-1-
لطالما فتَّشتُ عن الحجر الأسود الذي يُطهِّر روح الموت. وعندما أقولُ لطالما، أتخيَّلُ بئراً لا قعر، نفقاً حفرته بأصابعي، بأسناني. يحدوني الأملُ العنيدُ بأن أبصر، ولو لدقيقة، لدقيقة متمادية خالدة، شعاع نور، شرارة من شأنها أن تنطبع في مأقٍ عيني وتحفظها أحشائي مصونةً كسرِّ. فتكون هنا، ساكنة صدري مُرضعة لياليِّ البلا ختام، هنا، في هذا القبر، في باطن الأرض الرطبة، المفعمة برائحة الإنسان المفرغ من إنسانيته بضربات معزقة تسلخ جلده، وتنتزع منه البصر والصوت والعقل.
ولكن ما جدوى العقل، هنا حيث دُفِنَّا، أقصِدُ حيث وُورينا تحت الأرض وتُرِكَ لنا ثقبٌ لكفافِ تنفسِّنا، لكي نحيا من الوقت، من الليالي، ما يكفي للتكفير عن ذنبنا؛ وجُعلَ الموت في بطئه الرشيق موتاً متمادياً في تأنيه، مستنفداً كلِّ وقت البشر، البشر الذين ما عدنا منهم، وأولئك الذين ما زالوا يحرسوننا، وأولاءِ الذين حللنا في نسيانهم التام. آه من البطء! أول أعدائنا؛ ذاك الذي كان يغلِّف جلودنا المقرِّحة فلا يلتئمُ الجرح الفاغرُ إلا بعد وقتٍ طويل؛ ذلك البطء الذي كان يجعل قلوبنا خافقة على الإيقاع العذب للموتِ القليل، كأن علينا أن ننطفئ كشمعةٍ مضاءةٍ بعيداً منَّا وتذوب بعذوبة الرَغَد. غالباً ما كنتُ أتخيل تلك الشمعة المصنوعة لا من شمع، بل من مادة مجهولة توهم بالشعلة الخالدة، ستارةً رمزية على بقائنا. وكنتُ أتخيل أيضاً ساعة رملٍ عملاقة، كل حبَّة رمل فيها هي
برغلةٌ في جلدنا، قطرة من دمنا، جرعة صغيرة من الأوكسجين نفقدها كلما انحدر الوقتُ نحو الغَوْر الذي نقيم فيه.
لكن أين كنا؟ كنا بلغنا المكان من دون أبصارنا. أكان الليل؟ الأرجح أنه كان. فالليل سيكون صحبتنا، ومرتعنا وعالمنا ومقبرتنا؛ كانت تلك أول معلومة بلغتني. فبقائي حياً، وتعذيبي واحتضاري، أمور مدوَّنة على غشاء الليل. أدركتُ ذلك على الفور. كأني طالما أدركتُ ذلك. الليل، آه! ملحفتي المنسوجة من غبار مجمِّد. فسحتي المشغولة من أشجارٍ سودٍ لا ترجِّحها ريحُ الصقيع إلا لتؤلم ساقي، وأصابعي المسحوقة بأخمص رشاش. ما كان الليل يهبطُ، كما يُقال، بل كان هناك، مكتنفاً، طوال الوقت؛ وُلي عذاباتنا يعرِّضها لحساسيتنا إذا ما أفلحنا في أن نُبطل إحساسنا، كما كان يفعل بعضُ من عُذِّبوا إذ يغادرون أجسادهم بمقدارٍ فائقً من التركيز ما يتيح لهم ألا يشعروا بالألم. كانوا يتركون أجسادهم لجلاديهم ويمضون في نسيان كل شيءٍ، منصرفين إلى صلاةٍ أو تأملٍ لدُني.
كان الليل كسوتنا، وربما قِيل في عالم آخر إنه كان يحيطنا برعايته. لا أثر لنور، لا أثر لبصيص ضياء. لكن أعيننا، وإن فقدتِ البصر، اعتادته. كنَّا نبصر في الظلمات، أو نظن أننا نبصر. كانت صورنا ظلالاً متنقلة في العتمة، بعضُها يعثر بالبعض، أو يعثر بكرّاز الماء، أو يطيحُ بكسرة الخبز اليابس التي يحتفظ بها البعض اتقاء لتشنجات المعدة.
كان الليلُ قد كفَّ عن أن يكون هو الليل، فما عاد له نهار ولا نجوم ولا قمر ولا سماء. كنا، نحن، الليل. وإلى الأبدِ ليليةٌ أجسادنا وأنفاسُنا وخفق قلوبنا وتلمسات أيدينا، متنقلة من جدار إلى آخر دونما جهد تبذله، لأن المساحة جُعِلتْ مساحة قبرٍ لحيِّ- كلما تلفظتُ بهذه الكلمة كان عليَّ أن استبدلها بالناجي -، لكني في الحقيقة كنت حياً، مكابداً الحياة في
بؤسها المدقع، في الاختيار الذي لا ختام له سوى الموت. غير أن كل ذلك – مهما بدا مُستهْجَناً- يُشبه الحياة.
لم نكن نقيم في كنفِ أيِّما ليل. فليلنا كان رطباً، شديد الرطوبة، لزجاً، قذراً، دبقاً، تفوح منه رائحة بول الرجال والجرذان؛ كان ليلاً وافداً علينا على صهوة جواد أغبر يتبعه رهط من الكلاب المسعورة، رمى بجلبابه الثقيل على وجوهنا فما عاد يذهلنا شيء؛ جلباب ليس فيه حتّى الثقوب التي يُحدثها العُثَ. لا، فقد كان جلباباً من الرمال الرطبة. تراب ممزوج ببراز كل صنوف الحيوانات يعلق بجلودنا كما لو أن مراسم دفننا قد تمت. لا، فالريح على الفور، تمنحنا ما يكفي لأن نبقى بعيداً من الحياة وعلى مقربةٍ من الموت. كان الجلباب هذا، يزن زِنةَ أطنان، غير مرئي لكنه محسوس. وكانت أصابعي تفقد جلدها حين ألمسه. وكنتُ أخبئ يديِّ خلف ظهري لكي لا ألمس الليل مجدداً. وعلى هذا النحو كنتُ أحمي يدي. ولكنْ كم أرغمني بَرْدُ الإسمنت الرطب على استبدال وضعية رقدتي بأخرى، فأستلقي على بطني، وجهي سوية الأرض، مُؤثراً وجعَ الجبين على وجع اليدين. كانت لنا إذاً، خيارات التفضيل بين وجعين، ولكنْ، ليس حقاً. فقد كان على الجسم كله أن يتوجع. كل جزء منه، بلا استثناء. والقبر قد أُعِدّ (عبادة أخرى من عبارات الحياة، ولكن ينبغي أن نواصل استعارة أشياء صغيرة من أشياء الحياة)، بحيث يتلقى الجسمُ كل ضروب العذاب الممكنة، وأن يكابدها بأبطأ ما في البطء، وأن يبقى على قيد الحياة لكي يُسام عذابات أخرى.
في الواقع، كان القبرُ زنزانة يبلغ طولها ثلاثة أمتار وعرضها متراً ونصف المتر؛ أما سقفها فوطيء جداً يتراوح ارتفاعه بين مئة وخمسين ومئة وستين سنتمتراً. ولم يكن بإمكاني أن أقف فيها. حفرة للتبوِّل والتبرز. حفرة قطرها عشرة سنتمترات. كانت جزءاً من أجسادنا، والأفضل أن نسارع إلى نسيان وجودها، لكي نكفّ عن اشتمام روائح
البراز والبول؛ لكي نتوقف عن الشمِّ إطلاقاً. ولكي نفعل، لا ينبغي أن نسدُّ أنوفنا. لا، إطلاقاً، بل ينبغي أن ندع أنوفنا مفتوحة ونتوقف عن الشم. في البداية، كان الأمر شاقاً. كان دُربة، عتها لابد منه، اختباراً ينبغي اجتيازه بأي ثمن. أن تكون هناك من دون أن تكون هناك. أن يُغلق المرء حواسه ويُسلطها في اتجاه آخر، ويمنحها حياة أخرى. كأني رُميتُ في تلك الحفرة مجرداً من حواسي الخمس. وهذا ما كان: أتظاهر بأني أودعتها خزانة أماناتٍ في محطة ما؛ بأني وضَّبتها في حقيبة صغيرة، وغلفتها جيداً بالقطن أو الحرير، ثم حفظتها جانباً، بعيداً من متناول الجلادين؛ بعيداً من متناول الجميع؛ تعويذة مستقبل ما.
كنتُ أقع في الحفرة كجراب رمل، كرزمة لها هيئة إنسان. أقع ولا أشعر بشيء. كنتُ لا أشعر بشيء ولا أحسُّ بالألم في أي موضع مني. لا، مثل هذه الحال لم أبلغها إلا بعد سنوات من الأوجاع، وأحسب أن الألم قد يكون أعانني. فلشدة ما تألمت، ولشدة ما تعذبت، تمكنت، شيئاً فشيئاً، من الانفصال عن جسدي، ووجدتني أكافح العقارب في تلك الحفرة. كنت محلقاً، على الضفة الأخرى من الليل. ولكن قبل أن أبلغ ما بلغتُ، كان عليِّ أن أسير لقرونٍ من الزمن في ليل النفق الذي لا ينتهي.
لم يكن لدينا أسرة، ولا حتى رقعةٌ من الإسفنج، بمثابة فراش، ولا حتى كومة من القش أو ورق الحلفاء التي تربض عليها البهائم. وُزِّعت على كل منا بطانيتان رماديتان طُبع عليهما الرقم 1936. أكان ذلك تاريخ نسجهما، أم إنه شارة خاصة بالمحكومين بالموت البطيء؟ كانت بطانيات خفيفة ومتينة، وتفوح منها روائح المستشفيات، كأنها غُطِّست بمحلولٍ معقم. وكان علينا أن نعتاد الرائحة. لم تكن ذات نفع كبير أيام الصيف. وفي الشتاء لا تقينا البرد. ثنيتُ إحدى البطانيتين وجعلتُ منها فراشاً ضيقاً، ورحتُ أنام على جنبي. وحين أريد أن أتقلَّب من جنبٍ إلى
جنب، أنهض من نومي لكي لا أفسد الثنيات. وكنتُ كلما فعلتُ، خصوصاً في البداية، ارتطم رأسي بالسقف.
كنتُ ألتحفُ بالبطانية الأخرى مستنشقاً رائحة المعقِّم التي تسبب لي أوجاعاً غريبة في الرأس. كانت بطانيات مسمومة!
كم راودني إحساس بأن الأرض سوف تنشق وتبتلعني! كان كل شيء محسوباً بدقة، إذ يحق لكل منا خمسة ليترات من الماء يومياً. من أوحى إليهم بهذا الرقم؟ الأرجح أن أطباء قد أشاروا عليهم بذلك. وبأية حال، لم يكن الماء صالحاً للشرب تماماً. كنتُ أملك كرازاً من البلاستيك أسكب فيه الماء وأدعه يوماً كاملاً ليرسب، وقد تجمعت في قعر الكراز طبقة من الوحل والقذارات اللزجة.
أتراهم، في تحسبهم لكل شيء، قد جعلوا أرضية الزنزانة بلاطةً كبيرة، تُفْتَح في مضي بضعة أشهر، أو بضعة أعوام، لنسقط في الحفرة الجماعية التي قد تكون حُفِرَت تحت المبنى مباشرةً؟
-2-
منذ ليلة العاشر من تموز 1971، توقفت سنوات عمري. لم أتقدَّم في السن، ولم أجدِّد صباي. من يومها فقدتُ سنّي، فلم يعد بادياً على محيَّاي. والواقع أني ما عدتُ هناك لكي أمنح عمري وجهاً، إذ وقفتُ ناحية العدم؛ هناك حيث لا وجود للزمن، متروكاً للريح، مستسلماً لذاك الشاطئ الواسع من الملاءات البيض التي يرجها نسَمٌ خفيف، موهوباً للسماءِ المفرغة من نجومها، من صورها، من أحلام الطفولة التي كانت هي ملاذها، المفرغة من كل شيء، حتى من الله. لقد لذتُ بتلك الناحية لكي أتعلَّم النسيان، لكني لم أفلح يوماً في أن أقيم بكل ما أكون في العدم، ولا حتى بالفكر.
جاءني الشقاء مثل وعْد، مثل إعصار، ذات يوم كانت سماؤه زرقاء، من الزُّرقة ما غشي عيني وأفقدهما البصر هنيهاتٍ، ومال رأسي المذهول كأنه مقبلٌ على السقوط. كنتُ أعلم أن ذلك النهار سوف يكون نهار الزرقة الملطخة بالدماء. كنتُ، في قرارة نفسي، موقناً من ذلك، حتى أني توضأت وصليتُ في ركن من المهجع الذي كان يسوده صمتٌ مطبق. حتّى أني صليت ركعةً إضافية بمثابة وادع للحياة والربيع والعائلة والأصدقاء والأحلام والأحياء. على التلة المقابلة وقف أثان يرمقني بنظراتٍ أسِغَةٍ حزينةٍ كعادة البهائم التي تُشفق لشقاء البشر. فقلتُ في سري: "على الأقل، هو لا يعلم أن السماء الزرقاء، وليس هو، من سيُسفَك دمُها".
مَن منّا ما زال يذكر جدران قصر الصخيرات البيض؟ من يذكر الدم على أغطية الموائد، والدم على عشبِ الحديقة الأخضر الفاقع؟ استحالت الألوانُ مزيجاً فُجائياً. الأزرق ما عاد في السماء، والأحمر ما عاد في الأجساد، وكانت الشمس تلحسُ الدماء بسرعة غير معهودة. أما نحن، فكان الدمعُ يغشى عيوننا. كانت الدموع تنهمر من تلقائها وتبلِّلُ أيدينا التي ما عادت تقوى على حمل سلاح. كنَّا في مكان آخر، وربما كنا في الماوراء، حيث تغادر العيون المضطربة الوَجْه لتستقرّ في مؤخِّر الرقبة. كانت عيوننا بيضاً، فما عدنا نُبصر لا السماء ولا البحر. نسمٌ مُنعِشٌ يدغدغ بشرتنا، فيما دوي الطلقات يتردَّد إلى ما لا نهاية، وسوف يُطاردنا لوقت طويل. لن نسمع بعد ذلك سواه. آذاننا مسكونة به. ما عدتُ أدري إذا استسلمنا لوحدات الحرس الملكي التي كانت تتعقب المتمردين، أو إذا اعتُقلنا وجُرِّدنا من السلاح على أيدي ضُباط بدَّلوا مواقفهم بما تمليه عليهم وجهة الرياح المؤاتية. لم يكن لنا رأي. كنا مجرد جنود، بيادق، رتباء لا تخوّلهم رتبهم أن يمسكوا بزمام المبادرة. كنا أجساداً تشعر بالبرد في قيظ ذلك الصيف. كانت أيدينا مكبَّلة وراء ظهورنا، مكدَّسين في الشاحنات إلى جانب الموتى والجرحى. كان رأسي عالقاً بين جنديين قتيلين. ومهما يسِلْ في عيني، فإنه يشبه دماً دافئاً. الجنديان القتيلان أرخيا لحظة الوفاة، بولهما وبرازهما. ولكنْ، أما زال لمن هو مثلي، الحق في التقزُّز؟ تقيأتُ مِرَّةً. تراهُ بماذا يفكِّر ذلك الإنسان الذي يسيل دم الآخرين على وجهه؟ أيفكِّر في زهرة، في الأثان على التلة، في طفل يلعب دور الفارس وسيفُه عصا. ربما لا يفكر البتة. يحاول أن يغادر جسده، وألا يكون هناك. يحاول أن يصدق أنه نائم وأن ما يراه إنما حلمٌ مُفرِطٌ في قبحه.
لا، كنتُ أعلم أنه لم يكن حلماً. كانت أفكاري صافية، وأوصالي ترتعدُ بقوة. لم أسدُّ أنفي، بل تنفستُ القيء والموت ملء رئتي. كنتُ
أودُّ أن أموت مختنقاً. حاولت أن أُدخل رأسي في جراب من البلاستيك وُضع بقرب الجثث. ولم تسفر محاولتي هذه إلا عن إثارتي غضب أحد الجنود فعاجلني بركلة على عنقي؛ وإذ أُغمي عليِّ، تلاشت من حول الروائح المنبعثة من الجثث. ما عدتُ أشتمُّ شيئاً. كأني نجوت. لكنِّ ضربةً من عقب بندقية على عظم الساق أيقظتني.
أين كنَّا؟ البرد قارس. ربما كنا في مشرحة المستشفى العسكري في الرباط. ولم يجر بعد فرز الأحياء عن الموتى. كان البعض يئن، والبعضُ الآخر يضربُ الحائط برأسه، لاعناً القدر والدين والجيش والشمس. كان البعض يقول إن الانقلاب أخفق بسبب الشمس؛ إذ كانت الشمس حارقة أكثر مما ينبغي، ساطعة أكثر مما ينبغي. وكان البعض الآخر يصرخ قائلاً: "أي انقلاب هذا؟ شعارنا ممزوج بدمنا: "الله، الوطن، الملك". كان هؤلاء يرددون هذا الشعار، كلازمة، نشيداً، ظناً منهم أنهم بذلك يكفرون عن خيانتهم.
لبثتُ صامتاً. لم أكن أفكر في شيء. كنتُ أحاول أن أتلاشى في العدم، فلا أسمع شيئاً، ولا أحسّ بشيء.
-3-
في الجناح "ب"، كنَّا ثلاثةً وعشرين نفراً، وكلُّ نفر منّا في زنزانة. إلى الثقبِ المحفور في الأرضية لقضاء الحاجة، كان هناك ثقب آخر، فوق باب الحديد، لإدخالِ الهواء ما عادت لنا أسماء. ما عاد لنا ماضٍ أو مستقبل. فقد جُردنا من كل شيء، ولم يبق لنا سوى الجِلْدُ والرأس. ليس جميعنا. فالرقم "12" كان أول من فقد عقله. وسرعان ما أصبح لا مبالياً. أحرق المراحل. دخل سُرادقُ الألم الكبير تاركاً رأسه، أو ما تبقَّى منه عند باب المعسكر. وزعم البعض أنه رآهُ يومئُ وكأنه يخلع رأسه ثم ينحني ليطمره بين صخرتين. دخل طليقاً، لا شيء يمسُّه، يحادث نفسه بلا انقطاع. حتى عند نومه كانت شفتاه لا تكفان عن التمتمة بكلماتٍ غامضة.
كنَّا نرفض أن ننادي بعضنا البعض بغير أسمائنا وكنياتنا، وهو ما كان محظوراً علينا. فالرقم "12" اسمه حميد. كان نحيلاً طويل القامة باهت البشرة. ابن معاون فقد ذراعه في الهند الصينية، فتولى الجيش تعليم أولاده الذين أصبحوا، جميعاً، عسكريين. حميد أراد أن يُصبح طياراً مدنياً وكان يحلم بتركِ صفوف الجيش.
كان من المستحيل أن يُسكته شيءٌ خلال النهار. كان هذيانه يجلب لنا بعض الطمأنينة. فقد كنا لا نزال قادرين على ردِّ الفعل، على الرغبة في سماع كلام منطقي، عباراتٍ تحثنا على التفكير أو الابتسام أو الرجاء.
كنَّا نعلم أن حميد قد أصبح في مكان آخر؛ أنه غادرنا؛ وأنه ما عاد يُبصرنا، وما عاد يرانا. كان حميد، على نحوٍ ما، مستقبلنا المحتمل، حتى، وإن ردَّدوا على مسامعنا، أن المستقبل في ما يعينينا، لم يعد موجوداً. فمن المحتمل أن يكون أطباء قد عمدوا إلى حقنه بالمخدر لكي يصبح مجنوناً، ثم أوفدوه إلينا كمثال حيٍّ على ما ينتظرنا. مثل هذا الأمر محتمل، لأنه خلال الأشهر التي قضيناها في الأقبية نكابد كلِّ صنوف التعذيب، فقد بعضُنا الحياة، فيما آخرون، مثل حميد، فقدوا عقولهم.
كان صدى صوته يتردد في الظلمات. وبين الحين والحين، نفهم كلمة مما يقول أو حتى عبارة: "براشة"، "بؤبؤ الهوى"، "بش معقول"، "بوبلين"، "بَرَبة طفل"، "بَبَّاس"، "بَرَضْ"، "بريض جداً"، "بَوْت من بُوْع وبطش..."(*). ويكون ذلك اليوم يوم حرف الباء.
كان الحرّاس يتركونه على سجيّته ورجاؤهم أن يكون تعاظم غيظنا سبباً لجعلِ وجوده بيننا أكثر مشقَّة وإيلاماً. ولكي لا نُستدرج إلى لعبتهم كان غربي، الرقم "10" ينصرف إلى تلاوة القرآن الكريم الذي يحفظه. فهو قد لُقِّنَ آياته في المدرسة القرآنية مثله مثل معظمنا، لكنه، بخلافنا، كان يُعِدُّ نفسه لأن يصبح مفتي الثكنة. حتى إنه شارك في مباراة لتلاوة القرآن، وحصل على الجائزة الثالثة. كان مُسلماً صالحاً مداوماً على الصلوات الخمس في مواقيتها. وكان دائماً يتلو ما تيسر من الآيات القرآنية قبل النوم. وفي مدرسة التلامذة الضباط لُقِّب بـ "الأستاذ".
حين يشرع الأستاذ بتلاوة القرآن، كان صوت حميد يخفت تدريجاً
إلى أن يصمت تماماً. كأنَّ قراءة الكتاب الكريم تهدئ من روعه، أو، في الأقلِّ، تؤجل هذيانه. وما أن يصل الأستاذ إلى ختام تلاوته ويتلفظ بعبارة: "صدق الله العظيم"، حتى يستأنف حميد خطبته بالحماسة إياها، والوتيرة الملحاحة إيِّاها، وبالتشوِّش إياه. وما كان أحدٌ يجرؤ على التدخل. كان يحتاج إلى إخراج هذه العبارات كلِّها، بالعربية وبالفرنسية، كأنها وسيلته، هو، لأن يغادرنا، وينعزل عنا، ولأن يستدعي موته. وجاءه الموت حين ألمَّتْ به الرعدة، وضرب الحائط برأسه مراراً. أطلق صرخة متمادية، ثم ما عاد صوته مسموعاً ولا نشيجه. تلا الأستاذ الفاتحة. بل أنشدها تجويداً. وكان إنشاده جميلاً، ثم ساد صمتٌ رهيب.
اختير الأستاذ للتفاوض مع الحرّاس حول إجراءات دفن حميد. وكان التفاوضُ شائكاً ومديداً. إذ يُرفع الأمر إلى قائد المعسكر الذي عليه، بدوره، أن ينتظر ورود الأوامر من العاصمة. أرادوا أن يرموا الجثة في حفرةٍ بلا مراسم، بلا صلاة، بلا تلاوة قرآن. وكان أول فعل مقاومة من قبلنا هو مطالبتنا بدفن لائق لواحدٍ منَّا. كنَّا اثنين وعشرين حياً متحلقين حول تلك الجثة التي كان صوتها ما يزال عالقاً في أسماعنا. وحاججنا بسُنَّة الإسلام التي لا تجيز تأخير الدفن لأن الشمس ينبغي ألا تغرب على الميت سوى مرة واحدة. لذا وجب الإسراع بمراسم الدفن لا سيما أن القيظ الخانق – كنا في شهر أيلول – لن يلبث أن يُفسِد الجثة.
جرت مراسم الدفن في صباح اليوم التالي. وبرغم الظروف، كنا سعداء، فقد شهدنا ضياء السماء بعد سبعةٍ وأربعين يوماً من الظلمات. كانت أجفاننا ترفُّ، وجعَلَ بعضُنا يبكي. ترأس الأستاذ الشعائر وطلب مياه لغسل الميت، وملاءة بيضاء لاستخدامها كفَناً. هرع أحد الحُرّاس وقد بدا متأثراً، وأحضر عدداً من قِرَب الماء وقماشة بيضاء غير مستعملة.
كانت تلك فرصة سانحة لكي يحاول كلٌّ منا أن يحدد موقع المكان
الذي كنا فيه، ورحت أفتِّش عن نقاط اعتلام. كان جناحنا محاطاً بسورٍ حصين يبلغ ارتفاعه أربعة أمتار على الأقل. وثمة أمر مؤكد: أننا لم نكن على مقربة منا لبحر. حول المعسكر جبال رمادية قاحلة ليس فيها غصن شجرة واحد. ثُكنةٌ عسكرية تتراءى من بعيد. العدَمُ، الخواء. كان سجنُنا نصْفُه تحت الأرض. وعلى الحرّاسِ أن يقيموا في تخشيبتين صغيرتين تبعدان بضع مئات من الأمتار عن المكان الذي كنا ندفن فيه حميد.
طوال ساعة أو أقل، أبقيتُ عيني مفتوحتين، وفمي فاغراً، لكي أتجرَّع ما أمكن من الضوء؛ لكي أتنشَّق الضياء وأختزنه في داخلي، وأحفظه ملاذاً لي فأستذكره كلما أطبقتِ العتمةُ ثقيلة فوق جفني. أبقيتُ جذعي عارياً لكي يتشبَّع جلدي بالضوء ويختزنه كأثمن ما يُقتنى. لكن أحد الحراس أمرني بأن أرتدي قميصي.
عند المساء، خجلتُ من تلك الغبطة التي جلبها لي دفنُ أحد رفاقي. ألهذا الحد فقدت الإحساس بالرحمة، وبلغت بي القسوة حداً جعلني أطلبُ النفع من وفاةِ أحدنا؟ الحقيقة المُرَّة، العارية، كانت ماثلة أمامي. فإذا كان موت قريبي يُتيح لي رؤية الشمس، ولو هنيهات، فهل يجعلني ذلك تائقاً لرحيله؟ ولم أكن أنا وحدي من راودته تلك الأفكار. إدريس، الرقم "9" تجرأ على التعبير عن ذلك: فقد صار الدفنُ، بالنسبة إلينا، مناسبة للخروج ورؤية بصيص من الضوء. كانت تلك مكافآتنا، وأملنا السري، الأمل الذي ما كنا نجرؤ على التعبير عنه بكلمات، لكنه يراود أفكارنا.
واستحال الموتُ شعاع شمسٍ بهياً. من المؤكد أنهم ألقوا بنا هناك لكي نموت. وكانت مهمة الحراس تقضي بأن يُبقوا علينا في حالٍ من الاحتضار أطول مدة ممكنة. وكان على أجسادنا أن تعاني التحلُّلَ شيئاً فشيئاً، وأنْ يطول أمد عذابنا لكي يتسنى له أن ينتشر ببطء، وألا يُغفلَ
عضواً، أو رقعة من الجلد؛ أن يصعد من أخمص القدمِ حتى أطراف الشعر؛ أن يسري بين الثنيِّات، بين التجاعيد، وأنْ ينغرز مثل إبرة بحثاً عن شريان ليودع فيه سمّه.
ليأتِ الموت! وليتَحيَّنْه الأحياء لكي يُبصروا النهار! لقد بدأ صنيعه. كان حميد سباقاً إلى منحنا حفنةً من الضوء. هديته لنا لحظة وداعه، هو الراحل بلا ألم، أو تقريباً بلا ألم.
بعد أن أمضينا سنة في تلك الحفرة، كان السؤال الذي يحيِّر كلِّ واحد منا: "دور مَنْ منَّا، الآن؟". وكانت لي ترجيحاتي الخاصة. ذلك أن إدريس مصاب بمرض في العضلات والعظام. ولم يكن وارداً، في الأصل، أن يكون بيننا. بل كان من المفترض أن نُنزله في المستشفى العسكري في الرباط. لكن آمر الفرقة نسيه، فكُتب عليه أن يُقتاد معنا ليموت في هذا السجن، تحت الأرض. كانت ساقاه النحيلتان قد التوتا والتصقتا بصدره، ورقّت كل عضلاته. كان عاجزاً حتَّى عن رفع يده، فسمح لي الحراس بأن أُطعمه بيدي وأن أعينه على قضاء حاجته. لم يكن قادراً على المضغ فأمضغ الخبز وأزقمه منه لُقُماتٍ صغيرة متبوعةً بجرعةِ ماء. وكان يحصل له أن يشرق وهو عاجز عن السعال فيحني ظهره واضعاً رأسه بين فخذيه ويتدحرج على الأرض لكي يسلك الماء فتحة المريء. وقد بلغ به النحولُ حداً جعله أِبه بعصفور فقد ريشه. لم أستطع أن أرى عينيه جيداً، فلابد من أنهما كابيتان، خاويتان. ينامُ مقرفصاً، سانداً رأسه إلى الجدار، داساً يديه تحت قدميه. وكانت قعدته على هذا النحو تستغرقُ منه وقتاً وجهداً، لكنها الوضعية التي تتيح له أن ينام من دون أن يشعر بأوجاع مفاصله. ثم شيئاً فشيئاً، راح يفقد ملكة النطق، وكان عليَّ أن أخمَّن معنى لغمغماته. كنتُ أعلم جيداً أنه يطلب لنفسه الموت، غير أني لم أكن قادراً على مساعدته في ذلك. فلو ملَكْتُ عندها قرْصاً أزرق يريحه، ربما لأعطيته إيَّاه. في أيامه الأخيرة كان يرفض أن يتناول طعاماً،
فشعرتُ بأن الموتَ قد حلَّ في عينيه. حاول أن يقول لي شيئاً، ولعله تلفَّظ برقم ما، وحسبتُ أنه الرقم أربعون. فالظاهر أن الموت يستغرق أربعين يوماً ليحل في الجسد بأكمله. أما في حالته هو، فقد استغرق الأمر أقل من ذلك.
عانيت الأمرّين لكي أغسله، فقد أحدثت الركبتان المثنيتان تجويفاً في القفص الصدري، وانغرزت الأضلع في المفاصل، وصار من المستحيل بسطُ الساقين أو الذراعين. كان جسمه كرة بارزة العظام، ووزنه أقل من أربعين كيلو غراماً. تحوّل إلى شيء غريب، صغير، وفقَدَ كل صفة بشرية، لشدةِ ما أورثه المرضُ من تشوهات. كنتُ بالكادِ قد أنهيت غسله حين دفعني حارسان وحملا جثته على مِنْقَلة وغادرا بعد أن أعاداني إلى زنزانتي. لبثتُ مذهولاً، بينما توارى الحارسان قبل أن يُتاح لي النطق بكلمة واحدة.
-4-
إنَّ أكثر الأمور الاعتيادية تفاهةً، تُصِبحُ في المحن العصيبة، غير اعتيادية، لا بل أكثر ما يُرغَب فيه من أمور الدنيا.
لقد أدركتُ على الفور أنه لم يعد لنا أي خيار آخر. فعينا أن نتخلَّى عن مساعينا اليومية البسيطة، أن ننساها، وأن نقول في سرنا: "الحياة أصبحت وراءنا"، أو: "لقد انتُزِعنا من الحياة"، وألا نندم على شيء، وألا نشكو، وألا نرجو أقل الرجاء. لقد لبثت الحياة عند الجهة الأخرى من السور المزدوج الذي يطوِّق المعسكر. ولابد من أن التخلي عن عادات الحياة يتطلب دُربةً ومراساً، كأنْ نتعلَّم مثلاً أن النهارات والليالي قد تمازجت، وأنها تتشابه في كفافها المقيت. تخَلَّينا عن أن نكون كما كنَّا في السابق: أن نستيقظ صباحاً ونحن نفكِّر في النهار المقبل والمفاجآت التي يخبئها لنا؛ أن نقصد حجرة الاستحمام ونحدِّق بوجوهنا في المرآة فتبدو منا تكشيرة استهزاء بالزمن الذي يُخلِّفُ، رغماً عنا، بعضاً من أثر على بشرتنا. نضع رغوة الصابون على وجوهنا ونَخْلُق ذقوننا منصرفين إلى التفكير في أمور أخرى؛ ندندنُ أغنية أو نصْفُر لحناً. ثم ننتقل إلى "الدُّشّ"، نمكث لربع ساعة تحت مياهه طلباً لمتعة صغيرة، متعة أن نتلَّقى دفقاً من المياه الساخنة على الكتفين، فيما نفرك أجسامنا بالصابون المعطر بالخزامى. ثم التنشُّفُ وارتداء كلسون نظيف، وقميص مكوي جيداً، ثم اختيار البدلة وربطة العنق والحذاء، وقراءة الجريدة مع ارتشاف فنجان
القهوة... أن نتخلَّى عن أمور الحياة البسيطة هذه، وألا ننظر إلى الوراء. أن نغيّر هذا السيناريو ونستعرض كل ما لن يحصل لنا من الآن فصاعداً. فكيف لنا أن نعتاد على ألا نغسل أسناننا، ألا نتنشق نكهة الفلور الرائعة في أفواهنا، أن نتلقى الأنفاس الكريهة والروائح التي تنبعث من جسدٍ مُهْمَل ... كنتُ أستخدم كمية الخمسة ليترات من المياه بأكملها تقريباً لأغتسل كل يوم. فالاغتسال كان فرضاً لازماً برغم كل الظروف. وأحسب أني، لولا الماءُ، لانهرتُ تماماً. لقد كنتُ أحرص على الوضوء من أجل الصلاة، ولكي أشعر بأني نظيف، وأحرص على ألا استخدم البطانية كمنشفة، بل أنتظر ريثما تجفُّ قطراتُ الماء من تلقائها.
استغرقني هذا التدريب وقتاً طويلاً، غير أن فائدته كانت كبيرة. فقد اعتبرتُ نفسي كمن أُعيد إلى عصر الكهوف فانبغى عليه أن يعاود اختراع كل شيء بأدواتٍ أقل من قليلة.
في البداية، لكي أروِّحَ عن نفسي، كنتُ أتخيّل أن عناية إلهية خارقة سوف تجترح معجزة لخلاصي، كما يحدث في تلك النهايات السعيدة للأفلام الأميركية. ثم حضرتني أشكالٌ من الفرضيات المعقولة: أن يحصل زلزال؛ أن تضرب صاعقةٌ الحرسَ مجتمعين حين يقتعدون ظل شجرة لتدخين سيجارة؛ أو قائد المعسكر، القمندار، الذي لا يرى في نومه سوى حلم واحد، وفيه يأتيه صوت، من السماء، يأمره بعصيان رؤسائه وبإطلاق سراحنا وإلا أُنزل قصاص إلهي بحياته البائسة... غير أن العناية الإلهية كانت غير مبالية بمصيرنا. كانت تسخر منا، وكنتُ أسمع ضحكات مدوّية وثورات غضب.
بينما كنتُ مستغرقاً في أحلام يقظتي فتح حارسان باب زنزانتي واندفعا نحوي، وما لبثا أن أدخلاني في جراب واسع. وراحا يجرجران الجراب باتجاه الباب الخارجي. كنتُ أركل الهواء بِرجْليِّ، وتكتم صراخي التعليقاتً التي كانا يتبادلانها:
"أما هذا فسندفنه حياً، فقد يلقنكم هذا حُسن السلوك".
راح المعتقلون يزعقون ويضربون الأبواب بجماعِ أياديهم. ورحتُ أتخبَّط بكل ما أوتيتُ من قوة داخل ذلك الجراب المصنوع من مادة متينة. وأوتيت من سرعةِ الخاطر ما جعلني أتلو الفاتحة وقد حباني ذلك بقوة غير معتادة. كنتُ أصرخُ بالآيات حتَّى أسكتُّ الجميع. فما كادا يصلان إلى آخر الممر حتى أفلتاني وسمعت أحدهما يقول لرفيقه بأنهما أخطآ.
"لا، لقد أنجزنا مهمتنا.
- لكنَّ القمندار قد أصر على أن يحفر هو قبره بيديه.
- لا، إنها مجرَّد صورة. فالمطلوب فقط أن نخيفهم.
- لا أعتقد ذلك.
- بلى، ليست لدينا أوامر بالقتل إلا في حالة الشروع في الفرار.
- يا أحمق، هذا ما كان ينبغي أن نفتعله!
- لا، أنت لم تفهم شيئاً.
- حسناً ستتضح الأمور لدى القمندار".
بينما كانا يواصلان شجارهما كنتُ أواصل تلاوة القرآن. ثم فتحا الجراب وأعاداني إلى زنزانتي.
لمَّا عدتُ إلى انفرادي استبدَّ بي ضَحِكٌ وقهقةٌ عصبيان، لم أقدر على أن أتمالكهما أو أن أخَفِّف من حدتهما. جعلتُ أضحك وأضحكُ ضارباً الأرضية بقدمي. فقد كنتُ أعلم أنه مجرَّد استفزاز ومحاولة لإرهابنا.
كانت كتفي اليمنى تؤلمني، فالأرجح أني صدمتها بحجرٍ ما خلال تخبطي في الجراب. لقد أُعطيت لهم الصلاحية المطلقة في التصرُّف معنا، بنا. فما الذي يحول دون عودتهم، مجدداً، لاقتياد واحد آخر منا، والتظاهر بأنهم يهمّون بتصفيته، أو رميه في حفرةٍ ما، أو تعريضه
لعقوبة الثبات؟ وهي عقوبة شائعة في الجيش: إذ يُطمر الجسم بأكمله مقيّد اليدين والقدمين ما عدا الرأس الذي يبقى بارزاً سوية الأرض، معرِّضاً لشمس الصيف أو مطر الشتاء.
ربما كان لسجّانينا لائحةٌ عُدِّدت فيها طرائق سوء المعاملة التي ينبغي أن يُخضعونا لها بحسب أمزجتهم. ولكنْ ما أثار استهجاني أني فوجئتُ، بعد ذلك بأيام قليلة، بالحارسين المذكورين يطرقان باب زنزانتي راجيين ألا أحقد عليهما:
"الحقيقة أنه حصل خطأ ما. فعندما يمرض شخص أو يموت تصدر لنا الأوامر بالتخلص منه. ولذلك اسمعْ هذه النصيحة: لا تمرض. أما إذا متُّ فالأمر يكون بينك وبين الله. وبأية حال، بمرض أو من دون مرض، لا أحد يخرج من هنا حياً. فلصالحك إذاً، أن تبقى بصحة جيدة".
لم أجبهما. كانا، في الظاهر، يخاطبانني، أنا، لكن كلامهما موجَّهٌ للجميع. فقد كنا ما نزال تحت صدمة الانتقال من سجن إلى آخر. لكن سرعان ما صححتُ في سري: هنا، لستُ في سجن. هنا، لا وجود لسجين عليه أن يقضي فترة محدَّدة من الاعتقال. إني، لا بل إننا، في سجن مؤبَّد لا سبيل لمغادرته. فذكَّرني ذلك بحكاية "بابيون"، ذلك السجين الفرنسي الذي تمكن من الفرار من أكثر السجون تشدداً في العالم. لكني لست "بابيون"، ولا أبالي البتة بالرجل وبحكايته. هنا، لا يسعنا، أو لا يسعني إلا أن أكون مقاوماً. نحن في حالة حرب مع عدو غير مرئي يمتزج بالعتمة فكاد يكون العتمة. هل قلتُ: "عدو"؟ أصحح: هنا، لا أعداء لي. يجب أن أقتنع بذلك: لا مشاعر، لا أحقاد، لا خصوم. إني وحيد. وأنا وحدي قد أكون عدو ذاتي. أكفُّ عن ذلك. أضع كل هذا في خانة مقفلة وأنتزعها من تفكيري.
-5-
التذكُّر هو الموت. لقد استغرقني بعض الوقت كيما أدرك أن التذكر هو العدو. فمن يستدع ذكرياته يَمُتْ تواً، بعدها، كأنه يبتلع قرص السمِّ. ولكن، كيف كان لنا أن نعرف أن الحنين في ذلك المكان يؤدي إلى الموت؟ كنا منسيين تحت الأرض، بعيداً كل البعد، عن الحياة، وعن ذكرياتنا. وبرغم الأسوار التي تطوّقنا، لم تكن الجدرانُ حصينةً بما يكفي. فلا شيء يحول دون فوران الذاكرة. تجربة مغرية أن تستسلم لحلم يقظة يثري فيه الماضي صوراً مجمَّلة في الأغلب، ومغبّشة أحياناً، وواضحة في أحيان أخرى، تتدفق دونما ترتيب أو نسق، باعثة شبح الرجوع إلى الحياة، مضمَّخة بعطور الاحتفال، أو، الأدهى، بعطور السعادة الاعتيادية: آه، من رائحة القهوة الصباحية والخبز المحمَّص؛ آه، من وثَرِ الشراشف الدافئة وشعر امرأة ترتدي ثيابها ... آه، من صياح الأولاد في ملعب المدرسة، ورقصة الدواري في كبد سماءٍ صافية، ذات عصر! آه، كم هي جميلةٌ أشياء الحياة البسيطة، وكم هي مرعبةٌ حين لا تعودُ هنا، دونها المستحيلُ إلى الأبد! إن الحلمَ الذي انقدتُ إليه في البداية، كان مزيفاً. لقد جمَّلتُ عمداً خامة وقائعه، وأضفتُ اللون على الأسود بالمجَّان. كانت تلك لعبة وجدتُ فيها قدراً من الوقاحة؛ ومع ذلك كان من الممكن أن أُلطِّفَ جُلجلتي بشيء من التحدي. كنتُ ما أزال محتاجاً إلى تلك الأعذار الكاذبة لأقتنِّعَ التسامح الذي ألمُّ بي. لم أكن
مخدوعاً، فالدرب شاقٌّ وطويل؛ إنه دربٌ مريب.
كان ينبغي لواحدنا القبولُ بأن يفقد كل شيء، وألا ينتظر شيئاً لكي يكون أكثر استعداداً لجبه ذلك الليل الأبدي، الذي لم يكن ليلاً حقاً، بل له تأثيراته وغلافه ولونه ورائحته.
كان الليلُ ماثلاً ليذكرنا بهشاشتنا.
أن نقاوم ما أمكننا. ألا نسقط. أن نوصد كل الأبواب. أن نتصلَّب. أن نُفرغ أذهاننا من الماضي. أن ننظفها. ألا نترك أثراً منه في الرأس. ألا ننظر إلى الوراء، وأن نتعلَّم ألا نتذكر. فكيف السبيل إلى إيقاف هذه الآلة؟ كيف ننتقي من عليّةِ طفولتنا، من دون أن نفقد الذاكرة تماماً، ومن دون أن يصيبنا الجنون؟ ينبغي أن نوصد أبواب ما قبل العاشر من تموز عام 1971، وليس فقط أن نمتنع عن فتحها مجدداً، بل علينا أيضاً أن ننسى ما تخبئه وراءها.
كان ينبغي ألا أشعر، بعد ذلك، بأنني معنيّ بحياتي السابقة لذلك اليوم المشؤوم. حتى لو جاءت الصور والعبارات إلى ليلي وراحت تحوِّم من حولي، فالمفترض بي أن أطردها، أن أزجرها، لأني ما عدتُ قادراً على التعرُّف إليها. ينبغي أن أنبهها إلى أني لستُ الشخص المعني. لا صلة لي بمثل هذه الأشباح. ما عدتُ في هذا العالم. ما عدتُ موجوداً. بلى، هذا أنا المتكلم. هذا ما حدث بالضبط: ما عدتُ في هذا العالم، على الأقل في عالمكم، ومع ذلك حافظت على قدرتي على الكلام، وعلى إرادة المقاومة، وحتى على الرغبة في النسيان. والشيء الوحيد الذي ينبغي ألا أنساه هو اسمي. أحتاج إليه. سوف أحفظه مثل وصية، مثل سر، في حفرةٍ معتمة حيث أحمل الرقم "7"، المقدَّر. كنتُ سابع المصطفين عند اعتقالنا، لا أكثر ولا أقل.
كانت أحلامي خصبة. غالباً ما تزورني، تقضي بصحبتي هزيعاً من الليل، ثم تتلاشى مُخلّفة في قعر ذاكرتي فضلاتٍ من حياة نهارية. لم أكن
أحلم لا بإطلاق سراحي ولا بما كان سابقاً لفترة احتجازي، بل كنت أحلم بزمن مثالي، بزمن معلَّق بين أغصان شجرة سماوية. بلى، أوان الخوف، الطفلُ هو الذي يستيقظ فينا، أما هنا فالمجنون والعاقِلُ فيِّ يخوضان نزاعاً مريراً: من منهما سيحملني إلى أبعد ما أستطيع. وكنتُ أراقبُ، مبتسماً، مطمئناً، هذا التجاذب بين طرفين.
كنتُ، إذا لاحت لي الذكريات وراودتني، أبذلُ ما أوتيتُ من قُدرات لكي أخمدها، وأقطع عليها الطريق. وتدبَّرتُ نهجاً حرفياً للتخلُّصِ منها: كان ينبغي أولاً تحضيرُ الجسم لبلوغ النفس؛ التنفُّسُ طويلاً عبر البطن؛ التركيز على إدراك فعل التنفُّس. أترك للصور أن تنبثق، وأجعلُ لها أُطُراً طارداً كل ما يسعى من حولها؛ وأطرُفُ بعيني حتّى يعتورهما غبشٌ؛ ثم أحدُقُ في واحدة منها. أحدق طويلاً، إلى أن تَجْمدَ. لا أعودُ أرى سوى هذه الصورة. أنشقُ نفساً عميقاً ويقيني أنَّ ما أراه ليس سوى صورة ينبغي أن تتلاشى. وبإعمال الفكر أُحِلُّ أحداً، سواي، مكاني؛ وعليِّ أن أُقنع نفسي بأن لا شأن لي بهذه الصورة. أقول وأردِّد في سرِّي: هذه الذكرى ليست لي. هناك خطأ. ليس لي ماضٍ، لذا ليس لي ذاكرة. لقد وُلدتُ ومتُّ في 10 تموز 1971. قبل ذلك كنتُ شخصاً آخر. ما أنا عليه الآن لا صلة له بهذا الآخر. إني أقفُ من نبشِ حياتي، حياءً، إذ ينبغي أن ألبث بمنأى، بعيداً مما عاشه هذا الرجل أو يعيشه حالياً. أردد هذه العبارات مراراً حتى أرى رجلاً مجهولاً يحتلُّ مكاني، على مهل، في الصورة التي جمدتها. لقد حلَّ هذا المجهول محلي، بقربِ تلك الفتاة التي كانت خطيبتي. أعلم أنها هي، خطيبتي سابقاً. متى انفصلنا؟ في اللحظة التي تسلّل فيها شخص آخر إلى هذه الذكرى وحل بقربها، والسعادة بادية عليه. وما من وسيلة لأن أتصل بها، لأن عزلتي تامة. ما كنتُ أملك سوى الأفكار لكي أتصل بالعالم الذي يعلو الحفرة. كيف
أقول لخطيبتي ألا تنتظرني بعد الآن، أن تحيا حياتها وتنجب طفلاً، لأني لم أعد موجوداً؟ كان ينبغي أن أكون حاسماً: لم تعد لي خطيبة. لم تكن لي خطيبة ذات يوم. وتلك المرأة في الذكرى هي مجرد دخيلة. جاءت خطأ، أو تسلُّلاً. إنها مجهولة. لم أرها في حياتي. هي والشخص المجهول الذي حل في الصورة، غريبان بالنسبة إليّ. لابد من أنها صورة التقطتها ذات يوم أثناء نزهةٍ في الحديقة العامة. أي حديقة؟ لا، لا حديقة. كيف لي أن أذكر شخصاً أجهل مَنْ يكون؟
كنتُ أردِّدُ تلك البداهات كيما أُنهكَ الصورة، ريثما تتلاشى وتغْرقُ في النسيان. هكذا حين كانت صور أخرى تسعى لأن تنبثق من الذاكرة، كنت أُلغيها متظاهراً بأنني أحرقها. فأقول في سرّي: إنها لا تعنيني، لقد أخطأت الخانة وأخطأت الشخص المعني. وببساطة، لم أكن أتعرَّف إليها ولم يكن على أن أفعل. وإذا ما ثابرت، وصارت كالهاجس، ملحاحة، كنتُ ألطمُ رأسي بالحائط حتى الدوار. أوجعُ نفسي فأنسى. كانت الضربة على الجبين تقدر على أن تكسر تلك الصور التي تلاحقني لتستدرجني إلى الجهة الأخرى من الجدار، إلى الجهة الأخرى من مقبرتنا الخفية.
لفرط ما لطمتُ رأسي تورِّم، لكنه صار أخفَّ لأنه أُفرغَ من ذكرياتٍ كثيرة.
كانت زنزانتي قبراً؛ لجَّة تبتلعُ الجسد رويداً. لقد خططوا لكل شيء. بتُّ أدرك الآن لِمَ أوقفونا، خلال الأشهر الأولى في سجن عادي في القنيطرة. عادي، أقصد سجناً يمكن أن نغادره ذات يوم بعد تمضية أحكامنا، وزنزانات يمكننا أن نرى منها السماء عبر كوّة عالية. أقصد سجناً بباحة للتريُّض حيث المساجين يلتقون ويتحادثون ويضعون خططاً للمستقبل. كان سجن القنيطرة مشهوراً بصرامةِ قوانينه وغلظة حرّاسه. ففيه يُعتقل السياسيون. ولكني حين عرفت تزمامارت بدا لي سجن
القنيطرة، برغم ما قِيل عنه، سجناً يشبه أن يكون بشرياً. فهناك نور السماء وبصيص الأمل.
عشر سنوات؛ تلك كانت المدة التي حُكم بها علينا. لم نكن من ين العقول المدبِّرة، بل رتباء ينفذون الأوامر. وبانتظار أن تجهَّز الحفرةُ بما يجعلها مكاناً للاحتضار، وبانتظار أن ينتهي المهندسون والأطباء من تمحيص كل الاحتمالات في إطالة أمد العذابات وتأخير الموت ما أمكن، أُبقينا في القنيطرة، السجن المريع برغم كونه اعتيادياً. لمِّا شرعوا بنقلنا، ليلاً، معصوبي الأعين، توقعنا أن يتلقى كل منا رصاصة في مؤخر رأسه. ولكن لا. إنها منحةٌ لا نستحقها. طبعاً، كان مقدراً لنا أن نموت، ولكن ليس على الفور. إذ ينبغي أن نعاني، أن نحيا، على مرِّ الثواني، أوجاع الجسد وكلِّ الفظاعات الذهنية التي سيُخضعوننا لها. أواه، يصير الموت المفاجئ، كأنه خلاص! قلبٌ يتوقف عن الخفقان! شريان ينفجر! نزفٌ حاد! غيبوبة تامة! مرَّت عليّ أيام تمنيت فيها أن تنتهي حياتي على الفور، ورحتُ أفكِّر في الله، وفي ما يرد في القرآن، عن الانتحار: قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا. فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً. ومن يتقل نفسه يصل ناراً ويخُلّد عذابه بالآلة التي قتل نفسه بها. فمن يشنق نفسه يُخلِّدْ عذابه شنقاً. ومن يتقل نفسه حرقاً فسوف يصلى ناراً خالدةً. ومن يرمِ بنفسه إلى اليمّ يكُنِ الغريقَ إلى الأبد...
كانت ليلة حارَّة من شهر آب 1973، ووجدتني مؤرِّقاً عاجزاً عن النوم. أصغي فأسمع خفقات قلبي، فأشعر بضيق وقد استبدت بي خشيةٌ غامضة. تلوثُ صلواتي واستلقيتُ على جنبي الأيسر لكي لا أسمع ضربات قلبي. ونحو الثالثة فجراً، فُتح باب زنزانتي وانقضَّ عليَّ ثلاثة رجال؛ أحدهم كبَّل يديِّ بالأصفاد، وآخر عصب عيني بشريط أسود، والثالث فتَّشتني واستولى على ساعتي والمال القليل الذي كان في جيبي. ثم اقتادني إلى الممرّ حيث سمعتُ صراخ آخرين يتعرَّون لمثل ما
تعرَّت له. جمعونا في الباحة. محركات الشاحنات دائرة تطلق هديرها. وشرعوا بالتعداد. من يسمع اسمه ورقمه العسكري، فعليه أن يتقدَّم. دفعني أحد الجنود حتى السلَّم الصغير الذي نستعين به لركوب الشاحنة. وكان البعض يبدي اعتراضاً لا يجد مَنْ يسمعه. خلال دقائق معدودة، ركبنا جميعاً الشاحنات التي غُطيِّت بالشوادر ثم انطلقت بنا نحو وجهة مجهولة: الموت. لعلَّها الساعة. أن ترحل معصوب العينين، مكبَّل اليدين، وعاجزاً عن الحركة. صورة جلية للإعدام بلا محاكمة، ماثلة في ذهن الجميع. كان الجالسُ بجواري منصرفاً إلى الصلاة، حتى إنه تلفظ بالشهادتين: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله"، ثم راح يردِّد العبارة نفسها بوتائر متسارعة حتى بات من المستحيل فهمُها. فما عادت الكلمات تُلفَظُ بل تتردَّد متلجلجةً. كانت أجسادنا ترتجُّ كصناديق الخضار، فأدركنا أن الشاحنة غادرت الطريق المعبدة، فالعسكريون لا يحبون أن تُعْتَلّم تحركاتهم أو أن تُعرف نواياهم. استغرقت الرحلة من الساعات ما جعلني زاهداً في حساب الوقت. حسبتً لوهلةٍ أن العربات تسير في دوائر. ففي العتمة كانت الصور بيضاء. راحت تترى بوتائر متسارعة. كل المشاهد استعيدت على شاشة ذهني: أنوار الصخيرات الساطعة، الدم اليابس تحت الشمس، رتابة المحاكمة، الوصول إلى سجن القنيطرة، وبخاصة وجه أمي الذي لم أره منذ أكثر من سنتين، لكنه يطالعني أحياناً في الحلم.
طبعاً، أنا أيضاً كنتُ أظن أن تلك الرحلة إلى المجهول هي رحلة موتنا. والغريب أنَّ ذلك ما كان يخيفني. حتى إني لم أسع لأن أعرف أين نحن. أباستطاعة الجيش أن يتخلص من ثمانية وخمسين رجلاً، أن يخفيهم في حفرة جماعية؟ من سيقف للدفاع عنا والمطالبة بالعدالة؟ كنا نشهد وضعاً استثنائياً؛ كلُّ شيء فيه ممكن، فالأجدى أن نكف عن التخمينات. واصلت الشاحنات سيرها الدائري. وينبئنا هدير المحرّك بأننا
نسلك طريق سفح صاعدة. ربَّما كان جبلاً. كان الجو حاراً والهواء فاسداً. كنا نختنق. الشادر السميك لا يصد الغبار عنا لكنه يمنع الهواء إلا أقلَّه. كنت أشعرُ بالظمأ. كنا جميعاً نشعر بالظمأ. ولمِّا ألححنا في طلب الماء صرخ بنا الرتيب الجالس بقرب السائق قائلاً: "أطبقوا أفواهكم وإلا أغلقتها لكم بالشريط اللاصق!". وصلنا إلى وجهتنا ليلاً. كان الجو منعشاً بتلك الطراوة التي تعقب ساعات النهار القائظة. سمعنا أصواتاً لم نفهمها. فلابد من أن فريقاً من الجنود قد حل محل الطريق السابق. تمَّ توزيعنا على مجموعتين. وفهمتُ أن الجناح "أ" يؤوي بعض الضباط. أما أنا فأُلحقت بالجناح "ب". كانت عيوننا لا تزال معصوبة وأيدينا مكبلة، ولم يأتِ أحد لفك قيودنا ورفع العصابات عن عيوننا إلا في اليوم التالي.
للأسف، حين رفعوا العصابة عن عيني لم أرَ سوى العتمة. ظننتُ أني فقدتُ البصر. لقد وُضعنا في سجن مؤبد شُيِّد لكي يبقى، إلى الأبد، غارقاً في الظلمات.
-6-
كنت أقول في سرّي:
"الإيمان ليس هو الخوف، الانتحار ليس حلاً. المحنة تُحدِّ، المقاومة واجب وليست فرضاً، والحفاظ على الكرامة هو الشرط المطلق. تلك هي المسألة: الكرامة هي ما يتبقى لي، هي ما يتبقى لنا. كلُّ منا يبذل ما بوسعه لكي لا تُمسّ كرامته، وتلك مهمتي، أن ألبث واقفاً، أن أكون رجلاً لا خرقة، لا ممسحة جنفاص، لا خطأ. ولن أطلق حكماً، ما حييتُ، على الذين يضعفون، ويتخلون عن الصراع، الذين لا يتحملون ما يُفرض عليهم من عذاب وينتهي بهم الأمر إلى الانهيار تحت وطأة التعذيب والاستسلام للموت البطيء. لقد تعلَّمت ألا أطلق أحكاماً على البشر، ما حييت. فبأي حق أفعل؟ لستُ سوى إنسان يشبه الآخرين جميعاً، ولي عزيمتي بأن لا أستسلم. هذا كلُّ ما في الأمر، عزيمة جائرة، صلبة، لا تقبل بأي تسوية. من أين لي مثلها؟ من زمن بعيد، من الطفولة، من أمي التي طالما رأيتها تقاتل لكي تربينا، أنا وإخوتي وأخواتي، ولم ينل منها القنوط يوماً، ولم تتخل يوماً. كانت أمي فقدت كل أمل في أبي، المقبل على العيش، الأناني حتى الأذية، الغندور الذي نسي أنه ربُّ أسرة وراح ينفق كل ماله على الخياطين الذين يفصّلون له جلباباً من حرير كل أسبوع. وقمصانه التي يستقدمها من إنكلترا والبلَغات من فاس. كان يستقدم عطوره تارة من المملكة العربية السعودية، وتارة
أخرى من باريس، لكي يتبختر في قصر أسرة الباشا الكلاوي. وفي الأثناء كانت أمي تشقى، تعمل طوال أيام الأسبوع لكي لا نحتاج إلى شيء. كنا نحظى بالكفافِ. وحده الصغير، خاتمة العنقود، الذي كانت تسميه "كبدها الصغير"، له الحق في الدلال. كانت أمي تفقد كل وقارها أمام أميرها الصغير، أمام الولدِ المذهل ذي الذكاء المتقد والنزوات التي لا تُحصى. فلا عجب في أن يحصل على درَّاجة نارية لمناسبة بلوغه الخامسة عشرة من العمر، أو أن يعترف بين قهقتين، أثناء جلوسنا إلى المائدة، قائلاً: "أمي، أنا أفضل الرجال على النساء؛ أي مُغرَم بروجيه، أستاذي لمادة الأدب!". آه، الأمير الصغير! كنا، جميعاً، نحبه، ربما لأن أمنا كانت تعشقه ولا نريد أن نعاكسها أو نعترض على طريقتها في أن تفرح وأن تغتبط بهذا الولد. كانت مفتونة بجماله وبحيويته غير الاعتيادية. ويوم طردت أبي من المنزل جمعتنا من حولها ونبهتنا: "لا أرضى بتنابلةٍ في بيتي، ولا بالمتأخرين في دراستهم. أنا منذ الآن، أمكم وأبوكم!".
عندما تزوِّج أمي، كان أبي صائغاً في مدينة مراكش، ورث ذلك الدكان عن خاله الذي لم يُرزق أولاداً وعامله مثل ابنه. أمضي أوقاته في القراءة وحفظ قصائد كبار الشعراء العرب. وما كان يصرفه عن قراءة الشعر وحفظه إلا سعيه لإغواء النساء الجميلات اللواتي يتريثن أمام واجهة محلّه لتأمُّل الحلي المعروضة فيها. وذاع صيته بأنه الرجل الذي يعشق الإغواء ولا يُجيد التجارة. وبأية حال، فقد كان يُعِدُّ نفسه لتدريس الأدب في جامعة القرويين في فاس. ولكن ما أن تم استدعاء أبيه إلى بلاط الباشا الكلاوي، أقفل الدكان ولحق به إلى القصر حيث انصرف إلى تدريس أولاد الباشا وأحفاده اللغة العربية.
كان ذلك مطلع الخمسينيات. وفي ذلك الحين كان الباشا صديقاً للفرنسيين ومتعاوناً معهم. وكان على أبي أن يزعم أنه يجهل ما يُقال في الأوساط الوطنية، كما كان والده يصرِّح بأنه لا يشتغل في السياسة.
ذاك الأب، الذي لم أعرفه جيداً، كان، في الحقيقة، شاعراً وصديقاً للشعراء، محباً للأناقة والبذخ، ساعياً وراء صداقة أصحاب النفوذ ومتعة إضحاكهم. لم يدرك يوماً معنى أن تكون لديه أسرة، أو الشعور بالمسؤولية تجاه أولاده الكثر. ونظراً لذاكرته الهائلة وحس الدعابة العفوي، واللماح دائماً، لديه، وبفضل ثقافته التقليدية – فقد كان قادراً على تلاوة آلاف الأبيات لبن إبراهيم دونما أدنى خطأ- أصبح، في أواخر الستينيات، مهرج الملك ثم صديقه. كنتُ أصبحتُ في الجيش عندما جاء أحد إخوتي ليطلعني على النبأ: "الملك ما عاد يطيق الافتراق عن والدنا. لقد أصبحا صديقين حميمين! ولهذا السبب ما عدنا نراه، إنه يمضي أوقاته كلها في القصر. حتى إنه بات يصطحبه في أسفاره".
هكذا كان؛ غندور مراكش، محترف الإغواء الدونجواني، ذاكر الشعر الشعبي الحيّة، الرجل الذي طالما كان سبب عذاب أمي، ذاك الذي لا يفكر إلا في متعته الشخصية، صائغ المدينة، التوَّاقُ بحنين إلى بلاط الباشا الكلاوي، الرجل الذي قد لا يتعرف إلى أحد أولاده إذا صادفه في الشارع، والذي كان يلقَّب بـ "العالم" و"الأستاذ"، لم يكن، في حقيقة الأمر، سوى مهرِّج الملك. في نظر أمي ما عاد ذاك الرجل موجوداً. قرَّرت أن تواصل العيش وكأنه ميت. وكفَّت حتى عن ذكر اسمه. أما نحن، فقد كان محظوراً علينا حتى الإشارة، مجرد الإشارة، إلى ذلك الأب الغائب، ذلك الرجل الذي يبذل من الاهتمام في تنسيق ألوان بلغته وجلبابه أكثر مما يبذل في متابعته دراسة آخر أبنائه المتعثرة.
كان هاجسه أن يخدم الملك، أن يلبث عند قدميه، رهن إشارته، ألا يغمض عينيه قبله. أن يسرد له القصص، ويُضحكه حين يكون قانطاً. أن يعثر على العبارات الملائمة، وان يضع لكل مقام مقاله. أن يرضى بألا تكون له حياة خاصة به ... وأن يكون على الدوام طوع مزاجه، وقبل كل شيء، ألا يفقِد أبداً حسّ الدعابة.
على الرغم من الطابع الهزلي لوظيفته، فقد كان يؤدي دوراً مهماً بجوار الملك. فيلجأ إليه بعض الأشخاص من الحاشية الملكية، يحمِّلونه الشكاوى والتظلمات التي يقوم بنقلها إلى مولاه حين يبدي هذا الأخير استعداداً لسماعها. وكان هو الأدرى بمزاجه إذ يُسأل عنه، ويطالع السائل بابتسامة عريضة لكي يقول له: إن مزاج جلالته رائق، هذا اليوم!
كان مهرجاً، ولابد من أنه كان فخوراً بذلك. كأنه تتويج لحياة مهنية بأكملها، وتحقيق لحلم آخر: أن يكون بالنسبة للملك كما كان والده بالنسبة للباشا الكلاوي. وقد أتيت على ذكر ذلك الرجل لأنه تذكر أني ابنه في 10 تموز 1971. لقد كان من بين المدعوين إلى الاحتفال بذكرى ميلاد الملك في قصر الصخيرات حيث ستتساقط أجساد الأعيان والدبلوماسيين ورجالات السلطة كالذباب تحت رصاص فصيلة بأكملها من التلامذة الضبَّاط. أنا، لم أطلق النار. كنتُ تحت تأثير الصدمة. كأنه الجنون استبد بنا، وتمرَّدنا تقزُّزاً وربما انكساراً، أو ربما كنا أصبحنا موتى من دون أن ندري. هذا ما أدركته. كنتُ قد أصبحت ميتاً لحظة دخولي القصر الصيفي. كنت ميتاً ولم أكن نادماً على ذلك. كلُّ شيء كان يحوّم من حولي: الناس، الطاولات، الأسلحة، الدماء في مياه حوض السباحة، نجوم الصبح، وبخاصة الشمس، التي لم تكفِّ عن تعقبنا.
مرّت بضعة أيام، وما أن بلغ أبي أني كنتُ في عداد المهاجمين، خدَّش خدّيه إشهاراً لعاره، وارتمى عند قدمي الملك، وقبِّلهما باكياً. وعندما أنهضته يد الملك، أنكرني بالعبارات التالية:
"لقد رزقني الله ولداً منذ سبعة وعشرين عاماً. وإني أدعو الله أن يأخذه، أن يميته ويصليه نار جهنم. والله العلي العظيم، إني من صميم روحي ووعيي، وبكل إدراكي، أتبرأ من هذا الابن العاق، وأجعله عرضة للمهانات وللنسيان الأبدي. إني أنتزع منه اسمي، وأرمي به إلى حفرة الأقذار لكي تتناهش الجرذان والكلابُ قلبه وعينيه وكبده، وتقطعه إرباً
كيما ترمي في بحر النسيان الأبدي. ليشهد الله، ولتشهد جلالتك، أني أقول وأردّد: هذا الولد ليس ابني، لم يعد موجوداً، ولم يوجد ذات يوم. ولتتكرم جلالتك برميي أنا أيضاً في بحر النسيان لأني تلطَّخت بهذا العار، وما عدت أستحق أن أكون خادمك وعبدك. اطردني، قل كلمة واحدة ولن ترى بعد اليوم هذا الوجه الذي لا يجرؤ على النظر إلى وجهك، هذا الوجه الذي لم يصطبغ بالحمرة لشدة عاره بل فقد ملامحه وصار هو العار نفسه. بالنسبة إليّ، هذا الابن العاق مات. فليُبعث حياً لكي يُسام العذاب، لكي يكفر حتى آخر رمق عن ذلك الذنب الذي لا يوصف والذي ارتكبه بحق الجلالة، وبحق الله، وبحق خادمه الوضيع. إني بريء منه. إني بريء منه. بريء منه! إني ألعنه. ألعنه. ألعنه! كيف يا ربي أطمعُ بغفرانك؟ كيف لي، يا صاحب الجلالة، أن أطمع بعونك، لا من أجل إنقاذ هذا الرجل الذي خان الله وطعن الوطن وسوّلت له نفسه أكبر المعاصي، بجنون ليس بعده جنون، بأن يسعى للتآمر على حياتك، النبيلة الرضية السامية مثل سماء، حياتك أنت، يا أمير المؤمنين، المتحدر مباشرة من سلالة الرسول. كيف لي، يا صاحب الجلالة، أن أطمع بعونك لكي أتمكن من مواصلة العيش من دون أن أحني جبيني وأغضي لشدة عاري ومهانتي اللذين جرَّتهما عليّ خيانة من هو من صلبي؟ أيا سيدي، أيا مولاي، جلالتك، إني ماثلٌ أمامك، مكبَّل اليدين. فليكن صنيع جلالته بعبده كيفما شاء صنيعاً. إني مملوك لك. أسرتي ما عادت أسرتي، وأولادي ما عادوا أولادي. إني ماثلٌ عند قدمي جلالتك!".
تمتم الملك أمراً ثم غادر، تاركاً أبي منهاراً، راكعاً، باسطاً يديه أمامه، علامة على أقصى درجات الرضوخ.
لا أحسب أن الملك كان في حالةٍ تسمح له بأن يسمع أي شيء آخر، وبلغني ف يما بعد أنه طلب من أبي أن يبقى برفقته بقية الليل، وأن يتلو عليه من قصائد بن إبراهيم ريثما يأتيه النعاس. ولم يأتِ النعاسُ إلا بين
الرابعة والخامسة فجراً. وعندما أيقن أبي أن سيده قد هوى بلطفٍ إلى الجهة الأخرى من الليل، نهض بحرصٍ شديد وغادر الحجرة وهو يسير القهقري على رؤوس أصابع قدميه.
لم يبلغني كل هذا إلا بعد خروجي من السجن ببضعة أشهر.
واليوم، يراودني السؤال الذي ألحَّ عليّ طوال ثمانية عشر عاماً من دون أن أتجرأ على صوغه بكلمات، خشية أن أُجنَّ أو أن أصاب باكتئاب قاتل، ذلك الاكتئاب الذي ألمَّ بالبعض وقادهم، ببطء، إلى الهلاك. ما عاد السؤال يخيفني اليوم، حتى إني صرت أجدهُ نافلاً، ولكنه لم يفقد مغزاه: فمن ذا الذي كنتُ أريد قتله يوم دخلتُ، مع التلامذة الضباط الآخرين، قصر الملك الصيفي: أكان الملك أم أبي؟
-7-
الحفرة مُجدداً: العتمةُ حالكة. حتى فتحة السقف جُعلت بحيث يدخل منها الهواء من دون أن نبصر الضوء.
كان كريم يحمل الرقم "15". قصير القامة، بدين، ينحدِّر من منطقة الحاجب، تلك المنطقة التي رفدت الجيش بعدد كبير من الجنود والرتباء وحتى الضباط. في أسرة كريم كلهم عسكريون، أباً عن جد. فليس له أن يختار. أشقاؤه كانوا جميعاً جنوداً أنفاراً، أما هو فأراد أن يكون ضابطاً، وعندما كان يخضع لدورات تدريبية في ثكنة الحاجب كان حلمه أن يلتحق بمدرسة هرمومو.
كان شاباً سكوتاً، قلَّما يبتسم، غير أنَّ هوسه الوحيد كان الوقت. فبإمكانه أن يقدر بدقة بالغة كم الساعة بالضبط في أي من أوقات النهار أو الليل. كانت ملكاته هذه تؤهله لأن يصير روزنامتنا ويندولنا، وصلتنا بالحياة التي خلفناها وراءنا أو فوق رؤوسنا. وكان أخشى ما يخشاه إذا انهمك بنقاش مع أحدنا، أن يخطئ حساب الوقت؛ حتى كان يحلو لبعضنا، طلباً للتسلية، أن يختبروا قدراته هذه بسؤاله: "كم الساعة الآن؟" وبخاصة: "نحن في أي يوم وفي أي شهر؟".
كبسة زر فيدور البندول الناطق: "نحن في عام 1975، يوم 14 أيار، والساعة بالضبط هي التاسعة وستٍّ وثلاثون دقيقة صباحاً".
اقترحت على الرفاق أن يكفوا عن إزعاجه بلا طائل: فهو سيعلمنا
بالساعة ثلاث مرات في اليوم، ما يعيننا على إدراك وجهتنا ولو ذهنياً في جحورنا المعتمة، ويوهمنا أننا نتحكم بالزمن.
لقد استطاع كريم أن يجد في ذلك شغلاً يستغرق مجمل وقته. وكان بالنسبة إلينا، نحن، هو الزمن مجرداً من القلق الذي يولده التعقُّب الأعمى لشبح مجزأ إلى دقائق، ثم إلى ساعات، ثم إلى أيام ... كان هادئاً، صافي السريرة. وكونه حارس الوقت كان يتوهم أنه لا ينتمي إلى المجموعة، لكن من دون ادعاء أو غطرسة؛ فقد اهتدى إلى مكانته في كنفِ العتمات. كانت درايته الكتومة ودقِّته تثيران إعجابنا. لم يكن لديه ما يقوله بشأن ما نحن فيه، فقد أصبح روزنامتنا وبندولنا ولن يرضى عن ذلك بديلاً. كأنها كانت طريقته في التشبث بالحياة: أن يكون غائباً في تتبعه وثائر زمنٍ محظور علينا. والمفارقة أن كونه أصبح عبداً للوقت قد جعله حراً؛ جعله خارج أي مصاب، منعزلاً تماماً في قوقعته الشفَّافة، مجرداً من كل ما يلهيه ويُفْقِدُه سياق حسابه. كان مجبراً على أن يكون منهيجاً ودقيقاً. فقد كانت تلك مهمته، وخشبة خلاصه.
أما أنا فسرعان ما أدركت أن غريزة البقاء لن تُسعفني للبقاء حياً. فحتى تلك الغريزة التي نشارك الحيوانات بامتلاكها، قد كُسرت فينا. كيف السبيل إلى البقاء على قيد الحياة في هذا الجحر؟ وما جدوى أن يجرجر واحدنا جسده إلى النور، جسداً محطماً مشوَّهاً؟ لقد وُضعنا في ظروف محسوبة بدقة لكي تُمنع غريزتنا من السعي لمستقبل ما. وأدركت أن الزمن لم يكن له معنى إلا في حركة الكائنات والأشياء. والحال أننا كنا محكومين بالسكون وخلود الأشياء المادية. كنا في حاضر جامد. ولو قُيِّض لواحدنا، شقاء، أن يلتفت إلى الوراء أو أن يستشرف ذاته في المستقبل، فمعنى ذلك أنه يستعجل موته. إذ لا يتسع الحاضر إلا لجري وقائعه، وعلينا أن نكتفي باللحظة القارة من دون أن نُعمِل الفكر فيها، ولعل إدراكي ذاك هو الذي أنقد حياتي.
لم أحسب يوماً أن مكنسة، مجرد مكنسة، قد يكون لها هذا القدْر من المنافع. لقد كان الحراس يرفضون الدخول إلى جحرنا لكنس فضلاتنا. وكان علينا نحن أن نقوم بذلك مداورةٌ. يكتفون بفتح باب زريبة ما قبل أن يغادروا ويقولوا إنهم ليسوا مستعدين لأن يصابوا بعدوى جراثيمنا! كنا قذرين وملتحين، وكلُّ شيء بجوارنا جُعِلَ حقلاً خصباً لتكاثر الجراثيم والأمراض. وذات يوم، فيما كان لحسين، الرقم "20"، يكنس، أطلق صرخة، كأنها صرخة فرح. ثم اقترب من زنزانتي وقال لي:
"أوتدري، إن في طرفِ عصا المنكسة حلقة من حديد!
- وإن يكن؟ ألهذا تصرخ؟
- إنها من معدن! فإن تمكنت من انتزاعها فربما صنعنا منها سكيناً أو موسى...".
على هذا النحو أمضينا أنا ولحسين، عشرة أيام ونحن نعمل منكبين مُداورة، على قطعة الحديد تلك. جعلناها مُسطحة ثم عملنا على سنِّها بواسطة حجر خشن. وحين أصبح النصل رقيقاً وقاطعاً، قررنا أن نقص شعورنا وأراد بعضنا حلق ذقنه، مداورة. في الأثناء، كان عبد الله، الرقم "19"، قد انتزع حلقة مكنسة أخرى. أعرف جيداً القول السائر: "حلقوا له على الناشف"، أي أن صاحبنا قد نال ما لا يرضيه. وفي حالتي أنا، لم يكن مثل هذا القول مجرَّد استعارة: فقد حلقتُ ذقني بلا صابون وبقليل من الماء. كانت لحيتي كثَّة فقصَصتُ شعرها خصلة خصلة. وبالطبع لم أكن أملك مرآة. وحتى لو كانت المرآة متوفرة، فإن الضوء كان معدوماً. حلقتُ كأعمى. كنتُ قد أصبحت أعمى. وكيف لي أن أبرهن لذاتي أني لست أعمى؟ كنتُ أبصر من دون أن أبصر. أتخيَّل أكثر مما أُبصر.
تنقلت الشفرة المرتجلة من يدٍ ليد. استغرقت عملية "المزين" نحو شهر أو أكثر. أما الشفرة الأخرى فقد صنع منها لحسين، وهو أبرعنا،
خمس إبر. كان يمضي الساعات منكباً على سنِّ الشفرة حتى تصبح مستدقة جداً بحيث يتمكن من تقطيعها، بواسطة الشفرة الأخرى، إلى عدة أجزاء، ثم يعمل على إحداث ثقب صغير في طرف كل جزء حيث يمكن تمرير خيط.
كنا نعاني البرد وليس لدينا غيارات. فلحطة اعتقالنا كنا نرتدي ثياباً خفيفة؛ جرى ذلك في شهر تموز وكنا نرتدي ملابس الصيف.
كنا، لحسن طالعنا، قد ارتأينا أن نحتفظ بقمصان وبناطيل مَنْ يموتون. والآن وقد أصبحنا نملك إبرة صار بإمكاننا أن نرقع المواضع الممزقة من ملابسنا، وأن نخيط صداريين أو ثلاثة لمن هم الأكثر وهناً من بيننا.
كان البرد عدوّنا اللدود. يهاجمنا بثباتٍ فيصيبنا إما بالرعدة وإما بالإسهال. ولا مجال لتفسير ذلك. في العادة البرد لا يسبب إسهالاً، لكن الخوف هو الذي يُسببه. وعندما يحل البرد الشديد كانت أيدينا تستحيلُ قطعاً من الجماد، ومفاصلنا أيضاً، فلا نعود قادرين على فركها أو حتى تحسُّس وجوهنا بها. ويسري فينا يباس الجثث، وإذ ذاك ينبغي أن نقف؛ فكنتُ أنهض محني الكتفين مطأطئ الرأس، وأحياناً أبقى مقرفصاً وأسيرُ في زنزانتي متتبعاً خط الزاوية. كان البرد الشديد يمنعني من التفكير، ويُسمعني أصوات أصدقائي، مثل سراب يتراءى لتائهٍ في صحراء. كان البرد الشديد يمحو كل أثر، كأنه ثقاب كهربائي يحدث ثقوباً في الجلد، ولا تسيل دماء. لأن الدماء جمدت في العروق. المهم ألا تغمض عينيك، ألا تنام. فمن يزين لهم وهنهم أن يستسلموا للنعاس، يموتوا في غضون ساعات، إذ تتوقف دورة الدماء في الشرايين، فتجمد، ويحل الصقيع في الدماغ وفي القلب. فلكي نقاوم البرد الشديد ينبغي أن نبقى متيقظين، أن نحرّك أقدامنا، أن ننطنط في مكاننا، أن نتكلم، أن نحدِّث
أنفسنا، أن نتغافل عن وخزه، أن ننكر وجوده، أن نرفضه.
بابا، الصعداوي، الذي أُلحق بنا ذات مساء، مات متجمداً من البرد. كانا اثنين، مديدي القامة نحيلين. الآخر يُدعى جمعة. كان سَكُوتاً. وصلا منهكين لتعرُّضهما للتعذيب على الأرجح. يمشيان بمشقة بادية، جاء حارس ورمى بكل واحد منهما في زنزانة قائلاً:
"يا أولاد القحبة لقد جئتكم برفقة. إنهما ابنا قحبة أكثر منكم، لأنهما خائنان، أخوّن منكم، إنهما يزعمان أن الصحراء ليست مغربية".
لم نكن ندري شيئاً عن حكاية الصحراء تلك، فنحن نحيا في عزلة تامة. وفي المرَّاتِ النادرة التي بلغتنا فيها أخبارٌ ما، كانت على لسان الحراس الذين خطر ببالهم أن يتحدثوا عن أصدقائهم على الجبهة. فخلال المسيرة الخضراء كنا مدفونين تحت الأرض. ومن حين لحين كنا نسمع أحد الحراس متوعداً:
"قد تُجنى منكم منفعة ما: أن يُدفع بكم في الطليعة لتمهيد الطريق التي زرعها بالألغام أولئك الأوغاد الخونة، أولئك المرتزقة المأجورون الذين حرضتهم الجزائر على انتزاع صحرائنا. فهناك على الأقل إذا كان لابد لأحد من أن يتطاير أشلاء جرّاء انفجار لغم، فلن يكون أحد جنودنا البواسل، بل أحدكم، خائن وطنه؟".
شَغَلنا موتُ بابا بضعة أيام. حَسِبَ الحراس أنه كان نائماً. أما جاره في الزنزانة المجاورة فقال لهم إنه ما عاد يسمع تنفسه. بطرف بنادقهم حاولوا إيقاظه. لم يحرّك ساكناً. كان ميتاً. وبرغم كل شيء قال أحد الحراس: "إنا لله وإنا إليه راجعون". فشرعنا في تلاوة القرآن بصوتٍ واحدٍ مرتفع. ولما وجد الحراس أنهم لن يتحملوا هذه الأجواء الجنائزية غادروا. كانت السماء رمادية قاتمة، والمطرُ ينهمر غزيراً. جرت مراسم الدفن بارتجال وبسرعة. كان بردُ الخارج ألطف قليلاً من برد الداخل.
حين جاء بابا، كان مرتدياً جلباباً أزرق؛ جلباباً طويلاً وفضفاضاً. إنه الزيِّ التقليدي لأهل الصحراء. وقد تمكنا من الاحتفاظ به، أو بالأحرى، من انتزاعه عنوة من أيدي الحرّاس. واستطعنا، لحسين وأنا، أن نفصل من قماشة هذا الجلباب، ثلاثة بناطيل وخمسة قمصان وأربعة كلاسين. فكيف لنا ألا نحسب موته مفيداً لمن لبثوا أحياء من بعده؟ لقد ترحمنا عليه وتلونا الصلوات على روحه. جاء من أقصى جنوب المغرب ليموت بيننا. أما جمعة فكانت طلْعَته قاسية صماء. حين نبه إلى طبيعة المكان الذي حل فيه، مدركاً أن تلك الحفرة هي مثابة قبرنا الجماعي، أطلق صرخة مدوية، متمادية. ثم راح ينشدُ أغاني قبيلته، قبل أن يغرق، أياماً وليالي، في صمت مطبق. كان لا ينام. ولطول قامته، يلبث جالساً القرفصاء، ومن حين لحين، يتمتم بعباراتٍ غير مفهومة.
عندما سمع كريم معلناً الشهر واليوم والساعة، هدأ قليلاً. ومن فوره بادر إلى القول:
"لقد صرخت، ذلك اليوم، لأني لم أقدر على أن أميز إذا كان الوقت نهاراً أو ليلاً، حتى كدتُ أُجنّ. الآن أدرك ما الذي يجري. المعذرة يا إخوتي لأن صرختي قد أصمَّت آذانكم. كنت حانقاً جداً. لقد أوقعوا بنا بمنتهى البساطة. كان شركاً، خيانة. بعد موت بابا، الشخص الأحب إلى قلبي، ما عدت أبالي. لقد آمنتُ بالثورة. حتى توهمنا أننا سنستدرج الشعب المغربي لتأييد قضيتنا. لكننا كنا مخطئين، وتلاعب الجزائريون والكوبيون بنا ... أنا وُلدتُ في مراكش، إني مثلكم. وعندما جاؤوا لإقناعي كنتُ شديد الحماسة. قيل لي: "رياح الثورة تهب دائماً من الجنوب". فذهبت إلى الجنوب، واستبدلت اسمي بآخر وأصبحت مقاتلاً في الجيش الصحراوي".
كان يتكلم لكي لا ينام، وكنا نصغي إلى كلامه، أما أنا، فكنتُ أفكِّر
في أمر آخر. كنتُ أحلم بالحصول على قطعة من جلبابه الأزرق. لقد أعطيتُ الآخرين كل شيء، وهآنذا أكابد البرد القارس، وخصيتاي تؤلمانني بشدة. كنت أحاول أن أدفئهما براحتي غير أن مفاصلي تكاد تكون جامدة، ولا تقوى يدي على الإمساك طويلاً بأعضائي التناسلية فإذا حصلت على قطعة قماش صار بإمكاني، على الأقل، أن أخيط نوعاً من الضمادة لأغطيها بها. انتظرت ريثما ينهي كلامه لكي أطلب منه ذلك. وعندما تناهى إلى سمعي، في صمت العُتمات المطبق، صوت القماش وهو يُملَّع، قفزت فرحاً حتى ارتطم رأسي بالسقف، ثم قال:
"سأجعله صرة وأرميه لك".
لكنَّ، كما في أفلام التشويق، لم تقع القماشة في زنزاتي، بل قبالة بابها. فكيف السبيل إلى التقاطها؟ وبأي وسيلة؟ وإذا لمحها الحراس سارعوا إلى مصادرتها. ذكرني لحسين بأننا كنا احتفظنا بالمكنسة التي تم تمريرها من زنزانة إلى أخرى حتى تلقفتها. وعندئذ بدأ التفتيش عن قطعة القماش. مكنسة عمياء بين أيدٍ عمياء! كنتُ ممدداً سوية الأرض على بطني باسطاً ذراعي بعصا المكنسة إلى خارج الزنزانة بحثاً عن القماشة. بعد ساعة من الجهد تكللَّت العملية بالنجاح، فتهللتُ، وأطلقتُ بدوري، صيحة صحراوية أشبه بصيحة الهنود الحمر إثر انتصارهم في معركة على الجيش الأميركي.
في تلك الليلة لم أنم. التحقتُ بقطعة القماش التي تقي قليلاً من البرد. وفي اليوم التالي انصرفت إلى تفصيل ما أحتاج إليه اتقاء للبرد القارس.
-8-
يُقالُ في وصف القهوة الرديئة، إنها "زوم جوارب"(*). ولطالما استخدمتُ ذلك التشبيه في أيام اعتقالنا الأولى. لكنها لم تكن صحيحة. فنقيع الجوارب له طعم ورائحة كريهان بالطبع، لكنه قابل للشرب، وحتى أن يُستزاد منه. وما كان يُقدِّم لنا في الصباح على أنه قهوة من ماء فاتر ممزوج بمادة نشوية محمَّصة مطحونة، يستحيل أن نعرف ما هي بالضبط. ربما كانت حمصاً أو فاصوليا حمراء. المؤكد أنها ليست قهوة ولا شاياً. ولكن ما هي بالضبط؟ بق السؤال محيراً إذ تحل في المعدة كعقار خاص للتسبُّب بالغثيان والقيء. أتكون سائل الحقنة الشرجية؟ أم مزيجاً من بول الجِمَال وبول قائد المعسكر؟ كنا نبتلعها من دون أن نسأل ما هي بالضبط.
الخبز. بلى، كانت لنا حصة من الخبز الأبيض مثل حجر الكلس. كانت بمثابة الحد الأدنى من السعرات الحرارية لكي لا نموت جوعاً. وكم تخيلتُ طبيباً منكباً على حساب عدد السعرات التي نحتاج إليها، وعلى تدوين تقرير بهذا الشأن تطبعه على الآلة الكاتبة سكرتيرة صبغت شفتيها بأحمر شفاه فاقع، وجعلت شعرها كعكة مرفوعة عند مؤخر
الرأس. ثمَّ يتقدَّم به للضابط الذي كلَّفه بوضعه. كان الخبز على شاكلة عجلة سيارة، قاسياً، سميكاً، وبلا طعم. وأقسمُ إنه لو أن أحداً يجيد رميه لتمكن من قتل من يصيبه به. كان خبزاً من إسمنت، لا يمكن قطعه، ولا حتى كسره. لا يُمْضَغُ، بل يُقضم قضماً. وبما أن معظمنا كان يعاني ألم أسنانه، فقد كان تناوُل ذلك الخبز منة إضافية. وكان بعضنا يلجأ إلى الاحتفاظ بزوم الصباح لينقع به حصته من الخبز. أما البعض الآخر فيكسره إلى قطع صغيرة ويسكب فوقه عصيدة النشويات اليومية.
نشويات. النشويات كآبتي، وصحبي، وزائري، وعادتي القسرية، وبقائي، وحقدي الصميمي، وحبي المستنفد، المحرِّق، المرمي؛ حصتي من السعرات، جنوني الملحاح! نشويات ألتهمها ثم أطردها من معدتي بما يُشبه اللذة.
النشويات صباحاً ومساءً، مثل وصفة طبيب. لا سبيل لتغييرها، ولا لتنويعها. إذ ينبغي أن يعتاد الجسم النشويات نفسها حتى الموت. خبز يابس، ونشويات مطبوخة بالماء، بلا بهارات، بلا زيت. ومرة واحدة في الأسبوع تُطبخ بشحم الجمل. رائحة حريفة لا تُطاق، لكني ألتهم ما بطبقي ساداً منخري. فقد كنت أفضِّل- إذا كان لما أقول معنى في هذه الحفرة – النشويات المطبوخة بالماء.
كنا نخضع جميعاً لنظام غذائي وحيد: النشويات نفسها وتكراراً حتى الموت.
على هذا النحو أمضيتُ ثمانية عشر عاماً، وبالضبط ستة آلاف وستمئة وثلاثة وستين يوماً، لا أُطعَمُ إلا النشويات والخبز اليابس. لم أعرف اللحم. لم أعرف السمك. وينبغي ألا أقولُ أُطعمت بل أُبْقيتُ على قيد الحياة. وسرعان ما نسيت السيجارة. حتى إني لم أشعر بذلك الحرمان الفظيع الذي أصاب لعربي، الرقم "4"، بالجنون. فقد كان يصرخ، يمزق قميصه الذي لا يملك سواه، ينادي على الحرَّاس راضياً
بأن يُعطيهم أي شيء مقابل سيجارة. كان يقول:
"حتى لو كنت ترفض أن تعطيني سيجارة، تعال دحُن بقربي، دعني أتنشقْ هذا الدخان الذي افتقدته. خذ كل ما تريد ... أجل، أعلم أني لا أملك شيئاً ... ربما دِبري ... أهبك إياه فليس فيه إلا العظام، ولكن أعطني مجِّة، مجِّة واحدة، ثم اقتلني. أطلقْ رصاصة في دبري وسأنطلق مثل صاروخ لألتحق بجحيم المدخنين إلى الأبد. هيا، انس أننا عدوان، وتذكر أننا من بلد واحد. من أجل سيجارة واحدة بإمكانك أن تقصد دارنا وسوف تُعطى مالاً وثياباً...".
لعربي المسكين أعلن إضراباً عن الطعام وترك نفسه يموت. خلال شهر بأكمله ظل أنينه الخافتُ مسموعاً:
"أريد أن أموت. لِمَ يبطئ الموتُ في قدومه؟ من يؤخر مجيئه، ويمنع نزوله إليِّ، وانسلاله من تحت باب زنزانتي؟ إنه ذو الشاربين، الحارس الجلف، يقطع طريقه. كم هو صعب أن نموت حين نريد الموت! فالموت لا يُبالي بي. ولكن دعوه يمر، أحسنوا وفادته! فهذه المرة سوف يأخذني أنا. سوف يحررني. انتبهوا جيداً، لا تعيقوا حركته. إني أراه؛ لقد استجاب لدعائي أخيراً. وداعاً، أيها التلامذة الضباط، وداعاً أيها الثوار، وداعاً يا رفاق! إني راحل، من المؤكد أني راحل، وهناك سوف أدخِّنُ سيجارة لا تنتهي ...".
أخطأه الموت مراراً، ولم يخطفه إلا بمضي أسبوع على تلك الليلة التي تراءى له فيها أنه أبصره. لقد كان لعربي فتى طيباً، قلقاً على الدوام، خدوماً وساذجاً بعض الشيء. في الصف، في هرمومو، كان من بين الراسبين. وقبل الانقلاب مباشرة كان سيجرد من رتبته ويُعادُ إلى الحاجب حيث سيخدم بصفته ضابط صفّ. كانت مسألة أيام فقط. لم يكن قادراً على المتابعة. أهمل ملفَّه، ويوم التحرُّك تسلق الشاحنة مع الآخرين من دون أن يدري لا إلى أين هو ذاهب ولا ما هو فاعل. عندما كان يدخن
سيجارة يمضغها، فلابد من أنها كانت متعته الوحيدة.
في أيامه الأخيرة بلغ به نحوله حداً ما عاد معه يُشبه البشر. كانت عيناه جاحظتين محتقنتين، وعند ملتقى شفتيه زيدٌ جاف. وعلى وجهه ذي العظام الناتئة سيماءُ الشقاء كله والحقد كله. كان غربي، الأستاذ، يتلو القرآن أثناء دفنه، وكان الضوء مُريعاً، أقصدُ مذهلاً، رائعاً. إنه الربيع. مليتُ عيني ورئتيِّ ما أمكنها من ذاك النور. وحذا الجميع حذوي. توقف غربي لبضع دقائق: أغمض عينيه وتنشق ملء رئتيه ثم فتح فمه كأنه يلتهم الهواء. أما الحراس فقد أتاحوا لنا أن نستغل هذا الدفن أكثر مما كنا نفعل. وقلنا للعربي شكراً. قلنا: "وداعاً، إلى اللقاء، إلى لقاء قريب! سوف نلتقي هناك، وسوف نحتكم إلى الله ورحمته، فإنا لله وإنا إليه راجعون". لم يكن لدي أدنى شك حول هذه المسألة. إذ لم أكن مُلكاً لا للملك ولا لقائد المقبرة الجوفية، ولا للحرس المدججين بالسلاح. لستُ لغير الله. هو وحده من ستلاقيه روحي فيقاضيها. إن قسوة أولاء الجنود ما عادت تعنيني. وازداد إيماني بالله العلي العظيم، الرحمن، الأكبر، الرحيم، الذي يعلم ما على الأرض وما في السماء، والعليم بما في القلوب وبمصائر النفوس.
ذلك النور، في ذلك اليوم من أيام شهر نيسان، كان علامة على رحمته. فأحسستُ بعد ذلك بصفاء السريرة، وبالطمأنينة، وشعرت بأني مستعد للعودة إلى الجحر.
تطوعتُ لتنظيف زنزانة لعربي. ولكي أقاوم روائح البراز والقيء، رحت أستعيد في ذاكرتي صور الضوء والربيع. حتى إني لم أكن مجبراً على حبس أنفاسي. فقد كنتُ في آن معاً؛ هناك وفي مكان آخر، أدندنُ لحناً كأني مغتبط. لقد قررت أن أطرد الكآبة والكراهية من نفسي، كما طردت الذكريات.
كنتُ أغسل الأرضية حيث اختلط فتات الخبز بعصيدة النشويات
فاستحالت عفناً. وكانت رائحة القيء والوخم. لابد من أن للرائحة لوناً. فقد تخيلتها مائلةً إلى الإخضرار وذات بُقع صهباء. أو ربما كان كل شيء أسود وكنتُ أشقى في وضع اللون حيث لا وجود لغير العفن والاكفهرار.
كان ذلك تمريناً مفيداً بالنسبة إليّ. وفور عودتي إلى زنزانتي اغتسلت، فشعرتُ بشيء من الراحة. كأن الرفاهية تكمن في أن لا يشتم أحدنا رائحة الطعام المتعفن.
-9-
معظم الذين قضوا لم يقضوا جوعاً بل حقداً.
الحقد يُضعف. إنه يتأكِّل الجسم من الداخل ويصيب جهاز المناعة. فعندما يقيم الحقدُ في دواخلنا، ينتهي الأمرُ بأن يسحقنا. وكان ينبغي أن أخوض تلك التجربة لكي أدرك أمراً بسيطاً كهذا. أذكر مدرباً في مدرسة هرمومو، كان لئيماً، بائساً وكئيباً. كانت عيناه صفراوين، بلون الحقد. ذات يوم لم يحضر إلى الصف. وقيل لنا إنه أُدخل إلى المستشفى حيث سيبقى لفترة طويلة. ما عدت أذكر ما الذي ألم به، ولكن قِيل لنا إنه رُمي بسحر امرأة من الجبل كان اغتصب ابنتها.
كيف لنا ألا نحقد برغم كل ما نكابده؟ كيف لنا أن نكون أكبر وأنبل من أولئك الجلادين البلا وجوه؟ وكيف لنا أن نتخطى مشاعر الثأر تلك ومشاعر التدمير؟
عندما أيقنت أن من بين الموتى الأوائل هناك مَنْ احتضن الحقد في داخله، أدركتُ أنهم كانوا أولى ضحاياه. ومَنْ رسَّخ تلك الفكرة في ذهني كان رشدي، الرقم "23"، وهو رجلٌ وديع وهادئ، فطِنٌ ومرهف، ولطالما قلتُ في سري إنه أخطأ في اختيار مهنته. فما الذي أتى به إلى الجيش؟ كان يتحدر من أسرة كبيرة من مدينة فاس، أسرة بورجوازية تزدري الجيش. ولابد من أن أفرادها كانوا يحسبون أن الفلاحين وأبناء الجبال الريفيين هم وحدهم الذين يلتحقون بالجيش. وقد عملت الأسرة
جاهدة لتوجيه أولادها لمتابعة دراستهم العليا لكي يصبحوا من كبار موظفي الدولة، أو عند الاقتضاء، من كبار رجال الأعمال. وكان رشدي مُتحدراً من ذلك الوسط ويمقت أن يذكره أحدٌ بذلك. لقد تطوّع في الجيش احتجاجاً على والديه، ولكي ينسى أصوله، ويقتلع جذوره، ويبتعد عن تربيته شبه الأرستقراطية، رغبة منه في الاختلاط بأوساط مختلفة. نشأت بيننا صداقة، وجمعنا نوعٌ من التواطؤ، وأحسب أننا وحدنا، رشدي وأنا، قد شعرنا بأن القمندان "أ." يخطط للقيام بانقلاب عسكري. وعندما بلغتنا الأوامر بركوب الشاحنات، نظر واحدنا إلى الآخر، وكانت عيوننا تلمع، ربما بسبب الدموع أو ربما بسبب الرهبة من الخوض في المجهول. لقد لاحظنا ذلك الحديث المطوَّل، المنفرد، بين القمندان والمعاون عطا، ساعده الأيمن. أما خلال تحركنا فقد كان الصمت مطبقاً. وكان رشدي يشعل السيجارة من عقب الأخرى. كان مطرقاً طوال الوقت وأحسب أنه كان يبكي.
كان رشدي متكدراً، مصدوماً، وخلال اقتحام القصر قال لي إنه سيستسلم، كان يرتعد. وقع منطوياً فوق سلاحه، وأصيب برصاصة في كتفه ففقد وعيه. عندما التقينا مجدداً كان ذلك في سجن القنيطرة، فقال لي إنه ما زال لا يفهم لِمَ هو موجود هناك. كان يقول إنه لم يفعل شيئاً، وإنها غلطة فظيعة، إنه ظلم. في آخر الأمر يئست من محاولة إقناعه بأن يقبل بواقع الحال. كان لا يتحدث إلا عن الثأر والقتل. لقد أصيب بداء الحقد الذي لا شفاء منه. كان يريد أن يقتل الجميع: الحراس، القضاة، المحامين، الأسرة المالكة، كل الذين كانوا سبباً في سجنه. وعندما تمَّ نقلنا إلى تزمامارت، لم يطل به الأمر حتى فقد عقله، وما عاد يدري ماذا يقول، لكنه بقي مقيماً على حقده. كان يحثه من الداخل، يتأكَّله، يجعله غريباً عن ذاته. في تلك الفترة لم يمت أحدٌ منا فلم يكن ممكناً أن نلتقي.
غالباً ما كنتُ أناديه لكن لا جواب، سوى صراخ وزعيق حيوان مجروح. هو أيضاً أراد أن يستعجل موته. لكن الموت المتآمر مع جلادينا كان يتريث في المجيء.
ذات يوم طلبت من أحد الحراس أن يدعنا نراه ولو هنيهات. طبعاً ليس وراداً أن يُسمح لنا بالخروج من الحفرة، بل أن يدعنا نزوره وأن نستعير من الحارس مصباحه الكهربائي. لكن رفضه كان مدوياً وقاطعاً ومصحوباً بالوعيد والشتائم، فأعلنا الإضراب.
أضربنا عن الكلام. اعتصمنا بصمت مطبق في الحفرة، من دون كلمة، من دون حركة. حتى تنفسنا كان محسوباً لا يصدر عنه صوت. بضع دقائق من الصمت المطبق، الثقيل، المستهجن، كانت كفيلة بأن تُفقد الحراس رشدهم. فراحوا يزعقون، ويضربون الأبواب بأعقاب بنادقهم. لكننا بقينا صامتين كالموتى. فالصمت والعتمات مزاج خصبٌ لانبثاق الجن. لا ريب في ذلك. صاح أحد الحراس قائلاً:
"هيا بنا! لنذهب من هنا! هذا المكان مسكون. أقسم لكم إني رأيت جنياً ذا عينين لامعتين. لنترك هؤلاء الأوغاد بصحبة الجن، فهم من السلالة نفسها، من الدهماء نفسها. هيا، بسرعة، لنرحل".
غادروا مذعورين، أما نحن فقد عبرنا عن فرحتنا بأن قهقهنا كما قد تقهقه الجن.
لم نرّ رشدي قبل موته، والحارس الذي جاء لمعاينة الوفاة أصيب بنوبة ذعر. فعندما سلط ضوء مصباحه على وجه الفقيد، تراجع إلى الوراء مطلقاً صيحة ذعر وغادر مسرعاً تاركاً مبصاحه. حاولنا أن نستولي على المصباح بواسطة عصا المكنسة لكن الشق بين الأرضية وأسفل الباب أضيق من أن يمر عبرها. وعندما جاء حارس آخر لضبط الأمور، لم يعلق بكلمة واحدة، بل أشار إليّ وإلى حسين لكي نقوم بغسل الميت وتدبُّر أمر الدفن بحيث يتم ليلاً. لابد من أنه ضابط صف. كان يُدعى مفاضل.
عندما اجتمعنا حول الجثة، بادر إلى مخاطبتنا قائلاً:
"في المرَّة المقبلة التي تعلنون فيها إضراباً، سوف أطلق العقارب، وعندئذ سنرى من منا، أنتم أم أنا، هو الجني حقاً. هيَّا، ضعوا هذه القذارة في حفرتها".
بصوتٍ واحد، أجبناه بتلاوة الفاتحة، أولى سُوّر القرآن، وراح الحرَّاس يدفعوننا بقوة باتجاه باب الحفرة، فيما راح مفاضل يتبول على حجرٍ ضخم.
كان بندولنا الناطق قد أصابه عطل. لقد اضطرب كريم كثيراً جراء جنازة الليل تلك، وجراء تهديدات ضابط الصف. كأنه أضاع سياقة الزمن. كان يُسمعُ نواحُه من زنزانته وهو يحاول استذكار أيام الأسبوع وساعاته. نصحته بأن يهدأ، مؤكداً له أن الأمور ستعود إلى مجراها السابق، فنام، وفي اليوم التالي أيقظنا مقلداً صياح الديك:
"إنها الخامسة، ميقات صلاة الفجر يا إخوتي المؤمنين، يا مسلمين، استيقظوا، فلا تؤخروا الصلاة".
ثم قال بعد قليل:
"لا تعودوا إلى النوم، لا تعودوا إلى النوم. يا إخوتي، انتبهوا، نحن في فصل الصيف، يوم الثالث من تموز 1978، إنها الخامسة وست وثلاثون دقيقة، إنه ميقات العقارب. انتبهوا جيداً. لقد وصلت العقارب، إني أشعر بوجودها، إني أسمعها. بعد البرد القارس والرطوبة، جاء الصيف، صيف العقارب. يجب أن نرص صفوفنا. لقد كادت التي تتعطل لأني شعرتُ بوجود غريب في زنزانتي. لا، ليسوا الجن. لا، إنهم قتلة؛ إنها حشرات صغيرة تلدغ وتنفث سمومها".
كنتُ قد أصبحت خبيراً في أمور العقارب. أعرفها ولم يسبق أن درستها من قبل. أعرف كيف تتنقل، والدبيب الذي تحدثه في تنقلها،
وفي أي حرارة تلدغ، وأين يروقها أن تختبئ، وكيف تخدع خصمها.
كل ذلك أدركته بالحدس. في كنف العتمة حيث كنا نحيا، لم يكن بوسعنا أن نراها. ظهرت للمرة الأولى في ذلك الصيف. لم تأتِ من تلقائها، أو بمحض المصادفة. فالضابط هو الذي أطلقها في الحفرة؛ كنتُ واثقاً من ذلك. وإلا فكيف أمضينا خمس صيفيات متتالية من دون أن نلمح إحدى هذه الحشرات المريعة؟ ولكن كيف استطاع ذلك الرجل أن يفعل ذلك؟ ذلك أني لا أعتقد، مهما أسأتُ الظن، أن عقيداً أو جنرالاً قد يعقد اجتماعاً مع ضباط أركان آخرين لإصدار أمر لأحد مرؤوسيه، بأن يذهب لالتقاط العقارب وإطلاقها في حفرتنا. لا، مثل هذه الفعلة تكون بمبادرة شخصية. ضابط الصفِّ ذاك- لابد من أنه برتبة رقيب أول – كان ينتقمُ منا ليس حباً بالنظام الملكي، بل حقداً على رؤسائه الذين نفوه إلى تلك المنطقة النائية لحراسة موتى أحياء، أو الأحرى، لحراسة ناجين محكومين بالموت البطيء.
كما قال لنا كريم، يجب أن نعدُّ أنفسنا للأمر. عقدنا اجتماعاً بعد وجبة النشويات المسائية. لبثنا واقفين، كل في زنزانته، أما أنا فلبثتُ منحنياً بسبب طول قامتي. الرقم "21" واكرين الودود، أخبرنا بأنه كان يلهو باصطياد العقارب في طفولته في "تفراوت"، وهي منطقة حارة شديدة الجفاف. وأخبرنا بأن العقرب حشرة غادرة لكنها ليست ذكية؛ وأنها تحب أن تتشبِّث بالحجارة، لكنها إنْ وقعت، لدغت.
كان محقاً في ما قال. إذ كان ينبغي ان يحل صمت، لا بل صمت مطبق، لكي نعتلم المكان الذي تتنقل فيه العقارب. ما دمنا نسمع دبيبها، فنعلم يقيناً أنها فوق رؤوسنا. وإذا وقعت كان علينا أن نقدر، من جلبة سقوطها، الجهة التي أصبحت فيها لكي نبتعد عنها. ولكي نُفلح في ذلك ينبغي ألا ننام. وصديقي لحسين لُدغ حين غلبه النعاس. رحنا ننادي الحراس بأعلى أصواتنا لكنهم لم يأتوا إلا عند الصباح، عندما أحضروا ما
يسمونه القهوة. راح واكرين يتوسَّل إليهم أن يسمحوا له بشفط السم عن طريق امتصاصه. كانت حرارة لحسين قد أصبحت مرتفعة جداً فراح البائس يهذي. ثم قال لنا واكرين وهو يبصق السم:
"سوف تدومُ الحرارة ثماني وأربعين ساعة. إنها القاعدة. المهم ألا تناموا".
- إن حاجتنا إلى النوم سوف تقتلنا! صاح صوت قائلاً.
- الجنون يتربص بنا! قال آخر.
- قصة العقارب هذه مؤامرة للإسراع بقتلنا، لاحظ جاري للناحية اليمنى.
- لكن هذا لا يتماشى مع رغبة السلطات في أن تجعلنا نموت بجرعات صغيرة، قلتُ.
- فلتفعل السلطات ما يطيب لها، هذا شأنها! حتى إني واثق من أن العالم بأسره قد نسينا؛ من حكم علينا ومن رمى بنا في هذه الحفرة. المشكلة، في الوقت الحالي، هي أن نفرض على الحراس تزويدنا بمصدر للنور لكي نطرد هذه الدواب القاتلة من زنزاناتنا، قال غربي الذي يُلقب بـ"الأستاذ"، بنبرة هادئة.
النور، ما هو! كان النظام كله قائماً على السواد، على تلك العتمة، الحالكة، تلك الظلمات التي تنمي الخوف من اللامرئي، الخوف من المجهول. كان الموت محوِّماً في الأرجاء. كان هناك. ولكن ينبغي ألا نعرف لا من أين سيضرب ضربته، ولا كيف، ولا بأي سلاح. ينبغي أن نبقى تحت رحمة ما لا نراه. ذاك هو العذاب؛ وفذلكة الانتقام.
كم قلت في سري: "حسناً، لقد تآمرنا على قتله. بحثنا عنه في كل مكان بين مدعويه لقتله، وخسرنا. لم نكن سوى جنود، سوى رتباء أخذنا
بدوار ذلك المقدَّر، منفِّذين أوامرنا، لِمَ لَمْ يقتلونا على الفور؟ حتى في بلد مثل فرنسا، قد أُعدم بالرصاص مَنْ أطلق النار على سيارة الجنرال ديغول. وهذا أمر طبيعي. لِمَ حوكمنا في محكمة وصدر علينا الحكم بالسجن عشر سنوات لكي يحكم علينا، في ما بعد، بالموت البطيء؟ لِمَ كان مصيرُ الجنرالات الذين خططوا للانقلاب العسكري، مواجهة فِرق الإعدام بعد تجريدهم من رتبهم، في حين أننا، نحن والرتباء ومدربي التلامذة الضباط، علينا أن نكابد، إلى الأبد، اختبار الموت المتباطئ، الفاسق، الشاذ؛ الموت الذي يتلاعب بأعصابنا، ويتلاعب بالقليل القليل الذي تبقى لنا: كرامتنا؟ ما جدوى تكرار كل هذا الكلام؟ كنا من أتباع الذين أخطأوا، الذين ارتكبوا جريمة: فَلِمَ إبقاؤنا على قيد الحياة؟ لمَ نُدفن أحياء، ويُترك لتنفسنا كفاف من الهواء لكي نبقى على قيد الحياة ... ونتعذب؟
"ذات يومٍ مُقبلٍ سوف أكون بلا حقد، سوف أمتلك حريتي، أخيراً، وسوف أروي ما قاسيت. سوف أكتب ما قاسيت، أو أجعل أحداً يكتبه، ليس لغرض الانتقام، بل لكي أبلغ، لكي أُدلي بدلوي في ملف قصتنا. لكني الآن أحاول أن أحكي، أن أكلِّم نفسي لكي لا يغلبني النعاسُ فأصبح فريسة متاحة للعقارب. أتكلم، أنطنط، أضرب الحائط برأسي ضربات خفيفة، أتساءل أين تَقْبَعُ عقربي. لابد من أنها متوارية بين الحجرين الثالث والرابع في الشق الذي يدلفُ منه المطرُ حين تمطرُ بغزارة. لقد أنبأني سمْعي بذلك. فأقعي في الجهة الأخرى. إنه رهان. وأنا أثق بحدسي. إن لُدغتُ يهرع واركين لامتصاص السم. لقد اعتاد الأمر. بدأ النعاس يغلبني. أحبس أنفاسي. لا أثر لحِراك. سيان، ما عدتُ أقاوم، أستسلم للنوم، مقرفصاً".
أيقظني ألم حاد في الظهر. لم تكن لدغة عقرب. فقد عاودتني أوجاع الظهر. أهو داء المفاصل؟ أم فتق قرصي؟ أم مجرد تشنج عضلي؟
من أين لي أن أدري؟ مجرّد أن تكون محنيّ الظهر باستمرار أمر يعرّضك لتشوه في العمود الفقري. وما جدوى أن تعثر على مسبِّب لهذه الأوجاع؟ فكلُّ ما تستطيعه حيالها هو أن تتحملَّها وتكابد الحياة معها وتحاول أن تنساها. لكل واحد منا موضعٌ من جسمه أو دماغه أصابه التلف. تفاقمت كلُّ أمراضنا وكلِّ أوجاعنا. وما من طبيب. تلك هي القاعدة. لا شأن لأي طبيب بمكان مثل هذا. المفترض أن دور الطبيب هو الصراع ضد المرض، لإرغامه على الانكفاء، وحتى الانتصار عليه. أما هنا فتجري الأمور على نحو معاكسٍ، كما أُريد لها أن تكون. إذا حل المرضُ في المكان، فينبغي أن يتاح له التأقلم والنمو والانتشار في الجسم كله، ونقل العدوى إلى الأعضاء السليمة، وينبغي أن يفعل فعله ويُذيق الجسم كل صنوف الوجع. لا يُسمح لأحد بالتدخل. وبأية حال، لم يكن هنا من نخاطبه، من نرفع إليه مطالبنا، كما كان عليه الأمر في القنيطرة.
كان هناك ضابط، قمندان، لم نلمحه ولو مرة واحدة. كان أشبه بشبح، بظل؛ أشبه بشخص ينبغي أن يكون موجوداً من دون أن يُضطرَّ إلى الظهور. ربما كان صوتاً يلقي سلسلة من الأوامر الجائرة الحازمة: صوتاً مُسجلاً. الأرجح أنه صوت ممثل. عندما يريد الحراس أن يُظهروا لنا بعض اللُّطفِ يعدوننا بعرض المسألة على القمندار- كما كانوا يسمونه – غير أننا لم نتلقَّ يوماً أي ردٍّ على أي مطلب. لذا كان استنتاجنا هو التالي: القمندار غير موجود. لم يكن أكثر من خيال صحراء وكنا نتصرَّف كأنه موجود هناك، على بعد عشرات الأمتار من باب حفرتنا المموَّه. فهل يُعْقَلُ أن يُعهد بأولئك السجناء المميزين جداً إلى قمندار قد يجد نفسه ذات مساء جالساً إلى أحد بارات مراكش أو الدار البيضاء، ومسترسلاً، بتأثير الكحول ومشاعر الندم، بالحديث، آتياً على ذكر تلك الدسكرة الصغيرة، تزمامارت، الواقعة بين رشيدية وريش، على خارطة المغرب؟
القمندار، الضابط الخفي، كان هو الرعب. كان الحرّاس يتحدثون عنه كأنه قطعة من المعدن، لا يلين، غير آدمي، قابضٌ على كلِّ السلطات. كانوا يردِّدون: "القمندار رجل من حديد".
في ما بعد، أقصد بمضي زمن طويل، قُيِّض لي أن أقابل القمندار وجهاً لوجه، فأدركت على الفور أن ذلك الرجل قد نُحت من خامةٍ على حدة، نُحِتَ في ضربٍ من البرونز أو الفِلذ.
وُلِد ليخدم، لينفِّذ كل المأموريات، من أكثرها عادية إلى أشدها فظاعة. لا أثر للمشاعر. لا أثر لأدنى شك. يتلقى الأوامر ويطبقها بيدٍ من حديد. قبل أن يُعد بنا إليه، كان قد تمرّس بذبح عدد من التعساء كما دفن عدداً آخر منهم أحياء، ونكَّل بمعارضين للنظام بدقة خبير. كان فَقَد إحدى عينيه في حادث سيارة. وكان يردد أنها مشيئة الله، لا أكثر.
من بين الحرَّاس الثمانية كان اثنان هما الأشد قسو وسوءاً. فنطَسّ، الرَّجُلُ ذو الأسنان الذهب، النحيل، المديد القامة؛ كان يَبْصُقُ دائماً ويبدي لؤماً شديداً. عندما ينطق لا يستخدم سوى العبارات البذيئة والشتائم. وكنا نتجنب الرد عليه تاركين له التخبُّط في فظاظته. ثم بلغنا في ما بعد أنه كانا يحرر تقارير بزملائه الذين لا يضاهونه لؤماً في التعاطي معنا، متهماً إياهم بالضعف، وحتى بالتعاطف مع "الكلاب والخونة".
ذات يوم اختفى فنطس. وطوال شهرين لم نسمع صوته الأجش وصفير بصاقه. وعندما عاد إلينا بدا مختلفاً. راح يفتح باب كل زنزانة طالباً المغفرة. وتمكَّنتُ من رؤية ملامحه بفضل ضوء المصباح الذي كان يحمله ويسلطه على وجهه. كان ينتحبُ ويردد عبارات غريبة:
"أطلب منك المغفرة، لقد كنت رذيلاً، ولئيماً على نحو فظيع. كنتُ أبصق في طعامكم، وأخلطه بالرمل. كنتُ أكرهكم لأني تعلمتُ الكراهية. وكنت أتمنى أن يكون موتكم بطيئاً مؤلماً. إني استحق نار جهنم على ما فعلته بكم. لقد عاقبني ربي. لقد انتزع مني ولدي البكرين
اللذين قُتِلا على الفور في حادث سير. لقد قضى الله قضاءه، ما عاد لديّ هنا ما أفعله. سأموت أنا أيضاً. لقد انتهى كلُّ شيء، أعينوني على الرحيل بغفرانكم".
مات فنطسّ بعد ذلك ببعضة أشهر جراء إضرابه عن الطعام.
حارس آخر، يدعى حميدوش، كان، هو أيضاً، شديد اللؤم، شرساً. كان أعرج بسبب سقطة تعرّض لها. عندما شهد ما حل برفيقه فنطسْ، ذُعِرَ وراح، هو أيضاً، يطلب منا المغفرة! أما الحرّاس الآخرون فكانوا ينفذون الأوامر بصمت، ويقيمون الحد الأدنى من الصلات بنا، ويخافون مفاضل، رئيسهم.
إذا كان لا معنى البتة من قولنا: "إني مريض، هذا الصباح أشعر بأني لستُ على ما يرام، إن الأمور ليست كالمعتاد ..."، فما جدوى أن نطيل التفكير في ذلك، وأن نقوله أو نسرِّ به لأنفسنا؟ فالمرض هو حالُنا المعتادة، الدائمة، إذ ينبغي أن نفقد، كل يوم، شيئاً من صحتنا، حتى الدواء، حتى النهاية. كان كلُّ ما نملكه عبارة عن جسم ودماغ. وسرعان ما اخترت أن أحافظ على رأسي، وعلى وعيي، بشتى الوسائل. ورحت أعمل على حمايتهما، فالجسم معرِّض، وهو على نحوٍ ما، ملكٌ لهم، يتصرفون به ويعذبونه حتى من دون أن يلمسوه، ويستأصلون منه عضواً أو اثنين لمجرد أننا لا نحظى بأية عناية. غير أن فكري ينبغي أن يبقى بمعزلٍ عنهم، بعيداً من متناولهم، فهو بقائي الحق، وحريتي، وملاذي، وهروبي. ولكي أبقيه حياً يحتاج إلى تمرين، إلى رياضة. وكما فعلتُ لكي أُبعد، لا بل أمحو الذكريات التي من شأنها أن تقودني إلى الهاوية، قررت أن أُعْمِلَ تفكيري، وهو جلي على نحو مطلقٍ مرعب. كان حظي في النجاة لا يتعدى الواحد في المئة. غير أن اتكالي لم يكن على هذا الحظ. كنتُ أردد في سري: لو تحصل معجزة وأولد من جديد، وأكون
مولوداً في الأربعين أو الخمسين من العمر. غير أني لم أكن أعوّل على المعجزة أيضاً. سأغادر الحفرة. سأذهب للمس حجر الكعبة الأسود في مكة. والحجر الأسود ذاك، حجر البدء الذي حفظ بصمة إبراهيم، والذي تختلط ذاكرته بذاكرة العالم، هو الذي خلصني. ما زلتُ مؤمناً بذلك. ولا أدري لم أقام تفكيري على هذا الرمز. كان نقطة هدايتي، ونافذتي على الجهة المقابلة من الليل. أفتحها فأبصرُ ما هو مشرق.
إن دأبي على التركيز، على التحكم بوتائر تنفسي، وإصراري على فكرة، على صورة، على حجر مقدس يبعد آلاف الكيلومترات ومئات القرون، عن زنزانتي، قد أتاح لي أن أنسى جسدي. كنتُ أحسُّ به، أتحسسه، ولكني، شيئاً فشيئاً، أنفصل عنه. ولفرط ما أركز تفكيري كنتُ أراني جالساً، مطمئناً، محني الظهر، بارز الأضلع، وقد ثنيتُ ركبتي الشبيهتين بوتدين، وكنتُ أتأملني، فأكون روحاً محوّمة فوق الحفرة. لم يكن ذلك يحصل في كل مرة. فجهد التأمُّل لا يؤدي، على الدوام، إلى مثل ذلك الانعتاق. الأمر مرهون بالبرودة وبالحرارة. فقد كنت أدرك أن الظروف المادية ليست مؤاتية لمشيئة الانعتاق، بالفكر، من ذلك الجحيم. فالجحيم لم يكن استعارة، لم يكن كلمة تُلفظ لتضريم السّقاء. كان الجحيم فينا ومن حولنا. حتى إنه كان مفيداً لنا: إذ يتيح لنا أن نقيس حجم قوّتنا، وطاقتنا على المقاومة وعلى تخيل عالم آخر- غير مادي – يؤوينا زمن جرحٍ مضافٍ إلى الدماء الجافة، بالكادِ، من جراح أخرى.
كنَّا نمتلك في ذلك الجحيم النهارات والليالي. كنا نهارات جوع وليالي أرق، وفي الأغلب لم نكن شيئاً آخر. لذا فالذين غادرونا كانوا قد أساؤوا إلى نهاراتهم ولياليهم. وما كانوا يرعون فيها وهماً دنيئاً، أو أن ما أفضى بهم إلى الانتحار لم يكن، بالذات، إلا سُمّ الأوهام، فأدركت أن الكرامة هي، أيضاً، الكفُّ عن التعاطي مع أي أمل. لكي ننجو ينبغي أن نكفَّ عن الرجاء، وميزة هذا الاقتناع، أنه لا يشبه شيئاً مما يقتنع به مَنْ
رموا بنا في تلك الحفرة. لم يكن مرهوناً بخطتهم بل فقط بإرادتنا: رفض أن نكون مرهونين لعادة الأمل التالفةِ تلك.
الأملُ كانت له كل صفات النفي. فكيف السبيل إلى إقناع أولئك الرجال الذين تخلى عنهم الجميع، بأن تلك الحفرة لم تكن سوى فاصل في حياتهم، وأنهم سيخضعون لتجربة سوف يتخطونها، أعظم شأناً وأفضل حالاً؟ كان الأمل كذبة ممزوجة بفضائل المسكنات. لكي نتجاوزه كان علينا أن نستعد كل يوم لما هو أسوأ. ومَنْ لم يدرك ذلك كان يغرق في يأس عنيف، ويموت من جرائه.
-10-
لقد جُنَّ جنون مرارتي. إنها تفرز الكثير من المِرَّة. تشط وتغرقني بهذا السائل المُرّ. كلُّ ما في يَنْضَحُ مُراً. فمي، الطينيّ، يجترُّ مرارة. لساني ثقيل، ولعابي كثيف. أراني غارقاً في دَنِّ من المِرَّة. أغوصُ فيه مُكرهاً بيدين غريبتين. يمتلئ رأسي ببلغم مخضَر. يَنسدُّ أنفي ثم أبذل جهداً لكي أعطس. أبذلُ مجهوداً هائلاً لكي أطرد كل ما يزعجني، غير أن عضلاتي مشدودة ومفاصلي جامدة. كأن أحداً ما قد أوثقها بخيوط لكي تبقى بلا حراك، لكي تبقى غير صالحة للاستعمال. تقفعّت يداي وصارت أصابعي شبه الشّصوص. أشعر بأن السائل يرتفع ويهبط في أنحاء جسمي كله. جلدي يؤلمني. فيخطر لي لوهلة أن المِرِّة قد جَمُدت وراحت تسلك في معدتي مثل شريط شائك، فتمزِّقها.
الوجع يمنحني صفاءً غير معتاد. أتألم ولكني أعلم ما الذي ينبغي فعله لكي تتوقف هذه المكيدة. يجب أن أتقيَّأ، أن أستفرغ كل هذه المِرَّة التي تنصبُّ على أعضائي كلها. ولكي أفعل، ينبغي أن أدخل أصابعي في فمي وأن أضغط على حلقي وأن أُخرج كل شيء. عندما يكون واحدنا في صحة جيدة تبدو مثل هذه العملية لعبة أطفال. ولكن حين يكون الجسم موجوعاً حتى التصلُّب، تصبح كل حركة شاقة. أجلس مُتكئاً بظهري على الحائط. ذراعي اليمنى مشلولة، مُلتصقة بالحائط، كأنها مثبتة إليه بكُلابات. يجب أن أنزعها متهملاً وأرفعها بحركة غير مُدركة إلى فمي.
إنه أمرٌ يسير إذا قلته، لكنه من سابع المستحيلات إذا حاولته. أُركِّز وعيي ولا أفكِّر إلا في الذراع. كل جسدي أصبح الآن موجوداً في تلك الذراع. إني ذراع جالسة على الأرض ويجب أن أدفع بكل ما أوتيتُ من قوة لكي أنهض. وإذ أحدِّق فيها، أتمكَّن من نسيان طعم المرِّ في فمي، وألا أشعر إلا بأوجاع خفيفة في المفاصل. أتحسس الألم. أشعر به مبتعداً من دون أن يزول. أحني رأسي لكي أُدنيه من يدي. تصعد المِرَّة فيَّ حتى أكاد أشعرُ بالاختناق. أسارع إلى رفع رأسي وأصدمه بالجدار. ثمَّ أثبته جيداً وأغيّر خطتي: اليد هي التي سترتفع إلى الفم وليس العكس. تستغرق العملية ساعات. أستخدم ذراعي الأخرى كسندٍ لي. أتصبب عرقاً من كل مسام جسمي. قطراتٌ منه تنزُّ على يدي. المهم ألا أتحرّك، وألا أفكر في أي شيء آخر سوى أن أرفع يدي. أتخيّل رافعة ضئيلة الحجم تهبط من السطح وتلتقط يدي ثم ترفعها بدقة بالغة إلى فمي. أنظر إلى السقف، لا أرى شيئاً. ففي الظلام لا أتمكن طبعاً من الإبصار، لكني، على الأقل، أخمِّنُ الأشياء.
فقد الزمن معناه. أراه متمادياً بإفراط وشاغله الأوحد أن يشلِّ ذراعيِّ ويديّ، وعندما أتمكن، بعد ساعات عديدة، من إدخال يدي في فمي، أتوقف قليلاً لكي أتمتع بانتصاري التافه. ثم أضغط على اللسان، لكن المِرَّة لا تخرج على الفور. وحين يُبَلِّل الدقق الأوّل يدي ورجْليِّ والأرضية، تسري بي رعدة الارتياح. أضغط مجدداً وأستفرغ بقوة أكبر. لقد أصبحت يُنبوع مِرَّة. أشعر بحكاكِ في حلقي وأحسُّ بعيني جاحظتين والدموع منهمرة على خديِّ، فما عاد في داخلي ذاك السمُّ الذي ألهب بلعومي.
خفيفاً ونَهِمَاً، أتهيأ لبلوغ الوَجْد، تلك الحال التي لا يُكبّلني فيها شيء، حيث لا أُقيم صِلاتٍ لا بالكائنات ولا بالأشياء. أنأى عن كل شيء، عن ذات نفسي وعن الآخرين الذين يجهلون الأهوال التي كابدتها
لتوّي. أجدني في وحدةٍ رائعة، حيث وحده النسيم، ما زال يستطيع أن يَهِبَّ على شرفات عزلتي. وإذ ذاك أبلغُ الافتتان متبوعاً بتعبٍ هائل. هنا، أصير في اللامتناول. أحلِّقُ مثل طائر سعيد؛ لا أبتعد كثيراً عن المكان الذي خلفتُ فيه جسدي، خشية أن يأتوا لأخذه ودفنه. فالجسدُ، وهذا صحيح، يتنفسُ ببطءٍ، ويوحي بأنه ميت أو أنه غارقٌ في الغيبوبة.
عندما انتبهتُ إلى أن زنزانتي عابقة بروائح الوخم من كل ناحية، أدركت أني عدتُ إلى جسدي، وقد زالت ني حال النُعمى. ومجدداً رحتُ أعد العدَّة لجَبَه الصعوبات الروتينية. نهضتُ ودلقتُ على الأرضية ما تبقى من مياه. وفي تلك الليلة، نمتُ واقفاً. كان البرد يسري، صُعُداً، من منبتي قدميِّ حتى رأسي، وكان يتريَّث حيثما يشاء، يُقيم لبعض الوقت عند بطني حيث يخلف شيئاً من عجرفته وحقده وازدرائه، فالبردُ بالنسبة إليّ له وجه ويدان، أو الأحرى، له مشبكان. كان يلسع خصيتي فأنطوي على ذاتي لكي أتحمَّل لسعته. كان يجولُ سارياً في طول الجسدِ في هيئة رعدة. أخبط الأرض المبللة بقدمي عازماً على الحؤول دون انتصاره. أستأنف رياضتي البدنية، وفي روعي أُردِّدُ صلوات اليوم.
كانت هناك الصلوات الخمس التي ينبغي أن يؤديها كل مسلم صالح. كنت نجساً، فلا مياه كافية للوضوء، فرحت أصلي بصمت مستقوياً بذكر قوة سامية، قوة العدالة، والله ورسله، والسماء والبحر والجبال والسهول:
"أبعد عني الحقدَ؛ تلك النزعة المدمرة، ذلك السمِّ الذي يدمِّر القلب والكبد. لا تجعلْني أُحِلُّ الثأر في بيوت أخرى، في ضمائر أخرى. أعطني القدرة على أن أنسى، أن أستنكر، أن أرفض الردِّ على الحقد بالحقد. اجعلني في مكان آخر. أعِنِّي على التخلي عن هذا التعلُّق الذي يعيقني. أعني على أن أخرج، لُطفاً، من جسدي هذا الذي ما عاد يُشبه
جسداً، بل رزمة عظام مشوَّهة. اجعل بصري ينصبُّ على أحجارٍ أخرى. هذه العتمة تلائمني: إذ أرى أفضل في داخلي، وأبصر أوضح في تشوش ما أنا فيه. ما عدتُ من هذا العالم، وإنْ كنتُ ما زلت أطأ بقدمي المتجمدتين أرضية الإسمنت الرطبة هذه. يؤلمني قُذالي لفرط ما لبثت منحنياً. لا، لا أشعر بالألم. إني واثق من أنني لا أتألم. ما عدتُ أحسُّ بشيء. لقد استُجيبت صلاتي. لست مريضاً. هنا لن أعرف المرض مهما كان العذاب. إلهي، لقد تعلمتُ منك أن الجسد الصحيح ينبئنا بجمال الكون. إنه صدى من يفتن، من يبدع الحياة والنور. إنه نور؛ نور في الحياة. ولمَّا استُبعد من الحياة، وعُزل وسُجن في حفرة معتمة، ما عاد صدى لأي شيء، ولا انعكاس يحل فيه. بمشيئتك، لن أكون مطفأ، ما بقيتُ".
-11-
لابد من أن هناك سماء ضيقة فوق الكوة ذات الغطاء المُنخَّل، تلك الفتحة غير المباشرة التي ينسربُ عبرها الهواء لا النور. سماءٌ أتخيل وجودها، أملأها بالكلمات والصور. كنتُ أنَقِّل النجوم، أُرْبِكُ ترتيبها كي أستبدلها بقَبَسٍ من ذلك النور الحبيس في صدري، الذي كنت أشعر به. كيف يُشعَرُ بالضوء؟ عندما يداعب ضياءٌ لدني بشرتي ويدفئها، أدركُ أنني حظيتُ بزيارته. وما كنتُ أفلحُ في استبقائه. عوضاً عن ذلك يسود صمت. كان يُطبق فجأة على أباصرنا الكفيفة. يكتنفنا ويحط مثل يدٍ حانيةٍ على أكتافنا. حتى حين يكون ثقيلاً، وما زال مُشبعاً بالغبار، يريحني ولا يثقل علي. ينبغي القول إنه كانت هناك أنماط من الصمت:
- صمت الليل، وكان ضرورياً لنا.
- صمت الرفيق الذي يغادرنا ببطء.
- الصمت الذي نلزمه شارة حداد.
- صمت الدم الذي يجري متباطئاً.
- الصمت الذي ينبئنا بوجهة سير العقارب.
- صمت الصور التي تلح وتلحْ على أذهاننا.
- صمت الحرّاس الذي يعني الكلل والروتين.
- صمت ظل الذكريات المحترقة.
- صمت السماء الداكنة التي تكاد لا تهدينا ولو علامة واحدة.
- صمت الغياب، غياب الحياة الباهر.
أما الصمت الأشد قسوة، والأشدُّ وطأة، فكان صمت النور. صمت نافذٌ ومُتعدِّد. كان هناك صمت الليل، وهو دائماً إياه لا يتغير، ثم هناك لحظات صمت النور. غيابه المتمادي الذي لا ينتهي.
في الخارج، ليس فقط فوق حفرتنا بل بعيداً جداً منها، كانت هناك حياة. لم يكن من المجدي التفكير فيها كثيراً، غير أني كنتُ أستحضرها ولا أتذكرها. الحياة، الحياة الحقة، وليس هذه الخرقة القذرة الممرَّغة بالأرض. لا، الحياة في جمالها اللذيذ، أقصدُ بساطتها، وابتذالها الرائع: طفل ينتحب ثم يبتسم؛ عينان تغمزان لتعرضهما لنور ساطع؟ امرأة تقيس ثوباً؛ رجل مستلق على العشب؛ حصان يعدو في السهل؛ رجُلٌ بجناحين ملوَّنين يحاول أن يطير. شجرة تنحني لكي تبذل ظلها لامرأة تقتعدُ حجراً. الشمس تبتعد، حتى إننا نلمح قوس قزح. الحياة هي أن نتمكن من رفع ذراعنا وتمريرها من وراء قذالنا لكي نتمطى بمتعة، وننهض لنسير دونما غاية، نراقب الناس يعبرون أو نتوقف، نقرأ صحيفة أو نلبث، ببساطة، جالسين وراء النافذة لأن ليس لدينا ما نفعله. وهو أمرٌ جميل ألا نفعل شيئاً.
كنت أحسب أن صخب الحياة من ألوان شتى ويُصدر جلبة تتخلَّل الأشجار. ذلك الانفراج لن يدوم إلا بعض الوقت. قليلٌ من العذوبة لكي أستعد لتركيز أكثر صعوبة.
حتى وأنا ميت، أو الأحرى حتى حين أُعتبر ميتاً من قبل أسرتي، كان ينبغي أن أسلك الدرب المؤدي إلى البيت، بلا حنين، وبلا مشاعر.
كيف أُطمئنُ أمي، كيف أقول لها إني أصارع وأقاوم؟ كيف أفهمها أن إرادتي في أن أبقى واقفاً بكرامتي، إنما ورثتها عنها؟ كنتُ أثق بحدسها.
لذا أخاطبها، هي، بالفكر. رسالة ربَّما كتبتها ذات يوم بالقلم على ورق، رسالة قد تبلغها ذات يوم بواسطة رسول أو عبر البريد.
"يمَّا الغالية، مامتي الحبيب، أقبّلُ يديك وأسند رأسي إلى كتفك. إني في صحة جيدة فلا تقلقي. أعتقد أنه بإمكانك أن تكوني فخورة بي. إني أرفع رأسك. لا أقاوم وحسب، بل أعين الآخرين على تحمل ما لا يُطاق. لن أخبرك بما نكابده هنا. أحاول أن أنسى. أعلم أنك تعانين من قلة النوم، وأنك تتسلقين الجبل إياه ثم تهبطينه. انتهي إلى صحة قلبك؛ لا تهملي دواءك وحافظي على هدوئك فلا جدوى من استثارة أعصابك. إني أعبرُ نفقاً طويلاً. لا أكفُّ عن السير، وثقاً من أنني ذات يوم سأصل إلى نهايته، وسأبصر النور، وينبغي أن يكون خافتاً، لأن النور الساطع قد يُفقدني البصر. وستكونين هناك في انتظاري، وستُحْضرين لي الخبز الذي خبزته بيديك، الخبز الساخن المغمْس بزيت لوز البربر. ولن آكل إلا منه خلال بضعة أيام، لكي أعوِّد معدتي على تقبُّل الأشياء الأخرى غير النشويات. ستأتين حاملة غطاء من الصدف وتغطينني به مثل طفل، كما كنتِ تفعلين في صغري. لقد أصبحتُ خفيف الوزن، فسوف تحملينني بين ذراعيك وسوف تنشدين لي عدّية الجدّة.
"كلما تقدمتُ ازددتُ ثقة. أصلي، أبتهل إلى الله، أحلم بالحجر الأسود، ويحدث لي أن أغادر جسدي فأقف متفرِّجاً على حالي. أعترف بأنه من الشاق جداً بلوغ صفاء السريرة ذاك. وهذا أيضاً تعلمته منك. أتذكرين، عندما كان أبي يؤذيك، مبدداً مصروف البيت، كنتِ تجمعيننا، ومن دون أن تذكري ذلك الرجل بأي سوء، تضعين كل واحد منا حيال المسؤولية التي ينبغي أن يضطلع بها تجاه نفسه. كانت ساعات غضبه وظلمه إياك لا تمسكِ بسوء. كنتِ فوق ذلك كله، وكنتُ شديد الإعجاب بك لأنك دائماً تحافظين على هدوء أعصابك؛ والأمر الوحيد الذي كان يجعلك تفقدينها، هو هروب آخر العنقود، "كبدك الصغير"، من المنزل
لبعض الوقت. كنتِ تقولين لنا: "أنتم كلكم أولادي، لكنه، هو، عيناي وأنفاسي". وهو أيضاً كان يحبك حباً جماً. أذكر حين عاد ذات يوم من المدرسة، ورمى حقيبته، ثم كعادته راح يبحث عنك في المطبخ، فأخبرته الخادمة أنك ذهبتِ إلى الرباط لإنجاز معاملة إدارية. ولأنه لا يستطيع أن يتحمل غيابك، أقفل على نفسه داخل الخزانة التي عُلِّقت فيها فساتينك. كان يشتمُّ رائحتك، عطرك الذي حفظته الأثواب. ولفرط ما بكى، وطول بقائه داخل الخزانة، أصيب بالحمى. وفور وصولك، في ساعة متأخرة من المساء، ذهبتِ مباشرة إلى الخزانة ووجدته محروراً. كان يتلوى من الألم، بسبب التهاب الزائدة الدودية، فقضيتِ الليلة في طوارئ المستشفى وقصدتِ ملك في اليوم التالي من دون أن يغمض لك جفن. أما الصغير فد أُجريت له عملية جراحية واسترد عافيته.
"أمّاه، يجب أن أعترف بأني لطالما تحملت على مضض طريقتك في إطعامه. كنتِ تمضغين اللحمة ثم تكبكبينها براحة يدك وتدسينها في فمه. أما هو فيبقى كفرخ الطير، فاتحاً منقاره لاستقبال الطعام. كان يضحك، يسخر منا، وأنتِ، مغتبطة، تلزمين الصمت، ونحن أيضاً كنا نسخر منكما. لقد منحته كل الحب الذي لم تُمنحيه أنتِ. كنا مجرد صِبية لا نفهم من ذلك شيئاً.
"حاول أبي مراراً أن يستعيدك.كان يأتي، مسبوقاً بالمُخازينة، الخدم السابقين في بلاط الباشا الكلاوي محمَّلين بالهدايا والأقمشة الرائعة المستوردة من أوروبا، والصواني الملأى بالخبز المحلِّى. يأتي كأنه يريد أن يطلبك للمرة الأولى، للزواج. يدنو منك، شابكاً كفيه وراء ظهره، يسألك المغفرة. كنتِ لا تفتحين الباب، وعبر الكوة المفتوحة قليلاً، تأمرين المُخازينة بأن يعودوا بما يحملونه إلى دار الزوجة الثانية، فقد تزوَّج مرة ثانية من دون علمك، فيما كنتِ تشقين، وحدك، بلا عون وبلا موردٍ يكفيكِ.
"كنتِ مذهلة. تطردين الرجل بحزم. وما استسلمتِ يوماً أو هانت عزيمتك. قوة شخصيتك كانت هي حريتك. ورغبتك في الحياة الكريمة تجعلك أجمل وأقوى. كنتُ بكر أولادك، وما أن استطعت، غادرتُ البيت لأخفف من أعبائك. تطوّعتُ في الجيش ليس حباً به بل لأنه يوفر لي راتباً وتأهيلاً ومأوى وطعاماً؛ أحرص على أن أبعث إليك بقسم لا بأس به من راتبي بطيبة خاطر، لأني أعلم أنك تحتاجين إلى مال، ولأن بإمكاني العيش بالقليل القليل منه.
"لم يكن أبي يَعْلَمُ حتى بالتحاقي بالأكاديمية العسكرية. كان قد أصبح في البلاط الملكي يبذل مُستطاعه لجعل حياة الملك أكثر غبطة. والبلاطُ الملكي يتكفل بزوجته الثانية وأولاده وبيته. كنتُ لا ألمح والدي إلا على التلفزيون، عندما يتم التطرق إلى النشاطات الملكية. ألمحه واقفاً في الخلفِ، نافذ البصر، حاضر الوقار. هذا المتأدبُ المنظور، ذو الذاكرة الهائلة، أصبح مهرجا، بهلواناً، هزلياً، مُرفَّهاً محترفاً في بلاط الرجل الأبلغ سلطاناً في البلاد. كان يملك حس الفكاهة لكنه لا يُضحكنا، وفي المنزل لا نراه إلا لماماً. اشتُهرَ بحدة الذكاء وسرعة الخاطر. كأنه مكتبة جوّالة؛ ولطالما أُعجبتُ به وهو يتلو القصائد على مسامع أصدقائه. كان لا يخطئ. وفي الوقت نفسه يعرف كل شاردة وواردة عن الذهب والمجوهرات التقليدية. لكنَّ الرجل نفسه كان زوجاً سيئاً وأباً غائباً، أو كان، ببساطة، أباً منهمكاً بذاته، وبعشقه للصبايا دون سِنِّ العشرين، وهوس الأناقة، وعشقه للحفلات والمتعة والمزاج؛ كان يأخذ الأمور بخفة، ويمقت أن يبقى وحيداً.
"أمَّاه، أشعر بأنك حزينة. قولي في سرِّك إنني مسافر، إنني رحلت لاكتشاف عالم مُغْلَق، وهآنذا أكتشف نفسي، وأدرك، بمضي كل يوم، من أي طينةٍ جعلتني. إني ممتنّ لذلك. أقبِّل يديك، آسفُ من كل قلبي للسوء الذي سببتُه لك بتورطي في هذه القضية. ولكنك تعلمين جيداً، أن
أحداً لم يصغ إلى رأي التلامذة والرتباء. كُنَّا نرتاب بأن هناك ما يُعدُّ له سراً، غير أننا فعلنا ما ينبغي أن يفعله الجنود وتبعنا قادتنا. لكِ أستطيع أن أقول هذا لأني أعلم أنك تصدقين ما أقول: لم أقتل أحداً. لم أطلق رصاصة واحدة. كنت مذعوراً؛ أصوِّب سلاحي باتجاه أناس. أعترف لك بأني كنتُ أبحث عن أبي. ولا أدري إذا كنتُ أفعل لكي أنقذه من المجزرة أم لكي أطلق عليه النار. هذا السؤال صار هاجسي. إنه يتردد في رأسي بإلحاح. وإذا كنتُ أكرِّر ما سبق لي أن قلته فلأنه ينبغي أن أدور حول ذاتي.
"يجب أن أتركك يا أمي الغالية، أسمع صراخ ألمٍ ...".
كان مصطفى، في الزنزانة رقم "8"، يزعق. هل لدغته عقرب؟ كان ألمه شديداً فيتلوى قافزاً في مكانه ثم يهوي بثقله على أرضية الإسمنت، والألم يزداد شدة. لم يكن ممكناً استدعاء الحرس كيما يُحضروا واكرين المختص بامتصاص السم. كان الوقت ليلاً. وقد أعلمنا كريم الذي أيقظه الزعيق بالساعة: "إنها الثالثة وسبت عشرة دقيقة فجر الخميس 25 نيسان 1979".
كان مصطفى ينتحب ويزعق:
"أريد أن أموت ولكن ليس بهذا النحو، ليس بلسعة عقرب سامة. لا، إذا كان لابد من الموت فلأقررْ ذلك، أنا بنفسي. لا، فسمُّ اللسعة كريه. إني أتنفس بصعوبة. أختنق، وأشعر بدوار، سوف أموت. يا إلهي، لِمَ الآن؟ لِمَ في عزِّ الليل؟".
يطلب منه واركين أن يصمد حتى الصباح، عندما يُحضر الحرَّاس القهوة؛ فسوف يضطرون إلى السماح له بإنقاذه.
حاول مصطفى أن يصمد. أُغمي عليه. حسبنا أنه مات. حتى إن
غربي شرع في تلاوة القرآن. وتلَوْنا معه، بصوت واحد. أطلق مصطفى صرخة مدوية، ثم ران السكون.
لمَّا جاء الحراس، عند الصباح، استأنفنا تلاوة القرآن. سمحوا لواكرين بالتوجه إلى الزنزانة "8". أصابه غثيان. كانت عقارب الحفرة جميعها قد اجتمعت على جسد مصطفى الميت. علا صراخنا مطالبين بحضور القمندار على وقع خبط أرجلنا وأيدينا إذ ينبغي تطهير الفرة من هذه الدويبات القاتلة:
"القمندار، القمندار، القمندار...".
لم يكن بوسع واكرين أن يفعل شيئاً لإنقاذ مصطفى المسكين، ذلك الفتى الكيِّس، الذي اعتدنا لعب الورق معه. كان رعباً ممتازاً، وهو وحده بيننا الذي أدرك أن التسلية ممكنة بالخيال وحده. طبعاً، لم يكن ورق اللعب متوفراً لدينا، لكن بوراس، الرقم "13"، كان يوزِّع علينا أوراقاً وهمية، نتحلَّق مجموعات من أربعة ونخترع ألعاباً بورق مكشوف: نطابق الأرقام والأنواع، ونسري عن أنفسنا بسرد القصص.
لم يأتِ القمندار، غير أن الحرّاس بادروا إلى مطاردة العقارب فيما كنا منصرفين إلى غسل الميت في زنزانته.
ما أن هممنا بإخراج الجثة، وصل الحراس حاملين قطعاً من القماش الأسود: "لن يسعكم الخروج من هنا إلا وعيونكم معصوبة!". اعترض أحدنا، فأعيد إلى زنزانته واحتُجز فيها.
كان مضى أكثر من ستة أشهر على آخر دفن شهدناه. وكنا نجد مشقة كبيرة في السير. كان نور السماء يأتينا ماصلاً عبر العصابة السوداء. كنتُ أشعر بألم في عيني، في شعري، في جلدي ... وبتشنُّج في أنحاء جسمي. رحنا نتقدم بمشقة. موح، الرقم "1"، انحنى والتقط شيئاً عن الأرض وابتلعه. جاءه أحد الحراس شاهراً سلاحه مهدداً:
"أرجع حفنة العشب التي التهمتها وإلا قتلتك على الفور".
لكن الأمر جاء متأخراً. إذ راح السجين يضحك فأغضب الحارس الذي أمسك بقذاله ورماه أرضاً. لكن حارساً آخر سارع إلى الحؤول دون إطلاقه النار عليه.
إثر تلك الحادثة، أُمهلنا عشر دقائق لدفن مصطفى في قبره. وعندما جاء أحد الحراس بدلوِ الكلس لدلقه على الجثة، قفز موح إلى القبر متمنياً الموت، غير أننا تمكنا من انتشاله ولم يصبه الكلس الحارق إلا قليلاً في رجليه. وإذ تنبَّه رئيس الرس لما يحصل، هرع إلينا مسرعاً. كان صوته يتناهى إلى سمعنا من بُعد، وهو يلعن الحياة والقدر الذي رمى به في هذه النواحي النائية:
"إنها المرة الأخيرة التي تخرجون فيها. لمي عد هناك شيء اسمه دفن. انتهى! انتهى! لن تغادروا زنزاناتكم بعد اليوم. لن تغادروها إلا وعيونكم مطفأة، أقدامكم أولاً، وأجسامكم مغلَّفة بجراب من البلاستيك. كدت أُسجن بسببكم. القيادة في الرباط مستاءة جداً. يُمنع الخروج من الزنزانة منعاً باتاً! باتاً! أنتم محكومون بالعيش في ظلمات مؤبدة. لن تبصروا النور بعد اليوم. الأوامر صريحة: العتمة، الماء، الخبز الناشف. هيَّا، ابتعدوا! يا ربي، ما الذنب الذي ارتكبته لكي يتم إبعادي إلى هذا الجحيم؟ مع أني مواظب على الصلاة وأصوم شر رمضان كله، وأزكي ... فَلِمَ جعلوني حارس هذا القطيع الضال؟".
منذ ذلك اليوم، بدأ موح يفقد رشده. وصرنا نسمعه وهو يُحادث أمّه في مواقيت الطعام:
"يمَّه، يا يمَّه، كلُّ شيء أصبح جاهزاً، فهيا بنا نأكل ... آه! لا تستطيعين الحراك، سوف آتيك على الفور، سوف أُحضر لك صينية. طبختُ لك الطنجية التي تحبين. لن تلتزمي الحمية اليوم، فاللحمة طرية. لقد طبختها على فحم الخشب. إنها الطنجية المراكشية الحقة: لحم ضان
وزيت زيتون، وبهار وملح وزنجبيل وليمون مخلَّل. وإذا طُبخت مكمورة كانت لذيذة. ليس فيها الكثير من الدهن. فكما تعلمين، لقد أزلتُ الدهن من اللحم قبل أن أضعه في الطنجية. هنا لا يميز الناس كثيراً بين لحم الضان ولحم الخروف. أمَّا هذه اللحمة فهي ضان مئة في المئة. قليل من الخبز. لا، لا خبز؟ إيه، السكري! أشتمين رائحتها الشهية؟ حسناً، لا خضار؛ لا نشويات: إنها تسبب السمنة. يمّه، افتحي فمك، لا تزعجي نفسك. أعلم، لقد شح بصرك، والسبب، كسواه، هو السكر اللعين! هاكِ، لقد انتقيت لك قطعة طرية جداً. كلي. امضغي برويّة. آه، تريدين أن تشربي، لديك الفواق. يا للحظ العاثر! أمي جاءها الفواق.فما العمل يا أصحاب؟ أمي تتنفس بصعوبة، ساعدوني. خذي، اشربي، إنها مياه غازية. انت تحبينها. مياه وبها فقاقيع. أُفٍّ! زال الفواق. أوَتدرين يا أمي، أن فواقك يُرعبني. إنه يشبه الموت الذي يطرق الباب. أبي مات لأنه غص بلقمة. هيا، لقمة أخرى. على مهل. آهِ! الليمون مالح جداً. فلنتقِ الليمون من الطبق. آه! أترغبين في قطعة باذنجان؟ ولكن، يا أمي، الطنجية لا تحتوي على الباذنجان. هل نسيت؟ أنت، بنفسك، علمتني كيف أطبخها. هيا، كلي، هيا، استزيدي قليلاً من اللحم. لا، افتحي فمك. ها قد وصلت حاملاً شوكة. هاكِ، إنها لذيذة الطعم. أتخجلين لأني أُطعمك مثل طفلة. ولكن الشلل يا أمي قد استشرى حتى أصاب ذراعيك، وليس بمستطاعك أن تطعمي نفسك بنفسك. لحسن الحظ أنا هنا. من واجبي أن أعينك وأطعمك. الأولاد خُلقوا من أجل هذا. أنا أصغر أولادك، وأرعاكِ أكثر من سواي. لكنهم، هم أيضاً، يبذلون ما بوسعهم. أنا لدي متسع من الوقت. لا شيء آخر أفعله. ما عدتُ أعمل. في إجازة. والجيش ما عاد يحتاج إلينا. إننا بضعة أشخاص نقضي إجازاتنا بعيداً عن الثكنة. لديّ المتسع من الوقت، ولهذا تمكنت من إعداد الطنجية التي تحبينها كثيراً. شبعتِ، حسناً! تريدين أن تسكبي لي؟
لا، لست جائعاً. أريد أن أرضع، بلى، يا يمة، أعطيني ثديك. كم أحتاجُ إلى ثديك، دعيني أضعْ رأسي على هذا الثدي فيما أصابعك تسرّحُ شعري. أعذريني، يداك لا تتحركان وأنا فقدتُ شعري. أتركك الآن. أما العشاء، فسوف أعد طبقاً خفيفاً: الخرشوف، تعلمين، الخرشوف الصغير الذي ينجزّ، مسلوقاً في الماء، ومعه طاسة من اللبن وتفاحة. يجب أن يكون طعامنا خفيفاً عند المساء وإلا أمضينا ليلة مؤرقة. الآن سأنصرف إلى غسل الأطباق. الأكيد أن ضان المغرب كثير الدهن. إنها المرَّة الأخيرة التي أطبخ فيه طنجية!".
عند كل وجبة طعام كان موح المسكين يُضحكنا، ندعه يتكلم. يُفرِّغ ما يعتمل في سره. وكان كلامه يغوينا بأن تكون لنا رغبات. كان كلامه خطيراً. فما لا ينبغي أن نفعله هو أن نفكر في الطعام. بعد أن اعتدنا أخيراً طبق النشويات البلا طعم، والخبز اليابس. لكن كلمات موح، وهو كان طباخاً ممتازاً في هرمومو، تسيل لعابنا. كم كنتُ أود لو أسكته، ولكن كيف لي أن أزعم لنفسي مثل هذا الحق. كان موح يفقد عقله، فيُطعم أما متخيِّلة وهو لا يأكل.
في يوم آخر:
"أمي، أتعلمين، لم أجد اليوم لحماً أو خضاراً في السوق. السوق ما عادت موجودة. انتقلت إلى مكان آخر. ركبتُ درَّاجتي لكن الصِبية أفرغوا هواء العجلات. فلم أجد إلا النشويات: فاصولياء بياء، وحمصاً، وفولاً يابساً. الخبز جاف، يابس، ويجب أن يُغمس بالماء لكي يؤكل. تقولين إنك لست جائعة. أنتِ محقة. أنا أيضاً ما عدتُ أشعر بالجوع أبداً. ما عدت أرغب في إعداد الطعام. تشتهين السردين المشوي المُتبَّل بالبقدونس والبصل. إنها فكرة سديدة. لكنه طعام دسِمٌ يا أمي، ويسبب حموضة في المعدة. لا، أنصحك بسمَك الغُبَر المسلوق مع بعض
البطاطس. لا، ليس مسلوقاً بل طاجن بالطماطم والبصل وصلصة الكمون والفلفل الأحمر، المُتبَّل قليلاً، والكزبرة وبضعة فصوص من الثوم، ثم يُطبخ على نار خفيفة. حسناً، سوف أقصدُ الميناء لكي أشتري السمك طازجاً من الصيادين العائدين للتوّ. سوف أتدبّر الأمر مع عبد السلام؛ نسيبنا الصياد. أجل، لن أُحضر سمك المرجان ففيه الكثير من الحسك. أنت محقة. أبي كاد يختنق لابتلاعه حسكة. أجل، صحيح، لقد مات فعلاً لابتلاعه حسكة. نسيت. أعذريني يا أمي. حسناً، يجب أن أذهب. لا تسأليني مجدداً إلى أين أذهب، فأنت تعلمين جيداً أنني يوم الجمعة أحملُ الكَسْكَس للفقراء عند باب الجامع. واليوم هو الجمعة. آه! نسيت الحسنة، ولم تُعدِّي الكَسْكَس، والفقراء الذين ينتظرون هناك لن يكونوا سعداء بالتأكيد. لن أذهب إلى الجامع. سأصلي في الدار...".
بمضي الوقت، كان صوته يزداد خفوتاً؛ يتمتم، يغمغم فنسمع صريف أسنانه، ثم يطلق تنهيدات عميقة. كانت أطباق النشويات تتكدس في زنزانته، وتتعفن. كفّ عن الاغتسال. وبأظافره التي استطالت راح يخدش الجدار. خارت قواه ووهن صوته. كان مُستسلماً للموتِ لأنه توقف عن الأكل منذ مدة، كما توقف عن إطعام أمّه. استغرق الأمر بضعة أسابيع قبل أن يموت.
-12-
الضحك! كنا نُحاول أن نضحك من خلال سرد بعض النكات القديمة. وفي معظم الأحيان كنا نفتعل الضحك، كأنه شيءٌ يصدر بعصبية عنا. فضحك اليأس له لون ورائحة، وضحكنا، نحن، يضاعف شقاءنا. كان مصطفى لا يكفُّ عن المزاح، وعن التلاعب بالكلمات، وابتكار الألقاب لكلِّ منا. وكان ذلك مسلياً أحياناً. غير أن ما كان يعوزنا حقاً هو الضحك المقهقه، المصهصل، الفتَّان، الفاضح؛ ضحك الحياة والمتعة والعافية والأمان. ومع ذلك كنا لنبلغ مثل هذا الضحك لو أننا بذلنا مزيداً من الجهد في تحوير شروط عيشنا. غير أننا لم نكن نملك جميعاً لا الاحتياجات نفسها، ولا إرادة المقاومة نفسها.
الضحك لمدوي، الذي يفيض عن حده ويُثلج القلب، سيكون هو الضحك الذي سيثيره القمندار. ذلك القمندار الذي لم يلمحه أحدٌ منا من قبل كان حاضراً بما يقتضيه الحضور في عتماتنا. فالحراس يتولون إبلاغنا برغباته وأوامره. وذات يوم، دخل مفاضل المبنى شاتماً لاعناً جنس الحيوان برمته وبخاصة نسْلَ الكلاب.
"لعن الله دين الكلاب ودين الذين يعشقون الكلاب، ويتبنّونها ويُنيْمونها في أسرّتهم! ليُخلصنا الله من نسل الكلاب وعقبها، وليضعها، جميعها، في قدر معدنية هائلة لكي يُقضي على نسلها فلا تعود لمضايقتنا في هذا الجحر النائي من بلدنا المحبوب! هيا، تقدم، سوف تحظى
بالمصير نفسه الذي حظي به الذين تآمروا على حياة سيدنا! هيَّا، أيها الوغد، سوف تَنْفق، سوف تصاب بداء الكلب وعندئذٍ سأرمي بك، بيدي هاتين، في قدر المياه المغلية. أما الآن فأنصاعُ لأوامر القمندار وأسجنك كالآخرين. سوف تُحبس ولن تأكل إلا مرَّة واحدة في اليوم، طبقاً من المعجنات المسلوقة بالماء!".
كنا مذهولين. كلب محكوم بالسجن خمس سنوات! وهذا بالنسبة لكلب سجن مؤبد! يبدو أنه عضَّ جنوالاً كان في زيارة تفتيش للثكنة المجاورة للمعتقل.
منذ ذلك الحين، عاودنا الضحك.
تخلَّل أيامنا بعضُ التشويق. بعضنا شعر بالمهانة لأنه مسجون بجوار كلب. وبعضنا نظر إلى الجانب الأهون من المسألة وقرَّرنا أن نطلق عليه اسماً، ولم نتفق بهذا الشأن:
"أنا أسميه قمندار!
- لا، إني واثق من أن هذا الكلب إنسيّ أكثر من القمندار.
- إذاً، لنسمِّه طوني!
- لِمَ طوني؟ فهذا اسم رجل.
- هكذا، لأنه اسم إيطالي الوقع، ويوحي بالتحضر ... ثم إنه على وزن "بوبي".
- لا سنسميه الكلب، ببساطة. كلْب أو كْلِبْ، كما يقول الفرنسيون.
- ولِمَ لا نسميه "كِيْف كِيْف"؟
- أتقصد أنه شبيه بنا؟
- أجل وكلا، لا فرق عندنا!
- ليكن "كيف كيف"، هل نصوِّت؟
- حسناً، لنصوِّت".
هكذا أُطلق على الكلب اسم "كيف كيف"، وأصبح فرداً يُحسب له حساب في مجموعتنا.
اعتدنا وجوده بيننا، لم نعرفه يوماً مزمجراً. بل كنا نسمعه أحياناً وهو يدور على نفسه في زنزانته، ضارباً الباب بذيله. الجوع والعطش جعلاه سيء الطباع. لم يكن ينبح بل يئن كأنه جريح. وطبعاً كان يقضي حاجت كيفما اتفق، فتراكم البراز واشتد الوخمُ علينا. كان ينبغي أن يجدوا له حلاً، سواء بإبعاده أو ربطه في غابةٍ ما، أو إفراد سجن له على حِدة. وكان مفاضل يوافقنا الرأي لكنه لا يستطيع أن يُفاتح القمندار بالأمر.
بمضي شهر واحد، جُن جنون "كيف كيف"، ربما لأنه أصيب بداء الكلب. وصار نباحه مزعجاً جداً. وما عاد أحدٌ من الحراس يجرؤ على فتح باب زنزانته ليحضر له طعامه، فنفق جوعاً وإنهاكاً، وتعفَّنت جيفته، ففقدنا الرغبة في المزاح.
كي نقاوم ينبغي أن نفكر. من دون وعي، من دون تفكير، لا سبيل للمقاومة. في آخر الأمر، فقدنا الرغبة في الضحك من قسوة القمندار. نُقِل "كيف كيف" بعربة يَد، فشعرنا ببعض الارتياح. وكان ينبغي أن يتم تنظيف زنزانته وتعقيمها، لكن الحراس تقاعسوا أسبوعاً كاملاً وأبدوا بعض الضيق، لأن مفاضل قال لنا بين زعقتين:
"أوامر القمندار!".
بعد انتهاء ذلك الفصل الذي قد يوصف بالغرائبي أكثر منه بالكوميدي، عاودتُ انصرافي إلى الصلاة والتأمُّل، في سكون الليل. كنتُ أردد ذكر الله بأسمائه الكثيرة فأغادر الزنزانة ولا أشعر بقدمي
تدوسان الأرض. أنأى عن كل شيء حتى لا أرى من جسدي إلا غشاءه الشفيف. أكون عارياً، لا ما أستره، ولا ما أظهره. ومن كنَفِ تلك العتمات يتبدى لي الحقُّ بنوره الساطع. لا أكون شيئاً. حبة حنطة في مطحنة هائلة تدور على مهل، وتسحقنا واحداً تلو الآخر. فتعاودني ذكرى سورة النور وأسمعني مردداً الآية: "(...) ظلمات بعضها فوق بعضٍ إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما ل من نور".
تأمَّلتُ وأدركت أن حجباً متتالية تساقط إلى أن تصير العتماتُ أقل إعتاماً، إلى أن أبصر قبساً من نور. ربَّما كنت أختلق ذلك، ربما أتخيله. لكني أقنع نفسي بأني أبصره. كأن الصمتُ درباً، سبيلاً أسلكه لكي أرجع إلى ذاتي. كنتُ الصمت. تنفُّسي وخفقُ قلبي صارا صمتاً. عربي الداخلي كان سري. وما كنت أحتاج إلى أن بيّنه أو أحتفي به في ذلك المنعزل الضيق الذي تفوح منه رائحة العفن والبول. وبعد هنيهات من الصفاء التام، أسقطُ مجدداً في المطحنة التي تدور وئيداً.
-13-
كان برتبة معاون، مجرّد معاون، سوى أنه ضابط الصف الأوسع نفوذاً في هرمومو. مديد القامة، قوّيها، نافذ العينين، ثاقب النظرات، شارك في حرب الهند الصينية، وكان الرجل المقرَّب من القمندان "أ."، ويُدعى عطا. رجل مِنَ البربر، أهل السهوب، وشخصية من لا مكان. متزوج وله، طبعاً، أولاد. غير أن لا شيء في مظهره أو سلوكه كان يشي بوضعه العائلي، فكلُّ شيء فيه يوحي بأنه بلا عائلة، بلا أصدقاء. انضباط وصرامة حديديان. مرهوب الجانب موقَّر، قليل الكلام. حُبيّ بواحدٍ من أقوى الأصوات في المعسكر. حليق الرأس فيه شبه من المفتش كوجاك. كنا نعلم أن نفوذه يفوق نفوذ كل ضباط المدرسة، وأن ما بينه وبين القمندان أشبه بميثاق، برابط سرّي؛ شيء لا ندركه ولا نحاول حتى أن ندركه.
وكان هو الذي قادنا إلى القصر. كان القمندان قد سبقنا بمسافة لا بأس بها فما عدنا نراه. وكان عطا على اتصال به عبر الراديو. بعد مجزرة الصخيرات، اختفى. معظم الضباط قُتل على الفور. أما هو فتمكن من الفرار. وقِيل إن أحدهم شاهده راكضاً داخل القصر.
علمتُ بعد خروجي من الجحر بما حدث. فالحقيقة أن عطا كان قد توغَّل داخل إحدى حجرات القصر. ولم يكن ذلك بحثاً عن الملك، بل عن رفيقين لنا، من التلامذة البحريين، توغلا بمبادرة منهما إلى ما وراء
أحواض السباحة. وعثر عليهما في غرفة، يرجح إنها إحدى حجرات النوم الملكية، وقد تماديا في ترهيب امرأة ملقاة على الأرض. كان أحدهما قد فرَّج ساقيها فيما انهمك الآخر في دس فوهة بندقيته في فرجها. وكان هذا الأخير، محتقن العينين، يصيح مردداً:
"هنا حيث يدسُّ الآخر عضوه، أدسُّ بندقيتي!".
وصل عطا من الخلف، وصرخ قائلاً: "ويحكم!" فجمد التلميذان متأهبين. ثم أمرهما بمغادرة القصر واعتذر من المرأة التي كانت في شبه غيبوبة، ثم غادر عبر المطابخ المفضية إلى الشاطئ.
اعتُقل التلميذان البحريان عند مدخل ملعب الغولف. أما عطا فلم يُعتقل إلا بعد ذلك بأيام عديدة.
في المعتقل أُلحق بمجموعتنا، قضى بضعة أشهر صامتاً لم ينبس خلالها بكلمة واحدة. كان سلوكه في ذلك واضحاً، كأنه يقول: "لقد خسرت وها إني أدفع الثمن".
ذات يوم، جاء الحراس لاقتياده. تبعهم؛ وقبل أن يغادر الحفرة خاطبنا بالفرنسية قائلاً:
"الوداع!"
- "الوداع!"، أجبناه بصوت واحد.
أدركنا من جهتنا أن ساعة أجله قد حانت. إعدام بلا محاكمة، أو جلسات تعذيب متواصلة. لا نعلم أي الاحتمالين هو الأرجح. وحسبنا، في المقابل، أنهم سيقتلوننا، الواحد تلو الآخر، وأنه كان أول الذاهبين إلى الموت.
لكن، في ما بعد، سيبلغني ن لسان شاهد عيان أن قصته كانت أكثر تعقيداً، فقد عُصبت عيناه واقتيد إلى منزل حيث تلقى أمراً بأن يغتسل ويحلق ذنقه، وأن يرتدي ملابس نظيفة أحضروها له. وعند المساء قُدِّم له
عشاء حقيقي، لكنه لم يذق منه سوى الخبز. فهو يعلم أنه بعد شهور أمضاها في التهام النشويات فقط، من المستحسن ألا يُكثر من الطعام. وأُعطي سريراً، لكنه فضَّل أن يفترش الأرض. في صبيحة اليوم التالي، طلب أن يُسمح له بأداء صلاته، ثم ارتدى ملابسه وقال:
"إني مستعدٌّ لملاقاة وجه الله".
لم يسمع جواباً. ثلَّة أخرى من الجنود تولت الأمر، بقيادة نقيب شاب. اقتادوه مجدداً إلى الصخيرات مكبل اليدين خلف ظهره، وقد غُطي رأسه ووجهه بجرابٍ من الكُتان الأسود. كانوا يحيطون به كأنهم يحرسونه من خطر داهم. وكان يمشي بينهم من دون تردد، مرفوع الجبين. كان متوجساً مما يجري لكنه أخفى توجسه حتى النهاية.
صار في عهدة حراس آخرين. اقتادوه عبر القصر إلى أن بلغوا به الحجرة حيث أنقذ المرأة من الاغتصاب. لم يتغير فيها شيء. الديكور نفسه، السجادة نفسها، كنبة الجلد الأسود نفسها. لبث واقفاً طوال النهار. انتزعوا الجراب الأسود عن رأسه وعصبوا عينيه. عند المساء أحضروا له طعاماً. طلب من الحراس أن يُبقوا يديه مكبلتين، ولكنْ أمامه وليس خلف ظهره. بعد التشاور مع النقيب كان له ما أراد، فقط لكي يتاح له أن يحمل الطعام بيده إلى فمه. لم يأكل سوى خبز وشرب ماء، ثم استلقى على السجادة فيما لبث الحراس يراقبونه. في الأثناء طلب أن يعاود تكبيلُ يديه خلف ظهره؛ تشاور جديد، ثم موافقة.
لم ينم حقاً. عند الثانية فجراً جاء النقيب لاقتياده، وأحاط به الحراس ملتصقين به. غادروا الحجرة. ثم أُعطيت أوامر مضادة، فعادوا إلى الحجرة. عندما دخل الحجرة نزع النقيب العصابة عن عينيه والأصفاد من معصميه، فإذا به أمام الملك. أدَّى له التحية متأهباً. كانت المسافة التي تفصله عن الملك نحو عشرة أمتار. لم يأمره الملك بأن يستريح، فبقي على تأهبه. لبث عطا متأهباً بلا حراك.
"أتعلم لِمَ أمرتُ بإحضارك؟
- كلا، يا صاحب الجلالة.
- أتذكر ما الذي جرى في هذه الحجرة؟".
تظاهر بأنه يفكر قليلاً.
"أجل، يا صاحب الجلالة.
- أريد أن أعرف من هما الفاسقان المعنيان".
لم ينبس عطا بكلمة. صمت. تدخل النقيب قائلاً:
"أجب عن سؤال جلالته".
صمت.
"أعطني اسمي هذين الشخصين، تعُدْ إلى بيتك وأولادك هذا المساء. هذه كلمة شرف.
- آسِف يا صاحب الجلالة، لكني لا أعلم.
- هل أنتَ واثق من ذلك؟
- أجل يا صاحب الجلالة.
- أنت لا تريد أن تنجو بنفسك. إنه ذَنْبُكَ".
غادر الملك متبوعاً بأعوانه.
تحلق الحرّاس حول عطا. عصب النقيب عينيه، وشد على العصابة بقوة، كأنه بذلك يعبر عن حنقه منه. وغُطِّي مجدداً رأسُه ووجهُه بالجراب الأسود. لم يبدر من عطا أي رد فعل. بقي منتصباً في وقفته متأهباً لأن يساق إلى الإعدام أو إلى المعتقل.
همس النقيب في أذنه سائلاً:
"لِمَ تصرّ على حماية هذين الفاسقين؟".
اقتيد عند منتصف الليل. وقِيل إنه قُتل إثر محاولته الفرار كل ما نعرفه، إلى اليوم، أنه لم يرجع إلى تزمامارت...لقد مات.
-14-
إذا كان غربي اضطلع بتلاوة القرآن بصوتٍ عالٍ في بعض المناسبات، وإذا كان كريم قد عُيِّنَ حارساً للوقت – لُقِّب بالروزنامة أو بالبندول الناطق – وانصرف واكرين إلى امتصاص سم العقارب، فقد كنتُ، أنا، الراوية. تم اختياري، بالإجماع، لأكون الحكواتي، ربما لعلمِ بعضهم أن أبي كان راوية وسارد حزازير، أو ربما ببساطة، لأنهم سمعوني وأنا أُلقي قصائد أحمد شوقي الذي لُقِّب بـ"أمير الشعراء". كنتُ أحفظ غيباً "أزاهير الشر" و"الأمير الصغير". لكنهم كانوا يريدون أن يسمعوا "ألف ليلة وليلة". ولم أكن قد قرأته، ولا أعرف من الكتاب كله سوى بعض القصص المنسوبة إلى جحا.
حاولت عبثاً، أن أشرح لهم أني لم أقرأ الكتاب، فازدادوا إلحاحاً لكي أسرد بعض حكاياته. حتى إن عبد القادر، الرقم "2"، وهو رَجُلٌ خجول، ومتحفظ، قصير القامة، غالباً ما يتحدث همساً، قال لي:
"إحكِ لي حكاية وإلا مُتْ.
- لا يا عبد القادر، ليست حكاية أسردها أنا، هي ما سيمنحك القدرة على العيش وعلى احتمال كل ما نكابده من عذاب.
- بلى، هذا ما أحتاج إليه بالضبط. أحلم بأن أسمع كلمات، بأن أُدخلها في رأسي، وأكسوها بالصور وأجعلها تدور كدولاب مدينة الملاعب، وأضن بها، وأستذكرها عندما أشعر بالألم، عندما يستبدْ بي
الخوف من الجنون. هيّا، لا تكن مقتراً، احكِ، اخترع إذا شئت، ولكن امنحنا شيئاً من مخيلتك".
كم كنتُ نادماً لأني لم أقرأ "ألف ليلة وليلة", إنها مسألة صدفة، لا أكثر. يقول واحدنا في سرِّه: هناك متسع من الوقت، فنضع بعض الكتب جانباً ثمَّ نهمل قراءتها. كان أبي يمتلك مكتبة كبيرة. قسمٌ منها، لا يستهان به، مُخصص للمخطوطات العربية التي كان يهوى جمعها، أما القسم الآخر فمكرس لمؤلفات باللغتين الفرنسية والإنكليزية. حتى لو لم يقرأها كلها، فقد كان يهوى شراء الكتب وصفها على الرفوف. ويعمل على تجليدها وتصنيفها بحسب الموضوعات. لطالما تأففت أمي مما يفعل لأنها كانت لا تملك مالاً لشراء كتبنا المدرسية فيما يقضي أبي معظم أوقاته لدى الكتبيين بحثاً عن مخطوطة تكلفه مبالغ طائلة. غير أن نشأتنا بين الكتب لم تكن قليلة الأثر على تربيتنا. فإخوتي وأخواتي جميعهم يعشقون الكتب ويعشقون القراءة.
بعد الغداء – أقصد بعد نشويات منتصف النهار – يسود صمتٌ مطبق، ما يُشعرني بأن الجميع ينتظرون، فأرتمي في يمِّ الحكاية غير مدرك سلفاً ما سأحكيه، أو كيف ستكون الخاتمة.
"كان يا ما كان، رجلٌ ثري، بلغ من الثراء ما لا يُعرف له مقدار. غير أنه كان بخيلاً، بخيلاً مقتراً. وتزوج عدداً من النساء، إلا أن أياً منهن لم تنجب له ولداً".
يعلو صوت من الجهة الأخرى من المبنى:
"مهلاً! صِفْ لنا النساء. أريد أن أعلم إذا كُنَّ سمراوات أم شقراوات، لحيماتٍ أم نحيلات، واعرات أم فاضلات...
- إنهنَّ كما تشتهي أن يكنَّ، جميلات، مثيرات، طيِّعات وماكرات، واعرات ومتهتكات، فطنات وساذجات، مُطيِّبات لينات الملمس، جائرات
إذا هجرتهنَّ، ودائماً غامضات. لذا يا صاحبي، تكون لنساء ذلك الرجل الفاحش الثراء كل الصفات الحسنة، ولكن بإمكانهنَّ في الوقت نفسه أن يكن ماكرات. كانت إحداهن سمراء لحيمة، شعرها طويلٌ مُسْبَلٌ من رأسها حتى ركبتيها، عظيمة الثديين، حتى إن لحمهما يفيض عمَّا قد تتسع له راحتاك الصغيرتان. كانت إذا استلقت على ظهرها اندلقا عن الجنبين. وكانت لها عينان سوداوان كثمرتي كَرَزٍ ناضجتين، ونظرةٌ مروِّعةٌ، إذا شاءت، قيلَ إنها إنْ أصابت طيراً جنْدلته. المرأة الأخرى كانت صهباء نحيلة، تجعلها بشرتها المنمَّشة أكثر إغواءً. لم تكن لا ثدياء ولا ضامرة النحر. تهوى دهن جسن سيِّدها بالزيت وتدليكه بعد أن تمتطيه. عيناها تبدلان اللون بحسب الفصول والإضاءة. فأحياناً تجدهما خضراوين بنفسجيتين، وأحياناً أخرى عسليتين.فهل لي الآن أن أتابع؟ إذاً، كنتُ أقول إن صاحبنا يُعاني مشكلة. لقد كان عاقراً. لجأ إلى أطباء من أنحاء العالم قاطبة، ولكن عبثاً. فقد خلصوا جميعاً إلى تشخيص وحيد: العقم.
يمضي الوقت، وبرغم أكداس الذهب والفضة، نال منه السأم. فهاجسُ ألا يُرزق وريثاً يكاد يُذهب عقله ويجعله كثير الوساوس. وكان مقتنعاً بأن إحدى زوجاته الأُوَل قد ألقت عليه سحراً ...".
قاطعني عبد القادر وطلب مني أن أصف بدقة قصور الرجل الثري. بدا الأمر في غاية السهولة، فاسترسلتُ في سرد التفاصيل واختلاق عالمٍ يفوق الخيال.
"أوَتعلم، أن القصر هو، قبل كل شيء، مكان تشعر فيه بالراحة، حيث يكون جسدك وروحك متناغمين منسجمين، وحيث الدعة وصفاء السريرة هما الثروة الحقة. أما الباقي فه مجرد ديكور، مكان يُرتَّبُ ما فيه وفق نظرتك أنت لرغد العيش. طبعاً، الرفاهية مستحبة، ولكنْ لعلمك، أن الرفاهية إنما هي رفاهية الطمأنينة اللدُنية. ليس السجاد الفارسي أو الصيني وليست ثريات الكريستال البوهيمي أو الرخام الإيطالي، هي التي
تمنحك الجمال والسعادة. لنَقُلْ، إذا شئت، إن صاحبنا الثري قد ابتنى لنفسه قصراً فاخراً زوده بكل أمارات الثروة. ولكن برغم الحرائر والكريستال، برغم الحدائق والبُرَك، برغم الخدم والحشم، لم يكن سعيداً. كان يملك كل شيء، كل شيء إلا ما يملكه ملايين البشر: القدرة على إخصابِ امرأة".
ثم رحتُ أستعيد سياق هذه الحكاية التي ختمتها بعد ثلاثة أيام بالموعظة التالية:
"البخيل هو مَنْ يتمسك بكل شيء: المال، الوقت، المشاعر، الانفعالات. لا يعطي شيئاً، لذلك لا يستطيع أن يمنح امرأته البَذْرَ الذي منه الحياة!".
بعد أن صرتُ راوية، رحتُ أجولُ في فنون السردِ بين القصة والشعر. فذات يوم أتخيل حكاية فوق حدود المعقول، مغالياً في عواقب الأحداث، وغايتي من ذلك ألا أعيد مُستمعيِّ إلى الحياة التي خلفوها وراءهم. فالمهم عندي ألا أحدد أمكنة وتواريخ. إذ غالباً ما تجري الحكاية في زمن غامض لشرقٍ خرافي، هو الأكثر غموضاً وبُعْداً.
في اليوم التالي كنت أعمدُ إلى تلاوة القصائد. ذلك أني، أنا أيضاً، أمتلك ذاكرة أمينة. لم أمتلك يوماً قدرة تضاهي والدي في هذا المجال، غير أني أضاهي شقيقتي البكر التي طالما تباريت معها في إلقاء القصائد، أحياناً بالعربية، وأحياناً أخرى بالفرنسية.
خلال تلاوتي الفقرات الأولى من "شعرٍ متصل" لبول إيلوار، أربكتني تلك الفقرة إذ غابت عني الصيغة الحرفية لبعض عباراتها:
"اليوم نورٌ فريد
اليوم (... الحياة .. لا) الطفولة كلُّها
محيلةٌ الحياةَ إلى النور
بلا ماضٍ، بلا غد
اليوم حلمُ ليْل
في وضح النهار كل شيء (... ينحلّ .. لا) ينعتق
اليوم إني على الدوام".
كنتُ أردِّد العبارة تكراراً كأنَّ ذكر النور الذي حُرمنا منه جعلني فاقد الذاكرة. كنتُ أردد كل بيتٍ من الشعر كمدرس عجوز أصابه الهَوس وقد بات موشكاً على فقدان ذاكرته. "Sans passé sans lendernain" . كان الآخرون يرددون من بعدي، وبعضهم يقولها بالعربية: "بلا ماضٍ بلا غد". كنا بذلك كمن تستبد به رعشة العاطفة، لشدة ما مستنا تلك الكلمات التي جعلناها مُلكاً لنا، لاقتناعنا بأنها كُتبت من أجلنا. عدتُ قليلاً إلى الوراء وأعدت تلاوة القصيدة بدءاً من:
"لا شيء يمكنه أن يُشوِّشَ قوام النور
حيث لستُ سوى أنا نفسي
وما أحب ... "
زعق صوت:
"هذا خطأ! لقد تجرأوا على تشويش وتقويض قوام الضوء! عندنا، لا أحد يحترم لا النور ولا النهار ولا الليل ولا الطفل ولا المرأة، ولا أمي المسكينة التي من المؤكد أنها توفيت وهي تنتظر عودة ابنها المفقود ... لا، لقد سُحِقَ النور!...".
لكي يضع حداً لحال البلبلة التي سادت، راح غربي يدعو إلى الصلاة، فعاد السكون إلى المبنى.
هكذا أحسبُ أنني وحارس الوقت، الطيب الذكر، كريم، كنا الأكثر
انهماكاً بين المعتقلين. كنتُ أصرف وقتي سعياً وراء القصص. وكم حاولت أن أستذكر ما سُرد منها عليَّ في صغري، ولكن حتى لو استذكرتها كان عليَّ أن أطوّرها وأبتكر لها أحداثاً إضافية، وأن أطيل أمدها بالاستطرادات، والتوقف هنيهات لكي أطرح على السامعين أسئلة. كانت مهنة شاقة وشاغلاً مثيراً.
بعد الحكايات والشعر، انتقلتُ إلى السينما. رحت أسرد قصص الأفلام التي شاهدتها في مراكش عندما كنتُ أرتاد السينما مرة في اليوم. وبلغ شغفي بهذا الفن حداً جعلني مصمماً، لبعض الوقت، على أن أصبح مخرجاً سينمائياً. وكانت لي أفلامي المفضلة، وتلك التي أعشقها على نحو خاص، كأفلام الأربعينيات والخمسينيات الأمريكية؛ كنت أرى أن الأسود والأبيض يضفي على تلك القصص قدراً من القوة والدرامية، كفيلاً بأن ينأى بنا عن رتابة الواقع وسطحيته.
"يا أصدقائي، أرجو أن تعيروني انتباهكم وأن تلزموا الصمت التام، لأني سأذهب بكم إلى أميركا الخمسينيات. الصورة بالأسود والأبيض. والفيلم يدعى: "حافلة اسمها الرغبة": إنها الحافلة التي تستلقها امرأة شابة، تدعى بلانش دوبوا، لدى وصولها إلى نيو أورليانز، لزيارة ستيلا، شقيقتها، المتزوجة من مارلون براندو الذي يؤدي دور ستانلي، وهو عامل من أصل بولندي. فكما تعلمون جميعاً، أميركا هي بلاد يتألف شعبها من مهاجرين قَدِموا إليها من أنحاء العالم كله.
- ما هي حال ستيلا؟
- إنها امرأة شابة متعافية وسعيدة. تحيا مع زوجها حياة متواضعة في حيِّ فقير من أحياء نيو أورليانز. أما بلانش فليست على ما يُرام، إذ لم يمضِ وقت طويل على انتحار زوجها.
- لماذا؟ صاح أحدهم.
- اسمع، العبرة ليست هنا. العبرة تكمن في أن المرأة تستقر في بيت
شقيقتها وتعمل على بث الشقاق فيه بسبب شخصيتها المضطربة من جراء فقدانها زوجها على نحو مباغت.
- ما هي حال مارلون براندو؟
- إنه شاب، ووسيم. يرتدي "تي شيرت" أبيض، وغالباً ما يكون معتكر المزاج، وخصوصاً منذ قدوم شقيقة زوجته. ولكن أود هنا أن أطلعكم على تفصيل صغير: بعد أن استقلت بلانش حافلة تدعى "رغبة"، فسوف تستقل حافلة تدعى "مقبرة"، وتنزل منها عند محطة تدعى "شانزيليزيه".
- هل سيعمد براندو إلى إغواء شقيقة زوجته؟
- لا، فبلانش امرأة هشَّة، تعاني أزمات نفسية. هي تزعم أن الصعوبات المالية سوف تضطرها لبيع منزل العائلة. إنها تكذب. تقول الشيء ثم تقول نقيضه.
- تقصد أنها "تفوِّت الكلام وتخرجه"؟
- بالضبط. إنها لا تعي ماذا تقول. يكتشف ستانلي أنها تحمل في حقيبتها مالاً ومجوهرات تفوق بكثير الإمكانيات المتواضعة لمدرِّسة. لذا، يطلب من أحدهم أن يتحقق من ماضي بلانش قبل حلولها ضيفة عليهما.
- من المؤكد أنها مومس!
- لا تتسرعوا في إطلاق أحكامكم. الآن، تخيلوا طاولة يجلس إليها ستانلي ورفاقه، ومن بينهم ميتش، وهم يلعبون الورق، يدخنون ويحتسون البيرة، يتضاحكون ويمازحون بعضهم بعضاً، تدخل عليهم بلانش، جميلة، في ثوب أبيض. يلتفت ميتش إليها. ويسهو عن لعبة البوكر. الكاميرا تتبع نظرته. تتمشى بلانش، بغنج، جيئة وذهاباً. الحب من النظرة الأولى. تعود الكاميرا إلى مارلون براندو. يبدو ممتعضاً، وتصاحب الموسيقى سمات امتعاضه. تنتهي اللعبة وينهض الرجال، لكن
ستانلي غاضب. يثمل ويتحوَّل إلى شخص عنيف. "تي شيرته" مبلل بالعرق. لقطة قريبة على الظهر العريض لبراندو الشاب وهو يتقدم باتجاه بلانش. تتدخل زوجته، يضربها ثم يتعارك مع ميتش. تلجأ الإمرأتان إلى منزل صديقة. هنا يطالعنا مشهد سينمائي جميل: براندو في الشارع المقفر، ثيابه ممزقة، يصرخ منادياً زوجته، فتأتي ستيلا إليه، عندئذ يرتمي عند ركبتيها ويحتضنها منتحباً غامراً وجهه بتنورتها.
- هيه، سليم، هذا ليس صحيحاً. فالرجل، الرجل الحق، لا يرتمي عند قدمي زوجته! أنت تختلق كل هذا!
- لا، إني لا أختلق شيئاً، إنه سيناريو مقتبس عن مسرحية لتنيسي وليامز.
- لا أدري من يكون هذا! ولكن عندنا لا يحق للمرأة التي تهجر بيتها أن تعود إليه، وبالطبع لن يرمتي رجُلها عند قدميها!
- حسناً، هذا ممكن في أميركا. هل رضيت؟ أبإمكاني أن أتابع؟ لقد نسيت أن أخبركم أن ستيلا حامل. وإنه لأمر معتاد جداً أن يبدي الزوج بعض الرقة حيال زوجته، خصوصاً بعد تصرفه العنيف.
- وماذا عن التحريات بشأن بلانش؟ إنها مومس، أليس كذلك؟
- تشير التحريات إلى أن زوجها قد مات في عزِّ شبابه، وأنها أقامت بعض العلاقات العابرة. ربما كانت مومساً على نحو عَرضي، لكنها، بأية حال، امرأة مريضة. إنها مولعة بالكذب.
- إنها ماذا؟
- إنها تكذب طولا القوت وتصدق أكاذيبها.
- مثل عشَار الذي يعتقد أنه قتل خمسة عشر صينياً في الهند الصينية!
- الأمر مختلف تماماً. ثم إن أهل الهند الصينية هم فيتناميون. حسناً، لنرجع إلى نيو أورليانز. يُطلع ستانلي صديقه ميتش على الحقيقة.
وتُنقل ستيلا إلى المستشفى لكي تلد، فيجد ستانلي وبلانش نفسيهما وحيدين، معاً، وجهاً لوجه. مشهد جميل جداً. يعمد براندو إلى مكاشفة بلانش المسكينة بالحقائق كلها. يتبادلان الشتائم. يتصاعد التوتّر. يرتمي براندو فوقها ويغتصبها. يُجنّ جنون بلانش. تزعق، تهذي. يأتي طبيب وممرضة لاصطحابها. تضع ستيلا مولودها، وتنتحب. تقول لستانلي إنه لن يمسها بعد اليوم. وتلجأ مع مولودها إلى منزل إحدى جاراتها. ستانلي يناديها. من غرفتها تسمع صوته يتردد إلى ما لا نهاية. لقد حُجر على بلانش في مصح. وفقَد ميتش أوهامه. أما الحافلة فتواصل نقل النفوس الجريحة عبر المدينة.
- هذا كل شيء؟
- أجل، هذا كل شيء.
- ولكن، لِمَ يعمد براندو إلى اغتصاب شقيقة زوجته؟
- لأنها كانت تغويه وتستثير حنقه. الاغتصاب و تعبير عن اختلال ...".
مع مرور الوقت ومع التردي المتواصل، البطيء، لقدراتي الجسمانية كما الذهنية، أصبحتُ عاجزاً عن الاستئثار بانتباه سمَّاعي وتشويقهم. كانت عظامي تؤلمني وكذلك عمودي الفقري، لأني أنامُ مَلْويَ الجسم، منطوياً على أطرافي. فالوجع الذي أفْلِحُ في تخطيه إثرَ جهد طويل من التأمل والانعتاق، لا يلبث أن يغلبني مجدداً عندما أخاطب الآخرين. كأن في ذلك انقطاعاً عن السياق الذي يتيح لي أن أكون في مكان آخر. وعلى هذا النحو أصبحتُ راويةً كثير السهو. ولم أعد قادراً على أداء دوري. كنتُ في حاجة إلى استدراك ذاتي، إلى شيء من الانعزال، فيما كنا نحيا، جميعاً، في عزلة تامة، معرضين لشتى أنواع المرض واليأس. كل يوم كان عبد القادر يطالبني بأن أحكي له حكاية. يتوسَّل قائلاً:
"سليم، يا صديقي، يا أديبنا، يا صاحب المخيلة الرائعة، اروِ لي عطشي. فبالنسبة إليَّ، كل عبارة هي كوب ما، عذب، ماء رقراق. بإمكاني الاستغناء عن أطباق نشوياتهم، وأن أقاسمك حصتي من الماء؛ ولكن، أرجوك، احكِ لي حكاية، حكاية طويلة مجنونة. أحتاج إليها. إنها أمر حيوي بالنسبة إليّ. إنها رجائي، هوائي، حريتي. سليم، الذي قرأ كل شيء، ويحفظ غيباً كل أبيات الشعر، بالنقاط والفواصل، الذي يعيد خلق العالم الآخر حيث كلُّ شيء ممكن، سليم هذا لن يتركني وحيداً. أرجو لا تُدخلني في النسيان. مرضي لا يبرأ إلا بالكلمات والصور. بفضلك أنت استطعت أن أكون مارلون براندو لهنيهات. في مخيلتي أسيرُ كما يسير في الأفلام، وفي مخيلتي أرى النساء كما يراهن في الحياة الحقة. لقد أهديتني هدية. وحالما توقف سردك لم أعد مارلون براندو. أهوى سردك، أعشق سخريتك، تجعلني أسافر وأنسى أن جسدي مجرَّح. أحلِّق، أسير، أبصر نجوماً وأسهو عن الوجع الذي يطحن كليتي، ويدمر كياني. أنسى من أنا وأين أنا. أتعتقد أني أبالغ، وأني أقول كل هذا لكي أتفلسف. إن تحصيلي العلمي متواضع جداً. وكم وددتُ، أنا أيضاً، أن أكون فناناً، غير أن قدراتي لا تسمح لي بذلك. منذ شرعت بسردِ ألف ليلة وليلة، أصبح البقاء هنا، أيْسَر عليَّ من ذي قبل. لم أحسب يوماً أنني سأعشق سماع القصص كما أفعل الآن. في هرمومو كنت أترقب رجوعك من كل إجازة وألاحظ أنك تعود محملاً بالكتب. أما أنا فكنت أعود حاملاً الكعك الذي تعده لي أمي وورق اللعب. كنت أحسدك. أتذكر، حين طلبت منك ذات يوم أن تعيرني كتاباً، فأعطيتني ديوان شعر، حاولت أن أفهمه، لكني سرعان ما أقلعت عن المحاولة. في مرةٍ أخرى أعطيتني رواية بوليسية. أعجبتني، لكن أحداثها تدور في أميركا. كنتُ أريد قصة تدور أحداثها في ناحيتنا، في بلدنا، في مدينتي أنا، الرشيدية. كلُّ هذا لأقول لك إنه ينبغي أن تسافر بنا مجدداً
بأقاصيصك، لا لتمضية الوقت، بل لكي لا نهلك. بلى، أشعر بأنني سأهلك هنا إن لم أسمع قصصك مجدداً. أعلم أن قواك خارت، وأن صوتك بُحَّ من البرد، وأنك فقدت سِناً أخرى هذا الأسبوع، لكني أتوسل إليك، عُد إلى سابق عهدك".
أشفقتُ لمثلِ هذا الطلب فوعدته بأنني بعد عصيدة المساء سأروي له حكاية التوأمين الجميلتين اللتين تقترنان بقزمين شقيقين. لكن لسوء الطالع، انتابتني حمى شديدة وغفوتُ جالساً في ركني، سانداً رأسي إلى الجدار البارد. كنت قد أصبحت عاجزاً عن الكلام، عاجزاً عن النهوض، في حالٍ غير طبيعية. أصوات تتناهى إلى سمعي لكني لا أدرك شيئاً مما يجري من حولي. وخلال بضعة أيام، أذهلني أني فقدتُ كل إحساس بالواقع، فما عدت أعلم لا أين أنا ولا ماذا أفعل في تلك الحفرة. كنتُ أهذي، والحمى تشتدّ. ثم، ذات صباح، بعد أسبوع من الغياب، وجدتني صاحياً، منهوكاً. كنتُ أشعر بدوار، وكان أول اسم نطقت به هو اسم عبد القادر. أخبرني لحسين أنهم جاؤوا لحمله ليلة البارحة؛ وأنهم وضعوه في جراب من البلاستيك، وجرجروا جثته حتى الباب. عندما غادروا، شرع الأستاذ في تلاوة القرآن. لقد استسلم للموت؛ كان انتحاراً، لأنه تقيأ دماً، فلابد من أنه ابتلع أداة حادة. لن أعرف أبداً، حقيقة ما جرى. وأقول في سري إنه كان ليموت حتى لو امتلكتُ القدرة على سرد الحكايات لأجله. كان متشبثاً بالكلمات التي كانت له بمثابة الرجاء الأخير. كان غالباً ما يؤكد أنه صديقي وأنه يأمل في أن يغادر ذات يوم ذلك المكان لكي يتاح له أن يحيا هذه الصداقة في الهواء الطلق. كان من صنف البشر الذين يتقاسمون كل شيء، ويمنحون كل شيء. وذات يوم، قال لي: "بإمكاني أن أقاسمك كل ما قد يهبني الله، كل شيء، حتى كفني!". من المؤكد أنه دُفن من دون كفن، من دون غَسْل؛ رُمي عارياً في كنف الترابِ وغُطي بالكلس. أحد الحراس أكَّد لي ذلك في ما بعد.
-15-
يقينٌ راسخٌ لا ريب فيه، حل مقيماً في روعي. يقين لم أعرف مثيله من قبل. كنتُ أعلم أنَّ أمي لا تتراجع عن قرار اتخذته. فعندما طردتْ أبي من البيت، رامية متاعه إلى الشارع، حاول، مراراً وتكراراً، أن يتملَّقها بالمراسيل وباقات الورد والحرائر، من دون جدوى. إذ جعلته خارج حياتها، وخارج بيتها. كان عنادها ذاك مثيراً للإعجاب. ويبدو أنها ورثته، بدورها، عن أمها التي كانت تُلقَّبُ بـ "الجنرالة"؛ امرأة ذات شخصية طاغية، شديدة القسوة مع الرجال، بالغة الرقة مع أولادها؛ مدركة حقيقة الأمور، ترى العالم من دون أوهامه. وكانت أمي تعتبرها مثالاً.
كنتُ أفكر في هاتين الإمرأتين عندما أيقنت أني سأنجو، وأني لن أُهزم. كان حدسي بذلك قوياً، واضحاً، لا لبس فيه. خلال الأشهر الأولى، السنوات الأولى، لم يكن لدي حدس. كنتُ مُفرَغاً من الرجاء ومن القدرة على توقع الأمور. لقد كان لموت عبد القادر تأثير حاسم عليّ، ربما لأني طالما رددتُ في سري أنني ربما كنت قادراً على مساعدته، وأنني لو فعلتُ لأمكنه أن يحيا بضعة أشهر أخرى! كنتُ أعلم أنه مريض. وكنتُ حزيناً لأن المرض حال دون أن أكون واعياً في اللحظة التي أسلم فيها الروح. أحسبُ أنه ناداني لكي أمدَّه بالقوة في لحظاته الأخيرة. ربما عَلِمَ أني في غيبوبة أتخبط في حمَّاي الشديدة! كم وددت
أن أحكي له حكاية أخيرة، أن أسافر به على جناحي طائر بهيِّ يُحلق به إلى الجنة.
ويقيناً: أنه مهما بلغ إيمان الرفاق الذين قضوا ألماً وحزناً، فإنهم يستحقون الجنة. كانوا يتعرضون لانتقام مفرط في قسوته. حتى لو اقترفوا ذنوباً، حتى لو أساؤوا التصرف، فما قاسوه في تلك الحفرة تحت الأرض، كان أبشع أشكال البربرية.
بدءاً من اللحظة التي رحتُ فيها أحدِّث نفسي بمثل هذا الكلام، أيقنتُ، في سري، أنهم لن ينالوا مني. حتى إني كنتُ أشعر أحياناً بأني غريب عن السجناء الآخرين. فأخجل من نفسي، وأصلي لخلاصي ولخلاصهم. كنتُ أتوغل في صمت الجسد وسكونه؛ أتنفسُ عميقاً وأدعو النور الأسمى الكامن في قلب أمي، وفي قلوب الصالحين من الرجال والنساء، وفي أرواح الرُسُل والقديسين والشهداء، في أرواح الذين قاوموا وهزموا الشقاء بقوة الروح وحدها، والصلاة اللدنية، تلك التي لا غاية لها، تلك التي تحملك إلى مركز الثقل في وعيك الخاص.
ذلك النور، كانت الروح هي من تدلُّني إليه. كنتُ مستعداً لأن أترك لهم جسدي، شريطة ألا يستولوا على نفسي، على روحي، على إرادتي. وكنتُ في ذلك أستعيد سيرة المتصوفة المسلمين الذين ينعزلون ويتخلون عن كل شيء حباً بالله ليس له نهاية. بعضهم وقد اعتاد الألم، يُدجِّن الألمَ ويجعله حليفاً. فيحمله الألم إلى ربِّه حتى يفنى به ويغيب عن رشده. هكذا تسهمُ صميمية الشقاء في أن تشرع أختام قلبه على آخرها. أما أنا، فكانت تفتح لي، بين الفينة والفينة، بعض أبواب السماء. لم أكن قد بلغت ذلك المقام المذهل الذي فيه يُبذلُ الجسد عرضة لشهقات النور. يفعل كل ما بوسعه لاستعجال ساعة اللقاء الحاسم. ومن ثم، يتوه في منفى الرمال.
كنتُ أحرص على البقاءِ صاحياً والتحكُّم بالقليل القليل الذي ما زال
مُلكي. لم تكن لي نفسُ شهيد، بالتأكيد، وما راودتني رغبةٌ في إحلال دمي فيُهدر. وكنتُ أضرب الأرض بقدمي كأني أذكر الجنون الماثل بأني لن أكون فريسته.
كانت آلام المفاصل تجعل من كل حركةٍ عذاباً، هذا إذا كان الحراك ممكناً. وكنتُ جالساً في أقل الوضعيات إيلاماً. البرد ينبعث من الإسمنت؛ وخلال ساعات أفقد إحساسي به. فقدت الإحساس بجلدي. كأني راحلٌ. كأني مسافر. يصير ذهني صافياً، بسيطاً، مباشراً، فأستسلم له بسكينة بلا ممانعة. أستغرقُ في إعمالِ الفكرة حتى أصبح الفكرة عينها. وعندما أرتقي إلى هذه الحال، أرى كل شيء يسيراً. هكذا، كنتُ أجدني، ليلاً، في الكعبة المقفرة وحيداً، قبالة الحجر الأسود. أقترب منه على مهلٍ، وألامسه، فينتابني شعور بأني رجعتُ في الزمن بضعة قرونِ إلى الوراء، وبأني قُذِفتُ في الوقت نفسه، إلى مستقبلٍ مشرق. أقضي ليلتي في الكعبة حتى الفجر، أول مواقيت الصلاة. الناسُ يفرغون من وضوئهم ويصلون ولا يرونني. كنتُ شفافاً. وحدها روحي كانت هناك. حريةٌ مثل هذه لا تتكرر كثيراً. أعجز عن استنفاد سوانحها. وعليِّ أن أعود إلى الحفرة، إلى جسدي وأوجاعي.
الريح التي حملت روحي إلى الشرق همدت ساكنة. ما عاد شيءٌ يلوح. لا رعشة تسري في ورقة غصن. كانت تلك علامة العودة، وختام الرحلة. وسوف أحيا في انتظار رحلة أخرى، وسمعي مشدود نحو شبكية الكوة. لقد صرتُ شديد الانتباه إلى هبوب الهواء، ذلك الهواء الذي يبقينا على قيد الحياة، والذي، بعبوره من هناك، يحمل إلينا أخبار العالم، ويغادرنا محملاً بصمتنا، بعيائنا، وبروائح رجالٍ حجرتهم الرطوبةٌ الحريفة لمعقل الاحتضار حيث ينبغي أن نبقى واقفين.
-16-
لطالما نسيتُ أنَّ لي أباً. لم أكن أفكِّر فيه، ولم يكن من بين الصور التي تراودني. ذات يوم رأيته في حلم. هو الذي اشتهر بأناقة مظهره، ومشيته المستقيمة ونظرته المتفاخرة، بدا لي في ساحة جامع الفناء في مراكش مرتدياً غندورة متَّسخة ومرقَّعة، نابت اللحية، متعب الوجه، والأسى العميق في عينيه. كان يؤدي دور الراوية بجانب جاوٍ من دون جمهور تقريباً. الناس يمرون به، ينظرون إليه ويتابعون طريقهم تاركينه وحيداً وهو يسرد حكاية عنتر المقدام وعبلة الحسناء التي دست السم لسيدها. بدا مثيراً للشفقة: رَجُلٌ مشرفٌ على النهاية، مُهانٌ، حط به الدهرُ إلى أسفل دركاته. وكنتُ هناك أصغي إليه، فنظر إليّ وقال:
"آه! أنت ابن الشيخ الجليل، الفقيه، صديق الشعراء والملك. لكنْ، ماذا تفعل هنا؟ ألم تَمتُ؟ لقد دفنك أبوك منذ وقت. وكنتُ حاضراً في جنازتك. ولكي يستغْفِر إنجابه ولداً عقوقاً، استدعى العائلة والسلطات وحتى الصحافيين، ولعنك وباشر في دفنك. حتى إنه أحضر تابوتاً ووضع فيه كل متاعك، كل كتبك وكل الصور التي تظهر فيها، وألقى خطبة. أما أنا فكنت مكلفاً بتلاوة القرآن على جثمانك المزعوم. إذاً، أنتَ لم تمتُ! تعال، اقترب مني، لا تخف. انظر، لم يعد لدي ماء لكي أغتسل، وقد نحل جسمي. آكل أطباق النشويات التي يقدمها لي من وقت لآخر، صاحب المقهى عند الناصية. أحاول أن أسرد قصصاً لتزجية الوقت قليلاً،
ولكي أكسب بعض الدراهم لأشتري جلباباً من الصوف المطعَّم بالحرير. لقد أوصيتُ عليها. فقد حسبتها بدقة: إن كسبت عشرة دراهم في اليوم، فسأتمكن من ارتدائها في غضون مئة يوم. وسوف ترى؛ ما أن أحصل عليها سأصبحُ شخصاً آخر، وسأعود كما كنت في حياة أخرى، الرجل المثقف جليس أصحاب السلطان".
أعجبتني رؤية أبي في الحلم حيث كان الموقف معكوساً. ففي الوقت الذي رأيته فيه نكرة، لابد من أنه كان بصحبة الملك متفانياً في السعي للتسرية عنه. وربما كان يلعب معه الورق مُطنباً في تعليقاته الملغَّزة المليئة بالتلميحات الحاذقة الإباحية لاستثارة ضحك الملك.
في نظره هو، لم أمت وحسب، بل لم أكُ يوماً. حتى إنه لا يلتقي أحداً قد يذكره بأن ابنه في المعتقل. والدتي ترفض أن تراه. وإخوتي وأخواتي نالهم الكثير من جراء هذه القضية. أما هو فيحيا في القصر، رهن إشارة الملك. وبلغني في ما بعد انه أعان معظم أولاده عبر استحصاله على منح دراسية لهم، وعلى وظائف في الإدارة العامة، شريطة ألا يُذكر اسمي أمامه البتة. كان محياه، محيَّا الرجل الألمعي ذي الدالة الراسخة لفرط ما هي تلقائية، يتراءى لي بين الفينة والفينة. كنتُ أراه دائماً مرتدياً جلبابه الأبيض، مهيباً، كأنه وافدٌ من عصر آخر، من قرنٍ آخر. لم أكن حاقداً عليه. لم أحقد عليه يوماً. ولم يكن عرضة لإعجابي، كما كان بالنسبة إلى بعض إخوتي، ولا لحقدي. طبعاً لم أكن لا مبالياً حياله، لكني، أنا أيضاً، كما فعل هو في الحلم، كنتُ قد نفيته من حياتي. فالواقع، أنه هو الذي رَحل من دون أن يرحل حقاً. لقد تزوج امرأة أخرى وعاش حياة مزدوجة. وكان يعود إلى المنزل من وقت لآخر حريصاً على أن يكون ذلك في الأوقات التي تكون فيها أمي غائبة في عملها. فينتقي بعض الجلابيب الأنيقة وينصرف. فطنت أمي إلى عواقب
فعلته فأغلقت دونه أبواب البيت نهائياً بطرده منه، وقصدت القاضي طلباً للطلاق. كنتُ يومها في العاشرة. وفي نظري لم يكن ذلك الرجل الذي لم أره إلا لماماً، واحداً من أسرتنا، وبفضل أمي لم أُبدِ نحوه أية مشاعر، لا طيبة ولا قبيحة. كانت تتحدث عنه خيراً، قائلة إن لديه عائلة أخرى، وإنها لا تتمنى له أي سوء، وأنها تُؤثِر مثل ذلك الوضع الواضح والسوي. لابد من أنها عانت كثيراً لكنها لم تسمح يوماً بأن يظهر ذلك في تصرفاتها.
كنت أقول في سري، في سكون الحفرة:
ماذا كان بوسعه أن يفعل؟ لقد أسأت التصرّف وإن كنت لم أخطط لشيء. لم أعص الأوامر. دخلتُ القصر من دون أن أطرح على نفسي أي سؤال. وبذلك كنت أُهين الملك والثقة التي أولاها لأبي. المفترض أني كنت هناك أنفِّذُ أوامر رؤسائي. كان بإمكاني أن أرفض الالتحاق بالآخرين، فيتم التخلص مني برشقة رشاش. أو كان بإمكاني أن أنحاز إلى الجهة الأخرى وأدافع عن الملكية. لكني لم أفكر في مثل هذا الخيار. ربَّما شلَّني مشهدُ المجزرة. كنتُ جامداً في مكاني، جاحظ العينين، جاف الحلق، ثقيل الرأس. كانت أشعة الشمسُ تعمي بصيرتي. لم أر سوى صور متسارعة وكنت عاجزاً عن الحركة. جاء الحكم بالسجن عشر سنوات، قاسياً، لكنه بدا يسيراً نظير ما كنا نكابده في معتقل الموت البطيء. أكان بمستطاع أبي أن يستقيل؟ لا. فعندما يكون المرء في خدمة الملك لا يستقيل، بل يرضخ ويطيع ويردد على الدوام: "أجل يا مولاي". يجعل نفسه ضئيلاً، ولا يضطر الملك إلى تكرار كلامه حتى لو لم يسمع أمره جيداً. يقول: "نعم سيدنا" وليتدبر أمره في تخمين ما قاله. كان والدي يحيا في مثل ذلك المناخ وكان فخوراً بذلك وسعيداً. في ما بعد سوف يُحكى لي عن ابن شخصية نافذة كانت لها صفة "الممثل الشخصي لجلالته"؛ هذا الابن، وهو أحد نشاطي اليسار المتطرف، حُكم
عليه بالسجن خمسة عشر عاماً بتهمة التآمر على أمن الدولة. جرى ذلك في حقبة الشكوك التي عمت البلاد، فتم اعتقال طلاب، معظمهم من اللامعين في دراستهم، لارتكابهم جرم التعبير عن آرائهم. وكانت تلك أيضاً الحقبة التي اتخذ فيها الجنرال أوفقير، بصفته وزيراً للداخلية، قراراً في صيغة تعميم أذيع عبر الراديو، يقضي بتعريب دروس الفلسفة في غضون بضعة أشهر، بغية تنقية المناهج التعليمية من نصوص يُشتبه بأنها مثيرة للقلاقل، وهي التي تدفع، بحسب هذا الزعم، الطلاب إلى التظاهر. قيل لي إن الملك استدعى الأب آخذاً عليه، بنبرة قاسية، إهماله تربية ابنه. فكان أن أصيب الرجل المحترم، ذو الاستقامة الأخلاقية والسياسية العالية، بنوبة قلبية أدخلته في غيبوبة تامة لسنوات عديدة.
لم يكن والدي مستعداً للدخول في الغيبوبة من أجل أحد، كائناً من كان. فهو ليس من صنف الرجال الذين يشعرون بالمسؤولية عن خِلْفتهم، فما الداعي إذاً إلى تكرار هذا السؤال؟ فإذا قال هو، كما بلغني، "ليس لدي ابن"، أو "هذا الولد ليس ابني"، فأنا، من جهتي، ما كنتُ لأقول قطُّ: "ليس لدي أب"، أو "هذا الرجل ليس أبي"، وإن كنتُ أملك ما لا يملك، هو، من الأسباب لكي أفكر على هذا النحو، ولكي أجاهر بقولها.
كنت أعلم أن الأمر ليس بسيطاً، فأناضل ما استطعت لكي لا أهلك. وأذكر في بداية إقامتنا في المعتقل أن رشدي، صديقي الفاسي؛ قد صارحني بتلك الملاحظة:
"أتظن أن أباك المقرَّب من القصر، قد يعمل على إخراجنا من هنا؟
- مستحيل، أجبته قائلاً: إنه لا يعلم. لا أحد يعلم. وهذا هو الغرض من اعتقالنا هنا. فعائلتي تظن أننا في سجن القنيطرة وأن الزيارات ممنوعة. ثم إن والدي لا يُقابل الملك إلا للتسرية عنه، وليس للشكوى. أرجو أن تكون قد فهمت الآن حقيقة الأمر؛ فالأفضل أن تنسى أن لي أباً،
وبخاصة أنه أب، صاحب نفوذ.
- عندما كنا لا نزال سجناء عاديين، قال لي رشدي، حاول أبي أن يتوسط لدى أحد الضباط من زملاء الدراسة، فأجابه هذا الأخير بأن عليه اللجوء إلى من هم أعلى رتبة؛ كأنه أسلوب مهذب لرفض طلبه. ولكن، في آخر المطاف، أنت محق، لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً لأجلنا. علينا أن نتدبر أمورنا بأنفسنا. أقصد علينا أن نموت وحيدين. لم نعد موجودين. نحن أموات. وأنا واثق من أن أسماءنا قد شُطبت من قيد النفوس. فما الجدوى إذاً من حشو رؤوسنا بآمالٍ كاذبة؟ إني أتكلم، أتكلم كثيراً لأن ذلك يُشعرني بوجودي، لا بل يُشعرني بأني أقاوم. غير أننا صنيعو النسيان. لا بل نحن النسيان بذاته. يحدث لي أحياناً أن أفكر جدياً في أنني ميت، وأننا أصبحنا في الآخرة، في الجحيم. وأصدق ذلك بقوة حتى أني أبكي. أقولها لك وللآخرين الذين يسمعونني: يحدث لي أن أنتحب مثل ولد صغير. تخيَّل؟ ابن عائلة كبيرة، خشِّن الجيشُ عوده، يترك العنان لدموعه فتسيل على خديه. ولا أجد في ذلك ما يُعيبني. بل إنه البرهان الوحيد الذي أملكه لكي أُقنع نفسي بأنني لست ميتاً. قل لي، أنت القارئ النهم، أتظن أننا، بعد خروجنا من هذه الحفرة وبعد عودتنا إلى الحياة، إذا متنا من عسر الهضم أو في حادث سيارة، أتظن أننا سنذهب إلى الجنة؟
- الله أعلم. ليس بإمكاني أن أجيب عن هذا السؤال. علينا بالصلاة من دون أن نأمل بمقابل. تلك هي قوة الإيمان.
- ماذا تعني يا سليم؟
- إني أصلي كثيراً. أصلي إلى الله بغية أن أصرف نفسي عن العالم. لكن، كما تعلم، العالم يُختزل بحفنةٍ ضئيلة جداً من الأشياء. إني لا أناضل ضد العالم بل ضد المشاعر التي ترودُ جوارنا لكي تجذبنا إلى بئر الكارهية. غني لا أصلي من أجلي، وليس رجاء بشيء. .. بل دفعاً لشقاءِ
البقاء. أصلي دفعاً للقنوط الذي يُهلكنا. هكذا يا عزيزي رشدي، تكون الصلاة هي المجانية المطلقة".
صور كثيرة كانت تترى في ذهني. تتمازج، تهتزُّ، تقع على الأرضية، أو ترحل نحو أفقٍ رمادي. صور بالأسود والأبيض. كان رأسي يرفض أن يستقبل لوناً. أرى أبي سائراً محني الظهر في الأغلب؛ ينحني كأنه يهم بالتقاط لقية ثمينة. أمامه الملك: مشية واثقة، يلتفت من حين إلى آخر مشيراً عليه بالتروي. وأبي يحث الخطى مثابراً على البقاء على مسافة مترٍ وراء الملك. لابد من أنها القاعدة. لم يكن لروع أبي أن يهدأ. عليه أن يهتدي إلى المزحات والتلميحات والدعابات الشهوية من دون أن تكون سوقية. وعليه، بخاصة، أن يتحين الفرص الملائمة لقولها. أن يكون هزلياً وساحراً وعالم نفس حاذقاً، وعرّافاً ومستبصراً وحضوراً مُطمئناً. تلك كانت وظيفة أبي. عليه أن يستبق، أن يستدرك، وأن يبادر. فتلك أكثر من مهنة. إنها موهبة.
أن يكون متيقظ الذهن على الدوام. لا تعب، لا وهن، لا شك. تلابيب دماغه وذاكرته لا تعرف التراخي. ومثل هذا لا يترك له متسعاً للتفكير في ابنه. هل كان يدري إلى أي جحيم نُفيتُ بمشيئة سيده؟ حتى لو علم، فماذا يفعل؟ لا شيء.
كان أمراً جوهرياً، بالنسبة إليّ، أن أطرد هذه الصور. كنتُ أكنسها بحركةٍ من ظاهر يدي، لكنها تعود ملحاحة، أقرب وأشد وضوحاً. لم يسبق أن رأيت وجه أبي قريباً مني كما رأيته في تلك الآونة. كان مثيراً. على بشرته أثر من مرَض أصيب به في طفولته. وكان يخفيه بالمساحيق مثل امرأة. كان أبي يُعنى بوجهه مثل امرأة متأنقة. الصورة الأخرى، صورة الملك، كانت جامدة، لا سبيل للنفاذ إليها. كان ينظرُ إلى شيءٍ ما في البعيد. ربما وراء تلك النظرة الغامضة، تكمن فكرة ما؛ فكرة تعنينا؟
أقصد أني كنت أجرؤ على الاعتقاد أنه يفكِّر فينا. حتى أني تساءلتُ ذات يوم: هل يعلم ما يجري؟ هل يعلم أننا نحيا تحت الأرض؟ من المؤكد أن رجلاً تعرّض لانقلابين عسكريين، لن يتمكن من أن ينسى المتمردين. ماذا، هل قلت "متمردين"؟ أنا، لم أكن أكثر تمرداً من أي مواطن مغربي مُشمئزٍّ من الفساد المستشري وأجواء النقمة التي جعلوها لسان حال شعب بأسره، غير أني كنت جندياً، ضابط صف مسلحاً يُنفِّذ الأوامر. لِمَ اقتادونا من سجن القنيطرة، ورموا بنا في هذه الحفرة؟ ما الغرض من ذلك؟ آهِ من قطرة الماء الصغيرة على قمة الرأس الحليق! آهِ من أساليب التعذيب الصيني المطبق على الطريقة المغربية وبوحشية تغور في النسيان! آهٍ من التوبة عبر العذاب المتمادي المتأني! كل ذلك عبث، مجرد ضراوة، عقاب متطاول في الزمان، وعلى أنحاءِ الجسد كله.
رحت أردد مثل هذه العبارات في الحلم الغريب الذي رأيت فيه صورة الملك مقترباً مني وسمعته يقول:
"إنهض! أعلم أنك لا تستطيع أن تقف على رجليك. إن فعلتَ تصدمْ رأسك بالسقف. إذاً، إبقَ مقعياً، واسمعني جيداً: لا تسأل مجدداً في سرك، إذا كانت أفكر فيكم؛ فلديّ أشياء أخرى أفعلها غير التفكير في لُمامة من الخونة والعُصاة. لقد رفعت يدك على مليكك- أنا أعلم أنك لم تستخدم سلاحك- فعليك أن تندم على فعلتك ما حييت، أن تتعلم ببساطة كيف تندم، في هذه الحفرة، حتى قيام الساعة. وهذا ما سيكون. لقد أساء والدك تربيتك، أما أنا فسوف أفعل. لذا إياك أن تستحضر صورتي مجدداً إلى هذه الحفرة النتنة. إني أمنعك من التفكير فيّ أو أن تجعل صورتي مع وجوه أخرى!".
لبثت مشدوهاً. أكان ذلك صوته حقاً؟ أعترفُ بأني نسيت. لكن ليس لملك أن يتواضع لمخاطبة ضابط صفٍّ بائس لا يسعه حتى أن يقف على رجليه.
-17-
كان الرقم "6"، ماجد، لا يكفَّ عن سؤال كريم كم الساعة؛ كأنه مرتبط بموعد أو ينتظر مجيء قطار. وكان يردد، من ورائه، الساعة، ثم يردفُ قائلاً:
"إنه أمر جيد، لا بل ممتاز، إننا نقترب من الهدف؛ ليكن في علمك، أن المسألة لا ترتبط فقط بالساعة، بل أيضاً باليوم. كريم، قُلْ لي لو سمحت: في أي يوم نحن؟
- السبت.
- اعذرني ولكني أخطأت في حساب اليوم. مبدئياً، إذا جاء، فسيكون ذلك يوم جمعة، بعد صلاة الظهر تماماً.
- ولكن عمن تتحدث؟
- ماذا، ألا تعلم، أنت مَنْ يعرف المواقيت بدقة شيطانية؟
- هذا ما أقصده بالضبط، لأن انهماكي في حساب الوقت لا يتيح لي أن أنصرف إلى أمور أخرى.
- موحا. أنتَ تعرفه، الرجل الذي دائماً ينطق بالحقِّ، لأن ليس لديه ما يخسره. لم أفقد عقلي، إني متصل به عبر الفكر. نتحادث، وغالباً ما يُشير عليِّ بأن أعتصم بالصبر. فأجيبه بأن بضاعة الصبر نفدت من السوق، فتُضحكه إجابتي. أواه، الصبر! صحيح أنه كل ما تبقى لنا. أنا، من
جهتي، نلتُ منه ما يكفي لكي يشاركني به كلُّ راغب في رفقتي. عندما يأتي موحا، سيكون غير مرئي، لكن علامة مجيئة عطرُ الجنة. أعدوا أنوفكم جيداً. إنها فرصة لا تفوَّت".
لم يكن أحدٌ منا ليجادل في ما يقوله ماجد. كان من بربر أغادير. قصير القامة، ضامرها، وفي نظره حدة بالغة. فقد عقله بسبب السيجارة، هو الذي اعتاد أن يدخن علبتين يومياً. في المدرسة، غالباً ما كان يستيقظ في عز الليل لكي يدخن. وفي الشتاء يسعل حتى يبصق دماً. كانت السيجارة علة وجوده وهواه وغايته. لم يكن يحب السجائر المخصصة للجيش، ويفضل أن ينفق كل ما يملك على رزم السجائر الأميركية.
حتى بعد أن أمضى عشرة أعوام تقريباً في المعتقل، لم ينسَ السيجارة. ازداد سعاله سوءاً، وربما احتاج إلى بعض النيكوتين للتخفيف من وطأته. مع الوقت، كف عن المطالبة بسيجارة، وصار يسترسلُ في الكلام قافزاً من موضوع إلى آخر. ثم ابتكر هذه الشخصية المرسلة من العناية الإلهية التي لا تفارقه. فمن قدرات موحا أنه يعبر الأمكنة والسنوات، وأنه يمضي غير مرئي. كان ماجد يقول إنه يسمعه. حسبت في البداية أنه يبذلُ جهداً روحانياً لكي يهرب، هو أيضاً، من جسده المعذب من حاجته إلى النيكوتين. فمن شأن ذلك أن يكون ملاذه من العذاب. ولكن سرعان ما خاب ظني. فماجد البائس لم يعد واحداً منا. لم يعد له عقل، وكف عن ذكر موحا، بل صار يردد ذكر من قضوا منا ودُفنوا:
"أولئك الذين دفنتموهم ليسوا أمواتاً. هذا يقيني. وحدي، أنا أعلم. لذا أُعلمكم بأنهم يتظاهرون بالموت. كونوا مستعدين للانضمام إليهم. إنهم ينتظروننا عند المقلب الآخر من الهضبة. إنهم، جميعاً، هناك: لعربي، عبد القادر، مصطفى، إدريس، رشدي، حميد ... إنهم
يتظاهرون بالموت كي يخدعوا الحرّاس. إنهم يتحينون الفرصة المناسبة للفرار. فالكلس الحامي الذي يُسكب على أجسادهم يبث فيها الحرارة ويوقظها. لا يفرّون وحسب، بل يغتنمون الفرصة لرمي الحراس في القبور. ولهذا السبب ترون أن بعض الحراس يعرج. قريباً سيتم الفرار العظيم، ونستعيد حريتنا أخيراً، وسوف ندخِّن كل ما في هذا العالم من سجائر".
كان صديقه كريم يحاول أن يهدئ من روعه، فيتظاهر ماجد بأنه مُصغٍ إليه، وحتى بأنه يوافقه الرأي، ثم ينصرفُ مجدداً إلى هذيانه المتصل وهو يزداد إصراراً على أن الأموات ليسوا أمواتاً وأنهم في الخارج يُعدون العدة لفرارنا. وكان لهذيانه هذا منطقه وسياقه الفريدان:
"اسمعني يا كريم، أنت تعلم جيداً أن هناك وسيلة وحيدة لمغادرة هذا المكان، وهي أن تخرج محمولاً؛ قدماك أولاً. إذاً، كلُّ الذين غادرونا أدركوا أن عليهم التظاهر بالموت، ليتم دفنهم بسرعة، ثم النهوض من تحت الكلس الحامي واللجوء إلى الحرج المجاور، لكي يتمكنوا من العودة، مسلحين، لتحريرنا. أقسم لك إن ما أقوله ليس ترّهات. حتى إنه مذكور في القرآن، والأستاذ غربي قد يؤكده لك؛ إن الذين يُقتلون ظلماً وعدواناً هم أحياء عند ربهم يرزقون".
قاطعة غربي مصححاً:
"هذا يتعلق بالشهداء، ولا أدري إذا كان تعريف الله للشهداء يشملنا نحن".
وعليه، دار بيننا نقاش ديني وسياسي. نحن مَنْ نكون؟ ما هي صفتنا؟ هل نحن جنود متمردون؟ سجناء سياسيون؟ ضحايا ظلم؟ لقد عوقبنا بعد أن أمضينا خُمسَ المدة التي حكم بها علينا. اختُطفنا من
القنيطرة وألقي بنا في هذه الحفرة. العدالة، عدالتهم، تلك التي استعرضوها أمام الصحافة، أمام أعيننا المشدوهة، ورؤوسنا الحليقة، وقمصاننا النظيفة، قد خدعتنا. كنا جنوداً عمد ضُباطٌ إلى تضليلهم. سلحونا، وقالوا لنا، قبل دقائق من بلوغنا الصخيرات: "ملكنا في خطر، فلنهرع لإنقاذه. الأعداء متنكرون في زي مدعوين ولاعبي غولف!". من كنا آنذاك: تلامذة ضباط مضللين أو خونة متآمرين؟ كيف السبيل إلى معرفة ما يدور في خلد تلميذ ضابط عندما يكون مبهوراً بنور ساطع، متروكاً لمصيره، ورشاشه بيده، ثم يتلقى أمراً بإطلاق النار؟
لوهلةٍ، لفتني بساط العشب على ملعب الغولف. كان مجزوزاً بعناية، على سويةٍ واحدة، براقاً، شديد الخضرة، لطيفها، لا شائبة فيه. كنتُ أسيرُ فوق ذاك العشب اللين كبساط بهيّ، عندما صرخ بي رجلٌ، أعتقد أنه أجنبي، قائلاً:
"لا، لا، ليس بمداسك هذا! إنك تسحق العشب. لا، اذهب امشِ بعيداً أو انزع مداسك".
في تلك الأثناء كان الرصاص يئزّ من كل صوب وناحية، وأناسٌ متأنقون، مسرحو الشعور، يتساقطون كالذباب. غادرت نطاق الخضير، دون أن أدرك حقاً خطورة ما يجري. حتى إني نسيت كل التوجسات والمخاوف التي انتباتنا، أنا ورشدي، بصمت.
منذ تلك اللحظة بالذات، اختلط عليّ الأمر. قَتْلُ الملك! ولكن لصالح مَنْ؟ لكي يُستبدل بطغمة عسكرية؟ جنرالات، كولونيلات، يتقاسمون السلطة وثروة البلاد؟ وبمرور الوقت، فكرت ملياً: لحسن الحظ أننا أخفقنا. أو الأحرى: لحسن الحظ أنهم أخفقوا! فمن يدري قَدْر المرارات التي كنا سنتجرعها على يد ديكتاتورية عسكرية أركانها القمندان أو المعاون عطا! إني أعرفهما جيداً. وأعرف جيداً ما أقول. ولكن، في هذه الحفرة، أما زال أحدٌ يسمعني؟
قال ماجد كأنه قرأ في أفكاري:
"إنك محق. موحا من رأيك. ما الذي قد نتوقعه من عسكريين يؤمنون بالقوة أكثر مما يؤمنون بالعدالة؟ وإذا كنا هنا، في هذا السرداب، فبسببهم. لم يسألنا أحد رأينا. وبأية حال، ليس من مبادئ العسكرية في شيء أن تسعى لمعرفة ما يدور في رؤوس تلامذة ضباط. لذا، لابد من الفرار. وليس ما يعيننا على ذلك سوى خدعة الموت. لا يستطيع الأحياء أن يسعفونا. لكننا، نحن أيضاً، أموات. إننا نقيم في الجحيم. إنها غلطة، غلطة قضائية مؤسفة. والبرهان على أننا نتظاهر بأننا أحياء هو أن من نعتبرهم أمواتاً، يتظاهرون بأنهم أموات وينتظروننا لكي نغادر هذه البلاد".
قرَّرتُ ألا أجادله في ما يقول. ما الجدوى؟ كان بقاؤه مرهوناً بذلك الرجاء. يقول إنه ينتظر موحا. ولا يكنُّ عن السؤال كم الساعة. وإذ نال السأمُ من كريم أجابه بأن الساعة توقفت، فيبكي. كان ينبغي أن نتدخل بأي طريقة، أن يحادثه أحدنا بما يهدئ روعه، أن يستبق جنونه. تظاهرتُ بأني موحا ورحت أتحدث إليه. لم أجد مشقة في النطق بما تنطق به تلك الشخصية التي استحضرها ماجد في غمرة يأسه. كنت موحا. حاكيتُ أسلوبه ونبرته وقدرته على الإقناع:
"أتدري، يا أنتَ الفاقد الصبر، المحرَّق بالوقتِ على الدوام، مَنْ لا يني الليل القارُّ يبتلعه، المؤمن بأن الموتى ممثلون يؤدون أدواراً على خشبةٍ مسكونة بالظلال والأشباح، منْ قلَقُه يتعاظم في الظلمات، اعلم أني لست سوى خبر شائع، نار متنكرة بالضياء، قول يخرج من أحشائك ثم يهوي في البئر. صوتي تحمله الرياح حتى لو كانت الرياح مشبعة بالرمال ومضللة. أنت وحْدَك القادر على إخراج نفسك من النفق. ولكي تفعل، تعُوزك إرادة ضارية، وطاقة ذهنية أقوى من الحلم، وأسطع ضياء
من الصلاة. إني لا أسكن الشجرة. بل أسكن الأفكار التي تؤلم، التي تمزق جلدي، ومع ذلك ترتقي بي إلى ما فوق الجبال والغابات الوسِنة. إني راحل. لقد نأيتُ لتوي. إني أعيدُك إلى ذات نفسك، إلى عزلتك وإلى رشدك!".
صمت مطبق أعقب تلك العبارات، لم يعكره سوى صوت كريم معلناً الساعة. لبث ماجد صامتاً. بعد ذلك ببضعة أيام، شعرتُ بأنه مضطرب في زنزانته. ناديتُ عليه: لم يجب. بعد عصيدة المساء، سمعنا جلبة جسدٍ متخبِّط.
وحده ماجد استطاع أن يشنق نفسه في ذلك المعتقل. ربط كل ملابسه بحيث جعل منها حبلاً لفه حول عنقه وشده بكل ما أوتي من قوة، ثم علق طرف قميصه بكوة التهوئة واستلقى على الأرضية ضاغطاً برجليه على الباب، ما أدى إلى اختناقه.
كان عارياً تماماً. جسده محرَّق. كأن أعقاب سجائر أُطفئت في جلده, كان خفيفاً، وعيناه جاحظتين محتقنتين.
لم يكن موته خدعة، أو قناعاً على وجهه. للأسف، لم يكن يتظاهر بالموت.
-18-
هبطت من السماء، مثل علامة أو هفوة، حمامة، أو ربما كانت يمامة. تسلَّلت إلى الكوة المركزية وهوَتْ إلى صمت عتمتنا الداكنة. لم يكن لدى الأستاذ غربي أدنى شك في "أنها يمامة. إني خبير في هذه الأمور".
لم يسعَ أحدٌ إلى تكذيبه. فبالنسبة إلينا كانت حدثاً جاءنا من السماء. ليس دفناً ولا نوبة وجع، بل أمر طرأ علينا ولم يتوقعه أحد.
كانت اليمامة تحلق مرتطمة بالجدران. ناداها الأستاذ مقلداً هديل الحمام؛ اقتربت من زنزانته ولم تجد فتحة تعبر منها، فانزوت في ركن وغفت على الأرجح. وعندما جاء الحراس تسللت إلى أوَّل زنزانة فُتح بابها. هكذا حلت ضيفة على محمد. لم ينتبه الحراس إلى وجودها، فقد كانوا، على جري عادتهم، يضعون أطباق العصيدة ويغادرون مسرعين.
كان محمد مغتبطاً كطفل. يتحدث إليها ويقول لنا إنها علامة من القدَر، وإنه ينبغي الاعتناء بها وجعلها مرسالاً:
"سوف نتبناها ونطلق عليها اسماً. ستكون رفيقتنا، وسنعمل على تدريبها بحيث تحمل رسائلها إلى الخارج، إلى عائلاتنا، وربما أيضاً إلى ناشطي حقوق الإنسان...".
رد عليه الأستاذ قائلاً:
"ربما كان من الأفضل أن تدعها لي فأعلِّمها ذكر الله. فكل اليمامات تعرف الله".
بوراس، الرقم "13"، الصامت عادةً، أبدى حماسة لا توصف حيال تلك الهبة السماوية:
"سنسميها حرية!".
فكان محمد يخاطبها وهو يُطعمها قائلاً:
"حرية! أيا حريتنا، لقد جئتِ إلينا حاملة رسالة. إني واثق من أن هبوطك في هذا المكان ليس صُدفة. تُرى من أرسلك؟ قائمتاك لا تحملان لا سواراً ولا رسالة. إذاً، الله هو الذي قذف بك إلى هذه الحفرة".
أما جاره فلاح، الرقم "14"، فقد كان أكثر ميلاً إلى الغنائية:
"يا يمامتي، يا رمز السلام والغبطة، إذا كنت اليوم هنا فلأن الله قد أشفق علينا، ولأن عفواً ملكياً قد شملنا، فنحن، في آخر الأمر، لسنا مسؤولين عما فعله آخرون".
بندولنا الناطق أدلى بدلوه، وقال جازماً:
"ليس من تقاليد البلاط اعتماد اليمام مرسالاً. وإذا ما قُيِّض لنا ذات يوم أن يشملنا عفو، فسنعلم على الفور لأننا عندئذٍ سنُطعَم على نحو أفضل وسيأتي طبيب لمعاينتنا؛ لأننا إذا كنا سنغادر هذا المكن فينبغي أن نكون بصحة جيدة. لكن برغم كل شيء، هذه اليمامة هي لطف من الله، بعث بها إلينا لتمنحنا بعض السلوى".
لم يكن محمد موافقاً فقال:
"للسلوى؟ لا، بل هي حادثة. إن أحداً ما يخاطبنا. في الوقت الحاضر سأحتفظ بها، لكي تؤنس وحدتي".
عَلَت أصوات احتجاج:
"لا، إنها ملكنا جميعاً، قال بوراس.
- لنكن ديموقراطيين: سوف نتقاسمها بالتساوي. وستمضي عند كل واحد منا نهاراً أو ليلة، قال فلاح.
هكذا راحت حرية تنتقل من زنزانة إلى أخرى عندما يُحضر الحراس وجبات الطعام. وكانوا يسخرون منا. قال لنا أحدهم:
"لا تأكلوها وهي حيَّة، فسوف تسبب لكم مغصاً".
وأردف الآخر قائلاً:
"ربما كانت مفخخة. فلابد من أنها مصابة بمرضٍ سارٍ. الأحرى أن تغيروا اسمها من "حرية" إلى "موت"".
لهنيهات صدِّقتُ ما قِيل. غير أن منطق الشواذ الذي كنا ضحاياه لا يتوافق مع تلك الفرضية. ورحت أستعيد في مخيلتي فترة تكاثر العقارب، وسألت نفسي مجدداً عما إذا كانت قد أُطلقت عمداً من قبل الحراس لتقتلنا بسمّها. اليمامة جاءت من تلقائها. كانت يمامة المصادفة. وانهمكنا بوجودها بيننا لشهر أو أكثر، كانت تنام معنا وتأكل من طعامنا. تشاطرنا مصيرنا ولا تبدي أي توتر أو رغبة في الرحيل. ومع ذلك، قررنا، ذات يوم، أن نطلق سراحها. وكان محمد أول من فاتحنا في الموضوع قائلاً:
"ليس هناك ما يدعونا إلى إبقاء هذا الطير سجيناً في هذا المعتقل. فالأحرى أن ندعه يرحل.
- لكننا سنفتقدها، قال بوارس.
- هذا صحيح، أردف كريم قائلاً: لقد اعتدنا وجودها بيننا".
كم وددت أن أربط رسالة بإحدى قائمتيها، نداء استغاثة، فقط لكي يُعرَف أننا لم نمت جميعاً. غير أني لا أملك لا ورقة ولا قلماً ولا خيطاً. لذا وجدتني، كما في حلم يقظة، أخاطبها قائلاً:
"حرّية، عندما تستعيدين حريتك، عندما تصبحين في الضوء وتحلقين باتجاه السماء، توقفي قليلاً عند شفرةِ دار، هي داري، حيث وُلِدتُ وحيث تحيا أمي. إنها في مراكش، في المدينة، سوف تعرفينها: إنها الشرفة الوحيدة المطلية بالأزرق، فيما الأُخَر جميعها مطلية بالأحمر. الباب مفتوح على الدوام. تهبطين وتذهبين إلى الفِناء. في وسطه، شجرة ليمون وساقية. أمي تعشق ذاك المكان وتصطفيه لراحتها. سوف تقتربين منها وتطين على كتفها وستدرك بالتأكيد أنك وافدة إليها من قِبَلي. يكفي أن تنظري إليها وسوف تقرأ في عينيك رسالتي: أمي الغالية، إني حي، أحبُّك، لا تقلقي بشأني. بإذن الله وبعون إيماني، سوف أنجو. غالباً ما أفكر فيك. وكم أحقد على نفسي لأني تسببت لك بالأذى جراء فعلتي التي تعرفينها. اعتني بنفسك، هذا الأهم. قولي لأخي الصغير أنني أفكر فيه دائماً، قولي لماهي أنني تعلمت لعب الورق وعند خروجي من هنا سأثبت لها أني بتُّ لا أُهزم. ليحفظك الله لنا جميعاً، تاجاً فوق رؤوسنا، مشكاة نُعمى ونور".
أراد كلُّ واحد من الآخرين أن يفعل مثلي، فسيحملها رسالة، وأن تكون شاهدة على مأساتنا. كنتُ أُبقيها بحرصٍ فوق ركبتي، فيما تعلو الأصوات متناهية من الزنزانات بعباراتٍ كثيرة:
"قولي لأبي إن ابنه عبد السلام ما زال حياً. إنه يقيم ناحية الحاجب.
- قولي لزبيدة خطيبتي أن تنتظرني. سوف أخرج قريباً.
- زوري قبر والدي في تازا وصلي لروحيهما.
- اذهبي إلى الصخيرات واسلحي على خضير ملعب الغولف.
- قولي لأختي فاطمة أن تتزوج ابن العم. لن أشهد زفافهما.
- أخطري منظمة العفو الدولية بظروف عيشنا هنا.
- انطلقي، حلِّقي طليقة ... هنيئاً لك حريتك!
- لا تنسي أن تذهبي إلى الجامع لكي تقام صلاة الغائب مراراً من أجل كل الذين قضوا منا ...
- إن قصدتِ جامع الفناء في مراكش، فتوقِّفي لدى معلِّم الحمام، ذاك الذي يروِّضها لكي تؤدي عروضاً مسرحية. حالما يراك سوف يعلم من أين جئت وما الرسالة التي تحملين.
- أما أنا فلا أوصيك بشيء. ما من رسالة أبعث بها معك، أو، الأحرى، ليس لديّ مَنْ أبعث إليه برسالة. لذا، اذهبي حيثما شئت، وكيفما شئت، وقولي للحمائم الأخرى إننا ننتظر قدومها".
كانت الحفرة أشبه بسوقٍ في يوم المزاد. الجميع يخاطبون تلك اليمامة البائسة كأنها قادرة على حمل كل الرسائل. ولم يكن لي أن أصف سلوكهم بالحماقة لأني كنتُ أول البادئين. لوهلةٍ، بدا أن عاصفة من الجنون هبت على المعتقل، هذيان، ولغط وعبارات غير مفهومة، وصور عبثية. فاليمامةُ لم تعد طيراً، بل صارت شخصاً جاء ليجمع الرسائل الموجهة إلى كل صوب وناحية.
في صباح اليوم التالي، وما أن فُتح باب الزنزانة، أطلقتُها. حوَّمت فزِعةٍ ثم التقطها حارسٌ وقذفها نحو المخرج.
افتقدناها. كنا نبتسم كلما ذكرناها، موقنين أن محنتنا عظيمة.
-19-
الموتُ مِنَ الإمساك. أمرٌ ما كان ليخطر ببال أحد. فقد جرت العادة أن يُقال: "الموت من الحب" أو "الموت من الجوع والعطش". مات بوراس لأنه لم يستطع إخراج برازه، كان يحتبسه، أو الأحرى، قوة ما في داخله كانت تمنعه من التبرز. فيتراكم البراز يوماً بعد يوم حتى صار صلباً كالإسمنت. وبوراس المسكين لم يكن يتجرأ على البوح بما يعاني. امتنع عن تناول الطعام، ظناً منه أنه بذلك يتخلص من كل ما راكمته معدته. إلى أن فاق الأمر قدرته على الاحتمال، فراح يئنُ ويضرب الجدار بقدميه. ثم ذات يوم، أطلق صرخة متمادية، مدويّة، بحيث اضطر الحرّاس إلى التدخل. لم يحركوا ساكناً، عاينوا حالته وراحوا يتصهصلون. وكلما علت ضحكاتهم، اشتد صراخ بوراس:
"إني أموت اختناقاً بخرائي. ما عدتُ قادراً على التحمل، أعطوني عقاراً، أتوسل إليكم، أعطوني أي شيء لحلحلة كتلة الإسمنت هذه".
لا جواب. غادروا وصفقوا الباب وراءهم. بقيت ضحكاتهم مسموعة وتعليقاتهم المتندرة أيضاً:
"يزعجنا لأنه عاجز عن الخراءة!
- وفوق ذلك يُطالبنا بمساعدته! تخيّل نفسك منهمكاً في إخراج خرائه من دبره بالملعقة؟ تْفُوه!
- كفَّ عن ذلك؛ كلامك يسبب لي الغثيان...
- إن مات جراء ذلك، فهل تتخيل القمندار وهو يحرر تقريراً موجهاً إلى قيادة الأركان شارحاً فيه أن النفر رقم "13" مات لأنه لم يتمكن من التبرُّز...
- إنه لوضع خرائي حقاً!
- أرأيت! لقد أحسنت التعبير؛ وضع خرائي!".
تمكن لحسين من تفصيل ملعقة من عصا المكنسة التي كان احتفظ بها:
"خذ، سأرمي لك بقطة الخشب هذه. وحاول برفق، وعلى مهَل، من دون أن تجرح نفسك، والأهمْ من ذلك كله أن تهدأ".
كنَّا جميعاً في حالٍ من الترقب، نفكر، في كنف ذلك الصمت الفاحش، في ذلك الرجل الذي سُدَّت أمعاؤه، مع أن علاجه لا يتطلب أكثر من تحميلة، أو قليل من زيت الخِرْوَع؛ لكننا لم نكن في صلبِ الحياة. كنا نقيم في حفرة لكي نهلك. ولكلِّ منا طالعه السيئ. فمنْ كان ليقول إن ذاك الرجل القوي، الجبلي، المتين البنية، سيقضي ذات يوم وبطنه منتفخ مثل طابة؟
كنت أسمعه، وأتخيَّل حاله فينتابني الفزع. مثل هذا قد يصيب أي واحد منا. ليس بإمكاننا أن نرتاض، وكل يوم، نُطعَم النشويات البلا طعم أو نكهة. لذلك قررت من ذلك اليوم أن أقوم قدر المستطاع ببعض التمارين الرياضية بانتظام. لم تكن المساحة تسمح لي بمتسع كبير للحركة، غير أني، جالساً أو مقعياً، كنتُ أحرص على تحريك ساقي وذراعي، والنطنطة في مكاني، بالإضافة إلى بعض التمارين البسيطة والمفيدة: أستلقي على ظهري ملقياً رجلي على الحائط، ثم أقربهما
متمهلاً، وقد ثنيت ربكتيِّ باتجاه نحري. بعد ذلك أسير القرفصاء، مثل الأوزة، من الحائط إلى الحائط المقابل، المهم أن أحرِّك عضلاتي.
كان بوراس قد شق شرجه لأنه حرَّك قطعة الخشب بشدة. وراح ينزف لكنه لم يتخلص من برازه. وفي لحظة ما، عاودته نوبة الحنق فأطلق صرخة مدوية ثم هوى على الأرض. لابد من أنه فقد وعيه من شدة الإعياء ومات في اليوم التالي. مع الموت تراخت صارات الشرج، وأخرج الجسدُ كل ما فيه. كانت رائحة خانقة تنبعث من الدم الممزوج بالبراز. وحين عثر عليه الحراس على هذه الحال كفوا عن الضحك. كمّوا أفواههم وأنوفهم، وقالوا لنا بشيء من الحرَج:
"كان يمكن إنقاذه؛ ولكن حسبنا أنها خدعة من ألاعيبه. أنتم تعلمون أن بوراس مشهور بدعاباته، فكيف لنا أن نصدق أن الإمساك قد يودي بحياته؟ بأيةِ حال، ينبغي تنظيف كل هذا، إلا إذا ارتأى القمندار أنكم تستحقون هذا الخراء".
هل الدافع كان التحسُّب أم الشفقة؟ فقد بلغنا على لسان حارس آخر، أن الطعام سيُمزج، من الآن فصاعداً، بعقار يلين الأمعاء. ولم نشهد بعدها، أي حادثة إمساك قاتل.
كانت غرائبية بعض المواقف تحول دون إحساسنا بالحزن. فالحقيقة أن الحزن لم يكن شعوراً سائداً بيننا. كنا لا نشعر لا بالفرح ولا بالحزن. والأسى لا يعرف طريقاً إلينا. فما أن يستسلم أحدنا لشَرك الكآبة، يهلك. ذلك أن الشخص الحزين يتاح له دائماً أن يكون في صلبِ الحياة. لأن الحزن لحظة في حياته، وليس حالاً دائمة. حتى إذا واجه مأساة عنيفة، هناك دائماً وقتٌ يحل فيه النسيان فيتلاشى الحزن. أما نحن، فلم يكن مثل هذا بمستطاعنا. ذلك أن الحزن لم يكن لنا إلا أقل الشقاء؛ عقبة صغيرة يتخطاها البعض بالكحول. هناك، لم نكن نمتلك الحق في
البكاء. فلا أحد قد يتفهم بكاءك؛ ولا أحد يكفكف دمعك. ومَنْ يستسلم للبكاء يعلم أن أيامه صارت معدودة. كانت الدموع تنهمر لغسل الوجه الذي سيلثمه الموت عما قريب.
في تلك الليلة فقدتُ إحساسي بالواقع. تراني كنتُ صاحياً أم أنه حلم عبثي اختلطت فيه الأشياء؟ الموت في ثوب أبيض مزركش بفراشات ما زالت حية؟ كانت صورة مكدرة. ثم توالت صور أخرى في رأسي المصدوع:
حجر الرحى. الدار. الرأس إلى أسفل. أسيرُ على يدي. إني أتعفَّن. ينبغي أن أضيف: في حفرة. وقع الرأس. الأرضية انحنت. حجر الرحى يدور. إنه رأسي، ماذا أرى. أُلقيَ وسط الفناء. أرومة يابسة لشجرة زيتون مسنِّة، على مقربة. أركض في أرجاء البيت. تناديني أمي. صوتي مكتوم. إنه يوم عيد. إني غائب. أراهم جميعاً. لا أحد يراني. أطفو على مياه أُجاج. أفتش عن الساقية. أفتش عن البحر. مَرْحى، هذه عنكبوت، تحجب الشمس. أبسط ذراعي لكي ألمس النور، لكي أهوي في نورها الباهر، لستُ راغباً في النوم. أمي تحرق بخوراً. أخواتي يعتلين الطاولة ويرقصن. إحداهن تقول: "لقد بوغتّ". أعضُّ يدي اليمنى. أفقد ثلاثة أسنان دفعة واحدة. أشدُّ شعري. إنه كثّ. لا تسقط منه شعرة. في لحيتي تنغلّ نمال. لا، ليس قملاً ولا طبوعاً. أقول إنها نمال، تسعى فيها جيئة وذهاباً. أنفض لحيتي. تتشبث. الموت يُعْبرُ عن مقربة. كأنه مُسرع. الحجر الأسود على كفة ميزان. على الكفة الأخرى، أضع خاتماً، يتقدم حجر الرحى فيتساقط كل شيء.
-20-
تلك حقبةٌ تكررت فيها وقفاتي على درب الروحانية وعلمتني أموراً بسيطة لكنها جوهرية.
خلال إحدى رياضاتي التي أتمرسُ بها سعياً وراء قَدْر أكبر من التركيز، أرى امرأة في الليل. دائماً توليني ظهرها وتخاطبني؛ أصغي إليها ولا أسعى لرؤية وجهها. تتقدم مُتمهلة مُشيرة عليّ بأن أتبعها في طوافها حول رجال مراكش السبعة، تلك الأرواح الراعية للمعوزين، والموتى والناجين.
"سبعة رجال". سبعة مقامات. سبع صلوات. وجوهٌ مشرفةٌ على الخلود. أمثولة في التخلي. تمرسٌ بالعزلة والرفعة. كنتُ أعرف الأولياء السبعة؛ ففي صغري اعتادت أمي أن تصحبني لزيارتهم، واحداً واحداً. كانت تخاطبهم كأنهم يسمعونها، كأنهم أحياء في الضريح المكسوُّ بنسيجٍ حرير أخضر أو أسود، مطرز بخطوط قرآنية مذهبة. تسرد على مسامعهم قصة حياتها وشقائها وتعبها. تطلب منهم العون، أن يمنحوها القدرة على الاستمرار. وكنتُ ألبثُ ناصتاً لا أريد أن أزعج أمي. لم تكن هي الوحيدة، التي تقوم بمثل هذا الطواف. أعداد وأعداد من النساء التعسات والأمهات المفجوعات والفتيات العزباوات، وسواهن ممن لم يُرزقن أولاداً! كانت لنا جارة فُقِدَ زوجها. جاء اثنان واصطحباه ليعاين بيتاً للبيع – بوصفه سمساراً – ذهب ولم يعد. لجأ أولاده إلى الشرطة حيث قيل لهم
تكراراً: "البحث ما زال جارياً. وسنعلمكم بأي جديد". لكن الجميع يعلم أن الرجل خُطف ورمي في حفرة. وقِيل إن جريمته هي أنه تورط بقضية مشؤومة تتعلق بفيلا كان صادَرَها أحد رجال السلطة النافذين من أجنبي رُحِّل عن المغرب لأسباب مسلكية. وكان مكلفاً ببيعها من قبل مالكها. نُبِّهَ مراراً إلى أنه من الأفضل له أن ينسى المسألة، وأنها ليست للبيع وما عادت ملكاً للفرنسي. فلم يحمل النصائح على محمل الجد، فاختفى.
كانت زوجته، جارتنا، تقصد أيام الجمعة، الأولياء السبعة لتحادثهم، وتطلب منهم إظهار الحق:
"فلأتصَفْ! وليُعَدْ إليِّ رجُلي! وإذا مات، إذا قتلوه، فليخبروني. لقد جفاني النوم. وهيأتُ كفنه وهآنذا أنتظر. وهيأتُ أيضاً غرفة عرسنا. عندما يعود سنتزوج من جديد كما في يوم لقائنا الأول. لن ننجب أولاداً، لكننا سنتحاب إلى ما لا نهاية. كونوا شفاعتي لدى الرسول، لدى مصدر الحق، لدى النور الذي ينبعث من أضرحتكم، لكي أعرف أين زوجي. هنا لا أحد يصغي إليّ، لا أحد يُجيبني. هنا، الرجال جبناء ...". كانت قد شبكت قفلاً بمصبَّعة إحدى نوافذ المزار، وأقفلته ثم رمت مفتاحه في فتحة المجرور. وكانت تعود كل يوم خميس لترى إذا فُتح القفل فيكون ذلك علامة على أن القدر سيعيد زوجها إليها.
في سوادِ ليلي، كنتُ أتبع ذلك الطيف لم يكن هو أمي. فربما بعثت به إليّ. لابد من أن أمي متوعكة. تلك هي الرسالة. كان عليِّ أن أستجمع ذاتي أكثر فأكثر للتثبت من حدسي هذا. أمي والمرأة الباحثة عن زوجها المفقود. أمي والطيف الذي أقتفي خطاه كانا يتحدثان إليّ في صمتي العميق. كان حدسي قوياً. زال عني كلُّ شك: أمي متوعكة. أيقنتُ ذلك، فهويتُ مجدداً إلى جسمي المتألم. لقد رأيت وجهها
الشاحب وعينيها المحتقنتين. كانت تتألم. لم يكن داء هيناً. لا، كانت أمي مصابة بمرض عضال. وكان عليّ أن أحيا بصحبةِ تلك الصورة، ما يمنحني المزيد من القوةِ والبأس لكي أقاوم.
في تلك المرحلة من طريقي الروحاني، ولجتُ من تلقائي "مقصورة العزلة العذبة"، حيث لا جدوى من الشكوى، ولكن حيث كل حجر، كل هنيهة صمت، مرآة تظهر فيها النفس خفيفة وواثقة أحياناً، وأحياناً أخرى واجمة مبرّحة. تلك المقصورة كانت فيئي، سري المطلق، حديقتي السرية التي ألوذُ بها. أغادر زنزانتي وأرحل على أطراف أصابعي. أترك ورائي قوقعة جسدي، وأحلقُ نحو الشرفات المشمسة لتلك الدار الواسعة، المتداعية بعض الشيء، التي تحُسن وفادتي وتعيد إليَّ، في أحلك ليالي، الرغبة في متابعة الطريق.
هناك، كان لدي متسع من الوقت للتفكير في الحجر الأسود، في الرحلة التي منيتُ نفسي بالقيام بها. لم اخترت الكعبة، مكة، والمدينة؟ هذه الأماكن هي الأماكن المقدسة بحسب الدين الذي نشأتُ عليه. فالدين، بالنسبة إليّ، يبقى مسألة شخصية. ولكن كم تردد على مسمعي أن الإسلام هو طائفتنا، وهويتنا، وأننا نشكل أمةً، هي الأجمل، هي أفضل خلق الله. كنتُ قد هجرت الصلاة خلال إقامتي في هرمومو. كنت مؤمناً بالله، لكني معرض أحياناً لبعض الشكوك. ومنذ صدور الحكم عليّ بالموت البطيء بتحلُّل الجسد، لم أكف عن ذكر الله. إن جوار الموت، وامتهان كل كرامة، والاضطهاد الشاذ الذي يرود من حولي، قد حثتني على سلوك سبيل هذه العزلة العذبة.
حديقتي متواضعة: بضع شجرات برتقال، شجرة ليمون أو اثنتان، في وسطها بئر ماء رقراق وعشبٌ وثير وحجرة للنوم أيام البرد أو حين تمطر. في تلك الحجرة لا يوجد شيء، فقط فراش وغطاء ووسادة.
جدرانها مطلية بالكلس الأزرق. عندما يضمحل ضوء النهار، أُوقد شمعتين وأنصرف إلى القراءة. وحين يحل المساء أتناول وجبة من خضار الحديقة. أما الخبز فتحضره لي عجوز، فلاحة من أهل الناحية، في الموعد نفسه من كل يوم. ذاك هو سري، حياتي التي طالما حلمتُ بها، والمكان الذي طالما أحببتُ أن أستقر فيه، لأنصرف إلى التأمل، كيما أصلي وأستذكر كل الذين ما عادوا هنا. لا أحتاجُ إلى شيء آخر. رجائي ألا أمتلك شيئاً، ألا أقتني شيئاً، أن أتخفف من كل شيء، سوى جلباب يكسو جسمي، فأكون على أهبة الاستعداد، مهيأ للتخلي عن كل شيء، مهيأ للرحيل. ما من شيء يصرفُ المرء عن التفكير في الموت أكثر من التخلي المطلق، ولكن إذا كان موتي لم يعد شاغلي، فإن موت الآخرين يمسني في العمق. والأحرى أن نبلغ جميعاً هذه الحال لكي ننتصر، جماعة، على الموت. غير أن المرض، والانحطاط البطيء المصحوب بالآلام، هما الوجه الحق للموت. كانت الهوة فاغرة. وبعضُنا يسيرُ في العتمة من دون أن يغادر زنزانته، فتبتلعه الفتحةُ الأرضية التي تواريه أرضاً رطبة.
عندما أكون في الحديقة أجدني مغتبطاً. أشعر بأني تخففتُ من الزمن والذاكرة والجَّوْر، ومن كل أذى نكابده. غير أني لا أبلغ الحديقة لمجرد أني شئت. إذ ينبغي أولاً أن أغادر قوقعتي، أو أبطئ ريثما أنعتق، وأن أعبر إلى عالم آخر. ولم يكن ذلك بالأمر اليسير. فالظفرُ بجُماع الذات يتطلب ظروفاً غير اعتيادية، والصمت وحده ليس كافياً. لم أبلغ يوماً حال الامتلاء الكلي، لأني لم أفلح دوماً في نسيان الألم، خصوصاً خلال المرحلة التي كنتُ أفقد خلالها، أسناني. لم تكن آلام الأسنان تذيقني عذاب المُرّ فحسب، بل كانت، أيضاً، تهوي بي وتحرفني عن نهج رحلتي نحو المثال الروحاني. كان يستحيل معها التفكير والتعليل والمقاومة. كانت عذابنا المشترك. فكم حاولت أن أنتزع ضرساً، أجذبه
بقوة فيسقط ومعه قطعة من اللثة، حيةً، فيتضاعف الألم أضعافاً. لقد تمكنت من السيطرة على جسمي في أوقات البرد القارس، وفي القيظ الخانق، وخلال نوبات الروماتيزم، غير أن وجع الأسنان كان يهزمني.
كان العفن ينال من أجسادنا عضواً تلو آخر. والشيء الوحيد الذي تمكنت من الحفاظ عليه هو رأسي؛ عقلي. كنتُ أتخلى لهم عن أعضائي، ورجائي ألا يتمكنوا من ذهني، من حريتي، من نفحةِ الهواء الطلق، من البصيص الخافت في ليلي. ألوذُ بدفاعاتي متغافلاً عن خطتهم. تعلمت أن أتخلى عن جسدي. فالجسدُ هو ذاك المرئي. كانوا يرونه، ويستطيعون لمسه وبضْعهِ بنصلٍ محمِّي بالنار. بإمكانهم تعذيبه، وتجويعه، وتعريضه للعقارب، للبرد المجمِد، غير أني كنتُ حريصاً على أن يبقى ذهني بمنأى عنهم. كان قوتي الوحيدة. أجبه ضراوة الجلادين بانزوائي، بعدم اكتراثي، بانعدام إحساسي. والواقع أني لم أكن غير مبالٍ أو عديم الإحساس، بل كنت أتمرّسُ على تخطي تنكيلهم بنا: كيف كان لواحدنا أن يكون لا مبالياً؟؟ تتألم، يُثقب لحمُك بحديدٍ صدئ، يسيل الدم، وتسيل دموعك معه، تفكر في شيءٍ آخر، تصرُّ بكل ما أوتيت من القوة على النجاة بنفسك، على التفكير في ألم أشد منه. فلن نُكتب لك النجاة بتخيلك حقل خشخاشٍ منثور أو لؤلؤيات بيض. لا، فهذه نجاة قصيرة الأمد، ويُعوزها شيء من السرْ. بل هي يسيرة المنال. في البداية كنتُ أهرب إلى الحقول، ولكن سرعان ما تعيدني الأوجاع إلى الحفرة. وإذ ذاك، فقط، أدركت أن تبديد وجعٍ لا يتم إلا بتخيل وجعٍ أشد ضراوة منه، وأشد هولاً.
لحسن طالعي أن مخيلتي لم يمسها سوء. كانت تستقوي بأي شيء: كلمة يقولها أحد الرفاق فأنسج منها حكاية بأكملها. كان شغفي أن أكتشف حكاية الكلمات. مثلاً، كلمة "قهوة": كنت ألبثُ ساعاتٍ وأنا
أتخيل المكان الذي جاءت منه هذه الحبوب، ومَنْ اكتشفها، وكيف نشأت فكرة تجميعها فقط بالقدْر الكافي لكي يُعمَل، في ما بعد، على طحنها، وكيف جاءت فكرة غَلْي هذا المسحوق البني الداكن، وتصفية السائل الناجم عنه، واحتسائه ممزوجاً بالسكر أو من دونه، ممزوجاً بحبِّ الهالِ أو الأناويه الأخرى ... كيف أصبح شراباً عالمياً، مخدراً للبعض، ومنبِّهاً للبعض الآخر، لكنه صار مُعتاداً لدى الجميع. كنت أتخيل حقولاً من الشجيرات التي تثمرُ حبوباً خضراء، على سفوح جبلية مشمسة. وأحسبُ الفترة الزمنية الضرورية بين اليوم الذي تزرع فيه الشجرة، وصباح اليوم الذي أدلفُ فيه إلى أحد المقاهي حيث أقولُ، من دون تفكير، من دون التنبُّه إلى ما يدور من حولي: "فنجان قهوة من دون سكر، لو سمحت، ولتكن مركزة...". أتخيل الرحلة، المحطات، الوسطاء، حلقة البائعين والشارين، المصانع التي تعالج نوعيات شتى من القهوة، كيف يُخلط الأرابيكا بالروبوستا، وكيف تُنتقى أفضل المحاصيل لتوضع على حدة، ثم عرضها على أناسٍ نافذين شديدي التطلُّب في ما يتعلق بنوعية قهوة الصباح. أفكر في قصر لا يصحو فيه الأمير أو الملك إلا إذا احتسى فنجانين من القهوة الأرابيكا القوية المستوردة من كوستاريكا، والمحمَّصة على أيدي إيطاليين والمُعدة على يد طاهٍ من نابولي ... أفكر أيضاً في الرعدات العصبية التي قد يتسبب بها احتياج الجسم إلى القهوة أو الإقراط في شربها. ما عادت تنتابني رعدات عصبية منذ زمن بعيد. فالظاهر أنهم هنا يمزجون شرابنا الصباحي بمادة البرومور أو أي عقار آخر لكي يبقى عضونا رخواً. في هرمومو كانوا يلجأون إلى هذه الوسيلة أيضاً، كما أخبرني أحد الطهاة. فمرة في الأسبوع تُسكب في قِدر القهوة الكبيرة كمية من مسحوق أبيض اللون، إلا عشية المأذونيات. كنتُ أعلم ذلك. فالجيش يُعنى بتدبير كل شيء. وليس من المفترض أن يفوته شيء. حتى عندما نكون خارج الثُّكن، في كنفِ عوائلنا أو لدى المومسات، تبقى عين
الجيش ساهرة علينا. كنا ملكاً له في زمن السلم كما في زمن الحرب. هانك حيث كنا، كان متوقعاً أن يتهافت الجسد قطعةً قطعة. بالنسبة إليّ، كان إحليلي هو أول ما تراخى في جسمي. نسيته ولم أجد مشقة في إهماله. وهذا ما أفضى بي إلى التفكير ملياً في الحياة الجنسية بصفة عامة، وحياتنا، نحن المغاربة، الجنسية على نحو خاص. لم أكن عالِم نفسٍ ولا اختصاصياً في الشؤون الجنسية. كلُّ ما في الأمر أنني لاحظت بعض تصرفات رفاقي، يوم كنا لا نزال في الأكاديمية. كنتُ مثلهم: حياة جنسية بائسة ومتلهفة وشبه حيوانية. وأذكر مأذونياتنا القصيرة، المسائية منها بخاصة. وطيبة القمندان الذي يختار عشرة تلاميذ منا للذهاب إلى البلدة المجاورة لتفريغ مخزون كبتهم. كانت تُعتبر، من دون أن تسمى، "مأذونيات مضاجعة". لكل واحد منا دوره. أذكر دارة مضاءة بالشموع، وفناء داخلياً مغطى بالسجاد، وحجرات من حوله حيث كدِّست سجاجيد بعضها فوق بعض. امرأة على شيء من البدانة جلست في صدر إحدى الحجرات محاطة بأربع أو خمس فتيات صغيرات السن. عجوز تظهر فجأة من الظل بيدها صينية رُصفت عليها أكواب الشاي، متبوعة بفتاة دون العاشرة من عمرها وبيدها طبق فطائر بالعسل. كانت الأمور كلُّها تجري بصمت، وكان رفاقي اعتادوا أكثر مني ارتياد ذاك البيت. تنادي القوّادة البدينة على أحدنا باسمه، وتقول له:
"لم نرك منذ مدة طويلة! لابد من أنك كنت معاقباً. الجيش لا يرحمكم. ثيران حُجِرَ بينها وبين العيش! يا للخسارة! إني أشفق لحال صغيراتي اللواتي يقضين سحابة النهار في حياكة السجاد وغالباً ما يسألن إذا كنا سنستقبل زواراً عند المساء. فلا أعرف بماذا أجيب".
كنا نتمتم بعباراتٍ غير مسموعة. نشربُ الشاي ونلتهم الفطائر، وكلُّ واحد منا يُفتش بعينيه من ستكون محظيته، أو الأحرى، ضحيته، لأننا كنا ننجز ما جئنا لأجله بسرعة وارتباك. كنا دائماً نستعجلُ قضاء الأمر،
ونقد فتيات الجبل البائسات أجرهنَّ، بانتظار المرة المقبلة. بعد احتساء الشاي، كانت الباترونة تطفئ الشموع، فيختلي كل منا بفتاة، كأن الأمور مُعدة سلفاً، من دون حاجةٍ إلى الكلام. وفي العتمة المطبقة يسود هَمْسٌ، وأنين لهاث متقطِّع، ثم صرخة مكتومة، صرخة رجل يُنزِلُ بلمح البصر- عندما ينهض واحدنا تبقى الفتاة مستلقية على ظهرها، منفرجة الساقين. بعضهن كن يقلْنَ: "هادوهمَّا رجال! بهالبْرَق! (أهكذا هم الرجال! بسرعة البرق!). كنا ننهضُ بشيءٍ من الخجَل، ونسعى لأن نغادر البيت مُسرعين، ثم نصطف جنباً إلى جنب ونبول على الجدار المقابل. كنا واثقين من أننا نتخلص بذلك من الجراثيم التي ربما التقطناها. لم أشعر يوماً بأني فخور بما أفعل. كنتُ في كل مرة أقسمُ إني لن أعود ثانية إلى بيت القوادة البدينة، حائكة السجاد.
-21-
مثل هذه الذكريات ما كانت لتشغلني، فلا أبذل جهداً للتخفُّف منها كالذكريات الأخرى. فهي لم تكن حتى ذكرى؛ بل حفنة من الصور الباهتة التي تنتمي إلى عَهْدِ طيشنا، لا طموح لنا إلا أن نكون جنوداً أكفياء، وضباطاً صالحين في صفوف القوات المسلحة الملكية. لم يكن مستوى تعليمنا عالياً، وإن لم يكن متردياً. كنتُ أهوى القراءة. كانت لي شغفاً. إثر كل مأذونية أعود محملاً بالكتب التي أشتريها من صاحب متجر للكتب في فاس. كان رجُلاً متقدماً في السن، حسير النظرِ، لا يكف عن القول إنه يبيع الكتب حباً بالنساء لأنهن أفضل زبائنه. يعرف أذواقهن وماذا يفضلن. ومثل طبيب أو عطار، يُشير عليهن بالقراءات التي تلائم أهواءهن. كان دكانه يضيق بآلاف الكتب المكدسة بفوضى لا يعرف أحدٌ سواه ترتيبها؛ وكان يحتفظ لي دائماً بالروايات الفرنسية الكلاسيكية وبدواوين الشعر العربي. فقد كانت القراءة هي الباب الخفي الذي أدخله هرباً من المدرسة العسكرية، والذي يُنسيني عنف التدريباـ، ويعينني على صم أذني دون صياح ضباط الصف الأميين بأوامر تختلط فيها العربية بالفرنسية: "راسّلما" لكي يقولوا: "تجمّع"؛ و"غزا" لمعفي، و"بيرميسيو" لمأذونية ...إلخ.
في الحفرة، كنتُ أستعيد في عزلتي صفحات بأكملها من رواية "الأب غوريو"، وغالباً ما يكون ذلك في أوقات غريبة، عندما يلمْ بي
وجع الأسنان مثلاً، فلا أعود قادراً على فتح فمي. كانت الكلمات والعبارات تنسابُ من تلقائها فأجدني مسترسلاً في تلاوتها كأني في المدرسة أملي نصاً أو أقرأُ لولدٍ مريض. كانت أشبه بنعمة من الله. فبمشيئته تستعيد ذاكرتي مئات الصفحات التي قرأتها منذ سنوات، ولا حاجة ليذل أي مجهود في تذكرها: فقد كانت تحضرني من تلقائها.
"في أواخر السنة الثالثة، اقتصد الأب غوريو في نفقاته، بانتقاله إلى الطبقة الثالثة حيث أقام مقابل خمسة وأربعين فرنكاً شهرياً، كما استغنى عن التبغ وصرف مزيِّنه وتوقف عن وضع الذِّرور".
كان البعض يضحك من تلك الفقرة باعتبار أن الرجل لا ينبغي أن يرش وجهه بالذرور. لم يكن يسيراً عليّ أن أفسر لهم الظرفين الاجتماعي والسياسي السائدين في العصر الذي وضع فيه بلزاك كتبه... لذا كنت أتغافل عن ضحكهم وأتابع:
"الأب غوريو كان داعراً عجوزاً لم تنجُ عيناه من التأثير الخبيث للعقاقير التي تحتاج إليها أمراضه إلا بمهارة طبيب.
- ماذا تعني بداعر عجوز؟".
وإذا بي أسترسلُ في شرح لنص ومفرداتٍ، الأمر الذي يُبعدنا عن الرواية وغالباً ما يفضي بنا إلى نقاش سياسي بشأن مجتمعنا وعاداته والكذب ومكامن الخبث فيه. ثم حين أتلو الرسائل التي بعثت بها إليه أم راستينياك وشقيقاته، يُبدي السامعون ارتيابهم ويهزأون بي.
"احكِ لنا فيلماً بوليسياً أو فيلم رعاة بقر. إننا نتوق إلى بعض التشويق".
كنت إذ أتابع "قراءتي" حتى لو كانت تُضجر بعضهم، فإنما أفعل لكي أمرِّن ذاكرتي وأقاوم مخاطر تشوشها.
أما في أوقات تعبي، فيحدث أن تحضرني في الوقت نفسه، دونما
ترتيب أو سياق، صفحات من بلزاك وأخرى من فيكتور هوغو. وإذا ذاك يختلط كلُّ شيء في رأسي، ما يسبب لي نوبات صداع نصفي كما لو أن هذا الازدحام يسبب لي ضيقاً لا أحتمله. فأقول في سري: "عليك بالهدوء. لحسن طالعك أنك حُبيت بذاكرة جيدة، لا بل ممتازة. أهدأ وسيعود كلُّ شيءٍ إلى سابق عهده!".
هذه الذاكرة الأمينة هي كل ما ورثناه عن والدنا. فعلى غرار معظم إخوتي وأخواتي، حُبيتُ بذاكرة ممتازة. فأخي الأصغر، ذاك الذي سافر إلى الولايات المتحدة ودرس التمثيل في الـ "آكتورز ستديو"، قادر على تلاوة قصائد "أزاهير الشر"، كلها، غيباً، من دون غلَط أو تأتأة.
وكان فقداني هذه القدرة اللدُنية من شأنه أن يؤثر سلباً على عيشي في الحفرة: كانت زنزانتي تضيق، تتقارب جدرانها، وسقفها ينخفض. وينبغي حيال ذلك الإسراع في استعادة القدرة على الاتصال بعوالم بعيدة متخيِّلة.
ولكي أطمئن كنتُ أقول: "لقد أفرغتُ ذاكرتي. عزلتُ منها الذكريات المؤلمة، وأحرقت عدداً منها؛ ربما لم أفلح في التخلص منها جميعاً، أو ربما أخطأت: فلابد من أنني أحرقت الكتب بدل صور مراهقتي وأمكنتها. لا، يجب أن أرتِّب هذه الفوضى. فأهدأ، وأتنفس ببطء من بطني، وأزفر ببطء مماثل، أبسط ساقي اليمنى وأحركها في دوائر، أُرخي اليمنى وأعيد الكرة باليُسرى. أبسط ذراعي. ألمس الجدران. أرفعهما وأنا جالس. لا يبعد السقف عن أطراف أصابعي أكثر من خمسة سنتيمترات. يجب أن تتقهقر الجدران. أدفعها براحتي. أنهِضُ جذعي قليلاً وأحاول أن أرفع السقف كأنه غطاء قِدْر. أكرر هذه العملية طوال النهار. وعندما أتهالك منهوكاً، أدرك أني تمكنتُ من كسْبِ بضعة سنتيمترات. فالمشكلة المجرَّدة – مشكلة الذاكرة – يمكنُ حلُّها بالتأثير على شيء ما، ملموس، هو مجال حبسي. فإنْ تمكنتُ من ترتيب مكتبتي
الذهنية نجوتُ، ولم تقهرني الجدران. وإن هربتُ ذهنياً لملاقاة الشخصيات التي تخيّلها الروائيون امتنعت عني مشكلةُ الضيق.
في تلك اللحظة بالذات هبط عليّ وحيٌ:
"إذا كانت ذاكرتك تخونك، فابتكر شخصياتك الخاصة"!
الواقع لم تنك تلك خيانة، بل وهَنٌ؛ كان عياء. فقد "قرأت" عليهم "الأب غوريو" متبوعاً بـ "البؤساء"، وعاودت قراءتهما تكراراً إلى أن تعطلت آلية التسجيل. كانت الحاجة ماسة إلى صفحات جديدة، إلى قصص تُقرأ لمرة وحيدة. وقضيتُ بضعة أيام وأنا أفتِّش. وشيئاً فشيئاً أعدتُ تشكيل مكتبتي. لم يكن فيها الكثير من الكتب، لكنها تحتوي كتاباً كنتُ قرأته في فترة امتحانات الدخول إلى المدرسة المغربية للإدارة (وأخفقت بفارق علامة واحدة)، هو كتاب "الغريب" لألبير كامو. أواه! يا لغبطة ومتعة استعادة تلك الصفحات ذات العبارات المختارة! خلال شهر بأكمله، رحت أسرد "الغريب" أمام صحبي. وعاودتني ذكرى عبد القادر المسكين الذي مات لأنه لم يجد من يحكي له حكاية. مع كامو شعرتُ بأني على سجيتي. لا بل استمتعت باستعادة بعض فقراته أكثر من مرة، ما يمنحها قيمة مذهلة تتخطى قصة الجريمة. فالرواية التي تُسردُ في حفرة، على مقربة من الموت، لا يكون لها المعنى نفسه، والتبعات نفسها كما لو أنها قُرئت على شاطئ البحر أو في مرجة ما تحت ظلال أشجار الكرز.
كانت عيناي قد نسختا النص. فأقرأ كأنه يترى أمام ناظري على لوح أو شاشة، دونما توقف. وبين حينٍ وآخر، أسمع أحدهم يصيح قائلاً:
"أعِد، أعِد، لو سمحت، أعِدِ الفقرة ثانيةً!".
كنتُ أتابع متمهلاً، مباعداً ما بين الكلمات، تاركاً للصور متسعاً من الفواصل الزمنية لكي تحل محلِّ المقاطع اللفظية. "كانت الشمسُ ترسل أشعتها شبه متعامدة على الرمل، وكان سطوعها على البحر يفوق الاحتمال". فأشدد على كلمتي "شمس" و"سطوع". وأحسبُ أن تكراري
تينك العبارتين سيغرق حفرتنا بنورٍ لا يمكن احتماله. وأتابع: "كانت الشمسُ قد أصبحت طاغية. تتشظى نثاراً على الرملِ والبحر". وأشدد على "الرمل" و"البحر"، تكراراً، وأتابع: "... بعد قليل عدتُ إلى الشاطئ وجعلتُ أسير ... كان التشظي اللاهب إياه. على الرمل كان البحرُ يلهثُ بالأنفاس المتسارعة المكتومة لأمواجه الصغيرة. كنتُ أسير متمهلاً باتجاه الصخور وأشعر برأسي منتفخاً تحت الشمس". هنا انتباني شك. أكانت الكلمة "رأسي" أم "جبيني"؟ لم يكن سوى تفصيل صغير. وطلبت المغفرة من كاموا إذا كنتُ قد لويتُ إحدى عباراته.
كان لكل منا طريقته في تلقي تلك القراءة. وأنا أيضاً، كان لي مخزن صوري الخاص. كان مكتظاً بها يكاد لا يتسع لها.
لذلك، كان لابد من إفراغه قليلاً، فينزف بعضها على الأرضية، ومشاهدتها وهي تموتُ بإشراقات وجيزة. كانت القراءة تجلب صوراً جديدة؛ تتكدس أكواماً، يلتصق بعضها ببعض، تختلط، ثم يحجب بعضها بعضاً: الشمس، الشاطئ، العرَق، الدم، الأجساد المنخورة بالرصاص، البحر وأنا الذي "يطرق باب الشقاء".
كنتُ أشبَه ببئر كلمات ناغلة، وأنا واقفٌ قُبالة الظلمات. لا ألبث في مكان. القراءة ومعاودة القراءة ما عادتا تكفيان. كان عليّ أن أبتكر، أن أعاود تأليف القصة، لكي تتواءم وعزلتنا. فكانت "الغريب" رواية مثالية لتمرين كهذا. ولولا الضرورة الناجمة عن صراعنا ضد انحطاط كياننا، لما تجرأتُ يوماً على المساس بهذه الرواية. رحتُ أتصرّفُ على سجيتي مع كامو، أعيد ابتكار حكاية ميرسو. أقلب الأدوار: سيكون ريمون وماسون وميرسو منصرفين، من دون اكتراث، إلى العزف على الناي، ذات أحدٍ من أيام الصيف، عندما يتعرض له عرب مهاجرون، وستكون هناك الشمس نفسها، والنور نفسه، وبخاصة العبث نفسه. وكما في الرواية، لن تُذكر سوى أسماء الفرنسيين. أما الآخرون، العرب، بمن فيهم ذاك الذي
سيطلق من مسدسه أربع رصاصات على ميرسو، فلن تكون لهم أسماء.
سرعان ما أدركتُ أن رواية كامو لا تقبل أي تبديل. فعاودتُ القراءة الاعتيادية إلى أن أصبحتُ، لتعبي، عاجزاً عن قراءة العبارات التي تترى في رأسي. كأن غشاوة ما حجبتها. فبلغتُ صحبي أن القراءة انتهت مؤقتاً. وإذ ذاك تناهى إلى مسمعي ما يشبه الضوضاء الخافتة، وسمعتُ أحدهم يستظهر العبارات الأولى من الكتاب:
"اليوم ماتت أمي، أو ربما أمس، ست أدري. تلقيت برقية من المأوى: "الوالدة توفيت. الدفن غداً. أحرّ التعازي". لكن هذا لا يعني شيئاً. فقد يكون الدفن قد جرى أمس".
وتابع صوت آخر:
"اليوم، سوف أموت. أو ربما غداً، لست أدري، لن تتلقى أمي لا برقية من تزمامارت ولا أحر التعازي. لكن هذا لا يعني شيئاً. فربما كان ذلك أمس".
وصوت آخر:
"عندها أطلقت مجدداً أربع رصاصات على جثة هامدة، اخترقتها من دون أن تترك أثراً فيها. وكانت بمثابة أربع طرقات أطرقها على باب الشقاء".
أن نعمِّر الأشياء مجدداً كأن الحفرة لم تكن هي القبر؛ ذلك كان قوام نضالنا، المتصلِ، الدؤوب، المعاند. ألا نستسلم. ألا نفكر لا في جلادينا ولا في من خطط ورسم مُسبقاً أدق تفاصيل السبيل الذي سيسلكه الموتُ، متباطئاً، متباطئاً جداً، إلى أن ينتزع أرواحنا دمعة تلو دمعة، كيما يحل العذابُ في الجسد ويُخْمد ناره وئيداً حتى الانطفاء الكلي.
أن نعمِّر الأشياء بالفكر، وأن نتجنب أشْراك التذكار. بعد تلك الأعوام كلَّها، فقدتُ خوفي من ماضي القديم، من ماضيِّ السحيق،
وأصبح غريباً عني. وعندما أتذكر، ما عدتُ أخشى الموت من الحنين. حتى إني لم أعد محتاجاً إلى إحراق الصور أو ترتيبها. صرتُ أقوى من اختبار الدموع الذي يُفضي إلى نفقٍ آخر. أرى إلى ذكرياتي كأنها ذكريات شخص آخر. ولستن أنا، سوى دخيل، متلصص. أود أن ألمح مجدداً وجه الفتاة التي كانت خطيبتي، ولا أجد مشقة في العثور عليه. في طقس مشمس، في مرفأ الصويرة، تجلسُ على كرسي أعرج؛ أحد ما، لابد من أن يكون هو أنا، في التاسعة عشرة من عمره، يبتسم ويدفعُ قائمة الكرسي لكي يختل توازنه. تضحك. الآخر يضحك أيضاً. تبغي قبلة. الآخر لا يجرؤ على تقبيلها علانية، على مصطبة أحد مقاهي المرفأ. يمر بهما مصوّر جوّال، يلتقط لهما صورة ويقول: "غداً، الساعة نفسها، المكان نفسه". تنهض. الآخر يتبعها بنظراته، يرى الضوء منعكساً على شعرها الطويل. يخشى أن تبتعد، أن يفقدها. يهرع وراءها، يشدها من خصرها، فيقعان، معاً، فوق الرمل. أولاد يتضاحكون لرؤيتهما على هذه الحال. ينهضان. تنظر إلى ساعة يدها: "يجب أن أغادر، فأبي لا يطيق أن يعود إلى البيت ولا يجدني هناك. إلى الغد، الساعة نفسها، المكان نفسه!". الآخر حزين. يتنزه وحيداً على الرمل. الشمس إلى غروب.
باستعادتي تلك الصور، لا ينتابني أي شعور. قد تساعد على تزجية الوقت لكنها لا تعنيني. حتى إني لم أكن قادراً على التعرُّفِ إلى نفسي في صورة ذلك الرجل العاشق. بت عاجزاً عن ذلك. وأقول في سري "لعله خير لي!"، وأستسلم لإيحاءات أخرى لا أقدر حيالها إلا أن كون غريباً مفتوناً بما يحسب أنه يراه، مذهولاً لما يختبره. تزجية الوقت! في الظاهر، كان ذلك هو، شغلنا الشاغل؛ سوى أن الوقت كان جامداً. وكان الأمر يُضحكني، ولا أجد له معنى. مثل السأم. كنا أضحينا كائنات من السأم، رزماً محشوة بالسأم. والسأم يفوح منه وخمُ المقابر حين يكون الحجرُ رطباً. كان السأم يدور من حولنا، يقرض أجفاننا، يُجعِّد جلودنا وينغرز في أحشائنا.
كنتُ أعلم أن ذكرياتي الغالية على وشكِ الرحيل؛ بل رحلتْ إلى الجهة الأخرى من الليل؛ ربما كانت تنتظر خروجي من الحفرة لكي تستعيد مكانتها. الآن وقد أضحت بعيدة، وقد نُحيِّتْ جانباً، لم تعد تؤذيني رؤيتها مجدداً. المهم ألا أكون مصراً عليها، ألا تستخفني في الحال التي كنتُ عليها. كنتُ أستقوى بذلك لهامش البسيط من الحرية، فأبيح لنفسي أن أتلاعب بها وأن أستبق حتى تطوّر الأحداث. كانت خطيبتي قد كفت عن أن تكون خطيبتي. وما عدت أمتلك الحق في الحَجْرِ عليها داخل بيت. لقد أطلقتُ سراحها. كيف ستعلم هي أني فعلت؟ إذ لم ألبث أن تولد لدي اعتقاد راسخ، أننا، في نظر عوائلنا وأقربائنا، أصبحنا في عداد الأموات. وحدها أمي قد تكون مقيمة على رجاء أن تراني على قيد الحياة. فالأم لا تخطئ في مسألة حياة ابنها أو موته. وسوف يبلغني في ما بعد أن مجهولين طرقوا بابها مقنعين بسيماء الأسى الكاذب وقالوا لها بصوتٍ خفيض كأنهم يسرون إليها نبأ حميماً: "ولَدُكِ مات. لقد أُعدم منذ شهرين. أُوثقَ إلى جذع شجرة وعُصبت عيناه ثم أصلته ثلَّة من الجنود نيران أسلحتها. أنت تدركين يا سيدتي، أننا لسنا مخولين إبلاغك هذا الأمر، لكننا، جميعاً، مسلمون، وفرضٌ علينا أن نؤاسي. إنا لله وإنا إليه راجعون!".
وتواروا، متلحِّفين معاطفهم البنية، قبل أن يتسنى لها أن تطرح عليهم أي سؤال.
آخرون قصدوها لكي يؤكدوا عكس ذلك، مرحين ودودين: "ولَدك حيّ، وبصحة جيدة، إنه يُشيِّد جبلاً بصحبة ضباط آخرين. إنه سر. مفاجأة. احرصي على كتمانه".
لحسن الحظ أن أمي ما كانت لتصدق إلا حدسها الخاص.
كانت تصلني منها علامات؛ حدس. كنتُ أعلم أنها تعلم. خطيبتي لم تعرفني بالقدر الذي يجعلها مرتبطة بي ذهنياً. فبعد صدمة سجن
القنيطرة حيث جاءت مرتين لزيارتي، أدركتُ أن مستقبلها لن يكون معي، أنا. بكت ... دموع وداع. ثمَّ رقمتني بنظرةٍ أخيرة، تلك التي تُلقى على مريض مشرفٍ على الموت. حدَّقتْ ملياً في وجهي والدموع تنهمر على خديها، ثم استدارت وغادرت بخطوات ثابتة، متسارعة. كنتُ قد حرمتُ على نفسي كل مشاعر الأمل والندم. فكل ما عشته قبل العاشر من أيلول 1971، لا ينبغي حسبانه، ولا ينبغي أن يشغلني أو يشغل مجال زنزانتي.
وبمرور الوقت، كانت نفسي قد اطمأنت، والأهمُّ من ذلك كله أنها أضحت محصنة حيال ما قد تحمله لها رياح الماضي. وصرتُ قادراً على اللعبِ وحتى المرح. صرفتُ أياماً محاولاً أن أجد زوجاً لخطيبتي. أردته طويل القامة، بمثل قامتي على الأقل في بداية اعتقالي؛ ورأيته أشقر، مختلفاً عني، ولِمَ لا: أوروبياً حتى، مثقفاً، مدرِّس أدب أو فناناً. كنتُ أودُّ أن أتدبر لها حياة مشرقة، رجلاً يمنحها كل ما لم يُتح لي أن أمنحه لها؛ رجلاً يصحبها في أسفاره إلى اليونان، إلى إيطاليا، إلى الأندلس؛ يصحبها لزيارة الـ "برادو" في مدريد والـ "لوفر" في باريس؛ ويهديها الكتب وينصرفان إلى قراءتها معاً في السرير؛ رجلاً تكتشف بصحبته المسرح والموسيقى الكلاسيكية؛ ويجعل منها امرأة مغربية مختلفة عن الأخريات؛ يجعلها تحلم وتنسى قصتنا.
أنا أيضاً، ينبغي أن أكفّ عن التفكير في تلك الحقبة من حياتي. فبأي حق أختار لها زوجاً؟ لعلها وجدته وتحيا معه بانسجام تام في مراكش أو في الدار البيضاء. لعلهما غالباً ما يتشاجران، وفي غمرة شقائها، تذكرني، تذكرنا؟ لا، أرجو ألا تذكرني، على الإطلاق. فلا يكون عليَّ أن أفكر، لا في الجمال المنفعل للكائنات والأشياء، ولا في عذوبة ليلة صيف، ولا في شفافية حلم يهدهد العينين شبه المغمضتين لطفل.
كنتُ قد لزمت الصمت، مقتنعاً بأني صرتُ كتاباً لن يفتحه أحد.
-23-
لم تعرف شيئاً عن صبّان الذي أُلحق بمجموعتنا مطلع الثمانينيات. اقتاده الحراس عند الغداء. كان ضخم الجثة، طويل القامة، قويِّ البنية، داكن البشرة، وفروة رأسه ملساء ليس فيها شعرة واحدة. كان صامتاً، لا يستجيب إذا ما دعاه أد ولا يجيب عن أي سؤال. صبيحة اليوم التالي كُلّفتُ بأن أشرح له كيف نصرف أوقاتنا خلال النهار والقواعد القليلة التي فرقناها على أنفسنا. سألته مراراً عن اسمه فلم يُجب، وبعد هنيهات قال:
"صبان. نادني صبان.
- من أين جئت؟".
صمت.
"لِمَ أنت هنا؟".
صمت.
"إصغ إليَّ يا صبَّان، نحن هنا منظمون؛ وينبغي أن أخبرك كيف نقضي أوقاتنا. في فترة الصباح ندرس القرآن ويتخلل ذلك سرد للقصص. ليوم واحد في الأسبوع، يحكي لنا عمر عن باريس. فقد أمضى فيها شهراً حين بلغ عامه العشرين. أما فترة ما بعد الظهر فهي مخصصة للنقاشات الجماعية. ومنذ شهر تقريباً، ونحن نناقش مسألة الاستعمار. ولك مطلق الحرية في أن تشارك في هذه النشاطات أو لا تشارك. المهم هو هدنة الليل. بعد العشاء، ينبغي أن نلزم الصمت لكي نستريح. أجل، حتى
هنا، نحتاج إلى الراحة. الجدران التي تفصل بين الزنزانات رقيقة جداً. يُسمع من خلالها كل شيء؛ الأنين، النخير. إذا كانت موافقاً على هذا البرنامج فقُل إنك موافق، أو إذا كنت لا ترغب في الكلام، فاطرقْ باب زنزنانتك مرتين".
عندما تناهت إلى سمعي طرقتا الباب، تنفستُ الصعداء. أمضي ليلته منكباً على تمارين اللياقة البدنية. وخلال قيامه بتمارين الجَذْبِ كان يستحيل ألا نسمع جلبة أنفاسه القوية. كان ينام أثناء النهار. حاول بعضنا أن يحثه على الكلام، ولكنْ عبثاً. بمضي شهرين حظيتُ، بعد مشقة، بالإذن لكي أراه. فقد كان الحارس الذي شرحت له الموقف بمثلِ فضولي لمعرفةِ سرِّ الرجل. حتى إنه قال لي:
"كل ما أعرفه أنه كان من عديد الحرس الملكي. ولابد من أنه اقترف ذنباً مريعاً لكي ينتهي به الأمر في هذا المكان. لعله أساء التصرف مع إحدى الأميرات ... اذهب وحاول أن تعرف !".
كانت لديِّ فترة ما قبل الظهر بأكملها للتحدُّث إليه. وعندما فتح الحارس بابه وسلَّط عليه ضوء مصباحه، لاحظت على الفور أنه مصابٌ بالحمى، وأنه شفتيه ترتعشان والعرق يتصبب من جبينه؛ فارتأيت ألا أعيد عليه الأسئلة التي طرحتها عند وصوله. بعد رحيل الحارس تمتم ببعض العبارات. أبقى ذراعه اليمنى وراء ظهره حين خاطبني بفرنسية ركيكة قائلاً:
"أهوى الرياضة. هنا لدى متسع من الوقت لأمارسها.
- هل كنت حقاً في عداد الحرس الملكي؟
- لا أدري.
- ما الذي تخفيه خَلْفَ ظهرك؟
- لا شيء. ولو، لا شيء ...
- لمَ تضع ذراعك وراء ظهرك؟
- من دون سبب. ولو ...
- إذاً، دعني أرَها. أيمكنني أن أراها؟".
بعد هنيهات، استدار من دون أن يبرح مكانه، وقال:
"أنظر.
- إني آسف، ولكن هنا، نحن لا نعرف الضوء إطلاقاً. أقترح أن تنتظر عودة الحارس الذي سينير الزنزانة بمصباحه، ولكن في الأثناء، قل لي ما هذا؟.
قال لي:
"إني أتألم، ألماً مبرحاً.
- منذ متى؟
- أفٍّ، منذ بداية الأسبوع الثاني لمجيئي".
حين جاء الحارس لاصطحابي، سلَّط ضوء مصباحه على ظهر صبَّان، وعندها رأيت ذراعه المكسورة، عظمة المرفق بارزة من اللحمِ المصاب بالغنغرينة. استدار مجدداً ولبث جالساً قبالة الباب.
سألني الحارس:
"كم تبقى له برأيك؟
- لا أدري. إلا إذا التهمته الصراصير قبل أن تنتشر الغنغرينة في جسمه كله".
وهذا ما حصل. لقد التهمته آلاف الصراصير والحشرات الأخرى التي هجرت زنزاناتنا. كان الحراس يخشون فتح باب زنزانته. ويسألونه إذا كان لا يزال حياً فتُسمعُ طُرْقةٌ و طَرْقتان على الباب. أثناء النهار كانت رائحة الموت تحوم حول الزنزانات. وأثناء الليل يصدح الخَبَلُ بغنائه
المشؤوم، إيذاناً بالأجل الوشيك. أهو خَبَلٌ أم بُوْم، كيف السبيل لأن نعرف؟ مع الوقت تعلمنا أن المريض يموت بمضي خمسة عشر يوماً على سماع ذلك الصوت المشؤوم. في البداية، كنا لا نعير الأمر انتباهاً. لكن كريم هو من لاحظ أولاً.
ناديت صبَّان مراراً:
"إذا كنت تسمعني، فقُلْ أي شيء، أو اطرق الباب".
وبمضي ساعة أيقنتُ أنه مات. في اليوم التالي فتح الحرّاسُ الزنزانة وسلطوا عليها الضوء، لكنهم صفقوا الباب بقوة وغادروا مسرعين وهُم يرغون ويزيدون. وخلال تدافعهم في الابتعاد عن المكان أوقع أحدهم قِدْر القهوة على الأرض.
عادوا بعد الظهر وقد غطوا وجوههم بالكمامات وأيديهم بالقفازات. كانوا يخشون لمسه. واقترحوا ليِّ أن يفتحوا بابي لكي أساعدهم.
كانت الغنغرينة قد انتشرت في أنحاء جسمه بسرعة كبيرة.
ولمحت دوداً يخرجُ من عَقِبيه. أعداد هائلة من الصراصير تجمعت هناك بحيث تعذر طردها. وبمشقة رُفعت الجثة ووُضعت في جراب من البلاستيك. كان لابد من الإسراع في إبادة هذه الآلاف المؤلفة من الصراصير، فأحضر أحد الحراس مسحوقاً ساماً يستخدمه الجيش عادة في مكافحة الجراد. مسحوق سام بالغ الخطورة فاضطررت إلى ارتداء كمامة وقفازين. خلال دقائق معدودة تساقطت الصراصير على الأرض. كانت تتساقط كالعناقيد مجتمعة. ثم أحضر الحارس عربة يد ومعزقة لرفعها عن الأرض.
لقد خلصنا موت صبان من الصراصير. أما أنا فقد احتفظت بجفنةٍ من ذلك المسحوق الذي رحتُ رشه على أعتابِ الزنزانات. نبّهني الحارس إلى أن في ذلك إخلالاً بالأمانة.
"إنْ لم نقتلها فستلتهمنا في غضون أيام. والحال، أن الموت هنا يجب أن يستغرق وقتاً. قد أكون أخلَلْتُ بالأمانة، لكني منسجمٌ مع نفسي. فليُكُنْ الموت، ولكن بجرعاتٍ صغيرة!
- تحكي مثل القمندار!".
بلى، لقد استوعبت الأسلوب والتقنيات. وللمرة الأولى، أدى لي الحارسُ التحية.
كلُّ مجموعة معرضة لأن يندس فيها عنصر دنئ. ففي المدرسة كان في عداد فصيلنا ثلاثة: مخبرٌ وجبان ومزعج. لذا من الطبيعي أن يكون أحد هؤلاء الثلاثة بيننا في المعتقل.
في شخصية كل إنسان يكمن قدْرٌ من السوقية. وكانت شخصية عشار مثلاً على السوقية التي تفوق حد الاحتمال. كائنٌ يقيمُ على حافة الطبيعية الحيوانية، كأنه حيوان يُقلد طبائع البشر. وعشار لم يكن سوقياً وحسب، بل كان لئيماً أيضاً. كان يقزِّزني. ولكني، في ما بعد، تداركت مشاعري: فلم يكن عشار يستحقُّ أن أبدي حياله أية مشاعر. لذا اعتدت أن أكون لا مبالياً حياله، مُستعداً للتدخل عند الضرورة، ذاك أن اللامبالاة ليست غياب المشاعر، بل رفضها.
كان عشار المزعج الذي لا يلزم حداً يكبرنا سناً؛ كان برتبة رقيب أول، أمياً وسوقياً وفظاً فخوراً بفظاظته. خدم كجندي في الهند الصينية واحتفظ من تلك الحقبة بذكريات كان يبتكرها أو يتاجر بها. فبالنسبة إليه، الفيتناميون هم "صينيون". وعندما يتحدث عنهم يستخدم ألفاظاً مهينة وعنصرية.
إلى أن وجد نفسه متورطاً في محاولة الانقلاب العسكري بمحض المصادفة. فقد صعد حينها خفية إلى إحدى الشاحنات في طريق مغادرتها هرمومو، منتهزاً تحرك الشاحنات لتسوية خلاف مع ابن عمه الذي يملك
متجر سمانة في الرباط. وقد بلغنا ذلك، بعد وقت قصير من اعتقالنا، لأنه أمضى سنوات حبسه الأولى وهو لا يكف عن استنزال اللعنات على ابن عمه، صبحا وعشيةً، متمنياً له ميتة مروعة:
"إلهي، فلتدهسك دبابة، ولتجمع أحشاءك المتناثرة بيديك الاثنتين وليكن موتك بطيئاً".
أو:
"ليجعل اللهُ بلواكَ من الجُنَّة، حمى الهند الصينية التي تُذْهِبُ العقل، إلى أن تلتهم يديك إصبعاً إصبعاً".
كان عشار سيئاً، فمن خلاله اكتشفت الحسد والغيرة! وهما العلتان الشائعتان في الحياة العادية، ولكن لم يكن لهما، قبله، محل في معتقلنا. ومع ذلك، تمكن عشار من إدخالهما إليه وأتاح لهما أن ينموا ويبثا سمومهما في تفاصيل عيشنا البائس.
كانت زنزانته قبالة زنزانتي. وكان شغله الشاغل أن يُعكِّر أجواء نقاش بدور بين عددٍ من المعتقلين، أو أن يقضي الليل في التعتعة والتأتأة حتى تستثار أعصابنا. لم نكن نملك وسيلة للتأثير عليه. فأدركتُ أن الحل يكمن في استيعابه وإشراكه في كل ما نفعله على الرغم من كونه أُمياً. وصممت على تلقينه القرآن متخلياً عن المجموعة التي كانت قد تقدمت بسرعة في حفظ الكتاب العزيز. كان يقول:
"لِمَ أنتم وليس أنا؟ أنا أيضاً إنسان، ومسلم صالح، ورجل مجرِّب. والصينيون يذكرون جيداً من أكون!".
وجد مشقة كبيرة في التركيز، وعلى الأخص في لفظ الكلمات كما ينبغي. إذ كان عليه أن يٌطع الكلمات إلى مقاطع لفظية متتالية. كان يردد من بعدي، ثم يعلو صراخه، مجاهراً بكراهيته للقرآن والإسلام. فأعمد
إلى معاقبته، ممتنعاً عن مخاطبته حتى يستسمحني؛ وأطلب منه أن يؤدي الصلاة. كنتُ أشعر بأنه في زعيقه إنما يُعبِّر عن ضيقه بجهله. في غضون شهر صار قادراً على تلاوة الفاتحة من دون غلط، فقد كانت لديه رغبة صادقة في الانضمام إلى المجموعة واعتباره، كالآخرين، واحداً من أفرادها، لكنه كان عاجزاً عن السيطرة على مشاعر الغيرة لديه.
في اليوم الذي أذِن لي الحارس بزيارة صبان، استشاط غيظاً:
"لِمَ يكلمك الحارس، أنت، ويختارك أنت، وليس أنا؟ أنا الأكبر سناً، أنا "لأنسيان" (ذو الأقدمية). ماذا تفعل لتكون أنت المنظور بيننا؟ هه؟ قل لي؟ أجبني. إني من قدامى محاربي الهند الصينية. الصينيون، أنا أعرفهم. أنت، مثلهم، لا تتكلم. أنت صُراءٍ(*). كل شيء عندك "في الخفاء".
لم أكن أجيبه بشيء، بل أتركه لضغينته. وفي آخر النهار، يخاطبني قائلاً:
"ماذا لو رددنا قليلاً سورة البقرة؟
- ليس الليلة، سنفعل غداً. الآن ميقات الصمت. فاصمتْ وحاول أن تفكر تبعاً لوتائر تنفسك. تعلم أن تستسيغ الصمت. ردد في سرِّك أن الصمت مريح لك وللآخرين، وبخاصة الآخرين. إنه أمر حيوي لنا أن تنعم بالصمت. فقد يكونُ الصمتُ عوضاً عن النور الذي نفتقده.
- حسناً، ألست ناقماً عليِّ؟ أستخبرني بما قاله لك صبان؟ لقد مات، فلا بأس إذا تكلمت، أتعدني، هه، يا سيد "صرائي"؟
- عشار، أغلق فمك، وإلا حرمتك من القرآن غداً".
كان يسكت، لكني أسمعه مُبرطماً قبل أن ينام. وأحياناً يحلم بصوتٍ عالٍ. يوظقني بصراخه وكلماته غير المفهومة، وعندما أسأله عند الصباح يحلف بحياة أمه أن الفاعل هو شخص آخر.
ذات يوم، حرمه الحارس من الطعام فأطلق العنان لسخطه وراح يردد أن الأمر من تدبيري أنا. ومهما حاولت أن أشرح له أن لا علاقة لي بالأمر، كان صراخه يزداد حدة، شاتماً الجميع، خاتماً نوبته بأدعية تستنزلُ عليِّ لامة العين الشريرة. ولكن حيث كنا، لا الشؤم ولا العين الشريرة ولا السحر ولا الأحجبة ولا الطلاسم، تقدر أن تؤذينا. وبهذا المعنى كنا بمنأى عنها. لذا جعلتُ أضحك، فأغضبه ذلك. وعندما جاء الحارس، في اليوم التالي، حاملاً له حصته من الطعام، سأله إذا كان الطعام يحتوي رباً.
"لك من السمنة ما يكفيك!"، أجابه الحارس.
لولا غلبةُ مزاجه السيء وعناده، لكان عشار سجيناً اعتيادياً. فقد علمتني تجربتنا المشتركة أنه حتى المشاعر الدنيئة يمكن احتمالها في الحفرة التي رُمينا فيها نهباً للعفونة.
-25-
ذات مساء، فيما كنتُ أؤدي صلاتي؛ ليس فرض الصلاة لذلك اليوم، بل ذاك الذي أهملتُ أداءه حين كنتُ طليقاً، زارني دوري مراكش، عصفور طفولتي، الذي كنا نسميه ثيبيبط أو لفقيرة، العصفور المقدَّس. وسوف أعلم في ما بعد أن ذلك العصفور يدعى الشرشور المذيِّل. أرياش رأسه وعنقه وصدره ذات لونٍ رمادي متناسق. أما ما تبقى منها فأصهبُ أو بني. لوهلةٍ ظننته بِرقِش الأشجار لشدة الشبه في تغريدهما. غير أني لم أكن واثقاً من ذلك فرحت أسري عن نفسي في تخمين اسمه بالفرنسية ولون ريشه. حطَّ في كوة التهوئة وراح يغرِّد لربع ساعة أو أكثر. وبالطبع أطعمته فتات الخبز المبلول بالماء. عاود تغريده عند فراغه من الطعام ثم غادر. لابد من أنه ابتنى عشاً على شجرة في الجوار. ولما عاد، حط فوق الكوة الرئيسية وراح يغرِّد. كان يتخذ وضعية المراقب وينوِّع تغريده إذا لحظ حركة حول المعتقل. وهكذا كنا نعرف سلفاً أن الحرّاس قادمون بحسب التنويعات في زقزقة ثيبيبط.
ما زلتُ أذكر زقزقاته المتنوِّعة؛ لقد تعلَّمت بسرعة أن أميّز في ما بينها. ذات يوم، راح يُغرِّدُ بإيقاع متسارع، متقطع. ولم أدرِ عما يعبِّر ذلك الإيقاع. كان ثيبيبط يُعْلمنا بهطول المطر. فقد كنا لا ندري شياً من أحوال المساء. ولكن بفضل الدوري أصبحنا نعرف أحوال الطقس. وكان هو ما أخطرنا بهبوبٍ وشيك لعاصفة رملية. وأصبحنا نعلم، من طريقته
في التغريد، أن شيئاً ما يحدث في الخارج. ومع الوقت والخبرة أصبحتُ مُلِمّاً برموز زقزقاته المختلفة. كان الحراسُ يفاجأون حين نقول لهم: "يا لهذا المطر!" أو: "ما أخبار العاصفة؟".
استغرقني حفظ تلك التباينات الدقيقة في ذاكراتي، بضعة أشهر، وأصبحتُ أعلم مثلاً، أنه إذا نوَّع في تغريدة الصباح فذلك يعني أن أد الحراس غادر المعتقل مأذوناً.
ذات يوم، علَّقت على الأمر مخاطباً الحارسين اللذين كانا في الخدمة:
"لِمَ حصل الآخر على مأذونية وأنتما لا؟
- كيف تعلم ذلك؟
- إني أعلم وحسب".
حَسِبا أننا من الجن، وأننا أناسٌ لا تجوز عشرتهم، لأننا من أتباع الشيطان.
أصبح ثيبيبط أنيس عزلتي وصديقي. عندما يحط على إفريز كوة التهوئة في زنزانتي، أتنبَّه إلى وجوده على الفور، فأحدثه بصوتٍ خفيض برغم العتمة، إذ لا رغبة لي في استثارة غيرة عشّار. وأسترسل في سردِ ما فعلته خلال النهار، طالباً منه ألا يأتيني في مواقيت الصلاة. والغريب، أنه حين يتمكن من الدخول إلى الزنزانة ينتظر فراغي من الصلاة، فإذا سمع "السلام عليكم!" شرع في الزقزقة لأنه يدرك أني أنهيت صلاتي وأني سأُعنى به.
ذات يوم قال عشار الحسود:
"ما حكاية هذا العصفور؟ لِمَ يزورك أنت، ولا يزورني أنا؟ أنت درَّبته لكي لا يغرِّد لي! لِمَ هذا الاحتقار؟ ولِمَ هذا اللؤم؟ فأنا أستحق أيضاً أن
يغرِّد دوري لأيامي المتهرِّئة. أحتاج إلى عصفور خرائي يؤنسُ عُزْلَتي، وبؤسي. ماذا تطعمه لكي تستميله إليك؟ قُل ماذا تفعل؟
إهدأ يا عشار، قلتُ. هذا العصفور علامة من عند الله. إنه رسول الرجاءِ، لأجلي أنا الذي أهملتُ إيماني بالرجاء. جاء إليّ بمحض المصادفة. وربما ذات يوم سيحط في زنزانتك. لا تكن غيوراً من عصفور صغير. ألا تجد أن غيرتك سخيفة. عليك بالصلاة. أنا، من جهتي، أحصيتُ الأيام السابقة التي كان ينبغي أن أصلي فيها. عددها لا يُحصى. بين الخامسة عشرة والعشين من عمري تنكرتُ لإيماني وهجرتُ الصلاة. واليوم، أصلي إلى الله فرض الصلاة لستة أيام سابقة علاوة على فرض الصلاة لليوم الذي أكون فيه. إنه أشبه بدَيْن: أسدِّد متأخّراتي، وغفلاتي وضلالاتي. أقوم بجردة لما كنتُ عليه منذ زمن بعيد. ولستُ فخوراً بما كنته وأنا في العشرين! لذلك أؤمن بالله، وبمحمد وعيسى وموسى. أؤمن بأولوية الإيمان. أؤمن بالحاضر، لكني لا أمتلك ماضياً. كلُّ يوم يمضي هو يوم ميت، بلا أثر، بلا صوت، بلا لون. كل صباح أولدُ من جديد، حتى أراني، مثل ثيبيبط، دورياً مرهف الإحساس، رقيقاً وناجياً. إني أفهم لغة العصافير أكثر بكثير مما أفهم لغة البشر. ثيبيبط يسافر بي ويصحبني في هروبي إلى عالمي الروحاني. إن خفَّته وهشاشته وعذوبة تغريده، والفروق الطفيفة بين أنواع تغريده، تُسعفني كثيراً. بعد صلاة العشاء، حين يُجمد البرد أوصالي، ويعوِّقُ الألمُ ذراعي ويدي، وحين لا جدوى من الصراخ والاستغاثة، أتذكر تغريد ثيبيبط. أستعيده غيباً من الذاكرة، أستحضره تكراراً في ذهني إلى أن يصير الألم أقل إيلاماً. لهذا السبب يا عشار يأتي الدوري لزيارتي. هناك رابط بيننا. رابط بمتانة خيط حرير، بمتانة شعرة. هذا الرابط هو الشيء الوحيد الذي أتقبله من الخارج، لأني أعلم أن هذا العصفور قد خُلق من أجلي، وبُعث إليَّ بشفاعة يأس أو بمشيئة إلهية. عِم مساء، يا عشّار.
ومن حينه، صار عشّار يبذل كل ما بوسعه لكي يبقى متنبِّهاً. طلب مني أن أعلمه الصلوات الخمس، مسراً إليّ، بكثير من الخجل، أنه كان يذكر الله سائلاً عونه، عندما كان يُستدعى إلى خوض معركة.
ومع ذلك، لم يتخفف عشار من ضغينته وعجرفته.
-26-
في الفترة السابقة من حياتي، لم يكن نومي قَلِقاً وحسب، بل قلّما كنت أحلم. وخلال الأشهر الأولى من سجني جفاني النوم وهجرتني الأحلام. ولكن بعد أن قطعت صلتي بالماضي والأمل، صرتُ أنام نوماً اعتيادياً إلا في ليالي البرد الشديد التي ينبغي أن أبقى ساهراً فيها لكي لا أموت متجمداً. وعاودتني الأحلام. صارت ليالي زاخرة بأحلام بعضها يؤثِّر فيّ ويبقى محفوراً في ذاكرتي، وبعضها يترك أثراً محبباً إلا في ما ندر.
لم أكن المعتقل الوحيد الذي يزخر نومه بالأحلام، لكني ربما كنت الوحيد من بينهم الذي يحلم بالأنبياء الثلاثة.
مع موسى أخوض نقاشاً مطولاً ذات طابع سياسي. نقفُ وجهاً لوجه، هو على عرشه فيما أجلس أنا سوية الأرض. أقول له إن عدم المساواة بين الناس هو مصدر افتئات. وكان يصغي إليّ ولا يُخاطبني.
يسوع أيضاً، كان يلزم الصمت. يأتيني بين الحين والحين، باسطاً ذراعيه، حزين النظرات.
أمَّا محمد فلم أكن أُبصر وجهه، لكني أستشعر حضوره المشرق بالأنوار. كنتُ أسمع صوتاً جهورياً، قصيّاً، يتردد في رأسي، كأن حكيماً عجوزاً يهمس في أذني. وكان يردد ذكر الصبر:
أيها الكائن الذي مسَّه الضرُّ،
اعلم أن الصبر فضيلة من فضائل الإيمان،
واعلم أيضاً أنه هبة من الله.
أذكر النبي أيوب، الذي قاسى ما قاساه؛ أتى الله على ذكره لكي تتعظ، ويقول عنه إنه من الصالحين.
أيها المسلم، لست منسياً برغم الظلمات والأسوار.
إعلم أنْ الصبر هو سبيل الخلاص ومفتاحه. ففي آخر المطاف، أنت تعلم جيداً أن الله مع الصابرين!
على إثر تلك الأحلام كنتُ أشعر بصفاء السريرة. إذ تجعلني مطمئناً، وأجدني فيها على طريق الحق والعدالة. ولا حاجة لي إلى أنْ يكون قلبي مفعماً بالأمل. فاللهُ لم يتخلَّ عني. باستطاعة الموت أن يأتي متى يشاء؛ أما الألم، فأسعى إلى أن أراه تافهاً، أمراً ينبغي أن أتجاوزه. كان إيماني قوياً، راسخاً. كان معزولاً؛ أقصد خالصاً؛ يهبني قوة وإرادة لا أسعى في طلبهما. لم أكن أُطلع أحداً على أحلامي التي أرى فيها أنبياء؛ فهي ملكي وحدي. وفي المقابل كان حلم "آكل الكسكسي" يقلقني:
"عَدَدُنا كبير عند باب المسجد؛ جائعون، نرتدي أسمالاً. الطقس حار جداً. لا نجرؤ على دخول المسجد لأننا لا نحمل ماء من أجل الوضوء. الناسُ يمرّون بنا ولا يلتفتون. إذاً، لا أحد يكلمنا. ينهضُ أحدنا فجأة ويبتعدُ راكضاً. تتبعه أنظارنا، غير أن أمراً خفياً يُقعدنا عن الإتيان بأي حركة. بعد هنيهات يعود إلينا حاملاً طبقاً كبيراً من الكسكسي بالخضار السبع وبلحم الضان. يضعه على الأرض. نتحلق من حوله ونشرع في التهامه بأيدينا. هو يلبث على حدة. يبقى واقفاً، لا يأكل، لا يتكلَّم. يحدِّجنا بنظراته ويسيرُ القهقري".
في آخر الأمر صار للحلم معنى محدَّد: موت أحدنا. غير أني لم أكن الوحيد بيننا الذي يرى أحلاماً تنذر بالشؤم. أدركت ذلك في الصباح، عندما حكيت لهم حلمي فحكى آخرون أحلامهم أيضاً. كان واكرين يقول إنه من قبيل الشؤم أن نرى الذُرة في أحلامنا: "يرى نفسه على قارعة الطريق بقرب فلاح يشري أكواز ذرة. فيعطيه واحداً من دون أن يطلب مالاً في المقابل، قائلاً له: "خذ، كُلْ هذا، إنه زاد جيِّد لسفر الطريق". في اللحظة التي يغادره فيها مبتعداً، يلتقي شخصاً يعرفه، لكن الشخص يمر به من دون أن يلقي عليه التحية. إنه يعلم أن هذا الشخص سها عنه".
أما أحلام عباس فكانت أكثر وضوحاً: احتفال، ضحكات، نور، ضياء شمس مشرقة. وفي الوسط، قفص هائل مزدحم بالحمائم واليمام. يد بيضاء تهبط منا لسماء وتندس من بين قضبان القفص، وتقبض على حمامة؛ ثم تتلاشى في السحاب.
هذه الأحلام، تنذر كلّها، بشؤم وحيد. فتتسرَّبُ رائحة الموت وتغشو داخل المعتقل. تحوِّمُ، وترودُ حول بعض الزنزانات إلى أن تهتدي إلى إحداها. وفي الليل، تُطلق طيور الخَبَل صيحاتها المشؤومة، معلنة بلغتها: رحيل أحدنا. وكان غناؤها الجنائزي يدوم أحياناً خمسة عشر يوماً ولا يتوقف إلا بعد مراسم الدفن.
كنا، جميعاً، متنبهين إلى نُذُر الطيور. وحده عشار لا يدرك مغزاها فيزعق ويحقد علينا لأننا استبقنا هذا الإدراك. كنا نُخطر الحرَّاس بالأمر. إذ ينبغي أن يُهيَّأ جراب البلاستيك والكلس الحار. وينبغي حفر القبر. لكنهم غالباً كانوا يتذمرون ويقولون لنا:
"نحن حراس ولسنا حفاري قبور!
- الأمر ليس بيدي، أجيبهم قائلاً. أحلامنا خبرُها قاطع: هذا نذير موت. لا أدري بمن منا سوف يودي. أنا، من جهتي، مستعدٌّ له لكني لا أستشعره قريباً مني. وإذا زادت أوجاع عمودي الفقري عن حدها، فبإمكانكم أن تقتلوني، فبذلك تحررونني.
- أضغاث أحلام! لن نسديك هذه الخدمة ما حيينا! فهنا يُحظَّر إسداء الخدمات. هكذا تجري الأمور. والمفترض أنك تعلم ذلك منذ تشريفك المكان!
- لكننا في المحنة سواء.
- لا، أنت مخطئ. نحن جنود موالون وشرفاء، وإنه لشرف يغدقه علينا الجيش بتعييننا لأداء هذه المهمة.
- لكننا ننتمي إلى الأسرة نفسها!
- لا؟ على الإطلاق! إن تابعت مناكفتك لنا، أقتلْك!
- هيا، افعل!
- هيهات!".
وكنت أضحك بينما تثور أعصاب عشار لإحساسه بأنه مُستبعَد.
-27-
خلال فصل الشتاء كان الحراس يُصابون بالجنون لليلة واحدة على الأقل.
نكون نياماً حين يدلفون بمصابيحهم المضاءة وهراواتهم، مسلحين ببنادقهم الرشاشة. يبدون في ذروة توترهم العصبي، عازمين على إنهاء حالٍ متخيلة من الفوضى.
"ستكفّون عن افتعال الضوضاء والنخير كخنازير برية، والضحك كالجن. فإما تكفون عن ذلك وإما نطلق الجرذان".
كانوا يوقظوننا من النوم. نسألهم أن يتركونا وشأننا؛ نُقسِم إن أحداً منا لم يحكِ أو يضحك أو يصيح. عبثاً، فهم مقتنعون بأننا كنا نقيم احتفالاً أو نُعدُّ للثورة. وعندما يغادرون لا نتمالك أنفسنا من الضحك قائلين في سرنا: لقد جُنَّ جنونهم. وإذ ذاك كانوا يعودون وقد ازدادت عصبيتهم، ويضربون الأبواب بهراواتهم، ويتسببون بضوضاءٍ كبيرة:
"إذا كان الجن يسكنكم، وإذا كنتم تحالفتم مع الشيطان، فسنعرف كيف نسحقكم ونحطمكم. لذا أوقفوا هذه المسخرة".
لم تكن لدينا أية رغبة في أن نساجلهم أو أن نبرهن لهم على أن المعتقل ليست مسكوناً بالجن. فبرأيي أن الجن إذا وجدوا حقاً لاجتنبوا هذه الحفرة التي يسودها الشر.
في ليالِ أخرى، نسمع إطلاق أعيرة نارية. ويبلغنا، في ما بعد، أنه شُبِّه لهم أنهم رأوا خيالاً فأطلقوا النار عليه وفق نص اللوائح الذي يأمرهم بإطلاق النار على كل ما يتحرَّك.
كانوا يطلقون النار على الأشباح لا سيما في الليالي المقمرة، عندما تكون الأعصاب في ذروة تشنجها. وفي اليوم التالي يرفعون تقريرهم إلى القمندار الذي يرفعه بدوره إلى القيادة العليا في الرباط. إطلاق نار خطأ. التوتر العصبي لدى الحرّاس. الأثر المشؤوم لاكتمال القمر... إلخ. كان ذلك يُسلينا لكنه لا يجعل حياتنا هناك أخف وطأة. ويبدو عشار مغتبطاً، فيقول:
"بادرة حسنة. لسنا الوحيدين الذين تلح عليهم تهيؤات. هم أيضاً على وشك أن يصابوا بالجنون. أمر جيد لرفع معنوياتي".
ذات يوم، جاؤوا لرش أرضية المعتقل بمادة معقَّمة؛ وعاودوا الكرة بالبخور ظناً منهم أن البخور يطرد الجن. كنتُ أضحكُ في سري. كانوا يرددون عباراتٍ من قبيل: "أعوذ بالله من الذين آخوا الشيطان الذين طُعِموا بين يديه والذين يتطاير الشر من عيونهم! ليُبطل اللهُ القدير أعمال إبليس وأصحابه. ليمنحنا القوة والبصيرة لكي نقاوم شروره، وليأذن لنا بأن نحظى بمأذونية، في أسرع وقت، لكي ننسى الجنون المحدق بنا في هذه الأرض المغضوب عليها إلى أبدِ الآبدين!".
وكنتُ أتلو بدوري عبارات من قبيل مختلف: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
وكانوا يرددوا من بعدي، فيما الأستاذ غربي تلو آيات القرآن. كانت التلاوة تخيفهم فيغادرون المعتقل مسرعين مدركين أنهم تعرضوا لسخريتنا. علمت في ما بعد أنها كنت مبادرة منهم، وهي المبادرة الوحيدة التي تجرأوا عليها خلال ثمانية عشر عاماً من الاعتقال، ولم يكن القمندار على علمٍ بما حصل. فهو لم يكن يطأ أرض المعتقل على
الإطلاق، لكنه يعلم بدقة ماذا يجري فيه. في البداية كنا نتوسل إلى الحراس إذا مرض أحدنا أن يخطروا القمندار. وإذ تجرأ أحدهم على إخطاره مثلاً: "بأن الرقم "6" مريض جداً"، كان يزعق قائلاً: "إياكم أن تأتوا إليّ لتخبروني أن فلاناً مريض. لا تأتوا إلا لتعلموني أنه مات، لكي تصح حساباتي. مفهوم؟ لا أريد، من الآن فصاعداً، أن أسمع عبارة (مريض). هيا، انصرفوا!".
كان القمندار الذي لا يظهر أبداً بمثابة لغز. ذات يوم، زعم عشار، للفت انتباهنا، أنه عرفه في ما مضى. ومن دون أن نتعمد تكذيبه، قررنا أن نصفه، أو على الأقل أن نقول كيف تخيلناه:
"قصير القامة، سمين ودميم.
- له شاربان، علامة الرجولة.
- رائحة أنفاسه كريهة.
- أمي، لا يجيد إلا قراءة التقارير الموجزة المتشابهة، وكتابتها.
- نحيل، قوي البنية، مجدور الوجه، غائر المحجرين، كآبي النظرة.
- لابد من أنه مصاب بعاهة جسدية.
- لا أسرة له.
- ينام بلا مشقة.
- لا يرتشي.
- منضبط ولا يأكل ثمار البحر.
- مطيع مثل كلب، مدرب على القتل، على الذبح، على شرب الدماء والتهام أكباد ضحاياه.
- لا يساوره شك قط.
- لكي يعتور الشك واحدنا، يجب أن يفكر، أما هو فلا يفكر قط!
- لابد من أنه مصاب بمرض عضال.
- لابد من أن أو فقير مثاله".
تدخل عشّار قائلاً:
"إنه كلُّ ما ذكرتم بالإضافة إلى أمرٍ لم يخطر ببالكم. إنه آكل لحوم بشر. يهوى أن يأكل لحماً بشرياً. شرِه، ويعشق الغلمان. ولم يكن نقله إلى هنا إلا بدافع إبعاده عن الرباط ومعاقبته. لكنه لا يرى في الأمر عقاباً بل تكريم أن يفرض على الآخرين طاعة رؤسائه. يهوى الطاعة، ويفرط، دائماً، في طاعته. إن صادفته في الطريق فلن تلحظه.
- أنت محق يا عشار، فالوحوش لا تحمل في محياها سيماء الفظاعات التي قد ترتكبها. ولابد من أن القمندار جندي مخلص في خدمة الجيش وفي خدمة قادته".
سيبلغني في ما بعد أن القمندار كان نتاجاً خالصاً وفظاً لتربيته للجيش الفرنسي الكولونيالي، جيش الهند الصينية، ذاك الذي خدم في الغرب بقيادة الجنرال بواييه دولا تور الذي أسماه البربر "موحا أو لاثور"، والذي لفته أوفقير، شاباً، ودرَّبه وأدخله البلاط.
كان القمندار مجايلاً لأوفقير. هو أيضاً كان ضابطاً برتبة ملازم أول في الجيش الفرنسي. تدرَّج في الترقية وأُلحق بالقوات المسلحة الملكية. وكان مدرباً في الأكاديمية. لم يكن اختياره لإمرة المعتقل عشوائياً، فقد أدى خدمات موصوفة للجيش والدرك. كان قاتلاً صموتاً وهادئاً.
هناك من هم على غرار القمندار في أنحاء العالم كله. إنهم رجال لهم وجوه بشرية لكن أجسادهم وأرواحهم أُفرغت، بعناية ودُربة، من كل طابع إنساني. إنهم غريبون عما هو بشري فيهم، على غرار الذين يقررون أن يفقدوا دماءهم، بلا تردد، بلا شُبهة سؤال.
كان القمندار مقيماً على دَوْره ويحياه بتلقائية وببساطة مفزعين. كان
منسجماً مع دَوْرِ مَنْ سيكون وسيطاً للموت الذي يحل بطيئاً ومحسوباً، ولعذابات مدروسة بإتقان. لم يكن غير ذلك؛ مندمجاً بالمهمة والإرادة اللتين أنيطتا به، مفعماً بالقيح، متورِّم الأحشاء بحقدٍ آلي، مغشي العين بالدم الأصفر للانصياع.
كان القمندار يحسب نفسه القمندار، يتخفى، يتلاعب بأعصاب الناجين، يزعق وحيداً مثل ضبع مسعور. لقد كان ذلك لوحش في حد ذاته، حفرة سحيقة.
لم أكن أفكر فيه قَطَّ.
-28-
إذا كنتُ أفلحت في طرد تلك الشخصية من تفكيري، وأفلحت في مقاومة الإحباط، وإذا ارتضيتُ أن أخوض الصراع ضد نفسي، ضد القمندار وأشباحه، فقد كنتُ أسأل نفسي أحياناً عن مصدر الحيوية التي يستقوي بها جسمي وروحي.
لم يكن الألم هو الذي أشار عليَّ بالطريق التي أسلكها، بل أنا، ذاتي، قبل أي ألم. وبصرف النظر عن أي ألم، كان ينبغي أن أنتصر على شكوكي، ومكامن ضعفي، خصوصاً الأوهام التي يغذيها كل كائن بشري. كيف أمكنني ذلك؟ أن أجعلها تخبو في أعماقي؛ إذ أقلعت عن الاطمئنان إلى الصور التي تزيِّف الواقع؛ فالضعف يكمن في أن تؤخذ المشاعر على أنها الواقع؛ في أن تصبح متواطئاً مع كذبة تنطلق من ذاتك لترتد إلى ذاتك، فتحسب أنك، بذلك، خطوت خطوة إلى الأمام.
والحال أنك إذا شئت أن تسير قُدُماً في تلك الصحراء، فلابد لك من الانعتاق من كل شيء، وأن تدرك أن الفكرة وحدها التي تنعتق من كل شيء، كفيلة بأن تُفضي بك إلى لطائف الدعة التي قد يكون اسمها الوَجْد.
الرقم "5"، عبد الملك، كان فتى شجاعاً. لم يشْكُ يوماً. وكان عشار يزعجه ويحسده على صفاء سريرته:
"يا عبد الملك، ألا تتألم قط؟! تريد أن توهمنا أنك رجل خارق مثل جاري في الزنزانة المقابلة. لكني أعتقد أنك تخفي لعبتك. فبصمتك
هذا، تخوننا، تخل بالمجموعة. الجميع مرضى؛ لا أحد منا بصحف جيدة. ألست وحدك من لا يُكابد؟ أنت تهزأ بنا!".
أمهلته قليلاً ولكن، بعد ذلك، كان عليّ أن أتدخل قائلاً:
"عشار، اسكت، دَعْه وشأنه. احترم موقفه.
- طبعاً، لأنك مثله. أنت أيضاً، تتظاهر بعزة النفس، بأنك طرزان المرحلة. إني أدرك لعبتك جيداً. لستُ غبياً.
- كفَّ يا عشار وإلا عزلناك.
- لا! إلا العزلة! فمن شأنها أن تهلكني. لكنْ، أرجوك، قل لصديقك أن يكلمني ولو قليلاً.
- ليس لي أن أطلب منه ذلك. فلو أراد أن يتكلم لفعل. وإذا لزم الصمت فلأن لديه أسبابه.
- أوكي، سأصمت! هل رضيت ...؟ لكني ضجران! ماذا تفعل لكي تدفع عنك السأم؟
- أفكر، أصلي، أتلو في سري سوراً من القرآن، أبحث عن حكاياتٍ أرويها لكم. هذا كل ما أفعله".
بعد هنيهات من السكوت، يردف قائلاً:
"هل بإمكانك أن تساعدني على تلاوة سورة البقرة؟
- في ما بعد، الآن موعد درس الإنكليزية، وفؤاد هو مدرِّسنا".
كان عبد الملك قد توقَّف عن المشاركة في نشاطاتنا. كان غائباً؛ وكنتُ قلقاً لما آل إليه، ولكني لا أجرؤ على إزعاجه.
لاحظ الحراس أنه توقف عن تناول الطعام غير أنه كان حريصاً على الاحتفاظ بالخبز. خاط جراباً من بطانيتيه الـ 1936 وجمع الخبز فيه. كان يترك الخبز في الجراب حتى يجف فيفتّه كسراً ويسحقها بكعبيه ثم
يبللها بالماء ويبتلعها. كانت ذلك طعامه اليومي. يأكل فتات الخبز اليابس الذي حفظه أياماً في قعرِ جرابه.
كان في ذلك قد اختار وسيلته للموت وما كنا ندري. حين أناديه كان يقول إن الأمور على خير ما يُرام وإن الخلاص وشيك. فأمازحه بسؤاله إذا كان قد عثر على طريقة للفرار.
"أجل، لكنهم، هذه المرة، لن يقبضوا عليَّ".
الواقع، أنه، في البداية، كان الوحيد بيننا الذي حاول الفرار. ذات صباح، في الفترة التي فتح فيها الحارسان باب زنزانته لكي يضعا الخبز والقهوة، باغتهما بخروجه بعد أن أوقعهما أرضاً، ومعهما قِدْر القهوة، مغتنماً فرصة تركهما باب المعتقل مفتوحاً، وفر راكضاً. لحقا به صائحين وتمكنا من إيقافه وسط الفِناء، وانهالا عليه ضرباً شاتمين:
"أيها الوغد! لقد كدت تتسبب بمقتلنا! ما الذي صنعناه بك لكي تضعنا في مثل هذا الموقف؟ لقد أسعفنا الحظ. فالحرسُ في المراقبِ لديهم أوامر صريحة بإطلاق النار على كل ما يتحرك".
عندما أعاداه إلى زنزانته حرصاً على وعظنا قائلين:
"حاولوا أن تخرجوا وسوف تُقتلون، ونُقتل معكم!".
أدى فشل المحاولة إلى ردعنا عن أي محاولة مماثلة. ولم ينجُ عبد الملك منها؛ فقد توفي جراء آلام مبرحة دامت بضعة أيام. بعد أن تولى الحراس نقل جثته احتفظتُ بملابسه وبطانيته وجرابه الذي كان لا يزال محشواً بالخبز. عندما فتحته أمام أحد الحراس الذي أسعفني بإشعال مصباحه، صعقتُ: لقد كان الجراب يحتوي على صراصير أكثر من الخبز، وبيوضها تخالط الفتات. لم يكن عبد الملك البائس، قادراً على تمييز ما يأكل. لقد مات مسموماً بتناوله الآلاف من بيوض الصراصير.
موت عبد الملك كان بالغ الأثر على عشار، إذ شعر بالأسى لأنه لم يكف عن إزعاجه طوال الأسابيع التي سبقت وفاته.
-29-
كريم، بندولنا الناطق، روزنامتنا، دليلنا في عتماتنا، كان يزداد تعباً. صار ينبئنا في أي سنة نحن وفي أي شهر، لكنه يغفل اليوم والساعة. لقد اضطرب سير الآلة، ووهنت الذاكرة. كنتُ أعرف الساعة على نحو تقريبي، ومن دون أن أصارح أحداً، حللتُ محلَّه.
ثلاث عشرة سنة انقضت على إقامتنا في ذلك المعتقل. أكثر من نصف عديدنا قضى فيه. الحراس لا يُستبدلون بسواهم، كأنهم أُلحقوا لخدمتنا مدى الحياة. غالباً ما تكون العصافير هناك. بعضها يصدح مغرداً، وبعضها الآخر ينبئنا بالتحركات في الفناء أو بأحوال الطقس.
روتين ما كان قد أضحى سارياً في الجحيم. في معظم الأحيان يكون الحراسُ في مزاج سيء. بعضهم يشكو من الوحدة. ثم لاحظتُ أن الرقيب مفاضل، الحارس الأعلى رتبة، يتوقف بين الفينة والفينة عند الزنزانة إلى يسار زنزانتي، حيث واكرين، ويصرف وقتاً في التحدث إليه بالبربرية. يتناولان أحاديث عادية. ذات يوم، راح مفاضل يتحدث إليه بصوت خفيض. راحا يتهامسان. لم أقل شيئاً، لكني خلصتُ إلى أنهما من البلدة نفسها. وسوف يبلغني في ما بعد أنهما ليسا فقط نسيبين بالمصاهرة، بل إن عائلتيهما ارتبطتا بعَهْدٍ يسمى، لدى البربر، "تاتا"، ولم يتح لي، يوماً، أن أعرف ما أصل هذه الكلمة. كان محاربو الهند الصينية
القُدامى يستخدمونها في الثكنة للتدليل على كوخ مُستدير كان الجنود يُحتجزون فيه، تأديبياً، لبضع ساعات.
لكن التسمية هنا تعني شيئاً آخر كلياً: لأسباب معقدة تُعلن عائلة ما عهْدَ الولاء لعائلة أو قبيلة أخرى، وتضع نفسها تحت حمايتها، لا بل تحت رعايتها، فتشتد الأواصر حتى تكتسب طابعاً مقدساً. فمثل هذا الولاء يفرض دعماً معنوياً ومؤازرة مادية وتضامناً غير مشروط مع أفراد العائلة التي تعرف بأنها "تاتا".
لا أدري كيف يتعارفون في ما بينهم. فواكرين ومفاضل أمضيا سنواتٍ قبل أن يكتشفا أنهما خاضعان لروابط "تاتا".
بمضي بضعة أسابيع، سمعتُ واكرين يطرق مرتين الجدار الفاصل بين زنزانتينا. وقال لي:
"أبإمكانك أن تكتب رسالة لزوجتي؟
دُهشتُ.
"رسالة؟ ألديك ما تحتاج إليه؛ قلمٌ وورقة؟
- سأحصل قريباً على ما أحتاج إليه. أعتقد أن هناك إمكانية لإيصال رسالة إلى زوجتي. الأمر ليس مؤكداً بعْدُ.
- كيف ستحصل على ورقةٍ وقلم؟ أنت تعلم جيداً أنها أشياء ثمينة جداً ويُحظر تماماً وجودُها في الحفرة.
- إسمع، سأشرح لك في ما بعد. أما الآن فأخبرني إذا كنت موافقاً على إسدائي هذه الخدمة. أنت تعلم أني نسيت حروف الهجاء. أصبحت عاجزاً عن القراءة. إنه مرضي. أما أنتَ فقد حافظت على ذهنك سليماً. ما عدتُ أذكر الكلمات.
- بالتأكيد، ولكن توَخِّ الحذر.
- طبعاً. مفاضل ابن عمي؛ لنَقُل ليس تماماً ابن عمي. إن زوجتي
هي ابنة عم زوجته. أحسب أن هناك عهْداً ما بين أسرتينا. ذات يوم سأشرح لك طبيعة هذا العهْد. لا يحق له أن يتكلم، لكني أظن أنه سيوافق على حمل رسالتي. ولكي يتم ذلك ينبغي انتظار موعد مأذونيته وخصوصاً تغيير الحارس الذي يفتش المأذونين".
هكذا انتهز واكرين، بعد ثلاثة أشهر من الانتظار والأحاديث المشبوهة والمخاطر، لحظاتٍ كان فيها باب زنزانته مفتوحاً، لكي يدس من تحت بابي قصاصة ورق وأرومة قلم، فمددت يدي والتقطتهما خلسة. كانت فرحتي عارمة، وحماستي لا توصف، فحاولت جاهداً ألا أظهرهما. أمسكتُ القلم ووضعته على شفتي. بلى، قبِّلتُ أرومة الخشب تلك، ذات اللبُّ الرصاصي. ثم أمسكت الورقة بعناية. كانت خشنة، ولكن ما شأني بنوعية تلك القصاصة التي لم أكد ألمسها حتى صارت تعني بصيصاً من النور في ظلمتنا.
في البداية شرعتُ أكتب بذهني. كيف أبدأ؟ هل ينبغي أن أستخدم رموزاً أم ينبغي أن أسرد الوقائع كما هي؟ وكنتُ أشطب ما كتبتُ بذهني، ثم أعاود الكرة. وكان واكرين يستعجلني:
"أخبر زوجتي أنني على قيد الحياة وقل لها أن تعطي مفاضل بعض العقاقير.
- أجل، ولكن ينبغي أن نستغل الفرصة لإطلاع العوائل الأخرى على مصيرنا...
- إني أثق بك. ولكن لا تنس أن مفاضل يعرِّض نفسه لمخاطر جمة! أكتب أشياء اعتيادية".
هكذا، بعد أربعة أيام من التأمل، قصَصْتُ الورقة إلى نصفين، وكتبتُ جُملتين:
إني بخير. نحن في تزمامارت. لا نور. أعطي مفاضل مسكنات للأوجاع. واكرين.
منذ تلك اللحظة، بدا أن قصاصة الورق تلك، ستجعل حياتنا عرضة لانقلابات حاسمة. من جهتي، لم أكن راغباً في الكتابة لأحد، بما أني قررت، منذ البداية، أن لا خطيبة لي ولا أسرة.
كانت ستمضي خمس سنوات أخرى، خمس سنوات من الشك يلوح فيها الأمل مجدداً، مقوَّضاً ما اتبعته بعد جهدٍ. لذا كان عليَّ أن أتنكر لذاك الأمل، وأن أحيا في الجحيم مصارعاً ضد الموت بما امتلكته يداي من وسائل، أي بالإرادة والقوة الروحانية.
حمل مفاضل قصاصة الورق إلى زوجة واكرين من دون أن يقول لها شيئاً. وبما أنها لا تجيد القراءة أطْلَعَت عليها أم صاحبة صيدلية كان شقيقها في عداد المفقودين. وعلى هذا النحو علم بالأمر الشقيق الأصغر للرقم "18"، عمر، الذي يتابع دراسته في فرنسا، وتلقى مفاضل من صاحبه الصيدلية بعض العقاقير، خصوصاً المسكنات ومضادات الإلتهاب، بالإضافة إلى مبلغ من المال.
أدركت على الفور أن مفاضل، وإن كن دافعه هو التضامن القبلي، قد قَبِلَ الرشوة عندما جاء، بعد أشهر قليلة، لتفقد واكرين، وسأله إذا كان محتاجاً إلى عقاقير. فالفسادُ يجترح المعجزات حتى في الجحيم! وللمرة الأولى رأيت في الفساد بعض الحسنات! فمن كان ليحسب أن الفساد سيُسهم في إنقاذ نفرٍ من الناس! بضع قصاصات أخرى تسربت من المعتقل وكان مفاضل يثرى. شقيق عمر اتصل بكريستين، وهي امرأة غير اعتيادية، ناشطة في سبيل حقوق الإنسان، مقاومة وشديدة الحماسة، وستكرَّس أعواماً من جهدها وحياتها لفضح حقيقة المعتقل والسعي
لإطلاق سراحنا. لم تكن تعرف أياً منا وكانت تُعنى بمصيرنا كأننا، جميعاً، إخوتها. أقامت الأرض وأقعدها لكي يُفتضح اعتقالنا أمام العالم بأسره، كما فعلت في السابق من أجل زوجها الذي اعتقل، بسبب آرائه، في سجن القنيطرة. والمفارقة أن القمندار لم يأتِ إلى جناحنا للتحقيق في مصدر التسريبات. والأرجح أن شكوكه اقتصرت على نزلاء المعتقل "أ" حيث الأنظمة المرعية أقل تشدداً. ومن الممكن، في المحصلة، أن لا تكون السلطات محرجة حقاً حيال شيوع تلك المعلومان. بل على الضد من ذلك، فقد يكون من مصلحتها أن يتم تداولها لكي ترسخ مشاعر الخوف في النفوس، وتقيم شكلاً من أشكال الإرهاب المقنَّع. حتى مفاضل، فقد يكون دُسّ به دساً لتنظيم تلك التسريبات الأولية. وإلا، فلمَ انتظر خمسة عشر عاماً لكي يُظهر تعاطفه هذا؟
حين شرعت الصحافة تكتب عن تزمامارت، بدأ مفاضل يشعر بالخوف، أصبح لئيماً ويجتنب التحدث إلينا. وإذا مر بباب واكرين بصق مبرطماً بشتيمة باللغة البربرية.
لم يكن بمستطاع أحد أن يتصدى للخبر الذي صار شائعاً في الخارج. وبلغني في ما بعد أن كريستين اتصلت بمنظمة العفو الدولية وبصحافيين نافذين؛ فلم يعد مصيرنا رهناً بمشيئة القمندار وحده، بل أيضاً بموقف الرأي العام العالمي.
في تلك الأثناء، كان الرجال يموتون. كأن الأمل بالحرية قد أفضى إلى مفارقة.
-30-
ما زلت إلى اليوم أخجل مما جرى ليلة 23 نيسان 1987. كنت فقدتُ السيطرة على نفسي، وأصبحتُ بدوري نهباً للمزاج السيء والغضب وثورة الأعصاب. وتوقفت منذ يومين عن أداء صلواتي، وفقدتُ الرغبة في التأمل والهروب على درب الحجر الأسود. كانت لي، أنا أيضاً، مكامن ضعفي التي حاولت أن أخفيها أو أن أتخطاها. وأفلحتُ في مسعاي ذاك، حتى تمكنتُ تقريباً من تحمل الألم الجسدي، ذاك الذي يقصف عمودي الفقري ويُقفَّع يديّ. كنتُ فقدت الرغبة في النهوض كل صباح بذريعة أن الستائر أُسدِلت إلى الأبد وأن نسيجها من الإسمنت الذي صارت له ثنيات. فقدتُ الرغبة في النهوض مطأطئ الرأس، وحالي هي حال من لا ينتظر شيئاً فاعتاد هذا اللاشيء الذي ينضح من الأحجار برغم الرسائل التي كنتُ أكتبها خدمة لواكرين.
ربما انتقلت إليَّ عدوى الأمل الذي يرودُ بجوار واكرين وبعض الآخرين؟ ذاك أني، للمرة الأولى، رحتُ أتخيل لحظة إطلاق سراحي. وللمرة الأولى عاودت التفكير في الشمس؛ وتراءت لي مجدداً أنوار طفولتي. والذكريات التي قطعت صلتي بها، انبثقت مجدداً. فرأيت أمي متجلببة بالأبيض، باسطة لي ذراعيها لتضمني إلى صدرها طويلاً. بكت، وأنا أيضاً بكيت.
كان كل ما بنيته طوال خمس عشرة سنة ينهار ببطء. وكان عليَّ أن أحول دون ذلك بسرعة وأن أستأنف رياضاتي الذهنية لكي أستعيد مكاني.
في تلك الفترة بالذات زُيِّنَ لـ لحسين الذي أقام لسنتين في زنزانة مجاورة لزنزانتي في سجن القنيطرة، ولسوء طالعه، أن يستفزني. لِمَ اختار تلك الليلة بالذات، ليلة الشك والضعف، لكي يتعمد إيذائي؟
"يا ابن البهلوان، لست سوى ابن زنا، لست من صلب والدك، لأنك لو كنت حقاً من صلبه لما أنكرك علانية، وأسلمك للجحيم ناعتاً إياك بالنعوت الأشد والأدهى؟ أجبني، أيها الدعيّ!".
كان ينبغي ألا أردُّ عليه وألا أُستدرج إلى مشاجرة لفظية لا تُحمد عقباها. لقد أراد أن يجرحني، أن يصيب الموضع الموجع فيِّ. حتى لو تمكنت من تخطي نقمتي على أبي، ونسيانه والعيش كأنني يتيم الأب، فقد وجدتني في تلك الليلة في حالٍ من الضعف الشديد. كنت قد عدت إلى طبيعتي مثل الآخرين، وصرت قابلاً للأذية، متعباً ومحطماً. أردت، أنا أيضاً، أن أجرحه. فتذكرت أننا عندما كنا في القنيطرة، تم نقله إلى المستشفى لإصابته بعوارض الذبحة الصدرية. فأبقاه الطبيب قيد الملاحظة وبدا ودوداً معه بحيث أنه عرض عليه أن يسمح لزوجته بزيارته. في ذلك الوقت، كنا ما زلنا سجناء عاديين نقضي عقوبة العشرة أعوام ونتلقى المعاملة التي يتلقاها السجناء العاديون. تلقى زيارة زوجته وتضاجعا خلالها. كان روى لي ما جرى آنذاك مراراً وتكراراً وأسرّ إليّ بأنه كان يستمنى كلما راودته ذكرى تلك اللحظات. وكانت ثمرة تلك الزيارة مولوداً. بلغه النبأ عشية نقلنا إلى تزمامارت، فراح يقفز من الفرح. أجريت حساباً بسيطاً فتبين لي أن الولادة جرت بمضي تسعة أشهر وعشرة أيام على زيارة السجن. لكني لم أنبس بكلمة وحسبت أن الطفل قد وُلد قبل المعد الذي أعلن عنه. وبرغم ذلك، لجأت إلى التشكيك لأرد على تهجُّمه في تلك الليلة التي لم أكن فيها نفسي.
"حسناً، إذا كان الأمر يرضيك؛ أنا ابن زنا! وأنت ابن عائلة طيبة النسب؛ أبوك هو، حقاً، أبوك، وليس عندي أدنى شك في ذلك. ولكن
هل أنت واثق من أن ابنك من صلبك؟ تذكر جيداً أن زوجتك قد وضعت المولود بعد تسعة أشهر وعشرة أيام! لم تكن ولادة مبكرة! ممن أنجبته؟ هناك من مر بها من بعدك. آسف يا لحسين، ولكنك أجبرتني على القول..
- يا وغد! أنت تعلم جيداً أن زوجتي من أسرة طيبة وأنها تحبني، فلِمَ تلفق هذه القصة؟
- هذا ليس تلفيقاً، أنت أخبرتني كل شيء. تذكر حتى أنك راودك شك ثم بددته بإيماءة من ظاهر يدك عازماً على أن تسميه "مبروك"!
- أبوك قوّاد!
- مثل هذا الأمر لا يعنيني. أما أنت، فأنت ممسحة جنفاص. في الأكاديمية كان النقيب يحتقرك ولم تكن تفعل شيئاً.
- كنتُ أطيع الأوامر!
- كيف لتلميذ ضابط أن يقبل بالقيام بكل مشتريات زوجة النقيب، قائده؟ فمثل هذا الأمر يقوم به جندي نفر. أليس لديك أي إحساس بالكرامة!
- وأنت أيها البائس! لقد توسَّط والدك من أجلك لكي تحظى بالترقية إلى رتبة ملازم أول، لكنك بقيت مؤهلاً، لأنك عاجز ..
- تباً للترقيات والرتب. اسأل نفسك لِم سمح الطبيب الودود لزوجتك بأن تزورك. ألسوادِ عينيكَ؟
- زوجتي شريفة وسوف ترى أنها ستكون في انتظاري عندما أغادر المعتقل. أما أنت فلن ينتظرك أحد بعد خروجك! أنت ابن لا شيء، ابن لا مكان، ابن الزنا ...
- زوج مخدوع!
- مأجور!
- فاسد!
- لوطي!
- حسود!
- حمار!
- مُستمنٍ، جالدُ عميرة!
- ابن خطيئة!".
تابعنا تبادل الشتائم طوال الليل. فانهار هو أولاً، وجعل يبكي. وكنت أنا أيضاً أود أن أجهش بالبكاء، لشدة خجلي من نفسي، ولشدة تعبي وسخطي حيال الأذى الذي سببته لـ لحسين التعيس. كنت أشعر بأني مذنب لأنه كان أكثر هشاشة مني بكثير. ومهما حاولت على الأثر أن أعتذر، أن أطلعه على أمور مُطَمْئِنة حتى بلغ بي الأمر حد الكذب عندما أقسمت له إن أختي الصغرى تأخرت ولادتها ثلاثة أسابيع عن الموعد المرتقب... ولكن عبثاً، كان لحسين قد تحطم كلياً. لقد أجهزت عليه شتائمي. أما تلك التي رماني بها فهي لم تكن لتمسني حقاً. رحت أفكر مجدداً في أبي وفي ما صنعه. أتخيّله عند قدمي الملك مجدداً، متنكراً للابن العقوق الذي خانه وجعل علاقته بالعاهل على قدر من العُسر. راح لحسين يهذي. وطوال أشهر لم يخاطب أحداً. كان ينادي مبروكة، زوجته، ليل نهار. وعندما نرفع أصواتنا بتلاوة القرآن، كان يردد متعتِعاً، لكي يفسد تناغم التلاوة. أضحى سيء الطباع مستسلماً لموتٍ بطيء. لما أحضر مفاضل بعض العقاقير رجوته أن يأذن لي بتمضية بضع ساعات إلى جانب لحسين في زنزانته. كان ذلك في شهر أيار.
طوَّقته بذراعي وأعطيته الأسبيرين. كان هزيلاً جداً، وكان يبكي.
"سامحني. فأنت تعلم جيداً أن الرجل الذي خاطبك ليلة 23 نيسان 1987، لم يكن أنا. إنه الشيطان بعد أن تلبسني، وتملك أفكاري الشريرة وانتحل صوتي، وسعى جاهداً في إيذائك. أنا نفسي تعذبت وما زلتُ إلى
اليوم. سوف نخرج جميعاً من هذا المكان، فاصمد. زوجتك وابنك ينتظران رجوعك فلا تخيب أملهما. خذ، تجرع هذه العقاقير، يجب أن تغذي نفسك، واستذكر دائماً يا لحسين، صداقتنا في الأكاديمية، وتضامننا في القنيطرة، وحتى هنا. نحن على متن زورق واحد. يجب أن تصمد. أرجوك، لا ترحل، لن أتحمل تخليك عنَّا، هذا الأهم، لقد شارفنا على الوصول! أتُبصر ما أُبصر؟ أخبرني، أرجوك، افتح عينيك، افرد حواسَّك، أمك وزوجتُك وابنك يحضرون لك دورق بخور؛ إنهم يستعدون لاستقبالك. لقد طلوا البيت بالأبيض. الجميع ينتظرك. قل لي، أود أن أصحبك، أن أرافقك إلى ذلك الاحتفال. أنت تدعوني إليه، أليس كذلك؟ بعد ذلك سنذهب معاً إلى مكة. أقسم لك إني سأصطحبك، وليس عليك إلا أن تقبل بذلك. إني أدعوك إلى الرحلة. سنستقل الطائرة. نتوقف في القاهرة حيث سنذهب لزيارة الأهرامات، وسأصحبك إلى المقهى الذي يرتاده نجيب محفوظ، وسوف نلتقط صوراً لنا بصحبته، ثم نؤدي فريضة الحج بشروطٍ مريحة. لا تعب، ولا حرمان. أصمد".
مسح دموعه بمشقة بالغة، وتمكن من التلفُّظ بالكلمات التالية:
"هذا صحيح، لا يمكن أن يكون ابني قد جاء من صلبي. إني واثق من ذلك. أنت على حق.
- ولكن لا، لا ، لا ! كان المقصود فقط أن أؤذيك. ولم أكن مقتنعاً بما قلت. لحسين، أرجوك، أتوسَّل إليك، سامحني. لقد لفقت هذه القصة لأرد على استفزازك. ابنك هو من صلبك. إنه ينتظرك، لا تخيب أمله. يجب أن تغادر هذا المكان، وسوف ترى، حين تغادر هذا المكان سوف تنسى كل هذا".
أجهشتُ بالبكاء. لحسين أسلم الروح بين ذراعي. ضممتُه بقوةٍ وتلوتُ آياتٍ من القرآن. أدرك الأستاذ أن لحسين توفي فصاحب تلاوتي بصوته الشجيّ.
-31-
لقد حدَث لي، أنا أيضاً، أن فكرتُ، على غرار شخصية كامو، "إنهم لو احتجزوني ... لا... لو جعلوني أحيا في جذع شجرةٍ يابس. ... شجرة معمرة، تلك التي يقيم فيها موحا ...، ولا شاغل لي إلا أن أراقب زهرة السماء فوق رأسي، لاعتدتُ الأمر شيئاً فشيئاً..". ولشهدتُ تحويم الدواري ... لا ... المسألة مسألة عصافير وغيوم وربطات عنق ... كل شيء يختلط في رأسي. غير أني أعلم أن زهرة السماء لا يمكن إلا أن تكون ثيبيبط، عصفور طفولتي، وأن الشجرة اليابسة هي كتلة حجر رطب، طنٌّ من الإسنت والرمل يُنسيني السماء.
أكثر من أي وقت مضى، شعرت بأن العودة إلى الإيمان ضرورية. وكنتُ ألبث غارقاً في التأمل بعد أداء الصلاة. لقد أثر فيّ موت لحسين تأثيراً بالغاً. كان يأتيني في أحلامي، أراه في مرجةٍ، سعيداً، محاطاً بعدد من الأولاد، وزوجته بقربه. كان يقضم تفاحاتٍ حُمراً. حالما أستيقظ أسألُ في سري عما يعني ما رأيته في الحلم. الميت السعيد. لابد من أن أكون أنا الذي يضنيه تأنيب الضمير إلى حد أبذلُ معه حياتي لكي غفر لي لحسين. لذتُ مجدداً بملاكي الحارسين اللذين قررتُ أن أسميهما: علي وعليلي. ولشدة استغراقي في الصلاة كنتُ أستدعيهما وأتحدث إليهما:
"ما دمتما هنا، فهذا يعني أن الله لا يشاء أن يتخلى عني. وسوف أعلم، ما دمتما ماثلين أمامي، أني لم أهزم". يقفان هناك صامتين. وكنت
أردِّد ذكر الله. أردد كل أسمائه التي أعرفها. أذكرها تكراراً، مشدداً على الرحمن الرحيم، العليم، القدير. ولم يكن عشار ليطمئن إلى سماعي هامساً، لظنه أني بذلك أتدبر مؤامرة ضده. فيسألني ماذا أقول ويقطع عليّ دعائي. فأعلي نبرة صوتي لأفهمه أنه يزعجني؛ فيسترسل بدوره في تلاوة الصلوات، لكنه لعدم معرفته بالنص، يتأتئ ثم يتوقف عن التلاوة طالباً مساعدتي. وكان الأستاذ يتدخل في الوقت المناسب، لحسن الحظ، ليصحح له التلاوة.
كنت مستغرقاً في صلاتي عندما طرق مفاضل بهراوته باب زنزانتي. لم يكن قد حان ميقات الطعام بعد. فتح الباب ورمى علبة من العقاقير تحتوي شريطين كاملين. وفتح باب عشار وقال له:
"هذا شريط أقراص مُسكنة. أذكر ذلك جيداً، إني أنقذ حياتك".
فقال عشار حاسداً:
"ولم أعطيت الآخر؟
- لأنه يستحق أن يُطى، أيها الأبله!
- أجل، ولكني طلبتها منذ زمن بعيد.
- وما الفرق؟ إن سمعتُ زعيقك أستعِدْها منك.
- لا، لا، كانت ملاحظة، مجرد ملاحظة".
في ذلك اليوم بالذات شعرتُ برغبةٍ في ضربِ عشار.
كان الحراس قد فتحوا كل الزنزانات ومنحونا بضع دقائق لكي يزور بعضنا بعضاً برغم الظلام. كان بصيص خافت من الضوء ينسربُ من باب المدخل. ولسبب نجهله جميعاً ارتمى عشار على واكرين وراح يوسعه ضرباً وشتيمة:
"يا ابن الزانية، إنك ستنجو بفعلتك، سوف أهلكك، سوف أهلكك!".
حاولنا، جميعاً، أن نفضَّ اشتباكهما. ومن دون أن يطرح علينا سؤالاً واحداً، أمر مفاضل باحتجاز عشار في زنزانته.
ودرج مفاضل طوال شهرين على منحنا نصف ساعة كل يوم جمعة، للتريض في الرواق من دون أن يفتح زنزانة عشار ومن دون أن تسجل أية حادثة.
ذات يوم قال لي بنبرة المُذعن:
"قُلْ، هل ستصحبني إلى مكة؟ لديَّ الكثير من الذنوب أريدُ أن أبرأ منها، وأطلب عنها المغفرة. أتعِدُني بذلك؟ قُلْ، أرجوك، لا ترفض لي مثل هذا الطلب، إني سيء وحسود وجاهل.
- إني أعرفك جيداً، إنْ خرجنا من هنا فأول ما ستفعله هو أن تقصد المومسات. لذا، بالله عليك، كف عن بث أوخام جهلك في هذه الحفرة المعتمة، وكف عن التجديف.
- أنت محق في ما تقول. إنك تعرفني جيداً. إني واثق من أن زوجتي تنتظرني. وعند خروجي تكون قد هرمت. لذا أقولها لك صراحة: إذا غادرت هذا المكان حياً فسأتزوج من صبية من بنات بلدتي.
- أحسنت. فتاة بريئة تكون أصغر سناً من أصغر أولادك!
- وما الغلط في ذلك؟ إنها الحياة.
- عشار، لم أعد راغباً في التحدث إليك، إنك شخص مقزِّز".
كان اضطراري لتحمل شخص كعشار أمراً مرهقاً. ذلك أن تدخلاته المتكررة كانت تشوِّش رياضتي التأملية. فما عاد الملاكان يستجيبان لدعائي. فقدت إحساسي بوجودهما. ومع الوقت حل بي التلَفُ الجسدي والذهني، ونظراً لتلك المكابدات تضاءلت طاقتي على التركيز، وصرتُ أكثر فأكثر عاجزاً عن التماسِ عالمي الروحاني. لم تكن تعوزني الإرادة،
بل كنت متعباً. وما زلت إلى اليوم أعاني من تبعاتِ ذلك التلف. ما زلت أجد صعوبة في القراءة والكتابة، ولا أقدر على التركيز لأكثر من بضع دقائق.
كان عليَّ ألا أكنّ ضغينة لا لعشار ولا لأي شخص آخر. كففتُ عن وضع عشار في بؤرة اهتمامي وانتقلت إلى الآخرين. في طليعتهم أبي. رأيته في جلباب من حرير، معطراً مثل امرأة، مرحاً، متورِّد الخدين، حليق الذقن منعَّمَه، ممتلئ الجسم لا بدينه، خفيف الخطو، كأنها مشية المستعد دائماً للانحناء أمام الملك، مغضي العينين، ذرب اللسان، منتهزاً كل مقام لإطلاق مقالٍ مشبع بالإيحاءات من شأنه أن ينتزع ابتسامة، أو، إذا كان مُسَعداً، ضحكة من وليِّ نعمته.
كنتُ أراهُ وأبتسم. كيف لي أن أكنَّ ضغينة لبهلوان في البلاط وفي الحياة؟ لأب لا يذكر حتى أن لديه عائلة! لم يكن مهرجاً لأن لا أثر لما هو تراجيدي في شخصيته. إنه عدم الاكتراث المطمئن، وهوى البلاط والأمراء.
كنتُ أراه وأدعه عابراً مثل خَيَالٍ في حياتي. كان أيسر عليّ أن أكرهه، أن أحقد عليه وأنمي رغبةً في الانتقام منه في أعماقي. غير أن ذاك اليُسر محاطٌ بالأفخاخ: تبدأ الحكاية بمراودات الكراهية، وتنتهي بأن تصبح سماً يسري في دمك ويقتلك.
بعد أبي، كنت أرى أخيلةً، أشباح الذين استدرجونا إلى تلك التجربة السيئة. لم يموتوا جميعاً. بقي منهم بضعة ضباط تمكنوا من الاحتفاظ برؤوسهم لنهم لعبوا لعبة الالتباس. هم أيضاً لا أكن لهم أية ضغينة. كانوا أوغاداً بحق. لم يكن لدي أعداء، وامتنعتُ عن تغليب أي نازع سيء فيّ. فقد أدركتُ كم كان مُرهقاً أن أقضي وقتي منصرفاً إلى تقطيع من تسببوا ليّ بذلك القدْر من الألم، إلى أشلاء. صممتُ على إغفالِ كل ذلك. وبذلك تخلصت منهم جميعاً كأني قتلتهم من دون أن ألطخ يدي،
ومن دون أن أجترّ، إلى الأبد، تلك الرغبة في أن يعانوا الشقاء الذي عانيته.
كان غرضي أن أتجاوز فكرة الثأر على نحو قاطع. أن أكون في الما وراء، وعدم الاكتراث لتلك الهموم. ذلك أن الثأر ينضح برائحة الموتِ النافذة ولا يسوي مشكلة. لم أعد أجد أحداً أبغضه. وكانت تلك مجدداً، علامة حالٍ هي الأحب من بين الأحوال: كنتُ رجلاً حراً.
-32-
على الرغم من فرضية التسريبات المدبَّرة من قبل السلطات لأسباب سياسية، كنتُ دائماً أسأل نفسي: ما الذي يدفع مفاضل، رئيس الحرس، الأكبر سناً، والأكثر صلفاً، إلى حملِ الرسائل إلى خارج المعتقل، معرضاً بذلك حياته وحياة مرؤوسيه للخطر؟ شراهة المال، الجشع. لقد كان يكسب مالاً وفيراً بإسدائه تلك الخدمات لواكرين. أما نحن فما عاد لدينا ما نخسره. منذ سبعة عشر عاماً ونحن نحيا في حفرة الموت البطيء تلك، تحت أعين الحراس أنفسهم. فنشأت بيننا عادات، واستفحل الروتين. وحده الموت كان ينحل، من حين إلى حين، بإيقاع تلك الحياة. وكان مفاضل يستغل الأمر. وكنا نحن، نلجأ إلى واكرين لكي نمرر بواسطته أكبر قدر من المعلومات إلى الخارج. وما كنا نُعنى كثيراً بالحيطة والحذر لانقطاعنا عما يجري في الخارج. المهم أن نحصل على بعض العقاقير. فبرغم كل شيء، لا يعقل أن يكون لديمومتنا أي معنى. إنها ناجمةٌ عن خللٍ ما؛ فهي بالنسبة للبعض كناية عن احتضار متمادٍ، وللبعض الآخر مظاهر من حياةٍ قارة في سكناتٍ بسيطة حيث ابتلاع عقار ما، مهما كان، هو حدث العام المميز.
كنا نتكلّ على المصادفة لكي تحدث معجزة في تلك الحفرة التي صرنا فيها أقل فأقل عدداً. لم تعد لدينا روزنامة. فقد أسلم بندولنا الناطقُ الروحَ بلا سابق إنذار. عبد الكريم الذي كنا ندعوه "كريم"، مات
بصمت، جراء الوهن وسوء التغذية. كان فقَد شهيته للطعام، وتلك علامة سيئة، بداية النهاية. طلب مني قبل تدهور حالته، أن أحل محله. وقد فعلتُ ولكن بنصيب أقل من النجاح. أنا أيضاً كنت أفقد نقاط اعتلامي، فأخلط بين الأيام، وكان يساعدني في ذلك فلاح، الرقم "14"، وهو برتبة معاون، دخل المعتقل مريضاً وبقي فيه بصحة معتلة؛ لجأنا إلى اقتسام تبعات المهمة، ففيما يقوم هو بعد الساعات، أقوم، أنا، بعد الأيام والأشهر. كان فلاح رجلاً حذراً، قصير القامة، ضامرها، نحيلاً ويُعاني من سم كانت قد دسته له امرأة. كان يقول:
"إني مواكل لقد أطعمتني كعكعة بالعسل دس فيها شيخ السحرة ألطف سمومه: سماً لا يقتل بل يتسبب بالأمراض كافة.
- هل أنت واثق من أن الحبس ليس سبب مرضك؟
- هنا نمت الأمراض على أهون سبيل. إني أبول دماً، وأحياناً أرى قيحاً في بولي. منذ سبعة عشر عاماً لم أستعمل ذكري! فما تفسير ما أراه؟".
كان فلاح بالنسبة إليّ، أشبه باختبار: فجسده المعرّض للإصابة بأهون السبل، كان لا يزال يقاوم. وكان يطلب مني العقاقير.
"أية عقاقير؟
- لا فرق. أي منها سيفي بالغرض، فجسمي كله يؤلمني".
مرر له واكرين بعضاً منها، فابتلعها كلها دفعة واحدة. عندما كنا في القنيطرة، ولنا الحق في الذهاب إلى مستوصف السجن، كان يطلب أقراص "فاليوم"، ويتناول منها كمياتٍ حتى ظننتُ أنه يحاول الانتحار. ولكن لا شيء من هذا القبيل. كان قد نال منه سحر المرأة فيحاول أن يقاومه بالفاليوم. لدى وصولنا إلى تزمامارت، حُرِم من مهدئاته. وحسبت عندها أنه سيصاب بنوبة، لكنه استطاع أن يتكيف. وحتى لو كان يعاني
جرّاء ذلك فهو لم يشكُ لأحد، ربما لأن الاعتقال الذي يكابده ليس في نظره سوى جزء من مخطط "السحر".
"تلك المرأة، كان يقول لي، أقسمت إنها ستنال مني. وأفلحت في ذلك. إحذر نساء خنيفرة! إنهن الأشد قسوة ... كانت تريد أن أتزوجها. تخيل؟ مومس اختارتني لكي أصبح زوجها! المشكلة أني كنتُ أتردد عليها، في كل مأذونياتي تقريباً. كانت لي عاداتي الخاصة. أصل مطلع الأمسية؛ تختلي بي وتعد لي الشاي، ثم تأتي بقنينة ويسكي ونشرب. أضاجعها قبل العشاء. خلال العشاء تتوارى عن الأنظار، لكني ما كنت لألتفت إلى تفصيل كهذا، ثم أضاجعها مراراً خلال الليلة، وعندما أهمُّ بإعطائها المال لقاء ما فعلته، تغضب وتنهالُ علي ركلاً بقدميها. ذات يوم صارحتني بأنها كفت عن استقبال سواي من الرجال، وأنني رجلها الوحيد. لقد اختارتني؛ اصطفتني، وهجرت الدارة الكبيرة حيث كانت تقيم مع مومسات أخريات، وانتقلت لتقيم بمفردها في مسكن صغير. لم يكن وارداً عندي أن أتزوج مومساً؛ فلن تُعْدَم من يشرح لك لماذا؛ العار، الانحطاط! وكان الأحرى بي أن أختفي، أن أتوارى؛ غير أني سيء الحظ، لم يخطر ببالي أمر مثل هذا. وبأية حال، كان ما كان. لقد حشتني بالمنتجات المسببة للعلل. استشرتُ عرَّافاً في الحاجب، وهو الذي أطلعني على كل شيء. ولكي أشفى كان عليّ أن استشير عدداً من الأطباء بالإضافة إلى عمل الساحر المولج بإبطاء عمل الساحر الآخر، ذلك أن عمل ساحر ما لا يمكن إبطاله إلا بعملٍ ساحر آخر. ولكنْ لم يُتح لي الوقت. فقد غادرنا هرمومو لإجراء مناورات، وها نحن هنا".
قلت مصححاً:
"تقصد الانقلاب العسكري؟
- أي انقلاب عسكري؟ لقد غادرنا في الصباح الباكر قاصدين بوزنيكا لإجراء مناورات ....
- لكنك تعلم لشمَ نحن هنا؟
- أجل، لقد سُحِرْنا جميعاً.
- فلاح، هل تمازحنا؟
- مَنْ؟ أنا؟ إطلاقاً! إن أحد الأشياء التي فقدتها هي قدرتي على المزاح والضحك. فمنذ أن حشتني بتلك المواد أصبحت عاجزاً عن الضحك. فمنذ أن حشتني بتلك المواد أصبحت عاجزاً عن الضحك. هل سبق أن رأيتني ضاحكاً؟
- لا، أنت محق. وبأية حال، مَنْ تراه يطيب له الضحك في هذه الحفرة؟".
أيقنتُ أن مرض فلاح خطير. فالسفلس يورث الجنون. لم يفقد ذاكرته، لكنه فقد إدراكه ما يجري له حقاً؛ لذا ما عدت أثق ببندوله، ورحتُ أعد الساعات بنفسي. لم يكن جنونه ظاهراً؛ فهو يتحدث على نحوٍ متماسك، لكنه لدى عطفة عبارة يتلفظ بأمور غير مفهومة:
"أذكر خديجة جيداً. إنها لا تفارق مخيلتي، كان يقول. ثدياها هائلان. كم أعشق الأثداء الكبيرة. كانت لها عينان سوداوان ولها غمازتان تبرزان على خديها حين تضحك. ثم تسلق الحصان المئذنة، وراح يتبول على الناس العابرين من هناك. بلى، الجنرال عاقب شجرة التين؛ انتزع منها كل ثمرات التين وأعطاها لخديجة. فبأية حال، الجنرال هو والد ابنتها البكر، تلك التي كانت تفتح لي الباب لأذهب إلى المناورات. أذكر جيداً ذاك الصباح عندما عض كلبُ الجارة ربلة ساق نادر الحبوس. وكان هو يبكي وكنت أنا أضحك. كانت خديجة تعطيني طعاماً وتبغاً. ولابد من أني دخنتُ حشائش مستقدمة من الهند أو من الصين. كانت قوية جداً. فلا أعي أين أكون أو ماذا أفعل. ذاك هو السحر. لستُ معتوهاً. هيا، لن تصدق أنني معتوه. إني مريض؛ لدى كلُّ الأمراض، غير أني سأبرأ منها جميعاً عند ختام المناورات. هنا، أمر جيد ما نفعله. نتمرّس على مقاومة البرد، والحر، والعقارب والصراصير. لكنْ، لو يعطيني
الجنرال بعض العقاقير لكان الأمر حسناً. يبدو أنه يراقبنا بواسطة منظار ياباني. يرى في العتمة، ويمنحنا علامات تقدير. من جهتي، أنا، لن يكون تقديري جيداً لأن خديجة رفضت أن تضاجعه. وسوف ينتقم. فعندما يكون المرء جنرالاً، يُحسب له ألف حساب. بإمكانه أن يفعل ما يشاء. لا أحد يقول له كلا، إلا خديجة. أحبُّ طباعها هذه وإن كانت قد آذتني. حين سنخرج من هنا سأذهب إليها وأقول لها أمرين: 1- عوفيتِ لأنك رفضت أن تضاجعي الجنرال؛ 2- ليس حسناً ما فعلتِه بي! وأنا واثق من أنها ستندم، لأن ذَكَري قد أصبح تالفاً، لا نفع منه. عندما أتبول أتألم بشدة. سأقول لها كل هذا. ولكن، قل لي، أنت تعرف كل شيء: متى تنتهي المناورات؟
- قريباً، يا فلاح، قريباً جداً.
- أستصحبني إلى خنيفرة لرؤية خديجة الجميلة؟
- بالتأكيد. سأصحبك إلى هناك. وسأقول لها إن ما فعلتْه بك ليس أمراًً مستحباً.
- أنت، أنت صديقي. قل لي، كم الساعة الآن؟
- لكنك أنتَ حارس البندول!
- أوه، صحيح، لقد نسيت! ولكن أي بندول تقصد؟
- بندول المعتقل.
- آه، أنت تقصد بندول ثكنتنا! إنه معطل منذ وقت طويل، يجب أن أصلحه. كنتُ ساعاتياً في حياتي المدنية. وأبي كان ساعاتياً أيضاً. تطوَّعت في الجيش لأصلح ساعات الجنرالات. ألم تلاحظ أن الجنرالات يصلون دائماً متأخرين؟ ذلك أنهم يحملون ساعاتٍ مشغولةً بالذهب. والذهب لا يتماشى مع الوقت. الأحرى أن يحمل المرء ساعة يد من معدن خالص، وبذلك يضمن دقتها. أبي علمني ذلك، منذ زمن بعيد.
في الجيش أُلحقت بخدمة الجنرالات، في حين أني أردت أن أُعنى بالوقت. ألححتُ عليهم، فلم يأخذوا مزاعمي على محمل الجد. قل لي، هل حسناً فعلت بامتناعي عن الزواج من خديجة؟
- أجل، يا فلاح، حسناً فعلت.
- عندما نغادر إلى مناورة ليس من المستحسن أن نخلف وراءنا امرأة، وبخاصة امرأة مثل خديجة. إذ نتعرض للإصابة. أعتقد أني جرحتُ. ولابد من أني تلقيتُ رصاصة في بطني أو في أسفله.
- هذا محتمل. أنت تعلم، كانت مناورة بالذخيرة الحية.
- آه، بلى، هذا ما أذكره جيداً. في العشية قال لنا القائد ضاحكاً: "مناورات بالذخيرة الحية!"، وردد ما قال مراراً، ثم ضحكنا جميعاً. لكنك تذكر جيداً الطبيب الفرنسي الذي جاء إلى حلقة الضباط وقال ممازحاً: "أتعدون انقلاباً عسكرياً؟" فأجابه النقيب قائلاً: "لا، نعد لمناورات مهمة".
- أجل، أذكر ذلك جيداً. أنت ترى الآن أن هناك من تحدث، سواي، عن انقلاب عسكري.
- أجل، ولكننا لم نقم به. لا نملك الرجولة الكافية لكي نفعل. أما بشأن الرجولة، فلا نفع مني. رجولتي ما عادت تصلح لشيء. لقد عضتها خديجة، وابتلعت كل نفسي وروحي وحياتي.
- عندما سنخرج من هنا، وتكون المناورات قد انتهت، سنقصد الحاج إبراهيم، الفقيه الأقدر على إبطال السحر والطالع السيئ. وسترى يا فلاح أن كل شيء سيرتد إلى نحر خديجة. وسوف تُجنْ بدورها.
- أواه أجل، يا صديقي، يجب أن تُرغم على ابتلاع مخ الضبع. أعرفُ صحراوياً عجوزاً يبيع منها في سوق مراكش. إن ضاجعتها فسوف تصبح مريضة طوال عمرها.
- لكنها ستنقل المرض إلى كل الذين سيضاجعونها من بعدك. وهذا ليس عدلاً. يجب ألا تفعل.
- أنت على حق. أريد سمكاً".
أمضي فلاح ليلته وهو يطالب بالسمك. كان يصرخ بعبارات بالعربية ثم بالفرنسية من العيار الثقيل. فهو يعرف عدداً لا يحصى من العبارات التي تمزج الجنس بالدين.
في الليلة نفسها سمعتُ حداء طير الخبَل الجنائزي. فقلتُ في سري: إن ساعة خلاص فلاح قد أصبحت وشيكة.
لكنه لم يكن فلاحاً. كان عبد الله، الملازم أول والمدرب، مثلي أنا، هو الذي توفى إثر بضعة أسابيع من الإسهال المتواصل. لم يأتِ على ذكر ما يعانيه. استفرغ ذاته يوماً بعد يوم. وصار يتبرز في ثيابه. ولا ننتبه، فما عادت الروائح تنبئنا بالأمراض التي أقامت، نهائياً، في ما بيننا.
للموتِ رائحة. مزيج من الماء الأجاج والخل والقيح. مزيج جاف وحاد. ولطالما ترافق صياح الخبَل مع تلك الرائحة النافذة. نعرفها بالحدس، ولا داعي للتثبت منها. وعندما يأتي الحراس صباحاً حاملين الخبز والقهوة، كنا نقول لهم:
"ربما هناك ميت، تحققوا من الأمر".
كان فلاح قد أصبح عاجزاً عن التبوّل. فتوفي إثر أوجاع لا تحتمل. توقف عن الكلام. صار يهذي مردداً كلامه، يتمتم، يصرخ، يضرب الباب بقدميه، ثم آخر الليل سكنتِ الضوضاء. والغريب أن الطير لم يتنبأ بموته. في تلك الليلة لم نسمع حداء مشؤوماً.
-33-
في عهد الطيش، كنتُ أغالي في تقدير نفسي. كنت أحرقُ المراحل. يومها، لم تكن الحياة بالنسبة إليّ سوى بداهة جميلة، وكذلك الأمر، السعادة.
كنتُ مخطئاً. فلا شأن يُذكَرُ للذاتٍ إلا في نظر الآخرين؛ ودون ذلك مشقَّات اجتياز الصحارى والليالي. فآليت على نفسي أن أحيا التجربة من دون شكوى. وما لُمْتُ إلا نفسي في كنفِ الصمت بين صلاتين. كنتُ أصلي إلى الله غافلاً عما قد يحدث، وعما قد تؤدي إليه الصلوات. لم أكن أتوقع شيئاً بالمقابل. وبفضل الصلاة كنتُ أبلغ أفضل ما في بتواضع من ينفصل، شيئاً فشيئاً، عن جسمه مبتعداً عنه لكي لا يكون عبد عذاباته وشهوات هذياناته. كنتُ أؤدي تلك الفروض المنزهة عن المنفعة بالمطلق على الضد من أولاءِ الذين يقيمون مع الله وأنبيائه قيوداً حسابية مدروسة. فالإيمان بالله، وحمده على رحمته، والإقامة على ذكره، وتمجيد روحانيته، كل هذه كانت، بالنسبة إلي، ضرورة طبيعية لا أرجو في مقابلها شيئاً، أي شيء على الإطلاق. كنتُ قد بلغت حالاً من التخلي والزهد اللدُني الذي يمدّني بعزاء لا يستهان به. أصبحت شخصاً آخر. أنا الذي آمنتُ في السابق بأن الكائن لا يتبدل؛ كنتُ في مواجهة أنا آخر منعتق من كل قيود الحياة المصطنعة، لا حاجة له إلى شيء، غير طامع بأي رأفة. كنتُ عارياً، وكان ذاك فوزي.
منذ وفاة لحسين وقبلها السجال القاسي الجارح الذي خضناه معاً،
أدركتُ أنه ينبغي أن أتمالك نفسي؛ أن أسلك مجدداً درب الفكر السامي الذي لا ينتهي؛ أن أبتهل للروح الأكثر غموضاً، الأكثر خفاء التي لابد من أنها مقيمة في كونٍ أمتلك مفاتيحه وعلاماته.
الحجر الأسود، قلب الكون، ذاكرة النعمى، روعة الإيمان، الترفُّع المطلق؛ تلك كانت العلامات التي أهتدي بها. وكان حرياً بي أن أضيف إليها وجود ملاكي الحارسين أحياناً، وثيبيبط، وللأسفِ أيضاً، طير الخبل المنذر بالمصابِ الوشيك.
كنت أصلي بصوت خفيض، وأنقاد مستسلماً لموسيقى داخلية توائمُ الحال التي أكون فيها، فلا أعود أسمع ما يُقال من حولي. كانت أوجاع الظهر والعمود الفقري تحفر مجراها، وبما أني بدأت بفقدان قدرتي على التركيز، لجأتُ إلى العقاقير التي يوفرها لي مفاضل من حين إلى آخر. وكنتُ أتوصل، بالصلوات وتلاوة القائد الصوفية، إلى تخفيف حدة الألم، وحتى، أحياناً، إلى استخراج ذاتي من ذلك الجسد المعذب، المشوَّه والمقاوم برغم كل شيء.
قُبَيْل النهاية، لا يعود جسدي طوْعَ مشيئتي؛ إذ يغادرني هو. وعندئذٍ أنام متقوقعاً على ذاتي مثل هِرّ. أتمسكُ به. أتشبث بالأرض لكي أمنعه من هجْري كلياً. لا أعود قادراً على التفكير. لا أعود قادراً على تخيل أي شيء. أصبحُ خاوياً، أصبح زيْغاً في تلك الحفرة التي ابتلعت إلى اليوم خمسة عشر رفيقاً من أصل ثلاثة وعشرين. لكل شيء حده. رأسي ما عاد يعْقل، أو بالكاد يفعل.
مضت ثماني عشرة سنة تقريباً لم أنظر خلالها إلى وجهي في المرآة ولو مرة واحدة. مَنْ أو ماذا أشبه؟ عندما أفلح في رفع ذراعي، أمرر راحة يدي ببطءٍ على وجهي. ومثل ضرير تنبئني أصابعي. كان خداي هزيلين ووجنتاي خشنتين بارزتين، وعيناي غائرتين في قعرِ المحجرين. كنتُ نحيلاً جداً.
ما عادت تتملَّكُني الحاجة إلى النظر إلى صورتي في المرآةِ، إلى تصويب تفصيل أو، ببساطة، إلى التعرَّف إلى ذاتي، إلى التثبتِ من أني ما زلت الشخص الذي اعتدت أن أكونه. تلك العادة المفقودة، المنسية، ما عادت تعنيني. فما جدوى أن يرى المرء نفسه؟ الظاهر أن على المرء أن يحب نفسه قليلاً لكي يحب الآخرين. أما أنا فليس لدي من أحبه أو أكرهه.
ذات يوم، سألني الأستاذ، مُنتهزاً بصيص ضوءِ تسرَّب إلى الرواق، إذا كان وجهه ما زال في محله. فلم أفهم قصده.
"أقصد إذا كان وجهي ليس مقلوباً، إذا كان قذالي ليس محل جوزة العنق؟...
- بإمكانك أن تعرف إن تحسست وجهك براحة يدك.
- لا، لا أستطيع. لأن يدي فقدت الإحساس بأي شيء".
كان فقَد حاسة اللمس، لكن ذلك لم يقضِ على آلامه.
قال لي:
"إني أتألم من الداخل. أعاني حصراً يُثقل على قلبي وصدري. باتت تنتابني شكوك. أقرأ الكتاب العزيز، أبتهل إلى الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، ثم أجدني عند نقطة البداية، وحيداً، متروكاً لمصيري. أرتمي في أوقيانوس الكتاب، ذلك الأوقاينوس الذي بلا ضفاف، ألتفُّ حول نفسي وأكاد أموت شرقاً بسيولٍ من الكلمات التي ما عادت متجانسة. أشعر بألم في أحشائي، وبألم في رأسي، ولا أدري ما العمل. إني أحدثك اليوم عن الأمر لأني لا أرى مخرجاً. سوف أموت قبل أن ألمح الشمس والنور مجدداً. ربَّما، هناك، سيكون الجحيم أرأف بي مما نكابده هنا، وأعتقد أن الله سيغفر لي. فالله حق. والله خير. والله رحمن. والله رحيم. إني أتوقُ لأن أُستدعى إلى رحمته، "وإليهِ
تُرجعون". لقد تقدَّمتُ في السن ولم أعش تقريباً. ذاك هو المقدر لي. وأشعر بأن ساعتي سوف تأذن. أرجوك، لا تدعهم يغطونني بالكلس الحار. أتكل عليك لكي ألاقي ربي نظيفاً، في كفن أبيض. وليُصَلِّ على جثماني. سوف أقرأ لكي أنسى وجع صدري. كأن سبيكة حديد تزن طناً، هنا، تثقل على صدري".
إنها سكرات الموت، لا يعرفها إلا الأتقياء.
وتوقف قلبه بعد ذلك بهنيهات. كنا ما زلنا في الرواق. لم يحرِّك الحراس ساكناً. وهوى الأستاذ على الأرض. احتضنتُه بين ذراعي، واستمهل كيما يشهر سبابته ويتلو الشهادتين. كنتُ ممسكاً بيده مردداً من بعده العبارات التي ينبغي أن يتلفظ بها كل مسلم قبيل رحيله عن الدنيا.
أذن لنا مفاضل أن ندفن الأستاذ غربي كما ينبغي. كنا قد أصبحنا أقل عدداً. أحضر لي أحد الحراس شرشفاً أبيض لأجعل منه كفناً. كان ذاك هو الدفن الوحيد الذي أجري بحسب الأصول. في ذلك اليوم كانت السماء رمادية والضوء معتدلاً. لبثنا لحظاتٍ حول القبر نتلو القرآن. مسح أحد الحراس دمعة. كان تأثرنا شديداً. وافتقدنا صوت الأستاذ من بين أصواتنا. رميتُ أسماله بجنب القبر. وحين هممنا، بنصفِ استدارة، بالعودة إلى الحفرة، أشار عليَّ واكرين بأن ألتفت نحو اليسار. لم يهزني ما رأيتُ، لكنه أفزع الباقين على قيد الحياة: سبعة قبور قد حفرت في الفِناء. وكنا سبعة. كانت القبور مُعدة لنا. ومن الجهة الأخرى عشرة قبور مكشوفة. لابد من أنها أُعدت لمعتقلي الجناح الآخر.
عند المساء، دار النقاش حول ذلك الاكتشاف المشؤوم. كان واكرين، أكثرنا فزعاً، لا يني يردِّد أنه سيقاوم وأنه لن يذهب إلى منصة الإعدام بلا مقاومة. كنا جميعاً نوافقه الرأي. لكني، من جهتي، كنتُ مقتنعاً بأن لا شأن لنا بتلك القبور. وكان اقتناعي مجرد حدس. كيف السبيل إلى إقناع الآخرين بذلك؟ حتى إنه لا رغبة لي في المحاولة.
"رصاصة في مؤخر الرأس".
كان ذلك هاجسه. وكان يردد تلك العبارة باللهجات كلها، بالفرنسية، بالعربية، بالمازيغتية:
"Une baaaalle dans laaa nuuuque".
"قرطاسة في القفا".
"Tadouat aguenso takoja'at".
"Kartassa dans takoja'at".
Kartassa، رصاصة Tadouat, Kartassa, Tadouat، رصاصة، Kartassa، مؤخر الرأس، مؤخر الرأس، Kartassa...
ما عدت قادراً على سماع تلك الكلمات. كنا، جميعاً، متعبين مكتئبين، وشديدي التأثر لوفاة الأستاذ. فهدأت من روعي وتمكنتُ من محوِ صوته من أذني.
عند الصباح، سمعت ثيبيبط يصدح بتغريد موجزٍ ومتقطع. كان ينبئني بالتحركات في الفناء. جاء مفاضل مباشرة بعد ذلك وسألني كيف أمضيت ليلتي. دُهشتُ لسؤاله. إذ لم يسبق لأي من الحراس أن عُنيَ لا بليالينا ولا بنهاراتنا. ثم طرح السؤال نفسه على واكرين. عشار هو الذي بادر إلى الإجابة:
"لقد أرَّق نومنا. أمضى الليل بطوله وهو يهذي. ينبغي ألا توقظه وإلا عاود النغمة إياها: رصاصة في مؤخر الرأس، kartassa....".
أسكته مفاضل، ثم فتح باب واكرين الذي كان قد أقعى عند طرف زنزانته، وتشبث مذعوراً بساق الحارس اليمنى:
"قُلْ إنك لن تفعل هذا؟ ليس أنت، لن تقتلني، قل، يا صديقي، يا ابن عمي، هذه ليست من أجلنا، هذه القبور. أنت لن تطلق رصاصة في
مؤخر رأسي. لا، ليس أنت. نحن نعرف بعضنا منذ بعض الوقت. منذ عشرين عاماً تقريباً. قل للرجل الواقف وراءك أن يغادر، قل له إنك أنت لآمر هنا. أرجوك، أطرده، إنه يهددني برشاش. هذا الرجل لم أره من قبل؛ من أين جاء؟ من بعث به؟ إنه مبيدنا؛ لِمَ يرتدي الملابس المدنية؟ إنه شرطي، إنه عميل البوليس السياسي؟ إفعل شيئاً يا مفاضل. رجل مثله خطير جداً. إنْ قتلنا، قتلك أنت أيضاً لأنك تعرف أشياء كثيرة.
- كُفَّ يا واكرين! صاح مفاضل. إني بمفردي. لا يوجد أحد ورائي. أنت تهذي! لم يأتِ أحد لقتلك. هذا أنا، صديقك، الواقف هنا، وجئت أسألك ماذا تشتهي أن تأكل اليوم. أتريد لحماً أم سمكاً؟
- آه، كنتُ محقاً إذاً! إنها الوجبة الأخيرة للمحكوم بالموت. إذ ينبغي أن يموت المرء شبعاناً وبصحة جيدة. هذا كل ما في الأمر. يُعنون بصحتك قبل إرسالك إلى العالم الآخر. حذارِ أيها الفتيان، لستُ معتوهاً. ليس طبيعياً أن يغيروا وجبة طعامنا الدهرية وأن يسألونا، بلطف، عما نريد! ما رأيك أنت، أيها المثقف؟
- أنا أيضاً أعتقد أن الأمر ليس طبيعياً. فإذا عملوا على تحسين طعامنا فهذا يعني أنهم يُعدون لأمر ما. ما هو؟ لا أدري.
- أما أنا فأدري. برغم كل شيء يبدو الأمر لافتاً: القبور التي حُفرت حديثاً، دفْنُ صاحبنا الأستاذ الذي جرى وفق الأصول الإسلامية الصحيحة، ثم تحسين الطعام. هناك أمرٌ غريب في هذه الحكاية.
- إسمع يا واكرين، اهدأ وكفَّ عن الزعيق. إني واثق من أن مفاضل بذاته لا يعلم ماذا يدبرون لنا. لذا، كف عما أنت فيه، وصلِّ وانتظر".
أقفل مفاضل الأبواب. غادر من دون أن ينطق بكلمة.
عاودني التفكير في الأستاذ والفراغ الهائل الذي خلفه برحيله. صوته الجهوري المشرق ما زالت أصداؤه تترددُ في رأسي. لم يكن يخشى
الموت ولم يَثُر يوماً على الظروف التي نحيا فيها. كان دائماً يقول إنه في حال "عبودية خالصة لله"، وإنه موجود ليصلي لا ليُدين البشر. وقال لي ذات يوم، إن الإنسان له رفعة أكبر وهو ميت منه وهو حي، لأنه إذ يعود إلى التراب يمسي تراباً، وما من شيء أكثر رفعة من التراب الذي يوارينا ويُغمض أعيننا ويُزهر في خلود بهيّ.
-34-
كنا في حزيران عام 1991. لم يكن لدينا أدنى فكرة عما يجري في البلاد وفي العالم الخارجي. كنتُ أجري حساباً للزمن المنصرم بين أولى الرسائل التي هُرِّبت من المعتقل والتحسينات الطفيفة التي طرأت على وجبات طعامنا. أحاول الربط بين الواقعتين من دون أن يحدوني أملٌ أو حتى أفكر في انتصار ما. خمس سنوات من الرسائل، من القناني المقذوفة إلى عرض البحر. فكيف كان لي أن أعلم بكل ما تبذله مدام كريستين، وأخي الذي يحيا في فرنسا، والصيدلانية، شقيقة عمر، وزوجة واكرين، وعدد آخر من الأشخاص الذين بلغوا العالم بجحيمنا الذي بقي سراً طوال خمسة عشر عاماً؟
كان واكرين قد هدأ أخيراً، لكن، بالمقابل، كان اثنان من رفاقنا، الرقم "1"، محمد، والرقم "17"، عيشو، وهو من بربر تاغونيت، يحتضران جراء مرضٍ مزمن يجعلهما يسعلان حتى الاختناق. كانا يحتاجان إلى علاج محدد. أما نحن فكنا نتناول العقاقير المتوافرة لأننا نعلم أنها ستكون مفيدة نظراً لحالتنا الصحية العامة. قال لي مفاضل الذي سمعهما يسعلان، إننا ربما سنتلقى زيارة طبيب في القريب العاجل. عندها سألته:
"لمن هذه القبور؟
- من أين لي أن أعلم؟ كفَّ عن هذه الأسئلة. خلال ثمانية عشر
عاماً، لابد من أنك علمت جيداً أنني لستُ سوى حارس سجن من نوعٍ فريد جداً. وقد تعارفنا جيداً، فلا داعي للتذاكي.
- حسناً. ولكن اذهب لتفقُّد واكرين. إن حاله تقلقني".
تحدَّث إليه بالبربرية. فغنَّى واكرين أغنية رعوية من بلاده، وعاودنا سيرتنا المعتادة في معتقلنا. عاودني التفكير في المرآة وفي وجهي الذي فقد ملامحه، أو الأحرى الذي أصْبَحت سيماؤه قارةً على ملمح الرجل المغنم لكنه لا يسأل نفسه عن السبب الذي جعله بلا وجه. فمهما حاولت أن أتحسسه فقد كنتُ مقتنعاً بأنه سُرق مني، وأن الذي أحمله ليس وجهي، ليس الوجه الذي كانت أمي تلامسه مداعبة. حتى لو حدثت معجزة والتقيت بأمي، فهي، بأية حال، لن تتعرف إليِّ، وسيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تأتي إليِّ وتضمني بين ذراعيها كما كانت تفعل لدى عودتي من السفر. وفي حالتي هذه، أنا مسافر؛ مسافر حول العالم تحت الأرض، أجوب جهات الكوكب، والبحار والجبال، منحنياً، داخل زنزانةٍ على هيئة قبر وُضِعَ على عجلات ويجره قائد ثمل. حيوانات غريبة صودف وجودها خلال الرحلة، تحاول أن تعض القائد وتحررني. رأيت ميتاً ضاحكاً مستهزئاً في تابوت يحمله أقزام؛ وإذ حاول النهوض فقد نصف الثمرتين اللتين وُضعتا محل العينين. كان ميتاً ضريراً على نحوٍ لا شفاء منه.
رأيت بجعةٌ متوعكة تحط جاثمة وسط الطريق وترفع جناحها لتوقف الريح.
على منحنى الزمن رماني الرعدُ وتدحرجتُ على نفسي مِثلَ كرة قش. ما عدت أرى القائد الثمل بل قِردة تتبسَّم لي. أين كنت؟ لِمَ تولَّد لديَّ انطباع بأني أصدم جبيني بواجهة زجاج عملاقة؟ كنتُ أبحث عن ظل يواريني، أنا الذي حُرمتُ من النور. غير أن الظل كان في فيء سنديانة وكنتُ مطلق الحرية في اللعبِ بالعشب، بالاستلقاء متبطلاً وباصطياد
الفراشات. أفلت الأقزامُ الميت الذي لم يكن ميتاً وجاؤوا يقيِّدون رِجْليِّ ويدي. لم ينطقوا بكلمة. كان أحدهم يتبسم لي. وكان لهم، جميعاً، وجه مفاضل. وكنتُ أضحك وأقعي في ركن بعيد من زنزانتي.
عند استيقاظي صباحاً كان رأٍي خفيفاً. كنتُ فرحاً كأني عدتُ لتوي من رحلةٍ ممتعة.
صرتُ حارس الصمت، رافضاً التفاوض مع ليل الأمل الطويل. كان ينبغي أن نحيا ذلك الليل من دون اجتناب أشراكه، ومن دون التشبُّث بالحجارة، ومن دون التهام التراب الرطب الناغلِ بالدود.
وعلمت أن بإمكاننا اعتياد كل شيء، حتى العيش بلا وجه، بلا جنس، بلا أمل. لم أسعَ لأن أعرف كيف يتدبَّر الآخرون أمر ذكرهم. أنا، من جهتي، كنتُ قد سويت المسألة منذ اليوم الثالث لحلولي في الحفرة. فكما قررتُ أنني بلا عائلة، بلا خطيبة، بلا ماضٍ، قررتُ ألا أفكر في العالم الخارجي، وبالتالي، حرَّمت على نفسي كل رغبة وكل إيحاء بها. لم أستخدم ذَكري إلا للتبوّل. وما تبقى من الوقت يبقى بارداً، ضامراً إلى حجمه الأبسط. حتى إني لم أكن أرى أحلاماً جنسية. ولم يكن يعترض أو يحرك ساكناً بل يدعني وشأني. توقفت نهائياً عن التفكير فيه. وعندما كان رشدي المسكين يشكو قائلاً إنه صار عنيناً، كنتُ أحدثه عن أشياء أخرى. لم تكن خشيتي من مواجهة مسألة الجنس في المعتقل، لكنها كانت مسألة صميمية تتعلق بكل واحدٍ على حدة. إن صراعنا ضد غزو الحياة وضد وفود عناصر العالم الخارجي، بالفكر، ينبغي أن يكون صراعنا المستمر. إذ ينبغي ألا يمر شيء، ألا يتسرب شيء مما خلفناه وراءنا؛ لا الأحلام ولا الخطط، لا عطور الورد ولا روائح أي امرأة. فالصراع يقضي بأن نقيم ذلك السد وندعمه، حتى ولو كانت الجدران التي تأسرنا تبدو مكسوة بمادة خاصة تجعلها، على نحوٍ قاطع ومطلق،
سداً عازلاً. ولهذا السبب لم نصر كثيراً على الخروج لدفن موتانا. في البداية، كنا نخزن مؤونة من الضوء، كِسرةً من السماء، نثرةً من حياة حتى ولو كانت مدلسة بحضور الشراسة العسكرية. في تلك الحقبة لم يكن الصراع جذرياً. فخلال دفن لحسين فوجئتُ بأني اضطررت مراراً لإغماض عيني. فالسماء، وإنْ بدت رمادية، كانت تؤذي عيني. ذاك أني ما عدتُ معنياً بالضوء. كنت أعتقد أن انتصاري ينبغي أن يبدأ بالمعتقل، وإلا فسوف أهلك مثل معظم، رفاقي وأقضي حتى قبل أن أقاوم.
كانت القبور المحفورة كفت عن إخافة واكرين. وكان هو من أيقظني ذات صباح، مغتبطاً لعثوره على تفسير:
"لقد حفروها لترويعنا. ألم تلاحظ أنهم، بعد سنوات من الحظر، لم يترددوا في السماح لنا بدفن لحسين؟ كانوا يعلمون أن أحدنا سيموت فعمدوا إلى حفر هذه القبور لترويعنا. هذا أشبه بالتظاهر بتنفيذ حكم إعدام. لقد شاهدت ذلك في فيلم أميركي. تُعصَب عينا المحكوم ويؤتي بالجنود ويعطى أمر إطلاق النار فيطلقون النار، فيبلل المحكوم ثيابه خوفاً. لكن الرصاص المستخدم خُلِّب! إذاً، هذه قبول خُلِّب! لكننا نعلم، نحن، أننا لن نستلقي في هذه القبور المحفورة في الباحة. وبأية حال، إن باحة الثكنة ليست مقبرة. أترى، لقد أدركت غايتهم، إني لست غيياً، وأنت أيضاً لست غبياً، أتوافقني الرأي؟
- طبعاً، أوافقك الرأي. إنها قُبور للتظاهر؛ لأنه لو جاءت الأوامر من الرباط بتصفيتنا، فلن يتكبدوا مشقة دفن كل واحد منا في قبر على حدة؛ بل يلقون بجثثنا في حفرة جماعية، لا أكثر ولا أقل.
- أنت على حق. ماذا سنفعل اليوم؟
- سنصلي لكي لا تكون آلام محمد وعيشو آلاماً مبرحة".
ماتا بصمت، في غضون أسبوع.
-35-
نسيتُ اسم الشاعر الذي قال: "الموت لا يوقف الحياة". غير أن الفكرة ذاتها كانت هاجسي، وما كنتُ أعلم كيفَ أتوسع في شرحها ونقلها إلى حفنةٍ من الرفاق المتبقين، في ذلك الصيف من العام 1991.
لم يبق منا سوى خمسة ناجين في المعتقل "ب": عشار، عباس، عمر، واكرين وأنا. كان الموت ما زال يرودُ في الجوار؛ لا بل كان يستعجل إنهاء ما جاء لإنجازه، وكنتُ أشعر بأن أمراً ما سيحدث. قال لي واكرين إنهم وزعوا شفرات وصابون حلاقة على الناجين في المعتقل "أ"، وإن مفاضل هو الذي أخبره ذلك. لم يبدُ الخبر مُستهجناً، إذ غالباً ما قيل إن ظروف الاعتقال في الجناح "أ"، أقل تشدداً، لأن من بين نزلائه ضابطين أو ثالثة من ذوي الرتب العالية. وبأية حال، كنتُ لا أعير الأمر اهتماماً وأرفض مناقشته مع الرفاق. لكنه ربما كان علامة على أن شيئاً ما يُحاكُ في الخفاء، وأن رسائلنا لابد من أنها قد وصلت إلى بر الأمان، ووقعت بين أيدٍ حريصة، وربما كانت الصحافة الأجنبية تتحدث عنا، وتمارس ضغوطاً على السلطات في الرباط من قبل سياسيين نافذين؛ وربما تحرّك مثقفون من أجل المطالبة بإطلاق سراحنا؛ وربما تدخل جان بول سارتير وسيمون دوبوفوار، بنفسيهما، من أجلنا، ووُزِّعت عرائضُ احتجاج بين أسر تحرير الصحف. كيف لنا أن نعرف؟ كنا معزولين عن أخبار العالم، وربما التفت العالم، ذات يوم، إلى مصيرنا. وما كنتُ
لأعلم في ذلك الوقت، أن سارتير وبوفوار قد توفيا. فبالنسبة إليّ كان العالم يواصل عيشه في إطار ضيِّق من الخلود الدائم. ربما سيعمدون إلى حلقِ ذقوننا، ربما لجأوا إلى تغيير معتقلنا ريثما يقدموننا إلى مندوبي منظمة العفو الدولية؟
سوف نودع في سجن نظيف، بزنزانات مؤثثة بأسرِّة وطاولات قرب السرّة، ومصابيح كهربائية، وبطانيات جديدة، ويقدم فيها الدجاج المشوي ولحم الضان وحتى سمك الغُبَر ...
في مطلع تموز حظينا بأول وجبة طعام باللحمة. وللمرة الأولى، خلال ثمانية عشر عاماً، قُدِّمت لنا قطع من لحم الجمل مع البطاطس والبسلة. كانت الحصص وفيرة وذات رائحة. كنتُ قد نسيت رائحة اللحم، ولا أفتقدها. ففي صغري كنت أتناول في دار جدي لحم الجمل المفروم؛ كانت له رائحة كريهة، حريفة ومقزِّزة.
بقيتُ حذراً، متوجساً، فلا آكل إلا الخضار والخبز مغمساً بالصلصة. أما عباس التَعِس فقد أقبل على الطعام بنهم فالتهم اللحم الدهني من دون أن يمضغه جيداً فأصيب بعسر هضم تسبب له بحمى شديدة. ويدل أن يصوم في اليوم التالي، تناول طبق النشويات والمعجنات، فأمضى أسبوعاً يعاني نوبات التقيؤ وارتفاع الحرارة، وتوفى في آخر شهر تموز. عشَّار الذي تناول اللحم لم يُصَب بسوء وبقي كما هو قوي البنية لحيمَها. أما واكرين فقد قال لي إن اللحم كان تالفاً وإنهم كانوا يسعون لتسميمنا، فيما التزم عمر نصيحتي ولم يمس اللحم. ذلك أن المعدة صارت عاجزة عن هضم غذاء لا تعرفه.
إثر موت عباس، توقفوا عن تقديم اللحم في الطعام، لكنهم أكثروا من الخضار ونوّعوها، واستُبدلت معجنات المساء، بطبقٍ من الأرز مع صلصة الطماطم.
منذ نحو شهر ودوري الصغير، ثيبيبطي، لِفْقِيرتي، يُطلق زقزقة
شجيّة، جميلة وحزينة في آنٍ معاً؛ تغريدة جعلتني أشعر بأن فراقاً ما صار وشيكاً: فراقه، فراقي، فراقنا، لا أدري بالضبط، وكنتُ أُطعمه أرزاً فهو أيضاً تحقُّ له وجبة محسَّنة. أما طائر الخَبَل فما عاد يأتي. لقد فرغ المعتقل من أغلبِ نزلائه، وهنا أمرٌ ما سوف يطرأ. كل واحد منا، نحن الأربعة، كان ينتحي ركناً مستغرقاً في تأمل عميق. أنا، من جهتي، كنتُ حارس البندول. عمر كان مطمئناً واثقاً من أن الرسائل قد وصلت إلى أيدٍ أمينة. واكرين عاوده الحَصَر من المجهول، فيما عشّار منهمك بوضع الخطط لما بعد خروجه من المعتقل. كنتُ أنا، أحاول ألا أفكر في المستقبل. خلال الليل كنت أرى أحلاماً أتأخر فيها عن موعد إطلاق سراحي. وكان الجميع يغادرون المعتقل وينسونني. أكون نائماً ولا يخطر ببال أحد أن يوقظني. أو أرى القمندار. وقد استدعانا جميعاً، يُلقي علينا خطاباً، وعندما يحين موعد إطلاق سراحنا يستبقيني قائلاً: "أنت، ستبقى. لقد توسَّط والدك لكي لا يتم إطلاق سراحك. وستبقى بمفردك في المعتقل حتى تحين ساعتك". عندها كنتُ أستيقظ مبللاً بالعرق، لاعناً الليل والنوم اللذين أنجبا ذلك الحلم. وفي اليوم التالي، أتلو خطاب القمندار الذي لم أنسَ منه حرفاً:
"بالكم! راحة! إني قائدكم وأدعى دباحاً. لم تكن لي يوماً مشاعر، لا طيّبة ولا رديئة. إني في خدمة وطني وربي ومَلكي. لقد كنتم ثلاثة وعشرين عندما وصلتم إلى هذا السجن، ولم يتبق منكم سوى أربعة. وكما تلاحظون مهمتي ليست مكتملة مئة في المئة. وليشهد الله أني أديت واجبي بانضباط واستقامة ودقة. ولكنْ ما باليد حيلة، ووجودكم ها هنا برهان على أن الله هو الذي يشاء. في ما يعنيكم أنتم، انتهي كل شيء، أو يكاد ينتهي. لقد شملكم العفو، وكفى. ما من مناسبة لأمر مثل هذا. ليس عيد الاستقلال أو المولد أو العيد الكبير. سوف تعودون الآن إلى زنزاناتكم. وسوف توزِّع عليكم جياد وترحلون. بالكم! انصراف!".
في تلك اللحظة ناداني ليقول لي إن العفو لم يشملني.
حسب عشار أنَّ الحلم يعنيه هو، فقال لي:
"في الواقع أنت لا تريدنا أن نخرج. وإذا شئت أن أفسِّر حلمك، فأنت تريد أن نبقى هنا وأن تنجو أنت بجلدك لأن أباك توسَّط لإطلاق سراحك. هكذا أفسر حلمك. لطالما قِيل إن الحلم يُفصح بعكس ما يجري حقاً. ومثل هذا الأمر ليس مفاجئاً أن يصدر عن أناني، ابن بورجوازي!".
كان المهمّ ألا أُستدرج إلى رد فعل. فحلمي بسيط: أبي، بعد ثمانية عشر عاماً، شعر بأنه مذنب. مع التقدُّم في السن، يحلّ الخوفُ محل الإيمان، أو يُخفى الإيمانُ الخوف. ولابد من أن أبي قد خاف الله. وهو يعلم جيداً أنه أساء التصرُّف حيالي بدافع الأنانية والجبن، وأيضاً لحاجته إلى نيل إعجاب ملكه.
كنتُ أقرأ القرآن وحيداً. فواكرين يشكو من أوجاع مفاصله وبات يجد مشقة أكبر فأكبر في الحركة. أمَّا عمر فيعدّ إلى ما لا نهاية، فيما عشّار يحلم بصوت عالٍ بما سينجزه حين يخرج من المعتقل:
"بالنسبة إليّ، الأمر ليس معقداً، فلطالما كنتُ مباشراً وبسيطاً. عند خروجي من المعتقل، سأبيع المنزل وأشتري دكان بقالة راقياً في مراكش. سأبيع بضائع مستوردة من أوروبا. سأتزوج مرة ثانية كما ذكرتُ سابقاً وأعاود بناء حاتي. فإذا استطاعت زوجتي وأولادي أن يتدبروا أمورهم من دوني طوال عشرين عاماً فبإمكانهم أن يستمروا على هذه الحال. لقد نسيتهم. كان ينبغي أن أفعل. الزمن هو الزمن، يمحو ويُقصي من العين والقلب الأشياء التي كانت مُنية العين والقلب. في اليوم الأول لخروجي من السجن، سأقصد مطعماً لأتناول الطعام فيه. سأثمل وسأذهب للتبوَّل في المدافن. أفٍّ! سأسكت لأني لا أعلم إذا كنتُ سأصمد إلى أن يحين موعد خروجي من هنا!".
لم يكن يراوده شك أو شبهة توجُّس، فيما أحلامي مشوَّشة، وشكوكي تطاول كل شيء. لقد علمتني التجربة فما عدتُ أصطنع الأوهام. لم يكن عشار يثير غضبي. ولم تكن تزعجني عادة عُمَر في الإلحاحِ على الأرقام.
في تلك الليلة، كنتُ أخوض آخر معاركي، واستغرقني ذلك بضع ساعات. كانت مخالب الموت تجذبُ قلبي لكي تنتزعه فيما أجذبه في الاتجاه المعاكس لكي أستبقي الحياة؛ لكي أبقي عليها. لم يكن في نيتي بعد ثمانية عشر عاماً أن أدع الموت يتفوَّق عليِّ في معركتي. كنتُ أعلم أني سأفوز. كنتُ أتصبَّب عرقاً، وأرى وجه الموت المتقبِّض وهو يكزّ على أسنانه ويبصق غضبه. لن أستسلم. لن أرتاب. وإثر جولةٍ أخيرة بذلتُ فيها أقصى ما في جهدي برغم حالتي الكارثية، شعرتُ بأن المخالب تراخت. تلقيت ما يشبه اللطمة على صدري وسقطتُ منهوكاً ولكنْ يحدوني إحساس بالسلام وحتى بِدَعَةٍ لن أنساها ما حييت. كنتُ وحيداً مع أوجاعي، وحيداً مع أفكاري، وحيداً مع جسدي الذي بلغ منه التَلَفُ حداً جعله غير ذي منفعةٍ حتى لتجارب العلم. كنتُ وحيداً ومرهقاً. أشعر بعمودي الفقري قد ضُغطَ بشدة، وأصابعي قد تصلبت، وتشوه كتفي واحدودب ظهري وتجوَّف بطني وحُزمت أفكاري، وعُلِّقت في حيز محايد، لا أسود ولا أبيض، كأنما وصلت إلى نهاية شيءٍ ما. وفي الحياة يُقال إنها بلغت طرف اللفافة. هنا كنتُ أجد صعوبة في تخيّل ما قد يكون شبيهاً بلفافتنا. فلابد من أنه من نوع المحدلة، المصفَّح.
في اليوم الذي حكيت له فيه فيلم بونويل "الملاك المدمِّر"، أطلق رفاقي صرخات رعب. كنتُ قد جعلت السيناريو ذا طابع مغربي، وأخبرتهم بأن العشاء الفاخر كان يجري في فيلا في حيّ أنفا الراقي في الدار البيضاء. وكنا هناك بمحض لمصادفة، مدعوين لإعداد المائدة
وضمان أمن الضباط وزوجاتهم. كنَّا في الحديقة، داخل خيمة، فيما صفوة البورجوازية المغربية، من رجال أعمال ومسؤولين سياسيين ونساء مجتمع، يُتخمون بكل ما قد نتخيَّله من صنوف الطعام. ثم، عندما تُسمع القرعة الثانية عشرة مؤذنة بحلولِ منتصف الليل، تهبط قبّة الزجاج غير المرئي من السماء، وتحاصرهم، وتتركهم في حالة عراك لمغادرة دارة الشقاء تلك، دارة من زجاج ومصير جائر لأناس ما عادوا يعلمون من هُمْ أو مع من يعيشون. كنا نراقبهم ونحن نحتسي الجعة. يرون أننا نضحك فيرغون ويزيدون ويستغيثون. ولم يكن بمقدورنا أن نفعل شيئاً لأجلهم. فالزجاج كان مصنوعاً من مادة لا تُكْسَر. وكانت تلك مشيئة الله، عدالة حالة بمشيئة الله، ونحن، مقيمين على سرور وقلق، لا نعلم كيف ستكون خاتمة تلك المأساة. حرب أهلية مصغرة تجري تحت أبصارنا. كانوا يتنازعون أعينهم، يتقاتلون بسكاكين وشوكات العشاء الفاخر. الدم في كل مكان، والدموع، والنساء اللواتي مُزِّقت أثوابهنَّ، واندلقت أثداؤهن وانكشفت عجيزاتهن. ورجالهن الذين يتبادلون العضِّ، أصبحوا أكلة لحوم بشر، متوحشين، أعيدوا إلى ما فطروا عليه. ثم جاءت حملان الأطلس التي طوَّقت المنزل وراحت ترعى عشب الخضير. كانت زوجة الكولونيل ترقص ثملة فيما يُسرق من إحدى البورجوازيات زنارها الذهب وقلادتا الألماس. فكيف نمتنع عن الضحك حيال ذلك المشهد المريع؟ وراء تلك الخيمة اجتمع كلُّ الخدم الذين غادروا الدار بلا سبب. كانوا يقولون إن الله يُعمِل قضاءه، وإنه يوم الحساب. وعندما رُفِعَت قبَّة الزجاج، عند بزوغ الفجر، وراح المدعوون يصلحون هندامهم، تعطفنا وغادرنا ولم نشهد انحطاطهم حتى فصوله الأخيرة.
لِمَ كنتُ أهجس بهذا الفيلم؟ ولِمَ جعلته ذا طابع مغربي لدرجة أني صدقته؟ قصة جميلة، معجزة ذكاء. وذاك بالضبط ما كان يعوزنا كثيراً: الذكاء.
عند فراغي من روايتي طلبت المغفرة من بونويل لأني ألصقت بفيلمه واقعة من بلادي.
كالعادة، لم يفهم عشار لا كناية واجهة الزجاج غير المرئية، ولا فقدان الإرادة الذي استبدَّ بذلك الجمع المرفَّه من الناس، فاعترض وطالب بشروح منطقية.
كنت أفكر في ذلك الفيلم، في ذلك لنهار الذي خانتني فيه الشجاعة وقوة الإرادة، وتخيلت القمندار مقتحماً معتقلنا، فاتحاً أبواب الزنزانات بيديه، قائلاً:
"هيا، ارحلوا من هنا، إنكم أحرار".
فنتقدَّم في اتجاه الباب وهناك تعترضنا شبكة عنكبوت غير مرئية؛ إما أنها من نسج الشيطان وإما من نسج منصب القمندار، فتمنعنا من الخروج. وإذ ذاك، يُحدِّجنا بنظراتٍ مفعمةٍ بالكراهية ويسترسل في ضحك مدوِّ ويتركنا وحدنا بصحبة شقائنا، ولا يكبد نفسه حتى عناء إقفال أبواب الزنزانات.
-36-
كيف كان لنا أن ندرك حينذاك أننا نحيا الأشهر الأخيرة من محنتنا الشديدة؟ كان مفاضل الذي بدّل سلوكه حيالنا، يأتي للتحدث إليِّ في الرواق. وكان يقول كلاماً غريباً. كنتُ أصغي إليه وأهزُّ رأسي بين الحين والآخر ساهياً عنه:
"أوتدري، أنت بالذات أحبّك. لن تصدِّقني طبعاً، ولكن إذا غادرتم هذا المكان فسوف أفتقدك أنت بالذات. ليس باليد حيلة، فأنا لستُ سوى كائن بشري. لقد اعتدتُ وجودكم. أعترف بأن الأمر كان شديد القسوة. والواقع، أني في البداية، ما كنت لأبالي بمصير أيٍّ منكم. كنتُ أقول، لا بل كنا نقول جميعاً، إنكم لن تصمدوا عاماً واحداً. لكن الإنسان مُذهل حقاً! لديه من الإرادة ما لا يُحسب له حساب. ويقاوم برغم كل المشقات. أعلم أن هذا الأمر لم ينطبق على الجميع. لكن ألا تدرك أنك لو خرجت من هناك تكون قد نجوت بأعجوبة. حتَّى إننا كنا نراهن على المقبلين على الموت من بينكم. لقد اقترفتم ذنباً فظيعاً ودفعتم الثمن. إنها أصول اللعبة. تخيَّل لو أن الانقلاب كان ناجحاً، لكنا اليوم زملاء في الثكنة نفسها. حتى إني لأكون أحد مرؤوسيك. ثمانية وخمسون عاماً في الخدمة وما زلت معاوناً. أما أنت فكنت لتصبح اليوم مقدماً أو عقيداً. إن الحياة عجيبة حقاً. خذ، لقد ابتعتُ لك بعض الفيتامينات، خذها، فلن تؤذيك. دخلت إحدى الصيدليات وطلبت فيتامينات فأعطتني امرأة هذه
العلبة، يبدو أنها تحتوي على كل الفيتامينات.
- وماذا عني أنا، هل أموت؟" صاح عشار قائلاً.
لقد نسيه مفاضل.
"أنتَ، لن يعرف الهلاكُ طريقاً إليك بهذا البطن الذي يليق بخنزير برّي...
- لكني أتألم، كل موضع في جسمي يؤلمني. أرجوك، أعطني دواء".
تركه مفاضل لزعيقه وغادر بعد أن أقفل الأبواب.
في تلك اللحظة عِشت هنيهات من الطمأنينة الغامرة. فما عاد شيء يقدر على أن يصيبني. أن أخرج، أن أبقي، أن أنجو، أن أموت؛ سيان عندي. فلسوف أكون من الناجين ما دامت لي القدرة على الصلاة وعلى التواصل مع الخالق. لقد بلغتُ أخيراً عتبة الأبدية، هناك حيث لا وجود لحقد البشر وخسِّتهم وصغاراتهم. هكذا بلغتُ، أو كنتُ أعتقد أني بلغت، وحدة سامية، تلك التي ترتقي بي فوق الظلمات وتبعدني عن المتجبرين على كائنات ضعيفة. ما عاد في صدى لأنين. لقد أحيلت أعضاء جسمي كلها إلى الصمتِ؛ إلى شكلٍ من أشكال السكون الذي لم يكن تماماً هو الراحة، ولا الموت.
كنت قد بلغت أقصى ما في المقاومة، وما عاد جسمي ينصاع إليِّ، ورأسي ينتفخ لفرط ما رددتُ الصلوات نفسها والصور نفسها. ومع ذلك، كنت أعلم أن النور سيغمرنا، وكنت أعد له نفسي مُغمضاً عيني، متخيلاً تلك اللقاءات بعد فراق. كنتُ أقبل بالاستسلام قليلاً للكذبة. لم أكن بطلاً، بل رجل لم تفلح ثمانية عشر عاماً من الشدة في أن تنتزع منه إنسانيته، أقصد نواحي ضعفه ومشاعره وقدرته على جبه أعاجيب البراكين التي طالما أنكرها. كان السور الذي يحصّنني قد بدأت تدبُّ فيه
الصدوع، فأسمع أصوات الذين رحلوا عنَّا. كان كلُّ شيء يختلط في رأسي الذي ما عدت قادراً على إسناده إلى راحتي. وإذ هزمني الوجع ما عادت الوحدة تحميني. لم أعد وحيداً إزاء إيماني، فثمة دخلاء في ملاذي اللدني. لقد اجتاحتني الشرور، وكنت أرفض التلفظ بعبارة "الاحتضار"، وأفضل عليها عبارة: "عَتَه". كان وقعها أجمل: أمتطي "العين" الكبرى وأبسط ذراعي كأني أتهيأ للغوصِ في مياه حوض السباحة الزرقاء، وأتشبَّث بالتاء المطاطة فأهبطُ ثم أرتفع، وألتقطُ "الهاء" أجعلُ منها مشبكاً فألتصقُ بها كما يلتصق الغريق بعوّامة. غير أن ما جرى لي لا يتفق مع المعنى الذي نعطيه، عادة، لتلك الكلمة. لقد نجاني عتَهُ الطبيعة، جنون مخيّلتي. عَتَه! عتَه! كنتُ أنشد. ولحسن طالعي أنني الوحيد الذي كنتُ أسمعني، إذ ما عاد صوتي يشبه شيئاً على الإطلاق. أسعفتني كلمات أخرى. كنتُ في أوقيانوس من الكلمات، في معجم متموِّج من الصفحات المتطايرة. والكلمة الأكثر أماناً كانت "الأسطرلاب". كنت أحب وقعها، لحنها الذي حزرته. طبعاً لا صلة لذلك بالأداة التي تحدِّد علو الكواكب. وإن كان … سطرولاب = امتصّته الشفار …
بعد الصلاة، أعادتني إلى الزنزانة صرخة حادة أطلقها واكرين. كان الفراغ الذي خلفه الراحلون عنا يجعل للصرخة أصداء تتردد في الأرجاء، كأنها قَصْفُ رعدٍ متمادٍ في سماء معتمة. لم يكن واكرين قادراً على التحكم بصراخه فقد ألمَّ به وجع حاد أفقده القدرة على إدراك أفعاله. كان أصبح خارج أي سيطرة، لأنه صار خارج نفسه، بين أنياب كاسِرٍ بدا لنا أنه يُصارعه. تحدثت إليه. لم يسمع. لم يبق ما نقدر على أن نفعله. أتراهُ شاهد الموت ورفض أن يتسلم له؟
بعد كل الذين قضوا خلال ثمانية عشر عاماً، كانت نشأت إلفة بيني
وبين الملاك عزرائيل الذي يبعث به الله لحصاد أرواح الموتى. كنتُ أراه متواضعاً، مجلبباً بالبياض، صبوراً ومطمئناً. كان يخلِّف وراءه عطراً من الجنة. وكنتُ، من دون شك، الوحيد الذي يتنسَّمه. لا يدوم الأمر سوى بضع ثوان. أدرك أنه عبر من النسيم البارد الذي يهب على المعتقل، وأدرك أنه غادر عندما تفوح روائح عطرة في أرجاء زنزانتي. وكان ذلك أجمل بكثير من صورة الموت ذي الهيكل العظمي حامل المنجل الكبير.
في ذلك اليوم، لم أستشعر وجوده أو رائحته. فلابد من أن واكرين ما زال يتألم ولم تَحِنْ ساعته بعد. ما عاد يصرخ أثناء الليل، بل يبكي مثل طفل تغالبه دموعه.
عند الفطور أحضروا لنا خبزاً طازجاً. لابد من أنه خبز عشية الأمس؛لم يكن اللب يابساً. أما القهوة فبقيت على حالها: بولَ جمال. ولكن للمرة الأولى وزعوا علينا سُكراً. كنتُ قد نسيت تماماً طعم السكر، فألفيته مزاً، لأن لعابي لم يُعد معتاداً ذلك الصنف من الأطعمة. أطلق عشار زغردة فرَح. فبالنسبة إليه، صار خروجنا وشيكاً. أما عمر فلزم الصمت، فيما عادت الحياة شيئاً فشيئاً إلى جسد واكرين، وأكل خبزاً وسكراً.
على الغداء أحضروا لنا علب سردين وبرتقالة؛ وعند المساء معجنات، كالعادة. إذ لا ينبغي أن يدللونا دفعة واحدة. كنا في شهر تموز، وبلغ الصلفُ بأحد الحراس حداً جعله يقول لنا:
"اليوم عيد الشباب، إنه عيد سيدنا، حفظه الله ومجّده".
في الصباح الباكر من اليوم التالي، أتوا لاقتياد عشار. غادر الزنزانة معصوب العينين مكبل اليدين. حسب أنه سيطلق سراحه فقال لنا:
"إلى اللقاء يا أصدقاء. إني أكبركم سناً. وفي المغرب لطالما عومل كبار السن بشيءٍ من اللطف. فطبيعي أن أكون أول المحررين. وأعتقد أنكم ستُطلقون قريباً".
أمره أحد الحراس بأن يخرس.
علمت في ما بعد أنه وأحد ضباط المعتقل الآخر، أعيدا إلى سجن القنيطرة المدني، وبقيا فيه لبضعة أشهر إضافية بعد إطلاق سراحنا.
في تلك الليلة، رأيت الحلم التالي:
"نرتدي جميعاً أكفاناً بيضاء، مجتمعين داخل مسجد. نصلي دونما توقف. نقف جنباً إلى جنب لكننا لا نخاطب بعضنا بعضاً. بين صلاتين، نلقي السلام التقليدي. أنهض، أجد مشقة في السير، لأن الكفن يشد على ساقي ويدي. أسحب خيطاً على مستوى أصابعي فتقع القماشة أرضاً. لست عارياً. كفن آخر يكسو جسدي لكنه لا يعيق قدميّ. بإمكاني أن أسير. أغادر المسجد فيما رفاقي يصلون فلا ينتبه أحدٌ إلى رحيلي. فور خروجي يحاصرني بريقٌ من نور ساطع. أغمض عيني فأبصر أمي. أتابع تقدمي ولا يتنبه أحدٌ إليَّ".
لم أكن أجرؤ على التفكير بأن المسجد هو السجن، أو بأن السجن قد يكنَّى عنه بمكان للصلاة.
-37-
كانت ليلة 2 إلى 3 أيلول 1991 إحدى أفظع ليالي اعتقالي.
فقد تم جمعنا في المعتقل "أ" حيث الناجون كانوا أكثر عدداً. عمر، واكرين وأنا كنا في حالةٍ يرثى لها من الإنهاك الجسدي والنفسي. كنا نجد مشقة في السير وفي الوقوف. فكان واكرين يتقدم على أربع، فيما عمر يستند إلى الحائط لكي لا يقع. اقترب مفاضل مني ومدَّ إليّ ذراعه وقال:
"اتكئ عليّ. إنها خاتمة الكابوس. أعتقد أنها الخاتمة. إني لا أعلم أكثر مما تعلمون، لكن هذا كله أشبه بأمرٍ موشك على النهاية".
كنت أهز رأسي إذ لا رغبة لي في الكلام.
كنا حفاة. عصبوا أعيننا ووضعوا الأصفاد في أيدينا، وصوت مجهول يُجري التعداد؛ بتلك الطريقة علمتُ بموت الذين لم يكونوا في معتقلنا. ثمانية وعشرون ناجياً من أصل ثمانية وخمسين محكوماً. ثلاثون ميتاً، ثلاثون معذباً، ثلاثون جلجلةً متراوحة في مدتها وضراوتها.
أصعدونا إلى الشاحنات. سَمْعِتُ الغطاء يُسدل ويُقفل مؤخر العربة، وبقيت أجسادنا ترتج، طوال الليل، كأن الطريق اختيرت خصيصاً لسوء حالتها. سلكت الشاحنات طرقاتٍ فرعية، لا بل شِعاباً في الوعر.
شعرت بشاحنتنا تبطئ سيرها، وسيارات عسكرية أخرى تصل من الوجهة المعاكسة. واتضح لي، مما دار من أحاديث بين السائقين، أنها
جرّافات. ليست شاحنات محملة بجنود محكومين سيحلون محلّنا. قال سائقنا لمعاونه:
"بولدوزر يا بولدوزر، إنه حديد، حديد يفلّ كلِّ شيء، هه هه!
- يجب أن تفسح لهم لكي يمروا وإلا سحقونا.
- أنت محق، الحديد هو الحديد!".
توقفت عن التفكير. كنتُ أتخيل. أختلق. أرى فكين معدنيين معلقين برافعة هائلة، ثم جرافات لكي يهدم كل شيء. فلا يعود المعتقل موجوداً، ولا السجن. تجعل مباني المعتقل سوية الأرض، تهدم الجدران، تُحيلُ الحجارة تراباً ورملاً. تنطلق تلك الماكينات الملتهمة في كل اتجاه، تسْحَق كل بنيان. فكرتُ في العقارب. هي أيضاً سوف تستحيل رملاً. ولكن لِمَ العمل على هدم كل شيء؟ بلى، لمحوِ أثر الفظاعة! فما هو أفظع من الفظاعة التي مورست، نفيُ وقوعها.
أطرق عظامك، أهرس لحمك، أرميك في قَبْرٍ، أدعك تموت بجرعات قليلة بلا نور، بلا حياة، ثم أنكر كل ذلك: هذا كلُّه لم يحصل. ماذا؟ معتقل في تزمامارت؟ من يكون ذلك الصفيق الذي يتجرأ على التفكير في أن بلدنا قد ارتكب جريمة مثل هذه، فظاعة لا توصف؟ فليغرب الصفيق! ماذا؟ إنها امرأة، الأمرُ سيَّان، فلتغرب، ولن تطأ قدماها ثانية أرض المغرب! جاحدة! بئس التربية! شاذة! تجرؤ على الاشتباه بأننا تدبَّرنا آلية الموت البطيء في العزلة التامة! يا للغطرسة! إنها صنيعة أعداء بلدنا، أولاء الذين يحسدون استقرارنا وازدهارنا. حقوق الإنسان؟ إنها غير منقوصة وما على السائل إلا أن يرى وبعاين. سجناء سياسيون؟ لا، لا وجود لمثل هذا عندنا. مفقودون؟ الشرطة تبحث عنهم، وهي تستحق منا التحية لأنها تؤدي واجبها على أكمل وجه!.
كان ذلك الخطاب يتردد مراراً وتكراراً في رأسي المصدوع. وكنت
أبتسم. هكذا سيهدمون معتقلنا. أتخيل جنوداً ينهالون على كتل الإسمنت، متعرِّقين لاهثين. لا يحق لهم أن يخاطبوا بعضهم بعضاً أو أن يطرحوا أي سؤال. "سر القيادة العليا". عملية سرية. وقد يُعطي لها اسم رمزي: "بتلات الورود"، بسبب موسم الإيملشيل الذي يهدي فيه الرجالُ وروداً للفتيات اللواتي سيصبحن زوجاتٍ لهم. اسم مرهف. أرى جنوداً آخرين ينقلون شجراتِ نخيل اقتُلعت حديثاً من جنينة النخل في مراكش ويحاولون غرسها في المكان نفسه الذي عايش فيه رجال جُلجلتهم المطلقة. غير أني أتخيل أو حتي أرتاب وألاحظ أن شجرات النخيل تبقى متحفظة حيال ما يجري. الجنود يغرسونها، يحاولون تثبيتها، يربطونها بالحبال، لكنها لا تستقيم واقفة؛ تميل وتسقط على الأرض ناعفةً من حولها سحب الغبار الأحمر والأصفر. يغصّ الجنود، يسعلون وينكبون مجدداً على عملهم. لا جدوي. شجرات النخيل لا تريد أن تنغرس في تلك الأرض المشبوهة، في ذلك المكان الملعون حيث سالت الدماء وحيث ذرفت الدموع. شجرات النخيل لا تنبت في المقابر. إذ ذاك يرحل الجنود حاملين شجرات النخيل ويقصدون غابة المعمورة لاقتلاع شجيرات سنديان أو مزّان لتكرار المحاولة في إنجاز عملية "بتلات الورود" الهادفة إلى تمويه العار.
لكن إذا تمكَّن جنود من محو آثار المعتقل، فإنهم أبداً لن يتمكنوا من محوٍ ما كابدناه، من ذاكرتنا. آه، ذاكرتي، صديقتي، كنزي، شغفي! يجب أن تصمدي. إياك الوهن. أعلم التعب وعاديات الزمان. آه، ذاكرتي، يا طفلتي التي ستحمل هذه الكلمات إلى ما وراء الحياة، ما وراء المرئي. إذاً، اهدموا، اكذبوا، موّهوا، وارقصوا فوق رمادِ الرجالِ. سوف تصابون بالدوار وبعد ذلك لن يكون سوى العدم.
كان التعب والألم قد أجبراتي على السكوت. رأسي يغلي مثل قِدْرٍ، وأفكاري فقدت قوامها. صوري تمور قبول أن تتلاشي في الليل. كانت
كتفي تؤلمني، وعمودي الفقري يؤلمني، وجلدي يؤلمني، حتى شعري كان يتألم. كانت يداي وعنقي متصلبة.
استغرقت الرحلة نحو اثنتي عشرة ساعة. وعندما توقفت الشاحنات ظننتُ لوهلةٍ أننا عدنا إلى المعتقل. ترجلنا من الشاحنة واقتادنا جندي. أدخلني إلى حجرة، ثم نزع أصفادي وعُصابة عيني. عندما فتحتُ عينيِّ شعرتُ بالألم فأغمضتهما مجدداً وانتظرتُ واقفاً متكئاً على حائط ريثما أدرك ماذا يحل بي أو أين أنا. فتحتهما يرفق. أبصرت على الفور نافذة صغيرة في أعلى الحائط ينسربُ منها الضوء. وبرغم تعبي الشديد، تبسَّمتُ للمرة الأولى منذ زمن طويل. قال لي الجندي إن بإمكاني الاستلقاء على السرير. فلبثتُ واقفاً لم أحرِّك ساكناً كأني لم أسمع. كرَّر قوله بنبرة يمتزج فيها التعاطف بالاحترام: "سيدي الملازم أوَّل، ستكون أفضل حالاً لو استلقيت". كيف يعلم أني ملازم أوَّل؟ منذ عشرين عاماً لم أسمع أحداً يخاطبني ذاكراً رتبتي. أذكر أني رُقيت إلى تلك الرتبة في 9 تموز 1971. وفي اليوم التالي أضفت إلى الكتفية النجمة الثانية. أعانني على الاستلقاء فوق السرير. تمددت على جنبي الأيمن. جعلت الأرض تهتز والسرير يترجح يمنة ويسرة. الجدران تتقدم ثم تتراجع. فيما أرى الأرضية تتلألأ بأنوار خاطفة. أحسستُ بأني أهوي في الفراغ. أسقط على أكياس من الصوف أو القطن. وذكرني ذلك بقفزتي الأولى بالمظلَّة، إذ شعرتُ بهلع خفيف في موضع القلب، أما هناك فقد كان الهلع غامراً كأن المظلة لم تقذف. كان جسيم المبرَّح مشدوداً إلى أسفل. شعرتُ بالبرد. شعرت بأني في حال من انعدام الجاذبية وأصابني دوار. كان عليِّ أن أغادر ذلك السرير الوطيء بأسرع وقت، لأن بشرتي ما عادت تحتمل أية نعومة. كان جسمي مشبعاً بالجراح من كل صنف ونوع. نفسي متعافية، لا بل أقوى مما كانت في السابق، لكن جلدي تالف إلى أبعد حدّ. كنت أحاول أن أنهض مجدداً فأتشبَّث بالمفرش لكي لا أقع. وعلى إثر
محاولات متكررة تمكَّنتُ من الوقوف. كنتُ أقفُ، كما في زنزانتي، منحنياً. كان السقف عالياً لكني أراه خفيضاً. سحبتُ الغطاء والشراشف واستلقيت على الأرض. كانت الأرضية صلبة وباردة، فأشعرني ذلك بالأمان، وصار بإمكاني أن أنام، أن أغرق في أكثر الليالي عمقاً.
أيقظني جندي آخر إذ أحضر لي صينية وُضع عليها طعام لم أره منذ زمن بعيد: نصف فرخة مشوية، وهريسة بطاطس وسلطة طماطم بالبصل، وخبز طازج، وصواع لبن. لبثتُ أحدقُ ملياً في وجبة الطعام تلك لكني لم أتجرأ على مسَّها. أكلت الخبز والهريسة واللبن. أما الباقي، فحسبت أنه ينبغي الانتظار بضع ساعات أخرى. حين وضعت في فمي قطعة من صدر الفرخة، رحتُ ألوكها بصعوبة بالغة لني فقدت نصف أسناني، أما النصف الآخر فكان معرضاً للسقوط.
وإذ ابتلعتها، لم أحس بشيء. لم يكن لها طعم. فأتبعتها بشريحة طماطم ثم شربتُ كوباً كبيراً من الماء. عند المساء أحضرت لي صينية أخرى مليئة كسابقتها بالطعام. كأنه يوم عيد. احتسيت حساء الخضار وأكلت اللحم المفروم. فانتابتني على الأثر آلام في المعدة، فما كان ينبغ أن أكثر من الطعام.
خلال الليل حاولت مجدداً أن أنام على السرير، غير أني واجهت مشقة في تحمُّل ذلك الترف. وأمضيت ليلتي الثانية مفترشاً الأرض. عند الصباح زارني طبيب. طرح عليّ أسئلة ذات طابع طبي بحت. وكنت أجيبه من دون أي تعليق. أشرتُ إلى مواضع الألم. عاينني لمدة ساعة. وصف لي تحاليل بول ودم، وأحضر لي عقاقير لأتناولها.
بمضي ثلاثة أيام جاء طبيب آخر لزيارتي. لابد من أنه اختصاصي في أمر ما. استعلم عن حال مرارتي.
"يجب أن تُجرى لك جراحة. ولكي نتمكن من ذلك علينا التريُّث
لأن حالتك الآن لا تسمح بإجراء جراحة. خذ هذه الأقراص في حال تعرضت لنوبة وسوف نرى لاحقاً".
أطباء آخرون تعاقبوا على غرفتي. لابد من أن حالتي هي حالة ناجٍ بأعجوبة، لأني تخطيت أبشع المحن. وجسمي شاهد على ذلك.
بعد أن أمضيتُ أسبوعين في ذلك السجن الذهبي، جاء ممرض لاصطحابي إلى عيادة طبيب الأسنان فقد انتقل هذا الأخير بعيادة ميدان مجهزة بالآلات الضرورية للعناية بالأسنان.
كانت العربة العيادة تطل مباشرة على رواق المبنى حيث أقيم. كان يكفي أن ألقي نظرة عبر النافذة لكي أعرف المكان. الأشجار ما زالت كما هي، وكذلك الجبال. وللسماءِ ألوان غريبة.
لكي نعالج قبل أن يُطلق سراحنا، أعادونا إلى المدرسة التي منها انطلقنا لتنفيذ الانقلاب العسكري قبل عشرين عاماً. كنا في مدرسة هرمومو التي جُعِلَت مركزاً للرعاية الطبية للناجين من تزمامارت.
وسوف يبقى ذلك اليوم يوماً تاريخياً في حياتي: ففيما كنتُ أستلقي على كرسي طبيب الأسنان المتحرك، أبصرتُ شخصاً ما فوقي. من كان ذلك الغريب الذي يحدِّق بي؟ كنتُ أرى وجهاً معلقاً بالسقف. يكشّر حين أكشر، يُقطِّب حين أقطب. كان يهزأ بي. لكنْ من يكون؟ كدتُ أصرخ لكني تمالكت نفسي. فمثل تلك التهيؤات معتادة في المعتقل؛ لكني هناك لم أكن معتقلاً. فكان عليّ أن أذعن لتلك البداهة المكدَّرة: إن ذلك الوجه، المثلّم، المجعوك، المخطط بالتجاعيد والغموض، المذعور المرعب، كان وجهي أنا. وللمرة الأولى منذ ثمانية عشر عاماً أقفُ قبالة صورتي. أغمضتُ عيني. أحسست بالخوف. خفتُ من عيني الزائغتين؛ من تلك النظرة التي أفلتت، بمشقة، من الموت؛ من ذلك الوجه الذي شاخ وفقد سيماء إنسانيته.
حتى الطبيب لم يُخفِ دهشته. قال لي بلطف:
"أتريدني أن أغطى هذه المرآة؟
- لا، شكراً. سيكون عليّ أن أعتاد هذا الوجه الذي حملته من دون أن أدرك كيف يتغيَّر".
صدمته حالُ أسناني. رأيت ذلك بوضوح من العلامات التي ارتسمت على وجهه. كان رجلاً مرهفاً، وودَّ فعلاً أن يعبر عن تعاطفه غير أن نظرتي الغريبة المحملقة به صدَّت منه أي عبارة. هل كان خائفاً مني، من صورتي المرعبة، أم أن حالتي الصحية العامة قد أقلقته إلى حد أفقده القدرة على الكلام؟ تنهَّد عميقاً ووضع كمَّامة على فمه وأنفه وحاول أن يبدأ بتقليح أسناني. كانت اللثة تنزفُ من كل المواضع فيها. توقف وقال لي: "في المرة المقبلة سأجري كحتاً للثة". وأعطاني أقراصاً لأتناولها وأعانني على النهوض. أثناء سيري رحت أبحث عن الوجه الآخر الذي كان يشاكسني. نظرت إلى السقف، إلى الجدران، إلى الخلف. فقال لي الجندي الذي يرافقني: "لا تخف، سيدي الملازم أول، لا أحد يتعقبنا!".
كان لدينا مزين يقصّ شعورنا ويحلق ذوقننا. لم تكن لديه مرآة. ذات يوم طلبت منه أن يحضر واحدة.
"ممنوع، قال. هنا أنتم قيد العلاج وهم يخافون أن تراودكم الأفكار السوداء.
- حسناً. فهمت، ولكن ألا يمكنك، على الأقل، أن تدعني أرى وجهي في مرآتك؟
- لا أملك واحدة".
بمضي شهر كنت بدأت أشبه كائناً بشرياً عادياً، لم يبق لدي من مشكلة سوى تلك النظرة التي تخيف كل من يراني.
تظاهر الطبيب النفساني بأن عيني لا تزعجانه. طرح عليَّ أسئلة أجبتُ عنها بشيء من الاقتضاب:
"ما هو شعورك تجاه الجيش؟
- لا شيء.
- أتشعر بضغينة، برغبة في الانتقام؟
- لا.
- ما رأيك بأسرتك؟
- إنها الأسرة.
- ما رأيك بوالدك؟
- إنه شخص يحب أولاده لكنه ليس أباً.
- أتشعر بضغينة تجاهه؟
- لا، على الإطلاق.
- ماذا ستفعل حين تغادر هذا المكان؟
- لا أدري. ربما أعالج نفسي.
- قيل لي إنك أُصبت بصدمة عندما رأيت صورتك في المرآة عند طبيب الأسنان. هل هذا صحيح؟
- أجل، صحيح. كانت نظرة جنون في حين أني ما زلت بكامل عقلي. كما إنها نظرة الموت في حين أني ما زلت حياً. لم أقبل بأن تكون لي تانك العينان المسكونتان بأمرٍ مُرعب. إنهما عينا شخصٍ هاذٍ. أشعر بالخوف، وأرى الخوف في نظرات الآخرين. ربما كان ينبغي أن استعد لهذه الصدمة. لكني ذات يوم سأفعل.
- سوف تفعل، إني واثق من ذلك. هل تحلم منذ أصبحت هنا؟
- أجل، أحلم كثيراً، حتى هناك كنتُ أحلم طوال الوقت. ولم تكن كلها أحلاماً مرعبة.
- هل تستطيع أن تحكي لي واحداً منها؟
- من أحلام هذه الأيام أم ما قبلها؟
- لنقل حلماً أثر فيك.
- إنه حلم رأيته مراراً. أراني في مراكش في بيت قديم من المدينة، عبارة عن رياض محاط بباحات خارجية وبحجرات واسعة. في المطبخ أرى أمي. هي لا تراني. أعبر متجهاً نحو الردهة الخلفية حيث هناك بئر. فتحة البئر مكسوة بسماط مطرّز بأيدي شقيقاتي أيام الدراسة. أراني في تلك الحجرة المعتمة. أرى رجلين منهمكين بحفر قبر إلى يمين البئر. ويُكدس الترابُ المرفوع في الناحية الأخرى. تنبثق منه حبَّات صغيرة لامعة. إنها لا تخيفني. إني هناك، فاقد الإرادة، فاقد الصوت. يمسكني الرجلان من ذراعي ويلقيان بي في القبر الذي حفروه. وبسرعة، يغطيانني بالتراب. لا أحرك ساكناً. لا أحاول الصراخ. إني مدفون لكني أسمع وأرى كل ما يجري في المطبخ. أرى أمي تعدُّ الطعام. أرى الخادمة تمسح الأرض. أرى الهرّ يطارد فأراً. لا أشعر بالخوف. لا أشعر بشيء. أضحك بمفردي ولا أحد يأتي ليخرجني من هناك.
هاكَ يا دكتور. أحب هذا الحلم لأنه يتطابق مع حدسي. كنتُ أعلم أني لن أموت في تزمامارت.
- شكراً لتعاونك. ليس لدي ما أضيفه. كان الله في عونك!"
-38-
في هرمومو، بعد شهرين من العلاج، علمنا أنهم سيطلقون سراحنا. فقد كانت السلطات تعمد إلى انتقاء سجينين أو ثلاثة ثم تضعهم في عهدة الدرك في منطقتهم. فحتى اللحظة الأخيرة كنا لا ندري من منا سيغادر ومن عليه أن ينتظر بَعْد.
جاء دوري بعد خمسة عشر يوماً على بدءِ عمليات الإفراج. كنتُ في الغرفة حين دخل القمندار مصحوباً بطبيب:
"مولانا الملك قد عفا عنك. في غضون أيام ستعود إلى أسرتك. ومن المؤكد أنك ستتلقى اتصالات من قبل صحافيين أجانب، من قبل أناس يتربصون ببلدنا شراً. المطلوب منك بسيط جداً: ألا تجيب عن الأسئلة المغرضة؛ الامتناع عن التعاون معهم؛ رفض الاتصال بهم. وإنْ حاولت أي ضرب من ضروب التذاكي أعدتُك أنا، بيدي هاتين، إلى تزمامارت! مفهوم؟".
كنتُ عقدت العزم على الامتناع عن لكلام، على التزام الصمت، وألا ألعب لعبتهم. ولكن في مثل ذلك الموقف كان عليّ أن أجيب:
"اسمعني يا قمندار دبّاح، اسحب عبارتك الأخيرة، لأن وجود ما هو أسوأ من تزمامارت أمر مستحيل.
- كيف عرفت اسمي؟".
لقد استطعت أن أباغته.
"عرفت في الأكاديمية شخصاً يشبهك كأنه أنت. إذاً، احفظ تهديداتك لنفسك. وفوق ذلك، لديّ طلب منك.
- طلب؟ ما قصة المطاليب هذه؟
- إنْ غادرتُ هذا المكان، ينبغِ أن أغادره مُستلقياً. لذا تلزمني مرتبة. وإلا وصلتُ سائراً على أربع، وأحسب أن أمراً كهذا من شأنه أن يسيء إلى سمعة الجيش والدرك، وحتى سمعة البلاد".
استدار نحو الطبيب سائلاً:
"أترى، يا دكتور، أن حالته الصحية متردية إلى هذا الحد؟
- ليس فقط أنه في حالة صحية متردية جداً، بل إني أيضاً لا أضمن وصوله إلى مراكش حياً إن لم يسافر إليها مستلقياً.
- حسناً إذاً، ستحظى بالمرتبة".
غادر ثم عاد قائلاً من صدع الباب:
"في أي سنة كنت في الأكاديمية؟
- وما أهمية ذلك الآن؟ فلا أحسب أننا سنستعيد الآن ذكريات الشباب!".
صفق الباب بقوة وراءه، ولم أره منذ ذلك الوقت.
جاؤوا لاصطحابي في اليوم التالي، عند منتصف الليل. أحضروا طقماً، وقميصاً وربطة عنق وحذاء. لم يكن شيء منها على مقاسي، فغادرت مرتدياً منامة رياضة.
سَفَرُ عشرين ساعة تقريباً. كنتُ مستلقياً وسط الشاحنة. كانت الاهتزازات تسبب لي ألماً، والوقت يطول. بلغنا مراكش عند المساء.
كنت أسمع المؤذّن داعياً إلى الصلاة، وزمامير لسيارات، وضوضاء الدراجات النارية، وموسيقى الحياة.
أنزلوني عند مركز الجندرما الملكية في مراكش. كانوا في انتظاري. أدخلوني إلى غرفة مكتب جلس فيها أناس نافذون. جلستُ على كرسي وسط الحجرة. شبكتُ ذراعي ورحت أحدِّق بالقائد الذي كان يتحدث إليّ. تكاد كون أشبه بجلسة محاكمة استثنائية.
"مولانا الملك، حفظه الله وأجلَّه، قد عفا عنك. وغداً سوف تعود إلى عائلتك. ولكن حذار، هناك أجانب سيتصلون بك بالتأكيد… إلخ".
كان يتكلم بنبرة رصينة ملؤها الخُيَلاء، ولم أكن أسمع سوى قعقعة الأحشاء والضريط وصريف الأسنن، وكل ما يثيره الجِسْمُ المعتل من ضوضاء مضاعفة. كان وجهه متقلباً متغير الأحجام. شفته السفلى متدلية تلامسُ سطح المكتب حيث يداه تلعبان بمسطرة. كانت أسنانه تقع مُحدثة ما يشبه جلبة سقوط الأحجار؛ وكان أنفه جارياً؛ والعرقُ يتصببُ من أنحاء جسمه. والقائد لا يلحظ ذلك. يواصلُ تهديداته فيما ألبث محدقاً به بثبات. وكلما أمعنتُ في التحديق، أمعن في الارتباك، في الغلط، في الاستدراك بحثاً عن عباراته. كانت نظراتي كفيلة بشلِّ أوصاله. ضرب لطاولة بالمسطرة؛ فتبعثرت أوراق أحد الملفات وانتثرت في أرجاء الغرفة، وإذ ذاك، صاح وقد طفح به الكيل قائلاً:
"إخفض بصرك. إنك تَمْثُل هنا أمام القائد، كوميسير المقاطعة، رئيس الناحية … حسناً، كنتُ أقول إنه إذا اتصل أحد بك، فعليك أن تبلغنا. مفهوم؟".
لم أنبس بكلمة. تابعت التحديق به. فثارت أعصابه وأشعل سيجارة ضارباً على الطالة من جديد. أوقفه كوميسير المقاطعة:
"دعك من هذا! دعه وشأنه!".
عند مغادرتي المكتب لمحت شقيقي الأصغر وبصحبته امرأة. رحتُ أرمقهما بلا حراك. ضمني أخي إليه باكياً، وقال:
"هل تعرَّفت إلى ناديا؟ إنها أختك الصغيرة".
كانت ناديا تبكي، أما أنا فقد كانت عيناي خاويتين تماماً. حالما وصلنا إلى المنزل، وجدت مشقة بالغة في التعرُّف إلى شقيقي الأصغرين. يوم اعتقالي كان احدهما في التاسعة والآخر في الحادية عشرة. طلبت أن أرى أمي. لكنها كانت في الجديدة، حيث تعالج. كانت متوْعكة جداً وما كنت أدري. حتى إني لم أستشعر مرضها. لم أنطق بكلمة: شعرت بدوار، وعجزت عن النوم. استلقيت على الأرض، تحت الطاولة. تقوصتُ على نفسي مثل حيوان جريح، ورحتُ أتقلب من جنب إلى جنب، ثم نهضت صادماً رأسي بالطاولة الخفيضة، ثم وقعتُ على السجادة، غاشياً، غير مدرك لشيء.
كنا في 29 تشرين الأول 1991. وكنتُ قد وُلدتُ لتوّي
-39-
كانت ولادتي، هي أيضاً، محنة. إذ بدوت كعجوز ضامر قد رأى النور لتوّه. فقدتُ أربعة عشر سنتيمتراً وحظيتُ بحدبة. أصيب قفصي الصدري بتشوهات وانخفضت قدراتي التنفسية. بقي الشعر صامداً لكن الجلد تجعَّد. وكنتُ في سيري أجرجر ساقي اليمنى، والكلمات التي أنطق بها تخضع للتنقية لفرط ما أقلِّبها قبل أن أختار إحداها. كنتُ مقلاً في الكلام لكن رأسي لا يهدأ؛ مولود جديد عليه التخلص من ماضيه، فقررت أن أكف عن استذكار أي شيء. لم أعش خلال عشرين عاماً، وذاك الذي كان موجوداً قبل العاشر من تموز 1971 قد مات ودُفن في مكان ما، في جلِ أو منبسط معشب.
كيف السبيل لأن أُفهم من حولي أني كائن جديد، نال منه التلف جرّاء الرحلة، ولا صلة له بِمَنْ ينتظرونه، بذاك الذي رأوه مغادراً ذات يوم ولم يعد؟ ما كانت العبارات تكفي، لا بل كانت تضلِّلُ كل الذين يفهمونها بحرفيتها. لذا كانت أمتنع عن الكلام، عن الإدلاء بأي تعليق، أمتنع عن المشاركة في الحياة الاجتماعية. وكنت أسمعهم يقولون:
"ما زال تحت وطأة الصدمة.
- إنه غريب الأطوار!
- بالضبط، إنه مصدوم. لكُنّا مثله لو تعرضنا لأقل مما تعرّض له".
كان الناس يُبدون رغبتهم في استقبالي، وإقامة الحفلات احتفاء بي،
وبذل الهدايا لي. كان البعض يسعى لأن أسرد وقائع الإقامة في الجحيم، ظناً منهم أن مثل ذلك قد يريحني. لم يكن باستطاعتهم أن يدركوا كم كنت بعيداً، في مكان آخر، متشبثاً بصلواتي، منفياً إلى عالمي المسكون بالروحانية والإيمان والتخلي. كنتُ أستلقي على بطني باسطاً ذراعي مثل مجهولٍ تُركَ على قارعة الطريق. كنتُ أخاف أن استلقي على ظهري. كنت غريباً تائهاً في عالم لا أعرفُ فيه شيئاً، ولا أحداً.
مضت خمسة أشهر ولا أزال أجد مشقة في التعوّد على الرفاهية والأمور اليسيرة المنال. عندما أدخل الحمام أقف لوقت طويل مستغرقاً في تأمُّل الصنابير بإعجاب. أنظرُ إليها ولا أجرؤ على فتحها. كنت أتحسسها مثل أشياء مباركة، وأدير مفاتيحها ببطء وطولِ أناة. وعندما يجري الماء كنتُ أقتصد فيه، وأدِّخر كل شيء. عانيت الأمرين في اعتيادي الخفين. أسير على رؤوس أصابع قدمي الحافيتين كأني خائف من الانزلاق أو من توسيخ البلاط. وسمعي صار مُرهفاً على نحو عجيب. أسمع كل شيء، ولا يفوتني أمر. كان ذلك مزعجاً، إذ تتناهى الأصوات إلى مسمعي مضخِّمة. وفي غمرة الصمت يستحيل الطنين في أذني إيقاعاً حاداً ومتصلاً. كانت عيناي تلتهمان الصور من دون أن تعرف ما هي، ومن دون أن تنتقي منها. كنت أشبه باسفنجة، أمتص كل شيء؛ أحشو نفسي بكل ما يعرض لي. وإذ ذاك أدركت أني مولود جديد من صنف نادر: لقد جئتُ إلى العالم وكنتُ مكتملاً قبل أن آتي إليه. كلُّ شيء يذهلني، كل شيء يفتنني متخلياً عن إصراري على فهم كل شيء، وخصوصاً تفسير الحالة التي كنتُ عليها لمن هم بقربي.
لكي أنام كنت أحتاج إلى سرير قاسٍ، فطلبت أن يوضع لوح خشبي عريض تحت الفراش.
أطباء كثر انكبوا على حالتي؛ لا يفهمون كيف تمكنتُ من البقاء حياً. كنتُ أحتاج إلى الصمت والعزلة، وهما أمران يصعب توافرهما في
عائلة يغلبُ على أوقاتها الاحتفال بالأشياء.
كنتُ أفضل الذهاب للجلوس بجنب أمي. كان السرطان يبرح أيامها، لكنها لا تشكو. كانت تقول لي:
"لن أجرؤ أبداً على الشكوى أمامك. يا بنيّ إني أدرك ما قاسيته. لا داعي لأن تحكي لي. إني أعلم مقدار ما يستطيعه البشر إذا قرروا أن يؤذوا بشراً آخرين. سروري كبير لأني رأيتك. كنتُ أخاف أن أموت وفي قلبي تلك الغصة. الآن، صارت حياتي بين يدي الله، إذا استدعاني إلى جواره، كانت مشيئته؛ بلا دموع، بلا نحيب: فقط بضع صلوات وحفنة خاطرات رقيقة. قُل، يا بني، احكِ لي، يبدو أنك قابلت أباك! كيف جرت الأمور؟
- على أبسط ما يكون. أختي الصغيرة أقامت حفلة في عيد ميلاد ابنتها العشرين، ودعت شيخات وعازفين وعدداً من الأصدقاء. كنتُ من بين المدعوين. ولم يكن في نيتي أن أمكث طويلاً في أمسية مماثلة. أبي وصل متأخراً كعادته، وكان دخوله كملك. كان مصحوباً بزوجته الشابة، وهي للمناسبة إنسانة لطيفة. كان مجلبباً بالحرير ويوفح منه عطر نسائي. عندما جلس نهضت وتقدمت باتجاهه. ثم انحنيت. وعلى جاري عادتي، قبّلتُ يده اليمنى. سألني كيف حالي، فأجبته بأني بخير. فقال: "عافاك الله"، فغادرته محاطاً بحاشيته ورجعت إلى مكاني، وكأن شيئاً لم يكن. كان يروي للمرة الألف حكاية المزيِّن الجزائري الذي رفض تسديد إيجار إحدى دور الباشا الكلاوي التي كان يحتلها.
- أوَتدري يا بني، إنه لم يكن، في يوم من الأيام، أباً لأيِّ من أولاده. يحبّهم، ولكن ينبغي ألا يُطلب منه أكثر من ذلك. ولطالما كان على ما هو عليه الآن. حتى إني كنت أناديه أحياناً: حضرة الضيف. يجب ألا تحقد عليه. قل لي، يبدو أن تزمامارت لم يكن موجوداً في يوم من الأيام؟
- هذا ما يُقال. ولكن ما الفرق. صحيح أنه لم يوجد يوماً. ولا رغبة لي على الإطلاق في الذهاب إلى هناك للتثبت من الأمر. يبدو أن دغلاً لي على الإطلاق في الذهاب إلى هناك للتثبت من الأمر. يبدو أن دغلاً من شجر السنديان العتيق قد انتقل وغطى الحفرة الكبيرة. ويُقال حتى إن البلدة نفسها ستغيّر اسمها. ويُقال. … ويُقال …".
انتهـــت