المقدمة
شكّل تأسيس حزب الدعوة الإسلامية أواخر الخمسينات من القرن العشرين نقطة تحوّل في تاريخ الحركة الإسلامية في العراق. ولأول مرة منذ الثورة العراقية الكبرى عام 1920 استطاع تنظيم إسلامي ناشئ أن يشقُ طريقه في أجواء غلب عليها الصراع السياسي والأيديولوجي بين مختلف القوى والتيارات السياسية والفكرية المتنافسة التي برزت على السطح، بعد إسقاط النظام الملكي واستلام القوات المسلحة السلطة صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، ليتحول إلى حركة طليعية تلتف حولها النخبة من الجماهير الإسلامية بغض النظر عن انتمائها القومي والمناطقي، وذلك في المرحلة الأولى من تحركه والتي أطلق عليها اسم مرحلة البناء والتغيير، وليبرز بقوة واندفاع أكبر في مرحلته الثانية (أواسط عام 1979) التي أسماها بالمرحلة السياسية، من خلال تصدّيه للنظام الحاكم في بغداد، الذي كلفه الآلاف من الشهداء والمعتقلين، والذين غصّت بهم سجون النظام الحاكم في العراق.
ورغم كل ذلك الكم الهائل من التضحيات- وبعد أن تجاوزت الدعوة عقدها الرابع – لا زال الضباب يلفّ جوانب هامة وحساسة من تاريخ ذلك الحزب، الذي تحول مطلع الثمانينات من القرن العشرين إلى أحد رموز المقاومة لأعتى الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت العراق في تاريخه الحديث.
وإذا كان بالإمكان تفهّم الأسباب والدواعي التي حدت في الماضي إلى إسدال الستار على تاريخ الدعوة، وفي مقدمتها انشغالها بعملية الصراع الشرس مع النظام الحاكم، وتغليبه على ما عداه من الضرورات، ومنها كتابة تاريخها باعتبارها المرجع القادر على أداء تلك المهمة أكثر من غيره، وكذلك لطبيعة المرحلة التي تقتضي التمسك بأقصى درجات السرية والكتمان. إلا أن تلك الاعتبارات التي كانت مقبولة في حينها، لم تعد اليوم كذلك، وذلك لتراكم المعلومات التفصيلية التي تجمعت لدى أجهزة الخدمة السرية عن حزب الدعوة الإسلامية، ولفقدان المعلومة لقيمتها من لناحية الأمنية بسبب التقادم الزمني الذي مرّ عليها، بحيث تحولت إلى إرث تاريخي لا غير .. ولأن ما استجد من متغيرات على طبيعة الصراع الدائر في العراق قد فرض على الدعوة وقيادتها- دفعاً للشبهات ورفعاً للإشكالات – إعداد دراسة نقدية لمسيرة الحزب السابقة أسوة بما تقوم به معظم الأحزاب السياسية في العالم.
لقد أدى الإهمال المتعمد لتاريخ الدعوة الإسلامية – والذي عُدّ الاقتراب منه في مرحلة من المراحل نوعاً من المحرمات – إلى ضياع صفحات غاية في الأهمية من تاريخ الحركة الإسلامية في العراق. ومما زاد في الأسى لوعةً، غياب الشخصيات القيادية التي كانت تمسك بمفاصل التنظيم في دور التأسيس والمراحل التي تلته بالاستشهاد أو الوفاة دون أن يتركوا وراءهم أي أثر أو خبر عن تجربتهم الرائدة في ميدان العمل الإسلامي، وبذلك فقدنا الشاهد على ذلك العصر وعلى تلك المراحل .. وبهذا الفقدان لم يبق من الصورة الكلية إلا أجزاء متناثرة ليس من السهل بمكان إعادة جمعها لتعطينا صورة عن ملامحها الحقيقية بكل أبعادها.
لذلك، وانطلاقاً من المسؤولية الشرعية، وإحساساً بالواجب تجاه جيلنا والأجيال القادمة، وإكراماً لدماء الشهداء ولتضحيات شعبنا الصابر الصامد
المحتسب، وجدت نفسي ملزماً بالخوض في هذا المعترك الصعب مع إدراكي المسبق أن الأمر صعب ومستصعب.
ومما شد من عزيمتي على الخوض فيه، توفر مادة البحث وأدواته، ومن بينها الأرشيف الضخم من إصدارات الحركة الإسلامية في العراق، وأهمها إصدارات حزب الدعوة الإسلامية [موضع البحث]، تلك المتعلق منها بالنشر العام أو الخاص .. والكم الكبير من وثائق الأجهزة الأمنية التي استولى عليها أبطال الانتفاضة الشعبانية في آذار/1991، بالإضافة طبعاً، إلى معايشتي للكثير من الأحداث التي تناولها الكتاب، ما أعانني على تلمس مواقع الخطأ والصواب بيسر. والأهم من هذا وذاك، المقابلات الخاصة التي أتيح لي إجراؤها مع من بقي من الرعيل الأول من مؤسسي وقادة الدعوة الإسلامية، الذين لم يبخلوا عليّ بالساعات الطوال من وقتهم الثمين، إذ قدر لي خلالها الاطلاع على حلقات أساسية ومعلومات عن تاريخ الحركة الإسلامية – وحزب الدعوة الإسلامية بالذات- يمكن أن أزعم أنها تظهر إلى العلن لأول مرة .. فجزاهم الله خير الجزاء، وسدد على الحق خطاهم ورحم الماضين منهم.
كما أتقدم بالشكر الجزيل، عرفاناً بالجميل، لكافة الإخوة والزملاء الذين ساهموا برفد هذا الكتاب بما لديهم من أفكار مفيدة أو مقاطع تاريخية منسية كانوا شخوصاً لها أو من المطلعين عليها.
وأخص بالشكر والتقدير أيضاً، المؤسسة العربية للدراسات والبحوث الاستراتيجية التي لولا جهودها الكبيرة ومساعيها الخيّرة ما كان لمشروع الكتاب وبعد عشر سنوات من الشروع به أن يخرج إلى النور على الإطلاق.
وأخيراً وليس آخراً، أود أن أنوّه هنا أن هذه الدراسة لم تستوعب كافة الجوانب التاريخية لحزب عريق كحزب الدعوة الإسلامية أحد أكبر التنظيمات الإسلامية في العراق، ولكن ما لا يُدرك كله لا يُترك جلُّه كما يقال .. ولكني
أستطيع القول جازماً بأن ما أُنجز في هذا الكتاب سيزيل بعضاً من الغبار الذي تراكم على فترة هامة من التاريخ السياسي لعراقنا الحبيب، متوخياً من ذلك، وجه المولى عز وجل، والمساهمة في إنارة الدرب أمام الجيل الصاعد الذي اكتوى بنار المحنة وعاش مأساة شعبه بكل تفاصيلها المحزنة، وفي تشكيل رأي عام واع ومستنير يتلمس طريقه على هدي من المعرفة العميقة بتاريخه وبنظرة ثاقبة إلى مستقبله المنشود.
(رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
صلاح الخرسان
دمشق في 13/10/1998
الفصل الأول
لمحة تاريخية عن جهاد الحركة الإسلامية في العراق
تركت الحركة الإسلامية في العراق بصماتها عميقاً في تاريخ العراق السياسي الحديث. ولعل أعمق أثر كان لها، هو في الدور الريادي الذي اضطلعت به في مقاومة الغزو الاستعماري البريطاني المسلح لبلاد الرافدين الذي نزلت موجاته الأولى على سواحل الفاو يوم 6/11/1914 لتتقدم شمالاً باتجاه مدينة البصرة أقدم الحواضر الإسلامية في (أرض السواد)، كما كانت العرب تطلق على العراق أو بلاد ما بين النهرين (مسيو بوتاميا)، فاحتلتها في 22/11/1914، حينها هب كبار المراجع في المدن المقدسة لمقاومة الغزاة الأجانب وذلك بإعلانهم الجهاد ودعوتهم إلى النفير العام للدفاع عن حياض الدولة العثمانية آخر دول الخلافة الإسلامية في عالمنا المعاصر. وقد لبى تلك الدعوة الآلاف المؤلفة من أبناء الرافدين الأباة الذين انتظموا في كتائب الجهاد التي انطلقت من النجف والكاظمية وبغداد بعد أن أصبحت تلك المدن "مراكز أساسية لتجمع وانطلاق المجاهدين إلى جبهة الحرب في البصرة"(1).
وكان على رأس قوافل الجهاد التي انطلقت من النجف الأشرف يوم 15/12/1914 العلامة السيد محمد سعيد الحبوبي لتتبعه ثلة من العلماء، منهم الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ حسين الحلي والشيخ جواد الجواهري والشيخ رحوم الظالمي والسيد محمد علي (هبة الدين الشهرستاني) والشيخ حسين الواسطي والسيد محسن الحكيم – (الإمام) الذي كان آنذاك مساعداً للسيد الحبوبي وأميناً لسرّه- وكان بمعية العلماء عدد كبير من طلبة الحوزة العلمية ثم التحق بالركب المتجه جنوباً في وقت لاحق، ثلاثة من كبار المجتهدين
في النجف الأشرف وهم الإمام شيخ الشريعة والسيد مصطفى الكاشاني والسيد علي الداماد.
كما توجه إلى جبهات الحرب السيد محمد اليزدي بناءً على تعليمات والده المرجع الأعلى الإمام السيد كاظم الطباطبائي اليزدي الذي أفتى بوجوب جهاد الكفار المستعمرين حين وطئت أقدامهم أرض العراق، وأعاد إعلان فتواه "في خطبة ألقاها في 6 كانون الأول 1914 في صحن المرقد العلوي حض فيها الناس على الدفاع عن البلاد الإسلامية، وأكد وجوب ذلك حتى على الفتى العاجز بدنا، بتجهيزه الفقير القوي"(2).
ومن بين كبار المجتهدين الذين شاركوا في شرف الدفاع عن العراق وشعبه الإمام الشيخ محمد مهدي الخالصي والإمام السيد مهدي الحيدري اللذان أشرفا على تجهيز وقيادة المجاهدين في الكاظمية والتوجه بهم يوم 30/12/1914 إلى خطوط القتال المستعرة في البصرة، رغم أن الإمام الحيدري كان قد تجاوز الثمانين عاماً من العمر.
كما أفتى زعيم الحوزة العلمية في سامراء الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي "بوجوب محاربة الكفار وأرسل ابنه الشيخ محمد رضا للالتحاق بالسيد مهدي الحيدري"(3).
وفي مدينة كربلاء المقدسة التي شاركت مجموعة من علمائها في حركة الجهاد احتشد الأهالي والعلماء في تظاهرة كبرى "يتقدمهم صدر العلماء السيد إسماعيل الصدر – جد الإمام السيد محمد باقر الصدر- وهو من أجلّ المجتهدين- الذي سار بهم إلى صحن الإمام الحسين، ثم تناول سيفاً مرصعاً محفوظاً في القبة المباركة، وقلده إلى القائد العام نور الدين بك"(4).
ولم تقتصر حركة الجهاد على العلماء والعشائر العربية في وسط وجنوب العراق اللذين تضمهما ولايتا بغداد والبصرة، وإنما شاركت فيها أيضاً العشائر
الكردية في ولاية الموصل. حث استجاب لداعي الجهاد الشيخ محمود الحفيد الزعيم الديني والعشائري المعروف والذي توجه على رأس قوة من مقاتليه إلى مدينة النجف الأشرف لزيارة مرقد الإمام علي (ع) وهو في طريقه إلى جنوب العراق.
وقد شارك المجاهدون إلى جانب الجيش العثماني في معركة الشعبية الفاصلة قرب البصرة، حيث بلغ عدد المجاهدين المشاركين فيها "نحو ثلاثة عشر ألف مجاهد بينهم 1500 مجاهد من الأكراد"(5).
واستغرقت المعركة أياماً [11-14/4/1915] وأسفرت عن تراجع القوات العثمانية والمجاهدين الذين سقط الآلاف منهم في حمأة الوطيس بين شهيد وجريح إلى الناصرية. وكان من بين الشهداء عدد من العلماء وطلبة العلوم الدينية، منهم السيد محمد نجل المرجع الديني الأعلى الإمام السيد كاظم الطباطبائي اليزدي.
وقد أثرت تلك النتيجة المروعة على نفوس المنسحبين فانتحر الفريق سليمان باشا العسكري القائد العام للقوات العثمانية في جبهة جنوب العراق. وانتاب المرض المفاجئ السيد محمد سعيد لحبوبي ليموت كمداً بعد أيام قليلة في المنطقة التي سميت بـ(دار الجهاد) في الناصرية.
وقبل أن تستكمل جيوش الاحتلال البريطاني سيطرتها على كامل الأرض العراقية في أعقاب الإعلان عن هدنة (موندوس) في 30/10/1918 كانت حركة المقاومة الإسلامية قد اتخذت شكلاً آخر تمثل بتأسيس (جمعية النهضة الإسلامية) في تشرين أول 1917 بقيادة الشيخ محمد جواد الجزائري والسيد محمد علي بحر العلوم.
وقد ضمّت اللجنة القيادية للجمعية عدداً من علماء الدين وشخصيات اجتماعية بارزة في النجف الأشرف "وتعتبر الجمعية أول تنظيم سياسي:
إسلامي تأسس في العراق إبان الحرب، بعد أن انفرط عقد الجمعيات والأحزاب الإصلاحية و(الاستقلالية القومية) والإسلامية المحافظة التي ظهرت قبل الحرب"(6).
وكانت قيادة الجمعية تعد العدة لثورة شاملة ضد الإنكليز تمتد إلى كافة المنطق الواقعة تحت سيطرتهم من العراق، إلا أن الذراع العسكري لها والذي "ضم أكثر من مائتي مقاتل"(7) اتخذ قراراً متسرعاً بإعلان الانتفاضة المسلحة ضد سلطات الاحتلال في النجف قبل أن تستكمل الجمعية استعداداتها للثورة، فقامت إحدى مجموعاته المسلحة بقيادة الحاج نجم البقال بمهاجمة مقر الحاكمية السياسية البريطانية في النجف يوم 19/3/1918 وقتل النقيب وليم مارشال الحاكم السياسي البريطاني في المدينة. كما أسفر لهجوم عن سيطرة الثوار على النجف بالكامل وطرد قوات الاحتلال منها، وعلى الأثر أصدر الجنرال مارشال القائد العام للجيوش البريطانية أوامره بمحاصرة النجف.
وبعد (46) يوماً من الحصار الشديد تم اقتحامها والتنكيل بأبنائها الثوار "فأجريت محاكمات صورية سريعة لهم، حكم فيها على ثلاثة عشر قائداً منهم بالإعدام وعلى عدد آخر بأحكام مختلفة، بينما حكم على مائة وسبعين آخرين بالنفي إلى الهند"(8). وقد نفذت أحكام الإعدام شنقاً بقادة الثوار على جسر الكوفة المقام على شط الفرات.
ورغم الخسائر التي تكبدتها الحركة الإسلامية في العراق في ثورة النجف، إلا أن ذلك لم يثنها عن متابعة السير في طريق ذات الشوكة حتى نهاية الشوط. فبدأت بالتحضير من جديد ثورة عارمة تُخرج الإنكليز من أرض الرافدين الطاهرة موطن الأنبياء ومثوى الأئمة من أهل بيت الرسول (ص). وقد حظيت تلك المساعي بمباركة وتأييد المرجع الديني الأعلى الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي الذي تولى زمام المرجعية العامة بعد وفاة الإمام السيد كاظم الطباطبائي
اليزدي في 30/4/1919 وبدأ التحرك للاتصال بشيوخ العشائر في الفرات الأوسط لتحريضهم على المشاركة في الثورة، كما انصب اهتمام الرواد الأوائل للحركة الإسلامية في العراق على العمل التنظيمي السري فتأسست خلال تلك الفترة التنظيمات التالية:
- حزب النجف السري الذي تشكل في 3/7/1918 وكان له مندوبون في كل من بغداد وكربلاء والحلة والرميثة والدغارة وعفك والهاشمية.
- الهيئة العلمية في النجف الأشرف، تأسست في كانون أول /1918.
- الجمعية الوطنية الإسلامية التي تأسست في مدينة كربلاء أوائل تشرين الثاني/1918، وكان لها خطان تنظيميان منفصلان عن بعضهما لكنهما يرتبطان بقيادة واحدة.
- الجمعية الإسلامية، تشكلت في الكاظمية عام 1918.
- جمعية حرس الاستقلال، تأسست في بغداد في شباط/1919، وفتحت فروعاً لها في العديد من حواضر الفرات الأوسط.
وكان لتلك التنظيمات السيرة الناشطة دورها في تعبئة الجماهير وإعدادها لخوض الجولة الحاسمة من الصراع ومن أجل تحقيق الاستقلال الناجز للعراق، وهذا ما أثار مخاوف سلطات الاحتلال من العواقب الخطيرة لمثل تلك النشاطات على ديمومة وجودها في بلاد الرافدين، فعبأت جهاز استخباراتها لأجل تفكيك تلك المنظمات والقضاء عليها، وكان نشاط الاستخبارات البريطانية ينصب على بغداد والكاظمية لم تمثله العاصمة من أهمية، أعقب ذلك قيامها بحملة اعتقالات واسعة في كربلاء طالت عناصر قيادية في تنظيم الجمعية الإسلامية، وقد جاء توقيت تلك الحملة بعد صدور فتوى المرجع الأعلى الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي في 23/1/1919 والتي نصت على الآتي:
"ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطة. 20 ربيع الأول 1337هـ محمد تقي الحائري الشيرازي"(9).
ولم يحصد الإنكليز من وراء إجراءاتهم القمعية تلك بحق الحركة الإسلامية، إلا المزيد من الخيبة والفشل. وقد حاولت الـ (مس بيل) رئيسة قسم الاستخبارات البريطانية في العراق، أن تبرر فشلها في الحد من التحرك الإسلامي في كربلاء، بادعائها وجود أصابع للعثمانيين تسند ذلك التحرك. وهذا ما جاء في تقرير رفعته "إلى حكومتها في شباط 1919 أبدت فيه امتعاضها مما يجري في كربلاء بعد إصدار الفتوى، واتهمت جواسيس ودعاة من الأستانة كانوا يعملون ضدنا في هذه المدينة – كربلاء- وقد وقعوا على أرض صالحة لما يزرعون"(10).
ورغم ادعاءات الإنكليز وتخرصاتهم فإن الحركة الإسلامية واصلت نشاطاتها بكل دأب وأناة مستندة في ذلك على دعم ورعاية المرجعية الدينية لها. هذا وقد عبرت الرسالة الجوابية التي بعث بها المرجع الأعلى الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي في نيسان 1920 إلى الزعيم الوطني جعفر أبو التمن عن مدى اعتزاز المرجعية الدينية بالحركة الإسلامية ورجالاتها وبالدور الذي تقوم به في المطالبة بحقوق الأمة المشروعة. وفيما يلي نص تلك الرسالة:
"إلى ولدنا الأنجب الأكمل محمد جعفر أبو التمن أعزه الله وحرسه ... السلام عليكم. لا يخفاك وصلنا كتابك المشتمل على بيان الحركة الإسلامية في بغداد، وزادها جلاء ولدنا الفاضل الأديب الشيخ محمد باقر الشبيبي وفقه الله، فسرّنا اتحاد كلمة الأمة البغدادية، واندفاع علمائها ووجوهها وأعيانها إلى المطالبة بحقوق الأمة المشروعة ومقاصدها المقدسة، فشكر الله سعيكم ومساعي إخوانك وأقرانك من الإشراف، وحقق المولى آمالنا وآمال علماء وفضلاء حاضرتكم الذين قاموا بواجباتهم الإسلامية. هذا وإننا نوصيكم أن تراعوا في مجتمعاتكم
قواعد الدين الحنيف، والشرع الشريف المنزه عن الوصاية الذميمة وأن تحافظوا على حقوق مواطنيكم الكتابيين وتصونوا نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، محترمين كرامة شعائرهم الدينية كما أوصانا بذلك نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. والسلام عليكم وعلى العلماء والأشراف والأعيان.
محمد تقي الحائري الشيرازي"(11).
وفي الوقت الذي كانت فيه البلاد تشهد غلياناً ثورياً ضد الاحتلال وسلطاته، عقد اجتماع سري للغاية في دار الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي في كربلاء في 3/أيار/1920 والذي صادف ليلة النصف من شعبان "حضره عدد من العلماء البارزين في النجف وكربلاء، وعدد آخر من رؤساء العشائر والوجهاء، كما وحضر الاجتماع أيضاً، الحاج جعفر أبو التمن كمندوب عن (الحركة الوطنية) في بغداد. وقد أقرّ المجتمعون بعد المداولة الإعداد للقيام بثورة شاملة ضد الإنكليز، ورسم خطة ثابتة للعمل من أجلها، وقد قضت الخطة البدء بمطالبة الإنكليز سلمياً بتنفيذ وعودهم بمنح الاستقلال للعراق، ومن ثم اللجوء إلى القوة وإشعال نار الثورة في حال رفضهم الاستجابة لهذه المطالب. وقد أقسم المجتمعون بحضور الإمام الشيرازي، بالقرآن الكريم على استعدادهم لتلبية نداء دينهم ووطنهم وطاعة أوامر الإمام"(12). وعلى أثر ذلك الاجتماع أصدر المرجع الأعلى الإمام محمد تقي الحائري الشيرازي فتواه الشهيرة:
"مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم في ضمن مطالباتهم رعاية السلام والأمن ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الإنكليز من قبول مطالبهم"(13).
فكانت تلك الفتوى بمثابة الإذن الشرعي لاندلاع أكبر ثورة تحررية شهدها العراق في تاريخه السياسي الحديث ألا وهي ثورة العشرين المجيدة التي انطلقت شرارتها بعد أيام قلائل من صدور تلك الفتوى في مدينة الرميثة الباسلة-
إحدى مناطق الفرات الأوسط- في 13 شوال 1338 الموافق للثلاثين من حزيران 1920 وامتد لهيبها ليشمل المناطق الوسطى والجنوبية من العراق وليصل إلى ديالي وإلى مدينة (بلد) شمال العاصمة بغداد.
إلا أن الثورة تعرضت لهزة قوية من الداخل لوفاة المرجع الأعلى الإمام الشيرازي في مدينة كربلاء في 17/8/1920 حيث تولى الإمام شيخ الشريعة قيادة الثورة من بعده وأصبحت النجف "بعد وفاة الإمام الشيرازي، وتولى الإمام شيخ الشريعة – الذي كان يقطن فيها – منصب المرجعية العليا، تدعى عاصمة الثورة"(14). بعد ذلك أخذ الوضع العسكري يميل لصالح الإنكليز رغم الانتصارات الكبيرة التي حققها الثوار في العديد من المعارك الكبرى، وذلك بسبب وصول تعزيزات عسكرية ضخمة من الخارج لمساندة القوات البريطانية التي كانت تشارك في قمع الثورة "واستناداً إلى المصادر والصحف البريطانية الصادرة آنذاك فإن إدارة الاحتلال جلبت مابين 14-17 ألف جندي تم سحبهم من القوات المتمركزة شمال غربي إيران. كما وصلت إمدادات عسكرية في نهاية آب بلغت عشرة أفواج من المشاة من انكلترا والهند. فضلاً عن استقدام وحدات ميكانيكية وقطعات جوية"(15). وقد شاركت تلك القوات الإضافية في الهجوم الشامل الذي شنته الجيوش البريطانية على معاقل الثورة في الفرات الوسط في 12/11/1920 حيث دارت معارك دامية. وبعد قتال متواصل فرضت القوات البريطانية الاستسلام على الثور وتم الاتفاق بين الجانبين على وقف القتال في 20/12/1920 إلا أن نيران الثورة لم تخمد نهائياً "فقد استمرت بعض العمليات العسكرية في الغراف وسوق الشيوخ حتى منتصف كانون الثاني 1921"(16)، ومع أن ثورة العشرين أخفقت في تحقيق "هدف العراقيين من الثورة وهو إقامة دولة عربية قانونها القرآن ..." (17) إلا أنها أجبرت الإنكليز على استبدال أسلوب الحكم المباشر الذي قرروا اتباعه في العراق عند احتلالهم له أسوة بما كان معمولاً به في الهند (درة التاج البريطاني) ... بأسلوب
الحكم غير المباشر، وعلى حد تعبير السير (نري دوبس)، ثاني مندوب سامي بريطاني في العراق عندما قال: "كانت عادة الإنكليز أن يحكموا مستعمراتهم بواسطة رجالهم مباشرة، أما الآن فصاروا يحكمونها بواسطة أبنائها"(18)، وكانت أولى الإشارات الدالة على عزم دهاقنة السياسة البريطانية تنفيذ مخططهم الجديد هو الإعلان عن تشكيل الحكومة المؤقتة في 11/ تشرين الثاني /1920 برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب "وهو أحد الشخصيات الدينية البارزة ورئيس نقابة الأشراف في بغداد"(19)، وكان تشكيلها مقدمة لفرض الانتداب رسمياً على العراق. إلا أن كل تلك النتائج التي ترتبت على نكسة الثورة والتي أضيف إليها وفاة الإمام شيخ الشريعة المفاجئة في كانون أول/1920 لم توقف معارضة المؤسسة الدينية في العتبات المقدسة للانتداب و(للسلطة المحلية) أو ما أصبح يعرف بالحكم الوطني الذي تشكلت دولته بجلوس الأمير فيصل بن الحسين على عرش العراق في 23/آب/1921 .. وإنما دفعت بعلماء الإسلام وقادة الحركة الإسلامية إلى ابتكار أساليب جديدة للكفاح تتناسب وطبيعة المرحلة، فكان الموقف من انتخابات المجلس التأسيسي مناسبة عبرت فيها الحركة الإسلامية وقياداتها الروحية من جديد عن قدرتها في التأثير على مجرى الأحداث وعلى عرقلة المشاريع البريطانية المعدة للعراق فكانت شروط العلماء للمشاركة في تلك الانتخابات موقوفة على تحقيق النقاط التالية:
"1- إلغاء الإدارة العرفية.
2- إطلاق حرية المطبوعات والاجتماعات.
3- سحب المستشارين (البريطانيين) من الألوية إلى بغداد.
4- إعادة المنفيين السياسيين إلى وطنهم.
5- السماح بتأليف الجمعيات (السياسية)" (20).
لكن تلك المطالب العادلة لم تلق آذاناً صاغية لا من السلطات البريطانية ولا من الحكومة العراقية التي واصلت من جانبها العمل لإجراء انتخابات المجلس التأسيسي الذي حددت مهمته كما جاء في الإرادة الملكية الصادرة في اليوم التاسع عشر من تشرين الأول سنة 1922 "ليقر المواد الآتية:
1- دستور (القانون الإسلامي) للمملكة العراقية.
2- قانون انتخابات مجلس النواب.
3- المعاهدة العراقية-البريطانية"(21).
وكان مجلس الوزراء قد صادق بالأحرف الأولى على المعاهدة العراقية- البريطانية في 22/6/1922 على أن تصبح نافذة المفعول في حال المصادقة عليها من قبل المجلس التأسيسي حين انتخابه.
ونتيجة لإصرار الحكومة على موقفها في إجراء الانتخابات من دون تلبية مطالب الشعب التي تقدم بها العلماء، وبعد أن اتضح الهدف الحقيقي من موقف الحكومة هذا والرامي إلى إمرار المعاهدة العراقية- البريطانية والتصديق عليها، فقد أصدر كبار المراجع فتوى مشتركة في 5/11/1922 هذا نصها:
"بسم الله الرحمن الرحيم ... نعم قد صدر منا تحريم الانتخاب في الوقت الحاضر لما هو غير خفي على كل باد وحاضر، فمن دخل فيه أو ساعد عليه، فهو كمن حارب الله ورسوله وأولياءه"(22).
وكان لصدور تلك الفتوى أثر فاعل في مقاطعة الجماهير للعملية الانتخابية في جولتها الأولى، مما حمل السلطة على إيقافها في بعض المناطق أولا، لكنه عاد وألغى نتائجها التي ظهرت في باقي أنحاء العراق أخيراً، وبذلك "استمرت تلك الصولة للعلماء وبقيت فتاواهم سيفاً قاطعاً لمن يحاول أن يشذ عن طريقهم وأسلوبهم وأفكارهم"(23)، وهذا ما دفع بوزارة السيد النقيب إلى الاستقالة في
16/11/1923 فشكلت على إثرها وزارة جديدة برئاسة عبد المحسن السعدون الذي عُرف في بداية حياته السياسية بخدمته للإنكليز وتنفيذه لمخططاتهم في العراق.
وقد باشرت الوزارة الجديدة بإجراء الانتخابات، لكنها اصطدمت كسابقتها بفتاوى العلماء الداعية للمقاطعة، عندئذ أقدمت حكومة السعدون على تنفيذ المهمة التي جيء بها إلى السلطة من أجلها، ألا وهي ضرب التحرك الإسلامي في العراق ممثلاً بالعلماء العاملين، فشنت حملتها التي امتدت من 25 إلى 29/6/1923 لتطال مراجع التقليد وأساتذة الحوزات العلمية في النجف والكاظمية فأبعدت العراقيين منهم إلى الحجاز وغير العراقيين وعددهم (34) عالماً إلى إيران كما وضعت (50) عالماً عراقياً آخر تحت مراقبة الشرطة. وقد سبق تلك الهجمة الشرسة صدور بيان من وزارة الداخلية يوم 24/6/1923 جاء فيه:
"قام نفر من الدخلاء، الذين لا علاقة لهم بالقضية العربية، ولا تهمهم مصالح الشعب والبلاد الحقيقية، يختلقون أقوالاً زعموا أنها مستنبطة من الشرائع الدينية، وأنهم لم يقصدوا بذلك إلا الإخلال بسير الانتخابات وتضليل الرأي العام"(24). وبقدر ما أثاره إبعاد العلماء من ارتياح "في جميع دوائر لندن وصحفها"(25)، وهو ما جاء في تقرير السيد جعفر العسكري ممثل الحكومة العراقية لدى بريطانيا، فإنه أثار في الوقت نفسه مشاعر عنيفة من الغضب والنقمة لدى مختلف الأوساط الشعبية داخل العراق "وكانت الكاظمية أولى المدن التي عبرت عن احتجاجها بالإضراب العام، حيث سادها جو من التوتر الشديد، وخرج الناس إلى الشوارع يحتجون على الاستهتار بمقدساتهم الدينية، فلجأت الحكومة إلى تطويق المدينة بقوات كبيرة من الشرطة من كل جانب، بينما أضربت في الوقت نفسه، مدينة بغداد وأغلقت أسواقها، وبدورها – وتلبية للدعوة التي وجهها العلماء – اضربت كذلك كل من النجف وكربلاء وأغلقت
أسواقها. أما في مدن ومناطق عشائر الفرات الأوسط والبصرة فكانت ردود فعلها السلبية تجاه الحكومة متفاوتة في شدتها"(26).
وبعد أن خلا الجو للسلطة الحاكمة إثر حملات النفي والاعتقال والمراقبة السرية المشددة بحق العلماء "تمكنت حكومة السعدون، وباستعمال أساليب الضغط والإرهاب، من إنجاز المرحلة الأولى من هذه الجولة، في تشرين أول 1923، بانتخاب المرشحين الثانويين، وأخذت تستعد لإنجاز انتخاب النواب في المرحلة الثانية والأخيرة"(27)، وبعد أن أكملت تلك الحكومة مهمتها بدأت تستنفد أغراضها شيئاً فشيئاً عند البلاط حيث عمد الملك فيصل الأول إلى محاولة التخفيف من التوتر العام الذي سببته وزارة السعدون بقمعها للعلماء وبطشها بالحوزات العلمية وما تركه ذلك من تأثير سلبي على نظام الحكم – الذي لم يكن عوده قد اشتد بعد رغم دعم الإنكليز له- فبدأ اتصالاته مع العلماء المبعدين بهدف التمهيد لعودتهم.
وقد عكست الصحف الصادرة آنذاك توجهات الملك تلك فنشرت صحيفة (الأمل) في عددها الصادر في 1/10/1923 مقالاً بعنوان (الأكثرية الشيعية في العراق) جاء فيه؛ "أن الشيعة الذين شيدوا هذا الملك العزيز فوق جماجمهم وعظام أبطالهم وكرامهم، يجب أن ينالوا كأكثرية، نصيبهم من الحكم والإدارة"، غير أن كاتب المقال اشترط لذلك دون أية مواربة "أن يتخلى الشيعة عن الأساليب التي اتبعت خلال العامين الماضيين، وأن ينتقلوا من السلب إلى الإيجاب، ومن الامتناع إلى الاشتراك"(28).
وبضغط من الملك فيصل الأول قدم عبد المحسن السعدون استقالة حكومته في 15/12/1923، فتشكلت من بعدها وزارة جديدة برئاسة السيد جعفر العسكري الذي وجد حال تسلمه زمام المسؤولية أن كل الأمور قد هُيئت لإجراء المرحلة الثانية من انتخابات المجلس التأسيسي والتي جرت في 25/2/
1924 دون أن تواجه في طريقها أية عقبات تذكر.
وكان الملك فيصل الأول قد وافق على عودة العلماء المبعدين شرط عدم تدخلهم بالسياسة على أن يتعهد كل واحد منهم خطياً بذلك. أما العلماء المبعدون فقد وجدوا من جانبهم أن المصلحة الإسلامية تقتضي وحسب تقديرهم حينها بأن يعودوا إلى حوزاتهم العملية في المراقد المقدسة لا سيما بأن الوضع السياسي في إيران كان ضد العلماء وبالاتجاه المضاد للدين عموماً، فقد كان هناك توجه من قبل السلطة الحاكمة في طهران لاقتفاء أثر مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، وإعلان إيران بلداً علمانياً، فكانت عودتهم إلى القطر في 22/4/1924 حيث استقبلوا استقبالاً شعبياً حافلاً، واستثنى من العودة "الإمام الشيخ مهدي الخالصي الذي اعتبره الملك فيصل خصماً عنيداً له"(29). وفي المقابل لم ينجز الملك فيصل الأول من وعوده للعلماء إلا ما يتعلق بأمر عودتهم فحسب، أما باقي بنود الوعد فلم يلتزم بها.
وقد أدى تعهد العلماء المبعدين – وفيهم مراجع تقليد كبار – بعدم التدخل بالشأن السياسي، إلى تعميم ذلك الإقرار على سائر علماء الدين الآخرين في العراق، وهذا ما انسحب بالتالي على عموم الحركة الإسلامية في العراق، التي شهدت منذ ذلك التاريخ حالة من التقهقر والانكفاء على الذات بحيث لم يبق لها أي ثقل حقيقي على ساحة العمل السياسي في القطر العراقي نهاية العشرينيات، بعد أن كانت تتصدر واجهة الأحداث بين الأعوام (1914-1923)، وهذا ما فسح المجال أمام شتى التيارات الفكرية والسياسية لكي تسود الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في العراق، دون أن يكون للإسلاميين أي صوت مسموع، وذلك حتى نهاية الأربعينيات وبدايات الخمسينيات من القرن العشرين.
الهوامش:
1- الرهيمي، عبد الحليم: تاريخ الحركة الإسلامية في العراق، الجذور الفكرية والواقع التاريخي (1909-1924). ص165 ط2 بيروت دار الينبوع للطباعة والنشر والتوزيع 1988 (الكتاب بالأصل رسالة ماجستير مقدمة إلى الجامعة اللبنانية).
2- الوردي، علي: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج4، ص128 بغداد 1969.
3- النفيسي، عبد الله: دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث. ص86، بيروت دار النهار 1972 (الكتاب بالأصل عبارة عن رسالة دكتوراه مقدمة لجامعة كمبردج البريطانية).
4- الرهيمي، عبد الحليم: المصدر السابق ص 168.
5- نفس المصدر السابق ص 171.
6- نفس المصدر السابق ص 193.
7- شبر، حسن: تاريخ العراق السياسي المعاصر (التحرك الإسلامي 1900م-1957م) ج2 ص166 ط1، بيروت دار المنتدي للنشر 1990.
8- الحسني، عبد الرزاق: العراق في دوري الاحتلال والانتداب ج1 ص83.
9- الحسني، عبد الرزاق: تاريخ العراق السياسي الحديث ج1 ص130، ط5 بيروت مطبعة دار الكتب 1983.
10- الرهيمي، عبد الحليم: مصدر سابق ص204.
11- نفس المصدر السابق ص306.
12- نفس المصدر السابق ص 211-212.
13- المؤمن، علي: سنوات الجمر (مسيرة الحركة الإسلامية في العراق 1957-1986) ص21 ط1، لندن دار المسيرة 1993.
14- الرهيمي، عبد الحليم: مصدر سابق ص224.
15- كوتولوف، ل.ن: ثورة العشرين التحررية الوطنية ص145، بيروت 1972 (الكتاب مترجم عن اللغة الروسية).
16- الرهيمي، عبد الحليم: مصدر سابق ص 222.
17- جريدة الفرات الصادرة في النجف، ع5 في 14/9/1920.
18- الحسني، عبد الرزاق: تاريخ الوزارات العراقية، ج1 ص19، ط7، بغداد 1988.
19- العمر، فاروق صالح: حول السياسة البريطانية في العراق 1914-1921 (دراسة وثائقية) ص94-95، مطبعة الإرشاد/ بغداد 1977.
20- شبر، حسن: مصدر سابق ص287.
21- الحسني، عبد الرزاق: تاريخ الوزارات العراقية، ج1 ص147، ط7 بغداد 1988.
22- شبر، حسن: مصدر سابق ص289.
23- جريدة الجهاد (صوت الحركة الإسلامية في العراق) ع363.
24- الحسني، عبد الرزاق: تاريخ الوزارات العراقية، ج1 ص 174 ط7 بغداد 1988.
25- فرج، لطفي جعفر: عبد المحسن السعدون ودوره في تاريخ العراق السياسي المعاصر. ص95 بغداد 1978.
26- الرهيمي، عبد الحليم: مصدر سابق ص273.
27- الرهيمي، عبد الحليم: مصدر سابق ص278.
28- المصدر السابق ص280.
29- الحسني، عبد الرزاق: تاريخ الوزارات العراقية، ج1 ص176 ط7 بغداد 1988.
الفصل الثاني
بدايات الحركة الإسلامية المعاصرة في العراق
عادت الحركة الإسلامية في العراق إلى التجدد والانبعاث أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن العشرين، بنشوء العديد من الأحزاب والتنظيمات التي اتخذت من الإسلام عقيدة ومنهجاً لها في الحياة، مستفيدة من تجارب العمل السياسي الحديث، خصوصاً التجارب الحزبية المعاصرة، أو النماذج التي وُجدت في العالم الإسلامي في أواخر الدولة العثمانية وبعد سقوطها.
لقد عادت الحركة الإسلامية إلى ساحة العمل السياسي والتنظيمي، بعد غياب دام أكثر من ثلاثة عقود، خلت من أي نشاط سياسي إسلامي ملموس عدا الفتاوى التي أصدرها كبار العلماء، لدعم حكومة الدفاع الوطني التي تشكلت خلال أحداث مايس 1941، يستثنى من ذلك نشاط الإمام المصلح الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي طرح مفاهيم الإسلام السياسي بالشكل الذي يتلاءم مع روح العصر، فكانت له جولات خارج العراق، حضر خلالها العديد من المؤتمرات الإسلامية التي كان يدعو فيها المسلمين إلى وحدة الكلمة ونبذ التفرقة. كما كانت للإمام الشيخ كاشف الغطاء مواقف جريئة نبّه فيها العالمين العربي والإسلامي إلى الخطر الصهيوني الزاحف على فلسطين وإلى نوايا الغرب الاستعماري وأطماعه في بلاد العرب والمسلمين. كذلك حذر شعوب المنطقة من الخطر الشيوعي المتحدر من الشرق. ومع تلك العودة، كان على الحركة الإسلامية في العراق أن تعمد إلى تصفية التراكمات التي خلفها غيابها عن الساحة طوال تلك العقود المنصرمة، وتذليل العقبات التي تقف في طريقها. وكانت المرجعية الدينية قد أخذت على عاتقها إزاحة العديد من تلك
العقبات وكان أخطرها منع العلماء وعموم الإسلاميين من التدخل بالشأن السياسي، فعمدت إلى كسر ذلك الحاجز من خلال جملة من المواقف التي كانت تستبطن في حينها معاني كبيرة، من ذلك رفض الإمام السيد محسن الحكيم استقبال الملك فيصل الثاني عام 1949 في الحرم العلوي المطهر – وهي عادة درج عليها كبار العلماء عند زيارة ملوك العراق لمدينة النجف الأشرف – وكان سبب الرفض هو عدم استجابة السلطة لجملة من المطالب العامة المتعلقة بمصالح الناس سبق وأن تقدم بها الإمام الحكيم إلى الملك يصل الثاني والأمير عبد الإله ولي العهد والسيد نوري السعيد رئيس الوزراء، في زيارة سابقة لهم إلى النجف الأشرف. وجاء في رد الإمام الحكيم على متصرف كربلاء الذي ألح عليه بإجراء المقابلة بقوله: "نحن لسنا جزءاً من زخرف الحضرة حتى يأتي الملك ويطلعونه على الزخارف. لقد اجتمعت معهم أول مرة لوجود احتياجات للناس ذكرناها، ولكن يبدو أن القضية ليست جدية حيث لم يتم لحد الآن تنفيذ هذه الحاجات وإنما هي للدعاية، وأنا لست مستعداً أن أكون جزءاً من زخرف الحضرة"(1).
وتابع الإمام الحكيم مواقفه تلك فأخذ يتحرك في خطوة لاحقة من أجل انهاء الحالة الطائفية المستشرية في البلد، وكانت وجهة نظره في ذلك تتلخص في كون سماحته لا يعتبر الحكم الطائفي في العراق "هو الحكم الذي يستلمه السني، بل يرى أن الحكم الطائفي هو الحكم الذي يميز بين المسلمين على أساس طائفي"(2). وهذا ما طرحه في اللقاء الذي جرى بينه وبين الدكتور فاضل الجمالي الذي شكل الوزارة عام 1954 وقال فيه: "أن الحكومة التي تتشكل من الشيعة، من الشرطي حتى الملك، ولكنها تميز بين الناس على أساس الشيعية والسنية فإنها حكومة طائفية وأنني أرفضها، ولو أن الحكم كله سني لا يفرق بين الناس فإنني اعتبره حكماً طبيعياً"(3).
وكانت مدينة النجف الأشرف موطن الحركة الإسلامية في العراق قد شهدت ولادة العديد من الأحزاب والمنظمات الإسلامية المحدودة التي سبقت بوجودها تشكيل حزب الدعوة الإسلامية [موضوع البحث]، وإلى جانب تلك التنظيمات الإسلامية الطليعية ظهرت على الساحة العراقية منظمات إسلامية أخرى منشؤها خارج القطر، وهي عبارة عن "امتدادات لحركات إسلامية في بلدان أخرى من العالم الإسلامي كجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير"(4)، وستكون بداية التعريف بالحركات التي تشكلت من اخل العراق وهي على التوالي:
1- منظمة الشباب المسلم:
تأسست منظمة الشباب المسلم على يد عز الدين الجزائري(5) عام 1940 حسبما يورده مؤسسها(6)، لكنها كانت على ما يبدو في خطواتها الأولى مشروعاً عانى الجزائري الكثير في سبيل إخراجه إلى حيز الوجود. فقام في البداية بتنظيم الأفراد الذين كسبهم في حلقات أطلق عليها اسم الخلايا التحضيرية "وكان الكثير من أفراد الخلايا متأملين – غير مستقرين – حيث لم يعتادوا على العمل المنظم، وبعد جهد جهيد وزمن، اطمأن المؤسس إلى استقرار بعض الخلايا، ومنها تكونت اللجان (الكوادر) وبدأت المنظمة"(7)، لذلك فإن "البدايات الحقيقية للمنظمة كانت عام 1951"(8)، حيث تشكلت القيادة من خمسة أعضاء من بينهم مؤسس المنظمة وقائدها عز الدين الجزائري.
وكان للمنظمة منهاج طلق عليه اسم الدستور والنظام الداخلي، كذلك كانت هناك نشرات داخلية على شكل بيانات دورية بعضها أسبوعي والآخر شهري، ينتهي كل منها بهدف وشعار المنظمة "مجتمع مسلم ودولة إسلامية، سعادة الدنيا ونعيم الآخرة". وقد التف الشباب المسلم حول العديد من العلماء
منهم آية الله السيد جواد الطباطبائي الذي انتمى نجله الأكبر السيد محمد تقي الطباطبائي إلى المنظمة، كما تجمع الشباب المسلم حول آية الله الشيخ محمد الخطيب في كربلاء. ومن الذين عاضدوا المنظمة وتعاونوا معها، الأستاذ المربي أحمد أمين صاحب كتاب التكامل في الإسلام الذي كان يلقي المحاضرات في المجالس التي كانت تقيمها المنظمة في النجف وكربلاء والكاظمية.
انتشر تنظيم الشباب المسلم – الذي كان يتخذ من مدرسة الجزائري في النجف مقراً له ويصدر منها مجلة (الذكرى) – إلى كربلاء حيث كان لعز الدين الجزائري مجلس أسبوعي يحاضر فيه. وكان الشباب المسلم قد استطاع إخراج تظاهرة طلابية إسلامية من ثانوية كربلاء للبنين أواسط الخمسينيات "وهي أول تظاهرة إسلامية في تلك الفترة، بعد أن كان الناس قد اعتادوا على التظاهرات الشيوعية، وتحرك الشيوعيين وحدهم على الساحة"(9).
كما امتدت فروع المنظمة إلى الحلة والحيرة ومناطق أخرى في الفرات الأوسط وأصبح لها خط تنظيمي في جامعة بغداد وآخر في جامعة الموصل. وإلى جانب النشاط التنظيمي ذي الطابع السري، كانت للشباب المسلم نشاطات أخرى تمثلت في:
- إقامة المهرجانات.
- طبع الكتب الإسلامية.
- طبع منشورات وبيانات إسلامية.
- تأسيس مكتبات إسلامية عامة.
- عقد ندوات ومجالس عامة في الجوامع وإلقاء محاضرات إسلامية.
تعرضت منظمة الشباب المسلم لهزات من الداخل، كان أكثرها تأثيراً على بنيتها التنظيمية، الانشقاق الذي قاده السيد محمد صالح الحسيني، أحد قادة
المنظمة مع مجموعة من كوادر التنظيم. حيث استمر يعمل بنفس الاسم. وقد اعتقل الحسيني ووجهت الضربة إلى تنظيمه أوائل السبعينيات من قبل الأجهزة الأمنية. وبعد إطلاق سراحه غادر العراق إلى بيروت لينضم إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) فشارك في الحرب الأهلية اللبنانية وجرح في إحدى المعارك التي خاضها ضد الكتائب اللبنانية. وقد اغتيل الحسيني في بيروت من قبل المخابرات العراقية في 5/2/1981.
أما بالنسبة إلى عز الدين الجزائري فقد اعتقل هو الآخر مع أعضاء من تنظيمه عام 1972- ضمن حملة الاعتقالات الواسعة التي طالت أبناء الحركة الإسلامية في العراق- وتم ضبط كميات من الأسلحة كانت بحوزة التنظيم في منطقة (جري سعدة) في محافظة النجف، وبعد إطلاق سراحه غادر العراق إلى الكوت.
وفي عام 1985 غابت منظمة الشباب المسلم، كما يذكر مؤسسها عز الدين الجزائري؛ "لأسباب تقنية، فاسحة المجال للتنظيمات الإسلامية الأخرى، للاستمرار بالنضال حتى تحكيم الإسلام في الحياة لخير البشرية"(10).
2- الحزب الجعفري:
تأسس عام 1952 من قبل مجموعة من شباب النجف المتحمس للعمل الإسلامي. وقد ضمت اللجنة المؤسسة كلاً من : السيد حسن شبر، عبد الصاحب دخيل، محمد صادق القاموسي.
وكان سبب التسمية، اتهام المؤسسين بالوهابية "وهي تهمة خطيرة في ذلك الحين"(11)، وقد انصب اهتمام المؤسسين على "إقامة المجالس الحسينية الهادفة، إضافة إلى التحرك على أبناء الأمة لتغييرهم نحو الإسلام وهدايتهم له"(12)، وقد
انحل الحزب بعد سنة واحدة من تأسيسه.
3- منظمة المسلمين العقائديين:
أسسها عز الدين الجزائري أيضاً "وتعتبر من أوائل التنظيمات الإسلامية، والتي بدأت نشاطها السياسي والحركي السري من النجف الأشرف (العراق) عام 1374هـ (1954م)" (13)، وتركز نشاطها في بغداد والكوت، كما كان لها خطان تنظيميان في كل من جامعتي بغداد والبصرة.
وقد تعرضت المنظمة إلى العديد من الانشقاقات، كان أبرزها ذلك الذي حدث عام 1966 الذي قاده أحد أعضاء القيادة ومعه عناصر من الخط الثاني والثالث في تنظيم بغداد، أعقبه انشقاق آخر عام 1967 داخل الجناح المنشق. وكوّن المنشقون الجدد تنظيماً مستقلاً في بغداد كان نشطاً للغاية بحيث فاق عموم نشاطات التنظيم الأم، عرف باسم الحركة الإسلامية.
4- شباب العقيدة والإيمان:
تأسس عام 1957 من قبل السيد محمد علي المرعبي الذي كان له فضل الريادة في تشكيل أولى الحلقات الثقافية في النجف الأشرف في الفترة بين الأعوام (1949-1951). "وكانت مهمة هذه الحلقات تدريس الأحكام الشرعية واعطاء المفاهيم الإسلامية العامة"(14)، وقد توزعت الحلقات التي أدارها المرعبي في مساجد الهندي والترك والصحن الحيدري المطهر. انحل تجمع شباب العقيدة والإيمان بعد نشاط فكري وثقافي دام عدة سنوات.
كانت تلك هي الحركات والأحزاب الإسلامية (التي أمكن حصرها) والتي تشكلت داخل العراق وأصبح لبعضها امتدادات خارجية. أما التنظيمات
الإسلامية التي تشكلت في المنطقة العربية وأصبح لها فروع داخل العراق فهي:
أولاً- حركة (الإخوان المسلمين):
تأسست الحركة في مصر عام 1928 من قبل الشيخ حسن البنا ثم انتقل تنظيمها إلى العديد من الدول العربية والإسلامية ومنها العراق الذي تشكلت النواة الأولى للإخوان فيه في الأربعينيات في مدينة الموصل بإشراف الشيخ عبد الله النعمة، "وانطلاقاً من هذه المدينة انتشرت خطوط الجماعة إلى بغداد وبعض مدن الشمال والوسط"(15). وفي عام 1948 تشكلت الهيئة المؤسسة للجماعة من الشيخ محمد محمود الصواف، تحسين عبد القادر الفخري، علي فاطن، عبد الرحمن الشيخلي، منيب الدروبي، عبد الغني شنداله، محمد فرج السامرائي.
أصدر الإخوان المسلمين مجلة (الإخوة الإسلامية) عام 1952 والتي أُغلقت فيما بعد. كما أصدرت الجماعة صحيفة (الحساب) عام 1954 وكانت أول جريدة إسلامية تصدر خلال تلك الفترة. وكان المراقب العام للإخوان الشيخ محمد الصواف(16) قد غادر العراق عام 1959 إلى المملكة العربية السعودية ليستقر هناك وذلك بسبب مضايقة الشيوعيين له.
وبعد صدور (قانون الجمعيات) لعام 1960 والذي أجاز تشكيل الأحزاب السياسية، تقدم عدد من قادة الإخوان بطلب إلى وزارة الداخلية لتشكيل حزب باسم (الحزب الإسلامي) برئاسة إبراهيم عبد الله شهاب، في 2/2/1960 لمنحه إجازة عمل رسمية فامتنعت الوزارة عن إجازته، فرجعت الهيئة المؤسسة للحزب إلى القضاء الذي أصدر حكماً لصالحها مما أجبر الداخلية على منحها إجازة العمل الرسمية. وفي عام 1961 عطلت حكومة عبد الكريم قاسم (الحزب الإسلامي) وسحبت إجازته الرسمية واعتقلت لفترة قصيرة قادته،
بسبب قيامه بتأليب الناس ضد السلطة.
وقد شهدت حركة (الإخوان المسلمين) في العراق انتعاشاً ملحوظاً في عهد الرئيسين عبد السلام عارف وشقيقه عبد الرحمن عارف.
وفي عام 1967 عقدت الحركة مؤتمراً في جامع حسيبة في بغداد، حضره أربعون من أعضاء القيادة والكادر المتقدم، بحثت فيه القضايا المتعلقة بشؤون التنظيم والأوضاع السياسية التي يمر بها العراق. وقد برز خلال الاجتماع تيار يتزعمه العميد محمد فرج السامرائي، يدعو إلى إسقاط النظام القائم وإقامة حكومة إسلامية بقيادة (الإخوان المسلمين) بدلاً عنه، إلا أن ذلك التوجه لم يحظ بموافقة المراقب العام للإخوان العراقيين، الدكتور عبد الكريم زيدان الذي شارك في وقت لاحق في التشكيلة الوزارية الأولى لانقلاب 17 تموز 1968 المشبوه برئاسة عبد الرزاق النايف كوزير للأوقاف. وقد عرف عن الدكتور زيدان استخدامه لتنظيم الإخوان في لعبة السياسة العراقية التي عادةً ما تُدار من خلف الكواليس، لذلك لم يتعرض للملاحقة في أي عهد من العهود التي تعاقبت على الحكم في بغداد.
وفي عام 1971 أقدم نظام البعث الحاكم على إعدام العميد محمد فرج السامرائي ومعه شخصيات إسلامية أخرى من خطه، كما سرح كافة العسكريين المرتبطين به، من الجيش.
وقد حاولت أجهزة الأمن عام 1987 الحدّ من نشاطات الإخوان الذين استطاع البعض منهم – وخاصة من أهالي مدينة الموصل – التغلغل في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية والأمنية بأمر من التنظيم رغم القرار الذي سبق وأن اتخذته قيادة الإخوان بحل تنظيمها في العراق عام 1982.
ويعتبر الاتحاد الإسلامي لكردستان العراق الذي تشكل عام 1993 أحد واجهات الإخوان المسلمين العاملة في المنطقة الشمالية من العراق.
ثانياً- حزب التحرير الإسلامي:
تأسس حزب التحرير الإسلامي في القدس الشريف عام 1952 من قبل الشيخ تقي الدين النبهاني وذلك كانشقاق عن حركة (الإخوان المسلمين) لينتقل تنظيمه بعد التأسيس إلى العراق بواسطة الطلبة والأساتذة الفلسطينيين والأردنيين المقيمين في القطر.
تقدم حزب التحرير بطلب للحصول على ترخيص رسمي من وزارة الداخلية عام 1954 إلا أن الطلب رفض، وأعاد الحزب تقديم الطلب بعد ثورة 14 تموز 1958 فرفض من قبل الداخلية أيضاً، فتم اعتقال عدد قادته منهم المهندس محمد هادي السبيتي.
وقد تعرض الحزب في العراق إلى العديد من الانشقاقات، فقد عزل الشيخ تقي الدين النبهاني قيادة ولاية العراق – كما كانت تسمى وكان ذلك قبل ثورة تموز 1958- لخلافه معها، كما انسحبت منه العديد من الكوادر القيادية المؤسسة ومن أبرزها الشيخ عبد العزيز البدري.
الهوامش:
1- الحكيم، مهدي: مذكرات اللعامة الشهيد محمد مهدي الحكيم (رض) حول التحرك الإسلامي في العراق ص49. إعداد: مركز شهداء آل الحكيم للدراسات التاريخية والسياسية. والحضرة مصطلح يراد به مقام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
2- الحكيم، مهدي: مصدر سابق ص51.
3- المصدر السابق، ص 51.
4- المؤمن، علي: سنوات الجمر (مسيرة الحركة الإسلامية في العراق 1957-1986)، ص23، ط1 لندن، دار المسيرة 1993.
5- عز الدين الجزائري: نجل العلامة الشيخ محمد جواد الجزائري أحد قائدي جمعية النهضة الإسلامية التي مر ذكرها.
6- مجلة الموسم، العددان (26-27) [1996-1416هـ] ص284.
7- المصدر السابق، ص 285.
8- مقابلة مع السيد رؤوف دخيل في دمشق في 6/12/1995 وكان السيد دخيل عضواً في أول تشكيلة قيادية للشباب المسلم.
9- مجلة الموسم، مصدر سابق ص 286.
10- المصدر السابق، ص289.
11- شبر، مصدر سابق، ص 368.
12- المصدر السابق ص 367.
13- بيان بعنوان تعريف عام بـ"تنظيم الحركة الإسلامية/ العراق".
14- الحكيم، مهدي، مصدر سابق ص27.
15- المؤمن، علي، مصدر سابق ص 24.
16- توفى الشيخ الصواف عام 1990 في داره الصيفية في منتجع (كوك جدرة) في منطقة ترمال السياحية في تركيا.
الفصل الثالث
خلفية نشوء الدعوة الإسلامية
عـودة الوعي:
حفزت الصراعات الفكرية والسياسية التي عجّت بها الساحة العراقية في الخمسينيات، الواعين من طلبة الحوزة في النجف الأشرف – ومعهم ثلة من الشباب المتدين، بعضهم من المتأثرين بأفكار المصلح الكبير الشيخ محمد رضا المظفر ومن خريجي مدرسته (منتدى النشر) (1) - على العمل من أجل تشكيل حركة إسلامية واعية، يطرح من خلالها الإسلام ومشروع الدولة الإسلامية بخطوطه العريضة. أما لماذا لم تستقطب التنظيمات الإسلامية الموجودة آنذاك تلك الطليعة الواعية من أبناء الأمة؟ فذلك لأنها "كانت محدودة في حجمها ونشاطاتها، وتكاد أن تكون معولة وإن كان لها سبق التأسيس مثل حركة الشباب المسلم أو العقائديين أو الإخوان المسلمين أو حزب التحرير حيث كان الأخيران لهما نفوذ في الوسط السني، وإن كان لهما امتداد في الأوساط الشيعية"(2).
وبدأ التحرك بتشكيل مجموعة أو فريق عمل يعمل لهذه الغاية، ضم في عضويته العديد من الأشخاص منهم:
1- السيد مهدي الحكيم.
2- الشيخ محمد رضا العامري.
3- عبد الصاحب دخيل.
4- السيد محمد بحر العلوم.
5- السيد جواد العاملي.
6- محمد صادق القاموسي.
وقد عقدت تلك المجموعة عدة اجتماعات قررت فيها إعداد برنامج لشهر رمضان المبارك لعام 1952 يتضمن العديد من الفقرات التربوية الهادفة، ومن ضمنها كلمة توجيهية يلقيها السيد مهدي الحكيم بعد الإفطار من كل يوم، ويتولى إعدادها علماء وشخصيات فكرية معروفة. وتقرر جمع ثلاثين كلمة على عدد أيام الشهر المبارك على أني تولى إلقاءها السيد مهدي الحكيم تباعاً. وكانت الكلمة الأولى من إعداد آية الله الشيخ محمد أمين زين الدين – كان السيد مهدي الحكيم من المتأثرين بأفكاره – وتبدأ بالآية الكريمة؛ بسم الله الرحمن الرحيم (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ).
وتتابع إلقاء تلك المحاضرات التي شكلت في حينها حدثاً غريباً لم يعتده الناس في تلك الأيام "لكنها استطاعت أن تقاوم إلى الأخير، فقد استمرت حتى [ذكرى] يوم شهادة الإمام علي (ع) حيث أقمنا تعزية واحتفالاً، ولكن رأينا حدوث مشاكل كبيرة بالنسبة لنا"(3) وكان مصدر تلك المشكلات التي واجهت تلك المجالس، الحزب الشيوعي العراقي الذي أخذ محازبوه وأنصاره ينشرون الإشاعات بن أهالي النجف بأن (الإخوان المسلمين) هم وراء عقد تلك المجالس.
ورغم الإحباطات التي واجهت المجموعة، فإن أعضاءها واصلوا العمل من أجل قيام تحرك إسلامي جاد يلبي متطلبات الساحة الفكرية والسياسية والتي غزتها "اتجاهات سياسية معارضة للحكم تتمثل في القوميين والديمقراطيين والماركسيين أيام العهد الملكي"(4).
وكان لحركة الأحداث وزخمها المتسارع آنذاك أثره المباشر في دفع ذوي الاتجاه الإسلامي إلى التفكير "بالعمل في إطار تنظيمي وخاصة بعد الأحداث الدامية التي شهدها العراق إثر العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأول 1956 والتي تخللتها مظاهرات صاخبة واجهتها السلطات الحكومية بمنتهى العنف والشدة، مما أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا بين قتيل وجريح. وكانت أشد المظاهرات عنفاً، تلك التي جرت في مدينة النجف الأشرف، ما حدا بالملك فيصل الثاني إلى إصدار إرادة ملكية بـ"إعلان الأحكام العرفية بصورة مؤقتة في جميع أنحاء العراق إلى حين صدور إرادة ملكية بإنهائها"(5).
كما أصدرت رئاسة الوزراء أوامرها إلى السلطات الأمنية بقمع التظاهرات، "ومع هذا قامت في مدينة النجف في الثالث والعشرين من تشرين الثاني 1956، مظاهرة صاخبة اشترك فيها رجال الدين أنفسهم، لأن الإعتداء الثلاثي على مصر الآمنة استفز حمية العرب والمسلمين في كافة أقطارهم"(6)، وعلى إثر تلك التظاهرة ارتكبت الأجهزة الأمنية مجزرة دامية في المدينة راح ضحيتها عدد كبير من الأهالي أغلبهم من طلبة المدارس. وقد "بلغ عدد القتلى في النجف (114) قتيلاً إلا أن إذاعة دمشق ذكرت أن عدد القتلى بلغ (450) قتيلاً وأكدت ذلك مجلة العرفان، ولقيت التظاهرات تعاطفاً لها في مصر ولبنان حيث أبرق علماء الأزهر يستنكرون"(7).
وبعد وقوع تلك المجزرة البشعة عمّ الإضراب الشامل النجف الأشرف وأرسل كبار العلماء وعلى رأسهم الإمام السيد محسن الحكيم برقيات استنكار إلى الملك فيصل الثاني، وفيما يلي نص برقية الإمام الحكيم:
"جلالة الملك المعظم ... أن إراقة الدماء البريئة بشكلها الوحشي الفظيع في بلدنا المقدس، لتدعو إلى القلق والاستنكار العظيمين، ومن المؤسف إغضاء الحكومة عن ذلك كله وسلوكها طريق الإرهاب لعموم الطبقات.
السيد محسن الحكيم"(8).
وقد رد الملك فيصل الثاني على برقية الإمام الحكيم بالبرقية الجوابية التالية: "سماحة العلامة حجة الإسلام السيد محسن الحكيم الطباطبائي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فقد أُحطنا علماً ببرقيتكم بشأن الحوادث المؤسفة التي وقعت في النجف المقدس، وقد أمرنا الحكومة بما يقتضي.
والسلام عليكم.
بغداد في 3 كانون الأول 1956م/26 ربيع الثاني 1376هـ فيصل"(9).
الإرهاصات الأولى:
في أجواء كتلك التي خلقتها أحداث تشرين الثاني 1956 بدأت تتبلور فكرة تشكيل حزب إسلامي في العراق ينهض بأعباء المرحلة. وعن ذلك يقول صاحب الفكرة السيد مهدي الحكيم: "تكلمت في وقتها مع السيد طالب الرفاعي وعبد الصاحب دخيل ومحمد صادق القاموسي على أساس أن نعمل حزباً وعقدنا عدة اجتماعات وجلسات حول الموضوع، وكان السيد طالب الرفاعي أفضلنا من الناحية السياسية باعتبار اتصاله بحزب التحرير والإخوان المسلمين ومن خلاله تعرفنا على الشيخ عارف البصري"(10).
يتضح من ذلك أن أساس الفكرة التي انبثقت منها الدعوة الإسلامية كانت تدور ابتداء بين عدد من العاملين منهم:
1- السيد مهدي الحكيم.
2- السيد طالب الرفاعي.
3- محمد صادق القاموسي.
4- عبد الصاحب دخيل.
وكانت غاية أولئك الرواد من تأسيس الحركة الإسلامية تحقيق جملة أهداف في مقدمتها:
"1- طرح الإسلام كعلاج للحياة الاجتماعية في مقابل التيارات الفكرية والقافية الأخرى التي كانت تطرح معالجات غير إسلامية كالقومية والاشتراكية والشيوعية الماركسية فضلاً عن الديمقراطية الليبرالية.
2- مواجهة التيارات الأخرى بنفس الأسلوب الجذاب – في ذلك الوقت- الذي كانت تستخدمه لاستقطاب أبناء الأمة.
3- إيجاد وسيلة للوصول إلى قطاعات في الأمة كان يصعب الوصول إليها من خلال العلماء والمبلغين- في ذلك الوقت – مثل قطاع الموظفين والطلبة الجامعيين وغيرهم من المرتبطين بالجهاز الحاكم، حيث كان يوجد حاجز نفسي واجتماعي وثقافي بين هذه الأوساط والحوزة العلمية بسبب مخلفات وآثار العمل الثقافي والسياسي المضاد من قبل الاستعمار السياسي والثقافي والتيارات الفكرية والقافية التابعة له"(11).
بعد ذلك اقترح السيد طالب الرفاعي على السيد مهدي الحكيم طرح الموضوع على أحد علماء الحوزة وفضلائها هو السيد محمد باقر الصدر، إلا أن السيد مهدي أبدى خشيته من ذلك باعتبار أن أجواء الحوزة المتزمتة – والتي كانت تجد في العمل السياسي نوعاً من الحرمة الشرعية – لا تسمح بذلك، إلا أن السيد طالب أخبره "بأن السيد الصدر ليس من ذلك النمط"(12)، فتشجع السيد مهدي وقام بزيارة السيد الصدر في بيته، وعرض عليه الموضوع "فوافق
عليه من دون ممانعة أو تردد"(13)، وبعد موافقة السيد الصدر التي كانت ضرورية لإنجاح المشروع برمته، انتقلت الاجتماعات التحضيرية إلى داره، وازداد عدد الحضور الذين كان يتم اختيار الجدد منهم بعناية. وكانت وجهات النظر تلتقي في بعض الأحيان وتتباعد في أحيان أخرى لذلك "انسحبت جماعة، وبقي على اتصال دائم كوكبة منسجمة أخذت أفكارها تتلاقى وتتوحد"(14).
ومن بين المشاركين في تلك الاجتماعات التي كانت تعقد بصورة ثنائية في بعض الأحيان وجماعية في أحيان أخرى، الحاج محمد صالح الأديب، وكان حينها طالباً في الصف المنتهى من كلية الزراعة .. وقد تمت دعوته من قبل السيد مهدي الحكيم الذي عرّفه على السيد الصدر، وعن ذلك يتحدث الحاج الأديب فيقول:
"في عام 1376هـ الموافق 1956 عندما كنت أبحث عمن يوافقني في إنشاء حزب إسلامي على أسس فكرية أصيلة مأخوذة من مصادر الإسلام وأسس تنظيمية توافق مبادئه، التقيت بأحد المؤمنين من الحوزة العلمية في النجف الأشرف وكان هو الآخر يفتش عمن يوافقه في الأهداف التي ذكرتها. وبعد اتصالات ومناقشات عديدة معه أخذني إلى المرجع الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه، وعلمت بأنهما مع آخرين منذ مدة طويلة يفكرون في هذا الأمر. وكان بعض أعضاء هذه النخبة يقومون بنشاطات إسلامية تجديدية كالاحتفالات والدروس الإسلامية الحديثة والمحاضرات والمجالس الحسينية الواعية والمناقشات السياسية منذ بداية الخمسينيات"(15).
وبعد ذلك التعارف بدأت تعقد اجتماعات ثلاثية بين الصدر والحكيم والأديب بشكل أسبوعي منتظم في دار السيد الصدر في النجف الأشرف، كان الحديث فيها يدور حول ضرورة العمل الإسلامي المنظم وعن الحاجة إلى تشكيل حزب تبني دعائمه على ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وتعاليم
أئمة أهل البيت (ع) ولكن من دون أن تكون له صفة مذهبية بالضرورة، بحيث يستوعب المسلمين على كافة مذاهبهم. وكان السيد الصدر يعتقد أنه في حال قيام حزب كهذا فإنه قادر في عدد محدد من السنين على إقامة دولة الإسلام في العراق. وقد استطاع السيد الصدر خلال تلك اللقاءات الدورية التي كانت تعقد يوم الجمعة من كل أسبوع من التعرف على أوضاع طلبة جامعة بغداد والإحاطة بنشاط القوى السياسية المختلفة التي كانت تتخذ من كليات جامعة بغداد ومعاهدها – وكانت الوحيدة في القطر – ميداناً لتحركها، وكان أكثرها فاعلية الحزب الشيوعي العراقي وحركة القوميين العرب. أما حزب البعث العربي الاشتراكي فلم يكن له وجود ملحوظ، كما لم يكن معروفاً على نطاق واسع بين صفوف الطلبة، وكان السيد الصدر يؤكد خلال تلك الاجتماعات على نقطتين أساسيتين، الأولى؛ وتتعلق بظاهرة انتماء الشباب إلى التيارات والأحزاب العلمانية، والتي كان بعضها يجاهر بالعداء للدين ويحارب شعائره، وكانت رؤية السيد الصدر حول تلك النقطة مؤداها أن أولئك الشباب المتحمسين والمتطلعين إلى المستقبل لا يعرفون عن إسلامهم شيئاً. . وهم بانتمائهم إلى تلك الأحزاب إنما يريدون خدمة وطنهم عن أي طريق كان .. ولو كانت هناك حركة إسلامية تأخذ بأيديهم وتستوعب تطلعاتهم المشروعة لما اختاروا غير الإسلام سبيلا.
أما النقطة الأخرى التي كان السيد الصدر يركز عليها، فهي ضرورة العمل لقيام دولة إسلامية، لأنه كان يعتقد بأن وجود مثل تلك الدولة هو الضمانة لتبيان تعاليم الإسلام ولتطبيق أحكامه. ومن كلامه في هذا الشأن قوله؛ "قد نعمل وتغير المجتمع، فإذا كانت الحكومة لا تؤمن بذلك فإنها قادرة وبجرة قلم على إلغاء كل ما قمنا به"(16).
وكان السيد الصدر قد طلب أن تجمع له المناهج والأنظمة الداخلية للأحزاب العلمانية والإسلامية العاملة في الساحة للاستفادة منها في إرساء أسس التحرك
الإسلامي بصيغته الحزبية المثلى.. فتولى محمد صالح الأديب القيام بجمع الأنظمة الداخلية للحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي وكتيبات حركة القوميين العرب من زملائه الطلاب، كما حصل على الكتب العشرة التي ألفها تقي الدين النبهاني رئيس حزب التحرير الإسلامي، والتي كانت تعتبر بمثابة المنهاج المركزي للحزب المذكور، وأوصلها إلى السيد الصدر الذي عكف بدوره على دراستها وإبداء الملاحظات بشأنها والتي كانت تناقش خلال الاجتماعات الأسبوعية التي كانت تعقد في داره، وقد سأل السيد الصدر الأديب في أحدها عن حركة (الأخوان المسلمين) وعمّا إذا كانت تملك نظاماً داخلياً، فبادر الأديب بعد رجوعه إلى بغداد بالاتصال ببعض المنتمين إلى الحركة من زملائه الطلبة فلم يجد عندهم نظاماً داخلياً خاصاً بحركتهم، وإنما وجد كتاب (الدعوة والداعية) لمؤلفه حسن البنا مؤسس الإخوان، وبعض الكتيبات للمفكر والفقيه الدستوري عبد القادر عودة. وكانت تلك الكتب والكتيبات هي مادة التثقيف التي تطرح في جلسة الثلاثاء التي كان الإخوان يعقدونها في الثلاثاء من كل أسبوع. ومن بين ما حمله الأديب إلى السيد الصدر من منشورات الإخوان وكتبهم، إعداد من جريدة (الحساب) فأعجب بها لما حوته من مواضيع متنوعة سياسية وفكرية، إضافة إلى أركانها الثابتة التي تخص المرأة، والعمال وغيرهم من قطاعات المجتمع. كما أعجب أيضاً بملة (المسلمون) التي يصدرها الإخوان (التنظيم الدولي) لشمولية ودقة المواضيع التي كانت تحتويها. كما طلب السيد الصدر من السيد مهدي الحكيم أن يجمع له الأنظمة الداخلية لجمعية منتدى النشر وغيرها من الجمعيات ذات النشاط الثقافي والاجتماعي، فقام السيد مهدي يجمعها وتقديمها له. وبعد دراسته لكل ما جُمع من مناهج وأنظمة داخلية لمختلف الأحزاب والجمعيات السرية منها والعلنية، تمكن السيد الصدر من الوقوف وبشكل دقيق على أهداف وآليات عمل منظومة الأحزاب والحركات السياسية في العراق، وهذا ما ساعده على ترسيم معالم الطريق
للحزب الإسلامي الجديد.
ولم تتوقف تلك الاجتماعات التي كانت تجري على قدم وساق عند مستوى معين ولم تنحصر دائرتها بالشخصيات المشاركة فيها، وإنما توسعت بحيث "تجاوز عدد المشاركين فيها العشرة أشخاص، وكان بعضها يجري بشكل جماعي وبعضها الآخر بشكل ثنائي وعلى شكل استشارة للقيام بهذا العمل"(17).
وقد برز دور السيد الصدر خلال تلك المباحثات التي مهدت للتأسيس، وتبلور بشكل أساسي عندما استطاع أن يزيل أكبر عقبة عن طريق العاملين وذلك بكتابته "لرسالة برهن فيها على جواز بل وجوب قيام الحكومة الإسلامية زمن الغيبة وذلك من خلال آية الشورى"(18)، وكان هناك بعض العلماء ممن يؤيد قيام تلك الحكومة، في حين كان هناك معارضون أشداء لها. وكان السيد محمد باقر الحكيم قد عرض الرسالة على آية الله الشيخ حسين الحلي – وهو من أكابر المجتهدين في الحوزة وتلميذ آية الله العظمى الإمام النائيني والذي كان من أبرز دعاة قيام حكومة إسلامية في عصر الغيبة – فأبدى إشكالاته على الاستدلال بتلك الآية الكريمة، وتكمن أهمية تلك الرسالة الفقهية إضافة إلى ذلك في إن السيد الصدر باعتباره فقيها مجتهداً كان يرى بأن الهدف من تشكيل الحزب الإسلامي هو أن يكون طريقاً إلى إقامة الحكومة الإسلامية، وبدون مشروعية الهدف فلا معنى لقيام ذلك الحزب مهما كانت المبررات.
الاجتماع التأسيسي:
بعد أن تكاملت مقومات تأسيس الحزب الإسلامي من الناحية النظرية والعملية "كانت بداية التأسيس لقاء عقد في [تشرين أول] شتاء عام 1957 ضم السيد الصدر مع سبعة آخرين من علماء دين ومثقفين إسلاميين، اجتمعوا
في منزل المرجع الديني السيد محسن الحكيم. وكان ذلك اللقاء بمثابة الاجتماع التأسيسي، سبقته لقاءات عديدة جرت فيها دراسة لتجارب الأحزاب السياسية في العالم والاطلاع على أنظمتها الداخلية"(19). ولا زال تاريخ عقد الاجتماع التأسيسي موضع إشكال(20) وكذلك "مكان عقده" ذلك أن مصدراً آخر هو "السيد محمد باقر الحكيم"(21) الذي كان من المشاركين فيه أكد أن الاجتماع التأسيسي عقد في دار السيد مهدي الحكيم وليس في دار والده المرجع الأعلى. وصاحب الدار أدرى بالذي فيها كما يقال.
أما المشاركون الثمانية في الاجتماع فكان منهم:
1- السيد محمد باقر الصدر.
2- السيد مهدي الحكيم.
3- الحاج محمد صادق القاموسي.
4- السيد محمد باقر الحكيم.
وقد دار أغلب الحوار في ذلك الاجتماع بين السيد الصدر والحاج محمد صادق القاموسي "باعتبارهما الأكثر وعياً وثقافة(22) من بين الحضور، وفي ختام الاجتماع تقرر تأسيس الحزب الإسلامي الذي كانت المباحثات تجري بشأنه على مدارس السنة – أو أكثر – التي سبقت عقده "وعند اتخاذ هذا القرار لم تكن معالم التشكيل واضحة لأنها كانت تجربة جديدة في هذا الوسط أريد منها تحقيق أهداف معينة مع محاولة الاحتفاظ بأصالتها والجانب الشرعي والإسلامي منها من ناحية، وانسجامها وتكيفها نسبياً مع الخط العام للحركة الإسلامية المتمثلة بالمرجعية الدينية والحوزة العلمية من ناحية ثانية، وفاعليتها وقدرتها على تحقيق أغراضها من ناحية ثالثة.
- فلم يكن الاسم مشخصاً ومعروفاً حتى وقت متأخر.
كما أن النظام الداخلي لم يكن محدداً بشكل كامل حتى ذلك الوقت.. وهكذا أساليب ومنهج العمل والحقوق والواجبات وغيرها من الأمور"(23). وكان السيد الصدر قد اقترح على السيد مهدي الحكيم في وقت لاحق من عام 1958 طرح الموضوع على السيد مرتضى العسكري لضمه إلى الهيئة المؤسسة، وحمله رسالة تعريف- لعدم وجود معرفة سابقة بينهما- وكان العسكري في ذلك الوقت يسكن الكاظمية، ومما جاء في تلك الرسالة:
"يحمل كلامي إليك السيد مهدي"(24).
وكان السيد العسكري في تلك الفترة يفكر هو الآخر بتأسيس حزب إسلامي يأخذ على عاتقه مهمة تغيير المجتمع الذي ابتعد عن الإسلام وأحكامه وانحسرت عنه مظاهر التدين الواعي الصحيح لتحل محلها ممارسات شاذة وعادات غريبة أفرغت رسالة الدين من محتواها الأصيل. "يقول العلامة السيد مرتضى العسكري في حديث معه بتاريخ 25 كانون الثاني 1989م، إنه أحصى (55) مجلساً حسينياً، فلم يجد في أي منها محاضرة إسلامية، أو قارئاً يخطب في الناس، وأنه حضر أواخر العهد الملكي في اليوم التاسع من محرم مجلساً حسينياً في الحسينية الحيدرية في الكاظمية وهو أكبر المجالس، وقد أحصى سماحة السيد العسكري عدد الشباب الحاضرين فكانوا ثلاثة فقط"(25).
وكان قلق السيد العسكري ينصب على شريحة الشباب باعتبارهم ضمانة لمستقبل الأمة والذين كانوا في تلك الأيام عرضة لشتى التيارات الفكرية والسياسية العلمانية التي كانت تهب على المجتمع العراقي بقوة الإعصار فتجرف معها حتى المتدينين منهم. ويضرب السيد العسكري مثلاً على ذلك، هو انتماء أحد معارفه- وكان متديناً – إلى الحزب الشيوعي العراقي، وقد بادره حين التقاه في أحد أيام رمضان وكان الفصل صيفاً قائظاً بالقول: ماذا رأيت من الإسلام
حتى تنتمي إلى الشيوعية؟ فأجابه ذلك الشخص بالقول "أنا مسلم وأنا صائم والمجتمع بحاجة إلى حكومة، والإسلام ليس فيه نظام حكومة، والحكومة أما رأسمالية أو اشتراكية وأنا رأيت أن الاشتراكية أصلح للمجتمع لذلك انتميت إلى الحزب الشيوعي"(26). أما ما دار بعد وصول السيد مهدي الحكيم إلى دار السيد العسكري فينقله السيد مهدي قائلاً:
"أعطيته الرسالة، فقرأها ثم سألني: ما الموضوع؟ فاخبرته: قال: أنا موافق، فبدت عليّ علائم الدهشة والاستغراب، فقال: لا تعجب، فقد كنت أفكر في الموضوع منذ زمن ولكن لم أجد الإنسان الذي اتحدث معه حول ذلك"(27). أما انطباع السيد العسكري عن تلك المقابلة وما دار فيها فيقول؛ "كان السيد مهدي يرتجف"(28) وهو يحدثني ثم سألته فقال لي؛ "أنني والسيد الصدر نفكر بتأسيس حزب وأن السيد قال إذا وافق العسكري فإننا نستطيع السير في ذلك، فقلت للسيد مهدي اذهب وأنا سآتيكم"(29). وقد غادر العسكري بالفعل بغداد إلى النجف الأشرف ليعقد اجتماعاً ضمه والسيد الصدر والسيد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم. وقد شكل الأربعة النواة الصلدة لحزب الدعوة الإسلامية "وكانت هذه النواة المباركة متكاملة، يكمل أفرادها بعضهم بعضاً، فهي ذات إمكانات ظاهرة وكامنة كافية لقيادة الأمة الإسلامية للسير نحو تطبيق الإسلام، فيها قابليات يندر اجتماعها لفهم الإسلام وفهم الواقع وفهم التنظيم والوعي على الأحداث في البلاد الإسلامية وفي العالم"(30).
عقبات على الطريق:
شخّص الدعاة الأوائل منذ البداية العقبات التي ستواجه الحركة الإسلامية وذلك بعد دراسة لحركة المجتمع ولطبيعة النظام الحاكم في العراق، وكان أشد تلك العقبات خطورة هي:
"1- الجهل بالإسلام وهبوط الوعي الإسلامي والسياسي بشكل عام وغياب الفكر والثقافة الإسلامية رغم حب أبناء الإسلام لدينهم وإيمانهم به وممارسة الغالبية من أبناء الأمة للشعائر والعبادات الإسلامية.
2- استنكار العمل السياسي الإسلامي وتشوّه مفهوم الحزب والسياسة لدى طبقات عديدة من أبناء الأمة خصوصاً في أوساط عريضه من الحوزة العلمية نتيجة لاستيحاء مفهوم الحزب والسياسة من الصورة الوضعية الشوهاء.
3- وجود تيار شيوعي الحادي جارف كان يسيطر على الشارع العراقي ويروج للفكر الشيوعي بين صفوف المثقفين والعمال والفلاحين.
4- غياب روح الجهاد والعمل السياسي الإسلامي إلا بشكل ضيق ومحصور جداً.
5- قلة الدعاة الإسلاميين المثقفين والمستوعبين لثقافة العصر وغياب منهجية العمل والتغيير والدعوة إلى الإسلام.
6- إنتشار الثقافة الاستعمارية الغربية والانحلال الخلقي والترويج إليه.
7- تأصيل روح الطائفية والخلاف المذهبي وانسحاب هذه الروح على أجهزة الحكم والإدارة الحكومية.
8- وجود أنظمة بوليسية إرهابية لا تسمح بالدعوة إلى الإسلام وتعمل جاهدة على استئصاله ومطاردة دعاته ومحاربتهم"(31).
الهوامش:
1- منتدى النشر: مدرسة عالية للعلوم الدينية تأسست عام 1935 ومنها تأسست كلية الفقه في النجف الأشرف عام 1958 ولا زالت الكلية قائمة حتى اليوم.
2- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 20/10/1995.
3- الحكيم، مهدي: مصدر سابق، ص 33.
4- مجلة الدراسات الفلسطينية. ع23 ص95 مقابلة مع العلامة آية الله السيد محمد حسين فضل الله.
5- الحسني، عبد الرزاق: تاريخ الوزارات العراقية، ج10 ص100 مصدر سابق.
6- نفس المصدر السابق، ص 113.
7- السراج، عدنان إبراهيم: الإمام محسن الحكيم (1889-1970م) ص213 ط1 بيروت. دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، 1993. (الكتاب في الأصل رسالة ماجستير مقدمة إلى الجامعة اللبنانية).
8- الحسني، عبد الرزاق: تاريخ الوزارات العراقية ج10 ص115 مصدر سابق.
9- السراج، عدنان: مصدر سابق ص 212.
10- الحكيم، مهدي: مصدر سابق ص 36.
11- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 20/10/1995.
12- الحكيم، مهدي: مصدر سابق ص 37.
13- نفس المصدر السابق ص 37.
14- منشورات حزب الدعوة الإسلامية، ثقافة الدعوة الإسلامية، ج3، ص225، مطبعة المعراج، 1405هـ.
15- صحيفة الجهاد (صوت الحركة الإسلامية في العراق) ع68 في 3/1/1983 (ملحق خاص بمناسبة مرور (26) عاماً على تأسيس حزب الدعوة الإسلامية). لقاء مع الحاج محمد صالح الأديب أحد المؤسسين الأوائل للحزب. وقد رمزت له الصحيفة باسم (الحاج أبو إسلام) واعتذرت عن نشر اسمه وصورته لأسباب (جهادي) كما ورد فيها.
16- جميع ما ورد من أقوال ومواقف وتفاصيل عن تلك الاجتماعات التي دارت بين الإمام
السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد مهدي الحكيم والحاج محمد صالح الأديب في تلك الفترة مقتبس ومنقول من مقابلة مشتركة أجريت مع الحاج محمد صالح الأديب والمحامي السيد حسن شبر بتاريخ 7/9/1994 وهي مسجلة على شريط كاسيت وقد حصل كاتب السطور على الكاسيت المذكور من السيد حسن شبر.
17- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 20/10/1995.
18- الحكيم، مهدي: مصدر سابق ص 37.
19- نخبة من الباحثين: محمد باقر الصدر (دراسات في حياته وفكره) ص 525 ط1 مؤسسة دار الإسلام، لندن 1416هـ-1996م.
20- اعتمد حزب الدعوة الإسلامية يوم 17/ ربيع الأول/1377 كتاريخ رسمي لتأسيسه وهو يصادف ذكرى ولادة الرسول الأعظم محمد (ص) وولادة حفيده الإمام جعفر الصادق (ع) ويستند الحزب في ذلك إلى رواية الحاج محمد صالح الأديب، والذي أكد من جانبه لكاتب السطور في مقابلة أجراها معه في دمشق في 15/7/1994 أنه غير متأكد بالمرة من تاريخ اليوم الذي عقد فيه الاجتماع المذكور ولكنه متيقن من تاريخ الشهر وهو ربيع الأول/1377. واستناداً إلى ذلك يمكن توثيق الحدث من الناحية التاريخية من جهة وقوعه في ربيع الأول والذي يصادف بالتاريخ الميلادي شهر تشرين الأول 1957.
21- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 4/5/1998.
22- الحكيم، مهدي: مصدر سابق ص 37.
23- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 20/10/1995.
24- صحيفة (صوت العراق) الصادرة في لندن. ع128 في 15/3/1993 مقابلة مع آية الله السد مرتضى العسكري.
25- شبر، حسن: مصدر سابق ص 358-359.
26- مقابلة خاصة مع آية الله السيد مرتضى العسكري في دمشق بتاريخ 25/8/1993.
27- الحكيم، مهدي: مصدر سابق ص 38.
28- مقابلة خاصة مع آية الله السيد العسكري. مصدر سابق.
29- صوت العراق. ع128 مصدر سابق.
30- ثقافة الدعوة، ج3 ص226.
31- صوت الدعوة (النشرة الداخلية لحزب الدعوة الإسلامية) ع40، ص6-7 شوال/1405هـ.
الفصل الرابع
تشكيـــل القيـادة
اجتمـاع كربلاء
كان اجتماع كربلاء الموسع، الانطلاقة الحقيقية لحزب الدعوة الإسلامية، لأن اجتماع النجف التأسيسي في تشرين الأول 1957 لم ينبثق عنه ما يحمل مقومات الحزب، كالمركز القيادي والهيكل التنظيمي والنشرات الداخلية.
ويكتسب اجتماع كربلاء أهمية استثنائية في تاريخ الدعوة، حتى أصبح يقرن في كتابات المؤسسين وذكرياتهم بمولد الحزب وبدايات تأسيسه. فالسيد محمد باقر الحكيم عندما يستعرض الأعمال والنشاطات السياسية التي قام بها الإمام السيد محمد باقر الصدر يذكر منها "مساهمته في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية أواخر صيف (1378هـ-1958م)"(1) ويذهب السيد طالب الرفاعي إلى ما ذهب إليه السيد محمد باقر الحكيم فيؤكد على "أن تأسيس الحزب الفعلي تم بأشهر قليلة بعد انقلاب تموز 1958"(2). ويعزز السيد مهدي الحكيم شهادة السيدين (الحكيم والرفاعي) بشكل إجمالي بقوله "نستطيع القول بأن حزب الدعوة تأسس قبيل أو بعيد 14 تموز"(3)، لذلك ليس من العسير تحديد زمن اجتماع كربلاء ما دام قد عقد أواخر صيف عام 1958، وبتعبير المؤسسين "بعد بضة أشهر من ثورة تموز". وبذلك يمكن حصره بين شهري أيلول وتشرين أول من ذلك العام، وهي نفس الفترة التي شهدت اشتداد التناحر بين أحزاب جبهة الاتحاد الوطني- التي انشقت إلى محورين متضادين الأول
بقيادة الحزب الشيوعي العراقي وحلفائه والآخر يتمثل بجبهة القوى القومية – وحسم الصراع على السلطة فيه بين زعيم الجمهورية عبد الكريم قاسم ونائبه عبد السلام عارف لصالح الزعيم، كما شهد أيلول أول تحرك للمرجعية الدينية بعد ثورة 14 تموز التي بادرت إلى التصدي للمد الشيوعي الذي حاول النيل منها ومن قدسية النجف والحوزة العلمية، وذلك من خلال واجهة علمائية تشكلت في البداية لهذا الغرض. والأقرب إلى الإحتمال وكما تدل كل المؤشرات أن تكون عودة مؤسسي الحزب الإسلامي إلى الاجتماع بعد طول غياب للنهوض بمشروعهم بتأثير مباشر أو يغر مباشر من المرجع الأعلى الإمام السيد محسن الحكيم الذي شارك اثنان من أنجاله في اجتماع كربلاء، ليكون الحزب الجديد أحد مفردات التحرك السياسي العام الذي قررت المرجعية الدينية القيام به في العراق.
وكان قد حضر اجتماع كربلاء الموسع الذي عقد في "منزل الإمام السيد محسن الحكيم الذي لم يكن مسكوناً"(4)، كل من:
1- السيد محمد باقر الصدر.
2- السيد محمد باقر الحكيم.
3- السيد مرتضى العسكري.
4- السد محمد مهدي الحكيم.
5- السيد طالب الرفاعي.
6- الحاج محمد صادق القاموسي.
7- الحاج عبد الصاحب دخيل.
8- الحاج محمد صالح الأديب.
ومع أن جميع المؤسسين ينتمون إلى تيار واحد هو التيار الإسلامي الواعي الذي يحمل همّ الإسلام والدعوة إليه، إلا أن ذلك لم يكن يعني إلغاء التمايز القائم فيما بينهم فيما يختص بطرق التفكير وتعدد أساليب العمل، نظراً لتنوع الوسط المهني والسياسي الذي نشأ فيه كل منهم. لذلك فإن حزب الدعوة الإسلامية كان في الحقيقة وواقع الأمر ائتلافاً إسلامياً بين عدة خطوط إصلاحية وإسلامية تتفاوت من حيث الأهمية والنفوذ والسلامة، وكان لكل واحد منها تأثيره على مسيرة الحزب، وهذه الخطوط هي:
"1- الحوزة العلمية في النجف الأشرف.
2- حركة الإصلاح خارج الحوزة، ومنها منتدى النشر.
3- حزب التحرير.
4- الإخوان المسلمين.
5- منظمة الشباب المسلم"(5).
ولو جاز لنا تنسيب الحضور إلى تياراتهم لظهرت لنا خارطة الانتماءات على الشكل التالي:
1- الحوزة العلمية في النجف الأشرف:
ويمثلها السيد محمد باقر الصدر وتلميذه السيد محمد باقر الحكيم.
2- منتدى النشر وحركة الإصلاح خارج الحوزة:
أما حركة الإصلاح خارج حوزة النجف الأشرف فيقف على رأسها السيد مرتضى العسكري الذي بدأ دراساته الحوزوية أوائل الثلاثينيات في حوزة سامراء
وتابع دراساته الدينية العالية في حوزة قم، وبعد عودته إلى أرض الوطن انصرف ومنذ الأربعينيات إلى تأسيس المشاريع الإسلامية الهادفة كالمدارس والجمعيات الخيرية، إضافة إلى تضلعه في التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية الشريفة، حيث صدر له عدد من أمهات الكتب في هذا الاختصاص.
أما بالنسبة إلى منتدى النشر فيمكن القول أن الكوادر الأولى لحزب الدعوة وأغلب المثقفين الإسلاميين كانوا من تلاميذ الشيخ محمد رضا المظفر. وكانت حصة هذا الخط – إن صح التعبير- من المؤسسين هي الأكبر بين الخطوط الأخرى، فقد كان يمثله كل من الحاج محمد صادق القاموسي، عضو الهيئة الإدارية لمنتدى النشر، والحاج عبد الصاحب دخيل، وكذلك السيد مهدي الحكيم الذي يمكن أن يحسب – إلى حد ما – على الحوزة العلمية أيضاً، علماً أن هناك تداخلاً كبيراً بين الحوزة ومنتدى النشر.
3- حزب التحرير:
لم يكن في اجتماع كربلاء من هو محسوب على خط حزب التحرير، إلا أن بين الرعيل الثاني الذي فوتح بالدعوة، كان ممن له صلة بالتحرير كالشيخ عارف البصري الذي جاء إلى النجف "ليفتح فرعاً لحزب التحرير"(1) لكنه عدل عن فكرته وانسحب من الحزب بتأثير من مؤسسي الدعوة الذين تعرّف عليهم لدى وصوله إلى النجف ومنهم السيد مهدي الحكيم. بعد ذلك بفترة كتب الشيخ عارف البصري رسالة إلى الإمام الحكيم يقول فيها ما مضمونه "إني شاب مسلم تبينت الإسلام وأحببته، ولكن مع الأسف كنت أعيش في ظل الإسلام الذي لا يمثل فكر أهل البيت، وعليه فأنا أحب الآن أن آتي إلى النجف للدراسة في حوزتها العلمية، ولعل الله يوفقني لخدمة أهل البيت وفكر أهل البيت"(7)، ومن بين الرعيل الأول الذي كانت له علاقة بحزب التحرير أيضاً المهندس محمد
هادي السبيتي الذي كان له دور متميز فيما بعد في بناء التنظيم وصياغة ثقافة الدعوة.
4- حركة (الإخوان المسلمين):
كان من المتأثرين بفكرهم السيد طالب الرفاعي، وكان أيضاً على صلة وثيقة بقياداتهم في العاصمة بغداد.
5- منظمة الشباب المسلم:
كان الحاج محمد صالح الأديب من الذين انتموا في السابق إلى الشباب المسلم، أما الشيخ مهدي السماوي وهو من عائلة علمية معروفة في السماوة ومن الدعاة الأوائل، فكان قريباً من منظمة الشباب المسلم.
وكان قد تم في اجتماع كربلاء رسم الخطوط العريضة للتنظيم وتحددت أساليب العمل الحزبي وفق قاعدة (الغاية لا تبرر الوسيلة). بعد ذلك تم اختيار أول قيادة لحزب الدعوة الإسلامية (التسمية لم تكن موجودة بعد) وأدى الجميع القَسم "وكان أول من أداه السيد العسكري وكان أكبر الحضور سناً بإلحاح من السيد الصدر"(8)، وقد ضمت التشكيلة القيادية الأولى كل من:
1- السيد محمد باقر الصدر.
2- السيد مرتضى العسكري.
3- السيد محمد مهدي الحكيم.
4- السيد محمد باقر الحكيم.
5- الحاج محمد صادق القاموسي.
ومما لا شك فيه أنه لولا تلك التركيبة القيادية الفريدة لما استطاعت الدعوة
الإسلامية أن تنهض بمسؤولياتها وأن تخطو تلك الخطوات الواسعة إلى الأمام. ومن كل ما مرّ فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل هناك قائد مؤسس للدعوة؟ وبعبارة أخرى ما هو دور السيد الصدر في التأسيس؟
وللحفاظ على الأمانة التاريخية واستجلاء للحقيقة، فإن الإجابة الموضوعية والدقيقة عن ذلك التساؤل المشروع، منوطة بشكل أساسي ومباشر بالمؤسسين أنفسهم الذين واكبوا تلك الأحداث وكانوا شهوداً عليها ومنهم السيد محمد باقر الحكيم الذي يجيب على ذلك بالقول؛ "كان الشهيد الصدر بمعنى من المعاني هو المؤسس للتنظيم والراعي له، بمعنى أنه لولاه – كما اعتقد – لم يكن يوجد هذا التنظيم ولا أن يأخذ هذا الواقع الخاص والتأييد، فوجوده كان له دور كبير في جمع هذا العدد المهم من حيث (الكيف) و(الموقع السياسي والاجتماعي واقتناعهم بهذا العمل الإسلامي) وهذا الجانب هو سر نجاح هذا التنظيم وقدرته على النمو والتطور.
ولكن في نفس الوقت لم يكن هو المؤسس الوحيد، بمعنى أنه في دور التأسيس وقرار وجوده كان بعضهم يرى نفسه أهم من الشهيد الصدر، وأخبر في العمل والموقع السياسي والاجتماعي، وإن كان الشهيد الصدر متميزاً بلا شك منذ البداية بالجانب العلمي والفكري. وهو جانب مهم وأساسي في هذا العمل وتأسيسه، خصوصاً وأن القضية الشرعية كانت ولا زالت قضية مهمة، ولم يكن من الممكن توفرها تأسيساً إلا عن طريقه في ذلك الوقت.
ولا شك أن بداية هذا العمل عندما تكون من قبل أشخاص لهم موقع خاص في مراكز القرار الإسلامي والديني فلابد أن يكون لها تأثير كبير في مسيرته وتطوره، وهذا هو ما حصل في تأسيس هذا التنظيم"(9). ويواصل السيد محمد باقر الحكيم استعراضه لدور أهم الشخصيات التي ساهمت في مرحلة التأسيس وما بعده فيقول: "كانت بداية التأسيس من الشهيد الصدر (رض) وهو شخصية
علمية لامعة قريبة من أوساط مجموعة من المجتهدين والذين أصبحوا بعد ذلك أهم أعضاء جماعة العلماء أمثال آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين (خال الشهيد الصدر)، وآية الله المرحوم السيد محمد صادق الصدر (ابن عمه)، وآية الله السيد باقر الشخص، وآية الله الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي – اللذين كانا من طلاب خاله المرحوم آية الله العظمى الشيخ محمد رضا آل ياسين – كما كانت بداية التأسيس من العلامة الشهيد السيد مهدي الحكيم الشخصية السياسية والاجتماعية اللامعة، والذي كان له دور كبير في نشاط مرجعية والده الإمام الحكيم خصوصاً في هذا الجانب والبعد، وكذلك كاتب هذه السطور [السيد محمد باقر الحكيم]، بالإضافة إلى العلامة السيد مرتضى العسكري الذي كان يعتبر من العلماء الناجحين والعاملين في الوسط السياسي والاجتماعي في بغداد. والشهيد عبد الصاحب دخيل الذي كان طاقة حركية وله علاقات واسعة في أوساط الشباب المتدين في النجف وكذلك له علاقات واسعة في الوسط التجاري وإن لم يكن له موقع اجتماعي في ذلك الوقت"(10).
وهناك مؤسس آخر رافق الدعوة منذ بذرتها الأولى هو السيد مهدي الحكيم إذ يدلي بشهادته حول الموضوع بالقول؛ "لا يمكن تحديد شخص معين أسس الحزب، ولكن القضية أن واحداً قال تعالوا نعمل حزباً فجاء الجميع"(11).
وفيما يتعلق بالمركز القيادي بعد تشكيله فيشير السيد العسكري إلى "أن كافة أعضاء القيادة كانوا متكافئين ومتضامنين في تحمل المسؤولية"(12).
نبذة عن حيـاة المؤسسيـن
وفيما يلي ترجمة موجزة لحياة أعضاء القيادة الأولى للدعوة الإسلامية والتي تشكلت عام 1958م وهم:
الإمام السيد محمد باقر الصدر:
ولد الإمام السيد محمد باقر الصدر في منطقة الكاظمية في العاصمة بغداد في (28/2/1935) (13)، وهو سليل لأسرة علمية أنجبت كبار المراجع والمجتهدين الذين تصدوا طيلة أجيال متعاقبة للدرس والإفتاء في حوزات النجف والكاظمية وكربلاء وسامراء. فوالده آية الله السيد حيدر الصدر، من العلماء المجتهدين في الكاظمية، وجده الإمام السيد إسماعيل الصدر من مراجع التقليد في كربلاء. توفي والده وله من العمر ثلاث سنوات فكفله شقيقه آية الله السيد إسماعيل الصدر.
دخل السيد الصدر مدرسة (العصرية) الابتدائية في الكاظمية وكان من المتفوقين فيها. وخلال دراسته في المدرسة كان يتلقى دروساً في الفقه والأصول على يد أخيه السيد إسماعيل الصدر. وفي الحادية عشرة من عمره ارتحل مع أخيه إلى النجف الأشرف للدراسة في حوزتها. وبعد تلقيه مقدمات العلوم
الإسلامية أكمل دراساته الحوزوية العليا عند كبار العلماء والمجتهدين فحضر دروس آية الله السيد محمد الروحاني (المرجع الديني لاحقاً)، يقول الإمام السد الروحاني: "كان السيد الصدر عالماً ذكياً تقياً وقليل النظير، درس عندي ما يقرب من خمس عشرة سنة، درس شهرين تقريباً في الكفاية ثم درس المكاسب وبحث الخارج فقهاً وأصولاً، ثم قلت له بعد ذلك لا تحضر لأنك لا تستفيد ولست بحاجة لذلك، وقد عاتبني السيد الخوئي فقلت له: لم أقل له لا يحضر دروسك وإنما دروسي"(14).
ويضيف آية الله الشيخ محمد رضا الجعفري: "كنا نرى السيد الصدر أما خارجاً من بحث السيد الروحاني أو في الطريق راجعاً أو ما زال جالساً لم يكمل الدروس، فننتظر حتى ينهي سيدنا الأستاذ بحثه معه ويشرع معنا في البحث. وكان يحضر بحثه الشريف في كل يوم قبل الغروب بساعتين طيلة فترة دراسته"(15).
وقد تابع السيد الصدر تحصيله، فحضر دروس المرجع الأعلى الإمام السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، في الأصول والفقه حتى عام 1958، ليتفرغ بعدها للتدريس فبدأ منذ عام 1959 بإلقاء دروس البحث الخارج في علوم الفقه الإسلامي.
شارك الإمام الصدر بدور محوري في جميع النشاطات الإسلامية التي شهدها العراق منذ الخمسينيات من القرن العشرين – كما سيرد ذكره في ثنايا هذا البحث – وكان له موقع مؤثر في جهاز مرجعية الإمام السيد محسن الحكيم. ويعود الفضل لآية الله السيد الصدر في التخطيط والتوجيه لمعظم المشاريع الإسلامية التي تبناها الإمام الحكيم في حقبة الستينات.
وبعد وفاة الإمام الحكيم عام 1970 وضع السيد الصدر ثقله وراء مرجعية الإمام السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، الذي كان "المرجع الوحيد الذي يمكن
أن تجتمع عليه الكلمة في العراق نسبياً"(16).
تسنم الإمام السيد محمد باقر الصدر ذرى المرجعية الدينية منذ منتصف السبعينيات فكان أحد مراجع التقليد في النجف الأشرف، كما ساهم بأبحاثه ومؤلفاته في إناء الفكر العربي والإسلامي في شتى مناحي العلم والمعرفة.
إلا أن منزلته الدينية والعلمية الرفيعة لم تمنع السلطة الحاكمة في العراق في عهد البعث – جناح ميشيل عفلق – من اعتقاله عدة مرات في سنوات متعاقبة كان آخرها في 5/ نيسان/1980.
لقد ترك الإمام السيد الصدر بعد رحيله تراثاً علمياً زاخراً تشهد له بذلك أسفاره الشهيرة، كما وضع قبل استشهاده اللبنات لمشاريع بحثية جديدة إلا أن القدر لم يمهله، فلبى نداء ربه صابراً محتسباً ليكتب اسمه وجهاده بأحرف من فخار في سجل الخالدين.
وفيما يلي استعراض لكتبه ومؤلفاته وهي:
1- فدك في التاريخ.
2- غاية الفكر في الأصول.
3- فلسفتنا.
4- اقتصادنا – جزءان.
5- الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية.
6- ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي.
7- المعالم الجديدة في الأصول.
8- البنك اللاربوي في الإسلام.
9- بحوث في شرح العروة الوثقى – خمسة أجزاء.
10- تعليقه على منهاج الصالحين.
11- الفتاوى الواضحة.
12- الأسس المنطقية للاستقراء.
13- بحث حول الولاية.
14- بحث حول المهدي.
15- نظرة عامة في العبادات.
16- المرسل الرسول الرسالة.
17- موجز أحكام الحج.
18- تعليقه على بلغة الراغبين.
19- تعليقات على صلاة الجمعة من كتاب الشرائع.
20- تعليقات على كتاب الأسفار للملا صدر في الفلسفة.
21- دروس في علم الأصول (4 أجزاء).
22- أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف.
23- التفسير الموضوعي وسنن التاريخ.
آية الله العلامة السيد مرتضى العسكري:
ولد السيد مرتضى محمد إسماعيل العسكري في مدينة سامراء عام 1912م، من أسرة أنجبت العديد من كبار العلماء. تلقى دراساته في العلوم الإسلامية في حوزة سامراء ثم تابع دراساته العالية في حوزة قم العلمية في إيران وبعد بضع سنوات عاد إلى سامراء لمواصلة الدراسة عند كبار العلماء في حوزتها
العلمية التي كانت مزدهرة آنذاك وذلك حتى مطلع الحرب العالمية الثانية.
يعتبر العلامة العسكري من أوائل المفكرين الإسلاميين في العراق الذين دعوا إلى التصدي الحازم للغزو الفكري الغربي الذي أخذ يجتاح المجتمعات العربية والإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى، كما نادى بضرورة إصلاح المناهج ونظم التربية والتعليم التي يتلقاها الناشئة والشباب في المدارس الحكومية والتي كان يعتبرها "معامل لتفريخ الموظفين وليس معاهد لتخريج المبتكرين والمبدعين كما هو الحال في المؤسسات التعليمية الموجودة في أوربا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية"(17)، لذلك بادر إلى إقامة العديد من المشاريع التربوية لتكون نموذجاً يمكن أن يحتذى به في العملية التربوية الجارية في العراق وفي هذا الإطار أسس مع المربي الفاضل الأستاذ (أحمد أمين) عام 1942 المدرسة العصرية الابتدائية في الكاظمية كفرع لجمعية منتدى النشر في النجف الأشرف. وكان السيد الصدر أحد تلاميذها – كما مر في ترجمة حياته – ثم أعقبها بمشروع أوسع هو مدارس الإمام الكاظم التي تشتمل على كل المراحل الدراسية الابتدائية والمتوسطية والثانوية. وفي عام 1958 ترأس السيد مرتضى العسكري الهيئة الإدارية لجمعية الصندوق الخيري الإسلامي في بغداد والتي سبق وأن أسسها السيد هبة الدين الشهرستاني، ثم فوض مسؤوليتها إليه، فقام بعد ترؤسه الجمعية بتأسيس مدارس ومراكز تعليمية في العديد من مناطق العراق وهي:
1- مدارس الإمام الجواد في الكرادة/ بغداد.
2- مدارس بغداد الجديدة في منطقة بغداد الجديدة/ بغداد.
3- مدارس الزهراء للبنات في الكاظمية/ بغداد.
4- مركز تعليم البنات في الكاظمية/ بغداد.
5- مدارس الإمام الصادق في البصرة.
6- ثانوية الإمام الباقر في الحلة.
7- ثانوية الإمام الحسن في الديوانية: أسسها العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين وكيل الإمام الحكيم في الديوانية ثم ألحقت بجمعية الصندوق الخيري.
8- مركز تعليم البنات في النعمانية: تأسس من قبل آية الله السيد قاسم شبر العالم الديني لمدينة النعمانية ثم ألحقها بجمعية الصندوق الخيري.
وفي عام 1964 أسست الجمعية كلية أصول الدين في بغداد لتكون نواة لجامعة متكاملة الاختصاصات. وكان أول عميد للكلية – التي عودلت شهادتها الجامعية فيما بعد من قبل جامعتي القاهرة وكمبردج البريطانية- هو السيد مرتضى العسكري، الذي تولى وضع مناهجها الدراسية بالتعاون مع نخبة قديرة من أساتذة جامعة بغداد.
عمل السيد العسكري إضافة إلى مسؤولياته في جمعية الصندوق الخيري وكيلاً للمرجعية الدينية في مناطق مختلفة من العاصمة بغداد متنقلاً بين مناطق الكريعات والبياع ليستقر أخيراً في الكرادة الشرقية، شكل السيد العسكري مع السيد مهدي الحكيم ذراع المرجعية الدينية في العاصمة بغداد، وذلك خلال فترة التحرك الإسلامي في الأعوام 1963-1969، كما كان عضواً مؤسساً في جماعة علماء بغداد والكاظمية. وبعد وصول حزب البعث – جناح ميشيل عفلق- إلى السلطة في بغداد في 17/تموز/1968 وُضِع السيد العسكري على قائمة الأشخاص الذين قرر النظام الجديد تصفيتهم، فاقتحمت داره عدة مرات من قبل أجهزة النظام الأمنية، مما اضطره إلى مغادرة العراق بعد أن أصبح الهدف الثاني للنظام بعد السيد مهدي الحكيم، ليستقر في لبنان وذلك عام 1969.
تعرض السيد العسكري لمضايقات السفارة العراقية في بيروت التي واصلت
رصد تحركاته ومتابعتها، وأخيراً أرسلت له استدعاء للمثول أمام محكمة الثورة في بغداد، وكانت النية مبيتة لاختطافه ونقله إلى العراق لتتم تصفيته هناك، لذلك قرر مغادرة لبنان والاستقرار في إيران.
وفي عام 1978 أسس العلامة العسكري المجمع العلمي الإسلامي في طهران كمؤسسة علمية تعنى بالبحوث الإسلامية، وكمركز لجمع وحفظ المخطوطات القديمة من كل العالم العربي والإسلامي وتخزين ما تحتويه من معلومات في أجهزة الكومبيوتر الحديثة. وقد خطى المشروع خطوات رائدة في هذا السبيل حتى عام 1980 إلى أن تحول نشاط المجمع إلى تنظيم وإعداد الكتب الدراسية للحوزات العلمية بعد أن حولت نفقاته بالكامل إلى لجان إغاثة المهجرين والمهاجرين العراقيين الذين بدأوا بالتوافد على الجمهورية الإسلامية في إيران.
ترأس السيد مرتضى العسكري أول مجلس قيادة للقوى الإسلامية العراقية الذي تشكل في نيسان 1980 عقب مقتل الإمام الصدر، وأصدر عدة بيانات بالمناسبة، إلا أن المجلس حُلّ بسبب عدم موافقة الإمام الخميني عليه عندما طُلب تأييده له، وكذلك لمعارضة الجناح الراديكالي في القيادة الإيرانية وعلى رأسه السيد مهدي الهاشمي مسؤول مكتب حركات التحرر والشيخ محمد منتظري أحد مؤسسي الحرس الثوري الإسلامي للمشروع، وللتقاطع الحاد في توجهاته مع توجهات السيد العسكري وخطه الفكري والسياسي، كما كان لذلك الجناح المدعوم من قبل آية الله الشيخ حسين علي منتظري- الرجل الثاني في إيران آنذاك – بديله الذي كان يسعى لطرحه في الساحة العراقية.
ويعتبر العلامة العسكري من كبار المؤرخين وكتاب السيرة النبوية في العالم الإسلامي وله العديد من أمهات الكتب في هذا المجال ومن كتبه:
1- عبد الله بن سبأ – ثلاثة أجزاء.
2- أحاديث أم المؤمنين عائشة – جزءان.
3- خمسون ومائة صحابي مختلق – ثلاثة أجزاء.
4- دور الأئمة في إحياء الدين – أربعة عشر جزءاً.
5- عقائد الإسلام من القرآن الكريم – جزءان.
6- معالم المدرستين – 3 أجزاء.
العلامة السيد محمد مهدي الحكيم:
ولد السيد محمد مهدي الحكيم في مدينة النجف الأشرف عام 1935، وهو الابن الثالث للمرجع الديني الإمام السيد محسن الحكيم.
تلقى علومه الإسلامية في الحوزة العلمية في النجف الأشرف على يد كبار أساتذتها. وقد خصه السيد محمد باقر الصدر "بدرس خاص في علم الأصول لا يخصه سواه"(18). من أساتذته الشيخ محمد تقي الفقيه "المرجع الديني الإمام الشيخ محمد تقي الفقيه المقيم حالياً في لبنان"، كما حضر دروس البحث الخارج عند آية الله الشيخ حسين الحلي، وحضر أيضاً دروس الأخلاق والمعارف الإسلامية عند آية الله الشيخ محمد أمين زين الدين وكذلك حضر لفترة قصيرة دروس زعيم الحوزة العلمية الإمام الراحل السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي.
يعتبر السيد مهدي الحكيم من الرواد الأوائل للحركة الإسلامية في العراق، وقد ساهم بجد في بعثها من جديد أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن العشرين وهو لم يزل بعد في مراحل شبابه الأولى. وقد انتقل من النجف الأشرف إلى بغداد أواخر عام 1963 ليمثل والده المرجع الأعلى في العاصمة،
كما كان من المؤسسين لجماعة علماء بغداد والكاظمية ليصبح هو والسيد العسكري المحور الرئيسي لها.
لعب السيد مهدي الحكيم دوراً أساسياً في التحرك الإسلامي الذي شهده العراق بعد عام 1963 وبعد عودة البعث – جناح ميشيل عفلق – إلى السلطة في تموز 1968 حاول النظام التخلص منه وذلك بأن ألصق به يوم 9/6/1969 تهمة التآمر على أمن الدولة والتعاون مع الأكراد في مقاومتهم للنظام والاتصال بدولة أجنبية. بعد ذلك أقدم النظام على تفتيش الدار التي نزل فيها الإمام السيد الحكيم خلال الزيارة التي كان يقوم بها إلى بغداد، بحجة البحث عن السيد مهدي الحكيم الذي اضطر إلى الانتقال خفيةً إلى النجف ومنها توجه عبر طريق (نجف – عرعر) الصحراوي إلى الأراضي السعودية حيث عرف نفسه للسلطات السعودية التي رحبت به وعرضت عليه الإقامة هناك إلا أنه اعتذر عن ذلك وطلب تسهيل انتقاله إلى الأردن لمقابلة خاله علي حسن بزي سفير لبنان في العاصمة الأردنية عمان، الذي سهل له سفره إلى الباكستان حيث توجه إليها فاستقل فيها استقبالاً شعبياً حافلاً. وفي عام 1971 انتقل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بناء على طلب من أهالي دبي ليحل محل عالم المدينة الديني الذي توفى وبقي مكانه شاغراً.
وفي دبي تولى الإشراف على العديد من المشاريع أهمها تأسيس مجلس الأوقاف الجعفري المعترف به رسمياً، وبناء جوامع وتأسيس مكتبات ومدارس وجمعيات خيرية إسلامية امتد نشاطها إلى خارج دولة الإمارات. وبعد اندلاع الحرب العراقية/ الإيرانية في أيلول 1980 وامتداد ذراع النظام العراقي إلى كافة أرجاء دول الخليج العربي اضطر السيد مهدي الحكيم إلى مغادرة دولة الإمارات إلى القطر العربي السوري، فاستقر في دمشق لفترة من الزمن قبل أن ينتقل للإقامة في لندن وذلك بعد توسع الوجود العراقي على الساحة البريطانية، والتي
اتخذ منها منبراً لمخاطبة المجتمع الدولي والدفاع عن قضية الشعب العراقي. وفي عام 1982 أسس حركة الأفواج الإسلامية العراقية، وكان الهدف من تأسيسها جمع وتنسيق طاقات المعارضة العراقية في أوروبا، وجرياً على عادته أينما حل قام السيد مهدي الحكيم بتأسيس العديد من المشاريع في بريطانيا وذلك على النحو التالي:
1- رابطة أهل البيت الإسلامية العالمية، والتي عقدت أول مؤتمر لها في عام 1983 في لندن، وقد تم في ختام أعمال المؤتمر انتخاب السيد مهدي الحكيم أميناً عاماً لها. وتعتبر الرابطة من أهم مؤسسات العلامة السيد مهدي الحكيم وتضم عدداً كبيراً من الجمعيات الإسلامية العالمية، ومن بين أعضاء الهيئة الإدارية الأوائل لها: آية الله السيد محمد حسين فضل الله، وآية الله الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، والعلامة الحجة السيد سعيد أختر الرضوي، والعلامة الشيخ محمد علي التسخيري، والعلامة الحجة السيد محمد الموسوي الأمين العام للرابطة حالياً.
2- مركز أهل البيت: أسسه بالتعاون مع الدكتور محمد بحر العلوم عام 1983 ويعني بشؤون العراقيين داخل المملكة المتحدة.
3- لجنة رعاية المهجرين العراقيين: عملت اللجنة على توفير مساعدات مالية وعينية إلى المهجرين العراقيين في إيران وكان لها أثر في التخفيف من معاناتهم الإنسانية.
4- أشرف على تأسيس منظمة حقوق الإنسان في العراق التي كان لها دور كبير في فضح انتهاكات النظام وجرائمه بحق الإنسان والمجتمع العراقي في وقت كان فيه الغرب بأسره يقدم الدعم السخي لصدام حسين ونظامه ويزوده بأصناف مختلفة من أسلحة الدمار الشامل ووسائل إنتاجها.
تعرض السيد مهدي الحكيم منذ خروجه من العراق "لأربع محاولات
اغتيال"(19) نجا منها ولم يتمكن منه الجناة إلا في المحاولة الأخيرة أثناء زيارة كان يقوم بها إلى السودان بناءً على الدعوة الرسمية التي وجهت إليه من قبل قيادة الجبهة القومية الإسلامية لحضور مؤتمرها الثاني، وبعد عودته من اجتماع مع الدكتور حسن الترابي الأمين العام للجبهة تم اغتياله في محل إقامته في فندق الهيلتون مساء يوم 17/1/1988. وبعد تحقيق أجرته السلطات السودانية حول الحادث أعلن وزير الإعلام السوداني السيد عبد الله محمد أحمد في 21/تموز/1988: "أن أحد أعضاء البعثة الدبلوماسية العراقية في الخرطوم متورط في اغتيال المعارض العراقي- مهدي الحكيم – وأن السيارة التي استخدمها منفِّذ عملية الاغتيال تابعة للسفارة العراقية في الخرطوم"(20)، وقد طالبت السلطات القضائية السودانية من النظام العراقي رفع الحصانة الدبلوماسية عن الدبلوماسي الذي اقترف الجريمة لاستجوابه أمام المدعي العام السوداني إلا أن النظام الحاكم في بغداد لم يستجب للطلب وقرر سحب سفيره من الخرطوم، مما جعل القضاء السوداني يصدر قراراً بالحفاظ على ملف التحقيق.
آية الله السيد محمد باقر الحكيم:
ولد السيد محمد باقر الحكيم نجل الإمام الراحل السيد محسن الحكيم في مدينة النجف الأشرف عام 1939.
تلقى السيد محمد باقر الحكيم علومه الحوزوية على يد أخيه آية الله السيد يوسف الحكيم، وآية الله السيد محمد حسين الحكيم، وواصل بعد ذلك حضور دروس الإمام السيد محمد باقر الصدر لمدة تزيد على 20 عاماً، كما حضر بحوث زعيم الحوزة العلمية الإمام السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي.
وقد منح إجازة الاجتهاد في الفقه وأصوله من قبل الإمام الشيخ مرتضى آل ياسين، كما عرف بتخصصه بعلوم القرآن الكريم.
يعتبر آية الله السيد محمد باقر الحكيم من أساتذة الحوزة البارزين في النجف الأشرف، كما عمل أستاذاً في كلية أصول الدين في بغداد لمادة علوم القرآن والفقه المقارن من عام 1964 وحتى عام 1975. كما ساهم في تأسيس "مدرسة العلوم الإسلامية" في النجف الأشرف.
عمل آية الله السيد محمد باقر الحكيم في جهاز مرجعية والده الإمام السيد محسن الحكيم، فكان مسؤولاً عن رعاية شؤون الطلبة العراقيين الجدد في الحوزة، كما كان مسؤولاً عن بعثة الحج الدينية التابعة للإمام السيد الحكيم خلال الفترة من عام 1960-1968.
شارك مع أخيه السيد مهدي الحكيم ي حضور المؤتمر الإسلامي الذي عقد في عمان في الأردن أعقاب نكسة حزيران 1967 ممثلين للمرجع الأعلى الإمام السيد الحكيم.
كما كان له دور متميز في جهاز مرجعية الإمام السيد الصدر الذي وصفه في كتبه بالعضد المفدى.
اعتقل آية الله السيد محمد باقر الحكيم مرتين من قبل نظام البعث – جناح ميشيل عفلق- وحكم عليه بالسجن المؤبد في انتفاضة صفر – شباط 1977 وأطلق سراحه في العفو العام الذي أصدره الرئيس أحمد حسن البكر في تموز 1978.
غادر العراق بشكل سري إلى القطر العرب السوري في تموز 1980 بعد اشتداد الهجمة على الحركة الإسلامية في القطر، وبعد عدة أشهر غادر دمشق إلى طهران عن طريق تركيا. حيث حلَّ ضيفاً على الإمام الخميني الذي خصص له منزلاً مجاوراً لمقره في منطقة جمران شمالي العاصمة الإيرانية.
تولى السيد محمد باقر الحكيم عدة مسؤوليات بعد وصوله إلى الجمهورية
الإسلامية في إيران منها:
- الأمين العام لجماعة العلماء المجاهدين في العراق التي شكلت عام 1980.
- المشرف على مكتب الثورة الإسلامية في العراق.
- الناطق باسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي أعلن عن تشكيله في 17/11/1982.
- رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بعد انتخابه في الدورة السادسة للمجلس الأعلى في كانون أول 1986.
كما كانت له في إيران نشاطات ثقافية، وعلمية إضافة إلى نشاطاته السياسية، فكان أحد المؤسسين لـ(المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية) ليصبح رئيساً له و(المجمع العالمي لأهل البيت) الذي تولى منصب نائب الرئيس فيه.
للسيد محمد باقر الحكيم عدد كبير من المؤلفات وهي:
1- المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن.
2- علوم القرآن.
3- القصة في القرآن.
4- ثورة الإمام الحسين.
5- الظاهرة الطاغوتية في القرآن.
6- الوجه الآخر للنظام العراقي.
7- أفكار ونظرات جماعة العلماء.
8- النظرية الإسلامية في التحرك السياسي.
9- الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق.
10- الهدف من نزول القرآن وإثارة على منهجه في التغيير.
11- حقوق الإنسان من وجه نظر إسلامية.
12- لمحة عن مرجعية الإمام الحكيم.
13- مجموعة تفاسير لسور الحشر، الصف، الجمعة، المنافقين، التغابن.
14- مقدمة التفسير وتفسير سورة الحمد.
15- نظرات في تاريخ التحرك السياسي العراقي.
16- التصورات السياسية للشهيد الصدر.
17- دور الفرد في النظرية الاقتصادية الإسلامية.
18- العلاقة بين القيادة الإسلامية والأمة.
19- دعبل بن علي الخزاعي.
20- القدوة الصالحة في الإسلام.
21- الكفاح المسلح في الإسلام.
22- النظرية الإسلامية في العلاقات الاجتماعية.
23- منهج التزكية في القرآن.
24- النظرية السياسية للشهيد الصدر.
25- أهل البيت (ع) ودورهم في الدفاع عن الإسلام.
26- الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين.
27- دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة.
28- الجهاد.
29- العلاقة بين القيادة والأمة.
30- الشباب أمل المستقبل.
31- حوارات.
32- القضية الكردية من وجهة نظر إسلامية.
33- الصراع الحضاري والقضية الفلسطينية.
34- العراق تصورات الحاضر والمستقبل.
35- أزمة الخليج.. الأسباب والنتائج.
36- الجماعة الصالحة.
الحاج محمد صادق عبد الأمير صادق القاموسي:
ولد في مدينة النجف الأشرف عام 1922 أكمل دراسته في منتدى النشر وكان فيها من المتفوقين.
واصل دراسته الحوزوية على يد آية الله الشيخ محمد رضا المظفر.
انتخب عضواً في الهيئة الإدارية لجمعية منتدى النشر ومحاسباً في الجمعية ثم مدرساً فيها.
أشرف على مجلة (البذرة) التي تصدرها اللجنة الطلابية في مدرسة منتدى النشر.
يعتبر القاموسي من الشعراء المجيدين في النجف الأشرف، وله عدد كبير من القصائد والعديد من المؤلفات هي:
1- مشاكل المجتمع.
2- محاضرات إبليس.
3- المقداد بن عمر.
انصرف إلى تجارة الكتب والمطبوعات منذ نهاية الستينيات وحتى وفاته في بغداد عام 1988.
الهوامش:
1- الحكيم، محمد باقر: النظرية السياسية عند الشهيد الصدر (قدس سره). ص5 (محدود التداول).
2- نخبة من الباحثين: ص511 مصدر سابق.
3- الحكيم، مهدي: مذكرات، ص 39 مصدر سابق.
4- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في 4/5/1998. مصدر سابق.
5- نفس المصدر السابق.
6- الحكيم، مهدي: مذكرات، ص38 مصدر سابق.
7- المصدر السابق، ص38.
8- جريدة العراق، ع(128) في 15/3/1993.
9- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 20/10/1995.
10- نفس المصدر السابق.
11- الحكيم، مهدي: مذكرات، ص43 مصدر سابق.
12- العسكري، مرتضى: مقابلة خاصة (دمشق) بتاريخ 25/8/1993.
13- نخبة من الباحثين، ص46 مصدر سابق.
14- المصدر السابق، ص108.
15- مجلة النور، السنة 7، ع75، آب 1997، ص8.
16- الحكيم، محمد باقر: النظرية السياسية ص 60 مصدر سابق.
17- العسكري، مرتضى: مقابلة خاص – مصدر سابق.
18- العراقي، سليم: لماذا قتلوه، ص 23 ط1 إيران- قم مؤسسة المنار للطباعة والنشر، 1995.
19- المصدر السابق، ص 183.
20- المصدر السابق.
الفصل الخامس
بــدء المسيـرة
خطوات على الطريق:
بدأت الدعوة بالتحرك بعد تشكل القيادة مستفيدة من أجواء الحرية النسبية التي وفرتها ثورة تموز/1958 "فكان أول العمل في النجف الأشرف مع طلاب الثانويات وذلك لأن النجف هي المنطقة التي انبثقت منها الدعوة"(1)، وقبل العمل بين طلبة الثانويات تحركت الدعوة على طلبة وفضلاء الحوزة العلمية رغم ما كان يكتنف العمل الحزبي في ذلك الوسط من صعوبات، واستطاعت ضم عدد من الحوزويين ومن مختلف المستويات العلمية. وقد اتسم العمل الحزبي خلال تلك الفترة بالعفوية والبساطة وكان التنظيم بدائياً ومفتوحاً؛ يقول السيد مهدي الحكيم "كان الكسب يتم عن طريق معرفتنا للأشخاص حيث ندعو من نريد إلى الاجتماع فيتعرف على الباقين ودعوتنا له بعنوان (حزب)" (2)، بعد ذلك "طلب السيد الصدر من السيد مهدي الحكيم إعداد قائمة بأسماء وكلاء والده الإمام السيد الحكيم في مختلف مناطق العراق"(3) وكان يعرفهم فرداً فرداً، وبعد إعدادها قام السيد الصدر بفرز من يعتقد بإمكان استجابتهم للتنظيم في حال مفاتحتهم به، ليقسمهم إلى ثلاث مجموعات أو أقسام؛ قسم قرر هو أن يفاتحهم شخصياً على أن يتولى مفاتحة القسم الآخر السيد مهدي، أما القسم الثالث فأوكل أمره إلى السيد مرتضى العسكري.
وقد استطاع السيد الصدر "بما يملك من فكر وأخلاقية وروح قيادية وإيمان بقضيته"(4) من أن يضم أغلب من فاتحهم إلى التنظيم، وإضافة إلى الكسب
الحزبي فإن اجتماعات القيادة كانت "تعقد في داره في مدينة النجف الأشرف مرتين في الأسبوع"(5)، وكان التنظيم الدعوتي قد انتقل من النجف إلى كربلاء وبغداد في وقت واحد تقريباً، وتولى الحاج محمد صالح الأديب مسؤولية العمل الحزبي في كربلاء فيما تولى السيد مرتضى العسكري مسؤولية تنظيم بغداد. ومن أوائل الأشخاص الذين تم كسبهم في بغداد المهندس محمد هادي عبد الله السبيتي، وكان قبيل ذلك منتمياً إلى حزب التحرير الإسلامي، وقبله إلى حركة الإخوان المسلمين، وقد لعب السيد مهدي الحكيم دوراً مهماً في تغيير قناعاته وعن ذلك يقول "أما .. [محمد هادي السبتي] فقد كان في (حزب التحرير) وعقدت مباحثات بيني وبينه في الكاظمية، وكان يمتاز بالموضوعية، ولم يكن لديه أي مانع إذا آمن بشيء مخالف لما هو فيه فإنه يترك وضعه السابق، واستغرقت محادثاتنا عدة جلسات في الكاظمية إلى أن وصل إلى قناعة تامة وقال؛ "أنا الآن اقتنعت ولذلك فأنا مستعد"، وكان .. [محمد هادي السبيتي] في ذلك الوقت متخرجاً من الجامعة وقد تعرفت عليه من خلال (السيد مرتضى العسكري) و(السيد طالب الرفاعي)" (6)، وبعد ذلك تمت مفاتحة السبيتي من قبل السيد مرتضى العسكري وضمه إلى حلقة كان يديرها في بغداد.
ومن بين الرعيل الثاني الذي انتمى للدعوة نذكر الأسماء التالية:
1- السيد محمد بحر العلوم (الدكتور محمد بحر العلوم أمين عام مركز أهل البيت في لندن).
2- السيد عدنان البكاء (نُصّب الدكتور عدنان البكاء من قبل النظام فيما بعد عميداً لكلية الفقه في النجف الأشرف).
3- السيد فخر الدين العسكري (أستاذ اللغة العربية في جامعة الإمام الصادق (ع) في طهران).
4- الشيخ عبد الهادي الفضلي (الدكتور عبد الهادي الفضلي أستاذ
جامعي).
5- السيد علي العلوي (توفي).
6- الحاج خضر.
7- محمد حسين الأديب (مشرف تربوي).
8- السيد إبراهيم المراياتي.
9- السيد حسن شبر (المحامي حسن شبر).
10- الشيخ مهدي السماوي (عالم مدينة السماوة أعدم عام 1979).
11- السيد داوود العطار (الدكتور داوود العطار، توفي عام 1983).
وبعد أن أصبح عدد الدعاة مناسباً تشكلت الحلقات الحزبية بعد أن كانت الاجتماعات مفتوحة، فكان السيد الصدر مسؤولاً عن عدد من الحلقات، منها حلقة ثقافية ضمت فضلاء الحوزة وكان "يلقى فيها أفكاراً ثقافية وتنظيمية أخذت طريقها بعد ذلك إلى النشر من خلال كتب الشهيد الصدر ومقالاته"(7).
كما كان السيد محمد باقر الحكيم مسؤولاً عن حلقات أخرى، وكذلك السيد مهدي الحكيم الذي "كان أكثر أعضاء القيادة كسباً للأفراد"(8). أما حلقات بغداد فكانت تدار من قبل السيد العسكري.
وكان التنظيم قد انتقل بعد النجف وكربلاء وبغداد إلى البصرة عن طريق أحد الشخصيات القيادية البارزة في الدعوة ومن أوائل الدعاة فيها الشيخ عارف البصري. ومن البصرة إلى كافة مناطق جنوب العراق "وفي أواخر عام 1958 امتد العمل التنظيمي إلى الجامعات"(9). وفي بداية عام 1959 عقدت الدعوة أول مؤتمر لها في مدينة كربلاء حضره (15) من أعضاء القيادة والكادر الحزبي،
تم فيه استعراض الوضع السياسي القائم وقضايا تنظيمية وكان السيد الصدر "يدير الاجتماع ويطرح المواضيع والتصورات ثم يجمع الآراء ثم يقررها"(10)، وفي ختام أعمال المؤتمر الذي استمر ليوم واحد، تم إقرار خطة عمل كان قد اقترحها السيد الصدر لدعم المرجعية المتمثلة بالإمام السيد محسن الحكيم في صراعها مع المد الشيوعي الذي أخذ يجتاح العراق. ومن الجدير ذكره أن "الاجتماعات الأولية للدعوة كانت تُراقب مراقبة دقيقة من قبل الشيوعيين مما كان يسبب بعض الإحراج للمجتمعين"(11)، أما فيما يتعلق بعلاقات الدعوة مع الأحزاب والحركات الإسلامية العاملة على الساحة العراقية، فإن الدعوة كلفت السيد مهدي الحكيم وهي لم تزل بعد في أول الطريق بالاتصال بالشيخ عز الدين الجزائري مؤسس منظمتي الشباب المسلم والعقائديين وذلك من أجل توحيد العمل الإسلامي، إلا أنها لم تفلح، وسار العمل في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينات في خطين؛ خط حزب الدعوة وخط منظمتي الشباب المسلم والعقائديين. وقد أعادت الدعوة محاولاتها للاتصال بالجزائري فكلفت السيد محمد باقر الحكيم للقيام بتلك المهمة، فقام بالتحدث معه حول الموضوع "فأنكر أن يكون لهم أشخاص عاملون وذكر اسم أحد البائعين البسطاء في سوق العمارة"(12)، فأدرك السيد محمد باقر الحكيم أن الشيخ يأبى الاستجابة لفكرة التعاون.
وقد شهدت السنوات اللاحقة امتداداً لحزب الدعوة وانحسار منظمتي الشباب المسلم والعقائديين وذلك لأسباب منها وجود شخصيات علمية متفوقة في طرحها الفكري والسياسي مثل السيد محمد باقر الصدر ومعه عدد كبير من العلماء الذين ينتمون إلى جهاز مرجعية الإمام الحكيم الذي كان يحتضن مؤسسي الحزب وكوادره، وكذلك لوجود عناصر من ذوي الخبرة في العمل السياسي والاجتماعي اكتسبوها من تجارب سابقة في هذا المضمار، ولهذا ولغيره من الأسباب صار ثقل الدعوة أكبر بكثير من ثقل كلا التنظيمين؛ الشباب المسلم
والعقائديين، ولم تقتصر اتصالات الدعوة على المنظمتين المذكورتين وإنما تعدتهما إلى فتح قنوات مع الأحزاب الإسلامية الأخرى، فتم الاتصال بحزب التحرير "وقسم من الإخوان المسلمين على أساس عمل إسلامي عام"(13). وقد انعكس ذلك على علاقة المرجعية الدينية بالحزب الإسلامي الذي شكله الأخوان المسلمين كواجهة لعملهم "فقام الإمام الحكيم باستقبال قادة (الحزب الإسلامي) الذي أسسه مجموعة من أبناء السنة وامتنعت حكومة (عبد الكريم قاسم) من إجازته بعد أن أجازت مجموعة من الأحزاب السياسية ومنها الحزب الشيوعي العراقي مثلاً، وقدم الإمام الحكيم توجيهاته إلى قادة الحزب، ودعم فكرة هذا النوع من الأعمال"(14).
وكانت إحدى نشرات الدعوة قد تناولت موضوع الحزب الإسلامي بعد إجازته من قبل وزارة الداخلية تحت عنوان الحزب الإسلامي المجاز.
ثقافة الدعوة:
انصب اهتمام القيادة منذ بدايات التأسيس على تكوين ثقافة حزبية خاصة بالدعوة و"أول نشرة تنظيمية كتبت لتنير طريق العمل كانت موضوع المراحل، فقد اجتمعت النواة الأولى للدعوة في حلقة لتبحث كيفية سير الدعوة، وقد تبلور الموضوع بنقاش اشترك فيه الجميع بدرجة من الاستيعاب تلفت النظر. ثم كلف أحد الأعضاء بكتابة الموضوع ... وهكذا فإن العديد من الأفكار التنظيمية التي هي الآن من بديهيات عملنا، خرجت إلى النور بعد معاناة ونقاش"(15)، وقد اضطلع السيد بما له من مؤهلات علمية عالية واطلاع واسع على ثقافات عصره بمهمة "الإشراف الفكري والشرعي والتنظير الفكري والثقافي"(16) فكان من بين أوائل النشرات التي كتبها نشرة بعنوان "دعوتنا إلى الإسلام يجب أن تكون انقلابية"(17). ولم يمض وقت طويل حتى شرع السيد الصدر بكتابة
أطروحته عن الحكومة الإسلامية التي لم يكن شكلها ولا أساسها واضحاً في الوسط الحوزوي ولا في غيره.
وكما يقول السيد مهد الحكيم "كان حزب التحرير يملك نظاماً ولكننا لم نكن نعتقد به وبحزب الإخوان المسلمين لأنهم لا يملكون شكلاً واضحاً للحكومة الإسلامية"(18). وقد أبدع السيد الصدر فيما فاض به قلمه، فكانت أطروحته كما يصفها السيد مهدي الحكيم "من أروع ما يكون، وفي وقتها لم نكن نتصور أنها بهذا الشكل من الروعة، فهي تحتوي على تصورات لدولة فيها رقابة شعبية كلل مرحلة من مراحل السلطة التنفيذية، وهناك مجلس شورى محلي إلى جانب هذه الرقابة"(19).
وقد وضع السيد الصدر أسس الحكومة الإسلامية تلك بالاستناد إلى آية الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، "الدالة على إمكان إقامة الحكم الإسلامي على قاعدة الشورى باعتبار أن الحكم وإقامة الدولة يمثل أمراً مهماً من أمور المسلمين ولا يمكن تجاهله في مجتمعهم لأن التجاهل يؤدي إلى تهديد أصل الدين بالإضافة إلى سيطرة الكفار وعقائدهم على المجتمع الإسلامي. ولابد من الالتزام بحكم الأكثرية في الشورى لأن الإجماع في الأمور الاجتماعية أمر نادر، وهذا يعني أن إقامة الحكم على أساس الشورى يعني الرجوع إلى الأكثرية وإلا تعطلت آية الشورى ولم يكن لها مدلول عملي"(20).
وفيما يلي استعراض بعناوين الأسس وترتيبها(21):
- الأساس رقم (1) [الإسلام].
- الأساس رقم (2) [المسلم].
- الأساس رقم (3) [الوطن الإسلامي].
- الأساس رقم (4) [الدولة الإسلامية].
- الأساس رقم (5) [الدولة الإسلامية دولة فكرية]
- الأساس رقم (6) [شكل الحكم في الإسلام].
- الأساس رقم (7) [تطبيق الشكل الشوري للحكم في ظروف الأمة الحاضرة].
- الأساس رقم (8) [الفرق بين أحكام الشريعة والتعاليم].
- الأساس رقم (9) [مهمة بيان أحكام الشريعة وتعيين القضاة ليستا من مهام الحكم].
- الأساس رقم (10) [المقياس في السياسة الخارجية للدولة].
- الأساس رقم (11) [موقف الدعوة والدولة من النفوذ الكافر].
- الأساس رقم (12) [دعوتنا إلى الإسلام دعوة تغييرية].
- الأساس رقم (13) [من أين يبدأ التيار التغييري في الأمة؟].
وكان قد تم استنساخ الأسس على ورقة (كاربون) وتوزيعها على أعضاء القيادة لقراءتها وإبداء الملاحظات عليها، بناء على طلب السيد الصدر الذي كان يعتقد جازماً أن أسس الحكومة الإسلامية يجب أن تعرض على مجتهدين آخرين قبل تبنيها.
وفي اجتماع لاحق للقيادة "عرض السيد الصدر ما دار بينه وبين السيد الخوئي عندما زاره لعرض الأسس عليه"(22)؛ يقول السيد الصدر: ذهبت إلى السيد الخوئي وشرحت له وضع المجتمع وضرورة وجود دولة إسلامية وقلت له بغير وجود حزب منظم يتبنى مذهب أهل البيت (ع) ويعرض الإسلام الحقيقي الذي أتى به الرسول (ص)، بغير هذا لا يمكن إقامة الدولة. فاستبشر السيد الخوئي بذلك وقال: هذا هو الذي يجب أن يكون، وعندما ذكرت له – والقول
للسيد الصدر- بأننا شكلنا هذا الحزب، فرح للغاية. بعد ذلك عرضت عليه الأسس وطلبت منه إبداء ملاحظاته عليها فاستلمها ووعد بذلك. وبعد إطلاع السيد الخوئي على الأسس ناقشها معه في جلسة أخرى، فكانت له العديد من الملاحظات عليها، من أهمها عدم قبوله بدلالة آية الشورى على الحكم الإسلامي، وكذلك إشكاله على ما يتعلق بموضوع المرتد الفطري والمرتد الملي. حيث جاء في الأسس أن توبة المرتد الفطري تقبل في زمن الشبهة، وهذا خلاف رأي باقي العلماء الذين كانوا يرون أن توبة المرتد الفطري لا تقبل وتقبل توبة المرتد الملي الذي يسلم ثم يرتد ثم يسلم، يقول السيد الصدر؛ فبدأت أناقش السيد الخوئي في إشكاله وكان النقاش ينصب حول (الحاد الشيوعيين) وهؤلاء حسب العرف السائد مرتدون فطريون لذا فلو أقمنا الدولة الإسلامية هل نعتقلهم، وإذا شهد عليهم الشهود بالردة هل نقيم عليهم الحد ونقتلهم، الحل غير عملي (والكلام لا زال للسيد الصدر)، بعد ذلك أخذ النقاش بين السيدين منحى فقهياً خلص فيه السيد الصدر إلى اعتبار هذا الزمن زمن شبهة (بالاصطلاح الفقهي) فيما إذا أقيمت الدولة الإسلامية وبذلك يمكن أن تقبل توبة المرتد الفطري، فوافق السيد الخوئي السيد الصدر فيما ذهب إليه من حكم شرعي. بعد ذلك عرض السيد الصدر الأسس على "خاله الشيخ مرتضى آل ياسين. فيما عرضت نسخة من الأسس على الشيخ حسين الحلي وإن كان موقفه الفكري مغايراً. وقد ظلت الأسس مادة للتثقيف المركزي في حلقات الدعوة لسنوات عدة "وذلك حتى قيام الحكم العارفي"(23).
وبالإضافة إلى الأسس كانت هناك مواد فكرية أخرى – غير متبناة – تندرج في برنامج الحلقة وهي بيانات جماعة العلماء وما تنشره مجلة الأضواء. وعدا عن ذلك "لم يكن هناك من مادة ثقافية أخرى مقررة في الحلقات سواء كانت من فكر التحرير أو الإخوان أو من كتب المودودي أو سيد قطب، قد تقرأ بصفة شخصية من قبل الدعاة ولكن من دون قرار صادر من القيادة"(24).
ومما تجدر الإشارة إليه أن السيد الصدر لم يكن هو الوحيد الذي يحرر نشرات الدعوة التي كانت تصدر بشكل متفرق وذلك قبل صدور النشرة المركزية، فإلى جانبه كان هناك قياديون آخرون شاركوه في الكتابة منهم السيد العسكري الذي كتب العديد من المواضيع والسيد محمد باقر الحكيم الذي ساهم هو الآخر بكتابة مواضيع أخرى من بينها نشرة "موقفنا من القومية العربية". كما كان للسيد مهدي الحكيم نصيب في كتابة النشرات، ومن بين ما كتب نشرة بعنوان "تحديد مرحلتنا الحاضرة" وهي غير نشرة "حول رحلتنا الحاضرة" التي صدرت في جمادي الأول 1401هـ. كذلك كان مقرراً أن يكتب السيد الصدر بحثاً حول "شكل الحكم في الدولة الإسلامية"(25)، وكان يناقش القيادة في ذلك خلال اجتماعاتها، وقد بدأ بالكتابة بالفعل إلا أنه لم يكمله لأسباب لا زالت غير معلومة، وتنبع أهمية الموضوع من كونه لم يعالج حتى ذلك الحين "في نص خاص على مذهبي الشيعة والسنة معاً"(26)، (فقد سأل السيد العسكري في وقت لاحق الإمام السيد محسن الحكيم عن شكل الحكومة الإسلامية فأجاب: "نرجع في ذلك إلى أهل الخبرة"(27)؛ ومن المؤكد أن أهل الخبرة المعنيين هم الحقوقيون والخبراء الدستوريون).
(ولم يقتصر اهتمام الدعوة على النشر الخاص وإنما تعداه إلى النشر العام أيضاً ذلك أن قيادة الدعوة وجدت وبعد دراسة وتمحيص أن ما تفتقد إليه المكتبة الإسلامية آنذاك هو كتب السيرة النبوية الشريفة، وتلك المتعلقة بحياة أئمة أهل البيت (ع) وقد تم تكليف السيد العسكري بملء هذا الفراغ باعتباره صاحب اختصاص في هذا الباب، كما تقرر تكليف من لهم القدرة والموهبة على التأليف من الدعاة لطرح نتاجهم في مختلف جوانب المعرفة) التي اشتدت الحاجة إليها بعد طغيان التيار الماركسي على الساحة وتمكنه من اجتذاب قطاعات واسعة من المجتمع بشعاراته البراقة ووعوده الزائفة، فازداد تبعاً لذلك عدد المنتسبين للحزب الشيوعي العراقي – وجلّهم من الشباب – دون أن يكون للأعضاء الجدد أي
إطلاع حقيقي على جوهر الماركسية وعلى حقيقة أهداف الشيوعيين... وهذا ما أثار قلق المرجعية الدينية إلى ما سيؤول إليه مصير الناس ومنقلبهم في ظل المناخ السياسي والفكري القائم.
وقد عبر الإمام الحكيم عما يساوره بهذا الشأن لولده السيد مهدي بالقول؛ "أني أرى الكثير من الناس أصبحوا شيوعيين وهؤلاء الشيوعيون مجرمون وقد ظللوا الناس بحجة أن الإسلام يدعو إلى المساواة بين الفقير والغني وأن الشيوعية تعمل كذلك، وعليه فقد أصبح كثير من الناس شيوعيين- وخصوصاً الشيعة-بحجة أن علي بن أبي طالب (ع) مدرسة للفقراء والمستضعفين والمحرومين والشيوعية تدافع عنهم"(28). واستطرد الإمام الحكيم في حديثه قائلاً؛ "نحن بحاجة إلى كتاب يطرح الشيوعية والإسلام ويقارن بينهما من أجل إيضاح الحقيقة للناس فإذا كان ممكناً قل للسيد الصدر أن يكتب هذا الكتاب"(29)، وعن رد السيد الصدر على طلب الإمام الحكيم يقول السيد مهدي: "أخبرت السيد الشهيد الصدر (رض) عن لسان المرحوم السيد (رض) بذلك فوافق على الفكرة وكتب فلسفتنا، وأعطينا الكتاب في وقتها إلى الرقابة فمنعته، ثم أعاد السيد الشهيد (الصدر) النظر في الكتاب وصاغه مرة ثانية ثم طبع بعد موافقة الرقابة"(30)، وقد شاءت الصدف أن تتم طباعة الكتاب الذي أنجز في فترة قياسية لا تتجاوز الـ (10) أشهر في نفس المطبعة التي كان الشيوعيون يطبعون جريدة لهم فيها، وكان يشرف على طباعتها حسن عوينه عضو لجنة الفرات الأوسط للحزب. ويذكر السيد محمد باقر الحكيم الذي كان يشرف على طرع الكتاب: "أن الشرر كان يتطاير من أعنيهم عندما كنت أراجع المسودات في المطبعة"(31)، وقد أحدث صدور فلسفتنا الذي خرج إلى الأسواق عام 1959 الأثر المطلوب، فانتشر بسرعة فائقة داخل العراق وخارجه وقد أعيد طبعه مرات عدة.
وعلى العموم فقد طرحت الدعوة في تلك الفترة "أفكاراً إسلامية مبلورة كان لها تأثير سياسي جيد في أجواء كان ينتقد فيها الفكر الإسلامي علانية"(32) واستمر الدعاة في رفد المكتبات بسيل لا ينقطع من إنتاجهم المتنوع والذي كان له أبلغ الأثر في خلق تيار إسلامي عريض في العراق في فترة لم تتجاوز العقد من الزمان.
نشاطات الدعوة في ظل المرجعية
تأثرت الدعوة وهي في بداياتها بأجواء الصراع السياسي والحزبي الذي ساد العراق في أعقاب إعلان الجمهورية العراقية في 14/تموز/1958 إلا أنها لم تكن قادرة على التأثير في مجريات الأحداث ولا المشاركة فيها بشكل مباشر لاعتبارات عدة، في مقدمتها حداثة تكوينها ونقص إمكاناتها والطابع السري الذي اتسم به عملها. ومع ذلك فقد أتيحت لها الفرصة لخوض غمار العمل السياسي من بابه الواسع من خلال جماعة العلماء في النجف الأشرف التي تشكلت بتوجيه من الإمام السيد محسن الحكيم الذي قام "بالمساهمة مع بقية العلماء المنضوين تحت هذا التشكيل بتأسيس ودعم جماعة العلماء التي كانت تضم كبار علماء النجف الأشرف من الطبقة الثانية والثالثة بعد المراجع الكبار والذين كانوا ينطلقون في نشاطاتهم وتصوراتهم من أهداف المرجعية"(33).
وقد شاركت الدعوة في كافة نشاطات جماعة العلماء كإقامة الاحتفالات والمهرجانات الخطابية في المناسبات الدينية وكتابة النشرات وتوزيعها "عن طريق البريد أو مع المبعوثين إلى المناطق ممن تبعثهم الجماعة، أو مع الوفود التي كانت تؤم النجف الأشرف للزيارة"(34). وكان السيد الصدر قد كتب المنشور الأول للجماعة وذلك بتوجيه مباشر من الإمام السيد محسن الحكيم الذي كان "يدعم ويصرف على المنشورات والاحتفالات التي تقيمها جماعة العلماء بل حتى
الإشراف على كيفية كتابة المنشورات ومن هو الذي يكتبها"(35). وقد وصف المنشور الأول الذي كان خطابياً أكثر من كونه فكرياً، عبد الكريم قاسم بـ(نصير الإسلام) بعد أن كان الشيوعيون ينعتونه بـ (نصير السلام) وذلك لكسبه إلى صف الدين وأهله. وقد أذيع المنشور من إذاعة بغداد بصوت السيد هادي الحكيم وهو من خطباء المنبر الحسيني البارزين.
وكان "نشر هذا البيان من الإذاعة شيئاً مهماً جداً في ذلك الوقت، وله تأثير كبير على نفوس الناس وخاصة في تلك الفترة التي سيطر فيها الشيوعيون على الشارع بكل معنى الكلمة"(36)، وقد أثارت إذاعة المنشور من دار الإذاعة احتجاج الشيوعيين "وأرادوا عدم نشره ولكنهم لم يفلحوا"(37). أما المنشور الثاني فتضمن دراسة للأوضاع السياسية، وكتبه أيضاً السيد الصدر الذي كان له دور أساس في التخطيط لنشاطات الجماعة إلا أن ذلك لا يعني "أن الشهيد الصدر (رض) كان وراء تأسيسها، بل كان العلماء والمرجعية وراء تأسيسها، وإنما لأن التنظيم الناشئ (حزب الدعوة) كان يؤمن بضرورة هذه الواجهة وهذه المفردة في تلك المرحلة واهتمام الشهيد (الصدر) بها وكذلك التنظيم كان ينطلق من هذا التصور. وإلا فإن في جماعة العلماء من كان لا يؤمن بالتنظيم وكان يحذر ويحتاط من إلصاق هذه التهمة بالجماعة ويسعى لإيجاد مشاكل في وجهه، كما أنها كانت تحظى بدعم وتأييد قطاعات كبيرة جداً في الأمة أوسع من التنظيم الذي بدأ تأسيسه في أجواء تأسيس جماعة العلماء، ومقترناً معه تقريباً. كما أن تأسيس الجماعة كان بمبادرة من الإمام الحكيم وبعض العلماء وأجهزة المرجعية آنذاك"(38). كما كان للدعوة حضور فعال وسط (أنصار جماعة العلماء) وهو تجمع جماهيري أخذ بالتوسع في المدن والأرياف بعد أن كانت بدايته في مدينة النجف الأشرف، وقد شكل الدعاة وأصدقاؤهم نواته الحقيقية، منهم "السيد مهدي الحكيم، السيد مرتضى العسكري، السيد محمد حسين فضل الله، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الشيخ محمد أمين زين
الدين- من رواد الحركة الإسلامية وهو صديق وأستاذ لهؤلاء الشباب -، الشيخ عبد الهادي الفضلي، الشيخ محمد باقر الناصري .. وآخرون"(39). وبعد توقف منشورات الجماعة- التي صدر منها سبعة وكتبها السيد الصدر جميعاً- قررت الجماعة إصدار مجلة باسم الأضواء. وكان أصل المشروع وبدايته عندما "تقدم السيد مرتضى العسكري والسيد مهدي الحكيم بالفكرة إلى السيد الحكيم (المرجع) الذي أعطى بدوره توجيهاته بإصدارها من قبل جماعة العلماء وباسمها"(40)، وكان أساس تلك الفكرة كما يذكر المصدر، السيد الصدر نفسه. وبعد ذلك تشكلت لجنة توجيهية للإشراف على المجلة، ضمّت كل من: السيد محمد حسين فضل الله، الشيخ عبد الهادي الفضلين الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الشيخ محمد رضا الجعفري، السيد محمد باقر الحكيم، وكان السيد الصدر يتولى شخصياً كتابة الإفتتاحية باسم جماعة العلماء تحت عنوان (رسالتنا). ولم تلبث (الأضواء) حتى تألق نجمها وازداد الطلب على أعدادها بسبب وجود تلك الأقلام التي كانت تطرح في الحقيقة "فكر حزب الدعوة الإسلامية الذي طغى على ذوق المجلة حتى يمكن القول أن هذه المجلة كانت لسانا ناطقاً للحزب، وذلك يعود إلى أن أكثر العلماء الذين يكتبون فيها كانوا أعضاء في الحزب"(41)، ما أثار حفيظة القوى المناهضة للتيار الإسلامي والتي وجدت في ذلك المنبر الإعلامي مفاجأة لم تكن تتوقعها، مما جعلها هدفاً لهجمات جهات عدة، منها إيران الشاه التي شنت استخباراتها حملة منظمة ضد (الأضواء) ومحرريها، فأشاعت عبر مصادرها الخفية داخل الحوزة بأن ما ينشر في المجلة "لا يمثل سوى أفكار السيد الصدر وصحبه الشباب وأنها لا تمثل رأي شيوخ الجماعة وكبار العلماء فيها"(42)، وهو ادعاء غير واقعي ولا أساس له من الصحة، لأن المجلة كان يشرف عليها كبار العلماء بالفعل، وكان الدافع الحقيقي وراء تلك الهجمة قيام المجلة بنشر رسائل وأخبار تتحدث عن علاقة الشاه بإسرائيل، ومن بينها رسالتان أرسل إحداهما الإمام الحكيم إلى ممثله في
طهران آية الله بهبهاني يستنكر فيها قيام الحكومة الإيرانية بالاعتراف بإسرائيل [راجع الوثيقة رقم1] وأخرى بنفس المعنى أرسلتاه جماعة العلماء إلى الإمام السيد حسين البروجردي [راجع الوثيقة رقم2] يضاف إلى ذلك قيام السيد الصدر بمهاجمة إسرائيل والسياسة الأمريكية المحابية لها في المنطقة، وذلك في إحدى الافتتاحيات التي كتبها باسم الجماعة. كما تعرضت الأضواء إلى حملات متلاحقة من جانب القوى المحافظة في الحوزة التي اصطدم خطها الفكري والسياسي مع توجهات تلك القوى، وكذلك من جماعة منتدى النشر "عدا الخط الذي اندمج منها بالدعوة طبعاً" وذلك "لأسباب غير واضحة ربما تكون لدور (الدعوة) في إقالة السيد هادي الفياض من الجمعية لنشره مقالاً لـ(صلاح خالص) من أعلام الشيوعيين في مجلته (النجف)" (43). إلا أن أشد الهجمات التي تعرضت لها (الأضواء) كانت من الحزب الشيوعي العراقي الذي كان يعتبر التيار الديني خصمه الأيديولوجي اللدود. والأشد منها ما كان من جانب حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان ينظر في حينها إلى الحوزة العلمية كحليف وقتي يمكن استغلاله ضد المد الشيوعي، إلا أنه بدّل موقفه إلى الضد تماماً بعد أن لمس مدى التغيير الجوهري الذي طرأ على التيار الإسلامي الذي لم يعد كما كان يتصوره حالة طارئة تزول بزوال المؤثرات، ولا موجة يمكن ركوبها ثم ما تلبث أن تذوب سريعاً وتتلاشى، وإنما تحول إلى قوة يحسب حسابها، قوامها مرجعية واعية ومتصدية للعمل السياسي والاجتماعي وحركة منظمة تأخذ بأسباب العمل الحزبي السري، فتحرك السيد حسين الصافي (المحامي لاحقاً) مسؤول منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي في النجف الأشرف – وهو من عائلة علمية معروفة وكان وقتها من طلبة الحوزة ويرتدي زي علماء الدين – ليبدأ بشن هجوم متصل لا هوادة فيه على (الأضواء) وهيئة تحريرها، فكان يشيع هو ورفاقه في النجف بأن "هذه المجلة لا تعبر عن رأي جماعة العلماء، وإنما هي تعبر عن رأي تنظيم سياسي وديني سري ويستغل اسم
جماعة العلماء"(44)، مما اضطر السيد الصدر إلى مغادرة النجف مؤقتاً والاستقرار في الكاظمية لكنه لم يتوقف عن أداء رسالته "فكان يضع الخطوط العريضة (للمقالات الافتتاحية) في فترة اعتزاله فيقوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين بكتابتها"(45). وقد عبر السيد الصدر الذي انقطع عن كتابة الافتتاحية بعد العدد الخامس، عن حجم معاناته خلال تلك الفترة، عبر الرسائل التي كان يتبادلها مع السيد محمد باقر الحكيم الذي كان في زيارة إلى لبنان، الهدف منها كما يوضحه السيد محمد باقر الحكيم بالقول: "سافرت إلى لبنان في سنة 1380هـ حيث كانت طموحاتنا أن ننقل أفكارنا إلى ذلك البلد"(46). يقول السيد الصدر في رسالته تلك التي أرسلها في آب 1960:
"... لقد كان بعدك أنباء وهنبثة وكلام وضجيج وحملات متعددة جندت كلها ضد صاحبك وبغية تحطيمه .. ابتدأت تلك الحملات في أوساط الجماعة التوجيهية المشرفة على الأضواء أو بالأحرى لدى بعضهم ممن يدور في فلكهم فأخذوا يتكلمون وينتقدون ثم تضاعفت الحملة وإذا بجماعة تنبري من أمثال (حسين الصافي)- ولا أدري ما إذا كانت هناك علاقة سببية وارتباط بين الحملتين أو لا – تنبري هذه الجماعة .. فتذكر عني وعن الجماعة شيئاً كثيراً من التهم ومن الأمور العجيبة"(47). وقد واصل السيد الصدر مراسلاته مع السيد محمد باقر الحكيم فكتب إليه في أيلول 1960 يطمئنه إلى انجلاء الغبرة لصالح (الأضواء)، ويشير بالذات إلى موقف خاله الإمام الشيخ مرتضى آل ياسين رئيس جماعة العلماء بالقول؛ "فإنني أجيبك على سؤالك فيما يخص من موقف الخال، قال الشيخ الخال كان في الكاظمية بعيداً عن الأحداث نسبياً ولم يطلع إلا على سطحها الظاهري، وهو ماضٍ في تأييده للأضواء ومساندته لها وقد طلب [.....] أن يكتب إلى بعض جماعة العلماء لتطييب خواطرهم وجلب رضاهم عن الأضواء.
فكتب إلى ... وأخبره بأن (الأضواء) لم تكن تصدر إلا بعد مراقبته وإشرافه وأنها تناط الآن بـ .... كما أخبره بأن كاتب (رسالتنا) سوف ينقطع عن الكتابة"(48). وقد حل السيد محمد حسين فضل الله محل السيد الصدر في كتابة افتتاحية الأضواء تحت عنوان جديد هو (كلمتنا)، وبذلك حافظت الأضواء على ذات الخط العقائدي والسياسي الذي رسم لها منذ بداية العدد الأول حيث تواصل صدورها بإشراف اللجنة التوجيهية لجماعة العلماء وارتفع رصيدها من القراء بازدياد عدد الاشتراكات فيها داخل العراق وخارجه، وكان هذا بحد ذاته نجاحاً منقطع النظير للدعوة التي ما كان لها أن تحقق ما حققته من نشر للوعي التغييري في صفوف الأمة لولا استفادتها وهي لم تزل في بداية انطلاقتها "من الإمكانات المتاحة في الحوزة، فقد كان زعيم الحوزة السيد محسن الحكيم أسكنه الله فسيح جناته ذا أفق واسع في استيعاب أبعاد المشكلة السياسية في العراق، الأمر الذي هيأ للدعوة فرص نشاطات واسعة لم يكن في إمكانها بلوغها لولا هذه العلاقة المتينة التي بين الدعوة والحوزة"(49).
والتي كان بعضاً من مظاهرها سعي السيد الصدر "في بداية تحركه السياسي عملياً بمرجعية الإمام الحكيم ({ض)، مع أن موقعه في الحوزة العلمية لم يكن إلى جانب مرجعية الإمام الحكيم في تلك الفترة على الأقل. حيث كان ارتباطه العلمي بآية الله العظمى السيد الخوئي وارتباطه المرجعي من خلال حوزة خاله المرحوم آية الله العظمى الشيخ محمد رضا آل ياسين"(50).
وقد شمل الارتباط بدائرة مرجعية الإمام السيد الحكيم بالإضافة إلى السيد الصدر والسيد مهدي والسيد محمد باقر العضو الرابع في القيادة السيد مرتضى العسكري الذي قررت المرجعية أن يتولى مهام ذات طابع جماهيري في بغداد، فباشر السيد العسكري بالعمل من منطقة البياع بصفته وكيلاً للإمام السيد الحكيم وذلك في رجب من عام 1960، وهنا يكمن حرص القيادة على توجيه
خط سير الدعوة "من خلال الحركة العامة للمرجعية الدينية، لأن الحزب لم تكن له مواقف سياسية بمعزل عنها وكان محدوداً في حجمه وإمكاناته بالإضافة إلى أن الموقف السياسي للمرجعية كان – حسب قول السيد محمد باقر الحكيم – قريباً منا باعتبار وجودنا السابق والأصيل في جهاز المرجعية تساهم في تكوين مواقفها السياسية وملتزمين بالانسجام معها"(51)، وبذلك يتضح سر تفوق الدعوة على ما عداها من الحركات الإسلامية التي سبقتها والتي تجلت أيضاً بقوة الطرح ووضوح المفاهيم والمواقف إضافة إلى سعة الانتشار الجغرافي الذي تعدى حدود العراق إلى بعض الأقطار المجاورة.
الهوامـش:
1- صحيفة الجهاد، ع116، مصدر سابق.
2- الحكيم، مهدي: مذكرات، ص41-42، مصدر سابق.
3- مقابلة مشتركة مع الحاج محمد صالح الأديب والسيد حسن شبر في 7/9/1994، مصدر سابق.
4- المصدر السابق.
5- مقابلة مشتركة مع الحاج محمد صالح الأديب والسيد حسن شبر. في 7/9/1994. مصدر سابق.
6- الحكيم، مهدي: مذكرات ص39، مصدر سابق.
7- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 20/10/1995، مصدر سابق.
8- مقابلة مع آية الله السيد مرتضى العسكري في دمشق في 25/8/1993، مصدر سابق.
9- صحيفة الجهاد: ع68 مصدر سابق.
10- المصدر السابق.
11- ثقافة الدعوة ج3 ص323 ط1.
12- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 4/5/1998، مصدر سابق.
13- الحكيم، مهدي: مذكرات، ص 39 مصدر سابق.
14- الحكيم، محمد باقر: النظرية السياسية ص 43، مصدر سابق.
15- ثقافة الدعوة، ج4، ط1، ص167.
16- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في 20/10/1995، مصدر سابق.
17- مقابلة مشتركة للحاج الأديب والسيد حسن شبر. مصدر سابق.
18- الحكيم، مهدي: مذكرات ص36 مصدر سابق.
19- المصدر السابق، ص 42.
20- الحكيم، السيد محمد باقر: النظرية السياسية، ص 12 مصدر سابق.
21- لمن أراد الاطلاع على الأسس وشرحها يراجع ثقافة الدعوة الجزء الثاني، ط2، ص130-152، الجزء الرابع ط1، ص44-51.
22- مقابلة مشتركة للحاج الأديب السيد حسن شبر في 7/9/1994، جميع ما دار بين السيد الخوئي والسيد الصدر من حديث لاحق، مصدره الحاج الأديب.
23- مقابلة مشتركة للحاج الأديب والسيد حسن شبر في 7/9/1994، مصدر سابق.
24- مقابلة مع ية الله السيد العسكري في دمشق في 25/8/1993، وما جاء في القوس المذكور عبارة عن رد تفضل به سماحته على سؤال وجهه كاتب السطور حول بدايات الدعوة وما تردد من أنه "لم يكن هناك في ذلك الوقت فكر مطروح في الساحة لتثقيف الدعاة، سوى ما كتبه الإخوان المسلمين وما صدر عن حزب التحرير الإسلامي وما نشر مترجماً إلى العربية من مؤلفات أبي الأعلى المودودي والشيخ الندوي".
25- مقابلة مشتركة للحاج الأديب والسيد حسن شبر في 7/9/94 مصدر سابق.
26- ثقافة الدعوة، الجزء الأول، ط2، ص143.
27- مقابلة مع آية الله السيد العسكري في دمشق بتاريخ 25/8/93، مصدر سابق.
28- الحكيم، مهدي: مذكرات ص60، مصدر سابق.
29- المصدر السابق.
30- المصدر السابق.
31- الحسيني، محمد: الإمام الشهيد محمد باقر الصدر (دراسة في سيرته ومنهجه) ص131، ط1 بيروت دار الفرات، 1989.
32- ثقافة الدعوة ج3 ص227، مصدر سابق.
33- الحكيم، محمد باقر: النظرية السياسية عند الشهيد الصدر (قدس سره)، ص 33 مصدر سابق.
34- نخبة من الباحثين: ص92 مصدر سابق.
35- الحكيم، محمد مهدي: مذكرات ص21 مصدر سابق.
36- المصدر السابق ص22.
37- المصدر السابق ص22.
38- الحكيم، محمد باقر: النظرية السياسية عند الشهيد الصدر (قدس سره). ص36 مصدر سابق.
39- العراقي، سليم: لماذا قتلوه، ص 47 مصدر سابق.
40- نخبة من الباحثين: ص92، مصدر سابق.
41- مجلة الجهاد ع21 ص82.
42- الحسيني، محمد: الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، دراسة في مسيرته ومنهجه، ص250 مصدر سابق.
43- نخبة من الباحثين: ص93 مصدر سابق.
44- الحسيني الحائري، السيد كاظم: مباحث الأصول (تقرير لأبحاث سماحة آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) الجزء الأول من القسم الثاني ص74 ط1 مطبعة مركز النشر – مكتب الإعلام الإسلامي – قم، ربيع الأول- 1407هـ.
45- مجلة الفكر الجديد، السنة الثانية، العدد السادس، ص 325.
46- الحسيني الحائري، السيد كاظم: مباحث الأصول ص 73. مصدر سابق.
47- المصدر السابق ص 74.
48- المصدر السابق ص75.
49- ثقافة الدعوة، ج3، ط1، ص313، مصدر سابق.
50- الحكيم، محمد باقر: النظرية السياسية عند الشهيد الصدر (قدس سره)، ص 41.
51- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 20/10/1995.
الفصل السادس
الإمتحـان الصعب
هزة في القيادة
لم تتوقف الحملة الموجهة ضد السيد الصدر بعد توقفه عن الكتابة في (الأضواء)، فقد شرعت أكثر من جهة بالتخطيط لعزله وذلك باستخدام ذات السلاح الذي استخدمته أول مرة، وهو اتهامه بالوقوف على رأس تنظيم سياسي "وقد كان الاتهام بالتنظيم السياسي في تلك الفترة الزمنية يعتبر تهمة شنيعة بسبب التخلف السياسي الديني في أوساط المتدينين وبالأخص أهل العلم منهم"(1).
ولم تكن تلك الحملة المتواصلة والمتصلة هي الأولى التي يتعرض لها السيد الصدر وصحبه "فمنذ الأيام الأولى التي تأسس فيها حزب الدعوة الإسلامية صدر منشور في كربلاء كان وراءه بعض هؤلاء ينددون بالسيد الصدر (رض) وبعض الشخصيات من حوله"(2)، ورغم ما تعرض مله السيد الصدر إلا أن ذلك لم ينل لا من مكانته العلمية ولا الاجتماعية التي فرضها على الخصوم قبل الأصدقاء، ولا من الحظوة التي يتمتع بها عند كبار مراجع التقليد في النجف الأشرف، وهذا ما دفع بالدوائر التي تتربص بالسد الصدر والحوزة إلى تكرار محاولاتها للنيل منه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وكانت أداتها في ذلك، مسؤول منظمة حزب البعث في النجف السيد حسين الصافي الذي تحول إلى مخلب قط ضد السيد الصدر، فتوجه المذكور إلى دار الإمام السيد محسن
الحكيم وحدثه على انفراد بأن "هناك حزباً تشكل يدعو للتسنن والوهابية وينشط بين الطلاب والمدارس والحوزة ومؤسسه هو السيد الصدر وأولادكم معه السيد مهدي والسيد محمد باقر. بعد ذلك قال له الإمام الحكيم باللهجة العامية "خلصت بالخير.." وأردف ذلك بالقول: "هل أنت أحرص من السيد محمد باقر الصدر على التشيع، السيد باقر أنا أعرفه. ثم أخذ يمدح السيد الصدر .. بعد ذلك انشغل الإمام السيد الحكيم بأوراق كانت أمامه فأخذ يقرأها ففهم الصافي الإشارة وخرج من عند الإمام وهو في أشد حالات الانزعاج"(3). بعد ذلك نادى الإمام السيد الحكيم على ولده السيد مهدي وكان في غرفة أخرى فأخبره بما دار بينه وبين الصافي ثم أوصاه بما يلي؛ "تذهب إلى السيد الصدر وتقول له بأننا نؤيد العمل الإسلامي وكل من يعمل للإسلام نساعده ونوجهه ويجب أن نشتغل مع هؤلاء دون أن نحسب عليهم فليشتغلوا هم ونحن نوجههم..." (4). وقد أبلغ السيد مهدي الحكيم السيد الصدر برسالة الإمام السيد الحكيم الشفوية فكان رده: "سأفكر وأتأمل في الأمر"(5).
وهنا لابد من التطرق إلى نقطة غاية في الأهمية كان لها الأثر الحاسم في القرار الذي اتخذه السيد الصدر بهذا الشأن، وهي حصول شبهة شرعية لديه تزامنت أو سبقت طلب الإمام الحكيم منه بالانسحاب من الحزب، وكان مدارها هو الشك بدلالة (آية الشورى) على الحكم الإسلامي الذي صاغ أسسه بالاستناد إليها وقد انسحب ذلك الشك بالنتيجة على العمل الحزبي الذي يعمل في قيادته والذي لم يعد بالنسبة إليه معنى لاستمراره "إلا إذا كان يتضمن تصوراً كاملاً عن نظرية الحكم الإسلامي وطريقة ممارسته فإذا لم تكن النظرية حول الحكم الإسلامي وإطاره ومؤسساته واضحة فكيف يمكن إيجاد تنظيم يسعى إلى الهدف دون أن يكون نفس الهدف واضح المعالم"(6). وبذلك يتضح أن الشبهة الشرعية لم تطل بأي وجه من الوجوه أيديولوجية الحزب أو آلية عمله، ولو كان الأمر كذلك فإن موقع السيد الصدر في القيادة كان يؤهله لرفع أي إشكال يراه
من هذا القبيل.
وقد عبر السيد الصدر عن حقيقة الأمر وكونه مجرد أشكال فقهي محض وجد نفسه ملزماً به في أكثر من رسالة بهذا الشأن بعثها إلى السيد محمد باقر الحكيم الموجود في لبنان نقتطف من إحداها والتي أرسلت في تموز 1960 الفقرات التالية:
"... وقعت منذ أسبوعين أو قريب من ذلك في مشكلة وذلك أثناء مراجعتي أسس الأحكام الشرعية وبعدها، وحاصل المشكلة التوقف في آية (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) التي هي أهم تلك الأسس وبدونها لا يمكن العمل في سبيل تلك الأسس مطلقاً، كما كنت أكرر ذلك في النجف مراراً، ومنشأ التوقف وجهان أو وجوه أهمها أني لم أستطع أن أجيب على الاعتراض الذي اعترضته أنت على الاستدلال بالآية وإن كنت أجبت عنه في حينه ولكن الجواب يبدو لي الآن خطأ ..." (7)، ويضيف السيد الصدر في مقطع آخر من الرسالة فيقول: "... وإذا تم الإشكال فإن الموقف الشرعي لنا سوف يتغير بصورة أساسية، وأن لحظات تمر علي في هذه الأثناء وأنا أشعر بمدى ضرورة ظهور الفرج وقيام المهدي المنتظر (صلوات الله عليه) ولا زلت أتوسل إلى الله تعالى أن يعرفني على حقيقة الموضوع ويوفقني إلى حل الإشكال، ولكني من جهة أخرى أخشى وأخاف كل الخوف من أن تكون رغبتي النفسية في دفع الإشكال وتصحيح مدعياتنا الأولية هي التي تدفعني إلى محاولة ذلك. وعلى كل حال فإن حالتي النفسية لأجل هذا مضطربة وقلقة غاية القلق، وما الاعتصام إلا بالله وإني أكتب هذه المسألة إليك أيها الحبيب المفدى لتشاركني التألم فيها وتعيين موقفنا منها بصورة أساسية..." (8).
وبعد أن تعذر على السيد الصدر حل الإشكال الفقهي الذي اعتراه حول دلالة آية الشورى قطع الشك باليقين وقرر الانسحاب من الحزب الذي كان له
دور أساسي في تأسيسه وشكل أحد أعمدته الرئيسية.
وبعد عودة السيد محمد باقر الحكيم من لبنان قرر هو الآخر الانسحاب من التنظيم مع أنه لم يكن مشمولاً بطلب الإمام الحكيم بالانسحاب من الحزب لأن الطلب كان "موجهاً إلى كل من السيد مهدي الحكيم والسيد الشهيد الصدر"(9)، ومن الجدير بالذصكر أن السيد محمد باقر الحكيم هو الذي أثار الشبهة الشرعية حول آية الشورى في بداية تكوين النظرية، وقد رد السيد الصدر على إشكاله في حينها ثم غير رأيه منتهياً إلى صحته، وقد علل السيد محمد باقر الحكيم السبب الذي حدا به إلى الخروج من الدعوة بالقول: "كان السبب في خروج الشهيد الصدر وخروجي هو الإشكال الشرعي كما هو مدون في رسالتين بخط الشهيد الصدر كتبهما لي إلى لبنان حيث كنت هناك في هذه الفترة، يشرح بهما كل الملابسات الشرعية والسياسية والاجتماعية ويذكر بها الأحداث التي اقترنت بذلك من تحرك بعض الأوساط السياسية والاجتماعية في النجف الأشرف للضغط على الإمام الحكيم"(10)، ولو وضعنا موضوع الشبهة الشرعية جانباً نجد أن موقف السيد محمد باقر الحكيم المتضامن مع قرار السيد الصدر إنما كان منسجماً في الحقيقة مع جملة مواقفه وآرائه السابقة التي اتخذها طيلة وجوده في قيادة الدعوة "والتي كانت تتطابق دائماً وعلى طول الخط مع مواقف وآراء السيد الصدر في حين كان لباقي أعضاء القيادة في كثير من الأحيان مواقف مستقلة"(11)، وإن كان العمل داخل قيادة الدعوة قد أفرز أيضاً حالة من التطابق في المواقف والأفكار بين السيد مرتضى العسكري والسيد مهدي الحكيم. هذا مع أن الانسجام والتفاهم كان هو السائد بين القادة الأربعة لحزب الدعوة الإسلامية، وعن هذه النقطة يتحدث السيد محمد باقر الحكيم فيقول: "لقد كان يجري البحث في جميع المواقف والنشاطات بشكل مفصل باستمرار مع الشهيد الإمام الصدر، لأني كنت أعيش بالقرب منه في ساحة العمل، حيث كان أستاذي وصديقي في نفس الوقت، وكنت أقضي معه يوميا
عدة ساعات. بالإضافة إلى الانسجام الروحي والعاطفي بدرجة عالية. كل ذلك كان يهيئ فرصة حقيقية لتطابق المواقف والأدوار والاتفاق عليها في مجمل العمل على الأقل. وهذا لا يعني عدم وجود اختلاف واستقلال في الرأي وإنما كان هذا الاختلاف جزئياً ومحدوداً وكنا نجد دائماً الطريق المناسب والسريع وبدون تكلف لمعالجته. يمكن أن هذا الموضوع كان قائماً إلى حد كبير أيضاً مع سماحة السيد العسكري وسماحة الشهيد السيد مهدي الحكيم وإن كانا يفترقان عنا – بعد انتقال السيد مهدي إلى بغداد – أنهما يعيشان في بغداد ويلتقيان باستمرار وتتكون لديهما الصورة من خلال مشاهداتهما وقربهما من مواقع بعض الأحداث، وبذلك كان يتكامل عملنا مع عملهما"(12).
وأما تاريخ خروج السيد الصدر من الدعوة فيمكن تحديده بالعودة إلى التسلسل الزمني للأحداث، ذلك أن السيد الصدر كان قد توقف عن كتابة افتتاحية الأضواء بعد العدد الخامس الذي صدر يوم الثلاثاء 15 صفر 1380هـ الموافق ليوم 19/8/1960م ليتوجه إلى الكاظمية فيما يشبه الاعتكاف وليعود بعدها بفترة قصيرة إلى داره في النجف الأشرف، ومع عودته كان لقاء الصافي بالإمام الحكيم ثم خروج السيد الصدر من الدعوة وبذلك يمكن حصر تلك الحادثة بين تاريخ صدور العدد الخامس من الأضواء والنصف الأول من أيلول 1960، وبعد خروجه بادر إلى "معالجة الموقف بهدوء حيث تمكن أن يثبت حينذاك أنه لا ينتمي إلى تنظيم سياسي معين"(13)، وكان السيد الصدر قد كتب في 21/9/1960 إلى السيد محمد باقر الحكيم الموجود في لبنان بعد أن هدأت العاصفة ضد الأضواء رسالة يقول فيها: "وأسرة الأضواء التي لا غبار عليها [بأي] وجه من الوجوه مورد للاطمئنان الكامل، وهم يعرضون مقالاتهم على الثلاثة الكبار ولم يصادفوا لحد الآن مشكلة مبدئية في هذا المقام والحمد لله رب العالمين"(14)، والثلاثة الكبار هم أعضاء اللجنة الرئاسية لجماعة العلماء وهم الإمام الشيخ مرتضى آل ياسين وآية الله الشيخ الهمداني وآية الله الشيخ
خضر الدجيلي.
وفي أول لقاء بين لسيد الصدر بعد خروجه من الحزب والسيد العسكري الذي سأله عن الأسباب التي حدت به إلى اتخاذ مثل ذلك القرار، أجابه: "لم استطع أن أجد أدلة على النظام الذي نتبناه وأني أريد في يوم واحد أن يدخل في الدعوة مليونا شخص"(15).
ولقد استمرت العلاقة بين الدعوة والسيد الصدر كما كانت قبل خروجه من التنظيم فقد كان السيد الصدر يشعر من جانبه "بضرورة وأهمية العمل السياسي الإسلامي المنظم. ولذا بقي يؤيد التحرك السياسي (الخاص) بمستوى من المستويات وسمح للحزب- من أجل أن يحل الإشكال الشرعي له – أن يستند في شرعيته إلى فتوى بعض الفقهاء أمثال خاله الشيخ مرتضى آل ياسين أو غيره .." (16). لا بل أن العلاقة بين الدعوة والسيد الصدر كانت أكبر من أن يحدها إطار تنظيمي فقد كان يرى فيها ما لا يراه في أي حركة إسلامية أخرى في العراق. وفي المقابل كانت الدعوة تجد في شخصه مشروعاً حضارياً يتسع ليشمل العالم الإسلامي بأسره ولطالما "طلبت منه القيادة عندما كان عضواً فيها أن يتفرغ للمرجعية لأنه الأجدر بها في المستقبل بعد الإمام السيد الحكيم ومن بعد زعيم الحوزة العلمية الإمام السيد الخوئي إلا أن السيد الصدر كان يرى أن الأمر سابق لأوانه وكان يجيبهم باللهجة العامية بكلمة "بعدين"(17)، وتكرر طلب القيادة منه في عدة اجتماعات "أن يتفرغ للدرس والتدريس وأن لا ينشغل بأمور العمل الحزبي"(18)، وعندما انسحب السيد الصدر من التنظيم لم يتغير موقف الدعوة منه ولم تتغير قناعاتها في ضرورة دعم فكرة وصوله إلى سدة المرجعية في المستقبل، حتى أن السيد العسكري ومن موقعه في القيادة كان يرى "أن السيد الصدر لم يخرج في الحقيقة من الدعوة وإنما انتقل إلى وضع أصبح فيه بلا مسؤولية حزبية"(19)، وكذلك الحال بالنسبة للسيد محمد باقر الحكيم
الذي استمر في رعايته للدعوة لمدة عشر سنوات متواصلة. أما السيد مهدي الحكيم فإنه لم يعتبر نفسه في يوم من الأيام أنه خارج نطاقها، بل كان يعتبر نفسه ممثلاً لها في كل علاقاته السياسية، واستمر في ذلك حتى بعد أكثر من سنتين من انتصار الثورة الإسلامية في إيران. وفي الوقت الذي حافظت فيه الدعوة على كل الأواصر التي تربطها بقادتها ومؤسسيها بعد أن أصبحوا خارج التنظيم، فإنها لم تفقد – بتغيير القيادة- رعاية الإمام السيد محسن الحكيم لها ولا قناعته بدورها السياسي والتغييري في المجتمع العراقي، والسبب في ذلك أن الدعوة كانت تعمل للإسلام وتمارس عملها التنظيمي من أجله، فبالرغم من أن الإمام السيد الحكيم هو الذي أمر نجله السيد مهدي بالخروج من الحزب إلا أنه "لم يقل أن الحزب غير جيد"(20)، كما يحدثنا بذلك السيد مهدي نفسه الذي يضيف قائلاً: "وقد بقينا نتعاون مع الحزب"(21)، ولا أدل على ثقة الإمام الحكيم بشرعية القيادة الجديدة من دعمه غير المحدود للسيد مرتضى العسكري مع أنه "كان يعلم أن السيد مرتضى العسكري في الحزب وكان من خيرة وكلاء السيد (قدس) وكان يمده ويعتمد عليه ونقله من مكان إلى مكان آخر حساس هو منطقة الكرادة التي تعتبر قلب الشيعة في بغداد، وكان يمده بكل ما يحتاج من إمكانات، وهذا يعني تأييداً وتوثيقاً من السيد (قدس) للسيد مرتضى العسكري مع علم السيد بانتمائه لهذا الاتجاه، كذلك كان يعلم أن الشيخ عارف البصري يعمل بنفس الاتجاه"(22).
انشقاق في الدعوة
عكف السيد الصدر بعد قراره الانسحاب من التنظيم على إعداد مذكرة لرفعها إلى القيادة، وقام بكتابتها "على ورق الرسائل ذي اللون الأزرق المتداول في تلك الأيام – أي من القطع الكبير- وبصفحتين وبخطه الناعم اللطيف"(23).
ومما جاء فيها وصفه لحالته وهو يحررها بقوله "بت الليلة وأنا أرق، أفكر في هذا الموقف وأنه ليعز علي مثل هذا الموقف"(24)، وورد في المذكرة أيضاً قوله؛ "أن آية الله الحكيم طلب مني أن لا أكون في التنظيم، وأنا أفهم أن هذا رأي إلزامي له، وعليه فأتوقف الآن عن الانتماء للتنظيم، طالباً منكم الاستمرار بجد في هذا العمل، وأنا أدعمكم في عملكم الإسلامي المبارك"(25). بعد ذلك سلم السيد الصدر المذكرة إلى السيد مهدي الحكيم الذي قام بدوره بنقلها إلى الحاج محمد صالح الأديب الذي يقول "قرأت الرسالة أربع مرات بعد ذلك ذهبت إلى الإخوة المتصدين للعمل في بغداد بعد أن أخذت منهم موعداً"(26)، وهناك قام بتسليم الرسالة إلى السيد مرتضى العسكري الذي بقي وحيداً على رأس الهرم الدعوتي بعد أن انسحب كل أعضاء القيادة الآخرين. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي تحدث فيها انسحابات من قيادة الدعوة فقد سبق وأن انسحب الحاج محمد صادق القاموسي من الحزب بعد أن حضر اجتماعين أو ثلاثة للقيادة بداية تشكيلها وكان انسحابه ودياً ولم تكن له آثار جانبية.
وبعد تسلم السيد مرتضى العسكري مذكرة السيد الصدر "قام وبالتشاور مع الكادر المتقدم في التنظيم بإعلان لجنة بغداد والكاظمية التي يشرف عليها قيادة عامة لحزب الدعوة الإسلامية"(27) فجاءت التشكيلة القيادية على النحو التالي:
1- السيد مرتضى العسكري مشرفاً على القيادة.
2- المهندس محمد هادي عبد الله السبيتي عضواً.
3- الحاج عبد الصاحب حسين دخيل عضواً.
والملاحظ على تلك التركيبة القيادية الجديدة وهي الثانية للحزب أن نسبة علماء الدين فيها شكلت الثلث (واحد إلى ثلاثة) بعد أن كانوا يشكلون في القيادة الأولى جميع الأعضاء، كما أصبح لقيادة الحزب مشرف عام وهو موقع حزبي منح للسيد العسكري بشكل ضمني وليس بالتسمية الرسمية كما هو متعارف عليه في باقي الأحزاب السياسية. ومن المتغيرات الأخرى التي طرأت على الدعوة انتقال قيادتها من النجف إلى العاصمة بغداد.
وفي أول اجتماع للقيادة الجديدة تساءل المسئول الأول للدعوة: ما العمل؟!
فأجاب الحاج عبد الصاحب دخيل: "فلنتوكل على الله ونستمر، أن هذا العمل ينبغي أن لا يعتمد على الأشخاص".
بعد ذلك طلبت القيادة الجديدة من الحاج محمد صالح الأديب باعتباره أحد المؤسسين وكادراً متقدماً في التنظيم، نقل مذكرة السيد الصدر إلى إخوانه العاملين في الدعوة من العلماء في النجف الأشرف للاطلاع عليها فقام بتسليمها إلى الخط الثاني في تنظيم الحوزة والذي يأتي بعد أعضاء القيادة المنسحبين، فتسلمها الشيخ عبد الهادي الفضلي وهو من أبرز كوادر التنظيم الحوزوي، وكان مسؤوله السيد مهدي الحكيم، وقد تقرر نقله إلى القيادة ليصبح العضو الرابع فيها "إلا أنه اشترط أن يضاف معه إثنان آخران من فضلاء الحوزة
ليحل علماء الدين الثلاث محل القياديين الثلاث المنسحبين"(28)، مصراً على ضرورة ارتفاع نسبة علماء الدين في عضوية القيادة لتصبح هي الغالبة كما كان هو الحال عند بدايات التأسيس، وكان يطالب أيضاً بأن يكون هناك مجتهد داخل التنظيم لضمان سلامة خط سير الدعوة من الناحيتين الأيديولوجية والسياسية باعتبار أن وجود الفقيه في القيادة – وإن لم يكن هناك موقع بهذا العنوان في التنظيم آنذاك – هو صمام أمان يحفظ الدعوة من الزيغ والانحراف. إلا أن القيادة لم توافق على شروط الشيخ الفضلي وكررت طلبها منه بأن يلتحق بمفرده في عضويتها لأنها كانت ترى أن اختيار الأعضاء لأعلى هيئة قيادية في الحزب ليست من صلاحيته وإنما هو من صلاحياتها وحدها. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد ألقى الخلاف بين الشيخ الفضلي والقيادة بظلاله على تنظيم الحوزة مما أدى إلى وقوع حالة من البلبلة والارتباك في صفوفه أسفرت بالنتيجة عن قيام الشيخ عارف البصري – وكان يواصل في ذلك الحين دراسته في النجف الأشرف – بإصدار قرار باسم القيادة يقضي بفصل كل من الشيخ عبد الهادي الفضلي والسيد عدنان البكاء والسيد طالب الرفاعي من الحزب وأبلغ القرار إلى ثلاثة من كوادر الدعوة في البصرة كانوا في زيارة إلى النجف وهم كاظم يوسف التميمي والشيخ سهيل نجم والسيد طالب الخرسان وطلب منهم إيصاله إلى لجنة البصرة، وقد أدى صدور ذلك القرار الذي لم تتخذه القيادة إلى "حدوث انشقاق في الدعوة بقي نطاقه ضمن مدينتين فقط (النجف والبصرة) ولكن المدينتين أصيلتان في العمل الإسلامي"(29)، وفي المقابل أصدرت المجموعة المنشقة بقيادة الشيخ الفضلي قراراً بفصل المهندس محمد هادي السبيتي والحاج محمد صالح الأديب واستمرت في عملها لمدة أكثر من عام أصدرت خلالها نشرة مركزية خاصة بها باسم "المجاهد" وبعد جهود وساطة قام بها السيد الصدر وشارك فيها السيد العسكري "وفق الله الدعوة وتجاوزت محاولة الانشقاق وانتظم الدعاة مجدداً في مسيرة الدعوة"(30).
الهوامش:
1- الحسيني الحائري، السيد كاظم: مباحث الأصول. ص74، مصدر سابق.
2-الحسيني، محمد: الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) دراسة في سيرته ومنهجه ص92 مصدر سابق.
3- مقابلة مشتركة مع الحاج الأديب والسيد حسن شبر، في 7/9/1994، مصدر سابق.
4- نفس المصدر السابق.
5- الحسيني الحائري، السيد كاظم: مباحث الأصول، ص88، مصدر سابق.
6- الحكيم، محمد باقر: النظرية السياسية عند الشهيد الصدر (قدس) ص21-22.
7- الصدر السابق ص 21.
8- المصدر السابق ص21.
9- الحكيم، محمد باقر: النظرية السياسية عند الشهيد الصدر (قدس سره) ص48 مصدر سابق.
10- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 20/10/1995.
11- مقابلة مع السيد مرتضى العسكري، مصدر سابق.
12- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 20/10/1995.
13- الحسيني الحائري، السيد كاظم: مباحث الأصول ص76 مصدر سابق.
14- المصدر السابق ص76-77.
15- مقابلة مع السيد العسكري. مصدر سابق.
16- الحكيم: محمد باقر: النظرية السياسية عند الشهيد الصدر (قدس سره) ص22 مصدر سابق.
17- مقابلة مشتركة مع الحاج الأديب والسيد حسن شبر. مصدر سابق.
18- المصدر السابق.
19- مقابلة مع السيد العسكري، مصدر سابق.
20- الحكيم، محمد مهدي: مذكرات ص 41. مصدر سابق.
21- المصدر السابق ص41.
22- المصدر السابق ص41.
23- الحسيني، محمد: الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر. دراسة في سيرته ومنهجه ص235.
24- مجلة الجهاد ع12 ص42.
25- الحسيني الحائري، السيد كاظم: مباحث الأصول ص89. مصدر سابق.
26- مقابلة مشتركة مع الحاج الأديب والسيد حسن شبر. مصدر سابق.
27- مقابلة مع السيد العسكري. مصدر سابق.
28- مقابلة مع السيد العسكري. مصدر سابق.
29- ثقافة الدعوة الإسلامية، ج3، ط1، ص230، مصدر سابق.
30- المصدر السابق، ص 343.
الفصل السابع
بنـاء الحزب وتطـوره
الدعوة في سيرها التكاملي
انصب اهتمام الدعوة الإسلامية في مرحلة ما بعد التأسيس على بناء كتلة حزبية متراصة وعلى نشر الفكر والثقافة الإسلامية في صفوف المجتمع العراقي، ولكن العمل كان يتسم خلال تلك الفترة بالبساطة في الأساليب. فقد كان هناك "نقص حقيقي في مجال التنظيم والتحريك والمواجهة والبناء"(1)، وكانت الدعوة قد أقامت في أول رمضان بعد ثورة 14 تموز 1958 مجلساً في مسجد الهندي في النجف الأشرف كان المحاضر فيه هو السيد مهدي الحكيم، وقد حضر السيد الصدر ذلك المجلس من أجل دعمه وتشجيعه باعتباره ظاهرة جديدة. وقد طرح السيد مهدي الحكيم في محاضراته "أفكاراً عن أسس الدولة الإسلامية، ولم يكن الطرح على أساس العموميات"(2)، وقد عاد المجلس بمردود إيجابي على الدعوة بحيث أصبح وسيلة للكسب الحزبي، فكان الدعاة يراقبون الحضور وكانوا من مختلف طبقات المجتمع، فيختارون الشباب منهم ليتعرفوا على آرائهم حول الأفكار التي طرحت من على المنبر، وبهذه الطريقة يقول السيد مهدي الحكيم "نحصل على اثنين أو ثلاثة أفراد"(3)، ولم تتوقف الدعوة عند ذلك المجلس وإنما بادرت وبالتعاون مع جماعة العلماء وبرعاية المرجعية الدينية إلى إقامة الاحتفالات الجماهيرية والمهرجانات الخطابية في المناسبات
الإسلامية وذلك "لمواجهة التيارات الثقافية والسياسية ذات البعد الإلحادي وكذلك الانحرافات الأخلاقية والسلوكية في الأمة"(4)، وكان من أشهرها الاحتفال بمولد الإمام علي (ع) في 13 رجب ويقام في مدينة كربلاء وكذلك الاحتفال بمولد الإمام الحسين (ع) في 3 شعبان في النجف الأشرف. وهي الاحتفالات التي أصبحت تقليداً يقام في كل عام في المدينتين المقدستين حتى مجيء البعث – جناح ميشيل عفلق – إلى السلطة عام 1968. وفي أول احتفال أقيم في كربلاء، كتب السيد الصدر كلمة باسم جماعة العلماء وأجرى بعض التعديلات على كلمة أخرى ألقيت باسم الإمام السيد الحكيم. وتزامن مع إقامة تلك الاحتفالات تصاعد حدة المواجهة بني المرجعية والتيار الشيوعي وما رافقه من التفاف للأمة حول الإمام الحكيم. وقد ساهمت تلك الأجواء الإسلامية في رفد الحزب بالمزيد من المنتسبين الجدد، وبازدياد عدد الدعاة طورت الدعوة هيكلها التنظيمي الذي اتسع وأصبح له وجود ملموس في العديد من مناطق القطر، إلا أن التوسع الحقيقي الذي شهدته كان من خلال لجنة تنظيم الجامعة التي شكلت محور التنظيم المركزي لحزب الدعوة الإسلامية في إقليم العراق، فعن طريق تلك اللجنة كانت بذور الدعوة تنتقل مع عودة الطلبة الدعاة في العطلة الصيفية إلى أماكن سكناهم في مختلف الأرياف والمدن، وبعد مرحلة الغراس كانت البذور تنمو بالتدريج فتشكلت بنموها لجان المناطق بحيث أصبح لكل لجنة محافظة رابط مع لجنة تنظيم الجامعة.
وقد بلغ عدد الدعاة المنتشرين في ثلاث وثلاثين كلية ومعهد تتألف منها جامعة بغداد حتى عام 1963 أكثر من (400) داعية وكانت الحصة الأكبر من نصب كليات الهندسة والتربية والطب. وبالتدريج أصبح للدعوة وجود في كل محافظة تقريباً من محافظات القطر، وإن كان بدرجات متفاوتة وكانت أكثر المناطق التي شهدت نمواً مطرداً للدعوة فيها هي:
العاصمة بغداد:
وقد لعبت لجنة بغداد والكاظمية- التي تحولت فيما بعد إلى قيادة عامة للدعوة- دوراً فعالاً في ترسيخ وجود الدعوة وكيانها في بغداد نظراً لأهمية العاصمة من النواحي السياسية والاقتصادية والسكانية بحيث انتشرت حلقات التنظيم في قطاعات مختلفة من بغداد. ولتوسيع العمل والنهوض به قررت الدعوة أن يكون للسيد العسكري مجال موصل بالجماهير وذلك عن طريق توليه إمامة أحد الجوامع، وقد أخذ الحاج عبد الصاحب دخيل على عاتقه مهمة اختيار المنطقة المناسبة، وبعد مسح للأحياء صار هناك قرار بأن تكون (المنصور) أو (المأمون) مركزاً لنشاط السيد العسكري إلا أن عدم وجود جامع في المنطقتين حال دون ذلك، وأخيراً تقرر أن يستقر السيد العسكري في أحد جوامع منطقة البياع عند المدخل الجنوبي الغربي لبغداد، وبجهود مسبقة من السيد مهدي الحكيم كتب الإمام السيد الحكيم إلى المتولي على الجامع وطلب منه أن يتوجه لدعوة السيد العسكري ليكون إماماً للجامع، كما خاطب السيد العسكري بمكتوب آخر خاص – وكان يسكن في حينها منطقة الكريعات – يطلب منه فيه بأن ينتقل إلى البياع كوكيل للمرجعية هناك، وبعد انتقاله بدأ بتنفيذ برنامج توعية مكثف من خلال المحاضرات اليومية الهادفة، وبعد أن كان رواد الجامع من كبار السن أصبح يغص بالشباب الذين تجمهروا حول السيد العسكري ومن بين تلك الجموع قاد هو شخصياً في أحد أيام محرم مسيرة من الجامع اخترقت الشارع الرئيسي في البياع ظنتها السلطة تظاهرة سياسية، وتم استدعاء الشرطة إلا أن آمر القوة انسحب بعد أن عرف أنها مجرد مسيرة عزاء للإمام الحسين (ع)، ونتيجة للنجاح الكبير الذي حققه السيد العسكري في البياع أصبح هناك تفكير بأن ينتقل إلى مجال أوسع وأكثر تأثيراً، فوقع الإختيار على منطقة الكرادة، وكان السيد الصدر من المهتمين بهذه النقلة الجديدة للسيد العسكري.
ولم يقتصر النشاط الإسلامي العام على السيد العسكري، فقد كانت للحاج عبد الصاحب دخيل حلقات دراسية في التفسير والعقائد في أكثر من جامع في الكاظمية، وكان الحضور يضم نُخباً واعية من الشباب الجامعي ومن طلبة الثانويات. ومن بين نشاطات الدعوة الرئيسية الأخرى في بغداد، مواضبة القيادة على عقد اجتماع أسبوعي يضمها والكادر المتقدم في التنظيم تبحث فيه مختلف القضايا الفكرية والتنظيمية.
وقد تميز تنظيم الدعوة في بغداد عن باقي تنظيمات الحزب المنتشرة في باقي أنحاء العراق بوجود خطين تنظيمين رئيسين فيه بدلاً من واحد، هما:
- لجنة تنظيم الجامعة.
- لجنة بغداد والكاظمية.
إضافة إلى وجود قيادة الحزب التي استقرت ف العاصمة بعد أن كان مقرها في النجف الأشرف.
البصـرة:
تعتبر البصرة وتوابعها من أكثر المناطق التي شهدت انتشاراً للدعوة في صفوف أبنائها، فكان تنظيمها يأتي في الدرجة الثانية بعد تنظيم بغداد من حيث السعة "وكان يضم دعاة من مختلف المذاهب والطوائف الإسلامية"(5)، ومن البصرة انتقلت الدعوة إلى مختلف مناطق جنوب العراق حتى وصلت إلى أعمق نقطة في أهواره، فكان تنظيم العمارة يتبع لجنة البصرة ومسؤوله هو (كاظم يوسف التميمي) أحد كوادر تنظيم البصرة، وقد استمر التنظيم في نشاطه على نفس الوتيرة حتى بعد انتقال مسؤوله الشيخ عارف البصري إلى النجف الأشرف للدراسة في حوزتها ولإكمال دراسته الجامعية في كلية الفقه.
الحوزة العلمية في النجف الأشرف
شكلت الدعوة تنظيماً مستقلاً للحوزة العلمية يتبع لجنة تنظيم النجف الأشرف، وكان السيد الصدر قبل خروجه من التنظيم يدفع الحزب "للتحرك على عناصر مختارة ومتميزة في الحوزة والاهتمام بقبول الطلبة في الحوزة أو الحث على انتمائهم إليها وكسبهم إلى جانب التنظيم الخاص وربطهم به"(6)، وقد ضم تنظيم الحوزة طلبة من مستويات علمية متقدمة ظهر من بينهم العديد من الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد، بل وصل واحد أو أكثر منهم إلى سدة المرجعية.
الفرات الأوسط
انتشرت الدعوة في مختلف مدن وقرى الفرات الأوسط، وكان تنظيم كربلاء هو الأهم والأوسع فيها، وكان نموذجياً في إدارته وفي مستوى دعاته، ويعود الفضل في ذلك إلى مسؤوله المهندس محمد صالح الأديب الذي يعتبر من "أفضل من أدار العمل في كربلاء"(7).
المنطقة الشمالية
وتضم مناطق سكن الأكراد والتركمان، وكانت مدينة كركوك من أوائل المدن الشمالية التي احتضنت تنظيمات الدعوة، وكذلك مدينة الموصل وأطرافها التي شهدت نشاطاً دعوتياً مكثفاً مركزه في جامعة الموصل، وكان مسؤول المنطقة الشمالية المحامي حسن شبر.
وكما حظي الجانب التنظيمي باهتمام القيادة، فإن الجانب الفكري كان له نصيبه أيضاً من الاهتمام فصدرت نشرة الحزب المركزية – المجلة الداخلية – (الدعوة الإسلامية)، والتي اكتسبت اسمها من الاسم الذي تسمى به الحزب
وهو (الدعوة الإسلامية) في نفس العام الذي صدرت به تلك النشرة، وعن ذلك يقول الحاج محمد صالح الأديب؛ "اسم الحزب لم يُكتب ولم يُتبنَّ في اجتماعاتنا العديدة وقد مرت سنتان على ما أتذكر ولم يكن لنا اسم حتى سنة 1960 وفي أحد الأيام وعندما كنت أتمشى في معرض بعداد الدولي رأيت أحد الإخوان فبادرني بالقول أبشرك لقد بحث موضوع الإسم في القيادة وكان السؤال المطروح خلال النقاش هو لماذا لا نختار اسم، فطرح اسم الدعوة الإسلامية وتم تبنّيه وخرجت نشرة دعوتية مركزية على شكل مجلة باسم الدعوة الإسلامية والسيد الصدر هو الذي اختار هذا الاسم"(8). ولا يرجح السيد محمد باقر الحكيم الذي كان في زيارة إلى لبنان آنذاك – كما مر بنا – أن يكون السيد الصدر هو مصدر التسمية "لا بل أن السيد الصدر كان رأيه عدم التسمية الخاصة، لأن التسمية هي التي أوجدت هذه المشكلات في الدعوة. وكان الكثير من الدعاة يرون ذلك أيضاً، وكانت التسمية بعد خروجه"(9). وقد صدرت من نشرة (الدعوة الإسلامية) عشرة أعداد فقط ثم توقفت عن الصدور عام 1963، بعد ذلك أصدر الحزب نشرته المركزية الجديدة (صوت الدعوة) التي تعتبر النشرة المركزية لكافة الأقاليم مع احتفاظ كل إقليم بنشرة خاصة به.
وتعتبر الدعوة التي صدرت أفكارها "في البداية في نشرات سرية، وكتب علنية وتوصيات وتوجيهات شفوية"(10) أن النشرة المركزية هي المحور الذي يدور حوله الدعاة والعروة الوثقى التي يتمسكون بها لأنها ضمانة لوحدتهم الفكرية والأساس في عملية التغيير التي ينهض بها الحزب والذي لم يقتصر نشاطه على مجرد كسب الأفراد وإصدار النشرات وبناء أجهزته الداخلية، وإنما اتجه وضمن إطار المرحلة الفكرية والتي كان يمر بها إلى القيام بنشاطات إسلامية ذات طابع ثقافي مؤسساتي ومنها تأسيسه مكتبات عامة في المحافظات كفروع لمكتبة آية الله الحكيم في النجف الأشرف "وأول مكتبة أسست كانت في مدينة (القاسم) بطلب من السيد سعيد الخطيب من أجل جمع الشباب وتثقيفهم فاستجاب
لهم السيد (الإمام الحكيم) وفتح المكتبة ثم بدأت فكرة المكتبات، وكان السيد يعلم أن الشباب الذين يديرون هذه المكتبات عندهم هذا الاتجاه، فهم إما منضوون تحت الحزب أو في هذا الاتجاه، ولم يكن يعتبر ذلك شيئاً خطأ"(11). بعد ذلك انتشرت فروع مكتبة آية الله الحكيم في مختلف مناطق العراق حتى بلغ عددها (72) فرعاً. وقد ساهمت تلك المكتبات في خلق جيل واع من الشباب الملتزم والمدرك لمسؤولياته في وقت كانت هناك فئة أخرى من الشباب من طلبة وموظفين تقضي أوقاتها في لعب القمار واحتساء الخمور في النوادي أو في قتل أوقات الفراغ على الأرصفة وفي المقاهي الشعبية. "لقد كان دور حزب الدعوة الإسلامية خلال هذه الفترة، أي منذ انقلاب عبد الكريم قاسم وما قبله بعام تقريباً وعلى طول امتداد حكم عبد الكريم قاسم والعهد العارفي، بالتعاون مع المرجعية الدينية والعلماء العاملين، هو نشر الوعي الإسلامي والثقافة الإسلامية وتربية جيل من الدعاة وتوعية الجماهير بشتى الوسائل الفكرية والثقافية كالمكتبات العامة والمدارس الإسلامية، لإحداث عملية التغيير وتهيئة الجو والمناخ المناسب. وكانت النتيجة أن تكون وتعاظم تيار الوعي الإسلامي والثقافة الإسلامية وانضمت أعداد من العلماء وطلاب العلوم الدينية والطلبة الجامعيين والخطباء والمثقفين إلى صفوف هذه الحركة وبرز حجمها بشكل ملأ الساحة العراقية"(12).
القائد المخضرم
مع استمرار تصاعد الخط البياني لمسيرة الدعوة الإسلامية بشكل مطّرد، كان على الحزب في الوقت ذاته أن يواجه منعطفاً خطيراً تمثل في حدوث متغيرات جديدة في القيادة أواخر عام 1963 بدأت مقدماتها مع زيارة الإمام السيد محسن الحكيم إلى بغداد في تشرين الأول 1963، وكان للدعوة دور في التمهيد لها، فقد عرض عليه السيد العسكري فكرة السفر فأجابه الإمام "مع كبر سني واعتلال صحتي، هل في هذا العمل مصلحة إسلامية؟" فقال السيد العسكري: "نعم أن الحكومة يجب أن تفهم ذلك"(13). وقد قوبلت رحلة الإمام السيد الحكيم – التي ابتدأت في 17 تشرين الأول 1963 بزيارة كربلاء ثم بغداد – باستقبال جماهيري حاشد. ففي أحد أيام الزيارة "اضطر رئيس الوزراء أحمد حسن البكر إلى الوقوف فترة من الزمن حيث حاصرت سيارته جموع المستقبلين للأمام بسياراتهم ولم تستطع الشرطة من فك الحصار إلا بعد تحرك موكب الإمام الحكيم"(14).
لقد أظهرت زيارة الإمام الحكيم لبغداد عمق لتلاحم الجماهيري مع المرجعية الدينية، وشدة ارتباطها بها، لذلك فإنها شكلت رسالة تحذير إلى النظام وحرسه القومي الذي اشتد إرهابه واستهتاره بالقانون وبحقوق المواطنين وكراماتهم وحرماتهم الشخصية. كما كان للزيارة بعد آخر، فقد حمل الإمام السيد الحكيم
معه إلى بغداد مشروعاً للتحرك السياسي هدفه تصحيح الخلل الذي أوجده الإنكليز في أساس الدولة العراقية التي شُيدت أركانها على الطائفية المقيتة والعنصرية البغيضة، فاستدعى في أحد أيام الزيارة السيد العسكري وبعد نصف ساعة حضر الشيخ محمد رضا الشبيبي – وهو شخصية سياسية وطنية ووزير سابق ومن المشاركين في تأسيس الدولة العراقية عام 1921- فوجه الإمام الحكيم كلامه للشبيبي قائلاً له "انهض وأنا أدعمك"(15)، وكانت تلك هي البداية حيث "كتب الشبيبي مذكرة للحكومة وسلمها للعسكري، معلناً بدء الحركة ضد السلطة وكانت وفاة الشبيبي المفاجئة السبب في تأجيل العمل بالحركة، بغية إيجاد الوجه السياسي المناسب"(16). وقد ألقى الإمام السد الحكيم بمسؤولية النهوض بالتحرك السياسي على عاتق السيد مرتضى العسكري بمشاركة السيد مهدي الحكيم، وبذلك وجد السيد العسكري نفسه فجأة في وضع يتوجب عليه فيه أن يجمع ما بين عمل حزبي ذي طابع سري ونشاط سياسي واسع النطاق ذي طابع علني، وقد وجد العسكري من الناحية العملية عدم إمكان الجمع بين النشاطين لأسباب عدة، منها تعارض طبيعتيهما أولاً وحاجة كل منهما إلى تفرغ كامل ثانياً، كما أن أي تركيز على أحدهما سيكون حتماً على حساب الآخر. لذلك لم يجد بداً من تحديد خياراته بالانقياد لتوجيه المرجع الأعلى والتفرغ لقيادة التحرك السياسي العام. وبعد أن قرر السيد العسكري التخلي عن مسؤولياته في قيادة الدعوة كان عليه اتخاذ قرار آخر لا يقل خطورة عن سابقه وهو؛ لمن يسلم مقاليد القيادة، وكان الإختيار ينحصر في شخصيتين لكل منهما ميزاتها وتوجهاتها الخاصة وهما المهندس محمد هادي السبيتي والشيخ عبد الهادي الفضلي. ونتيجة لموازنات معينة فقد وقع اختيار السيد العسكري على السبيتي، مع أن الشيخ الفضلي كان أقرب فكرياً إليه، وعن ذلك الاختيار يقول السيد العسكري بأنه "كان أكبر غلطة ارتكبها في حياته"(17)، وقد انسحب الشيخ الفضلي بعد ذلك من الدعوة بشكل نهائي،
ومن المؤكد أن السبب في ذلك ليس لعدم ترشيحه كقائد للدعوة وإنما باختلاف متبنياته الفكرية التي عبر عنها في كتابه (في انتظار الإمام) مع توجهات الدعوة في عهد قائدها الجديد محمد هادي السبيتي (أبو حسن) الذي شكل بدوره القيادة بإضافة عضو جديد إليها هو الشيخ عارف البصري، وذلك على النحو التالي:
1- محمد هادي السبيتي:
تولى مهام الإشراف والتخطيط والمراقبة العامة في الحزب كما أصبح المنظر الأول للدعوة، فكان يكتب معظم مواضيع النشرة المركزية (صوت الدعوة).
2- الحاج عبد الصاحب دخيل (الرجل الثاني في القيادة):
أنيطت به مسؤولية الجانب التنظيمي في الحزب فكان مسؤولاً عن 70% من تنظيمات الدعوة في العراق، فمنذ عام 1963 تولى الحاج دخيل الإشراف على:
- لجنة تنظيم بغداد.
- لجنة تنظيم الجامعة.
- اللجنة المحلية في النجف.
- اللجنة المحلية في كربلاء.
- اللجنة المحلية في البصرة.
- اللجنة المحلية في السماوة.
- اللجنة المحلية في الحلة.
- اللجنة المحلية في الديوانية.
- اللجنة المحلية في العمارة.
- أشرف على طباعة النشرة المركزية (صوت الدعوة) منذ عام 1965 وكان يحرر بعض المواضيع التنظيمية فيها.
- أشرف على التنظيم العسكري الذي تشكل عام 1967.
- أشرف على لجنة مواكب الطلبة التي كانت تسيرها الدعوة كل عام بمناسبة استشهاد الإمام الحسين (ع).
3- الشيخ عارف البصري:
أسندت إليه مسؤولية الإشراف على لجنة تنظيم ديالي بالإضافة إلى نشاطاته العامة كوكيل للمرجعية الدينية في منطقة (الزوية) في بغداد، حيث توسعت أعماله الاجتماعية والخيرية والإرشادية على مدى بضع سنوات لتجعل منه أحد العلماء المرموقين والمؤثرين على صعيد العاصمة بأسرها.
لقد ترك تسلّم السبيتي مقاليد القيادة بصمات عميقة على حياة الحزب الداخلية، وكان تأثيره منصباً في البداية على الجانب التنظيمي حيث تحولت الدعوة في عهده إلى حزب حديدي صارم في انضباطه. أما تأثيره على الجانب الفكري فكان واسعاً وعميقاً حيث تفرد بكتابة النشرة تقريباً، وبالتالي تمكن من رسم خط سير الدعوة وفق متبنيات فكرية وتنظيمية وسياسية لم يكن – بعضها على الأقل – موضع إجماع أو قبول من لدن آباء الدعوة المؤسسين ورموزها البارزين سواء الذين هم داخل التنظيم أم خارجه، مما أدى إلى حدوث تجاذبات داخل الهيئات القيادية للحزب، طرفها من جانب أبو حسن السبيتي والذي يعتبر أول شخصية قيادية من خارج الحوزة تصل إلى قمة الهرم القيادي للدعوة منذ تأسيسها، وطرفها الثاني علماء الدعوة تحفّ بهم مجموعة صغيرة من الكادر المتقدم من خارج الحوزة.
ومما زاد في توسيع الفجوة بين الجانبين تأكيد السبيتي على أن العمل السياسي
والحزبي يحتاج إلى اختصاص، وأن الحوزويين رغم تضلعهم بعلوم الشريعة فقهاً وأصولاً وتفسيراً وغيرها، لا يملكون هذا التخصص، وكان يعكس رأيه الذي لم يحد عنه خلال النقاشات التي كانت تدور مع كبار علماء الدعوة الذين حمّلوا السبيتي بدورهم مسؤولية إهمال الدعوة لفكر أهل البيت في نشراتها باعتباره منظر الحزب وقائده.
ومن الجدير بالذكر أن الطابع الإسلامي العام كان هو سمة الدعوة منذ نشأتها بدليل أن كل أدبياتها لا تشير إلى أي نفس طائفي، إلا أن السبيتي أراد تعميق هذا المفهوم على طريقة "إسلام بلا مذاهب" وهذا ما جعل من يختلفون معه في الرأي يعزون ذلك إلى تأثره بتجاربه الحزبية السابقة في حركة (الإخوان المسلمين) ومن بعدها في حزب التحرير الإسلامي الذي وصل إلى قيادته في ولاية العراق [باصطلاحهم الحزبي]. غير ن الدعوة تنفي أن تكون أن تكون "متأثرة بحزب كذا أو تيار كذا لأن الواقع الفكري والعملي المشاهد لكل ذي بصيرة وهمة في العمل الإسلامي يؤكد خلاف ذلك"(18)، وهي تؤكد في الوقت نفسه على أن "مسيرة الدعوة متميزة عن مسيرة الأحزاب الأخرى إسلامية كانت أم غير إسلامية"(19).
لقد استطاع السبيتي رغم كل ما كان يقال عن توجهاته أن يمسك التنظيم بقبضة من حديد مع أنه لم يكن على تماس مباشر مع الدعاة وذلك بفضل هيمنته المطلقة على القيادة، فقد كان الشيخ عارف البصري "يذوب في شخصه"(20). أما الرجل الثاني في الحزب الحاج عبد الصاحب دخيل، فكان المترجم الأمين لأفكاره على الصعيد العملي، لكنه لم يكن بحدية مواقفه حيال القضايا موضع الخلاف، بحكم علاقاته الواسعة مع الحوزة ومع المرجعية التي كان قناة الدعوة للاتصال معها، كما أن طبيعة المرحلة فرضت عليه أن يتجاوز كل نقاط الخلاف، وهو الذي "أفنى كل وجوده في الدعوة"(21).
انشقاق في تنظيم بغداد
حافظت الدعوة الإسلامية على تماسكها التنظيمي بعد انشقاق عام 1960 الذي وقع في تنظيم الحوزة في النجف الأشرف إلا أنها تعرضت لانشقاق آخر أواخر الستينات تمحور في خط الكرادة الشرقية الذي يعتبر من أنشط خطوط الدعوة العاملة في تنظيم بغداد.
وكانت لجنة الكرادة قد تشكلت من عضو القيادة العامة الشيخ عارف البصري كمشرف على اللجنة وعدد من الأعضاء من أبرزهم السيد سامي البدري الذي برز دوره بالإضافة إلى نشاطه الحزبي في كسب الأفراد وإدارة الحلقات في إلقاء المحاضرات الإسلامية في حسينية آل مباركة التي كانت تغص بالشباب المتدين، ومع تصاعد النشاط الإسلامي في منطقة الكرادة التي تحولت إلى واحدة من أهم معاقل الدعوة في بغداد تبلور اتجاه في لجنة الكرادة يقوده السيد البدري خلال الفترة بين عامين 1965-1966 وبمعزل عن مسؤولها الشيخ عارف البصري له ملاحظات على مجمل عمل الدعوة وخطها الفكري، منها عدم اهتمام القيادة بالجانب الروحي في تربية الأفراد وعدم تطابق الخط الفكري للدعوة بكامل جوانبه مع فكر أهل البيت وأخذه منحى عاماً على حساب المبدأ والعقيدة. وكانت تلك الملاحظة تمثل نقطة تقاطع حقيقية مع توجه القيادة التي كانت ترى أن الدعوة الإسلامية لا تستطيع أن تستوعب المسلمين جميعاً إذا بقيت ضمن دائرة مذهبية محددة، وإلا فما الفرق بينها وبين باقي
الحركات الإسلامية التي اتجهت اتجاهاً مذهبياً معيناً.
ومن الملاحظات الأخرى لذلك الاتجاه، معارضته لمواكب الطلبة، لاعتقاده بأن تلك المواكب ستنبه الأعداء إلى حجم التيار المؤيد للدعوة في المجتمع. كما كان لاتجاه السيد البدري مشروعاً لتطوير الحوزة العلمية قوامه إرسال (100) من الطلبة المتفوقين إلى النجف الأشرف للدراسة في حوزتها إلا أن القيادة رفضت المشروع.
ويتراكم نقاط الخلاف التي زادت برفض القيادة تسليم مسؤولية خط الجامعة (القناة إلى باقي المحافظات) إلى السيد البدري الذي كان يجد أنه الأجدر بتسلمه من غيره، مما ولد لديه شعوراً بأن القيادة تسعى لتحجيمه بسبب قناعاته الفكرية وانتقاده لخط سيرها، فأخذ يشكو لكوادر الدعوة في بغداد من تعامل القيادة معه، وكان يردد "أن مسؤولي لا يستوعبني" ويقصد الشيخ عارف البصري. لكن ذلك لم يمنع السيد البدري من أن يحث الخطي في الاتجاه الذي قرر السير فيه من خلال المحاضرات التي كان يلقيها والتي استقطبت جمهوراً واسعاً من الشباب من مختلف أنحاء بغداد.
وكان السيد العسكري الذي كان يؤم المصلين في نفس الحسينية التي يلقي فيها البدري محاضراته، يرى بأن على القيادة "أن تطوّل بالها على البدري" لأن ثمرة نشاطه سوف تقطفها الدعوة بالنتيجة. غير أن القيادة كان لها رأي آخر عبر عنه الحاج عبد الصاحب دخيل بالقول: "أن البدري يريد أن يصل إلى القيادة ونحن لا نقبل بذلك" وكانت مجموعة السيد البدري قد تقدمت بمذكرة من (60) صفحة إلى قيادة الدعوة سلمت إلى الشيخ عارف البصري، وتضمنت أهم نقاط الخلاف بين الجانبين، كما قد بادر السيد البدري إلى إصدار نشرة خاصة تعبر عن توجهاته باسم (صوت الداعية) لتثقيف الحلقات الحزبية اليت تديرها لجنة الكرادة، مما زاد في شقة الخلاف بين اتجاهه وبين قيادة الدعوة التي
قامت بإصدار قرار بفصله عام 1967 من التنظيم. عندها انقسمت لجنة الكرادة إلى شطرين؛ الأول فضل البقاء ضمن إطار الدعوة رغم الملاحظات التي له على خطها وعلى عمل القيادة، والثاني التحق السيد سامي البدري الذي شكل تنظيماً مستقلاً بقيادته واستمر في إلقاء محاضراته في حسينية آل مباركة كما كان في السابق.
وفي عام 1969 عقدت لقاءات منتظمة مجموعة الدكتور سامي البدري والمجموعة التي انشقت عن تنظيم العقائديين بين عام 1966 وتم الاتفاق بين الجانبين على النقاط التالية:
1- توحيد التنظيمين في تنظيم واحد.
2- تشكيل قيادة موحدة.
3- إصدار نشرة مركزية واحدة.
وقد أطلق على التنظيم الموحد بعد (10) سنوات من تشكيله اسم حركة جند الإمام.
الهوامش:
1- صحيفة الجهاد، ع62 في 3/1/1983 مصدر سابق.
2- الحكيم، مهدي: مذكرات، ص 42 مرجع سابق.
3- المصدر السابق، ص 42.
4- الحكيم، محمد باقر: النظرية السياسية عند الشهيد الصدر (قدس سره) ص33 مصدر سابق.
5- مقابلة مع الأستاذ كاظم يوسف في بيروت في 10/9/1996.
6- الحكيم، محمد باقر: النظرية السياسية عند الشهيد الصدر (قدس سره) ص32. مصدر سابق.
7- مقابلة مع السيد العسكري، مصدر سابق.
8- مقابلة مشتركة مع الحاج الأديب والسيد حسن شبر، مصدر سابق.
9- مقابلة مع آية الله السيد محمد باقر الحكيم في طهران في 4/5/1998.
10- ثقافة الدعوة. ج3 ص235.
11- الحكيم، مهدي: مذكرات ص41 مصدر سابق.
12- صوت الدعوة، ع39 ص28-29.
13- السراج، عدنان إبراهيم: الإمام محسن الحكيم، ص 232، مصدر سابق.
14- المصدر السابق، ص232.
15- المصدر السابق، ص 233.
16- المصدر السابق، ص 233.
17- مقابلة مع السيد العسكري، مصدر سابق.
18- ثقافة الدعوة، ج3، ص345.
19- المصدر السابق، ص 345.
20- مقابلة مع السيد مرتضى العسكري. مصدر سابق.
21- المصدر السابق.
الفصل الثامن
أضواء على التحرك الإسلامي في العراق
تحريك الأمة
كان في مقدمة الأهداف التي وضعها الإمام الحكيم لمرجعيته هو إخراج الأمة في العراق من عزلتها السياسية التي فرضت عليها بعد ثورة العشرين المجيدة. وقد استطاعت تلك المرجعية المجددة وفي خضم الصراع السياسي والأيديولوجي الذي شهدته الساحة العراقية بعد 14 تموز 1958 وعبر واجهاتها المختلفة، من إحداث نقلة نوعية في مستوى وعي الأمة قفزت بها من حالة الخمول والتهميش التي اعتادت عليها، إلى وضع أصبحت فيه مستعدة بدرجة أو بأخرى للتصدي والمواجهة. "وفي نفس الوقت فتحت مرجعية الإمام الحكيم الأبواب أمام العمل السياسي الخاص والعام، بمستوى فاق تصورات (النخبة) من الإسلاميين فضلاً عن الجمهور، وتمكنت أن تهدم الحواجز أمام العمل الإسلامي وحتى القوية منها في فترة قياسية سواء في مستويات التصدي وأساليبه، أو مضمونه السياسي، أو في العلاقات السياسية الرسمية والشعبية"(1).
وكان من أبرز معالم تلك المرحلة، تصدي الإمام السيد الحكيم لقيادة العمل السياسي بشكل مباشر أو عن طريق جماعة علماء بغداد والكاظمية والتي ضمت "في عضويتها كبار علماء بغداد والكاظمية وكانت غالبيتهم الساحقة من المستقلين والعاملين في إطار المرجعية وحدها، بالإضافة إلى بعض العلماء المعدودين الذين يرتبطون بالتنظيم"(2). وقد انبثقت عن الجماعة هيئة تنفيذية
ضمنت في عضويتها كلاً من:
1- السيد مرتضى العسكري.
2- السيد مهدي الحكيم.
3- السيد محمد الحيدري الخلاني.
4- الشيخ علي الصغير.
5- الشيخ محمد حسن آل ياسين.
6- السيد هادي الحكيم.
وكان "الإمام الحكيم قد جعل من هذه الجماعة منبراً سياسياً لآرائه وتوجهاته وجسراً رئيسياً بينه وبين أماني الأمة الإسلامية، وكانت أغلب رسائله واحتجاجاته للسلطة الحاكمة تتم بواسطة هذه الجماعة"(3)، وقد بدأ نشاط جماعة علماء بغداد والكاظمية من حيث انتهت إليه جماعة العلماء في النجف الأشرف والتي توقف عملها عام 1959 من حيث الاستمرار بإقامة الاحتفالات والمهرجانات الخطابية بالمناسبات الإسلامية ولكن على نطاق أوسع، كما أصبحت لها مواقف سياسية أكثر وضوحاً، فكانت وقفتها المشهودة ضد قرارات التأميم التي أصدرها عبد السلام عارف في 14 تموز 1964 تشبها بقرارات الرئيس جمال عبد الناصر في مصر حيث أضرت تلك القرارات إضراراً بالغاً بالاقتصاد الوطني وخاصة بالصناعات العراقية، ولم يكن هناك ما يبررها، لأن المصالح والمرافق العامة في البلد هي بالأساس ملك للقطاع العام، إضافة إلى تعديها على ممتلكات المواطنين بغير وجه حق.. لقد استطاعت جماعة علماء بغداد والكاظمية وخلال فترة زمنية قصيرة أن تتحول إلى منبر معبر عن مطالب أبناء الشعب في حياة حرة كريمة يسودها العدل والإنصاف وتتاح فيها الفرص أمام كافة المواطنين بغض النظر عن طوائفهم وقومياتهم.
وقد اعتبر النظام تلك المطالب المشروعة تهديداً للأسس التي قام عليها، فأخذ بالضغط على الجماعة بأساليب مختلفة، حتى أنه أقدم على اعتقال أحد ناشطيها هو السيد هادي الحكيم أمام جامع إسكان غربي بغداد، لكنه ما لبث أن أطلق سراحه.
وفي خضم ذلك المعترك لم يتخذ حزب الدعوة –والتزاماً منه بالمرحلية- أي موقف معين تجاه ما كان يحدث، ولعله "كان يعتمد على تحرك المرجعية في هذه المجالات بشكل عام ويكتفي به، إلا أنه يلاحظ عليه عدم التصدي المباشر حتى على مستوى البيانات العامة أو الخاصة في داخل التنظيم"(4)، وهذا الموقف في الحقيقة كان يعبر عن نهج التزمت به "الدعوة في أدبياتها وحلقاتها منذ البداية فلم تكن تتعرض للسلطة القائمة في العراق لئلا تُكشف وتخمد أنفاسها، لذلك لم يكن هناك تعرض للوضع القائم وإنما مفاهيم تعرض للإسلام وللاشتراكية والديمقراطية وغيرها من المواضيع السياسية"(5). وقد تحول هذا التباين في تقييم المرحلة بين المرجعية والحزب إلى نشوء حالة من الافتراق بين تحرك المرجعية وطريقة عمل الدعوة "مع العلم أن المساحة المشتركة بين عمل المرجعية والتنظيم الخاص كانت واسعة وكبيرة من ناحية"(6).
وإلى ذلك يشير السيد مهدي الحكيم الذي كان يمسك مع السيد مرتضى العسكري بمفاصل التحرك السياسي الإسلامي الذي رسمته المرجعية فيقول: "لم يكن لـ(حزب الدعوة) مساهمة في المشروع، لأن التحرك كان يسير في خطين في ذلك الوقت، وعمل الحزب كان قائماً على أساس الالتقاء بالأشخاص وتثقيفهم ثقافة إسلامية وبناء أفراد وما إلى ذلك، وكان هناك في الخط الآخر عمل سياسي تقليدي، وإلى حد ما كنا نمارسه أنا والسيد العسكري، وأنا لم يكن عندي ارتباط بـ (الحزب)، والسيد العسكري حسب الظاهر كان قد جمد نشاطه لأن هذا العمل يتنافى مع الارتباط، ولست أستطيع الجزم، وكنا في تحركنا
نركز على ضرورة إعطاء حياة برلمانية للعراق"(7).
وابتداءً من عام 1965 اتسع التحرك الإسلامي ليشمل العراق بأسره وذلك بإشراف وتخطيط نخبة من العلماء العاملين في ظل مرجعية الإمام الحكيم وهم:
1- السيد محمد باقر الصدر.
2- السيد مرتضى العسكري.
3- السيد مهدي الحكيم.
4- السيد محمد باقر الحكيم.
5- اليد محمد بحر العلوم.
وكان السيد هادي الحكيم يتناوب في حضور اجتماعات العمل التي كان يعقدها قادة التحرك الإسلامي والتي لم يشارك فيها أي قيادي من الدعوة تعبيراً عن موقف الحزب من ذلك النوع من النشاط الذي يعتبره غير منسجم مع المرحلة وسابق لأوانه، إلا أن ذلك لا يعني أن جسور التفاهم بين الجانبين كانت مقطوعة، فالاتصالات الجانبية بينهما كانت قائمة على قدم وساق عدا عما كان للسيد الصدر والسيد العسكري من دالة على الحزب، لأن السيد العسكري كان يعتبر نفسه مجمداً وليس منقطعاً عن العمل الحزبي، كما أن السيد الصدر واصل لقاءاته مع قادة الدعوة، ففي كل مرة يزور فيها بغداد كان يلتقي مع العديد من القياديين في اجتماعات مطولة ومن بين من كان يحضرها:
1- محمد هادي السبيتي.
2- عبد الصاحب دخيل.
3- داود العطار.
4- السيد فخر الدين العسكري.
5- المحامي حسن شبر.
ويتحدث المحامي شبر عن تلك الاجتماعات فيقول: "الجلسات التي نعقدها نحن لخمسة تتناول قضايا حزب الدعوة الإسلامية وشؤونه الكثيرة وأحياناً تطول هذه الجلسات حتى الفجر، والحديث عن هذه الفترة وعلاقتها بالشهيد الصدر طويل وهو حديث خاص لأنه يتركز في قضايا الحزب"(8).
ومع كل ما كانت تبديه الدعوة من ملاحظات على التحرك لسياسي العام للمرجعية فإنها وفي الوقت نفسه استغلت الأجواء التي أفرزها ذلك للتحرك للكسب الحزبي ولنشر الوعي والثقافة الإسلامية في أوساط الطلبة والشباب، إلا أن تأثيرها بقي في دائرة محدودة نسبياً، بينما استطاعت حركة المرجعية بما كان لها من زخم معنوي هائل من استقطاب قطاعات واسعة من لمجتمع، سواء في الوسط العشائري في الريف أم بين سكان المدن حول الأهداف والشعارات التي كانت عنواناً لتحركها، مما أثار مخاوف رئيس الجمهورية عبد السلام عارف فأخذ يخطط بجد لضرب ذلك التحرك بافتعاله فتنة تنطلق شرارتها من الكاظمية لتتخذ منها السلطة بعد ذلك ذريعة لاعتقال أذرع المرجعية في بغداد ممثلة بالسيد مرتضى العسكري والسيد مهدي الحكيم تمهيداً لإعدامهما، وفي حال حدوث تحرك جماهيري مضاد يجري سحقه بلا هوادة بالاستعانة بالقوات المصرية التي استقدمها عبد السلام عارف إلى العراق لحماية نظامه وكانت قد رابطت في معسكر التاجي بالقرب من العاصمة بغداد. وعن ذلك المخطط الذي جرى توقيته ليلة العاشر من محرم (مساء يوم تاسوعاء) والذي صادف وقوعه يوم 11/5/1995 يقول السيد مهدي الحكيم؛ "في تطور آخر للأحداث تم الهجوم على المسجد الذي يصلي فيه (السيد إسماعيل الصدر) على أساس أن هذا المسجد مسجد (ضرار) وكتبوا عليه (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ )، وفي ذلك الحين كان (السيد إسماعيل) قد لجأ إلى النجف، ولم
تتخذ الحكومة أي إجراء تجاه ذلك الهجوم. وحدث بعد ذلك أن حلت ذكرى عاشوراء، فأردنا أن نفتح المسجد بعد أن لم تفعل الحكومة أي شيء، فأقمنا العزاء يوم (تاسوعاء) عصراً (أنا) و(السيد مرتضى العسكري) و(الشيخ عارف البصري) ومجموعة من العلماء من بغداد. وكان الخطيب (السيد عبد الرسول الكفائي)، ثم خرجنا في موكب من الجامع لنشعر الناس بأن المسجد قد فتح واتجهنا إلى الصحن الكاظمي، وفي هذه الأثناء تركنا الموكب (أنا) و(السيد مرتضى العسكري) لأجل أن نصل إلى مساجدنا للصلاة، وبعد الصلاة اتصل بي (السيد مرتضى العسكري) وقال لي: أن الواقعة وقعت وهي أن (الشيخ عارف البصري) ذهب في موكب العزاء إلى الصحن فهاجمهم أتباع... (الشيخ محمد مهدي الخالصي) وحدثت معركة قتل فيها اثنان – من جماعة الخالصي-، وحينذاك اعتقل جماعة من (بني تميم)- الذين كانوا قد تصدوا لحماية السيد إسماعيل ومسده – وحاولت السلطة اعتقالي و(السيد مرتضى العسكري) بتهمة التحريض على القتل ... وهذا النوع من الاعتقال بموجب القانون لا يتم معه إطلاق سراح المعتقل حتى تثبت براءته وأي كفالة لا تنفع، وكان غرضهم إدخالنا السجن بصفة مجرمين بتهمة وجود اعترافات علينا، ولكن (أزهر عيسى الخلف) الذي كان حاكماً فهم المغزى فأفشل المخطط"(9).
وعلى الأثر انقلب الوضع تماماً لصالح المرجعية ومن يمثلها، وبدأت الوفود تتقاطر من كل أنحاء العراق على مقر إقامة الإمام الحكيم في النجف الأشرف وهي تستنكر مؤامرات السلطة ودسائسها. وقد حاول عبد السلام عارف أن يعيد الاعتبار إلى نفسه بعد أن وصلت شعبيته إلى الحضيض وازدادت قاعدة المعارضة لحكمه وذلك من خلال سياسة إعادة ترميم الجسور مع المرجعية الدينية فقام في نيسان 1966 بزيارة إلى مدينة النجف الأشرف وحاول لقاء الإمام السيد الحكيم لكنه فشل في مسعاه، بعد أن رفض الإمام لقاءه مما "رفع درجة حقد عارف ضد المرجعية فوعد بالانتقام منها بعد رجوعه من سفرته إلى البصرة
جنوب العراق، إلا أن القدر كان له بالمرصاد، حيث تحطمت طائرته الخاصة في حادث غامض وكان ذلك في 14 نيسان 1966م"(10).
وبمصرع عبد السلام عارف أصبحت الفرصة سانحة للعودة بالبلاد إلى الحياة المدنية والتخلص من حكم العسكر، فتقدم السيد مهدي الحكيم وبأمر من الإمام الحكيم باقتراح إلى الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء، جاء فيه "أن هذه فرصة وأن عبد السلام مات فليكن هناك حكم مدني وتشكيل مجلس قيادة من ثلاثة أشخاص ونحن مستعدون أن نوافق على أن تكون واحداً منهم. ولكنه لم يقبل وتردد بسبب غبائه أو حقده"(11) مما أتاح الفرصة أمام رجل النظام القوي اللواء سعيد صليبي آمر موقع بغداد، وكبار ضباط الجيش لفرض شقيق الرئيس الأكبر اللواء عبد الرحمن محمد عارف معاون رئيس أركان الجيش، رئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للقوات المسلحة. وقد خسر الدكتور البزاز الفرصة أيضاً حيث أقبل من منصبه بتأثير من القادة العسكريين.
العراق في مهب رياح التآمر الدولي
بتولي عبد الرحمن عارف مقاليد السلطة بدأ عهد جديد في البلاد اتسم بالتسامح والانفراج السياسي، وكان الرئيس الجديد يتجاوب في بعض الأحيان مع المطالب التي تطرحها القوى السياسية المختلفة بما فيها مطالب الإسلاميين، ويعد بتحقيقها، إلا أن مكمن الخطر في عهده كان في ازدياد حدة الصراع الدولي على العراق بين العديد من القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي جنّدت أجهزتها السرية والعلنية خلال تلك الفترة بالذات لجر العراق من دائرة النفوذ البريطاني المستتر إلى دائرة نفوذها، وكان ينافسها في ذلك فرنسا التي سعت هي الأخرى لأن يكون لها حصة في أسواق العراق وفي استثمار ثرواته المعدنية الهائلة، إضافة إلى الاتحاد السوفيتي الذي كانت مجساته تمتد إلى الزوايا الحساسة في البلد .. لذلك، فإن واشنطن كانت تتابع عن كثب كل التطورات الداخلية على الساحة العراقية، ومن بينها بروز التيار الإسلامي على مسرح الأحداث، وهي الظاهرة التي اختفت في العراق منذ عام 1923 مما جعل السفارة الأمريكية في بغداد توليها أهمية خاصة. وعلى هذا الأساس توجه السفير الأمريكي إلى النجف الأشرف بهدف لقاء المرجع الأعلى وقد "فوجئ السيد الحكيم بالسفير الأمريكي وهو في غرفة الاستقبال .. فقيل له أن هذا هو السفير الأمريكي والذي كان معه جملة من المسؤولين [العراقيين] وقد وجه
السفير سؤاله للسيد الحكيم- أعلى الله مقامه –ماذا تريدون من الحكومة القائمة؟ ولِم تعارضونها؟ ثم حاول أن يؤكد أن ذلك الوضع هو أفضل صورة للوضع السياسي في العراق. . فصمت السيد الحكيم ولم يرد عليه .. إلا أنه مد يده إلى كتابين كانا إلى جانبه، وهما منهاج الصالحين [ج1، ج2] فسلمهما إلى السفير الأمريكي، قال له: هذا ما نريد.
خرج السفير الأمريكي.. وهو يتصور أنه استطاع العثور على هدف الزيارة ... إلا أنه فوجئ بالقول من قبل بعض مرافقيه: أن هذه الرسالة فقهية .. والمقصود منها المطالبة بتطبيق أحكام الإسلام"(12). إلا أن موقف الأمريكان من نظام الحكم قد أخذ بالتغير خصوصاً بعد عدوان الخامس من حزيران 1967 لأسباب عديدة منها:
- ضعف الرئيس عبد الرحمن عارف وخشية واشنطن من وثوب قوى غير معروفة ومعادية للولايات المتحدة إلى سدة الحكم في بغداد.
- تردد النظام الحاكم في منح الشركات الأمريكية امتياز استثمار الكبريت والذي يعد احتياطه في العراق من أكبر الاحتياطات في العالم. فقد اشترطت الحكومة العراقية خلال المباحثات التي أجراها كبار المسؤولين في الدولة مع وزير المالية الأمريكي الأسبق روبرت اندرسن الذي يرأس مجموعة المستثمرين في شركة (بان أمريكا سلفر كوربوريشن) الأمريكية خلال زيارته لبغداد، تغيير الموقف الأمريكي المنحاز من الصراع العربي/ الإسرائيلي حتى يتسنى للعراق منح امتياز الكبريت للشركات الأمريكية. وفي وقت لاحق أعلن الرئيس عبد الرحمن عارف في 8/4/1968 عن رفض العراق للعروض التي تقدمت بها الشركات الأجنبية لاستثمار الكبريت في أراضيه وعن قراره باستثمار مناجمه الكبريتية بشكل مباشر وبمساعدة خبراء من بولونيا.
- منح شركة (إيراب) الفرنسية النفطية امتياز التنقيب عن النفط جنوبي
العراق، وبذلك دخلت فرنسا كمنافس حقيقي للمصالح الأمريكية والبريطانية في العراق. كما أبدى الرئيس عبد الرحمن عارف خلال زيارته لباري التي بدأت في 17/1/1968 رغبة العراق في الحصول على طائرات ميراج الفرنسية حيث تم الاتفاق فيما بعد مع الحكومة الفرنسية على قيام شركة (داسو) المنتجة للطائرات بتزويد القوة الجوية العراقية بـ(52) طائرة من هذا الطراز.
- تواجد قطعات ضاربة من الجيش العراقي على الجبهة الشرقية، وما يشكله ذلك الوجود العسكري من خطر مباشر على الدولة العبرية.
وقد استقر قرار الأمريكان – لتلك الأسباب أعلاه ولغيرها – على قلب نظام الحكم في بغداد، وعهد بالإشراف على العملية برمتها بمعتمدهم في العراق السيد لطفي العبيدي الذي كان يتخذ من إدارة بعض الشركات التجارية واجهة لعمله وكانت أداة التغيير مجموعة من ضباط الحرس الجمهوري والاستخبارات العسكرية تسمى (حركة الثورة العربية) ويبلغ عدد أعضائها (25) ضابطاً بقيادة المقدم الركن عبد الرزاق النايف معاون مدير الاستخبارات العسكرية الذي استطاع أن يُدخل في المخطط الانقلابي العديد من الضباط المحيطين بالرئيس الفريق عبد الرحمن عارف، وفي مقدمتهم العقيد الركن إبراهيم بعد الرحمن الداود قائد قوات الحرس الجمهوري، والرائد سعدون غيدان آمر كتيبة دبابات الحرس، وضباط آخرين في موقع بغداد، كما دخل على الخط عدد آخر من الضباط منهم العقيد شفيق الدراجي مدير الاستخبارات العسكرية. وكان عراب الحركة الانقلابية اللواء الركن بشير الطالب(13) القائد السابق للحرس الجمهوري والملحق العسكري في السفارة العراقية في بيروت قد تولى جانباً من عملية التنسيق التي كانت جارية بين الأطراف الدولية عبر سفاراتها وشبكاتها العاملة في العاصمة اللبنانية والقوى الانقلابية في الداخل، وقد وقع الاختيار أولاً على العقيد المهندس رجب عبد المجيد(14) ليكون واجهة الانقلاب، ثم استبدل فيما
بعد باللواء المتقاعد أحمد حسن البكر رئيس الوزراء الأسبق وأمين سر القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي- جناح ميشيل عفلق – وبعد أن ترشح قادة الحزب ليكونوا حكام العراق الجدد، بدأت اتصالاتهم بمختلف القوى السياسية في البلد ومن بينها التيار الإسلامي الذي أصبح أقطابه على "علم حقيقي بأن عبد الرحمن عارف لن يبقى في الحكم وأن البعثيين هم الذين سوف يأتون إلى الحكم"(15) فاتصل كل من أحمد حسن البكر وحردان عبد الغفار التكريتي وشخص يدعى فاضل حسن، بالسيد مهدي الحكيم وقالوا له: "ماذا تريدون؟ قلنا لهم – والحديث للسيد مهدي الحكيم – إنا لا نريد شيئاً سوى قيام حكومة بحيث يشعر أبناء العراق أنها حكومتهم، ويدافعون عنها بكل قلوبهم لأنها تضمن مصالحهم، فقالوا نحن استفدنا من دروس سنة 1963"(16). وقد حاول قادة الحركة الإسلامية في العراق تدارك البلاء قبل وقوعه، فقد حذر السيد مرتضى العسكري الرئيس عبد الرحمن عارف من مؤامرة تحاك ضده في الخفاء وهو آخر من يعلم بها، وذلك خلال زيارة قام بها وفد من جماعة علماء بغداد والكاظمية إلى الرئيس عارف في القصر الجمهوري وأشار السيد العسكري خلال الحديث الذي دار إلى المخاطر الناجمة عن عودة حزب عفلق إلى السلطة مرة أخرى على الشعب والوطن ... لكن الرئيس طمأن الحضور إلى أن الأوضاع مسيطر عليها وأن كل شيء يسير على ما يرام.
المرجعية في ساحة المواجهة
وكما كان متوقعاً فقد نجح الانقلاب السهل الذي قاده ضباط القصر ضد رئيسهم المخدوع فسيطر العقيد الداود قائد الحرس على القصر الجمهوري واعتقل الرئيس عبد الرحمن عارف، وسيطر زميله المقدم النايف على وزارة الدفاع وذلك ليلة 16-17/7/1968 وأعلن صبيحة يوم 17/تموز/1968 عن تنحية الفريق عبد الرحمن عارف عن جميع مناصبه وإقالة وزارة الفريق طاهر يحيى وأعلن عن تعيين أحمد حسن البكر رئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للقوات المسلحة برتبة مهيب، والمقدم الركن عبد الرزاق النايف رئيساً للوزراء برتبة فريق، والعقيد الركن إبراهيم الداود وزيراً للدفاع برتبة فريق، ورحل الفريق عبد الرحمن عارف إلى الخارج حيث استقر فيما بعد في تركيا.
وفي لقاء أجراه معه في اسطنبول الكاتب والباحث حنا بطاطو بتاريخ 18/2/1970 كشف الرئيس الأسبق عبد الرحمن عارف النقاب عن أن رفضه لمنح امتياز الكبريت لشركة (بان أمريكا) كانت نقطة أخرى جعلتهم يراهنون على النايف في النهاية فوجدوا فيه الرجل المناسب الذي يحتاجونه وراح يؤكد كلامه بالقول: "لقد اشتروه بواسطة السعودية، وبواسطة (بشير الطالب) الملحق العسكري في بيروت والقائد السابق لقوات الحرس الجمهوري و(ناصر لحاني) سفير العراق في لبنان. ولمح (عارف) إلى أنه يؤكد هذا الأمر عن علم، وليس مجرد شكوك"(17)، ولم يطل الأمر فسرعان ما تفرد البعث – جناح عفلق- السلطة بحركة انقلابية سريعة على قادة الانقلاب الحقيقيين وذلك يوم 30/تموز/1968 بعد أن قلب ظهر المجن للخط الأمريكي الذي جاء به مرة أخرى إلى السلطة، وتولى أحمد حسن البكر – ربيب بريطانيا المعروف – الحكم بشكل مطلق فجمع منصب رئاسة الوزراء إلى منصبه كرئيس للجمهورية إضافة إلى رئاسة ما يسمى بمجلس قيادة الثورة الذي شُكل بعد انقلاب القصر في 17/7/1968 ولم يمض وقت طويل حتى كشف حزب عفلق عن حقيقة نواياه تجاه الإسلام وحركته في العراق فأخذ يتحرش ابتداء بالمرجعية الدينية وذلك بتصفية المؤسسات التابعة لها، فأعلن وزير الداخلية صالح مهدي عماش عن إلغاء جامعة الكوفة ومصادرة كافة أموالها، كذلك تضمن قانون التجنيد الجديد عدم إعفاء طلبة الحوزة من الخدمة الإلزامية، كما بدأ النظام بممارسة الضغوط على أصحاب المواكب الحسينية في المدن المقدسة، هذا عدا عن حملات الاعتقال الواسعة التي طالت أعداداً كبيرة منا لشخصيات السياسية والوجوه الاجتماعية وأصحاب الكفاءات من حملة الشهادات الأكاديمية العالية. وكان من بين المعتقلين أيضاً عدد من ضباط القوات المسلحة ومن مختلف الرتب، وقد ألصق بالمعتقلين طيف واسع من التهم بما فيها تهمة الجاسوسية وذلك لتشويه سمعة المعتقل ولتبرير تصفيته فيما بعد، وكان توجيه مثل تلك التهمة الشائنة إلى خصوم النظام يحمل في معناه أيضاً تبرئة لساحة حكام البعث مما يتناقله المواطنون حول حقيقة ارتباطاتهم بالدوائر الاستعمارية التي هيأت لهم فرص العودة للحكم بمنتهى السهولة.
ونتيجة لممارسات السلطة تلك فقد "بلغ السيل الزبى وطفح الكيل وبدأت الناس تخاف خوفاً شديداً"(18)، عند ذاك قرر الإمام الحكيم التحرك وكسر حاجز الخوف الذي فرض على أبناء الشعب فأمر بعقد اجتماع ضم نحو (60) من علماء الدين في بغداد جرى عقده في حسينية التميمي في (رخيته) في
مجرد شكوك"(17)، ولم يطل الأمر فسرعان ما تفرد البعث- جناح عفلق- بالسلطة بحركة انقلابية سريعة على قادة الانقلاب الحقيقيين وذلك يوم 30/ تموز/ 1968 بعد أن قلب ظهر المجن للخط الأمريكي الذي جاء به مرة أخرى إلى السلطة، وتولى أحمد حسن البكر- ربيب بريطانيا المعروف- الحكم بشكل مطلق فجمع منصب رئاسة الوزراء إلى منصبه كرئيس للجمهورية إضافةً إلى رئاسة ما يسمى بمجلس قيادة الثورة الذي شُكل بعد انقلاب القصر في 17/7/1968 ولم يمض وقت طويل حتى كشف حزب عفلق عن حقيقة نواياه تجاه الإسلام وحركته في العراق فأخذ يتحرش ابتداء بالمرجعية الدينية وذلك بتصفية المؤسسات التابعة لها، فأعلن وزير الداخلية صالح مهدي عماش عن إلغاء جامعة الكوفة ومصادرة كافة أموالها، كذلك تضمن قانون التجنيد الجديد عدم إعفاء طلبة الحوزة من الخدمة الإلزامية، كما بدأ النظام بممارسة الضغوط على أصحاب المواكب الحسينية في المدن المقدسة، هذا عدا عن حملات الاعتقال الواسعة التي طالت أعداداً كبيرة من الشخصيات السياسية والوجوه الاجتماعية وأصحاب الكفاءات من حملة الشهادات الأكاديمية العالية. وكان من بين المعتقلين أيضاً عدد من ضباط القوات المسلحة ومن مختلف الرتب، وقد أُلصق بالمعتقلين طيف واسع من التهم بما فيها تهمة الجاسوسية وذلك لتشويه سمعة المعتقل ولتبرير تصفيته فيما بعد، وكان توجيه مثل تلك التهمة الشائنة إلى خصوم النظام يحمل في معناه أيضاً تبرئة لساحة حكام البعث مما يتناقله المواطنون حول حقيقة ارتباطاتهم بالدوائر الاستعمارية التي هيأت لهم فرص العودة للحكم بمنتهى السهولة.
ونتيجة لممارسات السلطة تلك فقد "بلغ السيل الزبى وطفح الكيل وبدأت الناس تخاف خوفاً شديداً"(18)، عند ذاك قرر الإمام الحكيم التحرك وكسر حاجز الخوف الذي فرض على أبناء الشعب فأمر بعقد اجتماع ضم نحو (60) من علماء الدين في بغداد جرى عقده في حسينية التميمي في (رخيته) في
منطقة الكرادة التي يؤم الصلاة فيها السيد مهدي الحكيم. وقد خلص المجتمعون إلى "أن الشعب العراقي سيطر عليه الخوف بشكل غير طبيعي وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يمارس أي عمل في مواجهة السلطة ما لم يكسر هذا الخوف ويجب بيان إسناد وتأييد الناس للمرجع"(19)، وتم انتخاب (10) علماء من بين المجتمعين توجهوا إلى النجف الأشرف لمقابلة الإمام الحكيم وإبلاغه بنتائج الاجتماع. وعلى الأثر قرر الإمام التوجه إلى بغداد "من أجل كسر طوق الخوف ومن أجل القيام بتحرك حقيقي"(20) إلا أنه مرض بالأثناء وانصرف عن السفر لكنه بعد ذلك عزم على التوجه إلى بغداد فجأة، وبعد وصوله العاصمة بدأت الوفود تتقاطر على مقر إقامته من كافة أنحاء العراق وقد حاولت السلطة كسب الوقت للتعرف عن كثب على ما ينوي عمله، وذلك من خلال الزيارات التي قام بها كبار المسؤولين إلى مقر إقامته، وكان من بينها زيارة خير الله طلفاح محافظ بغداد الذي رافقه اللواء حامد العاني وكيل وزارة الداخلية. وخلال اللقاء عبر الإمام الحكيم عن سخطه واستنكاره لحملات التنكيل والاعتقال التي تجري والتي لم يكن لها إلا معنى واحد وهو إسكات أي صوت معارض للسلطة وحزبها الحاكم.
كما أبدى الإمام الحكيم خلال الزيارة التي قام بها اللواء حماد شهاب(21) إلى مقر إقامته، امتعاضه الشديد لطريقة تعامل الحكم مع ذكرى ولادة الرسول (ص) والتي صادفت يوم الزيارة، بإقدامه على إلغاء جميع الاحتفالات التي كانت تقوم بها الحكومات السابقة والتي كانت تنقل عبر محطتي الإذاعة والتلفزيون، فيما ظهر مقال يتيم في صحيفة الثورة بقلم ميشيل عفلق الأمين العام لحزب السلطة بعنوان (ميلاد الرسول العربي) فوجه كلامه إلى اللواء شهاب قائلاً له: "أن هذا غير ممكن ولا يطاق مثل هذا الوضع، ففي بلد إسلامي وفي مولد الرسول (ص) تمر هذه المناسبة وليس هناك أي مظهر من مظاهر الاحتفال، إلا ميشيل عفلق المسيحي يقيّم رسول الله ويتكلم عنه" فبدأ حماد شهاب حينئذ
يتحدث عن البعثيين، ومما قاله لسماحته: أن هؤلاء مجرمين وكفرة ملحدين لا يؤمنون بالله ولا برسوله، وهم مجموعة أطفال، ونحن الآن نعمل على إفساح المجال لهم لكي يجتمعوا ونتعرف عليهم ثم نجهز عليهم مرة واحدة ونقضي عليهم جميعاً"(22)، وسواء كان رئيس الأركان جاداً فيما يقول أم لا فإن ممارسات السلطة وأفعالها كانت كافية لوحدها للدلالة على حقيقة شخصيات القائمين عليها، لذلك لم يكن هناك إمام لمرجعية من خيار آخر غير وضع النقاط على الحروف وتسمية الأشياء بأسمائها فتقدم السيد مهدي الحكيم في 5/6/1969 بمذكرة إلى قيادة النظام باسم علماء بغداد والكاظمية "يحتج بها على مجمل التصرفات ويدين النظام على أساسها ويقدم اقتراحات محددة بشأنها"(23).
وفي مثل تلك الظروف الحرجة قامت قيادة حزب الدعوة ومنذ "أوائل حزيران 1969 ببحث حيثيات الوضع والموقف المطلوب مع آية الله الحكيم"(24). ويرى السيد محمد باقر الحكيم الذي شارك شخصياً في أحداث تلك الفترة أن الحزب "قد تردد في القيام بعمل سياسي في هذا المجال واكتفى بمراقبة الأوضاع، وبعد ضغط الشهيد الصدر والعلامة السيد مرتضى العسكري وغيرهما من العناصر المؤثرة على الحزب. استجاب جزئياً في أول الطريق ثم عدل عن المواجهة بدعوى الالتزام بمنهج المرحلية"(25)، وكان السيد محمد باقر الحكيم قد طلب من "الحاج عبد الصاحب دخيل شخصياً إصدار منشور يتضمن على الأقل (دعاء الفرج) لإشعار الأمة بالمحنة ووعد بذلك ولكن لم ينفذ الوعد بسبب هذا الموقف ولعله كان يرى شخصياً صحة إصدار هذا المنشور"(26).
وكانت قيادة الدعوة قد حددت موقفها منذ البداية من التحرك السياسي العام للمرجعية واعتبرته غير منسجم مع المرحلة التي يعيشها الحزب هذا إن لم يكن
يتعارض معها "وهذا الاختلاف في الرؤية أدى بعد ذلك إلى بروز حالة الانفصال النسبي تدريجياً في التحرك الإسلامي بين موقف المرجعية والكادر الإسلامي الذي تربى في أحضان التنظيم الحزبي والذي كان يرتبط بالمرجعية في تحركها العام"(27). ومن مظاهر هذا الانفصال النقد الذي كان يوجه خلال "اجتماعات الكادر القيادي للدعوة"(28)، وخاصة خلال الفترات المتأخرة، إلى تحرك المرجعية السياسي، وقد حفلت النشرة المركزية (صوت الدعوة) بالعديد من المواضيع بقلم أبو حسن السبيتي وهي تتحدث عن المرحلية وتحذر من مغبة تجاوزها في إشارة إلى التحرك الإسلامي وآثاره الجانبية على مسيرة الدعوة. ومن مظاهره الأخرى أيضاً الانكماش عن المشاركة في أي تحرك سياسي – إلا ما ندر – كانتخابات نقابة المعلمين(25) في البصرة ومواكب الطلبة التي لم تكن هي الأخرى "تهدف إلى التعبئة السياسية بقدر ما كانت تستهدف إيجاد البديل الثقافي في مجال الشعائر الحسينية وهو مضمون ثقافي"(30)، في جوهره في حين أن القيادة التي سبقت قيادة السبيتي كانت أكثر مرونة في التعامل مع القضايا السياسية خاصة إذا كانت المرجعية الدينية طرفا فيها، هذا مع التزامها في الوقت نفسه بمبدأ المرحلية. فقد شارك السيد العسكري وهو على رأس قيادة الحزب في وفد علمائي أرسله الإمام الحكيم لمقابلة اللواء أحمد حسن البكر رئيس الوزراء عام 1963 وتسليمه رسالة من الإمام الحكيم كان العسكري "هو الذي صاغ عباراتها، والتي فيها مطاليب الأمة الإسلامية، فيما يخص الأحكام الإسلامية وتطبقاتها"(31).
وقبل ذلك ساهمت الدعوة وبعد فترة قصيرة من تأسيسها في معظم نشاطات جماعة العلماء في لنجف الأشرف والتي كان الطابع السياسي هو الغالب عليها دون أن تعتبر القيادة أن مشاركتها هي إخلال بالمرحلية أو تجاوز لها.
ولم تكن تلك هي نقطة الإشكال الوحيدة في علاقة قيادة الدعوة بالمرجعية، فقد كان هناك ما هو أهم منها وهو تمسك السبيتي بالمبدأ القائل بقيادة الحزب للأمة مع الاستفادة في ذات الوقت من المرج