في أصل المأساة الجزائرية
شهادة عن حزب فرنسا الحاكم
في الجزائر
1958- 1999
الدكتور عبد الحميد براهيمي
صورة غلاف الطبعة الفرنسية دار الهوقار- سويسرا
الدكتور عبد الحميد براهيمي
▪ ولد في الجزائر عام 1936.
▪ دكتوراه ف الاقتصاد.
▪ انضم إلى جيش التحرير الوطني الجزائري في عام 1956، حيث شغل وظيفة ضابط في وحدات العمليات حتى عام 1962.
▪ في عام 1963 عُيَّن واليًا (محافظًا) لعنابة.
▪ شغل منصب أستاذ الاقتصاد في جامعة الجزائر (1970).
▪ عُيَّن رئيسًا لشركة النفط الوطنية الجزائرية (سوناتراك) في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1976.
▪ في عام 19847 عُيَّن وزيرًا للتخطيط.
▪ من عام 1984 حتى 1988 أصبح رئيسًا للوزراء، وعضوًا في المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني الجزائرية.
▪ في عام 1990 استقال من اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، واستأنف نشاطه الأكاديمي في الجزائر ثم في بريطانيا حيث يقيم حاليًا.
▪ نشر له العديد من الأبحاث حول «نمو الشركات المتعددة الجنسيات»، و «استراتيجيات للتنمية في الجزائر»، و «القضاء على الفقر والتنمية من وجهة نظر إسلامية».
▪ صدر له عن مركز دراسات الوحدة العربية:
- المغرب العربي في مفترق الطرق في ظل التحولات العالمية (1996).
- العدالة الاجتماعية والتنمية في الاقتصاد الإسلامي (1997).
▪ يعمل حاليًا مديرًا عامًا مركز دراسات المغرب العربي في لندن.
مركز دراسات الوحدة العربية
بناية «سادات تاور» شارع ليون- ص.ب.: 6001- 113 الحمراء- بيروت 2090- 1103- لبنان.
تلفون: 869164- 801582- 801587.
برقيًا: «مر عربي» - بيروت.
فاكس 865548 (9611)
e-mail: info@caus.org.Ib.
web Site: http://www.caus.org.Ib.
صورة الطبعة العربية من مركز دراسات الوحدة العربية – لبنان
مركز دراسات الوحدة العربية
في أصل الأزمة الجزائرية
1958- 1999
الدكتور عبد الحميد براهيمي
مركز دراسات الوحدة العربية
في أصل الأزمة الجزائرية
1958- 1999
الدكتور عبد الحميد براهيمي
الفهرسة أثناء النشر- إعداد مركز دراسات الوحدة العربية براهيمي، عبد الحميد.
في أصل الأزمة الجزائرية، 1958- 1999/ عبد الحميد براهيمي. 274ص.
ببليوغرافية: ص263- 266.
يشتمل على فهرس.
1. الجزائر- التاريخ. 2. الجزائر- السياسة الحكومية. 3. حزب فرنسا. أ. العنوان.
965.05.
«الآراء الواردة في هذا الكتاب لا تعبّر بالضرورة
عن اتجاهات يتبناها مركز دراسات الوحدة العربية»
مركز دراسات الوحدة العربية
بناية «سادات تاور» شارع ليون- ص.ب.: 6001- 113
الحمراء- بيروت 2090- 1103- لبنان.
تلفون: 869164- 801582- 801587.
برقيًا: «مر عربي» - بيروت.
فاكس 865548 (9611)
e-mail: info@caus.org.Ib.
web Site: http://www.caus.org.Ib.
حقوق الطبع والنشر محفوظة للمركز
الطبعة الأولى
بيروت، نيسان/ أبريل 2001
المحتويات
مدخل .................................................. ..................... 9
القسم الأول
المرحلة التحضيرية للانتقال من الاستعمار
إلى الاستعمار الجديد
الفصل الأول: «الجزائر الجزائرية» المؤسسة على «القوة الثالثة»:
الطريق الرئيسية إلى الاستعمار الجديد.
21
أولًا: «الجزائر الجزائرية». 21
ثانيًا: «القوة المحلية» أو جيش الجزائر الجزائرية. 24
الفصل الثاني: نحو الاستيلاء على قيادة جيش التحرير الوطني. 31
أولًا: اختراق جيش التحرير الوطني (1957- 1962).
1- أهداف «الفارين» الجزائريين من الجيش الفرنسي.
2- مخطط الرائد إيدير أو هجوم «الفارين».
3- إخفاق مخطط الرائد إيدير. 31
32
35
37
ثانيًا: إعادة تنظيم جيش التحرير الوطني والصراعات الداخلية في القمة.
1- السياق السياسي: الصراعات في القمة.
2- القيادة العامة للأركان تسهل ارتقاء «الفارين».
3- الأزمة بين القيادة العامة للأركان والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
4- خلاف القيادة العامة للأركان مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية حول المفاوضات مع فرنسا واتفاقيات إيفيان. 42
42
46
51
55
الفصل الثالث: تنظيم التعبية في الإدارة وفي الاقتصاد. 61
أولًا: «جزأرة» الإدارة الاستعمارية.
1- لمحة تاريخية.
2- الترقية الاجتماعية لـ «الفرنسيين- المسلمين». 61
63
68
ثانيًا: تنظيم تبعية الجزائر الاقتصادية.
1- خصائص الاقتصاد الجزائري قبل عام 1954.
2- خطة قسنطينة (1959- 1963).
3- اتفاقيات إيفيان.
4- صعود البيروقراطية والتقنوقراطية. 68
69
70
71
73
القسم الثاني
مشاركة «الفارين» من الجيش الفرنسي
في انقلابي 1962 و1965 تمنحهم الشرعية
الفصل الرابع: 1962: جيش الحدود يشق طريقه إلى السلطة. 79
أولًا: مرحلة مارس (آذار) – جوان (حزيران) 1962. 79
ثانيًا: مرحلة جويليه (تموز) – سبتمبر (أيلول) 1962. 84
ثالثًا: الاستقلال الملغَّم. 91
الفصل الخامس: الظروف السائدة في الجزائر بين عام 1962 وجوان (حزيران) 1965. 93
أولًا: الجزائر في عام 1962. 93
ثانيًا: المواجهة بين التيارات السياسية. 96
ثالثًا: إحكام السيطرة على البنى الإدارية. 101
القسم الثالث
تقدم حصان طروادة
الفصل السادس: الاستيلاء على القطاعات الاستراتيجيا وإغلاقها. 107
أولًا: بروز البنية التقنية في الجزائر المستقلة. 108
ثانيًا: توطيد وضع «حزب فرنسا» في القطاعات الرئيسية. 109
ثالثًا: الجيش ومصالح الأمن. 113
الفصل السابع: تعزيز مواقع حزب فرنسا في الإدارة والاقتصاد. 129
أولاً: وزارة الداخلية. 130
ثانيًا: وزارة المالية والتخطيط. 131
ثالثًا: وزارة الصناعة والطاقة. 136
رابعًا: العواقب الوخيمة لتعزيز الدولة المتسلطة ودولته الاقتصاد.
1- توطيد سلطة بومدين الشخصية.
2- تبني استراتيجيا تنمية من وحي فرنسي.
3- تفاقم تبعية الجزائر المتعددة الأشكال.
4- أزمة تسيير الدولة للاقتصاد. 139
139
141
145
154
القسم الرابع
توطيد مواقع «الفارين» من الجيش الفرنسي
الفصل الثامن: هجوم «الفارين» من الجيش الفرنسي للاستيلاء على السلطة (1979- 1988).
167
أولًا: انتقال سلطة القرار من رئيس الدولة إلى حاشيته.
1- مرحلة فيفري (شباط) 1979- ديسمبر (كانون الأول) 1983.
2- مرحلة جانفي (كانون الثاني) 1984- ديسمبر (كانون الأول) 1988.
أ- عصبة بلخير.
ب- عصبة حمروش. 169
169
172
172
173
ثانيًا: إقصاء اللواء الركن مصطفى بلوصيف.
1- «الاتهامات» الرسمية.
2- دوافع الإقصاء. 183
184
186
ثالثًا: أحداث أكتوبر (تشرين الأول) 1988.
1- المشاريع الخفية للطامعين في السلطة.
2- سياق أزمة.
3- من التلاعب بالأحداث إلى الانفجار غير المتوقع.
4- انقلاب الوضع. 188
188
190
195
199
الفصل التاسع: العشرية الحمراء: لطخة سوداء في تاريخ الجزائر أو حكم الرداءة والعنف (1989- 2000).
205
أولًا: الفترة ما بين عامين 1989 و1991: إطلاق ديمقراطية الواجهة.
1- عصبة حمروش.
أ- مواصلة الإصلاحات الاقتصادية.
ب- تسيير المديونية الخارجية.
ج- محاولة تدجين جبهة التحرير الوطني.
2- عصبة بلخير. 206
207
208
211
212
215
ثانيًا: انقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992:
إشارة البدء لمرحلة طويلة من العنف.
1- تورط فرنسا في الأزمة الجزائرية.
2- العودة إلى الأساليب الاستعمارية.
3- برنامج الطغمة الاقتصادي.
4- سياسة الإرهاب.
5- من فترة انتقالية إلى فترة أخرى:
الاستقرار المفقود.
223
224
230
234
241
مدخل
إن الوضعية التي تعرفها الجزائر الآن خطيرة جدًا على جميع الصعد، فلم تعرف الجزائر قط مثل هذا الاهتراء منذ استقلالها عام 1962، وتعود أسباب الأزمة السياسية إلى طبيعة النظام نفسه.
لقد أدى غياب الديمقراطية والحريات والشفافية في اشتغال المؤسسات، وغياب فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، زيادة على المواجهة بين جماعات القوى داخل السلطة، خلال العقود الأربعة الأخيرة، إلى تغذية أزمة الثقة التي قرضت تدريجيًا النظام الجزائري قبل أن تزعزعه زعزعة أدت في النهاية إلى انفجار الوضع السياسي والاجتماعي في نهاية التسعينيات.
أخذت الأزمة السياسية مسارًا مأساويًا منذ انقلاب عام 1992، عندما قام بعض الجنرالات «الفارين» من الجيش الفرنسي بمصادرة الحكم.
وكان لهذا الاستيلاء على الدولة ومؤسساتها من طرف مجموعة أقلية تضع نفسها فوق الدستور وقوانين الجمهورية، عواقب وخيمة على جميع الصعد. فلا الهجوم الإعلامي المتواصل داخليًا وخارجيًا، ولا تشويه الوقائع، ولا التصعيد في سياسة التسميم عن طريق العمل البسيكولوجي والإشاعات، ولا حجب المشاكل الأساسية على يد النظام استطاعت خنق الحقيقة أو خداع الشعب خلال هذه المرحلة الطويلة.
إن السلطة تقدم الأزمة الجزائرية منذ إلغاء الانتخابات التشريعية في جانفي (كانون الثاني) 1992 على أنها نتيجة «التهديد الإسلامي» الذي يعرَّض البلد ومؤسساته للخطر. يريد النظام إيهام الرأي العام الوطني والدولي بأن هذا هو الجانب
9
الوحيد الذي يضع الجبهة الإسلامية للإنقاذ في مواجهة السلطة، ويمثل المعضلة التي لا يمكن حلها إلا بمقاربة أمنية وممارسات بوليسية. لكن هذا التصوير التبسيطي على أساس الثنائية القطبية للحياة السياسية لا يستسيغه أحد في الجزائر، فالواقع السياسي والاجتماعي في الجزائر أكثر تعقيدًا بكثير من هذا.
ولهذا، فإن هناك بعض الحقائق التي يجب التذكير بها والإشارة إليها حتى نستطيع الإحاطة بصفة صحيحة بالأبعاد الحقيقية للمأساة الحالية، فضلًا عن رهانات الصراع الجاري في الجزائر، الذي ستحدد نتيجته مستقبل البلد.
في الحقيقة، كثيرون في الجزائر، والمغرب العربي الكبير، وفي الوطن العربي وأفريقيا وأوروبا وغيرها، لا يفهمون لماذا تغرق الجزائر في حرب داخلية شنيعة مدة ثماني سنوات، ولا يفهمون لماذا وصل الجزائريون في ما بينهم إلى التقاتل والتباغض والاحتقار والإقصاء، بل أن كثيرًا من المراقبين المتبصرين والخبراء الأجانب المختصين في الشؤون الجزائرية لم يفهموا شيئًا طوال مدة من الزمن.
كانت الجزائر، في الماضي، تحظى بتمجيد ناجم عن الهيبة التي أحرزتها بفضل مقاومتها للاستعمار الفرنسي، وبفضل حربها الوطنية التحريرية، وهي هيبة أدامها، بعد الاستقلال، دورها الفعال في العالم داخل حركة الدول غير المنحازة (دعم القضية الفلسطينية والقضية الفيتنامية فضلًا عن الحركات التحررية في أفريقيا، والتنديد بالتمييز العنصري في أفريقيا الجنوبية وغير ...).
أما اليوم، فالجزائر تمزقها الحلقة الجهنمية من العنف مقابل القمع، ومأساة لم يسبق لها نظير، فتصاعد الرعب يتعدى ما يقبل به العقل. فكيف وصلت الجزائر إلى هذه الوضعية؟ إن السؤال جد معقد ويقودنا إلى تساؤلات عدة يحاول هذا الكتاب الإجابة عنها بالرجوع إلى حرب التحرير الوطنية مع إلقاء الضوء في الوقت نفسه على الفترة التي تلت الاستقلال.
في الواقع، يشكل التداخل المعقد للأسباب الداخلية والخارجية، البعيدة والقريبة، خلفية الأزمة المتعددة الأبعاد التي رمت بالجزائر في وضعية لا يمكن إخراجها منها في نهاية القرن العشرين.
إن الجزائر بالفعل مستقلة منذ حوالي 38 عامًا، لكنها كانت مستعمرة فرنسية خلال 132 عامًا. لقد كان احتلال الجزائر من عام 1830 حتى عام 1962 مسارًا متواصلًا يطغى عليه العدوان العسكري والقمع السياسي والعنف القضائي والاضطهاد الثقافي والاستغلال الاقتصادي الفادح لصالح أقلية مرتبطة بسلطة الاحتلال.
10
لقد ساهم الجيش والشرطة والإدارة والمدرسة الفرنسية خلال 132 عامًا في تكوين نُخَب مقطوعة عن الشعب الجزائري ومرتبطة بالمنظومة الاستعمارية عبر شتى أشكال الامتيازات.
وكان اندلاع حرب التحرير في نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 حاملًا للأمل، وكانت الثورة واعدة، وكان من المفترض أن يدشن الاستقلال عهدًا جديدًا يضع حدًا للاضطهاد ويتيح ظهور قادة وإطارات ينظرون إلى المستقبل لإخراج الجزائر من الجهل والأمراض والفقر بفضل سياسة تقدم اقتصادي واجتماعي لصالح الشعب، تقوم على ارتقاء الإنسان والحريات والعدل الاجتماعي.
لكن، في عز حرب التحرير وفي الوقت الذي كان يبدو فيه استقلال الجزائر أمرًا حتميًا، كانت فرنسا تتطلع إلى سياسة تهدف إلى تأبيد وجودها السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الجزائر.
قامت فرنسا لهذا الغرض بالمناورة على عدة صعد في الوقت نفسه بغية ضمان رقابتها للتطور السياسي والاقتصادي والثقافي المستقبلي للجزائر بعد الاستقلال. وقامت فرنسا لهذا الغرض بتشجيع بروز «قوة ثالثة»، تتكون من متعاونين مدنيين وعسكريين موالين لها.
لقد عمدت كذلك إلى تنظيم التسلل إلى جيش التحرير الوطني عن طريق اختراق الموجات المتتالية من «الفارين» من الجيش الفرنسي في سنوات 1958 و1959 و1961 بأناس موثوقين وموالين لها ليتمكنوا من اكتساب الشرعية الثورية وصفة المجاهدين عندما تحصل الجزائر على استقلالها، من أجل الإشراف من أعلى مستوى في الجيش الجزائري المستقبلي الذي كان سيتشكل بادئ ذي بدء من «القوة المحلية» كما سنرى في الفصول الثلاثة الأولى.
إن كتابنا لا يطول كل «الفارين» من الجيش الفرنسي، بل يعني بالأحرى فئة خاصة من العسكريين الجزائريين الذين عملوا في الجيش الفرنسي وقد يكونون أُرسلوا لأداء مهمة لدى جبهة التحرير الوطني في تونس في دفعات متتالية سنوات 1958 و1959 و1961. لقد بينت لنا، بالفعل، تجربة الحرب التحريرية أنه كان هناك «فارون» وطنيون ومخلصون، مارسوا مسؤوليات مهمة داخل صفوف جيش التحرير الوطني مثل محمود شريف (الذي أصبح عضوًا في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية)، أو عبد الرحمان بن سالم (قائد منطقة العمليات للشمال بالحدود الشرقية بين عامْي 1960 و1962)، أو عبد الله بلهوشات (عضو مجلس الثورة عام 1965 وقائد الناحية العسكرية الخامسة ثم الناحية العسكرية الأولى بين عامْي 1964
11
و1978، والقائد العام للقوات المسلحة بين عاميْ 1987 و1989). كان هناك أيضًا عدد كبير من «الفارين» الذين التحقوا بجيش التحرير الوطني في الداخل واندمجوا فيه كليًا وبرهنوا على تفانيهم وتضحياتهم في الميدان، وسقط منهم الكثيرون في ميدان الشرف. وكان هناك، أخيرًا، «فارون» وطنيون وصادقون ما زالوا على قيد الحياة مثل مختار كركب (قائد فيلق بين عاميْ 1960 و1962) أو عبد الحميد لطرش (الأمين العام لوزارة الدفاع بين عاميْ 1971 و1978) أو السعيد آيت مسعودان (وزير لعدة مرات في عهدّيْ بومدين والشاذلي) أو عبد النور بقة (قائد فليق بين عاميْ 1960 و1962 ووزير للشباب والرياضة في عهد الشاذلي)، كل هؤلاء لا يدخلون ضمن دراستنا.
إلا أنه من بين «الفارين» من الجيش الفرنسي الذين لم يلتحقوا بصفوف جيش التحرير الوطني أو بالجبال بل بجبهة التحرير الوطني في تونس، كانت هناك فئة تعمل، أو قد تكون تعمل، تحت الأوامر، لكن العدد كان محدودًا جدًا. كان هؤلاء «الفارون» يريدون دخول الثورة من الباب الواسع وكسب ثقة قادة الثورة والحصول بذلك على الشرعية اللازمة للقيام «بمهمتهم» على أكمل وجه. هؤلاء الذي تسمموا بنزعة التغريب وتمّ استعمارهم ذهنيًا، بقوا مرتبطين ثقافيًا بفرنسا بعد الاستقلال وكانوا يشكلون (وما زال الأمر قائمًا بالنسبة للذين هم دائمًا على قيد الحياة) مجموعة ضغط متآزرة من النموذج المافياوي.
إن هذه الأقلية النشطة التي يلهب جوانحها طموح مفرط لاستلام السلطة والاحتفاظ بها بالقوة، والتي تتحرك لتحقيق سياسة المسخ الثقافي والحضاري للجزائر، هي التي أصفها في هذا الكتاب. هذه الفئة المحدودة جدًا من حيث العدد هي المقصودة بتسمية «الفارين».
وفي الأخير، تمَّ اتخاذ إجراءات من أجل «تسهيل» الدخول إلى الإدارة أمام مستخدمين وإطارات منفذين جزائريين تكوّنوا في القالب الاستعماري، في إطار الترقية الاجتماعية التي شُرع فيها لهذا الغرض منذ عام 1956، وتشكل الإدارة الفرنسية التي ورثتها الجزائر المستقلة فخًّا سينهم للأبد عاتق المواطنين. لقد سَهَّلَ مجموع هذه العوامل بروز بيروقراطية مافياوية تتشكل نواتها الصلبة من «الفارين» من الجيش الفرنسي.
إن هذا الكتاب يراد منه أن يكون شهادة على المراحل المفصلية التي تركت بصماتها على تطور الجزائر بين 1958 و1999.
وسأحاول أن أبين كيف استفادت مجموعة «الفارين» من الجيش الفرنسي،
12
خلال هذه الفترة، من الصراعات التي هزت جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني خلال حرب التحرير، ومن الأزمات المختلفة التي عاشتها الجزائر بعد الاستقلال والتي جرى معها كل مرة إبعاد مسؤولين وطنيين سياسيين وعسكريين ليحل محلهم أناسٌ أكثر انقيادًا.
إنه لمن المثير للفضول أن أشير في هذا الصدد إلى أن الجزائر تمثل، في تاريخ التحرر من الاستعمار، حالة متميزة. فقد تم إحراز الاستقلال بفضل الكفاح المسلح والتضحيات الجسام التي بذلها الشعب الجزائري، لكن القضاء على الاستعمار طُبع في الوقت نفسه بانفجار الحركة الوطنية في عام 1962، وبحرف الثورة من طرف أنصار الاستعمار الجديد الفرنسي ولصالحه.
إن هذه الملاحظة المؤلمة لا تقلل في شيء من الدور الحاسم الذي لعبه مسؤولو الثورة من أجل تحقيق المثل الوطني الأعلى، ألا وهو استقلال الجزائر بالكفاح المسلح، وسيحتفظ التاريخ في كل الأحوال بكون قادة مثل زيغوت يوسف وكريم بلقاسم ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بوصوف وعبان رمضان، وأكتفي بذكر بعض ممن عرفتهم، يعدون، على رغم اختلافاتهم وآرائهم المتعارضة في المجال التكتيكي، أو الظرفي، من حين إلى آخر، وعلى رغم الحوادث العارضة، رجالًا عظماء ووطنيين كبارًا متفانين عملوا كل شيء بضراوة وصبر، وبمثابرة ووعي لتحرير الجزائر من نير الاستعمار.
في هذا الوقت، سمحت وضعية الجزائر التي أحرزت استقلالها في مناخ الأزمة الخطيرة التي كانت تواجه فيها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية القيادة العامة للجيش، ببروز «الفارين» من الجيش الفرنسي في قمة الهيئة العسكرية، ولا سيما داخل وزارة الدفاع والدرك الوطني (الواقعة تحت إشرافهم كليًا منذ عام 1962) ليمتد هذا البروز إلى القطاعات الاستراتيجيا مع مرور الوقت.
لقد استعارت مجموعة «الفارين» من الحركة الوطنية لغتها ومناهجها لتعزيز مواقعها وللوصول إلى أهدافها.
إن المناداة الدائمة والثابتة بضرورة بناء دولة قوية وقادرة وبالحفاظ على الوحدة الوطنية تعد في الواقع حجة واهية لإخفاء رغبتهم في الوصول إلى السلطة ثم البقاء فيها، ولإخفاء حذرهم حيال الشعب والتيارات السياسية الموجودة، فضلًا عن احتقارهم التام للحريات الأساسية وللممارسات الديمقراطية. هذا وسينكب «الفارون» وحلفاؤهم داخل مختلف الأجهزة على التنظيم التدريجي، ابتداءً من انقلاب عام 1965 بالضبط، ليُحِلّوا محل الإطارات الوطنية والنزيهة إطارات من الفئة
13
الفرنكوفونية عبر الأيام وبحسب الأحداث والظروف، وهدفهم من ذلك أن يدفنوا، بقدر ما يكون في وسعهم، رموز وثوابت الثورة والجزائر العميقة، منتظرين اللحظة الملائمة للرمي بالبلاد تحت الهيمنة الثقافية والسياسية الفرنسية. وكان عليهم انتظار جانفي (كانون الثاني) 1992 لتحقيق هدفهم عن طريق الانقلاب. لقد أصبح التسلط والإقصاء واستعمال قوة السلاح ضد القناعات السياسية لدى الآخرين، والقمع في كل الاتجاهات، سياستهم من أجل الاحتفاظ بالسلطة. إن الأحداث المستعرضة بفجاجة في هذا الكتاب قد عشتها كفاعل وشاهد وملاحظ طوال هذه الفترة الطويلة.
لقد كانت الثورة بالنسبة لي أكبر مدرسة. ولقد انتسبت إليها بكل عزيمة منذ عام 1955 في سن التاسعة عشرة، وبقيت وفيًا دائمًا لمبادئ أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 وللقيم الأصلية التي يتعلق بها الشعب الجزائري ويتمسك بها بكل وجدانه، وهي الحرية والتقدم والوفاء والعدالة الاجتماعية التي تمارس في إطار متفتح وشفاف، خالية من كل وصاية ومن كل تسلط ومن كل بيروقراطية. لقد رفضت دومًا العمل بذهنية تكتلية مهما كانت الوظائف التي مارستها خلال حرب التحرير أو بعد الاستقلال. وضعت دائمًا الصالح العام والهدف الأسمى للعدالة الاجتماعية فوق كل اعتبار آخر، على رغم المحاولات المتنوعة والعراقيل المتعددة، بل حتى التهديدات الصادرة عن الأجهزة بغية شل عمل الإطارات الوطنية المتفانية والمعروفة باستقامتها وروحها الاستقلالية. أنّه، بالفعل، لمن الصعب على مسؤول سياسي شريف ممارسة وظائف حكومية بصورة سليمة، إذا أخذنا بالحسبان الصعوبات والعراقيل التي تضعها في طريقه الأجهزة، بعيدًا عن روح النضال التي ترعرعت وتطورت فيها. لقد حاربت بضراوة خلال العشر سنوات التي كنت فيها مسؤولًا حكوميًا، ولم أوفق دائمًا في الحصول على الموافقة على الإصلاحات التي كانت البلاد في أمس الحاجة إليها. فلقد كانت المعارضات والتحفظات وحتى العداء نهجًا سائدًا، وكانت تتخذ أشكالًا متعددة. فمنذ دخولي الحكومة في عام 1979 وفور عرض الملفات الأولى في مجلس الوزراء، عمد أبناء النظام إلى نعتي بجميع النعوت بحسب الظروف والأحداث عن طريق الإشاعة بغية ضرب صدقيتي. ففي عاميْ 1979 و1980 أطلقوا علّي نعت «الوردي»، أي القريب من الشيوعيين، ثم بين 1980 و1981، أثناء الإعداد لتطبيق الإصلاحات الأولى المتعلقة بإعادة هيكلة المؤسسات العمومية، والمتعلقة بتشجيع الاستثمارات الخاصة الوطنية والأجنبية وبإنشاء مؤسسات اقتصادية مختلطة مع شركاء أجانب، كانت الإشاعة تظهرني كممثل للشركات المتعددة الجنسيات. وبين عاميْ 1982 و1986 نعتوني «بالإخواني» لأنني كنت أتردد على المسجد، ولأن ذلك تزامن بخاصة مع صعود الحركة الإسلامية، التي قمعتها أجهزة الأمن، في حين أني كنت
14
أتردد دائمًا على المسجد قبل عام 1982 وبعد عام 1986. وبين عاميْ 1986 و1988، عندما دافعت عن مصالح الجزائر بمعارضتي لبعض الصفقات الكبيرة التي كانت غير متوازنة إلى حد لا يمكن وصفه، أشاعوا بأنني مُوالٍ لأمريكا وأني أملك فنادق في الولايات المتحدة، في حين أن الكل يعلم أني لم أملك قط أي مدخول خارج مرتبي.
إن الممسكين بزمام السلطة لا يصدهم شيء من أجل ضمان ديمومة النظام، وهكذا، كانت أحداث أكتوبر (تشرين الأول) 1988، على سبيل المثال، مخططة من طرف الممسكين بزمام السلطة لإنقاذ نظامهم وتحسين مواقعهم، كل في مجال اختصاصه، في أعلى هرم السلطة. هذه الأحداث المدبرة والمنفذة بطريقة مكيافيلية تمثل مرحلة حاسمة نحو انقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992 التي كرست مجموعة «الفارين» من الجيش الفرنسي، هذا الانقلاب الذي افتتح مرحلة طويلة من العنف والرداءة وعدم الاستقرار.
لقد حان الوقت للعودة إلى المسار الديمقراطي والسيادة الشعبية، وهما الضامنان الوحيدان لإعادة الثقة بين الحاكم والمحكوم، واستعادة السلم والاستقرار.
15
القسم الأول
المرحلة التحضيرية للانتقال من الاستعمار
إلى الاستعمار الجديد
إن توجه فرنسا السياسي في تعاملها مع الجزائر بعد وصول الجنرال ديغول إلى الحكم قد تُرجم بتطبيق استراتيجيا شاملة تهدف إلى استبدال النظام الاستعماري بنظام استعماري جديد لمنع الجزائر من استعادة مكانتها الطبيعية في الوطن العربي والعالم الإسلامي بعد حصولها على الاستقلال. وتهدف أيضًا إلى تفادي ابتعاد الجزائر المستقلة كثيرًا عن فرنسا على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي، ومنعها من إعادة بناء نفسها على أسس مستقلة لتلبية تطلعات الشعب الجزائري الذي بقي متشبثًا بكل جوارحه بالإسلام وقيمه التي تدعو بصفة خاصة إلى الحرية والوحدة والأخوة والتضامن والعدالة الاجتماعية.
فمنذ البداية، كان الجنرال ديغول، على ما يبدو، مقتنعًا بالمجيء الحتمي للاستقلال السياسي للجزائر، لكنه لم يدّخر أي جهد لتحطيم الحركة المسلحة للتحرير الوطني وذلك بتعزيز الطاقة العسكرية الهجومية الفرنسية إلى حد بعيد. فعمليات الجيش الفرنسي الأكثر حدة والأكثر ضراوة التي خاضها منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 ضد جيش التحرير الوطني وضد الشعب الجزائري، ولا سيما في المناطق الجبلية والريفية، كانت في ظل حكومة ديغول، وكان الهدف استنزاف دم الجزائر العميقة بضربها في الصميم.
لكن، وبالموازاة مع التعزيزات التي لم يسبق لها مثيل للجيش الفرنسي في عملياته القمعية والوحشية اليومية ضد الشعب الجزائري، سواء في الأرياف أو في المدن، كان شارل ديغول يتطلع إلى استراتيجيا تهدف إلى تحويل الثورة الجزائرية عن مسارها الذي كان قد حدده بيان أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1954.
19
كانت هذه الاستراتيجيا تهدف إلى تعزيز الحضور الفرنسي في الجزائر المستقلة في جميع الميادين. وفي الإطار، تم اتخاذ تدابير محددة خاصة بالجزائر منذ سنة 1958 على الصعيد السياسي والعسكري والإداري الاقتصادي والثقافي، حتى تبقى الجزائر مرتبطة تمامًا وإلى الأبد بفرنسا، بعد استعادة استقلالها الشكلي الذي كان ينظر إليه على أنه أمر حتمي. لقد جاءت هذه الإجراءات لتضاف إلى إجراءات أخرى اتخذتها مختلف الحكومات الفرنسية منذ اندلاع حرب التحرير، وذلك في إطار استراتيجيا محددة بدقة.
لقد تم تقديم هذه الاستراتيجيا تحت التسمية الجذابة، «الجزائرية جزائرية»، للتجديد والتمايز من تسمية «الجزائر فرنسية» التي كانت الحكومة الفرنسية تدافع عنها رسميًا قبل ذلك. وتهدف هذه الاستراتيجيا بخاصةٍ إلى استدراج الجزائريين في هذا الاتجاه لإضعاف جبهة التحرير الوطني، بل حتى تهميشها.
فالجزائريون، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، الذين سلكوا هذا الطريق ليشكلوا «القوة الثالثة»، لا يمكن اعتبارهم جميعًا عملاء في خدمة فرنسا الاستعمارية. لقد كان بينهم بالتأكيد الكثيرون من ذوي النية الحسنة، كما كان هناك انتهازيون وأناس سلكوا ذلك المسلك خوفًا أو تحت تأثير غريزة البقاء. إن تحليلنا لن يطول بالنسبة لمختلف هذه الفئات التي التحقت، في وقت أو في آخر، بقضية «الجزائر الجزائرية» لأسباب تكتيكية أو ظرفية. إنه يخص فئة معينة من العسكريين الجزائريين الذين عملوا في الجيش الفرنسي والذين أرسلوا في مهمة لدى جبهة التحرير الوطني في تونس في دفعات متتالية بين عاميْ 1958 و1961، وكان يطلق عليهم آنذاك اسم «الفارين» من الجيش الفرنسي. ولا تهدف هنا إلى الحديث عن جميع «الفارين» على قدم المساواة.
هذا ويعيدنا الفصل الأول من هذا الكتاب إلى الظروف التاريخية التي تكونت فيها هذه الزمرة، علاوة على قيام البنية التقنية ذات التوجه الفرنسي، التي أقامت معها هذه الزمرة تحالفات صلبة. ويقدم لنا هذا الفصل عناصر من شأنها إلقاء الضوء على مناطق الظل حتى نلم أكثر بأصول المأساة الجزائرية التي تعقدت مع توالي السنين بعد الاستقلال.
20
الفصل الأول
«الجزائر الجزائرية» المؤسسة على «القوة الثالثة»:
الطريق الرئيسية إلى الاستعمار الجديد
أولًا: «الجزائر الجزائرية»
كان مصطلح «الجزائر الجزائرية» (1) الذي استعمله ديغول بالمناسبة يمثل الخلفية والتوجه والإيديولوجيا، نوعًا ما، والغطاء السياسي، حتى لا نقول الغلاف، لهذه الاستراتيجيا الشاملة. فهذا المصطلح، غير الحيادي وغير التافه، والذي يبدو في الظاهر، مغريًا، للشعب الجزائري، لم يكن غير مؤذٍ إطلاقًا. فالمقصود منه حقيقة سياسة استعمارية جديدة تهدف أساسًا إلى قطع صلة الجزائر بأمازيغيتها، وبعروبتها وانتمائها للإسلام الذي طبعها مدة أربعة عشر قرنًا.
يجدر في هذا الصدد أن نوضح اولًا مصطلحي «القوة الثالثة» و «الجزائر الجزائرية» عبر التذكير بمحتوى استراتيجية فرنسا في هذا الشأن.
لقد استخدم ديغول كل الوسائل للإبقاء على الوضع الاستعماري للجزائر، وإن كان قد تقبل مبدأ الاستقلال منذ وقت طويل كما أشار إلى ذلك عدة مؤرخين فرنسيين. لكن الأحداث تبين جليًا أنه لم يكن ينظر إلى استقلال الجزائر إلا كإجراء أخير، بعد أن استنفد جميع الوسائل، لهذا كان تعزيز القدرة العسكرية الفرنسية كخيار حتمي قد فرض نفسه، ولا سيما منذ عام 1958.
وقد ترجم هذا أيضًا بزيادة عدد المجندين من «الفرنسيين المسلمين» الذين
.................................
(1) استُعمل مصطلح «الجزائر الجزائرية» في هذا الفصل بحسب المعنى التاريخي الذي أعطاه إياه الجنرال ديغول في سياق استعماري جديد وليس بمعناه الأصلي «الإيتيمولوجي».
21
يعملون كإضافيين لتدعيم الجيش الفرنسي في مجهوده الحربي. حيث يقدر عدد المتعاونين الجزائريين المتورطين مع فرنسا في مارس (آذار) 1962 بمائتين وخمسين ألف رجل من بينهم 160000 جندي إضافي. هناك أرقام مختلفة تتحدث عنها مصادر مختلفة. لكن يبدو أن رقم 250 ألفًا (الذي يؤكده محند حمومو) هو رقم واقعي (2). ويشمل هذا الرقم العسكريين المحترفين، المدعوين «مسلمي الجزائر»، والإضافيين، مثلما يشمل المتعاونين المدنيين الذين كانوا يمارسون وظائف إدارية أو يشكلون النخب التي تعمل كواسطة بين سلطة الاحتلال والشعب الجزائري الذي تتولى قيادته.
كان تجنيد الجزائريين «المسلمين» والانفاق على ملاك مدني وعسكري بهذه الأهمية يهدفان إلى ربط الجزائر بفرنسا بأشكال جديدة.
الهدف الأول من استعمال هذه القوة الهائلة من الأهالي هو تحطيم جيش وجبهة التحرير الوطني، ولتظهر فرنسا بهذا للشعب الجزائري أن هناك بدائل أخرى غير الاستقلال «كالاندماج» مثلًا أو «الحكم الذاتي والتشارك مع الحاضرة الاستعمارية»، كما كان يقترح ديغول في خطابه حول تقرير المصير في سبتمبر (أيلول) 1959.
فمن الطبيعي في تلك الحال أن يشكل المتعاونون العسكريون والمدنيون دعامة لنظام سياسي متجدد، وبُنى لجزائر جديدة تكون قد اختارت «الاندماج»، أو «التشارك» مع فرنسا. يتعلق الأمر في الواقع، بتشجيع بروز «قوة ثالثة» تكون (على المسافة ذاتها) بين من يريدون جزائر فرنسية والمدافعين عن استقلال الجزائر. ستكون مهمة هذه القوة «الثالثة» (المكونة من النخبة السياسية والجيش والشرطة والإدارة)، المعارضة لجبهة التحرير الوطني والمتميزة من المعمّرين، تأبيد هيمنة فرنسا ووجودها في الجزائر في جميع المجالات. بعبارة أخرى، لن يبقى تسيير شؤون الجزائريين تتحكم فيه مباشرةً فرنسا، مثلما كان عليه الأمر في ظل النظام الاستعماري، بل بواسطة جزائريين ذوي توجه فرنسي أُعدُّوا للمناسبة في «قوة ثالثة».
على كل حال، فمنذ عام 1830 وخلال 130 عامًا، كان استعمار الجزائر عبارة عن سيرورة يطبعها العدوان العسكري والقمع السياسي والعنف القضائي والاضطهاد الثقافي والاستغلال الاقتصادي الفادح لفائدة المعمرين، وأقلية من «الفرنسيين المسلمين» مقطوعة عن الشعب الجزائري ومرتبطة بقوى الاحتلال بامتيازات من كل
................................
(2) انظر: Mohand Hamoumou, Et ils Sont devenus harkis, preface de Dominique Schnapper (paris: Fayard, 1993) p. 46.
22
نوع. إذن «فحزب فرنسا» كان موجودًا دائمًا منذ القرن التاسع عشر، وهو يضم في صفوفه عدة فئات مهنية واجتماعية (عسكريين وموظفين وأصحاب مهن حرة وأصحاب أملاك ومقاولين). لقد قامت المدرسة والجيش الفرنسي نوعًا ما بربط هذه النخب بثقافة الدولة الاستعمارية التي كانت تكفل لهم وضعية فوق وضع الشعب الجزائري (3). إن اتجاه «حزب فرنسا» هذا الذي أطلق عليه بالمناسبة اسم «القوة الثالثة» والذي حاولت فرنسا تأسيسه قبل عام 1962 على شكل بُنى بغية التحكم بمصير الدولة الجديدة، نابع من مسعىَّ استعماري جديد. هؤلاء الجزائريون الموالون لفرنسا، المشكلون في «قوة ثالثة» أطلق عليها في ما بعد اسم «حزب فرنسا»، هم الذين سيقع على عاتقهم قيادة تلك البُنى الُمرساة يتيح لهم ذلك استلام السلطة بمباركة فرنسا بعد استقلال الجزائر.
وتوفر فرنسا لهذا الغرض وسائل بشرية ومادية ومالية مهمة لتجسيد مشروعها المتمثل في «القوة الثالثة»، لكن خارج الشعب الجزائري، بل حتى ضده. ويتمثل الهدف النهائي طبعًا في الإبقاء على الهيمنة الفرنسية في الجزائر، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والثقافي. ولإخفاء النيات الاستعمارية الجديدة لهذا المشروع تم إضفاء اسم ملتبس عليه وهو «الجزائر الجزائرية».
هذا المصطلح الذي يبدو في ظاهره عاديًا ولا جدال فيه، لكن باطنه يحوي الكثير من المعاني، استعمله ديغول ورجال السياسة الفرنسيون ووسائل الإعلام خلال السنتين الأخيرتين من حرب التحرير.
إنه يوحي بأن فرنسا مستعدة إلى أقصى حد لقبول استقلال الجزائر السياسي لكن عبر السعي لإفراغه من محتواه. ويعني هذا على الخصوص أن فرنسا لن تقبل بأن تسترجع الجزائر شخصيتها الأصلية المبنية على أسسها الثلاثة التي لا يمكن الفصل في ما بينها، وهي الأمازيغية والعروبة والإسلام. وفي هذا السياق بالذات لم يكن يزعج فرنسا أن ترى الجزائر مستقلة شكليًا لكن ضعيفة وهشة ومشدودة إلى الخارج ومرتبطة بفرنسا في المجالات الاستراتيجية.
..........................
(3) Guy Pervillé Les Etudiants algériens de l'unuverité FranÇaise, 1880- 1962: Populisme et nationalism chez les étudiants et intellectuels musulmans algériens de Formation FranÇaise, préfacc de Charles-Robert Ageron, collection «recherches sur les sociétés méditerranéennes» (paris: Edpitions du centre national de la recherche scientifique, 1984).
نقلًا عن: المصدر نفسه، ص63.
23
إن تصور فرنسا «الجزائر الجزائرية» يفترض بكل وضوح الحفاظ على «الإشعاع الثقافي الفرنسي» وذلك بالإبقاء على الفرنسية كلغة رسمية للجزائر المستقلة على حساب اللغة العربية. هذا ولقد تمت التضحية باللغة العربية على مذبح اتفاقيات إيفيان، كما سنرى في ما بعد. ويستتبع ذلك، بصورة موازية، الحفاظ على مصالح فرنسا الاقتصادية بعد الاستقلال.
لقد ترجمت فكرة «الجزائر الجزائرية» بتصوُّر وتطبيق استراتيجيا حقيقية جرى تحديد الغاية منها في عهد ديغول وتهدف إلى إبقاء الجزائر «المستقلة» في أحضان فرنسا.
وهكذا كان إنشاء «قوة مسلحة محلية» وتنظيم الإدارة والاقتصاد يتفقان مه هذا الانشغال الأعظم وذلك بتزود الجزائر بأجهزة مناسبة موالية لفرنسا وبخلق نظام سياسي واجتماعي يتعارض مع أهداف جبهة التحرير الوطني وتطلعات الشعب الجزائري، قبل حصوله على الاستقلال بوقت طويل. وهكذا تم تلغيم الجزائر عند نهاية الفترة الاستعمارية.
سنعود إلى هذه المسائل بإيجاز لندعم بها أقوالنا ونكشف عن تعقد الأزمة التي تتخبط فيها الجزائر منذ الاستقلال، ولا سيما خلال العشرية الحمراء في التسعينيات.
ثانيًا: «القوة المحلية» أو جيش الجزائر الجزائرية
لقد سمح خطاب الجنرال ديغول حول تقرير مصير الجزائر في سبتمبر (أيلول) 1959 للحكومة الفرنسية بأن تخطط، ابتداءً من عام 1960، لإنشاء «القوة المحلية» انطلاقًا من «الاحتياطيين» لتشكيل «نواة الجيش» أي النواة الصلبة «للجزائر الجزائرية» (4) المستقبلية.
ففي سنة 1961 قام الجنرال «آيري» القائد الأعلى للقوات المسلحة الفرنسية في الجزائر، بتوجيه مشروع «القوة المحلية» إلى وزير الجيوش. يتعين على «القوة المحلية» أن تشمل جزءًا من «الحرْكيين» و «المخازنية» و «المجموعات المتنقلة للحماية الريفية» التي أصبحت مجموعات الأمن المتحركة.
...............................
(4) Michéle Salinas, L'Algérie au parlement. 1958- 1962. Bibliothéque historique privat (Toulouse: Editions privat. 1987).
نقلًا عن: Si Othmane, L,Algérie. L'origine de la crise: Ou, guerre d'Algérie, suite et Fin, histoire (Paris: Dialogues éditions, (1996). P. 142.
24
إن الفحص السريع لمختلف الأطراف التي تشكل «القوة الثالثة» يسمح لنا بتحديد خلفيات الحكومة الفرنسية بشكل أفضل.
1- «الحَرْكيون»
أنشئت «الحرْكات» وهي عبارة عن وحدات قتال تتكون من «فرنسيين مسلمين» ابتداءً من عام 1954. فقد أدرك الجيش الفرنسي بسرعة أنه بحاجة إلى السكان الأصليين، وذلك لمعرفتهم الجيدة بالميدان، للقتال بنجاعة ضد جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني.
يعرّف الأمر رقم (412/7) الصادر عن القيادة العليا للجيش الفرنسي في الجزائر والمؤرخ في 8 فيفري (شباط) 1956 «الحرْكات» بأنها «وحدات إضافة [...] مشكلة في كل فيلق [...]. وهي إذ تعتمد على وحدات قاعدية (كتائب، سرايا، سرايا مدفعية)، تتكفل بتكملة الأمن الإقليمي والمساهمة في العمليات المحلية على مستوى القطاعات» (5). لقد قفز عدد الحَرْكيين المشاركين في العمليات من 28 ألفًا عام 1959 إلى ستين ألفًا عام (1961) (6). وفي الواقع، فإن العدد الإجمالي للحّرْكيين العاملين كإضافيين بين عاميْ 1954 و1962 يقدر بحوالي مئتي ألف بحسب الوزارة الفرنسية للجيوش (7).
يفسر التعاقب السريع للحَرْكيين بعدة أسباب منها على الخصوص الفسخ، غير المقترن بإشعار مسبق، للعقود التي تربطهم بإدارة الاحتلال، كإجراء تأديبي، أو بإشعار مسبق لمدة ثمانية أيام لعدم القدرة البدنية، وأيضًا في حالة إصابة خطيرة (8). لكن عددًا منهم غادر الحركات قبل عام 1962. إن دور الحركيين هجومي بالأحرى، وتتمثل مهمتهم في جمع المعلومات حول نشاطات جبهة التحرير الوطني وحول تحركات جيش التحرير الوطني لمعرفة مواقع أهداف معينة في مناطق تعتبر خطيرة بالنسبة للجيش الفرنسي، ثم مهاجمتها بعد ذلك. وهكذا قدم الحرْكِيون خدمة عظيمة للجيش الفرنسي في حربه ضد جيش التحرير الوطني، لكن لا بد من الإشارة إلى أنهم لم يلقوا جزاءً حسنًا بالمقابل. أولًا لأن الأجر الشهري للحركي حدد بسبعمائة وخمسين
.......................................
(5) ذُكر في:
Hamoumou, Ibid., p. 115.
(6) المصدر نفسه، ص112.
(7) المصدر نفسه، ص122.
(8) المادة 3 من القرار الصادر في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1961 والمتعلق بوضع الحرْكيين، ذكر في: المصدر نفسه، 116.
25
(750) فرنكًا، وهو مستوى هزيل بشكل معيب إذا أخذنا بالحسبان المخاطر التي كانت تترصدهم، ومقارنة بمرتبات الجنود الفرنسيين أو الأجانب، ثم لأنهم بعد وقف إطلاق النار في مارس (آذار) 1962، تُركوا يواجهون مصيرهم لوحدهم بعد حل الحركات من طرف الجيش الفرنسي ورفض الحكومة الفرنسية دمجهم في الجيش الفرنسي أو «ترحيلهم» جماعيًا إلى فرنسا. لقد سُمح نسبة 5 بالمئة فقط من الحركيين بالذهاب نهائيًا إلى فرنسا (9)، بينما طُلب من الآخرين «تنظيم إعادة دمجهم اجتماعيًا» في الجزائر حيث يبقون تحت حماية الجيش (الفرنسي) لمدة ستة أشهر بصفة «أعوان مدنيين متعاقدين» (10)، أو يلتحقون «بالقوة المحلية». وقليل منهم انخرط في الجيش الفرنسي الذي لا يقبل في هذه الحالة إلا العازبين في إطار نسبة محدودة جدًا.
هذه الخيارات المختلفة الناجمة عن حل القوى الإضافية لا تخص الحرْكيين فحسب، بل تخص أيضًا المخازنية والإضافيين الآخرين.
2- المخازنية
ابتداءً من عام 1955، قرر الجيش الفرنسي بدء وتطوير نشاطات «بسيكولوجية» في صفوف الشعب الجزائري لإفقاد جبهة التحرير الوطني حُظوتها لديه. وقد قام الجنرال بارلانج العامل بالأوراس بإنشاء أولى الأقسام الإدارية المتخصصة (SAS)، لإقامة رابطة مباشرة متعددة الأبعاد بين الجيش الفرنسي والسكان (11).
وتتدخل هذه الأقسام الإدارية المتخصصة في أربعة مجالات:
- سياسيًا: يتمثل الهدف في «استعادة التحكم في السكان وجعلهم في موضع ثقة [...] حتى يتم ضمان دعمهم الفعلي المتزايد» (12)، وتشجيع البحث المنظَّم عن المعلومات حول جيش وجبهة التحرير الوطنيين:
.......................................
(9) انظر: المصدر نفسه، ص123. بصورة رسمية، وفي 19 مارس (آذار) 1962، جرى السماح لـ 5000 فقط من الجنود الإضافيين المسلمين المهددين من أصل 225 ألفًا، بـ «الرحيل إلى فرنسا بحسب حمومو (ص 270). لكن وفقًا للمؤلف نفسه، فإن عدد الأشخاص الذين غادروا الجزائر نهائيًا إلى فرنسا بلغ ستين ألفًا، أي 27 بالمئة من الإضافيين من شتى الفئات (ص 123).
(10) بلاغ لوزارة الجيوش الفرنسية في 8 مارس (آذار) 1962، ذكر في:
Othmane, L'Algérie, L'origine de la crise: Ou, la guerre d'Algérie, suite et fin, p. 105.
(11) أنظر: المصدر نفسه، ص105.
(12) تعميم وزاري مؤرخ في 30 أبريل (نيسان) 1955 موجّه إلى الجنرال بارلانج، مذكور في: المصدر نفسه، ص114.
26
- اجتماعيًا: تنظيم وتطوير العمل الاجتماعي، كفتح المدارس والعيادات وإطلاق أعمال التجهيز المحلي.
- إداريًا: سد الفراغ الإداري الناجم عن استقالة المنتخبين المحليين الجزائريين التي أمرت بها جبهة التحرير الوطني. وفي هذا الإطار، يمارس ضابط القسم الإداري المتخصص وظائف مأمور النفوس ويمثل السلطات الولائية في بلديته.
- عسكريًا: مساعدة الجيش الفرنسي في حربه ضد جيش التحرير الوطني ويتوفر القسم الإداري المتخصص لهذا الغرض على إضافيين مسلمين مسلحين ومنظمين في مخزن.
لقد تقرر في عام 1956 إنشاء 680 قسمًا إداريًا موزعة على 13 عمالة بمعدل قسم واحد في الدائرة. ويتوفر قائد القسم الإداري المتخصص (SAS) على مخزن محدد بخمسة وعشرين رجلًا. وفي ماي (أيار) كان عدد الأقسام الإدارية المتخصصة (SAS) 661 و27 قسمًا إداريًا حضريًا (SAU) تشغّل 20 ألف مخزني (13).
3- المفارز المتنقلة للحماية الريفية (GMPR)
تتمثل مهام هذه الفرق التي أصبحت تسمى في عام 1958 المفارز المتنقلة للأمن (GMS) في المراقبة والتدخّل و «الحفاظ على الأمن» في الأماكن التي لا تخضع لتغطية كافية من طرف الجيش الفرنسي أو رجال الدرك. ويقع على عاتقهم أيضًا حماية بعض البناءات العمومية كمقر الولايات والدوائر والبلديات أو ضمان حماية بعض الشخصيات المدنية. ويقدر تعداد المفارز المتنقلة للحماية الريفية بعشرة آلاف رجل في عام 1962 بحسب محند حمومو.
4- مفارز الدفاع الذاتي (GAD)
أنشئت مفارز الدفاع الذاتي (GAD) لحماية القرى والمشاتي والمزارع ضد الهجمات المحتملة لجيش التحرير الوطني. وهم مكلفون أيضًا بمنع عناصر جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير الوطني من الدخول إليها للتموين أو جمع المعلومات. إن الجيش هو الذي يقوم بتسليح هذه المفارز التي تعد امتدادًا له، والتي تستعمل في الواقع «كسلاح بسيكولوجي وسياسي ضد أطروحات جبهة التحرير الوطني» (14).
...................................
(13) Hamoumou, Et ils sont devenas harkis, p. 118.
(14) نقلًا عن: المصدر نفسه، ص119.
27
لقد كانت مفارز الدفاع الذاتي جد نشطة غير أن نشاطاتها سرعان ما تجاوزت مهامها الدفاعية الأصلية. وفي عام 1962 وصل تعدادها إلى ستين ألف رجل.
ويوجز لنا الجدول رقم (1- 1) وضيعة تعداد مجموع العسكريين والإضافيين «الفرنسيين- المسلمين) العاملين في الجيش الفرنسي حتى عام 1962، بحسب أربعة مصادر مختلفة.
الجدول رقم (1-1)
عسكريون وإضافيون «فرنسيون- مسلمون» في الخدمة
مارس (آذار) 1962
دوسان سالفي بريار م. حمومو ج. فافر
عسكريون محترفون
مجندون
حرْكيون
مخازنية
المفارز المتنقلة للأمن
مفارز الدفاع الذاتي 20000
40000
58000
23000
12000
60000 20000
-
70000
20000
10000
60000 20000
40000
70000
20000
15000
60000 20000
17000
63000
19000
8500
55000
المجموع 213000 180000 225000 182500
المصدر: نقلًا عن: Mohand Hamoumou, Et ils Sont devenus harkis, préface de Dominique Schnapper (paris: Fayard, 1993) p. 122.
في المجموع، نشير إلى أن عدد العسكريين والإضافيين «الفرنسيين- المسلمين» العاملين مع سلطة الاحتلال يتراوح بين 180000 و225000 بحسب المصادر في عام 1962.
إن تحقيق مشروع «القوة المحلية» هذا، المنصوص عليه في اتفاقيات إيفيان، تجسَّد أخيرًا بتجهيز قرابة ستين ألف رجل أخذوا من الوحدات المشار إليها أعلاه، والمختارة من بين أشخاص «موثوقين» ومخلصين لفرنسا. وهم يتوزعون على الشكل التالي:
28
الجدول رقم (1- 2)
مكونات «القوة المحلية»
عسكريون.
مفارز المن المنتقلة.
رجال الدرك.
كتائب صحراوية.
آخرون (حركيون، مفارز الدفاع الذاتي، قدماء العسكريين، ... الخ) 26000
10000
6500
3500
12000
المجموع 58000
المصدر: Si Othmane, L'Algérie. L'origine de la crise: Ou, la guerre d'Algérie, suite et Fin, histoire (Paris: Dialogues éditions, (1996). P. 153.
هكذا بعد الإخفاق في تكسير جيش وجبهة التحرير كما كان مخططاً له، وبعد الإخفاق في إبقاء الوضع الاستعماري للجزائر، لقاء حرب من أكثر الحروب ضراوة في أيامنا هذه، توجهت فرنسا ببرودة إلى تكييف استراتيجيتها مع الشروط الجديدة التي تؤدي بالجزائر إلى الاستقلال.
ولقد نجحت فرنسا، لهذه الغاية، في إنشاء «قوة محلية» من 58 ألف رجل من بين المتعاونين معها الذين استنفرتهم من قبل ضد شعبهم وأسندت إليهم الإشراف على المؤسسة الأكثر استراتيجية في البلاد والتي تتحكم في مستقبلها (15).
قامت فرنسا، لتجسيد هذه السياسة، بإطلاق عمليات محددة في جميع الاتجاهات. وكانت تهدف هذه السياسة في المجال العسكري إلى تشجيع عمليات «الفرار» وعمليات «انضمام» ضباط شباب جزائريين (تمت ترقيتهم حديثًا لهذا الغرض)، وعناصر أقل شبابًا يعملون في الجيش الفرنسي لاختراق صفوف جيش التحرير الوطني من جهة، ومن جهة أخرى لتهيئتهم للحصول في اللحظة المناسبة على قيادة الجيش الجزائري بعد الاستقلال.
لننظر إلى هذه الوقائع، عن قُربٍ أكثر، في الفصل التالي.
............................
(15) لكن هذه «القوة المحلية» التي تم تصورها وإقامتها في عام 1962 من طرف الحكومة الفرنسية والتي بقيت قيادتها في فرنسا، قوبلت بالرفض من طرف القيادة العامة لأركان جيش التحرير الوطني ومن طرف قيادات جيش التحرير الوطني في مختلف الولايات. إن ضغوط جيش التحرير الوطني، الذي توحد حول هذه المسألة، كانت من القوة بحيث قامت وحدات هذه «القوة المحلية» بحل نفسها. وانصرف الجنود الذين كانوا يشكلونها إلى بيوتهم ببساطة تاركين وراءهم العتاد العسكري في الثكنات، وعاد الضباط الفرنسيون و «المسلمون الفرنسيون» الذين كانوا يشرفون عليها إلى فرنسا. وقد التحق بعض هؤلاء الضباط «الفرنسيين- المسلمين) بالجيش الوطني الشعبي بعد استقلال الجزائر. وهكذا كان مصير مشروع «القوة المحلية» الذي حاربه جيش التحرير الوطني، الإخفاق التام.
29
الفصل الثاني
نحو الاستيلاء على قيادة
جيش التحرير الوطني
أولًا: اختراق جيش التحرير الوطني
(1957- 1962)
إن انضمام ضباط وضباط صف وجنود جزائريين يعملون في الجيش الفرنسي إلى جيش التحرير الوطني، قد تمّ بطرق متعددة بين عاميْ 1956 و1962.
ففي البداية، لم تكن تُحرك الانضمام الفردي والمنعزل الدواعي نفسها، ولم يكن يمثل استجابة لتعليمات السلطات الفرنسية. ويبدو من الواضح أن العناصر الأولى العاملة في الجيش الفرنسي التي التحقت بجيش التحرير الوطني في مختلف الولايات بصفة فردية (1) أو جماعية (2)، ومهما كانت رتبتها قد دفعها إلى ذلك إما دافع وطني أو كرد فعل على قمع الشعب من طرف جيش الاحتلال أو بدوافع أخرى. فكل حالة فرار من الجيش الفرنسي كانت تمثل حالة خاصة لوحدها. إن التعميم انطلاقًا من حالات معزولة ملاحظة في عاميْ 1955 و1956 من شأنه أن يقود إلى استنتاجات
...................................
(1) كثيرون من الجنود وضباط الصف الجزائريين فروا من الجيش الفرنسي والتحقوا بالثورة بصفة فردية، وهذا ابتداء من عام 1955، وقد حاربوا بكل إخلاص في جيش التحرير الوطني، وسقط الكثير منهم في ميدان الشرف.
(2) حدثت هناك حالات فرار جماعية حيث التحق جنود وضباط صف بجيش التحرير الوطني. يجدر بنا هنا التذكير على سبيل المثال بالقرار الشجاع الذي اتخذه عبد الرحمان بن سالم وضباط صف آخرون ممن التحقوا بالثورة مع كل الجنود الجزائريين في كتيبة في منطقة سوق أهراس. وعبد الرحمان بن سالم، الذي أحتفظ عنه بذكرى ممتازة لمجاهد مخلص وشهم وإنساني، ارتقى بسرعة إلى مسؤوليات عليا في جيش التحرير. لقد قاد الفيلق الثاني بين عامي 1958 و1959، وتم تعيينه لاحقًا كقائد لمنطقة العمليات في الشمال عند الحدود الشرقية في عام 1960.
31
خاطئة. ويجدر بنا أن نشير إلى أن الفارين من الجيش الفرنسي بين عاميْ 1955 و1956 كانوا يلتحقون مباشرة بجيش التحرير الوطني في الجبال وكانوا قد حاربوا إلى جانب إخوانهم المجاهدين.
وعلى العكس من ذلك، فإن عمليات الالتحاق الفردية أو الجماعية لعناصر جزائرية من الجيش الفرنسي التي لوحظت في عام 1957 وبوجه خاص ابتداءً من عام 1958 لم تكن تتم في اتجاه جيش التحرير الوطني بل في اتجاه جبهة التحرير الوطني بتونس للدخول من الباب الواسع. وهذا يستجيب لاستراتيجيا فرنسية دقيقة لتجسيد مخططها «الجزائر الجزائرية» بغية إبقاء الجزائر، بعد حصولها على الاستقلال السياسي، تحت السيطرة الفرنسية غير المباشرة.
1- أهداف «الفارين» الجزائريين من الجيش الفرنسي.
لن نتطرق هنا إلى مشكلة «الفارين» الجزائريين من الجيش الفرنسي بمجملها، ولا سيما أن من التحقوا منهم مباشرة بصفوف جيش التحرير الوطني قد برهنوا على تمسكهم بالقضية الوطنية وحاربوا بكل تفانٍ من أجل استقلال الجزائر. فمن شأن ذلك أن يكون طويلًا، وأن يغلب عليه الإسهاب الممل، ولن يغير شيئًا من طبيعة إشكاليتنا، ألا وهي اختراق صفوف جيش التحرير الوطني الذي قررته وخططت له السلطات الفرنسية بغية إدامة السيطرة الفرنسية في الجزائر. وعلى العكس من ذلك، فإن تسليط الضوء على الدور، فضلًا عن الترقية والارتقاء السريع، لحوالي أربعين «فارًا» جزائريًا من الجيش الفرنسي التحقوا بجبهة التحرير الوطني في الخارج ولعبوا بعد ذلك دورًا حاسمًا داخل وزارة الدفاع بعد الاستقلال، سيسمح لنا بالإحاطة الجيدة بجسامة المخطط والأهداف التي كانت تتوخاها فرنسا لهذا الغرض.
كان الهدف تحضير «الفارين» من الجيش الفرنسي للإشراف على الجيش الجزائري المستقبلي وقيادته بعد الاستقلال.
ومن المجدي الإشارة في هذا الإطار إلى التشابه بين رؤية الحكومة البلجيكية بالنسبة للكونغو الذي أصبح في ما بعد يسمى الزائير، ورؤية الحكومة الفرنسية في تعاملها مع الثورة الجزائرية. الفرق الوحيد بين هاتين الحالتين هو أن بلجيكا نجحت منذ البداية في وضع موبوتو في منصب جيد، وقد كان آنذاك رقيبًا. لقد تمت ترقيته في أقل من سنتين إلى رتبة جنرال، ثم إلى قائد للقوات المسلحة للجيش الكونغولي الشاب، وهو المنصب الذي سمح له أولًا بإزاحة الوزير الأول باتريس لومومبا، ثم
32
إطاحة كاسافوبو الذي كان رئيسًا للجمهورية. كان يكفي للرقيب موبوتو أربع أو خمس سنوات ليصبح رئيسًا للدولة بمباركة القوة الاستعمارية السابقة.
أما في ما يخص الجزائر، فقد كان على «الفارين» من الجيش الفرنسي انتظار شهر جانفي (كانون الثاني) 1992 لتنظيم انقلابهم. لقد كان الطريق أطول أمام الإنقلابيين الجزائريين، لكن في النهاية كانت النتيجة نفسها.
نذكّر في هذا الصدد بأن بين أول الضباط «الفارين» من الجيش الفرنسي في سبتمبر (أيلول) 1957 كان الملازم عباس غزيل والملازم الأول أحمد بن شريف اللذان التحقا، الأول بالولاية الأولى والثاني بالولاية الرابعة في عام 1957، متبوعين في سبتمبر (أيلول) من السنة نفسها بالنقباء بن عبد المؤمن ومولود إيدير وزرقيني بالإضافة إلى الملازمين الأولين بوعنان ومحمد بوتلة وعبد القادر شابو وسليمان هوفمان، وكانوا قد التحقوا بجبهة التحرير الوطني في تونس. وقد لحق بهؤلاء في عاميْ 1958 و1959 على الخصوص الملازمون عبد المجيد علاهم وعبد النور بقة والعربي بلخير ومحمد بن محمد وحمو بوزادة ومصطفى شلوفي وعبد المالك قنايزية ومحتار كركب ولحبيب خليل وعبد الحميد لطرش ومداوي ورشيد مديوني وخالد نزار وسليم سعدي.
وفي عام 1961، وقبل أشهر من الاستقلال، قامت مجموعة من «الفارين» مكونة من بعض العسكريين الذين ارتقوا حديثًا إلى رتبة ملازم من طرف فرنسا، بالالتحاق بجبهة التحرير الوطني في المغرب وتونس. وكان من بينهم محمد العماري ومحمد تواتي اللذان أصبحا رجلين أساسيين في الجيش الوطني الشعبي منذ انقلاب عام 1992. وبالنسبة للطيارين الملازمين الأولين سعيد آيت مسعودان ومحي الدين لخضاري، فقد التحقا بتونس في عام 1958 والقاهرة في عام 1957 على التوالي.
وفي شهر ماي (أيار) 1959، قامت مجموعة من «الفارين» (3) من الجيش الفرنسي، الذين كانوا مقيمين بقرن الحلفاية حيث كانوا على وشك تعيينهم، بدعوة مجموعة من الضباط الشباب المجاهدين الذين تكونوا في الأكاديميات العسكرية العربية، وذلك ليناقشوا معهم مستقبل الجيش الجزائري (4). كان سليمان هوفمان
.....................................
(3) يتعلق الأمر بوجه خاص بكل من سليمان هوفمان، ناطقهم الرسمي وعبد المجيد علاهم وعبد النور بقة والعربي بلخير ومصطفى بن مصابيح وعبد المالك قنايزية ومداوي ورشيد مديوني.
(4) كانت المجموعة مكونة من حسين بن معلم (الذي أصبح لواءً في الثمانينات) وعبد الرزاق بوحارة (الذي أصبح وزيرًا للصحة بين عاميْ 1979 و1984) وعبد الحميد براهيمي (مؤلف هذا الكتاب) وكمال ورتسي والعربي سي الحسن (الذي رُقّي إلى رتبة لواء في الوقت نفسه مع بن معلم).
33
أول من تناول الكلمة للدخول في الموضوع. وكان الأمر يتعلق بالدور الذي سيقوم به الضباط الحاضرون في ذلك الاجتماع من أجل تأطير وقيادة الجيش الجزائري بعد الاستقلال. كانت رسالته واضحة: «نحن الضباط السابقين في الجيش الفرنسي وأنتم الضباط المتخرجين من الأكاديميات العسكرية العربية، نشغل أحسن المواقع ومحضرون أحسن من أيًّ غيرنا، لفرض أنفسنا وأخذ قيادة الجيش الجزائري بعد الاستقلال، نظرًا لاحترافنا وخبرتنا وكفاءتنا. علينا التفاهم من الآن حول توزيع الأدوار والمهام للوصول إلى قيادة الجيش الجزائري المستقبلي». كانت مداخلته تدور كلها حول هذه الفكرة المحورية. وكنت أول من ردّ على هذا العرض التمهيدي، بقولي: «لا يوجد هناك شيء مشترك بيننا، فنحن قد التحقنا بجيش وجبهة التحرير الوطنيين عن قناعة سياسية وبدافع نضالي للمساهمة بجانب شعبنا في الكفاح المسلح من أجل تحرير بلادنا من نير الاستعمار. ونظرًا لمهمتنا في جيش التحرير الوطني، فنحن غير متأكدين من بقائنا على قيد الحياة عند الاستقلال. فنحن لسنا من أنصار التسلط العسكري. أما أنتم فقد جئتم من الجيش الفرنسي متأخرين بعد أن حاربتم في الهند الصينية، ثم في الجزائر ضد أنصار الحرية والاستقلال. إن الكلام الذي قلتموه يبين أنكم في مأمورية، فبمجرد وصولكم وقبل الحصول على أي تعيين أو مسؤولية في هياكل جيش التحرير الوطني، ها أنتم تفكرون مسبقًا في السيطرة على الجيش الجزائري بعد الاستقلال. يبدو جليًا أن خطوتك تندرج في سياق مخطط معد مسبقًا وحددت معالمه في باريس».
سارع سليمان هوفمان الذي لم يكن يتوقع رد فعل من هذا القبيل إلى تبرير «فراره» وفرار زملائه من الجيش الفرنسي قائلًا: «لقد كان علّي التخلي عن مرتبي وشقتي وسيارتي «فودات» فضلًا عن وضع مريح في الجيش الفرنسي حتى آتي إلى هنا حيث أكون محرومًا من كل شيء. إن ضميرنا هو الذي أملى علينا هذه التضحية». فأجبته بأن: «استيقاظ ضميركم جاء متأخرًا ... زد على ذلك أن هناك خللًا فادحًا بين تخليكم اليوم عن بعض الامتيازات المادية والنعم الطائلة والامتيازات التي قد توفرها لكم المناصب الاستراتيجية في هرم المؤسسة العسكرية بعد الاستقلال، لأخلص إلى القول: «لا نستطيع قبول أيّ تحالف من هذا النوع على حساب المصالح العليا للثورة والشعب الجزائري». وهكذا تحددت لهجة النقاش منذ البداية في كلا المعسكرين. كان النقاش صاخبًا وحادًا. وقد تدخل بعض الإخوان من الجانبين بعد ذلك وبلهجة أقل حدة نوعًا ما قبل أن نفترق، تفصل بيننا قناعات سياسية متضادة.
لقد فوجئت بعد أيام بمقال نُشر في اليومية الفرنسية لوفيغارو مغاليًا في وصف
34
لقاء قرن الحلفاية ومراهنًا على «الانقسامات داخل صفوف جيش التحرير الوطني في الحدود الشرقية بين الضباط السابقين في الجيش الفرنسي والضباط المعربين».
كان هذا المقال يؤكد، إذا اقتضى الأمر، الاتصالات السرّية للضباط «الفارين» بالدوائر الفرنسية الخاصة ويدعم موقفنا. من جهة أخرى لم نتوقف عند هذا الحد، فقد قمنا بتحذير كل من كريم بلقاسم ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بوصوف والعقيد محمد السعيد الذي كان آنذاك قائدًا لهيئة الأركان في الشرق، ثم العقيد بومدين منذ تعيينه على رأس القيادة العامة لجيش التحرير الوطني، فضلًا عن عدد كبير من الضباط المجاهدين المعينين العاملين في الحدود الشرقية. حذرناهم كلهم من أخطار خطة الضباط «الفارين» من الجيش الفرنسي، ومن العواقب الوخيمة لمشروعهم المشؤوم، على مستقبل حركة التحرير الوطني وعلى الجيش الجزائري. لكن نظرًا للصراعات الداخلية في القمة والانشغالات الظرفية للقيادة، لم يتم الاستماع إلى ندائنا وإلى صفَّار الخطر التي بادرنا لإطلاقها، إذ جرى اعتبار ذلك غير جوهري.
2- مخطط الرائد إيدير أو هجوم «الفارين».
إن الثلاثي الذي يُعد النواة الصلبة للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، والمتمثل بكل من كريم بلقاسم، الذي كان آنذاك وزيرًا للقوات المسلحة، ولخضر بن طوبال وزير الداخلية، وعبد الحفيظ بوصوف وزير التسليح والاتصالات العامة، لم يدرك الخطر الذي قد يلحق بالجزائر من عمليات الالتحاق تلك، بل على العكس من ذلك، فقد استقبلوا عمليات الفرار تلك بكثير من الترحاب آملين الاستفادة منها أحسن استفادة.
إن فكرة إنشاء جيش قوي، لا سيما على الحدود الجزائرية –التونسية بالذات، التي اقترحها الرائد إيدير (رئيس الديوان العسكري لكريم حينذاك)، ثم تبناها ودافع عنها كريم بلقاسم كانت في طريق التنفيذ. وفي الواقع، كان السياق السياسي والعسكري لتلك الفترة يشجع تجسيد تلك الفكرة المغرية.
وبما أن الرائد إيدير كان يتمتع بدعم كريم بلقاسم وثقته، ويساعده أصدقاؤه «الفارون» من الجيش الفرنسي، فقد أعد برنامجًا دقيقًا يهدف إلى إنشاء جيش قوي في الحدود الشرقية. لقد كانت استراتيجيا حقيقية للاستيلاء على السلطة. وكان هذا المخطط يتضمن ثلاثة جوانب:
- ضمان تدريب عسكري لإطارات وجنود جيش التحرير الوطني في معسكرات تدريب مختلفة مع أخذ الحيطة لإبعاد الضباط عن وحداتهم.
35
فمدرسة الإطارات (الموجودة قرب مدينة الكاف) مخصصة لتدريب الضباط وضباط الصف، بينما كانت معسكرات التدريب بواد ملاق وقرن الحلفاية وواد مليز تستقبل الجنود فقط.
- تكوين وحدات جديدة (فيالق وكتائب ... إلخ) مع السهر على ضمان مزج الجنود وقادتهم لعزلهم عن وحداتهم الأصلية وإضعاف تضامن الجنود مع رؤسائهم.
- إسناد قيادة هذه الوحدات إلى «الفارين» من الجيش الفرنسي الذين تم تقديمهم بالمناسبة على أنهم «متخصّصون» و «خبراء».
ولضمان نجاح هذا المخطط، كان المشرفون عليه يعتمدون على الجانب الأول السابق ذكره. لم يكن التدريب العسكري يهدف إلى التكوين التقني للمحاربين الذين سبق أن قدموا البرهان على قدراتهم في ميدان القتال بل إلى غرس ذهنية الخضوع في أذهانهم (تحت غطاء الانضباط التام) وإلى تعويدهم على نمط حياة يعاكس سلوكهم المعتاد كمقاومين في الجبال (5). كان الهدف في الحقيقة هو تدجين بعض العناصر التي كان يعتبرها المشرفون على ذلك المخطط غير مأمونة الجانب.
كان كريم بلقاسم والرائد إيدير يعتمدان، من جهة أخرى، لتنفيذ استراتيجيتهما، اعتمادًا كبيرًا على أحمد بن شريف، الضابط السابق في الجيش الفرنسي، الذي تمت ترقيته حديثًا إلى رتبة «قائد الحدود الشرقية» (1959).
أما بالنسبة لكريم بلقاسم الذي كان آنذاك وزيرًا للقوات المسلحة، فقد كان هدفه من اعتماده على رئيس ديوانه الرائد إيدير، هو إنشاء قوة ضاربة من شأنها أن تكون له، في الوقت المناسب، سندًا لتعزيز زعامته داخل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية على حساب زميليه «العسكريين» الآخرين ومنافسيه بن طوبال وبوصوف. وهكذا قد يصبح جيش الحدود امتدادًا للولاية الثالثة ويغير موازين القوى في القمة لصالحه.
كان هدف الرائد إيدير وشركائه هو إعادة تنظيم وتأطير وحدات جيش التحرير الوطني الموجودة، وتعزيز هذه الطاقة العسكرية الكامنة المكيَّفة بحيث تتلاءم ومبتغاهم، وذلك بقيامه بالتجنيد من دون استشارة أحد، من بين اللاجئين الجزائريين
..................................
(5) لندعم ذلك بالمثال التالي: كان مدير مدرسة الإطارات حيث كنت ضابط تدريب في عام 1959، يمنع على المجاهدين كل أشكال الأخوة، بما فيها استعمال كلمة «أخ» أو «مجاهد» في ما بينهم تحت طائلة العقوبات الشديدة، بل كان هو يؤمّن لهم تكوين مرتزقة مبنيًا أساسًا على الخضوع والغفلية. وهذا لم يكن ليعجب المجاهدين الذين كانوا يرفضونه، وقد خلق هذا الإجراء حالة صراع داخل مدرسة الإطارات.
36
في تونس ومن بين المهاجرين الذين استقدموا من فرنسا لهذا الغرض. كان الهدف باختصار هو الإعداد من دون تأخير لتنفيذ استراتيجيتهم للاستيلاء على السلطة في الأجل المناسب. في الواقع، كان «الفارون» من الجيش الفرنسي ينوون بتوفرهم على جيش عصري مجهز ومسلح ومدرب جيّدًا ومنظم خارج التراب الجزائري، تنظيم أنفسهم على طريقتهم ليفرضوا أنفسهم في الوقت المناسب على قيادة جبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وكان يبدو أن السياق السياسي والعسكري يشجع تجسيد الفكرة المغرية المتمثلة في إنشاء جيش عصري قادر على الحدود الشرقية.
أما على الصعيد العسكري، فإن قيام الجيش الفرنسي ببناء حاجز مكهرب على الحدود الجزائرية -التونسية والجزائرية- المغربية، أي خط موريس الذي يعززه خط شال (6)، كان قد حدّ كثيرًا من حركة فرق جيش التحرير الوطني بين الخارج والداخل وأعاق تمرير السلاح إلى مواقع المقاومة في الداخل.
فضلًا عن ذلك، فإن التمركز القوي للفرق الفرنسية على الحدود، المعد لتقوية كتامة التراب الجزائري وعزل جيش التحرير الوطني في الداخل، قد دفع الثلاثي، كريم وبن طوبال وبوصوف، إلى النظر بجدية إلى فكرة إنشاء جيش عصري في الحدود، لكن لدوافع أخرى. وبصفة عامة، فإن التحسين الذي عرفه تسليح وحدات جيش التحرير الوطني المتمركزة على الحدود الشرقية والتي تم تزويدها ابتداءً من عام 1959 بمدافع هاون 81 مم وبازوكا ومدافع 57 مم و75 مم غير مرتدَّة، من جهة، واستعمال الضباط «الفارين» (الذين بقول بعض الوقت من دون تعيين) لتأطير هذه الوحدات تحت قيادة موحدة وممركزة ومفترض أنها ذات كفاءة، من جهة أخرى، قد شجع الثلاثي في تحليلهم وتكفيرهم.
لكن تنفيذ هذا البرنامج الذي أعدّه الرائد إيدير بمعية «الفارين» من الجيش الفرنسي قد اصطدم بعدة عراقيل.
3- إخفاق مخطط الرائد إيدير.
كانت معارضة هذا المخطط تظهر، إجمالًا، في ثلاثة اتجاهات:
................................
(6) كان خط موريس وخط شال يشكلان حاجزين مكهربين بحقل ألغام مضادة للأفراد وبشبكات من الأسلاك الشائكة. تم بناء هذين الحاجزين على طول الحدود التي تمتد إلى 300 كلم، من البحر الأبيض المتوسط إلى الجنوب لمنع كل حركة تموين لجيش التحرير الوطني في الداخل بالسلاح والذخيرة انطلاقًا من تونس والمغرب.
37
• لقد كان قادة الفيالق مثل عبد الرحمان بن سالم وصالح صوفي والشاذلي بن جديد وسي نوار ومساعده عمار شكاي وغيرهم يغلَّبون استقلالية وحدات جيش التحرير الوطني وسرعة مناورتها، زيادة على روح المبادرة لإنجاح حرب العصابات. فبحسب رأيهم، فقط حرب العصابات هي التي كان بوسعها المساهمة في إضعاف الفرق الفرنسية المتمركزة على طول الحدود وليس إنشاء عدد كبير من الوحدات الثقيلة المصطفّة في حرب مواقع.
من جهة أخرى، كان حذرهم من هذا المخطط ناجمًا عن كونه قد أعدّ في تونس بعيدًا عن الحقائق الميدانية. وهذا الحذر يبرَّر خصومًا بكونهم لم يُستشاروا. وقد كانوا يخشون، فضلًا عن ذلك، أن يتم إقصاؤهم أو استبعادهم من الخطة العضوية التي يجهلون محتواها في تفاصيله، كما كانوا يجهلون كل شيء عن النيات الحقيقية لمعدي هذا المخطط.
وقد زادت من شدة هذا الحذر التجربة التي عاشوها في منطقة معروفة بعدم استقرار قيادتها وبمؤامراتهم.
• ثم كان هناك حوالي عشرة مجاهدين من الضباط الشباب متخرجين من أكاديميات عسكرية عربية يعارضون هذا المخطط. كان هؤلاء الضباط موافقين على عصرنة جيش الحدود وتدعيمه على أن يكون مبنيًا على التطويع الإرادي للجنود، وعلى تطبيق برنامج تكوين عسكري وسياسي ومدني وكذلك على ترقية الضباط المجاهدين الذين أثبتوا كفاءتهم.
وكانوا قد أعلنوا، فضلًا عن ذلك، رفضهم لعسكرة جيش التحرير الوطني ولكل محاولات إلغاء شخصية المجاهدين. فبحسب رأيهم، من المستحيل في حرب تحرير شعبية فصل الجانب السياسي عن الجانب العسكري. أما في ما يخص التكتيك العسكري، فكانوا يرفضون مبدأ حرب المواقع ويحبذون بالمقابل حرب العصابات القائمة على الاستعمال الدقيق لوحدات متنقلة تدعمها وحدات مرنة مجهزة بأسلحة نصف ثقيلة (مدافع هاون متنوعة ومدافع رشاشة مضادة للطائرات) تبعًا للأهداف المتوخاة ولطبيعة الأرض.
• وأخيرًا، فقد اصطدم مخطط كريم –إيدير في الميدان بحركة معارضة واسعة من طرف المجاهدين على طول الحدود.
ففي الحقيقة، إن بدء برنامج تكوين عسكري ومحاولات إعادة تنظيم وحدات الولاية الأولى المتمركزة في المنطقة الحدودية الجنوبية كانت قد قوبلت بالرفض التام
38
وبحركة ضد الضباط «الفارين» من الجيش الفرنسي انتشرت بالتدريج لتمتد إلى وحدات أخرى من الولاية الثانية والقاعدة الشرقية متمركزة في المنطقة الشمالية.
اندلعت موجة العصيان من جراء حدثين متزامنين كانا يشكلان المرحلة التمهيدية لإعادة تنظيم الوحدات: من جهة، إبعاد الضباط المجاهدين من الولاية الأولى عن فرقهم، ومن جهة أخرى، إجبار الوحدات التي تم هكذا قطع رؤوسها على تلقي تدريب عسكري يقوم به «فارون» من الجيش الفرنسي، «فكتائب عديدة التحقت بقمة الجبل» (7). وقد اشتدت حركة الفرار الجماعي بشدة على مدى أسابيع وشهور. بقد تدهور الوضع إلى حد دفع كريم مدعومًا ببن طوبال وبوصوف إلى الذهاب إلى المنطقة الجنوبية للحدود لإقناع مجاهدي الولاية الأولى بقبول التدريب العسكري الذي يقوده النقيب زرقيني «الفار» من الجيش الفرنسي، لكن رفض المجاهدون الدعوة واستمروا في رفضهم (8).
لقد كان مآل مهمة كريم وبن طوبال وبوصوف الفشل، لكن كريم ورئيس ديوانه إيدير واصلا الدفاع عن مخططهما. عندئذ بالضبط تخلي بن طوبال وبوصوف، اللذان كانا أكثر تأثرًا بردود فعل المجاهدين وأكثر حرصًا على الحفاظ على تماسك جيش التحرير الوطني، عن تضامنهما مع كريم، وطلبا منه إنهاء مهام الرائد إيدير لإعادة النظام على الحدود.
بعد ذلك ببضعة أسابيع، كنت شاهدًا على حادثة في غاية الخطورة، تمس سلطة كريم بلقاسم، الذي كان آنذاك وزيرًا للقوات المسلحة.
حدث هذا في مركز التدريب بواد ملاق (كان يشرف عليه النقيب بن عبد المومن يساعده الملازمان عبد المجيد علاهم ومحمد الياسين، وكلهم «فارون» من الجيش الفرنسي) حيث كنا قد وصلنا للتو من غار ديماو، الرائد علي منجلي ويزيد بن يزار وأنا، وقد كنا نحن الإثنين آنذاك ملازمين أولين. في ساحة المعسكر وبالقرب من مكتب النقيب عبد المومن دخل كريم بلقاسم وعلي منجلي في نقاش حول وضعية جيش التحرير على الحدود وعدم النظام وحول معنويات القوات. وفي لحظة ما تدخل الرائد إيدير لإبداء وجهة نظره، وفي هذه اللحظة استفزه علي منجلي ثم صفعه صفعة احتقار
....................................
(7) «التحق بقمة الجبل» هي عبارة استعملها في تلك الفترة الجنود الثائرون الذين غادروا المعسكرات التي عينوا فيها ليلتحقوا بقمم الجبال المجاورة، وكانوا يمنعون مواقعهم عن «الفارين» من الجيش الفرنسي وعن ممثلي السلطات الرسمية المقيمة في العاصمة التونسية.
(8) كان تعداد المجاهدين في الولاية الأولى بالمنطقة الحدودية الجنوبية يمثل قرابة ثلاثة فيالق في عام 1959.
39
أمام رئيسه كريم. فثارت ثائرة كريم، فنادى الجنود الموجودين بالقرب من مكان الحادثة وأمرهم بتوقيف الرائد علي منجلي، فلم يكتف الجنود الموجودون بتجاهل أمره بل اعترت وجوههم علامات الابتهاج، وسمعنا أحدًا منهم يقول: «الحمد لله ما زال هناك رجال في جيش التحرير الوطني».
فضلًا عن ذلك، كانت عمليات التمرد على أوامر الضباط «الفارين» تتضاعف وتتشابه، فحالة زرقيني، الذي رفضه مجاهدو الولاية الأولى، تبعتها حالات أخرى كثيرة، نذكر بعضًا منها.
فعلى سبيل المثال، نذكر حالة النقيب محمد بوتلة (9) الذي عُيَّن في الفيلق الأول تحت قيادة سي نوار في المنطقة الشمالية، وقام الجنود بتوقيفه وإعادته إلى قاعدته الأصلية. وفي مركز التدريب بواد مليز، ثار الجنود ضد الملازمين العربي بلخير ومداوي، وتعرض الملازم الأول مصطفى بن مصابيح إلى تعنيف شديد من طرف المجاهدين في معسكر التدريب بقرن الحلفاية.
ومن جهة أخرى، وقعت حوادث كثيرة بين ضباط مجاهدين وضباط «فارين»، وبعض الأمثلة جديرة بالذكر لتدعيم ذلك. فقد أهين النقيب بن عبد المومن وتلقى صفعة مت العقيد محمدي السعيد في مقر قيادته بغار ديماو في حضور عدد كبير من المجاهدين الضباط، كما صبّ الرائد علي منجلي وابلًا من الشتائم على الملازم الأول سليمان هوفمان ووجه له صفعة بعد مشادة كلامية بمقر قيادة الفيلق الثاني الذي كان يقوده النقيب عبد الرحمان بن سالم، بحضور هذا الأخير والملازم الأول بن يزار وأنا، فضلًا عن مجاهدين آخرين. وتبين هذه الحوادث المتكررة، في الواقع، الاختلاف العميق والجدي بين المجاهدين و «الفارين» من الجيش الفرنسي، حول سلوك هؤلاء «الفارين» داخل جيش التحرير الوطني.
.................................
(9) في تدخله في السجال الذي جرى في منتصف مارس (آذار) 2000 بين علي كافي وخالد نزار، دافع محمد بوتلة عن هذا الأخير مطريًا بالمديح «الفارين» من الجيش الفرنسي في حوار نشرته يومية الوطن في 27/3/2000. المثير للدهشة، أنه بعد 50 عامًا من مشاركته في حرب الفييتنام يتباهى ويفتخر بمشاركته في الحرب ضمن القوات الاستعمارية الفرنسية ضد الشعب الفييتنامي الباسل الذي كان يحارب بشجاعة من أجل حريته واستقلاله. ومن بين ما يقوله في هذا الشأن ما يلي: «لقد شاركت في حرب الفييتنام امدة 27 شهرًا، من عام 1950 إلى عام 1953، وقد خرجت من باب الشرف، حيث حصلت على وسام جوقة الشرف الذي كنت استحقه لأن الأحداث شاهدة لتدل على ذلك». إن قول مثل هذا الكلام في عام 2000 لدعم فكرة أن «الفارين» من الجيش الفرنسي قد التحقوا بجبهة التحرير الوطني في تونس (في أعوام 1958 و1959 و1961) كان بدافع الوطنية يبين جيدًا أن هؤلاء الناس حقًا مستعمرو الفكر.
40
ففي الواقع، إن الضباط «الفارين» من الجيش الفرنسي، المصابين بالعجرفة والاحتقار والتسلط، وغير الحاصلين على أدنى تكوين سياسي، والمقطوعين عن حقائق مواقع المقاومة، قاموا بكل الممارسات، من العمل البسيكولوجي إلى الإفساد (عن طريق توزيع الرشى على المجاهدين لتحييدهم، مرورًا بالخداع والتخويف بغية «قهر» (بحسب مصطلحاتهم الخاصة) المجاهدين بهدف «الاستيلاء» على جيش التحرير الوطني في الحدود. لكن الملاحظ أنهم فشلوا فشلًا ذريعًا في هذه المرحلة (10)، وهكذا عمّت الفوضى والخلاف في داخل الوحدات على طول الحدود، وسواء كان ذلك في معسكرات التدريب أو في الوحدات التي تم تعيين ضباط سابقين في الجيش الفرنسي فيها، فإن العصيان كان يتعمَّم ووصل إلى ذروته في جويليه (تموز) -أوت (آب) عام 1959.
ومن العواقب الأكثر سوءًا المترتبة على محاولات «الفارين» «الاستيلاء» على جيش الحدود بالشرق، نذكر على الخصوص:
- لقد ترتب على مخطط إعادة تنظيم جيش الحدود حرف هذا الأخير لمدة شهور عن العمليات العسكرية ضد الجيش الفرنسي الذي كان قد استفاد من هذا الانقطاع في تدعيم مواقعه على طول الحدود.
- تمت تغذية الخصومات العصبية القبلية وتأجيجها لأغراض مبنية على مبدأ «فرّق تسد».
- ضرب الحالة النفسية للمجاهدين الذين اضطربت روحهم القتالية.
- الارتفاع المحير لعدد المجاهدين الفارين والمتمردين الذين انحطت تعبئتهم معنويًا.
- زيادة حذر المجاهدين، ضباطًا وجنودًا، حيال وزارة القوات المسلحة والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، في عام 1959.
- انتشار روح التشاؤم داخل الوحدات.
وباختصار، فقد كان لمحاولات فرض مخطط معد ومطبق من طرف «الفارين» من الجيش الفرنسي عواقب وخيمة على جيش التحرير الوطني في الحدود، واستفاد منها جيش الاحتلال على جميع الصعد.
...............................
(10) خلال هذه المرحلة الأولى، أدرك «الفارون» من الجيش الفرنسي أنهم لا يستطيعون تحقيق مبتغاهم بوسائلهم الخاصة ولهذا اعتمدوا في البداية على كريم بلقاسم الذي كان آنذاك وزيرًا للقوات المسلحة، قبل أن يتحولوا بعد ذلك إلى خدمة العقيد بومدين (غريم كريم) وهذا منذ تعيينه كقائد للقوات المسلحة لجيش التحرير الوطني في عام 1960.
41
لقد اعتمد الضباط السابقون للجيش الفرنسي خلال تلك المرحلة على كريم بصفته وزيرًا للقوات المسلحة لفرض أنفسهم وتنفيذ المرحلة الأولى من مخططهم البعيد الأمد للاستيلاء على السلطة. ولكن كان لكريم استراتيجيته الخاصة، فمن جراء الأزمة التي كانت تعصف بالقمة، كان كريم يفكر بدقة في استعمال هؤلاء الفارين من الجيش الفرنسي لتعزيز موقعه في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وإنهاء القيادة المشتركة والثلاثية. لقد جلب هذا التسابق على الزعامة ردود فعل في قمة هرم المؤسسة السياسية والعسكرية، واحتدمت الصراعات الداخلية، وكانت نتيجة تفاقم الأزمة في قمة السلطة في نهاية المطاف هي إعادة تنظيم جيش التحرير الوطني في عام 1960 وذلك لغير صالح كريم.
ثانيًا: إعادة تنظيم جيش التحرير الوطني
والصراعات الداخلية في القمة
تعود الأزمة السياسية في القمة خلال الفترة (1959- 1960) إلى أصول قديمة، ومن دون العودة إلى اندلاع الثورة في عام 1954، فإن مؤتمر الصومام يمثل متعرجًا مهمًا في تطور مسار الأحداث التي طبعت في ما بعد جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير الوطني في القمة.
1- السياق السياسي: الصراعات في القمة.
واصل كريم بلقاسم تدعيم دوره الراجح في جيش التحرير منذ مؤتمر الصومام في عام 1956، حيث استفاد من الدعم الثمين لعبان رمضان. وفي الحقيقة، فعبان وبدعم من بن يوسف بن خدة هو باعث هذا المؤتمر ومهندس أرضية ميثاق الصومال. لقد اشتغل الثنائي كريم -عبان جيدًا لغاية عام 1957، قبيل دورة المجلس الوطني للثورة الجزائرية (CNRA) المنعقدة في أوت (آب) عام 1957، فكانت تلك هي اللحظة التي أظهر فيها كريم أورقه ليصبح الرقم 1 في الثورة. وكان يعتقد أن تصفية عبان جسديًا في ديسمبر (كانون الأول) عام 1957، التي شارك فيها، من شأنها أن تسهل له تحقيق أهدافه (11).
...............................
(11) في حديث معه، أكد لي لخضر بن طوبال بنبرة رزينة تطبعها الحيرة والوقار (عند الإعلان عن موت عبان رمضان الذي سقط «رسميًا» في ميدان الشرف» بأنه كان قد وقع اتفاق بينه وبين كريم وبوصوف لتوقيف عبان رمضان وحبسه في مكان آمن بالمغرب. لكن كريم وبوصوف هما من تحملا مسؤولية تصفيته جسديًا. وبحسب بن طوبال، فإن الشيء الأساسي الذي يؤاخذ عليه عبان هو أنه كان يريد أن يكون زعيمًا للثورة وحده.
42
لقد كرس اجتماع المجلس الوطني للثورة في أوت (آب) عام 1957 مبدأ أولوية جيش التحرير الوطني، على عكس مؤتمر الصومام الذي كان قد تبنى مبدأ أسبقية العمل السياسي على العمل العسكري وأسبقية الداخل على الخارج. وابتداء من هذه اللحظة سيقوم المسؤولون العسكريون، وهم كريم وبوصوف وبن طوبال، بقيادة جيش وجبهة التحرير الوطني في الخارج باسم الشرعية التاريخية والتدفق الجديد. وقد أصبحت القيادة ثلاثية، بعد إزاحة عبان رمضان، تعمل بصفة جيدة نوعًا ما.
وعند إنشاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في سبتمبر (أيلول) عام 1958، لم ينجح كريم في الحصول على الرئاسة التي أوكلت إلى فرحات عباس، وكان عليه الاكتفاء بمنصب نائب الرئيس، ومنصب وزير القوات المسلحة مؤقتًا ...
في عام 1959، دخلت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في أزمة، وفي جويليه (تموز) قامت القيادة الثلاثية المكونة من كريم وبوصوف وبن طوبال بتنظيم اجتماع العقداء للتحكيم في الخلافات الداخلية (12).
خلال الاجتماع الماراثوني للعقداء العشرة، قُزّمت سلطة كريم من طرف زميليه بوصوف وبن طوبال اللذين كانا يعتمدان على العقداء الذين سبق أن عيناهم على قاعدة اختيار الزملاء والمخلصين لهما، وهم هواري بومدين وعلي كافي ولطفي (واسمه الحقيقي دقين بنالي) لمواجهة الطموحات إلى الهيمنة لدى كريم الذي كان يتمتع بدوره بدعم عقداء سبق أن اختارهم هو شخصيًا على القاعدة نفسها، مثل محمدي السعيد ويزوران ودهيلس. أما مشاركة الرائد إيدير التي كان يساندها كريم، فقد اصطدمت برفض بوصوف وبن طوبال.
عرف «اجتماع العقداء العشرة» مناورات من كل نوع وانقطاعات عديدة، وهذا ما تمتاز به كل أزمة عميقة، وهو ما جعل الاجتماع يدوم حوالي أربعة شهور.
ولما كان بومدين وكافي ولطفي يقلقون كريم بمواقفهم المعادية، قرر القيام بتوقيفهم بدعم من «الفارين» من الجيش الفرنسي: مولود إيدير وأحمد بن شريف ومحمد زرقيني وعبد القادر شابو وسليمان هوفمان.
كان الملازم الأول المجاهد يزيد بن يزار هو الذي أخبر بن طوبال عن مخطط
...............................
(12) عرف ذلك الاجتماع باسم «اجتماع العقداء العشرة» وقد جمع زيادة على القادة الثلاثة قائدي القوات المسلحة في الشرق والغرب على التوالي: محمدي السعيد وهواري بومدين: فضلًا عن قادة الولايات الخمس وهم: الحاج لخضر عن الولاية الأولى، وعلي كافي عن الولاية الثانية، وسعيد يزوران عن الولاية الثالثة، وسليمان دهيلس عن الولاية الرابعة ولطفي عن الولاية الخامسة.
43
كريم السري (13). لقد فجّر خبر المؤامرة الوضع ودفع بضباط جيش التحرير الوطني المسؤولين عن الوحدات المقيمة على الحدود الشرقية إلى مضاعفة الحذر.
وأصبح الوضع في الميدان في غير صالح كريم و«الفارين» من الجيش الفرنسي، هذا الوضع يضاف إليه ضغوطات بوصوف وبن طوبال أدّى بكريم إلى التخلي عن مشروعه في الحالة الحاضرة.
واصل العقداء العشرة أعمالهم وانتهوا إلى الاتفاق حول إعادة تشكيل المجلس الوطني للثورة الجزائرية، الذي دخله العسكريون بقوة. أما ترشيحات «الفارين» من الجيش الفرنسي المقترحة من طرف كريم فقد رفضت بقوة ولا سيما من طرف بن طوبال والعقداء بومدين وكافي ولطفي، واستثني من ذلك بن شريف الذي كان قد التحق أولًا بجيش التحرير قبل الذهاب إلى تونس، حيث عُيَّن عام 1959 قائدًا للحدود من طرف كريم الذي كان حينئذ وزيرًا للقوات المسلحة.
إن الجهد المتواصل بحدة لهؤلاء «الفارين» من أجل العضوية في أعلى مؤسسة سياسية للثورة، من دون أن يكونوا قد برهنوا على كفاءتهم في الميدان، وهذا بعد سنة أو سنتين فقط من «التحاقهم» بجبهة التحرير الوطني في تونس، يظهر فعلًا نيتهم في تشكيل نواة داخل قمة هرم مؤسسات الثورة ومؤسسات الدولة المستقلة المستقبلية ونبيتهم في السيطرة على هذه المؤسسات على أعلى مستوى، ويؤكد تصريحات سليمان هوفمان أثناء الاجتماع الشهير مع الضباط المجاهدين المتخرجين من أكاديميات عسكرية عربية، الذي تحدثنا عنه في ما سبق.
لقد سمح هذا الصراع في القمة «للفارين» من الجيش الفرنسي باختراق المؤسسات في هذا المستوى العالي، عبر اسداء خدماتهم و «خبرتهم العسكرية» إلى وزير القوات المسلحة في ذلك الوقت.
عقد المجلس الوطني للثورة المعين الجديد اجتماعًا في طرابلس في ديسمبر (كانون الأول) عام 1959، لكن قبل التوجه إلى طرابلس ونظرًا للمناخ المتوتر على الحدود الشرقية، أعطى الرائد علي منجلي لضباط الولاية الثانية ووحداتهم المتموقعة في الحدود تعليمات بأخذ الحذر والحيطة بالرد في حالة الاستفزاز من طرف قيادة الحدود التي يتولى قيادتها بالنيابة الملازم الأول مداني، وهو نائب أحمد بن شريف الوفي لكريم.
...............................
(13) أخبرني يزيد بن يزار عن هذه القضية مباشرة بعد إفشال مخطط كريم.
44
لتعزيز وضعية كريم في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، كان مداني يخطط لتوقيف ضباط من الولاية الثانية. تمّ تنبيه يزيد بن يزار الوفي لبن طوبال وعلي منجلي إلى تلك المؤامرة. فسارع قبل تنفيذ المخطط وقام باعتقال مداني ونقله مباشرة إلى أوشتاتا غير بعيد عن مقر قيادة الفيلق الثاني لعبد الرحمان بن سالم حيث تم حجزه من طرف مجاهدي الولاية الثانية (14).
وقام بن يزار في الوقت نفسه بشل حركة عضوين آخرين من قيادة الحدود، وهما سعيد عبيد وموسى حساني، بتهديدهما بالتوقيف.
وعلم المجلس الوطني للثورة الجزائرية بخبر توقيف موالين لكريم من طرف ضباط من الولاية الثانية، وهكذا كان كريم العاجز في الميدان والضعيف داخل المجلس الوطني للثورة الجزائرية يرى آفاق سيطرته على جيش التحرير الوطني تبتعد، وحلمه في أن يصبح القائد الأعلى للثورة يتبخر.
ومن القرارات التي اتخذها المجلس الوطني للثورة الجزائرية، والتي تتعلق بموضوعنا نذكر:
• تعديل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، حيث كان كريم الخاسر الرئيسي. فلقد فقد وزارة القوات المسلحة وأصبح وزيرًا للشؤون الخارجية.
• استبدال وزارة القوات باللجنة الوزارية المشتركة للحرب (C.I.G) تحت قيادة جماعة تتكون من كريم وبوصوف وبن طوبال، وأسندت سكرتيريتها للحاج عزوط الموالي لبوصوف.
• إنشاء قيادة أركان عامة للقوات المسلحة مسندة للعقيد هواري بومدين يساعده الرائد علي منجلي والرائد قايد أحمد والرائد رابح زراري المدعو عز الدين. لكن لم يلتحق هذا الأخير بالقيادة العامة للأركان، التي كان مقر قيادتها موجودًا في غار ديماو على الحدود الجزائرية – التونسية.
عندما قبل بوصوف وبن طوبال تشكيل قيادة أركان عامة يشرف عليها بومدين، (المعروف بوفائه لبوصوف)، فإنهما لم يكونا يشكان مطلقًا في أن مرحلة جديدة للثورة قد بدأت وقد تؤدي إلى إزاحتهما.
................................
(14) كنت شاهدًا على الحادثة وحضرت استنطاق مدني من طرف بن يزار.
45
2- القيادة العامة للأركان تسهل ارتقاء «الفارين».
لقد تشكلت القيادة العامة للأركان على خلفية أزمة، وبالموازاة مع الأزمة السياسية على مستوى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والمجلس الوطني للثورة الجزائرية، عرف جيش التحرير الوطني على الحدود الشرقية حركة شبه عامة من العصيان والفوضى، كما هو مشار إليه سابقًا. ويبدو في هذا السياق، أن إنشاء القيادة العامة للأركان قد جاء في وقته.
لكن تشكيلة القيادة العامة للأركان لم تكن متناسقة، فعلى منجلي كان ثوريًا مقتنعًا، وقائدًا عسكريًا وسياسيًا شجاعًا وارمًا ومتطلبًا، وكان يفكر في أن يحدث توازنًا في جيش التحرير الوطني للحدود ضد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وبالضبط ضد القيادة الثلاثية المشكلة من كريم وبوصوف وبن طوبال من أجل الحفاظ على الثورة من الانحرافات التي تتربص بها الدوائر.
وكان ينوي من جهة أخرى تدعيم الجيش بالوسائل البشرية والمادية (لا سيما بالأسلحة العصرية) للقيام بعمليات عسكرية واسعة ضد الجيش الفرنسي والتنفيس هكذا عن جيش التحرير الوطني بالداخل الذي لا يتوفر على تجهيز جيد والمقطوع عن الخارج بحاجز مكهرب مزدوج على طول الحدود: خط موريس وخط شال.
لقد كانت لعلي منجلي على ما يبدو خطة شاملة ومتناسقة، سياسية وعسكرية، بغية «إنقاذ الثورة». كان هذا يبدو انشغاله الأساسي. ولم يكن يبدو عليه أنه يفكر في لعبة شخصية ولم تكن لديه استراتيجيا لأخذ السلطة.
على العكس من ذلك، فإن أعمال بومدين على رأس القيادة العامة للأركان كانت تندرج في إطار استراتيجيا شخصية لأخذ السلطة، وهو ما بدأت تظهر ملامحه ابتداءً من عام 1961.
كان بومدين هادئًا، باردًا، وكان سلطويًا بعيد النظر ورجل نظام يسانده داخل القيادة العامة للأركان أحمد قايد المدعو سليمان. وقد أصبح واعيًا بأهمية الدور الذي قد يصبح في وسعه القيام به في المستقبل، منذ اجتماع «العقداء العشرة» واجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية، حيث تم إضعاف مواقع القيادة الثلاثية من جراء الهجومات العديدة التي وجهها لها علي منجلي وقايد أحمد بوجه خاص.
وبعد تعيينه على رأس القيادة العامة للأركان، بدأ بومدين منذ تلك اللحظة يمسك بزمام مصيره الشخصي، مبتعدًا بذلك تدريجيًا عن بوصوف، رئيسه. وبانتظار
46
ذلك، كان يهدف آنذاك إلى إعادة تنظيم جيش الحدود وجعله قوة ضاربة ضد الجيش الفرنسي، وقوة سياسية بوسعه الاعتماد عليها بعد الاستقلال.
أصبحت قيادة الأركان العامة منذ إنشائها مركز تلاقٍ بين قوى متعارضة. وكانت تريد قيادة الأركان العامة أن تمثل عامل توحيد. وكانت تعتمد من جهة على الضباط المجاهدين، لكن هؤلاء الضباط كانوا يخشون أن يقع في الجزائر ما حدث بالضبط للمجاهدين التونسيين الذين تمت التضحية بهم على مذبح الاستقلال من طرف النظام الجديد. وفي الواقع لم يكن هؤلاء الضباط في جيش التحرير الوطني يثقون في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي كانوا يستنكرون ويفضحون انحرافاتها. كانوا يرون أن عليهم الاحتفاظ بحريتهم في العمل بعد الاستقلال لضمان استمرارية الثورة (15).
فكثيرون هم الجنود وإطارات جيش التحرير الوطني الذين كانوا يخشون أن تحيد الثورة عن مسارها الطبيعي وأن تتم مطاردتهم وخيانة الشهداء. ولما كان بومدين مدركًا لأهمية قوة المجاهدين وتمثيلهم، فقد كان يردّد أمامهم مباشرة بعد إنشاء قيادة الأركان العامة بأنه لن يسمح أبدًا بأن تتم التضحية بالمجاهدين الجزائريين بعد الاستقلال كما حدث في تونس (16).
ومن جهة أخرى كان أعضاء قيادة الأركان العامة يريدون استرجاع «الفارين» من الجيش الفرنسي رغبة في استعمالهم لصالحهم من أجل تنفيذ مشروعهم في إعادة تنظيم جيش الحدود وعصرنته.
لم تأخذ قيادة الأركان، وبخاصة بومدين، بعين الاعتبار تحذيرات الضباط الوطنيين الشباب المتخرجين من أكاديميات عسكرية عربية (17). بل إنهم استهانوا بقدرة «الفارين» من الجيش الفرنسي على تنفيذ مخططهم في السيطرة على الجيش في يوم
................................
(15) كان شعار جيش الحدود في ذلك الوقت يتمثل في صورة مجاهد يحمل البندقية وَرْبًا على الصدر والمعول في اليد، وهو رمز مشاركتهم في إعادة بناء الجزائر بعد الاستقلال.
(16) قال بومدين كلامه هذا لمجموعة من الضباط من بينهم عبد الرزاق بوحارة وأنا، في ساحة معسكر التدريب بواد ملاق بعد اجتماع ضم الأعضاء الجدد لقيادة الأركان العامة وقادة الفيالق. والمجاهدون الذين كانوا يضطلعون بواجباتهم كمقاومين، بضمير حي، غالبًا ما كانوا يتذكرون في ما بينهم مصير المقاومين التونسيين والمغربيين الذين طردتهم سلطات بلديهم وطاردتهم بعد الاستقلال في عام 1956. وكانوا يخشون أن يتعرضوا للمصير نفسه بعد استقلال الجزائر، ويتم إنزال العقاب بهم بسبب مشاركتهم في حرب التحرير.
(17) كان الضباط الأكثر نشاطًا بينهم هم عبد الرزاق بوحارة، وعبد الحميد براهيمي وعبد العزيز قارة. لقد حذرنا بومدين ومنجلي وقايد من خطر إسناد مناصب مسؤوليات حساسة «للفارين» من الجيش الفرنسي، ولكن من دون جدوى.
47
ما. وفي هذا السياق بالذات تدافع «الفارون» لتقديم خدماتهم لقيادة الأركان العامة، فلقد كانت لهم مصلحة في ذلك. فبهذه الطريقة كانوا يظنون أنهم يبيّضون صفحتهم ويكتسبون في الوقت نفسه الشرعية التي يفتقدونها. ولقد قررت قيادة الأركان العامة منذ تنصيبها أن تنشئ على مستواها «مكتباَّ تقنيًا» أسند الإشراف عليه إلى «فارين» مثل محمد زرقيني وسليمان هوفمان ومحمد بوتلة الذين كانوا قد فشلوا في كسب ثقة المجاهدين كما بيَّنا آنفًا. وتم تعيين «فارين» آخرين مثل حمو بوزادة ومصطفى شلوفي في مصلحة التسليح. وآخرون مثل النقيب بن عبد المومن والملازمين الأولين بورنان والعربي بلخير حافظوا على مناصبهم في إدارة مراكز تدريب رغم المشاكل الكبيرة التي كانت لهم مع المجاهدين منذ تعيينهم في هذه المراكز في عام 1959. رقي الملازم الأول عبد القادر شابو الذي يشرف على معسكر «الزيتون» قرب غار ديماو، إلى عضو في قيادة المنطقة الشمالية في الوقت نفسه مع ضابطين مجاهدين وهما الشاذلي بن جديد وبن أحمد عبد الغني.
وسنرى لاحقًا كيف أن قرارات تعيين «الفارين» هذه في أعلى هرم جيش التحرير الوطني المتخذة في عام 1960، ستكون قاتلة للجزائر بعد الاستقلال، وبالأخص بعد انقلاب جانفي (كانون الثاني) عام 1992، الذي أغرق الجزائر في حمام من الدم ورمى بها في أزمة متعددة الأبعاد لتعود بالبلاد ثلاثين عامًا إلى الوراء.
بعد تعيين «فارين» في هذه المناصب الحساسة المختلفة، كلفت قيادة الأركان العامة أعضاء «المكتب التقني»، وهم زرقيني وهوفمان وبوتلة الذين تم إلحاقي بهم، بالقيام بإعادة تنظيم وحدات جيش التحرير الوطني في فيالق وبتشكيل الكتائب الثقيلة، وهي ما يعادل الفيالق لكنها مجهزة بأسلحة ثقيلة. كانت إعادة التنظيم هذه تخضع لحظة عضوية وافقت عليها مسبقًا قيادة الأركان العامة.
يتم تكوين كل فيلق (أو كتيبة ثقيلة معادلة له) في موقع قريب من منطقة نشاطها في حضور بومدين ومنجلي (18).
ويتم تشكيل المفارز والفصائل والكتائب فضلًا عن قيادة كل فيلق، عن طريق تعيين جنود وضباط صف وضباط بالاسم في مناصبهم، ويتم تجهيزهم بالسلاح اللازم. وكانت عملية تشكيل الفيلق أو الكتيبة الثقيلة تدوم يومًا كاملًا.
وهكذا كان أعضاء قيادة الأركان العامة، ينتقلون على امتداد الحدود، يرافقهم
...................................
(18) كانت تجري في الوقت نفسه عملية مماثلة على الحدود الغربية تحت إشراف أحمد قايد.
48
بوتلة وبراهيمي وهوفمان وزرقيني، لإعادة تنظيم الوحدات القتالية وتزويدها بالسلاح اللازم.
لقد قسمت الحدود الشرقية إلى منطقتين:
- «منطقة العمليات في الشمال» وأسندت قيادتها لعبد الرحمان بن سالم مع 3 نواب وهم محمد بن أحمد عبد الغني والشاذلي بن جديد وعبد القادر شابو.
- و «منطقة العمليات في الجنوب» وتم إسناد قيادتها لصالح صوفي مع نائبين، وهما سعيد عبيد ومحمد علاق.
كانت الحدود الشمالية تتميز بتمركز قوي للوحدات، وهذا بديهي جدًا نظرًا للتضاريس ولطبيعة الأرض. فعلًا. فمنطقة الشمال منطقة جبلية أكثر وفيها منحدرات وأحراش كثيرة حيث أن الغابات فيها كثيفة، على عكس المنطقة الجنوبية حيث الأرض منبسطة أكثر، وإن وجدت فيها جبال فهي جرداء.
أما أقصى الجنوب فهو عبارة عن صحراء، وقد أسندت قيادة الوحدات العاملة هناك للمجاهد محمود قنز.
تتطلب طبيعة الأرض تأقلم الوحدات بصفة ملائمة. كان الدعم اللوجيستي للوحدات وتموينها تتكفل بهما هيئة متخصصة تسمى «قيادة الحدود» يوجد مقرها في كاف.
لقد أفضت إعادة تنظيم جيش التحرير الوطني على الحدود، بصفة عامة، إلى اختلاط الجنود وضباط الصف والضباط، وتشكيل وحدات تحت قيادة موحدة وممركزة. لقد تم في الواقع تنفيذ المخطط الذي أعده «الفارون» من الجيش الفرنسي والذي كان قد رفضه المجاهدون في صيف عام 1959، لأنه صادر عن وزارة القوات المسلحة وتطبعه خلفيات سياسية في مناخ متأزم. وفي عام 1960 تغيرت الظروف السياسية بإلغاء وزارة القوات المسلحة وإنشاء قيادة الأركان العامة التي يشرف عليها ضباط مجاهدون.
وفي الواقع، لقد كانت رمت قيادة الأركان بكل ثقلها من أجل توحيد القوات وتكوين جيش عصري مدرب ومجهز جيدًا لتحضيرها (لم ندرك ذلك إلا في ما بعد) هكذا لأخذ السلطة بعد الإعلان عن الاستقلال.
ويبدو جليًا أنه منذ إنشاء «المكتب التقني» فإن «الفارين» من الجيش الفرنسي كانوا يستفيدون من ترقية وراء ترقية. هكذا فخالد نزار (الذي أصبح قائدًا للأركان في عام 1959 ثم وزيرًا للدفاع في عام 1990، وأخيرًا عضوًا في المجلس الأعلى للدولة
49
بعد انقلاب عام 1992 الذي خطط له شخصيًا ونفذه مع العربي بلخير، وعبد المالك قنايزية (الذي كان قائدًا للأركان أثناء انقلاب عام 1992) وعباس غزيل (قائد الدرك الوطني بين 1988 و1997) وسليم سعدي (الذي أصبح وزيرًا للفلاحة في عام 1979 ووزيرًا للداخلية في حكومة رضا مالك «الاستئصالية» بين عاميْ 1993 و1994، ولحبيب خليل (مدير مركزي بوزارة الدفاع الوطني بين عاميْ 1962 و1990)، فضلًا عن «فارين» آخرين (ولاؤهم لفرنسا غير بارز)، هؤلاء عملوا للارتقاء منذ سنة 1960 إلى قادة فيالق، أو ما يشبه ذلك، أي قواد كتائب ثقيلة.
تمكن إذًا الغلطة التي ارتكبتها قيادة الأركان في اعتقادها بأن «الفارين» من الجيش الفرنسي، المفتقرين إلى الشرعية التاريخية وإلى الدعم داخل جيش التحرير الوطني، يمكنها استعمالهم من دون خطر لأنهم يؤدون دورًا «تقنيًا» في تأطير القوات. كانت قيادة الأركان تعتقد أنه بوسع هؤلاء «الفارين» المساهمة في تحسين أداء الجيش في الميدان من دون أدنى خطر على الثورة. في حقيقة الأمر، لم يكن إنشاء فيالق أسند الإشراف عليها «للفارين» في حضور بومدين ومنجلي وبن سالم وبن جديد يمثل تزكية سياسية وحسب، بل إن هؤلاء «الفارين» مُنحوا هكذا شرعية كانوا يفتقدونها. فمنذ تلك اللحظة أصبحوا يتمتعون بثقة قيادة المنطقة المعنية. كانت قيادة الأركان ترى أن استعادة النظام والانضباط يجب أن تكون لها الأولوية قبل أي اعتبار آخر. فالجنود الذين كانوا يفرون من وحداتهم ثم يعودون، فضلًا عن المثليين جنسيًا، كان يحكم عليهم بالإعدام الذي يتم تنفيذه.. وكانت قيادة الأركان من جهة أخرى، تفرض صرامة كبيرة في التسيير المالي وفي تموين الجيش.
إن ترقية «الفارين» من الجيش الفرنسي من طرف قيادة الأركان في بداية عام 1960 كانت تمثل معلمًا مهمًا في استراتيجيتهم للاستيلاء على الحكم بعد الاستقلال. وفي هذا الوقت، كان هدفهم هو تقوية الثقة التي وضعت فيهم من طرف قيادة الأركان وتعزيز مواقعهم مع الأيام.
إن الأزمة التي اندلعت بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية منذ بداية عام 1961 قد زادت من اعتقاد الأركان بأن توحيد ومركزة قيادة الجيش العامل على الحدود يمثلان ورقة رابحة لصالحهم، ولهذا تحتم علي قيادة الأركان الاعتماد على كل قادة الفيالق والكتائب الثقيلة، بما فيهم طبعًا «الفارين» من الجيش الفرنسي الذين كانت هكذا سلطتهم تتأكد، و «شرعيتهم الثورية» تحظى بالتسليم بها أخيرًا.
50
3- الأزمة بين القيادة العامة للأركان والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
كان لإعادة تنظيم جيش التحرير الوطني على الحدود من طرف قيادة الأركان من دون شك أثر إيجابي عمومًا على حالة القوات النفسية وعلى روحها القتالية. فقد تمت استعادة النظام والانضباط، وتم تحسين حالة التسليح وتموين الوحدات المقاتلة، وتم فرض مزيد من الصرامة في التسيير المادي والمالي لمناطق العمليات والفيالق. وتضاعفت الهجومات على خط شال المكهرب وضد الفرق الفرنسية المكلفة بحراسته. وكانت أخبار الخسائر المادية والبشرية في صفوف الجيش الفرنسي ترد يوميًا إلى قيادة الأركان ومنطقي العمليات للشمال والجنوب بفضل جهاز تنصت وضعته أجهزة كل منها للاتصالات. وكان لهذه المعلومات بعد ذلك انعكاس على مسؤولي الوحدات التي قامت بتلك الهجومات، وقد كانت النتائج مشجعة. وزادت عمليات مضايقة الجيش الفرنسي.
وكانت تُضاف إلى الهجومات التي يقوم بها قادة الفيالق بمبادرة منهم عمليات واسعة تقررها قيادة الأركان أو قيادة منطقة العمليات المعنية والتي كانت تتطلب المشاركة المتزامنة لعدة فيالق تسندها كتائب ثقيلة مزودة بأسلحة ثقيلة بعيدة المدى. هذه الانتصارات العسكرية التي سجلتها وحدات جيش التحرير الوطني المتموقعة في الحدود اعترفت بها السلطات الفرنسية كما يشهد على ذلك تقرير رسمي موجه إلى مجلس الشيوخ الفرنسي. «قبل عام 1960، كانت الموانع الكهربائية والحواجز غير العميقة تكفي ضد خصم تلك الفترة الذي كان يقوم بمحاولات عبور منعزلة أ بمجموعات صغيرة فقط. وابتداءً من خريف 1960 ونظرًا للوسائل التي يستعملها المتمردون، فإن وسائل الاستشعار والمراقبة قد أثبتت عدم دقتها، فالهجومات التي تتعرض لها الآليات المصفحة المكلفة بالحراسة والتدخل قد استخدم فيها عتاد أكثر قوة وأصبحت أكثر فعالية» (19).
بلغ تعداد جيش التحرير الوطني على الحدود الجزائرية – التونسية 16 ألف رجل، منظمين في 23 فيلقًا و5 كتائب ثقيلة تدعمت في عام 1961 بمفارز مستقلة مزودة بمدافع من عيار 87 مم ذات مدى بعيد ومدافع هاون من عيار 120 مم، ولم يتجاوز تعداد جيش التحرير الوطني على الحدود الجزائرية- المغربية ثمانية آلاف رجل
....................................
(19) تقرير إلى مجلس الشيوخ في 13 أكتوبر (تشرين الأول) 1961، ذكره:
Mohammed Harbi, Le: F. L. N.: Mirage et réalité, sens de L'histoire (Paris: Jeune Afrique, 1980), p. 265.
51
قبيل الاستقلال. تُضاف إلى الوحدات القتالية، بُنى أخرى مثل قيادة الحدود (CDF) (إدارة المالية، نشاطات اجتماعية) والمفوضية السياسية (كان مقرها موجودًا في المقر العام لقيادة الأركان) ومراكز التدريب العسكري ومصالح الاتصالات والأمن العسكري ... الخ).
وفي الوقت نفسه الذي كانت تقوم فيه قيادة الأركان بتعزيز القوات التي تتوفر عليها في الحدود، كانت تنوي أيضًا توسيع سلطتها إلى الولايات بالداخل. وهنا اصطدمت قيادة الأركان برفض من اللجنة الوزارية المشتركة للحرب، ولما كان كريم وبوصوف وبن طوبال يتمتعون بسلطتهم داخل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وتساندهم الولايات (التي نصبوا على رأسها قادة موالين) فإنهم كانوا يفكرون في قصر صلاحيات قيادة الأركان على الوحدات المتموقعة في الخارج فقط. وقد كان يحتدم الصراع في هذا الشأن بين اللجنة الوزارية المشتركة للحرب وقيادة الأركان على مر الشهور. وكانت رغبة اللجنة الوزارية المشتركة للحرب هي أن تبقى سيدة الوضع، سواء في المجال السياسي حيث تتمتع بدعم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، أو في المجال العسكري حيث إن كريم وبوصوف وبن طوبال كانوا لا يزالون يتحكمون بمعظم الولايات.
وبدأت اللهجة تتصاعد بين الهيئتين، لأن كل واحدة بقيت متشبثة بمواقفها. وهكذا أحرجت اللجنة الوزارية المشتركة للحرب قيادة الأركان وذلك بأمرها بالدخول إلى الجزائر قبل نهاية شهر مارس (آذار) 1960. كانت قيادة الأركان توجد في وضعية متناقضة، فمن جهة، تجد سلطتها محصورة في جيش التحرير الوطني في الخارج من دون الولايات، ومن جهة أخرى تلقت إنذارًا للالتحاق بمواقع المقاومة وقيادة جيش التحرير من داخل البلاد.
كان الفخ المنصوب لقيادة الأركان كبيرًا، وهكذا بدأ رهان القوة بين الهيئتين. فأبقت قيادة الأركان على مقرها في غار ديماو على الحدود الجزائرية- التونسية. إن السباق إلى السلطة قد انطلق آنذاك بين أعضاء قيادة الأركان العامة والقيادة الثلاثية المكونة من كريم وبوصوف وبن طوبال. والخلافات بين قيادة الأركان واللجنة الوزارية المشتركة للحرب بدأت تتوالى خاصة في ما يتعلّق برقع القدرة العسكرية لجيش التحرير في الداخل وعلى الحدود، وكذلك التموين بالسلاح وحجم المساهمات المالية المرصودة لجيش التحرير الوطني، وأشكال توزيع المساعدة الدولية الموجهة للاجئين الجزائريين الموجودين في المناطق الحدودية ... إلخ. باختصار فإن الخلافات بين
52
الهيئتين كانت تمس الجوهر كما تمس الشكل في ما يخص تطبيق قرارات المجلس الوطني للثورة الجزائرية المتعلقة بزيادة قوة جيش التحرير الوطني وتدعيم الثورة.
في هذا السياق وقعت حادثة سوف ترسخ التناقضات جاعلة حدة التوتر تزداد بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. ففي جوان (حزيران) 1961 أسقط جيش التحرير الوطني طائرة فرنسية فوق مركز التدريب بواد ملاق حيث كانت تقوم بمهمة استطلاعية وتم أسر طيارها. فطلبت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من قيادة الأركان تسليم الأسير إلى السلطات التونسية. رفضت قيادة الأركان الاستجابة، وحاولت كسب الوقت مدعية أن الطيار قد مات. فهددت الحكومة التونسية تدعمها في ذلك الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية قيادة الأركان بالتدخل عسكريًا ضد جيش التحرير الوطني أن لم يسلموها الطيار حيًا أو ميتًا. وأمام إلحاح اللجنة الوزارية المشتركة للحرب، قرر بومدين (الذي بقي محافظًا في تلك اللحظة على علاقة طيبة يشوبها الحذر مع بوصوف، رئيسه السابق) لوحده تسليم الطيار الأسير من دون استشارة زميليه الرائدين منجلي وقايد. وقد طلب هذان الأخيران من بومدين تفسيرًا لفعله. لقد أبرزت هذه الحادثة علانيةً اختلاف التصورات داخل قيادة الأركان. فمن جهة كان بومدين الحذر والهادئ والمتبصر بالعواقب يريد تفادي كل مواجهة مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ومداراة بوصوف وبن طوبال، ومن الجهة الأخرى كان علي منجلي وقايد أحمد، رغم اختلاف طباعهما، يمتازان بمزاج اندفاعي وقتالي متحمس، فكانا لا يخشيان المواجهة مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
وهكذا بدأت قيادة الأركان في شن حملة على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في اتجاهين: أولًا على مستوى الجيش، فقد تم إعلام قيادة منطقتي العمليات بالشمال والجنوب وكل قادة الفيالق عن خطورة الأزمة بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. اتهمت قيادة الأركان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالتسبب في إلحاق الضرر المعنوي بالجيش بإهانته. واستنكرت أيضًا وقوف الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية إلى جانب الحكومة التونسية في قضية الطيار الفرنسي مبتعدة عمومًا بذلك عن الثورة بتصرفها وسلوكها البرجوازي. وقد نجحت قيادة الأركان في تعبئة مسؤولي جيش الحدود في موقف تضامُن وتوحُّد ضد أهداف الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي جرى اعتبارها انحرافيه.
ومن جهة أخرى، تم شن حملة من الطبيعة نفسها في أوساط اللاجئين الجزائريين لتقويض سلطة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
53
كانت الأزمة بين الهيئتين تزداد تفاقمًا مع مرور الأيام والأسابيع. ففي جويليه (تموز) من عام 1961 عقدت قيادة الأركان اجتماعًا بمقرها في غار ديماو دعي إليه أعضاء قيادتي منطقتي عمليات الشمال والجنوب وكل قادة الفيالق والكتائب الثقيلة. وخلال هذا الاجتماع العلني، وبعد قيامهم بتحليل الوضعية وإبرازهم لطبيعة الأزمة الموجودة بين الحكومة المؤقتة وجيش التحرير الجزائري، أبلغ أعضاء قيادة الأركان مسؤولي جيش الحدود قرارهم بتقديم استقالتهم للحكومة المؤقتة، وطلبوا منهم أن يلتزموا الحيطة والحذر وان يحافظوا على وحدتهم في غيابهم. والكل كان يعلم أن ذلك ليس سوى مناورة وليس استقالة فعلية. كانت قيادة الأركان تدرك أنها تتمتع بدعم دائم وتام من طرف قادة الفيالق، وهو ما شجع أعضاءها على القيام بتلك المناورة التي تبدو ظاهريًا كمجازفة، وهذا لإضعاف موقف الحكومة المؤقتة وفرض نفسهم كمحاور لا يمكن تجاهله.
لوحظ خلال هذا الاجتماع أن بومدين، الذي كان يضع نظارات سوداء في قاعة مظلمة نوعًا ما، قد اكتفى بافتتاح الجلسة ببعض الكلمات التي تلفظ بها بلهجة خفيضة بوجه خاص قبل إحالة الكلمة لمنجلي (20). وقام منجلي في خطاب حماسي طويل بفضح تصرفات الحكومة المؤقتة التي وصفها بأنها تناقض المصالح العليا للثورة مستندًا إلى حجج دقيقة وفق تسلسل منطقي لإبراز نية الحكومة المؤقتة في إضعاف جيش التحرر الوطني وقيادته. كان علي منجلي يهدف، بكلام مباشر وواضح وبالغ التأثير، إلى التعبئة التامة لكل القادة العسكريين حول قيادة الأركان بعد استقالتهم. وقبل انسحابهم قام أعضاء قيادة الأركان بتعيين لجنة بالنيابة مكونة من ثلاثة أعضاء يرأسهم عبد الرحمان بن سالم، قائد منطقة العمليات في الشمال.
منذ تلك اللحظة بدأت العلاقة تتوتر بين بومدين وعلي منجلي. لكنهما نجحا، كلاهما، في تحاشي نزاع مكشوف. وكان يعلم بخلافاتهما عدد قليل فقط من الأصدقاء المقربين. وسيدفع علي منجلي الثمن غاليًا عن مواقفه، في ما بعد. فبالفعل، لقد تخلص منه بومدين غداة الاستقلال، فيما كان عضوًا في القيادة العامة للأركان، حيث اقترحه من دون علم منه كرشح للمجلس التأسيس في المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني، الذي أوكلت إليه مهمة تحضير الانتخابات التشريعية في سبتمبر (أيلول) عام 1962. وهكذا وجد علي منجلي نفسه نائبًا رغم أنفه.
.....................................
(20) أسرّ إليّ علي منجلي في ما بعد بأن النقاش قبل الاجتماع بقادة الفيالق كان عاصفًا بين أعضاء قيادة الأركان، فهم لم يكونوا يتقاسمون وجهات النظر نفسها. والضغوطات التي مارسها منجلي الثوري المقتنع والصارم والرزين وضغوط أحمد قايد المتحمس والمحتدم جعلت بومدين يجهش بالبكاء.
54
وفي الحقيقة فإن المحرض الأساسي على المواقف الثورية لقيادة الأركان ضد اللجنة الوزارية المشتركة والحكومة المؤقتة لم يكن سوى علي منجلي يسانده قايد أحمد، على عكس بومدين الذين كان فاترًا ودقيقًا في الحسابات وكان يتحرك إلى الأمام بحذر كبير، ومع مساندته الضمنية لهجومات منجلي وقايد الملتهبة ضد اللجنة المشتركة والحكومة المؤقتة، فقد كان يعمل على تركيز هجوماته ضد كريم والحفاظ على علاقات طيبة، ولا سيما مع بوصوف رئيسه السابق الذي لم يبتعد عنه إلاّ في عام 1962، عندما تمت القطيعة بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة وبعد تربع جيش الحدود فعليًا على السلطة.
4- خلاف القيادة العامة للأركان مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية حول المفاوضات مع فرنسا واتفاقيات إيفيان.
أ- سياق المفاوضات مع فرنسا.
يستحسن التذكير بأنه قبل بدء المفاوضات مع جبهة التحرير الوطني في جوان (حزيران) عام 1960 في مولون، قامت فرنسا بتعزيز قدراتها العسكرية إلى حد بعيد في الجزائر منذ عام 1958، واستعملت كل الوسائل «للقضاء» على جيش التحرير الوطني. لكن ديغول، وبعد حرب ضارية ولا هوادة فيها خاضها بالضبط منذ توليه السلطة، أدرك في آخر المطاف سنة 1960 أن الجيش الفرنسي رغم تفوقه العسكري وطاقته النارية الجهنمية لا يستطيع إحراز تفوق عسكري على جيش التحرير الوطني. كان ديغول يريد، بلا ريب، تجريب الخيار العسكري حتى النهاية ليبرهن للجنرالات الذين كانوا قد جاؤوا إلى السلطة حدود سياستهم المتطرفة والاستعمارية، ليحل محلها سياسة استعمارية جديدة تهدف إلى حماية مصالح فرنسا على المدى البعيد، ذلك أن هذه الحرب كان لها بعد سياسي وامتداد شعبي عظيم. فإذا كان الجانب الفرنسي يحارب من أجل بقاء نظام استعماري في هذه المنطقة من العالم، فإن الجزائريين كانوا يحاربون من أجل انتزاع الاستقلال والحرية وللعيش في الكرامة والعدل.
على الصعيد العالمي، كانت الحكومة المؤقتة تسجل النجاحات وتكسب الدعم الديبلوماسي والسياسي والعسكري والإنساني (مساعدات موجهة للاجئين الجزائريين في تونس والمغرب) من الأقطار العربية وعدد كبير من دول عدم الانحياز ومن الصين والاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية.
ومن جهة اخرى، بدأت تظهر في فرنسا منذ عاميْ 1957، و1958، ولا سيما منذ عام 1960، حركة معارضة واسعة للحرب الجارية في الجزائر، وبدأ أيضًا تنظيم
55
شبكات لدعم جبهة التحرير الوطني. وكان المثقفون الكاثوليك ثم المثقفون اليساريون يحاولون بدورهم تعبئة الرأي العام الفرنسي ضد حرب الجزائر (21).
في هذا السياق قبل ديغول مبدأ استقلال الجزائر. إلا أن الحكومة الفرنسية عملت جاهدة على تلغيم هذا الاستقلال بعملها على استخلاف نظام استعماري كان قائمًا آنذاك بنظام ذي طابع استعماري جديد كما سنوضح لاحقًا.
ب- نقاط الاختلاف الأساسية بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة حول اتفاقيات إيفيان
حاول الجنرال ديغول آنذاك دعم «القوة الثالثة» في الجزائر التي شجعتها مختلف الحكومات الفرنسية قبله. ويتعلق الأمر بحركة سياسية معدة لقيادة البلاد عبر تهميش جبهة التحرير الوطني. كان يجب على هذه «القوة الثالثة» (سنعود إلى الحديث عنها لاحقًا بشكل أكثر تفصيلًا) أن تتكون من جزائريين موالين لفرنسا ومعادين لجبهة التحرير الوطني ويتعين عليها القيام بتنفيذ سياسة «تشارُك بين الجزائر وفرنسا».
وبعد أن فشلت الحكومة الفرنسية في إبراز «القوة الثالثة» من الناحية العضوية في أجل قصير ونظرًا للظروف الداخلية والخارجية التي لم تكن في صالح فرنسا، وبعد تخليها عن المطالبة بإشراك الحركة الوطنية الجزائرية في المفاوضات، قررت في الأخير استئناف المفاوضات مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في إيفيان في ماي (أيار) عام 1961.
لقد انتقدت قيادة الأركان العامة توقيع الحكومة المؤقتة اتفاقات إيفيان، لأنها كانت ترمي، في نظر قيادة الأركان، لأن تؤسس في الجزائر نظامًا استعماريًا جديدًا بعد الاستقلال.
وكانت الانتقادات تتناول بوجه خاص النقاط التالية (22):
- إنشاء جيش يطلق عليه اسم «قوة محلية» مكونة من 40 ألف رجل يؤطرهم ضباط وضباط صف جزائريون مازالوا في الخدمة في الجيش الفرنسي في عام 1962، وضباط فرنسيون يعملون في إطار التعاون الفني.
............................
(21) إنه لمن دواعي الاستغراب في الشأن أن يعطي البرلمان الفرنسي في جوان (حزيران) 1999 فقط صفة الحرب لما كانوا يسمونه «أحداث الجزائر».
(22) لمزيد من التفاصيل، انظر: المصدر نفسه، ص293- 323.
56
- احتفاظ الجيش الفرنسي بقاعدة مرسى الكبير مدة 15 عامًا وكذلك قاعدة عين أكر لمواصلة التجارب النووية الفرنسية.
- الإبقاء على الجهاز الإداري القائم والمكون من 80 ألف موظف منهم 65600 فرنسي و14400 جزائري استفادوا من الترقية الاجتماعية منذ لاكوست (1956).
- الحفاظ على الليبرالية الاقتصادية واحترام المصالح والامتيازات الفرنسية كما كانت قائمة عند الاستقلال. وعلى السلطة الجزائرية الجديدة مواصلة تنفيذ مخطط قسنطينة المعد في عام 1959 ضمن منظور استعماري.
- الحفاظ على هيمنة اللغة الفرنسية وتشجيع نموها على حساب اللغة العربية.
- احترام الخصوصيات العرقية واللغوية والدينية للأوربيين الذين سيكون لهم حتى عام 1965 الخيار بين الجنسية الفرنسية والجنسية الجزائرية.
- إنشاء «هيئة تنفيذية مؤقتة» مهمتها تسيير الشؤون العامة حلال المرحلة الانتقالية، بين تاريخ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في مارس (آذار) 1962 وتاريخ تنظيم الاستفتاء في جويليه (تموز) 1962 (23).
وفي اجتماع ضم قادة الفيالق والكتائب الثقيلة ونظمته قيادة الأركان كان الرائد علي منجلي، وهو عضو في الوفد الجزائري في مفاوضات إيفيان، يتحدث عن الاستسلام ويتهم الحكومة المؤقتة برغبتها في القضاء على جيش التحرير الوطني. كان يرى أن التنازلات المقدمة لفرنسا في المجال الاقتصادي والعسكري والثقافي لا مجال للقبول بها لأنها ترهن الاستقلال وتلغمه. وكانت قيادة الأركان ترى أن الحكومة المؤقتة قد خانت الثورة ليس بقبولها تلك التنازلات فحسب، بل لأنها كانت ترغب كذلك في إقامة نظام برجوازي من النوع الرأسمالي موال لفرنسا بعد إعلان الاستقلال.
كان تطور النزاع يجول الاختلافات بين قيادة الأركان العامة والحكومة المؤقتة حول اتفاقيات إيفيان إلى مواجهة.
لقد بدأ الصراع على السلطة والسباق لأجل أخذها بين الهيئتين بعد اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي انعقد في فيفري (شباط) عام 1962 للموافقة على اتفاقيات إيفيان.
...............................
(23) كانت الهيئة التنفيذية المؤقتة التي أنشئت وفق اتفاقيات إيفيان مكونة من 12 عضوًا، خمسة تعينهم جبهة التحرير الوطني وأربعة جزائريين غير تابعين لجبهة التحرير الوطني، وثلاثة أوروبيين، وكان يرأسها عبد الرحمان فاس ممثلًا «للقوة الثالثة»، وقد فرضته باريس رغم معارضة الحكومة المؤقتة.
57
وأصبح جيش التحرير الوطني، الذي يعتبر أساس كل شرعية، الرهان الأساسي.
وهنا أيضًا يبرز تصوران متناقضان: فبالنسبة للقيادة الثلاثية، كريم وبوصوف وبن طوبال، كانت ترتكز شرعية الحكم على الولايات التي كانوا المسؤولين عنها (لغاية عام 1957، تاريخ انتقالهم إلى الخارج) والتي عينوا على رأسها من يخلفهم. زيادة على ذلك، فإن شرعيتهم مستمدة، بحسب رأيهم، من صفتهم كزعماء تاريخيين.
أما بالنسبة لأعضاء قيادة الأركان، فإنهم كانوا يعتبرون أنفسهم المسؤولين المؤهلين عن جيش التحرير الوطني، بما فيه الولايات. لقد كانوا على كل حال يتوفرون على قوة ضاربة مهمة، ألا وهي جيش التحرير الوطني الموجود على الحدود الشرقية والغربية والذي كان يصل تعداده إلى 24000 رجل في عام 1962. لكن أعضاء قيادة الأركان لم يكتفوا بالاعتبارات العسكرية وحدها. فقد كانوا يريدون الذهاب إلى أبعد من ذلك بدخولهم غمرة المنافسة السياسية فحاولوا في هذا السياق إقامة تحالفات مع بن بللا وبوضياف وخيضر وبيطاط، المسجونين آنذاك، لتعويض الشرعية التاريخية التي كانوا يفتقرون إليها. أرسلت قيادة الأركان في هذا الشأن عبد العزيز بوتفليقة إلى «شاتودونوا» ليعرض على القادة التاريخيين المحبوسين، كونهم أعضاء في الحكومة المؤقتة وفي المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وجهة نظر قيادة الأركان حول طبيعة الأزمة وكيفية حلها. وقد اقترحت قيادة الأركان من أجل ذلك إنشاء مكتب سياسي لجبهة التحرير الوطني وإعداد برنامج سياسي؛ فتبنى بن بللا وخيضر وبيطاط خطة قيادة الأركان، وعلى العكس من ذلك فإن بوضياف، حليف كريم وآيت أحمد، قد رفضها (24).
في هذا السياق بالذات، عقد التحالف بين بن بللا وقيادة الأركان. وقد سمح هذا التحالف لبومدين بالحصول على غطاء سياسي له وزنه للتغلب على الحكومة المؤقتة وتهيئة شروط الاستيلاء على السلطة بعد إعلان الاستقلال.
كانت قيادة الأركان مدركة قوتها العسكرية والتأثير السياسي لتحالفها مع بن بللا، وهو ما شجعها على الإعلان عن استعدادها بعد الاستقلال لمعارضة تطبيق أحكام اتفاقيات إيفيان التي كانت تتناقض مع مبادئ الثورة.
.................................
(24) لمزيد من التفاصيل حول القضية، انظر: المصدر نفسه، ص295- 297.
58
لقد تعقدت الأزمة التي كانت في أوجها، نظرًا لأن قادة جبهة التحرير الوطني وأعضاء الحكومة المؤقتة وأعضاء قيادة الأركان وأعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية كانوا ينتمون إلى تيارين فكريين متناقضين.
فالبعض، مثل فرحات عباس (وأصدقائه في الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري السابق) وبن خدة (وأصدقائه المركزيين) وكريم وبوصوف وبن طوبال، فضلًا عن قادة تاريخيين آخرين، كانوا متأثرين بنمط الحياة الغربي المطبوع بوجه خاص بالعلمانية والفردانية والليبرالية الاقتصادية. فجهاز جبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة الذي تشرف عليه القيادة الثلاثية كان بين أيدي الفرنسين.
وآخرون، مثل بن بللا وخيضر وعدد كبير من أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وأعضاء قيادة الأركان، وطاهر زبيري (قائد الولاية الأولى) وصالح بو بنيدر (قائد الولاية الثانية)، وعثمان (قائد الولاية الخامس)، وشعباني (قائد الولاية السادسة) كانوا يعتبرون أن الجزائر تنتمي إلى العالم العربي والإسلامي، وأن اللغة العربية يجب أن تكون لغة الجزائر الرسمية بعد الاستقلال.
بل أن اللغة العربية كانت تستعمل كلغة عمل في الولاية الأولى (أوراس النمامشة) وفي الولاية الثانية (الشمال القسنطيني) وفي الولاية السادسة (الجنوب الجزائري).
وعمومًا، فقد كان المقاتلون المنحدرون من الريف أو المدينة يعتبرون أنفسهم إخوة و «مجاهدين» ويعتبرون حرب التحرير «جهادًا». وكان المقاتلون الذين يسقطون في ميدان الشرف يسمون «شهداء»، وكان هذا التيار يتمتع بالأغلبية داخل جيش التحرير الوطني وفي أوساط الشعب الجزائري.
لكن الانتماء إلى هذا التيار أو ذاك لم يمنع من عقد تحالفات خفية بين أنصار التيارين الفكريين.
وهكذا ولأسباب ظرفية ووفق حسابات دقيقة لعب «الفارون» من الجيش الفرنسي بعمق ورقة قيادة الأركان (بعد أن كانوا قد لعبوا ورقة كريم في عام 1959)، الذي تخلوا عنه بسرعةٍ مباشرة بعد أن فقد وزارة القوات المسلحة في جانفي (كانون الثاني 1960، واضعين مؤقتًا قناعاتهم السياسية والثقافية الموالية لفرنسا في سلة
59
المهملات (25). إن الولاء لقيادة الأركان كان يسمح لهم بالحصول على شرعية وبتثبيت أنفسهم عاجلًا أو آجلًا داخلِ جيش التحرير الوطني. كانت «تقنيتهم»، التي كانت قيادة الأركان تعبرها، خطأ، حيادية، تشكل ضمانًا لترقيتهم ونجاحاتهم من دون تأخير، في استراتيجيتهم للسيطرة على الجيش بعد الاستقلال من أجل الاستيلاء على السلطة في الوقت المناسب.
نجح «الفارون» من الجيش الفرنسي، باختيارهم المعسكر الأقوى في أزمة حادة تكرست بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة حول قضايا لإيديولوجية وسياسية وثقافية، في إخفاء ارتباطهم العاطفي الوثيق بفرنسا، متخَفّين وراء الحماس واللهجة الثوريين.
كان هدفهم في إسدال النسيان على تاريخهم وارتباطاتهم، وفي أن يصبحوا قادة لجيش التحرير الوطني بصفة كاملة، قد تحقق في أوج الأزمة بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة.
وسهل انشغال أعضاء قيادة الأركان أساسًا بمصيرهم اندماج «الفارين» من الجيش الفرنسي في جيش التحرير الوطني. وهكذا تمت بالنسبة لهم مرحلة اختراق جيش التحرير الوطني. بقي الآن الاستيلاء على السلطة وهذا لم يكن ليحدث إلا بالاحتماء وراء بومدين بانتظار ...
وبما أن الاستراتيجيا الجديدة لفرنسا الاستعمارية الجديدة تستند إلى مشروع إجمالي، لم تقتصر الحكومة الفرنسية على تنظيم اختراق جيش التحرير الوطني في أعلى مستوياتهم عن طريق «فارين» من الجيش الفرنسي (القادة المستقبليون للجيش الجزائري) وإنشاء «قوة محلية» (نواة الجيش الجزائري المستقبلي). لقد انكبت السلطات الفرنسية أيضًا على «جزأرة» الإدارة الاستعمارية على طريقتها وتنظيم تبعية الجزائر الاقتصادية لضمان استمرارية الحضور الفرنسي بعد الاستقلال.
..................................
(25) يجدر التذكير في هذا السياق، بأن هناك من بين «الفارين» من الجيش الفرنسي الذين التحقوا بجبهة التحرير الوطني في تونس بين عامي 1958 و1959 وطنيين مخلصين ساهموا بقناعة خالصة في حرب التحرير. وعكس ذلك، فإن آخرين مثل العربي بلخير وخالد نزار ومحمد العماري ومحمد مدين المدعو توفيق، ومحمد تواتي وإسماعيل العماري كانوا وما زالوا إلى اليوم مناضلين متحمسين للفرنكوفونية ومدافعين عن الثقافة الفرنسية في الجزائر. تجدر الإشارة إلى أن محمد مدين وإسماعيل العماري لم ينتميا يومًا إلى الجيش الفرنسي، لكنهما ينتميان إلى جماعة «الفارين» بانجذاب ثقافي وسياسي.
60
الفصل الثالث
تنظيم التبعية في الإدارة وفي الاقتصاد
بعد أن تفحصنا آنفًا كيف قامت فرنسا بتلغيم الجيش الجزائري حتى قبل إنشائه وقبل إعلان استقلال الجزائر بمدة طويلة، سنرى في هذا الفصل كيف أن الحكومة الفرنسية نظمت تبعية الجزائر لفرنسا في مجالين ليسا أقل استراتيجية، وهما الإدارة والاقتصاد.
أولًا: «جزأرة» الإدارة الاستعمارية
لقد انطلقت فرنسا بين عاميْ 1958 و1961 في تنظيم الإدارة الجزائرية على ثلاثة مستويات، المستوى الوطني والولائي والمحلي، وكانت فرنسا مقترة في هذا الشأن، فقد عينت في جهازي هذين القطاعين عددًا من «الفرنسيين- المسلمين» الموالين لها، والذين قامت بترقيتهم إلى مناصب تصوُّر وقرار بجانب الفرنسيين لضمان ديمومة حضورها في الجزائر.
لكن قبيل أن نتفحص كيف تم تكييف الإدارة الاستعمارية كجهاز في خدمة «القوة الثالثة» في إطار المشروع الفرنسي «الجزائر الجزائرية»، يجدر أن نذكر بإيجار شديد الظروف التي أجريت فيها «إصلاحات» للحفاظ على مصالح فرنسا الاستراتيجية في الجزائر المستقلة.
1- لمحة تاريخية
حتى اندلاع حرب التحرير، كانت الإدارة الجزائرية ذات طابع استعماري
61
جلي، وكان دخول الجزائريين إليها جد محدود، وكان يقتصر على الوظائف التنفيذية والسفلى. أما مهام التصوُّر واتخاذ القرار، فإنها كانت مقتصرة على الأوروبيين وحدهم. لم تكن الإدارة في خدمة المواطنين، بل كانت تتمثل في مراقبة السكان الأصليين، وفي إقامة علاقات مع القبائل، وجمع المعلومات من كل نوع من أجل مراقبتها وضمان السيطرة الفرنسية في كل أنحاء البلاد.
أما الانتخابات، فإنها لم تكن تعكس قط الخيار الحر للشعب عندما تجري.
وقد تميزت الفترة الاستعمارية بمصادرة إرادة الشعب من طرف الإدارة، وكان المنتخَبون المحليون أو على المستوى الوطني، باستثناء الوطنيين، يسمون «بني وي – وي»، ويعتبرون كخدام مطيعين وموالين للإدارة الفرنسية خلال فترة الاحتلال.
فإلى غاية عام 1956، كان تقسيم الجزائر يتمثل في بلديات تتمتع بكامل صلاحيات التسيير وبلديات مختلطة.
أنشئت البلديات التي تتمتع بكامل صلاحيات التسيير في مناطق فيها عدد كبير من الأوروبيين من دون ان يشكلوا الأغلبية بالضرورة، وقد بلغ عددها 325 وكانت تشتغل كمجالس بلدية بما أن أعضاءها «منتخبون».
إن طريقة إجراء الانتخابات فضلًا عن أعمال التزوير من طرف الإدارة التي أصبحت مشهورة كانت تعادل بالأحرى تعيين الـ «منتخبين» من طرف الإدارة.
أما البلديات المختلطة والتي بلغ عددها 84 عام 1956 فقد أنشئت في باقي أنحاء البلد، حيث يشكل السكان المسلمون نسبة جد معتبرة، ولم يكن يقوم بتسييرها مجلس بلدي «منتخب» بل مسيَّر إداري مدني. ولما كان المسير الإداري تحت وصاية وكيل الوالي، فإنه كان يتمتع بسلطات واسعة جدًا، فقرارته لا تناقش وغير قابلة للطعن. فهو الذي يعين القُوّاد المكلفين بتأطير السكان، ودور القائد «القيام في دَوّاره بمهام مفوض ريفي التي تتمثل أساسًا في الإبلاغ والمراقبة والترقب» كما يشير إلى ذلك تعميم الأمين العام للحكومة الموجه إلى الولاة بعد الفاتح من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1954 (1). إن الدور المشؤوم الذي كان يقوم به القواد في تسيير شؤون «الأهالي» كان دائمًا مثيرًا لنفور السكان. فالسكان الذين كانت تفرض عليهم شتى أعمال السخرة، كانوا دائمًا ضحايا ممارسات القواد غير القانونية والظالمة والتعسفية.
................................
(1) تعميم ذكره: Mohand Hamoumou, Et ils Sont devenus harkis, préface de Dominique Schnapper (paris: Fayard, 1993) p. 108.
62
فالفساد والثراء من دون مسوّغ على حساب السكان كانا ما يميز بشكل أساسي جشع القواد، وقبيل الاستقلال كان يوجد حوالي 1300 قائد.
وإجمالًا، نلاحظ أن الجزائر كانت حتى بداية حرب التحرير، تدار بطريقة عرجاء، فمن جهة، كانت الجزائر المفيدة تتوفر على 325 بلدية لها كامل صلاحيات التسيير لتهتم بالسكان الأوروبيين المقدر عددهم بمليون نسمة. ومن جهة أخرى كانت الجزائر الأخرى، التي يسكنها تسعة ملايين نسمة من الجزائريين، الذين يسمّون «فرنسيين مسلمين»، تدار بالوكالة في 84 بلدية مختلطة معرَّضة لتسلط إدارة الاحتلال وطغيان القواد.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1954، كان السكان المسلمون يمثلون 9 أضعاف السكان الأوروبيين، لكنهم لم يكونوا يشكلون في الوظيفة العمومية سوى 29 بالمشة من الموظفين، الذين كانوا في غالب الأحيان في أسفل سلم الوظيفة. فعلي سبيل المثال، «من بين 2500 موظف في الحكومة العامة، لا نجد سوى 183 مسلمًا، معينين بخاصة في وظائف دنيا»، لا يكادون يمثلون 7 بالمئة من مجموع التعداد (2).
أما في المهن الحرة فلم يكن عدد المسلمين الجزائريين كبيرًا. في عام 1954 تم إحصاء 161 محاميًا و152 وكيل دعوى و41 كاتب عدل و104 أطباء و185 أستاذًا في التعليم الثانوي.
وفي هذا السياق وبعد التطورات السياسية الناتجة من التقدم الذي سجلته جبهة التحرير الوطني في الميدان، تم التفكير من طرف إدارة الاحتلال في «إصلاحات» أو بالأحرى إجراءات بين عاميْ 1955 و1957 لإبعاد السكان الجزائريين عن تأثير جبهة التحرير الوطني بفضل الترقية الاجتماعية «للفرنسيين – المسلمين». ثم انطلقت منذ عام 1959 في «الجزأرة» التدرجية للإدارة الاستعمارية لتتركها لـ «الجزائر الجزائرية» التي يتعين على «القوة الثالثة» أن تؤدي دورًا أساسيًا فيها بعد استقلال الجزائر.
2- الترقية الاجتماعية لـ «الفرنسيين – المسلمين»
لقد تم في باريس بين عاميْ 1955 و1959/ 1960 تحديد مختلف الإجراءات الرامية إلى تشجيع الترقية الاجتماعية لـ «الفرنسيين – المسلمين» في الجزائر في مختلف
............................
(2) Claude Collot, Les Institutions algériennes de l'Algérie durant la période coloniale (Paris: Editions du centre national de la recherche scientifique, 1987).
نقلًا عن: Si Othmane, l'Algérie. L'origine de la crise: Ou, guerre d'Algérie, suite et Fin, histoire (Paris: Dialogues éditions, (1996). P. 165.
63
قطاعات النشاط، بما فيها الإدارة. وقد تم هذا بإجراءات مترددة متتالية، على فترتين إجمالًا، تبعًا للأهداف المرجوّة.
أ- فترة 1955- 1958.
كانت الإجراءات المتعلقة بالترقية الاجتماعية المتخذة خلال هذه الفترة تهدف خصوصًا إلى قطع الجزائريين بعامة، والشباب بخاصة عن الثورة. كانت السلطات الاستعمارية في الجزائر تتجاهل المثل الأعلى الوطني، وكانت رؤيتها تتلخص، بعد نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1954، في ما يلي: إن مشكل الجزائر ليس سياسيًا وإنما هو أساسًا مشكل اقتصادي واجتماعي. فالبطالة هي سبب الثورة. ولهذا قررت السلطات الفرنسية أن تعطي الأولوية لمكافحة البطالة حتى لا يتوجه الفقراء إلى تعزيز صفوف «الخارجين على القانون». وسيسمح إنعاش الاستثمارات والترقية الاجتماعية «للفرنسيين – المسلمين» بعزل جبهة التحرير الوطني عن الشعب ثم القضاء عليها عسكريًا بعد ذلك.
في هذا الإطار «عرض فرانسوا ميتران الذي كان آنذاك وزيرًا للداخلية، في 5 جانفي (كانون الثاني) عام 1955، أمام مجلس الوزراء برنامجًا واسعًا للإصلاحات. ونشير إلى أنه تم في الحال إنشاء مدرسة للتكوين الإداري تهدف إلى تسهيل حصول المسلمين على مناصب مسؤولية في الوظيفة العمومية» لضمان بقاء الجزائر الفرنسية (3).
إلا أن دخول المسلمين الجزائريين إلى الوظيفة العمومية المعروف باسم «دفعة سوستال» و «دفعة لاكوست» (وهما اسمًا الحاكمين اللذين تعاقبًا على الجزائر خلال تلك الفترة) كان متصورًا على أساس انتقائي في التوظيف لأسباب مرتبطة على الخصوص بسياسة «ربع الساعة الأخير».
كانت زيادة عدد فرص العمل، بين عاميْ 1955 و1958 ليس في الإدارة فحسب، بل كذلك في النشاطات غير الفلاحية (تجارة، صناعة، بناء، أشغال عمومية)، الناجمة عن إجراءات الترقية الاجتماعية، تندرج في المسعى الإرادي للحكومة الفرنسية لإبقاء الجزائر في وضعها الاستعماري.
...........................
(3) Bernard Droz et Evelyne Lever, Histoire de la guerre d'Algérie, 1954-1962 (Paris: Seuil,1982).
نقلًا عن: المصدر نفسه، ص186.
64
ب- فترة 1959- 1961
بعد خطاب ديغول حول تقرير المصير في سبتمبر (أيلول) عام 1959، وخصوصًا بعد المظاهرات الشعبية التي عرفتها الجزائر العاصمة في ديسمبر (كانون الأول) عام 1960، التي أعلنت نهاية «الجزائر الفرنسية»، قامت الحكومة الفرنسية بتنفيذ سياسية اقتصادية واجتماعية تهدف إلى تشجيع الاستخدام في قطاعات النشاط الاقتصادي وفي الإدارة للسماح ببروز «قوة ثالثة». ولمواجهة جبهة التحرير الوطني، كانت باريس تنوي أن تسند إلى هذه «القوة الثالثة» مصير الجزائر المستقلة، بجعل الروابط متعددة الأشكال التي تشدها إلى فرنسا دائمة.
باختصار، كان الأمر يتعلق بتكوين وترقية «أكبر عدد ممكن من الإطارات المسلمين الذين اختاروا، أو بالأحرى فرنسا هي التي اختارت لهم، توجهًا فرنسيًا نهائيًا» (4). لهذا قامت فرنسا بتعزيز هياكل التكوين الأولى، والتكوين المهني والتعليم التقني والتكوين المتسارع لتكوين أكبر عدد من الشباب المسلمين. وهكذا تم إنشاء، من بين ما تم إنشاؤه، مراكز لتكوين الشبيبة الجزائرية (C.F.J.A) أوكلت لها مهمة تكوين مهني أولي. وفي عام 1959، تم تسجيل إنشاء 110 مراكز تكوين للشباب، و109 مراكز للشباب و720 ناديًا رياضيًا تحت وصاية الأقسام الإدارية المتخصصة، وتم في ما بين عاميْ 1959 و1961 تكوين مئة ألف شاب مسلم فيها (5).
لكن، بالموازاة مع هذا الجهد في التكوين الصغير في كل الميادين، غززت فرنسا في الوقت نفسه تكوين النخب ذات المستوى العالي للحصول على إطارات من شأنها أن تكون قادرة ليس فقط على التكفل بتحقيق أهداف مخطط قسنطينة (6) التي حددنها الحكومة الفرنسية، بل قادرة أيضًا على حكم الجزائر غدًا.
وتخص مجهودات التكوين والترقية الاجتماعية التي بادرت إليها فرنسا في الجزائر بين نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 وعام 1961، الأوروبيين كما تخص «الفرنسيين – المسلمين». وقد تترجم تنفيذ الإجراءات المتخذة في هذا الشأن بزيادة عدد فرص الاستخدام الزراعية خلال تلك الفترة.
.................................
(4) Jean Daniel, De Gaulle et l'Algérie: La Tragédie, le héros et le témoin, avant-propos de Jean Lacouture, histoire immédiate (Paris: Seuil, 1986).
نقلًا عن: المصدر نفسه، ص173.
(5) Maurice Faivre, Les Combattants musulmans de la guerre d'Algérie: Des soldats sacrifiés, collection «histoire et perspectives méditerranéennes (Paris: L'Harmattan, 1995).
(6) أُعد مخطط قسنطينة الذي أعلن عنه ديغول نفسه، ليكون بمثابة حجر الزاوية لبناء «الجزائر الجزائرية» الذي يهدف في الوقت نفسه إلى تشجيع الاستخدام والنشاطات الاقتصادية وإلى تقوية روابط التبعية التي تشد الجزائر إلى فرنسا. سنعود إلى هذه القضية لاحقًا في حديثنا عن المسائل الاقتصادية.
65
فبالفعل، لقد ارتفع عدد السكان العاملين في القطاعات غير الزراعية بين عاميْ 1954 و1960 إلى 361800، وهو ما يمثل زيادة 244100 فرصة عمل خاصة بفئة «الفرنسيين – المسلمين». وفي ما يخص عدد العمال الأوروبيين فقد ارتفع بدوره إلى 117700 خلال تلك الفترة، مع العلم بأن الإدارة والتجارة هما المجادلان اللذان وفرا أكبر عدد من فرص العمل كما يبين الجدول التالي:
الجدول رقم (3-1)
زيادة فرص العمل خارج الزراعة (1954- 1960)
النشاط المسلمون الأوروبيون المجموع
الإدارة + 122700 + 57200 + 179900
التجارة + 56400 + 38500 + 94900
الصناعة + 20000 + 9000 + 92000
البناء والبريد والمواصلات + 45000 + 13000 + 58000
المجموع + 244100 + 117700 + 361800
المصدر: A. Dartel et. J. P. Rivet, Emploi et développement en Afgérie (Paris: Presses: universitaires de France, 1962), p. 70.
يتطلب هذا الجدول بعض الملاحظات، فزيادة عدد الموظفين المسلمين في الإدارة والتجارة يمثل نسبة 80 بالمئة من الزيادة العامة لهذه الفئة ونسبة 88 بالمئة بالنسبة للموظفين الأوروبيين.
إلا أن ارتفاع عدد مناصب الأوروبيين في الإدارة يخص مناصب التأطير الأساسية العليا والأحسن من حيث الأجر، بينما كان المسلمون يعينون في الوظائف الصغيرة في أدنى الدرجات.
وكذلك، فإذا كان عدد 38500 فرصة عمل الذي خلق لصالح الأوروبيين، في قطاع التجارة، يخص النشاطات المربحة والمدرة المرتبطة، بين ما هي مرتبطة به، بمجالات التصدير والاستيراد وتجارة الجملة، فإن عدد 56400 فرصة عمل الذي خلق لصالح المسلمين، كان يشمل الباعة المتجولين كما المناصب الدنيا (سعادة ومستخدمون، ... الخ).
66
إجمالًا فإن التباين في التكوين بين الأوروبيين الذين يتمتعون بالامتيازات، والمسلمين المحرومين منها، زيادة على الهيمنة السياسية والاقتصادية لفئة الأوروبيين، يبينان لنا أن توظيف المسلمين يشمل بوجه خاص اليد العاملة عديمة الكفاءة أو ضعيفة التأهيل. كانت فرنسا تراهن في استراتيجيتها الهادفة إلى الإبقاء على مصالحها في جزائر مستقلة، في الوقت نفسه على بقاء الأوروبيين ومساهمتهم الفعالة في شؤون البلاد، وعلى ترقية «الفرنسيين – المسلمين» الموالين لها والذين اختاروا الوقوف إلى جانبها بصفة نهائية.
على رغم رحيل 900 ألف من أوروبي الجزائر، وهو ما لم تكن فرنسا تتوقعه ولا تتمناه، وذلك مباشرة قبل إعلان الاستقلال، فقد تم الإبقاء على الجهاز الإداري الاستعماري وفق ما تنص عليه اتفاقيات إيفيان، فلم تجر أية إصلاحات أو تغييرات في (البُنى) أو الأجهزة التي كانت معدة في الأساس لقمع الجماهير. على العكس تمامًا، فقد بقي الحضور الفرنسي مهمًا، في هذا النظام الموروث عن الاستعمار، على مستوى إطارات الوظيفة العمومية، على رغم الرحيل الجماعي للأوروبيين في عام 1962.
الجدول رقم (3- 2)
الجهاز الإداري الجزائري في عام 1962
إطارات فرنسية
إطارات جزائرية متخرجة من مدارس الإدارة الاستعمارية 13729
22182 19.6 بالمئة
31.7 بالمئة
المجموع الأول 35911 51.3 بالمئة
إطارات قادمة من جبهة التحرير الوطني 34097 48.8 بالمئة
المجموع 70008 100 بالمئة
المصدر: Abdelhamid Brahimi, L'Economie algérienne (Alger: Office des publications universitaires, 1991). p. 83.
يجدر بنا أن نشير إلى أن الحضور الفرنسي داخل الإدارة الجزائرية يكتسي طابعين، مباشرًا وغير مباشر.
ويمثل الحضور الفرنسي غير المباشر عددًا كبيرًا من الإطارات القادمة من جبهة التحرير الوطني، سواء أولئك الذين كانوا في جهاز الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أو أولئك الذين كانوا في الإدارة المغربية أو التونسية، المتأثرين كلهم بالنمط الإداري الفرنسي، إلى هذه الدرجة أو تلك، كما سنرى لاحقًا.
67
أما الحضور الفرنسي المباشر فيكتسي بدوره طابعين، أولًا أن أكثر من نصف إطارات الوظيفة العمومية هم إما فرنسيون وإما جزائريون كونتهم وأعدتهم السلطات الفرنسية بمنظور استعماري لضمان خلف لها. ثم إن هذا الحضور الفرنسي قد تدعم بإطارات فرنسية بقيت في الجزائر وتمثل قرابة 40 بالمئة من الإطارات العاملة في أعلى مناصب التصور والقرار كما يبينه الجدول التالي.
الجدول رقم (3- 3)
فئات التأطير في الوظيفة العمومية
فئة التأطير الإطارات الفرنسية والجزائرية الموالية لفرنسا
الفئة أ: إطارات الإعداد والقرار 43 بالمئة (منهم 39 بالمئة من الفرنسيين)
الفئة ب: إطارات تسيير 77 بالمئة (منهم 43 بالمئة من الفرنسيين)
الفئتان ج و د: إطارات دنيا 12 بالمئة (منهم 3 بالمئة من الفرنسيين)
المصدر: المصدر نفسه، ص84.
وبما أن النظام الإداري الموروث عن فترة الاحتلال ممركز ومهيكل بشدة، فإنه من السهل تصور حجم الوزن النسبي للحضور الفرنسي المباشر وغير المباشر، وأهمية تأثيره في مراكز القرار بعد الاستقلال.
وقد تم القيام بالعملية نفسها في المجال الاقتصادي، حيث أقامت فرنسا بُنىَّ ووضعت أناسًا يحمون لها مصالحها الاقتصادية.
ثانيًا: تنظيم تبعية الجزائر الاقتصادية
للإحاطة جيدًا بتصور فرنسا الخاص باستراتيجيتها لتعزيز سيطرتها الاقتصادية في الجزائر بعد الاستقلال في إطار اتفاقيات إيفيان أو اتفاقيات أخرى لاحقة، يجدر بنا أن نبدأ بذكر الخصائص الرئيسية للاقتصاد الاستعماري الذي تندرج الاستراتيجيا المذكورة في إطاره.
68
1- خصائص الاقتصاد الجزائري قبل عام 1954
لقد اعتمد الاقتصاد الاستعماري في الجزائر على الاستغلال والتعمير منذ الغزو العسكري الفرنسي في القرن التاسع عشر.
بدأ الاستغلال مع المصادرة الكثيفة لأراضي الجزائريين، التي تلاها تفكيك أنماط الإنتاج الفلاحية والرعوية وتحطيم النشاطات الحرفية التي كانت موجودة قبل الاحتلال. فقد استولت الإدارة على ملايين الهكتارات من أحسن الأراضي الموجودة في الشمال بجانب الموانئ، بينما تم طرد الفلاحين الذين نزعت منهم أراضيهم وجرى إفقارهم إلى المناطق الجبلية لاستصلاح أراضٍ قاحلة حتى يبقوا على قيد الحياة. فتشكل هكذا قطاعان فلاحيان، سُمّي الأول تقليديًا ويتشكل من «الباقين على قيد الحياة» ويعتمد على اقتصاد التقوت، والثاني عصريًا يملكه الأوروبيون المهاجرون، ويتجه إلى التصدير ويقوم على قواعد الرأسمالية الاستعمارية.
كان المعمرون المهاجرون، وعددهم عشرون ألفًا استقروا في أراضٍ خصبة، يتوفرون على مليوني هكتار تساهم بنسبة 65 بالمئة من الإنتاج الزراعي الكلي للجزائر، بينما يساهم 630000 مالك جزائري بنسبة 35 بالمئة من الإنتاج الإجمالي.
من جهة أخرى، كانت الصناعة ما بين عاميْ 1920 و1930، في بداية تكونها وتقتصر بشكل رئيسي على النشاط التحويلي في فروع الغذاء والنسيج والخزف والجلود والمناجم.
كانت الجزائر في عهد الاستعمار تختص بالزراعات الموجهة للتصدير وفي صناعة المناجم واستخراج المواد الأولية الموجهة للتصدير، وتستورد مواد صناعية من كل نوع.
وقد أخذ النشاط الحرفي الذي كان متطورًا جدًا في مدن البلاد الرئيسية قبل الاحتلال في الاندثار، بسبب استيراد منتجات صناعية منافسة.
حتى الحرب العالمية الثانية، كان النشاط الصناعي في الجزائر ضعيفًا جدًا، وكانت الوحدات الصناعية صغيرة وعدد فرص العمل فيها متواضعًا جدًا (بضع عشرات آلاف المناصب).
أما ابتداء من عام 1943 فقد تم اتخاذ إجراءات تمنح امتيازات مالية مهمة لتشجيع التنمية في القطاع الصناعي عبر استبدال الواردات.
ولتدعيم هذا الاتجاه، توجه الرأسمال الخاص إلى الصناعة التحويلية للمواد
69
الزراعية (معاصر الزيتون، ورشات صناعة الصابون، مطاحن الحبوب، صناعة المصبرات، ومصانع النسيج) وبعض النشاطات الأخرى الكيميائية والميكانيكية والتعدينية. وعرفت الجزائر في الوقت نفسه إنشاء فروع لشركات فرنسية ذات شهرة عالمية مثل بيشني (Pechiney) ولافارج (Lafarge) وسان غوبان (Saint Gobain). واجتذبت صناعة المحروقات بسرعة الشركات الفرنسية ابتداء من عام 1953، بعد اكتشاف الآبار الأولى في حاسي مسعود وحاسي الرمل.
ونشير إجمالًا إلى أن الاقتصاد الجزائري كان إلى غاية عام 1954، يتميز بالرأسمالية الزراعية، بينما كانت الرأسمالية المالية الفرنسية تهتم بالنشاطات المنجمية والبنكية والتجارية التي تعد مصادر ربح سهل يساهم من جهة أخرى في ترسخ تبعية الجزائر اقتصاديًا وماليًا وتجاريًا للاقتصاد الفرنسي.
وتتميز هذه التبعية في الميدان التجاري برجحان مبادلات الجزائر الخارجية مع فرنسا (وهو ما يمثل أكثر من 80 بالمئة خلال النصف الأول من القرن العشرين)، من جهة، وبالمستوى العالي في العجز البنيوي للميزان التجاري الجزائر من جهة أخرى. كانت تعتمد الصادرات الجزائرية نحو فرنسا أساسًا على الخمور والحبوب والحوامض والفلين والحلفة والحديد الخام والفوسفات والبترول (ابتداء من الخمسينيات) وتقدر واردات الجزائر من فرنسا بحوالي 80 بالمئة. ويرجع العجز البنيوي للميزان التجاري إلى النمو المتواصل والأسرع للواردات على حساب الصادرات.
من جهة ثانية، فإن الجزائر كانت نظرًا لقلة صادراتها إلى خارج منطقة الفرنك مرتبطة بالصندوق المشترك للعملة الصعبة في منطقة الفرنك الذي لم تكن تستطيع السحب منه إلاّ في حدود حساب حق السحب الذي تجهزه فرنسا وتعيد تموينه.
وبالإجمال فإن الاقتصاد الجزائري قبل الاستقلال كانت تتحكم فيه فرنسا التي كان يوجد فيها مركز القرارات الكبرى المتعلقة بالاستثمارات والإنتاج والمبادلات. كانت خطة قسنطينة واتفاقيات إيفيان تهدف، من جهة أخرى، إلى الإبقاء على هذه التبعية الاقتصادية للجزائر تجاه فرنسا.
2- خطة قسنطينة (1959- 1963)
كانت خطة قسنطينة التي أعدت انطلاقًا من «منظورات عشارية» وبدأ تطبيقها في عز حرب التحرير الوطني، والتي أعلن عنها ديغول نفسه، تهدف إلى إنعاش
70
الاقتصاد وخلق 400 ألف فرصة عمل لصرف الشباب الجزائري عن الثورة، والقضاء على دعمه الفعلي أو المحتمل لجبهة التحرير الوطني، وذلك بمحاولة ملء الفراغ السياسي الذي خلقه اندلاع الثورة.
وقد تم اتخاذ إجراءات مغرية في هذا الشأن (مساعدات مالية، تخفيضات جبائيه، فتح الأسواق الفرنسية ... الخ) من أجل تشجيع الاستثمارات الفرنسية في الجزائر. وقد شهدنا في هذا الإطار إطلاق عدد من المشاريع الصناعية قبل عام 1962 في فروع التعدين والميكانيك والنسيج ... الخ، التي لم يتم إنهاؤها بعد 6 أو 7 سنوات من الاستقلال السياسي.
ترك الفرنسيون كذلك للجزائريين مشاريع أخرى كانوا قد أعدوها في إطار تقوية تبعية الجزائر الاقتصادية التي نصت عليها «المنظورات العشارية» المعدة في باريس.
إن تطبيق خطة قسنطينة ولإعداد خطة بعيدة المدى لآفاق عام 1970، سوف تُستمد منها، من جهة أخرى، مشاريع للجزائر المستقلة، إنما نتج منهما تعزيز آليات التبعية الاقتصادية التي تشكل اتفاقات إيفيان إطارها الرسمي والمثال على الحفاظ على المصالح الاقتصادية الاستراتيجية الفرنسية في الجزائر.
3- اتفاقيات إيفيان
حاول ممثلو الحكومة الفرنسية خلال مفاوضات إيفيان في ماي (أيار) عام 1961 لَيَّ ذراع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، باعتراضهم على انتماء الصحراء للجزائر، نظرًا لأهمية آبار البترول والغاز التي اكتُشفت فيها في عام 4953: لقد اصطدمت المفاوضات بهذه المسألة لتخفق في النهاية. وبعد مناورات عديدة، قبلت الحكومة الفرنسية في الأخير سيادة الجزائر على الصحراء، لكنها نجحت مقابل ذلك في انتزاع تنازلات اقتصادية كبيرة.
لقد جاء في اتفاقيات إيفيان في هذا الإطار أنه «على الدولة الجزائرية احترام مبادئ الحرية الاقتصادية والحفاظ على المصالح الرأسمالية الفرنسية كما كانت عليه في الجزائر قبل أول جويليه (تموز) عام 1962. وتكون المساعدات الفرنسية مشروطة باحترام اتفاقيات ومشاريع تنموية يعدها الخبراء الفرنسيون في إطار المنظورات
71
العشارية لخطة قسنطينة. وتبقى البنية الاقتصادية الاستعمارية كما هي، بما في ذلك في المجال البترولي (7).
وباختصار، فإن التنازلات التي منحتها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في اتفاقيات إيفيان تشجع على الإبقاء، بل حتى على تطوير المصالح الاقتصادية الفرنسية التي يتعين على الجزائر المستقلة أن تضمن احترامها.
لقد رفضت قيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني، الممثلة في مفاوضات إيفيان، هذه التنازلات، لكن لم يُسمع لها نداء. ولنذكَّرْ بأن قيادة الأركان كانت قد رفضت اتفاقيات إيفيان في عام 1962، منددة باستسلام الحكومة المؤقتة، المتهمة بالتخلي عن المصالح العليا للجزائر.
لكن الحكومة الفرنسية كانت تعتمد كذلك على وجود فرنسيي الجزائر لضمان تنفيذ استراتيجيتها في السيطرة المتعددة الأشكال. ولما كان الأوروبيون تحميهم اتفاقيات إيفيان «فأمامهم ثلاث سنوات ابتداءً من تاريخ الاستقلال، ليختاروا بين الجنسية الجزائرية والجنسية الفرنسية. فخصوصياتهم الاثنية واللغوية والدينية ستكون محترمة، ويكون للمدن ذات الكثافة الأوروبية وضع خاص» (8).
كما أن المصالح الاقتصادية للأوروبيين ستحافظ عليها اتفاقيات إيفيان. وكانت فرنسا تعتمد كذلك على هؤلاء الأوروبيين لمراقبة التطور المستقبلي للاقتصاد الجزائري على الخط الذي ترسمه فرنسا. لكن الظروف التي انتهت فيها الحرب والتي تميزت بعمليات ابتزاز وجرائم وأعمال تخريب قامت بها المنظمة المسلحة السرية الفرنسية (OAS)، قبيل الاستقلال، دفعت أوروبيي الجزائر إلى الرحيل الجماعي. «إن الفراغ الاقتصادي والاجتماعي» الذي سببه رحيل تسعمئة ألف أوروبي قبل إعلان الاستقلال كانت له آثار وخيمة في اشتغال الاقتصاد، عبر نزع استقرار المحيط التجاري والمالي.
لكن لم يكن هذا «الفراغ» شاملًا، لأن الحضور الفرنسي بقي مهمًا في إدارة وفي الاقتصاد وفي القطاع المالي، وكان يتمثل في إطارات فرنسية وجزائريين موالين لفرنسا وإطارات جزائرية وطنية أو مندمجة، انطبعوا على رغم كل شيء بالمثال الثقافي والاقتصادي والاجتماعي الفرنسي.
...........................
(7) Mohammed Harbi, Le F.L.N.: Mirage et réalité. sens de l'histoire (Paris: Jeune Afrique, 1980), p. 292.
(8) المصدر نفسه، ص292.
72
4- صعود البيروقراطية والتقنوقراطية
أصبحت البيروقراطية والتقنوقراطية، بعد وقف إطلاق النار يوم 19 مارس (آذار) عام 1962، الوسيلتين المفضلتين للسلطة المدنية تحت عصا الجيش. ولقد أعطيت الأولوية للحفاظ على الأجهزة وتطويرها على حساب الصالح العام وعلى حساب تلبية التطلعات الشعبية ولو بصورة تدريجية. إن البيروقراطية والتقنوقراطية اللتين كانت جبهة التحرير الوطني تعتمد عليهما تتصفان بالمركزية المفرطة والتسلط والاستبداد بالرأي والرغبة النامية وغير المبررة في توخي السرية.
وفي الواقع، إن جبهة التحرير الوطني قد انتهت كقوة سياسية من أجل انتصار الثورة منذ عام 1962، وأصبحت تابعة للسلطة وواجهة للجيش.
فالجزائر المستقلة ستبني بمساهمة البيروقراطية والتقنوقراطية اللتين تختلف مكونات أصلهما، لكن تكوينهما وارتباطاتهما ومصالحهما تصب في السياق نفسه.
إن الإطارات العاملة قبل الاستقلال أو المعينة من طرف جبهة التحرير الوطني في عام 1962 في الأجهزة الإدارية والاقتصادية متأثرة بطريقة أو بأخرى بالمثال الثقافي والاقتصادي الفرنسي. وسواء كانت وطنية أو غير ذلك، فإن تلك الإطارات تنتمي إلى التيار الثقافي نفسه، فهي تعتبر امتلاك اللغة الفرنسية والمؤهلات الإدارية أو التقنية هي وحدها مقاييس التوظيف والترقية.
لقد رأينا سابقًا كيف قامت الحكومة الفرنسية بتنظيم التكوين المتسارع والترقية الاجتماعية لـ «الفرنسيين – المسلمين» فضلًا عن تكوين نخبة، إن لم يكن لخلق «القوة الثالثة»، المعارضة لجبهة التحرير الوطني، فعلى الأقل لخلق قوة إدارية وتقنوقراطية تفرض نفسها لاحقًا على جبهة التحرير الوطني كعنصر لا غنى عنه في السلطة في حالة الاستقلال. هكذا إذًا ورثت الجزائر في عام 1962 إطارات ورجالًا وأجهزة تكونت في قالب فرنسي من النموذج الاستعماري والقمعي.
في الوقت نفسه، تم إدماج الجهاز الإداري للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الذي مر قسم من موظفيه على «الهيئة التنفيذية المؤقتة» (التي أنشئت في إطار اتفاقيات إيفيان) في مناصب جيدة في الخطة العضوية للدولة الجديدة عام 1962. ومن هذه النخبة ذات الروح الوطنية أو التي تتظاهر بذلك لكنها موالية لفرنسا، نسجل بروز إطارات ستؤثر لمدة طويلة في الخيارات الاقتصادية للجزائر، مثل
73
بلعيد عبد السلام (9) وإسماعيل محروق (الذي أصبح في ما بعد وزيرًا للمالية) وعبد الله خوجة (كاتب دولة للتخطيط بين عاميْ 1970 و1978) وصغير مصطفاي (محافظ البنك المركزي بين عاميْ 1962 و1984) وغيرهم كثيرون. لكن أحاط كل واحد من هؤلاء المسؤولين الكبار، أنصار الفرنكوفونية، نفسه بإطارات من التوجه السياسي نفسه والبيروقراطي، في جهازه الإداري (10).
كخلاصة للفصول السابقة، نستنتج أن فرنسا قد نجحت، وذلك قبل إعلان الاستقلال السياسي للجزائر بكثير، في إقامة جهاز للمحافظة على مصالحها والدفاع عنها، وذلك بتنظيم وجودها في مختلف الأجهزة التي ستصبح هي المؤسسات الجديدة للجزائر، ولا سيما في الجيش والإدارة والاقتصاد والمالية والتعليم والتكوين.
.............................
(9) شغل بلعيد عبد السلام على التوالي منصب عضو في الهيئة التنفيذية المؤقتة فكلف بالشؤون الاقتصادية (1962) ومنصب رئيس ومدير عام لسوناتراك (1963- 1965)، ومنصب وزير الصناعة والطاقة (1965- 1977) ومنصب وزير الصناعات الخفيفة (1977- 1979). وخلال الفترة بين عاميْ 1965 و1978 اعتمد بلعيد عبد السلام على مكاتب دراسات فرنسية، وعلى مراد كاستال، وهو فرنسي اختار الجنسية الجزائرية، وعلى مستشار يهودي بلجيكي اسمه سيمون لم يغادر الجزائر إلا عام 1980 عندما أصبح بلعيد عبد السلام بدون أي حقيبة وزارية. وعندما عين كوزير أول (1992- 1993) بعد اغتيال بوضياف وعد في عبارة مقتضبة، بـ «اقتصاد أخرب» لإخراج الجزائر من أزمتها السياسية والاقتصادية. لكننا لاحظنا بما لا يدعو للشك أن الجزائر قد عرفت الحرب لا الاقتصاد، وأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني للبلاد تدهور بصفة رهيبة في ظل حكمه.
(10) وهكذا اعتمد بلعيد عبد السلام على الإطارات الآتية:
- غزالي، المدير العام لسوناتراك (1965- 1977)، وزير الطاقة (1977- 1979)، وزير للمحروقات (1979- 1980)، وزير للمالية في عام 1990، وأخيرًا وزير أول جوان (حزيران) 1991- جويليه (تموز) 1992. وقد وقع انقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992 واغتيال بوضياف في فترة توليه رئاسة الحكومة.
- محمد الياسين، طالب سابق بالمدرسة متعددة التقنيات في باريس، «فار» من الجيش الفرنسي، معيَّن لدى النقيب بن عبد المؤمن («الفار»، هو أيضًا من الجيش الفرنسي) في معسكر التدريب بواد ملاق بين عاميْ 1959 و1961، مدير عام للشركة الوطنية للصناعة الحديدية (SNS) (1963- 1977)، وزير الصناعة الثقيلة (1977- 1982)، مستشار لدى الوزيرين الأولين غزالي ورضا مالك (1992- 1994).
- مراد كاستال، وهو إطار فرنسي اختار الجنسية الجزائرية، وشغل منصب أمين عام لوزارة الصناعة والطاقة (1970- 1977).
- عبد العزيز خلاف، المدير العام للتخطيط في وزارة الصناعة والطاقة (1970- 1977) رقي إلى منصب أمين عام في الوزارة نفسها (1977- 1979)، وزير التجارة (1980- 1986)، وزير المالية (1986- 1989) وأخيرًا أمين عام برئاسة الجمهورية بين عاميْ 1991 و1992، وهو شريك في انقلاب يناير (كانون الثاني) 1992.
أما في ما يخصر عبد الله خوجة، فقد أشرف على أمانة الدولة للتخطيط (1970- 1979)، وشكل حوله فريقًا مكونًا أساسًا من محمود أورابح (من عائلة حركيين معروفين، وقائم بأعمال أمين عام لفترة تفوق 9 سنوات، رغم أن بومدين رفض التوقيع على تعيينه) وغازي حيدوسي، وكان مدير الدراسات في الهيئة نفسها، ثم شغل لفترة قصيرة منصب وزير المالية في حكومة حمروش وكان قريبًا من المخابرات الجزائرية والفرنسية. ويستند هذا الثلاثي بدوره إلى محمد الصالح بلكحلة في ما يتعلق بالشؤون الاقتصادية وإلى براشمي (الذي حصل على الجنسية الفرنسية) في ما يتعلق بالشؤون القضائية.
74
إن الرحيل الجماعي للأوروبيين من الجزائر في عام 1962 والنصر السياسي لتحالف قيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني، الذي أصبح يسمى الجيش الوطني الشعبي، مع فريق بن بللا وخيضر وبيطاط، قد أفشلا مشروع فرنسا «الجزائر الجزائرية» وشوشا لبعض الوقت على التقدم المبرمج للتيار الموالي لفرنسا الذي يطلق عليه عادة اسم «حزب فرنسا». وفي الواقع، حتى وإن كان هذا التحالف غير متجانس تمامًا، لكنه بقي تحت سيطرة شخصيات، مثل بن بللا وخيضر وبومدين ومنجلي، تنتمي إلى التيار العربي الإسلامي وترفض الاستعمار الجديد والفرنكفونية كإيديولوجيا.
هذا الوضع الجديد سوف يجبر أنصار الحضور الثقافي الفرنسي في الجزائر على الاكتفاء في تلك الأثناء بمكانة متواضعة وعلى تنظيم أنفسهم للتحكم في الأجهزة في القطاعات الأكثر استراتيجية في انتظار اللحظة الحاسمة للاستيلاء على الحكم.
إن مسيرة الاستيلاء على الحكم ستطول، والدليل أنه لزم انتظار شهر جانفي (كانون الثاني) عام 1992 حتى يحقق حزب فرنسا، عن طريق الانقلاب، هدفه النهائي، وستسمح لنا الدراسة اللاحقة لمختلف الفترات، بين عاميْ 1962 و1991، بكشف تقدم التيار الموالي لفرنسا في أهم أجهزة الدولة.
إلا أن هذا لم يمنع حزب فرنسا من أن يكون حاضرًا في عام 1962، في كل المؤسسات الجزائرية الجديدة، ولا سيما في جيش التحرير الوطني، الذي يعد النواة الرئيسية في الخارطة السياسية الجزائرية، حيث شغل «الفارون» من الجيش الفرنسي مناصب أساسية بعد حصولهم على شرعية ثورية.
75
القسم الثاني
مشاركة «الفارين» من الجيش الفرنسي
في انقلابي 1962 و1965 تمنحهم الشرعية
الفصل الرابع
1962: جيش الحدود يشق طريقه إلى السلطة.
إن عملية استيلاء جيش الحدود بقيادة بومدين على السلطة مرت بعدة مراحل سنذكر بإيجاز أبرز وقائعها. غير أنه خلال هذه المرحلة كان يحتمي جيش الحدود بالقيادة السياسية لجبهة التحرير الوطني بقيادة بن بللا وخيضر.
أولًا: مرحلة مارس (آذار) – جوان (حزيران) 1962
بعد وقف إطلاق النار وإطلاق سراح القادة التاريخيين: آيت أحمد، وبن بللا، وبيطاط، وبوضياف وخيضر، اجتمعت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بتاريخ 22 مارس (آذار) في الرباط وبحثت في النزاع القائم بينها وبين قيادة الأركان العامة. وتم رفض اقتراح بن بللا القاضي بالدعوة لانعقاد المجلس الوطني للثورة الجزائرية قصد إيجاد حل للأزمة.
ودعت قيادة الأركان العامة القادة الخمسة التاريخيين المحررين، والأعضاء في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، للتوجه إلى وجدة (على الحدود الجزائرية – المغربية) لمقابلة إطارات جيش التحرير الوطني. وقد أراد بومدين بهذه الزيارة أن يمنح بن بللا الفرصة للتعبير عن آرائه علنًا وتفصيل أفكار لم يدافع عنها حتى ذلك الحين إلا قادة الأركان العامة. وقد استقبل بن بللا بحفاوة كبيرة في وجدة وهذا ما لم يعجب رفقاءه.
ونظرًا لقلق الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من تقارب بن بللا وقيادة الأركان العامة قررت أن توقف كل شكل من أشكال تموين جيش التحرير الوطني.
79
وبعد عودة بن بللا من مصر إلى حيث دعاه الرئيس جمال عبد الناصر، صرح عند وصوله إلى تونس في 14 أفريل (نيسان) حيث استقبله كل من الرئيس بورقيبة وبعض وزراء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وضباط من جيش التحرير الوطني يمثلون قيادة الأركان العامة، قائلًا: «نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب».
وقد استقبل جيش التحرير الوطني الذي كان متمركزًا في الحدود هذا التصريح الشهير الذي بثته الإذاعة التونسية بترحيب في حين أنه أغضب الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
وتوجه بن بللا ورفقاؤه الأربعة إلى الحدود الجزائرية – التونسية على أثر دعوة من قيادة الأركان العامة، وتم استقبالهم بحفاوة بالغة. وخلال اجتماع مع ضباط جيش التحرير الوطني، تناوب كل من بن بللا وبوضياف على الكلام وقد استقبلت كلمة بن بللا بحفاوة على عكس كلمة بوضياف، التي قوبلت بالقليل من التصفيق.
وعند نهاية شهر أفريل (نيسان) ازدادت حدة التوتر بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وقيادة الأركان العامة. وعلى إثر حادث تسبب به الجيش الفرنسي ضدّ وحدات جيش التحرير الوطني في جبل بن صالح، اتهمت قيادة الأركان العامة الجيش الفرنسي بعدم احترام اتفاقيات إيفيان وهددت بالرد إذا لم يوضع حد لمثل هذه الاستفزازات. وساعد الهدوء واحترام وقف إطلاق النار قيادة الأركان العامة على استئناف إرسال الضباط والمقاومين (المتنكرين في زي مدنيين) إلى الداخل برفقة اللاجئين الذين بدأوا يعودون بكثرة في إطار منظم إلى الوطن.
ونظرًا لانزعاج الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من تصريحات قيادة الأركان العامة العنيفة ومن تصرفها الهادف لتحسين مواقعها في الميدان، قررت تجميد ميزانية قيادة الأركان العامة بقصد شلها. وهكذا وجد جيش التحرير الوطني المتمركز في الحدود نفسه بعد بضعة أسابيع محرومًا من الموارد المالية والمادية التي كانت تمنحه إياها الحكومة المؤقتة بانتظام، غير أنه نظرًا لتوقّع قيادة الأركان العامة لمثل إجراءات الانتقام هذه، فقد عملت مسبقًا على تضخيم ذخائرها وادخار مبالغ مالية كبيرة لمواجهة أي احتمال.
وأمام تعفن الوضع، قام كل من بللا، وبيطاط وخيضر بدفع الحكومة المؤقتة مجددًا إلى استدعاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وحصلوا في النهاية على الأغلبية رغم معارضة الثالوث كريم وبوصوف وبن طوبال الذين كانوا حتى ذلك الحين أسياد الموقف. وأخيرًا تم استدعاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية، فاجتمع في 21 ماي
80
(أيار) في طرابلس (ليبيا) وصادق على برنامج جبهة التحرير الوطني. وأطلق عليه «برنامج طرابلس» (1).
وإذا كان البرنامج قد صودق عليه من دون صعوبات فإن المناقشات حول اختيار أعضاء المكتب السياسي كانت صاخبة وتبرز الانقسامات العميقة في المجلس الوطني للثورة الجزائرية. وقد ظهر تياران سياسيان متجابهان: أحدهما ذو توجه غربي بقيادة الحكومة المؤقتة (باستثناء بن بللا وبيطاط وخيضر ومحمدي سعيد)، ويعتمد على الولاية الثالثة وجزء من قيادة الولاية الثانية (صالح بوبنيدر، طاهر بودربالة، عبد المجيد كحل الرأس) كما على فيديرالية فرنسا، وثانيهما ذو توجه عربي – إسلامي بقيادة بن بللا نائب رئيس الحكومة المؤقتة، ويتمتع بدعم قيادة الأركان العامة والولايات: الأولى، والخامسة، والسادسة، وكذلك بدعم قائدين من الولاية الثانية هما العربي برّجم ورابح بلوصيف. وعلى رغم أن كلًا من فرحات عباس وأحمد فرنسيس وأصدقائهما من الاتحاد الديمقراطي للحركة الجزائرية السابق ذوو انتماء غربي، إلاّ أنهم انضموا إلى هذه المجموعة قصد الانتقام من مناورات الثالوث وبن خدة التي كانت وراء إبعادهم من الحكومة المؤقتة في السنة السابقة، في حين أن الولاية الرابعة بقيت حيادية.
ونظرًا إلى أن مجموعة بن بللا وقيادة الأركان العامة لم تكن تتوفر إلا على الأغلبية البسيطة وليس على الثلثين كما تشترط القوانين الأساسية، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية وجَدَ نفسه في مأزق، فقرر بن خدة مغادرة اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية في طرابلس، واتجه إلى تونس في مساء 6 جوان (حزيران) حتى يتجنب انحلال عقدة أعمال المجلس الوطني للثورة الجزائرية، ويحول دون صدور قرارات لن تكون في صالح مجموعة الحكومة المؤقتة. والتحق به عدة أعضاء من المجلس الوطني للثورة الجزائرية. ولم يبق إذن إلا اختبار القوة لفرض الذات.
وفي هذا السياق، قرر أعضاء قيادة الأركان العامة تركيز جهودهم على الولايات التي كانت لا تزال متحفظة تجاههم وتركوا لبن بللا قيادة النشاط السياسي. لقد كانت قيادة الأركان العامة تريد أن تهتم بالولايتين الثانية والرابعة والواحدة تلو الأخرى، قصد إقناعهما وإعادتهما إلى صفّها.
وفي هذا الإطار، أرسلت قيادة الأركان العامة مباشرة بعد أعمال المجلس
........................
(1) يقدم محمد حربي تفاصيل مهمة جدًا حول ظروف إعداد البرنامج الذي شارك فيه، وحول اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية. ولمزيد من المعلومات، أنظر:
Mohammed Harbi, Le F.L.N.: Mirage et réalité. sens de l'histoire (Paris: Jeune Afrique, 1980), pp. 330-364.
81
الوطني للثورة الجزائرية إلى الولاية الثانية مبعوثين هما: النقيب الشاذلي بن جديد (عضو منطقة العمليات في الشمال) والنقيب الهاشمي هجرس (مسؤول المفوضية السياسية في مقر قيادة الأركان العامة وقائد سابق للمنطقة الرابعة للولاية الثانية)، ومحمد عطا يلية (قائد فيلق ومسؤول سابق لناحية في المنطقة الرابعة، الولاية الثانية)، غير أنه تم إيقافهم جميعًا في سهل عناية على إثر أمر للعقيد صالح بوبنيدر، قائد الولاية الثانية، وحليف الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. بعد توقيفهم، تم أرسالنا، أنا، وكنت برتبة نقيب (قائد فيلق)، والرائد العربي برجم (عضو في قيادة الولاية الثانية وحليف لهيئة الأركان العامة) والملازم الأول عبد الرحمان بن جابر، في مهمة إلى الداخل. وقد استطعنا الالتحاق بمقر القيادة العامة للولاية الثانية (في الجبال التي تشرف على الميلية) والتحدث مع عدة ضباط في حضور النقيب بلقاسم فنطازي المكلف بقيادة الولاية خلال غياب العقيد بوبنيدر.
كانت مهمتنا تتمثل في شرح خطورة الأزمة لإطارات الولاية الثانية والتحاور معهم، مع تحذيرهم من الأخطار التي تتربص بالثورة، والناجمة عن تطبيق اتفاقيات إيفيان والمواقف الخاطئة للحكومة المؤقتة. كانت تجري المحادثات في جو هادئ وودي لكن إطارات الولاية الثانية الذين لم تكن تصلهم معلومات عن الحكومة المؤقتة وقيادة الأركان العامة والمجلس الوطني للثورة الجزائرية، ظلوا مرتابين أمام الشروحات التي قدمها لهم الموفدون الثلاثة. وتبين من هذه المحادثات أن إطارات الولاية الثانية يتبعون قائدهم صالح بوبنيدر والحكومة المؤقتة على سبيل الانضباط.
لقد حاولت أنا شخصيًا، وكنت حينها نقيبًا، والرائد العربي برجم، والملازم الأول عبد الرحمان بن جابر المضّي أبعد عن طريق إقامة اتصالات مباشرة مع ضباط مختلف مناطق الولاية، ولا سيما في المنطقتين الأولى والثانية، حيث اتصلنا بعدد كبير من الضباط الذين كان من بينهم من يشاطرنا وجهة النظر حول الأزمة. غير أنه عمليًا لا شيء كان يمكن الشروع فيه ميدانيًا إذ إنه في نهاية المطاف تمالك المنشقون المحتملون أنفسهم ورفضوا المضي أبعد، على سبيل الانضباط. خلال زيارتنا للمنطقة الأولى، التي جبناها خلال عدة أيام، تم منعنا، أنا شخصيًا والعربي برجم وعبد الرحمان بن جابر، من مواصلة جولتنا في سيارتنا التي تم توقيفها من طرف مجموعة من الجنود المسلحين. وقد ترجونا وهم يبكون لمغادرة الولاية، لأنهم، كما قالوا لنا، تلقوا أمرًا بالقبض علينا. وأضافوا: «إننا نثق فيكم ونعرف أنكم نزهاء ونرفض القبض عليكم، لأننا نرفض أن نرى المجاهدين يتقاتلون في ما بينهم. يجب أن تحل خلافات المسؤولين على مستوى القمة». ثم حيونا وتركونا نمضي في سبيلنا.
واقترح علينا العربي برجم الاستقرار بالميلية أو بميلة حيث كان لنا مناصرون
82
كثيرون. لكن بعد أن قضينا الليلة في ميلة، اقترحت على العربي برجم تفادي المواجهة وإراقة الدماء، وألححت على أن نغادر ميلة إلى جهة أخرى بالولاية الأولى، غير بعيدة عن الولاية الثانية. وقررنا الاستقرار بعين مليلة وأعلمنا فورًا قيادة الأركان العامة والعقيد طاهر زبيري، قائد الولاية الأولى بذلك.
وقد تم اختيار عين مليلة نظرًا لقربنا من قسنطينة (حوالي 50 كلم) حيث أقام صالح بوبنيدر، قائد الولاية الثانية، مقر قيادته العامة. وبهذا، كنا أنا والعربي برجم وعبد الرحمان بن جابر نقوم بالعمل انطلاقًا من عين مليلة. وقد أقمنا اتصالات مع ضباط من الولاية الثانية، عن طريق أشخاص والبريد والهاتف والمناشير.
وفي الوقت نفسه، توجه الرائد قايد أحمد، عضو قيادة الأركان العامة، إلى المدية لمقابلة إطارات الولاية الرابعة، ولكن مجلس الولاية رجاه مغادرة الولاية لأنه لم يقتنع بالأطروحات التي عرضها قايد، فغادر هذا الأخير المدية متوجهًا إلى قسنطينة حيث أوقفه مجلس الولاية الثانية.
في 10 جوان (حزيران) عاد كريم بلقاسم ومحمد بوضياف إلى الجزائر العاصمة ثم ذهبا إلى تيزي أوزو وقسنطينة حيث تأكدا من الدعم الفعال للولايتين الثانية والثالثة.
وإجمالًا، عند نهاية شهر جوان (حزيران) وعشية استفتاء تقرير المصير، فإن ميزان القوى الميداني كان بلا ريب في صالح قيادة الأركان العامة. فهذه الأخيرة تملك قعلًا جيشًا مدربًا تدريبًا جيدًا وشديد الانضباط، مكونًا من 24000 رجل عند الحدود، علاوة على دعم الولايات: الأولى والخامسة والسادسة، ودعم رائدين عضوين في مجلس الولاية الثانية. أكثر من ذلك، فإن التحالف مع بن بللا وخيضر كان يمنح قيادة الأركان العامة بعدًا سياسيًا واسعًا من شأنه أن يجذب التحالفات والدعم الضروري للتسوية السياسية للازمة لصالحهم.
أما في ما يخص الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية فكانت تحظى بدعم الولاية الثانية (ذات القيادة المنقسمة)، والولاية الثالثة وفيديرالية فرنسا. وقد بقيت الولاية الرابعة حيادية.
بعد تخلي كل من بن بللا وبيطاط وخيضر ومحمدي السعيد، حلفاء قيادة الأركان العامة، لم تعد الحكومة المؤقتة تضم سوى 8 وزراء. وبعد عودة كريم وبوضياف إلى الجزائر رغم المنع الذي فرضته عليهم الاتفاقيات المبرمة مع فرنسا، لم يبقَ في تونس إلا ستة أعضاء من الحكومة المؤقتة «يمثل تاريخ 26 جوان (حزيران)
83
نهاية الحكومة» (2). وآخر عمل قامت به الحكومة المؤقتة كان عزل قيادة الأركان العامة بتحريض من كريم وبوضياف. «لقد انتهت جبهة التحرير الوطني في ذلك اليوم باعتبارها تجمعًا وطنيًا واسعًا» (3).
ثانيًا: مرحلة جويليه (تموز) – سبتمبر (أيلول) 1962.
بعد نشر نتائج استفتاء تقرير المصير الذي أجري في 1 جويليه (تموز) عام 1962، تم إعلان استقلال الجزائر في 3 جويليه (تموز). لكن تفجر فرحة وحماس الشعب الجزائري خففته خطورة الأزمة.
وفي ما يخص الحكومة المؤقتة، كانت تصريحات علنية لمسؤولين سياسيين تصدر من كل جهة، والكل شارك: أعضاء من الحكومة المؤقتة، وممثلون لجبهة التحرير الوطني في الجهاز التنفيذي المؤقت، وممثلون للمنطقة المستقلة للجزائر العاصمة، وممثلو فيديرالية فرنسا وغيرهم. فاختلطت الأمور على المواطن البسيط وعم اللبس.
وفي المقابل، فإن تحالف قيادة الأركان العامة مع بن بللا وخيضر كان ينشط بصورة جيدة. وعلى الصعيد السياسي، سوف يعكف بن بللا وخيضر وأصدقاؤهما على العمل لإقناع الولايات التي لا تزال متحفظة بوضع حد للأزمة، وذلك عن طريق الاعتراف بالمكتب السياسي (4). استقر بن بللا في تلمسان حيث جرى تنظيم اتصالات وأُجريت مناقشات ومفاوضات ومساومات مع أعداء الأمس.
وفي 22 جويليه (تموز)، يتم الإعلان عن إنشاء المكتب السياسي وهذا الإعلان يفجر ما تبقى من الحكومة المؤقتة. فيستقيل بغض الوزراء في ضجة، ويفضل البعض الآخر الانسحاب في هدوء لتجنيب البلاد الاضطراب واللبس، وآخرون يريدون مناقشة مصيرهم. مريم وبوضياف هما الوحيدان اللذان بالغا في تقدير قواتهما وأصرا على معارضة قيادة الأركان العامة وبن بللا، بالاعتماد على الولاية الثالثة وعلى المنطقة المستقلة للجزائر العاصمة.
وعلى الصعيد العسكري، شرعت قيادة الأركان العامة في تطبيق مخططها. وغداة الإعلان عن الاستقلال، قام الجنود المتمركزون في الحدود بالتحرك نحو
............................
(2) المصدر نفسه، ص352.
(3) المصدر نفسه، ص354.
(4) كان يتكون المكتب السياسي المشكل في آخر دورة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية من بن بللا، آيت أحمد، بيطاط، بوضياف، خيضر، محمدي السعيد، حاج بن علة. غير أن المغادرة السريعة لبن خدة متبوعًا بأعضاء آخرين، لم تسمح بالاختتام الشكلي لاجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية بصورة قانونية.
84
الداخل. في الشرق، كان الفيلق الذي يقوده النقيب عبد الرزاق بوحارة أول العائدين، واحتل سوق أهراس في جويليه (تموز) ثم استقر هناك، وفي الوقت نفسه عادت وحدات في الغرب إلى وهران واحتلت عدة مدن.
وقد عمدت بعض الولايات وخصوصًا الولايتين الثالثة والرابعة إلى تجنيد الشباب قصد رفع عدد قواتها المسلحة. وفي الداخل ارتفع عدد جيش التحرير الوطني هكذا من عشرة آلاف رجل عشية وقف إطلاق النار، استنادًا إلى مصادر فرنسية، إلى حوالي أربعين ألفًا خلال بضعة أشهر (5).
وهذا ما أدى إلى إطلاق التسمية المحقرة «جنود 19 مارس (آذار)» على المجندين الشباب الذين باتوا خلال بضعة أيام «مجاهدين قدماء».
من جهة أخرى، بقيت الولاية الثانية تشغل بال قيادة الأركان العامة، وقد تفاوض قائدها العقيد صالح بوبنيدر مع بن بللا حول اتفاق يقضي بالاعتراف المتبادل على أساس تسوية يوافق عليها الطرفان. وعند عودة العقيد بوبنيدر إلى قسنطينة، أعلن لرفقائه في 24 جويليه (تموز) نهاية الأزمة، لكن في 25 جويليه (تموز) هاجم الرائد برجم قسنطينة التي استولى عليها بعد معارك كانت أحيانًا عنيفة. وقد أمر بتوقيف العديد من الإطارات السياسية والعسكرية للولاية الثانية، من بينهم العقيد بوبنيدر وبن طوبال، عضو الحكومة المؤقتة والقائد السابق لهذه الولاية.
كان احتلال قسنطينة موضوع تحضيرات دقيقة أُعدت في مقر قيادة العربي برجم. ولما كنت نائبًا لهذا الأخير، فقد كنت الوحيد الذي عارض بشدة هذه العملية، وقد عارضت -في الواقع- مواجهة مسلحة بين المجاهدين ولم أكن أريد سماع الناس يتحدثون عن إراقة الدماء بين الإخوة. ومن جهة أخرى، كنت أرى أن تغيير الاتجاه بوسائل سياسية وسليمة ما زال ممكنًا، جاهلًا أي شيء عن المساومات التي كانت جارية آنذاك بين بن بللا والعقيد بوبنيدر والتي أفضت إلى تسوية بينهما.
لكن الرائد بِرَّجْم كان يشعر في الظاهر بأن الأمور تجاوزته ويرفض أن يتم على حسابه اتفاقٌ خشي حصوله بين بن بللا وبو بنيدر. كان يرفض التسليم بأن بوبنيدر والإطارات الموالية له يقودون الولاية الثانية في تلك اللحظة الحرجة. بمعنى آخر، كان يعتقد أنه أفراط في تقديم الدعم لقيادة الأركان العامة ولبن بللا ولم يكن يريد أن تفلت من يده السيطرة على عملية إعادة هيكلة جيش التحرير الوطني، وإعادة تنظيم جبهة التحرير الوطني وتحضير لوائح المرشحين للانتخابات التشريعية المتوقع إجراؤها.
..............................
(5) المصدر نفسه، ص359- 363.
85
في سبتمبر (أيلول). لذا نظم تلك العملية العسكرية ضد قسنطينة لاحتلالها وتغيير ميزان القوي ميدانيًا. كان قد فعل ذلك وحصل إذًا على ما يريده، لكن للأسف بعد سقوط ضحايا كثيرة.
إلا أن استيلاء برجم على قسنطينة تمخض عنه انضمام إطارات الولاية الثانية للقيادة الجديدة. وأصبح الرائد برجم، الذي كان حتى ذلك الحين مدعومًا من طرف قيادة الأركان العامة، قائدًا للولاية يساعده رفيقاه، أنا شخصيًا، كمساعد عسكري مكلف بإعادة هيكلة جيش التحرير الوطني، وبمهام أخرى، وعبد الرحمن بن جابر، كمساعد سياسي.
وخلال شهر أوت (آب)، واصل المجلس الجديد للولاية الثانية انكبابه على مهمته تحت قيادة برجم. وهذا ما سمح لي باتخاذ التدابير الملائمة للاستمرار في ضمان النظام والأمن، وتطهير مالية الولاية (عن طريق إدراج المحاسبة والشفافية ...) بقصد إعادة تنظيم وحدات جيش التحرير الوطني المتمركز في الداخل (طبقًا للخطة العضوية لقيادة الأركان العامة). وكان قد تم الشروع في تغيير نشاط عناصر جيش التحرير الوطني بتخييرهم بين تعيينهم في جبهة التحرير الوطني أو تدبير وظيفة مدنية لهم أو تسريحهم، لكن بناء على طلبهم. وفي الوقت نفسه كانت قائمة نواب المستقبل تعد بإشراف برجم بمساعدة بن جابر (لم تكن الانتخابات التشريعية الأولى للاستقلال تضم سوى قائمة وحيدة وهي التي أعدها المكتب السياسي وقادة الولايات).
وفي قسنطينة، انعدام الأمن وأصبحنا في وضعية وجدنا فيها مقاومين ممن لم يعينوا بعد في وحدات أعيد تنظيمها مؤخرًا يقومون بتجاوزات من شتى الأنواع. فقد سمح بعضهم لأنفسهم بأن يحتلوا بدون ترخيص إداري شققًا وفيلات تركها أوروبيون، وبعضهم استولى بطريقة غير قانونية على محلات تجارية تركها مالكوها الأوروبيون الذين غادروا الجزائر بصفة نهائية، والبعض الاخر كان يقوم بعمليات نقل الأثاث الموجود في مساكن أصبحت «شاغرة تمامًا»، ومنهم من فام باعتداءات مسلحة على أوروبيين.
لقد جاءني عدد كبير من المواطنين يشتكون من تدهور الوضع الأمني. وقد رأيت أن هذه الوضعية غير مقبولة. ولهذا قررت وضع حد لهذه التصرفات المضرة وغير المقبولة، والتي تضر من جهة أخرى بسمعة جيش التحرير الوطني. هكذا أنشأت في قسنطينة لأول مرة شرطة عسكرية اخترت عناصرها بنفسي (جنودًا وضباط صف وضباطًا) من بين العناصر الأكثر نزاهة وانضباطًا، وأعطيتهم تعليمات صارمة بإعادة النظام والأمن وذلك بإلقاء القبض على كل عنصر يُضبط متلبسًا بجرم نهب أو سرقة. وهكذا كانت دوريات مجهزة بالسيارات تجوب على مدار الأربع
86
والعشرين ساعة الأحياء السكنية ووسط المدينة الذي كان مسرحًا لاعتداءات مختلفة الأنواع. واستتب النظام بصفة كاملة في أقل من شهر بقبضة من حديد.
وهناك مثالان جديران بالذكر على سبيل التوضيح وهما:
• أوقفت الشرطة العسكرية نقيبًا في جيش التحرير الوطني ببذلته الرسمية (قائد سابق لمنطقة في الولاية)، برفقة جنديين، عندما كانوا يستولون على صندوق حانة مطعم أوروبي ليلًا وتم سجنهم. ورغم أن هذا النقيب كان مقربًا جدًا من الرائد برجم، فإنني أصررت على قرار السجن وأسندت القضية إلى لجنة قضائية عسكرية.
• وبعد بضعة أيام، تم إيقاف قائد فيلق وقائد كتيبة وجنديين (جميعهم من المنطقة الثانية للولاية الثانية وجد مقربين أيضًا من الرائد برجم) كانوا على متن سيارة حوالي الساعة الواحدة صباحًا عند مدخل الحامة (بلدة تقع على بعد 1 كلم من قسنطينة). وقد قامت الشرطة العسكرية بتفتيش السيارة ووجدت بداخلها مجوهرات ومبلغًا ماليًا كبيرًا، اعترف الضباط بجرمهم وبأنهم قادمون من (حربيلون) في ناحية عناية، التي أصبحت تدعى بعد بضعة أشهر (عمر شطايبي) وقد قاموا بسرقة عائلة فرنسية هناك. فتم اقتيادهم مباشرة نحو دار الباي في قسنطينة، مقر قيادة الولاية الثانية، حيث قمت بحبسهم، من دون علم الرائد برجم، وتم إعداد محضر من طرف ضابط نائب عام عينته أنا شخصيًا. وأعيدت الغنيمة بعد ذلك إلى مالكيها مقابل وصل قانوني موقع. وقد طلب مني العربي برجم، الذي كان يجهل مكان حبس أصدقائه، إطلاق سراح كل الموقوفين، فرفضت وألححت على تقديم المتهمين إلى العدالة، بعد أن قمت بنقلهم إلى مكان أكثر أمانًا.
وبعد بضعة أيام، استطاع العربي برجم أن يحدد موقعهم فأطلق سراحهم بعد ترتيب مسرحية بالتمام والكمال. فذات يوم جاءني برجم إلى مكتبي، وطلب مني مرافقته إلى قاعة الاجتماعات. وهناك وجدنا حدرباش الذي كان واليًا على قسنطينة، ومفوض الشرطة وكل الموقوفين. افتتح العربي برجم الجلسة وقام بمرافعة مذهلة ضد الوالي ومفوض الشرطة اللذين اتهمهما بالرغبة في تقسيم صفوف جيش التحرير الوطني عن طريق إيقاف الضباط والجنود «الذين ضحوا بحياتهم من أجل تحرير الوطن وسمحوا لأشخاص مثلكما بأن يشغلوا وظائف عليا لم يحملوا بها حتى منذ بضعة أشهر فقط».
فقاطعته موضحًا له بأني أنا من قام بحبسهم بعد إلقاء القبض عليهم من طرف الشرطة العسكرية، فأعاد برجم الهجوم وأجاب بأن الوالي هو الذي أوقفهم ثم استدار نحو الموقوفين وطرح السؤال نفسه على كل واحد منهم: «هل سرقت؟» وكان
87
كل الموقوفين يجيبون الواحد تلو الآخر: «لا»، فقال برجم: «أنتم ترون جيدًا أنهم أبرياء». ثم استدار نحو الموقوفين وختم قائلًا: «أنتم أبرياء، يمكنكم الانصراف». ولقد كنت في كل مرة أحاول فيها ذكر الوقائع والأدلة التي بحوزتي حول هاتين القضيتين، يقاطعني برجم موجهًا أصابع الاتهام إلى الوالي الذي لم يعترض، بل لم يحاول حتى الدفاع عن نفسه في قضية كان بعيدًا عنها من أولها إلى آخرها.
انتشر خبر إطلاق سراح اللصوص الذين ألقي عليهم القبض متلبسين، بين الثكنات. وتضامن معي عدد كبير من الضباط الذين كانوا يقولون بأنهم مستعدون لتوقيف العربي برجم الذي كانوا يعتبرونه غير كفء، والذي لم يعودوا يحتملون نزواته التي تجاوزت من جهة أخرى قضية عمليات السرقة، لكن عارضت كل عمل غير قانوني ومتهور وفضلت التوجه إلى قيادة الأركان العامة التي بقيت المرجع الشرعي الوحيد بالنسبة لي.
وهكذا انتقلت إلى الجزائر العاصمة، حيث التقيت بالعقيد بومدين والرائد علي منجلي، فأطلعتهما على المناخ العام الذي كان سائدًا آنذاك بين وحدات جيش التحرير الوطني في الولاية الثانية، وعلى استياء الضباط الذي زاد في حدته سلوك برجم. أجابني قائد الأركان العامة ونائبه بأنهما: «في حاجة إلى العربي برجم في هذه الفترة الحاسمة». ليضيف بومدين: «إنك ما زلت شابًا بحيث لا يمكنك الحلول فورًا محل الرائد برجم» (6)، معطيًا الأمور بعدًا ذاتيًا بتحويل النقاش إلى إطار الطموحات الشخصية، وهو ما لم يخطر ببالي قط. وقد أدهشني ذلك الرد، فتساءلت كيف يمكن لبومدين ومنجلي، لاعتبارات سلطوية، رفض اتخاذ القرارات المناسبة والتخلي بهذه السرعة عن مبادئ الصرامة والانضباط والنزاهة التي دافعوا دائمًا عنها إلى تلك الساعة. وهكذا قررت الرحيل بسرعة من الجيش عوض البقاء عدة شهور أخرى حتى يستقر الوضع كما كنت أتوقع.
وهكذا لم تعد الولاية الثانية، التي أصبحت قيادتها متماسكة في نظر قيادة الأركان العامة، تمثّل مركز انشغالات للمكتب السياسي، على عكس الولاية الرابعة. والخلاف الكبير الذي كان قائمًا بين الولاية الرابعة والمكتب السياسي كان يتعلق بالتحكم في العاصمة.
فمن جهة، كانت تعترض الولاية الرابعة على بعض أسماء المرشحين للانتخابات التشريعية التي احتفظ بها المكتب السياسي في الدوائر الانتخابية التي يتحكم فيها. وعندما تم الإعلان عن القائمة النهائية للمترشحين في 19 أوت (آب)
................................
(6) كان سني آنذاك 26 سنة.
88
وقعت حوادث تجابهت فيها مجموعات فيها مجموعات مسلحة تابعة للولاية الرابعة مع مجموعات ياسف سعدي (الذي تم الاستحصال على ولائه للمكتب السياسي) في حي القصبة الشعبي.
ومن جهة أخرى، فالإعلان في 26 أوت (آب) الخاص بأعضاء فيديرالية الجزائر الكبرى والذي لم يضم أي ممثل عن الولاية الرابعة أجج الصراع مجددًا، واستؤنفت المعارك في 29 أوت (آب) بين العناصر المسلحة التابعة لياسف سعدي وعناصر الولاية الرابعة. وقد مني الطرفان بخسائر بشرية وراح السكان الذين تعبوا من الأزمة ومن صراع الإخوة الدموي يعبرون عن انزعاجهم من خلال مظاهرات عفوية مصحوبة بصرخات «سبع سنين بركات» «سبع سنوات تكفي» في ضواحي القصبة وكانوا بذلك يدينون الأطراف المتجابهة.
ويقرر المكتب السياسي، في النهاية، بعد أن سئم سياسة الانسداد للولاية الرابعة، أن يستدعي قوات قيادة الأركان العامة والولايات الأولى والخامسة والسادسة من أجل احتلال مدينة الجزائر وتحريرها نهائيًا من سيطرة الولاية الرابعة. وقد دخلت تلك القوات المخلصة لقيادة الأركان العامة وللمكتب السياسي إلى الولاية الرابعة في 31 أوت (آب) عن طريق محورين أساسيين، باتجاه سور الغزلان وقصر البخاري في جنوب المدية التي تمثل آخر حاجز على طريق الجزائر العاصمة، وقد كانت المعارك في ناحية قصر البخاري دموية جدًا وخلفت المئات من القتلى. وبعد بضعة أيام من المعارك المتبوعة بمفاوضات بين محركي الصراع، دخل جنود قيادة الأركان العامة إلى العاصمة في 5 سبتمبر (أيلول). وهكذا انتهت الأزمة عن طريق النار والدم.
وفي 26 سبتمبر (أيلول) جرى الإعلان عن قائمة أعضاء الحكومة التي يترأسها بن بللا، ومن أصل 18 عضوًا، تم إسناد 5 حقائب وزارية لممثلي قيادة الأركان العامة: بومدين نائب رئيس ووزير الدفاع، أحمد مدقري وزير الداخلية، عبد العزيز بوتفليقة وزير الشباب والرياضة، محمد الصغير نقاش وزير الصحة، موسى حساني وزير البريد والبرق والهاتف. ولقد عزز بومدين موقعه بحصوله على 28 بالمئة من المناصب الوزارية، بعد أن أقصى مساعديه علي منجلي وقايد أحمد عن طريق اقتراحهما كمرشحين للمجلس الوطني بدون علمهما.
وبعد بضعة أيام، انعقد في الجزائر في ثكنة علي خوجة اجتماع برئاسة بومدين، شارك فيه قادة الولايات أو ممثلوهم. وكانت تندرج في جدول الأعمال المسائل المتعلقة بتنظيم الجيش الوطني الشعبي، والمالية، والعلاقات بين الولايات والإدارة. وكنت أمثل قائد الولاية الثانية في هذا الاجتماع.
89
وقد صدمت منذ الوهلة الأولى بالحضور القوي جدًا لضباط «فارين» من الجيش الفرنسي إلى جانب بومدين. سيطرت تدخلات «الفارين» من الجيش الفرنسي على المناقشات، وفي حالة ما إذا تعارضت الاقتراحات الصادرة إما عن مقاومين كطاهر زبيري (الولاية الأولى) أو عني شخصيًا (الولاية الثانية) مع وجهة نظر «الفارين»، فإذا بومدين لم يكن يفصل في الموضوع بل يحيل تلك المواضيع إلى لجنة.
إلا أن هذه اللجنة التي عينها بومدين لم تكن تضم سوى «الفارين» من الجيش الفرنسي، مضافًا إليها اسمي. وهذا ما يمثل مؤشرًا بارزًا للدور المهيمن الذي سيلعبه مذاك فصاعدًا «الفارون» من الجيش الفرنسي في الجيش الجزائري الناشئ. وقد اجتمعت اللجنة فورًا، خلال توقيف للجلسة، لتعرض استنتاجاتها مباشرة بعد الجلسة العامة. ووجدت نفسي معزولًا في هذه اللجنة الشديدة الاختلال، والتي لا تعكس أعمالها في الأخير سوى وجهة نظر «الفارين».
وبعد شهر، تخلص بومدين من العربي برجم الذي كان على رأس الولاية الثانية، مع تطبيق التقسيم العسكري الجديد حين باتت قسنطينة مقرًا للناحية العسكرية الخامسة.
وعند تنظيم بومدين لوزارة الدفاع، أسند مناصب أساسية «للفارين» من الجيش الفرنسي. فعلى سبيل المثال، عين عبد القادر شابو أمينًا عامًا لوزارة الدفاع، وأحمد بن شريف قائدًا للدرك الوطني، ولحبيب خليل مديرًا لملاك الموظفين، وسعيد آيت مسعودان مديرًا للطيران، وتم إسناد مهام عديدة في وزارة الدفاع لكل من سليمان هوفمان، وسليم سعدي، وعبد الحميد لطرش، ومصطفى شلوفي وغيرهم.
ولم يعين سوى ضابطين شابين وطنيين كمديرين مركزيين، وذلك لفترة قصيرة فقط وهما: كمال وراسي ولكحل عياط.
إن توزيع المهام في وزارة جد استراتيجية كوزارة الدفاع سيطر عليها مباشرة بعد الاستقلال الحضور القوي «للفارين» من الجيش الفرنسي أعلن عن نهاية الثورة باعتبارها تعبيرًا عن الأمل وعن طموحات الشعب المتمثلة في الحرية والأخوة والعدالة الاجتماعية.
أصبح مسار حرف الثورة المصمَّم والمطبَّق قبل الاستقلال عمليًا ابتداءً من سبتمبر (أيلول) عام 1962. غير أن الوضع لم يكن وصل بعد إلى نقطة اللارجوع. فكل الخيارات بقيت مفتوحة نظريًا، رغم أن «حزب فرنسا» كان قد بات يحتل الميدان، وهو ميدان كان قد جرى تلغيمه كثيرًا لصالحه.
90
ثالثًا: الاستقلال الملغَّم
يمكن تكوين بعض الملاحظات حول أزمة جبهة التحرير الوطني التي انفجرت في صيف عام 1962، وهي ملاحظات ستسمح بتوضيح ظروف تعزيز عملية حرف الثورة، التي سنتطرف إليها في ما بعد.
1- على عكس الحكومة المؤقتة التي كانت ملغمة بتناقضات وبالعديد من المصالح الخاصة، فإن جيش التحرير الوطني المتمركز على الحدود كان يمكن أن يصبح أداة ثمينة لخدمة الثورة بما أنه «استطاع تجاوز الجهويات واتخذ شكل أداة سياسية ممركزة في وقت كانت فيه قوات الثورة الوطنية مهددة بالتبعثر والإحباط. لقد رسم شكل الدولة بخطوط بارزة، وقبل الأوان وبالتالي ساهم في انتصارها، لكن في الوقت نفسه أصبحت هذه الدولة [...] عائقًا أمام تأسيس إطار سياسي» ديمقراطي وشعبي (7).
2- تم تغيير توازن القوى في جبهة التحرير الوطني وفي الجيش الوطني الشعبي على حساب الفئات الوطنية المرتبطة فعلًا بالشعب. إن عملية التسريح الواسعة التي مسّت المقاومين والضباط وضباط الصف وجنود جيش التحرير الوطني المتمركز على الحدود وفي الداخل التي قامت بها وزارة الدفاع الجديدة أفرغت الجيش الوطني الشعبي، ابتداءً من عام 1962، من بعده الشعبي، ومن بعده كحاجز ضد أي محاولة للحرف. وكان هذا الوضع في صالح «الفارين» من الجيش الفرنسي الذين أصبحوا يشغلون مناصب استراتيجية في وزارة الدفاع.
3- لم يبلغ بومدين بعد كلَّ أهدافه المتعلقة بالاستيلاء على السلطة، ومن الآن فصاعدًا سيعكف على «العمل السياسي» وذلك بالتركيز على الجيش الذي أسند مهمة تسييره إلى «الفارين» من الجيش الفرنسي الذين كان منهم من انضم إلى جبهة التحرير الوطني في وقت متأخر، بين عاميْ 1958 و1959 وبخاصة: عبد القادر شابو وسليمان هوفمان وخالد نزار والعربي بلخير وسليم سعدي ومصطفى شلوفي وعبد المالك قنايزية، ومنهم من انضم في عام 1961 كمحمد العماري، ومحمد تواتي وسليمان بوشوارب، وآخرون انضموا للجيش الوطني الشعبي بعد الاستقلال مثل العقيد جبايلي والرائد بوراس اللذين أسندت إليهما، على التوالي، بعد بضعة أشهر من وصولهما إلى الجزائر في عام 1968 إدارة مدرسة المهندسين وتقنيي الجيش الوطنية
.................................
(7) المصدر نفسه، ص372.
91
(ENITA)، اقطاعة المتعاونين الفرنسيين، وإدارة الخدمة الوطنية. وقد شكلا جسمًا متضامنًا وملتحمًا.
إن التاريخ سوف يبرز في ما بعد أن بومدين قد أخطأ بعدم أخذ حذره حيالهم، كما سبق أن نبَّهه بعض الضباط المقاومين منذ أن عين على رأس قيادة الأركان العامة عند الحدود الجزائرية – التونسية في جانفي (كانون الثاني) عام 1960. ويكمن خطأه في أنه كان يريد استعمال «الفارين» كأداة لبلوغ غايته، متأكدًا من أنه ليس لهم أي ثقل سياسي خاص وأنهم لا يشكلون أي خطر عليه وعلى البلد.
4- كانت الدولة الجديدة المستقلة تبنى بمساندة البيروقراطية المدنية التي تنبثق من مصادر مختلفة ولكنها تتلاقى من حيث التكويم والمصالح.
وهناك ثلاثة مصادر لهذه البيروقراطية:
- الجهاز الإداري وتأطيره الموروث من العهد الاستعماري (الترقية الاجتماعية للجزائريين بين عاميْ 1956و 1962).
- إدماج الآلاف من الموظفين الجزائريين ذوي التكوين الفرنسي العاملين في تونس وخصوصًا في المغرب في الإدارة الجزائرية بعد عام 1962.
- الجهاز الإداري للحكومة المؤقتة الذي مرّ جزء منه عبر الهيئة التنفيذية المؤقتة.
إن للمكونات الثلاثة لكل من البنية التقنية والبيروقراطية أكانت ذات ولاء قومي أوْ لا قاسمًا مشتركًا يتمثل في التكوين الغربي، وهي تتأثر على وجه الخصوص بالنموذج الذي ستشهده الجزائريين عاميْ 1970 و1999. «إنّ امتلاك اللغة الفرنسية والكفاءة يعتبر سلطة اجتماعية وسلاحًا. فالإطارات [...] (المكوّنة في القالب الفرنسي) تتذرع للارتقاء في الهرم الوظيفي بكفاءتها [...] أما العناصر ذات الثقافة العربية [...] فهي تشغل أدنى الرُّتب» (8).
وهكذا منذ عام 1962، تجمّعت كل المكونات التي ستؤدي إلى مواجهات ثقافية وسياسية ستبرز في منتصف السبعينات، وستزداد خطورتها بعد انقلاب جانفي (كانون الثاني) عام 1992.
................................
(8) المصدر نفسه، ص319.
92
الفصل الخامس
الظروف السائدة في الجزائر بين عام 1962
وجوان (حزيران) 1965
أولًا: الجزائر في عام 1962.
كانت المشاكل التي تواجهها الجزائر غداة الاستقلال جد معقدة، ويكفي أن نتذكر الخسائر المادية والبشرية الفادحة التي خلفتها سبع سنوات ونصف من الحرب الشرسة، بالإضافة إلى المشاكل العديدة التي تولدت عن الاستعمار وأصبح معظمها ذا طابع بنيوي (1).
- سقوط أكثر من مليون ونصف مليون شهيد ما بين عاميْ 1954 و1962.
- إجبار حوالي 3 ملايين شخص على الانتقال من مساكنهم إلى مراكز تجمع حيث يخضعون لظروف حياة جد قاسية.
- خمسمئة ألف لاجئ في تونس والمغرب.
- نزوج أكثر من مليون ونصف مليون شخص من الأرياف نحو المدن.
- أربعمئة ألف معتقل سياسي.
- أربعمئة ألف مهاجر إلى فرنسا.
هذه الظروف القاسية التي لم يسبق لها مثيل سببت للجزائر المستقلة مشاكل رهيبة. فوجدنا أنفسنا مع سكان مُعاد جمعهم، ومعتقلين، ولاجئين ونازحين نحو المدن، مقصين من الدوائر الاقتصادية ومحرومين من الأنشطة ومن ظروف الحياة.
............................
(1) Abdelhamid Brahimi, L'Economie algérienne (Alger: Office des publications universitaires, 1991). p. 77.
93
العادية، يعيشون أو بالأحرى هم باقون على قيد الحياة في ظروف معيشية قاسية ويعانون سوء التغذية.
وقد خلقت الخسائر المادية الكبيرة التي سببها الجيش الفرنسي بين عاميْ 1954 و1962 مشاكل خطيرة، منها:
- دك ثمانية آلاف بلدة وآلاف القرى.
- حرق آلاف الهكتارات من الغابات.
- انخفاض عدد رؤوس الماشية والضأن أربعة ملايين رأس وذلك بانتقالها من سبعة ملايين إلى أقل من ثلاثة ملايين في عام 1962، أما البقر فقد أبيد كله.
- تلغيم مناطق واسعة على الحدود الشرقية والغربية على طول خط موريس وخط شال من طرف الجيش الفرنسي وما زالت الضحايا تسقط حتى التسعينيات على رغم أعمال نزع الألغام الضخمة التي قامت بها الجزائر.
ويجب أن يضاف لكل هذا، الأفعال الإجرامية التي قامت بها منظمة الجيش السري الفرنسي في عام 1962، المتمثلة في تقتيل جزائريين أبرياء وأعمال تفجير البنايات بالبلاستك وحرق مكتبة جامعة الجزائر. وبعد أن أنهي مجرمو المنظمة جرائمهم التي دامت أشهرًا، التجأوا إلى أوروبا.
فضلًا عن ذلك، عشية الاستقلال، غادر تسعمئة ألف أوروبي الجزائر نهائيًا، إلا أن بعضهم عاد في ما بعد كمتعاونين تقنيين، ومنتدبين من طرف الحكومة الفرنسية التي ستواصل سعيها ومناوراتها من أجل إبقاء الجزائر تحت تبعية فرنسية ذات طابع استعمار جديد.
وكانت سنة 1962 جد مضطربة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وقد تميزت بـ: تشكيل الجهاز التنفيذي المؤقت، وإنشاء القوة المحلية لدعم القوة الثالثة ذات السمة الاستعمارية الجديدة، وأزمة داخلية في جبهة التحرير الوطني، وجيش التحرير الوطني، وانتخابات تشريعية، وإنشاء أول حكومة جزائرية للاستقلال، وتعيينات في وظائف عليا في الإدارة المركزية، في السلك الإداري والجسم الدبلوماسي.
وفي هذا السياق، بدأ التسابق للاستيلاء على السلطة بين القادة الرئيسيين باسم «الشرعية الثورية» فاتحًا الطريق أمام الانتهازيين.
وتمخض عن التعيينات في الوظائف العليا في الإدارة ترقية الإطارات التي لم تكن معدة إعدادًا كافيًا.
94
وأسندت الإدارة المركزية لإطارات لديها قناعات سياسية وثقافية ذات توجه فرنسي. وتمسك مناصرو «حزب فرنسا» مباشرة بـ «الوطنية الجزائرية» و «الثورة» اللتين تعتبران مصدرين للشرعية، قصد السماح لممثليهم بشغل وظائف مسؤولية عليا في الوزارات المسماة استراتيجية (2): وزارة الدفاع، وزارة الداخلية، وزارة الاقتصاد والمالية وغيرها، ونجحوا بسد الطريق أمام الإطارات المعربة المتخرجة من الجامعات العربية في القاهرة، أو دمشق، أو بغداد أو الكويت، تارة باسم العصرنة والقيم الغربية والانفتاح على الغرب، وطورًا باسم الاشتراكية، وهذا ما يتطلب في نظرهم التمكن من اللغة الفرنسية التي تعتبر أداة لا غنى عنها في الإدارة الجزائرية الشابة.
من جهة أخرى، حاولت الحكومة الجديدة، على غرار الاستعمار الفرنسي، التحكيم في الإسلام من منظور علماني. وهكذا أُنشئت وزارة الشؤون الدينية وأُسندت إلى توفيق المدني من جمعية العلماء السابقة، قصد تحييد الإسلاميين. إن إنشاء هذه الوزارة استهدف بالضبط التحكم في الأنشطة الإسلامية في المساجد. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت هي التي تعين الأئمة وتدفع لهم أجورهم. وأصبح النشاط السياسي. والتربوي والتجمعي الحر من منظور إسلامي ممنوعًا مذاك فصاعدًا.
إن إقصاء الإطارات عربية اللغة من مراكز المسؤولية وإرادة حصر الإسلام في دور رمزي في بلد شديد الحساسية تجاه الإسلام والحضارة العربية – الإسلامية، ساهما في رهن مستقبل الجزائر بشدة وخلق بذور انفجار لاحق إذا أخذنا بعين الاعتبار تهميش ممثلي تيارات فكرية تتمتع مع ذلك بالأغلبية لدى الجماهير الشعبية. فبدلًا من أن تقوم السلطة الجزائرية بتوجيه حماس الشعب الجزائري الخارق غداة الاستقلال، وتعبئة الطاقات الهائلة التي كانت متوفرة في مؤسسة ضخمة للبناء الوطني في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وإحداث قطيعة مع رجال وطرق النظام الاستعماري، عبر إشراك السكان وجميع التيارات الفكرية بدون أي اقصاء، فإنها ستتورط في طريق مظلم متميز بواقعين أساسيين:
- المواجهة بين التيارات السياسية وبين مختلف المجموعات ذات النزعة الجهوية أو الإسلامية.
- وضع اليد على البني الإدارية التي تركتها فرنسا واسترُجعت لحسابها في الجزائر المستقلة.
................................
(2) استطاع عدد كبير من هؤلاء الإطارات أن يحصوا بالمجاملة على «شهادة» أعضاء في جيش التحرير الوطني أو في المنظمة المدنية لجبهة التحرير الوطني من دون أن يكونوا قد شاركوا من قريب أو من بعيد في الحرب التحريرية.
95
ثانيًا: المواجهة بين التيارات السياسية
لقد تمخض عن المواجهة بين التيارات السياسية بين عاميْ 1962 و1965 صراعات سياسية وأحيانًا مسلحة بين مختلف الزعماء من جهة، وقيام حساسيات سياسية مختلفين في جبهة التحرير الوطني من جهة أخرى.
1- صراعات بين مجموعات مختلفة
لقد رأينا سابقًا في الفصل الأول، كيف استولى جيش الحدود حليف بن بللا وخيضر على السلطة في سنة 1962. وكان على هذا التحالف الذي يمثل نظريًا التوجه العربي – الإسلامي في جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني أن يواجه عداوة قادة سابقين في الحكومة المؤقتة ذوي ثقافة غربية أو بعض مسؤولي جيش التحرير الوطني، المتحالفين مع الحكومة المؤقتة.
في البداية، ظهر تحالف كريم بلقاسم ومحمد بوضياف، اللذين يمثلان توجهًا في الحكومة المؤقتة، وقد اعتمدا على الولاية الثالثة ضد بن بللا وبومدين. وانتهى بوضياف إلى معارضة سلطة بن بللا قبل أن ينسحب نهائيًا إلى الخارج في عام 1964. كما أراد آيت أحمد أن ينظم في عام 1963 مقاومة مسلحة في بلاد القبائل ضد النظام، يسانده العقيد محند ولد الحاج، غير أن محاولتهما توقفت فجأة بعد انضمام العقيد محند ولد الحاج الذي فضل الدفاع عن الوحدة الوطنية عن طريق عرض خدماته لمقاومة الاعتداء المغربي في أكتوبر (تشرين الأول) عند الحدود الغربية. وقد تم إيقاف آيت أحمد بعد بضعة أشهر في عام 1964 وحكم عليه بالإعدام. ثم فر من سجن الحراش واستقر في الخارج حيث قاد حزب جبهة القوى الاشتراكية الذي كان قد أسّسه سابقًا.
في عام 1963، اندلع نزاع سياسي خطير بين بن بللا وخيضر الذي كان في ذلك الحين أمينًا عامًا لجبهة التحرير الوطني. ونظرًا للدعم الذي كان يتمتع به بن بللا في هذه القضية، فقد أقصى خيضر في نهاية المطاف لتوجه هذا الأخير إلى المنفى ويحاول انطلاقًا من منفاه أن ينظم معارضة سياسية ضد النظام الجزائري. وقد تم اغتياله في مدريد في عام 1967 بعد مرور سنتين على انقلاب بومدين.
وبدأ العقيد محمد شعباني، قائد الولاية السادسة الذي كان مقربًا جدًا من محمد خيضر، يتمرد على بومدين في عام 1964. وتم إيقافه في جوان (حزيران) من ذلك العام، وحكمت عليه محكمة عسكرية معينة من طرف بومدين بالإعدام. وقد اقترح
96
بومدين على بن بللا الذي كان رئيساً للدولة الامتناع عن إصدار عفو رئاسي عنه. وهو ما حصل بالفعل، فأقدم الجيش على إعدام شبعاني حالاً (3).
وقد عرفت سنة 1964 تسابقاً إلى السلطة في جبهة التحرير الوطني وذلك حول الحساسيات السياسية. في البداية أظهر الإقصاء السياسي لخيضر وإعدام شبعاني أن الصراع ضد النظام ينتقل داخل الانتماء العربي – الإسلامي. وقد بقيت أربعة تيارات غير مهيكلة قائمة، وتتجابه على الصعيد الأيديولوجي قصد فرض أو تعزيز مواقفها السياسية في جبهة التحرير الوطني.
2- التيار الإسلامي.
لقد هاجم الشيخ بشير الإبراهيمي، ممثل العلماء، بعنف، برنامج بن بللا واصفاً إياه بالشيوعي فكلفته هذه المواقف ومواقف أصغر أولاده، أحمد طالب الإبراهيمي، الإقامة الجبرية، فالسجن. كان تأثير العلماء العدائي تجاه البعث والناصرية، كبيراً جداً في الجزائر وخصوصاً في الأوساط الناطقة بالعربية وبين المثقفين المعربين، ويندرج صراعهم في إطار تصور في غاية الوضوح يرتكز على الإسلام باعتباره مصدراً مرجعياً لتسوية المشاكل ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
ويرتكز خطابهم، بين ما يرتكز عليه، على تعميم استعمال اللغة العربية واحترم الحريات الأساسية بما فيها حرية التعبير واحترام حق الملكية والانفتاح على العالم الخارجي، إلا أنهم يعارضون بلا مواربة الاشتراكية المماثلة بالشيوعية والعلمانية والفرنكوفونية، وقد بقي العلماء على الصعيد الاقتصادي قريبين من التيار «الليبرالي».
3- التيار الليبرالي.
كان فرحات عباس المعتبر زعيماً لهذا التيار، يدعو إلى «ليبرالية» هجينة. فمن جهة يتعلق الأمر بإنشاء نظام جمهوري وديمقراطي ذي طابع غربي حيث الحكومة مسؤولة أمام البرلمان الذي يجسد سيادة الشعب. وهذا الأخير، مصدر السيادة، هو
...............................
(3) كانت محاكمة شعباني فرصة لبومدين للتخلف من منافس محتمل الخطورة ضده. فبالفعل هو أصغر من بومدين (كان يبلغ 30 عاماً لما أعدم)، عقيد مثله معرب مثله، وهو مناضل وطني وهو مناضل وطني صادق وملتزم كان معروفاً بمعارضته للقوة الثالثة وبكفاحه ضد البيروقراطيين الموالين لفرنسا، لقد تم القضاء عليه بسبب الأخطار التي كان يمثلها لبومدين ولحزب فرنسا أكثر بكثير مما هو بسبب الأخطار التي كان يمثلها لبومدين ولحزب فرنسا أكثر بكثير مما هو بسبب مآخذ التمرد التي آخذت عليه.
97
الذي يجب أن يختار بحرية وديمقراطية ممثليه من بين مختلف التيارات المتنافسة. وعلى جبهة التحرير الوطني أن تكون تعددية، وأن لا تسخرها زمرة أو عصبة. كما يجب فصح أيً إقصاء للتيارات الإيديولوجية أو السياسية.
من جهة أخرى، يعتبر فرحات عباس أن لا غنى عن الإسلام والثقافة الوطنية لإحداث التغييرات الاجتماعية الضرورية وتلبية طموحات الشعب.
«فتعاليم الإسلام في مجال التربية الدينية وحق الملكية والحق في الميراث والإسعاف الاجتماعي وغيرها لا تتنافى مع مجتمع اشتراكي بل بالعكس. فمن دون الاصطدام بآداب وتقاليد شعبنا، نستطيع أن نضع البلد بحزم في شيرورة ثورة» (4). إلا أن التيار الليبرالي ما لبث أن خُنِق بالإقصاء السياسي لفرحات عباس الذي وضع في الإقامة الجبرية في عام 1964.
4- التيارات الشيوعية.
نسجل خلال تلك الفترة وجود تيارين شيوعيين وهما: الحزب الشيوعي الجزائري، ومناصرو التسيير الذاتي. يعرف الحزب الشيوعي الجزائري الذي هو امتداد للحزب الشيوعي الفرنسي بإخلاصه للاتحاد السوفياتي وبتقيده بأطروحاته التي لا صلة فعلية لها بحقائق البلد. ونظراً لحسن هيكلته، فهو حاضر في أهم المنظمات الجماهيرية التي يقودها وهي: الاتحاد العام للشغيلة الجزائريين (UGTA) والاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين (UNEA) وشبيبة جبهة التحرير الوطني (JFLN).
وقد كان يحاول مناصرو التسيير الذاتي، ذوو التكوين الماركسي والمختلفون عن الحزب الشيوعي الجزائري، أن يوجهوا حركة التسيير الذاتي محاولين «تنظيرها» وتنظيمها.
ويجدر التذكير بأن مراسيم مارس (آذار) عام 1963 المتعلقة بتنظيم التسيير الذاتي والمكملة لمراسيم عام 1962 المتعلقة بــ «الأملاك الشاغرة»، قد اتخذت لمواجهة رد الفعل العفوي الذي قام به الشغيلة والعمال الزراعيون الذين أخذوا على عاتقهم الدفاع عن الملكية التي أصبحت «شاغرة» وتسييرها، بعد المغادرة الجماعية للمالكين الأوروبيين. إن الإجراءات الأولى المتخذة عن طريق تنظيمي في عام 1962 لم تصدر عن اختيار سياسي أو أيديولوجي على المستوى المركزي بل تمثل محاولة لقوننة أمرٍ واقع
.............................
(4) فرحات عباس، ذكره:
Mohammed Harbi. L'Algérie et son destin: Croyants ou citoyens, mémoires et idenlités (Paris: Arcantére. 1992). P. 176.
98
خلقه عفوياً العمال الزراعيون وعمال المنشآت الصناعية أو التجارية التي تم التخلي عنها في حالة اضطراب عام.
لقد تم «استرجاع» هذه الحركة العفوية القاعدية من طرق مجموعة من المثقفين الماركسيين المتحلقين حول محمد حربي وحسين زهوان قصد تنظيمها على أسس علمية ومستمرة. وفي الحقيقة لقد أصبح التسيير الذاتي في ما بعد رسمياً عن طريق مراسيم مارس (آذار) سنة 1963. إلا أن صدق والتزام مناصري التسيير الذاتي اصطدما بأجهزة الدولة الممثلة في شخص أحمد محساس وزير الفلاحة، وبشير بو معزة وزير الاقتصاد. وخلال سنة 1964، جرت مناقشات عامة حماسية (محاضرات ومقابلات ومقالات) بين مناصري التسيير الذاتي (حساسية سياسية حاضرة في جبهة التحرير الوطني) ومنافسيهم المستشرسين الذين يتمتعون بالسلطة الفعلية بما لهم من وصاية على المنشآت وعلى الأراضي الزراعية المسيرة ذاتياً.
لم يمر هذا النقاش مر الكرام أمام الجيش والاتجاه الشعبوي في جبهة التحرير الوطني. فالآراء كانت متضاربة داخل الجيش. ففي وزارة الدفاع وفي قمة الهرم التراتبي حيث الضباط السابقون في الجيش الفرنسي يمثلون الأغلبية ويشغلون الوظائف الأساسية، يعتبر نظام التسيير الذاتي نظاماً خطيراً ويتم الكفاح ضده بشراسة في مختلف أجهزة الدولة وعبر الإشاعات والمناورات التي ينظمها الأمن العسكري، وفي المقابل قام عشرات من الضباط الوطنيين، من دون أن يتخذوا شكل حركة، يدعم تجربة التسيير الذاتي كل على حدة وبتعاطف كبير. ويوجد في جبهة التحرير الوطني العديد من المسؤولين والمثقفين والمناضلين الوطنيين الذين يدعمون حركة التسيير الذاتي. وفي الحقيقة، لم يطبق التسيير الذاتي أبداً في الجوائز على رغم النصوص الواضحة التي خصصت له في عهد بن بللا أو في ظل بومدين (5).
5- التيار الشعبوي في جبهة التحرير الوطني.
إن مصدر الوطنية الشعبوية هو الكفاح ضد الاستعمار وقد تعززت خلال حرب التحرير. لم تكن قد غدت جبهة التحرير الوطني بين سنتي 1962و 1964 أحادية الفكر. وعندما وصل بن بللا إلى السلطة وحاول تعزيزها، كان يسيطر على جبهة التحرير الوطني مناصرو الوطنية الشعبوية، على رغم «وجود العديد من المعابر
.....................
(5) حول تطبيق التسيير الذاتي في الجزائر، انظر:
Abdelhamid Brahimi. Stratégtes de développement pour l'Algérie: Défis et enjeux (paris: Economica, 1991), pp. 64 et 182.
99
التي تؤدي من الفكر الستاليني أو الماركسي إلى هذا التيار والعكس» كما يوضح بدقة محمد حربي (6).
ومع الإقصاء السياسي لمحمد بوضياف وآيت أحمد (اللذين أنشأ كل منهما حزبه الخاص، وهما على التوالي الحزب الثوري الاشتراكي (PRS) وجبهة القوى الاشتراكية (FFS)، وإقصاء كريم بلقاسم وفرحات عباس وخيضر وشعباني، فإن الحياة الوطنية وتشييد البلد سيتميزان باختيارين أساسيين ظهرا في عام 1962 وهما: الحزب الوحيد والخيار الاشتراكي.
إن خيار الحزب الوحيد، عند الاستقلال، في بلد خرج منهك القوى من حرب وطنية بدا قادراً على تعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة القوى النابذة للمركز التي ظهرت في عام 1962، وتعبئة إمكانيات وطاقات الشعب الجزائري حول الحساسيات التي يتكون منها قصد إتمام الاستقلال السياسي في مهام تشييد البلاد (7).
* ويشكل الخيار الاشتراكي امتداداً لإعلان 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 ولميثاق الصومام الذي كان يدعو لتأسيس دولة ديمقراطية واجتماعية ولبرنامج طرابلس الذي يحدد ملامح سياسة اقتصادية ذات طابع اشتراكي يبدو فيها دور الدولة حاسماً في تغيير الوسط الريفي عن طريق الثورة الزراعية وفي إنشاء قاعدة صناعية من شأنها أن تضمن تعميم التقدم في البلاد. ويبدو أن هذا الاختيار يتوافق مع تطلعات الشعب الجزائري إلى التقدم والعدالة الاجتماعية قصد الإزالة النهائية للاستغلال والظلم الوقح اللذين عاناهما في ليل الاستعمار الطويل والشاق.
ويبدو هذا الاختيار وكأنما تمليه إرادة عدم السماح بمصادرة تضحيات الشعب الجزائري وبالاستئثار بالثروات الوطنية لصالح أقلية تقودها رغباتها فقط، وهي أقلية من شأنها أن تصبح أداة طيعة للاستعمار الجديد.
وتمنح هذه الرؤية للدولة دوراً مركزياً في جميع المجالات إلا أنه يلاحظ أن تقديس الدولة يفتح الطريق أمام مختلف الانحرافات. وفعلٌا يتمخض عن اختيار
..................................
(6)
Harbi, Ibid. P. 179.
(7) «يرى الإطارات المنحدرون من جبهة التحرير الوطنية، في الأخلاقية العسكرية للواجب وفي روح التنظيم وفي الفعالية والإنضباط، أسس الدولة حيث كل واحد يشغل المنصب الذي عين فيه كجندي أو كموظف. كانت ثقافتهم السياسية المطبوعة باللاتسامح وبالإقصانبة متأثرة بلا ريب بأسلوب قيادة وفظاظة وأبوية أعيان الريف في علاقاتهم مع الفلاحين»، انظر: المصدر نفسه، ص 179.
100
الحزب الوحيد في جبهة التحرير الوطني رفض المنافسة فيها وتحولها إلى أداة تنفيذ مطواعة لسياسة الجماعة التي بيدها السلطة (8).
ويؤدي اختيار الاشتراكية إلى تدويل الاقتصاد، وإلى التمركز وتركيز سلطة القرار في دوائر ضيقة جداً ومغلقة. إن إشراف الدولة لا يولي أهمية كبيرة لتجلية المؤسسات العمومية وفعاليتها ويُنشئ ظروفاً لا تلائم كثيراً مبادرة الإطارات والشغيلة وتحميلهم المسؤولية ومشاركتهم. ومثل هذه البيئة تشجع اللاشفافية في التسيير، والتبذير، والانتهازية، والفساد والرداءة، التي باتت في ما بعد للأسف العيوب الأساسية التي ستميز الإدارة والقطاع العام الاقتصادي في الجزائر إلى يومنا هذا.
ثالثاً: إحكام السيطرة على البنى الإدارية.
إن التصادم بين التيارات السياسية والصراعات القائمة بين مختلف المجموعات، وخصوصاً بعد إعلان الاستقلال، خلصت إلى إنهاك إطارات صادقة وشريفة وتثبيط ما لديها من إرادة المقاومة والمشاركة الفعالة.
فمنذ السنوات الأولى للاستقلال، ساهم البعد المتنامي بين الخطاب السياسي الرسمي المنادي بالمساواة والتضامن والعدل الاجتماعي... والحقائق الاقتصادية والاجتماعية المأساوية المعيشة في إفقاد الدولة حظوتها وحفر هوة بين الحاكمين والمحكومين. وفي الوقت الذي تعاني فيه أغلبية الشعب البطالة والفقر وظروف المعيشة السيئة جداً، فإن أقلية من الواصلين في اللحظة الأخيرة، ذات تصرفات مخزية، تولت الإدارة وأثرت بسرعة.
إن هؤلاء يستفيدون من الممتلكات التي أصبحت (شاغرة) في الميدان العقاري (مساكن، وفيلات، ومحلات تجارية) أو في الميدان الإنتاجي (مؤسسات إنتاج سلع وخدمات)، إما مباشرة أو عن طريق صفقات مريبة واحتيالية. وقد كان لا يزال ممكناً بين عامي 1963و 1964 زج القوى الحية في البلاد في معركة حاسمة لأجل ضمان إعمارها وللخروج تدريجياً من التخلف والتبعية الخارجية.
لقد ساهمت هذه العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية في
.............................
(8) المصدر نفسه، ص 180. «ن التعايش المفروض بين مجموعات متعارضة حول الأهداف والوسائل (يفضي) دوماً إلى [صراعات] خلف الستار. فكل واحد يجبر على تمويه أفعاله واللجوء إلى الرقابة الذاتية أو إلى الاتصال المنحرف، إن منع المعارضة لا يعني نهاية المواجهات السياسية، وهذا أمر مسلم به»
101
حرف اتجاه قوى البلاد عن كفاح حاسم كان ينبغي الشروع فيه بسرعة قصد ضمان إعمار البلاد في إطار الأخوة والتضامن ولأجل تأسيس نظام ديمقراطي وتعددي يدخل في قطيعة مع الناس والطرق وأساليب التسيير والحكم في الفترة الاستعمارية.
وهكذا، بدلاً من حشد الإطارات والعمال والمواطنين حول مهام سامية للصالح العام لتشجيع التقدم الاقتصادي والاجتماعي، على نطاق واسع، فإن النظام سار في اتجاه معاكس ترك الطريق مفتوحاً أمام الانتهازيين ومناصري الحضور الفرنسي في الجزائر (حزب فرنسا) ليشغلوا وظائف مسؤولية.
إن المجموعة التي بيدها السلطة ترقية الانتهازيين والموالين لفرنسا، لكونها قامت بكل شيء حتى تعزز مواقعها عن طريق تشديد التحكم في الأجهزة وتضخيمها بعناصر تعتبرهم «مطيعين» و «أكفاء»، وعلى أي حال غير خطرين سياسياً لسهولة شلِّهم. كما أن الحماية (أو «المظلَّة» كما يسميها البيروقراطيون) التي تمنحهم إياها السلطة تضمن لهم الاستقرار والامتيازات وتعزز سلطتهم وتخولهم الشرعية زد على ذلك أن ارتقاء هؤلاء قد سهله إقصاء الإطارات الوطنية والجادة ضحايا الصراعات التي كانت تجري بين الشُرط المتوازية التابعة لبن بللا أو بومدين (9).
.............................
(9) أذكر على سبيل التوضيح مثالاً واحداً شاهداً عليه عندما كنت والياً على عنابة وعضواً في فيدرالية جبهة التحرير الوطني لولاية عنابة في عام 1964. في أحد الأيام علمت من العسكريين أن حمداش، المسؤول في الشرطة الخاصة (التي أنشأها بن بللا وأسند إدارتها لفتال)، نزل سراً عنابة للشروع في توقيف عدد من إطارات الولاية الثانية سابقاً الذين يشغلون وظائف مختلفة في الإدارة، أو في التأمينات أو في منظمة قدماء المجاهدين أو في جهاز جبهة التحرير الوطني بحجة أنهم يدعمون المعارضة المسلحة لموسى حسني وبوضياف. واتفق أن كنت أعرف هؤلاء الإطارات معرفة جيدة، إذ كنت ألتقيهم بانتظام، وكنت مقتنعاً ببراءتهم. أعلمتني فيدرالية جبهة التحرير الوطني بالاضطرابات التي قد تنجم عن إيقافهم فاتخذت قرارين: أولاً، جمعت المسؤولين الأربعة المكلفين بالأمر من (قائد القطاع العسكري، ومسؤول الدرك، والمفوض المركزي للشرطة، والمفوض في الاستعلامات العامة) وأردت معرفة مآخذ حمداش، وتبين من الإجماع أن التوقيفات المخطط لها لا أساس لها. فأمرتهم بإيقاف حمداش نفسه بسبب محاولة الإخلال بالنظام العام موضحاً أنني أتحمل عن ذلك المسؤولية الكاملة، فغادر حمداش عنابة بمجرد أن آشعره مفوض الشرطة واستقر في قسنطينة التي كان ينوي أن يعمل انطلاقاً منها. ثانياً: أعلمت الرئيس بن بللا بالوضع وطلبت منه إلغاء مشروع توقيف الإطارات الأبرياء واستدعاء حمداش إلى الجزائر العاصمة. فذكرني الرئيس بن بللا بالنظام قائلاً إنني موظف سام مكلف بتنفيذ الأوامر ولست نائباً مكلفاً بالدفاع عن المصالح المحلية. فأصررت، واستدعاني إلى الجزائر، وأعلمني بأن عبد السلام، وهو نثيب في الآمن العسكري، هو الذي حرر له تقريراً حول الإطارات مقترحاً عليه توقيفهم. لم يصعب على إقناع بن بللا بأن التقرير مزور، وعند عودتي إلى عنابة استدعيت النقيب عبد السلام وسألته عن دوافع تقريره المزور فأجابني ببرودة بأنه باعتباره مناضلاً متمركزاً سابقاً في تونس (قبل الاستقلال)، يعمل مع جيش الحدود ويدعم بومدين، كان واجبه يقضي بمطاردة المسؤولين السابقين عن الولاية الثانية الذين سبق أن دعموا الحكومة المؤقتة ضد قيادة الأركان العامة في عام 1962. ومما زاد الطين بلة أنه اندهش كيف أدافع عن هؤلاء الأبرياء «أعداء» الأمس، فشرحت له أن تصرفه غير مقبول وطلبت منه مغادرة المكان فوراً.
102
وازدادت هذه الوضعية سوءاً قبل مؤتمر جبهة التحرير الوطني في أفريل (نيسان) عام 1964، وخلاله وبعده. وقد سيطر على أعمال المؤتمر التمهيدية موضوعان هما: أسبقية السياسي على العسكري، وتطهير الإدارة والجيش.
1- أسبقية السياسي على العسكري.
كان هناك تياران متصارعان، أحدهما يدعم بن بللا وكان يتمنى تخويل جبهة التحرير الوطني السلطة العليا، بالتركيز على ضرورة أسبقية الحزب على الجيش والإدارة، أما الثاني فتجمع حول بومدين من أجل إحباط التيار الأول وذلك بالاعتماد على الجيش والإدارة. فتضاعفت الدسائس ضد بن بللا والإشاعات، وتميزت الخمسة أشهر الأولى من عام 1965 بهيجان غير عادي ينبئ بضربة قوية وشيكة لصالح إحدى المجموعتين. إلا أن دور الجيش الذي كان يسيطر عليه قدماء الجيش الفرنسي سيكون حاسماً.
2- فشل تطهير الإدارة والجيش.
لقد كان تطهير الإدارة من المتعاونين السابقين مع فرنسا الاستعمارية مطلباً عبرت عنه القاعدة النضالية، وتبنته قيادة جبهة التحرير الوطني. ففي عام 1964، زاد الاستياء من الإدارة في أوساط الجماهير، وما عدا خلق وزارات في ذلك العام وتعيين حكام ولايات، لم يلاحظ الناس أي تغيير جدي في ظروف معيشتهم وفي علاقاتهم بالإدارة بالمقارنة مع الفترة الاستعمارية، وفي تلك الفترة، كانت هناك فكرة جد منتشرة بين الشعب مفادها أن الإدارة فاسدة ويسيطر عليها موظفون قدماء كانوا يشغلون مناصب خلال الفترة الاستعمارية. وبقيت الإدارة الجزائرية ذات الأصل الاستعماري قمعية بشكل أساسي ولا تعتبر نفسها أداة في خدمة المواطن، وهي كذلك حتى يومنا هذا. لذا كان تطهير الإدارة من عناصرها غير المستقيمة مطلباً شعبياً في البداية قبل أن يصبح مطلباً رسمياً لجبهة التحرير الوطني.
في الوقت نفسه، كان إطارات جبهة التحرير الوطني الذين كانوا في الخدمة في عام 1964 يطالبون بتطهير الجيش من الضباط السابقين في الجيش الفرنسي، من أجل أن يحتفظ بميزته «الوطنية والشعبية» (الجيش الوطني الشعبي) ويندمج في السلطة كجهاز للحزب. وتمت صياغة هذا المطلب بصراحة وبإلحاح خلال مؤتمر جبهة التحرير الوطني في أفريل (نيسان) عام 1964. وإجابة بومدين الشهيرة للمؤتمرين معروفة، وقد دام خطابه أكثر من أربع ساعات لينتهي في الساعة الخامسة صباحاً. وفي
103
ما يخص التطهير، سعى بومدين إلى تصعيب المهمة حتى يحبط هذا المطلب وكانت حجته تدور حول نقطتين:
إذا أردتم التطهير، قال في هذا الصدد، يجب أن يمتد إلى كل قطاعات النشاط، وفي هذه الحالة لنأخذ الفآس وننطلق، لكن من يطهر من؟ وبمن سنبدأ؟ هل من الواقعي أن نهاجم عدداً كبيراً من الجزائريين فقط لأنهم خدموا في الإدارة الفرنسية في حين أننا اليوم مستقلون وهم مفيدون لبلدهم؟
إن تطهير الجيش لا يخدم مصالح الجزائر (هكذا) حيث إنا إذا عزلنا قدماء ضباط الجيش الفرنسي، فإن الجيش الوطني الشعبي سيجد نفسه بدون تأطير كفء وسنكون مجبرين على اللجوء إلى المساعدة الفنية وتوظيف ضباط أجانب. أي أنكم تطلبون منا أن نستبدل ضباطاً جزائريين بضباط أجانب ستكون تكلفتهم المادية باهظة جداً على الجزائر ولن يخدموا بلدنا بأمانة الجزائريين وبالتالي فالاحتفاظ بالضباط القدماء للجيش الفرنسي في الجيش الوطني الشعبي هو ضرورة ومطلب وطنيان.
وهكذا وضعت معارضة بومدين حداً نهائياً لمطلب شعبي جداً. ولما كانت لبومدين استراتيجيا سلطة فإنه كان يعتمد على الجيش لتعزيز موقعه وتولي القيادة العليا للدولة. لقد كان يعتبر الضباط القدماء وضباط الصف في الجيش الفرنسي أداة ثمينة وضمانة للتحكم في الجيش وبلوغ أهدافه السياسية.
إذن فالجيش غير المطهر هو الذي سيعرقل نجاح مبدأ أسبقية السياسي على العسكري الذي طالبت به جبهة التحرير الوطني وهو الذي عارض تطهير الإدارة. ولقد حقّق حزب فرنسا في عام 1964 مكسباً مهماً في مشروعه للاستيلاء على السلطة.
إن انقلاب جوان (حزيران) 1965، الذي كان الرائدان عبد القادر شابو وسليمان هوفمان مهندسَيْه، أعلن عن نهاية الثورة ودعم النزعة ذات التوجه الفرنسي في مسيرتها الزاحفة نحو التحكم في كل مؤسسات الدولة وخصوصاً القطاعات الاستراتيجية منها. هكذا سيعتمد بومدين منذ عام 1962 على الجيش ومصالح الأمن وعلى البيروقراطية المدنية (وزارة الداخلية ووزارات الاقتصاد) قصد إرساء سلطته ثم نظامه، ولا سيما بعد انقلاب جوان (حزيران) عام 1965.
104
القسم الثالث
تقدم حصان طروادة
الفصل السادس
الاستيلاء على القطاعات الاستراتيجية وإغلاقها
قبل التطرق إلى الوجوه العملية لاستيلاء البيروقراطيين الفرنكوفونيين على السلطة بعد استقلال الجزائر الشكلي، يُحسُن توضيح مفهوم حزب فرنسا فضلٌا عن أهميته في السياق المعاصر.
لا ينتمي المثقفون الفرنكوفونيون بالضرورة إلى حزب فرنسا. ففي الواقع، ينتمي العديد من المثقفين الفرنكوفونيين، من أمثال مالك حداد، ومحمد حربي، ومالك بن نبي، الخ، إلى تيارات فكرية متنوعة، من الشيوعية إلى الإسلامية، مروراً بالقومية. لقد ابتعد كل منهم على طريقته عن الدولة وبنيتها التقنية.
أما حزب فرنسا فيضم ضباطاً قدامى في الجيش الفرنسي، ومواظفين كباراً ومثقفين من شتى المهن الحرة (أطباء، محامين، مدرسِّين، مقاولين، ... إلخ)، يجمع بينهم الارتباط بفرنسا وبنمط الحياة والتفكير الفرنسي، الذي يعتبرونه نموذجاً يرجعون إليه. وهذه الظاهرة هي في الواقع ناتج السياسة الفرنسية التي كانت قد شجعت، منذ احتلال الجزائر في القرن التاسع عشر، تكوين نخب جزائرية تتولى دور الوسيط بين السلطة الاستعمارية والشعب الجزائري بهدف تأطير السكان و «نقل رغبات السلطة إليهم. كان الجيش والمدرسة الفرنسيان قد ربطا تلك النخب بعمق بثقافة الأمة المسيطرة التي احتفظت لنفسها بمكانة مميّزة فوق شعبها» (1).
.................................
(1)
Guy Pervillé, Les Etudiants algériens de l'université, 1880 – 1962: Populisme et nationalisme chez les étudiants et intellectuels musulmans algériens dé formation francaise, Preface de Charles – Robert Ageron, collection «recherches sur les sociétés méditerranéennes (Paris: Editions= du centre national de la recherché scientifique. 1984).
107
ليس «حزب فرنسا» حزباً ذا هيكلية منظَّمة بالمعنى التقليدي للكلمة، لكنه يشكل سديماً يناضل لأجل ربط الجزائر بالمثال الثقافي الفرنسي ولأجل الفرنكوفونية، التي باتت إيديولوجيا في خدمة الاستعمار الجديد.
إن الحضور الفرنسي الطويل، الذي دام أكثر من قرن وربع قرن في الجزائر، علاوة على الاستراتيجيات التي وضعتها فرنسا وطبقتها ما بين عامي 1958 و1961 لتحويل الجزائر إلى النظام الاستعماري الجديد وإبقائها تحت سيطرتها عززت إلى حد بعيد وضع حزب فرنسا وساهمت في تلغيم استقلال البلد بشكل خطير.
هكذا لم يجد حزب فرنسا أي صعوبة بعد الاستقلال في الاستقرار داخل أجهزة الدولة، أكان ذلك في الإدارة المركزية (الوزارات) أو الجهوية (الولايات، البلديات) أو في مجمل القطاعات الاقتصادية (الزراعة، الصناعة، المصارف، الجمارك، الخدمات). إن دولة الاقتصاد والتأميمات التي تحت انطلاقاً من عام 1966 سهلت توسُّع دائرة نفوذ حزب فرنسا. وقد شكَّل ذلك فرصة للبيروقراطيين الذين تكونوا في القالب الاستعماري كي ينخرطوا في مشاريع الدولة في كل قطاعات النشاط.
أولاً: بروز البنية التقنية في الجزائر المستقلة.
لا يهتم المسؤولون، في قمة الدولة، إلا ببقائهم في السلطة، رافضين فكرة التناوب على ممارسة السلطة في إطار ديمقراطي. إنهم يستمدون شرعيتهم من المشاركة في الثورة أو من مخالطتها. فهم لا يملكون توجهاً إيديولوجياً واضحاً، ولا مشروع مجتمع، ولا برنامجاً سياسياً محدداً. يكتفون بفرض مشروع التصنيع (انطلاقاً من النصفَ الثاني من الستينيات) باسم الوطنية، مستندين إلى البنية التقنية التي تضمر المحبة والولاء لفرنسا. ولكي يغطي البيروقراطيون والتقنوقراطيون افتقارهم للشرعية، ولتوطيد وضعهم الاجتماعي والاستفادة من امتيازات متنوعة أو الحفاظ عليها، شكَّلوا بلا جدال رجال السلطة النشيطين.
إن طبيعة النظام الجزائري التوجيهية، والدولانية، والسلطوية والأبوية، منذ الاستقلال، لم تفتح الطريق فقط أمام الرداءة والانتهازية، بل ولَّدت مناخاً من اللامبالاة وزوال التعبئة لدى الجماهير وعدد كبير من الإطارات النزيهة والكفوءة على مر الأعوام. وقد أدى ذلك إلى حدوث شرخ مزدوج: قطيعة بين البيروقراطيين
...........................
= نقلًا عن:
Mohand Hamoumou. Et ils sont devenus harkis, preface de Dominique Schnapper (Paris: Fayard, 1993), p. 63.
108
والتقنوقراطيين والمجتمع الجزائري من جهة، وخلق هوة متعاظمة بين الحكام والمحكومين من جهة أخرى. إن الطلاق بين هؤلاء البيروقراطيين والشعب يعبر عن القطيعة بين الثقافة الشعبية التي تمد جذورها في الحضارة العربية – الإسلامية وثقافة البيروقراطيين الذين كونتهم المدرسة الفرنسية أو الإدارة (القمعية بالأحرى) أو الجيش الاستعماري (2).
زد على ذلك أن دور البيروقراطي يتمثل، تبعاً لمصلحته، في خدمة مسؤولين كبار فيما يبرر السلطة القائمة ويدافع عن شرعيتها. هكذا في مجتمع خال من مساحات الحرية، تساهم الممارسات الإدارية والسياسية غير الديمقراطية في زيادة الإقصاء والحقرة، أي احتقار البيروقراطيين وممثلي الدولة للمواطنين. ونصل هكذا إلى وضع غريب لا تكون الإدارة فيه في خدمة المواطن، كما ينبغي أن تكون الحال، بل يكون المواطن تحت رحمة البيروقراطي. وهذا يفسح في المجال أمام الفساد، والامتيازات بغير وجه حق (التي تتحدى القانون والعدالة)، والإفلات من العقاب، وشتى أنواع المظالم. لقد أفضى مجمل هذه العوامل إلى انهيار احترام سلطة الدولة منذ أواسط السبعينيات كما سنرى بعد قليل.
سوف نتفحص الآن، عن قرب أكثر، كيف ساهم بومدين في ضمان استقرار البيروقراطية لتعزيز سلطته، ثم كيف نجح حزب فرنسا في الحلول في مجمل القطاعات الاستراتيجية للوصول بالجزائر إلى الوضع الكارثي الذي نشهده اليوم.
ثانياً: توطيد وضع «حزب فرنسا» في القطاعات الرئيسية.
أتاح انقلاب عام 1965 لبومدين أن يؤمِّن استقرار البيروقراطية ثم توطيد وضعها في إطار سياسة رقابة من طرف الدولة لكل قطاعات النشاط الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي والإداري بهدف تعزيز سلطته الفردية.
إن قمع الحركة النقابية واتحاد الطلبة، علاوة على «تطهير» حزب جبهة التحرير الوطني منذ جوان (حزيران) عام 1965، اللذين تلاهما فشل الحركة الوطنية داخل الجيش الوطني الشعبي، ولاسيما بعد «المحاولة الانقلابية» الفاشلة للعقيد طاهر زبيري في 14 ديسمبر (كانون الأول) عام 1967، تشكل عناصر حاسمة لسيرورة
...............................
(2)
Jules Salvador Moch, en 1961, paix en Algérie (Paris: R. Laffont, 1961),
نقلاً عن: المصدر نفسه، ص 84. وبحسب جول موش، «كان عدد كبير من الشبان المسلمين الذين تكونوا في المدرسة الفرنسية، وتشبعوا بمبادئنا القانونية والأخلاقية والسياسية، يفضلون العمل لأجل الجزائر بالتعاون مع فرنسا».
109
انطلقت بعد استقلال الجزائر وكان القصد من ورائها وضع حد للمشروع الثوري والشعبي الذي طرحته حرب التحرير الوطني. إن توجه النظام يتمثل مذاك في تعزيز وضع البيروقراطية الذي بات ضرورياً لبقائه، مع الحرص مع ذلك على استخدام خطاب اشتراكي ومساواتي في الظاهر من شأنه تحسين شعبية النظام.
على الصعيد الداخلي، استخدام النظام الاشتراكية الظاهرية الخادعة للإيهام ببناء مجتمع المساواة وبالتالي تخدير الشعب الجزائري الذي كان حساساً على الدوام حيال العدالة الاجتماعية، والحرية والكرامة، وقد استخدم الريع النفطي كوقود لتغذية المشروع الاشتراكي القائم دولنة الاقتصاد وعلى توزيع المنافع الاجتماعية، لإخفاء مشاكل البلد الحقيقية.
وفي الواقع، يكتفي النظام بأن يقدِّم، بصورة أبوية، مشاريع جرى تصورها بعيداً جداً عن المواطنين. ولينفذ النظام مشاريعه، يستخدم حيًلاً وإمكانات ضخمة لكي «يعبئ»، بحسب الصيغة المستخدمة، الشغيلة، أو الطلاب أو الفلاحين، وفقاً للحالات. لكن في الوقت نفسه، لا تتردد السلطة في كبح أو قمع كل حركة مطلبية، أو كل عمل سياسي يرمي مباشرة أو مداورة للوصول إلى تقاسمٍ للسلطة، مهما يكن ضئيلاً.
وعلى الصعيد الخارجي، يستند الخطاب العالم ثالثي الرسمي إلى التنديد بالامبريالية، ومساعدة حركات التحرر الوطني في العالم ومساندتها. وفي وقت لاحق، بعد صدمة 1973- 1974 النفطية، إذ واصلت الجزائر سياسة النفوذ الخاصة بها، باتت بطلة الحوار بين الشمال والجنوب وإقامة نظام عالمي جديد. جرى استغلال نفوذ الجزائر الدولي (الذي يعود من جهة أخرى إلى الثورة وحرب التحرير الوطنية) للاستهلاك المحلي في حين لم يكن الوضع الاقتصادي والاجتماعي الفعلي زاهياً على الإطلاق.
لأجل جلاء التناقض الظاهر بين بومدين، المكوَّن بشكل أساسي باللغة العربية في جامعة الأزهر، ونصير الحضارة العربية – الإسلامية، والمتشرب قيم الثورة الجزائرية، من جهة، وحزب فرنسا الذي نجح في توطيد مواقعه في بنى الدولة في ظل حكمه، من جهة أخرى، من المستحسن أن نسلط إضاءة سريعة على شخصية بومدين (3).
.............................
(3) كنت عرفت بومدين خلال حرب التحرير الوطني بين عامي 1959 و1962، وبقيت أره بانتظام بعد الاستقلال، ليس فقط كنت آمارس وظائف الوالي بين عامي 1963 و1965 بل حتى بعد ذلك بكثير. كنت=
110
كان بومدين رجلاً متكتماً، وبارداً، ويقظاً، وحذراً، وصارماً، وسلطوياً. ولا جدال في أنه كان يمتلك صفات القائد. كان شديد الذكاء ويتمتع بذاكرة ممتازة، ويقدر نفسه تقديراً عالياً. وهو لم يكن يؤمن بالديمقراطية أو بفضائل الشعب. ولم يكن يقبل النقد إطلاقاً، مهما يكن بنّاء، ويعتقد أنه في وضع يمكنه من تقرير مصير الشعب الجزائري. ولما كان أبويا، فقد كان يعتبر نفسه وصياً على الشعب. لقد كانت لديه ميول فاشية.
كان نصيراً للنظام والانضباط، وكان حريصاً على إخباره بكل شيء وبدقة. وفي بداية عهده، كان يشترط أن تكون الأخبار والمعلومات التي تصله مدعومة بالحجج والأدلة. وكان يطمح لأن يجعل من الجزائر بلدا متقدما اقتصادياً وقوة إقليمية في الوطن العربي وإفريقياً. كان بومدين يريد دولة قوية وشديدة المركزة.
يهمل العامل البشري ويعتقد أن بالإمكان الحصول على كل شيء بواسطة المال: المساعدة التقنية الأجنبية، ونقل التقانة، والتصنيع، والتقدم التقني، والنمو الاقتصادي. لم يكن لديه أي احترام للفرد وكان يجب أن تَّمحي شخصيات المسؤولين السياسيين المحيطين به، ويقصي بصورة منهجية القادة أو المسؤولين الذين يتمتعونن بشخصية قوية، وإن كانوا أكفياء وبنَّائين ويتصفون بالنزاهة. باختصار، لم يكن يتحمل وجود منافس محتمل، لا من قريب ولا من بعيد.
ولكي يحقق بومدين طموحاته، استند إلى مجموعة ضيقة من الثقات الذين كانوا يشكلون نواة النظام الصلبة، وإلى تقنوقراطيين وإلى المساعدة التقنية الأجنبية لتجسيد ثورته الصناعية بصورة ملموسة.
كان تكوين بومدين الأصلي عربياً – إسلامياً، وقد تأثر بتيارين فكريين متناقضين: الرأسمالية والشيوعية. وبومدين لم يكن يوماً ماركسياً أو شيوعياً، لكنه قرأ العديد من مؤلفات لينين وماوتسي تونغ خلال حرب التحرير. وهو يشارك التيار الشيوعي عبادة الشخصية، والنزعة الدولانية، وأسبقية الاقتصادي على السياسي، والكليانية، وعدم احترام الحريات الأساسية، ولاسيما حرية التعبير والحريات الفردية. وبالمقابل، لم يكن يؤمن بالأممية.
وبخصوص الرأسمالية، كان بومدين متأثراً بالتقدم العلمي والتقني، وبالفعالية التنظيمية والإنتاجية، كما بالمستوى الرفيع للنمو الاقتصادي والرفاه
...............................
= التقيه بصفة غير رسمية إما في بينه وإما في مكتبه حتى عام 1967 حين اختلف مع العقيد طاهر زبيري الذي كان رئيس الأركان آنذاك ومع علي منجلي عضو مجلس الثورة.
111
الاجتماعي، كل تلك الأمور التي حققتها البلدان المصنًّعة والتي كان يتمنى أن يستفيد منها بلده، ولو لقاء طرق مختصرة، لكنه كان يرفض التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تولدها هذه المنظومة.
هذه هي الأبعاد الثلاثة: الثقافي (الانتماء إلى الحضارة العربية – الإسلامية)، والسياسي (التأثير الشيوعي) والاقتصادي والتقني (التأثير الرأسمالي) التي ألهمت بومدين «الاشتراكية الخاصة» للجزائر التي كان يحلم بأن يجعل منها قوة كبرى ومثالاً للعالم الثالث. إن بومدين الواثق من نفسه، والمتفرد بالقيادة والمشرف على كل شيء، كان يفكر في تحقيق مشروع المجتمع الخاص به، بالاستناد إلى تقنوقراطيين.
وفي هذا السياق بالضبط أتاح بومدين لنخبة تكونت في المدرسة الاستعمارية أن تأخذ مواقعها جدياً في مراكز قيادة في كل قطاعات النشاط. وسنرى لاحقاً كيف أن هذا المزيج المتفجر الذي لغم الجزائر المستقلة ومؤسساتها سوف يقود البلد إلى الخراب. لقد كان الأمر على تلك الحال لأن مثال التنمية المختار كان غير ملائم ولأن الدولة التي نخرتها الراداءة والانتهازية والفساد لم تكن قادرة على تقديم حلول مناسبة لمشاكل التخلف المتعددة.
كان مشروع التحدث، الذي تصوَّره تقنوقراطيون (منقطعون عن الشعب) وتبناه بومدين/ ينحصر في الدائرة المادية ويهمل بعدها الروحي والإنساني، هو الأعرج من نواحٍ عديدة. هكذا نشأ نوع من الاتحاد الوثيق بين بومدين والبيروقراطية التي توطد وضعها في عهده في كل قطاعات النشاط. كانت مقاربة بومدين العلمانية والتحديثية تطمئن البيروقراطية ذات التوجه الفرنسي وتريحها.
وفي الواقع، لقد رفض بومدين إدخال القيم الإسلامية إلى مشروعه وكان حذراً حيال الحركة الإسلامية التي نجح في تطويقها وشلها. لقد حاول بومدين، الواعي مدى تشبث الشعب الجزائري بالإسلام، أن يعوِّض من الفصل بين الدين والسياسة بالضوء الأخضر الذي أُعطى لوزارة التربية لإدخال الدين في البرامج المدرسية وبالنص في دستور عام 1976 على المبدأ القائل «إن الإسلام دين الدولة».
لكن في الوقت عينه، كُلِّفت وزارة الشؤون الدينية بالإشراف على النشاطات الإسلامية في المساجد. وقد قوي هذا الإشراف إلى حد أنه في السبعينيّات باتت هذه الوزارة تُعِد الخطبة التي يتلفظ بها الإمام في صلاة الجمعة وتوزعها على مجمل مساجد البلد. صارت المساجد هكذا منبراً للخطاب الرسمي والدعامة غير المشروطة للنظام. كان جوهرياً بالنسبة لبومدين أن يبعد الدين عن الميدان السياسي ويحشر الإسلام في دور الرمز، لا شيء أكثر، وذلك بهدف ضمان ديمومة النظام.
112
وفي ما يخص تحديث البلد، استند بومدين إلى البيروقراطية لتحقيق مشروعه. إن التصنيع وتعزيز الدولانية عن طريق تأميمات جرت في ميادين الصناعة، والمال، والمناجم، وخلق شركات وطنية عامة، أتاحا لبومدين أن يعزز سلطته الاستبدادية، وللبيروقراطية أن تتكاثر في الطريق الذي اختطَّه. ولقد أجاد محمد حربي وصف هذه الظاهرة بالتشديد على أن طابع «المركزة العسكري قد تضاعف منذ عام 1967 بنزوع إطارات عليا في الجيش نحو الوزارات وشركات الدولة. وقد تم تكاثر الشرائح البيروقراطية، الاقتصادية والعسكرية والبوليسية، على خلفية يسيطر عليها حرام اجتماعي كبير وترييف المدن، وهما ظاهرتان ملائمتان للتلاعب بتطلعات الشعب ولسلطة الدولة المالكة غير الخاضعة للرقابة» (4).
هكذا اعتمد بومدين على البيروقراطية لإنجاز مشروعه الكبير لتحديث الجزائر. لكنه اعتمد لأجل تعزيز سلطته السياسية على الجيش ومصالح الأمن التي كان يسيطر عليها لوحده.
ثالثاً: الجيش ومصالح الأمن.
منذ ما قبل الاستقلال، اعتمد بومدين على الجيش للوصول إلى السلطة. لكن بعد انقلاب جوان (حزيران) عام 1965، حرص بومدين على عدم الإشراك المباشر للجيش ومصالح الأمن في ممارسة السلطة. بتعابير أخرى، استخدم الجيش ومصالح الأمن لتعزيز سلطته الشخصية لكن من دون إشراكها في سيرورة اتخاذ القرار في الميدانين السياسي والاقتصادي.
وإذا كان بومدين حظي بالاحترام والخوف من طرف الجيش ومصالح الأمن، فليس من شك في أن وضع «الحزب الفرنسي» يده على هاتين المؤسستين قد تم بمباركة منه، وذلك منذ استقلال الجزائر. وسوف يساهم ذلك في تسهيل تقدم الحزب المذكور وامتداد نفوذه إلى قطاعات عديدة بهدف ضمان الإشراف الفعلي على الأجهزة.
1- الجيش.
كما بيَّنا في الفصل الثاني، كان اختراق الجيش الوطني الشعبي من جانب «فارين» من الجيش الفرنسي بين عاميْ 1957و 1959، وفي عام 1961، يهدف إلى
.............................
(4) Mohammed Harbi, le ELN: Mirage et réalité. Sons de l'hisaire (Paris: Jeune Afrique. (1980). p. 379.
113
السيطرة على الجيش الجزائري بعد الاستقلال. وقد رأينا كيف أن هؤلاء «الفارين» بدأوا بخدمة كريم بلقاسم، الذي كان آنذاك وزيراً للقوات المسلحة. وضعوا أنفسهم بتصرفه للحصول على رعايته واكتساب شرعية ثورية كانوا بحاجة إليها لارتقاء مراكز القيادة. وحين أضعفت كريم الأزمة التي هزت الحكومة المؤقتة والمجلس الوطني للثورة الجزائرية، عرض هؤلاء «الفارون» أنفسُهم خدماتهم على العقيد بومدين، خصم كريم المعلن، وذلك مباشرةً بعد تعيينه رئيساً للأركان العامة للجيش الوطني الشعبي، لقد رأينا أيضاً كيف أحاط بومدين نفسه في الحال، هو الواصل حديثاً إلى غار ديماو حيث أقام قيادته العامة، بـ «فارين» عرفوا كيف يكسبون ثقته بإحناء الرأس وإبداء الخضوع. لقد كان هؤلاء يناسبون تماماً بومدين، الذي لا يحب أن تكون بجانبه أو أمامه شخصيات قوية أو ضباط يملكون الحزم والسلطة. كان يفضل أن يحيط نفسه بأناس خانعين. فتلك طبيعته. لقد أستخدمهم للاستيلاء على السلطة. وهم أيضاً كانوا ينوون استخدام بومدين لبلوغ غايتهم، باللعب على عامل الزمن.
وفي عام 1962، كان «الفارون» من الجيش الفرنسي يُعتبرون بين معاوني بومدين الأقرب إليه. وما أن عُيّن نائباً لرئيس المجلس ووزيراً للدفاع في سبتمبر (أيلول) 1962، حتى عُيِّن عبد القادر شابو (الملازم الأول في الجيش الفرنسي قبل سنوات أربع) في منصب أمين عام لوزارة الدفاع الوطني. وقد عُهد بالمنصب الحساس، منصب مدير ملاك الوزارة، إلى لحبيب خليل (الملازم السابق في الجيش الفرنسي، قبل ثلاث سنوات). لقد جرى الاحتفاظ بمعظم المديريات المركزية لوزارة الدفاع لــ «الفارين» من الجيش الفرنسي.
هكذا منذ عام 1962، وقبل أن يجف دم الشهداء وتلتئم الجراح التي تسببت بها إحدى أشرس حروب القرن، بات الجيش الوطني الشعبي، فعلاً وقانوناً، تحت إشراف حوالي 15 ضابطاً من أدنى الرتب في الجيش الفرنسي (رتبتي ملازم أول، وملازم) الذي كانوا فيه قبل ثلاث إلى أربع سنوات. فيا لها من ترقية!! هذه المجموعة من «الفارين» الذين كان الأنشط بينهم العربي بلخير، وخالد نزار، ومصطفى شلوفي، وبن عباس غزيل، وسليم سعدي، ومحمد تواتي ومحمد العماري، كان يقودها عبد القادر شابو وسليمان هوفمان (5)، والأول حذر، ولبق وحقود، أما الثاني فوقح بالأحرى، وذو طبع وافر الحيوية وطموح كاسح.
..............................
(5) تسنى لي أن أتعرف شخصيا إلى هذين القياديين بين عامي 1959و 1962 على الحدود الجزائرية – التونسية.
114
كانت خطة هذه المجموعة التي بدأ تطبيقها منذ عام 1962 تتضمن أربعة أقسام للتنفيذ الفوري:
أ- التسريح السريع، والمكثف ومن دون سابق إنذار للضباط وضباط الصف المقاومين الوطنيين. ولتفعيل هذا التسريح والتخلص من المقاومين، تم اللجوء إلى كل أنواع الحِيل من مثل تقديم مساعدة مالية مهمة، والإلحاق بنشاطات تجارية (بأن يُوضع بتصرف المسَّرحين مقهى أو مطعم أو محل تجاري، أُعلن عن «شغوره» بعد رحيل الأوروبيين)، أو بجهاز حزب جبهة التحرير الوطني أو في الإدارة أيضاً (في مناصب دنيا). وفي كل حالات إعادة التوظيف، كانت تؤخذ بالحسبان أقدمية المقاومين علاوة على منافع مادية أخرى أو إجراءات محفِّزة لتشجيع رحيل المقاومين السريع من الجيش الجزائري الفتي.
ب- الاستيعاب الآلي في الجيش الوطني الشعبي لضباط وضباط صف كانوا لا يزالون في الخدمة في الجيش الفرنسي بعد الاستقلال مع الاحتفاظ بأقدميتهم وخبرتهم. لقد عُيِّن بعض الضباط، كالعقيد جبيلي والرائد بوراس، اللذين لم ينضما إلى الجيش الوطني الشعبي إلا في عام 1968، تعييناً فورياً في مناصب قيادية مهمة، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في الفصل الرابع.
ج- التكوين العسكري. لقد جرى ضبط برنامج التكوين في مختلف المدارس العسكرية والمدرسة الوطنية لمهندسي الجيش وتقنييه (ENITA)، الموروثة من المرحلة الاستعمارية، والتقيد به بعد الاستقلال من طرف ضباط تدريب فرنسيين على أساس التعاون التقني. وبطبيعة الحال، ترمي سياسة التكوين العسكري هذه التي وضعت موضع التطبيق بإسهام ضباط فرنسيين لخلق ظروف استبدالهم بفضل إعادة تكوين إطارات عسكرية جزائرية شابة في القالب الفرنسي. وقد تدعمت سياسة التكوين العسكرية هذه، ذات التوجه الفرنسي، منذ بداية السبعينيات، بإرسال ضباط من الجيش الوطني الشعبي (ولاسيما «فارين» من الجيش الفرنسي وبعض الضباط الوطنيين كاليامين زروال ومجذوب لكحل عياط) إلى المدرسة الحربية في باريس، بعد أن مروا بمدرسة الأركان في موسكو في أواسط الستينيات.
د- تنظيم وزارة الدفع والجيش. لقد حصل «الفارون» من الجيش الفرنسي على حصة الأسد في توزيع المديريات المركزية لوزارة الدفاع التي وضعوا هم أنفسهم خطتها العضوية. دفع بومدين بهم إلى مناصب عالية جداً باسم الكفاءة المزعومة والتقنية. ولقد كان المسؤول الحقيقي الأكبر عن الوزارة، بلا جدال، هو سكرتيرها العام، عبد القادر شابو.
115
لما كان بومدين قد اهتم بشكل أساسي بالاستيلاء على السلطة، منذ عام 1962، ثم بتوطيد نظامه منذ جوان (حزيران) عام 1965، حاول أن يقيم على طريقته نوعاً من التوازن داخل الجيش بين «الفارين» من الجيش الفرنسي ومن بقي من الضباط المقاومين. وقد عهد إلى الأولين بتسيير وزارة الدفاع كما بقيادة الوحدات الاستراتيجية (كسلاح المدرعات، والوحدات المنقولة جواً، والطيران، .... الخ)، وعهد إلى الآخرين بإدارة النواحي العسكرية (كان عدده خمساً في عامي 1962- 1963) (6) والقطاعات العسكرية (التي كان عددها يساوي عدد الولايات، وارتفع من 15 خلال الستينيات إلى 31 مع الإصلاح الإداري لعام 1976).
وبمناسبة كل ترقية للضباط، كان بومدين يكافئ في الوقت ذاته «الفارين» من الجيش الفرنسي والمجاهدين القدامى بموازنة بارعة. لكن حين ننظر عن كثب إلى ما كان يسند إلى كل من الطرفين، لم تكن آلية التوازن تلك تمثل غير توازن ظاهري خادع، لأنها كانت منحازة بلا جدال إلى قدامى الجيش الفرنسي. ففي الواقع، إن القيادة الفعلية للجيش هي على مستوى وزارة الدفاع الوطني لا على مستوى النواحي العسكرية والقطاعات التي تكون مناصبها شرفية بالأحرى.
ففي الواقع، إن إعداد الموازنة وتوزيعها إلى أبواب ونواحٍ، ومجمل عمليات الاستيراد، وتموين الجيش، وتأمين لباسه وتجهيزه وتسليحه، ونشاطات البناء وإنجاز البنى التحتية، علاوة على حركة القوات من نقطة إلى أخرى داخل أراضي الوطن، تكون جميعها من صلاحية وزارة الدفاع على وجه الحصر.
منذ عام 1962، ألقى بومدين مهمة تسيير هذه الوزارة الاستراتيجية على عاتق أمينها العام، عبد القادر شابو الذي كان يثق به. وحين جمع بومدين منذ جوان (حزيران) عام 1965 مهام رئيس الدولة ووزير الدفاع، زادت صلاحيات الأمين العام إلى حد بعيد بحيث بات هذا الأخير يحضر اجتماعات مجلس الوزراء. إذا يختص الأمين العام لوزارة الدفاع مباشرة بتنظيم الجيش وتسييره واشتغاله.
بعد وفاة شابو «في حادث» في عام 1971 (7)، خلفه عبد الحميد لطرش، وهو
............................
(6) عهد بقيادة الناحية العسكرية الأولى (المعتبرة استراتيجية لأنها تشمل إلى العاصمة كلا من ولاية الجزائر (Algerois) والقبائل الكبرى) إلى الرائد سعيد عابد.
(7) أكد لي أحد الأطر العليا (لا يمكنني ذكر اسمه لأسباب أمنية بديهية، وكان اشترك في تحليل حطام المروحية، التي قيل رسميا أنها سقطت «في حادث طارئ»، والتي كانت تنقل شابو وصحبه، أكد لي في حينه أن الفريق الذي كلف بالتحقيق وجد آثار متفجرات في ذلك الحطام، وخلص إلى وجود اعتداء مدبر، فضلاً عن ذلك، واستناداً إلى مصادر موثوقة، قريبة جدا إلى رئيس الدولة، حصل الرئيس بومدين على معلومات حول انقلاب وشيك، =
116
«فار» من الجيش الفرنسي لكنه معروف بوطنيته. وقد بقي في هذا المنصب حتى وفاة بومدين.
وخلال ولاية الشاذلي بن جديد الثانية (1984- 1988)، استفاد الضباط «الفارون» من الجيش الفرنسي من صعود مذهل. فلقد تسارعت الأمور لمصلحتهم انطلاقًا من إقصاء الجنرال مصطفى بلوصيف في عام 1987، الذي سوف نعطي تفاصيل بخصوصه لاحقًا.
هكذا فإن الجنرال مصطفى شلوفي، وهو من قدامي الجيش الفرنسي، عُيِّن أمينًا عامًا لوزارة الدفاع في عام 1986. وعُيِّن الجنرال خالد نزار، «الفار» من الجيش الفرنسي رئيسًا للأركان في عام 1989، ثم وزيرًا للدفاع في عام 1990، وخلفه الجنرال عبد المالك قنايزية، «الفار» مثله، على رأس الأركان في عام 1990. لقد اكتملت الدائرة: للمرة الأولى منذ الاستقلال، باتت مناصب وزير الدفاع، ورئيس أركان الجيش والأمين العام لوزارة الدفاع بين يدي ضباط قدامي في الجيش الفرنسي. وخلال هذه الفترة بالذات، حصلت واقعتان بالغتا الأهمية: من جهة، إعادة هيكلة الجيش، على أساس تهميش النواحي العسكرية وتعزيز مركزة القيادة لصالح وزارة الدفاع وهيئة الأركان العامة، ومن جهة أخرى، وضع خطة عمل، وضعت في التطبيق مباشرة بعد انقلاب جانفي (كانون الثاني) سنة 1992(8).
في عام 1990 بالذات تأكدت لي ولبعض الأصدقاء بداية النهاية السياسية للشاذلي بن جديد الذي كان من التهور بحيث عيَّنهم جميعًا في مناصب استراتيجية إلى هذا الحد من دون ثقل موازن لهم. وهذا الخطأ المشؤوم للرئيس الشاذلي يشكل مأساة بالنسبة للجزائر، ولاسيما أن الجيش يمتلك مصالح أمن ملحقة به عضويًا، كالأمن العسكري القوي جدًا والدرك الوطني.
.......................
= تدبره فرنسا ضده. وقد استنتج في الحال أن هذا الانقلاب لا يمكن أن يأتي إلا من عبد القادر شابو، «الفار» القديم من الجيش الفرنسي، والرجل الذي وضع فيه ثقته، والذي عهد إليه بأعمال وزارة الدفاع وقيادة الجيش منذ الاستقلال ومن المستحسن إجراء مقارنة بين محاولة الانقلاب هذه التي تم إحباطها في الوقت المناسب، ومحاولتي اغتيال الملك الحسن الثاني اللتين نظمهما الجنرال أوفقير، الضابط القديم في الجيش الفرنسي، وقد تمت الأولى في قصر الصخيرات في جويليه (تموز) 1971، والثانية في عام 1972 مع الهجوم الذي شنته ست طائرات مطاردة في الجيش المغربي على طائرة البوينغ في الجو. وهذه المعلومات تعطي صدقية لأطروحة تسميم بومدين في عام 1978، التي دافع عنها بعض أنصاره. لقد مرت عدة سنوات، في الواقع، بعد وفاة بومدين، قبل أن تصبح سيطرة «الفارين» من الجيش الفرنسي الكاملة على الجيش الجزائري سيطرة فعلية.
(8) لمزيد من التفاصيل، انظر: مذكرات الجنرال خالد نزار (الجزائر: مطبعة الشهاب، 1999)، ص 224- 230.3
117
2- مصالح الأمن
لقد تطور تنظيم الأمن بين عامي 1962 و1998 تبعًا للتغيرات التي أجريت في قمة الدولة. ولن نتابع تعرجات شتى إعادات الهيكلة التي شهدتها مصالح الأمن خلال تلك الفترة الطويلة التي ظهرت فيها الشُّرَط المتوازية واختفت على هوى الأحداث. فهذا يخرج من ميدان استقصائنا ولا يغير شيئًا في طبيعة المسألة التي تهمنا هنا والتي تتعلق باستيلاء حزب فرنسا على القطاعات الاستراتيجية. لذا سوف نقتصر هنا على الهيئات الأمنية الثلاث التي بقيت موجودة بعد كل إعادات الهيكلة وهي: الدرك الوطني، والأمن العسكري، والمديرية العامة للأمن الوطني.
أ- الدرك الوطني
لقد جرى على مدى زمن طويل اعتبار الدرك الوطني، إقطاعه حزب فرنسا مديريةً مركزيةً في وزارة الدفاع. فبين عامي (1962- 1977)، ومصطفى شلوفي (1977- 1986) وعباس غزيل (1986- 1997)، وكلهم ضباط قدامي في الجيش الفرنسي.
ويمثل الدرك الوطني المثال النموذجي للجهاز الذي اكتسحه منذ إنشائه «فارون» من الجيش الفرنسي وأقفل بجهاز خاص للاختيار، والتجنيد، والتكوين وفقًا للتراث الاستعماري الصرف.
وعلى امتداد 35 عامًا، كان على رأس الدرك ثلاثة قادة فقط. وقد جعله هذا الاستقرار عصيًا على أي إصلاح. ولما كان الدرك أداة قمع ينخرها الفساد، فقد جرى اعتباره خلال تلك الفترة الطويلة كصيد محفوظ لحزب فرنسا ومحمية فرنسية.
ب- الأمن العسكري (9)
خلافًا للدرك الوطني الذي أنشئ عام 1962، يتشكل الأمن العسكري من مالغ الـــــ MALG: وزارة التسليح والاتصالات العامة (10)، الذي تخلى عن الحكومة
.......................
(9) للمزيد من التبسيط، نستخدم تعبير الأمن العسكري في هذا الكتاب للدلالة على هذه الهيئة، مهما كانت التسميات التي اتخذت بين عامي 1962 و1999.
(10) الـــ MALG (أو وزارة التسليح والاتصالات العامة) كان يشرف عليها عبد الحفيظ بوصوف منذ إنشاء الحكومة المؤقتة في عام 1958. وهذه الوزارة مؤلفة من ثلاث مديريات مكلفة على التوالي بالتسليح، والاتصالات ومصالح المخابرات. وقد نجح بوصوف في أن يحول الـــ MALG إلى جهاز قدير، تكون فيه جيل بكاملة من =
118
المؤقتة، والتحق بقيادة الأركان العامة، قبل الاستقلال مباشرة. إن هذه الإطارات المنشقة، ذات التكوين والتوجه الفرنسيين، سيطرت من دون منازع على الأمن العسكري بين عامي 1962 و2000 (إلى حين كتابة هذه السطور). إن المسئولين عن الأمن العسكري، ولاسيما الجنرالين محمد مدين، المدعو توفيق، وإسماعيل العماري (اللذين يشغلان منصبيهما منذ عام 1989 وحتى اليوم)، معروفون بالروابط التي تشدهم إلى فرنسا وبعلاقاتهم غير المتناسقة مع المصالح (أجهزة الأمن) الخاصة الفرنسية. إن استقرار هذه الهيئة، ما عدا المرور السريع على رأس هذه المصالح لكل المن الجنرالين لكحل عياط ومحمد بتشين (كانا كلاهما مقاومين قديمين، لكن مرتبطين بحزب فرنسا لاعتبارات تكتيكية ولتوافق في السلوك) سهَّل امتداد النفوذ الفرنسي إلى أجهزته وأجهزة أخرى بمباركة منه.
إن مسئوليته كبيرة في هذا المجال بسبب اختراق عناصره للإدارة (على مستوى المديريات الاستراتيجية لكل الوزارات، وعلى مستوى الولايات والبلديات المهمة اقتصاديًا)، وللقطاع الاقتصادي (الشركات الوطنية الصناعية، والهيئات والمكاتب الفلاحية، والمصارف، وشركات التأمين، ... الخ) ولقطاع الإعلام والثقافة (للإشراف على وسائل الإعلام، والدفاع عن الفرنكوفونية والعلمانية.. الخ). وتنص التنظيمات على أن الأمن العسكري يعطي الموافقة على توظيف إطارات الدولة وترقيتها.
هكذا نجح الأمن العسكري في أن يكون حاضرًا عبر وضع رجاله في كل قطاعات النشاط الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي والإداري للبلد، بفضل شبكة كثيفة على كل مستويات سيرورة القرار في القطاع العام منذ بداية السبعينيات.
ج- المديرية العامة للأمن الوطني
على غرار الدرك والأمن العسكري، أخذ حزب فرنسا على عاتقه المديرية العامة للأمن الوطني منذ عام 1962، وإن كانت انتمى مسئولون مختلفون عُيِّنوا على رأس هذه المؤسسة إلى جيش التحرير الوطني. لكن منذ انقلاب جوان (حزيران) سنة 1965، شهدت المديرية استقرارًا مدهشًا. فعلى امتداد 22 عامًا، قادها مسئولان
.......................
= الإطارات المنضبطة والامتثالية. هؤلاء الإطارات الذين يقادون بيد من حديد «هم في غالبيتهم أبناء موظفين من المحمية المغربية» مرتبطون بفرنسا، كما يشير إلى ذلك محمد حربي، في Harbi. Ibid., p. 314
119
فقط: بين عامي 1965 و1977 كان يقودها أحمد دراية (ضابط سابق في جيش التحرير الوطني)، وبين عامي 1977 و1987 الهادي خذيري (وصل من فرنسا حيث كان طالبًا إلى الحدود الجزائرية- التونسية، في عام 1961).
لكن توظيف الإطارات وتكوين ضباط شرطة بالإضافة إلى اشتغال هذا الجهاز تخضع لمقاييس وطرائق ممارسات من الحقبة الاستعمارية. ومن جهة أخرى، عن العلاقات المستمرة بين مسئولي المديرية العامة للأمن الوطني والمصالح الخاصة الفرنسية معروفة تمامًا في مسالك السلطة.
وحتى إذا كان المديرية العامة تحت الوصاية النظرية لوزارة الداخلية، فمديرها العام يقدّم تقاريره مباشرة إلى رئيس الدولة، وذلك منذ عام 1965. لكن حين وصل زروال إلى رئاسة الجمهورية في عام 1994، عُيِّن على رأس المديرية ضابط سابق في الأمن العسكري، هو علي تونسي المدعو الغوثي (11)، الأمر الذي وضع أخيرًا حدًا لاستقلال هذه المؤسسة بجعلها ملحقًا بالجيش، الذي يشرف عليه هو ذاته بالكامل ضباط قدامى في الجيش الفرنسي منذ عام 1989.
هكذا منذ عام 1994، بات مجمل مصالح الأمن تحت إشراف الجيش، بحيث لم يبق لرئيس الدولة غير المصالح الموازية التابعة لرئاسة الجمهورية والتي ليست لها أهمية المصالح الثلاث المشار إليها أعلاه.
خلف هذا الوجه التنظيمي يختفي في الواقع المسعى التوتاليتاري لحفنة من الجنرالات ذوي التوجه الفرنسي الصريح الذين يتلقون المشورة من أجهزة أمنية فرنسية (المصالح الخاصة الفرنسية) (12)، ويسيطرون بلا منازع على الحياة السياسية الجزائرية منذ انقلاب جانفي (كانون الثاني) سنة 1992 ويحركون الخيوط في مسالك السلكة من دون التورط مباشر في التسيير الكارثي لشئون البلد السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. ويحسُن أن نذكِّر في هذا الصدد بأنه كان للجزائر بين عامي 1992 و2000 أربعة رؤساء دولة، وستة رؤساء وزارات، ومئات الوزراء، في حين أن
.......................
(11) على حد الحركة الجزائرية للضباط الأحرار، ثم توقيف علي تونسي في موقع المقاومة في الولاية الخامسة (غربي الجزائر)، وهو ابن ضابط في الجيش الفرنسي كان مركزه في المغرب. وفي عام 1960 تم استيعابه في وحدة المغاوير «العاصفة» المسماة «جورج» في الجيش الفرنسي، وكانت مؤلفة من «إضافيين مستعدين» يعملون تحت أوامر الضابط الفرنسي دوسان جورج. انظر: www.amp.org
(12) قدمت الحركة الجزائرية للضباط الأحرار عام 1998 لائحة بالضباط الفرنسيين الذين يعملون مع جنرالات الجيش الوطني الشعبي الاستئصاليين، وذلك على موقعها على الإنترنت: www.amp.org
120
الجنرالات الأربعة الضالعين في انقلاب عام 1992 كانوا لا يزالون كلٌّ في منصبه خلال تلك الفترة (13).
وتستحق بعض الأمثلة التذكير بها لإبراز غياب الشفافية في تسيير مصالح الأمن. إن كل أعمالها تهدف إلى تعزيز سلطتها وضمان ديمومة المنظومة.
د- التسيير غير الشفاف لمصالح الأمن
خلال الستينيات والسبعينيات، استخدام النظام مصالح الأمن لتوطيد سلطته وتعزيزها، باحتقار مطلق للصالح العام وللشفافية. وقد شهدت الثمانينيات تعزيز دور مصالح الأمن التي اتجهت برشاقة نحو الاستقلال الذاتي. وتلك المرحلة حاسمة وأتاحت للأمن العسكري بوجه خاص أن يلعب دورًا نشطًا جدًا في انقلاب جانفي (كانون الثاني) سنة 1992 قبل الاستيلاء على السلطة لصالحه وصالح الجيش.
وسنرى الآن، على سبيل الإيضاح وبصورة غير شاملة، ثلاثة أمثلة تُبيِّن كيف أمكنها أن تزيد سلطتها منذ الستينيات حين كانت في خدمة رئيس الدولة، وهي: الإقصاء السياسي لمسئولي جيش التحرير الوطني، وتوسيع مجال علمها واللجوء إلى سياسة الإشاعات.
(1) الإقصاء السياسي لمسؤولي جيش التحرير الوطني: لم يكف السلطة أن تتخلص من عدد كبير من ضباط جيش التحرير الوطني عن طريق تسريحهم منذ عامي 1962 و1963 لتكون طليقة اليدين كما رأينا ذلك سابقًا. كان يلزم أيضًا أن يُبعد عن المسرح السياسي قادة لجيش التحرير الوطني مارسوا مسئوليات مهمة خلال حرب التحرير، لكن اعتبرتهم السلطة خطرين، لأن بومدين لم يكن يريد إشراك أحد من السلطة، إذا استثنينا مجموعة وجده (14).
.......................
(13) يتعلق الأمر بالجنرالات: محمد العماري، رئيس الأركان، ومحمد مدين المدعو توفيق، مسئول الأمن العسكري ومساعده إسماعيل العماري بالإضافة إلى مستشارهما محمد تواتي. وعلى حد الحركة الجزائرية للضباط الأحرار (MAOL) كان محمد تواتي قد شارك عام 1956، في حين كان لا يزال في الجيش الفرنسي، في مجزرة بحق عشرات الشباب الجزائريين في دوار بني فليك على بعد كلم واحد عن محلة أزفون، انتقامًا من هجوم شنته جبهة التحرير الوطني. وتحسن الإشارة في هذا الصدد إلى أن محمد العماري ومحمد تواتي انضما إلى جبهة التحرير الوطني، الأول في المغرب والثاني في تونس، «بالفرار» من الجيش الفرنسي عام 1961 قبل وقف النار بعدة أشهر. لكن الجنرالين خالد نزار والعربي بلخير، مخططي انقلاب 1992 والمحالين رسميًا على التقاعد، لا يزالان يمتلكان إلى اليوم بعض النفوذ في هذه الدوائر.
(14) تشكلت مجموعة وجده في البداية من كلٍ من: قايد أحمد، وعبد العزيز بوتفليقة، وشريف بلقاسم، وأحمد مدقري وطيبي العربي.
121
لقد جرى إقصاء مسئولي جيش التحرير الوطني السابقين على مراحل، فبعضهم كالرائد على منجلي، والعقيد صالح بوبنيدر، والعقيد يوسف خطيب أُبعدوا عام 1967 عن مجلس الثورة، الهيئة العليا في البلد، التي كانوا أعضاء فيها منذ انقلاب عام 1965. وغيرهم كالعقيد طاهر زبيري، وكان آنذاك رئيسًا لأركان الجيش الوطني الشعبي، والعقيد سعيد عابد، الذي كان آنذاك مسئولاً عن الناحية العسكرية الأولى، وكانا كلاهما عضوين في مجلس الثورة ومعروفين بمعارضتهما لمجموعة وجده، وقعا ضحيِّتي مكيدة شيطانية من طرف الأمن العسكري وجرى دفعهما لمحاولة إطاحة بومدين بالقوة في ديسمبر (كانون الأول) عام 196(15). وبعد إخفاق محاولتهما الانقلابية، سلك الأول طريق المنفى ووقع الثاني ضحية اغتيال جرى تمويهه ليظهر كانتحار، وذلك على يد ضابط سابق في الجيش الفرنسي أرسله بومدين وشابو على جناح السرعة إلى بليده (مركز الناحية العسكرية الأولى). وآخرون وأيضًا، كالعقيد عباس من الولاية الخامسة، وكان آنذاك قائد المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة في شرشال، وعضوًا في مجلس الثورة، ومعروفًا بخلافاته السياسية مع بومدين، وقد قضى نحبه في «حادث» طريق بين شرشال والجزائر العاصمة في عام 1968.
فضلاً عن ذلك، أطلقت السلطة بدءًا من عام 1968 عملية إفساد ترمي لتقييد بعض مسؤولي جيش التحرير الوطني الذين كان قد جرى إبعادهم سياسيًا، وذلك بهدف إفقادهم الحظوة وإقفال المجال السيسي أمامهم إلى الأبد. فقد قدِّمت، عن طريق وزارة المال، مساعدة مالية مهمة لمسئولين سابقين في جيش التحرير الوطني، بشكل قروض معفاة من التسديد في الجانب الأكبر منها، وذلك للاندفاع في أعمال وخلق مشاريع. وقد تلازمت تسهيلات متنوعة مع هذه القروض، كمنح أرض للبناء، واستيراد تجهيزات وآلات...الخ. واستفاد العديد من عقداء جيش التحرير الوطني ورواده من هذه المساعدة المفخخة (16). وقد كُلفت مصالح الأمن لاحقًا بإذلالهم عبر الإشاعات. هوجمت بعنفٍ الصدقية السياسية لهؤلاء الضباط القدامى في جيش التحرير الوطني في مجتمع مساواتي حيث ينادي النظام فضلاً عن ذلك بتعلقه
.......................
(15) أدخل الأمن العسكري في روع العقيد طاهر زبيري أن توقيف بومدين له وشيك لدفعه إلى الفرار أو التمرد، وبالتالي لإبعاده نهائيًا عن الجيش.
(16) في عام 1968، اتصل بي مرارًا ممثلون للسلطة لأستفيد من هذه المساعدة التي رفضتها دائمًا لأسباب سياسة وأخلاقية. ولدفعي لتغيير رأيي، أرسلوا إليَّ أخي البكر، الذي كان آنذاك مديرًا لأسبوعية المجاهد لإقناعي بقبول عرضهم الذي كانت قيمته مليونين ونصف مليون دينار، أي ما يعادل 630 ألف دولار عام 1968. وقد كانت تلك ثروة في الفترة المذكورة.
122
بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية. كان الشعار الذي أطلقه آنذاك بومدين بالذات هو «الخيار بين الثروة والثورة».
هكذا نجح بومدين منذ عام 1969 في التخلص من مسؤولي جيش التحرير الوطني القدامى، المعتبرين خطرًا على نظامه، وفي إبعادهم، في حياته، إبعادًا نهائيًا عن الميدان السياسي.
لقد توفرت كل الشروط ليتابع النظام توطيد سيطرته على مجمل قطاعات النشاط بهدوء تام. وهكذا توسع بالتالي حقل التدخل المفتوح أمام مصالح الأمن.
(2) توسع مجال عمليات مصالح الأمن: لقد ساهمت مصالح الأمن في تقوية البنية التقنية في مجمل قطاعات النشاط بصورة تدريجية.
بدأت أولاً باستهداف القطاعات الاستراتيجية التي كانت تريد ضمان السيطرة عليها. وكان ذلك يتمثل بتقوية حضور مصالح الأمن في وزارات السيادة كوزارة الخارجية، ووزارة الداخلية ووزارة العدل، ليس فقط في الإدارة المركزية، بل أيضًا في المصالح الخارجية (السفارات، القنصليات، الولايات، ... الخ). وقد تأمَّن هذا الحضور عبر اختيار إطارات شدتها روابط إلى مصالح الأمن بمناسبة التعيينات في الوظائف العليا.
وقد تعلق الأمر، ثانيًا، بالنسبة لمصالح الأمن، بتوسيع إشرافها على الوزارات الاقتصادية كوزارات المال والصناعة والطاقة، والفلاحة، والتجارة والنقل. وأبعد من الوزارات، امتد هذا الإشراف إلى شركات الدولة، والمكاتب والهيئات العامة ذات الطابع الصناعي، أو الزراعي، أو التجاري، أو المالي أو غير ذلك، التي كان ينبغي أن توافق مصالح الأمن سلفًا على تعيين مديريها العامين والمدراء الذين يشغلون فيها مناصب استراتيجية، وذلك قبل أن تقوم الوزارة المعنية بتعيينهم.
وأخيرًا، بعد وزارات السيادة والوزارات الاقتصادية، تدخلت مصالح الأمن في إطار تنظيمي محدد (17) خلال اختيار المديرين ونوابهم في كل الوزارات بلا استثناء،
.......................
(17) تنص التنظيمات الإدارية على أن التعيين بواسطة مرسوم لإطارات في مناصب الدولة العليا يجب أن يخضع لتحقيق مسبق تقوم به مصالح الأمن.
لكن منذ عام 1980، قرر الرئيس الشاذلي أن على الوزارات أن تقدم ثلاثة مرشحين (بدل مرشح واحد كما كان يحصل سابقًا)، للمنصب، لتوسيع هامش مناورة رئيس الجمهورية في اختيار الإطارات. وقد أبرز هذا الإجراء علانية وجود خلافات بين شتى مصالح الأمن في تقويم الإطارات، حيث أن كل مصلحة تريد توظيف إطاراتــ «ــها». وقد وصل العبث في هذا الصراع على النفوذ، إلى حد أن مرشحًا كانت ترفضه مصلحة معززة رأيها بحجج كثيرة بخصوص عدم كفاءته وافتقاره إلى النزاهة، في حين تدافع عنه مصلحة أخرى بسبب نزاهته وكفاءته المدعمتين بإثباتات. إلا أن الأمن العسكري بقي بلا جدال الأكثر نفوذًا، خطأ أو صوابًا.
123
وفي معرض تعيين المديرين العامين في مجمل مشاريع الدولة أو هيئاتها أيًّا تكن سلطة الوصاية عليها. وعن طريق هذه الآلية لتعيين الإطارات في مناصب عليا، توصلت مصالح الأمن لتوسيع إشرافها بصورة فعلية بحيث يشمل مجمل الوزارات وكل هيئات الدولة أو شركاتها حوالي منتصف السبعينيات.
تؤمّن متابعة الإطارات وتسييرها مديرية في رئاسة الجمهورية، مكلفة من جهة أخرى بالتنسيق بين شتى مصالح الأمن. هذه المديرية التي يسيرّها منذ عام 1979 ضابط سابق في الجيش الفرنسي، تمتلك صلاحيات استنسابية بخصوص مجمل الأجهزة الإدارية والاقتصادية في البلد. وتستخدم هذه المديرية سلطات مبالغًا بها إما لمساعدة الوزارات المنتمية إلى التيار المحب لفرنسا، أو على العكس لمضايقة من لا ينتمون إليه. هكذا واجهتني صعوبات كثيرة في تعيين إطارات عليا في وزارة التخطيط في عام 1980(18).
هكذا، من رئاسة الجمهورية، ووصولاً إلى الولايات، فالسفارات، فمشاريع الدولة، مرورًا بمجمل الوزارات، تحتار الإطارات العليا شتى مصالح الأمن، التي يشرف عليها حزب فرنسا.
.......................
(18) غالبًا ما يحصل أنه عندما يجري اقتراح إسناد وظائف عليا لإطارات نزيهة وذات كفاءة لكنها ليست تابعة، ترفضها مصالح الأمن و/ أو مصالح الرئاسة. ولا يستند هذا الرفض إلى تقدير الكفاءات المهنية للمرشحين إلى الوظائف العليا أو إلى انتمائهم لتيار سياسي محدد، بل يتم لإضعاف الوزير المعنى الذي لا ينتمي إلى الجماعة الموالية لفرنسا. أي أن المستهدف هنا هو الوزير المستخدم وليست الإطارات المفترض أن تشغل مناصب عليا هي المستهدفة بالذات بالرفض المشار إليه. والأمثلة كثيرة، لكنني لن أورد غير اثنين لتوضيح هذا الوضع العبثي الذي كنت ضحيته في عام 1980 حين كنت وزير التخطيط. فبخصوص حالة كامل ب، وهو إطار ماهر وشريف ولا يكل، اقترحته للمنصب المستحدث لمدير عام مكلف بإعداد الأراضي، فأوقف تعيينه أكثر من عام من دون مبرر على الرغم من تذكيراتي المتكررة. أخيرًا استوضحت العقيد غزيل «الفار» من الجيش الفرنسي، وكان آنذاك مسئول مديرية الرئاسة، أسباب تجميد هذا التعيين. فأخرج ملف كامل ب. وأجابني بأنه ليس بالإمكان تعيينه في هذا المنصب لأنه مدمن على الكحول. فأجبته بأنه هذه المعلومات قديمة، ذلك أن كاملاً توقف عن الشرب، وأكثر من ذلك بات يمارس الصلاة بانتظام منذ أكثر من عام، وسلوكه لا غبار عليه. وقد أحرج ردي العقيد غزيل فأجاب بأن الصلاة ليست مقياسًا لتعيين الإطارات. ولزم تدخل الرئيس الشاذلي شخصيًا للحصول على تعيين كامل ب.
وبخصوص ح. ناصر، الذي اقترحته لمنصب نائب مدير مكلف بالشئون المالية، والذي جمدت إجراءات تعيينه أيضًا، أجابني العقيد غزيل (الذي ليس حائزًا حتى على الشهادة الثانوية)، أنه ليس مؤهلاً للمنصب المرشح له. فذكرته بأن ح. ناصر حائز على الدكتوراه في الاقتصاد المالي من جامعة لوفان (بلجيكا)، وبأنه مؤهل جدًا لهذا المنصب، وبأني مؤهل أكثر منه (أي من العقيد) للحكم على كفاءته. ولم أحصل إطلاقًا على تعيينه بمرسوم لمنصب نائب المدير، لكنني أبقيته أيًا يكن في منصبه الذي نجح فيه كليًا. لكن بعد سنوات، ونظرًا لحساسيته السياسية- الثقافية، «استعادته» الرئاسة ليشغل منصب مدير في عام 1986، ثم عين في عام 1990 حاكمًا للمصرف المركزي.
124
إن دور مصالح الأمن في إجراءات التعيين إلى المناصب العليا يتيح لها امتلاك شبكة مهمة تؤمن لها، بين ما تؤمنه، إنجاح سياستها الخاصة بها.
وتمتلك مصالح الأمن، من وراء الستار، سلطات مخيفة. فليس من حدود، لديها، بين السياسي (الحكومة، جهاز جبهة التحرير الوطني)، والتشريعي (المرشحون للجمعية الوطنية إنما تختارهم في المقام الأخير مصالح الأمن)، والتنظيمي (الإدارة الواقعة تحت إشرافها) والقضائي (المجال المفضل لتدخلها). إنها تتدخل عمليًا في كل المجالات.
(3) الإشاعة، أداة للتسيير السياسي: إن سياسة الإشاعات واستخدام الرأي العام من طرف مصالح الأمن لأهداف سياسية تعود بجذورها إلى الستينيات، بعد الاستقلال مباشرة.
وفي القمة، ونظرًا لطبيعة النظام بالذات، لا يهتم القياديون إلا ببقائهم في السلطة. وليسوا فيها لحل المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية والثقافية لشعب مشغوف بالحرية والعدالة، عبر الانخراط في منظور على المدين المتوسط والبعيد، بل للدفاع عن امتيازاتهم وتعزيز السيطرة على الميدان السياسي باسم الأيديولوجيا الرسمية. إنهم مقطوعون عن الحقائق الاجتماعية.
ويتم تسيير موارد البلد البشرية، والمادية والمالية في دوائر ضيقة جدًا، سرًا وفي انعدام كامل للشفافية. إن السرية كأداة للسلطة، إنما يجري الاهتمام بها في أعلى مستويات الدولة وتفرض نفسها في كل المواقع. إن نظامًا سلطويًا وأبويًا يستبعد في مسعاه، ومن حيث تعريفه، كل محاولة للشفافية وتقدير النتائج في تسيير الشئون العامة، لذا فالسرية، والإشاعة، والتلاعب بالمعلومات، وحجبها للمنظومة القيام بإخراجات من شأنها إقصاء رجال سياسة أو إطارات عليا معتبرة مربكة يجري تقديمها أضاحي للرأي العام تبعًا للظروف. وكل ذلك مخطط له ويجري تنفيذه لحرف الرأي العام عن انشغالاته الفعلية وتطلعاته العميقة. وتشكل هذه الإخراجات إذًا عمليات تحويل للأنظار ترمي في الوقت ذاته إلى «إعطاء صدقية» للنظام عبر إعطاء الانطباع بأن أفعال السلطة رزينة، ومناسبة، وسليمة وتستجيب لاهتمامات المواطنين.
ومصالح الأمن متمرسة تمامًا في هذا النوع من الممارسة الذي يشكل من جهة أخرى مجالها المفضل. وهي تستحوذ لهذه الغاية على أجهزة دعاية حقيقية لتسيير الإشاعة بهدف جعل أخبار كاذبة قابلة للتصديق. وقد استخدمت هذه التقنية منذ
125
السبعينيات بوجه خاص لإشغال الميدان السياسي والحيلولة دون بروز تيار فكري سياسي قادر على أن يصبح شعبيًا ويفرض نفسه كبديل قابل للتصديق.
وفي هذا الإطار، تحركت السلطة في اتجاهين. فمن جهة، وضعت اليسار، ولاسيما الـــ PAGS (حزب الطليعة الاشتراكي)، بمواجهة الحركة الإسلامية. ومن جهة أخرى، ألَّبت الناطقين بالفرنسية على الناطقين بالعربية. اخترقت مصالح الأمن كل التيارات الفكرية بلا استثناء وتلاعبت بها. وقد وصلت الأمور إلى حد أن مصالح الأمن نجحت في تسيير الإشاعات إما بواسطة «إذاعة الرصيف» أو بواسطة منشورات مكتوبة وموزعة باسم هذا أو ذاك من التيارات المحظورة سياسيًا. وقد فعلت ذلك أيضًا للتنديد ببعض الإطارات أو ببعض الوقائع المرتبطة بالفساد أو بالسلوك الفاضح لبعض القادة بغية تحضير الرأي العام لإقصائهم.
وقد بلغ اللجوء إلى هذه التقنية أوجه في التسعينيات بعد اختراق الجماعات الإسلامية المسلحة والتلاعب بها (وقد سمّاها العارفون بالوضع في الجزائر «جماعات الجيش الإسلامية». فثمة منشورات وزعت باسم المتطرفين في الجماعات الإسلامية المسلحة كانت وراءها وأملتها مصالح الأمن. وكذلك، فإن اعتداءات كثيرة منسوبة إلى تلك الجماعات، وذلك ضد مدنيين بريئين، جزائريين أو أجانب(19)، وضد مثقفين وصحفيين، ومجازر جماعية (كمجازر المدية في جانفي (كانون الثاني) عام 1997، ومجازو بن طلحة، والرايس وبني مسوس(20) في ضواحي العاصمة في أوت (آب) عام 1997 وجانفي (كانون الثاني) 1998 أو مجازر غليزان في جانفي (كانون الثاني) عام 1998) التي لم يفلت منها نساء، أو أطفال أو أشخاص مسنُّون، إنما أوحت بها أو دبرتها وغالبًا ما نفذتها مصالح أمن، «سرايا الموت»، (وهي وحدات خاصة بقيادة الجيش) أو ميليشيات أنشأتها الحكومة وجهزها الجيش منذ عام 1994.
.......................
(19) أكدت لي شخصية فرنسية في عام 1996 أن الرئيس شيراك بعث برسالة إلى الرئيس زروال، بعد انتخابات الجزائر الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 مباشرة، أعمله فيها بأن فرنسا لن تقبل أبدًا بأن تنظم مصالح الأمن العسكري الجزائري، ابتداء من ذلك التاريخ، اعتداءات في فرنسا كما فعلت في مترو باريس وأمكنة أخرى عامة1995. وكما لو علي سبيل الصدفة، لم يحصل منذ عام 1996 أي اعتداء معزو إلى الإسلامين في فرنسا.
(20) كل المجازر الجماعية، المنظمة في ضاحية الجزائر العاصمة، لاسيما مجازر بني مسوس، تمت بالقرب من ثكنات الجيش الوطني الشعبي. وقد جاء القتلة، وفقًا لمزاعم المصادر الرسمية التي نقلتها الصحافة الجزائرية، وانسحبوا في شاحنات. وتقول المصادر عينها أن المجازر دامت أربع ساعات أو خمسًا. أكثر من مئتي شخص ذبحوا على بعد مئة متر من أقرب ثكنة، من دون أن يتدخل الجيش على الرغم من الإنذار الذي أعطاه باقون على قيد الحياة. فكيف يمكن تفسير هذه السلبية إزاء مجازر بحق أناس بريئين؟ في حين أن الجنرال نزار استقدم دبابات لقمع المظاهرات السلمية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1988، من أماكن تعبد 300 كلم عن الجزائر العاصمة لإطلاق النار على جمهور أعزل؟
126
وهي تفعل ذلك لإعطاء صورة شيطانية عن الإسلام وإفقاد الإسلاميين حظوتهم، وهي تقوم بذلك أيضًا للانتقام من جبهة الإنقاذ الإسلامية (FIS) وإرهاب (21) مناضليها والمتعاطفين معهم، لأن ضحايا تلك المجازر هم فقراء جريمتهم الوحيدة هي تصويتهم لصالح الفيس (FIS) في الانتخابات البلدية في جوان (حزيران) عام 1990، والتشريعية في ديسمبر (كانون الأول) عام 1991(22).
لقد بلغت سياسة الإشاعات الماكيافلية أبعادًا بشعة خلال التسعينيات، ذلك العقد الموصوف بحق بـــ «العقد الأحمر». والسلطات الجزائرية لم تعد تتردد في اللجوء علنًا إلى بعض الأجهزة الفرنسية وبعض الشخصيات الفرنسية المستنجد بها للتلاعب بالوقائع وإشاعة دعاية عدوانية ضد شعبها.
لقد تجاوزت سياسة الإشاعات حدود الرعب. فكل شيء مُباح لحفنة من الجنرالات للبقاء في السلطة بالقوة والعنف. ولو أن بومدين، الذين ينسب هؤلاء الجنرالات أنفسهم إليه، كان لا يزال في السلطة، لما كانت الجزائر اندفعت في مغامرة مخزية إلى هذا الحد، لسبب بسيط هو أنه ما كان عهد إليهم إطلاقًا، في الوقت نفسه، بكل من منصب وزير الدفاع الذي احتفظ به لنفسه حتى وفاته، ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي (الذي بقي شاغرًا منذ عام 1967 بعد تمرد شاغل ذاك المنصب طاهر زبيري)، والأمين العام لوزارة الدفاع ومسئول الأمن العسكري.
ومع ذلك، لم يقتصر تعزيز مكاسب حزب فرنسا على الاستيلاء على الجيش ومصالح الأمن، بل امتد ليشمل أيضًا قطاعات استراتيجية أخرى كان وضع فيها بومدين منذ الستينيات مخلصين له شكلوا نواة النظام الصلبة.
.......................
(21) أعلن رضا مالك، الذي كان وزيرًا أول آنذاك (1994)، أنه آن الأوان لأنه «ينتقل الخوف من معسكره»، أي أنه يجب نقل الإرهاب إلى معسكر الإسلاميين، وبشر بعد ذلك مباشرة بإنشاء ميليشيات للقيام بهذا العمل القذر. وفي الواقع، لم يفعل رضا مالك غير تفسير كلام شارل باسكوا، وزير داخلية فرنسا، آنذاك، الذي أعلن قبله بقليل أنه «يجب إرهاب الإرهابين»، أي الإسلاميين.
(22) صرح الدكتور أحمد جداعي، السكرتير الأول لحزب جبهة القوة الاشتراكية، أمام مؤتمر حزبه في مارس (آذار) 1998 بأن المفكر الفرنسي برنار هنري ليفي وزميله هرزوغ قالا له خلال زيارتهما الأخيرة إلى الجزائر ما يلي: «إن ضحايا المجازر المنظمة في بن طلحة، والرايس، وبني مسوس تستحق الموت لأنها صوتت لجبهة الإنقاذ الجزائرية في عام 1991»، وكان يقصدان أن السلطة هي التي قامت بتلك المجازر. لكن لدى عودة هاتين الشخصيتين إلى فرنسا عبّرتا هما وآخرون من أمثال أندريه غلوكمان وجاك لانغ عن الحزن على مصير ضحايا تلك المجازر الجماعية ذاتها، ذرافين دموع التماسيح عبر التأكيد علانية أن الإسلاميين هم الذين قتلوا الأبرياء بوحشية.
وقد رفض هؤلاء المفكرون والسياسيون الفرنسيون «المتحضرون» في الوقت ذات تأليف لجنة تحقيق عالمية طالبت بها أحزاب جزائرية عديدة، من بينها جبة القوى الاشتراكية، والعديد من الشخصيات الجزائرية.
127
الفصل السابع
تعزيز مواقع حزب فرنسا
في الإدارة والاقتصاد
بعد انقلاب جوان (حزيران) 1965، أقام بومدين مؤسستين برئاسته: مجلس الثورة (1)، المؤتمن الجديد على السيادة الوطنية، والحكومة التي لا تمتلك غير سلطات بالتفويض. ولم يكن ينتمي إلى هاتين الهيئتين في آن مهًا غير أعضاء مجموعة وجده وهم بعد العزيز بوتفليقة، وأحمد مدقري، وشريف بلقاسم وقايد أحمد، باستثناء بشير بوم معزة وعلي محساس اللذين غادرا الجزائر عام 1966 ليدخلا المعارضة.
وبما أن النظام الجديد لا يلحظ أي فصل للسلطات، تجمَّعت مراكز القرار بين أيدي مجموعة وجده التي شكلت نواة النظام الصلبة.
وفي الواقع، لكي ينفذ بومدين مشاريعه، كان في تصرفه أربعة مواقع شكلت الحلقة الضيقة للسلطة واستند إليها لتوطيد نظامه. وهي وزارات الخارجية، والداخلية، والمال والصناعة والطاقة.
فلنرى الآن، باختصار، كيف ساهمت الوزارات الثلاث الأخيرة في تقوية سلطة بومدين وتعزيز البنية التقنية ذات التوجه الفرنسي.
.......................
(1) تألف عام 1965 من 26 عضوًا، وكان يضم 24 عسكريًا ومدنيين (كان وزيرين في حكومة بن بللا).
129
أولاً: وزارة الداخلية
لعب أحمد مدقري، وزير الداخلية على امتداد قرابة اثني عشر عامًا (2) دورًا حاسمًا، بلا جدال، في توطيد النظام وتقوية البيروقراطية، عن طريق تقوية دور حزب فرنسا في الإدارة.
كان مدقري معجبًا بنابوليون ويعتبر الإدارة الفرنسية مثالاً يحتذي وقرر مع آخرين الإبقاء على القوانين الفرنسية «ماعدا في نصوصها المتعارضة مع السيادة الوطنية»، وفقًا للتعبير المكرّس. وقد شجع أيضًا الإبقاء على اللغة الفرنسية في الإدارة. ولضمان ديمومة النفوذ الثقافي الفرنسي، أنشأ منذ الستينيات المدرسة الوطنية للإدارة المكلفة بتكوين موظفين في القالب الفرنسي لوزارته (على المستويات الثلاثة، المركزي والجهوي والبلدي)، ولوزارات أخرى، ولاسيما وزارة الخارجية. وحتى وفاة مدقري، بقي التعليم في المدرسة الوطنية للإدارة يتم بالفرنسية، وليس هذا فقط، بل إنه كان يؤمّن بشكل أساسي بواسطة مدرِّسين فرنسيين في إطار التعاون التقني والثقافي. ولوقت طويل، كان المدرسون الجزائريون الوطنيون والناطقون بالفرنسية (ماعدا شخصًا أو شخصين) يعتبرون غير مرغوب فيهم في هذه المؤسسة.
كان مدقري سلطويًا، وأقام إدارة ممركزة بقوة عهد بإدارتها إلى إطارات ذوي توجه فرنسي، كانوا الرجال الحائزين ثقته. وقد عُهد بالأمانة العامة في وزارة الداخلية، وبالمديريات ونواب المديريات فيها، كما في الولايات، إلى رجال أوفياء.
لقد كان بومدين يدين بالكثير لمدقري الذي نجح في تعبئة الإدارة بحزم لإعطاء النظام الشرعية وتعزيزه. وفي هذا الإطار لعب الدور المحرك في إعداد إصلاح الهيئات الشعبية البلدية والجمعيات الشعبية للولايات، في 1969(3).
لكنه عزز في الوقت نفسه صلاحيات الوالي وسلطته على حساب الجمعيات المحلية المنتخبة. ومذاك، لم يعد الوالي مسئول الإدارة المحلية فقط، بل توسعت صلاحياته كثيرًا لتشمل المجال الاقتصادي. وفي هذا الإطار، شكلت الاستثمارات
.......................
(2) عين أحمد مدقري وزيرًا للداخلية في أول حكومة للجزائر المستقلة في سبتمبر (أيلول) 1962. وقد أقاله الرئيس بن بللا في عام 1964. لكنه استعاد هذه الوزارة فور قيام انقاب جوان (حزيران) 1965، واحتفظ بها حتى «انتحاره» في ديسمبر (كانون الأول) 1974.
(3) ينتخب المرشحون للانتخابات البلدية وانتخابات الولايات على لائحة واحدة لجبهة التحرير الوطني توضع بإسهام من مصالح الأمن.
130
التي لم تعد مركزية، وتطبيق «برامج خاصة» أُطلقت منذ عام 1966 وأعمال شتى ذات طابع اقتصادي واجتماعي في ولاية ما، هبه سماوية للوالي المعني.
إن «البرامج الخاصة» (4) للولايات التي تقرر خلال تنقل رئيس الدولة معدة نظريًا لإصلاح الاختلالات الجهوية. وقد جرى تصوّر «البرامج الخاصة» المستخدمة بين عامي 1966و 1978 (قبل رحيل بومدين مباشرة) وتقررت على أساس «برنامج خاص» واحد في العام ولولاية واحدة.
لكن هذه «البرامج الخاصة» لا تستجيب لمقاربة إجمالية معدة بالفعل للحد من التباينات الجهوية، أو لضمان التماسك الإجمالي للأعمال المباشر هكذا بها. يتعلق الأمر في الواقع بتوزيع تسليفات عبر أراضي البلد بمناسبة زيارات رئاسية. وهذا يعكس التصور الأبوي للسلطة.
إن «البرامج الخاصة» ونفقات التجهيز الأخرى والامتيازات المختلفة التي يمتلكها الولاة لرصد التسليفات، وإسناد الأسواق، وتوزيع المساكن وأراضي البناء الخ، تمنحهم سلطة واسعة جدًا تعبر عن نفسها، بين ما تعبر، بتبذير الموارد، والإثراء غير المشروع والفساد بسبب الإفلات من العقاب وبغياب سلطات محلية مضادة.
لقد ساهمت ممارسات كهذه في حرف الإدارة عن رسالتها الحقيقية المتمثلة في أن تكون في خدمة الشعب، وفي تنمية المحسوبية والعشائرية. إن سلوك العديد من الولاة يكرس هكذا الانقطاع بين بيروقراطيين والمجتمع الجزائري ويغذي أزمة ثقة بين الحكام والمحكومين تنمو مع الأيام.
ثانيًا: وزارة المالية والتخطيط
كانت وزارة المالية والتخطيط تهم بومدين منذ البداية إلى أبعد الحدود لأجل مراقبة تسيير المداخيل والنفقات العامة. لذا عُهد بهذه الوزارة على التوالي إلى قايد أحمد (1965- 1967) ثم إلى شريف بلقاسم (1967- 1971)، وكانا آنذاك مقربين جدًا إلى بومدين (5).
.......................
(4) تقرر «البرنامج الخاص» الحكومة التي تجتمع في الولاية المنظور إليها بالمناسبة. ويتمثل بسلسلة من المشاريع التي تمنحها الحكومة خلال زيارات الرئيس بومدين داخل البلد. وتوزع بهذه المناسبة مشاريع كل عام على ولاية مختارة سلفًا.
(5) كان شريف بلقاسم مكلفًا في السابق بأمانة جبهة التحرير الوطني التي حولها إلى جهاز إداري وإلى مجرد محلق بالسلطة (1965- 1967) قبل أنم يحل محله قايد أحمد في عام 1967.
131
إن ما يهم السلطة في هذه الوزارة ليس إدارة التخطيط بقدر ما هي إدارة المالية. وهي إدارة مكلَّفة بمراقبة حركة الرساميل الداخلية والخارجية، وبتمويل مشاريع التنمية والإشراف على مجمل نشاطات البلد الاقتصادية.
وبخصوص إدارة التخطيط، لقد كانت جزءًا من وزارة المالية حتى خلق أمانة الدولة للتخطيط. لقد قادت إدارة التخطيط على مدى 13 سنة (حتى مارس (آذار) 1979) مجموعة من أربعة إطارات بقيادة عبد الله خوجة، هم: محمود أورابح (6) وغازي حيدوسي وبراشمي (7) الذين احتفظوا جميعًا بروابط تشدهم إلى فرنسا، ويعتبرون المنظومة الحضارية والثقافية الفرنسية نموذجًا مرجعيًا، وكانت لديهم اتصالات دائمة بأجهزة وبُنى رسمية فرنسية خلال ممارسة وظائفهم.
تمت أعمال التخطيط الأولى في عام 1966 خلال إعداد المنظورات العشرية 1967- 1973 الكائنة في امتداد «خطة قسنطينة» التي أطلقها ديغول في عام 1959. وقد شكلت هذه المنظورات إطارًا لإعداد الخطة الثلاثية 1967- 1969. وكانت هناك بعدئذ الخطة الرباعية 19790- 1973 التي قُدِّمت للحكومة وجرى تبنيها بموجب أمر حكومي. بالمقابل، لم يتم تبني الخطة الرباعية الثانية 1974- 1977، التي درسها اجتماع مشترك لمجلس الثورة والحكومة، بموجب أمر حكومي. وهذا يكرس قلة احترام النظام لإدارة التخطيط، المحصورة في دور ثانوي. فلقد جرى اعتبار دورها إداريًا بحتًا.
وفي الواقع، منذ إنشاء أمانة للتخطيط، ترافق تخطيط الاستثمارات بمركزة قرار الاستثمار. وقرار الاستثمار هذا، المجسَّد بعمل إداري يدعى قرار «التفريد»، يتيح لأمانة الخطة أن تتحقق من تناسب مشروع استثمار محدد مع خطة التنمية الوطنية. لكن قرار التفريد هذا المفترض أن يسمح بمراقبة التكاليف، ومواقع الاستثمار... الخ، بات بسرعة ترخيصًا إداريًا روتينيًا بسيطًا. إن ممارسات كهذه حولت أمانة الدولة للتخطيط، المقلَّل شأنها سلفًا بفعل وضعها النظامي داخل الحكومة، إلى مجرد غرفة تسجيل للمشاريع التي تقدمها شتى القطاعات التي ساهمت في إضعاف منظومة التخطيط بغياب الانضباط وعدم كفاية التوضيحات التقنية- الاقتصادي المرتبطة بمشروع محدد.
.......................
(6) كان محمود أورابح، وهو ابن قايد وعائلته تضم العددي من الحركيين، يشغل مهما أمين عام في أمانة الدولة للتخطيط بين عامي 1971 و1979 من دون تعيينه بمرسوم. ففي الواقع رفض الرئيس بومدين دائمًا توقيع مرسوم تعيينه.
(7) عرف براشمي، المنتمي إلى عائلة حصلت على الجنسية الفرنسية، بوفائه المثالي للنموذج الفرنسي.
132
ما أن يتخذ قرار التفريد حتى يتدخل القطاع المالي لدراسة خطة تمويل المشروع المعني وإقراره. وتبين التجربة أنه غالبًا ما تكون خطة التمويل غير مناسبة وتشكل أحد أسباب إعادة تقويم مشاريع الاستثمار. إن الفارق الزمني بين قرار التفريد الذي تتخذه إدارة التخطيط وقرر التمويل الذي تتخذه وزارة المال يوضح غياب التحكم بعملية التخطيط، سواء على مستوى المنشآت (تقوم غير كافٍ للمشاريع ونقص في التوضيحات بخصوص الثوابت
(tresé (Paramالمختلفة للمشاريع) أو على مستوى الوزارات المعنية (ممارسات بيروقراطية وبطء إداري).
من جهة أخرى، لقد أضعف التخطيط كثيرًا اتساع برامج الاستثمارات الصناعية واللجوء المبالغ فيه إلى المنشآت الأجنبية وإلى المساعدة التقنية الأجنبية الكثيفة (ولاسيما الفرنسية كما سنبرهن على ذلك لاحقًا) لإنجاز الاستثمارات المشار إليها ولاشتغال الوحدات الصناعية الناجزة، ولاسيما انطلاقًا من عام 1973، بعد زيادة أسعار النفط. إن إطلاق استثمارات صناعية كثيفة خلق توترات في استخدام الموارد البشرية النادرة، والموارد المادية (النقص في وسائل الإنجاز، وضعف شبكة الاتصالات، والنقص في البنية التحتية المتمثلة بالموانئ، ... الخ) والمالية (تفاقم الدين الخارجي الناجم عن اللجوء المبالغ به إلى السوق المالية العالمية، وغالبًا بشروط مجحفة بين عامي 1974 و1978).
إن وزارة المالية، وهي بؤرة لحزب فرنسا، ضمت دائمًا، وباستثناءات قليلة، مسئولين وتكنوقراطيين من التيار الفرنسي. وتجدر الملاحظة أن التشريعات والتنظيمات الفرنسية العائدة إلى المرحلة الاستعمارية قد استخدمت كدعامة لاشتغال المؤسسات المالية خلال 30 عامًا بتخلفٍ لا يتناسب مع الزمن الراهن. وبالطبع جرى من حين لآخر إدخال بعض الإصلاحات إلى قانون المالية تتعلق بالضرائب، والجمارك، والخزينة، .... الخ. لكن، بصورة إجمالية، تبقى النصوص التنظيمية التي تحكم الجزائر في هذا الإطار غير متناسبة مع ضرورات التنمية الاقتصادية، والفعالية الاقتصادية والشفافية في تسيير الشئون العامة.
فلنأخذ أمثلة ثلاثة: سياسة التسليف، والمنظومة الضريبية، وإدراك الجمارك.
بخصوص سياسة التسليف، ليست ملائمة منذ الستينيات. فالمنظومة المصرفية قد أهملت بالكامل مشكلات جمع التوفيرات والتوسط المالي، نظرًا للطابع التوجيهي والصارم لإدارة الاقتصاد ورصد الموارد على المستوى المركزي. ففي الواقع، تقتصر المصارف على دور أمين الصندوق والمراقب المالي للمنشآت الاقتصادية العامة. وفي هذا
133
الإطار لا تتدخل المصارف في مهام تصوّر المشاريع وتحليلها وتقويمها، وهي مهام تعد من اختصاصها عادة.
إذا كانت المصارف قليلاً جدًا ما تتدخل في تمويل الاستثمارات على المدى البعيد، فهي تتدخل على العكس بكثافة في التمويل قصير الأجل لشركات الدولة ولاسيما بمنح قروض في شكل سحوبات مكشوفة، وذلك لتمويل رأسمالها الجاري نظرًا لاتساع حالات العجز الدائمة لشركات الدولة هذه. إن تزايد السحوبات المصرفية المكشوفة من جانب المنشآت العامة ساهم في زيادة سلطة المصارف حيالها، ودفه هذا الوضع المصارف إلى تجميد حسابات شركات الدولة في كل مرة يصل مكشوفها إلى مستوى معين أو يتجاوز هذا المستوى. هكذا بدلاً من أت تعطي المصارف المشورة للمنشآت المتعاملة معها وتساعدها، تضع أمامها العراقيل عبر مضايقتها في اشتغالها. ويعبر تجميد حسابات المنشآت العامة عن نفسه هكذا بإيقاف الورش، وتأخيرات في إنجاز المشاريع، وتكاليف زائدة وزيادة تكاليف المشاريع وأعباء المنشآت المعنية. إن المصارف التي تمتلكها الدولة مع ذلك لا تهتم إطلاقًا بالصالح العام أو بالنتائج الاقتصادية للمنظومة المصرفية والاقتصادية، لكنها تهتم بشكل أساسي بتنامي دورها حيال القائمين العامين الآخرين بالعمليات الاقتصادية عبر جعلهم أكثر قابلية للعطب.
وبخصوص منظومة الجباية الضريبية في البلد، فهي كثيفة، ومشوشة، ومعقدة وغير ملائمة. إن هذه المنظومة المطبقة البالية والبطيئة، لا تستجيب لمتطلبات تحديث الاقتصاد، وتصبح على العكس كابحًا لجهود التنمية. ويعاني القطاع الخاص والأفراد كثيرًا بسبب هذه المنظومة غير الملائمة والمشوشة التي تفتح الباب أمام التجاوزات والفساد وكل أنواع المظالم.
أمام بالنسبة للجمارك، فالشكليات الجمركية المتصفة بتعقيدها وبطئها تشكل ضغطًا إضافيًا بالنسبة للاقتصاد الوطني وغالبًا ما تؤدي إلى تجميد أدوات تجهيز ومنتجات صناعية في المرفأ لمدة سنوات (8)، وسلع مستوردة قابلة للتلف ينتهي الأمر بالتخلص منها وحرقها، بحيث يتسبب ذلك بخسائر مهمة يتكبدها الاقتصاد الوطني.
.......................
(8) تسنى لي أن ألاحظ شخصيًا، بين عامي 1979 و1987، بصفتي وزيرًا للتخطيط أو وزيرًا أول، أن سلع التجهيز والسلع الصناعية المستوردة كانت تبقى مجمدة في مرفأ الجزائر على مدى أربع سنوات من دون جمركتها. ولا وزير المالية ولا المدير العام للجمارك، ولا مسئول الجمارك في المرفأ، كانوا قادرين على تقديم تفسيرات وتبريرات معقولة. يجرى الاحتماء خلف نصوص تنظيمية مبهمة لتبرير ما لا يمكن تبريره. لا أحد مسئول. إنها الغفلية الكاملة.
134
إن الحقوق الجمركية المطبقة على سلع التجهيز، والسلع نصف المنتجة والمواد الأولية المستوردة المعدة لصنع منتجات جزائرية أعلى من تلك المطبقة على المنتجات النهائية المشابهة والمنافسة المستوردة.
إن تعقُّد النصوص التنظيمية، والبيروقراطية، والغُفْيلة والإفلات من العقاب تشجع نمو الفساد على حساب المصلحة الوطنية.
نستنتج من هذه الأمثلة المتعلقة بسياسة التسليف والضرائب والجمارك، وقد أوردناها للتوضيح، أن إدارة المالية، المسيَّرة بطريقة بدائية بواسطة مِلاك موظفين وتشريع موروثين من المرحلة الاستعمارية، تشكل كابحًا لمشاريع التنمية وتحديث الاقتصاد وتؤدي إلى تبذير مهم للموارد المالية والمادية للبلد. من يستفيد من سياسة كهذه؟ هل إن هذا الوضع ناجم عن انعدام كفاءة مِلاك الموظفين في هذه الإدارة أو عن إدارة واعية للكبح والإعاقة، أو عن الاثنين معًا؟
هنالك مستويان للقرار في وزارة المالية والتخطيط، على غرار وزارات أخرى. في المستوى الأعلى، تكون القرارات المالية ذات الطابع السياسي من اختصاص الوزير، محاطًا بديوانه الذي يضم أناسًا موثوقين. وليست الكفاءة التقنية مشترطة في هذه الحلقة الضيقة. ويتعلق المستوى الثاني بالمديريات المركزية ونيابة المديريات في الوزارة. هنالك تُعد وتوضع القرارات المتعلقة بالميزانية، والخزينة والجباية الضريبية، والجمارك وأملاك الدولة، أي كل القرارات التي تتعلق باشتغال الوزارة. إن العمل التقني والإداري التحضيري يتم على هذا المستوى. ونادرًا ما يرفض الوزير أو يعيد انظر بالاقتراحات و/ أو القرارات التي يتخذها المديرون ونوابهم في وزارته. في الواقع، إن السلطة الحقيقة تحوزها الأجهزة، فالوزراء يمضون لكن الأجهزة باقية.
وإجمالاً، سواء تعلق الأمر بوزارة المالية أو بإدارة التخطيط، فإن الإشكال الممركزة للتصور والتوجه والتسيير الإداري للاقتصاد أساءت كثيرًا لروح المبادرة لدى الإطارات الشريفة والوطنية، ولتحفيزها، كما أساءت إلى تحديد المسئولية عن الأعمال والأشغال التي تتم على حساب الصالح العام، وإلى فعالية تلك الأعمال والأشغال.
إن الفارق بين النية التقنية التي خلَّفتها السلطة الاستعمارية، والمستعمر فكريًا وذهنيًا والمحتجزة في برج عاجي (والتي تتميز مصالحها من الصالح العام)، والمجتمع الجزائري، لم يسلم منه القطاع الصناعي، المكلف بتسيير ميدان المحروقات الاستراتيجي، والريع النفطي، والتحديث والإقلاع الاقتصادي.
135
ثالثًا: وزارة الصناعة والطاقة
تعتبر وزارة الصناعة وقطاع المحروقات الذي كان جزءًا منها ما بين عاميّ 1965 و1977 ميدانين مميزين في استراتيجيا التحديث لدى بومدين. لقد عهد بهذه الوزارة إلى بلعيد عبد السلام في جوان (حزيران) سنة 1965، والأخير معروف كشخص غريب يتميز بخليط فصامي من السلطوية، والصرامة، والغرور، والضغينة، والغطرسة (9).
إن عبد السلام الذي يحتمي خلف خطابه الاشتراكي، يخفي في الواقع إعجابه بالمثالين الأمريكي والياباني على الصعيد الاقتصادي، وإعجابه بالنموذج الفاشي لِسالازار على الصعيد السياسي (قبل ثورة القرنفل). وبأسلوبه الستاليني، يجب أن يردد أمام من حوله أمنيته بخصوص جعل الجزائر يابان العالم الثالث، أو بروسيا المغرب (الكبير) وأفريقيا.
وكان يشاطر عبد السلام بومدين تذوق سياسة النفوذ وحب العظمة. وكان كلاهما يعتقد أن النفط والغاز الطبيعي سيوفران لهما الموارد المالية الضرورية لإنجاز مشروعهما العظيم المتمثل في التصنيع الكثيف والسريع للجزائر. وسنرى لاحقًا الأضرار والنتائج والخيمة لهذه السياسة التصنيعية على الاقتصاد الوطني.
.......................
(9) إن بلعيد عبد السلام معروف كمفسد. وسأذكر، على سبيل التوضيح، فخًا من بين فخاخ أخرى نصبها لي لإفسادي حين كنت أعمل في مكتب سوناتراك في باريس عام 1974.
فذات يوم، طلب مني صالح الأعوج –وهو مدير في سوناتراك بباريس، قريب جدًا من عبد السلام- أن التقى فرنسيًا للاستعلام عن بئر أورانيوم بقي سريًا، ويقع في شمالي الجزائر، وقد عرف به خلال حرب الجزائر، حين كان جنديًا. والجميع يعرفون أن الجزائر تمتلك آبار أورانيوم مهمة في الحقار، في الصحراء، لكن ليس في الشمال. فرفضت العرض قائلاُ أنني لست مختصًا بهذا الموضوع. فأصر مؤكدًا بإن الأوامر صادر من فوق لأستقبل هذا الفرنسي. وبما أنه كان ينعقد في باريس في الوقت نفسه مؤتمر عالمي حول الطاقة النووية يحضره وفد جزائري كنت أحد أعضائه، فقد دعوت عبد الوهاب بنيني (الذي كان آنذاك مديرًا عامًا لمعهد الدراسات النووية في الجزائر العاصمة وعضوًا في الوفد الذي كان موجودًا آنذاك في باريس) للانضمام إلي وحضور المقابلة مع الفرنسي. وقد اقترح علينا هذا أن يحدد لنا مكان وجود البئر بدقة مقابل مبلغ مليون ونصف مليون فرنك فرنسي يدفع نقدًا وعدًا. فاقترحنا عليه مسارًا آخر للحد من المخاطر: نوقع معه عقد دراسات مقابل المبلغ الذي يطلبه على أن يدفع مجزأ على الشكل التالي: 15 بالمئة تدفع عند توقيه العقد، و20 بالمئة حين يسلمنا إحداثيات الموضع المعني، و30 بالمئة بعد أعمال التحقق من أهمية البئر بواسطة علماء جيولوجيا (ستة أشهر)، والقيمة الباقية حين تنجز عملية تقدير البئر وقد وافق على الاقتراح، فمضيت إلى الجزائر وأعملت عبد السلام عن الحديث مع الفرنسي الغامض. وبعد عرضي، ابتسم عبد السلام وقال لي إن اقتراحنا معقد جدًا. وقد عرض علي أن يسلمني حقيبة في داخلها مليونان ونصف مليون فرنك بدلاً من المليون والنصف المطلوبة، وقال لي إنه يوافق على المخاطرة. واقترح أن اقتطع مليون فرنك فرنسي لحسابي الخاص. فرفضت العرض وغادرت مكتبه.
136
وبما أن عبد السلام يشكو من تكوين اقتصادي سطحي معيق (10)، كان يستسلم لبعض الجامعيين الفرنسيين ولمكاتب دراسات فرنسية تقدم له بصورة جاهزة عناصر سياسته حول «الصناعات التصنيعية». وليضع موضع التطبيق مشروعه التصنيعي، كان يحيط نفسه بإطارات جزائرية قريبة منهن ومعروفة بتوجهها الفرنسي، يعيِّنها في وظائف عليا داخل وزارته وعلى رأس شركات الدولة الخاضعة لوصايته.
ولقد استدعى فرنسيًا يدعى كاستل عيَّنه أمينًا عامًا لوزارة الصناعة والطاقة وتخلي كاستل عن اسمه الأول وعن جنسيته مقابل هذا المنصب الاستراتيجي جدًا. فضلاً عن ذلك اعتمد عبد السلام على إطارات فرنسية جعل شركات الدولة تتكفل بهم. وهو يطلب من مستشارين فرنسيين دراسات باهظة التكلفة حول هذه المسألة الاقتصادية أو تلك، التي يفوته معناها أو أهميتها، ثم يستخدم المحاجّة (غير المحايدة) التي تقدمها له مكاتب الدراسات هذه في نشاطاته الوزارية.
وعمومًا، تعد مكاتب الدراسات الفرنسية لعبد السلام العناصر التقنية- الاقتصادية التي من شأنها تبرير تسييره الدولاني للاقتصاد و/ أو توجيه العقود إلى هذا المورِّد أو ذاك. باختصار، إن مكاتب دراسات أجنبية، وبوجه خاص فرنسية، هي التي تعد في الواقع سياسة الجزائر الصناعية عن طريق توجيه الواردات الجزائرية من السلع والخدمات إلى المجال الصناعي، فضلاً عن الدفوق المالية المتصلة بالموضوع.
في هذا السياق بالذات تم تصور التصنيع الكثيف وإطلاقه بأن أُدخل في روع الرأي العام الجزائري أنه ناتج خيار وطني مستقل وينطلق من سياسة وطنية واشتراكية. إن الخطاب الوطني والتصنيعي (الذي يدافع عنه بيروقراطيون ورجال أعمال ذوو مصلحة وممثلو شركات متعددة الجنسية لا يعرفون حدودًا لجشعهم)، يتمثل في تأكيد أن مضاعفة الصناعات الثقيلة ستؤدي إلى نمو الصناعات الخفيفة، والزراعة، والنقليات، وتؤمن انتشار التقدم التقني في الاقتصاد الوطني. ويتمثل أيضًا في تصوير الجزائر كبلد ديناميكي، وقادر على الدفع، وواعد يمتلك موارد فعلية وكامنة قادرة على أن تجعل منه قوة اقتصادية إقليمية في مهل سريعة. وكل الحجج صالحة لدغدغة الكبرياء الوطنية. كذلك كل شيء يجري استخدامه لإخفاء الخسائر الكبرى التي تسببها للجزائر فوضى الإدارة، والتبذير والفساد، الناجمة عن هذه السياسة التصنيعية.
.......................
(10) كان بلعيد عبد السلام طالبًا في السنة الأولى بالاقتصاد في باريس بعد الاستقلال، بعد أن أخفق في دراسته للطب، إذا بقي خمس سنوات في السنة الأولى في الخمسينيات.
137
إن الخطاب الاشتراكي، الذي لا يؤمن به أحد في دوائر السلطة العليا، يوظَّف لتبرير التقشف المفروض على الشعب الجزائري، لكن ليس على القياديين الذين لا ينقصهم شيء، بحجة أن التضحيات والقيود المتنوعة المفروضة على الجيل الحالي ستضمن الازدهار للأجيال القادمة (11).
وتكشف هذه السياسة التصنيعية، في الواقع، الإدارة الشرسة لدي عبد السلام وفريقه لتأكيد نفسيهما بأي ثمن على أنهما الطبقة القائدة التي تمتلك السلطة الاقتصادية الفعلية. والسعي لتعزيز قاعدة هذا الفريق الاقتصادية والسياسية يدفعه لتوطيد إشرافه على الريع النفطي.
فضلاً عن ذلك، بقي عبد السلام، على الصعيد الخارجي، متجهًا نحو فرنسا، على مدى سنوات طويلة. ففي الواقع، اعتقد عبد السلام، ما بين عاميّ 1965 و1970، بأن من الممكن قيام تعاون مع فرنسا لإطلاق التصنيع في الجزائر كما تشهد على ذلك الاتفاقات الجزائرية- الفرنسية بخصوص المحروقات، وقد تفاوض بخصوصها ووقعها هو شخصيًا في عام 1965، ناهيكم عن عقود عديدة موقعة بين شركات الدولة الخاضعة لوصايته والشركات الفرنسية خلال تلك الفترة. ولا خيبات هذا التعاون اللامتوازن بوضوح لصالح فرنسا، ولا النزاعات المتولدة بين المصالح الجزائرية والمصالح الفرنسية، ولا السمة الاستعمارية الجديدة الحادة جدًا للشركاء الفرنسيين، دفعت عبد السلام آنذاك لإعادة النظر في التعاون الصناعي مع فرنسا وإعادة التوازن إليه، على الرغم من الخسائر الكثيرة التي منيت بها الجزائر كما سنوضح لاحقًا.
لقد توجَّب انتظار بداية السبعينيات، حين دخلت المفاوضات الجزائرية- الفرنسية في مأزق، تلاه قرار تأميم النفط والغاز الطبيعي الذي أعلنه الرئيس بومدين بذاته في فيفري (شباط) سنة 1971، حتى يغير عبد السلام اتجاهه، ويتجه بتصميم نحو الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا السياق وقعت سوناتراك عقودًا ضخمة مع شركات أمريكية لإنجاز مصنع تسييل الغاز في أرزيو (قرب وهران)، ولتصدير الغاز الطبيعي المسيَّل إلى الولايات المتحدة.
إزاء هذا الوضع الجديد، ترددت السطلة لبعض الوقت بين سياسة تؤيد إبقاء
.......................
(11) بخصوص من هذه السياسة الصارمة، يحسن التذكير بالجملة المشهورة الموجهة للشعب الجزائري المستاء من النقص المزمن في المنتجات الزراعية- الغذائية وسلع الاستهلاك الأساسية، والتي أطلقها بومدين خلال خطاب رسمي في سعيده، في عام 1972: «من يشكون من النقص في الزبدة فما عليهم سوى الرحيل».
138
التعاون الاقتصادي مع فرنسا، وتدافع عنها مجموعة وجده، وسياسة ديناميكية لتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة، دعا إليها عبد السلام. وقد حسم بومدين الموضوع أخيرًا لصالح وزير اقتصاده.
وربما يستجيب هذا القرار لردة فعل وطنية من جانب بومدين للحفاظ على استقلالية قرار الجزائر عن طريق تنويع مبادلاتها الخارجية. لكن هذا القرار يعكس في الوقت نفسه إرادة بومدين تعزيز سلطته عن طريق زيادة الإنجازات الصناعية. وفي الواقع، اعتقد بومدين دائمًا، نظرًا لتكوينه، أن نقل التقانة يمكن أن يُشترى بالعملات الصعبة مثل أي مُنتج أو خدمة يتم استيرادهما. كان يظن أن الريع النفطي يمكن أن يضمن تقدم الجزائر الاقتصادي والتقني، وأن يؤمِّن إقلاعها الاقتصادي وتحديثها.
ولقد توجب انتظار الثمانينيات والتسعينيات لكشف ضلال سياسة السلطة التصنيعية، بصورة نهائية، تلك السياسة التي كلفت الجزائر غاليًا جدًا، لكنها لم تفد غير جماعة جزائرية ضيقة، فيما قدمت للشركات الأجنبية من الخدمات أكثر بكثير مما قدمته للشعب الجزائري (12).
وعند هذا المستوى من التحليل، يحْسُن أن نذكِّر الآن بظروف توطيد النظام، فضلاً عن النتائج الوخيمة لسياسته الدولانية والأبوية لتبيان حجم الخسائر والأضرار التي لحقت بالاقتصاد والشعب الجزائريين.
رابعًا: العواقب الوخيمة لتعزيز
الدولة المتسلطة ودولته الاقتصاد
1- توطيد سلطة بومدين الشخصية
في نهاية كل أزمة من أزمات النظام (عام 1962، جوان (حزيران) 1965، ديسمبر (كانون الأول) 1967)، كان بومدين يعزز وضعه أكثر قليلاً، عبر إقصاء
.......................
(12) فلنذكِّر بأن أحمد غزالي، وهو مدير عام سابق في سوناتراك (1965- 1977) ووزير سابق للطاقة (1977- 1978)، وبلعيد عبد السلام، وزير الصناعة والطاقة السابق (1965- 1977)، ثم وزير الصناعات الخفيفة (1977- 1978)، قد استدعاهما على التوالي الجنرالات الاستئصاليون، الضباط السابقون في الجيش الفرنسي، لشعل منصب الوزير الأول، وذلك بين جوان (حزيران) 1991 وجويليه (تموز) 1992، بالنسبة لغزالي وبين جويليه (تموز) 1992 وجوان (حزيران) 1993، بالنسبة لعبد السلام. ولقد حاولا كلاهما، كرئيسين للحكومة، أن يعودا لسياستهما التصنيعية المعتمدة في السبعينيات، وذاك مع وعود لا تصدق وتصريحات صاخبة وقد بينت الوقائع حدود ذلك، كاشفة ضلال مسعاهما وبطلان وعودهما التنموية.
139
قياديين يرى أنهم مربكون. ومن نجاح إلى آخر، كان بومدين يوطد سلطته عامًا بعد عام. لكن في بداية السبعينيات، حين حاول أن يبق بعيدًا عن بعض رفاقه، المعتبرين نواة النظام الصلبة، دخلت مجموعة وجده في أزمة طويلة لم تبلغ نهايتها إلا بعد إبعاد شريف بلقاسم، ونفي قايد أحمد ثم «وفاتــ» ـــه و«انتحار» أحمد مدقري عام 1974.
إن انفجار مجموعة وجده وتجميد مجلس الثورة أو ما بقي منه (بعد التصفية السياسية أو الجسدية للعديد من أعضائه)، كرسا في عام 1975 نهاية كل شكل من أشكال الجماعية، وهو مبدأ استخدمه بومدين ذاته لشل الحكومة المؤقتة وإطاحة الرئيس بن بللا.
إن إلغاء مبدأ الجماعية، قاعدة الثورة الذهبية، يؤكد السمة الشخصية للسلطة ويجعل تقديس الشخصية واقعًا رسميًا. ولقد كان الهدف من تبني الميثاق الوطني والدستور بالاستفتاء، والانتخابات الرئاسية التي نظمت في عام 1976، وتلتها الانتخابات التشريعية في عام 1977، إضفاء الشرعية على السلطة. إن بومدين، الذي زوّده الاستفتاء بالشرعية التي كانت تنقصه، بات يحكم منذ الآن بلا منازع.
هذا التوزيع الجديد عزز «الحزب الفرنسي» الذي بات ممثلوه قريبين جدًا إلى بومدين ويشغلون مناسب استراتيجية في رئاسة الجمهورية، ووزارة الدفاع وفي أي مكان آخر تقريبًا، كما رأينا ذلك في الفصول السابقة. إنهم يفضلون، في الواقع، أن يكونوا إزاء زعيم واحد نجحوا في كل حال في «تطويقه» على أن يكونوا إزاء فريق أو قيادة جماعية. وبما أنهم باتوا مطمئنين لم يبق أمامهم إلا انتظار اللحظة المناسبة لاستلام السلطة مباشرة.
لكن شرعنة سلطة بومدين الشخصية والتسلطية فشلت في إخفاء الانزعاج السياسي والأزمة الكامنة منذ زمن بعيد والتي تتجلى في شكل انتقادات مكشوفة تعبر عنها القاعدة حيال النظام. ويشكل الجدال العام الذي بدأ بخصوص الميثاق الوطني في عام 1976 مثالاً حيًا. فلقد كشف ذلك الجدال التباعد الكبير بين نظام فاسد، ومفتقر للكفاءة وتعترض عليه بشدة جماهير لم يتم الاهتمام بانشغالاتها وهمومها الأساسية. ولقد سمح هذا الجدال في كل حالة للكثير من الجزائريين بأن ينددوا بالأسماء بأسياد النظام في وسائل الإعلام، ويعبروا عن أملهم في تغيير الناس والسياسة. وتنديدات كهذه لم تزعج بومدين كثيرًا، حيث أنه استفاد منها لا لإقصاء القياديين الفاسدين الذي جرى التنديد بهم علانية، بل لإضعافهم والسيطرة عليهم بشكل أفضل؟. إن بومدين، المعروف باحتقاره للشفافية والديمقراطية، لم يستفد من الجدال العام لاستخلاص دروس عقد من السلطة مع كل عواقبه الوخيمة، سواء على
140
الصعيد السياسي حيث لم يكن يتسامح مع وجود أي نوع من السلطة المضادة، أو على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي (13).
وبخصوص استراتيجيا التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فوّض هذا الأمر لوزير الصناعة والطاقة، مقتنعًا بالدور المحرك للقطاع الصناعي في تحديث الاقتصاد.
2- تبني استراتيجيا تنمية من وحي فرنسي
إن دراسة استراتيجيا التنمية التي تبنتها الجزائر في عام 1966 تبيِّن أنها تأثرت بالتأكيد بالمبادئ النظرية التي عبر عنها اقتصاديون فرنسيون، ولاسيما مدرسة فرانسوا بيرّو (14).
ويجدر التذكير بأن تحيل بيرّو للشروط التاريخية لتنمية أوروبا الغريبة يُبرز الدور المركزي الذي لعبه القطاع الصناعي في القرن التاسع عشر (15)، لنشر التقدم التقني في النسيج الاجتماعي، وإحداث التنمية في القطاعات الأخرى. وفي هذا الإطار، يعتقد بيرّو أن التصنيع سيرورة تحفز عبرها الصناعات الجديدة «آثار تقاطب» تفعل فعلها في المحيط السلبي، عن طريق نشاطات مركَّزة في «أقطاب نمو»، و«أقطاب تنمية»، و«صناعات محرِّكة»، في شكل متتاليات «مفاعيل جذب» أوضحها أ. هيرشمان (16). وهذا المؤلِّف يوصي، من جهته، بتوجيه الاستثمارات في البلدان المتخلفة نحو الصناعات المحرِّكة لأجل دفع مفاعيل التقدم إلى أقصى حدودها. وهو يعتبر في الواقع أن لكل استثمار يمارس على المحيط الاقتصادي مفعولين: أحدهما نحو الأعلى والآخر نحو الأسفل، ويتيح الجميع بين هذين المفعولين، يفضل جدول المبادلات ما بين الصناعية، قياس قوتهما وبالتالي توجيه الاستثمارات بهدف الحصول على «متتاليات التوسع» الأكثر فعالية.
.......................
(13) قدم النقاش العام بخصوص الميثاق الوطني فرصة لشتى مصالح الأمن لاستجواب العديد من الجزائريين الذين تجرأوا على نقد النظام في مختلف وسائل الإعلام، الخاضعة للرقابة بمهارة من جهة أخرى.
(14) لمزيد من التفاصيل حول هذه المسألة، انظر:
Abdelhamid Brahimi, Stratégies de développement pour l'Algérie: Défis et enjeux (Paris: Econonmica, 1991), pp. 47- 52.
(15): François Perroux «Note sur la notion de pôle de croissance,» Economie appliquée (janvier- juin 1995).
انظر أيضًا:
François Perroux, L'Economie du XXème siècle (Paris: Presses universitaires de France, 1964).
وفي هذا الصدد يجب الاعتراف بعد ب. هيغينغ (B. Higging)، بأن مفهوم «قطب النمو» إنما أدخله بيرّو «كمفهوم عملاني أقل مما هو كتفسير لظاهرة التاريخ الاقتصادي الأساسية». انظر:
B. Higging, «Pôles de croissance et poles de développement comme concepts opérationnels», Revue européenne de sciences sociales, no. 24 (1971).
(16): Albert O. Hirsechman, Stratégie du développement économique (Paris: Ouvières, 1964).
141
وليس من شك في أن دستان دو برنيس (Destan de Bernis)، تلميذ بيرّو، هو الذي مارس تأثيرًا حاسمًا على بلعيد عبد السلام وحاشيته عبر الإسهام في تعريف «نموذج التنمية الجزائري» الذي جرى تصوره في غرونوبل بفرنسا. وهذا التأثير، الذي تم على المستوين النظري والعملي في الوقت عينه، تعزز بتعارف الرجلين في تونس، قبل استقلال الجزائر بكثير.
فعلى المستوى النظري، اجتذبت أعمال هذا المؤلف المنشورة في عام 1963 بصدد الاختيار بين الصناعة الثقيلة والصناعة الخفيفة، وفي عام 1966 بخصوص «الصناعات التصنيعية» و«التكامل الإقليمي»، أصحاب القرار في الصناعة الجزائرية.
وعلى الصعيد العملي، قدّم دستان دو برنيس لوزارة الصناعة دراسات ضخمة بموجب عقود مهمة. وباختصار، يعتبر تحليل دستان دو برنيس أن تزايد المبادلات بين مختلف فروع الاقتصاد الوطني الصناعية بهدف تأمين الدينامية «التصنيعية» يتم بفضل الاستخدام الداخلي للإنتاج الصناعي المتزايد في القطاع الصناعي بالذات. وهكذا تعتبر «تصنيعية» صناعةُ الحديد، والصناعات المعدنية، والميكانيكية، والبتروكيماوية، والكيماوية والإلكترونية. والمؤلف يحدد موقفًا حاسمًا لصالح الصناعة الثقيلة التي لابد أن تؤدي، لقاء تضحيات فورية، إلى ارتفاع معدل نمو الناتج الوطني الخام (ن و خ) في أجل محدد.
ولابد للمجمّعات الثقيلة من أن تمارس «مفاعيل جذب» قوية، ليس فقط في القطاع الصناعي حيث يُستخدم ما ينتجه فرعٌ ما كمواد إنتاجية لفرع أو فروع صناعية أخرى، بل أيضًا في قطاعات نشاطات اقتصادية أخرى كالزراعة والنقل.
هذا ولا يمكن، بحسب المؤلف، أن تنفِّذ ترسيمة «الصناعات التصنيعية» بصورة سليمة إلا الدولة، لأنه لأجل اللحاق بالبلدان المصنَّعة منذ أكثر من قرن، وحده تدخُّلُ السلطات العامة في رصد الاستثمارات يتيح توجيه الرساميل إلى صناعات السلع التجهيزية، التي لا يكون مردودها فوريًا لكن «مفاعيلها الجاذبة» كبيرة جدًا على المدى البعيد لإدخال البلد في سيرورة ديناميكية للتنمية المستقلة.
وفقًا لهذه المقاربة بالذات أعطت السلطة الأولوية المطلقة للقطاع الصناعي. وهذه الأولوية تستند إلى تصور إرادي لاستدراك التأخر في أفضل المهل وتقصير دورة التنمية بأن تُطبَّق في القطاع العام الجزائري في نهاية القرن العشرين الأولويات نفسها التي عرفتها الرأسمالية الصناعية في أوروبا وأمكنة أخرى خلال القرن التاسع عشر.
إن نقل المثال الصناعي الأوروبي للقرن التاسع عشر إلى الجزائر المعاصرة،
142
ومماهاة الرأسمالية الصناعية في أوروبا مع رأسمالية الدولة في الجزائر ينطويان على نواقص على المستوى النظري كما على المستوى العملي. فعديدة هي الاختلافات البنيوية وفي السياق بين تطور الرأسمالية الصناعية التاريخي في أوروبا في القرن التاسع عشر والوضع الاقتصادي في الجزائر في الستينيات. ونحن سنورد ثلاثة أمثلة عليها:
- لقد استفاد التراكم الإنتاجي في أوروبا من محيط عالمي ملائم جدًا إذا أخذنا بالحسبان الدور المحرك الذي لعبته الأسواق الخارجية ولاسيما أسواق المستعمرات، بينما كانت الجزائر تتطور خلال الستينيات والسبعينيات في محيط دولي عدائي جدًا يتميز بالتبادل غير المتكافئ وبتدهور شروط التبادل بما يخص بلدان العالم الثالث، وبعولمة الاقتصاد المرتكزة على مركزة الثروة العالمية بين يدي أقلية وعلى تدويل التمويل والإنتاج والتسويق، وهي منظومة ظالمة تميل إلى زيادة افتقار البلدان الأشد فقرًا بصورة غير منقطعة.
- كان يمكن وجود سوق داخلية نامية ناتجة من زيادة الاستخدام أن تتسبب في أوروبا القرن التاسع عشر بزيادة الاستثمارات في صناعة السلع التجهيزية، وهو ما كان يساهم بدوره في زيادة «الطلب الفعلي» وخلق فرص جديدة لاستثمارات صناعية لإنتاج السلع الصناعية الاستهلاكية وهكذا دواليك.
باختصار، كانت المفاعيل التي تضاعف من الاستثمارات الإنتاجية موجودة داخل البلد بالذات أو داخل المنظومة. وليست تلك هي حال الجزائر إطلاقًا، حيث كانت الاستثمارات في الصناعة القاعدية، التي تتطلب نسبة عالية من الرساميل وتخلق وظائف قليلة نسبيًا من جهة أخرى، تحصر مفاعيل الزيادة في خارج البلد بالأحرى.
- إن اختلاف مستويات التنمية بين المنظومة الرأسمالية في القرن التاسع عشر واقتصاد متخلف ومفكك وتابع في أواخر القرن العشرين، ليس اختلافًا في الدرجة بل هو اختلاف في الطبيعة وفي البُنى وفي المنظومة.
إن تطبيق تصور كهذا التصور للتنمية على الجزائر يُبرز المقاربة الخاطئة لكل من عبد السلام وفريقه من التصنيعيين، ولبومدين أيضًا الذي وضع ثقته فيهم. وبين أخطائهم المشؤومة يمكن ذكر ما يلي:
- تطبيق سياسة تصنيع غير ملائمة، تقوم على تقليد الغرب. وهذا التقليد الناجم عن الافتقار إلى الثقافة الاقتصادية والسوسيولوجية يتجلى في استعادة نظريات أو مذاهب لا تتناسب مع وضع الجزائر، وفي اللجوء إلى ممارسات صناعية لا تأخذ بالحسبان ظروف البلد الفعلية وتهمل الاستخدام السليم للموارد البشرية، والمادية والمالية المتوفرة.
143
- إهمال موارد الجزائر البشرية الهائلة. زد على ذلك أن احتقار العامل البشري ساهم في كبح روح المبادرة والإبداع والخلق، وأفضى إلى إبعاد إطارات شريفة وذات كفاءة عن المسئولية وتهميشها.
- القناعة بأن نقل التقانة والتقدم يمكن شراؤهما.
- النقص الكبير في تقدير ظاهرة عولمة الاقتصاد وأثرها في الاقتصادات المتخلفة.
في هذا الإطار، إن التقدير الخاطئ لظاهرة العولمة (17)، فضلاً عن سياسة النفوذ التي اعتمدها بومدين وعبد السلام وحلمهما بجعل الجزائر قوة إقليمية، كلّ ذلك حشر السلطة في رؤية استلابيه لم تتح للجزائر أن تمتلك سياسة اقتصادية أكثر واقعية وأكثر صحية، وأبعدها عن متطلبات بناء المغرب الكبير والتكامل الإقليمي.
في الواقع، إن بومدين وعبد السلام يتحملان مسئولية كبرى أمام التاريخ لأنهما أعاقا سيرورة التكامل الاقتصادي للمغرب العربي الكبير (18).
.......................
(17) خلافًا لما يقال أو يقرأ هنا وهناك، ليست عولمة الاقتصاد ظاهرة حديثة، بل نتجت بالأحرى من سيرورة طويلة لتكامل المجال الدولي بواسطة الشركات العملاقة الأمريكية أو اليابانية أو الأوروبية، وهي سيرورة بدأت في نهاية القرن التاسع عشر. وتبيّن مراقبة الوقائع أن الشركات المتعددة الجنسية تسيطر منذ عقود عديدة على جزء أساسي من النشاط الاقتصادي والاستثمار العالميين. لمزيد من التفاصيل، انظر:
Abdelhamid Brahimi, «la Croissance des frimes multinationals», (Etude réalisée pour la Comission Economique des Nations Unies pour L’Asie du Sud- Ouest, 1974).
تحسُن مع ذلك الإشارة إلى أن ظاهرة العولمة هذه قد تسارعت في الثمانينيات والتسعينيات. ولمزيد من التفاصيل حول هذه المسألة، انظر:
Abdelhamid Brahimi, «La Globalisation et le monde arabe», paper presented at: U.S.- Arab Relations and the Challenge of Globalization, organized by Democratization and Political Change in the Middle East (Washington, DC, Georgetown Uinversity) and Centre d’études de l’orient contemporain (Paris, Université de la Sorbonne) m Casablanca, 14- 16 February 1997.
(18) يحسن التذكير بأن بومدين لم يرفض فقط مشاريع الوحدة مع ليبيا وموريتانيا التي اقترحها قادة البلدين الأخيرين، بل فجّر الوحدة التي تمت بين تونس وليبيا في جانفي (كانون الثاني) 1974. لقد أبدى تحفظه حيال التكامل الاقتصادي للمغرب الكبير بين عامي 1965 و1975، التاريخ الذي جمدت فيه المؤسسات المغربية الفتية.
وسلوك عبد السلام تجاه المغرب العربي الكبير أسوأ أيضًا. فبصفته ممثلاً للجزائر في مؤتمر الوزراء، السلطة العليا للمؤسسات المغاربية، لعب عبد السلام دور شلٍّ لهذه المؤسسات بإزداء وعجرفة. ومن الأغرب أيضًا أنه اعتبر البلدان الشقيقة المجاورة، خطرًا على الجزائر. فلقد صرح أمام اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني في ديسمبر (كانون الأول) 1979 بصدد سياسة الغاز الجديدة للحكومة أنه يفضل بناء مصنع آخر لتسييل الغاز (كانت كلفته آنذاك ستة مليارات دولار) على أنبوب الغاز الجزائري- الإيطالي، الأقل كلفة بكثير، الذي كان من المفترض أن يمر بتونس. وبرر هذا الخيار بإرادة الاستقلال حيال تونس والمغرب (بالنسبة لأنبوب الغاز الجزائري- الإسباني) اللذين لا يريد أن يخضع لهما بخصوص مرور الغاز الجزائري.
أما نحن فنرى أن سياستنا حيال أشقائنا تعود علينا بالنفع إذا كانت أكثر ثقة وهدوءًا وأقل تشككًا، وذلك لمصلحة شعوبنا ووحدة مصيرنا.
144
والخطير في هذه المسألة هو أن النظام الجزائري لم يدر ظهره فقط لبناء المغرب العربي الكبير بين عامي 1965 و1978، بل طبع جيلاً بكامله بهذا الطابع وترك خلفه أجهزة معادية لكل تقارب بين بلدان المغرب.
والحال أنه، في السياق العالمي المعاصر، يشكّل بناء المغرب الكبير والتكامل الاقتصادي العربي، موضوعيًا، طريق الخلاص الوحيدة بالنسبة للجزائر وجيرانها بفضل إقامة وشائج حاسمة للتكاملية والترابط الاقتصاديين والتضامن الإقليمي. زد على ذلك أن رفض طريق الخلاص هذه، ورفض النظام إعادة توجيه المبادلات الخارجية، في إطار التعاون في ما بين بلدان الجنوب، باتجاه الوطن العربي وبلدان آسيا أو أفريقيا بكلفة أقل، أفضي بالبلد أخيرًا إلى المأزق وإلى تفاقم التبعية الخارجية، ولاسيما حيال فرنسا.
تعلمنا التجربة فضلاً عن ذلك أن البلدان التي تملك مجالاً اقتصاديًا مهمًا، كالصين أو الهند (إذا اكتفينا بالحديث عن بلدان العالم الثالث) والتجمعات الإقليمية المهمة، هي وحدها القادرة على استيفاء شروط مقاومة الانعكاسات السلبية للعولمة وتحوز أوراقًا جدية لأجل تنمية مستقلة. لقد قادت الشوفينية السياسية أو الاقتصادية، في عصرنا، إلى التبعية والخراب.
هذه الرؤية الضيقة وهذه المقاربة العرجاء لدى نظام بومدين، القائمتان على التصنيع الكثيف، والسريع والمكلف، ساهمتا على العكس في تفاقم تبعية الجزائر في السبعينيات.
3- تفاقم تبعية الجزائر المتعددة الأشكال
إن تسريع التصنيع، عن طريق سياسة استثمارات مكثفة مكلفة جدًا، عبَّر عن نفسه باللجوء المبالغ به إلى الخارج بوجه عام وإلى فرنسا بخاصة لأجل استيراد التقانات، والاستحصال على قروض خارجية متزايدة بهدف تمويل إنجازات صناعية مهمة، والاستخدام المفرط للمساعدة التقنية فضلاً عن الاستيراد المتزايد للسلع والخدمات من شتى الأنواع.
وتجلت سياسة التصنيع هذه أيضًا بتكاليف زائدة، وتبذيرات وبالفساد، سواء على صعيد الاستثمار أو على صعيد اشتغال الوحدات الصناعية. ولقد ساهم مجمل
145
هذه العوامل في تفاقم تبعية الجزائر للخارج، ولاسيما في التقانة والتجارة، كما في المجالين البشري والمالي.
أ- التبعية التقانية
يحسُن بادئ ذي التذكير بأن التقنيات ليست حيادية بتاتًا. لذا فإن استيراد الجزائر التقنيات المتقدمة جدًا واستخدامها لها يبينان الاندماج السلبي للصناعة الجزائرية في السوق العالمية لأنه يجري الاكتفاء باستيراد منتجات تقانية واستهلاكها من دون أن يكون تم تشجيع المهارات الوطنية وتطويرها، أو إرساء أسس تصور تقانات مناسبة وتكييفها وإنتاجها.
كما لا يمكن الكلام أيضًا على نقل التقانة لأن التركيبات الإنتاجية الحاصلة في الصناعة الجزائرية لا تقوم إلا على الاستيراد المحض لمنتجات تقانية (19). وإذا أخذنا بالاعتبار المنتجات المادية فقط، فهي تمثل لوحدها 16 بالمئة من واردات الجزائر الكاملة بين عاميّ 1967 و1979(20). وتجسِّد عقود «المصانع الجاهزة»، «المنتجات الجاهزة» أو العقود المفتوحة) (Cost plus fees) الموقعة مع الشركات الفرنسية، أو الأمريكية، أو اليابانية أو غيرهما، هذا الشكل من التجارة، لا نقل التقانة.
إن إدخال التقنيات المتقدمة يتطلب نفقات مرتفعة جدًا في رأس المال في مرحلة الاستثمارات ويتسبب بين ما يتسبب به، بتكاليف إنتاج مرتفعة بشكل مفرط في مرحلة اشتغال الوحدات الصناعية الموضوعة في الخدمة (مساعدة تقنية، قطع غيار، صيانة، حفاظ على التجهيزات، ... الخ).
وبخصوص الاستثمار، شكل بندا «الهندسة» و«التجهيز» منفردَيْن 59 بالمئة من النفقات بالعملات الصعبة من أصل مجمل نفقات التقانة.
.......................
(19) «نعني بالمنتجات التقانية، بشكل أساسي، خمسة عناصر تجسد التقانة هي التالية: المنتجات المادية (الآلات والمواد الأولية والمنتجات نصف المصنعة)، واليد العاملة المتخصصة، والأساليب التقنية، وأشكال التنظيم والتسيير والهندسة أخيرًا». انظر:
F.Yachir, «Technique et technologie» Document dactylographié Université d’Alger, Centre de recherches en economic appliquée, 1982).
(20) لمزيد من التفاصيل حول التبعية التقانية، انظر:
Brahimi, Stratégies de développement pour L’Algérie: Défis et enjeux, pp. 139- 142.
146
وبالنسبة لنفقات تشغيل الوحدات الصناعية القائمة (التي يجري كل عام تجديد الجزء المتعلق فيها بالعملات الصعبة) تكون روابط التبعية أكثر ديمومة، الأمر الذي يجعل الصناعة الجزائرية أكثر هشاشة.
وبما أن النفقات الهائلة للاستثمار والاشتغال على صعيد القطاع الصناعي لم تسمح يومًا بخلق شروط داخلية لإنتاج قدرات تقنية وطنية، يُنْتُج من ذلك تفاقم لتبعية الجزائر تقانيًا تجاه الخارج.
وبخصوص التبعية حيال فرنسا في الميدان الصناعي، في ما عدا المحروقات، تحتكر ست شركات فرنسية 50 بالمائة من عقود التجهيزات الصناعية و50 بالمائة من تجهيزات البنية التحتية: كروز- لوار، كريبس، تكنيب، برلييت، سي. إم. إي. إم، ورشات الأطلسي. وتلعب المقاولة الفرعية دورًا مهمًا، لأن 22 شركة فرنسية أخرى تساهم بنسبة 33 بالمائة من عقود التجهيز الصناعي وتوقِّع بدورها عقودًا فرعية مع منشآت فرنسية أخرى. وهذا يعني أن مفاعيل تزايد وتسارع الاستثمارات المحققة في الجزائر تتم في الخارج، وفي فرنسا بوجه خاص.
وفي قطاع المحروقات، تأتي فرنسا في المقدمة مع نسبة 33 بالمائة من العقود الموقعة، تليها الولايات المتحدة وبريطانيا. وبخصوص تحويل المحروقات تحتل فرنسا أفضل موقع في مجال تجهيزات النقل البحري، في حين تحتل الولايات المتحدة المكانة الأولى في تسييل الغاز، تليها فرنسا. أما في الأسمدة والمواد البلاستيكية، فتحتل هذه الأخيرة المكانة الأولى أيضًا.
ولقد أوردنا هذه الأمثلة لإيضاح أن تبعية الجزائر التقانية تجاه فرنسا بوجه خاص باتت ظاهرة بنيوية.
وبين المنشآت الصناعية التي أنجزتها مؤسسات أجنبية، عرفت المصانع أو المجمّعات الصناعية التي أنجزتها شركات فرنسية عيوبًا في الصنع ومشكلات تقنية متنوعة، أخرت كثيرًا شروعها في الإنتاج وتسببت بخسائر مهمة.
والأمثلة كثيرة. لكننا سنشير إلى ثلاثة فقط لإعطاء فكرة عن مدى جسامة الأضرار المسبَّبة للجزائر:
* مجمع الأسمدة الأزوتية في أرزية: عهد بلعيد عبد السلام بإنجاز هذا المجمَّع إلى شركتين فرنسيتين هما تكنيب(Technip) وكروزو- لوار(Creusot Loire) «على
147
الرغم من تحفظات تقنيي سوناتراك» (21). وبمجرد إنجاز المجمَّع عام 1969، تعرَّض لكل أنواع المشاكل التقنية. فاختيار المعدات كان غير مناسب أحيانًا، وبعض التجهيزات كانت قياساتها أصغر من المطلوب، وكان عدد النماذج الأصلية (Prototypes) مرتفعًا (22). ومجمل هذه العناصر التقنية أعاق إلى حد بعيد اشتغال هذا المجمَّع لأن معدل استخدام طاقته الإنتاجية لم يتجاوز الــ 15 بالمائة، قبل توقيفه كليًا في عام 1976. ولقد بقيت وحدة الأمونياك في هذا المجمَّع مغلقة على الرغم من شتى التعديلات -المكلفة جدًا فضلًا عن ذلك- لـ «تجديد المصنع»، والتي جرة إدخالها على التوالي في الأعوام: 1977، 1978، 1984، 1986. ففي الواقع، كانت عيوب التصميم والأخطاء في الإنجاز من الخطورة بحيث ينطرح استفهام حول اختيار الطرف المنجز الذي لم يكن «ذا خبرة أو كفاءة»، بشهادة إطارات سوناتراك. وإذا كان مصنع الأمونياك أقلع أخيرًا في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، أي بعد إنجازه بعشرين عامًا، فلقد كان ذلك بفضل الأشغال التي قامت بها شركة يوغوسلافية في عام 1987.
* مجمَّع الأسمدة الفوسفاتية في عنّابة: كانت شركة (Krebs) الفرنسية، هي التي كلفت بهندسة الإنشاءات، وبتحديد موقعها، واختيار التجهيزات، والإشراف على الأشغال، وتركيب الإنشاءات وتشغيلها. وقد نص العقد الموقع مع كريبس على إنجاز الأشغال في مارس (آذار) 1989. لكن المجمَّع لم يدخل في العمل إلا في عام 1987، أي بتأخير دام سبع سنوات ونصف السنة.
* مجمَّع الغاز الطبيعي (GNL) في سكيكدة: لقد تم التوقيع على عقد إنجاز الوحدات الثلاث الأولى من هذا المجمَّع لتسييل الغاز الطبيعي مع شركة تكنيب (Technip) الفرنسية عام 1968، بطاقة إنتاج تبلغ 3.7 مليار متر مكعب في السنة. وإذا كانت الوحدات الأولى دخلت في الإنتاج في عام 1972 والأخيرة في عام 1973، فلقد تعرَّض هذا المجمَّع لمشكلات تقنية حالت دون استخدامه الكامل. ففي الواقع، إن الخلل في تجهيزات حيوية، كالمكابس، وجود زئبق في محوِّلات التبريد، لم يتيحا الاشتغال الطبيعي لهذا المجمَّع خلال أكثر من عام.
وهذه الأمثلة قد جرى التذكير بها لتوضيح كيف أن تبعية الجزائر التقانية حيال فرنسا بوجه خاص، باتت ظاهرة بنيوية.
.............................................
(21) انظر: Tayeb Hafsi, Enterprise Publique et politique industrielle. (Montréal: [s.n], 1987), p.34.
(22) لمزيد من التفاصيل، انظر: Brahimi, Ibid., pp. 101- 104.
148
هذه التبعية التقانية التي ولَّدها الاستخدام المكثَّف للتقنيات المتقدمة، والمكلفة جدًا، وغير المختبرة غالبًا (نماذج أصلية)، لم تكلف البلد غاليًا جدًا وحسب بل شكلت كذلك عبثًا كبيرًا على سياسة الاستخدام وشجعت «استيراد الكفاءات» عن طريق شركات الهندسة ومكاتب الدراسات، سواء لأجل إنجاز الاستثمارات أو لأجل استغلال الوحدات الصناعية المنجزة.
ب- المساعدة التقنية والتبعية البشرية:
إن اللجوء المفرط إلى المساعدة التقنية الأجنبية أدخل الجزائر في سيرورة مراكمة للتبعية. وإدخال مكاتب الدراسات وشركات الهندسة إلى الجزائر هو الذي كان وراء هذه السيرورة، إذا أخذنا بالحسبان الروابط المتنوعة التي تشدها إلى الشركات الكبرى ومصنِّعي التجهيزات في بلدانها الأصلية.
إن إسناد كل الدراسات في كل مواحلها، من تصور المشرع الأولي وتعريفه وصولًا إلى الإنجاز، إلى الأجانب، يعني أن وزارة الصناعة والطاقة تفوض أمرها إليهم كليًا، وأنه ليس هناك أي استقلال في القرار الفعلي، إلا في الظاهر.
إن الدراسات التي أنجزها أجانب هي التي تنظّم روابط التبعية وتنسجها في الميدان التقاني والتجاري بوجه خاص. وتجعل المساعدة التقنية الأجنبية روابط التبعية هذه متواصلة ومستديمة. وسرعان ما يتم إدراك أهمية هذه الظاهرة حين يجري تحليل كلفة المساعدة التقنية وأهميتها.
وتُظهر دراسة أنجزت في عام 1979 أنه قد جرى، ما بين عامي 1973 و1978 (وهي فترة تصنيع مكثف)، توقيع 4912 عقد مساعدة تقنية مقابل مبلغ 79.4 مليار دينار، أي 18 مليار دولار (23). والمساعدة التقنية المقصودة هنا تتعلق بالدراسات وبالإشراف على الإنجاز، كما تتعلق أيضًا باليد العاملة الأجنبية المستخدمة في استغلال الوحدات الصناعية العاملة أو الملحقة بقطاعات أخرى.
والجدول أدناه يعطينا كلفة هذه المساعدة التقنية فضلًا عن توزيعها الجغرافي.
.............................................
(23) المصدر نفسه، ص 143، 145.
149
الجدول رقم (7- 1)
تكلفة المساعدة التقنية وتوزيعها الجغرافي (1973- 1978)
البلد العقود التكلفة
العدد النسبة المئوية مليار دينار النسبة المئوية
المجموعة الأوروبية
ومنها:
فرنسا
ألمانيا الفدرالية
إيطاليا
بلجيكا
بريطانيا
بلدان أخرى في المجموعة
أمريكا
ومنها:
الولايات المتحدة
كندا
اليابان
باقي العالم 3645
2170
540
340
284
236
75
443
385
58
40
784 74.20
44.18
10.99
6.92
5.87
4.80
1.53
9.02
7.84
1.18
0.81
15.97 46.316
16.0
11.0
9.3
3.7
3.7
2.616
18.257
14.0
4.275
6.1
8.727 58.33
20.15
13.85
11.71
4.66
4.66
3.30
23.0
17.63
5.37
7.68
10.99
المجموع العام 4912 100 79.40 100
المصدر: Abdelhamid Brahimi, Stratégies de dévelopment pour l;Algérie: Défis et enjeux (Paris: Economica, 1999). P. 144.
ويُستنتج من هذا الجدول ما يلي:
* تحتل فرنسا المكانة الأولى بين شركاء الجزائر على صعيد المساعدة التقنية، سواء بعدد العقود، وهي 2170 عقدًا من أصل 4912، أو بكلفتها المقدرة بــ 16 مليار دينار، أي 4 مليار دولار، تمثل 20 بالمائة من الكلفة الكلية للمساعدة التقنية.
وتأتي في المرتبة الثانية الولايات المتحدة التي تستفيد من أقل من 18 بالمائة من قيمة مجمل العقود.
* إذا حلَّلنا حالة البلدين اللذين يأتيان في الطليعة، نجد أن كفة فرنسا ترجح جدًا بعدد العقود الموقعة، وهي 2170، تمثل 44 بالمائة من مجمل العقود. وهذا يعني أنه يجري التعامل مع فرنسا بصورة أكثر تواترًا، ولا سيما لأجل العقود «الصغيرة». وهذا يعطي فكرة عن استعدادات أصحاب القرار وعن الروابط الوثيقة التي تنسجها البيروقراطية الجزائرية مع مكاتب الدراسات الفرنسية.
150
بالمقابل، تحصد الولايات المتحدة، مع 385 عقدًا، أو أقل من 8 بالمائة من مجمل العقود، مبلغ 14 مليار دينار، أو قرابة 18 بالمائة من القيمة الإجمالية. والكلفة المتوسطة لعقد المساعدة الموقع مع الشركات الأمريكية أعلى بوضوح من كلفة ذلك الذي يربط الشركات الصناعية التي تملكها الدولة بالشركات الفرنسية. أي أن الكلفة الموحدة للعقود الموقعة مع الولايات المتحدة أعلى بكثير.
هذا وإن أهمية العقود الموقعة مع الشركات الأمريكية، تعكس بوجه خاص تبدُّل موقف وزير الصناعة والطاقة في تلك الفترة الذي قرر التحول صراحة نحو الولايات المتحدة منذ بداية السبعينيات كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل.
لكن ما يفاقم أكثر من كل شيء تبعية الجزائر في هذا المجال إنما هو تجديد العقود المتواصل، إما بتمديد ضمني أو عن طريق سلسلة من الملحقات المتتالية. وهذا يبيِّن السلطة الفعلية التي يمارسها البيروقراطيون في شتى الأجهزة.
ج- التبعية التجارية:
إن التبعية التجارية هي إحدى النتائج المباشرة للتبعية التقانية. ففي الواقع، تؤدي زيادة استيراد التقانة آليًا إلى زيادة استيراد سلع التجهيز، والمنتجات نصف المصنَّعة، وحتى مواد أولية، وخدمات متنوعة لتشغيل الوحدات الصناعية القائمة.
من جهة أخرى، إن تمديد مهل إنجاز الاستثمارات الصناعية الذي بات مزمنًا، والنقص (الذي غالبًا ما يكون مهمًا) في استخدام قدرات الإنتاج القائمة الناجم عن سوء تصور الدراسات التقنية، يتجليان في زيادة الواردات من سلع الاستهلاك الصناعية المفترض إنتاجها محليًا بواسطة المصانع المنجزة.
الجدول رقم (7- 2)
تطور الواردات الصناعية (بملايين الدينارات الجزائرية)
1967 1970 1973 1976 1987
التموين الصناعي
الآلات والسلع التجهيزية 1047
546 2422
1813 3325
2377 6527
6670 10655
11501
المجموع الجزئي 1593 4235 5702 13197 22156
واردات أخرى 1561 1970 3174 9030 12283
المجموع 3154 6205 8876 22227 34439
المصدر: المصدر نفسه، ص 146.
151
هكذا، إن تطبيق سياسة التصنيع، ولا سيما في جانبها التقاني، واختيار الشركات الأجنبية ونمط تداخلها، كان لهما تأثير مباشر على صورة التجارة الخارجية والتوجيه الجغرافي للمبادلات.
وبخصوص تطور الواردات المرتبطة بالتصنيع، يعطينا الجدول رقم (7- 2) فكرة عن تزايدها السريع بين عامي 1967 و1978. وهذا الجدول يستدعي ثلاث ملاحظات:
- بدأت الواردات من السلع التجهيزية تزداد بشكل ملحوظ منذ عام 1970. لكن هذا التزايد تسارع منذ عام 1973. وفي الواقع، كان معدل زيادة الواردات من السلع التجهيزية، بين عامي 1973 و1978، 64 بالمائة سنويًا. وبالنسبة لمجمل الفترة ما بين عامي 1967 و1978 تضاعفت هذه الواردات 21 مرة.
- وعرفت أيضًا الواردات من المواد الأولية، والمنتجات نصف المصنَّعة، علاوة على السلع الضرورية لاشتغال الوحدات الصناعية، تنسيًا سريعًا، فلقد تضاعفت أكثر من عشر مرات ما بين عامي 1967 و1987.
- يبيِّن التزايد السريع للواردات من المنتجات الضرورية لاشتغال الجهاز الصناعي القائم أن سياسة التصنيع لم تسع لتحسين تكامل الاقتصاد الوطني. لقد تجلت على العكس بالاندماج المتزايد للقطاع الصناعي الجزائري في السوق العالمية إلى حد أنه حين انخفضت مداخيل الجزائر الخارجية بعد الهبوط الشديد والمستديم لأسعار النفط منذ عام 1986 تعرضت مصانع الدولة لضربة قاسية جدَا لأن متوسط استخدام قدرتها الإنتاجية لم يتجاوز 20 بالمائة خلال التسعينيات.
وعمومًا، فإن التزايد في الواردات الأسرع منه في الصادرات جعل عجز الميزان التجاري خلال الفترة المشار إليها عجزًا بنيويًا، كما يظهر ذلك الجدول الوارد أدناه.
ويستدعي هذا الجدول الملاحظات التالية:
- لقد زاد اللجوء المفرط إلى الخارج من عجز ميزان السلع والخدمات، حيث ارتفع من 697.5 مليون دينار عام 1967 إلى 15496.3 مليون دينار في عام 1978. وتجاوز مجموع العجز في هذا الميزان 53 مليار دينار، أي أكثر من 13 مليار دولار في الفترة المشار إليها.
- سجل ميزان الخدمات عجزًا مزمنًا أكبر من عجز الميزان التجاري. وفي الواقع، ارتفع عجز ميزان الخدمات من 1232.4 مليون دينار في عام 1967 إلى 8691.8 مليون دينار عام 1978، أي أنه تضاعف سبع مرات في 12 عامًا. زد على
152
ذلك أن مجموع عجز ميزان الخدمات، ومقداره 33783.3 مليون دينار، أو قرابة 8.5 مليار دولار بين عامي 1967 و1978، يشكِّل ضعف مجموع العجز التجاري تقريبًا.
الجدول رقم (7- 3)
تطور ميزان السلع والخدمات (1967- 1978)
(بملايين الدينارات الجزائرية)
1967 1978 مجموع
(1967-1978)
واردات CAF 3122.4 31968.1 161753.4
صادرات FOB 3657.3 25163.6 142243.3
الميزان التجاري 534.9 -6804.5 -19450.1
واردات الخدمات -1644.2 -10103.8 -43764.4
صادرات الخدمات 431.8 1412.0 9981.1
ميزان الخدمات -1232.4 -8691.8 -33783.3
ميزان السلع والخدمات -697.5 -15496.3 -53243.4
واردات/ الناتج الداخلي الخام (نسبة مئوية) -24.8 48.4 42.5
المصدر: المصدر نفسه، ص 148.
- بلغت حصة الواردات 48.4 بالمائة من الإنتاج الداخلي الخام(PIB) في عام 1978. وهذا يعني أنه من أصل مائة دولار موظفة في القطاع الصناعي يُخصَّص 48.8 دولار للواردات. وهذا يوضح أهمية التسرب إلى الخارج الذي يطول مفاعيل تضاعف الاستثمارات الصناعية وتسارعها.
إن تزايد عجز ميزان السلع والخدمات الناجم عن التزايد السريع في واردات السلع التجهيزية والمواد الأولية أدى إلى الطلب المتزايد على القروض الخارجية على مدى السنين. هكذا تجلت سياسة التصنيع الكثيف بتفاقم الدين الخارجي للجزائر خلال تلك الفترة.
بتعبير آخر، إن التبعية التقانية الناجمة عن الاستثمارات الصناعية المكثفة والتبعية التجارية التي تسبب بها التزايد الكبير جدًا للواردات أقل أدَّتا إلى التبعية المالية.
153
د- التبعية المالية:
بادئ ذي بدء، إن استراتيجيًا التنمية المتخذ بها قرار في عام 1966 تتوقع أن تكون عائدات تصدير المحروقات هي التي ستموِّل التنمية. لكن خلال الفترة ما بين 1967 و1978، دفعت حاجات الاستيراد المتزايدة، الناجمة عن متطلبات التصنيع وعن الطلب الناتج من تزايد السكان والمداخيل، دفعت السلطة إلى اللجوء إلى القروض الخارجية لمواجهة المصارف التي يتسبب بها نموذج التنمية الذي اختاره واقترحه المتعاونون الفرنسيون.
لقد ارتفع مجموع الدين الخارجي (وهو دين متعاقد عليه لكنه لم يستخدم بالكامل) من ستة مليارات دولار في عام 1974 إلى أكثر من 11 مليار دولار في عام 1976، ثم إلى عشرين مليارًا في عام 1978، ليتجاوز الــ 26 مليار دولار في عام 1979. إلا أن الدين المستخدم بالفعل يبقى مرتفعًا كفاية، على الرغم من أنه أدنى من المقادير المذكورة سابقًا. ففي الواقع، بلغ الدين المستخدم 3.3 مليار دولار في عام 1974، أي 29 بالمائة من الإنتاج الداخلي الخام (PIB)، و5.8 مليار دولار في عام 1976، أي 37 بالمائة من الإنتاج الداخلي الخام، و16.1 مليار دولار في عام 1979، أي 56 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، مع خدمة للدين بمعدل 36 بالمائة من عائدات التصدير.
إن خدمة الدين (تسديد الأصل والفوائد) ارتفعت من 607 ملايين دولار في عام 1975 إلى 3.5 مليار دولار في عام 1979. وقد تضاعف الدين المستخدم 5 مرات ما بين عامي 1974 و1979 في حين تضاعفت خدمة الدين سبع مرات تقريبًا خلال الفترة نفسها. لقد تفاقمت مديونية الجزائر الخارجية بسبب اللجوء المفرط إلى الخارج الناجم عن سياسة التصنيع. لقد أدخلت هذه الاستدانة البلد في سيرورة جمعية سوف تنزل بثقلها، كل ثقلها، على مستقبل البلد كما سنرى لاحقًا.
إن التفحص السريع للتبعية متعددة الأشكال يبيِّن حدود نموذج التنمية المعتمد، المتميز فضلًا عن ذلك بأزمة تسيير الدولة للاقتصاد.
4- أزمة تسيير الدولة للاقتصاد:
يمكن رؤية أزمة تسيير الدولة للاقتصاد في مجمل قطاعات النشاط، وقد تكون دراسة مسألة بهذا الحجم طويلة ومملة. بالمقابل، إن التذكير بالوقائع البارزة في أزمة تسيير الدولة للمنشآت الصناعية، التي استهلكت خلال السبعينيات حوالي ثلثي مجمل
154
استثمارات البلد، سوف يتيح الإحاطة بحجم الخيبات والأضرار اللاحقة بالاقتصاد الجزائري واستخلاص الاستنتاجات الصالحة لكل قطاعات النشاط.
ويمكن تحليل تسيير المنشآت العامة على مستويات أربعة:
أ- إدارة الاستثمارات:
كان الهم الأساسي لوزارة الصناعة والطاقة وشركات الدولة الصناعية، خلال السبعينيات، هو الاستثمار، والمزيد من الاستثمار، من دون الاهتمام بالوجوه الأساسية للتنظيم العلمي للعمل والتسيير العقلاني والفعّال للموارد الوطنية البشرية، والمالية والمادية، بهدف تحسين نتائج الاقتصاد، والحصول على نتائج مالية إيجابية وجمع أفضل لشروط الموضوعية لتنمية ممركزة ذاتيًا متحررة من التبعية والسيطرة الخارجية.
لقد اعتادت السلطات الجزائرية أن تعلن باعتزاز، خلال الفترة المشار إليها، أن الاستثمارات تتراوح بين 40 بالمائة و50 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، أحد أعلى المعدلات في العالم، وأن الاستثمارات المخصصة للقطاع الصناعي تراوح بين 53 و60 بالمائة من مجمل الاستثمارات.
لكن ما لا يقال هو أن تسيير المشاريع البيروقراطي، وقلة التحكم في إدارة الاستثمارات، علاوة على النقص في التنسيق والبرمجة، أدت إلى تأخر كبير في إنجاز المشاريع الصناعية، وإلى إعادات تقويم متواصلة (24)، وتكاليف زائدة وخسائر مالية فادحة. زد على ذلك أن اللجوء المنتظم إلى الشركات الأجنبية والصيغ التعاقدية من مثل «المصنع لجاهز» و«المنتج الجاهز» والــ Cost plus fees»» يُنزل الأضرار بالاقتصاد الجزائري ويحرر من المسئولية إطارات المنشآت الصناعية العامة.
ب- نظام التمويل:
فلننظر إلى نظام تمويل شركات الدولة الذي يطول الاستثمارات كما الاستغلال.
- كانت المنشآت العامة تموِّل استثماراتها في شكل قروض يقدمها مصرف التنمية الجزائري منذ أول خطة رباعية 1970- 1973. ويعني ذلك أن كل القيم المجمَّدة للمنشآت العامة الصناعية تموَّل حصرًا عن طريق الاقتراض وأن على المنشآت
...............................................
(24) يقوم جهاز التخطيط المركزي، بناء على طلب المنشآت العامة ووزارات الوصاية، بما معدله 150 إعادة تقويم كل عام.
155
أن تشتغل وهي في حالة استدانة كلية ودائمة. ويضاف إلى هذه الصعوبة الكبرى البطء البيروقراطي في استخدام القروض وعدم تناسب التمويل مع حاجات المنشأة. وهكذا يكون على المنشأة أن تبدأ بتسديد المستحقات الأولى من ديونها قبل إنجاز المشروع وشروع الوحدة المعنية في الإنتاج. وهو ما يجبر المنشأة على اللجوء إلى السحوبات المصرفية المكشوفة التي تزيد من الخلل في بنيتها المالية.
- إن غياب الاعتمادات الخاصة، واللجوء إلى القروض لتمويل المجمَّدات وعدم كفاية رأس المال الجاري تُفاقم حاجات خزينة شركات الدولة. وانطلاقًا من مستوى معين، يجمد المصرف حسابها إلا لدفع الأجور والالتزامات الخارجية.
إن تجميد المعاملات شاذ، لأنه عدا كونه لا يسوّي أي مشكلة يخلق مشاكل أخرى تفسد أكثر فأكثر اشتغال شركات الدولة ويزيد بذلك بالذات من فقدان توازنها المالي.
ج- السمات الرئيسية لسوء التسيير:
إن سوء تسيير المنشآت العامة الصِّناعيَّة ظاهرة معقدة جدًا يمكن إرجاعها لدواعي السهولة إلى سلستين من العوامل:
- سوء التنظيم.
- أكلاف التصنيع الزائدة، والتبذير والفساد.
(1) سوء التنظيم: قليلًا ما تشغل بال فريق التصنيعيين النتائج التي تحققها شركات الدولة وفعالية هذه الشركات وإسهامها الضروري والمستحب في تنمية البلد الاقتصادية، لكنه يسعى بالمقابل ليجعل من القطاع الصناعي رافعة اقتصادية مهمة بحيث يكون له تأثيره في المجال السياسي عن طريق استثمارات في كل الاتجاهات واستيرادات مكثفة للسلع والخدمات.
ليست المنشآت العامة مستقلة، بل تستحقها بالأحرى كل أنواع الرقابات الإدارية من طرف وزارة المال والتخطيط، والمصارف، وبوجه خاص وزارة الصناعة والطاقة.
إن الإشراف على المنشآت العامة الذي تمارسه وزارة الصناعة والطاقة متعدد الأشكال. وهو يتعلق في الجانب الأساسي منه بتعيين المديرين العامين، ورؤساء مجالس توجيه الشركات الوطنية والإطارات الذين يشغلون مناصب حساسة (كالمدير المالي، والمدير التجاري، ومدير الموظفين) فضلًا عن إنهاء خدماتهم. وهذا يطول أيضًا الخطط العضوية، وكل برنامج استثمار، وكل مشروع، وتحديد مواقع المصانع،
156
والأشكال التعاقدية لإنجاز المشاريع، واختيار المموِّنين، ودراسة تقارير النشاط، والموازنات، بالإضافة إلى حسابات استغلال شركات الدولة، ... الخ.
لقد أعيد تنظيم شركات الدولة على أساس فروع النشاط الصناعي في بداية السبعينيات. إلا أن نمط التنظيم الذي اختارته الوزارة، مصحوبًا بمركزة كبيرة للبنى، تجلى بالبطء في اشتغال المنشآت، الأمر الذي ساهم في التقليل من فعاليتها، إذا كانت هذه الفعالية متوفرة.
لقد كان لشركات الدولة منذ البداية وضع احتكاري في السوق الداخلية. فهي تعمل ضمن شروط غياب المنافسة وانعدام الشفافية وتمتلك أيضًا احتكار التجارة الخارجية.
إن المديريات العامة لشركات الدولة ومقراتها متضخمة بصورة مبالغ بها بسبب حشد الإطارات والموظفين المؤهلين الذين يقومون حصرًا بمهام إدارية على حساب وحدات الإنتاج التي هي في حاجة قصوى إليهم.
إن ممارسات شركات الدولة هذه في مجال الاستخدام والأجور لا تستجيب لأي ضرورة اقتصادية. ففي الواقع، إن استخدام العدد الزائد من الموظفين ممارسة شائعة إلى حد أن الموظفين غير المنتجين كانوا يمثلون في شركة الدولة 52 بالمائة من العدد الإجمالي خلل السبعينيات وبداية الثمانينيات. وتساهم أنماط التسيير «النخبوية» (بعيدًا عن قواعد التسيير المسلَّم بها عبر العالم)، ومنطق المنشأة الكبرى، والمجمَّعات الضخمة (25)، والاستخدام المفرط للتقانات المتطورة جدًا (لا بل لنماذج أصلية في بعض الحالات)، واللجوء الزائد إلى الشركات الأجنبية (عقود المصانع الجاهزة، والمنتجات الجاهزة، والعقود المفتوحة (Cost plus fees) ومركزة سلطة القرار في حلقات ضيقة جدًا، في تعزيز امتيازات غالبًا ما تكون غير قانونية لصالح عصبة التصنيعيين.
(2) التكاليف الزائدة والتبذير: إن تكاليف التصنيع الزائدة ذات أسباب داخلية وأخرى خارجية (26). ولن نتطرق هنا إلى العوامل الخارجية للتكاليف الزائدة، لأنها تتعلق بالمحيط الدولي وبتدخل الشركات الأجنبية. وهي ليست
...........................................
(25) خلال السبعينيات، كانت كل الفرص متاحة أمام الصحافة الجزائرية، التي تغذيها وزارة الصناعة والطاقة، لكي تكرر وتكرر أن الجزائر تملك أكبر مجمع في أفريقيا في المجال كذا، أو أكبر مجمع في الوطن العربي في مجال آخر.... الخ على هوى الظروف.
(26) لقد فصلنا مسألة تكاليف التصنيع الزائدة في: المصدر نفسه، ص 152- 157
157
خاصة بالجزائر ويمكن أن نجدها في بلدان العالم الثالث حيث تتدخل الشركات المتعددة الجنسيات.
بالمقابل، تَنْتُج العوامل الداخلية للتكاليف الزائدة من نمط التصنيع ووتيرته اللذين تختارهما السلطة، بالإضافة إلى تصرفات البيروقراطيين «التصنيعيين». إن تقدير التكاليف الزائدة يُحسب على أساس مقارنة أسعار الأبواب الممارسة في نشاطات صناعية مشابهة في الجزائر وفي أوربا من حيث يتم استيراد التجهيزات والمنتجات الوسيطة.
ويمكن أن نذكر من بين التكاليف الزائدة للصناعة:
- الكلفة الزائدة للبناء والهندسة المدنية التي تقدَّر بــ 20 بالمائة من الاستثمار الإجمالي للمشروع المحدد؛
- الفوترة الزائدة للتجهيزات التي تصل إلى 40 بالمائة (حالة مجمَّع قسنطينة للمحركات-الجرارات)؛
- التكاليف الزائدة الناجمة عن المعدل المرتفع للتكامل الداخلي للإنشاءات الصناعية. ففي الواقع، إن خلق بعض نشاطات التعاقد الفرعي داخل تلك المجمَّعات الصناعية بالذات يتجلى في الاستخدام الناقص لعدد من الورش الناجم عن الإفراط في التجهيز. وتقدَّر هذه الكلفة الزائدة بــ 15 بالمائة من الاستثمار الإجمالي (حالة الصناعة الميكانيكية).
- إن التكاليف الزائدة الناجمة عن التأخر في إنجاز الاستثمارات الصناعية على نوعين: فمن جهة، تتمخض التأخرات في إنجاز المشاريع الصناعية عن إعادات تقدير للكلفة الأصلية المنصوص عليها في العقود. والإضافات المدفوعة هكذا تتراوح بين مشروع وآخر. ويمكن أن تبلغ هذه الكلفة الزائدة مائة بالمائة من الكلفة المتوقعة في الأصل كما كانت الحال بصوص مجمَّع المواد البلاستيكية في سكيكدة.
ومن جهة أخرى، سواء كانت التكاليف الزائدة الناجمة عن التأخر في وضع الوحدات الصناعية في الخدمة ناتجةً من إطالة مُهل الإنجاز أو من أخطاء في تصور المشروع، أو أيضًا من عدم المزامنة بين مختلف أقسام المجمَّع المعني، فإنها تؤدي إلى خسائر وارباح مفوتة تقدَّر بــ 30 بالمائة من الاستثمار في حال التأخر عامًا عن الوضع في الخدمة. وبما أن التأخرات في إنجاز المشاريع الصناعية تتراوح بين ثلاث سنوات وسبع سنوات (لا بل عشرين عامًا كما كانت حال مجمَّع الأسمدة الأزوتية في أرزيو، الذي أنجزته الشركتان الفرنسيتان تكنيب وكروزو- لوار) فالتكاليف الزائدة والخسائر الناجمة عن هذه التأخرات جسيمة.
158
- تتغير التكاليف الزائدة لتموين الوحدات الصناعية تبعًا لحجم الواردات النسبي. فواردات المنتجات الوسيطة التي تطلبها شركات الدولة في قطاع الصناعات الميكانيكية، والمعدنية والكهربائية من المموِّن المجاز كانت تتراوح بين 24 بالمائة و73.5 بالمائة من مشترياتها وتمثِّل كلفة زائدة تصل إلى 53 بالمائة. بتعبير آخر، نجد أنفسنا إزاء فوارات زائدة قابلة للتجديد تدفع الجزائر بموجبها أسعارًا أغلى بنسبة 53 بالمائة من تلك المعتمدة في السوق الأوروبية في كل مرة يتم فيها استيراد هذه المنتجات الوسيطة الضرورية لاشتغال المنشآت الصناعية.
كل عناصر الكلفة الزائدة هذه، تشكل خسارة لا تعوَّض للاقتصاد الوطني وتنزل بثقلها على سعر تكلفة المنتجات الصناعية الجزائرية. وهي تشكل عائقًا جديًا لتنافسية المنشأة العامة ولمصلحة الجزائر الاقتصادية والمالية.
هذه التكاليف الزائدة تغطي الفساد وبعض أشكال التبذير. ولقد قدَّرنا التكاليف الزائدة الناجمة عن نفقات الاستثمار اصناعي بــ 18 مليار دولار (27) وتلك المرتبطة بتكوين جهاز الإنتاج الصناعي بمليار ونصف مليار دولار للفترة ما بين عاميْ 1967 و1978. وهذه المليارات التسعة عشر والنصف التي بلغتها كلفة التصنيع الزائدة، أي 1.65 مليار دولار كمعدل سنوي، تشكل الثروة المحوّلة إلى الشركات الأجنبية من دون مقابل فعلي. ومن الصعب فصل الفساد عن التكاليف الزائدة لشدة ما يوجد تداخل بين الحالتين.
تشكل التكاليف الزائدة الموصوفة أعلاه نفقات غير متوجبة تتيح للشركات الأجنبية تحقيق أرباح إضافية للتحصن ضد أي مخاطرة ودفع رشوات لشركائها الجزائريين.
(3) الفساد: كان الفساد مسألة يُحرَّم الحديث عنها حتى عام 1990. وفي الواقع أني أشرت إليه شخصيًا، بصورة علنية، وقدرته بمبلغ 26 مليار دولار على امتداد السنوات العشرين الأخيرة (28)، في جميع القطاعات. وقد شهدت الساحة آنذاك
.............................................
(27) المصدر نفسه، ص 155.
(28) خلال محاضرة عمومية في معهد لعلوم الاقتصادية في الخروبة بجامعة الجزائر، ألقيت في 20 مارس (آذار) 1990، وردًا على سؤال حول الإنعاش الاقتصادي والفساد، تحدثت عن شروط هذا الإنعاش موضحًا أنها ضرورية لكن غير كافية طالما لم يتم تجاوز أزمة الثقة التي تهز المجتمع. وأضفت أن بين العوامل السياسية التي لا غنى عنها لإعادة الثقة والإيمان بالعدالة الذي يحرك الشعب الجزائري، ضرورة خوض صراع مرير على كل المستويات ضد كل أشكال الفساد التي ولَّدت الشعور بالظلم ولا تنفك تتآكَّل مثل السرطان مجمل المجتمع في قيمه وقواه الحيوية، وهذه الأشكال هي التالية:
159
صراعًا حادًا. فلقد استنفرت الحكومة شتى وسائل الإعلام العامة و«الخاصة» للهجوم لا على الفساد والفاسدين بل على من يتكلم على ذلك ويندِّد به. حتى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والأمين العام لجبهة التحرير الوطني في تلك الفترة انبروا كلهم لإنكار وجود الفساد وركزوا هجومهم على من يندِّد به.
وفي هذا السياق، أوضحتُ علانية أن «تصريحي ينسجم مع تطلعات القاعدة المناضلة التي لم تنفك تندِّد بوباء الفساد «هذا» وأني حين كنت وزيرًا أول أوجدتُ إجراءات وآليات من شأنها تدارك عقد صفقات كبيرة مع الخارج ومراقبتها. وأشرت إلى أنه «إذا كان صحيحًا أن بعض التدابير لم تكن ذات فعالية مطلقة، فالإجراءات والآليات التي تم اعتمادها كانت رادعة مع ذلك وكانت تعود أحيانًا على البلد بأرباح مهمة جدًا. ففي الإمكان رؤية حالات في أعمال المراقبة تلك أتاحت الخفض المحسوس لأسعار المقترضات والتوريدات الخارجية» (29). وقد قدَّرت هذه «الأرباح» أو التوفيرات المحققة بفضل آليات المراقبة الجديدة بحوالي خمسة مليارات دولار للفترة 1984- 1988.
لكن هذه التوضيحات لم تضعف حدة الهجمات المركزة خلال عامين على شخصي من طرف الصحافة ومختلف رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا ما بين عاميْ 1990 و1992، وهم: مولود حمروش، وأحمد غزالي، وبلعيد عبد السلام.
وقد توجّب انتظار ماي (أيلول) 1999 لرؤية صحيفة الوطن تقدِّر بمبلغ 30 إلى 35 مليار دولار «المال المشكوك بأصله» الذي يجوزه جزائريون في مصارف أجنبية (30). لكن خلال حملة الرئيس بوتفليقة لأجل الاستفتاء حول الوفاق المدني في سبتمبر (أيلول) سنة 1999 أثار علانيةً قضية الفساد المعذِّبة وألحَّ على ضرورة إدخال
...........................................
= الفساد الناجم عن عمولات غير متوجبة يجري قضها في الخارج؛
- تشكل مليارديرات، وعمومًا ثروات في مهل قصيرة جدًا، وبكل أنواع الحيل والأساليب غير القانونية بحيث تتفاقم بذلك بالذات التفاوتات والتوترات الاجتماعية؛
- الاتجار بالنفوذ والفساد الذي توّلده الممارسات البيروقراطية في مستويات متنوعة وفي كل قطاعات النشاط.
(29) انظر تصريح عبد الحميد براهيمي الذي نشرته صحيفة: المجاهد، 3/ 5/ 1990.
(30) في عدد 25/ 5/ 1999، كتبت صحيفة الوطن: «منذ قضية الــ 26 مليار دولار، أو الحجر الذي ألقى به في المستنقع الوزير الأول الأسبق عبد الحميد براهيمي الذي كان قدَّر في عام 1990 مال العمولات والعقود لمساء التفاوض بشأنها بهذا المقدار، تعود مسألة أموال الجزائريين المودعة في الخارج إلى بساط البحث تكرارًا.
وبما أن الأمر يتعلق بأموال مشكوك في أصلها في جزء مهم منها، لن تُعرف يومًا مقاديرها الدقيقة. وبين التكهنات والتقديرات التقريبية، بما في ذلك تقدير البنك الدولي، تتراوح القيمة المتوقف عندها إجمالًا بين 30 و35 مليار دولار».
160
الأخلاق إلى الإدارة والاقتصاد الجزائريين. وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1999، مضى أبعد في خطابه خلال افتتاح معرض الجزائر الدولي، مشددًا على أن الفساد أضر بالبلد أكثر مما فعل الإرهاب. إلا أنه ينبغي أن نلاحظ أنه لم يُتَّخذ أي تدبير ملموس للنضال ضد هذا الوباء الاجتماعي الكاسح، لا سيما أن اتساع الفساد في العشر سنوات أو الخمس عشرة سنة الأخيرة تسبّب للمجتمع بالكثير من الأضرار. وإلى جانب «الفساد الكبير» الذي تسببت به عقود الاستيراد الكبرى ويقتصر على بعض الحلقات المقفلة، هنالك «الفساد الصغير» الأكثر شيوعًا لكن الأكثر وضوحًا، لأنه يمارس ضد المواطنين. لقد بات الفساد في الجزائر ظاهرة اجتماعية وروتينية مرتبطة باشتغال الإدارة، والمؤسسات والأجهزة العامة (31).
لقد آن الأوان للانكباب بجدية على هذه المسألة للعثور على الطرق والوسائل المناسبة لاجتثاث هذا السرطان الذي يعانيه الشعب الجزائري بصورة ظالمة. ولقد آن الأوان أيضًا لإحلال الشفافية والتسيير العقلاني للموارد البشرية والمالية للبلد محل انعدام شفافية النظام، وجشع أقلية وسوء التسيير الذي دمَّر البلد والذي تُبيِّن نتائجه الأولى، التي ظهرت في عام 1980، مدى اتساع الأضرار التي لم تلحق فقط بالقطاع الصناعي بل بكامل الاقتصاد الجزائري.
النتائج:
لقد اتسم تسير الدولة للمنشآت العامة بالمركزية المفرطة ورصد موارد مالية داخلية وخارجية ضخمة جدًا، وبأشكال تنظيم غير مناسبة، وإجراءات إدارية بطيئة، ورقابة مدقِّقة وإكراهات متنوعة جدًا. وأفضى ذلك إلى نتائج رديئة.
ففي الواقع، إن تداخل دور الدولة مع دور المنشأة العامة جعل هذه الأخيرة تطور أعمالًا لا علاقة لها إطلاقًا بمهمتها الرئيسية، مبعدة إياها هكذا عن التوجيه الأمثل للموارد البشرية والمالية، وزيادة الإنتاج إلى مداه الأقصى، وخلق الفائض الاقتصادي، لتغذية النمو والإسهام في تمويل التنمية الاقتصادية.
كانت لفعل الاستثمار الأولوية على مطلب الفعالية الاقتصادية. وكان انعدام التناسب بين برامج الاستثمار، وشروط إنجازها وتمويلها، عاملًا، بين عوامل
.........................................
(31) للأسف أن «الفساد الصغير» شائع جدًا في البلديات المفترض أن تكون في خدمة المواطنين. فوفقًا لوزير الداخلية، لاحق القضاء 83 «منتخبًا» بلديًا خلال السنتين الأخيرتين. «في إطار قضايا مرتبطة بالاختلاس وتبديد الأموال العامة والفساد» على حد ما كتبته الوطن في 20/ 11/ 1999، مضيفة بعد قليل: «بالنسبة للكثيرين، ليس كشف الحساب مضيئًا ولابد من أن يدفع السلطات العامة لاتخاذ التدابير المناسبة» لقلب الاتجاه.
161
أخرى، في أصل لاختلالات العميقة لبنية معظم المنشآت العامة. هكذا كانت كثيرة هي شركات الجولة الواقعة في حالة عجز والمهددة بالشلل والاختناق في عام 1979. لقد بلغ اتساع عجزها ومكشوفاتها المصرفية مستويات هائلة.
إن سيل التكاليف الزائدة المرتبطة بالاستثمار والاستغلال هو الذي ساهم في زيادة الأعباء المالية للمنشآت العامة. ولمواجهة ذلك، وفي غياب الموارد الذاتية، لجأت المنشأة العامة إلى القروض المصرفية قصيرة الأجل. وقد زاد من حدة هذا العجز المالي انعدام الصرامة في تسيير المخزونات وسوء إدارة الديون بين المنشآت.
وعلى سبيل المثال، نستشهد بحالة خمس منشآت عامة هي التالية: SNS, SNIC, SONIC, SNMC, SONELGAZ. والنتائج تظهر على الشكل الذي يوضحه الجدول الوارد أدناه.
إن المخزونات بالنسبة لرقم أعمال المنشآت الخمس المذكورة أعلاه مرتفعة جدًا وبلغت 60 بالمائة في عام 1978. فلخوف من انقطاع التموين يحث المنشآت على أن تستورد بشكل كثيف ولشهور طويلة مواد أولية ومنتجات نصف مصنَّعة. ويتمخض ذلك عن تجميد غير مبرَّر للمخزونات وبالتالي عن تكاليف زائدة. لقد كان مستوى الديون مرتفعًا جدًا ويتراوح بين 106 بالمائة في عام 1979 و266 بالمائة في عام 1977، وهذا يبيِّن قلة دينامية المنشآت العامة لضمان استيفاء ديونها. ولقد بلغت الديون على شركات الدولة الخمس المذكورة مستوى مهمًا لأنها تمثل سبعة أضعاف أرقام أعمالها في عاميْ 1977 و1978.
الجدول رقم (7- 4)
تطور بعض الثوابت المالية (بملايين الدينارات الجزائرية)
1977 1978 1979
مخزونات 3200 4681 5282
ديون (لحساب المنشآت) 17100 20243 10110
ديون (عليها) 48929 60952 58949
أرقام أعمال 6421 7875 9471
نسبة مئوية:
مخزونات/ أرقام أعمال
49.83
56.83
55.77
ديون لحسابها/ أرقام أعمال 266.31 257.04 106.86
ديون عليها/ أرقام أعمال 762.02 773.99 579.61
المصدر: المصدر نفسه، ص 164.
162
لقد كانت المديونية الإجمالية (الداخلية والخارجية، أي بالدنانير الجزائرية والعملات الصعبة) لمجمل المنشآت العامة، في 31 ديسمبر (كانون الأول) 1978، حوالي 179 مليار دينار، أو قرابة 40 مليار دولار تشكل أكثر من ضعفي قيم الإنتاج الخام الذي كان 86.8 مليار دينار في عام 1978.
وإجمالًا، يمكن الاستدلال على النتائج السلبية لتسيير الدولة للمنشآت العامة انطلاقًا من اختلالاتها المالية الخطيرة، واستدلالاتها المبالغ بها، والنقص في استخدام قدراتها القائمة، والمستوى الضعيف لإنتاجية العمل (أدنى 77 بالمائة مما هي في فرنسا) والمستوى المرتفع جدًا للاستثمار الصناعي بالوظيفة المستحدثة الذي يجعله الأغلى في العالم، أي خمس مرات أكثر من المقاييس الدولية.
هكذا فإن القطاع الصناعي المكلَّف في البدء بدفع قطاعات النشاط الأخرى في اتجاه التقدم والتنمية، لم يكن حتى قادرًا على الربح وعلى أن يكون مليئًا بل أصبح بالأحرى عبئًا ماليًا ثقيلًا بالنسبة للدولة.
إن إفلاس القطاع العام الصناعي، وإهمال القطاع الزراعي وتهميشه، فضلًا عن الصعوبات المتنوعة التي خلقتها البنية التقنية، التي يسيطر عليها حزب فرنسا، لأجل تثبيط همة القطاع الخاص الوطني وإعاقة اشتغاله وتفتحه، كل ذلك ساهم في إضعاف الاقتصاد الجزائري واسترهانه للواردات.
إن الهشاشة المتواصلة للاقتصاد الجزائري وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في العقود الثلاثة الأخيرة، يشكلان عاملين مهمين، بين عوامل أخرى، ساهما في تفاقم المأساة الجزائرية.
163
القسم الرابع
توطيد مواقع «الفارين» من الجيش الفرنسي
الفصل الثامن
هجوم «الفارين» من الجيش الفرنسي
للاستيلاء على السلطة (1979- 1988)
مقدمة:
لقد زاد «مرض» بومدين ثم وفاته في ديسمبر (كانون الأول) عام 1978 من حدة الصراع بين العُصب على خلافته. ولقد أتاح إقصاء المتنافسين (المعلنين) اللذين كانا قد نزلا إلى الحلبة، وهما عبد العزيز بوتفليقة، المرشح القريب جدًا إلى فرنسا، ومحمد صالح يحياوي، ممثل التيار العربي- الإسلامي (وهو تيار أكثري إلى أبعد الحدود في الجزائر)، ظهور مرشح تسوية هو العقيد الشاذلي بن جديد، الذي كان آنذاك قائد الناحية العسكرية الثانية (وهران). كان اختيار مرشح (إلى رئاسة الجمهورية) لا تثير اهتمامه الأيديولوجيا، وبعيد عن العاصمة، وغريب عن الدسائس السياسية، قد أثار في البدء الكثير من التساؤلات. هل كان الأمر يتعلق بمرشح انتقالي يصار إلى إقصائه بعد مرور ستة أو ثمانية أشهر على انتخابه كما كان يوحي بذلك في تلك الفترة بعض القياديين؟ أو أنه سيدشن عهدًا جديدًا، حاملًا للأمل؟
ويمكن اعتبار أول ولاية للرئيس الشاذلي بن جديد (فيفري (شباط) 1979- جانفي (كانون الثاني) 1984) متوازنة وإيجابية إجمالًا. ويعود ذلك على الأرجح إلى عاملين، بين عوامل أخرى:
- خلال تلك الفترة، كان الرئيس الجديد يستعلم، ويحاور، ويقابل الأفكار منظمًا مناقشات حوله بصدد موضوعات أو مسائل داخلية أو خارجية معتبرة راهنة. باختصار، كان يصغي كثيرًا قبل اتخاذ قرار. وبما أنه كان يتمتع بكثير من الحس السليم، غالبًا ما كانت قراراته متوازنة وتأخذ بالحسبان جوهر المسائل المناقشة بحضوره.
167
- بلغت الزيادة غير المتوقعة لأسعار النفط بين عامي 1979 و1982 مستويات غير مسبوقة وأتاحت للجزائر الحصول على إيرادات كبيرة للتصدير تتراوح بين 13 و14 مليار دولار سنويًا. ولقد أتاح تحسن الوضع المالي، فضلًا عن الإصلاحات الاقتصادية التي بدأت منذ عام 1980، تسجيل تقدم اقتصادي واجتماعي مهم. وساهم ذلك في زيادة تعزيز التماسك والسلم الاجتماعيين خلال تلك الفترة القصيرة.
ولقد بدأت الانزلاقات بعد افتتاح ولايته الثانية في جانفي (كانون الثاني) 1984. فلقد انقطع الرئيس لشاذلي بن جديد آنذاك عن وزرائه الرئيسيين، وعن حزب جبهة التحرير الوطني والقاعدة الاجتماعية، بأن عزل نفسه وسلَّم أمره بشكل حصري تقريبًا لحاشيته المباشرة. وخلال تلك المرحلة بالذات، نجح العربي بلخير، في احتواء رئيس الدولة في برج من عاج بأن وطد موقعه الشخصي وعزَّز قوة عصبته ليس فقط داخل الجيش الوطني الشعبي، بل أيضًا في مصالح الأمن (المدنية والعسكرية) وفي الإدارة، سواء على مستوى الحكومة (حيث كان لديه العديد من الموالين له في المناصب الاستراتيجية، أو على مستوى الولايات والسفارات حيث كان يتوصل إلى ضمان تعيين ولاة وسفراء، وقناصل.. الخ.
كان القطاع الأكثر استراتيجية، أي الجيش الوطني الشعبي، هو الهدف المفضل لدى العربي بلخير، الذي اندفع منذ بداية الثمانينيات في إعداد شروط استيلاء عصبته، حزب فرنسا، على السلطة. وقد كانت تلك لعصبة تعمل منهجيًا وعلى مراحل متعاقبة، لتحاشي إثارة شكوك رئيس الجمهورية، الذي كانت تزعم خدمته «بإخلاص»، وذلك لكي تتوصل في اللحظة المناسبة لانتزاع السلطة، كل السلطة.
لقد حظي ممثل عصبة فرنسا، العربي بلخير، بثقة الرئيس بن جديد، وبالمراكز الاستراتيجية التي شغلها بصفة أمين عام لرئاسة الجمهورية بين عاميْ 1980 و1984، ثم بين عاميْ 1989 و1991، ومدير ديوان رئيس الدولة بين عاميْ 1984 و1989، وذلك لينفذ بطريقة متروية، ومنهجية وثابتة استراتيجيًا الاستيلاء على السلطة.
إن بعض الوقائع المهمة التي كنت شاهدًا عليها يجدر التذكير بها على سبيل الإيضاح، وهي على التوالي: انتقال سلطة القرار من رئيس الجمهورية إلى حاشيته، وإقصاء اللواء الركن مصطفى بلوصيف، وأحداث أكتوبر (تشرين الأول) 1988، وإرساء ديمقراطية الواجهة.
168
أولًا: انتقال سلطة القرار من رئيس الدولة إلى حاشيته:
لقد تحققت سيرورة انتقال سلطة قرار رئيس الجمهورية إلى حاشيته المباشرة على مرحلتين: بين عاميْ 1980 و1983 وبين عاميْ 1984 و1988 كما سنرى الآن.
1- مرحلة فيفري (شباط) 1979- ديسمبر (كانون الأول) 1983
لقد مرت ولاية الرئيس الشاذلي بن جديد الأولى (فيفري (شباط) 1979- ديسمبر (كانون الثاني) 1983 بصورة جيدة إجمالًا) –كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل- بفضل روح التعاون التي سادت آنذاك، وبعض النتائج الاقتصادية الإيجابية المسجلة بالفعل ونجاحات دبلوماسية تحققت على المستوى الدولي. كان الرئيس الشاذلي يبدو، خلال تلك الفترة، مسيطرًا على المسرح السياسي ويرجع إليه القرار الأخير.
لكن خلال تلك الفترة بالذات أطلق قدامى الجيش الفرنسي هجومهم بتكتُّم، عن طريق استيلائهم التدريجي على المواقع في أعلى المستويات. هكذا عُيِّن الرائد العربي بلخير، في عام 1979، في رئاسة الجمهورية منسِّقًا لمصالح الأمن، وهو منصب حساس جدًا جرى استحداثه. ثم في عام 1980، حل العربي بلخير محل عبد المالك بن حبيلس كأمين عام للرئاسة وسلم منصبه للرائد عباس غزيل، وهو أيضًا من قدامى «الفارين» من الجيش الفرنسي.
بعد هذين التعيينين بالضبط أدركتُ مدى الخطر والفخ الذي وقع فيه الشاذلي بن جديد. وكنت قد نبَّهت آنذاك بعض العقداء الوطنيين الذين عرفتهم خلال حرب التحرير، ثم لفتُّ انتباه الرئيس الشاذلي بالذات إلى العواقب الوخيمة التي يمكن أن يسببها للجزائر تعيين هذين الشخصين في منصبين استراتيجيين من هذا النوع، فأجاب باطمئنانٍ بأن هذين الضابطين منضبطان وليس هناك ما يُخشى منهما. كان واضحًا أنه لن يعيد النظر بقرار اتخذه للتوّ. وقد شددت على الروابط التي تشدهما إلى فرنسا وعلى واقع أن الأمر لا يتعلق بإبطال تأثير ضابطين أو فردين، بل بإبطال تأثير عصبة متعطشة إلى السلطة. وخلصت إلى أن «قرار إقصائهما يمكن أن يؤجَّل لبعض الوقت لكنه يفرض نفسه عاجلًا أو آجلًا لمصلحة البلد العليا، وإلا سيأتي يوم سينظم فيه بلخير مع قدامى الجيش الفرنسي انقلابًا ضدّّك». فرد وهو يبتسم بأن الجيش مخلص له، وبأنه يسيطر بالكامل على الوضع.
169
وبما أن العربي بلخير (1) كان حائزًا ثقة رئيس الدولة فقد استفاد منها لتقوية عصبته، سواء عن طريق ترقية قدامى الجيش الفرنسي ورفعهم إلى مناصب مسئولية داخل الجيش ووزارة الدفاع، أو في معرض تعيين وزراء وموظفين كبار، على المستوى الوطني (مديرون عامون لوزارات، ومديرون عامون لشركات وطنية، ... الخ) أو على المستوى الجهوي (ولاة، رؤساء دوائر، .... الخ).
وبالتعاون مع مصالح الأمن، وبمؤازرة أجهزة في الرئاسة الأولى ومواقع أخرى، كان يستخدم تكتيك حرب العصابات والإزعاج المستمر لزعزعة ضباط في الجيش الوطني الشعبي، وموظفين كبار، وولاة، وسفراء، وموظفين في مراتب عليا معروفين بنزاهتهم وإخلاصهم للمصلحة العامة ويرفضون الخضوع لعصبته.
كانت سياسة الزعزعة هذه تهدف لجعل الرئيس الشاذلي بن جديد يتخلص من رجال سياسة قريبين منه أو يبعد موظفين كبارًا نزيهين، أو يفكرون ويتصرفون خلافًا لما تفعل العصبة. أما التكتيك المستخدم لهذه الغاية فمتنوع، وغالبًا ما يتركز على هجمات شخصية من شأنها إفقاد الضحايا حظوتهم أو إضعافهم، بواسطة تسجيلات سمعية (محادثات هاتفية) أو بصرية (فيديو) حميمة تتعلق بالحياة الخاصة للأشخاص المستهدفين، إما عبر «الإشاعة» الموزعة أدوارها بإتقان، أو أيضًا بمناسبة دراسة قضية خاصة في مجلس الوزراء، أو أيضًا خلال الاجتماع السنوي للإطارات العليا. وفي هذا الإطار، تتخذ الهجمات على رجال سياسة الشكل «التكنوقراطي» لتقرير أعده ديوان رئاسة الجمهورية، ويقوم على حجج ترمي إلى جعل رئيس الدولة يرفض قرارًا، أو فكرة، أو عملًا محددًا يقترحه عضو الحكومة المستهدف. وأحيانًا يفتعل الأمين العام اجتماعات ضيقة في رئاسة الجمهورية، برئاسة رئيس الدولة، تضم ثلاثة أو أربعة وزراء لنقاش مسألة تتعلق بإدارة وزير محدد مرشح لزعزعة وضعه. وغالبًا ما يشكل هذا النوع من الاجتماعات فرصة للرئيس الشاذلي للتعبير عن انتقادات دقيقة جدًا (أعدها الديوان) تتعلق بجانب خاص جدًا لتسيير الوزير المعنى (لشئون وزارته). وفي هذا السياق، يَحْسُن توضيح الفرق بين مقاربة رئيس الدولة ومقاربة ديوانه. فبالنسبة للرئيس الشاذلي، الصادق وسليم النية، كان المقصود هو جعله يتخذ تدابير ملائمة لتحسين تسيير وزارته، أما ديوان الرئيس فكان يقصد مناوشة الوزراء
..............................................
(1) ولد العربي بلخير، وهو ابن قائد، عام 1938 في ناحية تيارات. ودرس في مدرسة أولاد قوات الجيش الفرنسي. وبين عام 1958 (الذي انضم خلاله إلى جبهة التحرير الوطني في تونس، ثم إلى جيش التحرير الوطني على الحدود الجزائرية- التونسية) وعام 1962، لم يطلق رصاصة واحدة على القوات الاستعمارية الفرنسية، فهو من عائلة مشهورة بارتباطاتها الخاصة بفرنسا.
170
المستهدفين للتسبب برحيلهم أو بانضوائهم تحت لوائه. وهجمات كهذه تتواصل بانتظام على مدى سنوات إلى حين يتم إبعاد الأشخاص المستهدفين أو على الأقل حتى إفقادهم اعتبارهم لأن هذه الهجمات «المدعومة بالحجج» والمتكررة تقنع الرئيس الشاذلي في الاخير بأن الوزراء المتهمين ليسوا على مستوى المسئولية. وكانت إحدى التقنيات التي استخدمها الديوان أيضًا في إضعاف بعض أعضاء الحكومة، أو تثبيط هممهم عن طريق رفض ما يطلبونه من إمكانات بشرية أو مادية.
وإجمالًا، يتخلص عمل ديوان الرئاسة، من جهة، بترقية إطارات موالية له، في كل الاتجاهات وعلى كل المستويات، ومن جهة أخرى بالقيام بحملة اغتيابٍ ونيَّة إيذاء منظمةٍ ضد من لا ينتمون لعصبته أو يرفضون وصايته. وعمل الهدم هذا يتم تحت ستار تقارير «تقنية» وملفات معدَّة «بإتقان» و«نصائح» تتعلق بمسائل محددة تقدَّن بانتظام إلى رئيس الدولة.
وفي هذا الصدد، من المهم التذكير بأن ثمة فرقًا أساسيًا بين أسلوب بومدين في الحكم وأسلوب الشاذلي. فلقد كانت فترة بومدين تتصف بالسلطة الفردية وتقديس الشخصية. كانت لبومدين رؤية واضحة للسلطة، وهو لم يكن يهتم إلا بالوجوه الأساسية للنشاط الحكومي. كان يترك لوزرائه حريتهم الكاملة في التصور والعمل ولم يكن يتدخل أبدًا في تفاصيل التسيير اليومي لوزارتهم. وكان يستند إلى الجيش وشتى مصالح الأمن لتوطيد سلطته، متحاشيًا إشراكها في قراراته ومبعدًا إياها عن النشاطات السياسية الرئيسية. لقد كان بومدين يتخذ مواقف للتاريخ. فعلى الصعيد الداخلي كان طموحه هو أن يعتبره التاريخ قائدًا عظيمًا جدًا، إذا لم يكن أعظم قيادي عرفته الجزائر. وعلى الصعيد الدولي، كان يتمنى أن يفرض نفسه كزعيم لا جدال فيه للعالم الثالث.
أما الشاذلي بن جديد فكان ذا شخصية مختلفة تمامًا. لم يكن صاحب إيديولوجيا كما لم يكن واضع استراتيجيات، وبالتالي لم يكن لديه طموح خاص تجاه بلاده ولا من بابٍ أوْلَى حيال باقي العالم. كان يبدو بالأحرى إنسانيًا، وبسيطًا، ومسترخيًا ومنشغلًا بالقضايا اليومية لبلده الذي كان يريد تحسين وضعه الاقتصادي والاجتماعي. لكن لما كان براغماتيًا ومهتمًا بما هو ملموس، وواقعيًا، لم يكن لديه يومًا طموحٌ لتسوية كل مشكلات الجزائر، كما كان يحلم بومدين، ولم تكن لديه رؤية كلية ومتماسكة لمتطلبات التنمية بل بالأحرى رؤى مبتورة وجزئية.
171
2- مرحلة جانفي (كانون الثاني) 1984- ديسمبر (كانون الأول) 1988:
لما كان الشاذلي بن جديد تكتيكيًا بالأحرى، سرعان ما استهوته السلطة، وعلى عكس بومدين الذي كان يمسك شخصيًا بكل خيوط السلطة، كان بن جديد يعتقد أن في وسعه توطيد سلطته عن طريق التحرر من بعض صلاحياته الدستورية وتحويلها إلى حاشيته المباشرة، لا سيما منذ جانفي (كانون الثاني) سنة 1984.
أ- عصبة بلخير:
إذ أوكل الرئيس الشاذلي إلى معاونيه الأقربين، ولا سيما العربي بلخير، مهمة سياسية تتخطى كثيرًا صلاحياتهم الإدارية، كان قد نصب فخًا لنفسه. ولم يكن يساوره أي شك في ذلك لأنه كان يفرط بالتحديد في الثقة بالعربي بالخير. وقد استفاد هذا الأخير من هذه الثقة فانكب على التوطيد التدريجي لمواقع عصبته في كل المجالات وفي أعلى المراتب الممكنة. وبتفويض من رئيس الدولة، بات يهتم عمليًا بوزارات الدفاع، والداخلية، والإعلام، والثقافة ومجمل مصالح الأمن، في الوقت نفسه الذي كان يشرف فيه على وزرات كالمالية، والتجارة، ... الخ، كما على شركات وطنية توصَّل إلى فرض تعيين مديريها العامين. وهذا العمل الهائل لم يكن يقوم به منفردًا، بل كان شغل عصبة بكاملها تعتمد على إطارات وتكنوقراطيين موالين لها.
منذ جانفي (كانون الثاني) سنة 1984، نجح في عزل الرئيس الشاذلي عن الوزير الأول، ورئيس المجلس الشعبي الوطني، والمسئول عن الأمانة الدائمة لجبهة التحرير الوطني، التي كان رئيس الدولة أمينها العام. وليقوم بلخير بعمله بكل طمأنينة، كان يشغل الشاذلي بن جديد بقضايا دولية وتفاصيل سلبية مرتبطة بالتسيير اليومي لوزارات، أو شركات وطنية، أو ولايات أو سفارات كان يريد التخلص من المسئولين عنها، مع الحرص التام على إخفاء الحماقات والقرارات البلهاء الصادرة عن وزراء وموظفين كبار قريبين منه. وكان يعد لهذه الغاية «ملفات» وإضبارات. بدليل أن الرئيس الشاذلي كان يهتم، في «توجيهاته» عند نهاية أعمال مجلس الوزراء، بالإشارة إلى بعض النواقص التي اكتشفها بنفسه هنا أو هناك، مؤنبًا الوزراء المعنيين وطالبًا منهم ألا تتكرر حالات كهذه. وقد كان الأمر يتعلق أحيانًا بآلتين أو ثلاث للأشغال العامة جرى تجميدها عدة أيام على حافة الطريق قرب دالي إبراهيم (في ضاحية الجزائر الجنوبية)، وأحيانًا بطلاب أرسلتهم وزارة التعليم العالي لمتابعة الدراسة في الخارج في حين أنهم لا يستوفون الشروط المطلوبة، مقدِّمًا لتدعيم رأيه إحصائيات بخصوص طلاب «غير مواظبين». وفي حالات أخرى، كان يشير إلى أن باصًا (للشركة
172
الجزائرية للنقل العام) يستخدمه سائقه لغايات شخصية للعودة إلى بيته مساءً، .... الخ. أو أنه كان يوبِّخ هذه الوزارة أو تلك لأن بتصرُّفها تعاونية استهلاكية يأمر حالًا بإقفالها بحجة أن فيها كل المنتجات، في حين يعاني البلد نقصًا مزمنًا في السلع الاستهلاكية، .... الخ.
لقد كان (بلخير) يعد لهذه الغاية «ملفات» وإضبارات. وكان يعطي هكذا انطباعًا لرئيس الدولة أنه مطَّلع على كل شيء، وأن هذه اليقظة هي في خدمة رئيس الجمهورية ودليل على الإخلاص له.
كانت ثقة بن جديد ومساندته قد أتاحتا له توسيع دائرة نفوذه ونفوذ عصبته (حزب فرنسا) لتشمل حزب جبهة التحرير الوطني، والمنظمات الجماهيرية والمجلس الشعبي الوطني. وكان يُقحم ممثلي مصالح الأمن (الأمن العسكري)، والمديرية العامة للأمن الوطني، والدرك الوطني) في اختيار أعضاء اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني (بمناسبة المؤتمرات المختلفة) التي كانوا يتحكمون بالاشتراك معه في اختيار ما بين 55 و60 بالمائة من أعضائها. كما أن مصالح الأمن كانت تُشرك في اختيار مرشحي جبهة التحرير الوطني إلى الانتخابات التشريعية. وقد أعطت هذه الظاهرة، غير المعروفة في عهد بومدين، هيمنة سياسية لم يكن لها مثيل في تاريخ البلد منذ الاستقلال لكل من الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية ومصالح الأمن.
لقد نجح بلخير، فيما كان يواصل استراتيجيته المتمثلة في إنهاك خصومه، في توسيع دائرة النفوذ ذي التوجه الفرنسي على مَرِّ السنين.
ب- عصبة حمروش (2):
(1) صعود حمروش السريع: كان مولود حمروش مسئولًا عن مصالح التشريفات في رئاسة الجمهورية ما بين عامي 1977 و1983، ثم رقِّي إلى منصب أمين عام للحكومة في جانفي (كانون الثاني) 1984، فإلى منصب أمين عام للرئاسة في عام 1986.
..........................................
(2) التحق مولود حمروش بالمقاومة في عام 1958 في الرابعة عشرة من العمر. ونظرًا لصغر سنه، جرى إرساله في الحال إل تونس. وهناك أدخله شقيقه البكر محمود، الذي كان محررًا في صحيفة المجاهد الناطقة بالعربية بلسان جبهة التحرير الوطني، إلى مراكز تكوين مهني لبعض الوقت قبل إرساله إلى الأكاديمية العسكرية في بغداد (العراق)، وقد عاد إلى الجزائر بعد الاستقلال برتبة ملازم واختار الالتحاق بالدرك الوطني، موقع نفوذ «الحزب الفرنسي»، وكان آنذاك بقيادة أحمد بن شريف، «الفار» هو أيضًا من الجيش الفرنسي. وبين عاميْ 1977 و1983، شغل وظيفة رئيس مصالح التشريفات الرئاسية خلفًا لعبد المجيد علاهم، «الفار» من الجيش الفرنسي الذي عُيِّن أمينًا عامًا لرئاسة الجمهورية في عام 1977.
173
خلال تلك الفترة الواقعة بين عاميْ 1984 و1988 بدأ حمروش، القريب جدًا من مصالح الأمن ولاسيما من الهادي خذيري مسئول المديرية العامة للأمن الوطني آنذاك، يعمل لحسابه الشخصي لمضي إلى أبعد حد ممكن. وبما أنه كان يحركه طموح لا حدود له يتخطى قدراته الفكرية والسياسية الذاتية، نسج تحالفات مع عصبة داخل جبهة التحرير الوطني وبعض الشخصيات السياسية، واستخدم معارفه في الحكم للحصول على دعم فرنسا. وحتى إذا كانت عصبتا بلخير وحمروش معروفتين بتحزبهما الضيق وبتوجههما الفرنسي المعلن، لم يكن بالإمكان الخلط بينهما. فهما مختلفتان في التكتيك والطرق المستخدمة للتأثير في خيارات رئيس الدولة وقراراته في اتجاه طموحاتهما الذاتية.
كان حمروش مناضلًا مقتنعًا بالاشتراكية منذ حداثة سنه ونصيرًا شرسًا للتصنيع، لكنه اهتدى أخيرًا إلى الليبرالية حين أيقن أن الخيار الليبرالي العزيز على قلب الرئيس الشاذلي بات محسومًا. وكانت كل من العصبتين تسعى لتوطيد موقعها الخاص قدر المستطاع فيما تحلم بوظائف أعلى، بل بأعلى الوظائف الممكنة.
بين عاميْ 1984 و1986 سيَّس حمروش الأمانة العامة للحكومة بأن نصَّب نفسه رقيبًا يخطب ودَّه الوزراء المهتمون برؤية مشاريع قوانينهم أو مشاريع مراسيمهم تحظى بموافقة مصالح الأمانة العامة للحكومة، التي كانت تلك هي مهمتها الرئيسية. وكان تكتيكه، بوصفه أمينًا عامًا للحكومة، يقوم على البروز عن طريق شلِّه بصورة انتقائية وذاتية عمل الوزراء الذين يقدمون لمصالحه مشاريع قوانين لإبداء الرأي فيها قبل دراسة الحكومة لها والموافقة عليها، أو مشاريع مراسيم قبل توقيع رئيس الدولة عليها ونشرها في الجريدة الرسمية. وكان يريد أن يظهر فضلًا عن ذلك، في نظر الرئيس الشاذلي، كحارس للدستور والقوانين والتنظيمات في البلد، وأن يقدِّم نفسه هكذا كــ «تقنوقراطي» يحترم القوانين. كان يحتجز أو يمرِّر، على هواه، مشاريع النصوص التشريعية أو التنظيمية وفقًا للتحالفات. فمن من الوزراء يقاومون طموحه يستهدفهم ويصبحون مرشحين للزعزعة. وهكذا توصّل لكسب دعم بعض الوزراء في تلك الفترة. وفي هذا الصراع الخفي كانت شراسة هجماته غير المبرَّرة والحاقدة على الوزير الأول تتخطى الإدراك. ويجب الاعتراف بأنه لم تكن تنقصه الوقاحة. فقد كان يتدخل في حالة ملفات ليس مؤهلًا إطلاقًا لإبداء رأيه فيها، وذلك بصفاقة كانت تساعده كثيرًا لدى الرئيس الشاذلي. فقد كان هذا الأخير يظن أنه وجد في حمروش الضالة المنشودة التي يمكنه أن يوكل إليها المهام. هكذا بعد أن اقتنع الرئيس الشاذلي بإخلاصه، واستقامته و «كفاءتــــه»، رقاه أخيرًا بتعيينه في المنصب الاستراتيجي للأمين العام للرئاسة في عام 1986.
174
وخلال الفترة ما بين عاميْ 1986 و1988، انتقل حمروش إلى السرعة القصوى بتحضير نفسه من دون وازع لمنصب وزير أول يعبِّد طريقه إلى انتخابات رئاسية محتملة. كان تكتيكه يتمثل في الاعتماد على الأجهزة: مصالح الأمن، جهاز جبهة التحرير، المنظمات الوطنية، الوزارات الاستراتيجية، ... الخ. من دون إهمال الاتصالات غير الرسمية والخفية في اتجاه فرنسا. ولقد أقام علاقات خاصة بأشخاص قريبين جدًا من الرئيس الشاذلي، وحتى بأهله وأهل زوجته، في حين أنه ليس لهؤلاء وظائف رسمية بالضرورة.
كان يستند، على مستوى الرئاسة، إلى مجموعة من المستشارين الذين وظَّفهم في البدء العربي بلخير، والمقصود من عبد الوهاب بنيني (أبحاث علمية وتقنية)، ومحمد بو خبزة (عالم اجتماع)، وغازي حيدوسي (اقتصادي)، وعلي الأعور (نقيب سابق لمحامي الجزائر العاصمة)، وأحمد ونجله (قاضٍ سابق). وقد نفخهم بلخير، واعدًا إياهم حين تم تعيينهم بألا يكونوا مسئولين إلا تجاه رئيس الدولة. وإذا استثنيا بنيني والأعور، وهما نزيهان جدًا وفي منتهى الكفاءة (ولم يكونا فضلًا عن ذلك متحمسين للالتحاق بالرئاسة)، كان المستشارون الجدد مغتبطين بمراكزهم بانتظار أن يصبحوا وزراء.
استمال حمروش معظم أعضاء هذه المجموعة من المستشارين وشرع يعد مناورات كبرى للضغط على الرئيس الشاذلي لإحداث تغييرات لصالحه. وهذه العصبة لم تحركها يومًا إرادة تغيير للمنظومة أو للسياسة، ولا إرادة فعلية للقيام بإصلاحات، كما لم يحركها أيضًا أي اهتمام بتحسين وضع البلد الاقتصادي والاجتماعي على أساس المصلحة العامة، كما سنبيِّن بعد قليل. لقد حددت لنفسها كمهمات: إعداد قرارات رئيس الدولة، وتقويم عمل المسئولين عن القطاع العام وتعزيز الرقابة. والإصلاحات التي شرعت فيها، في الفترة ما بين عاميْ 1980 و1982، وزارة التخطيط، استأنفتها عصبة حمروش لكن ليس عن قناعة بل لتجعل منها تجارة سياسية، إذ أن الرئيس الشاذلي كان يصر عليها بشكل خاص.
وفي جانفي (كانون الثاني) عام 1984، بعد تعييني وزيرًا أول بأيام قليلة، طلب مني الرئيس الشاذلي أن أعدّ له مشروع يرمي إلى توسيع صلاحيات الوزير الأول، المكلف حتى ذلك الحين بشكل أساسي بتنسيق العمل الحكومي وبمتابعة قرارات مجلس الوزراء. فدعوت حمروش، الذي كان آنذاك أمينًا عامًا للحكومة، للاشتراك مع الوزير الأول في إعداد مشروع المرسوم هذا، تطبيقًا
175
لتوجيهات رئيس الدولة، فرفض مؤكدًا أن مبادرة من هذا النوع ليست دستورية. وبما أني كنت أعي دور حمروش العدائي، أبلغت الرئيس الشاذلي عندئذٍ بتشكيل مجموعة عمل في رئاسة الحكومة لإعداد مشروع المرسوم المشار إليه تحاشيًا لرفضه حين يسلم النص إليه لتوقيعه. وقد تفاجأت حين أجابني الرئيس الشاذلي –وقد عبأه حمروش- بأن مسعىً كهذا، مخالفًا للدستور، إنما يرمي إلى تجريده من صلاحياته. وحين ذكَّرته بأن هذه كانت رغبته التي عبر عنها خلال إحدى جلسات عملنا قبل وقت قصير، رد بلهجة جافة بأن ذلك مخالف للدستور.
(2) إعداد قرارات رئيس الدولة: ومنذ ولاية الشاذلي الأولى، كلف الوزير الأول بمهمة إعداد قرارات مجلس الوزراء. ومنذ عام 1977، ينظم الوزير الأوّل لهذه الغاية مجالس وزارية يشارك فيها فقط وزراء معنيون بجدول الأعمال. وحين يتعلق الأمر بملفات مهمة من مثل إعداد الخطة السنوية، وقانون الموازنة أو سياسة الأجور.. الخ، يدعو الوزير الأول كل الوزراء وأمناء الدولة لنقاشها قبل أن تُدرس في مجلس الوزراء، برئاسة رئيس الدولة. ومنذ عام 1986، يجدِّد حمروش بإرساله معاونيه إلى المجالس الوزارية لتمثيل رئاسة الجمهورية. وقد كان هذا التجديد يتيح لعصبة حمروش أن تحول مركز قرار الوزراء إلى الرئاسة، وشيئًا فشيئًا، مستقويًا بثقة رئيس الدولة، بات الأمين العام للرئاسة الممر الإلزامي الذي تسوّى فيه بسرِّيةٍ، وخلال اتصالات غير رسمية، ملفات العديد من الوزارات، خارج المجالس الوزارية ومن وراء ظهر الوزير الأول، وغالبًا في تعارض مع برنامج الحكومة الذي تبناه مع ذلك مجلس الوزراء. وهذا النظام الجديد لا يرتكز على رؤية متماسكة، ولا على مقاربة إجمالية لتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلد، بل يهدف لإعطاء رئيس الدولة انطباعًا بأنه محاط بــ «فريق» من المستشارين الكفوئين، العارفين بكل شيء، والمبادرين دائمًا إلى تسيير الملفات والمهتمين بإعطاء الجمهورية دورها المركزي في القرارات التي تتخذها الحكومة. ويلجأ بعض المستشارين إلى لعبة صبيانية ويستمتعون بأن يحضِّروا لمجلس الوزراء قرارات غير متوقعة لمفاجأة الوزراء المعنين وإثارتهم. وهذه اللعبة تغذيها عصبة حمروش لمداعبة غرور الرئيس الشاذلي بتذلل. وبوصفهم تقنوقراطيين متعجرفين، يملكون الحقيقة، ومقتنعين بأنهم لا يمكن أن يخطئوا أو يسيئوا التصرف، يحاولون تأليب الرئاسة ضد بعض المسئولين. وإذ يتطلع أعضاء هذه العصبة إلى مناصب وزارية، يكافحون لزعزعة الحكومة (3)، وشعارهم
...........................................
(3) يحسن التذكير في هذا السياق بأنه جرى تعديلان وزاريان في عاميْ 1986 و1987 من دون علمي، في حين كنت في زيارة رسمية في الخارج.
176
أترك مكانك لأحل فيه». وتريح تصفية الحسابات السياسية الرئيس الشاذلي في دوره كسيد للعبة وحَكمٍ أخير، إلا أنها تساهم في تدنيَّ قيمة الوظيفة السياسية المفترض أن تكون في خدمة الصالح العام لا في خدمة العُصب، وفي إفقاد الدولة ومؤسساتها صدقيتها.
كان التعطش للسلطة لدى هذه العصبة ورؤيتها الكليانية يدفعانها للتوسع بتدخلاتها إلى خارج الدائرة الحكومية، على مستوى المسؤولين الاقتصاديين والتقسيمات الإدارية للبلد (collectivités locales) (4). إن «ندوة التنمية» (5) المعدّة لتقويم مسؤولي القطاع العام ينظمها رئيس الجمهورية كل عام وكانت تشكل بالنسبة لعصبة حمروش فرصة مثالية لإظهار حماسهم لرئيس الدولة ومعرفتهم التامة بوضع المنشآت العامة والولايات.
(3) تقويم مسؤولي القطاع العام: إن تعزيز الأمين العام لرئاسة الجمهورية رقابته في كل الاتجاهات يبعده للأسف عن قضايا البلد الاستراتيجية وملفاته الأساسية، إذ إن استراتيجيته الوحيدة هي تعزيز ثقة رئيس الدولة فيه للمضي أبعد أيضًا، نحو قمة السلطة. ولقد كانت عصبة حمروش تنمي روح الوشاية لهذا الغرض، فكل الوسائل صالحة لجمع المعلومات باستمرار حول الجوانب السلبية لتسيير مسؤولي القطاع العام. إن الكثير من الطاقة مخصص حصرًا لتجميع السلبيات لكن بطريقة انتقائية تستهدف الضحايا، وليس ذلك لمعالجة النواقص الملاحظة بهدف تحسين التسيير، بل لأجل إقصاء إطارات لم يتم كسب ولائها للعصبة، ولترقية أتباعها الصغار. يتم القيام باستقصاءات وأعمال مراقبة من شتى الأنواع في المنشآت العامة الصناعية والتجارية، والولايات، والمزارع «المسيرَّة ذاتيًا»، والدواوين، ... الخ، وذلك لإقصاء الإطارات المستهدفة من دون محاكمة. وهذه التنكيدات تلقى الكثير من التقدير في رئاسة الجمهورية حيث ليس ثمة اهتمام بالبحث عن حلول للمشكلات
............................
(4) في حالة الجزائر المقصود بها الولايات والبلديات (المعرّب).
(5) تجمع «ندوات التنمية» برئاسة رئيس الدولة حوالي 1200 من إطارات الدولة العليا. فبالإضافة إلى كل الوزراء، والأمناء العامين والمديرين المركزيين لكل الوزارات، يشارك في هذه الندوات المسؤولون المركزيون في حزب جبهة التحرير الوطني، ومسؤولو المنظمات الجماهيرية، كالاتحاد العام للشغيلة الجزائريين (UGTA)، والاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين (UNPA)، والاتحاد الوطني للنساء الجزائريات (UNFA)... الخ، وأعضاء مكاتب التنسيق في الولايات الـ48 (يتألف مكتب التنسيق من الوالي، والمسؤول المحلي لجبهة التحرير الوطني، ورئيس المجلس الشعبي للولاية وقائد قطاع الجيش)، وكل المديرين العامين للمنشآت العامة الصناعية والتجارية، وللمصارف، وشركات التأمين، ومؤسسات الخدمة العامة... الخ.
177
الاقتصادية والاجتماعية التي زاد من حدتها الهبوط المستمر لأسعار المحروقات منذ جانفي (كانون الثاني) 1986.
لقد أصبحت الاجتماعات السنوية المنظمة في «ندوات تنمية» برئاسة رئيس الدولة المكان المفضل بالنسبة لعصبة حمروش لتوطيد وضعها. فخلال تلك الندوات يتم تقديم تقارير عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الولايات، وعن وضع المصارف والمنشآت العامة الصناعية والتجارية (6). والتقارير عن المنشآت والولايات التي تستهدفها الأمانة العامة للرئاسة يعلّق عليها باستفاضةٍ الرئيس الشاذلي الذي في تصرفه لهذه الغاية إضبارات مفصَّلة أعدها مستشاروه: انتقادات مدعَّمة بالوقائع والأرقام لإبراز النواقص والثغرات في تسيير الولايات والمنشآت المرشح المسؤولون عنها للزعزعة. وبما أن هذه الندوات مذاعة ومتلفزة يكون لمداخلات الرئيس الشاذلي تأثير كبير، فهو يعطي الانطباع بأنه مطلع على كل شيء، ولا سيما على المشكلات التي تحرص على إخفائها تقارير المعنيين التي جرى عرضها من قبل. وفي كل مرة، يخرج من هذه الندوات مستمتعًا بأنه انتصر على الوزراء وعلى المسؤولين الاقتصاديين والإداريين الخاضعين لوصايته. وبالتأكيد، لا يحل ذلك أي مشكلة أساسية على أرض الواقع، لكن بعد كل ندوة يتهلل الفريق الرئاسي ويتلذذ علانيةً بانتصاراته الصغيرة. وبما أن الرئيس الشاذلي يتبنى بالكامل الحجج التي أعدها له «مستشاروه»، فإن ذلك يشكل في نظرهم دليلاً قويًا على ثقة رئيس الدولة، ويشدد ذلك عزيمتهم بانتظار أن يصبحوا وزراء ذات يوم.
إن هذا النظام البوليسي يساهم في توسيع شبكة المخبرين، وفي توطيد رقابة الرئاسة على كل قطاعات النشاط. هكذا فإن المسؤولين الذين لم يستهدفوا خلال «ندوة تنمية»، والسعداء لأنهم أفلتوا من عقاب السلطة، يمطرون لاحقًا الأمين العام للرئاسة تقارير ومعلومات من شتى الأنواع. وهم يساهمون هكذا في تعزيز الرقابة البيروقراطية على المنشآت العامة والولايات من دون أي تأثير في الوقائع الاقتصادية والاجتماعية المعيشة.
إن عصبة حمروش الواعية حقيقة المأزق الذي تورطت فيه، والتي يناصر كل أعضائها مع ذلك سياسة النفوذ، و«اشتراكية» الواجهة والتخطيط الممركز والبيروقراطي، معتمدين على عناصر سياسة اقتصادية غامضة ومشوَّشة بالأحرى، قد التحقت أخيرًا بالإصلاحات الاقتصادية التي أطلقتها في عام 1980 وزارة التخطيط بعد أن كافحتها على مدى سنوات.
...............................
(6) ترسل نسخة من هذه التقارير إلى الأمين العام للرئاسة، قبل تاريخ «ندوة التنمية» بشهر.
178
(4) مواصلة الإصلاحات الاقتصادية:
سياق الإصلاحات: حدّدت الخطة الخمسية (1980-1984) الإصلاحات الاقتصادية على مستويين، أحدهما تكييف البنية القطاعية للاستثمارات بهدف إصلاح الاختلالات بين القطاعات والاختلالات الجهوية الملاحظة خلال الفترة السابقة، والثاني إعادة توازنات الاقتصاد العام والتوازنات الخارجية وإعادة تنظيم الاقتصاد.
إعادة التوازنات في النمو: كانت خطة (1980-1984) التي حدد توجهاتها المؤتمر الاستثنائي لحزب جبهة التحرير الوطني في جوان (حزيران) عام 1980 قد وُضعت لتكون خطة متوازنة (خلافًا للماضي)، تشدد على اقتصاد الموارد النادرة وتحسين إنتاجية العمل في مجمل قطاعات النشاطات الاقتصادية. كان على الخطة أن تعيد بشكل إجمالي على الأقل التوازنات ما بين القطاعات، بين الزراعة المروية والصناعة، والنشاطات الإنتاجية والبنى التحتية من جهة، والاقتصاد والمجتمع من جهة أخرى. ونحن نعتقد أنها نجحت في ذلك.
إعادة تنظيم الاقتصاد: كانت الخطة الخمسية (1980-1984) تشدد على الجوانب التنظيمية لمكافحة الخلل في اشتغال الاقتصاد وإزالة الضغوط المتعرَّض لها خلال الفترة السابقة، وذلك عن طريق إعادة هيكلة المنشآت، وإصلاح أدوات تأطير الاقتصاد فضلاً عن تشجيع القطاع الخاص ودمجه في سياسة التنمية الإجمالية لوضع حد لتهميشه.
لقد اصطدم تطبيق الإصلاحات المرتبطة بإعادة تنظيم الاقتصاد بمقاومة شديدة على مستوى الأجهزة، حيث الشفافية مستبعدة، وعلى صعيد جهاز حزب جبهة التحرير الوطني، حيث جرى اعتبار تلك الإصلاحات إعادة نظر في خيارات عهد بومدين الأيديولوجية. انتشرت إشاعات وشعارات عدائية وعقيمة في آن معًا، وتمت تغذيتها على مدى سنوات لتثبيط عزيمة الإصلاحيين وتحطيم كل مسعى إصلاحي، لا سيما ذلك المتعلق بإعادة هيكلة المنشآت.
غير أن إعادة تنظيم المنشآت العامة كانت تتمثل في إصلاح لِبُناها لتحسين فعالية تسييرها، وإصلاح ماليتها، وتشجيع المبادرة الخلاقة لأجهزتها ووحداتها، فضلاً عن تشجيع اللامركزية والاستقلال الفعلي ومسؤولية الإطارات والشغيلة (7).
...........................
(7) لمزيد من التوضيحات بخصوص الإصلاحات المرتبطة بإعادة تنظيم الاقتصاد، انظر:
Abdelhamid Brahimi, Stratégies de développement pour l'Algérie: Défis et enjeux (Paris: Economica, 1991), pp. 282-300.
179
إعادة هيكلة المنشآت: لقد بدأت بإعادة هيكلة المنشآت عضويا اللجنة الوطنية لإعادة الهيكلة، برئاسة وزير التخطيط، في فيفري (شباط) عام 1981، واختتمتها في نهاية عام 1982. كان عدد المنشآت العامة قد ارتفع من 150 تقريبًا في عام 1980 إلى 480في عام 1983، تضم 2079 وحدة. ولقد تمت إعادة التنظيم هذه لتشجيع لا مركزية المنشآت، والشفافية في التسيير، فضلاً عن تحفيز الإطارات والشغيلة وإطلاق روح المبادرة لديهم. ولقد تمت إعادة الهيكلة المالية بين عامي 1983 و1987 بهدف إزالة الاختلالات المالية الهيكلية للمنشآت.
ولقد سجلت إعادة الهيكلة العضوية والمالية هذه في المنشآت العامة نتائج إيجابية جدًا، كما توضح ذلك الأمثلة التالية:
- نتائج الاستغلال الصافية: إن تفحُّص هذه الثابتة (Paramétre) التي تقيس فعالية تسيير المنشأة يتيح أن نؤكد أن المنشآت العامة نجحت، عمومًا، ما بين عامي 1982، 1987، إما في عكس الاتجاه السابق المتمثل في مراكمة حالات عجز في الاستغلال، عن طريق تحقيق أرباح مهمة، أو في الحد كثيرًا من مستوى حالات العجز.
- الوضع المالي: لقد تحسّن عمومًا وضع المنشآت العامة المالي، وأتاح ذلك توطيد استقلالها المالي.
- باستثناء حالة المحروقات، زاد الإنتاج الداخلي الخام بنسبة 15.6 بالمئة سنويًا بين عامي 1983 و1987 مقابل 10.7 بالمئة سنويًا خلال الفترة (1979-1982).
- بلغ معدل استخدام الطاقة الإنتاجية متوسطًا وطنيًا هو 80 بالمئة في عامي (1984-1985) مقابل 40 بالمئة قبل عام 1979.
- عرفت إنتاجية العمل نسبة نمو سنوية أعلى من 6 بالمئة، وبلغت 6.86 بالمئة في عام 1987 مقابل 2 بالمئة سنويًا في الفترة ما بين عامي 1967 و1978.
إلا أن تعييني وزيرًا أول وإحلال نصير للنظام القديم مكاني في وزارة التخطيط ساهما في إبطاء الإصلاحات الاقتصادية. ولقد شجعت هذا التباطؤ أيضًا الانتقادات الهدّامة والتشهير بهذه الإصلاحات من طرف حمروش وحيدوسي ومن لف لفّهما حتى عام 1985. ولقد استمرت حتى يومنا هذا (مارس (آذار) 2000) هجمات غير مبررة ضد هذه الإصلاحات وضد شخصي نظمتها مصالح الأمن فضلاً عن مسؤولين
180
تصنيعيين قدامى من أيام بومدين. وهذه الهجمات، غير المثبتة والتي لا أساس لها من الصحة، هي هجمات ذاتية وسياسية أكثر مما هي تنظيمية وتقنية.
هذا وفي عام 1986، ولأجل إعادة الحيوية لتطبيق الإصلاحات، أنشأت لجنة وطنية مكلفة بمواصلة الإصلاحات الاقتصادية عيَّنت أنا شخصيًا مركزها في مقر رئاسة الجمهورية بموافقة رئيس الدولة، لجعلها بمنأى عن هجمات محتملة من طرف حاشية الرئيس الشاذلي (8). وخلال تولية تلك اللجنة، حددت لها بصورة ملموسة خطوط عملها العريضة، وأهدافها والمراحل التي ستمر بها (9).
(5) وضع عصبة حمروش يدها على الإصلاحات: بما أن السباق إلى السلطة تسارع في محيط الرئيس الشاذلي، فإن حمروش، الذي كان آنذاك أمينًا عامًا للرئاسة، وضع يده بكل بساطة على هذه اللجنة، التي ترأست أعمالها على مدى عدة أسابيع. باتت النواة الصلبة التي تؤطر بعد الآن أعمال هذه اللجنة مؤلفة من مولود حمروش، ومحمد الصالح محمدي الأمين العام للحكومة، وغازي حيدوسي، المستشار في الرئاسة، ومحمد الصالح بلكحلة، المفوَّض في التخطيط.
إن لجنة الإصلاحات الاقتصادية، التي سُحبت من الوزير الأول، باتت عصبة حمروش تستخدمها لغايات سياسية بالتحديد. إن هذه العصبة التي استقلت قطار الإصلاح خلال سيره بعد أن عارضته سنوات طوالاً، جعلت منه مشروعًا تجاريًا وراق لها أن تطلق على نفسها صفة «المُصْلِحة»، ولاسيما حين حققت أحد أهدافها الرئيسية بتعيين حمروش وزيرًا أول وترقية بعض أعضاء اللجنة إلى مناصب وزراء في سبتمبر (أيلول) عام 1989، كما سنرى لاحقًا.
بانتظار ذلك، استخدمت عصبة حمروش كل الوسائل لتجعل من الرئاسة مركز المراقبة البيروقراطية لمجمل النشاطات، بحيث يكون أفرادها في أفضل المواقع في السباق إلى السلطة. وما هو شاذ في هذه الرقابة الأخطبوطية أنها أفضت إلى وضعيات عبثية نظرًا للطابع البوليسي، والإداري، والمركزي لمقاربة هذه العصبة. ويشهد على
.........................
(8) منذ بداية عبوري في الوزارة الأولى، في جانفي (كانون الثاني) 1984، لاحظت أن حاشية الرئيس الشاذلي تقف ضد بعض مبادراتي بهدف تجميدها. والأخطر من ذلك أن بعض الهيئات المنشأة بمرسوم وقعه رئيس الدولة كمفوضية الطاقة النووية ومفوضية تنظيم المنشآت، والموضوعة تحت وصاية الوزير الأول سرعان ما تعرضت لهجمات متنوعة شنتها عصبة بلخير وعصبة حمروش. هاتان المفوضيتان الحقتا في ما بعد بلا قيد أو شرط برئاسة الجمهورية، بعد أشهر قليلة من وجودي في رئاسة الحكومة.
(9) كانت هذه اللجنة مؤلفة من حوالي عشرين من الإطارات العليا، من بينهم أحمد بن رحمون، والشاذلي حمزة، ومحمد الصالح بلكحلة، وغازي حيدوسي، ومحمد غريب، وإسماعيل غومزيان، وعبد العزيز قريشي، وفوزي بن مالك، فضلاً عن بعض المديرين العامين لمنشآت صناعية وتجارية كبرى.
181
ذلك هذا المثل البليغ الذي ذكره حيدوسي، العضو النافذ في العصبة، والذي حضر «اجتماعًا دام أكثر من ساعة في ديوان رئاسة (الجمهورية) كان موضوعه مدى ملاءمة نشر خبر عن حادث أوتوبيس» (10). ويا لها من ورطة! فكم من الطاقة يجرى تبديدها في مئات، بل آلاف الأمثلة من هذا النوع. إن فرز المعلومات المجموعة يُستخدم لكي يتم بصورة دقيقة اختيار ما يجب إيصاله إلى الرئيس الشاذلي. وكل شيء يُدرس جيدًا من قبل لكي لا يتم صدمه وإثارته ولجعله يتخذ قرارًا أو عقوبة تتفق مع رؤية العصبة. وكثيرة هي المعلومات المهمة التي لا تصله حين لا تخدم المشاريع السرية للعصبة. بالمقابل، يجري إشغال رئيس الدولة بأن يتم إبلاغه معلومات جديرة بأن يتبلغها ناطور. وعلى هذا الصعيد، تُستخدم التقنيات ذاتها التي يستخدمها العربي بلخير.
وبموازاة ذلك، استفادت عصبة حمروش من الفترة ما بين عامي 1986 و1988 لتحضير ما سيصبح برنامجها للحكم ولتعيين كل المناصب التي يجب أن يشغلها أتباعها سواء على المستوى الوطني أو على الصعيد القطاعي أو على المستوى الجهوي. وفي هذا الصدد، أخذ الأمين العام للرئاسة على عاتقه أن يُعِدَّ إضبارات الإطارات التي تتولى تنظيمها إحدى مديريات الأمانة العامة بهدف القيام بحركة إقصاء واسعة لإطارات غير موثوقة وترقية إطارات جديدة التحقت بالعصبة. هكذا اغتنت علبة إضبارات الإطارات بلائحة مهمة لإطارات مرشحة للتعيين توقعًا لتغييرات محتملة في الإدارة المركزية (الوزارات) والجهوية (ولاة، ورؤساء دوائر)، وفي المصارف، وفي المنشآت الصناعية والتجارية وشتى المصالح العامة، ويقوم اختيار الإطارات بدقة شديدة على أساس مقاييس الولاء والانتماء للتيار الفرنسي.
وإجمالاً، حتى إذا كان يبدو أن لبلخير وحمروش مقاربات مختلفة وأهدافًا متباينة، فهما كانا يحظيان كلاهما بدعم بعض الأوساط الفرنسية التي «لا تضع البيض كله في سلة واحدة»، كما رأينا في الفصلين الأولين.
لقد كان العربي بلخير يستند إلى الجيش ومصالح الأمن التي تتألف قيادتها ونواتها الصلبة من أعضاء قدامى في الجيش الفرنسي، ومن إطارات عليا ذات توجه فرنسي. وتتميز هذه العصبة بالوضوح. فأفرادها يفكرون بالفرنسية ويعملون في وضح النهار لأجل الحفاظ على حضور فرنسا الثقافي والاقتصادي في الجزائر، وهم جيدو التنظيم ويستهدفون السلطة. وقد حصلوا عليها بانقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992.
.......................
(10) Ghazi Hidouci, Algérie, la libération inachevée (Paris: La Découverte,
1995), p. 114.
182
أما مولود حمروش، ابن الشهيد، والمتحدر من عائلة مجاهدين، والذي كان قد انضم في مطلع صباه إلى جيش التحرير الوطني، فهو قد حصل على تكوين تعريبي. ولقد اكتشف «الحزب الفرنسي» حين التحق بالدرك، معقل الولاء لفرنسا (بالمعنى الاستعماري للكلمة) منذ أنهى دراسته العسكرية في العراق بعد الاستقلال. استخدم حمروش القبعة الوطنية وإتقانه اللغة العربية لتخدير جبهة التحرير الوطني وإظهار صورة معينة. وهو استند إلى أجهزة الدولة المدنية وواحدة من مصالح الأمن هي المديرية العامة للأمن الوطني. وفي الواقع، فإن قناعاته المعلنة (في كواليس السلطة) وأفعاله تندرج سياسيًا في موقع أنصار حزب فرنسا. وربما يفعل ذلك على سبيل التكتيك وبحساب سياسي، نظرًا للوزن المهم لحزب فرنسا في أجهزة الدولة، لأنه لا وسطه العائلي، ولا تكوينه الأساسي، ولا نضاليته المبكرة تعده لذلك.
لهذا السبب يبدو هذان الشخصان الأساسيان في محيط الرئيس الشاذلي متنافسين، في حين أنهما يتكاملان وينتميان للتيار عينه، حتى إذا كانت أمور كثيرة تفرَّق بينهما على الصعيدين التكتيكي والشخصي. كما أنهما يتمايزان بواقع أن بلخير لا يعمل لنفسه بل لعصبة، من ضمن منظور استيلاء فريق «الفارين» من الجيش الفرنسي على السلطة، في حين أن لحمروش استراتيجيًا شخصية. فهو يطمح لأن يكون ذات يوم رئيسًا للجمهورية.
في استراتيجيا بلخير لوضع يده على الجيش لصالح «الفارين» من الجيش الفرنسي، كان عليه أن يزيح بعض العوائق التي تؤخر وصول عصبته (إلى السلطة). وضمن هذا المنظور، لعب بلخير دورًا نشطًا جدًا لدى الرئيس الشاذلي لإحالة ضباط وطنيين إلى التقاعد قبل الأوان وترقية قدامى الجيش الفرنسي.
لقد كان إقصاء اللواء الركن مصطفى بلوصيف بين الضربات الأشد جرأة التي نجح بلخير في توجيهها.
ثانيًا: إقصاء اللواء الركن مصطفى بلوصيف
لا أحد يجهل أن مصطفى بلوصيف كان دائمًا موضع ثقة الشاذلي بن جديد. وهذا يرجع إلى عام 1957، حين التحق الطالب الشاب بلوصيف بالمقاومة حيث بدأ حياته العسكرية في الوحدات الموضوعة بقيادة بن جديد على الحدود الجزائرية-التونسية.
إن هذه الثقة التي يعيدها البعض إلى اعتبارات عائلية و/أو جهوية، بقيت
183
صامدة على مدى ثلاثين عامًا. فكيف نفسر القرار الذي اتخذه الرئيس الشاذلي بالانفصال عن محميَّه الدائم، اللواء الركن بلوصيف، الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس أركان حرب الجيش الاستراتيجي؟ كيف نفسر أن بلوصيف قد أحيل إلى التقاعد في عام 1987، في السابعة والأربعين من عمره، ثم «حوكم» وسجن في عام 1992 فقط، بعد الانقلاب، في حين أن المآخذ المأخوذة عليه رسميًا تعود إلى فترة (1980-1982).
1-«الاتهامات» الرسمية
في تقرير نشرته الصحافة الجزائرية في 27 مارس (آذار) عام 1992، تذرع الجنرالات العناصر القدامى في الجيش الفرنسي آنذاك بـ «التُّهم» الرسمية الموجهة ضد اللواء الركن المتقاعد مصطفى بلوصيف، لتبرير إدخاله إلى سجن البليدة العسكري. كانوا يتهمونه بـ «مصاريف غير قانونية انطلاقًا من المكتب العسكري في باريس، وبالحيازة غير الشرعية لممتلكات، وبالاستخدام الاحتيالي للأموال والقيام بتحويلات غير قانونية». وقد قدَّر مجموع هذه الأموال المختلسة بسبعين مليون فرنك فرنسي، كان قسم منها قد استخدم لشراء شقة في باريس وتأثيثها، بحيث تستقبل شخصيات جزائرية، بينما استخدم القسم الآخر لتمويل بناء فيلا في عنابة، ... الخ ويقال إن هذه الأعمال الجرمية قد تمت ما بين عامي 1980 و1982 ثم في عام 1984. حسنًا لكن لماذا تم الانتظار حتى العام 1992 لتوقيفه ومحاكمته؟ وهل يمكن أن يقال لنا كم من الجنرالات، والوزراء، والسفراء والولاة، والمدراء العامين للمنشآت العامة، ورؤساء المجالس البلدية الشعبية اختلسوا أموالاً عامة استخدموها في بناء فيلات وتأثيثها، وفي أغراض أخرى؟ هل يمكن أن يقال لنا كم من المسؤولين المدنيين والعسكريين حصلوا بصورة غير قانونية على عمولات بخصوص عقود استيراد، مقتطعة من أموال عامة بدون مقابل؟ وأين هم اليوم؟
مع ذلك، فالمبلغ المختلسة لا تُعَدّ ببضعة ملايين من الفرنكات الفرنسية بل بمليارات الدولارات، وفي متناول مصالح الأمن ملفات دامغة. فلماذا ليس من حق الشعب الجزائري أن يعرف الحقيقة، كل الحقيقة حول الفساد؟ لماذا جرى استهداف بلوصيف وحده في هذه الغابة من الفاسدين؟
ويحْسُن التذكير في هذا الإطار بأنه كان هناك، في بلدان رأسمالية كما في بلدان شيوعية، حالات فساد على مستويات مختلفة تورط فيها أحيانًا وزراء، لا بل رؤساء حكومات، جرى تقديمهم إلى العدالة وأدينوا. ولقد أبرزت الصحافة العالمية في
184
حينها حالات كهذه في اليابان، وفي فرنسا، وإيطاليا، وبلجيكا، والصين، والاتحاد السوفياتي السابق، وكوريا الجنوبية، ... الخ. وقد خرجت هذه البلدان من تلك المحاكمات رافعة الرأس، لأنها إذ تصرفت ضد الفساد بهذه الطريقة، أظهرت بذلك بالذات أنه لا أحد فوق القانون.
أما في الجزائر فيفضلون سياسة النعامة. فالجميع مطلعون على الفساد الذي يحدث أضرارًا وبيلة. لكن السلطات تتكتم عليه. أكثر من ذلك، حين ترتفع بعض الأصوات للتشهير بهذا الوباء بإبراز مدى اتساعه بالإحصائيات، كما فعلت أنا شخصيًا في مارس (آذار) عام 1990، نشهد معارضة عامة لا تتردد في نعتي بالخائن، لأني «شوهت سمعة الجزائر» (بحسب مصطلحاتهم) إذ تجرأت على إثارة مسألة كهذه علانية.
مع ذلك، فإن بيان نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 يحيل بصراحة إلى الصراع ضد الفساد. كما أن القانون يقمع الفساد. ومن حيث المبدأ، فالخارجون على القانون هم السارقون، فضلاً عن شركائهم وحماتهم. لكن ما يثير الفضول في النظام الجزائري هو أني أنا الذي فضحت الفساد علانية صرتُ خارجًا على القانون، لا بل ادعى علي أمام القضاء الوزير الأول لتلك الفترة وتعرضت لهجمات متنوعة من طرف رؤساء حكومات تعاقبوا في هذا المنصب بين عامي 1990 و1993 ومن طرف الصحافة (11).
وهذه الوقائع قد جرى التذكير بها لإيضاح السياق الذي لا يمثل فيه إقصاء اللواء الركن بلوصيف، الرفيق المخلص للرئيس الشاذلي، غير دسيسة شيطانية. ففي الواقع، إن إحالة بلوصيف إلى التقاعد في عام 1987، وكان آنذاك رئيسًا لأركان الجيش، وإبعاده عن المسرح السياسي، يشكلان مرحلة حاسمة (لبلخير وقدامى الجيش الفرنسي) سوف تفضي إلى إقصاء الشاذلي بين جديد بالذات.
وفي الواقع، إن الأدلة في «ملف» بلوصيف التي استخدمت لإقصائه، وتتضمن أشرطة فيديو مسجلة خلال زياراته الخاصة إلى باريس سلمها بلخير إلى الرئيس الشاذلي، لم تكن ثمرة عمل مصالح الأمن الجزائرية وحدها كما كان يراد أن يسود الاعتقاد، بل إن اليد الفرنسية ضالعة في الأمر. ولقد كانت إزاحة مصطفى بلوصيف
.............................
(11) في مقال نشرته المسار المغربي بتاريخ 30/4/1990، يعترف أ. بن مالك، على الرغم من أنه لم يكن لينًا معي في ما يخص ملف الفساد، بأنه «يصعب على الجزائريين أن يسلموا بأن الشخصيات العليا الأخرى في الدولة، الحاليين والسابقين، لم يكونوا على علم بالأمر [...] سوف يتساءلون حتى ماذا كانت تفعل، في غضون ذلك، مصالح الأمن، وهي سريعة جدًا فضلاً عن ذلك في سحب جوازات السفر أو إعداد إضبارات للمواطنين الذين «لا يروقون لها»، وهذا لكي لا ننتقل من التلميح إلى التصريح».
185
تندرج في الواقع في استراتيجيًا محددة، توَّجها انقلاب جانفي (كانون الثاني) عام 1992 الذي لم يزعج فرنسا التي تحججت بخطر «السلفية»، الناجم عن انتصار جبهة الإنقاذ الإسلامية (الفيس (Fis)) في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية التي جرت في 26 ديسمبر (كانون الأول) عام 1991.
2-دوافع الإقصاء
بديهي أن الصراع ضد الفساد والإثراء غير المشروع لم يشغل يومًا بال القادة الجزائريين، المدنيين أو العسكريين، منذ استقلال الجزائر. وإقصاء بلوصيف سياسيًا هو بالأحرى من باب تصفية الحسابات ويرمي بشكل أساسي لتحقيق هدفين:
- السيطرة على الجيش بانتزاع رئاسة الأركان العامة ووزارة الدفاع.
- الاستيلاء صراحة على السلطة.
إن تعيين مصطفى بلوصيف أمينًا عامًا لوزارة الدفاع في عام 1980، ثم رئيسًا للأركان العامة للجيش، في عام 1984، لم يلق الكثير من القبول من طرف العناصر القديمة في الجيش الفرنسي لأن ذلك كان يتعارض مع مشاريعهم الخفية. فعدا كونه يشكل عائقًا أمام تحقيق هدفهم المتمثل في الاستيلاء على السلطة، كان يضايقهم في تعيين الإطارات العليا لوزارة الدفاع وقادة الجهات العسكرية فضلاً عن ترقية الضباط. علاوة على ذلك، إذ كان يشرف على اشتغال الإدارة العسكرية، كان يزعج أحيانًا الشهوات والمصالح غير المعلنة لبعض الضباط، العناصر السابقين في الجيش الفرنسي، المهتمين بعقود ضخمة. وسوف نذكر في هذا الخصوص مثلاً موجبًا للعبرة لإبراز مدى جسامة تلك المساعي المدمَّرة.
ففي عام 1982، بصفتي رئيسًا مشاركًا للجنة المختلطة الجزائرية-الفرنسية للتعاون، وكنت آنذاك وزيرًا للتخطيط، علمت بأن الحكومة الفرنسية وفرانسوا ميتران بوجه خاص، وكان آنذاك رئيسًا للجمهورية، يقومان بهجوم مركَّز لبيع الجزائر تجهيزات عسكرية مرتبطة بـ «التغطية الجوية» لقاء 36 مليار فرنك فرنسي، أي ستة مليارات دولار في تلك الفترة. فلفتُّ انتباه الرئيس الشاذلي في الحال إلى عدم جدوى ذلك العقد الضخم للغاية، لاسيما أن البلد ليس مهددًا إطلاقًا بالعدوان الخارجي. فأراد رئيس الدولة تحييدي متذرعًا بأن ذلك ليس من اختصاصي ومذكرًا إياي بأن المسائل العسكرية ليست من صلاحية الحكومة. وبصفتي وزيرًا للتخطيط، مكلفًا بالتنسيق الاقتصادي، أصررت على قلة الموارد المالية للجزائر التي لا يمكنها أن تفي بالتزاماتها بموجب عقد من هذا النوع، ومواصلة سياستها التنموية في الوقت عينة.
186
وليحسم الموضوع، كان الجواب الوحيد للرئيس الشاذلي، وزير الدفاع، أنه ليس من حق الحكومة التدخل في هذه القضية. لم يعد هناك حوار ممكن حول هذه المسألة الخطيرة جدًا. وقد انتهيت إلى تنبيه العقيد مصطفى بلوصيف، الذي كان آنذاك أمينًا عامًا لوزارة الدفاع. ناقشنا بهدوء كبير دلالات ذلك العقد، وانعكاسه المالي وتأثيره السلبي على الاقتصاد الوطني.
وقد دامت المساومات بخصوص صفقة القرن هذه بين الجزائر وفرنسا سنتين من دون نتيجة.
وفي عام 1984، بعد أن صرت وزيرًا أول، علمت أن قيادة الجيش سلمت الرئيس الشاذلي، وزير الدفاع، للتوّ تقريرًا تقنيًا شاملاً يبرر رفض العرض الفرنسي. وقد استشاط العربي بلخير غضبًا، وانتقل إلى الهجوم المضاد محاولاً إقناع رئيس الدولة بأهمية هذا العقد ومناسبته للجزائر. وبعد وقت قصير، أرسل الرئيس ميتران جنرالاً (ملحقًا برئاسة الجمهورية الفرنسية) إلى الرئيس الشاذلي لأجل إحياء مسألة توقيع صفقة الستة مليار دولار. وقد حضر العربي بلخير المقابلة التي خصّ بها رئيس الدولة المبعوث الفرنسي الخاص. وقد أنهى الرئيس الشاذلي لقاءه بالجنرال الفرنسي بأن أعاد الطابة إلى مرمى اللواء الركن بلوصيف، وكان أصبح في غضون ذلك رئيسًا للأركان العامة للجيش.
حينئذ بالذات أقام العربي بلخير غداء عمل في فيلا لرئاسة الجمهورية على شرف الجنرال الفرنسي ودعا إليه اللواء الركن مصطفى بلوصيف. وخلال ذلك الغداء، كان الحديث يدور فقط حول عقد «التغطية الجوية» المشهور، الذي دافع عنه في الوقت ذاته الجنرال الفرنسي (وهذا طبيعي) والعربي بلخير، الذي كان آنذاك أمينًا عامًا للرئاسة، وبالتالي غير معني بهذا العقد إداريًا ومهنيًا، لكن حماسه واستبساله في هذه القضية لا يمكن تفسيرهما إلا بحوافز خفية. لكن بلوصيف، المحافظ على رباطة جأشه، برر رفض العرض الفرنسي مستندًا إلى حجج تقنية ومهنية. ولكي يُرهبه بلخير ويحاول انتزاع موافقة منه، أصر على أن الرئيس الشاذلي، وزير الدفاع، سبق أن أعطى موافقته على هذا العقد، وعلى أنه لا يمكنه، كرئيس للأركان، أن يستمر في معارضته. فكان جواب رئيس الأركان لاذعًا: «لقد سألتني وجهة نظري وأعطيتك إياها. وهذا هو رأي قيادة الجيش أيضًا، فإذا كنت تؤكد الآن أن الرئيس الشاذلي موافق، فما عليك إذًا أن تناقش هذه المسألة معي» (12).
......................................
(12) من محادثة مع اللواء الركن بلوصيف.
187
وعلى الرغم من شتى الهجمات التي شنَّها بلخير لتمرير هذه الصفقة قسرًا، تغلب في الأخير اللواء الركن بلوصيف، بدعم من بعض الجنرالات، وهكذا دُفنت صفقة «القرن» من الأسلحة، آخذةً معها مشاريع قدامى الجيش الفرنسي وأحلام القوى الخفية المرتبطة بهذه الصفقة.
لكن العربي بلخير لم يغفر أبدًا لمصطفى بلوصيف موقفه من هذه الصفقة ومن أمور أخرى كثيرة فضلاً عن ذلك. وفرنسا المحبطة والتي كان ميزانها التجاري يتعرض آنذاك لعجز بنيوي، ناهيكم عن أنها كانت تتمنى دائمًا إعادة الجزائر إلى أحضانها ذليلة خانعة، فرنسا هذه كانت مقتنعة أكثر من أي وقت مضى بمواصلة استراتيجيتها المتمثلة في ضمان حضورها السياسي والثقافي والعسكري في الجزائر، بواسطة جزائريين موالين لفرنسا. وقد كان إقصاء اللواء الركن بلوصيف يشكل طورًا حاسمًا في وضع هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ. وقد تلا هذا الإقصاء بعد فترة قصيرة تنظيم أحداث أكتوبر (تشرين الأول) عام 1988.
ثالثًا: أحداث أكتوبر (تشرين الأول) 1988
لقد قيل وكُتب الكثير عن أحداث أكتوبر (تشرين الأول) عام 1988، التي غالبًا ما جرى تصويرها كحركة تمرد، بل كحركة ثورية، من طرف الصحافة المحرَّكة خيوطها والعديد من الأحزاب السياسية التي خلقت معظمها مصالح الأمن. إلا أن معطيات موضوعية تبيَّن أن انفجار الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) لم يكن عفويًا، فثمة مؤشرات جدية تدل على أن ذلك قد خطط له ونظمه مسؤولون قريبون من رئيس الدولة، بهدف ضمان ولاية ثالثة له. ولا ننسينَّ أن الانتخابات الرئاسية التي كان متوقعًا آنذاك إجراؤها في شهر ديسمبر (كانون الأول) 1988 كانت على بُعد شهرين فقط.
1-المشاريع الخفية للطامعين في السلطة
يَحْسُن أن نذكَّر بادئ ذي بدء بأن ولاية الرئيس الشاذلي الأولى من فيفري (شباط) 1979 إلى ديسمبر (كانون الأول) 1983 كانت ناجحة إجمالاً بفضل روح الفريق التي سادت آنذاك، وبعض النتائج الاقتصادية الإيجابية على الأرض وبعض النجاحات الدبلوماسية.
بالمقابل، أظهرت ولايته الثانية ما بين جانفي (كانون الثاني) 1983 وديسمبر (كانون الأول) 1988 حدود السلطة الشخصية التي سعى لإرسائها. ففي الواقع،
188
نجحت حاشيته في عزله عن حزب جبهة التحرير الوطني، وعن الحكومة المفترض أنه يرأسها، وعن المجلس الوطني وقيادة الجيش.
وخلال تلك الفترة، كانت شعبيته تتراجع من عام لعام، ثم من شهر لشهر بسبب قرارات رئاسية غير ملائمة كان تطبيقها يمتد إلى أقل تفصيل في التسيير اليومي للإدارة وللمنشآت العامة الوطنية، وحتى البلدية، ضاربة أحيانًا عرض الحائط بالمؤسسات والقوانين والأنظمة المعمول بها.
ولقد تلوثت مؤسسة الرئاسة أيضًا بالعديد من الفضائح التي جرى خنقها سريعًا، تورط فيها أعضاء في عائلة رئيس الدولة فضلاً عن حاشيته. وكان الاستياء الشعبي يزداد مع مرور السنين، ولاسيما مع تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي الناجم عن الهبوط الشديد والمتواصل لأسعار المحروقات الذي بدأ في جانفي (كانون الثاني) عام 1986. بات المناخ السياسي متلبّدًا في السنوات 1986، و1987 و1988. وحتى جبهة التحرير الوطني وهيئاتها المختلفة فضلاً عن المنظمات الجماهيرية لم تكن تقتصد في انتقاداتها لرئيس الدولة الذي يشغل في الوقت ذاته منصب الأمين العام لجبهة التحرير.
كانت إشاعاتٌ دائبةٌ داخل جبهة التحرير الوطني تروج منذ عام 1986 حول ترشيح محمد الشريف مساعدية، أو الدكتور طالب الإبراهيمي لرئاسة الجمهورية، وهو الترشيح الذي كان على مؤتمر الحزب المقرر عقده في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1988 أن يحسمه وفقًا لأنظمة جبهة التحرير الوطني.
لكن لم يكن يبدو أن الرئيس الشاذلي، أو محيطه، سيرضخان لهذا الاختيار المحتمل لمؤتمر جبهة التحرير الوطني. وإذا كانت حاشية الرئيس ترفض هذا الخيار، فلن يكون ذلك كُرمى لعينيه، بل بفعل أطماع كان كل فرد من أفرادها يجري وراءها. كان المقصود إذًا إزاحة المرشحين المحتملين إلى رئاسة الجمهورية وتجديد الطاقم السياسي في الظاهر قبل مؤتمر جبهة التحرير المقرر عقده في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1988.
كان الفريق الرئاسي يتألف من مجموعتين: واحدةٍ ذات نزعة عسكرية يمثلها العربي بلخير (وكان آنذاك مدير ديوان الرئيس الشاذلي)، ويدعمه الرائد محمد مدين، المدعو توفيق (وكان آنذاك مكلفًا بتنسيق مصالح الأمن في مقر الرئاسة)؛ والأخرى ذات نزعة مدنية لكن مع ميول أمنية، وتضم مولود حمروش (الأمين العام للرئاسة) والهادي خذيري (وزير الداخلية منذ عام 1987 والمدير العام للأمن الوطني ما بين عامي 1977 و1987).
189
بيد أنه كانت لكل فريق، بل لكل فرد داخل فريقه، خطته الخاصة به. وعلى الرغم من التناقضات الداخلية لهؤلاء المسؤولين، كانوا يجرون وراء أهداف مشتركة مباشرة. السيطرة على مؤتمر جبهة التحرير الوطني الذي كان سيحدد المرشح إلى انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1988 الرئاسية، وانتخاب لجنة مركزية جديدة، وضمان ولاية ثالثة لرئيس الدولة المغادر في ديسمبر (كانون الأول) عام 1988، من جهة، ووضع اليد على جهاز جبهة التحرير الوطني وعلى الحكومة، من جهة أخرى. كان «الهياج الشعبي» الذي اندلع في شهر أكتوبر (تشرين الأول) قد جرى تنظيمه في جو أزمة.
2-سياق أزمة
في حين كانت الجزائر تستعد حوالي 1984-1985 لبلوغ طور أعلى من التنمية الاقتصادية في مناخ وطني مطبوع بالتماسك والسلام الاجتماعيين الظاهريين، اكتشفت فجأة سرعة عطبها وهشاشتها في عام 1986 مع الهبوط الشديد لأسعار النفط، واندلاع اضطرابات اجتماعية خطيرة في بعض المدن الكبرى ولاسيما في قسنطينة ووهران وصطيف. لكن اعتبار الانخفاض الذريع في مداخيل الجزائر الخارجية كالعامل الوحيد المسؤول عن الصدمة السياسية-الاجتماعية-الاقتصادية بين عامي 1986 و1988 يشكل تفسيرًا غير كافٍ وسطحيًا. لا شك في أنه لا يمكن أحدًا أن ينكر الأضرار الكبيرة، التي سبَّبها للجزائر انخفاض أسعار النفط والغاز المنظور إليه هكذا على أنه الشرارة التي فجّرت الوضع. في الواقع، كان المرض عميقًا وكامنًا منذ زمن بعيد. وقد كانت الأزمة التي تعتمل في الجزائر تنطوي على جوانب ليست اقتصادية وحسب، بل بوجه خاص سياسية وحضارية واجتماعية وأخلاقية.
أ-أزمة سياسية
للأزمة السياسية جذور في طبيعة النظام بالذات ونحن نلاحظ، في الواقع، أن «الثورات الثلاث الزراعية، والصناعية والثقافية» وكل الإصلاحات المباشرة منذ عام 1962 بادرت إليها السلطة من دون استشارة القوى الحية في البلد أو المواطنين، ومن دون مشاركة هؤلاء. وهذا ما يفسر عدم وجود انخراط قاعدي، وهو انخراط ضروري لنجاح أي إصلاح. لكن ما ولَّد فوق كل شيء مناخ اللامبالاة وغياب التعبئة لدى الجماهير وعدد مهم من الإطارات على مر السنين، إنما هو البعد الكبير بين الخطاب السياسي و/أو النصوص التشريعية التي تستلهمه وتطبيقها على الأرض.
من جهة أخرى، إن غياب الديمقراطية في البلد وانعدام الشفافية في الاشتغال
190
الداخلي لحزب جبهة التحرير الوطني، وعدم وجود الحوار بين القاعدة والهيئات القيادية لمختلف الأجهزة، ورفض كل نقد وإن كان نقدًا بنّاءً، والنمط البائس لاختيار المسؤولين الذي يقوم على اختيار الزملاء ومحاباة الأتباع، كل ذلك خلق مناخًا سياسيًا فاسدًا منذ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، يتَّسم بصراع العُصَب داخل السلطة الذي أفضى إلى القطيعة مع القاعدة وغذى أزمة الثقة التي قرضت النظام الجزائري ثم زعزعته.
إن محاورة الذات، والاكتفاء الذاتي، والرداءة والانتهازية، التي تميز الطبقة الحاكمة وتؤدي إلى انهيار احترام الدولة وسلطتها، وصلت إلى الذروة في نهاية الثمانينيات، جاعلة الوضع السياسي متفجرًا.
ب-أزمة حضارية
إن النزاع الذي يضع النظام في مواجهة غالبية الجزائريين يستند إلى عمقٍ حضاري (13). ففي الواقع، تتمنى تلك الغالبية إرساء نظام جديد يقوم على احترام القيم الأخلاقية والروحية، والعدالة الاجتماعية، والتضامن والمصلحة العامة. وهي تتمنى التناوب على السلطة في إطار ديمقراطي شفاف ويحترم القيم الشاملة والحريات الفردية والجماعية.
وعمومًا، يَنْشدُّ الشعب الجزائري إلى الإسلام انشدادًا عميقًا. ففي الواقع، لقد جرى دائمًا ربط الإسلام بصورة نشطة بالنزعة الوطنية في الجزائر، وشكَّل إسمنت الوحدة الوطنية منذ 14 قرنًا، وقد تعزَّز هذا البعد الحضاري أكثر فأكثر خلال الاحتلال الاستعماري بين عامي 1830 و1962.
وبين عامي 1962 و1988، حاول النظام الجزائري، على غرار الاستعمار الفرنسي، أن يتحكم بالإسلام ضمن منظور علماني. وخلال تلك الفترة الطويلة، شهدنا مواجهة متقطعة بين المعرَّبين والمفرنسين، وبين الإسلاميين والعلمانيين، ولا سيما في الجامعات، وخلال السبعينيات والثمانينيات، كان الإسلاميون بوجه خاص هم ضحايا عنف النظام: توقيفات، سجن...الخ. أما المعربون فكانوا ضحايا التمييز في التعيينات في الوظائف العليا للإدارة والقطاع الاقتصادي. فقد تم حصرهم واحتواؤهم بشكل أساسي في التعليم.
............................
(13) لمزيد من التوضيحات حول المسألة الثقافية ومسألة الهوية، انظر: أحمد بن نعمان: الهوية الوطنية (الجزائر: شركة دار الأمة للطباعة والترجمة والنشر والتوزيع، 1996)؛ حزب البعث الفرنسي (الجزائر: شركة دار الأمة للطباعة والترجمة والنشر والتوزيع، 1996)، وفرنسا والأطروحة البربرية (الجزائر: شركة دار الأمة للطباعة والترجمة والنشر والتوزيع، 1997).
191
يدعي العلمانيون، الممثلون بوجه خاص بحزب فرنسا في شتى أجهزة الدولة الاستراتيجية، أنهم أبطال الحداثة وينعتون الإسلاميين بالظلاميين. وقاموس روبير (الفرنسي) يعرَّف الظلامية بأنها «العداء لانتشار التعليم والثقافة». والحال أن الإسلام يشجع المعرفة والعلم. وهل يجب التذكير بأن الآيات القرآنية الأولى التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حرّاء تمتدح بالتحديد القلم كأداة للمعرفة والثقافة والعلم (سورة العلق: 1-5) (14). والنبي صلى الله عليه وسلم هو ذاته شدد في أكثر من حديث على المعرفة والعلم. فبين ما قاله إن «طلب العلم فريضة على كل مسلم». ويعلَّم الإسلام أن النظام التربوي والتكويني يشكل وسيلة ممتازة لتحقيق العدل الاجتماعي عن طريق نشر المعارف العلمية والتقنية والسعي خلف الهدف المتمثل في الاستخدام الكامل لقوة العمل (15).
وبخصوص الحداثة، يستخدمها العلمانيون الجزائريون كمشروع تجاري سياسي لإفقاد الإسلاميين اعتبارهم ناعتين إياهم ظلمًا بالظلاميين ومتهمينهم بأنهم يريدون إرجاع الجزائر إلى القرون الوسطى. وفي هذا الصدد، يعلم الجميع أن الإسلام أبدي ولا علاقة له إطلاقًا بزمن محدد. ويفضل العلمانيون بالأحرى أن يظهروا عصريين من دون أن يكونوا كذلك على أن يكونوا عصريين من دون أن يظهروا بهذا المظهر. وهم، في الواقع، لا يعرفون بالضبط معنى الحداثة، ويتعلقون فقط ببعض وجوهها السطحية. ينظرون إلى الحداثة كشعار، وكحجة لتبرير سياسة الإقصاء، وازدراء الشعب، والإذلال، وغياب الحريات ولاسيما حرية التعبير، وانعدام الشفافية في تسيير الشؤون الاقتصادية والإدارية للبلد، والقمع، وانتهاك قوانين الجمهورية، والدستور، والاتفاقات الدولية بصدد حقوق الإنسان التي وقعتها الجزائر. إن استخدام أنصار حزب فرنسا للعلمانية والحداثة يفيد في الواقع في إخفاء عدائهم للإسلام وحقدهم على النطق باللغة العربية ولأجل البقاء في السلطة. والأمازيغية وحدها، وهي أحد الأسس الثلاثة التي لا مجال للفصل بينها في الشخصية الجزائرية بجانب الإسلام والعروبة، تلقى قبولهم ويتكفلون بها. ومقاربتهم في هذا المجال تذكَّر بصورة غريبة بالاستعمار الفرنسي الذي هاجم هذه الأبعاد الثلاثة ووضع كلاًّ منها بمواجهة الآخر خلال 132 سنة من الاحتلال. ويندرج مسعاهم إذًا في إطار سياسة مدروسة لإفقاد الجزائر شخصيتها بهدف ربطها ثقافيًا بفرنسا.
فضلاً عن ذلك، تتطلب العلمانية، من حيث المبدأ، حيادًا حيال الدين
................................
(14) انظر أيضًا: القرآن الكريم: «سورة طه»، الآية 114؛ «سورة فاطر» الآيتان 19-20، و«سورة المجادلة»، الآية 11.
(15) انظر: Abdelhamid Brahimi, Justic sociale et développement en
économie islamique (Paris: Pensée universelle, [1993?]).
192
واحترامًا لاستقلاله الذاتي لا العداء والقمع. ومن جهة أخرى، إن الحداثة أشد تعقيدًا من الشعار الذي يرفعه بصددها «حزب فرنسا». ويَحْسُن التذكير لهذه الغاية بأن:
«عمادَي الحداثة-حرية التبادلات والعلم-ليست لهما قيمة في التحليل الأخير إلا في علاقة بخيارات وغايات المجتمعات التي ينموان فيها. ينبغي أن يستعيدا مكانهما الصحيح كأداتين. [...] والحال أن نشر العلم و(اقتصاد) السوق تلازم مع أزمة قيم خطيرة، لا بل ساهم في هذه الأزمة. وفي ما يخص السوق، تميل إلى اختزال قيمة الكائنات والأشياء إلى قيمتها المالية، وتطرح الفكرة القائلة بأن الإثراء هو المقياس الأخير لنجاح الناس والمجتمعات، وتفرض سيطرة ما هو مادي على ما هو روحاني. [...] (عبر حرف) الطاقات والعقول عن الحاجات الأكثر أساسية. [...] ونحن نلاحظ نتائج ذلك: الانحلال الأخلاقي للكثير من المجتمعات، وتعميم الفساد، واللجوء إلى المخدرات، واللامبالاة حيال الآخرين أو تجاه المحيط، وبلبلة الشبيبة» (16).
إذا طبقنا هذا الاستشهاد الطويل على حالة الجزائر فإنه يعرّي الانسلاخ الثقافي للأنصار المزعومين للعلمانية (17) المستوردة ورداءتهم.
وفي الواقع، يريد الإسلاميون أن يلعبوا دورًا إيجابيًا في سياسة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلدهم وفق قناعاتهم الثقافية والروحية. يتمنون أسلمة الحداثة، بحيث يستفيد الشعب الجزائري من الرفاه والرخاء الاقتصادي والاجتماعي في ظل الكرامة والعدل الاجتماعي. يريدون قبول هذا التحدي، ولا سيما أن تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الجزائر، وتعميم الفساد وتوسع الفقر بيّنت إلى حد بعيد، ولاسيما منذ انقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992، حدود النموذج «العلماني» والكلياني. وفي الحقيقة أن العلمانية التي يختبئ خلفها أنصار حزب فرنسا هي ظاهر خدّاع ويجري استخدامها كحجة للسماح لهم بأن يحتفظوا بالسلطة عن طريق القوة. إنهم يستخدمون العنف لتبرير وجودهم والدفاع عن منظومة جائرة تجاوزها الزمن.
إن رفض تداول السلطة في إطار ديمقراطي يُبرز الاستلاب الثقافي والذهني
...............................
(16) «La Fondation pour le progrés de Thomme: Bâtir ensemble l'avenir
de la planéte» Le Monde diplomatique (avril 1994).
(17) تستتبع العلمانية من حيث المبدأ الحياد تجاه الدين وليس العداء أو إرادة استئصاله من المجتمع المدني، كما هي الحال في الجزائر منذ انقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992.
193
لدى الطبقة الحاكمة التي تختبئ وراء حيل بائدة للدفاع عن منظومة قائمة على الاغتصاب والفساد وعن امتيازات غير شرعية على حساب المصلحة العامة.
وهذا السلوك من طرف القائمين على حزب فرنسا يفاقم أزمة باتت شديدة التعقيد على شتى المستويات.
ج-أزمة اجتماعية
لقد بدأت الأزمة الاجتماعية تتفاقم منذ عام 1986 بوجه خاص. وقد انعكس اختلال الاقتصاد سلبًا على ذوي المداخيل المتدنية. وتغذى احتدام التوترات الاجتماعية بوجه خاص بعوامل إخلال في التوازن، كالتضخم، والسوق الموازية، وتعزيز وضع الشرائح الاجتماعية الطفيلية التي لا تقدم إسهامًا اقتصاديًا فعليًا وتتبنى نمطًا استهلاكيًا تفاخريًا. إن مجمل هذه العوامل ساهم في زيادة التباعد بين أقلية من الأغنياء (غالبًا ما حصلت على ثروتها بطرق غير مشروعة)، وغالبية الجزائريين التي تتخبط في البطالة والفقر والحرمان.
فضلاً عن ذلك لم تشهد الجزائر يومًا ما سوف تشهده في النصف الثاني من الثمانينيات من ظواهر كظاهرة تشكُّل أصحاب مليارات وجمع ثروات كبيرة في مدة قصيرة جدًا، وبشتى أنواع الحيل غير المشروعة، في مناخ من الإفلات الكلي من العقاب. وقد تفاقمت هذه الظاهرة في التسعينيات.
د-أزمة أخلاقية
إن الفساد، والاتجارية، والاختلاسات، والإثراء غير المشروع، والنشاطات الطفيلية، والبيروقراطية (التي غالبًا ما تولَّد الفساد)، والترقيات بغير وجه حق (التي تتحدى القانون والعدالة)، ومحاباة الأقارب، ومراكمة الثروات بين يدي قلة لا بواسطة الجهد والكد بل بواسطة التحايلات، والإفلات من العقاب، فضلاً عن أشكال أخرى من المظالم، ساهمت في إضعاف التماسك والتضامن الاجتماعيين، وفي زيادة عداء السكان للسلطات العامة المعتبرة مسؤولة عن تدهور وضعهم الاقتصادي والاجتماعي. ويفسر كل ذلك تفاقم أزمة الثقة بين الحكَّام والمحكومين.
في هذا السياق من الأزمة المتعددة البعد، نظم الطامعون في السلطة، المتلهفون لاحتلال واجهة المسرح السياسي، أحداث أكتوبر (تشرين الأول) عام 1988.
194
3-من التلاعب بالأحداث إلى الانفجار غير المتوقع
أ-محاولة وضع اليد على الاستياء الشعبي
في ذلك العام 1988، كان الرئيس الشاذلي بن جديد وحاشيته وأعين تفاقم التوترات الاقتصادية والاجتماعية. وعديدون في أروقة السلطة من كانوا يتحدثون عن تمرد شعبي محتمل، بسبب اتساع الاستياء الجماهيري.
وفي جوان (حزيران)-جويليه (تموز)، فكرت الرئاسة في رد يقلب الوضع لصالحها. جرى اعتبار الوضع على جانب كبير من الخطورة ولاسيما أن مؤتمر جبهة التحرير الوطني كان سينعقد خلال أشهر فقط، وهو المؤتمر الذي سيكون عليه أن يبدي رأيه في نتائج السنوات الخمس المنصرمة، وأن يتبنى التوجهات السياسية والاقتصادية للفترة اللاحقة، ويختار مرشحًا للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في ديسمبر (كانون الأول) 1988.
وهكذا يبدو في نظر منظمي الأحداث أن الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) هو تاريخ مناسب لافتعال مظاهرات مؤطرة وتحت السيطرة، كوسيلة لنزع الاحتقان وتوجيهٍ لموجة الاستياء الشعبي ووضعٍ لليد عليها، وذلك بالضبط لتحاشي انفجار اجتماعي وتمرد عفوي قد تكون نتائجه كارثية ولا حصر لها بالنسبة للسلطة. وإذ يفعلون ذلك يساهمون في إنقاذ النظام، ويقصون في زحمة الأحداث مسؤولين سياسيين يُخشى جانبهم في تلك الظروف الخاصة.
والأمور ترجع إلى شهر جوان (حزيران) حين استدعى الرئيس الشاذلي إلى مكتبة جنرالين (كانا آنذاك في قمة الهرم العسكري) ليطلب منهما أن يكون الجيش، المتمثل في مؤتمر جبهة التحرير الوطني بحوالي 800 ضابط، مستعدًا للوقوف بوجه أي محاولة ترمي لاختيار مرشح غيره في الانتخابات الرئاسية القادمة، خلال المؤتمر القادم. كان على عناصر الجيش ومصالح الأمن أن تؤطر أعمال المؤتمر من أولها إلى آخرها وتتحكم بها تحاشيًا لأية مفاجأة (18).
مضى الرئيس الشاذلي بعدئذ إلى وهران حيث بقي من جوان (حزيران) إلى سبتمبر (أيلول) 1988، وقد كانت تلك هي المرة الأولى في عشر سنوات من وجود رئيس الدولة في السلطة، التي يتغيب فيها عن الجزائر العاصمة لمدة بهذا الطول. وهو تغيب ليس له في الظاهر ما يبرره. وفي وهران، لم يكن لديه اتصال إلا بالعربي بلخير،
.............................
(18) أكد لي ذلك جنرال لا يمكنني كشف اسمه لأسباب أمنية بديهية.
195
مدير ديوانه، ومولود حمروش، الأمين العام للرئاسة، وبمسؤولي مصالح الأمن، الذين ظلوا جميعًا في الجزائر للبقاء يقظين (حيال مجرى الأحداث) وإنضاج ضربتهم وكانوا الوحيدين، في كل حال، الذين ينتقلون إلى وهران بطائرة خاصة للقاء به.
لم تعقد الحكومة اجتماعًا واحدًا في ثلاثة أشهر، وهذا رقم قياسي. وبما أن بعض الملفات المهمة بقيت عالقة خلال تلك الفترة، حاولت مرارًا عديدة عندئذ، كوزير أول، أن أحصل على جلسة عمل مع الرئيس الشاذلي في وهران، لكن عبثًا. كما استحال عليّ أيضًا أن أتصل به عبر الهاتف. وقد مرت عدة أسابيع من المحاولات قبل أن أتمكن من الحصول على جلسة معه. فوجدته غضَّ الإهاب منشرحًا، لكن غير مبالٍ بالقضايا الخطيرة والملحة التي عرضتها عليه للدراسة واتخاذ القرار. كان يبدو كما لو أنه يقول لي إني أنغَّص عليه خلوته المريحة بملفاتي. وفي الواقع، كان ما يهمه إلى أبعد الحدود هو كيف يضمن ولاية ثالثة.
في نهاية استراحته الطويلة، كان أول شيء فعله هو تنظيم مؤتمر تداولي للإطارات في قصر الأمم في التاسع عشر من سبتمبر (أيلول) (19). وقد ألقى في تلك المناسبة خطابه المشهور الملتهب والاستفزازي حول الوضع السياسي للبلد. وقد كانت خلفية الخطاب منطلقًا لهجمات مركَّزة ضد حزب جبهة التحرير الوطني، الذي يشغل منصب أمينه العام، وعلى الحكومة التي يعينها ويرأسها، ويمسك بمقاليدها وفقًا لدستور عام 1976. ولقد اتهم الجبهة والحكومة بأنهما «منعتاه من العمل وأعاقتا مسعاه السياسي»، وحمَّلهما المسؤولية الكاملة عن الأزمة المتعددة الأبعاد التي كانت تعتمل مع ذلك منذ زمن بعيد جدًا. ومن ذلك الخطاب الهجومي الذي يبرَّئه، تظهر بوضوح ثلاثة عناصر دقيقة:
- إن وضع الجزائر السياسي، والاقتصادي والاجتماعي خطير جدًا، وتتحمل المسؤولية الكاملة عن ذلك جبهة التحرير الوطني والحكومة وحدهما.
- يقدم رئيس الدولة نفسه كالضحية البريئة والرهينة العاجزة للمنظومة (في حين كان يشغل منصبه على مدى عشر سنوات، وهو يسعى وراء ولاية ثالثة لمدة خمسة أعوام).
- يقدم نفسه بالتالي كمنقذ للوطن المهدَّد، مقترحًا إجراء تغييرات مهمة.
...............................
(19) يضم مؤتمر الإطارات التداولي حوالي 1200 إطار يمثلون مجمل الوزارات، والجيش، وكل الولايات في البلد، وحزب جبهة التحرير الوطني والمنظمات الجماهيرية. وهذا النوع من المؤتمرات، التي دشنها بومدين، يكون مناسبة لإعلان قرارات أو توجهات مهمة.
196
باختصار، إن هذا الخطاب العنيف، والملتهب، والمدروس جيدًا، الذي ألقاه في 19 سبتمبر (أيلول)، قد شكَّل، إذا صح القول، صاعق الانفجار الاجتماعي المبرمج ليوم الخامس من أكتوبر (تشرين الأول). وفي الواقع، تؤكد مؤشرات مبلبِلةٌ عديدة أن أحداث أكتوبر (تشرين الأول) 1988 لم تكن عفوية بتاتًا كما زعم رسميًا رئيس الجمهورية. وثمة أمثلة معيشة تستحق التذكير بها في هذا المجال. على سبيل التوضيح.
ب-تنظيم النقص في ضروريات الحياة
على امتداد أكثر من ثلاثة أشهر، ما بين جويليه (تموز) والخامس من أكتوبر (تشرين الأول)، ظهرت حالات نقص في منتجات غذائية أساسية كالسميد، وزيت المائدة، والحليب، ... الخ، وذلك في بعض الولايات أولاً، ثم انتشرت بسرعة في كل البلد على مر الأسابيع. ولقد ثبت أن الواردات من هذه المنتجات زادت بنسبة 7 بالمئة في حالة السميد، و10 بالمئة في حالة المنتجات الأخرى مقارنة بالعام 1987، وفقًا لمعلومات جمعتها من الوزراء والمديرين العامين للمنشآت العامة المعنية، وفي الوقت ذاته، أكدت المصادر عينها أن المنشآت تستحوذ على مخزونات مهمة، ولا شيء، لا شيء إطلاقًا يبرر هذا النقص. ولسوف ننتظر إلى وقت متأخر لنعرف أن هذا النقص قد نُظَّم بناء على «تعليمات من فوق» (20)، ويشكل جزءًا من المُخطط الذي وضعته حاشية رئيس الجمهورية. كان تنظيم السلطة للنقص (في الحاجات الأولية) يهدف إلى مفاقمة تعفن الوضع الاجتماعي لتبرير «عفوية» المظاهرات المبرمجة.
ج-بعض التسريبات
بين التاسع عشر من سبتمبر (أيلول)، تاريخ خطاب الرئيس الشاذلي والثاني من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1988، حصلتُ على عدة معلومات دقيقة تتعلق بالأحداث التي ستقع في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول). وتكفي ثلاثة أمثلة ذات دلالة:
- بعد أيام قليلة فقط من خطاب رئيس الدولة الشهير وحوالي أسبوعين قبل الأحداث، علمت من محمد الصالح بلكحلة، الوثيق الصلة بمولود حمروش، أن تلامذة مدارس سيتظاهرون في 5 أكتوبر (تشرين الأول) في الجزائر العاصمة (21). إن
...................................
(20) إن عبارة «تعليمات من فوق» تعني عمومًا أنها صادرة عن رئاسة الجمهورية.
(21) كان محمد الصالح بلكحلة المسؤول آنذاك عن جهاز التخطيط المركزي (بعد قرار الرئيس الشاذلي «حل» وزارة التخطيط والتهيئة العمرانية)، قد مارس لدي في السابق مهام الأمين العام في رئاسة الحكومة على امتداد أربع سنوات.
197
بلكحلة السريع الانفعال، والحذر والحساس، أعلمني في ذلك النهار بتلك الأحداث «الخطيرة» فيما ترتسم على وجهه ابتسامة ماكرة تكشف الكثير.
- في نهاية شهر سبتمبر (أيلول)، لفت انتباهي خبر برئ ضائع في «نشرة المعلومات اليومية» التي ترسلها إليّ كل يوم المديرية العامة للأمن الوطني. والخبر يأتي من تبسة ويتحدث، في سطور قليلة، عن مظاهرات ستقع في الجزائر العاصمة في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول). هكذا فإن تبسة، مسقط رأس الهادي خذيري ومعقله (وخذيري مسؤول سابق عن المديرية العامة للأمن الوطني، عُيَّن وزيرًا للداخلية في عام 1987)، والواقعة على بعد أكثر من 600 كيلو متر عن العاصمة، تبدو أفضل اطلاعًا من أعضاء في الحكومة بخصوص أحداث يتم التحضير لها في العاصمة.
- قبل ساعة الصفر بأيام قليلة، انتشرت إشاعات في وسط الجزائر تدعو التجار لإقفال محلاتهم في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) تفاديًا لأعمال نهب قد تنجُم عن مظاهرات الشبان في ذلك النهار.
د-مظاهرات جيدة التأطير
كان أول المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشارع في الجزائر العاصمة تلامذة مدارس، كما كان متوقعًا، وكان يقودهم أصحاب سوابق جرمية ومخبرون ومتعاونون مع المديرية العامة للأمن الوطني. وكما لو من قبيل الصدفة، كانت الشرطة غائبة عن الشوارع في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول).
كان من المفترض، بادئ ذي بدء، أن تكون الشعارات التي يطلقها المتظاهرون موجهة ضد جبهة التحرير الوطني والحكومة، وأن يتم تحاشي الرئيس الشاذلي، وفقًا لتعليمات المنظَّمين. لكن الأمور تطورت بشكل آخر على الأرض، وذلك على الرغم من تأطير المتظاهرين وتوجيههم.
ونستخلص من شتى التقارير والشهادات التي وصلتنا من مصادر موثوقة أن المنظَّمين كانوا يتصرفون كمحترفين. وكل المعلومات متطابقة في هذا الصدد، سواء بخصوص الجزائر العاصمة حيث كان منظمو المظاهرات يتنقلون على دراجات نارية ويوزعون توجيهات مكتوبة على المؤطَّرين يعطون كلمات سر، أو مدن أخرى كعنابة، والمدية، والبليدة، وتيارات، وعين الدفلى، .... الخ، أتى إليها قادة التحرك، الذين لا يعرفهم إطلاقًا السكان المحليون، «من أماكن أخرى» في سيارات، مصطحبين معهم متظاهرين تَقُلُّهم شاحنات قادمة من مناطق أخرى، لتفجير المظاهرات.
198
كان المخربون في كل المدن محترفين يقودون الشبان العاطلين عن العمل في هجمات استهدفت سوق الفلاح (محلات غذائية تابعة للدولة)، ومقر حزب جبهة التحرير الوطني وبعض الأبنية العامة. وفي الجزائر العاصمة، لوحظ علاوة على نهب محلات الدولة للأغذية ومبان عامة أخرى وإنزال أضرار فيها، أن مقر وزارة الشباب والرياضة قد تعرَّض للحريق وجرى نهب مقر الحماية الاجتماعية وتخريبه (22). وقد كانت العاصمة هي المكان الذي حصلت فيه أكثر التجاوزات وحالات التخريب.
حين اتخذت الأحداث وجهة خطيرة غير متوقعة، أصدر الرئيس الشاذلي أمرًا للجيش لكي يتدخل. وبالموازاة مع تدخل العسكريين، راح «مجهولون» يطلقون النار عشوائيًا على الجمهور من سيارات مموّهة. وحين تمت مطاردة تلك السيارات لجأت إلى الثكنات. وقد كانت الخسائر كبيرة جدًا: حوالي مئتي قتيل وفقًا لمصدر رسمي، في حين تتحدث تقديرات موثوقة عن أكثر من 500 قتيل.
لقد امتدت أعمال النهب والتخريب إلى الجزائر العاصمة حيث حلت الفوضى والاضطرابات بسرعة كبيرة. وقد تقرر منع التجول في العاصمة، وأعلن رئيس الدولة، القلق جدًا، حالة الحصار في 6 أكتوبر (تشرين الأول). بدا كما لو أنه طغى على مصالح الأمن مجرى الأحداث المأساوي، الذي تجاوز توقعات مطلقي الجن.
4-انقلاب الوضع
حين انفجرت المظاهرات في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) ألف الرئيس الشاذلي خلية أزمة من كل من محمد الشريف مساعدية، مسؤول الأمانة الدائمة لجبهة التحرير الوطني، وعبد الحميد براهيمي، الوزير الأول، والعربي بلخير، مدير ديوان رئيس الدولة، والهادي خذيري، وزير الداخلية، ومولود حمروش، الأمين العام للرئاسة.
..........................................
(22) يبدو أن منظمي الأحداث ومحركي خيوطها قد اختاروا هاتين الوزارتين المستهدفتين بعناية من بين ثلاثين وزارة تتشكل منها الحكومة. وهذا الاختيار أكثر من رمزي. فلقد جرى تسليم وزارتي الشباب والحماية الاجتماعية مرتعًا لشبان عاطلين عن العمل ولضحايا أزمة اجتماعية باتت حادة جدًا لزيادة عقوبة المتظاهرين. ومن جهة أخرى، كان المسؤولان عن تينك الوزارتين، د. عبد الحق برارحي، وهو مثقف يساري، والسيدة زهور ونيسي، وهي مناضلة نشيطة لأجل التعريب، مستهدفين من طرف العربي بلخير على مدى سنوات، من دون أن ينجح في جعل الرئيس الشاذلي بقيلهما، على الرغم من جهوده الضخمة لزعزعة وضعهما. بات هدف بلخير هذه المرة أن يظهر أن الشعب هو الذي يحقد على برارحي وونيسي.
199
وفي أول اجتماع لخلية الأزمة هذه انعقد في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول)، الساعة العاشرة صباحًا (بعد ساعة فقط من بدء المظاهرات)، في مكتب رئيس الدولة، بدا الرئيس الشاذلي، وبلخير وخذيري وحمروش منشرحين جدًا وباسمين (23)، في حين كنت أنا ومساعديه غريبين عما يجري. وبعد تبادل للمعلومات حول الوضع، دعانا الرئيس الشاذلي، المطمئن جدًا، للانكباب على العمل فورًا، وطلب منا أن نجتمع في مكتب بلخير (وهو تحديد غريب للمكان) وانتهى إلى القول إنه إذا حدثت تجاوزات سوف يأمر الجيش بالتدخل.
ومنذ لقائنا الأول، انضم إلينا كل من الرائد محمد مدين، المدعو توفيق، المكلف بالتنسيق مع مصالح الأمن في مقر الرئاسة (وهو مرتبط جدًا ببلخير) ومحمد الصالح محمدي، الذي كان آنذاك أمينًا عامًا للحكومة (مقربًا جدًا من حمروش وخذيري)، ومن المرجح جدًا أن يكون ذلك بناء على طلب عرّابيْهما.
خلال لقاءاتنا اليومية (24) بين العاشرة صباحًا ومنتصف الليل، وأحيانًا بعد ذلك، في مكتب بلخير، بين الخامس والعاشر من أكتوبر (تشرين الأول)، كان المشهد ذاته يتكرر. ففي الواقع لم يكن يتغير السيناريو في كل يوم، صباحًا أو بعد الظهر أو في المساء: يترك بلخير مكتبه بعد دقائق من وصولنا، يتبعه خذيري ثم حمروش ومدين ومحمدي، من دون أن ينسبوا ببنت شفة. وكنا نبقى أنا ومساعديه وحدنا في مكتب بلخير، المفترض أن يكون مكان الاجتماع. وبما أنهم لا يعودون، يطلب مساعدية مني أن نبحث عنهم. وكل مرة نجدهم مجتمعين في مكتب آخر. وما أن ننضم إليهم حتى يسود الصمت، ثم يعود بلخير إلى مكتبه يتبعه الآخرون، وهكذا دواليك. وحين تفاقم الوضع في 9 و10 أكتوبر (تشرين الأول)، لاسيما في العاصمة، لم ننجح في تحديد مكان اجتماعهم. لا شك في أنهم كانوا يختلون في القصر الرئاسي. ومن الواضح أنهم يسعون لعزلنا، أنا ومساعديه، منذ اليوم الأول. إن رائحة المؤامرة تفوح، وإلا كيف نفسر استبعاد المسؤول عن أمانة جبهة التحرير الوطني والوزير الأول من «خلية الأزمة» التي ألَّفها رئيس الدولة؟ وفي الأخير، عمدت عصبتا الرئاسة إلى إقصائنا بالفعل.
على الرغم من ذلك، كانت المعلومات المتجمعة بصورة متقطعة عن الأحداث،
.................................
(23) كما يقول المثل اللاتيني: «ما نظر عرّاف (دجال) إلى عرّاف يومًا إلا ضحك».
(24) نستخدم هنا تعبير «لقاءات» لأن الاجتماعات الحقيقة كانت تتم بمعزل عن مساعديه وعني وتضم فقط مجموعة بلخير ومجموعة حمروش.
200
في مقر الرئاسة، موجبة للعبرة. ففي السادس من أكتوبر (تشرين الأول)، اليوم الثاني للأحداث، اتفق بلخير وخذيري على الاتصال بعباسي مدني وعلي بلحاج بواسطة العقيد محمد بتشين، المسؤول عن الأمن العسكري، للطلب إليهما تنظيم مظاهرات واحتلال الشوارع لتغيير اتجاه الأحداث ومجراها. وفي يوم الجمعة 7 أكتوبر (تشرين الأول) نظم الإسلاميون مظاهراتهم بعد صلاة الجمعة، وبعد الظهر بقليل، وفي الثامن من أكتوبر (تشرين الأول)، أطلق الجيش النار على المتظاهرين.
فضلاً عن ذلك، لم يعد خذيري يخفي طموحه لأن يصبح وزيرًا أول، وراح يسعى بنشاط للظهور وحده على التليفزيون والدعوة إلى الهدوء (25). وقد حصل أخيرًا على الضوء الأخضر وقام بتدخله المتلفز في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول). لكن دعوته على العكس أخفقت وتفاقم الوضع على الأرض.
والغريب أنه منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) لوحظ أنه لم يعد هنالك نقص في الحاجات الأولية. فلقد تم إغراق السوق فجأة بالمواد الاستهلاكية الأساسية كالسميد، والزيت، والحليب والزبدة...الخ، التي كانت قد اختفت منذ الصيف وأحدث النقص فيها اضطرابات في بعض الولايات في شهر سبتمبر (أيلول) 1988.
كانت إعادة تموين السوق بشكل عادي تشكل في نظر منظَّمي أحداث أكتوبر (تشرين الأول) ورقة رابحة في أيديهم لقلب الوضع الذي تجاوزت خطورته توقعاتهم. وضاعفت مصالح الأمن جهودها لإشاعة الطمأنينة وتهدئة الوضع والانتقال إلى المرحلة السياسية من المشروع الذي كانت تنضجه حاشية رئيس الدولة على نار خفيفة. لكن الوضع بقي سريع العطب، وانفجرت أحداث خطيرة في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) أيضًا. في ذلك النهار عمد الرئيس الشاذلي، الذي لم يشاهد منذ السادس من أكتوبر (تشرين الأول) إلى دعوة مكتب سياسي ضيق (7 أعضاء فقط من أصل 13)، جرى توسيعه بصورة مستغربة ليضم أيضًا بلخير وخذيري. ولقد لاحظ الجميع أن الرئيس الشاذلي بدا عليه الهزال الشديد والتعب والكثير من القلق. بدأ بالقول إن الوضع خطير جدًا ودعا أعضاء المكتب السياسي لإبداء وجهة نظرهم بخصوص إعادة الوضع إلى طبيعته.
...................................
(25) كان خذيري، الذي ليس لطموحه حدود، بدأ يناور ليصبح وزيرًا أول منذ تعيينه وزيرًا للداخلية في عام 1987. ولم يكن ينوي بالطبع الوقوف عند هذا الحد. حدّث أصدقاءه آنذاك عن العقدة التونسية. كان يحلم بأن يحذو في الجزائر حذو بن علي، الذي انتقل من منصبه كوزير للداخلية، ثم كوزير أول إلى مهام رئاسة الجمهورية التونسية في أقل من عامين.
201
كان أول المتكلمين هو رشيد بن يلس. وقد بدا أنه على علم بذلك الاجتماع، خلافًا لزملائه. فلقد أخرج ملاحظات معدّة سلفًا. ويمكن تلخيص كلماته على الشكل التالي:
سيدي الرئيس، إن وضع البلد خطير جدًا، وأنت مسئول عن ذلك. وأنت المقصود بهذه الاضطرابات. أنا أعمل معك منذ عشرين عامًا، ولا يمكنك الاشتباه بعدم ولائي لك. بيد أن رحيلك سيتيح إعادة النظام والأمن. شكَّل حكومة انتقالية مكلفة بتنظيم الانتخابات الرئاسية وأَعْلن استقالتك على التليفزيون منذ هذا المساء. يجب إرساء التعددية الحزبية والإعداد لانتخاب مجلس تأسيس.
كان بن يلس يعتقد، صادقًا، أن الأحداث عفوية وليست محركةً خيوطها على أعلى المستويات كما تبدو الحال. وقد قاطع مساعدية بن يلس مرارًا معترضًا على أقواله ومحاولاً حتى منعه من مواصلة الكلام. لكن الرئيس الشاذلي كان يعيد النظام كل مرة ويدعو بن يلس لاستئناف مداخلته. وقد انضم رابح بيطاط، وقاصدي مرباح وبن أحمد عبد الغني إلى موقف مساعدية وأصروا على الرئيس الشاذلي ألا يستقيل. وساد الهرج والمرج الجلسة.
حين تكلمت، أيدت إجمالاً تحليل بن يلس، لكن مع بعض الفروق. دعوت رئيس الجمهورية لإكمال ولايته (التي تنتهي في غضون ثلاثة أشهر) لتفادي الفراغ السياسي والدستوري. أما أنا فأستقيل من منصبي كوزير أول. فاحتج الرئيس الشاذلي وأوضح أنه لا ينوي الانفصال عن فريقه. فأصررت على موقفي قائلاً:
«يجب أن تشكَّل فورًا حكومة انتقالية وتأليف لجنة وطنية تكلَّف بمراجعة الدستور وإدخال التعددية الحزبية. وسيكون على الحكومة الجديدة أن تنظم أول انتخابات رئاسية تعددية في البلد. فقد نظامٌ ديمقراطي والشفافية في تسيير الشؤون العامة يمكن أن يعيدا الثقة بين الحكام والمحكومين عبر وضع حد للفساد المعمم والتفاوتات الاجتماعية الصارخة. وأضفت أن الأزمة قد تفاقمت في السنوات الأخيرة بسبب الهوة المتعاظمة بين أقلية من أصحاب الامتيازات الذين يثرون في مدد قصيرة جدًا، وفي ظروف غالبًا ما تفتقر إلى الشرعية، وأغلبية المواطنين الذين يعانون النقص في المنتجات الأساسية، وتدهور القوة الشرائية، والبطالة، وغياب العدالة. يجب أن يتغير هذا الوضع».
واقترحت أيضًا على الرئيس الشاذلي أن يعلن بنفسه هذه التغييرات ويصرح على الملأ، في المساء بالذات، أنه لن يسعى وراء ولاية ثالثة. وقد احتدم الجو أكثر. احتج بعض أعضاء المكتب السياسي فضلاً عن بلخير وخذيري بقوة على أقوالي، وامتدحوا
202
الرئيس الشاذلي. وكان الأكثر استفاضة هو بلخير، يليه خذيري، مع أنهما لم يكونا عضوين في المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني. أما الرئيس الشاذلي، الذي فاجأته في الظاهر أقوالي، فلم يتذمر، واستمر النقاش. وساد الإجماع أو ما يشبه الإجماع. فقط صوت بن يلس وصوتي شذّا عنه، وبعد نقاش طويل، ختم الرئيس الشاذلي بأنه سيلقي في الغد كلمة متلفزة وطلب منا أن نعد خطابه على الفور.
وفي اليوم التالي، أكد الرئيس الشاذلي علانيةً من على شاشة التلفزيون، من بين ما أكد، إنه لم يرد يومًا المنصب الرئاسي واضطر دائمًا لقبوله رغمًا عنه، ثم أعلن عن إصلاحات سياسية فضلاً عن تعديل الدستور. وقد ظن الناس أنه يبشر برحيله وبأنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية القادمة التي ستتم في ديسمبر (كانون الأول) عام 1988. وقد شكَّل خطابه، الحامل بالأمل، نهاية الهياج الشعبي. لكن الأسابيع التالية ستظهر أن الأمر لا يعدو أن يكون حيلة مدبرة للالتفاف على صعوبات اللحظة الراهنة.
في 11 أكتوبر (تشرين الأول)، عاد الوضع إلى طبيعته شيئًا فشيئًا. وألغيت حالة الحصار ومنع التجول. وفي 13 منه، أعلنت الرئاسة في بلاغ صادر عنها تنظيم استفتاء في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) بهدف تعديل الدستور، وتتناول هذه التعديلات على وجه الحصر نقل بعض صلاحيات رئيس الدولة إلى الوزير الأول الذي سيصبح أيضًا رئيسًا للحكومة ومسؤولاً أمام المجلس الوطني.
بعد أيام قليلة، جرى إعفاؤنا، أنا ومساعديه، من منصبينا كرئيس ونائب رئيس للجنة الوطنية لتحضير مؤتمر جبهة التحرير الوطني، وسُلَّم زمام هذه اللجنة لكل من بلخير وحمروش. وفي 24 أكتوبر (تشرين الأول) أصدرت رئاسة الجمهورية بيانًا يعلن عن الإصلاحات السياسية. وفي 5 نوفمبر (تشرين الثاني) بعد الاستفتاء بيومين، كلف رئيس الدولة قاصدي مرباح برئاسة الحكومة. لكن هذا الأخير لم يكن يتمتع بحرية التصرف في تشكيل فريقه الحكومي، وقد تدخل بلخير وحمروش في الموضوع. ولم يتم فقط الاحتفاظ بالعديد من الوزراء السابقين في الوزارة الجديدة، بل أجبر مرباح أيضًا على اختيار وزرائه لملء ما تَبقَّى من المناصب من ضمن لائحة مرشحين وضعتها الرئاسة. أما التغييرات التي وعد بها رئيس الدولة علانية فكانت شكلية صرفه وجرت معاكستها ميدانيًا. وفي الأخير، لم يتغير شيء، فالنظام يخشى حتى اللمسات الصغيرة التي فكر فيها هو نفسه.
في نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) انعقد مؤتمر جبهة التحرير الوطني في جو متلبد بالأحرى، حيث الأمور محددة سلفًا. فالمؤتمر الذي كانت تسيطر عليه من الألف
203
إلى الياء حاشية رئيس الدولة وممثلو الجيش ومصالح الأمن، استبقى الشاذلي بن جديد كمرشح وحيد للانتخابات الرئاسية. وفي 22 ديسمبر (كانون الأول) عام 1988، أعيد انتخابه لولاية جديدة من خمس سنوات. وبعد شهرين، في 23 فيفري (شباط) عام 1989، جرى تبني دستور جديد، أُّعِد على عجل ونُسِخ بطريقة غير موفقة عن دستور فرنسا وأدخل التعددية الحزبية.
هكذا بعد مرور خمسة أشهر على تمرد أكتوبر (تشرين الأول) 1988، تسارعت الأحداث، معطية الانطباع بأنها تستجيب لروزنامة دقيقة معدة سلفًا. وبعد تبني الدستور بواسطة استفتاء، احتدمت الشهوات ولاسيما في محيط رئيس الدولة. ففي الواقع، انتقلت إلى الهجوم كل من عصبة بلخير (الممثلة بقدامى عناصر الجيش الفرنسي، كثيفي الحضور في الجيش ومصالح الأمن) وعصبة حمروش (المؤلفة من تقنو قراطيي المدرسة الفرنسية، الممثلين لأجهزة الإدارة والمتجرئين على الأمل بالاعتماد على جهاز جبهة التحرير الوطني)، كل واحدة حسابها الخاص، وناظرةً من الآن وصاعدًا إلى مرحلة ما بعد الشاذلي. والطرفان، وكلاهما معجب بالنموذج الفرنسي، كلٌّ على طريقته، كانا يأملان في استخدام ديمقراطية الواجهة لتوطيد مواقعهما، ضمن منظور الخلافة.
لم يكن الرئيس الشاذلي يشتبه إطلاقًا بمشاريعهما الخفية، هو الذي حرم من اللواء الركن مصطفى بلوصيف ومخلصين آخرين ثم إبعادهم عن المسرح السياسي، وبات يثق بهما أكثر، لأنه بفضل هذه الحاشية حصل على ولايته الثالثة. لقد أعيد انتخابه في ظروف يرثى لها لأن النتائج الفعلية تشير إلى أقل من عشرين بالمئة من بطاقات الاقتراع المؤيَّدة كما سيعلن لاحقًا قاصدي مرباح، الوزير الأول، خلال انتخابات ديسمبر (كانون الأول) عام 1988 الرئاسية، وكما ستذكَّر بذلك الصحافة الجزائرية في التسعينيات.
لقد أخطأ رئيس الدولة بخصوص بلخير وحمروش لأنه اعتبر انضباطهما الظاهري ولياقتهما الشكلية من قبيل الإخلاص والطاعة. وقد كان هذا الخطأ في التقدير لدى الرئيس الشاذلي هو ما ضيَّعه وألقى بالجزائر في فترة طويلة من انعدام الاستقرار، والرداءة والشقاق والعنف.
204
الفصل التاسع
العشرية الحمراء: لطخة سوداء في تاريخ الجزائر
أو حكم الرداءة والعنف (1989-2000)
لقد شكَّلت أحداث أكتوبر (تشرين الأول) منعطفًا ليس في اتجاه إرساء نظام ديمقراطي كما جرى إفهام الناس، بل لإنقاذ النظام القائم وتحويل السلطة لصالح مفتعلي تلك الأحداث، وكلهم قريبون من بعض الأوساط الفرنسية. بتعبير آخر، لقد اختارت عصبتا بلخير وحمروش، المحرضتان على أحداث أكتوبر (تشرين الأول)، «التغيير» كوسيلة لا غنى عنها لبقاء النظام ولأجل توطيد مواقع كلًّ منهما.
والعصبتان تتمتعان، بشكلٍ ما، بدعم فرنسا التي لا تضع إطلاقًا كلًّ بيضها في سلة واحدة. لقد صفق فرانسوا ميتران، الذي كان آنذاك رئيسًا للجمهورية، ابتهاجًا بانهيار منظومة حزب جبهة التحرير الوطني، واعتقد أنه آن الأوان لـ «إرساء الديمقراطية» في معرض حديثه عن الأحداث في مجلس الوزراء المنعقد في 12 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1988(1)، أي بعد يوم من عودة الهدوء إلى الجزائر. ويعكس موقفٌ متَّخذ بهذه السرعة، في الواقع، تورط فرنسا وميتران في سيرورة الـ «دمقرطة» في الجزائر بهدف تحطيم جبهة التحرير الوطني. إن بعض القادة الفرنسيين، ومنهم ميتران وبعض الأجهزة في الإدارة الفرنسية، وكانوا أنصارًا لـ «الجزائر الفرنسية» وللحرب الشعواء ضد جبهة التحرير الوطني وضد الشعب الجزائري بين عامي 1954 و1962، توهموا مجددًا أن في وسعهم تصفية حساباتهم مع التاريخ ومع الحركة الوطنية الجزائرية.
...................................
(1) Hubert Coudurier, Le Monde selon Chirac: Les Coutisses de la
diplomate française (Paris: Calmann-lévy. 1998), p. 193.
205
ولكي نفهم بشكلٍ أفضل العشرية الحمراء التي كرست في الجزائر صعود «حزب فرنسا»، سوف نقسمها إلى فترتين تختلفان طولاً، لكنهما تتساويان من حيث الأهمية:
أولاً: الفترة ما بين عامي 1989 و1991:
إطلاق ديمقراطية الواجهة
إن تعيين قاصدي مرباح وزيرًا أول في نوفمبر (تشرين الثاني) 1988 لفترة قصيرة بالأحرى (نوفمبر (تشرين الثاني 1988-سبتمبر (أيلول) 1989) قد استفادت منه عصبة حمروش لتحسين موقعها في السباق إلى السلطة، معتقدة أنها ستتغلب على عصبة بلخير.
ولا شك في أن زعيمي العصبتين كانا بحاجة لثقة الرئيس الشاذلي خلال تلك الفترة لإنجاح خطتيهما. لكن حمروش، المستعجل، ضاعف مساعيه. فلقد كان حضوره قويًا في إعداد المؤتمر السادس لجبهة التحرير الوطني (نوفمبر (تشرين الثاني) 1988) والانتخابات الرئاسية (ديسمبر (كانون الأول) 1988). وراح يحرك بحماس الفريق المكلف بتكييف الدستور الفرنسي مع أوضاع الجزائر، والذي تم تبني مشروعه في فيفري (شباط) 1989. في الوقت عينه، كانت مجموعته التي يقودها غازي حيدوسي تُعد له خِفيةً برنامجه الحكومي الذي سيكون بحاجة إليه في سبتمبر (أيلول) 1989.
وكان بلخير نشيطًا جدًا، هو الآخر، قبل مؤتمر جبهة التحرير الوطني وخلاله وبعده. وقد تدخل في الانتخابات الرئاسية ونتائجها. لكن في عام 1989، مع أن بلخير وحمروش كانا متنافسين ظلا متفقين على نقطتين اثنتين بوجه خاص، لكن لأسباب مختلفة:
- مضايقة قاصدي مرباح وتنكيده في عمله الحكومي لإفشاله في مهمته. وقد نجح مخططهما هذا.
- تشجيع إنشاء أحزاب سياسية إلى أبعد الحدود، لتذرير المجتمع المدني والبقاء أسياد الوضع.
كان من شأن تحقيق هذين الهدفين أن يتيح للعصبتين التقدم أكثر قليلاً، وفق حساباتهما، للاستيلاء على السلطة، كل منهما لحسابها الخاص، مقتنعتين بأن تذرير
206
الحياة السياسية لن يتيح لأي حزب سياسي أن يحصل على الغالبية المطلقة في المجلس الوطني القادم في إطار منظومة ديمقراطية الواجهة التي تريدان إرساءها (2).
ويجدر التذكير بأن «الإصلاحات السياسية»، التي شُرع بها بعد أحداث أكتوبر (تشرين الأول) 1988 وأعدَّها في كواليس السلطة أشخاص يتقنون الغش والخداع، قد أٌقرت من دون أي استشارة سواء في جبهة التحرير الوطني التي يدعي الطرفان الانتماء إليها، أو في مكان آخر. وهذه «الإصلاحات» لا تشكل في الواقع غير تضليل من شأنه إدامة ممارسة السلطة القائمة. فلقد تم الخلط بين الديمقراطية وتعدد الأحزاب. وشهدنا هكذا، بحفز من رئاسة الجمهورية، ظهور جمهرة من الأحزاب ذات البرامج الغامضة، المتشابهة عمليًا، ما عدا جبهة القوى الاشتراكية (FFS) (الموجودة منذ عام 1964 لكن التي لم يتم الاعتراف بها من قبل)، وجبهة الإنقاذ الإسلامية (FIS) والحزب الشيوعي، التي كانت خيارات كل منها الأيديولوجية والسياسية واضحة.
ذلك أن ما هو جوهري في الديمقراطية إنما هو القبول بمبدأ تداول السلطة الأساسي عبر احترام حكم الشعب المعبر عنه في انتخابات شفافة ونزيهة، لأن الشعب هو الذي يشكل مصدر السيادة. والحال أن ذلك غير مقبول في الجزائر وهذا الرفض يفرغ الديمقراطية من مضمونها. هكذا فإن التعددية الحزبية الجامحة والتي شجعتها السلطة لم تكن ترمي في النهاية إلا إلى تفتيت المجتمع وتذرير القوى السياسية الحية، بهدفٍ غير معلن هو إدامة نظام عفا عليه الزمن وفقد حظوته (3).
في هذا السياق من الأزمة السياسية جرى تعيين حمروش وزيرًا أول في سبتمبر (أيلول) 1989.
1-عصبة حمروش
كرّس تعيين حمروش رئيسًا للحكومة الإبعاد النهائي من السباق إلى السلطة
.............................
(2) كانت التقارير التي ترفعها مصالح الأمن إلى رئيس الدولة، فضلاً عن التسريبات المقصودة بخصوص استطلاع للرأي أجرته تلك المصالح بالذات، تؤكد أن الحزب الذي سيفوز (سواء الجبهة الإسلامية للإنقاذ أو جبهة التحرير الوطني) في الانتخابات التشريعية في عام 1991، لن يحصل على أكثر من 25 بالمئة من أصوات المقترعين.
(3) هذه التعددية الحزبية وتذرير المجتمع هذا، لكن ليس الديمقراطية، لهما مكانة أساسية في برنامج عمل الجنرالات الانقلابين المعد في عام 1991، والمنفذ منذ انقلاب جانفي (كانون الثاني) عام 1992. لمزيد من التفاصيل حول هذا البرنامج، انظر: مذكرات الجنرال خالد نزار (الجزائر: مطبعة الشهاب، 1999)، ص217-230.
207
لشريكه الهادي خذيري الذي كان وراء إشاعات ما بين عامي 1987 و1988 حول تعيينه الوشيك وزيرًا أول.
استند حمروش إلى ما يمكن تسميته الجناح «المدني» في حزب فرنسا. وقد تمحور عمله خلال ولايته التي دامت 21 شهرًا حول ثلاث مسائل:
- مواصلة «الإصلاحات الاقتصادية».
- تسيير ملف المديونية الملتهب.
- الاستيلاء على جبهة التحرير الوطني وتحويلها إلى أداة لتعزيز سلطته.
أ-مواصلة الإصلاحات الاقتصادية
دار الكلام كثيرًا بين عامي 1989 و1991 على الإصلاحات، ولاسيما الإصلاحات الاقتصادية التي طالما شوهتها وسائل الإعلام بأمر من حكومة سرايا سمّت نفسها بالمناسبة «حكومة الإصلاحات» ولم تكن تشكل بالنسبة إليها، في الواقع، إلا مشروعًا تجاريًا سياسيًا.
لقد تناولنا في الفصل السابق السياق الذي جرى فيه تصوُّر الإصلاحات الاقتصادية وتطبيقها في المرحلة الأولى (1981-1985). وقد تم تدعيم هذه الإصلاحات في مرحلة ثانية بتدابير تنظيمية وحقوقية أخرى صدر القرار بها في عامي 1986 و1987. ولقد تم إطلاق هذه الإصلاحات في إطار مسعىً إجمالي متماسك في عام 1981، بهدف تحسين شروط اشتغال الاقتصاد، وزيادة فعالية العاملين فيه، وتوفير شروط الزيادة القصوى للإنتاج وللفائض الذي يمكن إعادة استثماره.
لقد استفادت عصبة حمروش من ولاية مرباح (نوفمبر (تشرين الثاني) 1988-سبتمبر (أيلول) 1989) لتهيئة برنامجها الحكومي والانتقال إلى الهجوم بهدف توطيد وضعها في السباق نحو قمم السلطة.
(1) تطبيق «الإصلاحات»: إن برنامج حكومة السرايا، المسمى برنامج «الإصلاحات» والذي جرى تقديمه إلى المجلس الشعبي الوطني في سبتمبر (أيلول) 1989، يتمحور حول الأفكار الأساسية التالية:
- وضع حد للآليات الإدارية التي تشكل كابحًا لـ «تطوير استراتيجيات الاستثمار والإنتاج».
- وضع حد لمنظومة التنظيم المركزية التي لا تتيح الرد على أزمة الجزائر الاقتصادية.
208
- استعادة الريع الذي صادره المضاربون و«المهربون» وتخصيصه للأهداف الإنتاجية.
- الحيلولة دون أن تتدخل الخزينة بعد الآن لتمويل استثمارات المنشآت، بعد أن أصبحت العلاقات بين هذه الأخيرة والمصارف علاقات تجارية.
- إنشاء مكاتب مكلفة بتنظيم عملية ضبط أسواق المنتجات المستوردة.
- تطبيق القانون الجديد المتعلق بالأسعار (الذي تبناه المجلس الوطني في ظل حكومة مرباح)، والنضال ضد التضخم باللجوء إلى سياسة نقدية، والمحافظة على قدرة المواطنين الشرائية.
وفي الواقع، لقد ابتعدت حكومة حمروش كثيرًا عن مضمون الإصلاح وبرنامجه الذي تبناه المجلس الوطني الشعبي، إلى حد أن الأعمال التي أطلقتها في مجالات عديدة كانت نتائجها سلبية.
(2) نتائج سياسة «الإصلاحات»: ما هي نتائج سياسة «الإصلاحات» هذه، التي وضعت موضع التطبيق ما بين عامي 1989 و1991؟
لا أحد يمكنه أن ينكر سوء تطبيق «الإصلاحات» المعلن عنها، كما تثبت ذلك الوقائع التالية:
1- عدم إرساء الآليات الاقتصادية التي ينبغي أن تحل محل الآليات الإدارية.
وقد نجم عن ذلك أن المنشآت بقيت تتجاذبها المنظومتان القديمة والجديدة. فليس هناك استقلال فعلي للمنشآت، ولا نشاطات لصناديق المشاركة (4).
2- مواصلة التدخل الإداري في اشتغال شركات الدولة. وفي هذا الإطار، وصلت البلبلة في أصول التموين والتمويل الخارجي لشركات الدولة إلى حد أن قروض الاستيراد التي قررتها الحكومة في ديسمبر (كانون الأول) 1989 للعام 1990 لم تكن قد نُفَّذت بعد مرور ثمانية أشهر.
3-إعفاء الإطارات من العمل بشكل كثيف. إن الإطارات المفترض أن
.......................
(4) إن صناديق المشاركة المنشأة بمرسوم، تشارك في رأسمال منشآت عامة في مختلف القطاعات، بواسطة الأسهم التي تحولها الدولة إليها. وهي تمارس بهذه الصفة حقها في مراقبة نشاطات المنشأة بواسطة ممثليها في مجلس إدارة هذه الأخيرة. والصناديق المشاركة مجلس إدارة تعين الحكومة أعضاءه. وفي الواقع لا تشكل صناديق المشاركة غير حاجز بين الدولة، التي لا يمكن التصرف برأسمالها، والمنشأة الخاضعة لقوانين السوق، والمرشحة بالتالي للحل والتصفية. إن صناديق المشاركة هذه لا تشكل في الواقع غير تضليل لجأت إليه عصبة حمروش لنقل الوصاية على منشآت الدولة من وزاراتها المعنية إلى وزارة المالية والوزير الأول.
209
يكونوا محركي الإصلاحات والمشرفين على استقلالية المنشآت العامة، باتوا أولى ضحاياها.
4-إن تفاقم وضع المنشآت العامة الاقتصادي والمالي قد نجم بوجه خاص عن عدم تنفيذ الحكومة تعهداتها لتحسين وضعها المالي. فالقرار الذي اتخذته الحكومة بتحويل القروض قصيرة المدى الممنوحة للمنشآت العامة إلى قروض متوسطة وبعيدة المدى في ستة أشهر لم يوضع قط موضع التطبيق.
5-تهميش الزراعة. إن خنق الزراعة هو سمة أخرى من سمات التطبيق الدغمائي لـ «الإصلاحات». فليس من عوامل إنتاج للمزارعين، وليس من تمويل بسبب التطبيق الأعمى لمبدأ الصفة التجارية، وبسبب معدلات الفائدة المرتفعة جدًا، وبسبب السياسة النقدية المقيَّدة.
6-بخصوص التجارة الخارجية، تم إضفاء الشرعية على «التهريب»، فبدلاً من «استعادة الريع» الذي استولى عليه المضاربون و «المهرَّبون» وتحويله إلى غايات إنتاجية، كما أعلنت الحكومة في سبتمبر (أيلول) 1989 أمام المجلس الشعبي الوطني، فضلت إضفاء الشرعية على اقتصاد مكتب الصرافة معطية الأولوية للاستيراد والاستهلاك على حساب الاستثمارات المنتِجة، لأهداف انتخابية.
7-سياسة نقدية صارمة. لقد ألحق التطبيق الدقيق والفظ للتدابير النقدية التي قررتها الحكومة الكثير من الأضرار بالاقتصاد الوطني، ومن ذلك:
- عدم حصول انتعاش للاقتصاد، خلافًا لما جرى الإعلان عنه؛
- انخفاض الإنتاج ومعدل النمو الاقتصادي؛
- إبطاء، لا بل توقف، وحدات إنتاج عامة وخاصة؛
- نقص في مواد البناء وعواقب ذلك الوخيمة على وتيرة البناء؛
- زيادة البطالة؛
- الارتفاع السريع لمعدل التضخم.
8-تفاقم التوترات الاجتماعية. لقد تضاعفت الاضرابات بوتيرة غير مسبوقة، وامتدت إلى مجمل النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك الإدارة. وفي الواقع، إنها المرة الأولى منذ الاستقلال التي يحصل فيها إضراب في مقر وزارة الخارجية.
باختصار، إن سوء تطبيق «الإصلاحات» أو عدم تطبيقها عبرَّ عن نفسه بتوسع الاستياء الشعبي، وبإحباط الإطارات، وفقدان «حكومة الإصلاحات» صدقيتها.
210
وقد زادت من حدة فقدان الصدقية هذه الطريقة التي تم بها تسيير ملف المديونية الخارجية.
ب-تسيير المديونية الخارجية
إن المديونية الخارجية، المعتبرة موضوعًا يحظَّر الخوض فيه خلال السبعينيات، والتي يخشاها المواطنون كثيرًا، بات يُنظر إليها على أنها المسؤول الرئيسي عن الأزمة الاقتصادية. ويتولد لدى الجزائريين الانطباع بأن السلطات العامة تخفي عنهم الحقيقة في هذا الصدد. بيد أن الشعب الجزائري لم يكن يعرف أن الجزائر خضعت لعلاج صندوق النقد الدولي في عامي 1990 و1991.
ففي الواقع، إن حكومة حمروش طبقت برنامج صندوق النقد الدولي من دون الصندوق، ولكن في إطار اتفاق جرى التوقيع عليه مع البنك الدولي.
هي ذي بعض التدابير التي اتخذتها الحكومة الجزائرية في عام 1990 بعد مفاوضات مع البنك الدولي للحصول على قرض مهم وهي تتفق مع برنامج التصحيح الهيكلي الذي دعا إليه صندوق النقد الدولي.
إن عصبة حمروش التي تجاهلت الإصلاحات الاقتصادية المطبَّقة ما بين عامي 1981 و1984، لا بل نددت بها، لتعود فتتبناها منذ عام 1987، فكرت في أن تستفيد وحدها من انتعاش اقتصادي كانت تعتبر بخفَّة أنه في متناول يدها. لكن الوقائع لم تبيَّن فقط أن مصادرة سياسة الإصلاحات لمصلحتها لم تنتج الآثار المتوقعة والتي تم الإعلان عنها بالكثير من الجلبة، بل أثبتت أيضًا أن تطبيق «الإصلاحات» ابتعد على الأرض عن الأهداف المحددة. وهنا أيضًا جرى إدراك أن المسافة بين الخطاب والممارسة كبيرة جدًا. فعلى مستوى هذه المسألة الأساسية، بقيت عصبة حمروش مخلصة للمنظومة السابقة التي تدعي أنها تريد تغييرها. فلا شيء تغير بالفعل، أكان في الجوهر أو في الطرق أو في المسعى.
سوف يذكر التاريخ بؤس هذه الحكومة وجهلها بتعقُّد الوقائع الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر فضلاً عن عدم أخذ ظاهرة عولمة الاقتصاد بالحسبان. فعلى الصعيد الدولي، اكتفت هذه الحكومة بالتوافق مع الأهداف الفرنسية في الجزائر، متجاهلة أبعاد العولمة ورهاناتها الحقيقية. إن غياب إرادة سياسية لبناء المغرب الكبير تتجه إلى تنظيم التكامل الاقتصادي الإقليمي، وغياب سياسة ديناميكية لتنويع تبادلات الجزائر الخارجية مع الوطن العربي وبلدان أخرى في العالم الثالث، للحد من انعكاسات العولمة السلبية، كافيان لإظهار حدود هذه السياسة المناصرة
211
للفرنكوفونية، وهي سياسة تعتبر أن علاقات مميَّزة مع فرنسا هي وحدها القادرة على مساعدة الجزائر على الخروج من أزمتها الاقتصادية، وبالتالي السياسية.
إن فقدان هذه الحكومة صدقيتها على المستوى الداخلي لم يمنعها من أن تيمَّم وجهها شطر جبهة التحرير الوطني لوضع اليد عليها واستخدامها لأهداف سياسية تتيح لها البقاء في السلطة، لا بل تعزيزها في إطار الانتخابات التشريعية التي كان مخططًا لها آنذاك لكي تتم في 27 جوان (حزيران) 1991، واتخاذ مواقع لها لأجل الانتخابات الرئاسية القادمة.
ج-محاولة تدجين جبهة التحرير الوطني
من الواضح أن جبهة التحرير الوطني كانت تعيش حالة أزمة داخلية تعتمل فيها منذ زمن طويل. لهذا السبب فإن التقدير الموضوعي لأهمية استخدام الحكومة لجبهة التحرير الوطني بين عامي 1989 و1991 يستدعي التذكير بسياق الأزمة التي سيقت إليها جبهة التحرير الوطني.
(1) أزمة شرعية جبهة التحرير الوطني: لقد امتلكت جبهة التحرير الوطني دائمًا مشروعًا اجتماعيًا قابلاً للحياة يستلهم فلسفة نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، والمثل العليا والقيم الوطنية، من برنامج الصومام (1956) إلى الميثاق الوطني (1976)، مرورًا بميثاق طرابلس (1962) وميثاق الجزائر العاصمة (1964).
لم تكن مشكلة جبهة التحرير الوطني يومًا مشكلة مذهب، بل مشكلة تطبيق بالأحرى ترتبط ارتباطًا وثيقًا باختيار الناس وطرائق العمل. والانحراف الرئيسي يكمن في التباعد بين الخطاب والممارسة، بين النصوص الأساسية المتبناة ووضعها موضع التنفيذ. إن جبهة التحرير الوطني، التي كانت تمتلك في البداية سلطة هائلة حصلت عليها بفعل الشرعية التاريخية ونظرًا لدواعي إعادة البناء الوطني، كان أحد أخطائها الجسام أنها لم تشعر يومًا بالحاجة إلى التزود مجددًا بالشرعية الشعبية المتجددة باستمرار والوحيدة الكفيلة بصدقيتها ونجاح عملها. إن العمل بنوع من التفويض خارج أية شرعية شعبية يتم التحقق منها باستمرار بالطرق الديمقراطية كان في أصل أزمة الشرعية.
إن الأولوية التي منحتها السلطة منذ عام 1965 لبناء الدولة أرجعت إلى المقام الثاني تأسيس حزب حقيقي منغرس في الجماهير. إن جبهة التحرير الوطني التي كانت تعتبر رسميًا حزبًا في السلطة تحولت إلى حزب للسلطة. لقد استُخدْمت في الواقع
212
حجَّةً، وغطاءً شرعيًا، وأداةً لسلطة الدولة ومجرد جهاز يتم استخدامه كناقلٍ لحركة سياسيةٍ أعدتها سلطات البلد ووضعتها في التطبيق.
وإذا كانت القاعدة النضالية لجبهة التحرير الوطني سليمة باستمرار في غالبيتها الساحقة، فلقد أُفرغت الجبهة خلال أزماتها المتعاقبة من عدد كبير من عناصرها الصادقة والوطنية، مخليةً المكان لاختراق الجهاز بعناصر انتهازية اجتذبتها امتيازات المسؤولية.
إن انعدام الديمقراطية في الاشتغال الداخلي للحزب، وغياب حوار حقيقي وخصب بين القاعدة المناضلة وهيئات الجهاز، ونبذ كل نقد بنَّاء، وعدم أخذ (هذا الجهاز) اهتمامات القاعدة على عاتقه، والاختيار غير الديمقراطي للمسؤولين في كل المستويات فضلاً عن المرشحين إلى الانتخابات البلدية، والجهوية (للولاية) والتشريعية، كل ذلك ساهم في شيخوخة الحزب والقطيعة مع القاعدة اللتين ولَّدتا أزمة ثقة. وفي هذا السياق بالذات حاولت عصبة حمروش أن تدجن الحزب تحت ستار «تجديد جبهة التحرير الوطني».
(2) «تجديد» جبهة التحرير الوطني: من المؤكد أن تكييف جبهة التحرير الوطني مع الشروط السياسية الجديدة يفرض نفسه، ولاسيما بعد تبني دستور فيفري (شباط) 1989 الذي فتح الميدان السياسي رسميًا أمام المنافسة والديمقراطية. والحال أنه لتنجح أي محاولة تكييف لجبهة التحرير الوطني أو تجديد لها يجب أن تستجيب لبعض المقاييس والمتطلبات المستقبل. وهو ما لم يحصل قط.
لقد كان «تجديد» الحزب بالأحرى عملية سياسية منحرفة لاستخدام جهاز جبهة التحرير الوطني كغطاء للسياسة الحكومية. ولم يُرد بهذه العملية إبعاد عدد من القادة الوطنيين والنزيهين الأحرار عن السياسة فقط، بل أيضًا تطبيق سياسة اقتصادية واجتماعية تتعارض مع مُثُل جبهة التحرير الوطني العليا ومبادئها.
لقد استند «تجديد» الحزب إلى نوع من المعارضة التي أريد خلقها بين أجيال المناضلين، الشباب والأقل شبابًا، القدامى والجدد. إن هذا المسعى الخاطئ الذي استخدمته عصبة حمروش ينطوي على فروق مصطنعة وخطيرة على تماسك الحزب وفعاليته وهو يشكل عامل انقسام وبلبلةٍ إضافيًا يفتح الطريق للانتهازيين.
إن مسعىً سليمًا يكمن بالأحرى في خلق اتحاد وثيق بين أجيال المناضلين، حيث أن التمييز الوحيد يجب أن يتم على مستوى درجة الالتزام والإخلاص، ليس حال
213
الناس بل حيال مبادئ جبهة التحرير الوطني وتوجهاتها ومذهبها، وعلى مستوى صدق كل واحد وكفاءته، وخبرته ونزاهته.
إذا كانت المشكلة هي في اجتذاب الشبيبة نحو الحزب، ينبغي تقديم سياسة تجد الشبيبة فيها نفسها، ليس بشعارات تكتلية بل بأعمال ملموسة تعكس تطلعات الشعب الجزائري الأساسية.
في الوقت نفسه، جرى الإعلان بصورة صاخبة في وسائل الإعلام بأن جبهة التحرير الوطني هي صاحبة فكرة «الإصلاحات» السياسية والاقتصادية التي أطلقتها الرئاسة وحكومة حمروش. والحال أن هذا ليس صحيحًا. فليست جبهة التحرير الوطني هي التي اقترحت الإصلاحات السياسية، لا بل هي لم تناقشها، كما سبق ورأينا في الفصل السابق. لقد عرفت بها القاعدة النضالية فضلاً عن القيادة السياسية، أي اللجنة المركزية، في الوقت نفسه الذي عرف فيه بها المواطنون بواسطة الصحف. فالإصلاحات السياسية أُعدَّت من دون أي استشارة مسبقة لجبهة التحرير الوطني على أيًّ من مستوياتها. أما ملف «الإصلاحات الاقتصادية» فقدمته الحكومة إلى اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني للحصول على موافقتها خلال دورتها المنعقدة في أول مارس (آذار) 1990. وإذا أخذنا بالحسبان أن المقصود هو وثيقة جزئية لا يمكن اعتبارها برنامج عمل، فإن اللجنة المركزية قررت، بعد مناقشات طويلة، اعتبارها وثيقة للإعلام، لا أكثر. بالمقابل، ناقشت اللجنة المركزية وتبنت تدابير ملموسة أخرى من شأنها تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهي تدابير لم تحترمها الحكومة في عملية التطبيق.
هذا ولقد أخفقت في الأخير محاولة تدجين جبهة التحرير الوطني عن طريق «التجديد»، وإن كانت الحكومة ظلت تحوز دعم الانتهازيين داخل اللجنة المركزية.
لقد قلت آنذاك لأنصار عصبة حمروش الذين كانوا يدعون مسؤولين في جبهة التحرير الوطني لمغادرتها وإنشاء أحزاب أخرى إن «من يؤمنون بمبادئ الجبهة وخياراتها الأساسية ويناضلون لتجسيدها لا يمكن أن يغادروها. على العكس، فأولئك الذين انحرفوا وابتعدت أعمالهم الاقتصادية والاجتماعية كثيرًا عن النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني يلزمهم أن يغادروها ويؤسسوا حزبهم الخاص بهم. ولا ينبغي قلب القيم ولا قلب الأدوار، وآن الأوان للخروج من «المتاجرة السياسية» (5).
..........................
(5) مقابلة أجرتها مع عبد الحميد براهيمي يومية المجاهد، 22/10/1990.
214
خلال تلك الفترة الانتقالية المتميزة بالاعتراف بالتعددية الحزبية، وحرية التعبير، والمنافسة السياسية، كان ينبغي أن تكون سياسة الحكومة هي سياسة جبهة التحرير الوطني التي تتبناها هذه الأخيرة وليس العكس. فلقد ولى ذلك الزمن الذي كان يُستخدم فيه جهاز جبهة التحرير الوطني عن طريق القيام بكل شيء باسمه في الوقت نفسه الذي يجري فيه تجاهل مُثُله ومبادئه أو ازدراؤها. لقد استخدمت الحكومة كل الوسائل الممكن تخيلها لكسب الانتخابات البلدية وانتخابات الولايات في جوان (حزيران) 1990، ولاسيما عن طريق إرسال وزراء وأعضاء في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني ليقوموا بالحملة الانتخابية ويدعموا مرشحي جبهة التحرير الوطني في أول انتخابات متعددة للحزب في الجزائر منذ عام 1962. لكن هزيمة جبهة التحرير الوطني في الانتخابات البلدية والجهوية في جوان (حزيران) 1990 بيَّنت، إذا اقتضى الأمر، حدود هذه الحكومة (6).
في ذلك الحين بالذات زادت حدة هجوم عصبة بلخير لإزاحة حمروش وإحلال جماعتها محل جماعته.
2-عصبة بلخير
أ-تذكير سريع بتكريس بلخير
يَحسُن الرجوع قليلاً إلى الوراء لنحدد بشكل أفضل ظروف خلافة حمروش التي كرست غلبة عصبة بلخير، هذه العصبة التي تمثل نوعًا ما الجناح العسكري لـ«حزب فرنسا» والتي لم يعد لها من منافس في قمة مؤسسات البلد.
ففي الواقع، إن العربي بلخير، الحاظي بدعم بعض كبار الضباط من قدامى عناصر الجيش الفرنسي الذين يشكلون عصبةً شديدة التلاحم، لم ينتظر عام 1989 لتعزيز مواقعه. فلقد بدأ عمله في الهدم ووضع الألغام منذ عام 1980 حين عُيَّن أمينًا عامًا لرئاسة الجمهورية. وبعد أن وطد الثقة التي وضعها فيه الرئيس الشاذلي في ولايته الأولى، انتقل بلخير إلى السرعة القصوى لتعزيز معسكره في مؤسسات الدولة، ولا
.................................
(6) حين طلب مني أن أقوم بحملة لصالح مرشحي جبهة التحرير الوطني في الانتخابات البلدية، رفضت العرض لأنني لم أعد أجد نفسي في التوجهات الجديدة لجبهة التحرير الوطني. ولقد كان هذا هو السبب الذي لأجله استقلت من اللجنة المركزية في أكتوبر (تشرين الأول) 1990، محتفظًا بعضويتي في جبهة التحرير الوطني التي لا أزال مرتبطًا بها من حيث المبدأ حتى هذا الحين.
215
سيما منذ جانفي (كانون الثاني) 1984. وقد امتدت أعماله عمليًا إلى كل الميادين، الداخلية منها والخارجية.
(1) على الصعيد الداخلي: كان بلخير يُظهر، على المستوى الداخلي، صورة المعاون «المخلص، والمطيع والمنضبط» لرئيس الجمهورية، الذي أشركه في كل قرارات الدولة المهمة. لم يعد يمكن تجاوزه للتعيين في وظائف الدولة العليا، بما في ذلك تعيين أعضاء الحكومة.
ومن جهة أخرى، بما أن رئيس الدولة هو أيضًا الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، كان بلخير يلعب، من بين أدوار عديدة (بالتنافس مع مصالح الأمن)، دورًا حاسمًا في اختيار أعضاء اللجنة المركزية، الخاضع لموافقة مؤتمر جبهة التحرير الوطني، ولاسيما خلال المؤتمر الخامس (ديسمبر (كانون الأول) 1983) والمؤتمر السادس (نوفمبر (تشرين الثاني) 1988)، ويتدخل حتى اشتغال جهاز جبهة التحرير الوطني.
بما أن رئيس الدولة هو أيضًا وزير الدفاع، كان بلخير يكلف بمتابعة اشتغال الجيش ومصالح الأمن المدنية والعسكرية. وقد ازداد وزنه كثيرًا بعد إقصاء اللواء الركن مصطفى بلوصيف.
فضلًا عن ذلك، كان بلخير، بوصفه أمينًا عامًا للرئاسة، ثم مديرًا للديوان الرئاسي، يلعب دورًا نشيطًا جدًا في تعيين الولاة، ورؤساء الدوائر، والمديرين العامين للمصارف والمنشآت العامة، والسفراء (في البلدان المعتبرة استراتيجية)، ويستغل ذلك ليضع فيتلك المناصب العناصر المخلصة لعصبته، متجاوزًا هكذا الوزراء المعنيين.
في عام 1984، أنشأ جهاز استقصاء في مقر الرئاسة أُسندت إدارته إلى قاضٍ سابق قريب منه هو أحمد ونجله. باتت مديرية الاستقصاء العامة هذه فوق ديوان المحاسبة الذي أنشئ في عام 1980 ووضع تحت وصاية الرئاسة. وسرعان ما صارت هاتان المؤسستان أداة مرهوبة لتصفية الحسابات لأجل إقصاء المسؤولين في كل المجالات (وزراء، أعضاء لجنة مركزية لجبهة التحرير الوطني، مديرين عامين للمصارف وشركات الدولة، سفراء، ... الخ) وإحلال عناصر موالية محلهم.
(2) على الصعيد الخارجي: إن بلخير، الحاظي بثقة رئيس الدولة المطلقة، نجح على الصعيد الخارجي في ترجيح كفته في العلاقات الخارجية، ولاسيما مع فرنسا والعربية السعودية والمغرب على حساب وزارة الخارجية. وكان يعرف ذلك الوزيرُ
216
الأول فضلًا عن الوزراء المعنيين بملفات تعاون مع هذه البلدان الثلاثة. وقد كانت علاقاته الرسمية وغير الرسمية مع فرنسا خاصة وكثيفة جدًا. وعلى مر السنين، لم يعد يمكن تجاوزه بخصوص العلاقات السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية، والعسكرية، والأمنية والسرية (7) مع فرنسا. وعلاقاته مع مختلف الأوساط الفرنسية متواترة جدًا وفق المعلومات التي بحوزتي. ومحاوروه المفضلون هم في قصر الأليزيه (رئاسة الجمهورية الفرنسية) وفي ساحة بوفو (وزارة الداخلية) حيث كانت له علاقات مستمرة. وقد كانت وقائع ومؤشرات كثيرة توحي بأن علاقات بلخير المتعددة الأشكال مع شتى مراكز القرار الفرنسي غير متكافئة وتخدم مصالح فرنسا في الجزائر. ففي الواقع، كان يبدو أن الجانب الفرنسي يستخدم وسائل كثيرة للتأثير في وجهة عمل الجزائر في مجالات شتى. وكان ذلك يتراوح بين دغدغة حب الذات والكبرياء لدى القادة الجزائريين والتلاعب بالأحداث لتوجيه أصحاب القرار الجزائريين في الاتجاه الذي تتمناه الأوساط الفرنسية ليس فقط في الميدان الخارجي، بل أيضًا في الميدان الداخلي.
كان توسع دور بلخير في أجهزة الدولة والنجاحات التي سجلتها عصبته على مر السنين تزيد من طموحه. هكذا انتقل بعد أحداث أكتوبر (تشرين الأول) 1988 إلى الهجوم.
ب- هجوم عصبة بلخير:
أدى تعيين حكومة حمروش في سبتمبر (أيلول) إلى التشويش قليلًا على عمل هذه العصبة الهجومي، لكنه لم يوقفه. في غضون ذلك، كانت هذه العصبة قد انكبت على إحداث تغييرات داخل الجيش. ففي الواقع، دشن إقصاء اللواء الركن مصطفى بلوصيف في نوفمبر (تشرين الثاني) 1986 مرحلة جديدة تتميز بالسيطرة التدريجية على الجيش الوطني الشعبي، في أعلى المستويات، من طرف «الفارين» من الجيش الفرنسي، وهو ما أنهى التوازن الهش بين هؤلاء والجنرالات الوطنيين، من قدامى المقاومين. ولقد سرَّع هذه السيرورة تعيين الجنرال خالد نزار رئيسًا للأركان في عام 1989، خلفًا للواء الركن عبد الله بلهوشات.
(1) التغييرات في قمة الهرم العسكري: شكل العام 1989 منعطفًا في دور الجيش الوطني الشعبي في المجال السياسي. فمنذ عام 1962، تكرست بالوقائع هيمنة
................................................
(7) نعني بـــ «العلاقات السرية» العلاقات مع بعض المصالح الخاصة الفرنسية، المعروفة بذهنيتها الاستعمارية وسلوكها المعادي للجزائر.
217
الجيش على السلطة السياسية. فجيش التحرير الوطني، الذي غدا الجيش الوطني الشعبي، هو الذي نصَّب بين بللا رئيسًا للدولة الفتية في العام 1962. وهو الذي أقاله في عام 1965 و1978، كان بومدين يسيطر وحده على المسرح السياسي، ممثلًا في آن معًا الجيش والدولة وجبهة التحرير الوطني. في تلك الفترة، لم يكن الجيش يتدخل كمؤسسة في تسيير شئون البلد السياسية. فلقد كانت مهام الجيش الوطني الشعبي المحددة في الميثاق الوطني تتمثل في:
- الدفاع عن وحدة الأرض وحماية حدودها؛
- الدفاع عن الثورة الاشتراكية؛
- الإسهام في تنمية البلد وبناء مجتمع جديد (8).
لكن حضور العسكريين في أجهزة الدولة تم في إطار مؤسساتي. كانت السياسة الداخلية والخارجية حكرًا على الرئيس بومدين وحده. وبين عامي 1979 و1988، تم وضع يد الجيش ومصالح الأمن على الدولة وجبهة التحرير الوطني بمباركة الرئيس الشاذلي بصورة مؤسساتية أيضًا. وقد تزايد دور العسكريين ومصالح الأمن في تسيير أجهزة الدولة وجبهة التحرير الوطني كثيرًا خلال تلك الفترة.
لقد تلا تبنّي الدستور الجديد في 23 فيفري (شباط) 1989 انسحاب العسكريين في 4 مارس (آذار) 1989 من اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني ومن قيادتها. وبُرَّز ذلك الانسحاب رسميًا باحترام الجيش للتعددية الحزبية ولسيرورة الدمقرطة. لكن الأحداث سوف تُظهر أن هذا الانسحاب لم يكن حياديًا ولا بريئًا، فلقد كان يكرس في الواقع قطعًا مع الفترة السابقة التي كان الجيش يحترم خلالها خيارات البلد السياسية والأيديولوجية ويدافع عنها. ومنذ ذلك الحين، سوف يتجه الجنرالات «الفارون» من الجيش الفرنسي نحو سياسة متصفة بالعداء للإسلام والحقد على اللغة العربية بوقوفهم في مواقع متعارضة مع الثوابت الوطنية ومكوّنات الشخصية الجزائرية التي أكدتها كل دساتير الجزائر منذ عام 1963. ولكي يكون هؤلاء الجنرالات الذين يمثلون تيارًا سياسيًا أقليًا طليقي اليدين، عززوا مواقعهم داخل الجيش بين عامي 1988 و1990 بإقناع الرئيس الشاذلي بإجراء بعض التعيينات والإرحالات إلى التقاعد التي كان ضحاياها جنرالات لا ينتمون لتيارهم، أو لقبول استقالة بعض الجنرالات الوطنيين. هكذا حدثت عام 1988 التغييرات التالية:
..........................................
(8) Algeria, National Charter (Algiers: Democratic and popular Republic of Algeria. Ministry of Culture and Information, 1981), p. 90.
وقد ترجمه المؤلف عن الانكليزية.
218
- أحيل الجنرال مجذوب لكحل عياط إلى التقاعد.
- أحيل الجنرال محمد علاق إلى التقاعد.
- الجنرال علي بوحجه، أحيل إلى التقاعد.
- الجنرال الهاشمي هجرس، أحيل إلى التقاعد وتم تعيينه في أمانة جبهة التحرير الوطني.
- الجنرال حسين بن معلم، تم تعيينه في رئاسة الجمهورية.
- الجنرال العربي سي لحسن، أحيل إلى التقاعد وعُيِّن سفيرًا.
- الجنرال زين العابدين حشيشي، أحيل إلى التقاعد وعُيِّن سفيرًا.
هذه الحركة، التي لم تمس غير قدامى المجاهدين، تلاها في عام 1989 رحيل الجنرالات الوطنيين التالية أسماؤهم:
- الجنرال- الركن عبد الله بلهوشات، رئيس الأركان، أحيل إلى التقاعد.
- الجنرال كمال عبد الرحيم، نائب رئيس الأركان، استقال بعد تعيين الجنرال خالد نزار في منصب رئيس الأركان، ولم يكن يشاركه تصوره للدفاع الوطني واشتغال الجيش. وقد قُبلت استقالته وغلَّب حقوقه في التقاعد.
- الجنرال اليامين زروال، نائب رئيس الأركان، استقال بعد خلاف مع الجنرال خالد نزار حول إعادة تنظيم الجيش وقد أحيل إلى التقاعد وعُيِّن سفيرًا.
- الجنرال عبد المجيد الشريف، أحيل إلى التقاعد بعد وجهة نظر أبداها بخصوص الجنرال خالد نزار بحضور العقيد حرطاني، الذي كان آنذاك مدير مستشفى عين النعجة، في الجزائر العاصمة.
وفي عام 1990، استقال الجنرال محمد عطايلية بعد تعليمات تعويقية أعطاها الجنرال خالد نزار (الذي كان قد عُيِّن للتوّ وزيرًا للدفاع) لقادة الجهات العسكرية لمنعه من أن يمارس بشكل سليم مهمته كمفتش عام للقوات المسلحة (9).
وبالتوازي مع ذلك، تم تعيين «الفارين» من الجيش الفرنسي في المناصب التالية:
- الجنرال خالد نزار، عُيِّن رئيسًا للأركان في عام 1989، ثم وزيرًا للدفاع في العام 1990.
- الجنرال عبد المالك قنايزية، عُيِّن رئيسًا للأركان في العام 1990، خلفًا للجنرال خالد نزار.
..............................................
(9) انظر المقابلة التي أعطاها الجنرال محمد عطايلية لجريدة الحياة، 25/ 4/ 2000.
219
- الجنرال محمد تواتي (القريب من حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية)، عُيِّن مستشارًا لوزير الدفاع في العام 1990، وهو منصب لا يزال يشغله في العام 2000.
- الجنرال عباس غزيل، عُيِّن قائدًا للدراك الوطني في العام 1988.
- العقيد محمد مدين (10)، عُيِّن مسؤولًا عن الأمن العسكري في العام 1989، وهو منصب لا يزال يشغله في العام 2000.
- الجنرال محمد العماري، عرف صعودًا صاعقًا انطلاقًا من العام 1989، تاريخ إحالة الجنرالات الوطنيين المذكورين أعلاه إلى التقاعد. كان نشيطًا جدًا في قمع مظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) 1088. وفي العام 1992، أسس وقاد القوات الخاصة المكلفة بمحاربة الإسلاميين المسلحين. وهو مشهور بقمعه الشرس للحركة الإسلامية. وقد عُيِّن في العام 1993 رئيسًا للأركان، وهو منصب لا يزال يشغله حتى كتابة هذه السطور.
هذه التعديلات في قمة الهرم العسكري، التي خطط لها العربي بلخير وخالد نزار، كانت تشكِّل مرحلة على طريق الانقلاب وتلتها تغييرات أخرى سوف نتطرق إليها لاحقًا. وبواسطة هذه التغييرات استهدف جنرالات حزب فرنسا، الذين كانوا آنذاك تيارًا أقليًا، السيطرة من دون منازع على الجيش واستخدامه كأداة لسياسة قمعية وبوليسية، بعيدًا عن الثوابت الوطنية ومصحة البلد العامة.
لكن الفوز السياسي غير المتوقع لجبهة الانقاذ الإسلامية (الفيس) في الميدان، في العامين 1990 و1991، أثار اندفاع هؤلاء الجنرالات، المستلبين ثقافيًا، لتسريع الأمور والانتقال إلى الهجوم.
لما كانت عصبة بلخير من أنصار سياسة القوة، اتهمت حكومة حمروش بالتسامح والميوعة إزاء صعود «الخطر الإسلامي». وتتيح بعض الأمثلة إبراز طبيعة هذا الهجوم للاستيلاء على السلطة، عبر استخدام كل شيء لمنع جبهة الانقاذ من الوصول إلى السلطة ديمقراطيًا.
(2) الانتخابات البلدية: غداة انتخابات جوان (حزيران) 1990 البلدية، فوجئ الجنرالات «الفارون» من الجيش الفرنسي بانتصار جبهة الانقاذ الإسلامية (FIS) التي فازت في 55 بالمائة من البلديات. في ذلك الحين، تم اجتماع حول
............................................
(10) مع أن الجنرال محمد مدين لم يخدم في الجيش الفرنسي، فقد انتمى إلى عصبة «الفارين» بفعل الجاذبية السياسية والاقتلاع الثقافي، وهو عضو متحمس فيها ونشيط جدًا.
220
بلخير ضم الجنرالات خالد نزار، رئيس الأركان، ومصطفى شلوفي، الأمين العام لوزارة الدفاع، وعباس غزيل، قائد الدرك، ومحمد مدين المدعو توفيق، مسؤول الأمن العسكري، وذلك في مقر رئاسة الجمهورية، لكن من دون علم رئيس الدولة. وقد أفضت نقاشاتهم بصدد فوز جبهة الانقاذ الإسلامية غير المتوقع، والمستقل المباشر للبلد، إلى تبني خطة عمل من شأنها منع الجبهة من الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع.
وقد اتفقوا على إقناع الرئيس الشاذلي إذا لم يكن بإلغاء تنظيم الانتخابات التشريعية المتوقع حصولها في الفصل الأول من العام 1991، فعلى الأقل بتأجيلها كسبًا للوقت. وفي الأخير، وصلوا إلى نتيجة مفادها أنه إذا تمت الانتخابات التشريعية على الرغم من كل شيء، فهم يفضلون «تحويل الجزائر إلى بحيرة دم على القبول بمجلس وطني تسيطر عليه جبهة الانقاذ الإسلامية» (11). هكذا بدأ التحضير للانقلاب.
ولقد نجحوا في الواقع بتأجيل الانتخابات ثلاث مرات، على رغم تعهد رئيس الدولة علانية بتواريخ دقيقة. لكنهم عجزوا عن تأجيل تاريخ 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991، وهو التاريخ الذي تمت فيه أخيرًا الانتخابات التشريعية والباقي معروف.
(3) تدابير ترمي لعرقلة اشتغال البلديات التي تديرها الجبهة الإسلامية للإنقاذ: نجح بلخير وشركاؤه في إقناع حكومة حمروش باتخاذ تدابير إدارية وتنظيمية رامية إلى إعاقة نشاطات منتخبي جبهة الانقاذ الإسلامية على مستوى البلديات.
وفي هذا الإطار، جرى اتخاذ قرارات تنظيمية تهدف إلى الحد من صلاحيات رؤساء البلديات المنتخبين المنتمين إلى جبهة الإنقاذ الإسلامية لصالح الأمناء العامين للبلديات، مرؤوسيهم، ولصالح رؤساء الدوائر الذين تخضع تلك البلديات لوصاية دائرتهم الإدارية. وهكذا وجد منتخبو جبهة الانقاذ الإسلامية أنفسهم بين مطرقة مأمورين إداريين في البلدية وسندان رئيس الدائرة المكلف بالوصاية على البلديات. ومن جهة أخرى، وللتجميد الصريح لعمل جبهة الانقاذ الإسلامية على المستوى المحلي، جرى اتخاذ تدابير أخرى كذلك الذي يرمي إلى خفض الميزانية كثيرًا أو احتجاز التسليفات المقررة للبلديات الواقعة تحت إشراف جبهة الانقاذ الإسلامية.
..........................................
(11) هذه المعلومات نقلها إلى غداة هذا الاجتماع المشهور موظف كبير لا أستطيع كشف اسمه ومهامه لأسباب أمنية.
221
(4) المضاعفة من الاستفزازات لجبهة الانقاذ الإسلامية: بين الاستفزازات الكثيرة التي باشرها بلخير وجنرالات عصبته لتخويف الإسلاميين وإذلالهم بهدف إضعاف جبهة الانقاذ الإسلامية سياسيًا، فلنورد بعض الأمثلة ذات الدلالة:
أولًا، لقد انقضَّت على قادة جبهة الانقاذ الإسلامية ومناضليها موجة قمع، ولاسيما بمناسبة الإضراب الذي قرره هذا الحزب في جوان (حزيران) 1991. فلقد أرسلت السلطات العسكرية، منذ ما قبل الفجر، قواتٍ إلى ساحة الشهداء، في الجزائر العاصمة، أطلقت الرصاص على متظاهرين مسالمين نظموا اعتصامًا سلميًا هناك عشية ذلك اليوم. وقد سقط العديد من المتظاهرين قتلى وأصيب آخرون بجروح خطيرة. وحُلت النقابة التي أسسها إسلاميون قريبون من جبهة الانقاذ الإسلامية. وصرف من العمل آلاف المسؤولين والمناضلين في الجبهة وجرى توقيف عدد كبير منهم بالطريقة الإدارية. وتوِّجت موجة القمع هذه بتوقيف عباسي مدني وعلي بلحاج في جوان (حزيران) 1991، (الأول رئيس الجبهة والثاني نائبه)، بعد رحلة سرية يقال إن بلخير قام بها إلى باريس.
من جهة أخرى، أبرزت وسائل الإعلام كثيرًا تعميمًا لوزارة الدفاع يفرض قيودًا صارمة على الموظفين المدنيين المستخدمين في شتى الأجهزة الواقعة تحت وصاية هذه الوزارة، بما فيها المستشفيات، عبر منع الرجال منهم من إطلاق لحاهم والنساء من ارتداء الحجاب، تحت طائلة الصرف من الخدمة.
وأخيرًا، قام الجيش بسلسلة من أعمال التفتيش في المساجد (12)، لا بل شوهد جنود يدوسون القرآن بأرجلهم، خلال أعمال التفتيش هذه، علمًا أن ممارسات حاقدة وكريهة كهذه غريبة تمامًا عن أخلاق الجزائريين. وهي أمور لم تحدث يومًا من قبل!
(5) استقالة حكومة حمروش: في هذا الجو من الإرهاب والعنف وانتهاك الدستور والقوانين وحقوق الإنسان والحريات الأساسية نجح خالد نزار، وكان آنذاك وزيرًا للدفاع، وبلخير في الاستحصال من الرئيس الشاذلي على إعلان حالة الطوارئ. كما استطاعا أيضًا أن ينتزعا من رئيس الدولة القرار بإقالة حكومة حمروش، متهمين إياها بافتقاد الحزم وبالتسامح. جرى الإعلان عن استقالة هذه الأخيرة في الرابع من جوان (حزيران) 1991، في حين كان الرئيس الشاذلي قد أكد علانيةً دعمه لحمروش في الثاني من الشهر ذاته. كما تمكنا أيضًا من الاستحصال على
.........................................
(12) مصدر هذه المعلومة مقابلة أجريتها مع إمام المسجد المعني.
222
قرار منه بتأجيل الانتخابات التشريعية للمرة الثالثة، وكانت مقررة في 27 جوان (حزيران) 1991.
وقد كرس تعيين غزالي وزيرًا أول انتصار بلخير ونزار وعصبة حزب فرنسا، وشكل طورًا حاسمًا في اتجاه الاستيلاء على السلطة، كل السلطة، الذي تجسَّد بانقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992.
ثانيًا: انقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992
إشارة البدء لمرحلة طويلة من العنف
حين فازت جبهة الانقاذ الإسلامية بـــ 188 مقعدًا من أصل 220 في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991، في حين بقيت في موقع جيد استعدادًا للدورة الثانية، استولى الجيش على السلطة، منحيًّا الرئيس الشاذلي بن جديد وملغيًا الانتخابات بكل بساطة.
لقد برَّر جنرالات حزب فرنسا انقلابهم بالحجج التالية:
1. تريد جبهة الانقاذ الإسلامية الاستيلاء على السلطة بالقوة (هكذا).
2. إذا وصلت جبهة الانقاذ الإسلامية إلى السلطة، لن تحترم الدستور ولا القوانين، وستدمر البلد سياسيًا واقتصاديًا.
3. ضرورة ضمان الأمن واستعادة سلطة الدولة.
4. ضرورة تنظيم الإقلاع الاقتصادي ومكافحة البطالة.
ما الذي حدث في الواقع بعد الانقلاب؟
لابد من أن نلاحظ أن الجنرالات الانقلابيين الذين لم يكونوا يستحوذون لا على الشرعية التاريخية، ولا على الشرعية الشعبية، ولا على الشرعية الدستورية، استولوا على السلطة بالقوة، باللجوء إلى القمع والإرهاب، في جو من غياب العقاب ومن ازدراء الدستور والقوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، ولا سيما تلك المتعلقة بحقوق الإنسان، التي وقعتها الجزائر فضلًا عن ذلك. كان غياب الأمن قد انتشر بشكل واسع على مر السنين إلى مجمل البلد حيث اضمحلت سلطة الدولة. وكان الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي قد تدهور بصورة مفجعة في التسعينيات، كما سنرى لاحقًا بالتفصيل.
كان الجنرالات الانقلابيون يعتمدون في الداخل على أمرين للنجاح: من جهة، على القوة لقمع الناس الذين يختلفون معهم في التفكير عن طريق استخدام السلاح ضد
223
الأفكار والقناعات السياسية للمواطنين، ومن جهة أخرى، على الوعد ببيع 25 بالمائة من آبار نفط حاسي مسعود الذي قطعه غزالي (الذي احتفظوا به وزيرًا أول بعد الانقلاب) لتسديد الدين الخارجي وإطلاق برنامج كبير للأشغال العامة يرمي إلى القضاء على البطالة. كانوا يظنون أن في وسعهم بهذه الطريقة أن يقلبوا الدعم الشعبي لصالحهم في عامين (وهي مهلة حددوها بأنفسهم وهي تتفق مع نهاية ولاية الرئيس الشاذلي) ويحصلوا هكذا على الشرعية، لتبرير بقائهم في السلطة.
وفي الخارج، كانت الطغمة العسكرية تعوِّل على دعم فرنسا السياسي، والدبلوماسي، والمالي والعسكري. فلننظر الآن إلى هذه النقاط الثلاث عن كثب.
1. تورط فرنسا في الأزمة الجزائرية
من المستحسن التذكير، بادئ ذي بدء، بأن ميتران، الذي كان آنذاك رئيسًا للجمهورية الفرنسية، كان وزيرًا للداخلية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، حين أعلن أن المفاوضات الوحيدة الممكنة مع جبهة التحرير الوطني هي «الحرب بكل الوسائل»، وبأن شارل باسكوا، وزير الداخلية الفرنسي بين عامي 1993 و1995، المعروف بدعمه الكثيف للانقلابيين الجزائريين، كان متورطًا خلال حربنا التحريرية كمظلي في الجيش الفرنسي. لقد أوكل إدوار بالادور، الوزير الأول آنذاك، «ملف الجزائر» إلى باسكوا، وليس إلى وزير الخارجية، معتبرًا الأزمة الجزائرية قضية فرنسية داخلية. وقد جنَّد باسكوا لهذه الغاية، كمستشار خاص لأجل الجزائر، جان كلود مارشياني، وهو مظلي سابق قاتل ضد تحرر الجزائر. وساعدته في هذه المهمة مجموعة من الأقدام السوداء (13) كان بعضهم أعضاء في المنظمة السرية المسلحة(OAS) ، المشهورة بجرائمها ضد جزائريين أبرياء وبنشاطاتها التخريبية عشية استقلال الجزائر. إن هذه المجموعة من المسؤولين الفرنسيين ذوي الحضور المؤثر في الإدارة الفرنسية، ولاسيما في مصالح الأمن، استفادت من الأزمة الجزائرية لأخذ ثأرها واستخدام الجنرالات الجزائريين من قدامى الجيش الفرنسي للقيام بالمهمة القذرة التي لم يكن في وسعهم إنهاؤها بأنفسهم خلال حربنا التحريرية الوطنية (14).
...............................................
(13) لقب كان يطلق على سكان الجزائر من أصل أوروبي (المعرّب).
(14) على سبيل المثال، انظر:
Beniost Rey, Les Egorgeurs: Guerre d'Algérie, chronique d'un appelé, 1959- 1960 (Paris: Monde, librairie- los solidarios, 1999).
إن هذا الكتاب الذي خضع مرارًا للرقابة ومنع من الصدور في فرنسا يعطي فكرة عن جرائم مخزية ارتكبها عسكريون فرنسيون في الجزائر خلال حرب التحرير.
224
وتتيح بعض الأمثلة إظهار تورط فرنسا في الأزمة الجزائرية:
- لدينا إثباتات بخصوص محادثة هاتفية، عشية انقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992، بين الرئيس ميتران والجنرال خالد نزار، الذي كان آنذاك وزيرًا للدفاع، اقترح خلالها الرئيس الفرنسي على نزار ضمان حياة الرئيس الشاذلي، معبّرًا له عن «تعاطفه» وواعدًا إياه بالمساعدة (15).
- منذ الانقلاب، قدمت فرنسا، التي تنادي بالديمقراطية في أفريقيا منذ قمة لابول الفرنسية- الإفريقية، دعمًا للنظام العسكري الجزائري، حفيًّا بالتأكيد لكن أكيدًا، في المجالات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية. فإعادة جدولة ديون الجزائر الخارجية لم تحصل على كفالة صندوق النقد الدولي في عام 1994 إلا بدعم من فرنسا التي تكلفت بالتغلب على تحفظات الولايات المتحدة وبريطانيا بوجه خاص وعلى مقاومتهما.
- بين عامي 1992 و2000، دعمت وسائل الإعلام الفرنسية جهازًا نهارًا النظام الديكتاتوري الجزائري. فــ «الاستئصاليون» الجزائريون وممثلوهم الفرنسيون، أبطال التضليل الإعلامي، هم وحدهم الذين دُعوا لإبداء رأيهم بخصوص الأزمة الجزائرية، بإتاحة الفرصة أمامهم لمخاطبة الرأي العام الفرنسي، والأوروبي والدولي، مع تحاشي إعطاء أي فرصة لدعاة المصالحة كي يعبروا عن وجهات نظرهم، حتى إذا كانوا يمثلون الغالبية الساحقة من الشعب الجزائري.
- عبرت فرنسا علانية عن رفضها تشكيل لجنة دولية للتحقيق بخصوص المجازر الجماعية التي اقترفتها وحدات قمع خاصة وميليشيات أنشأها النظام في المدية والرايس وبن طلحة وبني سوس وغليزان، .... الخ في عامي 1997 و1998، وبخصوص انتهاكات حقوق الإنسان، كالتعذيب، وأعمال الخطف، والإعدامات من دون محاكمة، الخ. من جهة أخرى، مارست فرنسا ضغوطًا في جنيف لتفادي أي قرار يدين انتهاكات حقوق الإنسان من طرف الحكومة الجزائرية خلال أعمال لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، خلال دورتها في مارس (آذار)- أفريل (نيسان) 1998، ودورتها في جويليه (تموز) 1998 (16).
................................................
(15) إن النقيب هارون، الضابط السابق في الأمن العسكري، هو الذي كشف مضمون هذه المحادثة، في شهادته أمام لجنة حقوق الإنسان في البرلمان البريطاني (مجلس العموم) في 22 جانفي (كانون الثاني) 1998 في لندن.
(16) انظر:
Joe Stork, Director of Advocacy- Middle East (Washington, DC: Human Rights Watch, (N.D.J).
الذي شارك في أعمال لجنة الأمم المتحدة المشار إليها في جنيف.
225
ويمكن الجميع أن يلاحظوا اليوم أن الجزائر فقدت الهيبة التي اكتسبتنها بفعل 132عامًا من المقاومة، من ضمنها 60 عامًا من النضال ضد الاستعمار الفرنسي (بين عامي 1830 و1881، ثم بين عامي 1954 و1962).
من الواضح أن فرنسا تعيد غزوها للجزائر بوسائل غير الوسائل الاستعمارية للقرن الماضي. فهي تقدم مساعدتها العسكرية الكثيفة للنظام العسكري الجزائري وتبيعه الأسلحة والتجهيزات الأكثر تطورًا لتعزيز قوة العصبة الاستئصالية والمعادية للديمقراطية في الجزائر. وتحاول بواسطة الجنرالات الاستئصاليين أن تغذي سياسة معادية بصراحة للحضارة العربية –الإسلامية التي يتعرف الشعب الجزائري بغالبيته الساحقة إلى نفسه فيها، وذلك لأجل استعادة الجزائر إلى نادي الفرنكوفونية (17).
فلقد باتت الفونكوفونية إيديولجيا للغزو المتجدد الثقافي والاقتصادي للمستعمرات المفقودة.
والحال أن التاريخ يعلمنا بأن الاستعمار الفرنسي كان قد تميز في الجزائر بقمع عسكري، وسياسي، واقتصادي وثقافي أعمى طوال 132 عامًا. وكان ذلك القمع المتعدد الأشكال دمويًا وشرسًا ووحشيًا، وتلته حرب همجية ضد الشعب الجزائري ما بين عامي 1954 و1962.
وبدلًا من دفع تعويضات للجزائر بسبب الجرائم التي لا تحصى المقترفة (ملايين من القتلى الجزائريين خلال القرن التاسع عشر ومليون ونصف المليون من الشهداء في فترة 1954- 1962 وحدها)، والمصادرات لأملاك الجزائريين، فضلًا عن شتى أنواع التدمير المادي على امتداد 132 عامًا من الاحتلال، تغلب بعض الأوساط الفرنسية تلك الفترة المشؤومة الذكر وأفكارها المسبقة لتمنح نفسها حقوقًا على الجزائر والوصاية عليها. وإذا كان ثمة فرنسيون يتجرؤون على ذلك في وضح النهار منذ عام 1992 فلأنهم يستفيدون من تواطؤ جزائريين ليسوا سوى العناصر القديمة في الجيش الفرنسي التي تسيطر من دون منازع على الجيش الجزائري ولاسيما منذ انقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992، وذلك للمرة الأولى منذ استقلال الجزائر.
والفرق الوحيد بين هؤلاء الجنرالات الجزائريين القليلين وموبوتو، هو أن بلجيكا نجحت في ترقية موبوتو من رتبة رقيب أول، وهي رتبته يوم استقلال
.............................................
(17) من المستحسن الإشارة في هذا الإطار إلى أنه للمرة الأولى منذ استقلال الجزائر عام 1962 يحضر وزير خارجية الجزائر الاجتماع الوزاري الذي تلا مؤتمر قادة الدول الإفريقية وفرنسا، المنعقد في باريس في 7 ديسمبر (كانون الأول) 1999.
226
الكونغو، إلى رتبة جنرال خلال عامين، ليصبح رئيسًا للأركان في العام الثالث فرئيسًا للدولة في نهاية العام الرابع، وليحكم كطاغية ويدمر بلده. أما فرنسا فلزمها حوالي ثلاثين عامًا لضمان ارتقاء ضباط صف وملازمين خدموا في صفوف الجيش الفرنسي قبل الاستقلال إلى رتبة جنرال في الجيش الجزائري. وفي الواقع، بات يقود الجيش الوطني الشعبي على أعلى مستوى، منذ عام 1989 وللمرة الأولى منذ الاستقلال، عناصر قديمة في الجيش الفرنسي. ففي عام 19990، بات في مواقع وزير الدفاع، ورئيس الأركان والأمين العام لوزارة الدفاع «فارون» من الجيش الفرنسي، يدعمهم جنرالات آخرون من التيار الفرنسي في مناصب أساسية كالمسؤول عن الأمن العسكري ومساعده، ونائب رئيس الأركان المكلف بالقوات البرية، فضلًا عن مستشار وزير الدفاع. لقد «فر» هذان الأخيران من الجيش الفرنسي في عام 1961، أي قبل أشهر قليلة من وقف النار.
لهذا فإن النظام العسكري الجزائري، الحاظي خفية بدعم بعض الأوساط الفرنسية، يعارض الديمقراطية والشفافية وسيادة الشعب وتطبيق الدستور (الذي يحدد دور الجيش بوضوح) وذلك لأجل بقائه ودوام المصالح الثقافية والاقتصادية الفرنسية في الجزائر. ومعظم الجزائريين يشعرون بأن ما يحدث في الجزائر منذ الانقلاب عام 1992 هو استمرار لحرب التحرير الوطنية. والجميع يعرفون في الجزائر أن الجنرالات الاستئصاليين هم امتداد لفرنسا في الجزائر.
إن حلم فرنسا السياسي والثقافي هو استعادة الجزائر إلى حظيرتها تحت ستار الانتساب إلى منتدى الفرنكوفونية. بمعنى آخر، تحاول فرنسا تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع الجزائر لمصلحتها هي، وذلك لجعلها نهائية تحت ستار الثقافة الفرنسية.
إن المعارضة العامة في فرنسا، وفي الأوساط الاستئصالية الجزائرية، المنسَّقة مع هجمات وفقًا للأصول ضد اللغة العربية على امتداد أشهر –وذلك قبل وقت طويل من صيرورة القانون المتعلق بتعميم استخدام اللغة العربية المحدد تاريخه للخامس من جويليه (تموز) 1998 ساري المفعول- أمرٌ له دلالاته في هذا الخصوص.
إن اغتيال المغني القبائلي معطوب الوناس، بتدبير من بعض الجنرالات، كمحمد تواتي ومحمد مدين وإسماعيل العماري، وإلصاق هذه التهمة بالإسلامين، إنما حصل في ذلك الوقت بالذات لإثارة سخط القبائل على القانون بخصوص
227
اللغة العربية، وتركيز ذلك السخط وتوجيهه. وهذه المناورة الوقحة التي لجأت إليها الأوساط الاستئصالية فضلًا عن الهجمات الفاحشة بواسطة وسائل الإعلام ضد الجنرال محمد بتشين، الذي كان وزيرًا مستشارًا في رئاسة الجمهورية، بلغت من الشدة بحيث أجبرت الرئيس زروال وحكومته على تأجيل تطبيق القانون حول التعريب إلى أجل غير معروف، وعلى إعفاء مستشاره الحكومي من منصبه هذا.
إن الجزائريين يتعرضون منذ انقلاب 1992 (الذي جمَّد بالضبط القانون حول تعميم استخدام اللغة العربية الساري المفعول آنذاك) لحملة تسميم تشنها الدعاية الحاقدة التي تغذيها أوساط فرنسية تعتمد لأجل ذلك على وسائل الإعلام، داخل الجزائر، التي يتحكم بها الجنرالات الاستئصاليون المقتلعة جذورهم والمستعمَرون فكريًا. فهؤلاء يتبنون العنف والقمع كسياسة ترمي إلى حرف التاريخ عن مجراه الطبيعي عبر السعي لإفقاد الإسلام حظوته والتعامل مع اللغة العربية على أنها «عدو» عمومي. إن الخلط وغياب روح المسؤولية لدى هذه الأوساط يرفعها إلى حد وصف المدافعين عن اللغة العربية بـــ «الإرهابيين» (19). ولا شك في أن هؤلاء الاستئصاليين سيخفقون عاجلًا أو آجلًا كما فشل الاستعمار الفرنسي الذي يشكلون اليوم امتدادًا له في الجزائر. لكن في غضون ذلك، كم سيجري من المظالم والدم والجرائم والدموع!!
وعلى الصعيد الاقتصادي، تعتبر فرنسا الجزائر سوقًا ممسوكة. وفي هذا الإطار، تُمنى الجزائر بخسائر جسيمة عن طريق صفقات رابحو ومتكررة. وذلك ناجم عن وجود شبكات مصالح فرنسية في الهرم العسكري، والإدارة الجزائرية، ولدى بعض المسؤولين الاقتصاديين العموميين الجزائريين الذين يخيم الغموض وانعدام الشفافية على أعمالهم.
ولإيضاح ذلك سنكتفي بمثلين:
- استيراد الأدوية: تعطي الجزائر كل حاجاتها الصيدلانية تقريبًا عن طريق استيراد أدوية غالبًا ما تكون مدة صلاحيتها منتهية، وذلك بأسعار أعلى بكثير من أسعار السوق العالمية. وقد حدثت باستمرار بين عامي 1980 و2000، وبصورة
............................................
(18) حول تورط هؤلاء الجنرالات ذوي التوجه الفرنسي في اغتيال معطوب الوناس، انظر الشهادات التي قدمتها «الحركة الجزائرية للضباط الأحرار» على الانترنت: www.anp.org، وانظر أيضًا اليومية الفرنسية: Libération, 26/1/2000.
(19) انظر صحف الوطن ولوماتان وليبرتي في شتى أعدادها الصادرة في شهري جزان (حزيران) وجويليه (تموز) 1998.
128
متكررة، فضائح جرى التكتم عليها في هذا المجال. وخسارة الجزائر مزدوجة: الكلفة الباهظة وغير المبررة للمنتجات المستوردة، وعدم استبدال كميات كبيرة جدًا من الأدوية المنتهية صلاحيتها، والتي يتم إتلافها بصورة منظمة.
وفي هذا السياق، أكدت الأوساط الرسمية الجزائرية في أوت (آب) 1996 أن وزارة الصحة ألغت للتو عقدًا مع شركة فرنسية لأن أسعار الأدوية المستوردة تزيد بنسبة 65 بالمائة، ليس على الأسعار العالمية بل على الأسعار التي تعتمدها في العادة الشركة الفرنسية نفسها، ولأن هذا الوضع مستمر منذ عام 1994(20).
- استيراد الحبوب: يتجلى الاستيراد المكثف للحبوب من فرنسا منذ انقلاب عام 1992 بكلفة زائدة أعلى من 30 بالمائة. وهذه الكلفة الزائدة هي ناتج الجمع بين سعر أعلى من السعر العالمي للحبوب والشروط المالية المرتفعة للقروض التجارية المقدمة لهذه الغاية. وإذا عرفنا أن واردات الجزائر من فرنسا بلغت في التسعينيات 34 بالمائة من مجمل وارداتها مقابل 17 بالمائة في الثمانينيات، وأنه إذا أضفنا الواردات غير الرسمية، فإن الواردات من فرنسا تتخطى اليوم 50 بالمائة من مجمل واردات الجزائر، ندرك بشكل أفضل جسامة الخسائر التجارية والمالية التي تُمنى بها الجزائر في حين هي بأقصى الحاجة إلى العملات الصعبة. ونفهم هكذا بشكل أفضل لماذا تقف بعض الأوساط في الجزائر العاصمة، وفي باريس، ضد الديمقراطية وضد الشفافية في الجزائر.
من جهة أخرى، كان بعض القادة يرددون بين الحين والآخر في الفترة ما بين عامي 1993 و1997 أن دور فرنسا في الجزائر يقتصر على «العون الاقتصادي» الذي تقدمه للسلطة الحالية كي تتغلب على الصعوبات الحادة التي تواجهها، ويؤكدون أن هذه «المساعدة مقدمة للشعب الجزائري» (هكذا). إن هذه التصريحات تستدعي تعليقين قصيرين:
- ليس «العون الاقتصادي» الذي يتحدث عنه هؤلاء القياديون «عونًا» مقدمًا للجزائر، بل هو عون للاقتصاد الفرنسي. فالكل يعرفون، في الواقع أن القروض الفرنسية المعطاة للجزائر مشروطة بشراء منتجات فرنسية حصرًا، أو بأسعار باهظة.
- إن أفضل عون يمكن أن تقدمه فرنسا للشعب الجزائري هو أن تمتنع عن التدخل، عن طريق جنرالات استئصاليين، في شؤونه الداخلية، وذلك لترك
..............................................
(20) أعلن عن الخبر التلفزيون الجزائري في السادس من أوت (آب) 1996 في نشرة الثامنة مساءً بالتوقيت المحلي. لكن لم تتم أية معالجة لهذه التجاوزات، كما كانت وستكون الأمور دائمًا في ظل النظام القائم.
229
الديمقراطية تمارس في الجزائر ولإتاحة الفرصة لذلك الشعب كي يختار بحرية وشرف من يثق بهم من القادة. فالجزائر ليست بحاجة إلى الوصاية، ولا إلى السماسرة وأفضل خدمة يمكن أن تسديها فرنسا للجزائر هي قبولها بأن تكون العلاقات الاقتصادية الثنائية متوازنة وشفافة وبأن تؤخذ بالحسبان مصالح البلدين في إطار المنافسة الدولية.
لن يكون هناك استقرار في الجزائر وفي كل المنطقة إلا بالعودة إلى السيادة الشعبية واحترامها. لكن حقد بعض الأوساط الفرنسية على الجزائر يشوّش عقلانيتها مثلما يفسد الحديد عمل البوصلة.
إن ولاء الجنرالات الاستئصاليين لدولة المستعمرة السابقة يصل إلى حد أنهم قد لجئوا، منذ عام 1992، إلى الأساليب نفسها التي استخدمها الجيش المستعمر ضد الشعب الجزائري خلال حرب التحرير.
2. العودة إلى الأساليب الاستعمارية:
أ- التماثل بين نظرة نظام الجزائر منذ عام 1992
ونظرة السلطات الاستعمارية الفرنسية:
في الصراع ضد التيار الإسلامي، يستخدم الجنرالات من ذوي التوجه الفرنسي وممثلوهم في حكومات غزالي، وعبد السلام، ومالك، الخ، وفي الصحافة، الأساليب نفسها، لا بل المفاهيم نفسها والكلمات نفسها التي استخدمها الجيش الاستعماري خلال حرب التحرير بين عامي 1954 و1962: العمل البسيكولوجي عن طريق التضليل الإعلامي، والتسميم، وسياسة الأرض المحروقة، والتقسيم التربيعي، والتمشيط، واستخدام النابالم خلال الهجمات الجوية على مراكز المقاومة، والغابات المحروقة، وتشكيل جماعات الدفاع الذاتي، وخلق كتاب الموت، واغتيال شخصيات سياسية، وفتح معسكرات الاعتقال في جنوبي الجزائر، والتعذيب، والإعدامات من دون محاكمة، والاختطافات الليلية، والمجازر الجماعية بحق جزائريين بريئين، ونزوح سكان الأرياف الفقراء إلى أماكن معتبرة أكثر أمنًا، .... الخ.
أما الخصوم السياسيون للوضع القائم فيوصفون بالإرهابيين والعناصر الهدامة، ويحرمون من حقوق الإنسان الأكثر بدائية.
لقد دفع التقليد الأعمى للسلطة الاستعمارية بعض المسؤولين الاستئصاليين كسليم سعدي، الذي كان آنذاك وزيرًا للداخلية، إلى إعلان «الحرب الضَّروس» على
230
الإسلاميين في مارس (آذار) 1994، مذكرًا بشكل غريب بالتصريح الذي صدر عن فرانسو ميتران، في نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، وكان آنذاك وزيرًا للداخلية، حين أكد أن المفاوضات الوحيدة مع جبهة التحرير الوطني هي «الحرب بكل الوسائل». والفرق الوحيد بين هذين التصريحين اللذين تفصل بينهما 40 سنة، هو أن ميتران كان يدافع عن «الجزائر الفرنسية» وأن سليم سعدي يكافح لأجل فرنسا الجزائر العربية- الإسلامية. وهذا يُظهر بوضوح أن طبيعة الصراع الذي يضع النظام الاستئصالي الجزائري، ليس فقط بمواجهة الإسلاميين، بل أيضًا بمواجهة الغالبية الساحقة من الشعب الجزائري، إنما هي ذات جوهر حضاري.
إن جهاز الدولة ومصالح الأمن إنما يؤطرها ويسيطر عليها عناصر من حزب فرنسا أقليون جدًا في الجزائر الحالية مثلما كان بالأمس ممثلو الاستعمار الفرنسي قبل الاستقلال.
ب- أولوية العامل الاقتصادي لإخفاء مشكلات سياسية حادة:
في عام 1992، اعتبر المجلس الأعلى للدولة، كما فعلت فرنسا في العام 1954، أن المشكلة ليست سياسية بل اقتصادية بشكل أساسي. كان الفرنسيون يقولون بالأمس إن «الفرنسيين المسلمين» بحاجة إلى الخبز وليس إلى السياسة، وكانوا ينكرون تعطش الجزائريين للحرية والاستقلال. ومنذ عام 1992، يؤكد الجنرالات الاستئصاليون الموالون لفرنسا أن البطالة هي سبب انتفاخ صفوف جبهة الإنقاذ الإسلامية وينفون تعطش الجزائريين للديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ولأجل إفشال جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني، أعلن الجنرال ديغول في عام 1958 عن «خطة قسنطينة» التي كانت تنطوي على برنامج استثمارات يرمي للنضال ضد البطالة. وفي عام 1992، كان البرنامج الاقتصادي للطغمة العسكرية يتمثل في تحقيق حلم غزالي، الذي كان آنذاك وزيرًا أول، ببيع 25 بالمائة من آبار النفط في حاسي مسعود بمبلغ يتراوح بين 6 مليارات و7 مليارات دولار. فهذه المبالغ قد تيح خفض الدين لخارجي للبلد وإطلاق برنامج كبير لبناء مليون مسكن ولمكافحة البطالة، وامتصاص أزمة الإسكان، وهكذا هدم قاعدة دعم الشبيبة لجبهة الإنقاذ الإسلامية. كان الجنرالات الاستئصاليون يظنون أن في وسعهم تحويل الدعم الشعبي لصالحهم والحصول هكذا على الشرعية لتبرير بقائهم في السلطة. والنتائج بليغة: إن الجنرالات الاستئصاليون صامدون في السلطة (حتى إذا تعاقب على الجزائر بين عامي 1992 و2000 أربعة رؤساء دولة وستة وزراء أولين)، عبر توريط البلد في
231
المأزق بزيادة البطالة بصورة لم تعرفها الجزائر من قبل والتعفن الخطير للأزمة السياسية.
ج- التهديدات تأتي من الخارج:
بين عامي 1954 و1962، كانت فرنسا تتهم «الخارج» ولاسيما مصر بمساعدة «المتمردين والإرهابيين» الجزائريين. ومنذ عام 1992 يتهم الجنرالات الاستئصاليون وحكوماتهم المتعاقبة «الخارج» ولاسيما إيران والسودان بمساعدة «الإرهابيين» الإسلاميين. ولقد قطع النظام الجزائري علاقاته الدبلوماسية مع هذين البلدين، كما لو كان ذلك لإعطاء اتهاماته صدقيتها.
د- مأسسة العنف:
صوّت البرلمان الفرنسي في عام 1956 على السلطات الخاصة للسماح لحكومة غي موليه بأن تعزز قمع الشعب الجزائري. وفي عام 1992، أعلن المجلس الأعلى للدولة حالة الطوارئ، التي كانت لا تزال سارية المفعول في ديسمبر (كانون الأول) 1999. وقد زاد من حدة تدابير القمع المرسوم المؤرخ في 30 سبتمبر (أيلول) 1992، وهو نسخة مشددة عن مرسوم 14 أوت (آب) 1941 الذي أصدرته حكومة فيشي (21).
وبما أن انتهاك الدستور والقوانين سارية المفعول بدا للنظام الجزائري غير كاف لـــ «السيطرة» على الوضع على الأرض، فقد امتاز في انتهاك حقوق الإنسان الأساسية: التوقيفات الكثيفة والاعتباطية لأناس أبرياء من بينهم منتخبون بلديون، ومنتخبون جدد في المجلس الوطني (انتخبوا في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991)، وأساتذة جامعات، ومهندسون، وأطباء، ومحامون، وتجار وطلاب أرسلوا من دون محاكمة إلى معسكرات الاعتقال أو ألقي بهم في السجون ضمن ظروف اعتقال لا إنسانية.
هـ- التيار الوطني والإسلامي «ضد الذكاء»:
جرى تنظيم حملة واسعة منذ انقلاب 1992 من طرف النظام الجزائري والصحافة الفرنسية ترمي إلى تصوير جنرالات حزب فرنسا على أنهم حزب المثقفين
................................................
(21) Jacquès Verges, Lettre ouverte á des amis algériens devenus tortionnaires, collection letter ouverte (Paris: Albin Michel, 1993), p. 27.
232
وجبهة الانقاذ الإسلامية (الفيس) على أنها حزب الظلامية وعدو الذكاء والفكر. وغالبية الشعب الجزائري لا تؤمن بمزاعم كاذبة من هذا النوع، مثلما رفضت مزاعم مشابهة عبرت عنها السلطة الاستعمارية حيال جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني بين عامي 1954 و1962. ذلك أن الجميع يعرفون أن مثقفين (أطباء، محامين، أساتذة جامعة، طلاب، .... الخ) تمّ اعتقالهم من دون وجه حق، وبقوا قيد الاعتقال سنوات من دون حكم، وعُذِّبوا، لا بل اغتالتهم مصالح الأمن منذ عام 1992، كما سبق أن فعل بإخوتهم الأكبر منهم الجيش الفرنسي خلال حزب التحرير.
إن القمع الثقافي (ضد اللغة العربية خلال الفترة الاستعمارية وضد اللغة العربية واللغات الأجنبية غير اللغة الفرنسية على يد حزب فرنسا) والسخافة قد بلغا حدًا لدى الإدارة الجزائرية بحيث أن معادلة شهادات الدكتوراه المستحصل عليها في الولايات المتحدة أو بريطانيا، أكانت من جامعات هارفرد، أو ماساتشوتس، أو أوكسفورد أو كمبردج، لا يتم الاعتراف بها آليًا كما الحال مع الشهادات الفرنسية. وينتظر أساتذة جامعات حتى 8 سنوات وأكثر ليروا شهادة الدكتوراه التي نالوها تحظى باعتراف السلطات الجامعية والإدارية الجزائرية.
و- «من بعدنا الطوفان»:
في عامي 1960- 1961، كان الجنرال ديغول يردد، ومن بعده الصحافة الفرنسية، أنه إذا اختارت الجزائر الاستقلال فما سيحدث هو الخواء والفوضى. ومنذ عام 1992، يؤكد الجنرالات الاستئصاليون وممثلوهم في وسائل الإعلام الجزائرية والفرنسية أنه إذا وصل الإسلاميون إلى السلطة، حتى ديمقراطيًا، ستندلع الحرب الأهلية، على الطريقة الأفغانية. فيا للتشابه الغريب في فن الخلط والبلبلة!
إن التذكير بهذه الحقائق يوضح تمامًا الطابع الخفي للأزمة الحضارية التي تقف وراء الأزمة السياسية. إن الجهاز الإداري القمعي والمنظومة التربوية المبتورة الموروثين من الفترة الاستعمارية قد عقَّدوا الوضع الصراعي في الجزائر بين أقلية مستعمرة ذهنيًا مشدودة إلى فرنسا وبحوزتها السلطة عن طريق القوة من جهة، والغالبية الساحقة من الشعب التي تتطلع إلى تغييرات عميقة في المنظومة بصورة ديمقراطية، من جهة أخرى.
233
3. برنامج الطغمة الاقتصادي:
إن الأولوية التي يعطيها الجنرالات الاستئصاليون (الذين لا يملكون أي برنامج) للاقتصادي على السياسي كانت تبرر إبقاء غزالي وزيرًا أول بعد انقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992، حيث كانوا يعتبرونه قادرًا على أن يتصور ويضع في التطبيق برنامجًا اقتصاديًا على مستوى خطورة الأحداث، ويشاركونه الكثير من مشاعر القرابة السياسية والثقافية.
لقد كان برنامج الطغمة الاقتصادي الهزيل يقضي بتحقيق وعد غزالي، الذي قطعه في صيف 1991، ببيع 25 بالمائة من آبار نفط حاسي مسعود مقابل 6 إلى 7 مليارات دولار. وكان المقصود أن يتم، بواسطة هذه المداخيل التي توفرها العناية الإلهية، إطلاق برنامج واسع لبناء مليون مسكن في سنوات قليلة لمكافحة البطالة وامتصاص أزمة الإسكان. والمقصود أيضًا خفض مديونية الجزائر الخارجية التي بات عبئًا شاقًا حقيقيًا يحبط أي مسعى للنهوض الاقتصادي.
يأمل الجنرالات الاستئصاليون هكذا التغلب على الأزمة الاقتصادية وتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلد. إن نتائج إيجابية كهذه قد تيح لهم الحصول على الدعم الشعبي وتبرر بقاءهم في السلطة.
ما هي في الواقع مداخل ومخارج البيع الجزئي لآبار حاسي مسعود؟
أ- بيع حاسي مسعود:
تبيِّن المعطيات التقنية التي في متناول سوناتراك، والتي أعدتها شركات أجنبية ولاسيما الشركة الأمريكية «دي غلوير أند ماك ناوتن»، إن الاحتياطي النفطي القابل للاستخراج في حاسي مسعود يمثل 66 بالمائة من احتياطيات الجزائر المقدرة بــ 478 مليون طن. إن بيع 25 بالمائة من هذه الكميات يساوي حوالي 120 مليون طن، أو قرابة 960 مليون برميل. والتخلي عن هذه الكميات لقاء 6 أو 7 مليارات من الدولارات، كما جرى الإعلان عن ذلك، يعادل بيع نفطنا للشركات متعددة الجنسية مقابل 6 أو 7 دولارات للبرميل بدلًا من سعر السوق الذي كان يتراوح بين 18 و20 دولارًا للبرميل. وهذا يعني أن عملية كهذه إذا تحققت تكون قد حرمت الجزائر من 12 إلى مليار دولار، ويمثل ذلك تحويلًا صافيًا لثروات هائلة من بلد فقير إلى بلدان غنية.
إذا وضعنا أنفسنا الآن ضمن منظور تصريحات غوالي الذي يقدر أن الاحتياطي
234
الممكن استخراجه من حاسي مسعود ليس 478 مليون طن بل خمسة مليارات طن (وهو ما ننفيه)، فإن بيع 25 بالمائة من حاسي مسعود يصبح عندئذٍ 1.25 مليار طن، أو 19 مليار برميل. وفي هذه الحالة تتراوح الهدية المقدمة إلى المنشآت المتعددة الجنسية بين 120 و140 مليار دولار بأسعار السوق.
فضلًا عن ذلك، إن ففكرة استدعاء الشركات متعددة الجنسية لتستغل بأسعار رخيصة الآبار الموجودة هي أمر يستدعي الاعتراض عليه بحد ذاته. وما ينبغي تشجيعه، على العكس، إنما هو إشراك هذه الشركات الأجنبية في التنقيب واكتشاف آبار جديدة لزيادة احتياطنا النفطي عبر اتخاذ تدابير تحفيزية ملائمة.
فضلًا عن ذلك، أكد غوالي في عام 1991 أن بيع 25 بالمائة من حاسي مسعود سيؤمِّن مداخيل إضافية تصل إلى 140 مليار دولار في سنوات قليلة فقط بفضل زيادة الصادرات الناتجة من ذلك. لكن الأيام قد أظهرت أن ذلك هو من باب النظريات. ولقد سبق أن بيَّنا بطلان هكذا تصريحات نزقة ومثيرة (22)، ففي الواقع كانت ترمي تصريحات كهذه مذهلة ولا أساس لها من الصحة إلى تخدير الرأي العام الوطني لإبعاده عن الأحزاب السياسية التي كانت تزداد شعبيتها أكثر فأكثر كلما اقتربنا من الانتخابات التشريعية المحددة في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991، التي فازت فيها في كل حال جبهة الانقاذ الإسلامية وسرعان ما تم إلغاؤها.
هذه التصريحات ترمي أيضًا على تصوير غزالي كالرجل المطلوب لتعزيز مواقع الجنرالات الاستئصاليين الذين عملوا على تعيينه وزيرًا أول. وكانت تلك التصريحات ترمي أخيرًا لطمأنة الدول الأجنبية، ولاسيما فرنسا، عبر فتح الطريق أمام شركاتها لاستثمار آبار موجودة بأسعار زهيدة، من جهة، وتصوير الجزائر كبلد غني وسوق محتملة مهمة يتم تصريف سلع تلك الشركات فيها، بحيث ترى هكذا صادراتها إلى الجزائر تتزايد بصورة جوهرية، من جهة أخرى.
إذ أقامت حكومة غزالي «سياستها الاقتصادية» على مجرد بيع 25 بالمائة من حاسي مسعود، أكدت أن تسريع الصادرات النفطية هو وحده الذي سيخرج الجزائر من أزمتها الاقتصادية والمالية ومن مديونيتها الخارجية الخطيرة.
وإذ اختزلت الحكومة برنامجها الاقتصادي إلى مجرد بيع النفط، أخفت بذلك
..........................................
(22) انتقدنا بالتفصيل اقتراح بيع 25 بالمائة من حاسي مسعود الذي قدمه غزالي في حينه. انظر الحوار مع عبد الحميد براهيمي في: Jeune undépendant (29 août 1991)
انظر أيضًا:
Abdelhamid Brahimi, Stratégies de développements pour l'Algérie: Défis et enjeux (Paris:
235
المشكلات الأساسية كضرورة تنمية الزراعة، وتنظيم التكامل الاقتصادي الوطني، وإنعاش قطع الإعمار والبناء والأشغال العامة، وتصحيح الاقتصاد، وخلق وظائف، والإصلاح الضريبي، والإصلاح المالي والنضال ضد الإفقار الزاحف، ... الخ، التي تشكل مجالات ملحَّة وأساسية.
لكن، للأسف، ليس الصالح العام، وليست تنمية الجزائر الفعلية، هما ما يثيران اهتمام حكومة غوالي والجنرالات الاستئصاليين الذين عينوها. من الواضح أن بيع 25 بالمائة من حاسي مسعود يندرج بالأحرى في منطق «النظام العالمي الجديد» المطروح منذ الحرب ضد العراق، والمتميز بسيطرة الولايات المتحدة على الاحتياطيات النفطية الهائلة لبلدان الخليج. وفي هذا السياق، تجد فرنسا الوقت مناسبًا لتسيطر من جديد على آبار نفطية جزائرية سبق أن اكتشفتها هي وأممتها الجزائر في عام 1971 وعام 1980. باختصار، تريد فرنسا أن يكون لها «خليجها» الخاص بها. وفي الواقع، باتت الجزائر، علاوة على وضعها الجيو- سياسي الاستراتيجي، سريعة العطب بسبب الثقل المرتفع جدًا لديونها الخارجية، وهي تشكل هدفًا «سهلًا» للمصالح الفرنسية.
وفي هذا الإطار، إن قرض المائة مليون دولار الذي وافق البنك الدولي على إعطائه لشركة سوناتراك مع تمويل مشترك يصل إلى 7.7 ملايين دولار قدمتها شركة توتال، وهي شركة نفطية فرنسية، أمر له أكثر من دلالة. ففي الواقع، إن الاتفاق الموقع غي بداية شهر أوت (آب) 1991 بين الجزائر والبنك الدولي بخصوص هذا القرض ينص على «خصخصة» النشاطات النفطية فضلًا عن شروط مجحفة للسيطرة على نشاطات سوناتراك من طرف البنك الدولي. وليست هذه الشروط فادحة وغير متوازنة فقط إذا قورنت بالحجم الهزيل للقرض وبقدرة سوناتراك الكبيرة جدًا على السَّداد (حيث تدور مداخيلها الخارجية سنويًا حول رقم الـ 12 مليار دولار)، بل هي تخالف الممارسات التقليدية للبنك الدولي.
إن عودة شركة توتال الفرنسية إلى حاسي مسعود، وكانت مصالحها قد أُممت في عام 1980، تبدو قد نُظمت ومُوِّهت بشكل جيد. إن بيع 25 بالمائة من حاسي مسعود، المصور كقرار وطني منقذ، إنما هو أمر وتصور أجنبي في الواقع، وهو لا يتفق إطلاقًا مع مصالح الجزائر.
إن هذا التطبيق لسياسة إلغاء تأميم المحروقات، ولـــ «خصخصتها»، فضلًا عن الحلّة الحقوقية والمالية والتقنية التي جرى إلباسها إياها، كلا ذلك مستوحىً إذًا من الخارج، حتى إذا كان الفاعلون المرئيون، والمرئيون أقل، جزائريين يشغل بعضهم مقاعد في حكومة غزالي.
236
ب- إنعاش الاقتصاد:
يقوم الإنعاش الاقتصادي على الخصخصة المقنَّعة للمحروقات. وفي الواقع إن سياسة خصخصة المحروقات هذه، التي دشنها غزالي في عام 1991، كما أشرنا إلى ذلك سابقًا، عادت إلى السطح في عامي 1995 و1996، مفضية إلى تبني الحكومة تشريعًا جديدًا ينظم القطاع النفطي وقطاع الغاز. وبالتالي، وقّعت سوناتراك عقود «شراكة» مع 36 شركة نفطية عالمية. ومحيطات البحث والتنقيب والاستغلال الموكلة إلى هذه الشركات الأجنبية لم تعد تستبعد الآثار النفطية الموجودة، كما سابقًا. ففي الواقع، إن استغلال آبار سبق اكتشافها على يد شركات أجنبية يشكل خسارة صريحة للجزائر وبيعًا بأسعار رخيصة جدًا لموارد استراتيجية قابلة للنفاذ ولا يمكن تجديدها.
هذه السياسة الجديدة للخصخصة المموَّهة (23) ولتصفية المحروقات تصورها الحكومة الجزائرية كنجاح سياسي ومالي عالمي، لأن هذه العقود تستتبع استثمارات بقيمة عشرة مليارات دولار في فترة 20 عامًا.
وبخصوص العقود، يكاد يكون تأثيرها في مجال خلق الوظائف وميزان المدفوعات منعدمًا. فمن جهة، لا تشكل هذه الاستثمارات تحويلًا لرأس المال عبر مصرف الجزائر (مصرف البلد المركزي) ولا حقنًا لعملات أجنبية في الاقتصاد الجزائري. أنها تمثل بالأحرى قيمة التجهيزات المستورة والتي تستخدمها الشركات الأجنبية في مختلف الآبار المعينة لهذه الغاية، وتفيد أيضًا في دفع شتى الخدمات المستوردة، ورواتب الخبراء الأجانب المشغَّلين بالمناسبة.
من جهة أخرى، إن التأثير في التوظيف عديم الأهمية، إذا أخذنا بالحسبان المستوى المرتفع المطلوب لتأهيل الشغيلة والموظفين، المؤلفين بشكل أساسي من خبراء أجانب يجري تحويل رواتبهم إلى الخارج. فاللجوء إلى اليد العاملة الجزائرية غير المؤهلة سيكون بالضرورة ظرفيًا ومحدودًا.
هكذا فإن الآثار المالية للاستثمارات النفطية تفيد الخارج أكثر مما تفيد الاقتصاد الجزائري. والحكومة الجزائرية والصحافة الخاضعة للأوامر تمتدحان هذه العقود النفطية والغازية، التي، على حدَّ قولهما، ستساهم في زيادة صادرات المحروقات من الجزائر وتوفر للبلد ما بين 14 و15 مليار دولار سنويًا بدءًا من عام 2003.
..............................................
(23) تتسارع الأمور منذ جانفي (كانون الثاني) 2000، لأن خصخصة سوناتراك والمصارف وشركات التأمين واردة في برنامج الحكومة الجديدة، وتشكل موضوعًا لتعليقات الصحافة الجزائرية. إن خصخصة قطاعات استراتيجية رابحة كهذه القطاعات، لا تجد ما يبررها إطلاقًا وتعادل تصفية مجانية لجزء منهم من الثروة الوطنية.
237
وبخصوص زيادة الصادرات، لا يمكن الجزائر، الملتزمة باتفاقات الأوبك التي هي عضو فيها، أن تزيد حصتها على هواها. فإذا فعلت ذلك، تنلحق بها بلدان أخرى وتهبط أسعار النفط آليًا. ولا يمكن تعويض انخفاض سعر النفط بزيادة الكميات المصدِّرة، كما ثبت ذلك ميدانيًا في السنوات الخمس عشرة الأخيرة.
وبخصوص مستوى المداخيل من تصدير المحروقات المقدر بما بين 14 و15 مليار دولار للعام 2003، والذي صوَّرته الحكومة في عامي 1996 و1997 كازدهار مالي حقيقي مفاجئ، فهو لا يمثِّل في الأخير غير المستوى الذي سبق أن حققته الجزائر بين عامي 1979 و1984، حيت كانت المداخيل الخارجية الناجمة عن المحروقات تتراوح بين 13 و14 مليار دولار سنويًا، وذلك حين كان الدولار، وحدة الحساب في الصفقات النفطية، أقوى بكثير مما هو اليوم، وحين لم يكن عدد سكان الجزائر يتجاوز بعد 20 مليون نسمة. إن ما تصوره الحكومة كنجاح مالي لا سابق له ليس في الأخير غير عودة إلى مستوى مداخيل التصدير الذي سُجِّل خلال النصف الأول من الثمانينات، مع فرق أن سكان الجزائر زادوا 12 مليونًا، إذ سيكون ارتفع عددهم من 20 مليونًا في بداية الثمانينات إلى 32 مليونًا في العام 2003. ومع مستوى مداخيل التصدير المتوقعة، سيكون من المستحيل تلبية الحاجات الإضافية في مجالات الغذاء، والعمل، والإسكان، ...الخ.
إن كل سياسة النظام الجزائري تقوم على التزوير، والتضليل الإعلامي والتلاعب بالوقائع والأرقام. والتنازلات المهمة المقدمة للشركات النفطية الأجنبية على حساب المصلحة الوطنية يجرى تصويرها هكذا كنجاح سياسي ومالي للجزائر في حين يتدهور وضع البلد الاقتصادي والاجتماعي بشكل يدعو للرثاء (24).
ج- تدهور الوضع الاقتصادي:
لقد تدهور وضع الجزائر الاقتصادي بشكل خطير منذ انقلاب عام 1992، كما تشهد على ذلك الثوابت (paramètres) التالية:
- هبط الناتج الداخلي الخام للفرد بصورة مأساوية من 2500 دولار سنويًا في
.............................................
(24) في عام 1996 خلال التفاوض على هذه العقود بين سوناتراك والشركات النفطية المتعددة الجنسية، «كانت الجزائر الواقعة في ضيق شديد مستعدة في الواقع تقديم تنازلات، وهذا يشكل عودة إلى الوراء إذا قورن بممارسات بلدان الخليج»، كما يشير إلى ذلك هوبير كودورييه في: Coudurier, Le Minde selon Chirac, p. 232.
238
العام 1990 إلى 1376 دولارًا في العام 1997، وبلغ 1661 دولارًا في عام 1998(25).
- يتجلى تهميش الزراعة المتواصل بزيادة الواردات من المنتجات الزراعية الغذائية إلى حد أنها كلفت البلد حوالي ثلاثة مليارات دولار في العام 1998.
- في العامين 1997- 1998، اشتغل القطاع الصناعي العام والخاص، ما عدا المحروقات، بأقل من معدل 20 بالمائة من قدرته الفعلية.
- إن نسبة الاستثمار (النسبة بين الاستثمار والناتج الداخلي الخام) خارج المحروقات الملاحظة منذ الانقلاب في عام 1992 لم تكن بهذا الانخفاض خلال الثلاثين سنة الأخيرة. إن قسمًا مهمًا من الموارد المالية المتوفرة يستخدم لزيادة واردات السلع الاستهلاكية، والتجهيزات العسكرية والتسلح. لقد زادت النفقات العسكرية كثيرًا خلال العشرية الحمراء، وذلك بنسبة 45 بالمائة في عام 1994، و144 بالمائة في عام 1995، بحيث وصلت إلى ملياري دولار في عام 1996(26). وفي عام 1998، زادت هذه النفقات بنسبة مائة بالمائة. وكل ذلك على حساب الاستثمارات الإنتاجية. إن النفقات العسكرية تزداد بسرعة كبيرة لنشر الرعب، في حين يمتد الفقر عبر البلد بسبب تفاقم الوضع الاقتصادي.
- تباطأ نشاط قطاع البناء والأشغال العامة كثيرًا بحيث باتت أزمة السكن متفجرة.
- تخطّت البطالة، المتزايدة باستمرار، عتبة الـ 40 بالمائة منذ عام 1997 وبلغت 50 بالمائة، لا بل أكثر في الكثير من مناطق البلد. وتصيب البطالة الشبيبة بوجه خاص. ففي الواقع، يشكل الشبان، المتراوحة أعمارهم بين 16 و29 عامًا، 83 بالمائة من العاطلين عن العمل. وعدد هؤلاء الكلي ارتفع من 1.300.000 عام 1992 إلى 3.500.000 عام 1998.
وربما أن فرص خلق وظائف هي فرص نادرة، بسبب الميل إلى انخفاض معدلات الاستثمار، سوف تتفاقم البطالة أيضًا وأيضًا لتصل إلى مستويات مأساوية في السنوات القادمة، لأنها ستزداد بوتيرة 260 ألفًا في العام كمعدل وسطي.
- إن التضخم، الناتج من زيادة أسعار المنتجات المستورة (التي تسبَّب بها خفض سعر الدينار) وزيادة تكاليف الإنتاج، تخطى الــ 40 بالمائة في عام 1994، وكان حول الــ 32 بالمائة في عام 1995، وهما مستويات لم يُريا يومًا منذ الاستقلال. والوضع
..........................................
(25) انظر: Economist Intelligence Unit (EIU). Algeria (London: (EIU), December 1991).
(26) International Institute for Strategic Studies (USS): 1996 Report (Sweden: (19961). and 1997 Report: (London: 1997)))
239
أخطر بكثير في الواقع حين ندرك أن قدرة المواطنين الشرائية هبطت بصورة مأساوية مقارنة بها في السبعينيات والثمانينيات حين كان المستهلك الجزائري يخصص 40 بالمائة من موازنته للمنتجات الغذائية. لقد زاد المستوى العام لأسعار المنتجات الاستهلاكية الأساسية بمعدل مستوى متوسط أعلى من 90بالمائة في أواسط التسعينيات (200 بالمائة بالنسبة للقهوة، و120 بالمائة للخبز، و110 بالمائة للحليب، و90 بالمائة للسكر... الخ) إلى حد أن أجر إطار متوسط لم يعد قادرًا على تغطية حاجة الأسرة الأساسية، فكيف الحال مع أصحاب المداخيل المتدنية والعاطلين عن العمل الذين يعضُّهم الحرمان والفقر بنابه.
- انتقل الدين الخارجي من 26 مليار دولار في عام 1992 إلى 34 مليارًا في العام 1998، وهو يتجاوز الــ 40 مليارًا إذا أضفنا الدين العسكري الذي تخفيه الإحصاءات الرسمية بعناية. إن المديونية الخارجية تشكل عبئًا ثقيلًا سوف يؤدي، في السياق الاقتصادي الحالي، إلى مفاقمة الركود وكبح جهود الإنعاش الاقتصادي في السنوات القادمة.
- إن السيطرة على الواردات (التي تتراوح قيمتها بين 10 مليارات و11 مليار دولار سنويًا) من طرف حفنة من الناس الذين حلوا محل الاحتكارات التي كانت في السابق بيد الدولة وتعميم الفساد (المقدر بملياري دولار سنويًا)، خلقا طبقة طفيلية جديدة من النهّابين تحوِّل لمصلحتها الخاصة ثروات هائلة. ويزيد من خطورة ذلك أن التجارة الخارجية في الجزائر تصل إلى 65.7 بالمائة من الناتج الداخلي الخام في العام 1999 و68.4 بالمائة في العام 2000(27).
إن خصخصة قطاع الدولة العام واقتصاد السوق المنحرف الذي يلازمها تجليا بمركزة شديدة للثروة بين يدي قلة، وبالإفقار، والفقر والإقصاء الاجتماعي، كل تلك الآفات التي تميز من الآن وصاعدًا المجتمع الجزائري.
إن وعود غوالي المسرحية ووعود الرئيس اليامين زروال بالإنعاش الاقتصادي تذهب في سبيلها لكن البؤس المادي والفكري يبقى ويتفاقم مع مرور الأعوام. إن كل سياسة النظام العسكري ذي التوجه الفرنسي تقوم على التزوير والتضليل الإعلامي والتلاعب بالوقائع، ليس فقط في المجالين السياسي والاقتصادي كما سبق أن رأينا، بل أيضًا وبوجه خاص في ميدان الأمن الذي يعطيه الأولية عبر نشر الإرهاب والرعب.
...........................................
(27) Economist Intelligence Unit, Ibid.
240
4. سياسة الإرهاب:
يعتمد الجنرالات الاستئصاليون على بعض الأحزاب السياسية الهامشية، وديمقراطيين مزيفين أخفقوا جميعًا في أول انتخابات تشريعية تعددية في البلد تمت في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991، ودعوا فورًا بعد إعلان النتائج إلى إلغائها. إن إقصاءهم عن طريق صناديق الاقتراع أمر طبيعي جدًا ولا يفاجئ أحدًا لأنهم منقطعون عن الجماهير. ولكي يبقى الجنرالات الاستئصاليون في السلطة يعوِّلون بشكل رئيسي على استخدام القوة وعلى انقسام الأحزاب السياسية ذات التمثيل الشعبي (عن طريق اختراقها والتلاعب بها بواسطة مصالح الأمن).
غداة الانقلاب، مارست الطغمة سياستها الأمنية القائمة على القمع في كل الاتجاهات. جرى توقيف عشرات الألوف من الجزائريين الأبرياء، من مناضلي جبهة الانقاذ الإسلامية أو المتعاطفين معها، وإرسالهم إما إلى السجن أو إلى معسكرات اعتقال في الصحراء. بات التعذيب، والاختطافات في المنزل أو في مكان العمل والاغتيالات ممارسات يومية منذ ذلك الحين.
منذ أول أسبوع بعد الانقلاب، أحيل إلى التقاعد قبل الأوان آلاف من ضباط الجيش الشباب، والأقل شبابًا، لأنه جرى الاشتباه بأنهم يتعاطفون مع التيار الإسلامي، أو فقط لأنهم يؤدّون الصلاة.
وقد أنشئت وحدات خاصة مكلفة بالقمع، من أمثال «النينجا» أو «كتائب الموت»، زاد عدد أفرادها على الستين ألفًا. وهم يخضعون لتدريب خاص، بما في ذلك غسل الدماغ، ويتعاطون المخدرات. أما الضباط الذين يؤطرون هذه الوحدات الخاصة فقد مروا بفترة تدرُّج في فرنسا.
وسرعان ما امتد نطاق القمع إلى خارج مناضلي جبهة الانقاذ ليصيب عمليًا كل أولئك الذين يتجرؤون على التنديد بسياسة النظام القمعية أو التصدي لهذه السياسة بالوسائل السياسية والسلمية، أو أولئك الذين لا يشاطرون هذا النظام طريقته في التفكير.
ولقد جرى تدشين الاغتيالات التي طاولت شخصيات سياسية، بصورة مبكرة جدًا انطلاقًا من عام 1992. فمحمد بوضياف، الذي عيَّنه رئيسًا للدولة جنرالات لا وطنية لديهم، تعرَّض للاغتيال بأمر منهم بعد ستة أشهر فقط لأنه تجرأ على السعي
241
لإيجاد حل سياسي للأزمة وعلى التصدي لملف الفساد (28). ولقي قاصدي مرباح المصير نفسه لأنه دعا إلى المصالحة الوطنية وإلى حوار بين السلطة والأحزاب التي تتمتع بتمثيل شعبي، بما فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية. ومن بوضياف ومرباح إلى عبد القادر حشاني، الذي اغتيل في نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، مرورًا بالجنرال سعيدي فضيل (الذي تم تمويه اغتياله بحادث سيارة) وبوبكر بلقايد، وزير الداخلية الأسبق في حكومة مرباح وعبد الحق بن حمودة، الذي كان آنذاك أمينًا عامًا للاتحاد العام للعمال الجزائريين، تعكس الاغتيالات السياسية التدهور المتواصل للوضع الأمني. «لقد احتفظت كل الجرائم السياسية في الجزائر بحصتها من الظل» (29)، وهي تثبت أن العنف سياسة للسلطة مع سبق التصور والتصميم.
إن العنف إنما تغذيه الطغمة، في الواقع. فعلاوة على وحدات القمع الخاصة التي يصل تعدادها إلى ستين ألف رجل وتم إنشاؤها في عام 1992، قررت السلطة منذ العامين 1993- 1994 تكوين ميليشيات. وفي الوقت نفسه، انتقلت مصالح الأمن العسكري إلى الهجوم بخلق «الجماعة الإسلامية المسلحة» (30) أو اختراقها واستخدامها.
وقد طلب رضى مالك، الذي كان آنذاك وزيرًا أول، ووزير داخليته سليم سعدي، علانية عام 193 إنشاء الميليشيات لأجل «إرهاب الإسلاميين». «آن الأوان ليغير الرعب معسكره»، هذا ما أعلنه رضى مالك، مفسرًا كلام وزير داخلية فرنسا آنذاك، شارل باسكوا، الذي كان قد دعا قبل ذلك بقليل السلطات الجزائرية لــ «إرهاب الإسلاميين».
1- منذ سبتمبر (أيلول) 1993 بدأت الجماعات الإسلامية المسلحة، الحاظية بدعم مصالح الأمن العسكري، مهاجمة الأجانب والصحفيين والمثقفين. وقد تم ذلك لإظهار الإسلاميين بمظهر الأبالسة ولكسب دعم الرأي العام في فرنسا والغرب بهدف تعزيز سلطة الطغمة الحاكمة. والجزائريون لديهم أدلة كافية في هذا المجال، كخطف الدبلوماسيين الفرنسين ثم إطلاق سراحهم، واغتيال فرنسيين خلال مهاجمة مركز عين الله الفرنسي، لواقع على بعد مائة متر من القيادة العامة للأمن العسكري، أو
.............................................
(28) ثمة معلومات مفصلة حول الجنرالات الذين دبروا اغتيال محمد بوضياف، ومرباح، ومن بينهم إسماعيل العماري بوجه خاص، قدمتها «الحركة الجزائرية للضباط الأحرار» في موقعها على الانترنت: WWW.ANP.ORG.
(29) انظر: Le Monde, 25/11/1999.
(30) لم يكن الدكتور أحمد جداعي، السكرتير الأول آنذاك لجبهة القوى الاشتراكية، على خطأ حين أطلق على تلك الجماعات تسمية جماعات الجيش الإسلامية.
242
كخطف الرهبان السبعة واغتيالهم في تيبحيرين، وكانوا يحظون بالكثير من التقدير من طرف السكان، وباحترام إسلاميي المدية (31)، أو كاغتيال مثقفين من مثل البروفسور بوسبي، والدكتور بوخبزه ... الخ، أو صحفيين كطاهر جعوط، وعبادة، وحريرش، وكثيرين غيرهم، وكل هذه العمليات قررتها مصالح الأمن ونسبتها إلى الإسلاميين.
وما إن تم بلوغ هدف الاستئصاليين في أقل من عامين، وهو المتمثل بتأليب وسائل الإعلام في فرنسا ضد التيار الإسلامي، حتى توقف فجأة اغتيال مثقفين وصحفيين كما لو كان ذلك بسحر ساحر.
2- منذ عام 1994، وبدلًا من مهاجمة أهداف عسكرية والدوائر المسئولة عن إلغاء الانتخابات التشريعية التي فازت فيها جبهة الانقاذ الإسلامية المفترض أن الجماعة الإسلامية المسلحة تنتمي إليها، استهدفت تلك الجماعات منذ البداية الجيش الإسلامي للإنقاذ، والقاعدة الاجتماعية لجبهة الانقاذ الإسلامية.
3- في عامي 1994 و1995، فرت كتائب من الجنود بكاملها من ثكناتها بأسلحتها ومعداتها، للالتحاق بالإسلاميين في جبال تابلاط والأربعاء، وفي منطقة عين وسارة. وقد قضت الجماعة الإسلامية المسلحة على جميع الفارين.
بالمقابل، حين فر جنود شبان من وحداتهم للالتحاق بمواقع المقاومين الإسلاميين التي خلت من الجماعة الإسلامية المسلحة، كما حدث في منطقة عين الدافلي في شهر أفريل (نيسان) 1995، كان الجيش هو الذي تكفَّل بمطاردتهم بوسائل عسكرية ضخمة (مشاة، ومدفعية وطيران في الوقت عينه) مستخدمًا كل أنواع الأسلحة بما في ذلك النابالم المستورد، المحظر استخدامه دوليًا. وبنتيجة تلك الهجمات، أعلن الجيش أنه قتل أكثر من «ألفي إرهابي». وقد تم الإعلان عن ذلك في الوقت نفسه الذي كانت تؤكد فيه السلطة رسميًا أن عدد «الإرهابيين» لا يزيد على ألفين في البلد بمجمله. وهذا يعني أن الألفي ضحية لغرات الجيش في منطقة عين الدفلي في يوم واحد كانوا في الواقع من المدنيين. لقد قُتل هؤلاء الفلاحون الأبرياء الذين يقطنون الجبال لأن الشبهات حامت حول كونهم يساعدون المسلحين الإسلاميين والفارين الذين لم يتمكن الجيش من تحديد أماكن وجودهم ومن باب أولى من الوصول إليهم.
................................................
(31) انظر شهادة علي بن حجر أمير «الرابطة الإسلامية للدعوة والجهاد» التي تعمل في منطقة المدية (وثيقة مطبوعة على الآلة الكاتبة، جويليه (تموز) 1997). انظر أيضًا: Le Monde: 7-8/6/1998.
243
4- التحق الشيخ محمد السعيد وعبد الرزاق رجام، وكانا من قادة جبهة الانقاذ الإسلامية، بالجماعة الإسلامية المسلحة بصحبة العديد من المناضلين في ماي (أيار) 1994، غير عارفين بأن هذه الجماعة قد اخترقتها مصالح الأمن وباتت تحركها، فتعرضوا جميعًا للذبح بصورة وحشية على يد الجماعة الإسلامية المسلحة.
5- إن حالة عنتر الزوابري دامغة. فكقائد للجماعات الإسلامية المسلحة منذ عام 1996، تصفه الصحافة الموجَّهة بأوامر من السلطة بالبطل لذي لا يمكن القبض عليه. ومرارًا أعلن الجيش رسميًا عن مقتله، لكن الواقع كان يكذب تلك المزاعم في كل مرة.
وقد كتبت أسبوعية باري ماتش الفرنسية، في عدد 9 أكتوبر (تشرين الأول) 1997 أن مصالح سكوتلانديارد السرية البريطانية قد فوجئت باكتشاف أن المحادثات الهاتفية بين «مقر» الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر والمصري الذي يسمي نفسه «الشيخ» حمزة، ممثلها في لندن والمسئول عن نشرة الأنصار التي تصدرها الجماعة الإسلامية المسلحة، كانت صادرة في الواقع من ثكنة للجيش الجزائري.
ومن جهة أخرى، أشارت صحيفة الوطن، القريبة من الأمن العسكري، في عددها الصادر في 27 أفريل (نيسان) 1998، إلى أن الجيش باشر في غربي الجزائر عملية عسكرية ضخمة ضد جماعات إسلامية معارضة لجماعة الزوابري.
6- إن مختلف الاعتداءات المنظمة في فرنسا، ولا سيما في مترو باريس، والمنسوبة إلى الجماعة الإسلامية المسلحة، خططت لها مصالح الأمن السرية الجزائرية. وفي هذا الإطار، أكدت لي شخصية فرنسية أن الرئيس شيراك بعث برسالة إلى الرئيس زروال بعد انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 الرئاسية الجزائرية. وبين ما تنطوي عليه تلك الرسالة أن الرئيس الفرنسي لن يسمح بعد الآن للمصالح السرية الجزائرية بتنظيم اعتداءات في فرنسا. ومنذ ذلك التحذير، وكما لو أن الأمر مجرد صدفة، لم يعد يحصل أي اعتداء «إسلامي» في فرنسا. لقد تبخرت الجماعة الإسلامية المسلحة على الفور من المشهد الفرنسي بأعجوبة.
7- تعرف فرنسا وبلدان أوربية عديدة أن الأمن العسكري الجزائري يخترق الجماعات الإسلامية المسلحة ويستخدمها إلى أبعد الحدود. ففي الواقع، ومنذ فيفري (شباط) 1995، أشارت وسائل إعلام فرنسية عديدة، كإذاعة فرنسا الدولية (Radio France Internatioale) والصحف اليومية لوموند (Le Monde)،
244
ولو فيغارو (Le Figaro)، وليبراسيون (Libération)، وصحف أسبوعية مثل الاكسبرس (L'Express) ولوبوان (Le Point)، وصحف أخرى عديدة، إلى اختراق مصالح الأمن السرية الجزائرية للجماعات الإسلامية المسلحة، وذلك أكثر من مرة. فلقد ذكرت لوموند، في 5 مارس (آذار) 1998، على سبيل المثال، أن كل مصالح الأمن السرية الغربية مقتنعة بأن الجماعة الإسلامية المسلحة قد اخترقتها المصالح السرية العسكرية الجزائرية لإفقاد الإسلاميين حظوتهم والإبقاء على جو من الرعب تفاديًا لأي تمرد.
وإجمالًا، سواء كانت الجرائم الكبرى أو المجازر بحق عائلات بكاملها من عمل كتائب الموت أو الميليشيات أو الجماعات الإسلامية المسلحة التي تحركها أيدٍ خفية، فإن من الواضح أن سياسة الرعب الممارسة من جانفي (كانون الثاني) 1992 إلى أفريل (نيسان) 2000 (وقت كتابة هذه السطور) تشكل بالنسبة للنظام الجزائري سياسة مقصودة وواعية لأجل الاستمرار في الحياة والبقاء في السلطة بالقوة والعنف، عن طريق التصدي لليبرالية السياسية، والسيرورة الديمقراطية والإرادة الشعبية.
إن هذا القمع الجسدي يتدعَّم بقمع سياسي وثقافي لأننا نشهد منذ انقلاب عام 1992 هجومًا منظمًا، بواسطة وسائل إعلام يسيطر عليها الأمن العسكري، ضد رموز الجزائر الدائمة، أي: الإسلام، واللغة العربية، والوحدة الوطنية، والتضامن، والعدالة الاجتماعية، ...الخ.
إن النظام الجزائري، الحاظي بدعن فرنسا السياسي والدبلوماسي والمالي والعسكري، يتصدى لهذه الرموز بالحديد والدم، لمجرد أن غالبية الجزائريين صوتت للإسلاميين في عامي 1990 و1991. ويتكوَّن لدينا انطباع بأن القمع الذي ينهال على الشعب الجزائري منذ عام 1992، فضلًا عن الدعاوة الإعلامية التي تدعمه، إنما يرميان إلى جعل الجزائريين يندمون على استقلالهم وإلى معاقبة الشعب الجزائري على الخيار الذي عبر عنه بكل سيادة خلال انتخابات ديسمبر (كانون الأول) 1991 التشريعية، التي ألغيت على عجل.
كل ذلك إنما هو جزء من الحملة العالمية لإضفاء صورة شيطانية على الإسلام، الذي بات مجددًا «العدو الكلي» للغرب (32). إن السلطة الجزائرية التي تفتقر إلى الشرعية تستخدم العنف المعادي للإسلام للحصول على الاعتراف الدولي وقبول
................................................
(32) عبارة مكرّسة حددها صامويل هانتنغون. انظر: Samuel p. Huntigton, «The Clash of Civilizations?» Foreign Affairs. Vol. 72. No.3 (Summer 1993).
245
الدول بالتعامل معها. والسبطة هذه، التي تعي مقدار لا شعبيتها (وهذا أقل ما يمكن قوله) في الداخل وعزلتها النسبية، في الخارج، سعت للحصول على الشرعية عن طريق إجراء انتخابات جديدة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، لكن ليس عبر الديمقراطية التي يتعطش إليها الشعب الجزائري.
5- من فترة انتقالية إلى فترة أخرى:
الاستقرار المفقود:
لقد كان مصير الفترة الانتقالية الأولى التي أعلن عنها المجلس الأعلى للدولة (جانفي (كانون الثاني) 1992- ديسمبر (كانون الأول) 1993)، والتي توافق نهاية ولاية الرئيس الشاذلي بن جديد، هو الإخفاق. ففي الواقع، كانت السلطة تفكر في الاستفادة من تلك لفترة للتغلب على الأزمة السياسية وقلب الاتجاه لصالحها. لكن لا بد من أن نلاحظ أنه لم يتم تحقيق الهدفين المرسومين، أي الاستقرار السياسي والإنعاش الاقتصادي، وأن الأزمة متعددة الأبعاد قد ازدادت خطورة.
أما الفترة الانتقالية الثانية (جانفي (كانون الثاني) 1994- نوفمبر (تشرين الثاني) 1995)، التي تميزت بــ «تعيين» زروال رئيسًا للدولة، فقد أفضت إلى جدار مسدود. وخلال تلك الفترة لا السياسة الأمنية القائمة على استخدام القوة والتي أظهرت حدودها، ولا المفاوضات الملغومة بين السلطة وزعيمي جبهة الانقاذ الإسلامية، عباسي مدني وعلي بلحاج، أتاحت العودة بالأمور إلى طبيعتها. لقد أغلقت الأبواب بالكامل أمام الحركة السياسية. فالعقد الوطني الذي وقعه في سانت أجيديو في جانفي (كانون الثاني) 1995 ستة أحزاب سياسية تتمتع بتمثيل شعبي، ورئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، كان يشكل بلا جدال مساهمة إيجابية لإخراج الجزائر من الأزمة ومن المأساة التي اقتيدت إليها. لكن السلطة أضاعت فرصة ذهبية لوضع حد لإراقة الدماء وبدء مرحلة جديدة ملأى بالآمال العظام حين رفضت العقد الوطني «جملة وتفصيلًا». أعلن النظام عدم رغبته في السلام، وباتت الأزمة الجزائرية أكثر حدة مع ازدياد عدد ضحايا العنف واتساع الفقر في صفوف السكان.
بيد أن السلطة أدركت أخيرًا في عام 1995 مدى عزلتها سواء في الدخل أو في الخارج. ولكي يستمر النظام في الحياة ويكسب الوقت، قرر هو الواعي افتقاره إلى الشرعية أن يعود إلى السيرورة الانتخابية التي قطعها في جانفي (كانون الثاني) 1992. وقد عبّأ إمكانات كبيرة ليحسِّن صورته السياسية في الخارج، فيما هو يواصل سياسة
246
العنف لإرهاب الشعب الجزائري، من جهة، ويعد من جهة أخرى بإنعاش الاقتصاد في مستقبل قريب (33).
لذا دشَّن النظام مرحلة انتقالية جديدة بالعودة إلى ديمقراطية الواجهة. وفي هذا الإطار بالذات كانت الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 والانتخابات التشريعية والمحلية، التي نُظِّمت على التوالي في جوان (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول) 1997، ترمي بشكل أساسي إلى تحسين صدقية النظام في الخارج، ولا سيما لدى بلدان الغرب.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1996، جرى تبني تعديلات دستورية. هذه التعديلات جردت البرلمان من صلاحياته. وقد تميزت انتخابات عام 1997 التشريعية بالتزوير الكثيف. فالإحصاءات الرسمية تزعم أن معدل المشاركة كان 65.5 بالمائة على المستوى الوطني في حين أنه لم يصل في الواقع حتى إلى 50 بالمائة، وأنه كان 43 بالمائة في الجزائر العاصمة في حين بينت مصادر موثوقة أنه لم يتجاوز الــ 17 بالمائة. وقد جرى تصوير حزب الرئاسة، التجمع الوطني الديمقراطي، الذي جرى تأسسه قبل ثلاثة أشهر فقط من الانتخابات، على أنه الفائز إذ حصل على الغالبية النسبية في المجلس الوطني.
أما مجلس الأمة الذي نصَّ عليه دستور عام 1996 الجديد، فيضم 144 عضوًا من بينهم 48 يمثلون الثلث المجمد (34)، وقد عيَّنهم الرئيس زروال، و96 يمثلون الثلثين الآخرين ويجري اختيارهم من بين المنتخبين المحليين. وهنا أيضًا كان التزوير شديدًا لأن التجمع الوطني الديمقراطي فاز بثمانين مقعدًا من أصل 96. حتى أن الرئيس زروال بات يسيطر على مجلس الأمة بغالبية 128، أي 90 بالمائة من أعضائه، في حين يحتاج رئيس الدولة إلى 25 بالمائة فقط من أعضاء المجلس لحجز أي قانون يتبناه المجلس الوطني، بموجب الدستور المعدل عام 1996.
إن التزوير على مستوى نسبة المشاركة ومستوى حصص الأحزاب السياسية يوضح تمامًا انسداد المجال السياسي فضلًا عن عقلية الحكام. إن انتخابات عام 1995 الرئاسية والانتخابات التشريعية والمحلية في عام 1997، لم تؤد إلى أي تغيير. بات الجنرال زروال، رئيس الدولة المعين عام 1994، الرئيس زروال بعد الانتخابات، وبات عبد القادر بن صالح، رئيس البرلمان المعيَّن، رئيس المجلس الوطني. وتم
................................................
(33) بخصوص إنعاش الاقتصاد، رأينا سابقًا، إخفاق الوعود التي قطعها الرئيس زروال في هذا الصدد.
(34) أي الذي يحول دون تحول أي مشروع قانون إلى قانون، على شكل نوع من حق النقض (المعرّب).
247
تثبيت أحمد آيت أو يحيى في مهامه بعد الانتخابات، وكان وزيرًا أول قبل الانتخابات الوطنية.
إن التغيير الوحيد المسجل على الأرض هو تفاقم الوضع في كل المجالات، بما فيها الاقتصاد الذي كان رئيس الجمهورية ورئيس حكومته قد قطعا بخصوصه وعودًا وتعهدات علنية.
لقد انتهت هذه الفترة الانتقالية الثالثة مثل الفترتين اللتين سبقتاها. تفاقمت الأزمة السياسية، وصار الوضع الاقتصادي والاجتماعي كارثيًا. إن الوعود الحكومية بالسلم والانتعاش الاقتصادي تمر، لكن البؤس باقٍ.
أقلعت الفترة الانتقالية الرابعة بوصول عبد العزيز بوتفليقة إلى رئاسة الجمهورية. والمصالحة الوطنية وعودة السلام كانتا تشكلان الموضوعة المركزية في برنامج بوتفليقة خلال حملته الانتخابية الرئاسية. لقد شخَّص خطابه السياسي بين شهري ماي (أيار) وسبتمبر (أيلول) 1999، من دون أي مجاملة، الأزمة متعددة الأبعاد، معيِّنًا نواقص المنظومة ومواطن انسدادها وأثار آمالًا كبير. بيد أن هذا الخطاب السياسي لم تتبعه، بعد سنة على وصوله إلى السبطة، تدابير ملموسة على الأرض لتحسين الوضع.
لكن علينا أن نلاحظ أن تجدد العنف، الذي تغذيه عصبة في السلطة، والتشكيل المتأخر للحكومة (بعد وصول بوتفليقة إلى السلطة بثمانية أشهر) والفشل المبكر للقانون حول الوئام المدني تُظهر هيمنة الاستئصاليين داخل السلطة. والأمل الذي أثاره خطاب بوتفليقة السياسي بدأ يتآكل بسرعة. فكيف يمكن في مثل هذا السياق تحقيق الوعود بالإنعاش الاقتصادي على أساس «النمو الكثيف»، التي تبناها الوزير الأول الجديد، الذي تم تعيينه في ديسمبر (كانون الأول) 1999؟
تفكر السلطة في عام 2000 بحل الأزمة عن طريق إنعاش الاقتصاد وحسب، متجاهلة الوجوه الأخرى، ولاسيما الوجه السياسي، تمامًا كما فعل المجلس الأعلى للدولة عام 1992، وذلك من دون استخلاص دروس هذه الفترة من المواجهة والشقاق، والأهواء العنيفة، وتذرير المجتمع والإخفاقات من كل الأنواع. ها نحن قد عدنا في أفريل (نيسان) 2000 إلى نقطة الانطلاق. إنها الحلقة المفرغة التي ندور فيها. فلنذكِّر مرة أخرى بأنه ما بين جانفي (كانون الثاني) 1992، وأفريل (نيسان) 2000، تعاقب في الجزائر أربعة رؤساء دولة، وسبعو وزراء أولون، ومئات الوزراء الذين جرى إعفاء بعضهم بعد مرور أشهر قليلة على تعيينهم، في حين أن الجنرالات
248
محمد العماري، ومحمد مدين (وثيق الارتباط بالعربي بلخير وخالد نزار)، ومحمد تواتي وإسماعيل العماري المسئولين عن انقلاب عام 1992، وعن القمع وتدهور الوضع في كل المجالات، لا يزالون في مواقعهم. إن الثمن مرتفع جدًا في الحقيقة. وفي غضون ثماني سنوات، لم يعد يمكن التعرّف على صورة الجزائر، فلقد أعيدت إلى الوراء أربعين سنة.
من جهة أخرى، جرى إضعاف الرئيس بوتفليقة في أقل من عام من الممارسة. فهل هو حر في تحركاته؟ إننا نلاحظ أنه لم يستطع، حتى شهر أفريل (نيسان) 2000 (تاريخ كتابة هذه السطور)، أن يبدأ على الأرض أيًا من الإصلاحات التي بشَّر بها شخصيًا لمعالجة الوضع المأساوي الذي يتخبط فيه البلد والذي وصفه هو بالذات من دون مجاملة في شهري أوت (آب) وسبتمبر (أيلول) 1999، ما عدا إنشاء لجنة وطنية مكلفة بالإصلاح القضائي.
وثمة أربع مجموعات من الوقائع التي تشهد على إضعاف بوتفليقة: حركة الجنرالات في فيفري (شباط) 2000، وردود الفعل على الخصخصة (ولاسيما بخصوص سوناتراك والمصارف والأراضي الزراعية)، والاحتجاجات العمومية الحادة من جانب الاتحاد العام للعمال الجزائريين وبعض الشخصيات السياسية ضد شخص بوتفليقة وضد سياسة الوئام الوطني التي يعتمدها، وأخيرًا تصاعد العنف.
أ- من الواضح أن الحركة المتعلقة بسلك الجنرالات، والتي أعلنت عنها رئاسة الجمهورية في 24 فيفري (شباط) 2000، تحمل بصمات الجنرالين محمد العماري ومحمد مدين المدعو توفيق. إن إحالة عدة جنرالات قدامى في جيش التحرير الوطني، كالطيب دراجي، ورابح بوغابه، وشعبان غضبان، ومخلوفي ذيب، وغيرهم، تشكل نهاية سيرورة طويلة من «تطهير» الجيش الوطني الشعبي من الضباط الكبار الوطنيين كانت قد بدأت في عام 1989. إن التوازن في قمة الجيش الوطني الشعبي، بين المقاومين والعناصر القديمة في الجيش الفرنسي، الذي كان قد اختل منذ رحيل بومدين وبات هشًا منذ حوالي عشر سنوات، قد انتهى اليوم. ومن سخرية القدر أن الرئيس بوتفليقة، المخلص لبومدن والضابط السابق في جيش التحرير الوطني (كما يحلو له التذكير بذلك)، هو الذي قد وقَّع المرسوم بإنهاء مهام آخر جنرالات الجيش الوطني الشعبي من قدامى المقاومين. بات الجيش مقفلًا بعد الآن وتحت إشراف أقلية في كل المجالات.
لقد استفاضت الصحافة في التعليق على القرار الرئاسي بتسريع سيرورة الخصخصة، وعلى الإعلان عن خصخصة سوناتراك بنسبة 75 بالمائة، والمصارف
249
والأراضي الزراعية. ووجهت بعض مقالات صحيفة الوطن (القريبة من الجنرال محمد مدين، المدعو توفيق) انتقادات حادة إلى الرئيس بوتفليقة في أعداء 26 و27 و28 فيفري (شباط) 2000، وأشارت إلى تحفظات «أصحاب القرار» (أي الجنرالات الاستئصاليين) بخصوص الطريقة التي عالج بها الخصخصة رجال رئيس الجمهورية، مبرزة تباينات في هذا المجال بين مواقف كل من أحمد بن بيتور الوزير الأول والوزراء الثلاثة المخلصين لبوتفليقة، المكلفين بالمشاركة وتنسيق الإصلاحات، وبالطاقة والمناجم، وبالمالية. وقد رفضت جبهة التحرير الوطني، وهي عضو مهم في الائتلاف، خصخصة سوناتراك والأراضي الزراعية. وهدد الاتحاد العام للعمال الجزائريين، بلسان أمينه العام، باللجوء إلى استعراض للقوة للتنديد بالسياسة الاقتصادية للحكومة. وكتبت نشرة الثورة والشغل، الناطقة بلسان الاتحاد: «إن السياسات المعلن عنها حول تسريع الإصلاحات وإعادة تنظيم الاقتصاد الوطني» لا تتفق مع «مضمون المشروع الوطني للخروج من الأزمة كما يفهمه الاتحاد العام للعمال الجزائريين ويدافع عنه، والغاية منه» (35). وبعد عشرة أيام، هدد الأمين العام للاتحاد الحكومة بالتأكيد علانية أن «من يتحدث عن خصخصة من دون المرور بنا، سوف نذبحه» (36).
- خلال شهري مارس (آذار) وأفريل (نيسان) 2000، شددت الصحافة المسماة «مستقلة»، القريبة من الأمن العسكري، على فشل سياسة بوتفليقة للوئام الوطني، وانتقدت مشروع العفو العام الذي قد يكون قيد التحضير على مستوى رئاسة الجمهورية. وهذه الصحافة تُستخدم كصدىً مضخَّم للضغوطات العلنية التي يمارسها الاتحاد العام للعمال الجزائريين وبعض الجمعيات والشخصيات السياسية كالهاشمي الشريف وعبد الحق برارحي، الذين يعارضون سياسة الوئام المدني. فضلًا عن ذلك، إذا كان غزالي، إحدى الشخصيات المرموقة في حزب فرنسا، والوزير الأول الأسبق لكل من بلخير ونزار (37)، يضاعف من تصريحاته النارية ضد شخص بوتفليقة لا ضد برنامجه، من دون أن ينبس ببنت شفة بخصوص انحرافات النظام
..............................................
(35) انظر: Le Matin, 15/4/2000.
(36) انظر: La Tribune, 26/4/2000
التي تعترف بأن المسئول الأول في الاتحاد العام للعمال الجزائريين «قد ألقى، على امتداد أكثر من ساعة، خطابًا نادرًا من حيث عنفه [....] توصل إلى انزلاقات لفظية».
(37) في الواقع إن الجنرالين بلخير ونزار، «الفارين» من الجيش الفرنسي، هما اللذان أقنعا الرئيس الشاذلي بتعيين غزالي وزيرًا أول خلفًا لحمروش في جوان (حزيران) 1991. وهما أيضًا اللذان أبقياه في هذا المنصب في ظل حكم بوضياف، بعد انقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992.
250
العسكري، فذلك يُظهر بوضوح أن هذا الهجوم ضد رئيس الدولة إنما يوجهه الجنرالات الاستئصاليون.
د- إن حزب فرنسا، في قمة الهرم العسكري، هو المسئول عن تصاعد العنف خلال الأشهر الأخيرة من العام 1999 والأشهر الأربعة الأولى من العام 2000. ونحن سنورد ثلاثة أمثلة ذات دلالة لإبراز الرسالة السياسية المخلَّة بالاستقرار التي يوجهها إلى الرئيس بوتفليقة جنرالات حزب فرنسا.
إنه لأمر مستغرب، أيًّا يكن، أن تكون المجزرة المقترفة بحق 29 مواطنًا بريئًا، والمنسوبة إلى الإسلاميين، قد اقتُرفت في أوت (آب) 1999 في بني ونيف قرب بشار، وهي منطقة يوجد فيها أقوى تمركز عسكري في البلد ولم يتحدث أحد عن أي نشاط فيها للإسلاميين المسلحين منذ بداية أعمال العنف في عام 1999.
فضلًا عن ذلك، أشارت السلطات، عن طريق الصحافة، في شهر أفريل (نيسان) 2000، إلى «غارة للجماعة الإسلامية المسبحة جنوبي وجده» بالمغرب. وقد قيل إن الإسلاميين المزعومين انسحبوا إلى الجزائر بعد أن «نهبوا عدة مساكن وزرعوا الذعر بين سكان جبل عصفور» (38).
من الواضح أن هذه الجرائم قد نُظِّمت، على فترات تفصل بين الواحدة منها والأخرى عدة أشهر، بهدف نسف أي مسعى للتقارب مع المغرب. فجنرالات حزب فرنسا معروفون، في الواقع، بعدائهم لاستئناف العلاقات الإنسانية والاقتصادية مع المغرب فضلًا عن معارضتهم لأي مشروع لبناء المغرب العربي الكبير. فمن المستفيد إذًا من هذه الجرائم؟ إن الجاب عن هذا السؤال يكشف لنا من هم مدبرو أعمال مخزية كهذه، علمًا أن المغرب يمثل موقعًا أساسيًا بين «الخطوط الحمراء» التي رسمها جنرالات حزب فرنسا للرئيس بوتفليقة.
علاوة على ذلك، لقد جرى إعلامنا بأنه في يوم الجمعة 21 أفريل (نيسان) 2000، نجا وزير الزراعة سعيد بركات من محاولة اغتيال خلال قيامه بزيارة عمل إلى المقطع الأزرق في بلدية حمام ملوان (ولاية البليدة). فلقد انفجرت قنبلة في الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر، أي بعد دقائق قليلة من مغادرة الوزير، وذلك في المكان الذي كان موجودًا فيه مع الوفد المرافق له (39). وقد نسبت هذه المحاولة الإجرامية، هي الأخرى، إلى الإسلاميين. فمن يمكن أن ينظم محاولة اعتداء كهذه محسوبة جيدًا
..............................................
(38) انظر: La Tribune, 23/4/2000.
(39) انظر: La Tribune, 22/4/2000.
251
لإثارة الخوف أكثر مما لإنزال أضرار، حين نعرف تدابير الأمن المشددة المتخذة أثناء تنقلات الوفود الوزارية؟ إن هذا عائد إلى الحرب النفسية التي لا تعرف أسرارها إلا مصالح الأمن.
وفي 23 أفريل (نيسان) 2000، جرى إعلامنا بأن سبعة رجال جمارك قد اغتيلوا في مكان غير بعيد عن حاسي مسعود، وهي منطقة نفطية تخضع لتدابير أمن مشددة ولا يمكن للجزائريين التجول فيها من دون رخصة مرور تصدرها السلطات. فهذه المنطقة قد تم الإعلان عنها، في الواقع، «منطقة حظر» منذ عام 1994. لقد اتهمت الصحافة الموجَّهة الإسلاميين من جماعة الدعوة والجهاد السلفية، التي يتزعمها حسن خطاب وتتمركز في نيزي أوزو، أي على بعد 900 كلم عن المكان، باغتيال رجال الجمارك (40).
ولا يبدو مكان الجريمة وتاريخها من قبيل الصدفة. أليس اغتيال الجمركيين في «منطقة الحظر» رسالة مرمَّزة من حزب فرنسا إلى الرئيس –المدير العام لشركة سوناتراك وإلى وزير الطاقة، المعتبرين كلاهما من رجال بوتفليقة؟ في كل حال، لقد تلازمت هذه الجريمة الشنعاء مع ثلاث وقائع في آن معًا:
- عبرت بعض وسائل الإعلام الفرنسية علانية عن خيبتها ومرارتها إذ أكدت «أن السلطات الجزائرية تعطي الأولوية للشركات الأمريكية في استغلال حقول النفط» (41).
- إن استرجاع سوناتراك 40 بالمائة من حصص شركة أركو الأمريكية في رورد البغل في أفريل (نيسان) 2000 «أسال حبرًا كثيرًا (في فرنسا) بما أن شركة إلف الفرنسية –التي ابتلعتها أيضًا شركة توتال- أبدت اهتمامها بشراء حصة أركو» (42). وفي الواقع، كان بئر رورد البغل يثير شهية شركة إلف منذ عام 1998.
- لقد تم اغتيال رجال الجمارك بعد أسبوع من توقيع عقد التنقيب والتطوير لحقول النفط بين شركة «أميرادا هس كورب» الأمريكية وسوناتراك (43)، في منطقة تثير شهية شركة النفط الفرنسية.
هذه الوقائع الثلاث تبرز الشعور بالإحباط والخيبة لدى بعض الأوساط الفرنسية وأتباعها في الجزائر، جنرالات حزب فرنسا.
..............................................
(40) انظر: الوطن، 23/4/2000.
(41) انظر: La Tribune, 19/4/2000.
(42) المصدر نفسه.
(43) انظر: Libération, 24/4/2000.
252
هذه المجموعات الأربع من الوقائع تبيِّن أن سيرورة زعزعة الرئيس بوتفليقة على يد الجنرالات الاستئصاليين قد بدأت حقًا. فهذه هي الأساليب عينها التي استخدمها الجنرالات أنفسهم لزعزعة الرئيس زروال، حين شُنَّت الهجمات الأولى ضده وضد معاونه المقرَّب منه الجنرال محمد بتشين، وذلك من طرف الصحافة الموجَّهة في نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول) 1996. لقد قاوم حتى سبتمبر (أيلول) 1998 حين أعلن «استقالته». وسواء أكمل بوتفليقة ولايته الحالية أو لم يكملها، فالناس بدأوا يفكرون في خلفه. ولقد بدأ العد التنازلي من أجل فترة انتقالية خامسة (44).
هل يمكن أن نعرف أخيرًا، بعد انقلاب عام 1992 بثماني سنوات ونصف السنة، أي مجتمع يريد الجنرالات الاستئصاليون إقامته في الجزائر؟
هل يريدون إرساء الليبرالية؟ كلا بالتأكيد. وليس ذلك لأسباب أيديولوجية، بل لأن الليبرالية تدعو إلى الحرية الاقتصادية، والتنافس والمجازفة. والحال أن عمل المنشأة الحرة وشفافية السوق سوف تعرض للخطر الامتيازات الاقتصادية، والمكاسب السهلة وألاعيب مجموعات المصالح المرتبطة بعصبة الاستئصاليين. مع ذلك، فهؤلاء الأخيرون يحظون بالدعم السياسي من طرف الليبراليين كحزب التجديد الجزائري وأحزاب أخرى صنعتها السلطة.
هل يريدون إقامة الشيوعية؟ بالطبع لا. لكن يُهمهم دعم بعض الشيوعيين كالحركة الديمقراطية الاجتماعية (MDS)، حزب الهاشمي شريف، وذلك في حربهم ضد التيار الإسلامي وضد الحركة الوطنية الأصيلة.
هل يريدون إقامة الاشتراكية؟ كلا بالتأكيد. لمجرَّد أنهم ضد الخيار الاشتراكي، حتى إذا كانوا يحظون بالدعم السياسي من طرف اشتراكي جبهة التحرير الوطني وأحزاب أخرة هامشية. ويتجلى رفضهم للاشتراكية، بعدائهم لجبهة القوى الاشتراكية، أقدم حزب اشتراكي في الجزائر، وهو حزب يتمتع بالصدقية وبالتمثيل الشعبي. وهو من جهة ثانية مرشح للزعزعة من طرف مصالح الأمن، ولاسيما منذ عام 1999.
هل يريدون إرساء منظومة ديمقراطية؟ بالطبع لا. لأن الاستئصاليين لا
................................................
(44) أشارت اليومية الفرنسية ليبراسيون في عددها الصادر يوم 15/4/2000، إلى أن شريف بلقاسم، وهو وزير سابق في عهد بومدين، دعا للتو إلى «فترة انتقالية جديدة يجب أن تقودها هيئة تتمثل فيها المؤسسات والمجتمع المدني».
253
يمثلون إلا تيارًا أقليًا جدًا، مقطوعًا عن الجماهير ومستندًا إلى أحزاب هامشية تصف نفسها بالديمقراطية. لذا فهم لا يقبلون بالتنافس السياسي الشريف، ولا يقبلون بالحريات، ولا سيما حرية التعبير. إنهم يعارضون بالقوة والتزوير والشفافية والسيادة الشعبية. يقولون لا لكل شيء، ودائمًا. وأقوالهم وأفعالهم تستند إلى الانحراف والانحلال الأخلاقي والفساد. وتتمثل أفعالهم في إقصاء الناس الشرفاء والنزيهين، والتصدي لأي مشروع بنّاء، وأي اقتراح إيجابي لصالح الإسلام، والمصالحة الوطنية والمصلحة العامة.
ليسوا ليبراليين، ولا شيوعيين، ولا اشتراكيين، ولا ديمقراطيين. وهم لا يريدون بوجه خاص، أن يسمعوا أي حديث عن تداول للسلطة يقوم على قواعد ديمقراطية. إن نظامهم فاسد ومركب من خليط من الاتجاهات السياسية المتناقضة، التي يجمعها قاسم مشترك واحد وهو رفض الحضارة العربية – الإسلامية والانحياز إلى حزب فرنسا. باختصار؛ إنهم يستحوذون على السلطة ويصرون على الاحتفاظ بها بأي ثمن. لذا انكب محمد العماري ومحمد مدين، منذ انقلاب عام 1992م، على التغيير المنظم لصورة الجيش، بمناسبة الترقيات الدورية للضباط، وذلك لصالح اتجاه حزب فرنسا على مر السنين (45). وهما يعتقدان هكذا أنهما سدا المنافذ إلى الجيش من أجل توطيد سلطتهما، وهي سلطة عصبة أقلية، ولتحاشي أي تغيير، ضاربين عرض الحائط بالشرعية الشعبية، وبإرادة الغالبية الساحقة من الجزائريين.
أما الشعب الجزائري فيتطلع بشغف إلى الديمقراطية، والحرية، والسلام، والعدالة الاجتماعية والكرامة.
إن القضية المركزية التي تنطرح بحدة، منذ سنوات، تتعلق بطبيعة النظام بالذات، فالنظام العسكري الحالي لا يمتلك نقاط استدلال أيديولوجية واضحة، أو قيمًا أخلاقية وروحية، أو برنامجًا سياسيًا، أو استراتيجيًا اقتصاديًا، أو رؤية على المدى البعيد. إنه المأزق الشامل. من جهة أخرى، إن الجدال الذي انطلق مجددًا حول هذه المسألة الأساسية في مارس (آذار) 2000 عن طريق المساجلة التي دارت بين علي كافي (المسؤول السابق عن الولاية الثانية خلال حرب التحرير ورئيس الدولة بين عاميْ 1992، و1993م) وخالد نزار («الفار» من الجيش الفرنسي، ووزير الدفاع سابقًا
...........................................
(45) أكد لي الملازم أول مسعود عليلي، الذي لجأ إلى إسبانيا، على متن مروحيته في فيفري (شباط) 1998م، خلال لقاء جرى بيننا، أن الأركان العامة للجيش تنظم ترقيات الضباط، مستندة بشكل أساسي إلى مقاييس ذاتية، وإلى الانتماء إلى تيارها. حتى أن أتباعها باتوا يشكلون 80 بالمئة من سلك الطيارين في عام 1998م، مقابل 20 بالمئة في عام 1992م.
254
وعضو المجلس الأعلى للدولة بين عاميْ 1992، و1993م)، وما تلا ذلك من إفشاءات علنية، أظهرا وجه النظام الحقيقي. وتتمثل الظهورات الإعلامية للجنرال المتقاعد خالد نزار، خلال شهر مارس (آذار) وأفريل (نيسان) 2000 للدفاع عن «الفارين» من الجيش الفرنسي الذين هاجمهم علي كافي، في تغذية الحقد على من يخالفونه هو وعصبته الأقلية التفكير، وفي تبرير العُنف والقمع اللذين يتمنى أن يُراهما يشتدان (46). وهو يتصرف كعرَّاب للحلقة المقفلة من «الفارين» من الجيش الفرنسي، ويُقدم نفسه هكذا كالناطق بلسان الجيش الوطني الشعبي، في حين لا يشغل أية وظيفة رسمية. وهو يرُد بعُنف على أقوال الجنرال محمد عطايلية (47) الذي يدعو إلى وقف إراقة الدماء موصيًا بإصدار عفو عام وبالمصالحة الوطنية لإخراج الجزائر من المأساة التي اقتيدت إليها. إن الأزمة التي تتكرر على لسان الجنرال المتقاعد نزار هي العنف، والعنف أيضًا، والعنف دائمًا. هذا وإن تخبطه الإعلامي، وخطبه المتبجِّجة لا تدفع بالنقاش إلى الأمام، بل تُظهر بوضوح البطلان المخيف للمسعى الذي دشنه انقلاب جانفي (كانون الثاني) 1992 والقائم على العنف والقمع. والشعب الجزائري، الذي أرهقته الظهورات الإعلامية والنتائج المأساوية للحرب التي يشنُّها في الجزائر منذ أكثر من ثماني سنواتٍ «الفارون» من الجيش الفرنسي وحزب فرنسا، لا يتطلع إلى إلا السلم والتغيير عن طريق الديمقراطية.
ليس في وسع قيادة الجيش أن تستمر في التدخل وفرض نظام ديكتاتوري متستر بديمقراطية الواهة على الشعب الجزائري الراشد. وعلى الجيش ومصالح الأمن الكف عن التدخل في الحياة السياسية والعودة إلى الدور الذي حدده لها الدستور.
في مطلع القرن الواحد والعشرين وبعد الاستقلال بــ 38 عامًا، يتساءل البعض إذا لم تكن الجزائر في وضع أفضل في ظل الاستعمار مما هي الآن في ظل نظام جنرالات جنوب فرنسا الاستعماري الجديد. وإذا كان هذا التساؤل واردًا فهو يبيِّن درجة الخطورة والانحطاط التي بلغها اليوم المجتمع الجزائري. وأنا أعتقد، من جهتي، أن الشعب الجزائري بغالبيته الساحقة إنما يرفض الاستعمار القديم كما يرفض الاستعمار الجديد. لذا آن الأوان ليستعيد الشعب سيادته وحرية اختيار ممثليه وقادته في الشفافية وحكم القانون.
.................................................. ..
(46) في مارس (آذار) 2000، وصف خالد نزار علي كافي بالسلفي وعميل الاستخبارات المصرية. وقد فعل ذلك، كتلميذ نجيب، مستخدمًا التعابير ذاتها التي كان يستعملها أسلافه، من القادة الفرنسيين، الذين كانوا يصفون بعض قادة الثورة الجزائرية بالعملاء لدى مصر خلال حرب التحرير.
(47) تنظر المقابلة مع الجنرال محمد عطايلية في: 25/ 3/ 2000.
255
إن المصالحة الوطنية هي وحدها التي تتيح للجزائر، الخروج من هذه المأساة المشؤومة. وأنا أعتبر، شخصيًا، أن المصالحة الوطنية هي وحدها القادرة على إخراج الجزائر من الأزمة متعددة الأبعاد ومن المأزق الراهن بفضل حوار شامل بين السلطة والأحزاب السياسية، المستقلة وذات التمثيل الشعبي الفعلي، من دون استثناء. وهدف هذا الحوار هو التحضير للعودة إلى السيادة الشعبية في الشفافية وفي الديمقراطية من دون غش أو تزوير للوقائع والحقائق. وسوف تمر العودة إلى الديمقراطية بالضرورة بفترة انتقالية تتميز بوجه خاص بالأمور التالية:
- وضع حد لإراقة الدماء.
- إلغاء حالة الطوارئ.
- الإفراج عن كل المعتقلين السياسيين.
- نزع سلاح الميلشيات.
- إلغاء كل النصوص التشريعية والتنظيمية القمعية الصادرة منذ جانفي (كانون الثاني) 1992.
- وضع حد للممارسات القمعية (توقيفات اعتباطية، خطف، تعذيب، تصفيات جسدية من دون محاكمة).
- احترام الحريات، ولاسيما حرية التعبير، بما في ذلك إتاحة المجال لممثلي الأحزاب السياسية للتحدث عبر وسائل الإعلام الكبرى التي تؤمِّن اشتغالها الضرائب التي يدفعها المواطنون.
وفقط إجراءات تهدئة من هذا النوع، وفقًا لخطة محددة مع تواريخ دقيقة، من شأنها أن تخلق شروطًا مناسبة لاستعادة السلم والمصالحة الوطنية الضروريين لإعادة إعمار البلد في التضامن والعدل الاجتماعي، والكفيلين بالتلاحم الوطني والاستقرار.
فمن دون المصالحة الوطنية والسلام، لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية، أو إنعاش اقتصادي، أو استقرار، أو استثمارات أجنبية (ما خلا المحروقات التي ليس للاستثمار فيها أي تأثير في خلق فرص العمل وفي ميزان المدفوعات).
آن الأوان لإيجاد حل سياسي لمأساة الجزائر التي تفاقمت منذ عام 1992، وللعودة إلى السيرورة الديمقراطية، واحترام السيادة الشعبية بغية إتاحة المجال أمام ظهور مسئولين وطنيين، أكفاء ومهتمين بالمصلحة العامة لأجل تسيير الشئون العامة في الشفافية. عندئذ، بل عندئذ فقط، يصبح السلام والاستقرار في الجزائر مضمونَيْن.
256
خاتمة
لقد أعقبت فترةً طويلةً من الاستقرار والسلام الاجتماعي حكم الجزائر فيها ثلاثة رؤساء دولةٍ خلال 29 عامًا (1962- 1991)، فترةٌ من زال الاستقرار، والاضطرابات والقمع عرفت أربعة رؤساء دولة وستة وزراء أولين ومئات الوزراء، وحوالي مائتي ألف قتيل، وآلاف المفقودين، وستمائة ألف مهجَّر (1) ومليون من ضحايا العنف (2) في ثمانية أعوام (جانفي (كانون الثاني) 1992- جانفي (كانون الثاني) 2000).
وهذه الأرقام توحي بأن تبدلًا حصل انطلاقًا من عام 1992. ففي الواقع، بقيت طبيعة النظام هي ذاتها، والفروق المسجلة بين فترة وأخرى فروق في الدرجات لا في الطبيعة، (لأن كل هذه الفترات تتشارك في سلسلة من السمات التي أشرنا إليها في شتى فصول هذا الكتاب).
إن الفرق الرئيسي بين هذه الفترات التي جرى تفحصها على امتداد هذا الكتاب يكمن في واقع أن غياب الاستقرار الحكومي الملاحظ منذ عام 1992 يتعارض مع الثبات الملحوظ للجنرالات الأربعة أو الخمسة (الأعضاء النافذين في عصبة «الفارين» من الجيش الفرنسي) الذين يستحوذون على السلطة الفعلية منذ الانقلاب وإلغاء الانتخابات التشريعية، ولا يزالون يشغلون المهام ذاتها حتى اليوم.
...............................................
(1) رقم أورده وزير المالية ونقلته الصحافة الجزائرية المكتوبة في 29 مارس (آذار) 2000.
(2) ذكر هذا الرقم الرئيس بوتفليقة خلال مؤتمره الصحفي في كرانس مونتانا بسويسرا، بعد اعتلائه السلطة ببضعة أسابيع.
257
إن مبدأ أولوية العسكري على السياسي، المستمد من حربنا التحريرية، قد أعاد إليه الاعتبار «الفارون» بالمناسبة. لكن منذ عام 1992، نجد أنفسنا إزاء نظام أقلي فاقد للحظوة يفرض نفسه بالقوة ضد إرادة الشعب. وقد ترتبت على ذلك عواقب مأساوية بالنسبة للجزائر على كل المستويات.
لم تتجرأ النواة الصلبة للنظام العسكري يومًا على الاستيلاء المباشر على السلطة، أو على فرض النموذج السياسي الذي تفضله، إذا كان لديها نموذج كهذا. لقد فضَّلت هذه المجموعة الصغيرة التي تمسك بالسلطة الفعلية اللجوء إلى وسطاء آخرين معروفين بوطنيتهم لوضعهم على رأس الدولة. بدأت باختيار محمد بوضياف في جانفي (كانون الثاني) 1992، ثم علي كافي بعد ستة أشهر، ثم اليامين زروال في جانفي (كانون الثاني) 1994، قبل ترشيحه للانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، لكن من دون أن ينهي ولايته، حيث حل محله عبد العزيز بوتفليقة في عام 1999.
وتُظهر الوقائع أن هذه العصبة المؤلفة من عدد صغير من الجنرالات تختبئ دائمًا خلف رئيس دولة أو مشروع رئاسي، معتمدة على بعض الأحزاب الهامشية التي صنعها النظام ووصفت نفسها بالديمقراطية، لتواصل سياستها الاستئصالية عن طريق تغليب استراتيجيتها الأمنية والقمعية القائمة على المواجهة وإقصاء التيارات السياسية ذات التمثيل الشعبي. إن سياسة المواجهة هذه، القائمة على التفريق، والشقاق، والحقد، والحرب بين الإخوة، فضلًا عن تذرير المجتمع وسد المجال السياسي، بهدف البقاء في السلطة وإنقاذ النظام، كانت وراء انحرافات كثيرة.
إن جميع الحلول الزائفة التي قدمتها السلطة بين عاميْ 1994 و1999، والتي بدأت بشبه الحوار المنظم في إطار المؤتمر الوطني من طرف رئاسة الجمهورية (1994) وانتهت إلى مشروع الوئام المدني (1999)، مرورًا بالمفاوضات الزائفة بين الرئاسة وقائدي جبهة الانقاذ الإسلامية، عباسي مدني وعلي بلحاج (1995)، تشكل تعبيرًا عن رفض التغيير وتداول السلطة عبر الطريق الديمقراطي، كما يشهد على ذلك الرفض التلقائي الفظ من طرف النظام للعقد الوطني الذي وقعته ستة أحزاب سياسية والرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان في جانفي (كانون الثاني) 1995، وكان ينطوي على اقتراحات ملموسة لأجل تسوية شاملة للأزمة.
إن امتلاك الدولة من طرف هذه العصبة التي تدوس بالأقدام الدستور والسيادة الشعبية قد ساهم في تدمير البلد في كل الميادين. ففي الواقع، كانت لسياسة القمع التي دشنها الانقلاب في العام 1992 ولمساعي تدجين المجتمع عواقبُ سياسية، واقتصادية واجتماعية كارثية.
258
لقد ساهم انعدام الكفاءة، وسوء التسيير، والفساد، والإفلات من العقاب، واختلالات الاقتصاد، والإدارة والقضاء، في إفقاد النظام حظوته أكثر، وفي مفاقمة أزمة الثقة وتسريع انحطاط المنظومة.
لم يعد يمكن التعرف على البلد في بداية هذه الألفيّة. ولقد أعيدت الجزائر إلى الوراء أربعين سنة، ويشكل القضاء على الطبقة المتوسطة، التي كانت في السابق ضمانة للتماسك والسلام الاجتماعيين، وتوسع الفقر والإقصاء الاجتماعي، قنبلة اجتماعية موقوتة مريعة.
ولقد قاد الجزائر إلى حافة الهاوية في أواخر التسعينيات تفاقمُ الوضع الاقتصادي، مع هبوط الاستثمارات الإنتاجية ما عدا المحروقات، ومع تباطؤ النشاطات الاقتصادية، والتدني المأساوي في دخل الفرد، وزيادة البطالة، والتضخم الطيّار، والإفقار الزاحف، وتعميم الفساد، والتحكم بالواردات من طرف بعض البارونات، وتبديد الثروات والريع النفطي.
إن سياسة الإرهاب والرعب التي دشنها انقلاب عام 1992 مع كل ما تنطوي عليه من تجاوزات، فضلًا عن «ضرورة استتباب سلطة الدولة مجددًا» جرى استخدامهما حجة لرفض الديمقراطية. هكذا فالمقاربة الأمنية، والخطاب السياسي الذي يدعمها والممارسات البوليسية التي أدارت الظهر لإرادة الشعب، وللحريات، والعدالة الاجتماعية والمصالحة الوطنية، فقد أخفقت بصورة مثيرة للرثاء.
فلا تزوير الوقائع، ولا التشويهات البشعة، ولا التضليل الإعلامي، ولا التلاعبات، ولا المناورات التسويفية، ولا محاورة الذات، ولا رضى أصحاب القرار عن أنفسهم، سوف تخرج الجزائر من الوضع الكارثي الذي تتخبط فيه منذ عام 1992.
إن المسائل المتعلقة بإضفاء الشرعية على الدولة، وبعقلنتها وتحديثها، وبالمصالحة الوطنية واستعادة الثقة بين الحكام والمحكومين تبقى مطروحة باستمرار، وتتطلب في الحال أجوبة واضحة تتخذ أشكال إصلاحات، وبرامج عمل وتدابير ملموسة لإخراج الجزائر من هذه المأساة الرهيبة ووضعها على سكة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وإذا لم يحصل ذلك، قد يفضي التدهور المستمر في الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وتفاقم الاستياء الجماهيري، إلى الانفجار الشعبي الذي لا يمكن معرفة عواقبه.
259
لقد فقدت الجزائر في السنوات الثماني الأخيرة الكثير من الضحايا والكثير من الوقت، والكثير من المال، وهي أمام الجدار المسدود.
آن الأوان كي يتغلب العقل والحكمة على العنف والضغينة والشقاق. وفقط طريق الحوار والمصالحة الوطنية والعودة إلى السيادة الشعبية في الشفافية يمكن أن تخرج الجزائر من المأساة الكارثية الحالية. فإذا انخرطت الجزائر في طريق السلام والديمقراطية، يمكنها عندئذ، وعندئذ فقط، أن تبني من جديد في السلام، والهدوء، والأخوّة، والتضامن والعدالة الاجتماعية.
هذه هي الطريق التي ستضمن الاستقرار في الجزائر، وفي المغرب الكبير، وفي حوض البحر المتوسط.
من جهة أخرى، لا ينبغي أن تشكل عولمة الاقتصاد ذريعة للجماعات الخفية وبارونات الاستيراد المرتبطة بالنظام كي تفرض على الجزائر الليبرالية المتوحشة، ضاربة عرض الحائط بمصالح البلد والشرائح الشعبية.
آن الأوان لإعادة التفكير بالكامل بسياسة الجزائر المعتمدة إلى الآن حيال بناء المغرب الكبير (3)، لأن التكامل المغربي هو وحده الذي يمكن أن يتيح للجزائر وشركائها المغاربة مواجهة تحديات العولمة، ووضعها جميعًا على طريق النمو الاقتصادي المستديم والتنمية.
إن بناء المغرب الكبير، القائم على مقاربة بنيوية، ينبغي أن ينظم حول أهداف مشتركة على صعيد الاستثمارات والإنتاج والمبادلات لأجل زيادة الدفوعات الفعلية والمالية بين بلدان المغرب الكبير. إن إقامة مجال اقتصادي مغاربي تستتبع أيضًا تطبيق سياسة إقليمية مشتركة لتنمية الموارد البشرية بهدف تعزيز التضامن الفاعل بين البلدان الأعضاء وجعل سيرورة التكامل المغاربي نهائية لا يمكن أن تؤثر فيها الاحتمالات السياسية.
إن التحديات والرهانات في هذا العصر هي من الضخامة بحيث لا يمكن أن تكون كافيةً الأعمال التي تقتصر على المجال الوطني وحده في عالم كعالمنا مضطرب ومحمَّل بضغوط خارجية كبيرة. وفي الواقع، إن عالمنا المعاصر يتميز بتشكيل تجمعات إقليمية وبوجود فضاءات اقتصادية واسعة أو خلقها.
.............................................
(3) انظر: عبد الحميد براهيمي، المغرب العربي في مفترق الطرق (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996).
260
في هذا السياق، يصبح بناء المغرب الكبير ضرورة لابد منها. فضلًا عن ذلك، لكي يكون التكامل المغاربي دائمًا ومتينًا، يجب أن يتلازم مع دمقرطة الحياة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية في بلدان المغرب الكبير. وهكذا، في مسيرة هذا الأخير نحو الوحدة والتقدم، يمكن أن يلعب، بوصفه ملتقى الحضارات، دورًا إيجابيًا في إقامة جسور حقيقية بين شمال المتوسط وجنوبه، وأن يشكل عامل استقرار مهمًا في الوطن العربي، وحوض البحر المتوسط وأفريقيا.
261
المراجع
1. العربية
كتب:
براهيمي، عبد الحميد. المغرب العربي في مفترق الطرق. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996.
بن نعمان أحمد. حزب البعث الفرنسي. الجزائر: شركة دار الأمة للطباعة والترجمة والنشر والتوزيع، 1996.
______. فرنسا والأطروحة البربرية. الجزائر: شركة دار الأمة للطباعة والترجمة والنشر والتوزيع، 1997.
______. الهوية الوطنية. الجزائر: شركة دار الأمة للطباعة والترجمة والنشر والتوزيع، 1996.
مذكرات الجنرال خالد نزار. الجزائر: مطبعة الشهاب، 1999
دوريات:
الحياة: 25/ 3/ 2000.
المجاهد: 3/ 5/ 1990، و222/ 10/ 1990
263
المسار المغربي: 30:/ 4/ 1990
الوطن: 25/ 5/ 1999؛ 20/ 11/ 1999؛ 27/ 3/ 2000، و23/ 4/ 2000.
2. الأجنبية
Books
Algeria. National Charter. Algiers: Democratic and Popular Republic of Algeria, Ministry of Culture and Information, 1981.
Brahimi, Abdelhamid. L'Economie algérienne. Alger: Office des publications universitaires, 1991.
___. Justice sociale et développement en économie islamique. Paris: Pensée universelle, [1993?].
___. Stratégies de développement pour l'Algérie: Défis et enjeux. Paris: Economica, 1991.
Collot, Claude. Les Institutions algériennes de l'Algérie durant la période coloniale. Paris: Editions du centre national de la recherche scientifique. 1987.
Coudurier, Hubert. Le Monde selon Chirac: Les Coulisses de la diplomatie française. Paris: Calmann-Lévy, 1998.
Daniel, Jean. De Gaulle et l'Algérie: La Tragédie, le héros et le témoin. Avant-propos de Jean Lacouture. Paris: Seuil, 1986. (Histoire immédiate).
Dartel, A. et J. P. Rivet. Emploi et développement en Algérie. Paris: Presses universitaires de France, 1962.
Droz, Bernard et Evelyne Lever. Histoire de la guerre d'Algérie, 1954-1962. Paris: Seuil, 1982.
Economist Intelligence Unit [EIU]. Algeria. London: [EIU], December 1999.
Faivre, Maurice. Les Combattants musulmans de la guerre d'Algérie: Des soldats sacrifiés. Paris: L'Harmattan, 1995. (Collection «histoire et perspectives méditerranéennes»).
Hafsi, Tayeb. Entreprise publique et politique industrielle. Montréal: [s. n.], 1987.
264
Hamoumou, Mohand. Et ils sont devenus harkis. Préface de Dominique Schnapper. paris: Fayard, 1993.
Harbi, Mohammed. L'Algérie et son destin: Croyants ou citoyens. Paris: Arcantère, 1992. (Mémoires et identités).
___. Le F.L.N.: Mirage et réalité. Paris: Jeune Afrique, 1980. (Sens de l'histoire).
Hidouci, Ghazi. Algérie, la libération inachevée. Paris: La Découverte, 1995.
Hirschman, Albert O. Stratégie du développement économique. Paris: Ouvrières, 1964.
International Institute for Strategic Studies [IISS]. 1996 Report. Sweden: [1996].
___. 1997 Report. London: [1997].
Moch, Jules Salvador. En 1961, paix en Algérie. Paris: R. Laffont, 1961.
Othmane, Si. L'Algérie, l'origine de la crise: Ou, la guerre d'Algérie, suite et fin. Paris: Dialogues éditions, [1996]. (Histoire).
Perroux, François. L'Economie du XXéme siècle. Paris: Presses universitaires de France, 1964.
Pervillé, Guy. Les Etudiants algériens de l'université française, 1880-1962: Populisme et nationalisme chez les étudiants et intellectuels musulmans algériens de formation française. Préface de Charles-Robert Ageron. Paris: Editions du centre national de la recherche scientifique, 1984. (Collection recherches sur les sociétés méditerranéennes»). »
Rey, Benoist. Les Egorgeurs: Guerre d'Algérie, chronique d'un appelé, 1959-1960. Paris: Monde, librairie-los solidarios, 1999.
Salinas, Michèle. L'Algérie au parlement, 1958-1962. Toulouse: Editions privat, 1987. (Bibliothèque historique privat).
Stork, Joe. Director of Advocacy-Middle East. Washington, DC: Human Rights Watch, [n. d.].
Vergès, Jacques. Lettre ouverte à des amis algériens devenus tortionnaires. Paris: Albin Michel, 1993. (Collection lettre ouverte).
265
Periodicals
«La Fondation pour le progrès de l'homme: Bâtir ensemble l'avenir de la planète». Le Monde diplomatique: avril 1994.
Higging, B. «Pôles de croissance et pôles de développement comme concepts opérationnels». Revue européenne de sciences sociales: no. 24, 1971.
Huntington, Samuel P. «The Clash of Civilizations?.» Foreign Affairs: vol. 72, no. 3, Summer 1993.
Jeune indépendant: 20 août 1991.
Libération: 26/1/2000. 15/4/2000, et 24/4/2000.
Le Matin: 15/4/2000.
Le Monde: 7-8/6/1998, et 25/11/1999.
Perroux, François. «Note sur la notion de pôle de croissance» Economie appliquée: janvier-juin 1955.
La Tribune: 19/4/2000; 22/4/2000, et 23/4/2000.
Conférences
The International Seminar U.S.-Arab Relations and the Challenge of Globalization, organized by Democratization and Political Change in the Middle East (Washington, DC, Georgetown University) and Centre d'études de l'orient contemporain (Paris, Université de La Sorbonne), Casablanca, 14-16 February 1997.
Documents
Brahimi, Abdelhamid. «La Croissance de firmes multinationales» (Étude réalisée pour la Commission Economique des Nations Unies pour l'Asie du Sud-Ouest, 1974).
Yachir, F. «Technique et technologie». (Document dactylographié, Université d'Alger, Centre de recherches en économie appliquée, 1982).
226
فهرس
-أ-
آيت أحمد، حسين: 58، 79، 96، 100
آيت مسعودان، السعيد: 12، 33، 90.
الإبراهيمي، أحمد طالب: 97، 189.
الإبراهيمي، بشير: 97.
الاتحاد العام للشغيلة الجزائريين: 98، 249، 250.
اتفاقيات إيفيان: 24، 28، 55- 58، 67، 68، 71- 73، 80- 82.
أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 1988 (الجزائر): 15، 168، 188، 194، 197، 201، 204، 205، 217، 220.
أحمد، قايد: 45، 46، 53، 55، 83، 89، 129، 131، 140.
الإرهاب: 161.
الاستثمارات الفرنسية في الجزائر: 71.
أسعار النفط: 133، 152، 168، 190، 238.
الإسلام: 19، 21، 23، 95، 97، 98، 112، 127، 191، 192، 218، 245.
الاشتراكية: 97، 101، 110، 123، 174، 253. الإصلاحات الاقتصادية: 178، 180، 208، 211، 214.
الإصلاحات السياسية: 203، 207، 214.
الأعور، علي: 175.
الاقتصاد الجزائري: 69، 70، 72، 139، 155، 161، 163، 237.
اقتصاد السوق: 240.
الأمازيغية: 21، 23، 192.
الأمبريالية: 110.
الأمن العسكري (الجزائر): 118- 122، 127، 73، 201، 221، 242، 244.
الانتخابات التشريعية الجزائرية (1991): 232.
الانتخابات التشريعية الجزائرية (1992): 9
الانتخابات الرئاسية الجزائرية (1998): 204، 206.
انقلاب عام 1962 (الجزائر): 77.
انقلاب عام 1965 0الجزائر): 13، 77، 104، 119، 122.
انقلاب عام 1992 (الجزائر): 9، 15، 48، 92، 117، 120، 121، 182، 223، 225- 228، 232، 234، 238، 245، 253- 255، 258، 259.
267
أورابح، محمود: 132.
أويحيى، أحمد آيت: 248.
إيدير، مولود: 33، 35- 39، 43.
-ب-
باسكوا، شارل: 224، 242
بالادور، إدوار: 224
بتشين، محمد: 119، 201، 228، 253
برارحي، عبد الحق: 250
برجم، العربي: 81- 83، 85- 88، 90
بركات، سعيد: 251
برنيس، دستان دو: 142
البطالة: 64، 101، 194، 202، 210، 223، 224، 231، 232، 234، 239، 259
بقة، عبد النور: 12، 33
بلحاج، علي: 201، 222، 246، 258
بلخير، العربي: 33، 40، 48، 50، 91، 114، 168- 170، 172- 175، 182، 183، 185، 187- 189، 195، 199- 206، 215- 217، 220- 223، 249، 250
بلقاسم، شريف: 129، 131، 140
بلقاسم، كريم: 13، 35- 40، 42- 46، 52، 55، 58، 59، 80، 83، 84، 96، 100، 114
بلقايد، بو بكر: 242
بلكحلة، محمد الصالح: 181، 197، 198
بلهوشات، عبد الله: 11، 217، 219
بلوصيف، رابح: 81
بلوصيف، مصطفى: 117، 168، 183- 188، 204، 216، 217
بن بللا، أحمد: 58، 59، 75، 79- 81، 83- 85، 89، 96، 97، 99، 102، 103، 140، 218 بن بيتور، أحمد: 250
بن جابر، عبد الرحمن: 82، 83، 86
بن جديد، الشاذلي: 12، 38، 48- 50، 82، 117، 167- 178، 181- 185، 187- 189، 195- 204، 206، 215، 218، 221- 225، 246
بن حبيلس، عبد المالك: 169
بن حمودة، عبد الحق: 242
بن خدة، بن يوسف: 42، 59، 81
بن سالم، عبد الرحمن: 11، 38، 40، 45، 49، 50
بن شريف، أحمد: 33، 36، 43، 44، 90، 118
بن صالح، عبد القادر: 247
بن طوبال، لخضر: 13، 35- 37، 39، 43- 46، 52، 53، 58، 59، 80، 85
بن محمد، محمد: 33
بن مصابيح، مصطفى: 40
بن معلم، حسين: 219
بن نبي، حسين: 219
بن نبي، مالك: 107
بن يزار، يزيد: 39، 43، 45
بن يلس، رشيد: 202، 203
بنالي، دقين (لطفي): 43، 44
البنك الدولي: 211، 236
بنيني، عبد الوهاب: 175
بوبنيدر، صالح: 59، 81، 82، 85، 122
بوتفليقة، عبد العزيز: 58، 89، 129، 167، 248- 253، 258
بوتلة، محمد: 33، 40، 48، 49
بوحارة، عبد الرزاق: 85
بوحجه، علي: 219
بوخبزة، محمد: 175، 243
بودربالة، طاهر: 81
بو رقيبة، الحبيب: 80
بوزاردة، حمو: 33، 48
268