علوم اللغة العربية : يحتوى هذه المنتدى على كتب وأبحاث علوم اللغة العربية وهي المجموعة في قول الناظم:
نحو وصرف وعروض ثم قافية***وبعدها لغة قوض وإنشـــــــــاء
خط بيان معان مع محاضــــرة ***والاشتقاق لها الآداب أسمــــــاء
بسم الله الرحمن الرحيم
علي بن الأَوْجَلِيِّ
هُو من قَلْب سَلْطنةِ أوْجَلةَ الصَّمِيم ، وراعِي عَرارِها الفائِح نَشْرُه والشَّمِيم . صاحبُ القول المُعْجِب المُغْرِب ، الذي لم يَضُمَّ مثلَه المشرقُ والمغرب . كان نازعَهُ المُلْكَ ابنَ عَمٍّ له تغلَّب عليه ، و كاد بقُّوَّةِ مالِهِ وأخْيالِه يسُوق الحَتْفَ إليه . فخرَج من دارِ مُلْكِه تَتراماه البلادُ تَرامِيَ الكُرةِ بالصَّوْلجان ، وتزهُو به زَهُوَ الأيَّامِ بالنَّوْرُوزِ والمِهْرَجان . يُفاوِحُ زهرَ الرُّبَى مَسْراه ، ويُنافِح نسيمَ الصَّبا في مَجراه . فإذا حَلَّ بنَادٍ اسْتقبلتْه الهَشاشة ، وفُرِش له بين الذِّمَاء والحُشاشة . فمن أوْجلةَ الغَرْب إلى مصرَ إلى دِمَشْق إلى حلَب ، وبها حَطَّ رَحْلَه على وَفْقِ ما اقْتَرح وطلَب . قال العُرْضِيُّ : فكتب إليه من كلمة طائيَّة : بُرُوقٌ أطالتْ من سَلاسِلها السَّقْطَا . . . فها مِجْمَرُ النُّوَّارِ قد ضَوَّع القُسْطَا وفرَّخ في كَانُونِ قلبي سَمَنْدَلُ اشْ . . . تياقِي لجيرانٍ أناخُوا بذي الأرْطا سقى الْبارِقُ النَّجْدِيُّ لا بارقُ الحِمَىوحَيَّي الْحَيَا من أَدْمُعِي الدُّرَّةَ الْوُسْطَى مَرابِعُ للغِزْلانِ كانتْ فأصبحتْ . . . مَراتِعَها تَرْعَى بها الأثْلَ و الخَمْطَا يذُودُون عن رِئْمٍ هناك مُشَرَّدٍ . . . ومِن عادة الآرام تعْطُو ولا تُعْطَى ولم أنْسَ إذْ عاطَيْتهُ أكْؤُسَ الهوى . . . وبات يُعاطِيني رُضاباً بلِ اسْفَنْطَا وقام بلالُ الخالِ في صُبحِ جِيدهِ . . . يُراعِي ثُرَيَّا قَرَّطُوه بها قُرْطَا بجِيدٍ مَسَحْتُ الدَّمْعَ فهو ابنُ مُقْلَةٍ . . . تَناوَل طُوماراً وأعْجَمَه نَقْطَا لقد طَرَّزَ الرَّيْحانُ صَفْحَة خَدِّه . . . طِرازاً على يَاقُوتِ وَجْنتِه اخْتَطَّا ثلاثٌ غدَتْ أمْضى شَباً من شَبا الْقَضَا . . . وأجْرَى من الأقْدارِ في الحُكْمِ بل أسْطَى
نَبَّهَ الوَسْنانَ تَغْريدُ الحمامْ . . . في ذُرَى الدَّوْحِ وقد فاح الخُزامْ ويَدُ الصبحِ من الأُفقِِ بَدتْ . . . بِمياهِ الضوءِ في شكلِ الظَّلامْ وروَى في الأَيْكِ أخبارَ الهوى . . . بُلْبُلٌ عن عَنْدَليبٍ عن إمامْ فيه أن العندليب هو البلبل ، ولا معنى لرواية الشخص عن نفسه ، إلا أن يُحمل على أشخاصِ نوعٍ واحد ، روى بعضُها عن بعض ، كما هو واقع في أشخاص النوع الإنسانِيّ . ولَوى الظلُّ على خَدِّ الضُّحَى . . . سالِفاً حامَ على الأصْداغِ سَامْ وانْتضَى في الجوِّ سيفَ البَرقِ من . . . غِمْدِه المَرْقوم من وَدَقِ الغَمامْ فتَسايَرْ مَعْ نجومِ الصبحِ في . . . فَلَكِ اللهوِ وخُذْ واعْطِ المُدامْ لَهَفَتْ فهي هواءٌ وصفَتْ . . . فهي ماءٌ أشعِلتْ فهْي ضِرَامْ قابَلَ الساقي بها وَجْنَتَهُ . . . ليُرِينَا أنها منها تُقامْ يَقْرُب منه قولُ يزيد : دَعَوتُ بماءٍ في إناءٍ فجاءَنِي . . . غلامٌ بها صِرْفاً فأوْسَعْتُه زَجْرَا فقال : هي الماءُ الْقَراحُ وإنما . . . تجلّى له خَدِّي فأوْهَمك الخَمْرَا وأحْسَنُ مِنه قولُ ديكُ الجِنِّ : مُشَعْشَعٌَ مِن كَفِّ ظَبْيٍ كأنَّما . . . تَناوَلها مِن خَدِّه فأدارَها عجباً فيها قرأنا عبساً . . . في احتساها وهي منّا في ابْتسامْ من قول الناشِيء : تأتيكَ ضاحكةً وأنتَ عبوسُ وما أحسن ما ختم القصيدة بقوله في الدعاء للممدوح : وابقَ ما الرّوضُ تلت أزهارُه . . . سُورةَ الفَتْحِ على سَمْعِ الكِمامْ قوله : ' ولوى الظل ' البيت من قول ابن النّبِيه : تبسَّم ثَغْرُ الرَّوضِ عن شَنَبِ القَطْرِ . . . ودَبَّ عِذارُ الظِّلِّ في وَجْنةِ النَّهْرِ ومما امتدح به بعض البغداديين الأعيان : أَلسُهْدِ عيني في الهوى إغْفاءُ . . . أم هل لنارِ جَوانحِي إطْفاءُ يا مُتلفي بِسهامِ مُقْلتِه التي . . . فيها الدَّواءُ ومِن دَواها الدَّاءُ أنْتَ الطَّبِيبُ وأنت دائي فاشْفِ ما . . . عمِلتْ بقلبي المُقْلةُ الوَطْفاءُ
أمُعنِّفِي في حُبِّ بدرٍ مُشْرِقٍ . . . قسَماً لأنتَ العاذِلُ العَوَّاءُ ومِن الجهالةِ أن تُعنِّف من يَرى . . . أنَّ المَلامَ على الهوى إغْرَاء بي مَن إذا ما لاح فالبدرُ انْجَلَى . . . وإذا مَشَى فالصَّعْدَةُ السَّمْراء إن ضَلَّ قلبُ الصَّبِّ فيه بشَعْرِه . . . فلقد هَوَتْهُ الطَّلْعةُ الغَرَّاءُ يسْعَى بِراحٍ في زُجاجتِه التي . . . جَمَدَ النُّضارُ بها وقامَ الْماءُ أصلُ المِصْراع الأخير للمُتنبِّي ، إِّلا أنه غيَّر بعضَ كلماتِهِ ، وتصرَّف فيه تصرُّفاً حسناً على سبيل التَّضْمين ، وسلَخه عن مَعْناه الأصْلِيّ . وبيتُ المتنبِّي هو قوله : وكذا الكريمُ إذا أقام ببَلْدَةٍ . . . سال النُّضارُ بها وقام الماءُ رَاحٌ يطوف بها الحسانُ لذاك قد . . . صَلَّتْ لِقِبْلةِ دَنِّها النُّدَماءُ رَقَّتْ ورَقَّ الكأسُ فامْتزجَا فلمْ . . . تُعْلَمْ وحَقِّك أيُّها الصَّهْباءُ أصلُه قولُ الصَّاحب ابن عَبَّاد : رَقَّ الزُّجاجُ ورَقَّتِ الخَمْرُ . . . وتشابَها فتشاكَلَ الأمْرُ فكأنَّما خمرٌ ولا قَدَحٌ . . . وكأنما قَدَحٌ ولا خمرُ ومنها في المديح : قد قُلْتُ فيك بَدِيعَ شِعْرٍ فاق أن . . . تَرْقَى إلى حُجُراتِهِ الشُّعَراءُ ولم يزل صاحبُ الترجمة مُقِيماً بحلب نحوَ العام ، يمدح عُيونَ أعيْانها ، ويسْتَدِرُّ برِقَّةِ شِعره رقيقَ لُبانِها . حتى رَمَتْه قِسِيُّ الأقْدار ، إلى أرضِ العراق وَجوْبِ هاتيك القِفار . ونزل منها بدارِ السَّلام بغداد ، وتزَوَّدَ من مَقامات الأولياء هناك أَطيبَ زاد . ثم منها إلى البصرة ، وورَد من أميرها ابنِ أفْراسياب أكْرمَ حَضْرة . فَلِقيهُ بمديح غِبَّ مَدِيح ، وروَى عنه خَبر واصِل بن عطاء خَبَرَاً مُسَلْسَلاً صَحيح . هذا ويدُ التَّأْميل تَعْرُك آذانَ عَزْمتِه ، وتُوقِظ نارَ وَقْدٍ في ليل الاْغتراب من هِمَّته . والمرءُ ما أرْضى أمانِيه . . . ينْقاد من لَغَبِ إلى جَهْدِ وتقول له بلسان الحال : أَحْدِث سَفَراً تُحْدِث رِزْقاً ، ولم يَجْنِ ثمرةَ المأمول مَن لم يجْعل ثَنيَّاتِ الفَيافي لها دَرجاتٍ ومَرْقَى . فطار طَيَرانَ الرُّخِّ إلى رُقْعةِ خُراسان ، فحوَّم بالنُّزُولِ على أصْفَهان ، التي هي حضرة شاه العجم الآن . فما أحقَّه بقول الشاعر : خليفةُ الخِضْرِ من يَرْبَعْ على وطَنٍ . . . يوماً فإن ظُهورَ الْعِيسِ أوْطاني وما أظُنُّ النُّوَى تَرْضَى بما صنعتْ . . . حتى تُبَلِّغَني أقْصَى خُراسانِ وقد شرح ما عاناه من التَّمرُّغ في عَطَن الاغْتراب ، وتقسُّم حاله بين الاكْتئاب والاضْطِراب ، في قافِيَة قافِيَة ، حيث يقول :
لا وبَرْدِ اللَّمَى وحَرِّ الفِراقِ . . . ما لقبي من لَسْعةِ البَيْنِ رَاقِي كيف يخْفى حَلِيفُ بَيْنٍ وشَوْقٍ . . . صَيَّر الجَفْنَ دائمَ الإغْراقِ يا زماناً مع اسْمِنا في خلافٍ . . . ومع اسْمٍ نَقيضِه في وِفاقِ أراد أن اسمَه عليّ ، ونقيض اسمه دَنِيّ ، والدهر شأنهُ عنادُ الأعالي ووُدُّ الأدانِي ، أو أن الدهرَ بَخَس حَقَّ أوِّلِ من تسمَّى بهذا الاسم ، أعني الإمامَ عليَّ بن أبي طالب ، كرَّم الله وجهَه ، وأسْعَدَ أضدادَه من معاوية وغيرِه ، فصفَتْ لهم الخلافة ، ودرَّت لهم أخْلافُ الإمامة ، فيكون مَشْرَباً تشيُّعِيَّاً ، كما قال الملك الأفضل نورُالدين عليّ بن السلطان صلاح الدين يوسف ، لمَّا وَلِيَ دِمَشْقَ بعد أبيه ، فلم تطُلْ مُدَّتُه ، ثم حضر إليه عمُّه الملك العادل أبو بكر ، وأخوه الملك العزيز عثمان ، فأخْرَجاه من مُلْكِه بدِمَشْق إلى صَرْخَد ، ثم جَهَّزاه إلى سُمَيسَاط ، فكتب إلى الإمام الناصر ببغداد : مولايَ إنَّ أبا بكرٍ وصاحبَه . . . عثمانَ قد مَنَعَا بالعَضْبِ حق علِي فانْظُرْ إلى حَظِّ هذا الاسمِ كيف لَقِي . . . من الأواخِرِ ما لاقَى من الأوَلِ قوله : ' ومع اسم ' بالتنوين ، و ' نقيضه ' بدل منه ، بناءً على جوازِ إبدال المعرفة من النكرة ، كما في قوله تعالى ' وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ ' إلا أن جوازَ الإبدال المذكور مشروطٌ بتخصيص النكرة بمخصِّص مَّا كما في الآية المذكورة . كم أُنادِيك ضَرَّبِي ما دَهانِي . . . كم أُناجِيك شَفِّنِي ما أُلاقِي كتَم الضَّيْمُ مَنْطِقي فوشَى بي . . . نَاطِقُ الدمعِ صامِتُ الآماقِ يا فؤادي عن الأحِبَّة صَبْراً . . . قد قضَى البَيْنُ بيْننا بالفِراقِ لا تكُنْ عندما تُصابُ جَزُوعاً . . . ليس بعدَ الفِراقِ إلا التَّلاقي رَبِّ إنِّي من الزمانِ لَشاكٍ . . . مَسَّنِي ضيمه وإِنَّكَ وَاقِي فأجِرْنِي من التَّغرُّب إنِّي . . . كلَّ يومٍ لأجْلهِ في اشْتياقِ كم قَطَعْنَا بها لَياليَ وصلٍ . . . في اسْتلامٍ ولَذَّةٍ واعْتِناقِ كم سَحَبْنَا بها وكم قَد رَكَضْنَا . . . من رِماحٍ ومن خُيولٍ عِتَاقِ ليت شِعْرِي فهل لصُبْحِ اجْتماعٍ . . . بعد ليلِ الفِراقِ مِن إشْراقِ كم تَبَدَّتْ فيه نجومُ صِحابٍ . . . في سماءِ مَحاسِنِ الإغْساقِ ما أَحْسَن بُدُوَّ نجومِ الأصحاب ، في ليل الفِراقِ والاغْتراب . فلقِيَ المذكورُ صاحب الترجمة المُجْتهد في تلك الدولة بقصائد ، بل قلائد ، فعرف الشَّاه مكانَتَهُ من الفضل والأدب ، وأنه من بيت سَلْطنةٍ ومُلْك ، إلا أن الدهر قعَد به عن مُناه ، ودَعاه دَاعِي
الاغْتراب فلَبَّاه . فأجازه الشَّاه مقْداراً من النَّوال ، يبلُغ بِدرَةً من المال . كما قال أبو تَمَّام : بِدَرٌ أطاعتْ فيك بَادِرةَ الهوَى . . . وشمُوسُ فَضْلٍ آذنت بغُروبِ
محمد المُرابط بن محمد الدَّلائِيّ عُرِف بالصُّغَيَّر
هو من بيت السَّلْطَنة في الدَّلا ، وفي الأدب بحرٌ لا تُكدِّرُهُ الدِّلا . عهدُه من زماننا قريب ، وخبرُه في الغَرْب عجيبٌ غريب . وذلك لكائنةٍ حصلت عليه وعلى أهل بيته من ملك الغرب ، أضْحَوْا منها بعد عِزِّهم الأنْفَس أذِلاء الهَوان والكَرْب . فخوَى كوكبُهم ، وهوَى مَرْقبهُم . وتفرَّقُوا أيادِي سَبَا ، وفُرِّقوا من الأسِنَّة والظُّبا . بعدما انْتُجِعوا انْتجاعَ الأنْوا ، واسْتُطْعموا في المَحْلِ والَّلأْوَا . وأمَّهم الناسُ من كلِّ مكانٍ سَحِيق ، وخامَرَتِ النفوسَ مكارمُهم مُخامرةَ الرَّحيق . وكان المُرابط هذا يَزِيد عليهم في الفضل الباهر ، زيادَة القمر على النجومِ الزَّواهر . صارمُ عَزْمِه لا يُفَلُّ غَرْبُه ، وكوكبُ مَجْده لا يُخاف غَرْبُه . ومَعالِيه رسومُها واضحة ، وفضائلُه للشُّموس فاضِحة . صنَّف وألَّف ، وأحْرَز المَعالي وما تكلَّف . وآثارُه في عُقودِ الَّلآلئ دُرَر ، وأشعارُه في جَبْهة المَعالِي غُرَر . فمن شعره قولُه في الغزل : شَجِيتُ إذْ وَمَضتْ للصَّبِّ عَيْناكِ . . . وكِدْتُ أقْضِي هوىً من حُسْنِ مَرْآكِ يا مَن ثَمِلْتُ بَراحٍ مِن لَواحِظِها . . . لِله ما فعلتْ فينا حُمَيَّاكِ أُفْرِدْتِ حُسْنا ًكما أُفْرِدْتُ فيك صَفَا . . . وُدٍّ وحَاشاكِ من شِرْكٍ وإشْراكِ تكامَلتْ فيكِ أوصافٌ جَلِلْتِ بها . . . عندي فسُبْحان مَن بالحُسْنِ حَلاَّكِ يا أُخْتَ ظَبْيِ النَّقَا دَلاَّ وفَرْطَ بَهَا . . . رُدِّي ودائِعَ قد أوْدَعْتُها فَاِك ولا تَجُورِي فأنْتِ اليومَ مالِكةٌ . . . ذَوِي الصَّباباتِ فاسْتَبْقِي رَعَاياكِ
محمد الفاسِيّ المعروف ببَدِيع الزمان
بقيَّةُ حَمَلةِ الأقلام ، الذين فَتَنوا بسِحر الكلام . له طبعٌ من الضَّجَر مُبَرَّا ، وله شِعْر كأنه الروضُ المُطَرَّى . فلفظُه يُطْرِب ، ومعناه يُعْرِب فيُغْرِب ، وبلاغتُه تدلُّ على أنه آيةٌ لأن شمسَ كمالِها طَلعتْ من المغرب . فهو مُقدَّم في أدباء فاس ، تقدُّمَ النَّصِّ على القياس . تردَّد على النُّبهاء تردُّدَ الكاسِ في الروض العاطِر ، ودخل الروم فجرَى من أهْواهم مَجْرَى الماءِ في الغُصن المُتروِّي بالغمام الماطر . فصار شعرُه سَمَرَ النادي ، وتَعِلَّةَ الحادِي ، ومثَل الحاضرِ والبادي . ولما رجع اسْتأثر اللهُ به ، ودعاه لما عنده من كرامته وتقرُّبِه . فعلى ما تضمَّنه من تُراب فاس ، سلامُ الله تعالى بعددِ الأنفاس . وقد أثْبتُّ له ما يسْتعير فضلَ إشراقِه الصَّباح ، وترْتاح للُطْفِ صَنْعته الأرواح في الأشباح . فمن ذلك ما كتبه إلى أبي المَعالي درويش محمد الطَّالُوِيّ ، وقد اجتمعا في الروم : لدمعي بعدَ بَيْنهِمُ انْهِمالُ . . . فكم عن حِفْظِ عهدِ الصَّبِّ مالُوا وحَلُّوا القلبَ داراً واسْتحلُّوا . . . دَمِي عمداً وعن وُدِّي اسْتحالُوا وقال القلبُ مَعْ صبري وعَقْلي . . . وأفراحِي لنا عنك ارْتحالُ وحانَ الحْينُ حِين الْبانُ بانَتْ . . . مَطاياهم وأعْلاها الرِّحالُ وأبْقتْ لي النَّوَى جسْماً كأني . . . لفَرْطِ السُّقْمِ حالٌ أو مُحالُ أُفَدِّيهم بأمْوالي ونفسي . . . وهل لي في الهوى نَفْسٌ ومالُ أأسْلوهم مدَى الدنيا سَلُوهم . . . ولو أصْلَوا فؤادي ثم صَالُوا شعاري حُبُّهم والمدحُ دِينِي . . . لمولَى الفضلِ درويش بن طَالُوا هو النِّحْريرُ بحرُ العِلم مهما . . . أهَمَّ الأمرُ أو أعْيَى السؤالُ ذكيٌّ ألْمَعِيٌّ لَوْذَعِيٌّ . . . سَرِيٌّ ماله حقَّاً مِثالُ له علمٌ حَنِيفِيٌّ محيطٌ . . . وحِلْمٌ أحْنَفِيٌّ واحْتمالُ وفكرٌ عند ذي التَّحقيقِ ذِكْرٌ . . . بُشكْرِ اللهِ مُغْرَى لا يزالُ حوَى كلَّ المَعانِي والمَعالِي . . . بعَقْل ما له عنه انْعِقالُ
له نظمٌ كدُرٍّ في نحوُر ال . . . غَوانِي دونه السِّحْر الْحلالُ فريدٌ في المَعالي دون نِدٍّ . . . فدَعْ ما قيل أو ما قد يُقالُ فيَمِّمْ دارَه وانْزِلْ حِماهُ . . . إذا جار الأعادِي واسْتطالُوا وقُلْ للمَدَّعِي هل حُزْتَ أصْلاً . . . له بالطَّالُوِييِّن اتِّصالُ لَقيناه بإسْلامبولَ لمَّا . . . عَدِمْنا فيه حُرَّاً يُسْتمالُ فوَالانا وأوْلانا بَشاشاً . . . وبِشْراً دونه العَذْبُ الزُّلالُ وأنْسانَا بإيناسٍ أُناساً . . . لهم في القلبِ حلٌّ وارْتحالُ ألا يا ابْنَ الأُلى قد حُزْتَ فخراً . . . له في جَنّةِ الدهرِ انْتقالُ وسُدْتَ اليومَ أهلَ الأرضِ فاهْنا . . . بعِزٍّ مالَه عنك انْتقالُ فخُذْها مثلَ خُلْقٍ منك سَهْلٍ . . . على الأعداءِ صَعْبٌ لا يُنالُ كساها مَدْحُك المحمودُ حُسْناً . . . لها فيه ازدِهاء واخْتيالُ فتُبْدِي تارةً دَلاًّ لديكم . . . ويعْرُوها على الدنيا دَلالُ تُرَجِّي أن تُنِيلُوها قبولاً . . . عسى يبدُو لها منك احْتفالُ فإن أحْسنتُ كان الأمرُ بِدْعاً . . . وإلا منكمُ يُرْجَى الكمالُ ثم أعْقبَ هذا النظم بنثر ، وهو : رضي الله عنك وأرْضاك ، وأخْصَب في مَرَابِع المَحامد مَرْعاك . سلام عليكم ورحمةُ الله سلاماً يتَّخِذه البدرُ بَرْقَ مُحَيَّاه ، وقام لإجْلاله سَنا شمسِ الضُّحَى وحَيَّاه . وافْتك حاسرة حَسِيرة ، ونَزِهة يسيرة . يُشرِّفها ذكرُك ، ويكرمُها شكرُك . والعذرُ واضح ، وتفسير الواضِح فاضِح . فإن لي خاطراً متى تفكَّر تفطَّر ، وإن راجَع وتدبرَّ القَدَرَ تصبَّر . والحُرُّ خِلٌّ عاذر ، واللئيمُ خِبٌّ غادر . وِمثلُك يغُضُّ ولا يُغْضي ، وحِلْمُك لا شكَّ إلى الرِّضا يُفْضِى . وكتبه المُحِبُّ الأكبر ، والفقير الأصغر . النائِي عن الأخوان ، محمد المدُ وُّببدِيع بل بشَنِيع الزمان . وحكى الطَّالُوِيّ ، أنه حَنَّ يوماً إلى وطنِه ، حَنِين النَّجِيب إلى عَطَنِه ، والمهجور إلى سَكَنِه . وقد ذكر مَسْقِط رأسِه ، ومُشتَعل نِبْراسِه . وهي البلدةُ البيضاء أعني فاس ، فتصاعدتْ منه لفُرقتِها الأنْفاس . حتى ذرَفتْ عيناه بالدموع ، شوقاً إلى تلك المَنازل والرُّبُوع . فلما رأى الحاضرون حالَه ، رَقَّ كلٌّ له ورَثَى له . فقلتُ عن لسان حالِه ، وقد توجَّه إلى منزله ببَلْبَالِه ، قطعةً سبقتْه إلى النادِي ، وكانتْ عنده كبعضِ الأيادي . مع لُغْزٍ في اسم بلدة مَرّاكُش وكان قد جَرى شيءٌ من ذِكْرها ، فنظمتُ ذلك أيضاً في إثْرِها : ربَعتْ على تلك الرُّبوعِ هَتُونُ . . . وَطْفاءُ فيها للبُروقِ حَنِينُ
مَسفوحةُ العَبَرات سَفْحَ مَدامعِي . . . نحو الديارِ كأنَّهُنَّ عُيونُ فسقَى مَعالِمَ فاسَ حيثُ صَبابتِي . . . وصِبايَ فيها صاحبٌ وخَدِينُ فارقْتُها وأنا الضَّنِينُ وربما . . . يسْخُو الفتى بالرُّوح وهْو ضَنِينُ فعلَى مَعالِمها تحيَّةُ مُغْرَمٍ . . . في قلبه لِهَوَى الديارِ شُجونُ وأما اللغز فهو : وما اسْمٌ خُماسِيٌّ مُسمَّاه بلدةٌ . . . تركَّب من شَكَّينِ وهْو يقينُ فشَكٌّ تَراه العَيْن يبدُو بلا مِرا . . . وشكٌّ بقلبٍ لا تراه عيونُ فكتب بسُرعة لمَّا وصلتْ إليه الرُّقْعة : ومازال العبدُ من حين مُفارقتكم لا يقَرُّ له قَرار ، إلى أن ورد شَذَا نَظْمِكم المِعْطار . فقال طالباً للقبول ، على استعجال من الرَّسول : مولايَ لازلتَ فَرْداً في المَكارمِ يا . . . أبا المَعالي ودُمْ في أرفعِ الدَّرجِ ألْبَسْتَ فاساً وأهْلِيها ثيابَ عُلاً . . . قد نَمَّقَتْها يَدَا تقريظك البَهِجِ لمَّا جرى ذكرُها في رَحْبِ خاطرِكم . . . أنْشدتُها قولَ صَبٍّ بالهوى لَهِجِ لِتَهْن يا فاس واخْلَعْ ما عليك فقد . . . ذُكِرْتَ ثَمَّ على ما فيك من عِوَجِ وأمَّا لُغْزُكم السَّهل المُمتنِع ، فهو في بلدةٍ لقلبِ الصَّبِّ الحبيبُ المُمْتَنِع . وعاجلَنَي الرسول ، على نظمِ بعض الفُضول . ولكن في غَدٍ إن شاء الله يقَعُ الإتْمام ، عالِماً ومُقِرّاً أنَّ لي بساحةِ اقْتداركم إلْمام . فكتب إليه ثانياً : ما ذاتُ عُودٍ لها لَحْنٌ من الهَزَجِ . . . باتت تغنَّي به في رَوْضِها البَهِجِ لها بدَعوةِ نوحٍ طَوقُ غانيةٍ . . . على وِشاحٍ من الأزْهار مُنْتَسجِ مَخْضوبَةُ الكفِّ لا من عَنْدَمٍ خضَبَتْ . . . ذاك البَنان ولكنْ من دَمِ الْمهَجِ مَدَّتْ قوادِمَ ليلٍ فيه لاح لنا . . . بِيضُ الْخَوافِي كصُبْحٍ منه مُنْبَلِجِ يوماً بأحْسنَ مِن مَرْأَى نِظامِ فتىً . . . بذكْرِ فاسَ ومَغْنَى رَبْعِها لَهِجِ
محمد بن أحمد الْمَكْلانِيّ
كاتب الإنشاء بحضرة سلطان المغرب زانتْ شمسُه ذلك الفلَك ، وجلتْ أنوارُه ظَلْماء الحَلَك . فهو أديبٌ مُنْشِي ، مُحبِّر مُوَشِّي . سريعُ البَنَان ، بديعُ البيان . لا يحْبس عِنان قلمِه ، أوينثر الدُّرّ من كَلِمه . ألفاظٌ كَالبُشْرَى مسموعة ، وأزاهير الرِّياض مجموعة . ومَعانٍ كأنْفاس النَّسمات ، عبقتْ في ثُغور الزَّهرات المُبْتسمات . فمن شعره ما كتبه على كتاب المَقَّرِيّ ' زهر الرياض في أخبار عياض ' : أهذه أدْواحُ هذِي الرِّياضْ . . . أم هذه غُدْرانُها والحياضْ
فاللهُ يُبْقِيكم لَدَيْنَا وكفَى . . . مُصلَّياً على الرسولِ المصطفَى تَتْرَى عليه دائِماً مُنْعطِفَا . . . وآلِه المُستكْمِلين الشَّرَفَا
حسن بن مسعود اليُوسِيّ الْمَرَّاكُشِيّ
شيخٌ حسَن السَّمت ، سليمُ الطَّبْع عن العِوَج والأَمْت . تلقَّيْتُ خَبَرَه من الرُّواة ، فرأيتُ له ثَناءً حَسنا يُعطِّر الأسْماع والأَفواه . هم مُسْتَغْنٍ في حَدِّ ذاته عن زيادة الأوصاف ، وله شِعْرٌ نَعْتُه بالحُسن من مُراعاةِ الإنْصاف . فمنه قوله ، لما دخل فاس فلم يَلْق فيها مَبَرَّة ، ولم يَرَ من أهلِها إلاَّ تَهَلُّلَ أسِرَّة . فبَقِيَ فيها مَثْلولَ العَرْش ، بل أقَلَّ من هَمْزِوَرْش : مَا أنْصَفَتْ فاسٌ ولا أعْلامُها . . . قَدْرِي ولا عرفُوا جلالةَ مَنْصِبي لو أنْصَفُوا لَصَبَوْا إليَّ كما صَبَا . . . رَاعِي سِنِين إلى الغمامِ الصَّيِّبِ أشار إلى قول الشاعر : وحديثُها كالقَطْرِ يسْمعُه . . . رَاعِي سنِينَ تتابَعتْ جَدْبَا فأصاخَ يرْجُو أن يكون حَياً . . . ويقول مِن فَرَحِ هَيَا رَبَّا فصل لِلْمِيكالِي : ّ أنا أَوْلَى بالحمدِ وقد لَحَظْتُ مَواقِعَ أناملِه ، وشقَقْتُ بَوارِقَ فضائلِه ، مِن راعِي القَفْرِ وقد رأى القَطْرَ سَكْباً ، بعد سِنِين تتابعتْ جَدْبا . فأصاخ يرْجُو أن يكون حَياً . . . ويقول مِنْ فَرَحٍ هَيا رَبَّا ولِلْيُوسِيّ : على رِسْلِكم يا أهْلَ فاسَ فإنني . . . فَتىً لستُ بالفَدْمِ الغَبِيِّ ولا الغِمْرِ أنا الصَّارمُ الماضِي ويا رُبََّّ نافِثٍ . . . يُخلِّق في البَحْثِ الأدِيمَ ولا يَفْرِي
يحيى بن محمد الشاوِي الجَزَائريّ
نزيلُ مصر مُنْتهى الكلام ، وخاتمة الأعلام . الجِهْبِذُ النَّحْرِير ، مالكُ أَزِمَّةِ التَّقْرِير
خاتمة
وهنا وقفتْ بي مَطِيَّةُ السَّير ، وختمتُ الكلامَ راجياً من ربِّي خاتمةَ الخير . ولما فرغتُ من جَمْعِه ، وجعلتُه هديَّةً لناظر الدهر وسَمْعِه . التفَتُّ إليه فشاقنِي ، وحَدَا بي نحو الإعجاب وساقنِي . فأقول كما قال ابنُ الخطيب ، لا بَرِح ذكرُه يَعْبَق ب ' عرف الطِّيب من غُصُن الأندلس الرَّطيب ' : لما رأيتُ من ذُكرِ فيه قد تخلَّدتْ آثارُهم ، وشَنَّف أُذُنَ الزمان نِظامُهم ونِثارُهم ، نافستُهم في اقْتحام تلك الدُّور ، وقنِعت باجْتماع الشَّمل ولو في خلال السُّطور . وحرِصْتُ على أن أنال منهم قُرْبا ، وأخذتُ أعْقابَهم أدَباً رَحْباً ، كما قيل : ساقِي القومِ آخرُهم شُرْبا . والله ُسبحانه يُدبِّر أمْري ، ويُحْسن بفضله آخِرَ عمري . ويسْتُرني في هذه البَقِيَّة ، ويجعلني من خُلَّص هذه البَيْضاء النَّقيَّة . فقد بَقِي في إناءِ العمر صُبابة من شَراب ، فلعلِّي لا أُرِيقها في يومِ هاجرةٍ لِلَمْعِ سَراب . وإذا نزل بي الموت ، وفات في أجَلِي الفَوت ، لا يُعْدِمني من يترحَّم عليَّ ؛ ويُهْدِي ثوابَ فاتحتِه إليّ . فمبدأُ حالِي ، وما أفْضىَ إليه نُزولِي وارْتحالي ، قد صرَّحتُ به تارة وعرَّضْتُ أخرى ، فرأيتُ تَرْك التَّعرُّض له هنا أوْلى وأحْرَى . وإنما أذكُر هنا بعضَ فضولِ الكلام ، قصدتُ أن أنْسلِك بها في سِلْك هؤلاء الأعلام . فهي إن لم تكنْ ممَّا يخطُبه الخاطب ، فلْتكُن مما يحْتطِبُه في ليلِ سُطورِه الحاطب . فمن ذلك فُصولِي القِصار ، وقد ذكرتها مُقتصراً على زُبدِها غاية الاقْتصار : في الأحاديث صحيحٌ وسقيم ، ومن التَّراكيب مُنْتِجٌ وعقيم . للنفوس صَبابةٌ بالغرائب ، وإن لم يكنْ من الأطايب . قال بعضُ أهل العرفان : إذا قَصُرت يدُك عن المكافأة فليَطُلْ لسانُك بالشُّكْران الرْوضُ إن لم يشكر الغَمام بعَرْفهِ ، ففي وجهِه شاهدٌ من عُرْفِه . شفاعةُ اللِّسان ، أفضلُ زكاةِ الإنسان . إذا ما سقَط الرَّجا ، فالناس كلُّهم أكْفا . للِه ألطافٌ غنيَّةٌ عن البيان ، وهو مع تنزُّهِه عن الحوادث كلِّ يوم في شَان . وللدهرِ نُسْخة تعرب عن الأقْدار ، وحُجَّةُ القضاء بيننا هي مُسوَّدةٌ بالليل نَراها مُبَيَّضة بالنَّهار . فبيْنا تراه كلَيالِي المِحاق لا شموس ولا أقمار ، أعْقب لياليَ مُقْمِرَةً وأياماً مُشْمِسَةً تسُرُّ القلوبَ والأبصار . مَن تواضَع رَقِيَ لمراتبِ السَّلف ، فإن التَّواضُعَ كما قيل سُلَّمُ الشَّرَف . العِلْمُ مع
الظَّنُّ والأمَل . رُبَّ مَجْدٍ في رَجا مُطالِبه ، ومِن خَلْفِه الآجالُ تسْخَرُ بالمِطالِ بِه . المرءُ طوعُ المقادير ، والاجْتهاد إبْلاءُ المَعاذير . كلُّ امْرِئٍ بوَقْتِه مَرْهُون ، ولابُدَّ يوماً أن تُفَكَّ الرُّهُون . من قال : عيونُ الحوادثِ نِيام ، فلْيَخْشَ أن يُوقِظَها له قَدَرٌ لا ينام . الدهرُ تَعْرِفُ أنَّ اللُّؤمَ من أوْصافِه ، فإن شئتَ الحُظْوةَ به كُنْ مِثْلَه أو صَافِه . الدهرُ أقْصَر من أن يُقَصَّر بالعِتاب ، ويا لَهْفَتاهُ على عُمْرٍ يُكدَّر بالهجر والاجْتناب . إيَّاك أن تتورَّط بالأهْواء إلى الْعَنَا ، فإن الغِنَا كما قيل رُقْيةُ الزِّنا . رُبَّ أملٍ في طَيِّ يأسٍ مُدْرَج ، ومحبوبٍ في ضِمْنِ مكروهٍ مُدْمَج . ما كُلُّ خُوطَةٍ رَطْبةُ المِهَزّ ، ولا كلُّ ثمرةٍ تُجِيبُ دَاعِيَ الهَزِّ . إذا أعْوَز الزُّلالُ البارد ، اسْتَقى من الكَدَرِ الظَّمْآن الوارِد . وربَّما ساق الدهرُ أحرارا ، إلى تناوُلِ المَيْتِ اضْطرارا . ما دامت الأفْلاكُ دائرة ، فقد دارتْ على الزمانِ الدَّائرة . الزمانُ واهِبٌ وناهب ، والوجودُ جاءٍ وذاهِب . لو على الاخْتيار دارتِ الأفلاك ، لم يكنْ سوى الحسانِ الخَلْقِ والخُلُق فيه من الأمْلاك . كثيراً ما يزولُ العَشْقُ بجِنايات الصُّدود ، والزِّيادةُ في الحَدِّ نُقْصانٌ في المَحْدود . العاشقُ مَن يستعذبُ الهوَى ويلَذُّه ، فإن العشْقَ كالخمرِ أمَرُّه ألَذُّه . إذا لم يتوارَد القلبان على مَوْرِدٍ واحد ، فالعاذِلُ يضربُ في حَديدٍ بارد . أمْرانِ مِن غيرهما أمَرَّان ، لُؤم كحَدِّ السِّنان ، ولَوْم كوَخْزِ المُرَّان . من لَحَظنِي بنَظَرٍ شَذْر ، بِعْتُه بثمنٍ نَزْر . ما اغْتابنِي في غَيْب ، إلاَّ ذُو عَيْب . ولا ذَمَّ مِنِّي حُسْنَ طَبْع وخِيم ، إلاَّ مَن هو صاحب طَبْعٍ وَخِيم . غِيْبَةُ الأنام ، مُضْغةٌ لَفَظها الكِرام . واللَّئِيمُ مَن لا يُحْسَد ولا يُسْتغاب ، فإنه لا يُمْضَغ إلاَّ ما طاب . إذا وَعَظْتنِي فلم أنْتبِهْ ، فلعلَّك تَنْتَبِهُ أنْتَ بِه . يخلُص من الشِّرَك ، مَن عقلُه بالهوى غيرُ مُشْترَك . مَن كذَب فيما قال ، فهو للحقِّ والصِّدق قال . من لم يفْهَم ما يُريد ، فكيف يفهم ما تُريد . أكثرُ مَن يرغبُ في زيادةِ الوَصْف ، تراه يكبُر مِن وراء الصَّفّ . مَثَلُ ما يرُوج من الأشعار ، عند مَن لا يَدْرِي ميزانَ الأسْعار ، مثلُ الأعاريب لم يَرَوا خُبْزَ الْحِنْطة فيُكْبِرون خُبْزَ الشَّعِير ، والقومِ لم يَرَوا لُجَّةَ البحرِ فهم يُعَظِّمون ماءَ الغَدِير . المادحُ فيما يُتْعِبُ فكرَه فيه من الأشْعار ، كالمِجْمَرة تُعطِّر غيرَها وتتأذَّى هيَ بالنار . مَن ذا الذي يسمعُ ما قضَيْته من الشِّدَّة والألم ، ولا يقْذِف القِرْطاسَ والدَّواة والقلَم . ما مِثْلُ مَن رَجَوْتُه يحرِم القُصَّاد ، وإنَّما نَحْسُ السُّؤَّال قد يُعدِي الأجْواد . ما بي إذا أحْرَمنِي مِن نَوالِه بَأس ، إلاَّ أنه أشْمَتَه في رَجائِي منه اليَأْس .
رُبَّ شخصٍ أمْضَى مِن عُسْر بعد يُسْر ، لا تَعْرِف أنه إنْسان إلاَّ بأنه في خُسْر . وَعْدُه يُنْهِك بانْتظارِه قُوَى الأمَل ، ويُحقق أنه ليس بإنسانٍ لأن الإنسان خُلِقَ من عَجَل . كم سمَح بَيْتَه بالزَّاد نعم ، لكنْ ليس لما يفْعله طعم . إذا بَدَا شَكْلُه للعُيون ، فهو أقْبَحُ مِن وَثيقةِ المَدْيون . رُبَّ رجلٍ يُعْجِب الناسَ وهو صامِت ، فإذا نطَق فكلُّ حَاسِدِيه شوامِت . السكوتُ عن غيرِ الصَّوابِ صواب ، وتَرْكُ مماراةِ الجاهلِ جَواب . لسانُ المرءِ عن عقلِه تَرْجُمان ، فمن زَلَّ عقلُه زلَّ لسانُه . ليس الفضلُ كُله في الجُمود ، حتى يلْتبِس الإنسانُ بالجُلْمُود . إذا صدرَ القولُ عن عربيٍ فلا يضرُّهُ عجْمة ناقل ، فما يضُرُّ مَحاسنَ سَحْبان أن تجريَ على لَهْجةِ باقِل . ما كل زَنْدٍ زَنْدُ أبي لَهَب ، ولا كلُّ مَوْزونٍ هو الذهب . ليس لرَجلٍ حطَّه اللُهُ رافِع ، ولا لأمرٍ شاءه في الخَلْقِ دافِع . تخليصُ المَتاب ، ينْفي خُبْثَ العتابَ ، وحسنُ الاعتراف ، يمْحُو سوء الاقْتراف . وكتبتُ إلى بعضِ المَوالِي بعد اجْتماعٍ وتَوَدُّد : حضرة المولى ، الذي نَرَى شُكْرَه من كلِّ شكرٍ أحَقَّ وأَوْلَى . مَن ابْيَضَّت بغُرَّةِ إِقْبالِه الأيام ، وأخْجَل وَشْيُ براعتِه النجومَ فَتَلفَّعتْ بأرْديةِ الغَمام . لا زالت الألْطافُ الرَّبانيَّةُ تغْشَى بابَه ، والسعادةُ الأبديَّة تملأُ رِحابَه . ألْثِم بأهْدابِ مُقلتِي مَواطِىءَ أقْدامِه ، وأُقَبِّلُ بشَفتيَّ باسِطةَ موارِد خُدَّامِه . وألُوذُ بسُدَّته لَياذَ المُشْفِق الشَّفُوق ، وأعوذُ بأنْوارِ طَلْعتِه مِن ظُلُمات التَّقصير والعُقوق . فارقْتُه ولي فؤادٌ يُبْغِض الْجَفا كما يُبْغِضُ الناسُ الأعْدا ، ويعشَق الوفا كما يعشَق الناسُ الأوِدَّا . وخاطِرٌ مَمْلوءٌ بالمَحبَّة التي لا تُجاوِرها الغُمَّة ، وناظرٌ زهَد عن النَّظِر بعدَه إلى أحدٍ من الأُمَّة . وفي عُنُقِي من نِعَمِهِ طَوق ، مالي بأداءِ شُكرِه طَوْق . وأنا الآن في عافيَةٍ لا عَيْبَ فيها إلاَّ فقده ، ونِعْمةٍ لا وَصْمةَ فيها إلاَّ بُعْدُه . لكنْ لي من ذِكْرِه مَرآةٌ أرَى وجهَه فيها ، وأُطالِع مِن صُورةِ إقْبالِه ما يشْفِي القلوب التي عنده أمانِيها . وبين ضُلوعِي وَلاءٌ تشْتَكُّ أواصِرُهُ والأنساب مُنْفَصِمة ، وتُشْرِق صَفحاتُه وأسِرَّةُ الشمس مظلمة . فما اسْتفْتحتُ إلاَّ بذِكْرِه ، ولا خَتَمْتُ إلاَّ بشُكْرِه . وما بين ذلك أُجِيبهُ بالدُّعا ، وأُباهِي به بين المَلا . وإني لأذكُر عهدَه ، ومُقامِي عندَه . في ليالٍ نُجيلُ فيها للأُنْسِ قِداحا ، ونَتهادَى الأحاديثَ إن لم نَتَهادَ أقْداحا . حتى تكونَ الألْسِنةُ بوَصْفِها تُغْرَى ، وترتشِف دُجاهَا لَمىً وصُبْحَها ثَغْرا . فأشْتُم حَظِّي في فِراقِه وأَقْذِفُه ، وألْوُمُ دهرِيَ الخَؤونَ وأُعنِّفُه . وقد كان في حُكْمِ ما أوْلانِيه من فضلِه المعروف ، وإحْسانِه الذي اسْتوعَب صُنوفَ
الصُّنوف ، أن يكون في كُلِّ وقتٍ عنده كتاب ، ولكنْ على الأيام وعَوادِيها العِتاب . فلولا ما عَرض ، من مُقابلةِ الجوهرِ بالعَرَض ، لمَا أَغْفلتُ خِدْمة مولاي مِن رسائلَ أسْتجْلِبُ بها شَرَفا طارِفا ، كما اسْتفَدْتُ في الفَوْزِ بخدْمتِه الجليلة مَفْخراً سالِفا . ولا اسْتحقَّيْتُ سُخْطَه الذي حَرُّه يُذِيب ، ودونَه التَّعْذيب ، بل النارُ والجحيم ، والعذاب الأليم . وأسألُ الله تعالى أن يَمُنَّ عليَّ برِضاه ، حتى يكون سَببَا لإحْرازِ دُعاه . وفيه الكَوْثَرُ والتَّسْنِيم ، والنَّعِيم ، المُقِيم . وليس هو إلاَّ الجَنَّة ، لكلِّ نفسٍ به مُطْمئنَّة . وقلت في غرض اقْتضاه الحال : جَرى القلم ، بما فيه أَلَمٌ أَلَمّ . وذلك أن بَلَوُت شخصاً من الكُتَّاب ، باقْتضاءٍ مِن قَضَاءِ مُنزِّلِ الكِتاب . فخالطتْهُ عن قلب سليم ، وفَارقتُه لا عن رضاءٍ وتسْليم . لمَّا رأيتهُ يزْعُم أن العِشْرة مُحاسبة لا مُناسَبة ، ومُوارَبة لا مُقارَبة ، ومُلاكمةٌ لا مُكارمة ، ومُحامَلةٌ لا مُجامَلة . فالعطيَّة معه خَطِيَّة ، والمنيَّة هَنيَّة . والعنايةُ جِناية ، والسلامةُ مَلامة . يُباعِد فما يُقارِب ، ويُعانِد فما يُراقِب . تَبَلَّدّ طّبْعُهُ ، وتكدَّر نَبْعُهُ . فخاطرُه ينْبُو ، وقلمُه يكْبُو . فيسْهُو ويُبْطِي ، ويسقُط وهو يُخْطي . بِخَطّ مُنْحَطّ ، كأرْجُلِ البَطّ على الشَّطّ . وأنامِلِ السَّرَطان ، إذا مشَى على الحِيطان . وله قلم ، ظُفْرُه لا يُقلَّم . ويَراع ، به الفكر يُراع . يَخْدِش به القِرْطاس ، وينْقُش الأنْقاس ، ويأخُذ بالأنْفاس . وحِزْبُه جماعة ، أخَذتْهم حُمَيَّا مَجاعة . ما فيهم إلا خَبيثُ نَفْس ، من قَبِيل البُسْتانُ كلُّه كَرَفْس . فوُجودُه بينهم فَذْلَكَة ، للنَّواِئب الُمْهِلكة . فيا أبْطأَ من غُراب نُوح ، وأخطأ من غَيْمةٍ على بُوح . ما أغْراك بما يَغُرَّك وأضْراك بما يضُّرُّك . أتظُنُّ أن ستترَك سُدى ، أم لا تُحاسَب غَدَا . كلاَّ إنَّ حسابَك هَيِّن ، وعقابَك مُتَعيِّن . وقلتُ ، من تهنِئةٍ بنُصولٍ من مرض : بلغني شِكايتُك فارْتَعْت ، ثم عرفتُ ارْتياحَك فارْتَحت . فالحمدُ لله الذي جَعَلَ عافيَتَك عاقِبَتَك فيما تشكِّيْت ، وسلامتَك التي ألْبَسَتْك من الأجرِ لأَْمَتَك عِوَضاً عما عاينْت وعانَيْتَ . فشُفِيَتْ منذُ شُفِيتَ الأجسام ، وأقبلَتْ نُصْرةُ الشِّفَاء ففَرَّ الهمُّ وتَبِعَتْه الآلام ، ولم يَبْقَ بحمد الِله مَريضٌ إلاَّ الجُفونُ السِّقام . ومن نَظْمِي قولي من مقصورتي الَّنبوية ومُستهلُّها : دَعِ الهوى فآفةُ العقلِ الهوَى . . . ومَن أطاعَه من المجد هَوَى وفي الغرامِ لَذَّةٌ لو سَلِمْت . . . من الهَوانِ والمَلامِ والنَّوَى وأفضلُ النُّفوسِ نفْسٌ رغِبتْ . . . عن عَرَضِ الدنيا وفتنةِ الظِّبَا والعشقُ جهلٌ والغرامُ فتنةٌ . . . ومَيِّتُ الأحياءِ مُغْرَمُ الدُّمَى قالوا لنا الغرامُ حِلْيَةُ الحِجَى . . . قُلنا لهم بل حليةُ العِقل التُّقَى
ذكر هذا الثَّعالِبيُّ ، في الباب السادس والأربعين ، من ثمرات القلوب ، عند ذكر نِعْمة المدينة ، ونَصُّ عبارته نَقْلاً عن الجاحظ : ' ورأيتُ بلدةً يسْتحيل فيها العِطْر ويفْسُد ، وتفسُد رائحتُه ، كقَصَبة الأهْواز وأنْطاكِيَة ' . وقولي : أنْعِمْ صَباحاً في ظِلالِ رَوضةٍ . . . تدعُو إلى النَّشْوةِ حُسْناً وبَهَا لمَّا غَفَا فيها النَّباتُ سُحْرَةً . . . دَغْدَغَهُ نَسِيمُها فانْتَبَها وقولي : أهْوَى تَباعُدَه والفكرُ يُدْنِيهِ . . . ضِدَّانِ ما جُمِعا إلاَّ لِتَمْويهِ فما تُقرِّبُه منِّي مَحاسِنُه . . . ولا تُبَعِّدُه عنِّي مَساوِيهِ وقولي : نَفَرٌ في الدِّين مُذ عَبَثُوا . . . بَعُدُوا عن خَيرِهِ الزَّاهِي فهُمُ ما بين أظْهُرِنا . . . فَضَضٌ مِن لَعْنةِ اللّهِ رُوِيَ عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها ، أنها قالت لمروان : ' أنتَ فَضَضٌ مِن لَعْنةِ الله ' . وقولي : أرى جسمِي تَحُطُّ به البَلايَا . . . وما شارَفْتُ مُعْتَركَ المَنايَا فإنْ أبْقانِيَ المَولَى فأرجُو . . . بَقَايا منه في عُمْرِي نَقايَا مُعْترَكُ المَنايا : هو ما بين السِّتِّين إلى السَّبعين ، مِن سِنِي أعْمارِ الناس ، لأن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، قال : ' أكْثَرُ أعْمَارِ أمتي ما بين السِّتِّينَ إلى السَّبْعِينَ ' . ومن مفرداتي : ما كلُّ دارٍ آنسَتْ دارُ الحِمَى . . . أو كلُّ بيضاءِ الطُّلى أسْماءُ وقولي : ولي ألْفُ وَجْهٍ في مُخالَطةِ الورَى . . . ولكنْ بلا قلبٍ إلى أين أذْهَبُ وقولي : وليس عجيباً ما بجسمِي من الضَّنَى . . . ولكن حياتي يا ابْنةَ القومِ أعْجَبُ وقولي : إن الكرامَ إذا اخْتشَوْا نَدَّ العُلَى . . . جَعَلُوا لها سِمْطَ القَرِيضِ قُيودَا وقولي : وما الدهرُ من أصلِه فاسدٌ . . . ولكنْ فسادُ الورَى أفْسَدَهْ وقولي :