل علي أن المحل الواحد لا يقبل
اجنماع حكميين مختلفين من كل وجه أو من بعض الوجوه .
واذا سلم ذلك لم يدخل تحريم العهد علي تحريم الاسلام في مال أهل
غليرة ولم يجامعه , واذا لم يدخل عليه كان مالا للمسلمين كانوا تحت عهد
الكفار ونقضوه وعادوا حربا وغلبوهم عليه يجوز أن يشتري منهم وينهب
[147/2]
[148/2]
بدارهم من غير خلاف أذكره , ولربه أخذه من مشتريه منهم بالثمن , ودونه ان
وهبه ولم يثب عليه , وأن يشتري منهم بدارنا علي كراهة من ابن القاسم في
تأويل اللخمي لا يحملها القياس , واستحباب من ابن المواز . وان جاء ربه لم
يكن له سبيل الي أخذه من يد مشتريه بدار الاسلام وان بذل له الثمن الذي
اشتراه في قول ابن القاسم الكاره له شراءه , خلافا ليحيي بن يحيي فانه أجاز
لربه أخذه بالثمن . وقد اطلق الفقهاء جواز بيع ما جاء به المستأمن مما غلب
المسلم عليه , وان كرهه من كرهه من قبيل الجائز , ولم يفرقوا فيه هذه التفرقة
التي فرق بها من فرق .
وقد ذكر بعض أيمة المذهب عن يحيي بن يحيي أن قوما ذكروا له أنهم
تورعوا عن شراء ما قدم به المستأمن من مال المسلمين الذي غلبهم عليه ,
فعابه وقال هذا غلو ولا يعارض ما تقدم باجتماع تحريم الرضاعة وبنوة
الزوجة في الربيبة لأن حكمها متفق لا مختلف في حق من حرمت بهما عليه ,
ولا بالشقيقة اجتمع فيها تحريم أخوة الأم وأخوة الأب وأخوتهما معا لأنها
تحريمات متفقة , ولا باجتماع الفرض والتعصيب للشخص الواحد لأنهما
(1/149)
________________________________________
أصليان , وبحثنا في طارئ وأصلي مختلفي الحكم .
وقولكم : ومن الدليل علي كونهما ما نعين من استباحة ذلك المال لو
فرضنا ارتداد أهل غليرة لما حلت لنا أموالهم لأجل العهد , وتحل علي قياس
قولكم لالغائكم معني العهد وارتفاع حرمة الاسلام .
جوابه أنها لا تحل الا بما لها من حرمة العهد لأنه ساقط بما تقدم , لأن
مال المرتد يوقف , فان عاد الي الاسلام عاد ماله اليه , وان مات علي ردته كان
فيئا .
وقولكم : ولو كان احترام المال قبل العهد يوجب الالغاء للعهد فيه ,
لكان القدر المتفق عليه مما يبقي للرهبان من أموالهم سائغا اشتراؤه ممن غلبهم
عليه لما كان محترما قبل العهد كرقبة الراهب ودمه , فلا يعمل فيه مقتضي
العهد . وهذا بعيد جدا .
جوابه : أن هذه المسألة فارقت مسألتنا بكفر المالك فيها , ولست اذكر
[148/2]
[149/2]
الان فيها نصا , والأطهر جريانها علي مسألة المعاهد , بجامع أن كلا منهما كافر
عرضت له حرمة في ماله بكفه عن الحرب . فكما لا يشتري مال المعاهد
والذمي ممن غلبه عليه , (كذا ) . هذا ما حضر تقييده ولكم الفضل في تأمله
والمراجعة بما يطهر لكم , فاني أحب ذلك وألتمس فيه الفائدة , والسلام عليكم
ورحمة الله تعالي وبركاته .
غدر نصاري الأندلس بالمدجنين من المسلمين
فكتب الفقيه السيد أبو يحيي بن عاصم رحمه الله :
الحمد لله . وصل الله حفطكم , وأجزل من الخير حطكم . وقفت الله
علي مكتوبكم الذي راجعتموني به عما طهر لي من المباحث في اباحة شراء
أموال من غدرهم النصاري دمرهم الله من أهل غليرة وكون العهد الذي
عقده الطاغية مع السلطان نصره الله حرمة أموالهم لغو , لما طهر لكم من
استحالة حرمتي اسلام وعهد في مال واحد , وقد تأملت ذلك أتم التأمل فلم
يثمر لي ذلك التأمل الا استحالة ما طهر لكم من الاستحالة .
أما أولا فاني أفرض السلطان نصره الله اليوم يستفتي علماء الوقت ,
(1/150)
________________________________________
وأنتم أولهم , ما يجوز له أن يعقد الهدنة مع الطاغية علي أن يرد له كل من
جاء مسلما أولا , فلا يسعكم الا أن تقرروا المذهب كما هو . وأضبط تقدير له
قول ابن عرفة : المازري لو تضمنت المهادنة أن يرد اليهم من جاءنا مسلما وفي
بذلك في الرجال , لرده صلي الله عليه وسلم أبا جندل وأبا بصير حين جاءا
مسلمين وطلب كفار قريش ردهما , ولا يوفي في ذلك برد النساء لقوله تعالي
فلا ترجعوهن الي الكفار ,ابن شاش : ولا يحل شرط ذلك في رجال
ولا نساء فان وقع لم يحل ردهما .
قلت : ومثله لابن العربي قال : وفعله صلي الله عليه وسلم ذلك خاص
به . واذا ساغ علي ما ذكره المارزي رد الرجال مع ما في ردهم من التدافع مع
قوله صلي الله عليه وسلم :" المسلم أخو المسلم لا يطلمه ولا يسلمه " ,وقد
جوز كما تري شرط اسلامه بعد اسلامه , الي مالا يحصي كثرة من الأدلة
الدالة علي حرمة المسلم في نفسه , ورده مضاد لها , لما فيه من جعل السبيل
للكافر عليه , وهو ممنوع بنص الكتاب العزيز . فان قال لكم السلطان انه
[149/2]
[150/2]
نازعه في هذا الشرط حتي شرط عليه في مقابلته رد من ذهب اليه مرتدا , فان
الذي ذكره المارزي يخفف ثقله بعض الخفة , فان صرفه عن هذا الشرط الي أن
لا يرد له مسلم ولا يرد هو مرتدا , وانما تكون المهادنة علي من بأيدي المسلمين
من أسري النصاري ومن بأيدي النصاري من أسري المسلمين . وكذلك من
تحت ذمة المسلمين من نصراني أو يهودي , ومن كان تحت ذمة النصاري من
مسلم أو يهودي , أو من فر من الجهة التي هو فيها حيث هو أورد قبل أن يصل
الي مأمنه بالجهة التي هو فيها التصرف فيه بحكمها . وذمي كل جهة امن من
الأخري في نفسه وماله .
وهل يمنع المازري هذه الصورة مع ما ارتهن في جوازه من رد من جاء
مسلما من الرجال وهل يستحيل عنده حرمة مال مسلم زادته حرمة عهد
استحالة رد مسلم خرج مهاجرا الي الله ورسله فجعل عليه للكفر أعطم السبيل
(1/151)
________________________________________
برده اليه فلا يمكن أن يكون القياس الجلي الذي يحرم به الضرب اقتباسا من
تحريم التأفيف وعقوق الوالدين أوضح من هذا , ولا أطن منكم أحدا يتوقف
في هذه الفتيا اجراء علي ما ذكره المازري بوجه , وانما يبقي الان النطر في
جريانها علي ما ذكره ابن شاش وابن العربي , ولاخفاء بجريانها علي ذلك ,
لأنهما جعلا حكم رد من جاء مسلما من خصائص النبي صلي الله عليه وسلم ,
لما كان في علم الله من حسن عاقبة ذلك , وان ذلك لغيره لا يحل , فاذا
يصح كلامهما أن ما لا يحل لنا شرعا هو الذي نجتنبه في عقد المهادنة لما
كانت اختيارا منا فيما لنا القدرة عليه فيبقي اذا ما لا اختيار لنا فيه مما
لم نقدرعليه وهو لا يحل لنا , ككون أسري المسلمين تحت أيدي الكفار ,
وكون طالبه من المسلمين تحت ذمتهم وما لنا فيه اختيار , أو هو مما يحل
لنا لخلوه عن مانع شرعي كاعطائهم حرمة العهد فيمن تحت قهرهم وذمتهم
من المسلمين زيادة لحرمة الاسلام , يتناول القسمين قول " ابن شاش
وابن العربي " أتم التناول , والا فأخرجوهما لي من عموم قولهما .
بدأ تدجن المسلمين في الأندلس أواخر القرن الرابع
اذ من المعلوم أنهما لا يمنعان من الاثارة ان دعت اليها الضرورة ,
[150/2]
[151/2]
فيدخل قسم ما لا قدرة عليه ولا اختيار فيه وان لم يحل من جهة الضرورة ,
ولا يمكن أن تقع مهادنة منذ تدجن المسلمون , اليوم نحو أربعمائة سنة , الا
هكذا . فان طلبت من المسلمين صارت تحت ذمة الكفار منذ ذلك التاريخ ,
ولم يسمح الطاغية بوجه في عدم اندارجهم تحت عقد هدنته , لما كان يلحقه
بخروجهم عنه من الضرورة التي لم يمكن المسلمون يسمحون فيها أزمان كل
الوطن عامرا بالمعاهدين , كعصر ابن رشد رحمه الله , فانه هو الذي أفتي
باخلاء المعاهدين من الأندلس لما مالؤا الكفرة الحربيين علي المسلمين . فانطروا
ذلك في محله . فاذا من المعلوم الذي لا يكون الواقع الا علي وفقه أنه لا يتأتي
(1/152)
________________________________________
عقد المهادنة فيما ما بين المسلمين والنصاري علي أن يكون المعاهدون من احدي
الجهتين أو كلتيهما غير مندرجين فيها , ولا أموالهم اما نصا واما شرعا بوجه ,
لما ينخرم بذلك من المصالح التي لا يمكن أهل السياسات ارتكابها أصلا ,
والضرر في ذلك لو فرض علي المسلمين أعطم لخلو وطنهم عن المعاهدين من
النصاري الا قليلا لا يوبه لهم كالصلحيين من جنوة ومن أشباههم .
ولو فرض لغو العهد للمدجنين فيما لهم للزم في الهدنة فيما عليهم ,
وعند ذلك كان الطاغية يغتنم تسليطه علي المسلمين ويقول هؤلاء مفسدون
منكم , لا عهد لهم منكم ولا عهد لكم منهم فاطلبوهم بما يفسدون لكم , وحينئذ
لم يكن يستقر للمسلم قرارا بفساد النصاري ودعواهم أنهم المدجنون , وفي
هذا ما لا يخفي . والقضية اذا تؤملت لا يمكن الفقهاء القول بعدم اعمال
الهدنة في حقهم اذ والمحل بها خال من اشتراط ما لا يحل شرعا .
نقض استحالة اجتماع حرمتي اسلام وعهد في مال واحد
فاذا تقرر هذا فلنرجع الان لسياق كلامهم , وذلك أنه استحال عندكم
أن يكون في المال الواحد حرمة اسلام وحرمة عهد كما يستحيل أن يجتمع في الرجل
الواحد كفر واسلام . فأما الكفر والاسلام في الرجل الواحد في وقت واحد
فاستحالتها صحيحة كما طهر لكم لأنهما ضدان , والضدان مستحيل
اجتماعهما في موضع واحد في وقت واحد من جهة واحدة . وأنتم قد سلمتم
أن الأمان يجتمع مع الكفر فهو اذا ليس بضد له , فلا يكون ضد الايمان ,
[151/2]
[152/2]
لأنه لو كان ضد الايمان لكان ضدا للكفر , لأن ضد الشئ ضد لأضداده .
ومما يزيد ذلك بيانا أن الموجودات تنقسم الي متقابلات وغير متقابلات ,
ولاخفاء بأن الكفر والايمان من الضدين , والضدان من المتقابلات فيستحيل
اجتماعهما كما أنه لاخفاء بأن العهد والايمان من الخلافين والخلافان من غير المتقابلات ,
ولا استحالة في اجتماعهما . وكل ما ذكرتم بعد قولكم ومما يبين ذلك الي قولكم
(1/153)
________________________________________
لا يسقطها الاستحقاق فهي أدلة لي واضحة , لأنها تثمر أن هذا خلاف هذا ,
واذا صح ذلك استحالت الاستحالة في اجتماعهما, ومن ادعي أنها خلاف هذا ,
واذا صح ذلك استحالت الاستحالة في اجتماعهما . ومن ادعي أنها لا تجتمع
فعليه الدليل حسبما اعتمده النطار . وأما أنا فأتطوع لكم بالدليل علي
الاجتماع , وذلك : أن أموال المسلمين فيما بينهم ممنوعة مطلقا لقوله
تعالي : لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل , وقوله صلي الله
عليه وسلم : كل المسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضه ,الي ما
لا يحصي كثرة من الأدلة , وهي بالتجارة وما شاكلها من المعاملات ممن
لا يخدع مباحة بلا اشكال , لقوله تعالي : الا أن تكون تجاره عن تراض
منكم , وقوله صلي الله عليه وسلم : دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض
وهي ممن يخدع في البيوع اذا قال لا خلابة محترمة حرمة زائدة علي
حكم الاسلام أولا وذلك عقد عند القائل به , بلا اشكال , كما أن العهد عقد
بلا اشكال , والله تعالي يقوليأيها الذين امنوا أوفوا بالعقود لا سيما والعهد
من الأوليات المشهورات , وقد قال صلي الله عليه وسلم في الحلف الذي كان
قد حضرة قبل النبؤة : " لو ديت به في الاسلام لأجبت " ومحال أن يجيب فيه
المشركين فهو اذا مما بينه وبين المسلمين .
وتأملوا أبواب الفقه , فالائتمان فيها يجعل القول قول الأمين الا أن
يطهر خلاف ما عقده أو اعتقده فيه , كما أن عدم الائتمان بالاضطرار الي
استصناع الصناع اقتضي تضمينهم ولو كان الأصل عدمه , الا أن قولكم حرمة مال
المسلم يرفعها تغلب الكافر الحربي عليها , هي نفس الدعوي الممنوعة لكم ,
وهو الذي يقول فيه النطار انه مصادرة عن المطلوب . وأنا أقول بصحتها ما لم
يكن مال المسلم قد عوهد عليه للطاغية . وكذا قولكم حرمة مال المسلم
[152/2]
[153/2]
يسقطها الاستحقاق مما لم يتبين لي , ولو قلتم يثبتها الاستحقاق لكان أمثل ,
(1/154)
________________________________________
لأن حرمة المال انما هي بمالكه مسلما كان أو ذميا , وكون المستحق له غير من
هو بيده انما طهر بذلك أن الذي يحترم هذا المال من أجله هو زيد المسلم
أو موسي اليهود أو النصراني المعاهد فلان الذي استحقه , لا عمرو الذي
استحق منه , سواء كان ذميا أو مسلما . وانما أسقط حق المستحق فيما جاء به
المعاهد مما كان قد غلب عليه قبل لأمان بعد شبهة الملك الذي فيه ,
أو بحوزه اياه , اذا ما أخذ في زمان الهدنة يستحق من يده كما يستحق من
المسلم والذمي .
وأما قولكم : واذا كان العقد للواحد لا يجمع سببين مختلفي الحكم علي
المشهور كالبيع والنكاح فأولي ان لا يجمعهما المحل الواحد , ففما لا يمس
المسألة . أما علي غير المشهور فانه لم ير بين العقدين تضادا ولا تنافيا , فلا شك
أنه راهما كحرمة العهد والاسلام في المال الواحد . وأما علي المشهور فانما يمنع
لتضاد أحكام تلك العقود عنده , كمكارمة النكاح وتشاح البع , ولا نطول
بايضاح وجه ذلك فانه مكرر في الكتب .
وأما قولكم : ومما يزيده بيانا أن تحريم الاستمتاع بالزوجة يقع بالطلاق
الرجعي وترفعه الرجعة , وبالطلقة البائنة ويرفعه النكاح من غير توقف علي
شرط اخر , وبالثلاث ويرفعه النكاح بعد نكاح الغير ودخوله , فهذه تحريمات
ثلاث لا تجتمع ولا اثنان منها في امرأة واحدة لتضاد أحكامها , فاني أحاشي
مقداركم من مثله , لأنه ليس هنا تحريمات ثلاث وانما هي حقيقة واحدة وهي
الطلاق وهو المانع من الاستمتاع . وأما كونه صادف في واحدة اخر الثلاث
فأوجب حكما , ووقع في أخر كطلاق الخلع من غير خلع وهو البائن في
العرف فأوجب حكما اخر , ووقع في أخري رجعيا هي في أحوالها كلها
كالزوجة الا في الاستمتاع فأوجب حكما اخر , يعدونها ثلاث تحريمات , هذا مما
لا يخفي ما فيه عليكم بوجه . وكيف يزاحم الشئ نفسه أو يكون المحل
معمورا به فيطمع في عمرانه به مرة ثانية . هذا مالا يكون ولا أطنه يخفي علي
(1/155)
________________________________________
أحد , وتعبيركم عن المال الواحد بالمحل وعن جميع النكاح والبيع بالعقد حتي
يتمم ذلك اتساع العقد لما يضيق عند المحل , مع أنكم تتكلمون فيما يستحيل
اجتماعه اما عقلا كالكفر والايمان , واما شرعا كالبيع والنكاح , غير جار علي
[153/2]
[154/2]
ما يصطلح بهذه العبارات عليه , لنهم يسمون ما يتوارد عليه موضوعا الذي
هو أعم من كونه محلا أو عقدا , بل ومن كونه جوهرا أو عرضا .
ومما يبين قضية الطلاق وأنها حقيقة واحدة , لو أن رجلا له أربع زوجات
طلقهن جميعا في كلمة واحدة قال فيها أنتن الأربع طوالق طلاقا شرعيا ,
فكانت الواحدة غير مدخول بها , والثانية قد بقيت علي طلقة , والثالثة مستوفية
شروط وقوع الطلاق الرجعي , والرابعة كذلك غير أنها حاضت قبل ذلك
بيوم , فقد اختلفت هذه الكلمة الواحدة مع انها في نفسها غير مختلفة باختلاف
متعلقاتها . فالأولي قد بانت ولا يملك ارتجاعها الا بولي وسائر ما يجب هنالك ,
والثانية كذلك بعد زوج اخر , والثالثة يملك رجعتها وحكمها حكم الزوجة
الا في الاستمتاع , والرابعة يجبر علي رجعتها , وهو وما يطهر له بعد ذلك ,
فما أدري ما يكون الانفصال عن هذا الاشكال عندكم وليس عندي الا أنه
حقيقة واحدة وحكم واحد أوجبت في كل محل أثره , وبما انخرم في المحل من
شرط أو عرض له من مانع اختلفت الأحكام التي تنبني علي ما وقع من الطلاق
بعد ذلك . ثم لو أن ذلك الرجل المطلق أردف ذلك الطلاق كلاما اخر
كالايلاء والطهار من زوجاته الأربع المفصل فيهن الطلاق قبل , فأما الشطر
الواحد من النسوة فقد برئ من تبعة الايلاء والطهار , وأما الشطر الثاني فهو
الذي يلحقه بلا اشكال . وعند ذلك يجتمع في المرأة الواحدة من النسوة ثلاثة
موانع من الاستمتاع لا يجوز له الاستمتاع حتي يخرج عن عهدة موجباتها .
وفي ذلك أدل دليل علي استحالة ما استحال لديكم أولا اذ أنكرتم ان
يجمع المال الواحد حرمتي عهد واسلام , فليت شعري كيف جمعت هذه المرأة
(1/156)
________________________________________
الواحدة حرمة طلاق وايلاء وطهار . أوأصل قولكم ان تحريم الأجنبية أصلي
يرفعه النكاح وتحريم الزوجة طارئ علي حل النكاح , وهما لا يجتمعان في
الأجنبية , فذلك صحيح . وانما لم تجمعها الأجنبية للتضاد الذي بينهما وبين
الزوجة , لأنها لو وقع فيها مثل التحريم المخصوص بالزوجين لكانت زوجة
لكنها أجنبية لم ينعقد فيها قط نكاح لهذا الرجل المعين , فلا تحرم عليه بما تحرم
عليه زوجته .
وأما قولكم : ومن ذلك أن تحريم الميتة مثلا لازم لها وتحريم بيع الغرر
[154/2]
[155/2]
عارض لا يقبلها محل واحد , لأن محل هذا غير محل هذا فهو صحيح . ومن
الذي قال أي حكم اتفق يقبله أي في محل اتفق , والتنافي الذي بين الميتة
المحرمة والبيوع التي يمنع فيها الغرر أوضح من أن يبين , لأن الميتة شئ غير
متمول , وما يمنع فيه الغرر سلعة متمولة , فكيف يتوهم أن يطرأ هذا التحريم
الخاص بالاشياء المتمولة علي الشئ الذي ليس بتمول , ولا أري هذا الا كمن
قال ان الدواب البهيمية لا يمكن فيها تعليم الكتابة , ومتي طن أحد بل توهم
أن الكتابة مما يمكن البهائم تعلمها ثم ان فرض صيرورة الميتة علي القول
بجواز ذلك فلقي في عذر الاضطرار مثله ومعه ماء وشح كل واحد منهما علي
صاحبه بما عنده الا أن يكون بالمعاوضة , فهنا قد يتجه ان يشترط في المعاوضة
كل ما يجب لهما في أبوابهما من المعرفة بقدر العرضين ونفي الغرر وما أشبه
ذلك . وانما المناسب لتحريم الميتة تحريم الخنزير وتحريم الدواب وكل ذي ناب
من السباع , ولذلك لو وجدت ميتة بهيمة الأنعام مع مذكيب السباع او الخيل
لاتفق علي أن المذكي الذي يتناوله عموم قوله تعالي : قل لا أجد فيما أوحي
الي محرما علي طاعم يطعمه الا أن يكون الخ اولي من الميتة التي نص علي
تحريمها هذا الاستثناء .
وأما قولكم : ومن ذلك ان المحل الواحد لا يقبل وجوبين أصليا
وعارضا , كصلاة الطهر لا تقبل النذر , فلو نذرها المكلف بها لم يزدها نذره
(1/157)
________________________________________
وجوبا ولا زاد في حكمها ولا نقص منه , فان المسألة ان كانت علي المعني
المتبادر من قولكم فانها لا تناسب مسألة حرمة مال المسلم الا علي فرض كون
الحرمة الزائدة له حرمة اسلام لا حرمة عهد , كما نقول ان وجوب الطهر الذي
هو بقوله تعالي : أقم الصلاة زاده وجوبا بقوله اني ألزمت نفسي اقامة الصلاة
الواجبة علي الزاما مثل الذي ألزمني الله , فهذا وجوب متماثل وتلك حرمة
متماثلة , فمن الممكن لمن يقول بمنع هذا أن يعلل المنع بكون المخل معمورا
بشئ فلا يعمره مرة ثانية . أو يكون المسبب فيه مستقلا ليفتقر لسبب مستقل
مثله من كل وجه , لا سيما في هذه الأسباب الوجودية . ومن الممكن أن يقال
بجواز زيادة هذا الوجوب , ولكن قد تخفي ثمرة هذا الوجوب في دار الدنيا ,
ويمكن أن يضاعف بها الثواب في الاخرة اذا أتي المكلف بالفعل الذي أوجبه
[155/2]
[156/2]
علي نفسه زائدا لوجوبه بأمر الله تعالي ويضاعف له العذاب اذا أضاعه .
وأنا أفرض سائلا يقول :اني وقفت علي قول الله تعالي : حافطوا علي
الصلوات والصلاة الوسطي وذكر لي ان امر الله تعالي محمول علي الوجوب
وأن الصلاة الوسطي هي صلاة العصر , ووقفت أيضا في معني الحض عليها
والتخويف من فوتها علي قول النبي صلي الله عليه وسلم : " الذي تفوته صلاة
العصر فكأنما وتر أهله وماله " فألزمت نفسي المحافطة عليها الزاما مثل الزام
الله يجب علي لتفويته عشرة دنانير صدقة حتي أوتر من مالي حقيقة يفوت
المحافطه كالذي كان هنالك تشبيها في الأصل والمال . فما يكون جواب هذا
السائل فا قلتم بلزوم نذره فقد أوجب المحافطة حكما زائدا , وان قلتم ان
التزامه لا يوجب حكما فقد أبطلتم ما نذر صريحا مترتبا علي فوت ما ألزم نفسه ,
ولا أطن من يقول بذلك لقوله :الزموا الناس ما ألزموا أنفسهم ,ووما يشهد
بصحة ايجاب المكلف علي نفسه بعد ايجاب الله قوله تعالي ومنهم من عاهد الله
(1/158)
________________________________________
الي قوله : وبما كانوا يكذبون .ومعلوم أنه لو أدي الصدقة الواجبة لما استحق
اسم البخل حسبما نقلها العلماء ولم يكن في ذلك اخلاف لما وعد الله ولا لما
عاهده عليه , ولكان مانع زكاة خاصة بقوله هذه أخت الجزية , حسبما ثبت في
الحديث . ولاخفاء بأن الصدقة والزكاة الواجبة , وان العهد الذي عاهد الله أمر
زائد علي الوجوب الذي فيها بايجاب الله تعالي حسبما ذكره من ذكره من
المفسرين . وهذا هو النقض عند النطار , وثبت به وجوب أصلي وطارئ علي
وفق اصطلاحكم , ومثله في طرو التحريم قوله تعالي :ولقد كانوا عاهدوا الله
من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسئولا .وان قصدتم غير ما يتبادر
من قولكم حتي يكون قد نذر أربع ركعات أراد ان يأتي بالطهر مغنية
عنها وعن نفسها فتكون الصورة كالصورة , وبعدها صوم رمضان عنه وعن
كفارة أو طهار فالأمر في ذلك أقرب , لأن الأصل في العبادات أنها حقائق تمتاز
بأنفسها طاهر فيها قصد التعبد الذي ان عقل معناه علي الجملة فان تفاصيلها
لا يعقل معناها . وبسبب ذلك كانت من تضاد أحكامها باشتاط النية فيها علي
الصورة التي بين المسألتين
[156/2]
[157/2]
في التصور فيها من التنافي ما لا يمكن به اجتماعهما , اذ يفوت الشرط
بفوت المشروط . وكانت أيضا من عدم الافتيات بالزيادة والنقص ولزوم الخلو
من منافيها بالقوة والفعل في الحد الذي قيل انه لم يجر فيها من الأقيسة الا
قياس عدم الفارق . وعلي ذلك فقد وجدنا فيها ما هو أقرب الي التضاد من
ذلك المثل كاجزاء غسل الجنابة والجمعة عنهما اذا نواهما علي المشهور , واجزاء
بعض الصور علي غيره , فان السنة تنافي الفريضة ما لا ينافي الفرض بعضه
بعضا الا بما تقدم من الشروط . وكذلك اجزاء تكبيرة الركوع عن تكبيرة
الاحرام للمأموم , واجزاء تطوع الطواف عن واجبه عند قائل ذلك كما في
علمكم .
وأما قولكم : واذا سلم ذلك الي ما حكيتم عن يحيي بن يحيي أنه غلو
(1/159)
________________________________________
فذلك صحيح كما قلتم اذا سلم ذلك , ولكن ذلك غير مسلم .
وأما قولكم : ولا يعارض ما تقدم باجتماع تحريم الرضاعة وبنوة الزوجة
في الربيبة أن حكمها متفق لا يختلف في حق من حرمت بهما عليه . فأقول :
كذلك حكم مال المسلم الذي هو عهد الطاغية عليه لا يختلف في حق من
حرم عليه ما دامت له الحرمتان , فان ارتفعت احداهما ارتفع موجبها
كأخت (1) . أربع زوجات , ففيها مانعان من نكاحه اياها , وقد يرتفع
أحدهما وقد يرتفعان معا .
أما قولكم ولا بالشقيقة اجتمع فيها تحريم أخوة الأم وأخوة الأب
وأخوتهما معا , لأنها تحريمات متفقة .
ولا باجتماع الفرض والتعصيب للشخص الواحد لأنهما أصليان , وبحثنا
في طارئ وأصلي مختلفي الحكم , فلا أعلم ما ينبني علي ذلك , ومثل اتفاق
تحريمات الشقيقة وأصلية اجتماع الفرض والتعصيب هو الذي يقول عنه النطار
انه وصف طردي لا ينبني عليه حكم , ولذلك أسبرت الأوصاف المناسبة لبناء
الأحكام عليها . وربما يتعجب من الناطر الذي يعتبر الطردي في مناطرته ,
ولكن علي اعمال نطركم في طارئ وأصلي مختلفي الحكم , فمثله اذا كان ابنا
[157/2]
[158/2]
عم لهما بنت عم وهما يرثانها فتزوجها أحدهما ثم ماتت فان الأصل ارثهما اياها
بالتعصيب جزءا شائعا وبالزوجية لناكحها ربع المال , فقد اختلف الحكم عن
أصلي وطارئ . ولو تتبعت صور هذا لخرجت عن الغرض , فكم يحدث لمعتق
أبيه دون سائر اخوته من أحكام ينبني بعضها علي البنوة وبعضها علي العتق
وهما أصلي وطارئ .
وأما اخذكم ما فرضته ارتداد أهل غليرة مأخذ المرتد بترك ماله بين
طهور المسلمين , فانا لم نفرضه كذلك , فانما فرضت ارتداد أهل الموضع
بجملتهم , والمسألة غير تلك المسألة , وقد تكلم عليها ابن عرفة فقال : ولو
ارتد جمع منعوا انفسهم فأخذوا فالحكم فيهم بحكم الحربيين أو المرتدين الخ
ما قال , وأعتقد اذا لم يقدر عليهم رجحان حكم الحربييين فتكون اموالهم
(1/160)
________________________________________
غنيمة , وما ذكرتم في مسألة الراهب طاهر والله أعلم , هذا ما حضر تقييده
والله الموفق , ومعاد السلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته .
أسير نصراني بمالقة فدي بمال , فأسلم قبل الخروج منها
ورد علي حضرة غرناطة حرسها الله تعالي سؤال في نازلة كانت نزلت
بمدينة مالقة أعادها الله دار اسلام , بجاه سيدنا ومولانا محمد عليه السلام ,
وهي أن رجلا من اهلها كان له مملوك رومي نصراني مراهق في سنه , فجاء
الفكاك يطلب أن يمكن من العلج الذي افتكه أويرد المال , ونطر
في المسألة الفقهاء بمالقة , وورد علي الحضرة تقييد بعضهم فيها وسئل ممن
بالحضرة من أهل العلم النطر فيها بمقتضي الأحكام الشرعية والفتاوي
الفقهية .
حكم فداء أساري الكفار
فقال بعض من وقف علي السؤال وسئل منه الجواب عنه مستعينا بالله
تعالي , وسائلا منه التوفيق للسداد والصواب بفضله ورحمته : ان النطر في هذه
المسألة في فصلين الفصل الأول فيما يحتوي عليه من أحكام الفقه نقلا ونطرا ,
[158/2]
[159/2]
والفصل الثاني التقييد الوارد من مالقة والبحث عما وقع فيه ليتضح الحق ان
شاء الله تعالي .
فأما الفصل الأول : فنتكلم فيه أولا في حكم فداء أساري الكفار من
الجواز والمنع , ثم نتكلم ثانيا في هذه النازلة بعينها , اذ الكلام فيها ينبني علي
ذلك , والأساري علي أربعة أضرب : ذكور كبار وغير ضعفاء , وذكور صغار ,
وذكور ضعفاء كالشيوخ والمرضي , واناث . فأما الذكر الكبير غير الضعيف
فينطر في حكم فداء الامام اياه , وفي حكم فداء مالكه غير الامام اياه . فأما
فداء الامام اياه فأجازه مالك والشافعي ومنعه أبو حنيفة . وحجة الجواز
الكتاب والسنة والقياس . أما الكتاب فقوله تعالي : فاما منا بعد واما فداء
وأما السنة ففداء النبي صلي الله عليه وسلم أساري بدر . وأما القياس
فنقول يجوز ترك قتل الاساري الي بدل وهو الفداء , والي غير بدل وهو
(1/161)
________________________________________
المن , كما يجوز ترك القتل في القصاص الي البدل والي غير بدل , وحجة
المنع قوله تعالي :ما كان لنبي أن يكون له أسري الايتين . وقد قيل ان
ذلك منسوخ بقوله: فاما منا بعد واما فداء , وأما فداء المالك غير الامام
مملوكه الكبير الكافر فقال ابن أبي زمنين في المقرب ما نصه : قال محمد وفي
كتاب الجهاد لعبد الملك أنه قال : مضي العمل باستحباب قتل الاساري
الذين يخشي منهم أن يكونوا عونا علي المسلمين مثل الشباب والمراهقين وما
أشبههم , فان ترك قتلهم واستحيوا لم يجز للمسلمين مفاداتهم بالمال علي حال
من الحال . ولا بأس أن يفدي بهم أساري المسلمين . وقال محمد بن أبي زيد
في النوادر : ومن كتاب " ابن المواز " : ويفدي العلج منهم بمسلم لا بالمال ولكن
بالمسلمين , ومنه : ومن اشتري علجا من المغنم فجاء أهله يريدون فداءه وفيه
نكاية , قال يمنعه الامام من ذلك .
وقيل لسحنون لم منعت من فداء الأساري بالمال وقد أخذ النبي صلي
الله عليه وسلم المال من أساري بدر , فقال : خصت مكة وأهلها بخواص
منها أنها لم تغنم ولا خمست , وهي عنوة , وقد من النبي صلي الله عليه وسلم
علي بعض الأساري دون فداء , وقد أبيح له ذلك بقوله تعالي :فاما منا بعد
واما فداء حتي تضع الحرب أوزارها .وذلك فتح مكة , ثم لا يجوز اليوم
[159/2]
[160/2]
المن علي المشركين , ولكن انما هو القتل والرق أو الفداء بأساري
المسلمين . ومن النوادر أيضا ما نصه : ولا حجة لقائل ان النبي صلي الله
عليه وسلم قد فادي أساري بدر لأن الله لم يأذن له في ذلك وقد عاتبه عليه
فقال : ما كان لنبئ ان يكون له أسري حتي يثخن في الأرض الي قوله :لولا
كتاب من الله سبق الاية , ولا بأس أن يفدي المسلم الأسير بمشرك وان كان
الكافر قائدا شريفا , وأما ان يفدي الكافر بالمال فلا , قاله مطرف وابن
المباجشون , وحكي الحافط أبو عمرو بن عبد البر في كتاب (اختلاف مالك
(1/162)
________________________________________