الكتاب: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان
المؤلف: شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قِزْأُوغلي بن عبد الله المعروف بـ «سبط ابن الجوزي» (581 - 654 هـ)
تحقيق وتعليق: [بأول كل جزء تفصيل أسماء محققيه]
محمد بركات، كامل محمد الخراط، عمار ريحاوي، محمد رضوان عرقسوسي، أنور طالب، فادي المغربي، رضوان مامو، محمد معتز كريم الدين، زاهر إسحاق، محمد أنس الخن، إبراهيم الزيبق
الناشر: دار الرسالة العالمية، دمشق - سوريا
الطبعة: الأولى، 1434 هـ - 2013 م
عدد الأجزاء: 23 (الأخير فهارس)
أعده للشاملة/ فريق رابطة النساخ برعاية (مركز النخب العلمية)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
عنده رهط يبكون، - أو يبكي بعضهم -، فجلست قليلًا، ثم غَلَبني ما أجد، فأتيت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل، ثم خرج، فقال مثل الأول، ثم فعلت ذلك الثالثة، فقال لي مثل ذلك، فوليت مدبرًا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، فقد أذن لك، فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه وهو متكئ على رمال حصير قد أثَّر في جنبيه، فقلت: يا رسول الله، أطلقت نساءك؟ فرفع رأسه إلي، وقال: "لا"، فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معاشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن منهن، فغضبت يومًا على امرأتي، فإذا هي تراجعني، وذكر بمعنى ما ذكرنا، قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أستأنسُ يا رسول الله؟ قال: "نَعَم"، فجلست، ورفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت شيئًا يرد البصر إلا أهبة (1) ثلاثة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدع الله أن يوسع عليك وعلى أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه، فاستوى جالسًا، ثم قال: "أَفي شَكٍّ أنتَ يا ابنَ الخطَّابِ؟ أُولئكَ قَومٌ عُجِّلَت لهم طَيِّباتُهم في الحياةِ الدُّنيا" فقلت: استغفر لي يا رسول الله، وكان أقسم أن لا يدخل على نسائه شهرًا لأجل ذلك الحديث حين أفشته حفصةٌ إلى عائشة من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله عليه.
قال الزهري: فأخبرني عروة، عن عائشة قالت: لما مضت تسع وعشرون ليلة بدأ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل علي فقلت: يا رسول الله، إنك أقسمت أن لا تدخل على نسائك شهرًا، أو علينا، وإنك دخلت عن تسع وعشرين، أعدُّهن، فقال: "إنَّ الشَّهرَ تسعٌ وعِشرونَ" وفي رواية: وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين ليلة، ثم قال: "يا عائشةُ، إنَّي ذاكرٌ لكِ أَمرًا، فلا عليكِ ألَّا تَعجَلي حتَّى تَستَأمِري أبوَيكِ"، ثم قرأ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى قوله: {أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 35] فقالت: قد علم والله أنَّ أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم قلت: يا رسول الله، لا تخبر نساءك أني اخترتك، فقال: "إنَّ اللهَ أَرسَلَني مُبَلِّغًا، ولم يُرسِلني مُتَعنَّتًا"، وقال عمر لحفصة: والله لقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحبك، ولولا أنا لطلقك، واستأذن عمر
__________
(1) في (ك) زيادة: "والأهبة هي الجلد لم يدبغ".
(4/182)
________________________________________
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه، فأذن له، فقام عند المنبر، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يطلق نساءه، وقال له عمر: يا رسول الله، إن كنت طلقتهن فإن الله معك، وملائكته، وجبريل، وميكائيل، وأنا، وأبو بكر والمؤمنون، ونزلت آية التخيير: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} (1) [إلى قوله: {وَأَبْكَارًا} الآية [التحريم: 5].
وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ولمسلم عن جابر قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صباح تسعًا وعشرين فقلنا له في ذلك، فقال: "إنَّ الشهر يكونُ تسعةً وعشرين يومًا" ثم طبق رسول الله بيده ثلاثًا ثم خنس إبهامه في الثالثة (2)، وكذا في حديث ابن عمر أنَّه خنس إبهامه (3).
وفي المتفق عليه عن عائشة: لما خيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: قد خيرنا رسول الله، فاخترناه، أفكان طلاقًا] (4).
[فإن قيل: فقوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}] (5) يشعر بأن غيرهن خيرًا منهن، قلنا: هذا خرج مخرج التهديد، لا أن في الأمة من هو خير منهن، والدليل عليه أن الله قد علم أنَّه لا يطلقهن، وصار كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] فكان إخبارًا عن القدرة لا عن الكون في الوقت.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ثم أنزل الله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] إذا حلفتم أن تكفروها، وكفَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه، ورجع إلى جاريته، وإلى ما حلف عليه.
* * *
وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر رضوان الله عليه فحج بالناس.
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تنزل براءة، قد عاهد أناسًا من المشركين عهدًا،
__________
(1) أخرجه البخاري (2468)، ومسلم (1479).
(2) أخرجه مسلم (1084).
(3) أخرجه مسلم (1081) (16).
(4) أخرجه البخاري (5263)، ومسلم (1477)، وما بين معقوفين زيادة من (ك).
(5) ما بين معكوفين من (ك).
(4/183)
________________________________________
فاستعمل على الحج أبا بكر رضوان الله عليه، فخرج من المدينة في ثلاث مئة، ومعه عشرون بدنة قلَّدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النعال، وأشعرها بيده في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جُنْدب الأسلمي، وساق أبو بكر خمس بدنات، وحج عامئذ عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، فأهدى بدنًا، وأهلَّ أبو بكر رضوان الله عليه من ذي الحُلَيفة، وسار حتَّى إذا كان بالعَرْج في السحر سمع رُغاء ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القصواء، فقال: هذه القَصْواء، وإذا بعليٍّ كرم الله وجهه فقال له: استعملك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ على الناس براءة، وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلى أبي بكر رضوان الله عليه أن يخالف المشركين، فيقف يوم عرفة بعرفة، ولا يقف بجمع، ولا يدفع من عرفة حتَّى تغرب الشمس، ويدفع من جمع قبل طلوع الشمس، فقدم أبو بكر رضوان الله عليه مكة، وكان مفردًا بالحج، فخطب الناس قبل يوم التروية بيوم بعد الظهر، فلما كان يوم التروية حين زاغت الشمس طاف بالبيت سبعًا، ثم ركب راحلته من باب بني شيبة، وخرج إلى منًى، فأقام بها، وصلى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح بمنًى، فلما طلعت الشمس على ثبير، ركب راحلته، فوقف بالهضبات من عرفة، فلما أفطر الصائم دفع، وكان يسير العَنَق حتَّى انتهى إلى جَمْع، فنزل قريبًا من الماء التي على قزح، فلما طلع الفجر صلى الفجرَ، ثم وقف، فلما أَسفَر دفع، وجعل يقول في وقته: أيها الناس، أَسفروا، قالها مرتين، ثم دفع قبل طلوع الشمس، وكان يسير العَنَق، حتَّى انتهى إلى مُحَسَّر، فأوضع راحلته، فلما جاوز وادي محسر عاد إلى مسيره الأول، حتَّى رمى الجمرة راكبًا بسبع حصيات، ثم رجع إلى المنحر، فنحر وحلق، وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يوم النحر براءة عند الجمرة، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحجُّ بعدَ هذا اليومِ مُشركٌ، ولا يطوفُ بالبيتِ عُريانٌ"، وكان أبو هريرة يقول: حضرت ذلك اليوم، فكان يقول: هو يوم الحح الأكبر، وخطب أبو بكر رضوان الله عليه في حجته ثلاث خطب في ثلاثة أيام لم يزد عليها، قبل يوم التروية بمكة بعد الظهر، وبعرفة قبل الظهر، وبمنًى يوم النحر بعد الظهر، ورمى أبو بكر رضوان الله عليه الجمار ماشيًا، فلما كان يوم الصَّدَر رمى ماشيًا، فلما جاوز العقبة ركب، ويقال: إنه رمى يومئذ راكبًا، فلما انتهى إلى الأبطح صلى به الظهر والعصر، ودخل مكة، فصلى المغرب
(4/184)
________________________________________
والعشاء، ثم خرج من ليلته قافلًا إلى المدينة (1).
* * *
وفيها: توفي النجاشي (2) - واسمه أَصْحَمة - ملك الحبشة، الَّذي هاجر إليه المسلمون فأحسن إليهم، وزوَّج رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّ حبيبة - رضي الله عنها - وجهز إليه جعفرًا، وكانت وفاته في رجب.
[قال هشام: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك فنعاه إلى أصحابه، وصلى عليه لما عاد من تبوك وبلغه خبره].
قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: حدَّثنا يحيى بن سعيد، حدَّثنا مالك، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: نَعَى لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي في اليوم الَّذي ماتَ فيه؛ فخرجَ إلى المصلَّى، فصفَّ أصحابَه خلفَه، وكبَّر عليه أربَعًا (3).
[وفي الباب عن جابر وعمران بن الحصين، وأحاديثهم في "الصحيح" وفيها: "إنَّ أخًا لكم قد ماتَ، فقوموا فَصلوا عليه" (4)، وهذا يدل على أن النجاشي مات ورسول الله بالمدينة.
وبهذه الأحاديث يحتج الشافعي وأحمد على جواز الصلاة على الميت الغائب، وعند أبي حنيفة ومالك: لا يجوز، وهذا الخلاف يبنى على أن صلاة الجنازة عند أبي حنيفة لا تعاد، لأن الأمة توارثت (ترك الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء والصحابة، ولو جاز لما ترك مسلم الصلاة عليهم) (5) والشافعي يقول بتكرار الصلاة كما في الصلاة على النجاشي، وجوابه من وجوه:
أحدها: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان وليه، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
__________
(1) النقل عن "المغازي" 3/ 1076 - 1078.
(2) "تاريخ الطبري" 3/ 122، و"المنتظم" 3/ 375.
(3) أحمد في "مسنده" (9646)، وأخرجه البخاري (1245)، ومسلم (951).
(4) أخرجه البخاري (3877)، ومسلم (952) (66) من حديث جابر - رضي الله عنه -، وأخرجه مسلم (953) من حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه -.
(5) ما بين قوسين زيادة من بدائع الصنائع 1/ 311.
(4/185)
________________________________________
والثاني: لأن الأرض زويت له، ولهذا صف أصحابه خلفه، فكان من معجزاته.
والثالث: لأنه لم يكن في الحبشة من يعرف الصلاة عليه، لأنهم كانوا حديثي الإسلام، فكان ذلك من خصائصه.
وقد أخرج أبو داود (1) عن] عائشة - رضي الله عنها - لما مات النجاشي كانوا يتحدَّثون أنهم لا يزالون يرون النُّور على قبره (2).
[وقد أخرج أحمد في "المسند" حديثًا يتعلق بالنجاشي، فقال: حدَّثنا ابن النضر بإسناده عن عامر بن شهر قال: سمعت كلمتين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "انظُروا قُريشًا فَخُذوا من قَولِهم وذَروا فِعلَهم" وكنت عند النجاشي جالسًا فجاء ابنه بشيء من الكتاب، فقرأ آية من الإنجيل فعرفتها أو فهمتها، فضحكت، فقال: مم تضحك؟ أمن كتاب الله؟ فوالله إن مما أنزل على عيسى بن مريم أن اللعنة تكون في الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان (3).
ولم يخرج أحمد عن عامر بن شهر غير هذا الحديث].
وفيها توفيت
أم كلثوم (4) - عليها السلام -
بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأمها خديجة، وقد ذكرنا أنَّه قد] كان تزوجها في الجاهلية عُتيبة بن أبي لهب، ثم طلقها لما نزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ] [أمره أبوه بطلاقها] ولم يكن دخل بها، وهي بكر.
[قال جدي في "التلقيح"]: فأقامت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وأسلمت، وبايعت، [ولما أسلمت أمها وأخواتها] وهاجرت إلى المدينة، فلما توفيت رقية سلام الله عليها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم كلثوم، فتوفيت
__________
(1) ما بين معقوفين زيادة من (ك).
(2) أخرجه أبو داود (2523).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده " (15536). وما بين معقوفين زيادة من (ك).
(4) "الطبقات" 10/ 37، و"المنتظم" 3/ 375، و"الإصابة" 4/ 489.
(4/186)
________________________________________
في شعبان من هذه السنة، فصلى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل في حفرتها علي، والفضل، وأسامة - رضي الله عنهم - (1).
وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبرها، وقال: "لو كان لنا ثالثة لزوَّجناها عُثمان" (2)، ولم تلد من عثمان رضوان الله عليه. وغسلتها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب، وقيل: غسلتها نساء من الأنصار، منهم أم عطية، ونزل أبو طلحة في قبرها.
[وذكر ابن سعد بإسناده عن] أنس: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا على قبر أم كلثوم وعيناه تدمعان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفيكم أحد لم يقارف الليلة" فقال أبو طلحة: أنا، فقال: "انزل في قبرها" فنزل (3). [ومعنى قارف: أي جامع، ومنه حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنبًا من قرافٍ غير احتلامٍ، ثم يصوم (4).
قلت: وفي الصحابيات أربع يقال لكل واحدة منهن: أم كلثوم، وإحداهن: ابنة رسول الله، لها رواية.
والثانية: بنت أبي سلمة. والثالثة: بنت أبي بكر الصديق. قال ابن سعد: ولم ترو عن رسول الله شيئًا. والرابعة: بنت عقبة بن أبي معيط، وروت منهن اثنتان الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بنت أبي سلمة، وبنت أبي معيط، وأخرج عن هذه في "الصحيحين" (5).
والكلثوم: الكثيرة لحم الخدين والوجه، هكذا ذكره الجوهري] (6).
* * *
__________
(1) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 31 - 32.
(2) "الطبقات" 3/ 53، وأخرجه الطبراني في "الكبير" 17/ (490) من حديث عصمة بن مالك. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 83: وفيه الفضل بن المختار، وهو ضعيف.
(3) "الطبقات" 10/ 38.
(4) أخرجه أبو عبيد في "الغريب" 4/ 323.
(5) أخرجه البخاري (2692)، ومسلم (2605) أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس الكذاب الَّذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا ... ".
(6) "الصحاح": (كلثم). وما بين معقوفين زيادة من (ك).
(4/187)
________________________________________
سهيل بن بيضاء (1)
وبيضاء لقب أمه، واسمها دعد بنت جحدم من بني فهر، وأبوه وهب بن ربيعة بن هلال من بني فهر، وكنية سهيل: أبو موسى، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، هاجر الهجرتين إلى الحبشة، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوفي مرجعه من تبوك، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: ما أسرع ما نسي الناس، وهل صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل ابن بيضاء إلا في المسجد؟ أخرجه مسلم (2).
وإنما قالت ذلك لما أنكر الناس عليها الصلاة على سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في المسجد.
وتوفي سهيل - رضي الله عنه - وهو ابن أربعين سنة، وليس له عقب، وكان له أخوان:
سهل، أسلم قبل الهجرة بمكة، فأكرهه المشركون على الخروج إلى بدر، فأسر، فشهد له ابن مسعود أنَّه رآه يصلي بمكة، فأطلقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير فدية.
وصفوان بن بيضاء، أسلم وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، وكنيته أبو عمرو، واختلفوا في وفاته، فقيل: استشهد يوم بدر، قتله طعيمة بن عدي بن الريان، وقيل: مات سنة ثمان [وثلاثين] (3)، وليس له عقب.
روى سهيل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا قتيبة بن سعيد، أنبأنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن سعيد بن الصَّلت، عن سهيل بن البيضاء قال: بينا نحن في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا رديفه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا سُهيلُ" رفع صوته مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يجيبه سهيل، فسمع الناس صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظنوا أنَّه يريدهم، فحبس من كان بين يديه، ولحقه من كان خلفه، حتَّى إذا اجتمعوا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه مَن شَهدَ أن لا إله إلا الله، حرَّمَه الله على النَّار، وأَدخلَه الجنَّةَ" (4).
__________
(1) "الطبقات" 3/ 384، و"المنتظم" 3/ 376، "الإصابة" 2/ 91. وهذه الترجمة ليست في (ك).
(2) أخرجه مسلم (973).
(3) زيادة من "الطبقات" 3/ 385.
(4) أحمد في "مسنده" (15738).
(4/188)
________________________________________
ويقال: إن ذلك كان في غزاة تبوك.
[وفيها: توفي]
عبد الله بن أبي
[ابن سلول المنافق (1)]، وأبي هو ابن مالك بن الحارث بن عبيد بن مالك بن سالم، ويعرف سالم بالحُبْلَى، وسلول امرأة من خزاعة وهي أم أُبَي بن مالك، وأم عبد الله بن أبي خولة بنت المنذر بن حرام (2)، من بني النجار، وعبد الله سيد الخزرج في الجاهلية، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وقد جمعوا له الخرز ليتوجوه، حسد عبد الله بن أبي بن مالك (3) رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وبغى عليه، ونافق، فاتضع شرفه.
[وقد ذكره الواقدي في "المغازي" فقال: ] ومرض في ليالي من شوال، ومات في ذي القعدة، فكان مرضه عشرين ليلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده فيها، فلما كان اليوم الَّذي مات فيه دخل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يجود بنفسه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد نهيتك عن حب يهود" فقال عبد الله: قد أبغضهم سعد بن زرارة فما نفعه، ثم قال ابن أبي: يا رسول الله، ليس بحين عتاب، هو الموت، إن مت فاحضر غسلي، وأعطني قميصك أكفن فيه، فأعطاه قميصه الأعلى، وكان عليه قميصان، فقال: أريد الَّذي يلي جلدك، [فنزع قميصه الَّذي يلي جلده] فأعطاه، ثم قال: صل علي، واستغفر لي.
[قال الواقدي: وكان جابر بن عبد الله يقول خلاف هذا، يقول: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موت ابن أبي إلى قبره فأمر به فأخرج، فكشف عن وجهه ونفث عليه من ريقه، وأسنده إلى ركبتيه وألبسه قميصه.
قال الواقدي: والأول أثبت عندنا أن رسول الله] حضر [جنازته و] غسله، وتكفينه، ثم حمل إلى موضع الجنائز، فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، فوثب عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد قال يوم كذا كذا، ويوم كذا كذا، يعدُّ عليه، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أَخِّر عنِّي يا عمرُ" فلما
__________
(1) ما بين معقوفين زيادة من (ك)، وانظر جمهرة ابن حزم 354، والمنتظم 3/ 377، وطبقات ابن سعد 3/ 500.
(2) في طبقات ابن سعد 3/ 501 أن خولة أم عبد الله بن عبد الله، فهي زوجة عبد الله بن أبي.
(3) في (ك): عبد الله بن أبي سلول.
(4/189)
________________________________________
أكثر عليه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّي قد خُيِّرت، فاختَرتُ، ولو أَعلَم أنِّي إذا زِدتُ على السبعينَ غُفر له زدتُ عليها" وهو قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ} [التوبة: 80] فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرف، فلم يكن إلا يسيرًا حتَّى نزل قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} الآية [التوبة: 84].
[ويقال: إنه لم تزل قدماه حتَّى نزلت عليه هذه الآية فعرف رسول الله في هذه الآية المنافقين، وكان من مات لم يصل عليه].
وقال مجمع بن جارية: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أطال الوقوف على جنازة مثل ما أطال على جنازة عبد الله. وقال أنس: شهدت رجليه وقد فضلتا السرير من طوله.
وقالت أم عمارة: ما تخلف أحد من الأوس والخزرج عن جنازته، ورأيت ابنته جميلة بنت عبد الله تقول: واجبلاه، واأبتاه، ما ينهاها أحد، ولا يعيب عليها.
وقال عمرو بن أمية الضمري: لقد جهدنا أن ندنو من جنازته أو سريره، فما قدرنا عليه، غلبنا عليه المنافقون من بني قينقاع وغيرهم سعد بن حُنيف، وزيد بن اللُّصَيت، وسلامة بن الحمام، ومعاذ بن أبي عمرو (1)، ورافع بن حرملة، وداعِس، وسويد، وكانوا يظهرون الإسلام وهم أخابث المنافقين، وكانوا هم الذين يمرضونه، وكان ابنه عبد الله بن عبد الله ليس عليه شيء أثقل ولا أعظم من رؤيتهم، وكان به بطن، فكان ابنه يغلق الباب دونهم، وكان أبوه يقول: لا يليني غيرهم، ويقول لهم: أنتم أحب إلي من الماء على الظمأ، ويقولون: يا ليت أنَّا نفديك بالأرواح والأولاد والأموال، فلما وقفوا على حفرته، [ورسول الله واقف يلاحظهم ازدحموا على النزول في حفرته] وارتفعت الأصوات حتَّى أصيب أنف داعس، وجعل عبادة بن الصامت يذبُّهم، ويقول لهم: اخفضوا أصواتكم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل في حفرته رجال من قومه أهل فضل وإسلام، ولم ينزل أحد من المنافقيق، فنزل ابنه (2) وسعد بن عبادة، وعبادة بن الصامت، وأوس بن خَولي لما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حضره، وكفنه، ووقف عليه.
__________
(1) في "المغازي": "نعمان بن أبي عامر".
(2) في النسخ: "أبوه" والمثبت من المغازي.
(4/190)
________________________________________
وزعم مجمع [بن جارية] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دلاه بيده إلى حفرته، ثم قام على القبر حتَّى دفن، وعزى ابنه، ثم انصرف، وجعل المنافقون يحثون التراب على رؤوسهم، ويقولون: ليت أنا فديناك بالأنفس وكنا قبلك (1). [هذا معنى ما ذكر الواقدي.
وقال هشام: مرض عبد الله أول شوال، وأقام مريضًا إلى العشرين منه، ثم بعث إلى رسول الله، فجاء فجلس عنده، فقال: "يا عبد الله أهلكك حب اليهود" فقال: يا رسول الله، إني لم أبعث إليك لتؤنبني وتوبخني، ولكن لتشهدني وتكفنني في قميصك وتستغفر لي وتقف على قبري، ومات في هذا اليوم، وعاد رسول الله إلى منزله، ولما مات انطلق ابنه عبد الله بن عبد الله - وكان اسمه الحُباب، فسماه رسول الله: عبد الله، فقال: "أنت عبد الله، والحباب شيطان" وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وشهد بدرًا مع رسول الله مسلمًا، وكان يصعب عليه صحبة أبيه للمنافقين، وهو الَّذي جلس على باب المدينة ومنع أباه في غزوة المريسيع من دخولها، وقد ذكرناه - فقال: يا رسول الله، مات عبد الله، فقام رسول الله معه وشهد جنازة عبد الله وفعل ما ذكره الواقدي، وما كان إلا اليسير حتَّى نزلت هاتان الآيتان اللتان هما قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآية [التوبة: 84] فما صلى على قبر منافق ولا قام عليه حتَّى قبضه الله تعالى. أخرجاه في "الصحيحين" (2).
وفيها توفي
ذو البِجادين
- بدال مهملة - واسمه] عبد الله بن عبد نُهْم بن عفيف المزني، وأمه جَهْمَة بنت الحارث، همدانية، وهو من الطبقة الثانية من المهاجرين، [قال ابن سعد: ] وكان يتيمًا لا مال له، مات أبوه ولم يورثه شيئًا، فكفله عمه حتَّى أيسر، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام ولا يقدر عليه خوفًا من عمه، حتَّى مضت المشاهد كلها، فقال له: يا عم قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدًا، فأُذَن لي في الإسلام، فقال له: والله لئن أسلمتَ لا تركت في يدك شيئًا كنت أعطيتُكَه إلَّا نزعتُه منك
__________
(1) "المغازي" 3/ 1057 - 1060، وما بين معقوفين زيادة من (ك).
(2) أخرجه البخاري (1366)، ومسلم (2774). وما بين معقوفين زيادة من (ك).
(4/191)
________________________________________
حتَّى ثوبيك، فقال: أنا والله تابع محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وتاركٌ عبادة الحجر، وهذا ما بيدي فخذه، فأخذ ما بيده حتَّى جرَّده من إزاره، فأتى أمه، فقطعت له بجادها قطعتين، فاتزر بواحدة، وارتدى بالأخرى [والبجاد كساء مخطط من أكسية الأعراب]
ثم قدم المدينة، وكان قد أقام بورقان جبل من جبالها، فدخل المسجد، فاضطجع فيه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتصفح وجوه الناس إذا انصرف من صلاة الصبح، فلم انظر إليه أنكره، فقال: "مَن أنت؟ " فانتسب له، وكان اسمه عبد العزى، فقال: "أنتَ عبدُ الله ذو البِجادَين"، ثم أنزله قريبًا منه، فكان في ضيافته، وعلمه القرآن حتَّى قرأ قرآنًا كثيرًا، وكان صيتًا يرفع صوته بالقرآن، فقال عمر رضوان الله عليه: يا رسول الله، ألا ترى إلى هذا الأعرابي قد منع الناس القراءة، فقال: "دعهُ يا عُمرُ، فإنَّه خرج مُهاجرًا إلى الله ورسولهِ"، ثم خرجوا إلى تبوك، فقال: يا رسول الله، ادع لي بالشهادة، فقال: "أَبغِني لحاء سَمُرةٍ" فربطها في عضده، وقال: "اللَّهمَّ إنِّي أُحرِّم دَمَه على الكفَّارِ" فقال: يا رسول الله، ليس هذا أردت، فقال: "إنَّك إذا أخذتكَ الحمَّى كنتَ شهيدًا وإن وقصتك دابتك فأنت شهيد"، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك أيامًا، فتوفي ذو البجادين بها.
قال بلال بن الحارث: حضرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع بلال شعلة من نار عند القبر واقفًا بها، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر وأبو بكر وعمر رضوان الله عليهما يدليانه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "دَلِّيا إلي أخاكُما" فلما هيآه (1) لشقه في اللَّحد قال: "اللَّهمَّ إنِّي أمسيتُ راضيًا عنه فارضَ عنه" فقال ابن مسعود: ليتني كنت صاحب الحفرة، ولقد أسلمت قبله بخمس عشرة سنة، وترك ابنة فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمها.
[وفيها توفي]
معاويةُ بن معاوية
الليثي، وقيل: المزني، من الطبقة الثالثة من المهاجرين، قال [ابن سعد بإسناده عن العلاء أبي محمد الثقفي قال: سمعت] أنس بن مالك: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) في (أ، خ): أنهياه، والمثبت من (ك)، و"الطبقات" 5/ 138، وانظر "المنتظم" 3/ 376، و"الإصابة" 2/ 338.
(4/192)
________________________________________
بتبوك إذ طلعت الشمس بيضاء مضيئة لا شعاع لها ولا نور، لم ير فيما طلعت لذلك، فسأل جبريل عن ذلك، فقال: مات اليوم بالمدينة معاوية بن معاوية الليثي، فبعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه، قال: "وفيمَ ذلك؟ " قال: كان يكثر قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} في الليل والنهار، وفي ممشاه، وقيامه وقعوده، ويحبها، فهل لك يا محمد أن أقبض لك الأرض حتَّى تصلي عليه؟ قال: "نعم" فقبضها، فصلى عليه (1).
[وليس في الصحابة من اسمه معاوية بن معاوية غيره، وله صحبة ورواية، وأخرج له أحمد حديثًا واحدًا، فقال: حدثنا سليمان بن داود الطيالسي بإسناده إلى] معاوية بن معاوية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يكونُ الناسُ مُجْدِبينَ فينزِّلُ الله عليهم رِزقًا من رِزقهِ، فيُصبِحونَ مُشرِكينَ" فقيل له: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ فقال: "يَقُولونَ: مُطِرنا بنَوءِ كَذا وكَذا" (2).
* * *
__________
(1) طبقات ابن سعد 5/ 130.
(2) أحمد في "مسنده" (15537).
(4/193)
________________________________________
السنة العاشرة من الهجرة
وفيها: تتابعت الوفود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسمى سنةَ الوفودِ، قدم عليه فيها سبعون وفدًا، فنذكر أعيانهم:
وفد الأزد: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صُرَد بن عبد الله الأزدي في وفد من الأزد، فأسلم، وحسن إسلامه، فأمَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من أسلم من قومه، وأمَرَه أن يجاهدَ بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فخرج صُرَد، فنزل جُرَش، وهي يومئذ مدينة مُغلقةٌ، وبها قبائل من اليمن، وقد ضوت إليهم خثعم، فحاصرهم قريبًا من شهر، وامتنعوا عليه، فرجع عنهم قافلًا، فنزل بجبل لهم يقال له: كَشْر، فظن أهل جرش أنَّه إنما ولَّى عنهم منهزمًا، فخرجوا في طلبه، فأدركوه، فعطف عليهم، فقاتل قتالًا شديدًا، وكانوا قد بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة يرتادان وينظران، فبينا هما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بأي بلاد كشر؟ " فقال الجرشيان: هو جبل ببلادنا، فقال: "ليس بكَشْر، ولكنَّه شُكر" قالا: فما له يا رسول الله؟ قال: "إنَّ بُدنَ الله لتُنحر عنده الآنَ" فقاما من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلسا إلى أبي بكر وعثمان - رضي الله عنهما - فقال لهما: ويحكما، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينعى لكما قومكما، فسلاه أن يدعو لكما فيرفع عن قومكما، فقاما إليه، فسألاه، فقال: "اللَّهمَّ ارفع عنهم" فرجعا إلى قومهما، فوجدوا صُردَ بنَ عبد الله قد أصاب قومهما في اليوم الَّذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال في الساعة التي ذَكَر فيها ما ذكر (1).
ثم قدم وفد الأزد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا، وحمى لهم حمىً حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس والراحلة والميرة (2).
وفد هلال بن عامر، وكان فيهم زياد بن عبد الله العامري، فنزل على ميمونة - رضي الله عنها -
__________
(1) "السيرة" 2/ 587، و"تاريخ الطبري" 3/ 130، والطبقات 1/ 291.
(2) "الطبقات" 1/ 291 - 292.
(4/194)
________________________________________
وكان ابن أختها، وهو يومئذ شاب، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه عندها، فغضب، ورجع، فنادته: يا رسول الله إنه ابن أختي، فرجع، وأكرمه، وصلى بعد الظهر والعصر، ومسح على رأسه وبعض وجهه، فكانت بنو هلال بن عامر يقولون: ما زلنا نعرف البركة في وجه زياد، وكان لزياد ابن اسمه علي، فقال فيه الشاعر (1): [من الكامل]
يا بن الَّذي مسَحَ الرسول بوجههِ ... ودعا له بالخير عندَ المسجدِ
أعني زيادًا لا أُريد سواهُ من ... متيمن أو غائرٍ أو منجدِ
ما زالَ ذاك النُّور في عرنينه ... حتَّى تبوَّأ بيتَه في ملحَدِ
وفد الرَّهاويين، وكانوا خمسة عشر رجلًا، فأَنزلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار رملة بنت الحارث، وجاءهم، فأسلموا، وأهدوا له هدية فيها فرس يقال له: المرواح، فأعجبه، وأجازهم، وكتب لهم بمئة وسق من خيبر، وعقَد لهم لواءً، فلم يزل عند عمرو بن سبيع الرَّهاوي، وكان عليهم حتَّى قاتل يوم صفين مع معاوية، وقال عمرو في طريقه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأبيات (2):
إليكَ رسولَ الله أعملتُ نصَّها ... تجوزُ الفَيافي سَمْلَقًا بعد سَمْلَقِ
على ذاتِ الواحٍ أُكلفها السُّرى ... تَخُب برحلي مرَّة ثم تُعنقِ
فما لكِ عندي راحةٌ أو تَلجلجي ... بباب النبيِّ الهاشميِّ الموفَّقِ
وفد بني عامر بن صعصعة، وكان فيهم عامر بن الطفيل، وأَربَد بن قيسٍ، وخالد بن روم (3)، وجبار بن سلمى بن مالك، وهؤلاء النفر رؤساء القوم وشياطينهم، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له عامر بن الطفيل: يا محمد، ما لي إن أسلمتُ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكَ ما للمسلمينَ، وعليكَ ما عليهم"، قال: لا، إلَّا أن تجعل لي الأمر بعدك, فقال: "ليسَ ذاكَ لكَ ولا لقومِكَ" قال: فتجعل لي الوبر، ولك المدر، قال: "لا،
__________
(1) "الطبقات" 1/ 267 - 268.
(2) "الطبقات" 1/ 297.
(3) كذا، وفي السيرة 2/ 568، وطبقات ابن سعد 1/ 268: فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر، وفي الطبري 3/ 144: وأربد بن قيس بن مالك بن جعفر.
(4/195)
________________________________________
ولكِن أجعلُ لك أعنَّة الخيلِ" فقال: أوليست لي؟ ثم قال: يا محمد، والله لأملأنها عليك خيلًا ورَجِلًا، ولأربطن بكل نخلة فرسًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهمَّ اكْفِنِي عامرًا وأربد، واهد بني عامر، واهد للإسلام عامرًا، وأغنِ الإسلام عن عامرٍ"، ثم انصرفوا إلى بلادهم حتَّى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعونَ في عُنقه، فاندلع لسانُه في فيه كضرع الشاة، فمال إلى بيت امرأة من سلول، وجعل يقول: غُدة كغدة البعير، والموت في بيت سلولية، ثم مات، وكان من فرسان العرب، فواراه أصحابه، وجعلوا على قبره أنصابًا ميلًا في ميل، وجعلوه حمًى، ولما رجعوا إلى قومهم، قالوا: ما وراءك يا أربد؟ فقال: لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنَّه عندي فأرميه بنبلي هذه حتَّى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين ومعه جمل، فأرسل الله تعالى عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما، وذلك ببركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أَربد أخو لبيد بن ربيعة لأمه. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أسلَمت عامرٌ لزاحَمَت بنو عامرٍ قُريشًا في بِرِّها".
وفد كندة، ورئيسهم الأشعثُ بن قيس، قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمانين راكبًا أو ستين من كندة، فدخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجده، وقد رجَّلوا جُمَمهم، وكحلوا عيونهم، ولبسوا جِبابَ الحِبَرات مكفوفةً بالحرير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَلم تُسلموا؟ " قالوا: بلى، فقال: "فما بالُ هذا الحرير في أعناقِكُم؟ " فنزعوه، فقال الأشعث: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار، فضحكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "نحن بنو النَّضر بن كنانَةَ لا نَنتَفي من أَبِينا، ولا نَقْفُوا أُمَّنا، ولكن انسُبوا هذا النَّسب للعباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث، كانا تاجرين، فكانا إذا سارا في الأرض سئلا: من أنتما؟ فقالا: نحن بنو آكل المُرار، فيدفعون بتلك عن أنفسهم، لأن مَن أكل المُرار من كندة كانوا ملوكًا"، فقال الأشعثُ عند ذلك: أفرغتم يا معاشر كندة؟ لا أسمع رجلًا يقولها بعد اليوم إلا ضربته ثمانين، ثم انصرفوا راجعين (1).
__________
(1) "السيرة" 2/ 585.
(4/196)
________________________________________
وقال هشام: دخلُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليهم الدِّيباج المخوص باللُّؤلؤ والذهبِ، فأنزلهم دارَ رملةَ بنتِ الحارثِ وأكرمهم.
وفد زبيد، ورأسهم عمرو بن معدي كرب، وقد كان قال لقيس بن المكشوح المرادي: يا قيسُ، إنَّك سيد قومك اليوم، وقد ذكر لنا أن رجلًا من قريش قد ظهر بالحجاز يقال له: محمد، يقول: إنه نبي، فانطلق بنا إليه حتَّى نعلم علمه، فإن كان نبيًا كما يزعم، فلن يَخفَى علينا إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس، فركب عمرو في جماعة من قومه، وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وصدقه، وبلغ قيسًا، فتوعده، وقال: خالفني (1)؟ وقيل: إن عمرًا لم يأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وحكى ابن سعد قال: قدم عمرو بن معدي كرب المدينة في عشرة نفر من زبيد، فقال: مَن سيد هذه البحيرة؟ قالوا: سعد بن عبادة، فأناخ راحلته على بابه، فخرج سعد إليه، فرحب به، وأكرمه، وأنزله، وراح به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ومن معه، وأقاموا أيامًا، فأجازهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجيز به الوفد، وانصرفوا إلى بلادهم، فلما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتد عمرو، ثم أسلم، وحسن إسلامه، وأبلى يوم القادسية بلاءً حسنًا (2).
وفد عبد القيس: عن ابن عباس: أن وفد عبد القيس لما وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالإيمان بالله، وقال: "أَتَدرُونَ ما الإيمانُ باللهِ؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: "شَهادةُ أَن لا إله إلَّا اللهُ، وأَنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاة، وصومُ رمضان، وأن تُعطوا الخمسَ من المَغنَمِ" أخرجاه في "الصحيحين" (3) مختصرًا.
وكان فيهم الجارود، وكان نصرانيًا فأسلم، وأسلم أصحابه.
وفد بني حنيفة [قال ابن إسحاق: قدم وفد بني حنيفة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]، وفيهم مسيلمة بن حبيب الكذاب، [فأنزلهم في دار امرأة من الأنصار من بني النجار] فأتوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترونه بالثياب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس مع أصحابه، وفي يده
__________
(1) "السيرة" 2/ 583.
(2) "الطبقات" 1/ 283.
(3) أخرجه البخاري (87)، ومسلم (17).
(4/197)
________________________________________
عسيب من سعف النخل، فكلم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله، فقال: "لو سألتَني هذا العَسِيبَ الَّذي في يدي ما أعطيتُكَه". فلما قدموا اليمامة ارتدَّ، وتنبأ، وكذب، وقال: إني قد أُشركت معه في الأمر، وجعل يسجع لهم الأسجاع [فيقول] مضاهاة للقرآن: [قد أنعم الله على الحُبلى، إذ أخرج نسمة تسعى من بين شراسيف وحشا] ووضع عنهم الصلاة، وأباح لهم الزنا والخمر، وهو يشهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نبي، فأصفَقَت معه حنيفة على ذلك (1).
وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد: فإني قد أُشركت معك في الأمر، ولكن قريش قوم يعتدون، وبعث به مع ابن النواحة وثمامة بن أثال الحنفي [وفي رواية: لنا نصف الأرض ولكم نصف الأرض]، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرسوليه: "وأَنتُما تقولانِ مثل هذا؟ " قالا: نعم، فقال: "أَما والله لولا أَنَّ الرُّسل لا تُقتَل لَقتَلتُكما" ثم كتب إليه: "مِن محمدِ رسولِ الله إلى مُسيلمَة الكَذَّاب، أمَّا بعد: فإنَّ الأرضَ لله يُورِثُها مَن يشاءُ من عبادِه والعاقبةُ للمتَّقين".
[قال ابن إسحاق: وكان ذلك في آخر سنة عشر (2).
قال: قال الحسن: كان ثمامة بن أثال الحنفي رسول مسيلمة إلى رسول الله] فدعا الله أن يمكنه منه [قال ابن إسحاق: فحدثني سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: كان إسلام ثمامة بن أثال الحنفي أنَّه] دخل المدينة، وقد اعتمر يريد مكة [وهو مشرك] فيتجر بها، فأخذ فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر به فرُبط إلى عَمودٍ في المسجد، [وكان قد عرض لرسول الله يريد قتله، فلما رُبِط مرّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مالك يا ثمام؟ هل أمكن الله منك؟ فقال: قد كان ذلك يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن تسأل مالًا تُعطه، فمضى رسول الله وتركه.
فلما كان من الغد مرّ به وقال له مثل ما قال في اليوم الأول، وأجابه بمثل ذلك،
__________
(1) "السيرة" 2/ 576 - 577.
(2) "السيرة" 2/ 600 - 601.
(4/198)
________________________________________
فعل ذلك ثلاثة أيام، ثم قال: أطلقوه فقد عفوت عنه، أو قد عفوت عنك يا ثمام، فقام واغتسل وأسلم ثم قال: يا رسول الله، إني خرجت معتمرًا وأريد أن أتمم عمرتي، فعلمه رسول الله.
فخرج فقدم مكة، وسمعته قريش يتكلم بأمر رسول الله، فقالوا: صبأ ثمامة، فقال: ما صبأت ولكني أسلمت. وايم الله لا يأتيكم حبة من اليمامة ما بقيت - وكانت ريف مكة -.
ثم انصرف إلى اليمامة، ومنع الحمل منها حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن يكتب إلى ثمامة كتابًا يسأله أن يخلي لهم الطعام، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
قال هشام: كان مسيلمة بن حبيب الكذاب صاحب مخرقة ونارنجيات، وهو أول من أدخل البيضة في القارورة، وأوصل الجناح المقصوص من الطائر ونحوه، وسنذكره في سنة ثلاث عشرة].
وأما ابن النوَّاحة فإنه أمكن الله منه لابن مسعود - رضي الله عنه - فيما بعد، فقال له: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لولا أَنَّك رسولٌ لقَتلتُكَ" فأما اليوم فلست برسول، قم يا خرشة فاضرب عنقه، فقام إليه، فضرب عنقه (2).
وفد طيّئ، قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم زيد بن مهلهل بن يزيد بنُ مُنْهِب (3) الطائي، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ذُكرَ لي رجلٌ من العرب بفضلٍ، ثم جاءَني إلَّا رأيتُه دونَ ما يُقال فيه، إلَّا زيد الخَيْلِ، فإنَّه لم يَبلغ كل ما كان فيه" ثم سماه: زيدَ الخير، وقطع له أراضي من فَيْد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن يَسلَم زيدٌ من حُمَّى المدينةِ يَطُل عمُرُه" فمرض، فلما وصل إلى ماء من مياههم، يقال له: الفردة أخذته الحمى، فقال حين أحس بالموت: [من الطويل]
__________
(1) "السيرة" 2/ 638 - 639 وما بين معكوفين من (ك)، وجاء بدله في (أ، خ): ثم عفى عنه وأطلقه فأسلم.
(2) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 481، وانظر "دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 333.
(3) في (أ، خ): زياد بن مهلهل بن زيد بن مهذب، والمثبت من طبقات ابن سعد 6/ 212، والأغاني 17/ 245، وتاريخ دمشق 6/ 675 (مخطوط)، وهذا الخبر ليس في (ك).
(4/199)
________________________________________
أُمام لقد جُنِّبْتُ بيتك غدوة ... وأنزلُ في بيت بفَردة منجد (1)
ألا رُبَّ يومٍ لو مرضتُ لعادني ... عوائدُ من لم يَبْرَ منهن يَجهدِ
فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان منه من كتاب القطائع التي أقطعه إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحرقتها بالنار (2).
وكان فارسًا، مغوارًا، شجاعًا، شاعرًا، مخضرمًا يقول الشعر في غاراته ومفاخراته، وسمي بزيد الخيل لكثرة خيله: الهطال، والكميت، والورد، والكامل، ودؤول، ولاحق، ولم يكن لأحد من العرب سوى فرس أو فرسين (3).
وكان إذا ركب الفرس المشرف تخط رجلاه الأرض، وكان جميلاً، ولما ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرح له متكأً، فأبى أن يتكئ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجلالًا له، وكان من قوله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي أيدنا بك، وعصم لنا ديننا، فما رأيت أحسن مما تدعونا إليه، وقد كنت أعجب لعقولنا واتباعنا حجرًا نعبده يسقط منا فنظل نطلبه (4).
قال محمد بن السائب الكلبي: خرج رجل من بني نَبهان من الحرة، وترك بها أهله، وقال: والله لا أرجع إليكم حتى أكسب خيرًا، أو أموت، فلم يزل يقطع الفيافي حتى انتهى إلى حي زيد الخيل، فإذا بخباء عظيم فيه قبة من أدم، وفي القبة شيخ كبير كأنه نسر، قال: فلما وجبت الشمس جلست خلفه فإذا بفارس قد أقبل لم أر فارسًا أعظم منه ولا أجسم على فرس مشرف، ومعه أسودان يمشيان إلى جنبيه، ومئة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل، وبركن حوله، فنزل، وقال لأحد عبديه: احلب فلانة، وأشار إلى ناقة، فحلبها في عُسًّ، ووضعه بين يدي الشيخ، وتنحى عنه، فكرع الشيخ منه مرة أو مرتين، ثم نزع، ومددت يدي فشربته، فجاء العبد، فأخذ العُس، وقال: يا مولاي، قد أتى على آخره، ففرح، وقال: احلب ثانيًا،
__________
(1) رواية "السيرة"، والطبري 3/ 145: أمرتحلٌ قومي المشارق غدوة .... والمثبت موافق لما في تاريخ دمشق 6/ 677.
(2) "السيرة" 2/ 577 - 578، و"الطبقات" 1/ 277.
(3) انظر "الأغاني" 17/ 248.
(4) "تاريخ دمشق" 19/ 519.
(4/200)
________________________________________
وضعه بين يديه، فأخذت العُس، وشربت نصفه مخافة أن آتي على آخره فيعلمون بي، ثم ذبح شاة، وشوى منها، وأطعم الشيخ، وأكل هو والعبدان، وناموا، فثرت إلى الفحل، فأطلقت عقاله، وركبته، فاندفع بي، فتبعته الإبل، فما زلت ليلتي أسرع بها إلى الفجر، فلما تعالى النهار وإذا بفارس كأنه طائر، فتأملته فإذا به صاحبي، فنزلت، وعقلت الفحل، ونَثَرتُ كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل، فصاح بي: أطلق عقاله، فقلت: كلا، لقد خلفت نُسَيّات بالحيرة، وآليت أن لا أرجع إليهن حتى أفيدهن خيرًا أو أموت، فقال: إنك ميت، أطلق عقاله لا أم لك، فقلت: هو ما قلت لك، فقال: إنك لمغرور، انصب خطامه، واجعل فيه خمس عشر، ففعلت، فقال: أين تريد أن أضح سهمي، فأشرت إلى موضح، فرماه، فكأنما وضعه بيده، ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمسة بخمسة أسهم، فرددت نبلي إلى كنانتي، وألقيت قوسي، ووقفت مستسلمًا، فدنا، فأخذ السيف والقوس مني، ثم قال: ارتدف خلفي، وعرف أني الذي شربت عنده اللبن، ثم قال: ما ظنك بي؟ قلت: أحسن الظن، قال: وكيف؟ قلت: لما لقيت من تعب ليلتك وقد أظفرك الله بي، قال: أفتراني أهيجك وقد بتَّ تُنادم مهلهلًا يعني أباه؟ فقلت: أزيد الخيل؟ قال: نعم، قلت: كن خير آخذ، قال: ليس عليك بأس، ولو كانت هذه الإبل لي لما ذهبت إلا بها، ولكنها لابنة مهلهل، ثم عاد إلى مكانه، وقال: أقم عندي مكرمًا، فإني على شرف غارة، ثم أغار على بني نمير بالملح، فاستاق مئة بعير، فدفعها إليَّ، وبعث معي الخُفَراء من ماء إلى ماء، حتى وردت الحيرة، فلقيني نبطي، فقال: أيسرك يا أعرابي أن لك بإبلك هذه بستانان من هذه البساتين؟ قلت: وكيف؟ قال: هذا زمن نبي يخرج فيملك هذه الأرض ويحول بينها وبين أربابها، حتى إن أحدهم ليبيع البستان بثمن بعير، قال: فما مضت إلا هنيهة حتى بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمنا، وما مضت إلا مدة يسيرة حتى فتح الله علينا الحيرة، فاشتريت بثمن بعير من إبلي بستانًا بالحيرة (1).
قال أبو الفرج: كانت الحمى تعتري زيدًا دائمًا، وكان له أربعة بنين كلهم يقول
__________
(1) الخبر في "الأغاني" 17/ 255 - 257.
(4/201)
________________________________________
الشعر، وهم: عروة، ومهلهل، وحريث، ومكنف، فأسلم مكنف وحريث، وشهدا قتال أهل الردة مع خالد بن الوليد، فلهما صحبة، وعروة شهد القادسية، وقُسَّ الناطف، ويوم مِهْران، وأبلى بلاءً حسنًا.
وفد شيبان، كان فيهم حريث بن حسان الشيباني، فأسلم، وكانت تحته قَيْلة بنت مَخرمَة، هاجرت، وقدمت المدينة، فدخلت المسجد، فجلست خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذتها رعدة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا مسكينةُ عليك السَّكَينةُ" ولَحِقَها حريث، فقال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين بني تميم لا تُجاوِزُ الدهناء إلينا منهم إلا مسافرٌ أو مُجْتازٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا غلامُ، اكتُب لهم بالدَّهناءِ" فقالت قَيْلة: وكانت الدهناء وطني وداري، فقلت: يا رسول الله، الدهناءُ مرعى الإبل والغنم ونساء بني تميم فسراها (1)، فقال: "أَمسِكْ يا غلامُ، صَدَقت والله المسكينةُ، المسلِمُ أَخو المسلمِ" (2).
وفد بَجِيْلَة، ومنهم: جرير بن عبد الله البَجَلي، قال جرير: لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي، ثم حللت عيبتي، ثم لبست حلتي، ودخلت المسجد، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يخطب، فرماني الناس بالحدق، فقلت لجليسي: يا عبد الله، ذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ] قال: نعم، ذكرك آنفًا بأحسن الذكر بينا هو يخطب إذ عرض له في خطبته، فقال: "يدخل عليكم من هذا الباب - أو من هذا الفج - من خيرِ ذي يَمَن، إلا أن على وجهه مسحة مَلَك". قال جرير: فحمدت الله على ما أولاني. أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه (3).
وقال جرير: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصيحة لكل مسلم. أخرجاه في الصحيحين (4).
__________
(1) هذه الكلمة لا معنى لها هنا، ونص الخبر عند ابن سعد 1/ 276: يا رسول الله، إنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك، إنما هذه الدهناء عندك مقيد الجمل ومرعى الغنم، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال: "أمسك يا غلام ..... ".
(2) "الطبقات" 1/ 274 - 277.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (19180) وما بين معكوفين منه.
(4) أخرجه البخاري (57)، ومسلم (56).
(4/202)
________________________________________
وقال جرير: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تُريحُنِي من أمرِ ذي الخَلَصةِ؟ " وكان بيتًا في خثعم يسمى: كعبة اليمانية، فانطلقت في خمسين ومئة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنني لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري، وقال: "اللَّهمَّ ثبِّتهُ، واجعَلْهُ هادِيًا مَهدِيًّا" فانطلقت إليها، فكسرتها، وحرقتها، وأرسل جرير [رجلًا] إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبشره، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجرب، فبارك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خيل أحمس ورجالها خمس مرات (1).
واعتماد الفقهاء في المسح على الخفين على حديث جرير، قال - رضي الله عنه -: أنا أسلمت بعد نزول المائدة، وأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح بعدما أسلمت (2).
وفد العَنْس - بنون - فيهم ربيعة العَنْسي (3)، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَراغبًا جئتَ أم راهبًا؟ " فقال له: أما الرغبةُ، فوالله ما في يديك من مال فأرغب فيه، وأما الرهبةُ فوالله إنني في مكان ما تبلغه جيوشك، ولكن جئت مسلمًا، فأجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إن أَحسَسْت في الطريقِ بوَعَك فمِل إلى أَدنى قريةٍ منك"، فوعك في الطريق، فمال إلى قرية هناك، فمات فيها.
وفد سعد العشيرة، وفيهم ذُباب بن أنس، فأسلم، وكسر صنمًا لهم يقال له: فَرَّاص، وقال: [من الطويل]
تَبِعتُ رسولَ الله إذ جاءَ بالهُدى ... وخلَّفتُ فَرَّاصًا بدارِ هَوانِ
ولَمَّا رأيتُ اللهَ أَظهرَ دينَهُ ... أَجبْتُ رسولَ اللهِ حينَ دعانِي
شدَدْتُ عليه شدَّةً وتركتُهُ ... كأَن لم يكُن في الدَّهرِ ذُو حَدَثانِ
فأصبحتُ للإسلامِ ما عشتُ ناصرًا ... وأبقيتُ فيه كَلكَلي وجِرانِي
فمَن مبلغ سعدَ العشيرةِ أنَّني ... شريتُ الذي يَبقى بآخر فاني
وعاش ذُباب حتى شهدَ مع علي - رضي الله عنه - صفين، وقيل: اسمه عبد الله (4).
__________
(1) أخرجه البخاري (3020)، ومسلم (2476).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (19221).
(3) نص الخبر في نسخنا كالتالي: وفد عبد القيس - بنون - فهم بن ربيعة العبس. وانظر "الطبقات" 1/ 295.
(4) "الطبقات" 1/ 295.
(4/203)
________________________________________
وفد جُهينة، وفيهم عمرو بن مرة سادِنُ صنم جُهينة، فكَسَره، وأسلم، وقال: [من الطويل]
شهدتُ بأنَّ الله حقٌّ وأنَّني ... لِآلِهَة الأحجارِ أَوَّل تاركِ
وشمَّرت عن ساقِي الإزارَ مُهاجرًا ... إليكَ أجوبُ الوَعْثَ بعد الدَّكادِكِ
لأصحَبَ خيرَ الناس نَفسًا ووالدًا ... رسولَ مليكِ الناسِ فَوق الحبائكِ
ثم بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه، فأسلموا إلا واحدًا ردَّ عليه، فدعى عليه عمرو، فسقط فوه، وخرس، وعمي، واحتاج إلى الناس، وقيل: إنما قدم وفد جُهينة المدينة حين قدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر الإسلام (1).
وفد كَلْب، وكان فيهم حارثة بن قطن، وحَمَل بن سَعْدانة الكَلْبيان، فأسلموا، وعقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحارثة لواءً على قومه، فشهد به صفين مع معاوية، فأقطعه أرضًا بدومة الجندل، وكتب له بها كتابًا (2).
وفد جَرْم، قال البخاري: حدَّثنا سليمان بن حَرْب، حدَّثنا حمَّاد بن زيد، عن أيوبَ، عن أبي قِلابة، عن عمرو بن سَلَمة قال: كنا بماء ممَرَّ الناس، وكان يمر بنا الركبان، فنسألهم: ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله، وأوحى إليه بكذا، وكنت أحفظ ذلك الكلام، وكانت العرب تلوَّم بإسلامها الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنَّه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبادروا قومي بإسلامهم (3)، فلما قدم قال: جئتكم من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حقًا، قال: "صلُّوا صلاةَ كذا في حينِ كذا، وصلاةَ كذا في حينِ كذا، فإذا حَضرتِ الصلاةُ فليُؤذِّن أحدُكم، وليؤمَّكُم أكثَركُم قُرآنًا" فنظروا، فلم يكن أحد أقرأ مني لما كنت أتلقى الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلَّصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطُّوا عنا است قارئكم، فقطعوا لي قميصًا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص. انفرد بإخراجه البخاري.
__________
(1) "الطبقات" 1/ 287.
(2) "الطبقات" 1/ 288 - 289.
(3) كذا؟ ! وفي صحيح البخاري (4302): وبدر أبي قومي بإسلامهم. وانظر "الطبقات" 1/ 289.
(4/204)
________________________________________
وفد النَّخَع، قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم أرطاة بن شراحيل، والأرقم بن عمر، فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأى من حُسنِ هيئتهما، فأسلما، وقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَل خلَّفتُما وراءَكما مِن قَومِكُما مِثلَكُما؟ " فقالا: خلفنا وراءنا سبعين رجلًا كلهم أفضل منا، فدعا لهما، وقال: "اللَّهمَّ بارِكْ في النَّخَعِ" وعقد لأرطاة لواءً على قومه، فكان في يده يوم الفتح، ثم شهد به القادسية، فقتل أرطاة يومئذ، فأخذه أخوه، فقتل، فأخذه سيف بن الحارث، فدخل به الكوفة.
وقيل: إنما قدموا في المحرم سنة إحدى عشر، وهم مئتا رجل، فأنزلهم دار رملة بنت الحارثِ، وقالوا: بايعنا معاذًا باليمن، وكان منهم زرارة بن عمرو، وكان نصرانيًا، فأسلم، وهم آخر وفد وفدَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وفد حَضرَمَوت، وكان فيهم وائل بن حجر، فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
[وحكى ابن سعد عن هشام بن محمد: أن رسول الله سرَّ] بقدومه، ونادى الصلاةَ جامعةً، ثم خطب فقال: "أَيُّها الناسُ، هذا وائلُ بن حُجر أتاكم من حَضْرَمَوت - ومدَّ بها صوتَه - راغبًا في الإسلامِ" ثم قال لمعاوية بن أبي سفيان: "انطَلِق فأنزلهُ مَنزلاً بالحرَّة" قال معاوية: فانطلقت معه، فأحرقتِ الرَّمضاءُ رجليَّ، فقلت له: أردفني وراءَك، فقال: لست من أرداف الملوكِ، قال: فقلت: فادفع لي نعليك أمشي فيهما أتوقَّ بهما من الحرِّ، فقال: لا يبلُغْ أهل اليمنِ أنَّ سوقَةً لبسَ نعلَ ملكٍ، ولكن إن شئت فامشِ في ظلِّ ناقتي، وكفاكَ به شرفًا في قومك، قال: فسرت في ظل ناقته حتى أنزلته منزلًا، ولما رجع إلى بلاده أجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتب له كتابًا بأراضي وحصون.
[وفي رواية]: فأخبَرَ معاوية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال له وائل، فقال: "إنَّ فيه لعُبيَّة من عبيَّةِ الجاهلية، ارفُقوا به فإنَّه قريبُ عهدٍ بمُلكٍ" (2).
فلما استخلف معاوية قدم عليه وائل، فأكرمه، وأجلسه معه على سريره، وقال له: أتذكر يوم كذا وقولك لي؟ ووائل يقول: نعم، وهل هو إلا ذاك؟ قال وائل: وأنا أقول في نفسي ليتني حملته بين يدي (3).
__________
(1) "الطبقات" 1/ 298.
(2) "الطبقات" 1/ 300 - 303، وما بين معقوفين زيادة من (ك).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (27238) من حديث وائل بن حجر - رضي الله عنه -.
(4/205)
________________________________________
وبعثت امرأة من أهل اليمن يقال لها: تهناة بنت كُليب في ذلك الوفد بكسوة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ابن لها يقال له: كليب بن لبيد (1)، فدفعها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: [من البسيط]
مِن وادِ بَرْهُوت تَهوي بي عذافرة ... إليك يا خَيرَ مَن يحفى ويَنتعلُ
تجوب بي صفصفًا غُبْرًا مناهِلُه ... تزدادُ عفوًا إذا ما كلَّتِ الإبلُ (2)
شهرين أُعمِلُها نصًّا على وَجَل ... أرجو بذاكَ ثَوابَ الله يا رجلُ
أَنتَ النَّبي الذي كنَّا نخبَّرُه ... وبشَّرَتْنا به التَّوراةُ والرُّسلُ
[وقد ذكر العلماء في تواريخهم وائل بن حجر، فقال خليفة: هو من حَضْرَموت، وسكن الكوفة.
وقال أبو نعيم: من أبناء الأقيال باليمن، وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزله وأصعده معه على منبره، وقال: "هذا وائل بن حجر، سيد الأقيال جاءكم حبًا لله ولرسوله" وأعطاه وأقطعه القطائع، وكتب له كتابًا، ثم سكن الكوفة، وعقبه بها.
وقال أبو بكر الخطيب: كان ملك قومه، قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا، فقربه وأدناه، وبسط له رداءه وأجلسه عليه، ثم نزل بعد رسول الله الكوفة وأعقب بها، ونزل المدائن في صحبة علي - عليه السلام - حين خرج إلى صفين، وكان على راية حضرموت يومئذ (3).
وقال الهيثم: لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر وأخذ بيده فأقعده معه وقال: "أيها الناس، هذا وائل بن حجر قد أتاكم من أراض بعيدة، طائعًا لله ولرسوله غير مكره، وهو بقية أبناء الملوك، اللهمَّ بارك فيه وفي ولده وولد ولده" ثم نزل من المنبر وأنزله معه، وكتب له ثلاثة كتب بأراضي.
وذكره جدي في "التلقيح" فقال: وائل بن حجر بن ربيعة الحضرمي، وهو وائل القيل (4).
__________
(1) في "الطبقات": كليب بن أسد بن كليب.
(2) في النسخ: "مهمها غبرًا" والمثبت من "الطبقات" 1/ 302.
(3) "تاريخ بغداد" 1/ 197 - 198.
(4) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 190.
(4/206)
________________________________________
وروى وائل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخرج عنه مسلم، وسنذكره فيما بعد.
وفي الحديث: "أن حضرموت فيها وادي برهوت" (1)، وفي الحديث: "خير بئر في الأرض زمزم فيها أرواح المؤمنين، وشر بئر في الأرض برهوت وفيه أرواح الكفار" (2)].
وفيها: كانت سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب، ذكرها ابن إسحاق.
وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، فخرج خالد إليهم، وبث الركبان في كل وجه يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الناس، وأقام فيهم خالد يعلمهم كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره بإسلامهم، وكان في كتابه: لمحمد رسول الله من خالد بن الوليد، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن القوم قد أسلموا، وإني مقيم فيهم أعلمهم كتاب الله ومعالم السنن والسلام.
فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِن محمدٍ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالدِ بنِ الوليدِ، سَلامٌ عليكَ، أَمَّا بعدُ: فإنَّ كتابَكَ وَرَدَ عليَّ يُخبرني بإسلامِهم، فالحمدُ لله على ذلك، فبشِّرهُم، وأَنذِرهُم، وخَوِّفهُم، وحَذِّرهم، وليُقبِل مَعَك وَفْدُهم، والسَّلامُ".
فقدم خالد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجماعة، منهم: قيس بن الحُصَين، ويزيد بن عبدِ المَدان، فلما دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "أَنتُمُ الذين إذا زُجِروا استَقدَموا؟ " فقال له يزيد: نعم، قال: "أَما واللهِ لَولا كتابُ خالدٍ وَرَد عليَّ بإسلامِكُم لأَلْقَيت رؤوسَكُم تحتَ أقدامِكُم" فقال له يزيد: أَما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدًا، بل حمدنا الله الذي هدانا بك، فقال: "صَدَقتُم" ثم قال لهم: "بمَ كُنتم تَغلِبونَ من قاتلكم في الجاهليةِ؟ " قالوا: كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ أحدًا بظلم، فقال: "صَدَقتُم" وأمَّر
__________
(1) لم نقف عليه.
(2) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9118) من حديث علي موقوفًا قال: خير واديين في الناس ذي مكة، وواد في الهند هبط به آدم - صلى الله عليه وسلم -، فيه هذا الطيب الذي تطيبون به، وشر واديين في الناس وادي الأحقاف وواد بحضرموت يقال له: برهوت، وخير بئر في الناس زمزم، وشر بئر في الناس بلهوت وهي بئر برهوت، تجتمع فيه أرواح الكفار. وما بين معقوفين زيادة من (ك).
(4/207)
________________________________________
عليهم قيس بن الحصين، وأَجازهُم، فرجعوا إلى بلادهم.
ثم بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عمرو بن حزم الأنصاري ليفقههم في الدين، ويعلمهم معالم الإسلام، وكتب معه كتابًا طويلًا، وذكر فيه أسنان الإبل، والصدقات، والعبادات وغيرها، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمرو عندهم باليمن (1).
والكتاب مشهور أخرجه الدارقطني وغيره، وفيه: "بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، هذا كتابٌ منَ الله ورسولهِ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] عهدٌ من محمدٍ رسولِ الله لعمرِو بن حَزْم حين بعثَه إلى اليمن، آمرُه بتَقوَى الله في أَمره كلِّه فـ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128] وآمرُه أن يأخذَ بالحقَّ كما أَمَره الله، وأن يُبشِّر الناسَ بالخيرِ، ويأمُرَهم به، ويعلَّمهم القرآنَ، ويفقَّههم فيه، ويَنهى الناسَ، فلا يمسّ القرآنَ إلا طاهرٌ، ويشدّد عليهم في الظُّلمِ {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، ويعلِّم الناسَ مَعالِم الحجِّ، وسُنَنه، وفرائضَه، وما أَمَر الله بهِ، والحجُّ الأكبرُ يوم النحر، والأصغر العمرةُ" (2) وذكر أسنانَ الإبل، وما يجبُ فيما تخرج الأرض، وذكر الجزية، وقال: "وعلى كلِّ حالِمٍ ذكرًا كانَ أو أنثى دينارٌ".
وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى اليمن، فقاتلوه، فبعث عليًا - رضي الله عنه - والتقوا، فبرز علي بين الصفين، وقرأ عليهم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت همدان كلها، وأطاعوا؛ فكتب علي رضوان الله عليه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره، فخر ساجدًا، وقال: "السَّلامُ على هَمْدان" قالها ثلاثًا، ورجع خالد إلى المدينة، وأقام علي - رضي الله عنه - باليمن يفقههم في الدين، ويأخذ الصدقات، فلما كان في الموسم وافى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع (3).
وفيها: كتب مسيلمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا يذكر فيه معنى ما تقدم، [وقيل: إنما كتب إلى رسول الله بعد انفصاله من حجة الوداع].
وفيها: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبلة بن الأيهم يدعوه إلى الله تعالى، فأسلم،
__________
(1) "السيرة" 2/ 592 - 593.
(2) ذكره الدارقطني في سننه مقطعًا في أبواب متفرقة، ولم يذكره بطوله، وانظر "السيرة" 2/ 594 - 596.
(3) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 131 - 132، و"دلائل النبوة" 5/ 396.
(4/208)
________________________________________
وأهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية يخبره بإسلامه، ثم ارتد في أيام عمر رضوان الله عليه (1)، وسنذكره.
وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي كلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع، ملك اليمن، [وقيل: اسمه سُميفع، وذو الكَلاع لقب له، قال الجوهري: ذو الكلاع بالفتح اسم ملك من ملوك اليمن من الأذواء].
وقيل: كان من ملوك الطوائف [فحكى ابن دريد عن الرياشي عن الأصمعي قال: كان رسول الله كاتب ذو الكلاع من ملوك الطوائف على يد جرير بن عبد الله] يدعوه إلى الإسلام، وكان قد استعلى أمره حتى ادعى الربوبية، وأطيع حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل عود جرير، وأقام ذو الكلاع على ما هو عليه إلى أيام عمر رضوان الله عليه ثم رغب في الإسلام، فقدم على عمر وسنذكره، وقيل: إنه أسلم على يد جرير، وأسلمت امرأته ضُريبة بنت أبرهة بن الصباح، والأول أصح (2).
وفيها: كتب فروة بن عمرو الجُذامي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه، وأهدى له [هدية، وقد ذكره ابن سعد وقال: كانت الهدية] بغلة شهباء، وحمارًا، وثيابًا، وقباءً من سندس مخوص بالذهب، وبعث به مع مسعود بن سعيد الجُذامي، وكان عاملًا لقيصر على عمان البلقاء، فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما بعد، فإنه قد وصلني كتابك، ورسولك، والحمد لله على هدايتك" وأمر بلالًا فأعطى رسوله اثنتي عشرة أوقية ونشًا - أي نصفًا -[وقال هشام: ] وكان مسكنه بمعان وما حولها من الشام، وبلغ قيصر إسلامه وما فعل، فكتب يستدعيه، فلما دخل عليه قال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: لقد علمت أن عيسى - عليه السلام - بشر به وأنه نبي حق، فقال له: ارجع عما أنت عليه، فقال: لا والله ولا بملكك، فحبسه، ثم نصب له خشبة، [ليصلبه، وأخرجه فلما رفع على الخشبة قال: [من الكامل]:
أبلغ سَراة المسلمين بأنني ... سِلْمٌ لربّي مُهجتي وعظامي
قال الهيثم: ]
__________
(1) "الطبقات" 1/ 228.
(2) انظر "الطبقات" 1/ 229، وما بين معقوفين زيادة من (ك).
(4/209)
________________________________________
وصلبه على ماء يقال له: عِفْرى من أرض فلسطين، فلما رفع على خشبته قال: [من الطويل]
أَلا هل أتَى سَلمى بأنَّ حَليلَها ... على ماءِ عفرى فوقَ إحدى الرَّواحلِ
على ناقةٍ لم يضربِ الفَحلُ أمَّها ... مشَذَّبة أطرافُها بالمناجل (1)
وفيها: كانت حجة الوداع، وتسمى: حجة التمام، والكمال، والبلاغ، وحجة الإسلام [وحجة الوداع أشهر، وقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر عند الجمرات، وجعل يقول: "اللهمَّ اشهد" وودع الناس، وما كنا ندري ما حجة الوداع إلى ذلك اليوم (2).
وقال ابن عباس: كرهوا أن يقولوا حجة الوداع، فقالوا: حجة الإسلام].
قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا يحيى بن آدم وأبو النَّضر، قالا: حدَّثنا زهير، حدَّثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: خَرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُهلِّين بالحج، معنا النساء والولدان، فلما قدمنا طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لم يكُن معَه هَديٌ فَلْيَحلِل" قلنا: أيُّ الحل؟ قال: "الحلُّ كلُّه" قال: فأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج، وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة، وأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كلُّ سبعة منا في بدنة، فجاء سراقة بن جُعشم فقال: يا رسول الله، بيِّن لنا ديننا كأنَّا خلقنا الآن، أرأيت عمرتنا هذه أَلِعامنا هذا أو للأبد؟ فقال: "لا، بَل للأَبدِ" قال: يا رسول الله، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت فيه الأقلام، وجرت به المقادير [أو فيما نستقبلُ؟ قال: لا، بَل فيما جفَّت به الأَقلامُ، وجرت به المَقاديرُ"] قال: ففيم العمل؟ قال أبو النضر: فسمعت من سمع من أبي الزبير يقول: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له" (3).
وعن جابر قال: لم يكن معنا هدي يومئذ إلا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلحة، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَر أصحابَه أن يجعلوها عمرة، يطَّوَّفوا، ثم يقصِّروا، ويُحِلُّوا إلا مَن
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 591، و"الطبقات" 1/ 243، و"تاريخ دمشق" 48/ 271.
(2) أخرجه البخاري (1742) و (4402).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (14116)، وما بين معقوفين زيادة منه.
(4/210)
________________________________________
معه الهدي، قالوا: ننطلق إلى منًى، وذَكَرُ أحدنا يقطر، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لو أَنِّي استَقْبَلتُ من أَمرِي ما اسْتَدْبَرتُ ما أَهدَيتُ"، وحاضت عائشة فنسَكت المناسكَ كلَّها غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طَهُرت طافت، ثم قالت: يا رسول الله، أتنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بالحج؟ فأَمَر عبد الرحمن أن يخرجَ معها إلى التَّنعيمِ، فاعتَمَرت بعد الحجِّ في ذي الحجة (1).
وعن جابر بن عبد الله قال: رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة بمثل حصى الخذف (2).
فصل في التلبية:
ومعنى لبيك: أنِّي مقيم على طاعتكَ وأمرك، وقيل: هي مأخوذةٌ من الإجابة للخليلِ - عليه السلام - لما أذَّن في الحجِّ فنادى: "أَيُّها الناسُ، إنَّ رَبَّكم قد بَنَى بيتًا فحجوه" قال ابن عباس: فلا يأتي أحد هذا البيت إلا وهو يقول: لبيك اللهمَّ لبيك، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَّ بالتوحيد: "لبَّيكَ اللهمَّ لبَّيكَ، لا شريكَ لكَ لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنَّعمةَ والملكَ لك، لا شَريكَ لك".
وروي أن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه كان يزيد: لبَّيكَ ذا النَّعماء والفضلِ الحَسَن، لبيكَ لبيكَ مرغوبًا إليك.
وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والرغبة إليك.
وكان أنس يقول: لبيك وسعديك حقًا حقًا، تعبدًا ورقًا.
وقال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: عجبًا لاختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إهلاله بالحج! ؟ فقال ابن عباس: إنِّي لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت حجةً واحدةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن هنالك اختلفوا، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجًا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه، فأهلَّ بالحج حين فرغ من صلاته، فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالًا، فسمعوه حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما علا على شرف البيداء
__________
(1) أخرجه البخاري (1651)، ومسلم (1216).
(2) أخرجه مسلم (1299).
(4/211)
________________________________________
أهلَّ، فأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنما أهلَّ حين علا شرف البيداء، وايمُ الله، لقد أوجب في مصلاه، وأهلَّ حين استقلَّت به راحلته، وأهلَّ حين علا شرف البيداء. فمن أخذ بقول ابن عباس أهلَّ حين فرغ من ركعتيه (1).
وأهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مئة بدنة، نحر منها بيده ثلاثين، ثم أمر عليًا، فنحر ما بقي منها، وقال: "اقسم جلالها ولحومها وجلودها بين الناس، ولا تعطين جزارًا منها شيئًا، وخذ لنا من كل بعير بضعة من لحم، ثم اجعلها في قدر واحدة حتى نأكل من لحومها، ونَحْسُوَ من مرقها" ففعل (2).
وقال ابن عباس أيضًا: انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة بعد ما ترجَّل، فادَّهن، ولبس إزارَه ورداءَه هو وأصحابه، فلم ينهَ عن شيءٍ من الأَرْدِيَة والأزرِ إلا المُزَعْفَرة التي تَردَعُ - أي تصبغ الجلد - فأصبح بذي الحُلَيفة، ثم ركب راحلته، حتى إذا استوى على البيداء أهلَّ هو وأصحابه، وقلَّد بُدْنَه، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لأربع خَلَون من ذي الحجة، وطاف بالبيت، وسَعى بين الصَّفا والمروة، ولم يَحِلَّ لأحد بُدْنَه، لأنه قلَّدها، ثم نزل بأعلى مكة عند الحَجُون وهو مُهِلٌّ، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه، حتى رجع من عرفة، وأمر أصحابَه أن يطَّوَّفوا بالبيت، ويسعوا بين الصفا والمروةَ، ثم يقصِّروا رؤوسَهم، ثم يَحِلُّوا وذلكَ لِمَن لم يكن معه بَدَنةٌ قلَّدها، ومن كان معه امرأته فهي حلال له، والطيب، والثياب. أخرجاه في "الصحيحين" (3).
وقال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السقاية، فاستسقى، فقال العباس: يا فضلُ، اذهب إلى أمِّك فأْتِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بشرابٍ من عندها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْقِني" فقال: إنَّهم يضعون أيديهم فيه، فقال: "اسْقِني"، فشرب منه، ثم أتى زمزمَ، فهم يستقون ويعملون فيها، فقال: "اعْمَلُوا فإنَّكُم على عَمَلٍ صالِحٍ"، فقال: "لولا أن يُغلَبُوا لَنزَلتُ حتى أضَعَ الحَبلَ على عاتِقي، أو على هذه" يعني عاتقه. انفرد بإخراجه البخاري (4).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2358).
(2) أخرجه أحمد (2359)، وانظر "المغازي" 3/ 1108.
(3) أخرجه البخاري (1545) وهو من أفراده انظر "الجمع بين الصحيحين" (1092).
(4) أخرجه البخاري (1635) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(4/212)
________________________________________
وفي رواية: "لولا أَن النَّاسَ يتَّخذُونَه نُسُكًا لَنَزعتُ" (1).
وقال: طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت على ناقةٍ يَسْتَلمُ الحَجَر بمِحْجَنِه، وبين الصفا والمروة. متفق عليه (2).
وقد أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه، وفيه: جاء النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وكان قد اشتكى، فطاف على بعير ومعه مِحْجَن، فلما مرَّ عليه استلمه، فلما قضى طوافه أناخ، فصلى العشاءين (3).
وقال ابن عباس أيضًا: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إذا لم يجدِ المُحرمُ إِزارًا، فَلْيَلْبس السَّراوِيلَ، وإذا لم يجدِ النَّعلَينِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّينِ". أخرجاه في "الصحيحين" (4).
وقال أيضًا: إن رجلًا كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوَقَصته ناقته وهو محرم فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبدًا" (5). وفي رواية: "وهو يهل أو يلبي" (6). متفق عليه.
والملبد: الذي يجعل في رأسه شيئًا من الصمغ ليلبد شعره ولا يقمل.
وقال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة جَمْع: "هَلُمَّ الْقُط" فَلَقطْتُ له حَصَياتٍ مثل حَصَى الخَذْفِ، فلما وضعهنَّ في يدهِ فقال: "نَعَم، بأَمثالِ هؤلاءِ، وإيَّاكُم والغلُوَّ في الدينِ، فإنَّما هَلَك مَن كان قَبْلَكُم بالغلوِّ في الدينِ" (7).
وقال: إن أسامة بن زيد كان رَدِيفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ عرفَةَ، فدخلَ الشِّعب، فنزل، فأَهْراقَ الماءَ، ثم توضأ، وركب ولم يصلِّ (8).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2227).
(2) أخرجه البخاري (1607)، ومسلم (1272).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (2772) وفيه: "فصلى ركعتين".
(4) البخاري (1841)، ومسلم (1179).
(5) البخاري (1266)، ومسلم (1206) (99).
(6) البخاري (1268)، ومسلم (1206) (94).
(7) أخرجه أحمد في "مسنده" (1851).
(8) أخرجه أحمد في "مسنده" (2265).
(4/213)
________________________________________
وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالروحاء، فلقي رَكْبًا، فسلَّم عليهم، فقال: "مَنِ القومُ؟ " قالوا: المسلمون، قالوا: فَمَن أنت؟ قال: "رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -"، فَفَزِعَت امرأةٌ، فأخذَتْ بعضُدِ صبيًّ فأخرجَتْهُ من مِحَفَّتها، وقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: "نَعَم، ولَكِ أجرٌ". انفرد بإخراجه مسلم (1).
وقال: صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الظهرَ بذي الحليفة، ثم دعا ببَدَنةٍ، فأَشْعَر صَفْحَة سَنامِها الأيمن، ثم سلت الدم عنه، وقلَّدها نعلين، ثم أتي براحِلَته، فلما قَعَد عليها واستَوتْ به على البَيْداءِ أهلَّ بالحجِّ (2).
وقال ابن عباس: ليس المحصَّب بشي، إنما هو منزلٌ نَزَله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. متفق عليه (3).
وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رميتُم الجمرةَ فقد حلَّ لكُم كلُّ شيءٍ إلَّا النساءُ" (4).
وقال: وقَّت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأهلِ المدينةِ ذا الحُليفة، ولأهل الشامِ الجُحفةَ، ولأهلِ اليمنِ يَلَمْلَمَ، ولأهل نجدٍ قَرنًا، وقال: "هنَّ وَقْتٌ لأَهلهِنَّ ولِمَن مرَّ بهنَّ من غَيرِ أَهلهِنَّ - يريدُ الحجَّ والعمرةَ - ومَن كان منزلُه مِن وراءِ المِيْقَاتِ فإهلالُه من حيثُ يُنشِئُ، حتَّى أهلُ مكَّةَ إهلالُهم من حيث يُنشِئون". أخرجاه في "الصحيحين" (5).
وقال: لما مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي عُسفان حين حجَّ، فقال: "يا أَبا بَكرٍ، أَيُّ وادٍ هذا؟ " قال: وادي عُسفان، فقال: "لقد مرَّ به هُودٌ وصَالحٌ على بَكَراتٍ خُطُمُها اللِّيفُ، أُزرهُم العَباءُ، وأَرديتُهم النِّمارُ، يُلَبُّون يحجُّونَ البيتَ العَتِيقَ" (6).
وقال: إنَّ امرأة من خَثْعَم استَفْتَت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداعِ والفضلُ بن عباس
__________
(1) أخرجه مسلم (1336) واللفظ لأحمد في "مسنده" (1898).
(2) أخرجه مسلم (1243).
(3) أخرجه البخاري (1766)، ومسلم (1312)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (1925).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2090).
(5) أخرجه البخاري (1524)، ومسلم (1181) واللفظ لأحمد في "مسنده" (2128).
(6) أخرجه أحمد في "مسنده" (2067).
(4/214)
________________________________________
رديفه، فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ فريضةَ الله في الحجَّ على عباده أَدْرَكَت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيعُ أن يستويَ على الراحلةِ، فهل يقضي عنه أن أحجَّ عنه؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَم"، فأخذ الفضل بن العباس يلتفت إليها، وكانت امرأة حسناء، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجه الفضل فحوله إلى الشق الآخر. متفق عليه (1).
وفي رواية "المسند": فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا ابنَ أَخي، إنَّ هذا يومٌ مَن مَلَك فيه سَمعَه وبَصَره ولسانَه غُفِرَ له" (2).
وقال: كانوا يَرَونَ العمرةَ في أشهر الحجَّ من أَفْجَرِ الفُجورِ في الأرض، ويجعلون المحرَّم صفرًا، ويقولون: إذا بَرَأ الدَّبَر، وعَفَى الأَثَر، وانْسَلَخ صَفَر، حلَّت العمرة لمن اعتمر، فلما أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة تعاظم ذلك عندهم (3).
وقال: ما أعْمَر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عائشةَ ليلةَ الحَصْبَة، إلَّا قَطْعًا لأَمر الشَّركِ (4).
وفي "المسند": عن عروة بن الزبير أنه قال لابن عباس: حتى متى تُضِلُّ الناسَ؟ فقال: وما ذاك؟ قال: تأمرهم بالعمرة في أشهر الحج وقد نهى عنها أبو بكر وعمر! فقال ابن عباس: قد فَعَلها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عروة: هما، أو كانا، أَتْبَع لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - منكَ (5).
وقال ابن عباس: فلما أَمَرهم أن يجعلُوها عمرةً لُبِسَتِ القُمُص، وسَطَعت المجامِرُ، ونُكِحتِ النَّساءُ (6).
وفي "المسند": عن ابن عباس قال: تَمتَّع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ماتَ، وأبو بكرٍ حتى ماتَ، وعمرُ حتى ماتَ، وعثمانُ حتى ماتَ، وكان أَوَّل من نَهى مُعاوية، فعجبتُ منه، وقد حدَّثني أنَّه قصَّر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِشْقَصٍ (7).
__________
(1) أخرجه البخاري (1854)، ومسلم (1334)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (2266).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (3041).
(3) أخرجه البخاري (1564)، ومسلم (1240).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2361).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (2277).
(6) أخرجه أحمد في "مسنده" (2641).
(7) أخرجه أحمد في "مسنده" (2664).
(4/215)
________________________________________
قال المصنف - رحمه الله -: وهذا وهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما حج مرة واحدة قارنًا وهي هذه الحجَّة، فكيف يقول: تمتَّع حتى مات؟
وفي "المسند": أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَبَح، ثم حَلَق (1).
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود: أنَّه رمَى جمرة العقبةِ من بطن الوادي، ثم قال: والذي لا إله غيرُه، هذا مَقامُ الذي أُنزِلَت عليه سُورَةُ البقرةِ (2).
قال ابن عباس: وأشهرُ الحجِّ التي ذَكَر اللهُ: شوَّالُ، وذو القَعْدة، وذو الحَجَّة، فَمَن تمتَّع في هذه الأشهرِ فَعليه دمٌ أو صومٌ (3).
قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: حدَّثنا عبد الرزاق، أَنبأنا مالكُ بن أنسٍ، عن ابن شِهاب، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نَوفَلٍ بن عبد المطَّلب، أنَّه سَمعَ سعدَ بن أبي وقَّاص، والضحَّاكَ بنَ قيسٍ عامَ حجَّ معاويةُ في صَفرٍ، وهما يذكران التمتع بالعمرةِ، فقال الضَّحاك: لا يصنع ذلك إلا من جَهِل، فقال سعد: بئسَ ما قلتَ، قال الضَّحاك: فإن عمرَ بن الخطاب يَنهى عنها، فقال سعد: قد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصنعناها معه (4).
ولمسلم: فَعَلناها، وهذا كافرٌ بالعُرُش، يعني معاويَة (5).
و"العُرُش": بيوت مكة، سميت بذلك لأنها عيدان تُنصب وتظلل.
وقال أنس: كان على ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَحْل رث لا يساوي أربعة دراهم (6).
وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَثنا إسماعيل، أخبرنا أيوب، عن محمد بن سِيرينَ، عن أبي بكرةَ قال: خطَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته، فقال: "ألا إنَّ الزَّمانَ قدِ اسْتَدارَ كهَيئتِه يومَ خَلَقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ، السنةُ اثنا عَشَر شهرًا، منها أربعةٌ
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2638).
(2) أخرجه البخاري (1747)، ومسلم (1296).
(3) أخرجه البخاري (1572) وهو قطعة من حديث طويل.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (1503).
(5) أخرجه مسلم (1225).
(6) أخرجه ابن ماجه (2890).
(4/216)
________________________________________
حُرُم، ثلاثةٌ مُتوالياتٍ: ذُو القَعْدة، وذو الحجَّة، والمُحرَّم، ورجبُ مُضَر الذي بين جُمادى وشَعبانَ" ثم قال: "ألَا أيُّ يومٍ هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: "أَليسَ يومَ عَرَفَةَ؟ " قلنا: بلى، ثم قال: "أيُّ شَهرٍ هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: "أَلَيسَ ذا الحجَّة؟ " قلنا: بلى، ثم قال: "أيُّ بَلَدٍ هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أَلَيس البلدَ الحرامَ؟ " قلنا: بلى، قال: "فإنَّ دِماءَكُم وأَموالَكُم - قال: وأحسبه قال: وأَعراضَكُم - عليكُم حرامٌ، كَحُرمةِ يومِكُم هذا في بَلدِكُم هذا في شَهرِكُم هذا، وسَتَلقَون ربَّكم تبارك وتعالى فيَسألُكُم عن أعمالِكُم، أَلَا لا تَرجعُونَ بعدي كُفَّارًا، أو ضُلَّالًا، يضربُ بعضُكُم رِقابَ بعضٍ، أَلَا هلْ بلَّغتُ، أَلَا لِيُبَلِّغ الشَّاهدُ الغائب منكُم، فلعلَّ مَن يبلَّغُه يكونُ أَوعى له من بعضِ مَن سَمِعَه". أخرجاه في "الصحيحين" (1).
ذكر الصيام بعرفة:
قال عطاء الخراساني: إن عبد الرحمن بن أبي بكرٍ دخلَ على عائشة يوم عرفةَ وهي صائمةٌ والماء يرشُّ عليها، فقال لها عبد الرحمن: أَفطِري، فقالت: أُفطِر وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ صومَ يومِ عَرَفَةَ يُكفِّر العامَ الذي قَبلَهُ"؟ أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه (2).
ولمسلم: عن أبي قتادةَ أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ الله، أرأيتَ صيامَ يومِ عرفةَ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحتَسِبُ على اللهِ أَن يُكفِّرَ السنَةَ الباقيَةَ والماضيةَ" (3).
وقد اختلف العلماء في صوم يوم عرفة للحاج.
فكرهه قوم لمعنَيَيْن: أحدهما: لأن الحجَّاج ضيوف الله تعالى، ولا يحسنُ صوم الضيف عند المُضيف، والثاني: ليتقوَّى الحاج على الدعاء.
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (20386)، والبخاري (4406)، ومسلم (1679).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24970).
(3) أخرجه مسلم (1162).
(4/217)
________________________________________
وقال ابن عمر: حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يَصُم يومَ عرفةَ، وحججتُ مع عُمرَ فلم يَصُمه (1).
وقالت أم الفضل زوجة العباس: شكَّ الناس في صيامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفةَ، فبعثتُ إليه بلبَنٍ فَشربَه وهو يخطُبُ الناسَ (2).
قال ابن عباس: إنما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لئلا يظنه الناس فرضًا، أما من كان قويًا على الدعاء فهو في صومه بالخيار.
وقالت عائشة رضوان الله عليها: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِن يَومٍ أكثرُ مِن أَن يَعتِقَ اللهُ فيهِ عبيدًا مِنَ النَّارِ مِن يَومِ عَرَفةَ، فإنَّه لَيَدنُو، ثم يُباهي بهمُ الملائِكَة، يقول: ماذا أَرادَ هؤلاءِ؟ " (3). انفرد بإخراجه مسلم.
وقال الواقدي: وقف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع عشرون ومئة ألف، قيل له: فمن أين كان هؤلاء؟ قال: من المدينة ومكة وما بينهما وحولهما من الأعراب، والمشهور: أنه وقف يوم الجمعة.
قال طارق بن شهاب: قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، إنكم لتقرؤون آية في كتابكم لو أنزلت علينا معاشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال عمر: أي آية هي؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] قال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، نزلت في يوم عرفة يوم الجمعة. انفرد بإخراجه البخاري (4).
ذكر دخوله - صلى الله عليه وسلم - البيت في حجة الوداع:
قالت عائشة رضوان الله عليها: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت، ثم خرج وعليه كآبة، فقلت: ما لك يا رسول الله؟ فقال: "فعلتُ اليومَ أَمرًا وَدِدتُ أنَّي لم أكن فَعلتُه، دخلتُ البيتَ، ولعلَّ الرجلَ مِن أمَّتي لا يقدرُ أن يدخلَه فينصرفُ وفي نفسِه منه شيءٌ، إنَّما
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (7829).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (26881).
(3) أخرجه مسلم (1348).
(4) أخرجه البخاري (7268).
(4/218)
________________________________________
أُمرنا بالطوافِ حولَه، ولم نُؤمَر بالدخولِ" (1).
وروى عروة، عن عائشة رضوان الله عليها: أنَّها كانت تحملُ ماءَ زمزمَ، وتُخبر أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحملُه (2).
واتفقَت الروايات: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر ثلاثًا وستين بدنة بيده، وأتمها علي رضوان الله عليه مئة.
وقال الواقدي: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين يُضحِّي كلَّ عامٍ ولا يحلقُ ولا يُقصِّر، حتى أجمع الخروج في سنة عشر إلى الحج، فخرج، وكان خروجه من المدينة يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة، فصلى الظهر بذي الحليفة ركعتين، وأحرم من يومه ذلك في ثوبين صُحاريَّين، وأبدلهما عند التنعيم بمثلهما من جنسهما، وحج معه نساؤه في الهوادج، ثم أصبح يُقَلِّد هَدْيَه، وأشْعَر بُدْنَه. وأمر ناجية بن جُندب الذي استعمله على الهدي أن يشعر الباقي، فكان مئة، وقال ناجية: يا رسول الله، ما عطب منها كيف أصنع به؟ قال: "تَنحَرهُ، وتُلقي قَلائدَه في دَمِه، وتضربُ به صَفحتَه اليُمنى، ثم لا تَأكُل منه لا أَنتَ ولا رِفقَتُك شيئًا"، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر المشاة أن يركبوا بدنه.
قال: وقالت عائشة: وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحد بمَلَل، ثم راح فتعشى بسرف، وأصبح بعِرْق الظبية بين الرَّوحاء والسيَّالة دون الروحاء في المسجد الذي عن يمين الطريق، ونزل الروحاء، ثم راح فصلى الظهر (3) بالمنصرف، ثم صلى المغرب والعشاء، وصلى الصبح بالأثاية، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج، ونزل السقيا يوم الأربعاء، ثم أصبح يوم الأربعاء فأهدى له الصعب بن جثامة حمار وحش أو عَجُزَ حمار، فرده، وقال: "إنَّا حُرُم" وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الذي ببطن وادي الأبواء، على يسارك وأنت متوجه إلى مكة، ثم راح من الأبواء فصلى بتَلَعات اليمن، ثم صلى في المسجد الذي يهبط من ثنية أراك (4) على الجحفة يوم الجمعة، ثم راح
__________
(1) "الطبقات" 2/ 162.
(2) أخرجه الترمذي (963).
(3) في "المغازي": "العصر" 3/ 1093.
(4) في النسختين (خ، أ): غزال، والمثبت من المغازي 3/ 1096.
(4/219)
________________________________________
منها، فصلى في المسجد الذي يحرم منه خارج الجحفة وهو دون خمٍّ عن يسار الطريق، فكان يوم السبت بقُدَيد، فصلى في المسجد المُشَلَّلِ، وصلى في المسجد الذي دون لَفَت وكان يوم الأحد بعُسْفان، ونزل يوم الاثنين بمرِّ الظهران، وغربت الشمس عليه بسَرِف، فلم يصل المغرب حتى دخل مكة، وقيل: دخل مكة نهارًا من كُدى على راحلته من أعلاها، ودخل المسجد من باب شيبة.
وقال العباس: كسا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت في حجته الحِبَرات، وقال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الثلاثاء فأقام الثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، وهو يوم التروية، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة يوم السبت، قال: وكانت قريش تدفع في الجاهلية من عرفة والشمس على رؤوس الجبال كهيئة العمائم، فخالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفع حين غربت الشمس (1).
قال الواقدي: حدثني [الثوري، عن] أيمن بن نابل، عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جمرة العقبة يوم النحر على ناقة صهباء لا ضَرْبَ، ولا طَرْدَ، ولا إليكَ إِليكَ (2).
قال: ثم حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، وقسمه بين أصحابه، فأعطى ناصيته لخالد بن الوليد، وشقه الأيمن أبا طلحة، وجلس للناس، فما سئل يومئذٍ عن شيء قدِّم أو أخِّرَ إلا قال: "افعله ولا حرج" (3).
وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسولَ الله، أين تَنزلُ غَدًا؟ في حجتهِ، فقال: "وهَل تَركَ لنا عقيلٌ منزلاً"، ثم قال: نحنُ نازلونَ غدًا إن شاء اللهُ بخِيفِ بَني كِنانَة، حيثُ حالَفَت قريشٌ على بني هاشِمٍ أن لا يُناكِحُوهم، ولا يُبايِعُوهم، ولا يُؤوهم"، ثم قال عند ذلك: "لا يَرثُ الكافرُ المسلمَ، ولا المسلمُ الكافِرَ". أخرجاه في "الصحيحين" (4).
__________
(1) "المغازي" 3/ 1088 - 1102، بتصرف من المصنف واختصار.
(2) "المغازي" 3/ 1107، وما بين معكوفين منه.
(3) "المغازي" 3/ 1108 - 1109 باختصار من المصنف.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (21766)، والبخاري (1588)، ومسلم (1351).
(4/220)
________________________________________
وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه عن عائشة رضوان الله عليها قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نَبني لك بمنًى بيتًا أو بناءً يُظلُّك من الشمسِ؟ فقال: "لا، إنَّما هو مَناخٌ لمَن سَبق إليه" (1).
وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن، [وكان قد بعثه قبل ذلك وعاد، فلما فصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حجة الوداع بعثه إليها] فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ باليمن.
وعن ابن عباس قال: لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن قال له: "إنَّك تَأتي قومًا أهلَ كتابٍ، فَادْعُهم إلى شَهادةِ أَن لا إلَه إلَّا الله، وأَنِّي رسول الله، فإنْ هُم أَطاعُوكَ لذلِكَ، فَأَعلِمْهم أَنَّ الله قد افْتَرضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ، وصدقةً في أموالهم تُؤخذ من أَغنيائهم وتُردُّ في فُقرائهم، وإيَّاك وكَرائمَ أَموالِهم، واتقِ دَعوةَ المظلومِ فإنَّها ليسَ بينها وبينَ الله حجابٌ". أخرجاه في "الصحيحين" (2).
وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه، عن معاذ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن خرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي تحتَ راحلتِه، فلما فرغ قال: "يا معاذُ، إنَّكَ عَسَى أن لا تَلْقاني بعدَ عامي هذا، ولَعلَّك تمرُّ بمسجدِي وقَبْري" فبكى معاذٌ خَشَعًا لفراقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم الْتَفت، فأقبلَ بوجهه نحو المدينةِ، وقال: "إنَّ أَوْلَى الناسِ بي المتَّقون مَن كانوا وحيثُ كانوا" (3).
وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه عنه أنه كان يقول: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال: "لعلَّك تمرُّ بقَبري ومسجدِي، قد بَعثتُكَ إلى قومٍ رَقيقةٍ قُلوبُهم، يُقاتِلونَ على الحقَّ مرتين، فقاتِل بِمَن أَطاعَكَ منهم مَن عَصاك، ثم يَفيئون إلى الإسلامِ حتى تُبادرَ المرأةُ زوجَها، والولدُ والدَه، والأخُ أَخاهُ، وانزِل بين الحيين السَّكون والسَّكاسِكِ" (4).
وفيها: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص إلى جَيْفَر وعبد ابني الجُلَنْدَى مَلِكَي
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (25541).
(2) أخرجه البخاري (1496)، ومسلم (19)، وما سلف بين معكوفين من (ك).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (22052).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (22053).
(4/221)
________________________________________
عُمان بعد رجوعه من حجة الوداع يدعوهما إلى الإسلام، قال عمرو: فلما قدمت البحرين بدأت بعبد، وكان أرقَّهما وأسهلهما خلقًا، وكان الكتاب مختومًا، فقال عبد: إن أخي أكبر سنًا مني، وهو الملك، ولكن أوصلك إليه، فأوصلني إلى جَيْفَر، فناولته الكتاب، فقرأه، ودفعه إلى أخيه عبد، وقال: أنا أضعف العرب إن ملَّكتُ ما في يَدي غيري، فقلت: أنا راجع غدًا، فلما كان من الغد دعاني، فأسلما، وخلَّيا بيني وبين الصدقة، فأخذتها من أغنيائهم، فدفعتها إلى فقرائهم.
قال ابن الكلبي: وهو آخر بعث بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفيها توفي
إبراهيم - عليه السلام - ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأمه مارية القبطية، يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الأول، وقيل: سلخه، وولد -عليه السلام - في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة، فكان عمره ستة عشر شهرًا [وبعضهم يقول: عاش شهرين وعشرة أيام، وهو وهم]، وغسّله الفضل بن العباس، وقيل: أم درة.
[وقال أحمد بإسناده، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وُلد لي الليلةَ غلامٌ فسميتُه إبراهيمَ ... " وقد ذكرنا أول الحديث في مولدِ إبراهيم في سنة ثمان، وإنه دفعه إلى أم سيف امرأة قين يقال له: أبو سيف ... وذكر الحديث، وقال في آخره: فلقد رأيته بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يكيد بنفسه، فدمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "تَدمعُ العينُ، ويَحزنُ القلبُ، ولا نقولُ إلَّا ما يَرْضَى ربُّنا، والله إنَّا بكَ يا إبراهيمُ لَمحْزُونُونَ" أخرجه مسلم بلفظه، والبخاري بمعناه مختصرًا، وفيه: إن عبد الرحمن بن عوف قال حين بكى: وأنت يا رسول الله؟ فقال: "يا ابنَ عوفٍ؛ إنَّها رَحمةٌ" (1)].
وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا إسماعيل، حدَّثنا أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن أنسٍ قال: ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان إبراهيم مُسترضعًا في عَوالي المدينة، فكان ينطلقُ ونحن معه، فيدخلُ البيتَ، وإنه ليُدَّخَن، وكان ظِئره قينًا فيأخذُه فيقبله، ثم يرجع. قال عمرو: فلما توفي إبراهيم، قال رسول الله
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (13014)، ومسلم (2315)، والبخاري (1303)، وما بين معقوفات زيادة من (ك).
(4/222)
________________________________________
- صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ إبراهيمَ ابني، وإنَّه ماتَ في الثَّدي، وإنَّ له ظِئرَيْن يُكْمِلان رَضاعهُ في الجنَّةِ" (1). ["القين": الحداد، و"الظئر": المرضع، وكانت امرأته ترضع إبراهيم فأضيف إليها].
وقد أخرجه ابن سعد بمعناه، وفيه: فقال له ابن عوف: هذا الذي تنهى الناسَ عنه؟ متى يراكَ الناسُ تبكي بكوا، فقال: "مَن لا يَرحَم لا يُرحَم، إنَّما أَنهى الناسَ عن النِّياحةِ، ولولا أنَّه وَعْدٌ جامِعٌ، وسبيلٌ مَيْثاء، وأنَّ آخرَنا لاحقٌ لأَوَّلنا، لوَجَدنا عليه وَجْدًا غيرَ هذا" (2). [قال الجوهري: "المَيْثاء بفتح: الأرض السهلة (3)، وفي رواية: "وإنها لسبيل مئتة"].
وقال البلاذري: لما قبض إبراهيم كان مستقبل الجبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا جبل لو كان بك مثل ما بي لهدَّك ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون" (4).
وللبخاري عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: رأيت إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، مات صغيرًا، ولو قُضي أن يكون بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيٌّ لعاشَ ابنه، ولكن لا نبيَّ بعده (5).
وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبر أربعًا، وقال: "هو صدَّيق، ادفنُوه عندَ سَلَفِنا الصالحِ عُثمان بن مظعونٍ" وجلس على شفير قبره ومعه عمه العباس، ونزل أسامة بن زيد في قبره، ورش عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قربة من ماء، ووضع عند قبره حجرين، وقبره إلى جانب الطريق قريب من دار عقيل (6).
وقال ابن سعد: صرخ أسامة بن زيد فنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: رأيتك تبكي، فقال: "البُكاءُ من الرحمةِ، والصُّراخُ من الشَّيطانِ" (7).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12102).
(2) الطبقات الكبرى" 1/ 114.
(3) "الصحاح": ميث.
(4) "أنساب الأشراف" 1/ 541 - 542.
(5) أخرجه البخاري (6194).
(6) "الطبقات" 1/ 117/ و"أنساب الأشراف" 1/ 540.
(7) "الطبقات" 1/ 115.
(4/223)
________________________________________
ورأى في قبره بين اللبن فرجة، فقال: "أَمَا إنَّ هذا شيءٌ لا يضرُّ ولا يَنفَعُ، ولكِنْ إذا عَمِلَ الرجلُ عَمَلًا يَنبغي أن يُتقنَهُ" (1).
وفي حديث أنس: فلقد رأيته بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يجود بنفسه، فدمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "تَدمعُ العينُ، ويَحزنُ القلبُ، ولا نَقُولُ إلا ما يُرضي الربَّ، واللهِ إنَّا بكَ يا إبراهيمُ لَمحْزُونُونَ" (2).
[وقال علماء السير]: وفي يوم وفاة إبراهيم - عليه السلام - انكسفت الشمس، [وقد روى حديث الكسوف جماعة من الصحابة: ابن عباس، وأبو موسى، وعبد الله بن عمر، وابن العاص، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبو بكرة، وعائشة، وفي بعضها: كسفت وخسفت الشمس، وفي بعضها انكسفت، قال: حدثنا أحمد بإسناده عن ابن عباس قال: خسفت الشمس ... وذكره، ولم يذكر فيه موت إبراهيم، وذكره في حديث] أبي بكرة فقال: مات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن يقال له: إبراهيم، فقال الناس في ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّهما آيتانِ من آياتِ الله، وإنَّهما لا ينكسفانِ لموتِ أَحَدٍ، فإذا رأَيتم ذلكَ فَصلُّوا وادعُوا حتى يُكشَفَ ما بكُم". انفرد بإخراجه البخاري (3).
وأخرجه أحمد أيضًا بإسناده عن أبي بكرة قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام يجر ثوبه مستعجلًا حتى أتى المسجد، وثاب الناس، فصلى ركعتين فجُلِّي عنها، ثم أقبل علينا فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله" وذكره (4).
وكان عروة بن الزبير يقول: لا تقل كسفت ولكن قل: خسفت (5).
وقال ثعلب: كسفت الشمس وخسف القمر، هذا أجود الكلام.
باذان
والي اليمن من قبل كسرى، وكان قد أسلم، وتوفي في ذي الحجة بعد رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجة الوداع، ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمن بين جماعة، وهم: شهر بن
__________
(1) "الطبقات" 1/ 119.
(2) "الطبقات" 1/ 116، وأخرجه البخاري (1303)، مسلم (2315).
(3) أخرجه البخاري (1040)، وما بين معقوفين زيادة من (ك).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (20390).
(5) أخرجه مسلم (905).
(4/224)
________________________________________
باذان، وعامر بن شمر الهمداني، وأبي موسى الأشعري، وخالد بن سعيد بن العاص، وبعث زياد بن لبيد على حضرموت، وعكاشة بن ثور على السكون والسكاسك (1).
أبو عامر الفاسق
واسمه عمرو بن صيفي، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، ودعى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أماتَ اللهُ الكاذِبَ منَّا طريدًا" فاستجاب الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فمات عند هرقل بالشام.
سعد بن خولة (2)
أبو سعيد، من الطبقة الأولى من المهاجرين، وهو من اليمن، وقيل: هو مولى أبي رُهْم، وقيل: مولى حاطب بن أبي بلتعة، وهو الذي مات بمكة بعد الهجرة، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حقه: "ولكن البائس سعد بن خولة" يرثي له أن مات بمكة بعد ما هاجر، هاجر سعد إلى الحبشة المرة الثانية، وشهد بدرًا وهو ابن خمس وعشرين سنة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: إنما شهد الحديبية، ثم رجع إلى مكة لأجل مال كان له بها فأدركه الموت، وله صحبة ورواية، وهو زوج سبيعة بنت الحارث.
قال مسلم: حدثنا أبو الطاهر، أنبأنا وَهْب، حدثني يونُس بن يزيد، عن ابن شهاب، حدثني عُبيد الله بن عبد الله بن عتبةَ، أنَّ أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سُبيعةَ بنتِ الحارث الأسلميةِ يسألُها عن حديثها وعن ما قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استفتته، فكتب إليه عمر بن عبد الله يخبرُه أن سُبيعةَ أخبرته أنَّها كانت تحت سعد بن خولة، وكان ممن شهد بدرًا، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعالت من نفاسها أو تعلت، تجملت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السَّنابل بن بَعْكَك، فقال لها: مالي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرًا، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت ثيابي علي حين أمسيت، وأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك، فأفتاني أني قد حللت للأزواج حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي. انفرد بإخراجه مسلم، وأخرجه البخاري مختصرًا (3).
__________
(1) "تاريخ الطبري" 3/ 228، و"المنتظم" 4/ 6.
(2) "الطبقات" 3/ 378، و"الإصابة" 2/ 24.
(3) أخرجه مسلم (1484)، والبخاري (3991) مطولًا بمثل رواية مسلم.
(4/225)
________________________________________
السنة الحادية عشرة
وفيها: جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد إلى الشام (1).
ولم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر مقتل زيد بن حارثة وجعفر وأصحابه، وكان قد وجد عليهم وجدًا شديدًا، فلما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد يوم الثلاثاء دعا أسامة بن زيد، فقال له: "يا أُسامةُ، سِرْ على اسمِ اللهِ وبركَتِه حتى تَنتهي إلى مَقتلِ أبيكَ، فأَوطئهم الخيلَ، فقد ولَّيتُك هذا الجيشَ، فاغزُ صباحًا على أهل أُبْنَى وحرَّق، وأَسرع السَّير تسبق الخيرَ، وخُذ معكَ الأدلَّاء، وقدِّم الطلائعَ أمامَكَ والعيونَ"، فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، بُدئ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرضُ، فصُدع، وحُمَّ، فلما أصبح يوم الخميس دعى أسامَة، فعقد له لواءً بيده، ثم قال: "يا أسامةُ، اغزُ بسمِ الله في سبيلِ الله، قاتلوا مَن كفَرَ باللهِ، ولا تَغدِروا، ولا تميلوا، ولا تَقتُلوا وَلِيدًا ولا امرأةً، ولا تتمنَّوا لقاءَ العدوِّ، فإنكم لا تدرونَ لعلكم تُبتلون بهم، ولكنْ قولوا: اللهمَّ اكففْ بأسهم عنَّا، فإن لَقُوكم وأَجْلَبوا فعليكم بالسَّكينةِ والوَقارِ والصَّمتِ، ولا تَنازَعوا فتَفشَلوا وتذهَبَ ريحُكُم، واعلموا أنَّ الجنَّة تحت البارقةِ" فخرج، فعسكر بالجُرْف، وكانوا ثلاثة آلاف من أعيان المهاجرين والأنصار فيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد - رضي الله عنهم -، وقتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم وغيرهم.
فقال رجال من المهاجرين منهم عياش بن أبي ربيعة: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين، وكثرت المقالةُ في ذلك، فجاء عمر رضوان الله عليه فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغضب غضبًا شديدًا، وخرج وقد عصَب رأسَه بعصابة، وعليه قَطِيفةٌ، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أمَّا بعد، فما مَقالةٌ بَلَغتني عنكم، أو عن بعضِكُم في تَأْمِيري أُسامةَ؟ واللهِ لئن طعنتُم في إمارتِه لقد طَعَنتُم في إمارَةِ أبيهِ من
__________
(1) "السيرة" 2/ 606 و 641، و"المغازي" 3/ 1117، و"الطبقات الكبرى" 2/ 170، و"تاريخ الطبري" 3/ 184، و"المنتظم" 4/ 16.
(4/226)
________________________________________
قَبلِه، وايمُ الله لقد كانَ خَليقًا بالإمارَةِ، وإنَّ ابنَه بعدَه لَخليقٌ بها، وإن كانَ أَبوه لَمِن أحبَّ الناسِ إليَّ، وإنَّ هذا كذلكَ، فاستَوصُوا به خَيرًا فإنَّه من خِيارِكُم". ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خَلَون من ربيع الأول، فقام الناس إلى أسامةَ، وخرجوا معه إلى الجُرْف (1).
قال هشام: إنما طعنوا فيه لأنه ابن مَولى، وكان صغير السنَّ، وقيل: إنما قال ذلك المنافقون. والله أعلم.
* * *
__________
(1) "المغازي" 3/ 1117 - 1119.
(4/227)
________________________________________
ذكر أبواب مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
الباب الأول
في بداية المرض [وما اعتراه من الألم، اتفقوا على أن ابتداءه المرض لليلتين خلتا من صفر كما حكينا عن الواقدي وغيره، وحكى الطبري أنه ابتدأ به في المحرم (1). وهو وهم.
ذكر استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لأهل البقيع:
قال هشام بن محمد، عن أبيه: وقيل قبل وفاته بليال استغفر لأهل البقيع.
فقال ابن سعد: حدثنا الواقدي بإسناده عن] أبي مُوَيهبة قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي قد أُمرتُ أن أَستغفرَ لأهلِ البَقيعِ، فانْطَلِق معي" فانطلقنا ليلًا، فاستَغفَر لأهلِه، فقال: "السَّلام عليكم يا أَهلَ المقابِرِ، لِيَهْنِكُم ما أنتُم فيه مِمَّا النَّاس فيه، جاءَت الفِتَنُ كقِطَع اللَّيل المُظلمِ يَركَبُ بعضُها بعضًا، الآخرة شَرٌّ مِن الأُولى" ثم قال: "يا أَبا مُويهبة، إنَّ اللهَ خيَّرني بينَ لِقائهِ والجنَّة، وبين مَفاتيحِ كنوزِ الدنيا والخُلدِ فيها والجنَّة، فاخترتُ لقاءَه في الجنَّةِ" قال أبو مُوَيهبة: فقلت: بأبي أنت وأمي، فخذ مَفاتيح خزائن الدنيا والخُلد فيها ثم الجنة، فقال: "لقد اختَرتُ لقاءَ ربِّي" ثم انصرف، فلما أصبح ابتدأ بوجَعه الذي قَبَضه الله فيه (2)، [فمكث سبعًا أو ثمانيًا.
وقال ابن إسحاق: وكان أول ما ابتدأ به مرضه أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل، فاستغفر لأهله، فلما أصبح ابتدأ به الوجع من يومه ذلك (3).
وقال ابن إسحاق بإسناده عن] عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصدَع، وأنا أَشتكي رأسي، فقلت: وَارَأساهُ، فقال: "بَل أَنا يا عائشةُ وارَأسَاهُ"، ثم قال: "وما عليك لو متَّ قَبلي تَولَّيتُ أمركِ، وصلَّيتُ عليكِ، ووَاريتُكِ" فقلت: والله إني لأحسبُ لو كان ذلك لقد خلوت ببعضِ نسائك في بَيتي في آخر النَّهارِ فأَعْرَست
__________
(1) "تاريخ الطبري" 3/ 185.
(2) "الطبقات" 2/ 182، وأخرجه أحمد في "مسنده" (15997)، وما بين معقوفين زيادة من (ك)، وما يأتي منها ولن أشير إليه.
(3) "السيرة" 2/ 642.
(4/228)
________________________________________
بها، فضحكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تَمادى به وجعه (1).
[قلت: وقد احتج الشافعي وأحمد بهذا الحديث على أنه يحل للرجل أن يغسل زوجته].
وقال يحيى بن سعيد: سمعت القاسم بن محمد يقول: قالت عائشة: وَارَأسَاهُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانَ وأَنا حيٌّ فأَستَغفِرَ لك، وأَدعوَ لكِ" فقالت عائشة: واثكلاه، والله إنَّي لأظنك تحب موتي، ولو كانَ ذلك لظِلْتَ آخر يومكَ معرَّسًا ببعضِ أَزواجك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَل أَنا وَارَأسَاهُ، لقد هَمَمت، أو أردتُ، أن أُرسِلَ إلى أبي بكر وابنهِ، وأَعهَدَ أن يقول القائِلُونَ، أو يتمنَّى المتمنّون، ثم قلتُ: يأَبى اللهُ ويَدفَعُ المؤمنونَ، أو يدفعُ اللهُ ويأَبَى المؤمنونَ" انفرد بإخراجه البخاري (2).
وأخرجه أحمد رحمة الله عليه عنها، وفي آخره: "ادعُوا إلي أَباكِ وأَخاك حتى أكتُبَ كِتابًا، فإنِّي أخافُ أن يقولَ قائلٌ أو يَتمنَّى مُتمنِّ، ويأبى اللهُ والمؤمنونَ إلَّا أَبا بكرٍ" (3).
وأخرجه أيضًا أحمد رحمة الله عليه وفيه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ثقل قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: "ائتِني بكَتِفٍ أو لَوحٍ حتى أَكتُبَ لأبي بكرٍ كتابًا لا يُختَلَفُ عليه" فلما ذهبَ عبد الرحمن ليقومَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبى الله والمؤمنونَ أن يُختَلَف عليك يا أبا بكرٍ" (4).
وقال هشام: صدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة، ثم اشتد به المرض في بيت ميمونة، فاستأذنَ نساءه أن يمرّض في بيت عائشة فأذنَّ له.
وفي هذا المرض دخلت عليه فاطمة - عليها السلام -.
[قال أحمد بإسناده عن مسروق، عن] عائشة - رضي الله عنها - قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن
__________
(1) "السيرة" 2/ 642 - 643، وأخرجه أحمد في "مسنده" (25908).
(2) أخرجه البخاري (5666).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (24751) من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة، وهو عند مسلم (2387) من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24199).
(4/229)
________________________________________
مشيتها مشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَرحبًا بابنَتي" ثم أجلسها عن يمينه، أو عن يساره، ثم إنه أسر إليها حديثًا، فبَكَت، ثم أسرَّ لها حديثًا، فضحكَت، فقلت لها: ما رأيت كاليوم فرحًا أقربَ من حزن، ما الذي أسرَّ إليك؟ فقالت: ما كنت لأُفشي سرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا قُبض سألتها، فقالت: إنَّه أسرَّ إليَّ: "أنَّ جبريل كان يُعارضُني بالقرآنِ في كلِّ عامٍ مرَّةً، وإنَّه عارضَني العامَ مرَّتينِ، ولا أَراه إلا قد حَضَر أَجلي، وإنَّك أَول من يَلحقُني من أهل بيتي، ونعم السَّلف أنا لكِ" فبكيتُ لذلكِ، ثم قال: "ألا تَرضي أن تكوني سَيدة نساءِ هذه الأُمة [أو سيدة نساء المؤمنين] ", فضحكت لذلك. [أخرجاه في "الصحيحين"، وليس لفاطمة في الصحيح غيره (1).
وقال هشام ابن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح عن] ابن عباس: دخلت فاطمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه، فجعلت تبكي، وتقول: بأبي أنت وأمي، وأنت والله كما قال القائل:
وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه
فأفاق، وقال: "هذا قولُ عمَّك أبي طالبٍ" ثم قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} الآية [آل عمران: 144]، ثم قال: "وَاكَرباهُ" فقالت: واكربَ أبَتاه، فقال لها: "لا كَربَ على أبيكِ بعدَ اليومِ".
ذكر صلاة أبي بكر - رضي الله عنه - بالناس وما يتعلق بمرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
[قد روت عائشة في هذا الباب حديثًا طويلًا جامعًا كثير الروايات، قال أحمد: حدَّثنا عبد الرحمن بن مهدي، بإسناده، عن] عبيد الله بن عبد الله قال: دخلتُ على عائشة، فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: بلى، ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صَلَّى الناسُ؟ " فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: "ضَعُوا لي ماءً في المِخْضَب" ففعلنا، فاغتسل، وذهب ليَنُوءَ، فأُغمي عليه، ثم أفاق، فقال: "أَصَلَّى الناسُ؟ " قلنا: هم ينتظرونك، فقال: "ضَعُوا لي ماءً في المِخْضَب"، فوضعناه له، فاغتسل، ثم ذهب ليتوضأ فأُغمي عليه، فعل ذلك ثلاثًا، وفي كلِّ مرة يغمى عليه،
__________
(1) مسند أحمد (26413)، وصحيح البخاري (3623)، وصحيح مسلم (2450).
(4/230)
________________________________________
والناس عُكُوف في المسجد ينتظرونه لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله إلى أبي بكر أن يصلِّي بالناس، وكان أبو بكر رجلًا رقيقًا، فقال: يا عمرُ، صلَّ بالناس، فقال له عمر: أنتَ أحقُّ بذلك، فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدَ خفَّةً، فخرج بين رجلين أحدهما العباسُ لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخَّر، فأومأ إليه أَن لا يتأخَّر، وأمرهما فأجلساه إلى جنبِه، فجعل أبو بكر يصلَّي قائمًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلَّي قاعدًا، قال: فدخلت على ابن عباس، فقلت: أَلَا أعرضُ عليك ما حدثتني به عائشة عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال. هات، فحدثته، فما أنكَرَ منه شيئًا، غير أنه [قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا] قال: هو عليٌّ (1).
[طريق آخر:
قال أحمد بإسناده، عن الأسود، عن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بلال يُؤْذنه بالصلاة، فقال: "مُرُوا أَبا بكرٍ فَلْيُصلَّ بالناسِ" قالت: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقوم مقامك لا يُسمعُ الناس، فلو أمرت عمر، فقال: "مُرُوا أبا بكرٍ فَلْيُصلِّ بالناسِ" قالت: فقلت لحفصة: قولي له مثل ما قلتُ له، فقال: "إنَّكنَّ لأنتنَّ صَوَاحبُ يوسف، مُرُوا أبا بكرٍ فَلْيُصلِّ بالناس" قالت: فأمروا أبا بكر فصلى بالناس، فلما دخل في الصلاة، وجد رسول الله من نفسه خِفَّةً، فقام يهادَى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسَّه ذهب ليتأخر، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قم كما أنت، وجاء رسول الله فجلس عن يسار أبي بكر، وكان رسول الله يصلي قاعدًا وأبو بكر قائمًا يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يقتدون بصلاة أبي بكر (2).
والأسيف: السريع الحزن والبكاء].
وقال عبد الله بن زمعة: دخلتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعودُه، فقال: "يا عبدَ اللهِ، مُرِ النَّاسَ بالصلاةِ" فخرجتُ فرأيتُ رجالًا، لم أُكلمهم حتى رأيتُ عمرَ، فقلت: صل بالناس، فلما كبر سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبيره، فأخرج رأسه من حجرته، وقال: "لا لا
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (26137)، والبخاري (687)، ومسلم (418).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (25761)، والبخاري (664)، ومسلم (418) (96).
(4/231)
________________________________________
لا" قالها ثلاثًا وهو مغضب، ثم قال: "ليُصَلَّ بالناسِ ابن أَبي قُحافةَ" فانصرف عمر، وقال: يا ابنَ أخي، أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تَأمُرني؟ قلت: لا، ولكنه قال لي: "يا عبدَ اللهِ، مرِ النَّاسَ بالصلاةِ" فلما رأيتك لم أبغ مَن وراءك، فقال: ما ظننتُ إلَّا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرك أن تأمرني، ولولا ذلك ما صليتُ (1).
وعن أنس: أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - كان يصلِّي بالناس في وجعِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي توفِّي فيه، فلما كان يوم الاثنينِ وهم صُفوفٌ في الصلاة كَشَف رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سِتْرَ الحُجرةِ ينظرُ إلينا وهو قائمٌ كأَنَّ وجهَهُ ورقةُ مصحفٍ، ثم تَبسَّم يضحكُ، فهممنا أن نفتتنَ من الفَرَح برؤيتهِ، فنكصَ أبو بكرٍ على عقبَيْه ليَصِلَ الصفَّ ظنًّا منه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجٌ إلى الصلاة، فأشارَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتمُّوا صلاتكم، وأرخى الستر، وتوفِّي من يومهِ. أخرجاه في "الصحيحين" (2).
وفي "الصحيحين": أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَهرِيقُوا عليَّ سبعَ قُرَبٍ لم تُحْلَل أَوكِيَتهنَّ لعلَّي أعْهَدُ إلى الناسِ" قالت عائشة - رضي الله عنها -: فأجلسناه في مخضب، وطفقنا نصبُّ عليه من تلك القُرب حتى طَفِقَ يشيرُ إلينا بيدهِ: أن قَد فعلتنَّ، ثم خرج إلى الناس، فخطبَ (3).
وقالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوِّذ بهذه الكلمات: "أَذهِب الباسَ ربَّ الناسِ، اشْفِ فأنتَ الشَّافي شِفاءً لا يُغادِرُ سَقَمًا" قالت: فلما ثَقُل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضهِ أخذتُ بيده، فجعلتُ أمسحهُ بها، وأقولها، فنَزَع يدَه مني، ثم قال: "ربِّ اغْفِرْ لي، وألحِقْني بالرَّفيقِ الأَعلَى" فكان هذا آخر ما سمعت من كلامه (4). [وفي لفظ: كان رسول الله إذا اشتكى يقرأ على نَفْسِه بالمعوِّذات وينفث] (5).
وقال [البخاري: بإسناده عن] عروة عن عائشة: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل في مرضهِ
__________
(1) "الطبقات" 2/ 195.
(2) أخرجه البخاري (679)، ومسلم (418).
(3) أخرجه البخاري (198)، ومسلم (418) (91) مختصرًا، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (3215).
(4) أخرجه البخاري (5750)، ومسلم (2191) وقولها: فكان هذا آخر ما سمعت من كلامه، أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 187، وابن ماجه (1619).
(5) أخرجه البخاري (5016)، ومسلم (2192) (51).
(4/232)
________________________________________
الذي مات فيه: "أَينَ أنا غَدًا، أَينَ أنا غَدًا؟ " يريدُ يوم عائشة، فأذنَّ له أزواجُه يكونُ حيثُ شاء، فكان في بيت عائشةَ حتى مات عندها، قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدورُ عليَّ فيه في بيتي وإن رأَسه لبينَ سَحري ونَحري، وخالطَ ريقُه رِيقي، قالت: ودخلَ عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواكٌ يستنُّ به، فنظرَ إليه رسول الله، فقلتُ له: أعطني هذا السواكَ يا عبد الرحمن، فأَعطانِيه، فقَضمتُه، ثم مَضَغتُه، فأعطيتُه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستَنَّ به وهو مستند إلى صدري (1). ["السحر": - بفتح السين - الرئة وما يتعلق بها، وهذه الطرق كلها في "الصحيحين"].
وقالت عائشة رضوان الله عليها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لم يُقْبَضْ نبيٌّ قطُّ حتى يَرَى مقعَدَه من الجنَّةِ، ثم يُخيَّر" فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذي غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: "اللهمَّ الرَّفيقَ الأَعلَى" فقلت: إنَّه كان حديثه الذي كان يحدثنا به (2).
وقالت: ما رأيت الوجع أشد على أحد منه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
[وقال البخاري: بإسناده، عن عائشة أنها كانت تقول: إن من نعم الله أن رسول الله توفي ببيتي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت]. وقالت: كان بين يديه رِكوَةٌ أو عُلبَةٌ فيها ماءٌ، فجعلَ يُدخلُ يدَه فيها، ويمسَحُ بالماءِ وجهَهُ، ويقول: "لا إِلَه إلَّا اللهُ، إنَّ للموتِ سَكَراتٍ" ثم نصبَ يدَه، فجعل يقول: "في الرَّفيقِ الأَعلَى" حتى قُبضَ ومالَت يدُه (4).
وقالت: ماتَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وإنَّه لبين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدًا بعدما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5).
وعن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُدخِلُ يدَه في قَدَح فيه ماءً ويقول: "اللهمَّ
__________
(1) أخرجه البخاري (4450)، ومسلم (2443) مختصرًا.
(2) أخرجه البخاري (4463)، ومسلم (2444) (87).
(3) أخرجه البخاري (5646)، ومسلم (2570).
(4) أخرجه البخاري (4449).
(5) أخرجه البخاري (4446).
(4/233)
________________________________________
أَعِنِّي على سَكَراتِ الموتِ" (1).
[وفي المتفق عليه عنها] قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضهِ الذي لم يَقُم منه: "لعنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، فإنَّهم اتَّخَذوا قُبُورَ أَنبيائهم مساجد". وقالت: ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا فحذَّرهم مثل ما صنعوا (2).
[وهذا الحديث كثير الروايات.
واختلفوا: كم صلى أبو بكر بالناس في مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ على قولين:
أحدهما: تسع عشرة صلاة. ذكره ابن حبيب الهاشمي.
والثاني: خمس عشرة صلاة. ذكره الواقدي، وثلاثة أيام لم يصلَّ فيها رسول الله].
وقالت: ما رأيت أحدًا كان أشد عليه الوجع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
[وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو موعوك عليه قطيفة، فوضع يده عليه فوجد حرارتها فوق القطيفة] فقلت له في ذلك، فقال: "نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء، ثم الأمثل فالأمثل، وكما يشدد علينا البلاء يضاعف لنا الأجر" (4).
وقال ابن إسحاق: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه إذا أدير على نسائه يحمل في ثوب يأخذ أطرافه الأربعة مواليه أبو مُوَيهبة، وشُقران، وثوبان، وأبو رافع حتى استقر في بيت عائشة.
وفي هذا المرض لدُّوه:
فيروى عن عائشة قالت: لدَدْنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه، فأشار أن لا تلدُّوني، قلنا: كراهية المريض الدواء، فلما أفاق قال: "أَلَم أَنْهَكُم أَن تَلُدُّوني؟ لا يَبْقَى منكم أحَدٌ إلَّا لُدَّ غير العباس فإنه لم يشهدكم". انفرد بإخراجه البخاري (5).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (24356).
(2) أخرجه البخاري (435)، ومسلم (529).
(3) أخرجه البخاري (5646)، ومسلم (2570) وسلف قريبًا.
(4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 185، وما بين معقوفين زيادة منه.
(5) أخرجه البخاري (5712).
(4/234)
________________________________________
قال [أحمد بإسناده عن] هشام بن عروة: أخبرني أبي أن عائشة قالت له: يا ابن أختي، لقد رأيت من تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه أمرًا عجيبًا، وذلك لأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَت تأخذُه الخاصِرة، فيشتدُّ به جدًا، فكنَّا نقول: أخذَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عرقُ الكلية لا نهتدي أن نقول الخاصرة، ثم أخذت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فاشتدَّت به حتى أغمي عليه، وخفنا عليه، وفزع الناس إليه، فظننا أن به ذات الجنب، فلَدَدْناه ثم سُرَّي عنه، وأفاق، فعرف أنه قد لُدَّ، ووجد أثر اللدود، فقال: "ظَنَنْتُم أنَّ اللهَ سَلَّطها عليَّ؟ ما كانَ اللهُ ليفعلَ ذلك، أَمَا والذي نَفسِي بيَدِه، لا يَبْقَى في البيتِ أَحدٌ إلَّا لُدَّ، إلَّا عمَّي العباسُ" فرأيتهم يلدونهم رجلًا رجلًا، وبلغ اللدود أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلدت امرأة امرأة، حتى بلغ اللدود امرأة منا [فقال ابن الزناد: لا أعلمها إلا ميمونة، قال: وقال بعض الناس: أم سلمة] قالت: إني والله صائمة، فقلنا: بئس ما ظننت أنا نتركك وقد أقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلددناها وإنها لصائمة (1)، [وفي رواية: فقالت أم سلمة: هذا من دواء الحبشة لُدُّوه، فلدَّ بالكُسْتِ والزيت.
وفي رواية الواقدي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كانَ اللهُ ليُسَلِّطَها على رسولهِ، إنَّها هَمزَةٌ من الشيطانِ، ولَكِنَّها من الأَكلَةِ التي أَكَلتُ بخيبرَ" وكانت عنده أم بشر بن البراء ابن معرور، فقال: "هذه مِنَ الأَكلَةِ التي أَكلتُ أَنا وابنُك، ما زالَتْ تُعاوِدني وهذا أَوانُ قطَعَت أَبهَرِي" (2).
و"الأبهر": عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه.
وقال الجوهري: "اللَّدود": هو ما يُصَبُّ من الأدوية في أحد شِقَّي الفم (3).
وقال الزجاج: هو مثل السُّعوط يكون من الكست والزيت].
وقال الزهري: الذي لد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العود الهندي والزيت.
وفي هذا المرض صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر، وذكر التخيير.
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (24870).
(2) "الطبقات" 2/ 208.
(3) الصحاح (لدد).
(4/235)
________________________________________
قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا أبو عوانةَ، عن عبد الملك بن عُمير، عن ابن أبي العلاءِ، عن أبيه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطَبَ يومًا فقال: "إنَّ رجلًا خيَّره ربه عز وجل بينَ أن يَعيشَ في الدُّنيا ما شاءَ أن يَعيشَ فيها، ويَأكُلَ منها ما شاءَ أن يَأكُلَ، وبينَ لقاءِ ربِّه، فاختارَ لقاءَ رَبِّه"، قال: فبَكى أبو بكر، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تعجبون من هذا الشيخ يبكي أن ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا صالحًا خيَّره ربه بين لقائه وبين الدنيا، فاختار لقاء ربه، وكان أبو بكر أعلمهم بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر: بل نفديك يا رسول الله صلى الله عليك بأموالنا وآبائنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنَ الناسِ أَحَدٌ أَمنَّ علينا في صُحبتِه وذاتِ يَدهِ مِنِ ابنِ أَبي قُحافَةَ، ولو كُنتُ متَّخذًا خَليلًا اتَّخذتُ ابنَ أبي قُحافَةَ، ولكنْ ودٌّ وإخاءُ إيمانٍ - قالها مرتين - ولكنْ صاحبُكم خليلُ اللهِ تعالى" (1).
وفي هذا المرض نبغ مسيلمة والأسود العنسي [حدثنا أبو الطاهر الخزيمي بإسناده] عن ابن عباس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه عاصبًا رأسه، فصعد المنبر، فحمد الله، وقال: "أيُّها الناسُ، رأيتُ في مَنامي كأنَّ سِوارَيْن مِن ذَهَبٍ في يَدِي، فَكَرِهتُهما، فَنَفختُهما، فطارَا، فأَوَّلتُهما هذين الكذَّابين: صاحبِ اليمامَةِ، وصاحبِ اليمنِ" (2).
وفي هذا المرض اقتصَّ من نفسه - صلى الله عليه وسلم -.
[قال ابن سعد بإسناده، عن جعفر بن برقان، حدثني رجل من أهل مكة قال: ] دخل الفضل بن العباس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه، فقال: "يا فضلُ، اشْدُد رأسي بهذه العِصابةِ"، فشدّه، وأخذ الفضلُ بيده، فدخل المسجد، وصعدَ المنبرَ، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أَيُّها الناسُ، إنَّما أَنا بشَرٌ مثلُكُم، فأَيُّما رجلٍ جَلدتُ له ظَهْرًا فَهذا ظَهرِي، وأَيُّما رجلٍ أَصبتُ من عِرضِه فهذا عِرضي، ومِن بَشَرِه فهذا بَشَري فلْيَقتصَّ منِّي، أو مِن مالِه فَهذا مَالي، واعْلَمُوا أنَ أَوْلَاكُم بي رجلٌ كانَ له مِن ذلك شيءٌ فأخَذَه وحلَّلني، فَلقيتُ ربَّي وأنا محلَّل، ولا يقولُ أَحدُكُم: إنِّي أخاف العَدَاوةَ والشحناءَ من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فإنَّهما ليسَا من طَبيعَتِي ولا من خُلُقي" فقام رجل،
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (159922).
(2) أخرجه البخاري (3621)، ومسلم (2274)، وعندهما عنه عن أبي هريرة، وانظر "المسند" (2373).
(4/236)
________________________________________
فقال: يا رسول الله، إنَّك أخذتَ منِّي ثلاثةَ دراهمَ، فتصدَّقت بها على مسكينٍ، فقال: "يا فضلُ، أعطهِ إيَّاها" (1).
[قال كثير بن هشام: وإنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعريف الأمة، أن من فعل ذلك ظلمًا ينبغي له أن يؤدَّب، ] وإلَّا فهو منزه عن الظلم.
قلت: وقد أخرج جدي رحمه الله في "الموضوعات" بإسناده عن وهب بن منبه حديثًا من هذا الجنس، وفيه: فقام عكاشة بن محصن فقال: إنك ضربتني بقضيب وأريد القصاص، وأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحضر قضيبًا وأمره أن يقتص منه، وذكر ألفاظًا ركيكة ومعاني سمجة وحديثًا طويلًا.
ثم قال جدي في آخره: هذا حديث موضوع محال، كافأ الله مَن وضعه، وقبَّح من شيَّن الشريعة بمثل هذا التخليط البارد والكلام الذي لا يليق بمثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، والمتهم بوضعه عبد المنعم بن إدريس، قال أحمد بن حنبل: كان يكذب على وهب، وقال يحيى: عبد المنعم كذاب خبيث، وقال ابن المديني وأبو داود: ليس بثقة (2).
* * *
__________
(1) "الطبقات" 2/ 223 - 224.
(2) "الموضوعات" (559).
(4/237)
________________________________________
الباب الثاني: في ذكر وصيته عليه الصلاة والسلام لأصحابه وأتباعه وأحبابه
قال ابن سعد: حدثنا الواقدي، حدثنا عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن ابن مسعود قال: نعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلينا نفسه قبل موته بشهر، جمعنا في بيت أمِّنا عائشة، ونظر إلينا، فدمعت عيناه، وقال: "مَرحَبًا بكُم، حَيَّاكُم اللهُ بالسَّلامِ، رَحِمَكُم اللهُ، آَوَاكُم الله، حَفِظَكم اللهُ، رَفَعكُم اللهُ، نَصَركُم اللهُ، نَفَعكُم اللهُ، وَفَّقكُم اللهُ، هَداكُم اللهُ، سَلَّمكُم اللهُ، وَقاكُم اللهُ، [أيّدكم الله] أوصيكُم بتَقْوَى الله، وأُوصي اللهَ بكُم، وأَستَخلِفُه عليكم، وأُحذِّركُم اللهَ، إنَّني لكُم منه نذيرٌ وبشيرٌ، ألَّا تَعلُوا على الله في عبادِه وبلادِه، فإنَّه هو القائل: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: 83] "، قال: فقلنا: يا رسول الله، متى الأجل؟ قال: "قد دَنَا، والمُنقَلَبُ إلى اللهِ وإلى سِدْرَةِ المُنْتَهى وجَنَّةِ المَأْوى والفردَوْسِ الأَعلى" قلنا: يا رسول الله، من يُغسَّلك؟ قال: "رجالُ أهلِ بَيْتِي، الأَدْنَى فالأَدْنَى" قلنا: يا رسول الله، ففيم نكفَّنكَ؟ قال: "في ثِيابِي هذه إن شِئتُم أو حُلَّة يمَانية أو بَياض مصرَ" قلنا: فمن يصلَّي عليك، وبَكَينا، فقال: "مَهْلًا رحمَكُم اللهُ، وجَزَاكم اللهُ عن نبيَّكُم خيرًا، إذا وضَعتُموني على سَريري بعدَ أن تغسَّلُوني وتُكفَّنوني، فَضَعُوني على شَفيرِ قَبري، ثم اخرجُوا عنِّي ساعةً، فأول مَن يصلِّي علي خَلِيلي وحَبيبي جبريلُ" وفي رواية: "الله تعالى، ثم ميكائيلُ، ثم إِسْرافيلُ، ثم ملَكُ الموتِ مع ملائكةٍ كثيرةٍ، ثم ادخُلُوا عليَّ فَوجًا فَوجًا، فصلُّوا عليَّ وسلَّموا تسليمًا، ولا تؤذوني بصيحة ولا برَنَّة، وليبدأ بالصلاةِ عليَّ رجالُ أهل بَيتي، ثم نِساؤُهم، ثم أَنتُم، وأقرِؤُوا السَّلام عنِّي مَن غابَ من أَصحابي ومَن تَبعَني على ديني من يَومي هذا إلى يوم القيامةِ، أَلَا وإنِّي أُشهِدُكُم أنَّي قد سَلَّمت على كلِّ من دخل في الإسلام إلى يومِ القيامةِ"، وفي رواية: فقلنا: من يدخلك قبرك؟ فقال: "أَهلي مع ملائكة كثيرة"، قلنا: وإلى أين المصيرُ؟
(4/238)
________________________________________
فقال: "إلى الرَّفيقِ الأَعَلى، والعيش الأهنأَ، والكأس الأَوفى" (1).
قلت: وهذه الوصية العامة، فأما الخاصة فقال ابن سعد بإسناده، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته: "ادع لي عليًا، أو أخي عليًا"، فدعي له، فقال: "ادن مني" قال علي: فدنوت منه فاستند إليّ، فلم يزل يكلمني حتى إن بعض ريقه ليصلني، قال: ثم ثقل في حجري فصحت: يا عباس أدركني فإني هالك، فجاء العباس فكان جهدنا أن أضجعناه (2).
وقد أنكرت عائشة أنَّ عليًا كان وصيًّا، فقالت: متى أوصى إليه، فقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت: في حجري، فدعا بالطست، فلقد انخنث في صدري وما شعرت أنه مات، فمتى أوصى إليه، أخرجاه في "الصحيحين" (3). ومعنى "انخنث": انثنى.
وقد ردَّ ابن عباس هذا وأنَّ رسول الله توفي بين سحرها ونحرها، قال: والله لقد توفي وإنه لمستند إلى صدر علي، وهو الذي غسله وأخي الفضل بن العباس (4).
وروى ابن إسحاق، عن الشعبي قال: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه في حجر علي بن أبي طالب (5).
وقال محمد بن إسحاق في "المغازي" في أولها: حدثنا عبد الله بن عينية العبدي، عن وهب بن كعب بن عبد الله بن سور الأزدي (6)، عن سلمان الفارسي قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، ليس من نبي إلا وله وصي، فمن وصيك؟ فقال:
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 2/ 224 - 225، وجاء بعدها في (ك): وقد ذكر الواقدي بمعناه. وما سيرد بين معكوفين منها.
(2) "الطبقات" 2/ 230.
(3) أخرجه البخاري (2741)، ومسلم (1636).
(4) "الطبقات" 2/ 230 - 231.
(5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 230 عن الواقدي.
(6) كذا جاء في (ك)؟ ! وأخرجه الطبري في تفسيره 20/ 368 من طريق يونس بن بكير، عن عُتْبة بن عُتَيْبَة البصري العبدي، عن أبي سهل، عن وهب بن عبد الله بن كعب بن سور، مختصرًا.
(4/239)
________________________________________
"إن الله بعث أربعة آلاف نبي كان لهم أربعة آلاف وصي، وثمانية آلاف سبط، والذي نفسي بيده لأنا خير النبيين، وإن وصيي لخير الوصيين، وسبطاي خير الأسباط.
وقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: إن علي بن أبي طالب لأقرب الناس عهدًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا به في مرضه، فناجاه طويلًا وأوصاه بما أراد (1).
وأخرج أحمد رحمة الله عليه عن أنس قال: قلنا لسلمان: من كان وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فسأله سلمان] عن ذلك فقال: "مَن كانَ وصيَّ موسى"؟ قلت: يوشع بن نون، فقال: "إنَّ وصيّي ووارِثي ومُنجِزَ وَعدِي عليُّ بنُ أبي طالبٍ" (2).
وقال الإمام أحمد - رحمة الله عليه -: حدثنا حجاج، حدثنا مالك بن مغول، أخبرني طلحة قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا، قلت: كيف أمر المؤمنين بالوصية [ولم يُوصِ؟ قال: أوصى بكتاب الله. أخرجاه في "الصحيحين" (3).
أشار ابن أبي أوفى إلى الوصية] التي كتبها الله في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] فكانت الوصية فرضًا ثم نسخت بآية الميراث.
قال المصنف - رحمه الله -: وقد أخرج الحميدي حديث عبد الله بن أبي أوفى في "الجمع بين الصحيحين"، وقال على أثره: وقد أخرجَ أبو مسعود والبَرقاني في هذا الحديث زيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم، وهي أن هزيل بن شرحبيل قال: أبو بكرٍ يتأمَّر عَلَى وصيَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ودَّ أبو بكر لو وَجَد عهدًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَخُزِمَ أنفُه بخِزَامةٍ (4).
* * *
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (26565).
(2) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1052).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (19123 والبخاري (2740)، ومسلم (1634).
(4) الجمع بين الصحيحين (822)، وقد أخرج هذه الزيادة أحمد في "مسنده" (19408).
(4/240)
________________________________________
الباب الثالث: في ذكر ما أعتق - صلى الله عليه وسلم - في مرضه وما تصدق به
[قال علماء السير]: أعتق جميع أعبده في موضه وإمائه [وسنذكرهم فيما بعد]، ولم يكن عنده سوى ستة دنانير، فأخرجها، [قال ابن سعد بإسناده، عن عائشة]: غُشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه، فلما أفاق قال لها: "هل أنفقت ذلك الذهب؟ " قالت: قلت: لا، قال: "فعليَّ به"، فجئته به، فوضعه في كفه، وعده، فإذا هو ستة دنانير، فقال: "ما ظن محمد بربه أن لو لقي الله وهذه عنده؟ " فأخرجها، وتوفي في ذلك اليوم (1).
* * *
__________
(1) طبقات ابن سعد 2/ 209.
(4/241)
________________________________________
الباب الرابع: في ذكر وفاته [والكتاب الذي أشار إليه قبيل مماته ونحو ذلك:
ذكر الواقدي في "المغازي" وقال: ] لما كان يوم السبت عاشر ربيع الأول جاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَنفِذُوا جيشَ أُسامَةَ" ودخلت عليه أم أيمن، فقالت: يا رسول الله لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل، فإنّ أسامة إن خرج على حاله هذه لم ينتفع بنفسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنفِذُوا بعثَ أُسامَةَ" فمضى الناس إلى المعسكر، فباتوا ليلة الأحد، ونزل أسامة يوم الأحد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثقيل مغمور، وهو اليوم الذي لَدُّوه فيه، فدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعيناه تَهْمُلان، وعنده العباس، والنساء حوله، فطأطأ عليه أسامة فقبله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم، وجعل يرفع يديه إلى السماء، ثم يصبهما على أسامة، يدعو له، وغدا أسامة إلى معسكره، فلما أصبح يوم الاثنين غدا من معسكره، وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُفيقًا، فجاء أسامة يُودِّعه، فقال: "اغْدُ على بَرَكةِ اللهِ" فودعه أسامةُ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُفيق، وجعل نساءه يتماشطن سرورًا.
ودخل أبو بكر رضوان الله عليه فقال: يا رسول الله، أصبحتَ بحمد الله مُفيقًا، واليوم يوم ابنة خارجة، فأْذن لي، فأذن له، فذهب إلى السُّنح وخرج أسامة إلى معسكره، وصاح في أصحابه باللحوق به، ونزل أسامة بالجرف، وأمر الناس بالرحيل، وقد متع النهار [أي: ارتفع]، فبينا أسامة يريد أن يركب من الجرف أتاه رسول أم أيمن، وهي أمه، تخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يموت، [قال ابن إسحاق: إنما بعث رسولًا إلى أسامة امرأته] فأقبل أسامة إلى المدينة ومعه عمر وأبو عبيدة [بن الجراح]- رضي الله عنهم - فانتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يموت، فتوفي حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلَت من ربيع الأول، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجُرْف إلى المدينة، ودخل بُرَيدة بن الحصيب بلواء أسامة رضوان الله عليه معقودًا
(4/242)
________________________________________
حتى أتى باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغرزه عنده، فلما ولي أبو بكر رضوان الله عليه أمَرَ بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة، وأن لا يحله أبدًا حتى يغزوهم أسامة، قال بريدة: فخرجت باللواء حتى انتهيت إلى بيت أسامة، ثم خرجت به إلى الشام معقودًا مع أسامة، ثم رجعت به إلى بيت أسامة فما زال معقودًا في بيته حتى توفي أسامة. هذا قول الواقدي (1).
وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: خرج علي بن أبي طالب رضوان الله عليه من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أصبح بارئًا بحمد الله، فأخذ العباس بيد علي، وقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني لأرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يموت في مرضه هذا، وإني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب، فاذهب بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسأله فيمن يكون هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا، وإن كان في غيرنا أوصى بنا من بعده، فقال له علي: والله لئن سألناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعنا إياها لا يعطينا الناس إياها أبدًا، والله لا أسألها أبدًا (2).
حديث الكتاب:
[قال أحمد بإسناده] عن ابن عباس قال: لما حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوفاة قال: "هلُمَّ أكتُب لكُم كتابًا لن تَضِلُّوا بعدَه" وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال عمر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله أو القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت، واختصموا، منهم من يقول: يكتب لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما كثر اللغط والاختلاف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا عني" فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب [من اختلافهم ولَغَطهم (3). وهذا حديث مختصر].
__________
(1) "المغازي" 3/ 1119 - 1120.
(2) أخرجه البخاري (6266).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (2990)، وأخرجه البخاري (5669)، ومسلم (1637) (22).
(4/243)
________________________________________
طريق آخر: قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدثنا سفيان، عن سليمان بن أبي مسلم، أنَّه سمع سعيد بن جُبير قال: قال ابن عباس: يومُ الخميس، وما يومُ الخميس؟ ثم بكى حتى بلَّ دمعُه الحصى، قلنا: يا أبا العباس، وما يومُ الخميس؟ قال: اشتدَّ المرضُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ايْتُوني أَكْتُب لكُم كِتابًا لا تضلُّوا بعدَه أَبَدًا" فتنازعوا، وما ينبغي عند نبيًّ تنازعٌ، فقالوا: ما شأنه؟ أهجر؟ اسْتَفْهِمُوه، فذهبوا يعيدون عليه، فقال: "دَعُوني، فالذي أَنَا فيه خيرٌ مِمَّا تَدعُوني إليه" وأمرهم بثلاث فقال: "أَخرِجُوا المشركينَ من جزيرةِ العَرَب، وأَجيزُوا الوَفْدَ بنحو ما كنتُ أُجيزُهم"، وسكتَ سعيد عن الثالثة، فلا أدري أسكت عنها أو نسيها (1)؟ وقد أخرج الحميدي هذا الحديث، وفيه: فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن الرجل ليهجر (2).
قال المصنف رحمه الله: والظاهر من حال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه أنه لا ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا، ولعلَّه من تحريف الرواة، ويحتمل أن يكون معناه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليهجركم، من الهجر الذي هو ضد الوَصْل لما قد ورد عليه من الواردات الإلهية، ولهذا قال: "الرَّفيقَ الأَعلَى" أَلَا ترى إلى قوله: "قُوموا عنَّي، فما أنا فيه خيرٌ مما أنتم فيه".
وقال القاضي عياض: لا يصح أن يَهْجُرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معصوم، لأن الهجر ما لا حقيقة له، وأنه لا يقول في الصحة والمرض والنوم واليقظة والرضى والغضب إلا حقًا، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} (3) [النجم: 3].
[وفي رواية ابن سعد قال: لما بقي من أَجَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام جاءه جبريل فقال: يا محمد، إن الله أرسلني إليك إكرامًا لك وتفضلًا يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟ فقال: "يا جبريلُ، أجدني مغمومًا، وأجدني مهمومًا، وأجدني مكروبًا" قالها مرتين أو ثلاثًا، فلما كان في الثالث هبط جبريل ومعه ملك يقال
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (1935)، وأخرجه البخاري (3053)، ومسلم (1637).
(2) لم أقف عليه في "الجمع بين الصحيحين" والحديث فيه برقم (980)، وعزاه الحافظ في "الفتح" 8/ 133 إلى ابن سعد، وهو في "الطبقات" 2/ 213.
(3) انظر "إكمال المعلم": 5/ 379.
(4/244)
________________________________________
له: إسماعيل، يسكن الهواء، لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض منذ خلق الله المخلوقات، وهو مقدَّم على سبعين ألف صف من الملائكة تحت يد كل ملك سبعون ألفًا من الملائكة، ثم هبط ملك الموت فقال: هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على أحد من قبلك، ولا يستأذن على أحد من بعدك، فقال: "إئذن له" فدخل فوقف بين يديه وسلم عليه وقال: يا أحمد، إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كل ما أمرتني به، إن أمرتني قبضت وإن أمرتني تركت، فالتفت إلى جبريل كالمستشير له، فقال: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك، فقال: "امض يا ملك الموت لما أمرت به" فقال جبريل - عليه السلام -: هذا آخر هبوطي الأرض، إنما كنتَ حاجتي من الدنيا (1). وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وارتفع جبريل وهو يقول: واصفيَّاه.
وقد أخرج جدي في "الصفوة" بمعناه فقال: ] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى جبريلُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي قُبض فيه، فقال: إنَّ الله تعالى يُقرئك السَّلام، وكيف تَجدُك؟ قال: "أَجِدُني وَجِعًا يا أَمينَ اللهِ" ثم جاءَه من الغدِ، ومن بعدِ الغدِ، وهو يقول كذلك، وجاءَ معه في اليوم الثالث ملك الموت، وقال جبريل: هذا آخر عهدي بالدنيا بعدك، ولن آسى على هالك من بني آدم بعدك (2).
[وفي رواية ابن سعد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا جبريل، ادن مني" قالها ثلاثًا] (3).
وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة كساء ملبدًا وإزارًا غليظًا، وقالت: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذين. متفق عليه (4).
وقال الواقدي: بدئ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرض يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، وتوفي يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول.
[قال: وهو الثبت عندنا، وكذا قال ابن عباس وأبو هريرة وأنس وغيرهم، أنه أقام مريضًا ثلاثة عشر يومًا، وقيل: اثني عشر يومًا.
__________
(1) "الطبقات" 2/ 226 - 227.
(2) "صفوة الصفوة" 1/ 224 - 225.
(3) "الطبقات" 2/ 225 - 226.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24037)، والبخاري (5818) , ومسلم (2080).
(4/245)
________________________________________
وقال ابن عباس: ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، وهاجر يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين (1).
وقال أحمد بإسناده عن أنس قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء من المدينة كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم كل شيء، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا (2).
وفي رواية أحمد أيضًا، وفيه طرف من قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وفيه: فما رأيت يومًا قط كان أنور ولا أحسن من يوم دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وشهدت يوم وفاته، فما رأيت أقبح من اليوم الذي مات فيه] (3).
* * *
__________
(1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 3/ 67 - 68.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (13312).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (12234).
(4/246)
________________________________________
الباب الخامس: في ما جرى بعد وفاته
قام عمر رضوان الله عليه يقول: ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولَيبعثنَّه الله فلَيُقطَّعن أيدي رجال وأَرجُلهم، وجاء أبو بكر رضوان الله عليه فكشف عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبَّله، وقال: بأبي أنت، طِبْتَ حيًّا ومَيتًا يا رسول الله، لا يجمعُ الله لك بين موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها، ثم خرجَ، فقال: أيها الحالف، على رِسْلِك، فلما تكلَّم أبو بكر رضوان الله عليه جلسَ عمر رضوان الله عليه فحمِدَ أبو بكر اللهَ، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] فمَن كان يعبدُ محمَّدًا فمحمدٌ قد مات، ومن كان يعبدُ الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت، وإنَّها لفي كتاب الله، فقال عمر: أيها الناس هذا أبو بكر فبايعوه.
وقال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: والله ما هو إلا أن تلاها أبو بكر، يعني {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} حتى خررت إلى الأرض، وأيقنت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات (1).
* * *
__________
(1) أخرج الخبر البخاري (3667) (3668)، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 234 - 235.
(4/247)
________________________________________
الباب السادس: في ذكر غسله وأكفانه والصلاة عليه ودفنه
قال ابن عباس: لما اجتمع القوم لغسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في البيت إلا أهله: عمه العباسُ، وعليٌّ، والفضلُ بن عباس، وقُثَمُ بن العباس، وأسامةُ بن زيد، وصالحٌ مولاه، فلما اجتمعوا لغسله نادى من وراء الباب أَوسُ بن خَوْليًّ الأنصاري ثم أحد بني عوف بن الخزرج، وكان بدريًا، عليَّ بن أبي طالب فقال: يا علي نَشدتُكَ الله، وحظَّنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له علي: ادخل، فدخل، فحضَر غسلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يَلِ من أمره شيئًا، فأسنده علي إلى صدره، وعليه قميصه، وكان العباس والفضل وقُثَم يقلَّبونه مع علي، وكان أسامة بن زيد وصالح يصُبَّان الماءَ عليه، وعلي يغسله، ولم يُرَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء مما يرى من الميت، وعلي يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيًّا وميتًا.
حتى إذا فرغوا من غسله، وكان يُغسل بالماءِ والسِّدر، ثم أَدرجوه في ثلاثةِ أثوابٍ، ثوبين أَبيضين وبردٍ حِبَرةٍ.
قال: ثم دعا العباس رجلين، فقال: ليذهب أحدكما إلى أبي عبيدة بن الجراح، وكان أبو عبيدة يَضْرَحُ لأهل مكةَ، وليذهب الآخر إلى أبي طلحة بن سهل الأنصاري، وكان أبو طلحة يَلْحَد لأهل المدينة، ثم قال العباس حين سرحهما: اللهمَّ خر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فذهب فلم يجد صاحبُ أبي عبيدة أبا عبيدة، ووجد صاحبُ أبي طلحة أَبا طلحة، فجاء، فلحدَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" (1).
[وقال ابن إسحاق: لما غسّل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودي علي: ارفع طرفك إلى السماء (2).
__________
(1) أحمد في "المسند" (2357).
(2) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 7/ 244 - 245، قال ابن كثير في البداية والنهاية 8/ 121: وهذا منقطع.
(4/248)
________________________________________
وقال ابن سعد: اسم الرجل الذي نادى عليًا: نَنْشُدك الله حَظَّنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو أوس بن خَوْليّ، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمه جميلة بنت أُبيّ بن مالك، أخت عبد الله بن أُبَيّ ابن سَلول.
وكان يُسمَّى الكامل؛ لأنه جمع بين الرمي والكتابة والسباحة، وهو الذي جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الغنائم لما دخل مكة في غزوة القَضيَّة، وعاش إلى أيام عثمان (1).
وأخرج أحمد عن جرير بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّحْدُ لنا والشَّقُّ لغيرنا" (2) يعني أهل الكتاب.
وقد روي ذكر الكفن وحده في حديث: فقال أحمد: بإسناده] عن ابن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُفِّن في ثلاثةِ أثوابٍ: قميصه الذي ماتَ فيه، وحُلَّةٍ نجرانيَّةٍ (3).
و[في رواية "المسند" أيضًا عن ابن عباس] (4) أنه قال: كفن في ثوبين أبيضين وبرد أحمر (5)، [قلت: وقد أخرج أحمد في "المسند" بإسناده عن] محمد بن الحنفية [عن أبيه علي - عليه السلام - قال: ] كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعة أثواب (6).
[وقال أحمد بإسناده، عن هشام بن عروة عن أبيه] عن عائشة أن أبا بكر قال لها: يا بنيَّة، أيُّ يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: يوم الاثنين، قال: في كم كفنتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: يا أبةِ كفَّناه في ثلاثة أثواب بيض سَحوليَّة جُدُد يمانيَّة، ليس فيها قميصٌ ولا عِمامةٌ، أُدرجَ فيها إدراجًا (7). [أخرجاه في "الصحيحين" من غير قول أبي بكر لها. و"سحول": قرية باليمن يعمل فيها الثياب البياض.
__________
(1) طبقات ابن سعد 2/ 243 و 3/ 502.
(2) مسند أحمد (19158).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (1942).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2284).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (728).
(6) مسند أحمد (728).
(7) أخرجه أحمد في "مسنده" (24869).
(4/249)
________________________________________
وقال أحمد بن حنبل بإسناده، عن] جعفر بن محمد قال: كان الماءُ يَستَنقِعُ في جُفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان علي يحسوه (1).
[قال ابن سعد]: وكان علي رضوان الله عليه يقول: أوصى إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يغسله غيري (2).
[قال الهيثم: ] وروي أنهم شدوا عيونهم بالعصائب إلا علي، فقال الشاعر: [من الكامل]
غسل النبي وعينه مفتوحة ... وعيونكم معصوبة في الهام
[وقال ابن سعد بإسناده عن] عائشة رضوان الله عليها قالت: لما أرادوا أن يغسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا فيه، وقالوا: ما ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله في ثيابه؟ فألقي عليهم النعاس حتى ما منهم رجل إلا وذقنه على صدره، ثم ناداهم مناد من ناحية البيت: غسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثيابه، فغسلوه كذلك، وكانت تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه (3).
[قال ابن سعد: حدثنا الواقدي] قال علي - رضي الله عنه -: لما أخذنا في جهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغلقنا الباب دون الناس جميعًا، فنادت الأنصار: نحن أخواله، وهو ابن أختنا، ومكاننا في الإسلام مكاننا، ونادت قريش: نحن عصبته، فقال أبو بكر: القوم أولى به، لا يدخل عليهم إلَّا مَن أرادوا (4).
وغسل من بئر غَرس، وكان يشرب منها، وغسل في المرة الأولى بالماء القراح، وفي الثانية بالماء والسدر، وفي الثالثة بالماء والكافور.
[وقال هشام: ] ولما فرغوا من غسله وضعوه على سريره، وخرجوا كما أمرهم، فصلى عليه الله تعالى، وملائكته أفواجًا أفواجًا.
ثم دخل المسلمون فصلوا عليه بغير إمام، الرجال أولًا، ثم النساء، ثم الصبيان،
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2403).
(2) "الطبقات" 2/ 242.
(3) "الطبقات" 2/ 240، واللفظ لأحمد في "مسنده" (26306).
(4) "الطبقات" 2/ 242.
(4/250)
________________________________________
وهم يبكون، ويقولون: السلام عليك يا رسول الله، لقد أديت، ونصحت، وجاهدت في سبيل الله، اللهمَّ اجمع بيننا وبينه.
وقال الواقدي: لما أدرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكفانه وضع على سريره، ثم على شفير قبره.
[فحدثني محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وابن عباس قال: ] وأول من صلى عليه من الناس العباس وبنو هاشم، ثم خرجوا، ودخل المهاجرون والأنصار، فلما صلَّوا دخل النساء والصبيان، ثم وضع أزواجه الجلابيب عن رؤوسهن، وجعلن يلتدمن في صدورهن، ونساء الأنصار يضربن الوجوه فذبحت حلوقهن من الصياح.
[وقال الواقدي]: وكانت قريش تحب النوم على السرير، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أهدى له أسعد بن زرارة سريرًا قوائمه ساج، فكان ينام عليه، ثم وهبه لعائشة، فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع عليه، وصلي عليه وهو فوقه، ثم حمل عليه أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - واشترى ألواحه عبد الله بن إسحاق الإسحاقي بأربعة آلاف درهم من موالي معاوية (1).
[وذكر الشهرستاني في كتاب "الملل والنحل": أن الصحابة] اختلفوا في دفن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأراد أهل مكة من المهاجرين رده إلى مكة، وقالوا: هي مسقط رأسه ووطن أهله. وقال الأنصار: المدينة أولى لأنها دار هجرته وفيها أظهر الله دينه، وقال قوم: ننقله إلى بيت المقدس لأنها مقر الأنبياء ومنه عرج به إلى السماء [ثم اتفقوا على المدينة (2).
وقال أحمد بإسناده، عن ابن جريج، عن أبيه: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدروا أين يقبروه] حتى قال لهم أبو بكر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لم يقبر نبي إلا حيث يموت" فأخّروا فراشه، وحفروا له تحته (3).
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 616.
(2) "الملل والنحل" 1/ 23 - 24.
(3) أحمد في "مسنده" (27).
(4/251)
________________________________________
وكان دفنه ليلة الأربعاء بعد نصف الليل (1) [وقال هشام: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين عند ارتفاع الضحى، فأقام يومين وليلة حتى دفنوه. وكذا روى جعفر بن محمد، عن أبيه. حكاه جدي في "الصفوة"، فإنه قال: قُبض - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين فمكث ذلك اليوم ويوم الثلاثاء، ودفن في الليل (2).
وقال هشام: أرادوا أن يدفنوه في المسجد، فقالت لهم عائشة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (3) فدفنوه في حجرتها.
وقال الواقدي: ] نزل في حفرته العباس وقثم والفضل وعلي وأسامة وأوس بن خَوْليّ - رضي الله عنه -، وبني عليه في قبره تسع لبنات، فلما فرغوا خرجوا من اللحد، وأهالوا التراب عليه.
وروى الواقدي عن عائشة قالت: ما علمنا بدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعنا صوت المساحي في المسجد ليلة الثلاثاء (4).
وقالت أم سلمى - رضي الله عنها -: فصحنا، وصاح أهل المسجد، فارتجت المدينة، فلما أذّن بلال الفجر بكى فانتحب، فزادنا حزنًا، [وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفن ليلة الثلاثاء، وليلةُ الأربعاء أصح.
واختلفوا هل سنِّم قبره أو سطح على قولين ذكرهما الواقدي، فحكى عن موسى بن محمد، عن أبيه: أنّه جعل قبره - صلى الله عليه وسلم - ارتفاعه شبرًا (5). قال: ورشوا عليه الماء، وجعلوا على قبره طنًا من قصب (6).
وأخرج مسلم عن سفيان التمار قال: أخبرني من رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنّمًا (7).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (1628) من حديث ابن عباس، وانظر "الطبقات" 2/ 238.
(2) "صفوة الصفوة" 1/ 225.
(3) أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (529)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (25129).
(4) "الطبقات" 2/ 265.
(5) انظر "الطبقات" 2/ 267 فالخبر فيه عن جعفر بن محمد، عن أبيه.
(6) أي: حزمةً من قصب.
(7) لم يخرجه مسلم، وإنما أخرجه البخاري بإثر (1390)، وهو من أفراده كما في "الجمع بين الصحيحين" (1179).
(4/252)
________________________________________
وقيل: ] كان قبره - صلى الله عليه وسلم - مسطوحًا (1).
[وحكى ابن إسحاق عن أبي معشر عن محمد] بن قيس: لما انهدم الحائط الذي على قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[رأيت قبره] مرتفعًا من الأرض مقدمًا إلى القبلة، وقبر أبي بكر وراءه من قبل رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقبر عمر وراء قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل رجليه بحذاء قبر أبي بكر، كان قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام وهما خلفه.
وقال عامر بن سعد بن أبي وقاص: قال أبي: الحدوا لي لحدًا، وانصبوا عليَّ اللبن نصبًا كما صنع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
[قلت: وقد اختلفوا في صفة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، وسنذكره في ترجمة عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -.]
واختلفوا في آخر الناس عهدًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
[فحكى ابن سعد عن الواقدي] أن المغيرة بن شعبة كان يقول: أنا أحدثكم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهدًا، ألقيت خاتمي في قبره، وقلت: خاتمي خاتمي [وإنما فعلته] لأمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأضع يدي على اللبن فأكون آخر الناس عهدًا به (3).
قال الواقدي: فقالوا له: إنما ألقيت خاتمك لكي تنزل فيقال: نزل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوالله لا تنزله أبدًا، فنزل بعضهم فأخرجه إليه (4).
وروي: أن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه نزل فأعطاه إياه، أو أمر قثم بن العباس فأعطاه إياه.
قال: وروي أن المغيرة نزل فأخذه. [وروي عن ابن عباس قال وقيل له بأن المغيرة يزعم أنه أقرب الناس عهدًا برسول الله؟ فقال: كذب، آخر الناس عهدًا برسول الله قثم ابن العباس (5).
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 664.
(2) "الطبقات" 2/ 258.
(3) "الطبقات" 2/ 264.
(4) انظر "الطبقات" 2/ 264.
(5) "الطبقات" 2/ 264.
(4/253)
________________________________________
وذكر البلاذري: أن عليًا - عليه السلام - قال لابنه الحسن: انزل فأخرج خاتم المغيرة، فنزل فناوله إياه، فكان الحسن آخر الناس عهدًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وحكى ابن سعد عن جابر بن عبد الله قال: فرش في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] قطيفة حمراء كان يلبسها (2).
وفي روايةٍ: ألقاها غلامٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبره، وقال: والله لا لبسها أحد بعدك (3).
[وقال ابن قتيبة: والذي ألقاها شقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
وقال وكيع: وهذا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة (5).
وقال ابن سعد بإسناده] عن الحسن البصري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "افرشوا لي قطيفتي في لحدي، فإن الأرض لن تسلط على أجساد الأنبياء" (6). قال الحسن: وهذه القطيفة أصابها يوم بدر.
وكانت عائشة - رضي الله عنها - قد رأت في منامها كأنه سقط في حجرتها ثلاثة أقمار، فأخبرت أباها، فلما دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرتها قال لها أبو بكر - رضي الله عنه -: هذا أحد أقمارك، وهو خيرها (7).
[ذكر تعزية الملائكة لأهل البيت:
حكى ابن سعد والبلاذري عن المدائني، وذكره هشام، قالوا جميعًا: ]
عن ابن عمر رضوان الله عليهما قال: لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسجِّي قعدنا نبكي
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 665.
(2) في (أ، خ): ثم وضع تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء كان يلبسها، والمثبت من (ك)، وانظر "الطبقات" 2/ 261.
(3) "الطبقات" 2/ 261.
(4) "المعارف" ص 166.
(5) "الطبقات" 2/ 260.
(6) "الطبقات" 2/ 261.
(7) أخرجه مالك في "الموطأ" (552)، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 256.
(4/254)
________________________________________
حوله، فسمعنا صوتًا من الهوي يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله خلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإليه فارجعوا، وإنما المصاب من حُرِم الثواب، قال ابن عمر: فسمع هذا الكلام أهل البيت والمسجد والطرق، وبكى الناس حتى كادت أنفسهم تخرج من الصراخ، وخرج الولدان والنساء والصبيان، فظنناه جبريل يعزينا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: أتدرون من هذا؟ قالوا: لا، قال: هو الخضر - عليه السلام - (2).
[ذكر ندب فاطمة - عليها السلام -:
قال البخاري: بإسناده، عن أنس قال: لما ثَقُلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَعَل يتغشّاه الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال لها: "ليسَ على أَبِيكِ كَرْبٌ بعدَ اليومِ". فلما مات قالت: يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه]، فلما دفن قالت فاطمة رضوان الله عليها: يا أنس، أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب. [انفرد بإخراجه البخاري (3).
ورواه أحمد مختصرًا وزاد فيه: يا أبتاه من ربه ما أدناه (4).
كذا وقع في عامة النسخ: أنعاه، وهو غلط من الرواة، والصحيح ننعاه بغير ألف (5).
وقد ذكره الجوهري وقال: هو نعيّ، والنَّعْيُ: خبر الموت، فيقال: جاء نَعْي فلان، والنَّعِيُّ: الناعي، قال: وقال الأصمعي: كان إذا مات من العرب ميت له قدرٌ ركب راكبٌ فرسًا وسار في الناس ويقول: نَعاءِ فلانًا أي: انْعَهِ (6).
__________
(1) "الطبقات" 2/ 239، و"أنساب الأشراف" 1/ 652.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 653.
(3) في صحيحه (4462)، وما سيرد بين معكوفين زيادة من (ك).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13031).
(5) قال ابن حجر في فتح الباري 8/ 149: قيل: الصواب: إلى جبريل نعاه، جزم بذلك سبط ابن الجوزي في "المرآة"، والأول موجّه، فلا معنى لتغليط الرواة بالظن.
(6) "الصحاح": (نعا).
(4/255)
________________________________________
قلت: وقد أشار محمد رحمه الله إلى هذا في "الجامع الصغير" بقوله: ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة (1). وهي من خواص "الجامع الصغير". وفي بعض النسخ: ولا بأس بالآذان، أي الإعلام بأن يُعلم بعض الناس بعضًا ليحضر إخوان الميت فيقضوا حقه، ولم يرد به في النداء في الأسواق لأنه فعل الجاهلية، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النعي (2)، لأن أهل الجاهلية كانوا ينعون موتاهم ويتكلمون بالكذب في مدح أهاليهم، فنهاهم عن ذلك.
وقد اختلف السلف في الإعلام بالجنائز:
فرخص فيه ابن عمر وأبو هريرة وأنس، وروي أنه لما مات رافع بن خديج قال ابن عمر: كيف تريدون أن تصنعوا به؟ قالوا: نحبسه حتى نرسل إلى قباء وإلى قريات حول المدينة ليشهدوا جنازته، فقال: نعم ما رأيتم (3).
وكره ذلك ابن مسعود وعلقمة والربيع بن خثيم، فإنهم قالوا عند الموت: لا تؤذنوا بموتنا أحدًا (4).
والصحيح: أنه لا بأس به، وإنما المكروه النداء في الأسواق وهو فعل الجاهلية. وقد أشار إليه في "المحيط" فقال: لا بأس بالنداء لتكثير الجماعةِ والمستغفرين للميت وتحريض الناس على الطاعة وحثّهم على الاستعداد لمثله، وإنما المكروه فعل الجاهلية.
وقال ابن منصور: يجوز النداء في الأسواق إذا كان الميت محتشمًا مثل الأئمة والصالحين، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج إلى المصلى وقد ذكرناه].
* * *
__________
(1) "الجامع الصغير" ص 116.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (23270) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -.
(3) أورده ابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 327.
(4) أخرج أقوال الثلاثة ابن أبي شيبة في "مصنفه" 2/ 475.
(4/256)
________________________________________
الباب السابع في مبلغ عمره
[واختلفوا فيه على أقوال:
أحدها: أنه عاش ثلاثًا وستين سنة، وعلى هذا عامة العلماء] قال الإمام أحمد - رحمة الله عليه -: حدّثنا يزيد بن هارون، ومحمد بن جعفر قالا: أنبأنا هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين سنة، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة. متفق عليه (1).
وقال عمار مولى بني هاشم: قلت لابن عباس: كم أتى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات؟ قال: خمس وستون، بعث لأربعين، وأقام بمكة خمس عشرة، وبالمدينة عشرًا (2).
[والثاني: ستون سنة، قال البخاري، قالت عائشة: مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين بالمدينة، وأنزل عليه وهو ابن أربعين سنة] (3).
والأصح ثلاثًا وستين سنة.
* * *
__________
(1) أحمد في "مسنده" (2110)، والبخاري (3903)، ومسلم (2351).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2640).
(3) أخرجه البخاري (4464).
(4/257)
________________________________________
الباب الثامن: في ذكر شيءٍ مما رثي به من الأشعار وما ورد في ذلك من الآثار
وقد رثي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأشعار كثيرة فنقتصر على شيءٍ منها، [وقد ذكر ابن إسحاق والواقدي طرفًا من ذلك فقالا: وقال أبو بكر - رضي الله عنه - يرثي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبكيه (1): [من الكامل]
لمَّا رأيتُ نبيَّنا مُتَجدِّلًا ... ضاقَت عليَّ بعَرْضِهنَّ الدُّورُ
فارْتعتُ روعةَ مُستهامٍ والهٍ ... والعظمُ منِّي وَاهِنُ مكسورُ
أعتيقُ ويحكَ إنَّ حِبَّك قد ثَوى ... وبقيتَ مُنجدِلًا وأَنتَ حَسيرُ
يا ليتني من قبلِ مهلك صاحبي ... غُيِّبتُ في جَدَث عليّ صخورُ
فلتحدثن بدائعٌ من بعدهِ ... تَعيا بهنَّ جوانحٌ وصدورُ
قال ابن إسحاق: وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب هذه الأبيات (2): [من الوافر]
أرقتُ وباتَ ليلي لا يزولُ ... وليلُ أخي المحبَّةِ فيه طولُ
وأسعَدَني البكاءُ وذاك فيما ... أصيبَ المسلمونَ به قليلُ
فقد عظُمَت مصيبتُنا وجلَّت ... عشيَّةَ قيل: قد قُبضَ الرسولُ
فأضْحَت أرضُنا ممَّا عَرَاها ... تكادُ بها جوانبُها تميلُ
فَقَدنا الوحيَ والتنزيلَ فينا ... يروحُ به ويَغدو جبرئيلُ
وذاكَ أحقُّ ما سالَت عليه ... نفوسُ الناسِ أو كادت تسيلُ
نبيٌّ كان يَجلو الشكَّ عنَّا ... بما يُوحَى إليه وما يقولُ
ويهدينا فلا نَخشى ضلالًا ... علينا والرسولُ لنا دليلُ
أُصبْنَا بالنبيِّ وقد رُزينا ... مصيبتَهُ فمَحمَلُها ثقيلُ
__________
(1) الأبيات في "الطبقات" 2/ 278، و"نهاية الأرب" 18/ 400.
(2) الأبيات في "الروض الأنف" 2/ 379 - 380، و"البداية والنهاية" 5/ 282. وانظر "سير أعلام النبلاء" 1/ 205.
(4/258)
________________________________________
فلم نَرَ مثله في الناس حيًّا ... وليس له منَ الموتى عَديلُ
أفاطمُ إن جَزِعت فذاكَ عذرٌ ... وإن لم تجزَعي فهو السبيلُ
فعُوذي بالعزاءِ فإنَّ فيه ... ثواب الله والفضل الجزيلُ
وقُولي في أبيكِ ولا تملِّي ... وهل يُجزي بفعلِ أبيك قيلُ
فقبرُ أبيك سيِّد كلِّ قبرٍ ... وفيه سيِّد الناسِ الرسولُ
وقال ابن إسحاق: و] قال عمر بن الخطاب يبكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحزن عليه فيما بلغني حزنه، فقال هذه الأبيات: [من الكامل]
ما زلتُ مُذْ وضع الفراشُ لجنبهِ ... وثوَى مريضًا خائفًا أتوقَّعُ
حذرًا عليه أن يزولَ مكانُه ... عنَّا فَنبقى بعده نَتفجَّعُ
نفسي فداؤكَ مَن لنا في أَمرنا ... أَمن نُشاوره إذا نَتوجَّعُ
ليتَ السماءَ تفطَّرت أكنافُها ... وتَناثَرت منها نجومٌ نُزَّعُ
لما رأيتُ الناسَ هدَّ جميعهم ... صوتٌ ينادي بالنعي فيسمعُ
والناسُ حول نبيهم يدعونَه ... يبكونَ أعينُهم تسيلُ وتدمعُ
فسمعتُ صوتًا قبل ذلك هدَّني ... عباسُ ينعاه وصوت مفظعُ
وإذا تحل بنا الحوادثُ من لنا ... بالوحي من ربٍّ عظيم يسمعُ
فليبكهِ أهلُ المدينة كلهم ... والمسلمون بكلِّ أرضٍ يجزعوا (1)
وقال ابن إسحاق: قال حسان بن ثابت (2): [من البسيط]
والله ما حملَت أُنثى ولا وضعَت ... مثلَ الرسولِ نبي الأمةِ الهادي
ولا مَشى فوقَ ظهر الأرضِ من أحدٍ ... أوفَى بذمةِ جارٍ أو بميعادِ
هو الذي كان نورًا يُستضاءُ بهِ ... مباركَ الأمرِ ذا حَزمٍ وإرشادِ
مصدقًا للنبيين الأُلى صَدقوا ... وأبذلَ الناس للمعروف في البادِ
اللطفُ والبرُّ كانا من خلائقه ... والجودُ بالمال والإطعامُ للزادِ
[فلتبكه الدهر عيني كلما ذرفت ... وما حدا بالمطايا خلفها حادي]
__________
(1) ذكر منها البلاذري في أنساب الأشراف 2/ 20 أربعة أبيات، وانظر "سمط النجوم العوالي" 2/ 318.
(2) "السيرة" 2/ 671، وطبقات ابن سعد 2/ 279.
(4/259)
________________________________________
ما عشت حتى يكون الموت يأخذني ... والموت في كل ما وجه بمرصادِ
وقال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: [من الطويل]
ألا طرقَ الناعي بليلٍ فراعني ... وأرَّقني لما استقلَّ مناديا
فقلتُ له لما رأيت الذي أتى ... أغير رسول الله إن كنتَ ناعيا
فحقَّق ما أشفقتُ منه ولم يُبَلْ ... وكان خليلي عدَّتي ورجائيا
فوالله ما أنساكَ أحمدُ ما مشَت ... بي العيسُ في أرض وجاوَزت واديا
لتَبْك رسولَ الله خيلٌ مغيرة ... تثيرُ غبارًا كالضبابة كابيا (1)
[وقال الواقدي: وقد رثاه بنات عبد المطلب: أروى وعاتكة وصفية.
فأما أروى فقالت:
ألا يا رسول الله كنتَ رجاءنا ... وكنتَ بنا بَرًّا ولم تكُ جافيا
وكنت رحيمًا هاديًا ومعلمًا ... ليَبْكِ عليك اليوم من كان باكيا
كأن على قلبي لذكر محمدٍ ... وما خفت من بعد النبي المكاويا
لَعَمرك ما أبكي النبيَّ لموته ... ولكنْ لما أخشى من الهَرْجِ آتيا
أفاطِمُ صلى الله ربُّ محمدٍ ... على جَدَثٍ أمسى بيثربَ ثاويا
فِدىً لرسول الله أمي وخالتي ... وعمي وآبائي ونفسي وماليا
فلو أن ربَّ الناس أبقى محمدًا ... سَعِدنا ولكنْ أمرُه كان ماضيا
عليك من الله السَّلامُ تحيةً ... وأُدخِلتَ جَنّاتٍ من العَدْنِ راضيا] (2)
وقالت عاتكة (3) بنت عبد المطلب: [من الطويل]
أعينيَّ جودا بالدموعِ السَّواجمِ ... على المصطَفى والنورِ من آل هاشمِ
أعينيَّ ماذا بعدَ ما قد فُجعتما ... به تبكيان الدهرَ من ولد آدمِ
على المصطفى بالحقَّ والنور والهُدى ... وبالرشدِ بعد المعضلاتِ العظائمِ
__________
(1) جاءت هذه الأبيات في (ك) عقب مرثية أبي بكر - رضي الله عنه -، وهي في أنساب الأشراف 2/ 20.
(2) طبقات ابن سعد 2/ 282 - 283، ونسبها البلاذري 2/ 22 إلى صفية بنت عبد المطلب.
(3) في النسختين (أ، خ): عائشة، والمثبت من (ك)، والأبيات في "الطبقات" 2/ 284.
(4/260)
________________________________________
[على الطاهر الميمون ذي الحِلم والنهى ... وذي الجودِ والراعي لخير المراحمِ]
فجودا بدمعٍ واندُبا كلَّ شارق ... ربيع اليتامى في السنين الأرازمِ (1)
[وقالت صفية:
عينُ جودي بدمعةٍ وسُهودِ ... وانْدُبي خيرَ هالكٍ مفقودِ
وانْدُبي المصطفى بحُزْنٍ شديدِ ... خالَطَ القلبَ فهو كالمعمودِ
فلقد كان بالعباد رَؤوفًا ... ولهم رحمةً وخيرَ رشيدِ
فعليه السلام حيّا ومَيْتًا ... وجزاه الجِنانَ يومَ الخُلودِ
ولهنّ فيه أشعار كثيرة ذكرها الواقدي وغيره] (2)
وقدم أعرابي المدينة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوقف عند قبره - صلى الله عليه وسلم -، وقال (3): [من البسيط]
يا خير مَن دُفنت في التُّرب أعظمُه ... فطابَ من نَشرهن القاعُ والأكمُ
نفسي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُه ... فيه العفافُ وفيهِ الجودُ والكرمُ
لو كنتُ أبصرتُه حيًا لقلتُ لهُ ... لا تمشِ إلا على خدي لك القدمُ
هدى به الله قومًا قال قائلهم ... ببطن يثربَ لما ضمَّه الرحمُ
إن مات أحمدُ فالرحمنُ خالقُه ... حيٌّ ونعبده ما أورق السلمُ
فأخذ هذين أحمد بن عبيد العزيز القرشي الواعظ بالرافقة فضمنها أبياتًا منها:
أقول والدَّمع من عيني ينسجمُ ... لما رأيت جدارَ القبر يستلمُ
والناسُ يغشونهُ باكٍ ومنقطعُ ... من المهابة أو داع فملتزمُ
فما تمالكت أن ناديت من حرق ... في الصدرِ كادت لها الأحشاءُ تضطرمُ
[يا خيرَ من دفنت في القاعِ أعظُمه ... فطابَ من نشرهن القاعُ والأكمُ
__________
(1) في "الطبقات": البوازم.
(2) ما بين معكوفين من (ك)، والأبيات في الطبقات 2/ 286.
(3) ذكر النووي في "أذكاره" ص 335 - 336 في فضل زيارة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذكارها عن العتبي قال: كنت جالسًا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابي .... وذكر القصة وذكر البيتين الأولين، أما بقية الأبيات فلم نقف عليها. وانظر "الفتوحات الربانية" 5/ 39.
(4/261)
________________________________________
روحي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُهُ ... فيه العفافُ وفيهِ الجودُ والكرمُ]
وفيه شمسُ التقى والدين قد غربت ... من بعد ما أشرَقت من نورِه الظلمُ
حاشا لوجهكَ أن يبلى وقد هُديتْ ... بالشرقِ والغربِ من أنوارهِ الأمم
لئن رأيناه قبرًا إن باطنَه ... لروضةٌ من رياضِ الخلدِ تبتسمُ
طافت به من نواحيه ملائكةٌ ... تغشاهُ في كلِّ ما يوم وتزدحمُ
[انتهت "مغازي" الواقدي عند ذكر أشعار بنات عبد المطلب ولم يبق من رواياته إلا ما رواه ابن سعد عنه.
وقد روى الحكاية محمد بن حرب قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فزرته وجلست بإزائه، وإذا بأعرابي قد جاء فوقف عند القبر وقال: يا خير الرسل إنّ الله تعالى أنزل عليك كتابًا صادقًا قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وإني قد جئت مستغفرًا ومستشفعًا بك ثم بكى وأنشد البيتين، ثم انصرف.
قال: فرقدت فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال: الحق الرجل فبشره بأن الله قد غفر له بشفاعتي، فاستيقظت وطلبت الرجل فلم أجده].
* * *
(4/262)
________________________________________
الباب التاسع (1) في حديث السقيفة
قال الزهري: لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله بن حضير في بني عبد الأشهل من بين الأنصار [فأتى آتٍ إلى] أبي بكر وعمر فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل تفاقم أمرهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته لم يفرغ من أمره بعد أن أُغلق دونه الباب.
فقال عمر لأبي بكر رضوان الله عليهم: انطلق بنا إلى إخواننا الأنصار لننظر ما هم عليه.
وقال هشام بن محمد: بلغ العباس أن سعد بن عبادة قد جمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وأنهم قد بايعوه بالخلافة، فدخل العباس والمهاجرون من ذلك وحشة، فخرج العباس على الناس وأبو بكر لا يشعر، فقال: أيها الناس بلغني أن [سعد بن عبادة بنيت له وسادة ودعا إلى نفسه وأجابه من أجابه نقضًا لعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (2)، انهض يا أبا بكر إلى هؤلاء القوم يعني الأنصار. فقال له المهاجرون: إنه ليدلنا على صدقك يا أبا الفضل أنه لم يصل الظهر اليوم منهم أحد معنا، فنهض أبو بكر إلى الأنصار.
طرف من حديث السقيفة:
قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: وإنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عليًا والزبير ومن كان معهما تخلَّفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخلفت عنا الأنصار بأجمعها، واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا رجلان صالحان منهم ممن قد شهد بدرًا، فقالا: أين تريدون يا معاشر
__________
(1) من هنا إلى قوله: فصل وللبخاري عن عمرو، بعد عدة صفحات؛ ليس في (ك).
(2) في النسخ بياض قدر سطر، وما بين معقوفين زيادة من "المنتظم" 4/ 52.
(4/263)
________________________________________
المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليك ألا تقربوهم، وأمضوا أمركم، وارجعوا، فقلت: لنأتينهم، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة وإذا [بين ظهرانيهم رجلٌ مزمل، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: ] توعك، فلما جلسنا قليلًا، قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت دافة منكم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويحضنونا من الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت في نفسي مقالة أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أرى منه بعض الجد، وكان أعلم مني وأوقر، فلما أردت أن أتكلم قال: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، فما ترك شيئًا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا وقد جاء به أحسن منه، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا وقد قال في بديهته مثلها وأفضل منها حتى سكت، فقال:
أما بعد يا معشر الأنصار، فإنكم ما تذكرون منكم فضلًا إلا كنتم له أهلًا، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا في هذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا، ولقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا [أيّهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلم أكره مما قاله غيرها، وكان] (1) والله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهمَّ إلا أن تسول لي نفسي شيئًا عند الموت لا أجده الآن، فلما قضى كلامه قال قائل من الأنصار: أنا جُذَيلها المحَكَّك، وعذيقها المرجَّب، منا أمير ومنكم أمير، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى خشينا الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، وبايعه المهاجرون ثم الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعدًا، فقلت: قتل الله سعدًا، وقال عمر - رضوان الله عليه -: أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرًا هو أوفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم يكن لهم بيعة أن يبايعوا رجلًا منهم بعدنا،
__________
(1) في النسخ بياض قدر سطر في الموضعين، وما بين معقوفيق زيادة من "السيرة" 2/ 659، و"مسند" أحمد (391).
(4/264)
________________________________________
فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فسادًا، فمن بايع أميرًا عن غير مشورة من المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه تغرَّة (1) أن يقتلا.
والرجلان اللذان لقياهم: عويم بن ساعدة، ومعن بن معدي، والذي قال: أنا جُذيلها المحكَّك وعذيقها المرجَّب الحبابُ بن المنذر (2).
وقال أنس بن مالك: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وقالوا: نولي هذا الأمر سعد بن عبادة، فأخرجوه، وهو مريض، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا معاشر الأنصار، إن لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن، فما آمن له إلا قليل، والله ما كان من آمن له يستطيعون أن يمنعوه ولا أن يدفعوا عنه ولا عن أنفسهم ضيمًا حتى أراد الله بكم الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصكم بالنعمة، فرزقكم الإيمان بالله ورسوله، وأنتم أحق بهذا الأمر، وإن لم ترض قريش فمنهم أمير ومنا أمير، فقال سعد: هذا والله أول الوهن.
وبلغ أبا بكر وعمر الخبر فجاءا إلى السقيفة، وذكر بمعنى ما تقدم، قال: وخطب أبو بكر، فقال: نحن المهاجرون الأولون أول الناس إسلامًا، وأكرمهم إحسانًا، وأوسطهم دارًا، وأحسنهم وجوهًا، وأمسهم رحمًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدمنا الله عليكم فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] وأنتم شركاؤنا في الفيء وأنصارنا على عدونا، فلا تنفسوا علينا ما منحنا الله به دونكم، ولا ننكر سابقتكم، ألا نحن الواسطة من القلادة وعِتْرَةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصله، وذكر كلامًا طويلًا.
فقال الحُباب: دعوا هذا، منا أمير ومنكم أمير، فقال عمر: هيهات، لا يجتمع فحلان في شرك، ولا ترضى العرب أن تنافروا عليها وبينها حكم من غيركم، ونحن أولياؤه وعترته.
__________
(1) أي: خوفًا.
(2) أخرجه ابن هشام في "السيرة" 2/ 657 - 658، وأحمد في "مسنده" (391) وقوله: "جذيلها المرجب: الجذيل: تصغير جذل، وهو العود الذي ينصب للإبل الجربي لتحتك به، أي: أنا ممن يستشفى برأيه كما تستشفى الإبل الجربي بالاحتكاك بهذا العود، والعذيق: هو النخلة، والمرجب: يقال: رجَّبتُ النخلة إذا أسندتها إلى خشبة ذات شعبتين لكثرة حملها، أي: أنا الذي ينبغي الرجوع إلى قوله.
(4/265)
________________________________________
فقال الحُباب: يا معاشر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فأجلوهم من بلادكم وتَولَّوه، فأنتم أحق به منهم، لأن ناسًا منكم (1) فأما والله لئن شئتم لنعيدنها جَذعة، فقال له عمر: إذًا يقتلك الله، فقال: بل إياك يقتل.
فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير، فقال: يا معاشر الأنصار، لئن كنا أول من سبق إلى هذا الدين وجهاد المشركين فما قصدنا إلا رضى الله ورسوله، فلا ينبغي لنا أن نستطيل على الناس، ولا نطلب عرض الدنيا، وإن قريشًا أولى بهذا الأمر منا، فلا ننازعهم.
فقال له الحباب: أنفست على ابن عمك، يعني سعد بن عبادة، فقال: لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قومًا حقًّا جعله الله لهم، ثم قام أسيد بن حضير، فقال هو وبشير: يا أبا بكر مد يدك، فبسطها، فبايعاه، وتبايع الناس، فانكسر على سعد أمره، وكادوا يطؤون سعدًا، فقال ناس من أصحابه: اتقوا سعدًا لا تطؤوه، فقال عمر: اقتلوا سعدًا قتله الله، ثم قام عمر على رأس سعد، وقال: لقد هممت أن أطأك حتى يندر عضوك، فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر، وقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيكَ جارحة، فقال أبو بكر: مهلًا يا عمر الرفق الرفق فهو ههنا أبلغ، فقال سعد: أما والله لو كان لي قوة على النهوض لسمعتم مني في أقطارها وسككها [زئيرًا يُجحرك وأصحابك] حتى ألحقك بقوم كنت فيهم تابعًا غير متبوع، ثم عاد أبو بكر وعمر إلى مكانهما، وبعثا إلى سعد بن عبادة: بايع فقد بايع الناس، فقال للرسول: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب من دمائكم سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يداي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، والله لو اجتمع لكم الجن والإنس لما بايعتكم، فلما عاد الرسول فأخبرهم بما قال، قال له عمر: لا تدعه حتى يبايع، فقال بشير بن سعد: دعه فقد لج، وليس بمبايعكم حتى يقتل ويقتل معه قيس ولده وأهله ومن أطاعه من قومه، فاتركوه، فتركوه، فكان سعد لا يحضر معهم، ولا
__________
(1) كذا في (أ، خ)؟ ! وفي الطبري 3/ 220: فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان.
(4/266)
________________________________________
يصلي في المسجد، ولا يسلم على من لقيه منهم، فلم يزل مجانبًا لهم حتى خرج إلى الشام بعد وفاة أبي بكر رضوان الله عليه (1).
وذكر الطبري أن سعدًا بايع مكرهًا، وهو وهم (2).
ولما بويع أبو بكر رضوان الله عليه في السقيفة قال رجل من قريش كنيته أبو عمرو (3): [من الكامل]
شكرًا لمن هو بالثناءِ حقيقُ ... ذهَب الحجاجُ وبويعَ الصديقُ
من بعد ما دحضَت بسعد نعلُه ... ورجى رجاءً دونَه العيوقُ
حفَّت به الأنصارُ عاصب رأسهِ ... فأتاهُم الصديقُ والفاروقُ
وأبو عبيدةَ والذين إليهمُ ... نفسُ المؤمل للصلاح تتوقُ
بالحقِّ إذ طلبوا الخلافةَ زلَّة ... لم يُخْطِ مثل خطائهم مخلوقُ
إن الخلافةَ في قريشٍ ما لكم ... فيها وربِّ محمد ثُفروقُ
الثفروق: قمع البسرة.
وروى ابن سعد، عن ابن عباس أنه قال أرسل العباس إلى بني هاشم فجمعهم عنده، وكان علي عنده بمنزلة لم يكن أحد بها، فقال: يا ابن أخي إني قد رأيت رأيًا لم أقطع به حتى أستشيرك فيه، قال: وما هو؟ قال: ندخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنسأله عن هذا الأمر، فإن كان فينا بعده لم نسلمه إلى أحد ما بقي فينا عين تطرف، وإن كان في غيرنا لم نطلبه أبدًا، فقال له علي: يا عم، وهل هذا الأمر [إلا] إليك، وهل ينازعك فيه أحد؟ فقال له العباس: والله إني أظن أنه سيكون، فمد يدك حتى أبايعك، فهذا أمر لم يرد مثله، وسمع العباس التكبير في المسجد، فقيل: ما هذا؟ فقيل: بايع الناس أبا بكر، فقال العباس: هذا ما دعوتك إليه فأبيت عليَّ (4).
وذكر ابن سعد: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لقي أبا عبيدة بن الجراح، فقال له:
__________
(1) "تاريخ الطبري" 3/ 218 - 223 من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري.
(2) "تاريخ الطبري" 2/ 223.
(3) "تحفة الصديق في فضائل أبي بكر الصديق" ص 128 - 129.
(4) "الطبقات" 2/ 216 - 217.
(4/267)
________________________________________
ابسط يدك لأبايعك فأنت أمين لهذه الأمة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو عبيدة: ما رأيت لك فهَّة قبلها منذ أسلمت، أتبايعني وفيكم الصديق (1)؟
وقال الزهري: سألت سعيد بن المسيب، فقلت له: أشهدت وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قلت: فمتى بويع أبو بكر؟ فقال: في اليوم الذي توفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كرهوا أن يبقوا بعض يوم بغير إمام وليسوا في جماعة.
وذكر في كتاب "بيت العلوم" أنه قيل للعباس: بايع، فقال: لا أبايع إلا ابن أخي عليًا.
وقال سلمان الفارسي: كردي بكردي، أي فعلتموها، فوجئ عنقه.
وقال المغيرة بن شعبة لعلي - رضي الله عنه -: اصعد المنبر لنبايعك، فإنك إن لم تصعد صعده غيرك، فقال علي: والله إني لأستحيي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أصعد منبره ولم أدفنه احترامًا له (2).
وقال الشريف في "نهج البلاغة": لما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو سفيان بن حرب والعباس لعلي: هلم لنبايعك بالخلافة، فقال أمير المؤمنين: أيها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا من تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح، ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقُلْ شيئًا يقولوا: حَرِصَ على الملك، وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت، هيهات بعد اللتيا والتي، والله لابن أبي طالب آنَسُ بالموت من الطفل بثدي أمه، ولقد اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة (3).
قال المصنف رحمه الله: وقوله: إن أبا سفيان قال لعلي - رضي الله عنه -: أبايعك بالخلافة، فيه نظر، لأنهم اختلفوا في حضوره، فذكروا أن أبا سفيان قال لعلي: ما بال هذا الأمر
__________
(1) "الطبقات" 3/ 166.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الإشراف في منازل الأشراف" (310).
(3) انظر نثر الدر 1/ 277، ومنه أصلحت النص فهو في النسختين (أ، خ) غير واضح.
(4/268)
________________________________________
في أقل حي من قريش، والله إن شئت لأملأنَّها عليهم خيلًا ورجلًا، فقال له علي - رضي الله عنه -: طال ما عاديت الإسلام وأهله فلم يضره ذلك شيئًا، ولقد رُمْتَ هذا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يتم لك ذلك، وأتم الله نوره (1).
وقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو سفيان عامله على نجران ولم يكن بالمدينة (2).
وقال صاحب "العقد": توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو سفيان في مسعاة، أخرجه فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف لقي رجلًا في طريقه مقبلًا من المدينة، فقال له: ما الخبر، أمات محمد؟ قال: نعم، قال: فمن قام بعده بالأمر؟ قال: أبو بكر، قال: فما فعل المستضعفان علي والعباس؟ قال: جالسان في بيت فاطمة، فقال: أما والله إن بقيت لهما لأرفعن من أعقابهما، ثم قال: إني لأرى غيرة لا يُطفئها إلا دم، فلما قدم المدينة جعل يطوف أسواقها وأزقتها، ويقول: [من الطويل]
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم ... ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم ... وليس لها إلا أبو حسن علي
وبلغ عمر قوله فقال لأبي بكر: إن هذا قد قدم وهو فاعل شرًا، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستألفه (3) على الإسلام، فدع له ما بيده من الصدقة، ففعل، فرضي أبو سفيان، وبايعه.
وذكر صاحب "العقد" أن عليًا والعباس والزبير قعدوا في بيت فاطمة - عليها السلام -، فبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - ليخرجهم من بيت فاطمة، وقال: إن أبوا قاتلهم، فأقبل عمر وفي يده قبس من نار ليضرم عليهم البيت، فخرجت إليه فاطمة، وقالت:
__________
(1) تاريخ الطبري 3/ 209، وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (9767)، والحاكم في "مستدركه" 3/ 83 عن أبي الشعثاء الكندي، عن مرة الطيب قال: جاء أبو سفيان بن حرب إلى علي بن أبي طالب فقال: ما بال هذا الأمر في أقل قريش قلة، وأذلها ذلة - يعني أبا بكر - والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلًا ورجالًا، فقال علي: لطال ما عاديت الإسلام وأهله يا أبا سفيان فلم يضره شيئًا، إنا وجدنا أبا بكر لها أهلًا.
(2) "تاريخ دمشق" 23/ 460.
(3) في (أ) و (خ): يبايعه، والمثبت من العقد 4/ 257.
(4/269)
________________________________________
ويحك يا ابن الخطاب جئت لتحرق بيتي؟ قال: نعم، أريد أن تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة، فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه، فقال له أبو بكر: أكرهت إمارتي؟ قال: لا، ولكن آليت أن لا أرتدي بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أجمع القرآن، فعليه حبست نفسي (1).
والصحيح: أن عليًا رضوان الله عليه إنما بايع بعد مدة لما نذكر، والله أعلم.
وقال أنس: جلس عمر على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك من الغد في اليوم الذي توفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتشهد وأبو بكر صامت، ثم قال: أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة، وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت تلك المقالة في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن كنت أرجو أن يعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يَدْبُرَنا، فإن يك قد مات فإن الله قد جعل لكم نورًا تهتدون به هَدي محمد - صلى الله عليه وسلم - فاعتصموا به تهتدوا، وإنما هدى الله به بما هدى الله به رسوله، وإن أبا بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثاني اثنين، وإنه أولى الناس بأموركم، فقوموا، فبايعوه، قال: وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة عند المنبر، قال أنس: فرأيت عمر يزعج أبا بكر إلى البيعة إزعاجًا (2).
ولم يبايع علي أبا بكر - رضي الله عنهما - إلا بعد ستة أشهر.
وقال المسعودي: لما جددت البيعة لأبي بكر يوم الثلاثاء على العامة خرج علي بن أبي طالب فقال: أيفتأت علينا في أمرنا ولم نستشر فيه؟ فقال أبو بكر: بلى، خشينا الفتنة، قال: ولم يبايع أبا بكر أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة - عليها السلام - (3).
وذكر الطبري: أن عليًا رضوان الله عليه كان في بيته، فقيل له: قد بايع الناس أبا بكر، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلًا كراهية أن يبطئ عنها، فبايع أبا بكر، وجلس إليه، وبعث إلى بيته فأتي بثوبه، فتجلله (4). وهو وهم من الطبري.
قال المصنف رحمه الله: وقد ذكر ابن إسحاق قصة البيعة مطولًا، فاختصرته، قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الحباب بن المنذر: يا معاشر الأنصار، أمِّروا عليكم
__________
(1) "العقد" 4/ 259 - 260.
(2) أخرجه البخاري (7219).
(3) "مروج الذهب" 4/ 183.
(4) "تاريخ الطبري" 3/ 207.
(4/270)
________________________________________
رجلًا منكم، فكره معن بن عدي وعويم بن ساعدة ما قال، ومضيا إلى أبي بكر، وأخبراه الخبر، وقالا: هم في سقيفة بني ساعدة، وذكر مجيء أبي بكر وعمر إليهما، فلما سمع المغيرة بن شعبة قول عويم ومعن، قال لأبي بكر وعمر: أيها الشيخان إن الناس إنما ينظرون إليكما وليس يرون لهذا الأمر أحدًا غيركما، فليضرب أحدكما على يد صاحبه قبل أن يحدث ما يتفاقم له الأمر، فأخذ عمر بيد أبي بكر ليبايعه، فكره ذلك أبو بكر، ونظر إلى الناس، وأراد البيعة بمحضر من المهاجرين والأنصار، وقال لعمر: قم بنا إلى إخواننا الأنصار، فإنه كان من آخر عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أوصانا بهم، فقام أبو بكر وعمر، وتبعهما المهاجرون، قال عمر: فانتهينا إليهم وهم في سقيفة بني ساعدة قد عصبوا سعدًا وهو يوعك، فذهبت لأتكلم، فقال أبو بكر: اسكت يا عمر حتى أتكلم، ثم قل ما أحببتَ، ثم خطب أبو بكر في السقيفة، فقال: الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونشهد به، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سراج الظلمة، ونبي الرحمة، بعثه الله بالحق نورًا وهدىً للعالمين، وذكر خطبة طويلة، وقال: وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره، وقد سمعتم ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران لئلا يقع الاختلاف، وتتفرق الجماعات، وتترك السنة وتظهر البدعة، وأنا أدعوكم إلى أبي عبيدة بن الجراح أو عمر بن الخطاب، وذكر بمعنى ما تقدم، فقال عمر: ما ينبغي لأحد من المسلمين أن يكون فوقك، أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المواطن كلها، واختياره لك في الصلاة دليل على أنك أحق بهذا الأمر، فقام خطيب الأنصار ثابت بن قيس بن شماس فقال: نعم أنتم أول من آمن به وصدقه، وأنتم أقرباؤه وقومه، وأفضل الناس حَسَبًا ونسبًا، لا يحسدكم والله على ما آتاكم الله، ولا خلق الله أحدًا أحب إلينا وأكرم منكم، فلو جعلتم رجلًا منا ورجلًا منكم كان أشفق للقرشي إذا زاغ مخافة أن ينقض عليه الأنصاري، [وكان أشفق للأنصاري] إذا زاغ مخافة أن ينقض عليه القرشي، وقد كانت منا فيكم دماء، ولا نأمن الوالي منكم أن يميل على السيد منا فيقتله أو يصرفه.
فقام عمر، فخطب، وذكر خطبة طويلة، وفيها: وأن العرب لا ترضى بهذا، ولا تقرُّ به إلا لقريش، وأنا أنشد الله رجلًا سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الأمراء من قريش"
(4/271)
________________________________________
قالوا: بلى الآن ذكرنا، فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، ثم أخذ بيد أبي بكر، فبايعه، وبايع الناس، واجتمع أمر المسلمين، وصاروا يدًا واحدة، ولم يغب عن تلك البيعة أحد ممن يُؤْبَه له إلا علي بن أبي طالب، والزبير، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، فرجع الناس على ذلك يومهم، حتى إذا كان من الغد خرج أبو بكر، وذلك يوم الجمعة، فقال: اجمعوا لي المهاجرين والأنصار، فاجتمعوا، ثم أرسل إلى علي بن أبي طالب فأتاه والنفر الذين كانوا تخلفوا معه، فقال: ما خلفك يا علي عن أمر الناس؟ فقال: خلفني عظم المصيبة، ورأيتكم استغنيتم برأيكم، فاعتذر إليه أبو بكر لخوف الفتنة وتفاقم الحدثان، وإن كنت والله لها كارهًا وما شَهِدَها أحد أحب إلي أن يشهدها [منك]، ثم أشرف على الناس، وقال: أيها الناس، هذا علي بن أبي طالب، فلا بيعة لي في عنقه، وهو بالخيار من أمره، ألا وأنتم بالخيار جميعًا في بيعتكم، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من أبايعه، فلما سمع ذلك علي تحلل عنه ما كان قد دخله، فقال: أجل لا نرى لها غيرك، مد يدك، فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه (1).
وهذا دليل على أن عليًا بايع أبا بكر بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أيام، ودل عليه أيضًا ما ذكره ابن سعد فإنه قال:
حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن قال: قال علي بن أبي طالب: لما قُبِض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرنا في أمرنا، فوجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قدَّم أبا بكر في الصلاة، فرضينا بأمر رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، فبايعنا أبا بكر (2).
ولما بلغ أبا قحافة بمكة وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو قحافة: من ولي بعده؟ قالوا: ابنك، قال: أرضيت بذلك بنو عبد شمس وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع (3).
وقيل: إن بيعة علي - رضوان الله عليه - أبا بكر رضوان الله عليه تأخرت إلى وفاة فاطمة - عليها السلام -.
__________
(1) الاعتقاد والهداية للبيهقي 351.
(2) "الطبقات" 3/ 167.
(3) "الطبقات" 3/ 168.
(4/272)
________________________________________
الباب العاشر: في طلب آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الميراث
قالت عائشة رضوان الله عليها: جاء العباس وفاطمة أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا نُورَثُ، ما تَرَكنا صَدَقةٌ". إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، أو يصنعه إلا صنعته، إني أخشى إن تركت أمره أو شيئًا من أمره أن أزيغ. أخرجاه في "الصحيحين" (1).
طريق آخر عن عائشة: أن فاطمة - عليها السلام - أرسلت إلى أبي بكر - رضي الله عنه - تسأله ميراثها مما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نُورثُ ما تَرَكنا صَدَقةٌ" فغضبت فاطمة، وهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر، فلما توفيت دفنها علي رضوان الله عليه ليلًا، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، قال: وكان لعلي حياةَ فاطمة من الناس وجهٌ، فلما توفيت استنكر عليٌّ وجوه الناس، فالتمس مصالحةَ أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايعه تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر: [أن ائتنا] ولا يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر، فقال عمر: والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسى أن يصنعوا بي، والله لآتينهم، فانطلقوا، وانطلق أبو بكر، فدخل عليهم، فتشهد علي، وقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرًا ساقه الله إليك، ولكنكم استبددتم بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لنا في هذا الأمر نصيبًا، فلم يزل علي يذكر حتى بكى أبو بكر، فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شَجَر بيني وبينكم في هذه الأموال فإني لم آل منها عن الخبر، فقال علي: موعدك للبيعة العشية، فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر به، وتشهد علي فعظم حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته،
__________
(1) البخاري (4034)، ومسلم (1759) (53).
(4/273)
________________________________________
وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ثم قام إلى أبي بكر فبايعه، فأقبل الناس على علي، وقالوا: أصبت وأحسنت، وكان المسلمون إلى علي قريبًا حين راجع الأمر بالمعروف (1).
وقال رجل للزهري: لم يبايع علي أبا بكر ستة أشهر؟ فقال: لا والله ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي.
وقال مالك بن أوس بن الحدثان: أرسل إلي عمر، فجئته حين تعالى النهار، فوجدته جالسًا في بيته على سرير مفضيًا إلى رُمالة، متكئًا على وسادة من أدم، فقال لي: مالكٌ، إنه قد دفَّ أهل أبيات من قومك، وقد أمرت لهم برَضْخٍ، فخذه فاقسمه بينهم، فقلت: لو أمرت بهذا غيري، قال: خذه يا مالك، فدخل يرفأ، فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد؟ قال عمر: نعم، فأذن لهم، فدخلوا ثم جاء فقال: هل لك في علي وعباس؟ قال: نعم، فأذن لهما، فدخلا، فلما استقر بهما المجلس قال العباس: يا أمير المؤمنين، [اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن، فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين] اقض بينهما وارحمهما، قال مالك بن أوس: فخيل إلي أنهما قد كانا قَدَّموهم لذلك، فقال عمر: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نُورثُ ما تَرَكنا صَدَقةٌ"؟ قالوا: نعم، ثم أقبل على العباس وعلي، فقال لهما مثل ذلك، قالا: نعم، فقال عمر: إن الله تعالى كان خص رسوله بما لم يخص به غيره، فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] وقال الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6]. قال: فقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر عليكم، ولا أخذها دونكم، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ نفقته ونفقة عياله منه، ثم يجعلُ ما بقي أُسْوَةَ مال الله، ثم نشدهم ونشد علي والعباس فقالوا: نعم، فلما ولي أبو بكر قال: أنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئتما تطلبان أنت ميراثَك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال لكما أبو بكر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نورث"، ثم توفي أبو بكر، وأنا ولي أبو بكر وولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوليتهما حتى جئتني وهذا، وأنتما جميع، وأمركما واحد، فقلتما: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذتماها
__________
(1) أخرجه مسلم (1759) (52).
(4/274)
________________________________________
بذلك، كذلك هو؟ قالا: نعم، ثم قال: جئتماني لأقضي بينكما، والله لا أقضي بينكما أبدًا بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فردَّاها إلي (1).
قال البرقاني: فكانت بيد علي، ثم كانت بيد زيد بن الحسن، ثم بيد عبد الله بن الحسن، قال: نعم، ثم وليها بنو العباس (2).
فصل: وللبخاري عن عمرو بن الحارث الخزاعي قال: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - درهمًا ولا دينارًا ولا عبدًا ولا أمة ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة (3).
وسنذكر ما ترك بعد هذا.
قلت: ولا خلاف أن فاطمة طلبت ميراثها من أبي بكر رويناه في "الصحيحين" وأنها هجرته حتى ماتت.
وقال ابن سعد بإسناده عن أبي صالح، عن أم هانئ: أن فاطمة - عليها السلام - قالت لأبي بكر رضوان الله عليه: يا أبا بكر، من يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي، قالت: فما بالك ورثت أبي دوننا؟ فقال: يا بنت رسول الله ما ورّث أبوك مالًا ولا ذهبًا، ولا فضة، ولا أرضًا، ولا غلامًا، قالت: فسهم الله الذي جعله لنا وصافيتنا التي بيدك؟ فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّما هي طُعمَةٌ أَطعَمَنيها اللهُ، فإذا متُّ عادت إلى المسلمين"، فهجرت فاطمة أبا بكر فلم تكلمه حتى ماتت (4).
وقال هشام بن محمد: لما مُنعت فاطمة ميراثها دخلت على أبي بكر وقد لاثت خمارها على رأسها، ثم حمدت الله وأثنت عليه، ووصفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأوصاف، فكان مما قالت: كان كلما فغرت فاغرة من المشركين، أو نجم قرن من الشيطان وطئ روقه بأخمصه، وأخمد لهبه بسيفه، وكسر قرنه بعزيمته، حتى إذا اختار له الله دار أنبيائه، ومقر أصفيائه؛ أطلعت الدنيا رأسها إليكم فوجدتكم لها مستحبين، ولغرورها ملاحظين، هذا والعهد قريب، والأمد غير بعيد، والجراح لم تندمل، فأنى تكونون كذا وكتاب الله بين أظهركم، ثم قالت: يا أبا بكر، أترثُ أباك ولا أرث أبيَهْ، دونكها
__________
(1) أخرجه البخاري (3094)، ومسلم (1757) (49)، وما بين معكوفين منه.
(2) انظر "أخبار المدينة" لابن شبة (572).
(3) صحيح البخاري (2739)، وما بين معقوفين من (ك).
(4) "الطبقات" 2/ 273 - 274.
(4/275)
________________________________________
مرحولة مزمومة، فنعم الحاكم الله، والموعد القيامة {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] ثم جاءت إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكت عنده طويلًا، ثم قالت هذه الأبيات: [من البسيط]
قد كان بعدَك أنباءٌ وهَنْبَثَةٌ ... لو كنتَ شاهدهَا لم تعظمِ النُّوبُ
إنا فقدْنَاك فقد الأرض وابِلَها ... واغتيلَ أهلُكَ لما اغتالَك التُّرَبُ
وقد رُزئنا بما لم يُرزه أحدٌ ... من البريَّة لا عجمٌ ولا عربُ (1)
قال [ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: ] أرسلت فاطمة إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نُورثُ ما تَرَكنا صَدَقةٌ" فإن اتهمتِني فسلي المسلمين يخبرونك ذلك.
قال: وقد كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنت أنا الذي رددتهن عن ذلك، أرسلت إليهن وقلت لهن: أما سمعتن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا نُورثُ ما تَرَكنا صَدَقةٌ" فنزعن عن ذلك (2).
[قال ابن إسحاق: ثم أقامت فاطمة على ذلك تطلب حقها من أبي بكر حتى قبضت بعد ستة أشهر.
وقال ابن إسحاق: فحدثني القاسم بن حكيم قال: سمعت] علي بن الحسين يقول: جاءت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر وهو على المنبر، فقالت: يا أبا بكر أفي كتاب الله أن ترثك ابنتك ولا أرث أبي؟ فاستعبر أبو بكر باكيًا، ثم قال: بآبائي أبوك وبآبائي أنت، ثم نزل، فكتب لها بفدك، ودخل عليه عمر، فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة ميراثها من أبيها، قال: فماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثم أخذ عمر الكتاب، فشقه.
* * *
__________
(1) انظر التذكرة الحمدونية (628).
(2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (3717) (3718)، وأخرجه البخاري (3092)، ومسلم (1758) من طريق إبراهيم بن سعد، عن صالح، به. قوله: عن الزهري؛ ليس في النسخ، استدركناه من المصادر.
(4/276)
________________________________________
الباب الحادي عشر: في قضاء دينه - صلى الله عليه وسلم -
[قال ابن سعد بإسناده، عن زيد بن أسلم وعمر بن عبد الله مولى غفرة قالا: ] لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء أبا بكر مال من البحرين، فقال: من كانت له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عِدَةٌ فليأتني، فجاءه جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدني إذا جاءه مال من البحرين أن يعطيني كذا وكذا، وأشار بكفيه، فقال أبو بكر: خذ، فأخذ فعده فإذا هو خمس مئة دينار أو درهم، ثم فرق الباقي على من كان وَعَدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
[وقال ابن سعد بإسناده] عن جابر بن عبد الله قال: قضى علي بن أبي طالب كل دين كان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووفى بعداته، وكان مناديه ينادي في الموسم كل عام يوم النحر بمنًى: ألا من كانت له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة أو دين فليأتني حتى أوفيه، ثم كان الحسن يفعل ذلك، ثم الحسين، قال جابر: فما كان يأتي أحد بحق أو بباطل إلا أعطوه، ثم انقطع ذلك بعد الحسين (2).
وقد ثبت في "الصحيح": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير (3).
* * *
__________
(1) "الطبقات" 2/ 276، وأخرجه البخاري (2296)، ومسلم (2314) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) "الطبقات" 2/ 277.
(3) البخاري (2068) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(4/277)
________________________________________
الباب الثاني عشر: في ذكر أزواجه - صلى الله عليه وسلم - و - رضي الله عنهن -
وهن أربعة أقسام:
[قسم دخل بهن، وقسم عقد عليهن، وقسم خطبهن ولم يحملن إليه، والقسم الرابع من عرضن عليه فأباهن].
القسم الأول: فيمن دخل بهن، فأولهن:
خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - وقد ذكرناها - سنة عشر من النبوة، ثم سَودة بنت زَمْعَة - رضي الله عنها - وقد ذكرنا طرفًا من أخبارها، وسنذكرها في سنة أربع وخمسين، ثم عائشة - رضي الله عنها -، ثم حفصة بنت عمر - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة خمس وأربعين]، ثم زينب بنت خزيمة - رضي الله عنها -[وقد ذكرناها في السنة الرابعة من الهجرة]، ثم زينب بنت جحش - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة عشرين]، ثم أم حبيبة - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة أربع وأربعين]، ثم أم سلمة - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة اثنتين وستين]، ثم جُويرية - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة خمسين]، ثم صفية - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة خمسين]، ثم ميمونة - رضي الله عنها -[وسنذكرها في سنة إحدى وستين].
فهؤلاء أحد عشر امرأة [أولهن خديجة وآخرهن ميمونة]، توفي منهن في حال حياته - صلى الله عليه وسلم - اثنتان: خديجة وزينب بنت خزيمة، وتوفي عن تسع، منهن خمس قرشيات: عائشة من بني تيم، وحفصة من بني عدي، وأم حبيبة من بني عبد شمس، وسودة من بني عامر، وأم سلمة من بني مخزوم.
وثلاث من سائر القبائل: ميمونة هلالية، وزينب بنت جحش أسدية، وجويرية مُصطلقية، وصفية من بني هارون - عليه السلام-[لا قرشية ولا عربية، بل] إسرائيلية.
(4/278)
________________________________________
[وذكر جدي في "التلقيح": ريحانة، وأنه تزوجها (1)، وفيها خلاف نذكره في سراريه].
القسم الثاني: من عقد عليهن، وهن خمس عشرة:
الكلابية، وقد ذكرناها في سنة ثمان من الهجرة، والجَوْنية [واختلفوا فيها: فقال البلاذري، عن الكلبي] اسمها أسماء بنت النعمان بن الأسود بن الحارث بن آكل المُرار (2)، وقال [البخاري]: أميمة بنت شراحيل، وقال ابن قتيبة: أميمة بنت النعمان ابنة الجَوْن، ويقال: ابنة النعمان بن أبي الجون الكندية (3)، وقالت عائشة: هذه هي التي استعاذت منه، [قال هشام فيما رواه عنه البلاذري]: كانت من أجمل النساء، وأمهرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة أوقية ونشًا، فقالت لها بعض نسائه: أنت بنت ملك، وإن استعذت منه حظيت عنده، فلما دخلت عليه ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: "لقد عُذْتِ بمَعَاذٍ" وصرف وجهه عنها، وقال: "ارجعي إلى أهلك" فقيل: يا رسول الله خدعت وهي حدثة [أو حديثة]، فلم يراجعها، فتزوجها المهاجر ابن أمية المخزومي، ثم قيس بن هبيرة المرادي، فأراد عمر أن يعاقبها، فقيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل بها، ولم يقسم لها، ولم يضرب عليها الحجاب، فأمسك (4).
وقد أخرج حديثها أبو أسيد الساعدي:
قال أحمد بإسناده، عن حمزة بن أبي أسيد، عن أبيه وعباس بن سهل عن أبيه قال: مر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب له، فخرجنا حتى انطلقنا إلى حائط يقال له: الشوط، حتى انتهينا إلى حائطين، فجلسنا بينهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجلسوا" فدخل هو والجَوْنية وقد أتي بها فعزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها داية لها، فلما دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "هبي لي نفسكِ" فقالت: وهل تهب الملكة
__________
(1) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 25.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 546.
(3) "المعارف" ص 140.
(4) "أنساب الأشراف" 1/ 546.
(4/279)
________________________________________
نفسها للسوقة، ثم قالت: إني أعوذ بالله منك، فقال لها: "عُذتِ بمعاذٍ" ثم خرج علينا فقال: "يا أبا أُسيد، اكسُها رَازقية وألحقها بأهلِها". انفرد بإخراجه البخاري (1).
و"السوقة" عند العرب: من ليس بملك، والعامة تخص بهذا الاسم من لازم السوق، والعرب لا تعرف هذا، لأن الملك يسوقهم فينقادون إليه.
وقال الجوهري: "الرازقية": ثياب كتان (2).
وفي روايةٍ عن أبي أسيد قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بالجوْنية، فأنزلها في أطم بني ساعدة، فلما جاءها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقعى، ثم أهوى إليها ليقبلها فقالت: أعوذ بالله، فانحرف عنها ووثب، فخرج وأمرني بردها إلى قومها، فلما طلعت عليهم قالوا: إنك لغير مباركة، جعلتينا في العرب شهرة، فأقامت في بيتها لا يطمع فيها طامع ولا يراها إلا ذو رحم محرم حتى توفيت أيام عثمان بن عفان عند أهلها (3).
وكان يقال: إنه تزوجها في ربيع الأول سنة تسع من الهجرة، وأنها هي التي أمرتها عائشة أن تستعيذ منه.
وقال سهل بن سعد: وذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من العرب فأمر أبا أسيد الساعدي أن يرسل إليها، فأرسل إليها، فقدمت، فنزلت في أطم بني ساعدة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءها، فدخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: أعوذ بالله منك، فقال: "قد أعَذتُكِ منِّي"، فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت: لا، قالوا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ليخطبك، قالت: أنا كنت أشقى من ذلك، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، وقال: "يا سَهلُ اسْقنا" فأخرجت لهم هذا القدح، فسقيتهم به. قال أبو حازم: وأخرج لنا سهل ذلك القدح، فشربنا منه، ثم استوهبه منه عمر بن عبد العزيز، فوهبه له سهل (4).
وقال قتادة: كانت تبكي، وتقول: أنا الشقية.
__________
(1) أحمد في "مسنده" (16061)، والبخاري (5257).
(2) "الصحاح": (رزق).
(3) أخرجها ابن سعد في "الطبقات" 10/ 141.
(4) أخرجه البخاري (5637)، ومسلم (2007).
(4/280)
________________________________________
قُتيلة بنت قيس [أخت الأشعث بن قيس الكندي]، وقيل: اسمها عمرة [ذكرها هشام والبلاذري (1) وجدي في "التلقيح" فقال: ] ولما ردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجونية قال له الأشعث بن قيس: ألا أزوجك أختي قتيلة؟ قال: "بلى" فانصرف إلى حضرموت، فجهزها، فبينا هي في الطريق توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث الأشعث فردها من الطريق، ولما ارتد أخوها ارتدت معه، فلما أسلم أسلمت معه، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، فوجد أبو بكر رضوان الله عليه من ذلك وجدًا شديدًا، فقال له عمر رضوان الله عليه: إنها ليست من أزواجه، ما رآها، ولا دخل بها، ولا حجبها، ولقد برأه الله منها بالردة، وكان عروة بن الزبير ينكر أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها (2).
سبا (3) [ويقال: سنا - بنون -] بنت أسماء، ماتت قبل أن يدخل بها، وقيل: هي الكلابية التي تقدّم ذكرها.
أم شَريك (4) [واسمها غُزَيَّة، وقيل: هي غُزيلة.
وقد نسبها البلاذري: غزية بنت داود بن عوف من ولد عامر بن لؤي، قال: ] وهي التي وهبت نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت قبله عند أبي العَكَر، واسمه سَلْم بن سُمَيِّ بن الحارث الأزدي، وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقبلها ولم يردَّها (5).
[وقال الطبري: تزوجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد زوجٍ كان لها قبله، وكان لها من الزوج ابن يقال له: شريك، فكنيت به]، فلما دخل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدها مسنَّةً فطلقها (6).
وقال عكرمة: التي وهبت نفسها خولة بنت حكيم فلم يقبلها فأرجأ أمرها، فتزوجها عثمان بن مظعون.
[وقال جدي في "التلقيح": كانت أم شريك قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أبي بكر بن أبي
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 546.
(2) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 26.
(3) انظر "الطبقات" 10/ 144، و"الإصابة" 4/ 324، و 335.
(4) "الطبقات" 10/ 148، و"الإصابة" 4/ 372.
(5) "أنساب الأشراف" 1/ 508.
(6) "تاريخ الطبري" 3/ 168.
(4/281)
________________________________________
سلمة، فطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يدخل بها، قال: وقيل: إن التي وهبت له نفسها خولة بنت حكيم] (1).
وكانت أم شريك من الصالحات المهاجرات، ذكرها أبو نعيم الأصفهاني قال: ودخل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال أبو نعيم بإسناده، عن ابن عباس قال: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، فأسلمت، وكانت تحت أبي العَكَر الدَّوسي، فجعلت تدخل على نساء قريش سرًّا، فتدعوهنَّ إلى الإسلام، وترغبهنَّ فيه حتى ظهرَ أمرُها، فأخذها أهل مكة، وقالوا: لولا قومك لفعلنا بك وصنعنا، ولكن سنردك إليهم، فحملوها على بعير ليس تحتها شيء، قالت: وتركوني ثلاثًا لم يُطعموني شيئًا، ولم يسقوني، وكانوا إذا نزلوا منزلًا أَوثَقُوني في الشمس واستظلُّوا هم، فبينا هم قد نَزَلوا منزلًا وأنا موثَقَة في الشمس إذا ببَرْدِ شيءٍ على صدري، فتناولته، وشربت حتى رَوَيت، ثم صببته على جَسَدي، فلما استيقَظُوا إذا هم بأَثَر الماءِ على جَسَدي وثيابي، ورأوني حسنة الهيئة، قالوا: تحيَّلت فأخذت سِقاءنا فشربتِ منه؟ فقلت: لا والله، ولكنه كان من أمري كذا وكذا، فقالوا: لئن كنتِ صادقةً لدينُكِ خيرٌ من ديننا، ثم نظروا إلى أسقيتهم وإذا بها على حالها كما تركوها، فأَسْلَموا عند ذلك، ثم أقبَلَت إلى المدينةِ، فوَهَبت نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير مهر، فدخل بها من غيرِ مَهرٍ (2).
قال المصنف رحمه الله (3): وعامة العلماءِ على أنه لم يدخل بها.
روت أم شريك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرج عنها في "الصحيح" (4).
خَولة بنت الهُذيل بن هُبيرة بن قُبيصة، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فماتت قبل أن تصل إليه (5).
__________
(1) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 26.
(2) انظر "المنتظم" 5/ 237.
(3) في (ك): قلت.
(4) لها حديثان فيهما، أحدهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها بقتل الأوزاغ. أخرجه البخاري (3307)، ومسلم (2237). والآخر أخرجه مسلم (2945) أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليفرن الناس من الدجال في الجبال"، قالت أم شريك: يا رسول الله، فأين العرب يومئذٍ؟ قال: "هم قليلٌ".
(5) "الطبقات" 10/ 154، و"الإصابة" 4/ 293.
(4/282)
________________________________________
شَرَافُ بنت خليفة كلبيةٌ، تزوجها فماتت قبل أن تصل إليه (1).
ليلى بنتُ الخَطِيم بن عدي بن عمر الخزرجي، [تزوجها وكانت غيورًا فاستقالته، فأقالها.
وقال هشام ابن الكلبي]: دخلَت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مولي ظهره الشمس، فضربت على منكبه، فقال: "من هذه؟ " فقالت: أنا ابنةُ مُباري الريح، أنا ليلى بنت الخَطِيم، جئت أعرضُ عليك نفسي فتزوّجني، فقال: "قَد فعلْتُ"، فرجعت إلى قومها، فقالت: قد تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: بئس ما صنعت، أنت امرأة غَيرَى، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحب نسوة، استقيليه، فرجعت، فاستقالته، فأقالها (2).
وقال البلاذري: فحطَأَت على منكبه، فقال: "مَن هذا أَكَله أَسْودٌ، أو الأُسُود؟ " فلما رجعت إلى قومها دخلت بعض الحيطان فأكلها أسود (3).
عَمْرة بنت معاوية، كندية، وقيل: هي أخت الأشعث بن قيس، وقيل: هي غيرها، ماتت قبل أن تصل إليه (4).
ابنة جندب، جندعية، وأبوها ضمرة، وقيل: لم يعقد عليها (5).
الغِفَارية [واختلفوا فيها: فقال الكلبي]: هي السنا، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى بكشحها بياضًا، فقال: "الحقي بأهلك"، وقيل: اسمها غزية.
وقال هشام: هي التي عَوّذت حين دخلت عليه، واتفق موت ابنه إبراهيم - عليه السلام - فقالت: لو كان نبيًّا ما مات ولده وأعز الخلق عليه، فطلقها.
هند بنت يزيد من القرطاء، وهي قبيلة، لم يدخل بها (6).
العالية بنت ظبيان، كلابية، وقيل: عامرية.
__________
(1) "الطبقات" 10/ 154، و"الإصابة" 4/ 340.
(2) انظر "الطبقات" 10/ 145، و"تاريخ الطبري" 3/ 168، و"البداية والنهاية" 5/ 301.
(3) "أنساب الأشراف" 1/ 549 - 550.
(4) "الإصابة" 4/ 367.
(5) "الطبقات" 10/ 144.
(6) "أنساب الأشراف" 1/ 546، و"الإصابة" 4/ 427.
(4/283)
________________________________________
[قال هشام: ] كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج اطلعت إلى المسجد، فأخبره أزواجه، فطلقها (1). وقيل: إنه دخل بها. (فتزوجت ابن عم لها، ودخل بها) (2)، [وقيل: إن ذلك كان قبل تحريم نكاحهن على الناس، وقال هشام: ما دخل بها]، وذكر البلاذري امرأة أخرى يقال لها: حمرة بحاء مهملة، ويقال لها: البرصاء (3).
القسم الثالث: في من خطبهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحملن إليه:
وهن ثمان:
أم هانئ بنت أبي طالب، خطبها، فقالت: إني امرأة مصبية، ووالله لقد كنت أحبك في الجاهلية، فكيف في الإسلام؟ ولي أولاد صغار، وأخاف أن يؤذوك، فعذرها ودعا لها (4).
وعن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب أم هانئ بنت أبي طالب [أخت علي - عليه السلام -]. فقالت: يا رسول الله إني قد كبرت ولي عيال، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده" قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا. متفق عليه (5).
ضُباعة بنت عامر بن قُرْط بن سَلَمة، من بني عامر بن صعصعة، وكانت عند أبي هَوْذَة الحنفي (6)، فهلك، فورثت منه مالًا، فتزوجها عبد الله بن جُدعان التَّيمي، فلم تلد له، فسألته طلاقها، فطلقها، فتزوجها هشام بن المغيرة فولدت له سلمة بن هشام، وكان من خيار المسلمين، وكانت موصوفة بالجمال، فخطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ابنها
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 545، وانظر الاختلاف في اسمها، وهل دخل بها أم لا في "الطبقات" 10/ 136 و"الإصابة" 4/ 359.
(2) ما بين قوسين زيادة من "أنساب الأشراف" وانظر "الإصابة".
(3) "أنساب الأشراف" 1/ 551، وذكرها ابن حجر في "الإصابة" 4/ 260 في حرف الجيم.
(4) "الطبقات" 10/ 146.
(5) أخرجه البخاري (3434)، ومسلم (2527) (201).
(6) هكذا في النسخ: عند أبي هوذة و"أنساب الأشراف"، وفي جميع المصادر هو: هوذة بن علي الحنفي، انظر "المنتظم" 3/ 290.
(4/284)
________________________________________
سَلَمة، فقال: حتى أستأمرها، فاستأمرها، فقالت: أفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستأمرني؟ زوجه، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها مسنة، فرجع ابنها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فسكت، ولم يجبه (1).
وقيل: إنها هي التي طلبت ثوبًا تستتر وتطوف بالبيت فلم تجده فقالت (2): [من الرجز]
اليومَ يبدو بعضُه أو كلُّه ... وما بدا منه فلا أُحلُّه
صفيَّةُ بنت بَشَّامة بن نَضْلَة العنبري، أخت الأعور العنبري، قال ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سباها، فخطبها، وخيرها، فقال: "إن شِئْتِ أنا وإن شِئْتِ زَوجَكِ" فقالت: زوجي، فأرسلها، فلعنتها بنو تميم (3).
جَمْرة بنت الحارث بن عوف المري [وقيل: حمرة]، خطبها - صلى الله عليه وسلم - إلى أبيها، ولم يكن بها شيء، فقال أبوها: إن بها سوءًا، أي: بَرصًا، فرجع أبوها، فوجدها قد برصت، وقال ابن قتيبة: وهي أم شبيب بن البرصاء، والحارث (4) بن عوف، هو صاحب بني عبس وذبيان.
[وحكى البلاذري عن المدائني أنها يقال لها: البرصاء، ولم يكن بها يرص، وإنما كانت أدماء، فسميت برصاء على القلب] (5).
سودة قرشية، كانت مصبية، خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أكره أن يَضْغَوا صبيتي عنده، فدعا لها (6).
وثلاث نسوة لم تذكر أسماؤهن:
إحداهنَّ كلبية، قال هشام: بعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة لتنظر إليها، فلما عادت
__________
(1) "الطبقات" 10/ 148، و"أنساب الأشراف" 1/ 550.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 550.
(3) "الطبقات" 10/ 148.
(4) في (أ) و (خ): "والخزل"، والحارث بن عوف هو صاحب الحمالة بين هذين الحيين. "المعارف" ص 140.
(5) "أنساب الأشراف" 1/ 551.
(6) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 27، وفيه: يضغوا صبيتي عند رأسك، قوله: يضغوا؛ أي: يصيحوا.
(4/285)
________________________________________
قال لها: "ما رَأَيتِ"؟ قالت: ما رأيتُ طائلًا، فقال: "لقَدَ رأيتِ بخَدَّها خَالًا اقشَعرَّت له كلُّ شَعرَةٍ منكِ" فقالت: ما دونَكَ سِترٌ (1).
والثانية من العرب خطبها، فقالت: حتى أستأمر أبويَّ، فشاورتهما، فأذنا لها، فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: "قد الْتَحفْنَا لِحافًا غَيرَكِ" (2).
القسم الرابع: من عرضن عليه - صلى الله عليه وسلم - فأباهن:
وهن ثلاث:
دُرَّة بنت أم سلمةَ، [قال هشام: قالت أم حبيبة: يا رسول الله، بلغنا أنك تخطب درة، فقال: "لو لم تكن أمها عندي لما حلت لي، أرضعتني وأباها ثويبة مولاة بني هاشم" (3).
قال أحمد بإسناده عن] زينب بنت أبي سلمة: أن أم حبيبة زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرتها أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، انكح أختي ابنة أبي سفيان، فزعمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "أَوَتُحبِّين ذلِكَ؟ " قالت: نعم [لست لك بمخلية، وأَحبُّ إليَّ من شاركني في خير أختي، قالت: فقال لي: "إن ذلِكَ لا يَحِلُّ لي" فقلت: يا رسول الله، إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة فقال: "أبِنتَ أَبِي سَلَمة؟ ! " قالت: نعم] قال: "وايمُ اللهِ إنَّها لو لم تكُن رَبِيبَتي في حِجري ما حلَّت لي، إنَّها بنتُ أَخي من الرَّضاعةِ، أَرضَعتني وأباها ثُويبة، فلا تَعْرِضن عليَّ بناتِكنَّ ولا أَخواتِكُنَّ"، أخرجاه في "الصحيحين" (4).
وقد اختلفوا في عدد أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
فقال الطبري: تزوج خمس عشرة امرأة، دخل بثلاث عشرة، وجمع بين إحدى عشرة (5).
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 550 - 551.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 551. ولم يذكر المصنف الثالثة.
(3) "أنساب الأشراف" 1/ 551.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (27412)، والبخاري (5106)، ومسلم (1449).
(5) "تاريخ الطبري" 3/ 161.
(4/286)
________________________________________
وقال محمد بن كعب القرظي: تزوج ثلاث عشرة امرأة (1).
وقال علي بن الحسين: خمس عشرة، وقد ذكرنا جملتهن نيفًا وثلاثين امرأة. [ذكر بعضهن هشام بن محمد، والبعض البلاذري، والمدائني، والواقدي، وجدي في "التلقيح" وشيخنا الموفق في "الأنساب"، فما ذكره الطبري وغيره بالنسبة] (2).
فصل في سراري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
[حكى أبو عبيدة وغيره قالوا: ] كان له أربع سراري يطؤهنَّ بملكِ اليمين:
مارية [القبطية، وريحانة، وربيحة القرظية، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش (3).
فأما مارية] بنت شَمْعُون القِبطية، وهي أمُّ إبراهيم - عليه السلام - بعث إليه بها صاحب الإسكندرية [وأختها سيرين وهبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت، فهي أم ولده عبد الرحمن، وقد ذكرنا هذا]، توفيت سنة ست عشرة (4).
وأما رَيْحانة [فحكى جدي في "التلقيح" عن ابن سعد أنه قال: هي ريحانة] بنت زيد ابن عمرو بن خُنافة.
[قال: وقال الكلبي: هي ريحانة بنت شمعون بن زيد] كانت عند رجل من بني قريظة يقال له: الحكم، فسباها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فأعتقها وتزوج بها في سنة ست من الهجرة، وماتت مرجعه من حجة الوداع فدفنها في البقيع.
قال: وقال الواقدي: ماتت سنة ست عشرة من الهجرة وصلى عليها عمر، قال: وقد سمعت من يقول: إنه كان يطؤها بملك اليمين، ولم يعتقها (5). هذا صورة ما ذكره جدي في "التلقيح".
قلت: وقد اختلفوا فيها: فقال البلاذري: اصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح قريظة]
__________
(1) "الطبقات" 10/ 205.
(2) ما بين معكوفين من (ك)، وانظر تلقيح فهوم أهل الأثر 28، والتبيين 71.
(3) انظر "المستدرك" للحاكم 4/ 45.
(4) "الطبقات" 10/ 201، و"الإصابة" 4/ 404.
(5) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 23، وانظر طبقات ابن سعد 10/ 125.
(4/287)
________________________________________
فعرض عليها الإسلام فأبت إلا اليهودية، فعزلها عنه، ثم أسلمت بعد ذلك، فعرض عليها أن يتزوجها، فأبت، وقالت: أراني في ملكك، فهو أروح لي ولك، فكان يطؤها بحكم الملك.
[وكانت تحت رجل يقال له: عبد الحكم، وهو ابن عمها من قريظة، وقيل أبو الحكم، وكان لها مكرمًا فأبت أن تتزوج بعده (1).
وقال أبو معشر: اسمها ربيحة، تدعى القرظية.
وقال البلاذري أيضًا: عن محمد الأعرابي قال: سمعت أزهر السمان يحدث عن ابن عون] عن ابن سيرين قال: لقي رجل ريحانة في الموسم فقال لها: إن الله لم يَرضَ أن يجعلك أمًا للمؤمنين، فقالت: وأنت لم يرضك الله لي ابنًا (2).
[وهذا يدل على أنها لم تكن من أزواجه.
وحكى ابن سعد عن الواقدي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري قال: كانت ريحانة قرظية ملكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أعتقها وتزوجها، ثم طلقها، فقالت: لا يراني أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
قلت: والأول أصح، ولو كانت من أزواجه لقسم لها وحجبها، إلى غير ذلك، ولم ينقل والله أعلم] (4).
* * *
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 543.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 543.
(3) "الطبقات" 10/ 127.
(4) ما بين معكوفين من (ك)، وأما الجارية التي وهبتها له زينب بنت جحش، وهي أنه - صلى الله عليه وسلم - هجر زينب في حجة الوداع لما قال لها: أفقري أختك صفية جملًا، فقالت: أنا أفقر يهوديتك، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع ذلك منها، فهجرها شهرًا ثم رضي عنها ودخل عليها فوهبت هذه الجارية، والحديث أخرجه أحمد في "مسنده" مطولًا (26866)، وسمى ابن حجر في "الإصابة" 4/ 420 هذه الجارية: نفيسة.
(4/288)
________________________________________
الباب الثالث عشر: في ذكر خدمه ومواليه - صلى الله عليه وسلم -
[قال علماء السير: ] قد خدمه - صلى الله عليه وسلم - جماعة، منهم:
أنس بن مالك، وكان خصيصًا به، خدمه عشر سنين حضرًا وسفرًا.
وكان ابن مسعود صاحب نعليه، إذا قام ألبسه إياهما، وإذا خلعهما جعلهما في ذراعيه، حتى يقوم.
وخدمه أسماء وهند ابنا حارثة الأسلميان، وربيعة بن كعب، وأبو السمح، واسمه إياد.
[وقال ابن عبد البر: ضل فلا يدرى أين مات، وقيل: إنه مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (1).
وكان عقبة بن عامر الجهني يقود بغلته وناقته في السفر.
وكان الأسْلَع يرحل له ناقته، وهو الأَسْلَع بن شريك بن عوف الأَعرجي، وقيل اسم الأَسْلَع: ميمون بن سناد، وذكره جدي في "التلقيح" فقال: الأسلع بن شريك بن الحارث التميمي (2).
والأسلع الذي روى حديث التيمم، قال: أجنبت ليلة فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أسْلَعُ، قُم فارحَلْ نَاقَتي" فقلت: يا رسول الله، أصابني جنابة، فأمره بالتيمم، فضرب ضربتين ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين (3).
[وأما هند وأسماء ابنا حارثة الأسلميان، فكانا يخدمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلازمان ثيابه، وأسماء هو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من كان أكل يوم عاشوراء ... "
__________
(1) "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 4/ 99، وانظر "الإصابة" 4/ 95.
(2) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 118.
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (875)، وفي الأوسط، (541)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 262 وقال: فيه الربيع بن بدر، وقد أجمعوا على ضعفه.
(4/289)
________________________________________
الحديث (1). وقيل: بعث معه هند بن حارثة وكنيته أبو محمد، وهو وأخوه هند من أهل الصفة.
قال ابن سعد عن الواقدي: مات أسماء بالبصرة في سنة ست وستين وهو ابن ثمانين سنة.
قال ابن سعد: وغير الواقدي يقول: مات بالبصرة في أيام زياد في خلافة معاوية بن أبي سفيان (2).
وقال ابن عبد البر: شهد هند بن حارثة بيعة الرضوان مع أخوة له سبعة، وهم: أسماء، وفراس، وذؤيب، وفضالة، وسلمة، ومالك، وحمران، ولم يشهدها أخوة في عددهم غيرهم، ومات هند بالمدينة في أيام معاوية (3).
وقد خدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكير، ويقال: بكر] بن الشُّدَاخ الليثي وكان غلامًا، فلما احتلم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله قد كنت أدخل على نسائك وأهلك وأنا غلام، وقد بلغت مبلغ الرجال، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
وهو الذي قتل اليهودي، روى ابن مَنْدَه، عن عبد الملك بن يعلى قال: خدم بكير ابن شُدَاخ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فلما كان في زمن عمر بن الخطاب وجدوا يهوديًا مقتولًا، فصعد المنبر، وقال: أذكِّر اللهَ رجلًا كان عنده علمٌ من هذا الأمر إلَّا أَعلمني، فقام بكير بن شداخ، فقال: أنا قتلته، فقال عمر: الله أكبر بؤت بدمه وإلا هات المخرج، فقال: خرج فلان غازيًا، ووكلني بأهله، فجئت إلى بابه، فوجدت هذا اليهودي في منزله وهو يقول (5): [من الوافر]
__________
(1) أخرجه البخاري (1924)، ومسلم (1135) من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلًا ينادي في الناس يوم عاشوراء: "إن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل".
وأخرجه أحمد في "مسنده" (15962) عن هند بن أسماء قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومي من أسلم فقال: "مر قومك فليصوموا هذا اليوم يوم عاشوراء، فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه، فليصم آخره".
(2) "الطبقات" 5/ 227.
(3) "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 3/ 599 - 600.
(4) انظر "البداية والنهاية" 5/ 333، و"الإصابة" 1/ 163 - 164.
(5) "البداية والنهاية" 5/ 333.
(4/290)
________________________________________
وأشعثَ غرَّه الإسلامُ مني ... خلوتُ بعِرسهِ ليل التمامِ
أبيتُ على تَرائبها ويُمسي ... على شدِّ الأعنَّة والحزامِ
[كأنَّ مجامعَ الرَّبَلاَت منها ... فئامٌ ينهضون إلى فئام
الربلات باطن الفخذ، قال: فصدق عمر قوله وأبطل دم اليهودي بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لبكير بن شُدَاخ وخدمته له].
وخدمه سعد مولى أبي بكر رضوان الله عليه فقال لأبي بكر: أعتقه، فقال: ما لنا خادم غيره، [قال: أتاك الرجال أي: السبي] فأعتقه.
[قال ابن عبد البر: روى سعد مولى أبى بكر عن الحسن البصري] ويقال: اسمه سعيد وبُعد في أهل البصرة (1).
فأما مواليه - صلى الله عليه وسلم -:
فأحمر وكنيته أبو عَسِيب [وفي الصحابة من اسمه أحمر خمسة، منهم هذا] (2).
أسلم وكنيته أبو رافع (3)، وكان عبدًا للعباس بن عبد المطلب، فوهبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أسلم العباس، بشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه، فأعتقه، [وقد كان أسم بمكة مع العباس] وشهد الخندق (4) [وهو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع رجلٍ من الأنصار يخطب ميمونة بنت الحارث (5).
قال ابن سعد]: وهو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع زيد بن حارثة من المدينة إلى مكة ليحمل عيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة عند الهجرة (6).
[قال ابن سعد: وهو الذي ضربه أبو لهب بالعمود بمكة لما جاء خبر بدر]، وهو الذي
__________
(1) "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 2/ 48، وفيه: أن الحسن البصري هو من روى عن سعد، وانظر "الإصابة" 2/ 39.
(2) "الطبقات" 9/ 59، و"الإصابة" 4/ 133.
(3) "الطبقات" 4/ 67، و"الإصابة" 4/ 67.
(4) "الطبقات" 10/ 130.
(5) "الطبقات" 4/ 68.
(6) "أنساب الأشراف" 1/ 567.
(4/291)
________________________________________
بشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بولادة إبراهيم ابنه - عليه السلام -. ويقال: هو الذي عمل منبر رسول الله (1) - صلى الله عليه وسلم -.
[وذكره ابن عبد البر فقال: شهد أسلم أحدًا والخندق وما بعدها] وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولاته سلمى [وشهدت خيبر، وولدت له عبيد الله بن أبي رافع (2). قال: ] وكان أبو رافع من فضلاء الناس إلا أنه كان فيه عي شديد.
[رأته امرأته في المنام بعد موته، فقال لها: لي على فلان الصيرفي مائتي دينار، فلما انتبهت جاءت إلى الصيرفي فأخبرته، فقال: والله ما علمته قط، فدخلت المسجد فرأت أشياخًا من آل أبي رافع كلهم مقبول القول، فأخبرتهم، فقالوا: ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة، قدميه إلى الحاكم لنشهد لك عليه، وبلغ الصيرفي فجاء إليهم فقال: أصلحوا بيني وبينها على مئة دينار صلحًا عن مئتي دينار ادعاها عليَّ أبو رافع في النوم، وإنها قد أبرأتني، فربما ترى أبا رافع في النوم مرة أخرى، ففكر القوم فاستيقظوا من غفلتهم وقالوا للمرأة: قبح الله ما جئت به ولم يحصل لها شيء.
واختلفوا في اسمه على أقوال:
أحدها: أَسْلَم وهو المشهور. والثاني: هُرمز. والثالث: إبراهيم. والرابع: ثابت. والخامس: يزيد.
وقال ابن عبد البر: توفي بعد مقتل عثمان بن عفان بيسير في سنة ست وثلاثين، وفي الصحابة ستة كل واحد اسمه أسلم أحدهم هذا، وفي اسمه خلاف كما ذكرنا] (3).
أسامة بن زيد - رضي الله عنه - وسنذكره في سنة ستين [في آخر أيام معاوية].
أنسة، وكنيته أبو مسروح [وقيل: أبو مسرح] من مولدي السراة، [واختلفوا فيه: فحكى ابن سعد عن الواقدي]: أنه قتل يوم بدر شهيدًا (4). وقيل: إنه من الفرس، [وكانت أمه حبشية وأبوه فارسيًا، واسم أبيه كردويه.
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 567.
(2) "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 1/ 85 - 87.
(3) "الاستيعاب" 1/ 87، وفيه قبل قتل عثمان، ولم يذكر السنة.
(4) "الطبقات" 3/ 46.
(4/292)
________________________________________
وروى عن الواقدي أنه قال: الثبت عندنا] أنه شهد بدرًا واحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوفي في خلافة أبي بكر رضوان الله عليه (1).
[وقيل: إنه] كان يستأذن للناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وليس في الصحابة من اسمه أنسة غيره، وليس له رواية.
أيمن بن أم أيمن الحبشي، له رؤية ورواية. وأبوه عبيد الخزرجي تزوج أم أيمن بمكة ثم فارقها، فزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدَ بن حارثةَ بعد أن أعتقها، [وقد ذكرنا أن أيمن قد قتل بحنين شهيدًا].
ثوبان، [واختلفوا في اسم أبيه، فقيل: ابن بجدد، وقال ابن يونس: بحدد، وقيل: جحدر (2)] وكنيته أبو عبد الله، اشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأعتقه. قال ابن يونس: وهو من أهل اليمن، وقيل: من السراة ولم يزل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] حتى قبض.
[وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة (3). وقال هشام بن محمد] وكان يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصبر عنه. وفيه نزل قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
[وقال أبو سعيد بن يونس]: شهد ثوبان فتح مصر، واختط بها دارًا، [وكذا حكى أبو القاسم في "تاريخ دمشق" عن ابن منده أنه قال: لثوبان بمصر دار وبالرملة أخرى (4).
واختلفوا في وفاته] فقيل: إنه توفي بمصر سنة أربع وأربعين، وقال ابن سعد: نزل بحمص ومات بها في سنة أربع وخمسين (5). ومنزله بحمص [عند] حمام جابر، وله بها عقب، وقيل: إنه لم يعقب، [وكانت وفاته في أيام عبد الله بن قُرظ]، وكان نزل دمشق، ثم نزل الرملة، ثم عاد إلى حمص.
__________
(1) "الطبقات" 3/ 46.
(2) انظر "تاريخ دمشق" 1/ 166.
(3) "الطبقات" 5/ 98.
(4) "تاريخ دمشق" 11/ 172.
(5) طبقات ابن سعد 5/ 98 و 9/ 404.
(4/293)
________________________________________
[وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نيفًا وثلاثين حديثًا، أخرج له مسلم عشر أحاديث، ولم يخرج له البخاري شيئًا، وهو الذي روى حديث الحوض، وسنذكره في آخر السيرة.
ومن مسانيده ما أخرجه أحمد في "مسنده"، فقال بإسناده، عن سليمان المنْبِهي عن ثوبان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر آخر عهده بإنسانٍ فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، قال: فقدم من غَزاةٍ فأَتاها، فإذا بمِسْحٍ على بابها ورأى على الحسن والحُسين قُلْبَين من فضة، فرجَعَ ولم يدخل عليها، فهتكت فاطمة السِّتر ونزعت القُلْبين فقطعتهما ظنًا أنه لم يدخل عليها لأجل ذلك، فبكى الصَّبيَّان، فقسَمت القُلْبين بينهما، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما يبكيان، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهما فقال: "يا ثَوبانُ، اذهَبْ بهذا إلى بَني فُلانٍ - أهل بيتٍ في المدينة - واشتَرِ لفاطمةَ قِلادةً من عَصَب وسِوارَيْن من عاجٍ، فإنَّ هؤلاءِ أهلُ بَيْتِي، ولا أحبُّ أن يَأكُلُوا طيِّباتِهم في حَياتِهمُ الدُّنيا" (1).
"العصب": ثوب، أي يفتل ثم يغسل ثم يصبغ ثم يحاك (2). وقال الجوهري: "العَصْب" ضربٌ من برود اليمن (3).
قلت: ولا معنى أن تكون القلادة من البرود، وإنما قد روي: "واشتر لفاطمة قلادة من جزع ظفار" وهو أولى.
وأما "العاج" فقال الأصمعي: هو خشب الذبل. وقال الجوهري: العاج عظم الفيل (4).
وفي هذا الحديث دليلٌ على طهارة عظم الميتة.
وفي الصحابة من اسمه ثوبان ثلاثة أحدهم هذا.
أفلح (5)، ذكره ابن البرقي، وقال: له حديث، وهو الذي يقال له: مولى أم سلمة، وليس في الصحابة من اسمه أفلح إلا هو وآخر، يقال له: أفلح أخو أبي
__________
(1) أحمد في "مسنده" (22363).
(2) انظر "فتح الباري" 9/ 491.
(3) "الصحاح" (عصب).
(4) "الصحاح": (عوج).
(5) "الإصابة" 1/ 57 - 58.
(4/294)
________________________________________
القعيس، وكنيته أبو الجعد، ولهما رؤية وليس لهما رواية].
حُنين (1)، كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوهبه العباس، فأعتقه [وليس في الصحابة من اسمه حنين غيره، وليس له رواية.
وخدمه جماعة منهم من سميت ومنهم ما سميت مخافة التطويل].
ذكوان، وقيل: اسمه مهران، وقيل: طهمان، وقيل: ميمون، وقيل: كيسان، وقيل: باذام.
رافع بن عبد الله.
رويفع، غير رافع.
رباح، كنيته أبو أيمن، كان يأذن للناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جعله على لقاحه مكان يسار لما قتل (2).
زيد بن حارثة - رضي الله عنه -.
زيد بن بَوْلا (3).
زيد بن المنذر من بني قريظة، كان مكاتبًا، فابتاعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه (4).
زيد أبو يسار (5)، من رواياته: قال بلال بن يسار بن زيد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سمعت أبي يحدِّث عن جدي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قال: أَستَغفِرُ اللهَ الذي لا إلَه إلَّا هو الحيُّ القيومُ وأتوبُ إليه، غُفِرَ له وإن كانَ قد فَرَّ من الزَّحفِ" (6).
سابق (7)، وليس في الصحابة من اسمه سابق غيره.
__________
(1) "الإصابة" 1/ 362.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 575، و"الإصابة" 1/ 502.
(3) "الإصابة" 1/ 561.
(4) ويكنى أبو لبابة، "أنساب الأشراف" 1/ 73. و"الإصابة" 4/ 168.
(5) "الطبقات" 5/ 99، و"الإصابة" 1/ 561 وهو زيد بن بولا كما في "الإصابة".
(6) أخرجه أبو داود (1517)، والترمذي (3577).
(7) هو وهم كما قال الحافظ في "الإصابة" 2/ 119 - 120: وإنما جاء الحديث عن سابق بن ناجية عن خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانظر الحديث في "مسند" أحمد والاختلاف عليه (18967)، و"الإصابة" 4/ 93.
(4/295)
________________________________________
سالم (1)، مولد، شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلَّها، وتوفي أول يوم ولي عمر الخلافة.
سعيد بن لبيد بن سلمان الفارسي، نذكره في سنة اثنتين وثلاثين.
سليم (2) أبو كبشةَ الدَّوسي، من مُولَّدي أرض دوس، ابتاعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، فشهد معه بدرًا والمشاهد كلَّها.
شُقْران (3)، وقيل: اسمه الصالح بن عدي، وقيل: أوس، وقيل: هُرمز، وشقران لقب له، وكان حبشيًا، ورثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمه وأبيه، وقيل: كان لعبد الرحمن بن عوف فوهبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، وقيل: أخذه من عبد الرحمن باليمن، وقيل: هو من سبي الفرس.
وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا، وكان على الأسرى، ولم يسهم له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل أجزاه كل رجل له أسير فحصل له أكبر ما حصل من المغنم، وله عقب بالبصرة والمدينة.
واستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما وجد في رحال أهل المريسيع من المتاع، والسلاح، والنعم، والشاء، والذرية، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل المريسيع: "كيفَ وجَدتُم شُقْرانَ؟ " فقالوا: أشبع بطوننا، وشدَّ وثاقنا (4).
وهو الذي نزل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطرح القطيفة فيه.
ومات في خلافة عمر رضوان الله عليه، فبعث ابنه عبد الرحمن إلى أبي موسى الأشعري، وكتب إليه: قد بعثت إليك عبد الرحمن ابن الرجل الصالح شقران، فاعرف له مكان أبيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ضُميرة بن أبي ضُميرة (5)، وصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعتقه، وخيَّره بين المقام
__________
(1) وهو أبو كبشة الآتي انظر "الطبقات" 3/ 46، و"الإصابة" 4/ 165.
(2) تقدم باسم سالم وانظر التعليق السابق.
(3) "الطبقات" 3/ 47، و"أنساب الأشراف" 1/ 568 - 569 و"الإصابة" 2/ 153.
(4) "أنساب الأشراف" 1/ 569.
(5) "الطبقات" 5/ 103، و"أنساب الأشراف" 1/ 574، و"الإصابة" 2/ 214.
(4/296)
________________________________________
عنده، وبين اللحاق بأهله، فاختار أن يقيم معه.
ثم كتب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا يتضمن الوصية به وبأهل بيته، قال حسين بن عبد الله ابن أبي ضميرة: كتب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا: "بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم، هذا كتابٌ من محمدٍ رسولِ الله لأبي ضُميرة وأهل بيتهِ، إنَّهم كانوا أهلَ بيتٍ من العربِ، وكانوا ممَّا أفاءَ اللهُ على رسولهِ، فأعتقهم، وإنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خيَّر أبا ضميرة أن يَلحقَ بقومهِ، أو يكونَ معه، فاختارَ المُقامَ عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحَق لقيَه أو أحَدًا من أهله من المسلمين، فلا يتعرَّض لهم إلا بخير، وليستَوصِ بهم خيرًا"، وكتب أُبيُّ بن كعب، فخرج أبو ضُميرة في طائفةٍ من قومه فخرج عليهم قطاع الطريق، فأخذوا ما معهم، فأخرجوا الكتاب، فقرؤوا ما فيه، فردوا عليهم ما أخذوا منهم (1).
ووفد حسين بن عبد الله بن أبي ضُميرة على المهدي فأراه الكتاب، فقبَّله، ووضعه على عينيه، وأعطى حسينًا ثلاث مئة دينار (2).
عبيد بن أبي أسلم (3)، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا.
فضالة اليماني (4) نزل الشام، بن أبي معجمه (5).
ذكره ابن ماكولا.
كركرة (6)، وقيل: هو الذي كان على ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هُو في النَّارِ" فنظروا وإذا به قد غلَّ عباءة (7).
كيسان، وقيل: هو سفينة.
مأبُورا (8)، وهو الذي أهداه المقوقس مع مارية، وكان خصيًا.
__________
(1) "الطبقات" 5/ 104.
(2) "الطبقات" 5/ 104.
(3) "الطبقات" 5/ 99.
(4) انظر أنساب الأشراف 1/ 570، و"الإصابة" 3/ 208، وتاريخ دمشق 58/ 41 (مجمع اللغة).
(5) هكذا رسمت في النسخ ولم نهتد لها.
(6) "أنساب الأشراف" 1/ 575، و"الإصابة" 3/ 293.
(7) أخرجه البخاري (3074) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -.
(8) "الإصابة" 3/ 334. وضبطه الحافظ بغير ألف في آخره.
(4/297)
________________________________________
محمد (1)، كان مجوسيًا، فسمع بذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج ومعه تجارة من مرو حتى قدم المدينة، فأسلم على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسماه محمدًا، ثم رجع إلى منزله بمرو مسلمًا، وداره قبالة المسجد الجامع.
مِدْعَم (2) أسود، أهداه له رفاعة الجذامي، وكان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويرحل له فجاءه سهم عائر فقتله، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلَّا والذي نَفسي بِيَدِه، إنَّ الشَّمْلَة التي أخذها يومَ خيبرَ من الغَنائمِ لَتَشْتَعِلُ عليه نارًا" (3).
مهران، من مولَّدي الأعراب، ولقبه: سفينة [واختلفوا في اسمه على أقوال: أحدها: هذا المشهور، قاله إبراهيم الحربي. الثاني: رُومان، قاله الهيثم بن عدي. والثالث: كَيسان، والرابع: طِهمان. والخامس: عبس. والسادس: رباح. والسابع: أحمر. والثامن: سبيه بن مارقية، ذكره الطبري قال: وهو من الفرس (4). والأول أصح، نص عليه إبراهيم الحربي]، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو البَخْتَري.
وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من المهاجرين وقال: اشترته أم سلمة، وأعتقته على أن يخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عاش، فقال: لو لم تشترطي علي لخدمته، فخدمه عشر سنين (5).
[وقال ابن سعد بإسناده عن سعيد بن جُمْهان قال: سألت مهران: لم سميتَ سفينة؟ فقال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فثقل عليهم متاعهم، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ابسُطْ كِسَاءَكَ" فبسطته فحولوا عليه أمتعتهم ثم حملوه على ظهري، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احمِلْ فما أنْتَ إلا سفينةٌ" ثم حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة فما ثقل علي (6).
__________
(1) "الإصابة" 3/ 385.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 574، و"الإصابة" 3/ 394.
(3) أخرجه البخاري (6707)، ومسلم (115) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(4) "تاريخ الطبري" 3/ 171.
(5) "الطبقات" 5/ 100.
(6) "الطبقات" 5/ 100.
(4/298)
________________________________________
وحكى عنه ابن سعد أيضًا قال: ركبتُ البحر، فانكسرت بنا السفينة، فتعلَّقتُ منها بشيءٍ، فخرجت إلى الجزيرة، فإذا بالأسدِ، فقلت له: يا أبا الحارثِ، أنا سفينةُ مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبيه يدلني على الطريق، فلما خرجت إلى الطريق هَمْهَم، فظننت أنه يودعني وانصرف (1).
وليس في الصحابة من اسمه مهران غيره، ولا من يلقب بسفينة سواه، وقد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث، قال الهيثم: روى عنه أربعة عشر حديثًا.
قلت: وقد أخرج له أحمد ستة أحاديث].
نافع (2)، من مولَّدي السَّراة، روى عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث.
نبيه (3)، اشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه.
نُفيع، وهو أبو بكرة، نذكره في سنة إحدى وخمسين.
واقد (4)، ويقال له: أبو واقد.
وَرْدان (5)، مات في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
هشام (6)، يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث.
يسار (7)، كان عبدًا نوبيًا، دُفع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته فأعتقه، وقيل: كان حبشيًا لعامر اليهودي، وهو الذي قتله العرنيون، وقيل: هما اثنان.
* * *
__________
(1) "الطبقات" 5/ 101.
(2) انظر "الإصابة" 3/ 547.
(3) انظر "الإصابة" 3/ 552.
(4) انظر "الإصابة" 3/ 628.
(5) "الإصابة" 3/ 633.
(6) "أنساب الأشراف" 1/ 575، و"الإصابة" 3/ 606.
(7) ذكره ابن حجر في "الإصابة" 1/ 561 في زيد بن بولا، وسبق ذكره عند المصنف، وانظر "أنساب الأشراف" 1/ 569.
(4/299)
________________________________________
ذكر من عرف منهم بكنيته:
أبو الحمراء، واسمُه هلال بن الحارث، شهد بدرًا وأحدًا، ونزل حمص، وله بها عقب، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث (1).
أبو رافع (2)، كان لأبي أُحيحة سعيد بن العاص، فورثه بنوه، فأعتق ثلاثة منهم، وقتلوا يوم بدر، أعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول: أنا مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أبو السَّمْح (3)، واسمه سعد.
أبو مُوَيهِبَة، من مولَّدي السَّراة، من مُزينة، اشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، وهو الذي خرج معه إلى البقيع لما استغفر لأهله، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين، شهد المريسيع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يقود جمل عائشة رضوان الله عليها، وكان عبدًا صالحًا (4).
وقال محمد بن حبيب الهاشمي في المحبر: من موالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
أبو لُبابةِ، وأبو هند، وأبو لَقيط، وأبو أُثيلة وكلهم أعتَقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو هند كان يحجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مولًى لفروة بن عمرو البَياضي، فوهب بنو بياضة ولاءه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بدرًا (5).
وأبو سلمى راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل: أبو سلامة، واسمه حريث (6).
وأبو صفية، كان من المهاجرين (7).
وأبو عَسِيب، له صحبة ورواية (8).
وأبو كَبْشة (9).
__________
(1) انظر "الإصابة" 4/ 46.
(2) انظر "تاريخ دمشق" 4/ 262، و"الإصابة" 4/ 67.
(3) انظر "تاريخ دمشق" 4/ 323، و"الإصابة" 4/ 95.
(4) "الطبقات" 5/ 101، و"أنساب الأشراف" 1/ 574، و"الإصابة" 4/ 188.
(5) "المحبر" ص 128، وانظر "الطبقات" 4/ 403، و"الإصابة" 4/ 211.
(6) "الطبقات" 8/ 180، و"الإصابة" 4/ 94.
(7) "تاريخ دمشق" 4/ 292، و"الإصابة" 4/ 109.
(8) "الطبقات" 9/ 59، و"الإصابة" 4/ 133.
(9) "الطبقات" 3/ 46.
(4/300)
________________________________________
وأبو ريحانة (1)، واسمه شمعون بن زيد بن خنافة القرظي، أنصاري حليف لهم، وكانت ابنته ريحانة سرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، له صحبة وسماع، وكان من فضلاء الزاهدين في الدنيا، نزل الشام، وشهد فتح دمشق، واتخذها دارًا، ثم سكن بيت المقدس، ويقال: إنه سكن مصر، وحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته، وكان يقصّ، ودعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن ولده محمد بن حكيم بن أبي ريحانة، كان من كتاب الدمشقيين، وهو أول من طوى الطومار وكتب فيه مدرجًا مقلوبًا (2).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ريحانة: "عَليكَ بكَثْرةِ السُّجودِ" (3).
قال ابن عساكر: كان أبو ريحانة مرابطًا بميَّافارِقِين، فاشترى رسنًا من بعض أهلها بفلوس، ثم سافر إلى الشام فلم يذكر الثمن حتى وصل إلى الرستن، وبين الرستن وحمص اثنا عشر ميلاً، فقال لغلامه: أعطيت لصاحب الرسن الفلوس؟ قال: لا، فنزل عن دابته، فدفعها إلى غلامه، وأوصى أصحابه، ثم انصرف إلى صاحب الرسن، ثم عاد إلى الشام (4).
وقال ابن أبي الدنيا: ركب أبو ريحانة البحر، وكان معه إبرةٌ يخيط بها، فسقطت في البحر، فقال: عزمتُ عليك يا ربِّ إلا رددتَ عليَّ إبرتي، فظهرت على الماء حتى أخذها (5).
واشتدَّ عليهم البحر فقال له: إنما أنت عبد، اسكن بإذن الله، فسكن حتى صار كالزيت (6).
* * *
__________
(1) "تاريخ دمشق" 23/ 193، و"الإصابة" 2/ 156.
(2) "تاريخ دمشق" 23/ 198.
(3) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2327)، وابن عساكر في "تاريخه" 23/ 201، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 250 وقال رواه الطبراني في "الكبير" من رواية شيخه إبراهيم بن محمد بن عرق بن الحمصي قال الذهبي: غير معتمد.
(4) "تاريخ دمشق" 23/ 203.
(5) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2320)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 23/ 204.
(6) "تاريخ دمشق" 23/ 204.
(4/301)
________________________________________
ذكر موليات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
[قال جدي رحمه الله في "التلقيح": أم أيمن، واسمها بركة، وأميمة، وخضرة، ورضوى، وريحانة، وسلمى، ومارية، وميمونة بنت سعد، وميمونة بنت أبي عَسِيب، وأم ضميرة، وأم عياش وقيل: هي مولاة ابنته رقية (1). [قلت: وقد اختلف أرباب السير فيهن، فقالوا: مارية وريحانة وربيحة هؤلاء الثلاثة كن لفراشه، ثم قالوا: وفي أسامي الصحابيات مارية أم إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومارية أخرى أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وبعضهم يجعلهم واحدًا.
قلت: ] وأما سلمى (2) [فقال الواقدي] فهي التي زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا رافع، فولدت له عبد الله، وقيل: رافعًا، وكانت لصفية بنت عبد المطلب فوهبتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت قابلة أولاد فاطمة - عليها السلام -، وإبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي التي ساعدت عليًا رضوان الله عليه في غسل فاطمة سلام الله عليها.
[قلت: روت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرج أحمد حديثًا واحدًا فقال بإسناده، عن أيوب بن حسن بن علي بن أبي رافع، عن جدته سلمى خادمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: ما سمعت أحدًا قط يشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعًا في رأسِه إلا قال له "احْتَجِم" ولا وَجَعًا في رجليه إلَّا قال: "اخْضِبهُما بالحِنَّاءِ" (3).
قالت: وكنت أخدمه، فما كانت تصيبه قرحة ولا نكبة إلا أمرني أن أضع عليها الحناء] (4).
وذكر ابن عبد البر ميمونة أخرى (5)، وذكر غيره ميمونة بنت أبي عنبسة (6)، وذكر رضوى أخرى.
__________
(1) "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 34 - 35.
(2) "الطبقات" 10/ 216، و"الإصابة" 4/ 333.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (27617).
(4) أخرجه الترمذي (2054)، وابن ماجه (3502).
(5) "الاستيعاب" بهامش "الإصابة" 4/ 409.
(6) وذكرها هو أيضًا 4/ 408.
(4/302)
________________________________________
الباب الرابع عشر: في ذكر مراكبه ومنائحه ونوقه
[قال الهيثم]: كان له - صلى الله عليه وسلم - تسعة أفراس.
[وحكى ابن سعد عن الواقدي قال: ] وأول فرسٍ ملكه السَّكْب، ابتاعه بالمدينة من رجل من بني فَزارة بعشر أواق فضة [وكان اسمه عند بائعه: الضرس فسماه رسول الله: السكب]، وأول غزاة غزا عليه أحد (1). وكان أشقر أغر محجلاً، وهو أول فرس سابق عليه فسبق، ففرح المسلمون [ويقال: إنه سابق بفرس اسمه سبحة] (2).
والثاني: المرتجز، وهو الذي اشتراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعرابي من بني مرة، وشهد له خزيمة بن ثابت (3).
والثالث: لِزَاز، أهداه له المُقَوقِس.
والرابع: الظَّرِب، أهداه له الربيعة بن البراء، وقيل: فروة بن عمرو الجُذامي عامل البلقاء لقيصر.
والخامس: اللُّخَيف، أهداه له سعد بن البراء.
والسادس: الورد، أهداه له تميم الداري، فأعطاه عمر بن الخطاب فحمل عليه في سبيل الله، ثم وجده يُباع بعد ذلك فأخذه (4).
والسابع: اليَعسوب (5).
والثامن: المرواح، أهداه له وفد الرَّهاويين (6).
__________
(1) "الطبقات" 1/ 421.
(2) "الطبقات" 1/ 421.
(3) "الطبقات" 1/ 422.
(4) "انظر "الطبقات" 1/ 422.
(5) "تاريخ الطبري" 3/ 174.
(6) "الطبقات" 1/ 297.
(4/303)
________________________________________
والتاسع: سبحة.
[قال هشام: ] وكانت له بغلتان شَهباوتان أحدهما دُلْدُل، أهداها له المُقَوقِس صاحب الإسكندرية [قال ابن سعد عن الواقدي: ] أول بغلة ركبت في الإسلام دُلْدُل، وبقيت إلى أيام معاوية فنفقت بيَنبُع (1).
والأخرى: فضة، أهداها له فروة بن عمرو الجُذامي، فوهبها لأبي بكر رضوان الله عليه.
وكان له حمار يقال له: يعفور، وقيل: عُفير، أهداه له المقوْقِس مع دلدل فنفق منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجة الوداع (2).
وقيل: إن فروة بن عمرو الجُذامي أهدى له يعفور، وأما عُفير فأهداه له المقوقس.
[وقيل: إنهما اسمان لحمار واحد، وقد أردف معاذ بن جبل على حمار يقال له: عفير.
وقد ذكر جدي في "الموضوعات" حديثًا في أسماء مراكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بإسناده، عن ابن عباس قال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيف محلَّى، قائمتُه من فضة، ونعلُه من فضة، وفيه حِلَق من فضة، وكان يسمى: ذا الفقار، وكان له فرس يسمى: القرقر (3) وآخر يقال له: المرتجز، وفرس أدهم يقال له: السكب، وسرج يسمى: الداج، وكانت له بغلة تسمى: الدلدل، وناقة يقال لها: القصواء.
وقد أجمع على هذه الأفراس عامة العلماء، كالواقدي وهشام وابن سعد وغيرهم.
قلت: وقد أخرج جدي في "الموضوعات" حديثًا في الحمار فقال بإسناده، عن محمد بن مزيد أبي جعفر مولى بني هاشم، حكى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له حمار أسود أخذه من خيبر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألَه ما اسمك؟ فقال الحمار: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حمارًا كلهم لم يركبه إلا نبي، ولم يبق من نسل جدي إلا أنا،
__________
(1) "الطبقات" 1/ 422 - 423.
(2) "الطبقات" 1/ 423.
(3) في الموضوعات (555): وكان له محجن يسمى القرقر.
(4/304)
________________________________________
ولا من الأنبياء غيرك، وكنت أتوقع أن غيرك يركبني. وأن رسول الله قال له: سميتك يعفورًا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يركبه لحاجته، فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل فيقرعه برأسه فيخرج صاحب الدار فيومئ إليه برأسه: أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء الحمار إلى بئر فتردى فيها فهلك حزنًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال: والمتهم بوضعه محمد بن مزيد فإنه ساقط الرواية (1)].
وأما لِقاحُه - صلى الله عليه وسلم - فكان له عشرون لِقْحَة بالغابة، وهي التي أغار عليها عُيينة بن حصن الفزاري، وهي التي كان يعيش بها أزواجه وأهله، كان يراح منها كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن، ومنها: الحَنَّاء، والسمراء، والعريس، والسعدية، والبغوم، واليسيرة والدَّبَّاء (2). فهذه السبع كانت غزارًا.
وكان له من النوق العضباء، ابتاعها من أبي بكر رضوان الله عليه باربع مئة درهم لما هاجر إلى المدينة (3).
[قال الواقدي: ] كان له - صلى الله عليه وسلم - مئة شاة، منها منائح سبعة: عجوة، وزمزم، وسُقيا، وبَرَكة، ووَرسة، وإطلال، وإطراف، وكانت أم أيمن ترعاهن (4).
* * *
__________
(1) "الموضوعات" 2/ 26 - 27 عقب (555).
(2) "الطبقات" 1/ 425.
(3) "انظر "الطبقات" 1/ 424.
(4) "الطبقات" 1/ 426.
(4/305)
________________________________________
الباب الخامس عشر: في ذكر لباسه وخاتمه وآنيته - صلى الله عليه وسلم -
[قال ابن سعد بإسناده عن] البراء بن عازب قال: ما رأيت أحدًا أحسن من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمراء. [أخرجاه في "الصحيحين" (1).
وقد أخرج أحمد بمعناه فقال بإسناده قال: سمعت أبا إسحاق يقول: سمعت البراء يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا مربوعًا بعيد ما بين المنكبين، عظيم الجمة، شعره إلى شحمة أذنيه، عليه حلة حمراء، ما رأيت شيئًا قط أحسن منه - صلى الله عليه وسلم -. متفق عليه (2).
وفي رواية: له شعر يضرب منكبيه (3)].
وقال [أحمد بإسناده عن] قتادة: قلت لأنس: أي اللباس كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: الحِبَرَة. [متفق عليه (4).
قال الجوهري: الحِبَرة بُرْدٌ يمان، والجمع حِبَرات وحِبَر] (5).
وقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: ربما صبغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه ورداءه وإزاره وعمامته بالزعفران والورس والعنبر (6). [قيل: والعنبر هو الزعفران عندهم.
وروى ابن سعد عن] أبي رِمْثَة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوبان أخضران (7).
[وروى ابن سعد عن] أنس قال: كان قميص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطنًا، قصير الكمين إلى الرسغ (8).
__________
(1) "الطبقات" 1/ 387، والبخاري (5848)، ومسلم (2337) (92).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (18473)، والبخاري (3551)، ومسلم (2337).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (18558).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13377)، والبخاري (5812)، ومسلم (2079).
(5) "الصحاح" (حبر)، وما بين معكوفات من (ك).
(6) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 388.
(7) "الطبقات" 1/ 389، وأخرجه أحمد في "مسنده" (7111).
(8) "الطبقات" 1/ 394.
(4/306)
________________________________________
وكان طول ردائه أربعة أذرع في ذراعين (1).
وقال عمر (2): رأيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبَّة ضيقة الكمين (3)
وكان أحب اللباس إليه البياض.
[فصل في حديث الخاتم:
قال أحمد بإسناده عن] ابن عمر قال: اتَّخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من ذهب، وكان يجعل فَصَّه مما يلي كفه، فاتَّخذه الناس، فرمى به، واتَّخذ خاتمًا من وَرِق (4).
[وقال أحمد بإسناده عن] ابن عمر قال: اتَّخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من وَرِق، فكان في يده، ثم كان في يدِ أبي بكر من بعدِه، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان، نقشُه: "محمد رسول الله". [الطريقان في "الصحيحين" (5).
وفي حديث عائشة: كان يتختم في يمينه ثم يحوله إلى يساره (6).
قال أحمد بإسناده عن] عقبة بن عامر الجهني قال: أهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرُّوجُ حرير، فلبسه، ثم صلّى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعًا شديدًا عنيفًا كالكاره له، ثم قال: "لا ينبغي هذا للمتّقينَ". [أخرجاه في "الصحيحين" (7).
وفي رواية: "ليس هذا لباسَ المتَّقين" (8).
و"الفروج": القباء المفرج من خلفه].
وقال محمد بن علي بن الحسين - رضي الله عنهم -: ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أثواب حبرة،
__________
(1) "الطبقات" 1/ 394 عن عروة بن الزبير.
(2) في النسخ: "ابن عمر"، والمثبت من المصادر.
(3) "الطبقات" 1/ 395، وأخرجه أحمد في "مسنده" (193).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (4677)، والبخاري (5865)، ومسلم (2091).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (4734)، والبخاري (5873)، ومسلم (2091) (54).
(6) أخرجه ابن عدي في "الكامل" 5/ 237.
(7) أخرجه أحمد في "مسنده" (17343)، والبخاري (5801)، ومسلم (2075).
(8) أخرجها الطبراني في "الكبير" 17/ (758).
(4/307)
________________________________________
وإزارًا عمانيًا وثوبين صحاريين وقميصًا صحاريًا، وقميصًا سحوليًا، وجبة يمانية، وملحفة مورَّسة، وخميصة وكساء أبيض، وثلاث قلانس لاطية صغارًا.
وقال هشام: كان له بردان أخضران يصلي فيهما الجُمع والأعياد، وكساء أسود، وبرد أحمر يلبسه في الجمعة والعيدين، وكان له مِنتقة (1) من أديم فيها سُيور، وحلق فضة وإبريسم، وحصيرة، وعباء يبسطها طاقين، وينام عليها، وخفان أسودان أهداهما له النجاشي، كان يمسح عليهما، وكانت له فروة مدبوغة، وخمرة يصلي عليها - وهي السجادة - ونعلان لهما قبالان، فكان يصلي فيهما، وكانت له ربعة فيها مشط من عاج، ومرآة ومكحلة، ومقراض، ومسواك، وكانت الربعة لا تفارقه سفرًا وحضرًا، وكان يكتحل بالإثمد وهو صائم، وكان له قدح مضبَّب بالفضة.
وأخرج البخاري، عن عاصم الأحول قال: رأيت عند أنس بن مالك قدحًا من نُضار قد انصَدع وقد سَلسَلَه بفضة، قال أنس: لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا القدح كذا وكذا مرة. قال ابن سيرين: وكان فيه حلقة من حديد، فاراد أنس أن يغيرها بحلقة ذهب أو فضة، فقال له أبو طلحة: لا تغير شيئًا صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتركه (2).
[وقال الواقدي: ] وكان له - صلى الله عليه وسلم - تور من حجارة، وطست من نحاس، وقدح من زجاج، وقصعة [وقدح] من عِيدان يبول فيه في الليل.
فإن قيل: فقد رويتم في ميراثه - صلى الله عليه وسلم - أنه ما ترك دينارًا ولا درهمًا، ولا شاة ولا بعيرًا ولا شيئًا؟
قلنا: قد روى عروة، عن عائشة أنها سُئلت عن ذلك فقالت: فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك كله قبل موته.
وروى الهيثم عن أشياخه أنهم قالوا: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا مما يسأل الإنسان عنه، وإنما ترك ما يُلبس ويُمتَهَن (3).
__________
(1) كذا في (أ، خ)، وفي (ك): منيفة، ولم أتبينها.
(2) أخرجه البخاري (5638).
(3) رسمت في النسخ: يمنن، ولعل المثبت هو الصواب.
(4/308)
________________________________________
وقد ضعف الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله ما روي عن محمد بن علي بن الحسين، وهو أيضًا منقطع لأنه لم يرفعه.
وذكر المدائني أن العباس خاصمَ عليًّا إلى أبي بكر رضوان الله عليه في ميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: العم أولى بالميراث أو ابن العم؟ فقال أبو بكر: العم، قال: فما بال درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبغلته دُلْدُل، وسيفه ذو الفقار عند علي، فقال أبو بكر رضوان الله عليه: هذا شيء وجدته في يده فأكره أن أنتزعه منه، فسكت العباس.
قال المصنف (1) رحمه الله: وهذا محمول على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهب ذلك لعلي قبل موته، وخفي ذلك عن العباس، وإلا فكيف يظن بعلي أن في يده ما لا يستحقه؟ ! .
* * *
__________
(1) في (ك): قلت.
(4/309)
________________________________________
الباب السادس عشر: في آلات حربه - صلى الله عليه وسلم -
قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ ومعه سيف ورثه من أبيه يقال له: العَضْب، شهد به بدرًا، وأصاب - صلى الله عليه وسلم - من بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيفًا قَلَعيًا، وسيفًا يدعى بتَّارًا، وسيفًا يدعى الحَتْف، والمِخْذَم ورَسوب أصابهما من الفُلْس - اسم صنم (1) - بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا رضوان الله عليه فوجد الصنم مقلدًا بهذين السيفين، أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، وكانا للحارث بن أبي شمر الغساني وكان قد نذر إن ظفر ببعض أعدائه أهداهما إلى الصنم، وفيهما يقول علقمة بن عبدة التميمي (2): [من الطويل]
مُظاهِرُ سِربالَيْ حديدٍ عليهما ... عقيلا سُيوفٍ مِخذَمٌ وَرسوبُ
وذو الفَقار تنفَّله يوم بدر من ابن الحجاج، وكانت قبيعته وقائمه ونعله وحِلَقه من فضة (3). وهو الذي رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه الرؤيا ليلة أحد (4). ولم يزل عنده حتى وهبه لعلي رضوان الله عليه قبل موته، ثم انتقل إلى محمد بن الحنفية، ثم إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن حسين، وكان له سيوف أخر.
وأصاب - صلى الله عليه وسلم - من بني قينقاع ثلاث قسي، اسمها الرَّوْحاء، وقوس من شَوْحَط تُدعى البيضاء، وقوس من نبع تُدعى الصفراء (5)، وقوس يقال لها: الكتوم، رمى عنها يوم أحد فأخذها قتادة بن النعمان، وكانت من نبع (6).
وكان له جعبة يقال لها: الكافور، وسهام يقال لها: المفضلة.
وأصاب - صلى الله عليه وسلم - من سلاح بني قينقاع درعين يقال لأحدهما: السُّغدية، والأخرى فضة (7).
__________
(1) انظر "الطبقات" 1/ 417 - 418.
(2) "الأصنام" ص 15.
(3) انظر "الطبقات" 1/ 418.
(4) حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتُ في سيفي ذي الفقار فَلَّا" انظر مسند أحمد (2445) و"الطبقات"1/ 418.
(5) "الطبقات" 1/ 421، و"تاريخ الطبري" 3/ 177.
(6) "تاريخ دمشق" 4/ 218.
(7) "الطبقات" 1/ 419.
(4/310)
________________________________________
وكان له درع يقال لها: ذات الفضول، وهي التي ظاهر بها يوم أحد (1).
قال ابن الكلبي: وكانت له درع يقال لها: ذات الوشاح، والخريق، والبتراء، وأحد هذه الدروع الدرع التي لبسها داود - عليه السلام - لما قَتَل جالوت، وكانت عند بني قينقاع يتوارثونها لأنهم يدعون أنها من قبيل داود، وهي التي رهنها عند اليهودي على آصع من شعير، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - وهي مرهونة.
وكان له تُرس يقال له: الزلوق، وفيه تمثال كبش، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانه، فأصبح يومًا وقد محي (2).
وكان له - صلى الله عليه وسلم - مِغفَر يقال له: اليسوع (3)، وهو الذي دخل يوم فتح مكة وهو على رأسه.
وكان له - صلى الله عليه وسلم - آخر هُشِم على رأسه يوم أحد مع البيضة، ودخلت حلقتاه في وجنتيه.
وكان له - صلى الله عليه وسلم - مِحْجَن قدر الذراع يمشي وهو بيده ويعلقه بين يديه على راحلته، وهو الذي طاف بالبيت وهو بيده يستلم به الأركان (4).
وكانت له - صلى الله عليه وسلم - مِخْصَرَة تسمى العرجون، وهي كالقضيب يستعملها الأشراف للتشاغل بها في أيديهم، ويحكون بها ما بعد من البدن (5) عن اليد.
وأهدى له النجاشي عَنَزة - وهي حربة صغيرة - كانت تحمل بين يديه في الأعياد، وإذا صلى في الصحراء جعلها سترة (6)، وكانت تحمل بين يدي الخلفاءِ في الأعياد، وبقيت إلى زمن المتوكل جعفر (7)، وقيل: هي مدفونة بسُرَّ مَن رأى (8).
__________
(1) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 177 - 178.
(2) "الطبقات" 1/ 420، و"تاريخ الطبري" 3/ 178، وانظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 38.
(3) هكذا ورد في (أ) و (خ)، وفي "أنساب الأشراف" 1/ 614 كان له مغفر يقال له: ذو السيوب.
(4) انظر "التراتيب الإدارية" 1/ 82، و"سمط النجوم العوالي" 2/ 24.
(5) انظر "سمط النجوم العوالي" 2/ 24.
(6) انظر "الطبقات" 3/ 217، و"أنساب الأشراف" 1/ 614 - 615.
(7) انظر "المنتظم" 11/ 322، و"الكامل" 6/ 129.
(8) "أنساب الأشراف" 1/ 615.
(4/311)
________________________________________
الباب السابع عشر: في عدد غزواته وسراياه - صلى الله عليه وسلم -
غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعًا وعشرين غزاة، قاتل منها في تسع غزوات: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقُرَيظة، وخَيبر، والفتح، وحُنين، والطائف (1).
وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قاتل في بني النضير ووادي القُرى مُنصرفه من خيبر، وفي الغابة (2).
وقال الطبري: جميع غزواته ست وعشرون بنفسه، وبعضهم يقول: سبعٌ وعشرون، فمن قال: ست وعشرون، جعل غزاة خَيبر ووادي القُرى غزاةً واحدةً (3).
وقال البراء بن عازب: غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزاةً (4).
وقال برَيدة: سَبع عشرة، قاتل في ثمانٍ (5).
وقال زَيد بنُ أَرقم: تسعَ عشرة غزاةً (6).
وقال جابر: إحدى وعشرين (7).
وقال سعيد بن المسيِّب: ثماني عشرة، وقال أيضًا مرَّةً أخرى: أربعًا وعشرين غزاة (8).
والأصح القول الأول، وما نقل عن بُرَيدة، والبراء، وجابر، وغيرهم فمحمول على أنهم لم يحضروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا فيما ذكروا، ولم يبلغوا سوى ذلك.
__________
(1) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 152.
(2) "تاريخ الطبري" 3/ 154.
(3) "تاريخ الطبري" 3/ 152.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (18559)، وأخرجه البخاري (4472) بلفظ: غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة.
(5) أخرجه مسلم (1814)، وعنده: تسع عشرة.
(6) أخرجه البخاري (3949)، ومسلم (1812) (144).
(7) أخرجه مسلم (1813).
(8) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9659).
(4/312)
________________________________________
وقال الواقدي: كانت سراياه - صلى الله عليه وسلم - ستًا وخمسين سريةً فيما أجمع لنا عليه.
وقال ابن إسحاق: إنها كانت خمسًا وثلاثين سريةً ما بين بعثٍ وسريةٍ (1).
وقال بُريدة: أربعًا وعشرين سرية (2).
والأصحُّ أنها كانت ستًا وخمسين.
* * *
__________
(1) "تاريخ الطبري" 3/ 154، وفي "السيرة" 2/ 609: ثمانيًا وثلاثين.
(2) "دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 459.
(4/313)
________________________________________
الباب الثامن عشر: في ذكرِ كُتَّابه للوحي وغيره - صلى الله عليه وسلم -
كان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوَحيَ بمكةَ أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان رضوان الله عليهم، ثم لما هاجر إلى المدينة كتب له عثمان رضوان الله عليه (1).
وقيل: أول من كتب للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم - الوحيَ بالمدينة عند الهجرة أُبي بن كعب، وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان (2)، ثم داوم زيد على الكتابة، ثم كتب له عامر ابن فُهيرة، وثابت بن قيس بن شَمَّاس، وشُرَحبيل بن حَسَنة، وخالد بن سعيد بن العاص، وأَبان بن سعيد، والعلاء بن الحَضْرمي، وحنظلة بن الربيع بن صَيفي أبو رِبعي من بني تميم، ويعرف بحنظلة الكاتب، له صحبة وروايةٌ، صحب خالد بن الوليد في حروب العراق كلها، وهو أخو (3) أكثم بن صَيفي، ولما وقعت الفتنة، اعتزلها، وخرجَ إلى قَرْقِيسياء هو وجريرٌ البَجَلي وعديُّ بن حاتم، وتوفي في أيام معاوية بن أبي سفيان.
قال حنظلة: كنَّا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا الجنة والنارَ حتى كأنَّا رأْيَ عينٍ، فأتيتُ أَهلي وولدي، فضَحكتُ، ولَعبتُ، وذكَرتُ الذي كنَّا فيه، فخرجتُ، فلقيتُ أبا بكر: فقلتُ له: نافقَ حنظلةُ، فقال: إنَّا لَنفعَلُهُ، ثم أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك، فقال: "يا حنْظَلَةُ، لو كُنتُم يكونُونَ كما تكونون عِندي لصافَحَتْكُم الملائِكةُ على فُرُشِكُم، أو في طُرُقكُم، يا حَنظلَةُ ساعةً وساعةً". انفرد بإخراجه مسلم (4).
وذكر شيخُنا موفَّقُ الدين رحمةُ الله عليه في "الأنساب" (5): أنَّ الكاتب لعَهده إذا عاهدَ، ولصلحِهِ إذا صالح عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه.
__________
(1) انظر "البداية والنهاية" 5/ 346.
(2) انظر "تاريخ الطبري" 3/ 173، و"الوافي بالوفيات" 6/ 122، و"الإصابة" 1/ 19.
(3) هكذا جاء في (أ) و (خ)، والصواب أنه ابن أخي أكثم. انظر "الإصابة" 1/ 359.
(4) أخرجه مسلم (2750).
(5) التبيين 94.
(4/314)
________________________________________
وكتب له محمد بن مَسْلَمة، وعبد الله بنُ عبدِ الله بن أبي ابن سَلول، والمغيرة بن شعبة، وجُهيم بن الصلت، ومُعَيقِيب بن أبي فاطمة، وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وارتَدَّ عن الإسلام، ولحق بمكَّة، فأباح - صلى الله عليه وسلم - دمه، ثم أسلم بعد ذلك، وكتب له معاوية بعد الفتحِ، وكان الزبير يكتب أموال الصدقة، وحذيفة بن اليمان يكتب خَرْصَ (1) النخل، والمغيرة بن شُعبة يكتب كُتبَ المعاملات والمداينات، وزيد بن أرقم يكتب جواب كتبِ الملوك، وكتب علي بن أبي طالب رضوان الله عليه كتاب الحديبية، وكتاب أهل نَجران، وكتب له - صلى الله عليه وسلم - خالد بن سعيد بن العاص كتابًا لأهل وج.
وذكر ابن عباس: أنَّه كان له كاتب يقال له: سجل، وهو المراد بقولِهِ تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] (2)، وكتبَ له عبد الله بن الأرقم ابن عبد يغوث بن وَهب الزهري، وكان قد أسلم عام الفتح وكان يجيب عن كتب الملوك، وكان إذا كتب كتابًا إلى بعض الملوك لا يقرؤه بل يجبه حفظًا لأمانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له، وقال يومًا: "اللهمَّ وَفَّقه" (3) وكان عمر بن الخطاب حاضرًا، فبقي ذلك في قلب عُمر، فلما وليَ، ولَّاه بيت المال لأمانته، وكذا عثمانُ وفرض له ثلاثَ مئة درهم، فردها، وقال: كنت أعملُ لله فلا آخذ عليه أجرًا، وكان عمر يثني عليه، وقيل: إن الذي أعطاه ثلاث مئة درهم عمر، وكتب عبد الله هذا لأبي بكرٍ وعمر، واستعمله على بيت المال عثمان، ثم استعفاه، فأعفاه، وكتب له عبد الله ابن زيد صاحب الأذان، وجهيم بن الصلتِ، والعلاء بن عقبة وغيرهم.
* * *
__________
(1) الخَرصُ: حَزْرُ ما على النخل من الرطب تمرًا. الصحاح: خرص.
(2) أخرجه أبو داود (2935)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 4/ 332.
(3) أخرجه الحاكم 3/ 378 ولفظه: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كتاب رجل فقال لعبد الله بن الأرقم: "أجب عني" فكتب جوابه، ثم قرأه عليه فقال: "أصبت وأحسنت، اللهمَّ وفقه". وانظر طبقات ابن سعد 6/ 73.
(4/315)
________________________________________
الباب التاسع عشر: في ذكر مؤذنيه - صلى الله عليه وسلم -
كان عبد الله بن زيد الأنصاري سبَبُ الأذان، وكان المداومَ عليه سفرًا وحضرًا.
وكان عبد الله بن أمَّ مكتوم أعمى لا يؤذن حتّى يقال له: أصبحتَ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ بلالًا يُؤَذِّنُ بِليلٍ، فكُلُوا واشربُوا حتى يُؤَذَّنَ ابنُ أُمِّ مكتوم" (1).
وأذن له - صلى الله عليه وسلم - أبو محذورة بمكة.
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري (617)، ومسلم (1092) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو مروي عن عائشة - رضي الله عنها - في "الصحيحين" أيضًا: البخاري (1918)، ومسلم (1092) (38).
(4/316)
________________________________________
الباب العشرون: في ذكر عماله وحرسه ونحوه
توفي - صلى الله عليه وسلم - وعامله على مكة: عتاب بن أسيد، وعلى البحرين: العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان: جَيْفَر وعَبْد ابنا الجُلَنْدَى، وغلب على الطائف عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان على مخاليف الجند وصنعاء: عمرو بن أمية المخزومي، وعلى مخاليف زبيد وأعمالها: خالد بن سعيد بن العاص، وعلى حرسه: أبو سفيان بن حرب (1)، وكان معاذ وأبو موسى على قضاء اليمن.
وحرَسَه جماعة، منهم: سعد بن معاذ يومَ بدرٍ لما قام في العريش، وحرسه سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة، وسعد بن معاذ، ليلة أحد، وحرسه علي، والزبير، وسعد ابن أبي وقاص - رضي الله عنهم - ليالي الخندق، وحرسه أبو أيوب الأنصاري بخيبر ليلة بنى بصفية، وحرسه بلال المؤذن بوادي القرى ليلة التعريس، في آخرين، وما زال يُحرسُ حتى نزل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] فترك الحرس، وكان يضرب الأعناق بين يديه - صلى الله عليه وسلم - علي، والزبير، ومحمد بن مسلمة، والمقداد بن الأسود، وعاصم ابن أبي الأفلح، وكان قيس بن سعد بن عبادة بين يديه بمنزلة الشرط من الأمير.
* * *
__________
(1) في أنساب الأشراف 1/ 620 أن أبا سفيان كان عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نجران.
(4/317)
________________________________________
الباب الحادي والعشرون: فيمن كان يشبهه - صلى الله عليه وسلم -
وكان يشبهه - صلى الله عليه وسلم - جماعة، منهم: جعفرُ بن أبي طالب، والحسن بن علي، وقثم بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، والصائب بن عبيد، ومسلم بن مُعتِّب، وكابس (1) بن ربيعة بن مالك البياضي البصري، من بني سامة بن لؤي، وكان أشبَه الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خَلقه وخُلقِه، فكان أنس بن مالك إذا رآه عانقه، وبكى، وقال: من أراد أن ينظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلينظر إلى هذا، وبلغ معاوية بن أبي سُفيان خَبَره، فاستقدمه، فلما دخل عليه قام واعتَنَقه، وقبَّل ما بين عينيه، وأقطعه مالًا وأرضًا، فرد المال وقبل الأرض (2).
* * *
__________
(1) في (أ) و (خ): "أنس" والمثبت من "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 59 و"تاريخ دمشق" 50/ 3.
(2) "تاريخ دمشق" 50/ 4.
(4/318)
________________________________________
الباب الثاني والعشرون: في ذكر حَجِّه وعمرته - صلى الله عليه وسلم -
لم يحج في الإسلام إلا مرّةً واحدةً، وهي حَجّةُ الوداعِ، وأما في الجاهلية فقد كان يقف مع المشركين على عادتهم، وكذا بعد النبوة حتى هاجر، واعتمر أربع عمر.
قال قتادة: سألتُ أنس بن مالك، قلتُ: كَم حجَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: حجَّةً واحدةً، واعتمر أربع عمر: عمرته زمنَ الحديبيةِ، وعمرته في ذي القَعدة قضاء عن الحديبية، وعمرته عن الجِعْرَانة في ذي القَعدة حيث قسم غنائم حُنين، وعمرته مع حجته. أخرجاه في "الصحيحين" (1).
قال المصنف رحمه الله: عمرة الحديبية لا تحسب لأنه ما دخلَ مكَّة، فكان حكمه حكم المحصَرِ.
والأصحُّ أنه اعتمر ثلاث عمرٍ.
وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول: اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع عمر: عُمرة في رجب، وقد أنكَرت عليه عائشة - رضي الله عنها - وقالت: ما اعتمر إلا ثلاث عمر (2).
قال عروة بن الزبير: كنت أنا وابن عمر مستنديْن إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمعها تستنُّ بالسواك، قلت: أبا عبد الرحمن، اعتمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في رجب؟ قال: نعم، قلت: يا أمَّتاه، ما تسمعِين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقولُ؟ قلتُ: يقول: إِنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اعتمر في رجب، فقالت: يغفر الله له، ما اعتمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في رجَب، قال: وابن عمر يسمع، فما قال: لا، ولا نعم، سكت. أخرجاه في "الصحيحين" (3).
وفي روايةٍ: أنَّها قالت: ولَعَمري، ما اعتمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو معه، وشاهده.
__________
(1) البخاري (1778)، ومسلم (1253).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (25910).
(3) أخرجه البخاري (1775 - 1776)، ومسلم (1255).
(4/319)
________________________________________
وأخرج الإمام أحمد رحمة الله عليه عن مُحرَّش بن عبد الله الكعبي الخزاعي، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلًا من الجعرانة معتمرًا، فدخل مكة، فقضى عمرته، ثم عاد إلى الجعرانة ليلًا، أو من ليلته، حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سَرفٍ، حتى جاء مع طريق المدينة، قال: فلذلك خفيت عمرته على الناس (1).
* * *
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (15513).
(4/320)
________________________________________
الباب الثالث والعشرون: في ذكر صفته - صلى الله عليه وسلم -
قال أنس بن مالكٍ ينعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان رَبْعَة من الرجال، ليس بالقصير ولا بالطويل، رَجِلَ الشعر، ليس بالسَّبِطِ، ولا بالجَعْد القَطَطِ، بُعث على رأسِ أربعين، أقام بمكة عشرًا، وبالمدينة عشرًا، وتوفي على رأس سِتين، ليس في رأسه ولحيته عشرونَ شعرة بيضاء. متفق عليه (1).
وقال أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضَخْمَ القدمينِ، حَسَن الوجه [لم أر بعده مثله (2).
وفي رواية عن أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شَثِنَ القَدَمين والكَفَّين (3).
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: ] ما مسِستُ حَريرًا ولا دِيباجًا ألينَ من كفَّه، ولا شَمِمت مِسكًا ولا عَنبرًا ولا عَرْفًا أطيب من ريحه - صلى الله عليه وسلم - (4).
وعن أُم سليم أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيها، فيقيل في بيتها، فتبسط له نطعًا، وكان كثير العرق، فتجمع عرقه، فتجعله في الطيب والقوارير، قالت: وكان يصلي على [الخمرة (5)، وهي] سجادة صغيرة تُنسج من الخُوصِ.
وقيل للبراءِ: أكان وجهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلَ السيف؟ فقال: لا، بل مثلَ القمرِ (6).
وقال أبو سعيد الخدري: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العَذراء في خِدْرِها،
__________
(1) أخرجه البخاري (3547)، ومسلم (2347).
(2) أخرجه البخاري (5908) وفيه: عن أنس أو عن رجل عن أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري (5910).
(4) أخرجه البخاري (3561)، ومسلم (2330) (82)، ولم نقف على السياق الذي ذكره المصنف ولعله من تصرف النساخ، وما بين معقوفين زيادة من مصادر التخريج.
(5) أخرجه البخاري (6281)، ومسلم (2332)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (27117)، وما بين معقوفين زيادة ضرورية لتوضيح السياق.
(6) أخرجه البخاري (3552).
(4/321)
________________________________________
كان إذا كَره شيئًا، عرَفناهُ في وجههِ (1).
قال الزهري: معناه إذا كره شيئًا لم يواجه به صاحبه، بل يكتمه فيؤثَّر في وجهه.
ذكر صفته - صلى الله عليه وسلم - في التَّوراة:
قال [بن سعد باسناده عن] سهل مولى عثيمة، وكان رجلًا يهوديًّا قد قرأ التوراة قال: أخَذْت يومًا توراةَ عمِّي، فإذا ورقة ملصقة، ففتقتها، وإذا فيها سطورٌ: محمد رسول الله، لا طويل، ولا قصير، أبيض بض، بين كتفيه خاتم النبوة، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحلب الشاة، ويلبس القميص المرقوع، وهو من ضئضئ إسماعيل، واسمه أحمد، فقالَ لي عمِّي: ما تقرأ؟ قال: قلت: صفة محمد، قال: إنه لم يجئ بعد، ونهاني عن القراءة (2).
وقال وهب بن منبه: في التوراة: يا ابن عمران، إني باعث في آخر الزمان نبيًا أميًّا، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وملكه بالشام والعراق، حبيب، محبّب، ليس بغليظ، ولا قوال بالفحش والخنا [أسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم] (3).
وقال كعب الأحبار: وفي التوراة: يا ابن عمران، إنَّي قد اخترت من عبادي نبيًا كريمًا اسمه أحمد، منحته الأخلاق الكريمة، وجعلت عليه الوقار والسكينة، التقوى لباسه، والبِرُّ شعارُه، والحلمُ دِثاره، والحكمةُ منطقه، والصدق سجيَّته، والعدلُ شِيمته، والحقُّ شريعته، والوفاء طريقَتُه، والعفو مِلَّته، والقرآن خُلُقه، والهدى دَلِيلُه، والجودُ والرحمةُ والبِرُّ طبيعتُه، أهدي به من الضلالة، وأجمع به من الفرقة، وأعلم به من الجهالة، وأؤلف به بعدَ الشتاتِ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمُرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فطوبى لهم، ثم طوبى لهم، فعند ذلك قال موسى - عليه السلام -: يا رب اجعلني من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) أخرجه البخاري (3562)، ومسلم (2320).
(2) "الطبقات" 1/ 312، وفيه: أنه كان نصرانيًا، وأنه كان يقرأ الإنجيل.
(3) انظر "المنتظم" 2/ 258، و"البداية والنهاية" 2/ 81.
(4/322)
________________________________________
فصل في شَيْبه - صلى الله عليه وسلم -:
قال ثابت البُنَاني: سألت أنسًا: هل شمط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لقد قبض الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما فضحه بالشيب، ما كان في رأسه ولحيته يوم مات ثلاثون شعرة بيضاء، فقيل: أفضيحة هو؟ قال: أما أنتم فتعدونه فضيحة، وأما نحن فكنا نعده زينًا (1).
وقال جابر بن سمرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شَمِطَ مقدَّمُ رأسه ولحيتهِ، فإذا ادَّهن ومشطه لم يتبيَّن، وإذا شَعِثَ رأسُه تبيَّن، وكان كثير شعرِ اللِّحيةِ، فقال له رجل: كان وجهه مثلُ السيفِ؟ فقال: لا، بل مثل الشمسِ والقمرِ، وكان مُستديرًا، قال: ورأيتُ الخاتَم عند كتفيهِ مثلَ بيضةِ الحمامةِ، يُشبه جسَدَه (2).
وقال عثمان بن عبد الله بن مَوهَب: دخلنا على أم سلمة، فأخرجت إلينا شعرًا من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخضوبًا بالحناءِ والكَتَمِ (3).
وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: ما روي عن أنس أنه قال: لم يخضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد شهد غير واحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه خضب، وليس من شهد بمنزلة من لم يشهد.
وقال سفيان والزهري: ما خضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما احمرَّ شعره من كثرة الطيبِ، وإنما خضب أصحابه بالحناءِ والكَتمِ.
وأما الخضاب بالسواد فحرام، ولو كان مباحًا لخضب به الصحابة.
وقال أبو جُحيفة: قيل: يا رسول الله، أسرع إليك الشيبُ، فقال. "شَيَّبتني هودٌ وأَخَواتُها" (4).
وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]، أي: على أمر ربك والدعاء إليه، فما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية كانت أشد ولا أشق عليه
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12474).
(2) أخرجه مسلم (2344) (109).
(3) أخرجه البخاري (5897)، وأحمد في "مسنده" (26539).
(4) أخرجه الترمذي في "الشمائل" (42)، وأبو يعلى في "مسنده" (880)، والطبراني في "الكبير" 22/ (318).
(4/323)
________________________________________
منها، ولذلك قال له أصحابه: لقد أسرع إليك الشيب، فقال: "شَيَّبتني هودٌ" وأشار إلى هذه الآية (1).
وقال ابن عباس: كان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يُسدِلون، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، فسَدَل ناصيتَه، ثم فرق بعد. أخرجاه في "الصحيحين" (2).
وقالت أم هانئ: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة مرة، وله أربع غدائر (3).
وقال أنس: كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أذنيه وعاتقه (4).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحفي شاربه، وكان ابن عمر يفعل ذلك (5).
وقال السَّائِبُ بن يزيد: ذهبت بي خالتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسولَ الله، إن ابن أختي وَجِعٌ، فمسَحَ رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ، فشربت من وَضوئهِ، ثم قمتُ خلفَ ظهرهِ، فنظرتُ إلى خاتَمِ النبوة بين كتفَيْه مثل زِرِّ الحَجَلَة (6).
* * *
__________
(1) تفسير الثعلبي 5/ 150.
(2) البخاري (3944)، ومسلم (2136).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (26890)، وأبو داود (4191)، والترمذي (1781)، وابن ماجه (3631).
(4) أخرجه البخاري (5905)، ومسلم (2338).
(5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 386.
(6) أخرجه البخاري (190)، ومسلم (2345).
(4/324)
________________________________________
الباب الرابع والعشرون: في ذكر محبَّته للطيب وحجامته - صلى الله عليه وسلم -
قال ثمامة بن عبد الله: إنّ أنسًا كان يردُّ الطيبَ، وزعم أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يردُّ الطيبَ (1).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعرف بريح الطيبِ إذا أقبلَ (2). وكان طيبه المسك والعنبر.
وقالت عائشة رضوان الله عليها: طيَّبتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامِه حينَ أحرَمَ، ولإحلالهِ حينَ أحلَّ (3).
وكان وَبيصُ الطيبِ يَبدو في مفارقهِ (4).
وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يجعل الكافور على العود، ثم يستجمر به، ويقول: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع (5).
وعن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حُبِّبَ إليَّ النساءُ والطيبُ، وجُعلَت قُرَّة عيني في الصلاةِ" (6).
وقال أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَحتجمُ ثلاثًا، واحدة على كاهِلِه، وثنتين على الأخدعين (7).
وقال مَعقِلُ بن يسار: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحِجامةُ يومَ الثلاثاءِ لسبعَ عشرة من الشهرِ
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12356)، والترمذي (2789).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (26858)، وابن سعد 1/ 343.
(3) أخرجه البخاري (1754)، ومسلم (1189).
(4) أخرجه البخاري (271)، ومسلم (1190) من حديث عائشة - رضي الله عنها - بلفظ: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم.
(5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 344.
(6) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 342، والنسائي في "الكبرى" (8887).
(7) أخرجه أحمد في "مسنده" (13001)، وأبو داود (3860)، وابن ماجه (3483).
(4/325)
________________________________________
دواءُ السَّنَةِ" (1).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - احتَجَم، وأَعطى الحجَّامَ أَجره. متفق عليه (2).
وأخرج الإمام رحمة الله عليه، عن رافع بن خَدِيج، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَفطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُومُ" (3).
فصل في اطلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنورة:
حدّثنا جدي رحمه الله بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت:
اطَّلَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالنُّورَةِ، فلما فَرَغ منها قال: "يا مَعاشِرَ المُسلِمين، عليكم بالنُّورَةِ، فإنَها طَيَّبةٌ وطَهورٌ، وإنَّ اللهَ يُذهِبُ بها عنكم أَوساخَكُم وأَشْعارَكُم" (4).
وقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اطلى وَلي عانَتَه بيدهِ (5).
[وقد روى أبو موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أولُ مَن دخلَ الحمامَ وصُنعت له النُّورةُ سليمانُ - عليه السلام -" وقد ذكرناه].
وقد كان جماعة من الصحابة يتنورون: الحسن بن علي، وأنس، وأبو الدرداء - رضي الله عنهم -، وكان جماعة منهم يحلقون الشعر، ولا يتنورون، منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -.
وروى [أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَتَنوَّر، فإذا كَثُر شعرُه حَلَقه (6).
وقال الأطباء: منفعة النورة أن تبرز ما تحت الجلد من الأوساخ وخصوصًا في
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير" 20/ 499، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 93 وقال: وفيه زيد بن أبي الحواري العمي، وهو ضعيف.
(2) أخرجه البخاري (2103)، ومسلم (1202).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (15828).
(4) أخرجه ابن عدي في "الكامل" 2/ 360.
(5) أخرجه ابن ماجه (3752).
(6) أخرجه البيهقي 1/ 152.
(4/326)
________________________________________
زمان الربيع، فإن قيل: فقد قال] ابن سعد، عن قتادة أنه قال: ما تنوَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء بعده (1) [فالجواب: أن] عائشة، وأم سلمة - رضي الله عنهما - أعرف بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتادة، وقد روتا قولًا، وفعلًا، وإثباتًا، وقتادة نفى، والعمل على الإثبات.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَكتحلُ بالإثمدِ كلَّ ليلةٍ قبل أن ينامَ، وكان يكتحلُ في كلِّ عينٍ ثلاثة أَميالٍ (2).
* * *
__________
(1) "الطبقات" 1/ 380 - 381.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (3320).
(4/327)
________________________________________
الباب الخامس والعشرون: في هبته وصدقته - صلى الله عليه وسلم -
أول وَقفٍ كان في الإسلام مال مُخَيريق اليهودي الذي قُتل بأحدٍ، وكان من أَحبار اليهود، خرج فقاتل وهو على دينهِ، وقال قبل أن يُقتَل لمحمد بن مَسلمة، وسلامةَ بن وقشٍ: إن أُصبت فأَموالي لمحمدٍ يَضعها حيثُ يشاءُ، وكان أَيسرَ بني قينقاع، وتصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ماله، وكان سبع حوائط: الأعراف، والصافية، والدلال، والميثب، وبُرقة، وحسنى، ومشربة أم إبراهيم، ولما حبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأماكن، حبس المسلمون بعد على أولادهم (1).
وفي كل حائط من هذه الحوائط بئر ماء. وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشرب منها، بل من آبار أخر من آبار المدينة، منها بئر بضاعة، وبئر أريس، وبئر رُومة، وبئر غَرْس، وبئر جاسم، وبئر حساء واليسيرة، وبئر ذَرْوان، وهي التي وجد فيها السحر (2)، وبئر مالك ابن النضر والد أنس بن مالك، وكل هذه الآبار شرب منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واغتسل وتفل فيها (3).
* * *
__________
(1) انظر "الطبقات" 1/ 431 - 432.
(2) صحيح البخاري (3268).
(3) انظر "الطبقات" 1/ 433.
(4/328)
________________________________________
الباب السادس والعشرون: فيما كان يعجبه من الطعام، وما كان يكرهه منه - صلى الله عليه وسلم -
كان يعجبه الحلوى، والعسل، وقال عبد الله بن جعفر: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكل القثاءَ بالرطبِ (1). متفق عليه.
وقال محمد الفَهْمي، أنه سمع عبدَ الله بنَ جعفر يحدث عبد الله بن الزُّبير أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَطيَبُ اللَّحمِ لَحمُ الظَّهرِ" (2).
وقال أنس: إن خياطًا دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طعامٍ صنَعَه، فذهبت معه، فقرَّب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبزًا من شعير، ومَرَقًا فيه دُبَّاء وقَديد، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَتبَعُ الدبَّاء من حولِ الصَّحْفةِ، فلم أَزل أُحب الدبَّاء من يومئذٍ (3).
وقالت عائشة رضوان الله عليها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الثَّريد (4).
وأما ما كان يكره فالثوم والبصل والكراث والضب.
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أَكَل من هذهِ البَقلةِ، فلا يَقرَبَنَّ مَسجِدَنا، حتى يَذهَبَ رِيحُها" يعني الثومَ (5).
وعن جابر، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهى زمَنَ خيبرَ عن البصلِ والكُرَّاثِ، فَأكَلَهما قومٌ، وجَاؤوا إلى المسجدِ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَم أَنْهَ عن هاتَيْنِ الشَّجرَتَينِ المنْتِنَتَينِ؟ " قالوا: بلى يا رسولَ الله، ولكن أَجْهَدَنا الجوعُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَكَلَهما فلا يَحضر مَسجِدَنا، فإنَّ الملائكةَ تتَأذَّى مما يَتأذَّى منه بنو آدَمَ" (6).
__________
(1) أخرجه البخاري (5440)، ومسلم (2043).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (1744).
(3) أخرجه البخاري (2092)، ومسلم (2041).
(4) أخرجه ابن سعد 1/ 338 من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(5) أخرجه البخاري (853)، ومسلم (561).
(6) أخرجه أحمد في "مسنده" (15159).
(4/329)
________________________________________
وأُتي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقِدْرٍ فيه خضراوات من بقولٍ، فوجَدَ ريحًا، فقال لبعضِ أصحابهِ: "كُل فإنَّي أُناجِي مَن لا تُناجي" (1).
وقال ابنُ عباس - رضي الله عنهما -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عندَ ميمونةَ، وعندَه الفضلُ بنُ عباسٍ، وخالدُ بن الوليد، وامرأةٌ، فأُتي بِخوانٍ عليه خُبز، ولحمُ ضبًّ، فلما ذهبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليأكُلَ، قالت له ميمونةُ: يا رسولَ الله، إنه لحمُ ضبًّ، فكفَّ يَده، وقال: "إنَّه لحمٌ لم آكُلْه، ولكن كُلُوا"، فأكَلَ الفضلُ، وخالدٌ، والمرأةُ، وقالت ميمونةُ: لا آكلُ من طعامٍ لم يَأكُل منه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأكلُ بثلاثِ أصابعَ: الإبهامِ، والسبابةِ، والوسطى، ولا يمسحُ يَدَه حتى يَلْعَقَها، يَبدأ بالوسطى فيلعَقها، ثم بالتي تَلي الإبهامَ، ثم بالإبهامِ (3).
وقال جابر: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَكَلَ أَحدُكُم طَعامًا، فلا يَمسحْ يَدَه في المنديلِ حتى يَلْعَقَها أو يُلْعِقَها، فإنّه لا يدري في أيّ طعامٍ البركةُ" انفرد بإخراجه مسلم (4).
وقال أنس: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتنفَّسُ في الإناءِ ثلاثًا، ويقول: "هذا أهْنَأُ، وأَمرَأُ، وأَبرَأُ" أخرجاه في "الصحيحين" (5).
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشربَ الرجلُ قائمًا (6)، وفي رواية: ثم شرِبَ قائمًا (7).
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري (855)، ومسلم (564).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2684).
(3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 328 من حديث كعب بن عجرة، وأخرجه مسلم (2032) مختصرًا.
(4) مسلم (2031) (134)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (14221).
(5) البخاري (5631)، ومسلم (2028)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (12186).
(6) أخرجه مسلم (2024) من حديث أنس.
(7) أخرجه الضياء في "المختارة" (2635) من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب قائمًا، وأخرجه البخاري (5617)، ومسلم (2027) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: شرب النبي -صلى الله عليه وسلم - قائمًا من زمزم.
(4/330)
________________________________________
الباب السابع والعشرون: في ذكر أخلاقه وتواضعه - صلى الله عليه وسلم -
قال أنس: خدمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ قطُّ، ولا لمَ صنعتَ، ولا أَلَا صنعتَ، ولا عابَ عليَّ شيئًا قطُّ (1).
وما صافحَه أحدٌ فنزعَ يدَه حتى يكونَ الرجلُ هو الذي يَنزِعُها من يدهِ، ولا صَرَفَ وجهَه عنه حتى يكونَ الرجلُ هو الذي يَصرِفُ وجهَه عنه (2).
وقال أنس: كنتُ أَمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بُردٌ نَجرانيٌّ غليظُ الحاشيةِ، فأَدركَه أعرابيٌّ، فجَبَذَه جَبْذَةً شديدةً، حتى رأيتُ صفحةَ عنقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أَثَّرت فيها حاشيةُ البردِ من شدَّةِ جَذْبتِهِ، وقال: يا محمدُ، أَعطني من مالىِ اللهِ الذي عِندَك، فالتَفَت إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وضَحكَ، ثم أَمرَ له بعَطاءٍ. أخرجاه في "الصحيحين" (3).
وقال أنس: إن يهوديةً جعلت سمًّا في لحمٍ أَتت به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأكَلَ منه، وقال: "إنَّها جَعلَت فيه سُمًّا"، قالوا: يا رسولَ الله، ألا تقتُلُها؟ قال: "لا"، قال فجعلتُ أعرِفُ ذلك في لَهوات رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
وقال أنس: لم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَبَّابًا، ولا لَعَّانًا، ولا فحَّاشًا، كان يقولُ لأحدِنا عند المعيبةِ: "ما لَه، تَرِبَتْ جَبينُه؟ " (5).
وللبخاري، عنه قال: إنْ كانَتِ الأمةُ من إماءِ المدينةِ لتأخذُ بيدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فتَنطَلِقُ به حيثُ شاءت (6).
__________
(1) مسلم (2309)، وأحمد في "مسنده" (11974).
(2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 325، والبيهقي 10/ 192.
(3) البخاري (3149)، ومسلم (1057).
(4) أخرجه مسلم (2190)، وأحمد في "مسنده" (13285).
(5) أخرجه البخاري (6031).
(6) أخرجه البخاري (6072).
(4/331)
________________________________________
وللبخاري، عنه أيضًا، قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عندَ بعضِ نسائهِ، فأرسَلَت إليه إحدى أُمَّهاتِ المؤمنينَ بصَحْفَةٍ فيها طعامٌ، فضَرَبت التي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَيتها يدَ الخادِمِ، فوقَعتِ الصَّحفَةُ، فانكَسَرت، فجمعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثم جعَلَ يجمعُ الطعامَ الذي كانَ فيها، ويقول: "غارَت أُمُّكُم، غَارَت أُمُّكُم"، ثم حبسَ الخادِمَ حتى أتي بصَحفَةٍ من عندِ الذي هو في بَيتِها، فدفعَ الصَّحْفَةَ الصَّحيحةَ إلى التي كُسرت صَحْفَتُها، وأمسكَ المكسورةَ في بَيتِ التي كُسرَت عندها (1).
وذكر الإمامُ أحمد رحمة الله عليه في "المسند" أنَّ التي صنَعتِ الطعامَ صفيةُ، والتي كَسرت القصعةَ عائشةُ، وأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - غضِبَ عليها (2).
وقال أنس: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أينَ أبي؟ فقال: "في النَّار"، فلما قفَّى الرجلُ - أي ولَّى - ورأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما في وَجههِ، دَعاه، وقال: "إنَ أبي وأَبَاكَ في النَّارِ" (3).
ولمسلم، عنه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى الغَدَاةَ، جاءَ خَدَمُ أهلِ المدينةِ [بآنِيَتِهم فيها الماءُ، فما يُؤتى بإناءٍ إلَّا غَمَس يدَه فيها، فربَّما جاؤوه في الغَدَاةِ البارِدَةِ فيغمسُ يدَه فيها] (4).
وقال جابر بن عبد الله: مرضتُ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُني، وليسَ براكبٍ بَغلًا، ولا بِرْذَونًا (5). يعني: ماشيًا.
قال الأسودُ: قلتُ لعائشةَ: ما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصنعُ في أهلهِ؟ فقالت: كان - صلى الله عليه وسلم - في مِهنَةِ أهلِه، فإذا حضَرتِ الصلاةُ خرجَ إلى الصلاةِ. انفرد بإخراجه البخاري (6)، والمهنة: الخدمة.
__________
(1) أخرجه البخاري (5225).
(2) أحمد في "مسنده" (26366).
(3) أخرجه مسلم (203).
(4) مسلم (2324) وما بين معقوفين زيادة منه.
(5) أخرجه البخاري (5664)، وأحمد في "مسنده" (15011).
(6) أخرجه البخاري (676).
(4/332)
________________________________________
وقال أبو عبد الله الجَدَلي: قلتُ لعائشة: كيف كان خُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهلِه؟ قالت: كانَ أَحسنَ الناسِ خُلُقًا، لم يكن فاحشًا، ولا مُتَفحِّشًا، ولا صخّابًا بالأسواقِ، ولا يَجزِي بالسيئةِ مثلَها، ولكن يعفو ويَصفحُ (1).
وقالت الرُّبَيِّع بنتُ مُعوِّذ: دخلَ عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداةَ بُنِيَ عليَّ، فجلسَ على فِراشي، وعندِي جُوَيْرِياتٌ يَضْربنَ بالدُّفِّ، ويَندبنَ من قُتل من آبائِهنَّ يومَ بدرٍ، فقالت إحداهنَّ:
وفينا نبيٌّ يعلمُ الغيب في غدٍ
فقال لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقولي كَذا، وقُولي ما كنتِ تَقولينَ" (2).
وذَكرَ الحسن البصري النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا والله ما كان يغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يُغدَى عليه بالجفانِ ولا يراح عليه بها، ولكنه كان بارزًا، من أراد أن يلقى نبي الله لقيه، وكان يجلس على الأرض، ويوضعُ طعامُه على الأرضِ، ويلبسُ الغليظَ، ويردِفُ على الحمارِ، ويعودُ المرضى، ويشهدُ الجنائز، ويجيبُ دعوى المملوكِ، ويلعقُ أصابعَه (3).
وقال أنس: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسلِّم على الصبيانِ، ولا يدعوه أحدٌ من الناسِ إلَّا أَجابَه ويقول: "لو دُعيتُ إلى كُراعٍ لأَجَبتُ" (4).
وقال بُريدة بن الحُصَيبِ: بَينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمِنًى إذ جاءه رجلٌ معه حمارٌ، فقال: يا رسولَ الله، ارْكَب، وتأخَّر الرجلُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أنتَ أَحقُّ بصدرِ دَابَّتك منِّي، إلَّا أن تَجعَلَه لي" قال: قد جعلتُه لك، فركِبَ (5).
وقال جابر بن عبد الله: ما سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قطَّ فقال: لا (6).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (25417).
(2) أخرجه البخاري (4001).
(3) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (19555)، والبيهقي 10/ 101.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13177).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (22992).
(6) أخرجه البخاري (6034)، ومسلم (2311)، وأحمد في "مسنده" (14294).
(4/333)
________________________________________
وقال أنس: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا في المسجدِ، ومعه أصحابُه، إذ دخل أعرابيٌّ، فبالَ في المسجدِ، فقالَ أصحابُه: مَهْ، مَهْ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُزرموه، ودَعُوه" ثم دَعاه، فقال: "إنَّ هذِه المساجدَ لا تصلُحُ لشيءٍ من البولِ والقَذَرِ والخَلاءِ، إنَّما هي للصلاةِ والذكرِ وقِراءَةِ القرآنِ" ثم دَعا بدلوٍ من ماءٍ، فشَنَّه عليه (1).
وقال أنس: ما أكَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئًا، ولا شَرِبَ قائمًا.
وروي: أنه أكل مُومِيًا متَّكئًا، فجاءه جبريلُ، فقال له: أتأكُل أكلَ الجَبابِرَة؟ فما أكَلَ بعدَها متَّكئًا (2).
وقال الزهري: بلَغَنا أنَّه أَتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ملَكٌ، لم يَأتِه قطُّ، ومعه جبريلُ، فقال له الملَكُ وجبريلُ: سألتَ الله يخيرُك بينَ أن تكونَ نبيًّا مَلِكًا، أو تكونَ نبيًّا عبدًا، فنظَر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريلَ [كالمسْتَأمِرِ له، فأشار] إليه أن تواضَع، فقال: "بَل عَبدًا نبيًّا" (3).
وقال الزهري: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "آكُلُ كما يأكُلُ العبدُ، وأَجلِسُ كما يجلسُ العبدُ" (4).
وعن أنس: أن يهوديًا دَعَا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى خبزِ شعيرٍ، وإهَالَةٍ سَنِخَةٍ، فأجابَه (5).
وعن أبي هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بَعثَ اللهُ نبيًّا إلَّا رعى الغنَمَ" فقال له أصحابُه: وأنتَ؟ قال: "نَعَم، كنتُ أَرعاها على قَرارِيطَ لأَهلِ مكَّةَ" (6).
وقال أبو سعيد الخدري: افْتَخَر أهلُ الإبلِ والغنَمِ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الفَخْرُ والخُيَلاءُ في أهلِ الإبِلِ، والسَّكينةُ والوَقارُ في أهلِ الغَنَمِ"، ثم قال: "بَعَثَ اللهُ مُوسى وهو يَرعى الغنَمَ على أَهلهِ، وبُعثتُ أنا وأَنا رَاعي غنمٍ لأَهلي بجياد" (7).
__________
(1) أخرجه مسلم (285).
(2) انظر "الطبقات" 1/ 327.
(3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 327 - 328 وما بين معكوفين منه.
(4) انظر "الطبقات" 1/ 328.
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (13201).
(6) أخرجه البخاري (2262).
(7) أخرجه أحمد في "مسنده" (11918).
(4/334)
________________________________________
الباب الثامن والعشرون: في حيائه، ومُداراته، وشَفقته، وحِلمه، وصَفحهِ، ونحوه - صلى الله عليه وسلم -
وعن أنس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى على رجلٍ صُفرةً، فكرِهَها، وقال: "لو أَمرتُم هذا أن يَغسِل هذهِ الصُّفرةَ"، فكان لا يكادُ يواجهُ أحدًا، إنَّما يكره في وَجهه (1).
وأخرج مسلم، عن جابرِ بن سَمُرة، وقد سأله [سماك بن حرب]: كنتَ تُجالس رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، كانَ طويلَ الصمتِ، قليلَ الضحِكِ، فكان أصحابُه يَذكرون عنده الشعرَ، وأَشياءَ من أُمورهم، فيضحكونَ، وربما تَبسَّمَ (2).
وأما مُداراته، فقالت عائشة رضوان الله عليها: إن رجلًا استَأذَن على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ائْذَنُوا له، فبِئْسَ ابنُ العشِيرة"، أو "فَبِئْسَ أَخو العشِيرةِ"، فلما دخَلَ عليه، أَلَانَ له القَولَ، فلما خرَجَ، قالت له عائشةُ: قلتَ له الذي قلتَ، ثم أَلَنتَ له القولَ، فقال: "يا عائشةُ، شرُّ الناسِ منزلةً عندَ الله يومَ القيامةِ مَن ودَعَه الناسُ - أو تَركَه الناسُ - اتِّقاءَ فُحشِه" متفق عليه (3).
وأما شفقته - صلى الله عليه وسلم - فقال أنس: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّي لأدخُلُ في الصلاة وأنا أُريدُ أن أُطِيلَها، فأَسمعُ بكاءَ الصبيِّ فأَتَجاوزُ في صَلاتي، مما أَعلمُ من وَجْدِ أمَّه به". متفق عليه (4).
وأما حِلمه وصَفحه فقالت عائشةُ رضوان الله عليها: ما ضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَادِمًا له قطُّ، ولا امرأةً قطُّ، ولا ضربَ بيدهِ إلَّا أن يُجاهِدَ في سبيلِ اللهِ، وما نيلَ منه شيءٌ فانْتَقَم من صاحِبه إلاَّ أن تُنتَهكَ مَحارِمُ اللهِ، فيَنْتَقِم للهِ عزَّ وجلَّ، وما عُرضَ عليه أَمران أَحدُهما أيسرُ من الآخرِ إلَّا أخذَ بأَيسَرِهما، إلَّا أن يكونَ مأْثَمًا، فإن كانَ مأْثَمًا كانَ
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12367).
(2) صحيح مسلم (670) وما بين معكوفين منه، وأخرجه أحمد في "مسنده" (20810) واللفظ له.
(3) أخرجه البخاري (6054)، ومسلم (2591).
(4) أخرجه البخاري (710)، ومسلم (470).
(4/335)
________________________________________
أبعدَ الناسِ منه، أخرجاه (1).
وقال الزهري: إن يهوديًا كان يجدُ صفةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في التوراةِ، فأسلَفَه ثلاثين دينارًا إلى أَجَلٍ معلوم، فلمَّا بقي من الأجلِ يومٌ جاءَه، فقال: يا محمدُ، أَعطني حقِّي فإنَّكم يا بني عبدِ المطلبِ قومٌ مُطُلٌ، فقال له عمرُ: يا خبيثُ، واللهِ لولا مَكانُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لضربتُ عُنقك، فنهاهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "نحنُ إلى غيرِ هذا أَحوجُ، هلَّا أَمرتني بقضاءِ دينهِ أو أعَنْتَه على قضاءِ حقِّه" ثم قال له: "اذهَب به إلى حديقةِ كَذا وكَذا فأعطِه حقَّه وزِدْه" قال اليهودي: فمضَى بي عمرُ إلى الحديقةِ فأَعطاني حقِّي، وزادَني، ثم رجعَ اليهوديُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: واللهِ ما حَمَلني على ما قلتُ إلاَّ أنِّي وجَدتُ صفتَكَ في التوراةِ، فاخْتَبرتُ الجميعَ إلَّا الحلمَ، وقد رأيتُ من حلمكَ ما سَرَّني، وأشهدُ أنَّك رسولُ الله، ونصفُ مالي في فقراءِ المسلمين، وأسلمَ أهلُ بيت ذلكَ اليهوديِّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "إنَّ لصاحِبِ الحقِّ مقالًا" (2).
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (2327) مختصرًا، وهذا لفظ أحمد في "مسنده" (24034).
(2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 310 - 311 دون قوله: "إن لصاحب الحق مقالًا"، وهو قطعة من حديث آخر أخرجه البخاري (2306)، ومسلم (1601) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه فأغلظ، فهَمَّ به أصحابه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوه، فإن لصاحب الحق مقالًا" ثم قال: "أعطوه سنًّا مثل سنه" قالوا: يا رسول الله، إلا أمثل من سنه، فقال: أعطوه، فإن من خيركم أحسنكم قضاء".
(4/336)
________________________________________
الباب التاسع والعشرون: في مزاحه ومداعبته - صلى الله عليه وسلم -
عن أنس أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يدخلُ على أم سُليم، ولها ابن من أبي طَلحةَ يكنى أبا عُمير، فكان يُمازحه، فدخل عليه يومًا فرآه حزينًا، فقال: "مَالي أَرَى أَبا عُميرٍ حَزينًا؟ " قالوا: مات نُغَيرُه الذي كان يلعبُ به، قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أبا عُميرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيرُ؟ " (1).
وعن أنس أنَّ رجلًا اسمه زاهِر، كان يُهدي لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الهديةَ من الباديةِ، فيجهزُه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ الخروجَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ زاهرًا بادِيتُنا، ونحنُ حاضِرُوه". وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّه، وكان رجلًا دميمًا، فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا وهو يَبيعُ مَتاعَه، فاحتضَنَه من خلفِه، ولم يُبصره الرجلُ، فقال: مَن هذا؟ أَرسلني، فالتَفَتَ، فعرفَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل لا يألو أن أَلصَق ظهرَه بصدرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن يَشتري هذا العبدَ؟ " فقال: يا رسول الله، إذَنْ والله تجدُني كاسدًا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَكِن عندَ اللهِ لستَ كاسِدًا" أو قال: "ولكن أنتَ عندَ الله غالٍ" (2).
[وقال أحمد بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن] عائشة رضوان الله عليها قالت: خرجتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أَسفارِه، وأنا جاريةٌ لم أَحمِلِ اللَّحم، ولم أَبدُن، فقال للناس: "تقدَّموا" فتقدَّموا، ثم قال لي: "تَعالي حتى أُسابِقَكِ" فسابقتُهُ، [فسبقته، فسكتَ عني حتى إذا حمَلْتُ اللَّحم وبَدُنْتُ ونسيتُ، خرجتُ معه في بعض أسفاره، فقال للناس: "تَقدَّموا" فتقدَّموا، ثم قال لي: "تَعالي حتى أُسابِقَكِ" فسابقتهُ]، فسبقني، فجعل يضحك، ويقول: "هذهِ بِتِلْكَ" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري (6203)، ومسلم (2150)، واللفظ لأحمد في "مسنده" (12957).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (12648).
(3) أحمد في "مسنده" (26277).
(4/337)
________________________________________
وقالت عائشة رضوان الله عليها: دخَلَت عجوزٌ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا يدخل الجنة عجوز" فبكت، فقال لها: "لا بأسَ، إنَّ هذه الصفةَ تتَبدَّل، وتَعودين بكرًا" وقرأ: {عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} [الواقعة: 37]، ففرحت المرأة (1).
وقالت عائشة: قال - صلى الله عليه وسلم - يومًا لامرأة: "أنت الذي في عين زوجك بياض؟ " فبكت، فقال لها: "كل بني آدم في عينه بياض" (2).
وقال [أحمد بإسناده، عن] أنس: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا ذا الأُذُنينِ" (3).
[وقال أحمد بإسناده] عن أنس: أنَّ رجلًا أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَحمَله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا حامِلُوك على ولدِ ناقةٍ"، فقال: يا رسولَ الله، ما أصنعُ بولدِ ناقةٍ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهَل تلدُ الإبلَ إلَّا النُّوقُ" (4).
وعن أبي هريرة عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه سأله بعضُ أصحابه فقال: إنَّك تُداعبنا، فقال: "إني لأَمزَحُ، ولا أقولُ إلَّا حقًّا" (5).
وقال أبو سليمان الخطابي: كانت له - صلى الله عليه وسلم - مهابة، وكان يتبسط للدعابة.
[حدّثنا جدي رحمه الله بإسناده عن أبي صالحٍ] عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن لي جارًا يؤذيني، [قال: "فانطلِق فأَخرج متَاعَك إلى الطريقِ" ففعل فاجتمع الناس، فجعلوا يقولون: ما شأنك؟ فقال: لي جار يؤذيني]، فذكرتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اذْهَب، فأَخرج مَتاعَك إلى الطريقِ" فجعلوا يقولون: اللهمَّ العنه، اللهمَّ أخزِه، فبلغ الرجل، فأتاه، فقال: ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك (6).
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (5545)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 419: وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ضعيف.
(2) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (8523).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (12164).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13817).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (8723).
(6) أخرجه أبو داود (5153)، وابن حبان في "صحيحه" (520).
(4/338)
________________________________________
[وقد ذكر جدي بمعناه في كتاب "الأذكياء" قال: حدّثنا غير واحد عن أبي الفضل ابن ناصر بإسناده عن عاصم الأحول] عن الحسن قال: أتى رجل إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومعه رجل قد قتَل حميمًا له، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتأخذُ الديةَ؟ " قال: لا، قال: "أَفتَعفُو؟ " قال: لا، قال: "فاذْهَب به فاقتُله"، فلما جاوَزَه، [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن قتله، فهو مثله، فأخبر الرجل، فرجع الرجل، وتركه، فولى وهو يجر نسعه في عنقه.
ولم يُرِد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مثله في المأثم لأن الله قد أباح له القصاص (1). [إنما أوهمه أنه مثله ليعفو، وهذا من أبلغ الفطن، لأن] معنى قوله: "إن قتله فهو مثله" يعني أنه يكون قاتلًا كما كان الذي وجب عليه القصاص قاتلًا، [فتوهم صاحب القصاص أنه مثله في الإثم، فخاف فعفى عنه.
فإن قيل: ففيه إبطال حق المقتص من قاتل حميمه.
قلنا: يحتمل أن ذلك كان خاصًا بهذا الرجل، ويحتمل أن رسول الله وداه].
* * *
__________
(1) "الأذكياء" ص 33.
(4/339)
________________________________________
الباب الثلاثون: في ذكر جوده وإيثاره - صلى الله عليه وسلم -
قال ابن عباس: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناسِ، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ حين يَلقاهُ جبريلُ، وكان يَلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضانَ، فيُدارِسُه القرآن، وكان أَجودَ بالخيرِ من الريحِ المرسلةِ (1).
ولمسلم، عن أنس قال: لم يَكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل شيئًا على الإسلامِ إلَّا أعطاه إيَّاه، فأَتاه رجلٌ فسأَلَه، فأمَرَ له بشاء بين جبلين من شاءِ الصدقةِ، فرجعَ إلى قومهِ، وقال: يا قومِ، أَسلِموا فإنَّ محمدًا يُعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر (2).
وقال أنس: أُتي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمال من البحرين، فقال: "انثُروه في المسجد" وكان أكثرُ مالٍ أُتي به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة، ولم يَلتفِت إليه، فلما قضى صلاتَه جاء، فجلسَ إليه، فما كان يرى أحدًا إلَّا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال: يا رسول الله، أعطني، فإني فادَيْتُ نفسي، وفادَيْتُ عقيلًا، فقال له: "خُذْ" فحثى في ثوبهِ، ثم ذهب يُقلُّه، فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، مر بعضَهُم يَرفَعه عليَّ، قال: "لا فارفعه أنت"، قال: لا، فنثر منه، ثم احتمله فالقاه على كاهله، ثم انطلق، فما زالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُتبعُه بصَره حتى خفي علينا، عجبًا من حِرصه، فما قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وثَمَّ منه درهمٌ (3).
وعن سهل بن سعدِ الساعدي: أن امرأةً أَتَتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببُردَةٍ منسوجةٍ، قال سهل: وهل تدرون ما البردةُ؟ قالوا: نعم، قال: هي الشَّملة، فقالت: يا رسول الله، نسجت هذه بيدي، فجئتُ بها لأكسوكَها، فاخذها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - محتاجًا إليها، فخرج علينا وإنَّها لإزاره فجسَّها فلان بن فلان، رجل سماه، فقال: ما أحسنَ هذه البردة، اُكسُنيها
__________
(1) أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308).
(2) أخرجه مسلم (2312).
(3) أخرجه البخاري (421).
(4/340)
________________________________________
يا رسول الله، قال: "نَعَمْ" فلما دخَل طواها، وأرسل بها إليه، فقال له القوم: والله ما أحسنت كُسِيَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محتاجٌ إليها، ثم سألته إياها وقد علمت أنه لم يردّ سائلًا، فقال: إني والله ما سألته إياها لألبسها ولكن سألته إياها لتكون كفني يوم أموت، قال سهل: فكانت كفنه يوم مات (1).
* * *
الباب الحادي والثلاثون: في ذكر شجاعته - صلى الله عليه وسلم -
قال علي - عليه السلام -: كنَّا إذا احْمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (2). أي: إذا اشتدّ القتالُ قدَّمناه في نحرِ العدوِّ.
وقد أشرنا إلى شيء من شجاعته في غزواته - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (22825)، والبخاري (1277)، واللفظ لأحمد.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (1347).
(4/341)
________________________________________
الباب الثاني والثلاثون: في ذكر عيشه وفقره وقِصَر أمله ونحو ذلك
[قال أحمد بإسناده عن] قتادة قال: كنَّا نأتي أنسًا وخبَّازه قائم، فقال لنا ذات يوم: كلوا فما أعلمُ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رَأى رَغيفًا مرقَّقًا بعينَيْه، ولا أكلَ شاةً سَمِيطًا قطُّ (1). ["السميط": المسموط عليه جلده، وهو من مأكول المترفين].
وروى البخاري: لم يأكل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على خِوانٍ قطُّ، ولا في سُكُرُّجَةٍ، ولا خُبز له خبز مرقق. [قال: فقال قتادة: فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على السفر] (2).
وقال أنس: قد رهَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - درعًا له عند يهودي بالمدينةِ، وأخَذَ منه شعيرًا لأهلِه. قال: ولقد سمعته ذاتَ يومٍ يقول: "ما أَمْسَى عندَ آلِ محمدٍ صاعٌ من برًّ أو حبًّ"، وإنَّ عندَه تسعُ نسوةٍ يومئذٍ. انفرد بإخراجه البخاري (3).
وقال ابن عباس: قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وإنَّ درعه مرهونةٌ عند يهودي على ثلاثين صاعًا من شعيرٍ أَخذها رِزقًا لأهله (4).
[وقال أحمد بإسناده] عن أنس: أنَّ فاطمةَ - عليها السلام - ناوَلَت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كِسْرَة من خُبزِ شَعيرٍ، فقال: "هذا أَولُ طعامٍ أَكَله أَبوكِ منذُ ثلاثةِ أَيامٍ" (5).
[وأخرجه محمد بن سعد عن هشام بن عبد الملك، وفيه]: فقال رسول الله: "يا بنية، ما هذه الكسرة؟ " فقالت: قرص خبزته. فلم تطب نفسي أن آكله، وذكره (6). وفيه قال أنس: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشدُّ صُلبه بالحجر من الغَرَث (7). وما كان طعامُهم إلاَّ الأسودان الماءُ والتمرُ (8). [و"الغرث": الجوع، فإن قيل: فلم سمي الماء والتمر أسودان؟
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12296) وهو في البخاري (5421)، والسَّميط: المشويّ، فعيل بمعنى مفعول. النهاية (سمط).
(2) أخرجه البخاري (5415).
(3) أخرجه البخاري (2069).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2109).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (13223).
(6) "الطبقات" 1/ 344.
(7) "الطبقات" 1/ 344 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(8) أخرجه أحمد في "مسنده" (9259) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(4/342)
________________________________________
قلنا: هذه عادة العرب لما كان الغالب تغير الماء بالتمر إلى السواد، أضيف الماء إليه على الاستعارة].
وقال سِماك: سمعت النعمانَ بن بشيرٍ يقول: أَلستُم في طعامٍ وشرابٍ، لقد رأيت نبيَّكم - صلى الله عليه وسلم - وما يجدُ من الدَّقَل ما يملأُ بطنَه، انفرد بإخراجه مسلم (1).
[وقال أحمد بإسناده عن] سهل بن سعد أنه قيل له: هل رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النَّقي قبل موته بعينه، يعني الحُوَّارى؟ فقال: ما رأى النَّقي حتى لقيَ اللهَ، فقيل له: هل كان لكم مَناخِلُ [على عَهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما كانَ لنا مَناخِلُ، فقيل] فكيف كنتم تَصنعون بالشَّعير؟ قال: نَنْفُخه فيطيرُ ما طارَ منه. [انفرد بإخراجه البخاري (2). وفي رواية: ] ويبقى ما بقي (3).
[وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن] أبي هريرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهمَّ اجعَلْ رِزْقَ آلِ محمدٍ قُوتًا". أخرجاه في "الصحيحين" (4). وقال أبو هريرة: ما شَبعَ نبيُّ الله وأهلُه ثلاثًا تِباعًا من خبزِ حنطةٍ حتى فارقَ الدنيا (5). ولقد خرجَ منها وما شَبعَ من خبزِ الشَّعيرِ (6).
[وقال مسلم (7): حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده] عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ أو ليلة فإذا هو بأبي بكرٍ وعمر، فقال: "ما أَخرجَكُما من بُيوتِكُما هذهِ الساعةَ؟ " قالا: الجوعُ، فقال: "وأَنا والذي نفسي بيدهِ لأَخرجَني الذي أَخرَجَكُما، قُومَا"، فقاما معه، فأَتى رجلًا من الأنصارِ، فإذا هو ليس في بيتِه، فلما رأتهم المرأةُ قالت: مرحَبًا وأَهلًا، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأَينَ فلانٌ؟ " قالت: ذهب يَستعذِبُ لنا من الماءِ، إذ جاء الأنصاريُّ، فنظرَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحِبَيه، فقال: الحمدُ لله، ما أَحد اليوم أكرم أضيافًا مني، قال: فانْطَلَقَ، فجاءَهم بعِذْقٍ فيه
__________
(1) أخرجه مسلم (2977)، وما سلف بين معكوفات من (ك).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (22814)، والبخاري (5413).
(3) أخرجها البيهقي في شعب الإيمان (5655).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (7173)، والبخاري (6460)، ومسلم (1055).
(5) أخرجه مسلم (2976).
(6) أخرجه البخاري (5414) من حديث أبي هريرة.
(7) في (ك) وما بين معكوفين منها: محمد.
(4/343)
________________________________________
بُسْرٌ ورُطبٌ وتمرٌ، فقال: كُلوا من هذا، وأخذ المُديَةَ، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إيَّاكَ والحَلوبَ" فذبحَ لهم، فأَكلُوا من الشاةِ ومن ذلك العِذْقِ، وشربوا من الماءِ، فلما أن شَبِعُوا، ورَوُوا، قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ وعمرَ: "والذِي نَفسِي بيَدِه لتُسأَلنَّ عن هذا النَّعيمِ يومَ القيامةِ، أَخرَجَكُم من بُيوتِكُم الجوعُ، ثم لم تَرجِعُوا حتى أَصابكُم هذا النعيمُ". انفرد بإخراجهِ مسلم (1)، وهذا الأنصاري هو أبو الهيثم ابن التَّيَّهان. [و"العِذْق": الكباسة من البسر والرطب].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَتى فاطمةَ، فوجدَ على بابها سِترًا، فلم يَدخل، وقلما كان يدخل إلَّا بدأ بها، فجاء عليٌّ فرآها مُهتمَّة، فقال: ما لَكِ؟ فأخبَرَته، فجاء إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وأَخبره أنَّ فاطمةَ - عليها السلام - قد اشتدَّ عليها أنَك جِئتَها فلم تَدخُل عليها، فقال: "ما أَنا والدُّنيا، ما أَنا والرَّقْم" فذهب عليٌّ فأخبرَ فاطمةَ بقولِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: قُل له: ما يأمُرُني؟ فسألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قُل لها تُرسِل به إلى بني فلانٍ، فإنَّهم أهل بيتٍ لهم به حاجةٌ" فأرسلته. انفرد بإخراجه البخاري (2).
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَبيتُ اللَّيالي المتتابعةَ طَاويًا وأهلُه لا يَجدون عشاءً، وكان أكثرُ خبزهم خبز الشعير (3).
[وقال أحمد بإسناده عن] عائشة رضوان الله عليها قالت: ما شبع آلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -[من خبز الشعير] يومين متتابعين حتى قُبضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
وفي رواية: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام تِباعًا من خُبز برًّ حتى مضَى لِسَبيلهِ (5). الروايتان متفق عليهما (6).
وقالت عائشةُ رضوان الله عليها: بعثَ إلينا أبو بكر بقائمةِ شاةٍ ليلاً، فأمسَك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقطعتُ، أو قَطَع فأمسكتُ، فقال الذي تحدثه: على غيرِ مصباحٍ؟ فقالت: لو كان عندنا مصباح لائْتَدَمْنا به، إن كان لَيأتي على آلِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الشهرُ ما يَختَبزون خُبزًا
__________
(1) أخرجه مسلم (2038).
(2) أخرجه البخاري (2613)، وأحمد في "مسنده" (4727)، واللفظ له.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (2303)، والترمذي (2360)، وابن ماجه (3347).
(4) أخرجه مسلم (2970) (22)، وأحمد في "مسنده" (24665)
(5) أخرجه البخاري (6455)، ومسلم (2970) (21)، وأحمد في "مسنده" (24151).
(6) انظر "الجمع بين الصحيحين" (3249).
(4/344)
________________________________________
ولا يَطبخون قِدرًا (1).
[وقال أحمد بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه] عن عائشة أنها قالت: يا ابن أُختي كان شَعرُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فوقَ الوَفْرةِ ودونَ الجُمَّةِ، وايمُ الله، إنْ كانَ لَيمرُّ على آلِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الشهرُ لم يُوقَد في بيتِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نارٌ إلَّا أَن يكونَ اللَّحيم، وما هنا إلَّا الأسودانِ الماءُ والتمرُ، إلا أنَّ حولَنا أهل دورٍ من الأنصارِ جَزاهُم اللهُ خيرًا - في الحديث والقديم - فكلَّ يومٍ يَبعثون إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بغَزيرةِ شاتِهم، فيتناولُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من ذلكَ اللَّبَن، ولقد تُوفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما في رَفِّي من طعام يأكُله ذو كبِدٍ إلَّا قريبٌ من شَطرِ شَعيرِ، فأَكلتُ منه حتى طالَ عليَّ، فَكِلتُه فَفَني، فليتني لم أكِلْهُ، وايمُ اللهِ إنَّ ضِجاعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من أَدمٍ حَشوه ليفٌ. أخرجاه في "الصحيحين" (2).
وقالت: كان يمرُّ بنا الهلالُ والهلالُ فما يوقدُ في بيتنا نار (3).
قالت: ولما فُتحت خيبرُ قلنا: الآنَ نشبعُ من التمرِ (4).
وقال أنسٌ: دخلتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُضطجعٌ على سريرٍ مُرْمَلٍ بشريطٍ، وتحتَ رأسهِ وِسادةٌ من أَدَمٍ حَشوُها ليفٌ، ودخل عمرُ، فلم يَرَ بينَ جنبه والشريطِ ثوبًا، وقد أثَّر الشريطُ في جنب رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فبَكَى عمرُ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما يُبكِيكَ؟ " قال: أنتَ أكرمُ على الله من كسرى وقيصرَ وهما يعيثان (5) في الدنيا وأنتَ بالمكانِ الذي أَرَى؟ فقال له: "يا عمرُ، أَلاَ ترضى أن تكونَ لهمُ الدنيا ولنا الآخرةُ؟ " قال: بلى، قال: "فإنَّه كذلِكَ".
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: دخلَ عمر بن الخطاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على حصيرٍ، وقد أثَّر في جنبهِ، فقال: يا نبيَّ اللهِ لو اتّخذت فِراشًا أوثر من هذا، فقال: "ما لي وللدُّنيا، ما مَثَلي ومثلُ الدُّنيا إلا كَراكِبٍ سارَ في يوم صائفٍ، فاستظلَّ تحتَ شجرةٍ ساعةً من نهارِ، ثم رَاحَ وتَركَها" (6).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (25825) وإسناده ضعيف.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24768)، وهو في البخاري (6451)، ومسلم (2973) مختصرًا.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (24561).
(4) أخرجه البخاري (4242).
(5) في (أ، خ): لغنيان، وليس في (ك)، والمثبت من مسند أحمد (12417).
(6) أخرجه أحمد في "مسنده" (2744).
(4/345)
________________________________________
وقال سِماك بن حَرْبٍ: سمعتُ النعمانَ بن بشيرٍ يخطبُ، قال: ذكر عمرُ بن الخطاب ما أصابَ الناسُ من الدُّنيا، فقال: لقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَظلُّ اليومَ يتلَوّى لا يجد دَقَلًا يَملأُ به بطنَهُ (1).
وأما قصر أَملِه - صلى الله عليه وسلم - فقال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَخرجُ يهريقُ الماءَ، فيتمسَّح بالترابِ. فأقول: يا رسولَ الله، الماء منكَ قريبٌ، فيقول: "وما يُدريني، لعلَّي لا أبلُغُه" (2).
فصل في ذكر الصدقةِ وتحريمها عليه - صلى الله عليه وسلم -:
قال عبد الملك بن المغيرة: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بَني عبدِ المطَّلِبِ، إنَّ الصَّدقةَ أوساخُ الناسِ، فلا تَأكُلوها، وإنَّ اللهَ كَرِه لكُم غُسالةَ أَيدي الناسِ، وعوَّضَكُم عنها الخُمسَ" (3).
وقال أنس: إنْ كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيصيبُ التَّمرةَ فيقول: "لَولا أنَّي أَخشى أن تكونَ من تمرِ الصدقةِ لأَكَلتُها". أخرجاه (4).
وقال أبو هريرة: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله إنَّي لأَنقَلِبُ إلى أَهلي، فأجدُ التَّمرةَ ساقطةً على فِراشي، أو في بَيتِي فأَرْفَعُها لآكُلَها، ثم أخشَى أن تكونَ من تمرِ الصدقةِ فأُلقِيها". متفق عليه (5).
وقال أبو هريرة: أخذَ الحسنُ بن عليٍّ تمرةً من تمرِ الصدقةِ، فجعلها في فِيه، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كَخْ كَخْ" ليطرحها، ثم قال: "أَما شَعرتَ أنَّا لا نأكُلُ الصَّدقةَ". متفق عليه (6).
وعن أبي هريرة قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتي بطعامٍ سأَلَ عنه: "أَهديةٌ هو أَم صدقةٌ؟ " فإن قالوا: هديةٌ، أكلَ منه، وإن قالوا: صدقةٌ، لم يَأكُل، وأمرَ أصحابَه أن يأكُلوا منه (7).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (353).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2614).
(3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 336.
(4) أخرجه البخاري (2431)، ومسلم (1071).
(5) أخرجه البخاري (2432)، ومسلم (1070).
(6) أخرجه البخاري (3072)، ومسلم (1069).
(7) أخرجه البخاري (2576)، ومسلم (1077).
(4/346)
________________________________________
وقالت عائشة: أرسلتُ إلى نُسيبةَ بشاةٍ من الصدقةِ، فبعَثَت إليَّ من لَحمِها، فدخَلَ علي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هَل عِندَكُم شيءٌ؟ " قلت: لا، إلَّا ما أَرسَلت به نُسيبةُ، فقال: "هاتِ قد بلَغَت مَحِلَّها" متفق عليه (1).
قالت عائشة: وتُصدِّق على بَريرةَ بلحم، فدخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَأى القِدرَ تَفورُ على النارِ، فقال: "ما هذا؟ " قلت: لحمٌ تُصدَّق به على بَريرةَ فأهدَت إلينا منه، وأنتَ لا تأكُلُ الصدقةَ، فقال: "هو لَها صَدقةٌ، ولنا هَديَّةٌ" فأكَلَ منه. متفق عليه (2).
وتحرمُ الصدقة على أهل بيتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهم: آل عليًّ، وآل عَقيلٍ، وآل جعفرٍ، وآل العباس بن عبدِ المطَّلِبِ ومَواليهم.
وقال يزيد بن حيان التيمي: انطلقت أنا وحُصين بن سَبرة، وعمرُ بن مسلم إلى زيدِ ابن أرقم، فقال له حصين: يا زيدُ، لقد لقيتَ خيرًا كثيرًا، رأيتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبتَه، وصلَّيتَ خلفَه، وغزوتَ معه، فحدِّثنا يا زيدُ مما سمعتَ منه، فقال: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فينا خطيبًا بماءٍ يُدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فحمِدَ الله، وأَثنى عليه، وذكَّرَ ووَعَظَ، وقال: "أيُّها الناسُ، إنَّما أَنا بشَرٌ مثلُكُم، يوشِكُ أن يأتيَني رسولُ ربِّي، فأُجيب، وإنِّي تاركٌ فيكم ثَقَلين: أولُهما كتابُ الله، فيه الهُدى والنورُ، فخذُوا به، واسْتَمْسِكُوا به" قال: "وأهلُ بَيتي، أذكَّركُم اللهَ في أهلِ بَيتي" قالَها ثلاثًا، فقال له حُصين: ومَن أهلُ بيتِه يا زيدُ، أَليسَ نساؤُه من أهل بيتِه؟ [قال: إن نساءَه من أهل بيته، ولكن أهل بيته] من حُرم الصدقةَ بعده، قال: ومَن هم؟ قال: آل عليًّ، وآل عَقيلٍ، وآلُ جعفرٍ، وآل العباسِ، قال: أكلُّ هؤلاءِ حُرمَ الصدقةَ؟ قال: نعم (3).
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري (2579)، ومسلم (1076).
(2) أخرجه البخاري (2578)، ومسلم (1075).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (19265)، ومسلم (2408)، وما بين معكوفين منهما.
(4/347)
________________________________________
الباب الثالث والثلاثون: في حزنه وعبادته - صلى الله عليه وسلم -
قالت عائشة رضوان الله عليها: ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مُستجمعًا ضاحِكًا قطُّ، إنَّما كان يَتبسَّم، وكان إذا رَأى غَيمًا عُرف في وجههِ الكَراهيةُ، فأقولُ له في ذلك فيقول: "وما الذي يؤمِّنُني أن يكونَ فيه عَذابٌ، قد عُذَّب قومٌ بالريحِ، وقد رَأَى قومٌ العذابَ فقالوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا" (1).
وكان إذا رأى مَخيلَةً في السماءِ دخَلَ، وخَرَج، وتغيَّر لونُه، فإذا أَمطَرت سُرِّي عنه (2).
وكان إذا عصَفَتِ الريح قال: "اللَّهمَّ إنَّي أَسأَلُك خَيرَها وخَيرَ ما فيها، وخَيرَ ما أُرسِلَت به، وأَعوذُ بكَ من شَرِّها وشَرِّ ما فيها وشَرِّ ما أُرسِلَت به" (3).
وقالت عائشة رضوان الله عليها: رخَّص رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر فتَنزَّه عنه أُناسٌ، فبلَغَه فغَضِبَ حتى بانَ الغضبُ في وجهِه، ثم قال: "ما بالُ قَومٍ يَرْغَبونَ عمَّا رُخَّص لي فيه؟ فواللهِ لَأَنا أَعْلَمُهم باللهِ وأَشدُّهم له خَشْيَةً" (4).
وقالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَمَرَهم بما يُطيقون قالوا: لَسنا كَهيئَتِك يا رسولَ الله؟ إنَّ الله قد غَفَرَ لكَ ما تقدَّم من ذنْبِكَ وما تأخَّرَ، فيَغضَبُ حتى يُعرفُ الغضَبُ في وجههِ، ثم يقول: "أَنا أَتقاكُم وأعلَمُكُم باللهِ" (5).
وقال عبد الله بن الشَّخِّير: لقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ولصَدرهِ أَزيزٌ كأَزيزِ المِرْجَلِ من البُكاءِ (6).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (24369)، والبخاري (4828)، و (4829)، ومسلم (899) (16).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (25342)، والبخاري (3206) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(3) أخرجه مسلم (899) (15) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24180)، والبخاري (6101)، ومسلم (2356).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (24319)، والبخاري (20).
(6) أخرجه أحمد في "مسنده" (16312)، وأبو داود (904).
(4/348)
________________________________________
وقال الأَغَرُّ المُزَني: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه ليُغَانُ على قلبي، وإنِّي لأَستغفِرُ الله كلَّ يومٍ أكثرَ من سبعينَ مرَّةً، وأَتوبُ إليه" (1).
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: بتُّ عندَ خالتي ميمونةَ زوجِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاضجَعتُ في عرضِ الوِسادَةِ، واضْطَجعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأهلُه في طولِها، فنامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتَصَفَ الليلُ، أو قبلَه بقليلٍ، أو بعدَه بقليلٍ، استيقظَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلَ يمسَحُ النومَ بيدِه عن وجهِه، ثم قرأَ العشرَ الآياتِ الخواتمِ من سورةِ آل عمرانَ، ثم قامَ إلى شَنٍّ معلَّق، فتوضَّأَ منه فأحسنَ الوضوءَ، ثم قام فصلَّى، فقمت فصنعتُ مثلَ ما صنَعَ، ثم ذهبتُ فقمتُ إلى جَنبِه فوضَع يدَه اليُمنى على رأسي، وأَخذَ بأُذني اليمنى فَفَتلَها، وصلَّى رَكْعَتين، ثم رَكْعَتين، ثم رَكْعَتَين، ثم رَكْعَتين، ثم رَكْعَتين، ثم رَكْعَتين، ثم أَوترَ، واضْطَجعَ حتى جاءَه المؤذَّنُ، فقامَ فصلَّى رَكْعَتين خَفيفتين، ثم خرجَ فصلَّى الصبحَ، ثم دعا فقال: "اللهمَّ اجْعَلْ في قلبي نُورًا، وفي بَصَري نُورًا، وفي سَمعي نُورًا، وعن يَميني نورًا، وعن شِمالي نورًا، وخلفي نورًا، ومن فوقي نُورًا، ومن تحتي نُورًا، وأَعظِم لي نُورًا" (2).
وقال حُميد: سُئل أنسُ بن مالكٍ عن صلاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من الليلِ، فقال: ما كنَّا نَشاءُ أن نَراه من الليلِ مصلِّيًا إلَّا رَأيناهُ، وما كنَّا نَشاءُ أن نَراه نائمًا إلاَّ رَأَيناهُ، وكان يصومُ الشَّهرَ حتى نقولُ: لا يُفطِرُ منه شيئًا، ويُفطِرُ حتى نقولَ: لا يَصومُ منه شيئًا (3).
وقال أبو وائل: قال عبدُ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: صلَّيتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةٍ فلم يَزل قائمًا حتى هَمَمتُ بأمرِ سوءٍ، قلنا: وما هو؟ قال: هممتُ بأن أَجلِسَ وأَدَعه (4).
وقال حذيفة: صليتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةٍ فافْتَتَح البقرةَ، فقلتُ: يركَعُ عند المئةِ، قال: ثم مضَى، فقلتُ: يصلَّي بها في ركعةٍ، فمضَى، فقلتُ: يركَعُ فيها، ثم افتَتَح النساءَ فقرأَها، ثم افتَتَح آل عمرانَ فقرأها، يقرأ مترسِّلًا، إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيحٌ
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (17848)، ومسلم (2702).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (2567)، والبخاري (6316)، ومسلم (763) (187).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (12012)، والبخاري (1141).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (3646)، والبخاري (1135)، ومسلم (773).
(4/349)
________________________________________
سبَّح، وإذا مرَّ بآيةٍ فيها سُؤال سأَلَ، وإذا مرَّ بتعوُّذٍ تعوَّذَ، ثم ركَعَ فجعَلَ يقولُ: "سُبحان ربَّي العَظيم" فكان ركوعُه نحو قيامهِ، ثم قال: "سَمِعَ الله لِمَن حَمِدَه" ثم قامَ طويلًا قريبًا مما ركعَ، ثم سجَدَ فقال: "سُبحان ربِّي الأعلى" فكان سُجودُه قريبًا من قيامِه (1).
وقال إبراهيم بن علقمة: سُئلت عائشةُ: أكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخصُّ شَيئًا من الأيامِ؟ قالت: لا، كان عَمَلُه دِيْمَةً، وأيُّكُم يُطيقُ ما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُطيقُ (2)؟ .
وقال عبد الله بن شَقيق: سألتُ عائشةَ - رضي الله عنها - عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التطوعِ، فقالت: كان يُصلِّي قبلَ الظهرِ أَربعًا في بَيتي، ثم يخرجُ فيصلي بالناسِ، ثم يَرجعُ إلى بيتي فيصلَّي رَكعتَيْن، وكان يُصلَّي بالناسِ العصرَ، ثم يَرجع إلى بَيتي، ثم يخرجُ فيصلِّي المغربَ، ويَرجعُ إلى بَيتي فيصلَّي رَكعتَيْن بعد المغربِ، وكان يصلِّي بهمُ العشاءَ، ويدخلُ بَيتي فيصلَّي رَكعتَيْن، وكانَ يصلِّي من الليلِ تسعَ ركَعاتٍ منهنَّ الوترُ، وكانَ يصلَّي ليلًا طويلًا قائمًا، فإذا قَرأَ وهو قائمٌ ركَعَ وسجَدَ، وإذا قرأ وهو قاعدٌ ركَعَ وسجَدَ وهو قاعدٌ، وكان إذا طلَعَ الفجرُ صلَّى رَكعَتيْن ثم يخرجُ فيصلَّي بالناسِ صلاةَ الفجرِ. انفرد بإخراجه مسلم (3).
وقالت عائشة - رضوان الله عليها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى قامَ حتى تَتَفطَّر رِجلاهُ، فأقولُ: يا رسولَ الله، أتصنعُ هذا وقد غُفر لك ما تقدَّم من ذَنبِكَ وما تأخَّر؟ فيقول: "يا عائشةُ، أَفَلا أكُونُ عَبدًا شَكُورًا؟ " (4).
وقال أُبَيُّ بن كَعبٍ: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في الوترِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، فإذا سَلَّم قال: "سُبحان الملِكِ القدُّوسِ" ثلاث مرات (5).
وقال غضيف بن الحارث: قلت لعائشة: أكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُوتِرُ في أَولِ الليلِ أَم
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (23367)، ومسلم (772).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24282)، والبخاري (1987)، ومسلم (783).
(3) مسلم (730)، وأحمد في "مسنده" (24019).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24844)، والبخاري (4837)، ومسلم (2820).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (21141)، وأبو داود (1423)، وابن ماجه (1171).
(4/350)
________________________________________
في آخرِه؟ فقالت: ربَّما أوترَ في أوله، وربَّما أوترَ في آخرِه، فقلتُ: الحمدُ للهِ الذي جَعَل في الأمر سَعَةً (1).
وقالت عائشةُ رضوان الله عليها: لم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على شيءٍ من النَّوافلِ أشدَّ تَعاهُدًا منه على رَكعَتَي الفجرِ (2).
وقالت: ما تَرَكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتَيْن بعدَ العصرِ عِندي قطُّ (3).
قال الزهري: كان مخصوصًا بذلك.
وقالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ يُصلِّي من الليلِ افتَتَح الصلاةَ بركعتينِ خَفيفتين (4).
فصل في قيام رمضان:
قال زيدُ بن ثابت: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اتَّخذَ حُجرةً في المسجدِ من حصيرٍ فصلَّى فيها ليالٍ حتى اجتَمَع إليه ناسٌ، ثم فَقدُوا صوتَه، فظنُّوا أنَّه قد نامَ، فجعَلَ بعضُهم يتنَحنَحُ ليخرجَ إليهم. فقال: "ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكُم حتى خشيتُ أن يُكْتَبَ عليكُم، ولو كُتب عليكُم ما قُمتُم به، فصلُّوا في بُيوتِكُم، فإنَّ أفضَلَ صلاةِ المرءِ في بيتهِ إلَّا المكتوبةَ". أخرجاه في "الصحيحين" (5).
وقالت عائشةُ رضوان الله عليها: صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً في المسجدِ في شهرِ رمضانَ ومعهُ أُناسٌ، ثم صلَّى الثانيةَ فاجتَمعَ تلكَ الليلةَ أكثرُ من الأُولى، فلما كان في الليلةِ الثالثةِ أو الرابعةِ امتَلأَ المسجدُ حتى اغتصَّ بأهلِه، فلم يَخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعَلَ الناسُ يُنادونَه: الصلاةَ، فلم يَخرج إليهم، فلمَّا أصبحَ قال له عمرُ بن الخطاب: يا رسولَ الله، ما زالَ الناسُ يَنتظرونَكَ البارِحَة، فقال: "أَما إنَّه لم يَخْفَ عليَّ أمرُهم،
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (24202)، وأبو داود (226).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24167)، والبخاري (1169)، ومسلم (724) (94).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (24645)، والبخاري (591)، ومسلم (835) (299).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (24017)، ومسلم (767).
(5) أخرجه البخاري (7290)، ومسلم (781). وأحمد في "مسنده" (21582).
(4/351)
________________________________________
ولكنَّي خشيتُ أن تُكتَبَ عليهم". أخرجاه في "الصحيحين" (1).
وقال أُبيُّ بن كعبٍ: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكفُ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ، فسافَر سنةً فلم يَعتكف، فلما كانَ في العامِ المقبلِ اعتكفَ عشرين يومًا (2).
فصل في ذكر قراءته:
عن جابرِ بن سَمُرةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقرأُ في الفجرِ بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ونحوها (3).
وكان يقرأ في الظهر {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}، وفي العصر نحو ذلك، وفي الفجر أطول من ذلك (4).
وفي رواية: وكان يقرأ في الجمعة بقاف وبسورة الجمعة والمنافقين (5).
وأخرج مسلم عن أبي واقِدٍ اللَّيثي: أنَّ عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه سأَلَه بما كانَ يقرأُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في العيدِ؟ فقال: بـ {ق} و {اقْتَرَبَتِ} (6).
وقال ابن عباس: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في صلاةِ الصبحِ يومَ الجمعةِ {الم (1) تَنْزِيلُ} و {هَلْ أَتَى}، وفي الجمعةِ بسورة الجمعةِ واذا جاءك المنافقون (7).
فصل في صيامه - صلى الله عليه وسلم -:
قال أسامةُ بن زيدٍ - رضي الله عنهما -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصومُ الأيامَ يَسرِدُ حتى يقال: لا يفطرُ، ويُفطر الأيامَ حتى لا يكادُ يَصومُ، إلَّا يومين من الجمعةِ، ولم يَكن يصومُ من شهرٍ من الشُّهورِ ما يَصومُه من شعبانَ، فقلت: يا رسولَ الله، إنَّك تصومُ لا تكادُ تُفطرُ،
__________
(1) أخرجه البخاري (924)، ومسلم (761) (178)، وأحمد في "مسنده" (25362).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (21277).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (20971)، ومسلم (458).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (20963)، ومسلم (459) من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -.
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (3160) ومسلم (879) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(6) مسلم (891)، وأحمد في "مسنده" (21896)، وفيه أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد.
(7) تقدم قريبًا.
(4/352)
________________________________________
وتُفطر حتى لا تكادُ تصومُ، إلَّا يومين إن دخلا في صيامِكَ وإلَّا صُمتَهما، قال: "أيَّ يَومَينِ؟ " قلت: يومَ الاثنينِ ويومَ الخميسِ. قال: "ذانِكَ يَومان تُعرضُ فيهما الأَعمالُ على ربِّ العالمينَ، فأُحبُّ أن يُرفَعَ عَملِي وأَنا صائمٌ". أخرجه الإمامُ أحمدُ رحمة الله عليه في "المسند" (1).
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: كانَ يصومُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أيامٍ من غُرَّة كلِّ شهرٍ، وقلما كان يُفطرُ يومَ الجمعةِ (2).
وقد ثبتَ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ يصومُ الأيامَ البيضَ، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر (3).
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصوم يومَ عاشوراءَ قبل أن يُفتَرضَ صيامُ رمضانَ (4).
* * *
__________
(1) أحمد في "مسنده" (21753).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (3860)، وأبو داود (2450)، وابن ماجه (1725).
(3) أخرج الإمام أحمد في "مسنده" (20316) عن قتادة بن مِلحان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بصيام أيام البيض، ويقول: "هن كصيام الدهر".
وأخرج أحمد (25422) عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم الأيام المعلومة من الشهر؟ فقالت: نعم.
(4) أخرجه قريبًا من هذا اللفظ أحمد في "مسنده" (6292)، ومسلم (1126) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه". وأخرجه عن ابن مسعود البخاري (4503)، ومسلم (1127) عن عبد الرحمن بن يزيد قال: دخل الأشعث ابن قيس على عبد الله وهو يتغدى، فقال: يا أبا محمد، ادن إلى الغداء، فقال: أوليس اليوم يوم عاشوراء؟ قال: وهل تدري ما يوم عاشوراء؟ قال: وما هو؟ قال: إنما هو يوم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه قبل أن ينزل شهر رمضان، فلما نزل شهر رمضان ترك.
(4/353)
________________________________________
الباب الرابع والثلاثون: في فضله - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء، ونحو ذلك
قال جابر بن عبد الله: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُعطِيتُ خَمسًا لم يُعطَهنَّ أحدٌ من الأنبياءِ قَبلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ، وجُعِلَت لي الأرضُ مَسجِدًا وطَهُورًا، فَأيُّما رجلٍ أَدْرَكتهُ الصلاةُ فليُصَلِّ، وأُحِلَّت ليَ الغَنائمُ ولم تَحلَّ لأحدٍ من قَبلِي، وأُعطِيتُ الشَّفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومِه خاصَّةً وبُعِثتُ إلى الناسِ عامَّةً". أخرجاه في "الصحيحين" (1).
وعن أبي هريرة، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُعِثتُ بجَوامِعِ الكَلِمِ، ونُصِرتُ بالرُّعبِ، وبَيْنا أنا نائمٌ رأيتُني أُتيتُ مفاتيحَ خَزائِنِ الأرضِ فَوُضِعَت بين يَدي" قال أبو هريرة: فقد ذهبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنتم تَنْتَثِلُونَها. أخرجاه في "الصحيحين" (2).
وقال حذيفةُ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فُضِّلْنا على الناسِ بثلاثٍ: جُعِلَت صُفُوفنا كصُفوفِ الملائكَةِ، وجُعلِت لنا الأَرضُ مَسجدًا، وتُربَتُها لنا طَهُورًا إذا لم نَجدِ الماءَ". انفرد بإخراجه مسلم (3).
وقال أنسٌ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "آتِي بابَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ فأَسْتَفتِحُ فيقولُ الخازِنُ: مَن أنت؟ فأَقولُ: محمدٌ، فيقول: بِكَ أُمرتُ لا أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبلَكَ". انفرد بإخراجه مسلم (4).
ولمسلم عن أنسٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا أَولُ الناسِ يَشفَعُ يومَ القيامةِ، وأَنا أكثرُ الناسِ تَبعًا يومَ القيامةِ، وأَنا أَولُ من يَقْرَعُ بابَ الجنَّةِ" (5).
__________
(1) أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521)، وأحمد في "مسنده" (14264).
(2) أخرجه البخاري (7273)، ومسلم (523) (6)، وتنتثلونها: تستخرجونها. النهاية: نَثَلَ.
(3) أخرجه مسلم (522).
(4) أخرجه مسلم (197).
(5) أخرجه مسلم (196)، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (1971).
(4/354)
________________________________________
وقال أنسٌ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا أَولُ الناسِ خُروجًا إذا بُعِثُوا، وأَنا خَطيبُهم إذا وَفَدُوا، وأَنا مُبشِّرُهم إذا يَئِسُوا، لواءُ الحمدِ بِيَدِي، وأَنا أَكرَمُ ولدِ آدَمَ على ربِّي ولا فَخْر" (1).
وفي "أفراد مسلم" من حديث أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَنا سيِّدُ ولَدِ آدَمَ يومَ القيامةِ، وأَولُ من يَنْشَقُّ عنه القبرُ، وأَولُ شافعٍ وأَولُ مُشَفَّعٍ" (2).
وعن جابرِ بن عبدِ الله: أنَّ عمرَ بن الخطابِ رضوان الله عليه أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أَصابَه من بعضِ أهلِ الكتابِ فقَرَأه على النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: فغَضِبَ، وقال: "أَمُتهوِّكُونَ فيها يا ابنَ الخطَّابِ؟ والذي نَفْسِي بِيَدِه، لقد جِئتُكُم بها بَيْضاءَ نَقيَّةً، لا تَسألُوهم عن شيءٍ ويُخبروكُم بحقًّ فيكذَّبونَه أو باطِلٍ فيصدَّقونَه، والذي نَفْسِي بيَدِه لو كانَ مُوسى وعِيسى حيَّينِ لَما وَسِعَهما إلَّا اتِّباعِي" (3).
وقال عبدُ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنكُم مِن أَحَدٍ إلَّا وَقَد وُكَّلَ بهِ قَرينُه من الجِنَّ وقَرينُه من الملائكةِ" قالوا: وإيَّاكَ يا رسولَ الله؟ قال: "وإيَّايَ، ولكنَّ اللهَ أعانَنِي عليه فلا يأمُرُني إلَّا بخيرٍ". انفرد بإخراجه مسلم (4).
وعن أبي موسى، عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إنَّما مَثَلي ومثَلُ ما بَعثَني اللهُ به، كمَثَلِ رجلٍ أَتَى قومَه، فقال: يا قَومِ إنَّي رأيتُ الجيشَ بعَيني، وإنِّي أنا النَّذيرُ العُريانُ، فالنَّجاءَ النَّجاءَ، فأَطاعَه طائفةٌ من قومِه، فأَدْلَجوا، وانْطَلَقُوا على مَهْلِهم فَنَجوا، وكذَّبتهُ طائفةٌ منهم فأَصْبَحوا مكانَهم فصَبَّحهُم الجيشُ فأَهلَكَهُم واجْتاحَهم، فذلكَ مثَلُ من أَطاعَني واتَّبعَ ما جِئتُ به، ومثَلُ مَن عَصاني وكذَّبَ ما جِئتُ به منَ الحقِّ". أخرجاه في "الصحيحين" (5).
وعن أبي هريرة، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِن نَبيٍّ إلَّا وقد أُعطِيَ من الآياتِ ما
__________
(1) أخرجه الترمذي (3610)، وقال هذا حديث حسن غريب.
(2) أخرجه مسلم (2278)، وأحمد في "مسنده" (10972).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (15156)، التهوك، كالتهور: وهو الوقوع في الأمر بغير روية.
(4) أخرجه مسلم (2814)، وأحمد في "مسنده" (3779).
(5) أخرجه البخاري (6482)، ومسلم (2283).
(4/355)
________________________________________
مثلُه آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنَّما كان الذي أُوتيتُه وَحْيًا أَوْحاه اللهُ إليَّ، فأَرجُو أَن أكُونَ أكثَرهم تابِعًا يومَ القيامةِ". أخرجاه في "الصحيحين" (1).
وقال أبو هريرة: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلِي [ومثل الناس] كمَثَلِ رجلٍ اسْتَوقَدَ نارًا، فلمَّا أَضاءَت ما حَولَها، جَعَلَ الفَراشُ وهذهِ الدَّوابُّ التي يَقعْنَ في النارِ يقَعْنَ فيها، وجَعَل يَحْجُزهنَّ وَيغْلِبنَه فيَقْتَحِمْنَ فيها قال: فَذَلِكُم مَثَلي ومَثَلُكُم، أنا آخِذٌ بِحُجَزِكُم عن النارِ هلمَّ عن النارِ فتَغلِبوني فتقْتَحِمونَ فيها". أخرجاه في "الصحيحين" (2).
وعن جابر قال: كان أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمشُونَ أمامَه إذا خرجَ، ويَدعونَ ظهرَه للملائكةِ (3).
قال عبد الله بن هشام: كنا مع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو آخِذٌ بيدِ عمرَ بن الخطابِ فقال له: يا رسولَ الله، لأَنتَ أحب إليَّ من كلَّ شيءٍ إلَّا نَفسِي، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا والذي نَفسِي بيَدِه حتى أكُونَ أحبَّ إليكَ من نَفسِك" فقال له عمر: فإنَّه الآنَ، والله لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسِي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الآنَ يا عُمرُ". انفرد بإخراجه البخاري (4).
وفي الحديث دليلٌ على جوازِ تكلِيفِ ما لا يُطاقُ، لأنه إنما يُكلف الحبُّ الذي يدخلُ تحتَ الطاقةِ، أمَّا الحبُّ الطبيعي فليسَ إلَّا الإنسان.
وفي المتفق عليه عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليَأتِيَنَّ على أحدِكُم زمانٌ لأن يَراني أحبُّ إليه من أن يكونَ له مثلُ أهلِه ومالِه" (5).
وقال عبد الله بن شَقيق: قال رجل: يا رسولَ الله، متى كنتَ نبيًّا؟ فقال له الناس: مَهْ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوه، كنتُ نَبيًّا وآدمُ بينَ الرُّوحِ والجَسَدِ، أو بينَ الماءِ والطِّينِ، حينَ أُخِذَ منَّي الميثاقُ، وإنَّ آدمَ لمنجَدلٌ في طينَتهِ" (6).
__________
(1) أخرجه البخاري (4981)، ومسلم (152)، وأحمد في "مسنده" (9828).
(2) أخرجه البخاري (6483)، ومسلم (2284) (16)، وأحمد (8117).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (14236).
(4) أخرجه البخاري (6632)، وأحمد في "مسنده" (22503).
(5) أخرجه البخاري (3589)، ومسلم (2364)، وأحمد (9794).
(6) لم نقف على هذه الرواية التي ذكرها المصنف، لعلها مجموعة من عدة أحاديث كما سنبينها: =
(4/356)
________________________________________
وفي رواية: "أنا عبدُ اللهِ، وخاتَمُ النَّبيين، ودَعوةُ إبراهيمَ حينَ قال: {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} وبشَّرَ بي عيسى" و"كنتُ أولَ الناسِ في الخلقِ وآخِرَهم في البَعْثِ" (1).
وقال أنسٌ: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والحلاقُ يحلِقُه وقَد أطافَ به أصحابُه ما يُريدون أن يقَعَ شعرُه إلَّا في يدِ رجلٍ. انفرد بإخراجه مسلم (2).
وفي "الصحيحين" عن أبي جُحيفةَ قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بالأَبْطَحِ في قُبَّةٍ له، فخرجَ بلالٌ بفضلِ وَضوئه، فرأيتُ الناسَ يَبتَدِرُون ذلك الوَضوءَ، فمَن أصابَ منه شَيئًا مسَحَ به وَجْهَه، ومَن لم يُصب منه أخذَ من بلَلِ يدِ صاحبِه، وخرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقامَ الناسُ فجَعَلوا يأخذونَ يدَه يمسحونَ بها وُجُوهَهم، فأخذتُ يَدَه فوضعتُها على وَجْهي، فإذا هي أبردُ من الثلجِ وأطيبُ من المسكِ (3).
وقال أنس: ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رَأَوه لم يَقوموا لما يَعلمون من كراهيَّته لذلك. أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" (4).
__________
= أخرج الإمام أحمد في "مسنده" (16623) عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: قلت: يا رسول الله، متى جعلت نبيًا، قال: "وآدم بين الروح والجسد".
وأخرج ابن سعد في "الطبقات" 1/ 123 عن مطرف بن عبد الله بن الشخير: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم متى كنت نبيًا؟ قال: "بين الروح والطين من آدم".
وأخرج أيضًا 1/ 123 عن عامر قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: متى استنبئت؟ فقال: "وآدم بين الروح والجسد حين أخذ مني الميثاق".
وأخرج أحمد (17150) عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته ... ".
(1) جمع المصنف رحمه الله بين روايتين: الأولى: أخرجها أحمد (17151) عن العرباض - رضي الله عنه -، والثانية: أخرجها ابن سعد في "الطبقات" 1/ 124 من حديث قتادة وتمام في "فوائده" (1003) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت أول الناس في الخلق .... ".
(2) أخرجه مسلم (2325)، وأحمد في "مسنده" (12363).
(3) أخرجه البخاري (376)، ومسلم (503) وأحمد في "مسنده" (18762)، ولم يذكروا وضع يد النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه أبي جحيفة، وذكر الزياده أحمد في "مسنده" (18767).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (12345).
(4/357)
________________________________________
وفي "الصحيحين": عن أنس قال: رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرةَ الأولى، ثم نحَرَ البُدنَ والحجَّامُ جالسٌ، ثم حلَقَ أحدَ شِقَّيه الأيمن، فقسَمَه بين الناسِ فأَخَذُوه، وحلَقَ الآخرَ فأعطاه أبا طلحةَ (1).
وفي "المسند" عن أنس قال: ناوَلَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شِقَّ رأسِه الأيمنَ، وقال: "اذهَبْ بهذا إلى أمَّ سُلَيم" فلمَّا رأى الناسُ ما خصَّها به تَنافَسُوا في الشَّقَّ الآخر، هذا يأخذُ الشيءَ، وهذا يأخذُ الشيءَ (2).
* * *
__________
(1) أخرجه مسلم (1305) (326)، والبخاري (171) ولفظه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره" وانظر "الجمع بين الصحيحين" (1905)، وأحمد في "المسند" (12092).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (13685).
(4/358)
________________________________________
الباب الخامس والثلاثون: في طرفٍ من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -
وهي ثلاثة أقسام:
قسمٌ خارج عن ذاته، وقسمٌ في ذاته، وقسمٌ في صفاته.
فأما ما هو خارجٌ عن ذاته، فكانشقاقِ القمرِ، وتسليمِ الحَجَر عليه، ونبعِ الماءِ من بين أصابعِه، وإشباعِ الخلقِ الكثيرِ من الطعامِ اليسيرِ، وحنينِ الجذْعِ إليه، وتسبيحِ الحَصَى في يدَيْه، وشهادة الشاةِ المصْليَّةِ أنَّها مسمومةٌ، وتظليل الغمامِ إِيَّاه قبل مبعثه، إلى غير ذلك.
قال أنس: سأل أهل مكة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُريهم آيةً، فأرَاهم انشقاقَ القمرَ شِقَّتين حتى رأَوا حراء بينهما، فقالت قريش: سَحَركم ابنُ أبي كَبْشَة، سلوا السفار، فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه، فأنزل الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} (1) [القمر: 1].
وعن جابر بن سَمُرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّي لأَعرِفُ حَجَرًا بمكةَ كانَ يُسلِّمُ عليَّ قبلَ أن أُبعثَ، إنِّي لأَعرِفُه الآن" انفرد بإخراجه مسلم (2).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدَّثنا يحيى، عن عَوف، حدَّثنا أبو رجاء، عن عِمرانَ بن الحُصَين قال: كنَّا في سفر مع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فسَرَينا حتى إذا كنَّا في آخرِ اللَّيل وقَعْنَا وَقْعَةً ليسَ عند المسافرِ أَحلى منها، قال: فما أَيقَظَنا إلا حرُّ الشمسِ، وكان أولَ من اسْتَيقظَ فلانٌ ثم فلانٌ، يُسمِّيهم أبو رجاءٍ، ونسيهم عوفُ، ثم عمرُ بن الخطابِ، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نام لم نُوقِظه حتى يكون هو الذي يَستيقظُ، لأنَّا لا نَدري ما يَحدُثُ له في نومِه، فلما استَيقَظَ عمرُ ورَأَى ما أصابَ الناسَ وكان رجلًا أَجوَفَ (3)
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ الطيالسي في "المسند" (295)، والشاشي في "مسنده" (404)، واللالكائي في "أصول الاعتقاد" (1460) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، أما حديث أنس فأخرجه البخاري (3868)، ومسلم (2802)، وأحمد في "مسنده" (13154).
(2) أخرجه مسلم (2277)، وأحمد في "مسنده" (20828).
(3) "أجوف": يخرج صوته من جوفه بقوة.
(4/359)
________________________________________
جَليدًا، فكبَّر ورَفَع صوتَه بالتكبيرِ، فما زال يكبِّر ويرفعُ صوتَه بالتكبيرِ حتى اسْتَيقظَ لصوتِه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فشَكَى إليه الناسُ ما أَصابَهم، فقال: "لا ضَيْرَ، ارْتَحِلُوا" فارتحلُوا فسارَ غيرَ بعيدٍ، ثم نَزَل، فدَعَى بالوَضوءِ، فتوضَّأ، ونادَى بالصلاةِ فصلَّى بالناسِ، فلما انْفَتَل من صلاتِه إذا برجلٍ معتزلٍ لم يصلِّ مع القومِ، فقال: "ما مَنَعكَ أن تصلِّي؟ " فقال: أَصابَتني جنابةٌ ولا ماءَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَليكَ بالصَّعيدِ، فإنَّه كافِيكَ" ثم سارَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى إليه الناسُ العطَشَ، فنزَل، فدَعى فلانًا كان يسمِّيه أبو رجاء ونسيه عوفٌ، ودَعى عليًّا رضوان الله عليه وقال: "اذْهَبا فابْغِيا لنا الماءَ" فانْطَلقا فلَقِيا امرأةً بين مَزادَتين من ماءٍ على بعيرٍ لها، فقالا لها: أينَ الماءُ؟ قالت: عَهدي بالماءِ أمسِ هذه الساعةَ ونَفَرُنا خُلُوف (1)، قالا لها: انْطَلقي إذَن، فقالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: هذا الذي يُقال له: الصابئُ؟ قالا: هو الذي تَعنين، فانْطَلقي إذًا، فجاءا بها إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فحدَّثاه الحديث، فاسْتَنْزلُوها عن بَعيرِها، ودَعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإناءٍ، فأفرغَ فيه من أَفواهِ المزادَتَين، وأَوكَأَ أَفواهَهما، وأطلَقَ العزاليَ (2)، ونودي في الناسِ أن اسقُوا واستَقُوا، فسَقى مَن شاءَ، واستَقَى من شاءَ، وكان آخر ذلك أن أَعطى الذي أصابَته الجنابةُ إناءً من ماءٍ، فقال: "اذهب فأَفرِغْهُ عليكَ"، قال: وهي قائمةٌ تَنظُر ما يُفعل بمائها، قال: وايْمُ اللهِ لقد أُقلِعَ عنها، وإنَّه ليخيل إلينا أنَّها أشد ملأَةً منها حينَ ابتدأَ فيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجمَعُوا لها طَعامًا" فجمَعُوا لها من بين عجوةٍ ودقيقةٍ وسَويقةٍ حتى جمعوا لها طعامًا كثيرًا وجَعلُوه في ثوبٍ، وحَملُوها على بَعيرها، ووَضَعوا الثوبَ بين يَديها، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعلَمينَ واللهِ ما رَزئناكِ (3) من مائِكِ شَيئًا، ولكن الله هو سَقانا" قال: فأتت أهلها وقد احتَبَست عنهم، فقالوا: ما حَبَسك يا فلانةُ؟ فقالت: العجبُ، لقيني رجلان، فذهَبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل بي وبمائي كذا وكذا، الذي كان، فواللهِ إنَّه لأسْحَرُ من بين هذه وهذه، وأشارت بأصبعيها الوسطى والسبابة تَرفعها إلى السماءِ -
__________
(1) "خلوف": جمع خالف: يقال لمن غاب.
(2) "العزالي": هو مخرج الماء من المزادة.
(3) "رزئناك": نقصناك.
(4/360)
________________________________________
تعني السماءَ والأرضَ - وإنَّه لرسولُ الله حقًّا، فكان المسلمون يُغيرون بعدُ على ما حولَها من المشركين، ولا يُصيبون الصَّرْمَ (1) الذي هي منه، فقالت يومًا لقومها: ما أرى هؤلاء القوم يَدَعُونَكم إلَّا عمدًا فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها ودَخَلوا في الإسلامِ. أخرجاه في "الصحيحين" (2).
وعن أنسٍ: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان بالزَّوراءِ، فأُتي بإناءٍ فيه ماء لا يَغمُر أصابعَه، فأَمَر أصحابَه أن يتوضَّؤوا، ووَضَع كفَّه في الإناءِ أو في الماءِ فجعلَ الماءُ ينبعُ من بين أصابعهِ وأطراف أصابعه حتى توضَّأ القومُ، قال: فقلنا لأنس: كم كُنتم؟ قال: كنا ثلاث مئةٍ. أخرجاه في "الصحيحين" (3).
وفي المتفق عليه مثل هذه الواقعة جرت في الحديبيةِ، ورواه جابر بن عبد الله، وفيه: فوضعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يده في الرَّكوةِ، فجعَلَ الماءُ يفورُ من بينِ أصابعِه كأمثالِ العُيونِ، قال: فشرِبنا، وتوضَّأنا، قال سالم: فقلنا لجابرٍ: كم كُنتم؟ قال: كنَّا خمسَ عشرةَ مئةً، ولو كنَّا مئةَ ألفٍ لكَفانا (4).
وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: حدَّثنا الوليدُ بن القاسم، حدَّثنا إسرائيلُ، عن منصور، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ، عن عبد الله بن مسعودٍ قال: سمعَ عبدَ الله يحدِّث قال: كنَّا أصحابَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نعدُّ الآياتِ بركةً، وأَنتم تعدُّونها تخويفًا، بَينا نحنُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وليسَ مَعَنا ماءٌ، فقال: "اطلبُوا مَن معه ماء ففَعلنا، فأُتي بماءٍ، فصبَّه في إناءٍ، ثم وضَع كفَّه فيه، فجعلَ الماءُ يخرجُ من بينِ أصابعهِ، ثم قال: "حيَّ على الطَّهورِ المبارَكِ والبركةِ من الله تعالى" فملأتُ بطني منه، فاستَقى الناسُ. قال عبد الله: وكنَّا نسمعُ تسبيحَ الطعامِ وهو يؤكلُ. انفرد بإخراجه البخاري (5).
وقال عبد الله - رضي الله عنه -: كنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سفر فلم يجِدُوا ماءً، فأُتي بتَورٍ من ماءٍ، فوضعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَده فيه، وفرَّج بين أصابعِه [فرأيتُ الماءَ] يتفجَّر من بينها، فقال: "حيَّ
__________
(1) "الصرم": أبيات مجتمعة من الناس.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (19898)، والبخاري (344)، ومسلم (682).
(3) أخرجه البخاري (3572)، ومسلم (2279) (7)، وأحمد في "مسنده" (12742).
(4) أخرجه البخاري (3576)، ومسلم (1856) (72)، وأحمد في "مسنده" (14522).
(5) أخرجه البخاري (3579)، وأحمد في "مسنده" (4393).
(4/361)
________________________________________
على الوَضوءِ والبركةِ من الله" قال سالم بن أبي الجعد: قلت لجابر بن عبد الله: كم كان الناس يومئذٍ؟ قال: كنَّا ألفًا وخمسَ مئةٍ (1).
وقال سلمة بن الأكوع: خفَّت أَزوادُ الناس، وأَمْلَقوا، فأتَوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَأذَنُوا في نَحرِ إبلِهم، فأذِنَ لهم، فلقِيَهم عمرُ، فأخبروه، فقال: ما بَقاؤكُم بعدَ إِبلكم، فدَخَل على النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله، ما بَقاؤُهم بعدَ نحر إِبلهم؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نادِ في النَّاسِ يأتونَ بفَضْلِ أَزوادِهم" فدَعا، وبرَّكَ عليها، ثم دَعَا بأَوعِيَتهم فاحْتَثى الناسُ حتى فَرَغُوا، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشهدُ أنْ لا إِلَه إلَّا اللهُ وأَنِّي رسولُ اللهِ". أخرجه الإمام أحمد رحمة الله عليه في "المسند" وانفرد بإخراجه البخاري (2).
وروى إياسٌ عن أبيه قال: خَرجنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فأَصابنا جَهدٌ حتى هَمَمنا أن نَنْحَر بعضَ ظهرِنا، فأمرَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - فجمعنا مَزاوِدَنا، وبَسَطنا له نِطْعًا، فاجتَمَعَ زادُ القومِ على النِّطعِ، قال: فتَطاوَلْتُ لأَحزِرَه كم هو فإذا هو كرَبْضَةِ العَنْزِ، ونحن أربعَ عشرةَ مئةً، فأَكلنا حتى شَبعنا، وحَشَونا جُرُبنا، فقال نبيُّ الله: "هَل من وَضوءٍ؟ " فجاءَ رجلٌ بإداوَةٍ فيها نطفة، فأفرغَها في قدحٍ، فتَوضَّأنا كلُّنا ندغفقُه دغفقةً أربعَ عشرةَ مئةً. انفرد بإخراج هذا الطريق مسلم (3)، والدَّغفقة الصبُّ الشديدُ.
وأما حنين الجذع فقد ذكرناه عند عمل المنبرِ. وتظليلُ الغمامِ له - صلى الله عليه وسلم - في حديث بَحِيرى، وخروجِه إلى الشامِ مع ميسَرةَ غلام خديجة رضوان الله عليها ونحو ذلك، وقد فرَّقنا معجزاتِه - صلى الله عليه وسلم - في أثناءِ سيرتِه، كإخبارِه أن الأرضة أكلت الصحيفة التي كتبتها قريش بينهم وبين بني هاشم، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا هلَكَ كِسْرى فلا كِسْرَى بعدَه، وإذا هلَكَ قَيصرُ فلا قيصرَ بعده، والذي نَفسي بيَدِه لتُنفقنَّ كُنوزَهما في سبيلِ اللهِ" متفق عليه (4)، وقولُه
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (3807).
(2) أخرجه البخاري (2484)، وأخرجه أحمد في "مسنده" (9466) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ولم نقف على حديث سلمة في "المسند".
(3) أخرجه مسلم (1729).
(4) أخرجه البخاري (3618)، ومسلم (2918)، وأحمد في "مسنده" (7184) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وسبق تخريجه.
(4/362)
________________________________________
- صلى الله عليه وسلم - في يومِ بدرٍ: "هذا مَصرعُ فلانٍ وفلان" فما أخطأَت تِلكَ المصارع (1).
وإخباره - صلى الله عليه وسلم - بما يكون بعدَه من المغيباتِ، وهو الصادقُ المصدوقُ، فصلى الله عليه ما مطرت سُحُب، وخطَرَت بروق، وجَدَّت براكِبِها في فَسيحِ مَذاهبها نُوقٌ.
وأما القسم الثاني: وهو في ذاته، كالنور الذي كان ينتقلُ في ظهرِ آبائِه من الأنبياءِ والرؤساءِ والأشرافِ حتى وصَلَ إلى أبيه عبد الله، وما ظهر من حسنِه وجمالِه مما ذَكرنا في صفتِه وأحوالهِ.
وأما القسم الثالث: وهو في صفاتِه، فكصدقهِ الدائمِ، فلم يَنطق بباطلٍ قط، ولا ارتكَبَ قبيحًا قبل النبوةِ ولا بعدَها مما يشينُ ويحطُّ من القدرِ، بل عَصَمه اللهُ تعالى من جميعِ ذلك، وكان - صلى الله عليه وسلم - شُجاعًا، جَوادًا، مِقدامًا، فَصيحًا، عادِلًا، راحِمًا، رَؤوفًا بالمساكينِ، حَسَن الخلقِ، حَليمًا، حَييًّا، إلى غير ذلك من الأخلاقِ الرضيةِ والصفاتِ المرضيَّة، ومعجزاتُه - صلى الله عليه وسلم - كثيرةٌ، وآياتُه ظاهرةٌ غَزيرة، ومن أكبرِها القرآنُ الكريم الباقي على مرورِ الزمانِ وتقلُّب الحَدَثان لا يَفنى ولا يَبيدُ، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ.
* * *
__________
(1) أخرجه مسلم (1779)، وأحمد في "مسنده" (13296) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
(4/363)
________________________________________
الباب السادس والثلاثون: في ذكر فصاحته - صلى الله عليه وسلم -
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفصحَ العالمِ لِسانًا، وأَرجحَهم بيانًا، يتكلَّم بكلام قد حُفَّ بالعصمة، وينطقُ بلسانِ الحكمةِ، لم يَسقط منه كلمة ولا بادَت له حُجةٌ، أعجزَ الناطقين، وحازَ قصبَ السبقِ في السابقين، كلامُ معصوم من الزلل والتّوى، وما ينطق عن الهوى.
قال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أفصحُ من نطَقَ بالضادِ" (1).
وقد رَوينا عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بُعثتُ بجوامِعِ الكَلِم، واختُصِرَ لي الكلامُ اختصارًا" (2).
وقال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: قلتُ: يا رسولَ الله، ما بالُك أفصحُنا؟ فقال: "لأنَّ العربيةَ كلامُ إسماعيلَ - عليه السلام - كانت قَد دُرِسَت، فأَتاني جبريلُ - عليه السلام - فعلمني إيَّاها" (3).
قوله (4) - عليه السلام -: "إنَّ الله يغارُ، وإنَّ المؤمِنَ يغارُ وغَيرةُ الله أَن يَأتي الرجلُ ما حرَّم الله عليه" (5).
ولمسلم عن ابن مسعودٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه، ومن أجلِ ذلك أنَّه حرَّم الفواحشَ ما ظهَرَ منها وما بَطَنَ (6).
قوله - عليه السلام -: "مَن خَرَجَ عنِ الطَّاعةِ" قال أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن خَرَجَ منَ الطاعةِ وفارَقَ الجماعَةَ فماتَ، فميتَتُه جاهليةٌ، ومَن قاتَلَ
__________
(1) قال ابن كثير في "تفسيره" 1/ 31: لا أصل له.
(2) أورده الترمذي في "نوادر الأصول" 2/ 130.
(3) لم نقف عليه.
(4) من هنا إلى قوله: الباب السابع والثلاثون؛ ليس في (أ، خ) وهو زيادة من نسخة (ك).
(5) أخرجه البخاري (5223)، ومسلم (2761) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(6) أخرجه مسلم (2760) ولفظه: "لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله لذلك مدح نفسه".
(4/364)
________________________________________
تحتَ رايةٍ عِمِّتَّةٍ، يغضَبُ لِعَصَبَتِه، أو يَنصرُ عَصَبَته فقُتلَ، فقتلتُه جاهليةٌ، ومَن خرَجَ على أُمَّتي يَضربُ بَرَّها وفاجِرَها، لا يَتحاشَى لمؤمنِها، ولا يَفِي لذي عَهدِها، فليسَ منَّي، ولستُ منه". انفرد بإخراجه مسلم (1).
معنى عِمِّية أي: الأمرُ لا يستبان جهتُه. قال الجوهري: وعمي عليه الأمرُ: الْتَبسَ، ومنه قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} [القصص: 66] قال: وقولهم: ما أعماه، إنما يُراد به قلبه؛ لأنَّ ذلك ينسب إليه الكثيرُ الضلالِ، ولا يقال في عمَى العيونِ: ما أَعماه، ورجل أعمى القلبِ أي: جاهلٌ، وامرأةٌ عَمِية عن الصوابِ (2).
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا" قال أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال: مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في السوقِ على صُبْرَةِ طعامٍ فأدخلَ يدَه فيها فنالَت أصابِعُه بلَلاً، فقال: "يا صاحِبَ الطعامِ، ما هذا؟ " فقال: يا رسولَ الله أَصابتهُ السماءُ، فقال: "أفَلا جَعلتَه فوقَه حتى يَراه الناس؟ " ثم قال "مَن غشَّنا فليسَ منَّا". انفرد بإخراجه مسلم (3).
وروي: أنَّ الله تعالى أَوحى إلى رسوله أن أدخل يدَكَ في الطعامِ (4).
وقال سفيان بن عيينة: إنَّما نهى عن الغشِّ لأنَّه من أخلاقِ اليهودِ.
وقوله: "ليس منا" أي: مثلنا، ولا أخلاقُه مثل أخلاقنا.
وقال ابن قتيبة: معنى "فليس منا" إشارة إلى الأنبياء - عليهم السلام - فإنهم منزهون عنه وكذا أمثالهم من العلماء.
قوله - عليه السلام -: "نِعمَ الإدامُ الخلُّ" قال أحمد بإسناده عن جابر بن عبد الله أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سألَ أهلَه الإدامَ، فقالوا: ما عندنا إلَّا خلٌّ، فدعا به وجعلَ يأكلُ منه ويقول: "نِعمَ الإدامُ الخلُّ". انفرد بإخراجه مسلم. وفي رواية "المسند": "ما أفقَرَ بيتٌ فيه الخلُّ" وأخرجه الترمذي (5).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (8061)، ومسلم (1848).
(2) " الصحاح": (عمي).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (9396)، ومسلم (102).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (7292).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (14807)، ومسلم (2052)، وأخرجه الترمذي (1841) من حديث أم هانئ - رضي الله عنها -.
(4/365)
________________________________________
وفي الخل فوائدٌ منها: أنه يقمعُ الصفراءَ، ويهضِمُ الطعامَ، ويقوَّي المعدةَ.
وفيه من الفقه: لو حلف لا يأتدمُ فأكلَ خبزًا بخلًّ حنَث.
قوله - عليه السلام -: "إذا وزنتَ فأَرجِح" قال أبو داود بإسناده عن سِماك بن حَرْب قال: حدثني سُويد بن قيس قال: جلبتُ أنا ومَخرفَة - وقيل: مَخرمة العبدي - بزًّا من هَجَر فأتينا به مكةَ، فجاءنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي فساوَمَنا بسراويلَ فبعناه، وثمَّ رجلٌ يزن بالأجر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "زِنْ وأَرجِح" (1).
وأهلُ العلمِ يستحبون الرجحان في الوزن، وذكر بعض أهل النقل أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رآه يزنُ ناقصًا فقال: "زن راجحًا"، ويحتمل أنه أجاز الرجحان، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك إذا اشترى أو استقرض، ويحتمل أنه على وجه التهديد للوازن.
قلت: وقوله: فساوَمَنا سراويلَ، وهمٌ من الرواة، لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يكونوا يعرفون السراويلات، وإنما هو زيُّ الأعاجم، وقيل: إن أول من لبسَ السراويلَ عثمان، وقد روي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ساوَمهما في رداءٍ وهو الظاهر.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَرادَ الله بعبدٍ خيرًا عَسَلَه" قيل: وما عَسْلُه؟ قال: "يفتحُ له عملًا صالحًا قبلَ موتِه، ثم يَقبضُه عليه" (2).
قوله - عليه السلام -: "إنَّ أطيبَ ما أكَلَ الرجلُ من كَسبهِ".
قال الترمذي بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها -: قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أطيبَ ما أكَلتُم من كَسبِكُم، وإنَّ أولادَكُم من كَسبِكُم" قال الترمذي: هذا حديث حسن. وفي الباب عن جابر بن عبد الله وابن عمرو، والعملُ عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، قالوا: إنَّ يدَ الوالدِ مبسوطةٌ في مال ولده يأخذ ما شاء، وقال بعضهم: لا يأخذ من ماله إلَّا عند الحاجة إليه، هذا كلام الترمذي (3).
قلت: ولا خلاف أن نفقة الوالد تجب على الولد إذا كان موسرًا، واختلفوا هل يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه؟ قال أبو حنيفة: يجوز وقال الشافعي وأحمد: لا يجوز، واحتجوا بهذا الحديث.
__________
(1) أخرجه أبو داود (3336)، وأخرجه أحمد في "مسنده" (19098).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (17784) من حديث أبي عنبة الخولاني - رضي الله عنه -.
(3) سنن الترمذي (1358)، وأخرجه أحمد في "مسنده" (25296).
(4/366)
________________________________________
وإذا كان الولد كسب الوالد فقد ثبت له حق في مال الابن، ألا ترى أن الأب إذا وطئ جارية الابن وهو عالم بالتحريم لا يحل، فقد تزوج بأمة له فيها حق فلا يجوز، ولأبي حنيفة أنها غير مملوكة الأب فيجوز نكاحها كالأجنبية، ولهذا يملكُ الابن إعتاقها ووطأها وبيعها وهبتها، والجمع بين الملكين لشخصين في مجال واحد في زمان واحد محال، وأما الحديث فالمراد به الأخذ من مال الابن عند الحاجة، فإن الأب يملك ذلك، ولهذا سقط الجلد عنه في وطء أمة ولده؛ لأنا نقلنا الملك إليه قُبيل الوطء لما عرف في مسألة الاستيلاد، وتمامه في "الخلافيات".
قوله - عليه السلام -: "خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة". ذكره القضاعي.
قال أحمد بإسناده عن سويد بن هبيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ مالِ امْرئٍ" (1) وذكره.
قال الجوهري: المهر ولد الفرس، والجمع أمهار ومِهارة، والأنثى مهرة والجمعُ مُهَر ومُهَرات (2)، والمأمورة، الكثيرةُ النِّتاج، والسِّكة: المُصْطَفَّة من النخل، قال الجوهري: ومنه قولهم خيرُ المالِ مهرة مأمورةٌ، أو سِكَّة مأبورة أي: ملقَّحة، قال: وكان الأَصمعي يقول: السِّكة ها هنا الحديدةُ التى يُحرث بها، ومأبورة مُصلحة، قال: ومعنى هذا الكلام: خيرُ المالِ نِتاج أو زَرع (3).
قوله - عليه السلام -: "تَزوَّجوا الولودَ الودودَ".
قال أبو داود بإسناده عن معاويةَ بن قُرَّة، عن مَعقِلِ بن يسار قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّي أَصبتُ امرأةً ذات جمالٍ وحَسَب، وإنَّها لا تلدُ أفأتزوَّجها؟ قال: "لا"، ثم أَتاه ثانيًا وثالثًا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَزوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فإنَّي مُكاثِرٌ بكمُ الأُمَمَ" (4). وفي رواية: "يومَ القيامةِ" (5).
__________
(1) القضاعي في "مسند الشهاب" (1250)، وأحمد في "مسنده" (15845).
(2) "الصحاح": (مهر).
(3) "الصحاح": (سكك).
(4) أبو داود (2050).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (13569) من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالباءة، وينهى عن =
(4/367)
________________________________________
وأخرج عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا أُخبِرُكم بخَيرِ نسائِكُم من أَهلِ الجنةِ؟ " قالوا: بلى، قال: "الوَدُودُ الوَلُودُ العَؤودُ على زوجِها، التي إذا أُذيت أخذَتْ بيدِ زوجِها وقالَت: والله لا أَطعَمُ حتى ترضى" (1).
وقد بينا فضل النكاح على العبادة فيما تقدم.
قوله - عليه السلام -: "أَفضلُ الجهادِ كلمةُ حقًّ عند سُلطانٍ جائرٍ".
قال الترمذي بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ مِن أَعظَمِ الجهادِ كلمةُ عَدلٍ عند سُلطانٍ جائرٍ" (2). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي أمامة.
قال: إنما كان ذلك أفضل الجهاد، لأن من جاهد العدو وكان مترددًا بين الخوف والرجاء لا يدري أيغلب أم يُغلب، والمجاهد للسلطان الجائر مقهورٌ في يده، لأنَّه متى أمره بمعروف ونهاه عن منكر فقد عرَّض نفسه للتلف، قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: حدَّثت بهذا الحديث إبراهيم بن طَهمان، فقال: اكتبه لي، فكتبتُه، فانصرف إلى خراسان، فدخل على أبي مسلم، فنهاه، وأَمره، وذكر له هذا الحديث، فقال له أبو مسلم: قد قَبلنا قولَك فهل لك أن تَجلِسَ في بيتك؟ فقال: لا، وذكر الحديث، فقال له ثانيًا: هل لك أن تجلس في بيتك؟ فقال: لا، وذكر له الحديث، فأمر بقتله، فاختَصَم فيه ثلاثة، فقال إبراهيم: لا تَختصموا كلُّكم شريكٌ، فضربه رجلٌ فلم يُجدِ الضربُ، فبقي حلقومه معلقًا فرموه في بئر، فكانوا يسمعون أنينه ثلاثة أيام.
قوله - عليه السلام -: "خيرُ الصدقةِ ما كانَ على ظهر غِنى".
قال أبو داود بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنَّا عند رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا برجلٍ جاءَ بمثل بيضةِ ذهبٍ، فقال: يا رسولَ الله، أصبتُ هذهِ في معدنٍ فخذها، فهي صدقةٌ ما أَملك غيرَها، فأعرض عنه رسولُ الله، ثم أَتاه من قِبَلِ رُكْنِه الأَيمنِ، فقال مثلَ
__________
= التَّبَتل نهيًا شديدًا، ويقول: تزوجوا الولود .... ".
(1) أخرجه النسائي في "الكبرى" (9139).
(2) الترمذي (2174)، وأخرجه أبو داود (4344)، وابن ماجه (4011).
(4/368)
________________________________________
ذلك، فأعرض عنه، ثم أَتاه من قِبَلِ رُكْنِه الأيسرِ، فأعرضَ عنه، ثم أَتاه من خَلفِه، فحذَفَه بها رسولُ الله، فلو أَصابته لأَوجَعته، أو عَقَرَته، وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَأتي أحدُكم بما مَلَك فيقولُ هذِه صدقةٌ، ثم يقعدُ فيَسْتكفّ الناسَ" أو "يقعدُ يستَكف الناسَ! خيرُ الصَّدَقة ما كانَ عن ظهرِ غِنَى" (1)، وفي رواية أبي داود عن أبي هريرة: "وابْدَأ بِمَن تَعولُ" (2).
قوله - عليه السلام -: "ارْحَم مَن في الأرضِ يَرحَمك مَن في السَّماءِ".
قال الترمذي بإسنادِه عن عبدِ الله بن عَمرو قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّاحِمُونَ يَرحَمُهم الرَّحمنُ، ارْحَم مَن في الأَرضِ يَرْحَمُك مَن في السَّماءِ، الرَّحِمُ شُجنةٌ من الرَّحمنِ، فمَن وصَلَها وَصَلَه الله، ومَن قَطَعها قَطَعه الله" قال: وهذا حديث حسن صحيح (3).
قلت: وهذا هو الحديث المسند الذي سمعته من شيخنا افتخار الدين أبي هاشم عبد المطلب الهاشمي، وهو أول حديث سمعته منه، قال شيخنا افتخار الدين أبو هاشم عبد المطلب بن الفضل بن عبد المطلب وذلك بمدينة حلب في شوال سنة ثلاث وست مئة بالمدرسة النورية، قال بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّاحمون يَرحمُهم الرَّحمن، ارْحَموا أهلَ الأرضِ يَرحَمكم أهلُ السماءِ".
قال: وفي الباب عن أبي هريرة بإسناده قال: أبصر الأقرعُ بن حابسٍ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُ حَسَنًا، فقال: لي عشرةٌ من الوَلَد ما قبَّلتُ أحدًا منهم قطُّ! فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم". أخرجاه في "الصحيحين" (4).
وروي عن أبي هريرة عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "جَعَل الله الرَّحمةَ مئةَ جُزءٍ، فأمسَكَ عندَه تِسعةً وتِسعين جُزءًا، وأَنزَلَ جُزءًا واحدًا، من ذلك الجزءِ يَتراحمُ الخلقُ، حتى
__________
(1) أخرجه أبو داود (1673).
(2) أخرجه أبو داود (1677)، وهو في البخاري (1426).
(3) أخرجه الترمذي (1924)، وأحمد في "مسنده" (6494).
(4) أخرجه الترمذي (1911)، والبخاري (5997)، ومسلم (2318).
(4/369)
________________________________________
تَرفَعَ الفرسُ حافِرَها عن ولدِها خشيةَ أن تصيبه" (1).
وأخرج البخاري بمعناه عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفي آخره: "لو يَعلَمُ الكافرُ بكلِّ الذي عندَ الله مِن الرَّحمة، لم ييأس من الجنَّة، ولو يَعلَمُ المؤمنُ بكلِّ الذي عندَ الله مِن العَذابِ لم يَأمَن النارِ" (2).
ولمسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لله مئةُ رَحمةٍ أَنزَلَ منها رحمةً واحدةً بينَ الإنسِ والجنِّ والهوامِّ، فبها يَتعاطَفون وفيها يَتراحمونَ، وبها تَعطِفُ الوحشُ على أَولادِها، وأَخَّر تسعةً وتسعين إلى يومِ القيامةِ يرحمُ بها عبادَهُ" (3).
وفي "الصحيحين" عن أسامةَ بن زيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما يَرحَمُ الله مِن عبادهِ الرُّحَماء" (4).
وقال أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تُنْزَع الرَّحمةُ إلَّا من شَقيًّ" (5).
قوله - عليه السلام -: "إذا اسْتَشاطَ السُّلطانُ، تَسلَّطَ الشَّيطانُ" (6) وهذا مثل قوله - عليه السلام -: "إنَّ العينَ لتُدخِلُ الرجلَ القبرَ، والجملَ القدرَ" (7) ثم قال أبو عبيد: معناه أن الإنسان متى غضب تمكن إبليس منه، وشاطَ يَشيطُ: إذا احترق، وإنما خص السلطان لأن غضبه يعم.
قوله - عليه السلام -: "القُضاةُ ثلاثةٌ" قال أبو داود بإسناده عن أبي هاشم، عن ابن بُريدة، عن أبيه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "القضاةُ ثلاثةٌ: واحدٌ في الجنَّةِ، واثنانِ في النَّارِ، فأمَّا الذي في الجنَّةِ فرجلٌ عَرَفَ الحقَّ فقَضَى به، ورجل عرَفَ الحَقَّ فجارَ في الحُكمِ، فهو
__________
(1) أخرجه البخاري (6000)، ومسلم (2752).
(2) أخرجه البخاري (6469).
(3) أخرجه مسلم (2752) (19).
(4) أخرجه البخاري (7448)، ومسلم (923).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (9702).
(6) أخرجه أحمد في "مسنده" (17984) من حديث عطية السعدي.
(7) أخرجه ابن عدي في "الكامل" 6/ 408، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1057) من حديث جابر - رضي الله عنه -.
(4/370)
________________________________________
في النَّارِ، ورجلٌ قَضَى للنَّاس على جَهلٍ فهو في النَّارِ" (1).
وقد فسره أبو عبيد فقال: الذي هو في الجنة هو الذي أُكره على القضاء فقضى بالحق والعلم، وأما الذي في النار فرجلٌ كان عالمًا بالقضاء ثم جار في الحكم، ورجل جاهل نصَّب نفسه للقضاء وليس بأهل للعلم، فقضى فَحاف، فأحلَّ ما حرم الله من الفروج والدماء والأموال فهو في النار.
قوله - عليه السلام -: "مَن جُعِلَ قاضيًا فقد ذُبح بغيرِ سِكِّينٍ" (2) وقد فسره أبو عبيد فقال: إن الذبح الذي يحصل به إزهاق الروح وخلاص المذبوح من طول الألم وشدة العذاب إنما يكون بالسكين، فإذا ذبح بغير سكين كان حتفًا وتعذيبًا.
وروى أنس قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سألَ القضاءَ وُكِلَ إلى نفسهِ، ومَن أُجبِرَ عليه نَزَل عليه مَلَكٌ يُسدَّدُه" (3).
حديث آخر في القضاء: رَوت عائشة - رضي الله عنها -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُجاءُ بالقاضي العادِلِ يومَ القيامةِ، فيَلقَى مِن شدَّةِ الحِسابِ ما يَتمنَّى معه أنْ لا يَكونَ قَضَى بين اثنينِ قطُّ" (4).
قوله - عليه السلام -: "لا رقيةَ إلَّا من عينٍ أو حمَةٍ، والعينُ حقٌّ" (5) ورخص رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية من العين والحمة والنملة، والحمة الحيات والعقارب وما أشبهها من ذوات السموم، وتُسمى إبرةُ العقرب حمة لأنها تجري مجرى السم، وحمة العقرب بالتخفيف: سمها، والهاءُ عوض، قال: والنَّمْلةُ بالفتح قروحٌ في الجنب وبثور صغار مع ورم يسير ثم يتقرَّح فتسعى وتتسع، وتسميها الأُدباء الذباب، والنملةُ أيضًا عيبٌ في حافر الفرسِ، فأما النُّمْلةُ بالضم فهي النميمة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يرقي أصحابه ويقول: "بسم اللهِ أَرقيكَ واللهُ يَشفِيكَ" (6).
__________
(1) أخرجه أبو داود (3573)، وأخرجه الترمذي (1322)، وابن ماجه (2315).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (7145) من حديث أبي هريرة، - رضي الله عنه -.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (13302).
(4) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (5055).
(5) أخرجه البخاري (5705)، وأحمد في "مسنده" (19908) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -.
(6) أخرجه أحمد في "مسنده" (9757) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(4/371)
________________________________________
وروي عن أبي سعيد الخدري: أن ناسًا من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا في سفر، فمرُّوا بحيٍّ من أحياء العربِ، فاستضافوهم فأَبَوا أن يضيِّفوهم، فعرضَ لإنسانٍ منهم في عقلهِ، أو لُدغ، فقالوا لأصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: هل فيكم من راقٍ؟ قالوا: نعم، فَرَقاه رجل منهم بفاتحةِ الكتاب فبرئ، فأُعطي قطيعًا من الغَنَم، فأبى أن يقبلَ حتى أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك وقال: والذي بعثكَ بالحقَّ ما رقيتُه إلَّا بفاتحة الكتاب فبرئَ، فضحِكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: "وما يُدرِيكَ أَنَّها رقيةٌ؟ " ثم قال: "خُذُوا واضْرِبُوا لي بِسَهمٍ" متفق عليه (1).
وفي بعض ألفاظ "الصحيح": فقال رجل: ما أنا براقٍ لكم حتى تَجعلوا لنا جُعلاً، فصالحوهم على قَطيع من الغَنَم (2).
ولمسلم: عن عَوف بن مالك الأشجعي قال: كنَّا نَرقي في الجاهليةِ، فقلنا: يا رسولَ الله، كيفَ تَرَى في ذلك؟ فقال: "اعرِضُوا عَلَيَّ رُقاكم، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم يَكن شِركٌ" (3).
قوله - عليه السلام -: "حُبُّك للشيءِ يُعمِي ويُصِمُّ".
قال أبو داود بإسناده عن أبي الدرداءِ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: وذكره (4). ورواه أبو بكر الخرائطي في "اعتلال القلوب" عن أبي بُردة الأَسلمي رَفَعه بهذا اللفظ، ذكره الخرائطي في: باب ما يستحب من الاقتصاد في الحب، وما يكره من الإفراط فيه، فإن الحبَّ يُعمي عن طريق التوبة، ويصمُّ عن استماع الحق (5).
قوله - عليه السلام -: "تَداوَوا".
قال الترمذي وإسناده عن أسامةَ بن شَريك قال: قالت الأعرابُ: يا رسولَ الله، أَلا نَتَداوَى؟ فقال: "نَعم يا عبادَ الله، تَداوَوا، فإنَّ الله لم يَضَع داءً إلَّا وضَعَ له شِفاءً، أو
__________
(1) أخرجه البخاري (5007)، ومسلم (2201).
(2) أخرجه البخاري (2276).
(3) أخرجه مسلم (2200).
(4) أخرجه أبو داود (5130).
(5) "اعتلال القلوب" 175.
(4/372)
________________________________________
دواءً، إلَّا داءً واحدًا" قالوا: وما هو يا رسولَ الله؟ قال "الهرمُ" (1).
وقد اشتمل هذا الحديث على فوائد:
منها: أن الطبَّ تعليم أم قياس؟ اختلفَ الأوائل فيه، فقالت الصابئة: إن شيث بن آدم أول من أظهره، وأنه ورثه عن أبيه آدم، وظاهر قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] يدل عليه، وقال بعضهم: إن الهند استخرجته، وقال بقراط وجماعة من الأوائل: هو إلهام من الله عز وجل، وقال بعضهم: بل حصل بالتجربة، والظاهر أن أصله من تعليم الله ووحيه وبعضه من إلهامه، ثم أضاف الناسُ إليه التجاربَ والقياسَ.
وقال أبو سليمان الخطابي: الطب قسمان:
قسم يسمونه: القياسي، وهو طب اليونانيين؛ بقراط وجالينوس ومن سلك طريقهما، وهو مذهب عامة الأطباء.
والقسم الآخر: طب التجارب، وهو مذهب الهند وكثير من العرب، وهؤلاء يستعملون القياس ولا يعتبرون الأصول، وإنما يَعتمدون مجرد الامتحان والتجربة في آحاد الأعيان، ويحتجون بأن لبعض الطباع خاصية ليست لغيرها، وللعادات تأثيرًا في الطباع، وفي الأهوية والبلدان اختلاف كثير يتغير باختلافهما بعض الأحكام، والقياس يستمر على وصف مطَّرد لا يختلف.
ومنها: بيان فضيلة علم الطب وموافقته للشرع والعقل، لا خلاف أن الآدمي أفضل المخلوقات وأشرف الموجودات، وأن الله سبحانه شرفه بالعقل وأدواته، وبه توجه إليه الخطاب حتى عَرف الصانع بمصنوعاته، وأن جسدَه كالمركب، ومن الواجبِ حراسته لبقاء الراكب ليقطع ما قدِّر له من المسافة في بيداء الدنيا، ومن المعلوم أن البدنَ مركَّب من أمزجة مختلفة وأضداد متباينة، وقوامه بتعديل مزاجه، ومتى اعتدل حصلت له الصحة والعافية، وحصول العافية إنما يكون بشيئين: باعتدال البدن، وبما يصدر من الصحة عنه، والثاني: بإخراج الفضول المؤذية منه، وإذا ثبت هذا فالصحة والعافية من
__________
(1) أخرجه الترمذي (2038)، وأحمد في "مسنده" (18454).
(4/373)
________________________________________
أبلغ النعم، والغفلة عن شكرها من جملة النقم فما وجهٌ من أفقه الطب للشرع.
وقد ورد الشرع بأشياء تنافي الطب منها قوله - عليه السلام -: "الحمَّى من فيحِ جهنَّم فابرِدوها بالماءِ" (1) والماء من أضر الأشياء على المحموم، لأن الاغتسال به يحقن الحرارة في باطن بدنه فيقع الهلاك في نظائر كثيرة، قلنا: قوله - عليه السلام - "ابرُدوها بالماءِ" لا يطَّرد في جميع البلادِ، فإن البلدان الباردة لا يصلحُ فيها ذلك، وإنما هو خطاب لأهل الحجازِ ومَن بلادهم حارة، وهذا الجواب عما يرد في هذا الباب.
ومنها: اختلافُ العلماءِ هل التداوي أفضل أم تركه؟ ذهب قوم إلى أن التداوي أفضل لمن توكل على الله، واحتجوا بقوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] وبحديث عمران بن الحصين قال أحمد: حدّثنا يزيدُ بن هشام، عن الحسن، عن عمران بن الحصين، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يدخلُ الجنةَ من أُمتي سبعونَ ألفًا بغيرِ حِسابٍ، الذين لا يَكتَوون، ولا يَسترقون، ولا يَتَطيَّرون وعلى ربِّهم يتوكَّلونَ" قال: فقام عكَّاشة فقال: يا رسول الله، ادْعُ الله تعالى أن يَجعلَني منهم، فقال: "أَنتَ منهم" فقام آخر فقال: أنا كذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبَقَكَ بها عُكَّاشةُ". انفرد بإخراجه مسلم (2).
وقيل: لأبي بكر - رضي الله عنه - أَلا تَتدَاوى؟ في مرضه فقال: الطبيبُ أَمرضني. وقد كان جماعة من السلف على هذا المذهب.
وقال قوم: التداوي أفضلُ لقوله - عليه السلام -: "تَدَاوَوا" والأمر للوجوب، وعامةُ السلفِ تَداوَوا، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يَتَداوى على ما ذكرناه.
قوله - عليه السلام -: "الجنَّةُ تحتَ أَقدامِ الأمهاتِ".
أنبأنا جدِّي رحمه الله بإسناده عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجنَّةُ تحتَ أقدامِ الأمهاتِ" ذكَره جدِّي في كتاب "بر الوالدين" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري (3262)، ومسلم (2210) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (19913)، ومسلم (218).
(3) أخرجه أبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" 3/ 568، والقضاعي في "مسند الشهاب" (119).
(4/374)
________________________________________
إنما قدمت الأم في البر لمكان الشفقة والحضانة ومشقة الحمل والطلق والرضاع والتربية ونحوها.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أحقُّ مني بحُسن الصُّحبةِ؟ فقال: "أُمُّك" قال: ثم مَن؟ قال: "أَبوك" (1). ورواه أحمد عن يزيد ابن هارون، عن بَهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسولَ الله، مَن أبرُّ؟ قال: "أُمَّك" قلت: ثم مَن؟ قال: "أَباكَ" (2).
قوله - عليه السلام -: "طِيبُ الرجالِ ما ظَهَر ريحُه".
قال الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله، وذكره (3)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن عِمران بن الحُصين.
أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أنَّ المرأة عورة، وأن التبرج عليها حرام، وظهور الطيب نوع من ذلك.
ولمسلم: عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما امرأةٍ أَصابَت بخورًا فلا تَشهدنَّ مَعنا العِشاءَ الآخرةَ". وفي رواية: "إذا جاءَت إحداكُنّ المسجدَ، فلا تَمسَّ طِيبًا" (4).
وفي "الصحيحين" عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يَتَزعفَرَ الرجلُ (5).
قوله - عليه السلام -: "المجالسُ بالأماناتِ" عن جابر بن عبد الله قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حدَّثَ الرجلُ الحديثَ ثم الْتَفَت، فهي أَمانةٌ" قال: هذا حديث حسن (6).
قال أبو عبيد: فيه إشارة إلى أن القوم يجتمعون فيتحدثون ويستغرقون في الحديث، فمَن أفشى منهم سرًّا فهو خائن، وقد توهم قومٌ أن هذا الحديث ثم.
__________
(1) أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (2548).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (20028).
(3) أخرجه الترمذي (2787)، وأخرجه أبو داود (2174)، والنسائي في "الكبرى" (9408)، وفي "المجتبى" (5117)، وتمامه: "طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه"
(4) أخرجه مسلم (444).
(5) أخرجه البخاري (5846)، ومسلم (2101).
(6) أخرجه الترمذي (1959)، وأبو داود (4868).
(4/375)
________________________________________
قوله - عليه السلام -: "ليسَ الغِنى بكَثرَةِ العَرَضِ، وإنَّما الغِنَى غِنَى النَّفسِ". قال الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكره (1). وقال: حديث حسن صحيح.
أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى شرف النفس والقناعة باليسير.
قوله - عليه السلام -: "إنَّ المؤذِّنينَ أَطولُ النَّاسِ أَعناقًا يومَ القيامَةِ" قال أحمد بإسنادِه عن عيسى بن طلحة، قال: سمعتُ معاوية يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ (2)، وذكره.
واختلفوا في معناه، فقال الخطابي: معناه الدنوُّ والقرب، وقال محمد بن زياد الأعرابي: معناه هم أكثر الناس أعمالًا يوم القيامة، يقال: لفلان عنق خير، أي: عمل كثير، وقال قوم: إنما هو من طول الأعناق، لأن الناس يعرقون يوم القيامة حتى يصل العرق إلى آذانهم، وقال أبو عبيد: يكونوا رؤساءَ يومئذٍ، والعرب تصف السادات بالأعناق وطولها، فيحتمل أن معنى الحديث: أنهم أطول الناس أعناقًا يوم القيامة ينتظرون ما أعد الله لهم من الثواب.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بَدا جَفا" قال أحمد بإسناده عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بَدا جَفا، ومَن اتَّبَعَ الصيدَ غَفَلَ، ومَن أَتَى أبوابَ الملوكِ افْتَتَن، وما ازْداد عبدٌ من السُّلطانِ قُربًا، إلَّا ازْداد من الله بُعدًا" (3).
وقال: يغلب من سكن البادية غلظ طبعه وصار جافيًا، وبعد عن الطباع الكريمة ومكارم الأخلاق، وأما اتباع الصيد فلأن فيه ترك الجمعة والجماعات، والاشتغال عن مجالس الذكر والعبادات، فيصده ذلك عن أفعال الخيرات، وقيل معناه: من اتبع صيد الدنيا غفل عن صيد الآخرة.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قُتلَ دونَ ماله فهو شهيدٌ" قال الترمذي بإسناده عن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل [عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكره (4)، وقال
__________
(1) أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051)، والترمذي (2373).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (16861)، وهو عند مسلم (387).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (8836).
(4) أخرجه الترمذي (1418).
(4/376)
________________________________________
أحمد] بإسناده عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قُتلَ دونَ مالهِ فهو شهيدٌ، ومن قُتلَ دونَ أهلهِ فهو شهيدٌ، ومن قُتل دونَ دَمهِ فهو شهيدٌ" (1). قال الترمذي: حديث صحيح.
قوله - عليه السلام -: "مَن فرَّقَ بينَ والدةٍ ووَلَدِها". قال الترمذي بإسناده عن أبي أيوبَ الأنصاري عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن فرَّقَ بينَ وَالدَةٍ ووَلَدِها فرَّقَ الله بينَه وبينَ أحبَّتهِ يومَ القيامَةِ" (2).
وقال أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عليَّ - عليه السلام - قال: أَمرَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أَبيعَ غُلامين أَخوين فبعتُهما وفرَّقت بينهما، فذكرتُ ذلك لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَدرِكهُما فارْتَجِعهما، ولا تَبعهُما إلا جميعًا" (3).
وأخرج أبو داود بمعناه فقال: فرَّق عليٌّ بين جاريةٍ ووَلدِها، فنهاهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وردَّ البيعَ، وقال: "لا تُفرِّق بينَهما" (4).
وقد كرهه بعضُ أهل العلمِ من الصحابةِ ورخَّص فيه بعضُهم، والكراهةُ أصح إلا أن البيعَ جائز.
وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كنّا في البحر وعلينا عبد الله بن قيس الفزاري ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فمرَّ بصاحب المقاسم وقد قسم السبي، فإذا بامرأة تبكي فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: فرّق بينها وبين ولدها، قال: فأخذ بيد ولدها حتى وضعه في حجرها، فانطلق صاحب المقاسم إلى عبد الله بن قيس فأخبره، فأرسل إلى أبي أيوب يقول: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن فرَّقَ بينَ والدةٍ ووَلَدِها فرَّقَ الله بينَهُ وبين أحبَّتهِ يومَ القيامةِ" (5).
وقال بإسناده عن عمرِو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحلُّ
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (1652)، والترمذي (1421).
(2) أخرجه الترمذي (1283).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (760).
(4) أخرجه أبو داود (2696).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (23499).
(4/377)
________________________________________
لرجلٍ أن يفرِّقَ بين اثنينِ إلَّا بإذنِهما" (1).
قلت: وقد أشارَ محمد رحمه الله تعالى إلى هذا في "الأصل" فقال: ومَن ملكَ مملوكين صغيرين أحدهما أكبر من الآخر لم يفرق بينهما.
وفي حديث أبي هريرة قال: رَأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - امرأةً والِهةً من السَّبي فقال: "ما شَأنُها؟ " فقيلَ: بِيعَ ولدُها، فقال: "ردُّوه، لا تَجمعوا عليهما السَّبي والتَّفريقَ". لأن ذلك يؤدي إلى الإضرار بهما، وكذا الصغير يتضرر بمفارقة الكبير، لأنه يقوم به، ولو كانا كبيرين فلا بأس بالتفريق بينهما، لأنهما لا يتضرران بذلكَ.
قوله - عليه السلام -: "مَطلُ الغنيَّ ظلمٌ" (2).
قوله - عليه السلام -: "ما نقَصَ مالٌ من صدقةٍ" قال الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نقَصَ مالٌ من صدَقةٍ" (3). وفي رواية: "ما نقَصَتْ صدقَةٌ من مالٍ، وما زادَ عبدٌ بعفوٍ إلَّا عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ إلا رَفعه الله" (4).
وقد أشار أبو الدرداء إلى هذا فقال: لنا داران دار دنيا ودار أخرى، فإذا تصدق إنسان فقد نقلت من دار إلى دار، فما ينقص ماله.
قوله - عليه السلام -: "ما مَثَلي ومثَلُ الدنيا، إلَّا كراكبٍ مالَ إلى ظلَّ شَجَرةٍ في يومٍ حارٍّ، ثم راحَ وتَرَكَها". قال الترمذي بإسناده عن ابن مسعود قال: نامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على حصيرٍ فقامَ وقد أثَّر في جنبه فقلنا: يا رسولَ الله، لو اتَّخذنا لك [وطاء] فقال: "ما مَثَلي" وذكر الحديثَ (5).
قوله - عليه السلام -: "لا يَنبغي لصدَّيق أن يَكونَ لعَّانًا" (6). قال الترمذي بإسناده عن ابن عمر
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (6999).
(2) أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(3) أخرجه الترمذي (2325) بهذا اللفظ، وأحمد في "مسنده" (18031) من حديث أبي كبشة الأنماري وهو قطعة من حديث طويل.
(4) أخرجه الترمذي (2029)، وهو عند مسلم (2588).
(5) أخرجه الترمذي (2377)، وأخرجه أحمد في "مسنده" (3709).
(6) أخرجه مسلم (2597) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(4/378)
________________________________________
قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَكونُ المؤمنُ لعَّانًا" (1).
فإن قيل: فقد ثبتَ في الصحيح أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لعنَ جماعةً.
فأخرجَ مسلم عن عليٍّ - عليه السلام - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ الله مَن لَعَن والدَيْه، لعَنَ الله من ذبحَ لغيرِ الله، لعَنَ الله مَن آَوى مُحدِثًا، لَعَن اللهُ من غيَّر مَنارَ الأرضِ" (2).
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ قال: لعَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الواشماتِ والمستوشماتِ، والمتنمَّصاتِ، والمتفلَّجاتِ للحُسنِ المغيِّراتِ خلقَ الله. فبلغَ ذلك أمَّ يعقوبٍ الأَسدية وكانت تقرأُ القرآنَ فأَتته فقالت: ما حديثٌ بلغني عنك كذا وكذا؟ وذكرته، فقال ابن مسعود: ومالي لا ألعنُ من لَعَن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته؟ فقال: لو كنتِ قرأتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) [الحشر: 7]
وأخرج الترمذي في الباب أحاديث عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما.
فالجواب: أن لعْنَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمن ذكرنا لا يكون كلعنِ غيره، فإنَّ اللعنة من غيره قد تكون عَبَثًا أو لغرضٍ، ومنصب النبوة مُنَزَّه عن هذا، فلا يلعن إلا من كُتب عليه اللعنة، ومن لم يكن أهلًا للعن فلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون قربةً وكفارة على ما وردَ به الحديث (4).
والوشم بشين معجمة: غرزُ الكفِّ والذراع بالإبرة، ثم يحشا بالكحلِ، والمستوشمة: التي يُفعل بها ذاك.
والنامصةُ: التي تَنتف الشعرَ، والمتنمصةُ التي يفعل بها ذاك.
قوله - عليه السلام -: "لا يُفلحُ قومٌ ولَّوا عليهم امرأةً" قد ذكرناه لَمَّا مات كسرى، أشار - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) أخرجه الترمذي (2019).
(2) أخرجه مسلم (1978).
(3) أخرجه البخاري (4886)، ومسلم (2125).
(4) أخرجه مسلم (2601) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدًا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته، فاجعله له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة".
(4/379)
________________________________________
إلى أن المرأة ناقصة العقل والدين، ولا رأي لها، ولهذا لا تصلح أن تكون إمامًا ولا حاكمًا ونحوه.
وقد أخرج الترمذي عن أبي بكرة نُفيع مَولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: عَصَمني الله بشيءٍ سمعتُه من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمّا هلكَ كسرى قال: "مَن استَخلَفُوا؟ " قالوا: ابنته، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لن يُفلِحَ قومٌ وَلَّوا أَمرَهُم امرأةً" قال أبو بكرة: فلمّا قدمت عائشة البصرة ذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعَصَمني الله به (1).
قال الترمذي: هذا حديث صحيح (2).
قوله - عليه السلام -: "لا طاعةَ لمخلوقٍ في مَعصِيَةِ الخالِقِ" (3). قال أحمد بإسناده عن عِمران ابن الحُصين عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا طاعةَ في معصِيَةِ الله" (4).
وقال الترمذي بإسناده عن ابن عمرَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "السمعُ والطاعَةُ على المسلمِ فيما أَحب وكَره، ما لم يُؤمر بمعصية الله، فإن أُمر بها فلا سَمعَ ولا طاعةَ" (5).
قوله - عليه السلام -: "لا تحلُّ الصدقةُ لغنيًّ، ولا لِذي مرَّةٍ سَويٍّ" أو: "قويٍّ".
قال أحمد بإسناده عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وذكره (6). قال: وجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة (7).
والمِرَّة: القوةُ، ومنه قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)} [النجم: 6].
وقد أخرج الترمذي عن ابن مسعود عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن سَأَل الناسَ وله ما يُغنِيه، جاءَ يومَ القيامةِ ومَسأَلَتُه في وَجهِه خُموشٌ أو كُدُوحٌ أو خُدوشٌ" قلتُ: وما
__________
(1) أخرجه الترمذي (2262)، وأخرجه البخاري (4425).
(2) جاء في نسخة كوبريللي: قال أبو داود. اهـ. والحديث لم يخرجه أبو داود ولعل المثبت هو المراد.
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" 18/ (381) من حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه -.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (19824).
(5) أخرجه الترمذي (1307).
(6) أخرجه أحمد في "مسنده" (8908).
(7) ذكره الترمذي بعد الحديث (652).
(4/380)
________________________________________
يُغنِيه؟ قال: "خَمسُونَ دِرهَمًا" (1).
قوله - عليه السلام -: "العِدَةُ دَينٌ" (2). عن أبي جُحيفة قال: أَتينا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأَمَر لنا بثلاثةَ عشرَ قَلُوصًا، فذَهبنا نَقبِضُها فأَتانا موتُه فلم يُعطونا شيئًا، فلمّا قَدِم أبو بكرٍ قال: مَن كانت له عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عِدةٌ فلْيَجئ، قال: فقمتُ إليه فأخبرتُه، فأمَرَ لي بها. قال: وهذا حديث حسن (3).
وقد ذكرنا أن عليًا - عليه السلام - أنجزَ عِدات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قوله - عليه السلام -: "الحزمُ سوءُ الظنَّ" (4) ليس هذا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا من كلام معاوية بن أبي سفيان. قيل له: ما بلغ من حزمك؟ فقال: الحزم سوء الظن، وما وثقتُ بأحد قط، قال الأزهري في كتاب "تهذيب اللغة": الحزم: الحذرُ من الناس. وقال الجوهري: الحزم ضبط الرجل أمره وأخذه بالثقة (5).
قوله - عليه السلام -: "الدَّينُ شَينٌ" (6) والذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أخذَ أموالَ الناسِ يُريدُ قَضاءَها وأَداءَها، أَدَّاها الله عنه، ومَن أَخَذَها يُريدُ إِتلافَها، أَتلَفَه اللهُ" (7) ومعنى الدين شَين: يعني في الدنيا بالمطالبةِ والحبسِ واستذلالِ المديونِ، وفي الآخرة بالمؤاخَذَةِ، وفي حديثِ أنس: "صاحبُ الدَّينِ مأسورٌ في قَبرِه يَشكُو إلى الله الوَحدَةَ" (8).
قوله: "الخمرُ جِماعُ الإثمِ" (9) غريب.
__________
(1) أخرجه الترمذي (650).
(2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (3513) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.
(3) أخرجه الترمذي (2826).
(4) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (24).
(5) "الصحاح": (حزم).
(6) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (31).
(7) أخرجه البخاري (2387).
(8) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (893) من حديث البراء بن عازب، ولم نقف عليه من حديث أنس.
(9) أخرجه الدارقطني في "السنن" 4/ 247 من حديث زيد بن خالد.
(4/381)
________________________________________
قوله - عليه السلام -: "النَّياحةُ من عَمَلِ الجاهليةِ" (1) هذا اللفظ غريب، وقد وردَ في معناه أخبارٌ:
منها: روى ابنُ مسعود عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليسَ منَّا مَن ضرَبَ الخُدودَ، وشَقَّ الجُيوبَ، ودَعا بدَعوَى الجاهليةِ". أخرجاه في "الصحيحين" (2).
وروى أبو داود بمعناه، عن أم عطيةَ قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن النَّياحةِ (3).
وأخرج أحمد في "المسند" بمعناه فقال: حدَّثنا وكيع، عن هشامٍ، عن يحيى بن أبي كَثير، عن أنس قال: أخذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على النساءِ حينَ بايَعهنَّ: أن لا ينُحْنَ، فقلنا: يا رسولَ الله، إنّ نساءً أَسعَدْنَنا في الجاهليةِ أَفنُسعِدُهن؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا إسعادَ في الإسلامِ، ولا شِغارَ، ولا عَقْرَ، ولا جَلَب، ولا جَنَب، ومَن انْتَهبَ فليسَ منَّا" (4).
الإسعاد: أن تُسعد المرأةُ المرأةَ في مُصيبتها، والشغار: أن يزوَّج الرجلُ ابنتَه على أن يزوِّجه أُختَه أو قريبةً له، والعَقْرُ: الذبحُ عند قبورِ الموتى، والجلَبُ: الصياحُ على الفرسِ في السباقِ، والجنَبُ: أن يجنبَ فرسًا فإذا أعيت فرسهُ التي سابق عليها انتقل إلى تلك.
وقال الجوهري: التناوح: التقابلُ، ومنه النوائحُ، لأن بعضهن يقابل بعضًا، ونساءُ نوائح ونوح وأنواح، والاسم واحد وهي النياحة (5).
قوله: "الأمانةُ غِنَى" (6).
__________
(1) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وأخرجه أحمد في "مسنده" (7560) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ولفظه: "ثلاث من عمل أهل الجاهلية، لا يتركهن أهل الإسلام، النياحة، والاستسقاء بالأنواء، وكذا" قلت لسعيد: وما هو؟ قال: دعوى الجاهلية: يا آل فلان، يا آل فلان.
(2) أخرجه البخاري (1297)، ومسلم (103).
(3) أخرجه أبو داود (3127).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (13032) لكن بغير هذا الإسناد.
(5) "الصحاح": (نوح).
(6) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (16) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
(4/382)
________________________________________
قوله - عليه السلام -: "النَّدمُ توبةٌ" (1) سئل الحسن البصري عن التوبة النصوح، فقال: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود أبدًا.
وقيل: التوبة: الإقلاع، والندم على ما فات، وقال الجوهري: التوبة الرجوع من الذنب (2).
قوله - عليه السلام -: "أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتَمَنك، ولا تَخن مَن خانَكَ".
قال الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائْتَمَنك، ولا تَخُن مَن خانَك" (3).
قوله - عليه السلام -: "دَفْنُ البَناتِ من المَكرُماتِ" (4).
وأخرجَ مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلَتْ عليَّ امرأةٌ ومعها ابنَتان لها تَسألُ شيئًا، فلم تَجد عندي غيرَ تمرةٍ واحدةٍ، فقسَمَتْها بين ابنَتَيها ولم تَأكُل منها، ثم خرَجَت، ودخَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتُه فقال: "مَن ابْتُلي بشيءٍ مِن هذه البَناتِ، فأَحسَن إليهنَّ كنَّ له سِترًا من النارِ". وقد أخرجه الترمذي (5).
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان في سفر فنُعيت إليه ابنتُه، فنزل فصلى ركعتين وقال: عورةٌ ستَرَها الله، ومؤنةٌ كفاها الله، وأجرٌ ساقه الله إلينا، وقد فَعلنا ما أَمَرنا الله، ثم قرأَ {واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية [البقرة: 45] (6).
وكان يقال: تقديم الحرم من أعظم النعم.
قوله - عليه السلام -: "الحسَبُ المالُ".
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (3568) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.
(2) "الصحاح": (توب).
(3) أخرجه الترمذي (1264)، وأبو داود (3535).
(4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12035) , والقضاعي في "مسند الشهاب" (250) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما عزي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابنته رقية امرأة عثمان بن عفان قال: "الحمد لله، دفن .... "، قال ابن الجوزي في الموضوعات (1779): هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(5) أخرجه مسلم (2629)، وأخرجه البخارى (1418)، والترمذي (1915).
(6) أورده السخاوي في المقاصد الحسنة (491) و (723)، والعجلوني في كشف الخفاء (1304) و (1790).
(4/383)
________________________________________
روى سَمُرة بن جُندب عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحسَبُ المالُ، والكَرَمُ التَّقَوى" (1).
ومن حديثِ أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَرمُ المرءِ دينُه، ومروءتُه عقلُهُ، وحسبه خُلقه" (2).
وقال وكيع: الحسَبُ المالُ، ألا ترَى من كان ذا مال عظَّمه الناس؟
وقال الجوهري: الحسَبُ ما يعدُّه الإنسان من مفاخِرِ آبائه، قال ويقال: حسبهُ دينُه ومالُه (3).
قوله - عليه السلام -: "كَرمُ الكِتابِ خَتمُه" (4).
قد ذكرنا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمّا أرادَ أن يُكاتب الملوكَ قيل له: إنهم لا يقرؤونَ إلَّا كتابًا مختومًا، فاتخذَ الخاتم، وأما هذا اللفظ فيقال: إنه من كلام ابن عباس أخذه من قول الأوائل: كلُّ كتاب غير مختوم فهو أَقلَف، ومن لم يختم كتابه فقد استخفَّ بالمكتوب إليه، ومن ها هنا أخذ ابن المقفع فقال: الختم حتم.
قوله - عليه السلام -: "مُداراةُ الناسِ صدقةٌ".
حدّثنا عبد العزيز بن محمود البزاز بإسناده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُداراةُ النَّاسِ صدقةٌ" (5) وقال الأزهري: المداراة: الاحتمال بحسن الخلق والعفو واللين والتفضل على المسيء بالإحسان، وأن يصل من قطعه ويعطي من حرمه، وقال الجوهري: المداراة هي المداجاة والملاينة (6).
قوله - عليه السلام -: "السَّماحُ رَباحٌ".
أخرجه ابن قتيبة في كتاب "غريب الحديث" (7)، وقد قرأت الكتاب المذكور على
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (20102).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (8774).
(3) "الصحاح": (حسب).
(4) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (39) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وفيه السدّي الصغير والكلبي، اتُّهما بالوضع والكذب.
(5) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (471).
(6) "الصحاح": (درا) و (دجا).
(7) لم نقف عليه في غريب الحديث، وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (23).
(4/384)
________________________________________
الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي ويعرف بالبهاء النابلسي في سنة اثنتين وعشرين وست مئة بقاسيون في الجامع المظفري، قال: حدَّثنا أبو الحسين عبد الحق بن عبد الخالق بن يوسف، عن عمه عبد الرحمن بن أحمد ابن يوسف، عن إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، عن أبي عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزَّاز، عن أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن السكري، عن أبي محمد عبد الله ابن مسلم بن قتيبة الدينوري قال: مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ يبيع شيئًا، فقال له: "عليكَ بالسَّومِ أولَ السُّوقِ، فإن السَّماحَ رَباحٌ، أو الرَّباحُ مع السَّماحِ" والسَّماحةُ الجودُ، وسمح به، أي: جادَ، والرباحُ: الربحُ، وتجارةٌ مربحةٌ ورابحة يربح فيها. وقال الجوهري: ورباح في قول الشاعر:
هذا مقامُ قَدَمَي رَباحِ
اسم ساقٍ، قال: والرباحُ أيضًا دُويبة كالسَّنَّورِ، والرباح: أيضًا بلدٌ يجلبُ منه الكافورُ، والرُّبّاح بالضم والتشديد: الذكرُ من القرودِ (1).
ومعنى الحديث: المساهلة في البيع والمسامحة ولا يشدد، فإن المسامحة من أعظم الأرباح، وقد أخرجَ الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يحبُّ سمحَ البيعِ سمحَ الشراءِ سمحَ القضاءِ" (2).
قوله - عليه السلام -: "الولدُ مَبخلَةٌ مجبنةٌ" (3).
قوله - عليه السلام -: "الهمُّ نصفُ الهَرَمِ" (4) غريب. قال الجوهري: الهمُّ الحزن، والجمع الهموم، والهرم: كبر السن.
وقال الخطابي: أشار - صلى الله عليه وسلم - في الحديث إلى دفع الهم عن نفسه، لا يفيد مع جريان المقدور، والهم عقوبةٌ، وفي الأثر عن عائشة - رضي الله عنها -: من هَمَّ عوقب بهمِّه. وقيل: الهم كل الهرم.
__________
(1) "الصحاح": (ربح).
(2) أخرجه الترمذي (1319).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (17562) من حديث يعلى العامري - رضي الله عنه -.
(4) أورده الديلمي في "مسند الفردوس" (7014) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(4/385)
________________________________________
قوله - عليه السلام -: "البذاءُ من الجفاءِ".
قال الترمذي بإسناده عن أبي أمامة الباهلي عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحياءُ والعيُّ شُعبتان من الإيمانِ، والبَذَاءُ والبيانُ شُعبتان من النِّفاق" (1). وقيل: البذاء طول اللسانِ والرمي بالفواحشِ والبهتان، والعيُّ قلة الكلام.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصبحةُ تمنَعُ الرِّزقَ".
قال عبد الله بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عفان عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لصُّبحة تمنعُ الرِّزقَ" (2) أي: ينامُ حتى يصبحَ، وقال غيرُه: هي نومةُ الغداةِ قبل ارتفاع النهار بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، ولأنه وقتُ الذكرِ وطلب الرزقِ، فإذا نام في تلك الساعة فاته حظه منه.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "العمائمُ تيجانُ العربِ" (3) غريب.
وأخرج أبو داود بمعناه فقال: حدَّثنا قتيبة بن سعيد الثقفي بإسناده، عن رُكانة عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فرقُ ما بيننا وبينَ المُشركين العمائمُ على القلانسِ" (4) وركانةُ هذا صارَعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فصرعَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبتَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبسُ العمامةَ، وذكرنا أنَّه دخلَ يوم فتحِ مكة وعلى رأسه عمامةٌ سوداءُ قد أَرخى طرفها بين كَتفيه، واسم هذه العمامةِ السَّحاب، قال هشام: ووهبها لعليًّ - عليه السلام -، فقال الناس: ما أحسنَ عليًا في السحابِ، ومن هنا قالت الشيعة: علي في السَّحاب.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجمعةُ حجُّ المساكين" (5) وذلك لأن الأغنياء لايقدرون على الحج إلا بإنفاق الأموال والمشقات، والفقراء ليست لهم أموال ولا قوة، فيتعوضون بالجمعة عن الحج.
__________
(1) الترمذي (2027)، وأحمد في "مسنده" (22312).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (530).
(3) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (68).
(4) أخرجه أبو داود (4078)، والترمذي (1784).
(5) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (78).
(4/386)
________________________________________
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسجدُ بيتُ كلِّ تقيًّ" (1) ومعناه صحيح، لأنه ما بُني إلا لذكر الله والصلاة والتسبيح، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فبنيت للتقوى ضرورة.
قوله: "الكَرَمُ التَّقوَى" (2) وأما من حيث المعنى فلأن العبد إذا اتقى الله فقد تكرم على نفسه وجاد لها فصانها عن عذاب النار.
قوله - عليه السلام -: "القاصُّ ينتظرُ المقتَ، والمستمعُ ينتظرُ الرحمةَ" (3).
قوله - عليه السلام -: "الصَّدقةُ تمنعُ مِيتةَ السُّوءِ" روى أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ الصدقةَ لَتُطفِئُ غضَبَ الرَّبِّ، وتَدفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ" (4).
وأخرج جدي في "التبصرة" عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ الله لَيدرَأُ بالصدقةِ سَبعينَ ميتةً من السُّوءِ" (5).
وفي الباب أخبار وآثار في دفع البلاء عن المصدق.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نيةُ المؤمنِ أبلغُ من عَمَلهِ" (6) وقد ذكرنا قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ بالمدينةِ أَقوامًا ما قَطعتُم واديًا، إلَّا وقد سبَقُوكُم إليه". واختلفوا في معناه على قولين:
أحدهما: أن المؤمنَ ينوي أشياء من أبواب البر، كالصلاة والصيام والصدقة ونحوه، ولعله يعجز عن إمضائها فتكون نيته أبلغ من عمله.
وقال الحسن البصري: إنّما خُلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بنياتهم.
وقال عكرمة: انهدمت قنطرةٌ بالمدينة فعزم عثمان على إصلاحها، فسبقه إليها يهودي فأصلحها، فشق على عثمان، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأسَ عليك، نيةُ
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (20029)، والبزار في "مسنده" (2546)، والطبراني في "الكبير" (6140) من حديث سلمان - رضي الله عنه -.
(2) أخرجه تمام في "فوائده" (1717) من حديث سمرة بن جندب.
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (13567)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (311).
(4) أخرجه الترمذي (664)، وابن حبان في "صحيحه" (3309).
(5) "التبصرة" 2/ 256.
(6) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (147)، والبيهقي في شعب الإيمان (6445) من حديث أنس - رضي الله عنه -، وضعف البيهقي إسناده، وقال الشوكاني في الفوائد المجموعة 250: لا يصح.
(4/387)
________________________________________
المؤمنِ أبلَغُ من عَمَلهِ، ونيةُ الكافرِ شرٌّ من عمَلهِ".
وقيل معناه: أنّ عملهُ بنية خير من عمله بلا نية.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشتاءُ رَبيعُ المؤمن: قَصُرَ نهارُه فصَامَه، وطالَ ليلُه فقامَه" (1).
وقال الخطابي: إنَّما خص الربيع لأنه أحد الفصول، ويكثر فيه الخصب، ويعتدل الزمان، ويرق الهواء، ويصفو الماء، ولهذا سمت العربُ الرجل الجواد: ربيع اليتامى، لقيامه مقام الخصب في أيام الربيع.
قوله - عليه السلام - "الناسُ كأَسنانِ المُشطِ".
حدَّثنا جدي رحمه الله بإسناده، عن أنس بن مالك قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الناسُ سَواءٌ كأسنانِ المُشطِ، وإنَّما يتفاضَلُون بالعافيةِ، والمرءُ كثيرٌ بأَخيهِ يرفدُه ويكسُوه ويحمِلُه، ولا خيرَ في محبةِ مَن لا يَرى لكَ مثل ما تَرَى له" (2).
وقد تكلم عليه أبو عبيد فقال: معنى كأسنان المشط: أنَّهم مستوون في الأحكام، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعلم والتقوى، ومعنى يتفاضلون بالعافية، أي: من الذنوب، وما زالَ السلفُ ينهونَ عن التكثير من الإخوان حتى قال الفضيل: أنكر من تعرف، ولا تتعرَّف إلى من لا تعرف.
وقال علي - عليه السلام -: [من الطويل]
جَزَى الله عنا الخيرَ مَن ليس بيننا ... ولا بينه ودٌّ ولا مُتعارفُ
فما ساءني إلَّا الذين عَرفتهم ... ولا سرَّني إلَّا الذي لستُ أعرفُ
وقال ابن الرومي: [من الوافر]
عدوُّك من صديقِك مُستفادٌ ... فلا تَسْتَكثرنَّ من الصحابِ
فإنَّ الداءَ أكثرُ ما تراه ... يكونُ من الطعامِ أو الشرابِ
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البلاءُ موكَّلٌ بالمنطقِ" (3) ليس هذا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في "السنن" 4/ 297، وأحمد في "مسنده" (11716) مختصرًا من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) "الموضوعات" 2/ 273، وابن حبان في "المجروحين" 1/ 198، وابن عدي في "الكامل" 3/ 248.
(3) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (227) من حديث حذيفة مرفوعًا.
(4/388)
________________________________________
كلام أبي بكر - رضي الله عنه - وقد ذكرناه في صدر السيرة.
وقال أبو القاسم البابي (1) الوراق في "شرح الشهاب": وتمام قوله: "البلاءُ موكَّل بالمنطق: فلو أنَّ رجلًا عيَّر رَجلًا برضاعِ كلبة لرضعها" (2).
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "زكاةُ البدَنِ الصومُ" أخرجه أبو نعيم الأصفهاني بإسناده، عن سهل بن سعد قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكلِّ شيء زكاةً، وزكاةُ الجسدِ الصومُ" (3) ومعناه صحيح، لأن قوله: لكل شيء زكاة، ظاهر، وذلك لأن الزكاة تطهر المال فكذا الجسد، لأن زكاة البصر غضه، وزكاة السمع صيانته عن الغيبة، وزكاة اللسان حفظه وإمساكه عن الفحش والخَنا، وزكاة الوجه السجود، وزكاة القدمين طول القيام والسعي فيما يرضي الله تعالى، وزكاة اليدين كفُّهما عما لا يليق ورفعهما بالدعاء، وزكاة القلب تطهيره عما سوى الله تعالى، وزكاة البدن الصيام عن المأكول والمشروب وعن الدنايا من طلب الدنيا وغير ذلك، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صامَ رمضان وأَتبَعه بستة أيامٍ من شوالٍ، فكأنَّما صامَ الدَّهرَ" (4)؟ وذلك لأن عظام البدن ثلاث مئة وستون عظمًا، والجسد يشتمل عليها كلها، فصيام ثلاثين يومًا بعشرة أشهر وستة أيام بشهرين.
قوله - عليه السلام -: "الصيامُ في الشتاءِ الغَنيمةُ الباردةُ" قد ذكر محمد بن الأنباري فقال: كلُّ محبوبٍ عند العرب باردٌ، والغنيمةُ الباردة: هي التي يصل إليها الرجل من غير تعب ولا عناء، لأن الغنائم إنما يتوصل إليها بالحروب والمشقة، فإذا حصلت بغير مشقة كانت غنيمة باردة، ومعنى الحديث حصول الثواب من غير مشقة (5).
قوله - عليه السلام -: "الإمامُ ضامِنٌ، والمؤذَّنُ مُؤتَمن" قال أحمد بن حنبل بإسناده، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإمامُ ضامِنٌ، والمؤذَّنُ مؤتَمنٌ، اللهمَّ أَرشِدِ
__________
(1) في كشف الظنون 1067: العابي.
(2) أخرجه الخطيب في "تاريخه" 3/ 279 من حديث ابن مسعود، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" 2/ 276، وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(3) "الحلية" 7/ 136، وأخرجه ابن ماجه (1745) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد ضعيف.
(4) أخرجه مسلم (1164) من حديث أبي أيوب - رضي الله عنه -.
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (18959)، والترمذي (797) من حديث عامر بن مسعود - رضي الله عنه -.
(4/389)
________________________________________
الأَئمةَ، واغفِر للمؤذَّنينَ" (1). فالضمان في كلام العرب: الرعاية والمحافظة على الشيء، ومنه قولهم للمسافر: في حفظ الله وضمانه، والإمام يحفظ للقوم صلاتهم، فيضمن عن الساهي سهوه ويتحمل القراءة عنهم ونحو ذلك، وأما المؤذن فإنه أمين على المواقيت، وربما أشرف وقت الأذان على حريم الناس عند دورانه في المنارة، وقيل: إن الخطاب لإمام ومؤذن لا يأخذان على الإمامة والأذان أجرًا، لأنهما متبرعان فيكونان أقرب إلى الإخلاص، فيضمن الإمام قبول الصلاة، ويؤتمن المؤذن على ما يؤذنه على الوجه المشروع من غير نقص.
قوله - عليه السلام -: "أهلُ المعروفِ في الدنيا، هم أهلُ المعروفِ في الآخرةِ" حدَّثنا جدي رحمه الله بإسناده عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أهلُ المعروفِ في الدنيا، هم أهلُ المعروفِ في الآخِرةِ، وأهلُ المنكَرِ في الدنيا، هم أهلُ المنْكَرِ في الآخِرَةِ" (2).
قوله - عليه السلام -: "السلطانُ ظِلُّ الله في الأرضِ يَأوي إليه كلُّ ملهوفٍ" (3). واختلفوا فيه فقال قومٌ: هذا مَثلٌ لأن الظل راحة يستريح إليه كل متعوب، وكذا السلطان يأوي إليه كل مظلوم، ومنه قول تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} [الواقعة: 30] أي: راحة دائمة، ومنه ظل الشجرة.
وقال آخرون: الظل عام، وكذا السلطان عام، وقال سهل بن عبد الله: الظل لا يدوم، وكذا السلطان لا يدوم. وقال سهل: أظهر الله آثار الهيبة في الأرض على أربعة أشياء: على الكعبة بهاءَه، وعلى القرآن هيبتَه، وعلى القلوب نورَه، وعلى السلطان ظلَّه، قال: وإنما يكون السلطان في ظلِّ الله إذا كان عادلًا صالحًا جوادًا متواضعًا، أما إذا كان ظالمًا فاجرًا جبانًا بخيلًا قاسيًا متجبرًا متكبرًا، فإنه يكون سمومًا وعذابًا لا ظلًا.
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (7169).
(2) "العلل المتناهية" (835).
(3) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (304). من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 196: فيه سعيد بن سنان أبو مهدي، وهو متروك.
(4/390)
________________________________________
قال أحمد بإسناده عن أبي بكرةَ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن أكرَمَ سلطانَ الله في الأرض، أكرَمَه الله يومَ القيامةِ، ومَن أهانَ سُلطانَ الله في الدنيا، أَهانَه الله يومَ القيامةِ" (1).
وقيل للحسن البصري: ألا تقاتل الحَجاج؟ فقال: الحَجاج نقمة وسخط وعذاب من الله، والعذاب لا يقاتل بالسيف بل بالدعاء.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "التاجرُ ينتظِرُ الرزقَ، والمُحتَكِرُ ينتظرُ اللَّعنةَ" ذكر في كتاب "الموضوعات" طرفًا منه فقال: فيه عن العبادلة، وعن ابن عمر وحده، وعن أبي هريرة، وأنس، قال:
وأما حديث العبادلة - وهم عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر [وعبد الله بن عباس] وعبد الله بن الزبير - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "القاصُّ ينتظرُ المقتَ والمستمعُ ينتظرُ الرحمةَ، والتاجرُ ينتظرُ الرزقَ، والمحتكرُ ينتظرُ اللعنةَ، والنائحةُ ومَن حولَها من امرأةٍ مستمعةٍ عليهم لعنةُ الله والملائكةِ والناسِ أَجمعين".
وأما حديث ابن عمر، فله طريقان، في طريق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن احتَكَرَ طعامًا أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه"، والطريق الثاني: " [مَن احتَكَر] طعامًا بَرِئ الله منه".
وأما حديثُ أبي هريرةَ: فقال عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُحشَرُ الحكَّارونَ وقتلةُ النفسِ في جهنَّمَ في درجةٍ واحدةٍ".
وأما حديث أنس: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حَبسَ طعامًا أربعينَ ليلةً، ثم أخرجَه فطحَنَه وخبَزَه وتصدَّق به، لم يَقبل الله منه شيئًا".
ثم قال جدي: هذه الأحاديث كلها لا تصح، وقد ضعفه (2).
وقد وقَّت الاحتكار بأربعين ليلة.
قال [أحمد] بإسناده عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن احتكَرَ طعامًا أربعينَ ليلةً،
__________
(1) أحمد في "مسنده" (20433).
(2) "الموضوعات" 2/ 151 - 152 وما بين معكوفات منه، وقد تكلم ابن الجوزي على كل حديث وطرقه، فلعل مختصر المرآة حذف كل هذا وبقيت هذه الكلمة التي ندت عنه.
(4/391)
________________________________________
فقد برِئَ من اللهِ تعالى، وبَرِئ الله منه، وأيُّما أهلُ عرصَة أصبح فيهم امرأً جائعًا، فقد بَرِئت منهم ذِمَّة الله تعالى" (1).
وقال أحمد بإسناده عن فروخ مولى عثمان: أن عمر وهو يومئذ أمير المؤمنين خرج إلى المسجد، فرأى طعامًا منثورًا فقالَ: ما هذا الطعام؟ قالوا: طعام جُلب إلينا، فقال: بارك الله فيه وفيمن جَلبه، قيل: يا أمير المؤمنين، فإنه قد احتُكر قال: ومن احتكَرَه؟ قالوا: فروخ مولى عثمان وفلان مولى عمر، فأرسل إليهما فدعاهما فقال: ما حملكما على احتكارِ طعام المسلمين؟ قالا: يا أمير المؤمنين، نَشتري بأموالنا ونبيعُ، فقال عمر: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن احتَكَرَ على المسلمين طَعامَهم ضربَه الله بالإفلاسِ أو بالجذامِ" فقال فروخ: يا أمير المؤمنين، أُعاهد الله وأعاهدك أن لا أعودَ في احتكارِ طعامٍ أبدًا، وأما مولى عمر فقال: إنما نَشتري ونبيعُ بأموالنا. قال أبو يحيى: فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا.
وهذا الحديث أخرجه أحمد في مسند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (2).
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صَمَتَ نَجا" (3).
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تواضَعَ للهِ رفَعَهُ الله" روى أبو اليُمن زيد بن الحسن الكِندي اللغوي بإسناده عن عابسِ بن رَبيعة قال: سمعتُ عمرَ بن الخطاب يقول: أيُّها الناسُ تواضَعُوا فإنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن تواضَعَ للهِ رفَعَه، ومن تكَبَّر خفَضَه" (4).
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صلَّى بالليلِ حسنَ وجهُه بالنهار" (5).
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سافِرُوا تَغنَمُوا، وصُوموا تَصِحِّوا" (6).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (4880).
(2) أحمد في "مسنده" (135).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (6481)، والترمذي (2501)، من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -.
(4) أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1356).
(5) أخرجه ابن ماجه (1333) من حديث جابر - رضي الله عنه -، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة": حديث ضعيف، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" 2/ 34.
(6) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8312)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 179 وقال: رجاله ثقات.
(4/392)
________________________________________
واختلفوا في معناه على قولين:
أحدهما: أن معنى السفر الظاهر سفر الدنيا {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] وفيه مشاهدة آثار الأنبياء والعلماء، والربح في التجارة وعجائب الدنيا، والإسفار عن أخلاق الرجال بين كريم يسخو ولئيم يشح.
والثاني: أن المرادَ به السفر الباطن، وقد أشارت إليه رابعة قالت: سافروا بقلوبكم إلى عالم الملكوت لترجعوا بأخبار الغيب والشهادة، وعلى هذا الصوم، فإنه من حيث الظاهر يصحح البدن، وفي الباطن صوموا بقلوبكم عن الدنيا تصحوا عما سوى الآخرة.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "زُرْ غِبًّا تَزدَدْ حُبًّا".
أخرجه جدي في "الواهية" عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيت عائشة، فتبعتُه فالْتَفت إليَّ وقال: "يا أَبا هُريرةَ، زُرْ غِبًّا تَزدَدْ حبًّا" (1).
قال أبو القاسم الوراق في شرح "الشهاب": لما قال رسول الله لأبي هريرة ذلك، قالت عائشة: يا أبا هريرة، أكثرت من زَوْرِك فمَلَّك، ودمت في ذاك فاستقلك، لو كنت ممن يزور غبًا أثر في قلبه محلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشةُ، والله ما مَللناهُ ولا قللناهُ، ولكن أَدّبناه".
قوله - عليه السلام -: "اطلبُوا الخيرَ عندَ حِسانِ الوُجوهِ" (2).
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تخيَّروا لنُطَفِكُم" (3) قيل: إنه موقوف على علي - عليه السلام -، وفيه: "فإنَّ العِرقَ دسَّاس" (4).
__________
(1) "العلل المتناهية" (1237)، وأخرجه القضاعي في مسند الشهاب (629).
(2) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (4759) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(3) أخرجه ابن ماجه (1968).
(4) لم نقف عليه من حديث علي، وأخرج ابن عدي في "الكامل" 6/ 178، والقضاعي في "مسند الشهاب" (638)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1007) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصي رجلًا: "يا فلان، أقِلَّ من الذين تعش حرًّا، وأقِلَّ من الذنوب يهن عليك الموت، وانظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس".
(4/393)
________________________________________
قال أبو عبيدة: معناه: لا تجعلوا نطفكم إلا في محل طاهر، ولا خلاف في كراهية ابن العاهر، وقال أبو سليمان: معنى "العرق دساس" لئلا يدب الزنا في عروقه، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} فقضى بفساد الأصل على فساد الفرع.
قوله - عليه السلام -: "لا يَنبغي للمؤمن أن يذل نفسه" (1) غريب، ومعناه أنه لا يتعرض لما يعجز عنه فيكون له سببًا لهوانه، قال الشاعر: [من الطويل]
وأكرمُ نفسي إنَّني إن أَهنتُها ... وحقَّك لا تُكرم على أحدٍ بعدي
ولهذا البيت حكاية نذكرها فيما بعد.
قوله: "استَغنُوا عن الناسِ ولو بشَوصِ السَّواكِ" (2).
أصل الشوصِ الغسل وكذا المَوْصُ، قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشوصُ فاه بالسّواكِ (3). وشوصُ السواك الشظية التي تكون بين الأسنان لا ينتفع بها، أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى القناعة باليسير.
قوله - عليه السلام -: "الْتَمِسوا الجارَ قبلَ الدار" (4) غريب.
وفيه حث على مجاورة الجار الحسن، والهرب من الجار السوء.
قوله - عليه السلام -: "لا يحلُّ لمسلم أن يَهجُرَ أَخاه فوقَ ثلاثةِ أيامٍ، إلاَّ أن يكون مِمَّن لا تؤمَنُ بوائقُه".
أخرجه جدي في "الواهية"، وقال أحمد بن حنبل: لا يصح هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو كذب (5).
قلت: وكيف يكون هذا الحديث كذبًا وقد أَخْرَجا في "الصحيحين" عن أنس،
__________
(1) أخرجه الترمذي (2254)، وابن ماجه (4016) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -.
(2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12257)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (687) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(3) لم نقف عليه بهذا اللفظ من حديث عائشة، وأخرجه بهذا اللفظ البخاري (245)، ومسلم (255) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -.
(4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (4379)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (709).
(5) العلل المتناهية" (1252)، وأما كلام الإمام أحمد فإنكاره على قوله: إلا أن يكون ممن لا تؤمن بوائقه" انظر "البدر المنير" 9/ 472.
(4/394)
________________________________________
وقال أحمد بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَباغَضوا، ولا تَباغَوا، ولا تَحاسَدُوا، ولا تَدابَروا، ولا تَقاطَعُوا، وكونوا عبادَ الله إِخوانًا، ولا يحلُّ للمسلمِ أن يَهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ" متفق عليه (1).
وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة وعائشة، وأحاديثهم أخرجها أبو داود والترمذي (2)، وإنما الزيادة في الحديث وهي قوله: "إلا أن يكون ممن لا تؤمن بوائقه" هذه الزيادة ليست في "الصحيحين" فيحتمل إنهم أشاروا إليها، وقد كان ينبغي لجدي أن يتبين الصحيح من السقيم، وقد فعلوا هذا في أحاديث منها:
قوله - عليه السلام -: "إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمالَ" أخرج مسلم (3) هذا اللفظ عن ابن مسعود، ثم قال في "الواهية": هذا الحديث لا يصح، روت عائشة أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ ذاتَ يومٍ فمرَّ ببركة فيها ماءٌ، فاطلَعَ فيه فسوى من لحيتهِ ورأسهِ، فقلت له في ذلك، فقال: "إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمالَ" (4) فقول عائشة "نظرَ في بركة" هو الذي تكلَّموا فيه، وباقي الحديث في الصحيح.
وقال أبو داود: إذا كانت الهجرةُ لله فليسَ من قوله: "لا يحلُّ للرجلِ أن يهجُرَ أَخاه فوقَ ثلاث" قد رأى عمر بن عبد العزيز رجلًا فغطى وجهه (5).
قوله: "لا يدخلُ الجنةَ رجلٌ لا يأَمنُ جارُه بوائِقَه" (6) واختلفوا في البوائق، فقال الجوهري: هي غشمه وظلمه، وقال الكسائي: غوائله وشره (7). وقيل: مكائده وشدائده.
قوله: "لا تَكُونوا مُتَماوتين" (8) هذا من كلام عمر - رضي الله عنه -، رأى رجلًا يتخاشَع، فضربه بالدرَّة وقال: ارفع رأسك فإن التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره.
__________
(1) أخرجه البخاري (6065)، ومسلم (2559)، وأحمد (12073).
(2) سنن أبي داود (4911 - 4914)، وسنن الترمذي بعد (1935).
(3) في صحيحه (91).
(4) "العلل المتناهية" (1144).
(5) ذكره عقب (4916).
(6) أخرجه مسلم (46).
(7) "الصحاح": (بوق).
(8) أخرجه القضاعي (940) مرسلًا عن مكحول.
(4/395)
________________________________________
وقد روى عروة بن الزبير عن عائشة أنها نظرَت إلى بعض القرَّاء وهو يكاد يموت تخشعًا فقالت: بورك لكل سهل طلق مضحاك، وأبعد الله كلّ عبوس، يلقاك بوجه مكفهر يمن عليك بعمله، فلا كثر الله في المسلمين أمثالهم.
قوله: "إنَّ لكلِّ شيءٍ قَلبًا وقلبُ القرآنِ يس" (1) فإن قيلَ: فالقلب جسم والقرآن ليس بجسم، فالجواب: إنما أشار إلى الترغيب في قراءة يس، وصار كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَنامُ القرآنِ البقرةُ" (2).
قوله: "إنَّ الله يحبُّ الشجاعةَ ولو بقَتلِ حيةٍ" (3).
قوله: "إذا أَرادَ اللهُ قبضَ روحِ عبدٍ في أرضٍ، جَعَل له فيها حاجةً" (4).
وقد ذكرنا في سيرة سليمان - عليه السلام - أن ملك [الموت] قبض روح صديقه عند مطلع عين الشمس.
قوله: "إذا أَرادَ اللهُ إنفاذَ قَضائهِ وقَدَرِه، سَلَب ذوي العقولِ عُقولَهم" (5) غريب، وقيل: هو موقوف على ابن عباس، ويروى أنه من كلام الحسن البصري، فإنه كان يقول: ما ابتلى الله قومًا بفتنة إلا وسلبهم عقولهم، فإذا رفع الفتنة عنهم، ردَّ عليهم عقولهم، ليرفعوا قبيح ما كانوا عليه.
قوله: "لو علِمَت البهائمُ مثل ما تَعلمون من الموتِ ما أَكلتُم سمينًا قطُّ" (6) غريب.
__________
(1) أخرجه الترمذي (2887)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1035) من حديث أنس - رضي الله عنه -، وفيه هارون أبو محمد، قال الترمذي: شيخ مجهول، وقال الذهبي (8666): أنا أتهمه بما رواه القضاعي في شهابه، وساق هذا الحديث.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (20300) من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه -.
(3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 6/ 199، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1080) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -، وفيه عمر بن حفص العبدي متروك.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (15539) من حديث أبي عزة - رضي الله عنه -.
(5) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1408) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وفيه محمد بن سعيد المؤدب، قال الذهبي في الميزان (7665): لا أعرفه وأتى بخبر منكر، ثم ساق له هذا الحديث.
(6) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1434)، والبيهقي في شعب الإيمان (10073) من حديث أم صبية الجهنية - رضي الله عنها -، وفيه عبد الله بن سلمة ضعفه الدارقطني وغيره. قاله المناوي في فيض القدير 5/ 315.
(4/396)
________________________________________
وقد أخرجه البخاري في أفراده، عن أبي هريرة: "لو عَلِمتُم ما أَعلَمُ، لضَحِكتُم قليلاً وبكيتُم كثيرًا" (1).
وقال أبو عبيد: البهائم لا تعلم بالموت ولو علمت ما حملت لحمًا، وأنتم تعلمون وتحملون فأنتم أشد غفلة من البهائم وهي أعذر منكم.
قوله: "بُورِكَ لأمَّتي فى بُكُورِ سَبتِها وخَميسِها" هذا المعنى فيه ثلاثة أحاديث: أحدها: "بوركَ لأمتي في بُكُورِها"، والحديث الثاني: "في كل اثنينٍ وخميسٍ"، والثالث: "في بكورِ يومِ السبتِ".
فأما الأول: فاخرجه جدّي بإسناده إلى عليًّ - عليه السلام - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُورِكَ لأُمَّتي في بُكُورِها" (2).
وأما الحديث الثاني: فأخرجه أبو محمد بن عدي عن جابر عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اطْلُبوا الحَوائجَ أو العلمَ كلَّ اثنينٍ وخميسٍ" (3).
وأما الثالث: فأخرجه الدارقطني عن جابر عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن بكَّرَ يومَ السبتِ في طلبِ حاجةٍ فأنا ضامنٌ لقَضائِها" (4).
قلت: والحديث وإن كان ضعيفًا غير أن السلف كانوا يستعينون بالبكور على قضاء حوائجهم، ومن بورك له في شيء فليلزمه، حتى قد صارت الأخبار بمنزلة التواتر، ولن يجمع الله العالم على ضلالة، ومن أمثالهم: بَكَّر بُكور الغراب.
وقد أخرج أحمد في "المسند" بإسناده أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ بارِكْ لأُمَّتي في بُكُورِها" وكان إذا بعث جيشًا بعثه أول النهار (5).
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري (6485).
(2) "العلل المتناهية" (503).
(3) "الكامل" 1/ 364، و"العلل المتناهية" (502).
(4) "العلل المتناهية" (536).
(5) أخرجه أحمد في "مسنده" (15443) من حديث صخر الغامدي - رضي الله عنه -.
(4/397)
________________________________________
الباب السابع والثلاثون: في ذكر صلاتنا عليه - صلى الله عليه وسلم -
[وقال أحمد بإسناده] عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صلَّى عليَّ مرةً واحدةً، صلَّى اللهُ عليه عَشرًا" أخرجه مسلم (1).
[وقال أحمد: قرأت على عبد الرحمن بإسناده] عن أبي حميد الساعدي قال: قالوا: يا رسول الله كيفَ نصلِّي عليك؟ قال: "قُولُوا: اللهمَّ صلَّ على محمدٍ، وعلى أزواجهِ وذرِّيتهِ، كما صلَّيت على آل إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارِك على محمدٍ وعلى أزواجهِ وذرِّيته، كما بارَكتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ" أخرجاه (2).
وقال [أحمد بإسناده عن أبي مسعود] عقبة بن عمرو الأنصاري قال: أقبل رجلٌ حتى جلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده، فقال: يا رسولَ الله، أمَّا السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلِّي عليك؟ فقال: "قُولُوا: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ النبيَّ الأميِّ، وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وآل إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ النبيَّ الأمِيِّ وعلى آلِه، كما بارَكتَ على إبراهيمَ [وعلى آل إبراهيم] إنَّك حميدٌ مجيدٌ" (3).
[وفي رواية: فكيف نصلي عليك في صلاتنا؟ وذكره. انفرد بإخراجه مسلم (4).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَجفُوني" قالوا: وكيف نجفوك؟ قال: "أُذكَرُ فلا يُصلَّى عليَّ" (5).
فصل في ذكر رد روحه إليه - صلى الله عليه وسلم -:
قال أحمد بإسناده] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن أَحدٍ يُسلِّمُ عليَّ
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (10287)، ومسلم (408).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (23600)، والبخاري (3369)، ومسلم (4071).
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (17072).
(4) أخرجه مسلم (405).
(5) لم نقف عليه.
(4/398)
________________________________________
إلَّا ردَّ الله إليَّ رُوحي حتى أَردَّ عليه" (1).
[حديث آخر في الصلاة عليه قال أحمد بإسناده عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس، ويقال: ] ابن أبي أوسٍ الثقفي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِن أَفضل أَيامِكُم يومُ الجمعةِ، فيه خُلق آدمُ، وفيه قُبِض، وفيه النفخةُ، وفيه الصعقةُ، فأكثروا عليَّ من الصلاةِ فيه، فإنَّ صَلاتَكُم معروضةٌ عليَّ" قالوا: يا رسولَ الله، وكيف تعرض عليك صلاتُنا وقد أَرِمتَ؟ فقال: "إنَّ اللهَ حرمَ على الأَرضِ أن تأكلَ أَجسادَ الأَنبياءِ" (2). ومعنى أرمت أي: بليت [والرمة: العظام البالية]. وقال [الترمذي بإسناده، عن عبد الله] ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَولى الناسِ بي يومَ القيامةِ أكثَرُهم صلاةً عليَّ" (3).
[وقال أحمد بإسناده عن عبد الله بن مسعود] قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لله عزَّ وجلَّ ملائكةً سيَّاحين في الأرضِ يُبلِّغوني من أُمَّتي السَّلامَ" (4).
* * *
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (10815).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (16162).
(3) أخرجه الترمذي (484).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (3666).
(4/399)
________________________________________
الباب الثامن والثلاثون: في ذكر حوضه وشفاعته - صلى الله عليه وسلم -
[أما الحوض فقد اختلفت الروايات فيه: ]
قال ابن مسعود: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا فَرَطُكُم على الحوضِ، وليُرفَعَنَّ إليَّ رجالٌ منكم، حتى إذا أَهويتُ لأُناوِلَهم اختُلِجُوا دُوني، فأَقولُ: يا ربِّ، أَصحابي، فيقال: إنَّكَ لا تَدرِي ما أَحدَثُوا بَعدَكَ". أخرجاه في "الصحيحين" (1).
وفي "الصحيحين" عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حَوضِي مَسيرةُ شَهرٍ، ماؤُه أَشدُّ بياضًا مِنَ اللَّبَنِ، وريحُه أَطيَبُ من ريحِ المِسْكِ، وكِيزانُه مثل نجومِ السَّماءِ، مَن شَرِبَ منه شَربةً لا يَظمأ بعدَها أبدًا" (2).
[وفي المتفق عليه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن أمامكم حوضًا بين جَرباء وأَذرُح" قال نافع: وهما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام (3)].
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذِي نَفسِي بيَدِه، لأَذودَنَّ رِجالًا عن حَوضي كما تُذادُ الغريبةُ من الإبلِ عن الحوضِ، وليَرِدنَّ على الحوضِ رهطٌ فيُحَلَّون عنه، فأقول: يا ربِّ، أصحابي، فيقولُ: إنَّك لا عِلمَ لكَ بما أَحدَثُوا بعدَكَ، إنَّهم ارْتدُّوا على أَعْقَابهم القَهْقَرَى" (4) [وكان أبو هريرة يقول: فيجلون - بالجيم - وفيه يقول: "هلم، فأقول إلى أين؟ فيقول: إلى النار، فإنهم ارتدوا بعدك، فلا يخلص منهم إلا مثل هَمَلِ النَّعَم" (5).
ومعنى: "أذودن": أطردن، و"يحلون" أي: يمنعون، كما يقال للإبل: حِلْ حِلْ إذا
__________
(1) أخرجه البخاري (7049)، ومسلم (2297).
(2) أخرجه البخاري (6579)، ومسلم (2292).
(3) أخرجه البخاري (6577)، ومسلم (2299).
(4) أخرجه البخاري (6585)، ومسلم (2302).
(5) أخرجه البخاري (6587).
(4/400)
________________________________________
منعت، وأراد أبو هريرة بقوله: يجلون - بجيم - الرجوع إلى خلف، وقيل: هو من الجلاء وهو الطرد، و"الهَمَل": التي لا راعي لها.
وفي "الصحيحين" عن سهل بن سعد بمعناه، وفيه: "ليَردَنَّ عليَّ الحوضَ أقوامٌ أَعرِفُهم ويَعرِفُوني، ثم يحال بيني وبينهم" وذكر بمعنى ما تقدم: "فأقول: بُعدًا وسُحقًا سحقًا لمن بَدَّل بعدي" (1).
وقوله: "سحقًا": دعاء عليهم، أي: أسحقهم الله.
وللبخاري، عن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ قدرَ حَوضي كما بينَ أَيلَة وصنعاء اليمنِ، وإنَّ فيه من الأَباريقِ كعددِ نُجومِ السماءِ" (2)].
ولمسلم عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ما آنية حوضك؟ فقال: "والذي نَفسِي بيَده إِنَّها أكثرُ من عَددِ نجومِ السماءِ في الليلةِ المُصْحِيَةِ، آنيةُ أهلِ الجنةِ، مَن شَرِبَ منه لم يَظمأ أَبدًا آخر ما عليه، يَشخب فيه مِيزابانِ من الجنةِ، عرضُه مثل طولهِ، ما بينَ عَمَّانَ البلقاءَ إلى أَيلةَ" (3).
وقوله: "آخر ما عليه" أي: أبدًا. ومعنى "تشخب" أي: تسكب، و"عمان" بالتشديد مكان بالبلقاء يقال: كانت مدينة البلقاء، وعامة العلماء على تشديد عمان إلا الخطابي فإنه قال: هي مخففة، أشار إلى عُمان التي عند البحرين. والأول أصح.
ولمسلم عن جابر بن سمرة بمعناه، وفيه: "وإن بُعدَ ما بين طرفيه كصنعاء وأيلة، كأن الأباريق فيه مثل النجوم" (4).
ولمسلم عن مَعدان بن أبي طلحة، عن ثوبانَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنِّي لبعُقْرِ حَوضي أذودُ الناسَ لأهلِ اليَمَنِ، أضربُ بعَصايَ حتى يَرفضَّ عليهم" فسئل عن عَرضهِ فقال: "مِن مقامي هذا إلى عمَّان، يَغُتُّ فيه مِيزابانِ يمدَّانِه من الجنةِ أحدُهما من ذهبٍ والآخر من وَرِقٍ" (5).
__________
(1) أخرجه البخاري (7050)، ومسلم (2290).
(2) أخرجه البخاري (6580)، وما بين معكوفين من (ك).
(3) أخرجه مسلم (2300).
(4) أخرجه مسلم (2305).
(5) أخرجه مسلم (2301) ويغت: يدفق.
(4/401)
________________________________________
[وقد أخرج أحمد عن ثوبان بمعناه، فقال ابن عفان بإسناده عن ثوبان وذكره، وقال: بعث عمر بن عبد العزيز إلى ثوبان ليسأله عن الحوض، فقدم عليه فسأله، فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "حَوضِي مِن عَدَن إلى عمَّان البلقاء، وذكر بمعنى ما تقدم من وصف مائه وآنيته، وقال: "أَولُ الناسِ وُرُودًا عليه فقراءُ المهاجرين" فقال عمر بن الخطاب: يا رسولَ الله، من هم؟ فقال: "الشُّعثُ الغُبْر، أو الشُّعثُ رُؤوسًا الدُّنْس ثيابًا، الذين لا يَنكِحونَ المتنعمات، ولا تُفتح لهم أبواب السُّدَدِ".
فقال عمر بن عبد العزيز: لقد نكحت المتنعمات، وفتحت لي أبواب السُّدَدِ إلا أن يرحمني الله، لا جَرَم والله لأدعنَّ رأسي حتى يشعَثَ، ولا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتَّسخ (1).
وفي الباب عن ابن عباس وأنس وحذيفة وأم سلمة وعائشة وغيرهم.
وحديث حذيفة أخرجه مسلم، وفيه: فقلنا: يا رسولَ الله، أتعرفنا؟ قال: "نَعَم، إنَّكم تَرِدُون عليَّ الحوضَ غُرًّا مُحَجَّلين مِن آثارِ الوُضوءِ، ليست لأَحَدٍ غيرِكم" (2).
وقد جاءت في الشفاعة أخبار منها حديث أنس مختصرًا].
قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ يومُ القيامةِ ماجَ الناسُ بعضُهم إلى بعضٍ، فيأتونَ آدمَ - عليه السلام - فيقُولُون: اشفَع لنا إلى ربك فأنت أبو الخلقِ خَلقَك الله بيَدِه، ونفخَ فيكَ من رُوحِه، وأَسجَدَ لك ملائكَتَه، فيقول: لستُ هناك، ويذكر خطيئَته التي أصابَ فيَستحي منها، ويقول: عليكم بنوحٍ فإنَّه أولُ نبيًّ بعثَه اللهُ إلى أهلِ الأرضِ، فيأتون نوحًا - عليه السلام -, فيذكُرونَ له ما ذَكرُوا لآدمَ، فيقولُ لهم كما قالَ آدمُ، ثم يقولُ لهم: ولكن ائتوا إبراهيمَ فإنَّه خليلُ الله، فيأتونَه، فيقول: لستُ هناكَ، ولكن عليكم بموسى فإنَّه كليمُ اللهِ، فيأتونَ إليه فيقولُ: عليكم بعيسى رُوحُ اللهِ وكلمتُه، فيأتونَ عيسى، فيقول: لستُ هناكَ، ولكن ائتُوا محمدًا، فإنَّ الله قد غَفَر له ما تقدَّم من ذَنبِه وما تأخَّر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فيَأتونَ إليَّ، فأقولُ: أَنا لها، فأَنطَلِقُ، فأَستَأذنُ على
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (22367).
(2) أخرجه مسلم (248).
(4/402)
________________________________________
ربَّي، فيُؤذَنُ لي، فأقوم بينَ يديهِ، فأحمَدُه بمحامدَ لا أقدرُ عليها إلَّا أن يُلهِمَنِيها اللهُ تعالى، ثم أَخِرُّ لربَّي ساجدًا، فيدَعُني ما شاءَ الله، ثم يقولُ: يا محمدُ، ارفَعْ رَأسَكَ، وسَلْ تُعطَه، وقُل يُسمَعْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، فأَرفَعُ رَأسِي، وأحمَدُ ربَّي بتحميدٍ يُعلِّمنيه، ثم أشفعُ، فيحُدُّ لي حدًّا، فأُخرِجُهم من النارِ وأُدخلُهم الجنةَ، فأقول: يا ربِّ، ما بقيَ في النارِ إلَّا مَن حبَسَه القرآنُ، أي وجبَ عليه الخلودُ، وأقول: يا ربِّ أمَّتي أمتي، فيقال لي: انطَلِق، فمن كان في قلبهِ مثقالُ حبَّةِ خَردَلٍ من إيمانٍ فأُخرِجه منها".
قال معبد: فخرجنا من عند أنس، فدخلنا على الحسنِ وهو مستخفٍ في دارِ أبي خليفةَ، فسلمنا عليه، وقلنا: يا أبا سعيدٍ جئنا من عند أخيك أبي حمزةَ، فحدثنا بحديث الشفاعة، فقال: هِيهِ، فحدثناه الحديثَ، فقال: لقد تركَ شيئًا ما أَدري أَنسي الشيخُ أم كَرِه أن يحدِّثكم به، فتَتَّكلوا، ولقد حدثنا به منذ عشرين سنةً وهو يومئذ جميعٌ، أي: شاب مجتمع، فقلنا: حدِّثنا، فقال: "ثم أَرجعُ إلى ربِّي فأحمَدُه بتلكَ المحامدِ، وأَخِرُّ ساجدًا، وأقول: يا ربِّ إيذن لي فيمَن قال: لا إِلَه إلا اللهُ، فيقال: ليس لك ذلك، ولكنْ وعزَّتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي؛ لأخرجنَّ منها من قال: لا إله إلا الله". أخرجاه في "الصحيحين" (1).
وفي "الصحيحين" أيضًا عن أنسٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكلِّ نبيًّ دعوةٌ دَعا بها لأمَّته، وإنِّي اخْتَبأتُ دعوتي شَفاعتي لأمَّتي يومَ القيامةِ" (2).
ولمسلم، عنه: "ولم يُصدَّق نبيٌّ ما صُدِّقتُ، وإنَّ من الأنبياء نبيًّا ما صدَّقَه من أمَّتِه إلاَّ رجلٌ واحدٌ" (3).
وللبخاري، عن ابن عمر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الناسَ يصيرونَ يوم القيامةِ جُثًا، كلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبيَّها، يَقولُونَ: اشفَع لنا، حتى تنتهي الشفاعةُ إليَّ، فذلك المقامُ المحمود" (4).
[و"الجثا": الجماعات، الواحدة جثوة، والمقام المحمود: الشفاعة].
وقال ابن عباس: يوضع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منبر فيرتقيه، ويُثني على الله ثناءً لم تَسمعِ
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (12153)، والبخاري (7510)، ومسلم (193)، وما بين معكوفين من (ك)
(2) أخرجه البخاري (6305)، ومسلم (200).
(3) أخرجه مسلم (196).
(4) أخرجه البخاري (4718).
(4/403)
________________________________________
الخلائقُ بمثلِه، فيشفِّعه في أمَّتِه (1).
[وفي "الصحيحين" وأخرجه أحمد في "المسند" بإسناده] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعُهم الداعي، ويَنفُذُهم البصرُ، وتَدنو منهمُ الشمسُ فيبلغ الناسُ من الغَمِّ والكربِ ما لا يُطيقونَ، فيأتونَ إلى آدمَ، فيقولون: اشفَع لنا إلى ربِّكَ، فأنتَ أبو البشرِ، خلقَكَ الله بيَدِه، ونفَخَ فيكَ من رُوحهِ، وأَسجَدَ لكَ ملائكَتَهُ، وأسْكَنَك جنَّتَهَ، أَلَا ترى ما نحنُ فيهِ؟ فيقولُ لهم آدمُ: إنِّي عَصيتُ ربِّي، وقد غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لم يَغضَب قبلَه مثلَه ولا يَغضَبُ بعدَه مثله، وإنَّه نَهاني عن الشجرةِ فعصيتُ أمرَه، نَفسِي نَفسِي، لستُ بصاحبِ ذاك، اذهبُوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوحٍ، فيأتُونَ إلى نوحٍ، فيقولُون: يا نوحُ، أنتَ أَولُ الرسُل إلى أهلِ الأرضِ، وقد سَمَّاك الله عَبدًا شَكُورًا، أَلَا تَرى إلى ما نحنُ فيه؟ فاشفَع لنا إلى رَبِّك، فيقولُ: قد كانت لي دعوةٌ دَعوتُ بها على قَومِي، اذْهَبوا إلى إبراهيمَ، فيأتونَه، فيقولونَ له: أنتَ نبيُّ الله وخليلُه من أهلِ الأرضِ، اشفَعْ لنا إلى ربِّكَ، فيقولُ: إنِّي كذبتُ ثلاثَ كذباتٍ، فذكرها، وقال: نَفسِي نَفسِي، اذهبُوا إلى مُوسى، فيأتونَه، فيقولُونَ: أنتَ رسُولُ اللهِ وكَليمُه، فضَّلَكَ برسالَتِه وبكَلامِه على الناسِ، فيقولُ لهم: إنِّي قتلتُ نفسًا لم أُومر بقَتلِها، اذْهبُوا إلى عِيسى، فيأتونَه، فيقولُون: أنتَ رُوحُ اللهِ وكَلمتُه، فيردُّ عليهم ولم يذكر ذَنبًا: اذْهبُوا إلى محمدٍ، فيأتونَ إليَّ، فيقولُونَ: يا رسولَ اللهِ، أنتَ خاتَمُ الأنبياءِ، وقد غفَرَ اللهُ لكَ ما تقدَّم من ذنبِكَ وما تأَخَّر، فاشفَعْ لنا إلى ربِّكَ، فأَنطلِقُ إلى تحتِ العَرشِ فأقَعُ ساجدًا لربِّي". وذكر بمعنى حديث أنس، وفيه: "إنَّ كلَّ نبيًّ يقولُ: إن ربِّي قد غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لم يَغضَبْ قبلَه ولا يَغضَبُ بعدَه مثله" (2).
وفي رواية: "فيقولُ آدمُ: وهل أَخرَجَكُم من الجنَّةِ إلا خَطِيئَةُ أَبيكُم، اذهبُوا إلى ابني خليلِ الله، فيذهبونَ إليه فيقولُ: إنما كنتُ خليلًا من وراءَ [وراءَ، أي من وراء] حجابٍ" (3).
__________
(1) لم نقف عليه.
(2) أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194)، وأحمد (9623).
(3) أخرجه مسلم (195).
(4/404)
________________________________________
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ - أو تَلا - قولَ الله عزّ وجلّ في إبراهيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} الآية [إبراهيم: 36]. وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية [المائدة: 118]. فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: "أُمَّتي أُمَّتي" وبَكَى، فقال الله تعالى: يا جبريلُ اذهَب إلى محمدٍ - وربُّكَ أعلمُ - فسَلْهُ ما يُبكيكَ؟ فأتاه جبريلُ، فسَأَله، فأخبَره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال، فقال الله: يا جبريلُ، اذهَب إلى محمدٍ فقُل له: إنا سنُرضِيكَ في أمَّتِك ولا نَسُوؤكَ. انفرد بإخراجه مسلم (1).
* * *
__________
(1) أخرجه مسلم (202).
(4/405)
________________________________________
الباب التاسع والثلاثون: في كونه - صلى الله عليه وسلم - آخر المرسلين وخاتم النبيين
[أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين" فقد تقدم في فضائله، وأن الله أخذ ميثاق الأنبياء على تصديقه.
وأما كونه آخر المرسلين، فلأن الختم إنما يكون على عنوان الكتاب، فتمم الله به مكارم الأخلاق والأسباب، وليكون شهيدًا على الأمم للأنبياء بما جاؤوا به من الأنباء.
قال أحمد بإسناده] عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُدعَى نوحٌ يومَ القيامةِ فيقالُ له: هل بلَّغتَ؟ فيقول: نَعَم، فيُدعَى قومُه: هل بلَّغَكُم؟ فيقولُون: ما أَتانا من نذيرٍ، وما أَتانا من أحدٍ، فيقال لنوحٍ: من يَشهد لكَ؟ فيقول: محمدٌ وأمَّتُه، قال: وذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. قال: والوسط العدلُ، فيدعونَ، فيَشهدُون له بالبلاغِ، قال: ثم أشهدُ عليكم" انفرد بإخراجه البخاري (1).
وعن أبي سعيد الخدري أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَجيءُ النبيُّ يومَ القيامةِ ومعهُ الرجلُ، والنبيُّ ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك، فيُدعَى قومُه فيقال لهم: هل بلَّغكُم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلَّغتَ قومَك؟ فيقولُ: نَعَم، فيقالُ له: من يَشهدُ لك؟ فيقولُ: محمدٌ وأمَّتُه، [فيدعى محمد وأمته] فيقال لهم: هل بلَّغَ هذا قومَه؟ فيقولون: نَعَم، فيقال: وما عِلمُكُم؟ فيقولونَ: جاءَنا نبيُّنا، فأَخبَرَنا أن الرُّسُلَ قد بلَّغوا، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية [البقرة: 143]. أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (11283)، والبخاري (4487).
(2) أحمد في "مسنده" (11558).
(4/406)
________________________________________
[وقد ذكر الثعلبي في "تفسيره" (1) بمعناه في تأويل قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] قال السدي: فيشهد محمد - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء بالبلاغ، فذلك قوله: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] وكذا تقول في أمته: إنها جعلت آخر الأمم لهذا المعنى].
وقال كعب الأحبار: إنما جعلت هذه الأمة آخر الأمم لتطلع على قبائح الأمم ولا يطلعونَ على فضائحها، فإنِّي قد وجدت في بعض كتب الله المنزلة: أن الله خلَقَ لكل واحد من هذه الأمة تمثالًا تحت العرش، فكلما ركعَ وسجدَ ركع ذلك التمثال وسجدَ فتراه الملائكةُ، فإذا زلَّ ابن آدم زلةً ألقى اللهُ على ذلك التمثال سترًا لئلا تشاهده الملائكةُ، فذلك قولهم في الدعاء: يا مَن ينشر الجميلَ ويستر القبيحَ.
* * *
__________
(1) الكشف والبيان 1/ 205.
(4/407)
________________________________________
الباب الأربعون: في ذكر أصحابه وفضلهم - رضي الله عنهم -
[وفيه فصول:
حدّثنا أحمد بإسناده] عن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَسبُّوا أَصحابي، فإنَّ أحدَكُم لو أنفَقَ مثلَ أُحدٍ ذَهبًا ما أدركَ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه". أخرجاه في "الصحيحين" (1).
وفي المتفق عليه عن ابن مسعودٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ الناس قَرني، ثم الذينَ يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونَهم، ثم يَأتي قومٌ تسبق شهادةُ أَحدِهم يَمينَه، ويَمينُه شهادَتَه" (2).
[ولمسلم عن أبي هريرة بمعناه، وذكر فيه ثلاثة قرون (3).
والقرن مئة سنة، وقيل: مئة وعشرون سنة. قال الجوهري: القرن ثمانون سنة. قال: ويقال: ثلاثون سنة (4)، والأول أصح.
والمراد بالشهادة: شهادة الزور، لأنه قال في] حديث عمران بن الحصين المتفق عليه قال: فلا أدري أذكر بعد قرنين أو ثلاثة. وفيه: "ثم يَأتي بَعدَهم قومٌ يَشهدون ولا يُستَشهدون، ويَخونون ولا يؤتمنون، ويَنذُرُون ولا يَفُون، ويحلفون ولا يُستَحلفون، ويظهرُ فيهم السِّمَن" (5)، يعني من كثرة المطاعم.
وفي المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَأتي على الناسِ
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (11079)، والبخاري (3673)، ومسلم (2541).
(2) أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533).
(3) أخرجه مسلم (2534).
(4) "الصحاح": (قرن).
(5) أخرجه البخاري (2651)، ومسلم (2535).
(4/408)
________________________________________
زمانٌ يغزو فيه فِئامٌ من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولُون: نَعَم، فيُفتَح لهم، ثم يَغزُو فئامٌ من الناس، فيقالُ: هل فيكم من صاحب أَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولونَ: نَعَم، فيُفتَحُ لهم" (1).
[فصل في عدد الصحابة - رضي الله عنهم -
اعلم أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلق كثير تتعذر الإحاطة بعددهم، فروى أبو عبد الله الحاكم، عن أبي زرعة الرازي أنه سئل عن هذا فقال: قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مئة وستة وعشرين ألفًا ممن روى عنه وسمع منه ورآه، قيل له: فأين كان هؤلاء؟ فقال: أهل مكة والمدينة وما بينهما وما حولهما من الأعراب ومن شهد معه حجة الوداع والغزوات والسرايا وتبوكًا وغيرها.
وروى الخطيب أبو بكر بإسناده عن أبي زرعة أيضًا أنه سئل عن ذلك، فقال ومن يضبط هذا؟ شهد معه حجة الوداع أربعون ألفًا، وتبوكًا سبعون ألفًا، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان معه يوم الفتح عشرة آلاف وخرج من المدينة إلى غزاة تبوك في ثلاثين ألفًا (2).
فصل في عدد الأحاديث المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
قد ذكرنا في صدر الكتاب عن أحمد بن حنبل أنه قال: جمعت "المسند" من ألف ألف حديث، وروى عنه ابنه عبد الله أنه قال: صح من الحديث سبع مئة ألف وكسر، وقال: كان أبو زرعة الرازي يحفظ ست مئة ألف حديث.
وذكرنا عن البخاري أنه قال: صنفت كتابي "الصحيح" في ست عشرة سنة، خرجته من ست مئة ألف حديث.
وقال مسلم: جمعت كتابي من سبع مئة ألف حديث.
فالحاصل أن حصر الأحاديث على التحقيق غير ممكن، وإنما الذي يظهر ما في
__________
(1) أخرجه البخاري (2897)، ومسلم (2532).
(2) انظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 102 - 103.
(4/409)
________________________________________
السنن المأثورة الأخبار المشهورة كـ "مسند" أحمد والبخاري ومسلم وأبي داوود والترمذي والدارقطني وابن ماجه وغيرهم.
وروي أنه قيل لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يفتي، مئة ألف حديث؟ قال: لا، قيل: فمئتي ألف؟ قال: لا، قيل: فثلاث مئة ألف؟ قال: لا، قيل: فأربع مئة ألف؟ قال: لا، قيل: فخمس مئة ألف؟ قال: أرجو (1).
ذكر الصحابة الذين تفرقوا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلوا البلدان
ذكر جدي رحمه الله في "التلقيح" وقال: روى عبد الله بن بُريدة الأسلمي، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما أرض مات بها رجل] (2) من أصحابي فهو قائدهم ونورهم يوم القيامة".
* * *
__________
(1) انظر "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 361 - 362.
(2) من قوله: فصل في عدد الصحابة ... إلى هنا، ليس في (أ، خ)، أثبتناه من (ك)، وانظر تاريخ البخاري الكبير 2/ 141، والاستيعاب (219)، ولم نقف عليه في التلقيح.
(4/410)
________________________________________
مرآة الزمان في تواريخ الأعيان
تصنيف
شمس الدين أبي المظفر يوسف بن قز أوغلي بن عبد الله
المعروف بـ «سبط ابن الجوزي» (581 هـ - 654 هـ)
حقق هذا الجزء وعلق عليه
عمار ريحاوي
الجزء الخامس
[11 - 32 هـ]
(5/)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(5/2)
________________________________________
مِرْآةُ الزَّمَانِ فِي تَوَاريخ الأعْيَانِ
[5]
(5/3)
________________________________________
المخطوطات المعتمدة في هذا الجزء والذي يليه
1 - نسخة أحمد الثالث (أ) من سنة (2 هـ) إلى نهاية سنة (21 هـ).
2 - نسخة كوبريللي (ك) من سنة (9 هـ) إلى سنة (31 هـ).
3 - نسخة العلائي (ع) عندنا منها من سنة (22 هـ) إلى سنة (31 هـ).
4 - نسخة الخزائنية مؤلفة من جزءين:
ا - من سنة (7 هـ) إلى سنة (29 هـ).
ب - من سنة (30 هـ) إلى سنة (50 هـ)
وانظر وصفًا مفصلًا لهذه النسخ في مقدمة الجزء الأول من الكتاب.
* * *
(5/5)
________________________________________
أبواب ذكر الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين
(5/7)
________________________________________
الباب الأول في ذكر أبي بكر رضوان الله عليه
قال علماء السِّيَرِ: هو عبد الله بنُ عثمان، وعثمان هو أبو قُحافةَ بن عامر بن عمرو ابن كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّةَ بن كعب بن لؤي.
ويلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في النسب عند مُرَّة بن كعب، وبين كلّ واحد منهما وبين لؤي تسعةُ آباء، فهو في تعداد النّسب مثلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأُم أبي بكر: سَلمى بنت صخر بن عمرو بن عامر بن كعب. وقيل: بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرَّة. وتُكنى أُمَّ الخيرِ، وماتت مُسلمة.
ورُوي عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّها قالت: ما أسلم أَبَوا أحدٍ من المهاجرين إلا أَبَوا أبي بكر (1)، وكذا ليس في الصحابة مَن اسمُه عبد الله بن عثمان سوى أبي بكر.
واختلفوا لم سُمّي الصِّدِّيق على قولين:
أحدهما: أن جبريل سماه به، فحكى ابن سعدٍ بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل ليلة المعراج: "إنَّ قومي لا يُصدَّقوني"، فقال: يُصّدِّقُك أبو بكر، [وهو] الصديق (2).
قال الزهري: فلذلك كان يحلفُ عليُّ بن أبي طالب أن الله أنزل اسمَ أبي بكر الصديق من السماء.
وقال الثوري: إنما أشار عليٌّ عليه السلام إلى قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} (3) [الزمر: 33].
والثاني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمَّاهُ به. قاله ابن عباس (4).
__________
(1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 35 - 36/ 113 من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ونقل عن ابن منده قوله: هذا حديث غريب من حديث هشام بن عروة.
(2) طبقات ابن سعد 3/ 170، وأخرجه ابن الجوزي في المنتظم 4/ 54 من طريقه، وعبد الله بن أحمد في زوائده على فضائل الصحابة لأبيه (116).
(3) أخرجه الطبري في تفسيره 20/ 204 - 205، وابن عساكر 35 - 36/ 450.
(4) انظر تلقيح فهوم أهل الأثر 104، والمنتظم 4/ 54.
(5/9)
________________________________________
واختلفوا في تسميته بعَتيقٍ على أقوالٍ:
أحدُها: أنه اسمٌ سمَّته به أُمه، فقال الهيثم: لم يكن يعيش لأُمِّه ولدٌ، فلما وَلدَتْه استقبلت به الكعبةَ وقالت: اللهمَّ إنّي قد جعلتُه للكعبة، فأعتِقْه من الموت، فعاش (1). قال: وكان له ثلاثةُ إخوةٍ: عَتِيق ومعتِّق وعُتَيْق.
والثاني: أنه اسمٌ سمّاه به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن سعدٍ بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها - أَنَّها سُئلت: لم سُمِّيَ أبو بكرِ عَتيقًا؟ فقالت: نظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: "هذا عتيقُ [الله] من النار" وفي روايةٍ: "مَن سَرَّه أن يَنظُرَ إلى عتيقٍ من النار فلْيَنْظر إِلى هذا" (2).
والثالث: إنما سُمّيَ به لجمال وجهه، قاله الليث بن سعد (3).
وحكى ابن قُتيبة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقَّبه بذلك لجمال وجهه (4).
والرابعُ: لأنه كان عَتيقًا في الخير (5)، والعربُ تقول للشيء إذا بلغ النّهايةَ في الجَودة: قد عَتَق. قاله ابن الأنباري (6).
والخامس: لأنه كان كريمَ الطَّرفين، لم يكن في نسبه ما يُعابُ به. قاله مُصعب الزُّبَيري (7).
وروت عمرةُ عن عائشة قالت: كان اسم أبي عبدَ الكعبة، فسمّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله وعَتيقًا (8).
_________
(1) أخرجه الدولابي في الكنى (38) ومن طريقه ابن عساكر 35 - 36/ 110 عن موسى بن طلحة، سألتُ أبي طلحة بن عبيد الله.
(2) طبقات ابن سعد 3/ 169 - 170.
(3) أخرجه ابن عساكر 35 - 36/ 101.
(4) المعارف 167.
(5) أخرجه ابن عساكر 35 - 36/ 101 عن أبي نعيم.
(6) ذكره الخطابي في غريب الحديث 2/ 34، والأزهري في تهذيب اللغة 1/ 211، وابن عساكر 35 - 36/ 112 عن ابن الأعرابي.
(7) أخرجه ابن عساكر 35 - 36/ 112 عن مصعب، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب 373 (مرشد)، وابن قدامة في التبيين 305.
(8) ذكره دون نسبة ابن قتيبة في المعارف 167، وابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر 104.
(5/10)
________________________________________
وقال النّخعي: كان أبو بكر يُسمَّى الأوّاه لرأفته ورحمته (1).
وقال الهيثم: لم يتسمَّ بالصديق ولا بالفاروق ولا بذي النُّورَيْن أحدٌ في الجاهلية ولا في الإسلام قبل أبي بكر وعمر وعثمان، وإنما حدثت الألقابُ بعدُ.
واختلفوا في مولده؛ فقال الزهري: وُلد بمِنىً قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين.
وقال ابن مَنده: وُلد بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهرٍ إلا أيامًا، وتوفي بعد رسول الله بسنتين وأشهر، وهو ابن ثلاثٍ وستين سنةً (2).
وقال الزهري: وَليَ الخلافةَ وهو ابن إحدى وستين سنةً (3)، ولم يتقلَّد الخلافةَ أحدٌ وأبوه حيٌّ سواه، ومات ووَرثه أبوه أبو قُحافة.
وقال موسى بن عُقبة: لا يُعرف أربعةٌ في الإسلام تناسلوا وأدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى أبي بكر وأبيه أبي قُحافة، وابن أبي بكر عبد الرحمن وابنه محمد، ويُكنى أبا عتيق، ولم يتّفق لغير أبي قُحافة هذا (4).
ذكر صفة أبي بكرٍ - رضي الله عنه -
ذكر ابن سعدٍ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان أبو بكرٍ نحيفًا، خفيفَ اللَّحم، أبيضَ، أَجْنأَ، لا يَستمسكُ إِزارُه، يَسترخي عن حَقْوَيه، مَعروقَ الوجه، ناتئَ الجَبهة، عاري الأشاجع، وكان يَخضب رأسه ولحيته بالحِنّاء والكَتَم (5).
قال الجوهري: الأَشاجعُ: أصولُ الأصابع التي تَتَّصلُ بعَصَب ظاهرِ الكفِّ (6).
وللبخاري عن أنسٍ قال: قَدم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وليس في أصحابه أَشْمطُ سوى أبي
__________
(1) أخرجه ابن سعد 3/ 171.
(2) أخرجه ابن عساكر 35 - 36/ 107.
(3) بعدها في (ك): وكذا مروان بن الحكم. قلت: وهذا خطأ فإن مروان بن الحكم تقلد الخلافة ثمانية أشهر، وقيل: ستة أشهر، وتوفي وهو ابن أربع وستين سنة.
(4) انظر فتح الباب في الكنى والألقاب لابن منده 107.
(5) طبقات ابن سعد 3/ 188، وفيه: خفيف العارضين، وهي أشبه.
(6) الصحاح (شجع). وقوله: أجنأ، من الجَنَأ وهو مَيل في الظهر أو العُنُق، والحقو: موضع الإزار، ومعروق الوجه: قليل لحمه. النهاية (جنأ حقو عرق).
(5/11)
________________________________________
بكر، فغَلَفَها بالحِنّاء والكَتَم (1). والأَشمطُ: الذي يَختلطُ شيبُه بشبابه، وغَلَفها: عمَّها.
وذكر ابن قتيبة في كتاب "غريب الحديث" عن قيس بن أبي حازم قال: كان أبو بكرٍ يَخرجُ إلينا وكأنَّ لِحيَتَه ضِرامُ عَرْفَج. الضِّرامُ: لَهيب النّار.
وقال الجوهريّ: العَرْفَج: شجرٌ يَنبتُ في السَّهل، الواحدةُ عَرْفَجَة، ومنه سُمِّي الرَّجل (2).
وقال الفَرَّاء: العرفجُ: نَبتٌ ضعيفٌ تُسرع النارُ فيه، ثم لا يَلْبَث يسيرًا حتى يَطفأ. ومعناه: أنه كان يَخضِبُ بالحِنَّاء والكَتَم، ويُشبعهما خِضابًا، فتشتدُّ حُمْرَتُها (3).
ذكْرُ سبب إسلامه
واختلفوا فيه على أقوالٍ:
أحدها: ذكر البَلاذري في "تاريخه" عن ابن الكلبي، عن أبي صالح أنه قال: كان أبو بكرٍ صَديقًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِر غِشيانَه في منزله، ومحادثتَه، ويَتَعرَّفُ أخبارَه، فلما دُعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنبوة أتى معه ورقةُ بن نَوفلٍ، وسمع قولَه، وكان مُتوقِّعًا للرسالة وما اختصَّه الله به من كرامته، وكان أبو بكر قد شارك حَكيم بن حِزام في بضاعةٍ، وأراد السَّفَر معه، فإنه ذاتَ يومٍ لمع حَكيم إذ أتى حكيمًا آتٍ فقال: إن عَمَّتك خديجة تَزعمُ أن زوجها نبيٌّ مثلُ موسى، فقد هَجرت الآلهة، فانسلَّ أبو بكرٍ انسلالًا حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن خَبره، فقصَّ عليه قصَّتَه فقال: صدقتَ بأبي أنت وأُمي، وأهلُ الصِّدقِ أنت، وأسلم، ثم أتى حكيمًا فقال له: يا أبا خالدٍ، رُدَّ عليَّ مالي، فقد وجدتُ عند محمدٍ أَربحَ من تجارتك، فأخذ مالَه ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
وذكر المدائنيُّ بمعناه فقال: قال أبو بكرٍ: بينا أنا أُريدُ الطائفَ مع حَكيم بن حِزام وأنا في منزلي بمكة، إذ دخل عليَّ الحارثُ بن صخرٍ، ودخل حكيم بن حِزام، فقال له
__________
(1) صحيح البخاري (3919). والكتم: ورق يُخضب به كالآس.
(2) الصحاح (عرفج).
(3) غريب الحديث 1/ 248 - 249.
(4) أنساب الأشراف 5/ 123.
(5/12)
________________________________________
الحارث: يا أبا خالد، زعم نساؤنا أن عمَّتَك تزعُمُ أن زوجَها رسولُ الله، فأنكر حكيمٌ ذلك، وأكلوا وانصرفوا.
قال: فخرجتُ، فلقيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ له: بَلغني كذا وكذا، وهذا أمرٌ لا يُقارُّكَ (1) عليه قوُمك، فقال: يا أبا بكرٍ، ألا أذكُرُ لك شيئًا إن رضيتَه قَبِلْتَه، وإن كرهتَه كَتمتَه، قال: فقلتُ: هذا أَدنى ما لك عندي، فقرأ عليَّ القرآن، وحدَّثني ببُدُوِّ أمره، فقلتُ: أشهد أنك لَصادقٌ، وأن ما دعوت إليه حقٌّ، وأن هذا كلامُ الله، فسمعتْني خديجةُ، فخرجَتْ وعليها خِمارٌ أحمر، فقالت: الحمد لله الذي هداك يا ابنَ أبي قُحافةَ.
فما رُمْت من مكاني حتى أمسيتُ، فخرجتُ وإذا بمجلسٍ من بني أسدِ بن عبد العُزّى فيهم الأسودُ بن عبد المطَّلب وأبو البَخْتَريِّ، فقالوا: من أين أَقبلتَ؟ فقلتُ: من عند ابنِ عمِّكم وخَتَنِكم محمدٍ، ذُكِرتْ لي عنده سِلعةٌ يبيعُها بنَسيئةٍ، فجئتُ إليه لأَسومَه بها، فإذا هي سِلْعةٌ ما رأيتُ مثلَها، فقالوا: إنَّك لَتاجرٌ بصيرٌ، وما كنا نعلمُ أن محمدًا يبيعُ السَّلع بنَسيئةٍ ولا أنت أيضًا.
وأتاني حكيم يَقودُ بعيرَه فقال: اركب بنا، فقُلتُ: قد بدا لي أن أُقيم؛ إني قد وقعتُ بعدك على بضاعةٍ نفيسةٍ، ما عالجتُ قطُّ أَبينَ رِبحًا منها، فقال: وعند مَن هي؟ فما أعلمها اليوم بمكة. قال: فقلتُ: بلى، وأنتَ دَلَلْتَني عليها، قال: وسمَّيتُها لك؟ قلتُ: نعم، فالله لي عليك أن تَكتُمَها ولا تذكُرَها لأحدٍ، قال: نعم، فقلتُ: إنَّها عند خَتَنِك محمد بن عبد الله، قال: وما هي؟ قلتُ: شهادة أن لا إله إلا الله، قال: فوَجمَ ساعةً فقلتُ: أتَتَّهمني يا أبا خالدٍ في عقلي؟ قال: لا، ولا أُحبُّ لك ما فعلتَ (2).
والقول الثاني حكاه الهيثم، عن كعب الأحبار قال: خرج أبو بكرٍ في الجاهلية تاجرًا إلى الشام فنزل ببَحِيرى الرَّاهب، فقال له: من أين أنت؟ قال من مكة، فنام أبو بكرٍ فرأى رؤيا في تلك الليلة، فقصَّها على بَحيرى فقال: إنْ صدقتْ رُؤياك فأنت وزيرٌ لنبيًّ يُبعث من مكة في حياته، وتَخلُفُه في الأمة بعد وفاته.
__________
(1) في (ك): يوافقك.
(2) أنساب الأشراف 5/ 125.
(5/13)
________________________________________
قال: فرجعتُ إلى مكة ورسولُ الله جالسٌ في الحِجْر، فقلتُ: يا محمد، ما الذي تقول؟ فقال: أقولُ: لا إله إلا الله وأني عبدهُ ورسولُه، قال: فما الدّليلُ على صِحَّةِ قولك؟ فقال: رؤياك التي رأيتَ بالشام وقَصصتَها على بَحيرى، وقال لك كذا وكذا. فقام أبو بكرٍ وقبَّل رأسَه وقال: صدقتَ، وأسلم (1).
والثالث ذكره ابن داب قال: كان أبو بكرٍ جالسًا بفِناء الكعبة، وهناك زيد بنُ عمرو ابن نُفيل، فمرَّ به أُميَّةُ بن أبي الصَّلْت فقال له زيد: كيف أصبحتَ يا باغيَ الخير؟ فقال: بخيرٍ، قال: وهل وَجدتَ؟ قال: لا، ولم آلُ من طَلَبٍ، أي: لم أُقَصِّر، ثم أنشد أُميَّة: [من الخفيف]
كلُّ دينٍ يومَ القيامة إلا ... ما قضى اللهُ في الحنيفة زورُ
وقال: إن هذا النبيُّ المنتَظَر إمّا منّا، أو منكم، أو من أهل فلسطين.
قال أبو بكر: ولم أكن سمعتُ بنبيًّ يُنتَظر ولا يُبعث، فخرجتُ حتى أتيتُ وَرقةَ بن نَوفلٍ، وكان كثيرَ النَّظر في السماء، كثير هَمْهَمةِ الصَّدر، قال: فقَصصتُ عليه القصّة فقال: نعم يا ابن أخي، إن هذا النبيّ المنتَظر من أوسط العرب نَسبًا، قال فقلتُ: يا عمّ، فما يقول؟ قال: يقول: لا ظُلمَ ولا تَظالُم، قال: وبُعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فآمنتُ به (2).
والرابع ذكره محمد بن كعبٍ القُرظي قال: خرج أبو بكرٍ في تجارة إلى الشام، فنادتْه شجرةٌ في الطريق: ارجع يا ابنَ أبي قُحافة، فآمن بمحمدٍ رسول الله، فرجع فأسلم.
وقال ابن إسحاق: لقي أبو بكرٍ رسول الله فقال: أحقًّا ما تقول قريش؛ من تركك آلهتنا، وتكفيرك آباءنا، وتسفيهك أحلامَنا؟ فقال: "إني رسولُ الله إليكم، بعثني لأُبلّغ رسالتَه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأن تعبدَه"، ثم قرأ عليه القرآن، فلم يُقرّ ولم يُنكر، ثم أسلم بعد ذلك، ودعا إلى الإسلام، فأسلم على يده الزبيرُ، وطلحةُ، وعثمانُ، وسعدُ بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عَوف، والأرقم بن أبي الأرقم،
__________
(1) تاريخ دمشق 35 - 36/ 118.
(2) تاريخ دمشق 35 - 36/ 122 - 123، والبيت في ديوانه 393.
(5/14)
________________________________________
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل - رضي الله عنهم -، وقد أشرنا إلى هذا فيما تقدّم (1).
وروى ابن إسحاقٍ عن أشياخه عن ابن عباس قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: "ما دعوتُ أحدًا إلى الاسلام إلا كانت له عنه كَبْوَةٌ إلا أبا بكرٍ، فإنه ما تَردَّد، وما عتَّم، وما تَلَعْثم عنه حين دعوتُه إليه" (2). وقال الجوهري: العَتْمُ: الإبطاءُ، ويقال: ما عتَّم أنْ فعل ذلك بالتشديد، أي: ما لَبِث (3). وتلعثم بمعناه.
وقد ذكرنا في حديث الهجرة عن عائشة أنها قالت: ما عَقَلْتُ أبويَّ إلا وهما يدينان الدين (4). وكذا قالت أسماءُ بنت أبي بكر.
وقد ذكرنا في السنة الحادية والأربعين من مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلافَ العلماء في السابقين إلى الاسلام، وأنَ أبا بكرٍ أوَّلُ مَن أسلم من الرجال.
ذكر خلافته
قد ذكرنا أنه بويع قبل أن يُدفن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنَّ حديث السقيفة كان في اليوم الذي تُوفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإنّما اختلفوا في اليوم الذي بويع فيه. فقال الواقدي: بُويع يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلةً خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقال الزهري: بويع يوم الثلاثاء. والأصحُّ أنه بويع يوم الاثنين في السَّقيفة، ويوم الثلاثاء البيعة العامة، وقد أشرنا إليه فيما تقدَّم من الكلام (5)
ذكر أول خطبةٍ خطبها
قال ابن سعد: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن هشام بن عروة، قال عبيد الله:
__________
(1) السير والمغازي 139 - 140 وأخرجه عن ابن عساكر 35 - 36/ 123 - 124.
(2) السير والمغازي لابن إسحاق 139 عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، وأخرجه عنه ابن عساكر 35 - 36/ 133.
(3) الصحاح (عتم).
(4) أخرجه أحمد (25626)، والبخاري (476)، وسلف في سنة (41 من النبوة).
(5) انظر طبقات ابن سعد 3/ 185 - 186، وتاريخ الطبري 3/ 217 فما بعدها، والمنتظم 4/ 64.
(5/15)
________________________________________
أظنه (1) عن أبيه قال: لما ولي أبو بكرٍ خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعدُ أيها الناسُ، فإني قد وَليتُ أمرَكم ولستُ بخيركم، ولكن قد نزل القرآن، وسنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السُّنن، وعَلَّمنا فعَلِمنا. اعلموا أن أكيسَ الكَيْسِ التقوى، وأن أحمقَ الحُمقِ الفجورُ، وأن أقواكم عندي الضعيفُ حتى آخذ له بحقِّه، وأن أضعفكم عندي القويُّ حتى آخذَ منه الحقَّ. أيها الناسُ، إنَّما أنا متَّبعٌ ولستُ بمبتدع، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن زُغْتُ فقوِّموني.
وقال ابن سعدٍ بإسناده عن وهب بن جرير، عن أبيه قال: سمعتُ الحسن يقول: لمّا بُويع أبو بكرٍ قام خطيبًا، فلا والله ما خطب خُطبتَه أحدٌ بعد، فحمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني قد وَليتُ هذا الأمر وأنا له كارهٌ، ووالله لوَدِدْتُ أنّ بعضكم كفانيه، ألا وإنّكم إن كلَّفتُموني أن أعملَ فيكم مثلَ عملِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أقُم به. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدًا أكرمه الله بالوحي وعَصمه به، ألا وإنّما أنا بشرٌ، واعلموا أنَّ لي شيطانًا يَعتريني، فإذا رأيتُموني قد غضبتُ فاجتنبوني، لا أُؤَثّر في أشعاركم وأبشاركم (2).
وأخرج أحمد في "المسند" طرفًا منه عن قيس بن أبي حازم، وفيه أنها أول خطبةٍ خُطبت في الإسلامِ، وفيها: ولوَدِدْتُ أن هذا كفانيه غيري، وإن أَخذتُموني بسُنَّةِ نبيّكم ما أُطيقُها، إنه كان معصومًا من الشيطان، ويأتيه الوحيُ من السماء (3). وسنذكر طرفًا من خُطبه في ترجمته.
ذكر ما فرضوا له
قال ابن سعدٍ بإسناده عن عطاء بن السّائب قال: لما استُخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق، وعلى رَقَبته أثوابٌ يَتَّجِرُ بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تُريدُ يا خليفةَ رسول الله؟ قال: السوق، قالا: تصنعُ ماذا وقد وَليتَ أمر المسلمين؟ قال: فمن
__________
(1) في (ك): قال ابن سعد بإسناده عن هشام بن عروة عن عبد الله أظنه، وهذا خطأ، وليس في (أ)، والمثبت من الطبقات 3/ 182، والمنتظم 4/ 68.
(2) الطبقات 3/ 212، والمنتظم 4/ 68 - 69.
(3) مسند أحمد (80).
(5/16)
________________________________________
أين أُطعِمُ عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نَفرِضَ لك شيئًا، فانطلق معهما، ففَرضا له كلَّ يوم سطرَ شاةٍ، وماكسوه في الرأس والبطن.
وقال ابن سعد بإسناده عن حُميد بن هلال قال: لما وَلي أبو بكر الخلافة قال أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افرضوا لخليفة رسول الله ما يُغنيه، قالوا: نعم، بُرْداه إذا أَخلَقهما وضعهما وأخذ مثلَهما، وظَهْره إذا سافر، ونَفقته على أهله كما كان يُنفق قبل أن يُستخلفَ، فقال أبو بكر: رَضيتُ (1).
وقال عُمَير بن إسحاق: خرج أبو بكر وعلى عاتقه عَباءة له، فقال له رجل: أَرني أكفِك، فقال: إليك عني، لا تَغُرّني أنت وابن الخطاب عن عيالي (2).
وقال ابن سعدٍ بإسناده عن عروة، عن عائشة قالت: لما وَلي أبو بكر قال: لقد علم قومي أن حِرفَتي لم تكن لتَعْجزَ عن مؤونة عيالي أو أهلي، وقد شُغِلتُ بأمور المسلمين، وسأحترفُ للمسلمين في مالهم، وسيأكل آلُ أبي بكر من هذا المال (3). ومعنى يحترف، أي: يَكتسب.
وقال ابن سعد بإسناده عن عمرو بن مَيمون، [عن أبيه] قال: لما استُخلف أبو بكر رضوان الله عليه جعلوا له ألفين، فقال: زيدوني فإن لي عِيالًا، وقد شغلتُموني عن التِّجارة، فزادوه خمسَ مئةٍ (4).
قال ابن عمر: وكان منزل أبي بكرٍ بالسُّنْح، عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد ابن أبي زهير، من بني الحارث بن الخزرج، فأقام هناك ستة أشهر بعدما بُويع يغدو على رجليه إلى المدينة، ثم تحوَّل إلى المدينة.
وكان رجلًا تاجرًا، فكان يغدو كلَّ يوم إلى السوقِ فيبيع ويبتاع.
وكانت له قطعة من غَنَم تروح عليه، وربما خرج بنفسه فيها، وربما كُفيها فرُعيت له.
__________
(1) الخبران في الطبقات 3/ 184، والمنتظم 3/ 71.
(2) طبقات ابن سعد 3/ 184، والمنتظم 4/ 72.
(3) الطبقات 3/ 185.
(4) طبقات ابن سعد 3/ 185، وأنساب الأشراف 5/ 140، وتاريخ دمشق 35 - 36/ 433، والمنتظم 4/ 72 وما بين معكوفين منها.
(5/17)
________________________________________
وكان يَحلُب للحيِّ أغنامَهم، فلما بويع بالخلافة قالت جاريةٌ من الحيّ: الآن لا يَحلبُ لنا مَنائحنا، فسمعها أبو بكرٍ - رضي الله عنه - فقال: بلى لَعَمري، لَأَحلُبنّها لكم، وإني لأرجو أن لا يُغيِّرني ما دخلتُ فيه عن خُلُقٍ كنتُ عليه، فكان يَحلُب لهم، وربما قال للجارية: أتُحبِّين أن أرغي لك أو أُصَرِّح؟ فربما قالت: أَرْغ، وربما قالت صَرِّح - والصَّريح: اللّبن إِذا ذهبت رَغْوَتُه (1).
وذكر ابن قتيبة أن أبا بكرٍ كان يقول لهم: أَنْفُجُ أم أُلْبِد؟ فإن قالت: أَنْفِج؛ باعد الإناءَ من الضَّرع (2)، والنَّفْجُ بجيم: الارتفاع - فأقام كذلك ستة أشهر بالسُّنح.
ثم نزل المدينة، فأقام بها، ثم نظر في أمره فقال: لا والله ما يُصلِحُ أمرَ الناس التجارة، وما يَصلُح لهم إلا التَّفرُّغُ والنَّظرُ في شأنهم، ولا بدّ لعيالي مما يُصلحهم، فترك التّجارة، واستَنفق من مال المسلمين ما يُصلحه ويُصلحهم يومًا بيوم.
قال: وكان الذي فرضوا له في كلّ سنة ستة آلاف درهم، فلما حضرته الوفاةُ قال: أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبتُ من أموالهم، فدفعها إلى عمر - رضي الله عنهما - (3)، وسنذكره عند وفاته.
ذكر أول ما بدأ به بعد البيعة
أوَّلُ ما بدأ به بعد البيعة تجهيزُ أسامة بن زيد، وكان نازلًا بالجُرْف، وفيه ثلاثةُ آلاف من أعيان المهاجرين والأنصار، فاجتمع الأنصار إلى عمر بن الخطاب وقالوا: إن النفاق قد نَجَم، وارتدَّت العرب، ومالت اليهود والنصارى إلى منع الجزية، وجيش أسامة فيه أشرافُ الناس، فلو قلتَ لخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَتربَّصَ به، فإنا نخاف أن يَتخطَّفَه الناس، فإن أبى إلا المُضِيّ؛ فسَلْه أن يُولِّي علينا رجلًا منا، أسنَّ من أسامة.
فدخل عمر على أبي بكر، فكلَّمه في تأخير جيشِ أسامة، وقال له: هؤلاء جُلُّ
__________
(1) الصحاح (صرح).
(2) غريب الحديث 1/ 255.
(3) طبقات ابن سعد 3/ 185 - 186، وتاريخ دمشق 35 - 36/ 434 - 435، وانظر أنساب الأشراف 5/ 141، والمنتظم 4/ 72 - 73.
(5/18)
________________________________________
العرب - على ما ترى - قد انتَقَضَتْ بك، وليس لك أن تُفرِّق جماعة المسلمين.
فقال أبو بكر: والله لو تَخَطَّفني الطَّيرُ لأَنفذتُ جيشَ أسامة على ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يَبقَ غيري لأَنفذتُه، قال: فإن الأنصار يسألونك أن تُوَلَّي عليهم رجلًا منهم أقدمَ سنًا من أسامة، فوثب أبو بكر، وأخذ بلحية عمر، وقال: ابن الخطاب، أيَستعملُه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأَنزعُه أنا؟ أتأمُرُني أن أَرُدَّ قضاءً قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فخرج عمر إلى الناس، وقال: ثَكِلتكُم أمُّكم، ماذا لَقيتُ بسببكم من خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وخرج أبو بكر بنفسه حتى أتى جيش أسامة، فأَشخَصَهم، وشَيَّعهم ماشيًا، وأسامةُ راكبٌ، وعبد الرحمن بن عوف يقودُ دابَّةَ أبي بكر، فقال له أسامة: والله لترَكَبَنَّ أو لَأنزِلَنَّ، فقال أبو بكر: والله لا تَنزل ولا أركب، وما عليَّ أن أُغَبَّرَ قدميَّ في سبيل الله، فإن للغازي بكلَّ خُطوة يَخطوها سبع مئة حسنة، ويُمحى عنه سبع مئة سيئة.
ثم أوصى الناس فقال: أُوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغدِروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا طفلًا ولا شيخًا ولا امرأة، ولا تحرِقوا نَخْلًا ولا تَعقِروه، ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيرًا إلا لمَأكَلَة، وسوف تَمرُّون بأقوامٍ قد فرَّغوا نفوسَهم في الصوامع، فدعوهم وما فَرَّغوا نفوسَهم له، وسوف تَلقَون أقوامًا قد فَحصوا أوساطَ رؤوسهم، وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفِقوهم بالسيوف خَفْقًا، اندفعوا بسم الله.
وسأل أبو بكر أسامة أن يَأذن لعمر بن الخطاب في المقام عنده، وقال: لا غِنى لي عنه، فأذن له، ثم قال أبو بكر لأسامة: ابدأ بما أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به من الغارة على بلاد قُضاعة، ثم ائْتِ مُؤتة، ولا تُقَصِّرَنَّ في شيءٍ أمرك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأغر غارةً سِجالًا يتلاقى عليك جيوش الروم.
فسار أسامة حتى انتهى إلى المكان الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بلاد قُضاعة والشام وفلسطين، حتى بلغ الدَّارُوم، وعاد سالمًا غانمًا لهلال جُمادى الأولى.
وكانت غيبتُه أربعين يومًا، وقال عكرمة: غاب خمسين يومًا لأنه سافر في سادس عشر ربيع الأول، وعاد في خامس جمادى الأولى.
(5/19)
________________________________________
ولما توجَّه أسامة جاء أبا بكر رضوان الله عليه خبرُ الأسودِ العَنْسي ومقتله، فكان أوّلَ فتحٍ أتاه.
ولما جهَّز أبو بكر جيش أسامة وفدت عليه وفود العرب مُرتدّين، مُقرِّين بالصلاة مانعين الزكاة، فلم يَقبل ذلك منهم، ورَدَّهم، واستعدَّ لحربهم وجهادهم، وأقام على ذلك حتى قَدم جيشُ أسامة من الشام، فخرج إلى لقائه، وسُرَّ بسلامتهم، واستعان بهم على أهل الرِّدة.
حديث الرِّدَّة
لما تُوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقام أبو بكر - رضي الله عنه -؛ ارتدَّت العرب بعد خلافته بعشرة أيام، إلا أهل المسجِدَيْن وما بينهما، وأناسًا من الأعراب قليل، وفي رواية: والبحرين وثَقيف، فإنهم استشاروا عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان فيهم مُطاعًا، فقال: لا تكونوا آخر العرب إسلامًا وأوَّلَهم ارتدادًا، فنفعهم الله برأيه - ونَجم النِّفاق، والمسلمون كالغنم في الليلة المظلمة؛ لفقد نبيّهم، وقلَّتهم، وكثرةِ عدوِّهم، وخُلُوِّ المدينة من أبطال المسلمين، ووجوه الناس في جيش أسامة.
وكان الأسود العَنْسي قد غَلَب على صَنْعاء ونَجْران والطائف، واستعجل أمره مسيلمة الكذّاب وطُلَيحة بن خويلد، وارتدَّت غَطَفان وطَيّئ، واجتمع إليهم مَن كان على مثل رأيهم.
وقال ابن إسحاق: أول ردَّةٍ كانت في العرب مُسَيلِمة باليمامة في بني حنيفة، والأسود بن كعب العَنْسي باليمن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج طُليحة الأَسَدي في بني أَسَد، وادَّعى النُّبوَّة، وسجع لهم (1)، وكان فيما يقول: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم، ولا فتح أدباركم شيئًا، فاذكروا الله أَعِفَّةً قيامًا (2).
وقال أبو هريرة: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستُخلف من بعده أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تُقاتل الناس وقد قال رسول الله
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 175.
(2) ذكر كلامه ابن حبان في الثقات 2/ 166، والمقدسي في البدء والتاريخ 5/ 158، وابن عساكر في تاريخ دمشق 8/ 599، وابن الجوزي في المنتظم 4/ 24، وياقوت في معجم البلدان 1/ 408.
(5/20)
________________________________________
- صلى الله عليه وسلم -: "أُمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عَصموا مني دماءهم وأموالَهم إلا بحقِّهم، وحسابُهم على الله"؟
فقال أبو بكر: والله لأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقُّ المال، والله لو منعوني عَناقًا أو عِقالًا كانوا يُؤدُّونها - أو يُؤدُّونه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على ذلك.
قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيتُ أن الله قد شرح صدرَ أبي بكر للقتال، فعرفتُ أنه الحق، أخرجاه في الصحيحين (1).
وقد وافق أبا بكر بعد ذلك جميعُ الصحابة، وصَوَّبوا رأيه، فقال أبو رجاء العُطارِدي: دخلتُ المدينة، فرأيتُ الناس مجتمعين في المسجد، ورأيتُ رجلًا يُقبَّل رأس رجل وهو يقول: نحن فداؤك، لولا أنت هَلَكنا، فقلت: فمَن المقبِّل والمقبَّل؟ قالوا: ذلك عمر بن الخطاب يُقبِّل رأس أبي بكر في قتال أهل الردَّة إذ منعوا الزكاة حتى أَتَوا بها صاغرين (2).
وأقام أبو بكر رضوان الله عليه بالمدينة يَحترس مدَّة غيبة جيش أسامة، وأقام جماعة على أنقاب المدينة، منهم علي وطلحة والزبير وابن مسعود.
وقدمت عبس وذبيان، فنزل بعضهم بذي القَصَّة وبعضهم بالأَبْرَق، ودخل رؤساؤهم على أبي بكر، فكلَّموه وقالوا: نُصلِّي ولا نُزكّي، فقال: لا والله، فخرجوا من عنده، وعَزموا على الفَتْك به وبأهل المدينة، وكَمنوا لهم كَمينًا بذي حُسى.
وجاؤوا إلى المدينة، فخرج إليهم أبو بكر والمسلمون على النَّواضِح، وعلى مَيمنة أبي بكر النّعمان بن مُقَرِّن، وعلى مَيسرته عبد الله بن مُقَرّن، وعلى السَّاقة سُويد بن مُقَرِّن.
واختلفوا في أسامة هل كان قدم عند هذه الحادثة؟ قال قوم: لم يكن قَدم، وقال آخرون: قدم، ولكن أمره أبو بكر أن يستريح في جنده.
ثم التَقَوا، فانهزم القوم، وتبعهم المسلمون إلى ذي حُسى، فخرج عليهم الكمين
__________
(1) البخاري (1399)، ومسلم (20)، وهو في مسند أحمد (67).
(2) صفة الصفوة 1/ 250، والمنتظم 4/ 87.
(5/21)
________________________________________
وقد نفخوا زِقاقًا (1)، وشَدُّوا الحبال فيها، ودَهْدَهوها في وجوه النَّواضح التي عليها المسلمون، فنَفرت بهم إلى المدينة لا تلوي على شيء، فظنَّ الكفار أنهم قد ظهروا عليهم، فأرسلوا إلى من بذي القَصَّة من أصحابهم، فاجتمعوا وقصدوا المدينة، فخرج إليهم أبو بكر ماشيًا، ومعه المسلمون مُشاةً، وجعل على ميمنته عليًّا رضوان الله عليه، وبني مقرن على ميسرته وساقته، وحملوا على القوم حملةَ رجل واحد، فانهزموا، فما ذَرَّ قَرْنُ الشمس حتى وَلَّوْا، وغنم المسلمون ظهرَهم وأموالَهم.
وبلغ أبو بكر إلى ذي القَصَّة، وعزم على أن يُعسكر هناك، فناشده المسلمون الله لا يفعل خوفًا على المدينة، فرجع وقد استراح جيشُ أسامة، فأقام ثلاثة أيام، ثم خرج بالمسلمين إلى ذي القَصّة فأقام ومعه جيش أسامة، فعقد بها الألوية، وكانت أحدَ عشر لواءً.
فأوَّلُ لواءٍ عَقَده لخالد بن الوليد، وأمره أن يَسير إلى طُليحة بن خويلد، فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نُوَيْرَة بالبُطاح.
قال وَحشيّ بن حَرْب: إن أبا بكر عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة، وقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نِعم عبدُ الله وأخو العشيرة خالد بنُ الوليد، وسيفٌ من سيوف الله سَلَّه الله على الكفار والمنافقين" (2).
ثم عقد لواءً لعكرمة بن أبي جهل، وأمره أن يسير إلى مُسيلمة، وعقد لخالد بن سعيد بن العاص وأمره أن يسير إلى مشارف الشام إلى من اجتمع به، وعقد لعمرو بن العاص إلى قُضاعة ومن انضمَّ إليها، وعقد للمهاجر بن أبي أميَّة، وأمره بالمسير إلى اليمن، ومعونة الأبناء على جند الأسود العنسي، ثم يَتوجَّه بحضر موت (3) إلى كِندة، وعقد لحُذَيفة بن مِحْصَن الغَلْفَانيّ (4)، وأمره بأهل دَبا، وعقد لعَرْفَجة بن هَرْثمة وأمره
__________
(1) في (أ، خ): دقاقًا.
(2) أخرجه أحمد (43).
(3) في (أ): إلى حضرموت، والذي في تاريخ الطبري 3/ 249، والمنتظم 4/ 76: وعقد للمهاجر بن أبي أمية، وأمره بجنود العنسي، ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ومن أعانه من أهل اليمن عليهم، ثم يمضي إلى كندة بحضرموت.
(4) في (أ): الغطفاني، وهو خطأ، فقد ذكره الحافظ في الإصابة 2/ 222 وقال: ضبطه الطبري بالغين المعجمة واللام والفاء، وضبطه أبو عمر بالقاف واللام والعين.
(5/22)
________________________________________
بمُهْرة، وعقد لشُرحْبيل بن حسنة وأمره بالمسير إلى عكرمة بن أبي جهل مَدَدًا له، وعقد لطُرَيْفة بن حاجز وأمره ببني سليم، وعقد لسُويد بن مُقرّن وأمره بتِهامة، وعقد للعلاء بن الحَضْرميّ وأمره بالمسير إلى البحرين.
فبينا أبو بكر يَعقد الألويةَ قَدم عليه عَديُّ بن حاتم والزِّبرِقان بنُ بدر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث عديَّ بن حاتم على صدقات طيّئ، والزِّبرقان بن بدر على صدقات بني سعد، وطُليحة بن خُوَيلد على صدقات بني أسد، وعُيَينة بن حِصن على صدقات بني فَزارة، ومالك بن نُويرة على صدقات بني يربوع، والفُجاءة على صدقات بني سُلَيم، فلما بلغهم وفاةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندهم أموال كثيرة رَدُّوها على أهلها، إلا عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فإنهما تمسَّكا بها ودفعا عنها الناس، حتى أدَّياها إلى أبي بكر، فتَقَوَّى بها على قتال أهل الرّدة، فلم يزل لعديّ والزبرقان بذلك شرفٌ على قومهما ومَن سواهما من أهل نَجد، قال الحارث بن مالك الطّائي: [من الطويل]
وَفَينا وفاءً لم ير الناسُ مثلَه ... وسَرْبَلَنا مَجدًا عديُّ بن حاتمِ (1)
وكان من حديث الزّبرقان أن بني سعد اجتمعوا إليه، فسألوه أن يَردَّ عليهم أموالَهم، وأن يَصنعَ بهم ما صنع مالك بقومه، فأبى، وقال: لا تَعجلوا، فإنه والله لَيَقومَنَّ قائمٌ بهذا الأمر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان ذلك القائم قاصرٌ ولم تُبدِّلوا دينكم، ولم تُفرّقوا، وإن كانت التي تَظنّون فهذه أموالكم في أيديكم، لا يغلبكم عليها أحد، فسكتوا، فلما جاءهم اجتماعُ الناس على أبي بكر خرج بها وقد تفرَّق القومُ عنه ليلًا، ومعه الرجال يَطردونها فما علموا به، حتى أتاهم أنه قد أدّاها إلى أبي بكر رضوان الله عليه، فكانت هذه الإبل التي قدم بها الزّبرقان وعديّ أوَّلَ إبلٍ وافت أبا بكر من إبل الصدقة، بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال الزّبرقان أبياتًا منها: [من الطويل]
لقد علمتْ أفناءُ سعدٍ بأنني ... وَفيتُ إذا ما فارس الغَدْر أحجما
سَرَيتُ بها ليلًا من اهلي فأصبحتْ ... تَدوس بأيديها الحصادَ المحرَّما
ولن يَخبروني حين أُسألُ نائلًا ... بخيلًا ولا في النّائبات مُلَوَّما
__________
(1) البيت في كتاب الردة للواقدي 67، ومروج الذهب 4/ 183.
(5/23)
________________________________________
وفيتُ يمينًا للرَّسول وعهدِه ... ولم أَرتَقبْ فيها ابنَ عمًّ ولا ابْنَما (1)
وقال ابن إسحاق: وكان من حديث عديّ أنه لما أسلم أَمّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقات قومه، وذكر بمعنى ما ذكرنا، قال واجتمع إليه قومُه، وقد اجتمعت عنده إبلُ عطية، فقالوا له: هذا الرجل قد مات، وقد ارتدّ جيرانُنا من بني أسد وغيرهم، وقد انتَقض الناسُ بعده، وقَبض كلُّ قومٍ صدقاتهم، فنحن أحقُّ بأموالنا من غيرنا، فقال: ألم تُعطوا من نفوسكم العهودَ والمواثيقَ على الوفاء طائعين غير مكرهين؟ قالوا: بلى، ولكن قد حدث ما ترى، وما قد صنع الناس، فقال: كلا والذي نَفْسُ عديًّ بيده، لا أحبس بها أحدًا، ولو كنتُ جعلتُها لرجل من الزَّنج لوفيتُ له بها، ولئن أَبيتُم لأُقاتلَنّكم، يعني على ما في يده وما في أيديكم، فأكون أوّلَ قتيل يُقتل على وفاء ذِمَّتي، فلا تطمعوا أن يُسبَّ حاتم في قبره بجريرة عديًّ ابنِه، وذكر كلامًا طويلًا، فلما رأوا الجدَّ منه كَفُّوا عنه، ثم قَدم بها على أبي بكر رضوان الله عليه، وقال عدي: [من الطويل]
وَفيتُ بعهدي أن أُسبَّ به غدًا ... وطهَّرَ أثوابي الوفاءُ على خُبْرِ
ولما رَأَوا قومي دمي دون ذِمَّتي ... تَفرَّقَ بالقوم السَّبيلُ إلى الغَدْرِ
فأدَّيتُها بعد النبيِّ بعهده ... إلى مَن تولّى بعده عُقدةَ الأمرِ
فوافت أبا بكر معًا بفِصالها ... فسَرَّت أبا حفصٍ وسَرَّت أبا بكرِ
وذَبَّيتُ عنها أن تُضام حَميَّتي ... وقلت كصدر السيف يهتزُّ في صدري
فشرَّفْتُ في الإسلام بيت أبي الذي ... بناه أبي في الجاهلية للفَخْرِ
قال الواقدي: ثم أمر أبو بكر - رضي الله عنه - عدي بن حاتم أن يتقدم إلى قومه طيّئ، وقال: أدرِكْهم لا يُؤكلوا، خوفًا عليهم من جموع طُليحة، وخرج خالد في إثر عديّ، وعاد أبو بكر إلى المدينة.
وأما عديّ فإنه قَدم على قومه وقد ارتدُّوا، فقال: يا قوم، ارجعوا إلى الإسلام فأَبَوا، فقال: قد أتاكم من يَسبي حريمَكم، ويَستبيحُ دماءكم وأموالكم، فقالوا: قد
__________
(1) انظر كتاب الردة 68 - 69، وتاريخ الطبري 3/ 305
(5/24)
________________________________________
لحق منا قومٌ بطُليحة وهو ببُزاخَة، فَنَهْنِهْ عنا الجيش لنُرسلَ إليهم فيأتونا، فإنا إن خالَفْنا طُليحة وهم في يده قتلهم، فعاد عديّ إلى خالد وهو بالسُّنْح فقال له: أمسك عنا ثلاثًا أجمع لك خمس مئة مقاتل تَضربُ بهم عدوَّك، خيرٌ من أن تُعجِلَهم إلى النار، فأقام خالد، وعاد عديٌّ إلى قومه، وقد عاد من كان ببُزاخة من طيّئ باعتبار الاستعداد لخالد، وتوجه خالد إلى الأنسُر يريد جَدِيلة، فقال له عدي: إن جَدِيلة أحدُ جناحَيْ طيّئ، فأجِّلني أيامًا لعل الله أن يأتي بجَدِيلة كما أتى بطيّئ، فأقام خالد، وأتى عديّ جَدِيلة، فلم يزل يُخوِّفُهم حتى أجابوا، فقدم عديّ على خالد منهم بألف فارس مسلمين، فكان عدي بن حاتم خيرَ مولودٍ وُلد في طيّئ وأعظمَهم بَرَكة.
وقال طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: كان أبو بكر يأمر أُمراءَه حين كان يَبعثهم في الرّدة: إذا غشيتُم دارًا فإن سمعتم بها أذانًا للصلاة فكُفُّوا حتى تسألوهم [ما الذي نقموا]، وإن لم تسمعوا أذانا فشُنّوا الغارة، وحَرّقوا، وانهكوا في القتل والجراح، لا يَرُدَّنَّكم وَهَنٌ لموت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - (1).
وقال عروة بن الزبير: لما وَجَّه أبو بكر- رضي الله عنه - خالد بنَ الوليد إلى أهل الردّة قال له: إني لاقيك ببقية الناس من ناحية خيبر، وما يريد أبو بكر ذلك، قد كان أَوعَب خالدًا بمن عنده، وإنما أراد بذلك المكيدة، وأن يبلغ الناس، وخرج معه إلى ذي القَصّة، فنزل بها وهي على بريد من المدينة، فعبّأ جيوشَه، وعهد ليلة عهده، وأمَّر على الأنصار ثابت بن قيس بن الشمّاس، وأمرُه راجع إلى خالد، وخالد على المهاجرين وقبائل العرب، وأمَره أن يَصمُد إلى طُليحة بن خُويلد الأَسَدي، فإذا فرغ منه صَمَد إلى بني تميم حتى يَفرغ، وأسرَّ ذلك إليه.
قال الواقدي: ثم إن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب كتابًا إلى أهل الردة مع أمرائه، نُسختُه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من أبي بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سلامٌ على مَن اتّبع الهُدى، ولم يَرجع إلى الضلالة والعمى، وذكر مَبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، ثم حَذَّرهم وأنذرهم، وقال: وقد بعثت إليكم جيوشًا من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم
__________
(1) أخرجه الطبري 3/ 279 وما بين معكوفين منه.
(5/25)
________________________________________
بإحسان، وأمرتُهم أن لا يُقاتلوا أحدًا حتى يَدعونَه إلى داعية الله، فمن استجاب لهم وآمن وعمل صالحًا قَبلوا منه ذلك، ومن أبى قاتلوه وقتلوه أشرّ قِتْلة، وسَبَوا النّساء والذّراري، وعلى الله توكَّلتُ، وإليه أُنيب، والسلام، ثم أمر القوم بالمسير إلى الأماكن التي عيّنها لهم، فساروا.
وقعة بُزاخَة وهروب طُليحة إلى الشام
كان خروج طُليحة بعد مُسيلِمَة والأسود، ادَّعى النبوة، ونزل سَمِيراء، وقَوي أمرُه، فكتب سنان بن أبي سنان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يُخبره بأمره، وقال: الذي يأتيني يُقال له: ذو النون، وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الموادعة، فردّ رسولَه خائبًا، ومن سَجعه: والحمام واليَمام، والصُّرَد الصَّوَّام، ليُفتَحنّ علينا العراقُ والشام.
والتقى خالد وطُليحة في يوم بُزاخَة على ماء من مياه بني أسد يقال له: قَطَن، على بريد من المدينة، وقيل هي من أرض نجد، ولما قَرُب خالد من بُزاخَة أرسل ثابتَ بن أَقرم وعُكَّاشة بن محصن (1) طليعةَ الجيش، فساروا بين يديه، وكان طُليحةُ وأخوه سلمة قد خرجا من العسكر يَتحسَّسَان الأخبار، فلقياهما، فقتل طُليحة عُكَّاشة، وسلمةُ ثابتًا، وعاد طُليحة وأخوه إلى عسكرهما، وأقبل خالد بالناس فوجدهما مَقتولين، فشقَّ عليه وعلى الناس، وجَزِعوا جَزعًا شديدًا، ولما نظر المسلمون إليهما مقتولَيْن ثَقُلوا على المطيِّ، حتى ما تكاد المطيُّ ترفع أخفافها، ثم أمر بهما خالد فدُفنا بدمائهما، وأخبر طُليحةُ عيينةَ بن حصن بقتل ثابت وعُكّاشة ففرح، وقال: هذا أولُ الفتح، ثم صبَّحهم خالد على بُزاخة، والتقوا فاقتتلوا قتالًا شديدًا.
وكان عيينة مع طليحة في سبع مئة فارس من بني فَزارة، وطليحة في أربعة آلاف، ومعه قُرَّة بن هُبَيرة في جَمعٍ عظيم، فنزل طُليحة فتزمَّل في كساء له بفِناء بيتٍ من شَعَر، بيتًا لهم يزعم أنه يُوحى إليه، فقاتل عُيينة حتى هَدَّته الحربُ وأضرستْه، فجاء إلى طُليحة وقال: أتاك جبريل بعد؟ قال: لا، أنا في انتظاره، فعل ذلك ثلاثًا، فلما كان في الرابعة قال: جاء جبريل بعد؟ قال: نعم، قال: فما الذي قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رَحًا
__________
(1) في (أ) و (خ): عكاشة بن قيس؟ !
(5/26)
________________________________________
كرَحاه، وحديثًا لا تَنْساه، فصاح عُيينة: يا بني فَزارة، انصرفوا عنه فإنه والله كذّاب.
وقال له الأقرع: أظنُّ أنه قد علم الله أنه سيكون لك حديثٌ لا تنساه، هذا والله يا بني فَزارة كذّاب، فانطلقوا لشأنكم. فَفَرُّوا عنه، وبقي طُليحة في أصحابه، وكان قد أعدَّ عنده فرسًا، وهيّأ لامرأته النّوار بَعيرًا، فركب الفرس، وحمل امرأته على البعير، وسلك الحُوشِيَّة حتى لحق بالشام،
ولما سار إلى الشام هاربًا عطش هو وأصحابُه في الطريق، فقالوا: يا أبا عامر ما بقي من كَهانتك؟ فقال لرجل منهم يقال له مخراق: اركب فرسًا رِئبالًا، ثم سر عليه إقبالًا، فإنك ترى فارات طوالًا، فإنك تجد عندها ماءً زلالًا، وكان يعرف تلك الأماكن، فمضى مخراق إلى الفارات، فوجد عندها عينًا، فشربوا منها وسقوا.
ونزل طليحة على كلب على النقع، وهو اسم مكان بالشام، ثم أسلم، وحضر فتح نهاوند، وقُتل شهيدًا، وأَسرَ خالد عيينةَ بنَ حصن وقُرَّة بنَ هُبيرة، وبعث بهما إلى أبي بكر - رضي الله عنه - موثقَيْن، فلما دخلا عليه قال له قُرَّة: يا خليفة رسول الله، إني كنت مسلمًا، وقد مرَّ بي عمرو بن العاص فأعطيتُه الصدقة، فأرسل أبو بكر إلى عمرو، فشهد بذلك، فتجاوز عنه، وحقن دمَه، ولما دخلوا بعُيَيْنة المدينة، مغلولة يده إلى عنقه، جعل صبيان المدينة يضربونه بالجريد، ويقولون: يا عدوَّ الله، أكفرت بالله؟ وهو يقول: والله ما كنت مسلمًا قط، فتجاوز أبو بكر عنه، وحقن دمه.
وكرَّ خالد على بني عامر، وكانوا قد اعتزلوا ناحيةً ينظرون لمن الدَّبَرة، فهزمهم خالد، وأخذ أموالهم، وقتلهم، وقتل بني فَزارة.
وقال الهيثم: لما رأى بنو عامر ما جرى على طُليحة، جاؤوا إلى خالد وأسلموا.
قصة سَلمى بنت مالك بن حذيفة
وأمّها أمُّ قِرْفَة بنت حذيفة (1)، وكانت سَلمى سُبيت في السنة السادسة، فوقعت لعائشة، فأعتقتها.
قال هشام: فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة وهي عندها فقال: "إن إحداكنّ
__________
(1) كذا، وهو خطأ، فأم قرفة: هي بنت ربيعة بن فلان بن بدر زوجة مالك بن حذيفة. انظر تاريخ الطبري 3/ 263.
(5/27)
________________________________________
لتَسْتَنْبِحُ كلابَ الحَوْأب"، ففعلت ذلك سلمى حين ارتدَّت، وقاتلت خالدًا (1).
وقيل: إن سلمى وقعت في سهم سَلَمةَ بن الأكْوع لما قتل زيدُ بنُ حارثة أمَّها [أمّ] قِرْفة بوادي القُرى.
وعامّةُ أرباب السير على أن الذي نبحَتْها كلابُ الحَوْأب عائشة، والحَوْأب: بناءٌ في طريق البصرة.
قال ابن الكلبي: ولما هزم خالد طُليحةَ وعُيينةَ اجتمع فُلّال غطفان إلى سلمى، فأرفَدَتْهم، وكانت مُقيمةً على ظَفَر، وقَوَّتْهم بالسلاح والكراع والرجال، فصارت في جمع عظيم من أسد وغطفان وهوازن وسليم وبعض طيّئ واستفحلَ أمرُها، فسار إليهم خالد بجيوشه، والتَقَوا وهي راكبةٌ بينهم جَملَ أمِّها أمِّ قِرْفَة، وكان جملًا عظيمًا، وهي في مثل عِزِّ أمِّها، فقال خالد: مَن يَعقِرُ جملَها وله مئةُ بعير؟ فلم يُقدم عليه أحد، فحمل خالد والمسلمون فعَقروا جملَها، وقتلوها بعد أن قُتل حولها مئةُ فارس، ثم قَدم فَلُّهم على أبي بكر رضوان الله عليه.
ذكر قدومهم عليه
ولجأ وفدُ بُزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصُّلح، فخيَّرهم بين الحرب المُجْلِيَة، والسِّلْم المُخْزِية، فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ فقال: ننزعُ منكم الحلقة والسلاح والكُراع، ونَغنم ما أَصبْنَا منكم، وتَردُّون علينا ما أصبتُم منا، وتَدُون لنا قتلانا، ويكون قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، وتتبعون أذناب الإبل.
فقام عمر بن الخطاب وقال: قد رأيتُ رأيًا، وسنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسِّلم المخزية، وأنا نَغنم ما أصبنا منهم ويَردُّون علينا ما أصابوا منا فنِعم ما قُلتَ، وأما ما ذكرتَ من أنهم يَدُون قتلانا، فقتلانا قاتلوا على أمر الله، ولتكون كلمةُ الله هي العُليا، فقتلوا، فأجورهم على الله، فليس لهم دِيات، فأعجب الناسَ ما قال عمر، وتبايعوا عليه (2).
__________
(1) انظر تاريخ الطبري 3/ 264، وأخرج أحمد (24254) عن قيس أن عائشة أقبلت حتى بلغت مياه بني عامر، فنبحتها الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، ... قالت إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها ذات يوم: "كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟ "
(2) أخرجه مطولاً الحميدي في الجمع بين الصحيحين (17) من حديث طارق بن شهاب، وأخرج طرفًا منه =
(5/28)
________________________________________
قال قتادة: فكنا نتحدَّث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابِه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1) الآية [المائدة: 54].
قصة البطاح ومقتل مالك بن نُوَيْرة
لما فرغ خالد من أسد وغطفان ومَن وافقهم ورد البُطاح، فوجد مالك بن نُويرة قد فرَّقهم في أموالهم، ونهاهم عن الاجتماع، وقال: يا بني يربوع، قد دعانا أمراؤنا إلى دين محمد فخالفْناهم، فلم نُفلِح ولم نُنْجِح، وإني نظرتُ في أمر هؤلاء القوم، فوجدتُه يتأتَّى لهم بغير سياسة، فإياكم ومناوأةَ قوم صُنع لهم أمرُهم، فتفرَّقوا إلى دياركم، وادخلوا في هذا الدّين، فتفرَّق الناسُ على ذلك، وعاد مالك، فنزل موضعه.
وقدم خالد البُطاح، فبثَّ السرايا، وكان خالد لا يُغير حتى يَقرب الصُّبحُ، فإن سمع أذانًا كف، وإلا أغار، فأتوه بمالك بن نويرة في نفر من قومه بني يَربوع، فسأل عنهم خالد هل أَذَّنوا؟ فقال أبو قتادة الأنصاري وكان معهم: نعم قد أَذَّنوا وسمعتُهم، وسكت البعض، فحبسهم خالد، وكانت ليلةً قَرَّة، لا يقوم لبردها شيء، فلما كان في بعض الليل نادى منادي خالد: أَدْفِئوا أَسراكم، وكان في لغة كنانة إذا قال الرجل: أَدفئوا الرجل فإنه يكون من الدِّفء، وفي لغة هُذَيل معناه القَتلُ (2)، وسمع خالد الواعية، فخرج وقد فرغوا منهم، فقال خالد: إذا أراد الله أمرًا أصابه، فقال له أبو قتادة الأنصاري: هذا رأيُك وعملُك.
وقال عروة بن الزبير: لما فرغ خالد من يوم بُزاخة وانهزم طُليحة أعلن خالد أنه سائر إلى أرض بني تميم، فانخزلت عنه الأنصار وقالوا: ما عهد إلينا أبو بكر في ذلك، فقال خالد: بلى قد عهد إليّ، ولستُ بالذي أَستكرهكم، أنا أسير بمن معي من المهاجرين وقبائل العرب، فسار مَنْقَلَةً أو مَنقلَتين، فندمت الأنصار، وقال بعضهم
__________
= البخاري (7221)، وانظر فتح الباري 13/ 220.
(1) انظر تفسير البغوي 2/ 45.
(2) في تاريخ الطبري 3/ 278: وكانت في لغة كنانة إذا قالوا: دثروا الرجل فأدفئوه، دفئه قتله، وفي لغة غيرهم: أدفِه فاقتله.
(5/29)
________________________________________
لبعض: والله لئن أصاب القومُ فتحًا إنه لخيرٌ حُرِمتُموه، ولئن أصاب نكبةً ليقال: خذلتموه وأسلمتموه، فبعثوا إلى خالد أن انتظِرْ حتى نأتيك، فتوقّف خالد حتى لحقوا به، ثم مضى فنزل البُطاح من أرض تميم، فبثَّ السرايا، ولم يَلْقَ بها جَمْعًا، فأصاب مالك بنَ نويرة وأصحابَه فقتلهم.
وقال الواقدي: لما أراد خالد قتلَ مالك قال له أبو قتادة: ناشدتُك الله لا تَقتلْه، فوالله لقد سمعتُهم يُؤذِّنون، ورأيتُهم يصلُّون، وإن الرجلَ مسلمٌ، ودمُه حرام، فلم يلتفت خالد إليه، وزبره، فغضب أبو قتادة، وقال: والله لا كنتُ في جيشٍ أنت فيه أبدًا، ثم لحق بأبي بكر، فأخبره الخبر، وقال: لم يَقبل قولي وقبل قولَ الأعراب الذين قَصدُهم النَّهبُ والسَّبيُ، ولم يعد إليه (1)،
ويقال: إن أبا بكر أمره أن يرجع إلى جيش خالد، فما رجع، ويقال: إنه رجع حتى قدم مع خالد المدينة، وشهد عليه بما شهد، وقد ادَّعى خالد أن مالكًا راجعه بكلام فيه غلظ، لأن خالدًا لما أراد قتلَه قال: إن صاحبَكم أمر أن لا يُقتل مسلم، وأنه لا يُغار على حيًّ إذا سُمع منه الأذان، فقال له خالد: أي عدو الله، وما تَعدُّه لك صاحبًا؟ فقتله، وقتل أصحابه، والذي قتل مالكًا ضرار بنُ الأزور.
وفي رواية: لما أراد خالد قتل مالك جاءت امرأتُه أمُّ تميم بنت المنهال، وكانت من أجمل النساء، فألقت نفسها عليه وقد كشفت وجهها، فقال: إليك عنّي، فقد قتلتيني، يشير إلى أن خالدًا لما رآها أعجبَتْه، فقتله ليأخُذَها.
ورُوي عن بعض مَن حضر هذه السريّة قال: رُعنا القومَ تحت الليل، فرِيعت المرأةُ، فخرجت عريانة، فوالله لقد عرفنا حين رأيناها أنه سيُقتَل عنها صاحبُها.
ولما قُتل مالك تزوّج خالد امرأتَه، فكتب إليه أبو بكر - رضي الله عنه - بالقُدوم عليه، ولما بلغ عمر بنَ الخطاب خبرُ خالد، وقتلُه مالكًا، وأخذُه لامرأته قال: أي عباد الله، قتل عدوُّ الله امرءًا مسلمًا، ثم وثب على امرأته، والله لنرجُمنّه بالحجارة، فلما قدم خالد
__________
(1) انظر كتاب الردة للواقدي 106.
(5/30)
________________________________________
المدينة دخل المسجدَ وعليه ثيابُه عليها صَدأُ الحديد، مُعتَجِرًا بعمامةٍ قد غرز فيها ثلاثة أسهم فيها أَثَرُ الدّم، فوثب إليه عمر، فأخذ الأسهُم من رأسه فحطمها، وقال: يا عدو الله، عدوتَ على امرئ مسلمٍ فقتلته، ثم نزوتَ على امرأته، والله لنَرجُمنّك بأحجارك، وخالد لا يَرجع عليه بلا ولا نعم، وهو يظنُّ أن رأيَ أبي بكر فيه كرأي عمر، فدخل خالد على أبي بكر وعمر في المسجد، فذكر لأبي بكر عُذرَه ببعض الذي ذكر له، فتجاوز عنه، ورأى أنها الحرب وفيها ما فيها، فرضي عنه، فخرج خالد من عنده وعمر في المسجد، فقال له خالد: هَلمَّ يا ابن حَنْتَمَة (1) إليّ، يريد أن يُشاتِمَه، فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه، فقام فدخل بيته.
وقال الواقدي: لما دخل خالد المسجد قام إليه عمر وقال: يا عدو الله فعلتَ وفعلت، وقال لأبي بكر: عليك أن تَعزلَه، وتَستقيدَ منه لمالك، فإن في سيفه رَهَقًا، أي: غِشيانًا،
وكان خالد يظنُّ أن الذي قال له عمر عن أبي بكر، فأخذ يَحلف ويعتذر، وعمر يُحرّض أبا بكر عليه، ويقول له: أَقِد أولياءَ مالك منه، فقد قتله ونزا على امرأته، ودخل مسجد رسول الله ومعه أَسهمٌ فيها دَم، وحضر مُتَمِّم أخو مالك، وطلب القَوَد من خالد، فقال له أبو بكر: هيه يا عمر، ارفع لسانك عنه، فما هو بأوَّل من أخطأ، فقال: أَقِد أولياءَ مالك منه، فقد وجب عليك ذلك، فقال أبو بكر: لا أشِيم سيفًا سلّه الله على الكفار أبدًا، وودى مالكًا، وأمر خالدًا بطلاق امرأته بعد أن عَنَّفه على تزويجه إياها.
وقال أبو رياش: دخل خالد المدينة ومعه ليلى بنت سنان زوجة مالك، فقام عمر، فدخل على عليّ فقال: إن من حقِّ الله أن يُقاد من هذا لمالك، قتله وكان مُسلمًا، ونزا على امرأته مثل ما ينزو الحمار، ثم قاما فدخلا على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله فتبايعوا على ذلك، ودخلوا على أبي بكر، وقالوا: لا بُدّ من ذلك، فقال أبو بكر: لا أَغمِدُ سيفًا سلّه الله تعالى.
__________
(1) في (أ) و (خ): خيثمة، وفي تاريخ الطبري 3/ 280: يا ابن أم شملة، ولعل المثبت هو الصواب، فإن حنتمة هي أم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
(5/31)
________________________________________
حديث أبي شَجَرة الرُّهاوِيّ (1)
كان فيمن قاتل خالدًا يوم البُطاح أبو شجرة بن عبد العزّى السُّلَمي، أحدُ بني الشَّريد، وقال من أبيات: [من الطويل]
سَلِ النّاسَ عنّا كلَّ يومِ كَريهةٍ ... إذا ما التَقَيْنا دارعين وحُسَّرا
ألسنا نُعاطي المُهْرَ منّا لِجامَه ... ونَطعنُ في الهيجا إذا الرُّمحُ قَصّرا
فروَّيتُ رُمْحي من كتيبةِ خالدٍ ... وإني لأرجو بعدها أن أُعَمَّرا (2)
فلما قام عمر جلس يومًا يَقسِم الصدقات، فجاء رجل راكبٌ على ناقةٍ، فنزل فأناخها، وجاء إليه فقال: يا أمير المؤمنين أعطني، فقال: مَن أنت؟ فقال: أنا أبو شجرة الرُّهاوي، فقال: يا عدوَّ الله، فروَّيتُ رمحي من كتيبة خالدٍ؟ ثم قام عمر وضربه بالدِّرَّة، فانهزم.
قصّة اليَمامة ومقتل مُسيلمة
كان أبو بكر رضوان الله عليه قد بعث عكرمه بن أبي جهل إلى اليمامة نحو مُسيلمة، وأَتبعه شُرحبيل بن حسنة، فعجل عكرمة، فبادر نحو مسيلمة ليذهبَ بصِيتها وصوتها، فواقع بني حَنْيفة، فنكبوه وقتلوا بعضَ أصحابه، وبلغ شُرَحبيل فتوقَّفَ، وكتب عكرمة إلى أبي بكر يُخبره ويَستمدُّه، فكتب إليه أبو بكر: يا ابن أمِّ عكرمة لا أَراك ولا تَراني، ثم صرفه إلى وجه آخر، وكتب إلى شُرحبيل بن حسنة: أقِمْ مكانَك حتى يأتيكَ خالد.
ثم كتب إلى خالد أن سِرْ إلى اليمامة، وبعث معه المهاجرين وعليهم أبو حُذيفة، والأنصار وعليهم ثابت بن قيس بن شَمّاس، والقبائل وعلى كل قبيلة رجلٌ، وسار حتى نزل اليمامة، فوجد شُرحبيل قد عَجِل، وفعل كما فعل عكرمة، فنُكب وقُتل جماعةٌ من
__________
(1) كذا، وهو خطأ، فإن أبا شجرة الرهاوي رجل آخر غير هذا المذكور، واسمه يزيد بن شجرة، مختلف في صحبته، كان أمير الجيش في غزو الروم، استشهد سنة ثمان وخمسين، انظر سير أعلام النبلاء 9/ 106، والإصابة 10/ 352، وأما هذا فاسمه عمرو بن عبد العزى السلمي من ولد الخنساء الشاعرة، انظر تاريخ الطبري 3/ 266، وكنى الشعراء لابن حبيب 2/ 284، وخزانة الأدب 1/ 434، وجمهرة ابن حزم 261.
(2) الأبيات في كتاب الردة للواقدي 79 - 80، وتاريخ الطبري 3/ 266
(5/32)
________________________________________
أصحابه، فلامَه خالد على ذلك وعلى عجلتِه.
وكان مسيلمة نازلاً بمكان يُقال له عَقرباء في أربعين ألف مقاتل، فخرج مُجَّاعة بن مُرارة الحنفيّ في سريّة، وطلب ثأرًا له فى بني عامر، وكان قد غلبه الكَرى، فنزل هو وأصحابه فعَرَّسوا، وكانوا ثلاثة وعشرين فارسًا، فمرَّت بهم خيل لخالد وهم نيام، فأخذوهم وأوثقوهم، وكانوا قد أخذوا خولة بنت جعفر العامريّة وهي معهم، فخَلَّصوها، وأتوا بهم خالدًا فقال: ما تقولون؟ فقالوا: منّا نبيٌّ ومنكم نبيّ، فأمر خالد بقتلهم، فقال له ساريةُ بنُ عامر رجلٌ منهم: يا خالد إن كنتَ تُريد غدًا بأهل اليمامة خيرًا أو شرًا فاستبْقِ مُجَّاعة ولا تَقتُلْه، فأوثقه بالحديد، وسلَّمه إلى زوجته أمِّ تميم، وقال: استوصي به خيرًا.
وقيل: إنما نزل خالد بعقرباء، وهي ماء أو منزل في طريق اليمامة، ثم صفّ خالد عسكَرَه، وجعل على الميمنة زيد بنَ الخطاب، وعلى الميسرة أبا حُذيفة، وعلى المقدِّمة شُرَحبيل بن حسنة، وراية المسلمين مع سالم مولى أبي حذيفة، وصفَّ مسيلمة عسكَرَه، فجعل على ميمنته مُحَكَّم اليمامة وهو مُحَكَّم بن الطُّفيَل، وجعل على ميسرته الرَّجَّال بن عُنْفُوة الذي شهد لمُسيلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشركه في الأمر، وكان وزيرَ مسيلمة وصاحب أمره، وكان أبو بكر قد بعث الرَّجَّال إلى أهل اليمامة؛ وهو يظنُّ أنه على الصدق فخانه.
قال أبو هريرة: كنتُ جالسًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رَهْطٍ، ومعنا الرجَّال بن عُنْفُوة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن فيكم لرجلاً ضرسُه في النار مثل أحد" (1). فهلك القوم، وبقيتُ أنا والرَّجَّال، فكنتُ متخوِّفًا منها حتى خرج الرجَّال مع مسيلمة، فشهد له بالنبوَّة، فكانت فتنةُ الرَّجَّال أعظمَ من فتنة مسيلمة، ثم التقى الناس.
قال الواقدي: وكان زيد بن الخطاب حاملَ راية المسلمين، فانكشف المسلمون، وغلبت بنو حنيفة على الرجَّال، فجعل زيد يشد بالراية ويقول: أما الرجَّال فلا رجَّال، وجعل يصيح بأعلى صوته: اللهمَّ إنني أبرأُ إليك مما جاء به مسيلمة، وأعتذر إليك من
__________
(1) أخرجه الطبري 3/ 287 و 289، والحميدي في مسنده (1177).
(5/33)
________________________________________
فِرار أصحابي، وجعل يعدو بالراية في نحر العدو، ويضرب بسيفه حتى وقع قتيلًا.
فأخذ الرايةَ سالم مولى أبي حُذيفة، فقال المسلمون لسالم مولى أبي حذيفة: رايةُ المسلمين بيدك، فانظر كيف تكون، فإنا نَخشى أن نُؤتى من قِبَلك، فقال: بئس حاملُ القرآن أنا إن أُتيتم من قبلي.
ثم حمل مسيلمة وأصحابُه، فلم يَثبت لهم المسلمون، وجالوا جولة، حتى دخل جماعةٌ من بني حَنيفة فُسطاط خالد، وكان مُجَّاعة أسيرًا عند امرأته، فألقى عليها رداءه، وقال: أنا جارٌ لها، فنِعمت الجِيرةُ (1) هي، فخَلّوا عنها، وانكشف المسلمون، فنادى ثابت بن قيس بن شَمّاس وبيده راية الأنصار: يا معاشر المسلمين، بئس ما عَوَّدتُم أقرانكم الفِرار، ثم قال: اللهمَّ إني أبرأُ إليك مما جاء به هؤلاء، يعني الكفار، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، ثم قاتل حتى قُتل.
وكان مُحَكَّم اليمامة في أوائل الخيل يقول: اليوم تُسْتَحقَبُ الكرائم غيرَ رَضِيَّات، ويُنكحْنَ غير خَطيبات، فجاءه سهمٌ فقتله، قتله عبد الرحمن بن أبي بكر، وقيل: قتله زيد بنُ الخطاب.
وكان البراء بن مالك إذا حضر الحربَ أخذته الرِّعْدة حتى يَقعدَ عليه الرِّجال، ثم يبول في سراويله، ثم يثور كما يثور الأسد، فلما كان يوم اليمامة أصابه ذلك، فلما سُرِّي عنه صاح: يا معاشر المسلمين، إليّ إليّ فأنا البراء بن مالك، ففاءت إليه طائفة، وكان مسيلمة قد دخل حديقة، وقال له مُحَكّم اليمامة قبل أن يُقتل: يا معاشر بني حَنيفة، ادخلوا الحديقة وأنا أحمي أدبارَكم، فدخلوا.
فلما قُتل مُحَكّم اليمامة جاء البراء بن مالك فدخل الحديقة ومعه المسلمون، فقتل من بني حنيفة عشرة، فلما رأت ذلك بنو حنيفة قالت لمسيلمة: أين ما كنتَ تَعِدُ؟ ويقول: قاتلوا اليوم عن الأحساب. وتسمى حديقة الموت (2)، وكان بنو حنيفة أغلقوا بابها، فقال البراء بن مالك: ألقوني على الجدار، فألقوه، فاقتحمها، وكسر الباب فألقاه، وحمل وَحشيّ وسماك بن خرشة أبو دُجانة الأنصاري على مسيلمة،
__________
(1) في تاريخ الطبري 3/ 288: فنعمت الحرة هي.
(2) كذا في (أ) و (خ)، وليس في (ك)، وهذا نص مضطرب، وانظر تاريخ الطبري.
(5/34)
________________________________________
فضربه الأنصاري على رأسه بالسيف، وزَرقه وحشيّ بحربته فقُتل، وكان عبد الله بن عمر حاضرًا قال: فسمعتُ امرأةً تَصرخ على ظهر جدار تقول: وانَبيّاه، قتله العبد الأسود، وكان وحشيّ يقول وربُّك أعلمُ أيّنا قتلَه. ومرّ رجلٌ من بني حنيفة فرآه مقتولًا، فقال: أشهد أنك نبيٌّ، ولكنْ نبيٌّ شَقيّ، ثم قال [من مجزوء الكامل]
لهفي عليك أبا ثُمامهْ ... لهفي على رُكْنَيْ شمامَهْ
كم آيةٍ لك فيهم ... كالشمس تَطلعُ في غَمامَهْ (1)
وكان مسيلمة قد خَفي عليهم في القَتلى فلم يَعرفوه، فأرسل خالد، فجيء بمُجَّاعة يَرسُف في قُيوده، فأخذ مُجَّاعة يَكشف عن القتلى، فمر بمُحَكّم اليمامة، وكان رجلًا جَسيمًا وَسيمًا، فقال خالد: هذا صاحبُكم؟ قال مُجَّاعة: لا والله، هذا خيرٌ منه وأكرم، هذا مُحكّم اليمامة، ثم مر بالرَّجَّال، فقال: هذا الرَّجَّال، حتى مر برجل أُصَيفر أُخَيْنِس، فقال مُجّاعة: هذا مسيلمة، فقال خالد: هذا الذي فعل بكم الأفاعيل؟ فقال مُجَّاعة: يا خالد قد كان ذلك، وإنه والله ما جاءكم إلا سَرَعَان الناس، وإن جَماهيرهم لفي الحصون، فقالها لرجل قد نهكته الحرب وأصيب معه أشراف الناس، فقال: ويحك ما تقول؟ فقال: والله إنه الحق، فهَلمَّ لأُصالحك على قومي، فدعني أذهب إليهم، وأشير عليهم بالصُّلح، فقال: اذهب على عهد الله، فذهب، فدخل الحصون، وأمرَ النساء بلُبسِ السِّلاح، وكَثّر السَّواد، فأشرفوا من الحصون، فظنّهم خالد رجالًا، فصالحه على الرّبع من السّبي والحمراء والصَّفراء والحَلْقة، وكان عامَّةُ القراء قد قُتلوا، فصالح خوفًا على الباقين، ثم قيل لخالد بعد ذلك: خدعك مُجَّاعة، فقال: يا مُجَّاعة خَدعتَني؟ فقال: قومي هم، أفنيتَهم فلا تَلُمْني.
وقال سيف: كان خالد بن الوليد قد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن لمُسيلمة شيطانًا [لا يعصيه]، فإذا اعتراه شيطانُه أَزْبَدَ، فلا يَهُمُّ بخيرٍ إلا صرفَه عنه أو عدلَه عنه، فإذا رأيتم منه غِرَّة فلا تُقِيلوه العَثْرة" (2) فلما كان يومُ اليمامة جعل خالد يدنو منه يطلب غِرَّتَه، فرآه ثابتًا ورَحاهم تدورُ عليه، وعلم أنها لا تزولُ إلا بزواله، فنادى خالد مسيلمة
__________
(1) المعارف 405، والبدء والتاريخ 5/ 163.
(2) أخرجه الطبري 3/ 293، وانظر البداية والنهاية 9/ 469.
(5/35)
________________________________________
فأجابه، فعرض عليه أشياء مما يشتهي مسيلمة، وقال له خالد: إن قَبِلنا النّصف فأيَّ الأنصاف تُعطينا؟ فكان إذا هَمَّ بجوابه أعرض بوجهه مُستشيرًا، فينهاه شيطانُه أن يَفعل، فأعرض عنه بوجهه مرَّةً من تلك المِرار، فركبه خالد فأَرهقه فأدبر.
وقُتل من أهل اليمامة في ذلك اليوم عشرون ألفًا، ومن المسلمين ألف ومئتان، منهم سبعون من القراء أعيان، وقيل: مئة، فبينا هم كذلك إذ جاءهم كتابُ أبي بكر إلى خالد يقول فيه: إن افتتحتَ اليمامة عَنوة فلا تَدعَنَّ بها غلامًا أَنبتَ من بني حنيفة إلا ضربتَ عُنُقه، فلما قدم الرسول بالكتاب وجده قد صالح، فامتنع خالد وقال: أَبعد الصُّلح؟
ولما فرغ خالد من أمر بني حَنيفة خطب إلى مُجَّاعة ابنته، فقال له: أتتزوَّجُ النّساء وحولك من المسلمين ألف ومئتا دم؟ ! إن القاطِعَ لظهرك عند صاحبك إنما هو تزويجُ النّساء، فألحَّ عليه فزوَّجه إياها، وبلغ أبا بكر، فكتب إليه: إنك لفارغُ القلب، تتزوَّجُ النّساء وحولك ألف ومئتا دمٍ من المسلمين لم تَجفَّ بعد، فإذا جاءك كتابي هذا فالْحَقْ بمَن معك من جموع الشام إلى العراق، فلما قرأ خالد كتابَه قال: هذه من عَمل الأُعَيْسِر، يعني عمر بن الخطاب.
قال ابن إسحاق: وكان سببُ تجهيز خالد إلى العراق [أن] أبا بكر ما زال يبعث الأُمراءَ إلى الشام والقبائل؛ حتى ظن أنهم قد اكتَفوا، وأنهم لا يريدون أن يزدادوا رجلًا، فكانوا يُغيرون على أطراف الشام.
وكان المثنَّى بنُ حارثة الشَّيبانيّ يُغير على أهل فارس بالسَّواد، وكان بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قدم على أبي بكر، فأسلم في رَهْطٍ من قومه، وحَسُنَ إسلامه، وتفقَّه، ثم استأذن أبا بكر فقال: إنا أناس قد نزلنا بين أرض العرب والعجم من أبناء فارس، وقد قاتلناهم فأَظْهَرَنا الله عليهم، ولي عشيرةٌ أولو بأسٍ وعَدد، فاجعلْ لهم أشياءَ أستميلُهم بها إذا رجعتُ إليهم، فإنه مَنظورٌ إليَّ وإلى ما أرجع به، قال: وما الذي تريد؟ قال: أن تَعقِدَ لي على قومي ومَن اتَّبعني، وأن تَجعلَ لنا ما أَصَبْنا من الغنائم من أهل فارس، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: فذلك لك ولمن اتَّبعك من المسلمين، وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أذن له فخرج حتى نزل مياه بني بكر بن وائل، فأخبرهم بإسلامه وما
(5/36)
________________________________________
جعل لهم أبو بكر، ودعاهم إلى الإسلام، فأجابه فِئامٌ من الناس.
فكان يُغير على السَّواد ومما والاه، فيما بين الطَّفِّ إلى قَنطرة النهرين، حتى أحجزهم فى الجَواسق والحصون، فأخذ أموالًا كثيرة، وسبى سَبْيا عظيمًا، وقتل الأساورة والأكاسرة، وألحق أهلَ المسالح بالحيرة، وخَلُّوا له المناظر.
فأقام المثنّى بعد فراق أبي بكر حولًا على ذلك، ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبي بكر يَطلب منه أن يُمِدَّه، فإن في ذلك إعزازَ الإسلام وذلَّ الكفّار، فإن العجم قد خافتنا، وجاءت كتُبهم تَطلب الصُّلح، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله، ابعث إليهم خالد بن الوليد، فيطأ العراق مع المثنى، ويكون قريبًا منا، فإن احتاج إليه أهلُ الشام كان قريبًا منهم، وإن ألحَّ على العراق حتى يَفتحه كان زيادةَ خيرٍ، فقال أبو بكر لعمر: قد أَصبتَ ووُفِّقتَ وأحسنتَ الرَّأي، فكتب إلى خالد وهو باليمامة أن سِرْ إلى العراق بمَن معك من المهاجرين والأنصار والقبائل، والكتاب:
من عبد الله أبي بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى خالد بن الوليد ومَن معه من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، سلامٌ عليكم، أما بعد، فإني أَحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله الذي أنجز وَعدَه، ونصر دينَه وأعزَّه، وأذلَّ عَدوَّه، وغلب الأحزاب، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] وعدًا منه لا خُلْفَ فيه، ومقالةً لا ريبَ فيها. وقال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] فاستتموا موعود الله إياكم، وأطيعوه فيما فُرض عليكم، [وارغبوا في الجهاد] وإن عَظُمت فيه المؤونة، واشتدت الرَّزِيّة، وبَعُدت الشُّقَّة، فإن ثوابَ الله أعظم، {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} الآية [التوبة: 41]. وقد أَمرتُ خالد بن الوليد بالمسير إلى العراق، فلا يَبرحْها حتى ياتيه أمري، فسِيروا معه، ولا تتثاقلوا عنه، فإنه سَبيلٌ يُعظم الله فيه الأجرَ لمَن حَسُنت فيه نيَّتُه، وعَظُمت في الخير رغبتُه، كفانا الله وإيّاكم مُهمّات الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1).
__________
(1) كتاب الردة 218 - 219 وما بين معكوفين منه.
(5/37)
________________________________________
وبعث بالكتاب مع أبي سعيد الخدري وقال له: لا تُفارقْه حتى تُشخِصه منها، وقل له فيما بينك وبينه: اقْدم العراق، فإن بها رجالًا من المسلمين من ربيعة، وهم أهلُ بأسٍ وعَددٍ وشَرفٍ، فإذا أنت قَدِمتَ فصُلْ بهم على عدوِّك مع مَن معك، وأقم هناك حتى يأتيك مددي إن شاء الله عاجلًا، وإن أنا حوَّلتُك عنها كنتَ الأمير على الناس أينما كنتَ، ليس عليك دوني أمير، فلما قرأ الكتاب قال: هذا رأي ابن حنتمة، وإني قد صاهرتُ هذا الحيَّ، وأُمِّرت عليهم، فظنَّ أن المقام يُعجبني بين أظهُرهم، فأشار على أبي بكر أن يُحوِّلَني من مكاني، لقد أعجب ابن الخطاب بخلافي، فلما ذكر له أبو سعيد الكلام الذي قاله أبو بكر طابت نفسُه، وحمد الله وأثنى عليه، وقرأ عليهم كتاب أبي بكر، وقال: إني سائر إن شاء الله، فمَن أراد الخير العاجل والثواب الآجل فلينكمِشْ.
قصة البحرين وجُواثا
وهو حِصنُ البحرين، قال ابن الكلبي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث العلاء بنَ الحَضْرَميّ إلى البحرين إلى المنذر بن ساوى، فأسلم، ومات المنذر فاوصى بثُلث ماله، فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدَّت ربيعةُ بالبحرين إلا الجارود بن المُعَلَّى فإنه ثبت على إسلامه.
قال ابن إسحاق: ولما بلغ أهلَ البحرين أن أبا بكر بعث العلاء بنَ الحَضْرميّ إليهم اجتمعوا وقالوا: نَردُّ الملك إلى بني المنذر، وفيهم رجلٌ منهم يُقال له: المنذر بنُ النعمان بن المنذر، يُكنى أبا جوعب، ويُلقَّب بالغَرور، فأتوه لذلك فأبى عليهم، فلم يزالوا به حتى قَبل منهم ذلك، فرأسوه عليهم، وخرجت سَريَّةُ المسلمين، فأصابوا رِعاء لبني قيس بن ثعلبة، فاستاقوا الإبلَ والرِّعاء فأَحرزوها، وكانت الإبل للحُطَم، واسمُه شُريح بن عمرو بن شرحبيل من قيس، والحُطَم لقبٌ له (1)، فجمع جمعًا من بني قيس ابن ثعلبة، واستمدَّ الحُرَّ بن جابر العجليّ فأمدَّه.
__________
(1) كذا، والذي في تاريخ الطبري 3/ 304، والأغاني 15/ 254، وفتوح البلدان 94: شريح بن ضبيعة بن عمرو بن مرثد، وفي كتاب الردة 149: أبو ضبيعة الحطم بن زيد، وفي أخبار مكة للفاكهي 2/ 258: الحُطَم ابن ضبيعة بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن بكر بن وائل، واسمه شريح.
(5/38)
________________________________________
وقال الهيثم: لمّا بعث أبو بكر - رضي الله عنه - العلاء بنَ الحَضرمي إلى البحرين، فلما وصل إلى اليمامة لحق به ثُمامة بن أثال الحَنَفيّ ومَن أسلم من بني حنيفة، فسلك على الدَّهنَاء، وانضمّ إليه من سَعد الرّباب مثلُ عَسكرِه, فلما جاء الليل نزل العلاء ونزل الناس، فلما كان نصف الليل نَفرت الإبلُ نَفْرَةً لم يبق منها بعيرٌ إلا شَردَ، وعليها أزوِدَتُهم، فاغتمَّ الناس، وقالوا: إن طَلَعت علينا الشمسُ غدًا صرنا كأمسِ الذَّاهبِ، فقال العلاء: يا قوم، ألستمُ في سبيل الله؟ ألستم أنصارَ الله؟ قالوا: بلى، قال: فأبشروا، فإن الله لا يَخذل مَن كان على ما أنتم عليه.
فلما طلع الفجر صلّى بهم، ودعا، وتضرَّعَ إلى الله تعالى، فلما طلع الصبح إذا بسَرابٍ يَلمع، فتأمَّلوه وإذا به ماء، فكبَّروا وشربوا منه، فما تَعالى النهارُ إلا والإبلُ قد جاءت تَطرُدُ من كلَّ وَجْهٍ، فأناخت إليهم، فقام كلُّ واحدٍ إلى بَعيره فما فَقدوا عِقالًا، وكان في الرَّكْبِ أبو هريرة، فقال لمِنْجاب بن راشد وكان ماهرًا: كيف عِلمُك بهذا المكان؟ فقال: والله ما أَعرف به ماءً قبل اليوم.
وسار العلاء حتى نزل هَجَر، وأرسل إلى الجارود، وكان قد اعتزل القومَ أن يأتيَه في عبْدِ القيس ليُنازلوا الحُطَم، وكان المرتدُّون قد اجتمعوا إليه، وخَندق الفريقان، فكانوا يَقتتلون ثم يَرجعون إلى خنادقهم، فأقاموا على ذلك شهرًا، فبينا المسلمون ذات ليلة يَتحسَّسون الأخبار إذ سمعوا في عسكر المرتدّين ضَوضاءَ شديدة، فقال العلاء: مَن يأتينا بخبرهم؟ فقال عبد الله بن حَذَف (1): أنا، وكانت أمُّه عِجْلِيَّة، فخرج حتى أتى الخندق فأخذوه، وقالوا: مَن أنت؟ فانتسب لهم، ونادى: يا أبجراه، فجاء أبجر بن بُجَير فعَرَفه، فقال: دعوا ابنَ أختي، ثم حمله إلى رحله، فوجد القومَ سُكارى وهم يَهذُون، فخرج من وقته إلى العلاء فأخبره، فركب العلاء والمسلمون، واقتحموا خنادقَهم، ووضعوا السيوفَ فيهم، فأصبحوا بين قتيلٍ وجريحٍ وأسير. وقام الحُطَم إلى فرسه ليَركبه، فلما وَضع رجلَه في الرِّكاب انقطع، فمرَّ به [عفيف] بن منذر التَّميميّ، فضرب رجلَه فأطَنّها من الفَخذِ، ومرَّ به قيس بنُ عاصم فقتله، وأسَرَ عفيفُ بنُ المنذر الغَرور بن [سويد، ابن أخي] النعمان (2)، وجاء به إلى العلاء، وكان الحَوفَزان
__________
(1) في (أ) و (خ): خندف، وهو خطأ، والمثبت من تاريخ الطبري 3/ 308، والأغاني 15/ 259.
(2) في (أ) و (خ): المعرور بن النعمان، والمثبت من تاريخ الطبري 3/ 309، والأغاني 15/ 260.
(5/39)
________________________________________
الشّيباني قد أَنْجَد الحُطَم، ثم تخلَّى عنه، ثم نازل العلاء حصنَ جُواثا مدّةً فماتوا جوعًا، وقَصد جماعةٌ من الكفار دَارِين، فركبوا إليها في السُّفُن، فتحصَّنوا بها.
وقال سيف بن عمر: خرج الحُطَم بمَن اتَّبعه على الردة من بكر بن وائل، فنزل القَطيف وهَجَر، وانضمَّ إليه مَن كان بها من الزُّطَّ والسَّبابجة، وبعث بعثًا إلى دارِين، وأرسل إلى الغَرور أن سِرْ إلى جُواثا واثبُت، فإن ظفرتُ مَلَّكتُك البحرين؛ كما كان النعمان ملك الحيرة.
وقال سيف: مات المنذر بن ساوى بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقليل، وارتدَّ بعد موته أهلُ البحرين، فأمّا عبد القيس ففاءت بعد رِدّتها، وأما بكر فأقامت على رِدّتها، وكان الجارود بن المُعَلّى قد قَدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأسلم، وأقام عنده حتى تَفقَّه، ثم عاد إلى عبد القيس، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت عبد القيس: لو كان نبيًا ما مات، فقام الجارود فيهم خطيبًا، وقال: يا قوم هل تعلمون أنه كان لله أنبياءُ فيما مضى؟ قالوا: نعم، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، فقال: إن محمدًا مات كما ماتوا، وإني أشهد أنه رسول الله، فقالوا: ونحن أيضًا نشهد كذلك، وأنت سيَّدُنا وأفضَلُنا.
قصة دارِين
وهي في البحر، بينها وبين الساحل يومٌ وليلة، يُركب إليها في خليج في البحر، ولمّا انهزم طائفةٌ من المشركين إليها جاء العلاء إلى الخليج وقد أخذوا السُّفُنَ إليهم، فصلى ودعا، وسأل الله تعالى، ونزل فخاضه والمسلمون معه، فكأنما يَمشون على الرَّمْل، فحاصروها، وفتحوها، فقَتلوا المقاتِلة، وسبوا الذرية، وأخذوا الأموال والغنائم، فبلغ سَهمُ الفارس ستّه آلاف، والرّاجل ألفين، ولما فتحها العلاء قال للناس: مَن أحبَّ أن يُقيم فليُقِمْ، ومَن أحبّ أن يَرجع إلى أهله فليرجع، فرجع البعض، وأقام البعض، وكان فيمن رجع ثُمامة بنُ أثال الحَنفيّ، وكان قد نَفَّلَه العلاء خَميصةَ الحُطَم، وكانت ذات أعلام، وكان الحُطَم يُباهي بها، فنزل ثُمامة على ماء لبني قيس بن ثعلبة وعليه خَميصةُ الحُطَم، فقالوا له: هذه خَميصةُ الحُطَم، وأنت قَتَلْتَه، فعَدَوْا عليه، فقتلوه بالحُطَم.
(5/40)
________________________________________
قصة هَجَر
ثم سار العلاء إلى هَجَر فافتَتحها صُلْحًا، وكان بها راهب فأسلم طوعًا، فقيل له: ما سببُ إسلامك؟ فقال: دُعاءٌ سمعتُه في السَّحَر على عَسكرهم: اللهمَّ أنت الرحمن الرحيم، الدّائمُ غير الغافل، والحيُّ الذي لا يموت، وأنت بكل شيء عليم، ورأيتُ فيضًا في الرمال، وتمهيد أَثْباج البحار حين عَبروا (1) في الخليج إلى دارين، فعلمتُ أن القومَ لم يُعانوا إلا وهم على الحق، وكان أهلُ هجر مجوسًا، فأسلم البعض، وضرب العلاءُ الجِزيةَ على البعض.
قصّة عُمان ومَهْرَة
نبغ بعُمان رجل يقال له لَقيط بنُ مالك الأزدي، ويُكنى ذا الوشاح (2)، وكان يُسامي الجُلَنْدى في الجاهلية، فادَّعى النَّبوةَ مثلَ مُسيلمة، وغلب على عُمان، فارتدَّ معه أهلُها، وكان بها جَيْفر وعَبْد ابنا الجُلَنْدى، فقاتلهما، فألجأهما إلى الجبال والبحار، فبعث أبو بكر حُذيفة بن مِحصن الحِميريّ إلى عُمان، وعَرْفَجة البارقيّ إلى مَهْرَة، وأمرهما أن يُجِدّا السيرَ، فإذا قَرُبا من عُمان كاتَبا جيفرًا وعبدًا، وعملًا برأيهما، فمضيا لما أمرهما له.
وكان أبو بكر قد سَخِط على عكرمة لما سار إلى قتال مسيلمة ولم يتربّص، فكتب أبو بكر إلى عكرمة يأمره بالمسير إلى عُمان، ويكون عونًا لحُذيفة وعَرفجة، ويقول: لا أراك حتى تَفعل ذلك، فسار عكرمة بمَن معه على أَثَرهما حتى أدركَهما، فراسلوا جَيْفرًا وعبدًا.
وبلغ لقيط، فجمع جُموعه، وعسكر بدَبا، وخرج جَيْفر وعَبْد إلى صُحَار فعسكرا بها، وجاء حُذيفة وعَرْفجة وعكرمة إلى جَيْفَر وعَبْد فنزلوا جميعًا، وكاتبوا مَن كان مع لقيط، وأرغبوهم وخوَّفوهم، فنَفروا عنه، وساروا إلى لقيط، فالتقوا على دَبا، فجعل
__________
(1) في (أ) و (خ): ورأيت تمهد ابتداح الرمل حين عبروا؟ ! والمثبت من تاريخ الطبري 3/ 312، والأغاني 15/ 262، والمنتظم 4/ 84.
(2) كذا، وفي تاريخ الطبري 3/ 314، وفتوح البلدان 87، والخراج وصناعة الكتابة لقدامة 276، والكامل 2/ 372، والبداية والنهاية 9/ 480: ذو التاج.
(5/41)
________________________________________
لقيط العِيالات (1) وراء الصّفوف ليَحفظوا حَريمَهم، ثم اقتتلوا قتالًا شديدًا، ورأى المسلمون الخَلَل، فبينا هم كذلك إذ قدم الخِرِّيت (2) بنُ راشد في عبد القيس وبني ناجية نجدة للمسلمين، فحملوا على الكفار فانهزموا، وتبعهم المسلمون، فقتلوا منهم عشرةَ آلاف، وسَبَوا الذَّراري، وقسموا الغنائم، وبعثوا إلى أبي بكر - رضي الله عنه - بالخُمس.
وأقام حُذيفة بعُمان، وتَوجَّه عكرمة إلى مَهْرة بوصيَّةٍ من أبي بكر، وقد اجتمع بها وبالنَّجد (3) خلقٌ من المرتدّين، فخرجوا إلى عكرمة، فقاتلوه، فنُصر عليهم، فقتل وسبى، وازداد قوّةً بالظَّهر والمتاع، وبعث إلى أبي بكر بالخُمس.
قصة أهل اليمن
ذكر الواقديّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ولّى على صنعاء المهاجر بنَ أبي أميّة، وعلى حضرموت زياد بنَ لبيد، فتُوفّي وهما على حالهما، فانتقضت كندة على زياد إلا طائفة يسيرة، فقيل له: إن بني عمرو بن معاوية قد جَمعوا لك، فأدركهم قبل أن يَستفحل أمرُهم، فسار إليهم بَغتةً فهزمهم، وحاز غنائمهم، فتعرّض له الأَشْعثُ بن قيس الكِندي (4) في قومه، فأُصيب أناسٌ من المسلمين، واستظهر عليهم الأشعث، فانحاز زياد بمَن معه، وكتب إلى أبي بكر رضوان الله عليه يُخبره، فكتب أبو بكر إلى المهاجر وهو بصّنعاء أن يُمدّ زيادًا، فسار إليه، وقصد الأشعث، فالتَقَوا، وكانت الدَّبَرة على الأشعث ومَن ارتدّ معه، فقتلوهم وسَبَوهم، وجاء عكرمة وقد فرغوا منهم فأشركوه معهم في الغنائم، وتحصَّن الأشعث وملوكُ كِندة في حصن النُّجَير، فحاصروهم مدة، فأرسل إليهم الأشعث يقول: أفتحُ لكم باب الحصن على أن تُؤمَّنوا لي عشرةً من كِندة؟ قالوا: نعم، ففتح لهم الباب فدخلوا، فقتلوا كلَّ مَن فيه، وقد عَزل عشرة أنفس، وهو يرى أنهم لا يحسبونه في العشرة، فقالوا له: إنا قاتلوك، قال: ولم؟ قالوا: لأنك لست
__________
(1) في (أ) و (خ): الغيلان، والمثبت من تاريخ الطبري 3/ 315.
(2) في (أ) و (خ): الحارث، وهو خطأ، والمثبت من الطبري، والكامل 2/ 374.
(3) في (أ) و (خ): وبالمحدم؟ ! والمثبت من الطبري 3/ 316 - 317.
(4) في (أ) و (خ): المدني، وهو خطأ، انظر جمهرة ابن حزم 425، وسير أعلام النبلاء 2/ 38.
(5/42)
________________________________________
من العشرة، فقال: ويحكم، أتظنّون أني أصالح عن غيري (1) وأخرج بغير أمان؟ ! فقالوا: نردُّ أمرك إلى خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: رضيتُ، فأرسلوا به إليه.
فصل [مسيلمة بن] ثُمامةُ بن حبيب (2)
وهو مسيلمة الكذّاب، وكُنيتُه أبو ثُمامة، وقيل: أبو هارون، وسمَّى نفسَه رحمانَ اليمامة، وكان قد ادَّعى النبوَّةَ قديمًا، ولما نزل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] قالت قريش: ما نَعرفُ رحمانَ إلا رحمان اليَمامة (3)، فلما هاجر رسولُ الله إلى المدينة وفد عليه مسيلمةُ في وفد بني حنيفة وقد ذكرناها فلما عاد إلى قومه ادَّعى النبوَّة، وخاف ألا يَتمَّ له مُرادُه فقال: قد أُشْرِكْتُ مع محمَّد، وشهد له الرجَّالُ، وكان مُشَعْبِذًا.
وهو أوَّلُ مَن أدخل البيضةَ في القارورة، وكان يَسجع لهم سَجْعًا يُضاهي به القُرآن في زعمه، فمن ذلك:
والليلِ الأَسْحَمِ (4)، والذّئب الأَدْلَم، والجَذَع الأَزْلَم، ما انتهكت بنو حنيفة من مَحْرَم.
والليل الدّامس، والذئب الهامس، ما قطعت حنيفةُ (5) من رطبٍ ويابس.
سبَّح اسم ربك الأعلى، الذي يَسّر على الحُبلى، فأخرج منها نَسمة تَسعى، من بين شَراسيف وحَشا.
والشاة وألوانِها، وأصوافها وألبانها، والسماء وعنانها.
والزّارعات زَرْعا، والحاصدات حَصْدا, والذَاريات ذَرْوا، والطّاحنات طحنًا، والعاجناتِ عَجْنًا، فالخابزاتِ خَبْزًا، فاللاقماتِ لَقْما. يُعارض بها {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} [العاديات: 1].
__________
(1) في (أ) و (خ): نفسي، والمثبت من المنتظم 4/ 87، وكتاب الردة 210.
(2) ما بين معكوفين من جمهرة أنساب العرب 310، وهذه الفصول إلى ذكر فاطمة عليها السلام انفردت بذكرها نسخة (ك)، وقد سلف ذكر ردة مسيلمة أخزاه الله.
(3) انظر تفسير الطبري 15/ 124.
(4) في تاريخ الطبري 3/ 283، والمنتظم 4/ 21: الأطحم، وهما بمعنى.
(5) في الطبري والمنتظم: أسيّد، بدل حنيفة في الموضعين.
(5/43)
________________________________________
ومنه: يا ضفدع يا ضفدع كم تَنُقّين، أعلاك في الماء وأسفلُك في الطّين، لا الشاربَ تَمنعين، ولا الماء تُكَدِّرين.
ووضع عن بني حنيفة التكاليف من الصلوات والصيام والزكاة وغير ذلك (1).
حديث سجاح بنت الحارث بن سويد
من غطفان، وقيل: من بني يربوع (2)، وتُكنى أمّ صادر، ادَّعت النبوَّة.
قال الواقدي (3): وكانت كاهنةً، ومن أسجاعها: أَعِدُّوا الرَّكاب، واستعِدُّوا للنَّهاب، لتُغيروا على الرِّباب، فليس دونهم حجاب (4)، ثم إنها سارت إلى مسيلمة، وكانت قبل مسيرها إليه قد عزمت على حرب أبي بكرٍ، فجمعت جمعًا من تغلبَ، واستنجدت مالك بن نويرة فمنعها من ذلك.
وبلغ مسيلمة خبرُها، فأرسل إليها وطلب مُوادعتَها، فعزمت على قصدِه، وقالت لقومها: سيروا، فقالوا: إلى أين؟ فقالت: رفُّوا رَفيف النَّعامة (5)، فإنها غزوةٌ صَرَّامة، لا تلحقكم بعدها ملامة، فتجهَّزوا لقتال بني حنيفة.
ولما بلغ مسيلمة قصدُها إياه خاف إن اشتغل بقتالها أن تَظهر عليه جُيوشُ أبي بكر، وكان أبو بكر قد جهَّز إلى مسيلمةَ شُرحبيل بن حسنة, فأهدى إليها مسيلمةُ، وطلب منها الأمان فأَمَّنتُه، فأتاها في أربعين من بني حنيفة، وكانت راسخةً في نصرانية بني تغلب، فلما نزل عليها سجع لها وزخرف عبارته فأعجبَها وكان مما قال: يا معاشر النساء، إنكنَّ خُلقتُنَّ لنا أزواجا، وجُعلتنَّ أَفراجا، لنُولج فيكنَّ إيلاجا، ثم نُخرجه
__________
(1) انظر في مسيلمة تاريخ الطبري 3/ 283 - 285، والمعارف 405، والبدء والتاريخ 5/ 160 - 161، والمنتظم 4/ 20 - 22.
(2) كذا ذكر، والذي في الطبري 3/ 269، والمنتظم 4/ 22 أنها سجاح بنت الحارث بن سويد بن عُقفان، التميمية من بني يربوع، وانظر المعارف 405، وجمهرة ابن حزم 226، والبدء والتاريخ 5/ 164، والأغاني 21/ 33 فما بعدها، وكتاب الردة 111، ومروج الذهب 4/ 188، والتنبيه والإشراف 264.
(3) انظر فتوح البلدان 108.
(4) تاريخ الطبري 3/ 270، والمنتظم 4/ 22.
(5) في الطبري 3/ 272: دفوا دفيف الحمامة.
(5/44)
________________________________________
منكنّ إخراجا، وقال لغُلامه: غَبِّر لها، أي: دَخّن، وقيل: ضرب لها قُبَّةً وقال لغُلامه: جَمِّر، أي: بَخِّر لعلها تَحِنُّ إلى الباه. ففعل، فقالت: مَن جاءك بهذا القرآن؟ قال: جبريل، فقالت: صدق الله وجبريلُ، ثم قال لها: هل لك أن أتزوّجك فيقال: نبيٌّ تزوَّج نبيّةً، فنأكل بقومي وقومك العرب؟ ولي نصف الأرض، وكان لقريشٍ نصفُها، وقد وهبتُه لك. فقالت: نعم، فتزوَّجها ثم سجع لها فقال: [من الهزج]
[ألا] قومي إلى المخْدَع ... فقد هُيِّئ لك المَضْجَع
وإن شئتِ سَلَقْناك (1) ... وإن شئتِ على أربع
وإن شئت بثُلثيه ... وإن شئتِ به أَجمع
فقالت: لا، بل به أجمع، فإنه للشَّملِ أَجمع، فقال مسيلمة: بذلك نزل عليَّ جبريل. فضربت العربُ بها المثل فقالت: أَغلمُ من سَجاح (2).
وقال قيس بن عاصم المِنقري، وقيل إنَّه لعُطارد بن حاجب بن زراة التميمي: [من البسيط]
أَضحتْ نبيَّتُنا أُنثى نُطيف بها ... وأصبحت أنبياءُ الناس ذُكرانا (3)
ثم أقامت عنده ثلاثًا، وخرجت إلى قومها فقالوا: ما وراءك؟ فقالت: أشهد أنه نبيّ حق، وأخبرتهم أنها تزوّجتْه، فقالوا: مثلُك لا يتزوَّج على غير مَهْر، فارجعي إليه فاطلبي المهر، فرجعت إليه فقال: قولي لهم: قد وَضعتُ عنكم صلاةَ الفجر والعشاء الآخرة، وأبحتُهم الزنا والخمر، فقالوا: رضينا وانصرفوا.
وقال لها مسيلمة: مَن مُؤذَّنُك؟ فقالت: شَبَث بن رِبْعي الرِّياحي، فقال: مُريه ينادي: إن رسول الله مسيلمة قد وَضع عنكم ما أتاكم به محمَّد من الصلوات، وأباحكم
__________
(1) في (ك): فملقاة، والمثبت من المصادر.
(2) الأبيات في كتاب الردة 112، والطبري 3/ 273، والأغاني 21/ 34، والدرة الفاخرة 1/ 325، والبدء والتاريخ 5/ 164 - 165، والمنتظم 4/ 23.
(3) البيت في المعارف 405، والطبري 3/ 274، والأغاني، والبدء والتاريخ, ومروج الذهب 4/ 188، وتاريخ دمشق 47/ 383، والتنبيه والإشراف 264.
(5/45)
________________________________________
فروجَ المومسات، وشُربَ الخمر في الكاسات والطاسات.
وقال سيف: وكان لها مؤذِّنٌ آخرُ يقال له: زهير بن عمرو اليربوعي.
وكان من أعيان أصحابها: الأقرعُ بنُ حابِس، والزِّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعطارد بن حاجب، وعمرو بن الأَهتم وكلهم من تميم، ثم أسلم الزبرقان والأقرع بن حابس في أيام أبي بكر.
ولم تَزَلْ سجاح مقيمةً في بني تغلب إلى سنة أربعين ثم أسلمت وحَسُنَ إسلامُها.
وذكرها الجوهري فقال: سجاح: اسم امرأةٍ من بني يربوع تنبّأت (1).
وذكر ابن إسحاق أن خالد بن الوليد بعث وفدَ بني حنيفة إلى أبي بكر فقال لهم: ويحكم، ما هذا الذي جاء به صاحبُكم هذا الخبيث، يعني مسيلمة؟ فقالوا: جاءنا والله الكذبُ والباطلُ وبلاءٌ ابتُلينا به، فقال: فما قال لكم؟ فذكروا له من سَجعه بعضَ ما ذكرنا، فقال أبو بكر: ويحكم، والله إن هذا الكلامَ ما خرج من إِلٍّ ولا بِرّ (2). وقال الجوهري: والإلُّ بالكسر هو الله تعالى (3).
وقال الهيثم: قال لهم أبو بكرٍ: فهذا سَجعُه، فما ظهر لكم من أحواله؟ فقالوا: أتتْه امرأةٌ فقالت: ادعُ لنخلنا ومائنا بالبركة، فإن محمدًا دعا لقومه فأثمر نخلُهُم، وجاشت مياهُهم. قال لها: فكيف؟ قالت: دعا بسَجْلٍ، فمَضْمَض فيه، ثم مجَّه في الآبار، فجاشت بالمياه، فدعا مسيلمةُ بسَجْلٍ وفعل ذلك فغارت المياهُ، ودعا للنّخل فيَبس.
وأُتي بصبيّ، فقال له أبوه: بَرَّك عليه فإن محمدًا يُبرَّك على أولاد الصحابة، فمسح يده على رأس الصبي فقَرع وتَمعَّط شعرُه، وما مسح يدَه على رأس صبيًّ إلا قَرع، ولا حَنّكه إلا لَثِغ، فقال لهم أبو بكر: لقد كنتم في ضلالٍ مُبين (4).
__________
(1) الصحاح (سجح).
(2) تاريخ الطبري 3/ 300، وانظر غريب الحديث لأبي عبيد 1/ 100 و 3/ 230.
(3) الصحاح (ألل).
(4) تاريخ الطبري 3/ 284 - 285، والمنتظم 4/ 21 - 22.
(5/46)
________________________________________
فصل وفيها تُوفي
عبد الله بن أبي بكر
وأمُّه قُتيلةُ بنت عبد العُزّى، وهو من الطبقة الثالثة من المهاجرين. أسلم قديمًا.
قال ابن سعد: ولم يُسمع له بمشهدٍ إلا يومَ الطائف، جُرح رماه أبو محجّن الثقفي بسهمٍ، واندمل جُرحُهُ، وعاش مدَّةً، ثم انتقض عليه في شوَّال من هذه السنة فمات فيه (1).
وخلَّف سبعةَ دنانير فاستكثرها أبو بكرٍ.
وكان له وَلدان: إبراهيم وإسماعيل، فهلكا وانقرض عَقِبُه (2). ونزل عمر بن الخطاب وطلحةُ بن عبيد الله وأخوه عبد الرحمن بن أبي بكر في حُفرته، ودُفن بالبقيع.
وذكره الموفَّق رحمه الله في الأنساب وقال: هو شقيقُ أسماء بنت أبي بكر، وكان قد اشترى الحُلَّةَ التي أرادوا أن يُكفِّنوا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبعة دنانير، فلما احتُضر قال: لا تُكفَّنوني فيها، فلو كان فيها خيرٌ لكُفِّن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وصلى عليه أبوه أبو بكر، ودُفِن بعد صلاة الظهر.
وعبدُ الله هو الذي كان يأتي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأباه في الغار بأخبار قريشٍ كل يوم، ويُدلِجُ إليهما (3).
وقال الشيخ الموفَّق: وعبد الله هو الذي تزوَّج عاتكة بنت زيد، أخت سعيد بن زيد فأمره أبوه بطلاقها، فقال فيها الأشعار، وكانت غَلبت عليه، وشغلته عن مغازيه فلذلك أمره أبوه بطلاقها فقال: [من الطويل]
وإن فِراقي أهلَ بيتٍ أُحبّهم ... على كبرةٍ منّي لَإحدى العَظائمِ (4)
__________
(1) طبقات ابن سعد/ 158، وانظر الطبري 3/ 241، والمنتظم 4/ 9، والتبيين 314، والمعارف 173، والاستيعاب (1297).
(2) كذا ذكر، وهو خطأ، صوابه ما في آخر ترجمته من أن عقبه انقرض وآخرهم إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله، وانظر المعارف 173، وأنساب الأشراف 5/ 177، وجمهرة ابن حزم 137، والتبيين 314.
(3) التبيين 314، وانظر الاستيعاب (1297).
(4) البيت في أنساب الأشراف 5/ 177، والاستيعاب (3403)، والتبيين 427.
(5/47)
________________________________________
ثم هجم عليه أبوه يومًا وهو يقول: [من الطويل]
أَعاتِكُ لا أنساكِ ما ذرَّ شارِقٌ ... وما ناح قُمْرِيُّ الحمام المُطَوَّقُ
ولم أر مثلي طلَّق اليومَ مثلَها ... ولا مثلَها في غير جُرْمٍ يُطَلَّقُ
لها خُلُقٌ جَزْلٌ وحِلْمٌ ومَنْصِبٌ ... وخَلْقٌ سَوِيٌّ في الحياة ومَصْدَقُ (1)
فرقَّ له أبوه وأمره برجعتها فقال: [من الطويل]
أَعاتِكُ قد طُلَّقْتِ من غير رِيبةٍ ... ورُوجِعتِ للأمر الذي هو كائنُ
كذلك أمرُ الله غادٍ ورائحٌ ... على الناس فيه إِلفةٌ وتَبايُنُ
وما زال قلبي للتَّفرُّقِ طائرًا ... وقلبي لما قد قَرّب الله ساكنُ
ليَهْنِكِ أني لا أرى فيك سَخْطَةً ... وأنك قد تمّتْ عليك المحاسنُ
وأنك ممّن زيَّن الله وجهَه ... وليس لوَجْهٍ زيَّن اللهُ شائنُ (2)
قال: ولما مات رَثَتْه وبكت عليه وقالت: [من الطويل]
رُزِئتُ بخيرِ الناس بعد نبيّهم ... وبعد أبي بكرٍ وما كان قَصَّرا
فآلَيْتُ لا تنفكُّ عيني حزينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلديَ أَغبرا
فلله عينا مَن رأى قطُّ مثلَه ... أكرَّ وأَحمى في الهِياج وأَصبرا
إذا أُشرِعت فيه الأَسِنّةُ خاضَها ... إلى الموت حتى يَتركَ النّقع أحمرا (3)
قلتُ: وقد ذكر أبو تمام في "الحماسة" ثلاثة أبياتٍ، منها هذه، أولها:
آليتُ لا تنفكُّ عيني حزينةً .... إلى آخرها (4).
ثم خطبها عمر بن الخطاب فتزوّجته، فعمل وَليمةً، فحضرها عليٌّ عليه السلام، وقال لعمر: ائذن لعاتكة أن تُكلِّمني. فأذِن لها، فمال إليها عليٌّ وقال: يا عُدَيَّةُ نفسِها: فآليت لا تنفكُّ عيني حزينةً
__________
(1) الأبيات في أنساب الأشراف 5/ 176، والمردفات من قريش 1/ 61 - 62، والأغاني 18/ 59، والاستيعاب والتبيين.
(2) الأبيات في التبيين 428، والمردفات 1/ 62، والأغاني 18/ 60.
(3) الأبيات في التبيين والمردفات والأغاني والاستيعاب وفيها: حتى يترك الرمح أحمرا.
(4) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 3/ 1102.
(5/48)
________________________________________
فخجلت، فقال له عمر: ماذا فعلت يا أبا حسن؟ دَعْها فكلُّ النساء يفعلن هذا، ثم قُتِل عنها فرثته وقالت: [من الخفيف]
عينُ جُودي بعَبْرَةٍ ونَحيبِ ... لا تَمَلِّي على الإِمام النَّجيبِ
فَجعَتْني المنونُ بالفارس المعـ ... ـلَم يوم الهياجِ والتَّأنيبِ
قُل لأهلِ الضَّرَّاء والبؤس موتوا ... قد سَقَتْه المنونُ كأسَ شَعوبِ (1)
ثم خطبها الزبير فتزوَّجته وقد خلا من سنّها، وبقي فيها بقيَّةٌ من جَمالٍ، وكانت تَخرجُ فتُصلّي في المسجدِ، وكان الزبيرُ غَيورًا يقول لها: لو صلَّيتِ في بيتك فتقول: لا تَمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله (2)، فقعد لها ليلةً في طريق المسجد، فقرص عجيزتَها وهي لا تعرفُه، فرجعت إلى بيتها وتركت الصلاةَ في المسجد، فقال لها في ذلك فقالت: كنتُ أخرجُ والناسُ ناسٌ، أما إذا فسدوا فبيتي أَولى بي (3).
فلما قُتِل عنها الزبير رثتْه فقالت: [الكامل]
غَدرَ ابنُ جُرموزٍ بفارس بُهْمَةٍ
وسنذكر الأبيات في ترجمة الزبير في قصة عاتكة، ولما قُتِل الزبيرُ عنها تزوّجها محمَّد بن أبي بكر فقُتل عنها، فخطبها عليٌّ عليه السلام فقالت: إني لأضنُّ بك عن القتلِ (4) لما نذكر.
وليس لعبد الله بن أبي بكر عَقِبٌ، انقرض نسلُهُ، وآخرُهم إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله له عقب لا غير (5).
الأسود العنسي الذي ادّعى النُّبوة
واسمه عَيْهَلَةُ بن كعب، واختلفوا فيه: فقال قوم: عَيْهلةُ اسمُه، وقيل: إنَّ عيهلةَ
__________
(1) المردفات من قريش 1/ 63، والأغاني 18/ 61، والاستيعاب والتبيين.
(2) أخرجه البخاري (900)، ومسلم (442) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -.
(3) انظر عيون الأخبار 4/ 114 - 115.
(4) المردفات من قريش 1/ 63 - 64، والأغاني 18/ 61 - 6، والاستيعاب (3403)، والتبيين 428 - 429، وتمام البيت: يوم اللقاء وكان غير مُعَرَّدِ.
(5) انظر أول ترجمة عبد الله بن أبي بكر.
(5/49)
________________________________________
لقبٌ لملكِ اليمن، كما أن النجاشي لقب لملكِ الحبشة. وقال الجوهري: العاهل: الملك الأعظمُ كالخليفة، وريحٌ عَيْهَلٌ: شديدةٌ، والعَيْهل من النُّوق: السّريعة. قال: وقال أبو حاتم: ولا يُقال جَملٌ عَيْهَل (1).
وذكر قصّتَه أربابُ السَّير كسيف بن عمر وابنِ إسحاق وهشام بنِ الكلبي والواقديّ وغيرهم على وجوه:
الوجه الأول: أن أوَّل رِدَّةٍ كانت على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على يديْ الأسود، ويقال له: ذو الخمار؛ لأنه كان يقول: يأتيني ذو خِمارٍ، وكان كاهنًا مُشَعْبِذًا، يُري الناسَ العجائب، وكان يأتيه شيطان فيحدِّثُه بما يكون فيُخبرُ الناسَ به فافتُتنوا، وكان فصيحًا فسبى عقولَهم بمَنطقه،
وكان أوَّلُ خروجه بعد رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجَّة الوداع، فكاتَبتْه مَذْحِج، وواعدوه نَجْران، وكانت دارُه بمكان يقال له: كهف خُبَّان، به وُلِدَ ونشأ.
ولما خرج وَثبت مَذْحِج وأهلُ صنعاء، فأخرجوا منها عمرو بن حَزْمٍ وخالد بن سعيد بن العاص، وكانا عاملين عليها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخلها الأسودُ في سبع مئة فارسٍ من آل شَعوبٍ (2)، وخرج إليه من الأَبْناء شَهْرُ بن باذان - أو باذام - فقتله الأسود ومَن معه، وخرج معاذ بن جبل هاربًا، فلقي أبا موسى وهو بمأْرِب فاقتحما حَضْرَ مَوْتَ، وغلب الأسودُ على بلاد اليمن ومخاليفها، وجعل أمرُه يَستطير استطارةَ الحريق، ودانت له السواحلُ، وعامله المسلمون بالتَّقِيَّة، وكان خليفتُه في مَذْحج عمرو بن مَعْدي كَرِب.
وأخذ الأسودُ امرأةَ شهر بن باذان، وقتل ابنتَه، واستخفَّ بالأبناء، وهرب فَرْوَةُ ابن مُسَيْك وكان على مُراد، وثب عليه قيس بن عبد يغوث فأجلاه.
وبلغ رسولَ الله الخبرُ عند مَرْجعه من حجَّة الوداع، وقال الواقدي: كتب إليه فروةُ
__________
(1) الصحاح (عيهل). وقيل: اسمه عبهلة، بباء، انظر توضيح المشتبه 2/ 405 وحاشية محققه لزامًا.
(2) كذا، وهو خطأ، صوابه ما في المنتظم 4/ 19: ثم خرج الأسود في سبع مئة فارس إلى شَعوب. قلت: وشعوب كما ذكر ياقوت بساتين في ظاهر صنعاء، وانظر تاريخ الطبري 3/ 229.
(5/50)
________________________________________
ابن مُسَيْكٍ بذلك، فكتب إلى الأَبناء ومَن بأرض اليمن من المسلمين أن يَقتلوا الأسودَ غيلةً أو مُصادَمةٌ، وأمرهم أن يستنجدوا رجالًا سمَّاهم من حِمْيَر وهَمْدان، وأرسل إلى أولئك.
وكان الأسودُ قد أفسد وعاث، وانتهك المحارم، وتغيَّر على قيس بن عبد يغوث وعَزم على قتله، فاتفق مع الجماعة على قتله، فعملوا الحيلةَ عليه فلم يجدوا طريقًا غيرَ زوجتِه امرأة شهر بن باذان واسمها أزياد، وقالوا لها: قد قَتل زوجَك وبنتَك وفعل ما فعل، فما عندك فيه؟ فقالت: هو أبغض خَلْقِ الله إليَّ، فقالوا: نُريدُ قتلَه، فقالت: إنَّه مُحترسٌ، والحرسُ يُطيفون بقصره، إلَّا هذا البيتَ فانقُبوه، وتولّى أمرَه أخوها فيروز الدَّيلمي، وكان قد أبعده الأسود، فدخلوا عليه ليلًا فذَبحوه، فجعل يخور خُوارَ الثور، فقال الحرسُ: ما هذا؟ قالت: النبيُّ يُوحى إليه، فسكتوا وقد كان شيطانُه يأتي إليه فيوسوس له، فيغطُّ ويخور كما يخور الثورُ، ويعمل بما يقول له، فلما طلع الفجرُ اجتمع المسلمون وأَذَّنوا وقالوا: نشهدُ أن محمدًا رسولُ الله وأن عَيْهلَةَ كذّابٌ، وشَنُّوا الغارةَ على أَصحابه ومَن وافقه، فسَبَوْهم وقتلوهم ومزَّقوهم كلَّ مُمَزَّقٍ.
وتراجع عُمّالُ رسول الله إلى مواضعهم، وكتبوا إلى رسول الله بذلك، فسبقهم خبرُ السماء، وذلك قبل موت رسول الله بيومٍ أو بليلةٍ، فأخبر الناسَ بقتلِه وقال: فاز فيروز، ووصل الكتابُ بعد وفاةِ رسولِ الله، فكان بين خروجِ الأسود إلى أن قُتِل أقلُّ من ثلاثة أشهر، وقيل: أربعة أشهر (1).
والوجه الثاني: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمّا رجع من حجَّةِ الوَداع فرَّق أمراءه في اليمن، وقسَّمه بينهم، وقيل على حضرموت، وعُكَّاشة بن ثور الغَوْثي على السَّكاسك، ومعاوية بن كندة على السَّكون (2)، وعمرو بن حَزْم على
__________
(1) المنتظم 4/ 18 - 20.
(2) كذا، وفي العبارة سقط وخطأ، وصوابها ما في الطبري 3/ 228 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى المدينة بعد ما قضى حجة الإِسلام، وقد وجه إمارة اليمن وفرقها بين رجال ... واستعمل على أعمال حضرموت على السكاسك والسكون عكاشة بن ثور، وعلي بني معاوية بن كندة عبد الله أو المهاجر، وعلى حضرموت زياد بن لبيد البياضي ...
(5/51)
________________________________________
نجران، وخالد بن سعيد على ما بين نجران ورِمَع وزَبِيْد، وشَهْر بن باذان على صنعاء، وعامر بن شَهْر على هَمْدان، وأبو موسى على مَأرِب، ويَعلي بن أُميّة على الجَنَد، وكان معاذُ بنُ جبلٍ معلِّمًا يتنقّل في البلاد والقبائل، فتوفي رسولُ الله وهؤلاء عُمّالُه على اليمن.
قال سيف بن عمر: فحدَّثني سهل بن يوسف عن أبيه عن عبيد بن صخرٍ قال: بينما نحنُ بالجند على أمورنا المستقيمة إذ وَرَدَ علينا كتابُ الأسودِ مع رسولٍ له يقول فيه: أيُّها المتورِّدون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتُم من أرضِنا، ووفَّروا ما جمعتُم، فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه. قال: فقُلنا للرسول: من أين جئتَ؟ فقال: من كهف خَبَّان، فبينما نحنُ ننظر في أمرنا إذ قيل: هذا الأسود بشَعوب، وخرج إليه شهر بن باذام، وذلك لعشرين ليلةً من مَنجمه، فبينما نحن نترقَّبُ الأخبار جاء الخبرُ أن الأسودَ قتل شهرًا، وهزم الأبناء، وغلب على صنعاء لخمسٍ وعشرين ليلةً من مَنْجَمه، وخرج معاذٌ هاربًا، فمر بأبي موسى، فاقتحما حضر موت، فنزل معاذٌ السَّكون، ونزل أبو موسى السَّكاسكَ، وانحاز سائرُ أمراء العرب إلى الأطراف فنزلوا الظواهرَ (1)، ولم يرجعْ إلى المدينة سوى عمرو بنِ حَزْمٍ وخالدِ بن سعيد بن العاص.
وكان قُوّادُ الأسود: قيس بن عبد يغوث المُرادي ومعاوية بن فلان الليثي (2)، ويزيد ابن حُصين الحارثي، ويزيد بن أَفْكل الأزدي، وثبّت مُلكه (3)، ثم استَغلظ أمرُه حتى غلب على اليمن وانتهى إلى الطائف، وعاملهُ المسلمون بالتَّقِيَّة، والمنافقون بالردَّة عن الإِسلام، وكان خليفتُه في مَذْحج عمرو بن معدي كرب، وأمرُ جُنْدِه إلى قيس بن عبد يَغوث، وأسند أمرَ الأبناء إلى فيروز وداذَوَيْه.
فلما أثخن في الأرض استخفَّ بقيسٍ وفيروز، وتزوَّج امرأة شهر وهي أختُ
__________
(1) في الطبري 3/ 230: وانحاز سائر أمراء اليمن إلى الطاهر - ابن أبي هالة - والطاهر يومئذ في وسط بلاد عكّ بحيال صنعاء.
(2) في الطبري 3/ 230: معاوية بن قيس الجنبي، وفي تاريخ دمشق 14/ 484 (مخطوط): معاوية بن فلان الجنبي.
(3) في (ك) وتاريخ دمشق: وابنا مليكة، والمثبت من الطبري.
(5/52)
________________________________________
فيروز (1)، فاتفق فيروز وداذَوَيْه وقيسٌ على قتله، فدخل عليه فيروز وهو نائم يَغُطُّ، فتكلم الشيطان على لسانه وقال: ما لي ولك يا فيروزُ؟ فلم يلتفت فيروز ودقَّ عُنُقَهُ وذَبحه، فلما قتله قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قتل الأسودَ الليلة رجلٌ مُبارَكٌ، من أهل بيتٍ مُبارَكين" قيل: يا رسول الله مَن قتله؟ قال: ["فيروز] , فاز فيروز" (2).
الوجه الثالث: ذكر محمَّد بن إسحاق في آخر المغازي قَتْلَ الأسود وفيه زيادات فقال: كان سببُ قتلِه أنه كانت عنده امرأةٌ من بني غُطَيْفٍ سباها، وهي عمرةُ بنتُ عبد يَغوث المكْشُوح أختُ قيس، وامرأةٌ من الأبناء ممَّن سَبى يُقال لها: بَهرانةُ بنتُ الدَّيْلم، أختُ فيروز بن الديلمي، فكان فيروز يَدخل عليه [إذا شاء لمكان أخته، وكان قيس يدخل عليه] أيضًا لمكان أخته، وكانا نَديمَيْن له، وكان الأسود قد قتل عُمير بن [عبد] يغوث أخا قيس،
واتفق قيسٌ وفيروز على قتله، وبلغ قيسًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمسلمين: "ستقتلون الأسود". فطمع قيس في قتله، ودخل معهما رجلٌ من الأبناء يُقال له: داذَوَيْه، فأفضى قيسٌ بذلك إلى أُخته وقال لها: قد عَرفتِ عداوتَه لقومك، وما قد ركبهم به، والرجلُ مَقتولٌ لا محالة، فإن استطعتِ أن يكون بنا فافعلي، فنُدرك به ثأرَنا، ويكون مَأثُرة لنا، فتَحيَّني لنا غِرَّته إذا سَكِر.
فطاوعته على ذلك [وقال فيروز لصاحبته مثل ذلك] فقال لها: هذا الرجلُ يُريد أن يُجليَ قومَك من اليمن، فأجابتْه إلى ذلك، فكان مَقتلُه في بيت الفارسية، وذلك لأنها جَعلت في شرابٍ له البَنْج، فلما غلب على عقله بعثتْ إلى أخيها: شأنك وما تُريد، فأقبلوا ثلاثتُهم: قيسٌ وفيروز وداذَوَيْهِ حتى انتهَوْا إلى الباب فقالوا: أيّنا يَكفي الباب لئلا يدخُلَ علينا أحد؟ فقال داذويه: أنا، فوقف عند الباب، ودخلا فجثم فيروز على صدره فضَبَطه، وضربه قيسٌ بسيفه حتى قتله، واحتزَّ رأسَه، وبعث به إلى المهاجر بن أبي أميّة، فعاد المهاجر إلى صنعاء.
__________
(1) في الطبري وتاريخ دمشق والمنتظم 4/ 19 أنها ابنة عم فيروز.
(2) أخرجه الطبري 3/ 236، وابن الجوزي في المنتظم 4/ 20 من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وما بين معكوفين منهما.
(5/53)
________________________________________
وقال قيس بن عبد يغوث المرادي حين قَتل الأسود العَنْسي في الأسود أبياتًا منها:
ضربتُه بالسّيفِ ضَرْبَ الأَقْرانْ
ضَرْبَ امرئٍ لم يَخْشَ عُقْبى العُدوانْ
فمات لا يبكيه منّا إنسانْ
ضلَّ نبيٌّ مات وهو سَكْرانْ
قال: ثم تنازع هؤلاء الثلاثةُ نَفَرٍ في قتله، فقال قيس: أنا قتلتُه واحتززتُ رأسَه، وقال فيروز: أنا ضبطتُه لك، ولولا ذلك لم تَصِلْ إلى قتله، وقال داذَوَيه: أنا كفيُتكم الباب، وكان أشدَّ ثُغوركم، ولولا ذلك لم تَقدروا على قتله، فالتمس قيسٌ أن يَغتالَهما، فصنع لهما طعامًا، ثم دعا واحدًا واحدًا، فقَتل داذَوَيه، ونَذِر فيروزُ فخرج، فكان بينهما في ذلك أمرٌ تَعاظم فيه الشرُّ؛ حتى أصلح بينهما المهاجر، فقال قيس في ذلك: [من الكامل]
زعم ابنُ حَمْراء القِصاص (1) بأنّه ... قَتلَ ابنَ كعبٍ نائمًا نَشوانا
كلاّ وذي البيتِ الذي حجَّتْ له ... شعث المفارق تَمسح الأَركانا
لأنا الذي نَبَّهتُهُ فقتلتُه ... ولقد تُكُبِّدَ (2) قائمًا يقظانا
فعَلوتُه بالسيف لا مُتَهيِّبًا ... مما يكونُ غدًا ولا ما كانا
فانصاع شيطانُ ابن كعبٍ هاربًا ... عنه وأَدبرَ ممعِنًا شيطانا
انتهت ترجمتُه والله أعلم.
* * *
__________
(1) كذا في (ك) وتاريخ دمشق 59/ 193 (مجمع اللغة)، و 14/ 487 (مصورة دار البشير)، ولعلها: العِجان، يقال: فلانٌ ابن حمراء العِجان إذا كان أعجميًا، أو كانت أمه أمَةً، والعجان: ما بين القُبُل والدُبُر، وهي كلمة تقولها العربُ في السبَّ والذمَّ. ينظر أساس البلاغة (عجن)، واللسان (حمر) و (عجن).
(2) يعني: ضُرب كبده.
(5/54)
________________________________________
فصلٌ في ذكر فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قد ذكرنا أنها وُلدت قبل النبوَّة بخمس سنين وقريشٌ تبني الكعبة، وكانت أصغرَ بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكرنا أن عليًا تزوَّجها في السنة الثانية من الهجرة، وذكرنا بعضَ فضائلها.
وقال البخاري بإسناده عن المِسور بن مَخْرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فاطمة بَضْعَةٌ مني، فمَن أغضبها فقد أغضبني". وهذا حديث طويل أخرجاه في الصحيحين (1)، وأخرجه أحمد في "المسند" فقال: حدَّثنا أبو اليمان، عن شُعيب، [عن] الزُّهري عن علي بن الحسين أنَّ المسور بن مَخْرمة أخبره أن عليَّ بن أبي طالب خطب ابنةَ أبي جهلٍ، وعنده فاطمةُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت فاطمةُ لرسول الله: إن قومَك يتَّحدثون أنَّك لا تَغضبُ لبناتك، وهذا عليٌّ ناكحٌ ابنةَ أبي جهلٍ. قال: فقام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فتشهَّد ثم قال: "أما بعدُ فإني أَنكحتُ أبا العاص بنَ الرَّبيع، فحدَّثني فصدقني، وإن فاطمةَ بَضْعَةٌ منّي، وأكرهُ أن يَفتِنوها، وإنه والله لا تجتمع ابنةُ رسول الله وابنةُ عدوِّ الله عند رجلٍ واحدٍ أبدًا".
وفي روايةٍ "لا أُحرِّمُ حلالًا، ولا أُحلُّ حرامًا، ولكن والله لا تَجتمع ... " وذكره، فترك عليٌّ الخِطبة، وفي روايةٍ: "إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا ابنتَهم عليَّ بن أبي طالب، ألا فلا آذَنُ لهم، قالها ثلاثًا، فإنما ابنتي بَضْعةٌ مني يُرِيبني ما رابَها، ويُؤذيني ما آذاها". وكلُّ هذه الروايات في المتَّفق عليه (2). البَضْعَةُ: القطعة.
والتي خطبها عليٌّ جويرية بنتُ أبي جهل، وكانت قد أسلمت مع أخيها عكرمة.
ومعنى قوله: لا أُحَرِّمُ حلالًا، أي: إن هذا لا يكون، وقد ظنَّ بعضُ الجُهال أن عليًا ارتكب أمرًا منكرًا، وليس كما ظنَّ، فإن بني مَخزوم سألوا عليًا أن يُصاهِرهم، وقصدوا زوالَ الأضغانِ والإحَن التي كانت بينهم وبين بني هاشمٍ في الجاهلية، فأجابهم عليٌّ إلى ذلك طلبًا للتَّآلف، لا رَغبةً في النكاح، ولو علم أن ذلك يَصعبُ على
__________
(1) صحيح البخاري (3714)، وصحيح مسلم (2449).
(2) مسند أحمد (18912) و (18913) و (18926)، وصحيح البخاري (3110) و (3729) و (3767) و (5230) و (5278)، وصحيح مسلم (2449).
(5/55)
________________________________________
رسول الله وفاطمة ما أجابهم إليه، فلما علم ترك، وهذا من الظنِّ بمثله.
وقال أبو إسحاق الثَّعلبي بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: أقام رسولَ الله أيامًا لم يَطعَمْ طعامًا، فدار على منازل أزواجه، فلم يجد عندهنَّ شيئًا، فأتى فاطمةَ عليها السلام فقال: "يا بُنيَّةُ، هل عندك شيءٌ آكلهُ فإني جائع؟ " فقالت: لا واللهِ. فلما خرج من عندها بعثتْ إليها جارتُها برغَيفين وقطعةِ لحمٍ، فجعلت ذلك في جَفْنَةٍ وغَطَّتْهُ وقالت: والله لَأُوثِرَنَّ أبي، وكانت جائعةً هي ومَن عندها، ثم أرسلت الجَفْنةَ إليه مع الحسنِ والحسين، وفي رواية: فأرسلت إليه فجاء فقالت: يا أبه، قد أتانا الله بشيءٍ فخَبَّيْناه لك، فقال: هلمَّ، فأتَتْه بالجَفْنةِ، فكَشفها فإذا هي مملوءةٌ خُبزًا ولحمًا، فلما نظرت إليها بُهتَت وعرفت أنها بركةٌ من الله تعالى، فقال: يا بُنيَّةُ، أنَّى لك هذا؟ قالت: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] , فقال: "الحمد لله الذي جعلك يا بُنيَّةُ شبيهةً بسيّدة نساء بني إسرائيل، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئًا فسُئلت عنه قالت: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. ثم أكل رسول الله منها وعليٌّ وفاطمةُ والحسن والحسين وأزواجُ رسول الله وأهلُ بيته حتى شَبعوا. قالت: فاطمة: وبَقيت الجَفنةُ كما هي، فأوسعتُ منها على جيراني وجعل الله فيها بركةً وخيرًا (1).
وقال أحمد بإسناده عن أنس بن مالك: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَمرُّ بباب فاطمةَ إذا خرج إلى الصلاة، أو إلى صلاة الفجر، فيقول: "يا أَهلُ، الصلاةَ" وفي روايةٍ: "يا أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} الآية [الأحزاب: 33]. فعل ذلك ستَّةَ أشهر (2).
وقال أحمد بإسناده عن أنس: إن بلالاً أبطأ عن صلاة الصُّبح، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما حَبَسَك؟ " قال: مررتُ بفاطمة وهي تطحنُ، والصبيُّ يبكي، فقلتُ لها: إن شئتِ كَفيْتُك الرَّحى وكَفَيْتِني الصبيّ، وإن شئتِ كفيتُك الصبيَّ وكفيتني الرَّحى؟ فقالت: أنا أَرفَقُ بابني منك، فذاك حَبَسَني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فرَحِمْتَها يرحمك الله" (3).
__________
(1) قصص الأنبياء للثعلبي 376 - 377، وذكره ابن كثير في تفسير الآية (37) من آل عمران، وفي البداية والنهاية 8/ 646 - 647 وقال: هذا حديث غريب إسنادًا ومتنًا.
(2) مسند أحمد (13728).
(3) مسند أحمد (12524).
(5/56)
________________________________________
وقال أحمد بإسناده عن الحكم قال: سمعتُ ابنَ أبي ليلى يقول: حدَّثنا عليٌّ: أن فاطمةَ اشتكت ما تلقاه من أثر الرّحى في يدها، وأُتيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بسَبْيٍ، فانطلقتْ فلم تجِدْه، ولقيت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرتْه بمجيء فاطمة إليها، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أخذنا مَضاجِعَنا، فذهبنا لنَقومَ فقال: "على مكانكما"، فقَعد بيننا حتى وجدتُ بَرْدَ قدميه على صَدْري، فقال: "ألا أُعلّمكما خيرًا مما سألتُما؟ إذا أخذْتُما مضاجعكما أن تُكبِّرا الله أربعًا وثلاثين، وتُسبّحاه ثلاثًا وثلاثين، وتحمداه ثلاثًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادم". أخرجاه في الصحيحين، وفي رواية: "من خادمٍ وخادمة" (1).
ذكر وفاتها: قال ابن سعد بإسناده عن عامر قال: جاء أبو بكرٍ إلى بيت عليًّ لما مَرضت فاطمةُ، فاستأذن عليها، فقال عليٌّ: هذا أبو بكرٍ على الباب يَستأذن، فإن شئتِ أن تأذني له فَأْذني، قالت: وذاك أحبُّ إليك؟ قال: نعم، فأَذِنت له، فدخل واعتذر إليها، فرضيت عنه (2). وهذا يدلُّ على صِحّة الرواية أنها هَجرت أبا بكر مُدَّةَ حياتها.
واختلفوا في كيفيّة غسلها على أقوالٍ:
أحدها: أن الملائكة غَسَّلتها، قاله الهيثم.
والثاني: أن عليًّا عليه السلام غَسّلها، وهو الظاهر.
والثالث: أنها غَسّلت نفسَها، فقال أحمد بن حنبل في كتاب "الفضائل" بإسناده عن عُبيد الله بن علي بن أبي رافع، عن أبيه، عن أمه سَلمى قالت: اشتكت فاطمة، فأصبحتْ يومًا كأَمثلِ ما كانت، فخرج عليٌّ، فقالت: يا أمّاه، اسكُبي لي غُسْلاً، فسكبتُ لها، فاغتسلتْ ثم قالت: هاتي ثيابي الجُدُد، فأتيتُها بها، فلبستْها ثم قالت: قَدَّمي الفِراشَ إلى وَسَط البيت، فقدَّمَتْه، فاضجعتْ عليه، واستقبلت القبلة، وتبسَّمت، وما رأيتُها مُتَبسِّمةً إلا يومئذ، ووضعَتْ يدها تحت نَحْرِها وقالت: إني مقبوضةٌ، وقد اغتسلتُ فلا يَكشِفني أحدٌ، ثم قُبِضَتْ، ودخل عليٌّ فأخبرتُه، فبكى ثم قال: والله لا يَكشِفها أحدٌ، ثم حملها بغُسْلها ذلك فصلى عليها ودفنها (3).
__________
(1) مسند أحمد (1141)، وصحيح البخاري (3113) و (3705) و (5361) و (6318)، ومسلم (2727).
(2) طبقات ابن سعد 8/ 27.
(3) فضائل الصحابة (1074)، والمسند (27615).
(5/57)
________________________________________
ثم قال جدي: في إسناده محمَّد بنُ إسحاق وعليُّ بن عاصم، فأما ابن إسحاقٍ فكذَّبه مالك، وأما عليُّ بن عاصمٍ فكذَّبه يزيد بن هارون. قال جدي: والغُسْل إنما شرع لحَدَث الموت، فكيف يقعُ قبله؟ ثم قال: وقد احتجَّ أحمدُ والشافعيُّ في جواز غَسْلِ الرجل زوجته بأن عليًّا عليه السلام غَسَّل فاطمة (1).
والجواب: أما محمَّد بن إسحاق فقد وثَّقه أحمد بنُ حنبل وعامّةُ العلماء، وأخذوا عنه المغازي والسِّير وغيرهما، وكلامُ مالكٍ فيه فلغرضٍ نذكره في ترجمة ابن إسحاق (2).
وقولُه: الغُسْل للحديث بعد الموت، قلنا: يحتمل أنها كانت مخصوصةً بذلك لئلا يطَّلع عليها أحدٌ.
وأما قولُه: إن عليًا غَسَّل فاطمة، فهذا موضعُ الخلاف، فإنَّ عند أبي حنيفة ومالك: لا يحلُّ للرَّجل أن يُغسِّل زوجتَه لانقطاع الزوجية بينهما من وجهٍ (3)، وقد ذكرنا هذا في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما غسل عليًّ فاطمة فقد منعناه، ولو سَلِم فقد رُوي أن ابن مسعودٍ قال لعلي: غَسَّلت فاطمة؟ فقال: أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرني أنها زوجتي في الدنيا والآخرة. فدلَّ على أن الزَّوجيَّة باقيةٌ بينهما.
ولما غُسّلت حُمِلت على نَعْشٍ، قال ابن سعد: وهي أول من حُمِل عليه، ورواه ابن عباسٍ قال: فاطمة أوّلُ من جُعل لها النَّعشُ في المدينة، عملتْه لها أسماءُ بنت عُمَيْسٍ، وكانت قد رأتْه بأرض الحبشة (4).
وفي رواية ابن الكلبي أنها لما اشتدَّ بها المرضُ قالت لأسماء: يا أُمّاه، أُحمَلُ على سرير يراني الناس! ؟ فقالت لها: أَصنعُ لك كما كنا نَصنع بالحبشة، فعَمَدت إلى أعوادٍ فقطعتها، ثم عَملتها نَعشًا على السرير، فكان عمر بن الخطاب إذا رآه بعد ذلك
__________
(1) الموضوعات (1842)، والعلل المتناهية (419).
(2) انظر تهذيب الكمال وفروعه.
(3) انظر المغني لابن قدامة 3/ 461.
(4) طبقات ابن سعد 8/ 28.
(5/58)
________________________________________
يقول: نعم هَوْدَجُ الظَّعائن - يعني النساء - يُحملن عليه، أو الظَّعينة (1).
واختلفوا فيمن صلى عليها على أقوالٍ:
أحدها: عليٌّ والعباس، ونزلا في حُفرتها ومعهما الفضلُ بن العباس، وكان عليٌّ الإمام.
والثاني: أن العباس كان الإِمام. ذكر هذين القولين ابنُ إسحاق.
والثالث: عليٌّ وحده، ودَفَناها ليلًا. رواه ابن سعدٍ عن الواقدي قال: سُئل ابن عباس: متى دُفنت فاطمةُ؟ فقال: ليلًا، قيل: فمَن صَلَّى عليها؟ قال: عليٌّ.
والرابع: أبو بكر، حكاه ابنُ سعد عن شَبَابة بن سَوَّارٍ بإسناده عن إبراهيم قال: صلّى أبو بكرٍ على فاطمة وكبَّر عليها أربعًا.
قال الواقدي: والثَّبت عندنا أن عليًا عليه السلام دفنها ليلًا، وصلَّى عليها ومعه العباس والفضل، ولم يُعلما بها أحدًا، ولا بايعا أبا بكرٍ إلا بعد فاطمة. وشبابة بن سوَّار ضعَّفه الحُفَّاظ (2).
وقال علماء السَّير: لما دفنها عليٌّ وقف على قبرها وبكى وقال: [من الطويل]
لكلَّ اجتماعٍ من خَليلَين فُرْقَةٌ ... وكلُّ الذي دون المماتِ قليلُ
وإن افتقادي فاطمًا بعد أحمدٍ ... دليلٌ على أن لا يدومَ خليلُ (3)
قال الهيثم: ولما دفن عليٌّ فاطمةَ أتى إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف عليه وقال: السلامُ عليك يا رسول الله، وعلى ابنتِك النازلةِ في جوارك، السريعةِ اللحاق بك، قلَّ تصبُّري عنها، وضَعُف تَجَلُّدي على فراقها، إلا أن لي في التأسّي بعظيم فراقك، وفادح مُصابك مَقْنَعًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلقد استُرْجعتِ الوديعةُ وأُخِذَتِ الرَّهينةُ،
__________
(1) أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة (203) و (205)، وابن عبد البر في الاستيعاب (2411)، وذكره ابن الجوزي في المنتظم 4/ 95، وابن قدامة في التبيين 92، والذهبي في السير 54 (الخلفاء الراشدون)، والمحب الطبري في ذخائر العقبى 53.
(2) انظر طبقات ابن سعد 8/ 29 - 30، وتاريخ الطبري 3/ 240 - 241، والمصادر في التعليق السابق، وتهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال 2/ 260.
(3) التعازي للمبرد 205، والعقد 3/ 341، ومروج الذهب 4/ 161.
(5/59)
________________________________________
وستُنبِئك ابنتُك بما لقينا بعدك، هذا ولم يَطُل العهدُ، ولم تمتد المدَّةُ، فعليكما مني السلامُ، سلامَ مُوَدِّعٍ لا قالٍ ولا سَئمٍ، فإن أَنصرِفْ فلا عن مَلالةٍ، وإن أُقم فلا عن سوء ظنًّ بما وعد اللهُ الصابرين وأعدّ للمحزونِيْن (1).
وقال أحمد بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "يا أبا الريحانتَيْنِ، عن قليلٍ يَذهبُ رُكناك، والله خليفتي عليك", قال: فلما قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال علي: هذا أحدُ الرُّكنَين، فلما تُوفَّيت فاطمةُ قال: هذا الركنُ الآخر (2).
واختلفوا في المدَّة التي عاشت فيها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أقوال:
أحدها: ستة أشهر، قال الواقدي: وهو الثبت عندنا، رواه عروةُ عن عائشة.
والثاني: ثلاثة أشهر، قاله عمرو بن دينار. والثالث: شهران وعشرة أيام، قاله أبو الزبير.
والرابع: أربعون يومًا، قاله الهيثم، والأول أصحّ. وقد فَسَّرته عائشةُ فقالت: توفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، وتُوفيت فاطمةُ ليلة الثلاثاء لثماني عشرة ليلةً خلت من رمضان، وفي روايةٍ: لثلاثٍ خلوْنَ منه (3).
واختلفوا في مَبلغ سنِّها على أقوالٍ: أحدها ثمانيةٌ وعشرون سنةً وثمانية أشهر؛ لأنها وُلدت قبل النبوة بخمس سنين. قاله الواقدي. والثاني ثلاثون سنةً. والثالث: سبع وعشرون سنة، والأوَّل أصحّ. وذكر بعضُهم أَن عمرَها ثماني عشرة سنةً وليس هذا بشيءٍ (4).
واختلفوا في موضع قبرها، فذكر ابن سعدٍ عن الواقدي أنها دُفنت في زاوية دار عَقيل، وبين قبرها وبين الطريق سبعةُ أذرعٍ، قال: وقال عبد الله بن جعفر: ما رأيتُ
__________
(1) نهج البلاغة 2/ 182.
(2) فضائل الصحابة (1067) عن محمَّد بن يونس، عن حماد بن عيسى الجهني، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه عن جابر، وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 3/ 201، وابن عساكر في تاريخ دمشق 5/ 42 (مخطوط) بهذا الإسناد، قال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث جعفر، تفرد به عنه حماد بن عيسى ويعرف بغريق الجحفة، لم يكتبه إلا من حديث محمَّد بن يونس عاليًا.
(3) طبقات ابن سعد 8/ 28، وتاريخ الطبري 3/ 240، والذرية الطاهرة 151 - 152، والاستيعاب (3411)، وصفة الصفوة 2/ 14 - 15.
(4) انظر المصادر في الحاشية السابقة.
(5/60)
________________________________________
أحدًا يشكُّ أنَّها في ذلك الموضع.
قال: وقال الواقدي: أخبرني عبد الله بن جعفر، حدثني عبد الله بن الحسين قال: وجدتُ المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام واقفًا ينتظرني بالبقيع نصفَ النهار في حرٍّ شديدٍ، فقلتُ: ما يُوقفُك يا أبا هاشم ها هنا؟ قال: أنتظرك، بلغني أن فاطمة دُفنت في هذا البيت، في دار عقيل مما يلي [دار] الجَحشيِّين، فأُحبُّ أن تَبتاعه لي بما بلغ، أُدفن فيه. فقال عبد الله: والله لأفعلن. قال: فجهد بالعقيليين أن يبيعوه فأبَوْا. قال الواقدي: وهذا الموضعُ مما يلي دار الجحشيين مستقبل خَرجة بني نبيه من بني عبد الدار بالبقيع (1).
وقال قومٌ: إن عليًا عليه السلام لما دفنها عفَّى آثار قبرها، وقيل: بقي على حاله، فلما مات ولدُها الحسن دُفن إلى جانبها. وليس في الصحابيات من اسمها فاطمة بنت محمَّد - صلى الله عليه وسلم - غيرها.
وقد روت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرج لها ثمانية عشر حديثًا في المسند، منها ثلاثة أحاديث في الصحيحين.
ذكر أولادها الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب:
فتزوّج زينب عبد الله بن جعفر بن أبي طالبٍ، فولدت له عبد الله وعونًا، وماتت عنده.
وأَما أُم كلثوم فتزوَّجها عمر بن الخطاب فولدت له زيدًا ورُقيَّةَ، ثم قُتِل عنها، فخلف عليها بعد عمر عونُ بن جعفر فلم تَلِدْ له، ثم مات. وخلف عليها محمَّد بن جعفر فولدت له جاريةً ففارقَها، ثم خلف عليها بعده عبد الله بن جعفر فماتت عنده ولم تلد له.
فهؤلاء أولادُ فاطمة في أصحِّ الروايات. وزاد فيهم محمَّد بن إسحاق والليث بن سعد، فأما ابن إسحاق فقال: كان لها ولدٌ اسمه مُحَسِّن، وأما الليثُ فقال: كان لها رُقيةُ ماتت ولم تبلُغْ (2). وهذا ما انتهى إلينا.
* * *
__________
(1) طبقات ابن سعد 8/ 30، وانظر الإصابة.
(2) صفة الصفوة 2/ 9، وتلقيح فهوم أهل الأثر 32، ومن هنا إلى بداية السنة الثانية عشرة ليس في (ك).
(5/61)
________________________________________
فَرْوَة بن الحارث بن النعمان
من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه من بني عَدي بن النجار، شهد أُحدًا، واستُشهد يوم اليمامة، وأبوه الحارث بن النعمان شهد أُحدًا وقتل يوم مؤتة (1).
مالك بن عمرو
حليف لبني عبد شمس من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقتل يوم اليمامة شهيدًا باتفاقهم، وله رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).
مالك بن نُوَيْرَة (3)
ابن جَمْرَة بن شَدَّاد بن عُبيد بن ثعلبة بن يَرْبوع بن حَنْظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي اليَربوعي، وكان يُسمّى الجَفُول.
قال حصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ: لما صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجّة الوداع سنة عشر، وقدم المدينة بعث المصدِّقين في أول المحرم في العرب، فبعث مالك بن نُويرة على صدقات بني يربوع، وكان قد أسلم، وكان شاعرًا.
وقال أبو قتادة: كنا مع خالد بن الوليد حين خرج إلى أهل الردّة، فلما نزل البُطاح ادّعى أن مالكًا ارتد، واحتجَّ عليه بكلام بلغه عنه، فأنكر مالك ذلك، وقال: أنا على الإِسلام، وما غيَّرتُ ولا بَدَّلتُ، وشهد له أبو قتادة وعبد الله بن عمر، فقدَّمه خالد، وأمر ضِرار بنَ الأزور الأسدي فضرب عنقه، وكان من أكثر الناس شَعرًا، وقبض خالد امرأة مالك، وهي أم تميم، فتزوَّجها، وبلغ عمر بن الخطاب ما فعل، فقال لأبي بكر: إنه قد زنى فارجمه، فقال أبو بكر: إنه تأوَّلَ فأخطأ، ما كنت لأُشيمَ سيفًا سَلَّه الله عليهم أبدًا.
وقال التبريزي: كان مالك قد أسلم قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتَصدَّق، وكان عريف [ثعلبة بن] يربوع، فقُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإبلُ الصَّدقةِ برَحْرَحان، وهو ماءٌ دُوين بطنِ نخل، كثير الكلأ، فأغار عليه مالك، فاقتطع منها ثلاث مئة، فلما قدم بلاد بني تميم لامه الأقرع بن حابس وضِرار بن القعقاع، وبلغ مالكًا أن الأقرع وضرار يمشيان به [في] بني تميم، فقال يُعتبهما، ويدعو على ما بقي من إبل الصدقة: [من البسيط]
__________
(1) انظر الاستيعاب (2070)، والإصابة في ترجمة فروة.
(2) انظر الاستيعاب (2991)، والإصابة.
(3) سلف ذكر مالك في حروب الردة وخبره مطولًا.
(5/62)
________________________________________
أَراني الله بالنَّعَم المنَدَّى ... ببُرْقَةِ رَحْرَحان وقد أَراني
أإنْ قَرَّت عيونٌ واستُفيئتْ ... غنائمُ قد يجودُ بها بَناني
حويتُ جميعَها بالسيف صَلْتًا ... ولم تُرْعَد يداي ولا جَناني
تَمَشّى يا ابن عَوْذَةَ في تميمٍ ... وصاحبُك الأُقيرع تَلحَياني
فقل لابن المذَبِّ يَغضُّ طَرْفًا ... على قطع المذَلَّةِ والهوانِ (1)
من أبيات.
فلما قام أبو بكر، وبلغه قول مالك بعث خالد بن الوليد إلى مالك وقومِه، وقال: إن سمعتَ فيهم مؤذَّنًا فلا تَقتلْ منهم أحدًا، وعزم [على] خالد أنْ يَقتل مالكًا إنْ أخذه، فأقبل خالد حتى نزل الجَوَّ جَوَّ البعوضة وبه بنو يربوع، فبات عندهم ولا يخافونه، ثم مرَّ ببني غُدانة وبني ثعلبة، فلم يَسمع فيهم مُؤذّنًا، فأوقع بهم، فثاروا ولا يدرون مَن أوقع بهم، ولا مَن بَيَّتَهم، فلما رأوا الجيش قالوا: ما أنتم؟ قالوا: المسلمون، وكان مالك فيهم، فقال: ونحن المسلمون أيضًا، فلم يَسمع منهم، ووضعوا فيهم السيف، وأَعجل مالك عن لبس السِّلاح، وقُتلت غدانة وثعلبة أشدَّ القتل، وقامت ليلى بنت سنان بن ربيعة بن حنظلة امرأة مالك عريانة دون مالك، فأنفذت الرَّماح ساقيها, ولبس مالك أدَاتَه، وخرج فنادى: يا آل عبيد، فلم يُجبْه أحدٌ غير بني بَهان، ففرغ خالد منهم، وبقي مالك، فقال له خالد: يا ابن نويرة هلمَّ إلى الإِسلام، فقال مالك: وتعطيني ماذا؟ فقال: أُعطيك ذِمَّةَ الله وذِمَّة رسوله وذِمَّة أبي بكر وذمة خالد أنْ لا أجاوزَ إليك، وأن أقبلَ منك، فأعطاه مالك يدَه وخالد على تلك العزيمة من أبي بكر في قتله، فقال: يا مالك إني قاتلُك، فقال: لا تقتلني، فقال: لا بدّ، وأمر بقتله، فتهيب المسلمون ذلك, وقال المهاجرون: أتقتل رجلًا مسلمًا، وقد أعطيتَه ذمَّةَ الله وذمة رسوله، فقام ضِرارُ بن الأَزْوَر من بني كُوز، فقتله، وقيل: قتله عَبد بن الأزور أخو ضرار، وأقبل المِنْهال بن عِصمة الرِّياحي، فكفَّنَ مالكًا، ودَفنه، فذلك قول متمم: [من الطويل]
لقد كفَّنَ المِنهالُ تحت ردائه ... فتىً غيرَ مِبْطانِ العَشِيَّاتِ أَرْوَعا (2)
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لمُتَمّم بن نويرة: ما بلغ من حُزنك على أخيك؟ فقال:
__________
(1) شرح الحماسة للتبريزى 2/ 149، وطبقات ابن سلام 205 - 206، والأغاني 15/ 305، والخزانة 2/ 25.
(2) في (أ) و (خ): لعمري لقد كفن، وكلمة لعمري، أول بيت في هذه القصيدة، وباقي البيت: =
(5/63)
________________________________________
لقد مكثتُ سنة ما أنام بليلٍ حتى أُصبح، وما رأيت نارًا رُفعت بلَيلٍ إلا ظننتُ أن نفسي ستخرج، أذكرُ بها نارَ أخي، إنه كان يَأمرُ بالنار فتُوقد حتى يُصبح، مخافةَ أن يبيتَ ضيفُه قريبًا منه، فمتى رأى النار يلوي إلى الرحل وهو بالطيف يأتي متهجدًا أسر من القوم يقدم عليهم القادم لهم من السفر البعيد، فقال عمر: أكرم به.
وقال عمر يومًا لمتمم: خَبَّرنا عن أخيك، قال: يا أمير المؤمنين لقد أُسرتُ مرَّةً في حيٍّ من أحياء العرب، فأقبل أخي، فما هو إلا أن طَلع على الحاضر، فما أحدٌ كان قاعدًا إلا قام، ولا بقيت امرأة إلا تَطلَّعتْ من خِلال البيوت، فما نزل عن جمله حتى لقوه بي في رمتي، فحلَّني هو، فقال عمر: إن هذا لهو الشرف.
ورثى متمم أخاه مالكًا، من أبيات (1): [من الطويل]
وكنّا كنَدْمانَيْ جَذِيمةَ حِقبَةً ... من الدَّهر حتى قيل لن يَتصدَّعا
وعِشْنا بخيرٍ في الحياة وقبلَنا ... أصاب المنايا رهطَ كسرى وتُبَّعا
فلما تَفرَّقْنا كأني ومالكًا ... لطُول اجتماع لم نَبِتْ ليلةً معا
لقد غَيَّبَ المِنهالُ تحت ردائه ... فتىً غيرَ مِبْطانِ العَشِيَّات أَروعا
تَراه كنَصْلِ السَّيفِ يَهتزُّ للنَّدى ... إذا لم تجد عند امرئ السوءِ مَطْمَعًا
وما كان وَقَّافًا إذا الخيل أَحْجَت ... ولا طالِبًا من خَشْيَةِ الموتِ مَفْزَعَا
ولا بكَهَامٍ سيفُه عن عدوِّه ... إذا هو لاقى حاسرًا أو مُقَنَّعا
وإني متى ما أدعُ باسمِك لم تُجِبْ ... وكنتَ حَريًّا أن تُجيبَ وتسمعا
تحيَّتُه منِّي وإن كان نائيًا ... وأَمسى تُرابًا فوقه الأرضُ بَلْقَعا
وما شارِفٌ حَنَّتْ حنينًا ورَجَّعتْ ... أنينًا فأبكى شَجْوُها البَرْكَ أَجمعا
ولا ذاتُ أَظْآرٍ ثلاثٍ رَوَائمٍ ... رأَيْنَ مَجَرًّا من حُوارٍ ومَصْرَعَا
__________
= لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع مما أصاب فأوجعا
انظر المفضليات 526، وشرحه لابن الأنباري 2/ 64، وللتبريزي 1167، وأمالي اليزيدي 18، وطبقات ابن سلام 209، والأغاني 15/ 307، والعقد الفريد 3/ 263 - 264، وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 150، والخزانة 2/ 27، وغيرها كثير.
(1) سلف تخريج القصيدة، وسياق القصيدة هنا مختلف عن المصادر.
(5/64)
________________________________________
بأَوجدَ منّي يوم قامَ بمالكٍ ... مُنادٍ فَصيحٌ بالفِراقِ فأَسْمعا
سَقى اللهُ أرضًا حَلَّها قبرُ مالكٍ ... ذِهابَ الغَوادي المُدْجِناتِ فأَمْرَعا
وآثَرَ بطنَ الوادِيَيْنِ بمُزْنَةٍ ... تُرَشِّحُ وسْمِيًّا من النَّبتِ خِرْوَعا
وقال الرِّياشِيّ: صلى أبو بكر - رضي الله عنه - ومُتَمّمٌ خلفَه، فقام مُتَمّم، وبكى بكاءً شديدًا وقال: [من الكامل]
نِعْمَ القتيلُ إذا الرِّياحُ تَناوَحَتْ ... بين البُيوتِ قتلتَ يا ابن الأَزْوَرِ
لا يُضْمِرُ الفَحشاءَ تحت رِدائه ... حُلْوٌ شَمائلُه عَفيفُ المِئزرِ
أَدعَوْتَه بالله ثم قتلتَه ... لَوْ هُو دَعاكَ بذِمَّةٍ لم يَغدِرِ
ثم بكى حتى سالت عينُه العوراء، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: والله ما دعوتُه ولا قتلتُه (1).
وقال متمم: [من الطويل]
لقد لامَني عند القبورِ على البُكا ... رَفيقي لتَذْراف الدُّموعِ السَّوافِكِ
فقال أتَبكي كلَّ قبرٍ رأيتَه ... لقبرٍ ثَوى بين اللِّوى فالدَّكادِكِ
فقلتُ له إن الشَّجا يَبعث الشَّجا ... فدَعْني فهذا كلُّه قبرُ مالكِ (2)
مسعود [بن سنان]
من الطبقة الثانية من الأنصار، حضر مع عبد الله بن عَتيك مَقتل سَلّام بنِ أبي الحقيق، وهو ممن شهد اليمامة، [واستُشهد فيها] (3).
مَعْن بن عديّ
ابن الحارث بن العَجْلان، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العقبةَ مع السّبعين، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين زيد بن الخطاب، واستُشهدا جمعيًا يوم اليمَامة (4).
__________
(1) التعازي والمراثي للمبرد 20، والأغاني 15/ 306.
(2) التعازي والمراثي 88، والعقد الفريد 3/ 262 - 263، وشرح ديوانه الحماسة للمرزوقي 797، وللتبريزي 2/ 148.
(3) انظر الاستيعاب (2440)، وسيرة ابن هشام 2/ 274، والبداية والنهاية 9/ 505.
(4) طبقات ابن سعد 3/ 465، والاستيعاب (2430)، والمنتظم 4/ 96.
(5/65)
________________________________________
السنة الثانية عشرة من الهجرة
قد ذكرنا انفصال خالد عن اليمامة، وكتاب أبي بكر رضوان الله عليه إليه بالمسير إلى العراق، فمن الناس مَن يقول: إنه رجع من اليمامة إلى المدينة، فقَدم على أبي بكر، فأوصاه بما يَعتمده، ثم سار إلى العراق. ومنهم مَن يقول: إنه سار من اليمامة إلى العراق، وهو الظاهر، فسار بمَن معه من بني تميم وأسد وقيس وعبد القيس والمهاجرين، وجاءه كتاب أبي بكر - رضي الله عنه -: أن دوخ (1) الغراق من أسفلها، فابدأ بفَرْج الهند، وهو الأُبُلَّة، وفارس، وتألَّف تلك الأمم (2).
فخرج من اليمامة في أول المحرَّم من هذه السنة، فسلك على طريق الكوفة، فانتهى إلى السَّواد، فنزل بقُرَيّات يقال لها: بانِقْيا وبارُوسْما واُلَّيْس، وبها رجل يقال له: ابنُ صَلوبا، فصالحه على أهلها، فقبل خالد منه الصُّلح والجِزية، وكتب له كتاب أمان نُسختُه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا كتابُ أمانٍ من خالد بن الوليد سيف الله وسيف رسوله لابن صَلوبا السَّواديّ، ومنزلُه على شاطئ الفرات، إنه آمن بأمان الله تعالى، إذ حقن دمَه بأداء الجزية، وله ذِمَّةُ الله وذمة رسوله والمؤمنين. وأشهد في الكتاب أخاه هشام بنَ الوليد.
ثم سار، فنزل الحيرة وبها إياس بنُ قَبيصَة الطائي، وكان كسرى قد ولَّاه إمارةَ العرب بعد النعمان بن المنذر، فلما رأى جيوش خالد خرج إليه في أعيان العرب وأشرافهم، فقال لخالد: ما الذي أَقدمك علينا؟ فقال: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أَجبتُم فأنتم من المسلمين، وإن أَبيتُم فالجزية، فإن أَبيتُم جاهدتُكم برجالٍ هم أحرص على الموت منكم على الحياة، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فقال له إياس: ما لنا بحربك من طاقة، بل نُقيم على ديننا، ونُصالحك على ما نَتَّفق عليه، فصالحه على تسعين ألف درهم كل سنة، وضمَّ خالد تلك إلى ما صالح عليه ابن صَلوبا، وبعث بها إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فكانت أول جزية وقعت بالعراق.
__________
(1) كذا، والذي في الطبري 3/ 343، والمنتظم 4/ 97: أن يدخل العراق من أسفلها.
(2) في الطبري 3/ 343: وابدأ بفرج الهند وهي الأبلة، وتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم من الأمم.
(5/66)
________________________________________