الكتاب: الأبله – الجزء الثاني
المؤلف: دوستويفسكي
المترجم: سامي الدروبي
الطبعة الأولى، 2010
الجزء الثالث
الفصل الأول
يُشتكى عندنا دائماً من أننا يعوزنا أناس عمليون. فيقال مثلاً إن هناك وفرة في رجال السياسة، وإن هناك كثيراً من الجنرالات، وإننا إذا احتجنا إلى رؤساء للمشروعات، أياً كان العدد الذي نريده منهم، فسوف نجد ضالتنا من جميع أنواعهم فوراً. أما الناس العمليون فلا نقع عليهم، أو قل على الأقل إن جميع الملأ يتشكون من أنهم لا يقعون عليهم. حتى ليقال إن بعض الخطوط الحديدية لا وجود فيها لموظفين يحسنون القيام بأعمالهم البتة؛ ويزعم بعضهم أنه يستحيل كل الاستحالة على شركة من شركات الملاحة أن يتوفر لها موظفون فنيون ولو على درجة متوسطة من الكفاءة. فتارة يصل إلى علمنا أن عربات الركاب، على خط جديد من خطوط السكك الحديدية، قد تصادمت أو تهاوت مع جسر من الجسور. وتارة نقرأ أن قطاراً بقي متعطلاً وسط حقل من الثلج حتى أوشك أن يعجز عن استئناف المسير طوال فصل الشتاء فإذا بالمسافرين الذين كانوا يظنون أنهم لن يغيبوا إلا بضع ساعات، يلبثون في الثلج خمسة أيام. وتارة يُروى أن ألوفاً كثيرة من أرطال البضائع قد فسدت لبقائها في مكانها شهرين أو ثلاثة أشهر بانتظار نقلها. وتارة يذكر (وهذا شيء لا يكاد يُصدّق) أن واحداً من موظفي الإدارة، هو مراقب من المراقبين مثلاً، لم يجد ما يردّ به على طلب مندوب أحد التجار، الذي كان يستعجله شحن البضاعة، إلا أن يصفعه على وجهه، فلما سئل عن فعلته لم يزد على أن صرح بأنه «غضب». والمكاتب تبلغ من الكثرة في دوائر الدولة أن المرء يرتعش حين يفكر فيها. إن جميع الناس عملوا موظفين في الحكومة، أو يعملون موظفين أو يأملون أن يعملوا موظفين. هل يصدّق العقل أننا لا نستطيع أن نعثر بين هذه الوفرة الهائلة من الناس على قلة قليلة تصلح لأن تعمل في شركة ملاحة؟
هذا سؤال يجيب عنه بعضهم إجابة مسرفة في البساطة، حتى لتبلغ من إسرافها في البساطة أن المرء يصعب عليه أن يقبلها. يقول هؤلاء: إن جميع الناس في بلادنا قد عملوا موظفين أو ما يزالون يعملون موظفين، فهذا يدوم في الواقع منذ مائتي عام، يتوارثه الناس أحفاداً عن أجداد، على غرار خير قدوة أخذناها عن الألمان. والذين يعملون في الوظائف هم أنفسهم أبعد الناس عن ما يزالان إلى عهد قريب يُعدّان بين الموظفين فضيلة بارزة ولقباً رفيعاً.
ولكن علام نتكلم عن الموظفين بينما كان غرضنا في الواقع أن نتحدث عن الناس العمليين عامة؟ هنا نستطيع أن نقول في غير شبهة إن الوجل وفقدان المبادرة الشخصية كانا يُعدّان دائماً في بلادنا خير علامة أساسية يُعرف بها الإنسان العملي. وحتى في زماننا هذا ما يزال الناس يرون هذا الرأي. ولكن لماذا نتهم أنفسنا، هذا إذا صحّ أن في هذا الرأي اتهاماً؟ إن فقدان التفرّد والأصالة قد غدَ في جميع البلاد وفي جميع الأزمان ميزة أولى ومدخلاً مضموناً لشخص قادر على النجاح في الأعمال وعلى امتلاك الحسّ العملي، أو قل إن تسعة وتسعين في المائة من الناس (على الأقل) كانوا يرون هذا الرأي دائماً، وإن واحداً في المائة منهم (على الأكثر) كان دائماً وما يزال لا يرى ذلك الرأي.
إن المخترعين والعباقرة قد نظر إليهم المجتمع في جميع الأزمان تقريباً نظرته إلى أناس حمقى، وذلك في بداية حياتهم (وإلى آخرها في كثير من الأحيان). هذه ملاحظة معروفة شائعة حتى لتكاد تكون مبذولة. فطوال عشرات السنين مثلاً ظل الناس يودعون أموالهم في مصرف لومبارد مختزنين المليارات بفائدة 4%، فلما توقف مصرف لومبارد عن العمل، فصار كل إنسان متروكاً لمبادرته الشخصية، كان لا بدّ أن نرى أكثر تلك الملايين تتبخر بين أيدي محتالين في غمرة حُمّى من المضاربات، فتلك هي النهاية المنطقية للآداب الاجتماعية والأخلاق الحسنة، وإنما أقول «الأخلاق الحسنة»، لأنه إذا كان الخجل المناسب والابتعاد المحتشم عن التفرّد والأصالة قد عدّهما مجتمعنا في رأي جميع الناس ميزة ملازمة لكل إنسان جاد محترم، فإن تغيير المرء طريقة سلوكه وأسلوب حياته فجأة لا بد أن يشتمل، إذا هو حدث، على تناقض قوي واضطراب شديد وتفكك كبير، بل لا بدّ أن يكون فيه شيء من مجافاة اللياقة وقلة الأدب.
من هي، على سبيل المثال، الأم التي لا يجعلها حبها لأولادها وحنانها عليهم تخاف خوفاً قد يهوي بها إلى المرض إذا هي رأت ابنها أو ابنتها يبتعدان ولو قليلاً عن السكة المرسومة والطريق الممهد؟ إنها تقول لنفسها: «لا، لا، لا نريد تفرّداً وأصالة! إني لأوثر له السعادة والعيش في يسر». إن كل أم تفكر هذا التفكير وهي تدلل ولدها. أما المربيات عندنا فإنهن من قديم الزمان يهدهدن أولادنا في مهودهم بأغنيتهن الأبدية: «الذهب سيحوطك، وجنرالاً سوف تصبح». هكذا نرى أن مربيات أولادنا أنفسهن قد نظرن دائماً إلى لقب الجنرال على أنه المقياس الأسمى للسعادة الروسية. معنى ذلك أن هذه الرتبة تعدّ هي المثل الأعلى الذي يحظى باحترام الناس كافة، وتُعدّ الرمز إلى هناءة فاتنة هادئة. وفي الواقع، أي رجل في روسيا لم يكن متأكداً من أنه بالغ رتبة جنرال في يوم من الأيام، وصائرٌ إلى اختزان مبلغ من المال في مصرف لومبارد، متى استطاع أن ينجح في الامتحانات المطلوبة، امتحان وراء امتحان، ومتى خدم الدولة خمسة وثلاثين عاما؟ على هذا النحو إنما كان الروسي يحصل آخر الأمر، من دون جهد تقريباً، على سمعة أنه رجل قادر عملي. والواقع أنه ليس في روسيا إلا أفراد فئة واحدة لا يستطيعون أن يصلوا إلى رتبة جنرال: أولئك هم ذوو الأفكار المتفرّدة الأصيلة، أعني أهل القلق الذين لا يستقرون على حال. قد يشتمل كلامي هذا على سوء فهم. ولكن هذه الملاحظة تبدو صحيحة صادقة، ولقد كان المجتمع الروسي مبنيا على تعريف مثله الأعلى في الإنسان العملي هذا النحو من التعريف.
لكن ها نحن أولاء قد نأينا كثيراً عن موضوعنا، وهو أن نقدم بضع إيضاحات عن أسرة إيبانتشين.
إن أفراد إيبانتشين، أو الميالين منهم إلى التأمّل أكثر من الباقين، يعانون من خصلة مشتركة بينهم جميعا هي نقيض تلك الميزات التي تحدثنا عنها منذ قليل. ولقد كانوا يشتبهون أحياناً في أن الأمور عندهم لا تجري كما تجري عند سائر الناس، دون أن يدركوا ذلك إدراكاً تاماً (وهو أمر صعبٌ إدراكه على كل حال). إن الطريق المستوية الممهدة بالنسبة إلى الآخرين هي بالنسبة إليهم وعرة ملأى بالحجارة. الناس ينزلقون على السكة انزلاقاً سهلاً ليناً، أما هم فينزلقون عنها في كل لحظة. لدى الآخرين يسيطر وجل شديد وخوف حصيف، أما لديهم فلا شيء من ذلك. صحيح أن إليزابت بروكوفيفنا كانت تنتابها مخاوف فيها غلو، ولكن تلك المخاوف لا تشبه في شيء ذلك الوجل اللائق وذلك الخجل المفيد اللذين كان يحزن أفراد أسرة إيبانتشين حرمانهم منهما. ولعل إليزابت بروكوفيفنا كانت الوحيدة التي يحزنها ذلك على كل حال. لقد كانت الآنسات، رغم صغر سنهن، ينعمن منذ الآن بفكر نقاد ساخر فيه تحد، وفيه ذكاء وفطنة ونباهة. أما الجنرال فكان ينفذ إلى غور الأشياء (ولو بشيء من البطء)، لكنه في الحالات المربكة لا يزيد على أن يهمهم قائلاً «هم»، ثم ينتهي به الأمر إلى الاعتماد على إليزابت بروكوفيفنا اعتمادا كاملا بحيث تقع التبعة كلها عليها وتكون وحدها المسؤولة.
لا يمكن أن نقول مع ذلك إن هذه الأسرة تتميز إلى درجة بعيدة بروح المبادرة الخاصة ولا إنها تبيح لنفسها أن تنقاد لميل واع إلى التفرد والأصالة، وإلا كان ذلك شذوذاً غير لائق. لا، لا، لم يكن ثمة شيء من هذا في حقيقة الأمر، لم يكن ثمة شيء يشتمل من جهتها على سابق قصد وعمد. ومع هذا لم تكن هذه الأسرة، مهما نقل إنها أسرة محترمة، لم تكن في الحساب الأخير ما ينبغي لها أن تكون على وجه الدقة والتمام حتى يصدق عليها التعريف الشائع للأسرة المحترمة. وقد اعتقدت إليزابت بروكوفيفنا في الآونة الأخيرة أنها وحدها، بما تتصف به من طبع «شقي»، هي سبب هذا الشذوذ في الأسرة، فما كان من هذا الاعتقاد إلا أن زاد آلامها وضاعف تباريحها. فكانت تؤاخذ نفسها في كل لحظة على «جموحها الطائش غير اللائق»، حتى لقد أخذت تفقد صوابها مغمومة مهمومة خائفة مرتابة. فلا تجد مخرجاً من أيسر التعقيدات ولا تجد حلاً لأبسط المشكلات، وما تنفك تمضي بالأمور من سيئ إلى أسوأ.
لقد قلنا منذ بداية قصتنا إن أسرة إيبانتشين كانت تحظى بتقدير ينعقد عليه إجماع الناس حقاً. فالجنرال إيفان فيدوروفتش نفسه، رغم انه مغمور الأصل، كان يستقبل في كل مكان بتعظيم لا مراء فيه. ولقد كان يستحق هذا التعظيم على كل حال، أولاً لأنه ليس «أي شخص»، ولأنه رجل طائل الثراء؛ وثانياً لأنه رفيع التهذيب رقيق الحاشية، فليس يضيره أن يكون محدود المواهب. غير أن شيئاً من ثقل الفكر وكثافة الذهن ميزة تكاد تكون ضرورية فيما يظهر، فإن لم تكن ضرورية لكل رجل منخرط في الأعمال، فهي ضرورية على الأقل لكل رجل حريص على الانتفاع ساع إلى الفائدة. ثم إنه كان راقي الآداب والسلوك. كان متواضعاً، وكان يعرف كيف يصمت، دون أن يتيح لأحد مع ذلك أن يدوس على قدميه، لا بسبب رتبته فحسب، بل لأنه رجل يحترم نفسه ويحترمه غيره. وهو فوق ذلك كله رجل له سند قوي يحميه.
أما إليزابت بروكوفيفنا فهي تنحدر من أسرة طيبة كما سبق أن قلنا. والمحتد لا يكون له وزن كبير في بلادنا إن لم تشفعه علاقات وصلات لا بد منها. وقد حصّلت إليزابت بروكوفيفنا هذه العلاقات والصلات آخر الأمر، فكانت تُحترم وتُقدّر، حتى لقد ظفرت بمودة أناس كان لا بد للجميع أن يقتدوا بهم فيعظموها ويستقبلوها. ومما لا شك فيه أن أحزانها العائلية لم يكن لها أسباب تسوّغها، أو هي ترجع إلى أسباب تافهة يضخمها خيالها تضخيماً مضحكاً. ولكن يكفي أن يكون للمرء ثؤلول في أنفه أو جبينه حتى يتخيل أن جميع الناس لا يفكرون إلا في النظر إلى هذا الثؤلول، وفي الضحك منه، وفي نقد صاحبه، ولو كان صاحبه هذا هو مكتشف أمريكا. ومما لا شك فيه أيضاً أن إليزابت بروكوفيفنا كانت تُعدّ في المجتمع «شاذة» بعض الشذوذ، دون أن يقلل هذا من الاحترام الذي كانت تحاط به. لكنها أصبحت تشك في هذا الاحترام آخر الأمر، فكان هذا هو شقاءها كله. فهي حين تنظر إلى بناتها تتخيل متألمة أن طبعها المضحك، غير اللائق، الذي لا يطاق، يؤذي حالة بناتها ويسيئ إلى مستقبلهن، ومع ذلك كان هذا نفسه هو ما تتهم به بناتها وتأخذه عليهن وتأخذه على إيفان فيدوروفتش، فهي تشاجرهن وتشاجره أياماً بكاملها، دون أن تكف رغم ذلك عن أن تحبهم جميعا حبا يمضي إلى حد التضحية بالنفس، ويبلغ درجة الهوى العارم.
وكان يعذبها خاصة أن تتصور أن بناتها قد أخذن يصبحن «شاذات»، مثلها هن أيضاً، وأنه لا يوجد ولا يمكن أن يوجد على وجه الأرض فتيات من نوعهن. كانت ما تنفك تردد على نفسها قولها: «لسوف يصبحن من أنصار المذهب العدمي». وقد أخذت هذه الفكرة الحزينة ترسخ في ذهنها مزيداً من الترسخ العميق منذ سنة. وكانت تتساءل: «فأولاً: لماذا لا يتزوّجن؟ إنهن وجدن لتعذيب أمهن. ذلك هو هدف وجودهن. ولا غرابة في هذا على كل حال. فهو ثمرة الأفكار الجديدة، وهو خاصة ثمرة تلك القضية اللعينة، قضية المرأة! ألم تتخيل آجلايا منذ ستة أشهر أن تقص شعرها الرائع؟ يا رب! ألا إن شعري أنا لم يكن جميلاً هذا الجمال في غضارة صباي! لقد أمسكت المقص بيدها، وأوشكت أن تفعل فعلتها لولا أن تضرعتُ إليها جاثية على ركبتي.. ولنسلّم أن آجلايا إنما تظاهرت تظاهراً بأنها تريد أن تقص شعرها، لا لشيء إلا أن تشير حنق أمها، فهي فتاة شريرة، طاغية، مدللة، شريرة خاصة، نعم شريرة!... ولكن ما قولنا بألكسندرا الكبيرة؟ ألم توشك أن تقلدها فتقص شعرها؟ لم يكن الأمر عند ألكسندرا مكراً أو نزوة، بل كان عن بساطة تامة. لقد أدخلت آجلايا في روع تلك الحمقاء أنها إذا حلقت رأسها فسوف تنام نوماً أهدأ وسوف تتخلص من الصداع الذي يصيبها! وما أكثر الرجال اللائقين الذين تقدموا يخطبونها منذ خمس سنين إلى الآن! إن بينهم رجالا كانوا ممتازين حقا، بل رائعين!! وماذا ينتظرنا؟ لماذا لا يتزوجن إذا لم يكن هدفهن إلا أن يغضبن أمهن؟ لا شك أن السبب الوحيد هو هذا!..»
ولكن هذا يوم جميل يسطع أخيراً أمام قلبها، قلب الأم. إن إحدى بناتها، آديلائيد على الأقل، تهم أن تتزوج. «هذه واحدة تنزل عن ذراعي!» كذلك قالت الأم حين أتيح لها أن تعبر عن ذات نفسها بصوت عال (ولكنها كانت في قرارة قلبها تجد ألفاظاً أملأ بالعاطفة والحنو): «ولقد تم الأمر على أحسن نحو، وأليق صورة! فحتى في المجتمع الراقي تحدث الناس عن الخطوبة بتقدير واحترام. إن الخطيب رجل معروف. إنه أمير. وهو ثري. وهو حسن الطبع. وقد حظي فوق ذلك باستلطافها. هل يرغب المرء في أكثر من ذلك؟ على أن مستقبل آديلائيد كان دائماً لا يثير في نفس الأم من المخاوف مثل الذي يثيره مستقبل أختيها، رغم أن الميول الفنية لدى هذه البنت الوسطى قد ألقت اضطراباً عميقاً في قلب الأم الذي كان يعذبه شك متصل لا ينقطع»، ولكن الأم قد انتهت إلى القول من باب تعزية نفسها: «إن للفتاة طبعا مرحا في مقابل ذلك، وإن لها فوق هذا كثيراً من سداد الرأي وسلامة الحس».
وكانت الأم تخاف على آجلايا خاصة. أما عن ألكسندرا فكانت الأم لا تدري هي نفسها في حقيقة الأمر أينبغي لها أن تقلق عليها أم لا. كان يخيل إليها أحياناً أن هذه البنت «لم يبق لها مستقبل». إنها في الخامسة والعشرين من عمرها. فأغلب الظن أنها ستبقى عانساً. «وما أجملها مع ذلك!». وكانت الأم تبلغ من الحزن عندئذ أنها تروح تبكي ليالي بكاملها مفكرة في ألكسندرا، بينما تكون ألكسندرا في تلك الليالي نفسها غارقة في نوم هادئ هادئ!. «ما حقيقة أمر هذه البنت؟ أهي من أنصار المذهب العدمي، أم هي غبية حمقاء لا أكثر من ذلك؟». أما أنها ليست غبية حمقاء، فذلك أمر كانت تعرفه إليزابت بروكوفيفنا حق المعرفة، حتى لقد كانت تحترم آراء ألكسندرا احتراماً كبيراً، وكان يسرها أن تستشيرها. ولكن لا شك في أن ألكسندرا (دجاجة مبتلة): «إنها تبلغ من فرط الهدوء أن لا سبيل إلى تعكير صفوها. آه!... إنهن يفقدنني صوابي!» كانت تحس نحو ألكسندرا بحب رقيق وحنان شديد لعله أقوى من شعور الحنان الذي تحسه نحو آجلايا، مع أن آجلايا هي معبودتها. غير أن تلك الاندفاعات الغاضبة (التي كانت المظهر الرئيسي لما يضطرم في نفسها من عطف الأم وحنوّها وحدبها) وكذلك تلك الاستفزازات وتلك الألقاب، كقولها «دجاجة مبتلة» لم تكن تزيد على أن تثير في ألكسندرا الابتسام.
وكانت أتفه الأمور تخرجها في بعض الأحيان عن طورها. من ذلك، على سبيل المثال، أن ألكسندرا كانت تحب أن تنام مدة طويلة، وكانت ترى في العادة أحلاماً كثيرة. ولكن تلك الأحلام كانت تتميز دائماً بتفاهة نادرة، وكانت بريئة براءة أحلام طفل في السابعة من عمره. فكانت هذه البراءة نفسها تغيظ الأم وتحنقها، لا يدري أحد لماذا. من ذلك أن الفتاة رأت في حلمها ذات ليلة تسعة دجاجات، فما كان أعنف الشجار الذي قام بينها وبين أمها بسبب ذلك الحلم! لماذا! إنه يصعب على المرء أن يجيب عن هذا السؤال. وفي مرة من المرات، في مرة واحدة، اتفق لها أن رأت حلماً فيه شيء من الطرافة: رأت راهباً معتكفاً في نوع من غرفة مظلمة خافت أن تدخلها. فلما قصّت حلمها على أختيها انفجرتا تضحكان، وأسرعتا إلى إليزابت بروكوفيفنا منتصرتين تقصان عليها ذلك الحلم. فغضبت الأم من جديد ووصفتهن جميعاً بأنهن «بلهاوات». وقالت تحدث نفسها «هم... إنها متبلدة الإحساس كبهيمة. هي «دجاجة مبتلة» تماماً. لا سبيل إلى إخراجها من تخدّر الشعور. ثم إنها حزينة. إن نظرتها تتجلّل أحياناً بأسى وكآبة. ما مصدر حزنها؟». وكانت إليزابت بروكوفيفنا تلقي هذا السؤال أحياناً على إيفان فيدروفتش، تلقيه متجهمة الهيئة بلهجة مهدّدة تطلب جواباً على الفور. فكان الجنرال يجمجم ويهمهم « هم... هم...» ويقطّب حاجبيه، ويرفع كتفيه، ثم يعلن أخيراً وهو يباعد ذراعيه:
– هي في حاجة إلى زوج!
فإذا بإليزابت بروكوفيفنا تنفجر انفجار قنبلة، وتصرخ قائلة:
– أسأل الله، على الأقل، أن لا يكون ذلك الزوج مثلك. إنني آمل أن لا يشبهك لا في آرائك ولا في أحكامك يا إيفان فيدوروفتش! آمل أن لا يكون فظا غليظ القلب مثلك يا إيفان فيدوروفتش!..
فكان الجنرال يولّي هارباً، فتهدأ إليزابت بروكوفيفنا بعد «انفجارها». ثم لا يفوتها، طبعاً، في مساء ذلك اليوم نفسه أن تبدي بشاشة عظيمة ولطافة غير معهودة، فهي تظهر رقة وعذوبة ولطفا وتحبباً واحتراماً وتوقيراً لزوجها «الفظ الغليظ القلب» إيفان فيدوروفتش، لزوجها الطيب العزيز الحبيب المعبود إيفان فيدوروفتش. ذلك أنها قد أحبته طوال حياتها، أحبته حباً قوياً صادقاً، وذلك ما كان إيفان فيدوروفتش نفسه يعلمه حق العلم، ويكافئ عليه إليزابت بروكوفيفنا بتقدير لا حدود له.
ولكن العذاب الأساسي، العذاب الدائم المقيم في قلب إليزابت بروكوفيفنا إنما كان ابنتها آجلايا. كانت الأم تقول لنفسها: «إنها مثلي تماماً. هي صورتي من جميع النواحي: شيطان مستبد صغير! عدمية، شاذة، طائشة، شريرة، شريرة، شريرة! آه... يا رب! ما أكثر ما ستلقى في حياتها من شقاء!!...».
غير أن الشمس كانت قد طلعت فأنارت ولطّفت كل شيء، فترة قصيرة على الأقل. لقد عاشت إليزابت بروكوفيفنا قرابة شهر، متحررة من جميع أنواع القلق والغم التي كانت تستبد بها. أخذ الناس في المجتمع الراقي، بمناسبة زواج آديلائيد القريب، يتكلمون أيضاً عن آجلايا. وكانت آجلايا تتصرف في كل مكان تصرفاً لطيفاً كيساً! كانت لبقة السلوك متوقدة الذهن في آن واحد. وكانت هيئتها الآسرة، التي يمازجها شيء من كبرياء، تناسبها كثيراً! وهي منذ شهر كامل تعامل أمها معاملة فيها أكبر الملاطفة وأعظم البشاشة! («صحيح أنه ما يزال ينبغي أن يُدرس أوجين بافلوفتش هذا دراسة جيدة، وأن تُعرف حقيقته معرفة صحيحة. ثم إن آجلايا نفسها لا تظهر له من المودّة أكثر مما تظهر للآخرين على كل حال»). ولكن آجلايا قد أصبحت فتاة بارعة الفتنة رائعة الجمال على حين فجأة! رباه رباه! ما أجملها! وإنها لتزداد جمالاً في كل يوم!
ولكن...
ولكن ما إن ظهر هذا الأمير الصغير الوغد، ما إن ظهر هذا الأبله المعتوه، حتى انقلب كل شيء رأساً على عقب من جديد، وانقلب البيت عالِيَه سافِلَه! فماذا حدث؟
الحق أنه لم يحدث شيء إلا في نظر إليزابت بروكوفيفنا. ولكن إليزابت بروكوفيفنا إنما كانت تتميز بأن ترابط وتسلسل حوادث عادية جداً كانا يحدثان في نفسها القلقة مخاوف أليمة يغذيها الخيال ولا يمكن أن يفسرها عقل، حتى لقد كانت تسقط بسبب ذلك مريضة في بعض الأحيان. ففي وسعكم أن تتصوروا ما لا بدّ أن تكون قد عانته من ألم حين انبثق في وسط عدد كبير من الهواجس السخيفة الوهمية حادث بدا أن له خطورة حقيقية فكأنه يسوّغ القلق والاضطراب والشك والريب.
قالت إليزابت بروكوفيفنا محدثة نفسها طوال الطريق بينما كانت تقود الأمير، ثم في دارها حين أجلسته إلى المائدة المستديرة التي كانت تتحلق حولها الأسرة كلها: «كيف تجرؤوا أن يكتبوا إليّ تلك الرسالة المنحوسة الغفل التي تدعى أن لهذا «المخلوق» علاقات بآجلايا؟... بل كيف أمكن أن تخطر هذه الفكرة على بال إنسان؟ لسوف أموت من شعوري بالعار لو صدّقت كلمة واحدة منها، أو أظهرت آجلايا على الرسالة! أيسخرون هذا السخر منا نحن آل إيبانتشين! وذلك كله بسبب إيفان فيدوروفتش. ذلك كله بسببك أنت يا إيفان فيدوروفتش! آه... لماذا لم نذهب إلى جزيرة يالاجين فنسكن الفيلا التي نملكها هناك ؟ لقد قلت إن علينا أن نذهب إلى يالاجين! ربما كانت فاريا هي التي كتبت تلك الرسالة! نعم، أنا أعلم ذلك؛ أو ربما كان.. آه.. ذلك كله ذنب إيفان فيدوروفتش! لقد تخيلت تلك المخلوقة أن تدبر له مثل هذه المكيدة تذكيراً بعلاقات قديمة لتجعله في وضع مضحك. هذا يذكر بالزمان الذي كان يحمل إليها فيه لآلئ بينما كانت هي تضحك عليه وتشده من طرف أنفه كمعتوه!... ولكن ها نحن أولاء قد تعرّضت سمعتنا للسوء نحن أيضاً. نعم يا إيفان فيدوروفتش، لقد تعرّضت سمعة بناتك للسوء، بناتك اللواتي هن أوانس أرقى مجتمع، وفتيات على أهبة الزواج. لقد كن حاضرات؛ بقين هناك، فسمعن كل شيء، حتى لقد أقحمن في تلك الأمور السيئة. هل سررت الآن؟ هناك أيضاً كن حاضرات وسمعن الكلام. لن أغفر لهذا الأمير الصغير الشقي في يوم من الأيام. لا، لن أغفر له في يوم من الأيام! ولماذا أرى آجلايا مهتاجة الأعصاب إلى هذا الحد منذ ثلاثة أيام؟ لماذا أراها فيما يشبه الشجار مع أختيها، حتى مع ألكسندرا التي كانت من شدة احترامها لها تقبل يدها كأم؟ ما بالها تلقي على جميع الناس ألغازاً وأحاجي؟ وما مجيء جبريل إيفولجين إلى هنا؟ لماذا أخذت تكيل له المديح أمس واليوم، ثم انفجرت باكية منتحبة؟ لماذا تتكلم تلك الرسالة اللعينة عن هذا «الفارس الفقير» بينما لم تطلع آجلايا أختيها على رسالة الأمير؟ ولماذا... أسرعتُ إليه كالمجنونة واقتدته بنفسي إلى هنا؟ يا إلهي! لقد فقدت صوابي. ما هذا الذي صنعته؟ كيف أمكنني أن أتكلم مع شاب عن أسرار ابنتي، لا سيما... حين تكون هذه الأسرار متعلقة به أو تكاد؟ رباه! الحمد لله على أنه أبله... وأنه... وأنه.. صديق الأسرة. ولكن هل يمكن أن تفتتن آجلايا بمثل هذا الطرح؟ ما هذا الذي أقوله؟ آه... إننا شاذون... يحسن أن نوضع في قفص ليتفرج الناس علينا بعشرة كوبكات... ولا سيما أنا! لن أغفر لك هذا يوماً يا إيفان فيدوروفتش، لن أغفره لك في يوم من الأيام! ولماذا لا تسيء هي معاملته؟ لقد وعدت بأن تسيء معاملته. ثم هي لا تفعل من ذلك شيئاً! انظروا! إنها تلتهمه بعينيها التهاماً، وتبقى صامتة ولا تعزم أمرها على الابتعاد. وهي التي حظرت عليه مع ذلك أن يعود!... أما هو فإنه شاحب الوجه شحوباً شديداً! وما القول في هذا الثرثار إزاء هذا السيل المتدفق من ثرثرته، أن يدس كلمة واحدة. في وسعي أن أخرج كل شيء إلى النور لو أمكنني أن أدير دفّة الحديث...».
كان الأمير جالساً إلى المائدة المستديرة، شاحب الوجه حقاً. كان يلوح عليه أن هلعاً شديداً يسيطر عليه، هلعاً يخالطه في بعض اللحظات نوع من نشوة يغزو قلبه ولا يستطيع هو نفسه أن يفهمه. لشدّ ما كان يخشى أن يختلس نظرة مواربة إلى ذلك الركن الذي تحدّق إليه منه عينان سوداوان يعرفهما حق المعرفة! ومع ذلك ما كان أعظم السعادة التي كانت تغمره حين يتصوّر أنه يجد نفسه مرة أخرى في هذه الأسرة، ويسمع ذلك الصوت المألوف، وذلك بعد الذي كتبته إليه!... «ما عساها تقول الآن يا رب!». لم يكن قد فتح فاه بعد، وكان يصيخ بسمعه إلى أحاديث أوجين بافلوفتش الذي كان يتدفق في الكلام تدفقاً غزيراً، وكان يعاني في ذلك المساء نوبة قوية من الرضى عن النفس والرغبة في الكلام. أصاخ إليه الأمير بسمعه دون أن يفهم شيئاً مما كان يقوله. وكانت الأسرة كلها حاضرة، إلا إيفان فيدوروفتش الذي لم يكن قد رجع من بطرسبرج بعد. وكان الأمير «شتش...» أحد الحضور، وكان واضحاً أن هؤلاء كانوا ينتوون أن ينصرفوا بعد قليل، قبل موعد الشاي، ليذهبوا إلى سماع الموسيقى .
كان الحديث يدور على موضوع يبدو أنه طُرح على مائدة البحث قبل وصول الأمير. ولم يلبث أن ظهر كوليا على الشرفة، لا يدري أحد من أين انبجس! قال الأمير يحدث نفسه: «عجيب! ما زال يُستقبل إذن كما كان يستقبل في الماضي!».
إن مسكن آل إيبانتشين فيلا فخمة مبنية على طراز الشاليهات السويسرية، قد أُحسنت العناية بها، وأحيطت بأزهار وخضرة تتألف منها مربعات إن كانت صغيرة الأبعاد فإنها رائعة الجمال. وكان الحفل كله مجتمعاً على الشرفة، كما في بيت الأمير، لكن الشرفة هنا أفسح قليلاً وألطف ترتيباً.
ولم يكن يبدو أن موضوع الحديث يناسب ذوق جميع الحضور، ويلقى من نفوسهم كلهم هوى. وأغلب الظن أنه بدأ بمناقشة حامية، وكان يمكن حتمًا أن ينحرف إلى شيء آخر لولا أوجين بافلوفتش قد تظاهر بالعناد حول المسألة التي دارت عليها المناقشة، دون أن يحفل بالأثر الذي يحدثه في النفوس. وكأن ظهور الأمير أثاره مزيداً من الإثارة وحرّضه مزيداً من التحريض. وقد عبست إليزابت بروكوفيفنا وتجهمت سحنتها واربدّ وجهها دون أن تفهم كل ما كان يُقال. ولم تنصرف آجلايا بل ظلت في مكانها، متنحية، تصغي إلى الكلام وتلتزم صمتاً عنيداً فلا تفتح فمها بكلمة واحدة.
أجاب أوجين بافلوفتش قائلاً بحرارة:
– اسمحي لي، أنا لا أعترض على الليبرالية أي اعتراض. ليست الليبرالية شراً. إنها جزء متمِّم من مجموع كلي لا بدّ أن يتحلل وأن يزول إذا هي لم توجد. إن حق الليبرالية في الوجود لا يختلف عن حق أي مذهب من المذاهب المتطرفة في المحافظة. لكنني أنتقد الليبرالية الروسية. وأعود فأكرر لكم أنني إذا كنت أحاربها فلأن الليبرالي الروسي ليبرالي ليس «روسياً» في شيء. أروني ليبرالياً روسياً، فأعانقه أمامكم على الفور.
قالت ألكسندرا إيفانوفنا التي كانت ثائرة الأعصاب، وكان خداها أشد احمراراً منهما في العادة:
– هذا إذا رضي هو أن يعانقك!
فحدّثت إليزابت نفسها تقول: «هذه واحدة لا يهزّها شيء ولا يحركها شيء، ولا تفكر إلا في النوم والطعام، ثم إذا هي تندفع – مرة كل عام – اندفاعات تحيّرك!».
ولاحظ الأمير عرضاً أن ألكسندرا إيفانوفنا كانت تبدو مستاءة من رؤية أوجين بافلوفتش يتكلم بلهجة تبلغ هذا المبلغ من التفاهة في معالجة موضوع يبلغ هذا المبلغ من الجدّ، ويصطنع الاندفاع والمزاح في آن واحد.
تابع أوجين بافلوفتش كلامه قائلا:
– كنت أقول قبل وصولك يا أمير إننا لم نعرف حتى الآن في روسيا إلا فريقين من الليبراليين تحدّر بعضهم من طبقة مالكي الأطيان القدامى (وهذه طبقة أُلغيت) وتحدّر بعضهم الآخر من طبقة طلاب اللاهوت. وإذ إن هاتين الطبقتين قد استحالتا في النهاية إلى فئتين منعزلتين انعزالاً تاماً عن الأمة، وإذ إن انعزالهما يشتدّ ويقوى جيلاً بعد جيل، فإنه ينتج عن ذلك أن جميع ما فعله أو يفعله هؤلاء الليبراليون لا يمثل أي طابع قومي...
ردّ الأمير «شتش...» يقول:
– كيف هذا؟ هل كل ما فعلوه ليس فيه شيء روسي؟
– ليس فيه شيء قومي على كل حال. فحتى لو كان عملهم روسياً فإنه ليس قومياً. على أن الليبراليين عندنا ليس فيهم شيء روسي، إطلاقاً... أبداً... تستطيع أن تكون على يقين من أن الأمة لن تتعرّف لا الآن ولا في المستقبل ما يكون قد فعله هؤلاء الناس من قدامى مالكي الأطيان وطلاب اللاهوت...
قال الأمير «شتش...» محتجّا بحرارة:
– عجيب! كيف يمكنك أن ترى مثل هذا الرأي الغريب المفارق، إذا كنت جادًا فيما تقول؟ لا أستطيع أن أسمح بمثل هذا التهجّم على قدامى مالكي الأطيان الروس. ألست أنت نفسك واحداً من قدامى مالكي الأطيان الروس؟...
ألقى عليه الأمير «شتش...» هذا السؤال وقد ازداد حماسة واندفاعاً. فأجاب أوجين بافلوفتش قائلاً:
– ولكنني لا أتكلم عن مالك الأطيان الروسي القديم بالمعنى الذي يبدو إنك تفهمه. هذه طبقة محترمة مجيدة، على الأقل لأنني واحد من أبنائها، ولا سيما الآن، بعد أن لم يبق لها وجود...
قاطعته ألكسندرا إيفانوفنا سائلة:
– هل صحيح أننا، حتى في الأدب، لم يكن لدينا أي شيء قومي؟
– لست متبحّراً في الأدب، ولكنني أعتقد أن الأدب الروسي نفسه ليس فيه شيء روسي، ربما باستثناء لومونوسوف، وبوشكين، وغوغول.
قالت آديلائيد ضاحكة:
– طيّب. هذا وحده كاف. ثم إذا كان أحد هؤلاء من أبناء الشعب فإن الاثنين الآخرين هما من طبقة مالكي الأطيان القدماء.
– صحيح. ومع ذلك لا تتعجلي الفوز والانتصار. إن هؤلاء الثلاثة هم حتى الآن الوحيدون الذين استطاعوا أن يقولوا شيئاً لم يكن مستعاراً بل كان مستمدًا من نفوسهم . إن الروسي الذي يقول أو يكتب أو يفعل شيئاً متصفاً بأنه روسي حقاً، شيئاً مستمدًا من ذاته فليس هو بالمحاكاة أو الاستعارة، إن هذا الروسي يصبح قومياً بالضرورة، حتى ولو كانت لغته الروسية رديئة. تلك عندي من المسلمات البديهية. على أن ما بدأنا الحديث عنه والكلام عليه ليس هو الأدب بل هو الاشتراكيون. فبصدد الاشتراكيين إنما انخرطنا في المناقشة. وقد زعمت أنه لم يوجد عندنا ولا يوجد عندنا اشتراكي واحد روسي. لماذا؟ لأن جميع الاشتراكيين عندنا إنما انحدروا هم أيضاً من طبقة قدامى مالكي الأطيان أو من طبقة طلاب اللاهوت. إن جميع اشتراكيينا وجميع أولئك الذين يعلنون عن أنفسهم أنهم اشتراكيون، سواء في داخل البلاد أو في الخارج، ليسوا إلا ليبراليين خرجوا من صفوف قدامى مالكي الأطيان في عهد القنانة. لماذا تضحكين؟ أريني كتبهم، أريني مذاهبهم ورسائلهم، فأتعهد لك، دون أن أكون ناقداً محترفاً، بأن أكتب أصدق الآراء الأدبية مبيناً بوضوح كوضوح النهار أن كل صفحة من صفحات كتبهم وكراساتهم ورسائلهم إنما هي قبل كل شيء من صنع مالك سابق من قدامى مالكي الأطيان الروس. إن غضبهم، واستياءهم، وحتى سخرهم الفكه، إن ذلك كله تفوح منه رائحة مالك الأطيان القديم (حتى إن مالك الأطيان القديم هذا هو من نموذج عتيق بالٍ كنموذج فاموسوف ). قد تكون صادقة، ولكنها حماسات ودموع رجل من قدامى مالكي الأطيان، أو طلاب اللاهوت. أما تزالين تضحكين؟ أتضحك أنت أيضاً يا أمير؟ ألست توافقني إذن على رأي؟
الحق أن الضحك كان عاماً شاملاً. وكان الأمير نفسه يبتسم.
قال الأمير وقد انقطع عن الابتسام بغتة، وانتفض انتفاضة تلميذ فوجئ مذنبًا:
– لا أستطيع بعد أن أقول جازماً أنا أوافقك على رأيك أم لا، ولكني أؤكد لك أنني أجد في الإصغاء إلى كلامك لذة قصوى...
نطق الأمير بهذه الكلمات وكأنه يختنق اختناقاً. وكان عرق بارد يغشى جبينه كحبات اللؤلؤ. هذه هي الكلمات الأولى التي نطق بها منذ وصوله. وأغراه أن يلقي نظرة حواليه، لكنه لم يجسر، ولاحظ أوجين بافلوفتش حركته فابتسم، ثم تابع كلامه قائلاً بتلك اللهجة نفسها من الاندفاع المفتعل والحرارة المصطنعة التي يستشف المرء فيها رغبته في الضحك حتى من أقواله:
– سأذكر لكم واقعة أيها السادة، واقعة أعتقد أنه قد كان لي فضل اكتشافها وملاحظتها، فما من أحد، على الأقل، سبق أن تكلم عليها أو كتب عنها حتى الآن. إن هذه الواقعة تحدّد كل ماهية الليبرالية الروسية التي أوضّحها. وما هي الليبرالية على وجه العموم أولاً؟ أليست هي الميل إلى تسفيه النظام القائم؟ (خطأ أو صواباً، تلك مسألة أخرى) أليست الليبرالية هي هذا؟ فإليكم الآن الواقعة التي لاحظتها: إن الليبرالية الروسية لا تهاجم نظاما قائما. إن ما تستهدفه هو جوهر الحياة القومية، هو هذه الحياة نفسها لا المؤسسات، هو روسيا لا التنظيم الروسي. إن الليبرالي الذي أحدثكم عنه يمضي إلى حد جحود روسيا نفسها، أي إنه يبغض ويضرب أمه التي ولدته. إن كل شقاء يلم بروسيا، وكل إخفاق تُمنى به روسيا، يحمله على الضحك ويبعث في نفسه الفرح أو ما يشبه الفرح. إنه يشمئز من العادات الشعبية ويكره تاريخ روسيا ويبغض كل شيء. وعذره الوحيد، إذا كان له عذر، هو أنه لا يدرك ما يفعل، ويظن أن هذا الكره الذي يحمله لروسيا هو الليبرالية الخصبة. ما أكثر الليبراليين الذين نصادفهم في بلادنا ويصفق لهم الناس، وهم في حقيقة أمرهم وربما على غير علم منهم، أشد المحافظين غباء وأكثرهم عتوا! لقد كان كره روسيا هو الحب الحقيقي للوطن في نظر بعض الليبراليين الذين كانوا يفاخرون بأنهم يدركون حقيقة حب الوطن إدراكاً أوضح من إدراك غيرهم له. ثم صارت الأمور مع الزمن أصرح، فإذا نحن نرى أن تعبير «حب الوطن» أصبح يعدّ غير لائق، وإذا بالفكرة التي تقابل هذا التعبير أصبحت توهم بأنها ضارة، وتوصف بأنها جوفاء خالية من المعنى. تلكم واقعة أكيدة محققة. ينبغي أن نعزم أمرنا على ذكر الحقيقة بكل بساطة وصدق. نحن ههنا إزاء ظاهرة لم يسبق لها مثيل في أي زمان ولا في أي مكان. ما من قرن من القرون، وما من شعب من الشعوب، بدت فيه هذه الظاهرة. وهذا يدل على أنها عارضة وأنها قد تكون زائلة. ذلك أمر لا أنفيه. ولكن المرء لا يستطيع أن يرى في أي مكان غير روسيا ليبرالياً يكره وطنه. فكيف نفسّر ظهور هذه الحالة في بلادنا إن لم نفسرها بالسبب الذي ذكرته منذ قليل وهو أن الليبرالي الروسي ليس روسياً في شيء؟ إنني لا أرى تعليلاً أصلح من هذا التعليل.
ردّ الأمير «شتش...» قائلاً برصانة:
– إنني أعدّ كل ما قلته الآن مزاحاً يا أوجين بافلوفتش..
قالت ألكسندرا إيفانوفنا:
– أنا لم أر جميع الليبراليين، ولكنني استأت أثناء سماعي كلامك. فإنك قد بدأت من حالة خاصة فعمّمتها فوقعت في التجني.
أجاب أوجين بافلوفتش:
– حالة خاصة؟ آ... هذه بعينها الكلمة التي كنت أنتظرها! أهي حالة خاصة أم لا؟
وأضاف يسأل الأمير:
– ما رأيك يا أمير؟ أهذه حالة خاصة أم لا؟
قال الأمير:
– يجب أن أعترف أنا أيضاً أن خبرتي ضئيلة وإنني لم أعاشر.. الليبراليين كثيراً. ولكن يبدو لي إنك قد تكون على صواب، وأن تلك الليبرالية الروسية التي تحدثت عنها ميالة في الواقع إلى إبغاض روسيا لنفسها لا للنظام السائد فيها. طبعا، ليس هذا صادقا إلا بعض الصدق، فنحن لا نستطيع أن نأخذ هذا المأخذ على جميع الليبراليين بغير استثناء إذا نحن أردنا الإنصاف...
وقطع الأمير كلامه فجأة. وكان رغم انفعاله كله قد تابع الحديث باهتمام شديد. إن من سماته المميزة أن وجهه يكتسي هيئة السذاجة العميقة في إصغائه إلى الحديث عن الموضوعات التي تثير انتباهه. وهذه السذاجة نلاحظ في أجوبته التي يجيب بها أولئك الذين يسألونه عن هذه الموضوعات نفسها؛ وهي تظهر في سحنته وتظهر حتى في إشاراته، وتكشف في هذه وتلك عن إيمان هو في حمى من إصابات السخرية والتهكم. ولقد اعتاد أوجين بافلوفتش منذ زمن طويل أن لا يخاطبه إلا وعلى شفتيه ابتسامة صغيرة خاصة، أما الآن فإنه حين سمع إجابته نظر إليه مبهوتاً، بكثير من الجد والرصانة، ثم ججمم يقول:
– هكذا!... إنك لتدهشني حقاً. هل كنت في إجابتك جاداً يا أمير؟
فسأله الأمير مستغرباً:
– ألم يكن سؤالك أنت جاداً؟
فاستقبل الحضور هذه الكلمات بضحك شامل.
قالت آديلائيد:
– ألا امحضوه ثقتكم! إن أوجين بافلوفتش لا يحب شيئاً كما يحب التضليل والمخادعة! ليتكم تعرفون ما يستطيع أن يفتعله من مناقشات، متظاهراً بأكبر الجد!
وقالت ألكسندرا بلهجة قاطعة:
– في رأيي أن هذا الحديث شاق متعب، وأنه كان من الأفضل أن لا نخرط فيه. لقد كنا ننتوي القيام بنزهة...
فهتف أوجين بافلوفتش يقول:
– هلمّوا بنا! الأمسية رائعة! لكنني أحرص على أن أبرهن أنني، في هذه المرة، قد تكلمت جادًا كل الجدّ. أريد خاصة أن أبين هذا للأمير. (لقد أثرت اهتمامي إثارة قوية يا أمير، وإني لأحلف لك صادقاً أنني أقل عبثاً وخفة مما يبدو علي، رغم أن العبث والخفة من عيوبي في حقيقة الأمر). لذلك سألقي على الأمير، بعد استئذان الحضور، سؤالاً أخيراً لإشباع حب الاطلاع في نفسي شخصياً، ثم أقف عند هذا الحد مكتفياً به فلا أتعداه. إن هذا السؤال قد خطر بالي، بمصادفة تشبه العمد، منذ ساعتين (هأنت ذا ترى يا أمير أنه يتفق لي أيضاً أن أفكر في أمور جدية). ولقد اهتديت إلى حل لذلك السؤال، لكنني أريد أن أعرف رأي الأمير. لقد كنا نتحدث منذ لحظة عمّا يسمى «حالة خاصة». إن لهذا التعبير دوراً كبيراً في مجتمعنا، وإن مجتمعنا يحب استعمال هذا التعبير. في الآونة الأخيرة وقعت حادثة اغتيال رهيبة أثارت اهتمام الصحافة والرأي العام، هي حادثة مصرع ستة أشخاص بيد شاب قتلهم جميعاً. ولقد تحدث الناس عندئذ كثيراً عن تلك المرافعة الغريبة التي قام بها المحامي، إذ أعلن أن فكرة قتل هؤلاء الأشخاص الستة كان «طبيعياً» أن تخطر ببال القاتل لأنه كان في حالة فقر شديد. ليست هذه هي الكلمات التي استُعملت، ولكني أعتقد أن المعنى هو هذا. وأحسب أن المحامي حين أصدر ذلك الرأي الغريب وصاغ تلك الفكرة العجيبة إنما كان يؤمن صادقاً بأنه يستلهم أسمى مفاهيم عصرنا فيما يتصل بالليبرالية والإنسانية والتقدّم. فما رأيكم؟ أيجب أن نرى في مثل هذا الفساد الذي أصاب العقل والضمير، وفي مثل هذا الانحراف والانحطاط اللذين صار إليهما الرأي، أيجب أن نرى ههنا حالة خاصة أم ظاهرة عامة؟
انفجر الجميع يضحكون.
قالت ألكسندرا وآديلائيد ضاحكتين:
– بل هذه حالة خاصة طبعاً.
وقال الأمير «شتش...»:
– اسمح لي أن أذكرك يا أوجين بافلوفتش أن مزحاتك قد أخذت تفقد طرافتها!
لم يسمع أوجين بافلوفتش هذه الملاحظة، وكان يحسّ بثقل نظرة الأمير ليون نيقولايفتش الرصينة المتفحّصة، فتابع كلامه سائلاً:
– ما رأيك يا أمير؟ ماذا تعتقد؟ أهي حالة خاصة أم ظاهرة عامة؟ اعترف لك بأنني وضعت هذا السؤال لإلقائه عليك أنت.
قال الأمير برفق وهدوء، ولكن بثبات وصلابة:
– لا، ما هذه حالة خاصة.
صاح الأمير «شتش...» قائلاً في شيء من غضب:
– هيه يا ليون نيقولايفتش، ألا ترى أنه يمد لك شباكاً، ألا ترى أنه ينصب لك فخاً؟ واضح أنه يسخر، وأنه أراد أن تكون أنت مدار سخريته.
قال الأمير وقد احمر وجهه:
– كنت أظن أنه يتكلم جاداً.
واستأنف الأمير «شتش...» كلامه فقال:
– يا عزيزي الأمير، هلاً تذكرت الحديث الذي جرى بيننا منذ ثلاثة أشهر! لقد لاحظنا، بحق، أن محاكمنا الفتية، رغم أن نشوءها حديث، قد أبرزت محامين ممتازين يملكون أعظم المواهب. وما أكثر الأحكام التي صدرت عن محاكم الجنايات والتي تستحق أكبر الثناء والمديح! لقد أسعدني كثيراً حينذاك أن أراك تغتبط بهذا التقدّم... واتفقنا على أن من حقنا أن نعتز وأن نفخر... فما تلك المرافعة الحمقاء وتلك الحجة العجيبة إذن إلا حادث عارض، إلا حالة من ألف.
فكر الأمير ليون نيقولايفتش لحظة، ثم أجاب بلهجة تدل على أكبر الاقتناع، ولكن دون أن يرفع نبرته، حتى لقد كان في صوته شيء من خجل:
– كل ما أردت أن أقوله هو أن هذا الفساد والتدهور في الأفكار والعقل (إذا نحن شئنا أن نستعمل تعبير أوجين بافلوفتش) يصادفان في أحيان كثيرة جداً، فهما – وا أسفاه – أقرب إلى أن يكونا ظاهرة عامة منهما إلى أن يعدّا حالة خاصة. فلولا أنهما شائعان هذا الشيوع كله فلعلّنا كنا لا نرى جرائم كهذه الجرائم التي لا يتصوّرها الخيال...
– جرائم لا يتصوّرها الخيال؟ أؤكد لك أن الجرائم في الماضي كانت لا تقل فظاعة وشناعة، ولعلها كانت أقسى وأبشع. هذه الجرائم قد عرفتها جميع الأزمان، لا في بلادنا وحدها بل في كل مكان، وأعتقد أنها ستظل تُرتكب زمناً طويلاً. كل ما هنالك من فرق هو أننا لم نكن نملك في الماضي أدوات لنشر الأخبار واسعة هذا الاتساع كله في حين أن الصحافة والجمهور سرعان ما يلمان بأنبائها في هذا الزمان. فذلك هو مصدر شعورنا بأننا إزاء ظاهرة جديدة. هذا هو خطؤك يا أمير، هذا هو خطؤك الساذج البريء. صدّقني.
بهذا ختم الأمير «شتش...» كلامه وهو يبتسم ابتسامة ساخرة. قال الأمير:
– أعرف تماماً أن الجرائم كانت في الماضي لا تقل عدداً ولا تقل هولاً. لقد زرت سجوناً منذ زمن غير طويل، فأتيح لي أن أعرف عدداً من المحكوم عليهم. إن بينهم مجرمين أفظع من أولئك الذين جرى عليهم حديثنا. إن منهم أناساً لا يشعر أحدهم بشيء من عذاب الضمير بعد أن يكون قد قتل «دستة» أشخاص. ولكن إليك ما لاحظته: إن أعتى أولئك المجرمين وأكثرهم خلواً من عذاب الضمير يحس مع ذلك أنه «مجرم»، أي أنه في شعوره ووعيه يدرك أنه أذنب وإن كان لا يحس بأي ندم. تلك كانت حالة جميع أولئك السجناء. لكن المجرمين الذين يتكلم عنهم أوجين بافلوفتش أصبحوا لا يريدون أن يعدّوا أنفسهم مجرمين. فهم في قرارة أنفسهم يعتقدون أنهم على حق وأنهم أحسنوا صنعاً، أو يعتقدون بشيء من هذا القبيل. هذا في رأيي فارق كبير. ولاحظ أن هؤلاء جميعاً شبان، أي أن سنهم هي السن التي يكون فيها الإنسان أعجز ما يكون عن مقاومة تأثير الأفكار المنحرفة.
كان الأمير «شتش...» قد كفت عن الضحك فهو يصغى إلى الأمير وقد لاح في وجهه الارتباك. وكانت ألكسندرا إيفانوفنا تريد منذ مدة طويلة أن تبدي ملاحظة لكنها لزمت الصمت كأن سبباً معيناً صدّها عن ذلك. أما أوجين بافلوفتش فكان ينظر إلى الأمير بدهشة واضحة، وبدون أية سخرية في هذه المرة.
وتدخّلت إليزابت بروكوفيفنا فجأة تقول:
– ما بالك، أيها السيد العزيز، تحدّق إليه هذا التحديق، مشدوه الهيئة؟ أكنت تظنه أغبى منك، وعاجزاً عن التفكير على غرارك؟
قال أوجين بافلوفتش:
– لا يا سيدتي، لم أكن أظن ذلك، غير أن هناك شيئاً يثير دهشتي يا أمير (اغفر لي سؤالي): إذا كنت ترى الأمور هذه الرؤية الواضحة، فكيف أمكنك (معذرة مرة أخرى)... كيف أمكنك... في تلك القضية الغريبة... القضية التي حدثت ذلك اليوم... بشأن ذلك الرجل... بوردوفسكي فيما أظن.. كيف أمكنك أن لا تلاحظ هذا الفساد نفسه وهذا التردّي نفسه في الأفكار والأخلاق؟ لقد كان الأمر أمر هذا الفساد نفسه وذلك التردّي ذاته مع ذلك. لقد تراءى لي حينذاك إنك لم تدرك هذا البتة.
انبرت إليزابت بروكوفيفنا تقول متحمسة:
– أيها السيد العزيز، إذا كنا نحن، جميع الحاضرين هنا، قد أدركنا ذلك واستنتجنا من سداد رأينا وبراعة إدراكنا شعوراً بالتفوّق على الأمير، فإن الأمير هو الذي تلقى اليوم رسالة من أحد رفاق بوردوفسكي، من أبرزهم، من ذلك الذي كان مبثور الوجه، هل تتذكرينه يا ألكسندرا؟ وفي هذه الرسالة يستغفر الشاب الأمير – بطريقته طبعاً – ويعلن له أنه قطع صلته بالرفيق الذي حرّضه في ذلك اليوم. هل تتذكرين يا ألكسندرا؟ وهو يضيف إلى هذا أنه بعد الآن لا يثق بأحد كما يثق بالأمير. ما من أحد منا تلقّى رسالة كهذه الرسالة حتى الآن، وإن كنا قد ألفنا أن نعامل الشخص الذي وصلته هذه الرسالة معاملة تعالٍ.
صاح كوليا قائلاً:
– وهيبوليت أيضاً ترك بيته وجاء يقيم عندنا.
فقال الأمير سائلاً بشيء من القلق:
– كيف؟ أهو هنا الآن؟
– وصل فور انصرافك مع إليزابت بروكوفيفنا. أنا أحضرته بعربة.
فما أن سمعت إليزابت بروكوفيفنا هذا الكلام حتى غلت وفارت، ناسيةً أنها قد مدحت الأمير منذ هنيهة، وقالت:
– أراهن على أنه قد مضى أمس إلى المسكن الحقير الذي يقيم فيه هذا الولد الفاسد، فركع أمامه طالباً غفرانه، راجياً منه أن يجيء فيقيم هنا. لقد اعترفت أنت نفسك بذلك منذ قليل. أذهبت إليه أم لا؟ أركعت أمامه أم لا؟
هتف كوليا يقول:
– إنه لم يركع. بالعكس تماماً. هيبوليت هو الذي تناول بالأمس يد الأمير فقبلها مرتين. رأيت المشهد بعيني. على هذا اقتصر العتاب بينهما. وإذ أضاف الأمير أن صحة هيبوليت ستتحسن في الفيلا، أجاب هيبوليت فوراً أنه سيجيئ للإقامة بها متى شعر ببعض التخفّف من آلامه.
قال الأمير وهو ينهض ويتناول قبعته:
– أخطأت يا كوليا. لماذا تقص هذا؟ إنني...
فسألته إليزابت بروكوفيفنا وهي تستوقفه:
– إلى أين تذهب؟
واستأنف كوليا كلامه فقال بحرارة:
– لا تعذب نفسك يا أمير. لا تذهب إليه فتفسد عليه راحته. لقد نام بعد متاعب الرحلة. وهو مغتبط سعيد. أؤكد لك بصراحة يا أمير أنني أعتقد بأن من الأفضل كثيراً أن لا تلتقيا اليوم. أَرْجِئ لقاءه إلى غد حتى لا تحرجه مرة أخرى. لقد قال في هذا الصباح إنه منذ ستة أشهر لم يشعر بمثل ما يشعر به اليوم من ارتياح وقوة. حتى إن سعاله قل إلى الثلث.
لاحظ الأمير أن آجلايا قد غيّرت مكانها فجأة لتقترب من المائدة. كان لا يجرؤ أن ينظر إليها، لكنه كان بكل كيانه يشعر أن عيني الفتاة السوداوين كانتا في تلك اللحظة تحدّقان إليه وتتفرسان فيه. لا شك أن هاتين العينين كانتا تعبران عن الاستياء، وربما كانتا تعبران عن تهديد. لا شك أن وجه آجلايا قد تخضب بحمرة شديدة.
قال أوجين بافلوفتش:
– يخيل إليّ يا نيقولا آرداليونوفتش أنك قد أسأت صنعاً إذ جئت به إلى هنا، إذا كان هو ذلك الفتى المصدور الذي انفجر في ذلك اليوم باكياً بدموع غزيرة، ودعا الحضور إلى الاحتفال بدفنه. لقد تكلم عن الجدار الذي ينتصب أمام بيته، تكلم عنه ببلاغة تبلغ من القوة أنه سيندم على فراق ذلك الجدار. صدّقني.
– لا أصدق هذا الكلام. لسوف يشاجرك، ولسوف يصل به الأمر إلى حد الاقتتال معك، ثم ينصرف. هذا أكيد.
قالت إليزابت بروكوفيفنا ذلك، ثم شدّت إليها سلّة حياكتها بحركة تنم عن الاستياء، ناسيةً أن الجميع كانوا قد نهضوا عن أماكنهم قاصدين القيام بنزهة.
واستأنف أوجين بافلوفتش كلامه فقال:
– إنني أتذكر حماسته في الكلام على ذلك الجدار. لقد قال إنه بدون ذلك الجدار لن يستطيع أن يموت ميتة فيها بلاغة. وهو يحرص على أن يموت ميتة فيها بلاغة.
دمدم الأمير قائلاً:
– وماذا بعد ذلك؟ إذا لم تشأ أن تغفر له فسوف يستغني عن غفرانك ويموت على كل حال... إنه من أجل الأشجار إنما جاء يقيم هنا.
– هه! أنا من جهتي أغفر له كل شيء. تستطيع أن تبلغه هذا.
قال الأمير برفق وكأنه يتكلم على مضض، وما زالت عيناه مطرقتين إلى نقطة ثابتة في الأرض:
– ما هكذا يجب أن يُفهم الأمر. يجب أن توافق أنت على قبول غفرانه لك.
– لماذا؟ أي ذنبٍ جنيتُ في حقّه؟
– إذا كنت لا تفهم، فلن ألحّ... ولكنك تفهم حق الفهم. لقد كانت رغبته حينذاك... هي أن يباركنا جميعاً وأن يتلقى مباركتنا له. ذلك هو الأمر كله.
تبادل الأمير «شتش...» نظرة سريعة مع بعض الحضور. ثم قال بشيء من الحرارة، ولكنه كان يزن كلماته:
– يا عزيزي الأمير الطيب، ليست إقامة الجنة على الأرض بالأمر السهل كثيراً؛ وما تسعى إليه أنت إنما هو الجنة. الأمر صعب يا أمير، أصعب كثيراً ممّا يصوّر لك قلبك الطيب. وحسبنا هذا، صدقني. وإلا اضطرب أمرنا من جديد، وعندئذ...
قالت إليزابت بروكوفيفنا بلهجة آمرة:
– هيا نمضي إلى سماع الموسيقى.
ثم نهضت عن مكانها بحركة فيها غضب.
وحاكاها الجميع.
الفصل الثاني
اقترب الأمير من أوجين بافلوفتش فجأة وأمسك يده، وقال له بلهجة فيها حميّا غريبة:
– أوجين بافلوفتش، ثق أنني أقدّرك رغم كل شيء، لأنني أعدّك رجلاً نبيل القلب وأعدّك أحسن الناس. أحلف لك على هذا.
دُهش أوجين بافلوفتش، وبلغ من الدهشة أنه تراجع خطوة إلى وراء. وخلال لحظة من الوقت، كظم رغبة عنيفة قوية في الضحك. لكنه حين أنعم النظر في الأمير تبيّن له أن الأمير ليس في حالة طبيعية أو هو على الأقل في حالة غير مألوفة. وهتف يقول:
– أراهن يا أمير أن هذا ليس ما كنت تنوي أن تقوله لي، بل ربما كنت تريد أن توجه هذه الكلمات إلى غيري لا إليّ أنا!... ولكن ماذا بك؟ أتراك مريضاً؟
– جائز، جائز جداً. لقد برهنت على أنك تملك كثيراً من دقة الملاحظة ولطافة الإدراك إذ قلت إنني ربما كنت أريد أن أوجّه أقوالي تلك إلى غيرك لا إليك أنت. قال الأمير ذلك وابتسم ابتسامة خاصة يمكن أن توصف بأنها مضحكة. ثم بدت عليه الحماسة والحرارة فجأة فقال صائحاً:
– لا تذكرني بسلوكي الذي سلكته قبل ثلاثة أيام.. إنني ما برحت أشعر بالخجل والخزي والعار منذ ذلك الوقت... أنا أعلم أنني أخطأت.
– ولكن... ما هو الشيء الرهيب الذي فعلته، ما هو الذنب الهائل الذي اقترفته؟
– أرى أنك ربما كنت تشعر بالخجل لي أكثر من الآخرين جميعاً. إن وجهك يحمرّ، وهذه علامة نبل القلب. سأنصرف فوراً. ثق بهذا.
اتجهت إليزابت بروكوفيفنا بالكلام إلى كوليا فسألته مروّعة الهيئة:
– ماذا دهاه؟ هل نوباته تبدأ هكذا؟
– لا تكترثي يا إليزابت بروكوفيفنا. ليس عندي نوبة، وسأنصرف بعد قليل. أنا أعلم أنني... إنسان حرمته الطبيعة. لقد لبثت مريضاً طوال أربع وعشرين سنة، أو قولوا إلى السنة الرابعة والعشرين من عمري. فاحسبوا إنني ما أزال مريضاً. سأنصرف فوراً، فوراً، ثقي بهذا. ليس يحمرّ وجهي خجلاً، فإنه ليكون شيئاً غريباً – أليس كذلك؟ – أن يحمرّ وجهي خجلاً من مرضي هذا. لكن وجودي في المجتمع زيادة يتعبني. لا أبدي هذه الملاحظة من باب الشعور بالكرامة. لقد فكرت ملياً خلال هذه الأيام الثلاثة فانتهيت إلى أن من واجبي أن أنبئكم بذلك صادقاً عند أول مناسبة. ثمة أفكار معينة، أفكار رفيعة سوف أمسك عن الكلام عنها حتى لا أضحك جميع الناس... لقد ألمع الأمير «شتش...» إلى هذا منذ قليل. ما من حركة من حركاتي تخلو من شذوذ. إنني لا أعرف القصد والاعتدال. لغتي لا تناسب المعاني التي في ذهني، فهي لذلك تغض من قيمتها وتفسدها. لذلك لا يحق لي أن... ثم إنني شديد الاشتباه والارتياب. صحيح أنني... أنني مقتنع بأن أحداً لا يمكن أن يهينني في هذا المنزل، وأنني محبوب فيه أكثر مما أستحق. ولكني أعلم (علماً لا مجال للشك فيه) أن أربعة وعشرين عاماً من المرض لا يمكن إلا أن تخلّف آثاراً، وأن من المستحيل أن لا يسخر الناس مني ويتهكموا علي... من حين إلى حين... أليس هذا صحيحاً؟
قال الأمير ذلك وأدار بصره على الحضور كأنه ينتظر جواباً أو قراراً. كان الجميع قد دُهشوا من هذه الاندفاعة المرضية التي لم يتوقعها أحد، والتي لم يكن ثمة ما يدعو إليها ويبعث عليها، فكانت سبباً لوقوع حادث غريب هو أن آجلايا صاحت فجأة تسأل الأمير:
– لماذا تقول هذا هنا؟ لماذا تقول هذا لهم «هم»... لهؤلاء الناس؟
كانت تبدو في ذروة الاستياء والامتعاض. وكانت عيناها تسطعان.
لبث الأمير أمامها صامتاً كالأخرس، واجتاحت وجهه صفرة مفاجئة. وانفجرت آجلايا تقول:
– ليس هنا شخص واحد يستحق أن يسمع هذه الكلمات! إنهم جميعاً لا يساوون خنصر يدك، لا فكراً ولا قلباً! أنت أشرف منهم قاطبة. أنت تفوقهم نبلاً وطيبة وذكاء! هنا أناس لا يستحقون أن يشيلوا المنديل الذي سقط من يديك الآن على الأرض... فلماذا تذل كبرياءك وتضع نفسك تحتهم؟ لماذا قلبت كل شيء في نفسك رأساً على عقب؟ لماذا لا تكون لك عزة وأنفة؟
قالت إليزابت بروكوفيفنا وهي تضّم يديها إحداهما إلى الأخرى:
– رباه! من كان يمكن أن يصدّق هذا؟
وصاح كوليا يقول متحمساً:
– مرحى! الفارس الفقير!...
فقالت له آجلايا:
– اسكت!
وأضافت تقول لأمها وقد استبد بها انفجار من انفجارات الاهتياج التي لا تعرف حدوداً ولا عقبات، قالت بقسوة وخشونة:
– كيف يجرؤ أحد أن يهينني هنا في دارك؟ لماذا يضطهدونني هنا جميعاً من أولهم إلى آخرهم؟ لماذا يرهقونني منذ ثلاثة أيام بسببك يا أمير؟ لن أتزوجك في يوم من الأيام بحال من الأحوال! اعلمْ أنني لن أفعل هذا في يوم من الأيام بحال من الأحوال! ضع هذا في رأسك! هل تتزوج فتاة إنساناً مضحكاً مثلك! انظر إلى وجهك في المرآة لترى كيف هو في هذه اللحظة! لماذا يناكدونني زاعمين أنني سأتزوجك؟ يجب عليك أن تعرف هذا! لا شك أنك متواطئ معهم! لا شك إنك شريكهم في المؤامرة!
تمتمت آديلائيد تقول مذعورة:
– لم يناكدها أحد في وقت من الأوقات!
وهتفت ألكسندرا إيفانوفنا تضيف قائلة:
– لم يخطر ببال أحد أن يناكدها في لحظة من اللحظات!
وقالت إليزابت بروكوفيفنا تسأل جميع الحضور وهي ترتعش
– من ناكدها؟ متى ناكدها أحد؟ من ذا تجرأ أن يقول لها كلاماً كذلك الكلام؟ أهي تهذي أم هي مالكة رشدها محتفظة بعقلها؟
فأجابت آجلايا بلهجة تمزق القلب ألماً:
– هم جميعاً قالوا هذا الكلام! هم جميعاً صدّعوا أذني به خلال هذه الأيام الثلاثة! لا أستثني منهم أحداً.
ثم انفجرت تبكي بدموع غزيرة، وأخفت وجهها بمنديلها وتهالكت على الكرسي.
– ولكنه حتى الآن لم يخطبـ...
قال الأمير كمن يتكلم بغير إرادة:
– أنا لم أخطبك يا آجلايا إيفانوفنا.
فصاحت إليزابت بروكوفيفنا تقول بلهجة تمتزج فيها الدهشة بالاستياء بالهلع:
– ماذا؟ ما معنى هذا؟
كانت لا تستطيع أن تصدق أذنيها، فأخذ الأمير يقول بكلمات متقطعة:
– قصدت... قصدت... أردت أن أقول... أردت أن أشرح لآجلايا إيفانوفنا.. بل أردت أن أتشرف بأن أشرح لها إنني لم أنتوِ... أن أتشرف بخطبتها... وحتى في المستقبل!... ليس لي في هذا الأمر أي ذنب أؤاخذ عليه يا آجلايا إيفانوفنا، الله يشهد إنني ليس لي في هذا الأمر أي ذنب أؤاخذ عليه!! أنا لم أنتوِ أن أخطبك في يوم من الأيام، حتى إن هذه الفكرة لم تخطر على بالي قط، ولن تخطر على بالي أبداً؛ لسوف ترين هذا! لا تشكي في صدق ما أقول! لا بدّ أن شخصاً شريراً سيئ النية وشى بي إليك متجنياً. ولكن في وسعك أن تهدئي نفساً وأن تطمئني بالا!
كان وهو يتكلم قد اقترب من آجلايا. فأزاحت المنديل الذي كان يغطي وجهها وألقت على الأمير نظرة سريعة. فرأت سحنته المنقلبة وهيئته المروّعة، فأدركت معنى أقواله، فانفجرت ضاحكة مقهقهة أمام أنفه. وقد بلغت ضحكتها من قوة الصراحة وشدة السخرية أنها انتقلت إلى آديلائيد، فاحتضنت آديلائيد أختها بكلتا يديها وانطلقت تضحك معها ذلك الضحك نفسه، ذلك الضحك الطفولي الذي لا يقاوم ولا يغالب. فلما رآهما الأمير على هذه الحال أخذ يبتسم هو نفسه، وراح يقول معبراً عن الفرح والسعادة:
– آه... الحمد لله... الحمد لله!...
ولم تستطع ألكسندرا نفسها عندئذ أن تقاوم، فأخذت تضحك هي أيضاً من أعماق قلبها. وطال ضحك الأخوات الثلاث حتى لكأنه لا يريد أن ينتهي.
قالت إليزابت بروكوفيفنا مدمدمة:
– إنهن لمجنونات، فتارة يروِّعنك، وتارة...
ولكن عدوى الضحك كانت قد سرت إلى الأمير «شتش...»، وإلى أوجين بافلوفتش، وحتى إلى كوليا الذي أصبح لا يسيطر على نفسه، وراح ينقَّل بصره بين هؤلاء وأولئك. فأخذ الأمير يضحك مثلما يضحكون!
هتفت آديلائيد تقول:
– هلموا نتنزه! ليأت الجميع، ولينضم إلينا الأمير! ليس هناك أي سبب يدعو إلى انسحابك يا أمير وأنت على ما أنت عليه من لطف وتهذيب. أليس لطيفاً مهذباً يا آجلايا؟ أليس هذا صحيحاً يا ماما؟ وفوق ذلك، يجب عليّ حتماً أن أقبّله... تقديراً للتوضيح الذي قدّمه بين يدي آجلايا. يجب عليّ أن أقبّله. ماما، عزيزتي ماما، هل تأذنين لي أن أقبّله؟ وأنت يا آجلايا، اسمحي لي أن أقبّل «أميرك»!
بهذا هتفت الفتاة الماكرة...
وقرنت القول بالعمل فاندفعت إلى الأمير وقبّلته على جبينه. فتناول الأمير يديها، وشدّ عليهما شدّا بلغ من القوة أن آديلائيد كادت تصرخ من الألم؛ ونظر إليها بفرح لا نهاية له، ثم حمل يد الفتاة إلى شفتيه فجأة فقبّلها ثلاث مرات.
قالت آجلايا:
– هلموا، فلنمش! يا أمير، ستكون أنت مرافقي. هل تأذنين يا ماما؟ أليس الأمير خطيباً رفض خطبتي منذ هنيهة؟ ألم تعدل عني إلى الأبد يا أمير؟ ولكن ما هكذا يمد رجل ذراعه إلى سيدة لتتناولها؟ ألا تعرف كيف تُمدّ الذراع لتتناولها سيدة؟ حسن، الآن مددتها مدّاً صحيحاً. هلم نسِرْ، ولنكن في المقدمة. هل تقبل أن نسير في طليعة السائرين، وأن نكون «وحيدين» ؟
كانت تتكلم دون توقف وما تبرح تضحك فجأة من حين إلى حين.
وكانت إليزابت بروكوفيفنا تقول مردّدة، دون أن تعرف على وجه الدقة ما الذي كان يبهجها ومم كانت تغتبط:
– الحمد لله! الحمد لله!
وحدّث الأمير «شتش...» نفسه قائلاً: «هؤلاء أناس عجيب أمرهم». لقد قال هذه العبارة ربما للمرة المائة منذ أن أصبح يختلف إليهم، ولكنه... كان يحب هؤلاء الناس الذين يرى أن أمرهم عجيب! لعله كان لا يحس هذا الشعور نفسه تماماً تجاه الأمير. وحين خرجوا للنزهة اربدّ وجهه واكتست هيئته معنى الهم.
إن أوجين بافلوفتش هو الذي كان يبدو أكثرهم ارتياحاً. ولقد ظل طوال الطريق إلى الفوكسهول يسلي ألكسندرا وآديلائيد. فكانت هاتان تضحكان ضحكاً فيه من المجاملة والمسايرة لمزاحه إلى حدّ أنه انتهى إلى الاشتباه في أنهما ربما كانتا لا تصغيان إلى كلامه، فإذا هو، دون أن يستطيع تفسير ذلك لنفسه، ينفجر ضاحكاً ضحكاً فيه من الصراحة مثل ما فيه من الانطلاق الذي لا تكلف فيه ولا اصطناع (ذلك كان طبعه!). كانت الأختان مشرقتي المزاج، لا تبرحان تنظران إلى أختهما الصغرى التي كانت تسير مع الأمير في طليعة السائرين. كان واضحاً أن وضع آجلايا يبدو لهما لغزاً لا تفهمانه، أو أحجية لا سبيل إلى حلها. وكان الأمير «شتش...» ما ينفك يجهد في التحدّث إلى إليزابت بروكوفيفنا عن أمور لا قيمة لها، فلعله كان يريد أن يصرفها عن أفكارها وخواطرها، لكنه لم يستطع إلا أن يبث في نفسها سأماً شديدا وضجرا رهيبا. كان يبدو أنها في حالة غير طبيعية. فهي تجيب خبط عشواء، أو هي لا تجيب البتة.
على أن آجلايا إيفانوفنا لم تكن قد فرغت من بث الحيرة في نفوس من كانوا حولها ذلك المساء. وقد احتفظت للأمير بآخر لغز تحيّره به دون سواه. فحين أصبحت على مسافة مائة خطوة من الفيلا أسرعت تهمس في إذن مرافقها الذي ما برح صامتاً صمتاً عنيداً، فتقول له:
– انظر يمنةً.
فأطاعها الأمير ونظر يمنة.
– انظر بمزيد من الانتباه، هل ترى دكةً، في الحديقة، هناك، قرب تلك الشجرات الثلاث.. دكةً خضراء؟
فأجاب الأمير بأنه يرى الدكة. فسألته:
– هل يعجبك ذلك المكان؟ إنني في بعض الأحيان أجيء مبكرة، في نحو الساعة السابعة، حين يكون الجميع ما يزالون نائمين، فأجلس هنالك وحيدة.
وافقها الأمير متمتماً على أن المكان رائع.
قالت له:
– والآن ابتعد! لا أريد الآن أن أسير متأبطة ذراعك؛ بل هات ذراعك، ولكن لا تقل لي الآن كلمة واحدة. أريد أن أخلو إلى أفكاري...
الحق أن هذا الطلب كان نافلاً. فالأمير ما كان له أن ينطق بكلمة واحدة أثناء النزهة ولو لم تأمره هي بالصمت. خفق قلبه خفقاناً شديداً عنيفاً حين سمع كلامها المتعلق بالدكة. ولكنه غير رأيه بعد دقيقة، وخجل من نفسه طارداً الفكرة التي خطرت بباله.
يعرف الناس، أو يؤكد جميع الناس، أن الجمهور الذي يرتاد الفوكسهول بمدينة بافلوفسك هو في غير أيام الأحد «أرقى» منه في أيام الأحد أو في أيام الأعياد، أي الأيام التي يتوافد فيها إليه من بطرسبرج «أنواع شتى» من الناس. ولئن لم تكن الثياب التي يرتديها الجمهور في تلك الأيام هي ثياب يوم الأحد، فإنها أكثر أناقة وأرفع ذوقاً من الشياب التي يرتديها جمهور يوم الأحد. إن من العادات الراقية أن تأتي الصفوة إلى هذا المكان تسمع الموسيقى. ولعل الأوركسترا هنا أحسن من جميع الأوركسترات التي تعزف في الحدائق العامة عندنا، ومن المعروف أن معزوفاتها تتضمن طرائف جديدة. وإن ما يسيطر على هذه الاجتماعات من جوّ عائلي بل ومن تعارف حميم لا ينفي أن يلتزم أصحابها أعلى آداب اللباقة وأقسى أصول التعامل. ولأن الجمهور يكاد يخلو إلا من الأسر المصطافة في بافلوفسك، فإن الجميع يجيئون إلى هذا المكان ليلتقي بعضهم البعض. إن أناساً كثيرين يجدون متعة كبرى في هذا النوع من تزجية الوقت لا يدفعهم إلى المجيء إلا هذا الباعث وحده، غير أن هناك أناساً آخرين إنما يجيئون من أجل الموسيقى وفي سبيلها. والفضائح نادرة هنا أشد الندرة، ولكن لا يخلو أن تقع فضيحة من حين إلى حين، حتى في غير أيام الأحد. ذلك أمر لا يمكن تحاشيه.
كان المساء في ذلك اليوم رائعاً، وكان الجمهور كبيراً. إن جميع الأماكن المجاورة للأوركسترا مشغولة، فجلس أفراد جماعتنا على كراسي بعيدة بعض البعد، قرب باب الخروج الأيسر. إن جمهرة الناس وألحان الموسيقى قد سرّت عن إليزابت بروكوفيفنا قليلاً، وروّحت عن بناتها وسلّتهن. وقد تبادلت البنات بعض النظرات مع عدد من معارفهن، وهززن رؤوسهن بتحيات صغيرة لطيفة أرسلنها إلى الآخرين. وقد اتسع وقتهن كذلك لأن يدققن النظر في ثياب الحضور وزيناتهن وأن يلاحظن بعض أنواع الشذوذ والغرابة فيها فعلقن عليها بابتسامات ساخرة. وقد أغدق أوجين بافلوفتش تحيات كثيرة هو أيضاً. كما لوحظ أن آجلايا والأمير كانا معاً. وسرعان ما اقترب من الأم والبنات شباب من معارفهن. وبقي منهم اثنان أو ثلاثة يثرثرون. إنهم أصدقاء أوجين بافلوفتش. أحدهما ضابط شاب هو فتى وسيم جميل زاخر نشاطا وحماسة، سرعان ما عقد حديثا بينه وبين آجلايا، وبذل كل جهوده ليأسر انتباه الفتاة التي أظهرت له كثيراً من اللطف والمرح. وقد طلب أوجين بافلوفتش من الأمير أن يأذن له بتعريفه بهذا الصديق، فلم يدرك الأمير ما طلب منه إلا نصف إدراك، ولكن التعارف تم، فحيا الرجلان كل منهما الآخر وتصافحا. وألقى صديق أوجين بافلوفتش على الأمير سؤالا لم يجب عنه الأمير، أو قل إنه أجاب عنه بجمجمة بلغت من الغرابة أن الضابط حدّق إلى عينيه ثم نظر إلى أوجين بافلوفتش. فلما أدرك عندئذ لماذا عرفه صاحبه بالأمير ابتسم ابتسامة خفيفة لا تكاد تلاحظ والتفت نحو آجلايا من جديد. فكان أوجين بافلوفتش الشخص الوحيد الذي لاحظ عندئذ أن آجلايا احمرت في تلك اللحظة فجأة.
أما الأمير فإنه لم يلاحظ حتى وجود آخرين يحدثون آجلايا ويلاطفونها ويتوددون إليها. أكثر من ذلك أن هناك لحظات كان يبدو عليه أثناءها أنه ناسي وجود آجلايا إلى جانبه. وفي بعض الأحيان كانت تستولي عليه رغبة في أن ينصرف ذاهباً إلى أي مكان، وأن يغيب غياباً تاماً وأن يختفي اختفاء كاملاً. كان يتمنى أن يلجأ إلى ملاذ مظلم معتم يخلو فيه إلى أفكاره ولا يستطيع أحد أن يهتدي إليه. أو كان على الأقل يتمنى أن يكون في داره، على الشرفة، شريطة أن لا يكون إلى جانبه أحد، لا ليبديف ولا أولاده. كان يتمنى أن يجد نفسه هناك، فيرتمي على الديوان دافناً رأسه في الوسادة، فلو أتيح له هذا إذن لبقي على تلك الحال يوماً فليلة فيوماً آخر. وكان في لحظات أخرى يحلم بالجبال، ولا سيما بموقع على جبال الألب كان يحب كثيراً أن يستحضر ذكراه، وهو المكان الذي كان يقوم فيه بنزاهته المفضلة عنده الأثيرة لديه حين كان يعيش هناك. فمن ذلك المكان يرى المرء القرية في حضن الوادي، ويستشف تساقط مياه الشلال الصغير التي تمازجها الثلوج، ويبصر السحب البيضاء، ويلمح قصراً قديماً مهجوراً. لشد ما يتمنى أن يجد نفسه الآن هناك، وأن يكون رأسه خالياً إلا من فكرة واحدة... فكرة واحدة طوال حياته، ولو دامت حياته ألف سنة! لا يهمه في الواقع أن ينسى هنا نسياناً تاماً. بل إن هذا لضروري. ولعله كان من الأفضل أن لا يُعرف هنا قط، وأن لا تكون جميع الصور التي مرت أمام عينيه إلا حلماً! ومهما يكن من أمر، ألم يكن الحلم والواقع شيئا واحدا؟
ثم أخذ الأمير يلاحظ آجلايا على حين فجأة، ولبث خمس دقائق لا يحوّل بصره عن وجه الفتاة، لكن نظرته كانت غريبة غير مألوفة: فكأنه كان يحدق إلى شيء يقع منه على مسافة فرسخين، أو كأنه كان ينظر إلى صورة لا إلى الشخص نفسه.
قالت آجلايا تسأله وقد توقفت عن الكلام والضحك مع من حولها فجأة:
– ما بالك تتفرّس فيّ هكذا يا أمير؟ إنك لتخيفني. يتراءى لي في كل لحظة إنك تريد أن تمد يدك لتلمس وجهي وتحسه. ما رأيك يا أوجين بافلوفتش؟ أليس هذا ما يحسه المرء حين يرى نظرته؟
أصغى الأمير إلى كلماتها، وكأنما أدهشه أن يراها تخاطبه هو. بدا عليه أنه أدرك معنى أقوالها ولو إدراكاً ناقصاً في أغلب الظن. ولم يجب بحرف واحد، لكنه إذ لاحظ أن آجلايا تضحك وأن الجميع يضحكون معها، انفرج فمه وأخذ يفعل مثلهم. وتضاعف الضحك من حوله حينذاك. أما الضابط الذي كان بطبعه شديد المرح فيما يبدو فقد أخذ يقهقه قهقهة شديدة. ودمدمت آجلايا تقول لنفسها وقد استبد بها غضب شديد مفاجئ:
– أبله!
فدمدمت إليزابت بروكوفيفنا تقول حانقة:
– كيف يمكن، يا رب، أن تختار مثل هذا الـ... أتراها فقدت عقلها تماماً؟
فقالت ألكسندرا تهمس في إذن أمها واثقة مطمئنة:
– هذه مزحة. هذا تكرار لمزحتها في ذلك اليوم مع «الفارس الفقير»، لا أكثر من ذلك. لقد عادت تناكده بطريقتها. ولكن هذه المزحة تفوق وتتجاوز حدود القصد. فيجب أن تضع لها نهاية يا أمي! منذ قليل أخذت تتلاعب بحركات وجهها كممثلة، فارتعنا من ذلك أشد الارتياع.
دمدمت إليزابت بروكوفيفنا تقول وقد خففت عنها ملاحظة ابنتها رغم كل شيء:
– من حسن الحظ أن من تعامله هذه المعاملة أبله كهذا الأبله.
وكان الأمير قد سمع أنه يوصف بأنه أبله، وها هو ذا يرتعش، لكنه لم يرتعش بسبب هذا النعت الذي سرعان ما نسيه فورا. وإنما ارتعش لأنه لمح بين الجمهور، غير بعيد من المكان الذي كان جالساً فيه، لمح من جانب (وهو لا يستطيع أن يحدد على وجه الدقة لا الموضع ولا الاتجاه)، لمح وجهاً شاحباً، له شعر أدكن مضفور، وله ابتسامة ونظرة يعرفها حق المعرفة. إن هذا الوجه لم يزد على أن ظهر ظهوراً خاطفاً. ربما كانت هذه الرؤية ثمرة خياله. لم يبق من هذه الرؤية في ذاكرته إلا ابتسامة مصعّرة، وعينان، ورباط عنق أخضر فاتح يدل على طموح إلى الأناقة لدى الشخص الذي ظهر ذلك الظهور الخاطف. تُرى هل اندس الشخص في الجمهور فغاب فيه أم هو تسلل في الفوكسهول؟ ذلك ما لا يستطيع الأمير أن يحدده.
لكنه أخذ يتفحص الأمكنة القريبة، قلقاً مهموماً مغموماً، بعد لحظة، على حين فجأة. إن ظهور ذلك الشخص الأول يمكن أن ينذر أو أن ينبئ بظهور شخص آخر. بل إن هذا لأكيد لا شك فيه. كيف نسي إمكان حدوث مثل هذا اللقاء حين ساروا متجهين إلى الفوكسهول؟ صحيح أنه لم يدرك عندئذ إلى أين كان ذاهباً، وذلك بسبب ما كان عليه من حالة نفسية خاصة. ولو استطاع أن يكون أكثر انتباهاً ويقظة للاحظ أن آجلايا كانت منذ أكثر من ربع ساعة تتلفت قلقة من حين إلى حين وكأنها تبحث بعينيها عن شيء ما حولها. أما وقد أصبح هو نفسه متوتر الأعصاب مزيداً من التوتر، فإن انفعال آجلايا واضطرابها قد اشتدا وتفاقما، فكلما نظر هو إلى وراء أسرعت تقوم هي بهذه الحركة نفسها. وما لبثت هذه المخاوف أن وجدت ما يبررها.
فهذه عصبة يبلغ عدد أفرادها عشرة أشخاص على الأقل تلج المدخل الجانبي الذي كان الأمير وآل إيبانتشين قد اتخذوا أماكنهم على مقربة منه؛ وفي مقدمة هذه العصبة تسير ثلاث نساء كانت اثنتان منهن جميلتين جمالا ساحراً لا يستغرب المرء أن يجرّ وراءه هذا العدد الكبير كله من العبّاد. ولكن هؤلاء العبّاد، وشأنهم في ذلك شأن أولئك النساء أنفسهن، كانت لهم هيئة خاصة تميزهم عن الجمهور المجتمع حول الموسيقى. وقد لاحظهم جميع الحضور تقريباً منذ دخلوا، ولكن أكثر الناس تظاهروا بأنهم لم يهتموا لحضورهم، إلا عدداً من الشباب ابتسموا وتبادلوا بعض الملاحظات بصوت خافت. وكان من المستحيل على كل حال أن لا يرى المرء هؤلاء القادمين، لأنهم دخلوا يعرضون أنفسهم ويتكلمون في صخب، ويضحكون ضحكاً مجلجلاً. من الجائز أن يكون بينهم أفراد سكارى، رغم أن كثيرين منهم كانوا يرتدون ثياباً فيها كثير من الأناقة والذوق. ولكن الناظر إليهم يلاحظ بينهم كذلك أفراداً يلفتون الانتباه بغرابة سلوكهم وثيابهم معاً، كما أن وجوههم تبدو ملتهبة التهاباً شديداً. وكان بين أفراد هذه العصبة أخيراً بضعة عسكريين، بل كان بينهم أيضاً أناس متقدمون في السن. كان بعضهم يرتدي ملابس متأنقة فضفاضة على آخر زي، ويضعون في أصابعهم خواتم، ويزينون عرى أكمامهم بأزرار فخمة؛ وعلى رؤوسهم ووجناتهم شعر مستعار فاحم السواد. وهم يصطنعون مظهر النبالة، ولكن هيئاتهم تعبر عن التعالي المفتعل. إنهم من أولئك الناس الذين يفر منهم الآخرون، في المجتمع الراقي، فرارهم من الطاعون. طبيعي أن في مراكز التجمع التي تقع قرب المدن ببلادنا، محلات تتميز بحرص شديد على حسن المعاملة، وتتمتع بشهرة طيبة وسمعة عطرة. ولكن أشد الناس حذراً وأكثرهم حيطة لا يضمن أن لا تسقط على رأسه في أي لحظة من لحظات حياته قرميدة من سطح المنزل المجاور. إن هذه القرميدة هي التي ستقع على رأس الجمهور المصطفى المتجمع حول الموسيقى.
للانتقال من الكازينو إلى الأرض الممهدة التي تستقر فيها الأوركسترا، يجب هبوط درجات ثلاث. وقد وقفت العصبة أمام هذه الدرجات مترددة أن تهبط. غير أن إحدى السيدات تقدمت، فلم يجرؤ أن يتبعها من صحبها إلا رجلان. فأما الأول فهو رجل متوسط العمر متواضع الهيئة حسن المظهر من جميع النواحي، ولكن الناظر إليه يدرك أنه من أولئك الناس الذين ليس لهم جذور، فلا يعرفون أحداً ولا يعرفهم أحد. وأما الثاني فهو رجل سيئ الهندام مشبوه الهيئة. ولم يصحب السيدة الغريبة الأطوار أحد غير هذين الرجلين. ثم إن السيدة، حين هبطت الدرجات الثلاث، لم تشأ حتى أن تلتفت إلى وراء، فهي لا تبالي أن يتبعها أحد أم لا. وما برحت تضحك ضحكاً صاخباً مجلجلاً. إن عيب أناقتها القصوى وثيابها الفاخرة وزينتها الثرية أنها مسرفة في خطف الأبصار وشد الانتباه. ومرت أمام الأوركسترا لتنتقل إلى الجهة الأخرى من الأرض الممهدة التي يستقر عليها العازفون، حيث توجد مركبة فخمة ترابط عند حافة الطريق ويبدو أنها تنتظر أحداً.
إن الأمير لم يرها منذ أكثر من ثلاثة أشهر. إنه منذ أن عاد إلى بطرسبرج لم ينقض عليه يوم واحد إلا انتوى أن يزورها. لكن لعل توجساً خفياً كان يصده عن ذلك. وهو لم يستطع، على الأقل، أن يدرك الشعور الذي يمكن أن يحسه إذا هو لقيها، رغم أنه حاول، مع غير قليل من الخوف، أن يتصور بخياله ذلك اللقاء. إن الشيء الوحيد الذي كان يبدو له واضحاً هو أن اللقاء سيكون شاقاً أليماً. لقد استحضر عدة مرات خلال هذه الأشهر الستة الإحساس الأول الذي أيقظه في نفسه وجه هذه المرأة. فحتى حين لم يكن تحت بصره إلا صورة ذلك الوجه، كان إحساسه إحساسا موجعا جدا. إنه يتذكر هذا. والشهر الذي قضاه بالأقاليم، وكان يلقاها أثناءه كل يوم تقريباً، قد أحدث في نفسه من المخاوف ما جعله يطرد من ذهنه في بعض الأحيان حتى ذكرى ذلك الماضي القريب. لقد كان في وجه تلك المرأة دائماً شيء يعذب نفسه عذاباً مبرحاً. انه في حديث جرى بينه وبين روجويين قد وصف شعوره بأنه «عاطفة شفقة لا نهاية لها». وهذه هي الحقيقة: إن مجرد النظر إلى صورة هذه المرأة الشابة يوقظ في نفسه جميع آلام الشفقة. إن عاطفة الشفقة هذه التي بلغت حدّ الألم لم تبارحه في يوم من الأيام، وما تزال مستبدة به إلى الآن، بل إنها لتشتد مزيداً من الاشتداد يوماً بعد يوم.
ومع ذلك كان التفسير الذي قدّمه لروجويين لا يكفيه. فالآن فقط يكشف له ظهورها المباغت، بحدس مباشر، عن نقص ذلك التفسير، وهو نقص لا يمكن أن تملأه إلا كلمات يمكن أن تعبر عن ذعره، نعم عن ذعره!! لقد كانت هنالك أسباب تدعوه إلى الاقتناع الكامل المطلق بأنها مجنونة. تصوروا رجلاً يحب امرأة أكثر مما يحب أي شيء في هذا العالم، أو يحس، بما يشبه النبوءة، أنه يحبها هذا الحب، ثم إذا هو يتصور هذه المرأة مكبلة بالسلاسل وراء قضبان حديدية على حين فجأة، يشهر عليها العصا حارس يهم أن يهوي بها فوقها: تلكم هي على وجه التقريب طبيعة الانفعال الذي نشب في نفس الأمير.
هامست آجلايا تسأله بسرعة وهي تنظر إليه وتشده من يده بسذاجة:
– ماذا بك؟
فالتفت إليها وتفرس فيها ورأى في عينيها السوداوين التماع شعلة لم يفهمها حينذاك. وجهد أن يبتسم للفتاة، لكنه لم يلبث أن نسيها وحوّل عنها بصره يمنة وقد بهرته رؤية خارقة من جديد.
ففي تلك اللحظة كانت ناستاسيا فيليبوفنا تمر قرب الكراسي التي تشغلها الآنسات. وكان أوجين بافلوفتش يقص على ألكسندرا إيفانوفنا حكاية لا بد أنها كانت شائقة ومضحكة جداً فلقد كان يرويها بكثير من الحرارة والنشاط. لقد تذكر الأمير فيما بعد أن آجلايا قالت عندئذ بصوت خافت: « آه... ما أروع...» ثم أمسكت فجأة عن الكلام ولم تكمل جملتها. غير أن ما قالته كان كافياً. وكانت ناستاسيا فيليبوفنا تمر مرور من لا ترى أحداً، ثم إذا هي تلتفت نحوهما فجأة، وتتظاهر بأنها تكتشف وجود أوجين بافلوفتش على غير توقع، فتصيح وهي تتوقف عن السير حالا:
– ها... تارة يعجز المرء عن لقائه بأية طريقة من الطرق، ولو بعث إليه الرسل، وتارة يعثر به حين لا يتوقع أن يراه... كنت أظن أنك هناك... عند عمك!...
احمرّ وجه أوجين بافلوفتش احمراراً شديداً، ورشق ناستاسيا فيليبوفنا بنظرة زاخرة بالغضب والحنق، ثم أشاح بوجهه إلى جهة أخرى.
– ماذا؟ ألا تعلم؟ إنه لم يعرف شيئاً بعد! هل تصدقون هذا؟ لقد انتحر عمك! أطلق في رأسه رصاصة هذا الصباح! علمت بذلك منذ قليل، في الساعة الثانية. ونصف سكان المدينة يعرفون النبأ الآن. لقد اختلس ثلاثمائة وخمسين ألف روبل من خزينة الدولة. بعضهم يقول إنه اختلس خمسمائة ألف. هه! وأنا كنت أعوّل على أنه سيورثك ثروة طائلة! لقد أكل كل شيء، ذلك الشيخ الفاجر الداعر. الخلاصة: وداعاً، «أتمنى لك التوفيق» ! ألن تذهب حقاً لقد عرفت كيف تقدّم استقالتك في الوقت المناسب. إنك لماكر صاحب حيلة! ولكن ما هذا الذي أقوله؟ لا شك إنك كنت تعرف كل شيء، لا شك إنك كنت تعرف كل شيء سلفاً. ربما كنت على علم بالأمر منذ أمس...
واضح أن ناستاسيا فيليبوفنا، إذ اتخذت لهجة الاستفزاز الوقحة هذه، وإذ أعلنت بهذا الأسلوب عن وجود صلة حميمة وهمية بينها وبين من تخاطبه، إنما كانت ترمى إلى غاية وتسعى إلى الهدف. لم يكن في الإمكان أن يبقى ثمة ظل من شك. وقد ظن أوجين بافلوفتش أن في وسعه أن يخرج من المأزق دون فضيحة إذا هو تظاهر بأنه لا يولي المرأة المستفزة أي انتباه. لكن أقوال ناستاسيا فيليبوفنا سقطت على رأسه؛ فحين ذكرت أن عمه مات صار وجهه كالأبيض من فرط اصفراره، والتفت نحو المرأة الوقحة. فما كان من إليزابت بروكوفيفنا إلا أن أسرعت تنهض وتنصرف بما يشبه الركض، مقتادة كل عالمها، إلا ليون نيقولايفتش وأوجين بافلوفتش اللذين تلبثا برهة: فأما الأول فكان يبدو مرتبكاً متحيراً، وأما الثاني فكان ما يزال منفعلاً مضطرباً. ولكن ما كاد آل إيبانتشين يقطعون عشرين خطوة حتى وقعت فضيحة رهيبة.
إن الضابط الذي كان يحدث آجلايا، وهو صديق أوجين بافلوفتش الحميم، قد استاء استياء شديداً وامتعض امتعاضاً قوياً، فها هو ذا يقول بصوت يكاد يكون عاليا:
– إنما نحن في حاجة هنا إلى سوط. فما من وسيلة أخرى يمكن أن تهدّئ هذه المخلوقة!
(واضح أن أوجين بافلوفتش كان يطلعه على شؤونه، ويبوح له بأموره).
فما إن سمعت ناستاسيا فيليبوفنا هذا الكلام من الضابط حتى أسرعت إليه متقدة العينين. ثم انتزعت من يدي شاب كان جالساً على مسافة خطوتين وكانت هي لا تعرفه، انتزعت من يديه عصا دقيقة من خيزران فهوت بها على وجه الضابط الذي أهانها، بكل ما أوتيت من قوة. وقد حدث هذا المشهد كله بسرعة كسرعة البرق. وخرج الضابط عن طوره فهجم على المرأة الشابة التي سرعان ما تركها تابعاها: فأما الأول، وهو الرجل المتوسط العمر، فقد اختفى اختفاء تاماً، وأما الثاني فقد انتحى جانباً وأخذ يضحك ملء حلقه. لا شك في أن الشرطة كانت ستتدخل بعد دقيقة، ولكن ناستاسيا فيليبوفنا كان يمكن أن تلقى أثناء تلك الدقيقة شراً كبيراً لولا أن جاءتها نجدة لم تكن في الحسبان: إن الأمير، وكان على مسافة خطوتين منها أيضاً، قد استطاع أن يمسك يدي الضابط من وراء. وقد خلص الضابط يديه منه، ولطمه على صدره لطمة بلغت من القوة أن الأمير مضى يسقط بعد ثلاث خطوات فوق كرسي. ولكن ناستاسيا فيليبوفنا كان قد أصبح إلى جانبها الآن مدافعان آخران. فأمام الضابط المهاجم كان قد وقف صاحبنا الملاكم – كاتب المقالة التي يعرف القارئ من أمرها ما يعرف، وأحد الأعضاء العاملين القدامى في عصبة روجويين؛ وها هو ذا يتقدم من الضابط برصانة وثقل ويقول له:
– اسمي كيللر، ليوتنان متقاعد! فإذا كنت يا كابتن، تريد استعمال الأيدي وتقبلني مدافعاً عن الجنس الضعيف فأنا تحت أمرك ورهن إشارتك! إنني قوي من الطراز الأول في الملاكمة الإنجليزية. لا تدفعني يا كابتن؛ إنني أشاركك ألمك من الإهانة «الدامية» التي تلقيتها، ولكنني لا أستطيع أن اسمح باستعمال قبضات الأيدي ضد امرأة على مرأى من الناس. فإذا شئت أن تسوّي الأمر بطريقة أخرى، كما يليق ذلك برجل مهذ... مهذب، فإن عليك طبعاً أن تفهمني، يا كابتن...
ولكن الكابتن كان قد ثاب على نفسه، وأصبح لا يصغي إلى كلام كيللر.
وفي تلك اللحظة خرج روجويين من بين الجمهور فأمسك ذراع ناستاسيا فيليبوفنا بسرعة، واقتادها. كان يبدو منفعلاً أشد الانفعال هو أيضاً: كان شاحب الوجه وكان يرتجف. وأتيح له وهو يقتاد المرأة أن يقهقه أمام أنف الضابط، وأن يقول بلهجة بائع منتصر:
– هه! ماذا أخذ من ذلك؟ دماً في بوزه!
سيطر الضابط على نفسه سيطرة تامة، وأدرك نوع هؤلاء الناس الذين يواجههم، فلم يزد على أن غطى وجهه بمنديله ثم التفت بأدب نحو الأمير الذي كان قد قام من سقطته، وقال له:
– أأنت الأمير ميشكين؟
– إنها مجنونة! إنها ملتاثة العقل! أؤكد لك!
كذلك أجابه الأمير بصوت متقطع وهو يمد إليه يديه المرتعشتين مداً آلياً.
قال الضابط:
– لا شك في أنك أعلم مني بالأمر. ولكن يهمني أن أعرف اسمك.
ثم حيّا بحركة من رأسه وانصرف، فما هي إلا خمس ثوان حتى كانت الشرطة قد وصلت فعلاً، ولكن بعد أن كان أواخر ممثلي المشهد قد غابوا عن المسرح. ولم تدم الفضيحة أكثر من دقيقتين على كل حال.
وقد قام جزء من الجمهور وانصرف. واكتفى عدد من الأشخاص بأن غيّروا أماكنهم. وسُرّ بعض الناس بالحادث سروراً عظيماً. ووجد فيه آخرون موضوعاً مثيراً تدور عليه أحاديثهم. الخلاصة أن الأمر انتهى كما تنتهي أمثاله عادة. واستأنفت الأوركسترا عزفها.
تبع الأمير أسرة إيبانتشين. ولو أنه، بعد أن ضربه الرجل على صدره فسقط على كرسي، ولو أنه خطر بباله أن ينظر إلى يساره أو اتسع وقته لأن ينظر إلى يساره، لكان رأى آجلايا واقفة على بعد عشرين خطوة منه ترقب المشهد رغم نداءات أمها وأخواتها اللواتي كان قد قطعن مسافة طويلة. وقد هرع إليها الأمير «شتش...»، واستطاع أن يحملها على الانصراف بأقصى سرعة. فأدركت الركب (إن إليزابت بروكوفيفنا قد تذكرت هذا فيما بعد) وهي في حالة من الاضطراب تبعث على الاعتقاد بأنها لم تكن قد سمعت نداءاتهن. ولكنها بعد دقيقتين، عند دخول الحديقة، قالت بلهجة تحمل معنى الاستخفاف، وهي لهجة معهودة فيها:
– إنما أردت أن أعرف كيف يمكن أن تنتهي المهزلة!
الفصل الثالث
إن الحادث الذي وقع في الفوكسهول قد صعق الأم والبنات صعقا إن صح التعبير. فكانت إليزابت بروكوفيفنا، وهي تحت وطأة الاضطراب والانفعال والقلق، تقتاد بناتها هاربة بما يشبه الركض على طول الطريق المؤدي من المحطة إلى الدار. وكان في رأيها أن أموراً كثيرة قد انكشفت أثناء ذلك الحادث؛ حتى لقد أخذت تنبت في ذهنها، رغم الاضطراب والذعر، أفكار معينة حاسمة. وأدرك الجميع على كل حال أن شيئاً شاذاً غير عادي قد وقع، وأن هناك سراً خارقاً لعله أخذ ينكشف. إن أوجين بافلوفتش، رغم التأكيدات والشروح السابقة التي قدمها الأمير «شتش...» قد «سقط القناع عن وجهه» و«ظهر على حقيقته»، و«ثبت ثبوتاً قاطعاً أن له علاقة بتلك المخلوقة». ذلك كان رأي إليزابت بروكوفيفنا، وحتى أن هذا كان رأي ابنتيها الكبريين أيضاً. غير أن هذا الاستنتاج لم يزد على أن ضاعف الألغاز والأحجيات. إن الآنستين، في قرارة نفسيهما، قد ساءهما ذلك الذعر الرهيب وذلك الفرار الفاضح من جهة أمهما. ولكنهما لم تشاءا في غمرة اضطراب اللحظة الأولى، أن تروّعاها مزيدا من الترويع بأسئلتهما. لقد كانتا تحسان أن أختهما الصغرى، آجلايا إيفانوفنا، ربما كانت تعلم من أمر هذه القضية ما لا تعلمان وما لا تعلم أمهما. أما الأمير «شتش...»، فكان مكفهر الهيئة مظلم الوجه، غارقاً في تأملاته هو أيضاً. لم توجِّه إليه إليزابت بروكوفيفنا، طوال الطريق، كلمة واحدة؛ ولكن لم يبدّ عليه أنه انتبه إلى صمتها هذا. وقد ألقت عليه آديلائيد مراراً هذا السؤال: «من هو ذلك العم؟ وما الذي حدث ببطرسبرج؟»، فكان لا يزيد على أن يجمجم بلهجة مريرة، مجيباً إجابة غامضة، قائلاً إن هناك معلومات يجب السؤال عنها، وإن المسألة كلها عجيبة مستحيلة على كل حال. فقالت آديلائيد تجيبه وقد عدلت عن الإلحاح في السؤال: «لا شك في هذا». وأظهرت آجلايا هدوء خارقاً. كل ما هنالك أنها أثناء الطريق نبهت إلى أن سيرهم سريع مسرف في السرعة. وفي لحظة من اللحظات نظرت وراءها فلمحت الأمير محاولاً اللحاق بهم. فابتسمت ابتسامة فيها شيء من السخرية، ثم لم تلتفت بعد ذلك إلى جهته قط.
وعند عتبة الفيلا تقريباً، التقوا بإيفان فيدوروفتش الذي كان قد وصل من بطرسبرج منذ برهة فهب الآن إلى لقائهم. وكانت الكلمة الأولى التي قالها هي أنه سأل عن أوجين بافلوفتش. ولكن زوجته مرت بقربه متوحشة الهيئة ضارية السحنة، دون أن تجيبه بل ودون أن تنظر إليه. وسرعان ما قرأ في أعين بناته وفي عيني الأمير «شتش...» أن عاصفة قد ألمت بالمنزل. وعلى كل حال فقد كان وجهه، حتى قبل أن يدرك ذلك، يعبر هو نفسه عن قلق غير مألوف. لم يلبث أن أمسك ذراع الأمير «شتش...»، فأوقفه أمام الفيلا، وتبادل معه بضع كلمات بصوت خافت. فلما صعدا إلى الشرفة بعد ذلك للحاق بإليزابت بروكوفيفنا كان الناظر إليهما يستطيع أن يعرف مر رؤية وجهيهما أنهما قد اطلعا على نبأ خارق.
والتأم الجمع كله أخيراً في أعلى، بجناح إليزابت بروكوفيفنا؛ ولم يبق إلا الأمير، جلس في ركن كأنه ينتظر شيئاً ما. كان هو نفسه لا يعلم لماذا بقاؤه هنالك، ولم يخطر بباله أن ينصرف وهو يرى هذا الاضطراب الذي شمل المنزل. لكأنه قد نسي الكون بأسره، وكأنه مستعد لأن يبقى مسمّراً سنتين متواصلتين في المكان الذي يمكن أن تضعه فيه. وكانت تصل إلى مسامعه من فوق، بين الفينة والفينة، أصداء مناقشة حامية الوطيس. لا يدري كم قضى من الوقت جالساً في ذلك الركن. ولكن المساء قد جاء، وأخذ الظلام يعم. وفجأة ظهرت آجلايا على الشرفة. كانت تبدو هادئة، ولكنها شاحبة الوجه قليلاً. وابتسمت ابتسامة يخالطها شيء من الدهشة حين رأت الأمير الذي كانت لا تتوقع طبعاً أن تراه هنالك جالساً على كرسي.
سألته وهي تدنو منه:
– ماذا تفعل هنا؟
فتمتم الأمير ببضع كلمات مضطرباً، وأسرع ينهض. ولكن آجلايا لم تلبث أن جلست قربه فعاد يجلس. تفرست فيه بنظرة سريعة لكنها متفحصة، ثم سرحت بصرها من خلال النافذة دون أن تكون لها نية معينة ظاهرة، وعادت تحدق إلى الأمير وتتفرس فيه.
قال الأمير يحدث نفسه: «أتراها تريد أن تأخذ في الضحك؟ لا، لو كانت تريد ذلك لما أمسكت عنه!».
قالت بعد صمت:
– هل تريد قليلاً من الشاي؟ إن شئت أمرت لك بشاي.
– لا... لا أدري...
– كيف لا تدري أتريد أن تشرب شيئاً من الشاي أم لا تريد؟ آ... بالمناسبة: إذا دعاك أحد إلى مبارزة فما عساك تفعل؟ هذا سؤال كنت أريد أن ألقيه عليك.
– ولكن من ذا الذي... لا يمكن أن ينتوي أحد دعوتي إلى مبارزة!
– هب ذلك حديث، فهل تخاف؟
– أعتقد إنني سأخاف... سأرتاع ارتياعاً شديداً!
– حقاً؟ أنت إذن جبان؟
– لـ... لا، قد لا أكون جباناً. فمن خاف ولم يهرب فليس جبانا.
كذلك قال الأمير وهو يبتسم بعد لحظة تفكير. فسألته آجلايا:
– وأنت؟ ألا تهرب؟
فقال وهو يضحك أخيراً لهذه الأسئلة:
– قد لا أهرب.
فقالت بشيء من غضب:
– أما أنا فلا أهرب بحال من الأحوال، رغم إنني امرأة. ثم إنك تسخر مني، وتتلاعب تلاعبك المعهود، لتزيد الاهتمام بك. قل لي: هل جرت العادة بأن يتم إطلاق النار في المبارزات على مسافة اثنتي عشرة خطوة؟ بل وعلى مسافة عشر خطوات أحيانا؟ إذا صدق هذا كان مؤكداً أن يُقتل المتبارز أو أن يجرح!
– يندر أن لا تطيش الطلقة في المبارزات.
– كيف؟ لقد قُتل بوشكين.
– ربما كان ذلك مصادفة.
– لا: كانت المبارزة مبارزة موت، وقتل!
– لا شك أن الرصاصة أصابته في موضع أدنى من النقطة التي صوّب إليها دانتيس، وهي الصدر أو الرأس. ما من أحد يصوّب إلى النقطة التي يصيبها. ولقد كان جرح بوشكين إذن نتيجة مصادفة، وثمرة خطأ في التسديد. إن أناساً متخصصين هم الذين قالوا لي هذا الكلام .
– وأنا كلمت في الأمر جندياً ذكر لي أن النظام يوجب على الجنود أن يصوبوا إلى منتصف الجسم حين يصوبون. ذلك هو التعبير الوارد في النظام: (منتصف الجسم). فالتسديد لا يكون إذن لا إلى الصدر ولا إلى الرأس، وإنما يكون إلى وسط الجسم. وحين سألت أحد الضباط بعد ذلك في هذا الموضوع أكد لي صحة هذا الزعيم.
– هذا يصدق على التصويب من مسافة بعيدة.
– وهل تحسن أنت التصويب؟
– لم أطلق رصاصة في حياتي.
– هل يمكن أن يكون صحيحاً أنك لا تعرف حتى كيف تحشو مسدساً؟
– بل أعرف الطريقة لكنني لم أحاول أن أمارسها بنفسي.
– معنى هذا إنك لا تعرف. فهذه عملية تقتضي ممارسة عملية! أصغ إليّ واحفظ ما أقوله لك: تشتري في أول الأمر بارود مسدّس. يجب أن لا يكون البارود رطباً بل جافاً جداً (يبدو أن هذا ضرورة لا غنى عنها). ويجب أن يكون مسحوقاً دقيقاً ناعماً. اطلب هذا النوع من البارود، وإياك أن تشتري باروداً من بارود المدفع. أما الرصاصات فيظهر أن على المرء أن يتولى صبها بنفسه. هل عندك مسدسات؟
أجاب الأمير وهو يضحك فجأة:
– لا، ولا حاجة بي إليها!
– آه... يا للحماقة! لا تنس أن تشتري مسدسات، مسدسات جيدة! اختر منها نوعاً فرنسياً أو إنجليزياً. يقال إن المسدسات الفرنسية والإنجليزية هي خير المسدسات. وخذ بعد ذلك مقداراً من البارود، مقداراً يكفي لملء كستبان خياطة، أو كستبانين اثنين؛ وأفرغ البارود في ماسورة المسدس؛ ولأن يكون مقدار البارود أكثر من اللازم خير من أن يكون أقل. ثم احش الماسورة لباداً (يظهر أن اللباد لا غنى عنه، لا أدري لماذا). في وسعك أن تحصل على اللباد من أي مكان، في وسعك أن تأخذه من فراش مثلاً، أو من أبازيم الباب. وبعد أن تدس الحشوة تدخل الرصاصة. هل فهمت؟ البارود أولا والرصاصة بعد ذلك. وإلا لن تخرج الطلقة. لماذا تضحك؟ أريد أن تتمرن على إطلاق النار كل يوم عدة مرات، وأن تتعلم كيف تسدّد إلى هدف فتصيبه. هل ستفعل؟
كان الأمير ما يزال يضحك. فقرعت آجلايا الأرض بقدمها غاضبة. تحيّر الأمير من كل هذا الجد في حديث كهذا الحديث. كان يحس إحساساً غامضاً بأن عليه أن يستعلمها بعض النقاط، وأن يلقي عليها بعض الأسئلة عن موضوعات هي أخطر شأناً من طريقة حشو المسدسات على كل حال. ولكنه نسي. لم يبق لديه إلا إحساس واحد هو أنه يراها جالسة أمامه وحيدة وأنه ينظر إليها. أما ما قد تحدثه عنه وتكلمه عليه في تلك اللحظة فأمر لا يكاد يعنيه.
وأخيراً نزل إيفان فيدوروفتش نفسه من الطابق الأعلى وظهر على الشرفة. كان يهم أن يخرج، وكان كالح الهيئة متجهم الوجه مشغول البال ثابت العزم. فلما رأى الأمير هتف يسأله، رغم أن الأمير لم تبد عليه أية حركة تدل على أنه يريد الانصراف.
– آه... ليون نيقولايفتش... هذا أنت... إلى أين أنت ذاهب الآن؟ تعال... هناك كلمة أريد أن أقولها لك...
قالت آجلايا وهي تمد يدها للأمير:
– إلى اللقاء يا أمير!
كانت الشرفة قد خيّم عليها الظلام بحيث إن الأمير لم يستطع في تلك اللحظة أن يميز قسمات الفتاة تمييزاً واضحاً. وبعد دقيقة، بينما كان هو والجنرال قد خرجا من الفيلا، احمرّ احمراراً رهيباً على حين فجأة وقلص يده اليمنى تقليصاً قوياً.
واتفق أن كان على إيفان فيدوروفتش أن يسير في طريق الأمير ذاته. إنه، رغم تأخر الوقت، يريد الذهاب إلى شخص من الأشخاص بسرعة لإبرام صفقة. فأخذ أثناء الطريق يحدث الأمير بلهجة متعجلة وكلام مضطرب مفكك. كان اسم إليزابت بروكوفيفنا يتردد ذكره على لسانه كثيراً. فلو كان الأمير أقدر على الانتباه في تلك اللحظة، فلربما استطاع أن يدرك أن محدّثه كان يحاول أن يستمد منه بعض المعلومات، أو قل أن يلقي عليه سؤالاً معيناً، ولكن دون أن يستطيع مواجهة النقطة الأساسية. يجب أن نذكر أن الأمير كان من الاضطراب والبلبلة والذهول بحيث لم يسمع بداية الكلام الذي قاله له الجنرال، فلما تسمّر الجنرال أمامه ليلقي عليه سؤالاً حاداً، اضطر أن يعترف بأنه لم يفهم شيئاً.
فما كان من الجنرال إلا أن رفع كتفيه. ثم استأنف كلامه فعاد يقول متدفقاً:
– ما أعجبكم كلكم. من جميع النواحي! أقول لك إنني لا أفهم شيئا البتة من خواطر إليزابت بروكوفيفنا وأنواع الجزع والهلع التي وتقول إننا احتُقرنا وازدرينا، وان سمعتنا ساءت وكرامتنا أهينت وشرفنا تلطخ. من فعل بنا هذا؟ كيف تم؟ مع من جرى؟ متى حدث؟ لماذا وقع؟ إنني اعترف بأن لي عيوباً فادحة وأخطاء كبيرة، ولكن طيش تلك المرأة المضطربة (التي تسلك فوق ذلك سلوكاً شائناً) أمر يمكن أن تضع له الشرطة حداً. إنني أنوي منذ اليوم أن أذهب إلى أحد وأن أتخذ إجراءات. وكل شيء يمكن أن يسوّى بهدوء وسكينة ورفق، بل وبمداراة ومراعاة، ودون أية فضيحة أو جرصة، وذلك بالاعتماد على بعض العلاقات. وإني لأعترف أيضاً بأن المستقبل يحمل أحداثاً كبيرة، وأن أموراً كثيرة تحتاج إلى إيضاح. نحن بصدد مؤامرة. ولكن إذا كان لا يوجد هنا أحد يعرف شيئاً، وإذا كان لا يوجد هناك أحد يعرف شيئاً كذلك؛ إذا كنت أنا لم أسمع بشيء، وإذا كنت أنت لم تسمع بشيء، وإذا لم يكن ثالث ولا رابع ولا خامس قد سمع بشيء أيضاً، فإني لأسألك: فمن نرى يكون على علم بالأمر؟ كيف تعلل أنت هذا؟ اللهم إلا أن نسلم أننا إزاء سراب أو شبه سراب، وأننا إزاء ظاهرة لا تمت إلى الواقع بسبب، كضوء القمر أو طيوف الأشباح؟
تمتم الأمير يقول وقد تذكر فجأة، على ألم شديد، كل ما جرى في النهار:
– «هي» مجنونة!
– لتسلّم بهذا، إذا كنت عن تلك المرأة تتكلم! لقد فكرت أنا في الأمر مثل تفكيرك تقريباً، وارتحت إلى هذا الرأي. لكنني ألاحظ أن تفكيرهم هم كان أسلم، وأصبحت لا أعتقد بأنها مجنونة. صحيح أن هذه المرأة يعوزها الحس السليم، ولكنها ليست مجنونة. إن اندفاعها في الكلام اليوم بصدد كابيتون ألكسيفتش يدل على ذلك دلالة قاطعة. إنها تتصرف تصرف وغد حقير، أو تصرف يسوعي ماكر لتبلغ هدفاً معيناً.
– من كابيتون ألكسيفتش؟
– آه... ليون نيقولايفتش! إنك إذن لا تصغي إليّ البتة! لقد كانت بداية كلامي إليك عن كابيتون ألكسيفتش. لقد بلغت من الاضطراب لهذا الأمر أن ذراعي وساقي ما تزال ترتعد. وذلك هو السبب في أنني رجعت اليوم من المدينة متأخراً هذا التأخر كله. كابيتون ألكسيفتش رادومسكي، عم أوجين بافلوفتش...
هتف الأمير:
–– ماذا؟
– أطلق النار في رأسه هذا الصباح، عند الفجر، الساعة السابعة. كان شيخاً محترماً في نحو السبعين من عمره، أبيقورياً. وكما قالت هي تماماً، اختلس من مال الدولة، اختلس مبلغاً ضخما!
– من أين استطاعت أن...
– أن تعرف هذا؟ ها ها... لقد تكونت لها «أركان عامة» بكاملها. هل تعرف أية شخصيات تختلف إليها الآن أو تلتمس «شرف التعرف بها»؟ فلا عجب أن يكون بعض زوارها الذين وصلوا من المدينة قد أطلعوها على شيء ما، لأن بطرسبرج كلها تعرف النبأ الآن، كما يعرفه على كل حال نصف سكان بافلوفسك أو ربما جميعهم. ولكن ما أمكر الملاحظة التي قالتها، على ما رُوي لي، عن وظيفة أوجين بافلوفتش، أي عن حسن اختياره الوقت المناسب للاستقالة! يا لها من غمزة جهنمية! لا، لا، إن هذا لا يدل على جنون! طبعاً أنا أرفض أن أصدق أن أوجين بافلوفتش قد أمكنه أن يتنبأ بالكارثة، أي أن يعلم أنها ستحدث يوم كذا، ساعة كذا من الصباح، الخ. ولكن لعله أوجس هذا قبل حدوثه. هه! حين أتذكر كيف أن الأمير «شتش...»، وأنا، ونحن جميعاً، كنا مقتنعين بأنه سيرث عمه... هه!... شيء فظيع، فظيع! على كل حال، افهم مني ما أقول: إنني لا أتهم أوجين بافلوفتش أي اتهام. ها أنا ذا أسارع إلى إعلان ذلك لك. غير أن في الأمر شيئاً مشبوهاً. هذا لا شك فيه. إن الأمير «شتش...» قد بلغ ذروة التعجب والذهول. لقد جرت الأمور كلها مجرى غريباً لا حدّ لغرابته!...
– ولكن ما هو الشيء المشبوه في سلوك أوجين بافلوفتش؟
لا شيء البتة. لقد تصرف تصرفا سليما لا غبار عليه. ثم إنني لم أغمز أي غمز يقدح فيه. أظن إن ثروته الشخصية لا مراء فيها. إن إليزابت بروكوفيفنا لا تطيق طبعاً حتى أن تسمع ذكر اسمه... ولكن الأمر الأخطر هو الكوارث المنزلية كلها أو قل هذه الهموم العائلية... أوه... أصبحت لا أعرف كيف اسميها!... إنك أنت يا ليون نيقولايفتش صديق للأسرة حقاً. فإليك إذن ما عرفناه منذ قليل (رغم أن الأمر ليس مؤكداً محققاً بعد): لقد عرفنا أن أوجين بافلوفتش قد صارح آجلايا منذ أكثر من شهر، وأنه فيما يظهر قد تلقى منها رفضا قاطعا!
هتف الأمير قائلاً بحرارة:
– غير ممكن!
قال الجنرال وهو يرتعش دهشة ويقف متسمراً في مكانه:
– ولكن هل أنت على علم بشيء؟ لعلني يا صديقي العزيز قد أخطأت وجافيت الكياسة واللباقة حين حدثتك عن هذا... ولكني إنما فعلت لأنك... لأنك شخص... قد يكون مثله على علم بشيء. أتراك تعرف شيئاً ما؟
دمدم الأمير يقول:
– لا أعرف شيئاً... عن أوجين بافلوفتش.
– ولا أنا! أنا... يا صديقي العزيز قد حلفوا ليدفِنُني، ليقبُرنّني. إنهم لا يريدون أن يدركوا أن هذا يشق على نفس رجل، وإنني لن أحتمله. منذ قليل قام مشهد رهيب! إنني أكلمك كما يكلم أب ابنه. أقسى ما في الأمر أن آجلايا تشبه أن تسخر من أمها وتهزأ بها. أما الرفض الذي لعلها قابلت به أوجين بافلوفتش منذ شهر، وأما المصارحة القاطعة التي لعلها تمت بينهما، فهذه تخمينات أختها.. وهي تخمينات قد تكون صحيحة على كل حال. لكن آجلايا إنسانة متسلطة مستبدة غريبة الأطوار ذات نزوات، إلى حد لا يستطيع المرء أن يتصوره. صحيح أنها تملك جميع اندفاعات الروح النبيلة، وجميع مزايا القلب والفكر اللامعة. إني أسلم بهذا. لكنها ذات تصرفات عجيبة، وسخرية مسرفة. إن لها طبعا شيطانيا، وإن لها شطحات شاذة! منذ قليل، تهكمت صراحة على أمها، وعلى أختيها، وعلى الأمير اشتش...»؛ ناهيك عني أنا، أنا الذي قلّما أنجو من سخرياتها... ولكن من أنا؟ أنت تعلم مدى ما أحمله لها من حب حتى في سخرياتها. ويخيل إليّ أن هذا هو السبب في أن هذه الشيطانة الصغيرة تحبني حباً خاصاً، أعني أنها تحبني أكثر من سائر الآخرين. أراهن أنها قد أتيح لها أن تمارس سخريتها عليك أنت أيضاً. لقد رأيتكما منذ قليل منهمكين في الحديث بعد الزوبعة التي قامت فوق. كانت جالسة إلى جانبك كأن شيئاً لم يحدث.
احمرّ الأمير احمراراً رهيباً، وقلص يده، لكنه لم ينطق بكلمة.
قال الجنرال فجأة، بحرارة وتدفق:
– يا عزيزي الطيب ليون نيقولايفتش!... أنا، وحتى إليزابت بروكوفيفنا (التي عادت تحمل عليك وتقول فيك السوء، وتعاملني هذه المعاملة نفسها أنا أيضاً بسببك، لا أدري لماذا!)، نحن نحبك مع ذلك، نحبك حباً صادقاً ونقدّرك رغم كل شيء، أعني رغم المظاهر. ولكن اعترف أنت نفسك يا صديقي العزيز، اعترف أنت نفسك أنه لغز مفاجئ ونباً فظيع أن نسمع هذه الشيطانة الصغيرة (وكانت عندئذ واقفة أمام أمها هناك، متسمرة، تصطنع أعمق الاحتقار لجميع أسئلتنا، ولا سيما الأسئلة التي كنت ألقيها عليها أنا.. ذلك أنني قد ارتكبت حماقة فتكلمت باللهجة القاسية التي ينبغي أن يتكلم بها رب أسرة! تباً لي! لقد كنت أحمق غبياً) أقول أن نسمع هذه الشيطانة الصغيرة تذكر تفسيراً لا يدور بخلد أحد، تذكره بلهجة باردة وهيئة ساخرة، فتقول: «إن تلك المجنونة» (تلك هي الكلمة التي استعملتها، وقد أدهشني أن أسمعك تكرر جملتها نفسها)–... كيف لم تستطيعوا أن تلاحظوا ذلك من قبل؟ – إن تلك «المجنونة» قد وضعت في رأسها أن تجعلني أتزوج الأمير ليون نيقولايفتش مهما كلف الأمر، وذلكم هو السبب في أنها تحاول إجلاء أوجين بافلوفتش عن بيتنا». ذلك هو كل ما قالته. ثم انفجرت ضاحكة ضحكاً مجلجلاً قبل أن تضيف أية شروح أخرى. ففغرت أفواهنا من شدة الذهول، وخرجت هي صافقة باب الغرفة صفقاً قوياً. ثم رُوي لي الحادث الذي وقع اليوم بينها وبينك، و... و... اسمع يا صديقي العزيز، ما أنت بالرجل الذي يتأذى بسرعة، بل أنت رجل عاقل رصين كما لاحظت أنا ذلك، ولكن لا تزعل إذا قلت لك إنها تضحك عليك. يميناً إنها تضحك عليك! تضحك عليك ضحك طفلة، فما ينبغي لك أن تؤاخذها وأن تحمل لها موجدةً وضغناً. ولكن الأمر هو كذلك. لا يذهبن بك الخيال بعيداً. إنها تتسلى بك كما تتسلى بنا نحن أيضاً، تزجيةً للوقت وملئاً للفراغ لا أكثر. هيّا، إلى اللقاء! إنك تعرف عواطفنا نحوك. وتعرف مدى صدقها. وهي ثابتة لن يغيرها شيء... ولكن يجب عليّ أن أدخل هنا. ندر أن كنت في حياتي معتكر المزاج (أهذا هو التعبير المستعمل؟) كما كنت اليوم. يا له من اصطياف!
بقي الأمير وحده في المنعطف، ثم ألقى نظرة حواليه، وأسرع يقطع شارعاً فيقترب من نافذة مضاءة بإحدى الفيلات، فيفضُّ هنالك ورقة صغيرة ظل قابضا عليها قبضا قويا بيده اليمنى طوال مدة الحديث الذي جرى بينه وبين إيفان فيدوروفتش؛ فيقرأ عليها في الضوء الضعيف الخارج من تلك النافذة، ما يلي:
«غداً، في الساعة السابعة من الصباح، سأكون على الدكة الخضراء في الحديقة، وسأنتظرك. لقد قررت أن أحدثك في أمر هام جداً، يتعلق بك مباشرة».
«حاشية: آمل أن لا تطلع على هذه الرسالة أحداً. لقد شعرت بشيء من تأنيب الضمير وأنا أسطر لك هذه التوصية بالكتمان، ولكن إذا فكرنا في الأمر ملياً وجدنا إنك تستحقها. وحين أضفتها تصورت طبعك المضحك، فاحمر وجهي شعوراً بالخجل.
(حاشية ثانية: هي تلك الدكة نفسها التي أريتك إياها منذ قليل. لا بد أن تشعر بالخزي من اضطراري إلى التوضيح والتحديد مرة أخرى».
كانت الرسالة قد كتبت على عجل، وطويت بإهمال، قبل نزول آجلايا إلى الشرفة بلحظة قصيرة في أغلب الظن.
شعر الأمير بانفعال عازم عنيف لا يغالب، انفعال يشبه أن يكون جزعاً؛ ثم قبض على الورقة الصغيرة بيده قبضاً قوياً من جديد، وابتعد عن النافذة المضاءة متعجلاً تعجل لص فاجأه أحد. ولكن هذه الحركة المباغتة ألقته إلى سيد كان وراءه تماماً.
قال هذا السيد:
– إنني أرقبك وأرصدك يا أمير.
فهتف الأمير يقول مدهوشاً:
– أهذا أنت يا كيللر؟
– كنت أبحث عنك يا أمير. انتظرتك عند حواف فيلا أسرة إيبانتشين، التي لا أستطيع دخولها طبعاً. وتابعتك خطوة خطوة أثناء سيرك مع الجنرال. أنا رهن أوامرك يا أمير. لك أن تتصرف بي كما تشاء. إنني مستعد أن أضحي بنفسي، بل وأن أموت إذا لزم الأمر.
– ولكن... لماذا؟
– لأن مبارزة ستحدث حتماً! إن هذا الليوتنان مولوفستوف، وأنا أعرفه... لا معرفة شخصية... لن يبلع الإهانة. وهو ينظر إلى أمثال روجويين وأمثالي نظرته إلى أوغاد طبعاً، ولعله في هذا على حق؛ فستكون أنت المسؤول تجاهه إذن. لا بد من دفع الثمن يا أمير. وقد سمعت أنه استعلم عنك، ولا بد أن يجيئك في الغد أحد من أصدقائه، هذا إذا لم يكن في انتظارك بمنزلك منذ الأن. فإذا شرّفتني باختياري شاهداً، فاني مستعد حتى لتحمل خطر السجن. من أجل أن أقول لك هذا إنما بحثت عنك يا أمير.
صاح الأمير يقول وهو ينفجر مقهقهاً، على دهشة شديدة من كيللر:
– أأنت أيضاً تجئ تحدثني عن مبارزة؟
وبلغ من شدة الضحك أنه أمسك أضلاع صدره. أما كيللر الذي بدا عليه أنه كان كالواقف على رؤوس الأبر ما لم يقم بواجبه فيعرض على الأمير أن يختاره شاهداً، فإنه يكاد يشعر بأنه يهان بهذا الضحك الغزير من الأمير.
– تذكر يا أمير إنك قد قبضت على ذراعيه في أصيل هذا اليوم؟ ما من رجل شريف يمكن أن يحتمل هذا، ولا سيما إذا حدث على مرأى من الناس.
صاح الأمير يقول وهو ما يزال يضحك:
– ولكنه لكماني في صدري لكمة قوية. ولا داعي إلى أن نقتتل، فسأعتذر له فينتهي كل شيء. وإذا كان لا بد من الاقتتال فسوف نقتتل! ألا فيلجأ إلى السلاح. أنا لا أطلب خيراً من هذا. هأ هأ! إنني أعرف الآن كيف أحشو مسدساً. تصور أنني علمت هذا منذ برهة! هل تجيد حشو مسدس يا كيللر؟ يجب أولاً شراء بارود من بارود المسدسات، أي بارود لا يكون رطباً بل جافاً، ولا يكون خشناً كالبارود الذي يستعمل في حشو المدافع. فإذا اشتريت البارود وضعته في ماسورة المسدس قبل كل شيء، ثم انتزعت لباداً من إبزيم أحد الأبواب، ثم وضعت الرصاصة بعد اللباد. حذار أن تضع الرصاصة قبل البارود، لأن الرصاصة لن تنطلق عندئذ. هل فهمت يا كيللر؟ الرصاصة لن تنطلق... هأ هأ!... أليس هذا سبباً رائعاً يا صديقي كيللر؟!... كيللر، هل تعلم أنني سأقبّلك فوراً؟ هأ هأ هأ! كيف تصرفت حتى استطعت أن تصل إليه فتقف أمامه فجأة؟ تعال اشرب عندي شمبانيا متى استطعت. سنسكر بشمبانيا! هل تعلم أن عندي اثنتي عشرة زجاجة في قبو ليبديف؟ لقد عرضها عليّ أمس الأول بسعر قال انه «فرصة»، فاشتريتها منه كلها. حدث هذا غداة وصولي. لسوف أجمع حفلاً بكامله! قل لي: هل ستنام هذه الليلة؟
– كالعادة يا أمير.
– أتمنى لك إذن أحلاماً جميلة! هأ هأ!..
وقطع الأمير الشارع، وغاب في الحديقة، تاركاً كيللر في حيرة وبلبلة وشيء من خيبة الأمل. إن كيللر لم يسبق له أن رأى الأمير في حالة نفسية كهذه الحالة غرابة، لا ولا كان في وسعه أن يتخيله في هذه الصورة!
قال كيللر يحدث نفسه: «لعله مصاب بحمى، فإنه رجل عصبي قد أثرت فيه هذه الأحداث كلها، ولكنه لم يخف حتماً! يا إلهي! إن أمثال هذا الإنسان لا يهابون. هِمْ... شمبانيا! هذا خبر شائق. اثنتا عشرة زجاجة! دستة زجاجات؛ مؤونة محترمة. أراهن أن ليبديف قد أخذها من أحد الذين يقترضون منه مالاً على رهن. هِمْ... الحق أنه لطيف، هذا الأمير. يميناً إنه نوع الرجل الذي يعجبني. على كل حال، ليس هذا أوان التردد... فإذا كان هناك شمبانيا، فيجب انتهاز الفرصة... ».
لقد كان صحيحاً في الواقع أن الأمير كان في حالة قريبة من الحمى.
ظل يطوف مدة طويلة في ظلمات الحديقة، واكتشف أخيراً أنه يذرع ممراً من ممرات الحديقة بين الأشجار. شعر أنه قد قطع هذا الممر ثلاثين أو أربعين مرة بين الدكة وبين شجرة قديمة مرتفعة يسهل تعرّفها تقع على بعد مائة خطوة. أما أن يتذكر فيم كان يفكر أثناء هذا التجوال الذي دام ساعة على الأقل، فلقد كان يستحيل عليه ذلك ولو أراده. ثم إنه قد اهتدى إلى فكرة سرعان ما جعلته ينفجر ضاحكاً على حين فجأة. ولم يكن في الفكرة ما يضحك مع ذلك، غير أن كل شيء كان يثير فيه الضحك الشديد. خطر بباله أن افتراض نشوب مبارزة ربما نبتت في رؤوس أخرى غير رأس كيللر، وأن الدرس الذي ألقي عليه في طريقة حشو المسدس لم يكن إذن ثمرة مصادفة. قال يحدث نفسه فجأة وهو يتوقف كأنما باغتته فكرة أخرى: «عجيب!! منذ قليل، حين نزلت إلى الشرفة ووجدتني في ذلك الركن أذهلها أن تراني هناك. وابتسمت... وكلمتني عن الشاي. ولكن الرسالة كانت مع ذلك في يدها. هذا دليل قاطع على أنها لم تكن تشك في أنني هناك، على الشرفة. فما الذي أدهشها إذن؟ هأ هأ هاً!...
واستل الرسالة من جيبه فقبّلها، ولكنه سرعان ما توقف وشرد فكره ثانية وقال يحدث نفسه بعد دقيقة بلهجة فيها ألم: «أمر غريب جداً، نعم، غريب جداً». إنه في لحظات الفرح الشديد يشعر دائماً بالحزن يجتاح قلبه، لا يدري هو نفسه لماذا!
وألقى حواليه نظرة متحيرة، وأدهشه أن يكون قد جاء إلى هذا المكان. وشعر بتعب شديد وإعياء قوي، فاقترب من الدكة وجلس عليها. كان يرين على الجو حوله صمت عميق. إن الموسيقى قد انقطعت في الفوكسهول. ولعل الحديقة كلها خلت من أي إنسان. الليل ساجٍ هادئ رطب مضيء. هي ليلة من ليالي بطرسبرج في شهر حزيران (يونيه). غير أن الحديقة الكثيفة الظليلة في ممر الأشجار الذي كان هو فيه، كانت تامة الظلمة تقريباً.
لو قال له أحد في تلك اللحظة إنه عاشق، وإنه مولّه، لرفض هذه الفكرة مذهولاً مشدوهاً، وربما مستنكراً مستاء. ولو أضاف أحد إلى ذلك أن الرسالة الصغيرة التي كتبتها له آجلايا هي رسالة غرام ودعوة إلى لقاء غرامي، لاحمر خجلاً عن صاحب مثل هذا الافتراض، وربما دعاه إلى مبارزة. كان صادقاً في هذا كل الصدق، وانه لم يراوده فيه شك واحد يوماً من الأيام، ولا ساوره أي لبس في أن تحبه هذه الفتاة بل وفي أن يحبها هو نفسه. فلو خطرت بباله فكرة كهذه الفكرة لملأته شعوراً بالخزي: لقد كان يرى أن احتمال أن تحب فتاة رجلاً مثله) شيء شاذ غريب. وكل ما يمكن أن تشتمل عليه هذه القضية من واقع لا يعدو أن يكون شيطنة، من الفتاة، وهي «شيطنة» كان الأمير يقبلها غير مكترث ولا عابئ، لأنه كان يراها من طبيعة الأمور فما ينبغي أن يهتز لها أو أن تثير فيه أي انفعال. وكانت مشاغله وهمومه منصبة على موضوع آخر مختلف كل الاختلاف. لقد صدّق الجنرال تصديقاً كاملاً حين كشف له الجنرال أقواله عرضاً أثناء الانفعال أنها تضحك على الجميع، وتضحك عليه هو خاصة، الأمير. لم يجرح شعوره هذا الكلام ولم يؤلمه أي إيلام. كان في رأيه أن الأمر لا يمكن أن يكون غير هذا. الشيء الأساسي في نظره الآن هو أنه في الصباح الباكر من الغد سوف يراها إلى جانبه على هذه الدكة الخضراء، وسوف يتأملها مصغياً إلى ما ستقوله عن طريقة تعبئة المسدسات. ولم يكن في حاجة إلى أكثر من هذا. مرة أو مرتين تساءل عن الموضوع الذي تريد أن تكلمه فيه، وعن تلك المسألة الهامة التي تعنيه مباشرة ما عساها تكون؟ على أنه لم يراوده في لحظة من اللحظات أي شك في حقيقة هذه القضية «الهامة» التي ضربت له موعداً من أجلها. ولكنه لا يكاد يفكر الآن في هذا الأمر، ولا كان يغريه أن يتلبث عليه بذهنه.
وهذا وقع خطو بطيء على الرمل في الممر بين الأشجار يجعله يرفع رأسه. وهذا رجل يصعب تمييز قسمات وجهه في الظلام يقترب منه ويجلس إلى جانبه.
مال الأمير على الرجل، حتى يكاد يلمسه، فإذا هو يرى وجه روجويين أصفر شاحباً.
جمجم روجويين يقول من بين أسنانه:
– قدّرت إنك تحوم ههنا في مكان ما.
هذه أول مرة يلتقيان فيها منذ لقائهما الأخير في دهليز الفندق. وقد بلغ الأمير من الدهشة لظهور روجويين المباغت الذي لم يكن في البال أنه لبث مدة من الوقت شارد اللب لا يستطيع أن يثوب إلى رشده. إن إحساساً كاوياً قد شب في قلبه. وأدرك روجويين الأثر الذي أحدثه في الأمير. ورغم أنه بدا في أول الأمر مضطرباً، فقد تكلم بيسر كأنه مصطنع، لكن الأمير لم يلبث أن لاحظ أن الأمر ليس اضطرابا ولا اصطناعا. ولئن كان في حركاته وفي حديثه خراقة، فإن ذلك ليس إلا مظهراً، أما في قرارة نفسه فإن هذا الرجل لا يمكن أن يكون قد تغير.
سأله الأمير ليقول شيئاً ما:
– كيف أمكنك أن تكتشفني... هنا؟
– أعلمني كيللر قائلاً: «ذهب إلى الحديقة» (مررت ببيتك)، فقلت لنفسي: هذا حسن. نلت المطلوب.
– ماذا تعنى بقولك: «نلت المطلوب»؟
كذلك سأله الأمير في قلق.
فابتسم روجويين ابتسامة ماكرة، وتهرّب من الشرح، قائلاً:
– تلقيت رسالتك يا ليون نيقولايفتش. لا فائدة من تكليف نفسك هذا العذاب كله... في غير طائل. أنا الآن آتٍ إليك رسولا منها. إنها تطلب منك أن تذهب إليها حتماً. هناك شيء مستعجل تريد أن تقوله لك. حتى إنها تنتظرك في هذا اليوم نفسه.
– سأذهب إليها غداً. أنا الآن عائد إلى البيت فوراً. هل تجيء... معي؟
– علام أجيء معك؟ لقد قلت لك كل شيء. استودعك الله.
سأله الأمير في رفق:
– ألن تجئ إذن؟
– إنك لرجل عجيب يا ليون نيقولايفتش. لا يملك المرء إلا أن يجدك باعثاً على الدهشة والاستغراب.
قال روجويين ذلك وابتسم ابتسامة ماكرة.
سأله الأمير بحرارة، ولكن بشيء من الحزن أيضاً:
– لماذا هذا الكلام؟ من أين جاءتك هذه العداوة لي الآن؟ لماذا تبغضني هذا البغض كله؟ هأنت ذا ترى أن جميع تخميناتك كانت لا تقوم على أساس. على إنني كنت أقدّر أن كرهك لي لم ينقض، وهل تدري لماذا؟ لأنك حاولت قتلي. ذلك هو السبب في أن مقتك باق لا يزول. أما أنا فأقول لك إنني لا أعرف إلا بارفيون روجويين واحداً، هو ذلك الذي تآخيت معه في ذلك اليوم حين تبادلنا صليبينا. لقد كتبت لك هذا في الرسالة التي بعثتها إليك أمس من أجل أن تنسى حتى لحظة الهذيان تلك، فما تكلمني عنها بعد الآن قط. لماذا تبتعد عني؟ لماذا تخبئ يدك؟ أكرر لك أنني أرى أن ما حدث في المرة الماضية لم يكن إلا لحظة جنون وهذيان. إنني أقرأ في نفسك الآن كل ما جرى ذلك اليوم كأنني أقرأ في ذات نفسي. إن ما تخيلته لم يوجد ولا كان يمكن أن يوجد. فلماذا العداوة بيننا إذن؟
قال روجويين ضاحكاً ساخراً من جديد، في الجواب على الكلمات الحارة التي انطلقت من الأمير عفو الخاطر بلا تصنع:
– ولكن أأنت قادر على أن يكون في نفسك عداوة؟
وكان روجويين يقف على بعد خطوتين من الأمير، مخفياً يديه حقاً. وأضاف يقول، ختاماً للحديث، بلهجة بطيئة رصينة:
– أصبح يستحيل عليّ استحالة تامة بعد الآن أن اختلف إليك يا ليون نيقولايفتش.
– أتكرهني إذن إلى هذا الحد؟
– لا أحبك يا ليون نيقولايفتش. فعلام اختلف إليك؟ هيه يا أمير... إن لك من الطفل كل صفاته. إذا أراد لعبة أرادها فوراً، ولكنه لا يفهم من أمرها شيئاً. إن كل ما تقوله لي الآن قد كتبته أمس في رسالتك كما هو، ولكن أنا لا أصدّقك؟ بلى! إنني أصدّق كل كلمة من كلماتك. إنني أعلم أنك لم تخدعني في يوم من الأيام، وأنك لن تخدعني أبداً. ومع ذلك لا أحبك. لقد كتبت لي إنك نسيت كل شيء، وأنك تتذكر روجويين الذي بادلته صليبك، لا روجويين الذي أشهر عليك خنجراً. ولكن من أين تعرف عواطفي؟ (قال ذلك وضحك ضحكة ساخرة من جديد) لعلني منذ ذلك اليوم لم أشعر بالندم على فعلتي مرة واحدة، بينما أنت أرسلت إليّ غفرانك الأخوي. ولعلني في مساء ذلك اليوم نفسه قد انصرف فكري إلى شيء آخر تماماً و...
– نسيت ذلك الأمر...
بهذا أكمل له الأمير جملته وأردف يقول:
– أقدّر هذا! بل إنني لأراهن على أنك ذهبت تواً إلى المحطة فركبت القطار إلى بافلوفسك، وجئت تسمع الموسيقى، وتبعتها وتجسست عليها في الجمهور، كما فعلت اليوم. أتظن إنك أدهشتني؟ ولكن لولا إنك كنت عندئذ في حالة نفسية لا تسمح لك إن تفكر إلا في شيء واحد، لكان من الجائز أن لا تشهر عليّ خنجرك... لقد أوجست ما ستقدم عليه من فعلة منذ الصباح، حين رأيت وجهك؟ أتعرف ما الذي كان يلوح في هيئتك؟ لعل هذه الفكرة قد ومضت في ذهني لحظة تبادلنا فيها صليبينا. لماذا أخذتني في تلك اللحظة إلى أمك العجوز؟ هل كنت تأمل أن توقف بذلك ذراعك؟ لا، لا يمكن أن يكون هذا ما خطر بالك. إنك مثلي قد أحسست إحساساً فحسب... لقد أحسسنا إحساساً واحداً. لولا إنك أشهرت عليّ يدك (والله هو الذي حوّلها) أكان يمكنني أن أحتمل اليوم نظرتك؟ لقد اشتبهت فيك، ومعنى ذلك أننا ارتكبنا كلانا إثم الريبة (لا تقطب حاجبيك! لماذا تضحك؟). تقول إنك لم تندم. ألا إنك ما كنت لتستطيع أن تندم ولو أردت، لأنك لا تحبني، زيادة على ذلك! حتى لو كنت إزاءك بريئاً كملاك، لما أمكنك أن تطيق احتمالي، وستبقى على هذه الحال ما ظللت تظن أنها لا تحبك أنت بل تحبني أنا. هذا غيرة. ولكن إليك الفكرة التي شغلت ذهني في خلال هذا الأسبوع والتي أحرص على أن أطلعك عليها يا بارفيون: هل تعلم أنها تحبك الآن أكثر مما تحب أي إنسان آخر، وأن حبها من نوع يجعلها تحبك مزيداً من الحب كلما عذبتك مزيداً من التعذيب. لن تقول هي هذا في يوم من الأيام، ولكن يجب على المرء أن يعرف كيف يفهمه. لماذا تريد أن تتزوجك رغم كل شيء؟ سوف تكشف لك عن هذا في ذات يوم. إن بين النساء من يردن أن يحبهن الرجل هذا النوع من الحب. وهي واحدة من هاته النساء. لا شك في أن طبعك وحبك قد فتناها. هل تعلم أن في وسع امرأة أن تعذب رجلاً تعذيباً قاسياً، وأن تتخذه أضحوكة وتجعله موضع سخرية وتهكم، دون أن يشعر ضميرها من ذلك بأي عذاب؟ ذلك أنها، كلما رأتك، تقول لنفسها: «سوف أعذبه الآن تعذيباً قاتلاً، ولكنني سأعوضه عن هذا في المستقبل حباً...».
أصغى روجويين إلى كلام الأمير حتى النهاية، ثم إذا هو ينفجر ضاحكاً، ويسأله:
– قل لي يا أمير، أتراك وقعت أنت نفسك على امرأة من هذا النوع؟ هل ما سمعته عنك صحيح؟
فارتعش الأمير باختلاجة مفاجئة. وسأله:
– ماذا؟ ماذا سمعت عني؟
ووقف وقد استبد به اضطراب هائل.
ظل روجويين يضحك. كان قد أصغى إلى كلام الأمير بشيء من حب الاطلاع وربما بشيء من التلذذ: إن ما كان يبدو في الأمير من مزاج مشرق وحماسة حارة قد أثر فيه تأثيراً قوياً وسرّى عنه كثيراً.
قال:
– لم أسمع عنك فقط، وإنما اقتنع الآن وأنا أراك أن ما سمعته هو الحقيقة. هل تكلمت في لحظة من اللحظات كما تكلمت في هذه اللحظة؟ لكأن رجلاً آخر كان يتكلم الآن بلسانك. لولا إنني سمعت عنك شيئاً من هذا القبيل لما جئت إلى هنا ساعياً إليك في الحديقة وقد انتصف الليل.
– لا أفهم البتة يا بارفيون سيميونتش!
– لقد شرحَتْ لي أمرك منذ مدة طويلة، واستطعت أن أتحقق من صدق شروحها حين رأيت، في هذا اليوم، المرأة التي كنت جالساً إلى جانبها أثناء سماع الموسيقى. لقد حلفت لي أمس واليوم إنك مولّه بحب آجلايا إيبانتشين. وهذا أمر لا يعنيني كثيرا يا أمير، ولا علاقة له بشأني. فلئن أصبحت أنت لا تحبها فإنها هي ما تزال تحبك. هل تعلم أنها تريد أن تزوّجك الأخرى مهما كلف الأمر؟ لقد حلفت لتفعلن ذلك! هئ هئ! قالت لي: «لن أتزوجك ما لم يتحقق هذا. ويوم يذهبان هما إلى الكنيسة نذهب نحن أيضاً». هذا شيء لا أفهمه ولا استطعت أن أفهمه يوماً: فإما أنها تحبك حباً لا حدود له وإما... ولكن إذا كانت تحبك فكيف يمكن أن تريد تزويجك امرأة أخرى؟... وهي تقول أيضاً: «أريد أن أراه سعيداً». إذن فهي تحبك.
قال الأمير وقد أصغى إلى روجويين متألماً:
– قلت لك وكتبت إنها لا تملك عقلها كاملاً...
– الله أعلم!! قد تكون مخطئاً في هذا!... على كل حال، حين اصطحبتها اليوم عائدين من سماع الموسيقى، حدّدت لي اليوم قائلة: «سنتزوج حتماً بعد ثلاثة أسابيع، وربما أقل من ذلك». حلفت على ذلك أمام الأيقونة وقبّلتها. هكذا يكون الأمر الآن مرهوناً بك متوقفاً عليك يا أمير. هئ هئ!...
– هذا كله هذيان! إن ما تتنبأ لي به لن يحدث أبداً، لن يحدث أبداً. سوف أجيء إليك غداً...
قال روجويين:
– كيف تستطيع أن تقول إنها مجنونة؟ لماذا تكون سليمة العقل في نظر جميع الناس، وتكون مختلة في نظرك وحدك؟ كيف كان يمكنها أن تكتب رسائل إلى هناك؟ ولو كانت مجنونة للوحظ ذلك من قراءة رسائلها؟
سأله الأمير مرتاعاً:
– أية رسائل؟
– إنها تكتب رسائل إلى هناك، إلى «الأخرى»، وهذه تقرأ رسائلها. ألا تعرف هذا؟ سوف تعرفه إذن. ستريك الرسائل هي نفسها حتمًا.
هاتف الأمير قائلاً:
– مستحيل تصديق هذا!
– هيه! أرى يا ليون نيقولايفتش إنّك ما زلت في بداية الطريق. انتظر قليلاً: لسوف تصل من الأمر إلى حيث يصبح لك شرطة خاصة تكلفها بالتجسس، وإلى حيث تتولى الحراسة بنفسك نهاراً وليلاً، فتعرف كل خطوة تتم، متى...
صاح الأمير يقول:
– كفى! ولا تكلمني في هذا مرة أخرى أبداً. اسمع يا بارفيون: قبل وصولك بلحظة، كنت أطوّف هنا. وفجأة أخذت أضحك، دون أن أعرف لماذا! تذكرت أن غداً عيد ميلادي. والليل يوشك الآن أن ينتصف. فتعال انتظر معي صبح هذا اليوم. عندي خمرة، سوف نشرب. وسوف تتمنى لي ما لا أملك أن أتمناه لنفسي في هذه اللحظة. عنك أنت إنما يجب أن يصدر هذا التمني لي. أما أنا فسوف أتمنى لك السعادة الكاملة. إذا لم تقبل أن تجئ معي فهات صليبيّ ردّه إليّ! إنك لم ترجعه إليّ في اليوم التالي. أأنت تحمله الآن؟
أجاب روجويين:
– نعم أحمله.
– إذن تعال! لا أريد أن أدخل حياة جديدة بدونك، وان حياة جديدة لتبدأ بالنسبة إليّ! ألا تعلم يا بارفيون أن حياتي الجديدة قد بدأت اليوم؟
– الآن أرى وأعرف بنفسي أنها بدأت. وسوف أبلغها «هي» ذلك. لست في حالتك الطبيعية يا ليون نيقولايفتش.
الفصل الرابع
حين اقترب الأمير بصحبة روجويين من منزله، أدهشه أشد الدهشة أن يرى شرفته تسطع بضياء قوي ويملؤها حفل كبير صاخب. كان الحفل يزخر نشاطا وحماسة، ويضحك مقهقهاً، ويتدفق في الكلام تدفقاً قوياً، ويتناقش بصرخات عالية. إن المرء ليدرك من أول لحظة أن الحشد يقضي وقتاً مرحاً. فلما صعد الأمير إلى الشرفة تحقق تقديره، إذ وجد الجميع يشربون، بل وجدهم يشربون شمبانيا. ولا بد أن تكون هذه الحفلة قد بدأت منذ وقت غير قصير، لأن كثيراً من الحضور كان قد أتيح لهم حتى تلك اللحظة أن ينالوا قسطاً كبيراً من الانشراح. وكانوا جميعاً من معارف الأمير، ولكن الغريب في الأمر هو أن يراهم مجتمعين اجتماع من دعوا دعوة، مع أنه لم يوجه أية دعوة، فهو لم يتذكر عيد ميلاده إلا عرضاً منذ برهة قصيرة.
دمدم روجويين يقول للأمير وهو يتبعه على الشرفة:
– لا بد إنك ذكرت لأحد إنك ستقدم شمبانيا، فهرعوا على هذا النحو.
ثم أضاف يقول بلهجة فيها حنق ومرارة، لأنه تذكر ماضياً غير بعيد في أغلب الظن:
– نحن نعرف هذا! يكفي أن تصفر لهم...
أسرع الجمع كله يحيط بالأمير بعد أن استقبله بصيحات وتمنيات. وكان بعض الضيوف مسرفين في الصخب، وكان بعضهم الآخر أهدأ كثيراً. ولكن ما إن عُرف أن اليوم عيد ميلاد الأمير حتى اقتربوا منه يهنئونه واحدا بعد واحد بكثير من الحرارة. وقد تعجب الأمير من حضور بعض الأشخاص، من حضور بوردوفسكي مثلاً. غير أن ما أدهشه أكثر من أي شخص آخر هو أن يجد أوجين بافلوفتش في صحبة مثل هذا الحشد. حتى إنه لم يكد يصدق عينيه، وانتابه ما يشبه الذعر حين تعرّفه.
وفي هذه الأثناء، هرع ليبديف، وكان شديد احمرار الوجه بل قل كان مشتعل الوجه، هرع يشرح الأمور، وكان قد سكر بعض السكر. فقال إن هذا الملأ كله قد اجتمع شمله على نحو طبيعي تماماً، بل وبمصادفة. فكان هيبوليت أول الوافدين، لأنه وصل في بداية المساء. إنه وقد شعر بتحسن كبير في صحته، وإذ أراد أن ينتظر الأمير في الشرفة، قد اضطجع على ديوان. ثم التحق به ليبديف الذي لم يلبث أن تبعته أسرته كلها أو قل بناته والجنرال إيفولجين. أما بوردوفسكي فقد وصل مع هيبوليت وكان يصحبه. ومرت جانيا مع بتتسين بالفيلا فدخلا، منذ مدة قصيرة فيما يبدو، (دخلا في الوقت الذي كان يقع فيه حادث الفوكسهول..). وبعد ذلك ظهر كيللر، فأعلن أن اليوم عيد ميلاد الأمير، وطالب بشمبانيا. أما أوجين بافلوفتش فإنه لم يحضر إلا منذ نصف ساعة. وقد أُلحّ كوليا، بكل ما أوتي من قوة، على ضرورة تقديم الشمبانيا وإقامة احتفال. فأسرع ليبديف يأتي بالخمرة.
قال ليبديف يخاطب الأمير:
– ولكن هذه خمرتي أنا. أنا أتحمل النفقات، لأحتفل بعيد ميلادك ولأهنئك. وستولم كذلك وليمة صغيرة، سنقدم عشاء بارداً. إن بنتي تهيئ العشاء. آ... يا أمير... ليتك تعرف الموضوع الذي كنا نتناقش فيه. هل تتذكر جملة هاملت هذه: «نكون أو لا نكون»؟ إنه لموضوع عصري، عصري جداً! أسئلة وأجوبة... والسيد تيرنتيف ممتلئ بالنشاط زاخر بالحماسة... لا يريد أن يرقد! على أنه لم يشرب إلا جرعة شمبانيا واحدة، جرعة واحدة، هذا لا يمكن أن يؤذيه... اقترب يا أمير، واحسم المناقشة! إن الجميع ينتظرونك، إن الجميع ينتظرونك، إن الجميع يعتمدون على ثاقب بصرك، وسديد رأيك...
ولاحظ الأمير النظرة العذبة الملاطفة التي كانت تلقيها عليه فيرا ليبديف وهي تشق لنفسها طريقاً من أجل أن تصل إليه. فكانت أول من مد الأمير إليه يده. فاحمرت سروراً وهنأته بعيد ميلاده متمنية له حياة سعيدة (منذ هذا اليوم). ثم أسرعت تمضي إلى المطبخ حيث كانت تهيئ وجبة الطعام الخفيفة. ولكنها كانت، حتى قبل عودة الأمير، تجيء إلى الشرفة، متى سنحت لها أول فرصة للتحرر من انشغالها بتهيئة الطعام، وذلك لتصغي بكل سمعها إلى المناقشات الحامية التي تدور بين الضيوف إلى غير نهاية بعد أن أهاجتهم الخمرة، والتي كانت تتناول مسائل مجردة إلى أبعد حدود التجريد، غريبة عن الفتاة إلى أقصى درجات الغرابة. وكانت أختها الصغرى قد نامت في الغرفة المجاورة، فاغرة الفم جالسة على صندوق. أما الصبي ابن ليبديف، فقد بقي قرب موليا وهيبوليت. فإذا رأى الرائي وجهه أدرك أن الصبي مستعد لأن يبقى جالساً في مكانه دون حراك، عشر ساعات متتالية، مستمتعاً بالحديث.
قال هيبوليت للأمير حين تناول الأمير يده بعد مصافحة فيرا فوراً:
– كنت أنتظرك على أحرّ من الجمر، ويسرني جداً أن أراك سعيداً هذه السعادة كلها.
– وكيف عرفت إنني «سعيد»؟
– يرى المرء هذا في وجهك. سلّم على هؤلاء السادة ثم تعال اجلس هنا، قريبا منا، بسرعة.
وكرّر يقول، ضاغطاً على هذه الجملة ضغطاً ذا دلالة:
– انتظرتك على أحر من الجمر!
سأله الأمير أليس خطراً على صحته أن يسهر إلى مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، فأجابه بأنه يستغرب هو نفسه أنه لم يشعر يوما بمثل ما يشعر به في هذا المساء من تحسن في صحته، بينما كان منذ ثلاثة أيام على شفا الموت.
نهض بوردوفسكي فجأة، فغمغم يقول إنه جاء «هكذا»، «مصطحبا» هيبوليت. وإنه سعيد برؤية الأمير. وإنه كتب في رسالته «سخافات وحماقات» ولكن يسعده الآن حقاً أن... لكنه لم يكمل جملته، وشدّ على يد الأمير مصافحاً بقوة، ثم جلس.
حتى إذا فرغ الأمير من تحية الجميع، اقترب من أوجين بافلوفتش، فسرعان ما أمسكه هذا من ذراعه وقال له هامساً:
– أريد أن أقول لك كلمتين... كلمتين لا أكثر. الأمر أمر حادث هام جداً. فلننفرد دقيقة.
وهمس في الأذن الأخرى من أذني الأمير صوت آخر، بينما أمسكته يد ثانية من ذراعه الثانية:
– أريد أن أقول لك كلمتين.
فما كان أشد دهشة الأمير حين التفت فرأى أمامه وجهاً مشعثاً، أحمر، ضاحكاً، مكشراً، سرعان ما عرفه الأمير: إنه فردشتينكو، لا يدري أحد من أين انبجس!
سأله فردشتينكو:
– هل تتذكر فردشتينكو؟
وصاح كيللر الذي أسرع يقترب منهما، صاح يقول:
– إنه نادم. لقد كان مختبئاً لأنه لم يشأ أن يظهر أمامك. كان مختبئاً هناك، في ركن. إنه نادم يا أمير. يشعر بأنه مذنب.
– ولكن ما ذنبه؟
– أنا لقيته يا أمير، فجئت به فوراً. إنه من خيرة أصدقائي. لكنه نادم.
قال الأمير أخيراً ليتخلص منهما:
– تشرّفت بحضوركما يا سيديَّ! اتخذا لكما مكاناً بين الحفل.
كان الأمير يستعجل التحدث مع أوجين بافلوفتش.
قال أوجين بافلوفتش:
– يبتهج المرء في بيتك. لقد قضيت في انتظارك نصف ساعة، فكان وقتاً ممتعاً. إليك المسألة يا صديقي العزيز جداً ليون نيقولايفتش. لقد رتبت كل شيء مع كورمشيف، فجئت أطمئنك وأهدى بالك. لا تقلق. لقد نظر إلى الأمر نظرة فيها كثير من التعقل. لا سيما وأنه، في رأيي، كان هو المخطئ.
– من هو كورمشيف هذا؟
– عجيب... هو ذلك الذي أمسكت ذراعيه من خلف في الحديقة العامة... لقد بلغ من الغضب أنه كان يريد أن يرسل إليك في الغد شهوده يطلبون منك الاستعداد للمبارزة.
– هيا... دعك من هذه السخافة!...
– هي سخافة طبعاً... ولا شك أن الأمر كان سينتهي نهاية سيئة... غير أن بلادنا فيها أناس من هذا النوع...
– أتراك قد أتيت لغرض آخر يا أوجين بافلوفتش؟
قال أوجين بافلوفتش ضاحكاً:
– آ... طبعاً! هناك غرض آخر. غداً يا عزيزي الأمير، عند مطلع الصبح، سأسافر إلى بطرسبرج بسبب تلك الحكاية المشؤومة (قضية عمي، هل تتذكر؟). تصوّر أن كل ما قيل صحيح فعلاً، وأن جميع الناس كانوا يعرفونه إلا أنا. وقد بلغت من الاضطراب للأمر أنني لم يتسع وقتي حتى للذهاب إلى «هناك» (إلى أسرة إيبانتشين)، لا ولن أستطيع ذلك غداً، لأنني سأكون غداً ببطرسبرج. هل تفهم؟ وقد لا أعود من بطرسبرج إلا بعد ثلاثة أيام. لا أريد أن أبالغ في تقدير خطورة الحادث ولا أن أضخم شأنه، ومع ذلك رأيت أن عليّ أن أصارحك في الأمر صادقاً دون مزيد من الإرجاء والتأجيل، أي أن أصارحك في الأمر قبل سفري. إذا سمحت لي فسأبقى الآن هنا أنتظر انصراف الناس. وليس هناك شيء يفضل هذا الانتظار عندي، لأنني مضطرب اضطراباً شديداً فلا سبيل لي إلى النوم. الخلاصة أنني، رغم ما يشتمل عليه هذا التشبث بأحد الناس من مجافاة للياقة والكياسة والأدب، أقول لك بصراحة إنني إنما جئت إليك ملتمساً صداقتك يا عزيزي الأمير. إنّك إنسان لا نظير له، بمعنى إنك لا تكذب في كل لحظة وربما كنت لا تكذب في أية لحظة. هناك قضية أحتاج فيها إلى صديق صادق وناصح أمين، فأنا الآن في عداد الأشقياء فعلاً...
وأخذ يضحك من جديد
قال الأمير بعد دقيقة من تفكير:
– ليس هناك إلا مزعج واحد: إنك تريد انتظار انصرافهم، ولكن لا يعلم إلا الله متى ينصرفون! أفليس الأفضل أن نمضي الآن إلى الحديقة العامة؟ سوف ينتظرونني حتماً، فأعتذر لهم.
– لا، لا، هناك أسباب تجعلني أحب أن لا ينتبهوا إلى أنني أبغي إجراء حديث غير عادي معك. إن بين هؤلاء الناس أفراداً يهتمون بالعلاقات بيننا اهتماماً شديداً، ألا تعرف ذلك يا أمير؟ فالأفضل كثيراً أن يلاحظوا أن علاقتنا هي أطيب العلاقات لا في الظروف الاستثنائية فحسب، بل في الحياة العادية أيضاً، هل فهمت؟ سوف ينصرفون بعد نحو ساعتين. وسأشغل من وقتك قرابة عشرين دقيقة، أو نصف ساعة في أكثر تقدير...
– عفوك عفوك! إني سعيد بك جداً. ما كنت في حاجة إلى مثل هذا الاعتذار. ثم إنني أحرص على أن أشكر لك أحر الشكر كلمتك عن علاقات الصداقة بيننا. هل تعلم أنني يستحيل عليّ استحالة مطلقة في هذه اللحظة أن أركز انتباهي؟
دمدم أوجين بافلوفتش يقول وهو يبتسم ابتسامة خفيفة:
– هذا واضح! هذا واضح!
كان أوجين بافلوفتش مرح المزاج جداً في ذلك المساء.
سأله الأمير مرتعشا:
– ماذا بك؟
فتابع أوجين بافلوفتش كلامه دون أن يجيب عن السؤال إجابة مباشرة، وهو ما يزال يبتسم:
– أتراك لا تشتبه، يا عزيزي الأمير، في أن لا يكون لزيارتي هذه من هدف إلا أن أحاصرك وأن استخرج منك بعض المعلومات دول أن يبدو عليّ ذلك، هه؟
قال الأمير وقد أخذ يضحك هو أيضاً:
– أما أنك جئن لتحملني على الكلام فذلك أمر لا ريب فيه البتة؛ بل لعلك آليت على نفسك لتسرفن في استغلال سذاجتي. لكنني في الواقع لا أخشاك. ثم إنني في هذه اللحظة لا يهمني هذا الأمر، هل تصدّق؟ ثم... لما كنت قبل كل شيء مقتنعاً بأنك إنسان ممتاز فسوف ننتهي دائماً، في آخر الأمر، إلى أن تصبح صديقين! لقد أعجبتني كثيراً يا أوجين بافلوفتش. لأنك... في رأيي... رجل محترم جداً... جدا!...
قال أوجين بافلوفتش يختم الحديث:
– هيا... إن التعامل معك ممتع على كل حال، أيا كان الباعث إليه. سوف أشرب كأساً نخب صحتك. إنني سعيد جداً بلقائك...
وقطع كلامه ليسأله فجأة:
– آ... هل أقام هذا السيد هيبوليت عندك؟
– نعم.
– أظن أنه لن يموت الآن، أليس كذلك؟
– لماذا هذا السؤال؟
– لا لشيء! لقد قضيت في صحبته نصف ساعة...
إن هيبوليت، الذي كان ينتظر الأمير، لم يحوّل عينيه، طوال مدة الحديث الذي جرى بين الرجلين، لم يحوّل عينيه لا عن الأمير ولا عن أوجين بافلوفتش. فلما عادا نحو المائدة انتعش محموماً. لقد كان قلقاً، مهتاجاً اهتياجاً شديداً. وكان العرق يلتمع على جبينه كحبات اللؤلؤ، وكانت عيناه المتقدتين الزائغتين تعبران عن خوف متصل لا ينقطع، وعن نوع من نفاد الصبر لا يمكن تحديده. كانت نظرته تنتقل دون هدف من شيء إلى آخر، ومن شخص إلى شخص، دون أن تثبت على أي موضوع. ورغم أنه كان حتى ذلك الحين قد شارك مشاركة فعالة في الحديث الصاخب والمناقشة الحامية التي كانت تدور من حوله، فلقد كانت حماسته حماسة حمى لا أكثر. وحقيقة الأمر أنه لم يكن منصرفاً إلى تلك المناقشة. كان تفكيره متقطعاً مفككاً، وكان يعبر عن آرائه بلهجة فيها سخر وإهمال ومفارقة. كان لا يكمل جمله، وينقطع عن الكلام فجأة في منتصف المناقشة التي يكون قد أثارها هو نفسه بحرارة قبل ذلك بدقيقة واحدة. وقد شعر الأمير بدهشة وأسف حين علم أنهم أباحوا له في ذلك المساء أن يشرب كأسين من الشمبانيا. فالكأس التي توجد على المائدة أمامه والتي تجرّع بعضها كانت هي الكأس الثالثة. ولكن الأمير لم يعلم بهذا إلا فيما بعد. أما الآن فإنه لم يكن قادراً على أن يلاحظ أي شيء.
صاح هيبوليت يقول:
– هل تعلم أنني سعيد جداً بأن يقع عيد ميلادك في هذا اليوم؟
– لماذا؟
– سوف ترى لماذا. اجلس بسرعة إلى المائدة. أولاً: لأن جميع أصحابك... حاضرون. لقد قدّرت أنهم سيجيئون عدداً كبيراً، وصدق تقديري لأول مرة في حياتي؛ خسارة أنني لم أعلم بيوم عيد ميلادك من قبل... فلو علمت لحملت إليك هدية... هأ هأ! ولكن من يدري؟ قد تكون الهدية في جيبي؟ هل مطلع الصبح بعيد؟
قال بتتسين بعد أن نظر في ساعته:
– يطلع الفجر بعد ساعتين في أكثر تقدير.
قال أحدهم:
– ولكن ما شأننا والفجر إذا كان في وسعنا أن نستغني عنه الآن لنقرأ في الخارج ؟
– ذلك أنني أريد أن أرى قليلاً من شمس. هل نستطيع أن نشرب نخب الشمس يا أمير؟ ما رأيك؟
كان هيبوليت يلقي أسئلة بلهجة قاسية، مخاطباً جميع الناس مخاطبة فارس من الفرسان، كأنه يصدر أوامر. ولكن كان يبدو أنه هو نفسه لا يلاحظ ذلك ولا يشعر به.
– ليكن ما تشاء! فلنشرب! ولكن يجدر بك أن تسكن وتهدأ يا هيبوليت، أليس كذلك؟
– أنت تنصحني دائماً بأن أمضي أنام يا أمير، فتعاملني كما تعامل الطفل مربيته. متى طلعت الشمس وأخذت «تسطع في قبة السماء» (من قائل هذا البيت من الشعر: «سطعت الشمس في قبة السماء» ؟ ليس لهذا الكلام معنى، ولكنه جميل) فعندئذ سوف نرقد يا ليبديف؟ هل الشمس ينبوع الحياة! ما معنى هاتين الكلمتين «ينبوع الحياة» في رؤيا القديس يوحنا؟ هل سمعت الكلام عن «الكوكب الأفسنتي» يا أمير؟
– قيل لي إن ليبديف يرى أن الكوكب الأفسنتي هو شبكة سكك الحديد هذه في أوروبا.
فانتفض ليبديف وصاح يقول ملوحاً بذراعيه كأنه كان يريد أن يلجم الضحك الذي انطلق من صدور الجميع:
– ها... لا... اسمحوا لي... اسمحوا لي!
ثم التفت نحو الأمير فجأة فقال له:
– مع هؤلاء السادة... مع هؤلاء السادة جميعهم.. هناك مسائل لا يمكن أن... إنهم لا يستحقون إلا هذا...
قال ذلك ونقر المائدة نقرتين، فما كان من هذا إلا ضاعف الضحك وفاقم الهرج والمرج.
كانت حالة ليبديف في هذا المساء كحالته في كل مساء، ولكنه كان في هذه المرة أشد حرارة واندفاعاً مما يكون في العادة، وذلك بسبب تلك المناقشة الطويلة. «الفقيهة» التي سبقت. إنه في مثل هذه الحال يبدي لمعارضيه ازدراء لا حدود له.
– لا يُستحسن هذا أيها السادة! لقد اتفقنا منذ نصف ساعة على أن لا نقاطع ولا نضحك حين يكون أحدنا بسبيل الكلام، وأن نفسح لكل فرد مجال التعبير عن فكره واسعاً كاملاً. وللملحدين أنفسهم بعد ذلك أن يعلنوا اعتراضاتهم إذا حرصوا على ذلك. لقد أقمنا الجنرال رئيساً للمجادلات. فما الذي تعمدون إليه؟ إنكم بهذه الوسيلة تستطيعون أن تجعلوا أي إنسان يفقد تسلسل أفكاره مهما تكن رفيعة سامية عميقة!...
صاح الجميع يقولون بصوت واحد:
– ولكن تكلم، تكلم! ما من أحد سيمنعك من الكلام!
– تكلم، ولكن لا تهذر وتستطرد!
سأل أحدهم:
– ما «الكوكب الأفسنتي» هذا الذي أتيتم على ذكره؟
فقال الجنرال وقد عاد إلى مجلس الرئاسة وقور الهيئة مهيب المنظر:
– لا أعرف عن هذا الأمر شيئاً البتة!
عندئذ تمتم كيللر يقول وهو يتزحزح على كرسيه بحركات قوية، وهيئة تنم عن النشوة والشوق:
– إنني أحب هذه المناقشات وهذه المشاجرات حب العبادة!
ثم التفت فجأة إلى أوجين بافلوفتش الذي كان جالساً بقربه، فقال له:
– موضوعات علمية سياسية. لشد ما يشوقني ما أقرؤه في الصحف من خلاصات عن المجادلات والمناقشات التي تحتدم في مجلس النواب البريطاني. ليس جوهر هذه المجادلات هو الذي يفتنني (فما أنا سياسي، تعلم ذلك)، وإنما تفتنني الطريقة التي يتعامل بها الخطباء، والأسلوب الذي يستعملونه في القيام بدورهم كسياسيين: «إن الفيكونت النبيل الذي يتخذ مكانه قبالتي..»، «إن الكونت النبيل الذي يشاطرني رأيي..»، «إن معارضي النبيل الذي أثار اقتراحه دهشة أوروبا..»: فهذه العبارات الجميلة كلها، هذه الروح البرلمانية لدى شعب حر، هي ما يسحرني ويأخذ بلبي! إنني أتلذذ بهذا يا أمير! لقد كنت في قرارة نفسي فناناً على الدوام، أحلف لك يا أوجين بافلوفتش!
صاح جانيا من مكانه قائلاً بلهجة هجومية:
– أنت تستنتج إذن أن طرق السكة الحديدية شر لعين، وأنها ستكون السبب في هلاك الإنسانية، وأنها السم الذي سينزل على الأرض فيلوّث «ينابيع الحياة»؟
كان جبريل آرداليونوفتش، ذلك المساء، منتعشأ انتعاشاً خاصاً، وكان فرح المزاج حتى ليكاد يكون شاعراً بالانتصار والظفر فيما بدا للأمير. وواضح أن سؤاله لم يكن إلا مزحة أراد بها استفزاز ليبديف، ولكنه لم يلبث أن تحمس هو نفسه.
أجابه ليبديف وقد شعر أنه أُخرج عن طوره وأنه في الوقت نفسه سكران لذة:
– لا، ليست طرق السكة الحديدية! إن هذه الطرق لا تستطيع بذاتها أن تلوّث ينابيع الحياة. وإنما الشر اللعين هو جملة الحال كله؛ هو هذه الروح العلمية العملية التي سيطرت ميولها في هذه القرون الأخيرة!
سأل أوجين بافلوفتش:
– هل اللعنة محققة أم هي ممكنة فحسب؟ لا بد لما من معرفة المقصود هنا على وجه الدقة.
قال ليبديف مؤكداً باندفاع وحماسة:
– بل اللعنة محققة!
قال بتتسين مبتسماً:
– لا تندفع يا ليبديف! إنك تكون في الصباح أحسن حالاً وأخلى بالًا!
قال ليبديف يجيبه بحرارة وهو يلتفت إليه:
– نعم، ولكنني في المساء، أصرح مقالاً! أنا في المساء أكثر مودة، وأصدق صدقاً! أنا في المساء أبسط وأوضح وأشرف. ولعلني بهذا أتيح لكم أن تمطروني بانتقاداتكم. ولكنني أيها السادة لا أعبأ بهذه الانتقادات. واني لأتحداكم الآن جميعاً أيها الملاحدة كيف ستنقذون العالم؟ ما هي الطريقة السوية التي شققتموها له نحو السلامة أنتم أيضاً، يا أيها الصناعيون وأنصار نظام الاشتراك ونظام الأجور وما إلى ذلك؟ بأي شيء ستنقذون العالم؟ بالتسليف؟ ما التسليف؟ إلى أين سيؤدي بكم الاقتراض؟
قال أوجين بافلوفتش:
– إنك شديد الاهتمام بهذه المسائل!
– ورأيي أن من لا يهتم بهذه المسائل ليس إلا إنساناً تافهاً لا قيمة له! نعم يا سيدي!
قال بتتسين:
– التسليف يؤدي على الأقل إلى التضامن العام، وإلى توازن المصالح.
– ولكن لا أكثر من هذا! إن الأساس الأخلاقي الوحيد الذي تقيم عليه رأيك هو إرضاء الأنانية الفردية وإشباع الحاجات المادية. السلام الشامل، والسعادة الجماعية الناشئة عن الحاجة! اسمح لي أن أسألك: أليس هذا هو ما يجب أن أفهمه من كلامك أيها السيد العزيز؟
قال جانيا وهو بدأ يتحمس فعلاً:
– ولكن الحاجة المشتركة بين جميع البشر إلى أن يعيشوا ويشربوا ويأكلوا، وكذلك الاقتناع المطلق العلمي بأن هذه الحاجات لا يمكن إرضاؤها إلا بالاشتراك الشامل وبالتكافل والتضامن في المصالح، ذلك فيما يبدو لي رأي قادر على أن يكون دعامة و«ينبوع حياة» للإنسانية في العصور المقبلة.
– ضرورة الشراب والطعام، أي غريزة البقاء وحدها..
– ولكن أليست هذه الغريزة شيئاً؟ إنها قانون الإنسانية الطبيعي السوي.
صاح أوجين بافلوفتش فجأة:
– من قال لك هذا؟ هي قانون، نعم، ولكن هذا القانون ليس سوياً أو طبيعياً أكثر من قانون التدمير، وحتى تدمير الذات. هل البقاء هو القانون الطبيعي السوي الوحيد الذي يحكم الإنسانية؟
هتف هيبوليت قائلاً وهو يلتفت بقوّة إلى جهة أوجين بافلوفتش:
– هيه! هيه!!
وتفرّس فيه باهتمام قوي واستطلاع شديد، ولكنه حين لاحظ أنه يضحك، أخذ يضحك هو أيضاً، ثم لكز كوليا الذي كان جالساً إلى جانبه وعاد يسأله كم الساعة الآن، حتى لقد شدّ إليه ساعة الفتى الفضية ونظر في عقربها بشراهة. وتمدّد أخيراً على الديوان كأنما ليغيب في غياهب النسيان، جاعلاً يديه وراء رأسه، وأخذ يحدّق إلى السقف. ولكن ما إن انقضى نصف دقيقة حتى عاد يجلس إلى المائدة، منهضاً صدره، مصغياً إلى هذر ليبديف الذي بلغ ذروة الحماسة.
قال ليبديف وهو يتهجّم بعنف على الرأي المفارق الذي عبّر عنه أوجين بافلوفتش:
– هذه فكرة بارعة ساخرة، هذه فكرة مثيرة! ولكنها فكرة صحيحة صادقة، رغم أنك لم تقلها إلا في سبيل أن تضرم المناقشة مزيداً من الإضرام. إن رجلاً ريبيّاً مثلك، رجلاً من أبناء المجتمع الراقي، ضابطا من سلاح الفرسان (موهوبا على كل حال) لا يستطيع أن يدرك هو نفسه كل ما تشتمل عليه هذه الفكرة من عمق وصواب! نعم يا سيدي! إن قانون تدمير الذات وقانون المحافظة على الذات لهما في هذا العالم قوة واحدة. وسيظل يستعملهما الشيطان كليهما للسيطرة على الإنسانية خلال زمن لا نعرف له حدّا. أتضحكون؟ ألا تؤمنون بوجود الشيطان؟ إن إنكار وجود الشيطان فكرة فرنسية، فكرة تافهة؟ هل تعرفون من هو الشيطان؟ هل تعرفون اسمه؟ إنكم وأنتم تجهلون حتى اسمه، تسخرون من صورته، على غرار فولتير. تضحكون من قدميه المشرومتين ومن ذنبه ومن قرنيه، وذلك كله من اختراع خيالكم أنتم، ذلك أن الروح الشريرة روح ضخمة هائلة لا شأن لها لا بالأقدام المشرومة ولا بالقرون التي تنسبونها إليها. ولكن ليست الروح الشريرة موضوعنا الآن...
صاح هيبوليت يسأله وهو ينفجر فجأة في ضحك متشنج:
– ما يدريك؟ لعل الشيطان هو موضوعنا الآن!
قال ليبديف مؤيداً:
– هذه ملاحظة سديدة موحية! لكنني أكرر أن الأمر ليس هو هذا الآن. وإنما المسألة هي أن نعلم ألم يضعف التطور «ينابيع الحياة»؟
هتف كوليا سائلاً:
– تقصد المواصلات بالسكك الحديدية.
– لا، ليس المواصلات بالسكك الحديدية، أيها الفتى المتهوّر الطائش، بل الاتجاه الذي يمكن أن نعدّ السكك الحديدية صورة له، أو تمثيلاً له، أو تجسيداً فنيًا إن صح التعبير. إن الناس الآن في عجلة من أمرهم، يتحركون هنا وهناك، ويتخبطون ويضجّون ويصرخون، ويتزاحمون ويتصادمون، ويحثون الخطى ويغذّون السير، بدعوى العمل لسعادة الإنسانية! إن مفكراً معتزلاً لهذا العالم قد ندب حظ البشر فقال: «أصبحت الإنسانية مسرفة في الجلبة والضوضاء، مفرطة في الصناعة، على حطام الهدوء النفسي والغبطة الروحية». فأجابه مفكر آخر يطوف هنا وهناك ويشيح بوجهه عن الأول منتصراً متعالياً: «ليكن. ولكن ضجّة العربات التي تحمل الخبز للبشر الجياع قد تكون أفضل من الهدوء النفسي والغبطة الروحية». أما أنا، أنا ليبديف الحقير، فإنني لا أؤمن بالعربات التي تحمل الخبز للبشرية! لأن هذه العربات، إن لم تقدها فكرة أخلاقية روحية، يمكنها ببرود وهدوء أن تحرم من حق الخبز الذي تنقله جزءاً كبيراً من النوع الإنساني. وقد رأينا هذا فعلاً...
قال أحدهم معترضاً:
– هل العربات هي التي تستطيع بهدوء وبرود أن تحرم؟...
كرر ليبديف كلامه قائلاً دون أن يتنازل فيولي السؤال أي انتباه:
– لقد رأينا هذا فعلاً. لقد كان مالتوس رجلاً من محبي البشر. لكن محب البشر هو من أكلة لحوم البشر إذا كان الأساس الأخلاقي الذي يقف عليه مهتزًّا مترنحاً. ناهيك عن غروره... إنه ليكفي أن تجرح كبرياء أي واحد من محبي البشر هؤلاء الذين لا يحصى عددهم، حتى يكون مستعدًا لأن يحرق على الفور أركان الأرض الأربعة إرضاء لحقده الصغير!... على أنني يجب أن أضيف، حتى أكون منصفاً غير متحيز، أن كل واحد منا، وأنا في الطليعة، مستعد لأن يفعل مثل هذا، فلعلني أكون أول من يحمل حزم الحطب لإضرام النار، ثم يولي هارباً... ولكنني أعود فأقول إن المسألة ليست هذه!
– ما هي المسألة إذن؟
– علق أحدهم:
– إنه يزعجنا حقا!
– المسألة هي مسألة حكاية ترجع إلى القرون الماضية، ذلك أنني مضطر أن أحدثكم عن عهد بعيد. ففي عصرنا هذا، وفي وطننا الذي تحبونه، فيما أرجو، كما أحبه أنا... ذلك أنني من جهتي أيها السادة مستعد لأن أبذل في سبيله آخر قطرة من دمي...
– طيب طيب، وبعد؟
– نعم... في وطننا، كما في أوروبا، تنتاب الإنسانية مجاعات عامة شديدة مرة كل ربع قرن في أكثر تقدير، إذا صحّت الحسابات وصدقت ذاكرتي، أي كل خمس وعشرين سنة. لست أناقش صحة الرقم، ولكن الواقع الذي أريد أن أقرره هو أن المجاعات نادرة نسبيا.
– نسبيا؟ تعني بالنسبة إلى ماذا؟
– بالنسبة إلى القرن الثاني عشر، وإلى القرون التي سبقته وأعقبته. ذلك أن المجاعات العامة، في ذلك العهد، كانت تجتاح الإنسانية كل سنتين أو كل ثلاث سنين، على الأقل – هذا ما يشهد به المؤرخون – حتى إن الإنسان في مثل تلك الظروف كان يعمد إلى أكل لحم البشر، ولكن خفية. وقد روى طفيلي من ذلك الزمان، حين دلف إلى الشيخوخة، روى من تلقاء نفسه، دون أي ضغط أو إكراه، أنه في أثناء حياته الطويلة التعيسة قد قتل وأكل في السر ستين راهباً وعدة أطفال، ستة في أكثر تقدير. وهو عدد ضئيل بالقياس إلى عدد رجال الدين الذين أكلهم. أما الكبار من غير رجال الدين فيظهر أنه لم يمسس أحداً منهم في يوم من الأيام.
هتف الرئيس نفسه يقول بلهجة فيها ما يشبه الاستياء:
– هذا غير ممكن. إنني كثيراً ما أناقشه وأجادله أيها السادة في موضوعات من هذا النوع دائماً. فإذا هو يطالعني بمثل هذه الأضاليل التي تقشعر لها الأبدان، وتُصمّ منها الآذان. أشياء لا يمكن أن يسلّم بها العقل!
– يا جنرال، تذكر حصار كارس ! وأنتم أيها السادة، اعلموا أن حكايتي هي الحقيقة صافية. وأضيف من جهتي أن الواقع، رغم خضوعه لقوانين ثابتة لا تتغير، يكاد يكون دائما صعب التصديق بعيداً عن المعقول. وفى بعض الأحيان نرى الحادث أبعد كلما كان ألصق بالواقع.
سأله السامعون ضاحكين:
– ولكن هل يستطيع امرؤ أن يأكل هكذا ستين راهباً؟
– إنه لم يأكلهم دفعة واحدة بطبيعة الحال. لعله أكلهم خلال خمس عشرة سنة أو عشرين. ففي هذه الحالة يكون الأمر مفهوماً وطبيعياً إلى أبعد الحدود...
– وطبيعياً أيضاً؟
– نعم، طبيعياً!
كذلك أجاب ليبديف بعناد المدّعي وإصرار المتفَيْقِه . وتابع يقول:
– ثم إن الراهب الكاثوليكي هو بطبيعته إنسان يحب التواصل بالكلام ويكثر من الاستطلاع، فلا أسهل من استدراجه إلى غابة أو إلى مكانٍ ناءٍ، ليلقى هناك المصير الذي وصفته آنفاً. ولست أنكر مع ذلك أن عدد الأشخاص المأكولين فيه إسراف، وأنه يدل على الشراهة.
قال الأمير فجأة:
– ربما كان هذا صحيحاً أيها السادة.
كان قد لزم الصمت حتى ذلك الحين، وتابع المناقشة دون أن يتدخّل فيها. وقد ضحك من كل قلبه مراراً حين أخذ الجميع يضحكون. كان واضحاً أنه افتتن بأن يرى نفسه محاطاً بهذا المرح، وبكل هذه الضوضاء، بل وأن يلاحظ أن الضيوف يشربون بهذا الاندفاع كله وهذه الحميّا كلها. كان يمكن أن لا يفتح فمه طوال السهرة، ولكن خطر بباله فجأة أن يقول كلمة، ففعل ذلك بجدٍّ ورصانة يبلغان من الشدّة أن جميع الضيوف التفتوا نحوه وفي أعينهم نظرات حيرة وتعجب!
– أريد أن أوضح نقطة أيها السادة، هي كثرة تكرر المجاعات في الماضي. لقد سمعت عن هذا الأمر أنا أيضاً، وإن كنت لا أعرف التاريخ معرفة جيدة. يبدو لي أن هذا الأمر كان على هذا النحو حقاً. إنني أثناء إقامتي في جبال سويسرا قد أعجبت كثيراً بأطلال القصور الإقطاعية القديمة، القائمة في جنبات الجبال، فوق صخور وعرة، على ارتفاع لا يقل عن نصف فرسخ (أي عدة فراسخ سيراً في الطرقات المؤدية إليها). تعرفون ما القصر: إنه جبل من حجارة حقاً. إن بناءه يتطلّب عملاً رهيباً، عملاً لا يتصوّره الخيال، عملاً لا شك في أنه قام به جميع أولئك الفقراء الذين كانوا أقناناً. وكان على هؤلاء، بالإضافة إلى ذلك، أن يدفعوا أنواعاً من الأتاوات وأن يعيلوا رجال الكهنوت. كيف كانوا يجدون في وقتهم متسعًا لأن يقيموا أود أنفسهم وأن يزرعوا الأرض؟ لقد كان عددهم في ذلك الزمان أقل من أن يستطيعوا النهوض بتلك الأعباء كلها، وكان أكثرهم يموتون جوعا، لأنهم لا يجدون ما يأكلونه فعلاً. حتى لقد اتفق لي أن تساءلت كيف لم يندثر أولئك السكان كافة، كيف قاوموا واستطاعوا أن يتحمّلوا تلك الحياة؟ فإذا قال ليبديف إنه حدث في ذلك الزمان أن أكل بعض الناس لحوم بشر، فصدّقوه لأنه على حق حتماً. ولكني لا أدري لماذا أقحم الرهبان في هذه القضية، ولا أعلم ما الذي أراده.
قال جبريل آرداليونوفتش:
– لا شك أنه أراد أن يقول إن المرء في القرن الثاني عشر كان لا يستطيع أن يأكل من البشر إلا الرهبان، لأن الرهبان وحدهم كانت بهم سمنة.
فصاح ليبديف يقول:
– هذه ملاحظة رائعة وصحيحة كل الصحّة، ذلك أن صاحبنا لم يمسس أحداً من غير رجال الدين! لم يأكل رجلاً واحداً من غير. رجال الدين وأكل ستين عيّنةً من هؤلاء: هذه واقعة فظيعة، لها دلالة تاريخية وقيمة إحصائية. هي واقعة من الوقائع التي يستطيع بواسطتها رجل ذكي أن يتصوّر الماضي تصوّراً صحيحاً، إذ يبرهن بدقة حسابية على أن رجال الكهنوت كانوا في ذلك الزمان أكثر رخاء وأفضل تغذية من سائر البشر ستين مرة على الأقل، وربما كانوا أسمن من سائر البشر ستين مرة أيضاً.
صاح بعض الحاضرين يقول وسط انفجارات الضحك:
– ما أشدّ مبالغتك يا ليبديف، ما أشد مبالغتك!
عاد الأمير يقول سائلاً:
– أنا أسلم بأن لهذه الفكرة دلالة تاريخية، ولكن ما الذي تريد أن تخلص إليه؟
كان الأمير يتكلم بجدّ يبلغ من الشدّة، ولهجة تبلغ من خلوها من السخرية أو التهكم على ليبديف الذي كان يتندّر به الحضور كافة، أن التناقض بين لهجته وبين لهجة الآخرين كان يخرج منه تأثير هزلي مضحك بدون قصد، حتى لقد أوشك أن يصبح الأمير نفسه محل ضحك واستهزاء، ولكن الأمير لم ينتبه إلى هذا.
همس أوجين بافلوفتش يسأل الأمير:
– ألا ترى يا أمير إنه مجنون؟ لقد قيل لي هنا منذ قليل إن الميل إلى مرافعات المحاماة وجلسات المحاكم قد فتن عقله وذهب بصوابه وإنه يريد أن يتقدّم إلى امتحان. إنني أتوقع محاكاة مضحكة لمرافعة يتولاها محام من المحامين!
تابع ليبديف كلامه قائلاً بصوت مدوٍّ:
– إنني أخلص إلى نتيجة ضخمة.. ولكن يجب أن نحلل قبل كل شيء الوضع السيكولوجي والقضائي لهذا المجرم. إننا نرى أن هذا المجرم (ولنسمه موكلي إن شئتم)، رغم استحالة عثوره على غذاء آخر، قد أبدى مراراً، طوال مدة حياته الغريبة، رغبة في التوبة وفي العدول عن لحم رجال الدين. وهذا يتجلى واضحاً في وقائع ثابتة: لقد أكل خمسة أطفال أو ستة كما قيل لنا. صحيح أن الرقم الأخير ضئيل تافه. ولكنه من وجهة نظر أخرى يحمل دلالة بليغة. واضح أن موكلي قد حاصرته نوبات رهيبة من عذاب الضمير (ذلك أنه كان رجلاً متديّناً، رجلاً ذا وجدان، أستطيع أن أبرهن على ذلك): فلقد أراد أن يخفف ذنبه، في حدود الإمكان، فأحل محل النظام الغذائي القائم على أكل لحوم رجال الدين نظاماً غذائياً قائماً على أكل لحوم غير رجال الدين: فعل ذلك ست مرات على سبيل التجربة أو المحاولة. فأما أن ما فعله عندئذ كان تجارب أو محاولات، فذلك أيضاً أمر لا سبيل إلى جحوده. ذلك أنه لو كان لا يريد إلا أن يبذل قائمة طعامه من باب التنويع، لما كان لعدد الستة قيمة! لماذا كان العدد ستة ولم يكن ثلاثين؟ (إنني هنا أقسم البشر الذين أكلهم نصفين: نصفاً من رجال الدين ونصفاً من غير رجال الدين). أما إذا كان الأمر تجربة أو محاولة لم يدفعه إليها إلا التألم والجزع من الاعتداء على الدين والإساءة إلى الكنيسة، فإن عدد الستة يكون عندئذ معقولاً بل أكثر من معقول. إن ست محاولات يقوم بها لتهدئة ما يعانيه من عذاب الضمير لهي أكثر من كافية، إذ لا يمكن أن تؤدي إلى نتيجة مرضية. أولاً في رأيي لأن الطفل صغير جداً، أو قولوا هزيل جداً: فلو أكل موكلي أطفالا بدلاً من أن يأكل رهباناً خلال مدة معينة لكان عليه أن يبتلع من الأطفال ثلاثة أضعاف بل خمسة أضعاف ما يبتلع من رهبان. وبذلك تكون جريمته قد خفت من جهة الكيف، ولكن ثقلت من جهة الكم. لاحظوا أيها السادة أنني إذ أفكر في الأمر على هذا النحو وأناقشه بهذه الطريقة، إنما أضيع ذاتي في الحالة النفسية التي كان عليها إنسان القرن الثاني عشر. أما أنا، رجل القرن التاسع عشر، فمن الممكن أن أفكر في الأمر تفكيراً آخر غير هذا التفكير. إنني ألفت نظركم إلى هذا يا سادتي حتى لا يبقى محل لسخركم مني وتهكمكم علي. أما أنت يا جنرال، فلقد أصبح موقفك غير لائق حقاً. ذلك أولاً، أما ثانياً فإن لحم الطفل – وهذا رأي شخصي لي – لا يشتمل على غذاء كثير، وربما كان مذاقه غير لذيذ، فلا يترك في من يأكله إلا عذاب الضمير.
«وإليكم الآن، أيها السادة، النتيجة التي أخلص إليها، إليكم الخاتمة التي تحل لكم مشكلة من أكبر المشكلات في ذلك الزمان وفي هذا الزمان على السواء. إن المجرم قد انتهى به الأمر إلى الوشاية بنفسه للكهنوت، والمثول بين أيدي السلطة. فلنتصور أنواع التعذيب التي كانت تنتظره في ذلك الزمان، لنتصور العجلات التي يربط بها ويشد إليها، لنتصور النيران التي يلقى فيها! فما الذي دفعه إلى الوشاية بنفسه والاعتراف بجريمته؟ لماذا، بعد أن وقف عند العدد ستين، لم يحتفظ بسره إلى آخر رمق من حياته؟ لماذا يقتصر على الاستغناء عن أكل لحم الرهبان، والتكفير عن نفسه بأن يعيش ناسكا؟ لماذا لم يصبح راهبا هو نفسه؟ تلكم هي كلمة السر! كان هنالك إذن قوة فوق قوة نيران التعذيب، وفوق قوة العادة التي ترسخت طوال عشرين عاماً! كان هنالك فكرة أقوى من جميع الكوارث والمجاعات والتعذيب والطاعون والجذام وكل ذلك الجحيم الذي ما كان للإنسانية أن تحتمله لولا تلك الفكرة نفسها التي كانت تُخضع القلوب وتوجهها، وتُخصب ينابيع الحياة! هيا أروني شيئاً يشبه تلك القوة، في هذا العصر الذي نعيش فيه، عصر الرذائل وسكك الحديد... كان ينبغي أن أقول: «عصر السفن البخارية وسكك الحديد»... ، لأنني سكران، ولكني صادق أقول الحقيقة. أروني في زماننا هذا فكرة تؤثر في الإنسانية نصف التأثير الذي كانت تحدثه تلك الفكرة في ذلك الزمان! هل تجرؤن أن تقولوا بعد هذا إن ينابيع الحياة لم تضعف، ولم تضطرب، تحت ذلك «الكوكب»، تحت هذه الشبكة التي التفّ بها البشر؟ لا تظنوا أنكم سترهبونني برخائكم وثرواتكم وندرة المجاعات وسرعة وسائل المواصلات! صحيح أن الثروات أوفر، ولكن القوى تنقص! لم يبق ثمة فكر يخلق رابطة بين البشر! نعم، إننا جميعاً، جميعاً، جميعاً فاسدون!.... ولكن كفى! ليس هذا هو المهم الآن. وإنما المهم أن نقدّم العشاء الذي أُعدّ لضيوفنا، أليس كذلك أيها الأمير المحترم جداً؟
أوشك ليبديف أن يحدث في نفوس بعض سامعيه استياء حقيقياً (يجب أن نذكر أن الحضور استمروا يفتحون الزجاجات أثناء ذلك الوقت كله). لكنه أسقط في يد جميع خصومه فوراً بهذه الخاتمة غير المنتظرة، التي تزف بشرى وجبة الطعام، وهي خاتمة وصفها هو نفسه بأنها «حيلة بارعة يقوم بها محام حاذق لتغيير مجرى قضية». وتعالت ضحكات فرحة من جديد، وعاد الحفل إلى نشاطه وحميّاه. ونهض الجميع عن المائدة، وأخذوا يمشون ليحركوا أعضاءهم ويُذهبوا عنها التخدر. وظل كيللر وحده مستاء من خطاب ليبديف، وانفعل انفعالاً شديداً، واضطرب اضطراباً كبيراً، وأخذ يستوقف الضيوف، فيقول لهم بصوت عالٍ:
– إنه يهاجم الحضارة، ويمجّد تعصّب القرن الثاني عشر؛ وهذا كله تمثيل وتظاهر وتهريج. إن ليبديف لا يملك من طهارة القلب ونظافة اليد أيسر اليسير. قولوا لي: بأي مال أصبح مالكاً لهذا المنزل؟
وقال الجنرال في الركن المقابل لأشخاص آخرين من الحفل موجهاً الكلام إلى بتتسين خاصة وهو يقبض على زر سترته:
– لقد عرفت شارحًا حقيقيًا لرؤيا القديس يوحنا، هو المرحوم جريجور سيميونوفتش بورمستروف. كان هذا يُنفذ في القلوب ما يشبه أن يكون سهماً من نار. كان يبدأ أولاً بوضع نظاراته، ثم يفتح كتاباً كبيراً قديماً مجلداً بجلد أسود. كانت له لحية شائبة، وكان يزين صدره بوسامين فاز بهما لقيامه بأعمال برٍ كثيرة. كان يأخذ يقرأ بلهجة شديدة قاسية. وكان الجنرالات ينحنون أمامه وكانت السيدات تقع مغشياً عليها. أما هذا فإنه يختم كلامه بالتبشير بعشاء بارد للضيوف! شيء عجيب!
كان بتتسين أثناء إصغائه إلى كلام الجنرال يبتسم محافظاً على هيئة من يريد أن يتناول قبعته وينصرف. ولكنه كان لا يعزم أمره عليه. وقبل النهوض عن المائدة كان جانيا قد انقطع عن الشراب فجأة، ودفع الكأس بعيداً عنه، وطافت بوجهه سحابة فأظلم. حتى إذا نهضوا عن المائدة اقترب من روجويين وجلس إلى جانبه. فلو رآهما راءٍ لاعتقد أنهما على خير وفاق، وأن العلاقات بينهما أحسن ما تكون العلاقات. إن روجويين الذي أوشك في البداية أن ينصرف متسللاً بهدوء ورفق، عدّة مرات، يجلس الآن ساكناً خافض الرأس. كأنه هو أيضاً قد نسي اعتزامه الانصراف متسللاً. إنه غارق في أفكاره. وهو يرفع عينيه في بعض اللحظات فيتفرّس في جميع الحاضرين واحدا بعد واحد. إن وضعه الآن يحمل على الاعتقاد بأنه قد أرجأ انصرافه بانتظار شيء له عنده شأن خطير.
لم يكن الأمير قد شرب إلا كأسين أو ثلاثاً. فكان فرحاً لا أكثر. فلما نهض عن المائدة وقعت عيناه على عيني أوجين بافلوفتش، فتذكر أن هناك حديثاً يجب أن يجري بينهما فابتسم هاشًّا. فأومأ له أوجين بافلوفتش فجأة بحركة من رأسه، مشيراً إلى هيبوليت الذي كان نائماً على الديوان والذي كان أوجين بافلوفتش يحدّق إليه في تلك اللحظة بنظرة فاحصة.
– قل لي يا أمير؟ لماذا اندسّ هذا الصبي في بيتك؟
ألقى أوجين بافلوفتش هذا السؤال على الأمير فجأة، وفي وجهه غضب ظاهر وبغض بيّن، فلم يسع الأمير إلا أن يُدهش.
وأضاف أوجين بافلوفتش يقول:
– أراهن أن في رأسه نية مبيتةً وغرضاً سيئاً!
فقال له الأمير:
– لقد لاحظت يا أوجين بافلوفتش، أو خيل إليّ، أنك اهتممت به اليوم كثيراً، أهذا صحيح؟
– أضف إلى ذلك أنني في الظروف الخاصة التي تحيط بي يجب أن يكون رأسي ممتلئاً بمشاغل أخرى، لذلك فأنا أول المدهوشين من أنني لم أستطع طوال مدة السهرة أن أحوّل بصري عن هذه الهيئة المنفرة الكريهة.
– إن وجهه جميل...
صاح أوجين بافلوفتش يقول للأمير وهو يجره من ذراعه.
– انظر، انظر، انظر...
فألقى الأمير على محدّثه نظرة مشدوهة من جديد.
الفصل الخامس
إن هيبوليت الذي كان قد نام على الديوان فجأة بعد خطاب ليبديف استيقظ الآن منتفضاً، كأن أحداً لكزه في جنبه؛ ارتعش، وجلس متكئاً على أحد كوعيه، ونظر فيما حوله وشحب لونه. فلما رأى من يحيطون به عبر وجهه عن شيء من الجزع، بل عن ما يشبه الذعر والهول، فقال مغموماً وهو يمسك يد الأمير:
– ماذا؟ أينصرفون؟ انتهى؟ انقضى كل شيء؟ هل طلعت الشمس؟ كم الساعة الآن؟ قل لي كم الساعة الآن، ناشدتك الله! لقد نمت. هل نمت مدة طويلة؟
أضاف هذه الجملة الأخيرة بلهجة تعبر عما يكاد يكون ألماً كبيراً ويأسًا شديدًا فكأنه قد فاته أثناء النوم أمرٌ يتوقف عليه ويرتبط به مصيره كله على أقل تقدير.
أجابه أوجين بافلوفتش:
– نمت سبع دقائق أو ثماني.
فنظر إليه هيبوليت بشراهة، وفكّر بضع لحظات، ثم قال:
– آ... فقط!... إذن أنا...
وتنفس الهواء بقوة كأنه تخلص من حمل ثقيل وعبء هائل. لقد فهم أخيراً أنه «لم ينته كل شيء»، وأن الفجر لما يسطع بعد، وأن الحضور لم يقوموا عن المائدة إلا ليمضوا إلى تناول وجبة العشاء الخفيفة، وأن الشيء الوحيد الذي انقطع إنما هو ثرثرة ليبديف. فابتسم وتخضّبت وجنتاه ببقعتين حمراوين تكشفان عما به من مرض السل. ثم لم يلبث أن قال بلهجة ساخرة:
– وأنت يا أوجين بافلوفتش، لقد عددت حتى الدقائق التي قضيتها أنا نائماً! إنك لم تحوّل بصرك عني طوال السهرة... لقد لاحظتُ ذلك..
وأردف يهمس في أذن الأمير، مقطّباً حاجبيه، مشيراً بحركة رأسه إلى المكان الذين كان يجلس فيه بارفيون سيميونوفتش إلى المائدة:
– آ.... روجويين! لقد رأيته الآن في الحلم...
وتابع كلامه يقول قافزاً من موضوع إلى موضوع فجأة:
– آ... نعم.. أين الخطيب؟ أين ليبديف؟ هل انتهى من إلقاء خطابه إذن؟ عّم تحدث؟ هل صحيح يا أمير أنك قلت في ذات يوم إن «الجمال» يمكن أن ينقذ العالم؟
ثم صاح يقول مُشهداً جميع الحضور:
– اشهدوا أيها السادة أن الأمير يدّعي أن الجمال سوف ينقذ العالم؛ أما أنا فأقول: إذا كان للأمير آراء تبلغ هذا المبلغ من المرح فذلك دليل على أنه عاشق! أيها السادة، إن الأمير مولّه حبًّا! لقد أيقنت بهذا منذ دخل علينا قبل مدة قصيرة! لا تحمرّ خجلاً يا أمير، وإلا أخذتني بك شفقة! أي جمال سوف ينقذ العالم؟ إن كوليا هو الذي نقل إليّ حديثك هذا... هل أنت مسيحي قوي الإيمان؟ يقول كوليا إنك أنت الذي تنعت نفسك بأنك مسيحي.
تأمله الأمير مليّا ولم يجبه.
فأضاف هيبوليت يقول فجأة بلهجة خشنة كأن هذه الملاحظة قد فاتته:
– ألا تجيب؟ أتراك تظن أنني أحبك كثيراً؟
– لا، لا أظن ذلك. أنا أعلم أنك لا تحبني.
– كيف؟ حتى بعد ذلك الذي حدث أمس؟ لقد كنت صادقاً معك أمس.
– أمس أيضاً كنت أعلم أنك لا تحبني.
– هل تعني أن سبب ذلك هو أنني أحسدك، هو أنني أغار منك؟ إنك قد ظننت هذا دائما، وما زلت تظنه، ولكن... لماذا أكلمك في هذا؟ أريد أن أشرب مزيداً من الشمبانيا. يا كيللر، صب لي شمبانيا!
– ما ينبغي أن تشرب أكثر مما شربت يا هيبوليت. لن أدع لك أن تشرب...
قال له الأمير ذلك، وأبعد عنه الكأس.
فلم يلبث هيبوليت أن قال موافقاً وقد شرد ذهنه:
– صحيح... إذا شربتُ فلا بد أن يقولوا إنني... ولكن ما شأني بما قد يقولونه!... أليس كذلك؟ هه؟ ليقولوا في المستقبل ما شاء لهم هواهم أن يقولوا، أليس هذا صحيحاً يا أمير؟ أي ضر يمكن أن يصيبنا، جميعاً، مما قد يقولونه «بعد»؟... على كل حال، أنا الآن خارج من حلم. ألا ما كان أفظعه حلماً! في هذه اللحظة إنما أتذكره. لا أتمنى لك أحلاماً كهذا الحلم يا أمير، رغم أنني ربما كنت لا أحبك كثيراً. على كل حال، إذا كان امرؤ لا يحب شخصاً من الأشخاص فليس حتماً عليه أن يريد له الشر، وأن يتمنى له الضر، أليس هذا صحيحاً؟ ولكن ما بالي ألقي هذه الأسئلة كلها؟ فيم هذه الأسئلة جميعها؟ ناولني يدك فأشدّ عليها شدًا قويًا. نعم، هكذا... هأنت ذا قد مددت إليّ يدك رغم كل شيء. أنت تشعر إذن إنني أشدّ عليها صادقاً مخلصاً... طيب... لن أشرب أكثر مما شربت. كم الساعة الآن؟ ولكن لا داعي أن تقولوا لي كم الساعة الآن... أنا أعرف. لقد دقت الساعة. آن الأوان. أَزِفَ الوقت. ماذا؟ هل تقدمون وجبة العشاء في ذلك الركن. هل هذه المائدة خالية إذن؟ عظيم... أيها السادة، إنني... جميع هؤلاء الناس لا يريدون حتى أن يصغوا... إنني أريد أن أقرأ مقالة يا أمير. صحيح أن وجبة الطعام أهم شأناً وأجلّ قدراً، ولكن...
قال هيبوليت هذا ثم استل من جيبه الجانبي، بطريقة مفاجئة غير متوقعة، حزمة عريضة من قياس رسمي، مختومة بخاتم كبير أحمر، ووضعها على المائدة أمامه.
أحدثت هذه الحركة المباغتة أثرها في الحفل، الذي كان «متهيئاً»، ولكن... لا للقراءة.
نهض أوجين بافلوفتش عن كرسيه منتفضاً. واقترب من المائدة بحركة سريعة، وتبعه روجويين، لكنه ارتبك مشمئز الهيئة متجهم الوجه كمن يعرف ما مدار القضية وما حقيقة الأمر. وكان ليبديف قريباً فتقدّم محملق العينين وأخذ يتفحّص الحزمة محاولاً أن يحزر ما تحتويه.
سأله الأمير بلهجة قلقة:
– ما هذا الذي معك؟
صاح هيبوليت يقول:
– سأرقد متى طلعت أولى أشعة الشمس يا أمير. لقد قلت ذلك. يميناً. سوف ترى!
ثم أضاف وهو يلقي حوله نظرة تحدّ كأنه يواجه بها جميع الحضور بغير استثناء:
– ولكن... ولكن... هل تظنون أنني لا أقدر أن أفضّ هذه الحزمة؟
لاحظ الأمير أن هيبوليت كان يرتجف بكل جسمه. فتكلم باسم الجميع قائلا:
– لم يدر هذا الخاطر في ذهن أحد منا، فلماذا تنسبها إلينا وتظن أننا... ثم ما أغرب هذه الفكرة التي تراودك، وهي أن تقرأ لنا مقالة؟ ماذا بك يا هيبوليت؟
وتساءل بعضهم من حوله:
– ما هذا؟ ماذا دهاه أيضاً؟
واقترب الجميع، وكان بعضهم قد بدأ يأكل. إن الحزمة وخاتمها الأحمر يجذبان الضيوف كالمغناطيس.
قال هيبوليت يخاطب الأمير:
– هذا ما كتبته بنفسي أمس، بعد أن قطعت لك عهداً بأن أجيء إليك لأقيم عندك يا أمير. قضيت في كتابته طوال النهار والليل، وأنهيته في هذا الصباح. لقد رأيت حلماً قبل مطلع الصبح...
قاطعه الأمير يقول في خجل ووجل:
– أليس الأفضل أن ترجئ القراءة إلى غد؟
فردّ عليه هيبوليت قائلاً وهو يضحك ضحكة ساخرة متشنجة:
– غداً «لا يكون قد بقي وقت)» ولا تخف على كل حال، فإن القراءة ستستغرق أربعين دقيقة، أو ساعة في أكثر تقدير. انظر إلى اهتمام الجميع بالأمر: إن كل واحد يقترب، وإن كل واحد ينظر إلى حزمتي المختومة. لولا أنني وضعت المقالة في حزمة مختومة لما أثارت أي اهتمام، ولما أيقظت في نفس أحد أي فضول. هأ هأ! هذه جاذبية السر!...
ثم هاتف يقول ضاحكاً ضحكته الخاصة، طائفاً على الحضور بنظرات عينيه المتقدتين:
– أأفض أم لا أفض أيها السادة؟ سر! سر! هل تتذكر يا أمير من ذا الذي أعلن أنه «لن يكون قد بقي وقت»؟ إنه الملاك الكبير القوي الذي تحدثنا عنه رؤيا يوحنا.
هتف أوجين بافلوفتش فجأة يقول وقد ظهر عليه قلق بلغ من الشدّة أنه خطف انتباه كثير من الأشخاص:
– الأفضل أن لا تقرأ!
وصاح الأمير يقول أيضاً وهو يضع يده على الحزمة:
– لا تقرأ!
وقال أحدهم:
– ماذا؟ الآن نقرأ؟ إننا نريد أن نتعشى!
وسأل آخر:
– مقالة؟ لا بدّ أنها مقالة لمجلة، هه؟
وسأل الآخرون:
–– ولكن ما الأمر، ما المسألة؟
إن حركة التخوف التي بدرت من الأمير قد أرهبت حتى هيبوليت نفسه! فقال يسأل الأمير همساً، بلهجة خائفة، بينما كانت تلم بشفتيه المزرقتين ابتسامة متصعّرة:
– ألا أقرأ إذن؟...
ثم دمدم سائلاً وهو يتفحّص حوله جميع الأعين وجميع الوجوه، محاولاً أن يشدّ إليه الناس، كما فعل منذ لحظة، شاعراً بحاجة شرهة إلى البوح والإفضاء:
– ألا أقرأ إذن؟
وعاد يلتفت نحو الأمير مرة أخرى ويسأله:
– أأنت.. خائف؟
فأجابه الأمير وكانت سحنته تنقلب وتتغير من دقيقة إلى أخرى:
– مم أخاف؟
فما كان من هيبوليت إلا أن وثب من مكانه على حين فجأة، كأنه انتزع من كرسيه انتزاعاً، وصاح يسأل:
– هل يعطيني أحد قرشاً؟ هل مع أحد منكم قطعة نقد بعشرين كويكاً؟
فأسرع ليبديف يناوله قطعة النقد قائلاً:
– خذ!
لقد استولى على ذهن ليبديف أن المريض فقد عقله وأصابه جنون.
وسرعان ما صاح هيبوليت مناديًا:
– فيرا لوكيانوفا. أمسكي هذا القرش وارميه على المائدة، ثم انظري: هل سقط على وجهه أم على قفاه. فإن سقط على قفاه قرأت!
نظرت فيرا، مذعورة، إلى القرش فإلى هيبوليت فإلى أبيها، ثم رفعت رأسها لاعتقادها بأن عليها أن لا ترى القرش، ورمته على المائدة بحركة خرقاء. لقد سقط القرش على قفاه.
فدمدم هيبوليت يقول وكأن قرار الحظ هذا قد سحقه سحقًا:
– يجب أن أقرأ.
ما كان لهيبوليت أن يصطبغ وجهه بهذه الصفرة الرهيبة ولو سمع قرار الحكم عليه بالإعدام.
هتف يقول مرتعشًا بعد نصف دقيقة من الصمت:
– ما معنى هذا على كل حال؟ كيف أمكن أن أقامر بمصيري؟
وألقى على الحضور نظرة دائرة تفصح عن تلك الرغبة نفسها في البوح والإفضاء، وفي التماس الانتباه والاهتمام. ثم التفت نحو الأمير فجأة وهتف يقول بلهجة فيها دهشة صادقة:
– هذه سمة غريبة من سمات النفس يا أمير...
وكرر يقول منتعشاً بلهجة إنسان ثاب إلى نفسه:
– سجّل هذا وتذكره، ما دمت تجمع معلومات ومستندات عن الحكم بالإعدام، فيما قيل لي... لقد قيل لي هذا... هأ هأ!... هه... يا للسخف!...
وجلس على الديوان، وأسند كوعيه إلى المائدة، وأمسك رأسه بين يديه. وتابع يقول:
– بل.. ويا للعار!... ولكن ما يضيرني أن يكون في هذا عار!...
وسرعان ما رفع رأسه فقال كمن انصاع لقرار مفاجئ:
– أيها السادة، أيها السادة... إنني أفض حزمتي، و... و... لا أُجبر أحداً على الإصغاء!
وبيدين مرتعشتين من شدة الانفعال فض الحزمة وأخرج منها ورقات من ورق الرسائل، مطرزة بكتابة صغيرة دقيقة، فوضعها أمامه وأخذ يفتحها.
دمدم عدد من الحاضرين يقولون عابسين:
– ما هذا؟ ماذا هنالك؟ ماذا يراد أن يقرأ علينا؟
ولزم آخرون الصمت، ولكن الجميع ظلوا جالسين يرقبون المشهد باهتمام واستطلاع. لعلهم كانوا ينتظرون وقوع حادث خارق فعلاً. وقد تشبثت فيرا بكرسي أبيها، وكانت تشعر بخوف يبلغ من الشدة أنها لا تكاد تستطيع أن تحبس دموعها. ولم يكن كوليا أقل ارتياعاً. أما ليبديف الذي كان قد جلس، فإنه نهض فجأة، فتناول شموعاً وقرّبها من هيبوليت ليستطيع هيبوليت أن يقرأ بوضوح أكبر.
أضاف هيبوليت يقول، لا يدري المرء لماذا:
– أيها السادة، هذا... سوف ترون ما هذا فوراً..
ثم انتقل إلى القراءة رأساً بلا تمهيد، فقرأ: «شرح لا غنى عنه»، تصدير: «من بعدي الطوفان». لكنه لم يلبث أن قال بلهجة من شعر بنار تلسعه: أف... كيف أمكن أن أصدّر مقالتي بقول يبلغ هذا المبلغ من الغباء والحمق؟... ثم اتجه إلى الحضور فقال لهم:
– اسمعوا أيها السادة!... أؤكد لكم أن هذا كله قد لا يكون في آخر حساب إلا تفاهات وترهات شنيعة!... ما هذه إلا خواطر جالت في رأسي أنا... فإذا كنتم تتوقعون شيئاً سرياً أو... محظوراً، أي...
فقاطعه جانياً قائلاً:
– الأفضل أن تقرأ بغير تمهيد..
وأضاف آخر يقول:
– إنه يلفّ ويدور.
وقال روجويين الذي ظل أخرس حتى ذلك الحين:
– هذا بعينه ما يسمى هذراً وثرثرة!
فنظر إليه هيبوليت فجأة. فما إن التقت نظراتهما حتى ابتسم روجويين ابتسامة مرّة لاذعة، ثم نطق بهذه الأقوال الغريبة:
– ما هكذا يجب التصرف، في هذه القضية، أيها الصبي، لا...
ما من أحد فهم ما يعنيه روجويين طبعاً. ولكن جملته أحدثت في الحضور تأثيراً خاصاً: لكأن فكرة واحدة ساورت أذهانهم جميعاً. أما في هيبوليت فقد أحدثت هذه الجملة تأثيراً رهيباً: أخذ يرتجف ارتجافاً بلغ من القوة أن الأمير هم أن يمدّ نحوه يديه ليحميه من السقوط؛ وكان لا بدّ أن يصرخ حتماً لولا أن ظل صوته محبوساً في حلقه. ولبث دقيقة بكاملها لا يستطيع أن ينطق بكلمة. كان يتنفس بمشقة، ولا يحول عن روجويين بصره. فلما استطاع أخيراً أن يسترد أنفاسه بجهود كبيرة نطق يقول مجمجماً:
– إذن أنت... الذي... أنت الذي...
– الذي ماذا؟
كذلك سأله روجويين بهيئة من لم يفهم.
ولكن هيبوليت احمرّ احمراراً شديداً، وصرخ يقول بصوت كاسر وحشي، يدفعه إليه نوع من حنق مسعور مفاجئ:
– «أنت» الذي جئت إليّ في الأسبوع الماضي، ليلاً، بعد الساعة الواحدة، غداة ذلك اليوم الذي زرتك فيه. هو «أنت»! اعترف بذلك: أأنت أم لا؟
– الأسبوع الماضي؟ ليلاً؟ أتراك فقدت عقلك أيها الصبي؟
سكت «الصبي» لحظة أخرى، ثم رفع إبهامه إلى جبينه كمن يستجمع خواطره. ولكن تعبيراً عن المكر وحتى عن الفوز برز في وجهه فجأة من تحت ابتسامته الصفراء التي جمّدها الخوف. وكرر يقول بصوت يكاد يكون همساً، ولكن بلهجة فيها اقتناع كامل مطلق:
– أنت! (أنت) جئت إليّ! لبثت جالساً على كرسي قرب النافذة ساعة بل أكثر من ساعة: كان ذلك بين منتصف الليل والساعة الثانية. وانصرفت قبل الساعة الثالثة... نعم، أنت أنت! لماذا أخفتني؟ لماذا جئت تعذبني؟ إنني لا أفهم هذا... ولكنك أنت الذي جئت إلي!
واشتعل في نظرته وميض بغض على حين فجأة، ولكنه ظل يرتعد هلعا. وقال:
– فوراً أيها السادة، ستعلمون كل شيء... إنني... إنني... اصغوا إلي..
وأسرع يتناول أوراق مخطوطته التي كانت قد تحركت من مكانها وتبعثرت، فأخذ يحاول ترتيبها. وكانت الأوراق ترتعش بين أصابعه المرتجفة، فقضى في ترتيبها وقتاً.
غمغم روجويين يقول بصوت لا يكاد يُفهم:
– إما أنه مجنون، وإما أنه يهذي...
وبدأت القراءة أخيراً. ففي الدقائق الخمس الأولى لقي كاتب «المقالة» التي لم تكن في الحسبان، لقي عناء كبيراً في استرداد أنفاسه، فكان يقرأ قراءة مفككة متفاوتة. لكن صوته ثبت وقوي شيئاً بعد شيء، فاستطاع أن يؤدي معنى ما كان يقرؤه أداء كاملاً. كل ما هنالك أن سعالاً شديداً كان يقطع القراءة من حين إلى حين؛ ولما وصل من القراءة إلى نصفها كان صوته قد أصيب ببحة قوية. وكانت حماسته تشتد مزيداً من الاشتداد لحظة بعد لحظة حتى بلغت الذروة، وكان الإحساس الأليم الذي يحدثه في نفوس مستمعيه يقوى لحظة بعد لحظة بتلك السرعة نفسها. وإليكم نص المقالة كاملا:
«شرح لا غنى عنه»
«من بعدي الطوفان»
«في صباح أمس، جاءني الأمير. فاقترح علي، فيما اقترح، أن أقيم عنده في الفيلا. كنت أعلم أنه لن يفوته أن يلحّ على هذه النقطة. كنت على يقين من أنه سيقول لي فوراً «إن الأفضل لي أن أموت محاطاً بالناس والأشجار». على حد تعبيره. لكنه في هذا اليوم لم يستعمل كلمة «أموت»، بل قال «إن الأفضل لي أن أعيش هناك»، والأمران في حالتي أمر واحد على كل حال. سألته ماذا يعني بكلمة «الأشجار» التي يكثر من استعمالها هذا الإكثار، ولماذا يصدّع أذنيَّ بها دائماً. فما كان أشد دهشتي حين سمعته يجيبني بأنني أنا الذي صرحت في مساء فائت بأنني جئت إلى بافلوفسك لأرى الأشجار مرة أخيرة فذكرت له أنه يستوي عندي تماماً أن أموت تحت الأشجار أو أن أموت وأنا أنظر إلى حائط من الآجر أمام نافذتي. فلا حاجة بي إلى هذا العناء كله وإلى هذا الاحتفال كله في سبيل أسبوعين اثنين بقيا لي في هذه الحياة. فسرعان ما وافقني على هذا الرأي، لكنه قدّر أن الخضرة والهواء الطلق سيؤثران في حالتي الجسمية تأثيراً حسناً ولا ريب، وسيبدّلان «أحلامي» وسيغيران نتائج فرط اهتياجي حتى لقد يجعلانها محتملة. فاعترضت عليه من جديد وقلت له ضاحكا إنه يتكلم كما يتكلم رجل مادي المذهب. فأجابني وهو يبتسم ابتسامته المألوفة بأنه كان دائماً مادي المذهب. وإذ إنه رجل لا يكذب، فلا شك أن قوله هذا ليس كلاماً جزافاً ألقاه في الهواء. إن ابتسامته طيبة. وقد أنعمت النظر فيه عندئذ بمزيد من الانتباه. لا أدري أنا الآن أحبه أم لا أحبه. ولا يتسع وقتي الآن لأن أصدّع رأسي بمثل هذا السؤال. إن الكره الذي كنت أحمله له منذ خمسة أشهر – لاحظوا هذا – قد أخذ يهبط هبوطاً تامًا أثناء هذا الشهر الأخير. من يدري؟ لعلني لم أذهب إلى بافلوفسك إلا في سبيل أن أراه. ولكن... لماذا تركت غرفتي إذن؟ إن المحكوم عليه بالإعدام يجب أن لا يبارح الركن الذي هو فيه. فلو أنني لم أتخذ قراراً حاسماً، لو أنني – على عكس ذلك – أذعنت لفكرة انتظار ساعتي الأخيرة، إذن لما رضيت أن أجئ «أموت» عنده في بافلوفسك.
«يجب أن أسارع لأنهي هذا «الشرح» كله حتماً قبل الغد. معنى ذلك أنني لن أملك من الوقت ما يتيح لي إعادة قراءته ويسمح لي بتصحيحه وتنقيحه. سوف أعيد قراءته غداً حين أقرؤه على الأمير وعلى شاهدين أو ثلاثة شهود آمل أن أجدهم عنده. وإذ إن هذا الكلام لن يشتمل على كلمة واحدة ليست هي الحقيقة الصافية العليا الصريحة، فإنني ليهمني كثيراً أن أعرف الإحساس الذي سأشعر به أنا نفسي حين سأقرؤه عليهم. على أنني أخطأت إذ كتبت هذه الكلمات: «الحقيقة العليا الصريحة»، فإن حياة لن تدوم إلا خمسة عشر يوماً لا تستحق أن يحياها المرء (حاشية – هذه فكرة يجب أن لا تغيب عن البال: ألست مجنوناً في هذه اللحظة، أو قولوا في بعض اللحظات؟ لقد أكد لي بعضهم أن المرضى بداء السل، حين يصلون إلى آخر مرحلة من مراحل مرضهم، تختل عقولهم في بعض اللحظات. يجب التثبت من هذا غداً بالأثر الذي تخلفه في نفوس السامعين قراءة هذا الكلام. هذه مسألة يجب أن تُحَلّ أدق حل مهما كلف الأمر. وبدون ذلك لا يستطيع المرء أن يشرع في شيء أو أن يعمل شيئا».
«يخيل إليّ أنني قد كتبت الآن سخافة كبيرة. غير أن وقتي لا يتسع للتصحيح، كما سبق أن قلت ذلك من قبل. ثم إنني أتعهد لنفسي عامداً أن أترك هذه المخطوطة خالية من أي تصحيح، حتى ولو لاحظت إنني أناقض نفسي بنفسي كل خمسة أسطر. فإنما أريد أن أمتحن منطق تفكيري، وأن أتأكد من أنني ألاحظ أخطائي، غداً عند القراءة. فبذلك أعرف هل الأفكار التي أنضجتها في هذه الغرفة خلال هذه الأشهر الستة، حقيقة صادقة أم هذيان باطل.
«لو وجب علي، منذ شهرين، أن أهجر غرفتي هجراً تامًا، كما سأفعل الآن، وأن أودع حائط ماير، لكنت شعرت بحزن حتماً. أما الآن فقد أصبحت لا أشعر بشيء رغم أن عليّ أن أترك هذه الغرفة وهذا الحائط «إلى الأبد»!. معنى هذا أن كياني يستحوذ عليه الآن اقتناع بأن حياة أسبوعين لا تستحق أن تمتلئ نفس المرء فيها بمشاعر الأسف والحسرة، وأن ينقاد المرء أثناءها لأي عاطفة من العواطف. ولعل جميع حواسي أصبحت تخضع لهذا الاقتناع منذ الآن. ولكن هل هذا صحيح حقاً؟ هل صحيح أن طبيعتي قد تم لي قهرها وتحققت لي السيطرة عليها؟ لو أنزل بي تعذيب في هذه اللحظة لأخذت أصرخ حتماً، ولما قلت إن المرء ما ينبغي له أن يصرخ ولا أن يشعر بالألم إذا لم يكن قد بقي له من الحياة إلا خمسة عشر يوما.
«ومع ذلك، هل صحيح أنني لم يبق لي من الحياة إلا خمسة عشر يوماً لا أكثر؟ إن ما رويته في بافلوفسك كان كذباً: «إن بـ...ـن» لم يقل لي شيئاً البتة، حتى إنه لم يرني في يوم من الأيام. غير أنني قد جيء لي منذ أسبوعين بالطالب كيسلورودوف. إنه شاب مادي المذهب، ملحد، عدمي. ومن أجل هذا إنما طلبت أن يؤتى به إلي. كنت في حاجة إلى إنسان يقول لي أخيراً الحقيقة صافية صريحة بلا مداراة أو مراعاة، وبلا تصنع أو تكلف. وذلك ما فعله. ولم يفعله متعجّلاً بغير لفّ ودوران فحسب، بل فعله وهو يشعر بلذة ظاهرة واضحة أيضاً (لذة جاوزت الحدود في رأيي). لقد أعلن لي بغلظة وقسوة إنني قد بقي لي من الحياة نحو شهر؛ وربما طال عمري أكثر من ذلك قليلاً إذا ساعدت الظروف، ولكن قد يكون ما بقي لي من عمر أقل كثيراً من شهر. وهو يرى أن من الجائز أن أموت على حين غرة، في غدٍ مثلاً. فهذا أمر حصل مثله. فأمس الأول كانت سيدة شابة مصابة بداء السل، وهي تقطن حي كولومنا وتشبه حالتها حالتي، كانت تتهيأ للذهاب إلى السوق من أجل أن تشتري مؤناً لها، فإذا هي تشعر فجأة بإعياء، فلما اضطجعت على أريكة لترتاح زفرت زفرة وأسلمت روحها. لقد روى لي كيسلورودوف هذه التفاصيل كلها وهو يتصنع نوعاً من عدم التأثر وقلة الاكتراث، كأنه يشرّفني بأن يعدّني، أنا أيضاً، رجلاً متفوقاً يذهب مذهب الجحود مثله، ولا يؤلمه البتة أن يبارح هذه الحياة. المهم أن هناك أمراً أصبح ثابتاً هو أن ما بقي لي من حياة لا يزيد عن شهرا فأنا مقتنع بأنه من هذه الناحية لم يخطئ.
«ولقد دُهشت كثيراً حين حزر الأمير أنني أرى أحلاماً ثقيلة، وأنني أعاني أثناء النوم من كوابيس. فقال ما نصّه حرفاً حرفاً «إن نتائج فرط اهتياجي وأحلامي ستتغير في بافلوفسك». لماذا تكلم عن أحلامي؟ نعم، إنه طيب، أو إنه يملك فكراً ذا نفاذ خارق قادر على أن يحزر أموراً كثيرة (وأما أنه رغم كل شيء أبله، فهذا لا مجال للشك فيه). والحق إنني قبل وصوله بقليل كنت قد رأيت حلماً جميلاً (من تلك الأحلام التي أرى في هذه الآونة مئات منها!). كنت قد نمت قبل زيارته بساعة فيما أظن، فرأيتني في غرفة ليست غرفتي. إنها أرحب من غرفتي سعة، وأعلى سقفاً، وأحسن أثاثاً، ويدخلها النور. الأثاث يتألف من خزانة للملابس، ومنضدة ذات أدراج، وديوان، وسرير. والسرير واسع عريض، له غطاء أخضر من حرير مضلّع. وإني لفي هذه الغرفة إذا أنا أرى حيواناً مرعبا لا عهد لي بمثله، فهو ليس من الحيوانات الطبيعية. إنه يشبه عقرباً، ولكنه ليس بعقرب. هو شيء أبشع من العقرب وأشنع وأدعى إلى النفور وأبعث على الاشمئزاز. واعتقدت أن ثمة سراً في عدم وجود حيوانات من هذا الجنس في الطبيعة، وفي أن واحداً منها قد ظهر عندي مع ذلك خصيصاً! تفحّصت الحيوان مليًا: هو نوع من الزواحف: يكسوه درع كدرع السلحفاة داكن، يبلغ طوله نحو عشرين سنتيمتراً، ويبلغ سمك رأسه أصبعين، ولكن جسمه يستدق تدريجيا حتى الذنب فلا يكاد يبلغ سمك ذيله نصف سنتيمتر. وعلى بعد خمسة سنتمترات من الرأس تخرج من جسمه قدمان يبلغ طول كل منهما عشرة سنتمترات، وتنفرجان بزاوية قدرها خمس وأربعين درجة. فإذا نظرت من فوق، ظهر لك الحيوان كله في صورة من ذات ثلاثة أفرع. لم أر رأسه رؤية واضحة جداً، ولكنني لاحظت في الرأس مجستين قصيرين جداً، دكناوين هما أيضاً، يشبهان إبرتين ضخمتين. وفي آخر الذيل يُرى مجستان مماثلان، وكذلك في نهاية كل قدم. فيكون مجموع المجسات ثماني. وكان الحيوان يجري جرياً سريعاً جداً في أرجاء الغرفة كلها، مستعيناً بقدمه وذنبه؛ وفيما هو يجري، يتلوى جسمه وتتلوى أعضاؤه كحية من الحيات بسرعة خارقة، رغم الدرع الذي يكسو ظهره. منظر مروّع رهيب. خفت خوفاً فظيعاً من أن يلسعني هذا الحيوان، فقد قيل له إنه سام. غير أن ما كان يعذبني أكثر من أي شيء آخر هو أن أعرف من الذي أرسله إلى غرفتي، وما هي المكيدة التي تدبّر لي، وماذا وراء هذا السر. وكان الحيوان يختبئ تحت المنضدة ذات الأدراج، وتحت خزانة الملابس، ويعتصم بأركان الغرفة. جلست على كرسي وثنيت ساقيّ تحتي. وأسرع الحيوان يقطع الغرفة على مسار مائل، ويختفي في مكان ما قرب الكرسي الذي أجلس عليه. بحثت عنه بعيني مرتاعاً، لكنني وقد جعلت ساقيّ تحت جسمي، كنت آمل أن لا يتسلق الكرسي. فإذا أنا أسمع ورائي زفيراً خفيفاً قرب نقرتي. فالتفتّ فإذا أنا أرى الحيوان يتسلق الجدار. وكان قد وصل من تسلقه الجدار إلى مستوى رأسي، حتى لقد لامس شعري بذنبه الذي كان يتموج بخفة قصوى. فما كان مني إلا أن وثبت، فاختفى الحيوان الغريب. لم أجرؤ أن أضطجع على السرير، خشية أن يتسلل فَيَنْدسّ تحت المخدة. وعندئذ دخلت الغرفة أمي وامرأة أخرى من صاحباتها لا أعرفها. وأخذتا تطاردان الحيوان الزاحف. كانتا أهدأ مني، بل كان لا يظهر عليهما أي رعب، ولكنهما لم تفهما من الأمر شيئاً. وفجأة ظهر الحيوان العجيب من جديد. فكان في هذه المرة يزحف بحركة بطيئة جداً كأنه يضمر نية خاصة. إن تلوياته التي تنم عن قلة الاكتراث تزيد منظره الآن بشاعة، وتجعله أبعث على الاشمئزاز. وقطع الغرفة من أولها إلى آخرها كالمرة الأولى، متجهاً نحو العتبة. وفى تلك اللحظة فتحت أمي الباب، ونادت كلبتنا نورما. إن نورما كلبة سوداء جعداء الشعر، ماتت منذ خمس سنين. هرعت الكلبة إلى الغرفة ووقفت أمام الحيوان كالمتمجدة رعباً، وتوقف الحيوان هو أيضاً عن التقدّم، لكنه ظل يتلوّى ويضرب أرض الغرفة بقدميه وطرف ذيله. إن الحيوانات لا تستبد بها مخاوف غيبية فيما أظن. ولكن بدا لي في تلك اللحظة أن في ارتياع نورما شيئاً غريباً كل الغرابة، غيبياً إلى أبعد الحدود. فكأنها أدركت مثلي أن ظهور هذا الحيوان يشتمل على سر وينذر بشؤم. فتقهقرت ببطء بينما أخذ الحيوان يتقدم محاذراً بخطى محسوبة معدودة. كانت هيئته تدل على أنه يستعد للوثوب على الكلبة من أجل أن يلسعها. ولكن نورما، رغم ذعرها ورغم أن جميع أعضائها كانت ترتعش ارتعاشًا قويًا، حدقت إلى الحيوان بعينين تفيضان حنقاً. وأخذت في لحظة من اللحظات تكشف عن أنيابها المموّجة الرهيبة شيئاً بعد شيء، ثم فتحت بوزها الضخم الأحمر، ووثبت إلى أمام، فانقضت على الحيوان بعزم شديد، وتلقفته بأسنانها. ويبدو أن الحيوان بذل جهداً كبيراً ليخلص نفسه، لأن نورما انقضت عليه ثانية وتلقفته بفكيها مرتين كأنها تحاول أن تبلعه. وقرقع الدرع متكسّراً تحت أسنانها، وظل ذيل الحيوان وقدماه في خارج فمها تتحركان تحركاً مرعباً. وفجأة صرخت نورما صرخة توجع وشكوى. فقد استطاع الحيوان أن يلسع لسانها رغم كل شيء... وانفرجت أنياب الكلبة وهي تئن من الألم، فرأيت الحيوان في فمها شبه مهشم وما يزال يتخبّط؛ ومن جسمه المبتور يسيل على لسان الكلبة سائل أبيض غزير يشبه السائل الذي يخرج من خنفساء حين تُسحق... وفي تلك اللحظة إنما استيقظت من نومي ودخل عليّ الأمير».
هنا قطع هيبوليت قراءته فجأة وكأنه يشعر بخجل:
– إنني أيها السادة لم أراجع المقالة، ويخيّل إليّ أنني ضمنتها أشياء كثيرة لا داعي إليها ولا فائدة منها، أعترف بذلك!... إن هذا الحلم..
فأسرع جانيا يقول:
– اعترافك صحيح.
– إنني أسلّم بأن ههنا إحساسات شخصية كثيرة مسرفة في الكثرة... أقصد: إحساسات لا علاقة لها إلا بشخصي...
حين قال هيبوليت ذلك كان يبدو عليه الإعياء والإرهاق، وكان يجفف عرق جبينه بمنديله.
قال ليبديف بصوت صافر:
– صحيح أيها السيد! إنك مفرط في الاهتمام بنفسك!
– ولكني أعود فأكرر أيها السادة أنني لا أجبر أحداً على الإصغاء فالذين لا يريدون أن يسمعوا يستطيعون أن ينسحبوا...
جمجم روجويين بصوت لا يكاد يُدرك:
– يطرد الناس... من بيت غيره!
وانبرى فردشتينكو يقول بعد أن لم يتجاسر أن يرفع صوته حتى ذلك الحين:
– فما قولك إذا نهضنا جميعاً لننصرف؟
فخفض هيبوليت عينيه وأمسك مخطوطته. ولكنه لم يلبث أن رفع رأسه فوراً. كانت حدقتاه تسطعان، وكانت وجنتاه مصطبغتين ببقعتين حمراوين. حدّق إلى فردشتينكو وقال له:
– أنت لا تحبني البتة!
فانطلقت ضحكات، لكن أكثر الحضور لم يستجيبوا لها. واحمر هيبوليت احمراراً رهيباً.
قال الأمير:
– يا هيبوليت، لم أوراقك واعطنيها. واذهب إلى النوم، هنا في غرفتي. سنتحدث قبل أن ننام ونستأنف الحديث غداً، ولكن على شرط أن لا تعود إلى هذه الأوراق، هل تريد؟
قال هيبوليت وهو يلقي نظرة تعبر عن الدهشة حقاً:
– أهذا ممكن؟ "
وأضاف يقول صائحاً وقد استبدّت به نوبة جديدة من اهتياج محموم:
– أيها السادة، لم يكن ما قرأته عليكم إلا جزءاً عرضياً تافهاً من قصتي، جزءاً لم أستطع أن أسيطر فيه على نفسي، وأتحكم بقلمي.. لن أقطع قراءتي بعد الآن. فمن أراد أن يصغي فليصغ...
قال ذلك وأسرع يبلع جرعة ماء، ويضع كوعيه على المائدة ليتحاشى النظرات، واستأنف يقرأ في عناد. على أن خجله لم يلبث أن تبدّد.
«إن الفكرة التي تذهب إلى أن الحياة التي لن تدوم إلا بضعة أسابيع لا تستحق من المرء أن يحياها، إنما أخذت تحاصرني منذ شهر فيما أظن، وذلك حين أصبحت أقدّر أنني لم يبق لي من الحياة إلا أربعة أسابيع. لكنها لم تستحوذ عليّ استحواذاً كاملاً إلا منذ ثلاثة أيام، في ذلك المساء الذي عدت فيه من بافلوفسك.
«لقد شعرت بنفاذ هذه الفكرة إلى أعمق أعماق نفسي أولَ مرة، يوم كنت جالساً على الشرفة في بيت الأمير فقررت أن أجرّب الحياة تجربة أخيرة. كنت قد أردت أن أرى الناس والأشجار (لنسلّم بأنني أنا الذي استعملت هذا التعبير). وكنت قد تحمست مدافعاً عن بودروفسكي «قريبي»، متوهّماً أن جميع الحضور سيفتحون لي أذرعهم ويعانقونني، وأنهم سيسألونني الصفح والعفو، وأنني سأسألهم مثل ذلك أيضاً. باختصار: لقد انتهيت من كلامي غبياً بليداً بلا عبقرية. وعندئذ إنما انكشف في نفسي ذلك «الاقتناع الكامل». وإني لأتساءل الآن كيف أمكن أن أعيش ستة أشهر بكاملها دون أن يتحقق لي ذلك «الاقتناع»! لقد كنت أعلم علم اليقين أنني مصاب بسلٍّ لا شفاء منه؛ لم أكن مأخوذاً بوهم الصحة والعافية، بل كنت أرى حالتي رؤية واضحة لكنني كنت أزداد نهماً إلى الحياة على قدر ازدياد الوضوح في معرفة واقعي ورؤية حالتي. كنت أتشبث بالحياة مزيداً من التشبث، وكنت أريد أن أطيلها على أي نحو من الأنحاء. أعترف بأنني لعلني سخطت حينذاك على القدر الغاشم المظلم، الذي كان أعمى عن رؤية وضعي وكان أصم عن سماع صوتي، والذي قرر – لا أدري لماذا – أن يسحقني سحق ذبابة. ولكن لماذا لم أكتفي بالسخط وحده؟ لماذا «بدأت» أعيش فعلاً، مع أنني أعلم أن ذلك غير مباح لي؟ لماذا انقدت لتلك المحاولة وأنا أعرف أنها لن تثمر؟ ومع ذلك انتهى بي الأمر إلى أن أصبحت لا أستطيع أن أقرأ كتباً، وعدلت عن القراءة. علام أقرأ؟ علام أتعلم ولم يبق من الحياة إلا ستة أشهر؟ إن هذه الفكرة قد جعلتني أرمي عدة مرات الكتاب الذي بدأت قراءته.
«نعم، إن حائط منزل ماير ذاك يستطيع أن يحدّث طويلاً عن هذه الأمور. لقد طبعت عليه أشياء كثيرة. ليس على هذا الحائط القذر بقعة واحدة إلا حفظتها على ظهر القلب وصرت أعرفها بالذاكرة. يا للحائط النحس! ومع ذلك فهو أغلى في نفسي وأحب إلى قلبي من جميع أشجار بافلوفسك، أو قل لا بدّ أن يكون كذلك لولا أن جميع الأمور أصبحت في نظري سواء!
«إنني أتذكر الأن شدّة اهتمامي الشره النهم بمتابعة حياتهم (هم)، لم أشعر قبل ذلك بمثل ذلك الفضول في يوم من الأيام. حتى لقد كنت أنتظر عودة كوليا على أحرّ من الجمر من نفاد الصبر وشدة الغضب في بعض الأحيان، أيام بلغ بي المرض حدّا أقعدني عن الخروج فلا أستطيع أن أغادر غرفتي. وأخذت أتسقط التفاصيل الصغيرة تسقطاً يبلغ من الشراهة، وأهتم بالأقاويل التافهة اهتماماً يبلغ من القوة، إنني أصبحت فيما أعتقد كواحد من أولئك الذين يروّجون الشائعات ويذيعون النمائم. كنت لا أفهم مثلاً كيف لا يظفر الناس الذين يملكون كل ما يملكون من حياة، كيف لا يظفرون بالغنى والشراء (والحق أنني إلى الآن لا أفهم هذا). لقد عرفت رجلا عجيبا مسكينا قيل لي، فيما بعد، إنه مات من الجوع. إني لأتذكر كيف أن هذا النبأ أثار غضبي وأخرجني عن طوري، فلو بُعث ذلك الشقي حيًّا لانقضضت أجهز عليه في أغلب ظني.
«كان يتفق لي في بعض الأحيان أن أشعر بتحسن في صحتي خلال أسابيع طويلة، فأستطيع أن أنزل إلى الشارع. غير أن الشارع أصبح يثير حنقي حتى صرت أقبع في بيتي بإرادتي أياماً كاملة. رغم أنني كان في وسعي أن أخرج كما يخرج سائر الناس. أصبحت لا أطيق أن أرى أولئك الخلق الذين يسعون ويضطربون من حولي على الأرصفة، ويغورون ويغلون، مهمومين مغمومين دائماً، متجهمين قلقين بغير انقطاع. علام يحزنون هذا الحزن السخيف المستمر، ويضطربون هذا الاضطراب الباطل المتصل، ويعبسون ذلك العبوس الحانق الذي لا يهدأ ولا يسكن (ذلك أنهم أشرار، أشرار، أشرار)؟ من المذنب إذا هم كانوا أشقياء تعساء، وإذا هم كانوا لا يعرفون كيف يحيون، مع أن آفاق أملهم في الحياة تمتد ستين عاماً إلى أمام؟ لماذا رضي زارنتسين أن يموت جوعاً، مع أن أمامه ستين سنة يمكن أن يعيشها؟ وهكذا كل واحد يبدي أسماله الرثة ويُظهر يديه الكنباوين فيغضب ويصيح متشكياً: «ها نحن أولاء نعمل كما تعمل الأبقار، ونتعب وننصب، ونجوع ونسغب كالكلاب، ونجر معنا البؤس جرًّا، بينما يوجد أناس آخرون لا يعملون، ولا يحملون أنفسهم أي عناء ثم هم أغنياء! (الأغنية الأبدية!)». وعلى موازاة هؤلاء، يسعى ويركض ويتحرك ويضطرب، من الصباح إلى المساء، كادح بائس، متغضن الوجه، لكنه «نبيل المحتد» هو إيفان فومتش سوريكوف القاطن في الطابق الذي يقع فوق طابقنا من المنزل. إن كوعي كمّيه مثقبان دائماً، وإن أزرار ملابسه مخلعة. وهو يتولى عن الناس شراء ما يحتاجونه، ويقوم بأعمال لا أدري ما هي، وينفق في ذلك يومه كله من الصباح إلى المساء. حاولوا أن تتحدثوا معه: سوف يقول لكم إنه «فقير، بائس؛ وإن زوجته ماتت لأنه لم يجد ما يشتري لها به دواء، وإن ابنه الصغير مات في الشتاء متجمّداً من البرد؛ وإن ابنته الكبرى تلتمس رزقها عند الرجال»... إنه يئن ويتوجع، ويشكو ويبكي بغير انقطاع. آه... إنني لم أشعر بأية شفقة، لا في ذلك الحين، ولا في هذا الوقت، نحو هؤلاء الأغبياء الحمقى... وأقول هذا فخوراً معتزًّا! لماذا لا يكون هذا الفرد رجلاً مثل روتشيلد؟ من المذنب إذا كان لا يملك ملايين مثل روتشيلد، إذا كان لا يملك جبلاً من الدنانير الإمبراطورية أو من الليرات الذهبية النابوليونية، جبلاً لا يقل ارتفاعه عن ارتفاع الجبل الذي نراه في المعرض أثناء الكرنفال؟ ما دام قادراً على أن يحيا، فإن كل شيء في طاقته. من المذنب إذا كان لا يفهم ذلك؟
«آه... لقد تساوت في نظري جميع الأمور الآن، ولم يبق في وقتي متسع لأن أغضب. أما في ذلك الحين، فقد كنت، كما سبق أن قلت ذلك، أعض على وسادتي حنقاً، وأمزق غطائي سخطاً وغيظاً. آه.. يا للحلم الذي كنت أحلمه حينذاك، ويا للأمنية التي كنت أتمناها! لقد كنت أتمنى راضياً مسروراً أن أرمى إلى الشارع فوراً، وأنا في الثامنة عشرة من عمري، أن أرمى شبه عار لا يكاد يسترني شيء، وأن أترك وحيداً وحدة مطلقة، بلا مسكن ولا عمل ولا لقمة عيش، ولا أهل ولا صاحب واحد، ولا أي إنسان أعرفه، في المدينة الكبيرة، جائعاً مضروباً (لا بأس!...)، ولكن صحيح الجسم غير مريض...
«ما الذي يمكنني أن أظهره في تلك الحالة؟».
«آه.. هل تتصورون أنني لا أعي مدى الانحطاط والإسفاف الذي بلغته قبل أن أقول هذا الكلام في «الشرح» الذي أقدمه؟ فمن ذا الذي لا يعدّني والحالة هذه فتى ساذجاً غرًا، غريباً عن الحياة، ناسياً أن عمري ليس ثماني عشرة سنة فحسب، لأن الذي يحيا كما حييت خلال هذه الأشهر الستة إنما يكون قد عاش إلى السن التي يشيب فيها الشعر؟ ولكن اسخروا إذا شاء لكم هواكم أن تسخروا، وانظروا إلى هذه الأشياء كلها نظرتكم إلى حكايات! وما هي في الواقع إلا حكايات حكيتها لنفسي، فملأت بها ليالي بكاملها، وإني لأتذكرها الآن جميعها.
«ولكن هل يجب عليّ أن أكررها الآن بعد أن انقضى عهد الحكايات حتى بالنسبة إلي؟ ولمن أكررها؟ لقد تلذذت بها حين رأيت بوضوح إنني ممنوع حتى عن دراسة قواعد النحو اليوناني التي خطر ببالي أن أدرسها؛ فحين قدّرت إنني سوف أموت قبل أن أصل إلى تعلم الإعراب، توقفت عن القراءة منذ الصفحة الأولى ورميت الكتاب تحت المائدة. وبقي الكتاب راقداً هناك. وحظرت على ماتريونا أن تشيله.
«إن من ستقع مقالتي هذه بين يديه، فيصبر على قراءتها حتى النهاية، قد يعدني مجنوناً، أو قد يظنني تلميذاً في المدرسة الثانوية، أو لعله يتصور أنني رجل محكوم عليه بالإعدام يتراءى له بحق أنه ما من إنسان غيره يقدر الحياة حق قدرها، وأن البشر يبعثرون الحياة ويبدّدونها بكثير من الخفة والطيش، وأنهم يستمتعون بها غير واعين، وغير مبالين أو مكترثين، وأن الملأ جميعاً، من أولهم إلى آخرهم، ليسوا إذن جديرين بها، وليسوا يستحقونها، فماذا أقول؟ أنني أعلن أن هذا القارئ سيخطئ إذا هو انقاد لهذا الظن، فآرائي ليست متأثرة أي تأثر بكوني محكوماً عليّ بالموت! اسألوهم، اسألوهم فقط، اسألوهم جميعاً بغير استثناء كيف هم يتصورون السعادة، كيف هم يفهمون السعادة؟ آه.. ثقوا أن كريستوف كولومبوس لم يكن سعيداً حين اكتشف أمريكا، بل حين أشرف على اكتشاف أمريكا، حين كان على وشك أن يكتشفها. كونوا على يقين من أن لحظة سعادته القصوى كانت قبل اكتشافه العالم الجديد بثلاثة أيام، أي حين استبدّ اليأس بصحبه فتمرّدوا وأوشكوا أن يرجعوا أدراجهم إلى أوروبا. لم يكن المقصود هو العالم الجديد. لقد مات كولومبوس وهو لمّا يكد يراه؛ وهو لم يعرف في حقيقة الأمر ماذا اكتشف. فإنما الأمر المهم هو الحياة، الحياة وحدها... المهم هو البحث المتصل عن الحياة، هو السعي الأبدي إلى الحياة، وليس اكتشاف الحياة! ولكن علام هذا الهذر؟ أغلب ظني أن هذا الكلام له من مظهر الأمور المعروفة الشائعة المبذولة ما لعله يجعل القارئ يعتقد أن مثلي كمثل تلميذ في الصفوف الدنيا من مدرسة ثانوية مكلفٍ بكتابة موضوع إنشاء عنوانه «طلوع الشمس». سوف يقال إنني ربما أردت أن أعبّر عن شيء ما، لكنني رغم كل رغبتي لم أظفر بأن «أشرح» ما بنفسي. ومع ذلك فإنني أضيف أن كل فكرة عبقرية، وأن كل رأي جديد بل وكل رأي جاد ينشأ في دماغ إنسان، أقول إن كل شيء من هذا القبيل، إنما يشتمل على بقية لا يمكن نقلها إلى الآخرين ولو وقف المرء على محاولة الإفصاح عنها كتباً بكاملها، أو ظل يقلّب الأمر على وجهه مدة خمسة وثلاثين عاماً. إن تلك البقية لن تخرج من رأسك بأي حال من الأحوال، بل ستظل باقية فيه أبد الآبدين. ستموت أنت قبل أن تستطيع نقلها إلى أحد. وربما كانت هي التي تشتمل على الشيء الجوهري من تفكيرك. فإذا لم أستطع أنا أيضاً أن أجعلكم تشعرون الآن بكل ما قاسيته خلال الأشهر الستة، فلسوف تفهمون على الأقل أنني لعلني دفعت غالياً ثمن ذلك «الاقتناع الكامل» الذي وصلت إليه الآن. ذلكم ما اعتقدت أن من الضروري أن أوضحه في هذا «الشرح» الذي أقدمه إليكم لغاية أعرفها.
«ولكن ها أنا ذا أعود إلى مجرى قصتي».
الفصل السادس
لا أريد أن أكذب. إن الواقع قد أمسكني عدة مرات في أثناء هذه الشهر، فجرفني جرفاً يبلغ من القوة أنه أنساني موتي المحتم، أو قل جعلني لا أريد أن أفكر فيه وجعلني أشرع في العمل. وسأصف الآن، في هذه المناسبة، ظروف حياتي حينذاك. منذ قرابة ثمانية أشهر، عندما تفاقم مرضي قطعت جميع علاقاتي وكففت عن رؤية رفاقي القدامى. وإذ كان مزاجي مظلما حزينا على الدوام، فإن رفاقي أولئك لم يصعب عليهم أن ينسوني. وعلى كل حال، كان يمكن أن ينسوني ولو لم أتصف بذلك المزاج المظلم الحزين. أما حياتي في البيت، أي «مع الأسرة» فقد كانت حياة اعتزال وانزواء. لقد أغلقت على نفسي الباب منذ نحو خمسة أشهر، واعتزلت ذويّ اعتزالاً كاملاً. وكانوا قد اعتادوا طاعة رغباتي والرضوخ لإرادتي، فكان لا يأذن أحد لنفسه بأن يدخل إلى غرفتي، إلا في ساعات محددة معينة لتنظيفها وترتيبها، ولإتياني بطعامي. كانت أمي ترتعش أمام أوامري، ولا تجرؤ حتى أن تبكي وتدمع بحضوري إذا اتفق لي في بعض الأحيان أن قررت السماح لها بالدخول علي. وكانت تضرب الأولاد دائماً حتى لا يحدثوا ضجة فيزعجوني. نعم، هذه هي الحقيقة. كثيراً ما كنت أشتكي من صراخهم، إنني أتخيل مدى الحب الذي لا بدّ أنهم يضمرونه لي الآن! وأعتقد كذلك أنني عذبت كثيراً صاحبي «كوليا الأمين»، (هذا هو اللقب الذي خلعته عليه) ولقد ثأر مني في الآونة الأخيرة فعذبني هو أيضاً: إن ذلك في طبيعة الأمور، فالناس إنما خلقوا ليعذب بعضهم بعضاً. ومع ذلك لاحظت أنه كان يتحمّل مزاجي السيئ، كمن آلى على نفسه أن يداري مريضاً. وقد أحنقني ذلك بطبيعة الحال. وأحسست أيضاً أنه قد قرر أن يقلد عقيدة «المذلة المسيحية» التي يعتنقها الأمير، وكان لا بدّ أن يبدو هذا سخيفاً مضحكاً بعض الشيء. إن هذا الفتى تزخر نفسه بحماسة الشباب؛ فلعله يقلّد كل ما يقع عليه بصره. ولكن بدا لي أحياناً أنه قد آن الأوان لأن يجعل من نفسه شخصية لها استقلالها، إنني أحبه كثيراً. وقد عذبت أيضاً سوريكوف، الذي يقطن فوق مسكننا، والذي يقضي يومه كله، من الصباح إلى المساء، في القيام بمهام يكلفه بها الناس! لقد أنفقت وقتاً طويلاً في محاولة إفهامه أن شقاءه لا يرجع سببه إلا إليه وحده، فخاف في النهاية حتى أصبح لا يضع قدميه في غرفتي أبداً. إنه إنسان شديد المذلة. (حاشية: يزعم بعضهم أن المذلة قوة هائلة. يجب أن أسأل الأمير توضيحاً لهذا الكلام، لأنه هو صاحب هذا التعبير). ولكن حين صعدت إليهم في شهر آذار (مارس) لأرى كيف تركوا ابنهم الصغير يموت «متجمّداً» من البرد كما قالوا، ابتسمت أمام جثة الطفل بغير إرادة، وعدت أشرح لسوريكوف «أنه هو المذنب». عندئذ أخذت شفتا الرجل المسكين ترتعشان فجأة، ثم وضع يده على كتفي وأشار بيده الأخرى إلى الباب قائلاً: «اخرج يا سيدي!». قالها برفق وهدوء، بصوت يشبه أن يكون همساً. فخرجت. وأعجبتني فعلتي كثيراً، أعجبتني حتى بعد أن طُردت. ومع ذلك ظلت كلماته خلال مدة طويلة، تحدث في نفسي كلما تذكرتها أثراً غريباً أليماً، يشبه أن يكون شعوراً بشفقة مزدرية نحوه، وهو شعور كنت أتمنى أن لا أحسه. إن هذا الرجل كان عاجزاً عن الغضب حتى حين أهين تلك الإهانة (أنا أشعر فعلاً بأنني أهنته، دون أن أقصد ذلك أو أنتويه). وإذا كانت شفتاه قد أخذتا تختلجان فإن ذلك لم يحدث له بتأثير الغضب، أحلف لكم!... لقد أمسك ذراعي ونطق بجملته الرائعة دون أي غضب: «اخرج يا سيدي!» كان في تلك اللحظة زاخراً بالكرامة، حتى أن تلك الكرامة كانت تتعارض مع جملة هيئته (وكان في هذا ما يبعث على الضحك في الواقع) لكن نفسه لم تنطوِ عندئذ على أي غضب أو حنق. لعله شعر نحوي باحتقار مفاجئ. ولقد لقيته بعد ذلك مرتين أو ثلاث مرات على سلم المنزل. فكان يسارع إلى تحيتي برفع قبعته، وذلك ما لم يكن يفعله من قبل قط؛ ولكنه أصبح لا يقف لي كما كان يقف في الماضي، وإنما هو يمر بجانبي مسرعاً خجلاً مضطرباً. فهو إذا كان يحتقرني إنما يحتقرني على طريقته، أي يحتقرني بنوع من «المذلة». ولعله كان لا يرفع لي قبعته محيياً إلا من قبيل الخوف والخشية، لأنني ابن دائنته: فهو مدين لأمي دائماً بمبلغ من المال، وهو عاجز عجزاً مطلقاً عن سداد دينه. ربما كان هذا الافتراض أقرب إلى الصحة. وقد خطر ببالي أن أناقشه في الأمر. إني لعلى يقين من أنه كان سيسألني العفو والمغفرة لو فعلت. لكنني فكرت فرأيت أن من الأفضل أن أدعه وشأنه.
«في تلك الفترة، أي في نحو منتصف شهر آذار (مارس)، حين ترك سوريكوف ابنه «يتجمّد» من البرد، شعرت أنا بتحسن كبير في صحتي، ودام هذا التحسن قرابة أسبوعين. فأخذت أخرج، عند هبوط الليل في أكثر الأحيان. إنني أحب ساعات الغسق في شهر آذار (مارس)، حين يبدأ التجلد ويشعل الغاز. وكنت أوغل في نزهاتي مسافات بعيدة أحياناً. ففي ذات يوم، مرّ أمامي في الظلام، بشارع «الدكاكين الستة»، شخص يبدو من هيئته أنه سيد، لكنني لم أتبين ملامحه تبيّناً واضحاً. كان يحمل صرّة ملفوفة بورق، وكان يرتدي معطفاً عتيقاً مهترئاً، عدا أنه معطف خفيف في مثل ذلك البرد الذي كان يسود الجو. فلما وصل إلى قرب أحد مصابيح الشارع، رأيت شيئاً يسقط من جيبه. فأسرعت أتناول الشيء الذي سقط، أسرعت أتناوله في الوقت المناسب، ذلك أن شخصاً يرتدي قفطاناً طويلاً كان قد هرع يريد تناوله، فلما رأى أنه صار في حوزتي، لم يحاول أن ينافسني واكتفى بأن ألقى نظرة على يدي ثم مضى في سبيله. كان ذلك الشيء محفظة أوراق من جلد، كبيرة الحجم قديمة الطراز، محشوة بأوراق كثيرة حتى لتكاد تنبعج؛ لكنني حزرت على الفور – لا أدري كيف! – إن المحفظة قد تحتوي على كل شيء إلا المال. كان الرجل الذي سقطت منه المحفظة قد أصبح على مسافة أربعين خطوة أمامي، فلن يلبث أن يغيب عني في زحمة الجمهور. فركضت وراءه أناديه. ولكن لما كنت لا أستطيع أن أناديه إلا بصرخة «هيه!»، فإنه لم يلتفت. وغار فجأة على اليسار في بوابة عمارة من العمارات. فلما وصلت إلى تلك البوابة التي كان يخيم فيها ظلام حالك، لم أجد هنالك أحداً. إن العمارة واحدة مر تلك المباني الضخمة التي يبنيها التجار جاعلين منها عددا كبيرا من المساكن الصغيرة. حتى إن بينها مباني تضم الواحدة منها مائة مسكن.
«حين اجتزت بوابة العمارة خيّل إليّ إنني ألمح في الزاوية اليمنى من قرارة فناء واسع رجلا كان يبتعد، لكن الظلمات جعلتني لا أرى أكثر من ذلك. فركضت حتى بلغت تلك الزاوية، فاكتشفت وجود مدخل لسلم ضيق قذر جداً، بغير إضاءة. وإذ سمعت أصوات وقع أقدام في أعلى، فأدركت أن شخصاً يرقى السلم اندفعت أصعد آملاً أن أدرك أثره حين يُفتح له الباب. وذلك ما حدث. إن فسحات السلم، متقاربة جداً، ولكن عددها بدا لي بغير نهاية، حتى لقد تقطعت أنفاسي من شدّة التعب بالركض. وسمعت صوت باب يُفتح ويغلق في الطابق الخامس. سمعت هذا حين كنت ما أزال تحت الطابق الخامس بثلاث فسحات. فقضيت بضع دقائق حتى بلغت الطابق الخامس واسترددت أنفاسي وبحثت عن جرس الباب. فجاءت تفتح لي امرأة كانت بسبيل إضرام النار في السماور بمطبخ صغير مفرط في الصغر. فاستمعت إلى أسئلتي صامتة، ولا شك أنها لم تفهم منها شيئاً، لكنها أدخلتني إلى غرفة مجاورة دون أن تفتح فمها بكلمة واحدة. هي غرفة صغيرة جداً، منخفض سقفها انخفاضاً شديداً، ولا يشتمل أثاثها الفقير إلا على الضروري الذي لا بدّ منه ولا غنى عنه.
«كان يرقد على سرير عريض ذي أسجاف، رجلٌ نادته المرأة باسم «تيرنتتش» وبدا لي ثملاً. وكان ثمة بقية من شمعة تشتعل قرب منضدة في شمعدان من حديد، إلى جانب قنينة من الفودكا توشك أن تكون فارغة. نطق تيرنتتش ببضعة أصوات غير جلية يخاطبني بها، ويومئ لي بيده إلى غرفة مجاورة، دون أن ينهض. كانت المرأة قد غابت، فلم يبق لي إلا أن أدفع ذلك الباب. وذلك ما فعلته: فتحت الباب الذي دلّني عليه ودخلت إلى الغرفة الأخرى.
«إن هذه الغرفة الأخرى أقل سعة وأكثر ازدحاماً من الغرفة الأولى، حتى إنني لم أعرف كيف أستطيع التحرك فيها. كان في الزاوية سرير ضيق يكاد يملأ الغرفة كلها. أما باقي الأثاث فلا يعدو ثلاثة كراسي عادية تكدّست عليها أنواع شتى من الأسمال البالية والأطمار الخلقة، ومائدة غليظة من موائد المطابخ وضعت أمام ديوان عتيق مغطى بقماش مشمّع، وقد تقاربت هذه الأشياء كلها تقاربا يكاد يكون التصاقا، فلا يدري المرء كيف يتسلل بين المائدة والسرير.
«وعلى المائدة كانت تشتعل شمعة في شمعدان من حديد يشبه شمعدان الغرفة الأخرى؛ وثمة طفل وليد لا يكاد يتجاوز من عمره ثلاثة أسابيع كان يصرخ راقداً على السرير، وبقربه امرأة مريضة شاحبة كانت تغير له «حفاظه» أو قل تعيد تقميطه. إن المرء ليدرك أنها خارجة من فترة النفاس. أما الطفل فهو لا ينقطع عن الصراخ، بانتظار ثدي أمه الهزيل. وعلى الديوان كان ينام طفل آخر، هو بنت في السنة الثالثة من عمرها قد ألقي عليها رداء يوحي منظره بأنه «فراك». وقرب المائدة كان يقف رجل يرتدي ردنجوتاً مهترئاً متنسّلاً (كان الرجل قد خلع معطفه ووضعه على السرير)، وهو بسبيل فضّ صرّة ملفوفة بورق أزرق فيها رطلان من خبز أسود وقطعتان صغيرتان من مقانق. وكان على المائدة أيضاً إبريق شاي ملآن، وبقايا خبز أسود. وتحت السرير يستطيع المرء أن يرى حقيبة مفتوحة ورزمتان محشوتان أسمالاً.
«الخلاصة: فوضى رهيبة! وقد أوحى إليّ السيد والسيدة منذ النظرة الأولى أنهما شخصان محترمان، ولكن الفقر المدقع هو الذي هوى بهما إلى هذه الحالة من التردّي التي تصبح الفوضى فيها أمراً مفروضاً يكف المرء عن مقاومته ثم يألفه ويعتاده، وينتهي به الأمر لا إلى العجز عن الاستغناء عنه فحسب، بل كذلك إلى أن يجد في تزايده يوماً بعد يوم لذة مريرة من لذائذ الانتقام لا أدري ما هي!
«كان السيد حين دخلت بعيد دخوله يفضل حزمة ما اشتراه من طعام ويتحدث إلى امرأته بلهجة فيها كثير من اهتياج الأعصاب. ولم تكن السيدة قد فرغت من تقميط الوليد، وكانت قد أخذت عيناها تدمعان بكاء. من الجائز أن الأنباء التي حملها إليها زوجها كانت سيئة كالعادة. وظهر لي السيد رجلاً محترماً يُطمأن إليه بل ويؤنس به. إنه في نحو الثامنة والعشرين من عمره، أسمر اللون، جاف البشرة، محلوق شعر الذقن، إلى لحيتين صغيرتين في العارضين. كان مكفهر الوجه عابس النظرة، ولكن على شيء من كبرياء مرضية يسهل أن تثور. ولقد أحدث وصولي مشهداً غريباً.
«إن من الناس من يجدون في اهتياجهم لذة عظمى ولا سيما حين يبلغ هذا الاهتياج أعلى ذروة له (وهذا ما يحدث لهم بسرعة)؛ حتى ليمكن أن يُقال إن إيذاءهم وإهانتهم في مثل تلك اللحظة أحب أليهم من أن لا يُلحق بهم أذى ولا تُنزل فيهم إهانة. لكن هؤلاء الأشخاص الغضوبين يشعرون بعد ذلك بآلام الندامة، هذا إذا كانوا أذكياء طبعاً وكانوا قادرين على أن يدركوا أنهم اندفعوا اندفاعاً أقوى عشر مرات من الاندفاع الذي يقبله العقل.
«نظر إليّ الرجل خلال لحظة مذهولاً، بينما كان وجه امرأته يعبر عن الفزع، كأن ظهور كائن إنساني في غرفتهم حادث رهيب!! ولكنه لم يلبث فجأة، قبل أن يتسع وقتي لأن أقول كلمتين، لم يلبث أن هجم عليّ بنوع من الحنق المسعور. لقد جرح شعوره كثيراً أن يرى رجلاً حسن الثياب لائق الهندام يسمح لنفسه بأن يدخل إلى مسكنه الحقير بغير كلفة أو تحرّج، فيأخذ يتأمل بنظراته هذا البيت الحقير الذي يشعر هو نفسه منه بخجل وعار. ولا شك أن هذه الفرصة التي أتيحت له، وهي أن يصب على شخص من الأشخاص ما كان يعتمل في نفسه من غضب سببه ضروب الإخفاق التي يمنى بها، أقول لا شك أن هذه الفرصة قد أحدثت له لذة؛ حتى لقد اعتقدت ففي لحظة من اللحظات أنه سوف يضربني. شحب وجهه كشحوب وجه امرأة أصابتها نوبة هستريا، فارتاعت زوجته من ذلك ارتياعا شديدا.
«صرخ يقول مرتجفا مرتعشا حتى ليكاد يعجز عن النطق بكلماته:
– كيف تجاسرت أن تدخل هكذا! اخرج!
ولكنه سرعان ما رأى محفظته في يديّ.
قلت بلهجة فيها أكثر ما يمكن من هدوء وجفاف (وتلك هي اللهجة المناسبة في هذا المقام على كل حال):
– أحسب أن هذه المحفظة قد سقطت منك.
«ظل الرجل واقفاً أمامي بعض الوقت مروّعاً مذعوراً كأنه لا يفهم شيئاً. ثم تلمس جيبه بحركة سريعة، وفتح فمه مشدوهاً، والطم جبينه، وقال:
– عثرت عليها؟ كيف عثرت عليها؟
فشرحت له بكلمات قليلة وبلهجة أكثر جفافاً كيف التقطت المحفظة بعد سقوطها منه، وكيف ركضت وراءه منادياً إياه بغير طائل، وكيف تعقّبته صاعداً درجات السلم أربعاً أربعاً، على غير هدى وبدون يقين، وإنما بنوع من الظن والتخمين.
«صاح يقول متجهاً إلى امرأته:
– هذه أوراقي! هذه آخر ما أملك من وسائل! هي كل ما بقي لي!
«وأضاف يقول لي:
– آه يا سيدي!!... هل تعلم ما أسديت إليّ من جميل؟ لولا أنك عثرت لي على هذه الأوراق لضعت وهلكت!...
«في أثناء ذلك كنت قد أمسكت زر الباب لأخرج دون أن أجيب، لكنني شعرت باختناق وألمّت بي نوبة سعال مفاجئة بلغت من القوة والشدّة أنني أصبحت لا أكاد أستطيع الوقوف على قدمي! ورأيت السيد يلتفت إلى كل جهة ليجد لي كرسياً خالياً. ثم يعمد إلى أحد المقاعد فينزع كل ما كان ملقى عليه من أطمار ويرميها إلى الأرض ويجلسني على الكرسي بسرعة ولكن على حذر. وطال سعالي ثلاث دقائق أخرى على الأقل. فلما ثبت إلى نفسي كان جالساً بجانبي على كرسي آخر لا شك أنه أخلاه هو أيضاً مما كان عليه من أسمال، وكان ينظر إليّ محدقاً.
«قال لي باللهجة التي يتكلم بها الأطباء عادة حين يواجهون مرضاهم:
– ظاهر عليك أنك... مريضّ... إنني... طبيب. (لم يستعمل كلمة «دكتور»).
«قال ذلك وأشار لي إلى الغرفة كأنما ليحتج على ما هو فيه من ظرف خاص ووضع شاذ. وأضاف:
– أرى أنك...
فقلت موجزاً وأنا أنهض:
– أنا مريض بالسل...
«فنهض هو أيضاً بوثبة. وقال:
– لعلك تبالغ... إنك إذا عالجت مرضك..
«لقد كان مضطرباً أشد الاضطراب فلا يستطيع أن يثوب إلى نفسه. وكان يحمل المحفظة بيده اليسرى.
قاطعته من جديد، وأنا أمسك زر الباب:
– لا تقلق... لقد فحصني الدكتور «بـ...ـين» في الأسبوع الماضي، ومسألتي واضحة (هنا أيضاً ذكرت اسم «بـ...ـين») معذرة!
«وأردت أن أفتح الباب فأخرج تاركاً الطبيب خجلان ممتناً يسحقه الشعور بالعار، لكن سعالي اللعين رجع يمسك بخناقي في تلك اللحظة نفسها. فعاد الدكتور يجلسني وألحّ عليّ أن أرتاح. والتفت نحو امرأته فوجّهت إليّ امرأته بضع كلمات لطيفة عبرت بها عن الشكر والامتنان، دون أن تتحرك من مكانها. وقد بلغت من الاضطراب أثناء ذلك أن خديها الجافين الحائل لونهما تخضّبا بحمرة شديدة. وبقيت لكن هيئتي كانت هيئة من يريد أن يظهر في كل لحظة بمظهر من يخاف أن يكون وجوده مزعجاً (تلك هي الهيئة المناسبة اللائقة). ولاحظت أن الندم قد أخذ يعذب صاحبي الدكتور آخر الأمر.
«بدأ يتكلم فقال وهو يقاطع نفسه في كل لحظة قافزاً من جملة إلى جملة قفزا:
– لو أنني... أنا أشكر لك جميلك أجزل الشكر... وقد أسأت إليك إساءة بالغة... إنني... أنت ترى... (أراني الغرفة من جديد)... إنني الآن... في وضع...
قلت:
– كل شيء واضح. لا جديد في الأمر. لعلك فقدت وظيفتك فجئت إلى العاصمة تشرح أمرك وتلتمس وظيفة أخرى، أليس كذلك؟
سألني مدهوشاً:
– من أين.. عرفت هذا؟
قلت بلهجة ساخرة غير مقصودة:
– هذا يُرى من أول نظرة. كثير من الناس يصلون من الأقاليم بآمال كهذه الآمال. يبذلون جهوداً ويقومون بمساع، ويعيشون حياتهم هكذا، يوما بيوم...
«فأخذ يتكلم بحرارة مفاجئة، وكانت شفتاه تختلجان. يجب أن أقول إن شكاواه وقصته قد أثرت في نفسي. مكثت عنده قرابة ساعة. قص على حكايته، وهي لا تحوي شيئاً خارقاً على كل حال. إنه موظف بالأقاليم في خدمة الدولة، وقع ضحية دسائس ومكائد أقحم فيها حتى اسم زوجته. ثارت كبرياؤه وتمردت أنفته وعيل صبره. وحدثت عندئذ تنقلات في أعضاء هيئة الموظفين تناسب خصومه، فأخذ خصومه يدسون الدسائس ويدبرون المكائد. وقدّمت في حقه شكوى. واضطر أن يترك وظيفته وأن يمضي بآخر ما يملك من مال إلى بطرسبرج ليشرح أمره، ويبرهن على براءته. وطال مكوثه بطرسبرج قبل أن يظفر بمقابلة المسؤول. ثم أُصغي إليه، وصُرف بخشونة، بعد أن بُذلت له وعود؛ لقد عومل بقسوة، ثم أُمر بأن يعرض قضيته كتابة، ثم رُفض استلام عريضته المكتوبة، ثم طلب منه أن يقدم التماساً، إلخ إلخ. الخلاصة أنه ظل يركض خمسة أشهر أكل خلالها كل ما كان يملك من بقية مال، حتى إنه رهن أثواب زوجته إلى آخر واحد منها. وفي تلك الآونة إنما ولد لهما ولد! و... و... «اليوم أُبلغت رفض التماسي رفضاً حاسماً. لم يبق لي خبز إن صح التعبير، لم يبق لي شيء البتة، وامرأتي ناهضة من نفاسها. إنني.. إنني...».
وانتصب واقفاً على حين فجأة، وأشاح وجهه. كانت امرأته تبكي في أحد الأركان. وعاد يصرخ. ففتحت دفتري الصغير وأخذت أدوّن فيه بضع كلمات. فلما فرغت من ذلك ونهضت، رأيته مغروسا أمامي ينظر إليّ باستطلاع خائف. قلت له:
– لقد دوّنت اسمك وسائر الأمور: المكان الذي كنت تعمل فيه، واسم حاكم الإقليم، والتواريخ والأشهر. إن بين رفاقي في المدرسة شاباً اسمه باخموتوف، وعمّه مستشار دولة ومدير قسم، هو بيتر ماتفئفتش باخموتوف...
هتف الطبيب يقول بنوع من الارتجاف:
– بطرس ماتفئفتش باخموتوف؟... إن القضية كلها متوقفة عليه مرهونة به!...
«الحق أن كل شيء في قصة هذا الطبيب والنهاية التي اختُتمت بها، وهي نهاية شاركت أنا فيها على هذا النحو الذي لا يخطر بالبال، إن كل شيء قد تسلسل وترتب كما تتسلسل الأمور وتترتب في رواية من الروايات وفقاً لخطة موضوعة.
«طلبت من هذين المسكينين أن لا يبنيا أي أمل على كلامي، لأنني لست أنا نفسي إلا تلميذاً فقيراً في المدرسة الثانوية (تعمّدت أن أضخم وضاعة شأني، والحق أنني كنت قد أنهيت دراستي في المدرسة الثانوية منذ مدة طويلة). وأضفت أنهما ليسا في حاجة إلى أن يعرفا اسمي، ولكنني ذاهب فوراً إلى فاسيلفسكي أوستروف لأرى رفيقي باخموتوف؛ وأنا واثق أن عمه، مستشار الدولة، وهو رجل متقدم في السن ولكنه لم يتزوج وليس له أولاد، يحب ابن أخيه حبًا عظيماً يبلغ درجة الوَلَه، لأنه يعدّه آخر نسل الأسرة. وقلت أختام كلامي إن هذا الرفيق سوف يستطيع أن يساعدكما بالتأثير في عمه، إرضاء لي.
«هتف الطبيب يقول مرتجفاً كأن به حمى، بينما كانت عيناه تلتمعان:
«لا أريد إلا أن يُسمح لي بشرح أمري أمام صاحب السعادة! ليتني أظفر بأن أستطيع الحصول على شرف عرض ظلامتي وبسط شكواي له!
«نعم، هذا هو التعبير الذي استعمله: «ليتني أظفر بأن أستطيع الحصول على شرف...»، وبعد أن كررت مرة أخرى أن المسعى قد يخفق حتماً، وأن جميع جهودنا قد تظل عقيمة، أضفت أعلن أن عليهما، إذا لم أجئ إليهم في صباح غد، أن يفهما أن المسعى لم يثمر، فلا يتوقعا شيئاً. لن أنسى، ما حييت، تعبير وجهيهما حينذاك. وركبت عربة ومضيت إلى فاسيلفسكي أوستروف رأساً.
«كنا قد عشنا في عداوة متصلة، أنا وباخموتوف هذا، خلال. عدة سنين بالمدرسة. كان يُعدّ عندنا أرستقراطياً؛ أو هذا على الأقل ما وصفته أنا به. كان دائماً حسن الهندام أنيق الملبس، يصل إلى المدرسة بمركبته الخاصة. لم يكن متكبراً أو متعجرفاً. كان رفيقاً ممتازاً، مشرق المزاج حلو المعاشرة دائماً، فكه الحديث مرح النكتة حاضر البديهة أحياناً، دون أن يكون ذا ذكاء عظيم ونباهة كبيرة. ومع ذلك كان هو الأول ترتيباً في الصف على الدوام؛ ولم أحصل أنا على الدرجة الأولى في أي شيء يوماً. وكان جميع زملائه يحبونه، إلا أنا. وقد حاول التودد إليّ مراراً خلال السنين التي قضيناها في المدرسة معاً، لكنني كنت في كل مرة أشيح وجهي عنه متجهما حانقا.
«إنني لم أره منذ نحو سنة. هو الآن في الجامعة، فلما دخلت عليه في نحو الساعة التاسعة من المساء (ولم أدخل عليه بدون رسميات، فإن الخدم قد هبوا إليه يبلغونه حضوري)، استقبلني في البداية مدهوشاً، بل استقبلني بغير كبير بشاشة لكنه لم يلبث أن استردّ مرحه المعهود فيه، وانطلق يضحك فجأة وهو ينظر إلي. ثم هتف يسألني بطريقته المألوفة التي تمتاز برفع الكلفة وروح المودّة:
– ماذا أصابك حتى خطر بالك أن تزورني؟
«إن في لهجته شيئاً من الجسارة وقلة التحرّج دائماً، لكنها لا تكون مهينة أو مؤذية في وقت من الأوقات. تلك سمة من سماته كنت أحبها فيه، وكانت مع ذلك سبب كرهي له. وصاح يسألني مذعورا:
– ولكن ماذا بك؟ أأنت مريض إلى هذه الدرجة؟
«كان السعال قد استبدّ بي، فتهالكت على كرسي، ولم أستطع أن استردّ تنفسي إلا بكثير من العناء.
«قلت له:
– لا تقلق! إنني مريض بالسل. لي عندك رجاء.
«جلس مدهوشاً، وأخذت أقص عليه حكاية الطبيب كاملة، وقلت له إنه قد يستطيع أن يصنع لهذا المسكين شيئاً، وذلك لما له على عمّه من نفوذ. قال:
– سأفعل، سأفعل حتماً! سأتوسط لدى عمّي منذ الغد. بل إنني لمغتبط جداً؛ ما كان أحلى أسلوبك في سرد القصة كلها. ولكن كيف راودتك فكرة الاعتماد عليّ رغم كل شيء يا تيرنتيف؟
– إن كل شيء في هذه القضية متوقف على إرادة عمّلك ومرتهن بمشيئته. إننا يا باخموتوف قد كنا عدوّين دائماً، لكنني لما أعرفه من نبل قلبك وشهامة طبعك قدّرت أنك لن ترفض رجاء لعدو.
«كذلك أضفت أقول بلهجة فيها قليل من سخرية. فهتف يقول وهو ينفجر ضاحكاً:
– مثل نابليون الذي اعتمد على كرم إنجلترا!..
«وإذ رآني أنهض جادّ الهيئة قاسي الوجه، أسرع يضيف قوله:
– سأفعل اللازم، سأفعل اللازم! بل سأذهب الآن فوراً إذا أمكن!
«وبالفعل، سُوّيت القضية على نحو لم يكن في الحسبان قط، سوّيت تسوية نالت رضانا كاملاً. فما هي إلا ستة أسابيع حتى حصل صاحبنا الطبيب على وظيفة جديدة في إقليم آخر، مع دفع نفقات الانتقال، بل وتقديم مساعدة مالية. وأظن أن باخموتوف قد حمل الطبيب على أن يقبل منه سلفة على سبيل الاقتراض. وأخذ يزوره كثيراً (بينما قطعت أنا زياراتي عامداً. وكنت، إذا اتفق أن زارني الطبيب مصادفة، أستقبله استقبالاً يكاد يكون جافاً). وقد لقيت باخموتوف أثناء تلك الأسابيع الستة مرة أو مرتين، ثم التقينا مرة ثالثة حين احتفلنا بسفر الدكتور. لقد دعا باخموتوف صاحبنا الطبيب إلى عشاء وداع مع شمبانيا. وحضرت زوجة الطبيب العشاء، لكنها تركتنا في ساعة مبكرة لتمضي إلى العناية بالطفل. كان ذلك في بداية شهر أيار (مايو). المساء جميل، قرص الشمس الضخم يغيب في الخليج. أوصلني باخموتوف إلى بيتي عائداً. مررنا بجسر نيقولا، وكنا ثملين بعض الثمل كلانا. حدثني عن ابتهاجه العظيم بالنهاية التي انتهت إليها قضية الطبيب. شكر لي لا أدري ماذا. وصف لي الارتياح الذي يحسه بعد أن صنع خيراً، وقال إن الفضل في هذا كله يرجع إلي. أعرب عن اعتقاده بخطأ أولئك الكثيرين الذين يذهبون في هذه الأيام إلى أن صنع الخير الفردي لا قيمة له.
«فاستولت عليّ أنا أيضاً رغبة في الكلام لا سبيل إلى مقاومتها. فبدأت أتكلم فقلت:
– إن من يأخذ على عاتقه أن يقوم بعمل بر فردي، يسيء إلى طبيعة الإنسان ويهين الكرامة الشخصية لمن أحسن إليه. على أن تنظيم «الإحسان الاجتماعي» ومسألة الحرية الفردية أمران مستقلان، لا ينفى أحدهما الآخر. إن أعمال البر الفردية تظل باقيةً لأنها تقابل حاجة لدى الإنسان هي حاجة حية إلى أن يكون لفرد تأثير مباشر في فرد آخر. كان يعيش بموسكو جنرال عجوز، أقصد «مستشار دولة» اسمه اسم ألماني. لقد قضى حياته يزور السجون والمجرمين. حتى صارت كل مجموعة من المحكوم عليهم بالسجن الذين يستعدون للترحيل إلى سيبريا، تعرف مقدماً أن هذا الشيخ الطيب سيزورها في «جبل العصافير» . وكان الرجل يقوم بمهمته تلك في كثير من الجد والتقوى. يصل إلى المكان فيستعرض جميع السجناء المصطفين حوله، يقف أمام كل واحد منهم، ويسألهم عن حاجاتهم، ولا يحاول أن يلقي عليهم دروساً في الأخلاق ناصحاً أو واعظاً، ويناديهم جميعاً بقوله: «يا أصدقائي»؛ ويوزع عليهم مالاً، ويرسل إليهم أمتعة مما لا غنى عنه: جوارب تدفئ أرجلهم وشيئاً من قماش، ويأتيهم في بعض الأحيان بكتب دينية صغيرة يسلمها للذين يعرفون القراءة، مقتنعاً اقتناعاً عميقاً بأنهم سيقرأونها أثناء الطريق وسينقلون مضمونها للذين لا يعرفون القراءة.... وكان يندر أن يسألهم عن الجرائم التي ارتكبوها. وإنما هو يصغي، في أكثر تقدير، لكلام أولئك الذين كانوا يحبون من تلقاء أنفسهم أن يسروا إليه بأمرهم.. وكان لا يفرق بين المجرمين أي تفريق، بل يساوي بينهم مساواة تامة. وكان يكلمهم كما يكلم أخوة؛ وكانوا ينتهون هم أنفسهم إلى أن يعدّوه أباً. فإذا لاحظ في جماعة امرأةً تحمل على ذراعيها طفلا اقترب منها فلاعب الطفل وصفق له بأصابعه كي يضحكه. هكذا قضى حياته الطويلة إلى أن مات. وظفر بأن يكون معروفاً في روسيا وفي سيبيريا كلها، لدى السجناء على الأقل. وقد حدثني رجل كان في سيبيريا فوصف لي كيف كان أعتى المجرمين يتذكرون هذا الجنرال، مع أن هذا الجنرال كان حين يزور فرن المرحّلين يندر أن يستطيع إعطاء كل واحد منهم أكثر من عشرين كويكاً. صحيح أن هؤلاء الأفراد كانوا لا يتحدثون عن الجنرال بألفاظ فيها كثير من الحماسة والحرارة، حتى ولو بلهجة فيها كثير من الجد. كان واحد من هؤلاء «الأشقياء»، وهو مجرم فظيع لعله قتل دستة رجال أو ذبح ستة أطفال لا لسبب غير حب التلذذ بالقتل (يقال إن هناك أوغادا من هذا النوع) كان يتنهد من حين إلى حين ويهتف متسائلاً: «تُرى ماذا الذي صار إليه ذلك الجنرال الطيب؟ من يدري أما يزال حياً أم مات؟!...». كان هذا الخاطر يدور برأسه دون أي سبب ظاهر، ربما مرةً واحدة خلال عشرين سنة، وربما مع ابتسامة تطوف بشفتيه أيضاً، ثم لا شيء غير ذلك! ولكن من كان يدري أن «الشيخ الطيب» قد زرع في هذه النفس بذرة ستبقى فيها إلى الأبد، وسيحتفظ الرجل بذكراها عشرين عاماً؟ هل تستطيع أن تعرف يا باخموتوف ما يحدثه هذا التواصل بين إنسان وإنسان من تأثير في مصير الآخر؟ إن ههنا حياة بكاملها، وعدداً لا نهاية له من التفرعات تغيب عنا ولا تبدو لأبصارنا. إن أمهر لاعب من لاعبي الشطرنج وأبعد واحد منهم نظراً لا يستطيع أن يتنبأ إلا بعدد محدود من الضربات التي سيجيئ بها خصمه. لقد حدثونا عن لاعب فرنسي كان يستطيع أن يحسب عشر ضربات سلفاً، فكان حديثهم عنه يشبه أن يكون حديثاً عن معجزة خارقة. فما أكثر الضربات والتركيبات التي تغيب عنا فلا تظهر لأبصارنا في الحالة التي نحن بصدد الكلام عليها الآن! إنك حين تزرع البذرة، حين تقوم بعمل «البر والإحسان» في أي صورة، حين تقوم بفعل الخير الذي تقوم به، إنما تهب جزءاً من شخصيتك وتأخذ جزءاً من شخصية الآخر. فيكون بين وجوديكما تواصل. ويكفي أن تنتبه قليلاً حتى تكافأ عن ذلك بالمعرفة، تكافأ باكتشافات لم تدر في خلدك قط. ولا بد أن تنتهي في الختام حتماً إلى أن تعد عملك الطيب علماً، فهو يسيطر على كل حياتك وربما ملأها تماما.
«ثم إن جميع أفكارك وجميع البذور التي زرعتها ولعلك نسيتها سوف تمتد لها في الأرض جذور، وسوف تنمو وتكبر. إن من أخذها عنك سينقلها إلى غيرك. من ذا الذي يعرف أي نصيب ستنال من حل المشكلات التي يتوقف عليها مصير الإنسانية؟ وإذا استطاعت معرفتك وحياة كاملة موقوفة على هذا النوع من العمل أن ترفعك أخيراً إلى ذرى تستطيع وأنت فيها أن تبذر بذوراً كثيرة وأن تورث الكون فكرة كبيرة، فلسوف... إلخ إلخ، تكلمت كثيرا في ذلك اليوم.
«هتف باخموتوف يقول كمن يوجه لوما عارما إلى شخص ثالث:
– ثم تظن بعد ذلك أن الحياة ممنوعة عنك محظورة عليك!
«كنا في تلك اللحظة متكئين بكوعينا على إفريز الجسر، وكنا ننظر إلى نهر نيفا. فقلت وأنا أميل مزيداً من الميل فوق الدرابزين:
– أتعرف ماذا خطر ببالي:
«فصاح باخموتوف يقول شبه مذعور:
– أن تلقي بنفسك في الماء؟
«لعله كان قد قرأ هذا الخاطر في وجهي. قلت:
– لا. إنني الآن أكتفي بالتفكير على النحو التالي: لقد بقي لي من الحياة شهران أو ثلاثة أشهر، وربما أربعة. ولكن فلننظر، مثلاً، إلى اللحظة التي لا يكون قد بقي لي فيها إلا شهران، ولنفرض أنني في تلك اللحظة أردت أن أقوم بفعل خير يتطلب مني جهداً، ويقتضيني أن أذهب وأجيء مرات ومرات، ويسبب لي متاعب من نوع المتاعب التي سببتها لي قضية صاحبنا الدكتور. سوف يكون عليّ في هذه الحالة أن أعدل عن القيام بذلك العمل الطيب لضيق الوقت، وأن أسعى إلى عمل طيب آخر يكون أقل شأناً ويكون في طاقتي أن أعمله (هذا إذا كان هوى القيام بأعمال الخير قد استبدّ بي إلى هذا الحدّ). فكرة مسلية، أليس كذلك؟
«كان باخموتوف المسكين شديد القلق عليّ. فأوصلني إلى مسكني، وكان لَبِقاً فلم يعتقد أن عليه أن يعزيني ويواسيني، بل لزم الصمت طول الوقت تقريباً. وحين ودعني شدّ على يدي بحرارة واستأذنني في أن يزورني. فأجبته بأن مجيئه إلي، إذا كان يريد أن يجيء إليّ «مواسياً ومعزياً» (ذلك أن زيارته، وإن كانت صامتة، سيكون هدفها المواساة والعزاء، وقد شرحت له هذا) لن يكون في نظري أكثر من تذكير بالموت الوشيك. فهزّ كتفيه، ولكنه وافقني على صواب رأيي. وافترقنا على بشاشة ومجاملة، وذلك ما لم أكن أتوقعه.
«في أثناء ذلك المساء، وفي خلال الليلة التي أعقبته، إنما نبت في نفسي «اقتناعي الأخير». تشبّثت تشبثاً نهماً بتلك الفكرة الجديدة، وأخذت أحللها بحرارة وحماسة، وأقلّبها على جميع وجوهها، وأتعقبها في جميع انعطافاتها (لم أنم في تلك الليلة). فكلما تعمّقتها مزيداً من التعمّق، وكلما نفذت إليّ مزيداً من النفاذ، امتلأت من ذلك بمزيد من الجزع. ثم استولى عليّ ذعر فظيع لزمني ولم يبارحني طوال الأيام التالية. إنني في بعض الأحيان، ما إن أتذكر ذلك الذعر حتى ينتابني هلع جديد يجمّدني تجميداً. وخلصت من ذلك إلى أن «اقتناعي الأخير» قد ترسخ في نفسي ترسخاً يبلغ من القوة أنه يستحيل أن لا يصل بي إلى خاتمة. ولكنني لم أملك من الجرأة ما يكفيني لأعزم أمري وأتخذ قراري. وبعد ذلك بثلاثة أسابيع كانت تلك التعللات والتهرّبات قد انقطعت، ورجعت إلى جرأتي، ولكن ذلك إنما حدث في أعقاب ظرف غريب كل الغرابة.
«إنني أذكر هنا، في هذا الشرح، جميع هذه الأرقام وجميع هذه التواريخ. ولا شك أن ذلك لن يعنيني فيما بعد، أما «الآن» (وربما في هذه اللحظة وحدها)، فإنني أريد من أولئك الذين سيحكمون على عملي أن يتصوّروا تصوّراً واضحاً تسلسل الاستنتاجات المنطقية التي بها وصلت إلى «اقتناعي الأخير».
«قلت إنني اكتسبت الجرأة الحاسمة التي كانت تعوزني لأضيع ذلك «الاقتناع الأخير» موضع التنفيذ، اكتسبتها لا بطريق الاستنتاج المنطقي فيما أعتقد بل في أعقاب صدمة غير متوقعة، على أثر حادث غير عادي كان يمكن أن لا يكون له أي صلة بمجرى القضية.
«فمنذ نحو عشرة أيام زارني روجويين بمناسبة تتعلق به ولا مجال للحديث عنها هنا. لم أكن قد رأيته قبل ذلك في يوم من الأيام، ولكنني كنت قد سمعت عنه كلاماً كثيراً. أعطيته جميع المعلومات التي كان في حاجة إليها، فلم يلبث أن انصرف. وإذ إن ذلك كان هو الهدف الوحيد من مسعاه، فقد كان يمكن أن تقف الأمور بيننا عند هذا الحد. لكن الرجل أثار اهتمامي إثارة قوية، فظللت طوال النهار فريسة خواطر وأفكار بلغت من الغرابة إنني قررت أن أزوره في الغد. فلما دخلت عليه لم يخف استياءه من رؤيتي، وأفهمني «بكياسة ولباقة» أن علاقاتنا يجب أن لا تطول. ومع ذلك قضيت عنده ساعة كانت شائقة لي وله على السواء فيما أظن. إن التعارض بيننا يبلغ من القوة أننا لم نستطع لا أنا ولا هو إلا أن نلاحظ ذلك، وقد لاحظته أنا خاصة. أنا إنسان أيامه معدودة، وهو رجل زاخر بحياة مندفعة، مستسلم استسلاماً تامًا لهوى اللحظة الحاضرة، لا تهمه الاستنتاجات «الأخيرة» أو الأرقام أو أي شيء، ولا يعنيه أمر مما... مما... مما لا شأن له بموضوع هواه وجنونه. فليغفر لي السيد روجويين هذا التعبير وليرجعه إلى الخراقة لدى كاتب ضعيف في الإفصاح عما يجول في فكره. لقد أحسست أثناء لقائي بالسيد روجويين، رغم قلة بشاشته وتودّده، أنه رجل ذكي، قادر على أن يفهم أموراً كثيرة، وإن كان لا يعنيه شيء مما لا يتصل به مباشرة. لم أشر أمامه أية إشارة إلى «اقتناعي الأخير»، لكنني أدركت من بعض العلاقات أنه قد كفاه أن يسمع كلامي حتى يحزره. لقد كان ساكتا لا يتكلم. إن هذا الرجل صموت صمتا هائلا. وقلت له عند انصرافه إنه هو نفسه، رغم الفروق التي بيننا ورغم التعارض الذي يفصلنا – الأطراف القصوى تلتقي كما يقول الفرنسيون – (ترجمت له هذا التعبير الفرنسي إلى الروسية)، أقول إنه رغم ذلك قد لا يكون بعيداً عن هذا «الاقتناع الأخير» إلى الحد الذي يُظن، فلم يجبني إلا بتصعيرة في وجهه زاخرة بالمرارة، ثم نهض ومضى يأتيني بقبعتي متظاهراً بالاعتقاد أنني أتهيأ للانصراف. وبحجة أنه يوصلني إلى الباب أدباً ولباقة، لم يزد في الواقع على أن طردني من بيته المتجهم طرداً. ولقد عجبت لبيته هذا فعلاً: «لكأنه مقبرة. ولكنني أظن أنه يعجبه ويرضيه. وهذا شيء يفهمه المرء بسهولة: فإن روجويين يعيش حياة أزخر بالعنف وأقوى اتصالاً بالأمور المباشرة من أن يشعر بحاجة إلى جو في البيت أبهج وألطف.
«أرهقتني زيارتي تلك لروجويين. ثم إنني كنت أشعر بتعب منذ الصباح. حتى إذا كان المساء أحسست بإعياء شديد وضعف كبير فتمددت على سريري. كانت حمى عنيفة تنتابني في بعض اللحظات حتى لتجعلني أهذي. ولبث كوليا بقربي حتى الساعة الحادية عشرة. وأنا أتذكر مع ذلك كل ما قاله لي وكل الأمور التي تكلمنا عنها. ولكن حين كانت تطبق أجفاني من حين إلى حين فأغفو قليلاً، فإن صورة إيفان فومتش كانت تعود إليّ دائماً، فأراه في الحلم وقد أصبح مليونيراً، وأراه لا يدري ماذا يصنع بملايينه، فهو لا يبرح يحفر في رأسه باحثاً لها عن مكان، ثم يخطر بباله أن من الممكن أن تُسرق فيرتجف خوفاً وينتهي به الأمر إلى أن يقرر دفنها. فأنصحه بأن يصهر هذه الثروة بدلاً من أن يدفنها في غير طائل، ثم يصنع منها تابوتا ذهبيا صغيرا للطفل الذي تركه يموت «متجمدا» من البرد، وذلك بعد أن يخرج رفاته من القبر؛ فيستقبل سوريكوف هذه النصيحة الساخرة بدموع شكر وعرفان، ويسرع يضعها موضع التنفيذ. فأبصق على الأرض تعبيراً عن الشعور بأنه امرؤ لا سبيل إلى إصلاحه، وأدعه حيث هو وأمضى. وقد أكد لي كوليا، حين استرددت وعيي استرداداً كاملاً، أنني لم أنم البتة، وأنني ما انفككت أكلمه عن سوريكوف طوال الوقت. ومرّت لحظات اجتاحتني فيها نوبات غم رهيب واضطراب فظيع، لذلك تركني كوليا وهو يشعر بقلق. ونهضت أغلق الباب وراءه بالمفتاح، فتذكرت في تلك اللحظة، على حين فجأة، لوحة كنت رأيتها في ذلك الصباح عند روجويين، في إحدى الصالات المعتمة المظلمة من منزله فوق باب من الأبواب. لقد أرانيها هو نفسه حين مررنا بها، فلبثت واقفاً قرابة خمس دقائق – فيما أذكر– أمام تلك اللوحة التي ألقتني إلى حالات اضطراب عنيف رغم خلوّها من أية قيمة فنية.
«كانت اللوحة تمثل المسيح لحظة إنزاله عن الصليب. إن الرسامين، إذا لم يخطئ ظني، إنما اعتادوا أن يصوروا المسيح إما على الصليب وإما بعد نزوله عنه، مع وميض جمال في وجهه يفوق الطبيعة. إنهم يحرصون على أن يحتفظوا له بذلك الجمال حتى في وسط أشد أنواع العذاب قسوة. أما اللوحة التي رأيتها عند روجويين فلم يكن فيها شيء من هذا. إنها تصوير كامل لجثمان إنساني يعبر عن جميع العذابات التي لا حدود لها مما احتمله المسيح حتى قبل صلبه. ففيها آثار الجروح وآثار اللطمات والضربات التي أمطره بها حراسه والناس حين كان يحمل صليبه ويسقط على الأرض تحت وطأة ثقله؛ وفيها أخيراً آثار الصلب خلال ست ساعات (إذا صدق حسابي أنا على الأقل). هذا حقاً وجه إنساني أنزل عن الصليب «منذ برهة». إنه ما يزال يحتفظ بكثير من الحياة والحرارة. ولم يكن التجمّد قد فعل فعله بعد، فكان وجه الميت ما يزال يصوّر الألم كأنه ما انفك يعانيه (لقد أدرك الفنان هذا إدراكاً قوياً). زد على ذلك أن الوجه كان يعبر عن الحقيقة صارمة لا تراعي ولا تداري: فكل شيء فيه طبيعي. إنه حقاً وجه أي إنسان عانى تعذيباً كذلك التعذيب.
«أنا أعرف أن الكنيسة المسيحية قد ذهبت، منذ القرون الأولى، إلى أن آلام المسيح لم تكن رمزية بل واقعية، وأن جسمه كان يخضع وهو على الصليب لجميع قوانين الطبيعة بدون أي تحديد أو تضييق. فكانت اللوحة إذن تمثل وجها شوّهته الضربات تشويها فظيعاً، فتورّم وتنفخ، وامتلأ خدوشاً وجروحاً نازفة رهيبة، وحملقت عيناه، وانقلبت حدقتاهما، واتسع بياضهما الذي يلتمع التماعاً زجاجياً يعكس الموت. غير أن أغرب ما في الأمر هو هذا السؤال العجيب الذي يوحيه منظر جثمان ذلك الإنسان الذي عذب هذا التعذيب: إذا كان جميع مريديه، إذا كان جميع الذين سيصبحون حوارييه، إذا كانت النساء اللواتي تبعنه وتعلقن بأسفل الصليب، إذا كان الذين آمنوا به وعبدوه، إذا كان جميع هؤلاء قد رأوا أمام أبصارهم جثة كتلك الجثة (ولا بد أن الجثة كانت على الصورة التي وصفناها) فكيف أمكنهم أن يصدقوا وهم يرون هذه الرؤية أن الشهيد سيبعث حيًا ويقوم؟ إن المرء ليقول لنفسه رغم أنفه: إذا كان الموت أمراً فظيعاً إلى هذا الحد، إذا كانت قوانين الطبيعة قوية هذه القوة، فكيف يمكن الانتصار عليها؟ كيف يمكن تذليلها في حين أنها لم تلق حتى أمام ذلك «الذي» أخضع الطبيعة أثناء حياته، وجعلها تنصاع له، وقال: «قومي طليثاً» فإذا الصبية تقوم، وقال «اخرج لعازر» فإذا الميت يخرج من القبر. حين يتأمل المرء هذه اللوحة فإنه يتخيل الطبيعة في صورة وحش ضخم حاقد أخرس. أو قل، مهما يكن التشبيه غريباً غير متوقع، إن من الأصح كثيراً أن تشبه الطبيعة هنا بآلة حديثة من آلات البناء الضخمة، صمّاء لا تحس، بلهاء لا تفهم، تلفَّفت ثم طحنت ثم ابتلعت «كائناً» لا يعادله كائن، يساوي وحده كل الطبيعة وكل القوانين التي تحكم الطبيعة، وكل الأرض التي لعلها لم تُخلق إلا ليظهر ذلك «الكائن».
«لقد بدا لي أن تلك اللوحة إنما تعبّر عن فكرة وجود قوة غامضة غاشمة أبدية يخضع لها كل شيء، وتحكمكم رغم أنوفكم. إن الناس الذين كانوا يحيطون بالميت، رغم أن اللوحة لم تصور أي واحد منهم، لا بد أنهم شعروا بغمّ فظيع وانصعاق رهيب في ذلك المساء الذي حطّم، دفعة واحدة، جميع آمالهم، وكاد يحطم إيمانهم. لا بدّ أنهم افترقوا على هلع هائل ملأ جوانب أنفسهم، رغم أن كل واحد منهم حمل في قرارة نفسه فكرة كبيرة ترسخت في أعماقه فلا سبيل إلى انتزاعها منها بعد ذلك قط. سؤال آخر: تُرى لو استطاع «المعلم» أن يرى صورة نفسه عشية تعذيبه، أفكان يمشي إلى الصلب وإلى الموت كما مشى إليهما؟ ذلكم سؤال آخر يخطر ببالكم على غير إرادة منكم حين تنظرون إلى تلك الصورة.
«حاصرت هذه الخواطر فكري بعد انصراف كوليا خلال ساعة ونصف ساعة. وكانت مفككة، وأغلب الظن أنها كانت تشتمل على هذيان، لكنها كذلك تكتسي في بعض الأحيان مظهراً محسوساً. هل يستطيع الخيال أن يضفي شكلاً معيناً على ما ليس له في الواقع شكل؟ كان يخيل إليّ في بعض اللحظات أنني أرى تلك القوة التي لا نهاية لها، أرى ذلك الكائن الأصم المظلم الأخرس يتجسّد تجسّداً ماديّا على نحو غريب لا سبيل إلى وصفه. أذكر أنني أحسست بأن أحداً حاملاً شمعة قد أمسك يدي فأراني عنكبوتة ضخمة كريهة، مؤكداً لي أن هذه العنكبوتة الضخمة هي بعينها ذلك الكائن المظلم الأصم القادر على كل شيء، ضاحكاً من الاستياء التي أظهرته.
«يضيء غرفتي في الليل دائماً مصباحٌ صغير أمام الأيقونة. ورغم أن ضوء هذا المصباح كامد مهتز فإنه يتيح تمييز الأشياء، حتى ليستطيع المرء أن يقرأ إذا هو دنا من الضياء. أظن أن الوقت كان بعد منتصف الليل بقليل. لم أكن نائماً البتة، وكنت مضطجعاً مفتح العينين. وفيما أنا كذلك إذا بباب غرفتي يُشق فجأة فيدخل روجويين.
«دخل وأغلق الباب ثانية، ونظر إليّ دون أن يقول كلمة، واتجه متمهلاً نحو الكرسي الذي يوجد في زاوية الغرفة تحت المصباح تقريباً. دُهشت أشد الدهشة، وأخذت أرقبه منتظراً ما سوف يفعله. وضع كوعيه على منضدة صغيرة، وحدّق إليّ بنظرة ثابتة صامتاً. انقضت ثانيتان أو ثلاث ثوان على هذه الحال. وأذكر أن صمته قد أهانني كثيراً وأثار حنقي. لماذا لا يحزم أمره فيتكلم؟ وقد استغربت طبعاً أن يجيء في ساعة متأخرة هذا التأخر كله. ولكنني لا أذكر أن هذا شدهني وأذهلني كثيراً في حد ذاته. بالعكس: صحيح أنني لم أعرب له في الصباح عن فكرتي إعراباً واضحاً، لكنني كنت أعلم أنه حزرها وأدركها. ولقد كانت تلك الفكرة تستحق فعلاً أن يجيء لمعاودة الكلام فيها، ولو في ساعة متأخرة جداً. لذلك قررت أنه إنما جاء لهذا الغرض. كنا قد افترقنا في الصباح على غير وفاق ووئام، حتى إنني أذكر أنه رشقني مرة أو مرتين بنظرة فيها كثير من السخرية والاستهزاء. وهذا التعبير نفسه عن السخرية والاستهزاء هو ما أقرؤه الآن في نظرته، وهو ما أشعر أنه يجرح شعوري ويهين كرامتي. أما أنني كنت أرى أمامي روجويين نفسه فعلاً، وأنني لا أرى حلم نوم أو أشباح هذيان فذلك ما لم يراودني فيه أيسر شك في أول الأمر، حتى أن هذه الفكرة لم تخطر ببالي أصلاً.
«ويظل روجويين جالساً، ويظل ينظر إليّ مبتسماً ابتسامته الساخرة تلك. انقلبت على سريري غاضباً، ووضعت كوعي على وسادتي وقررت أن أقلّد صمته، ولو طال هذا الصمت إلى غير نهاية. لا أدري لماذا أردت أن يكون هو البادئ بالكلام حتماً. أظن أن نحو عشرين دقيقة انقضت على هذه الحال. وفجأة ومضت في ذهني فكرة: من يدري؟ قد لا يكون هذا روجويين، بل شبحاً لا أكثر!
«لم يكن قد تراءى لي أي شبح لا أثناء مرضي ولا قبل مرضي. وأنا منذ طفولتي حتى هذه اللحظة، أي حتى الآونة الأخيرة، رغم أنني لم أؤمن قط بأشباح تظهر، كان يبدو لي دائماً أنني سأموت فوراً إذا اتفق أن ظهر لي شبحٌ مرة. ومع ذلك أذكر أنني حين خطر ببالي أن هذا ليس روجويين بل هو شبح، لم أشعر من ذلك بأي رعب. وأكثر من هذا أنني شعرت بغضب. أمر غريب: إن التساؤل عمّا أراه أمامي أهو شبح أم هو روجويين بشخصه لم يشغلني ولا أقلقني، كما كان طبيعياً أن يحدث ذلك. ويبدو لي أن فكري كان منصرفاً إلى غير هذا. من ذلك مثلاً أنني كنت على أحرّ من الجمر رغبة في أن أعرف لماذا كان روجويين يرتدي الآن رداء «فراك»، وصديرة بيضاء، وربطة عنق بيضاء بينما كان في الصباح يلبس ثوباً للمنزل وينتعل خفين. وقلت لنفسي: إذا كان ما أراه شبحاً فإنني غير خائف منه. فلماذا لا أنهض فاقترب منه لأتحقق بنفسي ما هو؟ أتراني مع ذلك خائفاً لا أجسر أن أفعل؟ ولكن ما إن خطر ببالي أنني خائف حتى شعرت بصقيع في جسمي كله، وسرت في ظهري رعدة، وأخذت ركبتاي تصطكان ارتجافاً. وكأن روجويين أدرك رعبي، فإذا هو، في تلك اللحظة نفسها، يسحب ذراعه التي كان متكئاً على كوعها، وينتصب قائماً، ويفتح فمه يهم أن يضحك. وكان يحدّق إليّ في إصرار وعناد. فاجتاحني حنق بلغ من القوّة أنني أردت أن أهجم عليه. لكنني وقد آليت على نفسي أن لا أكون البادئ بقطع الصمت، لم أتحرك عن سريري. ثم إنني لم أكن واثقاً مم أن ما أراه هو روجويين بشخصه، وليس طيفاً أو شبحاً.
«لا أذكر كم طال هذا المشهد. لا ولا أستطيع أن أقول هل كنت أغفو أثناء ذلك من حين إلى حين. ونهض روجويين أخيراً، فتأملني بهدوء وانتباه، كما فعل حين دخل، ولكن دون ضحك ساخر في هذه المرة، ثم اتجه بخطى لا تكاد تلمس الأرض، على رؤوس الأصابع تقريباً، اتجه نحو الباب ففتحه وخرج وأغلق وراءه. لم أنهض من مكاني. ولا أذكر كم من الوقت ظللت على هذه الحال مضطجعاً، مفتح العينين، غارقاً في أفكاري، مستسلماً لخواطري. ماذا كانت تلك الأفكار والخواطر؟ الله أعلم! ولست أذكر أيضاً كيف غفوت.
«استيقظت في الغد بعد الساعة التاسعة، حين سمعت قرعاً على بابي. إن من المتفق عليه في بيتنا أن تقرع ما تريونا بابي إذا لم أفتحه من تلقاء نفسي بعد الساعة التاسعة ولم أنادي أحداً لإتياني بالشاي. فلما فتحت الباب لماتريونا أسرعت أتساءل: كيف أمكنه أن يدخل إذا كان هذا الباب مغلقاً. واستطلعت الأمر فأيقنت أنه ما كان لروجويين أن يستطيع دخول غرفتي لأن جميع أبوابنا تكون في الليل مقفلة بالمفتاح.
«إن هذا الحادث الذي وصفته لكم بجميع هذه التفاصيل الكثيرة هو الذي حضّني على أن أتخذ «قراري» نهائياً. إن هذا القرار لا يصدر إذن عن منطق الاستدلال العقلي بل عن شعور الاشمئزاز العاطفي. إنني لا أستطيع أن أبقى في حياة تكتسي أشكالاً غريبة وجارحة إلى هذا الحد. إن ذلك الشبح قد تركني تحت وطأة إحساس بالذل. إنني لا أشعر بأنني أرضى الخضوع لقوة تستعير مظاهر عنكبوت ضخم. أنا لم أحسّ بشيء من التخفف إلا حين رأيتُني أخيراً، عند الغسق، أمام قرار كامل نهائي. ومع ذلك لم يكن هذا إلا مرحلة أولى: وكنت سأجتاز المرحلة الثانية في بافلوفسك، ولكن هذا قد سبق أن شرحته شرحاً كافياً».
الفصل السابع
كان عندي مسدس صغير للجيب، حصلت عليه حين كنت طفلاً، في تلك السن المضحكة التي يأخذ فيها الطفل بالتحمّس لقصص المبارزات وهجمات قطاع الطرق. كنت أحلم بأن أدعى إلى مبارزة، فأقف أمام مسدس خصمي رابط الجأش ثابت الجنان. وقد فحصت هذا المسدس منذ شهر وسلّحته. ففي العلبة التي كانت تضمه وجدت رصاصتين ووعاء صغيراً يحتوي على بارود يكفي لطلقتين أو ثلاث. إن المسدس رديء لا قيمة له، فهو ينحرف ولا يتجاوز مداه خمس عشرة خطوة، لكنه إذا وضع على الصدغ رأساً فلا شك أنه يكفي لتحطيم الجمجمة.
«قررت أن أموت في بافلوفسك، عند طلوع الشمس، بعد أن أنزل إلى الحديقة العامة حتى لا أحدث اضطراباً في الفيلا. إن «الشرح» الذي أتركه بعد موتي سيكون كافياً لتوجيه التحقيق الذي ستقوم به الشرطة. وسوف يستطيع عشاق علم النفس والمهتمون بالأمر أن يستخلصوا من ذلك كل ما يحلو لهم أن يستخلصوه... ومع ذلك لا أحب أن تُنشر هذه المخطوطة في الصحف. إنني أرجو الأمير أن يحتفظ بنسخة عنده وأن يوصل النسخة الأخرى إلى آجلايا إيفانوفنا إيبانتشينا. هذه إرادتي. وأنا أوصي بهيكلي العظمي لأكاديمية الطب خدمة للعلم.
«لا أعترف لأحد بحق الحكم عليّ، وأعلم أنني الآن في منجى من كل قضاء. منذ مدة قصيرة راودتني فكرة مضحكة. تساءلت: لو بدا لي فجأة أن أقتل أحد الناس، أو أن أذبح عشرة أشخاص مرة واحدة، أو أن أقترف أية جريمة فظيعة، أن أرتكب أفظع جريمة يمكن أن يتحدث عن هولها الناس، فما أشدّ الارتباك الذي سأضع فيه المحكمة وأنا لم يبق لي من الحياة إلا أسبوعان أو ثلاثة، وقد أُلغي الاستجواب والتعذيب؟ لو فعلت هذا لأتيح لي أن أموت مرفّهاً مدللاً في المستشفى، محاطاً بعناية الأطباء، وقد يتوفر لي من الراحة والدفء هناك أكثر كثيراً مما يتوفر لي في بيتي. لا أفهم كيف لا تخطر هذه الفكرة ببال الناس الذين يكونون في مثل حالتي، ولو من قبيل المزاح. لعل الفكرة خطرت ببالهم فعلاً، فليس الفكهون هم الذين ينقصوننا أو ينقصون غيرنا.
«ولكن إذا كنت لا أعترف بقضاة يحكمون علي، فهذا لا ينفي أنني أعرف أن الناس سيحكمون عليّ، حتى حين أكون قد أصبحت متهماً أصم أبكم. لذلك لا أريد أن أمضي قبل أن أترك ردًا حرًا بغير إكراه، لا لأبرر نفسي، لا، لا! فما أنا في حاجة إلى أن أطلب غفراناً من أحد، بل لأنني أحب أن أترك ردًا، ولأنني أجد في ذلك لذة.
«إليكم أولاً هذه الفكرة الغريبة: من ذا الذي يستطيع – وبأي حق ولأي سبب؟ – أن ينكر عليّ حرية التصرف في حياتي خلال هذين الأسبوعين أو هذه الأسابيع الثلاثة؟ أية محكمة يمكن أن تكون جهة الاختصاص في هذا؟ وما عسى أن تكون الفائدة لا من أن أكون مقضيا عليّ بالموت فحسب، بل كذلك من أن أحتمل المدة الباقية لتنفيذ الحكم بالموت مذعناً عاقلاً؟ هل يمكن أن ينتفع أحد بهذا حقاً؟ هل تستفيد قضية الأخلاق من هذا فعلاً؟ كان يمكن أن أقبل هذا الكلام لو كنت أنتظر، وأنا في تمام العافية وفي كمال القوة، أن يأتي حينٌ «أكون فيه نافعاً لأخي الإنسان» إلخ إلخ... إن الأخلاق تستطيع عندئذ أن تتهمني، منقادة لروتين عتيق بالي، بأنني تصرفت في حياتي دون استئذان، أو أن تتهمني باقتراف ذنب آخر من هذا النوع!... أما الآن وقد أبلغت موعد موتي، فبماذا يمكن أن أُتهم؟ ما هي تلك الأخلاق التي تطلب منك بالإضافة إلى حياتك، تلك الحشرجة الأخيرة التي تلفظ أثناءها آخر ذرة من روحك، سامعاً تلك الكلمات المواسية المعزية التي لن يفوت الأمير أن يقولها لك وأن يصل منها إلى براهين مسيحية على أن من الأفضل لك حقاً أن تموت؟ (إن أمثاله من المسيحيين يصلون دائماً إلى تلك الفكرة، فهي موضوع هوسهم!). ما الذي يريدونه من حديثهم المضحك عن «أشجار بافلوفسك»؟ أيريدون أن يجعلوا ساعتي الأخيرة أرفق وألطف؟ أهم لا يدركون إذن أنني على قدر ما أنسى نفسي فأنقاد لغواية هذا الشبح الأخير من الحياة والمحبة الذين يأملون أن يخفوا به عن بصري حائط منزل ماير وكل ما هو مسجل عليه بصراحة كبيرة وسذاجة تامة، أنني على قدر ذلك يزداد شقائي وتتفاقم تعاستي؟ فيم تهمني الطبيعة الجميلة وحديقة بافلوفسك العامة، وفيم يهمني شروق الشمس وغروبها، والسماء الزرقاء والوجوه الرضية الرخية، إذا كنت الشخص الوحيد الذي يُعدّ غير مفيد، وإذا كنت الشخص الوحيد الذي أُبعد عن هذه الوليمة منذ البداية؟ ما حاجتي إلى كل ذلك السناء وكل تلك الروعة إذا كان يجب عليّ في كل دقيقة، وفي كل ثانية، أن أعلم مجبراً أن تلك الذبابة الصغيرة التي تدندن الآن حولي في شعاع شمس، يحق لها أن تشارك في تلك الوليمة وأن تشارك في جوقة الطبيعة هذه. إنها تعرف المكان المحفوظ لها، وهي تحبه وهي سعيدة به. أما أنا فإنني وحدي المنبوذ؛ ولم يمنعني عن فهم ذلك حتى الآن إلا الجبن.
«إنني أعلم أن الأمير وسائر الآخرين يريدون أن يحملوني على العدول عن هذه التعابير «الحاقدة الكارهة»، ويودّون لو يسمعونني أنشد، باسم انتصار الأخلاق، تلك الأبيات الشعرية الكلاسيكية الشهيرة التي أنشدها ميلفوي إذ قال:
ألا فليرَ جمالك المقدس
أصدقاء كثيرون، صُمّت آذانهم عن سماع وداعي!
ولتطلْ أعمارهم، ولتُذرف لموتهم الدموع
ولتطبق أجفانَهم يدا صديق.
«ولكن صدّقوا أيها البسطاء، صدّقوا كل التصديق، أن في هذه الأبيات الواعظة وفي هذه المباركة الأكاديمية للعالم بشعر فرنسي، كثيرا من المرارة الخبيثة، وكثيرا من البغضاء التي لا يشفى لها غليل، البغضاء التي تتلذذ بنفسها؛ وأن تلك المرارة وهذه البغضاء بلغتا من القوة والشدة أن الشاعر نفسه يمكن أن يكون قد انطلى عليه الأمر فحسب الكره والحقد دموع حنان وعبرات عاطفة. ولا شك أن الشاعر مات وهو على ذلك الوهم. رحمه الله! اعلموا أن هناك حدّا للغم والقهر والنكد الذي يحدثه في نفس الإنسان شعوره بأنه لا شيء، وبأنه عاجز، فإذا تجاوز الإنسان ذلك الحد غرق في لذة خارقة.
«صحيح أن المذلة هي بهذا المعنى قوة ضخمة. إنني أسلّم بهذا. ولكن هذه القوة ليست القوة التي يجدها فيها الفن.
«آه... الدين! إنني أسلّم بالحياة الأبدية. ولعلني كنت أسلم بها دائماً. أحب فعلاً أن أعتقد أن الشعور شعلة أوقدتها إرادة قوة عليا، وأنه يعكس في ذاته الوجود، وأنه يقول: «أنا موجود». وأحب أن أؤمن أيضاً بأن هذه القوة العليا نفسها تأمره دفعة واحدة بأن ينطفئ، لحكمة بعيدة غامضة، وبدون أي تفسير. ليكن. إنني أسلم بهذا كله. ولكن يبقى السؤال الأبدي: لماذا يجب عليّ أن أضيف إلى هذا الإجبار إذعاني وذلي؟ ألا يكفي أن أُلتهم فحسب، دون أن أتغنى بمدح ذلك الذي يلتهمني؟ هل يمكن أن يوجد هناك في الملأ الأعلى أحد يسيء إليه حقًا ويؤذيه فعلاً أن لا أريد انتظار ساعتي أسبوعين؟ لا، لا أصدق هذا! بل افترض – وذلك أقرب كثيراً إلى الصحة – أن تكون حياتي المسكينة التي هي حياة ذرة، قد وُجدت حاجة إلى زوالها لإكمال انسجام كلي شامل، لتحقيق زيادة معينة أو نقص معين، لإيجاد نوع من تضاد أو تعارض أو شيء من هذا القبيل، كما توجد حاجة إلى التضحية كل يوم بملايين الكائنات التي لا يمكن أن يبقى العالم ما لم تمت (لاحظوا أن هذه الفكرة ليست سمحة في ذاتها). ولكن فلننتقل من هذا. لنسلم بأنه إذا لم يأكل البشر بعضهم بعضاً، يستحيل بناء العالم؛ بل ولأرتض أن لا أفهم من هذا البناء شيئاً. ولكن إليكم ما أعلمه حتماً: إذا كنت قد أوتيت أن أدرك أنني «أوجد»، فهل أنا مسؤول عن كون هذا العالم قد بُني مقلوباً وأنه لا يمكن أن يوجد إلا بهذه الطريقة وعلى هذا النحو؟ من ذا سيحكم عليّ بعد هذا، وإلى أي شيء سيستند ليحكم علي؟ فكروا في الأمر ما شئتم أن تفكروا، فلن تستطيعوا أن تنكروا أن هذا كله يستحيل تصوّره، وأنه كله ظلم لا عدل.
«على أنني لم أستطع في يوم من الأيام، رغم كل رغبتي في ذلك، أن أتصوّر أن الحياة الآخرة والعناية الإلهية لا وجود لهما. فأغلب الظن أن ذلك كله موجود، ولكننا لا نفهم شيئاً لا عن الحياة الآخرة ولا عن القوانين التي تحكمها. ولكن إذا كان هذا يصعب بل يستحيل فهمه، فهل أحاسب أنا على عجزي عن إدراك ما لا يمكن تصوره؟ صحيح أنهم يدعون – وهذا رأي الأمير قطعاً – أن من الواجب علينا هنا أن نخضع ونطيع دون تفكير، بداعي الحس الأخلاقي وحده؛ وهم يضيفون إلى ذلك أن طواعيتي ستجد في الحياة الآخرة مكافأتها. إلا أننا نخفض قيمة العناية الإلهية كثيراً فأكرر قولي بأن الإنسان إذا عجز عن فهم العناية الإلهية فمن الصعب أن يتحمّل تبعة عجز عن الفهم فرض عليه فرضاً وجُعل له قانوناً. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يحكم عليّ لأنني لم أستطع أن أفهم إرادة العناية الإلهية وأن أدرك قوانينها؟ لا! الأَولى أن ندع الدين جانباً.
«وكفى هذا، على كل حال! حين سأصل إلى هذه الأسطر ستكون الشمس قد طلعت، وستأخذ «تترجّع في السماوات» مغدقةً على الكون كله قوى واسعة لا تعدّ ولا تحصى! لتكن مشيئة الله! سوف أموت متأملاً وجه ينبوع القوة والحياة هذا، ينبوع هذه الحياة التي لن أريدها بعد اليوم. لو كانت ولادتي مرهونة بإرادتي، لرفضت الوجود في ظل ظروف ساخرة إلى هذا الحد. ولكنني ما أزال أقدر أن أموت، وإن كنت لا أملك إلا بقية حياة أصبحت أيامها منذ الآن معدودة. هذه قدرة ضئيلة؛ وليس تمردي أقل ضآلة منها.
«شرح أخير: إذا مت فإن ذلك لا يرجع إلى أنني لا أملك الشجاعة اللازمة لاحتمال هذه الأسابيع الثلاثة. إن في وسعى حتما أن أجد القوة الضرورية لاحتمالها؛ ولو شئت لكان في إمكاني أن أستمدّ عزاء كافياً من الشعور بالإهانة التي أُلحقت بي. لكنني لست شاعراً فرنسياً، ولا أحرص على هذا النوع من العزاء. ثم إن هناك إغراء: إن الطبيعة حين قضت بأن لا أعيش إلا ثلاثة أسابيع قد بلغت من تضييق ساحة عملي أن الانتحار ربما كان الآن هو الفعل الوحيد الذي أستطيع أن أقوم به وأن أنقذه بإرادتي الحرة. فلماذا لا أستغل هذه الإمكانية الأخيرة التي تتاح لي من أجل أن «أعمل»؟ رُبّ احتجاج له قيمته في بعض الأحيان...».
أنهى هيبوليت أخيراً قراءة «الشرح»، فوقف...
إن الإنسان العصبي، إذا غضب غضبا شديدا وخرج عن طوره، يمكن في حالات قصوى أن يمضي في الصراحة إلى درجة الاستخفاف والاستهتار. فلا يخشى بعدئذ شيئاً، ويكون مستعدًا لإثارة أية فضيحة، حتى لقد يفتنه هذا ويخلب لبه. إنه يهجم على الناس وقد عقد النية بصورة غامضة لكنها حاسمة على أن يلقى بنفسه بعد دقيقة واحدة من أعلى برج ناقوس، فيصفّي بذلك، دفعة واحدة، جميع الارباكات والمشكلات التي يكون قد خلقها سلوكه. وهذه الحالة يسبقها في العادة وينذر بها إنهاك يعتري القوى الجسمية شيئاً بعد شيء. إن التوتر الشديد، غير السوي، الذي سند هيبوليت حتى ذلك الحين، كان قد بلغ تلك المرحلة. فجسم هذا المراهق الذي يبلغ الثامنة عشرة من عمره، والذي هدّه المرض، كان يبدو ضعيفاً ضعف ورقة مرتجفة انتُزعت من الشجرة. لكنه ما إن نظر إلى سامعيه – لأول مرة منذ ساعة– حتى عبّرت نظرته وابتسامته فوراً، عن أكبر اشمئزاز متعال، وعن أشدّ احتقار جارح. لقد كان يتعجل أن يتحدّاهم، لكن هؤلاء قد امتلؤوا استياء وانزعاجاً. فنهضوا عن المائدة يضجون غضباً. إن التعب والخمرة وتوتر الأعصاب، إن ذلك كله قد فاقم الفوضى وزاد عكر المشاعر في هذا الاجتماع.
نهض هيبوليت عن كرسيه بوثبة، نهض نهوضاً مفاجئاً كأنما هو انتزع انتزاعاً. فلما رأى ذرى الأشجار تسطع بالنور هتف يقول للأمير وهو يشير إليها، كما لو كان ذلك معجزة من المعجزات:
– طلعت الشمس! طلعت الشمس!
قال فردشتينكو:
– أتُراك كنت تظن أنها لن تطلع؟
ودمدم جانيا يقول معبراً عن الضجر وقلة الاكتراث، متناولاً قبعته بيده، متمطيا ومتثائبا:
– الجو يؤذن بنهار آخر محرق. هل أمامنا شهر آخر من جفاف؟... أننصرف أم نبقى يا بتتسين؟
أصغى هيبوليت إلى هذه الكلمات بدهش يشبه أن يكون انشداها. وشحب لونه على حين فجأة شحوباً فظيعاً، وأخذت أعضاؤه كلها ترتعش.
قال لجانيا وهو يحدق إلى بياض عينيه:
– تتصنع قلة الاكتراث لتهينني! أنت رجل تافه!
قال فردشتينكو:
– يا سلام! ما هذا الانطلاق في الكلام بغير تحرّج؟ يا للاسترسال الهائل الذي لا يعرف الكلفة!
قال جانيا:
– ما هو إلا شاب غبي لا أكثر!
استرد هيبوليت شيئاً من سيطرته على نفسه وكظم غيظه، وبدأ يتكلم فقال وهو ما يزال يرتعش ويقاطع نفسه في كل لحظة:
– إنني أفهم أيها السادة أن أكون جديراً بحقدكم الشخصي، و... يؤسفني أنني أزعجتكم بقراءة هذا الهذيان لكم (قال ذلك وهو يشير إلى مخطوطته). ولكن يؤسفني من جهة أخرى أنني لم أضايقكم مزيداً من المضايقة (قال هذا وابتسم ابتسامة بلهاء). أليس صحيحاً يا أوجين بافلوفتش أنني كنت مزعجاً مضجراً؟ أكنت مضجراً أم لا؟ تكلم!
أجاب أوجين بافلوفتش:
– كانت المقالة طويلة بعض الطول، ولكن.. على كل حال...
فقاطعه هيبوليت وهو ما يزال يرتجف:
– قل فكرتك كلها، لا تكذب؟ مرة واحدة في حياتك على الأقل...
قال أوجين بافلوفتش وهو يشيح بوجهه مشمئزاً:
– أوه!! يستوي عندي تماماً... دعني وشأني، أرجوك.
قال بتتسين وهو يقترب من المضيف:
– طابت ليلتك يا أمير.
وهتفت فيرا تقول مسرعة نحو هيبوليت:
– لكنه سيطلق النار في رأسه، ما بالكم؛ انظروا إليه! قال إنه سينتحر عند طلوع الشمس، ماذا تفعلون؟
كانت فيرا في ذروة الذعر حتى لقد أمسكت يديه.
فدمدمت عدة أصوات، منها صوت فانيا، تقول بلهجة كارهة:
– لن ينتحر!
صاح كوليا وقد أمسك يد هيبوليت هو أيضاً:
– حذار أيها السادة؛ انظروا إليه! أمير، أمير، كيف تبقى غير مكترث؟
تجمع حول هيبوليت كل من فيرا وكوليا وكيللر وبوردوفسكي، وتشبث الأربعة به.
تمتم بوردوفسكي يقول:
– هذا من حقه، هذا من حقه!...
ولكن بوردوفسكي كان يبدو عليه أنه فاقد عقله تماماً.
وقال ليبديف للأمير يسأله:
– اسمح لي يا أمير؛ ما هي الإجراءات التي تنوي اتخاذها؟
كان ليبديف مخمورا، وكان اندفاعه يتحوّل إلى وقاحة.
سأله الأمير:
– أية إجراءات تعني؟
– لا، اسمح لي! أنا هنا سيد الدار، وإن كنت لا أريد أن أقلل ما أحمله لك من اعتبار!... إنني أسلم بأن هذا البيت بيتك أيضاً... ولكنني لا أريد مشاكل من هذا النوع تحت سقفي... لا... لا أريد!...
وصاح الجنرال إيفولجين يقول فجأة بلهجة فيها ثقة وامتعاض على قدر سواء:
– لن ينتحر.. هذا الصبي مهرج!
فصاح فردشتينكو يقول مجدداً:
– مرحى يا جنرال!
قال ليبديف:
– أنا أعرف أنه لن ينتحر يا جنرال.. أيها الجنرال المحترم جداً... ولكنني مع ذلك... أنا هنا سيد الدار.
ودّع بتتسين الأمير، ومدّ يده إلى هيبوليت. وقال له بغتةً:
– اسمع يا سيد تيرنتيف: ورد في كتابك ذكرٌ لهيكلك العظمي فيما أظن، وورد أنك تورثه أكاديمية الطب، أليس كذلك؟ فهل تقصد هيكلك العظمي أنت؟ أعظامك تورث؟
– نعم، عظامي...
– آ.. طيب. ذلك أن من الممكن أن يحدث سوء فهم. يظهر أن شيئاً من هذا سبق أن وقع.
تدخل الأمير فجأة يسأل بتتسين:
– لماذا تغيظه؟
وأضاف فردشنشنكو قائلاً:
– لقد أبكيته!
لكن هيبوليت لم يكن يبكي البتة. وقد همّ أن يفلت، لكن الأشخاص الأربعة الذين كانوا يحيطون به، لم يلبثوا أن قبضوا عليه. وانطلقت ضحكات.
قال روجويين:
– كان يأمل أن نوثق يديه لنصدّه عن الانتحار، لذلك قرأ لنا دفتره. استودعك الله يا أمير. لقد طال جلوسنا حتى أصبحنا نحسّ بألم في عظامنا.
وقال أوجين بافلوفتش ضاحكاً:
– لو كنت في مكانك يا تيرنتيف، وكان في نيّتي أن أنتحر فعلاً، لعدلت عن الانتحار بعد هذه الأماديح التي كالوها جزافاً، ولو لأغاظتهم على الأقل!
فقذفه هيبوليت بقوله وكأنه يريد أن ينقضّ عليه من فرط غضبه:
– إنهم يتمنون أن يروني أنتحر!
قال أوجين بافلوفتش:
– إنهم ليغيظهم كثيراً أن لا يروا هذا المنظر!
– أأنت أيضاً تظن إذن أنهم لن يروه؟
فأجاب أوجين بافلوفتش بلهجة بطيئة يصطنع فيها مظهر الحماية له:
– لا أريد أن أحضّك عليه. بالعكس: أنا أعتقد بأنك قادر على أن تنتحر، لكنني أرجوك خاصة أن لا تغضب...
قال هيبوليت وهو ينظر إلى أوجين بافلوفتش بلهجة تبلغ من الثقة المفاجئة أنه كان كمن يطلب نصيحة من صديق:
– لم أدرك إلا الآن الخطأ الضخم الذي ارتكبته إذ قرأت عليهم دفتري!
فأجابه أوجين بافلوفتش قائلاً وهو يبتسم:
– وضعك عجيب مضحك!... بصراحة: لا أدري ما هي النصيحة التي يمكن أن أسديها إليك!
فحدّق إليه هيبوليت صامتاً، بنظرة وحشية عنيدة. كان يبدو كمن يفقد إدراك ما يجري حوله من حين إلى حين.
قال ليبديف:
– آ... لا... اسمحوا لي يا سادة! ما هذه طريقة في التصرف. هو يصرخ بأنه «سيطلق النار في رأسه بالحديقة العامة حتى لا يزعج أحداً»، فهل يعتقد إذن بأنه لن يزعج أحداً إذا هو انتحر في الحديقة على بعد ثلاث خطوات من هنا؟
وأراد الأمير أن يتكلم فقال:
– أيها السادة...
ولكن ليبديف قاطعه غاضباً يقول:
– لا، اسمح لي! أيها الأمير الجليل! إنك لترى بنفسك أن هذا ليس مزاحاً. إن نصف ضيوفك على الأقل يتشاركون في الاقتناع بأن الشرف يوجب عليه، بعد الذي سمعناه من كلام، أن يبادر إلى الانتحار. ولما كنت أنا رب المنزل، فإنني أطلب معونتك وأناشدك أن تهب إلى مساعدتي أمام شهود.
– ما الذي يجب أن نعمله يا ليبديف؟ أنا مستعد لمساعدتك؟
– إليك ما يجب أن نفعله: يجب أولاً أن يسلمنا المسدس الذي افتخر بأنه يحمله، وأن يسلمنا ذخيرته. فإذا وافق على ذلك، وافقت أنا على أن يقضي الليلة هنا، مراعاة لمرضه، ولكن على شرط أن أراقبه؛ ثم يكون عليه أن يمضي في الغد إلى حيث يشاء أن يمضي. معذرة يا أمير! إذا لم يسلم سلاحه، فسأقبض أنا على إحدى ذراعيه، ويقبض الجنرال على ذراعه الأخرى، ونرسل في طلب الشرطة حالاً، فتتولى هي الأمر وتمسك بزمام القضية. وسيتولى السيد فردشتينكو إبلاغ الشرطة بصفته صديقا.
وقامت جلبة: ليبديف يتحمّس ويتعدّى حدود القصد والاعتدال؛ وفردشتينكو يتهيأ للذهاب إلى الشرطة؛ وجانيا يكرر مصرًا ملحًّا أن هيبوليت لن يحاول الانتحار. أما أوجين بافلوفتش فقد لزم الصمت.
قال هيبوليت يسأل الأمير بصوت خافت:
– هل اتفق لك يا أمير أن سقطت يوماً من أعلى برج ناقوس؟
فأجابه الأمير بسذاجة:
– لـ...لا!
وعاد هيبوليت، الذي كانت عيناه تلتمعان، عاد يهمس من جديد قائلا:
– أتظن أنني لم أتنبأ بهذه الكراهية كلها؟
ثم صاح يقول على حين فجأة، مخاطبا الجمع كافة:
– كفى! لقد أخطأت... أكثر من أي شخص آخر! يا ليبديف، إليك المفتاح (قال ذلك واستل من محفظته حلقة من الفولاذ تتدلى منها ثلاثة مفاتيح صغيرة أو أربعة)، أقصد هذا المفتاح... الذي هو قبل الأخير... سيريك كوليا... يا كوليا!! أين كوليا (كذلك صاح ينادي وهو ينظر إلى كوليا دون أن يراه....) آ... نعم!... طيب! هو الذي سيريك... لقد ساعدني منذ قليل في ترتيب حقيبتي.. اذهب معه يا كوليا في حجرة الأمير، تحت المنضدة... ستجد حقيبتي. وبواسطة هذا المفتاح ستجد في الصندوق الصغير الموجود في قاع الحقيبة... مسدسي ووعاء البارود. إن كوليا نفسه هو الذي رتب لي الحقيبة منذ قليل. سيريك كل شيء يا سيد ليبديف. ولكنني أشترط أن تردّ إليّ المسدس في صباح الغد، حين أسافر. هل تسمع؟ إنني لا أفعل هذا إرضاء لك أنت، بل إرضاء للأمير.
قال ليبديف وهو يمسك المفتاح:
– فهذا أفضل!
قال ليبديف ذلك وركض إلى الغرفة المجاورة وهو يبتسم ابتسامة مسمومة. ووقف كوليا كمن يريد أن يعترض، لكن ليبديف جرّه معه.
رأى هيبوليت الضيوف يضحكون. ولاحظ الأمير أن أسنانه كانت تصطك كأنما هو يعاني حمى شديدة.
ودمدم هيبوليت يقول في أذن الأمير من جديد بلهجة غاضبة:
– ما أحقر هؤلاء الناس جميعاً!
كان من أجل أن يكلم الأمير، يميل عليه دائماً، ويخاطبه بصوت خافت، همسا.
قال له الأمير:
– دعهم وشأنهم! إنك ضعيف جداً...
– فوراً، فوراً، سأمضي فوراً...
قال هيبوليت ذلك وقبّل الأمير فجأة. وأضاف وهو ينظر إليه ضاحكاً ضحكة خاصة:
– لعلك تظن أنني مجنون، أليس كذلك؟
– لا، ولكنك...
– فوراً، فوراً، اسكت. لا تقل شيئاً... انتظر... أريد أن أنظر إلى عينيك... ابق كما أنت، حتى أستطيع أن أنظر إليك. إنني أودّع إنسانا.
وتوقف عن الكلام وتأمل الأمير ساكناً صامتاً خلال عشر ثوان. كان شديد الاصفرار، وكان العرق يتقاطر في صدغيه، وكانت يده متشبثة بالأمير تشبثاً عجيباً كأنه يخاف أن يفلت الأمير منه.
صاح الأمير يسأله:
– هيبوليت! هيبوليت! ماذا بك؟
– فوراً، حالا... سوف أنام... أريد أن أشرب كأساً، نخب الشمس... أريد هذا.. أريد هذا.. دعني أفعل!
ومن مكانه، أمسك الكأس بسرعة، ثم رفعها ومضى بوثبة واحدة إلى مدخل الشرفة... وهمّ الأمير أن يركض وراءه. ولكن شاءت المصادفة، بما شبه العمد، أن مدّ إليه أوجين بافلوفتش يده في تلك اللحظة نفسها مودّعاً. فما انقضت دقيقة واحدة، حتى كان يدوّي في الشرفة صراخ عام على حين فجأة، أعقبه اضطراب شديد.
إليكم ما حدث:
حين وصل هيبوليت إلى مهبط الشرفة، توقف عن السير ممسكاً الكأس بيده اليسرى، وأدخل يده الأخرى في الجيب الأيسر من معطفه. وقد أكد كيللر فيما بعد أن يده كانت في تلك الجيب منذ أن كان يتحدث مع الأمير ممسكاً كتفه وتلابيبه باليد اليسرى. حتى إن حركته هذه باليد اليسرى هي التي أثارت فيه، هو كيللر، أول اشتباه. ومهما يكن من أمر فإن كيللر قد اندفع يلاحق هيبوليت، يحضّه على ذلك نوع من التخوّف. لكنه هو أيضاً لم يدركه في الوقت المناسب. كل ما هنالك أنه أبصر شيئاً يلتمع في يد هيبوليت اليمنى؛ ثم رأى فوهة مسدس صغير للجيب تطبق على صدغ المريض. وقد هرع إليه ليمسك ذراعه، لكن هيبوليت كان قد ضغط على الزناد في تلك اللحظة نفسها؛ فسُمعت قرقعةُ كلبِ المسدس، لكن الطلقة لم تخرج. وهجم كيللر على هيبوليت. واستسلم هيبوليت للسقوط كمن أُغمي عليه، ولعله كان يظن أنه مات فعلاً. وأصبح المسدس في يدي كيللر، واستولى الآخرون على هيبوليت وقرّبوا إليه كرسياً أجلسوه عليه، وتحلقوا جميعاً حوله يصرخون ويسألون. إنهم بعد أن سمعوا قرقعة الزناد، رأوا الرجل حيًا سليماً حتى من أي خدش. وكان هيبوليت جالساً لا يعرف ماذا يجري، ويُجيل على ما حوله نظرة زائغة. وفي تلك اللحظة دخل ليبديف وكوليا مسرعين كهبوب الريح.
كان الحضور يسألون من هنا ومن هناك:
– هل خابت الطلقة؟
وقال بعضهم:
– لعل المسدس لم يكن محشوّا منذ البداية!
فصاح كيللر يقول بعد أن فتش السلاح:
– بل المسدس محشو. لكن...
– فكيف أمكن أن تخيب الطلقة؟
قال كيللر:
– لم يكن ثمة كبسولة.
يصعب على المرء أن يصف المشهد الأليم الذي أعقب ذلك.
إن الذعر العام الذي سيطر في اللحظة الأولى لم يلبث أن حلّ محله مرح شامل. حتى إن بعض الأشخاص ضجّوا بالضحك صاخبين، ووجدوا في الموقف مجالاً لتندر خبيث وتفكّه ماكر. كان هيبوليت يبكي ناشجاً، ويعقف ذراعيه متألماً، كأنما اعترته نوبة عصبية، ويرتمي على جميع الناس حتى على فردشتينكو معانقاً إياه بكلتا يديه حالفاً بأغلظ الأيمان أنه نسي وضع الكبسولة نسياناً «عرضياً طارئاً بغير إرادة»، مضيفاً أن جميع الكبسولات، وعددها ست، موضوعة هنا في جيب صديرته، لكنه تركها في مكانها مخافة أن تنطلق الطلقة من المسدس مصادفة في الجيب، على أساس أن في وسعه أن يضع الكبسولة في الوقت الذي يشاء، غير أنه نسي فجأة أن يفعل! كان هيبوليت يتجه بكلامه إلى الأمير وإلى أوجين بافلوفتش واحداً بعد واحد، ويضرع إلى كيللر أن يردّ إليه المسدس ليستطيع أن يبرهن فوراً على أن «شرفه... نعم.. شرفه...»... لكن شرفه «قد تلطخ الآن إلى الأبد!»...
ثم تهاوى مغشيا عليه بالفعل. فنُقل إلى حجرة الأمير. وكان ليبديف قد زايله سكره تماماً فأرسل في طلب طبيب على الفور، وبقي هو وابنته وابنه وبوردوفسكي والجنرال حول سرير المريض.
حين نُقل هيبوليت إلى حجرة الأمير مغشيّا عليه، وقف كيللر في وسط الغرفة وصاح يقول على رؤوس الأشهاد، بلهجة جازمة قاطعة، مفصّلاً كل كلمة من كلماته:
– أيها السادة، إذا أعلن أحد منكم مرة أخرى، بحضوري، الافتراض القائل بأن هيبوليت تعمّد أن ينسى الكبسولة؛ إذا ادعى أحد منكم أن الشاب الشقي المسكين كان يمثل تمثيلاً، فليكونن له معي شأن!...
لم يجبه أحد. وكان الضيوف قد تفرقوا أخيراً جماعات، وانصرفوا مسرعين. ومضى بتتسين وجانيا وروجويين معاً.
أدهش الأمير أن يرى أوجين بافلوفتش يغيّر رأيه ويمضي قبل أن يتحدث إليه كما طلب. فسأله:
– ألم تكن تريد أن تتحدث معي قبل انفضاض الحفل؟
فأجابه أوجين بافلوفتش وهو يجلس فجأة ويُجلس الأمير إلى جانبه:
– صحيح. لكنني غيرت رأيي الآن. أعترف لك بأنني منفعل، وأعرف أنك منفعل أنت أيضاً. أفكاري مشتتة مضطربة. ثم إن المسألة التي كنت أريد أن أكاشفك فيها تهمني إلى أبعد الحدود، وتهمك إلى أبعد الحدود. لقد أردت يا أمير أن أقوم، ولو مرة واحدة في حياتي، بعمل شريف كل الشرف، أعني بعمل خالي من كل غموض، مبرأ من أية فكرة مبيتة! وإذ أنني لا أملك الآن، في هذه الدقيقة، أن أكون قادراً على ذلك كل القدرة؛ وإذ أنك قد تكون أنت أيضاً في مثل حالتي... فـ... فـ... فلنرجئ تلك المكاشفة إلى وقت آخر. من الجائز أن تتضح الأمور لي ولك على السواء، إذا تركنا الأمر يومين أو ثلاثة، وهذه هي المدة التي أنوي أن أقضيها في بطرسبرج.
قال أوجين بافلوفتش ذلك ونهض عن كرسيه من جديد، فلا يفهم المرء لماذا جلس قبل ذلك. أحسّ الأمير أنه كان مستاء غاضباً، ولاحت له في نظرته عداوة لم تعبر عنها من قبل. وسأل الأمير فجأة:
– بالمناسبة، أأنت ذاهب إلى المريض الآن؟
فقال الأمير:
– نعم.. أنا خائف عليه!
– لا تخف! سيعيش ستة أسابيع أخرى، حتى لقد يشفى هنا. ولكن الأفضل أن تطرده منذ الغد.
– لعلني قد حرّضته أنا أيضاً بصمتي دون أن أشعر... لعله ظن أنني كنت أنا أيضاً أشك في صدق عزمه على الانتحار. ما رأيك يا أوجين بافلوفتش؟
– لا، بتاتاً! إنك تسرف في طيبة القلب إذا ظللت تكترث بهذا الأمر! لقد سمعت من يقول، دون أن تتاح لي فرصة التحقق من هذا الرأي في يوم من الأيام، إن الإنسان قد ينتحر خصيصاً ليجنذب إله مدح الآخرين له، أو لأنه غاضب من أن أحدًا لم يمدحه. وما كان لي أن أصدق خاصة أن المرء يمكن أن يبدي ضعفه إبداءً يبلغ هذا المبلغ من الصراحة. ولكن مهما يكن من أمر، يجب عليك أن تطرده منذ الغد!
– هل تعتقد أنه سيكرر محاولة الانتحار؟
– لا، لن يكررها. ولكن يجب عليك أن تحذر الروسي الذي ينتمي إلى نوع «لا سنير»! أعود فأقول لك: إن الجريمة هي الملاذ المألوف الذي يلجأ إليه أمثال هؤلاء التافهين العاجزين الذين يحرقهم نفاد الصبر ويأكلهم الحسد أكلاً!
– أهو إذن من نوع «لا سنير»؟
– الجوهر واحد، ولكن ربما كان الظرف مختلفاً. لسوف ترى هل يتورع هذا السيد عن ذبح عشرة أشخاص، ولو لمجرد أن «يدبر مقلباً»، على حد التعبير الذي استعمله حين قرأ دفتره . إن أقواله ستحرمني الآن النوم.
– لعلك تغالي في مخاوفك.
– إن أمرك لعجيب يا أمير. ألا تصدّق أنه لا يتورع عن أن يقتل «الآن» عشرة أشخاص؟
– أخشى أن أجيبك. هذا كله عجيب. ولكن، ولكن...
ختم أوجين بافلوفتش الكلام قائلاً بلهجة ساخطة:
– طيب. لك ما تشاء! ثم إنك رجل شجاع! ولكن حاول أن لا تكون أنت نفسك إحدى ضحاياه!
قال الأمير وهو ينظر إلى أوجين بافلوفتش شارد الذهن:
– الأرجح أنه لن يقتل أحداً.
فضحك أوجين بافلوفتش ضحكة ساخرة ماكرة. وقال:
– إلى اللقاء. آن الأوان. بالمناسبة: هل لاحظت أنه يورث آجلايا إيفانوفنا نسخة من اعترافه؟
– نعم، لاحظت ذلك... و... ودعاني هذا إلى التفكير.
قال أوجين بافلوفتش وهو يضحك ساخراً من جديد:
– ذلك ما يؤدي بنا إلى الضحايا العشر.
ثم خرج.
بعد ساعة، بين الثالثة والرابعة من الصباح، نزل الأمير إلى الحديقة العامة. كان قد حاول أن ينام في بيته، ولكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلا بسبب دقات قلبه الشديدة العنف. ثم إن كل شيء في بيته قد عاد إلى النظام والهدوء، نام المريض، وأعلن الطبيب الذي جاء يعوده أنه غير معرّض لأي خطر مباشر. وقد نام ليبديف وكوليا وبوردوفسكي في غرفته ليتناوبوا السهر عليه. فلا خوف إذن على شيء.
ومع ذلك كان قلق الأمير يزداد دقيقة بعد دقيقة. ضرب في الحديقة على غير هدى، ملقياً حواليه نظرات ذاهلة، ثم توقف مدهوشا حين وصل من غابة الحديقة إلى البقعة الجرداء التي تقع أمام الفوكسهول، فرأى صفوف المقاعد الخالية ومساند دفاتر الأوركسترا. خطف بصره منظر هذا المكان إذ وجده قبيحاً قبحاً رهيباً، لا يدري لماذا! فعاد أدراجه، وسار في الطريق الذي كان قد اتبعه أمس مع أسرة إيبانتشين للذهاب إلى الفوكسهول. فلما وصل إلى الدكة الخضراء، مكان الموعد المضروب، جلس وانفجر يضحك ضحكة مفاجئة صاخبة سرعان ما لام نفسه عليها مستاء أشد الاستياء. لكم يبارحه غمه وقلقه. ودّ لو يضرب في الأرض على غير هدى... أن يذهب إلى أي مكان بغير هدف، وغرد على الشجرة فوقه عصفور صغير. فأخذ يبحث عنه بعينيه بين أوراق الأغصان، وطار العصفور صافقاً جناحيه على حين فجأة. فذكره رأساً بتلك «الذبابة الصغيرة المدندنة في شعاع من الشمس محرق»، التي كتب هيبوليت بصددها «أنه يعرف مكانه في جوقة الطبيعة هذه» حيث لا يوجد دخيل غيره، هو هيبوليت. إن تلك الجملة التي سبق أن خطفت انتباهه حينذاك، تعود الآن إلى فكره. واستيقظت في نفسه ذكرى نائمة منذ زمن بعيد، فإذا هي تشرق في هذه اللحظة بضياء مفاجئ.
كان ذلك بسويسرا، أثناء السنة الأولى بل أثناء الأشهر الأولى من معالجة مرضه. كان يُعدّ في ذلك الحين أبله تماماً. كان لا يستطيع حتى أن يعبّر عما يريد التعبير عنه، بلغة سليمة، وكان في بعض الأحيان لا يفهم ما يُطلب منه أو يسأل عنه. ومضى ذات يوم إلى الجبل، وكان النهار واضحاً وكانت الشمس متلألئة. ظل مدة طويلة يطوف على غير هدى، تعذبه فكرة أليمة كاوية لكنه لا يتوصل إلى صياغتها بكلام. كان يرى أمامه سماء ساطعة، ويرى تحت قدميه بحيرة رائعة، ويرى من حوله أفقاً نيراً مضيئاً يبلغ من السعة أنه يبدو بغير حدود. تأمل هذا المنظر مدة طويلة مهصور القلب غماً وهمًا. إنه يتذكر الآن أنه مدّ يديه إلى ذلك الأوقيانوس من الضياء واللازورد، وأنه ذرف دموعاً غزيرة. كان يعذبه أن يتصور أنه غريب عن هذا كله. ما هذه الوليمة، ما هذه الحفلة التي لا نهاية لها، والتي كان يحس أنه منجذب إليها منذ الأزل، منذ طفولته، دون أن يستطيع المشاركة فيها قط. الشمس تطلع مشرقة في كل صباح. وفي كل صباح يرتسم قوس قزح فوق الشلال. حتى إذا غابت الشمس، التهبت بنار كالأرجوان، في كل مساء، عند الأفق، الذروة المغطاة بالثلج من أعلى جبل حول هذه الأراضي. إن كل «ذبابة صغيرة تدندن حوله في شعاع محرق من شمس، فتشارك في جوقة الطبيعة هذه: إنها تعرف مكانها، وتحبه، وهي سعيدة به». كل عشبة تنمو وتسعد! لكل كائن طريقه الذي يعرفه. يصل ويرحل مغنياً! أما هو، فهو الوحيد الذي لا يعرف شيئاً، ولا يفهم شيئاً، لا البشر، ولا أصوات الطبيعة، لأنه غريب أجنبي في كل مكان، ولأنه في كل مكان دخيل منبوذ. صحيح أنه كان في ذلك الحين لا يستطيع أن يعبر عن شعوره بهذه الألفاظ، ولا أن يصوغ سؤاله بهذه العبارات. كان ألمه أصم أبكم. ولكنه يتخيل الآن أنه في ذلك الحين كان يقول هذا كله بهذه العبارات نفسها. وخيل إليه أن كلام هيبوليت عن «الذبابة الصغيرة»، إنما هو مأخوذ عنه ومستمد من الدموع التي كان يذرفها في تلك الأيام. إنه مقتنع بهذا، لا يدري لماذا؛ وكانت هذه الفكرة تجعل قلبه يخفق.
وغفا على الدكة، لكن اضطرابه لاحقه حتى في النوم. تذكر، حين نام، ما افترضه أوجين بافلوفتش من أن هيبوليت يمكن أن يقتل عشرة أشخاص، فابتسم لهذه الفكرة المستحيلة السخيفة. وكان يرين حوله صمت مضيء جليل. وكان حفيف أوراق الشجر يقوي الهدوء والعزلة. ورأى الأمير أحلاماً كثيرة كانت كلها مقلقة تبعث على الغم، وتُجري في الجسم رعدات لا تنقطع. وأخيراً اقتربت منه امرأة. إنه يعرفها، يعرفها إلى حد الألم. إنه ما يزال يستطيع أن يسميها، أن يعينها، ولكن الشيء الغريب هو أن لها الآن وجهاً آخر مختلفاً كل الاختلاف عن الوجه الذي رآه فيها دائماً. شعر بنفور أليم من رؤيتها في هذه الملامح الجديدة. إن الوجه يعبر عن الندم والذعر تعبيراً يبلغ من القوة أن المرء يمكن أن يشعر أن هذه المرأة مجرمة رهيبة، وأنها آتية الآن من اقتراف جرم فظيع. كانت ترتجف على وجهها الشاب عبرة. نادته بحركة من يدها ووضعت أصبعها على شفتيها، كأنما هي تدعوه أن يتبعها بغير ضجة. انهار قلبه. كان لا يريد أن يرى فيها مجرمة، بأية من الأحوال، ولكنه أحس أن حادثاً هائلاً يوشك أن يقع، وأن هذا الحادث سيؤثر في مجرى حياته كلها. كان يبدو أنها تريد أن تريه شيئاً ما، في مكان غير بعيد، بالحديقة العامة. نهض ليتبعها، ولكن ضحكة رائقة نضيرة رنت فجأة قربه؛ وإذ يد تصير في يده على حين بغتة. أمسك اليد بقوة، واستيقظ من نومه.
كانت آجلايا تضحك مقهقهة.
الفصل الثامن
كانت تضحك، ولكنها كانت مستاءة في الوقت نفسه.
صاحت تقول بلهجة الدهشة والازدراء:
– إنه نائم. أكنت نائماً؟
فتمتم الأمير يقول قبل أن يسترد وعيه، وقد تعرفها مدهوشاً:
– هذا أنت؟ ها... نعم... بيننا موعد مضروب... لقد نمت هنا!
– لاحظتُ ذلك طبعاً!
– ألم يوقظني أحد غيرك؟ ألم يجئ إلى هنا أحد سواك؟ ظننت أن قد كانت هنا... امرأة أخرى.
– امرأة أخرى هنا؟
واستردّ الأمير وعيه كاملاً آخر الأمر. فقال شارد الذهن:
– لم يكن ذلك إلا حلماً. ولكنه حلم غريب، في هذه اللحظة. اجلسي.
وشدّها من يدها وأجلسها على الدكة، وجلس هو إلى جانبها، وغرق في أفكاره وخواطره. لم تقطع آجلايا الصمت واكتفت بأن تحدّق إليه. وكان ينظر إليها هو أيضاً، ولكنه ينظر إليها في بعض الأحيان وكأنه لا يراها أمامه. أخذ وجهها يحمرّ.
قال الأمير مرتعشاً:
– أطلق هيبوليت في صدغه طلقة مسدس.
فسألته دون أن تظهر عليها دهشة شديدة:
– متى؟ عندك؟ أمس مساءً، كان ما يزال حيا فيما أظن!
ثم أضافت تقول بحرارة:
– كيف أمكنك أن تجيء وتنام هنا بعد حادثٍ كهذا الحادث؟
قال الأمير:
– لكنه لم يمت. لم تنطلق الطلقة.
وطفق الأمير، تلبية لرجاء آجلايا، يقص عليها فوراً، بتفاصيل كثيرة، كل ما جرى في الليلة الماضية. فكانت تستعجله سرد التتمة بغير انقطاع، ولكنها تقاطعه هي نفسها بإلقاء أسئلة كثيرة متصلة لا تكاد تتعلق بالموضوع. وقد اهتمّت اهتماماً خاصاً بما قاله أوجين بافلوفتش، حتى لقد سألت الأمير مراراً حول هذا. فلما انتهى من سرد القصة قالت:
– كفى هذا! يجب أن أسرع! ليس أمامنا إلا ساعة واحدة نقضيها هنا، ويجب أن أكون بالمنزل في الساعة الثامنة قطعاً، حتى لا يعلموا إنني جئت إلى هذا المكان. وأنا إنما جئت هنا لأمر. ثمة أشياء كثيرة يجب أن أنقلها إليك. لكنك قطعت عليّ تسلسل فكري. ففيما يتعلق بهيبوليت أعتقد أن مسدسه ما كان يمكن إلا أن يخيب. فهذا يتفق وطبيعة الشخص. ولكن أأنت موقن أنه أراد أن ينتحر حقاً، وأن ذلك لم يكن تمثيلاً؟
– لا، لم يكن ذلك تمثيلاً!
– هذا هو الأرجح فعلاً. وقد أوصى، كتابةً، بأن عليك أن تحمل إليّ «اعترافه»؟ فلماذا لم تجئني به؟
– ألم أقل لك إنه لم يمت؟ سأطلبه منه.
– جئني به حتماً، ولا تطلب منه شيئاً. أنا أعلم أن ذلك لا يمكن إلا أن يسرّه، ولعله لم يشأ أن ينتحر إلا لأقرأ أنا بعد ذلك اعترافه. أرجوك يا ليون نيقولايفتش، لا تضحك مما أقوله لك: إن هذا التفسير قد يكون هو التفسير الصحيح.
– لست أضحك، فأنا نفسي أعد هذا التفسير جائزاً جداً.
– أنت أيضاً؟ أيمكن أن تكون قد ساورتك هذه الفكرة نفسها؟
كذلك سألته آجلايا بدهشة مفاجئة.
كانت تسأله متعجلة، وتتكلم بسرعة، ويظهر عليها الاضطراب في بعض الأحيان، وكثيراً ما تسكت قبل أن تتم جملتها. وهي في كل لحظة تبادر إلى إبلاغه هذا الأمر أو تحذيره من ذاك. فكان اضطرابها شديداً على وجه العموم، رغم أن نظرتها واثقة بل ومتحدية، ولعلها كانت في قرارة نفسها وَجِلَة.
إنها جالسة في أقصى الدكة، تكسوها ثياب بسيطة، فهي ترتدي ثوباً مما يلبس كل يوم، لكنه يناسبها كثيراً. وقد ارتعشت واحمرّت مراراً. وقد دهشها أعمق الدهشة أن تسمع الأمير يؤكد أن هيبوليت إنما أطلق على رأسه النار من أجل أن تقرأ هي اعترافه.
قال الأمير شارحاً:
– ولا شك أنه كان يريد، بغض النظر عنك أنت، أن نغدق عليه. المديح...
– المديح؟ كيف؟
– أقصد... كيف أشرح لك هذا؟ إن التعبير عن هذا الأمر صعب جداً. لا شك أنه كان يرغب في أن يرى جميع الناس يسرعون إليه فيحتشدون حوله ويعربون له عن عواطف المحبة والتقدير، ويضرعون إليه أن لا يقتل نفسه. جائز جداً أنه فكر فيك أكثر مما فكر في الآخرين، فإنه في لحظة كتلك اللحظات قد سمّاك أنت.. وإن يكن من المحتمل أنه لم يدرك هو نفسه أنه كان يفكر فيك.
– أصبحت لا أفهم شيئاً: يفكر في دون أن يدرك أنه يفكّر فيّ! بلى، بلى! فهمت؛ أظن أنني فهمت. هل تعلم أنني أنا نفسي، حين كنت بنيةً في الثالثة عشرة من العمر، قد خطر ببالي ثلاثين مرة أن أتجرع سمًّا، وأن اشرح كل شيء في رسالة أكتبها لأبوي!؟ كنت أتصور نفسي مسجاةٍ في التابوت، وأتصور جميع أهلي يبكون من حولي، ويلومون أنفسهم على أنهم كانوا قساة تلك القسوة كلها معي..
ثم أضافت تقول بقوة وهي تقطّب حاجبيها تقطيباً شديداً:
– لماذا تبتسم أيضاً؟ في أي شيء تفكر أنت إذن حين تخلو إلى نفسك وتخلد إلى العزلة في أحلامك؟ أتراك تتصور نفسك مارشالًا يقاتل نابليون؟
فأجاب الأمير ضاحكاً:
– يميناً أن هذا بعينه هو ما أفكر فيه، ولا سيما حين أنام. ولكنني لا أقاتل نابليون بل أقاتل النمساويين.
– إنني لا أمازحك البتة يا ليون نيقولايفتش. سوف أرى هيبوليت بنفسي، فأرجوك أن تبلغه رغبتي هذه. أما أنت فإنني أرى أن نظرتك إلى نفس فتى مثل هيبوليت وحكمك عليها تشتملان على شرٍّ قبيح، لأن فيهما فظاظة وغلظة. إنك امرؤ خال من عاطفة الحنان، إنك لا ترى إلا الحقيقة وحدها، فأنت لهذا ظالم.
أخذ الأمير يفكر. ثم قال:
– بل أنت الظالمة في حكمك عليّ، فأنا لا أرى أي بأس في أن تكون تلك الفكرة قد خطرت بباله. إن جميع الناس يجنحون إلى أن تراودهم هذه الفكرة. ثم إن من الجائز أن لا تكون تلك الفكرة قد ملكت عليه نفسه، وإنما هي خاطرة ومضت في ذهنه لا أكثر! لقد أراد أن يوجد في المجتمع مرة أخيرة، وأن يستحق اعتبار الناس، وأن يكون جديراً بمحبتهم. وتلك عواطف عظيمة رائعة. لكن ذلك كله لم يتهيأ له. ومرد هذا إلى المرض، وإلى ما لا أدري أيضاً!... إن هناك أناساً يظفرون بما يريدون، وأناساً يضلون السبيل إلى ما يشتهون، فيخفق كل ما يحاولون...
قالت آجلايا:
– لا شك أنك فكرت في نفسك وأنت تقول هذا الكلام!
فتابع الأمير كلامه دون أن ينتبه إلى ما اشتملت عليه ملاحظة آجلايا من مكر:
– نعم.
– على كل حال، لو كنت أنا في مكانك لما نمت. أما أنت فتستسلم للنوم حيثما توجد. وليس بالمستحسن أن يصدر هذا عنك.
– ولكنني ظللت سهران طول الليل، ثم مضيت أطوّف هنا وهناك، وذهبت إلى مكان الموسيقى...
– أي موسيقى؟
– المكان الذي كانت تُعزف فيه الموسيقى مساء أمس؛ ثم جئت إلى هنا، وجلست، وفكرت طويلاً، ثم غفوت...
– ها... حقاً؟ هذا يغير الأمر بحيث يشرّفك ولا يضيرك... ولكن لماذا ذهبت إلى مكان الموسيقى؟
ــ لا أدري... ذلك ما حدث...
– طيب طيب، سنتحدث عن هذا فيما بعد. إنك تقاطعني دائماً. فيم يهمني أن تكون قد ذهبت إلى مكان الموسيقى؟ قل لي: من هي هذه المرأة التي رأيتها في الحلم؟
– إنها... إنها... لقد رأيتها أنت...
– فهمت... فهمت... إنك تحمل لها كثيراً من... على أية حال رأيتها! في أي صورة ظهرت لك؟
ثم أضافت تقول بشيء من غضب مفاجئ:
– على كل حال، لا أريد أن أعرف عن هذا شيئاً. إنك تقاطعني دائماً. لا تقاطعني.
وتوقفت عن الكلام لحظة كأنما لتسترد أنفاسها أو لتحاول كظم غضب شبّ في نفسها. ثم أضافت تقول شبه حانقة:
– إليك الأمر الذي من أجله طلبت منك أن تجيء: أريد أن أعرض عليك أن تكون صديقي. ثم أضافت: ما بالك تنظر إليّ هكذا؟
كان الأمير، في تلك اللحظة، ينظر إليها فعلاً بكثير من الانتباه، لأنه لاحظ أنها عادت تحمرّ احمراراً شديداً. وهي في مثل هذه الحالة يزداد غضبها من نفسها على قدر ازدياد احمرارها، فذلك يُقرأ في التماعات عينيها؛ حتى إذا انقضت دقيقة صبّت غضبها على محدّثها في العادة، سواء أكان مذنباً أم غير مذنب، فهي تأخذ تناكده باحثة عن أي وسيلة لمشاجرته. إنها لمعرفتها بطبعها المتوحش وبحيائها قلما تتدخل في الحديث، فهي صموت أكثر من أختيها، حتى إن عيبها هو الإفراط في الصمت. حتى إذا كانت في ظرف حرج دقيق، كالظرف الذي توجد فيه الآن ولا تستطيع أن تستغني فيه عن الكلام، فإنها تتكلم بتعال مفتعل وتكبر مصطنع وهيئة فيها شيء من التحدي. وهي تتنبأ دائماً باللحظة التي ستحمر فيها أو ستأخذ فيها بالاحمرار.
قالت للأمير وهي ترشقه بنظرة متغطرسة:
– أتراك لا تريد قبول ما أعرضه عليك؟
فقال الأمير خجلان مضطرباً:
– بالعكس، أريد جداً. ولكن... ولكن هذا لم يكن ضرورياً البتة... أقصد إنني لم أكن أتصور أن من الضروري أن يُصاغ هذا العرض بالكلام.
– فماذا كنت تظن إذن؟ ما عسى يكون السبب الذي دعاني أن أطلب منك المجيء إلى هنا؟ لعلك تنظر إليّ نظرتك إلى صغيرة. حمقاء، كما يفعل الجميع في بيتنا؟
– لم أكن أعلم أنهم ينظرون إليك نظرتهم إلى حمقاء.. أنا... أنا لا أنظر إليك هذه النظرة.
– أنت لا تنظر إليّ هذه النظرة؟ هذا يدل على ذكاء كبير من جانبك. وقد قلت كلامك بكثير من براعة الفكاهة على كل حال!
تابع الأمير كلامه فقال:
– بل قد تكونين على قدر كبير من عمق الفهم وسداد الفكر أحياناً. من ذلك أنك قلت كلمة ملأى بالحكمة منذ قليل: «أنتَ لا ترى إلا الحقيقة وحدها، فأنت إذن ظالم» سأظل أذكر هذه الملاحظة وأتأمل فيها.
احمرّت آجلايا لذةً ونشوة على حين فجأة. كانت هذه التغيرات كلها تحدث في نفسها بسرعة خارقة وانطلاق كامل. وسرّ الأمير هو أيضاً، وأخذ يضحك فرحاً وهو ينظر إليها.
وعادت تتكلم فقالت:
– اسمع. لقد انتظرتك طويلاً لأروي لك هذا كله. انتظرتك منذ اللحظة التي كتبت إليّ فيها رسالتك من هناك، بل وقبل ذلك... ولقد سمعت في مساء الأمس نصف ما كان عليّ أن أقوله لك: إنني أعدّك أشرف إنسان وأصدق إنسان. وإذا قيل عنك إن في عقلك.. إن في عقلك مرضاً، فهذا ظلم. إنني مقتنعة بما أقول، وقد دافعت عن اقتناعي هذا. ولئن كان في عقلك مرض حقاً (لا تؤاخذني إن قلت هذا، فأنا أفهم هذه الكلمة من وجهة نظر سامية)، فأنت تملك من الذكاء الأساسي ما لا يملكه أي واحد منهم، بل إنك تملك من هذا الذكاء قدراً يعجزون حتى عن تصوّره. ذلك أن الذكاء ذكاءان: ذكاء أساسي وذكاء ثانوي. أليس كذلك؟ أليس هذا حقاً؟
تمتم الأمير يقول بصوت خافت لا يكاد يُسمع:
– قد يكون الأمر كما تقولين.
وكان قلبه يدق دقًّا قويًا، ويخفق خفقاناً عنيفاً.
وتابعت هي كلامها فقالت بلهجة جليلة:
– كنت على يقين من أنك ستفهمني. إن الأمير «شتش...» وأوجين بافلوفتش لا يفهمان شيئاً من هذا التمييز بين الذكاءين. وكذلك ألكسندرا. ولكن هل تتصور أن ماما قد فهمته؟
قال الأمير:
– إنك تشبهين إليزابت ألكسندروفنا كثيراً.
فسألته آجلايا مدهوشة:
– كيف؟ حقا؟
– أؤكد لك.
قالت بعد لحظة من تفكير:
– أشكرك. يسعدني كثيراً أن أشبه «ماما».
ثم أضافت تسأله دون أن تدرك سذاجة سؤالها:
– فأنت تقدّرها إذن كثيراً؟
– كثيراً. وإني لسعيد أن أرى أنك قد فهمت ذلك حالًا.
– أنا أيضاً سعيدة؛ ذلك أنني لاحظت أنهم... في بعض الأحيان... يسخرون منها، ولكن اسمع: إن الأمر الجوهري هو أنني فكرت مليًّا قبل أن يقع اختياري عليك. لا أريد أن يسخروا مني في البيت، ولا أن يعاملوني فيه معاملة بنتٍ صغيرة طائشة العقل. لا أريد أن يناكدوني ويغيظوني.... لقد فهمتُ هذا كله دفعة واحدة؛ ورفضتُ أوجين بافلوفتش رفضاً قاطعاً لأنني لا أريد أن يكون همّهم الدائم أن يزوّجوني! أريد... أريد.. نعم.. أريد أن أهرب من البيت! وقد اخترتك أنت لتساعدني في الهروب.
هتف الأمير يسألها:
– تهربين من البيت؟
فصاحت تقول له بحركة عنيفة مفاجئة من غضب:
– نعم، نعم، ثم نعم... لا أريد بعد الآن، لا أريد بعد الآن أن يجعلوني احمرّ خجلاً بغير انقطاع. لا أريد أن أحمر لا أمامهم، ولا أمام الأمير «شتش...»، ولا أمام أوجين بافلوفتش، ولا أمام أي إنسان؛ ولذلك وقع اختياري عليك. معك أستطيع أن أتكلم في كل شيء. في كل شيء، حتى في أخطر الأمور شأناً إذا حلا لي ذلك. وعليك أنت، من جهتك، أن لا تخفي عني شيئاً في يوم من الأيام. أريد أن يكون هناك إنسان، على الأقل، أستطيع أن أكلمه في كل شيء كأنني أكلم نفسي. لقد أخذوا يقولون فجأة إنني أنتظرك وإنني أحبك. بدأ هذا قبل وصولك، ولم أكن قد أريتهم رسالتك. وهم الآن يردّدون جميعاً هذه النغمة. أريد أن أكون جسورة فلا أخشى شيئاً. لا أريد أن أذهب إلى حفلات الرقص التي يقودوني إليها. أريد أن أكون نافعة. منذ مدة طويلة أريد أن أرحل. ها قد حبسوني عشرين عاماً كاملة، ثم أصبحوا لا يفكرون إلا في تزويجي، لم يكن عمري إلا أربعة عشر عاماً حين أخذت أحلم بالهروب. كنت ما أزال صبية حمقاء. والآن رتبت كل شيء، وانتظرتك لأحصل منك على جميع المعلومات عن الحياة في الخارج. لم أر في حياتي كاتدرائية قوطية. أريد أن أذهب إلى روما، أن أزور مراكز علمية. أريد أن أدرس بباريس. لقد أعددت نفسي لهذا فعملت طوال السنة الماضية. قرأت عدداً كبيراً من الكتب، بينها جميع الكتب المحظورة. إن ألكسندرا وآديلائيد تستطيعان أن تقرءا كل شيء. ذلك مسموح لهما به؛ أما أنا فهذا محظور علي؛ وهم يراقبوني. لا أريد أن أختصم مع أختيّ، ولكنني أعلنت لأمي وأبي منذ مدة طويلة أنني أنوي تغيير حياتي تغييراً جذرياً. لقد قررت أن أُعنى بالتربية، وإني لأعتمد عليك، فقد قلت لي إنك تحب الأطفال. هل تعتقد أن في وسعنا أن نُعنى معاً بالتربية، إن لم يكن الآن ففي المستقبل على الأقل؟ سنقوم معاً بجهد مفيد وعمل نافع. لا أريد أن أكون بنت جنرال... قل لي: أأنت رجل غزير العلم واسع الثقافة؟
– لا، بتاتا.
– خسارة. كنت أنا أظن... كيف تخيّلت هذا؟ لا ضير، ستوجّهني وسترشدني، على كل حال، ما دام اختياري قد وقع
– هذا مستحيل يا آجلايا إيفانوفنا.
صاحت آجلايا تقول وقد أخذت عيناها تتقدان من جديد:
– أريد، أريد أن أهرب من البيت! فإذا لم توافق أنت، فسأتزوج جبريل آرداليونوفتش. لا أريد أن تنظر إليّ أسرتي نظرتها إلى فتاة شريرة، وأن تتهمني بما لا أدري من تهم!
هتف الأمير وهو يكاد يثب من مكانه:
– أنت تملكين عقلك أم لا؟ بماذا يتهمونك، ومن ذا يتهمك؟
– جميع من بالبيت: أمي، أختاي، أبي، الأمير «شتش...»، وحتى صاحبك السيئ كوليا! وإذا كانوا لا يقولون لي شيئاً أمام وجهي، فهذا لا ينفي أنهم في دخائل أنفسهم يفكرون في ذلك.
لقد صارحتهم جميعاً بهذا. وصارحت به أمي. فمرضت أمي من ذلك طوال النهار، وفي الغداة قالت لي ألكسندرا، هي وأبي، إنني لا أدرك حتى معنى هذا الهذر السخيف وهذه الكلمات التي استعملها. فرددت عليهما قائلة بلهجة القطع والجزم إنني الآن أدرك كل شيء، وأدرك معاني جميع الكلمات، وإنني لست الآن بنية صغيرة، وإنني قرأت منذ سنتين روايتين من تأليف بول دي كوك، قرأتهما خصيصاً لأطلع على كل شيء، وأعرف كل شيء. فحين سمعت أمي هذا الكلام أوشكت أن يُغمى عليها.
ومضت في ذهن الأمير فكرة غريبة. حدّق إلى آجلايا وابتسم. كان يصعب عليه أن يصدّق أن أمامه تلك الفتاة المتعالية نفسها التي قرأت له في الماضي، بكثير من الكبرياء المستفزة، رسالة جبريل آرداليونوفتش. لم يستطع أن يفهم كيف يمكن أن تنكشف في فتاة جميلة لها ذلك الطبع المتغطرس المتوحش، كيف يمكن أن تنكشف فيها على حين فجأة طفلة لعلها لا تدرك حقاً معنى «جميع الكلمات التي تستعملها».
سألها:
– هل قضيت حياتك كلها في البيت يا آجلايا إيفانوفنا؟... أقصد.. ألم تذهبي إلى المدرسة؟ ألم تلتحقي بمدرسة داخلية.
– لا، لم أذهب في حياتي إلى أي مكان. حُبست دائماً في البيت حتى لكأنني حُبست في زجاجة، ولن أخرج من البيت إلا لأتزوج. لماذا تظل تبتسم هذه الابتسامة الساخرة؟ ألاحظ أنك أنت أيضًلا تسخر مني وتتحيّز لهم...
أضافت آجلايا هذه الجملة الأخيرة وقد قطبت حاجبيها وظهرت في هيئتها علائم التهديد. وتابعت كلامها فقالت:
– لا تحنقني. أنا نفسي لا أعلم ماذا يحدث في نفسي. إني لواثقة بأنك جئت إلى هنا مقتنعاً كل الاقتناع بأنني أهواك وأنني ضربت لك موعدًا...
أضافت هذه العبارة بلهجة غضب.
فقال الأمير معترفاً بسذاجة، وكان يشعر بانفعال شديد:
– حقاً لقد كنت بالأمس خائفاً من هذا. أما اليوم فأنا مقتنع بأنك..
صاحت آجلايا تقول وقد أخذت شفتها السفلى تختلج على حين فجأة:
– ماذا؟ كنت خائفاً من أن... هل تجرأت أن تظن أنني... رباه! لعلك كنت تفترض أنني دعوتك إلى هنا ليفاجئونا فتكون مضطراً أن تتزوجني...
– آجلايا إيفانوفنا! كيف لا تخجلين من قول هذا الكلام؟ كيف يمكن أن تنبت في قلبك الطاهر البريء فكرة تبلغ هذا المبلغ من الحطة؟ أراهن أنك أنت نفسك لا تصدقين كلمة واحدة مما قلته... بل وأنك لا تعرفين معنى هذه الأقوال التي تخرج من فمك!..
ظلت آجلايا خافضة رأسها، ساكنةً لا تتحرك، كأنها مروّعة مما قالته. ثم تمتمت تقول:
– لا، لا أخجل البتة! ثم من أين عرفت أن لي قلباً بريئاً؟ وكيف، والحالة هذه، تجرأت أن تبعث إليّ رسالة حب؟
– رسالة حب؟ رسالتي رسالة حب؟ لقد كانت تلك الرسالة تعبيراً عن أعمق الاحترام. وقد خرجت من قرارة قلبي في لحظة من أصعب لحظات حياتي. فكرت فيك حينذاك كما يفكر المرء في ضياء.. إنني...
قاطعته آجلايا فجأة، ولكن بلهجة أخرى تختلف عن لهجتها الأولى كل الاختلاف، لهجة تكشف عن ندم عميق يشبه أن يكون روعاً:
– طيب... طيب... كفى!...
حتى لقد مالت عليه، وأجرت بيدها حركةً كأنها تريد أن تلمس كتفه لتدعوه بأحسن طريقة مقنعة أن لا يزعل، مع استمرارها على غض بصرها حتى لا تنظر إليه. وعادت تكرر قائلة باضطراب شديد:
– طيب، طيب... أحس بأنني استعملت تعبيراً فيه غباء. وإنما قصدت من ذلك أن... أن أمتحنك. افرض أنني لم أقل شيئاً. إذا كنتُ قد آذيت شعورك فاغفر لي. أرجوك: لا تنظر إليّ محدقاً في عيني. أشح وجهك عني. لقد صرّحت منذ لحظة بأنها فكرة منحطة. وأنا إنما عبرت عنها عامدة لألسعك. يتفق لي أحياناً أن أخاف مما أحب أن أقوله، ثم إذا هو يفلت من لساني فجأة. وقد أضفتَ أنك كتبت إليّ تلك الرسالة في لحظة من أصعب لحظات حياتك.
ثم قالت وهي تخفض صوتها وتعود تطرق إلى الأرض:
– إنني أعرف ما هي تلك اللحظة التي عنيت.
– ليتك تعرفين كل شيء!
– أعرف كل شيء!
كذلك صاحت تقول في نوبة انفعال جديدة. وتابعت كلامها فقالت:
– في ذلك العهد كانت تشاركك بيتك تلك المرأة السيئة التي هربت معها...
حين نطقت آجلايا بهذه الكلمات زايلت وجهها حمرته، وشحب لونها شحوباً شديداً. ونهضت فجأة كأنما حركتها اندفاعة قوية بغير شعور منها، ولكنها سرعان ما ثابت إلى وعيها وسيطرت على نفسها فعادت تجلس. ظلت شفتها تختلج مدة طويلة. وشُده الأمير من هذه الاندفاعة التي لم يكن يتوقعها، ولا عرف إلى ماذا يعزوها.
قالت فجأة بلهجة قاطعة:
– أنا لا أحبك البتة!
فلم يجب الأمير. وساد الصمت دقيقة من جديد.
قالت بصوت متعجل لا يكاد يفهم وهي تخفض رأسها مزيداً من الخفض:
– أنا أحبّ جبريل آرداليونوفتش...
قال الأمير يردّ عليها بما يشبه الهمس:
– غير صحيح.
– أأنا أكذب؟ تلك هي الحقيقة بعينها. وقد قطعتُ له عهداً، على هذه الدّكة نفسها، أمس الأوّل.
ذُعر الأمير وبقي شارد الذهن لحظة، ثم قال بلهجة قاطعة:
– هذا غير صحيح. لقد لفَّقتِ هذه القصّة تلفيقاً.
– إنّك لعلى أدب جمّ وتهذيب عظيم! أريد أن تعلم أنّ جبريل آرداليونوفتش قد تغير وتحسن. إنه يحبُّني أكثر من حياته. وقد حرق يده أمامي لا لشيء إلا لكي يبرهن إلى على ذلك.
– حرق يده؟
– نعم، يده! ويستوي عندي أن تصدّق وأن لا تصدّق!
صَمَت الأمير. لم تكن آجلايا مازحة. إنها الآن غاضبة.
– غريب! أيكون قد أتى إلى هنا بشمعة ليحرق يده؟ لست أرى وسيلة أخرى يمكن أن يحرق بها يده...
– نعم، أتى بشمعة. أي غرابة في هذا؟ أهذا غير معقول؟
– أشمعة كاملة أم عقب شمعة في شمعدان؟
– نعم... لا... نصف شمعة.. عقب شمعة.. شمعة كاملة. لا فرق. لا تلحّ! حتى لقد أتى بعيدان كبريت، وأبقى إصبعه فوق اللهب نصف ساعة. أيبدو لك هذا مستحيلاً؟
– لقد رأيته أمس، فلم يكن في أصابعه أي أثر من آثار حرق.
انطلقت آجلايا تضحك ضحك طفلة. ثم التفتت نحو الأمير بخفة، وفي وجهها ثقة كثقة الأطفال، بينما ارتسمت على شفتيها ابتسامة. وقالت:
– هل تعلم لماذا قصَصْتُ عليك هذه الكذبة؟ لأنني لاحظتُ أن أحسن طريقة يعمد إليها المرء من أجل أن يجعل كِذْبهُ معقولاً بعد أن يكون قد أخذ يكذب، هي أن يدخل في كذبته، على نحو بارع، عنصراً يخرج عن المألوف، عنصراً شاذّا، عنصراً نادراً، بل عنصراً لم يسمع أحد بمثلِهِ. ولكنني لم أنجح، لأنني لم أعرف كيف...
واكفهر وجهها فجأة كأن ذكرى قد ومضت في ذهنها. ثم استأنفت كلامها فقالت له وهي تُلقي عليه نظرة رصينة بل وحزينة:
– لقد أنشدتك في يوم من الأيام قصيدة «الفارس الفقير»، وكنت أهدف من ذلك إلى... إلى مدحك، ولكنني كنت أهدف في الوقت نفسه إلى أن أفضح سلوكك وأن أبيّن لك أنني على علم بكل شيء...
– إنك يا آجلايا تظلمينني كثيراً... وتظلمين تلك الإنسانة الشقية التي وصفْتِها منذ لحظة بكلماتٍ قاسية شديدة القسوة...
– أنا إنما عبّرتُ عن رأيي بتلك الألفاظ، لأنني أعرف كل شيء، كل شيء! أعرف أنك عرضت عليها الزواج على رؤوس الأشهاد، منذ ستة أشهر. لا تقاطعني: أنت ترى أنني أروي وقائع ولكنني لا أعلّق عليها. وبعد ذلك إنما هربتْ مع روجويين. ثم عِشْتَ معها في قرية من القرى أو ضاحية من الضواحي. ثم هجرتك والتحقت برجل آخر. (هنا احمرّت آجلايا احمراراً رهيباً). وبعد ذلك عادت إلى روجويين الذي يُجِبّها... يُحبّها حب جنون! ثم هأنت ذا تصل إلى هنا وراءها، زحفاً، منذ عَلِمْتَ أنها عادت إلى بطرسبرج، كما يليق برجل بارع الذكاء! وفي مساء أمس، انبريت تدافع عنها وتحميها؛ ومنذ لحظة كنت تراها في الحلم... أرأيت أنني أعرف كل شيء؟ من أجلها، من أجلها إنما رجعت إلى هنا، أليس كذلك؟
حنى الأمير رأسه حزيناً مفكراً، دون أن يدور بخلده أن آجلايا كانت ترشقُهُ بنظرة ملتهبة. وقال بصوب خافت:
– نعم من أجلها، من أجلها، ولكن لكي أعلم أن.. أنا لا أعتقد بأنها يمكن أن تسْعَد مع روجويين، رغم أنا... الخلاصة: إنني لا أرى ماذا أستطيع أن أفعل في سبيلها، ولكنني جئت...
قالت آجلايا أخيراً:
– إذا كنت قد جئت دون أن تعرف لماذا جئت، فهذا دليل على أنك تحبها كثيراً.
فردّ عليها الأمير قائلاً:
– لا، لا، أنا لا أحبّها! ليتك تعرفين مدى الهول الذي أعانيه حين أتذكر الزمن الذي قضيته معها!
وما إن قال هذه الكلمات حتى سرت في جسمه رعدة. أجابته آجلايا:
– قل لي كل شيء.
– ليس في القصة كلها ما لا يمكنك أن تسمعيه. لا أدري لماذا كنتِ أنتِ، أنت بعينك، الشخص الوحيد الذي أردت أن أقص عليه الحكاية كاملة. ربما كان مردَّ ذلك إلى أنني أحمل لك في الواقع كثيراً من العاطفة. إن تلك المرأة الشقية مقتنعة اقتناعاً عميقاً بأنها أسقط إنسانة وأفسد مخلوقة على وجه الأرض. لا تنعتيها بالعار، لا ترميها بحجر!
حسبها ما تلقى هي نفسها من عذاب الشعور بحطّة تصف بها نفسها ظلماً! ما ذنبها يا رب؟ هي في نوبات حماستها تصيح قائلة إنها لا تعرف لنفسها أية خطيئة أو ذنب، وأنها ضحية الرجال، ضحية رجل داعر وغد حقير! ولكن عليكِ أن تعلمي، مهما تعلن لك من رأي، أنها أوّل من لا يصدّق ما تقول. بالعكس: إنها لا تتهم أحداً غير نفسها... إنها تتهم نفسها وحدها، واعية كل الوعي. وحين كنت أحاول أن أبدّد من نفسها هذه الظلمات كانت تشعر بآلام وتباريح تبلغ من القوّة والشدّة أن قلبي لن يُشفى يوماً، ما ظل محتفظاً بذكرى تلك اللحظات الأليمة. إنني أحسّ أن قلبي قد طُعِنَ إلى الأبد. لقد هربت مني، فهل تعلمين لماذا هربت؟ إنها لم تهرب إلا لتبرهن لي على خسّتِها ودناءتها. على أن أفظع ما في الأمر أنها هي نفسها ربما كانت تجهل أن الدافع الذي كان يحرّكها إنما هو تقديم هذا البرهان لي وحدي. لقد كانت تظن أنها كانت تهرب خضوعاً لرغبة عارمة لا تقاوم في أن تقارف عملاً مشيناً يتيح لها أن تقول لنفسها بعد ذلك: «وهذه خسّة جديدة تُدينُكِ. ألا إنك لمخلوقة دنيئة منحطّة!».
لعلّك لا تفهمين هذا يا آجلايا! هل تعلمين أن شعورها الدّائم ذاك بخسّتها ربما كان يخفي وراءه لذة فظيعة مخالفة للطبيعة هي لذة إشباع نوع من الانتقام من أحد الناس؟ كنتُ أنجح أحياناً في أن أردّها إلى رؤية الضياء من حولها، لكنّها سرعان ما كانت تتمرّد، وتمضي في ذلك إلى حدّ اتهامي بأنني أريد الارتفاع فوقها والعلوّ عليها (وكان هذا في الواقع بعيداً عن ذهني كل البعد)؛ ثم تعلن لي أخيراً بغير لفّ أو دوران، حين أعرض عليها الزواج، أنها لا تطلب من أحد لا شفقة عليها ولا رأفة بها ولا معونة لها، وأنها ترفض أن يحاول أحد «رفعها إليه». لقد رأيتِها أنتِ بالأمس. هل تظنّين أنها سعيدة بصحبة هؤلاء الناس، وأنّ تلك البيئة هي البيئة التي تناسبها؟ إنك لا تعرِفين مدى سعة ثقافتها، ورحابة فكرها! لطالما أدهشني هذا فيها!
– هل كُنتَ تَلقي عليها هناك... مواعظ كالتي تلقيها عليّ الآن؟
تابع الأمير كلامه دون أن ينتبه إلى لهجة السؤال:
– لا. كنتُ أصمُت طوال الوقت تقريباً. كنتُ أريد في كثير من الأحيان أن أتكلم، ولكنني لا أجد في الواقع شيئاً أقوله. هل تعلمين أنّ خير ما يفعله المرء أحياناً هو أن يصمت؟ آ... نعم... كنتُ أحِبُها.. كنت أحبها كثيراً... ولكن... بعد ذلك... بعد ذلك حزِرَت هي كل شيء.
– حزرت ماذا؟
– حزرت أنني لا أضمر لها إلا الشفقة... أنني أصبحت لا أحبها!
– ما يدريك؟ لعلها أحبّت فعلاً ذلك... ذلك المالك الذي هربت معه؟
– لا، أنا أعرف كل شيء. إنها لم تزد على أن ضحكت عليه؟
– وعليك أنت، ألم تضحك قط؟
– لا! أقصد... أحياناً... كانت تسخر مني... تخابثاً ومكراً! كانت في تلك اللحظات ترهقني بملامات حانقة، وكانت هي نفسها تتألّم! ولكنّها، بعد ذلك.. آه... لا توقِظي هذه الذكريات في نفسي، لا تذكريني بهذه الأشياء!
قال الأمير ذلك وأخفى وجهَةُ بيديه.
سألته آجلايا:
– وهل تعلم أنها تكتب إليّ كل يوم تقريباً؟
فهتف الأمير يقول مضطرباً أشدّ الاضطراب:
– أهذا صحيح إذن؟ لقد ذُكر لي أنها تكتُب إليك، ولكنني أبيتُ أن أصدّق.
فسألته آجلايا خائفة:
– من ذكر لك ذلك؟
– روجويين. إن روجويين هو الذي حدّثني في هذا أمس، ولكن بكلمات غامضة.
– أمس؟ أمس صباحاً؟ في أي وقت من النهار؟ أقبل الموسيقى أم بعدها؟
– بعد الموسيقى. في السهرة، بين الحادية عشرة ومنتصف الليل.
– آ... طيب... ما دام هو روجويين... ولكن هل تعرف عمّ تكلمني في تلك الرسائل؟
– لا أستغرب شيئاً. إنها مجنونة!
– إليكَ الرسائل (استلت آجلايا من جيبها ثلاث رسائل مغلقة وألقتها أمام الأمير). إنها، منذ أسبوع كامل، تتوسّل إليّ، تضرع إليّ، تبتهل إليّ أن أتزوّجُك. إنها... نعم... ذكية، وإن تكن مجنونة. أنت على صواب حين تقول إنها أذكى كثيراً مني. تقول لي في رسائلها إنها تهواني، وإنها تبحث كل يوم عن فرصة تراني فيها ولو من بعيد، وهي تؤكد لي أنك تحبني، وأنها تعلم ذلك علم اليقين، وأنها لاحظته منذ زمن طويل، وأنك حدّثتها عني حين كنتما هناك. إنها تريد أن تراك سعيداً، وتوقن أنني أستطيع وحدي أن أسعدك!... وهي تكتب بطريقة غريبة... غريبة جدًا. لم أطلع أحداً على رسائلها. كنتُ أنتظرك. هل تدري ماذا يعني كلامها؟ ألا تُدرك ماذا يعني كلامها؟
– هو جنون. كلامها يدل على أنها فقدت عقلها.
كذلك قال الأمير وقد أخذت شفتاه تختلجان. سألته:
– ألست تبكي؟
فأجاب:
– لا آجلايا! لست أبكي!
– ما الذي يجب عليّ أن أفعله؟ بماذا تنضحُني؟ إنني لا أستطيع أن أستمر في تلقي هذه الرسائل.
هتف الأمير يقول:
– دعيها، أرجوك! ماذا تستطيعين أن تفعلي في هذه الظلمات؟ سأحاول أن أجعلها لا تكتب إليك بعد الآن!
صاحت آجلايا قائلة:
– إذا كنتَ تقول هذا الكلام، فمعنى ذلك أنك رجل لا قلب له. ألست ترى أنها لا تهواني أنا، وإنما هي تهواك أنت. إنك أنت الذي تحبّهُ! كيف يمكن أن تكون قد لاحظت فيها كل شيء إلا هذا؟ هل تعلم ماذا وراء كلامها؟ هل تُدرك عمّ تكشف رسائلها؟ إنها تكشف عن الغيرة، بل تكشف عمّا هو شرّ من الغيرة،!. إنها... أتظنُّ أنها ستتزوج روجويين فعلاً كما تزعم ذلك في رسائلها؟ لسوف تنتحر غداة زواجنا إذا نحن تزوّجنا!
ارتعش الأمير وانهدّ قلبه. ونظر إلى آجلايا مدهوشاً: لقد شعر بإحساس غريب حين لاحظ أن هذه الطفلة قد غدت امرأة منذ مدّة طويلة.
– شهد الله يا آجلايا أنني مستعدّ لأن أضحّي بحياتي في سبيل أن أُدخل إلى نفسها الراحة والسلام والطمأنينة والسعادة. ولكنني... لا أستطيع بعد اليوم أن أحبها، وهي تعرف ذلك!
– طيّب... ضحّ بحياتك ما دام هذا يناسبك كثيراً! إنك محسن عظيم. ولا تنادني باسم «آجلايا». أنت منذ لحظة قلت «آجلايا» فحسب!... يجب عليكَ أن تحاول بعثها بعثَا جديدًا. أنتَ مضطرّ أن تفعل هذا. الواجب يملي عليك أن تسافر معها ثانية، لكي تدخل الهدوء والسكينة إلى قلبها. ثم إنك تحبها هي!
– لا أستطيع أن أضحّي بنفسي، رغم أن هذه النية قد قامت في فكري، ولعلها ما زالت قائمة في فكري!.. ولكنني أعلم علماً «لا سبيل إلى الشك فيه» أنها إن بقيت معي ضاعت وهلكت!... وذلك هو السبب الذي يدفعني إلى الابتعاد عنها. ينبغي أن أراها اليوم في الساعة السابعة. ولكن قد لا أذهب إليها. إن كبرياءها لن تغفر لي حبّي في يوم من الأيام، وسيكون في هذا ضياعها وضياعي إذا نحن بقينا معاً! ليس هذا طبيعياً، غير أن كل شيء هنا مخالف للطبيعة. تقولين إنهّا تحبّني. ولكن هل هذا حبّ؟ هل يمكن أن يكون ثمّة عاطفة كهذه العاطفة بعد كل الذي عانيت وقاسيت؟ لا، ليس هذا حبًّا. هو شيء آخر غير الحب!
قالت آجلايا بارتياع مفاجئ:
– ما أشدّ هذا الشحوب الذي اعتراك!
– ما ذلك بشيء. إنني لم أنتم كثيراً. أشعر بأنني ضعيف. تلك هي الحقيقة. لقد تحدّثنا عنك حينذاك يا آجلايا...
– ذلك حتى إذن؟ هل تحدّثت «عنّي معها» فعلاً؟ و... كيف أمكن أن تحبني بعد أن لم ترني إلا مرّة واحدة؟
– لا أدري. في الظلمات التي كانت تحفّ بي حينذاك، رأيت ما يشبه أن يكون حلماً.. لعل فجراً جديداً قد أشرق أمام عينيّ. لا أدري لماذا انصرف فكري إليكِ أنت أوّل ما انصرف. لم أكذب عليك حين كتبت إليك قائلاً إنني أجهل كيف حدث الأمر. لم يكن ذلك إلا حلماً هربت إليه من ذعري حينذاك... وبعدئذ، أخذت أدرس... وكان في نيتي أن لا أعود قبل ثلاث سنين...
– أمن أجلها إذن عدت؟
– نعم، من أجلها.
انقضت دقيقتان في صمت. ثم نهضت آجلايا. وقالت بصوت متردد:
– إذا كنت تقول، إذا كنت تعتقد أنت نفسك أن هذه... أن صاحبتُك هذه مجنونة، فإن ما تأتيه من أعمال شاذة لا يعنيني ولا يهمّني في شيء. أرجوك يا ليون نيقولايفتش أن تأخذ مني هذه الرسائل الثلاث فترميها في وجهها نيابةً عني!
ثم صاحت آجلايا تقول بخشونة:
– وقل لها إنني، إذا سَمَحَتْ لنفسها بأن تكتب لي مرة أخرى سطراً واحداً، سأشكوها إلى أبي الذي سيعرف كيف يُودِعُها في مأوى للمجانين...
انتفض الأمير، ونظر مرتاعاً إلى هذا الغضب الشديد الذي اجتاح آجلايا على غير توقع. ثم سقط أمام عينيه نوع من ضباب، على حين فجأة وتمتم يقول لها:
– لا، لا يمكن أن تحملي عواطف كهذه العواطف... لا... ليس حقاً ما تقولين!
– بل هو حق، هو الحقيقة بعينها!...
كذلك صرخت آجلايا كالخارجة عن طورها.
فإذا بصوتٍ مذعور يسألها على مقربة منها:
– أيّ شيء هو على حق؟ عن أية حقيقة تتكلمين؟
كانت إليزابت بروكوفيفنا أمامهما.
اندفعت آجلايا تجيب أمها قائلة:
– عن حقيقة أنني قررت أن أتزوج جبريل آرداليونوفتش، وأني أحبّه، وأنني سأهرب معه غداً من البيت. هل سمعت؟ هل ارتوى فضولك الآن؟ هل يكفيك هذا؟
وركضت عائدة إلى البيت.
قالت إليزابت بروكوفيفنا وهي توقف الأمير:
– لا يا صديقي الطيب، لن تنصرف الآن. هلاً تفضّلت فصحبتني حتى تشرح لي تصرّفك. آه... ما هذا العذاب يا رب! وكل ذلك بعد ليلة لم يغمض لي فيها جفن!...
تبعها الأمير.
الفصل التاسع
حين وصلت إليزابت بروكوفيفنا إلى الدار توقفت في الحجرة الأولى. وإذ لم تقوَ على المضي إلى أبعد من ذلك، تهافتت على ديوان منهكةً منهدّة، حتى لقد نسيت أن تدعو الأمير إلى الجلوس. هي قاعة كبيرة ذات مدفأة، وفي وسطها مائدة مستديرة. إن أزهاراً كثيرة تتكدّس على رفوف فيها تحت النافذة. وفى آخر القاعة باب ذو زجاج، يفضي إلى الحديقة.
وسرعان ما ظهرت آديلائيد وألكسندرا تنظران إلى الأمير وإلى أمهما مدهوشة سائلة مستطلعة.
لقد اعتادت الآنسات أن يستيقظن في المصيف في نحو الساعة التاسعة؛ لكن آجلايا أصبحت منذ يومين أو ثلاثة أيام تستيقظ قبل التاسعة بقليل، وتمضي تتنزّه في الحديقة، لا في الساعة السابعة على كل حال، بل في الثامنة وحتى بعد الثامنة.
حقا لم تعرف إليزابت بروكوفيفنا سبيلاً إلى النوم طوال الليل من كثرة الهموم التي كانت تملأ رأسها. وقد نهضت في الساعة الثامنة لتذهب إلى الحديقة وتلحق بآجلايا التي كانت إليزابت بروكوفيفنا تعتقد أنها صحت من نومها وقامت من فراشها. لكنها لم تجدها لا في الحديقة ولا في غرفة نومها. فشعرت بروع شديد وأيقظت ابنتيها الأخريين.
وقالت الخادمة إن آجلايا إيفانوفنا قد ذهبت إلى الحديقة العامة قبل الساعة السابعة. فضحكت الأختين ضحكاً ماكراً حين علمتا بأمر هذه النزوة الجديدة التي بدت لأختهما الصّغرى ذات الخيال الجامح، ولفتتا نظر أمّهما إلى أن آجلايا يمكن أن تغضب إذا مضى أحد يبحث عنها في الحديقة العامة؛ وقالتا إنها لا بدّ أن تكون الآن جالسة إلى كتاب بيدها على الدكة الخضراء التي تكلمت عنها منذ ثلاثة أيام وأوشكت أن تشتجر في شأنها مع الأمير «شتش...»، الذي زعم أنه لا يجد في المكان الذي تقع فيه تلك الدكة أي جمال خاص.
فلمّا وقعت إليزابت بروكوفيفنا على ابنتها متواعدة مع الأمير، وفاجأتها تنطق بتلك الأقوال الغريبة، شعرت برعب شديد له في الواقع أسباب كثيرة تبرّره وتسوّغه. ولكنها بعد أن جرّت الأمير معها، خشيت نتائج مبادرتها، إذ تساءلت: «لماذا لا يجوز أن تلتقي آجلايا بالأمير في الحديقة وأن يجري بينهما حديث، ولو على سابق موعد؟».
قالت أخيراً وهي تحاول أن تسيطر على نفسها:
– لا يذهبن بك الظّن، يا عزيزي الأمير، أنني جئت بك إلى هنا لكي أستجوبُكَ... ولعلني، يا صديقي الطيب، كنتُ أؤثر، بعد الذي جرى في مساء أمس، أن لا أراك مرّة أخرى، خلال مدّة طويلة.
وانقطعت عن الكلام لحظة. فبادرها الأمير بقوله:
– لكنني أقدّر أنك تحبين أن تعرفي كيف التقينا اليوم أنا وآجلايا إيفانوفنا...
فأجابته إليزابت بروكوفيفنا باندفاع:
– طبعاً أحب أن أعرف ذلك. أنا لا أخشى أن أقابل بالحقيقة. إنني لا أسيء إلى أحد، ولم أشأ أن أسيء إلى أحد...
– طبعاً.. إن الرّغبة في معرفة ذلك لا تشتمل على إساءة إلى أحد. لقد التقينا اليوم، أنا وآجلايا إيفانوفنا، قرب الدكة الخضراء، في الساعة السابعة تماماً، على موعد ضربته لي أمس. لقد أعطتني في مساء أمس رسالة تقول فيها إنها تريد أن تراني وأن تكلمني في أمر هام. فالتقينا وتكلمنا خلال ساعة في شؤون لا تتعلق إلا بها وحدها. ذلك كل شيء.
قالت إليزابت بروكوفيفنا بلهجة رصينة:
– طبعاً هذا كل شيء يا صديقي. لا يساورني أي شك في أن هذا كل شيء.
قالت آجلايا وهي تدخل الغرفة فجأة:
– أحسنت جدًا يا أمير. أشكر لك من أعماق قلبي أنك اعتبرتني عاجزة عن الانحدار إلى حيث ألفق كذبة. أأنت راضية الآن يا ماما، أم تراك تريدين أن تمضي في الاستجواب إلى أبعد ذلك؟
ردّت عليها إليزابت بروكوفيفنا بلهجة من يُلقي درساً:
– تعلمين حق العلم أنني لم يتفق لي في يوم من الأيام أن احمرّ وجهي أمامك... رغم أن ذلك كان يمكن أن يُحدث لك لذة.
ثم التفتت تقول للأمير:
– أستودعك الله يا أمير! اغفر لي إزعاجي لك.. آمل أن تظل مقتنعاً بأن تقديري لك ثابت لا يتغير.
وسرعان ما حيًا الأمير أم الفتاة ثم انسل صامتاً لم لا ينبس بكلمة. وارتسمت ابتسامة على شفتيّ كل من آديلائيد وألكسندرا، وأخذتا تتهامسان. فألقت عليهما إليزابت بروكوفيفنا نظرة قاسية.
قالت آديلائيد ضاحكة:
– إن ما يحملنا على الابتسام هو أن نرى الأمير يُلقي تحيته بهذا الجلال وهذه الفخامة! إنه في العادة، من فرط خراقته، أشبه بكيس، ثم إذا هو يصطنع الآن آداباً وحركات فكأنه أوجين بافلوفتش.
قالت إليزابت بروكوفيفنا بوقار:
– رفعة الذوق ورهافة الحسّ والشعور بالكرامة أمور تنبع من القلب ولا يعلّمها أساتذة الرقص.
وصعدت إلى غرفتها حتى دون أن تلقي نظرة على آجلايا.
وحين عاد الأمير إلى بيته في نحو الساعة التاسعة وجد على الشرفة فيرا لوكيانوفا وخادمة. كانتا قد رتبتا المكان وكنّستا الأرض بعد سهرة البارحة الصاخبة.
قالت فيرا مرحة:
– الحمد لله! انتهينا من العمل قبل عودتك.
– صباح الخير. إنّ بي بعض صُداع. لم أنم نوماً مريحاً. أودّ لو أرقد قليلا.
– هل تحبّ أن ترتاح هنا، على الشرفة، كأمس؟ هذا حسن. سأقول للجميع أن لا يوقظوك. بابا خرج.
انصرفت الخادمة. وتظاهرت فيرا بأنها تتبعها، لكنها عدَلَتْ عن ذلك، واقتربت من الأمير مهمومة وقالت له:
– أمير أشفق على هذا... البائس. لا تطرده اليوم.
قال الأمير:
– لن أطرده بحال من الأحوال، سيفعل ما يحلو له أن يفعل.
– الآن لن يفعل شيئاً... لا تكن قاسياً معه!!
– طبعاً لن أكون قاسياً معه، علام أكون قاسياً؟
– ثم... لا تضحك عليه... لا تستهزئ به... ذلك هو الأمر الأساسي.
– حتماً لن أفعل.
قالت فيرا وقد احمرّ وجهها:
– سخفٌ مني أن أقول هذا الكلام لرجلٍ مثلكَ.
ثم أضافت تقول ضاحكةً وقد استدارت نصف استدارة نحو الباب:
– رغم أنك متعب مكدود، فإن عينيك في هذه اللحظة تعبّران عن أبلغ الطيبة وأعظم السعادة...
سألها الأمير بحرارة:
– أهما تعبران عن سعادة عظيمة حقاً؟
وانطلق يضحك ضحكة صريحة واضحة.
ولكن فيرا التي تتصف بالبساطة، وتتصف برفع الكلفة وعدم التحرّج كأنها صبي، سرعان ما خجلت خجلاً كبيراً واضطربت اضطرابا شديداً وازداد احمرار وجهها كثيراً؛ ثم إذا هي تخرج فجأة دون أن تنقطع عن الضحك.
قال الأمير يحدّث نفسه: «يا لها... من فتاة رائعة...»، ثم سرعان ما نسيها. وانسحب إلى ركن من الشرفة فيه السرير، وجلس قبالة مائدة صغيرة، وغطى وجهه بيديه، ولَبِثَ على هذا الوضع زهاء عشر دقائق. وفجأةً، دسّ يده في جيبه الجانبي قلقاً، فأخرج منه ثلاث رسائل.
لكن الباب فُتِحَ من جديد، ودخل كوليا، فشعر الأمير بما يشبه الفرح لهذه الفرصة التي تتيح له أن يعيد الرسائل إلى جيبه، وأن يُرجَئ قراءتها.
جلس كوليا على السرير.
ولم يلبث أن انبرى يدخل في الموضوع دفعة واحدة، بما هو معهود في أمثاله من انطلاق:
– يا له من حادث! ما رأيك الآن في هيبوليت؟ هل فقد اعتبارك؟
– علام يفقد اعتباري؟... ولكنني متعب... يا كوليا... ثم إن العودة إلى هذا الموضوع أليمة. كيف حاله الآن مع ذلك؟
– إنه نائم. وأغلب الظن أنه لن يستيقظ قبل ساعتين. أنا فاهم: أنت لم تبِتْ ليلتك بالدار، بل ذهبت إلى الحديقة العامة. شيء طبيعي... لأنك كنت متأثراً مضطرباً!... لا أقل من هذا!
– كيف عرفت أنني ذهبتُ إلى الحديقة العامة، وأنني لم أبت ليلتي بالدار؟
– قالت لي فيرا منذ لحظة. وقد أوصتني بأن لا أدخل. لكنني لم أطق صبراً. أردتُ أن أراك، ولو دقيقة! لقد قضيتُ هاتين الساعتين قائماً على المريض. والآن يقوم عليه كوسيتا ليبديف. أما بوردوفسكي فقد مضى. الخلاصة: أُرقُد يا أمير، أتمنى لك ليلة... بل يوماً سعيداً! ولكن... هل تعلم؟ أنا مشدوه مذهول!
– لا غرابة في ذلك، بعد كل الذي...
– لا يا أمير، لا. إن ما يدهشني ويذهلني هو «الاعتراف»؛ ولا سيما الجزء الذي يتحدث فيه عن العناية الإلهية والحياة الآخرة. ههنا فكرة ضخـ... ـمة!...
نظر الأمير إلى كوليا بعاطفة وحنان. لا شك في أن كوليا إنما جاء ليتحدث مع الأمير في تلك الفكرة الضخمة.
قال كوليا:
– لكن الشيء الأساسي، الشيء الأساسي، ليس الفكرة ذاتها بل الظروف التي نبتت هذه الفكرة في ظلها. فلو أن الذي عبّر عن هذه الفكرة فولتير أو روسو أو برودون، لقرأتها ولاحظتها دون أن تدهشني إلى ذلك الحد من الإدهاش. أما أن يقول هذا الكلام إنسان موقن من أنه لم يبق له أن يحيا على وجه هذه الأرض إلا عشر دقائق، فذلك مثال رهيب على الكبرياء والجبروت! إن هذا أسمى مظهر من مظاهر الاستقلال والكرامة الشخصية! إن هذا اقتحام جسور... بل هو قوة نفسية ضخمة! فإذا قيل بعد هذا أنه تعمّد أن ينسى الكبسولة تعمدا، كان ذلك حطة وخسة، بل كان سخفا واستحالة! ولكن هل تعلم؟ لقد خدعنا هيبوليت أمس. إنه ماكر. أنا لم أشاركه في ترتيب حقيبته، لا ولا رأيت مسدسه في يوم من الأيام، انه هو الذي حزم كل شيء. لذلك دُهشت وتحيّرت حين سمعته يزعم ذلك الزعم. تقول فيرا إنك ستبقيه هنا. أؤكد لك أن لا خطر البتة، لا سيما وأننا نراقبه مراقبة دقيقة في كل لحظة.
– من الذي سهر عليه هذه الليلة؟
– كوستيا ليبديف، وبوردوفسكي، وأنا. وقد جاء كيللر، لكنه لم يلبث أن ذهب ينام عند ليبديف، إذ لم يكن في غرفتنا مكان يرقد فيه. وهناك إنما بات فردشتينكو كذلك، ثم خرج في الساعة السابعة. وما يزال الجنرال في بيت ليبديف. والان خرج هو أيضاً... أظن أن ليبديف ينوي أن يجيء إليك بعد هنيهة. لقد بحث عنك – لا أدري لماذا! – وسأل مرتين أين أنت؟ أيجب أن نسمح له بالدخول، أم يجب أن نطلب منه الانتظار، إذ كنت تريد أن ترتاح؟ أنا نفسي سوف أمضي أنام. ها... نعم... يجب أن لا أنسى أن أذكر لك ما يلي: لقد شهدت، منذ قليل، عملاً غريباً من أعمال الجنرال. أيقظني بوردوفسكي قبيل الساعة السادسة، بل في الساعة السادسة تماماً، لأباشر نوبتي في القيام على المريض. فخرجت دقيقةً. فما كان أشد دهشتي حين التقيت بالجنرال وقد بلغ من السكر أنه لم يعرفني، ولبث جامداً أمامي كأنه وتد مغروس في الأرض، ثم ثاب إلى رشده، فانبرى يسألني: «هيه!! كيف حال المريض؟ لقد جئت أسأل عن صحته!». فذكرت له كيت وكيت. فأضاف يقول: «هذا كله حسن!! ولكنني إنما نهضت من فراشي وجئت خاصة لأنبّهك. هناك أسباب تدعوني إلى الاعتقاد بأن من غير الممكن أن يقال كل شيء بحضور فردشتينكو.. وأن من الواجب أن يكون المرء على حذر منه..» أتفهم يا أمير؟
– هل هذا ممكن؟ على كل حال... نحن لا يهمنا ذلك ولا يعنينا.
– طبعاً لا يهمنا ولا يعنينا، فنحن لسنا من «الماسونيين الأحرار»! حتى لقد أدهشني أن يكون الجنرال قد أراد أن يوقظني هذه الليلة ليقول لي هذا الكلام.
– تقول أن فردشتينكو خرج؟
– في الساعة السابعة. جاء إليّ وأنا قائم على المريض، فذكر لي أنه سينهي ليلته عند فلكين – إنه سكير مشهور، فليكن هذا! هيا! أنا منصرف! ولكن هذا هو لوكيان تيموفيتش... إن الأمير يريد أن ينام يا لوكيان تيموفتش، فارجع من حيث أتيت!
فأجاب ليبديف وهو يحيي بكثير من الاحتفال:
– لا أكثر من دقيقة واحدة أيها الأمير المعظم. إن الأمر أمر قضية لها عندي شأن هام.
كان ليبديف يتكلم بصوت خافت ولهجة رصينة، ولكن صوته ممتلئ بخطورة القضية التي جاء يتحدث فيها. لقد رجع الآن إلى البيت، حتى إنه لم يذهب إلى غرفته بعد، فما يزال ممسكاً قبعته بيده. كان وجهه مهموماً، وكانت هيئته تعبر عن خطورة الأمر تعبيراً قوياً.
رجاه الأمير أن يجلس.
– هل سألت عني مرتين؟ أتراك ما تزال قلقاً بسبب حوادث البارحة؟
– أأنت تعني موضوع فتى الليلة الماضية يا أمير؟ لا، لا: لقد كانت أفكاري مضطربة أمس. أما اليوم فلست أريد أن أعاكس نواياك في أي شيء...
– أعاكـ... ماذا قلت؟
– قلت: أعاكس. هذه كلمة فرنسية كغيرها من الكلمات الفرنسية الكثيرة التي دخلت على لغتنا الروسية، ولكنني لا أحرص عليها حرصاً كبيراً.
قال الأمير وهو يبتسم ابتسامة خفيفة:
– ماذا أصابك اليوم يا ليبديف حتى صرت شديد الرصانة كثير الاحتفال إلى هذه الدرجة؟ أراك تتمهل في الكلام مقطعاً كلماتك وازناً ألفاظك.
فاتجه ليبديف إلى كوليا وقال له بلهجة يكاد يكون فيها حنان:
– نيقولاي آرداليونوفتش! عليّ أن أبلغ الأمير قضية تتعلق خاصة بـ...
– طيب... فهمت!... قضية لا تتعلق بي. إلى اللقاء يا أمير!
كذلك قال كوليا وانصرف فوراً.
قال ليبديف وهو يتابعه بنظره:
– أحب هذا الصبي حقاً، فهو حاد الذكاء سريع الفهم؛ وهو يقظ نشيط، وأن يكن مزعجاً بكثرة إلحاحه. لقد حلّت بي مصيبة كبيرة أيها الأمير المعظم، حلّت بي مساء أمس أو هذا الصباح في وضح النهار.. لا أستطيع أن أحدّد الوقت تحديداً دقيقاً بعد.
– ماذا حدث؟
– أربعمائة روبل اختفت من الجيب الداخلي من ردائي.
ثم أضاف يقول وهو يبتسم ابتسامة مرة:
– خدعت أيها الأمير المعظم!
– فقدت أربعمائة روبل؟ خسارة...
– لا سيما بالنسبة إلى رجل فقير يعيش من عمله بشرف ونبل.
– طبعاً طبعاً. كيف وقع الأمر؟
– الذنب ذنب الخمرة. إنني أتجه إليك اتجاهي إلى العناية الإلهية أيها الأمير المعظم. إن مبلغ الأربعمائة روبل هذا قد ردّه إليّ مدينٌ في الساعة الخامسة من مساء أمس. وعُدْتُ إلى هنا بالقطار. وكانت محفظة أوراقي في جيبي. فلمّا خلعْتُ بزتي لأرتدي ردنجوتي وضعتُ المال في جيب الردنجوت حرصاً مني على الاحتفاظ بالمال معي. كنتُ أنوي أن أسلم المال في السهرة لرجل من رجال الأعمال كان قد طلبه مني. وكنتُ أنتظر ذلك الرجل...
– بالمناسبة يا لوكيان تيموفئتش: هل صحيح أنك نشرت في الجرائد إعلاناً أنك تقرض مالاً برهن أشياء ذهبية أو فضية؟
– هذا الإعلان قد تم إرساله بواسطة رجل من رجال الأعمال. فهو لا يحمل اسمي أو عنواني. وأنا امرؤ لا أملك إلا رأس مال صغير، وقد ازداد عدد أفراد أسرتي، فأظن أنك توافق على أن فائدة شريفة...
– طبعاً، طبعاً! أنا لم ألقِ عليك هذا السؤال إلا من باب العلم بالشيء!... اغفر لي إنني قاطعتكَ.
– لم يأت رجل الأعمال الذي كنتُ أنتظره. ثم جيء إلى هنا بذلك البائس الشقي. وبعد العشاء كنت قد انتعشت. ثم جاء زوارنا. فشربنا... شاياً... و... من سوء حظي أنني أفرطتُ في المرح. فلمّا وصل كيللر في ساعة متأخرة من السهرة فأعلن لنا أن اليوم عيد ميلادُكَ وأن علينا أن نقدّم شمبانيا، اعتقدت يا عزيزي الأمير المعظم، اعتقدت أنا الذي أملك قلباً لا أقول إنه عاطفي ولكنني أقول معتزًّا إنه قلب يعترف بالجميل (وأغلبُ ظني أنك لاحظت ذلك، لأنني أستحق أن تلاحظه)، نعم... اعتقدت أن من واجبي أن أخلع ثيابي القديمة البالية وأن أعود أرتدي بزتي الرسمية انتظارا للحظة التي أعبّر لك فيها عن تهنئتي، وأحتفل فيها بعيد ميلادك بمزيد من المهابة والفخامة. ذلك ما فعلته يا أمير، ولا بدّ أنك لاحظت أنني لبثْتُ مرتدياً بزّتي الرسمية طوال السهرة. ولكنني حين بدّلت ثيابي نسيت المحفظة في جيب ردنجوتي. صدق من قال: إذا أراد الله أن يعاقب أحداً جرّده من عقله أوّلاً. وفي هذا الصباح، في الساعة السابعة والنصف، حين استيقظت من نومي، وثَبتُ نحو ردنجوتي كالمجنون. فإذا أنا أجد الجيب خالياً. فلا أثر للمحفظة.
– آه... هذا مزعج!
– هذه هي الكلمة: مزعج.
كذلك قال ليبديف ثم أضاف بشيء من المكر:
– إنك بما تملك من كياسة تتميز بها قد وجدت التعبير المناسب فوراً.
قال الأمير قلقاً بعد لحظة من تفكير:
– ولكن... مع ذلك... كيف... هذا خطير!
– تلك هي الكلمة: خطير! لقد جئت، يا أمير، مرة أخرى، بالتعبير الموفّق الذي يحدّد الـ...
– أوه... لوكيان تيموفئتش! ما لنا وللكلمات الآن! ليست الكلمات هي الأمر المهم. هل تعتقد أن من الجائز أن تكون المحفظة قد سقطت من جيبك دون أن تنتبه أنت إلى ذلك بسبب سُكرِك؟
– جائز. كل شيء في السّكر جائز، على حدّ التعبير الذي استعملته بكثير من الصراحة أيها الأمير المعظم. ولكن أحكم في الأمر بنفسك: لو أنني أسقطتُ محفظتي من جيبي حين خلعتُ ردنجوتي لكان يجب العثور على المحفظة في أرض الغرفة.. فأين هي المحفظة؟
– ألا يجوز أن تكون قد دسستَها في درج منضدة؟
– نبشتُ كل شيء. بحثتُ في كل موضع. ثم إنني لم أضعها في أي مكان، ولم أفتح أي دُرج. أتذكر هذا تذكاراً تامًا.
– هل بحثت في الخزانة الصغيرة؟
– ذلك أوّل شيء فعلته، حتى لقد بحث فيها عدة مرّات هذا الصباح... ثم ما الذي كان يمكن أن يدفعني إلى دسّ المحفظة في الخزانة الصغيرة أيها الأمير المعظم؟
– أعترفُ لك يا ليبديف أن الأمر يُقلقني كثيراً. أيكون أحد قد عثر بها إذن على الأرض؟
– أو أستلّها من جيبي! ليس هناك تفسير آخر.
– هذا يُقلقني قلقاً شديداً! من ذا الذي يمكنه أن يفعل هذا؟.. ذلك هو السؤال!
– لا شك أن ذلك هو السؤال الأساسي. إنك أيها الأمير المعظم توفّق توفيقاً مدهشاً مُحكماً إلى الكلمات والأفكار والتعاريف التي تُصوّر الوضع...
– آه... لوكيان تيموفئفتش... كفى سخرية! هنا...
صاح ليبديف وهو يرفع ذراعيه قائلاً:
– سخرية؟
– هيا... هيا... طيّب.. لست أزعل... إن اهتمامي منصرف إلى غير هذا تماماً.. أنني أخشى أن أرى أناساً يُتّهمون. فيمن تشتبه؟
– السؤال محرج جداً... و... معقد جداً! لا أستطيع أن أتّهم الخادمة، فقد لبثت في مطبخها طول الوقت. ولا يمكن الشك في أولادي أيضاً...
– طبعاً.
– يَنتُج عن ذلك أن الفاعل لا يمكن أن يكون إلا أحد الزوار.
– ولكن هل هذا ممكن؟
– هذا مستحيل استحالة مطلقة كاملة، ولكن لا يمكن أن يكون قد حدث غير هذا. وإنني لأسلّم مع ذلك، بل إنني لمقتنع أيضاً بأن السرقة – إنما حدثت لا في السهرة، حين كان الزوّار مجتمعين، بل في ساعة متأخرة من الليل، أو حتى عند مطلع الصبح، وأنّ الشخص الذي ارتكبها هو أحد الذين باتوا ليلتهم هنا.
– آه... رباه!...
– أنا لا أشك طبعاً في بوردوفسكي ولا في نيقولاي آرداليونوفتش؛ وهما لم يدخلا علي، في كل حال.
– هذا بديهي، حتى ولو دخلا عليك! من بات ليلته عندك؟
– نحن أربعة بتنا في غرفتين متلاصقتين: الجنرال، كيلر، السيد فردشتينكو، وأنا. فالفاعل لا بدّ إذن أن يكون أحدنا.
– تقصد أنه لا بدّ أن يكون أحد الثلاثة. ولكن من هو؟
– لقد عددت نفسي بين المعدودين، لأكون عادلاً، ولأضع الأمور في نصابها. ولكنك توافقني يا أمير على أنني لا يمكن أن أسرق نفسي بنفسي، وإن تكن هذه الحالة قد سبق أن شوهد مثلها في هذا العالم...
صاح الأمير يقول وقد نفد صبره:
– آه.. ليبديف... ثرثرتك مُضجرة جدًا. انتقل إلى الوقائع. لماذا هذه المواربات؟...
– بقي إذن ثلاثة أشخاص. فلنبدأ أوّلاً بالسيّد كيللر، وهو رجل متقلّب لا يعرف الاستقرار، وهو رجل سكّير مدمن على الشراب، وهو في بعض الأحوال يوصف بأنه ليبرالي، فيما يتعلق بمسألة الجيوب هذه على الأقل. والأَوْلى على كل حال أن يوصف بأن طبعه يشبه طبع فارس من العصر القديم أكثر ممّا يُشبه طبع ليبرالي من الزمان الحاضر. لقد قضى النصف الأوّل من الليل معنا في غرفة المريض ثم لم يبارحنا إلا في ساعة متأخرة بحُجّة أنه لا يستطيع أن ينام على الأرض.
– هل تشتبه فيه؟
– اشتبهت فيه، وحين وَثَبتُ عن فراشي كالمجنون بعد الساعة السابعة ولطمت جبيني، مضيت على الفور أوقظ الجنرال الذي كان ينام نوماً هادئاً بريئاً. فلمّا تأملنا أنا والجنرال في أمر اختفاء فردشتينكو ذلك الاختفاء الغريب، وهذا أمر خليق وحده بأن يثير فينا الشبهات والشكوك، قرّرنا كلانا أن نفتش كيللر الذي كان راقداً مثل... مثل... مثل مسمار تقريباً. نبشنا جيوبه نبشاً دقيقاً فلم نجد قرشاً واحداً، حتى إن جميع جيوبه كانت مثقوبة لا يُستثنى منها جيب واحد. وعثرنا في أحد الجيوب على منديل من قطن أزرق ذي مربعات يأنف المرء من أن يشيله بملقط. ووجدنا رسالة غرام من خادمة ما، فيها مطالبة بمال وفيها تهديد. ووجدنا صفحات من المقالة التي تعلم من أمرها ما تعلم. ذلك كل ما وجدناه فقرّر الجنرال أن كيللر بريء. ومن أجل أن نزيد الأمر وضوحاً، أيقظنا الرجل من نومه، ولقينا في إيقاظه بعض العناء، فلمّا بسّطنا له القضية لم يكد يفهم عمّ نتكلم: كان أمامنا فاغر الفم، ثمل الهيئة، غبي الوجه، بريء النظرة. ليس هو الفاعل إذن!
صاح الأمير يقول وهو يتنفس الصعداء فرحاً:
– آه... ما أعظم سروري! كنتُ خائفاً عليه!
قال ليبديف غامزا بمكر:
– كنت خائفاً عليه؟ أكان هناك إذن أسباب تدعوك إلى الخوف عليه؟
فأجابه الأمير:
– لا، لا... فإنما أنا قلتُ هذا بغير تفكير. لقد عبّرتُ عن تفكيري تعبيراً أحمق أخرق حين قلتُ إنني كنتُ خائفاً عليه. أرجوك يا ليبديف أن لا تنقل كلامي هذا إلى أحد.
– أمير! أميرا سوف يبقى كلامك مدفوناً في قلبي، في القاع من قلبي. هو من قلبي في قبر.
كذلك قال ليبديف بمهابة وجلال، ضاغطا بقبعته على صدره.
سأله الأمير:
– طيّب... طيّب... هل الفاعل إذن هو فردشتينكو؟ أقصد. هل تشتبه في فردشتينكو؟
فأجاب ليبديف خافضاً صوته محدّقاً إلى الأمير:
– هل هناك من يمكن أن أشتبه فيه غيره؟
– نعم... طبعاً... من يمكن الاشتباه فيه غيره؟ ولكن أين الأدلة؟
– الأدلة موجودة. أوّلاً: اختفاؤه في الساعة السابعة أو حتى قبل الساعة السابعة من الصباح.
– أعلم: لقد حكى لي كوليا أنّ فردشتينكو قد دخل عليه ليبلّغهُ أنه سوف ينهي ليلته عند... نسيت الاسم... المهم: عند أحد أصدقائه.
– فيلكين. إذن سبق أن حدّثك نيقولاي آرداليونوفتش عن هذا الأمر؟
– لم يقل لي عن السرقة شيئاً.
– هو لا يعلم بها، لأنني أكتم الأمر الآن. إذن ذهب فردشتينكو إلى عند فيلكين: لا غرابة في أن يذهب سكير إلى سكير، حتى في مطلع الصبح، بدون أي داع، أليس كذلك؟ ولكن هنا يرتسم مسار يمكن اقتفاؤه. إن فردشتينكو، حين انصرف، قد ذكر المكان الذي كان ذاهباً إليه. اصغ إليّ يا أمير، وتابع سير تفكيري. لماذا فعل فردشتينكو ذلك؟ لماذا تعمّد أن يدخل على نيقولاي آرداليونوفتش، رغم أنّ الطريق إليه فيه دورة طويلة، ليبلغه أنه سيختم ليلته عند فيلكين؟ من ذا الذي يهمه أن يعرف أنه خارج، وأنه ذاهب خاصة إلى فيلكين؟ لماذا الإبلاغ عن هذا؟ لا، لا، إن ذلك شطارة، شطارة لص! ذلك معناه: «انظروا، إنني لم أحاول إخفاء أثري، فكيف يمكن بعد ذلك أن تنصب عليّ شبهة سرقة؟ هل يدل سارق على المكان الذي يذهب إليه؟». هذه زيادة في الاحتياط والحذر لتحويل الأنظار وصرف الشبهات، ومحو آثار الخطوات على الرمل إن صحّ التعبير... هل فهمت عني يا أميري المعظم؟
– فهمت، فهمت جيداً، ولكن هذا دليل واهن كل الوهن.
– إليك دليلاً آخر: لقد ظهر أن المسار كاذب، وأن العنوان الذي تركه فردشتينكو غير صحيح. فلقد ذهبتُ أقرع باب فيلكين بعد ساعة، أي في الساعة الثامنة. إنه يسكن هنا.، في «الشارع الخامس» وأنا أعرفه على كل حال. لم أجد عنده فردشتينكو. صحيح أنني استطعت أن أعلم من خادمة صماء كأنها جرّة ماء، أن أحداً قد جاء منذ ساعة فعلاً، وأنه بذل جهوداً كبيرة ليدخل حتى لقد خلع الجرس، ولكن الخادمة لم تفتح الباب إما لأنها لم تشأ أن توقظ فيلكين، وإما لأنها لم تستطب أن تنهض عن سريرها. هذا واضح.
– أهذه براهينك كلها؟ إنها قليلة.
– حول من يمكن أن تحوم شبهاتي يا أمير؟
هكذا ختم ليبديف كلامه بلهجة فيها مراعاة شديدة، وبصوت يوشك أن يكون دامعاً، ولكن على ابتسامة لا تخلو من بعض المكر.
قال الأمير مهمومَ الهيئة بعد لحظة من تفكير:
– يجب عليك أن تفتش الغرف والأدراج تفتيشاً جديداً.
فقال ليبديف متنهداً، معبراً بوجهه عن مزيد من التأثر:
– فعلت!
فهتف الأمير يقول وهو يضرب المائدة غضباً:
– هِمْ... ولكن لماذا، لماذا خلعت ردنجوتك؟
قال ليبديف:
– هذا سؤال مستمدّ من مسرحية هزلية قديمة. ولكنني أرى أيها الأمير المعظم المبجل أنك تُسرف في التألم لمصيبتي! أنا لا أستحق كل هذا. أقصد: أنا لا أستحق هذا، وحدي! على أنني أرى أنك تتألم للجاني أيضاً... لذلك الرجل التافه الذي يُسمّى فردشتينكو!
فقاطعه الأمير يقول ذاهلاً مستاء:
– نعم... فعلاً... لقد ملأت نفسي همًا. الخلاصة: ماذا تنوي أن تفعل.. إذا كنت مقتنعاً هذا الاقتناع كله بأن فردشتينكو هو الجاني؟
قال ليبديف وهو يتلوّى ويتعفف ويصطنع لهجة ما تنفك تزداد امتلاء بالتأثر والعاطفة:
– يا أمير، أيّها الأمير المعظم، من ذا الذي يمكن أن أتهمه سواه؟ يستحيل أن ينصرف التفكير إلى شخص آخر، واستحالة الاشتباه في أي إنسان عدا فردشتينكو هي في ذاتها قرينة أخرى تشير إلى أنه هو الجاني. ذلك دليل ثالث؛ ذلك أنني أكرّر هذا السؤال: من ذا الذي يمكن اتهامه عداه؟ إنني لا أستطيع الاشتباه في السيد بوردوفسكي، هئ هئ؟
– دعك من هذا السخف!
– لا ولا الجنرال، هئ هئ؟
– هذه أيضاً حماقة!
قال الأمير هذه الجملة الأخيرة بلهجة تكاد تشتمل على غضب، وانقلب على مضجعه إلى الجهة الأخرى متململاً نافد الصبر.
– هي حماقة طبعاً! هئ هئ هئ! ما أغرب شأن هذا الجنرال! لشدّ ما أضحكني! لقد ذهبنا قبل قليل، نبحث عن فردشتينكو عند فيلكين.. يجب أن أقول لك إنه كان أشدّ دهشة منى حين مضيتُ أوقظه بعد أن تبيّن لي ضياع المال؛ فسرعان ما انقلبت سحنته. وتبدّل وجهه، فاحمر ثم اصفر، واستبدت به آخر الأمر نوبة نبيلة من الاستياء والغضب بلغت من الشدة والعنف حدًا لم أكن أتوقع مثله البتة! إن له طبعاً من أنبل الطباع. صحيح أنه لا ينفك يكذب، ضعفا، ولكنه إنسان رفيع العواطف سامي المشاعر؛ وهو إلى ذلك يبلغ من الغباء والبراءة ما يجعل المرء يمحّضه ثقة كاملة لا تشوبها شائبة من شك. سبق أن قلتُ لك، أيها الأمير المعظم، إنني لا أستلطفه فحسب، بل أحمل له عاطفة طيبة ومحبة كبيرة. لقد وقف في وسط الشارع على حين فجأة، وفتح رداءه، وكشف لي عن صدره قائلاً: «فتّشني! لقد فتشتت كيلر، فلماذا لا تفتشني؟ إن العدل يوجب ذلك!». وكانت ذراعاه وساقاه ترتجف، وكان وجهه شديد الشحوب حتى ليشعر الناظر إليه بخوف. أخذتُ أضحك وقلتُ له:
«اسمع يا جنرال، لو قال هذا الكلام أحد عنك، لبادرتُ أقطع رأسه بيدي، ثم أضعه على طبق كبير وأمضي أعرضه بنفسي على جميع أولئك الذين يمكن أن يشتبهوا فيك، قائلاً لهم: «هل ترون هذا الرأس؟ أنني مستعدّ لأن أقدّمه رهناً على أن الجنرال صادق لا يكذب، بل إنني مستعد لأن ألقي بنفسي إلى النار في سبيله!». فما كان من الجنرال إلا أن ارتمى بين ذراعي، ونحن ما نزال في وسط الشارع، نذرف بضع عبرات، وبلغ من قوّة شدّي إلى صدره معانقاً أنني كدتُ أختنق من نوبة سعال. قال لي: «أنت الصديق الوحيد الذي بقي لي فيما أنا فيه من شقاء». إنه إنسان حساس جدًا! وقد انتهز الفرصة طبعاً ليقصّ عليّ أثناء الطريق حكاية تتفق وهذه المناسبة، فقال إنه قد اتُهم ذات يوم أثناء شبابه بأنه سرق خمسمائة ألف روبل. لكنه في غداة ذلك اليوم نفسه رمى نفسه في لهب منزل يحترق، فأنقذ الكونت الذي كان قد اتهمه، وأنقذ في الوقت نفسه نينا ألكسندروفنا التي كانت في ذلك الأوان فتاة لم تتزوج. وقد عانقه الكونت وقبله؛ وفي أعقاب هذا الحادث إنما تزوّج نينا ألكسندروفنا. أما المال المفتقد فقد اكتُشف في اليوم التالي بين أنقاض المنزل المحترق، داخل علبة حديدية كان مودعاً فيها. إن تلك العلبة الحديدية، وهي صناعة إنجليزية ذات قفل خفي، كانت قد اندسّت تحت أرض الغرفة – لا يدري أحد كيف! – فلم يمكن العثور عليها إلا بعد الحريق. القصّة ملفقة طبعاً، ولكن هذا لا ينفي أنّ عينيه قد دمعتا حين جاء على ذكر نينا ألكسندروفنا. إنها لامرأة محترمة جداً، نينا ألكسندروفنا هذه، رغم أنها غاضبة مني حاقدة علي.
– أليس لك بها صلات؟
– تقريباً. ولكنني أتمنى أن تكون لي بها صلة، ولو لأبرّئ نفسي في نظرها. إن نينا ألكسندروفنا حانقة عليّ لأنها تظن أنني أدفع زوجها الآن إلى الإدمان على السكر. والحق أنني لا أحضّه على الفساد بل أصدّه عنه، ولعلني أقيه من رفاق السوء، وأجنبه مزالق بيئة خطرة،. هذا وإنني أعدّه صديقاً، وأعترف لك بأنني لن أهجره بعد اليوم أبداً، ولأذهب إلى حيث يذهب، لأنه لا سبيل إلى التأثير فيه إلا بالعاطفة. لقد انقطع الآن عن التردّد إلى صاحبته «الكابتينه» انقطاعاً تامًا، وإن يكن في سرّه يحترق شوقاً إلى الذهاب إليها، حتى إنه في بعض الأحيان يتنهد تنقداً قويًا بل يئن أنيناً حين يفكر فيها، ولا سيما في الصباح، حين يقوم من فراشه ويضع قدميه في حذاءيه. لا أدري لماذا يستبد به هذا الأمر في تلك اللحظة بعينها. والبلية أنه لا يملك قرشاً واحداً، وهو لا يستطيع أن يذهب إليها بغير مال. ألم يسألك أن تنفحه بعض المال، أيها الأمير المعظم؟
– لا، لم يسألني شيئاً.
– إنه متحرّج. كان يريد أن يطلب منك مالًا. حتى لقد اعترف لي بأنه ينوي مضايقتك بهذا الأمر. ولكنه لم يجرؤ، لأنك أقرضته منذ مدّة قصيرة، فقدّر أنك ربما رفضت إقراضه ثانية. لقد أفضى إليّ بهذا إفضاء صديق يبوح لصديقه بما في نفسه.
– وأنت، ألا تعطيه مالًا؟
– يا أمير، أيها الأمير المعظم، أنا مستعدّ لأن أعطي هذا الرجل لا مالاً فحسب، بل حياتي أيضاً إن صحّ التعبير... حين أقول حياتي فإنني أبالغ. ولكنني مستعدّ في سبيله لأن أتحمّل الحمّى، أو أن أتحمّل دمّلاً أو زكاماً، هذا طبعاً إذا كان ثمة حاجة مطلقة إلى ذلك. أنني أعدّه رجلاً عظيماً لكنه انحدر وهوى. هذا رأيي؛ فمن باب أولى، إذا كان الأمر أمر مال...
– إذن فأنت تعطيه مالاً!
– لا، لا أعطيه مالاً. لم أعطه مالاً، وهو يعرف أنني لن أعطيه. ولكنني لا أمنع عنه المال إلا لهدف واحد هو أن أحمله على الاعتدال، وأن أصلح ما فسد من شأنه. إن الفكرة الثابتة التي تستبدّ به الآن هي أن يصحبني إلى بطرسبرج في رحلتي التي ألاحق فيها السيد فردشتينكو، لاعتقادي بأنه هناك حتماً. فالجنرال يغلي ويفور الآن، لكنني أتنبأ بأنه متى وصل إلى بطرسبرج سيتركني ليمضي إلى صاحبته أرملة الكابتن. أعترف لك بأنني سأدع له عامداً أن ينصرف، وبأننا متفقان على أن نفترق متى وصلنا بطرسبرج ليكون حظنا من النجاح في التقاط فردشتينكو بطرق مختلفة ووسائل شتى، أكبر. سأدع له إذن له أن ينصرف، ثم أسقط عليه عند أرملة الكابتن على حين فجأة، متلبساً بالجرم المشهود، لأنني أنتوي خاصة أن أخجله من نفسه، مذكراً إيّاه بواجباته كرّب أسرة، وبكرامته كإنسان عامةً.
قال الأمير بصوت خافت وقد استولى عليه قلق شديد:
– ولكن لا تُحدث ضجة يا ليبديف، لا تُحدث ضجة، ناشدتك الله!...
– لا، لا، أنني لا أقصد إلا أن أُخجله، وأن أرى كيف يكون وجهه حينذاك، لأنّ الوجه يمكن أن يكشف عن أشياء كثيرة، أيّها الأمير المعظم، ولا سيّما في رجل مثله! آه يا أمير! مهما تكن مصيبتي الآن كبيرة، فإنني لا أستطيع، حتى في هذه اللحظة، أن أمتنع عن التفكير فيه وفي إصلاحه. لي رجاء كبير أريد أن أتقدّم به إليك أيها الأمير المعظم؛ حتى إنني أعترف لك بأن هذا هو السبب الذي حضّني على المجيء إليك. إنك تعرف أسرة الجنرال، حتى لقد أقمتُ عندهم، فليتك تقبل، أيها الأمير المعظم، أن تيسّر لي عملي وتسهل عليّ مهمتي في سبيل مصلحة الجنرال وسعادته. لا أكثر...
قال ليبديف ذلك وهو يضم يديه إحداهما إلى الأخرى على وضع الضراعة والابتهال.
قال الأمير:
– ما الأمر؟ في أي شيء أستطيع أن أساعدك؟ ثق أنني أتمنى جدًا أن أفهم فكرتك وأن أدرك ما يدور في ذهنك يا ليبديف...
– إن ثقتي هذه وحدها هي التي قادتني إليك! إن في إمكاننا أن نعمل بواسطة نينا ألكسندروفنا لنحيط صاحب السعادة الجنرال برقابة محكمة متصلة في منزله نفسه. يُؤسفني أنني لست على صلة... ثم إن نيقولاي آرداليونوفتش، الذي يُحبّك حبا يبلغ العبادة إن صحّ التعبير، ويتعلق بك تعلقاً فيه كل ما في سنِّه الشابة من حرارة وحميّا، يستطيع أن يساعدنا ولا شك...
– لا!... لا!... أنُقحم نينا ألكسندروفنا في هذا الأمر؟ وقانا الله شرّ ذلك!... لا ولا نُقحم فيه كوليا.. ولكن... لعلني لمّا أنفذ إلى فكرتك بعد يا ليبديف.
صاح ليبديف قائلاً وهو يشب عن كرسيه:
– لا شيء يحتاج إلى نفاذ!... ما نحن في حاجة إلى أكثر من العطف عليه والرقة في معاملته! ذلك هو كل الدواء اللازم لمريضنا. هل تسمح لي، يا أمير، أن أعدّه مريضاً؟
– هذا يدل على طيب قلبك وسداد رأيك.
– سأستعين على شرح رأيي بمثال مستمدّ من المشاهدة، التماساً لمزيد من الوضوح. إنك ترى أي إنسان هو هذا الرجل: إن ضعفه الوحيد الآن هو ذلك التعلق الشديد بأرملة الكابتن التي لا يمكنه أن يذهب إليها بغير مال، والتي آمل أن أفاجئه عندها هذا اليوم نفسه في سبيل خيره. بل فلنفرض أنه لا يوصم بهذا الضعف وحده، وإنما هو متهم بارتكاب جريمة أو بمقارفة فعل منافي للشرف (مع أنه لا يمكن أن يفعل شيئاً من ذلك البتة): أنا أقول، حتى في هذه الحالة، إن في إمكاننا أن نصل به إلى كل ما نبغيه له من خير، لأننا نستطيع أن نناشد فيه مشاعر الحنان النبيل وعواطف الرقة الرفيعة، فهو إنسان حساس إلى أبعد الحدود. صدّقني إذا قلتُ لك إنه لن يصمد خمسة أيام، ثم إذا هو يأخذ يتكلم ويعترف بكل شيء ذارفاً أحرّ الدموع؛ ولا سيّما إذا خاطبناه بمهارة ونبل في آن واحد، وإذا استطعتم، أنت وأفراد أسرته، أن تراقبوا خطاه إن صحّ التعبير، وأن ترصدوا جميع حركاته وسكناته.
ثم قال ليبديف منتفضاً عن كرسيه كأنما هبط عليه وحي مفاجئ:
– أنا لا أجزم طبعاً أنه هو بغير شك... وما أزال مستعدًا لأن أسفح في سبيله كل دمّي على الفور... ولكن لا شك في أنك توافقني على أن الفجور والسّكر وأرملة الكابتن، أن ذلك كله مجتمعاً يمكن أن يمضي به إلى بعيد جدًا...
قال الأمير وهو ينهض:
– ما زلتُ مستعداً لأن أساعدك في هذه القضية بطبيعة الحال. لكنني أعترف لك يا ليبديف أن في نفسي خشية رهيبة. عجيب أمرك: إنك لا تزال تقدّر أن... أقصد... إنك تقول أنت نفسك إن اشتباهك ينصرف إلى السيد فردشتينكو، أليس كذلك؟
– ففيمن أشتبه إذا لم أشتبه فيه، أيها الأمير المخلص الصادق؟ فيمن أشتبه إذاً؟
كذلك عاد يقول ليبديف مبتسماً ابتسامة عذبة ضامًا يديه إحداهما إلى الأخرى برقة وملاطفة.
فاكفهر وجه الأمير ونهض. ثم قال:
– إنك لتعرف يا لوكيان تيموفئفتش أن الظن الخطأ في مثل هذه الأحوال شيء فظيع. إن فردشتينكو هذا... أنا لا أريد أن أقول فيه سوءاً... ولكن... ولكن فردشتينكو هذا... من يدري؟ ربما كان هو الفاعل... أقصد... ربما كان أقدر من غيره على فعل هذا الأمر دون تورّع.
حملق ليبديف بعينيه وأرهف السمع بأذنيه. وكان الأمير يزداد وجهه اربداداً، وكان يذرع الغرفة طولاً وعرضاً، محاولاً أن لا ينظر إلى محدّثه. ثم قال وقد تفاقم ارتباكه:
– هل تعلم؟... لقد قيل لي عن السيّد فردشتينكو أنه، عدا ذلك، قد يكون رجلاً ينبغي للمرء أن يحذره فلا يقول بحضوره شيئاً... أكثر مما يجب أن يقال. هل فهمت؟ أنا أنقل إليك هذا الكلام لأن السيد فردشتينكو قد يكون، بالفعل، أقدر من غيره على أن... فأنا أنقل إليك هذا الكلام إتقاء لارتكاب خطأ... ذلك أن هذا هو الشيء الأساسي، فهمت؟
قال ليبديف سائلاً باهتمام قوي:
– ولكن من ذا الذي ذكر لك هذه الملاحظة عن السيّد فردشتينكو؟
– همس لي أحدهم بها عرضاً. وأنا على كل حال لا أصدّق من ذلك شيئاً... وإنه ليسوءني أني وجدث نفسي مضطرًا إلى أن أنقل إليك ذلك الحديث. أؤكد لك أنني لا أوْلي هذا الكلام أي ثقة... فهو لا يعدو أن يكون من باب الأقاويل السخيفة... آه... ما كان أغباني حين نقلتُهُ!...
قال ليبديف وهو يرتجف من شدّة الانفعال:
– هذا أمر هام جداً يا أمير، هام جداً الآن، لا فيما يخص السيّد فردشتينكو، بل من جهة المصدر الذي وصل منه هذا الأمر إلى علمك..
كان ليبديف، وهو يقول هذا الكلام، يركض حول الأمير، جاهداً أن يوفق بين خطوة وخطوة.
وتابع يقول:
– إليك يا أمير ما يجب على أن أطلعك عليه الآن: في هذا الصباح، بينما كنا ذاهبين معاً، أنا والجنرال، إلى ذلك الرجل الذي يسمى فيلكين أخذ الجنرال، بعد أن حكى لنا قصّة الحريق تلك، أخذ يُطلق، على حين فجأة، غمزات في حق السيّد فردشتينكو، وكان ما يزال يرتعش استياء بطبيعة الحال. لكن الكلام الذي قاله في حق فردشتينكو قد بلغ من التفكك والاضطراب أنني لم أستطع أن أمنع نفسي من إلقاء بعض الأسئلة عليه. فأقنعتني أجوبته بأن جميع تلك المعلومات التي أوردها صاحب السعادة الجنرال إنما لفقها واخترعها هو نفسه... تلك ثمرة من ثمرات حبه للكلام والإفضاء والبوح. فهو إذاً كذب، لا يكذب إلا لأنه لا يستطيع أن يكظم ميله إلى الإفصاح عمّا يعتمل في قلبه. وإني لألقي عليك الآن هذا السؤال طالباً أن تقضي في الأمر بنفسك: إذا كان الجنرال قد كذب، وهذا ما أنا مقتنع به، فكيف أمكن أن تصل كذبته إلى مسمعك؟ لاحظ، يا أمير، أن ذلك الحديث إنما كان ابن لحظته، إنما كان من وحي تلك اللحظة، فمن ذا الذي أمكنه أن يُطلعك عليه؟ هذه نقطة هامة... إنها، إن صحّ التعبير...
– كوليا هو الذي نقل إليّ ذلك الكلام؛ والملاحظة ذكرها له أبوه الذي صادفه في حجرة المدخل بين الساعة السادسة والساعة السابعة، بينما كان خارجاً لا يدري أحد لماذا...
قال ليبديف وهو يفرك يديه سروراً ويضحك ضحكاً صامتاً:
– آ... هذا ما يصحّ أن يسمى أثراً يجب اقتفاءه... ذلك ما كنتُ أقدّره! معنى ذلك أن صاحب السعادة الجنرال، في الساعة السادسة من الصباح، قد قطع نومه البريء، خصيصاً، ليمضي يوقظ ابنه الحبيب ويبلغه أن صُحبة السيّد فردشتينكو تُعرّض المرء لخطر خارق!
فما أكبر خطر فردشتينكو بعد ذلك في نظر الابن، وما أعظم العناية الأبوية التي يُظهرها صاحب السعادة! هئ هئ هئ!.
قال الأمير قلقاً أشدّ القلق:
– اسمع يا ليبديف، اسمع: يجب أن تعمل برفق وهدوء. لا تحدث ضجة! أرجوك يا ليبديف، أضرع إليك... فإذا تقيَّدْتَ بهذا الشرط، فيميناً لأساعدنَّكَ. ولكن يجب أن لا يعرف شيئاً أي إنسان، أي إنسان!
هتف ليبديف يقول بإلهام حاسم ونشوة كبرى:
– ثِق أيها الأمير المخلص الكريم أن هذا كلة سيدفن في قلبي النبيل دفناً. يجب أن نسير متكاتفين بخطى لا يُسمع لها صوت! نعم، متكاتفين بخطى لا يُسمع لها صوت! إنني مستعدّ لأن أهِب دمي كلّه.. أيها الأمير المعظم. إن لي نفساً خسيسة وفكراً منحطاً. ولكن اسأل أي إنسان منحطّ، بل اسأل أي وغد حقير أهو يُفضّل أن يتعامل مع وغد من نوعه أم هو يُؤثر أن يتعامل مع إنسان مثلك يتمتع بكمال النفس وعظمة القلب، أيها الأمير المخلص؟ لسوف يُجيبك بأنه يفضل الثانية.
هنا إنما تنتصر الفضيلة! أستودعُك الله أيها الأمير المبجل! بخُطى ليس لها صوت... بخُطى ليس لها صوت... متكاتفين!
الفصل العاشر
أدرك الأمير أخيراً لماذا يتجمّد كلما مدّ يده إلى تلك الرسائل الثلاث، ولماذا كان يُرجئ قراءتها إلى المساء. في الصباح، حين استلقى على مضجعه دون أن يستطيع أن يعزم أمره على فض أي ظرف من ظروف الرسائل الثلاثة، كان قد نام نوماً ثقيلاً مضطرباً، ووافاه حلم آخر مزعج أليم رأى فيه تلك «المجرمة نفسها»، مُقبلة عليه، مُتقدّمة نحوه. كانت تنظر إليه والدموع تلتمع على أهدابها الطويلة، وكانت تدعوه من جديد أن يتبعها، وكما حدث له في الليلة الماضية، استيقظ على ذكرى ذلك الوجه الأليم، فأراد أن يذهب «إليها» فورا، ولكنه لم يقو على ذلك؛ وانتهى به الأمر بعد أن استولى عليه ما يشبه أن يكون يأساً، إلى أن يفضّ الرسائل ويأخذ في قراءتها.
إن تلك الرسائل تشبه، هي أيضا، أن تكون حلماً. إن المرء يرى في بعض الأحيان أحلاماً غريبة، لا تخطر في البال ولا يتصوّرها الخيال، أحلاماً تخالف الطبيعة؛ فإذا استيقظ تذكرها واضحة جلية، فاستغرب أمرها كل الاستغراب. إنك تتذكر خاصّةً أن عقلك لم يُبارحُك في أية لحظة من لحظات الحلم، بل إنك لتتذكر أنك تصرّفتَ بكثير من براعة المكر وحسن الحيلة وسلامة المنطق، خلال مدة طويلة، بينما كان القتلة يحدّقون بك ويمدّون لك الفخاخ، ويدبرون المكائد، ويخفون أهدافهم؛ حتى لقد يتودّدون إليك، على حين أن أسلحتهم مؤهّبة، وأنهم لا ينتظرون إلا إشارة لينقضوا عليك. وإنك لتتذكر ما عمدت إليه من براعة المكر، لتخدعهم عن أنفسهم، وتتوارى عن أبصارهم؛ ولكنك تحزر بعد ذلك أنهم يعرفون حيلتك، فهم يتظاهرون بجهل مخبئك تظاهراً؛ فتلجأ عندئذ إلى مخادعة أخرى، وتظفر بتضليلهم مرة ثانية. ذلك كلّه تتذكره تذكراً واضحاً. ولكن كيف تتصوّر أن عقلك، خلال تلك الفترة من الوقت، قد أمكنه أن يسلم بسخافات واستحالات تبلغ من وضوح سخفها واستحالتها ما تبلغه تلك الأمور التي يزخر بها حلمك؟ إن واحداً من القتلة قد تحوّل إلى امرأة على مرأى منك، ثم تحوّلت هذه المرأة إلى قزم ماكر كريه أمام عينيك، فسرعان ما سلمت أنت بها كل تسليمك بواقع، دون أي اندهاش تقريباً، بينما كان عقلك في الوقت نفسه يبذل جهداً قوياً وطاقة عظيمة فيحسن المكر، ويجيد الفهم، ويدرك تسلسل الأحداث ومنطق الأمور؟
ولماذا أيضاً، حين تستيقظ من النوم وتعود إلى الاندماج في الحياة الواقعية، في جميع الأحوال تقريباً، وبقوّة خارقة أحياناً، أنك بخروجك من ميدان الحلم قد خلّفت وراءك لغزاً لم يحل؟ إنك تبتسم استهزاء بسخافة حلمك واستحالته، ولكنك تحسّ في الوقت نفسه ذلك الركام من الأباطيل المتداخلة المتشابكة ينطوي على نوع من فكرة... فكرة واقعية تنتمي إلى حياتك الراهنة، ينطوي على شيء يوجد في قلبك وقد وجد دائماً في قلبك؟ فكأن كشفاً من كشوف النبوّة قد تنزل عليك في حلمك وكنت تنتظرهُ! إنك تحتفظ منه بانفعال قويّ، انفعال فرح أو انفعال ألم، ولكنّك لا تستطيع أن تفهمه، ولا أن تتذكر تذكراً واضحاً ماذا كان!
ذلك هو على وجه التقريب ما جرى في فكر الأمير بعد قراءة تلك الرسائل الثلاث. ولكنه حتى قبل أن يفضها، كان قد شعر بأن وجودها وحده، بأن إمكان وجودها وحده، هو في ذاته أشبه بأن يكون حلماً ثقيلاً، كابوساً أليماً قال يسأل نفسه وهو يتجوّل في المساء وحيداً (دون أن يتذكر أين، في بعض الأحيان): كيف «هي» قررت أن تكتب «إليها»؟ كيف أمكنها أن تكتب «في هذا الموضوع»، كيف أمكن أن ينبت في رأسها حلم يبلغ هذا المبلغ من الطيش والجنون؟ ولكن هذا الحلم كان قد صار إلى حقيقة واقعة؛ والأمر الذي أدهش الأمير أكثر من ذلك أيضاً، أثناء قراءة الرسائل، أنه هو نفسه لم يكن بعيداً عن الاعتقاد بأن هذا الحلم ممكن وبأنه مشروع. نعم، لا شك في أن هذا حلم، في أنه كابوس، في أنه جنون. غير أن ثمة كذلك شيئاً مؤلم – الواقعية، شديد الصحة والصدق، يسوّغ الحلم والكابوس والجنون، ويجعلها كلها مشروعة.
ولبث الأمير عدة ساعات في حالة قريبة من الهذيان، وهو يتذكر ما قرأ. إنه يتذكر بعض العبارات بغير انقطاع، فيقف عليها فكرة ويمضي يتأمّلها ملياً. حتى لقد كان يهم أن يقول لنفسه في بعض الأحيان إنه أوجس هذا كله من قبل وإنه تنبأ به. كان يخيل إليه أنه سبق له أن قرأ هذه الرسائل في ماض بعيد، وأن هذه الرسائل هي بذور كل ما عانى منذ ذلك الحين من أنواع القلق وفنون العذاب وألوان المخاوف.
كانت الرسائل الأولى تبدأ هكذا:
«حين ستفضّين هذه الرسالة، ابحثي أولا عن التوقيع الذي يذيلها. إن هذا التوقيع سيقول لك كل شيء، وسيفهمك كل شيء، فلا أكون في حاجة إلى أن أبرر نفسي، ولا أن أعتذر عن عملي، فلو كنتُ أساويكَ أقلَ مساواة لكان في وسعك أن تستائي من جرأتي، ولكن ما أنا بالقياس إليك؟ أين أنا منك؟ إننا لنبلغ من شدة التعارض، وإنني لأبلغ من فرط الصغر بالنسبة إليك، أنني لا أستطيع أن أوذي كرامتكِ ولو نويتُ أن أفعل».
وهي تكتب بعد ذلك قائلة:
«لا ترَيْ في أقوالي حماسة مرضية تصدر عن فكر مختل إذا أنا قلتُ لكِ إنني أرى فيكِ الكمال كله مجسداً. لقد رأيتكِ، وأني لأراكِ في كل يوم. لاحظي أنني لا أقضي فيك برأي. فليس التفكير هو الذي يقودني إلى اعتبارك كاملة، وإنما يقودني إلى ذلك إيمان بسيط. ولكنني مخطئة في حقكَ: إنني أحبكِ. وما ينبغي للمرء أن يحب الكمال؛ وإنما حسبه من الكمال أن يعرف أنه كمال وكفى، أليس هذا صحيحا؟ ومع ذلك أشعر نحوك بحب. صحيح أن الحب ينشئ مساواة بين الناس. ولكن لا تقلقي: فإنني حتى في أخفى خفايا تفكيري لم أُنزلكِ إلى مستواي، ولا قارنت نفسي بك في يوم من الأيام. قلتُ الآن: «لا تقلقي» ولكن هل يمكن أن تشعري أنت بقلق؟.. لو أمكن ذلك لقبّلت الأرض التي تدوسها قدماك. آه... إنني لا أعدّ نفسي نداً لكِ بحال من الأحوال. انظري إلى التوقيع الذي أذيل به هذه الرسالة، أسرعي فانظري إليه!».
وهي تكتب في رسالة أخرى:
«ألاحظ مع ذلك أنني أجمع بينكما دون أن أكون قد ألقيتُ على نفسي في يوم من الأيام هذا السؤال: هل تحبينه؟ لقد أحبكِ هو، يوم لم يكن قد رآك إلا مرّة واحدة. فكانت صورتك في خياله صورة «الضياء». ذلك هو التعبير الذي أستعمله. سمعتُ هذا التعبير من فمه. على أنني لم أكن في حاجة إلى هذا لأدرك أنك الضياء في نظره. لقد عشتُ بقربه شهراً كاملاً؛ وفى تلك الأثناء إنما فهمتُ أنك تحبينه أيضاً. فأنتما في نظري واحد لا اثنان».
«ما معنى هذا؟ مررتُ أمس بقربكِ، فتراءى لي أنك تحمرّين؟ مستحيل. لا يمكن أن يكون هذا إلا إحساساً خطأ. أنت لو أخذوكِ إلى أحط المواخير، وأروكِ الرذيلة عارية كل العري لما أمكن أن تحمرّي: أنت لا يمكن أن تغضبي من إساءة أو إهانة. لأنكِ أنتِ لا يستطيع أحد أن يجرح كرامتك أو أن يؤذي شعوركِ. حتى إنني أحس – هل تعلمين؟ – أنك لا بد أن تحبيني. أنت في نظري ما أنتِ في نظره: روح من ضياء. والملاك لا يمكن أن يبغض، بل ولا يملك أن يحب. هل يستطيع المرء أن يحب جميع أقرانه البشر بغير استثناء؟ ذلك سؤال طرحته كثيراً على نفسي. فكان جوابي لا، حتماً! حتى إن ذلك ينافي الطبيعة، وما حب الإنسانية إلا معنى مجرد، من خلاله لا يحب المرء إلا نفسه. ولكن إذا كان هذا الحب يستحيل علينا نحن، فليس يستحيل عليكِ أنتِ. إذ كيف يمكن أن لا تحبي جميع البشر، ما دمت فوق جميع البشر، فما من أحد يرقى إلى مستواك، وما من إهانة يمكن أن تنالك، وما من استياء يمكن أن يساور نفسك! أنت وحدك تستطيعين أن تحبي بغير أنانية. أنت وحدك تستطيعين أن تحبي لا من أجل نفسك بل من أجل من تحبينه. آه... لسوف يؤلمني أقسى الألم أن أعلم أنك بسببي تشعرين بخجل أو غضب!! فلو حدث هذا لكان فيه ضياعكِ، لأنك تهبطين عندئذ إلى مستواي!...
«أمس، بعد أن لقيتك عدتُ إلى منزلي وتخيلتُ لوحة. إن الفنانين يرسمون المسيح دائما على أساس المعلومات الواردة في الإنجيل. أما أنا فلو كان عليّ أن أرسم المسيح لصوّرته غير هذا التصوير. لو كان عليّ أن أرسم المسيح لصوّرته وحيداً (لقد كان مريدوه يتركونه وحيداً في بعض الأحيان على كل حال)، ولما وضعتُ بقربه إلا طفلاً صغيراً. والطفل يلعب من حوله. ولعل الطفل قد قصّ عليه بلغته الساذجة شيئاً من الأشياء، فأصغى إليه المسيح في أوّل الأمر، لكنه الآن يتأمل، وما تزال يده مستريحة على الشعر الوضيء من رأس الصبي بحركة نسيان لم يقصدها. وهو ينظر إلى بعيد، إلى الأفق. وفي عينيه تنعكس فكرة رحيبة رحابة الكون. ووجهه حزين. لقد صَمت الطفل. إنه واضع كوعيه على ركبتي المسيح، مُسند خدّه إلى يده الصغيرة، رافع رأسه يحدّق إلى المسيح بنظرة ثابتة، وقد لاح على وجهه ذلك التفكير الذي يُلاحظ أحيانا في وجوه الصغار. والشمس تغرب. تلك هي اللوحة التي كان يمكن أن أرسمها. إنك نقية، وكمالك كله في نقائك. آه... تذكّري هذا وحده! لا يهمّنّك هيامي بك! أنتِ بعد اليوم لي، وسأبقى قريبة منك طول حياتي. سوف أموت وشيكاً».
وكتبت في الرسالة الأخيرة تقول:
«لا تسيئي الظنّ فيَّ، ناشدتك الله! لا ولا تحسبي أنني أذلُ نفسي بالكتابة إليك على هذا النحو لأنني من أولئك البشر الذين يجدون في خفض أنفسهم لذة بل ويلتمسون فيه عجباً وزهواً. لا. إنّ لي ما يعزّيني. ولكن يصعب عليّ أن أشرحه لك؛ بل لقد يصعب عليّ أن أدركه أنا نفسي إدراكاً واضحاً، رغم أن هذا يعذبني. لكنني أعلم أنني لا يمكن أن أذل نفسي حتى بدافع فرط العجب والزهو. أما المذلة التي تنشأ عن نقاء القلب فأنا عاجزة عنها. معنى ذلك أنني لا أذل نفسي لا بهذه الصورة ولا بتلك.
«لماذا أريد أن أجمع بينكما. أمن أجلكما أم من أجلي؟ من أجلي طبعاً. كل شيء يرتد إلى هذا فيما يتعلق بي، قلتُ ذلك لنفسي منذ مدّة طويلة. لقد علمتُ أن أختك آديلائيد قالت في ذات يوم، وهي تنظر إلى صورتي، إن المرء يستطيع بجمال كهذا الجمال أن يُحدث في العالم ثورة. ولكنني عدلتُ عن العالم. عزفتُ عن العالم. لا بدّ أن يبدو لك مضحكاً أن أكتب هذا الكلام بينما أنت تصادفينني مكسوّة بالملابس المخرّمة، مُزدانة بالحلي الثمينة، في صحبة سِكّيرين وأوغاد، أليس كذلك؟ لا تلقي بالاً إلى هذا. أنا منذ الآن لا وجود لي تقريباً، وإني لأعرفُ ذلك ولا أجهله. الله يعلم من ذا الذي احتل في ذاتي مكان شخصي. إنني أقرأ مصيري كل يوم في الأعين الرهيبة المحدّقة إليّ دائماً، حتى حين لا تكون أمامي. إن تلك الأعين «تصمت» الآن (تصمت دائما)، لكنني أعرف سرها. إن منزله قاتم كالح من الضجر. إن هذا المنزل يخفي سرًا. أنا مقتنعة أنّ عنده، في دُرج من الأدراج، سكيناً قد لُفّ نصلها بالحرير كسكين ذلك القاتل من موسكو، الذي كان يعيش هو أيضاً مع أمّه ويفكر في ذبح عنق. لقد ظللتُ أحسّ، طوال الوقت الذي قضيته في منزلهم، أنه لا بدّ أن تكون مخبّاةً، في مكان ما، تحت الأرض، جثةٌ لعل أباه خبأها هناك ملفوفة بقماش مشمّع، كتلك الجثة التي اكتُشفت بموسكو، وأحيطت كذلك بقوارير من إكسير جدانوف؛ بل إنني لأستطيع أن أدلّكِ على الركن الذي لا بدّ أن تكون الجثة مخبأة فيه، إنه يصمت دائماً، ولكنني أعلم حق العلم أن تولّهه بي يبلغ من القوة أنه لا يمكن إلا أن يستحيل إلى كره. سيتم زواجكما وزواجنا في يوم واحد. هذا ما تم عليه الاتفاق بيننا. وليس لدي سرّ بالنسبة إليه. إنني قد أقتله من شدّة الخوف... لكنه سيقتلني قبل أن أعزم أمري على ذلك... لقد ضحك الآن حين رآني أكتب هذا الكلام؛ وهو يزعم أنني أهذر. وهو يعلم أنني إليك أكتب.»
لقد ضمّت الرسائل أفكاراً أخرى هاذية كثيرة. وكانت إحدى هذه الرسائل الثلاث – وهي الثانية – تملأ بكتابة دقيقة جداً أربع صفحات كبيرة. خرج الأمير أخيراً من ظلمة الحديقة التي طوّف فيها مدّة طويلة كما فعل البارحة. بدا له الليل الشاحب الشفاف أوضح مما يكون في العادة. قال يسأل نفسه: «هل يمكن أن لا يكون قد انقضى من الوقت زمن طويل؟» (كان الأمير قد نسي أن يحمل ساعته). وخُيّل إليه أنه يسمع موسيقى بعيدة. فقال يحدّث نفسه مرّة أخرى: «لعلّها في الفوكسهول. لا شك أنهم لم يذهبوا اليوم إلى هناك». وإنه ليقول لنفسه هذا الكلام، إذا هو يلاحظ أنه أمام منزلهم. لقد كان يُقدّر حقاً أن الطواف كان سينتهي به أخيراً إلى هناك. واجتاز الشرفة منهارَ القلب.
الشرفة خالية. لم يأتِ للقائه أحد. انتظر لحظة، ثم فتح الباب الذي يفضي إلى الصالة. أسرع يقول لنفسه: «هذا الباب لا يغلق أبداً». الصالة خالية. يكاد يكون الظلام فيها كاملاً. وقف الأمير في وسط الغرفة متردداً. وفيما هو كذلك، إذا بباب يُفتح فتدخل ألكسندرا إيفانوفنا حاملة بيدها شمعة. فلما رأت الأمير بدرت منها حركة استغراب ودهشة، وتوقفت توقف من يسأل ويستفهم. طبعاً، لم تكن تريد ألكسندرا إلا أن تجتاز الصالة من باب إلى باب، ولم تكن تتوقع أن تجد أحدًا.
قالت أخيرًا:
– ما جاء بك إلى هنا؟
– دخلتُ عابراً.
– ماما مُتعبة، وكذلك آجلايا. وآديلائيد تُوشك أن ترقد على سريرها، وذلك ما سأفعله أنا أيضاً. لقد بقينا بالمنزل وحدنا طول السهرة. بابا والأمير «شتش...» في بطرسبرج.
– أتيت إليكنّ... أتيتُ إليكنّ... الآن...
– هل تعلم كم الساعة الآن؟
– لا...
– هي الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل. ونحن ننام دائماً في الساعة الواحدة.
– ها... وأنا الذي كنتُ أظن أن الساعة هي التاسعة والنصف.
قالت ضاحكة:
– لا ضير! ولكن لماذا لم تجئ قبل هذا الوقت؟ أظن أنك كنت تنتظر.
تمتم يقول وهو ينصرف:
– كنث... أقدّر... كنتُ... أظن...
– إلى اللقاء؛ سيضحك الجميع من هذا في الغد.
رجع الأمير إلى بيته سالكاً الطريق الذي يدور حول الحديقة. كان قلبه يخفق، وكانت أفكاره مضطربة مشوّشة، وكان كل شيء يكتسي في نظره مظهر الحلم. وفجأة، ظهرت لعينيه تلك الرؤيا نفسها التي سبق أن ظهرت له مرتين حين كان يستيقظ من النوم. تلك المرأة نفسها خرجت من الحديقة، ووقفت جامدة أمامه، كأنما كانت مرابطة في ذلك المكان تنتظره. ارتعش ووقف. تناولت يده، وشدّت عليها شدّا قويًا. «لا، ليست هذه رؤيا! ليس هذا طيفًا!».
ها هي ذي معه أخيراً، وجهاً لوجه، لأوّل مرة بعد افتراقهما. إنّها تكلّمه، ولكنه ينظر إليها صامتاً. إنه يشعر بألم في قلبه الطافح. لن ينسى هذا اللقاء في يوم من الأيام، وسيظل يشعر بذلك الألم نفسه كلما تذكر هذا اللقاء. ركعت على ركبتيها أمامه في وسط الطريق كمجنونة. تراجع مذعوراً إلى وراء، بينما هي تحاول أن تُمسك يده لتُقبلها. وكما سبق أن رأى ذلك قبل اليوم في الحلم، هل هي ذي دموع تتلألأ على أهدابها الطويلة.
همس يقول لها خائفاً وهو يُحاول إنهاضها:
– قومي، قومي، قومي بسرعة!
فقالت تسأله:
– هل أنت سعيد؟ هل أنت سعيد؟ قل لي كلمة واحدة: هل أنت سعيد الآن؟ اليوم؟ في هذه اللحظة؟ هل ذهبت إليها؟ ماذا قالت لك؟
لم تنهض ولم تُصغ إليه. كانت تسأله مُرتجفة محمومة، وكانت تتكلم بلهجة سريعة متعجلة، كأن أحداً يُلاحقها ويطاردها. تابعت تقول:
– سأسافر غداً، كما أمرت. ولن أظهر بعد اليوم أبداً... أراك الآن آخر مرّة، آخر مرّة! هي الآن آخر مرّة فعلا!
قال الأمير بلهجة تدل على غاية الكرب:
– هدّئي نفسك؟ قومي! انهضي!
وكانت تتأمّله بشراهة وتعانق يديه. وقالت أخيراً:
– وداعاً!
ونهضت، وابتعدت مسرعة تكاد تركض ركضاً. ورأى الأمير روجويين ينبجس إلى جانبها فجأة، فيُمسك يدها ويقتادها.
وصاح روجويين يقول للأمير:
– انتظرني يا أمير، سأرجع بعد خمس دقائق.
وعاد بعد خمس دقائق فعلاً، وكان الأمير ينتظره في ذلك المكان نفسه.
قال روجويين:
– أركبتها العربة. العربة تنتظرها هناك، في ناصية الطريق، منذ الساعة العاشرة. كانت تقدّر أنك لا بدّ أن تقضي السهرة كلها عند الأخرى. لقد أبلغتها ما كتبته إليّ منذ قليل، بدقة. فلن تبعث إليها بعد اليوم رسائل. هذا وعد. وستنفذ رغبتك فتغادر بافلوفسك غداً. أرادت أن تراك مرة أخيرة، رغم علمها بأنك سترفض لقاءها إذا هي طلبت ذلك، فانتظرناك هنا، على هذه الدكة التي كان عليك أن تمرّ بها في طريق عودتك إلى بيتك.
سأله الأمير:
– أهي التي جاءت بك؟
فأجاب روجويين:
– لم لا؟ إن ما رأيته هنا لم يُطلعني على جديد. ألم تقرأ إذن رسائلها؟
فسأله الأمير وقد بغتته هذه الفكرة:
– وأنت، هل قرأتها حقاً؟
– هي نفسها أطلعتني عليها كلها. هل تتذكر الإشارة إلى السكين؟ هئ هئ!..
صاح الأمير يقول وهو يعقف يديه أسفاً:
– إنها مجنونة!
فدمدم روجويين يقول بصوت خافت، كأنه يخاطب نفسه على حدة.
– من يدري؟ قد لا تكون مجنونة.
فلم يُجِبْ الأمير.
قال روجويين:
– هيا! وداعاً! أنا أيضاً مسافر في الغد. لا تحمل ذكرى سيّئة عنّي!
– قصة أضاف قائلاً وهو يستدير على حين فجأة:
– ولكن قل لي يا عزيزي: لماذا لم تُجب عن سُؤالها؟ أأنت سعيد أم لا!
فصاح الأمير يقول معبراً عن لوعة كبيرة:
ــ كلا، ثم كلا، ثم كلا!
فقال روجويين وهو يضحك ساخرا:
– لا ينقص إلا أن تقول لي «نعم»!
وانصرف دون أن يلتفت إلى الوراء.
الجزء الرابع
الفصل الأول
انقضى زهاء أسبوع على اللقاء الذي تم بين بطلي قصّتنا عند الدكة الخضراء.
وفي ذات صباح مشرق، خرجت باربرا ألكسندروفنا بتتسينا تقوم بزيارة بعض صاحباتها، ثم رجعت إلى منزلها كاسفة البال حزينة النفس في نحو الساعة العاشرة والنصف من النهار.
هناك أناس يصعب على المرء أن يقول فيهم شيئاً يصفهم ويصوّرهم دفعة واحدة في أبرز ما يخصّهم وأوضح ما يميزهم. أولئك هم الذين اصطلح على تسميتهم باسم «العاديين» وهم أكثرية المجتمع في الواقع. إن الأدباء يجهدون في رواياتهم وأقاصيصهم، أن يختاروا نماذج اجتماعية وأن يرسموا هذه النماذج الاجتماعية في أقوى صورة جذابة وأجمل أداء فني. وهذه النماذج لا توجد في الحياة كاملة ذلك الكمال إلا استثناء، غير أن هذا لا ينفى أن الأفراد الذين يصوّرون هذا التصوير هم أقرب إلى الواقع من الواقع نفسه إن صح التعبير. إن شخصية بودكوليوسين قد تشتمل على مبالغة من حيث هي نموذج، ولكنها ليست وهماً صنعه الخيال. ما أكثر الأذكياء الذين ما إن عرفوا شخصية بودكوليوسين التي صوّرها جوجول في مسرحيته حتى وجدوا بين أصدقائهم ومعارفهم عشرات بل مئات من الأفراد يشبهون هذه الشخصية كما تشبه قطرةٌ من الماء قطرةً من الماء! بل إن هؤلاء الأذكياء كانوا، حتى قبل قراءة جوجول، يعرفون أن أصدقاءهم يشبهون بودكوليوسين. وإنما كان الشيء الذي يجهلونه هو الاسم الذي يجب أن يسمى به هذا النموذج. في الواقع، يندر أن يهرب خطيب من النافذة لحظة الزواج، ذلك أن هذه الحركة لا يستطيعها كل فرد من الناس، في بصرف النظر عن أي اعتبار آخر. ومع ذلك ما أكثر العرسان من أناس يستحقون التقدير ولا يعوزهم الذكاء، الذين أحسوا لحظة زواجهم بالحالة النفسية التي أحسّها بودكوليوسين. كذلك لا يصرخ جميع الأزواج في كل مناسبة قائلين: «لقد أردتها يا جورج داندان» . ومع ذلك ما أكثر ملايين وملايين المرات التي كرّر فيها أزواج الكون بأسره تلك الصيحة الصادرة عن القلب، بعد انقضاء شهر العسل أو حتى غداة يوم الزفاف!
لا حاجة بنا إلى الإفاضة في الكلام على هذه المسألة، وحسبنا أن نقرر أن الخصائص البارزة المميزة التي تتصف بها هذه الشخصيات تكون في الحياة الواقعية أقل نتوءً، ولكن جميع أمثال جورج داندان وجميع أشباه بودكوليوسين موجودون في الواقع: يضطربون من حولنا ويسعون أمام أعيننا، ولكن بِسٍمات مخففة وملامح مطيّفة. ويجب أن نضيف إلى ذلك، لنختم هذه القضية ونستنفد هذا الموضوع، أن النموذج الكامل لجورج داندان، على نحو ما خلقه موليير، يمكن أن يصادف في الحياة فعلاً، ولكن نادراً. ولنختم هذا الكلام الذي يوشك أن يصير إلى مقال في النقد الأدبي.
غير أن هناك سؤال يطرح نفسه علينا دائماً: ما الذي يجب أن يفعله كاتب الرواية الذي يقدّم لقرّائه أشخاصاً، عاديين تماماً، في سبيل أن يثير اهتمام هؤلاء القرّاء بهم ولو قليلاً؟ إنه ليستحيل على كاتب الرواية أن يحذفهم من قصته، لأن هؤلاء الناس العاديين هم في كل لحظة وفي أكثر الأحوال النسيج الذي لا غنى عنه، والذي عليه تسلسل وقائع الحياة وأحداث الأيام، فإذا حذفناهم كنا نجرد الرواية من صفة الصدق ونحرمها من ميزة الانطباق على الحقيقة. هذا عدا أن ملء الروايات بنماذج أو حتى بشخصيات غريبة خارقة إنما يبعدها عن الواقع فلا تحظى بتصديق القارئ وقد لا تثير شوقه. وفي رأينا أن الكاتب يجب عليه أن يحاول اكتشاف ألوان طفيفة فيها إثارة للاهتمام وفيه إيحاء وإلهام، حتى لدى الأشخاص العاديين. ولكن حين يحدث مثلاً أن تكون الصفة الأساسية لبعض الأشخاص العاديين هي أنهم عاديون على نحو ثابت دائم مستمر، أو أنهم رغم جميع جهودهم التي يبذلونها للخروج من العادية والعامية ما ينفكون يرجعون إلى العادية والعامية رجوعاً لا برء منه، فإن هؤلاء الأشخاص العاديين يكتسبون بذلك صفة النموذج، تريد أن تبقي ما هي عليه، وإنّما تهدف إلى بلوغ الأصالة بأي ثمن، وتسعى إلى تحصيل الاستقلال مهما كلف الأمر دون أن تملك للوصول إلى ذلك أية وسيلة من الوسائل.
فإلى هذه الفئة من الناس «العاميين» أو «العاديين» ينتمي بعض أشخاص قصتنا هذه، الذين أعترف بأنه لم يتم توضيحهم للقارئ حتى الآن. أولئك هم على وجه الخصوص باربارا آرداليونوفنا بتتسينا، وزوجها السيد بتتسين، وأخوها جبريل آرداليونوفتش.
لا شيء أدعى إلى انزعاج المرء، مثلاً، من أن يكون غنيًا، وابن أسرة كريمة، وحسن الهيئة، وعلى جانب من ثقافة وغير غبي، بل وطيباً، ولكنه لا يملك أية موهبة، ولا ينفرد بأية سمة شخصية، حتى ولا بأية صفة مميزة، وأن لا يكون له أي تفكير خاص، أي يكون شخصيا «كسائر الأشخاص» تماماً: فهو غني ولكنه ليس مثل روتشيلد، وهو ذو اسم محترم لكنه لم يتميز في يوم من الأيام بشيء يجعله مرموقا؛ وهو حسن الهيئة لكنه لا يحدث في من يراه أثراً كبيراً، وهو قد نال حظاً مناسباً من التعليم لكن هذا التعليم لا يجديه نفعاً في شيء؛ وهو لا يخلو من ذكاء لكنه لا يملك أفكاراً شخصية؛ وهو صاحب قلب حساس لكنه لا يتمتع بنفس كبيرة عظيمة، وهكذا دواليك من جميع النواحي.
وبين الناس عدد كبير من هذا النوع من الأفراد، أكبر كثيراً ممّا يمكن أن نتصور. وهم ينقسمون كسائر البشر إلى فئتين أساسيتين: فأمّا الأولى فهي فئة الأفراد المحدودين وأما الفئة الثانية فأفرادها «أكثر ذكاء». إن أفراد الفئة الأولى أسعد من أفراد الفئة الثانية. إن الإنسان «العادي» المحدود الذكاء يستطيع بسهولة أن يظن أنه فذّ وأنه أصيل، ويمكن أن يطمئن إلى هذا الظن ويسعد به. لقد كفى بعض آنساتنا أن يقصصن شعرهن، وأن يضعن على أعينهن نظارات زرقاء، وأن يعلن أنهن من أنصار المذهب العدمي، حتى يقتنعن فوراً بأن هذه النظارات الزرقاء تهب لهن «آراء» شخصية، و«اعتقادات» خاصة. وكفى فلاناً من الناس أن يكتشف في قلبه ذرّة عاطفة إنسانية وطيبة حتى يتأكد فوراً من أنه لا أحد يشعر بمثل هذه العاطفة وأنه رائد من روّاد التقدّم الإنساني. وكفى فلاناً الآخر أن يتمثل فكرة سمعها من أحد الناس أو قرأها في أحد الكتب دون أن تكون لها بداية أو نهاية، حتى يتخيل أن هذه الفكرة خاصة به، نابعة منه، قد نبتت في فكره وخرجت من رأسه. هذه حالة مدهشة يمكن أن نصفها بأنها وقاحة السذاجة إن صحّ التعبير. ونحن نصادفها دائماً، رغم ما قد يبدو من أنها لا يصدَّق وجودها في الواقع. إن هذا النوع من الإيمان الساذج المتكبر الذي يُلاحظ لدى رجل أحمق لا يساوره شك في نفسه ولا في موهبته، قد وصفه جوجول وصفاً رائعاً في نموذجه المدهش، نموذج الليوتنان بيروجوف . إن بيروجوف لا يراوده شك في أنه عبقري بل أكثر من عبقري. وهو يبلغ من قلة شكه في هذا أنه لا يطرح على نفسه هذا السؤال أصلاً؛ عدا أنه لا شك لديه البتة. وقد رأى الكاتب الكبير نفسه مضطراً، آخر الأمر، إلى أن يؤدبه بعقوبة الجلد، إرضاء للشعور الأخلاقي لدى القارئ. ولكنه لاحظ أن بطله لم تؤثر فيه العقوبة كبير تأثير، ولم يزد بعدها على أن نفض جسمه، وأخذ يأكل فطيرة صغيرة استرداداً لقواه، لذلك لم يملك الكاتب إلا أن يهز كتفيه ويترك قراءه حيث هم. لطالما أسفات على أن جوجول جعل رتبة بطله بيروجوف رتبة منخفضة، ذلك أن هذا الشخص يبلغ من امتلائه بنفسه أنه لا شيء يمنعه من أن يظن نفسه قائداً عظيماً على قدر تضخم الشارات على كتفيه بحكم القدم في الخدمة والارتقاء في الوظيفة.
ماذا قلت؟ أقلت يظن نفسه؟ ألا أنه كان سيؤمن بذلك أيماناً لا يراوده فيك أي شك: فما الذي ينقصه، إذا هو سمّي جنرالاً، من أن يكون قائدا عظيما؟ وما أكثر الذين يخفقون بعد ذلك إخفاقاً رهيباً في ساحات المعركة؟ وما أكثر أمثال بيروجوف الذين وُجدوا مر الأدباء والعلماء وأصحاب الدعوات منا! وُجدوا؟ بل وما زالوا يوجدون حتماً...
إن جبريل آرداليونوفتش إيفولجين، وهو أحد أبطال روايتنا هذه، ينتمي إلى الفئة الثانية من العاديين، فئة العاديين الذين أوتوا «ذكاء أكبر»، وإن يكن قد ظل من أخمص قدميه إلى قمة رأسه يحترق رغبة لأن يكون رجلاً ذا أصالة وتفرّد. لقد ذكرنا من قبل إن أفراد هذه الفئة الثانية أشقى كثيراً من أفراد الفئة الأولى. ومردَّ ذلك إلى أن الإنسان «العادي» الذي يملك «ذكاء» حتى وإن ظن نفسه في بعض الظروف (بل وطوال حياته) إنساناً أوتي عبقرية وأصالة، يظل محتفظاً في قرارة قلبه بدودة شك تظل تأكله إلى أن ترميه أحياناً في هوة اليأس الكامل. وحتى لو أذعن، فهو يذعن مع ذلك متسمماً بعاطفة الغرور المكبوح المكظوم.
على أننا أخذنا هنا حالة قصوى. أما في أغلب الأوقات فإنّ مصير هذه الفئة «الذكية» من الرجال العاديين لا يكون فاجعاً إلى هذا الحد. وكل ما يحدث لهم في أكثر تقدير هو أن يصابوا بمرض في الكبد بعد عدد من السنين فإلى هذا يصير عذابهم كله. ومع ذلك فإنهم قبل أن يهدؤوا وأن يذعنوا يظلون، خلال مدة طويلة، منذ سن الشباب إلى سن النضج، يرتكبون حماقات تلو حماقات، لا يدفعهم إلى ذلك شيء غير الرغبة في التفرد والبحث عن الأصالة.
حتى لنرى حالات غريبة. فرب أناس منهم يتّصفون بالشهامة ولكنهم يتوقون إلى الأصالة، فإذا هم لا يتورعون أحياناً عن ارتكاب حقارة من الحقارات. هذا واحد من هؤلاء الأشقياء يمكن أن يعدّ رجلاً شريفاً بل وطيباً، وهو عند أسرته أشبه بالعناية الإلهية، يعول بعمله وحده لا ذويه فحسب، بل أناساً غرباء أيضاً. فماذا يحدث له؟ إنه لا يهدأ له بال ولا تطمئن له نفس طوال حياته! فشعوره بأنه قام بواجباته على أكمل نحو لا يصل به إلى راحة القلب وسكينة الضمير. بالعكس: فهو حين يفكر في ذلك يغضب ويسخط. إنه يقول لنفسه: «ذلك ما ضيعت حياتي في سبيله! ذلك ما حال بيني وبين أن اخترع البارود أو أن اكتشف أمريكا. لا أدري ما الذي كان في وسعي أن أكتشفه، ولكنني كنت سأكتشف شيئاً من الأشياء قطعاً!».
إن أبرز ما يميز هؤلاء الناس هو أنهم يقضون حياتهم فعلاً دون أن يتوصلوا إلى معرفة ما يجب عليهم أن يكتشفوه معرفة دقيقة، وأنهم يظلون ينتظرون أن يكتشفوا شيئاً في الغد: البارود أو أمريكا! غير أن حنينهم المعذب إلى تحقيق هذا الاكتشاف يمكن أن يكون في الحقيقة كافياً لرجل مثل كولومبوس أو مثل جاليليو.
كان جبريل آرداليونوفتش قد دخل في هذا الطريق، ولكنه لم يَسِر فيه إلّا الخطوات الأولى في يوم من الأيام. كان يمتدّ أمامه أفق بعيد من الآمال ممتلئ بالأشياء المتعارضة المتناقضة. وهو منذ طفولته تقريباً كان قلبه قد قرّحه شعورٌ عميق مستمرّ بأنه إنسان عادي، مع رغبة قوية عارمة في أن يُقنع نفسه بأنّ له استقلالاً تامًا. كان فتى حسوداً، عنيف الرغبات، وكأنه خلق عصبيًا نزقاً. وكان يحسب عرامة اندفاعاته قوّة وطاقة. وكان طمعه المسعور في أن يتميز وأن يكون شخصاً مرموقاً يدفعه أحياناً إلى التفكير في القيام بأعمال طائشة، ولكنه ما إن يهم أن يثب حتى ينتصر العقل ويتغلب الذكاء دائماً. كان هذا يقتلُهُ. ولعلّه كان يمكن إذا سنحت الفرصة أن يقرّر اقتراف أحط الحقارات والدناءات لتحقيق هذا الحلم أو ذاك من أحلامه. لكنه كان متى اقتربت اللحظة الحاسمة يمتنع عن اجتراح مثل تلك السفالة لأن الشعور بالشرف كان ينتصر في نفسه (ومع ذلك كانت الأفعال الدنيئة الصغيرة تلقى منه قبولاً دائماً في الواقع). وكان الفقر والهوان اللذين هوت إليهما أسرته يُوقظان في نفسه الاشمئزاز والكره. فكان يصطنع التعالي والاحتقار حتى إزاء أمّه، رغم شعوره الكامل بأن ما تتمتع به أمّه من سمعة طيبة وما تنعم به من طبع قوي هو الآن سنده الأول ودعامته الأساسية في حياته وعمله. وما إن دخل في خدمة أسرة إيبانتشين حتى قال لنفسه: «ما دامت الأعمال الحقيرة لا بدّ منها، فلنرتكبها إلى آخرها، شريطة أن أجنى منها نفعاً!». ولكنه كان لا يرتكب تلك الأعمال الدنيئة إلى آخرها أبداً. ثم: لماذا رسخ في رأسه أن عليه أن يقوم بأعمال سافلة حتماً؟ إن آجلايا لم تزد برفضها على أن أخافته. ولكنه ما يزال يطمع في الفتاة، وما يزال ينتظر فرصة من الفرص صابراً، دون أن يعتقد جادًا مع ذلك بأنها يمكن أن تتنازل فتقبل تقربه منها وتودّده إليها.
ثم ارتأى فجأةً، أثناء قصّته مع ناستاسيا فيليبوفنا، أن المال هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى «كل شيء». وفي ذلك الأوان كان لا ينقضي يوم دون أن يردّد على نفسه قوله: «إذا كان لا بدّ من اقتراف دناءة، فلتقترفها!). وكان إذ يستعمل هذه اللغة يشعر برضى يُداخله شيء من خوف. فكان لا ينفك يكرّر في كل لحظة من أجل أن يتشجّع: «إذا لزمت دناءة فلتمضِ الدناءة إلى آخرها. إن الروتين يتردّد في مثل هذه الحالة، أما نحن فلن نتردّد!».
وإذ أخفق مع آجلايا وأرهقته الظروف، فقد كل شجاعة، وحمل إلى الأمير المال الذي رمته إليه امرأة مجنونة بعد أن أخذته من رجل لا يقلّ عنها جنوناً. وقد ندم بعد ذلك ألف مرّة على أنه ردّ المال، لكنه لم يكفّ عن الشعور من ذلك بافتخار واعتزاز. لقد ظل يبكي فعلاً خلال الأيام الثلاثة التي قضاها الأمير بطرسبرج. ولكنّه خلال هذه المدّة أيضاً إنما نضج كرهه للأمير وحقده عليه. إنه لن يغفر للأمير أنه نظر إليه مشفقاً حين رآه «يقوم بعمل لا يجرؤ كثير من الناس على أن يقوموا به»، ألا وهو ردّ مبلغ ضخم كهذا المبلغ. وكان يعترف لنفسه بصدق ونبل أن السبب الوحيد لكل ما يعانيه من قلق وغم هو هذا التمزق المتصل المستمر في غروره، فكان هذا الشعور يعذبه عذاباً أليماً. ولم يستطع إلا بعد مدة طويلة أن يُدرك وأن يقتنع بأن أموره كانت ستجري مجرى خطيراً مع إنسانة تبلغ ما تبلغه آجلايا من براءة وطهارة وغرابة، فأخذ الندم عندئذ يهدّه هدًّا، فترك العمل وسقط في هوّة الكآبة والانهيار.
إنه يعيش الآن عند بتتسين الذي يعوله كما يعول أباه وأمه. وهو يُظهر الاحتقار لصهره بتتسين، ولكنه يتبع نصائحه، بل ويملك من التعقل والحكمة ما يحضّه على التماس هذه النصائح منه دائماً. كان ثمة شيء يغضبه بين الأشياء الأخرى التي تُغضبه، وهو أن يرى أن بتتسين لا يعنيه أن يُصبح رجلاً مثل روتشيلد، ولا يضع لطموحه هذا الهدف. «ما دمتَ مرابيًا، فكن مرابيًا إلى النهاية؛ اعتصر الناس اعتصاراً، اسلبهم مالهم، كن قوي الشكيمة؛ صرّ ملكاً في إسرائيل».
وكان بتتسين رجلاً متواضعاً مسالماً موادعاً: فكان يكتفي بالتبسم. ومع ذلك رأى في ذات يوم أن من الضروري أن يُصارح جانياً وأن يناقشه مناقشة جادّة، ففعل ذلك بشيء من الرصانة والوقار، مبيناً له أنه لا يأتي عملاً غير شريف، فلا داعي إلى وصفه بأنه يهودي؛ وأنه إذا كانت نسبة الفائدة عالية فلا شأن له هو في ذلك؛ وأن طريقته في المعاملة سليمة صادقة شريفة؛ وأنه على وجه الإجمال ليس إلا وسيطاً في هذا النوع من الأعمال، وأنه بفضل تقيده بالمواعيد وصدقه في المعاملة قد أخذ يتمتع بشهرة ممتازة لدى أناس محترمين مرموقين، وأن ميدان أعماله قد أخذ بسبب ذلك يتسع ويتسع. وأضاف يقول مبتسماً: «لن أُصبح مثل روتشيلد، ولا حاجة بي إلى أن أصبح مثل روتشيلد، ولكنني سأملك منزلاً وربما منزلين في ليتانيا، وحسبي هذا!». وكان يقول بينه وبين نفسه: «ومن يدري قد أملك ثلاثة منازل»، لكنه كان لا يفصح عن هذا الحلم، بل يحتفظ به سرًا مكتوماً في قرارة نفسه. إنّ الطبيعة تحبُّ هذا النوع من الناس وتدلله، ولسوف تكافئ بتتسين لا بثلاثة منازل بل بأربعة، لأنه منذ طفولته أدرك أنه لن يُصبح مثل روتشيلد. ولكن الطبيعة في مقابل ذلك لن تمضي في الإغداق على بتتسين إلى أبعد من هذا الحدّ، وهو امتلاك أربعة منازل، وستكون هذه المنازل الأربعة كل ثروته.
أمّا أخت جبريل آرداليونوفتش فقد كان لها طبع يختلف عن هذا الطبع كل الاختلاف. إنها هي أيضاً ذات رغبات مصطخبة عنيفة، ولكن رغباتها تتصف بالعناد والثبات أكثر ممّا تتصف بالجموح والعرامة. كانت باربارا آرداليونوفتش تملك كثيراً من سلامة الحسّ وسداد الرأي في قيادة عمل من الأعمال، ولا تهجر هذا العمل حين يُشارف على نهايته. الحق أنها كانت، هي أيضاً، من أولئك الناس «العاديين» الذين يحلمون بالتفرّد والأصالة. ولكنها، في مقابل ذلك، لم تلبث أن أدركت أنها لا تملك شيئاً من أصالة، ولم يحزنها هذا حزناً بالغاً يُجاوز الحدود. ومن يدري؟ لعل ذلك كان ثمرة شعور خاص بالكبرياء والزهو. لقد خطت خطواتها الأولى في الحياة العملية بكثير من العزم والحزم فتزوّجت السيد بتتسين. لكنها لم تقل لنفسها في هذه المناسبة: «ما دامت الأعمال الدنيئة ضرورية، فلنمض فيها إلى النهاية، شريطة أن أنال بغيتي وأن أحقق هدفي»، كما كان لا بدّ أن يقول مثل هذا في مثل هذه الحالة أخوها جبريل آرداليونوفتش (إن هذه الكلمات هي تقريباً الكلمات التي قالها لأخته حين وافق، كأخ أكبر، على أن تتزوّج بتتسين). أكثر من ذلك أن باربارا آرداليونوفنا إنما تزوجت بعد أن تأكدت من أن زوجها المُقبل رجل متواضع، مريح، مثقف تقريباً، عاجز عن اقتراف حقارة ضخمة بحال من الأحوال. أما الحقارات الصغيرة فلا ضير فيها ولا خوف منها، فهي سفاسف وترهات، ومن المُبرّأ منها على كل حال؟ إن المرء لا يستطيع أن يطمع في المثل الأعلى! وكانت باربارا آرداليونوفنا تعلم، عدا ذلك، أنها بزواجها تضمن مأوى لأمها وأبيها وأخوتها. فهي حين رأت أخاها شقيا أرادت أن تساعده، رغم كل ما حدث في الأسرة قبل ذلك من أنواع سوء التفاهم. وكان بتتسين يحضّ فانيا، بمودّة وصداقة طبعاً، على أن يلتمس وظيفة في الحكومة. وكان يقول له في بعض الأحيان بلهجة المزاح: «أنت تحتقر الجنرالات ورتبة الجنرال. ولكن أنعم النظر: «إنهم جميعاً ينتهون إلى أن يُصبحوا هم أيضاً جنرالات». لسوف ترى إذا عشت!». فكان جانياً يسأل نفسه ساخراً: «ولكن من أين جاءهم أنني أحتقر الجنرالات ورتبة الجنرال؟».
ومن أجل أن تستطيع مساعدة أخيها، قررت باربارا آرداليونوفنا أن تُوسّع ساحة تأثيرها. فتسللت إلى أسرة إيبانتشين، معتمدة في الدرجة الأولى على ذكريات طفولة. لقد لعبا، هي وأخوها، مع الآنسات إيبانتشين حين كانا في سن الطفولة. يجب أن نلاحظ هنا أنها لو كانت تلاحق وهماً من الأوهام أو حلماً من الأحلام حين سعت إلى أن تُستقبل في منزل آل إيبانتشين، لكان يمكن أن تخرج من الفئة التي انتسبت هي نفسها إليها والتحقت بها.. ولكن الواقع أن باربارا لم تكن تلاحق وهماً أو حلماً. وإنما كان يقود خطاها حساب معقول كانت تُقيمه على أساس معرفتها بطبيعة هذه الأسرة وطريقة حياتها. لقد ظلت تدرس طبع آجلايا بغير توقف، ثم أخذت على عاتقها مهمّة أن تجمع بين اثنين، أخيها وآجلايا. ولعلها حصلت على بعض النتائج. ولعلها أيضاً قد ارتكبت خطأ الإسراف في الاعتماد على جانيا، فانتظرت منه ما لم يكن في وسعه أن يفعله في أي وقت ولا على أي شكل. ولكنها، على كل حال، قد أحسنت الحيلة والتدبير لدى آل إيبانتشين: قضت أسابيع طويلة لا تذكر أمامهم اسم أخيها ولا تُشير إليه؛ أظهرت استقامة تامة وصدقاً كاملاً في جميع الأحيان؛ وكان وضعها يتسم بالبساطة لكنه يتصف كذلك بالرصانة والكرامة. وكانت باربارا آرداليونوفنا لا تخشى أن تنبُش قرارة ضميرها، إذ ليس فيه ما يمكن أن تلوم عليه نفسها، فكان ذلك يهب لها مزيداً من القوّة. كل ما هنالك أنها كانت تكتشف أحياناً أن بها هي أيضاً شيئاً من الميل إلى الغضب، وأنها هي أيضاً تزخر بالكبرياء الجريحة، وربما بالغرور. كانت تُلاحظ هذا في بعض الأحيان خاصة، ومن تلك الأحيان، اللحظات التي تخرج فيها من عند آل إيبانتشين. ها هي ذي، في هذه المرة أيضاً، تعود من عندهم مُعتكرة المزاج حزينة النفس، كما قلنا، غير أن سُخريّة مُرّة تُخالط الآن ذلك المزاج الحزين.
كان بتتسين يُقيم ببافلوفسك في منزل خشبي حقير المظهر لكنه رحب السعة، يطل على شارع كثير التراب. إن هذا المنزل ستؤول ملكيته إلى بتتسين بعد قليل، حتى إنه قد شرع منذ الآن في بيعه لشخص ثالث.
حين اجتازت باربارا آرداليونوفنا درجات المدخل، سمعت صخباً شديداً، في الطابق الأعلى. لقد كان أبوها وأخوها يتصايحان. فلمّا دخلت الصالة رأت جانيا يركض في الغرفة من طرف إلى طرف، أصفر اللون من شدّة الغضب، يكاد ينزع شعر رأسه شدًا. فاكفهر وجهها حين رأت هذا المشهد وتهالكت على ديوان متعبة الهيئة مهدودة القوى، دون أن تخلع قبعتها. وكانت تعلم أنها إذا صمتَتْ دقيقة واحدة أخرى ولم تسأل عن هذا الاضطراب، ستُغضب أخاها حتماً؛ لذلك أسرعت تسأله قائلة:
– أهي الحكاية نفسها؟
فصاح جانياً يقول:
– الحكاية نفسها؟ لا... ليست هي الحكاية نفسها. الأمر الآن أمر آخر.! العجوز أصبح مسعوراً، والأم لا تكفّ عن البكاء. أرجوك يا فاريا، فكري كما تشائين، ولكنني سأرميه وراء الباب...
ولكن لعله لاحظ أن المرء لا يجوز له أن يَطرد أحداً من بيت غير بيته، فأضاف يقول مستدركاً:
– أو... أترككم أنا...
دمدمت فاريا تقول:
– يجب على المرء أن يتصف بالتسامح.
ردّ جانيا يقول مشتعلا بالغضب:
– التسامح في ماذا؟ التسامح مع من؟ التسامح تجاه نذالاته؟ لا، لا، لك أن تقولي ما تشائين... هذا مستحيل، مستحيل، مستحيل، مستحيل! ويا لها من أساليب!... الذنب كله ذنبه، ثم هو يصرخ: «لا أريد الدخول من الباب... هدّم الحاجز!». ولكن ما بك يا فاريا؟ إن وجهك منقلب مربد!
أجابت فاريا غاضبة:
– ليس في وجهي شيء خارق.
فتفرس فيها جانيا بمزيد من إنعام النظر ثم سألها فجأة:
– هل كنت هناك؟
– نعم.
– انتظري لحظة. استؤنف الصراخ. يا للعار! وفي مثل هذه اللحظة أيضاً!
– في مثل هذه اللحظة؟ لا تتميز هذه اللحظة بأي شيء خاص.
حذق جانيا إلى أخته بنظرة فيها مزيد من النفاذ. وسألها:
– هل علمتِ شيئاً؟
– لم أعلم شيئاً غير منتظر. علمتُ أن كل ما كان يُفترض صحيح. لقد كان زوجي أبصر منا كلينا. إن ما تنبأ به منذ البداية قد تحقق الآن. أين هو؟ –
خرج. ما الذي تحقق؟
– أصبح الأمير خطيباً رسميًا. انتهى الأمر. الأختان الكبريان قالتا ذلك لي. وافقت آجلايا. حتى إن الأمر لم يبق سرًّا مكتوماً (قبل الآن كان كل شيء هناك يُحاط بجوّ السرّ). وقد أرجئ زواج آديلائيد حتى يتم زفاف العروسين معا في يوم واحد. يا له من شِعر! هذه قصيدة حقاً! أُوثر لكَ أن تنظم قصيدة تهنئة بالعرس على أن تركض في الغرفة دون طائل. سيستقبلون في مساء هذا اليوم بيلوكونسكايا. لقد وصلت في الوقت المناسب. سيكون هناك مدعوون. وسوف يُقدّم الأمير إلى الأميرة بيلوكونسكايا، وإن كانت تعرفه من قبل، يظهر أنهم سيعلنون نبأ الخطبة في هذه المناسبة. لكنهم يخشون عليه إذا هو دخل الصالون الذي يحفل بالمدعوين أن يُسقط على الأرض شيئاً أو أن يكسر آنية، أو أن ينبطح هو نفسه على الأرض. لا يُستغرب ذلك من مثله!
أصغى جانيا باهتمام شديد، ولكن ما كان أشدّ دهشة أخته حين لاحظت أن هذا النبأ الذي كان ينبغي أن يصعقه صعقاً لم يلقَ منه انشداها خارقا.
قال بعد لحظة تفكير:
– نعم... كان ذلك واضحاً...
ثم أضاف يقول وهو يبتسم ابتسامة غريبة ويرمق أخته بنظرة ماكرة وهو ما يزال يذرع أرض الغرفة طولاً وعرضاً، ولو باضطراب أقل:
– إذن انتهى كل شيء!
قالت فاريا:
– يسعدني أن أراك تستقبل الأمر كما يستقبله فيلسوف. حقاً إن هذا ليريحني كثيراً.
– نعم، تخلّص المرء من هذا الموضوع؛ أنتِ على الأقل...
– أظن أنني خدمتُك صادقة مُخلصة، دون أن أناقشك، ودون أن أزعجك، أنا لم أسألك ما هي السعادة التي كنت تعوّل على أن تجدها مع آجلايا.
– ولكن هل أنا... نشدتُ السعادة مع آجلايا؟
– دعك من هذا الكلام، أرجوك، لا تمثل دور الفيلسوف! لا شك في أن الأمر كان كذلك. ولكن حسابنا صُفّي: خدعنا. أعترف لك أنني لم أنظر إلى هذا الزواج في يوم من الأيام على أنه جدّ. ولكن شُغلتُ به فلقد فعلتُ ذلك من باب «تجريب الحظ»، معتمدة على طبع آجلايا الغريب الشاذ. وإنما أردتُ خاصة أن أسرّك. كان نصيب هذا المشروع من الإخفاق تسعين في المائة. وما زلتُ حتى الآن لا أعلم أنا نفسي ماذا كنت تنتظر منه أو تتوقع له؟
– الآن ستحضاني أنت وزوجك على التماس عمل والسعي إلى وظيفة؛ سأسمع خُطَباً ومواعظ عن فائدة الدّأب وقوّة الإرادة وضرورة الاكتفاء بالقليل، وهلم جرا... حفظت هذا الكلام على ظهر قلب!...
كذلك قال جانيا وهو ينفجر ضاحكاً.
قالت فاريا تُخاطب نفسها: «إن في رأسه فكرة جديدة!».
وسألها جانيا فجأة يقول:
– والأبوان هناك، كيف ينظران إلى الأمر؟ أهما مسروران؟
– لا يبدو عليهما السرور كثيراً. على كل حال، تستطيع أن تحكم في ذلك بنفسك. إذا كان إيفان فيدوروفتش راضياً، فإن الأم تراودها مخاوف. ولقد قالت من قبل. لا تحب أن ترى في الأمير خطيباً لابنتها. ذلك معروف.
– ليس هذا ما يهمني. إن الأمير خطيب مستحيل، خطيب لا يتصوّر الخيال أن يكون خطيباً. هذا واضح. لكنني أتكلم عن الوضع الحالي: إلى أين وصلا؟ هل أبدت موافقتها القطعية؟
– حتى الآن لم تفل «لا». ذلك كل شيء. لكنّ الأمر لا يمكن أن يجري معها غير هذا المجرى. أنت تعلم أنواع الأعمال العجيبة التي دفعها إليها خجلها وحياؤها حتى الآن! كانت في طفولتها تحبس نفسها في الخزائن فتظلّ لاطيةً فيها ساعتين أو ثلاثة، لا لشيء إلا لرغبتها في تحاشي الظهور للناس. وقد كبر بعد ذلك جسمها، لكن طبعها لم يتغير. هل تعلم؟ يُخيّل إليّ أنه لا بدّ أن يكون ثمّة شيء خطير هناك، حتى من جهتها «هي». يبدو عليها أنها تسخر من الأمير ما استطاعت أن تسخر، من الصباح إلى المساء، حتى لا تظهر أنها تجد السبيل حتماً إلى أن تقول له كل يوم بضع كلمات خفية؛ ذلك أنه يبدو مشرقاً وضاءً كمن يتنزه في السماء!... يُقال إنه مضحك! منهن إنما سمعتُ هذا الكلام. ولقد ظهر لي أيضاً أنّ الأختين الكبيرتين تسخران مني صراحةً.
أخيراً أخذ وجه جانيا يكفهر، لعل فاريا قد تعمّدت الإفاضة في هذا الموضوع لتسبر فكر أخيها، وتعرف ما يدور فيه من خواطر. ولكن العياط والزياط استؤنفا في الطابق الأعلى. زأر جانيا يقول وكأنما سرّه أن يجد متنفساً لغضبه:
– سأطرده من الدار.
– فيمضي يستأنف الشكوى منا والتشهير بنا والإساءة إلى سمعتنا في كل مكان، كما فعل أمس؟
سألها جانيا مرتاعاً من جديد:
– كيف أمس؟ ما معنى هذا؟ هل...
فأجابت فاريا:
– ها... أأنت لا تعلم؟
فصاح جانيا يقول وقد احمرّ وجهه احمراراً شديداً من الشعور بالغضب:
– كيف؟... إذن... ذهب إلى هناك؟ رباه!... ولكن أنت التي ترجعين الآن من عندهم، هل علمت شيئاً؟ هل ذهب العجوز إليهم؟ أذهب أم لا؟
قال ذلك وأسرع نحو الباب. فاندفعت فاريا وراءه، وأمسكتهُ من يديه، وقالت له:
– ماذا؟ إلى أين تذهب؟ إذا طردته في هذه اللحظة، فلسوف يفعل أسوأ مما فعل. سيمضي يفضحنا لدى جميع الناس!.
– ماذا فعل هناك؟ ماذا قال؟
– لم يستطعنَ أن يُكرّرن لي ما قاله بوضوح، لأنهن لم يفهمنهُ. ولكنني أعلم أنه أخافهن جميعاً. كان آتياً إلى إيفان فيدوروفتش، ولكن هذا كان غائباً عن البيت. فطلب أن يرى إليزابت بروكوفيفنا. فلما لقيها بدأ يرجوها أن تجد له عملاً، أن تبحث له عن وظيفة في الحكومة؛ ثم أخذ يشكونا إليها، يشكوني أنا، ويشكو زوجي، ويشكوك أنت خاصة... قال كلاماً كثيراً.
سألها جانيا وقد هزته ارتعاشةً متشنجةً:
– ألم تستطيعي أن تعرفي ماذا قال؟
– ليس هذا بالأمر السهل. أغلب الظن أنه لم يكن يفهم ماذا يقول ولعلهن لم يقصُصن عليّ كل شيء.
أمسك جانيا رأسه بيديه، وركض نحو نافذة. وجلست فاريا قرب النافذة الأخرى.
قالت فاريا فجأة:
– مضحكةٌ آجلايا هذه! لقد استوقفتني لتقول لي: «انقلي إلى أبويكِ أصدق مشاعر الاعتبار منّي. ولن يفوتني أن أنتهز فرصةً لرؤية أبيك في يوم من الأيام القليلة القادمة». وقد نطقت ذلك بلهجة فيها كثير من الجدا غريب جدا...
– ألم يكن ذلك سخرية؟ أأنت واثقة بأن ذلك لم يكن سخرية؟
– لا، لم يكن ذلك سُخرية، وهذا وجه الغرابة.
– أهي على علم بقصّة العجوز أم لا؟ ما رأيك؟
– القصة مجهولة هناك. ذلك أمر لا أشك فيه. ولكنك تجعلني أقدّر الآن أن آجلايا قد تكون على علم بالقضية، قد تكون وحدها على علم، لأن أختيها دُهشتا هما أيضاً حين سمعتاها تُحمّلني تحية إلى أبينا، جادة في ذلك الجدّ كله؛ ولولا أنها على علم، فما الذي يمكن أن يحضّها على إرسال تحية إليه هو؟ وإذا كانت على علم بالقضية، فإن الأمير يكون هو الذي رواها لها.
– لا يحتاج المرء إلى كثير من المكر حتى يعرف من الذي رواها لها! لصّ! سارق! لم يكن ينقصنا إلا هذا! لصّ في أسرتنا، لص هو «رب أسرتنا»!
هتفت فاريا تقول غاضبة:
– دعْك من هذه السخافات لا يعدو الأمر أن يكون حكاية سكّير! ومن الذي اخترعها؟ ليبديف، الأمير... يا للشخصيات العظيمة، يا للأذكياء العباقرة!... إنني لا أقيم لهذا الحادث أي وزن!
تابع جانيا كلامه يقول بمرارة:
– أبونا لصّ، وسكير؛ وأنا متسوّل شحّاذ وزوج أختي مرابٍ. إن لدينا ما نغري به آجلايا: أسرة عظيمة حقاً!.
– إن زوج أختك هذا، إن هذا المرابي يـ....
– يطعمني، أليس كذلك؟ لا تتحرّجي من قول ما تريدين قوله، أرجوك!
قالت فاريا وقد ثابت إلى صوابها، وسيطرت على نفسها:
– لماذا تزعل؟ إنك لا تفهم شيئاً. أنت تلميذ مدرسة حقاً! أتظن أن هذا كله قد أساء إليك في نظر آجلايا؟ إنك لا تعرف طبعها. إنها لا تتورّع عن أن تدير ظهرها لأحسن الخاطبين في سبيل أن تهرب إلى طالب من الطلاب مغتبطة، وأن تموت معه جوعاً في غرفة تحت السطح؛ ذلك هو حلمها! إنك لم تستطع أن تفهم في يوم من الأيام مدى ما كان يُمكن أن تثيرهُ فيها من الاهتمام بك والانجذاب إليك لو أنك عرفت كيف تتحمّل وضعنا بصلابة وكبرياء. إن الأمير لم يصطدها إلا لأنه من جهة أولى لم يُحاول قط أن يستولي عليها، ولأنه من جهة ثانية يُعدّ أبله في نظر جميع الناس. يكفيها أن تقلب حال الأسرة عاليها سافلها مبتهجة! هيه! إنكم معشر الرجال لا تفهمون من هذه الأمور شيئاً البتة!
دمدم جانيا يقول بهيئة مُلغزة:
– طيّب. سنرى هل نحن نفهم أم نحن لا نفهم. ولكنني كنتُ أود مع ذلك أن لا تعرف عن قصة العجوز شيئاً. لقد ظننت أن الأمير سيصون لسانه فلا يُذيع شيئًا. لقد استطاع أن يمتع ليبديف عن التحدّث في الأمر. ولم يرض أن يقول لي، أنا نفسي، كل شيء، رغم إلحاحي..
– ها أنت ذا ترى إذن بنفسك أن كل شيء قد عُلم بدون أن يتدخل. ولكن ما بالك تهتم هذا الاهتمام كله الآن؟ ماذا تأمل؟ وإذا بقي لك أمل، فلن يهب لك هذا في نظرها إلا هالة شهيد!
– دعك من هذا الكلام. فإنها، رغم كل هذه الرومانسية، كان يمكن أن تخاف من الفضيحة. إن لكل شيء حدوداً؛ إن لكل امرئٍ حدودًا لا يتجاوزها. أنتنّ جميعًا كذلك.
– آجلايا تخاف؟
كذلك صاحت فاريا مندهشة وهي ترشق أخاها بنظرة احتقار. ثم
– إنّ نفسك لدنيئة حقا! لا أحد منكم خير من أحد. أنتم جميعاً سواء. أن تعدُّوا آجلايا شاذة غريبة الأطوار، فهذا جائز. ولكنها في مُقابل ذلك أنبل طبعاً وأسمى نفساً منا جميعاً!
فدمدم جانيا قائلاً بلهجة الاكتفاء مرة أخرى:
– طيّب. لا بأس. لا تزعلي!
وتابعت فاريا كلامها فقالت:
– لكنني أرثي لحالِ أمي. إنني أخشى أن تكون قصة أبي قد بلغت مسمعها. أنني خائفة حقاً!
–: قال جانيا
– لا شك في أنها تعرفها!
كانت فاريا قد نهضت لتصعد إلى الطابق الأعلى، عند نينا ألكسندروفنا. فلما سمعت ما قاله أخوها توقفت ونظرت إليه متحيرة، وسألته:
– من ذا يمكن أن يكون قد حكى لها القصة؟
– لعله هيبوليت. إنني أقدّر أنه منذ أقام عندنا لم يكن له من هم مستعجل إلى أن يروي لأمنا الحكاية.
– ولكن قل لي أرجوك، كيف يمكنه أن يعلم بهذه القضية؟ إن ليبديف والأمير قد اتفقا على أن لا يتحدّثا عنها إلى أحد؛ كما أن كوليا نفسه يجهلها...
– هيبوليت؟ لقد عرف هذا كله بنفسه. لا تستطيعين أن تتصوّري مدى ما يتصف به هذا المخلوق من مكر وخبث وميل إلى الوشاية والنميمة؛ ولا تستطيعين أن تتخيلي مدى ما يتمتع به من قوّة حاسمة الشم التي تمكنه من أن يكتشف بنفسه جميع الحكايات السيئة، وجميع ما له طابع الفضيحة! لك أن تُصدّقي وأن لا تُصدقي، لكنني أعتقد أنه استطاع أن يقبض على ناصية آجلايا بيديه. وإذا لم يكن هذا قد حدث فسوف يحدث. حتى روجويين أصبح على علاقة به. كيف لا يُلاحظ الأمير هذا؟ وما أشدّ ما يضطرم في نفس هيبوليت الآن من رغبة قوية في أن يُدبر لي مكيدة! إنه يعدُّني عدوًّا شخصياً. لقد أدركتُ ذلك منذ زمن طويل. ولكنني أتساءل ما الفائدة التي يُجنيها من هذا إنسان أصبح في مرحلة الاحتضار؟ ذلك ما لا أفهمه. ولكنّكِ سترين: سترين إنني سأنتصر عليه. لن تكون الكلمة الأخيرة له بل لي.
– لماذا أتيت به إلى هنا، إذا كنتَ تكرهه هذا الكره كله؟ وهل يستحق الأمر أن تنتصر عليه؟
– أنت نصحتني أن آتي به إلى هنا.
– كنتُ أقدّر أن ينفعنا. ولكن هل تعلم أنه هو نفسه مُوَلّه بحُب آجلايا، وأنه كتب إليها؟ لقد سُئلت في هذا الموضوع... وكاد يكتب إلى إليزابت بروكوفيفنا.
قال جانيا وهو يضحك ضحكاً ساخراً فيه مكر:
– من هذه الناحية، ليس خطراً. ثم إن الأمر لا بدّ أن يكون غير هذا. أن يقع في غرام آجلايا، فهذا جائز، لأنه صبي! ولكنه... لن يبعث رسائل غير موقعة إلى العجوز. إنه فتى حقير تافه شرير، ومغرور بنفسه أشدّ الغرور!... إني لعلى ثقة، إني على يقين من أنه صوّرني لها شابًا محتالاً متآمراً. بهذا إنما بدأ. أعترف بأنني كنتُ غبيا أشدّ الغباء حين أطلقتُ لساني حرًا معه. كنتُ أظن أنه سيخدم مصالحي، ولو انتقاماً من الأمير على الأقل. إنه شخص ماكر. كشفتُ خبيئة نفسه! أما مسألة السرقة تلك فقد عرفها من أمّه، أرملة الكابتن. من أجل تلك المرأة إنما قرّر أبونا أن يفعل فعلته. لقد أعلمني هيبوليت فجأة، بدون أي سبب، أن «الجنرال» وعد أمه بأربعمائة روبل. أعلمني هذا من تلقاء نفسه، بدون مبالاة، بدون تحرّج. عندئذٍ فهمتُ كل شيء. كان يُحدّق إلى عينيّ متلذذًا. ولا شك أنه قال هذا الكلام نفسه لأمنا، لا لشيء إلا التلذذ بتمزيق قلبها. ولماذا لا يموت؟ هلّا قلت لي هذا، من فضلك؟ ألم يتعهد بأن يموت في غضون ثلاثة أسابيع؟ لقد سمن منذ أن أقام عندنا. وأخذ سُعاله يهدأ. حتى لقد قال في مساء أمس أنه أصبح منذ يومين لا يبصق دما.
قالت فاريا:
– اطرده.
فأجاب جانيا متعاليًا:
– إنني لا أكرهه، بل أحتقره!
ثم لم يلبث أن صاح يقول فجأة وقد استولى عليه غضب قوي:
– ثم... نعم... إنني أكرهه... أكرهه! لأقولنّ هذا في وجهه، ولو كان يلفظ أنفاسه الأخيرة! ليتكِ استطعت أن تقرئي اعترافه! ما أغربها من وقاحة ساذجة! إنه الليونان بيروجوف، إنه نوزدريوف على مأساة! وهو خاصةً صبيّ! ما أعظم اللذة التي يمكن أن أشعر بها لو ضربته على قفاه حينذاك، لا لشيء إلا أن أُدهشه! إنه يريد الآن أن ينتقم من الجميع لإخفاقه في ذلك اليوم!... ولكن ماذا يجري هناك؟ إن الجلبة قد اشتدت فوق! وبعد؟ أما لهذا من آخر؟ ما معنى هذه الضوضاء؟ لن أسمح بهذا!
صاح بهذه الجملة الأخيرة مخاطباً بتتسين الذي دخل الغرفة في تلك اللحظة. وتابع كلامه يقول:
– ماذا يحدث في بيتنا؟ إلى أين نمضي أيضاً؟ هذا... هذا...
ولكن الضجة كانت تقترب بسرعة. وفُتح الباب فجأة، ودخل العجوز إيفولجين طافح الغضب محتقن الوجه مضطرب النفس خارجاً عن طوره، واندفع هو أيضاً نحو بتتسين. ووراءه دخلت نينا ألكسندروفنا، ودخل كوليا، ثم دخل أخيراً هيبوليت.
الفصل الثاني
كان هيبوليت قد أقام في منزل بتتسين منذ خمسة أيام. وقد تم الفراق بينه وبين الأمير على نحو طبيعي دون خصام أو نقاش أو شجار أو شقاق بل كأنهما افترقا وهما على أحسن حال من المودّة والصداقة. وقد ذهب جبريل آرداليونوفتش الذي عادى هيبوليت كل تلك المعاداة أثناء السهرة، التي سبق الحديث عنها، ذهب يزوره في بيته بعد الحادث بيومين، فأغلب الظن أنه إنما ذهب يزوره تنفيذاً لخطة مبيتة كانت قد راودته على غير توقع. كما أن روجويين أخذ يتردّد إلى المريض، لا يدري أحد ما الذي يحضه على ذلك. وقد قدّر الأمير في البداية أن «الفتى المسكين» قد يجد من تلقاء نفسه أن انتقاله من عنده فيه خير له. ولكن هيبوليت ذكر للأمير حين غادر المنزل أنه سيقيم عند بتتسين الذي «تكرّم فعرض عليه أن يؤويه». وكأنه تعمّد أن لا يقول أنه سيسكن عند جانيا، مع أن جانيا هو الذي ألحّ على إيوائه في المنزل. وقد لاحظ جانيا ذلك، فبقيت هذه الإهانة تنخر في قلبه.
كان جانيا على حق حين قال لأخته إن المريض تتحسّن صحته. لقد كانت صحّة هيبوليت تتحسّن فعلاً، وكان في وسع المرء أن يلاحظ ذلك من أوّل نظرة.
دخل هيبوليت إلى الغرفة غير متعجّل، وراء الآخرين، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة خبيثة، وكانت هيئة نينا ألكسندروفنا تدل على أنها مذعورة ذعراً قويًا (لقد تغيّرت تغيراً كبيراً وهزلت هزالاً شديداً أثناء هذه الأشهر الستة الأخيرة. إنها منذ أن زوّجت ابنتها وجاءت تسكن عندها أصبح يبدو عليها أنها لا تتدخل في شؤون أولادها). وكان كوليا مهموم البال، قلقاً مرتبكاً متحيّراً. إن أشياء كثيرة من هذا «الجنون الذي أصاب الجنرال» تفوته فلا يفهمها، على حدّ تعبيره، لأنه كان يجهل، بطبيعة الحال، الأسباب الحقيقية لهذه البلبلة الجديدة التي اجتاحت المنزل. لكنه وهو يرى أباه ميالاً إلى المشاجرة في كل لحظة وكل مناسبة، قد اتضح له أن أباه اعتراه تغير مفاجئ فكأنه شخص آخر. وكان مجرد انقطاع العجوز عن الخمرة منذ ثلاثة أيام انقطاعا كاملاً يُذكي قلقه ويفاقمه. لقد علم أن أباه قطع الصلة بينه وبين ليبديف، وقطع الصلة بينه وبين الأمير، حتى إنه تشاجر معهما. وها هو ذا كوليا قد وصل إلى المنزل حاملاً نصف زجاجة فودكا، اشتراها بقروش يملكها، وقال لأمه حين كان الجميع ما يزالون في الطابق الأعلى:
– أؤكد لك يا أمي أنه من الأفضل أن يشرب. إنه منذ ثلاثة أيام لم يشرب شيئاً. وذلك هو سبب اعتكار مزاجه، واسوداد نفسه. حقا إن من الأفضل أن يشرب. لقد كنتُ أحمل إليه خمرة حتى حين كان في السجن بسبب الديون...
فتح الجنرال الباب واسعا ووقف على العتبة. كان يرتعش استياء وغضبا. صرخ يقول لصهره بتتسين بصوت مرعد:
– أيها السيّد العزيز، إذا كان حقا أنك قرّرت أن تُضحي في سبيل هذا الولد الغرّ وهذا الملحد الزنديق بأبيك الشيخ المحترم، أو قل بوالد زوجتك الذي خدم إمبراطوره مُخلصاً، فاعلم أنني منذ هذه اللحظة لن تطأ قدماي أرض مسكنك. فاختر أيها السيد، اختر في هذه اللحظة نفسها: فإما أنا وإما هذا... المسمار!.. نعم.. هذا المسمار! خطر ببالي هذا الاسم مُصادفةً... لكن الصبي مسمار حقاً... لأنه يثقب قلبي كمسمار فعلاً... بدون أية مداراة أو مراعاة... كمسمار تماماً!...
قال هيبوليت:
– لماذا لا تسمّيني فتّاحة قناني؟
– لا، لست فتاحة قناني، لأنني لستُ قنينة بل جنرالاً. أنا أحمل أوسمة وأملك ألقاب شرف، أما أنت فليس لك شيء. إمّا هو وإمّا أنا! قرر أيها السيد، قرر حالا!
كذلك صرخ الجنرال من جديد، مهدّداً بتتسين بلهجة نزفة.
فأدنى منه كوليا كرسيّا، فتهالك الجنرال على الكرسي خائر القوى.
جمجم بتتسين يقول مصعوقاً:
– الحق أن الأفضل أن تنام قليلاً...
وهمس جانيا قائلاً لأخته:
– وما يزال يجرؤ أن يُهدد...
صاح الجنرال قائلاً:
– أنام قليلاً؟ أنا لستُ سكران يا سيدي العزيز، وأنت تُهينني وتشتمني.
ثم تابع صياحه قائلاً وهو ينهض:
– أرى أن كل شيء وكل إنسان هنا يُناصبني العداء! كفى! لقد سئمتُ! أنا ذاهب... ولكن ألا فلتعلم أيها السيّد العزيز، ألا فلتعلم...
لكن الجنرال أُجلس قبل أن يكمل جملته، وضُرع إليه أن يُهدئ نفسه.
وانسل جانيا إلى ركن من الأركان غاضباً حانقاً. وكانت نينا ألكسندروفنا ترتجف وتنحب.
قال هيبوليت كاشفاً عن أسنانه بلهجة ساخرة:
– ولكن ماذا صنعتُ به؟ مم يشتكي؟
فتدخلت نينا ألكسندروفنا فجأة تقول:
– أتدّعي أنك لم تفعل به شيئاً؟ أنت الذي يجب عليك أن تشعر بالخجل والعار... إنها لقسوة أن يُعذب المرء شيخاً... ولا سيما حين يكون في وضع مثل وضعكّ...
– فما هو وضعي أوّلاً يا سيدتي؟ إنني أحمل لك احتراماً عظيماً، لك أنت خاصة، لك أنت شخصيًا، ولكن...
هتف الجنرال يقول:
– إنه مسمار! إنه يثقب روحي وقلبي! إنه يريد أن يُلحقني بمذهب الإلحاد! ألا فلتعلم أيها الولد الغرّ أنني كنتُ غارقاً في الأمجاد حين لم تكن أنت قد ولدت!... ما أنت إلا دودة يأكلها الحسد، دودة مشطورة شطرين، دودة تسعل... وتموت بغضًا وزندقة... لماذا أتى بك جانيا إلى هنا؟ الجميع يُعادونني، من الغرباء إلى ابني فلذة كبدي...
صرخ جانيا يقول:
– كفى تمثيلاً. لقد كان الأولى بك أن لا تلطخ شرفنا وأن لا تجلّلنا بالخزي والعار في المدينة كلها...
– كيف؟ أنا ألطخ شرفك أيها الولد؟ ألطخ شرفك أنت؟ أنا أشرفك، لا ألطخ شرفك...
كان الجنرال قد وثب وهو يقول هذا الكلام. أصبح لا يمكن صدّه. ولكن كان واضحاً أنّ جبريل آرداليونوفتش قد جاوز الحدود هو أيضاً.
صاح جبريل آرداليونوفتش يقول بمكر وخبث:
– ولا يستحي أن يتكلم عن الشرف!
فقال الجنرال يسأله بصوت مرعد وقد اصفر وجهه غضباً وتقدّم إلى الأمام خطوة:
– ماذا قلت؟
فأجاب جانيا فجأة بقوله:
– قلتُ يكفي أن أفتح فمي حتى...
ولكنه لم يُكمل جملته.
هما الآن يقفان أحدهما أمام الآخر، وجهاً لوجه، وقد استولى على كل منهما أشدّ الغضب، ولاسيما جانيا.
صاحت نينا ألكسندروفنا قائلة وهي تندفع لتصدّ ابنها: جانيا، ماذا تفعل؟
وهتفت فاريا تقول مستاءة ممتعضة:
– ما هذه إلا سخافات من الطرفين كليهما. هيا يا أماه! هدّئي روعك!
وتشبثت بأمها.
قال جانيا مخاطباً أباه بلهجة الفاجعة:
– إذا كنتُ أترفق بك، فإنني لا أفعل ذلك إلا مراعاة لأمي.
فزأر الجنرال قائلاً وقد بلغ ذروة الغضب:
– تكلم! تكلم وإلا حلّت عليك لعنة أبيك... تكلم!...
– هه! ألا إني لا أخاف لعنتك حقًّا! من الذنب إذا كنت قد أصبحت منذ ثمانية أيام كالمجنون؟ أقول: منذ ثمانية أيام. هل سمعت؟ إنني أعرف اليوم... فلا تخرجني عن طوري، فتدفعني دفعاً إلى أن أقول كل شيء. لماذا جررت نفسك أمس إلى بيت آل إيبانتشين؟ أفتودّ بعد ذلك أن يحترم أحد شيخوختك وشعرك الأشيب وكرامتك كرب أسرة؟ كلام جميل!...
– أسكت يا جانيا! أسكت يا أحمق!
وعاد هيبوليت يسأل ملحًّا بلهجة ما تزال تقارب الوقاحة:
– بأي شيء أسأت إليه؟ لماذا يصفني بأنني مسمار. هل سمعتموه؟ إنه هو الذي يتشبث بي ويُصدّعُ رأسي: لقد أتاني منذ قليل يُحدّثني عن قصة رجل برتبة كابتن اسمه ياروبياجوف. إنني لا أحرص أي حرص على صحبة مجتمعك يا جنرال. وأنت نفسك تعلم أنني كنتُ أتحاشاها. فيما يعنيني الكابتن ياروبياجوف. ثم إنني لم أزد على أنني أعربت عن رأيي صراحة في أن هذا الكابتن ياروبياجوف لعله لم يوجد في يوم من الأيام. عندئذ ثار غضبه.
قال جانيا بلهجة قاطعة:
– لا شك في ذلك: إن هذا الكابتن لم يوجد في يوم من الأيام.
ألقى الجنرال على ما حوله نظرات مبهوتة. إن كلمات ابنه قد جمّده ما تشتمل عليه من تأكيد قاطع وثقة قاسية. لم يسعفه فكره بكلمة واحدة يرد بها. غير أن ملاحظة جانيا جعلت هيبوليت ينفجر ضاحكاً.
قال هيبوليت:
– هل سمعت؟ إن ابنك نفسه يقول إنه لم يوجد في يوم من الأيام كابتن اسمه ياروبياجوف.
– أنا تكلمتُ عن كابيتون ياروبياجوف، لا عن كابتن... إنه كابيتون... هو ليوتنان كولونيل محال على التقاعد... ياروبياجوف.. كابيتون.
فعاد جانيا يقول خارجاً عن طوره:
– لا ولا وُجد أحد اسمه كابيتون!
فتمتم الجنرال يسأل وقد أخذ وجهه يصطبغ بالحمرة:
– كيف... لماذا لم يوجد؟
فتدخل بتتسين وفاريا قائلين:
– طيب... هدّئ نفسك.
وصرخ كوليا يقول من جديد:
– أسكت يا جانيا!
ولكن هذه التدخلات ردّت إلى الجنرال ثبات جأشه، فقذف ابنه بهذا السؤال أطلقه مهدّداً:
– كيف لم يوجد؟ ولماذا يمتنع أن يكون قد وجد؟
– لأنه لم يوجد! هذا كل شيء! إنه لم يوجد. ذلك مستحيل كل الاستحالة. أقول لك هذا، فلا تُصرّ، ولا تلحّ.
– ثم أعدّه ابني... ابني الذي أ.. آه.. يا رب! .. هو ابني، ويجرؤ أن يزعم أن ياروبياجوف، أن ياروشكا ياروبياجوف لم يوجد!
قال هيبوليت:
– طيّب طيّب. منذ قليل كان اسمه كابيتوشكا . والآن أصبح اسمه ياروشكا!
– أنا أقصد كابيتوشكا، يا عزيزي السيد الصغير، لا ياروشكا! أقصد كابيتون، كابيتان ألكسيفتش، أعنى كابيتان... الليوتنان كولونيل... المحال على التقاعد.. الذي تزوج ماريا.. ماريا بتروفنا سو.. سو.. أقصد صديقي ورفيقي سوتوجوف.. لقد كنا معاً في المدرسة العسكرية. أهرقتُ من أجله دمًّا... حميته بجسمي... لكنه قُتل. كيف يجرؤ أحد أن يقول إنه لم يوجد أحد اسمه كابيتوشكا ياروبياجوف؟
كان الجنرال يُطلق هذا الكلام حانقاً أشدّ الحنق، ولكن المرء يحسّ أن انفعاله نابع من غير المسألة المختلف فيها والمتنازع عليها. الحق أنه كان يمكن أن يتحمّل افتراضا أقسى وقعاً في النفس وأعمق جرحاً للشعور من افتراض أن كابيتون ياروبياجوف لم يوجد. كان يمكن لولا ذلك أن يصرخ وأن يثير فضيحة وأن يندفع اندفاعا قويًا، ثم ما يلبث أن يصعد إلى الطابق الأعلى لينام. أما في هذه المرة فإن الكيل قد طفح عنده – ألا ما أغرب قلب الإنسان! – طفح من مجرّد أن وجود ياروبياجوف قد وُضع موضع الشك، رغم أن هذه الإساءة طفيفة تافهة لا قيمة لها البتة! لقد اصطبغ وجه الشيخ بحمرة شديدة كلون الأرجوان، ورفع ذراعيه نحو السماء، وأعول يقول هاتفاً:
– كفى! لعنتي عليكم... أنا خارج من هذه الدار! يا نيقولاي، خذ حقيبة سفري... إني راحل.
قال ذلك وهرع يخرج بالغاً ذروة الغضب. فاندفعت وراءه نينا ألكسندروفنا وكوليا وبتتسين.
قالت فاريا لأخيها:
– ماذا فعلت؟ قد يرجع الآن إلى هناك! يا للعار! يا للعار!
فصرخ جانيا قائلاً وهو يكاد يختنق من شدّة الغيظ والحنق:
– لم يكن عليه إلا أن لا يسرق.
والتقت نظرته فجأة بنظرة هيبوليت، فاجتاحه نوع من الارتعاش فجأة. وصاح يقول:
– أما أنت أيها السيد العزيز، فلقد كان ينبغي لك أن تتذكر أنك تُقيم تحت سقف غيرك على كل حال، وأنك إذ تتمتع بحسن الضيافة لست من ينبغي له أن يغيظ شيخاً أصبح من الواضح أنه فقد عقله وصار مجنونا.
أوشك هيبوليت أن يندفع هو أيضاً، ولكنه سرعان ما سيطر على نفسه، فقال بهدوء:
– لا أشاركك الرأي في اعتبار أبيك مجنوناً. هذه دعوى باطلة. حتى إنني أرى أنه الآن أعقل مما كان في الآونة الأخيرة. يميناً إن هذا هو شعوري. ألا تُصدقني؟ لقد أصبح أكثر تعقلاً وحذراً. إنه يرصد كل ما يُقال ويزن كل كلمة تصدر منه. وحين كلمني عن كابيتوشكا إنما كان يرمي إلى هدف معين: تصوّر أنه كان يريد أن يحملني على الكلام عن...
– عن الشيطان... لا يهمني أن أعرف ما الذي كان يريد أن يحملك عليه! وأرجوك أن لا تحاول المكر والمواربة معي، أيها السيد.
كذلك قال جانيا بصوت صارخ. وتابع كلامه يقول:
– إذا كنت تعرف أنت أيضاً السبب الحقيقي الذي يجعل هذا الشيخ في مثل هذه الحالة (ولقد أحسنت التجسس عندي خلال هذه الأيام الخمسة، فلا بدّ أنك استطعت أن تعرف ذلك السبب)، فإن عليك أن تمتنع امتناعا صارماً عن إثارة حنق هذا... الشقي، وعن تعذيب أمي بتضخيم قضية ليس لها شيء من خطورة الشأن، فما هي إلا قضية سكّيرَين لا أكثر. فضلاً عن أنها لم يثبت صدقها ولم يقم دليل على صحّتها، ولستُ أوليها أي اهتمام... ولكنك امرؤ لا تستطيع إلا أن تفسد كل شيء، ولا يمكنك إلا أن تتجسس، لأنك... لأنك...
– لأنني مسمار.
بهذا أكمل هيبوليت جملة جانيا وهو يضحك ساخراً. وتابع جانيا كلامه فقال:
– لأنك إنسان شرير. لقد عذبت الناس خلال نصف ساعة، وحاولت أن تفقدهم صوابهم متظاهراً بمحاولة الانتحار بمسدس كان خالياً. لقد مثلت مسرحية مخجلة مخزية. يا مُدّعي الانتحار... يا كيس حقدٍ فوق ساقين! لقد استضفتك في هذا البيت، فتحسنت صحّتُك: سمنت وزايلك السعال، فانظر كيف تعترف بالجميل، وانظر كيف...
– اسمح لي بكلمتين، أرجوك. أنا هنا ضيف باربارا آرداليونوفنا، لا ضيفك أنت. أنت لم تتفضل عليّ بأية ضيافة، بل أظن أنك أنت نفسك تتمتع بضيافة السيد بتتسين. ولقد رجوت أمي منذ أربعة أيام أن تبحث لي عن مسكن في بافلوفسك، وأن تجيء تقيم هي نفسها في بافلوفسك، لأن صحتي تتحسن هنا فعلاً، وإن لم أسمن ولا انقطع سعالي. فأعلمتني أمي مساء أمس أن المسكن قد تهيأ. لذلك أبادر فأبلغك أنا أيضاً أنني سأنتقل إليه في هذا اليوم نفسه بعد أن أشكر أمك وأختك. لقد اتخذت قراري هذا منذ مساء أمس. اغفر لي أنني قاطعتك. فإنك، إذا لم يُخطئ ظني، كنت تريد أن تقول أشياء أخرى كثيرة.
قال جانيا مرتعشاً:
– إذا كان الأمر كذلك...
فقاطعه هيبوليت بقوله:
– إذا كان الأمر كذلك، فاسمح لي أن أجلس، لأنني مريض على كل حال.
قال هيبوليت هذا وهو يحتل، بهدوء، الكرسي الذي كان يشغله الجنرال. ثم أضاف:
– الآن أصبحتُ مستعدًا لأن أصغي إلى كلامك، لا سيما وأن هذا الحديث بيننا قد يكون آخر حديث، وقد يكون هذا اللقاء آخر لقاء.
شعر جانيا فجأة بخزي. وقال:
– صدّق أنني لن أخفض قدري إلى حيث أُجري معك تصفية حساب، وإذا كنت...
فقاطعه هيبوليت قائلاً:
– تخطئ إذا تعاليت هذا التعالي. أنا من جهتي قد آليتُ على نفسي منذ اليوم الذي وصلت فيه إلى هنا، أن لا أحرم نفسي من لذة صفعك متى وجب أن نفترق. وهذا أوان تنفيذ هذا المشروع، بعد أن تنهي كلامك طبعًا...
– وأنا من جهتي أرجوك أن تخرج من هذه الغرفة.
– الأفضل أن تتكلم، وإلا فقد تندم بعدئذ على أنك لم تقل كل ما كان يعتمل في قلبك ويثقل صدرك!...
قالت فاريا:
– كفى يا هيبوليت! هذا كله مخجل مخز. كفّ، من فضلك!
فنهض هيبوليت، وقال ضاحكا:
– إذا كففتُ فإنما أكفُّ احتراماً لسيدة. لك ما تشائين يا باربارا آرداليونوفنا. في سبيلك لا مانع عندي من اختصار هذا الحديث، ولكن من اختصاره فحسب. ذلك أن المكاشفة بيني وبين أخيك قد أصبحت ضرورية، ولن أقبل بأية حال من الأحوال أن أخرج قبل إزالة ما نتج عن كلامه من سوء فهم.
هتف جانيا يقول:
– بل قل إنك نمّام، فلا تستطيع أن تعزم أمركَ على الانصراف قبل أن تقذف من فمك ما يمتلئ به من أقوال خبيثة.
قال هيبوليت ببرود:
– ها أنت ذا ترى أنكَ فقدْت سيطرتك على نفسك. بصراحة: سوف تشعر بندامات كثيرة إذا لم تفصح عن كل ما تريد الإفصاح عنه. أعود فأقول لكَ: إنني أتنازل لك عن دوري في الكلام. وسأتكلم بعدك.
لم يجب جبريل آرداليونوفتش، ونظر إلى هيبوليت باحتقار.
فقال هيبوليت:
– لا تريد أن تتكلم! تُفضّل أن تُبرهن على الصلابة والقوة حتى النهاية! لك ما تشاء. على كل حال، سأكون من جهتي موجزاً أكبر الإيجاز. لقد سمعتُ اليوم مرّتين أو ثلاث مرات لوماً وتقريعاً على الضيافة التي قُدّمت لي. هذا ظلم. إنك حين دعوتني إلى السكن هنا، كانت نيتُك أن تصطادني بشباكك. كنت تفترض أنني أريد الانتقام من الأمير. وقد سمعت عدا ذلك أن آجلايا إيفانوفنا أظهرت مودّة لي وأنها قرأت اعترافي. فخطر ببالك حينذاك أنني سأقف نفسي على تحقيق مصالحك. لعلّك أمّلت أن تتخذني مساعداً لك. لا أقول أكثر من هذا. لا ولا أطلب منك اعترافاً بصحّته أو تأييداً لصدقه. يكفيني أن أعرف أنني أضعك أمام ضميرك، وأننا نتفاهم الآن تفاهماً تامًا.
هتفت فاريا تقول:
– إنك تصنع قصة كبيرة من أمر بسيط...
فقال جانيا:
– هو كما قلتُ لك: «صبي ونمّام».
– اسمحي يا باربارا آرداليونوفنا: إنني أكمل كلامي. طبعاً، أنا لا يمكن أن أحب الأمير ولا أن أحترمه. ولكنه إنسان طيّب حقًا، وإن يكن.. غريب الأطوار مضحكاً... فليس هناك إذن أي سبب يُحملني على أن أكرهه، ومع ذلك لم أظهر لأخيك أنه كان يُحرّضني على الأمير. كنتُ أنتظر الخاتمة ليتاح لي أن أضحك. كنتُ أعلم أن أخاك لن يلبث أن يكشف عن حقيقة نفسه وأن يرتكب أكبر الخطأ في حقي فأضعه في موضع سيئ مضحك. وذلك ما حدث. إنني مستعد لأن أترفق به الآن، ولكنني لا أفعل ذلك إلا مراعاة لك يا باربارا آرداليونوفنا. ومع ذلك فإنني بعد أن استبان لك أن إيقاعي في الفخ ليس بالأمر السهل إلى تلك الدرجة، أريد أيضاً أن أشرح لك السبب الذي يحدّوني إلى وضع أخيك في موضع مضحك حرج إزائي. ألا فاعلمي إنني فعلتُ ذلك عن كره وبغض، أعترف بذلك صادقاً. لقد قدّرتُ أنني حين أموت (وسوف أموت على كل حال، رغم أنني سمنتُ كما تدّعون)، سوف أذهب إلى الجنة بهدوء أعظم وطمأنينة أكبر إذا استطعت أن أضع في موضع الهزء والسخرية شخصاً واحداً على الأقل يمثل أفراد تلك الفئة الكبيرة من الناس الذين اضطهدوني طوال حياتي، والذين كرهتهم وأبغضتهم طوال حياتي. إن أخاك المدهش هو الصورة الواضحة لهذا النوع من الناس. إنني أكرهك يا جبريل آرداليونوفتش؛ وقد يدهشك أن تعرف إنني لا أكرهك إلا لأنك النموذج التام، أو التجسيد الكامل، أو التشخيص الصادق للعادية التافهة الوقحة الصلفة البشعة الكريهة المنفرة! أنت العادية المنتفخة، التي لا يساورها شك في شيء والتي تنعم بسكينة بليدة. أنت الروتين؛ أنت روتين الروتين! لن تنبت في فكرك أو قلبك أية فكرة شخصية ولم يومض فيهما أي معنى أصيل في يوم من الأيام. ولكن حسدك لا حدود له. أنك مقتنع اقتناعاً قاطعاً جازماً بأنك عبقري من الطراز الأول. ومع ذلك فإن الشك يستولي عليك ويحاصر نفسك في لحظات الكآبة، فتشعر عندئذ بنوبات قوية من الغضب والحسد. آه... وإن نقطاً سوداً تلوح في الأفق الذي ينبسط أمام عينيك، نقطاً سوداً لن تغيب إلا يوم تصبح غبيًّا غباوة كاملة، وذلك ما ستصير إليه في مستقبل غير بعيد. على أنك ستحيا حياة طويلة متنوّعة. لستُ أزعم أنها ستكون حياة فرحة. ويسرني أن لا تكون كذلك. وأقول لك قبل كل شيء آخر: إنك لن تحظى بيد الإنسانة التي تطمع فيها.
صاحت فاريا تقول:
– هذا لا يُحتمل. هلاً انتهيت أيها الشتّام الدنيء؟
وكان جانيا ملتزما الصمت، وقد اصفر وجهه وارتعش جسمه. وسكت هيبوليت، وحدّق إليه بنظرة ثابتة، مبتهجاً بارتباكه، ثم نقل عينيه إلى فاريا وابتسم، ثم حيّا وخرج دون أن يضيف كلمة واحدة.
كان من حق جبريل آرداليونوفتش أن يشكو قدره وأن يتبرّم من سوء حظه.
ولبثت فاريا بضع لحظات لا تجرؤ أن تخاطبه بكلمة. حتى إنها لم تنظر إليه بينما كان يذرع الغرفة أمامها بخطى واسعة. وأخيراً اقترب من النافذة وأدار ظهره لأخته. خطر ببال فاريا المثل الروسي: «لكل عصا طرفان». وسُمعت جلبة في الطابق الأعلى من جديد.
قال جانيا لأخته فجأة حين رآها تنهض:
– أتذهبين؟ انتظري: انظري إلى هذا!
وتقدّم نحوها ورمى على الكرسي أمامها ورقة صغيرة مطوية كما تطوى رسالة.
صاحت فاريا تقول وهي ترفع ذراعيها:
– رباه!
وكانت الرسالة مؤلفة من سبعة أسطر تماماً:
«جبريل آرداليونوفتش، إنني وقد اقتنعت بعواطفك الطيبة نحوي، قرّرتُ أن أستشيرك طالبة نصحك في قضية تهمّني. فأتمنى أن ألقاك غداً في الساعة السابعة تماماً عند الدكة الخضراء. ليس المكان بعيداً عن منزلنا. إن باربارا آرداليونوفنا التي يجب أن تصحبك حتماً تعرفه جيداً. آ. آ.).
قالت باربارا آرداليونوفنا وهي تعبّر عن دهشتها بمباعدة يديها:
– فافهمها بعد هذا إذا كنت تستطيع أن تفهم.
ورغم أن جانيا لم يكن مهيأ لأن يتخذ هيئة الانتصار فإنه لم يستطع أن يخفي شعوره بالظفر، ولا سيما بعد التنبؤات القاتلة التي قالها هيبوليت. وها هي ذي ابتسامة صادقة تعبر عن رضا الغرور تضيء وجهه. وكانت فاريا نفسها مشرقة المحيا من الفرح. قالت:
– ويحدث هذا في اليوم الذي يُعلنون فيه خطبتها عندهم! فحاول أن تعرف ما الذي تريده إن استطعت إلى ذلك سبيلا!...
سألها جانيا:
– في رأيك، عم تريد أن تكلمني غداً؟
– ليس هذا بالأمر الهام. فإنما الأمر الهام أنها لأول مرة منذ ستة أشهر تعرب عن رغبة في أن تراك. اسمع يا جانيا: أيًّا كان الأمر، وكيفما تمّت هذه المقابلة، فيجب عليك أن تتذكر أن هذا شيء «هام»، هام إلى أبعد الحدود. فلا ترتبك هذه المرّة. لا تقترف خطيئة، ولكن لا تكن خجولاً أيضاً. افتح عينيك! هل يمكن أن لا تكون قد أدركت الهدف الذي سعيتُ أنا إليه بالتردّد إليهم خلال هذه الأشهر الستة؟ تصوّر أنها لم تقل لي اليوم كلمة واحدة عن هذه المقابلة! لم تُظهر شيئاً البتة! يجب أن أذكر لك إنني كنتُ قد دخلتُ خلسة. كانت العجوز لا تعلم بوجودي. ولولا ذلك لكان يمكن أن تطردني. من أجلك إنما جازفتُ. كنتُ أريد أن أعرف بأي ثمن...
تعالى الصياح والضجيج في الطابق الأعلى من جديد. وهؤلاء عدّة أشخاص يهبطون السلم.
هتفت فاريا تقول مرتاعة متقطعة الأنفاس:
– لا يجوز أن نسمح الآن بهذا مهما يكن من أمر. يجب أن لا تحدث أية فضيحة! امض إليه، وأطلب منه الصفح!
لكن رب الأسرة كان قد بلغ الشارع. وكان كوليا يسير وراءه حاملاً له الحقيبة. وكانت نينا ألكسندروفنا واقفة على درجات سلم الباب تبكي ناشجة منتحبة. إنها تودّ لو تركض وراء زوجها، لكن بتتسين ممسك بها يمنعها من ذلك، قائلاً لها:
– سوف تزيدين اهتياجه. وليس له مكان يذهب إليه. فسنعيده بعد نصف ساعة. لقد تحدّثُ في ذلك مع كوليا. دعيه يفعل ما تشاء له نزواته المجنونة.
صرخ جانيا يقول له من النافذة:
– ما هذه الحذلقات؟ إلى أين عساك تذهب؟ إنك لا تدري حتى إلى أين تمضي!
وصاحت فاريا تقول:
– ارجع يا أبتِ! إن الجيران يسمعون!
توقف الجنرال، والتفت إلى وراء، وبسط يده وقال بتأثّر:
– ألا فلتنصب لعنتي على هذا المنزل!
فجمجم جانيا قائلاً وهو يغلق النافذة بقرقعة:
– لا بدّ له أيضاً من أن يقول هذا الكلام بلهجة مسرحية!.
وكان الجيران يرقبون ويرصدون ما يجري فعلاً. وخرجت فاريا من الغرفة مسرعة.
فلمّا انصرفت تناول جانيا الرسالة من على المائدة، وحملها إلى شفتيه، وتلمّظ، وهم أن يثب عن الأرض كمن يرقص.
الفصل الثالث
كان يمكن أن لا يكون للفضيحة التي أثارها الجنرال أية نتيجة في وقت غير هذا الوقت. ولقد سبق أن كان بطل حوادث شاذة مفاجئة من هذا النوع، ولو في أحوال نادرة، ذلك أنه في الواقع إنسان مسالم موادع جدًا، يغلب على ميوله أنها طيبة. ولعله حاول مائة مرة أن يكافح عادات التحلل التي اعتادها خلال السنين الأخيرة. كان يتذكر على حين فجأة أنه رب أسرة، يُصالح امرأته ويذرف دموعاً صادقة. إنه يحمل لزوجته نينا ألكسندروفنا احتراماً يبلغ حد العبادة، لأنها تغفر له أشياء كثيرة دون أن تقول كلمة واحدة، وتظل تحنو عليه رغم الانحلال التي سقط فيه، ورغم ما صار إليه من حال تبعث على السخرية والضحك! غير أن ذلك الكفاح العظيم الذي كان يخوض غماره ضد اضطراب حياته وفوضى سلوكه كان لا يدوم مدّة طويلة. إنه هو أيضاً، في نوعه، أشدّ اندفاعا وأقوى عرامة من أن يستطيع احتمال حياة التوبة والفراغ التي يحياها في أسرته، فكان ما يلبث أن يتمرّد. وكانت تنتابه في تلك الأحيان نوبات غضب حانق لعله يلوم نفسه عليها في نفس اللحظة، ولكنه لا يملك القوة اللازمة للتغلب عليها. كان في تلك الأحوال يسعى إلى مشاجرة ذويه، ويأخذ يفيض في الكلام والخطابة بحماسة تدّعي البلاغة والفصاحة، يُطالب بأن يُحترم احتراما يتجاوز الحدود ولا يمكن تخيله، ثم يختفي آخر الأمر، حتى ليبقى غائباً عن البيت في بعض الأحيان زمناً طويلاً. وقد أصبح منذ سنتين لا يملك إلا فكرة غامضة عمّا يجري في البيت، أو لا يطّلع على ما يجري في البيت إلا عن طريق السماع لا العيان. لقد انقطع عن الدخول في هذه التفاصيل التي أصبح لا يوليها أي اهتمام.
ولكن الفضيحة اكتست في هذه المرّة شكلاً غير معهود. كأن حادثاً قد وقع، فالجميع على علم به ولكن ما من واحد يجرؤ على أن يتكلم عنه. إن الجنرال لم يرجع إلى الأسرة «رسميًا» إلا منذ ثلاثة أيام، أعني لم يرجع إلى نينا ألكسندروفنا! ولكنه بدلاً من أن يُظهر المذلة والندامة كما كان يفعل في «رجعاته» السابقة، فقد ظهرت عليه في هذه المرة علامات اهتياج شديد، وحنق سريع خارق. كان كثير الكلام مضطربا، يتجه إلى كل قادم بخطب ملتهبة، حتى كان يهجم على محدّثيه هجوماً، ولكنه يتحدّث في مسائل تبلغ من التنوّع ومن الغرابة التي لا يتوقعها المرء أنه كان يستحيل على السامع أن يكتشف الموضوع الحقيقي الذي هو مدار قلقه ومحل اضطرابه. وإذا استثنينا لحظات من فرح ومرح كانت توافيه من حين إلى حين، فقد كان في أكثر الأوقات شارد اللب حتى ليجهل هو نفسه ما الذي يستغرق فكره. كان يأخذ مثلاً في سرد حكاية عن أسرة أيبانتشين، وعن الأمير، وعن ليبديف، ثم إذا هو يقطع حديثه فجأة، ويتوقف عن الكلام توقفاً تامًا. ويردّ بابتسامة بلهاء طويلة على أولئك الذين يسألونه عن تتمة القصة، وكأنه لا يُلاحظ أن أحداً يلقي عليه سؤالًا. لقد قضى الليلة الأخيرة في تنهد وأنين، وأرهق نينا ألكسندروفنا إرهاقاً شديداً، فكانت لا تني تسخّن له لصقاته؛ حتى إذا طلع الصباح غفا على حين فجأة، ولكن استيقاظه من النوم بعد أربع ساعات قد أعقبته تلك النوبة الشديدة المضطربة من الوسواس التي أدّت إلى تشاجره مع هيبوليت، وانتهت بصبِّه «اللعنة على ذلك المنزل».
وقد لوحظ أيضاً خلال تلك الأيام الثلاثة أنه هوى إلى حالة متصلة من الزهو والغرور تعبر عن نفسها بشدّة التأذي وسرعة الاستياء. وقد أكّد كوليا لأمّه ملحّا أن هذا المزاج الحزين الذي يعاني منه أبوه إنما يرجع إلى حرمانه من الشراب، وربما كان يرجع أيضاً إلى غياب ليبديف الذي كان الجنرال قد ارتبط به ارتباطاً حميماً في الآونة الأخيرة. فقد حدث بين الرجلين منذ ثلاثة أيام شقاق لم يكن متوقعاً، شقاق ألقى الجنرال إلى غضب شديد. حتى إنّ نوعاً من شجار وقع بينه وبين الأمير. وقد توسّل كوليا إلى الأمير أن يشرح له سبب ما وقع، فأدرك أخيراً أن الأمير يكتم عنه أمراً من الأمور هو أيضاً. وفي وسعنا أن نفترض أن هذا صحيح، وأن حديثاً خاصّا قد جرى بين هيبوليت ونينا ألكسندروفنا. ولكن يبدو غريباً عندئذ أن يكون هذا الشخص الشرير الذي نعته جانيا صراحة بأنه نمّام، لم يمنع نفسه بلذة إطلاع كوليا على الأمر. من الجائز جدًا أن لا يكون هيبوليت ذلك الصبي السيئ الذي صوّره جانيا في حديثه إلى أخته، وأن يكون الشرّ الذي في نفسه شرًّا من نوع آخر. ومن جهة أخرى، إذا كان هيبوليت قد أطلع نينا ألكسندروفنا على شيء، فلعله لم يفعل ذلك منتوياً «تمزيق قلبها» فحسب. يجب أن لا ننسى أن دوافع أعمال الإنسان هي في العادة أشدّ تعقيداً وأكثر تنوّعاً مما نتصوّر حين نريد تعليلها. إنه لمن النادر أن نستطيع الإحاطة بها إحاطة دقيقة. وأفضل ما يفعله القصّاص في بعض الأحيان أن يقتصر على عرض الأحداث وسرد الوقائع. وذلك ما سنفعله في إيضاحاتنا المقبلة عن النازلة التي ألمت بالجنرال فقلبت حياته رأساً على عقب، لأننا نجد أنفسنا الآن مضطرين اضطرارا مطلقاً إلى أن نولّي هذه الشخصية الثانوية من الاهتمام والمكان أكثر مما أوليناها في قصتنا هذه حتى الآن.
لقد تعاقبت الأحداث متسلسلة على النظام التالي:
إن ليبديف، بعد جولته في بطرسبرج سعيا وراء العثور على فردشتينكو، قد رجع إلى بافلوفسك مع الجنرال في ذلك اليوم نفسه. ولم يُطلع الأمير على أي شيء خاص. فلولا أن الأمير كان ذاهلاً هو أيضاً في ذلك الوقت، وكان غارقاً في مشاكل تهمّه أكبر الاهتمام، للاحظ أنّ ليبديف، فضلاً عن أنه لم يزوده بأي إيضاح خلال اليومين اللذين أعقبا عودته، كان يتحاشى أيضاً لقاءه. فلما لاحظ الأمير ذلك أخيراً، تذكر على دهشة منه، أنه رأى ليبديف، خلال هذين اليومين، حين كان يلقاه عرضاً، رآه مُشرق المزاج منبسط الأسارير، وأنه في صحبة الجنرال دائماً. كان الصديقان لا يفترقان أبداً. وكان الأمير يسمع في بعض الأحيان أحاديث صاخبة حامية تدور فوق غرفته، ويسمع مناقشات مرحة تقطعها انفجارات ضحك. حتى إنه في ذات مرة، في ساعة متأخرة جداً من السهرة، وصلت إلى مسمعه أصداء أغنية غير متوقعة، من الأغاني التي يغنيها الجنود حين يشربون الخمر؛ فتعرّف صوت الجنرال الخفيض المبحوح، ولكن الأغنية انقطعت فجأة وأعقبها صمت. ثم قامت مناقشة حارة بلهجة مخمورة، واستمرت المناقشة حامية خلال قرابة ساعة. وكان لا يعجز السامع عن أن يحزر أن الصديقين اللذين يسمران فوق قد تعانقا بعد قليل، وأن أحدهما أخذ يبكي آخر الأمر. ثم لم تلبث أن نشبت مشاجرة عنيفة على حين فجأة، ثم هدأت المشاجرة بعد برهة وجيزة.
في أثناء تلك الآونة كلها، كان كوليا في حالة همّ شديد. وكان الأمير لا يكاد يمكث في البيت لحظة أثناء النهار، وكان في بعض الأحيان لا يعود إلا في ساعة متأخرة جداً من الليل. فكان يُقال له عندئذ، إن كوليا ظل يسعى إليه ويسأل عنه طوال اليوم. ولكن الفتى كان إذا لقى الأمير لا يبدو عليه أن لديه شيئاً خاصًّا يريد أن يفضي به إليه، اللهم إلا أن يقول له إنه «مستاء» من الجنرال ومن سلوكه الحالي أشدّ الاستياء، «فإنهما لا ينفكان يمشيان في الطريق، ويسكران في حانة قريبة، ويتعانقان في وسط الشارع، ويتشاتمان على مرأى ومسمع من الناس، ويهيج كل منهما صاحبه، ولا يستطيعان أن يفترقا». فلما قال له الأمير إن ذلك ليس إلا تكراراً لما كان يجري قبل ذلك كل يوم تقريباً، لم يعرف كوليا بماذا يُجيب، وعجز أخيراً عن تحديد موضوع قلقه الراهن.
وفي غداة الليلة التي سمع فيها الأغنية والمشاجرة، كان الأمير يتهيأ للخروج في نحو الساعة الحادية عشرة، فإذا بالجنرال يظهر أمامه بغتة، وهو في حالة انفعال شديد حتى ليكاد يرتجف ارتجافا.
– إنني منذ مدّة طويلة أترقب فرصة الحصول على شرف لقائك يا ليون نيقولايفتش المبجّل. نعم، منذ مدة طويلة، طويلة جداً، طويلة جدا جدا...
بهذا جمجم الجنرال وهو يضغط على يد الأمير ضغطاً يوشك أن يكون موجعاً. فدعاه الأمير أن يجلس.
– لا، لن أجلس، ثم إنني لا أريد أن أمنعك من الخروج... سأجيئ في مرّة أخرى. أظن إنني أستطيع أن أهنئكَ... بتحقق... أمنيات قلبك.
– أمنيات قلبي؟
اضطرب الأمير. لقد كان يبدو له، كما يحدث هذا لأكثر الذين يكونون في مثل حالته، أن أحداً لا يرى ولا يحزر ولا يفهم شيئاً.
قال الجنرال:
– اطمئن بالًا! لا أحب أن أضايقك في ألطف مشاعرك وأرهف عواطفك. لقد مررتُ أنا في مثل هذه الحالة، وأعرف أنه ما ينبغي لغريب أن يدسّ أنفه... إن صحّ التعبير.. على حد قول المثل... حيث لا يجب أن يدسّه! هذه حقيقة أعانيها كل صباح. وإنما أنا جئتُ إليك لشأن آخر، شأن هام، هام جداً يا أمير.
رجاه الأمير مرّة أخرى أن يجلس، وسبقه إلى الجلوس ليحمله على الاقتداء به.
قال الجنرال:
– لا بأس. لحظة قصيرة... لقد جئتُ أسألك نصيحة. لا شك في أن حياتي تنقصها أهداف عملية، ولكنني، احتراما مني لنفسي، وبوجه عام... اهتماما مني بتلك الروح العملية التي حُرم منه الروسي حرماناً شديداً.. أود أن أهيئ لنفسي، ولزوجتي، ولأولادي... وضعاً يمكننا... الخلاصة: جثث ألتمس منك نصحاً يا أمير...
فهنّأه الأمير تهنئة حارة على هذه النية وهذا العزم.
وأسرع الجنرال يضيف قائلاً:
– غير أن هذا كله لا قيمة له. وإنما أنا جئتُ لأمر أخطر شأناً. لقد قرّرتُ أن أفتح لك قلبي يا ليون نيقولايفتش، كما أفتح قلبي لإنسان تبلغ ثقتي بصدقه وكرمه أن... أن... ألا تدهشك أقوالي يا أمير؟
لكن لم يكن الأمير مدهوشاً دهشة عظيمة، فلقد كان يُلاحظ ضيفه مع ذلك بكثير من الانتباه والاستطلاع. كان الشيخ شاحبا بعض الشحوب، وكانت تلم بشفتيه رعشة خفيفة في بعض اللحظات، وكانت يداه ترتجفان بغير انقطاع. لقد جلس منذ بضع دقائق، ولكنّه نهض أثناء ذلك فجأة مرتين، ثم أسرع يجلس ثانيةً، دون أن يبدو عليه أنه يُلاحظ ما هو فيه من اضطراب. وكان على المائدة كتب، فتناول واحداً منها أثناء كلامه، وفتحه، وألقى نظرة عليه، ثم عاد يُطويه فوراً ويردّه إلى مكانه. ثم تناول كتاباً آخر لم يفتحه لكنه ظل قابضا عليه بيده اليمنى طوال الوقت، يهزه بغير انقطاع.
وهتف فجأة يقول:
– حسبي هذا! أرى أنني أزعجتك كثيراً.
– لا، أبداً، لم تزعجني... أرجوك... أكمل كلامك! بالعكس: إنني أصغي إليك باهتمام، وأحاول أن أدرك...
– يا أمير، أريد أن يكون لي مركز يفرض الاحترام... أريد أن أحصل على احترام نفسي... وحقوقي...
– إن من يرغب هذه الرغبة لهو جدير بكل احترام منذ الآن.
نطق الأمير بهذه الجملة المستعارة الشائعة معتقداً اعتقادا جازماً بأنها ستحدث في نفس الجنرال أثراً حسناً. كان، يحسّ، بغريزته، أن جملة من هذا النوع، جوفاء وسارّة في آن واحد، تستطيع إذا هي قيلت في الوقت المناسب، أن تدخل الهدوء والطمأنينة إلى نفس إنسان مثل الجنرال، ولا سيما في الحالة التي هو عليها. ومهما يكن من أمر، فما كان يجوز استئذان زائر كهذا الزائر بالانصراف إلا بعد التخفيف عنه، ومواساته. تلك هي المسألة.
أُعجب الجنرال بالجملة كثيراً، ووجد فيها مديحاً وعدّها مؤثرة؛ فرق قلبه، واهتزت عاطفته، وسرعان ما غير لهجته وانطلق يقدّم شروحاً طويلة مستفيضة تشتعل حماسة. لكن الأمير لم يفهم من كلامه شيئا رغم ما بذل من جهود الإصغاء التام والانتباه الشديد. لقد تكلم الجنرال قرابة عشر دقائق، بتدفق سريع وتعجل عظيم، كما يفعل إنسان لا يتسع وقته لأن يعبر عن الخواطر التي تزدحم في رأسه ازدحاما قوياً؛ حتى لقد أخذت تترقرق في عينيه دموع آخر الأمر. ولكن جميع العبارات التي نطق بها كانت لا رأس لها ولا ذنب، كانت أقوالا عجيبة غير متوقعة، وخواطر متناثرة مفككة تتصادم وتتضارب في حديثه المضطرب المشوش.
وختم الجنرال كلامه فجأةً بقوله وهو ينهض:
– هذا يكفي! لقد فهمت عني فأنا الآن أشعر براحة وطمأنينة وهدوء. إن قلباً كقلبك لا يمكن إلا أن يفهم إنساناً يتألم. يا أمير، إنك تملك نبل المثل الأعلى. ما الآخرون إذا قيسوا بك؟ ولكنك شاب، فهأنا أهب لك بركتي. الخلاصة إنني جئتُ إليك ألتمس أن تحدّد لي ساعة لحديث هام: فعلى هذا الحديث إنما أعقد الأمل وأعلق الرجاء. إني لا أنشد إلا صداقة وقلباً يا أمير. أنا لم أستطع أن أسيطر على مطالب قلبي في يوم من الأيام.
قال الأمير يسأله:
– ولكن لماذا لا نجري الحديث الآن؟ إنني مستعد لأن أصغي إليك...
فقاطعه الجنرال بقوة وعنف:
– لا يا أمير، لا! لا الآن!! أنا الآن في حلم! إن القضية خطيرة الشأن جليلة القدر! إن الساعة التي سنجري فيها ذلك الحديث ستقرّر مصيري. إن تلك الساعة ستكون لي «أنا»، ولا أحب في لحظة مقدّسة كتلك اللحظة، أن نتعرّض لأن يقطع علينا حديثنا أحد، لا أحب أن يقطع علينا حديثنا أوّل قادم وقح.
وهنا مال الجنرال على الأمير فهمس في أذنه يقول بلهجة السرّ وبما يشبه الرعب:
– وقح لا يساوي نعل... نعل قدمك... يا حبيبي الأمير! لستُ أقول قدمي أنا. لاحظ جيداً أن الأمر ليس أمر قدمي أنا، لأنني أشدّ احتراما لنفسي من أن أتحدّث عن قدمي أنا رأساً بغير مواربة وبغير لف ودوران! ولكنك وحدك قادر على أن تفهم أنني إذ أمتنع في مثل هذه الحالة عن ذكر نعل قدمي ربما كنتُ أبرهن على عزة شديدة وكبرياء عظيمة. ما من أحد غيرك يستطيع أن يفهم هذا؛ و«هو»، «خاصةً»، أعجز من غيره على فهم ذلك. «هو» لا يفهم شيئاً يا أمير. إنه عاجز عن الفهم عجزاً مطلقاً! لا بدّ للمرء من قلب حتى يمكن أن يفهم!
شعر الأمير أخيراً بضيق يشبه أن يكون خوفاً. فضرب للجنرال موعداً هو مثل هذه الساعة من الغد. وخرج الجنرال قويًا منتعشاً قد سرّي عنه وكاد يهدأ بالاً. وفي المساء، بين الساعة السادسة والساعة السابعة، أرسل الأمير يرجو ليبديف أن يجيء إليه لحظة.
فهرع ليبديف إلى الأمير مسرعاً أشدّ الإسراع، وقال وهو يدخل «إنه لشرف عظيم» له أن يلبي طلب الأمير وأن يمثل بين يديه. كان كمن أصبح لا يتذكر أنه اختبأ عن الأمير خلال ثلاثة أيام، وأنه تحاشى لقاءه عامداً.
جلس ليبديف على حافة كرسي وهو يتكلّف التبسّم، ويصطنع وجهه حركات تودّد، وتفتعل عيناه المتفرّستان تعبيراً عن الضحك، ويفرك يديه، ويظهر بمظهر إنسان ساذج كل السذاجة يتهيأ لأن يسمع نبأً هامًا انتظره زمناً طويلاً، وأحس به جميع الناس منذ مدّة.
انزعج الأمير من هذا الوضع الذي يتخذه ليبديف. لقد أصبح واضحاً له أن جميع من حوله قد أخذوا يأملون منه شيئاً على حين فجأة، أصبحوا ينظرون إليه على نية أن يزجوا إليه التهنئة بحادث عليه تدور تلك التلميحات والابتسامات والغمزات. لقد مر به كيللر ثلاث مرات، هو أيضاً، مسرعاً متعجلاً، راغباً رغبة واضحة في أن يزجي إليه التهنئة، فكان في كل مرة يندفع مسترسلاً في كلام متحمس غامض ثم يقطع حديثه فجأة وينصرف قبل أن ينهيه. (لقد أصبح كيللر في الأيام الأخيرة يفرط في الشراب مزيداً من الإفراط، والناس يرونه في قاعة من قاعات البلياردو يحدث ضجيجاً ويثير جلبة شديدة). وكوليا نفسه، رغم حزنه، قد اندفع، مرتين أو ثلاث مرات، يلمح في حديثه مع الأمير على نحو ملغز.
اتجه الأمير إلى ليبديف يسأله بلهجة قاطعة وبشيء من الحنق عن رأيه في الحالة التي آل إليها الجنرال، وفي مصدر القلق الذي يعاني منه الجنرال الآن. ووصف له بكلمات مقتضبة المشهد الذي جرى بينهما.
فأجاب ليبديف يقول بلهجة جافة:
– لكل امرى همومه يا أمير! ولا سيّما في عصر عجيب معذب كهذا العصر الذي نعيش فيه. هذه هي المسألة!
قال ليبديف ذلك ثم صمت كما يسكت رجل أُسيء إليه وخاب ظنه في ما كان ينتظره خيبة قاسية.
قال الأمير مبتسمًا:
– يا لها من فلسفة!...
– الفلسفة قد تكون لازمة، قد تكون لازمة جداً لعصرنا هذا من الناحية العملية، ولكن الناس يهملونها. هذا واقع! أما أنا، أيّها الأمير المبجل، فقد أوليتني ثقتُك في حالة تعرفها، ولكنك قصرت هذه الثقة على حد معين، وقصرتها على الوقائع الملحقة بهذه الحالة... إنني أفهم هذا ولا أشتكي منه البتة!
قال الأمير:
– لكأن هناك شيئاً قد أغضبك يا ليبديف، هه؟
فهتف ليبديف يقول بحماسة وهو يضع يده على قلبه:
– لا، أبداً، بالعكس: لقد أدركت فوراً أنني كنت لا أستحق أن تشرّفني بثقتك السامية التي كنت أتطلع إليها، كنت لا أستحقها لا بحكم وضعي في المجتمع، ولا بحكم ذكائي وأخلاقي، ولا بحكم ثرائي، ولا بحكم ماضيّ، ولا بحكم معارفي. وإذا أمكنني أن أخدمك فإنما أنا أخدمك كما يخدم عبد أو منتفع، لا أكثر من ذلك. أنا لست زعلان، بل حزين.
– دعك من هذا يا لوكيان تيموفئفتش!
– لا أكثر من ذلك! وهذا هو شأني الآن، في الحالة الراهنة. لقد كنت أقول لنفسي حين ألقاك، وحين أتبعك بقلبي وفكري: «أنا لا أستحق أن يفضى إليّ بما يفضي به صديق إلى صديقه، ولكنني، بصفتي صاحب الدار، قد أتلّقى منه، في اللحظة المناسبة، في تاريخ محدد إن صحّ التعبير، أمراً من الأوامر، أو قد أتلّقى منه على الأقل رأياً من الآراء بشأن بعض التبديلات الوشيكة المتوقعة..».
كان ليبديف، وهو ينطق بهذه الكلمات، ما ينفك يحدّق بعينيه الصغيرتين الثاقبتين، إلى الأمير الذي كان يتأمله مدهوشاً. لم يكن قد فقد أمله في إشباع فضوله.
هتف الأمير يقول بلهجة توشك أن تكون غضباً:
– لا أفهم شيئاً البتة... وإنك لأفظع من رأيت في حياتي من أصحاب الدسائس والمكائد..
قال الأمير هذه الجملة الأخيرة وهو ينفجر ضاحكاً ضحكاً صريحاً على حين فجأة.
فأسرع ليبديف يشاركه الضحك. وكان واضحا من نظرته المشرقة أن آماله قد قويت بل وازدادت. قال الأمير:
– هل تعلم ماذا سأقول لك يا لوكيان تيموفئفتش؟ لا تزعل: إنني مدهوش من سذاجتك وسذاجة أشخاص آخرين أيضاً! إن ما تظهرونه من سذاجة في توقع أن أكشف لكم عن أمر من الأمور، في هذه اللحظة، في هذه الدقيقة، يبلغ من الشدّة حداً يجعلني أشعر بحرج وخجل حين ألاحظ أن ليس هنالك شيء أبلغكم إياه فأرضيكم. ومع ذلك أحلف لك أن ليس ثمة أي أمر أفضي به إليك. تستطيع أن تكون على ثقة بهذا.
وعاد الأمير يضحك.
واصطنع ليبديف هيئة الجد والرصانة والوقار. صحيح أن فضوله يتصف أحياناً بفرط السذاجة وقلة التكتم، ولكن هذا لا ينفي أنه كان رجلا ماكرا يحسن اللفّ والدوران والتعرّج، حتى إنه قادر في بعض الأحيان على أن يلتزم صمتاً يبلغ غاية المكر. وقد حمله الأمير بردوده الفظة المستمرة على أن يعتبره أشبه بعدو. ولكن لئن كان الأمير يخاشنه، فإنه لم يكن يفعل ذلك احتقاراً له، بل لأن فضول ليبديف ينصب على موضوع حرج دقيق. لقد كان الأمير، قبل بضعة أيام، ينظر إلى بعض أحلامه نظرته إلى جريمة، بينما كان لوكيان تيموفئفتش لا يرى في رفضه الكلام إلا دليلاً على كره له وشك فيه، فكان ينصرف مقروح القلب حاقدا، وكان يحسد كوليا وكيللر بل ويحسد أيضاً ابنته نفسها، فيرا لوكيانوفنا. ولعله كان في هذه اللحظة نفسها يرغب رغبة صادقة في أن ينقل إلى الأمير نبأً لعله يحظى من الأمير بأكبر الاهتمام، لكنه انطوى على نفسه ولزم صمتاً كاملاً واحتفظ بأسراره لنفسه.
قال ليبديف أخيراً بعد صمت:
– في أي شيء يمكن أن أخدمك أيها الأمير المعظم، ما دمتك أنت الذي... استدعيتني؟
ظل الأمير شارد الذهن برهة من الزمن هو أيضاً. ثم قال:
– كنتُ أريد أن أتكلم عن الجنرال، وعن... تلك السرقة التي كلمتني عنها...
– أية سرقة؟
– عجيب أمرك. لكأنك أصبحت الآن لا تفهم! حقاً إنك لإنسان غريب يا لوكيان تيموفئفتش! ما هذا التمثيل الذي تعمد إليه وتحرص عليه دائماً؟ إنني أقصد المال... المال... الأربعمائة روبل التي فقدتها منذ أيام مع المحفظة، وجئت تحدثني عنها هنا في الصباح، قبل أن تذهب إلى بطرسبرج. هل فهمت ما أردته أخيراً؟
فقال ليبديف عندئذ بصوت بطيء كأنه لم يدرك ما يُسأل عنه إلا في هذه اللحظة: – آ... تقصد تلك الأربعمائة روبل! أشكرك، يا أمير، على اهتمامك الصادق هذا بي. إن هذا الاهتمام ليسعدني ويشرفني، ولكنني... وجدتُ المبلغ منذ مدة طويلة!
– وجدته؟ آ... الحمد لله!
– إن حمدك هذا يصدر عن قلب نبيل، لأن الأربعمائة روبل ليست أمراً هيناً بالنسبة إلى إنسان شقي لقي عناء كبيراً في جني رزقه ورزق أيتامه...
قال الأمير مصحّحاً:
– ما عن هذا أكلمك! يسرني طبعاً أن تكون قد وجدت مالك، ولكن... ولكن كيف وجدته؟
– على أيسر نحو: وجدته تحت الكرسي الذي كان ردنجوتي معلقاً عليه. فلا شك أنّ المحفظة انزلقت من جيب الردنجوت وسقطت هنالك.
– تحت الكرسي؟ مستحيل.. لقد قلت لي إنك بحثت عن المحفظة في كل مكان. فكيف لم ترها في الموضع الذي هو أبرز موضع يمكن أن تسقط فيه؟
– لقد نظرتُ في ذلك الموضع فعلاً. أتذكر أنني أمعنتُ النظر. جَثوت حتى صرتُ أمشي على أربع، ثم لم أتكل على عيني وحدهما بل أزحتُ الكرسي وتلمست المكان بيدي. فلم أجد إلا فراغاً كراحة يدي، وظللتُ مع ذلك أتلتمس. إن هذه التردّدات تستولي دائماً على فكر من يبحث عن شيء ويصرّ أن يعثر عليه... حين يكون الشيء المفقود هاماً أو حين يكون فقده مدعاة حزن له: فهو يرى أن ليست ثمّة شيء في المكان الذي يبحث فيه عن الشيء، ومع ذلك ينظر في المكان نفسه خمس عشرة مرة.
دمدم الأمير يقول متحيّراً:
– طيب... ولكن كيف أمكن أن يحدث هذا؟... لقد قلت في البداية إنّ المال لم يكن هناك، ثم إذا أنت تجده هناك في ذلك المكان نفسه فجأة! فكيف يمكن هذا؟
– نعم، وجدته هناك فجأة!
حدّق الأمير إلى ليبديف بنظرة غريبة، ثم سأله على حين بغتة:
– والجنرال؟
فأجاب ليبديف وهو يصطنع من جديد هيئة من لا يفهم:
– الجنرال؟
– غريب أمرك. إنني أسألك ماذا قال الجنرال حين عثرت على محفظتك تحت الكرسي؟ ألم تقوما بالبحث في أول الأمر معاً؟
– نعم، في أول الأمر. ولكنني في هذه المرة لم أقل له شيئاً، أعترف لك بذلك. آثرتُ أن يبقى جاهلاً بأنني عثرتُ على محفظتي وحدي.
– ولكن... لم هذا؟.. وهل كان المال تاماً لم ينقص منه شيء؟
– عددتُ ما كان في المحفظة فلم أفتقد شيئاً. لم ينقص من المال روبلاً واحداً.
قال الأمير شارد الذهن:
– كان في وسعك أن تخبرني بهذا على الأقل.
– خشيتُ أن أزعجك يا أمير، فإن لك من مشاغلك الشخصية وهمومك الخاصة ما قد يكون خارقاً إذا جاز لي أن أقول هذا. ثم لقد تظاهرتُ أنا نفسي بأنني لم أعثر على شيء؛ فبعد أن فتحتُ المحفظة وعددتُ المال الذي كان فيها فتحققتُ من تمامه طويتها ثانية وأرجعتها إلى مكانها تحت الكرسي.
– لماذا؟
قال ليبديف وهو يضحك ضحكاً ساخراً على حين فجأة ويفرك يليه سروراً:
– هي فكرة ساورتني. كان يشوقني أن أرى ما قد يحدث بعد ذلك.
– فهل المحفظة ما تزال تحت الكرسي منذ يومين؟
– لا. لم تبق تحت الكرسي إلا أربعاً وعشرين ساعة. كانت رغبتي هي أن يعثر عليها الجنرال هو أيضاً. قلت لنفسي: ما دمتُ قد وجدتها، فلا يمكن إلا أن يلاحظ الجنرال، هو أيضاً، شيئاً ظاهراً للعيان إلى هذا الحد، شيئاً يثب إلى البصر من تحت الكرسي وثباً إن صحّ التعبير. وقد نقلتُ الكرسي وغيرتُ موضعه مراراً بحيث يصبح المرء مضطراً إلى رؤية المحفظة اضطراراً، ومكرهاً على الانتباه إليها إكراهاً، ولكن الجنرال لم يبصر شيئاً. دام ذلك أربعاً وعشرين ساعة. إنه كان في هذه الآونة ذاهل شديد الذهول. أمر لا يمكن فهمه: إنه يتكلم، ويروي قصصاً، ويضحك، ويقهقه قهقهة شديدة في بعض الأحيان، ثم إذا هو ينتابه غضب عنيف مني على حين فجأة، لا أدري لماذا! خرجنا أخيراً من الغرفة، ولكنني تعمّدتُ أن أترك الباب مفتوحاً. فرأيتُ الجنرال يتردّد لحظة وكأنه يريد أن يقول لي شيئاً. فأغلب الظن أنه قد روّعه أن تترك هنالك محفظة فيها مبلغ ضخم كذلك المبلغ. ولكنه بدلاً من أن يشير إلى هذا، غضب على حين فجأة، واحمر وجهه احمراراً شديداً. فما إن صرنا في الشارع وقطعنا بضع خطوات حتى تركني ومضى في اتجاه آخر. ثم لم نلتقِ بعد ذلك إلا مساء في الحانة.
– ولكن هل سحبت المحفظة من تحت الكرسي أخيراً؟
– لا، أبداً. وإنما هي اختفت من ذلك المكان في الليل.
– وأين هي الآن؟
– هي ذي... لقد وجدتها هنا فجأة، في حافة ردنجوتي، أنظر... جُسّها إذا أردت أن تتأكد من الأمر بنفسك.
بهذا هتف ليبديف فجأة وهو ينهض قائما وينظر إلى الأمير متودّدا.
كانت الحافة اليسرى من الردنجوت منتفخة من الأمام انتفاخاً يُلفت النظر حقاً. فإذا جسّ المرء ذلك الموضع أدرك فوراً وجود محفظة من الجلد انزلقت تحت البطانة من ثقب في الجيب.
قال ليبديف:
– لقد أخرجتها لأدقق النظر فيها، فرأيتُ المال كاملاً لم ينقص منه شيء، فعدتُ أدسّها في موضعها نفسه؛ وهكذا تراني أحملها منذ صباح أمس. حتى إنها تلطم ساقيّ.
– وتتظاهر بأنك لم تلاحظ ذلك؟
– أنا لا ألاحظ شيئاً، هئ هئ! واعلم، أيها الأمير المبجل، اعلم... رغم أن هذا الموضوع لا يستحق أن يلفت انتباهك، اعلم أن جيوبي تكون في حالة حسنة دائماً. فما هي إلا ليلة واحدة حتى كانت إحداها مثقوبة! لقد أنعمتُ النظر في الثقب متعمّداً، فرأيت أنه يشبه أن يكون خرقاً أُحدث بسكين. أمر لا يصدّقه العقل، أليس كذلك؟
– و... الجنرال؟
– ظل غاضباً طول النهار، أمس واليوم. إن استياءه رهيب. على أن نشوة الخمرة تجعله شديد المراعاة والمجاملة أحياناً، ثم إذا هو يصبح رقيق العاطفة حتى لتسيل دموعه على خديه، ثم إذا هو يثور على حين فجأة ثورة عارمة تبث الرعب في قلبي، والحق يقال!... ذلك أنني، يا أمير، لست رجل قتال وحرب. أمس، بينما كنا معاً في الحانة، وقعت حافة ردنجوتي تحت نظره بما يشبه المصادفة، وكانت ترسم حدبة ظاهرة كل الظهور، فرمقها الجنرال بطرف عينه، واجتاحه الغضب. لقد أصبح منذ مدة طويلة لا ينظر إليّ وجهاً لوجه، إلا حين يكون في نشوة سكر أو يقظة عاطفة. ولكنه نظر إليّ أمس مرتين فكان في عينيه من الشرر ما أجرى في ظهري رعدة. على كل حال، أنا أنوي أن أعثر على المحفظة غداً، ولكنني إلى أن أفعل ذلك أحب أن أتسلى به ليلة أخرى.
صاح الأمير يقول متعجباً:
– لماذا تعذبه هذا التعذيب؟
فأجاب ليبديف يقول بحرارة:
– أنا أعذبه يا أمير؟ لا! إنني أحبه حباً صادقاً مخلصاً، و... أحترمه. لك أن تصدّق أو لا تصدّق: لقد أصبح الآن أغلى في قلبي وأعز في نفسي مما كان. أصبحت أكنّ له مزيداً من الاعتبار.
قال ليبديف هذه الكلمات وهو يصطنع هيئة فيها من فرط الجد والإخلاص ما أثار استياء الأمير. فقال يسأل ليبديف:
– أتحبه ثم تعذبه هذا التعذيب؟ اسمع: إنه منذ أعاد المحفظة المفقودة إلى مكان بارز: تحت الكرسي أولاً وفي حافة ردنجوتك ثانياً، قد برهن على أنه لا يريد أن يمكر معك، وبرهن على أنه يسألك الصفح والعفو. هل سمعت؟ إنه يطلب منك أن تصفح عنه! معنى هذا أنه يعتمد على رهافة عواطفك، وأنه يثق بصداقتك له. فكيف تجيز لنفسك بعد هذا أن تذل إنساناً... شريفاً إلى هذا الحد؟
قال ليبديف وقد التمعت عيناه:
– أيها الأمير الشريف، أيها الأمير الشريف جداً. أنت وحدك أيها الأمير النبيل، استطعت أن تقول كلاماً صادقاً هذا الصدق كله، عادلاً هذا العدل كله، لذلك تراني مخلصاً لك متفانياً في سبيلك إلى حد العبادة، رغم كل عفونة الرذائل التي تعشش في نفسي! لقد اتخذت قراري. سوف أكشف المحفظة الآن، في هذه اللحظة نفسها، لا أنتظر الغد. أنظر: هأنا ذا أخرجها أمام بصرك. هي ذي. هذا هو المبلغ كاملاً، خذه أيها الأمير النبيل واحتفظ به إلى غد. سوف أستردّه منك غداً أو بعد غد. ولكن هل تعلم يا أمير أن هذا المال لا بدّ أن يكون قد قضى الليلة الأولى في مكان ما تحت شجرة بحديقتنا الصغيرة؟ ما رأيك في هذا؟
– لا تقل له دفعة واحدة أنك عثرت على المحفظة. دعه يلاحظ أن حافة ردنجوتك قد خلت من المحفظة، فيفهم بنفسه.
– هل هذه فكرة حسنة؟ أليس الأفضل أن أبلغه أنني وجدث المحفظة، متظاهراً بأنني قبل ذلك لم يخطر ببالي شيء؟
أجاب الأمير واجماً مفكراً:
– لا أظن ذلك. لا. فات الأوان. هذا أشد خطراً. حقاً إن الأفضل أن لا تقول شيئاً! كن رقيقاً لطيفاً في معاملته، ولكن... يجب أن لا يظهر عليك أنك... تمثل دوراً محفوظاً،.. و.....، أنت تعلم...
– أعلم يا أمير، أعلم. أقصد... أعلم أنني لن أفعل شيئاً من ذلك، إذ لا بدّ أن يكون للمرء قلب كقلبك حتى يتصرّف هذا التصرف. ثم إنه قد أصبح هو نفسه سريع الاهتياج سيئ الطبع. هو الآن يشقلني في بعض الأحيان من رأسي إلى قدمي، تارة ينتحب ويقبلني، وتارة يأخذ يذلني ويهينني ويعاملني باحتقار على حين فجأة. ففي لحظة من تلك اللحظات سأبرز له حافة ردنجوتي عامداً ليراها... هئ هئ!.. إلى اللقاء يا أمير... أظن أنني حبستك عن الخروج، وأنني أعكر عليك أهم عواطفك، إذا جاز لي أن أقول...
– ولكن احفظ السر، ناشدتك الله، كما فعلت من قبل.
– بخطى لا وقع لها، بخطى كخطى الذئب!...
رغم أن الأمر انتهى، فقد بقي الأمير مهموماً ربما أكثر مما كان مهموماً من قبل. إنه ينتظر، نافذ الصبر، اللقاء الذي يجب أن يتم غداً بينه وبين الجنرال.
الفصل الرابع
كان موعد اللقاء بين الساعة الحادية عشرة والساعة الثانية عشرة. ولكن الأمير أخّره عنه ظرف طارئ لم يكن في الحسبان. فلما وصل إلى البيت كان الجنرال ينتظره. وقد لاحظ من النظرة الأولى أن الجنرال كان مستاء، ولعله كان مستاء من هذا الانتظار نفسه.
اعتذر الأمير عن التأخر وأسرع يجلس، لكنه كان يشعر بوجل غريب فكأن الزائر خزف يخشى عليه الأمير أن ينكسر في كل لحظة. إنه لم يشعر قبل ذلك في يوم من الأيام بوجل كهذا الوجل إزاء الجنرال، بل ولا كان يمكن أن تخطر بباله فكرة كهذه الفكرة. ولم يلبث أن لاحظ أن أمامه الآن رجلاً يختلف كل الاختلاف عن رجل الأمس: فالخجل والذهول قد حلت محلهما الآن لدى الجنرال رصانة خارقة، فكأنه قد أتخذ قراراً قاطعاً لا سبيل عن الرجوع عنه. ورغم أن هدوء الأعصاب هذا كان ظاهرياً أكثر مما كان واقعياً، فإن ذلك لا ينفي أن وضع الجنرال كان فيه نبل وحرية وانطلاق، على شيء من الشعور بكرامة مكبوتة ووقار مكظوم؛ حتى لقد بدأ يكلم الأمير بلهجة فيها شيء من التنازل والتواضع كاللهجة التي يصطنعها أولئك الذين يخالط انطلاقهم الحر شعور بإساءة أُلحقت بهم ظلماً. وكان يتحدث بنبرة لطيفة ودود، على شيء من المرارة في صوته.
قال بوقار وهو يومئ بيده إلى المائدة:
– إليك المجلة التي أخذتها منك في ذلك اليوم. شكراً.
– آ... نعم.. هل قرأت تلك المقالة يا جنرال؟ كيف وجدتها؟ ما رأيك فيها؟ شيقة هه؟
كذلك قال الأمير مسرعاً إلى انتهاز هذه الفرصة للتحدث في موضوع كهذا الموضوع لا يثير النفس، ولا يهز العاطفة.
فأجاب الجنرال بقوله:
– قد تكون المقالة شيّقة، لكنها كُتبت كتابة رديئة، وهي باطلة حتماً، حتى ليمكن أن يقال إنها محشوّة بالأكاذيب.
كان الجنرال يتكلم بلهجة فيها سلطة، وفيها شيء من بطء مقصود.
قال الأمير:
– نعم، هي قصة ساذجة جداً: إن كاتبها جندي قديم شهد احتلال الفرنسيين لموسكو وإقامتهم بها، فروى أموراً شيّقة. ثم إن مذكرات شهود العيان ثمينة دائماً، مهما تكن شخصية الكاتب. أليس كذلك؟
– لو كنتُ في مكان رئيس التحرير، لما نشرتُ هذا الكلام. أما عن مذكرات العيان بوجه عام فإن الناس أميل إلى تصديق كاذب متبجّح لكنه مشوّق مسلٍ منهم إلى تصديق رجل له قيمته ومزاياه. إنني أعرف مذكرات عن عام 1812 هي... يا أمير، لقد عزمت أمري واتخذت قراري: إنني مغادر هذا المنزل، منزل السيّد ليبديف.
قال الجنرال ذلك، وألقى على الأمير نظرة مهيبة.
فانبرى الأمير يقول على غير هدى وهو لا يعرف بماذا يجيب:
– إن لك مسكنك في بافلوفسك عند... عند ابنتك.
وتذكر في تلك اللحظة أن الجنرال إنما جاء ليستشيره في أمر يتوقف عليه مصيره.
قال الجنرال:
– بل عند زوجتي، أي في بيتي وبيت ابنتي.
– معذرة: إنني...
– إنني مغادر منزل ليبديف يا عزيزي الأمير، لأنني قطعتُ علاقتي بهذا الرجل. قطعتها في مساء أمس، آسفاً على أنني لم أفعل ذلك قبل هذا الوقت. إنني أطلب الاحترام يا أمير، وأرغب في الاحترام حتى من الأشخاص الذين أهب لهم قلبي إن صحّ التعبير. يا أمير، إنني كثيراً ما أهب قلبي، فأُخدع في جميع الأحيان تقريباً. إن هذا الرجل لم يكن جديراً بصداقتي.
فقال الأمير بتحفظ:
– إنه يتصف بشيء من الفوضى فعلاً، وإن له كذلك بعض الخصال التي... ولكن له قلباً رقيقاً، كما أن له فكراً ماكراً، وهو خفيف الظل أحياناً.
إن هذه التعابير المنتقاة المختارة التي استعملها الأمير، وتلك اللهجة التي تدل منه على تقدير وتوقير، قد أرضتا غرور الجنرال، رغم أن ومضات من ريب ما تزال تلتمع في عينيه. ولكن نبرة الأمير كان فيها من الانطلاق الطبيعي الواضح ما لم يبق معه مجال لشك.
قال الجنرال مستأنفاً كلامه:
– أما أنّ له مزاياه أيضاً، فلقد كنتُ أول من اعترف بذلك حين أوشكتُ أن أهب صداقتي لهذا الإنسان. ذلك أنني في غير حاجة لا إلى بيته ولا إلى ضيافته، لأن لي أسرتي أنا أيضاً. لست أحاول أن أبرى نفسي من عيوبي. أنا امرؤ مفرط لا يعرف الاعتدال. ولقد شربت معه خمراً، فيا ليتني لم أرتكب ذلك الخطأ! ولكن الخمرة لم تكن الشيء الوحيد الذي ربطني به وشدّني إليه (اغفر فجاجة اللغة عند إنسان مقروح القلب يا أمير!) وإنما أغرتني به تلك المزايا نفسها التي أشرت إليها. غير أن لكل شيء حداً، حتى المزايا. فحين تبلغ به الجرأة حد الادعاء فجأة بأنه سنة 1812، أيام طفولته، قد فقد ساقه اليسرى ودفنها في مقبرة فاجانكوفو بموسكو، فإن كلامه هذا يتجاوز الحدود، ويدل على استهتار، ويبرهن على وقاحة.
– لعل ذلك لم يكن منه إلا مزاحاً أو حكاية يهدف منها إلى الإضحاك!
– أنا أفهم هذا. إن حكاية بريئة يخترعها صاحبها للإضحاك، حتى ولو كانت فظة غليظة، لا تجرح قلب الإنسان. حتى لقد يرى المرء أناساً يكذبون عن شعور بالصداقة إن صحّ التعبير، وذلك ليُسرُّوا محدثيهم. ولكن إذا اشتمل ذلك على قلة احترام، وإذا كان المقصود من قلة الاحترام هذه أن يقال لك بالتلميح إن صداقتك أصبحت ثقيلة على الصدر، فليس يبقى لرجل نبيل في مثل هذه الحالة إلا أن يشيح بوجهه، وأن يقطع جميع العلاقات، وأن يردّ الشخص الذي صدرت منه الإساءة المهينة إلى مكانه يوقفه عند حدوده.
وكان الجنرال قد احمرّ وهو يتكلم، فقال الأمير:
– ثم إن ليبديف لا يمكن أن يكون قد وُجد بموسكو سنة 1812، فهو أصغر سناً من أن يكون ذلك صحيحاً. دعوى مضحكة!
– ذلك من جهة أولى. ولكن هب أنه كان في ذلك الزمان قد وُلد منذ مدة. فكيف يستطيع أن يزعم لك جهاراً أن جندياً فرنسياً من جنود المدفعية قد صوّب إليه مدفعه، فقطع بقنبلة إحدى ساقيه ليتسلى بذلك؛ فما كان منه إلا أن التقط ساقه المقطوعة فنقلها إلى بيته ثم دفنها في مقبرة فاجانكوفو. وهو يقول فوق ذلك إنه بنى لها ضريحاً كتب على أحد جانبيه ما يلي: «هنا ترقد ساق الموظف ليبديف»، وكتب على الجانب الآخر: «استرح أيها الرفات الغالي إلى أن يطلع الصباح المشرق الوضاء»؛ ويقول أخيراً إنه يقيم قداساً على روح ساقه (وهذا وحده تجديف)، ويسافر إلى موسكو لهذه الغاية كل عام. وهو يدعوني، تأييداً لكلامه ودعماً لدعواه، أن أصحبه إلى موسكو ليريني الضريح، وليريني، في الكرملين، ذلك المدفع الفرنسي نفسه الذي أُخذ من العدو، مؤكداً أنه المدفع الحادي عشر بعد الباب، وأنه مدفع صغير من طراز عريق.
قال الأمير وهو ينفجر ضاحكاً:
– وما يزال مع ذلك بساقين واضحتين. أؤكد لك أنها مزاحة بريئة، فلا تغضب منها...
– ولكن اسمح لي أن يكون لي أنا أيضاً رأي: فلأن يظهر أن له ساقين اثنتين فهذا لا يقطع بأن قصّته لا يمكن أن تطابق الواقع. فهو يؤكد أن له ساقاً صناعية من عند تشرنوسفيتوف.
– صحيح: يظهر أن في إمكان المرء أن يرقص بساق من عند تشرنوسفيتوف.
– أعرف هذا، لأن تشرنوسفيتوف حين اخترع ساقه الصناعية قد هرع يرينيها على الفور. ولكن هذا الاختراع أحدث كثيراً من ذلك التاريخ... ثم إن ليبديف يؤكد أن زوجته المرحومة لم تعرف في يوم من الأيام، أثناء زواجها، أن له ساقاً من خشب. وقد أوضحت له جميع ما تشتمل عليه قصّته هذه من وجوه الاستحالة والسخف. فأجابني بقوله: «إذا ادعيت أنك كنت وصيف نابليون سنة 1812، فاسمح لي أنا أيضاً بأن أكون قد دفنتُ ساقي في مقبرة فاجانكوفو».
قال الأمير وقد وقف متحيّراً:
– كيف؟ هل أنت...
فظهر الاضطراب على الجنرال أيضاً، لكنه سرعان ما سيطر على نفسه، ونظر إلى الأمير بتعالي يخالطه شيء من سخر، وقال له بصوت قاطع:
– أكمل فكرتك يا أمير، أكملها، إنني متسامح. قل كل شيء: إنه ليبدو لك أمراً مضحكاً أن ترى أمامك إنساناً سقط إلى هذا الحضيض من الذل و... العقم، وأن تعلم أن هذا الإنسان كان هو نفسه شاهد أحداث كبرى. ألم يعمد «هو» إلى الوشاية بي والنميمة عليّ لديك حتى الأن؟
– لا، لم يقل لي ليديف شيئاً، إذا كان ليبديف هو من تقصد...
– هِمْ.. كنتُ أظن غير هذا. والحق أن حديثنا قد بدأ بالكلام على تلك... المقالة الغريبة التي ظهرت في مجلة «الأرشيف» . لقد أشرت أنا إلى بطلان تلك المقالة، لأنني شهدتُ بنفسي الأحداث التي ترويها. أرى أنك تبتسم وتتفرّس في يا أمير، هه؟
– لا، أبداً... إنني...
تابع الجنرال حديثه بلهجة بطيئة جدا:
– إنني أبدو صغير السن، ولكنني أكبر سناً مما أبدو. في سنة 1812 كنت في العاشرة أو الحادية عشر من عمري. أنا لا أعرف سني على وجه الدقة. لقد صغّروه في سجل الخدمة، وارتضيتُ أنا لنفسي، عن ضعف مني، أن أُنقص منه سنوات.
– أؤكد لك يا جنرال أنني لا أرى أية غرابة في أن تكون قد وُجدت بموسكو سنة 1812، و... طبيعي أن تكون لك ذكريات تستطيع أن ترويها... كسائر أولئك الذين وجدوا في ذلك العهد. إن أحد الذين سجلوا ذكريات حياتهم قد افتتح كتابه بذكر أنه كان سنة 1812 طفلاً رضيعاً وأن الجنود الفرنسيين أطعموه خبزاً بموسكو.
قال الجنرال متنازلاً متسامحاً:
– هأنت ذا ترى يا أمير أن قضتي، وإن لم تكن استثناء، فهي تخرج عن نطاق المألوف مع ذلك. إنه ليحدث كثيراً أن تبدو الحقيقة بعيدة عن الواقع صعبة التصديق. وصيف الإمبراطور. ذلك يلوح غريباً كل الغرابة طبعاً. غير أن حادثاً خارقاً يقع لطفل في العاشرة من عمره ربما كان يفسره أنه إنما كان طفلا. ما كان لهذا الحادث أن يقع لي في الخامسة عشرة من عمري؛ وذلك لسبب بسيط هو أنني في الخامسة عشرة من عمري ما كان لي أن أهرب من منزلنا الخشبي في شارع «باسمانايا القديمة»، يوم دخول نابليون إلى موسكو. ما كان لي أن أتمرّد على سلطة أمي التي فاجأها دخول الفرنسيين فكانت ترتعد خوفاً. فلو كنتُ في الخامسة عشرة من عمري لشاركتها رعبها. أما في العاشرة فقد كنث لا أخشى شيئاً، فتسللتُ بين الجمهور حتى بلغتُ درجات مدخل القصر، لحظة كان نابليون ينزل عن حصانه.
قال الأمير يؤيد كلامه خجلاً:
– فعلاً، لقد أصبت حين لاحظت أن سن العاشرة هي السن التي يكون فيها المرء أشد ما يكون جرأة وتهوّراً...
وكان يعذب الأمير أن يتصور أنه سيحمر وجهه. قال الجنرال:
– طبعاً... ولقد جرى كل شيء على نحو بسيط طبيعي لا يوجد مثله إلا في الحياة الواقعية. فلو كتب هذه القصة روائي لخرجت من بين يديه ترهاتٍ باطلة وأموراً لا يصدق العقل أنها يمكن أن تطابق الواقع.
هتف الأمير يقول:
– حقاً! لقد خطفت هذه الفكرة انتباهي أنا أيضاً، ومنذ مدة قصيرة. إنني أعرف قضية واقعية عن جريمة قتل كان الدافع إليها سرقة ساعة. وقد تحدثت الجرائد عن هذه الجريمة منذ وقعت. فلو أن روائيًا تخيل هذه الجريمة، لانبرى الناس الذين يعرفون حياة الشعب يصيحون قائلين مع النقاد: هذا لا يمكن أن يكون واقعاً. ولكنك حين تقرأ حكاية هذا الحادث في الجرائد تحس أنه واحد من تلك الحوادث التي تعلمك حقائق الحياة الروسية.
وختم الأمير كلامه قائلاً بحرارة وقد سرّه إنه لم يظهر عليه احمرار الوجه:
– إنك قد أجدت ملاحظة هذه الظاهرة يا جنرال!
فهتف الجنرال يقول وقد سطعت عيناه سروراً:
– أليس كذلك؟ هذا طفل، هذا صبي لا يشعر بالخطر، يتسلل خلال الجمهور ليرى بهاء الكوكب وسناء البزّات العسكرية وليرى الرجل العظيم الذي طالما سمع الناس يتحدثون عنه؛ ذلك أن العالم كان قد أصبح منذ عدة سنين لا يتكلم إلا عن نابليون. لقد ملأ اسمه الدنيا وشغل الناس، حتى ليمكنني أن أقول إنني رضعت اسمه مع حليب أمي. ويمرّ نابليون على بعد خطوتين مني، فإذا ببصره يقع عليّ مصادفة. كنت أرتدي ثياب طفل من أبناء النبلاء. كان أهلي يكسونني بأجمل الملابس. وكنت بين ذلك الحشد الكبير، الشخص الوحيد الذي يرتدي ثياباً من هذا المستوى، فتصور أنت نفسك ما عسى يكون أثر ذلك في نفسه...
– لا شك أن ذلك خطف بصره وبرهن له على أن الناس لم ينفضوا جميعاً، حتى إن أفراداً من النبلاء قد لبثوا في موسكو مع أولادهم.
– تماماً! كانت هذه هي فكرته: أن يجتذب إليه النبلاء! فحين حدّق إليّ بنظرته التي تشبه نظرة النسر، فلا بد أنه رأى جواباً يسطع في عيني. قال: «هذا صبي يقظ. من أبوك؟» (بالفرنسية) فأجبته فوراً بصوت يكاد يخنقه الانفعال: «جنرال قضى في ساحة الشرف مدافعاً عن وطنه». قال: «ابن نبيل، نبيل وشجاع فوق ذلك! أحب النبلاء! هل تحبني يا صغير؟» (بالفرنسية). كان السؤال سريعاً، ولكن جوابي لم يكن أقل سرعة، فإنني لم ألبث أن قلت له: «إن قلب الروسي يقدر أن يعرف الرجل العظيم ولو كان عدو وطنه!». الحق أنني لا أتذكر هل كان جوابي بهذه الكلمات حرفاً حرفاً... لقد كنت طفلاً.. ولكن لا شك أن هذا كان هو المعنى الذي عبّرت عنه أقوالي.
«أُخِذَ نابليون. وفكّر لحظة ثم قال لرجال حاشيته: «أحب كبرياء هذا الفتى! ولكن إذا كان تفكير جميع الروس هو هذا التفكير، فإن...». ولم يكمل جملته ودخل القصر. وأسرعت أختلط بحاشيته وأركض وراءه. فكان رجال الموكب يفسحون لي طريقا منذ ذلك الوقت، لأنهم أصبحوا يعدونني أثيراً عنده، محبباً إلى قلبه. حدث هذا كله في طرفة عين... ولكنني أتذكر أن الإمبراطور، حين بلغ القاعة الأولى، توقف فجأة أمام صورة الإمبراطورة كاترين، فتأملها مليا شارد الذهن حالم الهيئة، وهتف يقول أخيراً: «كانت امرأة عظيمة!». ثم مضى في طريقه.
«ما انقضى يومان إلا كان كل من في القصر وفي الكرملن يعرفونني. وكانوا يلقبونني «النبيل الصغير» (بالفرنسية). وكنت لا أرجع إلى البيت إلا لقضاء الليل. وكاد أهلي أن يجنوا من ذلك. وغداة غدٍ مات وصيف نابليون، البارون بازانكور، مرهقا من المشاق التي عاناها أثناء الحملة. فتذكرني نابليون، فجاءوا يبحثون عني ويأخذونني دون أي شرح أو تفسير. ألبسوني بزة المتوفى الذي كان فتى في الثانية عشرة من العمر، وأدخلوني على الإمبراطور مرتدياً تلك البزة. فأومأ برأسه، فأبلغوني عندئذ أنني فزت برضى الإمبراطور عن تسميتي وصيفاً لصاحب الجلالة. شعرت بسعادة، لأنني كنت أحس منذ زمن طويل بعاطفة قوية نحوه... ثم... لا شك أنك تقدّر ما في البزّة اللامعة من قوة الإغراء لطفل. أصبحت أرتدي فراكاً أخضر قاتم الخضرة، تزينه أزرار مذهبة، مع ذيول ضيقة طويلة وأكمام ذات حواش حمراء؛ وكانت تطريزات الذهب تغطي الحواف والأكمام والياقة، وكانت الياقة عالية مستقيمة مفتوحة. أما السروال فملتصق بالجسم، أبيض اللون، مصنوع من جلد الشاموا؛ وفوق السروال صديرة من حرير أبيض؛ والجوربان من حرير أيضاً، وللحذاءين عرى وأزرار... فإذا قام الإمبراطور بنزهة على الحصان وكنت أنا في حاشيته، أُلبست حذاءين لهما ساقان عاليان على طريقة الفرسان. ورغم أن الحالة لم تكن حسنة، ورغم أن كوارث ضخمة كانت متوقعة، فقد كانت قواعد الآداب تراعى مراعاةً صارمة في حدود الإمكان، حتى لقد كانت الدقة في مراعاتها على قدر قوة الإحساس بأن الكوارث قريبة.
تمتم الأمير يقول بلهجة تكاد تكون يائسة:
– نعم، طبعاً... لا شك أن مذكراتك سيكون لها شأن.
أغلب الظن أن الجنرال كان يردد على مسامع الأمير ما قاله أمس لصاحبه ليبديف. فذلك كانت أقواله تسيل غزيرة. لكنه في تلك اللحظة ألقى على الأمير نظرة جديدة فيها ارتياب. ثم استأنف كلامه يقول بمزيد من الكبرياء:
– مذكراتي؟ تكلمني عن تدوين مذكراتي؟ إن هذا لم يغرني يا أمير! أو قل إن شئت إنها مدوّنة منذ الآن، ولكنني أخفيها مقفلاً عليها بالمفتاح. فلتُنشر بعد أن يغطي التراب عيني. ولسوف تترجم عندئذ إلى عدة لغات حتماً، لا لقيمتها الأدبية طبعاً، بل لخطورة الأحداث الضخمة التي كنت شاهد عيان لها، رغم أني طفل. بل نستطيع أن نقول أكثر من ذلك: إن صغر سني هو الذي أتاح لي أن أنفذ إلى أن أخفى خفايا ما يجري في غرفة «الرجل العظيم»! كنت في الليل أسمع أنات ذلك «العملاق في الشقاء». لم يكن ثمة سبب يدعوه إلى إخفاء أناته ودموعه عن طفل، رغم أني قد أدركت إن سبب عذابه هو صمت الإمبراطور ألكسندر.
قال الأمير خجلاً:
– صحيح. لقد كتب إليه رسائل... ليعرض عليه الصلح.
– الواقع أننا لا نعرف ماذا تضمّنت رسائله من عروض، ولكنه كان يكتب كل يوم، في كل ساعة، رسالة تلو رسالة! كان مضطربا اضطراباً رهيباً. وكنا وحيدين في ذات ليلة من الليالي فأسرعت إليه مخضلّ العينين بالدموع (آه... كما كنت أحبه!) وقلت له صارخاً: «اطلب المغفرة من الإمبراطور ألكسندر، اطلب عفوه». كان يجب عليّ طبعاً أن أقول: «أعقد صلحاً مع الإمبراطور ألكسندر»، لكنني طفل، فكنت أعبّر عن تفكيري كله بسذاجة. أجابني وهو يذرع الغرفة طولاً وعرضاً: «آه يا بني! آه يا بني! أنا مستعد لأن ألثم قدمي الإمبراطور ألكسندر، (لكأنه نسي أنني لا أبلغ من العمر إلا عشرة أعوام، حتى لقد كان يجد لذة في محادثتي) ولكنني في مقابل ذلك قد نذرت كرهاً ومقتاً أبدياً لملك بروسيا وإمبراطور النمسا، و... على كل حال.. أنت لا تفهم من أمور السياسة شيئاً». لكأنه تذكر فجأة أنه يخاطب طفلاً، فصمت، ولكن عينيه ظلت ترسلان شرراً خلال مدة طويلة. فتصور الآن، تصور أنني أدوّن هذه الوقائع كلها، أنا الذي شهدت أضخم الأحداث، وأنشرها: وتصور عندئذ أنواع النقد وصنوف الغرور الأدبي، وألوان الحسد، وروح التحيز، و... آه... لا... لا.. أشكرك جزيل الشكر!».
أجاب الأمير برقة ولطف بعد لحظة تفكير:
– فيما يتعلق بروح التحيز، فإنك على حق تماماً، وأنا أؤيد قولك كل التأكيد. من ذلك أنني قرأت في الآونة الأخيرة كتاب شاراس عن معركة واترلو. إن الكتاب جاد لا ريب. والاختصاصيون يقطعون بأن كاتبه مطلع اطلاعاً واسعاً. ولكنك تلاحظ في كل صفحة من صفحاته تلذذا بخفض قيمة نابليون. حتى لكأن المؤلف كان يمكن أن يسره أعظم السرور أن ينكر على نابليون أي ظل لموهبة، حتى في المعارك الأخرى. فلا شك أن هذا التحيز لا يليق بكتاب جاد إلى هذا الحد. هل كان وقتك كله مشغولاً بالعمل قرب.. الإمبراطور؟
طار الجنرال فرحاً. إن ملاحظة الأمير هذه قد بدّدت بما فيها من رصانة وبساطة آخر ما كان يساوره من شكوك.
– شاراس! آ... أنا أيضاً، أثار استيائي، حتى لقد كتبت إليه عندئذ، ولكنني لا أتذكر الآن على وجه الدقة... أتسألني هل كان عملي يستغرق كل وقتي؟ لا، لقد سُميت وصيفاً للإمبراطور، لكنني منذ ذلك الحين لم آخذ الأمر مأخذ الجد؛ ثم إن نابليون لم يلبث أن فقد كل أمل في تقارب بينه وبين الروس؛ وكان لا بد له والحالة هذه أن ينساني، لأنه لم يجتذبني إليه في الأصل إلا لأغراض سياسية، هذا إذا لم يكن قد تعلق بي تعلقاً عاطفياً شخصياً مع ذلك... الآن أقول هذا صراحة. أما أنا فإن القلب هو الذي كان يدفعني إليه. ولم أكن أطالب بعمل. كل ما هنالك إنني كان عليّ أن أجيء إلى القصر من حين إلى حين، وأن أصحاب الإمبراطور في نزهاته على الحصان. ذلك كل شيء. كنت أجيد ركوب الخيل. وقد اعتاد أن يخرج إلى النزهة قبل العشاء. وكانت حاشيته تتألف من دافو، والمملوك رستان، وأنا...
أضاف الأمير على غير شعور منه تقريباً:
– وكونستان أيضاً.
فقال الجنرال:
– لا، لم يكن كونستان من الحاشية. كان قد ذهب يحمل رسالة... إلى الإمبراطورة جوزفين. فحل محله ضابط من ضباط الحرس، وبضعة فرسان بولنديين. تلك كانت حاشيته كلها، بالإضافة – طبعاً – إلى الجنرالات والمارشالات الذين كان نابليون يصطحبهم لدراسة الأرض وتوزيع الجيوش، ولاستشارتهم. وإذا صدقت ذكرياتي الآن، فإن دافو هو الذي يصحبه أكثر من أي شخص آخر: كان دافو ضخم الجسم بديناً، وكان هادئ الطبع بارد الأعصاب، وكان يضع على عينيه نظارتين، وكانت له نظرة غريبة... فمع دافو إنما كان الجنرال يحب أن يتشاور أكثر مما كان يحب أن يتشاور مع أي شخص آخر. كان يحترم آراءه. أذكر أنهما في ظرف من الظروف ظلا يبحثان معاً خلال عدة أيام متتالية. كان دافو يأتي صباحا ومساء، وكانت تجري بينهما مناقشات كثيرة. وأخيراً بدا أن نابليون أصبح على أهبة أن يسلم. كانا في المكتب معاً. وكنت أنا ثالثهما، ولكنهما كانا لا ينتبهان إليّ؛ ووقع بصر نابليون عليّ مصادفة على حين فجأة، فانعكست في عينيه فكرة غريبة. فقال يسألني بغتة: «ما رأيك أيها الصبي؟ أئذا اعتنقت الديانة الأرثوذكسية وحررت أقنانكم، يتبعني الروس؟» فهتفت أقول له مستاء: «لن يتبعوك في يوم من الأيام!». شُده نابليون من جوابي. قال: «في وميض الوطنية الذي التمع في عيني هذا الصبي، قرأت الآن رأي الشعب الروسي كله. كفى يا دافو! ما هذا كله إلا خيال! أرني مشروعك الأخر!».
قال الأمير مهتماً اهتماماً قوياً:
– لكن ذلك المشروع الذي عدل عنه يشتمل على فكرة عظيمة. هل تعتقد أن ذلك المشروع كان من صنع دافو؟
– اتفقا عليه في أقل تقدير. لا شك أن الفكرة جاءت من نابليون. إنها فكرة نسر. ولكن المشروع الثاني كان يشتمل أيضاً على فكرة.. إنه مشروع «مجلس الأسد» المشهور، كما سمّى نابليون ذلك المشروع فيما بعد؛ وهو أن يعتصم بالكرملين مع الجيش كله، وأن يقيم فيه أبنية من خشب، ومتاريس قوية، وأن تتخندق فيه سريات مدفعية، وأن يذبح أكبر عدد من الخيول ليصنع من لحومها قديداً، ثم أن يغتصب من السكان جميع ما لديهم من غلال ليستطيع الصمود حتى الربيع. فإذا طلع الربيع حاول أن يشق طريقاً بين الروس. ولقد فُتن نابليون بهذه الخطة. فكنا نقوم كل يوم بجولات على صهوات الخيل حول الكرملين، فيشير نابليون إلى الأماكن التي يجب فيها الهدم، وإلى المواضع التي ينبغي فيها البناء، وإلى حيث يجب وضع نظارة، أو إلى حيث يجب تعزيز تحصين أو إلى حيث يجب إقامة أبراج. ما كان أسرع خاطره وأثبت بصره وأحزم قراره! وسُوِّي أخيراً كل شيء. وكان دافو يلحّ على أن يصدر إليه الأمر الحاسم النهائي. وعادا يجتمعان في خلوة لا يشاركهما فيها ثالث غيري. وعاد نابليون يذرع الغرفة جيئة وذهابا، عاقدًا ذراعيه على صدره. فكنت لا أستطيع أن أحول عيني عن وجهه، وكان قلبي يخفق خفقاناً قوياً. قال دافو: «أنا ماض أباشر العمل». فسأله نابليون: «إلى أين؟»، فأجاب دافو: «آمر بتمليح القديد». فارتجف نابليون. كان المصير يتقرر. سألني نابليون فجأة: «ما رأيك في خطتنا يا فتى؟». طبيعي أنه وجّه إليّ هذا السؤال كما يعمد عقل عظيم في آخر لحظة إلى استعمال طريقة «اليانصيب». فبدلاً من أن أجيب نابليون التفتت نحو دافو وقلت له بما يشبه الوحي أو الإلهام: «سافروا إلى بلادكم بسرعة يا جنرال». تهدّم المشروع. هزّ دافو كتفيه وخرج مدمدماً: «أمر عجيب. أصبح يؤمن بالخرافات» . الغداة صدر الأمر بالانسحاب.
قال الأمير بصوت خافت جداً:
– هذا كله شائق جداً... إذا كانت الأمور قد جرت هنا على هذا النحو...
ثم أسرع يقول مصححًا بقوة:
– بل قل.. أقصد...
كان الجنرال قد بلغ من النشوة بالقصة التي رواها إنه أصبح لا يستطيع أن يحجم عن التورط في أي تهوّر. وها هو ذا يهتف قائلاً:
– آه... يا أمير... إنك تقول: «إذا كانت الأمور قد جرت هنا. على هذا النحو...». ولكنني أقسم لك صادقاً لا حانثاً أن ما قصصته عليك هو أقل من الواقع، أقل من الواقع، أقل كثيراً من الواقع! إن كل ما رويته لك لا يتصل إلا بأمور سياسية يسيرة الشأن. غير أنني أكرر أنني قد شهدت الدموع يسكبها في الليل ذلك الرجل العظيم، وسمعت الأنّات تخرج من صدره في جوف الظلام. ما من أحد يستطيع أن يروي ما أروي وأن يصف ما أصف. صحيح أنه أصبح في نهاية الأمر لا يبكي، فقد نضبت دموعه، وأصبح لا يزيد على أن يئن من حين إلى حين. وكان وجهه يزداد عبوساً وجهامة، واكفهراراً وتقطيباً. لكأن الأبدية قد مدّت جناحها عليه منذ ذلك الحين. وكنا في بعض الأحيان نقضي في الليل ساعات بكاملها وحيدين صامتين، بينما المملوك روستان يغط بالغرفة المجاورة في نوم عميق. ألا ما كان أعمق نوم ذلك الرجل! وكان نابليون يقول إذا تحدث عنه: «لكنه في مقابل ذلك مخلص لي وفي لعرشي!».
«في يوم من الأيام كنت مثقل القلب، فرأى الإمبراطور دموعاً في عيني. فنظر إليّ بحنان وقال متعجباً: «تشاركني أحزاني؟ لعلك الولد الوحيد الذي يشاطرني ألمي، عدا ابني، ملك روما . أما الآخرون فإنهم جميعاً يكرهونني. حتى أخوتي سيكونون أول من يخونونني أمام أعدائي». فأخذت أبكي ناشجاً وهرعت إليه، فأصبح لا يستطيع كظم ما في نفسه، فتعانقنا وامتزجت دموعنا. قلت له باكياً: «أكتب رسالة إلى الإمبراطورة جوزفين». فارتعش نابليون، وفكر لحظة، ثم قال يجيبني: (القل ذكرتني بالقلب الثالث الذي يحبني. شكراً يا صديقي!». وكتب على الفور رسالة إلى جوزفين حملها كونستان في الغداة.
قال الأمير:
– أحسنت جداً. فإنك، في وسط الأفكار السيئة التي كانت تغزوه وتحاصر نفسه قد أيقظت في قلبه عاطفة جميلة نبيلة.
هتف الجنرال يقول متحمساً:
– تماماً! ما أحسن تعبيرك عن هذا وأنت تستسلم لاندفاعات قلبك!
والأمر الغريب أن دموعاً قد انبجست من عينيه حقاً حينذاك. وتابع كلامه يقول:
– نعم يا أمير، كانت لذلك المشهد عظمته. هل تعلم أنني أوشكت أن أصحبه إلى باريس؟ ولو فعلت ذلك لتبعته حتماً إلى «منفاه في الجزيرة المدارية» . ولكن مصيرينا كانا مفترقين، وا أسفاه! فانفصلنا، فأما هو فرحل إلى تلك الجزيرة المدارية التي لعله تذكر فيها، أثناء لحظة من لحظات حزن قاس وألم ممض، دموع ذلك الفتى المسكين الذي عانقه وسامحه بموسكو؛ وأما أنا فأُرسلت إلى مدرسة الضباط الفتيان حيث لم أجد إلا نظاماً قاسياً ورفاقاً غلاظاً... وا أسفاه!... وانهار كل شيء بعد ذلك!...
«لقد قال لي نابوليون في يوم الانسحاب: «لا أريد أن أنتزعك من أمك لأصطحبك. لكنني أتمنى أن أفعل شيئاً لك». وكان قد امتطى صهوة جواده. فقلت له خجلان: «اكتب لي كلمةً في ألبوم أختي للذكرى»؛ ذلك أنه كان مظلم الوجه شديد الاضطراب. فعاد أدراجه، وطلب مني قلماً، وتناول الألبوم، وقال يسألني ممسكاً بالقلم: «كم عمر أختك؟» فأجبته: «ثلاث سنين» فقال: «هي إذن بنت صغيرة ». وكتب على الألبوم:
إياك والكذاب
صديقك المخلص، نابوليون.
أرأيت يا أمير؟ نصيحة كهذه النصيحة، في لحظة كتلك اللحظة... ما رأيك؟
قال الأمير:
– نعم... لهذا دلالته البليغة!..
– وقد وضعنا تلك الورقة في الألبوم وراء زجاج في إطار. واحتفظت بها أختي طوال حياتها في صالونها، معلقة إياها في أكرم مكان من منزلها. وماتت أختي أثناء ولادة... ومنذ ذلك الحين لا أدري ماذا حل بتلك الورقة... ولا أين صارت!... ياه!... الساعة الآن هي الثانية!... لقد احتجزتك مدة طويلة يا أمير! ذلك أمر لا يُغتفر.
تمتم الأمير يقول:
– بالعكس... لقد أسرت لبّي... و... وإن لما رويته لقيمة كبيرة، فأنا ممتنّ أشد الامتنان.
مرةً أخرى شدّ الجنرال على يد الأمير شدّا قويًا إلى حد الإيلام. وحدّق إليه بعينين ساطعتين ووجه إنسان ثاب إلى نفسه فجأة وومضت في رأسه فكرة مباغتة. قال:
– يا أمير، إنك تبلغ من طيبة القلب وبساطة العقل أنني أشفق عليك في بعض الأحيان. أنني أتأملك بعاطفة وحنان. أسأل الله أن يباركك! إنني أتمنى لك أن تبدأ حياتك أخيراً وأن تزدهر.. في الحب. أما حياتي أنا فقد انتهت!... آه... مغفرة! مغفرة.
وأسرع يخرج مخفياً وجهه في يديه.
لم يستطع الأمير أن يشك في صدق انفعال الجنرال. وقد أدرك أيضاً أن الشيخ انصرف منتشياً بما حقق من نجاح. ولكنه كان يحس إحساساً غامضاً بأنه إزاء واحد من أولئك المتشدّقين الذين يبلغون من تلذذهم بكذبهم أنهم ينسون أنفسهم ولكنهم يظلون مع ذلك في أشد حالات نشوتهم يشعرون شعورًا صميمًا بأن الناس لا يصدقونهم ولا يمكن أن يصدقوهم. لقد كان الشيخ، وهو في مثل تلك الحالة النفسية، يمكن أن يعود إلى نفسه وأن يثوب إلى رشده بعد تلك النوبة من نوبات الكذب الذي لا حياء فيه، فيشعر بأنه قد أُهين إذا هو تصور أن الأمير أحسن نحوه بشفقة شديدة. لذلك تساءل الأمير قلقاً: «ألم أرتكب خطاً حين تركت له أن يتحمّس ذلك التحمّس وأن يندفع ذلك الاندفاع؟». وما هي إلا لحظة حتى انطلق الأمير يضحك على حين فجأة ضحكاً استمر عشر دقائق. وأوشك بعد ذلك أن يلوم نفسه على ذلك المرح الشديد والضحك القوي، لكنه عدل عن رأيه وأدرك أنه ما ينبغي له أن يؤاخذ نفسه على شيء، ما دام يحمل للجنرال ذلك العطف كله وتلك الشفقة كلها.
وقد صدقت تنبؤاته. ففي ذلك المساء تلقّى من الجنرال بطاقة غريبة هي رسالة مقتضبة لكنها جازمة، فيها يعلن له الجنرال أنه يقطع صلته به إلى الأبد، فهو ما يزال يضمر له الاعتبار والشكر، ولكنه يرفض من جهته أن يقبل «تلك الشفقة التي تقتل كرامة إنسان عانى حتى الآن من صنوف الخطوب وأنواع المحن ما يكفيه».
حين علم الأمير أن الجنرال أصبح يعيش معتكفاً عند نينا ألكسندروفنا زال قلقه عليه تقريباً. ولكن الجنرال، كما أسلفنا، مضى يثير جُرْصة عند إليزابت بروكوفيفنا. إننا لا نستطيع أن نروي هنا تفاصيل ما وقع وحسبنا أن نشير بكلمتين إلى موضوع الحديث الذي جرى بينهما. إن إليزابت بروكوفيفنا، بعد أن روّعتها ثرثرات الجنرال التي تشبه أن تكون هذياناً، قد استبد بها استياء قوي حين سمعته يبدي آراء شديدة المرارة في حق جانيا. فلم يكن منها إلا أن أمرت بإخراجه من البيت مطروداً مجلّلاً بالعار. لذلك قضى الليل كله والصباح مهتاجاً اهتياجاً بلغ من الشدّة أنه فقد كل سيطرة على نفسه فإذا هو يندفع في الشارع أخيراً كأنما أصابه جنون.
كان كوليا لا يدرك ما يجري إلا بعض الإدراك، وكان لا يزال يأمل أن يؤثّر في أبيه فيجعله يخجل. قال له:
– هيه! أين سنطوّف الآن؟ ما رأيك يا جنرال؟ ألا تريد أن تذهب إلى الأمير؟ لقد حدث شقاق بينك وبين ليبديف. وليس معك مال وأنا لا يكون معي مال أبداً. وها نحن في وسط الشارع نخبط خبط عشواء!
قال الجنرال مدمدماً:
– لأن يكون المرء مع نساء، خير من أن يخبط هنا وهناك خبط عشواء. لقد كفلت لي هذه القافية نجاحاً قوياً... في نادي الضباط سنة 44... نعم سنة ألف وثمانمائة.. وأربع أربعين!.. أصبحت لا أتذكر على وجه الدقة... آه.. أنني لا أتذكر.. لا أتذكر.. لا تحدثني في هذا الأمر... «أين شبابي؟ أين شبابي؟ أين نضارتي؟» كما كان يهتف... من الذي كان يهتف بهذا يا كوليا؟
– نعم... هذه كلمات مستمدّة من كتاب جوجول «النفوس الميتة» يا أبتِ.
بهذا أجاب كوليا وهو يرمق أباه بنظرة سريعة قلقة.
قال الجنرال:
– النفوس الميتة؟ آ... نعم.. الميتة!... حين ستدفنونني، اكتب على قبري: «هنا ترقد نفس ميتة!».
– «العار يلاحقني في كل مكان»، من قال هذا يا كوليا؟
– لا أعرف يا أبتاه!
– ياروبياجوف لم يوجد! ياروشكا روبياجوف!..
كذلك صاح يقول الجنرال بلهجة حانقة وهو يقف في وسط الشارع. وتابع كلامه قائلا:
– إن ابني، ابني نفسه هو الذي يكذّبني هذا التكذيب. ياروبياجوف الذي ظل لي أخاً حقاً خلال أحد عشر شهراً، والذي من أجله خضت تلك المبارزة.. لقد قال له رئيسنا الأمير فيجورتسكي، ذات يوم، بينما كنا نشرب: «اسمع أنت يا جريشا! وددت لو أعرف من أين حصلت على صليبك، صليب القدّيسة آنا؟» فأجابه قائلاً: «من ساحات معارك وطني إنما حصلت عليه!». وهتفت أنا أقول: (مرحى يا جريشا!». فكان ذلك سبب مبارزة. ثم تزوج.. ماريا بتروفنا... سوتوجين، وقُتل بعد ذلك في ميدان القتال. لقد وثبت رصاصة عن الصليب الذي كنت أحمله على صدري، وثبت إلى جبينه فقتلته. وهتف قائلاً قبل أن يموت: «لن أنسى أبداً» ثم سقط ميتاً. إنني خدمت.. خدمت وطني بشرف يا كوليا، خدمت وطني بنبل وإخلاص.. ولكن «العار يطاردني في كل مكان!». ستأتيان أنت وأمك إلى قبري... «نينا المسكينة»، كذلك كنت أسميها في الماضي يا كوليا، منذ زمن طويل، في الآونة الأولى، وكان ذلك يسرّها... نينا! نينا! ماذا صنعت بحياتك؟ كيف يمكنك أن تحبيني، أيتها النفس الصابرة المذعنة؟ إن أمك لها نفس ملاك يا كوليا. هل تسمعني؟ إن لها نفس ملاك!
– أعرف هذا يا بابا! حبيبي بابا! فلنعد إلى البيت، إلى ماما. لقد أرادت أن تركض وراءنا. لماذا تتردد؟ كأنك لا تدرك... كفى يا بابا! لماذا تبكي؟
وكان كوليا نفسه يبكي ويلثم يدي أبيه.
قال له أبوه:
– أتلثم يدي أنا؟
– نعم، يديك أنت، يديك أنت! أفي هذا ما يدهش؟ كفى، كفى! ما بالك تبكي في وسط الشارع، أنت الجنرال، أنت المقاتل، أنت رجل الحرب؟ تعال!
– بارك الله فيك يا بني الصغير، لأنك ما تزال تحترم أباك الشيخ الساقط، رغم العار، رغم العار الذي يجلله! أسأل الله أن يجعل لك ولداً مثلك.. «ملك روما» ... آه... «ألا فتحل لعنة الله على هذا المنزل!...».
صاح كوليا مندفعاً يقول:
– ولكن ماذا جرى؟ ماذا حدث؟ لماذا أصبحت لا تريد أن تعود إلى البيت؟ هل فقدت عقلك؟
– سوف أشرح لك، سوف أشرح لك... سوف أقول لك كل شيء.. لا تصرخ، وإلا سمعنا الناس... «ملك روما».. أواه! إنني أحس باشمئزاز وحزن.
«أين قبرك يا من أرضعتني؟».
من قائل هذا يا كوليا؟
– لا أعرف من ذا الذي أمكن أن يقول هذا الكلام. فلنذهب فوراً إلى البيت، فوراً! لأقطعنّ جانيا إرباً إرباً إذا لزم الأمر... ولكن إلى أين تمضي أيضاً؟
كان الجنرال يجرّه نحو درجات مدخل منزل مجاور.
– إلى أين تذهب؟ ليس هذا البيت بيتنا!
كان الجنرال قد جلس على درجات المدخل جاذباً إليه كوليا من يده، ودمدم يقول له:
– انحن عليّ، انحن عليّ... سأقول لك كل شيء.. سأشرح لك عاري.. مِلْ عليّ... اصغ بسمعك إليّ... سأقول لك ذلك في أذنيك.
صاح كوليا يقول مرتاعا، ولكنه يصيخ بسمعه مع ذلك:
– ماذا أصابك؟ ما الذي حل بك؟
قال الجنرال مدمدماً وهو يرتجف ارتجافاً شديداً:
– «ملك روما»...
– ما هذا الذي تقول؟ ماذا دهاك حتى أخذت تتحدث عن ملك روما طول الوقت؟.. ما معنى هذا؟
عاد الجنرال يتمتم قائلاً وهو يتشبث بكتف «صغيره» مزيداً من التشبث:
– أ... أ.. أريد.. أريد أن أقول لك كل شيء.. ماريا.. ماريا... بتروفنا.. سو.. سو.. سو.
تخلص كوليا من عناقه وأمسكه من كتفيه ونظر إليه مشدوهاً. كان العجوز قد احمرّ وجهه احمراراً شديداً، وازرقت شفتاه وأخذت تلم بوجهه تشنجات خفيفة. وتهاوى فجأة متهالكاً على ذراعي كوليا برفق.
فأعول كوليا صارخاً في اتجاه الشارع:
– سكتة قلبية.
لقد أدرك الواقع أخيراً..
الفصل الخامس
الواقع أن باربارا آرداليونوفنا، حين حدثت أخاها، قد بالغت بعض المبالغة في ادعاء صحة ودقة المعلومات التي توافرت لديها عن خطبة الأمير وآجلايا إيبانتشينا. من الجائز أيضاً أن تكون من شدّة حسرتها على تبدد حلم ساورها (حلم لعلها لم تصدقه هي نفسها في يوم من الأيام) لم تستطع أن تمنع نفسها عن التمتع بتلك اللذة التي يستطيبها الطبع البشري وهي لذة تضخيم الشقاء الذي ألمّ والكارثة التي نزلت، وأن تسكب في قلب أخيها قطرة جديدة من مرارة. ومهما يكن من أمر، فإنها ما كانت لتستطيع أن تحصل من صديقاتها، الآنسات إيبانتشين، على معلومات تبلغ ذلك المبلغ من الوضوح والدقة. فإن الأمر قد اقتصر على إشارات، وجمل ناقصة لم تكتمل، ووقفات عن الكلام وصمت وألغاز وأسرار. من الجائز كذلك أن تكون أختا آجلايا قد اندفعتا متعمّدتين في البوح ببعض الأمور بغية أن تستدرجا باربارا آرداليونوفنا إلى الكلام وأن تستخرجا منها شيئاً. وليس بالمستبعد على كل حال أن تكونا قد انقادتا لتلك اللذة التي يستطيبها طبع النساء فناكدتا صديقتهما قليلاً رغم أنها من صديقات طفولتهما حقاً. فلا بد أنهما قد أدركتا، بعد كل ذلك الوقت، الهدف الذي كانت تسعى إليه المرأة الشابة، أو بعض هذا الهدف على الأقل.
ومن جهة أخرى، فلعل الأمير قد أخطأ هو نفسه، ولو عن سلامة نية، حين زعم ليبديف أنه ليس ثمة ما ينقله إليه أو يبلغه إياه وأن حياته لم يطرأ عليها أي شيء خاص. الواقع أن كل واحد كان إزاء ظاهرة غريبة. لا شيء حدث فعلاً، ولكن جميع الأمور تجري كما لو كان قد حدث أمر هام جداً. ذلك ما حزرته باربارا آرداليونوفنا بما تملك من غريزة المرأة وصدق حدسها الذي لا يخطئ.
من الصعب جدا مع ذلك أن نعرض عرضاً منطقياً كيف أدرك جميع أفراد أسرة إيبانتشين، في وقت واحد، أن حدثاً هاماً قد طرأ على حياة آجلايا، حدثاً سيقرر مصيرها. ولكنهم، منذ أن قامت هذه الفكرة في أذهانهم، قد أحسوا جميعاً، على الفور، أنهم كانوا قد توقّعوا هذا الأمر بل تنبأوا تنبؤاً واضحاً بهذا الاحتمال الذي أصبح جليا منذ حادثة «الفارس الفقير»، وربما قبل ذلك؛ غير أنهم كانوا يرفضون في ذلك الأوان أن يصدقوا سخافة كهذه السخافة.
ذلك ما كانت تؤكده أختا آجلايا. وطبيعي أن إليزابت بروكوفيفنا كانت قد تنبأت بكل شيء وفهمت كل شيء قبل غيرها، «حتى أن قلبها شعر من ذلك بألم شديد»، ولكن سواء أكان ذلك الإدراك النافذ قد تأتى لها منذ مدة طويلة أم قصيرة، فإن الأمير قد أصبح لا يوقظ في ذهنها إلا فكرة منفّرة غير محببة، لأنها فكرة تحيّر عقلها. كان هناك سؤال يقتضي حلاً على الفور. ولكن المسكينة إليزابت بروكوفيفنا لم تكن عاجزة عن حل هذا السؤال حلاً حاسماً فحسب بل كانت عاجزة كذلك حتى عن طرحه على نفسها طرحاً واضحاً. إن الأمر حرج دقيق: «هل الأمير زوج مناسب للفتاة أم لا؟ هل هذا حسن أم سيئ؟ وإذا كان سيئاً (وذلك ما كان يبدو ثابتا لا سبيل إلى الشك فيه) فلماذا هو سيئ؟ وإذا كان حسناً (وهذا يبدو ممكناً كذلك) فما هو الأساس الذي يمكن بناء هذا الحكم عليه؟».
أما رب الأسرة، إيفان فيدوروفتش، فقد أظهر دهشته في أول الأمر طبعاً، ثم اعترف يقول إنه «في الحقيقة قد اشتبه هو أيضاً في المسألة وإنه كان يحسّ أن هناك شيئاً ما، طوال تلك المدة، ولو من حين إلى حين أو بين الفينة والفينة!». وإذ شعر بثقل نظرة قاسية كانت زوجته تلقيها عليه، سكت عن الكلام ولم يزد شيئاً. ولكن ذلك لم يدم إلا نهاراً، ذلك أنه إذا خلا إلى امرأته في المساء ورأى نفسه مضطراً إلى أن يتكلم، عزم على أن يشرح ما بنفسه، وتجرأ فأبدى آراء لم تكن متوقعة. قال: «ما هو الأمر في الواقع؟... (برهة صمت)... لا شك أن هذا كله عجيب غريب إذا صحّ أنه صادق فعلاً.. (برهة صمت أخرى)... ومن جهة ثانية، إذا نظرنا إلى الأمور نظرة سليمة وواجهناها مواجهة صحيحة، رأينا أن الأمير فتى طيب جداً، والله!... ثم... ثم.. إنه يحمل اسماً ينتمي إلى أسرتنا. وذلك كله من شأنه... أن يعلي مقام اسمنا في المجتمع... من وجهة نظر المجتمع. طبعاً... لأن.. على كل حال. المجتمع هو المجتمع!... ثم إن الأمير، مهما يكن من أمر، يملك ثروة، وإن لم تكن ثروة طائلة... إنه... و... و...».
هنا نضبت بلاغة إيفان فيدوروفتش ونفدت فصاحته، فسكت عن الكلام.
وثارت ثائرة إليزابت بروكوفيفنا وخرجت عن طورها إذ رأت زوجها ينظر إلى الأمور هذه النظرة. كان رأيها أن كل ما جرى إنما هو «حماقة لا تغتفر، بل حماقة مجرمة، بل خيالات سخيفة دنيئة». فمن جهة أولى يجب أن نتذكر أن هذا «الأمير الصغير رجل مريض، رجل أبله. ويجب أن نتذكر من جهة ثانية أنه إنسان غبي لا يعرف المجتمع ولا يستطيع أن يكون له فيه مكان: لمن نقدّمه؟ إلى أين ندخله؟ هذا شخص ديموقراطي غير لائق، محروم من كل رتبة طبقية... ثم... ثم... ما عسى تقول بيلوكونسكايا؟ أهذا هو الزوج الذي حلمنا به لابنتا آجلايا؟».
وكانت هذه الحجة الأخيرة قاطعة دامغة بطبيعة الحال. لقد كان قلب الأم ينزف ويرتعش حين تخطر ببالها هذه الفكرة التي تستهطل دموع عينيها، غير أن ذلك القلب نفسه، كان يصعد منه، في اللحظة نفسها، صوت يسألها: «في أي شيء لا يستحق الأمير أن يكون الصهر المنشود؟» كانت اعتراضات ضميرها نفسه هي التي تبث في إليزابت بروكوفيفنا أكبر الهم وأشدّ القلق.
أما أختا آجلايا فكانتا لا تنظران إلى زواج آجلايا بالأمير نظرة سيئة، حتى لقد كانتا لا تريان فيه أية غرابة. الخلاصة أنهما كان يمكن أن تنحازا إلى تأييد هذا الزواج انحيازاً مباغتاً لولا أنهما عاهدتا نفسيهما على التزام الصمت. يجب أن نذكر أن المحيطين بإليزابت بروكوفيفنا كانوا قد لاحظوا منذ زمن طويل إنها على قدر إصرارها وعنادها وحماستها في محاربة مشروع من المشروعات العائلية التي يجري حولها نقاش، يكون اقتناعها في كثير من الأحيان بصواب هذا المشروع.
وكان لا يمكن إعفاء ألكسندرا إيفانوفنا من أن تقول شيئاً. لقد ألفت أمها منذ مدة طويلة أن تستشيرها وتستنصحها، فها هي ذي ما تنفك تستوضحها رأيها، وتسألها عن ذكرياتها خاصة: «كيف جرت الأمور حتى وصلت إلى ما وصلت إليه؟ لماذا لم يلاحظ أحد ما شيئا من قبل؟ كيف لم يجر كلام حول هذا الموضوع؟ ماذا كانت تعني تلك المزحة الدنيئة عن «الفارس الفقير»؟ لماذا قُضي عليها، هي إليزابت بروكوفيفنا، أن تنفرد بحمل الهم عن الجميع، أن تلاحظ كل شيء، وأن تدرك كل شيء، بينما لا يزيد الآخرون على أن ينظروا إلى الأمور بغير اكتراث؟». إلخ إلخ إلخ...
استمرت ألكسندرا إيفانوفنا على تحفظها في أول الأمر، واكتفت بأن ذكرت أنها توافق أباها على رأيه في أن زواج أمير من أسرة ميشكين وآنسة من آل إيبانتشين أمر يمكن أن ينظر إليه المجتمع نظرة احترام كبير؛ ثم تشجعت شيئاً فشيئاً وتجاسرت فأضافت إلى ذلك أن الأمير ليس رجلاً «محدود العقل» ولا كان محدود العقل في يوم من الأيام، أما عن وضعه الاجتماعي فلا أحد يستطيع الآن أن يعرف الأسس التي قد يبني عليها المجتمع، بعد بضع سنين، رأيه في قيمة رجل من الرجال في روسيا، لا ولا يستطيع أحد أن يعرف هل ستقاس قيمة الرجل في المستقبل بما يحققه من نجاح في وظيفة رسمية أم هي ستقاس بمقياس آخر. فسرعان ما أجابت الأم غاضبة بأن ألكسندرا فتاة «تحررية»، وأن الذنب في ذلك كله إنما هو ذنب تلك القضية المشؤومة التي يسمونها «قضية المرأة». وما انقضى نصف ساعة حتى مضت إليزابت بروكوفيفنا إلى المدينة، ومنها ذهبت إلى كامني أوستروف لترى بيلوكونسكايا التي كانت قد وصلت إلى بطرسبرج منذ برهة وجيزة ولكنها لا تنوي أن تمكث فيها إلا وقتاً قصيراً. لقد كانت الأميرة بيلوكونسكايا عرّابة آجلايا.
أصغت «السيدة العجوز» إلى جميع مسارّات إليزابت بروكوفيفنا، المحمومة اليائسة، ولكنها بدلاً من أن تؤثر فيها تلك الدموع السخينة التي ذرفتها. الأم الحزينة، وتلك المخاوف الشديدة التي عبّرت عنها الزائرة اليائسة، لم تزد على أن ألقت نظرة ساخرة مستهزئة. لقد كانت الأميرة بيلوكونسكايا تتصف باستبداد واضح وطغيان قوي. وكانت ترفض أن تساوى بينها وبين الأشخاص الذين تربطها بهم ولو صداقة قديمة. وكانت تتعمد أن تعامل إليزابت بروكوفيفنا معاملتها لامرأة هي «حاميتها»، كما كانت تفعل ذلك قبل خمسة وثلاثين عاماً، ولا تستطيع أن تألف ما تبديه هذه من أوضاع فيها اندفاع واستقلال. وقد لاحظت، فيما لاحظت، أن «هاته السيدات يضخّمن الأمور دائماً، فيجعلن من الذبابة فيلاً ويتصورن الحبّة قبة». إن ما سمعته الآن من إليزابت بروكوفيفنا لا يكفي لإقناعها بأن حادثاً هامًا خطير الشأن قد حدث فعلاً. أليس من الأفضل للمرء أن يصبر وينتظر فيرى ما يجيء به المستقبل؟ وكان من رأيها أن الأمير «شاب لائق، وإن يكن مريضاً وخياليًّا وتافهاً إلى أقصى حدود التفاهة؛ وأنكى ما في الأمر أنه يعول خليلة». أدركت أوجين بافلوفتش حق الإدراك أن الأميرة بيلوكونسكايا كانت متألمة من الإخفاق الذي مُني به أوجين بافلوفتش رغم أنها زكته وأوصت به خيراً.
عادت إليزابت بروكوفيفنا إلى بافلوفسك وهي أشد حنقاً وأقوى اهتياجاً منها حين تركتها، وسرعان ما أظهرت ذلك لذويها حين قالت لهم: «إنهم قد فقدوا عقولهم»، وإن أحداً لا يسيّر أموره بهذه الطريقة، وإن ما تراه لا وجود له إلا في بيتها. «لماذا هذا التعجّل! ماذا جرى؟ إنني، مهما أبحث، لا أجد أي سبب يدعو إلى أن نظن أن شيئاً قد وقع بالفعل! فاصبروا وانتظروا فتروا الأحداث بالأعين! إن أشياء كثيرة يمكن أن تخطر ببال إيفان فيدروفتش! هل يجب أن نجعل من الذبابة فيلاً وأن نتصوّر الحبة قبة؟» إلخ إلخ إلخ...
وكانت النتيجة هي أن عليهم أن يسكنوا وأن يواجهوا الموقف بهدوء وأن يصبروا. ولكن الهدوء لم يدم عشر دقائق، وا أسفاه! فإن قصة ما جرى في الليلة البارحة، بينما كانت الأم في كامني أوستروف، سبّبت أول إخلال بالقاعدة التي نصحت بها الأم وهي هدوء الأعصاب. (إن زيارة إليزابت بروكوفيفنا للأميرة بيلوكونسكايا قد تمت في الصباح. وفي العشية إنما كان الأمير قد جاء بعد نصف الليل ظانا أن الساعة هي العاشرة). فحين سألت الأم ابنتيها محمومة عن هذا الموضوع، ذكرت لها أختا آجلايا تفاصيل كثيرة. لقد قالتا في أول الأمر «ما من شيء حدث البتة» ثم مضتا تسردان ما وقع. قالتا إن الأمير جاء. فجعلته آجلايا ينتظر نصف ساعة قبل أن تظهر له. ثم ما إن دخلت حتى اقترحت عليه أن يلعبا بالشطرنج. وكان الأمير لا يعرف هذه اللعبة فسرعان ما غُلب. وفاضت نفس آجلايا فرحاً بهذا الانتصار، فعيرته بجهله، وبلغت من الضحك عليه أن منظره أصبح يثير الشفقة. ثم اقترحت عليه أن يلعبا بالورق لعبة «المهبول»، غير أن ما حدث هذه المرة كان نقيض ما حدث قبل ذلك: فإن الأمير كان يجيد هذه اللعبة كما يجيدها.. أستاذ! كان فيها أستاذاً حقاً! وقد لجأت آجلايا إلى الغش والاحتيال فكانت تبدل أوراقها خلسةً، وكانت تسترق النظر إلى أوراقه، ورغم ذلك كله كانت تظل هي «المهبول»... وتكرر هذا خمس مرات أو ستًا. فغضبت آجلايا غضباً شديداً حتى فقدت كل سيطرة لها على نفسها، وأخذت تصب على رأس الأمير ألفاظاً تبلغ من الغلظة والقباحة أنه كف عن الضحك، بل اصفر وجهه اصفرارا شديدا حين سمعها تقول «إنها لن تطأ قدماها هذه الغرفة طالما كان هو فيها، وإن مجيئه إليهن، في منتصف الليل، كان وقاحة منه بعد كل ما جرى» (بالفرنسية). وقد قالت آجلايا هذا الكلام ثم خرجت من الغرفة صافقة وراءها الباب صفقاً أحدث قرقعة شديدة. فانصرف الأمير بوجه كوجه الموتى صفرةً رغم كل ما بذلته الأختان من جهود لملاطفته ومواساته والتسرية عنه.
وبعد انصرافه بربع ساعة عادت آجلايا تنزل من الطابق الأعلى إلى الشرفة فجأة، وقد بلغت من السرعة والعجلة في نزولها أنها لم يتسع وقتها حتى لمسح عينيها اللتين يرى فيهما الناظر آثار دموع. وإنما هرعت هابطة هذا الهبوط السريع لأن كوليا قد جاء ومعه قنفذ. فأخذت البنات جميعاً تنظر في الحيوان الصغير. وسألنه عن القنفذ فقال إنه ليس له بل لرفيقه بالمدرسة كوستيا ليبديف، وإنهما قد اشترياه من فلاح صادفاه، كما اشتريا من هذا الفلاح في الوقت نفسه فأساً. وقد بقي كوستيا في الشارع لأنه لم يجرؤ أن يدخل حاملاً فأسه. وكان الفلاح في أول الأمر لا يريد أن يبيع إلا القنفذ، وقد طلب خمسين كوبكاً ثمناً له، ولكنهما أقنعاه بأن يبيع أيضاً فأسه التي يمكن أن تنفعهما والتي كانت فأساً جيدة كل الجودة على كل حال.
أخذت آجلايا تضرع إلى كوليا أن يبيعها القنفذ فوراً، وبلغت من إلحاحها أنها خاطبته بقولها: «عزيزي كوليا»، وقد قاوم الفتى مدة طويلة، لكنه لم يصمد طويلاً، فنادى كوستيا ليبديف، فصعد هذا حاملاً فأسه بيده، مرتكباً أشدّ الارتباك. وعُلم عندئذ على حين فجأة أن القنفذ ليس لهما، وإنما هو لرفيق ثالث من رفاق المدرسة اسمه بتروف عهد إليهما بمبلغ صغير من المال ليشتريا له به «تاريخ» شلوسر الذي كان رفيق رابع يحاول أن يبيعه بثمن بخس لحاجته إلى المال. فلما مضيا إلى شراء الكتاب استسلما للغواية أثناء الطريق، فاشتريا القنفذ، فهما الآن يأتيان بتروف بالحيوان والفأس بدلاً من أن يأتياه بكتاب التاريخ الذي ألفه شلوسر. لكن آجلايا بلغت من عنادها في الإصرار على أخذ القنفذ إن الصبيين لم يسعهما إلا ينصاعا لها فباعاها القنفذ. فما إن امتلكته حتى وضعته بمساعدة كوليا في سلة مضفورة وغطّته بمنشفة وعهدت إلى تلميذ المدرسة بأن يحمله إلى الأمير على الفور راجية منه أن يقبله «هدية تعبر عن عميق تقديرها له». فقبل كوليا أن يقوم بهذه المهمة مسروراً، ووعد بأن يتولى إنفاذها على أحسن وجه، ولكنه أسرع يسأل آجلايا عما تعنيه هذه الهدية، وإلى أي شيء يرمز القنفذ؛ فأجابته آجلايا بأن هذا ليس من شأنه، فردّ قائلاً إن هدية كهذه الهدية لا بد أن يكون لها دلالة رمزية؛ فغضبت آجلايا وقالت له إنه صبي شقي مغتر، لا أكثر من ذلك. فأجابها قائلاً: لولا أنه يحترم فيها المرأة ولولا أن مبادئه تصده لأراها فوراً كيف يستطيع أن يردّ إهانة كهذه الإهانة. ولكن ذلك لم يمنعه أخيراً من أن يقوم بالمهمة متحمساً، فمضى يحمل القنفذ إلى الأمير ووراءه كوستيا ليبديف. ولم تحقد عليه آجلايا. فحين رأته يهز السلة هزًّا قويًا صاحت تقول له: «أرجوك يا عزيزي كوليا، حذار أن تسقط السلة من يدك!». وكذلك كان شأن كوليا، فإنه هو أيضاً قد نسي أنهما قد تشاجرا منذ قليل، وأسرع يقف ليجيبها متحمساً بقوله: لا، لن أدع السلة تسقط «من يدي يا آجلايا إيفانوفنا. اطمئني بالا!» ثم استأنف سيره بخطى واسعة. وانفجرت آجلايا تضحك، وعادت تصعد إلى غرفتها مشرقة الوجه منبسطة الأسارير، ولبثت على هذه الحال من انشراح المزاج طوال النهار.
هزّت هذه الأنباء إليزابت بروكوفيفنا هزًّا قويًا وبثت في نفسها اضطراباً شديداً. ولم يكن ثمة داع إلى ذلك فيما يبدو. ولكن حالتها النفسية كانت لا تتيح لها أن ترى الأمور رؤية أخرى. لقد بلغ قلقها ذروته. وكان القنفذ هو الذي يذكي هذا القلق خاصة. فوجهت إلى ابنتيها مجموعة أسئلة: ما معنى إرسال القنفذ إلى الأمير؟ أليس هذا إشارة متفقاً عليها؟ أليس اصطلاحاً يضمر معنى خبيئاً؟ فما هو معناه إذن؟ هل هذا نوع من البرقية؟ وقد حضر المسكين إيفان فيدروفتش جلسة مساءلة بنتيه، فلما أدلى بدلوه محاولاً الإجابة، أخرج إليزابت بروكوفيفنا عن طورها فقد قال إن إرسال القنفذ لا يشتمل في رأيه على أية رسالة متفق عليها. ويمكننا أن نقول له إن «القنفذ قنفذ لا أكثر، وقد يرمز إلى الصداقة، أو إلى نسيان الإساءات، أو إلى المصالحة، وليس إرساله، على كل حال، إلا دعابة بريئة».
يجب أن نذكر، عابرين، أن الجنرال كان على صواب. فالأمير قد عاد إلى بيته، بعد أن أهانته آجلايا وطردته، مستسلماً لأعمق اليأس، فلما رأى كوليا على حين فجأة بعد نصف ساعة من حزن شديد وكرب مظلم، أضاءت السماء فوراً أمام عينيه، فكأنه بعث إلى الحياة بعثاً جديداً بعد موت. وأخذ يسائل كوليا متلقّفاً كل كلمة تنفرج عنها شفتا الصبي، مكرراً السؤال الواحد عشر مرات، ضاحكاً كطفل، شادًا على يدي التلميذين في كل لحظة. وكان الصبيان يضحكان هما أيضاً، وينظران إليه فرحين كل الفرح. إن هناك أمراً أصبح ثابتاً محققاً لا مراء فيه: هو أن آجلايا قد صفحت عنه وغفرت له فأصبح في وسعه أن يعود إليها في هذا المساء نفسه. كان هذا هو الأمر الأساسي في نظره، بل كان هذا أكثر من ذلك أيضاً، كان هذا عنده كل شيء!
وصاح يقول أخيراً وهو في ذروة الفرح والنشوة:
– كم نحن أطفال حتى الآن يا كوليا!... و... وما أحسن أن يكون المرء طفلاً!...
فأجابه كوليا بلهجة تعبر عن السلطة والسطوة وخطورة الشأن:
– إنها هائمة بحبك.. ذلك هو الأمر كله يا أمير!
فاحمرّ وجه الأمير، لكنه لم يجب هذه المرة بكلمة واحدة. وأخذ كوليا يضحك صافقاً يديه إحداهما بالأخرى. فما هي إلا لحظة حتى شاركه الأمير مرحه؛ وأخذ، منذ ذلك الحين حتى المساء، ينظر في ساعته كل خمس دقائق ليرى كم مضى من الزمن وكم من الوقت بقي عليه أن ينتظر.
ولنعد إلى إليزابت بروكوفيفنا. لقد تغلّبت حالتها النفسية في تلك اللحظة على كل شيء. أصبحت لا تستطيع السيطرة على نفسها، وأوشكت أن تصيبها نوبة عصبية. وها هي ذي، رغم اعتراضات زوجها وبنتيها، ترسل في طلب آجلايا فوراً لتلقي عليها سؤالاً أخيراً ولتحصل منها على جواب واضح قاطع شافٍ. «يجب أن تفرغ من هذه القضية مرة واحدة، فلا نتكلم عنها بعد اليوم أبداً». قالت ذلك ثم أضافت: «وإلا فلن أظل حية إلى هذا المساء!». وعندئذ إنما أدرك الجميع مدى البلبلة التي بلغتها الأمور. وقد استحال إنطاق آجلايا بكلمة واحدة؛ فإنها لم تزد على أن أظهرت دهشة عميقة، فاستياء شديداً، ثم انفجرت ضاحكة، وتهكمت على الأمير، واستهزأت بجميع الذين كانوا يسألونها.
ومضت إليزابت بروكوفيفنا إلى سريرها لتضطجع قليلاً، ثم لم تعد إلى الظهور إلا ساعة الشاي، في اللحظة التي يُفترض أن الأمير يصل فيها. فكانت ترتعش من شدة الانفعال بانتظار مجيء الأمير، حتى إذا وصل أوشكت أن تصاب بنوبة عصبية.
أما الأمير فقد دخل خائفاً وجلاً، كمن يخطو ملتمساً طريقه في الظلام. وكان يبتسم ابتسامة غريبة وهو ينظر إلى الحضور حتى لكأنه يسألهم لماذا لا يرى آجلايا في الغرفة. لقد دُهش أشد الدهشة حين لاحظ منذ وصوله أن الفتاة غائبة. وكان الجمع لا يضم إلا أهل الدار فما من غريب بينهم. حتى الأمير «شتش...»، كانت قد احتجزته في بطرسبرج أمور نشأت عن وفاة عم أوجين بافلوفتش. وقد أسفت إليزابت بروكوفيفنا على غيابه. «لو كان هنا لوجد شيئاً يقوله حتماً!». وكانت هيئة إيفان فيدروفتش تدل على هم عميق وغم شديد. وكانت أختا آجلايا رصينتين رزينتين تلتزمان الصمت كأنهما تعاهدتا على ذلك.
لم تعرف إليزابت بروكوفيفنا من أي طرف تبدأ الحديث. وها هي ذي تفرغ غضبها فجأة بمناسبة الكلام على السكك الحديدية، وترشق الأمير بنظرة تحمل معنى التحدي.
وا أسفاه! إن آجلايا لم تجئ بعد، فها هو ذا الأمير يحس بأنه ضائع هالك! كان يشعر بارتباك شديد وحيرة بالغة، وحاول بتمتمة مضطربة أن يقول إن إصلاح شبكة السكك الحديدية يمكن أن يكون ذا فائدة كبيرة، ولكن آديلائيد أخذت تضحك على حين فجأة، فإذا هو يرى نفسه أعزل مرة أخرى، فقد انتزع منه هذا الضحك كل سلاح. وفي تلك اللحظة دخلت آجلايا هادئة رصينة وقورة، فردّت على تحية الأمير ردًا فيه أبهة واحتفال. ومضت تجلس ببطء مهيب في أبرز مكان مرموق حول المائدة المستديرة. ثم ألقت على الأمير نظرة مستفهمة سائلة. فأدرك الجميع أن لحظة تبديد جميع أنواع سوء التفاهم قد حانت.
قالت آجلايا تسأل الأمير بلهجة واثقة توشك أن تشتمل على قسوة:
– هل وصلك قنفذي؟
فأجاب الأمير وقد احمر احمراراً شديداً وشعر بانهيار:
– نعم.
– فقل لنا على الفور ماذا ترى في هذا؟ ذلك أمر لا بدّ منه ولا غنى عنه حتى يهدأ بال أمي، وحتى يهدأ بال أسرتنا كلها.
فهتف الجنرال فجأة يقول بقلق:
– آجلايا... ما هذا الكلام؟
وأردفت إليزابت بروكوفيفنا تقول مرتاعة:
– هذا يتجاوز كل حد من الحدود!
فردّت الفتاة على كلام أمها تقول بشيء من الشدّة:
– ليست المسألة مسألة حدود يا ماما. لقد بعثت اليوم إلى الأمير قنفذاً، فأريد الآن أن أعرف ما الذي يراه هو في هذا من رأي. إنني مصغيةٌ إليك يا أمير.
قال الأمير يسألها:
– ماذا تقصدين بكلمة «الرأي» هنا يا آجلايا إيفانوفنا؟
– أقصد رأيك في أمر إرسال القنفذ إليك طبعاً!...
– أنا أقدّر يا آجلايا إيفانوفنا... إنك تريدين أن تعرفي كيف استقبلت أنا فكرة إرسالك القنفذ إليّ... أي كيف نظرت إلى الأمر... أعنى كيف فهمت مسألة إرسال قنفذ... فإذا صدق ظني.. فإنني أفترض.. باختصار..
وانقطعت أنفاسه فصمت.
فاستأنفت آجلايا استجوابها قائلة له بعد خمس ثوان:
– هيه.. ما أراك قلت شيئاً ذا بال!.. طيب... أنا أوافق على أن ندع أمر القنفذ جانبًا. ولكن يسرني ويريحني أن أستطيع أخيرًا أن أضع حدًا لجميع الالتباسات التي تجمّعت حتى الآن وتراكم بعضها فوق بعض. فاسمح لي أن أعرف من فمك أأنت تنوي أن تخطبني للزواج أم لا؟
صاحبت إليزابت بروكوفيفنا تقول:
– آه... رباه!...
وارتعش الأمير. وقام بحركة تقهقر إلى الوراء. وتجمَّد إيفان فيدروفتش شدهاً. وقطبت الأختان حواجبهما.
– لا تكذب يا أمير. قل الحقيقة! إنهم بسببك يصدعونني بأسئلة غريبة. فهل لاستفساراتهم وتحقيقاتهم هذه من أساس تقوم عليه؟ تكلم!
أجاب الأمير وهو يتحمس فجأة:
– أنا لم أطلبك للزواج يا آجلايا إيفانوفنا.. ولكنك... تعرفين بنفسك مدى حبي لك وثقتي بك.. حتى في هذه اللحظة..
قالت آجلايا:
– لقد طرحت عليك سؤالاً: أتخطبني للزواج أم لا؟
فأجاب الأمير بصوت منطفئ:
– بل أخطبك.
قال إيفان فيدروفتش وقد انفعل انفعالاً قويًا:
– ما هكذا تُعالج هذه الأمور يا صديقي العزيز!.. وأنت يا جلاشا إذا كان ما تريدين الوصول إليه هو هذا، فأمرك غريب إذن!... معذرة يا أمير، معذرة يا صديقي العزيز.
ثم أضاف ينادي زوجته مستنجداً بها:
– إليزابت بروكوفيفنا... ينبغي... ينبغي أن نفهم...
فصاحت إليزابت بروكوفيفنا تقول بحركة إنكار:
– أنا أرفض.. أنا أرفض..
– اسمحي لي يا ماما أن أقول كلمتي أنا أيضاً. أعتقد أن لي حقاً في الإدلاء بصوتي في موضوع من هذا النوع: هذه لحظة حاسمة في حياتي (تلك هي الجملة التي قالتها آجلايا بهذه الألفاظ نفسها)، فأريد أن أعرف أنا نفسي أين موقعي؟ ويسرني عدا ذلك أن تكونوا كلكم شهوداً علي... فاسمح لي أن أسألك إذن، يا أمير، ما هي الوسائل التي تنوي أن تحقق لي بها سعادتي «ما دمت قد عقدت العزم على أن تخطبني»؟
قال الأمير:
– الحقيقة أنني لا أعرف بماذا أجيبك يا آجلايا إيفانوفنا!... ما هور الجواب الذي يمكن أن يُجاب به عن هذا السؤال؟ ثم.. أهذا ضروري حقا؟
– إنك تبدو لي مضطرباً مختنق الأنفاس، فاسترح لحظة واسترد قواك: اشرب كأساً من الماء. وسأطلب لك الشاي حالاً.
– أحبك يا آجلايا إيفانوفنا، أحبك كثيراً.. ولا أحب غيرك. لا تمزحي، أرجوك. أنا أحبك كثيراً.
– ولكن القضية قضية هامة. نحن لسنا أطفالاً، ويجب أن ننظر إلى الأمر نظرة وضعية.. هلّا تفضلت فذكرت لنا الآن مقدار الثروة التي تملكها!
تمتم إيفان فيدروفتش يقول مشدوهاً:
– كفى كفى يا آجلايا! ماذا أصابك؟ ما هكذا.. لا... لا.. حقا!...
وهمسات إليزابت بروكوفيفنا تقول بصوت يمكن أن يُسمع:
– يا للعار!
وأضافت ألكسندرا تقول بتلك اللهجة نفسها:
– هي مجنونة.
وسألها الأمير مدهوشاً:
– ثروتي؟ تقصدين المال الذي أملكها؟
– نعم، تماماً.
تمتم الأمير يقول وقد احمر وجهه:
– أملك.. أملك الآن مائة وخمسة وثلاثين ألف روبل..
فقالت آجلايا معبرة عن دهشتها بصراحة دون أن تحمرّ البتة:
– لا أكثر؟ على كل حال، ليس هذا بالأمر الهام كثيراً إذا عرف المرء كيف يقتصد في نفقاته... هل تنوي الحصول على وظيفة؟
– كنت أريد أن أقدم امتحاناً لأصبح معلم أطفال.
– فكرة عظيمة. هذه وسيلة مضمونة لزيادة مواردنا. هل يمكنك أن تصبح من رجال البلاط؟
– من رجال البلاط؟ لم أفكر في هذا من قبل قط، ولكن..
نفدت قدرة الأختين في هذه المرة على كظم ما في نفسيهما فانفجرتا تضحكان ضحكاً تحاولان خنقه. كانت ألكسندرا قد لاحظت منذ مدة، تشنّجاً في وجه آجلايا، وعلامات ضحك تحاول آجلايا حبسه ولكن لن يلبث أن ينطلق انطلاقاً لا سبيل إلى مغالبته. وأرادت آجلايا أن تصطنع هيئة تهديد إزاء ضحك أختيها ولكنها لم تستطع أن تتمالك نفسها ثانية واحدة فاستسلمت لنوبة ضحك مجنون يوشك أن يكون هستيرياً. ثم نهضت في النهاية بوثبة واحدة، وخرجت من الغرفة راكضة.
هتفت آديلائيد تقول:
– كنت أعلم حق العلم أن ذلك كله سينتهي بانفجارات ضحك. لقد تنبأت بذلك منذ البداية، منذ حكاية القنفذ.
فصاحت إليزابت بروكوفيفنا تقول وقد اعترتها نوبة غضب شديد:
– لا، هذا لن أسمح به، لن أسمح به.
واندفعت في أثر آجلايا.
وتبعتها ابنتاها مسرعتين. ولم يبق في الغرفة إلا الأمير ورب الأسرة.
قال الجنرال بغتة، ولكن دون أن يبدو عليه أنه يعرف هو نفسه ماذا يريد أن يقول على وجه الدقة:
– اسمع يا ليون نيقولايفتش، هل كان يمكنك تصوّر شيء كهذا؟ لا، حقا لا... هه؟
أجاب الأمير حزيناً:
– أرى أن آجلايا إيفانوفنا قد سخرت مني وضحكت عليّ.
– انتظر يا صديقي، سأذهب إلى هناك. ابق أنت هنا.. لأن... قل لي أنت على الأقل يا ليون نيقولايفتش كيف وقع ذلك كله وما معنى هذا الأمر في جملته إن صحّ التعبير؟ عليك أن تعترف يا صديقي إنني أنا الأب. ومع ذلك، رغم إنني الأب، فإنني لا أفهم من الأمر شيئاً البتة! فاشرح لي أنت على الأقل!
– إنني أحب آجلايا إيفانوفنا؛ وهي تعرف ذلك.. تعرفه منذ زمن طويل فيما أظن.
رفع الجنرال منكبيه. وقال:
– غريب... غريب!... وهل تحبها كثيراً؟
– أحبها كثيراً.
– غريب. هذا كله يبدو لي غريباً. أقصد.. مفاجأة كهذه المفاجأة... حب مباغت كهذا الحب... اسمع يا صديقي.. أنا ليست الثروة هي التي تهمني (رغم أنني كنت أقدّر أن تكون ثروتك أكبر كثيراً من المبلغ الذي ذكرت)... ولكنني أفكر في مستقبل ابنتي... الخلاصة... هل أنت قادر، إن صحّ التعبير، على أن تحقق لها تلك.. السعادة؟ ثم... ما هو الأمر؟ أمزاحة منها أم تصريح صادق؟ عنك أنت لا أتكلم. ولكن ماذا من جهتها؟
في تلك اللحظة سُمع صوت ألكسندرا إيفانوفنا وراء الباب. كانت الفتاة تنادي أباها:
– انتظرني يا صديقي العزيز، انتظرني. انتظر وفكر، سأرجع حالا.
وركض يلبي نداء ألكسندرا شبه مذعور.
فوجد هنالك امرأته وابنته تذرفان دموعاً غزيرة وقد ارتمت كل منهما بين ذراعي الأخرى. كانت دموعهما دموع سعادة، وحنان، ومصالحة. وكانت آجلايا تقبّل يدي أمها وخديها وشفتيها. كانت المرأتان تحضن كل منهما الأخرى بحرارة.
قالت إليزابت بروكوفيفنا تخاطب زوجها:
– هي ذي يا إيفان فيدروفتش، انظر إليها الآن، إنها هي، إنها هي بكاملها!
حوّلت آجلايا وجهها عن صدر أمها. إنه مبلل بالدموع ولكنه مشرق بالسعادة. نظرت إلى أبيها، وانطلقت تضحك ضحكة رنانة، ثم اندفعت نحوه فاحتضنته بذراعيها احتضاناً شديداً وقبلته عدة مرات. ثم ارتمت على أمها من جديد، فدفنت وجهها في صدرها حتى لا يراه أحد، وعادت تبكي. فغّطتها أمها بطرف شالها.
– هيه! ماذا؟ إنك لتذيقيننا ألواناً من العذاب أيتها البنت الصغيرة القاسية!
كذلك قالت الأم لابنتها، ولكنها قالت هذا الكلام في هذه المرة مع تعبير عن الفرح، حتى لكأنها تتنفس بحرية أكبر.
فصاحت آجلايا تقول فجأة:
– قاسية! نعم، قاسية! أنا فتاة شريرة، طفلة أفسدها الدلال! قولي هذا الكلام لأبي!.. هه... هو ذا هنا. أنت هنا يا بابا؟ هل سمعت؟
بهذا خاطبت أباها ضاحكة من خلال الدموع.
فقال الجنرال وقد أسكرته النشوة وراح يلثم يد ابنته:
– عزيزتي.. معبودتي!! أأنت تحبين إذن هذا.. الفتى؟
فصرخت آجلايا تقول فجأة وهى تنصب رأسها:
– كلا ثم كلا ثم كلا!.. أنا لا أطيقه.. فتاك هذا! لا أطيقه! وإذا تجرأت أن تقول إلى مرة أخرى يا بابا... اعرف إنني أكلمك جادة لا هازلة. هل سمعت؟ إنني أتكلم جادة!
وكانت آجلايا تتكلم جادة بالفعل، حتى لقد كانت محمرّة أشد الاحمرار وكانت عيناها تقدحان شرراً.
صمت الأب مرتاعاً، ولكن إليزابت بروكوفيفنا أومأت له من وراء آجلايا، فأدرك أن تلك الإيماءة تعنى «أن عليه أن لا يسألها عن شيء».
قال:
– إذا كان الأمر كذلك يا ملاكي فليكن ما تشائين. افعلي ما يحلو لك. ولكنه ينتظر هناك وحيداً. أفلا يجب إفهامه بالحسنى واللطف إنه لم يبق له إلا أن ينصرف؟
وأومأ الجنرال لامرأته، وهو أيضاً، بغمزة من عينيه.
قالت الفتاة:
– لا، لا، لا داعي إلى هذا. لا لزوم لاصطناع «اللطف». امض إليه أنت. وسأجيئ بعدك فوراً، سوف أستغفر هذا.. الشاب، لأنني أسأت إليه.
قال إيفان فيدروفتش مزايداً بهيئة جادة رصينة:
– بل أسأت إليه إساءة بالغة.
– إذن.. فابقوا جميعاً هنا. أذهب إليه أنا أولاً، ثم تلحقون بي فوراً، هذا أفضل.
فما إن وصلت إلى الباب حتى استدارت فجأة وقالت لهم بلهجة حزينة:
– أحس أنني سوف أضحك. أحس أنني سوف لن أتمالك نفسي عن الضحك!
ولكنها لم تلبث أن عادت تسعى إلى الأمير راكضة.
سأل إيفان فيدروفتش امرأته متعجلاً:
– هيه؟ على أي شيء يدل هذا؟ ما رأيك؟
فأجابته إليزابت بروكوفيفنا بتلك اللهجة المتعجلة نفسها:
– أخاف أن أقول رأيي. الأمر في نظري واضح.
– وهو واضح في نظري أنا أيضاً. واضح كالنهار. إنها تحب.
– بل قُل إنها مولّهة حبًّا! ولكن ألم يكن في وسعها أن تجد خيرا منه زوجا؟
كذلك قالت ألكسندرا إيفانوفنا.
قالت إليزابت بروكوفيفنا:
– إذا كان هذا هو قدرها فليباركها الله!
قال الجنرال مؤيداً:
– نعم، هذه هي الكلمة: إنه قدرها. ولا مفر للإنسان من قدره!!
وعاد الجميع إلى الصالون حيث كانت تنتظرهم مفاجأة جديدة.
إن آجلايا، حين لقيت الأمير، لم تضحك كما كان تخشى ذلك؛ حتى إنها خاطبته بلهجة تكاد تكون خجلى. قالت له:
– اغفر لفتاة حمقاء طائشة، لطفلة أفسدها الدلال (قالت له ذلك وتناولت يده)، وثق ثقة تامة بأننا جميعاً نحمل لك احتراماً كبيراً. فإذا كنتُ قد سمحت لنفسي بأن أجعل براءتك الطيبة وسذاجتك الكريمة محل استهزاء وتهكم، فاصفح عني ولا تعدّ ذلك مني إلا عبثاً من عبث الأطفال. اغفر لي أنني ألححت على أمر سخيف لا يمكن أن يتحقق طبعاً.
قالت آجلايا هذه الكلمات الأخيرة بنبرة خاصة.
وقد دخل الأب والأم والأختان إلى الصالون في اللحظة المناسبة تماماً، فسمعوا تلك الجملة التي أذهلتهم: «أمر سخيف لا يمكن أن يتحقق طبعاً...». وقد ذُهلوا خاصة من اللهجة الجادة التي قالت آجلايا بها تلك الجملة. فنظرت الأعين إلى الأعين يسأل بعضها بعضاً. ولكن الأمير لم يكن يبدو عليه أنه فهم، وكان مشرق الوجه متهلل الأسارير.
ودمدم يقول:
– لماذا تتكلمين هكذا؟ لماذا.. أنت... تستغفريني؟
حتى لقد أراد أن يضيف إنه ليس جديراً بأن يُستغفر. من يدري؟ لعله كان قد أدرك معنى تلك الجملة: «أمر سخيف لا يمكن أن يتحقق طبعاً». ولكن طبيعة فكره كانت خاصة جداً بحيث أن تلك الكلمات نفسها لعلها غمرته فرحاً. وما من شك في أنه قد بلغ ذروة السعادة منذ قدّر أنه سيكون في وسعه أن يعود فيرى آجلايا، وأنه سيُسمح له بأن يكلمها، وأن يبقى إلى جانبها، وأن يتنزّه في صحبتها. لعل هذا الأمل وحده كان يكفيه لحياته كلها! (ولقد كان يبدو على إليزابت بروكوفيفنا أنها تخشى بغريزتها ذلك الطبع المساير الذي أدركته فيه، فكانت تشعر بمخاوف صميمة ما كان لها أن تستطيع الإفصاح عنها).
يصعب على المرء أن يصف ما أظهره الأمير في ذلك المساء من حرارة وحماسة وتألق وسطوع. لقد بلغ من المرح أن مرحه انتقل إلى أولئك الذين كانوا يرونه. هذا ما قالته أختا آجلايا فيما بعد. لقد كان متدفقاً في الكلام، وذلك أمر لم يحدث له منذ ستة أشهر، أي منذ ذلك الصباح الذي تعرّف فيه إلى آل إيبانتشين. ولقد كان واضحاً إنه منذ عودته إلى بطرسبرج قد قرر عامداً أن ينطوي على نفسه وأن يلتزم الصمت. حتى إنه قبل ذلك المساء بزمن قصير قد قال للأمير «شتش...» على مرأى ومسمع من الجميع إنه يعتقد أن عليه أن يلتزم الصمت، لأنه لا يحق له إفساد الفكر والحطّ من قدره بسوء أسلوبه في التعبير. أما في ذلك المساء فإنه كاد يكون الشخص الوحيد الذي تكلم. كان حاضر البديهة طلق اللسان يجيب عن جميع الأسئلة بوضوح كامل وانشراح تام وإفاضة مسهبة. ومن جهة أخرى، لم يشتمل حديثه على أي شيء يشف عن عواطف حبه. إنه في البداية لم يعبر إلا عن أفكار جدية وآراء رصينة كانت في بعض الأحيان عويصة. وأبدى كذلك ملاحظات شخصية ونظرات خاصة. ولقد كان يمكن أن يكون هذا كله محل هزء وتهكم لولا أن الأمير كان يتكلم «بلغة منتقاة» ويعبر عن فكره بألفاظ مختارة، كما شهد له الحضور بذلك فيما بعد.
ولئن كان الجنرال يحب حديث المواضيع الجدية، فقد وجد هو وإليزابت بروكوفيفنا أن أحاديث الأمير مسرفة في الجد، حتى أن وجهيهما قد تجهّما قبيل نهاية السهرة.
ولكن الأمير قد بلغ من الانتعاش والحميّا أنه أخذ يروي في النهاية حكايات فكهة ونوادر مضحكة كان هو أول من يضحك لها، فيأخذ الآخرون يضحكون لا لأن الحكايات والنوادر مضحكة فحسب، بل كذلك لأن عدوى المرح كانت تسري إليهم منه قويةً لا تغالب.
أما آجلايا فإنها لم يكد يفتر ثغرها عن ابتسامة طوال السهرة. ولكنها في مقابل ذلك لم تنقطع عن الإصغاء إلى الأمير لحظة واحدة وكانت تتأمله بنهم ما ينفك يشتد ويقوى.
قالت إليزابت بروكوفيفنا لزوجها:
– انظر كيف تتأمله! إنها لا تحوّل بصرها عنه لحظة. إنها تشرب كل كلمة من كلماته. إنها كالمفتونة أو كالمسحورة. فإذا قال لها أحد إنها تحبه قلبت الدنيا رأساً على عقب.
أجاب الجنرال قائلاً وهو يرفع منكبيه:
– ما العمل؟ هذا هو القدر!
وظل الجنرال مدة طويلة يكرر هذه الجملة التي كان يحب أن يرددها.
يجب أن نضيف إلى هذا أن الجنرال، من حيث هو رجل أعمال، كان ينظر نظرة عدم الارتياح إلى كثير من جوانب الموقف الراهن، ولا سيما خلوّه من الوضوح. ولكنه كان قد قرر أن يصمت، وأن يفكر في الأمور على نحو ما تفكر.. إليزابت بروكوفيفنا.
لم تدم نشوة الأسرة إلا مدة قصيرة، ففي الغداة وقعت بين آجلايا وبين الأمير مشاجرة جديدة، وتكرر ذلك في كل يوم من الأيام التي تلت. فكانت آجلايا تظل تستهزئ بالأمير وتسخر منه حتى لتكاد تعامله كما يعامل مهرج.
صحيح أنهما كانا في بعض الأحيان يتنزهان في الحديقة تحت العريشة. ولكن لوحظ أن الأمير كان في مثل هذه الأحوال يقرأ لها جريدة أو كتاباً طول الوقت تقريباً.
وبينما كان يقرأ الجريدة ذات يوم، قاطعته قائلة:
– غريب! لقد لاحظت منذ مدة طويلة أن ثقافتك ناقصة نقصاً يدعو إلى الأسف الشديد حقاً؛ فإذا سئلت عن أمر من الأمور عجزت أن تقول ماذا فعلت الشخصية الفلانية، ومتى وقع الحادث الفلاني، وما هو موضوع الكتاب الفلاني. ذلك أمر يدعو إلى الشفقة عليك والرثاء لك فعلاً.
فأجابها الأمير:
– قلت لك إن حظي من التعليم ضئيل.
– فماذا بقي لك إذن؟ أي اعتبار يمكن أن أحمله لك بعد هذا؟ هيا واصل القراءة، بل كفى الآن، توقف عن القراءة.
وفي ذلك المساء نفسه أثارت أزمة جديدة سريعة بدت للجميع لغزاً لا يُفهم. فحين عاد الأمير «شتش...»، أظهرت له كثيراً من المودّة واللطف، وسألته طويلاً عن أوجين بافلوفتش (لم يكن الأمير ليون نيقولايفتش قد وصل بعد). وفجأة أباح الأمير «شتش...» لنفسه أن يلمح إلى «تغير جديد قريب سيحدث في الأسرة»، ذكر فكرة كانت قد أفلتت من إليزابت بروكوفيفنا هي أنه ربما كان من الأفضل إرجاء زواج آديلائيد قليلاً ليتم الاحتفال بالزفافين في آن واحد معاً. فلما سمعت آجلايا هذه الكلمات غضبت غضباً شديداً فظيعاً لا يتصوره الخيال، ووصفت هذا كله بأنه «افتراضات سخيفة»، بل مضت إلى أبعد من ذلك فقالت فيما قالت: «إنها لا تنتوي أن تحل محل خليلات أي إنسان».
فوجئ الجميع بهذه الكلمات، وفوجئ بها الأبوان خاصة. وألحّت إليزابت بروكوفيفنا، أثناء اجتماع سري مع زوجها، على ضرورة أن يُسأل الأمير إيضاحاً حاسماً في أمر ناستاسيا فيليبوفنا.
فحلف إيفان فيدروفتش على أن ما قالته آجلايا لم يكن إلا «اندفاعة» أثارها فيها شعور الحياء و«الخفر»؛ وأن هذه الاندفاعة ما كان لها أن تحدث لولا أن الأمير «شتش...» تكلم عن الزواج، لأن آجلايا تعرف هي نفسها حق المعرفة أن الكلام عن علاقة بين الأمير وناستاسيا فيليبوفنا ليس إلا نميمة كاذبة، وأن ناستاسيا فيليبوفنا ستتزوج روجويين. وأضاف الجنرال إلى ذلك أن الأمير لا شأن له في هذا الموضوع كله، وأن الصلة التي زعم بعضهم أنها قامت بينه وبين ناستاسيا لا وجود لها الآن، بل ولم يكن لها وجود في يوم من الأيام إذا أردنا أن نقول الحقيقة كلها.
أما الأمير فلم يفقد شيئاً من صفاء مزاجه وبهجة نفسه وظل يتمتع بهناءته وسعادته. صحيح أنه كان يلاحظ في بعض الأحيان تعبيراً عن الحزن وعن نفاد الصبر في عيني آجلايا، ولكنه كان يعزو هذا التعبير إلى بواعث أخرى، فكانت هذه السحابة تغيب عن بصره من تلقاء نفسها. كان قد اقتنع فلا يمكن أن يزعزع اقتناعه شيء. ولعله قد بالغ في هدوء البال وطمأنينة النفس؛ وهذا على الأقل ما يشعر به هيبوليت الذي لقيه ذات يوم في الحديقة العامة.
لقد استوقف هيبوليت الأمير يومئذ وبدأ كلامه بأن قال له:
– هيه! ألم أكن على حق يوم قلت لك إنك مولّه حيًّا؟
فمدّ الأمير إليه يده وهنأه على أن وجهه يدل على تحسّن صحته. وكان يبدو على المريض نفسه أنه استردّ بعض أمله وشجاعته، وذلك ما يحدث للمصدورين في كثير من الأحيان.
ولقد كان هيبوليت ينتوي خاصة، حين اقترب من الأمير، أن يقول له كلاماً جارحاً عن هيئة السعادة التي تبدو عليه. ولكنه سرعان ما زايلته هذه الفكرة وأخذ يتكلم عن نفسه، فأفاض في إرسال الشكايات تلو الشكايات متكررة لا نهاية لها ولا اتساق بينها. وختم كلامه قائلاً:
– لا تستطيع أن تتصور مدى ما يتصفون به هناك من شدّة النزق والصغار وسرعة الاهتياج وقوة الأثرة وحب الظهور وتفاهة النفوس. هل تصدق أنهم قبلوا إيوائي على شرط صريح هو أن أموت بأقصى سرعة ممكنة. لذلك تراهم الآن غاضبين غضباً شديداً لأنني لم ألفظ آخر أنفاسي بل تحسنت صحّتي. يا للمهزلة! أراهن على أنك لا تصدّق كلامي!
امتنع الأمير عن الإجابة.
وأضاف هيبوليت يقول بإهمال:
– حتى ليخطر ببالي أحياناً أن أعود أسكن عندك! أنت لا تصدق إذن أنهم لا يتورّعون عن إيواء إنسان بشرط أن لا يتأخر موته، هه؟
قال الأمير:
– كنت أتصور أنهم حين دعوك إليهم كانوا يسعون إلى هدف آخر وينفذون خطة أخرى.
– هئ هئ! ما أنت بالبسيط إلى الحد الذي يحلو للناس أن يزعموه! لم يحن الحين بعد، وإلا لكشفت لك بعض الأمور عن جانيا الصغير هذا وعن الآمال التي تملأ رأسه. إنهم يحاولون نسفك يا أمير. وهم يبذلون في سبيل ذلك جهوداً كبيرة... لذلك يشفق عليك المرء ويرثي لحالك حين يراك تنام نوما هادئا هذا الهدوء.. ولكن من المؤسف أنك لا تستطيع أن تكون غير هذا!
سأله الأمير ضاحكاً:
– أهذا ما يجعلك ترثى لحالي! هل ترى إذن أنني أكون أسعد حالاً إذا كنت أكثر قلقاً؟
– خير للإنسان أن يكون تعيساً و«عارفاً»، من أن يكون سعيداً و... مخدوعاً. يبدو أنك لا تخشى منافسةً من تلك الجهة، هه؟
– إن تلميحاتك إلى المنافسة فيها شيء من الاستهتار يا هيبوليت. يؤسفني أنني لا يحق لي أن أجيبك. أما جبريل آرداليونوفتش، فلا بد أن تسلّم لي بأنه يصعب عليه أن يحافظ على الهدوء بعد كل ما فقد، هذا إذا كنت تعرف شؤونه ولو بعض المعرفة. يخيل إليّ أن من الأفضل أن ينظر إلى الأمور من هذه الزاوية. ما يزال في وسعه أن يصلح نفسه. إن أمامه سنين طويلة، وإن الحياة غنية بالدروس غنًى لا حدود له.. على أن... على أن...
هنا أخذ الأمير يتمتم متلعثماً وقد فقد تسلسل أفكاره فجأة، فقال:
–... أما مسألة نسفي... فإنني لا أفهم حتى ماذا تقصد. الأفضل ترك هذا الحديث يا هيبوليت.
– لنتركه الآن. لا سيما وأنك لا تستطيع أن تستغني عن إظهار كرمك والتدليل على سماحتك. نعم يا أمير، أنت لا بدّ لك من أن تلمس بيدك. وهبك لمست بيدك فإنك لن تصدق. هأ هأ!.. ولكن قل لي: ألا تحتقرني الآن احتقاراً عميقاً؟
– لماذا؟ ألأنك تألمت وتتألم أكثر منا جميعاً؟
– لا، بل لأنني غير جدير بآلامي.
– إن من أمكنه أن يتألم أكثر من الآخرين هو بهذا نفسه جدير بتلك الزيادة من المحن. حين قرأت آجلايا إيفانوفنا اعترافك، تمنّت أن تراك، ولكن..
قاطعه هيبوليت، كأنما ليغير مجرى الحديث بأقصى سرعة، قاطعه قائلاً:
– إنها ترجئ... ذلك مستحيل عليها.. أفهم، أفهم!... بالمناسبة: يقال إنك أنت الذي قرأت لها، بصوت عال، كل تلك الثرثرة المشوّشة المضطربة. الحق أنني كتبت ما كتبت... وفعلت ما فعلت، في نوبة هذيان. إنني لا أتصور كيف يستطيع امرؤ أن يكون – لا أقول قاسياً (فلو قلت ذلك لكنت أذلّ نفسي) بل أقول صبيانياً ومغترًا وحقوداً إلى الحد الذي يمكنه فيه أن يؤاخذني على هذا الاعتراف وأن يستعمله سلاحاً ضدي! لا تخف، فلست أتكلم عنك أنت...
– ولكن يؤسفني أن أراك تتبرأ من تلك الأوراق يا هيبوليت، فإن فيها نبرة صدق واضحة! حتى الفقرات السخيفة منها وهي كثيرة (هنا صعّر هيبوليت وجهه)، إنما يكفّر عنها الألم، لأن الإدلاء بهذه الاعترافات قد أوجب هو نفسه مواجهة الألم أيضاً... ولعله كان فعلاً كبيراً من أفعال البسالة. لا شك أن الفكرة التي انقدت لها كانت تستوحي عاطفة نبيلة، مهما تكن المظاهر. كلما فكرت في هذا مزيداً من التفكير، اقتنعت به مزيداً من الاقتناع، أحلف لك. إنني لا أحكم عليك. إنني أقول لك رأيي؛ ويؤسفني إنني صمتُّ حينذاك...
احمر وجه هيبوليت. وقد خطر بباله في لحظة من اللحظات أن الأمير يهزل، وأنه يمد له شباكاً أو ينصب له فخاً. ولكنه تأمل وجهه فلم يسعه إلا أن يؤمن بأنه صادق مخلص. فعاد الهدوء إلى أسارير وجهه. قال:
– ويجب أن أموت!
وأوشك أن يضيف إلى ذلك قوله: «كيف يجوز أن يموت رجل مثلي؟». لكنه أمسك، وتابع كلامه يقول:
– لا تستطيع أن تتخيل مدى القشعريرة التي يحدثها في نفسي صاحبك جانيا، لقد اعترض عليّ ذات يوم قائلا إن الذين سمعوا اعترافي قد يكون بينهم ثلاثة أو أربعة سيموتون قبلي! يا لها من فكرة! هو يظن أن هذا يعزيني. هأ هأ!... هم أولاً لم يموتوا بعد. ثم هبهم نفقوا قبلي فعلاً، فلا شك أنك تسلّم لي بأن ذلك لا يسرّي عني كثيراً. إنه يقيس الناس بنفسه. على أنه مضى إلى أبعد من ذلك أيضاً. لقد شتمني قائلاً ببساطة: إن على المرء في مثل هذه الحالة، إذا كان يحترم نفسه، أن يموت صامتاً، وأن هذه القضية كلها لا تشتمل من جانبي إلا على أنانية! لقد غلا قليلاً، هه؟ والحق أن الأنانية فيه هو! ما أنعم أنانية أمثال هؤلاء الناس، بل قل ما أكثف أنانية هؤلاء الناس الذين لا يشعرون مع ذلك بأنهم أنانيون!... هل قرأت، يا أمير، شيئاً عن موت رجل اسمه ستيفان جليبوف في القرن الثامن عشر؟ لقد وقع الخبر تحت بصري أمس مصادفة..
– من هو ستيفان جليبوف هذا؟
– هو رجل رفع على الخازوق في عهد بطرس الأكبر.
– آ... رباه! عرفت من هو! لقد ظل الخازوق خمس عشرة ساعة، في برد شديد، لا يغطيه إلا معطف على كتفيه، ثم مات صامداً بقوة نفسية خارقة. نعم قرأت هذا.. ولكن ما الذي تريد أن تقوله؟
– أسأل الله أن يهب لبعض الناس ميتة كتلك الميتة! ولكن أن لا يهبها لنا نحن. أتراك تظن مع ذلك أنني غير قادر على أن أموت كما مات جليبوف؟
قال الأمير مرتبكاً:
– لا، لا، أبداً... كل ما أردت أن أعبر عنه هو أنك.. بل قل إنني لم أرد أن أزعم أنك لا تشبه جليبوف، وإنما أردت أن أشير إلى أنك... في ذلك الزمان يمكن أن...
– حزرت: تريد أن تقول إنني في ذلك الزمان يمكن أن أكون مثل أوسترمان لا مثل جليبوف. أليس هذا ما تريد أن تقوله؟
سأله الأمير مدهوشاً:
– أيّ أوسترمان؟
فتمتم هيبوليت يقول متحيّراً:
– أوسترمان، الدبلوماسي أوسترمان، الذي عاصر بطرس الأكبر.
وتبع ذلك صمت فيه ارتباك.
ثم قال الأمير بلهجة بطيئة بعد لحظة تأمل:
– لا، ليس ذلك ما أردتُ أن أقوله. ليس يخيل إليّ إنه يمكن أن تكون مثل أوسترمان...
اكفهر وجه هيبوليت.
فأسرع الأمير يضيف مستدركاً:
– على كل حال، سأقول لك الآن لماذا قامت في ذهني هذه الفكرة. إن أناس ذلك الزمان (ويميناً أن هذا قد خطف انتباهي دائماً) كانوا يختلفون اختلافاً كبيراً عن أناس الزمن الذي نعيش فيه.لكأنهم كانوا من جنس آخر. نعم، حقاً، لكأنهم ينتمون إلى نوع إنساني غير النوع الذي ننتمي إليه نحن. في ذلك الزمان، كان الإنسان إنسان الفكرة الواحدة إن صح التعبير. أما معاصرونا فلأن أعصابهم أكثر توتراً، ولأنهم أكثر تطوّراً وأشد حساسية فهم يستطيعون أن يتبعوا فكرتين أو ثلاثاً في آن واحد... إن الإنسان الحديث أوسع وأرحب. وإني أؤكد لك أن هذا هو ما يمنعه من أن يكون كتلة واحدة متسقة الجوانب كما كان إنسان القرون الخوالي.. إنني... إنني لم أقل كلامي إلا بهذا المعنى، وليس...
– إنك تحاول الآن أن تعزيني عن معارضتك إياي بتلك السذاجة. هأ هأ!... إنك لطفل تماماً يا أمير! على وجه العموم، ألاحظ أنكم جميعاً تعاملونني كما يعامل فنجان من خزف... لا بأس!... لست أزعل. على كل حال، لقد جرى حديثنا مجرى مضحكاً!... أنت في بعض الأحيان طفل حقاً يا أمير. واعلمْ من جهة أخرى يا أمير إنني كنت أطمع في أن أكون شيئاً أفضل من أوسترمان. لا يستحق العناء أن يُبعث المرء حيا من بين الأموات في سبيل أن يكون رجلاً مثل أوسترمان... وعلى كل حال يجب في رأيي أن أموت بأقصى سرعة ممكنة، وإلا لرأيتني أتمنى أنا نفسي أن.. دعني!... إلى اللقاء! ولكن قل لي: ما هي في رأيك أفضل ميتة؟ أقصد... ما أقرب ميتة إلى الفضيلة في نظرك؟ عجيب! لماذا لا تجيب؟
قال الأمير بصوت عذب:
– مُرّ بقربنا وأنت تغفر لنا سعادتنا!
– هأ هأ هأ! هذا بعينه ما كنت أفكر فيه! لقد توقّعت كلاماً من هذا النوع حتماً! ومع ذلك، فإنك.. فإنك. هيّا... هيّا... طيب! آه! يا للناس البلغاء! إلى اللقاء! إلى اللقاء!
الفصل السادس
إن النبأ الذي نقلته باربارا آرداليونوفنا إلى أخيها كان صحيحاً كل الصحّة: ستقام سهرة في فيلا آل إيبانتشين، ومن المتوقع أن تحضرها الأميرة بيلوكونسكايا. لقد وجهت الدعوات لذلك المساء فعلاً. لكن باربارا تكلمت في الأمر، على عادتها، بحرارة تزيد قليلاً عن الحدّ اللازم. صحيح أن السهرة قد تقررت بسرعة متعجلة، ووسط اضطراب شديد لا محل له. ولكن مردّ ذلك إلى أنه «لا شيء في هذه الأسرة يتم كما يتم في غيرها»؛ وكل شيء يُفسّر بنفاد الصبر لدى إليزابت بروكوفيفنا التي كانت «لا تريد أن تبقى في الشك»، كما يُفسر بما يعانيه الأبوان من قلق وهمّ وخوف على سعادة ابنتهما الحبيبة.
ثم إن الأميرة بيلوكونسكايا كانت على وشك أن تسافر فعلاً؛ وإذ إن لحمايتها وزناً كبيراً في المجتمع، وإذ كان المأمول أن تهتم كثيراً بالأمير، فقد كان الأبوان يعوّلان على ما تنعم به تزكيه «السيدة العجوز» من قدرة كبيرة على فتح أبواب المجتمع الراقي أمام خطيب آجلايا. فإذا كان في هذا الزواج جانب غير طبيعي أو غير عادي كان في وسع الحماية التي تسبغها الأميرة بيلوكونسكايا عليه أن تخفي ذلك الجانب. ولقد كانت عقدة العقد لدى الأبوين إنهما كانا لا يستطيعان أن يفصلا في هذا السؤال: «هل يشتمل هذا الزواج على شيء غير طبيعي، وإلى أي حد؟ أم هو طبيعي جداً فلا غرابة فيه؟». لذلك فإن الرأي الصريح الصديق الذي يمكن أن يقدمه أشخاص لهم قيمتهم وكفاءتهم ووزنهم يمكن أن يكون مواتياً جداً في هذا الأوان الذي لم يُبرم فيه شيء حاسم بعد، بفضل موقف آجلايا.
وعلى كل حال كان لا بد من إدخال الأمير، عاجلاً أو آجلاً، إلى المجتمع الراقي الذي لا يعرف الأمير عنه شيئاً حتى الآن. ففي وسعك أن تقول بتعبير آخر إن المراد كان هو «عرض» الأمير. على أن ذلك لا ينفي أن السهرة ستحتفظ بطابع البساطة، وإنها لن تضم إلا «أصدقاء للأسرة» وعددهم محدود جداً. وإلى جانب الأميرة بيلوكونسكايا كان يؤمل حضور زوجة شخص مرموق هو رجل من كبار أصحاب المناصب العليا. أما بين الشبان فكان لا ينتظر إلا حضور أوجين بافلوفتش الذي كان عليه عند حضوره أن يرافق الأميرة بيلوكونسكايا.
ولقد علم الأمير، قبل ثلاثة أيام، إن هذه السيدة ستجيئ، لكنه لم يسمع عن السهرة إلا قبل موعدها بيوم واحد. وقد لاحظ طبعاً ما كان يبدو على أفراد الأسرة من انشغال، وأدرك من بعض الإشارات أنهم ليسوا واثقين بأنه سيحدث في نفوس الناس أثراً حسناً. ولكن أفراد أسرة إيبانتشين جميعاً كانوا يعدّونه عاجزاً من شدة سذاجته وبساطته عن إدراك أنواع القلق التي يحدثها لهم، لذلك كانوا في قرارة أنفسهم ينظرون إليه شاعرين بغم وخوف.
أما هو فكان لا يكاد يهتم أي اهتمام بهذا الحديث، وكان ما يشغل باله غير هذا تماماً. إن آجلايا تزداد نزقاً وجهامة وتكثر نزواتها ساعة بعد ساعة. فكان ذلك يقتله قتلاً. ولما علم أن أوجين بافلوفتش سيحضر الاستقبال أيضاً، أظهر فرحاً شديداً وقال إنه يود أن يراه منذ مدة طويلة. فإذا بهذه الكلمات، لسبب لم يستطع أن يدركه، تسوء الجميع وتزعجهم. وإذا بآجلايا تخرج من الغرفة غاضبة. وفي وقت متأخر من الليل، بعد الساعة الحادية عشرة، بينما كان الأمير يهم بالانصراف، انتهزت آجلايا هذه الفرصة فأعادته لتقول له بضع كلمات في خلوة:
– أود أن لا تجيء إلينا غداً طوال النهار، وأن لا تظهر إلا في المساء، بعد أن يلتئم شمل جميع المدعوين. هل تعرف أننا نقيم استقبالا؟
قالت آجلايا هذه الكلمات بلهجة فيها تململ وقسوة. هذه أول مرة تشير فيها إلى «السهرة». كانت هي أيضاً تكره فكرة السهرة هذه ولا تكاد تطيقها. لقد لاحظ الجميع ذلك. ولعلها كانت تشعر برغبة مسعورة في أن تختلق مشاجرة مع أبويها في هذه المناسبة، غير أن شعوراً بالكبرياء والحياء صدّها عن ذلك. وقد أدرك الأمير فوراً إنها توجس هي أيضاً بعض المخاوف في شأنه، لكنها لا تريد أن تعترف بالداعي إليها والباعث عليها. وأحسّ هو نفسه فجأة بنوع من الرعب. قال يجيبها:
– نعم، أعلم. إنني مدعو.
وأحست بحرج من المضي إلى أبعد من ذلك.
قالت له وهي تنفجر غاضبة، دون أن تدري لماذا، ولكن دون أن تستطيع السيطرة على نفسها:
– هل يستطيع المرء أن يكلمك جادًا ولو مرة واحدة في حياتك؟
– تستطيعين ذلك. إنني مصغٍ إليك. يسرني هذا.
كذلك تمتم الأمير.
فصمتت آجلايا لحظة، ثم قررت أن تتكلم، ولكن بنفور واضح لا يخفى. قالت:
– لم أشأ أن أناقشهم في هذا الأمر: هناك حالات لا يستطيع المرء فيها أن يُسمعهم صوت العقل. لطالما كرهت بعض القواعد التي تحكم سلوك الناس في المجتمع الراقي والتي تخضع لها ماما بل تُستعبد لها استعباداً. أنا لا أتكلم عن بابا: فإن المرء لا يطالبه بشيء. ولا كذلك ماما، فإن لها خلقا نبيلا وطبعا يتميز بالشهامة حتماً. حاول أن تطلب منها شيئاً دنيئاً فترى! ولكنها تنصاع مع ذلك لهذا المجتمع الدنيء الذي هو المجتمع الراقي!... لا أتكلم عن الأميرة بيلوكونسكايا: فهذه عجوز شريرة وطبيعتها سيئة رديئة؛ ولكنها تملك شكيمة قوية فتعرف كيف تمسكهم جميعاً بيديها. إن لها هذه الخصلة على الأقل!. آه! يا للحطة! والأمر مضحك حقاً: لقد كنا ننتمي دائماً إلى الطبقة المتوسطة، إلى الطبقة المتوسطة تماماً. فما بالنا نريد دفع أنفسنا إلى المجتمع الراقي؟ إن أختيّ تهويان هما أيضاً إلى هذه الآفة. لقد أفسد عقلهما الأمير «شتش...» لماذا سُررْت ذلك السرور كله حين عرفت أن أوجين بافلوفتش آتٍ؟
قال الأمير:
– اسمعي يا آجلايا. يخيل إليّ أنك تخافين كثيراً أن «أتبهدل» غداً.. في ذلك المجتمع؟
قالت آجلايا وقد احمرت احمرارا شديدا:
– أخاف عليك؟ لماذا يجب أن أخاف عليك؟ هل يهمني أنا أن... تتجلل أنت بالخزي؟ ما شأني أنا بهذا؟ ثم كيف يمكنك أن تستعمل مثل هذه التعابير؟ ما معنى كلمة «تبهدل»؟ هذا لفظ منحط عامي مبتذل؟
– كلمة من كلمات... التلاميذ.
– نعم.. كلمة من كلمات التلاميذ. كلمة بشعة. واضح أنك تنوي استعمال ألفاظ من هذا النوع في الحديث غداً. ما عليك إلا أن تبحث في المعجم، متى عدت إلى البيت، عن ألفاظ أخرى من هذا الطراز: إنك بذلك تضمن لنفسك أن تحدث فيّ أثراً رائعاً!... خسارةٌ أنك تجيد الدخول إلى صالون! أين تعلمت هذا؟ هل تستطيع كذلك أن تحسن احتساء فنجان من الشاي حين ينظر الجميع إليك ليروا كيف يمكن أن تفعل ذلك؟
– أحسب أنني أستطيع.
– يؤسفني هذا: لأنه يُفقدني فرصة التندر عليك والضحك منك. حطّم على الأقل إناء الخزف الصيني الموجود في الصالون. إنه غالي الثمن. هلّا سررتني فحطمته؟ إنه هدية؛ حطّمه فتُجن ماما وتطفق تبكي أمام الجميع من شدّة تعلقها به وحرصها عليه. قام بحركة من تلك الحركات المعهودة فيك: اخبط الإناء واكسره. تعمّد أن تجلس قربه.
– بالعكس. سأحاول أن أجلس بعيداً عنه إلى أقصى حد. شكراً على أنك نبّهتني إلى هذا.
– هذا أنت خائف منذ الآن من حركاتك وإشارات يديك الكثيرة! وأراهن على أنك ستختار «موضوعاً»، للحديث تسترسل فيه مطنباً مسهباً.. موضوعاً جدياً، رفيعاً، يتاح لك فيه أن تستعرض معارفك! ما أجمل ذلك!
– أعتقد أن هذا يكون غباءً.. إذا لم يكن في محله ولم يناسب المقام.
قالت أخيراً وقد نفد صبرها:
– اسمع ما سأقوله لك الآن مرة واحدة إلى الأبد: إذا تكلمت في موضوع كموضوع عقوبة الإعدام أو الوضع الاقتصادي في روسيا، أو النظرية القائلة بأن «الجمال سينقذ كل شيء».. فسيسرني هذا، إنه يتيح لي أن أستهزئ وأضحك كثيراً، ولكنني أحذرك منذ الآن: إذا فعلت شيئاً من هذا فلا تظهرن أمامي بعدئذ قط! هل تسمعني؟ إنني أتكلم جادة لا هازلة، إنني أتكلم في هذه المرة جادّة!
وقد قالت هذا التهديد بلهجة «الجد» فعلاً. حتى لقد كان في أقوالها وفي نظرتها تعبير غير معهود لم يسبق للأمير أن لاحظه فيها يوما حتى ذلك الحين ولا يشبه رغبة في مزاح حتما!
– أرى أنك تتصرفين تصرفاً سيجعلني أُصاب قطعاً بنوبة «ثرثرة»... وقد أكسر إناء الخزف أيضاً. منذ قليل كنت غير خائف من شيء، أما الآن فقد أصبحت أخاف كل شيء. أنا الآن على يقين من أنني لن أحدث في نفوس الحضور أثراً حسناً.
– ما عليك إذن إلا أن تصمت. اجلس وابق ساكناً ساكتاً.
– مستحيل. إنني مقتنع بأن الخوف سيدفعني إلى الكلام وسيجعلني أكسر إناء الخزف. وقد تزلّ قدمي فأقع على الأرض أو أرتكب حماقة أخرى من هذا النوع، فقد سبق أن حدث لي ذلك. وسأظل أحلم بهذا طوال الليل. لماذا كلمتني في هذا الأمر؟
نظرت إليه آجلايا مظلمة الوجه.
فقال الأمير بلهجة قاطعة:
– هل تعلمين؟ إنني أفضل أن لا أجيء غداً. أستمرض وكفى!
فضربت آجلايا الأرض بقدمها واصفر وجهها غضباً وقالت:
– رباه! هل رأى أحد شيئاً كهذا في يوم من الأيام؟ يقرر أن لا يجيء بينما السهرة مقامة من أجله هو! آه.. يا رب!... ما أعظمها سعادة أن يعامل المرء رجلاً مثل... أن يعامل المرء رجلاً يبلغ من البعد عن العقل ما يبلغه هذا الرجل..
قاطعها الأمير بقوة قائلاً:
– طيب.. طيب... سأجيء... سأجيء... لك عليّ عهد أن أجيء وأن لا أنطق بكلمة واحدة طوال السهرة. ذلك ما سأفعله.
– وسيكون هذا حسناً جداً. ولكنك قلت منذ برهة: «سأستمرض»، فمن أين تجيئ بأمثال هذه التعابير؟ أأنت تتعمّد تعمّداً أن تكلمني بهذه اللغة؟ إنك تقصد مضايقتي ومناكدتي، أليس كذلك؟
– عفوك. هذه أيضاً كلمة من كلمات التلاميذ! لن أستعملها بعد الآن. أنا أفهم حق الفهم أن تساورك مخاوف في شأني (لا... لا تزعلي)، وهذا يسرّني سروراً عظيماً. إنك لا تستطيعين أن تتصوري مدى ما أشعر به الآن من خوف، ومدى ما تغمرني به كلماتك من فرح. ولكن ذلك الخوف كله لا قيمة له. أؤكد لك إنه سخف. شهد الله يا آجلايا أن الفرح وحده سيبقى. إنني لأحب كثيراً أن أراك طفلة إلى هذا الحد، طفلة تبلغ هذا المبلغ من نبل النفس وطيب القلب! آه يا آجلايا... ما أروعك!
كانت آجلايا على وشك أن تغضب، غير أن عاطفة كانت هي نفسها لا تتوقعها قد اجتاحت كل روحها في تلك اللحظة على حين فجأة. فقالت تسأله بغتة:
– ألن تلومني ذات يوم... في المستقبل.. على هذه الأقوال الفظة التي خاطبتك بها الآن؟
– دعكِ من هذا! ماذا تظنين؟ ولكن ما لي أرى وجهك يصطبغ بالحمرة من جديد؟ هذه نظرتك تعود إلى الإظلام! إنها مظلمة مسرفة في الإظلام أحياناً يا آجلايا! لم تكن لك هذه النظرة في الماضي. إنني أعرف مصدر هذا...
– اسكت.. اسكت..
– بل الأفضل أن أتكلم. إنني أريد أن أفاتحك في هذا الأمر منذ مدة طويلة. وقد سبق أن كلمتك فيه... ولكن ذلك لم يكفي، لأنك لم تصدقيني.. إن هناك شخصا يقف بيننا...
– اسكت. اسكت. اسكت. اسكت!
هكذا قاطعته آجلايا بشدّة، ممسكةٌ ذراعه إمساكاً قوياً عنيفاً، وقد اعتراها نوع من الرعب.
ونوديت في تلك اللحظة، فتركته وولّت هاربة، سعيدة بهذا المخرج.
أصيب الأمير بحمّى طوال الليل. من الغريب أن الحمى أخذت تجتاحه كل ليلة منذ بعض الوقت. وفي هذه المرة وصل إلى حالة قريبة من الهذيان، فكانت تحاصره هذه الفكرة: ماذا لو أصابته نوبة صرع في الغد أمام جميع الضيوف؟ ألم يسبق أن أصيب بنوبات في حالة اليقظة؟ جمدته هذه الفكرة رعبا. وظل طول الليل يرى نفسه في سهرة مدهشة لا مثيل لها وسط أناس غرباء. إن الشيء الأساسي هو أنه أخذ يسهب في الثرثرة. كان يعرف أن عليه أن يصمت، ومع ذلك ظل يتكلم طول الوقت محاولا إجبار سامعيه على شيء ما. وكان أوجين بافلوفتش وهيبوليت بين المدعوين، وكان يبدو أن بينهما علاقة وثيقة حميمة.
واستيقظ بعد الساعة الثامنة على صداع وأفكار مشوشة ومشاعر غريبة. إن رغبة عارمة جامحة لا يعرف لها سبباً معقولاً تستبدّ الآن به، وهي أن يرى روجويين. لماذا؟ ليس يدري. ثم ها هو ذا يقرر أن يذهب إلى هيبوليت دون أن يكون هنالك باعث واضح على ذلك. كان قلبه قد بلغ من الاضطراب إن جميع أحداث هذا الصباح، رغم أنها أحدثت في نفسه أثراً قوياً، لم تستطع أن تستنفد كل انتباهه. ومن بين هذه الأحداث زيارة ليبديف له.
لقد جاء ليبديف في وقت مبكر، بعد الساعة التاسعة بقليل، وكان ثملاً بعض الشيء. كان الأمير قد لاحظ، رغم أنه أصبح في الآونة الأخيرة قليل الانتباه، أن ليبديف صار رث الثياب منذ غادر الجنرال إيفولجين بيته، أي منذ ثلاثة أيام. ذلك أمر يخطف البصر ولا يحتاج إلى ملاحظة قوية. إن ليبديف شديد الوساخة والرثاثة الآن، فملابسه ملطخة بالبقع، ورباط عنقه مقلوب، وياقة ردنجوته فيها تمزقات. وهو يحدث في بيته كثيرا من الصخب والجلبة حتى ليسمع زعيقه من خلال فناء الدار. وقد جاءت فيرا إلى الأمير باكية في ذات يوم، فروت له أموراً شتى.
أخذ ليبديف يتكلم أمام الأمير بلهجة غريبة كل الغرابة، لاطماً صدره متهماً نفسه بفعلة سيئة لا يدري السامع ما عسى تكون... وختم كلامه قائلاً بلهجة المأساة:
– لقد حصل.. وتلقيت جزاء خيانتي وحطّتي... تلقيت صفعة!
قال الأمير:
– صفعة؟ ممن؟.. وفى مثل هذه الساعة المبكرة؟
فأجاب ليبديف وهو يتسم ابتسامة ساخرة:
– في مثل هذه الساعة المبكرة؟ لا شأن للساعة في الأمر.. حتى ولو كانت العقوبة عقوبة جسمية.. ولكنها عقوبة معنوية... عقوبة نفسية لا جسمية، تلك العقوبة التي تلقيتها!...
قال ليبديف ذلك وجلس فجأة دون احتفال في هذه المرة، وأخذ يروي قصته. وإذ كانت القصة مفككة جداً، فقد قطب الأمير حاجبيه وتهيأ للانصراف. غير أن بضع كلمات خطفت انتباهه على حين فجأة، فلبث في مكانه كالمتجمّد من الدهشة.. لقد كان السيد ليبديف يروي أموراً غريبة.
يبدو أنه تكلم في أول الأمر عن رسالة ما، ذكر بصددها اسم آجلايا إيفانوفنا. ثم أخذ، دون أي تمهيد، يتهم الأمير نفسه بألفاظ مُرّة، ويفهمه أن الأمير قد أهانه، لأنه – أي الأمير – قد شرّفه في أول الأمر بأن محضه ثقته في أمور تتعلق «بشخص» ما (يقصد ناستاسيا فيليبوفنا)، ثم قطع صلته به قطعاً كاملاً وأبعده إبعاداً مشينا مهينا، حتى لقد تملص تملصا فظًّا من الإجابة عن «سؤال بريء يتعلق باحتمال حدوث تغير قريب في المنزل». واعترف ليبديف وهو يذرف دموعاً من دموع السكارى أنه بعد تلك الإهانة أصبح لا يطيق الصبر على هذا الوضع، لا سيما وأنه كان يعرف... أشياء كثيرة، من روجويين، ومن ناستاسيا فيليبوفنا، ومن صديقة لها، ومن باربارا آرداليونوفنا... وحتى من.. من آجلايا إيفانوفنا نفسها. «تصور أن هذا حدث بواسطة فيرا، بواسطة ابنتي الحبيبة فيرا، ابنتي الوحيدة.. نعم نعم. على أنها ليست وحيدة، ما دام لي ثلاث بنات. ولكن من ذا الذي كتب إلى إليزابت بروكوفيفنا ليطلعها على الأمور في سرية تامة؟ هئ هئ؛ من أعلمها بجميع الوقائع والحركات... المتعلقة بناستاسيا فيليبوفنا؟ هئ هئ هئ! من هو ذلك المراسل الذي لم يرسل اسمه، هه؟ هلّا قلت لي إن كنت تعرف!..».
صاح الأمير قائلاً:
– هل يمكن أن تكون أنت...؟
فأجابه ليبديف برصانة السكير وكبريائه:
– نعم أنا! وفي هذا اليوم نفسه، في الساعة الثامنة والنصف، أي منذ نصف ساعة... لا بل منذ ثلاثة أرباع الساعة، أبلغت تلك الأم النبيلة جداً أن هناك مغامرة.. ذات دلالة. أبلغتها ذلك ببطاقة نقلتها إليها الخادمة من باب الخدم. فاستقبلتني.
سأله الأمير وهو لا يصدق أذنيه:
– رأيت إليزابت بروكوفيفنا منذ قليل؟
– رأيتها منذ برهة، وتلقّيت منها صفعة.. صفعة معنوية طبعاً. فلقد ردّت إليّ الرسالة بل لقد رمتها في وجهي دون أن تفضها ثم أمسكت تلابيبي وأخرجتني من الغرفة.. معنوياً لا جسمياً... على أنها أوشكت أن تفعل ذلك جسمياً!
– ما هي تلك الرسالة التي رمتها في وجهك دون أن تفضها؟
– ولكن أأنا لم.. هئ هئ هئ! كيف لم أقل لك ذلك بعد؟ يبدو لي أنني ذكرت لك هذا من قبل.. المسألة هي أنني كنت قد استلمت رسالة لأوصلها إلى المرسلة إليه..
– رسالة ممن؟ إلى من؟
لقد كانت بعض «إيضاحات» ليبديف عسيرة الفهم إلى أبعد الحدود، وكان يصعب على المرء أن يستخرج منها أي شيء. كل ما استطاع الأمير أن يميزه هو أن الرسالة كانت قد استلمتها فيرا ليبديفا من خادمة بغية أن توصلها فيرا إلى الشخص المرسلة إليه... «كما في السابق، كما في السابق، لتوصلها إلى شخص معين من الشخصية نفسها (إنني أطلق كلمة «الشخص» على إحدى المرأتين، وأطلق اسم الشخصية على المرأة الثانية إشارة إلى صغار الأولى، وإلى الفرق الكبير بين ابنة جنرال نبيلة جداً وبين امرأة هي غادة كاميليا). المهم أن الرسالة قد كتبتها «واحدة» «يبدأ اسمها بحرف آ».
صاح الأمير قائلاً:
– أهذا ممكن؟ أتراها كتبت إلى ناستاسيا فيليبوفنا؟ ذلك مستحيل!...
– حصل. كل ما هنالك أن الرسائل لم تكن قد أرسلت إلى ناستاسيا فيليبوفنا فقد أُرسلت على الأقل إلى روجويين، والأمران واحد... حتى أن هناك رسالة من تلك التي يبدأ اسمها بحرف «آ» قد بعثت إلى السيد تيرنتيف ليتولى إيصالها.
أضاف ليبديف هذه الجملة الأخيرة وهو يغمز بعينه ويبتسم.
وإذ كان ليبديف يقفز في كل لحظة من موضوع إلى موضوع وينسى ما كان بدأ يقوله، فقد صمت الأمير ليتيح له أن يفرغ جعبته. غير أن هناك نقطة ظلت غامضة جداً: أكانت الرسائل تبعث بواسطته أم بواسطة فيرا؟ إنه حين أكد أن الكتابة إلى روجويين والكتابة إلى ناستاسيا فيليبوفنا سيان، قد ترك للسامع أن يفهم إن هذه الرسائل، إذا كان ثمة رسائل، لا تُنقل بواسطته. فما يزال يصعب على المرء أن يعرف ما هي المصادفة التي جعلت من تلك الرسالة تقع في يديه. أغلب الظن أنه سرقها من فيرا بطريقة من الطرق. حتى إذا تم له الاستيلاء عليها بالاختلاس حملها إلى إليزابت بروكوفيفنا وهو يضمر نية ما. ذلك هو الافتراض الذي انتهى به الأمر إلى تصوّره.
صاح يقول وقد اعتراه اضطراب شديد:
– لقد فقدت عقلك!
فأجابه ليبديف بشيء من المكر:
– لم أفقده تماماً أيها الأمير المعظم.. والحق أن الفكرة الأولى التي خطرت لي هي أن أعطيك أنت الرسالة، خدمة لك.. لكنني فكرت فرأيت أن هذه الخدمة أولى أن تُقدّم هناك، وأن من الأفضل أن أحمل كل شيء إلى تلك الأم التي هي أنبل الأمهات طرًّا... لا سيما وأنني سبق أن نبهتها مرة في كتاب لم أذيله بتوقيعي ولا ذكرت فيه اسمي. وفي البطاقة التي بعثتها إليها في الساعة الثامنة والنصف من هذا الصباح وقعت هذا التوقيع أيضاً: «مراسلك المجهول»، فسرعان ما قبلوا باهتمام شديد أن أدخل من سلم الخدم على الأم التي هي أنبل الأمهات طرًّا..
– ثم؟
– تعرف التتمة: لقد أوشكت أن تضربني، حتى أكاد أعدّني مضروباً. أما الرسالة فقد رمتها في وجهي. صحيح أنها تساءلت لحظة هل تحتفظ بالرسالة، لكنني رأيت... أو لاحظت أنها عدلت عن هذه الفكرة، فرمت الرسالة قائلة: «ما دام قد كلّف مثلك بإيصال الرسالة، فهلمّ أوصلها!..». حتى لقد شعرت بأنها مهانة. فلولا أنها شعرت بذلك لاستحت أن تقول مثل هذا الكلام أمامي. إنها امرأة شديدة الاندفاع.
– أين الرسالة الآن؟
– معي: هذه هي!
قال ليبديف ذلك وأعطى الأمير رسالة آجلايا إلى جبريل آرداليونوفتش. إنها البطاقة التي كان على جبريل آرداليونوفتش أن يوصلها إلى أخته منتصراً بعد ساعتين.
قال الأمير:
– لا يجوز أن تبقى هذه الرسالة في حوزتك.
فقال ليبديف بحرارة:
– إنني أعطيك إياها، أعطيك إياها. أنا أعود الآن إلى خدمتك مخلصاً، أنا الآن ملك يديك، رأساً وقلباً. أعود إلى خدمتك بعد خيانة طارئة عارضة! اطعن قلبي، ولكن دع لي اللحية، كما قال توماس موروس في إنجلترا وفي بريطانيا العظمى. هذا ذنبي ، كما قال أبو روما، أي بابا روما، لكنني أسميه أنا دائماً «أبو روما».
قال الأمير ملحًّا:
– يجب إيصال هذه الرسالة فوراً. أنا أتولى ذلك.
– أليس الأفضل، يا أيها الأمير اللطيف الإحساس، المرهف الشعور، المؤدب، أن...
قال ليبديف ذلك وهو يجعّد وجهه تجعيدة غريبة مزعجة، وتحرك على كرسيه كأن أحداً وخزه بإبرة فجأة، وغمز بعينه غمزة ماكرة، وأشار بيديه إلى شيء ما.
قال له الأمير بلهجة التهديد:
– ماذا تعني؟
فهمس ليبديف يقول بلهجة المسارّة والبوح:
– يجب فتح الرسالة أولًا.
فوثب الأمير وقد عبّر وجهه عن غضب يبلغ من القوة إن ليبديف أوشك أن يولّى هارباً. ولكنه حين بلغ الباب، توقف ينتظر الصفح والعفو.
هتف الأمير يقول بلهجة تعبّر عن حزن عميق:
– آه يا ليبديف! هل يمكن حقاً أن يبلغ امرؤ من الفوضى والحطة ما بلغت أنت؟
استردت ملامح ليبديف هدوءها. وسرعان ما اقترب من الأمير يقول لاطمًا صدره، والدموع في عينيه:
– أنا منحط! أنا منحط!
– هذه دناءات.
– بالضبط: دناءات. هذه هي الكلمة المناسبة.
– علام هذا السلوك... العجيب؟ ما أنت في حقيقة الأمر إلا جاسوس! لماذا تكتب رسالة بغير توقيع، لتروع امرأة طيبة هذا الطيب نبيلة هذا النبل؟ ولماذا لا يكون من حق آجلايا أن تكتب إلى من تشاء الكتابة إليه؟ هل ذهبت اليوم إلى هناك لتتشكّى؟ ماذا كنت تنتظر من هذه الخطوة التي قمت بها؟ ما الذي دفعك إلى هذه الوشاية؟
– الفضول هو الذي دفعني إليها وورطني فيها... وكذلك الرغبة في أن أخدم إنسانة نبيلة. نعم...
كذلك تمتم ليبديف ثم أردف يقول:
– أما الآن فأنا لك وحدك، أنا ملك يمينك من جديد. اشنقني إذا شئت!
سأله الأمير باستطلاع يمازجه اشمئزاز:
– هل ذهبت إلى إليزابت بروكوفيفنا وأنت على هذه الحال؟
– لا، لا... كنت أنضر نفساً وأكثر انتعاشاً، بل كنت كذلك أسلم سلوكاً وأقوم أدباً. ولم أصبح على الحال التي تراني فيها الآن إلا بعد تلك المهانة التي نالتني وذلك الإذلال الذي أصابني.
– طيب، كفى، دعني!
ومع ذلك اضطر الأمير أن يكرر هذا الرجاء عدة مرات قبل أن يقرر زائره الانصراف. وحتى بعد أن فتح ليبديف الباب عاد إلى وسط الغرفة سائراً على رؤوس الأصابع، واستأنف تجعيد وجهه محاكيا الحركات الدالة على ضرورة فض الرسالة. ولكنه لم يجرؤ أن يقرن الإشارة بالقول، ثم خرج وعلى شفتيه ابتسامة وادعة ودود.
من كل ثرثرته التي يصعب فهمها كثيراً، تبرز واقعة رئيسية خارقة: هي أن آجلايا تعاني أزمة شديدة من قلق وحيرة واضطراب. إن أمراً ما يعذبها عذاباً قوياً (همس الأمير يقول: «الغيرة»). وهناك ملاحظة أخرى تفرض نفسها هي أن أناساً سيثي النية لا بد أنهم يلقون الروع في نفسها؛ وإنه لغريب كل الغرابة أن تمحضهم كل هذه الثقة. لا ريب في أن أهدافاً خاصة، أهدافاً لعلها مشؤومة.. أهدافاً غريبة على كل حال قد نبتت في هذا الرأس الصغير الذي تعوزه الخبرة والتجربة ولكنه شديد الحميَّا كثير الكبرياء...
هذه الاستنتاجات أغرقت الأمير في ذعر رهيب، حتى بلغ من الاضطراب إنه أصبح لا يدري ماذا يقرر. كان يحس أنه إزاء احتمال يجب منعه بأي ثمن. ونظر مرة أخرى في عنوان الرسالة المختومة: آه.. إنه من جهته لا يساوره شك ولا يخامره قلق، فإن ثقته تحميه من ذلك. وإنما يأتي الخوف الذي توقظه هذه الرسالة في نفسه من أنه لا يثق بجبريل آرداليونوفتش. ومع ذلك أوشك أن يقرر تسليم الرسالة بنفسه، حتى لقد خرج من بيته وقد نوى هذه النية، ولكنه عدل عن هذا الرأي في أثناء الطريق. وبمصادفة تشبه أن تكون عمداً اتفق أن لقي كوليا حين كاد يبلغ بيت بتتسين. فكلفه بأن يوصل الرسالة إلى أخيه كما لو كانت مرسلة إليه من آجلايا إيفانوفنا راساً. ولم يُلق كوليا أي سؤال، وحمل الرسالة إلى أخيه، فلم يخطر ببال جانيا أن الرسالة يمكن أن تكون قد تنقلت بين أيدي ذلك العدد كله من الوسطاء.
وحين عاد الأمير إلى البيت رجا فيرا لوكيانوفنا بأن تجيء إليه وقال لها ما كان يجب أن يقوله ليهدئ روعها ويخفف اضطرابها، ذلك أنها كانت قد ظلت حتى ذلك الحين تبحث عن الرسالة باكية. وقد شُدهت حين علمت إن أباها سرقها منها. (وقد باحت له فيما بعد بأنها سبق أن توسّطت عدة مرات سراً بين روجويين وآجلايا إيفانوفنا. لم يكن قد دار في خلد الفتاة أو خطر ببالها إن في ذلك شيئاً مخالفاً لمصالح الأمير...).
كان الأمير مبلبل الأفكار كثيراً. فلما هرعوا يقولون له نقلاً عن كوليا إن الجنرال مريض، لم يكد يفهم ماذا يقصدون. ولكن انصرافه إلى هذا الحادث أحسن إليه إحساناً كبيراً. لقد قضى النهار كله، حتى المساء، في بيت نينا ألكسندروفنا (الذي نقل إليه المريض طبعاً). ولم يكن لحضوره أي فائدة تُذكر، غير أن هناك أناساً يحب المرء أن يكونوا بقربه في بعض الظروف الشاقة الصعبة. لقد كان كوليا متأثراً أشد التأثر، وكان يبكي بكاءً من أصابته نوبة عصبية. ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون في عمل متصل طوال الوقت: فقد مضى يبحث عن طبيب، ووجد ثلاثة أطباء، وسعى راكضاً إلى الصيدلي وإلى الحلاق. وأُنعش الجنرال، لكنه لم يسترد وعيه، وقال الأطباء «إنه في خطر على كل حال». لم تترك فاريا ونينا ألكسندروفنا المريض. وكان جانيا مضطرباً مصعوقاً، ولكنه لا يريد أن يصعد، حتى لقد كان يخاف أن يرى أباه. إنه يعقف يديه ألماً وحسرة، واستطاع في حديث مفكك جرى بينه وبين الأمير أن يقول إن «هذه مصيبة تنزل في مثل هذا الوقت بما يشبه العمد!» وتراءى للأمير أنه فهم التلميحة التي تتضمنها هذه الكلمات.
كان هيبوليت قد ترك منزل بتتسين. ومع اقتراب المساء هرع ليبديف. كان قد نام نوماً متصلاً منذ «الإيضاح» الذي تم في الصباح حتى هذا الوقت. وكان قد ذهب عنه سكره تقريبا، وكان يذرف على المريض دموعاً صادقة كأنه أخوه. وكان يتهم نفسه بصوت عال دون أن يحدد الخطأ الذي ارتكبه، وكان يتعب نينا ألكسندروفنا بما يكرّره عليها في كل لحظة من أنه وحده سبب كل شيء ولا أحد سواه.. وأن سلوكه لم تدفعه إليه إلا لذة الفضول.. بل إن «المرحوم» (لا يدري المرء لماذا كان يصر على أن يصف الجنرال بهذا مع أن الجنرال ما يزال حيا) كان رجلا عبقريا! كان ليبديف يلحّ على عبقرية الجنرال جاداً جداً خاصاً، كأن لهذه الواقعة في اللحظة الراهنة شأناً كبيراً وفائدة ضخمة. فقالت له نينا ألكسندروفنا أخيراً، وقد رأت صدق دموعه، قالت له بلهجة ودود دون أن يبدو عليها شيء من لوم: «طيب... أسأل الله لك العون! لا تبك! لا تبك! سيغفر الله لك!» فكان لهذه الكلمات واللهجة التي قيلت بها أثر كبير في ليبديف، أثر بلغ من الشدّة أنه لم يترك بعد ذلك نينا ألكسندروفنا طوال السهرة (وفي الأيام التالية، إلى أن مات الجنرال، ظل عندهم من الصباح إلى المساء تقريباً). وقد أوفدت إليزابت فيدوروفنا مَنْ يسأل عن أنباء الشيخ مرتين أثناء ذلك النهار.
وفي الساعة التاسعة من المساء حين ظهر الأمير في صالون آل إيبانتشين الذي كان قد امتلأ بالمدعوين، أخذت إليزابت بروكوفيفنا تسأل عن المريض فوراً باهتمام كبير، حريصة على معرفة التفاصيل. فلما سألتها الأميرة بيلوكونسكايا: «من هو هذا المريض؟ ومن هي نينا ألكسندروفنا؟» كان جوابها يشتمل على كثير من الجد والوقار. فأُعجب الأمير بهذه البادرة إعجاباً كبيراً. وكان هو نفسه، في الإيضاحات التي قدّمها إلى إليزابت بروكوفيفنا، يتكلم بطريقة «رائعة» كما عبرت أختا آجلايا عن ذلك فيما بعد: لقد تكلم «بتواضع، وهدوء، ورصانة، ووقار، دون أن يقول كلاماً زائداً لا محل له ولا داعي إليه، ودون أن يحرك يديه بإشارات لا جدوى منها. وكان قد دخل الصالون دخولاً موفقاً كل التوفيق، ناجحاً كل النجاح، وكانت ثيابه لا مأخذ عليها البتة!». لم تتعثر قدمه فيسقط على الأرض، كما كان يخشى بالأمس!... حتى لقد أخذت في نفوس جميع الحضور أجمل تأثير.
وقد لاحظ من جهته فوراً، بعد أن جلس وتلفت ينظر فيما حوله، إن هذا الجمع لا يشبه في شيء، الأشباح التي أخافته منها آجلايا بالأمس ولا الكوابيس التي وافته في الليلة البارحة. هذه أول مرة في حياته يكتشف فيها زاوية مما يُطلق عليه هذا الاسم المروع: «المجتمع الراقي». لقد كان منذ مدة طويلة، بسبب ما انعقدت عليه نفسه من نيات ومشاريع وميول، يحترق شوقا إلى دخول تلك الدائرة المسحورة؛ وكان لذلك يتساءل متحيراً أشد التحير عن الإحساس الأول الذي سوف يحسه في هذا المجتمع. وكان إحساسه فاتناً رائعاً. لقد بدا له في الوهلة الأولى أن هؤلاء الناس كافة إنما خلقوا ليجتمعوا، وأن آل إيبانتشين لا يقيمون «سهرة»، وإنه ليس إزاء مدعوين بل إزاء أصدقاء «حميمين»، وأنه هو نفسه في موقف رجل يعود بعد فراق قصير إلى أشخاص يمحضهم الود ويشاركهم آراءهم. إن آداب سلوكهم التي تتميز بالفتنة والرقي، وبساطتهم وصدقهم الظاهري، إن ذلك كله قد أحدث في نفسه أثراً يشبه أن يكون سحرياً. لم يستطع حتى أن يخطر بباله أن هذه الطيبة وهذا النبل في آداب السلوك وهذا السمو في الفكر وهذا الشعور الرفيع بالكرامة، إن ذلك كله قد لا يكون إلا إخراجاً مسرحياً. والحق أن أكثر المدعوين كانوا رغم مهابتهم الظاهرية أناساً تافهين إلى حد بعيد، وكان غرورهم يمنعهم من جهة أخرى أن يدركوا أن عدداً من مزاياهم ليس لهم فيه أي فضل لأنه غير شعوري أو لأنه مستعار أو لأنه موروث؛ بل إن الأمير، في غمرة افتتانه بالإحساس الأول، لم يُغره حتى أن يفترض هذا الافتراض. إنه، على سبيل المثال، يرى شيخاً من كبار موظفي الدولة (يمكن أن يكون في السن جَداً له)، يقطع حديثه ليصغي إليه فحسب، بل يبدو عليه أيضاً أنه يحترم رأيه، فهو يظهر له كثيراً من الود واللطف، وهو يبشّ له بشاشة فيها كثير من الصدق، رغم أنهما لا يعرف أحدهما الآخر، وإنما يلتقيان أول مرة. لعل هذا التهذيب الناعم الرقيق هو الذي أثر في طبيعة الأمير الحارة الحساسة. ولعله حين جاء كان في حالة نفسية تهيئه للتفاؤل.
والحقيقة هي أن الروابط التي كانت تصل بين جميع هؤلاء الأشخاص وبين أسرة إيبانتشين، كما تربطهم بعضهم ببعض، كانت أوهى وأقل كثيراً مما ظن الأمير حين قُدّم إليهم وتعرّف بهم. إن بينهم أناساً ما كان لهم أبداً أن يعدّوا آل إيبانتشين أنداداً لهم بحال من الأحوال. بل إن بينهم أناساً يكره بعضهم بعضاً أعمق الكره. إن العجوز بيلوكونسكايا كانت طوال حياتها «تزدري» امرأة ذلك الشيخ الذي هو من كبار موظفي الدولة. وكانت هذه الأخيرة من جهتها لا تحب إليزابت بروكوفيفنا.
إن «الموظف الكبير» الذي كان حامي الزوجين إيبانتشين منذ شبابهما والذي يحتل الآن في بيتهما مكانة الشرف، كان له في نظر الجنرال إيبانتشين شأن يبلغ من العلو والرفعة أن الجنرال إيبانتشين ما كان ليستطيع بحال من الأحوال أن يشعر إزاءه بعاطفة غير عاطفة التقديس والرهبة؛ فلو ظن في لحظات أنه ندّ له فكفّ عن اعتباره إلهاً من آلهة الأولمب مثل جوبيتر، إذن لاحتقر نفسه صادقاً مخلصًا.
وكان بين الجمهور أيضاً أناس لم يتلق بعضهم ببعض منذ سنين، ولا يحمل بعضهم لبعض من عاطفة غير عدم الاكتراث، هذا إذا لم يحمل بعضهم لبعض عداوة. لكن هذا لا ينفي أنهم يلتقون الآن التقاء من كانوا بالأمس معاً، فهم في أشهى صحبة وأمتع مجالسة. ولم يكن عدد المجتمعين كبيراً على كل حال. هناك، عدا الأميرة بيلوكونسكايا، و«الشيخ الجليل» الذي كان في الواقع شخصية خطيرة الشأن، وزوجته، هناك رجل آخر يلفت الانتباه، هو جنرال يحمل لقب بارون أو كونت، واسمه ألماني. إن هذا الرجل الصموت كان يشتهر بأنه يعرف شؤون الدولة معرفة معجزة، حتى لقد كان يُعدّ عالماً من العلماء إن صح التعبير. إنه واحد من أولئك الإداريين الفطاحل الذين يعرفون «كل شيء، إلا روسيا»، والذين يصدرون في كل خمسة أعوام «فكرة يهز الناس عمقها ويكون لها دويٌّ كبير» والذين يذهب كلامهم مذهب الأمثال ويصل إلى مسامع أعلى الشخصيات مقاماً. إنه واحد من أولئك الموظفين الأعلين الذين يموتون في العادة بعد عمر في الوظيفة طويل جداً (بل طويل طولاً عجيباً)، والذين يكونون قد وصلوا إلى رتب عالية واحتلوا مناصب رائعة وملكوا ثروة ضخمة، دون أن يكونوا قد قاموا مع ذلك بأية أعمال ساطعة باهرة، حتى إنهم يظهرون بعض النفور من الأعمال الساطعة الباهرة.
إن هذا الجنرال هو، في الوظيفة، الرئيس المباشر لصاحبنا الجنرال إيفان فيدروفتش إيبانتشين الذي كان بعاطفة الشكر الحارة وبدافع حب الذات أيضاً يرى أن لرئيسه عليه أيادي بيضاء ويعتقد أنه مدين له بفضل كبير، رغم أن الآخر لم يكن يعدّ نفسه محسناً إلى إيفان فيدروفتش أو منعماً عليه، حتى لقد كان لا يكترث به كثيراً. وهو رغم رضاه عن الخدمات التي يقدمها إليه إيفان فيدروفتش، مستعد لأن يستبدل به شخصاً على الفور إذا ظهر أن له ثمة اعتبارات، ولو كانت ثانوية، تجعل الاستغناء عنه أمراً مناسباً.
وكان الحفل يضم شخصية أخرى خطيرة الشأن هي رجل متقدم في السن يبدو عليه أنه يمتّ بقربى إلى إليزابت بروكوفيفنا، ولكنه في حقيقة الأمر لا تربطه بها أية قرابة. إن له رتبة ومركزاً يُحسد عليهما. هو رجل غني كريم المحتد، قوي البنية، موفور الصحة. وهو إلى ذلك محدث بارع. وقد اشتهر بأنه رجل مستاء (بالمعنى المقبول لهذه الكلمة)، بل إنه رجل ساخط (وتلك سمة كانت فيه ذات سحر وفتنة) وكانت آدابه في السلوك آداب رجل أرستوقراطي إنجليزي، وكانت ميوله وأذواقه إنجليزية أيضاً (من ذلك أنه كان يحب أن يأكل الشواء دامياً، ويحب المركبات الفخمة، ويحب الخدم بأزيائهم الرسمية). وهو على علاقة حميمة بالشيخ الجليل، «الموظف الكبير»، يبذل في سبيل تسليته كل جهد. وكانت إليزابت بروكوفيفنا، من جهة أخرى، تداعب خيالها فكرة غريبة هي أن هذا البارون (الذي كان لا يُعدّ من المتمسكين كثيراً بأهداف الفضيلة، وكان يعدّ من هواة الجنس اللطيف) قد يريد ذات يوم أن يحقق سعادة ألكسندرا بطلب يدها.
وتحت هؤلاء المدعوين الذين هم أعلى أفراد الحفل مقاماً وأكثرهم مهابة، تأتي فئة من المدعوين أصغر سناً، لكن أفرادها أناس مرموقون أيضاً. فمن هؤلاء الأمير «شتش...» وإيفان فيدروفتش، ومنهم الأمير «ن...» المعروف بما حقق من انتصارات مع النساء في أوروبا. إنه في نحو الخامسة والأربعين من العمر، فارع القامة ممشوق القد، يملك موهبة مدهشة في الحديث ويتمتع بقدرة عجيبة على سرد القصص ورواية الحكايات. وهو رغم أن ثروته تضاءلت قليلاً، ما يزال يؤثر أن يقضي أيامه في الخارج محتفظا بهذه العادة.
وهناك أخيراً فئة ثالثة تضم أولئك الذين لا ينتمون إلى «الدائرة المغلقة» من المجتمع، ولكن يمكن أن نراهم فيها أحياناً، فمن هؤلاء مثلاً أسرة إيبانتشين نفسها. كان آل إيبانتشين، بما لهم من حِسّ سليم ولباقة في سلوكهم، يحبون في المناسبات القليلة التي يقيمون فيها حفلات استقبال، أن يجمعوا بين أفراد المجتمع العالي وبين أفراد طبقة أدنى تمثل صفوة «المجتمع المتوسط». فكان الناس يحمدون لهم هذا الحساب ويصفونهم بأنهم يعرفون مكانهم ويحسنون التصرف، وذلك رأيٌ كان آل إيبانتشين يعتزون به.
فإلى تلك الطبقة المتوسطة كان ينتمي أحد المدعوين وهو مهندس برتبة كولونيل، يتصف بالجد وتربطه بالأمير «شتش...» صداقة قوية، فالأمير «شتش...» هو الذي عرّفه بأسرة إيبانتشين وأدخله إلى بيتهم. وكان الرجل قليل الكلام في المجتمع، يزين إبهام يده اليمنى خاتم ضخم أغلب الظن أنه هدية إمبراطورية.
وأخيراً فقد كان بين الحضور أديب شاعر أصله ألماني لكن أدبه روسي. إنه رجل في الثامنة الثلاثين من عمره، لائق المظهر فلا ضير في إدخاله إلى المجتمع الراقي. إن هيئته حسنة، رغم أن في وجهه شيئا يبعث على النفور. وهو يعنى بهندامه عناية كاملة، وينتمي إلى أسرة ألمانية إن لم تكن بورجوازية فإنها تحظى باعتبار كبير. ولقد كان يحسن الاستفادة مرن الظروف وانتهاز الفرص ليندس تحت حماية شخصية من الشخصيات العالمية، وأن يحافظ على الحظوة لديها. وقد ترجم في الماضي عن اللغة الألمانية إلى اللغة الروسية كتاب شاعر جرماني كبير، وصدّر الكتاب المترجم بإهداء مفيد. وكان يحسن الانتفاع بعلاقات الصداقة مع شاعر روسي شهير توفي الآن (إن هناك فئة كبيرة من الكتّاب يحلو لأفرادها أن يعرضوا ما كان بينهم وبين مؤلف مشهور من صداقة حميمة، متى مات ذلك المؤلف)، وقد أدخلته إلى أسرة إيبانتشين منذ مدة قصيرة زوجة «الشيخ الجليل، الموظف الكبير». كانت هذه السيدة تعد حامية الأدباء والعلماء. والحق أنها قد دبّرت راتباً لكاتب أو كاتبين بواسطة أناس من أصحاب المناصب الرفيعة الذين كان لها عليهم نفوذ. ولقد كان لها في الواقع تأثير ووزن. إنها في الخامسة والأربعين من عمرها (فهي إذن شابة بالنسبة إلى زوجها الذي كان شيخاً)، ولقد كانت جميلة وكانت ما تزال تحب – وذلك ميل شائع في كثير من النساء اللواتي بلغن عمرها – أن ترتدي ملابس فيها كثير من البهرج. وكان ذكاؤها دون الوسط، وثقافتها الأدبية مشكوكاً فيها. ولكنها كانت مولعة أشد الولع بحماية الأدباء، كولعها بارتداء أحلى الملابس. وكانت تهدى إليها كتب كثيرة وترجمات كثيرة. وقد نشر كاتبان أو ثلاثة، بعد استئذانها، الرسائل التي كانوا قد كتبوها إليها في موضوعات هامة جداً.
ذلك هو المجتمع الذي حسبه الأمير فضةً خالصة أو ذهباً نقياً بغير شائبة. وعدا هذا اتفق أن كان جميع هؤلاء في ذلك المساء، زاخرين بالتفاؤل مفتتنين بأنفسهم. كان كل واحد منهم مقتنعاً بأن زيارته تغمر أسرة إيبانتشين فخراً وشرفاً. ولكن الأمير، وا أسفاه، لم يكن يدرك هذه اللطائف ولا كانت تخطر له على بال. لم يدر في خلده مثلاً أن آل إيبانتشين، وقد اتخذوا قراراً يبلغ من الخطورة مبلغ هذا القرار الذي يتوقف عليه مصير ابنتهم، ما كان لهم أن يتجرأوا على إعفاء أنفسهم من تقديمه، هو الأمير ليون نيقولايفتش، إلى هذا الموظف الكبير الشيخ، الذي يعد حامي أسرتهم؛ وأن هذا الشيخ الذي يمكن أن يحتفظ بأكمل هدوئه وأتم سكينته إذا علم أن كارثة كبيرة قد حلت بأسرة إيبانتشين، لا بدّ أن يستاء أشد الاستياء وأن يعد نفسه مهاناً إلى أبعد حدود الإهانة لو زوّج الأبوان ابنتهما دون أن يستشيراه ودون أن يحصلا على موافقته إن صح التعبير.. أما الأمير «ن...»، هذا الشاب الفتّان، الذي لا شك في أنه يفيض مرحاً وصراحة، فقد كان مقتنعاً بأن ظهوره هذه الليلة في صالون أسرة إيبانتشين حادث يشبه شروق الشمس. إنه يضعهم في موضع أدنى منه بمائة قدم؛ ولا شك أن هذه الفكرة البريئة النبيلة هي التي كان يستمد منها طلاقته المحببة وبشاشته الودود في معاملتهم. كان يعلم أنه سيجب عليه في تلك السهرة أن يروي شيئاً ليبهج الحفل ويفتنه، فكان يستعد لهذا الأمر ويتهيأ للقيام بهذا الدور وقد توقدت قريحته ووافاه إلهامه. إن الأمير ليون نيقولايفتش حين أصغى بعد قليل إلى ما حكاه هذا الشاب قد أحسّ إنه ما سمع في يوم من أيام حياته شيئاً يمكن أن يقارن بهذه الفكاهة المتألقة، وهذا المرح المدهش وهذه السذاجة التي تكاد تكون مؤثرة في فم دون جوان مثل الأمير «ن...». ليته عرف إلى أي حد كانت هذه الحكاية قديمة عتيقة، ذابلة ذاوية، معادة مكرورة. إن هذه القصة التي رواها الأمير «ن...» يمكن أن تعد عند آل إيبانتشين السذّج البسطاء فكاهة جديدة وارتجالاً متألقاً يصدر صادقاً عفو الخاطر عن محدث بارع فتان فكه، ولكنها في أي صالون آخر لا بد أن يُحكم عليها بأنها باعثة على أكبر الضجر وأشد الملل والسأم. وحتى الشويعر الألماني، رغم كل ما اصطنعه من تودّد وتواضع، كان يميل كذلك إلى الاعتقاد بأن حضوره يشرّف الدار.
ولكن الأمير لم يلاحظ من الموقف إلا وجهه الحسن، أما وجوهه الأخرى فهو لا يراها. ولم تكن آجلايا قد تنبأت بذلك كله. حتى إنها كانت هي نفسها في ذلك المساء رائعة الحسن باهرة الجمال. كانت الفتيات الثلاث يرتدين ثياباً أنيقة، ولكن بغير غلو وإسراف، وقد صففن شعورهن تصفيفاً جديداً غير مألوف لهن أو معهود فيهن.
جميع وكانت آجلايا جالسة قرب إيفان فيدروفتش تكلمه وتمازحه بلهجة حميمة جداً. وكان إيفان فيدروفتش أكثر رصانة مما عُهد فيه، ولا شك أن ذلك كان مراعاة ومداراة للشخصيات المرموقة التي يضمها الحفل. على أنه رجل معروف في اجتماعات المجتمع الراقي منذ مدة طويلة، وكان يُنظر إليه على أنه واحد من أبناء ذلك المجتمع. وقد حضر في ذلك المساء وعلى قبعته شريط أسود، وهذا ما جلب له ثناء الأميرة بيلوكونسكايا: ففي ظروف كهذه الظروف ما كان لرجل آخر من أبناء المجتمع الراقي أن يفعل مثل هذا حداداً على وفاة عم كذلك العام. وقد أظهرت إليزابت بروكوفيفنا رضاها عن ذلك وارتياحها له أيضاً. ولكن كان يبدو عليها كثير من الهم وانشغال البال.
ولاحظ الأمير أن آجلايا نظرت إليه مرة أو مرتين بانتباه، وبدا عليها الرضى عنه. وشيئاً بعد شيء أحس بقلبه يتفتح سعادة. إن الخواطر «الخيالية» والمخاوف التي اجتاحته من قبل (بعد حديثه مع ليبديف) تبدو له الآن، من خلال تذكرها تذكرا مفاجئا ولكنه متكرر، أشبه بأحلام لا صلة بينها وبين الواقع، أحلام غير معقولة بل ومضحكة! (وقبل ذلك، طوال النهار، كانت أعز رغبة في قلبه، وإن تكن رغبة غير شعورية هي أن يبرهن لنفسه على أنه لم يكن ثمة مجال لتصديق تلك الأحلام). وكان يتكلم قليلاً، ويقتصر على الإجابة عن الأسئلة التي تُلقى عليه. وفي النهاية لزم صمتاً كاملاً، وظل يصغي إلى الآخرين كإنسان بلغ قمة السعادة. وشيئا فشيئا، استولى عليه نوع من الإلهام مستعد لأن ينطلق في كل لحظة... ومع ذلك، لئن عاد يتكلم فهو إنما تكلم مصادفةً ليجيب عن سؤال، دون أية نية مبيتة فيما يبدو.
الفصل السابع
بينما كان الأمير يتأمل آجلايا وقد غمرته السعادة، متابعاً مع الأمير «ن...» وأوجين بافلوفتش حديثاً مرحاً، كان الرجل المسن، الذي يصطنع سلوكاً إنجليزياً، يتحدث في الطرف الآخر من الصالون مع «الموظف الكبير»، فإذا هو أثناء الاندفاع في الكلام ينطق باسم نيقولا آندريفتش بافلتشيف فجأة. فالتفت إليهما الأمير على الفور وأخذ يتابع حوارهما.
كان الكلام يدور على الأنظمة الجديدة وعلى ما نشأ عنها من اضطرابات في توزع أملاك كبار المالكين بمقاطعة «ز...». ولا بد أن القصة التي كان يرويها الرجل المشغوف بعادات الإنجليز كانت في ذاتها باعثة على الضحك لأن «الموظف الكبير» قد أخذ يضحك أخيراً حين سمع صاحبه يعبّر عمّا في نفسه من مرارة. كان الرجل المشغوف بعادات الإنجليز يتكلم بسهولة ويسر، مصنعاً مطّ ألفاظه وتليين حروفه، وكان يروي كيف أن تلك النظم الجديدة قد أجبرته على أن يبيع بنصف الثمن أرضاً رائعة كان يملكها في تلك المقاطعة، رغم أنه لم يكن في حاجة إلى مال وكيف احتفظ في الوقت نفسه بأرض خراب يباب لا يجني منها إلا الخسارة، عدا اضطراره إلى ملاحقة دعوى في شأنها لدى القضاء. «ومن أجل أن أتحاشى ملاحقة دعوى أخرى تتعلق بالأراضي التي خلّفها بافلتشيف، آثرت أن أزهد بالميراث أصلاً. يكفي أن يؤول إليّ ميراث أو ميراثان من هذا النوع حتى تصير حالي إلى دمار. لاحظْ أن نصيبي من ذلك الإرث كان يقدّر بثلاثة آلاف هكتار، أطياناً ممتازة!».
لاحظ إيفان فيدروفتش الاهتمام الشديد الذي كان ينصرف به الأمير إلى ذلك الحديث، فاقترب منه فجأة وقال له بصوت خافت:
– اسمع... إن إيفان بتروفتش يمت بقرابة إلى المرحوم نيقولا آندريفتش بافلتشيف. أظن أنك تبحث عن أقرباء له، أليس كذلك؟
كان إيفان فيدروفتش حتى ذلك الحين لا يتجه بنظره وعنايته إلى أحد غير رئيسه الجنرال. لكنه وقد لاحظ منذ برهة إن ليون نيقولايفتش مُهمَل إهمالاً تاماً، شعر من ذلك بشيء من القلق. لهذا حاول أن يُشركه في الحديث بعض الإشراك بتقديمه إلى «الشخصيات» مرة أخرى وبتزكيته لديها. فلما وقع بصره على إيفان بتروفتش قال:
– إن ليون نيقولايفتش إنما نشّأه نيقولا آندريفتش بافلتشيف، حين مات عنه أبواه.
فأجاب إيفان بتروفتش بقوله:
– تـ.. ـشر.. فنا. وإني لأتذكرك تذكرا واضحاً. لقد عرفتك وتذكرت حتى وجهك منذ تولّى إيفان فيدروفتش تعريف كل منا بالآخر. الحق أنك لم تتغير كثيراً، رغم أن عمرك لم يكن يتجاوز العاشرة أو الحادية عشرة حين رأيتك. حتى إن في ملامحك شيئاً رسخ في ذاكراتي..
سأله الأمير متعجّباً:
– عرفتني طفلاً؟
فتح إيفان بتروفتش كلامه يقول:
– منذ زمن بعيد جداً!... كان ذلك في زلاتوفرخوفو، حيث تقيم عند قريباتي. كنت في ذلك العهد أكثر من الذهاب إلى هناك. ألا تتذكرني؟ لا عجب.. لقد كنت عندئذ في حالة مرضية لا أدري ما هي... حتى إنني أتذكر أن دهشة شديدة قد اعترتني حين رأيتك.
قال الأمير مؤكداً بحرارة: في
– أنا لا أتذكر شيئاً!
وأضاف إيفان بتروفتش، بكثير من الرصانة والوقار، بضعة أقوال أخرى أدهشت الأمير وأثرت في نفسه. قال إن الآنستين العجوزين اللتين تمتّان بقرابة إلى المرحوم بافلتشيف وكانتا تعيشان في أراضيه بزلاتوفرخوفو، واللتين عُهد إليهما بتربية الأمير، هما في الوقت نفسه قريبتان له. وكسائر الناس، كان إيفان بتروفتش لا يكاد يعرف شيئا عن البواعث التي خضع لها بافلتشيف حين اهتم ذلك الاهتمام كله بالأمير الصغير الذي كفله بافلتشيف وجعل نفسه وصيا عليه. «لم يخطر ببالي أن أسأل عن هذا الأمر في ذلك الوقت». كذلك قال إيفان بتروفتش. ولكنه برهن مع ذلك على أن له ذاكرة ممتازة، فهو لم ينسَ حتى إن كبرى قريبتيه، وهي مارتا نيكيتشينا، كانت شديدة القسوة على الأمير الذي عهد به إليها، وأضاف إيفان بتروفتش إلى ذلك قوله: «حتى لقد بلغت من قسوتها إنني شاجرتها مرة بسببك، لأنني كنت أشجب أسلوبها في التربية، القائم على أن تلهب بالسياط جسم طفل مريض... وهذا.. كما تعلم..» لم تكن كذلك أختها الصغرى ناتاليا نيكيتشينا، فقد كانت نفسها «زاخرة بالحنان على الطفل المسكين...» لا بد أن تكونا الآن كلتاهما في مقاطعة «ز...»، حيث أورثهما بافلتشيف أرضاً ممتازة (ولكن هل لا تزالان على قيد الحياة؟ لا أدري). أظن أن مارتا نيكيتشينا كانت تنتوي أن تدخل الدير. على أنني لا أؤكد ذلك. من الجائز أن أكون قد سمعت هذا الكلام عن امرأة أخرى... نعم... تذكرت... لقد قيل لي هذا عن زوجة طبيب.»
– كان الأمير يصغي إلى هذه الأقوال وقد سطعت عيناه فرحاً ونشوة وحناناً. وأعلن من جهته بحرارة شديدة أنه لن يغفر لنفسه في يوم من الأيام أنه تنقل في داخل البلاد خلال هذه الأشهر الستة ثم لم يتح له أن يمضي إلى زيارة مربيتيه. لقد كان في كل يوم ينوي أن يفعل ذلك، ثم تحول الظروف بينه وبين إنفاذ ما يعقد النية عليه... غير أنه في هذه المرة قد قرر جازماً أن يذهب إلى مقاطعة «ز...» وأضاف الأمير: «أنت تعرف إذن ناتاليا نيكيتشينا؟ يا لها من امرأة عظيمة، قديسة! وكذلك مارتا نيكيتشينا... معذرة... يخيّل إليّ أنك تخطئ الظن فيها قليلاً... صحيح أنها كانت قاسية، ولكن يجب أن تُعذر... كيف لا يُفقدها صبرها طفل أبله تماماً في ذلك الأوان؟ (هئ هئ!). إنني كنت أبله كل البلاهة حينذاك. ألا تصدق؟ (هأ هأ!).. ثم... ثم إنك قد رأيتني في ذلك العهد، و... ألا تلاحظ أنني لا أتذكرك؟ ألا يدل هذا على أنني... آه... يا رب! أصحيح أنك قريب نيقولا آندريفتش بافلتشيف حقا؟
قال إيفان بتروفتش مبتسماً وهو يتفرس في الأمير:
– أ... ؤ... كد لك ذلك!
– أرجوك... ما أردت أن أقول إنني أشك في صدق كلامك!.. ثم.. هل يمكن الشك في هذا (هئ هئ!)... ولو قليلاً؟ نعم، ولو قليلاً؟ (هئ هئ!!). وإنما أردت أن أقول إن المرحوم نيقولا آندريفتش بافلتشيف كان رجلاً رائعاً، كان إنساناً عظيماً! ما كان أكرمه! أحلف لك...
لا أقول إن الأمير كان يشعر باختناق، بل أقول إن «امتلاء قلبه بالسعادة قد سدّ حلقه» على حد التعبير الذي استعملته آديلائيد في الغداة حين تحدثت مع خطيبها الأمير «شتش...».
قال إيفان بتروفتش ضاحكا:
– ولكن لماذا يستحيل أن أمت بقرابة لرجل كريم كرماً عـ.. ـظيما؟
اضطرب الأمير وشعر بخجل شديد فأسرع يقول بتعجّل وحرارة ما ينفكان يتزايدان:
– أنا.. أنا... هذه حماقة جديدة أرتكبها... هذه سخافة جديدة أقولها.. لأنني... لأنني... يميناً إن لساني قد خان فكري! ولكنني أعود فأسألك ما عسى تكون قيمة شخصي أنا بالقياس إلى أمور كهذه الأمور، بالقياس إلى أمور ضخمة هذه الضخامة؟ بالقياس إلى رجل عظيم هذه العظمة! ذلك أنه – يشهد الله – كان أعظم الرجال... أليس كذلك؟ أليس كذلك؟
كانت أعضاء الأمير كلها ترتعش. أما من أين جاءه هذا التأثر المباغت ولماذا اجتاحته هذه العاطفة كلها فجأة، دون تناسب بينها وبين موضوع الحديث، فذلك أمر يصعب تعليله. ولكننا نستطيع أن نقطع بأنه بلغ من الانفعال في تلك اللحظة أنه كان يحس بشعور الشكر كاوياً محرقاً، دون أن يعرف ماذا يشكر ولا من يشكر، حتى لكأن الشكر لإيفان بتروفتش نفسه ولسائر الحضور أيضاً. كان الأمير يطفح سعادة. نظر إليه إيفان بتروفتش بمزيد من التفرّس. وحدّق إليه «الموظف الكبير» بكثير من الانتباه كذلك. وألقت عليه الأميرة بيلوكونسكايا نظرات تفيض غضباً وحنقاً. وأخذت تقرص شفتيها. وتوقف الأمير «ن...»، وأوجين بافلوفتش، والأمير «شتش...»، والآنسات، وسائر الحاضرين، توقفوا جميعاً عن الكلام وأصاخوا بأسماعهم. وكانت آجلايا تبدي إشارات رعب، وكانت إليزابت بروكوفيفنا قد خرجت عن طورها حقاً. عجيب أمر الأم وبناتها: إنهن هن اللواتي قررن وارتأين أن من الأفضل أن يبقى الأمير صامتاً طوال السهرة، فلما رأينه منعزلاً كل الانعزال في ركن من الصالون راضياً عن حظه مفتوناً به، أخذ يساورهن الخوف؛ حتى لقد خطر ببال آديلائيد أن تقطع الغرفة كلها مقتربة منه على حذر لتقوده إلى جماعتها التي تضم الأمير «ن...» قرب الأميرة بيلوكونسكايا. حتى إذا اندفع الآن في الحديث تضاعف قلقهن وازدادت مخاوفهن.
قال إيفان بتروفتش بلهجة فخمة وقد كفّ عن التبسم:
– إنك لعلى حق حين تصفه بأنه كان إنساناً رائعاً... نعم، لقد كان إنسانا ممتازا.
وأضاف بعد صمت قصير:
– إنساناً ممتازاً وجديراً بالاعتبار.
وزاد على ذلك بعد برهة أخرى فقال:
– بل ويمكن القول إنه كان جديراً بكل احترام. ومما يثلج صدر المرء حقاً أن يرى أنك من جهتك..
قال «الموظف الكبير» وهو يحاول أن يستجمع ذكرياته:
– أليس بافلتشيف هذا هو ذلك الرجل الذي كانت له حكاية... خاصة... مع قس.. مع القس.. نسيت اسمه.. ولكن أثارت حكايته في حينها لغطاً كثيراً؟
قال إيفان بتروفتش:
– القس جورو، رجل يسوعي. نعم، أولئك هم رجالنا الممتازون الجديرون بالاعتبار! ولكن بافلتشيف كان نبيل المحتدّ ويملك ثروة، وكان موظفاً بالبلاط.. ولو بقي في الوظيفة لأمكن أن.. ولكنه ترك وظائفه وترك جميع علاقاته فجأة ليعتنق الديانة الكاثوليكية ويصبح يسوعيا حتى لقد فعل ذلك بما يشبه الحماسة. بصراحة: لقد مات في الوقت المناسب. نعم. جميع الناس قالوا هذا حين مات.
أصبح الأمير لا يستطيع كبح جماح نفسه، فصاح يقول بلهجة مروعة:
– بافلتشيف... بافلتشيف اعتنق الكاثوليكية؟ مستحيل!
فدمدم إيفان بتروفتش بلهجة رصينة:
– كيف «مستحيل»؟ هذا كثير يا عزيزي الأمير. يجب أن توافق على أن... ولكنك تقدر المتوفى قدراً كبيراً والحق أنه كان إنساناً ذا قلب كبير، وذلك هو السبب الذي أعزو إليه خاصة كل ما حققه ذلك المحتال جورو من نجاح لديه. ولكن في وسعك أن تسألني أنا عن المتاعب والهموم التي أصابتني في أعقاب هذا الأمر... ولا سيما مع جورو ذاك نفسه!
وأضاف إيفان بتروفتش يقول ملتفتاً نحو الرجل العجوز مخاطباً إياه:
– تصور أنهم أرادوا حتى أن يدّعوا حقوقاً في الميراث. فاضطررت أن أعمد إلى أشد الإجراءات لأسمعهم صوت العقل وأردهم إلى الصواب. ذلك أنهم يعرفون ما يفعلون. هؤلاء أناس مدهشون! ولكن.. الحمد لله! لقد حدث الأمر بموسكو، فاتجهت فوراً إلى الكونت وأرجعناهم إلى الرشاد.
هتف الأمير يقول من جديد:
– لا تستطيع أن تتصور مدى ما أحدثته في نفسي من ألم واضطراب!
– آسف. ولكن ذلك كله لم يكن في حقيقة الأمر إلا سفاسف، وكان يمكن أن ينتهي بسلام، كما يحدث عادةً. إنني مقتنع بذلك.
ثم أضاف يقول مخاطباً العجوز من جديد:
– في الصيف الماضي دخلت الكونتيسة «ك...» أحد الأديرة بالخارج، فيما يقال. إن مواطنينا لا يملكون أية قدرة على المقاومة حين يتسلّط عليهم أولئك المحتالون، ولا سيما في الخارج.
– أظن أن مرد ذلك كله إلى أننا متعبون. ثم إن لأولئك الناس أسلوباً في التبشير يمتاز بكثير... بكثير من الرشاقة والأناقة، هذا عدا أن لهم شخصية قوية، فيعرفون كيف يخيفونك ويروعونك. لقد أخافوني أنا نفسي. أعترف لكم بذلك. حدث هذا سنة 1832 بمدينة فيينا. ولكنني لم أسقط بين أيديهم، بل وليت هارباً. هأ هأ! يميناً لقد وليت هاربا!...
هنا تدخلت الأميرة بيلوكونسكايا فجأة فقالت:
– لقد سمعت يا صديقي العزيز إنك في ذلك الوقت قد هربت من فيينا إلى باريس في صحبة امرأة جميلة هي الكونتيسة ليفيكي. فمن أجل تلك المرأة، لا تخلصاً من يسوعي، إنما تركت الخدمة.
أجاب العجوز مبتسماً لحلاوة تلك الذكرى الجميلة:
– طيب... ولكن هذا لا ينفي أن ذلك حدث بسبب يسوعي..
ثم أضاف يقول بلهجة لطيفة وبمودة، مخاطباً الأمير ليون نيقولايفتش الذي كان يصغي إلى الحديث فاغر الفم من الدهشة، وكان ما يزال يبدو مصعوقاً:
– يبدو عليك أن لك عواطف دينية قوية جداً، وذلك أمر يندر أن نراه الآن لدى الشباب.
كان واضحاً أن العجوز يرغب في معرفة الأمير معرفة أكمل، وأن هناك أسباباً تدفعه إلى الاهتمام به اهتماماً قوياً.
قال الأمير فجأة:
– كان بافلتشيف رجلاً صافي الذهن راجح العقل، وكان مسيحياً حقاً. فكيف يمكن أن يعتنق ديانة.. ليست مسيحية؟ ذلك أن الكاثوليكية دين ليس من المسيحية في شيء!
كانت عيناه تسطعان وكان يجيل بصره على من حوله كأنه يريد أن يشمل الحضور كافة بنظرة واحدة.
جمجم العجوز وهو يرشق إيفان بتروفتش بنظرة تنم على الدهشة:
– أظن أن في هذا بعض الغلوّ!
وانبرى إيفان بتروفتش يسأل الأمير قائلاً له وهو يستدير على كرسيه:
– أفليست الكاثوليكية ديانة مسيحية؟ فما هي إذن؟
استأنف الأمير كلامه قائلاً بانفعال شديد ولهجة قاطعة إلى أقصى الحدود:
– هي أولاً ديانة ليس فيها شيء من المسيحية. هذه نقطة أولى. أما النقطة الثانية فهي أن المسيحية الرومانية أسوأ من الإلحاد نفسه في رأيي! نعم، ذلك هو رأيي! إن الإلحاد يقتصر على المناداة بالعدم، أما الكاثوليكية الرومانية فهي تمضي إلى أبعد من ذلك: إنها تبشر بمسيح شوّهته وأفسدت صورته وسوّأت وجهه، إنها تبشر بمسيح هو نقيض الحقيقة. إنها تبشر بنقيض المسيح، أؤكد لكم! هذه قناعتي الشخصية منذ زمن طويل، وما أكثر ما عذبتني أنا نفسي... إن الكاثوليكية الرومانية تؤمن بأن الكنيسة لا يمكن أن تبقى على الأرض ما لم تمارس سلطة سياسية شاملة، وتكتب: «لا نستطيع» ! بل إن الكنيسة الرومانية في رأيي ليست ديانة. وإنما هي استمرار للإمبراطورية الرومانية الغربية. فكل شيء فيها خاضع لهذه الفكرة؛ حتى الإيمان. لقد استولى البابا على أرض، وأصبح له ملك زمني، وأشهر السيف. ثم لم يتغير شيء منذ ذلك الحين، اللهم إلا أن يكون السيف قد أضيف إليه الكذب والمكر والخديعة والتعصّب والخرافة والسفالة. لقد عبثوا بأقدس عواطف الشعب وأنقاها وأكثرها سذاجة وبراءة، وحماسة وحرارة. لقد باعوا كل شيء بالمال، كل شيء!... باعوا كل شيء بسلطة زمنية حقيرة. فكيف لا تكون هذه العقيدة نقيض المسيحية؟ وكيف يمكن أن لا تكون الكاثوليكية سبب الإلحاد؟ لقد خرج الإلحاد من الكاثوليكية الرومانية نفسها! وبأتباع الكاثوليكية إنما بدأ الإلحاد: هل كان يمكن أن يصدّقوا أنفسهم؟ ثم قوي الإلحاد بالكره الذي حمله لهم الناس. إن الإلحاد ثمرة أكاذيبهم وعجزهم الأخلاقي. الإلحاد! ما يزال الإلحاد في بلادنا لا يُرى إلا في بعض فئات المجتمع، لا يُرى إلا لدى «المجتثة جذورهم» على حدّ التعبير الموفق الذي استعمله أوجلين بافلوفتش. أما هناك، في أوروبا، فإن جماهير كبيرة من الشعب قد بدأت تفقد الإيمان. كان عدم تدينها في الماضي ناشئاً عن الجهل والكذب. أما الآن فهو ناشئ عن التعصّب وعن كره الكنيسة والمسيحية!
توقف الأمير عن الكلام لاهثاً. لقد تكلم بتدفق شديد. هو الآن شاحب اللون مختنق الصدر. تبادل الحضور نظرات دهشة. وأخيراً أخذ الشيخ الصغير يضحك ضحكاً صريحاً. وأخرج الأمير «ن...» نظارته وأخذ يحدّق بها إلى الأمير ليون نيقولايفتش. وترك الشويعر الألماني الركن الذي كان قد تلبث فيه حتى ذلك الحين فاقترب من المائدة وعلى شفتيه ابتسامة عداوة.
قال إيفان بتروفتش بصوت ممطوط، وقد لاح في وجهه الضجر بل والانزعاج:
– أنـ... ـت.. تبا.. لغ... كثيراً! إن تلك الكنيسة يمثّلها كذلك رجال يستحقون كل احترام، رجال فضلاء...
– أنا لم أتكلم عن ممثلي الكنيسة كأفراد. وإنما تكلمت عن الكنيسة الرومانية في حقيقتها، أنا إنما تكلمت عن روما. هل يمكن أن تزول الكنيسة زوالاً تامًا؟ أنا لم أقل هذا قط!
– موافق. ولكن كل ما تقوله معروف فلا داعي إلى الكلام فيه. ثم... ثم إن هذا كله من اختصاص علم اللاهوت...
– لا، لا، ليس هذا من اختصاص علم اللاهوت وحده، أؤكد لك! هذا أمر يمسّنا كلّنا أقرب كثيراً مما تتصور. هنا إنما يكمن خطؤنا: ما يزال يصعب علينا أن نألف فكرة أن هذه المسألة ليست مسألة لاهوتية فحسب! لا تنسوا أن الاشتراكية هي أيضاً ثمرة الكاثوليكية. فالاشتراكية، كأخيها الإلحاد، إنما ولدت من اليأس. إنها ردّ على الكاثوليكية. إنها ترمي إلى امتلاك السلطة الروحية التي فقدها الدين، تهدف إلى إرواء الظمأ الشديد الذي يحرق النفس الإنسانية؛ وهي تنشد السلام لا في المسيح بل في العنف! إننا نرى هنا، كما نرى في الكاثوليكية، أناساً يريدون تأمين الحرية بواسطة العنف، ويريدون تحقيق الإلحاد بالسيف والدم! «ممنوع الإيمان بالله. ممنوع التملّك. ممنوع أن يكون للمرء شخصية. الأخوّة أو الموت، ولو قطع مليونا رأس». وقديماً قيل: تعرفونهم من أعمالهم! ألا لا يذهبنْ بكم الظن إلى أن هذا كله لا أذى فيه، ولا خطر علينا منه! لا... يجب علينا أن نعمل، وأن نعمل بأقصى سرعة. ينبغي لمسيحنا، للمسيح الذي حافظنا عليه ولم يستطيعوا حتى أن يعرفوه، ينبغي لهذا المسيح أن يشرق ويتألق في مواجهة الغرب. علينا أن ننتصب أمامهم، لا لنعض صنّارة اليسوعية فتصطادنا، بل لننفث فيهم حضارتنا الروسية. ولا يقل أحدٌ أنهم يعرفون كيف يبشرون بأناقة ورشاقة، كما قال واحد منا منذ برهة...
أجاب إيفان بتروفتش قائلاً وقد لاح في وجهه قلق شديد، وأخذ يلقى على ما حوله نظرات دهشة، بل وطفق يظهر علامات رعب:
– ولكن اسمح لي، اسمح لي... لا شك أن آراءك آراء محمودة، ولا شك أنها تزخر وطنية، ولكن ذلك كله فيه غلوّ كثير، فمن الخير أن نقف عند هذا الحد لا نتجاوزه.
– لا، ليس ثمة شيء من غلوّ، بل إن ما أقوله هو دون الحقيقة، لأنني عاجز عن التعبير عن فكري كلّه، ولكن...
– ا... اسـ.. ـمح لي!
صمت الأمير جامداً على كرسيه، رافعاً رأسه، راشقاً إيفان بتروفتش بنظرة مشتعلة.
قال الشيخ الصغير بلهجة ودود دول أن يخرج عرن هدوئه:
– يبدو لي أنك أخذت فعلة صاحبك المحسن إليك مأخذ الفاجعة. إن أعصابك مهتاجة.. وربما كان مردّ ذلك إلى العزلة التي تعيش فيها. فلو عاشرت الناس (وأنا آمل أن يحسن المجتمع الراقي استقبال شاب ممتاز مثلك) لهدأت ثائرتك ولوجدت أن هذا كله أبسط كثيراً مما تتصوّر!... ثم إن هذه الحالات نادرة جداً.. وفي رأيي أن بعضها يرجع إلى شعبنا، وأن بعضها الآخر يرجع إلى... السأم..
صاح الأمير يقول:
– نعم.. هذا هو الأمر تماماً. هذه فكرة عظيمة! إنه «السأم»! إن «سأمنا» هو السبب. ليس الشبع هو السبب بل السأم! هنا جافيت أنا الصواب. فنحن أناس عطاش لم يرتوِ ظمؤنا، بل قل إن ظمأً محموماً يلتهمنا التهاماً! و... لا تظنوا أن ذلك ظاهرة تبلغ من تفاهة الشأن أنها لا تستحق منا إلا الضحك.. معذرة، يجب على المرء أن يحسن الإحساس بالأمور قبل وقوعها، والتنبؤ بالأشياء قبل حدوثها. إن مواطنينا متى لمسوا الشاطئ، ومتى اطمأنوا إلى أنه هو الشاطئ فعلاً، بلغوا من السرور والحبور أنهم ما لبثوا أن يصلوا من ذلك إلى أقصى التطرّف. لم هذا؟ إن حالة بافلتشيف تدهشكم، فأنتم تتصوّرون أنه فقد عقله أو أنه هوى من فرط طيبته. وليس الأمر كذلك في الحقيقة. إن تحمّس النفس الروسية في مثل هذه الظروف لا يثير دهشتنا نحن وحدنا، بل يثير دهشة أوروبا كلها. حين ينتقل روسي إلى الكاثوليكية فإنه لا بدّ أن يصبح يسوعياً، ولا بدّ أن يصبح من أكثر اليسوعيين تطرّفاً وتعصّباً. وإذا اعتنق الروسي مذهب الإلحاد، فإنه لا يتردّد في المطالبة باستئصال الإيمان بالله بحدّ السيف! فما سبب التعصّب المفاجئ؟ ألا تعرفون ذلك؟ سببه أن الروسي يعتقد أنه اكتشف وطناً جديداً، لأنه لم يدرك أن له وطناً هنا، فإذا هذا الاكتشاف يملؤه فرحاً. لقد وجد شاطئ الأمان، لقد وصل إلى البر. فها هو ذا يهرع إليه ويغمره بالقبلات! إنه لا يفعل ذلك من باب الغرور؛ إن الروس لا يصبحون ملاحدة أو يسوعيين لأن شعوراً مسكيناً بالزهوّ قد سيطر على أنفسهم. وإنما هم يصبحون ملاحدة أو يسوعيين بتأثير ظمأ نفسي، بتأثير حنين إلى عالم أرفع وأسمى، إلى أرض ثابتة وطيدة، إلى وطن يحل محل الوطن الذي كفوا عن الإيمان به لأنهم لم يعرفوه في يوم من الأيام! إن الشعب الروسي سهل الانتقال إلى الإلحاد، إنه أسهل انتقالا إلى الإلحاد من أي شعب في العالم. ومواطنونا لا يصبحون ملاحدة فحسب، بل هم «يؤمنون» بهذا الإلحاد أيضاً، كأنه دين جديد، لا يلاحظون أنهم بذلك إنما يؤمنون بالعدم. فإلى هذا الحد نحن عطاش إلى الإيمان. «من لم يكن تحت قدميه أرض، لم يكن له إله أيضاً». ليست هذه الفكرة مني أنا. وإنما عبّر لي عنها تاجر التقيت به في سفر. الحقيقة أنه لم يقل هذا الكلام بنصه، وإنما قال: «من يجحد وطنه يجحد إلهه أيضاً». تصوروا أنه قد وجد في روسيا أناس مثقفون ثقافة عالية انتموا إلى ملّة «الخليين» .. والحق أنني أتساءل لماذا نعدّ هذه الملة أسوأ من العدميين واليسوعيين والملحدين؟ ألا إن عقيدتهم قد تكون أعمق من عقيدة هؤلاء... ولكن ذلكم ما يمكن أن يؤدي إليه قلق النفس!... اجعلوا رفاق كريستوف كولومبس العطاش الملتهبين، يرون شواطئ «العالم الجديد»؛ اكشفوا للإنسان الروسي عن «العالم» الروسي؛ أتيحوا له أن يجد ذلك الذهب، ذلك الكنز الذي تخفيه الأرض عن بصره؛ أظهروه على ما يستحق للإنسانية كلها من تجدد وانبعاث ربما بفضل الفكر الروسي والإله الروسي والمسيح الروسي؛ افعلوا ذلك كله تروا أي عملاق قوي عادل، حكيم حليم، سينتصب قائماً أمام العالم المذهول المروّع. ذلك أنهم لا يتوقعون منا إلا السيف، السيف والعنف، فهم إذ يقيسوننا بمقياس أنفسهم لا يستطيعون أن يتصوّروا قوّتنا في صور غير صور الهمجية. ذلك ما كان حتى الآن، ولسوف ينمو هذا الظن الخطأ مزيداً من النموّ في المستقبل. و...
غير أن حادثاً وقع في تلك اللحظة فقطع كلام الخطيب على نحو لم يكن في الحسبان.
إن هذا الحديث الطويل المحموم كله، إن هذا السيل المتدفق من الكلام المضطرب المصطخب الذي يعبر عن فوضى من الأفكار المتحمّسة المشوّشة المتصادمة، إنما كان إذن علامة استعداد عقلي لدى الشاب، استعداد خطرٍ كل الخطر، راح يفور ويغلي الآن على حين فجأة دون سبب ظاهر.
وقد دُهش من بين الحضور جميع أولئك الذين يعرفون الأمير (حتى لقد شعروا بخجل وخزي)، دهشوا من اندفاعته هذه التي لا تتفق وما عهدوا فيه من وضع متخبّط بل خجول يتّسم في جميع الظروف بكياسة نادرة ولباقة كاملة وشعور فطري بما يليق التزامه من آداب. ولم يفلحوا في فهم علة هذا الخروج عن عاداته المعهودة فيه، وهو خروج لا يمكن تعليله حتماً بما انكشف له من أمر بافلتشيف. أما في ركن السيدات فقد عُدّ إنساناً فقد عقله وأصابه جنون. وقد اعترفت الأميرة بيلوكونسكايا فيما بعد أنها «كانت ستهرب لو دام ذلك المشهد برهة أخرى». وأما «الشيخان الصغيران» فقد كادا يفقدان سيطرتهما على نفسيهما منذ لحظة الشده الأولى. اصطنع الجنرال الموظف الكبير هيئة الاستياء والقسوة دون أن يتحرك عن كرسيه. ولزم الكولونيل هدوء ظل يبتسم ابتساماً زائفاً وهو ينظر فيما حوله ليرى كيف يتصرف الآخرون وبماذا عساهم يردون. وعلى كل حال، كان يمكن أن تنتهي هذه الفضيحة كلها على أبسط نحو طبيعي، وربما في دقيقة واحدة. حتى لقد قام إيفان فيدروفتش الذي أدهشه كل ذلك، ولكنه ثاب إلى نفسه واستردّ هدوءه قبل الآخرين، قام بعدة محاولات لوقف الأمير، فلما لم يفلح اقترب منه بثبات وعزم. فلو انقضت دقيقة واحدة أخرى لكان من الممكن، إذا اقتضت الضرورة ذلك، أن يقرر إخراجه بلطف ومودّة وصداقة، زاعماً له أنه مريض، وذلك زعم قد يكون صادقاً، وهو على كل حال زعم كان إيفان فيدروفتش من جهته مقتنعاً به كل الاقتناع فلا يخالجه فيه ريب... ولكن الأمور جرت مجرى آخر!...
كان الأمير، منذ دخل الصالون، قد مضى يجلس في أقصى مكان مبتعداً عن إناء الخزف الصيني التي خوفته آجلايا من كسره ذلك التخويف كله. شيء لا يكاد يصدّقه العقل: إن الأمير، بعد الذي قالته له آجلايا بالأمس، قد ترسخ في نفسه اقتناع لا سبيل إلى مغالبته بأنه لن يستطيع تحاشي كسر هذا الإناء مهما يبذل من جهد لتفادي هذه المصيبة. ذلك توجس غريب لا يصدّق. فإليكم ما حدث: في أثناء السهرة كانت قد اجتاحت نفس الأمير مشاعر أخرى، قوية ممتعة في آن واحد، هي تلك المشاعر التي سبق أن تحدثنا عنها. وقد صرفته هذه المشاعر عن توجسه وأنسته إياه. فلما سمع أحداً ينطق باسم بافلتشيف، وقاده إيفان فيدروفتش إلى إيفان بتروفتش ليقدمه إليه ويعرفه به مرة أخرى، اقترب من المائدة وجلس على مقعد قرب إناء الخزف الصيني، الضخم الرائع، الموضوع فوق قاعدة في مستوى كوعه تقريباً، ووراءه قليلاً.
وحين نطق بالكلمات الأخيرة من خطابه نهض فجأة، وأجرى ذراعه بحركة واسعة طائشة، ولفت كتفيه على غير إرادة منه، فإذا... إذا بصرخة تدوّي منطلقة من أفواه الحضور جميعاً! لقد ترنّح الإناء، وترجّح في أول الأمر ولاح أنه يهم أن يسقط على رأس أحد الشيخين الصغيرين، لكنه لم يلبث أن مال إلى الجهة الأخرى التي كان فيها الألماني، فلولا أن أسرع الألماني يثب من مكانه مرتاعاً لسقط عليه، لكنه وقد استطاع الألماني أن يفر منه بمثل لمح البصر سرعة، هوى على الأرض، فأحدث سقوطه قرقعة شديدة ردّ عليها الحضور بصيحات. وتناثر حطامه الثمين على السجادة هنا وهنالك! استولى على الحفل ذعر ودهشة. أما الأمير فمن الصعب بل ومن نافل القول أن نصف عواطفه! لكننا لا نستطيع أن نعفي أنفسنا من الإشارة إلى أن إحساساً خاصاً قد اجتاحه في تلك اللحظة عينها وسرعان ما تميّز عن إحساسات أخرى غيره، أليمة أو مرعبة. إن الإحساس الذي شدهه وأسره أكثر من أي إحساس آخر، لم يكن هو الشعور بالخجل أو الفضيحة أو الرعب أو المفاجأة، بل هو الشعور بتحقق النبوءة! لو سألته أن يعلل لك ما يشتمل عليه ذلك الشعور من قوة الأسر لما استطاع أن يجيبك ولكنه كان يحسّ أن هذا الشعور قد حاصر قلبه وملأ نفسه برهبة تكاد تكون غيبية. وانقضت لحظة: بدا له أن كل شيء يتسع من حوله وأن الرهبة تتبدّد أمام إحساس بالضياء والفرح والنشوة والوجد. انقطعت من ذلك أنفاسه و... ولكن ذلك لم يدم إلا مدة قصيرة. الحمد لله! لم يكن الأمر ما كان يظن. استرد تنفسه، ونظر حوله.
لبث وهلة طويلة كمن لا يشعر بالاضطراب الذي يحيط به؛ بل قل إنه كان يفهم ويرى رؤية واضحة كل ما كان يجري، ولكنه كان يحسّ كأنه خارج الحادثة، كشخص خفي من شخوص الحكايات الخرافية، يرقب في حجرة تسلل إليها أناساً غرباء يهمه أمرهم. رأى حطام الإناء يُجمع، وسمع أحاديث سريعة، وأبصر آجلايا محدقة إليه: كان وجه آجلايا شاحباً وكانت هيئتها غريبة، غريبة جداً، ولكن نظرتها لا تعبر عن أي كره، ولا تعبّر عن أي غضب. كانت تتأمله مرتاعة، غير أن عينيها زاخرتان بالعطف والمحبة، بينما هي تلقى على الآخرين نظرات ساطعة... فاجتاحت قلبه بهجة لذيذة على حين فجأة.
وفي النهاية لاحظ مبهوتاً أن جميع الحضور قد جلسوا، حتى لقد كانوا يضحكون فكأن شيئاً لم يحدث! وانقضت دقيقة فاشتدّ الضحك. إنهم يضحكون الآن من انشداهه، ولكنهم يضحكون باشين مرحين، يضحكون بمودّة ومحبة. وكان بينهم عدّة أشخاص يكلمونه بعبارات فيها كثير من الملاطفة، ولا سيما إليزابت بروكوفيفنا التي راحت تتكلم ضاحكة وتقول كلمات رقيقة غاية الرقة. وها هو ذا يحس بإيفان فيدروفتش يربت على كتفه فجأة بكثير من الصداقة. وكان إيفان بتروفتش يضحك هو أيضاً. ولكن الشيخ الصغير كان أكثر الحضور بشاشة ولطفاً ومحبة ومودّة: إنه يتناول يد الأمير ويشدّ عليها برفق ويربت عليها بيده الأخرى، ويناشده أن يهدأ بالًا ويطيب نفساً، كما يفعل المرء مع طفل اعتراه خوف، فكان لذلك وقعٌ جميل في نفس الأمير. أخذ الأمير يتأمّل وجه الشيخ مفتوناً، وبلغ من شدّة الابتهاج أن أنفاسه تقطعت فهو لا يقوى على أن ينطق بكلمة واحدة.
وتمتم يقول أخيراً:
– كيف؟ أصحيح حقاً أنكم تغفرون لي؟ و... أنت أيضاً يا إليزابت بروكوفيفنا؟
فاشتدّ الضحك، وترقرقت الدموع في عيني الأمير من التأثر. إنه لا يستطيع أن يصدّق بهجة كهذه البهجة.
قال إيفان بتروفتش:
– لا شك في إنه كان إناء رائعاً. أنني أعرفه منذ خمس عشرة سنة ... نعم... منذ خمسة عشرة سنة...
وقالت إليزابت بروكوفيفنا بصوتٍ عال:
– أهذه كارثة؟ إن الإنسان نفسه إلى زوال، فلا يتحسّر المرء على جرة من فخار!
ثم أضافت تقول وقد لاح في وجهها تعبير عن الخوف:
– أصحيح أن الأمر أحدث فيك هذا الاضطراب كله يا ليون نيقولايفتش؟ هيا يا صديقي! كفاك كفاك! إنك لتخيفني حقاً!
سألها الأمير:
– وهل غفرتم لي «كل شيء»؟ لا كسر الإناء وحده، بل «كل شيء» أيضاً؟
وهمّ الأمير أن ينهض، ولكن الشيخ الصغير أمسك يده، وأبى أن يتركه.
همس يقول من فوق المائدة لصاحبه إيفان بتروفتش، ولكن صوته لم يكن من الخفوت بحيث لا يسمعه الأمير:
– «أمير غريب جداً وخطير جداً»!
قال الأمير:
– ألم أسئ إذن إلى أحد منكم؟ إنكم لا تستطيعون أن تتصوروا مدى السعادة التي تغمرني حين أتصور أنني لم أسئ إلى أحد منكم، ولم أجرح شعور أحد منكم! على أن الأمر لا يمكن أن يكون غير ذلك: فأنّى لمثلي أن يسئ إلى واحد مثلكم؟ إن مجرد افتراض هذا إهانة لكم!
– هدّئ نفسك يا صديقي. إنك تبالغ. لا داعي إلى إظهار هذا الشكر كله، بل لا محل لهذا الشكر كله البتة. هي عاطفة جميلة، لكنها تتجاوز الحدود.
– أنا لست شاكراً لكم فحسب، بل أنا معجب بكم أيضاً، وإني لسعيد بتأمّلكم. لعلني أعبّر عن شعوري تعبيراً غبياً، ولكن لا بد لي من الكلام، لا بد لي من الإفصاح عمّا يجول في خاطري، ولو من أجل نفسي.
كانت تعتري الأمير حركات اندفاعية تدل على الاضطراب والحمى. من الجائز جداً أن كلماته لم تعبر دائماً عما كان يود أن يقوله. كان يبدو عليه أن يريد أن يستأذن في الكلام. ووقع بصره على الأميرة بيلوكونسكايا.
قالت الأمير بيلوكونسكايا:
– لا تتحرّج يا عزيزي، لا تتحرّج. أكمل، أكمل، لا تلهث. وتكلم بغير خشية أو رهبة. إن هؤلاء السادة قد رأوا أناساً كثيرين أغرب منك وأعجب، فلن تدهشهم. يعلم الله أن فهمك أمر عسير، لكنك قد كسرت هذا الإناء فأخفت الجميع.
كان الأمير يصغي إليها مبتسماً، وفجأة سأل الشيخ الصغير قائلا:
– أأنت الذي أنقذت من النفي، منذ ثلاثة أشهر، الطالب بودكوموف والموظف شفابرين؟
فاحمر الشيخ قليلاً، وجمجم بكلام يدعوه فيه أن يهدئ نفسه. وأردف الأمير يقول مخاطباً إيفان بتروفتش:
– وعنك أنت سمعت أنك في مقاطعة «ن» قد وهبت أخشاب بناء لفلاحين يسكنون في أراضيك حين امتُحنوا بحريق، رغم أنهم بعد انعتاقهم كانوا قد أساءوا معاملتك.
فدمدم إيفان بتروفتش يقول:
– أوه! هذه مبالغة!
على أن وجهه قد عبّر عن ارتياح واعتزاز. والحق أنه لم يخطئ في هذه المرة حين تحدث عن مبالغة، ذلك أن الأمر لم يكن إلا شائعة كاذبة وصلت إلى مسامع الأمير.
واستأنف الأمير كلامه ملتفتاً إلى الأميرة بيلوكونسكايا فقال لها وهو يبتسم ابتسامة مشرقة:
– وأنتِ يا أميرة، ألم تكرمي وفادتي وتعامليني معاملة الابن اعتماداً على رسالة توصية من إليزابت بروكوفيفنا؟ ألم تسدي إليّ كذلك نصيحة لن أنساها ما حييت، كما تنصح أم ابنها؟
قالت الأميرة في غضب:
– ماذا أصابك؟ إنك لشاب طيب ولكنك مضحك. فإذا نفحك أحد قرشين أخذت تكيل له الشكر كأنه أنقذ حياتك؟ أتظن أن هذا حسن؟ الواقع أن هذا مستقبح مستهجن!
وأوشكت الأميرة بيلوكونسكايا أن تغضب مزيداً من الغضب، ولكنها أخذت تضحك على حين فجأة، وكان في ضحكها هذه المرة بشاشة ومودّة. فهدأ وجه إليزابت بروكوفيفنا أيضاً، وأشرق محيا إيفان فيدروفتش.
تمتم الجنرال بلهجة الارتياح والفرح مردّداً كلمات الأميرة بيلوكونسكايا التي أثرت فيه تأثيراً كبيراً:
– لقد قلت حقاً إن ليون نيقولايفتش رجل يبلغ من الـ... رجل يمكن أن... على شرط أن لا يلهث ويختنق أثناء الكلام، كما نبّهت الأميرة إلى ذلك...
وكانت آجلايا وحدها تبدو حزينة... ومع ذلك كان وجهها ما يزال مصطبغاً بحمرة، ربما من أثر الاستياء.
كرر الشيخ الصغير يقول لإيفان بتروفتش:
– حقا إنه لطيف جدا.
كان الأمير في حالة اضطراب ما ينفك يزداد. وها هو ذا يستأنف الكلام فيقول بتدفق يتسارع أكثر فأكثر، تدفّق غير عادي، تدفق مندفع حار محموم:
– لقد دخلت إلى هنا معذّب القلب، و... وكنت خائفا منكم، وكنت خائفا من نفسي. كنت خائفا من نفسي خاصة. حين عدت إلى بطرسبرج كنت قد آليت على نفسي لأعرفنّ أناس الطبقة الأولى مهما كلف الأمر، أولئك الذين ينتمون إلى أسر عريقة أنتمي أنا إلى واحدة منها بالوراثة. أنا الآن بين أمراء مثلي، أليس كذلك؟ كنت أريد أن أتعرّف إليكم.. كان ذلك أمراً لا بدّ منه، لا بدّ منه قطعاً! لقد طالما سمعت عنكم سوءاً كثيراً، لقد سمعت عنكم من السوء أكثر مما سمعت عنكم من الخير. حُدّثت عن ضيق فكركم، عن فقر اهتمامكم، عن رجعية عقلكم، عن ضحالة ثقافتكم، عن سخافة عاداتكم. آه... ما أكثر ما يُكتب عنكم من أمور! لذلك كنت زاخر النفس بحب الاطلاع وشدّة القلق حين جئت إلى هنا اليوم. كان ينبغي لي أن أرى بعيني، وأن أفكر بعقلي، وأن أكون لنفسي اقتناعاً شخصياً عن السؤال التالي: هل صحيح أن الطبقة العليا من المجتمع الروسي تافهة لا تساوي شيئاً ولا تصلح لشيء وأن زمانها قد مضى، وأن حيويتها قد نضبت، وأنها أصبحت عاجزة عن أي شيء إلا أن تموت، وأنها رغم ذلك ما زال مصرّة إصراراً عنيداً بدافع الغيرة الحقيرة على أن تحارب رجال.. رجال المستقبل، وأن تسدّ أمامهم الطريق، دون أن تدرك أنها هي نفسها تُحتضر وتلفظ أنفاسها الأخيرة؟ صحيح أنني كنت لا أصدق كثيراً هذه الآراء، لأن بلادنا روسيا لم تضم في يوم من الأيام طبقة أرستقراطية حقاً، اللهم إلا رجال البلاط الذين تميّزوا بزيهم الرسمي أو تميّزوا بمصادفة. ولكن تلك الطبقة قد زالت الآن زوالاً تامًا، أليس الأمر كذلك؟
قال إيفان بتروفتش وهو يضحك ساخراً بخبث ومكر:
– دعك من هذا الأمر! ليس الأمر كذلك!
فدمدمت الأميرة بيلوكونسكايا تقول نافذة الصبر:
– ها هو ذا يستأنف...
فقال الشيخ الصغير بصوت خافت:
– دعوه يتكلم! إن جسمه كله يرتجف!
كان الأمير قد خرج عن حالته الطبيعية قطعاً. وانطلق يقول:
– فماذا رأيت هنا؟ رأيت أناساً يفيضون لطافة فكر، وصراحة قول، وقوة ذكاء. رأيت شيخاً وقوراً ينتبه إلى صبي مثلي انتباهاً زاخراً بالعاطفة والمحبة، ويصغي إلى كلامه حتى النهاية. وأرى أناساً قادرين على أن يفهموا وأن يغفروا. وهؤلاء أناس روس طيبون لا يكادون يقلون طيبة وميلاً إلى المودّة والصداقة عن أولئك الذين لقيتهم هناك؛ وهم لا يقلّون عنهم قيمة على كل حال. فهل ثمة مفاجأة أحلى من هذه المفاجأة؟ آه... اسمحوا لي أن أفصح عن شعوري هذا! سمعت الناس كثيراً يقولون إن كل شيء في المجتمع الراقي لا يعدو أن يكون آداباً سطحية ومحافظة على الشكل بالية، أما نسغ الحياة فقد جفّ. وكثيراً ما اعتقدت أنا بصدق هذا الكلام. ولكنني أرى الآن رؤية العين أن هذا لا يمكن أن يصدق على بلادنا. هل يمكن أن يصدّق المرء أنكم الآن جميعاً يسوعيون ودجّالون؟ منذ قليل سمعت قصة الأمير «ن»: أليست تشتمل على فكاهة زاخرة بالصدق والعفوية؟ أليست تشتمل على طيبة حقيقية؟ هل يمكن أن تخرج أقوال كهذه الأقوال من فم رجل... ميت، من فم رجل جفّ قلبه ويبست موهبته؟ هل كان في وسع أموات أن يستقبلوني كما استُقبلت؟ أليس هذا عنصر للمستقبل يجيز لنا أن نتصور أجمل الآمال؟ هل يمكن لأفراد مثلكم أن يكونوا قليلي الإدراك وأن يبقوا في خلف؟
قال «الموظف الكبير»، وهو يبتسم ابتسامة فيها قليل من السخر:
– أرجوك. هدئ نفسك يا صديقي العزيز. سنتكلم عن هذا كله في يوم آخر، وسيسرني كثيراً أن...
وتنحنح إيفان بتروفتش والتفت على مقعده. وعاد إيفان فيدروفتش يضطرب ويتحرك. إن رئيسه الجنرال شُغل بالحديث مع زوجة الموظف الكبير، وأصبح لا يولي الأمير أي انتباه. ولكن السيدة تصغي إلى الموظف الكبير بإحدى أذنيها، وكثيراً ما كانت تنقل بصرها إلى الأمير.
تابع الأمير كلامه يقول باندفاعة محمومة جديدة مخاطباً الشيخ الصغير بلهجة الثقة بل وبلهجة المسارّة:
– لا، لا، إن الأفضل أن أتكلم! إن آجلايا إيفانوفنا قد حظرت عليّ بالأمس أن أتكلم، حتى لقد حددت لي مواضيع يجب أن لا أقاربها، فهي تعلم أنني أكون مضحكاً حين أعالج مثل تلك المواضيع. أنا في السنة السابعة والعشرين من عمري، ولكني أدرك أن سلوكي سلوك طفل. لا يجوز لي أن أعبر عن فكري. قلت هذا منذ زمن طويل. لم أستطع أن أتكلم بصراحة، مفتوح القلب، إلا في موسكو، مع روجويين... قرأنا بوشكين معاً، قرأناه كاملاً. كان هو لا يعرفه؛ كان لا يعرف حتى اسم بوشكين. ما زلت أخشى أن تفسد هيئتي المضحكة فكري، وأن تحطّ من قدر «الفكرة الرئيسية». إن حركاتي وإشاراتي غير موفّقة. إنها تجيء في غير محلها وأوانها، فتثير الضحك وتفسد الفكرة. ينقصني أيضاً حسن الاعتدال والقصد. وذلك أمر خطير، بل هو أخطر شيء... أنا أعلم أن خير ما أفعله هو أن أبقى ساكناً لا أتحرك، وصامتاً لا أتكلم. فحين أسكن وأصمت يمكن أن أبدو للناس عاقلاً بل عاقلاً جداً، ويتاح لي عدا ذلك أن أفكر. ولكن من الأفضل الآن أن أتكلم. إنكم تنظرون إليّ بترحيب كبير وبشاشة عظيمة، لذلك قررت أن أتكلم، إن في ملامح وجوهكم فتنة رائعة. لقد وعدت آجلايا إيفانوفنا بالأمس أن أصمت طوال السهرة...
قال الشيخ الصغير وهو يبتسم:
– حقا؟
– غير أن هناك لحظات أقول فيها لنفسي إن هذا التفكير خطأ، فالصدق المخلص يساوي حركة موفّقة. أليس كذلك؟ أليس هذا صحيحا؟
– أحياناً.
– أريد أن أشرح لكم كل شيء، كل شيء، كل شيء! آ... نعم!... أتظنون أنني امرؤ خيالي؟ مثالي؟ لا، لا؛ يميناً أن أفكاري كلها بسيطة كل البساطة... ألا تصدقونني؟ أتتبسمون؟ اسمعوا.. أنا في بعض الأحيان جبان لأنني أفقد الإيمان بنفسي. منذ قليل، حين كنت آتياً إلى هنا، تساءلت: «كيف عساني أكلّمهم؟ ما هي العبارات التي أستهلّ بها الحديث حتى يفهموني عني ولو قليلا؟» شعرت بخوف شديد، ومنكم أنتم إنما خفت. فهل كان من حقي أن أخاف؟ ألم يكن خوفي شيئاً مخجلاً معيباً؟ أي ضير في أن يوجد أمام إنسان تقدمي جمهور كبير من الرجعيين والشريرين؟ على أن فرحي الآن ناشئ عن اقتناعي بأن ذلك الجمهور لا وجود له في الواقع، وأن ليس ثمة إلا عناصر زاخرة بالحياة. ثم إنه ما ينبغي لنا أن يبث الاضطراب في نفوسنا أن نتصور أننا مضحكون، أليس كذلك؟ الحق أننا مضحكون. فنحن خفاف طائشون، ونحن ذوو عادات سخيفة مؤسفة، ونحن نضجر ونمل، لا نجيد أن نرى ولا أن نفهم. نحن جميعاً هكذا، جميعاً، أنتم، وأنا، وهم أيضاً. آه... لا يزعلنّكم أن تسمعوني أقول لكم وجهاً لوجه إنكم مضحكون؟ وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يمكن أن تُعدّوا صُناع تقدم؟ بل إنني لأقول لكم إن من الخير في بعض الأحيان أن يكون المرء مضحكاً، فيكون الناس أميل إلى الصفح والتواضع. إنه لم يوهب لنا أن نفهم كل شيء جملة واحدة؛ والإنسان لا يبلغ الكمال دفعة واحدة! فمن أجل الوصول إلى الكمال، يجب في أول الأمر أن لا يفهم المرء أشياء كثيرة. فمن يدرك بسرعة مفرطة يدرك إدراكاً فاسداً في أغلب الظن. إنني أقول هذا لكم، لكم أنتم الذين أمكن أن تفهموا أشياء كثيرة جداً... دون أن تفهموها. لقد أصبحت الآن لا أخشى من جانبكم شيئاً. فإنكم تصغون بغير غضب إلى صبي مثلي يكلمكم بهذه اللهجة، أليس كذلك؟ قطعاً! أوه.. لسوف تستطيعون أن تنسوا... لسوف تستطيعون أن تغفروا لأولئك الذين أساءوا إليكم، ولأولئك الذين لم يسيئوا إليكم، على حد سواء؛ والأصعب أن تغفروا للذين لم يسيئوا إليكم في شيء، وذلك لسبب بسيط هو أنهم لم يذنبوا في حقكم «البتة»، وأن شكواكم منهم لا تقوم إذن على أساس. ذلكم ما كنت أنتظره من أهل المجتمع الراقي، ذلكم ما كنت أتعجل أن أقوله لكم حين كنت آتياً إلى هنا دون أن أعرف العبارات التي يجب عليّ أن أستعملها في التعبير عنه... أتضحك يا إيفان بتروفتش؟ أنت تعتقد أنني ديموقراطي، أو داعية من دعاة المساواة، إنني هنا محام «عنهم»، وإنني «عليهم» خائف، أليس كذلك؟ (أضاف الأمير هذا وهو يطلق ضحكة تشنجية؛ ولقد كان في كل لحظة يطلق ضحكة صغيرة متقطعة متحمّسة). فاعلم إذن إنني عليكم خائف، عليكم جميعاً، عليكم جميعاً في آن واحد. أنا نفسي أمير من سلالة قديمة أجلس الآن مع أمراء. إنني أتكلم عن سلامتنا المشتركة، عن خلاصنا المشترك، حتى لا تندثر طبقتنا وتغيب في الظلمات بغير نفع، لأنها لم تتنبأ بالمستقبل ولم تزد على أن تشاجرت وفقدت كل شيء. لماذا نزول ونخلي مكاننا للآخرين بينما نحن نستطيع أن نحتفظ بمكاننا في الطليعة على رأس المجتمع؟ لنكن تقدميين فنبقى نحن الأوائل. فلنصبح خدّاماً لنكون نحن الأعلين.
وهم فجأة أن ينهض عن مقعده، لكن الشيخ العجوز ظل ممسكاً به يحدّق إليه بعينين يزداد قلقهما لحظة بعد لحظة.
– اسمعوا! أنا أعرف أن الكلام لا ينفع. وأن الأفضل أن ندعو إلى الخير بالقدوة والعمل... ولقد بدأت.. و.. و... هل يمكن حقاً أن يكون المرء شقياً؟ أوه!... ما قيمة حزني وشقائي إذا كنت أحس أنني أملك القدرة على أن أكون سعيداً؟ أعلموا أنني لا أفهم أن يمرّ امرؤ بشجرة دون أن يشعر لمرآها بالسعادة، أو أن يكلم إنساناً دون أن يسعد بحبه... أواه! إن الكلمات تعوزني للتعبير عن هذا... ولكن ما أكثر الأشياء الجميلة التي نراها عند كل خطوة نخطوها، والتي يحس بجمالها كل إنسان مهما كان متدنياً! انظروا إلى الطفل، انظروا إلى فجر الإله الخالق، انظروا إلى العشب الذي ينبت في الأرض، انظروا إلى الأعين التي تتأمّلكم وتحبكم...
في أثناء هذا الخطاب الطويل كان الأمير قد نهض وهو يتكلم. وكان الشيخ الصغير يتابعه بنظراته مرتاعاً. ولوّحت إليزابت بروكوفيفنا بذراعيها وصاحت تقول: «آ.. رباه!...». كانت قد حزرت ما يجري، قبل سائر الحضور. وهرعت آجلايا نحو الأمير فأمكنها أن تصل إليه في اللحظة المناسبة لتتلقى سقوطه بذراعيها. كانت الفتاة مصعوقة من الرعب، منقلبة السحنة من الحزن، وقد سمعت العويل الوحشي «للروح التي رنّحت الشاب المسكين وطرحته أرضاً». إن الأمير يسجو الآن على السجادة وقد أسرع أحدهم فدسّ تحت رأسه وسادة.
لم يكن أحد يتوقع هذه الخاتمة. وحاول الأمير «ن» وأوجين بافلوفتش والشيخ الصغير، بعد ربع ساعة، أن يعيدوا إلى السهرة حياتها ونشاطها، ولكن ما انقضى نصف ساعة حتى انفض المدعوون جميعاً دون أن يفوتهم طبعاً أن يعبّروا عن مواساتهم وأسفهم ممزوجين بتعليقات على الحادث. قال إيفان بتروفتش فيما قال إن رأيه هو «أن الشاب متعصب للسلافية ، أو هو يدين بشيء من هذا القبيل، ولكن حالته ليست خطرة». ولم ينطق الشيخ العجوز بكلمة واحدة. صحيح أن الجميع قد زعلوا كثيراً أو قليلاً في غد أو في غداة غد. حتى إن إيفان بتروفتش شعر بأن كرامته قد أهينت، ولو إهانة يسيرة. ورئيس إيفان فيدروفتش أظهر لمرؤوسيه شيئاً من الجفاء مدة من الوقت. و«الموظف الكبير»، «حامي» أسرة إيبانتشين أصدر هو أيضاً، من جهته، ملاحظات متفخمة عن رب الأسرة، ولكنه أضاف إليها بعبارات لطيفة أنه شديد الاهتمام بمصير آجلايا. الواقع أنه رجل لا يخلو من طيبة، ولكن من الأسباب التي أثارت اهتمامه بالأمير في ذلك المساء، ما كان قد سمعه عن قصة العلاقات السابقة التي قامت بين الأمير وبين ناستاسيا فيليبوفنا. إن الأشياء القليلة التي سمعها عن هذا الأمر قد حيرته حيرة شديدة، وكان يودّ لو يلقي أسئلة حول هذا الموضوع.
قالت الأميرة بيلوكونسكايا لإليزابت بروكوفيفنا بعد السهرة، لحظة الانصراف:
– ما عسى أقول لك؟ إنه حسن وإنه سيئ... وإذا أردت معرفة رأيي صريحاً قلت لك إنه إلى السوء أقرب. إنك لترين بنفسك ما نوعه رجلًا: إنه مريض!
قررت إليزابت بروكوفيفنا في قرارة نفسها أن الأمير «لا يمكن، أن يكون لابنتها خطيباً». وفي الليل حلفت لنفسها أنه «لن يتزوج آجلايا ما بقيت هي على قيد الحياة». وقد استيقظت في الصباح على هذه الحال نفسها وهذا العزم نفسه. ولكنها وقعت في تناقض واضح عند الغداء بعد الظهر بقليل.
ذلك أن آجلايا قد أجابت عن سؤال ألقته عليها أختاها (بكثير من اللباقة والكياسة في الواقع)، فقالت بلهجة باردة لكنها متغطرسة:
– أنا لم أقطع له عهداً قط، ولا عددته خطيبي في يوم من الأيام. إنني لا أكترث به أكثر مما أكترث بأي شخص.
فما كان من إليزابت بروكوفيفنا إلا أن انبرت تقول بلهجة حزن:
– لم أكن أتوقع منك لغة كهذه اللغة! أنا أعلم أنه لا يصلح لك زوجاً، والحمد لله على أن الأمر انتهى هذه النهاية! ولكنني ما كنت لأصدّق أن يصدر عنك كلام مثل هذا الكلام! كانت فكرتي عنك مختلفة عما أراه الآن فيك كل الاختلاف. أنا من جهتي كان يمكنني أن أطرد جميع ضيوف الأمس ولا أحتفظ بأحد غيره. ذلك هو رأي فيه!...
قالت إليزابت بروكوفيفنا ذلك وصمتت فجأة كالمرتاعة مما قالت. آه... ليتها علمت كم كانت ظالمةً لابنتها في تلك اللحظة! كان كل شيء قد تقرر في ذهن آجلايا. إن آجلايا أيضاً كانت تنتظر ساعتها، ساعتها الحاسمة؛ وكان كل تلميح طائش أو إلماع متهور يحدث في قلبها جرحا عميقا.
الفصل الثامن
كانت بداية ذلك الصباح متأثرة لدى الأمير أيضاً بإحساسات أليمة. ولقد كان يمكن تفسير تلك الإحساسات بحالته المرضية. غير أن حزنه كان يخالطه شيء يبلغ من صعوبة التحديد أن ذلك بعينه كان سبب عذابه. صحيح أنه كان إزاء وقائع محسوسة ملموسة، دقيقة دقة أليمة مشجية، لكن حزنه يمضي إلى أبعد من كل ما كان يتذكره أو يتخيله. وكان يدرك أنه لن يستطيع وحده أن يهدئ قلقه. وشيئا فشيئا ترسّخ في نفسه انتظار حادث خارق حاسم سيقع له في ذلك اليوم ذاته. إن النوبة التي اعترته في الليلة البارحة أحرى أن تُعدّ نوبة بسيطة؛ حتى إنها لم تخلف من الاضطرابات غير نوع من السويداء، وشيء من الثقل في الرأس، وآلام في الأعضاء. وكان ذهنه صافياً، رغم أن نفسه كانت متألمة. لقد صحا من نومه في ساعة متأخرة، فسرعان ما عاودته ذكرى السهرة الماضية واضحة وضوحاً تاماً. حتى لقد وعى إنه نُقل إلى منزله بعد النوبة بنصف ساعة.
وعلم أن أسرة إيبانتشين أرسلت تسأل عن صحته. ثم أرسلت تسأل عن صحته مرة ثانية في الساعة الحادية عشرة والنصف. فأبهجه ذلك. وكانت فيرا ليبديفا من أوائل الأشخاص الذين زاروه وقدّموا له خدماتهم. لقد أجهشت تبكي فجأة منذ رأته. ولكنها أخذت تضحك حين هدأ الأمير روعها. وتأثر هو تأثراً قوياً بهذا العطف الذي أظهرته له الفتاة فتناول يدها وقبلها، فاحمرّت الفتاة وهتفت تقول مروعة وهي تسحب يدها بسرعة:
– آه... ماذا تفعل؟ ماذا تفعل؟
ولم تلبث أن غادرت الغرفة مضطربة اضطراباً خاصاً، ولكن وقتها قد اتسع لأن تروي للأمير أن أباها أسرع في الصباح المبكر إلى بيت «المتوفى» (بذلك سمّت الجنرال إيفولجين)، ليسأل هل مات في الليل. وأضافت أن الرأي مجمع على أن المريض لن يعيش مدة طويلة.
وحين عاد ليبديف إلى داره قبل الظهر، جاء إلى الأمير بنفسه، قائلاً إنه «لن يمكث إلا دقيقة واحدة، وإنه لا يريد إلا أن يطمئن عن صحة الأمير «الغالية»، إلخ. هذا عدا أنه يريد أن يزور «خزانته الصغيرة». وكان لا يتوقف عن الشكوى والأنين وإطلاق الصيحات تلو الصيحات، فلم يلبث الأمير أن طرده، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يتجرأ فيلقى أسئلة عن النوبة التي اعترت الأمير في الليلة البارحة، رغم أنه كان واضحاً أنه يعرف الأمر بأدق تفاصيله.
وبعد ليبديف وصل كوليا مسرعاً، وقال هو أيضاً إنه لا يريد أن يمكث إلا دقيقة واحدة. ولكن كوليا كان صادقاً حقاً، وكان يستبد به اضطراب عارم وقلق قاتم. وقد بدأ كلامه بأن سأل الأمير صريحاً جازماً ملحًّا أن يوضح له كل ما كانوا يخفونه عنه، وأضاف أنهم قد أعلموه بالأمس كل شيء تقريباً، لقد كان انفعاله عنيفاً عميقاً.
أطلعه الأمير على حقيقة الأمر بكل ما يحمله قلبه من مودّة ويضمره من محبة. عرض عليه الوقائع بدقة تامة. فكان وقعها على الفتى المسكين كوقع الصاعقة، فلم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة، وطفق يبكي صامتاً. وأحس الأمير أن هذا انطباع من الانطباعات التي لا تُمحى من النفس في يوم من الأيام، والتي لا بدّ أن تكون منعطفاً حاسماً في حياة مراهق. وأسرع يطلعه على الطريقة التي سيعالج بها الأمر، مضيفاً إلى قوله أن موت العجوز، في رأيه، ربما كان يرجع خاصة إلى الارتياع الذي خلفه في قلبه العمل السيئ الذي اقترفه، وأن هذا التأثر قد لا يقدر عليه سائر الناس.
سطعت عينا كوليا حين أنهى الأمير كلامه، وقال:
– ما أحقر جانيا وفاريا وبتتسين! لن أشاجرهم، لكن كلًّا منا سيسير بعد اليوم في طريقه! آه يا أمير، لقد شعرت منذ أمس بعواطف جديدة كثيرة. هذا درس لي! إنني أرى الآن أن عليّ أن أكفل معيشة أمي وأن أهيئ لها ما تحتاج إليه. إنها على كونها في منجى من العِوَز عند فاريا، فليس...
وتذكر كوليا أنهم ينتظرونه فأسرع ينهض؛ ثم سأل الأمير عن صحته متعجلاً، فلما أجابه الأمير عن سؤاله قال له بحرارة:
– أليس هناك شيئًا آخر؟ لقد سمعت إنه بالأمس... (على أنني لا شأن لي أنا بهذا)... ولكن إذا احتجت في أي يوم من الأيام إلى خادم وفيٍّ مخلص، لأي أمر من الأمور، فإن هذا الخادم واقف الآن أمامك. يخيّل إليّ أننا لسنا سعيدين، لا أنت ولا أنا، أليس كذلك؟ ولكن... ولكنني لا أسألك.. لا أسألك..
وحين انصرف كوليا غرق الأمير في أفكاره مزيداً من الغرق العميق. إن صحبه كافة يتنبؤون له بالشقاء؛ إنهم جميعاً قد خلصوا إلى نتائجهم؛ هم جميعاً يلوح عليهم أنهم يعرفون شيئاً يجهله هو. ليبديف يلقي أسئلة مستخفية؛ كوليا يلمح تلميحات مباشرة، فيرا تبكي. وحرك الأمير يلفه أخيراً بإشارة غضب قائلاً لنفسه: «لعن الله سوء الظن. إنه مرض!».
وفى نحو الساعة الثانية، استردّ وجهه هدوءه حين رأى السيدات إيبانتشين يجئن إليه زائرات «مدة دقيقة واحدة». إن زيارة دقيقة واحدة هي التي جاءت بهن فعلاً. لقد أعلنت إليزابت بروكوفيفنا بعد الغداء رأساً، إنهم سيخرجون لنزهة يشتركون فيها جميعاً. قالت ذلك بلهجة آمرة، قاطعة، جافة، دون شرح أو تعليل. وخرج الجميع، أي الأم والآنسات والأمير «شتش...»، وسرعان ما سارت إليزابت بروكوفيفنا في اتجاه عكس الاتجاه الذي يسيرون فيه كل يوم. فأدرك الجميع ما تنتوي، لكنهم لزموا الصمت مخافة أن يثيروا غضب ماما التي كانت تمشي في طليعتهم دون أن تلتفت، كأنها تريد أن تتحاشى اللوم أو الاعتراض. ونبّهتها آديلائيد أخيراً إلى أنه ليس من الضروري أن يركضوا هذا الركض كله للقيام بنزهة، وأنهم عاجزون عن مجاراتها في السير بهذه العجلة.
قالت إليزابت بروكوفيفنا وهي تلتفت إلى وراء:
– بالمناسبة: نحن الآن قريبون من بيته. وهو قريبنا على كل حال، مهما كان رأي آجلايا، ومهما يحدث من بعد؛ لا سيما وأنه الآن شقي ومريض. أنا على الأقل سوف أزوره حتماً. فمن شاء صحبني، ومن شاء أكمل نزاهته.
دخل الجميع طبعاً. وبادر الأمير يعتذر مرة أخرى عن كسر الإناء الذي تهشم بالأمس.. وعن الفضيحة التي وقعت...
فأجابت إليزابت ألكسندروفنا تقول:
– دعك من هذا. لم يحدث شيء ذو بال. ليس تحطّم الإناء هو ما يؤلمني، وإنما تؤلمني حالتك أنت. إنك تعترف الآن إذن بأن فضيحة قد وقعت: لا يدرك المرء ما حدث إلا في الغداة!... على أن هذا نفسه لا قيمة له، لأن كل واحد يرى الآن أنك غير مسؤول. هيا، إلى اللقاء! إذا شعرت بقدرة على القيام بنزهة فافعل، ثم نم قليلاً مرة أخرى. هذه نصيحتي لك. وإذا بدا لك أن تزورنا كما كنت تزورنا في الماضي فلا تحجم. عليك أن تثق إلى الأبد بأنك ستظل صديق أسرتنا أو صديقي أنا على الأقل، مهما يحدث من أمر، ومهما ينتج من نتائج. أنا أضمن نفسي على الأقل...
وبادر الجميع يثبتون عواطف إليزابت بروكوفيفنا، ويثنون عليها. ثم خرجوا ينصرفون. غير أنهم باستعجالهم الساذج في قول كلام يلاطف المسكين ويواسيه ويقوّي عزيمته قد ارتكبوا قسوة لم تستطع إليزابت بروكوفيفنا حتى أن تفطن إليها. إن دعوته إلى أن يزورهم «كما كان يزورهم في الماضي»، وكذلك قصر صداقته عليها هي («صديقي أنا على الأقل»)، إن ذلك كان بمثابة تنبيه.
ولقد تذكر الأمير وضع آجلايا. صحيح أنها ابتسمت له ابتسامة أخّاذة حين دخلت وحين خرجت، ولكنها لم تنطق بكلمة واحدة، حتى حين أكد الآخرون صداقتهم. ومع ذلك ثبتت نظرها عليه مرتين. كان وجهها أشد شحوباً مما عُهد فيه من شحوب، كأنها قضت ليلة مسهّدة. وقرر الأمير أن يزورهم حتماً في مساء ذلك اليوم نفسه «كما كان يزورهم في الماضي». ونظر إلى ساعته محموما.
بعد خروج ال إيبانتشين بثلاث دقائق، دخلت فيرا. وقالت له:
– ليون نيقولايفتش، عهدت إليّ آجلايا إيفانوفنا منذ هنيهة بأن أنقل إليك رسالة سرية.
انفعل الأمير انفعالاً بلغ من القوة أنه أخذ يرتجف. وقال يسألها:
– رسالة مكتوبة؟
– لا، إن وقتها لم يكد يتسع لأن تحملني الكلمات التي أقولها لك: إنها ترجوك ملحةً أن لا تغيب عن بيتك طوال النهار دقيقة واحدة، إلى الساعة السابعة أو حتى الساعة التاسعة. إنني لم أسمع كلامها دقيقا واضحا في هذه النقطة.
– ولكن لِمَ هذا؟ ما معناه؟
– لا أدري. لكنها كلّفتني أن أنقل إليك هذه الرسالة آمرة أمراً صارماً!
– أهي استعملت تعبير «الأمر الصارم»؟
– لا، لم يكن تعبيرها واضحا هذا الوضوح كله. إن وقتها لم يكد يتسع لأن تكلمني ملتفتة. من حسن الحظ أنني دنوت منها. ولكن المرء يقرأ في وجهها أنها تأمر أمراً، سواء أكان الأمر صارماً أم لم يكن كذلك. لقد ألقت عليّ نظرة انخلع لها قلبي...
ألقى الأمير سؤالين أو ثلاثة أسئلة أخرى، لكنه لم يعلم أكثر مما علم. وفي مقابل ذلك اشتدّ قلقه. حتى إذا خلا إلى نفسه تمدد على الديوان وعاد إلى تخميناته: «قد يكون عندهم أحد قبل الساعة التاسعة، فهي تخشى أن أقارف شذوذاً آخر وأن أثير فضيحة جديدة أمام الزوار، كذلك قال لنفسه أخيراً وعاد ينتظر حلول المساء نافد الصبر ناظرا في ساعته.
لكن حل اللغز قد جاءه قبل حلول المساء بمدة طويلة، جاءه في صورة زيارة جديدة بل في صورة لغز ثانٍ لا يقل عن الأول إقلاقاً: فبعد انصراف آل إيبانتشين بنصف ساعة تماماً حضر إليه هيبوليت.
كان هيبوليت متعباً مرهقاً مهدّماً، فلم يستطع أن يقول كلمة واحدة بل تهاوى على أحد المقاعد تهاوياً كمن أُغمي عليه، واعترته نوبة سعال رهيبة أخذت تهزه هزًّا قويًا، وكان السعال مصحوباً ببصقات دم. إن عينيه تلتمعان، وأن بقعاً حمراً تظهر على خديه، دمدم له الأمير ببضع كلمات لم يجب عنها، مقتصراً أثناء مدة طويلة على تحريك يده بإشارة معناها أن يُترك مرتاحاً. حتى إذا استردّ شيئاً من قوته، قال بجهد ظاهر وصوت أبحّ:
– أنا ذاهب!
فقال الأمير ويسأله وهو ينهض:
– أتريد أن أصحبك؟...
لكنه توقف فجأة إذ تذكر أنه مُنع من الخروج منذ قليل.
فأخذ هيبوليت يضحك. وتابع يقول بذلك الصوت المحشرج المختنق نفسه:
– لست ذاهباً من عندك. بالعكس: لقد رأيت من اللازم أن أجئ إليك لأحدثك في أمر من الأمور... ولولا ذلك ما أزعجتك. أنا ذاهب مسر عندهم. وأحسب أن المسألة في هذه المرة جد لا هزل. انتهى كل شيء... لا أقول هذا التماساً للشفقة، أؤكد لك... حتى لقد استلقيت هذا الصباح على فراشي مقرّراً أن لا أغادره قبل حلول «تلك اللحظة» لكني عدلت عن ذلك الرأي ونهضت مرة أخرى لأجيء إليك. معنى ذلك أن مجيئي كان لا بدّ منه.
– منظرك مؤلم. كان أحرى بك أن تستدعيني لا أن تحمل نفسك عناء المجيء.
– طيب. كفى هذا الآن. لقد رثيتَ لحالي، فقمت بما توجبه آداب المجتمع، ومقتضيات الكياسة والذوق والتهذيب. آ... نسيت: كيف صحتك أنت؟
– صحتي الآن حسنة. ولم تكن أمس كذلك... تماماً!
– أعرف. ذُكر لي هذا. وكان إناء الخزف الصيني هو الضحية. خسارة أنني لم أكن هناك! ولكن فلنصل إلى الأمر الذي أريد الكلام فيه. أولاً: لقد سعدت اليوم برؤية جبريل آرداليونوفتش يوافي آجلايا إيفانوفتش في موعد مضروب قرب الدكة الخضراء... وأعجبت أعظم الإعجاب بمدى ما يمكن أن يظهر في هيئة إنسان من حماقة وغباء.. وقد ذكرت هذه الملاحظة لآجلايا إيفانوفنا نفسها بعد انصراف جبريل آرداليونوفتش...
ثم أضاف هيبوليت يقول وهو ينظر مرتاباً إلى وجه محدّثه الذي لم يكن يعبر عن شيء:
– أظن أنك أنت لا يدهشك شيء يا أمير. يقال إن من علامات قوّة الفكر أن لا يدهش المرء شيء. أما أنا ففي رأيي أن ذلك يمكن أن يكون علامة غباء عميق أيضاً!... على كل حال، لست أعنيك أنت حين أقول هذا الكلام... معذرة... إنني اليوم غير موفق في اختيار تعابيري.
بدأ الأمير يتكلم فقال:
– كنت أعلم منذ أمس أن جبريل آرداليونوفتش...
لكنه لم يلبث أن صمت فجأة وقد اضطرب اضطراباً واضحاً مع أن هيبوليت قد ساءته قلة انفعاله.
– كانت تعلم ذلك؟ هذا نبأ حقاً!... على كل حال، لا تكلف نفسك عناء أن تحكي لي... ألم تشهد لقاء اليوم أيضاً؟...
– لا بدّ أنك تعرف الجواب، ما دمت قد حضرت اللقاء!
– لعلك اختبأت وراء دغل. على كل حال، أنا مسرور لك طبعاً، لأنني كنت أظن في السابق أن جبريل آرداليونوفتش قد حل عندها محلك.
– أرجوك أن لا تكلمني في هذا الأمر يا هيبوليت، خاصةً بهذه اللهجة.
– لا سيما وأنك تعرف كل شيء.
– أنت مخطئ. لم أُطلع على شيء تقريباً، وإن آجلايا إيفانوفنا لتعلم حتماً أنني غير مطلع على شيء. كنت أجهل حتى أمر ذلك الموعد، نقول إن لقاءً قد تم بينهما على موعد مضروب، أليس كذلك؟ طيب... دعنا من هذا...
– ولكن كيف يستطيع المرء أن يفهم عنك؟ تارة تقول إنك كنت تعلم، وتارة إنك لم تكن تعلم، ثم تضيف: «طيب... دعنا من هذا...». ولكن لا، حذار من فرط الثقة! لا سيما إذا كنت تعلم شيئاً. وإن فرط ثقتك إنما مردّه إلى أنك لا تعلم شيئاً. هل تعرف حسابات ذينك الشخصين: الأخ وأخته؟... ربما كنت تشتبه فيها وتتصورها، هه؟
ولاحظ هيبوليت حركة تململ من الأمير فأسرع يضيف قوله:
– طيب، طيب... أنا إنما جئت إلى هنا لأمر شخصي أريد أن... أوضحه! شيطان يأخذني... رهيب عدد الإيضاحات التي يجب عليّ أن أقدمها! هل تريد أن تصغى إلي!؟
– تكلم، إني أصغي إليك.
– لكنني أغير رأيي مرة أخرى: سوف أبداً مع ذلك بالكلام على جانيا. هل تتخيل هذا؟ لقد ضرب لي موعد قرب الدكة الخضراء، أنا أيضاً! على أنني لا أريد أن أكذب: يجب أن أذكر أنني أنا الذي ألححت على أن تحدد لي هذا الموعد واعداً بالكشف عن سر. لا أدري هل وصلتُ قبل الأوان (أظن أنني سبقت الساعة فعلاً)، ولكنني ما إن جلست إلى جانب آجلايا إيفانوفنا حتى رأيت جبريل آرداليونوفتش وفاريا آرداليونوفتش مقبلين وقد تأبّط كل منهما ذراع الآخر كأنهما يقومان بنزهة. فلما رأياني شُدها بل وارتبكا، لأنهما كانا لا يتوقعان أن أكون هناك. واحمرّت آجلايا، بل صدقني إذا قلت لك إنها اضطربت وفقدت سيطرتها على نفسها قليلاً، سواء أكان ذلك لوجودي أنا أم لمجرد أنها رأت جبريل آرداليونوفتش الذي كان في غاية الجمال حقاً. المهم أنها احمرّت احمراراً شديداً، وختمت الموقف بأن غمزت بعينها غمزة مضحكة، ونهضت نصف نهوض، وردّت على تحية جبريل آرداليونوفتش وعلى ابتسامة الملاطفة والمداراة التي ابتسمتها باربابا آرداليونوفنا، ثم قالت لهما بلهجة مفاجئة حاسمة: «إنما أردت أن أعبّر لكما شخصياً عن سروري بصدق عواطفكما. فكونا على ثقة بأنني متى احتجت إلى هذه العواطف لن يفوتني أن ألجأ إليها وأعتمد عليها». قالت لهما ذلك ثم صرفتهما بإشارة من رأسها، فانصرفا لا أدري أمهزومين أم منتصرين... أما جانيا فلا شك أنه كان غبياً كل الغباء. إنه لم يفهم شيئاً، واصطبغ وجهه بحمرة قانية (إن سحنته تكتسي في بعض الأحيان تعبيراً غريباً). وأما باربابا آرداليونوفنا فأظن أنها أدركت أن عليها أن تنسل بأقصى سرعة وأن آجلايا لا يمكن أن يُطلب منها أكثر من ذلك. فاقتادت أخاها. إنها أعقل منه، وإني لمقتنع بأنها الآن تحقق انتصاراً. وأما أنا فقد جئت لأتفاهم مع آجلايا على موضوع لقائها المزمع مع ناستاسيا فيليبوفنا.
صاح الأمير يسأل:
– مع ناستاسيا فيليبوفنا؟
– على مهلك، على مهلك! يبدو أنك فقدت هدوءك فبدأت تندهش، هه؟ يسرّني أن أرى أنك تريد أن تشبه الرجال؟ ولسوف أُسلّيك في مقابل ذلك. انظر كما يربح المرء حين يخدم ويعاون آنسات شابات نبيلات. لقد تلقيت منها اليوم صفعة!
– صفعة معنوية طبعاً؟
كذلك سأله الأمير بغير إرادة.
– نعم، صفعة معنوية لا مادية. أظن أنه ما من يدٍ يمكن أن ترتفع على إنسان في مثل حالتي، ولو كانت يد امرأة. حتى جانيا لا يمكن أن يضربني. ومع ذلك فقد اعتقدت أمس في لحظة من اللحظات إنه سيرتمي عليّ ليشبعني ضرباً.. آ... يميناً إنني أحزر الآن ما يجول في ذهنك. إنك لتقول لنفسك: «طيب. يجب أن لا يُضرب. ولكن من الممكن في مقابل ذلك بل ومن الواجب أن يُخنق أثناء نومه بوسادة أو بغطاء مبتل...». إنني أقرأ الآن هذا الخاطر في وجهك.
قال الأمير محتجاً باشمئزاز:
– لا أدري... ولكنني حلمت هذه الليلة أن شخصاً يخنقني بغطاء مبلل... وسأقول لك من هو ذلك الشخص: تصور أنه روجويين! ما رأيك؟ هل يمكن خنق إنسان بغطاء مبتل؟
– لا أدري...
– سمعت أن الأمر ممكن.
– طيب. طيب. دعنا من هذا، ولا نتكلمن فيه. والآن أريد أن ألقي هذا السؤال: لماذا أعدُّ أنا نمّاماً؟ لماذا وصفتني هي اليوم بأنني نمّام؟ لاحظ أنها لم تفعل ذلك إلا بعد أن أصغت إلى كلامي حتى آخر كلمة، وبعد أن ألقت عليّ أسئلة... كذلك هن النساء! من أجلها هي إنما كنت على علاقة بروجويين (وهو شخص طريف شائق على كل حال). ومن أجلها إنما هيأت لها لقاءً مع ناستاسيا فيليبوفنا. أتراني جرحت شعورها وأسأت إلى كبريائها حين أسمعتها أنها تريد أن تستفيد من «بقايا» ناستاسيا فيليبوفنا؟ أنا لا أنكر هذه الحقيقة. وقد رددت لها ذلك الكلام مراراً. لكنني إنما فعلت ما فعلت من أجلها وفي سبيل مصلحتها. كتبت لها رسالتين بهذا المعنى وبهذه اللهجة، وعبّرت عن رأيي بهذا الأسلوب أثناء لقائنا اليوم أيضاً... وفي مرة أخيرة رأيت من واجبي أن أقول لها إن هذا يشتمل على مذلة لها. ثم إن كلمة «بقايا» هذه ليست اختراعاً مني، وإنما أنا استعرتها من غيري، نفسها ذلك. فلماذا وصفتني إذن بأنني نمّام؟ رأيتُ، رأيت: إن رغبة محمومة في الضحك عليّ تستعر بها الآن نفسك؟ وإني لأراهن أنك تطبق على حالتي هذه الأبيات السخيفة.
وفي يوم نهايتي الحزينة
قد يسطع الحب على شفتي
بابتسامة وداع
ها ها ها!
كذلك صاح يضحك ضحكاً تشنجياً أعقبته نوبة سعال.
ثم أضاف يقول بصوت محشرج:
– لاحظ مدى تناقض جانيا: إنه يتكلم عن بقايا؛ أفليس يسعى هو نفسه إلى الاستفادة من «بقايا»؟
لبث الأمير صامتاً برهة طويلة. كان مصعوقاً.
وتمتم أخيراً يقول:
– ذكرتِ لقاء مع ناستاسيا فيليبوفنا، أليس كذلك؟
– دعك من هذا الكلام، هل يمكن أن تجهل حقاً أن لقاءٍ سيتم اليوم بين آجلايا إيفانوفنا وناستاسيا فيليبوفنا؟ بفضل المساعي التي قمت بها أنا، فقد تولى روجويين، تلبية لطلب من آجلايا إيفانوفنا، دعوة ناستاسيا فيليبوفنا إلى المجيء من بطرسبرج خصيصاً، وهي الآن في صحبة روجويين، بالقرب من مسكنك، في البيت الذي سبق أن أقامت فيه، عند داريا ألكسيفنا.. صديقتها ذات السمعة المشبوهة.. فإلى ذلك البيت المشبوه إنما ستذهب اليوم آجلايا إيفانوفنا لإجراء حديث ودي مع ناستاسيا فيليبوفنا، ولحل مشكلات مختلفة. إنهما تريدان أن تتكلما بلغة الرياضيات. أكنت لا تعرف هذا؟ بشرفك؟
– غير معقول؟
– هذا أحسن! ولكن أين لك أن تعرف بالأمر؟ ومع ذلك، في جحر كالجحر الذي نعيش فيه، لا يمكن أن تطير ذبابة إلا ويبلغ نبأ طيرانها جميع الناس! الخلاصة... لقد نبّهتك، وفي إمكانك أن تكون لي شاكرا ممتنا. هيا، إلى اللقاء! ربما في الحياة الآخرة! في العالم الثاني! كلمة أخرى: إذا كنت قد تصرفت معك تصرفاً وضيعاً دنيئاً، فذلك... لأنني ليس ثمة سبب يدعوني إلى أن أضحي في سبيلك بمصالحي. قل لي من فضلك: لماذا عساني أوثر مصالحك على مصالحي؟ إليها إنما أهديتُ أنا «اعترافي» (أكنت لا تعرف ذلك؟)، فسرعان ما قبلت هديتي راضية! هيء هيء! لكنني تصرفت معها هي تصرفاً لا وضاعة فيه ولا دناءة. لم أرتكب أي خطأ في حقّها. بل هي التي دبّرت لي «مقلباً» ووضعتني في موضع حرج.. على أنني لم أقترف ذنباً حتى في حقك أنت. ولئن أبحت لنفسي تجاهها أن ألمح ذلك التلميح إلى «البقايا» وإلى أشياء أخرى من هذا القبيل، فإنني في مقابل هذا أحدد لك يوم الموعد وساعته ومكانه، فأكشف لك الأوراق كلها!... صحيح أنني أفعل هذا عن غضب وحقد، لا عن نبل وشهامة. أستودعك الله! إنني ثرثار ثرثرة إنسان عيِّ اللسان أو مسلول الصدر. افتح عينيك، اتخذ إجراءاتك، تصرّف بأقصى سرعة، إذا كنت جديراً بأن تسمى رجلاً. سيتم اللقاء هذا المساء. ذلك أمر مؤكد محقق.
اتجه هيبوليت نحو الباب، ولكنه وقد ناداه الأمير وقف في العتبة.
سأله الأمير:
– في اعتقادك إذن أن آجلايا إيفانوفنا ستذهب اليوم إلى ناستاسيا فيليبوفنا بشخصها؟
كانت بقع حمر تصبغ خدّيه وجبينه.
أجابه هيبوليت وهو يلقي نظرة وراءه:
– لا أعرف تماماً. ولكن ذلك جائز. على أن الأمر لا يمكن أن يكون غير هذا. فإن ناستاسيا فيليبوفنا لن تذهب إليها، أليس كذلك؟ والحديث لا يمكن أن يجري عند أهل جانيا حيث يحتضر الجنرال. ما قولك في الجنرال؟
قال الأمير معترضاً:
– اسمع. يكفي هذا السبب وحده حتى يكون الأمر مستحيلاً، كيف يمكنها أن تخرج ولو أرادت؟ إنك لا تعرف عادات... هذا المنزل؟ إنها لا تستطيع أن تذهب إلى ناستاسيا فيليبوفنا وحيدة. تلك مزحة!
– سأقول لك شيئاً يا أمير: لا أحد يقفز من النافذة. ولكن حين يشبّ حريق فإن أحسن رجل مهذب وأرقى سيدة مرموقة لا يترددان عن القفز من النافذة. إذا مسّت الحاجة فستكون آنستنا مضطرة أن تسلك هذا السبيل. وأن تذهب إلى ناستاسيا فيليبوفنا. ولكن قل لي: هل الآنسات إيبانتشين لا ُيسمح لهن في دارهن أن يذهبن إلى أي مكان؟
– ليس هذا ما أردت أن أقوله...
– طيب. إذا لم يكن الأمر كذلك، فسوف يكفيها أن تهبط درجات المدخل، وأن تسير قُدُماً، ولو ترتب على ذلك أن لا تعود إلى الدار في يوم من الأيام. هناك ظروف يحرق فيها الإنسان سفنه ويمتنع حتى عن العودة إلى منزل أبويه. ليست الحياة وجبات غداء ووجبات عشاء وأمراء أسماؤهم «شتش....» فحسب!... يبدو لي أنك تنظر إلى آجلايا إيفانوفنا نظرتك إلى صبية صغيرة أو تلميذة في مدرسة داخلية. لقد قلت لها أنا هذا، وأحسب أنها وافقتني على رأي. انتظر الساعة السابعة أو الثامنة... لو كنت في مكانك لأوفدت لها شخصاً يرقبها فيعرف لحظة خروجها من الدار. في وسعك أن ترسل كوليا على الأقل. ثق أنه سيسرّه أن يعمل جاسوساً، في سبيل مصلحتك طبعاً... هذه أمور نسبية جداً... هأ هأ!...
قال هيبوليت ذلك وخرج، لم يكن ثمة سبب يدعو الأمير إلى تكليف أي إنسان بأن يتجسس له، حتى ولو كان يرضى لنفسه استعمال مثل هذه الوسيلة. لقد أدرك الآن بعض الإدراك لماذا أمرته آجلايا بأن لا يغادر بيته. لعلها تنوي أن تجيء إليه؛ أو لعلها أرادت أن تحبسه في البيت حتى لا يجيء بينما هي على ميعاد. نعم ربما كان هذا هو الأمر.
شعر الأمير بدوار، وبدا له أنه يرى الغرفة كلها ترقص من حوله. استلقى على الديوان وأغمض عينيه.
إن القضية تجري مجرى حاسماً نهائياً، بطريقة أو بأخرى. لا، إنه لا ينظر إلى آجلايا نظرته إلى صبية صغيرة أو إلى تلميذة في مدرسة داخلية. إنه يدرك الأمر الآن: لقد طالما شعر بخوف، وإن شيئاً من هذا النوع هو ما كان يخشاه فعلاً. ولكن لماذا تريد آجلايا أن تراه؟ سرت رعدة في جسمه كله. واعترته حمّى شديدة من جديد.
لا، إنه لا يعدّها طفلة! في الآونة الأخيرة، كانت لها آراء وأقوال روّعته. وفي مرات أخرى، كان يلوح له أنها تبذل جهداً فوق طاقة الإنسان في سبيل أن تسيطر على نفسها، في سبيل أن تكبح اندفاعاتها؛ وإنه ليتذكر الآن أن ذلك كان يملؤه رعباً. صحيح أنه جهد في هذه الأيام الأخيرة أن لا يوقظ تلك الذكريات، وأن يطرد الأفكار السوداء، ولكن ماذا كان يختفي في قرارة تلك النفس؟ هذا سؤال عذّبه مدة طويلة، رغم كل ما كان يشعر به نحو آجلايا من ثقة. على كل حال، سوف ينحل كل شيء ويتضح كل شيء في هذا المساء نفسه! فكرة فظيعة! مرة أخرى «تلك المرأة»! لماذا بدا له دائماً أن تلك المرأة سوف تظهر في آخر لحظة فتحطّم مصيره كما يُقطع خيط مهترئ؟ أما أن هذا التوجّس لم يبارحه في يوم من الأيام فذلك أمر لا يتردد اليوم في أن يؤكده حالفاً أغلظ الأيمان. لكن حاول أن ينساها في الآونة الأخيرة، فما ذلك إلا لأنه كان يخشاها. ماذا إذن؟ أهو يحبها أم هو يكرهها؟ إنه لم يلق على نفسه هذا السؤال مرة واحدة أثناء النهار. كان قلبه من هذه الناحية نقياً: كان يعرف من ذا يحب... ليس لقاؤهما هو ما يخيفه، لا ولا وجه الغرابة في هذا الموعد، ولا الأسباب الداعية إليه، المجهولة لديه، ولا النهاية التي سينتهي إليها هذا الاجتماع أياً كانت تلك النهاية وإنما هو يخشى ناستاسيا فيليبوفنا نفسها. لقد تذكر بعد بضعة أيام إنه أثناء تلك الساعات من الحمى، كان يلوح له دائماً أنه يرى عينيها ونظرتها، وأنه يسمع صوتها، صوتها الذي يلفظ أقوالاً غريبة، ولكن لم يبق في ذاكرته إلا أشياء قليلة بعد تلك اللحظات من الحمى والقلق والخوف. لقد احتفظ بإحساس غامض بأن فيرا جاءته بعشائه، وأنه أكل الطعام الذي جاءته به، ولكنه لا يتذكر أنام بعد ذلك أم لا. كل ما يعلمه أن وضوح الإدراكات لم يعادوه في ذلك المساء إلا حين ظهرت آجلايا فجأة في الغرفة. فنهض عن ديوانه واثباً، وهب يستقبلها في وسط الغرفة. كانت الساعة هي السابعة والربع. لقد جاءت آجلايا وحيدة. وهي تلبس ثياباً بسيطة كأنما ارتدتها متعجلة وخلعت عليها برنساً خفيفاً. وكان وجهها شاحباً شحوبه أثناء لقائهما الأخير، ولكن عينيها تسطعان ببريق قوي بارد. إنه لم يلاحظ في نظرتها تعبيراً كهذا التعبير في يوم من الأيام.
تفرّست فيه بانتباه. ثم قالت له بصوت خافت ولهجة تبدو هادئة:
– أنت متأهّب كل التأهّب، قد ارتديت ثيابك وحملت قبعتك بيدك. إنني أستنتج من ذلك أنك قد أُبلغت. أعرف من الذي أبلغك: هو هيبوليت، أليس كذلك!
تمتم الأمير يقول وهو إلى الموت أقرب منه إلى الحياة:
– نعم... حدثني...
– طيب... فلنذهب: إنك لتعلم حق العلم أن عليك أن تصحبني حتماً. أظن أنك تقوى على الخروج.
– أقوى... نعم... ولكن... هل هذا ممكن؟
وسكت فجأة، وأصبح لا يستطيع أن ينطق بكلمة واحدة. تلك هي المحاولة الوحيدة التي قام بها لصدّ هذه الطائشة وثنيها عن عزمها. ثم تبعها بعد ذلك كما يتبع عبدٌ سيده. إنه رغم كل ما كان عليه فكره من اضطراب وتشوش وبلبلة قد أدرك إنها ستذهب إلى هناك، ولو لم يصحبها، فالأولى إذن أنها يصحبها. لقد أدرك قوة التصميم والعزم لدى الفتاة، وأحس أنه غير قادر على أن يوقف هذه الاندفاعة الوحشية..
سارا صامتين، ولم يكادا يتبادلان كلمة واحدة طوال الطريق. ولكنه لاحظ أنها تعرف الطريق معرفة جيدة، فلما اقترح عليها أن يسلكا شارعاً صغيراً بعيداً بعض البعد لكنه غير مطروق كثيراً أصغت إلى كلامه وبدا عليها أن تزن ما للاقتراح وما عليه، ثم أجابت باقتضاب: «الأمران واحدا!».
حتى إذا صارا قرب منزل داريا ألكسيفنا (وهو مبنى كبير عتيق من خشب)، رأيا سيدة مرتدية ثياباً فخمة تخرج منه في صحبة فتاة، ورأيا المرأتين تركبان عربة رائعة كانت تنتظرهما أمام درجات المدخل. كانتا تضحكان وتتحدثان في صخب، ولم تنظرا إلى القادمين الجديدين فكأنهما لم ترياهما. فما إن ابتعدت العربة حتى فُتح الباب من جديد، وظهر روجويين الذي كان ينتظرهما فأدخلهما ثم أغلق الباب وراءهما.
قال روجويين بصوت عال وهو يلقي على الأمير نظرة غريبة:
– ليس في الدار كلها الآن أحد غيرنا نحن الأربعة!
كانت ناستاسيا فيليبوفنا تنتظرهما في الحجرة الأولى. وكانت هي أيضاً تلبس ثياباً بسيطة جداً، سوداء جميعاً. ونهضت لتستقبلهما، لكنها لم تبتسم ولم تمد يدها للأمير، وثبتت نظرتها القلقة على آجلايا نافدة الصبر. جلست المرأتان متنائيتين: فأما آجلايا فقد جلست على الديوان بركن من الغرفة وأما ناستاسيا فيليبوفنا فقد جلست قرب النافذة. ولبث الأمير ورجويين واقفين؛ وما دعاهما أحد إلى الجلوس على كل حال. ونظر الأمير إلى روجويين مرة أخرى بارتباك وحيرة يمازجهما ألم ويخالطهما عذاب، ولكن روجويين احتفظت شفتاه بابتسامة واحدة لم تتغير.
وأخيراً طافت بوجه ناستاسيا فيليبوفنا سحابة مشؤومة: إن نظرتها التي ما تزال محدقة إلى الزائرة ثابتة عليها قد اتخذت الآن تعبيراً عن عناد، وقسوة، وعن كره وبغض تقريباً. وكانت آجلايا ظاهرة الاضطراب ولكن على غير تهيّب أو رهبة. إنها حين دخلت لم تكن تلقي نظرة على منافستها، وكانت مُسبلةً جفنيها على وضع الانتظار كأنها تفكر. مرة أو مرتين أجالت بصرها على الغرفة، كأنما عرضاً بغير عمد، فعبّر وجهها عندئذ عن الاشمئزاز كأنها تخشى أن تتسخ في مكان كهذا المكان. ليس مؤكداً أنها كانت شاعرةً بكل حركاتها، ولكن إذا كانت هذه الحركات قد صدرت عنها عفواً فذلك أدعى إلى إيذاء الشعور وجرح الكرامة. وأخيراً عزمت أمرها على أن تواجه بثبات وقوة تلك النظرة الساطعة التي كانت تلقيها عليها ناستاسيا فيليبوفنا والتي لم تلبث أن قرأت فيها كره المنافسة واضحاً جلياً على الفور. لقد فهمت المرأةُ المرأة. فارتعدت.
وقالت بعد لحظة، لكن بصوت خافت جداً، حتى إنها توقفت عن الكلام مرتين أثناء النطق بهذه الجملة القصيرة:
– لا شك أنك تعرفين السبب الذي حملني إلى استدعائك.
فأجابتها ناستاسيا فيليبوفنا بلهجة جافة قاطعة:
– لا، لا أعرفه.
فاحمرت آجلايا. لعلها قد بدا لها فجأة إن وجودها الآن قرب هذه المرأة، في بيت «تلك المخلوقة»، أمر مذهل لا يصدقه العقل، ولعلها كانت تشعر بالحاجة إلى سماع جواب ناستاسيا فيليبوفنا. فما إن سمعت أولى نبرات صوت ناستاسيا فيليبوفنا حتى سرى في جسمها كله نوع من رعدة. ولاحظت «الأخرى» ذلك كله طبعاً، لم يفتها منه شيء.
قالت آجلايا بغتة وهى تطرق محدقة إلى الأرض بنظرة متجهّمة كالحة، بصوت يكاد يكون خافتاً:
– أنت تفهمين كل شيء... ولكنك تتظاهرين بأنك لا تفهمين.
فأجابت ناستاسيا فيليبوفنا وهي تبتسم ابتسامة لا تكاد تُدرك:
– لماذا عساني أتظاهر هذا التظاهر؟
قالت آجلايا بخراقة تكاد تكون مضحكة:
– تستغلين وضعي... لأنني في بيتك... تحت سقفك...
هتفت ناستاسيا فيليبوفنا تقول بحدّة وقوة:
– أنت المسؤولة عن هذا الوضع، فأنا لم أستدعك، وإنما أنت التي دعوتني إلى هذا اللقاء الذي ما زلت أجهل سببه.
رفعت آجلايا رأسها في استعلاء وغطرسة. وقالت:
– صوني لسانك. أنا ما جئت هنا لأقاتلك بهذا السلاح الذي هو سلاحك..
– ها... إذن لقد جئت إلى هنا لتقاتلي على كل حال!... تصوري أنني كنت أتخيلك... أصفى روحاً!..
وتبادلت المرأتان نظرة لم تحاولا أن تخفيا ما فيها من بغض... ومع ذلك كانت إحدى هاتين المرأتين هي تلك المرأة نفسها التي بعثت إلى الأخرى برسائل تشتمل على ذلك التأثر كله وتلك العاطفة كلها. لقد تبددت تلك المودّة كلها في أول لقاء، منذ أولى الكلمات. فكيف نفسر هذا؟ وكأن أحد الأشخاص الأربعة الموجودين في تلك الغرفة لم يخطر بباله أن يعجب لهذا الأمر. فالأمير الذي كان بالأمس لا يصدق أن يكون حدوث هذا المشهد ممكناً ولو في الحلم، يراه الآن وكأنه قد تنبأ به منذ زمن طويل. إن الحلم العجيب الشاذ قد اكتسى على حين فجأة صورة واقع محسوس ملموس. وكانت إحدى المرأتين في تلك اللحظة تشعر نحو غريمتها باحتقار يبلغ من القوة وبرغبة في إظهار هذا الاحتقار تبلغ من العنف (ولعلها لم تجئ إلا لهذا الغرض، كما زعم ذلك روجويين في الغد) أن الأخرى ما كان لها فيما يظهر أن تستطيع التزام أي موقف عقدت عليه عزمها من قبل أو أن تحافظ على أي فكرة انطوت عليها نفسها، رغم كل ما فيها من غرابة الطبع واضطراب الفكر ومرض النفس، ما دامت غريمتها تواجهها بهذا الاحتقار المسموم. وأيقن الأمير بأن ناستاسيا فيليبوفنا لن تكون هي البادئة في الإتيان على ذكر الرسائل. لقد أدرك من الشرر الذي كان يخرج من عينيها إن أمر هذه الرسائل يؤلمها الآن أشد الإيلام. ولكنه كان مستعداً لأن يدفع نصف حياته ثمناً لإغفال آجلايا أمر الإلماع إلى هذه الرسائل أيضاً.
غير أن آجلايا بدا عليها فجأة أنها ثابت إلى رشدها واستردّت سيطرتها على نفسها. قالت:
– لم تفهمي عني. أنا لم أجئ إلى هنا... لأشاجرك، رغم أنني لا أحبك كثيراً. وإنما جئت... لأكلمك بطريقة إنسانية. أنني حين دعوتك إلى هذا اللقاء، كنت قد حددت موضوعه، ولن أنثني عن عزمي ولو لم تفهميني البتة. وإذا لم تفهميني فذلك يضيرك أنتِ ولا يضيرني أنا. لقد أردت أن أجيب عن مضمون الرسائل التي بعثت بها إليّ، وأن يكون جوابي كلاماً لا كتابة فذلك في رأيي أنسب. فاسمعي إذن جوابي على رسائلك. لقد أخذتني بالأمير ليون نيقولايفتش شفقة منذ اليوم الأول الذي عرفته فيه، وقويت هذه العاطفة في نفسي حين علمت بكل ما جرى أثناء سهرتك. أخذتني به شفقة لأنه إنسان يبلغ من بساطة الفكر أنه ظن أن في وسعه أن يكون سعيداً... مع امرأة... لها مثل هذا الطبع وهذا الخلق. وقد وقع ما كنت أخشى منه عليه: لم تستطيعي أن تحبيه، وسببّت له عذاباً كثيراً، ثم هجرته. ولئن لم تستطيعي أن تحبيه فإن مردّ ذلك إلى فرط زهوك... لا... لقد أخطأت التعبير... فما ينبغي أن أقول الزهو.. بل الغرور.. وحتى كلمة الغرور ليست هي الكلمة المناسبة، فإنما الأحرى أن أقول الأنانية. إنك أنانية إلى حد... الجنون. وإن الرسائل التي بعثت بها إليّ تنهض دليلاً على ذلك. لم يكن في إمكانك أن تحبي إنساناً يبلغ مبلغه من البساطة. حتى إن من الجائز أن تكوني في قرارة نفسك قد احتقرته وهزئت به وضحكت عليه. كنت لا تستطيعين أن تحبي إلا عارك وإلا الفكرة الثابتة التي استبدّت بنفسك وهي أنك قد دّنِّست أو أُهنت. فلو أنك لم تسقطي ذلك السقوط كله، أو لو أنك لم تسقطي البتة، لما زادك ذلك إلا شقاء...
نطقت آجلايا هذه الكلمات بنوع من التلذذ، وكانت تتدفق في الكلام تدفقاً سريعاً، ولكنها تستعمل تعابير سبق أن تصورتها واجترتها منذ أن كانت لا تصدق، حتى في الحلم، إمكان حدوث هذا اللقاء. وكانت تراقب بنظرة كارهة مبغضة ما تحدث أقوالها من أثر في وجه ناستاسيا فيليبوفنا الذي اضطرب وانقلب.
تابعت آجلايا كلامها تقول:
– هل تتذكرين رسالة كتبها إليّ وقال لي فيها إنك تعرفينها بل وإنك قرأتها؟ إنني حين قرأت تلك الرسالة إنما فهمت كل شيء، وأدركت كل شيء حق الإدراك. وقد أيد هو نفسه، في الآونة الأخيرة، كل كلمة من الكلمات التي أقولها لك الآن. وانتظرت بعد تلك الرسالة. حزرت أنك ستضطرين أن تجيئي إلى هنا، لأنك لن تستطيعي الاستغناء عن بطرسبرج: إنك ما تزالين أصغر سناً وأبرع جمالاً من أن تطيقي الحياة في الأقاليم...
وأضافت تقول بينما كان وجهها يحمر احمراراً شديداً (ولم يفارق هذا الاحمرار وجهها طوال مدة كلامها بعد ذلك):
– ليست هذه الكلمات كلماتي أنا على كل حال!.. وحين التقيت بالأمير من جديد تألمت له ألماً قويًا وأحسست أنه أُهين. لا تضحكي. وإذا ضحكت كان ذلك دليلاً على أنك غير جديرة بأن تفهمي هذا...
ردّت ناستاسيا فيليبوفنا تقول بلهجة حزينة قاسية:
– إنك لترين بعينيك أنني لا أضحك.
– لست أكترث على كل حال. اضحكي ما شئت أن تضحكي. وحين سألته بنفسي قال لي إنه أصبح لا يحبك منذ مدة طويلة حتى إن ذكراك وحدها أصبحت تؤلمه، ولكنه يرثي لحالك، وإذا فكر فيك شعر بأن قلبه قد طعن إلى الأبد. يجب أن أضيف أيضاً أنني لم ألاحظ طوال حياتي رجلاً يضارعه فيما تتصف به نفسه من بساطة نبيلة وفيما يزخر به قلبه من ثقة لا حدود لها. فبعد أن سمعت كلامه، أدركت أن في إمكان أي إنسان أن يخدعه إذا أراد، وأن من يخدعه يمكن أن يطمئن كل الاطمئنان إلى أنه سيغفر له ويصفح عنه. لذلك أحببته..
صمتت آجلايا مصعوقة، وهي تتساءل كيف أمكنها أن تنطق هذه الكلمة. لكن كبرياء قوية سطعت في نظرتها في الوقت نفسه. وبدا عليها أنها لن تكترث بشيء بعد الآن، ولو أخذت «هذه المرأة» تضحك منها للاعتراف الذي أفلت من لسانها. قالت:
– هذا كل شيء قد قلته لك؛ ولا شك أنك تدركين الآن ما أنتظره منك، هه؟
أجابت ناستاسيا فيليبوفنا بهدوء ورفق:
– ربما كنت أدركه. لكنني أحب أن أسمعه منك.
فاشتعل وجه آجلايا غضباً، وقالت بلهجة جازمة وهي تقطع كلماتها:
– أردت أن أسألك بأي حق أجزت لنفسك أن تتدخلي في عواطفه نحوي؟ بأي حق تجرأت أن تكتبي لي تلك الرسائل؟ بأي حق تصرّحين له في كل لحظة، له ولي أنا، بأنك تحبينه، بعد أن هجرته وفررت منه ذلك الفرار المهين... والمشين أيضاً؟
أجابت ناستاسيا فيليبوفنا تقول مكدودة مجهدة:
– أنا لم أصرّح بأنني أحبه، لا لك ولا له، ولكن... ولكنك على حق... لقد فررت منه.
وقد أضافت ناستاسيا فيليبوفنا هذه الجملة الأخيرة بصوت يكاد يكون منطفئاً.
صاحت آجلايا تسألها:
– كيف؟ لم تصرّحي بأنك تحبينه، «لا لي ولا له»؟ ورسائلك؟ من ذا الذي رجاك أن تكوني سمسارة زواج، وأن تحضيني على تزوّجه؟ أليس هذا تصريحاً بحب؟ لماذا تضعين نفسك بيننا؟ لقد اعتقدت في أول الأمر إنك إنما تريدين أن تحميليني على كرهه والنفور منه بتدخلك في شؤوننا بغية أن أقطع صلتي به. ثم لم أفهم حقيقة تفكيرك إلا بعد ذلك: فأنت إنما تخيلت أن تحققي عملاً باهراً باللجوء إلى تلك الأساليب من الرياء والنفاق... أكنت قادرة على أن تحبيه، أنت يا من تحبين غرورك ذلك الحب كله لماذا لم ترحلي من هنا وكفى، بدلا من كتابة تلك الرسائل إلي؟ لماذا لا تتزوجين الآن هذا الرجل الشريف الذي يحبك كثيراً، والذي شرّفك بأن قدّم إليك يده خاطباً؟ إن السبب واضح كل الوضوح: فلو تزوجت روجويين لما استطعت بعد ذلك أن تصطنعي دور المرأة المطعونة، ولما بقي لديك ما تسوغين به حقداك. بالعكس: إن تزوجك روجويين يمكن أن يكون لك مدعاة فخر! لقد قال عنك أوجين بافلوفتش إنك قد قرأت شعراً كثيراً؛ وإنك قد حصّلت من الثقافة فوق ما يتناسب مع... وضعك؛ وإنك تؤثرين أن تقرئي على أن تعملي؛ فإذا أضفنا إلى هذا ما يعتمل في نفسك من غرور أحصينا بذلك جميع البواعث والأسباب...
– وأنت، ألست عاطلة عن العمل أيضاً؟
كانت الأمور قد أسرعت تجري مجرى غير متوقع، وتسير سيراً لم يكن في الحسبان. لم يكن في الحسبان، لأن ناستاسيا فيليبوفنا، حين جاءت إلى بافلوفسك، كانت ما تزال تراودها أحلام، وكانت ما تزال تعلل نفسها ببعض الأوهام، رغم أنها كانت تتوقع الشر أكثر مما تتوقع الخير طبعاً. ولكن آجلايا قد انجرفت فوراً كمن ينحدر من أعلى الجبل، ولم تستطع أن تقاوم ما في الانتقام من إغراء فظيع. حتى لقد دُهشت ناستاسيا فيليبوفنا من رؤيتها على هذه الحال. فكانت وقد تحيّرت وارتبكت منذ أول لحظة تنظر إليها ولا تصدق عينيها. أهي امرأة أسرفت في قراءة قصائد الشعر كما افترض أوجين بافلوفتش، أم هي امرأة فقدت صوابها وكفى، كما أيقن الأمير بذلك؟ مهما يكن من أمر فإن ناستاسيا فيليبوفنا رغم كل ما تحرص على إبدائه من استهتار وقح في بعض الأحيان، كانت أكثر حياء، وأكثر رقة، وأكثر ثقة مما يمكن أن يظن المرء.. صحيح أن نفسها كانت تنطوي على كثير من صور الخيال وتهاويل الوهم، ولكن المرء يجد فيها عواطف قوية عميقة إلى جانب ما يجد من حب النزوة والميل إلى الجموح. ولقد أدرك الأمير ذلك: إن تعبيراً عن ألم شديد يرتسم الآن في وجهها. ولاحظت آجلايا هذا فاختلجت كرهاً ومقتاً. وانبرت تقول بغطرسة لا توصف، جوابا على الملاحظة التي أبدتها ناستاسيا فيليبوفنا:
– كيف تجسرين أن تكلميني بهذه اللهجة؟
فأجابت ناستاسيا فيليبوفنا مدهوشة:
– لعلك لم تسمعيني سماعاً واضحاً. ما اللهجة التي كلمتك بها؟
فإذا بآجلايا تقذفها فجأة بهذا الكلام:
– لو أنك أردت أن تكوني امرأة شريفة فلماذا لم تعمدي بكل بساطة إلى قطع صلتك بالرجل الذي أغواك، توتسكي، مستغنيةً عن هذه الأوضاع المسرحية كلها؟
فأجابتها ناستاسيا فيليبوفنا وقد أخذت ترتجف ارتجافاً شديداً، واصفر لونها اصفراراً رهيباً:
– ماذا تعلمين عن وضعي حتى تسمحي لنفسك بأن تحكمي عليّ؟
– أعلم أنك بدلاً من أن تلتمسي عملاً تجنين منه رزقك، قل هربت مع روجويين الثري الواسع الثراء، لتصطنعي بعد ذلك دور ملاك سقط. ليس يدهشني أن ينتحر بسبب هذا الملاك الساقط!
قالت ناستاسيا فيليبوفنا بلهجة الاشمئزاز والألم:
– حسبك! إنك تفهمينني على نحو ما فهمتني خادمة داريا ألكسيفنا، التي ذهبت في هذه الأيام الأخيرة إلى محكمة الصلح تقاضي خطيبها. إن خادمة داريا ألكسيفنا قادرة على أن تفهمك أنت فهمًا أصحّ...
– أظن أنها فتاة شريفة تعيش من عملها. لماذا تتكلمين عن خادمة بهذا الاحتقار؟
– أنا لا أحتقر الذين يعملون، وإنما أحتقرك أنت حين تتحدثين عن العمل!
– لو أنك أردت أن تكوني شريفة لعملت غسّالة.
ونهضت المرأتان شاحبتين شحوباً شديداً، ورازت كل منهما الأخرى بنظرها ازدراءً.
صاح الأمير يقول مصعوقاً:
– هدئي نفسك يا آجلايا. هذا ظلم!
وكان روجويين قد كفّ عن الابتسام، لكنه كان يصغي زامًّا شفتيه، عاقدا على صدره ذراعيه.
قالت ناستاسيا فيليبوفنا وهي ترتعش غضباً:
– انظر! انظر إليها! انظر إلى هذه الآنسة! ما كان أغباني! لقد كنت أتصورها ملاكاً! أجئت إلى هنا دون أن تصطحبي مربّيتك يا آجلايا إيفانوفنا؟... هل تريدين... هل تريدين... هل تريدين أن أقول لك على الفور، بصراحة، دون لفك أو دوران، لماذا جئت إليّ؟ لقد كنت خائفة. ذلك هو سبب مجيئك؟
– خائفة منك أنتِ؟
كذلك سألتها آجلايا خارجة عن طورها، وقد شدهها شدهاً ساذجاً وقحاً أن ترى غريمتها تجرؤ أن تقول لها هذا الكلام.
أجابت ناستاسيا فيليبوفنا:
– نعم، خائفة مني أنا! لئن جئت إلى هنا فلأنك كنت خائفة مني. المرء لا يحتقر من يخشاه. ما كان أضلّني حين أمكنني أن أحترمك، حتى إلى هذه اللحظة؟ لقد أردت أن تعرفي بنفسك من منا يحبه أكثر مما يحب الأخرى. ذلك أنها غيورة غيرة فظيعة، رهيبة...
تمتمت آجلايا تقول زافرة:
– سبق أن قال لي إنه يكرهك...
– جائز. جائز أن لا أكون جديرة به... لكنني أعتقد أنك كذبت! لا يمكن أن يكرهني، ولا يمكن أن يكون قد قال هذا الكلام! على أنني مستعدة لأن أغفر لك... مراعاة لوضعك... رغم أنني كنت أرى فيك رأياً أفضل!... كنت أظنك أذكى وأجمل! يميناً كنت أظن ذلك!... على كل حال، خذي كنزك... خذيه... انظري... إنه يتأملك مفتوناً غائباً عن نفسه.. خذيه، ولكن على شرط: اخرجي من هنا فوراً! اخرجي في هذه اللحظة نفسها!..
قالت ناستاسيا فيليبوفنا ذلك وتهالكت على مقعد وأجهشت باكية. لكن عينيها ما لبثتا أن سطعتا فجأة ببريق جديد، فها هي ذي تنظر إلى آجلايا محدّقة، ثم تنهض قائلة لها:
– وهل تريدين أن آمره... في هذه اللحظة نفسها.. أن آمره... هل تسمعين.. أن آمره بأن يهجرك فوراً وأن يبقى معي إلى الأبد وأن يتزوجني؟ يكفي أن آمره بهذا حتى يذعن للأمر. أما أنت فترجعين إلى دارك راكضة وحيدة. هل تريدين أن أفعل هذا؟ هل تريدين؟
كذلك قالت ناستاسيا فيليبوفنا صارخةً كالمجنونة، ربما دون أن تصدق أنها قادرة على النطق بمثل هذه الأقوال.
وكانت آجلايا قد اندفعت نحو الباب مذعورة، ولكنها توقفت في العتبة جامدة تصغي. وتابعت ناستاسيا فيليبوفنا كلامها تقول:
– هل تريدين أن اطرد روجويين؟ أكنتِ تظنين أنني سأتزوج روجويين إرضاء لك؟ لسوف أصرخ أمامك قائلة: «ارحل يا روجويين!»، وسوف أقول للأمير: «هل تذكر وعدك؟». رباه! لماذا هوّنت شأني وحقّرت قيمتي في نظرهم؟ أنت يا أمير، ألم تؤكد لي أنك ستتبعني حيثما أذهب وأنك لن تهجرني في يوم من الأيام مهما يحدث لي؟ ألم تؤكد لي أنك تحبني وأنك سوف تغفر لي، وأنك تحترمني... نعم... لقد قلت هذا أيضاً. وأنا التي فررت منك، لا لشيء إلا أن أدعك حراً طليقاً. ولكنني عدلت الآن عن هذا. لماذا عاملتني كما تُعامل امرأة داعر؟ اسأل روجويين هل أنا امرأة داعر؟ اسأله فيقول لك!... أبعد أن جللتْني الآن بالعار، على مرأى منك ومسمع، تشيح وجهك عني وتمضي معها متأبطاً ذراعها؟ ألا فلتنصبّ عليك اللعنة إذا فعلت ذلك، لأنك الرجل الوحيد الذي محضته ثقتي.
ثم هتفت تقول باندفاعة جنون:
– اذهب يا روجويين!
كانت الكلمات تخرج من صدرها بكثير من المشقّة والعناء، وقد تشوّهت ملامح وجهها ويبست شفتاها: واضح أنها كانت لا تصدق كلمة واحدة من هذا الكلام الذي أطلقته في نوبة افتخار، ولكنها كانت تريد أن تطيل الوهم برهة أخرى. لقد بلغت النوبة من القوة والعنف إنها كان يمكن أن تميتها، في تقدير الأمير على الأقل.
وصرخت تقول لآجلايا أخيراً وهي تومئ إلى الأمير بإشارة من يدها:
– هذا هو. انظري إليه: إن لم يجئ إليّ فوراً، إن لم يرضَ أن يتركك من أجلي، فما عليك إلا أن تأخذيه. أنني أتنازل عنه، فلا أريده بعد الآن!...
لبثت المرأتان ساكنتين جامدتين كأنما تنتظران جواب الأمير الذي كانتا تنظران إليه زائغتي الهيئة. ولكن لعله، هو، لم يدرك كل ما كان في ذلك التحدي من عنف؛ بل إنه لم يدركه حتما. فمن ينظر إليه يتحقق من ذلك. كان لا يميّز أمامه إلا ذلك الوجه الذي يلوح فيه اليأس والجنون والذي كان منظره «قد طعن قلبه إلى الأبد»، كما سبق أن قال ذلك يوماً لآجلايا. ثم لم يطق احتمال رؤية المشهد أكثر من ذلك، فها هو ذا يلتفت إلى آجلايا، فيسألها بلهجة الرجاء والعتب مشيراً إلى ناستاسيا فيليبوفنا:
– أهذا جائز؟ ألا ترين كم هي بائسة شقية؟
ولم يستطع أن يقول أكثر من ذلك. فإن نظرةٌ ألقتها عليه آجلايا قد عقلت لسانه. ورأى في هذه النظرة ألماً يبلغ من الشدة، ورأى فيها كرهاً يبلغ من القوة أنه ضم يديه إحداهما إلى الأخرى، وأطلق صرخة، وهرع نحو الفتاة. ولكن كان قد فات الأوان. إنها لم تطق أن يتردد ولو ثانية واحدة. فغطّت وجهها بيديها، وانطلقت تخرج من الغرفة صائحة: «آه... رباه!». وكان روجويين قد تبعها ليفتح لها الباب.
وهرع الأمير وراءها أيضاً، غير أن ذراعين قد احتضنتاه عند العتبة. كانت ناستاسيا فيليبوفنا تحدق فيه منقلبة السحنة مكفهرة الوجه، وتمتمت شفتاها المزرّقتان تقولان له:
– أتركض وراءها؟ وراءها؟
وسقطت في ذراعيه مغشياً عليها. فأنهضها وحملها إلى الغرفة ووضعها على مقعد من المقاعد، ولبث مائلاً عليها منتظراً مشدوهاً. وكان يوجد على مائدة صغيرة كأس ماء. فتناوله روجويين حين عاد، ورشّ شيئاً من مائه على وجه المرأة الشابة. ففتحت عينيها، وظلت خلال دقيقة لا تعي شيئاً، لكنها لم تلبث أن استردّت شعورها فجأة، فارتعشت، وأسرعت إلى الأمير تصيح قائلة له:
– أنت لي، لي أنا! هل انصرفت الآنسة المتكبّرة؟ هأ هأ هأ!
كذلك قهقهت في نوبة ضحك تشنجي، وتابعت ضحكها وكلامها:
– هأ هأ هأ... كنت قد تنازلت عنه لتلك الآنسة! لماذا فعلت ذلك؟ لماذا؟ كنت مجنونة!... يا روجويين، امض في سبيلك. اذهب! هأ هأ هأ!...
وبعد عشر دقائق كان الأمير جالساً قرب ناستاسيا فيليبوفنا يحضنها بعينيه، ويمسح وجهها وشعرها بيديه في رفق كما يفعل المرء بطفل. وكان يضحك ضحكا مجلجلا حين يسمعها تضحك، وكان يوشك أن يجهش باكياً إذا رآها تبكي. وكان لا يقول شيئاً، وإنما ينتبه إلى تمتمتها المحمومة المفككة التي لا يفهم منها شيئاً البتة، ولكنه يصغي إليها مبتسما ابتسامة رقيقة لطيفة. حتى إذا لاحظ بزوغ نوبة جديدة من الحزن والدموع واللوم والتشكّي، عاد يلاعب شعرها ويمسح خدّيها بحنان، ويحاول أن يواسيها وأن يعقّلها كبنية صغيرة.
الفصل التاسع
انقضى أسبوعان على الأحداث التي رويناها في الفصل السابق. وقد تغيرت أحوال شخصيات قصتنا أثناء تلك المدة تغيراً كبيراً جداً، حتى ليصعب أن نمضي في الطريق إلى آخره دون الدخول في بعض التفسيرات. ولكننا نشعر نحن أنفسنا بأن من العسير علينا في كثير من الحالات أن نعلل هذه الأحداث.
أغلب الظن أن مثل هذا التنبيه سيبدو للقارئ غريباً وغير مفهوم في آن واحد، فكيف يمكن للمرء أن يسرد للمرء أحداثا ليس في ذهنه فكرة واضحة عنها، وليس له رأي شخصي فيها؟ فمن أجل أن لا نضع أنفسنا في موضع أدعى إلى شبهة الضلال والزيف أيضاً، سنحاول أن نوضح فكرتنا بمثال، آملين أن تجعل القارئ السمح يفهم المأزق الذي نجد أنفسنا أمامه، وسيكون لهذا مزية، هي أن المثال الذي اخترناه لن يكون استطراداً وخروجاً عن الموضوع، بل سيكون التتمة المباشرة للقصة.
فبعد خمسة عشر يوماً، أي في مطلع شهر تموز– يوليه (بل وأثناء هذين الأسبوعين)، اتخذت قصة بطلنا، ولا سيما حدثها الأخير، اتخذت في ألسن الناس صورة عجيبة كان يسليهم جداً أن يتناقلوها. قصة لا يكاد يصدقها العقل، ولكنها لا توضع موضع شك، انتشرت شيئا فشيئا في جميع الشوارع التي تجاوز فيلات ليبديف وبتتسين وداريا ألكسيفنا وآل إيبانتشين، أي في المدينة كلها تقريباً، بل وفيما حولها أيضاً. إن المجتمع كلّه، أو كلّه على وجه التقريب (أهل البلدة أو سكان الفيلات أو الوافدين من المدينة لسماع الموسيقى) قد أشاعوا القصة نفسها بألف شكل وشكل؛ ومن تلك الأشكال كلها يخرج أن أميراً قد قام بفضيحة في أسرة محترمة معروفة، فترك آنسة من تلك الأسرة رغم أنه قد أتم خطبته لها، ومضى يتشبث بأذيال امرأة خليعة. لقد قطع جميع صلاته، واستخف بجميع التهديدات، ولم يكترث أي اكتراث باستياء الناس وامتعاضهم، فأعلن – على خلاف ما توجبه أبسط مبادئ اللباقة الاجتماعية – أنه ينوي أن يتزوج تلك المرأة الضائعة، ببلدة بافلوفسك نفسها، على مرأى ومسمع من جميع الملأ، رافعاً رأسه، شامخاً بأنفه، محدقاً إلى البشر في أعينهم بغير مبالاة.
لقد زُيّنت هذه القصة بتفاصيل فاضحة كثيرة. وأُقحم فيها أفراد معروفون محترمون، وصُبغت بألوان تضفي عليها هالة من الخيال والسحر والسر، ودُعمت من جهة أخرى بوقائع ثابتة لا سبيل إلى جحودها، فلا غرابة أن أيقظت اهتماماً عارماً وأثارت لغطاً كثيراً.
وقد قيل في تأويل الحادث كلام كثير، ولكن التأويل المرهف البارع أكثر من سائر التأويلات (وهو في الوقت نفسه أقربها إلى التصديق) هو ذلك الذي أشاعته تقوّلات بعض أولئك الأفراد الرصينين العقلاء الذين نراهم في كل طبقة من طبقات المجتمع والذين لا يعدمون أن يجدوا وسيلة لتأويل حادث من الحوادث للآخرين، فهذه هي رسالتهم في الحياة بل هذا هو عزاؤهم وتلك هي سلواهم في كثير من الأحيان.
ففي رواية هؤلاء أن الشاب ينتمي إلى أسرة كريمة المحتد، فهو أمير، وهو غني تقريباً، وهو محدود الفكر، ولكنه ديموقراطي ومتشيع لذلك المذهب العدمي المعاصر الذي أوضحه السيد تورجنيف. فهذا الشاب الذي لا يكاد يحسن التكلم بالروسية قد وقع في غرام ابنة الجنرال إيبانتشين، وظفر بأن يجعل الأسرة تستقبله في بيتها استقبال خطيب. ولكنه قد خدع هذه الأسرة بأسلوب يذكّر بأسلوب ذلك الشاب الفرنسي، طالب اللاهوت، الذي نشرت مغامرته منذ مدة قصيرة. إن طالب اللاهوت هذا قد طلب عند تخرّجه أن يُنصّب كاهناً، وكان يبيّت نية معينة، فبعد أن قام بجميع الطقوس والشعائر، وتلا جميع الأدعية والصلوات، وحلف جميع الأيمان، وتم تنصيبه كاهناً، نشر في الغداة رسالة مفتوحة إلى أسقفه يعلن فيها على رؤوس الأشهاد أنه لا يؤمن بالله، وأنه يرى أن من الحطّة والدناءة من جانبه أن يخدع الشعب وأن يستغله ويعيش عالة عليه، فهو لذلك ينكل عما فعله بالأمس، وينشر رسالته هذه في الجرائد الليبرالية.
فعلى غرار ما فعله ذلك الملحد، انتظر الأمير سهرة فخمة أقامها أهل الفتاة، وقدّموه أثناءها إلى كثير من الشخصيات البارزة المرموقة، فأعلن أفكاره صراحة أمام جميع الناس، وأهان عدداً من وجوه القوم وصفوة رجال المجتمع، وطرد خطيبته على مرأى ومسمع من الملأ بطريقة مهينة مشينة. وحين كلّف الخدم بإخراجه من المنزل راح يقاومهم بطريقة مقاومة عنيفة فهشم أثناء ذلك إناء رائعاً من خزف صيني.
وهناك سمة بارزة من سمات الأخلاق السائدة في عصرنا تضاف إلى هذه القصة، هي أن ذلك الشاب الطائش كان يحب خطيبته ابنة الجنرال حباً صادقاً، ولكنه قطع صلته بها لا لسبب آخر غير إشهار تشيّعه للمذهب العدمي. وهو من أجل أن يجعل الفضيحة أبهر للأبصار تحدى الناس فتزوج امرأة ضائعة ليبرهن بذلك على اعتقاده الراسخ بأنه ليس ثمة نساء ساقطات ونساء فاضلات، وإنما هنالك المرأة المتحررة فحسب. فهو لا يؤمن بالتصنيفات البالية التي يأخذ بها المجتمع الراقي، وإنما يؤمن «بقضية المرأة» وحدها دون سواها؛ بل هو يزعم أن للمرأة الساقطة في نظره قيمة أكبر من قيمة المرأة التي لم تسقط.
لقد بدا هذا التأويل معقولاً جداً، محتملاً كل الاحتمال، وأخذ به أكثر المصطافين في بافلوفسك. ومما يسّر عليهم ذلك مزيداً من التيسير أن الوقائع اليومية كانت تأتي مصدقةً له. صحيح أن كثيراً من التفاصيل ظلت أموراً لا سبيل إلى فهمها. لقد كان يُقال إن الفتاة المسكينة قد بلغت من حب خطيبها (وكان بعضهم يسميه «مغويها») أنها هرعت إليه غداة تركها ولحقت به في بيت عشيقته. وذهب بعض آخر إلى غير هذا فقالوا إنه استدرجها إلى بيت المرأة متعمّداً، بدافع العدمية وحدها، أي ليجللها بالعار وليلطّخها بالدنس.
مهما يكن من أمر فإن الاهتمام الذي أثاره هذا الحادث كان يشتد يوماً بعد يوم، لا سيما وأنه لم يبق أي شك في أن ذلك الزواج المشين قد أصبح وشيكا.
والآن، إذا سألنا أحدٌ إيضاحات أو تفسيرات (لا عمّا يتصف به الحادث من أنه ينتمي إلى المذهب العدمي، لا...)، وإنما عن مدى انطباق هذا الزواج على رغبات الأمير، وعما كان الأمير يرغب فيه حقاً، وعن حالته النفسية في تلك الآونة، وعن أمور أخرى من هذا النوع، لوجدنا أنفسنا مرتبكين في الإجابة أشد الارتباك، يجب أن نعترف بذلك. ولكننا نعلم أن الزواج قد تقرر فعلاً، وأن الأمير قد كلف ليبديف وكيللر وصديقاً لليبديف قُدّم إليه وعُرّف به في هذه المناسبة، كلفهم بأن يتخذوا جميع التدابير وأن يعدوا جميع الإجراءات في الكنيسة وفي البيت معاً، وأمرهم بأن لا يحفلوا بالنفقات وأن لا يبالوها. وقد ألحّت ناستاسيا فيليبوفنا على أن يتم الزفاف في أقرب وقت. وألحّ كيللر على أن يجعله الأمير فتى الشرف في عرسه، فلبّى الأمير طلبه، ووقع اختيار ناستاسيا فيليبوفنا على بوردوفسكي فتى من جهتها، فارتضى بوردوفسكي هذا الاختيار متحمساً. وحُدد أول تموز– يوليه موعداً لحفلة الزفاف.
وعدا هذه الوقائع الدقيقة الصحيحة كل الصحة، فنحن نعلم كذلك تفاصيل تحيّرنا أشد الحيرة لأنها تناقض ما سبق. لهذا يحق أن نقدّر أن الأمير ما إن كلف ليبديف والآخرين بإعداد كل الترتيبات حتى نسي أن هناك زواجاً وزفافاً وعريساً وفتيان شرف وما إلى ذلك! ولعله لم يسرع إلى تكليف غيره بهذه الأمور إلا ليكفّ هو عن التفكير فيها والانشغال بها، وربما ليمحوها من ذاكرته محوا تاما.
ولكن إذا صدق هذا ففي أي شيء كان يفكر؟ ما هو الشيء الذي كان يريد أن يحتفظ بذكراه؟ ماذا كانت نياته؟ لا شك في أن الأمير لم يتعرض لأي ضغط أو إكراه (من جانب ناستاسيا فيليبوفنا مثلاً). صحيح أن ناستاسيا فيليبوفنا هي التي أرادت تعجيل الزفاف؛ وأنها هي التي تخيّلت هذا الزواج، لا الأمير؛ ولكن الأمير قد وافق موافقة حرة لم يجبره عليها أحد، حتى أنه وافق وهو ذاهل الهيئة كأن الأمر أمر عادي ليس على شيء من خطورة الشأن.
إننا نعرف عدداً كبيراً من وقائع لا تقل غرابة عن ذلك، ولكننا نرى أن تلك الوقائع لن تساهم في إيضاح الحادث بل ستزيده بتراكمها غموضاً على غموض. ولنضرب مع ذلك مثالاً آخر.
نحن نعلم علم اليقين أن الأمير قد قضى في أثناء هذين الأسبوعين أياماً وسهرات كاملة مع ناستاسيا فيليبوفنا وأنه كان يصحبها في نزهاتها ويرافقها لسماع الموسيقى. كان يخرج معها كل يوم في عربة. وإذا انقضت ساعة دون أن يراها أخذ يقلق عليها (كانت كل المظاهر تدل إذن على أنه يحبها حبًا صادقاً). كان يبقى إلى جانبها ساعات طوالاً يصغي إليها وهي تتكلم بابتسامة رقيقة عذبة أياً كان الموضوع الذي تتكلم فيه. وكان هو يصمت طول الوقت تقريبا.
ولكننا نعلم أيضاً أنه في تلك الأيام نفسها قد ذهب عدة مرات، بل مراراً كثيرة، إلى منزل آل إيبانتشين على حين فجأة، دون أن يكتم ذلك عن ناستاسيا فيليبوفنا التي كانت تلك الزيارات تهوي بها إلى حضيض الكمد والكرب واليأس. ونحن نعلم أن آل إيبانتشين قد رفضوا استقباله إلى آخر يوم من أيام إقامتهم في بافلوفسك، وأنهم اعترضوا دائماً على أن يتم لقاء بينه وبين آجلايا. فكان ينصرف دون أن يقول كلمة واحدة، ثم يعود في الغد وكأنه نسي رفض الأمس، ثم يُرفض مرة أخرى طبعاً.
ونحن نعرف أيضاً أن الأمير، بعد هرب آجلايا من بيت ناستاسيا فيليبوفنا بساعة أو بأقل من ساعة، قد مضى إلى منزل أسرة إيبانتشين معتقداً إنه سيلقى الفتاة هناك. فما كان أشد الذعر الذي أحدثه في المنزل وصوله، لأن آجلايا لم تكن قد رجعت بعد، وعلم أهل الدار منه أول نبأ عن الزيارة التي قامت بها آجلايا في صحبته لناستاسيا فيليبوفنا. قد حُكي بعد ذلك أن إليزابت بروكوفيفنا وبنتيها وحتى الأمير «شتش...» قد عاملوه بقسوة وخشونة وعداوة، وأعلنوا له بألفاظ غاضبة أنهم لا يريدون أن يعاشروه بعد الآن ولا أن يعرفوه، لا سيما حين وصلت باربارا آرداليونوفنا تبلغ إليزابت بروكوفيفنا فجأة أن آجلايا موجودة عندها منذ ساعة وأنها في حالة رهيبة وأنها لا تريد الرجوع إلى البيت فيما يبدو.
وقد ثبت صدق هذا النبأ الأخير الذي بثّ الاضطراب في نفس إليزابت بروكوفيفنا أكثر من أي شيء آخر. والواقع أن آجلايا حين خرجت من عند ناستاسيا فيليبوفنا كانت تؤثر أن تموت على أن تظهر أمام أنظار أهلها من جديد. لذلك لجأت إلى نينا ألكسندروفنا. ورأت باربارا آرداليونوفنا من جهتها أن من الواجب أن تبادر إلى إبلاغ إليزابت بروكوفيفنا كل ما جرى بغير إبطاء. فهرعت الأم وابنتاها فوراً إلى عند نينا ألكسندروفنا، ولحق بهن الأب، إيفان فيدروفتش، إلى هناك منذ عاد إلى البيت. وركض الأمير ليون نيقولايفتش وراء السيدات إيبانتشين رغم أنهن صرفنه ورغم أنهن وجهن إليه كلمات جارحة. ولكن باربارا آرداليونوفنا أمرت هناك بمنعه من الوصول إلى آجلايا.
وقد انتهت القضية على النحو التالي: حين رأت آجلايا أمها وأختيها يبكين بسببها ولكنهن لا يوجهن إليها أي لوم، ارتمت في أحضانهن ورجعت معهن إلى البيت فوراً.
وحُكي أيضاً – غير أن هذه الشائعة ظلت غير واضحة – أن جبريل آرداليونوفتش قد مُني بسوء الحظ مرة أخرى: فإنه حين خلا إلى آجلايا أثناء ذهاب باربارا آرداليونوفنا إلى إليزابت بروكوفيفنا، ظن أن عليه أن ينتهز هذه الفرصة ليحدث آجلايا عن حبه. فلما سمعته آجلايا نسيت حزنها ودموعها وانطلقت تضحك في قهقهة مجلجلة، ثم ألقت عليه السؤال التالي: أهو مستعد، في سبيل البرهان على حبه، لأن يحرق إصبعه على لهب شمعة؟ ويبدو أن جبريل آرداليونوفتش قد تحيّر وشُده وصُعق لهذا الاقتراح، فلما رأت آجلايا ما تعبر عنه هيئته من هذا كله، اعترتها نوبة ضحك فظيع، وهربت إلى الطابق الأعلى، إلى عند نينا ألكسندروفنا، حيث وجدها أهلها بعد ذلك بقليل.
وقد نقل هيبوليت هذه الواقعة إلى الأمير في الغد. إن هيبوليت الذي أصبح لا يستطيع أن يترك مرقده قد استدعى الأمير خصيصاً لينقل إليه تلك الواقعة. لا نعرف كيف اطلع هو عليها. ولكننا نعرف أن الأمير حين سمع حكاية الأصبع والشمعة قد أخذ يضحك ضحكاً بلغ من الشده إن هيبوليت نفسه تحيّر تحيراً كبيراً، غير أن الأمير لم يلبث أن أخذ يرتجف، وأجهش باكياً...
ولقد كان الأمير خلال تلك الأيام، على وجه العموم، فريسة قلق شديد واضطراب خارق وخوف غامض. حتى إن هيبوليت أعلن صراحة أن الأمير يشعره بأنه رجل أصابه اختلال عقلي. على أن هذا الظن كان يصعب بناؤه على أساس محسوس حتى ذلك الحين. إننا، حين نعرض هذه الوقائع جميعها ونرفض أن نفسرها، لا نهدف إلى أن نبيض صفحة بطلنا وأن نبرى ساحته وأن نسوّغ سلوكه في نظر القارئ. بالعكس: نحن مستعدون لأن نشارك في هذا الاستياء الذي أثاره سلوك الأمير حتى في نفوس أصدقائه. إن فيرا ليبديفا نفسها قد أحنقها هذا السلوك مدة من الوقت. وإن كوليا وكيللر قد أظهرا امتعاضهما كذلك. ولم يغير كيللر رأيه إلا حين اختاره الأمير فتى الشرف لزفافه. أما ليبديف فقد بلغ استياؤه من الصدق إنه دفعه إلى أن يدبر للأمير مكيدة سنتحدث عنها فيما بعد. إننا من حيث المبدأ نؤيد بلا تحفظ بعض الأقوال التي تتصف بالشدة والصرامة بل وتتصف كذلك بعمق النفاذ السيكولوجي، أعني الأقوال التي وجهها أوجين بافلوفتش إلى الأمير بغير لفّ أو دوران، أثناء حديث ودي قام بينه وبينه بعد انقضاء ستة أيام أو سبعة على الحادث الذي وقع عند ناستاسيا فيليبوفنا. يجب أن نذكر في هذه المناسبة أن الأشخاص الذين تربطهم بأسرة إيبانتشين صلات مباشرة أو غير مباشرة قد اعتقدوا أن من واجبهم أن يشاركوا الأسرة في قطع أي صلة بالأمير. فالأمير «شتش..» مثلاً قد أشاح عنه وجهه حين لقيه، ولم يردّ تحيته. ومع ذلك لم يخش أوجين بافلوفتش أن يتعرض لشر إذا هو زار الأمير، رغم أنه قد استأنف تردده على آل إيبانتشين كل يوم، وأن الأسرة استقبلته بمودّة ظاهرة واضحة.
ففي غداة اليوم الذي غادر فيه آل إيبانتشين بافلوفسك، ذهب أوجين بافلوفتش إلى الأمير. وكان حين دخوله عليه عالماً بالأقاويل التي كانت تروج في المدينة؛ بل لعله كان قد أسهم من جهته في نشرها. وقد سُرّ الأمير برؤيته سروراً عظيماً، وسرعان ما أدار الحديث على آل إيبانتشين. فكان من شأن هذا الدخول في الموضوع على نحو صريح مباشر أن حلّ عقدة لسان أوجين بافلوفتش وأتاح له أن يمضي إلى هدفه رأساً.
كان الأمير ما يزال يجهل رحيل آل إيبانتشين. فحين أنبأه أوجين بافلوفتش بذلك تجمد دهشةً وامتقع لونه. ولكنه بعد دقيقة، هزّ رأسه مضطرب الهيئة شارد الفكر وقال مسلّما مذعنا: «لم يكن من ذلك بد»؛ ثم أسرع يسأل عن «محل إقامتهم الجديد».
وكان أوجين بافلوفتش أثناء ذلك يرقبه بانتباه، فأدهشه أن رأى الأمير يسرع في سؤاله هذا الإسراع، وأدهشه ما رآه من سذاجة في الأسئلة التي يلقيها عليها، وما لاحظه فيه من اضطراب، وما لاح له في كلامه من نبرة صدق غريب، وما كان يظهر عليه من قلق واضطراب وعصبية. ومع ذلك أطلع الأمير على تفاصيل جميع الأحداث بكثير من الكياسة والبشاشة واللطافة. لقد أعلمه أشياء كثيرة، وكان أول من يحمل إليه الأنباء من عند آل إيبانتشين.
أكّد له أوجين بافلوفتش أن آجلايا قد مرضت فعلاً، وأنها قضت ثلاث ليال في حمى وأرق، وأن صحتها الآن قد تحسّنت فنجت من الخطر، ولكنها ما تزال في حالة شديدة من حالات فرط الاهتياج... وأضاف: «من حسن الحظ على كل حال أن سلاماً تامًا يسود جوّ المنزل! إنهم يحاولون أن لا يتكلموا عن الماضي، لا بحضور آجلايا فحسب، بل حتى في غيابها. والأبوان يريدان أن تقوم الأسرة في الخريف برحلة إلى الخارج، بعد زواج آديلائيد رأساً. وقد استقبلت آجلايا أولى التلميحات إلى هذا المشروع صامتة فلم تعقب عليه بشيء»...
أما هو، أوجين بافلوفتش، فقد يسافر إلى الخارج أيضاً. وحتى الأمير «شتش...» قد يقرر أن يغيب مع آديلائيد شهراً أو شهرين، إذا سمحت له أعماله بذلك. فلا يبقى عندئذ إلا الجنرال. والأسرة كلها تقيم الآن في كولمينو، على مسافة عشرين فرسخاً من بطرسبرج، بمنزل ريفي واسع في إحدى الأراضي التي تملكها. ولم تكن الأميرة بيلوكونسكايا قد سافرت بعد إلى موسكو، ويظهر أنها تأخرت متعمدة. لقد ألحّت إليزابت بروكوفيفنا إلحاحاً شديداً على استحالة البقاء في بافلوفسك بعد كل ما حدث. وكان أوجين بافلوفتش ينقل إليها الشائعات التي تسري في المدينة، يوماً يوماً. واعتقد آل إيبانتشين أن الذهاب إلى فيلا إيلاجين مستحيل أيضاً. أضاف أوجين بافلوفتش يقول:
– لا شك أنك تسلّم يا أمير بأن الوضع قد أصبح لا يطاق... ولا سيما عند من يعرف ما يجري في بيتك كل ساعة، وبعد زياراتك اليومية «هناك»، رغم الإصرار على رفض استقبالك.
أجاب الأمير وقد عاد يهزّ رأسه:
– نعم، نعم، أنت على حق. كنت أريد أن أرى آجلايا إيفانوفنا.
فصاح أوجين بافلوفتش يقول فجأة بلهجة مؤثرة حزينة:
– آه يا عزيزي الأمير! كيف أمكنك أن تسمح إذن بحدوث كل ما حدث؟ صحيح أن الأمر كان لك مفاجأة غير متوقعة... فأنا أسلّم بأنك لم يكن في وسعك إلا أن يطيش صوابك، ولم يكن في وسعك أن تصدّ تلك الفتاة عن الانقياد لنوبة الجنون التي اعترتها، فذلك كله فوق طاقتك! ولكن كان عليك أن تدرك مدى خطورة وقوة العاطفة... التي كانت تدفع تلك الفتاة إليك! إنها لم تشأ أن يُشاركها أحد فيك، وأنت... أنت تركت هذا الكنز وحطّمته.
قال الأمير وقد أرهقه الحزن:
– نعم، نعم، أنت على حق. اسمع: إن آجلايا كانت هي الإنسان الوحيد الذي ينظر إلى ناستاسيا فيليبوفنا هذه النظرة!... ما من أحد غيرها كان يرى فيها هذا الرأي، ويحكم عليها هذا الحكم...
هتف أوجين بافلوفتش يقول باندفاع:
– ولكن هذا بعينه هو ما يثير الحنق: إن الأمر كله لم يكن فيه شيء من جد... معذرة يا أمير... لكنني... لكنني فكرت في المسألة، فكرت فيها ملياً.. وأنا أعرف جميع المقدمات. أعرف كل ما حدث قبل ستة أشهر. لم يكن في الأمر كله شيء من جد، لم يكن ثمة إلا فكر يعبث وخيال يهوّم، ووهم ودخان... والغيرة المروّعة، الغيرة التي عصفت بقلب فتاة غير ذات تجربة، هي التي استطاعت وحدها أن تجعلها تأخذ الأمر مأخذ الجد ومأخذ المأساة!
وهنا شعر أوجين بافلوفتش بارتياح كامل، فأطلق لسانه حراً يعبّر عن استيائه بغير تحفظ. فإذا هو يرسم للأمير صورة للعلاقات بينه وبين ناستاسيا فيليبوفنا بأقوال ذكية واضحة، وبنفاذ سيكولوجي عميق، كما أسلفنا من قبل. إن أوجين بافلوفتش قد أوتي موهبة الكلام فكانت هذه الموهبة تلاحظ فيه دائما، ولكنه ارتقى هذه المرة إلى مرتبة البلاغة النادرة. قال:
– لقد كان فيك منذ البداية شيء من كذب. ومن كان الكذب بدايته فلا بدّ أن يكون الكذب نهايته. ذلك قانون من قوانين الطبيعة. إنني لا أرى رأي أولئك الذين يعدونك أبله. حتى إنني أستاء حين أسمع كلامهم. إنك أذكى من أن توصف بهذه الصفة. ولكن لا بدّ أنك تسلّم أنت نفسك بأن فيك غرابة تميزك عن الناس كافة. لقد خلصت أنا إلى هذه النتيجة: إن سبب كل ما جرى يكمن قبل كل شيء فيما أسميه «اللاخبرة الفطرية» (لاحظ تعبير «الفطرية» يا أمير)، وفيما تتصف به من سذاجة شاذة غير سوية. وإني لأضيف إلى ذلك أنك يعوزك حس الاعتدال عوزاً خارقاً (تلك آفة فيك كثيراً ما اعترفت بها أنت نفسك)؛ وينبغي أن نذكر أخيراً ذلك السيل المتدفق من المعاني المجردة المكتسبة التي يمتلئ بها دماغك والتي حسبتها بإخلاصك وبراءتك آراء أصيلة حقيقية صادقة طبيعية مباشرة! عليك أن تعترف أنت نفسك يا أمير بأن علاقاتك مع ناستاسيا فيليبوفنا قد قامت منذ البداية على فكرة «الديموقراطية الاصطلاحية» (استعمل هذا التعبير للإيجاز) وتأثرت بما تتصف به «قضية المرأة» من فتنة وسحر (أقول هذا لمزيد من الإيجاز أيضاً).اعلم أنني مطلع على جميع تفاصيل الحادث الغريب الفاضح الذي جرى في بيت ناستاسيا فيليبوفنا حين جاء روجويين بأمواله. سأحاول، إذا شئت، أن أحلّلك وأن أُظهرك على صورتك كأنك تراها في مرآة. فإلى هذه الدرجة من الدقة أعرف حقيقة القضية والسبب الذي جعلها تجري هذا المجرى! حين كنت شاباً تعيش في سويسرا، كان بك حنين إلى وطنك، وكانت روسيا تجذبك كأنها بلد مجهول، كأنها أرض موعودة. وقد قرأت حينئذ كتباً كثيرة عن روسيا. ولعلها كانت كتباً ممتازة، لكنها قد أضرّت بك. فلما عدت إلى الأرض التي ولدت فيها كنت ممتلئاً بالحماسة ظامئاً إلى النشاط. فارتميت على العمل ارتماء إن صح التعبير. وها أنت ذا، منذ وصولك أول يوم، تُحكى لك حكاية حزينة مؤلمة هي حكاية إنسان أُهين وأُوذي. لقد حُكيت هذه الحكاية لك أنت، أنت الرجل العفّ الطاهر الذي يتصف بروح الفروسية، والإنسان الذي قُصّت عليك قصته الأليمة تلك، كان امرأة! وفي ذلك اليوم نفسه ترى تلك المرأة نفسها، فيسحرك جمالها، جمالها الخارق الشيطاني (ها أنت ذا ترى إنني أعترف بجمالها). أضف إلى ذلك حالة أعصابك، ومرض الصرع، وما يحدثه ذوبان الثلج ببطرسبرج من أثر حزين في النفس. أضف إلى ذلك أيضاً أنك أثناء ذلك النهار الأول الذي قضيته في مدينة مجهولة شبه أسطورية في نظرك، قد شهدت مشاهد عدة ولقيت أناساً كثيرين. لقد تعرفت، على نحو لم يكن في الحسبان قط، بثلاث جميلات، الآنسات إيبانتشين، ومنهم آجلايا. أضف إلى ذلك أيضاً ما كنت فيه من تعب، وأضف إليه الدوار، وأضف إليه صالون ناستاسيا فيليبوفنا والجوّ الذي كان يسوده، و... فماذا يمكن أن تتوقع من نفسك في تلك اللحظة؟ هلا قلت لي، من فضلك..
قال الأمير هازًا رأسه وقد أخذ وجهه يحمر:
– نعم، نعم، تكاد تكون على حق. فعلاً، لم أكن قد نمت في الليلة السابقة بالقطار، ولا في الليلة التي قبلها... وكنت أشعر أنني في غير حالتي الطبيعية...
تابع أوجين بافلوفتش كلامه قائلاً:
– فهذا بعينه ما أردت أن أخلص إليه. واضح أنك، وقد أسكرتك الحماسة، ارتميت على هذه الفرصة ارتماء لتبرز عظمة نفسك أمام الناس معلناً على رؤوس الأشهاد أنك على كونك أميراً بالولادة، وعلى كونك رجلاً طاهراً، لا ترى أن أي عار قد لحق بامرأة لم تُسقطها خطيئتها هي بل أسقطتها خطيئة رجل منحل كريه من أبناء المجتمع الراقي. أمر مفهوم جداً! ولكن ليست هذه هي المسألة يا عزيزي الأمير. إن الشيء الذي يجب أن نعرفه هو: أكانت عاطفتك حقيقية، صادقة، طبيعية، أم كانت ناشئة عن حماسة دماغية؟ ما رأيك؟ لئن غُفر في المعبد لامرأة من هذا النوع، فما من أحد قال لها إنها أحسنت صنعاً، ولا أنها تستحق جميع الأمجاد وجميع أنواع الاحترام! ألم تر أن عقلك قد أرجع الأمور إلى نصابها من تلقاء نفسه بعد ثلاثة أشهر؟ لنسلّم بأنها بريئة (هذه مسألة لا أريد أن ألحّ عليها). هل ينفي هذا أن أعمالها لا تسوّغ أي تسويغ ما يراه المرء فيها من عُجْب لا يطاق وزهو شيطاني لا يغتفر، ووقاحة شديدة، وأنانية مفرطة لا يرتوي لها ظمأ. معذرة يا أمير، إذا أنا اندفعت واسترسلت، ولكن...
تمتم الأمير يقول من جديد:
– نعم، ذلك كله ممكن، جائز أنك على حق... إنها في حالة شديدة من حالات فرط الاهتياج فعلاً. وأنت على حق يقيناً، ولكن..
– أتريد أن تقول إنها تستحق الشفقة يا أميري الطيب؟ ولكن هل من حقك، شفقة بها وإرضاء لها، أن تجلل بالعار فتاة أخرى كريمة المحتدّ طاهرة، وأن تذلها أمام «تينك» العينين اللتين تفيضان احتقاراً وكرهاً؟ فأين تقف الشفقة بعد هذا؟ أليس ههنا غلوٌّ لا يصدقه العقل؟ حين يحب المرء فتاة فهل يستطيع أن يحقر شأنها ذلك التحقير أمام غريمتها، وأن يهجرها في سبيل أخرى على مرأى من هذه الأخرى، بعد أن خطبها خطبةً شريفةً؟... ذلك أنك خطبتها وأعلنت خطبتها بحضور أبويها وأختيها! أفيمكن بعد هذا أن توصف بأنك رجل شريف يا أمير؟ ثم... ألم تخدع فتاة تستحق العبادة حين أكدت لها أنك تحبها؟
جمجم الأمير يقول بحزن لا يغالب:
– نعم، نعم، أنت على حق. آه... أنا أشعر بأنني آثم!
هتف أوجين بافلوفتش يقول مستاء:
– ولكن هل يكفي هذا؟ هل يكفي أن تصيح قائلاً: «آ... أنا آثم!». أنت آثم، ولكنك مستمر في أخطائك وذنوبك. أين كان إذن قلبك، قلبك «المسيحي»؟ لقد رأيت وجهها في تلك اللحظة: فهل كان يعبّر عن الألم أقل من وجه «الأخرى»، وجه «صاحبتك» التي تبثّ البلبلة والاضطراب؟ فكيف، وقد رأيت هذا المنظر، سمحت بحدوث ما حديث، كيف؟
تمتم الأمير المسكين يقول:
– ولكن... ولكنني لم أسمح بشيء...
– كيف لم تسمح بشيء!
– يميناً لم أسمح بشيء!... وما زلت حتى الآن لا أفهم كيف حدث ذلك كله... لقد... لقد ركضت عندئذ وراء آجلايا إيفانوفنا، ولكن أغمي في تلك اللحظة على ناستاسيا فيليبوفنا، ومنذ ذلك الحين لم يبيحوا لي أن أقترب من آجلايا إيفانوفنا.
– كان يجب عليك أن تركض وراء آجلايا وأن تترك الأخرى مغمى عليها!
– نعم، نعم، كان يجب عليّ... كانت ستموت من ذلك! كانت ستنتحر، إنك لا تعرفها... و... على كل حال... مهما يكن من أمر.... كنت سأقصّ كل شيء بعد ذلك على آجلايا إيفانوفنا، و... اسمع يا أوجين بافلوفتش: يلوح لي أنك لست على علم بكل شيء. هلّا قلت لي لماذا لا يبيحون إليّ الاقتراب من آجلايا؟ لو سمحوا لي أن أفعل، لشرحت لها كل شيء. اعلمْ هذه الحقيقة: هما كلتاهما لم تتكلما عندئذ عما كان ينبغي الكلام عليه، وذلك هو السبب في أن الأمور جرت بينهما هذا المجرى. يستحيل عليّ استحالة مطلقة أن أشرح لك هذا شرحاً واضحاً، ولكن قد أفلح في شرحه لآجلايا. آه... رباه! رباه! إنك تكلمني عن وجهها في تلك اللحظة كيف كان، هربت.. آه.. يا رب! أنني أتذكر كيف كان وجهها في تلك اللحظة!... قم بنا... قم بنا...
كان الأمير قد قام بغتةً وهو يحاول أن يجر أوجين بافلوفتش من كمه.
– إلى أين؟
– إلى عند آجلايا إيفانوفنا. لنذهب إليها فوراً!...
– ولكنني قلت لك إنهم رحلوا عن بافلوفسك. ثم... ما عسانا فاعلين عندها؟
دمدم الأمير يقول ضامًّا يديه بحركة التوسل والضراعة:
– إنها سوف تفهم، سوف تفهم! سوف تفهم أن الأمر ليس «هذا»، بل هو شيء آخر تماماً!
– كيف يكون شيئاً آخر تماماً؟ إنك سوف تتزوج مع ذلك! ما تزال إذن تعاند... ألست مقبلاً على زواج؟
– بلى... سأتزوج... سأتزوج!...
– فكيف تقول إذن إن الأمر ليس «هذا»؟
– لا، ليس الأمر هذا، ليس الأمر هذا... ليس هامًا أن أتزوج... ما زواجي بشيء!...
– كيف يمكنك أن تقول إن زواجك ليس هامًا؟ ما زواجك مزحة على كل حال! إنك تتزوج امرأة تحبها، من أجل أن تحقق سعادتها. وآجلايا ترى هذا وتعرفه. أهذا أمر لا قيمة له ولا شأن؟
– سعادتها؟ لا، لا. إنني أتزوج هكذا.. أتزوج وكفى. هي تحرص على أن أتزوجها. وما قيمة أن أتزوج؟ إنني... هذا كله لا شأن له عندي. لو فعلت غير ما فعلت لماتت حتماً. إنني أرى الآن أن فكرة زواجها بروجويين كانت جنوناً. الآن فهمت ما لم أكن أفهمه من قبل. اسمع ما أقوله لك: إنني حين تشجارتا لم أستطع أن أتحمّل رؤية وجه ناستاسيا فيليبوفنا.
ثم أضاف الأمير قائلاً وهو يخفض صوته كأنه يفضي بسرٍّ:
– أنت لا تعلم يا أوجين بافلوفتش... إنني لم أقل هذا لأحد في يوم من الأيام، أبداً، أبداً، لم أقله حتى لآجلايا.. ولكن الحقيقة هي أنني لم أطق أن أحتمل رؤية وجه ناستاسيا فيليبوفنا... إنك منذ قليل قد أجدت أيما إجادة وصف السهرة التي تمّت في بيتها. غير أن هناك أمراً تفصيلياً غاب عنك لأنك كنت تجهله: هو أنني نظرت إلى «وجهها». وقبل ذلك، في الصباح، حين رأيت صورتها لم أستطع أيضاً أن أحتمل تعبير هذا الوجه... انظر إلى وجه فيرا، بنت ليبديف: إن لها عينين مختلفتين عن عيني ناستاسيا فيليبوفنا كل الاختلاف. إنني... إنني أخاف من وجه ناستاسيا فيليبوفنا.
أضاف الأمير هذه الجملة الأخيرة بلهجة تدل على أكبر الرعب.
سأله أوجين بافلوفتش:
– تخاف من وجهها؟
فأجاب الأمير قائلاً بهمس وقد امتقع لونه:
– نعم. إنها مجنونة.
فسأله أوجين بافلوفتش وقد لاحت في وجهه حيرة شديدة:
– أأنت متأكد من هذا؟
– نعم، متأكد، الآن أنا متأكد. لقد اقتنعت بهذا اقتناعاً راسخاً في هذه الأيام الأخيرة.
فصاح أوجين بافلوفتش يقول مرتاعاً:
– فماذا تفعل إذن أيها الشقي؟ أأنت تتزوج إذن بتأثير نوع من الخوف؟ ذلك أمر لا يفهم المرء منه شيئاً... وربما كنت لا تحبها أيضاً؟
– بل بلى! إنني أحبها بكل نفسي! ما هذا الكلام الذي تقول!... إنها طفلة. هي الآن أشبه بطفلة تماماً! آه... إنك لا تعلم شيئاً!
– وفي الوقت نفسه أكّدت لآجلايا حبك؟
– نعم... نعم!...
– كيف تفسير هذا؟ أتزعم إذن أنك تحبهما كلتيهما في آن واحد؟
– نعم.. نعم!....
– فكر فيما تقول يا أمير!
– بدون آجلايا سوف يوافيني... يجب أن أراها حتماً. سوف يوافيني الموت وأنا نائم بعد حين.. لقد قدّرت أن أموت هذه الليلة أثناء النوم. آه... ليت آجلايا تعلم، ليتها تعلم كل شيء... أقصد أن تعلم كل شيء تماماً! ذلك أن الأمر الأساسي هنا هو أن يعرف المرء كل شيء! لماذا لم يكتب لنا قط أن نعلم «كل شيء»، عن شخص آخر حين يكون هذا لازما، إذا ارتكب هذا الشخص الآخر ذنباً!... على كل حال، أصبحت لا أعرف ماذا أقول، لقد اختلطت في عقلي الأمور. إنك ألقيتني في اضطراب رهيب... هل يمكن أن تكون محتفظة إلى الآن بذلك التعبير الذي رأيته في وجهها حين هربت؟ آه... نعم... أنا آثم! الأرجح أن جميع الأخطار قد صدرت عني أنا. إنني لا أعرف ماذا كانت تلك الأخطاء على وجه التحديد، ولكنني مسؤول!... هناك شيء لن أستطيع أن أشرحه لك يا أوجين بافلوفتش، لأنني لا أملك الألفاظ التي يمكن أن تعبر عن. ولكن... آجلايا إيفانوفنا ستفهم! نعم، لقد قدّرتُ دائماً أنها سوف تفهم...
– لا يا أمير، لن تفهم! إن آجلايا إيفانوفنا قد أحبتك حبا إنسانيّا، كما تحبّ امرأة... لا كما يحب روح صرف. هل تريد أن قول لك يا أميري المسكين: أغلب الظن إنك ما أحببت واحدة منهما أبداً لا الأولى ولا الثانية!
– لا أدري... جائز... جائز!... إنك على حق في نقاط كثيرة يا أوجين بافلوفتش. إنك ذكي ذكاء متفوّقاً يا أوجين بافلوفتش. آه.. هذا رأسي قد عاوده الصداع. لنذهب إليها. لنذهب إليها. ناشدتك الله... ناشدتك الله!
– ولكنني قلت لك إنها غادرت بافلوفسك! هي الآن في كولمينو.
– فلنذهب إلى كولمينو. لنسافر حالًا!
– مسـ... ـتـ... ـحيل!
كذلك قال أوجين بافلوفتش بصوت ممطوط. ونهض.
قال له الأمير:
– اسمع. سأكتب رسالةً تحملها أنت إليها!
– لا يا أمير، لا! اعفني من مثل هذه المهمات. لا أستطيع أن أتولى حمل الرسالة.
وافترقا.
مضى أوجين بافلوفتش وهو يحمل إحساساً غريباً. لقد وصل إلى اقتناع راسخ بأن الأمير مختل العقل قليلاً. «ما معنى هذا الكلام عن «وجه» يخشاه كل هذه الخشية ويحبه كل هذا الحب؟ وليس مستحيلاً في الوقت نفسه أن يموت لفراق آجلايا فعلاً، فلا تعرف الفتاة مدى ما كان يحمله لها من حب. هأ هأ!... وكيف يمكنه أن يحب امرأتين؟ وأن يحب كلاً منهما حبًّا يختلف عن حبه للأخرى؟ ذلك هو الشيء الطريف.. يا للأبله المسكين؟ ما عسى يصير إليه الآن؟....».
الفصل العاشر
مع ذلك لم يمت الأمير قبل زواجه لا في حالة اليقظة ولا «أثناء النوم» كما تنبأ بذلك لأوجين بافلوفتش. لعله كان ينام نوماً غير هادئ ولعله كان يرى أحلاماً سيئة. ولكنه أثناء النهار، في معاشرة الناس، كان يبدو حسن الصحة بل وراضي النفس. وإذا بدا في وجهه كثير من الاستغراق أحياناً فإن ذلك يحدث له حين يكون وحيداً.
لقد استُعجلت إعدادات الزواج الذي كان سيتم بعد زيارة أوجين بافلوفتش بثمانية أيام. فكان يستحيل على أصدقاء الأمير الخلّص، إذا كان له أصدقاء خلّص، كان يستحيل عليهم وهم يرون ذلك الاستعجال كله إلا أن يعدلوا عن الأمل في أن تصل جهودهم إلى «إنقاذ» المجنون المسكين مما عقد العزم عليه. وسرت شائعة تقول إن زيارة أوجين بافلوفتش إنما تمت بإيحاء من الجنرال إيفان فيدروفتش وزوجته إليزابت بروكوفيفنا. ولكن لئن دفعهما فرط طيبتهما كليهما إلى أن يتمنيا «إنقاذ» المختل المسكين من الوهدة التي وقع فيها، فلقد اضطرا أن يقتصر على تلك المحاولة الوحيدة الوجلة، فلا وضعهما ولا عواطفهما، في أغلب الظن (وذلك أمر طبيعي)، تسمح لهما بأن يبذلا جهوداً أكبر. وقد سبق أن قلنا إن المحيطين بالأمير عارضوه هم أنفسهم. واكتفت فيرا ليبديفا بأن تسكب الدموع حين تخلو إلى نفسها. ثم إنها كانت تمكث في البيت أكثر الوقت، فقلت زياراتها للأمير.
وفي تلك الأثناء كان كوليا يقوم بآخر واجباته تجاه أبيه. لقد مات أبوه بنوبة جديدة وافته بعد النوبة الأولى بنحو ثمانية أيام. وشارك الأمير مشاركة كبيرة في حداد الأسرة. فقضى في الأيام الأولى ساعات كاملة قرب نينا ألكسندروفنا. وسار في الجنازة وشهد الدفن وحضر القدّاس الذي أقيم على روح الفقيد في الكنيسة. وقد لاحظ أشخاص كثيرون أن وصوله إلى الكنيسة وانصرافه منها قد أثارا همسات تبادلها الناس في الحفل على غير إرادة منهم، وحدث مثل هذا في الشارع وفي الحديقة العامة. فكان الناس، إذا مرّ الأمير سائراً على قدميه أو راكباً عربة، تنتعش الأحاديث بينهم ويدل بعضهم بعضاً عليه، وينطقون باسمه وينطقون اسم ناستاسيا فيليبوفنا. وقد بحثوا عن ناستاسيا فيليبوفنا في جنازة الجنرال، لكنهم لم يجدوها. ولم تشارك (أرملة الكابتن) في الجنازة، فقد استطاع ليبديف أن يصدّها عن الخروج من البيت. وأحدثت صلاة الجنازة في نفس الأمير أثراً أليماً قوياً. فلما سأله ليبديف عن ذلك أجاب بصوت خافت أنه لأول مرة يشهد دفناً على الطقوس الروسية، باستثناء حفل مماثل يذكر أنه رآه أثناء طفولته في كنيسة قرية.
قال ليبديف هامساً:
– كيف يصدق المرء أن الرجل الراقد في هذا التابوت هو ذلك الرجل نفسه الذي انتخبناه رئيساً منذ مدة قصيرة؟ هل تتذكر؟ ولكن عمن تبحث؟
– لا أبحث عن أحد، ولكن خيل إليّ أنني...
– أتراك تبحث عن روجويين؟
– أهو هنا؟
– هو هنا في الكنيسة.
– خُيّل إليّ فعلاً أنني رأيت عينيه، ولكن كيف... ماذا جاء به إلى هنا؟ هل دعوه؟
كذلك سأل الأمير مدمدماً وقد لاح الاضطراب في وجهه. فأجابه ليبديف:
– لم يخطر ببال أحد أن يدعوه. ثم إن الأسرة لا تعرفه. كل إنسان يستطيع أن يدخل الكنيسة. لماذا دُهشت هذه الدهشة كلها؟ إنني ألقاه في هذه الأيام كثيراً. في الأسبوع الماضي رأيته أربع مرات، هنا في بافلوفسك.
تمتم الأمير قائلاً:
– لم أره حتى الآن مرة واحدة.. منذ ذلك اليوم.
وإذ إن ناستاسيا لم تقل للأمير يوماً إنها لقيت روجويين مرة واحدة «منذ ذلك اليوم»، فقد استنتج الأمير من ذلك أن روجويين قد غاب واختفى عامداً. وبدا الأمير مشغول البال غارقاً في التفكير طوال ذلك النهار. ولا كذلك ناستاسيا فيليبوفنا فقد كانت مرحة مرحاً غير مألوف، مرحاً امتد طوال السهرة.
وكان كوليا قد تصالح مع الأمير قبل موت أبيه، واقترح عليه أن يتخذ كلًّا من كيللر وبوردوفسكي فتى شرف لحفلة الزفاف (فالأمر هام ومستعجل لا يحتمل أي تأخير). فأما عن كيللر فقد ضمن كوليا حسن سلوكه وأضاف إلى ذلك أنه ربما كان «مفيداً». وأما عن بوردوفسكي فلا حاجة إلى أي تزكية له، لأنه رجل (هادئ ومتواضع). وقد قام ليبديف ونينا ألكسندروفنا بتنبيه الأمير إلى أنه، إذا كان عزم أمره على الزواج فلا يمكن ثنيه عنه، يستطيع على الأقل أن يعفي نفسه من الاحتفال به هنا ببافلوفسك، في هذا الفصل الذي يكثر فيه توافد أبناء المجتمع الراقي إلى بافلوفسك. أليس الأفضل أن يتم الاحتفال بالزفاف في بطرسبرج، بل وفي البيت أيضاً؟ ولم يفت الأمير أن يدرك السبب الذي يكمن وراء هذه المخاوف، ولكنه اقتصر على أن أجابهما مؤخراً بأن ناستاسيا فيليبوفنا ترغب في إقامة الحفلة هنا قطعاً.
حين علم كيللر في الغداة أنه اختير فتى شرف لحفلة الزفاف جاء يمثل أمام الأمير. توقف أولاً في العتبة، فما إن أبصر الأمير حتى رفع يده اليمنى ونصب إبهامه في الهواء، وهتف يقول بصوت من يحلف يمينا ويقطع على نفسه عهدا:
– لن أشرب قط!
ثم دنا من الأمير وشدّ على يديه كلتيهما وهو يهزّهما هزّا قويًا، وقال إنه في حقيقة الأمر قد غضب في البداية حين علم بما حدث، حتى لقد أعلن غضبه أثناء لعبة بلياردو، ولكن هذا الغضب إنما يرجع إلى أن ما يحمله للأمير من صداقة تتصف بنفاد الصبر واستعجال الأمر كان يجعله يتمنى أن يرى الأمير يتزوج أميرة من أسرة روهان أو من أسرة شابو على الأقل. ولكنه أدرك الآن أن أفكار الأمير أنبل اثنتي عشرة مرة على الأقل من أفكار جميع من يحيطون به «جملة واحدة»! لأن ما يسعى إليه الأمير ليس هو الشهرة ولا هو الغنى حتى ولا هو المجد، وإنما هو الحقيقة. إن ميول الشخصيات السامية معروفة، وإن للأمير من سعة ثقافته ما يجعله شخصية من تلك الشخصيات السامية، بوجه عام... ولكن الأوباش والأوغاد لهم رأي آخر يختلف عن هذا الرأي كل الاختلاف. ففي المدينة، في البيوت، في الاجتماعات، في الفيلات، في حفلات الموسيقى، في الحانات، في صالات البلياردو، لا يتكلم الناس ولا يثرثرون إلا عن الحداث المقبل، حتى لقد سمعت إنهم يهيئون لك زيطة موسيقية قبيحة تحت نوافذك، وذلك في الليلة الأولى!... فإذا كنت، يا أمير في حاجة إلى مسدس رجل شريف فأنا مستعد لأن أبادل مبادلة نصف دستة من طلقات النار قبل أن تغادر مضجع عرسك في صباح الغد». حتى لقد نصح كيللر الأمير بإعداد مضخة من مضخات إطفاء الحريق في فناء البيت، كتدبير وقائي ضد الجمهور الفضولي عند العودة من الكنيسة. ولكن ليبديف اعترض على هذا الاقتراح قائلاً إن بيته سيهدّم من أساسه إذا استُعملت هذه المضخة.
قال كيللر:
– أؤكد لك يا أمير أن ليبديف هذا يدبر لك مؤامرات. إنهم يريدون أن يحجروا عليك ويجعلوك تحت وصاية. هل تستطيع أن تتخيل هذا؟ سوف يحرمونك من ممارسة حريتك واستعمال مالك، أي من الشيئين الذين يميزاننا جميعاً عن الدواب! لقد سمعت ذلك، سمعته تماماً، هذه هي الحقيقة خالصة!
تذكر الأمير تذكراً غامضاً أنه سبق أن سمع شيئاً من هذا القبيل، ولكنه لم يلق إليه بالًا بطبيعة الحال. ولم يزد الآن على أن ضحك لملاحظة كيللر، ثم سرعان ما نسيها فورا.
وواقع الأمر أن ليبديف كان يتحرك ويسعى هنا وهناك منذ مدة. إن خطط هذا الرجل تنشأ في نفسه دائماً بنوع من الوحي والإلهام، ولكنه من فرط حرارته واندفاعه في إنفاذها يبعثر جهوده في كل اتجاه، ويبتعد عن الهدف الذي يكون قد رسمه لنفسه في البداية. لذلك لم ينجح في حياته كثيراً. وقد جاء يعترف للأمير فيما بعد، يوم الزواج تقريباً (لقد كان هوساً عنده أن يأتي إلى من تآمر عليهم، فيعبر لهم عن ندمه وتوبته، لا سيما حين تخفق مؤامراته)، فأعلن له أولاً أنه قد خُلق ليكون تاليران، ولكنه لتعثر حظه تعثراً لا يُفسّر قد بقي ليبديف لا أكثر، ثم كشف له عن تفاصيل مكيدته التي أثارت اهتمام الأمير وشاقته كثيراً. قال إنه بدأ يبحث في أول الأمر عن حُماةٍ يستند إليهم ويعتمد عليهم عند الحاجة. فذهب لهذا الغرض إلى الجنرال إيفان فيدروفتش. فبدا على الجنرال الارتباك، ثم قال له إنه «رغم ما يتمناه للشاب من خير كثير، ومهما تكن رغبته في إنقاذه قوية، فإنه لا يستطيع أن يتدخل، لأن الأعراف لا تسمح له بذلك». ولم تشأ إليزابت أن تراه ولا أن تسمع عنه. أما أوجين بافلوفتش والأمير «شتش...» فقد رفضا هما أيضاً. ولكنه، هو ليبديف، لم يفقد شجاعته ولا خارت عزيمته: كان قد استشار رجلا خبيراً من رجال القانون هو شيخ محترم كان صديقاً حميماً له، بل وكان يدين له ببعض المنة. فانتهى رجل القانون هذا إلى أن الحجر على الأمير ممكن تماماً، بشرط أن يشهد شهود أكفاء بأن عقله مختل، وأن جنونه كامل؛ والمهم على كل حال أن يكون هنالك أشخاص من أصحاب النفوذ يمكن الاتكال على نفوذهم. ولم يفقد ليبديف صبره، حتى لقد جاء إلى بيت الأمير في ذات يوم بطبيب. كان الطبيب هو أيضاً شيخاً محترماً يصطاف في بافلوفسك، ويحمل وسام القديسة حنة. لقد جاء به تحت ستار إنه يريد أن يريه منزله، متفقاً معه على أن يدرس حالة المريض وأن يطلعه على النتائج التي يصل إليها لا بصفة رسمية بل بصفة ودية مؤقتًا.
لقد تذكر الأمير زيارة الطبيب تلك. تذكر أن ليبديف قد ألحّ عليه بالأمس ليقنعه بأنه مريض، فبعد أن رفض الأمير رفضاً قاطعاً أن يستعين بالطب، رأى ليبديف يدخل عليه بصحبة طبيب، مدّعياً أنهما قادمان من عند السيد تيرنتيف الذي ساءت حالته كثيراً، وأن الطبيب يريد أن يقول للأمير شيئاً في موضوع المريض. وقد أثنى الأمير على ليبديف، واستقبل الطبيب استقبالا يبلغ غاية المودّة والبشاشة. وسرعان ما أخذوا يتكلمون عن هيبوليت. فطلب إليه الطبيب أن يقص عليه مشهد الانتحار تفصيلاً. فتكلم الأمير ففتن الطبيب بوصفه للحادث وتأويله إياه. ثم دار الحديث على طقس بطرسبرج، ومرض الأمير، وسويسرا، وشنايدر. فبلغ الطبيب من شغفه بما ذكر الأمير عن طريقة شنايدر في المعالجة أنه بقي معه قرابة ساعتين، مدخناً أثناء ذلك لفائف سيجار الأمير الممتازة، ومحتسياً ما قدمه إليه ليبديف من شراب طيب جاءت به فيرا. ولم يفت الطبيب في هذه المناسبة، رغم أنه متزوج ورب أسرة، أن يغدق الثناء على فيرا إغداقاً بلغ من الجرأة أن الفتاة استاءت استياء عميقاً. وافترق الطبيب والأمير صديقين.
قال الطبيب لليبديف وهو يخرج: «إذا أردنا أن نضع تحت الوصاية أناساً كالأمير فمن هم الذين يمكن أن نجعلهم أوصياء؟». فلما عرض له ليبديف جانب المأساة في الحادث الذي يوشك أن يقع، هز الطبيب رأسه بمكر وخبث، وقال: «يجب أن ندع للناس أن يتزوجوا كما يشاؤون! ثم إن المرأة التي تتحدث عنها ليست جميلة جمالاً لا يضارع فحسب – وذلك وحده سبب كاف لأن يدير رأس رجل غني – وإنما هي تملك عدا ذلك، فيما سمعت، أموالا طائلة آلت إليها من توتسكي وروجويين، وتملك عقود لؤلؤ، وجواهر ماسٍ، وشالات ثمينة ورياشاً فاخرة. وهذا كله يشهد بأن الأمير، إذ يختارها، ليس رجلاً ضعيف العقل غريب الأطوار بل هو على عكس ذلك فتى حصيف الرأي، له ذكاء رجل من أبناء المجتمع الراقي، يعرف مصلحته ويجيد الحساب أيماً إجادة!». اعتقد الطبيب إذن أن من حقه أن يستخرج من ذلك كله تشخيصاً يشهد للأمير لا عليه، ويزكيه تزكية تامة...
وقد أحدثت هذه النتيجة في ليبديف تأثيراً قوياً. وها هو ذا الآن يختم اعترافه للأمير قائلاً: «لن تجدني بعد الآن إلا رجلاً مخلصاً لك، متفانيًا في سبيلك، مستعدّا لأن يسفح دمه من أجلك، فلكي أقول لك هذا الكلام إنما جئت إليك».
وكان الأمير خلال هذه الأيام الأخيرة مشغولاً كذلك بهيبوليت. كان هيبوليت يستدعيه كثيراً. إن أسرة هيبوليت تسكن في بيت صغير غير بعيد من بيته. فالأولاد (أي أخو هيبوليت وأخته) يتمتعون هنا بلذة الحياة في الريف، وفي وسعهم أن يهربوا من المريض بالنزول إلى الحديقة على الأقل. ولا كذلك أمه، «أرملة الكابتن» المسكينة، فلقد كانت أسيرة إرادته وضحية عسفه وطغيانه. فكان الأمير يقضي وقته في التوفيق بينهما وردّ الصلح إلى علاقاتهما. وقد استمر المريض ينادي الأمير باسم «نونو»، مع عجزه عن منع نفسه من احتقاره لقيامه بدور الوسيط المصالح. وكان غاضبا على كوليا غضبا شديداً، لأن كوليا انقطع عن زيارته انقطاعاً يكاد يكون تامًا، لملازمته أباه حين كان على فراش الموت أولاً، ولملازمته أمه الأرملة بعد ذلك. وقد أخذ هيبوليت يصب مزاحاته أخيراً على زواج الأمير وناستاسيا فيليبوفنا في القريب. فاستاء الأمير وغضب غضباً قوياً وانقطع عن زيارته. وبعد ذلك بيومين جاءت «أرملة الكابتن» في الصباح المبكر ممتلئة العينين بالدموع، جاءت ترجو الأمير أن يأتي إليهم، وإلا فإن ابنها سيشرب دمها. وأضافت أن هيبوليت يرغب في أن يكشف له عن سرّ كبير. فأذعن الأمير. فأعرب له هيبوليت عن رغبته في أن يتصالحا، حتى لقد أجهش باكياً وهو يقول ذلك الكلام. ولكن ما إن جفت دموعه حتى عاد أشدّ شراسة مما كان، دون أن يرخي العنان لغضبه مع ذلك. كانت صحته سيئة جداً، وكان كل شيء يدل على أنه لن يلبث أن يموت. ولم يكن لديه أي سر يكشف عنه، ولكن طفق يلح في «تحذير الأمير من رجويين» بانفعال لعله كان مصطنعاً. قال يصف روجويين: «هذا رجل لا يتخلى عمّا يملك. إنه ليس من طينتنا نحن يا أمير. إذا أراد شيئاً فليس يزعه وازع ولا يردعه رادع، إلخ.» أخذ الأمير يلقي عليه أسئلة مفضلة ليستخرج منه وقائع محددة. ولكن هيبوليت لم يذكر أي دليل غير إحساساته أو انطباعاته الشخصية. وقد أرضاه كثيراً في النهاية أن ألقى في نفس الأمير رعباً شديداً. كان الأمير في البداية يتحاشى الإجابة عن بعض الأسئلة الخاصة التي يلقيها عليه هيبوليت، وكان يقتصر على الابتسام حين يسدي إليه هيبوليت نصائح كهذه النصائح: «اهرب ولو إلى الخارج. سوف تجد في كل مكان كهنة أرثوذكسيين. في وسعك أن تتزوج هناك أيضاً». ولكن هيبوليت خلص بعد برهة إلى هذه الفكرة: «الحق أنني أخشى خاصة على آجلايا إيفانوفنا. إن روجويين يعرف مدى ما تحمل لها من حب. العين بالعين، والسن بالسم، والحب بالحب. لقد انتزعت منه ناستاسيا فيليبوفنا فسيقتل هو آجلايا إيفانوفنا. ورغم أن آجلايا إيفانوفنا لن تمت إليك بسبب بعد اليوم، فسوف يؤلمك مقتلها كثيراً، أليس كذلك؟». حقق هيبوليت هدفه وبلغ مأربه: لقد خرج الأمير من عنده مضطرباً أشدّ الاضطراب.
هذه التحذيرات من روجويين حدثت عشية الزواج. وفي ذلك المساء لقي الأمير ناستاسيا فيليبوفنا آخر لقاء قبل حفلة الزفاف. أصبحت المرأة الشابة لا تستطيع أن تهدئه. إنها في هذه الآونة الأخيرة لا تفلح إلا في مفاقمة اضطرابه. كانت قبل ذلك ببضعة أيام، أثناء خلوة بينهما، قد روّعها ما رأته في وجهه من حزن. فبذلت جميع ما تملك من جهود لتفرحه وتبهجه. حتى لقد حاولت أن تسري عنه بالغناء. كانت في أكثر الأحيان تبحث في ذاكرتها عما يمكن أن يسليه. وكان الأمير يتظاهر في جميع الأوقات تقريباً بأنه يبتهج كثيراً. حتى إنه كان يندفع أحياناً في ضحك صادق تجره إليه قوة الفكاهة وحلاوة النكتة لدى المرأة الشابة حين تقص ما تقصّه متوقدة القريحة، وذلك ما يحدث كثيراً. فكانت إذا رأت ضحكة تُسّر سروراً عظيماً وتشعر بافتخار واعتزاز بنفسها لأنها استطاعت أن تحدث فيه أثراً طيباً. ولكنها تصبح الآن أشد حزناً وأكثر وجوماً وهما، ساعة بعد ساعة. وكان الأمير قد كوّن لنفسه رأياً نهائياً فيها، فلولا ذلك لبدا له كل شيء فيها اليوم لغزاً لا سبيل إلى فهمه قطعاً. ولكنه ظل مقتنعاً اقتناعاً قوياً بأنها قد تبعث بعثاً جديداً. لقد كان على حق حين قال لأوجين بافلوفتش إنه يحبها حيًا صادقاً عميقاً. والواقع أن حبه هذا كان يشتمل على شيء من اندفاعة الحنان التي يشعر بها المرء نحو طفل ضعيف هزيل مريض يصعب بل يستحيل تركه وشأنه. ولم يشرح الأمر لأحد عواطفه نحوها في يوم من الأيام، وكان يكره أن يتكلم في هذا الموضوع حين يستحيل تحاشيه. وكانا إذا خلا أحدهما إلى الآخر لا يتكلمان في «العواطف»، فكأنهما قد تعاهدا على ذلك؛ وكان جميع الناس يستطيعون أن يشاركوا فيما يجري بينهما من حديث هو في العادة مرح زاخر بالنشاط. لقد روت داريا ألكسيفنا فيما بعد إنها لم تشعر وهي تراهما خلال تلك الأيام إلا بالمسرة والفرح والافتنان.
وكان الرأي الذي قام في ذهن الأمير عن الحالة النفسية والعقلية لناستاسيا فيليبوفنا، يعفي فكره من كثير من أنواع الحيرة والبلبلة إلى حدّ ما. إنها الآن امرأة مختلفة كل الاختلاف عن التي عرفها منذ نحو ثلاثة أشهر. أصبح لا يدهشه أن يراها تلحّ على استعجال الزفاف بعد أن رفضت في الماضي فكرة الزواج باكية لاعنة شاكية لائمة. إنه يقول لنفسه: «إذن لقد أصبحت لا تخشى أن تسبب لي الشقاء بالزواج كما كانت تخشى ذلك في الماضي». فكانت هذه السرعة في استرداد الثقة بالنفس تبدو له غير طبيعية. إن ناستاسيا فيليبوفنا لم تستمد هذه الثقة من كرهها لآجلايا فحسب، لأنها قادرة على الشعور بعواطف أعمق؛ لا ولا هي استمدتها من خشية الحياة مع روجويين. صحيح أن أمثال هذه العوامل وغيرها يمكن أن يكون لها أثر ووزن؛ ولكن الأمير يرى أن السبب الأوضح في هذا الانقلاب الذي حدث لناستاسيا فيليبوفنا إنما هو السبب الذي اشتبه فيه منذ مدة طويلة: وهو أن هذه النفس المسكينة المريضة لم تستطع أن تتحمل المحنة.
ورغم أن هذا التفسير قد أعفى الأمير من كثير من أنواع الحيرة والبلبلة، ولو إلى حدّ ما، فإنه لم يوفر له أثناء ذلك الوقت كله شيئاً من راحة أو هدوء... وكان في بعض الأحيان يحاول أن لا يفكر في شيء.. أما الزواج فكان يبدو فعلاً أن الأمير يقبل عليه إقباله على أمر شكلي لا قيمة له. إن مصير الأمير أهون شأناً في نظر نفسه من أن يفكر غير هذا التفكير. وأما الاعتراضات والمناقشات التي تشبه تلك التي أثارها أوجين بافلوفتش، فما كان في وسع الأمير أن يجد لها أي جواب، لأنه كان يشعر بأنه عاجز في هذا المضمار كل العجز، لذلك كان يتحاشى أي حديث من هذا النوع.
ثم إنه قد لاحظ إن ناستاسيا فيليبوفنا كانت تعرف حق المعرفة وتدرك كل الإدراك مكانة آجلايا في نفسه. إنها لا تتكلم في هذا الأمر، لكنه قد قرأ في «وجهها» حين باغتته مراراً (في الأيام الأولى) وهو يتهيأ للذهاب إلى آل إيبانتشين. وحين سافرت أسرة إيبانتشين صفا مزاجها وأشرق محيّاها. إنه مهما يكن ضعيف الملاحظة قليل الذكاء، قد خطر بباله إن ناستاسيا فيليبوفنا ربما قررت أن تعمد إلى القيام بفضيحة بغية أن تحمل آجلايا على ترك بافلوفسك، فأقلقته هذه الفكرة وعذبته. ولا شك في أن الشائعات التي سرت في الفيلات عن الزواج قد ساهمت ناستاسيا فيليبوفنا في ترويجها من أجل أن تحنق غريمتها. وإذ كان من الصعب لقاء آل إيبانتشين فقد أركبت الأمير في عربتها ذات يوم، وأمرت الحوذي بأن يمرّ بهما تحت نوافذ بيتهم. فكان هذا مفاجأة للأمير رهيبة. لقد أحسّ ذلك بعد فوات الأوان، كالعادة، أي بعد أن تجاوزت المركبة المنزل. ولم يقل شيئاً، ولكنه بعد ذلك الحادث لبث مريضاً يومين، وقد حاذرت ناستاسيا فيليبوفنا أن تكرر التجربة. وخلال الأيام التي سبقت الزواج أصبحت كثيرة الوجوم والتفكير. صحيح أنها كانت تفلح دائماً في نفض حزنها واسترداد مرحها، لكن هذا المرح غدا أكثر رصانة وأقل تعبيراً عن نفسه وأضأل إشعاعاً وإشراقاً. وضاعف الأمير اهتمامه بها ورعايته لها. وقد حيّره أنه أصبح لا يسمعها تأتي على ذكر روجويين في لحظة من اللحظات. مرةً واحدة، قبل الزواج بنحو خمسة أيام، أرسلت إليه داريا ألكسيفنا من يقول له أن يأتي فوراً لأن حالة ناستاسيا فيليبوفنا سيئة جداً. فلما وصل وجدها في حالة تشبه الجنون: كانت تصرخ وترتجف وتصيح قائلة إن روجويين مختبئ في الحديقة المجاورة للفيلا، وإنها رأته منذ هنيهة، وإنه سيقتلها في الليل... سيقتلها بالسكين! ثم لم تسترد هدوءها طوال النهار. ولكن الأمير علم من «أرملة الكابتن» التي كانت عائدة من بطرسبرج بعد أن قامت فيها ببعض الأعمال الصغيرة، علم منها حين مضى يزور هيبوليت لحظة، أن رجويين قد زارها ببطرسبرج وسألها عن بافلوفسك. فلما سألها عن الوقت الذي زارها فيه روجويين حدّدت له ساعة هي على وجه التقريب الساعة التي خيل لناستاسيا فيليبوفنا فيها أنها ترى رجويين في الحديقة. فما من شك إذن في أن المرأة الشابة كانت رأت سراباً لا أكثر!... وحين ذهبت ناستاسيا فيليبوفنا بنفسها إلى «أرملة الكابتن» لتسألها مزيداً من التفاصيل، حصلت منها على وقائع مطمئنة إلى أبعد الحدود.
في عشية يوم الزواج ترك الأمير ناستاسيا فيليبوفنا وهي على أحسن حال من الحماسة الشديدة: كانت قد تلقت من خياطتها ببطرسبرج ما ستتزين به غداً في حفلة الزفاف، وهو ثوب العرس، وطرحة الرأس وما إلى ذلك. ولم يكن الأمير يتوقع أن يراها تتحمس لزينتها هذا التحمّس كله. وقد أطرى كل ما اشتملت عليه هذه الزينة، فازدادت سعادة المرأة الشابة. لكنها لم تفلح في إخفاء ما كان يدور في ذهنها: كانت قد سمعت إن سكان بافلوفسك مستاؤون وإن عدداً من الخليعين يهيئون لها زيطة تصاحبها موسيقى مع سماع قصيدة من الشعر نظمت لهذه المناسبة. وكانت هذه الإعدادات كلها قد أيدها باقي الناس وحبذوها. ومن أجل هذا بعينه إنما كانت تريد أن ترفع رأسها وأن تبهر الملأ كافة بما في زينتها من ذوق وأبهة وفخامة. «فليصرخوا، وليصفّروا، إذا تجرؤوا!! ". كانت عيناها تقدح شرراً من مجرد خطور هذه الفكرة ببالها. وكانت عدا ذلك تمني نفسها بأمل تتحاشى أن تفصح عنه. كانت تتصور أن آجلايا، أو شخصاً ترسله آجلايا، سيكون مع الحفل في الكنيسة متخفياً يفحصها. ومن ثم كانت تتأهب ذلك التأهب كله.
تلكم هي الخواطر التي كانت تملأ رأسها في الساعة الحادية عشرة من المساء، حين تركها الأمير. ولكن لم تكن الساعة قد بلغت الثانية عشرة حين هرع من عند داريا ألكسيفنا من يدعو الأمير أن يجيء بأقصى سرعة لأن الحالة سيئة جداً. فوجد الأمير خطيبته غارقة في دموعها. كانت قد أوصدت على نفسها الباب، واستولى عليها يأس شديد واعترتها نوبة عصبية قوية. حتى لقد لبثت مدة طويلة لا تسمع شيئاً مما كان يقال لها من خلال الباب الموصد. وفتحت أخيراً، ولم تدع لأحد غير الأمير أن يدخل، وأسرعت تغلق الباب ثانية على الفور، ثم سقطت جاثية على ركبتيها أمام الأمير. (تلكم هي على الأقل الرواية التي أوردتها فيما بعد داريا ألكسيفنا التي استطاعت أن تلمح جزءاً من المشهد).
كانت ناستاسيا فيليبوفنا تصيح قائلة وهي تقبل قدميه في تشنج:
– ما هذا الذي أصنعه بك؟ ما هذا الذي أصنعه بك؟
بقي الأمير إلى جانبها ساعة كاملة. إننا نجهل ما تبادلاه من كلام. ولكن داريا ألكسيفنا روت أنهما قد افترقا في نهاية تلك الساعة هادئين سعيدين، وأن الأمير أرسل من يسأل عن أنباء خطيبته مرة أخرى في الليل، غير أن ناستاسيا فيليبوفنا كانت قد نامت. وفي الصباح، قبل أن تستيقظ، جاء إلى داريا ألكسيفنا من عند الأمير رسولان آخران. وأعقبهما ثالث كلّف بأن ينقل إلى الأمير ما يلي: «إن ناستاسيا فيليبوفنا محاطة الآن بحشد من الخياطات والمزينين وفدوا من بطرسبرج خصيصاً، وأنها قد برئت من النوبة التي اعترتها في الليلة البارحة، وأنها مشغولة بزينتها كما تُشغل بزينتها لزواجها امرأةً جميلة هذا الجمال، وأنها في هذه اللحظة بعينها عاقدة اجتماعاً للتشاور فيما يجب أن تختاره لزينتها من جواهر الماس، وفيما يجب أن تتبعه من أسلوب في تصفيف هذه الجواهر عليها وترتيبتها». فاطمأن الأمير كل الاطمئنان.
إن كل ما سيلي سرده من تتمة قصة الزواج هذه إنما نقله أشخاص مطلعون. ويبدو أن ما ذكروه صحيح. قالوا:
كان يجب أن يتم الزفاف في الساعة الثامنة من المساء. وقد أكملت ناستاسيا فيليبوفنا استعدادها منذ الساعة السابعة. وكانت أفواج من العاطلين المتسكعين قد أخذت تتجمع حول فيلا ليبديف ثم قرب منزل داريا ألكسيفنا منذ الساعة السادسة. وحوالي الساعة السابعة أخذت تمتلئ الكنيسة أيضاً. إن مخاوف شديدة قد استولت على فيرا ليبديفا وعلى كوليا. إنهما خائفان على الأمير. غير أن هناك أعمالاً كثيرة يجب أن ينجزاها في البيت. فقد كُلّفا بترتيب شقة الأمير استعداداً للاستقبال والمأدبة، رغم أنه ليس مقرراً أن تقام حفلة بمعنى الكلمة بعد الاحتفال الديني في الكنيسة. كان ليبديف قد دعا، عدا الأشخاص الذين كان حضورهم الزواج أمراً لا بدّ منه، كان قد دعا بتتسين وزوجته، وجانيا، والطبيب الذي يحمل وسام القديسة حنة، وداريا ألكسيفنا. وحين استغرب الأمير دعوة الطبيب فسأل ليبديف عن السبب الذي حمله على دعوته أجاب هذا معجباً بنفسه راضياً عن تصرفه: «وسام في العنق، شخصية محترمة، زينة للحفلة»، فضحك الأمير.
وقد ارتدى كل من كيللر وبوردوفسكي رداء «فراك»، فكان مظهرهما لائقاً جداً. إن كيللر وحده ما يزال يوقظ في نفس الأمير والذين حوله شيئاً من الخشية، لما يتصف به مزاجه من حب للعراك ظاهر. وكان كيللر ينظر بكثير من العداء إلى المتسكعين الذين كانوا يتجمعون حول المنزل.
وأخيراً، في الساعة السابعة والنصف، مضى الأمير في عربة إلى الكنيسة. يجب أن نذكر في هذه المناسبة أنه كان قد حرص على أن لا يهمل أي عادة من العادات التقليدية. كان كل شيء يتم على مرأى من الجميع «بالطريقة اللازمة». استطاع الأمير أن يشق لنفسه ممراً في الجمهور المزدحم، وسط وشوشات وهمسات وصيحات تعجب متكررة. كان يسير أمامه كيللر، ملقياً نظرات تهديد على يمينه وعلى شماله. وانسحب الأمير إلى ما وراء الهيكل مؤقتاً، ومضى الملاكم ليجيء بالعروس. فلما صار هذا أمام بيت داريا ألكسيفنا رأى جمهوراً أكثف مرتين أو ثلاثاً وربما أوقح مرتين أو ثلاثاً من الجمهور الذي كان يرابط حول فيلا الأمير. وحين صعد درجات المدخل سمع صيحات من نوع جعله لا يستطيع أن يكظم غيظه فأوشك أن يوجه إلى الجمهور تقريعاً مناسباً، لولا أن صدّه عن ذلك، لحسن الحظ، بوردوفسكي وداريا ألكسيفنا نفسها التي كانت قد هرعت تستقبله على درجات المدخل. أمسك به الاثنان واقتاداه إلى داخل المنزل. وكان مهتاجاً اهتياجاً شديداً، فاستعجل الذهاب، فقامت ناستاسيا فيليبوفنا، وألقت على المرآة نظرة أخيرة فلاحظت وقد تقلصت شفتاها في «ضحكة»، أنها كانت «صفراء كميتة». ثم انحنت أمام الأيقونة في تقى وورع، وخرجت فصارت على درجات الباب. فحيا الجمهور ظهورها بضوضاء. الحق أن ما سُمع في أول الأمر كان ضحكاً وتصفيقاً ساخراً وربما صفيراً. ولكن صيحات أخرى انطلقت بعد لحظة:
– ما أجملها امرأة!
– ما هي بالأولى ولا بالأخيرة!
– الزواج يستر كل شيء، يا حمقى!
– هاتوا جمالا كهذا الجمال إن استطعتم. مرحى!
بهذا الكلام الأخير كان يصيح القريبون منها.
وهتف موظف من موظفي المكاتب يقول:
– أميرة! ألا إنني مستعد لأن أبيع نفسي في سبيل أميرة كهذه الأميرة!
– أبيع حياتي بليلة واحدة!...
تقدمت ناستاسيا فيليبوفنا. كان وجهها شاحبا شحوبا رهيبا، لكن عينيها ترميان الفضوليين بنظرات محرقة كأنها الجمر. لم يستطع الجمهور أن يحتمل هذه النظرات. وحلّت محل الاستياء صيحات حماسة. وكان باب العربة مفتوحاً، وكان كيللر مدّ ذراعه إلى العروس ليساعدها في الركوب، فإذا بالعروس تطلق صرخة على حين فجأة، وتبارح درجات المدخل، وتمضي تقتحم الجمهور قُدُماً. تجمّد الموكب ذهولاً. وابتعد الناس من أمامها. وظهر روجويين بغتةً على مسافة خمس خطوات أو ست من درجات المدخل. لقد لمحت ناستاسيا فيليبوفنا نظرته بين هذا الحشد الكبير كله. فركضت إليه كالمجنونة وأمسكت يديه وقالت له:
– أنقذني! خذني! خذني إلى حيث تشاء! حالًا!...
فاختطفها روجويين حاملاً إياها بذراعيه تقريباً، وطار بها نحو عربتها طيراناً إن صح التعبير. وفي مثل لمح البصر سرعةً، أخرج من محفظته ورقة مائة روبل ومدّها إلى الحوذي قائلاً له:
– إلى المحطة! فإذا وصلت قبل سفر القطار نقدتك مائة روبل أخرى!
وقفز إلى العربة قرب ناستاسيا فيليبوفنا، وأغلق باب العربة.
وبدون أي تردد، ضرب الحوذي الخيل بسوطه فجرت العربة سريعة.
فيما بعد، حين روى كيللر الحادث اعتذر عن أنه ذُهل عن نفسه وأمكن أن يؤخذ بغتة، وقال: «لو أُمهلت ثانية واحدة، لعدت إلى صوابي، ولما سمحت بأن يقع ما وقع!». وقد أوشك هو وبوردوفسكي أن يركبا عربة أخرى كانت واقفة هناك، ليندفعا في ملاحقة الهاربين، ولكنهما لم يلبثا أن عدلا عن ذلك، بحجة أنه «قد فات الأوان، ولا مجال لإعادتها بالقوة».
قال بوردوفسكي يحسم الأمر مضطرباً كل الاضطراب:
– ثم إن الأمير لن يريدها بعد الآن!
وصل روجويين وناستاسيا فيليبوفنا إلى المحطة في الوقت المناسب. وبعد أن نزلا من العربة، في اللحظة التي همّا فيها أن يركبا القطار استوقف روجويين بسرعة فتاة كانت مارّة وكانت تضع على رأسها منديلاً وترتدي خماراً قاتم اللون بالياً بعض البلى لكنه ما يزال لائقاً، وقال لها وهو يمد إليها خمسين روبلاً:
– هل تبيعين خمارك هذا بخمسين روبلاً؟
وقبل أن تفيق من ذهولها وتفهم ماذا يُراد منها، كان روجويين قد دس المال في يديها ونضا الخمار والمنديل عن كتفيها ورأسها وألقاهما على كتفي ناستاسيا ورأسها. فلولا أن فعل روجويين هذا لكان من شأن الثياب الفخمة التي كانت ترتديها ناستاسيا فيليبوفنا أن تلفت الأنظار في المحطة وأن تحدث بلبلة. ولم تفهم الفتاة السبب الذي حمل هذا الرجل على أن يشتري منها بهذا الثمن الباهظ خرقاً لا قيمة لها، إلا فيما بعد.
وصلت أنباء الحادثة إلى الكنيسة بسرعة لا يصدقها العقل. فحين شق كيللر لنفسه ممراً إلى الأمير استوقفه عدد كبير من الناس الذين لا يعرفهم البتة، استوقفوه ليسألوه عما حدث. كانوا يتكلمون بصوت عال، ويهزون رؤوسهم بل ويضحكون. ولم يشأ أحد أن يخرج من الكنيسة. كانوا جميعاً يريدون أن يروا كيف سيستقبل الخطيب النبأ.
أصغى الأمير، ولكنه استقبل النبأ بهدوء، قائلاً بصوت لا يكاد يُسمع: «كنت خائفاً، ولكنني لم أكن أتوقع هذا مع ذلك...»، ثم أضاف يقول بعد لحظة صمت: «على كل حال.. إذا نظرنا إلى حالتها كان ذلك كله طبيعياً لا غرابة فيه...». إن كيللر سيصف هذه النتيجة التي خلص إليها الأمير بأنها «فلسفة لا نظير لها».
غادر الأمير الكنيسة دون أن يخرج عن هدوئه ورباطة جأشه: إن كثيراً من الناس على الأقل قد لاحظوا ذلك وعلقوا بعدئذ عليه. وكان يبدو على الأمير أنه يرغب رغبة قوية في العودة إلى بيته والخلوّ إلى نفسه بأقصى سرعة ممكنة. ولكنه لم يُمكّن من ذلك. إن كثيراً من المدعوين قد تبعوه إلى غرفته، فمن هؤلاء بتتسين وجبريل آرداليونوفتش والطبيب الذي نوى مثل غيره أن لا يذهب. يضاف إلى ذلك أن المنزل كله قد هاجمه المتسكعون يريدون اقتحامه فعلاً. ها هو ذا الأمير يسمع كيللر وليبديف في مناقشة حامية حادة مع أشخاص مجهولين تماماً يريدون غزو الشرفة عنوةً. إن هيئاتهم تدل على أنهم من الموظفين في دوائر الدولة. اقترب الأمير وسأل عن الأمر، ثم أبعد ليبديف وكيللر برفق وأدب، وتكلم بلهجة ملؤها الكياسة والتهذيب، متجهاً إلى سيد من المتجمهرين سمين الجسم شائب الشعر كان قد صعد درجات سلم المدخل على رأس مجموعة من الغزاة المحتلين، فرجاه أن يشرفه بزيارته. فخجل الرجل ولكنه قبل الدعوة، وجاءه بعده ثان فثالث. وانفصل عن الجمهور سبعة أفراد آخرين أو ثمانية، فدخلوا كذلك وهم يحاولون أن يصطنعوا هيئة عدم التحرج. ولم يقتد بهم الأخرون. وما لبث المتسكعون أن سُمعوا يلومون أولئك الدخلاء.
قدّمت للقادمين الجدد مقاعد يجلسون عليها، وبدأ الحديث، وصُب الشاي. وحدث ذلك كله بتواضع وبشاشة، ولكن بطريقة لائقة جداً، فلم يملك هؤلاء الضيوف الطارئون إلا أن يدهشوا. وقد قامت محاولات عدة لجعل الحديث مرحا، ولتوجيهه نحو الموضوع «المنشود»، وألقيت أسئلة فيها شيء من عدم التحفظ، وقيلت ملاحظات فيها شيء من «خبث ومكر»، فكان الأمير يجيب جميع الناس ببساطة كبيرة وطيبة عظيمة، وكانت أجوبته في الوقت نفسه تشتمل على وقار وعلى ثقة بحسن نية سامعيه فلم تلبث الأسئلة الناشزة أن اختفت من تلقاء ذاتها. وشيئاً فشيئاً أخذ الحديث يدور على أمور هامة. فها هو ذا واحد كثير الكلام منهم، ينتهز فرصة كلمة قيلت فيحلف فجأة باستياء شديد، أنه لن يبيع أرضه في يوم من الأيام مهما يحدث من أمر، وأنه سيصبر وسيصمد إلى النهاية، وأن «كل استثمار خير من أي مال»، «ذلك هو مذهبي الاقتصادي يا سيدي إن شئت أن تعرفه». وإذ كان يخاطب بكلامه الأمير فقد أيده هذا بحرارة، دون أن يعبأ بليبديف الذي كان يهمس في أذنه أن هذا السيد لا يملك مالاً ولا عقاراً، وأنه لم يملك أرضاً في يوم من الأيام قط.
انقضى ما يقرب من ساعة. كان الضيوف قد فرغوا من احتساء الشاي، وصاروا يشعرون بحرج من البقاء مدة أطول. وجّه الطبيب والرجل الشائب إلى الأمير كلمات وداع مؤثرة. واستأذن الباقون بالانصراف وودّعوه بحرارة وصخب، وأعربوا له عن تمنيات وآراء من النوع التالي: «ليس لك أن تحزن، عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، إلخ إلخ». صحيح أنه وُجد بينهم أناس تجرأوا فطلبوا شمبانيا، ولكن سرعان ما ردّهم إلى الصواب وذكرهم بقواعد الكياسة أولئك الذين كانوا أكبر سنا منهم.
حتى إذا انصرف الجميع مال كيللر على ليبديف وقال له:
– لو تُرك الأمر لنا نحن، أنا وأنت، لصرخنا وشتمنا، وخضنا معركة، وجللنا أنفسنا بالخزي والعار، وجاءتنا الشرطة. أما هو فإنه لم يلبث أن كسب أصدقاء جدداً، ويا لهم من أصدقاء! إنني أعرفهم!
فقال ليبديف متنهدا وكان قد سكر:
– إن ما أُخفي عن الحكماء والأذكياء قد كُشف عنه للأطفال. ذلك قول أدركت منذ مدة طويلة أنه يصدق عليه، ولكنني أضيف إليه الآن أن الله وجميع القديسين قد حموا الطفل نفسه في هذه المرة وأنقذوه من الهوّة!
وفى نحو الساعة العاشرة والنصف تُرك الأمير ليخلو إلى نفسه أخيراً. انصرف كوليا آخر المنصرفين، بعد أن ساعد الأمير في خلع ملابسه، ملابس العريس. وافترقا بوداع حار. لم يتلبث كوليا على الحادث الذي وقع في ذلك اليوم، لكنه وعد بأن يعود في ساعة مبكرة من صباح الغد. وقد أكّد فيما بعد إن الأمير لم ينبئه بشيء، وإنه تركه جاهلا بنياته حين ودّعه. وما انقضت برهة قصيرة حتى كاد يخلو البيت خلواً تامًا: ذهب بوردوفسكي إلى عند هيبوليت، ومضى كيللر وليبديف لا يدري أحد إلى أين. ولم يبق غير فيرا ليبديفا التي أخذت تعيد إلى البيت ترتيبته المألوف. وقبل أن تنصرف، مضت تنظر ماذا يفعل الأمير. فرأته جالساً إلى مائدته، مسنداً عليها كوعيه، مخفياً رأسه بيديه. فاقتربت منه برفق، ولمست كتفه. فنظر إليها مستغرباً، ولم يستطع أن يجمع شتات ذكرياته إلا بعد قرابة دقيقة. فلما ثاب إلى نفسه وفهم كل شيء، ظهر عليه انفعال مفاجئ حاد. ورجاها أخيراً، بإلحاح شديد، أن تجيء فتقرع بابه صباح غد في الساعة السابعة، موعد أول قطار، فوعدته الفتاة بأن تفعل. فاستحلفها عندئذ أن لا تكلم في هذا الأمر أحداً، فوعدته أيضاً. وأخيراً، حين فتحت الباب وهمّت أن تنصرف، احتجزها مرة ثالثة، وتناول يديها فقبلهما ثم قبلها هي نفسها على جبينها وقال لها بلهجة غير مألوفة: «إلى الغد!». ذلك هو على الأقل ما روته فيرا. وقد خرجت من عنده خائفة عليه خوفاً شديداً. ولكنها اطمأنت في الغد بعض الاطمئنان حين جاءت تقرع بابه بعد السابعة قليلاً لتنبهه إلى أن قطار بطرسبرج سيسافر بعد ربع ساعة، كما اتفقا على ذلك، فبدا لها وهي تفتح الباب أنه مرتاح بل وأنه يبتسم. إنه لم يكد يخلع ثيابه للنوم، ولكنه نام مع ذلك.
قال إنه يقدّر أن يعود في هذا اليوم نفسه. إن كل شيء يحمل على الاعتقاد بأن فيرا هي الشخص الوحيد الذي رأى الأمير أن من الممكن ومن الضروري أن يطلعه على أنه ينوي السفر إلى بطرسبرج.
الفصل الحادي عشر
بعد ساعة كان الأمير قد وصل إلى بطرسبرج؛ وبين الساعة التاسعة والساعة العاشرة كان يقرع جرس منزل روجويين. لقد دخل من الباب الرئيسي، وانقضت برهة طويلة قبل أن يجيبه أحد. وأخيراً شُقّ باب بيت العجوز، أم روجويين، وظهرت خادم مسنة مهيبة المنظر، فقالت دون أن تفتح الباب فتحاً كاملاً:
– ليس بارفيون سيمونوفتش في بيته. من ذا تريد؟
– بارفيون سيمونوفتش.
– ليس في البيت.
وتفرّست الخادم في الأمير باستطلاع غريب.
– هل تستطيعين أن تقولي لي على الأقل أهو قضى الليلة هنا أم لا؟ و... هل عاد أمس وحده؟
ظلت الخادم تحدق إليه، ولم تجب بشيء.
– هل كانت ناستاسيا فيليبوفنا معه هنا أمس.. أمس مساء؟...
– ولكن اسمح لي على الأقل أن أسألك أولا من أنت؟
– الأمير ليون نيقولايفتش ميشكين. أعرف بارفيون ويعرفني.
– ما هو في البيت.
وخفضت الخادم عينيها.
– وناستاسيا فيليبوفنا؟
– لا أدري.
– انتظري. اسمعي! متى يعود؟
– لا أدري أيضاً.
وأُغلق الباب. قرر الأمير أن يرجع بعد ساعة. ألقى نظرة على فناء المنزل، والتقى بالبوّاب.
– هل بارفيون سيمونوفتش في بيته؟
– نعم.
– فكيف قيل لي منذ لحظة إنه غائب؟
– قيل لك ذلك في شقته؟
– لا. إن خادمة أمه هي التي قالت لي ذلك. ولكنني قرعت باب بارفيون سيمونوفتش أيضاً فلم يفتح لي أحد.
قال البواب:
– جائز أن يكون قد خرج. فهو لا ينبى أحداً بغيابه حين يغيب. حتى لقد يخرج بالمفتاح أحياناً. فتبقى الشقة مغلقة ثلاثة أيام متتالية.
– أأنت واثق أنه عاد أمس إلى بيته؟
– نعم. يحدث أحياناً أن يدخل من السلم الكبير فلا أراه.
– هل كانت ناستاسيا فيليبوفنا أمس معه؟
– لا أدري. إنها لا تجيء إلا في النادر القليل. فلو أنها جاءت لكان من الجائز أن نلاحظ ذلك.
خرج الأمير، وراح يذرع الرصيف متحيّراً. إن نوافذ شقة روجويين مغلقة كلها، وإن نوافذ الشقة التي تشغلها أمه مفتوحة كلها تقريباً. النهار مضيء دافئ. عبر الأمير الشارع ووقف على الرصيف المقابل ينظر إلى زجاج النوافذ مرة أخرى. لم تكن النوافذ مغلقة فحسب، بل كانت الستائر البيضاء مسدلة جميعها تقريباً.
لبث هنالك قرابة دقيقة. شيء غريب: خيّل إليه أنه يرى أسفل إحدى الستائر يرتفع فيظهر وراءه وجه روجويين ثم ما يلبث أن يغيب. انتظر الأمير قليلاً، وهمّ أن يصعد وأن يقرع جرس الباب من جديد، لكنه عدل عن رأيه وقرر أن يعود بعد ساعة. «من يدري؟ لعل ذلك لم يكن إلا وهماً...؟».
إن الأمر الأساسي في نظره الآن هو أن يسرع إلى حي اسماعيلوفسكي، إلى آخر عنوان لناستاسيا فيليبوفنا. إنه يعلم أن ناستاسيا فيليبوفنا، حين رجاها أن تترك بافلوفسك قبل ثلاثة أسابيع، قد نزلت في هذا الحي عند إحدى صديقاتها، وهي أرملة معلم مدرسة. إن هذه المرأة ربة أسرة محترمة، تؤجر شقة مفروشة جميلة وتجني من كرائها القسط الأكبر من رزقها. فمن الجائز أن تكون ناستاسيا فيليبوفنا حين عادت تقيم في بافلوفسك قد احتفظت لنفسها بذلك المسكن. ومن الجائز خاصة أن تكون قد قضت ليلتها فيها بعد أن صحبها روجويين إليها في أغلب الظن. ركب الأمير عربة. وحدّث نفسه أثناء الطريق بأنه كان ينبغي له أن يبدأ تحرياته هناك، إذ ليس محتملاً أن تكون المرأة الشابة قد ذهبت إلى منزل روجويين في الليل رأساً. وتذكر عندئذ أن البواب قال إنها في الأوقات العادية لا تجيء إلا في القليل النادر. فإذا كانت في الأوقات العادية لا تجيء إلا نادراً، فلماذا يجب أن تكون الآن عنده؟ ولكن الأمير، رغم جميع هذه الاستدلالات المعزية المشجعة التي حاول بها أن يقوي نفسه، قد وصل إلى حي اسماعيلوفسكي وهو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة.
وهناك أذهله أن يعلم أن أرملة معلم المدرسة لم يبلغها شيء من أنباء ناستاسيا فيليبوفنا، لا اليوم ولا أمس. أكثر من ذلك: لقد هرعت الأسرة كلها لتراه كأنه إنسان عجيب، فجميع الأولاد، وهم بناتٌ تقع أعمارهن بين السابعة والخامسة عشرة، ولا يفصل بين واحدة وواحدة منهن في العمر إلا سنة واحدة قد جئن في إثر أمهن وأحطن بالأمير ينظرن إليه فاغرات الأفواه من الدهشة. وبعدهن جاءت خالة نحيلة صفراء، تضع على رأسها منديلاً أسود، ثم جاءت جدة الأسرة وهي سيدة طاعنة في السن جداً على عينيها نظارتان.
ألحّت أرملة معلم المدرسة على الأمير راجية منه أن يدخل وأن يجلس. ففعل. وأدرك فوراً أن جميع هؤلاء الأشخاص يعرفونه معرفة تامة، ويعلمون أنه كان يجب أن يتزوج أمس. وأدرك أنهن يحترقن رغبة في سؤاله عن ذلك الزواج، وعن المعجزة التي وقعت فجعلته يجيء إليهن ليسألهن عن امرأة كان ينبغي في هذه اللحظة أن تكون معه في بافلوفسك، ولكنهن يمتنعن عن سؤاله ذوقاً وأدباً.
وقد أرضى شوقهن إلى الاطلاع ببضع كلمات قالها لهن عن ذلك الزواج. فكان من شأن صيحات الدهشة والاستغراب والتعجب التي رحن يطلقنها أنه اضطر أن يروي لهن الخطوط الكبرى من كل ما حدث. واستقر رأي هذا المجلس من السيدات المليئات بالحكمة والعاطفة على أن عليه، مهما كلف الأمر وقبل كل شيء، أن يذهب مرة أخرى إلى منزل روجويين فما يزال يقرع الجرس حتى يفتح له فيحصل من روجويين على جميع الإيضاحات. فإذا كان روجويين غائباً بالفعل (وهذا ما يجب التأكد منه) أو إذا هو رفض أن يتكلم، كان على الأمير عندئذ أن يذهب إلى حي سيمونوفسكي، فيمضي هنالك إلى بيت سيدة ألمانية تعيش عند أمها وهي صديقة لناستاسيا فيليبوفنا؛ فلعل الهاربة، وقد عصف بها الانفعال وأرادت أن تختبئ عن أعين الناس، قد ذهبت تبيت عند هاتين السيدتين.
كان الأمير مهدّماً حين نهض، وكان «شاحباً شحوباً رهيباً» كما ذكرت هاته السيدات فيما بعد. كانت ساقاه تلتويان تحته. واستطاع أن يفهم أخيراً من خلال كلامهن الكثير أنهن يعرضن عليه أن يساعدنه في البحث، وأنهن يسألنه عن عنوانه بالمدينة. وإذ لم يكن له بالمدينة عنوان فقد نصحنه بأن يستأجر غرفة في فندق. ففكر الأمير لحظة ثم ذكر لهن عنوان الفندق الذي سبق أن سكنه وأصيب فيه بنوبة.
ومضى متجهاً إلى منزل روجويين.
في هذه المرة أيضاً لم يُفتح له الباب، حتى إن باب مسكن العجوز ظل مغلقاً كذلك. نزل الأمير إلى الفناء وأخذ يبحث عن البوّاب إلى أن عثر عليه بعد عناء. كان البوّاب منصرفاً إلى عمله فنظر إليه بغير اكتراث ولم يكد يجيبه عن أسئلته، غير أنه أفهمه على نحو قاطع أن بارفيون سيميونوفتش قد «سافر في الصباح المبكر إلى بافلوفسك وأنه قد لا يرجع منها طوال النهار».
قال الأمير:
– سأنتظر. أتراه يعود في المساء؟
– قد لا يعود قبل أسبوع. من يدري؟
– لكنه قضى الليلة هنا على كل حال، أليس كذلك؟
– هذا... نعم!..
ذلك كله مشبوه غامض. جائز جداً أن يكون البوّاب قد تلقى في هذه الفترة أوامر جديدة. كان منذ قليل كثير الكلام، وهو الآن لا يكاد يفتح فمه. مع هذا قرر الأمير أن يعود مرة أخرى بعد ساعتين، وأن يرابط أمام المنزل إذا اقتضى الأمر ذلك. أما الآن فلا يزال عليه أن يذهب إلى الألمانية يسألها فعسى أن يعرف منها شيئاً. وها هو ذا يسرع إلى حي سيمونوفسكي.
ولكنه لم يُفلح هنالك حتى في أن يُفهم الألمانية شيئاً. وأدرك من بضع كلمات أفلتت منها أنها قد حدث شقاق بينها وبين ناستاسيا فيليبوفنا قبل خمسة عشر يوماً، فلم يمكنها أن تعرف عنها شيئاً منذ ذلك الحين؛ وهي تعلن الآن جهاراً أنها أصبحت لا تهتم بها أي اهتمام، «ولو تزوجت جميع أمراء العالم».
أسرع الأمير يودعها. وخطر بباله أن من الجائز أن تكون المرأة الشابة قد سافرت إلى موسكو، كما فعلت ذلك من قبل، وأن يكون روجويين قد تبعها، هذا إذا لم يكن قد صحبها. «ليتنا نستطيع على الأقل أن نهتدي إلى أي أثر...».
وتذكر أثناء ذلك أن عليه أن يحجز غرفة في فندق. فأسرع إلى شارع ليتانيايا. فحُجزت له غرفة على الفور. وسأله خادم الطابق هل يريد أن يصيب وجبة خفيفة. فإذا هو من ذهوله يجيبه قائلاً «نعم»، ولكنه ما إن ثاب إليه وعيه حتى غضب من نفسه غضباً شديداً، لأنه بتناول هذه الوجبة قد ضيّع نصف ساعة سدى؛ ولم يدرك إلا فيما بعد أنه ما من شيء كان يجبره على أن يتناول الطعام الذي جاءه به الخادم. وقد شعر وهو يتنفس الهواء الخانق في ذلك الممر المظلم أن إحساساً غريباً مقلقاً يغزو نفسه ويجنح إلى أن يصير فكرة. ولكن الأمير لم يستطع أن يتبيّن تلك الفكرة. وخرج من الفندق وهو فريسة اضطراب عميق وبلبلة شديدة. كان رأسه يدور. إلى أين يجب أن يذهب؟ وأسرع مرة أخرى إلى منزل روجويين.
لم يكن روجويين قد عاد. قرع الأمير جرس الشقة مدة طويلة، فلم يجب أحد. فقرع عندئذ جرس شقة العجوز. ففتح الباب، وقيل له مرة أخرى إن بارفيون سيميونوفتش غائب، وإنه قد لا يرجع إلا بعد ثلاثة أيام. وشعر الأمير بحرج وضيق لأنه لاحظ أن النظرة إليه تشتمل على استطلاع غريب غير مألوف. وظل البوّاب في هذه المرة مختفيا لا سبيل إلى العثور عليه.
انتقل الأمير إلى الرصيف المقابل كما فعل في المرة الماضية، وأخذ يذرعه مدة نصف ساعة أو أكثر، في ذلك الحر الخانق، مثبتاً نظره على النوافذ. لم يتحرك في هذه المرة شيء: بقيت النوافذ مغلقة، والستائر البيضاء ساكنة. اقتنع الأمير اقتناعاً حاسماً بأنه قد توهم في المرة الأولى توهّماً. ثم إن الزجاج متسخ اتساخاً شديداً، ولم يغسل منذ مدة طويلة، فلا يمكن أن يرى أحد من ورائه شيئاً، هذا إذا كان وراءه أحد.
اشتدّت عزيمة الأمير بهذه الفكرة، فعاد إلى بيت أرملة معلم المدرسة في حي اسماعيلوفسكي. وكن ينتظرنه هناك. لقد ذهبت هذه السيدة إلى ثلاثة أماكن أو أربعة، ذهبت حتى إلى منزل روجويين، ولكنها لم تظفر بأي نتيجة. أصغى الأمير إلى كلامها صامتاً، ودخل إلى الغرفة، وجلس على الأريكة، وأخذ ينظر فيما حوله نظرة من لا يفهم ماذا يقال له. هناك ظاهرة غريبة: إن ملكة الملاحظة عنده تكون تارة مشحوذة شحذاً قوياً، وتكون تارة أخرى ذاهلة ذهولاً شديداً لا يُصدّق. لقد أكدت الأسرة كلها فيما بعد إن الأمير أدهشها يومئذ بغرابة حالته. «لعل اختلاله العقلي قد أخذ يظهر منذ ذلك الوقت». ونهض أخيراً، وطلب أن يرى الغرف التي كانت تشغلها ناستاسيا فيليبوفنا. هما حجرتان عاليتان مضيئتان، مؤثثتان تأثيثاً جميلاً، فلا شك أنها كانت تدفع كراءهما غالياً. وقد روت سيدات هذا البيت فيما بعد أن الأمير أنعم النظر في كل شيء من الأشياء التي رآها في الشقة. فلما لمح على منضدة صغيرة رواية فرنسية هي رواية «مدام بوفاري» التي كانت ناستاسيا فيليبوفنا قد استعارتها من قاعة مطالعة ثنى زاوية الصفحة التي كان الكتاب مفتوحاً عليها، واستأذن في أن يأخذ الكتاب، ثم وضعه في جيبه رغم أنه قيل له إن الكتاب مستعار. وجلس قرب نافذة مفتوحة. فلما رأى على مائدة لعب أرقاماً مدونة بالطباشير سأل عمن كان يلعب هنا. فأجيب بأن ناستاسيا فيليبوفنا كان تلعب مرة كل مساء مع روجويين. فهما يلعبان تارة لعبة «المعتوه»، وتارة لعبة «الويست»، وتارة لعبة «الشبيه»، أي كانا يلعبان كل اللعب، وهما إنما ألفا هذه العادة في الآونة الأخيرة، بعد مغادرة ناستاسيا فيليبوفنا ضاحية بافلوفسك للإقامة ببطرسبرج. لقد شكلت ناستاسيا فيليبوفنا مرةً من السأم لأن روجويين كان يقضي سهرات كاملة دون أن يقول كلمة واحدة، فليس عنده موضوع يدير عليه الحديث، وكان هي تبكي في كثير من الأحيان. فلما جاء في الغد استل من جيبه ورق لعب فجأة، فانطلقت ناستاسيا فيليبوفنا تضحك، وأخذا يلعبان. سأل الأمير أين الورق الذي كانا يلعبان به، فلم تستطع السيدات أن تريه ذلك الورق، لأن روجويين كان عند انصرافه كل يوم يحمل الورق القديم ويجيء في اليوم التالي بورق جديد دائماً.
نصحت السيدات الأمير بأن يعود إلى منزل روجويين مرة أخرى، وأن يقرع الباب قرعاً أشد. ولكن «في المساء»، لا الآن، فلعل شيئاً يكون قد عُرف قبل حلول المساء. وقد عرضت أرملة معلم المدرسة أن تذهب في النهار بنفسها إلى بافلوفسك لترى داريا ألكسيفنا، فلعلهم قد علموا هناك شيئاً. ودُعي الأمير أن يعود في نحو الساعة العاشرة من المساء، ولو لوضع خطة عمل مشتركة يتعاونون على تنفيذها في الغد.
كان يأس كامل يجتاح نفس الأمير رغم جميع هذه التشجيعات وها هو ذا يعود إلى فندقه سيراً على الأقدام وقد أرهقه حزن لا سبيل إلى مغالبته. كان يحس كأنه مسحوق بين فكّي كلابة في بطرسبرج هذه التي كان جوها خانقاً وكان هواؤها مثقلاً بالغبار في الصيف. اصطدم أثناء سيره بأناس فظاظ أو سكارى. وكان يتفرس في المارة لا يدري لماذا. لعله مشى خطى كثيرة لا فائدة منها، ولعله لف ودار في غير طائل. فلما وصل غرفته كان المساء يوشك أن يهبط على المدينة. قرر أن يرتاح قليلاً، ليعود بعد ذلك إلى روجويين كما نُصح. فجلس على أريكة، ووضع كوعيه على مائدة، وغرق في خواطره وتأملاته.
لا يدري إلا الله كم قضى من الوقت وهو على هذا الوضع، ولا ماذا دار في رأسه من أفكار. كان خائفاً من أشياء كثيرة، وكان يشعر بتفاقم هذا الخوف، فيعاني من ذلك ألماً ممضًّا وقلقاً شديداً. فكر في فيرا ليبديفا، ثم تساءل ألا يمكن أن يكون ليبديف قد بلغ إلى علمه شيء من هذا الأمر. وقال لنفسه: حتى لو كان لا يعلم شيئاً فإنه أقدر مني على أن يحصل على بعض المعلومات بسرعة وسهولة. ثم وافته صورة هيبوليت فتذكر أن ليبديف سيمضي يزوره. ثم تذكر أخيراً روجويين نفسه: كان قد رآه في الآونة الأخيرة، مرة في الجنازة، ومرة في الحديقة العامة؛ ورآه مرة كذلك قرب غرفته، في ذلك الممر المظلم، حيث تربص به مختبئاً في ركن ممسكاً بيده سكينًا. تذكر عينيه، عينيه اللتين كانتا تحدقان إليه في الظلمات. ارتعش: إن الفكرة التي كانت ترتسم في ذهنه غامضة منذ قليل، تظهر الآن له واضحة بينة.
كانت تلك الفكرة هي التالية تقريباً: إذا كان روجويين في بطرسبرج فإنه مهما يختبئ زمناً طويلاً أو قصيراً، لا بدّ أن يعود باحثاً عنه ساعياً إليه، سواء أكانت نياته حسنة أم كانت نياته سيئة، وربما عاد إليه وهو على تلك الحالة النفسية ذاتها التي كان عليها في المرة الأولى. وفي أقل تقدير، إذا ارتأى روجويين لسبب من الأسباب أن يبحث عنه فسوف يبحث عنه هنا طبعاً، في هذا الممر نفسه. فإنه، وهو لا يعرف لي عنواناً، سوف يفترض أنني نزلت نفس الفندق الذي نزلته من قبل. ومهما يكن من أمر، فسوف يبحث عني هنا... وإذا شعر بحاجة قوية إلى رؤيتي. ومن يدري؟ لعله يشعر بهذه الحاجة القوية أشد ما يكون الشعور....».
كذلك كان يفكر الأمير؛ وكان هذا التفكير يبدو له محتملاً. لو سألته أن يحلل تفكيره لما استطاع أن يشرح لك مثلاً لماذا يرى أن روجويين سيشعر بمثل هذه الحاجة القوية إليه على حين فجأة، أو لماذا يستحيل أن نفترض أنهما لن يلتقيا بعد اليوم أبداً. غير أن الفكرة كانت أليمة. كان الأمير يقول لنفسه: «إذا كان سعيداً فلن يأتي. وإنما يأتي إذا كان شقياً. وهو شقي حتماً...».
وما دام اقتناعه هو هذا فقد كان ينبغي له أن ينتظر روجويين في الفندق، في غرفته. ولكنه كان كمن لا يستطيع احتمال فكرته الجديدة هذه، فها هو ذا يندفع فيتناول قبعته ويخرج مسرعا.
الظلام في الدهليز أوشك أن يصبح حالكاً. لما صار الأمير قرب ذلك المكان المشؤوم الذي سبق أن رأى فيه روجويين مشهراً سكينه، قال يحدث نفسه: «ماذا لو ظهر من ذلك الركن فجأة وأوقفني في السلم؟». ولكن لم يظهر أحد. وتجاوز الباب، ومضى إلى الرصيف، ونظر مدهوشاً إلى ازدحام الناس في الشوارع لحظة مغيب الشمس (وهذا منظر مألوف ببطرسبرج في أيام القيظ) ثم اتجه نحو شارع جوروخوفايا. حتى إذا صار على مسافة خمسين خطوة من الفندق، عند أول مفرق، شعر بأحد يلمس كوعه، وسمع صوتاً يقول له هامساً قرب أذنه:
– ليون نيقولايفتش، اتبعني يا أخي، يجب أن تتبعني.
إنه روجويين.
شيء غريب: لقد أخذ الأمير يروي له على الفور، فرحاً مرحاً متدفقاً في الكلام حتى ليكاد لا يتم النطق بألفاظه، كيف انتظره منذ لحظة في دهليز الفندق.
فقال له روجويين فجأة:
– كنت هناك فعلاً. هلم بنا!
فدُهش الأمير من هذا الجواب، غير أن دقيقتين على الأقل قد انقضتا بين اللحظة التي فهم فيها الجواب واللحظة التي دُهش فيها من هذا الجواب. وشعر عندئذ بخوف وأخذ يلاحظ روجويين. كان روجويين يتقدمه بنصف خطوة تقريباً. وكان ينظر إلى أمام، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا ينتبه إلى المارة أي انتباه، فإذا اقترب من أحدهم تحاشاه بحركة آلية على غير شعور.
سأله الأمير فجأة:
– لماذا لم تسأل عني في الفندق ما دمت قد ذهبت إليه؟
فتوقف روجويين، ونظر إليه، وفكّر، ثم قال وكأنه لم يدرك السؤال إدراكا واضحا:
– اسمع يا ليون نيقولايفتش. سِرْ أمامي قدماً إلى أن تبلغ منزلي، أتعرفه؟ أما أنا فأسير في الجهة الأخرى من الشارع. ولكن احرصْ على أن نمضي معاً... انتبه!
قال هذا وعبر الشارع منتقلاً إلى الرصيف الآخر، منتبهاً مع ذلك إلى الأمير ليرى هل سار كما أمره. فلما لاحظ أن الأمير واقف ينظر إليه محملقاً دلّه بيده على اتجاه شارع جوروخوفايا، ثم استأنف سيره متلفتاً بغير انقطاع ليراقب الأمير ويحضّه على أن يتبعه. حتى إذا تأكد من أن ليون نيقولايفتش قد فهم عنه وأنه لا يعبر الشارع ليلحق به عادت إليه طمأنينته. وقد خطر ببال الأمير أن روجويين يترصّد مرور أحد وأنه انتقل إلى الرصيف الثاني حتى لا يفلت منه، فتساءل: «ولكن لماذا لم يحدد الشخص الذي يجب ترصّده؟». وسارا على هذا النحو قرابة خمسمائة خطوة، فإذا بالأمير يأخذ يرتعش ارتعاشاً قوياً دون أن يعرف لماذا يرتعش. وكان روجويين ما يزال يلتفت إليه ولكنه لا يلتفت إليه الآن إلا من حين إلى حين. ونفد صبر الأمير فحرك يده يستوقف صاحبه ويدعوه إليه. فسرعان ما عبر روجويين الشارع قادماً نحوه.
سأله الأمير:
– هل ناستاسيا فيليبوفنا عندك في البيت؟
– نعم.
– وهل أنت الذي نظرت إليّ من وراء ستارة النافذة؟
– نعم....
– افـ... أفأنت...
ولكن الأمير لم يعرف كيف يكمل جملته، ولا ماذا يلقي من سؤال. وكان قلبه عدا ذلك يخفق خفقاناً بلغ من القوة أن الكلام أصبح يشق ليه.
صمت روجويين هو أيضاً، ونظر إليه نظرة من يحلم، كما فعل منذ قليل... ثم قال فجأة وهو يتهيأ لعبور الشارع:
– هيا بنا. أنا ذاهب إلى هناك. اسبقني أنت... لنمش منفصلين... ذلك أفضل... يمشي كل واحد في جهة... سوف ترى.
فلما دخلا شارع جوروخوفايا أخيراً، واقتربا من منزل روجويين شعر الأمير مرة أخرى بأن ساقيه تنثنيان تحته حتى ليكاد يعجز عن السير. كانت الساعة قريبة من العاشرة مساء. وكانت نوافذ الجناح الذي تقيم فيه العجوز ما تزال مفتوحة. وكان كل شيء في بيت روجويين مغلقاً، وكانت الستائر المسدلة تبدو في ضوء الغسق أشد بياضاً.
ووصل الأمير إلى مستوى المنزل وهو ما يزال على الرصيف المقابل. فلما رأى روجويين يصعد درجات المدخل ويشير إليه أن يأتي بادر إلى اللحاق به وأدركه.
همس روجويين قائلاً له وهو يبتسم ابتسامة فيها مكر ويكاد يكون فيها رضى:
– البواب لا يعلم أنني عدت. قلت له منذ فترة إنني ذاهب إلى بافلوفسك، وقلت هذا الكلام نفسه لخادمة أمي. سوف ندخل دون أن يسمعنا أحد.
وكان قد أخرج المفتاح فهو الآن في يده. وحين صعد السلم التفت نحو الأمير وأشار يأمره بأن يمشي بمزيد من الهدوء والرفق. وفتح باب شقته دون ضوضاء، وأدخل الأمير، وتبعه محترساً، فأغلق الباب ثانية ووضع المفتاح في جيبه.
قال بصوت خافت:
– هلم!
كان يهمس همساً منذ أن أخذ يكلم الأمير على رصيف شارع ليتاينايا. إن المرء يدرك أن نفسه مضطربة اضطراباً عميقاً رغم هدوئه الظاهر. وحين دخلا الصالة التي تقع قبل حجرة المكتب اقترب من النافذة، ودعا الأمير إليه وقد لاح في وجهه معنى السر. ثم قال:
– اسمع. حين قرعت بابي في هذا الصباح، كنت أنا هنا، وسرعان ما حزرتُ أن القارع هو أنت. اقتربت من الباب ماشياً على رؤوس الأصابع، وسمعتك تكلم بافنوتيفنا. وكنت قد أمرتها منذ مطلع الصبح أن لا تجيب أي إنسان يقرع جرس بابي، أياً كان العذر الذي يتعلل به، سواء أكان القارع أنت أم كان شخصاً آتياً من عندك، أم كان أي شخص آخر. وكان الأمر الذي أصدرته إليها يستهدفك أنت خاصة، إذا بدا لك أن تجيء بنفسك سائلاً عني، وقد سميتك لها. فلما خرجت، خطر ببالي أنك ربما رحت ترابط في الشارع مترصداً مترقباً. فدنوت من هذه النافذة فأزحت ستارتها لألقي نظرة، فرأيتك واقفاً هناك تنظر إليّ فعلاً. هكذا جرت الأمور...
قال الأمير بصوت مختنق:
– فـ... فأين ناستاسيا فيليبوفنا؟
أجاب روجويين ببطء بعد تردد قصير:
– هي... هنا.
– أين؟
فرفع روجويين عينيه إلى الأمير، وتفرس فيه محدثاً، ثم قال له:
– هيا. تعال.
إنه ما يزال يتكلم هامساً، ذاهلاً ذلك الذهول نفسه. حتى حين روى كيف أزاح الستارة كان رغم ما باح به، يبدو عليه أنه يريد أن يتكلم عن شيء غير هذا تماما.
ودخلا حجرة المكتب. لقد أُجريت فيها تغييرات منذ الزيارة الأخيرة التي قام بها الأمير. إن ستارة من قماش البروكار تشطر الغرفة الآن شطرين، فتفصل حجرة المكتب بمعنى الكلمة عن مخدع النوم الذي يوجد فيه سرير روجويين. إن الظلام حالك في الغرفة. إن ليالي بطرسبرج «البيضاء» هي الآن في نهايتها، فلولا أن القمر كان بدراً، لما كان في وسع المرء أن يميز أي شيء في هذه الشقة التي كانت ستائرها المسدلة تزيدها ظلاماً. الحق أنه ما يزال في إمكان المرء أن يرى الوجوه، ولو رؤية غامضة. كان وجه روجويين أصفر كما عُهد. وكانت عيناه ترسلان إلى الأمير نظرة ثابتة لكنها جامدة.
– ينبغي أن تشعل شمعة.
فأجابه روجويين وقد أمسكه من يده وأجبره على الجلوس:
– لا، لا ينبغي...
وجلس هو أمامه. إن كرسيه يبلغ من القرب أن ركبتيه وركبتي الأمير تكاد تتلامس. وكانت توجد بينهما منضدة صغيرة مدوّرة إلى جانب.
قال وكأنه يشجعه على البقاء:
– اجلس. لنسترح هنا لحظة.
وخيّم الصمت دقيقة. ثم أضاف يقول بلهجة يصطنعها المرء حين يجري الحديث على تفاصيل تافهة فراراً من مواجهة المسألة الأساسية:
– قدّرت أنك قد تنزل ذلك الفندق نفسه. وحين ولجت الدهليز قلت لنفسي: من يدري؟ لعله هو أيضاً ينتظرني في هذه اللحظة هنا كما أنتظره! هل ذهبت إلى أرملة معلم المدرسة؟
قال الأمير بمشقة كبيرة بينما قلبه يكاد ينفجر من شدة الخفقان:
– نعم...
– قدّرت ذلك أيضاً. قلت لنفسي: سيكون هذا مبعث هذر أيضاً... ثم خطر ببالي أن أجيء بك إلى هنا لنقضي هذه الليلة معا...
– روجويين، أين ناستاسيا فيليبوفنا؟
بذلك دمدم الأمير فجأة وهو ينهض. كانت أعضاؤه كلها ترتعش.
نهض روجويين هو أيضاً. وقال مومئاً برأسه إلى الستارة:
– هي هناك.
فهمس الأمير سائلاً:
– أهي نائمة؟
– هيه... هيا إلى هناك... ولكنك... بل هيا بنا.
وأزاح الستارة، وتوقف، والتفت نحو الأمير. وقال له أخيراً وهو يدعوه بإشارة أن يتقدم:
– ادخل!
قال الأمير:
– الظلام دامس.
فقال روجويين مجمجماً:
ــ لكنك تستطيع أن ترى.
– لا أكاد أميّز إلا... السرير.
قال روجويين بصوت خافت:
– اقترب أكثر.
فتقدم الأمير خطوة، ثم تقدم خطوة أخرى ثم توقف. لبث دقيقة أو دقيقتين جامداً لا يتحرك، محاولاً أن يثقب بنظره الظلام. لم يقل أحد من الرجلين كلمة واحدة طوال المدة التي بقيا خلالها قرب السرير. كان قلب الأمير يخفق خفقاناً يبلغ من القوة أن دقاته تكاد تُسمع في صمت الموت الذي يخيّم على الغرفة. حتى إذا ألفت عيناه الظلمة أمكنه أن يميز السرير. كان أحد ينام على السرير ساكناً سكوناً مطلقاً. لا صوت يُسمع، لا نسمة! كان النائم مغطى من الرأس إلى القدمين بملاءة بيضاء، لكن أعضاءه لا ترتسم إلا ارتساماً غامضاً. كل ما يراه المرء من نتوءات الملاءة أنه جسم إنسان مسجّى تحتها. وفي كل جهة من حوله: على السرير، في أسفل السرير، فوق المقعد المقابل، وحتى على أرض الغرفة، بُعثرت ثياب متناثرة على غير نظام: فستان فخم من حرير أبيض، أزهار، أشرطة. وعلى منضدة صغيرة قرب السرير تلتمع جواهر ماسٍ وُضعت هنالك بإهمال. وفي آخر السرير كتلة من تطريزات يخرج منها طرف قدم عارية كأنها منحوتة من مرمر، قدمٍ جامدة جمودا رهيبا مرعبا.
كلما أمعن الأمير النظر، بدا له صمت هذه الغرفة أعمق وأدل على الموت. واستيقظت ذبابة على حين فجأة وطفقت تدندن، وحرّمت فوق السرير، ثم حطت على المنضدة الصغيرة إلى جانبه. سرت في جسم الأمير رعدة.
قال له روجويين وهو يلمس ذراعه:
– فلنخرج.
خرجا من مخدع النوم، وعادا يجلسان على مقعديهما متقابلين كما كانا. إن الأمير يرتجف مزيداً من الارتجاف لحظة بعد لحظة ولا يحوّل نظرته المستفهمة عن وجه روجويين.
قال روجويين أخيراً:
– أرى يا ليون نيقولايفتش أنك ترتجف ارتجافك عند دنوّ نوبة مرضك. هل تتذكر كيف كان يحدث هذا بموسكو؟ أو كيف حدث هذا مرة قبل موافاة النوبة؟ إنني أتساءل ما عساني أفعل بك إذا وقع لك شيء من ذلك...
كان الأمير يصغي إليه بانتباه، جاهداً أن يفهم عنه، مستمراً على مساءلته بعينيه.
وقال يسأله أخيراً وهو يومئ إلى جهة الحاجز بإيماءة من رأسه:
– أأنت فعلت هذا؟
فهمس روجويين خافضاً رأسه:
– نعم أنا.
ولبثا خمس دقائق لا يتبادلان كلمة.
ثم عاد روجويين إلى فكرته كأن سؤال الأمير لم يقاطعه فيصرفه عما كان بسبيله؛ قال يتابع كلامه السابق:
– إذا وافتك الآن نوبة، فإن صراخك سيُسمع في الشارع أو في فناء المنزل، فيدرك السامعون أن في الشقة أناساً، فيجيئون يقتحمون الباب ويدخلون... لأنهم جميعاً يظنون أنني غائب، إذا كنت لم أشعل شمعة، فمن أجل أن لا يرى أحد من الشارع أو من فناء البيت شيئاً. إنني حين أتغيب، أحمل مفاتيحي فلا يدخل أحد إلى هنا خلال ثلاثة أيام أو أربعة ولو لترتيب الشقة. تلك هي القاعدة التي وضعتها. فيجب أن ندبر أمرنا بحيث لا يعلم أحد أننا نبيت الليلة...
قال الأمير:
– انتظر... إنني سألت البوّاب والخادمة العجوز ألم تجيء ناستاسيا فيليبوفنا لتبيت هنا.. فهما إذن يعرفان أنها جاءت.
– لا أجهل هذا. لقد قلت للخادمة بافنوتيفا إن ناستاسيا فيليبوفنا جاءت إلى هنا أمس ثم سافرت ثانية إلى بافلوفسك بعد عشر دقائق. لا يعرف أحد أنها باتت هنا. ولقد دخلت معها بالأمس خلسةً كما دخلت معك اليوم. كنت أقدّر ونحن في الطريق أنها لن تحب أن تدخل، لكنني أخطأت التقدير! كانت تتكلم همساً، وتسير على رؤوس الأصابع، وتشمر فستانها من حولها حتى لا يُسمع له حفيف، حتى لقد فرضت عليّ الصمت بإشارة من يدها حين كنا على السلم. منك أنت إنما كانت ما تزال خائفة. حين كنا في القطار كان خوفها جنوناً مطبقاً. وهي التي طلبت أن تبيت هنا. كانت فكرتي الأولى أن أصحبها إلى عند أرملة معلم المدرسة، ولكنني لم أفلح في حملها على ذلك. قالت: «إذا ذهبت إلى هناك فسيهتدي إليّ الأمير في الفجر. خبّئني عندك. وغداً أفرّ إلى موسكو متى طلع الصبح!». وكانت تنوي أن تذهب من موسكو إلى أوريل. لقد اضطجعت على السرير وهي تكرر أننا سنمضي إلى أوريل...
– انتظر: ماذا تنوي أن تفعل الآن يا بارفيون؟
– عجيب أمرك! إنك بهذا الارتعاد المستمر ترعبني! سنبيت الليلة هنا معاً. ليس عندي سرير إلا ذلك السرير. ولكنني دبرت الأمر على هذا النحو: نأخذ وسائد الأريكتين فنجعل منهما سريراً على الأرض قرب الستارة لي ولك، وهكذا ينام أحدنا إلى جانب الآخر. حتى إذا جاءوا وفتشوا الغرفة، عثروا عليها وحملوها. وسيسألونني عما حدث فأقول إنني أنا الفاعل، فيقتادونني فوراً. أما الآن، فلترقد الآن قريبةً منا، قرية منك ومني معاً!...
قال الأمير محبذاً بحرارة:
– نعم، نعم!
– يجب إذن أن لا نعترف وأن لا ندع لأحد أن يأخذها.
قال الأمير:
– أبداً! بحال من الأحوال! لا، لا!...
– ذلك ما عقدت عليه عزمي يا بنيّ... لن نتيح لأحد أن ينتزعها منا بحال من الأحوال، مهما كلف الأمر. سنقضي هذه الليلة بهدوء. لقد ظللت بقربها النهار كله، لم أخرج إلا ساعة واحدة في الصباح، ثم خرجت في المساء لأبحث عنك وأجيء بك. هناك شيء أخشاه: هو أن تنتشر من الجثمان رائحة بسبب هذا الحر الخانق. هل تشم شيئاً؟
– جائز. لست متأكداً. ولكن الرائحة ستشتد في الصباح حتماً.
– لقد غطّيتها بقماش مشمّع، قماش مشمّع أمريكي ممتاز، وفرشت الملاءة فوق ذلك الغطاء. وحولها وضعت أربع زجاجات مفتوحة من سائل جدانوف؛ وما تزال الزجاجات في موضعها...
– نعم... كما فعلوا هناك... في موسكو..
– بسبب الرائحة يا عزيزي. ليتك ترى كيف ترقد!... غدا في الصباح، حين يطلع النهار، انظر إليها. هيه، ماذا؟ أأصبحت لا تستطيع النهوض؟
قال روجويين ذلك مدهوشاً خائفاً حين رأى الأمير يرتعد ارتعاداً يبلغ من الشدّة أنه أصبح لا يستطيع النهوض على قدميه.
دمدم الأمير يقول:
– ساقاي لا تطاوعان... مرد هذا إلى الرعب.. أنا أعرف ذلك. فمتى زال الرعب أمكنني أن أنهض...
– انتظر.. سأصنع سريرنا، فتتمدد... وأتمدد أنا بقربك... ونصغي.. لأنني يا صديقي.. لا أعرف... يا صديقي.. لا أعرف الآن كل شيء بعد.. لذلك ألفت نظرك... حتى تعرف أنت... سلفاً..
كان روجويين وهو يتمتم بهذه الأقوال المضطربة المفككة قد أخذ يهيئ السرير. واضح أنه ربما كان منذ الصباح يفكر في طريقة ترتيب الوسائد ليجعل منها سريراً. لقد قضى الليلة البارحة راقداً على الديوان. ولكن الديوان لا يتسع لشخصين، وهو يحرص حرصاً مطلقاً على أن يرقدا معاً. لذلك أخذ ينتزع عن الديوانين جميع وسائدهما المختلفة الأحجام، ويجرها من أول الغرفة إلى آخرها بكثير من العناء، ليصنع منها سريراً أمام الستارة. حتى إذا فرغ من ذلك كيفما اتفق، اقترب من الأمير بحنان وحماسة فأمسكه من تحت ذراعيه وأنهضه وساعده على الوصول إلى ذلك السرير. فلاحظ عندئذ أن الأمير كان قد استرد قدرته على السير وحده، فقال لنفسه: «انقضى إذن رعبه». ولكن الأمير كان ما يزال يرتعد.
أرقده روجويين على الوسادة اليسرى، أفضل الوسادتين، ورقد هو على الوسادة اليمنى مرتدياً جميع ملابسه عاقداً يديه وراء عنقه.
واستأنف كلامه قائلاً على حين فجأة:
– الجو حار حقاً يا صديقي، وسوف تنتشر الرائحة لا محالة... إنني أخشى أن أفتح النوافذ. عند أمي أصص أزهار كثيرة، عندها أزهار كثيرة عطرة عبقة. خطر ببالي أن آتي بها إلى هنا. لكن ذلك يمكن أن ينبّه بافنوتيفنا، فهي شديدة حب الاطلاع.
قال الأمير مؤيداً:
– هي شديدة حب الاطلاع.
– كان يمكن شراء باقات أزهار.. وإحاطتها بها إحاطة تامة.. لكني قدّرت يا صديقي أنه أمر يمزق القلب تمزيقاً.. أن تُرى مغطاة بالأزهار هكذا!!..
– قل لي...
كذلك بدا الأمير يسأله مرتبكاً، كإنسان يبحث في ذاكرته عن شيء يريد أن يسأل عنه ولكنه لا يكاد يتذكره حتى ينساه.
– قل لي.. بأي شيء فعلت؟ بسكين؟ بتلك السكين نفسها؟
– نعم بتلك السكين نفسها.
– انتظر أيضاً! أريد أن أسألك يا بارفيون.. هناك أسئلة كثيرة أريد أن ألقيها عليك.. أسئلة عن أمور كثيرة.. ولكن قل لي أولاً لأعرف: هل كنت تنوي أن تقتلها قبل زواجنا، بطعنة سكين، على عتبة الكنيسة؟ أنعم أم لا؟
أجاب روجويين بخشونة، مدهوشاً من السؤال، حتى لكأنه لم يدركه:
– لا أعرف أكنت أنوي ذلك أم لا...
– ألم تصطحب سكينك أبداً حين جئت إلى بافلوفسك؟
– لم أصطحبها أبداً.
وأضاف يقول بعد لحظة صمت:
– عن هذه السكين، إليك كل ما أستطيع أن أقوله لك يا ليون نيقولايفتش: لقد تناولتها هذا الصباح من درج مقفل بالمفتاح، لأن كل شيء قد تم بين الساعة الثالثة والساعة الرابعة. كنت أحتفظ بها دائماً بين صفحات كتاب... و.. و... إليك شيئاً آخر أدهشني: لقد نفذت السكين تحت الثدي الأيسر، إلى عمق سبعة سنتمترات تقريباً.... فلم يكد ينبجس دم. لم ينسكب من الدم أكثر من نصف ملعقة...
قال الأمير وهو ينصب قامته بتأثير انفعال فظيع رهيب:
– هذا أعرفه... أعرف هذا... قرأت عنه... ذلك ما يسمى نزيفا داخلياً... حتى ليتفق أن لا تنسكب قطرة دم واحدة. يحدث هذا حين تنفذ الطعنة إلى القلب مستقيمةً...
قاطعه روجويين يقول فجأة وهو يجلس على مضجعه مذعوراً:
– صه! هل تسمع؟ هل تسمع؟
أجابه الأمير وهو ينظر إليه، قائلاً بلهجة الذعر تلك نفسها:
– لا!...
– صوت مشي! هل تسمع؟ في الصالة..
أصاخ الاثنان بسمعيهما.
وقال الأمير بثقة:
– سمعت!
– صوت مشي؟
– هل يجب إقفال الباب؟
– نعم..
أحكما وضع المزلاج، وعادا يرقدان. وأعقب ذلك صمت طويل.
وفجأة عاد الأمير يهمس بلهجة التعجل والاضطراب تلك نفسها، كأنه وقد استرد تسلسل تفكيره كان يخشى أن يضيعه من جديد. قال وهو يثب عن مضجعه:
– ها... نعم.. أردت أن أطلب منك ورق اللعب! ورق اللعب.. قيل لي إنك كنت تلاعبها بالورق.
قال روجويين بعد لحظة:
– نعم.
فسأله الأمير:
– فأين هو... ذلك الورق؟
قال روجويين بعد صمت أطول:
– هو ذا... خذ...
قال ذلك، وأخرج من جيبه ورق لعب ملفوفاً بغلاف، ومستعملاً من قبل، ومدّه إلى الأمير. فتناوله الأمير، ولكن دون أن يبدو عليه أنه يدرك ما يفعل. إن شعوراً أليماً بالحزن قد عاد يخنق صدره ويهصر قلبه. وأدرك أنه في هذه اللحظة ومنذ مدة غير قصيرة كان يقول ويفعل غير ما كان ينبغي أن يقول وما ينبغي أن يفعل. مثال ذلك أن ورق اللعب هذا الذي يمسكه الآن بيديه والذي أسعده كثيراً أن يحصل عليه لن ينفعه بعد اليوم في شيء. وها هو ذا ينهض ويضم يديه إحداها إلى الأخرى بحركة تدل على لوعة لا حدود لها. وكان روجويين مضطجعاً جامداً فلم يبد عليه أنه أبصر هذه الحركة، غير أن عينيه الثابتتين المحملقتين كانتا تتقدان في الظلام. جلس الأمير على كرسي ونظر إلى رفيقه مرتاعاً. وانقضى على هذا نصف ساعة. وفجأة قال روجويين وهو ينفجر في ضحك صاخب، ناسياً أن عليه أن يتكلم بصوت خافت:
– الضابط... هل تتذكر ذلك الضابط؟... هل تتذكر كيف جلدته بالسوط في حفلة الموسيقى؟ هأ هأ هأ!... هل تتذكر؟ وطالب الكلية الحربية... طالب الكلية الحربية.. الذي وثب..
انتفض الأمير وقد اعتراه رعب جديد. وهدأ روجويين فجأة، فمال نحوه برفق، وجلس إلى جانبه، وأخذ يلاحظه. كان قلبه يدق دقا قويًا، وكان يتنفس بمشقة وعناء.
كف روجويين عن الالتفات إليه، حتى لكأنه نسيه. لكن الأمير ظل يرمقه منتظراً. وكان الوقت يمضي، وأقبل الصبح. كان روجويين يأخذ يدمدم بين الفينة والفينة على حين فجأة، فيقول بصوت ثاقب كلمات مفككة، ويطلق صرخات تتخللها ضحكات: فكان الأمير عندئذ يبسط عليه يده المرتعشة، فيمسح له رأسه برفق، ويلاعب بأصابعه شعره وخديه!... ذلك كل ما يستطيع أن يفعله. وكانت تعاوده الرعدات التي تسري في جسمه. ومرة أخرى أصبحت ساقاه تنثنيان تحته. إن إحساساً جديداً كل الجدة كان قد غزا قلبه، وملأ نفسه بقلق غير ذي نهاية.
وطلع النهار أثناء ذلك. اضطجع الأمير أخيراً على مرقده، وقد هدّه التعب وأنهكه الألم، وأطبق بوجهه على وجه روجويين الشاحب الجامد. وسالت دموع من عينيه على خدي روجويين، ولكن لعله كان لا يحس انسكابها بل ولا يشعر بها...
المهم على كل حال أنه حين فُتح الباب بعد بضع ساعات وُجد القاتل هاذياً مغمى عليه، ووُجد الأمير جالساً بقربه، جامداً صامتاً على مضجعه: فكلما صرخ المريض أو هذى أسرع الأمير يمسح بيده المرتعشة شعره وخديه ملاطفاً مهدئاً. ولكن الأمير كان قد أصبح منذ ذلك الحين لا يفهم شيئاً من الأسئلة التي ألقيت عليه ولا يتعرف الناس الذي دخلوا وأحاطوا به. فلو جاء شنايدر في تلك اللحظة من سويسرا ليرى المريض الذي كان يعالجه في الماضي لتذكر الحالة التي كان عليها المريض في السنة الأولى من معالجته بسويسرا، ولقال بحركة تنمّ على اليأس كما فعل حينذاك: «أبله!».
الفصل الثاني عشر ـ خاتمة
هرعت أرملة معلم المدرسة إلى بافلوفسك ومضت رأساً إلى بيت داريا ألكسيفنا التي كانت ما تزال مشدوهة منذ الليلة البارحة. فقصت عليها كل ما كانت تعرفه، وألقتها بذلك إلى رعب لم يستطع شيء أن يهدئه. وقررت المرأتان فوراً أن تقابلا ليبديف الذي اضطرب هو أيضاً من جهتين، جهة أنه صديق للأمير، وجهة أنه مالك للشقة التي يسكنها الأمير. وارتأى ثلاثة أشخاص هم داريا ألكسيفنا وفيرا وليبديف (بنصيحة من ليبديف) أن يسافروا إلى بطرسبرج ليمنعوا بأقصى سرعة ممكنة «ما قد يحدث فعلاً». وهكذا فتحت الشرطة باب بيت روجويين منذ الغداة في الساعة الحادية عشرة من الضحى، بحضور ليبديف والسيدات وأخي روجويين، سيميون سيميونوفتش، الذي يقيم في الجناح الآخر من المنزل. ومما شجع على اتخاذ هذه المبادرة أكثر من أي شيء آخر ما ذكره البوّاب من أنه رأى بارفيون سيميونوفتش يرجع إلى البيت متسللاً بخطى كخطى الذئب، من جهة سلّم الباب، في صحبة رفيق. فلم يبق عندئذ أي تردد، فاقتحم باب الدخول الذي طالما قرع جرسه بالأمس في غير طائل.
أُرقد روجويين مدة شهرين مصاباً باحتقان دماغي. فلما شُفي حُقق معه وحُكم عليه. وقد جاءت أقواله في التحقيق صادقة كل الصدق دقيقة كل الدقة مقنعة كل الإقناع، فأُخرج الأمير من القضية منذ البداية. أما في المحاكمة فقد كان صامتاً طول الوقت. لم يعارض المحامي البارع المكلف بالدفاع عنه حين برهن بكثير من الوضوح ومن المنطق في آن واحد على أن الجريمة إنما ارتكبت على أثر نوبة حمى دماغية سبقت بداياتها وقوع الكارثة بمدة طويلة، وليست تلك الحمى إلا نتيجة للأحزان والأشجان التي زخر بها قلب المتهم. ولكن روجويين لم يضف شيئاً لتدعيم هذا الرأي، واقتصر– كما فعل في التحقيق – على أن يبسط تفاصيل الحادث بوضوح وجلاء ودقة وتحديد.
استفاد روجويين من الظروف المخففة فحكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة خمسة عشر عاماً في سيبيريا. وقد سمع الحكم دون أن يهتز أو يتأثر، وكان شارد الفكر «حالم» الهيئة. والت ثروته الضخمة إلى أخيه، إلا جزءاً يسيراً كان قد بدّده في مجون الآونة الأولى. وقد سُر أخوه سيميون سيميونوفتش بذلك سروراً عظيماً.
إن أمه العجوز ما تزال حية، ويبدو أنها تتذكر ابنها الحبيب بارفيون سيميونوفتش في بعض الأحيان، ولو تذكراً غامضاً مبهماً. لقد صان الله فكرها وقلبها من إدراك النازلة الفظيعة التي زارت بيتها.
وليبديف وكيللر وجانيا وبتتسين وآخرون كثيرون من أشخاص روايتنا، ظلوا يعيشون في الماضي. إنهم لم يتغيروا كثيراً، فلا نكاد نجد ما نقوله عنهم. ومات هيبوليت وهو في حالة اضطراب شديد واهتياج رهيب، قبل الموعد الذي كان يتوقعه بقليل، بعد نحو خمسة عشر يوماً من مقتل ناستاسيا فيليبوفنا. وتأثر كوليا بهذه الأحداث كلها تأثراً عميقاً. فاقترب من أمه اقتراباً حاسماً. إن نينا ألكسندروفنا قلقة عليه. فهي تجده مسرفاً في التأمل والتفكير بالقياس إلى سنّه. ومن يدري؟ قد يصبح في المستقبل رجلاً ذا شأن. يجب أن نذكر في هذه المناسبة أنه هو الذي عُني بترتيب الإجراءات التي حددت مصير الأمير في المستقبل. كان منذ مدة طويلة قد ميّز أوجين بافلوفتش على جميع الناس الذين عرفهم في الآونة الأخيرة. فكان أول من ذهب إليه فقصّ عليه كل ما يعرفه عن الحادث وعن حالة الأمير الراهنة. ولم يخطئ ظنّه: فقد أظهر أوجين بافلوفتش اهتماماً كبيراً وعناية حارة بمصير «الأبله» المسكين؛ وبفضل جهوده ومساعيه وُضع الأمير مرة أخرى في معهد شنايدر بسويسرا.
وسافر أوجين بافلوفتش هو نفسه إلى الخارج منتوياً أن يقيم في أوروبا مدة طويلة. كان ينعت نفسه، مخلصاً كل الإخلاص، بأنه «رجل لا تحتاج إليه روسيا». وكان يزور صديقه المريض عند شنايدر في أحيان كثيرة، مرة كل بضعة أشهر على الأقل. ولكن شنايدر يبدو أكثر همًا وغمًا في كل مرة، فهو يهزّ رأسه، ويُفهم الزائر أن أعضاء التفكير عند مريضه معطلة تعطلاً كاملاً، وأنه إذا كان لا يقطع بأن حالة المريض لا يمكن أن تشفى، فهو متشائم في تخميناته أشد التشاؤم. فكان أوجين بافلوفتش يبدو متأثراً تأثراً شديداً، لأنه رجل ذو قلب حساس. وقد برهن على ذلك إذ قبل أن يكتب إليه كوليا، وإذ كان يجيب على رسائله أحياناً.
وقد ظهرت في هذه المناسبة إحدى صفات طبعه. ونحن نسمح لأنفسنا بأن نشير إليها لأنها صفة حسنة. إن أوجين بافلوفتش، بعد كل زيارة من زياراته لمعهد شنايدر، كان – عدا ما يكتبه إلى كوليا – يرسل إلى شخص آخر بطرسبرج رسالة تشرح حالة الأمير الصحية شرحاً مفصلاً ولطيفاً إلى أبعد الحدود. وكانت مراسلاته هذه – إلى جانب ما تشتمل عليه من احترام – تعبر (بحرية متزايدة) عن بعض الآراء يبسطها بصراحة وعن بعض الأفكار وبعض العواطف يعرضها بصدق. فذلك إذن أول مظهر لشيء يمكن أن يشبه علاقة صداقة حميمة. والشخص الذي كان يبعث إليه أوجين بافلوفتش بتلك الرسائل (وإن تكن قليلة متباعدة)، ويستحق منه كل هذا الاهتمام وكل هذا الاحترام لم يكن إلا فيرا، بنت ليبديف. لا نعرف على وجه الدقة كيف انعقدت هذه الصلات. لا شك في أن منشأها هو كارثة الأمير التي حزنت لها فيرا حزناً سقطت بسببه مريضة. أما الظروف الأخرى التي لابست انعقاد تلك الصلة فنحن نجهلها.
وإذا كنا قد تكلمنا عن تلك المراسلات فلأنها قد نقلت في بعض الأحيان أنباء عن أسرة إيبانتشين، ولا سيما عن آجلايا إيفانوفنا. ففي رسالة مكتوبة بباريس، غامضة بعض الغموض، يذكر أوجين بافلوفتش أن آجلايا إيفانوفنا قد عصف بها غرام قوي فتزوجت رجلاً بولندياً مهاجراً، رغم إرادة أهلها، وأن أهلها لم يوافقوا على هذا الزواج أخيراً إلا لاتقاء فضيحة ضخمة. وبعد صمت دام ستة أشهر، بعث أوجين بافلوفتش إلى فيرا رسالة ملأى بالتفاصيل يذكر فيها أنه أثناء زيارته الأخيرة للبروفسور شنايدر في سويسرا، التقى بأسرة إيبانتشين، (عدا إيفان فيدوروفتش طبعاً، لأن أعماله تحتجزه في بطرسبرج)، والتقى كذلك بالأمير «شتش...»؛ وأن لقاءهم هذا كان غريباً: لقد استقبلوه جميعاً بحماسة، حتى إن آديلائيد وألكسندرا وجدتا أنه يقع على عاتقهما أن تشكرا له «اهتمامه الملائكي بالأمير المسكين». أما إليزابت بروكوفيفنا فإنها حين رأت الأمير مريضاً مذلًا هذا الإذلال قد طفقت تبكى من كل قلبها. لقد زال حقدها عليه زوالاً تامًا. وأما الأمير «شتش...» فقد قال في هذه المناسبة آراء صادقة وعبر عن حقائق وُفّق فيها كل التوفيق فجاء كلامه زاخراً بسلامة الحس وحسن الفهم. وقد بدا لأوجين بافلوفتش إنه لم يقم بين الأمير «شتش...» وبين آديلائيد اتفاق تام حتى الآن. ولكن بدا له في الوقت نفسه إنه لا بد أن يأتي يوم نرى فيه آديلائيد الحارة المندفعة تذعن بإرادتها إذعاناً صادقاً أمام ذكاء الأمير «شتش...» وتجربته وخبرته. ثم إن المحن التي ألمّت بالأسرة قد أثرت فيها تأثيراً كبيراً ولقنتها دروساً كثيرة، ولا سيما مغامرة آجلايا مع الكونت البولندي المهاجر. إن ما كانت الأسرة ترتجف خوفاً منه حين رضيت أن تزوجه آجلايا قد تحقق في ستة أشهر، مع مفاجآت ما كان لأحد أن يتجرأ فيتصورها أو يخطر له بال. لقد اتضح إن هذا الكونت ليس «كونتا». وإذا كان مهاجرا فإنه لم يهاجر إلا في أعقاب قصة مشبوهة غامضة. لقد استطاع أن يستولي على آجلايا بالنبل العظيم الذي تتصف به نفسه الممزقة ألماً على وطنه؛ فبلغ من استيلائه على الفتاة أنها حتى قبل الزواج قد أصبحت عضواً في لجنة من المهاجرين أُنشئت في الخارج لإصلاح بولنده.... وعدا ذلك أصبحت مريدة من مريدات كاهن كاثوليكي شهير استولى على قلبها وفكرها حتى ملأها بالاندفاع والتعصب. أما الثروة الضخمة التي يملكها «الكونت»، والتي قدم لإليزابت بروكوفيفنا والأمير «شتش...» براهين على وجودها تكاد تكون قاطعة، فقد تبيّن إنها لم توجد في يوم من الأيام. أكثر من ذلك أن الكونت وصديقه الكاهن الشهير، قد أفلحا، بعد زواج آجلايا بستة أشهر لا أكثر، أن يفسدا علاقات آجلايا بأعضاء أسرتها إفساداً كاملاً، فهم الآن لم يروها منذ عدة أشهر!... الخلاصة: هناك أشياء كثيرة يمكن أن تروى، ولكن إليزابت بروكوفيفنا وبنتيها والأمير «شتش...» كانوا قد بلغوا جميعاً من شدة الارتياع لهذا «الهول» الرهيب أنهم خشوا حتى من الإلماع إلى بعض الأمور في حديثهم مع أوجين بافلوفتش، مع علمهم بأن أوجين بافلوفتش كان، دون أن يحدثوه بشيء، مطلعاً إطلاعاً تاماً على آخر ما وصلت إليه آجلايا باندفاعات هواها. إن إليزابت بروكوفيفنا المسكينة تود لو ترجع إلى روسيا. يقول أوجين بافلوفتش إنها قد انتقدت بمرارة وحدة وتحيز كل ما هو أجنبي. «إنهم في أي مكان هنا لا يعرفون كيف يجب أن يُخبز الخبز. وهم في الشتاء يتجمدون كالفئران في قبو. على الأقل أتيح لي الآن أن أبكي على هذا الشاب المسكين كما يبكي الروس». كذلك قالت إليزابت بروكوفيفنا متأثرة وهي تومئ إلى الأمير الذي لم يتعرّفها. ثم ختمت بكلامها شبه غامضة وهي تودع أوجين بافلوفتش: «كفى حماسات سخيفة! آن لنا أن نسمع صوت العقل! كل هذا، كل هذه البلاد الأجنبية التي تشيدون بها، كل أوروبا هذه التي تعظمونها، كل هذا ليس إلا سرابا... ونحن أنفسنا لسنا في البلاد الأجنبية إلا سراباً... تذكروا ما أقوله لكم.. ولسوف ترون بأعينكم!».