أتت إلى المدينة، وتحديداً إلى مبنى المحافظة، قالوا لها: المحافظ وحده من يعيد الحق إلى أصحابه، أكدوا لها بأنه قادر، وما زالت كلمات دحام تطرق أذنها:
إن لم تذهبي فالأرض سيسطو عليها مقاولون لا يخافون الله، لكنهم يخضعون لأوامر المحافظ.
وعدته بأنها ستذهب: غداً صباحاً أكون في مكتبه، وإن حاول صرفي فلن أنصاع لمحاولته، حتى لو طردني مدير مكتبه، فلن تعوزني الوسيلة.
قولي لـه: أنا فقيرة لا أملك شيئاً، بل أخبريه أنك خادمة أو متسولة، معظم الأغنياء كانوا خدماً ومتسولين، ثم أنت بالأصل فلاحة، ابنة ريف، وهذا ليس عيباً، قولي لـه: رغم أصلي المتواضع فأنا لا أريد صدقة يا سيدي. حاولي أن تتذكري كلمة أخرى، ما رأيكِ بِ( يا سيادة، يا فخامة، يا شيخ المدينة ماذا أفعل؟ دائماً تهرب مني الكلمات المناسبة، لا عليكِ، قفي أمامه، أحني رأسكِ قليلاً، لا كثيراً، ثم اقفزي نحوه، أقصد، كوني رشيقة في حركاتكِ، الرجل يحب المرأة الرشيقة، ثم أمسكي بيمينه، أو يساره لا فرق، وبصوت خاشع قولي لـه: يا سيادة المحافظ أو يا شيخ المدينة أنا أمتُك الضعيفة أعيش حياتي خادمة لك مقابل أن تبعد المقاولين عن أرضي، أقصد عن أرض دحام زوجي، يا شيخ المدينة دحام زوجي قضى شبابه وبعضاً من كهولته بين قطيع الأغنام والماعز، دحام زوجي في حياته كلها لم يشمَّ إلا رائحة الفضلات والجلود والحليب، دحام زوجي اشترى الأرض ذراعاً بذراع، دحام زوجي من أجل أن يصبح لـه أرض في هذا الوطن حرم نفسه وحرمنا الطيبات وأنكر على نفسه وعلينا الملذات، فهل تريدنا أن نعود بلا وطن؟ وإذا قال، وعلى الأغلب سيقول: إن الأرض هي ضمن المخطط التنظيمي للمدينة، عاجليه وقولي لـه: إذن نريدك أن تنصفنا، وإذا سألكِ كيف؟ أخبريه أن السعر الذي دفعه المقاولون زهيد جداً، هل فهمتِ؟ لا تنسي، افعلي أي شيء، استغلي هذه المقابلة، حوليها إلى صفقة.
عادت تؤكد لـه أنها ستذهب، ولأجله، لأجل أن يظلا معاً ستفعل المستحيل.
رفع يديه إلى رأسه مسح شعر فوديه وقال: كلا أنا لا أريد شيئاً، انظري، هو البياض التهم رأسي وما بقي من العمر وإن طال لا يستحق أن تتذللي لأحد من أجله. مرّر أصابعه على شاربيه، أصلح جلسته وعاد يوجه إليها نصائحه:
وأنتِ تتأهبين لمقابلته فكري بولديكِ، ضعي أمامكِ هدفاً واحداً هو بيع الأرض بسعر مرتفع، مسكينان، يكفيهما ما عانياه من الفقر والحرمان.
وعَدَتهُ بأنها ستنفذ تعليماته على شرط أن يقضي هذه الليلة عندها. وعدها بليالٍ كثيرةٍ سيقضيها عندها، يطرد الصقيع من قلبها، يعوضها عن الحرمان الذي استنزفها صحتها وعافيتها.
إيه يا زهوة لو تعرفين كم ستتغير حياتنا، سأشتري لكِ منزلاً جميلاً، وقريباً منه منزلاً لعائشة، وسأعدل بما أمر الله في شرعه، ليلة بجانبكِ وليلة بجانبها، مصطفى وحسين معكِ، وأولادها معها، وفي البناية ذاتها، وعلى الشارع الرئيسي، سأبتاع بكل ما تبقى مخازن، وأعمل فيهما مع ولديكِ حسين ومصطفى، أعدكِ يا زهوة بأنني سأريحهما وأرتاح من الماعز والغنم، لقد تعبت، يوم أربح ويومان أخسر، في الشتاء يجمدني البرد، وفي الصيف تحرقني الشمس، عند الفجر أكون في السوق أصيح ليأتي التجار ويشتروا أغنامي، وعند الضحى أعود بمعظمها، وقبل المساء أكون أنا وعائشة مشغولين بإطعامها، وأنتِ ! أنتِ تستحقين الكثير، هلا نظرتِ إلى نفسكِ في المرآة ورأيتِ آثار الزمن والحرمان، مد يده يبحث عن وسادته ولما لم يجدها، ناولته وسادتها أشار بيدهِ لتقترب منه، فتح ذراعيه ليحتضنها، تمنعت، شدها، فجرَّت جسدها نحوه، استلقت إلى جانبه، استرخت، سحب ذراعه من تحت رأسها واستبدلها بالوسادة، أصلح جلسته، قال بصوتٍ يتدفق أملاً:
إذا كانت الصفقة مربحة فستكونين لي لليلتين متتاليتين، مقابل ليلة لعائشة، لكن ليس على هذه اللبادة القذرة ولا في هذه الغرفة العفنة ولا في هذا الحي الفقير.
عاد يوجه إليها نصائحه هامساً: قولي لـه أن لا فراش عندكِ تنامين عليه، ولا غطاء يمنع البرد عنكِ، صارحيه، لكن ليس بكل الحقيقة، لا تخبريه بأنكِ قتلتِ رجلاً حاول اغتصابكِ، كوني سلسة ناعمة، لطيفة.
أمسك بطرف عباءتها البرشاء وقال: ارفعي عباءتكِ قليلاً، إلى هنا.. لا لفوق الركبة بشبر أو بشبرين لا عيب، حتى لو كان لفوق الركبة بثلاثة أشبار، هو الرجل حين يرى ساق المرأة الغريبة يدوخ، وإذا أراد أن يلمسها لا تعترضي، الله سبحانه وتعالى يغفر، هو أحياناً يغفر للفاسقات اللاتي يعرضن سيقانهن من أجل نزوات عابرة ورغبات محرمة، لعنهن الله إنهن الفاسقات والنار بانتظارهن. أما أنتِ ! أنتِ ستكونين في الجنة لأنكِ حرة وشريفة، تبين ساقها فقط لشيخ المدينة ومن أجل أرضها وزوجها وأولادها.
ارتفعت يد دحام إلى وجه زهوة، لامسته ثم انزلقت إلى عنقها وتبعثرت أصابعه على هرمي جسدها:
زهوة افعلي أي شيء تجدينه يرفع سعر شراء الأرض، أنتِ لا ينقصكِ شيء، وجهكِ ما زال طرياً ناعماً، عنقكِ يذكرني بيوم رأيتكِ لأول مرة، أما صدركِ فبرغم السجن والزمن ما زال على قساوته، لو أني شيخ المدينة لفرضت على المقاولين شراء الأرض بالملايين، أي أمتع نفسي وأفرض عليهم السعر الذي تريدينه ولا أخسر شيئاً.
لم تنم زهوة. ولا دحام زار الرقاد أجفانه، زهوة تحلم وهو يحلم، زهوة ترسم وهو يرسم، أمسكت عرفها الطويل، همست: من هنا، حتى الكتف، لا حتى الأذن تماماً، من سيكون الحلاق؟ غداً حين أعود أسأل عن أفضل حلاق في المدينة. امتدت يدها إلى عباءتها المجعدة، استعرضت أسماء دكاكين القماش التي تراها في ذهابها وإيابها، تذكرت ألوان القماش المعروضة على الواجهات، استحضرت أسماء الخياطين الذين تطرق أبوابهم لتحضر منها ثياب سيداتها، خياط السيدة فوزية، لا، لا حين أحضرت لها البذلة الرمادية سمعتها تقول: جورج خرف، الزر الأخير لا يوازي العروة، إذاً ميشو، ميشو صاحب المقص الذهبي، السيدة زكية كلما ارتدت بذلة خاطها ميشو أسمعها تقول: يقصف عمره، صحيح مقصه ذهبي. بقيت علب الغندرة، سأقتني جميع أنواعها ومعظم أشكالها، وسأستعين بخبرة السيدة زكية فهي لابد تعرف الكثير عنها، وكذلك العطور، العطور بكل أنواعها، سأرتبها وراء بعضها كرتل المساجين، أبدأ من الأقصر إلى الأطول أو بالعكس.
عادت زهوة تتذكر غرفة السيدة فوزية، تذكرت الروائح الزكية التي تفوح في أرجائها، في كل مرة تدخلها تخال نفسها في عالم لا علاقة لـه بالعالم الذي عايشته، عالم السيدة فوزية عالم تسكنه الملائكة، تنتشر في جنباته الزهور، ترفرف في أرجائه طيور حملت من الجنة روائح زهور سماوية، وحين تخرج زهوة تشعر بأنها سقطت من الجنة إلى مكان تفوح منه روائح خاصة بأهل الأرض، رائحة الطعام، رائحة الفضلات، رائحة الدم.
استرسلت زهوة في أحلامها، اقتربت من دحام، التصقت به، أغمضت عينيها، حلمت بأصابعه الخشنة تقتحم جسدها، تغوص في أعماقه، تزرع زهوراً قرمزية تنعش نبضات الرغبة، تلتصق به، تتمنى لو ينزع عن جسده كل شيء، لو يتعرى ويضمهما دثار واحد، يلتفان به ولا يخرجان منه إلا بعد أن تطرد الزهور القرمزية آخر دودة ثلجية، هتفت: الحب قادم، وكذلك الدفء والأمان، دحام لن يتخلى عني بعد اليوم، مصطفى وحسين دائماً معي، كل يوم أوقظهما، أقبلهما، أحتضنهما، أعد لهما الطعام وأودعهما؟....
صرخت: دحام سأفعل كل شيء من أجلنا، من أجل أن نكون معاً، دحام، دحام هل تسمعني؟
لا يدها التي هزته، ولا صوتها الذي ارتفع عن المعتاد استطاعا أن ينتشلا دحام من أحلامه:
سأشتري تراكتور، تراكتور؟ لا، أشتري سيارة شحن كبيرة، شاحنة تتسع لعشرات الخراف والماعز والنعاج، أشتري شاحنة كشاحنة عسَّاف السمسار، إي، أشتري شاحنتين، إحداهما يقودها حسين، والثانية يقودها مصطفى، زفر زفرة عميقة وقال: إيه يا زهوة، الله لا يعيد أيام التعب والشقاء، شيخ المدينة هو أملنا الوحيد، وإذا ساعدنا.....!.
وعاد يرسم ويحلم، وكذلك زهوة ترسم وتحلم.
حين ترسل السيدة فوزية في طلبي أروح بثياب جديدة وعقود الذهب تهتز في عنقي وتتراقص على صدري، أطرق باب بيتها، أسألها عن لفاية تنظف لي البيت.
صوت دحام أعادها إلى الغرفة الباردة:
سمعت رجلاً يقول: بابه مفتوح دائماً، وقالوا....
شرد دحام، ولم تسأله زهوة أن يكمل، فليحلم كما تحلم:
أطلِّق عائشة، وكذلك زهوة، كبرتا، لا، لا حرام، عائشة بنت الثيريب، وزهوة مقطوعة من شجرة وستذهب إلى شيخ المدينة، أنا من النشامى والنشامى لا يخونون الخبز والملح. أتزوج إي أتزوج أحلى بنت بالثيريب، صفية أو خدوج، يا الله، أشوف، حين ترجع زهوة يتحدد إن كنت سأتزوج زيجة ثالثة.
وكأن شيئاً آخر شغل رأس زهوة، كلمة منعتها من الاسترسال في أحلامها، كلمة سمعتها من دحام، ولأنها في شكٍ مما سمعت عادت تحثه على تذكر الرجل الذي أخبره أن المحافظ من الساحل، أجابها بنبرة من يريد التخلص من محدثه.
هم أولاد الشيوخ يصيرون مسؤولين، والكل يعرف أنه ابن شيخ.
سؤال آخر منعه من الاسترسال في أحلامه، وليجيب عليه دون أن يقطع أحد سلسلة أفكاره، طلب من زهوة النوم، ثم رمى الغطاء فوقها، فتناثر منه وبر جعلها تستسلم لنوبة سعال طويلة.
ثم بدأ يحسب مساحة أرضه، ويضع أسعاراً مفترضةً للدونم الواحد، تارة يرفع سعر الشراء، وتارة يخفضه، ثم يقول: في أسوأ الأحوال يكون سعر الأرض مليون ليرة، مليون...!، يرسل صفيراً عالياً، ويجلس ثم يستلقي.
سألته زهوة بعد غفوة قصيرة إذا كان الفجر ما يزال بعيداً، ضبط نفسه وطمأنها بأن الغرفة ما زالت مظلمة، والنافذة الوحيدة لم ترسل ثقوبها أية إشارة تنبىء أن المدينة بدأت تنهض، استغل سؤالها ليحثها على العمل لترك هذه الغرفة السوداء، وذلك بعد أن يعدها المحافظ، وعاد يحذرها من وعود المسؤولين وينصحها بالعمل والصبر حتى تصبح النقود بين يديها، وحتى ذلك الوقت عليها الاستعانة بالأصوات لمعرفة الوقت الذي يحكم المدينة، فالأصوات النشيطة تعني أن النهار في أوله، والأصوات المتعبة تعني أن النهار في آخره، والأصوات الحالمة تعني أن الليل في عزه، وعاد يحثها على النوم لأنه، أي النوم، يفيد الوجه ويريح العقل ويطلق اللسان
سكنت الأحلام في الغرفة القبو، لكن الأحلام لم تسكن في رأس زهوة، دارت معها حول المبنى الكبير، رافقتها حتى الباب، انتظرت معها في مكتب المحافظ، والأحلام لم تفارق دحام بالرغم من محاولته شغل نفسه بإحصاء الأثاث الموجود في الغرفة الصغيرة لبادة، لحاف، موقد كاز، ثياب قدر أنها ربما حصلت عليها من بيوت الخدمة، حصير ممزقة، مسند فقد بعضاً من محتوياته، وسادة محشوة بثياب ممزقة، لوح خشبي رطب وزع عليه ثلاثة قطرميزات صغيرة في أحدها سكر وفي الثاني ملح، وفي اسفل الثالث حفنة شاي، فتح النافذة الوحيدة، فاقتحمت رائحة كريهة الفضاء الحبيس أغلق الفتحة الضيقة تأفف شعر بالأحلام تتحول إلى جناحين يدفعانه إلى الشارع تسلق السلم الإسمنتي فوجد نفسه أمام باعة البسطات وعربات تسربل بغالاً أمام البيوت الرمادية؟ طارت به أحلامه إلى شارع آخر، توقف يسأل عن أسعار المخازن، سأل عن أسعار البيوت ثم عاد إلى الغرفة. يا للخيبة لم تعد بعد، أين ذهبت؟ كيف قالوا مكتبه مفتوح؟ كيف؟ ألهذا تأخرت؟ لم يأت دورها بعد. لا، لا ربما هي معه الآن؟ إلى جانبه تفاوضه. أحس بالندم لأنه لم يشتر لها عباءة شفافة، ندمه هذا يحدث دائماًً، دائماً نظن أنفسنا أننا فعلنا ما يجب فعله ثم نكتشف ثغرات كثيرة وهذا يسبب لنا ألماً كبيراً وخسارةً لا تعوض، مع دحام الأمر مختلف، الندم تلاشى وبرز الأمل قامة كبيرة، تأخرها فسره على أن السعر سيكون خيالياً وإلا لماذا تأخرت؟ لو أن خبرتها تخطت معرفته لكان الأمل اكبر بكثير، امرأة ريفية تخلقت بأخلاق البداوة ثم عاشرت نساء سجينات ثم...... لا خبرة لها في طباع الرجال خاصة أولئك الذين يقبعون على كرسي المسؤولية من يدري قد يحب فيها بساطتها، عينيها، شعرها، قامتها الهيفاء، لو لم تعجبه لكانت الآن هنا، أما وأنها تأخرت! فالأمل كشجرة كاد الظمأ يقتلها وإذا بفيض ينداح عليها، فتورق وتنمو وتكبر، تكبر.... ثم! أتراها ستزهر؟ الساعات القادمة ستجيب على تساؤلات دحام.
أحلامه دفعته مرة أخرى إلى قلب المدينة فخرج يسأل عن أسعار البنايات والشاحنات، أعجبته شاحنة حمراء، أحصى نقوده، ناولها إلى صاحب مكتب لبيع وتأجير السيارات، دار الشارع مرة أخرى فرأى شاحنة أكبر، عاد إلى المكتب، طالب بالنقود، أخذها ولم يعترض على أنها نقصت، الخوف من هروب الشاحنة منعه من الاعتراض، وقف على الرصيف أكثر من ساعة، عاد إلى المكتب، سأل صاحبه عن شاحنة رمادية كانت تجوب الشارع الرئيسي، التبس الأمر على صاحب المكتب، وأشار إلى أن المدينة تعج بالسيارات الرمادية، ومن حسن حظ دحام أنه ميزها عن غيرها بحوتٍ يكاد يبتلعها. هز صاحب المكتب رأسه، وسمَّى الشاحنة التي أعجبت دحام (شاحنة الحوت الأزرق): تريد أن تشتريها؟.
عادت النقود إلى جيب صاحب المكتب ووعد الأخير دحام بأن الشاحنة ستكون هنا بعد ساعتين. قبل انقضاء الساعتين كان دحام في المكتب يطالب بآلافه الباقية ليشتري بها أرضاً أعجبه موقعها فلقد وجد أن شراء الأرض أفضل من شراء المخازن، أرض في قلب المدينة تساوي هكتاراته الثلاثة، قناعاته هذه تغيرت بعد أقل من نصف ساعة فعاد يستعيد المبلغ الذي دفعه عربوناً لثمن الأرض إذ قال:
عندي عشرات الدونمات وأكاد لا أستفيد منها بشيء، أما المخازن!.
هو يسمع دائماً أن المخزن يشتري منزلاً وأرضاً ولذا قرر أن يشتري مخزناً أعجبته واجهته، وحين دخل إليه أعجبه اتساعه، أعجبته التحف والأثريات الموزعة في أرجاء المخزن بشكل أنيق منظم، سأل عن ثمنه فأجابه شاب كان يجلس وراء طاولته: بأن هذا المخزن ليس للبيع فأبدى دحام استغرابه وقال في سره: إن لم يكن هذا المخزن للبيع فلماذا يعرض على الشارع؟، حقاً إن سلوك سكان المدن مضحك.
دسّ نقوده في جيبه وثمة شعور بالخيبة انتابه بعد خسارته لثلاثة آلاف، ثلاثة آلاف مبلغ كبير، إنه حصاد أشهر، الآن يراه مبلغاً تافهاً إذا ما قارنه بما سيقبضه اليوم، وعلى أكثر تقدير غداً، وأسرّ في نفسه بأنه سيجعلهم يندمون اليوم أو غداً، سيحمل كيس النقود ويفتحه أمامهم يسألهم عن الموقع الأفضل في المدينة والشاحنة الأكبر والمخزن الأجمل والأرض الأوسع، سيطلب منهم أن يصنعوا لـه شاحنة تحمل كل أغنام الثيريب وحلب.
نعم سأجعلهم يتحلقون حولي كالقطيع حول كومة شعير، لكن، والله سأمنعهم من تذوقه، تذوقه؟ الجشعون، سرقوا نقودي، المراوغون بنصائحهم البخلاء حتى برد السلام.
ولأجل أن تتحقق أحلامه عاد مستعجلاً إلى الغرفة الصماء ليجدها كما تركها صامتة، توقف عند الباب، داخلت الشكوك السوداء نفسه، عاد يتأكد من مقبض الباب، هز رأسه وعاد أدراجه إلى الشارع، لم يعد ينظر إلى واجهة المخازن، ولا استوقفته بقعة أرض نظيفة، ولا لوَّح بيده لشاحنة أعجبته ضخامتها. هو الآن يتساءل إن كانت تفعلها، وحين تدفعه شكوكه إلى اليقين، يقبض بأصابعه على راحة كفه ويصرخ: كلا، روحها بيدي، أذبحها أو أرسلهما وراءها، يقتلانها ويعيدان النقود إليّ، الخائنة ! هل نسيتهما؟ سأجعلهما يذبحانها ويشربان من دمها!.
شكوكه تتلاشى حين يتذكر أنها مقطوعة من شجرة، لا أم، لا أب، لا أخ، فقط زوج أو نصف زوج، ولو أراد أن ينصف لقال ربع زوج. حين يتذكر أنه طلقها بعد شهرين من دخولها السجن يخجل من نفسه، ويزداد خجله حين يتذكر كيف طردها يوم خرجت تسأله عن يوسف، وترجوه أن يدعها تعيش قريبة منه في غرفة مع ولديها حسين ومصطفى، خجله هذا كان فيه شيء من القسوة على نفسه، فهو وبعد أن أشيع في الثيريب أنه طردها عاد يبحث عنها، وحين وجدها أعلنها زوجة أمام عائشة والأولاد، ثم صار يزورها مع ولديها، يحمل إليها السكر والشاي والحليب، وأحياناً يزورها وحيداً ويقضي ليلته معها في غرفتها المظلمة، وحين يعود إلى الثيريب يتأفف من كساد السوق الذي اضطره للمبيت في حلب ليتسنى لـه بيع ما بقي من قطيعه، تأففه هذا كانت تفهمه عائشة وتتجاهله، فهي تعرف أن الكساد حالة تضطر تجار الثيريب إلى المبيت أياماً في حلب، ثمة فرق أو أكثر بين دحام والآخرين، هو بدأ كساد سوقه بعد خروج زهوة من السجن، وهم كسادهم قديم، هم يعودون وقد خسروا أضعاف ربحهم، وهو يعود بربحه وبهدايا يحملها إلى عائشة.
هذا الكساد لم يزعج عائشة، فهذه المرأة التي قبلت بدحام زوجاً ولم يمر على سجن زهوة سوى شهر وبضعة أيام، عانت الكثير، فعدا أنها وجدت نفسها أماً لولدين لم تلدهما، فإن شبح زهوة ظل يلاحقها، حتى بعد أن أصبحت أماً لولدين أنجبتهما.
يستيقظ دحام على صوت بكائها، تشير بيدها إلى الباب (إنها هي، رأيتها تدخل الغرفة، دحام، إنها تختبئ في مكان ما، في نملية المؤونة أو بين الأولاد، إن لم تعدها إلى السجن فستقتلني).
يرجوها دحام أن تكف عن هلوساتها، ترفع صوتها مهددة بأنها ستتركه وترحل،
يترك فراشه، يفتش الغرفة، يخرج إلى الزريبة، يقف على الباب ثم يدخل كوخ صبيحة، فتسأله: مرة أخرى زهوة؟ عائشة ستحولك إلى رجل مجنون، ثم تأسف لأنه استبدل الحمائم بالغربان، وقبل أن تكمل صبيحة تعليقاتها يذهب ويدخل إلى عائشة ليؤكد لها بأن زهوة لم تخرج من زنزانتها. هذه المعاناة التي استمرت أعواماً انتهت يوم زف دحام لعائشة خبراً مفاده أن زهوة خرجت من السجن، وأهل صفوان كانوا لها بالمرصاد، فقتلوها في شارع النور، الشارع الذي كان يسكنه ضحيتها صفوان ، استرخت عائشة على المقعد، أطلقت زفرة طويلة، همست: الحمد لله، أخيراً أنام بلا كوابيس، أسير بلا خوف من يد تمتد إليَّ وتقتلني.
بعد ستة أعوام من حادثة القتل المزعوم يُطرَقُ باب غرفتها، يفتحه حسين ليجد أمامه امرأة يغطي السواد كامل جسدها، تضحك عائشة من نفسها حين تتذكر ذلك اليوم: لم يكن الأمر مخيفاً بالقدر الذي تصورته، امرأة متشحة بالسواد تقول: أنا زهوة، ثم ترجوني أن أدعوها للدخول، وحين تدخل أراها أمامي امرأة منكسرة حزينة، شاحبة ،قليلاً لكنها جميلة، جميلة جداً وكأنها لم تدخل السجن يوماً، قلت في سري: لو أنها خرجت منذ زمن لأراحتني واستراحت.
وحين أتى دحام أخبرته أن زهوة في الداخل تنتظره، وتضيف عائشة: مسكينة زهوة، زرعتْ وحصدتُ، جمعتِ الرحيق وقطفتُ الشهد، ملأتُ العنابر والجرار وهي لم تلحق شراء العنابر والجرار، هي ما زالتْ تطرقُ الأبواب، تغسلُ، تمسحُ تكنسُ، تطبخُ، وأنا أخدمُ نفسي وأحياناً أجدُ من يخدمني، مسكينة، لولا كساد السوق لا أظنه يطرق بابها، يحمل إليَّ قطع القماش والأحذية والعطور لأغفر لـه خيانته، يذهب إليها وبيده أوقية شاي أو كيلو سكر.
الهدايا كانت ثمن مبيت دحام عند زهوة يدفعها لعائشة ثمناً لسكوتها ولحماية زهوة، بل هو يقول: إن حماية زهوة هي الهدف.
وحين أعادها إلى عصمته اشترط السرية التامة، وكانت عائشة تردد: هذا الأمر سيتم، رفضته أم قبلت به، أما الأولاد، خاصة مصطفى وحسين، فقد وجدا بإعادة أمهما إلى عصمة دحام حماية لها وراحة لهما.
ثمة سؤالان يفرضان نفسيهما وهما: لماذا طرد دحام زهوة؟ ولماذا قرر بعد ذلك إعادتها إلى عصمته؟.
يوم دخل إلى المنزل ورآها جالسة، إلى يسارها حسين وإلى يمينها مصطفى ألقى عليها سلاماً جافاً، وأدركت أن عليها الخروج، لكن ليس قبل أن تسأله عن يوسف، وحين سألته أجابها بنبرة من يريد التخلص من محدثه: لا أعرف، خرج ولم أره بعد ذلك. ثم أمسك بيدي حسين ومصطفى ودفعهما بعيداً عنها، فوجئت زهوة بسلوكه هذا، وقفت، ولم يطلب منها الجلوس فخرجت وتلكأت قليلاً في الخارج، عله يراجع نفسه ويعتذر لها عن قلة لباقته، لكنه لم يفعل، فحثت خطاها وهي تتعثر بدموعها، وحين وصلت إلى غرفتها قررت ألا تستسلم، دحام طردها لكي لا تطالب بولديها ولا بحقهما بالأرض التي اشترياها ذراعاً بذراع، وكان يردد أمام الجميع (اشتريتها ذراعاً بذراع)، قررت زهوة الاستعانة بعائشة لأخذ ولديها، وبعد ذلك تطالب بحقهما مع يوسف من الأرض. يوسف! تساءلت: أين هو؟ أهو ميت أم حي؟ لماذا لم يزرها في السجن ويحدثها عن هاجر ومجدلون ونضال؟ ماذا حدث لهم؟ هل اعترض طريقه أحد؟ قحطان مثلاً؟ حزمت زهوة أمرها وقررت البحث عنه واستعادته، لكن ليس قبل الفوز بقطعة أرض، نعم الأرض ضرورية لتحقيق الحلم الكبير، حلم العودة إلى مجدلون، خير لها أن تعود قوية غنية من أن تعود ضعيفة فقيرة، اكتشفت زهوة أثناء وجودها في السجن وطلاق دحام لها أن بذرة الحنين إلى مجدلون لم تمت، راحت تسقيها بكل ما تعلمته في مجدلون والثيريب، فأوعزت إلى جسدها أن يقاوم العفن الرابض لها على الجدران الوسخة، كانت زهوة خلطة عجيبة من ثلاث نساء، زهوة العباس، هاجر، صبيحة. حدثتها هاجر عن أحلام زهوة العباس، وظلت طوال فترة وجودها تلقنها أقوالها وتحدثها عن أفعالها حتى باتت تعتقد أنها زهوة العباس بروحها وعقلها وذاكرتها، واكتسبت من هاجر ما تكتسبه الابنة من الأم، أما صبيحة فعلمتها أنه في النار وفي عز الطوفان ثمة طريقة للنجاة وعليها البحث عنها.
تمسكت زهوة بهذه الخلطة العجيبة وكانت كل صباح تخرج مرآتها وتنظر إليها، تقول لعينيها: انظري هاهي مجدلون أمامك بسفحها وواديها وتلتها، وتمرر أصابعها على خديها وتخاطبهما: لا تنخسفا، أمنعكما، أنسيتما أطباق هاجر وسلالها ومزهرياتها، ويزداد ألق الخدين، وتمسك بشعرها تعقصه إلى الوراء وتحدثه قائلة: وأنت تذكّر أن نضال كان يحبك كثيراً، ثم ترميه على ظهرها فينسدل طائعاً، ولأجل أن يظل لعينيها بريقها كانت دائمة الابتسام، أما خدَّاها وشعرها فكانت تستعمل لأجلهما كريمات وزيوتاً تشتريها من سجانة كانت تبيعها لمن ترغب من السجينات مقابل أشغال الإبرة والتطريز وقبعات وكفوف وكنزات صوفية، وهي أعمال أتقنتها وأضافتها إلى فن صناعة الأطباق والمزهريات. باختصار استطاعت زهوة أن تحافظ على رأسها وجسدها دون أن تسمح لأحد بتدنيس نفسها. بعد ثلاثة أشهر من دخولها السجن تقدمت بطلب إلى الإدارة تعلن فيه عن رغبتها في تعليم القراءة والكتابة للسجينات، وهو أمر لم يكن مألوفاً، فإدارة السجن اعتادت إدخال أعمال يدوية إلى زنزاناتها، وكانت تقدم التسهيلات اللازمة لتعليم السجينات.
أما تعليم القراءة والكتابة فهو أمر لا تمنعه السجون، وأمام إصرار زهوة وتأكيدها أنها تحمل شهادة ابتدائية استجابت إدارة السجن ليضاف وقت لتعليم القراءة والكتابة للسجينات وهذا ما شجع زهوة لتقديم اقتراح آخر يتضمن رغبتها في تعليم السجينات فن صناعة الأطباق والمزهريات والسلال، وهذا الفن جديد عرقله صعوبة الحصول على المواد الأولية، إلا أن الإدارة استجابت مرة أخرى لنشاط زهوة وكرمتها بأن خفضت فترة سجنها خمس سنوات، حتى إذا خرجت وجدت نفسها زهوة أخرى، صانعة أطباق تتقن كافة أشغال الإبرة، حائكة صوف ماهرة. قبل أن تخرج كانت قد وضعت في رأسها تخيلاً يكاد يكون مطابقاً لحجم أولادها، فحاكت لهم الكنزات والقبعات ولم تنسَ طاولاتها وكراسيها وفراشها، فاشتغلت لها الأغطية والستائر، وحين خرجت أعطت ولديها الكنزات والقبعات وباعت الأغطية والستائر لتستأجر بثمنها غرفة في حي حقير بعيد عن المدينة، في تلك الأثناء كان دحام حائراً وقلقاً لأن السعر الذي دفعه المقاولون لم يرضه رغم أنه يساوي عشرة أضعاف ثمن الشراء، وهو سعر يراه دحام قليلاً لأنه يسمع بأن المقاولين هم عصبة جشعة هدفها الربح ويفعلون أي شيء لمضاعفته، يستخدمون الرشوة، أعوذ بالله، أيعقل هذا؟ الرشوة؟ و... ويقولون إن المسؤولين يتواطأون مع هذه العصبة ويتخلون عن بعض مكاسبهم أمام المرأة، بالطبع، المرأة التي يتخلون لأجلها عن بعض المكاسب لا تشبه عائشة بشيء. هذه الفكرة أبعدها فوراً من رأسه لأمرين أولهما: عائشة لا ترضي أي رجل وثانيهما يتعلق بأخلاق البداوة التي تستهجن هذا السلوك، قناعته هذه كانت ستستمر لولا أنه أطلق العنان لخياله وصار يضع تصوراً لأشكال النساء اللواتي يدفعن المسؤولين للتخلي عن بعض مكاسبهم، ولأجلهن يفرضون ما يناسبهن، قاده خياله إلى زهوة، زهوة الجميلة تنساق مع الحلم وتجاهد لتحقيقه، ولديها ما يؤهلها للقبض عليه، زهوة بعينيها الواسعتين وشعرها الذي يتراقص على كتفيها، وجسدها الممتلئ الرشيق، نعم إنها هي، المرأة التي لأجلها يفعل أي مسؤول المستحيل لإرضائها، لكن، هل ستقبل زهوة القيام بهذا الدور، حين وجّه إلى نفسه هذا السؤال أدرك حجم غلطته يوم طردها، لكنه لم يعتذر، بل تجمَّل بالصبر، فهي لابد آتية لرؤية ولديها، لن تستطيع الابتعاد لفترة طويلة، وكان حدسه في مكانه فرحب بها وعرض عليها أخذهما معها إن شاءت. لم تصدق ما سمعت، وسيخبرها فيما بعد بأن سلوكه معها في المرة السابقة كان ناتجاً عن قلق على مصير الأرض التي اشترياها ذراعاً بذراع ورافق مصطفى وحسين أمهما ومعهما نقود وطعام لأسبوع كامل.
بعد ثلاثة أيام طرق دحام باب غرفة زهوة واستقبلته وطلب من الولدين أن يتركاهما لوحدهما. جلس دحام على حصير ممزقة وراح يحدثها عن الأرض وعن يوسف الذي سافر للبحث عن قبيلة والده ولم يعد. شردت زهوة وتساءلت: هل وجد يوسف جدته هاجر؟ ماذا قالت لـه؟ هل دلته على والده؟ هل وجدها؟ ألهذا لم يعد؟ انتشلها من شرودها عرض دحام برغبته بأن تعود لـه زوجة ثم حدثها عن منزل كبير سيضمها مع أولادها، أشرق وجه زهوة وسألته: ويوسف؟. وعدها بالبحث عنه وإعادته إليها بعد شراء منزل لها ولأولادها، شعرت زهوة بأن الأحلام التي قاومت السجن لأجلها بدأت تظهر بشائرها الأولى، وشعرت بغصة تقبض على قلبها حين تذكرت نضال، وتذكرت عبارة صبيحة: نضال عاصفة إن التقيتِ بها ستوقعكِ أرضاً وتدميكِ ثم تختفي ولن تري لها أي أثر.
سألها دحام: ماذا قلتِ يا زهوة؟ أجابته: كما تريد، وعادت زهوة زوجة لدحام، وفي كل مرة كان يبيت عندها يحدثها عن الأرض والمقاولين والمحافظ، وبأنه مقطوع من شجرة لا دعم لـه ولا سند، وأمثاله هم لقمة سهلة بأفواه هؤلاء الجشعين، ثم يضيف: وعائشة لن تساعدني في شيء، أنانيتها تعميها عما يتربص بنا، وأنتِ تغيَّرتِ، ما عدتِ الزوجة التي تساعد زوجها على غدر الزمان وكأنكِ تنتقمين مني.
كلا أنا لا أنتقم.
انتهز الفرصة وحدثها عن الرشاوى التي تدفع للمحافظ والمسؤولين، سألته: وما علاقتي بالرشاوى، وأجري الذي أقبضه من بيوت الخدمة لا يكفي قوت يومي وأجرة غرفتي.
أعرف، ولكنكِ تستطيعين أن تديري رأسه.
كانت زهوة قد استغربت إطراءات دحام على جمالها وصباها وعزت ذلك إلى تغيّر طرأ على شخصيته، وحين قال صراحة بأنها تستطيع أن تدير رأسه، لم تصدق ما سمعت ووجدت جواباً لسؤاليها: لماذا طردني يوم خرجت من السجن ولماذا أعادني بعد ذلك؟
رفضت زهوة طلب دحام وكانت ستستمر في رفضها لولا خوفها من فقدان أحلامها فتخسر منزلاً سيضمها مع أولادها الثلاثة. الخوف من خسارة الحلم دفعها للتواطؤ معه مقابل منزل ومخزن وسيارة قبلت زهوة القيام بدور الغانية، لكن ماذا لو كان المسؤول حبيب الأمس؟ وماذا لو كانت من ارتضت لنفسها أن تقوم بدور الغانية حبيبة الأمس؟.
كان دحام ما يزال في شارع السبيل، حين صرخ قائلاً: طلاقها والحكم عليها بالسجن كانا نصف ثأر، والنصف الآخر.....
تلفَّت حولـه فرأى المارة ينظرون إليه باستغراب، أضاف بثقة: هذا النصف الآخر ما زال حياً في رؤوس أهل صفوان، هذا النصف ثأر سيكون الرسن الذي سأشنقها به حين تهرب بالنقود، حث دحام خطاه وهو يردد (من لم يكن من لحمك ودمك فلا تسلمه سرك، من لم يكن من لحمك ودمك فلا تثق به)، ثم وقف على الرصيف واستدار عائداً إلى الغرفة ليتأكد من خيانة زهوة لـه.
لم يكن لخوف دحام ما يبرره، فثمة تسميات كانت تختصر حياة زهوة، حين أتت إلى الثيريب مع صبيحة سميت زهوة الغريبة وحين قتلت صفوان سميت زهوة القاتلة، وحين خرجت من السجن سميت زهوة السجينة، ولو أن أحداً أتى إلى الثيريب يسأل عن زهوة صالح، لعاد السائل بخفي حنين ( لا يوجد امرأة تحمل هذا الاسم، ثم يستعرض المجيب الألقاب التي ألصقت باسم امرأة تدعى زهوة، ويضيفون: هذا كان منذ زمن، الآن لا نعرف أين هي، ربما قتلت أو أنها ما زالت تبحث عن أهلها).
وحين أصبحت زهوة بين جدران السجن تذكرت حياتها السابقة، استعرضت أسماء رجال صنعوا زهوة القاتلة، بدأت بأحمد صالح، نضال، قحطان، ديب المخنث، دحام، صفوان، أطلقت تنهيدة عميقة وتساءلت: هل تحتاج المرأة إلى كل هؤلاء الرجال لتدخل السجن؟ ترى كم من النساء يحتاج الرجل ليدخل السجن؟.
حين وجهت هذا السؤال لهدلة، أطلقت الأخيرة ضحكة صاخبة وقالت:
أنت يا زهوة تظلمين الرجال حين تحملينهم نتائج المصير الذي وصلتِ إليه، ثم هل تظنينهم تقصدوا إيذاءكِ؟ لا يا زهوة، هم فعلوا ما يريحهم وما يسعدهم، وأنتِ هل كنتِ ستفعلين ما يشقيكِ ويسعدهم لو كنتِ مكانهم؟ فأما أحمد فقد فعل ما يجب أن يفعله أي أب تجاه ابنته، فما ذنبه إن كانت الخيانة أتته من رجل يثق به ويحبه؟ وأما نضال فأظنه أحبك وبالمقابل فإن من واجبه تصديق قحطان وإطاعته، وقحطان ربما كانت لـه أسبابه، ابن وحيد وأملاك تكاد تضم كل أراضي مجدلون بالإضافة إلى سلالة عريقة، فهل يعطي كل هذا لابنة صانعة سلال وبائع دواب؟ وأما القواد، مسكين إنه تاجر، وهل يفكر التاجر بغير الربح؟ بقي دحام، دحام يشبه معظم الرجال، يريد امرأة جميلة تملأ بيته بالأولاد، تعمل معه ليلاً ونهاراً، تصبر، ولا تشتكي، تساعده حتى يتفوق على كل الرجال بالمال والعيال والنساء، وحده صفوان يؤسف على شبابه، ربي ارحمه على عدد ما خلقت، أما أنتِ.....
مسحت نظراتها زهوة من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، ثم أغلقت الزنزانة على نفسها وتركتها وحيدة.
ارتمت زهوة على الأرض، شردت تفكر في كل كلمة قالتها هدلة، تساءلت: لماذا امتنعت عن قول شيء يخصها؟ لماذا لم تصفها بالشريفة، بالبطلة أو العفيفة؟ هل ثمة أوصاف أخرى تليق بزهوة التي قتلت فتى حاول اغتصابها؟
في جلسة أخرى بين المرأتين، قالت زهوة لهدلة: أنا مثلكِ وحيدة، لا أحد يزورني ولا أحد يسأل عني، أتراني أخطأت؟. نظرت هدلة إلى زهوة وطلبت منها أن تتركها وشأنها، ردت زهوة: أرجوكِ، أنا مثلكِ متعبة وأرغب في التحدث إليكِ.
خطف شرود هدلة خيال مر على النافذة الصغيرة، وقفت وركضت باتجاه النافذة، أرسلت صفيراً ناعماً، أخرجت رأسها من النافذة، أطالت النظر إلى الخارج، وعادت إلى زهوة تحدثها عن حارس ارتسم خياله على الجدار المقابل للنافذة، شاب طويل أسمر كتفاه واسعان، لـه مشية حذرة وكأنه يبحث عن شيء ،أتراه يبحث عن امرأة؟ لو أنني سارعت بالوقوف أمام النافذة. استدارت هدلة فرأت زهوة شاردة، قفزت باتجاهها فهزتها من كتفها وقالت: ألا تعرفين معنى الحارس؟ إنه رجل، منذ متى لم تري رجلاً؟ مذ قتلتِ فتاكِ?.
يا للنساء! أغويته وقتلته، لو كنتُ مكان القاضي لحكمت عليكِ بالإعدام، أنتِ غبية تقتلين بدافع العفة وكأن العفة لا تكون إذا لامس جسدكِ رجل، وقفت هدلة أمام زهوة وبنبرة تنقط اشتهاء ورغبة قالت: أدفع عمري مقابل أن ألتقي بفتى كصفوان، لو أنه ما زال على قيد الحياة، لو أنه قتلكِ ودخل السجن. ابتعدت هدلة عن زهوة، وضعت يديها على خصرها وقالت: لو تذوقتِ طعم السعادة التي كان سيمنحها لكِ صفوان، هل حقاً كنتِ تريدين قتله؟ أظنكِ أخطأت الهدف، أظنكِ عانيت صراعاً مريراً، صراعاً وضعكِ أمام خيارين: إما قتل الرغبة التي تمور داخلك أو قتلهِ، ولأنك عجزت عن قتل الرغبة كان عليكِ قتله، أريد أن أسألكِ: هل ماتت رغبتكِ؟ أقصد، هل قتل السجن رغبتكِ؟ لا عليكِ، يوماً ما، حين تخرجين من هنا ستجدين صوركِ تغطي جدران البيوت والشوارع، وفوق الصور سترين أوسمة وتحتها ستقرئين عبارة: البطلة زهوة صالح، أو العفيفة زهوة صالح، أو الشريفة زهوة صالح...
أو اسمعي، ما رأيكِ من الآن وصاعداً سأسميكِ العفيفة زهوة صالح مقابل أن تصطادي لي رجلاً يلمسني، يضمني، يضاجعني، أريده رجلاً حقيقياً، أريده صورة عن ضحيتكِ صفوان أو نضال، إن فعلتِ !. اقتربت هدلة من زهوة، أمسكتها من كتفها، ثم تركتها واتكأت على النافذة تمسح بنظراتها الجدران الرمادية تبحث فيها عن خيال رجل يُرسَمُ على الجدران، متهم، شرطي، سجان، جلاد. همست: رجل وكفى. ثم تركت النافذة، توقفت، مسحت نظراتها جسد زهوة، هزت رأسها دون أن تتيح لها فرصة توضيح أمور، من ضمنها تبرير قتلها لصفوان. فمثلاً كانت تريد أن تقول لها: إن الانصياع للرغبة كان خيانة كبيرة للمرأة التي خطفتها من يد القواد، وهي، أي زهوة، بقتلها لصفوان حمت نفسها من سكين دحام، ولأن السجن علم هدلة ما يفكر به نزلاؤه فقد قطعت على زهوة الطريق، طريق الأجوبة المقروءة.
ــــ 2 ــــ
إنه اليوم الثاني، اليوم الأول قضت فجره وضحاه أمام المبنى، في اليوم الثاني تأخرت في الوصول إلى مبنى المحافظة فجنبت قدميها جليد الأرض وحمت جسدها من برودة الفضاء، وحين كانت في مكتب الانتظار تراقب المراجعين تذكرت كلمة دحام: بابه مفتوح. فعلاً بابه مفتوح ، ليس فقط لأولئك الذين ينتظرون دورهم بل لأولئك الذين يدخلون دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر إلى نجيب، نجيب الذي كان يتحفز حين يرى أحدهم يدخل، فينحني قليلاً وأحياناً يظل منحنياً حتى يغلق الباب على المحافظ وضيفه، ظلت زهوة تراقب الوجوه الشاردة القلقة المتعبة الباحثة، اللاهثة. تعبت عيناها من التجول بين البابين، باب مكتب الانتظار وباب مكتب المحافظ دون أن تنسى مراقبة نجيب عله يرسل إيماءة من عينيه أو إشارة من يديه، وبينما هي مشغولة بمراقبة ما حولها أرجفها صوت اصطفاق باب، وجاءها صوت نجيب يعلن أن الدوام الرسمي انتهى.
وقفت زهوة، حركت يديها وعادت تجلس على مقعد الانتظار. عادتها هذه لم يعرها نجيب أدنى اهتمام وقدر أن الانتظار الطويل جعلها تشعر بدوار، حين يزول سترخي النقاب على وجهها وتخرج.
على الرغم من أنه قارئ وجوه جيد فهو لم يقدر أن زهوة كانت على استعداد أن تتوسل إليه لأجل أن يسمح لها بمقابلة سيده بل كانت على استعداد أن تخبره بأن دحام سيضربها وقد يطلقها إن عادت بخفي حنين، وتساءلت في سرها إن كان البكاء يفتح لها باب المحافظ وتذكرت نصيحة دحام: قولي إنكِ قريبته.
أنا قريبته...
واستقرت عيناها على الوجه البيضاوي، انتظرت أن ينحني لها أو يركض ليفتح الباب ويدعوها للدخول. انتظارها كان بلا جدوى فخمنت أن الكلمة ظلت رهينة خوفها وانفعالاتها فاعتقدت أنها تحتاج لقوة أكثر لإخراجها:
أنا قريبته...
دخل إلى مكتب سيده، تنهدت بعمق، ارتجفت وبدأت تبحث عن صلة قربى تربطها بسيادته، لو أنها اصطادت في نهر مجدلون لرددت حكمة الصيادين ( حين تغرز الصنارة في فم السمكة لا يسأل عن الطعم الذي أغراها )، لكن الصنارة لم تغرز أو هذا ما قدرته زهوة، فالباب الذي يصل مكتب الانتظار بمكتب المحافظ فتح ليخرج منه نجيب، يتوقف قليلاً، ينظر إليها، يهز رأسه ويعود إلى كرسيه يشغل نفسه بجمع الأوراق المكدسة أمامه ثم يشعل لفافة تبغ أخرجها لتوه من علبة حمراء، سألته: إن كان سيادته علم بقريبة تريد مقابلته؟، وبدل أن يذكِّرها بأن الدوام الرسمي انتهى، رمى اللفافة، داسها بحذائه، ضرب طاولته، صرخ: سمعت، كل من يدخل يدعي قرابة سيادته ولو كانت هذه الادعاءات صحيحة لكان لـه مئات الأعمام والأخوال، وعشرات الإخوة والأخوات.
ولولا تعب هدَّه لقال بهدوء: سيادته أوصاني بألا أدع أحداً من أقاربه يدخل إليه.
فتح نجيب حقيبته الجلدية، أخرج منها مشطاً رمادياً ونظارة سوداء ورمى في داخلها علبة سجائر وثلاثة أقلام ومصنفاً أخضر في داخله أوراقٌ مرتبةٌ، وبدلاً من أن تضحك من المشط الذي لم يجد شعراً يمشطه، أرخت النقاب على وجهها وانحدرت دمعتان كبيرتان على خديها، لكن الخوف من دحام عاد يسربلها على مقعد الانتظار. مسحت الدمعتين، رفعت النقاب وتوسلته أن يدعها تراه لدقيقتين، فالأمر لم يعد يحتمل التأجيل، القضية قضية حياة أو موت، دقيقتان ستمنعان جريمة كبيرة، دقيقتان ستؤمنان لها حياة هادئة هانئة، دقيقتان. .. وانفجرت باكية.
حكّ نجيب رأسه وعاد يجلس مكانه، أرسل الهاتف رنيناً جعل قلبها يضج بين أضلعها، انتفضت، رفع السماعة، هز رأسه، تمتم: حاضر، حاضر، فتح باب المكتب، دخل، غاب للحظات، وخرج يدعوها للدخول، ويرفع إصبعين في وجهها ويقول: دقيقتين فقط.
رنين الهاتف لمرتين متتاليتين أربك نجيب مما اضطره إلى نقل كل كلمة قالتها المرأة في دخولـه الأول إلى سيده، وبعد أن انتهى من كلامه أمره سيده أن يتخلص منها، وحين وصفها لـه وصفاً دقيقاً عرض عليه صرفها، ثم قام عن كرسيه ليكرر مقولته: بأنه يعرف هذه النماذج، تدَّعي الضرورة واستحالة التأجيل ثم كغيرهم يطلبون عملاً أو موافقة على مخالفة أو احتجاجاً على ظلم، وعند التدقيق يتبين أنهم الظالمون.
في الدخول الثاني أقنع نجيب سيده بأن لهذه المرأة مشكلة حقيقية، ولو لم تكن كذلك لما تحملت عناء الانتظار ليومين متتاليين.
حين صمت نضال معروف، خرج نجيب ينتظر إشارة سيده للسماح للمرأة بالدخول
هذه المرة ليست الأولى التي ينتصر فيها نجيب على سيده، فالأخير يمنحه هذه الفرصة أحياناً، والأخير يقرأ رغبات سيده المتخفية، ويدرك أبعادها، فهو يمتثل لأوامره حين يرى في عينيه الرفض ويناور حين تلتقط أذناه نبرة الممكن، ويفرض ما يريد حين يراه حائراً متردداً.
حين دخلت، سألها عن حاجتها، ثم نظر إليها فرآها كما وصفها نجيب، امرأة أعطتها العقود الثلاثة تأججاً لكنها لم تمنحها خبرة في الإغواء، فهي تندفع إلى أريكة تقع على يسار طاولة المحافظ أو شيخ المدينة، كما أسماه دحام، دحام، تذكرت نصائحه بعد أن جلست على الأريكة، أو لأقل: هل ارتمت خوفاً أم تعباً؟ أم تراه الوجه الذي أمامها، الوجه الذي تذكرته، الوجه الذي عرفته كما عرفت وجه هاجر وأحمد، وجوه رغم الضباب تتذكرها، وجوه عجزت وحشة السجن أن تمحوها من ذاكرتها، وجوه لم تستطع وجوه دحام وصبيحة أن تحل مكانها، إنه هو، رغم الامتلاء الذي يبدو واضحاً على كامل جسده، إنه هو رغم البياض الذي غزا فوديه ورغم التجاعيد الخفيفة التي تزيد من جمال عينيه فتبدوان كلؤلؤتين والتجاعيد الخفيفة شعاعاتٍ، إنه هو، نضال، كيف هذا، كيف؟.
كانت علاقة نضال بالمرأة غامضة، حذرة، علاقته الأولى تركت في نفسه حزناً وفي قلبه جرحاً، حبه الأول يضيع، عهوده الأولى لا تصان، زهوة فتاته تتزوج بآخر، ثم يملي عليه قحطان نصائحه: لا تشغل نفسك بالبحث عن امرأة اختارت سواك، على الرجل الطموح أن يبتعد عن المرأة، وأطاع نضال والده، ما جدوى البحث عنها؟ ثمة آمال وطموحات تقع على عاتقه، قحطان علمه أن الطموحات عجلة توصل من يقودها جيداً إلى الهدف وتودي بحياة أولئك الأغبياء والمتهورين الذين يلهون ويعبثون.
صدّق نضال والده وأطاعه إلى درجة فقد فيها القدرة على الخطيئة.
الخطيئة...! لو سئل نضال عما تعنيه الخطيئة؟ لأجاب على الفور: كل ما يتعلق بالأنثى، بدءاً من النظر إليها حتى اشتهائها، قناعته هذه كانت ستستمر لولا صوت صديق يأتيه عبر الأسلاك ليخبره بأمر هدية أرسلها إليه، لم يثره الخبر، فهو اعتاد على عبارات التملق التي كانت تهطل عليه من كل حدب وصوب، وقحطان شجعه على تقبل الهدايا، فإرسال الهدايا طقس واجب على العوام تجاه الشيوخ وأولادهم، فكيف إذا كان أولاد الشيوخ في موقع المسؤولية؟.
أغلق نضال السماعة ونسي أمر الهدية، وحين دخل إليه نجيب يخبره عن امرأة تريد مقابلته أمره بأن يتخلص منها فوراً، وبعد أقل من ساعة عاد الرنين، وكان صوت الصديق يعاتب صديقه على رفضه استقبال الهدية.
نفى نضال أن تكون الهدية دخلت مكتبه، وتغيرت نبرة صوت الصديق لتهمس لـه قائلة: الحياة ليست كلها عمل، إنها بسط وكيف، يعني شرب ونساء.....
حين دخلت الهدية مكتب الاستقبال لم تتوقف ولم تنتظر أوامر نجيب، بل اقتحمت مكتب المحافظ، لتجده غارقاً في عمله، قفزت إلى ذاكرته نصائح قحطان: وحدها المرأة تزلزل الكرسي، تذكر نجيب والمستخدم، تذكر موظفيه، تذكر بهية زوجه، امتدت يده إلى المنبه ثم ارتفعت، سألها: من أنتِ؟ من سمح لكِ بالدخول؟ سارت باتجاه الطاولة، هزت جسدها وأخبرته أنها الهدية، أزالت عن جسدها الدثار الخارجي، فظهرت محتويات الهدية.
أسالت المحتويات لعاب المحافظ، ولكي يبيح لنفسه ما كان محرماً، طرح مفهوماً جديداً للخطيئة فصارت: لا تلمس. بهذا المفهوم أباح لنفسه حق النظر إلى الهدية التي بدأت يداها تفصح عن مكنوناتها، صارت نظراته تتحرك مع الهدية التي راحت تتفتل أمامه، فيتراقص الهرمان ويهتز الردفان، وتبرز الساقان.
داعب نضال أنفه، تهيج، تعرق، وبلهجة جافة أنهى المقابلة.
احتجت المرأة الهدية، واستغربت كيف ينهي المقابلة قبل أن تقول شيئاً، أسند رأسه على مسند الكرسي وأكد لها أنه سمع ورأى ما أرادت إيصاله، ثم ذكرها بأن المكتب هو مكان عمل، وبلغ غضبه الذروة حين قالت بدلال: أنا قمت بعملي وأنت...?
وقبل أن يضغط على المنبه أشارت بيدها أنها ستخرج، ولا حاجة للاستعانة بأحد من أجل إخراجها.
توسدت الخيبة وجه المرأة الهدية، وكأنها لتوها شعرت بعريها، كما شعرت بالحقد عليه، حقداً كان كافياً لتفكر بطعنه وقتله، حقداً أشبعها رغبة بالانتقام لعريها الذي أذِلَّ وامتُهِنَ، زأرت في سرها: المخنث، العاجز، الجلف، القروي، ثم بدأت تجمع ثيابها، وبدلاً من أن ترتديها قطعة، قطعة، رمتها في حقيبتها وارتدت فقط فوق الدثار الشفيف معطفها الحالك السواد، زرَّرته ووضعت المنديل على رأسها، وأرخت النقاب على وجهها وخرجت مسرعة.
كل ذلك وهو يراقبها ويكتم الدهشة التي كانت تمور في داخله، يراقبها ويقول في سره: هذه المرة هي الأولى التي أرى فيها هدية تمشي على قدمين، هدية تزيل الغلاف عن نفسها وتعيده دون أن تمزقه، هدية لا تضاف إلى أثاث البيت ولا إلى حسابه المصرفي.
خرجت الهدية مكسورة الخاطر، نظراته شيعت حتى طرف معطفها الطويل. ثم شرد يستعيد ما حدث، يستعيد اندفاعها، جرأتها، طريقتها في تعرية نفسها، يتخيل الجسد الممتلئ، يتوقف عند تضاريسه، يتهيج، يتعرق، يشعر بالندم لأنه لم يستطع أن يتجاوز (لا تلمس)، وتبدأ (لو) تدور في مخيلته: لو أنني لامستها، لو أنني قبلتها، لو. ...، كلا... كانت أشهى وهي تتهادى أمامي شبه عارية، يا الله!. من قال كل النساء متشابهات، هذه المرأة مختلفة، أتراها تعود؟.
أضمر في نفسه بأنه سيسأل عنها مرسلها، ثم انتظر الصوت الصديق يعاتبه على سوء معاملته لها، لكن الصوت لم يعاتب، وهو لم يسأله عنها، بل ظل يسترجع ما حدث بكل تفاصيله.
كل يوم أثناء تناولـه قهوته الصباحية، وقبل أن يدخل إليه أي مراجع، يتخيلها بجسدها الرشيق وعينيها الواسعتين، وشفتيها اللتين لم يستطع النقاب إخفاء حمرتهما الفاقعة، ثم حلها أزرار المعطف ورميه على الأريكة، واستبدالـه برداء شفيف....
بعدها أتت نساء كثيرات إلى مكتبه، وانتظر أن تفعل إحداهن ما فعلته
تلك المرأة.
أكثر من مرة فكر أن يعلم إحداهن ما فعلت تلك المرأة، لكن دون جدوى، فلم تستطع واحدة منهن تقديم العرض نفسه، وظلت فكرته رهينة الرأس دون أن يبوح بها اللسان، الأشياء الجميلة لا تغدو جميلة إذا تكررت، بل هو أيقن أن المرأة ذاتها عاجزة عن تكرار ما فعلت بدقته، بسذاجته، ببدائيته، بعفويته، وكان على ثقة بأنه لو طلب منها القيام بالفعل ذاته فستبدو خرقاء مملة مضحكة، ورغم قناعته هذه، فهو لم يكف عن استقبال النساء، وكان يفضلهن كبيرات قليلاً، يمتلكن هيكلاً شبيهاً بهيكل المرأة الهدية.
تدخل المرأة، يشير إليها أن تجلس على الأريكة، ثم ينتظر أن تقوم بالفعل ذاته الذي قامت به المرأة الهدية، لكن، لا هرمان يتحرران، ولا خلخالان يهتزان في ساقين، ولا ردفان نافران، بل امرأة تزيل النقاب وتضع ساقاً على ساق، فيظهر الفخذ، ينتظر الخطوة التالية، وحين لا يجدي الانتظار يصرفها، ويظل ينتظر أخرى.
حين وقفت أمام الباب هتف في سره: إنها هي، المرأة الهدية، المرأة التي دخلت قبل ثلاثة أعوام، وقف، تهيأ ليعتذر منها، ليسألها عن سبب غيابها، لكنه قمع شهوة الأسئلة فثمة شهوة ينتظرها وسيراها الآن.
انتظرها أن ترفع النقاب وتزيل المنديل ثم تحل أزرار المعطف وتنزع عن جسدها حتى ورقة التوت ثم تلف جسدها بدثار شفيف أو تفعل ما فعلته غيرها من النساء تضع ساقاً على ساق تطلب سيجاراً تشعله وتنفخ دخانه في فضاء المكتب ثم تغنج تلثغ، تضحك، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، هي جلست وهو وقف.
لماذا لا يجلس على كرسيه، يؤرجحه ذات اليمين مرة، وذات الشمال مرة، يستمع إليها، يسألها عن حاجتها مرة أخرى، وقته مليء، موعد على الغداء، ثم إلى القيلولة، ثم يعود إلى عمله، ثم دعوة إلى حفلة عشاء وشراب وسهر... ثم...
الدقائق المخصصة للمقابلة انتهت، ونجيب ينتظر خروج المرأة، هو يعرف سيده لا يستطيع احتمال المرأة أكثر من نصف ساعة، وهو وقت كافٍ لتقديم عرضها، كل شيء هادئ، المبنى أفرغ من موظفيه، نجيب ينتظر انتهاء الزيارة وخروج سيده، ومن ثم خروجه بعد إقفال مكتب المحافظ ومكتب الانتظار، حين اختفى الخيط الفضي الذي يفصل مصراعي باب المحافظ عرف نجيب أن انتظاره على غير العادة سيطول، فثمة أمر يدور في الداخل، أمر يصعب التنبؤ به، رنين الهاتف الذي يصله بمكتب المحافظ يزيد من غموض ما يحدث، فتتلاشى رغبته بالخروج رغم أن طلب المحافظ كان واضحاً: لم أعد أحتاجك اليوم تستطيع الذهاب إلى البيت.
ـــ 3ـــ
توقف، تابع سيره ثم توقف ينتظر الشبح الذي يخترق بسرعة غلالة الغروب الرمادية، بعد أمتار، خلف منعطف يوجد وادٍ، خير لـه أن ينتظره رفيقاً من أن يتخيله عدواً يقبض عليه حين يصبح بين فكي الوادي، الشبح يحث السير وعبد الله ينتظر، ثم يسيران معاً صامتين، يقتحم عبدالله الصمت ويسأل رفيقه: إن كانت هذه المرة هي الأولى التي يأتي فيها إلى مجدلون، يهز الشبح رأسه، ويأسف لتأخره في المجيء إلى مجدلون.
لا أدري إن كنت أخطأت الهدف.
ثم سألـه عن قبيلة (غطفان الهواش)، أكد عبد الله بأنه لم يسمع بهذا الاسم توقف الشبح وسأل إن كان هناك مجدلون أخرى؟ أدرك عبد الله أن الشبح أخطأ الهدف، فحثه على السير، فإن كان هناك مجدلون غير هذه، فالوقت لم يعد يسمح بالبحث، ثم رفع يده وأشار إلى الظلام الذي احتل الوديان والمنحدرات، وبعد قليل يتسلق السفوح حتى يصل إلى التلة الباكية.
تلة باكية؟ كيف؟ تساءل الشبح، وهو يرى لوحات إعلانية كتب عليها: مجدلون السعيدة، أو ابتسم أنت في مجدلون.
هز عبدالله اللوحة الأخيرة فتراقصت أحرفها الفوسفورية أمامهما، وتابعا السير.
صعب على الشبح معرفة الحقيقة، فالتساؤلات التي دارت في رأسه ظل رهينها،
كان يتمنى أن يصل ظهراً فيرى كل شيء على حقيقته، أما وأن الظلمة ترخي بدثارها الرمادي على الأشياء والهدوء يسربل حتى أوراق الشجر، فكيف؟ كيف.
يصبح الوادي؟ كيف يجرؤ على دخول الغابة؟ لو عرف عبد الله بما يدور في رأس الشبح لضحك، بل إن صوت ضحكته كان سيزيد من وحشة المكان، عبد الله يسأل دون أن يتخلى عن حذره، الحذر صفة عامة لسكان مجدلون، لا شيء يؤمن جانبه،
التلة تبكي، النهر يزمجر، الغابة التي استؤصلت أشجارها وبقي مكانها قواعد وجذور تئن وتتوجع وتأسف على شموخها الذي كان، هذا كله لا شيء إذا ما قيس بما يعتقده سكان مجدلون، الأمهات تمنع من الخروج، والنساء تحذر الأزواج والأولاد من تماثيل يونس:
(عند المساء تدب الحياة في تماثيل يونس، فتخرج من المغارة تدور، تصول، تجول تخطف، تغتصب، تقتل ،إنها لا ترحم أحداً، ألم تقطع ساق رجل مجدلون؟).
سأل عبدالله رفيقه عن اسمه فأجاب: يوسف، ولم يكمل ولو طلب منه أن يكمل لقال: يوسف دحام مصطفى.
على مشارف مجدلون كانت خيام تنصب وأغنام تنتشر على التلة والسفح وضفتي النهر، وفي الخريف تصل إلى البيوت، يأخذ قحطان ديتها خرافاً وفحولاً، ثم تختفي أشهر الشتاء وتعود أوائل الربيع.
يذكر عبدالله تلك الأيام، يذكرها جيداً، تصل القطعان حتى مداخل البيوت ويهمس أصحابها أنهم جماعة قحطان: انظروا، الخراف السمينة خرافه والفحول ذات القرون المعقوفة فحوله، الأغنام الممتلئة الضروع أغنامه.
ترى لو تجرأت دجاجاتنا وتسللت إلى مصطبة قصره هل كان سيمنعها؟ لو أطلقنا سراح حمائمنا وطارت إلى سطح قصره تنقر الحب هل كان سيضع لها السم؟
لا وألف لا. ثم تراهم ينظرون إلى الفحول القوية والخراف السمينة فيسيل لعابهم ويتساءلون: أين ستذهب دية هذا العام؟.
قال في سره: هذا الشاب لا يهذي، في كلامه شيء من الحقيقة، وعاد يردد هامساً:
يوسف غطفان الهواش !، ثم رفع صوته وقال:
هنا اعتادت الآذان على سماع أسماء الأولياء: حسين، يوسف، عبدالله، أحمد، صالح أما غطفان وهواش ! أظنهما إسمي وليين في مكان ما.
كان على يوسف أن يتحدث بأي شيء يقنع عبدالله بأن قبيلة والده موجودة هنا في هذه القرية المبعثرة بيوتها، الباكية تلتها، العميق واديها، المزمجر نهرها، قبيلة والده موجودة في وادٍ أو على قمة جبل أو.....
كان على يوسف أن يتحدث عن أم سافرت، أمٍّ اضطرت للسفر، أمٍٍّّ قد لا تعود قبل عشرة أعوام، عندها أرسل عبد الله صفيراً خفيفاً، ثم نصحه بأن
يلحق بها:
حين تفشل المرأة لن ينجح غرٌّ مثلك.
مرة أخرى يصاب يوسف بالإحباط فيصمت ويجد نفسه مضطراً للاستماع إلى عبد الله وهو يتحدث عن تنكر الرجل لثمرة رغباته العابرة ويصبح صوته أجش حين يصف المرأة التي تنصاع لهذه الرغبات بالرخيصة.
توقف يوسف، صرخ: أمي ليست منهن، أمي قتلت رجلاً حاول اغتصابها.
وضع عبد الله يده على فم يوسف، فصراخه تردد صداه في أرجاء الوادي الذي بدأا لتوهما يخوضان انحداره العميق.
سار الاثنان صامتين، في هذه الأثناء كل منهما يحتاج للآخر، في لحظات الخوف تلك سارا متلاصقين، يرتجفان، يتهامسان، يتعاتبان، الأول لثرثرته والثاني لصراخه ماذا لو خرج وحش من مخبئه؟ ماذا لو اعترضنا قاطع طريق؟ ما الذي سيحدث أيها الصديق؟ هل كان صراخك ضرورياً؟.
وبصوت أقرب للهمس حدث يوسف رفيقه عن عرشه المغتصب والأم السجينة. اعتذر عبد الله عن تسرعه وبصوت خافت حدثه عن الحياة بشكلها العام، وأمه حالة خاصة، ثم لفت نظره إلى أن إيجاد قبيلة والده يخضع للإطار العام، وهذا الإطار قد لا يخدمه بل على العكس سيعرضه لخطر كبير، قتل مثلاً، فالشيخ الذي سطا على عرش والده لن يسمح لـه بالعودة إلى القبيلة تحت أية ذريعة، حتى لو كانت لأجل حمايته من ثأر يلاحقه.
ـ اسمح لي أن أقول لكَ إن من أرسلك للبحث عن قبيلة والدكَ إنما يريد التخلص منك، من أرسلكَ؟ زوج أمك؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! ماذا فعلت لـه حتى يرسلكَ إلى حتفكَ؟ هكذا هم الرجال، يكرهون أولاد نسائهم حد القتل، وأقسم أنه أشد كرهاً من النساء لأبناء أزواجهن. لكن.... (توقف عبد الله وكأنه عثر على شيء مدهش فقال: الخطيئة، الجريمة، المصيبة، النار، كلها صفات مؤنثة، ولذا فهي تنسب للنساء، أما الكذب والخداع فهما صفتان مذكرتان تنسبان للرجال، أمكَ ارتكبت جريمة وزوجها لفّق كذبة ليبعدكَ عنه، فلا تطالبه بالميراث وقد كان في سجن أمك فرصة للتخلص منكَ).
لاحظ يوسف أن عبدالله يتكلم وكأنه يهذي، شفتاه ترتجفان، لسانه يتعثر وبعد فترة صمت قصيرة سأله إن كان لديه تفسير لتشابه أهل مجدلون ! جميعهم بيض طوال بعيون ملونة، عرج، بعضهم تخلص من ساقه أسوة بقحطان، ثم بدأ عبد الله يعرج ويقول:
(أنا عبد الله، وذاك صلاح، وآخر ناصر ، لماذا لم يخترع أهلنا أسماء جديدة؟ الآن مهما جهدت فلن تجد بيتاً لا يوجد فيه اسم قحطان أو نضال، بعضهم ممن تزوج مع نضال أو بعده ينتظرون الاسم الذي سيطلقه نضال على ابنه الذي لم يأتِ بعد، لذا أنصحك بألا تفاجأ بأطفال لم يمنحهم أهلهم بعد اسماً، أما غطفان وهواش؟ لا، لا أحد يحمل هذا الاسم).
عبد الله يهذي ويوسف يسخر من القدر الذي رماه بين فكي وادٍ قال عنه عبد الله:
نهاره زواحف وليله وحوش وقطاع طرق، ثم ماذا؟.
لا أمل، فالأمان المفترض بدأ يتحول إلى سراب، ولولا سر تعرفه امرأة لعاد ووفر على نفسه عناء الخوض في وادٍ بدأت أقدامهم تلامس قاعه، فيحتضن كل منهما الآخر، يد عبد الله تسور يوسف، ويد يوسف تسور عبد الله، كل منهما يتخيل وحشاً يلاحقه، أو قاطع طريق يتهيأ للقبض عليه.
حين صارت الطريق صعوداً، بدأت الأنوار الخمولة ترسل بريقها الخجول، فتحثهما على الصعود، بل تخيلاها أماً تفتح ذراعيها لتحمي طفلها من خطر يقتفي أثره.
وصلنا. وأفلت عبد الله كتف يوسف، وحذا الأخير حذوه ثم سلما جسديهما للبحر الأسود، هنا السباحة أمان، أمامهما بيوت مجدلون وخلفهما الوادي يبتعد وعلى يسارهما منحدر يلثم الطريق والنهر وعلى يمينهما جبل مجدلون.
عاد عبد الله يهذي: احمد الله أيها الفتى، ترى ما الذي كان سيحدث لولم نلتقِ، تضيع في مجدلون، تضيع فلا تميز شمالها من جنوبها، تقتلك الزواحف، تلتهمك الوحوش، تخطفكَ التماثيل، أنت محظوظ لأنك وجدتَ رجلاً يحميك ويرافقك ويدلك على طريق مجدلون القديمة، وأنا محظوظ أكثر منكَ لأنكّ آنستني وسمعتُ منك قصة جديدة ومختلفة، أم تقتل رجلاً حاول اغتصابها، أهل المقتول يطلبون الثأر، زوج أم يستغل الظروف ويختلق قصة عرش مغتصب وقبيلة حامية، أما في مجدلون فالقصص متشابهة، خطف الملثمون رجلاً اغتصب الملثمون فتاة، قتل الملثمون زوج امرأة جميلة، هرّب الملثمون أشجار الغابة، نقل الملثمون الجبل من مكان إلى مكان آخر، سرق الملثمون دراجات نارية، ساهم الملثمون في خلق نزاع بين مجدلون الشمالية ومجدلون الجنوبية، نبش الملثمون القبور وسرقوا الأغنام والدجاج، أما قصتكَ فمشوقة، اغتصاب وقاتلة ومحكمة وثأر، هنا لا يوجد لا ثأر ولا احتجاج، ولا أحد يجرؤ على الأحاديث بقصص الملثمين، أما قصتك.... قصتك ستعمّر ليالي مجدلون لأشهر عديدة وسيحفظها الجميع عن ظهر قلب، وسيضاف إليها الكثير لأننا نعاني من جوع شديد للكلام.
ندم يوسف على سرد قصته على عبد الله ولولا وعد يوسف لزهوة بالبحث عن والده لاستسلم لنصائح عبد الله، لكن كلمات زهوة لم تفارقه، ودموعها التي رآها تنداح على وجهها الحزين ما زالت حاضرة في ذاكرته: أنا داخل جدران سجن قد اخرج منه ميتة، أخبره أنني أجبرت على كل شيء.
حين سألها عن اسمه أجابته: حين تصل إلى مجدلون اسأل عن صانعة سلال، صانعة السلال تعرف كل شيء، لكن دحام أخبره أن والده شيخ يدعى غطفان الهواش وعليه أن يبحث عن قبيلته ويحتمي بها من ثأر محتمل.
وتأخر يوسف، حمته المصادفة في منزل أسماه قبراً، ومع رجل حدثه عن مجدلون وهاجر وزهوة وكل شيء، لكنه الآخر لم يسمع بغطفان الهواش. من يصدق؟ دحام؟ أم يونس؟ أم زهوة؟ الرجل الذي غذَّى الخوف في يوسف من ثأرٍ محتمل؟ أم النحات الذي طرد إلى بيتِ يرفض الخروج منه إلى أي مكان في العالم؟ أم الأم التي أرسلته إلى امرأة قالت عنها إنها من تقبض على السر؟.
لو كان النحات أكثر جرأة لدله على والده، لكنه قال: هاجر هي ذاكرة مجدلون وهي من سيدلك على والدك.
ظل يوسف يصغي إلى هذيان عبد الله، وينتظر منه أن يذكر هاجر، ويتساءل: أتراها ماتت؟ لماذا لم يذكرها؟ لماذا لم يحدثني عنها؟.
يتوقف عبدالله عن هذيانه المحموم فقط ليحذر يوسف من الحفر والمنعطفات، يحذره ويمسك بيده، أو يحتضنه ليجنبه السقوط، ثم يطلب منه بأن يهيئ نفسه لكل الاحتمالات وفي حالة الفشل في مهمته ينصحه بأن يلحق بأمه ويخبرها بأن الحياة قصيرة ولا يرى من داعٍ لأن يضيع أجملها في البحث عن ماض لا يعرف حقيقته ولا تفاصيله وحين وصلا إلى جانب بيت عبد الله أمسك كتفه وشده باتجاه المدخل، اعتذر يوسف ورمى ورقته الأخيرة وقال: كلا سأقضي هذه الليلة عند هاجر.
توقف عبدالله، لامس كتف يوسف، سأله عمن يكون ثم عاتبه على غدره، إذ كيف يسأله عن غطفان الهواش وهو يقصد بيت هاجر صانعة السلال.
أمي أرسلتني إليها، هي من سيدلني على أبي أو على قبيلة أبي.
هكذا إذن، إنك على حق، فالنساء تبوح بالأسرار للنساء، كنت أظنك تخدعني.
وقبل أن يعاودا السير أشار عبدالله إلى ضوء خافت قال أنه في منزل هاجر، ثم انعطف الرجلان إلى اليسار، دخلا زقاقاً يحدده جداران حجريان، يحجزان بينهما ظلمة حالكة، ظلمة تكاد تكون ستارة تحجب الأنوار الخافتة التي حثتهما على بلوغ الأمان، فإذا الأمان عتمة وحزن وسكون، وجدار صبار ينفخ عليهما برائحة ثماره المتعفنة، وتنعشهما رائحة زهوره الوليدة.
كل شيء تغير في مجدلون، كان الصبار يزهر ويثمر، ينضج على أمه ليقطف ويوزع على البيوت، الآن يزهر ويثمر ثم يقطف لينضج في عبوات خشبية توزع على الطرقات، أو يدور في شوارع المدن وأزقتها على عربات يجرها باعة متجولون، وبعضه بعد رحلة قد تستغرق أياماً، يرمى على أطراف الطرقات وفي أكوام القمامة.
في مجدلون تتغير المهن بتغير الأشهر، في شهر تموز أكثر من خمسين امرأة في مجدلون تقطف ثمار الصبار، ومثلهن من الرجال يعرضونها على الطرقات، أو ينقلونها إلى المدينة لبيعها، إن أتيحت لأحد فرصة الاستيقاظ باكراً والاستماع إلى ثرثرات النساء وهن يقطفن ثمار الصبار فستصل إلى مسامعه أصوات وضحكات ناعمة، وعبدالله يتحدث عن عذوبة تلك الصباحات:
أنا كل يوم أكون عند الخامسة مختبئاً على مقربة من جدار صبار أراقب الرتل الطويل من النساء، أياديهن مرفوعة إلى أكف الصبار تقطف الثمار، وجوههن متعرقة، شعورهن تتطاير مع أنسام الصبا المنعشة، يثرثرن، يضحكن، ثم يقرفصن، يدغدغن الثمار بحزم الآس والطيون، فتعبق في المكان رائحة ذكية، ويعاودن الوقوف ورفع الأيادي، يتكرر الطقس مرات كثيرة، فيخال لمن يراقبهن أنهن كاهنات يمارسن طقساً روحياً ينتهي حين تبدأ الشمس بإرسال شعاعاتها الأولى، عندها يأتي الرجال لحمل الحصاد إلى السيارات، وتبدأ منافسة تتطور إلى نزاعات، ثم إلى عداوات، فأقول: أين الزقزقة التي كنت أسمعها من الجلبة التي تحدث الآن؟ وأجزم بأن أشخاصاً لا أعرفهم يقفون وراء ما يحدث، وإلا بماذا يفسر ما يحدث من سرقة الثمار أو تخريبها إذا لم يترك لهؤلاء فرصة التدخل وقبض الثمن؟.
ضاق يوسف ذرعاً برائحة العفونة المنبعثة من جدار الصبار، كما ضاق ذرعاً من ثرثرة عبد الله وهذيانه، فسأل عبد الله إن كان بيت هاجر ما زال بعيداً، وتساءل إن كان جدار الصبار سيمتد كثيراً فهو كما ادعى يشعر بوخز أشواكه وأتعبته الظلمة حتى بات عاجزاً عن تمييز الأشياء، ولولا أن عبد الله من مجدلون لأضاع طريقه وبات عاجزاً عن تحديد هدفه، فأين الطريق التي سلكاها من الطريق التي وصفتها لـه زهوة: الطريق تبدأ من الغابة، أين الغابة؟ هو لم يرَ غابة، فقط جدران حجرية، وجداران من الصبار وتوت العليق.
لو أتيح لزهوة فرصة رؤية مجدلون مرة أخرى لضاعت بين أزقتها وساحاتها وزواريبها، ولسألت لماذا تغيرت مجدلون؟ كيف انتقلت الطريق من شمال مجدلون إلى جنوبها؟ لماذا أصبح منزل هاجر مهملاً؟ تحجبه تلال من التربة والأحجار زواره يبحثون عنه، أين المنزل؟ أين شجرة السنديان؟ أين نبع الماء؟.
(حين تهب عليك نسائم منعشة يكون بيت هاجر؟ منزل صغير ونبع ماء عذب تظللهما شجرة سنديان كبيرة).
وستعرف زهوة أن المنزل الذي كان قبلة مجدلون، غدا منسياً، ومن يحتاج صانعة سلال عجوز؟ هل كان يوسف سيطرق بابها لولا حاجته إليها؟.
باب هاجر لا يطرق إلا لكشف أحجية تخص مجدلون، أو لمعرفة نسب مجهول، ومجدلون، خاصة شمالها البعيد، يقصده أولئك الذين يحتاجون إلى توقيع الانتماء، ليكون جواز خروجهم إلى العالم، ثم يهجرونها ويتنكرون لها، ليعادوا إليها أمواتاً وهكذا أصبحت مجدلون الشمالية مقبرة لأحيائها ولأموات المهاجرين منها بمن فيهم أموات مجدلون.
منزل هاجر لم ينتقل إلى الطرف الآخر، ليس لرغبة بالبقاء بين القبور، بل لشعور لم يفارق هاجر، وهو يتعلق بعودة وحيدتها، فإن كان الانتقال إلى الطرف الجنوبي ممكناً فليكن مع زهوة، زهوة التي ستمل الطيران يوماً وستعود إلى هاجر.
وهكذا وجد يوسف نفسه مع عبدالله يخوضان بين القبور إلى حيث منزل هاجر، يمطر عبد الله الضيف برذاذ نصائحه: (حين تسألها عن والدك اجعل صوتك أقرب للهمس)، نصيحة عبدالله كانت في مكانها، فهاجر حين تبدأ العمل تكون أصابعها مع أحاسيسها في حالة توحد، وأي صوت يخرجها من هذه الحالة يوقعها في اضطراب وكآبة، أحمد ترك البيت، والسبب صوته، قبل أن يتركه قالت لـه:
لأترك البيت، لكن عليك مساعدتي في نقل السلال والمزهريات والأطباق إلى مكان آخر من مجدلون الشمالية.
وحين انتهى من نقل ما أبدعته يداها، اكتشفت أنها ستصبح في مجدلون الجنوبية، سألته: كيف؟ وزهوة؟.
واختارت أن تظل في مجدلون الشمالية، وينقل نفسه إلى حيث سلال هاجر وأطباقها ومزهرياتها، وهكذا هو أطلق العنان لصوته، وهي تركت أصابعها مع حواسها تبدع أجمل المزهريات والأطباق والسلال.
مجدلون الشمالية والجنوبية متفقتان على أن غضب قحطان هو السبب في تفرق هذه العائلة، إذ كيف ترفض هاجر تسليمه زوجه؟ رفضها هذا كان السبب في منع زهوة من العودة إلى مجدلون، وكانت وراء انتقال أحمد صالح إلى مجدلون الجنوبية وظلت هاجر في مجدلون الشمالية، يطرق باب بيتها أبو سلال، كل شهر يأتي إليها قريته بعيدة، يخرج منها عند الفجر ليكون مساءً في بيتها يجلس معها، يحدثها عن القرى التي مر بها، عن الأنهار التي عبرها، عن الينابيع التي فرش زاده بجانبها وشرب من مائها، يحدثها عن ينابيع طعمها كالعسل وعن أخرى باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، ثم يحلف بتربة شيخ مجدلون الأكبر أنه لم يتذوق ماء كماء تلة مجدلون، وحين يصف لها نساء القرى اللواتي رآهن وهو في طريقه إليها، يؤكد أنها أجملهن، أما أصابعها فلا تشبه أصابع إحداهن ثم يفرش أمامها أذرع القماش لتختار منها ما يعجبها، وحين تختار لا تنسى زهوة.
تكدست الأذرع الملونة على حبل يصل الجدار الجنوبي بالجدار الشمالي، والأذرع التي يخصها بها تلفها على جسدها لأجله، لأجل زيارته القادمة. كان يأتي وأذرع القماش مستلقية على كتفيه، وفي اليوم التالي يخرج وقد حلت مكانها أزواج المزهريات والسلال والأطباق، لم يحب رجل هاجر كما أحبها أبو سلال، الجميع تركها وظل هو يطرق بابها يحمل سلالها ومزهرياتها، يدور بها القرى، يدخل بها البيوت (هلا زينتم بيوتكم بمزهريات هاجر؟ هلا أكلتم في أطباقها، هلا ملأتم سلالها بثمار غاباتكم وفواكهها؟).
ويعود إليها سالماً غانماً، وتزهر أصابع هاجر أطباقاً ومزهريات وسلالاً، وترمي أزهارها حولها، وتشمخ أزهارها حتى لا يظهر منها إلا رأسها، وقبل أن يغمرها ما صنعته يداها يأتي أبو سلال إليها، فيراها ملكة يكاد العرش يغمرها ببريقه.
امتلأت مجدلون والقرى المجاورة بما صنعته أصابع هاجر، وأبو سلال كان الجسر الذي يوصلها بالعالم الصغير، عالم من التلال والوديان، تتناثر عليها قرى صغيرة أو بيوت متفرقة.
في البداية كانت تزين أطباقها بنهر يفيض على ما حوله بالأسماك الذهبية، وبوادٍ مليء بالوحوش والزواحف، أو تزين طبقاً آخر بالأزهار والأشجار، أما التلةُ فتُخرج من ينابيعها حوريات وأطفال يطيرون، أو فتياتٍ متشابهات يحملن جراراً ذهبية.
لم تكن هذه الرسوم تشجع سكان مجدلون على اقتناء أطباق هاجر إلا لحاجة ماسة وحين أتى أبو سلال حذرها من تكرار هذه الرسوم وحدثها عن قصص الأنبياء والأئمة فحولت قصصه إلى رسوم تزين بها أطباقها، رسمت شاباً جميلاً أمامه نساءٌ يقطعن أصابعهن، وعلى طبق آخر رسمت امرأة تمثل زليخة واقفة أمام العزيز ويداها مرفوعتان أمام وجهها.
تعددت الرسوم بتعدد الأطباق، طبق ناقة صالح، طبق البقرة الصفراء، طبق يتقاطع فيه سيفان، وطبق يزينه هدهد يحمل عرشاً، وطبق يتوسطه رسم لحجر أسود ومن حوله رجال بعمائم بيضاء.
حمل أبو سلال الأطباق، دخل بها البيوت، حدث أصحابها عن قصص الصور، فسر معنى الإشارات المرسومة على الأطباق، فبكت النساء، وأثنى الرجال على الأصابع التي سطرت القصص رسوماً، وقسمت الطبق سيوفاً، وتهافتت النساء على اقتناء الأطباق، تضع فيها الطعام فيطيب، تزين بها الجدران الطينية والحجرية على السواء، الطبق ذو السيفين المتقاطعين، طبق أبو ناقة، طبق البقرة المباركة، طبق الهدهد الوفي، طبق الصخرة السوداء ، وقيل إن الجدران التي زينتها أطباق هاجر ما زالت صامدة حتى اليوم، أما طبق التلة الباكية وطبق النهر الذهبي وطبق الوادي فقد ولت أيامها.
واقترح أبو سلال على هاجر التوسع أكثر في صناعة الأطباق، ليضاف إليها اثنا عشر رسماً، على عدد أشهر السنة، على عدد الأئمة، على عدد الأعياد، ما يجوز استخدامه في عيد لا يجوز استخدامه في آخر، طبق عيد الفراش لا يشبه طبق عيد الغدير، لكل عيد مدلولاته وإيحاءاته، وتجدد الأطباق من إيرادات الزكاة، البائع واحد، أبو سلال، ذو القامة المتوسطة الممتلئة والوجه الحنطي، يحيط به شعر أسود وتزينه عينان وادعتان، وثغر لا تفارقه الابتسامة، ( إنه شخص يبعث في النفس الراحة والأمان )، هذه الجملة كان يرددها كل من يراه، وحين يصل إلى مشارف مجدلون يتهافتون عليه ويبهجهم منظره الكرنفالي على رأسه طبق تزينه مزهرية زهوة وعلى جذعه تتراقص الأطباق والسلال والمزهريات، وعندما اختفى، أشيع أنه جاسوس ألقي القبض عليه أخيراً.
وفي القرى البعيدة عن مجدلون قالوا: هاجر امرأة غير موجودة، والبعض قال: ماتت ودفنت تحت أطباقها وسلالها ومزهرياتها، لكن أصابعها ما زالت حتى اللحظة تصنع السلال والمزهريات، والجميع في مجدلون الجنوبية مقتنع أن هاجر ما زالت في بيتها الصغير، ثم يقولون: ما همنا إن كانت حية أم ميتة؟
إذا كان لدى أبي سلال متسع من الوقت، يجلس والنساء من حوله والرجال، يحدثهم عن هاجر: (هي ليست امرأة عادية في شيء)، يشير إلى صاحبة أجمل عينين تكون بين الجالسين: (عيناها كعينيك)، فترفرف صاحبة العينين الجميلتين رمشيها وتطرق رأسها خجلة، ثم ينظر إلى أخرى: (شعرها كشعركِ)، فترمي صاحبة الشعر الأسود شعرها على كتفها ثم ترفعه وتتركه ينسدل على هرميها، ويطلب من إحداهن أن تقف ليرى قامتها ويقول:
(هي أطول منك بقليل، أما أصابعها....)
يرفع أبو سلال رأسه إلى السماء ويحلف بتربة جد مجدلون الأكبر أنه رغم تجواله الطويل لم يرَ أصابع تشبه أصابعها.
وتناولت القرى القريبة والبعيدة أصابع هاجر، يصفونها بالنحيلة والرشيقة ( لا ترى بعين، ولا تلمس بيد، ولولا ما تصنعه لأقسم كل من يراها أنها بلا أصابع، وقالوا أصابعها أثيرية، وسكان مجدلون ما زالوا حتى اليوم يتحدثون عن أصابع لا ترى، كل فجر تمتد إلى السفح تقطف منه أعواد الآس ثم تنزلق إلى ضفتي النهر تقطع عيدان القصب، وكل حزيران تمرق في حقول القمح تحصد منها أفضل السنابل الذهبية، أتكون تلك الأصابع لهاجر؟).
ويؤكد أبو سلال ما يسمعه، ويضيف: أصابع هاجر لا تشيخ.
عينا يوسف رأتا أولاً أصابعها الفتية، توقفتا على الوجه النحيل، ثم راح يقارن بين الوجه المكسر والأصابع التي تبدو كأرجل العنكبوت تنسج بها ضفائر ملونة.
قبل أن يدخل طرق الباب، نظر حوله، لم يرَ عبدالله، فظنه وهماً رافقه من مشارف مجدلون، أما صوته الذي لم ينقطع فقد بات متأكداً أنه جزء من ثرثرات الليل، فقط صوت أمه يحثه على الدخول، الدخول إلى أين؟ نظر حوله، وعاد صوت أمه:
نعم، إلى هنا، هنا كانت هاجر.
قبل أن يدخل كاد الشك أن يوقعه في حيرة، مجدلون التي وصفتها أمه من داخل جدران السجن لا تشبه مجدلون التي دخلها بشيء، لا غابة تحيطها من الغرب ولا أشجار سامقة تظللها ولا ينابيع تتدفق على البيوت لتروي ظمأها، لم تحدثه زهوة عن غابة كانت تغرق مجدلون ولا تحدثت عن تلة تحوِّلُ صيف مجدلون إلى مستنقع يملأ البيوت بالبعوض والحشرات.
بعد أن وصل عبدالله ويوسف إلى نهاية جدار الصبار قال عبدالله: هاجر هنا، وأشار إلى ضوءٍ خافت، سار يوسف وحيداً باتجاه الضوء، طرق الباب الصدئ سمعها تسأل: لماذا تأخرت؟ وفتح الباب، فاستقبلته رائحة أعواد القصب والقش والآس، دخل، سمع صوتاً يقول: صرت شاباً، أطول من نضال ومن قحطان.
خرج وجه نحيل شاحب من تحت السلال والمزهريات والأطباق: اجلس ! دفعت إليه بكرسي من القش، ثم اختفى الوجه وظلت الأصابع تتحرك وكأنها تعزف لحناً مكرراً، دسَّ يده في جيبه، أخرج صورة أمه ورماها على الأصابع العنكبوتية.
وبعد دقائق من الصمت رأى الصورة على جدار المزهرية، سألها:
(أنتِ هاجر؟
أمي أرسلتني إليكِ، أمي قالت... ) وقبل أن يكمل عاجلته قائلة: كم تشبهها! لا، أنت تشبهه، غريب أنت لا تشبه أبويك!.
بات يوسف على ثقة بأنه أخطأ، هذا المكان يشبه القبر، قبر من أطباق ومزهريات وسلال.
عاد صوتها يؤكد أنها عرفته: ألم تحدثك أمك عنهما؟ أمك ابنة عاقة، بعد طول غياب ترسلك؟ لماذا لم تأتِ معك؟ ألم تتعب من الطيران؟.
قال في سره: صاحبة هذا الصوت تعرف كل شيء، لكن، أظنها مجنونة.
شعر بالندم، لو أنه أطاع عبدالله وقضى ليلته عنده، وفي الصباح عاد إلى صديقه يونس، هنا لا وجود لامرأة وصفت بالملكة التي تتربع على عرش من الأطباق، فقط صوت يخرج من قبر لم يجد لـه مثيلاً في حياته، صوت يتحدث بنثرات من حياة صاحبته السابقة، صوت سأله عن ابنة عاقة لا تزور أمها، ولا تحدثه عن جدته الأخرى، جدته الطيبة، أو الأكثر طيبة: (إن كان لجدتك شيء يحبها المرء لأجله فهو قلبها، جدتك كانت تملك قلباً من ذهب، جدتك كانت تدفع الآخر ليحب نفسه).
ثم حدثته عن جده قحطان، وكيف أنها جعلته يحب نفسه لدرجة أنه لم يعد يحب زهوة جدته، ولا يفكر فيها، زهوة جدة يوسف دفعت قحطان لقتلها.
لا أحد في مجدلون يتحدث عن زهوة، زوجة قحطان الأولى، كما تتحدث هاجر، أو كما قال صوتها، وهذا عائد إلى العلاقة المختلفة التي كانت تربط المرأتين ببعضهما البعض، زهوة ابنة الآغا أحمد العباس، كانت الرفيقة اللصيقة لهاجر، هذه العلاقة كانت مثار جدل، فسرت عند البعض بأنها علاقة لذر الرماد في العيون ، وآخرون قالوا أنها ناتجة عن طبيعة المرأتين، فزهوة الفتاة لم تخرج لمجدلون إلا بعد زواجها من قحطان، وعلاقة الأخير بهاجر سهلت لعلاقة حميمة بين المرأتين، فعلاقتهما بدأت بزيارة هاجر إلى بيت قحطان، وبيدها ثلاثة أطباق وسلتان ومزهرية وهي هدية العرس، فرحت زهوة بالهدية ورحبت بحاملتها، وفي مرة أخرى رافق قحطان عروسه زهوة إلى بيت هاجر فرأت العروس ما أدهشها، وتمنت لو أنها تملك يدين كيديها، ردت هاجر على ظرف زهوة بقولها إن إبداع يديها لا يقارن بعذوبة ابتسامتها ، وإن كان لديها رغبة في تعلم حرفتها فإنها جاهزة دائماً لتعليمها
وكانت بداية الرغبة في التعلم خروجهما معاً إلى السفح وضفتي النهر، هاجر لتقطع عيدان الآس والقصب، وزهوة تشغل نفسها بالبحث عن الزهور العطرية والنباتات الطبية، ثم تجلسان عند الضفة أو بين أشجار السفح، تستريحان، تزيلان الأغطية عن رأسيهما فيتدلى شعر زهوة حتى يتمدد قسم منه على الأعشاب، وحين تجف نداوة جسديهما تجمع هاجر شعرها في منديل، وتطلب زهوة من صديقتها تنظيف ما علق بشعرها من القش والحشرات إن وجدت، تتلمس هاجر شعر زهوة فيشع سواده في وجهها، تقول لها: يا لعرفك الجميل !، تطلق زهوة تنهيدة عميقة وتجيب بأسىً: ما فائدته؟ إنه عبء يضاف إلى أعبائي.
أعباؤكِ؟ وهل لديكِ أعباء؟
تهز زهوة رأسها وتصمت، وحين تذهبان إلى النهر، ترفعان سرواليهما الملونين ثم تخوضان به، فيبتل جسداهما وتلمع أطرافهما، فتبدي هاجر إعجابها الشديد بساقي زهوة البيضاوين الممتلئتين، تقول: ما الذي كان سيحدث لو كنت أملك تلك الساقين؟ فتجيبها زهوة: هذا لا شيء إذا ما قيس برشاقة يديك وصفاء عينيك، حلفت هاجر بتربة جد مجدلون الأكبر أنه حين يصبح الوقت مناسباً فستعلمها صناعة الأطباق، فأصابع زهوة كما أكدت هاجر هي أصابع فنانة، أو امرأة خلقت لتكون فنانة، الأمر يحتاج إلى صبر وزمن.
في ذلك الوقت كانت زهوة حبلى، وحبلها أحزن هاجر، لأنها وبعد مرور ثلاثة أعوام على زواجها لم تشعر بأعراض الحمل، وإن كانت بالغت في إظهار سعادتها فإن هذا الأمر سبب لها ألماً كبيراً احتفظت به لنفسها، وتساءلت عن السبب الذي جعل زهوة بعد شهرين من زواجها تشعر بأعراض الحمل، ولما لم تجد سبباً مقنعاً عزت ذلك إلى القيمة الطبية للنباتات التي تجمعها زهوة من التلة والسفح والغابة، وثمة سبب آخر لجأت إليه، وكان الأنجع، وذلك بعد ولادة نضال بعام وشهرين وعشرة أيام.
حمل زهوة لم يبعدها عن هاجر ولم يمنعها من بذل الجهود في محاولة تعلم الحرفة التي ملكت عقلها ومشاعرها. كل صباح تخرج المرأتان إلى الغابة، والسفح، وعند الضحى تعودان، وعلى كتف كل منهما حصادها، تلقيان به على مصطبة هاجر، وتبدأ الأخيرة العمل، وصديقتها تراقبها باهتمام، حتى إذا شعرت بالتعب عادت إلى قصر قحطان تستريح، وتعود إلى هاجر تمضي معها ما تبقى من النهار وبعضاً من الليل، هذا البرنامج كان يومياً، يشغلهما ويسعدهما، زهوة تحلم بيوم يأتي تتقن به مزج الألوان ثم تلوين القش والعيدان، وبعد ذلك ضفرها مع بعضها لخلق لوحات لا شبيه لها في السفح والتلة والغابة، تسأل صديقتها: متى؟ أتعتقدين أنني قادرة، لا، لا أصدق، يا الله كم سأكون سعيدة إن استطعتُ يوماً فعل ما تفعلين، فتجيبها هاجر: إذن أظنك ستسعدين كثيراً في الأيام القريبة القادمة، لكن السعادة.....
إن كانت سعادة زهوة متوقفة على تعلمها صناعة السلال، وهي بالطبع لم تكن كذلك، وأغلب الظن أن رغبتها في التعلم كانت حالة هروب إلى عالم ينسيها أشياء لا ترغب بتذكرها.
ولكن، هل تكفي حالة الهروب لخلق حالة إبداعية، وهل تصنع النوايا الطيبة فناناً؟ زهوة كانت تردد في وحدتها رغبة: (لو يتحول عرفي إلى جناحين، وساقاي إلى ذيل، لأهرب من مجدلون)، وحين تكون مع هاجر تقول: لو أستطيع استبدال عرفي بيدين كيديك، أو أموت وأولد عندك. وفي زلة لسان قالت هاجر ما تمنته دائماً، في أن تكون لها ابنة تشبه زهوة: (أتمنى يا زهوة)، زلة اللسان هذه لم تزعج زهوة، والدافع لأمنية زهوة لم يكن بسبب تأخرها عن تعلم حرفة هاجر، فالأمل ظل قائماً، وحين ولد نضال تقاسمت الاثنتان تربيته، إحداهما تحمله في الذهاب، والأخرى في الإياب، واستمر الاهتمام في تلوين القش والعيدان لتكون أطباقاً مزخرفة وسلالاً قوية ومزهريات متماسكة.
حين بلغ نضال عامه الأول، باحت زهوة لهاجر بسر حبلها بعد ثلاثة أشهر من زواجها، ذلك البوح أخاف هاجر، وراحت تنظر حولها لتتأكد من أن أحداً لم يسمعها، حتى نضال حملته وألقت به على بساط عشبي بعيداً عنهما، أنضحت المفاجأة نداوة على جسد هاجر، أسئلة كثيرة دارت في رأسها، قلق على زهوة كاد يوقعها أرضاً، سألتها: ( ألا تخافين أن يفتضح أمركِ؟ )، شعرت بالسفح يدور بها ويلقيها في النهر، ابنة الآغا تلتقي بعشيقها، عشيق، ولم يمر على زواجها أشهر قليلة، ماذا لو عرف قحطان؟، هل أنا الوحيدة التي تعرف؟ هل رآكما أحد؟.
ارتمت هاجر على العشب وضحكت، ضحكت حتى تردد صوت ضحكاتها في أرجاء السفح، سخرت من نفسها، من أسئلتها، شعرت بارتياح، أرادت أن تصرخ فكرت أن تركض إليه تقف أمامه، تخبره بأن الولد الذي يداعبه ليس ابنه، الولد الذي سيرث أملاك الآغا وقحطان ليس ابناً شرعياً، الولد الذي سيكون امتداداً للجد الأكبر ليس من صلبه، المرأة التي فضلها عليها تخونه، المرأة التي....
أبعدت هذه الأفكار من رأسها، فما أدراها بما تلغو به، لماذا لا يكون نضال ابن قحطان؟ ثم لماذا هذه الرغبة بالتشفي؟ زهوة صديقتها، وقحطان، قحطان، ليظل رجل مجدلون مغفلاً، لتنجب زهوة من عشيقها عشرة أبناء، ليعمل ليل نهار، ليكن خادماً لها ولأبنائها، هذا أفضل، رؤيته يدنس كل يوم أفضل من أن يحترق ويحرق زهوة والآغا ومجدلون. جرت جسدها باتجاه زهوة وطمأنتها بأن ما قالته سيظل سراً، ثم عرضت عليها المساعدة، وكأن زهوة باحت بسرها لأجل عرض كهذا، لتصبح هاجر الحارس الوفي لهما، يدخلان إلى المغارة وتنشغل هي بقطع عيدان الآس والقصب، وتراقب المكان. في تلك الأثناء ابتعدت عن قحطان ، وصارت تقترب أكثر من أحمد زوجها، وندمت على هجرانها لـه وإهمالها، وما كان أحمد ليصدق هذه الهبة التي أصبحت بين يديه، فهذا الرجل البسيط ما كان ليحلم يوماً بأن تصبح هاجر زوجاً لـه، هاجر ! هاجر أجمل فتاة في مجدلون، هاجر صانعة الأطباق والسلال والمزهريات.
حين أتى قحطان يسأله عن رأيه بها قال لـه أحمد: هي تحبك، وتناسبك، أجمل امرأة في مجدلون لأفضل رجل في مجدلون، لكن قحطان أخبره أنها تريده هو.
اعتقد أحمد أن قحطان يسخر منه فصمت ثم وعده بأنه سيكون أول المحتفين بزواجهما، لكن قحطان هزه من كتفه وأخبره أنها من أرسله إليه: (تريدك أنت)،
أنا؟
نعم أنت.
أنت تمزح، أو. .. ربما تسخر مني.
لا أنا لا أمزح، ثم لماذا أسخر منك؟ ماذا ينقصك؟ شاب كسبك حلال وسمعتك طيبة، ماذا تريد الفتاة أكثر من ذلك؟.
كان أحمد من شبان مجدلون الذين يقتاتون على قوة عضلاتهم وصبرهم، فإن انهار جدار في مجدلون كان أحمد يرممه أو يعيد بناءه بناء على طلب أصحاب الأرض أو البيت مقابل ثلاث وجبات طعام أو أجر مادي يساويها، وكان صالح معروف يستعين به لحصاد القمح ودرسه وحمل أكياس الحبوب والتبن إلى البيت ومساعدته في ترميم الحواكير وقطف الزيتون وعصره، وكان قسم كبير من أجره يسرق وبعضه يسطو عليه قحطان كدين لا يسترد، أم أحمد كانت تدور على بيوت مجدلون تساعد أصحابها في قطف أوراق التبغ وغربلة الحبوب وسلقها، وكانت تقصد بيت أحمد العباس وبيت علي العباس لأن الأجر الذي كانت تأخذه لقاء جهدها كان أجراً نقدياً، ومن البيوت الأخرى تقبض زيتاً وزيتوناً وحبوباً، أما والد أحمد فكان عاملاً في لبنان ويأتي مرتين في العام، مرة في أول الصيف ومرة في أول الشتاء.
لم يصدق أحمد ما سمعه فأراد أن يتأكد وقال لقحطان: زهوة تحبك أنت. ..، وقبل أن يكمل قاطعه قحطان قائلاً: ما يربطني بزهوة ليس الحب، إنه العطف وأنا حاميها، حاميها لأنها فتاة يتيمة ولأنها تحاول أن تفعل شيئاً مختلفاً عن بنات مجدلون، وأنت على علم بما يفعله والدي لأجلها.
مجدلون على علم بأن صالح معروف كان يرسل لزلفا أم هاجر حصتها من صدقات الأعياد التي كان يصر على إقامة شعائرها بأمانة وإخلاص، ولا يبغي من وراء ذلك إلا مرضاة أهل البيت، ويخطئ من يظن أنه كان يسعى إلى هدف ما (فرض هيبة، أو حث الآخرين على أن يحذوا حذوه )، والتزامه هذا ورثه عن أجداده وكان يردد أمام رجال القرية: (إن الدين وجد لهدف يتناغم مع حاجة الإنسان، وفي مجدلون كثير من الفقراء والمحتاجين والأرامل، لهؤلاء فقط يجب أن توزع الصدقات، وإلى بيوتهم يجب أن تدخل الأطعمة الشهية مرة كل شهر على الأقل).
وكلف الشيخ صالح ابنه قحطان بمهمة توزيع الصدقات على بيوت الفقراء والمحتاجين والأرامل، وكان بيت زلفا وابنتها هاجر محطة مهمة تستوقف قحطان لفترة طويلة، يجلس خلالها يراقب هاجر ويستمع إليها، يسألها عن الألوان والزهور، فتجيبه: هذا اللون الذي يتوسط الطبق هو اللون البرتقالي مركب من زهرة شقائق النعمان وزهرة الدربيسة، وهذا الذي يسوِّر الطبق هو البنفسجي وهو مركب من زهرة الهندباء وزهرة شقائق النعمان، أما الزهري فهو مركب من زهرة عصا الراعي وزهرة شقائق النعمان. وتستفيض هاجر بالحديث عن الألوان وطريقة تحضيرها فتنسى نفسها، فلا ترى في تلك الجبال الوعرة إلا زهوراً عطرة وألواناً أخاذة وينابيع رقراقة، هاجر لا ترى صخوراً وجروفاً وطرقاً وعرة تشوه أحجارها حوافر الدواب وتدمي أشواكها أطراف عابريها، في غمرة نشوتها يهز قحطان رأسه ويقول: وحياة رأس جدي أنتِ فنانة يا هاجر، وسيكون لكِ شأن عظيم، لكن أين أمكِ؟.
أمي في السفح تقطع أعواد الآس.
وينتظر قحطان أم هاجر ويناولها حصتها من الصدقة مع طبق العيد.
في الحقيقة لم تكن زيارة قحطان لهاجر تقتصر على هذه المناسبات، فقد روي أنه كان يراقب المنزل الطيني وحين يرى زلفا خارجة يعرف بأنها ذاهبة لتحضر موادها الأولية وسيطول غيابها، وعرفت زلفا بأن سليل جد مجدلون يستغل خروجها ليستفرد بابنتها، لكنها تظاهرت بأنها لم تسمع شيئاً، بل هي تمنت في سرها أن يحدث بينهما شيء مما يخطر في بالها فتصبح هاجر زوج قحطان بموافقة صالح وبذلك تضمن لابنتها حياة مريحة وآمنة، حياة لا تضطرها للذهاب كل يوم إلى التلة ولا تحتاج فيها لمزج الألوان.
وحين تدرك صعوبة تحقيق هذا الحلم كانت تعجز في الوقت نفسه عن منع هذا الفتى من الدخول إلى بيتها الصغير لأن الصدقة ستذهب إن منعته إلى بيت آخر، فهذا الفتى لا يشبه والده ولا جده، فعدا أنه ما زال غراً فهو يستغل هيبة والده وأفعاله الخيرة لخدمة مصالحه الشخصية، فالصدقات التي كان يوزعها يبقى قسم منها في جيبه، وحين كشف صالح فعلة قحطان خجل من نفسه وحذره من عاقبة خيانته للأمانة (مرض أو موت مبكر أو تشوه أو...).
لم يردع هذا التحذير قحطان فصار يقتطع مبلغاً بسيطاً من صدقات أصحابها لا تربطهم بصالح علاقة مباشرة، كشف صالح خيانة ابنه قحطان وعاد يحذره من أفعاله المشينة مما اضطر قحطان للسرقة، وحين لا تتاح لـه يستدين، وقد استهجن أهالي مجدلون سلوك سليل جد مجدلون وتساءل بعضهم: لماذا يلجأ قحطان إلى السرقة أو الاستدانة ووالده صالح ينفح بصدقاته على الفقراء والمحتاجين وأبناء السبيل، لو أنه يعتبر قحطان عابر سبيل!. أو عاجزاً فيتصدق عليه، ربما لو عمل بهذه النصيحة يتوقف قحطان عن السرقة أو الاستدانة.
لكن والحق يقال فإن صالح لم يتهرب يوماً من دفع ديون ابنه واستاء من ملاحظة الآغا أحمد العباس حين قال لـه: الأقربون أولى بالمعروف، وأجابه صالح: للأولاد في هذه السن نزوات لا علاقة لها بالتربية أو الحاجة، حين يتزوج سيندم على سلوكه هذا ويتبرأ من هذه النزوات، لكن مع مرور الأيام أدرك الأب استحالة إصلاح الابن وقال: إن قحطان عمل سيئ، فعزله وصار يقوم بالمهمة بنفسه وهذا بدوره أدى إلى تقليص عدد الزيارات لبيت زلفا وهذا ما أزعج الأم والابنة وخافتا أن يأتي يوم تتوقف فيه زيارة قحطان لهما، فقررت مفاتحته بأمر زواجه بهاجر، لكن القرار لم يخرج إلى النور لأن زلفا غرقت بينما كانت تقطع عيدان القصب من الضفة التي كانت في أوج خضرتها وذروة كثافتها، وكانت زلفا مطمئنة تحفظ الضفة عن ظهر قلب، تعرف أعماقها، دغلاً دغلاً وأجمة أجمة، تدور فيها مطمئنة، أغرتها أجمة قصب كبيرة فخاضتها وشرعت تقطعها بالمنجل، كانت زلفا شاردة تفكر وتخطط ولم يخطر في بالها أنه في آذار من كل عام تذوب الثلوج وتجرف معها كل ما يعترض طريقها، حتى إذا اجتمعت في النهر غدت سيلاً يفيض على الضفاف، سمعت زلفا متأخرة صوت الهدير لكنها لم تلحق، السيل كان أسرع، جرفها ومضى.
أتى المساء وهاجر تنتظر قدوم أمها تحمل إليها عيدان القصب اللينة لكن زلفا لم تأتِ، خرج أهالي مجدلون للبحث عن صانعة الأطباق وكادوا أن يفقدوا الأمل، تجرأ صالح معروف واقترب من شرك قريب من الضفة فوجدها عالقة فيه.
استغربت هاجر غرق أمها وتساءلت: كيف؟ ألم ترَ السيل قبل أن يصل؟ ألم تسمع هديره من بعيد؟ هل نسيت أن النهر يفيض كل آذار على ضفتيه؟.
لم تجد هاجر جواباً لأيِ من أسئلتها، لم يخطر ببالها أن رأس زلفا كان مشغولاً بها، بوحيدتها، كيف ستفاتح قحطان بموضوع زواجهما؟ هل سيوافق صالح معروف؟ ماذا ستفعل حتى تجعله يوافق؟.
كان الأمل بإيجاد طريقة يدفع زلفا للعمل بجد وانتباه: ما بها صانعة السلال؟ سؤالها هذا كان جواباً لسؤال طرحته على نفسها، هل سيقبل صالح معروف ابنة صانعة الأطباق زوجاً لقحطان؟ انكسرت زلفا حين تذكرت صدقات صالح معروف التي لم تنقطع شهراً واحداً عنها وعن ابنتها، رفعت صوتها وقد تأكدت أن ضجيج النهر علا نبرة صوتها القوية: سأرفض، وابتداء من هذا الشهر، صدقاته، نعم سأقول لـه: لم نعد نحتاجها، وزعها على بيوت تحتاجها.
لم تلحق زلفا، أغرق السيل أفكارها وأطاح بأحلامها.
بعد أن ووري جسدها الثرى أرسل صالح ابنه قحطان إلى أحمد صالح يعرض عليه الزواج بهاجر ويقول لـه: إن هاجر تريدك أنت.
تردد أحمد في قبول العرض خوفاً من نية بيتها قحطان، شحنه الأخير بأوامر صالح فقال: هذا الزواج يريده أبي وسيباركه وسيقدم لكما معونة كبيرة.
لا تريد هاجر أن تتذكر تلك الأيام، فقولها لصالح معروف: (قحطان وعدني بالزواج)
هذا القول أربكه وحمد الله أنه كان وحيداً في الغرفة، أخفى ارتباكه وأجابها: أنتِ ابنتي يا هاجر، وقحطان ولد أزعر لا يناسبك، وأنتِ فتاة وحيدة وحين أراه يؤذيك سأتألم مرتين، مرة لأجلك ومرة لأنه ابني، ولن أقسو عليه بالقدر الذي يلزمه احترامكِ وتقديركِ، أما أحمد، أحمد شاب طيب ولن يؤذيكِ، كلا يا هاجر كوني زوجة لأحمد، هذا أفضل لكِ وله، فأنتما من طينة واحدة وأنتِ أمانة في عنقي. ارتمت هاجر في حضن الشيخ، بكت وأخبرته بأنها تحب قحطان وبأنهما... ولم يدعها الشيخ تكمل، أجابها: أعرف، أعرف ولن أجعل الخطيئة خطيئتين.
قدر الشيخ أن ثمة خلوات جمعتهما، ولذلك قرر مساعدتها ومساعدة أحمد لإتمام هذا الزواج، فأمر بهدم الغرفة الطينية وبناء غرفتين مكانها من الإسمنت، وبذلك أصبح بيت هاجر البيت الإسمنتي الأول في مجدلون، طبعاً عدا بيوت الآغا وبيت صالح معروف.
وهكذا أصبحت هاجر اليتيمة ابنة صانعة الأطباق، زوج أحمد صالح، واشترطت عليه منذ اليوم الأول لزواجهما أن يدعها وشأنها، وانصاع أحمد لأوامر ابنة صانعة الأطباق التي تغيرت بعد بوح زهوة، إن تكن أحبت قحطان فإن أحمد هو القادر على جعلها أماً، بعد شهرين بدأت أعراض الحمل تنتابها، فتذكرت كلمة أمها: (الحرام لا يثمر)، وتساءلت: كيف أثمر مع زهوة؟ زهوة لم تخفِ فرحها، زقزقت، ضحكت، شردت، وتمنت لو تموت وتولد عندها، فهي كما قالت: تعبت، الحياة لا يمكن أن تستمر على هذا المنوال، وسألتها هاجر إن كان هناك ما يقلقها (فارس يريدني أن أهرب معه).
لن تهربي، دعي الأمر لي، لن يتغير شيء، لن يعرف أحد بما يحدث.
انداحت الدموع على الوجه النحيل، غمغمت زهوة باكية (قلبي يحدثني أن الموت ينتظرني، وفارس قال: بل ينتظرنا نحن الإثنين، وأنا أصدقه، فقحطان استولى على كامل أرضي ولم يبق عندي شيء يجعله يسامحني لأجله).
ضربت هاجر كفيها ببعضهما وعاتبتها على استسلامها وضعفها أمام قحطان، وسألتها: لماذا؟، وذكرتها بأنها ابنة الآغا أحمد العباس (أهكذا تتصرف ابنة الآغاالله يسامحك).
زهوة نفسها تساءلت: كيف أصبحت أملاك أحمد العباس بين يدي قحطان معروف
وتذكرت أنها كانت ترتجف من نظرات قحطان إليها، نظراته كانت تقرأ فيها أشياء مخيفة، فتتساءل في سرها: أيكون سمع شيئاً؟ أتراه يراقبني؟ أيكون جد مجدلون الأكبر زاره في أحلامه وأخبره بما يحدث في المغارة؟ أين كان حين خرجت مع هاجر إلى النهر؟ هاجر. .. أتراها أخبرته بشيء؟. ويأتيها صوته: زهوة سمعت أن أخويك سيعودان إلى مجدلون، وعودتهما تعني إعادة اقتسام أملاك الآغا، هلا قطعت عليهما الطريق؟ وتنازلت لنضال عن أرض وادي السقي؟.
وقبل أن تطمئنه بأن أخويها لا يفكران بكل أراضي مجدلون، وبأن نضال ما زال رضيعاً، يعاجلها محذراً: لا تجعلي عاطفتك ونواياك الطيبة تتغلبان على حبك لنضال، نضال الذي سأكون وصياً عليه حتى يبلغ مبلغ الرجال.
تحاول الهروب، تحاصرها نظراته، فتقرأ فيها أشياء مخيفة، وتتنازل لـه عن أرض وادي السقي، وطال التنازل ثلثي أملاك أحمد العباس، وشعرت زهوة بغريزة الأنثى التي لا تخطئ أن النهاية باتت وشيكة، وحين حذرها فارس من موت ينتظرهما إن لم يهربا من مجدلون، اختارت البقاء، فابنة أحمد العباس تضاجع عشيقها، لكنها لن تهرب معه، ويقع فارس بين نارين، نار الخوف ونار الحب، ويظل يتأرجح بينهما حتى تطلب منه زهوة تركها وشأنها، فهي ستصبح أماً للمرة الثانية، ومع وليدها الثاني قررت أن تبدأ صفحة جديدة، فتحيا حياة هادئة، حياة تشبه حياة النساء اللواتي يتحدث عنهن قحطان، نساء يكرمن الضيف ويحفظن الفرج ويحترمن الزوج، وبكت أمامه وتساءلت: أين أنا منهن؟ أنا....
وقبل أن تكمل أقسم لها بأنه سيختفي من مجدلون، ولن يعود إليها إلا ميتاً، في ذلك اليوم، وبعد أن افترقا، كانت زهوة تتقصد المبالغة في كل شيء، لكن ضحكتها المجلجلة كانت تشبه نواح أم ثكلى وصوتها ذكّر هاجر بأصوات طيور مهاجرة تمر كل خريف في فضاء مجدلون، أما محاولتها في إظهار الخفة والرشاقة في تسلق السفح فكان ينتج عنها مشية تشبه مشية طير جريح يحتضر، قبل أشهر ثلاثة من ذلك اليوم كانت المرأتان جالستين على عشب السفح تستمتعان بشمس آذار الدافئة، وكان نضال في خطواته الأولى، كل منهما تمد يديها ليأتي إليها ماشياً، يقف، يسير يقع يعاود الوقوف، وهكذا حتى عاد يحبو باتجاه صخرة خرجت منها زنبقة عصا الراعي، تتركه المرأتان يحبو باتجاه هدفه وتصارح هاجر صديقتها بما يشاع في مجدلون، من أن العقم أصابها، فها هو نضال يكاد يكمل عامه الثاني، وزهوة لم تحبل، ثم ذكرتها بأنها ابنة آغا وزوج رجل مجدلون، سليل جد مجدلون الأكبر وعليها أن تكثر من الإنجاب لأن نضال وحيد ولن يستطيع إدارة الأملاك التي كانت للآغا وأملاك قحطان، هذه المصارحة حثت زهوة على البدء بحملها الثاني واستقبل قحطان الخبر استقبال من كان يعرف أنه سيحدث، لكن ما حدث بعد ذلك قيل حوله الكثير، وسأذكر ما تحدثت به هاجر لأنها أكثر من يعرف الحقيقة، وهذا عائد إلى العلاقة المختلفة التي ربطت المرأتين لأكثر من ثلاثة أعوام:
(كان نضال قد بلغ عامه الثاني وأنا كنت أنتظر مولودي الأول، وكنا اتفقنا أنا وزهوة على أنه إذا كان المولود أنثى فستكون عروساً لنضال، وإذا كان ذكراً فهما أخوان.
قبل موعد ولادتي بثلاثة أيام ذهبت مع زهوة إلى السفح لنجمع بعض النباتات المهدئة للمغص والمسهلة للولادة، ولأن الحرارة كانت مرتفعة قليلاً فقد غامرنا وقصدنا النهر، رشقنا وجهينا بماء ضفته دون أن نجرؤ على الخوض فيه، فهو على غير العادة كان في حزيران ذلك العام يكاد يكون على مستوى ضفتيه، ثم عدنا نجلس تحت شجرة بلوط قريبة من النهر، وبلا مقدمات قالت: (لو تتحقق أمنيتي)
ولأنني كنت أعرف أمنيتها، طلبت منها أن تغير الحديث، ثم رأيت دمعتين كبيرتين تتدحرجان على خديها الشاحبين، ورغم أنني اعتدت على دموعها هذه، إلا أن شيئاً جعلني أشعر أن هذه الدموع مختلفة، قلت لهاما رأيكِ أن نغتسل مرة أخرى، ونتناول زوادتنا؟) رفعت رأسها، ثم حملتْ نضال، ولحقتُ بها.
كان الصعود باتجاه القرية أسهل عليها، بينما أتوقف لأستطيع معاودة السير، كانت تتسلق مسرعة. تركتها تذهب إلى قصر قحطان وحيدة، ودخلت إلى بيتي أهيء نفسي لاستقبال مولودي، في اليوم الثاني لم تأتِ زهوة، وفكرت بزيارتها لكنني تذكرت وعدها بالإقامة عندي حتى تتم ولادتي وقلت: ربما تهيئ نفسها.
في اليوم الثاني بدأت آلام المخاض تدور في جسدي، تساءلت: لماذا لم تأتِ؟ تجاهلتُ الآلام وقررتُ الذهاب إليها وشجعني أحمد على الخروج قليلاً والسير، وقبل الوصول إلى أول الطلعة شعرتُ بتعب بسيط وآلام شديدة فعدتُ إلى بيتي وأرسلتُ أحمد في طلبها، لكنه عاد ووجهه ينبئ بمصيبة، وقبل أن أسأله أخبرني أنهم وجدوها مقتولة في الغابة. وعرفت أن أمنيتها تحققت فتحول عرفها إلى جناحين وساقاها إلى ذيل وطارت لتهرب من مجدلون لكن صياداً رآها فظنها إوزة أو بجعة، فهي طارت في الربيع والربيع امتد في ذلك العام حتى أواخر حزيران، حيث أسراب الإوز والبجع تمر في فضاء مجدلون، ذلك الصياد ظنها بجعة أو إوزة لم تلحق بسربها، فلحقتْ بها رصاصة أصابتها في الرأس، وبينما مجدلون تبكي زهوة كنت سعيدة، لأنني أيقنت أنني سأنجب زهوة وستتحقق كل أمنياتها، وجلست أنتظر لحظة الولادة، وحين تمت فرحت كثيراً، كانت المولودة تشبه زهوة صديقتي زوجة رجل مجدلون، همست في أذنها: حسناً يا صديقتي، ها نحن معاً أم وابنة، وها أنتِ ترثين أصابعي، وستكونين أمهر صانعة سلال في مجدلون وجوارها، ثم أنتِ تشبهين صديقتي، لأنني كنت أحبها فقد ملأت عيني منها، كنت أطيل النظر في عينيها وأتساءل: ترى ما هي الألوان التي مزجت ببعضها لتصنع هذا اللون الآسر؟، وأضفر شعرها، فأملأ عيني ببريقه، وأنظر إلى ساقيها ولا أشبع، وحين تقف لا تفارقها نظراتي لحظة واحدة، أحفظ كلماتها وأقلدها في كل ما تقوم به، أحياناً كنت أفشل، وحين عرفت أنها ستأتي إليَّ أدركت أن ما تمنيته أتاني على طبق مزخرف بقش ملون، زهوة بجمالها، بطيبتها، بأصابعها. أحياناً نستعجل وصول الأشياء وننسى أن قوة أخرى تساعدنا، قوة تتنصت على أفكارنا وتستمع إلى أحلامنا تسرقها وتبدأ العمل لتحقيقها، وهذا ما فعلته معي أنا وصديقتي زهوة أم نضال، وكذلك قحطان رجل مجدلون، وأحياناً أقول إن هذه القوة فعلت ما فعلت لأجل قحطان رجل مجدلون.
ـــ4 ــ
جاؤوا على شكل جماعات صغيرة، اختبؤوا وراء الجبال، في المنخفضات، بين شقوق الصخور، في الأودية. من طبريا جاؤوا، ومن الشمال جاؤوا ومن أماكن أخرى، اتخذوا من الكهوف بيوتاً، اقتاتوا على ثمار الأشجار وجذور النباتات، اعتصروا العنب والتين خمراً، سرحوا مع حيواناتهم في البراري، بثوا رباباتهم أحزانهم وأحلامهم، تأقلموا مع قسوة الطبيعة ريثما يتسنى لهم تحقيق الحلم، انتظروا وأرسلوا عيوناً تراقب ما يجري وراء الجبال، سألوا: هل أتت اللحظة المواتية؟
ذاك الذي هرب بهم من طبريا، وصف المنخفضات والأودية بالمخبأ المؤقت، وذكرهم برجال هربوا من بطش الكفرة، ووعدهم بمصير مشابه، وأقنعهم بأنهم الفرقة الناجية، الفرقة التي ستملأ الأرض حباً وسلاماً، وانتظروا وطال انتظارهم، وريثما تأتي اللحظة المناسبة، بنوا لـه قصراً من أفضل الحجارة، حملوا لـه الماء من أبعد الينابيع، حرثوا لـه الأرض وزرعوها، أهدوا لـه النساء، تمنطقوا البنادق وتوزعوا حول قصره وانتظروا.
بعد طول انتظار، أتاهم المخلص: ( الخروج من هذه الحفر سيكون فردياً، بعد هذه الحياة القاسية، موت ثم حياة أخرى، هذه الحياة ثمرة لحياته السابقة، إن فسدت ففسادها بسبب أحلامه الخبيثة، وإن طابت فبسبب أحلامه الطيبة، ). وأطلق السيد مفهوم النقاء الروحي، هذا النقاء يفقده كل من تسول لـه نفسه الخروج من تلك الحفر والاختلاط بالكفرة، أجهض الحلم، حلم المعرفة والعودة، فالمعرفة التي تتخطى الجبال هي معرفة فاسدة، والعودة ستكون في حياة أخرى بقميص آخر، بعد حياة حافلة بطاعة السيد وخدمته، خرج الحلم من الرؤوس، واستراح أصحابها، ازداد عدد الكهوف، وأصبحت القرية قرى، لكل قرية سيد من صلب السيد الأول، وحماته من أصلاب حماة السيد الأول، مع توالد القرى تتوالد القصص عن مولود جديد كان أباً لأسرة، أو جداً أو أخاً أو ابناً، ويعيش هذا المولود حياة أخرى، فهل ينطبق هذا على زهوة ابنة الآغا أحمد العباس، وزوجة رجل مجدلون في جيل سابق وابنة صانعة سلال في جيل لاحق؟!
كانت هاجر تؤكد لزائريها أن مولودتها هي ابنة أحمد العباس، زوجة قحطان معروف، صديقتها أم نضال، وأولئك الذين كانوا يبدون شكاً بما تقول، كانت تأخذهم على انفراد وتزيل القبعة عن رأس الصغيرة لتريهم أثر الطلقة التي أصابت رأسها:
(انظروا، أليست في المكان ذاته؟).
الجميع أتوا ليروا حادثة تقمص فريدة من نوعها، حتى إن بعضهم ادعى أنه رأى قطرات دم تخرج من الجرح الملتئم، لو أنها تتكلم أو تقول شيئاً عن قاتلها، هذه الأمنية رددها سكان مجدلون، أما القصة التي ذكرتها هاجر حول طيران زهوة فكانت موضع سخرية: (ماذا؟ امرأة تطير؟)، وفسروا ثرثرة هاجر على أنها هلوسات ناتجة عن حمى تصيب بعض النساء بعد الولادة، وظلت هاجر تسرد قصة موت زهوة كما تريد، تضيف شيئاً أو تحذف شيئاً، إضافتها أو حذفها يتوقف على نوعية من تحدثه، أما قحطان فذكر قصة موت زهوة على نحو مقنع، إذ قال: (خرجت كعادتي من القصر بعد مغيب الشمس، لأصلي وأذكر اسم ربي في الفلاة، وأغراني هواء حزيران المنعش فابتعدت حتى كدت أدخل الغابة وإذا بصوت طلق ناري اخترق أذني، توقفت في مكاني نظرت حولي ثم وليت وجهي شطر القصر، وتوقفت حائراً، وقبل أن أتساءل عن مصدر الطلق الناري أتاني صوت زهوة، قلت في نفسي: صوت البندقية أخاف زهوة فصرخت تستدعيني إلى المنزل وحين أصخت السمع عرفت به صوت استغاثة، تساءلت: صوت من هذا؟ ووقفت بين نارين، نار تجاهل صوت الإستغاثة، ونار الخوف من شيء يحدث في الغابة قد أقتل بسببه، وانتصر الخيار الأخير فغامرت وسرت باتجاه الصوت، وإذا بزهوة تتخبط بدمها، عرفت أنها تحتضر، وكان عليّ انتهاز الفرصة، الظلمة لم تمنعني من رؤية الدم يتدفق من صدرها ورأسها، أخرجت قلماً وورقة وطلبت منها أن تبرئني من دمها، فكتبت: قحطان بريء من دمي كما الذئب بريء من دم يوسف، ولأن قلقاً انتابني بألا يكون ما كتبتْهُ كافياً لتبرئتي أرسلتُ في طلب أقرب جارين لمساعدتي، فحضرا بسرعة، لتردد أمامهما ما كتبته على الورقة وكان الشاهدان حاضرين فأكدا ما قاله قحطان.
سأل أحمد رجل مجدلون إن كانت أخبرته أنها ستصبح ابنته هو وهاجر، هز قحطان رأسه ونفى أن يكون سمع منها شيئاً كهذا، ولولا الخوف على كرامته لأعلن على رؤوس الأشهاد أن زهوة لن تعود في قميص امرأة، إن زهوة بسبب خيانتها لـه وصلت إلى الدرك الأسفل من مراحل تقمص المرأة، عقرباً أو حشرة قذرة أو قشة أو هباءً منثوراً، لكنه ظل ملتزماً الصمت، فماذا يعني أن تكون ابنة هاجر هي زوجه المقتولة، وماذا لو أطلقت عليها الاسم ذاته: (زهوة أحمد صالح)، وكانت زهوة أحمد العباس؟
كانت فرحة أحمد تفوق فرحة هاجر بكثير، هاجر التي انتظرت زيارة قحطان لها وسؤاله عن الطفلة، وآثار الطلقة في رأسها، (لماذا لم يأتِ؟) سؤال طرحته هاجر عشرات المرات، لماذا؟.
حوادث التقمص تدفع الكثيرين للبحث عن أعزاءَ فقدوهم، بعضهم يأتي على أثر شائعة، وبعضهم يأتي بعد حلم يرى فيه فقيده وهو يحدثه عن القرية التي ولد فيها، وعن أهله الجدد، وتتكرر الزيارات، وينتظر المصابون كلمات فقيدهم الأولى، يسألونه، يستجوبونه، يعتصرون ذاكرته، حتى إذا تذكر شيئاً من حياته السابقة استمرت زياراتهم وكثرت هداياهم، ويتكرم الأهل الجدد أحياناً بإرسال ابنهم إلى أهله القدامى، يقيم بينهم أياماً وأحياناً أشهر، وإذا كان الأهل الجدد فقراء فإن القدامى لا يبخلون بتقديم العون والمساعدة.
حادثة التقمص التي هزت مجدلون (حادثة تقمص زهوة)، لم تخضع لهذه القاعدة وكأن قحطان لم يسمع بشيء، قحطان الذي كان يزور مواليد مجدلون الجدد، لتقديم التمائم لهم ومباركتهم وهو طقس ورثه عن والده وجده.
لم يزر بيت هاجر ولم يبارك مولودتها، ولم يقدم تميمة لصغيرتها، وكان على هاجر تحريك ذلك السكون المخيف الذي يجثم على القصر، فأرسلت أحمد ليحضر نضال ابن صديقتها المتوفاة، لأنها اشتاقت إليه، ثم هي وعدت زهوة صديقتها بأن تعتني به، لكن أحمد عاد بدون الصغير، فقحطان كما قال أحمد، لا يرى داعياً لإرهاق هاجر ولم يمر على ولادتها أيام قليلة، هذا الرد لم يقنع هاجر فأرسلت أحمد مرة أخرى، وأوصته أن يقول لقحطان بأنه إن لم يرسل الصغير فستذهب هي بنفسها وتحمله إلى منزلها، ووجدت هاجر فرصة أخرى تؤكد من خلالها أن مولودتها هي ابنة الآغا أحمد العباس زوج قحطان رجل مجدلون، فقالت تصف لقاء الصغيرين في حضنها: ( وكأن نضال عرف أمه، فلا هو أبدى غيرة منها ولا دفعها من أمامه ولا احتج، بل فتح ذراعيه يحتضنها، ومد يده يقدم لها قطعة خبز كانت معه، أما زهوة فلم تعد تلك الطفلة الهادئة بل راحت تهز رأسها وتطيل النظر إلى ابنها الذي يزيدها عامين وأربعة أشهر، وحين أطلقت سراح يديها صارت تحركهما وكأنها تومئ لـه بشيء.
وضعتهما على فراش واحد، وابتعدت عنهما أراقبهما من مكان بعيد، جلس نضال بجانبها، مدت لـه يدها الصغيرة فأمسكها وراح يداعبها، ثم سمعته يناديهاماما).
ازداد نشاط الطفلة، وصارت تلطمه بيديها الصغيرتين، ظلا على هذه الحالة حتى نامت زهوة.
حين أعاد أحمد نضال الصغير إلى قصر والده، ردد حديث هاجر عن لقاء الصغيرين ثلاث مرات، وكل مرة يختمها قائلاً (إنها أمه، ما في ذلك شك).
كان منزل صانعة الأطباق قدر نضال، حتى لو لم تكن زهوة الطفلة، أمه المقتولة
أمه التي كانت تحلم بأن تتحول إلى طائر لا حدود لفضائه، أمه ابنة الآغا أحمد العباس، الذي رفض فارس زوجاً لابنته قائلاً لها (لا مستقبل لأولاد الأغوات، الأغوات ولى زمانهم، لكي يكون للإنسان كل الأزمنة عليه أن يناسب أولئك الذين يحكمون بأوامر السماء ولا يملك الإنسان الأرض ومن عليها إذا لم تدعمه أشباح تنزل عليه من السماء).
قحطان كان على قناعة بأن أشباح السماء لا تنزل من عليائها لأولئك الذين تعوزهم الوسيلة للتحكم بمقدرات الأرض، يا لها من معادلة! التاريخ والسماء يصنعان، ليس فقط قدر مجدلون، بل قدر العالم بين سوطيهما.
إن كانت زهوة العباس وفارس يجهلان هذه المعادلة فإن والد قحطان والآغا أحمد العباس يحفظانها جيداً، ووضعا اللبنة الأولى لها بزواج ولديهما قحطان معروف وزهوة العباس، موت زهوة خلخل المعادلة قليلاً، فما تقدمه الأم لن تستطيع امرأة أخرى تقديمه، حتى لو كانت ابنة أخ الآغا أحمد العباس.
بعد مرور شهرين على مقتل زهوة، طرق باب هاجر طرقة تعرفها، في البداية ترددت، ما الذي أتى به الآن؟ لماذا تأخر؟ صوت الطرق الذي اشتد دفعها لأن تسأل عن الطارق، صوته جعلها تفقد وعيها وتفتح لـه الباب، رأته أمامها، انتظرت منه اعتذاراً عن تأخره، وقفا للحظات على الباب، أخبرته أن زهوة نامت، لكنه دخل، دخل بعد أن أشار أنه يريدها هي ولأمر ضروري، حذرته من أحمد الذي قد يأتي في أية لحظة، لم يبدِ اهتماماً لما قالت ولم يطلب منها قفل الباب الحديدي.
قالت في سرها (قحطان تغير).
حين جلس بجانبها صارحها برغبته في الزواج مرة ثانية، قبل أن تذكره بأن قبر زهوة لم يجف بعد عاجلها باسم فتاة وراح يحدثها عن عهد قطعه لها.
كان ذلك في جيل سابق، في عيد المباهلة، كنت حينها شيخ قرية الخربة، ورجلها الأول بعد الآغا، وقبل البدء بالصلاة وقفت جوهرة، وكان اسمها فضة، وقفت على باب الغرفة المخصصة للصلاة، قلت لها ابتعدي كي لا تصابي بالطرش، ردت: ليس قبل أن تعدني، أجبتها لا أستطيع، لا أستطيع أن أعدكِ بشيء. قالت: وأنا لن أتحرك من هنا. كانت عنيدة، وفاؤها وتفانيها في خدمتي يشفعان لها عنادها، نظرت إليها فرأيتها امرأة طيبة بسيطة، قلت في سري: وهل يحتاج شيخ جليل من امرأة أكثر مما تعطيه فضة، فلتكن زوجتي في جيل قادم، ولتكن ثلاثة أعوام عقاباً على عنادها وبخلها، الآن وبعد مرور ثلاثة أعوام، أظنها تخلصت من البخل والعناد، قلت لها: حسناً يا فضة سيكون لك ما تريدين، أنتِ زوجتي لجيل قادم، قولي هذا سمعه جموع المصلين وباركوه، الآن وبعد وفاة زهوة، ومرور ثلاثة أعوام بالتمام والكمال، صار لزاماً عليّ الوفاء بالعهد، وعليكِ أنتِ نقل رغبتي إليها.
لو انكَ سألتها.
لا، لا أظن أحداً قادراً مثلك على سؤالها وإقناعها.
لم يكن قحطان يبالغ كثيراً في قدرة هاجر على الإقناع، رأيه هذا سمعته كثيراً،
لا أحد يستطيع مقاومة بريق عينيها، ولن يتجاهل أعند الأشخاص نبرة صوتها الواثقة. فوجئت هاجر بطلب قحطان وتساءلت: لماذا لم يذهب بنفسه إلى جوهرة؟ لماذا لم يطلب من أحمد العباس التدخل لمفاتحتها؟ وقحطان ! هل يصعب عليه مواجهة جوهرة بطلب كهذا؟ ما هذا الرجل؟ تذكرته يوم قرر صالح تزويجها لأحمد، تذكرت هروبه، آه كم بحثت عنه ! حلمت به يقف أمام والده ويقول: كلا، هاجر لي، نحن زوجان منذ أكثر من عام، لا لن أدع أحداً يلمسها، أنا حاميها ولن أسمح لأحدٍ أن يقترب منها. حلم هاجر لم يطأ أرض الواقع لأن قحطان اختفى. مرة واحدة لمحته يمر من أمام الباب، ركضت وراءه، لكن الظلمة ابتلعته، جلست طوال الليل تنتظر مروره، تحلم به يطرق باب غرفتها. في تلك الأثناء كانت في بيت صالح معروف، تتقاسم مع بناته الغرفة، هم نيام وهي دائماً متحفزة تنتظر خياله يرتسم على النافذة، تصيخ السمع إلى وقع خطواته، لم تكن هاجر لتستسلم لهذا الصمت وهذا الهروب، فتسللت من الغرفة في ليلة سبقت ليلة زفافها لأحمد، طرقت باب غرفته، همست: قحطان أنا هاجر، افتح الباب، أريد أن أقول لك شيئاً، قحطان... قحطان. ...
لماذا لم يفتح الباب، وكانت على ثقة بأنه في غرفته سمعته يغلق الباب، ما هذا الرجل؟
أدركت هاجر أن قحطان لا تعوزه الوسيلة للفوز بكل شيء لكن دون أن يخسر شيئاً، حتى لو كان هذا الشيء مواجهة أو مصارحة، ثمة منهج واحد إن جُرد منه يصبح كالأسد الكهل ينتظر من لبوته أو من حيوانات الغابة أن ترمي لـه بقايا صيدها، الأسد قوته في شبابه وقوة قحطان بما ورثه عن والده وأجداده، ألا إن هذه القوة لا يجرؤ أحد على تقويضها، بل هي تزداد هيبة ووقاراً بازدياد عدد السنين، إنه يستعين بها ليتزوج ابنة آغا آخر لا تقل غنى عن زهوة العباس، يستخدم مهجه هذا في زمانه ومكانه، لجأ إليه قبل وفاة والده وتزوج زهوة العباس، ويستخدمه الآن ليفوز بجوهرة العباس، ولكي لا تذهب هيبته وتستباح سلطته يستعين بهاجر، يحدثها عن جيل سابق وجيل لاحق وعقوبات وبخل، آهٍ ما أمكره!.
كان إقناع جوهرة أمراً سهلاً تحقيقه، فهي تخطت العشرين بخمسة أعوام، ولم يجرؤ راغب بالزواج على طلب يدها، وهذا كما قال قحطان ( علة )، سببها العهد الذي قطعه لها.
حين أخبرتها هاجر برغبة قحطان لمعت عيناها ببريق الفرح، وتلونت وجنتاها بحمرة الخجل، ثم بلغتها تحياته ومحبته الشديدة لها وطلبت منها أن تبدأ بتجهيز نفسها، فهو، أي قحطان، لا يستطيع الانتظار أكثر. لم تصدق جوهرة ما سمعت، بل دفعتها المفاجأة لأن تسأل هاجر إن كانت متأكدة مما تقول، فقحطان لم يسبق لـه أن بادلها حتى النظرات، ولم يكلف نفسه، ولو مرة واحدة، طرق باب بيتها، وإلقاء السلام عليها، رغم أنهما جاران، ولا يفصلهما عن بعضهما سوى سبعة حواكير، وقحطان شاب وسيجد فتيات صغيرات يرغبن به زوجاً، أما هي....
قاطعتها هاجر قائلة: هو لا يفكر إلا بكِ، يسهر حتى الفجر يراقب منزلكِ، ينتظر خروجكِ إلى الحواكير، فيسترق السمع إلى صوتكِ العذب وأنتِ تحثين العمال على الجد في العمل، حين كان يراكِ على طرف الحاكورة الملاصقة لقصره ينظر إليكِ، يفكر بالتحدث معكِ، لكنه يخاف من صدكِ لـه، ويصفكِ بالفتاة الجادة، الفتاة التي ترفض التحدث إلى أحدٍ، وهذا أحد أسباب إعجابه الشديد بكِ.
ثم أخبرتها بأن الحب لم يكن وحده ما دفع قحطان لطلب يدها، فثمة أمر آخر، أمر يتعلق بعهد قطعه على نفسه، وربما نسيته جوهرة، فالمرأة كما أخبرها قحطان تنسى، تنسى ما حدث معها في الجيل الذي تعيش فيه، فكيف تتذكر ما حدث معها في جيل سابق؟ ثم أخرجت من كيس أرسله قحطان إلى جوهرة ثوباً، وطلبت منها أن ترتديه، نظرت جوهرة إلى الثوب، توشح وجهها بالخيبة، أعادت الثوب إلى هاجر بحجة أنه كان لزهوة، أكدت هاجر أن ثوب زهوة دفن معها، لكن جوهرة رفضت الهدية، الثوب كان لزهوة. استسلمت هاجر لعناد جوهرة ووعدتها بأذرع كثيرة سيحضرها قحطان لأجلها إن قبلت به زوجاً، أرادت جوهرة أن توضح لها بأن الأمر لا يتعلق بثوب زفاف ولا بأذرع قماش، إنه يتعلق بأمور نسائية خاصة جداً، فهي في اليوم الأول من الدورة الشهرية، وقد تحتاج إلى أربعة أيام لتكون جاهزة، وما كانت هاجر لتوصل أمراً تافهاً كهذا إلى قحطان، فهذه أسرار لا يجب أن يطلع عليها الرجال خاصة أمثال قحطان، فإن مجرد ذكرها يسيء لهم ولمكانتهم ، وعابت هاجر على جوهرة تصديق خرافة ترددها النساء ومفادها أن الفتاة التي يصادف يوم زفافها في دورتها الشهرية ملعونة، وتكتمل اللعنة بأن تصاب بالعقم، وعادت تحثها على اغتنام الفرصة، فهذه الفرصة هي الأولى وربما كانت الأخيرة، ثم طلبت منها أن تتهيأ لاستقباله، وترتدي هذا الثوب الأحمر، وناولتها زجاجة عطر مع مشط وعقد أبيض وخاتم وقرط: (لا تنسي، تزيني بهذه الأشياء لتدخلي السعادة إلى قلبه).
ازداد خفقان قلب جوهرة، وهي ترى أشياء زهوة يرسلها قحطان إليها، أمسكت بيد هاجر، توسلت إليها أن تدلها على طريقة توقف بها الدم، فهي خائفة، خائفة ليس من اللعنة والعقم، بل من الصدمة التي ستصيب قحطان إن هو دخل عليها ورآها غير جاهزة، استجابت هاجر لرغبة جوهرة في الجلوس معها والتحدث إليها لحل مشكلتها فجوهرة رغم أنها تزيد هاجر في العمر، فهي تجهل أموراً كثيرة، خاصة المتعلقة منها بالمرأة، فهي لم تكن تعرف أن الرجال يجهلون الأمور النسائية ويصبون اهتمامهم على أشياء أخرى، فمثلاً تستطيع جوهرة التظاهر بان الدم أتاها بعد لقائهما معاً في الفراش، وهذا يحتاج إلى ذكاء، كأن تصرخ جوهرة بأن الأمر تم، بعد ذلك تطلب منه أن يتركها تستريح أربعة أيام، ارتجفت جوهرة، فتنفيذ ما سمعته من هاجر يحتاج إلى امرأة خبيرة بطباع الرجال، وليس لفتاة لم يلمسها رجل ولم تطلع على هذه الألاعيب، وطمأنتها هاجر بأن الأمر بسيط لسببين أولهما أن كل شيء سيتم في الظلام والسبب الثاني يتعلق بطبيعة قحطان كشيخ وقور يغض بصره عن أمور كهذه، ويرى في الزواج واجباً عليه لإرضاء ربه، ولخدمته هو وضيوفه وليس كرغبة عابرة أو نزوة ملعونة ، فسألت جوهرة صديقتها إن كانت تستطيع الفكاك من اللعنة والعقم، فثمة أمر يخيفها وهو لجوء قحطان للزواج من امرأة أخرى لأجل الإنجاب، سخرت منها هاجر ونصحتها بإبعاد هذه الأفكار السوداء من رأسها، فحسابات كهذه ستجعلها تعيش حياتها بلا رجل ولا ولد، فقط حواكير وعمال بلهاء يأتون فجراً، وعند المساء تعود وحيدة لا زوج ولا أولاد، ثم سألتها: لمن هذه الحواكير والأراضي؟ هل أنتِ سعيدة في حياتكِ؟ وقبل أن تجيب جوهرة خرجت هاجر بعد أن وعدتها بالعودة مساءً مع قحطان
وشاهدي الزواج.
عند المساء كانوا خمسة، قحطان وهاجر وجوهرة والشاهدين، في ذلك المساء لم تكن جوهرة تشبه الفتاة العانس التي تعرفها مجدلون، أفلتت شعرها الأسود، أحاطت عينيها الصغيرتين بالكحل فبدتا أكثر اتساعاً، طغت نضارة على وجهها الشاحب، أما فمها الذي كان يبدو كخطين رماديين فقد خرجت منه شفتان قرمزيتان، فقالت لها هاجر: حتى جسدكِ يا جوهرة يبدو هذا المساء أكثر امتلاءً واستقامة، في ذلك المساء تخلت جوهرة عن حرصها فامتلأت الأطباق بأطايب الطعام، وقبل أن يبدأ المحتفون بتناول الديكة الرومية والدجاج مع زغاليل الحمام المحمرة ، همس قحطان في أذن هاجر فأشارت الأخيرة لجوهرة أن تلحق بها، في البداية اعترضت جوهرة على طلب هاجر، وسمع قحطان والشاهدان اعتراضها، ووصل إلى مسامعهم صوت هاجر تقول: لم يعد هناك فرق بين منزلكِ وقصر قحطان ثم هل نسيتِ أنه يعيش وحيداً، لا زوجة ولا خدم ولا. ..، المرأة الصالحة لا تعترض على قرار الرجل أياً كان. بعد أقل من ساعة لنصيحة هاجر حمل العمال أطباق الطعام إلى قصر رجل مجدلون.
كان الوقت صيفاً وكانت جوهرة تحضر نفسها لقطف موسم التبغ، وحين اعترضت على ما همست به هاجر لم يكن اعتراضها لأجل الموسم، ولم تأتِ على ذكر العمال الذين تأخروا في قطف الأوراق الناضجة، ولولا الحب الذي حدثتها عنه هاجر لرفضت إرسال الأطباق إلى بيت قحطان، أما عن اقتصار حفل الزفاف على خمسة أشخاص فهذا الأمر آلمها كثيراً، إذ قالت لهاجر: ماذا سيقول الناس؟ انظري كيف أرتجف، كيف قلتِ أن الزفاف سيكون غداً؟ ابنة الآغا علي العباس تستشار وتطلب وتخطب وتتزوج في اليوم نفسه، ثم ما هذا؟ على الأقل لو دعا أقرباءه وأقربائي، أليس عيباً؟ يكاد يغمى عليّ، لا عرس، لا ثوب زفاف ولا. ....، حتى الطعام يحمله عمالي إلى قصره!. لكن هاجر أكدت لها بأن العيب والعار كانا سيلاحقانها لو أنها أقامت حفل الزفاف، فزهوة ابنة عمها لم يمر على وفاتها سوى شهرين، أما الطعام الذي أعدته لضيوفها فهو لطعن ثرثرات مجدلون حول حرص جوهرة وبخلها، وعليها أن لا تنسى أن قحطان يريد أن يختلي بها، ويرفض أن يشاركه أحد فرحته، ثم ناولتها ثوب زهوة الأحمر، أبعدت جوهرة يدها متخوفة من ملامسته، وهمست: أنا خائفة من أن يقتلني كما قتل زهوة، رمت هاجر الثوب الملون على السرير ثم استدارت لتخرج، وتترك جوهرة وشأنها لكن جوهرة صرخت : عودي، أنا خائفة من هذا الثوب اللعين، بكت جوهرة، بكت كثيراً، بكت كبرياءها، بكت نفسها، وقالت: زفاف يبدأ ببكاء، أي خير يحمله زفاف كهذا؟، لا ثوب زفاف، لا طبل ولا زمر، ولا محتفين، حتى الطعام لحومه من مزرعتي، وحبوبه من عنابري، وزيته وسمنه من جراري، ستقول مجدلون: لقد دفعت جوهرة العباس ثمن زواجها غالياً.
جلست هاجر على طرف السرير وجوهرة أمامها ترتجف، سألتها: تخافين من ثوب؟
ألم يقتل زهوة؟
حين ماتت زهوة كانت ترتدي ثوباً أبيض، زهوة ماتت لأنها طارت، حلمها بالطيران والهروب من مجدلون بدأ يوم تزوجت قحطان، وأنتِ لا تدعي الأحلام تقترب منكِ، وإن اقتربت اجعليها تتناسب مع رغبة قحطان، والآن هيا، فات الأوان على هلوساتكِ، أنتِ الآن زوجة سيد مجدلون، ومن حقه أن يأخذكِ إلى قصره.
في تلك الليلة لم تستطع هاجر النوم وحين هجرت الفراش عجزت عن ضفر سلة أو طبق، فخرجت إلى منزل قحطان، لا تكاد قدماها تلامس الأرض، طرقت الباب فرأته أمامها، يضع سبابته على فمه، دخلا غرفة تقع على الطرف البعيد عن الغرفة التي تنام فيها جوهرة، سارا على رؤوس أصابعهما، وقبل أن يسألها عن سبب تأخرها في المجيء، سألته عن جوهرة، فهي وبالرغم من طمأنتها كانت قلقة بشأنها، ماذا لو لم تحسن تمثيل الدور؟ ماذا لو غلبت شهوة قحطان كل الأعذار؟ ألهذا أتت هاجر؟ بعد أن اطمأنت على جوهرة، قامت تود العودة إلى منزلها، لكن قحطان قادها إلى الفراش، فهي وبعد يوم حافل، قضت بعضه في منزل جوهرة، وما تبقى منه قضته في قصر قحطان، باتت تستحق الراحة، فاستسلمت لـه ليس لرغبة شعرت بها، بل هي خدمة تؤديها لجوهرة التي تجاهلت رغبة قحطان فادعت التعب والإرهاق. وتحدثا عن جوهرة، وكيف أن الأمور سارت بسرعة لم يكونا يتوقعانها، حتى التكاليف تكاد لا تذكر، ووصفت هاجر صديقتها جوهرة بأنها كانت كريمة في تلك الليلة، وهذا عائد برأي قحطان إلى تغير طرأ على شخصيتها بعد العقوبة التي فرضها عليها، أما هاجر فقالت كلا، بل هو الحب ).
بعد مرور أربعة أيام، زال قلق جوهرة، واطمأنت هاجر عليها، وكفت عن طرق الغرفة المنفردة لتقديم خدماتها ، ثمة أمر آخر يقلق جوهرة وهو متعلق بالحمل، فبعد مرور أربعة أشهر عاد الخوف يقض مضجعها، وحكمة الجد الأكبر لمجدلون ساورها شك بصحتها، فلو كانت كل امرأة تحيض تحمل، لحملت، شكها هذا دفعها إلى مصارحة قحطان بما كتمته عنه ليلة زفافها، هز قحطان رأسه وأنكر أن يكون لتلك الليلة علاقة بعقمها الذي وصفه بالمؤقت، فالأمر بيده، وهو يتعلق بالحواكير وأرض السفح، استغربت جوهرة أن يكون لقحطان حكمة لا تشبه حكمة جد مجدلون فتمسكت بأرضها، إذ قالت: الله لا يريد رشوة، شتمها قحطان وأعلن عن ندمه في الالتزام بعهد قطعه على نفسه في جيل سابق، فجوهرة ما زالت عنيدة، وعاقبها على عنادها بهجرانه لها، وجعلها تحلم بطفل كما يحلم هو بالحواكير وأرض السفح.
تدخلت هاجر مرة أخرى وقالت لجوهرة ( خصلة من رأس طفل تساوي أراضي مجدلون الممتدة من الوادي إلى التلة ).
وتنازلت جوهرة عن الأرض لصالح قحطان ولأجل ولد يرث حواكيرها وأرضها لكن الولد لم يأتِ، فعادت بذاكرتها إلى الوراء، إلى ليلة زفافها، وحمّلت هاجر مسؤولية عقمها، وأبدت تخوفها من زواج ثالث لقحطان، الذي علل عقمها بخيار أرادته حين خيرت بين أن تكون زوجه في هذا الجيل، أو أن تكون أماً.
ربتت هاجر على كتف جوهرة، وطمأنتها بشأن زواج ثالث لقحطان، قالت لها:
(زواج ثالث ! يعني حواكير وأرض، ولم يعد هناك لا في مجدلون ولا جوارها فتاة لها حواكير وأرض، قحطان لا يتزوج من أجل ولد).
إن كان كلام هاجر قد أقنع جوهرة، فهو لم يقنع هاجر، فانتابها خوف من أن يقدم قحطان على زواج ثالث، فالمرأتان اللتان تزوجهما كانتا بمثابة أختين، وهذا لا تضمنه مع الزوجة الثالثة، ولأنها كانت تعرف استحالة تخليه عن أرض جوهرة وحواكيرها فقد وجدت نفسها تطالبه بإعادة الحواكير والأرض، وحين تأكدت لديها تلك المعرفة، أن لا زواج آخر، عادت إلى جوهرة تطمئنها: (العهد الذي قطعه على نفسه في الجيل السابق يقيده)، ثم أوصتها أن تظل على طبيعتها، فلا تظهر لـه الاهتمام الشديد ولا الندم على تخليها عن كل شيء، فالرجل مثل النهر إذا ابتعدت المرأة عنه تعطش، وإذا رمت نفسها به تغرق.
ـــ 5 ـــ
إن حدثت فهي نادرة، جوهرة لا تشبه زهوة بشيء، الأولى نحيلة هادئة، تخلت عن حرصها بعد زواجها بقحطان، أعطته كل شيء، وأعطاها أمومة طفل لم تلده، أم تلد وأخرى تربي، وثالثة تربطها به روابط عديدة، الإنسان يحتاج إلى أم وأبوين
أحدهما سبب وجوده الأرضي، والثاني يساعده لبلوغ وجوده السماوي، وهذا لا يتاح إلا للقلة، فالرجال رغم الثراء المادي والرادع الديني ما زالوا حطباً لحماقاتهم، فيكون دور الأب كدور ذكر النحل.
تؤكد مجدلون أن قحطان كان سبب الوجود الأرضي لنضال، وأعلن أنه بحكم مكانته الدينية قادر على القيام بالدور الثاني، وهكذا خلط قحطان بين الأرضي والسماوي، وماذا كانت النتيجة؟ ابن بلغ من العلم مرتبة لم يبلغها أحد في مجدلون
وهذا العلم منحه امتيازات جعل الجميع يتوددون إليه ويسعون لنيل رضاه، فوصل به الأمر حداً جعله يعتقد ببلوغ السماوي، وهكذا وصل قحطان إلى نتيجة مفادها بأن الإنسان يستطيع أن يكون أرضياً وسماوياً في دورة حياة واحدة.
ولم يدحض آراء كثيرة اتفقت على أن ما وصل إليه نضال كان نتيجة لجهود خيرة وأعمال نبيلة قدمها جد مجدلون الأكبر لأتباعه، فإذا هو حفيده السابع يقطف الثمار
والعبء الذي تحمله قحطان في تربية نضال، قابله عبء تحملته المرأتان، هاجر تردد (نضال هو ابني)، وهذا لم يكن مرده إلى أن زهوة الطفلة هي أمه المقتولة، ولم تكن المودة القديمة الجديدة سبباً آخر، بل هو عائد إلى عهد لا يقل في أهميته عن عهد قحطان لجوهرة، العهد الذي سربله، العهد الذي دفع جوهرة للتخلي عن كل شيء لقحطان.
حين أتت هاجر لتأخذ نضال إلى بيتها، حدثتها عن عهد قطعته المرأتان، هاجر وزهوة، على نفسيهما: (إذا كان مولود هاجر ذكراً فهو أخ لنضال، وإن كان بنتاً فهي زوج لـه،)، لم تعترض جوهرة على العهد لكنها توسلت إلى هاجر كي تتركه لها إذ قالت: إن توليت تربيته فسأفقد سبب وجودي عند قحطان.
كان هذا سبباً لتمسك جوهرة بنضال، والسبب الآخر يكمن في ذلك الحب والعطف الذي انتابها تجاهه، والطفل أغرم بجوهرة، وصار يناديها أمي، ولأن خبرتها في مجال تربية الأطفال متواضعة ولا تتخطى كيفية إعداد الطعام وغسل الثياب، فإن هاجر كانت تتدخل إذا مرض، حيث يرسل قحطان في طلبها، وقبل أن تلتقط جوهرة أنفاسها تقول: هاجر. ابنك مريض. وتتكفل جوهرة بزهوة، وتخرج هاجر إلى بيت قحطان تتحسس الجسد الصغير، تنظر إلى عينيه، إلى فمه وأذنيه، تسقيه سائلاً هو خليط من أعشاب طبيعية، ثم تهدهده حتى يغفو، يقترب منها قحطان، يهمس: أظنه شفي تماماً، ويسألها: ماذا فعلتِ؟، تجيب: لا شيء، لقد رأى وجهي فتذكر وجه أمه، سمع صوتي فظنه صوتها، ثم شم رائحتي فتذكر رائحة أمه.
بعد ذلك يستسلم قحطان وهاجر لقيلولة قصيرة تعود بعدها إلى بيتها، وترسل جوهرة إلى قصر قحطان، وإذا صادف دخول جوهرة وقتاً تكون فيه زهوة نائمة، عندها تخرج المرأتان إلى قصر قحطان وكأنهما في سباق، تدخلان معاً، جوهرة تحضر مغلي الأعشاب وهاجر تسكبه في فم المريض الصغير، وتوصي بإعطائه المغلي على مدار يومين أو ثلاثة، ودائماً قبل أن تخرج، تدعوها جوهرة للجلوس، وقبل أن تلبي هاجر دعوة جوهرة يذكرها قحطان بأكوام القصب والآس التي تنتظر أصابعها، ثم يرافقها ويتساءل على مسمع منها إن كان يستطيع مكافأتها، فتجيبه: أنا لا أفعل إلا ما طلبته مني زهوة، أم تراك نسيت؟ تحتج جوهرة قائلة: لكنني أحبك يا هاجر، يضحك قحطان ويقول: هذا الولد ألَّف بين القلوب، وأظنه سيكون ذا شأن.
حين تصبح هاجر في الخارج تترك نفسها على سجيتها، تسير ببطء، تستعيد ما حدث، وإذا سمح لها الوقت تجلس تحت ظل شجرة الزيتون الكبيرة فتغمض عينيها وتتخيله أمامها بقامته الطويلة، بكتفيه الواسعتين، تراه يبتعد ويقترب، قنبازه يتطاير مفرجاً عن شروال ناصع البياض، وترى منديله يعلو ويهبط، يهبط حين يرفع رأسه ويرتفع حين يخفض رأسه، ولولا العقال لطار وحطَّ على أقرب شجرة. تفتح عينيها وتنظر حولها، تتساءل: أين ذهب؟ هل تلاشى؟ هل طار؟ هل كنت أحلم؟.
تتمتم بكلمات لا يفهم منها شيء، وحين تنتهي تتذكر، تتذكر أنها تركته واقفاً على الباب، تتذكر وجهه، شعره عينيه، جسده، جسده الذي حجب عنها كل شيء فأثار بها شهوة الرؤية، رؤية الداخل بأثاثه، رؤية جوهرة في لحظة بوح، فقط لو أتيح لها رؤية عينيها وهي تقول:
(أنا أحبكِ يا هاجر)، من نحبه يورطنا بحب كل ما يخصه، أحبت هاجر نضال، أحبت قحطان، أحبت جوهرة. وزهوة الابنة شاركتها في حب نضال، ما إن تراه حتى تدفع هاجر عنها وترمي بجسدها نحوه، تريد أن تتخلَّص من احتضان أمها، تريد أن تستبدل أمومة هاجر لها بأمومة تمنحها لنضال، تريد أن تكمل دورة حياتها السابقة.
حين لاحظت هاجر ولع ابنتها بنضال وضعت جوهرة أمام خيارين: إما أن يُرسَلَ نضال إلى بيتها، أو تُحْمَلُ زهوة إلى قصر قحطان، واختارت جوهرة الخيار الثاني فلديها متسع من الوقت للعناية بالصغيرين، وهاجر دائماً مشغولة شأنها شأن قحطان الذي يشرف على الحواكير والأراضي.
حملت هاجر ابنتها، وكانت حينها في الرابعة، ولما وصلت إلى المكان الذي يرى منه قصر قحطان قلعة صغيرة صرخت وأشارت إليه، وأنشبت أظافرها في وجه أمها، دفعتها بساقيها، استجابت هاجر لرغبتها، وضعتها على الأرض فتدحرجت الصغيرة على الطريق، وظلت تتدحرج حتى لحقت بها هاجر وأمسكت بها، بعد أن اختلط على ساقيها وثوبها الدم بالتراب، حملتها وعادت بها إلى البيت، وفسَّرت جوهرة ما فعلته زهوة الابنة على أنها سعيدة لكونها ابنة أكثر من سعادتها لكونها أماً، أما قحطان فقال: (إنها خجلة من ماضيها). ولو كان أكثر جرأة لقال: بل هي تكرهني وتكره جوهرة ولا تحب القصر الذي يذكرها بما عانته في الجيل السابق مع قحطان وصمته وجشعه.
لم تعر هاجر التفسيرين أدنى اهتمام، بل طلبت إرسال نضال إلى بيتها، ولم تكن الموافقة على تكرار خروج الصغير أمراً سهلاً، فثمة خوف مشروع عليه، ليس لأنه وحيد بل لأن أمه زهوة ابنة الآغا أحمد العباس ووالده قحطان ابن الشيخ الجليل صالح معروف، لأنه الاستمرار في الآغوية والمشيخة، أو لأقل أنه ثمرتهما، وهكذا كما أسلفت، كان بيت هاجر قدر نضال، يأتي إليه صباحاً ويتركه مساءً، وقد يظل فيه لأيام دون أن يسأل عن جوهرة وقحطان.
بعد عامين، وكان نضال في الثامنة، يحفظ جزء عم، وزهوة في السادسة تردد ما تسمعه من نضال، لم يكن مطلوباً منها حفظ شيء، فقحطان يعلم صبية مجدلون قراءة القرآن وأحكام التجويد والصلاة، والبنات يتعلمن قطع الحطب وجمع روث الحيوانات اليابس، والكبيرات قليلاً يحملن الماء من ينابيع التلة الباكية إلى البيوت،
هاجر رفضت أن توجه ابنتها لأعمال كهذه، ابنتها كانت في جيل سابق ابنة آغا، وزوجة رجل مجدلون، والآن ابنة صانعة سلال قلَّ نظيرها. في تلك الأثناء أتى إلى مجدلون أستاذ مسيحي، قال قحطان إنه فرنسي تعلم العربية وقرأ القرآن، هذا الأستاذ كان وسيماً، يمشط شعره الكستنائي إلى الوراء، يرتدي ثياباً أنيقة، عيناه ملونتان، ربما كانتا زرقاوين، فقحطان كان يردد دائماً: (أي خير تحمله تلك العينان، لكنهما والحق يقال، كانتا تدلان على طيبة قلب هذا الأستاذ، فهو كلما رأى طفلاً، يقف معه، يسلم عليه، يقول لـه: حسن أيها الصغير هلا أتيت إلى غرفتي؟)
ويكون الجواب هروب الصغير، لأن والده حذره من الغريب الذي يستدرجه ليعلمه لغة غريبة، لغة لا يقرأ بها القرآن، لغة ستبعدهم عن الله والأولياء، لغة ستجعلهم لا يفهمون ما يقول آباؤهم.
وسرت في مجدلون شائعة تتحدث عن قرب تحقق نبوءة جد مجدلون الأكبر. النبوءة تقول: (مجدلون لن تبقى كما هي، سيحكمها ابن حكومة ظالم، يسطو على أرضها، يستبيح نساءها، يجوِّع أطفالها، يقتل رجالها، يقطع أشجار غابتها، يدك واديها بتلتها، ويختفي السفح).
في الحقيقة، لم يسمع أحد بهذه النبوءة إلا بعد قدوم الأستاذ، وهذا طبيعي، فثمة أشياء لا يجوز أن يطلع عليها العوام، لكن الخوف أطلقها من الكتب الصفراء حكايات تعمر ليالي مجدلون الساكنة،
لا أدري إن كان خبر النبوءة وصل إلى مسامع الأستاذ، فما بدر منه يدل على أنه غير معني بما تتحدث به مجدلون، أيامه متشابهة، صباحاً يمارس التمارين الرياضية، ثم يخرج من مجدلون ويعود عصراً يتمشى بجانب التلة، وفي الليل يغلق على نفسه باب غرفته، وقال جيرانه: هذا غريب لا ينام أبداً.
وصل الخبر إلى قحطان، فبثَّ عيوناً تنقل إليه ما يجري في الغرفة المضاءة، ورأت العيون الغريب جالساً وأمامه كأس من سائل أبيض، قالوا إنه عرق، وبيديه كتب يقلب أوراقها، وسمعوا صوت موسيقى تنبعث من آلة يضعها بجانبه، تارة يرفع الصوت وتارة يخفضه، وأحياناً يختفي الصوت، يحدث هذا حين تقتحم غرفته أصوات غريبة، يصيخ السمع، يقفل الغرامفون ويقف وراء النافذة يفتحها وينظر عبرها إلى المارين، ثم يعود صوت الموسيقى ينبعث من الغرامفون، يتسلل من الغرفة ناعماً هادئاً، يخيل إلى من يستمع إليه أنه صوت الأنسام التي تدور في الغابة والسفح، قالت هاجر: كلا بل هو يشبه صوت رقرقة ينابيع التلة وصهيل النهر في ليالي الربيع.
بعد أقل من أسبوع سمعت هاجر نضال يقول لزهوة: (الأستاذ يسقينا حليب)، فسألته زهوة إن كان يربي ماعزاً أو أغناماً، أجابها نضال: الحليب الذي نشربه يحلبه من العلب. سألته زهوة: وما طعمه؟ وقبل أن يجيبها قررت أن ترافقه مساءً إلى غرفة الأستاذ، شرد نضال وقال: هو يسقي الذين يأتون إليه كل يوم. ثم وعدها بأن يغافله ويعطيها حصته.
طبعاً، لم تخبر هاجر قحطان بما دار بين الصغيرين، فهي ظنت أن جوهرة ترسل نضال خفية عنه، وحين يعلم سيعاقبها، هو يبحث عن سبب ليعاقبها به.
عند المساء كانت زهوة تنتظر نضال، بثوبها الأبيض تنتظره، بحذائها الأحمر الذي أحضره أبو سلال، بشريطتها البيضاء، حين وصل سارا معاً، لحقت بهما هاجر، كم تمنت في تلك الليلة أن تتحول إلى يراعة تضيء لهما الطريق التي تصل منزلها بغرفة الغريب، حين وصلا، طرق نضال غرفة الغريب، وعادت هاجر إلى بيتها تتبوأ عرشاً ضفرت كرسيه بيديها، عادت تسترجع منظر نضال بقميصه الطويل وسرواله القصير، وزهوة، زهوة أتراها تذكر شيئاً من حياة زهوة الأم؟، تذكرت خوف زهوة حين وصلتا إلى أول الطلعة، إلى المكان الذي يرى منه قصر قحطان، تذكرت تعليق جوهرة وقحطان على رفض صغيرتها السير باتجاه القصر، همست: جوهرة طيبة وقالت ما تعتقده، أما قحطان! يا للثعلب الماكر! كيف تجرَّأ على طعن طفلة بماضٍ ليست مسؤولة عنه بشيء، لو أنه ظلَّ صامتاً.
عادت هاجر إلى عرشها وما خطر في بالها أن المسافة التي عبرتها مع الصغيرين ستعبرها كل يوم تقريبا على مدار ستة أعوام، أشياء كثيرة دارت في رأس هاجر، تساؤلات كثيرة لم تستطع إيجاد أجوبة شافية لها ،أيقظها من شرودها خيال صغير عرفت به خيال زهوة. نظرت إليه فرأت شاربا أبيض يغطي شفتها، وقفت أمامها، حدثتها عن أستاذ يريدها أن تأتي كل يوم مع نضال، وإذا كانت مريضة، فسيرسل لها كوب الحليب مع نضال، كم ثرثرت زهوة في تلك الليلة، حدثت أمها عن حليب يشبه تراب التلة الباكية، حدثتها عن غريب يحب الصغار ويداعبهم، وإن أخطؤوا يعاقبهم ولم تنس أن تخبرها بأن ما يعلمه الأستاذ حسان لا يشبه ما يعلمه قحطان لنضال ومنذر وعلي...
تمنت هاجر لو لم تسمع العبارة الأخيرة، ماذا تراه يقول حين يسمع ما يثرثر به هؤلاء الصبية؟ هل سيمنعهم؟ الأشقياء، هاجر نسيت هذه العبارة فجواب زهوة عن سؤال أين جلست؟ أجابتها على الأرض. هذا الجواب جعلها تبدأ في صنع كراس صغيرة من القش والخشب.
بعد شهرين دخل المنزل الصغير خمسة وعشرون طفلا ليخرجوا وعلى رؤوسهم خمسة وعشرون كرسيا، وهاجر واقفة تنظر إلى التيجان التي صنعتها ولأجلها سجنت نفسها بين عيدان الخشب والقش، ورأتها زهوة تبكي وتقول بفرح:إنها المرة الأولى التي أقوم بها بعمل مفيد. ثم رفعت أصابعها إلى فمها تقبلها وتخاطبها قائلة:
(دعيني أسميك الأصابع الخالدة).
هذه البادرة المختلفة أخرجت قحطان عن صمته ودفعته لزيارة هاجر، وحين فتحت لـه الباب رأته أمامها يحذرها من مغبة الانجراف وراء النوايا النبيلة. النوايا النبيلة ليست دائما ذات نتائج طيبة، ماذا لو تساوى أولاد مجدلون بحفيد الآغا وسليل شيخ مجدلون الأكبر؟ أمر آخر كان يقلق قحطان، أمر يتعلق بزهوة، فابنة السادسة ستكبر وستصبح شابة تقرأ وتكتب، وستكون زوجاً لنضال، وهذا يسيء إلى مكانة الأخير فثمة أشياء لا يجوز تسليم مفاتيحها للمرأة، وذكرته هاجر بأن معرفة زهوة الزوجة للقراءة والكتابة برأته من تهمة كانت ستلصق به لولا أنها كتبت (قحطان بريء من دمي كما الذئب بريء من دم يوسف). فجأة وجد قحطان نفسه يقع في مأزق، ماذا يقول؟ كيف يقنعها؟ هل يخبرها أن زهوة الزوجة لا تعرف حتى أن تمسك القلم، ما دليله أنها أملت عليه هذه العبارة؟ ومن أين سمعت بالذئب ويوسف؟ هذه الأسئلة ظلت رهينة الرأس الذي أحبته هاجر، ولكي يخرج نفسه من دوامة الأسئلة حدثها عن ألم أنجب ألما فصار يتألم مرتين لأجل زهوة، مرة لأنها دفعت ثمن أحلامها موتا مبكرا ومرة أخرى ستدفعها زهوة الابنة ثمن تجاوزها عرف مجدلون، حيث قال(زهوة ستكون كطائر يحلم بالطيران وتخونه جناحاه)، هذه العبارة كررها قحطان كثيراً، لكن تكرارها لم يغير من رأي هاجر التي ظلت على رفضها غير المعلن لفكرته، هذا الرفض المبطن شجعه لتذكيرها بما فعلته لزهوة الصديقة: ( تذكري زهوة صديقتك، تذكري ما فعلت بها، لا تكوني السبب في هلاكها لجيلين متتاليين. لا تدعي طموحاتك تعلق زهوة بين الأرض والسماء)، ثم ذكرها برغبة زهوة الصديقة في تعلم صناعة الأطباق والسلال والمزهريات وسألها إن كانت نسيت وعودها، وكأن قحطان نسي بأن الرغبات تتغير بمرور الأيام وتختلف باختلاف الظروف، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بجيلين؟ لو كانت الرغبات لا تتبدل والأمنيات تظل تراوح مكانها لما وافق على إرسال نضال إلى منزل الأستاذ الغريب ولا حذت هاجر حذوه.
أدرك قحطان استحالة إقناع هاجر بما يراه مناسبا لزهوة، حتى ذلك الإحساس المحدث بالمسؤولية تجاه من كانت زوجه لم تعره هاجر أدنى اهتمام إذ قالت: ( إنها ابنة هذا الزمان، ولو كانت أكثر جرأة لذكَّرته بتجاهله لها يوم ضجت مجدلون بحادثة تقمص لا شك فيها (هاجر أنجبت زهوة زوجة قحطان المقتولة).
وتأكيد أحمد بأن زهوة المقتولة أصبحت ابنته لم تحثَّ قحطان على التخلي عن شبر أرض من المساحات الشاسعة التي سطا عليها، ولا حتى عن شجرة زيتون كما قال أحمد. على عكس الآغا الذي دخل بعد أسبوع إلى بيت هاجر يتفحص وجه الصغيرة ورأسها، ويعلن أنه في حال تذكرته وعرفت اسمه وذكرت اسم أمها فإنه سيمنحها أرض عين الدلب، وهي أرض مهجورة اعتادت مجدلون أن ترمي بها أوساخها، وكذلك الريح تلقي بحملها بين أشواكها وأشجارها الحراجية، وحين سمع الآغا ردَّ طفلة الخامسة أعلن أمام أحمد وهاجر بأن الأرض لطفلتهما التي كانت ابنته وزوجة لقحطان، وعلى الفور بدأ أحمد باستصلاح الأرض، فمر على بيوت مجدلون يحذر ساكنيها من رمي الأوساخ، وطالب الجميع بتغيير مجرى مجاريرهم بعيداً عن المستنقع، لأنه ينوي تسويتها وغرسها بأشجار الكرز، وأعلن أنه يبحث عن طريقة لتغيير اتجاه الريح، وقبل أن يجد الطريقة برز قحطان ليقول: بأن الأرض لـه ولنضال من بعده.
كان صوت الآغا ما يزال مسموعاً، فقال بما يشبه الهمس: كلا، الأرض لي وهي الآن لزهوة ابنة أحمد، ارتفع صوت قحطان يحمل نبرة التحدي، هذه النبرة أخافت أحمد وجعلت الآغا أكثر هدوءاً وأشد تواضعاً، إذ قال في سره: ولى الشباب وذهب زمن الآغوات.
استعان الآغا برجال وصفهم بحكماء مجدلون، اجتمع الحكماء وحاولوا إقناع قحطان بالتخلي عن أرض عين الدلب، فالأرض للآغا، والآغا حر بما يملك، حيث قرر أن يتنازل عنها لزهوة الطفلة التي تذكرته وذكرت اسمه
واسم زوجه.
سخر قحطان من حكماء يأخذون برأي رجل خرفٍ، وطفلة لا تملك إلا أن تردد ما تسمعه من أحمد وهاجر، أقسم الآغا برأس والده أن أرض عين الدلب هي الأرض الوحيدة التي بقيت لـه، وقحطان وضع يده على جدار غطته أوساخ مجدلون، وحلف به على اعتبار أنه قبر الجد الأكبر لمجدلون، الآغا يقول: إن المستنقع حفرته مجارير مجدلون، والجدار هو بقايا لغرفة أشرف على بنائها بنفسه، وقحطان يحلف أن نبعاً مصدره قبر الجد هو الذي حفر البحيرة الصغيرة، الآغا يؤكد أن الرائحة الكريهة التي تملأ المكان هي لطيور وحيوانات نافقة جرت من مجدلون والقرى المجاورة، وقحطان يقول إن الرائحة ناتجة عن دماء الأضحيات وأمعائها، ثم قفز إلى المستنقع فاغتسل بمائه وشرب منه، ثم قال مخاطباً الآغا: إذا كانت الأرض أرضك فاشرب منها واغتسل، إن فعلت فأنا أحلف بقبة جد مجدلون الأكبر أنها لك.
وقف الحكماء ومعهم أحمد ينتظرون أن يفعل الآغا ما فعله قحطان، انتظروا أن يرمي معطفه الطويل، وينزع القبعة عن رأسه، ويقف إلى جانب قحطان يغتسل ويشرب من المياه التي وصفها قحطان بأن لونها وطعمها كالعسل، وقف الجميع لحظات صامتة ينتظرون، مراقبين أية حركة يقوم بها الآغا، ورأوه يترك المكان دون أن يقول كلمة واحدة مولياً ظهره للجميع رافضاً أن يحذو حذو قحطان الذي خرج من الحفرة وقد تلوثت يداه وساقاه بالطين والأوساخ، وقبل أن يبتعد أكد أحمد قول قحطان (الآغا خرّف).
في اليوم ذاته أرسل الآغا سند التمليك لقحطان وانسحب من حياة مجدلون، شاخ بسرعة، صار يمشي على طرقات مجدلون وهو يرتدي ثوباً نسائياً قصيراً وجزمة سوداء طويلة، ويؤكد لكل من يراه أنه أخطأ بحق سلالة جد مجدلون الأكبر، وأن ميتته ستكون عبرة لكل من يؤذي ذريته، ثم يحدثهم عن تحقق نبوءة جده عباس العباس، والنبوءة تقول: هلاك آل العباس سيكون على يد حفيدي أحمد العباس.
ظل الآغا يؤكد تحقق النبوءة حتى اختفى.
بعضهم قال: ابتلعته المغارة، وآخرون قالوا: كان يجلس على كتلة ثلج، ثم تدحرجت الكتلة باتجاه النهر.
بعد هذه الحادثة لقب قحطان بالثعلب، هذا اللقب أطلقه حكماء مجدلون، وانبرى أحمد يدافع عنه لأنه وهاجر متفقان على أن كل شيء سيعود لزهوة الابنة ولأولادها هذا الموقف كان أمام مجدلون، وحين أتاها محذراً من تواطئها مع الغريب، ذكرته بفعلته هذه قائلة: ما الذي فعلته لك زهوة حتى تلاحقها في هذا الجيل، حرام عليك، والله حرام، تسطو على أرضها لجيلين متتاليين، ألا تخاف الله؟.
وحذرها قحطان من الطمع، حذرها من جشع الأغوات، حذرها من الانصياع لخرف العجائز، الطمع ليس من صفاتها، والجشع من طبع الأغوات، ولو استسلم للآغا لوصل به الأمر للمطالبة بما منحه لصالح معروف والد قحطان.
حين أطلقت هاجر عتابها، كانت واثقة من انتصار قحطان عليها، تركته يتحدث بما يريد، وقررت تنفيذ ما تريد، سمعته يقول: أنتِ ما زلتِ عاجزة عن ربط النتائج بالأسباب، الأسباب يرقات والنتائج فراشات، وأحياناً تصبح غرباناً، ما أسوأ أن يحدث هذا مع زهوة.
إن كان هذا ما يقلق قحطان، فإن هاجر كانت واثقة من أن يرقتها ستكون فراشة زاهية الألوان، ولم تجدِ تحذيراته من مستقبل قاتم ينتظر زهوة، وذكّرها بأن الحياة ليست أطباقاً ومزهريات وسلالاً وفراشات تتطاير أمامها، وهي تقطع عيدان القصب والآس، وتجمع سنابل القمح، هناك أشياء أخرى (لا بد رأيتِ أفاعي ولمحتِ غرباناً. وثمة وحوش قابعة بين الأدغال، أما سمعتِ صوت أنفاسها الكريهة ورأيتِ عظام حملان وريش طيور؟).
تساءل قحطان إن كان فيما يقول شيء من المبالغة، وأضاف (أنتِ لم تخبري الحياة إلا في لحظة إشراق، تخرجين كل فجر، أعرفكِ يا هاجر، أراقبكِ وأنتِ تنزلقين على السفح مرتاحة البال، توزعين ابتسامتكِ على كل ما حولكِ، فأرى التلة في عينيكِ تضحك حد البكاء، وأرى الأشجار تتراقص حد النشوة، وأسمع النهر يقهقه حد الصهيل والسفح، السفح أراه يهتزُّ طرباً، وأصابُ بهذيانِ الفرح حين أراكِ عائدة بحمل تفوح منه رائحة الآس والقصب، فأتساءل: أية أطباقٍ وسلالٍ ستخرج من أصابع هاجر؟ وأية مزهريات؟).
كان قحطان يملك قدرة هائلة على صياغة مفردات الفرح، لكن تأثير مفرداته كان يتلاشى حين ترى ابنتها، فراشتها تطير أمامها، فتقول: ليقل سيد مجدلون ما يريد، فزهوة فراشتي ولن تكون مفردات قحطان قضباناً تسجن داخلها، هذا لا يعني سلاماً نفسياً دائما لهاجر، فثمة لحظات تكون فيها مع نفسها، في تلك اللحظات تستعيد مفردات قحطان، وتتوقف عند بعضها:
(لا تصنعي نعيماً لطفلة، حين تكبر يحرقها جحيمه)، أو قوله (هناك قبل أن يثغر الفجر حياة مختلفة، قد تنقض وحوشها على زهوة، وتنشب مخالبها في جسدها الغض)، وهكذا غدت حياة هاجر لا توسط فيها ولا سكون، إما الحلم باعتلاء الذروة أو الخوف من السقوط في القاع، وفي سعيها باتجاه الذروة ترى أيادي بدون وجوه تدفعها إلى الأسفل، وحين ترى عتمة القاع تتمسك بأخيلة ترسمها عيناها المتعبتان، تتشبث بالأخيلة وتتهيأ لصعود آخر، تردد بينها وبين نفسها (أحسن، أنا لست في عجلة من أمري ). تنظر إلى أعلى تتنفس بعمق، تزحف زحفتين وتعود الأيادي التي لا وجوه لأصحابها تدفعها بلا رحمة، تنزاح قليلاً، وأحياناً كثيراً، تنظر حولها، تهتف في سرها ( حسن، هذا ليس سيئاً جداً، أنا لم أعد إلى المكان السابق، أعلى بقليل هذا أفضل من السكون،).
أحياناً يخاتلها المكان، خاصة حين تخترق الظلال أشعة الشمس القوية، تردد (يجب أن لا نصدق أولئك الذين يقولون إن ما نريده ليس مهماً، بقدر ما يريده الآخرون، ومن الضعف تصديق أولئك الذين يتحدثون عن حدود ممنوع تجاوزها إلا إذا رفعتك أيادٍ)، ثمة قناعة راسخة في رؤوس الكثيرين تقول: أن الإنسان وقبل أن يولد يختار قدره، وبعد أن يولد يقوده الله إليه، والوصول لا يعني الأمان، فثمة طرق زلقة إن لم يثبت عابرها قدميه يتزحلق، وقد لا يستطيع الوصول إليها مرة أخرى، وطرق أخرى مليئة بالحفر، والحذر واجب لمتابعة السير وإلا فالحفرة تقبض على فريستها وتستنزفها حتى يدركها التلاشي، والنوع الثالث هو الطريق العام، هذه الطريق تستهلك عابريها، تستنزفهم طاقاتهم، يتعثرون كثيراً، يقعون، يلهثون، يشغلون أنفسهم بمواجهات تدميهم وتلهيهم، قلة من أولئك العابرين يصلون إلى هدفهم، وهاجر كانت ستصل لولا تلك الأيادي، وسؤال ظل يعذبها حتى رحيلها: ما مصير فراشتي؟.
ـــ6 ـــ
إن حدثت، فهي نادرة، زهوة لا تشبه جوهرة بشيء، فالأولى ليست بالطويلة ولا بالقصيرة، ممتلئة بلا سمنة، نحيلة في الأماكن الجميل نحولها، شعرها أسود طويل عيناها سوداوان، لم تكن بيضاء لكنها ليست سمراء، قالوا: إنها تشبه أمها صفيّة زوجة الآغا أحمد العباس، وعلى كاهلها يقع إحياء ذكر أحمد العباس، هذا الأمل كان مثار سخرية، المرأة تحيي نسب زوجها، إنها إناؤه يستعمله لإنجاب الذكور والإناث، لكن زهوة أنجبت ذكراً واحداً، وماتت أو قتلت، لا فرق، قبل أن تموت كانت تحلم بأشياء تعرف هاجر بعضها، وما احتفظت به لنفسها كان مخيفاً، في ذلك القصر الحجري عاشت زهوة، لا أحد يعرف عنها شيئاً، إلا أنها الابنة المدللة للآغا المنكوب بوفاة زوجته وسفر ولديه، أما تلك التفاصيل المتعلقة بعلاقتها بفارس فلا أحد يعرفها، لا أحد يعرف أنه الرجل الذي أحبته وهربت معه ثلاث مرات، وثلاث مرات أعيدت قسراً إلى قصر والدها، لا أحد سمع بمحاولة انتحارها أكثر من مرة، ولا أحد سرَّب أخباراً حول علاقتها بفارس.
بعد أن خرجت من القصر الحجري المغلق إلى قصر قحطان المفتوح بدت للآخرين امرأة صغيرة طيبة كريمة، أول رجل عرفته في مجدلون كان قحطان، وأول امرأة خرجت معها وحدثتها عن أحلامها كانت هاجر.
لم تكن زهوة ابنة الآغا زوج قحطان في جيل سابق، لكنه قال عن زواجه بها إنه المكافأة على أعمال خيرة، يقبض ثمنها زواجا ما كان ليحلم به، فهي عدا أنها جميلة والابنة الوحيدة لآغا مجدلون، فإن أملاك والدها كانت تضم أكثر من نصف أراضي مجدلون، حين ماتت أسرَّ قحطان لأحمد بأنه كان يعرف بأن زواجه بها لن يستمر لأكثر من ثلاث سنوات، واستغربت هاجر احتفاظه بالسر إلى ما بعد مقتل صديقتها
لا شيء آخر تعرفه مجدلون، فجدران القصر الحجري كانت تمنع تسرب الآهات وتحجب عن العابرين خبايا القصر.
وزهوة الطفلة كانت هاجر حاميتها، وعدا قحطان فهي كانت محبوبة من الجميع، ثمة شخص آخر كان ينافس نضال في حبه لزهوة، إنه يونس النحات، أغرم يونس بأحجار والده البيضاء والسوداء، وصنع منها جروناً ورحى، وحين أحب زهوة حوّل الأحجار البيضاء والسوداء إلى منحوتات من رجال ونساء، استهجن المتزمتون سلوك يونس ووصفوه بالفاسق، وقالوا عن منحوتاته إنها الشياطين التي هربت من منحته وصارت تلاحق سكان مجدلون، وتقض مضجعهم.
متى تحوَّلت تلك المنحوتات الجامدة إلى مخلوقات ظلامية؟ الجميع يؤكد أن تحولها هذا كان بعد عودة قحطان من حماة، ومن ثم كان اختفاؤها أو هروبها، كما قال، وقد علل رجل مجدلون ما حدث بأن المنحوتات هي نذير شؤم على مجدلون، ويونس ما هو إلا شيطان سوَّلَت لـه نفسه محاكاة الخالق، وكان الأجدى بسكان مجدلون تحطيمها وطرده، قبل أن تستغل ظلمة ليالي الشتاء الطويلة وتهرب فيها إلى المغارة، تقضي النهار في ظلمتها، تأكل طحالبها، تغتسل بعفنها، وحين يحل الظلام تخرج لتتجول حول البيوت، تفتح آذانها، تسترق السمع إلى ما يجري من أحاديث، تسترق النظر من خلال النوافذ، تراقب ما يجري، ثم تخطف، تقتل، تشوه، وقلة هم أولئك الذين ينجون منها، ولكي لا يتورط أحد بذكرهم، فيقاد إلى المغارة، يردد الجميع (صه، للجدران آذان،) أو يضعون يدهم على أفواههم ويشيرون إلى الجدران، يرسلون إيماءاتهم تلك، لكن بعد أن يطفئوا الأنوار.
حين أعلن يونس أن خوفهم لا مبرر لـه لأن تماثيله سرقت، صدقه بعضهم، وبعضهم سخر منه، ووصفوه بالفاسق المجنون، وطردوه بعد أن أوسعوه ضرباً وإهانة، وأقسموا بتربة جدهم الأكبر أنه يستحق، فمخلوقاته الشريرة أبكمتهم وأصمتتهم، وهي سبب شقائهم وعبوديتهم، ومصدر رعبهم.
أما كيف تحولت المنحوتات من هياكل جامدة إلى مخلوقات ظلامية تفتك بمجدلون فلذلك قصة تروى على الشكل التالي: (احتضنت هاجر نضال ابن صديقتها زهوة ابناً وصهراً، وكبر الاثنان في حضنها، شربا من ماء نبعها، أكلا من خبز يديها، تعطرت ثيابهما بعطر صابونها، اغتسل في بيتها، نام على فراشه الذي صنعته هاجر لأجله، وكبرت زهوة وكبر نضال، هو في السابعة عشرة، وهي في الخامسة عشرة، لم يفكر أحد بطلب يدها، ولم يجرؤ أحد على مراودتها عن نفسها، العيون تنظر والأفواه تتحدث عن جمالها وهدوئها، لا أحد يجرؤ على التغزل بها، إنها خطيبة نضال معروف، يونس كان يراقبها دون أن يجرؤ على البوح، زلة لسان وصفت كلمة أمه لهاجر: (أنت وحيدة، ما رأيك بيونس ابناً؟)، رفعت هاجر رأسها وسألتها إن كانت لا تعرف أن زهوة خطيبة نضال، واحتفظت عليا بما ظنته سيحدث، فهذه السلالة كما عرفتها لا يثمر معها معروف، فهل يختلف الأمر مع ابن زهوة العباس؟ سكتت عليا وظل يونس يراقب البيت الصغير، ويتساءل: متى سيتزوج نضال معروف من حبيبته زهوة صالح؟ هذا السؤال لا يشغل أحداً في مجدلون، فالأمر إن لم يتم غداً فهو بعد غدٍ، أو بعد أن يتم نضال دراسته ويعود إلى مجدلون، يعلم في مدرستها الصغيرة، وحتى ذلك الوقت هو زائر لقصر قحطان ومقيم في بيت هاجر، وحين يعود إلى حماة تدور الهمسات: يا لجمالها ! كم تشبه زهوة أم نضال، يا الله ما كنا لنصدق أنها هي لولا الشبه الكبير بينهما، زهوة الأم وزهوة الابنة، كنا نظن أن أحمد وهاجر أطلقا الشائعات لأجل أن يورثها الآغا قصره وأرض عين الدلب، ويعيد إليها قحطان حصتها من أرض السفح، ثم يقولون إنها مدللة لجيلين، ترى كم من الأعمال الخيرة قدمتها هذه الفتاة؟ ابنة آغا وزوجة رجل مجدلون في جيل سابق، والآن، الآن ستكون زوجة سليل الآغوية والمشيخة، وسيعود لها كل شيء، كل شيء سيكون لها ولأولادها.
فساتينها يأتي بقماشها أبو سلال، وتخيطها لها خديجة،؟ حين حاولت الفتيات تقليدها قالت خديجة: ما يناسب جسد زهوة لن يناسب جسداً آخر، وبذلك لم تبلغ الفتيات مبلغها من الفتنة والجمال.
ما تردده مجدلون حول زهوة لم يكن يشغل بال هاجر، فهي لا تفتأ تردد: (لن يهدأ بالي حتى أجد طريقة يقبل بها أحمد بإرسال زهوة لتكمل تعليمها).
كان حلم هاجر مستحيلاً، فالأحلام كالبشر، لكل طاقته، وهي لا طاقة لها ولا جرأة على إرسال ابنتها كنضال إلى المدينة رغم ما كانت تتمتع به من ذكاء جعلها تتفوق على رفاقها الذكور، لكن ما الفائدة؟ ! فها هي زهوة معلقة بين الأرض والسماء، وها هو قحطان يطرق باب هاجر ليعيدها كما قال امرأة أرضية، قراره هذا اتخذه بعد أن رآها تدخل قصره مع نضال.
حين دخلت تمسك بيد نضال قال إنه لم يصدق ما رأى، زهوة عادت إلى الحياة، زهوة لم تقتل في فضاء الغابة، زهوة لم تمر عليها السنون، ثوبها الأحمر ! قال إنه الثوب نفسه الذي كانت تحب أن ترتديه، وقال: بعد ذلك بحثت عنه ولم أجده.
حين سمع صوتها كاد يغمى عليه، وانقلب الشك إلى يقين.
في ذلك اليوم اكتشفت جوهرة وجهاً آخر لقحطان، وجهاً ما كانت تعتقد بوجوده في شخصية قحطان.
في حياتها معه تعلمت حرصاً من نوع آخر: ما يدخل إلى قصر قحطان واجب على الآخرين تقديمه وما يخرج منه لأجل أهداف مدروسة. الأمر مختلف مع الضيفة المرافقة لنضال، ابنة صانعة السلال تُكرَّم في قصر قحطان، إنه طقس ما اعتادت عليه جوهرة، وأوامر قحطان بما يخصها لم تسمعها إلا لأجل ضيوف من خارج مجدلون
ضيوف تعرفهم، ونصائح قحطان بشأنهم تعرفها، أما زهوة الضيفة الجديدة، الطفلة التي رفضت دائماً الدخول إلى قصر قحطان فهذا لم يكن ليخطر في بالها، وحدها زهوة، دون مجدلون، تذبح لأجلها دجاجة وديك رومي، وحدها جوهرة تخدمها وتجلس معها، وركضت جوهرة تنفذ أوامر سيد مجدلون، ولم لا؟ بعد عام أو أكثر ستكون زهوة زوجة لنضال وستقاسمها القصر، لا يخفى عليها أنها ستخسر سيادتها المطلقة، قحطان سيظل رجل مجدلون، وسيكون نضال الوجه الآخر لوالده، واعتقدت أنه سيصبح أستاذ مدرسة مجدلون، وحلمت بالأولاد يحملون إليها البيض والدجاج والخبز، والأمهات سيأتين لخدمتها مع زهوة، أما الرجال فأولئك حصة قحطان ونضال، وتذكرت جوهرة حواكيرها وأرض السفح، وأسفت لأنها لم تعد تعرف عنها شيئاً.
كانت جوهرة تعد الطعام وتحلم، تحلم ببيع ما يأتيها في الخفاء، تحلم باستعادة حصتها من أرض السفح، تحلم باستعادة حواكيرها، تحلم بأن تعود ابنة الآغا فتستعيد عمالها، تلاحقهم، تراقبهم، تأمرهم.
بعد ما يقارب الساعة كانت المائدة المخصصة لضيوف قحطان الكبار ملأى بأطايب الطعام، ديك رومي ودجاجة بلدية، وهذه المرة كانت الأولى التي يشهد فيها نضال بذخاً كهذا البذخ، وفسره على أنه تكريم لزهوة في زيارتها الأولى لقصر ستغدو عما قريب سيدته، بيد أن هاجر وحدها عرفت فيما بعد سر هذا الاهتمام والكرم، عرفت بعد أن عاد نضال إلى المدينة، وكان حينها في السابعة عشرة من عمره، وقحطان في الثامنة والثلاثين، رجل طويل بعينين خضراوين، دخل على هاجر بقمبازه الأبيض وعمامته السوداء، كان أنيقاً ونظيفاً كما عرفته، ومبالغاً في زينته حداً أثار فضولها سألها عن زهوة فأخبرته أنها عند خديجة، همهم وعاد يسأل عن أحمد، فأسرت في نفسها أن الأوان قد حان ليتزوج ولداهما، نضال وزهوة، سألته عن جوهرة، فامتعض ونوه إلى أن الأمر لا يحتاج إلى أحمد ولا إلى جوهرة، فالقضية تتعلق بإعادة زهوة إلى القصر، فهو لم يعد قادراً على الانتظار، ولا يرى من داعٍ للتأجيل، فزهوة بلغت مبلغ النساء، هو لاحظ ذلك، راقبها جيداً في زيارتها الوحيدة رأى صدرها، ردفها، خصرها، فهو يعرف أنها أصبحت جاهزة لإنجاب الذكور، وغمز من قناة جوهرة حين قال أن صبره الطويل عليها لم يثمر رغم شفاعة جد مجدلون حيث توسَّل إليه لكي يرزقه ذريَّة صالحة منها، لكن بلا جدوى، إنها عاقر وعقمها من النوع الذي لا تفيد معه الشفاعة ولا التوسلات ولا الأضحيات، ثم تحدث عن حلم رأى به جده واقفاً عند رأسه، وسمعه يقول: لا تحزن يا قحطان، لقد آن الأوان، أعد زهوة إلى قصرك نقية طاهرة، زهوة ستملأ لك القصر ذكوراً أنقياء صالحين، ثم ذكَّر هاجر بكفاحه الطويل الذي أثمر عن امتلاك عشرة هكتارات من الأراضي الخصبة، وألمح أن هذه الهكتارات ستعود لزهوة ولأولادها جميعاً، وطمأن هاجر بأن كل شيء سيعود كما كان، أملاك الآغا تعود لزهوة، وزهوة تعود زوجة، كما كانت قبل أن تقتل، رغم نسبها المتواضع
ابنة صانعة سلال ورجل يتاجر بالحمير: (فكري جيداً يا هاجر، ابنة صانعة السلال ستصبح سيدة قصري وحاملة ذريتي، هل كنتِ تحلمين بذلك؟ ويجب ألا تنسي أني سيد مجدلون، وجدي بالقبة قدس الله سره)، ثم حذرها من تجاهل أمور أخرى، مثل أنها، أي هاجر، ستصبح جدة لأولاده، وأنه باستعادة زهوة إلى قصره كزوجة يكون قد برأ ساحتها من شائعات أحاطت بحياتها السابقة، ثم ألمح أنه يعرف ما كان يحدث عند النهر وفي المغارة.
تركت هاجر سيد مجدلون يتحدث بما يريد، في البداية كانت متأكدة أن الأمر يتعلق بنضال وزهوة، وحين تحدث عن استعادة زوجة إلى القصر وحلم سيصبح حقيقة شاءت ذلك أم اعترضت عليه، لم تصدق ما تسمع. أكثر من مرة ركزت لتتأكد مما يرمي إليه قحطان وتأكدت من أنه يريد أن يستعيدها كما استعاد جوهرة، لكن لا حواكير عندها ولا أراضيٍ، ما هي إلا ابنة صانعة سلال تشتري بنقودها أقمشة وأحذية، هو يقول بأنه آن الأوان لاستعادة زوجته التي قتلت وولدت وبلغت مبلغ النساء، ما الذي يريده سيد مجدلون؟ زوجة في جيل سابق وزوجة من جيله، وزوجة من جيل لاحق؟ هل يريد أن يمتلك كل الأزمنة؟.
كانت هاجر على خطأ حين أخبرت جوهرة بأن امرأة أخرى تعني حواكير وأراضي جديدة، كانت هاجر على خطأ حين ظنت أن قحطان جشع، والذي يؤكد خطأها رغبته بل وإصراره على استعادة زوجة لا تملك شيئاً، وحذر هاجر من مغبة التفكير بتزويج زهوة لنضال، وتساءل إن كانت نسيت أن زهوة أمه، فهل يجوز بمجرد الانتقال من جيل إلى آخر أن تصبح الأم زوجة؟ كيف حدث هذا؟ كيف توطدت علاقة زهوة بنضال؟ كيف سمحت هاجر بكل ما حدث بين الشابين؟ قحطان يحلل ويحرم، فها هو يذكر هاجر بما كانت نسيته، إنه رجل مجدلون الشهم أتى يستعيد زهوة زوجه إلى القصر، دون أن يفكر بجوهرة، الرجل الحقيقي لا يستمع إلى ترهات النساء (كما حفظت عهدي مع جوهرة سأستعيد زهوة زوجاً، حتى لو ماتت مرة أخرى سأبحث عنها وأستعيدها، أستعيدها زوجة، أنا رجل مجبول بالوفاء.
أطلقت هاجر آهة ارتعشت منها أغصان السنديان المتجمدة، وهزت حشرجتها قطرات النبع الباردة، ثم حمدت الله أن أحداً لم يسمع ما قاله قحطان، في تلك الأيام لم يكن للجدران آذان، فتماثيل يونس كانت ما تزال منحوتات صامتة، وهذا ما شجعها لأن تقول: قحطان خرف.
لم يكن تفاؤل هاجر في مكانه، فآهتها نفخت التماثيل، وقولها طرق أذن عليا، ولأن الريح تنشر ما يعترض جنونها فقد انتشر الخبر في مجدلون، لكن ما حدث بعد ذلك جعلهم يحقدون على الريح التي بثت أخباراً كاذبة، قال يونس علوان:
كان ذلك في شتاء 1955، الأبواب أوصدت في وجه الزائر الأبيض، والنوافذ صمت آذانها عن طرقاته الرشيقة، سكون يسيطر على كل شيء، فقط أدخنة سوداء رمادية، بيضاء، تتطاير فوق الأسطحة الطينية والإسمنتية، ثمة لحظات يضج فيها الهدوء، هدوء ينبئ بأن أمراً ما سيحدث، انتظرتُ الحدثَ، أصختُ السمعَ إلى ما حولي، تركتُ المشحفَ والسكينَ، فتحتُ النافذة المعدنية، نظرتُ باتجاه منزل هاجر، رأيتُ أحمد صالح يزيلُ عن الباب الثلج المتراكم، حملتُ الرفش وانخرطتُ مع جاري أساعده في إزالة الثلج الكثيف، حين رآني بجانبه اتكأ على معوله، تنفسَ بعمق ونوَّه أن لا فائدة ترجى، فما أزاله في ساعة سيتراكم في دقائق قليلة، سألته إن كان ثمة أمر ضروري لخروجه، نظر إليَّ، هز رأسه، فتح الباب الحديدي، رمى معوله داخله وراح يجر نفسه على الثلج باتجاه منزل قحطان، لو كان الثلج أقل كثافة لقدرت أنه أراد تمضية بعض الوقت عنده، أما وأن الثلج تكاثف حتى كاد يلغي هوية الأشياء، فأي جنون هذا؟ ترى كيف ستستقبله جوهرة؟ ترى هل وافقت هاجر على تزويج ابنتها لقحطان؟ لو كانت الريح تنقل كل شيء لنقلت قول هاجر: (عيب والله عيب، أنت رجل تعرف الله، فهل ما تقوله يرضي الله؟).
كلا، هاجر امرأة ذكية، اقتحم صوت أمي مسمعي: (سيعيدها ولو كلفه ذلك حواكير جوهرة وأرض التلة وأملاك الآغا وما ورثه عن صالح معروف)، قلت: أحمد يوافق، أما هاجر..... !.
تركتها ودخلت إلى غرفتي، ولم يغب منظر أحمد صالح من أمامي، كان من الصعب قراءة وجهه، خيوط عمامته السوداء كانت تحجب عينيه وتخفي بوحهما، عدت لأمي أقول لها: أخشى أن مكروهاً أصاب هاجر وابنتها، صرخت في وجهي وعادت تحثني على نسيان هذه العائلة، وأضافت: أقطع يدي إن لم تزوجها لعشيقها يا للمرأة الفاجرة !، أكدت لها بأن هذا لن يحدث، تأكيدي زاد إصرارها، إذ قالت:
ستزوجها لـه، نعم ستزوجها لـه، لأجل أن يظل عشيقها تفعل كل شيء وأحمد صالح لن يعترض، فالحواكير وأرض السفح وأرض عين الدلب..... ستجعله يوافق ثم ألا يكفي ما فعلته بنا
لم يكن رفض هاجر تزويج ابنتها سبباً لمواقف أمي الأخيرة من هاجر، فثمة تغير لمسته في طبعها بعد وفاة والدي، تغير وصل حد الانقلاب في بعض الأمور، خاصة تلك المتعلقة بهاجر وأية امرأة في مجدلون، أمي صارت تصب بجام غضبها على أية امرأة واصفة إياها بألفاظ بذيئة: (أرأيت هاجر، أرأيت ثوبها القصير وسروالها الملون، هه، تظن نفسها ابنة أربعة عشر !. كان عليها أن تعرف أن عشيقها سيسطو على ابنتها، الرجل يقطع مئة امرأة، لو كان عندها عشرة بنات لتزوجهن ورماهن كما رماها).
محاولاتي في إقناعها الذهاب إلى بيت هاجر للاطمئنان عليها باءت جميعها بالفشل، وأخبرتها أن ثمة أمراً مخيفاً حدث في ذلك المنزل، حدثٌ دفع أحمد للذهاب إلى بيت قحطان، وكأنها كانت تنتظر هذه الكلمة لتصب بحقدها على أحمد (الكلب يرمي نفسه في النهر ليجلب فريسة سيده، وأحمد أحرص من الكلب على إرضاء قحطان، سمعتهم بأذني هاتين يقولون: رأس هاجر في حضن أحمد، وقحطان. .... يا رب تجيرنا، الآن سيزوجه ابنته، إنها بوادر الآخرة، النساء تقود الرجال.
تركت أمي وفتحت النافذة الصدئة، فتدافعت نتف الثلج إلى الداخل، أغلقتها وعدت إلى منحتي، غير أن ناراً كانت تدفعني رغم البرد الشديد لإعادة فتح النافذة ومعرفة ما يجري هناك، وقفت أنتظر حركة مختلفة في منزل هاجر ،حركة تشير إلى مرض أحد أفراد المنزل، زهوة أو هاجر أو. ... انتظرتُ، فتحتُ النافذة، أغلقتها، لكن لا شيء، فقط أدخنة تتطاير من مدفأة الحطب والثلج يضرب المنزل الحجري، ويسيلُ على وجهي دموعاً حارة، أغلقتُ النافذة نصف إغلاقٍ وعدتُ إلى عملي أصيخُ السمع إلى صوتٍ يطمئنني أو يزفُّ خبراً يطعنُ ظنون أمي، فأنا وعلى الرغم من أن هاجر رفضتْ تزويجي ابنتها ما زلتُ أحترمها، وما زال أملٌ ضعيفٌ يحثني على صنع مجسماتٍ جميلةٍ لزهوة، وفي كل أوضاعها، أثناء ذلك تدخل أمي، تلطمُ المجسم بقدمها وتقول: (تنحت نسوان، تقلد الشيطان، ألا تخاف الله؟، هه ينحت نسوان! وهن أكثر من الهم على القلب، الذي يلحقهن يموت من الجوع، الله يرحم أبوك لو كان يعرف أن رأسك كله نسوان لامتنع عن تعليمك صناعة الجرون والطواحين، الله يرحمه، هو علمك صنعة تعيش منها، وأنت. ... اترك النسوان يا يونس، النسوان يجلبن الفقر، الجرون والطواحين تمنع عنا حاجة الناس).
أكثر من مرة لفتُّ نظرها إلى أن المنحوتات التي أمامي هي لرجال ونساء، ويبدو أنها لا تريد أن تسمع ما أقول، فتعود وتكرر الملاحظات نفسها، وتكثر من الترحم على أبي الذي مات عجوزاً عاجزاً، وتركها رغم أربعينها، شابة تبالغ في إظهار عفتها، التي لم أشك بها، ولم أشك يوماً بأن أمي لا تشبه هاجر بشيء، وهذا ما كان يدفعها لقول أشياء تجعلني لا أكف عن المقارنة بين المرأتين، فإن رأتني هاجر أنقل صخرة إلى المنحت تقول: حقاً أنت فنان حقيقي، وعليا تسألني:
نسوان مرة أخرى؟!
لا، هذه الصخرة لأجل الرحى.
تبتسم وتقول: يبدو أن الله استجاب لدعائي.
هذه المرة فقط.
بعدها تعود للنسوان؟
والرجال.
عضت شفتيها وقالت:
الله يهديك.
ثم تتركني أنقل الصخرة إلى الداخل.
ثلاث ساعات مرت كأنها ثلاث ليالٍ على خروج أحمد صالح، ثلاث ساعات كنت خلالها أتجول بين مقعدي الخشبي والنافذة الصدئة، أتوقف، أمسح بنظراتي المنزل الذي بدأ يغوص في بحر أبيض، وتعود يداي إلى التراقص على المجسم الرمادي.
دخلت أمي وبيدها قنديل الكاز، وضعته على صخرة تكاد تلاصق المجسم قالت:
أحمد صالح عاد.
لا أدري إن كان قولها سؤالاً، أم لإعادة الطمأنينة إلى نفسي، تابعت: يبدو أن الأمور تسير على ما يرام، سيأخذها من يد هاجر كما أخذ أرض جوهرة وحواكيرها، وكما سطا على أراضي الآغا، مسكينة يا زهوة، أنتِ ضحية هاجر الأم كما كنتِ ضحية هاجر الصديقة، حقه، حقه يتزوج وينجب، أملاكه تكفي عشرة أولاد.
ظل القلق سيد تلك الليلة الشتائية البيضاء، نظر يونس عبر النافذة فلمح ضوءاً برتقالياً يشع من ثقوب النافذة الوحيدة، توقف، نظر طويلاً، كان موزعاً بين مكانين منزل هاجر والمنحوتة، وحين أسدل الفجر ستارته الرمادية، كان التعب قد هده، فأطفأ القنديل واستلقى على السرير، تناهى إلى مسمعه صوت أحمد، قفز عن السرير، فتح النافذة فلمح حيوانين يقفان أمام الباب، ترجل عن أحدهما رجل ملفع بالسواد من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، حمل الرجل الأسود المعول وراح يزيل الجدار الثلجي المتكئ على الباب، وكانت المهمة شاقة، شاقة لدرجة دفعت يونس لحمل معوله وفتح الباب، لكن عليا كانت لـه بالمرصاد، عاجلته بسؤال: إلى أين؟.
لم يجبها، عاد إلى غرفته، لحقت به، جلس بجانب المنحوتة وانشغلت عليا بجمع أكواز الزيتون ووضعها في الكانون، عرف يونس أن قلق أمه يساوي قلقه، فها هي تشعل أكواز الزيتون لتعمِّر الكانون، ولا تستطيع النوم رغم محاولاتها المتكررة. سار باتجاه النافذة، فتحها وأعاد إغلاقها، جلس يرتجف برداً أم قلقاً؟ ربما الاثنين معاً، وهذا ما دفع أمه لأن تسأل: ترى ما الذي يحدث؟ عاد يونس يفتح النافذة ويراقب ما يجري، رأى الباب الحديدي يفتح وتخرج منه زهوة ترتدي ثوباً أبيض وسروالاً أحمر، وعلى رأسها منديل هاجر الملون، هاجر خرجت بعدها وبيدها صرة وضعتها أمام زهوة بعد أن امتطت الدابة البيضاء، وامتطى الرجل الأسود الدابة البنية، الرجل الأسود عرفه يونس، إنه أحمد صالح، ثم سارت الدابتان على الطريق البيضاء، تجاهل يونس طلب أمه في إغلاق النافذة، فتح الباب، أخرج دابته من الزريبة ولحق بهما، سمع نداء أمه، سمعه كثيراً، وتوسلاتها أحزنته، لكنه لم يلتفت، تابع ومطيته تغرز حافريها في الثلج، وترفعهما فتتقدم ببطء شديد، بطءٍ كان كافياً ليشهد البوادر الأولى لاستيقاظ مجدلون، صياح الديكة الذي تشابك لدرجةٍ أنسته حثَّ دابته على السير بسرعة، همس: ما أجمل فجر مجدلون. وكان سيستغرق في نشوته لولا أنه لمح قريباً من التلة دابة شهباء ورجل عرفه يونس، امتطى الرجل دابته وسار الركب يجاهد في الثلج، ثمة حاجزان يرسمان الطريق المتجهة نحو الشرق، الأول يفصل التلة عن الطريق، والثاني يفصل السفح عن الطريق، سار الركب يجاهد للوصول إلى هدف يجهله يونس ويعرفه قحطان جيداً، أما زهوة فتبدو لا مبالية حتى بالثلج الذي تكوم على معطفها الصوفي، عيناها مصوبتان لوجهة تعتقد أنها وجهة نضال، ورأسها مشغول بأسئلة كثيرة: كيف سيستقبلها؟ ماذا سيقول لها؟ أين هو الآن؟ في المدرسة؟ في الغرفة؟ هذه المرة هي الأولى التي يبتعد فيها الثلاثة عن مجدلون، أحمد وزهوة ويونس، هؤلاء يجهلون الطريق التي ستوصلهم إلى الهدف، يجهلون تعرجاتها وامتدادها، تساءل يونس: إلى أين؟ ما الذي حدث؟ ما علاقتي بما حدث وبما سيحدث؟ زهوة مع أحمد وقحطان فلمَ القلق؟.
أوقف يونس مطيته وفكر بالعودة إلى مجدلون لكن...
صوَّب نظره نحو الركب الذي يصعد الجبل، وأعلن أن ثمة خطباً، وإلا لم العجلة والمغامرة؟ ما الذي حدث؟ سؤال أعاده على نفسه، وعاد يحث مطيته على السير وراء الركب الصامت حد القطيعة، تلك الرؤوس الثلاثة لا يجمعها إلا المكان المتبدل، الرأس الأول ما زالت الضربة التي تلقاها وغيَّرت كل خططه وأحلامه تؤجج فيه الرغبة بالانتقام وإعادة الاعتبار ومازال غير مصدق ما حدث، زهوة التي كان يخطط لإعادتها إلى قصره زوجاً لـه هاهي تحمل حفيده في أحشائها يا للمصيبة ! بدلاً من أن يكون أباً لمرة ثانية يجد نفسه جداً وقد انتهى كل شيء، لابد من طريقة لتصريف المرأة التي خانته، مرة مع فارس ومرة مع نضال، أية مصيبة هذه؟، لا شيء إلا الانتقام، المرأة الخائنة كالدجاجة العائبة، إما بيعها أو ذبحها، تلك الدموع التي انسابت على وجه قحطان لو رآها أحمد لقال إنها ناتجة عن لسعات البرد الشديد، وقد تكون نتف الثلج ذابت على وجنتيه، كم تخاتلنا الأشياء الظاهرة.
في تلك الرحلة استعاد قحطان حياته، كفاحه، أحلامه، وبكى، بكى قحطان على زهوة، بكى عجزه، بكى خيبته، تذكر يوم دخلت عليه بثوبها الأحمر، تذكر سواد شعرها وجمال عينيها وفتوتها التي تضارع شباب نضال، تذكر أنوثتها التي تماثل في إشعاعها ذكورة نضال، لأول مرة يشعر بالغيرة من نضال، نضال ! ما زالت الحياة أمامه، سيلتقي بفتيات كثيرات، سينتقي منهن ما يريد، أما هو، هو من حقه أن يتزوج امرأة تجدد شبابه وتملأ قصره بالأولاد، وجوهرة، جوهرة إنها الوفية أبداً، أعطته كل شيء، لم يخطئ حين اختارها زوجة لثلاثة أجيال متتالية، أما زهوة، زهوة التي صادرت أحلامه وخانته سيصادر أحلامها ويمزق قلبها ويشردها ويبعدها عن مجدلون، العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم، ونضال، نضال يستحق فتاة أخرى سيجدها وينسى من كسرت قلب والده، كسرته؟ لا، بل مزقته وأحرقته.
كان قحطان يرتجف حين يتخيل المكافأة التي ستحصل عليها في حال زواجها بنضال، يكاد يتمزق وهو يتخيلها بين ذراعيه، صرخ: كلا لن يكون هذا، لن أدعها تهنأ معه، ولن....
تذكر الآمال الكبيرة التي يعقدها على نضال وتخوَّف من أن تقتل هذه الفتاة آماله كما قتلت أحلامه، وقرر إبعادها لأنه وصل إلى قناعة أن الشيطان سلط هذه المرأة على سلالة جد مجدلون الأكبر، وعليه التصدي لها بكل ما أوتي من قوة وبكل ما يملك من مكر ودهاء، إنها معركة بين الخير والشر، بين الشيطان والرحمن، لا يجوز التهاون، التهاون سيضيِّع كل شيء، التهاون سيعرّض سلالة جد مجدلون للسخرية، وستفقد كل امتيازاتها، قرار قحطان ليس وليد الرحلة، إنه اجترار لقرار كان قد اتخذه حين أتى أحمد إليه يخبره أن نضال وزهوة زوجان منذ خمسة أشهر على الأقل وإن زهوة حبلى، وأحمد عرف لتوه.
كان قحطان سيشك بما قاله أحمد، لولا أنه متأكد من أن الخروج في يوم كهذا ما هو إلا مغامرة لا يقوم بها لولم يكن الأمر ضرورياً ولا يقبل التأجيل، ورغم ذلك أعاد عبارة أحمد (زهوة حبلى)، أطرق أحمد رأسه خجلاً، وتعرق قحطان، زفر قلبه زفرة الألم، واشتعل جسده، تظاهر بالهدوء، وطلب من جوهرة تركهما، نظر إلى أحمد، هز رأسه وقال: (لو أنهما انتظرا)، وقف، دار في الغرفة الكبيرة، دار كثيراً، وفي دورانه اتكأ أكثر من مرة على الجدار، أمسك بكرسي أو مكنسة، أو إبريق ليضرب بأحدها الرأس الذي أمامه، فيقتل صاحبه ويموت السر معه، ويملي على هاجر ما يريد، فيسطو على زهوة وعلى الجنين الذي في أحشائها، أما وهذا الثرثار حي! فهل من خلاص؟ توقف قحطان، نظر إلى أحمد، عاد يجلس مكانه، هز رأسه وقال (الجمع يعرف أن زهوة لنضال، غداً في الرابعة فجراً ننطلق إلى حماة، نوصل زهوة إلى نضال ونزوجهما على سنة الله ورسوله).
ليس سهلاً القبول بالهزيمة، ليس سهلاً ما حدث لقحطان، هل يمكن فعل شيء؟ اختلطت الأمور في رأسه، في تلك الساعات القليلة كان عليه أن يفكر كثيراً، رجل مجدلون كان عليه أن يقبل بالهزيمة لكن إلى حين وبأقل ما يمكن من الخسائر، كان يعلم أنه سقط في جحيم يحتاج لكثير من الحكمة، وقدر كبير من الصبر، ليخرج منه جحيم؟ بل هما جحيمان، فكيف الخلاص؟.
ما حدث لا يمكن مقايضته بكل ما ورثه من زهوة وما سطا عليه من جوهرة والآغا، ألا تصادفنا في حياتنا مواقف نتمنى لو نستطيع مقايضتها بأملاكنا وأعمارنا؟ لكن قحطان رغم الصدمة ورغم الخسارة التي مني بها ظل متماسكاً وتقبل فكرة (أن زهوة لن تعود زوجه) ورفع صوته قائلاً: وكذلك لن تكون زوجة لنضال. أشعلت الغيرة قلبه وتساءل: كيف؟ كيف أصبحت زهوة زوجة لابن ولدته، كيف؟ الخائنة صرخ في تلك الليلة وبكى، بعد أن طرد أحمد، بكى، بكى نفسه، بكى كبرياءه، بكى رجولته، بكى كرامته، رجل مجدلون المنتصر أبكته امرأة، فكر بقتلها، قتلها؟، أبعد الفكرة من رأسه، لماذا؟ هل خاف أن يكشف أمره هذه المرة؟ أم تراه خاف من أن تولد بعد قتلها في منزل ما، في مجدلون أو جوارها؟ وحين تكبر، تخونه للمرة الثالثة، وتكون السبب في موته، صعب معرفة الحقيقة، فرجل مجدلون لم يشهر سيف التقمص، إلا حين قرر أن يتزوج جوهرة، وعاد السيف إلى غمده دون أن يصدأ، ليخرجه من غمده حين رأى زهوة تدخل قصره متأبطة ذراع نضال. في ذلك اليوم انتابته رغبة عجيبة وكان عليه تجاهلها رغ إلحاحها الشديد، ووجد نفسه في صراعٍ حسمه حين قرَّر إبعاد نضال عن مجدلون للاستفراد بزهوة. زهوة لـه، وسيمنع نضال من لمسها أو حتى النظر إليها. ابن المدارس هذا يحرقه حين يحتضن زهوة.
مسح قحطان دموعه، أيقظ جوهرة، أخبرها بما حدث، طلب منها إحضار ثيابه وزاده، لإيصال زهوة إلى نضال.
على الطريق اجترَّ الألم والحزن، والخيبة، وخرج بقرار لا عودة فيه لإبعاد زهوة عن سلالة شيخ مجدلون.
سأقتلها! لا وما الفائدة من قتلها، أبيعها، نعم سأبيعها وسأخبر نضال أنها تزوجت رجلاً غريباً.
واستراح لقراره هذا، فهو غدا على قناعة بأن العرق دساس، لا يموت بالقتل، رأس أحمد كان يعلو وينخفض حين يتذكر ما فعلته زهوة، يخجل ويتوعد بالانتقام من هاجر، وحين يرى أمامه قحطان وزهوة يشعر بالارتياح، أخيراً ستصبح زهوة لنضال وستعود أملاك قحطان لها ولأولادها، ثمة إحساس جديد كان يداخله، هذا الإحساس فرضه الانتصار الذي أحرزه على قحطان وهاجر، الأول أقنعه بستر الفضيحة وأثبت لهاجر أنه رجل المهمات الصعبة، وفشله السابق كان بسبب نوعية المهمة وليس كما كانت تردد من أنه رجل لا يعتمد عليه في شيء.
أما رأس زهوة فكان عشاً تخرج منه الأحلام عصافير ترفرف وتطير إلى غرفة صغيرة ستضمهما بعد ساعات قليلة، وهذه الغرفة تقع في مدينة، لكثرة ما حدثها نضال عنها، تخيلت أنها تعرفها جيداً، تعرف أزقتها، شوارعها، بيوتها، نهرها، نواعيرها. أما يونس فكان كموجة بحرها الفجر الرمادي، تارة تعلن مدها وتارة أخرى تعلن جزرها، أكثر من مرة رأى في خروجه طيشاً لا مبرر لـه، يتوقف ثم يتابع سيره حين يجزم بأن ثمة خطباً دفع بهؤلاء الثلاثة للخروج في هذا الجحيم البارد، ثقته هذه كانت تولد عندما يستمع إلى حدسه، ثقته هذه كانت الريح التي تدفعه للحاق بالرتل الذي ابتعد عنه، ابتعد حتى كاد الثلج يغطي آثار حوافر المطيات الثلاث.
(قلب المرأة ضعيف، ويطمع من كان به مرض). هذه العبارة أطلقها قحطان، وشكلت الرتل قبل الانطلاق، وعلى أساسها سار الركب لينعطف عند أول طريق الشعرة، ثم ينحدر باتجاه منخفض (وادي جهنم)، حين وصل الركب ترجل قحطان عن مطيته وأشار إلى كتلة ثلجية، لحقت به زهوة وأحمد، واختفى الثلاثة في مغارة، بعد دقائق من دخولهم إليها، خرجت منها الأبخرة وفاحت حولها رائحة الطعام، كان الزاد متنوعاً (دبس، زبدة، زيتون، بيض)، أكل الثلاثة حتى شبعوا قضوا بعضاً من وقتهم يضرمون النار، تارة يخرج أحمد لجمع العيدان، وتارة قحطان، وزهوة في المغارة تستعجلهم الخروج، يتجاهلون رغبتها، حتى إذا وطأت أشعة الشمس باب المغارة، تهيأ الثلاثة لمتابعة السفر، في تلك الأثناء لجأ يونس إلى بيت طيني يقع على الطرف الآخر من الطريق، وحين لمح الرتل يعبر، لحق به بعد أن زوده الزوجان العجوزان اللذان استضافاه وأدفأاه ببعض الزاد، ورافقه العجوز حتى وصلا إلى طريق ترابية تحاذي الطريق الرئيسية، وأشار لـه إلى أن انخفاض الطريق سيساعده على الاحتماء من قاطعي طريق متأخرين.
لم يمتثل يونس لنصيحة العجوز، لكز مطيته وسار وراء الرتل على الطريق الرئيسية، وثمة قلق جعله يسير الهوينى، قلق يونس لا مبرر لـه، فزهوة كانت تحلم، تحلم بأن تتحول يداها إلى جناحين، وساقاها إلى ذيل لتطير إلى نضال. لقد ملت، ملت بلادة المطيات الثلاث ، ملت صمت قحطان ونظرات أحمد التي كانت تشعر بها تجلد ظهرها ورأسها، تريد أن تهرب منها إلى حضن نضال، وحده حاميها، وحده سيدافع عنها.
واستغرقت في أحلامها، حتى أنها لم تسمع سؤال قحطان إن كان أحد يعلم بخروجهم من مجدلون، وحين لم تجبه بشيء عاد ينظر إلى الوراء، وأسرّ في نفسه أنه يعرف ذلك المتلفع الأسود، من تراه يكون؟ وحين لم يعرفه طمأن نفسه قائلاً:
(الناس تتشابه، وكذلك الدواب)، وأضاف: لا مصلحة لأحمد ولا لزهوة بإخبار أحد بما حدث.
كانت الظلمة أشد في الطريق الذي يؤدي إلى حيالين، وهذا ما أعطى الركب فرصة للاختفاء، هنا الظلمة تتماهى مع الأرض السوداء، فلا آثار لحوافر، ولا ثلج يشاكس العتمة، وريثما يأتي الفجر تكون الآثار تشابكت.
توقف يونس، نظر حوله فرأى كل شيء مظلماً حد القتامة، حتى حيالين، القرية الصغيرة الوادعة، تكاد تختفي، لولا فوانيسها التي تبدو كيراعات متجمدة وهي ترسل بصيصها عبر النوافذ الحديدية الصدئة، ترجل يونس عن مطيته، ارتجف، لامس معطفه القاسي، تحسس قدميه المتجمدتين، تذكر العجوزين اللذين فرحا بقدوم ضيف يقاسمهما كوخهما الطيني ، تذكر كانونهما الذي يبدو كشمس متوهجة، شعر بحاجة للعجوزين وكانونهما، ولفراش اللباد ولحاف من جلود الخراف، تذكر كيف غفا ما يقارب الساعة على ثرثرتهما، وعلى صوت تراقص نيران الجمر في كانونهما، وحلم بزهوة، رآها بثوبها الأبيض وسروالها الأحمر، رأى جزمتها السوداء، ورآها عارية الرأس تركض ووراءها رجلان يركضان، يحاولان الإمساك بها، رآها تقع في مستنقع، مدت يديها لينقذها، مدتهما باتجاهه، الرجلان وراءها، يصلان إليها، يمسكان بجزمتها السوداء، ويونس يمسك بيديها، يرفعها، تكاد تخرج، يسحب الرجلان فردتي الجزمة ويرميانها في المستنقع، ويتركها يونس بعد أن لامس جذعها طرف المستنقع، يقول لها: اخرجي، تحاول جاهدة لكن الرجلين يمسكان بسروالها الذي يخرج من جسدها، يقول لها: هيا، لا تخافي، تلامس يداها فخذيها تهمس فزعة: أنا أصبحت عارية، يجيبها: لا تخافي، أنا معكِ. ترفع نفسها يمسك الشيطانان بساقيها، تصرخ: يونس لا تتركني، يونس...، يونس. ...
حين تهيأ لـه أنه سمع صراخها، كان على الأرض عند حوافر دابته، جمع نفسه، نفض عن ثيابه ما ظنه علق بها، امتطى دابته، ضربها بساقيه يحثها على السير باتجاه حيالين، أثناء سيره انتابه إحساس بأنه أضاع زهوة إلى الأبد، فلا وقع حوافر ولا شخير دواب، ولا أصوات، سكون مرعب وبرد يتسلل إلى عظامه وينخرها.
أخيراً قرر المبيت حتى الفجر، فقد أيقن أن الركب إذا خرج لن يستطيع اللحاق به، وإن لم يخرج فهذا يعني أنهم قرروا المبيت في حيالين، كان إيجاد المبيت أمراً سهلاً فما أن تطرق باباً حتى يستقبلك أصحابه بحفاوة، ودون سؤال إن كنت جائعاً يكون الطعام أمامك، والدفء يتسلل إلى جسدك من الكانون الذي لا ينطفئ، ومن ثم النوم على أحسن فراش لديهم، فأنت عابر سبيل وللعابر مكرمة، ولا يستبعد أن يكون زادك هو كل ما لديهم، فهم على ثقة بأن الله سيرزقهم أضعاف ما زودوك به.
كان كانون البيت الذي قصده يونس يتوسط الغرفة الطينية الكبيرة، وحوله أب وأم وثلاثة صبية وطفلة صغيرة، كانت الوجوه الستة مضرجة بحمرة الدفء، تتقافز أمام عيونهم ثمار البلوط المرة، كلما قفزت ثمرة أبعدوا وجوههم عن الكانون، وصفقوا، حين فتح الباب اتجهت الأنظار إلى الضيف الجديد، وعلى الفور كان لـه مكان بينهم، وبعد دقائق كان طعام العشاء في طبق قش ذكره بهاجر، هاجر، تساءل: بماذا تفكر الآن؟.
سأل الرجل، وكان اسمه إبراهيم، إن كان ثمة طريق أخرى تذهب إلى مصياف، هز إبراهيم رأسه نافياً أن يكون هناك طريق أخرى، وأثنى على يونس بدخوله إليهم حلت علينا البركة، فلا أحد يجرؤ على الخوض في هذه الطريق، وأشار إلى الطريق التي أحرقها صقيع الليلة الماضية، فالبرد الشديد لن يمنع قطاع الطرق من الكمون للعابرين الغرباء، وحين علم إبراهيم أن ضيفه مسافر إلى مصياف، طمأنه حين أخبره أن سيارة تنطلق كل خميس من حيالين إلى مصياف.
بعد الدفء والطعام، نام يونس بلا كوابيس، التعب سرق الأحلام وقتل الكوابيس.
حين أفاق كانت الشمس قد انتصفت قبة السماء، بادره صاحب البيت بتأثر: لم أشأ إيقاظك، سيارة عبدو، على غير العادة، خرجت من القرية، هذا يحدث نادراً، كأن يأتيه أحد في طلب مستعجل، مرض أو ولادة متعسرة، أما موعد الخميس فلا يتغير، في الرابعة فجراً تكون في مصياف، وفي الخامسة مساء تكون في حيالين، والآن تهيأ لنذهب إلى بيت عبدو، هيا، إنه على الطرف الآخر، لكنه قريب.
قبل أن يسأل إبراهيم عن سبب سفر عبدو المفاجئ، قالت زوجته، وهي امرأة سمينة وجهها مدور، وعيناها يكاد الخدان النافران أن يبتلعاهما:
ليلة أمس أتاه رجلان ومعهما عروس، سبحان خالقها، ما أحلاها، كانت تريد أن تذهب فوراً إلى مصياف، مستعجلة، لكنني أخذتها إلى غرفة المسافرين وجلست معها وأقنعتها بضرورة الراحة لمن قضت يوماً كاملاً على الطرقات، وخوفتها من قطاع الطرق، لكنها ظلت متمسكة برأيها، تريد أن تذهب إلى مصياف، لتكون صباحاً في حماة، مشتاقة إلى عريسها، وأخيراً قلت لها: لكي يحبكِ أكثر لا تستعجلي، نامي الآن فيزول الشحوب عن وجهكِ، في الحقيقة لم يكن هناك أي شحوب، لكنها حيلة لجأتُ إليها واقتنعتْ بها، واستلقتْ دون أن تنام، وقبل أن تشرق الشمس ذهبتْ مع الطويل الممتلئ، ما اسمه؟ آه تذكرت، اسمه فرحان. .
فرحان؟ لا، لا قحطان، أنا متأكدة، اسمه قحطان، والآخر عاد مع دوابه الثلاث إلى قرية لم أعد أذكر اسمها.
أشارت المرأة إلى يونس وسألته عمن يكون هذا الرجل؟ فأخبرها أنه ضيفه، ويريد أن يسافر إلى مصياف، قدمت للرجلين كرسيين صغيرين، ثم أخذت حصاة سوداء من قدح زجاجي وأضافته إلى كيس كان أمامها، رفعت الكيس وكان فيه ثلاث حصى سوداء وواحدة بيضاء، قالت: صار عدد الركاب أربعة، ثلاثة رجال وامرأة، قامت المرأة العبلة وأحضرت ثلاثة أقداح وزعتها وملأتها بالشاي، نظرت حولها، سارت باتجاه الباب، أغلقته وعادت إلى كرسيها، شخرت كدبة لطيفة، وراحت تنقل نظرها بين الرجلين، همست: العروس حبلى، حبلها بصدرها، وأشارت إلى صدرها المسطح، الرجل النحيل أبوها، والثاني أبو عريسها، أو زوجها، مهرها الدواب الثلاثة، صدقوني، هو عبدو لا يعرف، عبدو يسوق السيارة على طريق مصياف حيالين، الأمور الأخرى لا تهمه، أنت، وأشارت إلى يونس، لا تخبره بما قلت، إبراهيم، أنت ابن حيالين، لا تثرثر وتقول إن عبدو ينقل بسيارته نسوان،
رفعت المرأة معطفها الأسود عن صدرها وهمست بصوت متقطع: إني أخاف الله، لا تقطع برزقنا يا إبراهيم.
أعادت كأس الشاي إلى مكانه، راقصت أصابعها على الطاولة الخشبية وعادت تتحدث عن ضيوف الليلة السابقة ،: (بصراحة، هي تحب ابن الرجل الوسيم شيخ القرية، الرجل الوسيم هو شيخ القرية، أنا متأكدة، لأنه عند السفر، أي حين أراد أن يصعد إلى السيارة، رفع الرجل النحيل يد قحطان وقبلها، وطلب دعاءه ورضاه فنال الرضا وتمنى لـه التوفيق في طريق عودته إلى القرية، ولم ينسَ أن يحذِّره من قطاع الطرق.)
عادت المرأة تملأ الأقداح، وتتحدث عن زبائن أتوا على غير موعد: أخبرتني العروس أن عريسها في المدرسة، في الصف الحادي عشر، يعني رجل، أنا لما تزوجت عبدو كنت بالحادي عشر وعبدو في الرابع عشر.
دلقت المرأة في فمها محتويات الكأس الدافئة، تلمظت، حكت أنفها الصغير، وعادت تنقل نظرها بينهما، صرخت: يا جماعة أنا أكاد أنفجر إن لم أقل كل شيء، سأصاب بالسكتة الدماغية، لكني خائفة، والله خائفة من رب العالمين، لن أتكلم، الله يستر، يبدو أن والدها يثق كثيراً بقحطان، أتكون الدواب الثلاث أكثر فهماً منه؟ لا، لا، يا رب سامحني، قحطان لا يفعلها، لا، لا يفعلها، لو أن البنت سمعت كلامي، قلت لها: أنا خائفة، خائفة عليكِ يا زهوة، عودي إلى أمكِ أفضل، قلبي يحدثني أن مصيراً سيئاً ينتظركِ، بصراحة، أنا أستغرب كيف تركتها أمها مع هذين الرجلين؟ أستغفر الله، لقد جننتْ، أبوها وعمها. ..، صمتت المرأة، رشفت قليلاً من الشاي: مسكينة، أظنه سيقتل طفلها، أستغفر الله، اسمعوا يا جماعة، أنا مره، والمره بربع عقل، قحطان لا يفعلها لكن دعوني أخبركم كيف حدثت القصة، أو كيف يجب أن تكون سارت أحداثها:
زهوة تحب ابن قحطان، حبلت منه، هذا ليس عيباً. الحب يؤدي إلى الحبل، عرف قحطان، ضبط نفسه، أو بالأحرى أظهر تفهماً لما حدث، في أمر كهذا العجلة خير دواء، لتكن زهوة لابن قحطان، وهكذا تم كل شيء، بعد ساعات ستكون زهوة زوجة لابن قحطان، لكن. .. أشعر بأن أمراً آخر سيحدث، ما هو؟ لا أدري. ... !.
قبل أن تبدأ المرأة رواية قصة أخرى، خرج يونس إلى الطريق ينتظر سيارة تقله إلى مصياف، مر من أمامه جراران، رفض أي من سائقيهما التوقف، فعاد أدراجه إلى منزل عبدو، ليجد المرأة السمينة مستغرقة في رواية قصة أخرى لإبراهيم وعبدو الذي عاد قبل لحظات، وحين دخل توقفت، وتركت لـه فرصة السؤال عن زهوة وقحطان، ضحكت المرأة السمينة فاهتز جسدها، وقالت: لا تسأله، هو لا يعرف شيئاً، وأعادت السؤال على طريقتها، هز رأسه في إشارة منه أنه لم يفهم السؤال، اقتربت منه وسألته عن آخر موقف لـه في مصياف، أجاب: دخلت في زقاق، نزل فيه الرجل والفتاة، تركتهما قبل أن يتحركا من مكانهما، سأله يونس: إن كانا تحدثا بشيء يشير إلى المكان الذي يقصدانه.
أبداً، الرجل ظل طوال الطريق شارد الذهن حزيناً، والفتاة كانت سعيدة، وتحثني دائماً على السير بسرعة، حتى إنها هددتني بأنها ستقفز من سيارتي وتوقف أخرى.
أدرك يونس أن لا فائدة ترجى من هذا الرجل، وقرر العودة إلى مجدلون، ليلحق بأحمد، عله يعرف منه شيئاً عن زهوة، زهوة. .. ! قالها بغصة وتوقف، سأله إبراهيم: ألن تذهب إلى مصياف؟ . نظر إلى محدثه وكم تمنى لولم يسمع سؤاله.
أين هي؟ تساءل يونس، في مجدلون، وادي جهنم، الشعرة، حيالين، مصياف، حماة؟ كانت في مجدلون، القرية الصغيرة، ولم أستطع حمايتها، الآن ما الذي أستطيع فعله؟
كان الجدوى من اللحاق بأحمد، كالجدوى من اللحاق بزهوة وقحطان، فمصياف ما هي إلا محطة مؤقتة، بعدها. ... !
تساءل يونس: إلى أين سيذهبان؟ إلى حماة حيث يقيم نضال؟ من يدري، قد يتم كل شيء في مصياف، استبعد يونس الاحتمال الأخير، فهو عرف في هاجر خير مدبرة وحامية، ورغم ذلك ظل يتأرجح بين الاحتمالين دون أن يستقر على أحدهما وحين وصل إلى مجدلون توقف أمام منزل هاجر ورأى مهر زهوة، ثلاث مطيات بثلاثة ألوان، أبيض، رمادي، بني، وسمع أحمد يشتم هاجر، في البداية لم يصدق ما سمع، ولولا صوت عليا لوقف يتأكد مما سمع، لكن صوتها أجبره على الدخول إلى البيت الطيني، وقبل أن تسأله عن رحلته قالت: رحلتك فوتت عليك سماع خبر يهمك، أم تراك سمعته؟ قحطان شهم، طب الجرة....
ارتمى يونس على مقعد خشبي، توسل إلى أمه أن تسكت، تجاهلت توسله، وراحت تتحدث عن شهامة قحطان وخيانة زهوة لـه، وتصب لعناتها على هاجر التي أخطأت مرتين، مرة لأنها شوهت سمعة رجل مجدلون لعلاقتها المشبوهة به، ومرة لأنها لم تحسن تربية ابنتها زهوة أمانة قحطان عندها، أبدت أمي حزناً عميقاً على قحطان وتساءلت: إن كان يأمل خيراً من هذه المرأة، فهي كما قالت، لم تكن لتصدق هذه القصة لولا أنها حدثت في بيت قريب، قحطان أخطأ، وكان عليه أن يقتلها، مسكين ! تزويجها لابنه سيكون سبب موته أو جنونه، وهاجر، هاجر وحدها تتحمل المسؤولية، رأيتها بعيني هاتين تدخلهما إلى الغرفة وتحذرهما من فعل شيء يغضب الله ثم تغلق عليهما الباب وتذهب إلى السفح، الآن أفضل شيء يفعله قحطان هو أن يتزوج من امرأة تملأ لـه البيت صبية، فنضال ابن أهان والده، ولا أظنه سيعود إلى مجدلون.
حين انتهت أمي من إملاء قراراتها توقفت قليلاً، وضعت وجهها بين يديها وتوشح وجهها بحزن هادئ وقالت:
أكثر ما يقهرني الآن هو أنه سيصبح أستاذاً كما قالت هاجر، زهوة تتزوج أستاذاً وأنت...،
لن أنسى كلمتها: (نضال يتعامل مع البشر، ويونس يتعامل مع الحجر،)
معها حق، يا ريت لو تابعت نحت الجرون والطواحين، ماذا تراها تقول إذا دخلت بيتنا ورأت النساء العاريات؟.
عادت عليا تترحم على العجوز الذي دفنته، خرف بعد مرض دام ثلاثة أعوام، وتدفقت أقواله على مسمع يونس لحناً يتكرر كل يوم (لولا الخوف من معصية المؤمن لخالقه لألبس الله الكافر ثياباً من ذهب)، (الأرملة التي تهجر الرجال بعد موت زوجها ستدخل الجنة).
ترك يونس أمه تردد أقوالاً تقول إنها لوالده، وخرج رغم البرد الشديد يسير على طرق مجدلون، توقف أمام بيت هاجر، مسحت نظراته قصر قحطان وحواكيره، اتجه إلى التلة، توقف في أعلى السفح، لم يغامر في الخوض على انحداره، فالثلج الذي حوَّل التلة إلى كتلة بيضاء لم يستثنِ السفح الذي يشبه سبدة بيضاء.
حين قرر العودة سلك الطريق التي تحاذي الغابة، قبل أن يدخل البيت توقفت نظراته على مهر زهوة، تذكر قول أمه (بعد اليوم لن تحمل هاجر أكداس الحطب وأعواد الريحان على ظهرها، ولن تتعب نفسها في نقل الماء، هذه المرأة بدل الرجل عندها اثنان، ويقولون أبو سلال يحمل إليها أذرع القماش).
شعر يونس بالشفقة على أمه، وتساءل: ما السبيل إلى التخفيف من شقائها؟ وحين جاءته الفرصة بدا عاجزاً، ألا يصدف أحياناً أن يتوسل أحد إلينا لأجل كلمة تسعده أو تنقذه من يأسٍ وإحباط، وحين نبحث في قاموس مشاعرنا لا نجد الكلمة المناسبة، أصاب عليا إحباط كبير حين طلبت من يونس تعليمها نحت الطواحين والجرون، وبدل أن يبدي استعداده لتعليمها وجدته يشجعها لزيارة هاجر والتعلم منها صناعة السلال والأطباق والمزهريات، وهذه الصنعة لا تحتاج إلى عضلات، فقط يدان رشيقتان وخبرة في مزج الألوان. تشجيعه هذا آلمها وآذاها، فكيف، وهي المرأة العفيفة الشريفة؟ كيف يقبل أن تكون هاجر معلمتها؟.
استغربت عليا إلحاح يونس عليها لزيارة هاجر، وهي التي كانت تنتظر أن يمنعها عن زيارتها، أو التحدث إليها، أما يونس فكان رأسه مشغولاً بموعد عودة قحطان، وأسرَّ في نفسه أنه عاد، فصوت أحمد لا يتسلل إليهم من فتحات النافذتين الضيقتين، وبدلاً من انتظار سماع صوته وجده أمامه، بعد طرق قوي على الباب ناوله بعزيمة المنتصر طبقاً فيه ستة قطع حلوى، قال: إن قحطان أحضرها معه حلوان زواج نضال وزهوة، شكره يونس ودعاه للدخول، سألته عليا عن العروسين، أخبرها أنهما بخير، قريباً سيصبح هو وقحطان جدين، مرَّر أصابعه على شاربه، وراح يتحدث عن وقار الجد، وأنه، أي أحمد، سيبلغ الوقار ويصبح حكيماً بعد أن تلد زهوة، وحتى ذلك الوقت سيظل كما تعرفه مجدلون، أحمد الفوضوي المزاج، الكثير الكلام، (تحمَّلوني)، نظر حوله وأشار سائلاً يونس عن التماثيل الحجرية المتكئة على الجدران، وقبل أن يتلقى الجواب سأله إن كانت تتكلم، ثم استغفر الله وقام ليفتح الباب ليخرج، قدَّر يونس أن خروجه المفاجئ كان بسبب خوفه من المنحوتات، وقدَّر أنه في حال إعجابه بها سيحدث هاجر عنها، وكعادته سيبالغ في حديثه، وستصبح المنحوتات نساءً ورجالاً يتكلمون، ويضحكون ، يبكون، وليس بعيداً أن يقسم لها بأنه رآهم يتحركون، ويساعدون عليا في إعداد الطعام وجلي الصحون وغسل الثياب، وقبل أن يكمل ستتركه هاجر وتطرق باب بيت يونس، لترى ما بهر أحمد وجعله يغلو في حديثه، لكن انتظار يونس لم يجدِ، فتح الباب نظر باتجاه المنزل، ما زال مهر زهوة يخوض في الوحل وبقايا الثلج، ثمة تغير، هل تخلى أحمد عن مبالغاته؟ هل تغيرت هاجر؟.
لم تكن الأيام القليلة التي تلت زواج زهوة المفترض كافية لملاحظة التغير الذي طرأ على هاجر، لكن قلق يونس من السكون الذي يخيم على المنزل دفعه لحمل علبة التبغ التي نسيها أحمد، نقر الباب بطرف العلبة ولما فتح كانت هاجر أمامه، سألها عن أحمد، أجابته: أليس عندك؟ ثم دعته للدخول وقدرت أن يكون في قصر قحطان ثم سألته عن عليا ووصفتها بالجارة الآدمية ورجته أن يهتم بها.
كانت هاجر تتحدث ويونس يستمع، يستمع ويقول في سره: لو لم تكن هاجر فنانة لكانت حكواتية أو شاعرة، (هذا هو أحمد، ولن يتغير، ينسى أشياءه، ينسى نفسه ينساني، أحمد يستطيع أن يحب الآخرين ويتواصل معهم، وأنا امرأة معجونة بخميرة الأنانية، أحياناً أقول: وماذا ستأخذين معكِ يا هاجر؟، ستموتين وقد لا تجدين أحداً يحفر لكِ قبراً، هذا الخوف يرافقني كل مساء، ولكي أطرده أقول: غداً صباحاً سأزور عليا وجوهرة ثم كل نساء مجدلون وحين أستيقظ أنسى، العمل ينسيني كل شيء، حتى زهوة كنت أنساها، لقد أخطأت حين أحببت الأطباق والسلال والمزهريات أكثر من زهوة، الآن وبعد فوات الأوان أكتشف أنني ظلمت أحمد وزهوة).
قامت هاجر، يونس قال هربت، هربت لكي لا يرى دموعها، أبعدت وجهها عنه، وراحت تشتم الموقد، تراقب الإبريق ثم تنشغل بترتيب السرير الحديدي، سمعها تتحدث عن زهوة وعن الأعمال الكثيرة والواجبات المتعددة التي كانت تقوم بها، ثم سمعها تتساءل إن كان الوضع سيختلف لو كانت زهوة شاباً، وأخيراً صبت بعضاً من السائل الحار في قدحين، وقبل أن يرشف قطرة واحدة سألته إن كان يقبل أن تكون لـه الأم الثانية، لم تنتظر جواباً، وتابعت: مسكينة عليا تزوجت كهلاً فكان شبابها كهولة، وكهولتها ستقضيها محرومة وحيدة، فعل الله خيراً إذ أرسلك إليها، أظنه حين رآها قال: حسنٌ، لابد من تعويض عليا المظلومة، وكنت أنت، وأنا قال لي: خذي أنثى، فالذكر الذي عندكِ شاب وقوي، دائماً يفعل الله ما يريد وليس ما نتمنى، تخيل لو حدث العكس، فكانت زهوة ابنة عليا، وأنت ابني.
وشردت هاجر، شردت تفكر بما كان سيحدث لو أن زهوة ابنة عليا هل كان قحطان سيسلك السلوك ذاته؟ هل كان سيعترف بحفيده؟ صعب، صعب جداً التكهن بما كان سيؤول إليه مصير زهوة.
ثمة حقيقة باتت هاجر تعترف بها وهي أن البت في أمور كهذه يحتاج للرجال، لا، لا يجرؤ رجل من مجدلون أن يتهرب من مسؤولية كهذه. أحمد قال لقحطان: أنت رجل مجدلون ومرجعها أيرضيك ما فعله ابنك؟ أيرضيك أن يكون لحمك ودمك بلا هوية أو نسب؟ أيرضيك أن تصبح زهوة منبوذة؟.
حين خرج أحمد في ذلك العصر الثلجي من قصر قحطان توقعت هاجر أن يدخل عليها والخيبة تتوسد وجهه، كما عهدته دائماً، وحين قال: جهزي زهوة، أنا وعمها سنوصلها إلى نضال لم تصدق ما سمعته، نبرته كانت تتأرجح بين نشوة الانتصار والإحساس بالذل، غمرت السعادة قلبها، استرخت، شعرت بالأمان، حين تسوء الأمور وتتعقد الحياة فثمة رجل، رجل خرج من أحمد، رجل أزال عنها عبئاً كبيراً، بل أعباءً، أحمد أنقذ زهوة وأنقذها، أنقذها ! هذه المفردة لا تفي بالغرض، تريد مفردة أخرى، مفردة تعبر عن حجم الانتصار الذي حققه أحمد، مفردة تتسع لفرحتها وتعبر عن حجم الإحباط الذي لا بد أصاب قحطان، الانتصار الذي أحرزته، لا الانتصار الذي أحرزه أحمد قطع الطريق على سيد مجدلون، كلا لم يعد قحطان رجلاً لكل الأزمنة، قحطان هو رجل الأزمنة الغابرة. زفرت زفرة طويلة وأخرجت من صدرها هماً عمره أربعة أيام، هتفت: كلا يا سيد مجدلون، زهوة لن تكون لك، زهوة لنضال، كما حفظت عهدك مع جوهرة حفظتُ عهدي مع أم نضال. أنقذها ! نعم، فذلك اليوم الأبيض لم يفارق ذاكرتها، هاجر مع زهوة وأحمد في ذلك المنزل الحجري، أحمد يتخذ زاوية بعيدة عن الكانون، وزهوة مع هاجر تعمران الكانون وتطمران في جوف جمره ثمار البطاطا الحلوة، زهوة تثرثر وهاجر تنصت حيناً وتشرد أحياناً. في تلك الغرفة الكبيرة ثرثرة ودفء وحسابات تشغل أحمد صالح، والباب الذي يفصل الغرفة الكبيرة عن الغرفة الصغيرة مغلق منذ أربعة أيام، في الغرفة الصغيرة أكداس من القش والقصب والآس، وفي الجهة الأخرى منها أكوام من المزهريات والسلال والأطباق، وفي الغرفة الكبيرة ستارة وراءها سريران حديديان وطاولة خشبية تحمل ثلاث وسائد ولحافين وفراشين من الصوف، وأمام الستارة ست كراسي صغيرة وأواني مطبخ وكانون يحيط به لبادتان وثلاثة جلود خراف، وزهوة تمضغ ثمار البطاطا الحلوة وهاجر ترمي في قلب الكانون تارة كوز زيتون وتارة قطعة حطب يابسة فيرسل الجمر شآبيب نار وردية ويتضرج وجها المرأتين بحمرة الدفء، ويأتيهما صوت أحمد من الزاوية البعيدة عن الكانون ليعلن لهما بأن تجارته تدرُّ أرباحاً تفوق ما تدره صناعتها من أرباح. لا تكترث هاجر بما يقوله أحمد فهي إما شاردة أو تستمع إلى ثرثرة زهوة. يعود أحمد صالح ليؤكد ما قاله بالأرقام، ترد هاجر قائلة: هذا طبيعي، فأنا منذ أربعة أيام لم أدخل الغرفة (تقصد مصنعها الصغير)، ثم تشير إلى الخارج وتتابع: ولم أخرج إلى السفح ولا إلى الغابة أو النهر، ألا ترى كيف أن الثلج حوَّل الأرض إلى كتلة بيضاء، ثم ترفع أصابعها فوق لهب الكانون وتضيف: البرد شديد، أحياناً أعجز عن تحريك أصابعي. وينتشي أحمد بالأرباح التي حصل عليها ويعود إلى حساباته بعيداً عن هاجر وزهوة. زهوة تتحدث وهاجر تفكر بطريقة تخلِّص فيها زهوة من أحلام قحطان، كيف يجرؤ هذا الرجل على قتل أحلامها ومصادرة العهد الذي قطعته لأم نضال، كيف؟ ألم تزيِّن مزهرية زهوة بصورتي زهوة ونضال؟ ألم ترسم على طبق قشٍّ قلباً أخضرَ وفي داخله اسمي زهوة ونضال؟ ألم يشربا من النبع الشرقي، نبع العشق والزواج؟ ألا يكفي كل هذا لجعل زواج نضال وزهوة شرعياً؟ ألا يكفي ما تردده مجدلون (زهوة لنضال ونضال لزهوة)؟ كيف يفكر هذا الرجل؟ هل أعماه غروره عن الصواب؟ سألت هاجر ابنتها: منذ متى أنتما زوجان؟ أجابتها زهوة: من أول العطلة الصيفية، شربنا من النبع الشرقي وتزوجنا في المغارة.
نظرت هاجر إلى جسد زهوة وهزت رأسها ورددت: من أول العطلة. ثم حركت أصابعها وزمت شفتها وقالت:
أحمد، اترك حساباتك واذهب إلى قحطان وأخبره أن زهوة حبلى وعليه أن يعقد زواج ابنه بها قبل أن تلد.
لم يصدق أحمد ما سمع، ارتفع صوته، سبَّ هاجر، شتم زهوة، أزاح الستارة وراح يزرع أرض الغرفة جيئة وذهاباً، تارة يضرب رأسه وتارة يمسك بكنزته الصوفية، قامت هاجر وراحت تركض وراءه تخفف عنه وتهون الأمر وتحمِّل المسؤولية لقحطان وتصفه بالأناني والمغرور، ثم تطلب من أحمد أن يرتدي معطفه وينتعل حذاءه ويتعمم لأن البرد شديد والثلج تراكم على الباب الحديدي. يمتثل أحمد لنصيحة هاجر ويخرج ليزيل الثلج عن الباب ثم يذهب إلى قحطان لتظل مع وحيدتها التي سألت أمها إن كان هناك ضرورة لإخبار قحطان، ثم تحدثت عن النبع الشرقي والنبع الغربي، وكيف أنها رفضت أن تشرب مع نضال من النبع الغربي الذي شربت منه مع شبان مجدلون بما فيهم يونس، زهوة تثرثر وهاجر شاردة، قلقة، تفتح النافذة المطلة على الطريق التي توصل منزلها بقصر قحطان وتغلقها، ظلت على هذه الحال حتى رأت أحمد عائداً وعلى وجهه خلاص زهوة وسعادتها وراحة هاجر وأمانها، وحين دخل عليها قال: جهزي زهوة.
شرود هاجر، وحيرة يونس اقتحمهما دخول أحمد، أحمد رحب بيونس وعقب على وجوده بقوله: ظننتك ستنسانا، ذكرته هاجر بأن يونس تربية عليا، وعليا بنت أصل، استقام جسد أحمد على الكرسي الخشبي وقال: أعرف، لكن مع عدم المؤاخذة ومع احترامي لأصله فهو لا يقارن بأصل نضال، وضع أحمد رجلاً على رجل، فتح علبة تبغه المعدنية، فرش على يده ورقة بيضاء صغيرة، وضع في وسطها قليلاً من التبغ المفروم ثم لفها وأشعلها من جمرة كانت قد تناثرت من الكانون مج نفساً عميقاً وزفره فامتزجت أبخرته مع أبخرة الكانون في الفضاء الضيق، سعل ثم نفث وسعل وتحدث عن أصل نضال وطموحاته، وذكر يونس بأنه، أي نضال، تربى بينهم، ثم أشاد بنبل أخلاقه وورعه وتقواه ولم ينس أن يحدثهما عن جده ومثابرته، ثم أخبرهما أنه انتمى للحزب، وأن الجميع زملاءه وقادته يتوقعون، رغم صغر سنه، أن يتسلم مركزاً قيادياً في حزبه، ثم توقف ليسأل هاجر عن مثل تردده دائماً فأجابته سائلة: وأنت تبحث عن دبور لسعك توقع أن يهجم عليك عشرات الدبابير لتلسعك؟.
هز رأسه نافياً أن يكون هذا المثل هو المثل المقصود.
إذن هذا المثل ( وأنت تبحث عن نبع يروي عطشك، ستتدفق في وجهك عشرات الينابيع... )
قاطعها: نعم هو، نعم، صبي شاي ليونس، أظنني شربت كأسه، صحيح يونس أريد أن أسألك: هل عرف أبوك قبل أن يموت أنك تصنع بشراً، مع عدم المؤاخذة أظنك قاتله.
تدخلت هاجر وذكَّرت أحمد بأن يونس ضيفهم، وبأن حامد مات من الختيرة والمرض، ارتفع صوت أحمد وحذر هاجر من مقاطعته والتدخل فيما
لا يعنيها:
هاجر، منذ أيام وبعد فعلتك الشنيعة وإهمالك لزهوة، اتفقنا على أنني رجل البيت (ديكان على الرف لا يبيتان)، كنتِ الديك لكن صياحك حبل زهوة، إن شاء الله صياحي يحبلك، رشف أحمد نصف الكأس، ضرب ساق يونس وسأله إن كان البشر الذين يصنعهم يتكلمون؟ وقبل أن يسمع الجواب سأله إن كان يعيره أحدهم ليساعده، ثم لفت نظره إلى أنه يجب استثمارهم، وإلا فإنه يضيع وقته سدى، ثم عقد معه صفقة، واحد من التماثيل مقابل أذرع قماش تكفي لستر الأجساد العارية، ضبط يونس نفسه وبهدوء حدث أحمد عن العلاقة الحميمة التي تربطه بمنحوتاته (إنهم أبنائي علاقتي بهم تشبه علاقتك بزهوة، غير أنني أرفض بيعها، أحجارها من التلة الباكية، وبيدي هاتين صنعتها، ومن روحي نفخت بها)،
لم يستوعب أحمد ما سمعه وظلت المنحوتات شغله الشاغل، حدث هاجر عنها، وصف لها النساء العاريات والرجال المفتولي العضلات، وقف أمامها وصار يقلد التماثيل، تارة يرفع يده ويبعد قدميه عن بعضهما وتارة يضع يديه على جذعه، حركاته البهلوانية كانت تصاحبها نظرات جامدة. لم تبالِ هاجر، كذلك قحطان لم يهتم كثيراً بما سمع فقد اعتاد على مبالغات أحمد، ثم هي جراحه ما زالت تنزف، وحين وقف أمامه كبهلوان يقلد حركات تماثيل يونس، شرد قحطان وتساءل: ما الذي سيفعله إن عرف يوماً الحقيقة؟ ما الذي سيفعله إذا علم أنني بعت امرأة كنت أخطط لتصبح زوجي؟ فضاجَعَتْ ابني لتحبلَ منه؟ ما الذي سيفعله إن علم أنني بعت ابنة في أحشائها حفيده وحفيدي؟ هل سيقتلني؟ أم تراه يقتل نضال؟ وضحك قحطان وازدادت بهلوانية أحمد وقال: الحمد لله. أخيراً نجحت في جعلك تضحك.
لو عرف قحطان سبب بهلوانية أحمد لبكى عليه وشجعه أكثر، هذا الرجل بوأته الخطيئة عرشاً كان يجاهد ليكون قريباً منه فإذا به يتحول إلى رجل مهزوز قلق، يرقص أمام رجل مجدلون، يتوسل إليه قائلاً: أنا أفعل أي شيء، أرقص، أركع، أنخ، أقبل الأرض التي تدوسها، لكن لا تقل شيئاً يبعدني عن العرش، لأكن يدك، قدمك، فضلاتك، أنا كما تشاء، لكن لا تقل شيئاً تحتقرني مجدلون لأجله.
لو عرف أحمد سبب ضحك قحطان لبكى أمامه وقال: كلا، لن أفعلها، كلانا متواطئ فدع الأمر سراً بيننا إن اضطررنا نبيع هاجر أو نقتلها، فهي إن عرفت الحقيقة لن تسكت، ولن تعود ديكاً بل ستتحول إلى نمرة، أو ذئباً، وإن اضطرها الأمر ستصبح أفعى.
ضحك قحطان، قهقه، وأحمد ما زال يتحرك برشاقة، سعيد بما يفعله، هو الآن الرجل الذي تحترمه هاجر ويقدره قحطان وتحذره مجدلون، الويل لمن لا يسمعه كلمات الثناء والمديح، هذه الكلمات كانت تتدفق غزيرة من فم رجل مجدلون، وأمام هاجر كان يرفع صوته فتفقد أطباقها اتساق ضفائرها، وتفقد المزهريات رونقها،
وترتعش تماثيل يونس وتخرج عليا لتستمع إليه وتراه وهو يرمي السلال في كل الاتجاهات، ويصب لعناته على هاجر، ثم تدخل منتشية بالرجولة التي أتت متأخرة على حد تعبيرها، ويسمعها يونس تقول: لو أن صوت أحمد كان قوياً كما هو عليه الآن لما حبلت زهوة، وتحول صوت أحمد إلى موسيقى تطرب عليا وتخيف هاجر وتزعج يونس.
لكي تصل عليا حد النشوة كانت تقف على المصطبة وتلتقط أذناها الصوت الهادر، هذا الصوت كان يزعج هاجر ويرجف أصابعها، فيدفعها الخوف على ما تصنعه يداها إلى التوقف لحين انتهاء أحمد من صراخه، أما يونس فكان يغلق منافذ منحته الصغير ويحشو أذنيه بقطعتي قماش صغيرتين. الأمر مختلف أمام قحطان، حيث يصبح صوته أقرب للهمس، جوهرة تعتقد أن صرامتها هي السبب، فقبولها بزيارات أحمد المتكررة كان مشروطاً بخفض صوته وتغيير نبرته الناشزة، قحطان صارحه حين قال: عملك الأول كان يتطلب منك صوتاً قوياً، الآن صوتك يجب أن يكون أقرب للهمس، ماذا سيقول عني الجوار حين يصل صوتك إليهم؟ ثمة أسرار لا يجوز أن يطلع عليها أحد غيرنا. ومن الأسرار التي خرجت من بين جدران الغرفة المنفردة، ضرورة بقاء زهوة ونضال في حماة، فما فعلاه مشين، وهو وصمة عار في جبين كل فرد من سلالة ظلت لعقود توصف بالمعصومة، وأسرَّ قحطان بأن لعنة حلت على هذه السلالة، لعنة يعرف مصدرها، لعنة اسمها زهوة،
دست عرقها في هذه العائلة وجاءت لتغوي فتاها، وتجعله أباً لابن غير شرعي، نقل أحمد إلى هاجر رغبة قحطان في إبقاء نضال وزهوة في حماة وطمأنها حين أخبرها أن قحطان اشترى لهما منزلاً كبيراً.
كان كل شيء سيتم كما يريد قحطان، وما قبل به أحمد ورضخت لـه زهوة، إذن كان كل شيء سيتم لولا شائعة قيل إن مصدرها يونس تقول بأن قحطان قتل زهوة، هذه الشائعة هزت عرش أحمد وزلزلت قصر قحطان، فاندفعت هاجر لتحمي العرش والقصر، اقتحمت منزل يونس تعاتبه على ثرثرته، توبخه، تشتمه وهو جالس ويده متصلبة على منحوتته، لا يدري بم يجيب، حين دخلت كانت ضعيفة خائفة من أن يؤكد لها الخبر، وحين خرجت كانت قد استعادت شيئاً من قوتها، إذ قالت في سرها: لو كان لديه دليل لواجهها به. تلك القوة التي أظهرتها هاجر كانت هشة، قوة كانت ستتهاوى عند أول تأكيد بأن الشائعة هي الحقيقة وبأن ثرثرات أحمد كانت لذر الرماد في العيون، ورغم ذلك فإن صراخ أحمد الذي سمعه يونس لم يعد الأمان إلى قلبها، ولا فتوى قحطان أعادت إليها الطمأنينة، واحتمى يونس داخل الجدران المثقوبة، تلك الجدران كانت تتيح لمن يدفعه الفضول لرؤية مخلوقات أبدعها رجل وصفه أحمد صالح بالمجنون، وأصدر قحطان فتوى بهدر دمه، وألحقها بفتوى تدين أفعاله وتعرض كل من يتجرأ على زيارته للتكفير.
ردعت الفتوى عجائز مجدلون وأتقياءها، ودفعت الفضوليين للتساؤل: لماذا؟.
ما الذي فعله هذا الولد الوحيد؟ كيف أصبح هذا الولد نداً لقحطان؟ رجل مجدلون الأول، كيف تجرأ ولد لا دعم لـه ولا سند على الوقوف في وجه قحطان؟
هذه التساؤلات كانت سبباً لاقتحام منحت يونس، ولأنه كان يدافع عنه ويمنع أحداً من الدخول إليه، فقد توزع الفضوليون على الجدران يراقبون من خلال ثقوبها ما يجري في الداخل، رأوا أجساداً لها أيادٍ مرفوعة، وأرجلاً تتأهب للسير، رأوا أثداء وأعضاء ذكرية وأنثوية، رأوا يونس جالساً أمام منحوتته يداعبها بشاحوطة صغيرة كان قلقاً يصيخ السمع إلى الهمسات والهمهمات التي تدور في الخارج، ضربوا الجدار الطيني، صرخوا، أتوا على دفعات، وكل دفعة تكرر ما فعلته التي قبلها، ويونس على حاله، ظاهره هادئ وداخله يمور أسى وأسئلة، أسى على أيام ولت إلى غير رجعة، فما يحدث الآن هو أول الغيث، وغداً ستجرف السيول منحته وسيكون مع تماثيله الأضحية، تدور الأسئلة في رأسه، هل أهرب؟ أيكون الهروب من هذا المنحت مخلصي؟ هل أترك حصادي في أيدٍ همجية؟ أسئلة دارت في رأسه كما الحبوب تدور في الطواحين الصغيرة التي ملأت بيوت مجدلون، الحبوب تحوَّلت إلى طحين، ومنحت يونس تحوَّل إلى ركام، قفز إليه أولاد مجدلون يبحثون عما رأوه من خلال الثقوب، منحوتات أو أعضاء أعجبهم دقة نحتها، وحين لم يجدوا شيئاً عرفوا أن تلك المنحوتات الشريرة هدمت منحت يونس وخطفته. وإلا أين هي المنحوتات؟ أين هي الرؤوس؟ أين الأثداء وأين الأعضاء الذكرية والأنثوية؟ ألم تسلبها جميعها أرواح دبت في المنحوتات لتهرب؟ ثم ماذا؟ خطفت الشيطان الذي صنعها. أليس هذا ما حدث؟ هل من تفسير آخر؟ حتى عليا التي لجأت إلى بيت هاجر لم تجد تفسيراً آخر، وما تحدثت به وصف على أنه هلوسات امرأة أضاعت رشدها، فهل يعقل أن يدخل رجال ملثمون إلى المنحت يسرقون التماثيل وآخرون ملثمون أيضاً يهدمونه؟ إذا لم تكن هذه هي الحقيقة فأين هي بقايا المنحوتات؟
هاجر التي فتحت لعليا قلبها وبيتها، طلبت منها أن تكف عما وصف بالهلوسات، وانصاعت عليا لطلب هاجر، فالأخيرة هي الأقدر على الفصل بين ما حدث بالفعل وبين هلوسات يطلقها عقل بات عاجزاً عن التمييز بين هياكل عارية ورجال ملثمين، عليا التي استيقظت على الدمار بحثت عن تماثيل يونس ثم لجأت إلى بيت هاجر تولول، تبكي على وحيدها، تنعي منزلاً طينياً وتترحم على بانيه، ورأت مجدلون العبرة بعيون أهلها ولمستها بأيادي ساكنيها، العقاب جاء من السماء، فثمة خطايا لا يفيد معها توسل قحطان ولا التضرع لشيخ مجدلون الأكبر، إنها خطايا تمس مكانة هؤلاء، أصحابها يقودهم الشيطان فيزين لهم سوءتهم على أنها عطاء.
عليا التي لثمت أحجار الحوش اطمأنت نفسها، وتوقعت خيراً من زيارتها، لكن، حين تتخطى عقول البشر إرادة خالقها فإنها عاجزة عن كبح شرورها.
في تلك الليلة الصاخبة وبعد أن ذهب الجميع، لمعت السماء وأبرقت ودبت الحياة في تماثيل يونس فدكت منحته وحطمته وحملته ودخلت به المغارة، لكن اللعنة بدأت في اليوم السادس لاختفائها، حيث رأى أحمد تماثيل يونس تخطف عليا من ساحة القرية وتختفي. وهكذا غدت تماثيل يونس الملثمة لعنة تلاحق سكان مجدلون حتى أسرَّتهم، وبات من النادر أن يُرى أحدهم عابراً في زواريبها، حتى ساحتها التي كانت تضم شباب مجدلون وصباياها أصبحت خالية إلا من سكارى وعجائز لم يستطيعوا النوم
ــ 7 ــ
تنفست المرأتان الصعداء، كل منهما هتفت في سرها: الحمد لله.
حمدت المرأتان الله كثيراً على اختفاء عليا، هذه المرأة الأربعينية حولت حياة هاجر وجوهرة وعلى مدار أسبوع كامل إلى جحيم، المرأة التي أنجبت ذكراً وتوقفت، لماذا؟ لا أحد يدري، لكن أحمد وقحطان على ثقة بأنها ستنجب لمن يتزوجها ذكوراً ما زال أمامها أعوام لتحقق رغبة من ستكون لـه زوجة. هي احتمت أولاً في منزل أحمد ثم أرسل قحطان في طلبها وفتح لها قصره، لكن لا أحلام أحمد أثمرت، ولا رغبات قحطان تحققت، تركت المنزل والقصر واختارت زواريب مجدلون تبحث فيها عن رجل ربته، لكن تماثيل ذلك الرجل خرجت ذات ليلة وخطفت عليا، وردد الاثنان أحمد وقحطان العبارة ذاتها، وماذا سنفعل بامرأة في الأربعين؟ لكن هاجر ومثلها جوهرة تعرفان ما يختبئ وراء هذه العبارة. فأحمد صالح، وبعد حوادث خطف، ورفض نساء المخطوفين ترك أولادهن لأجله خرج إلى قرية الخربة يبحث عن فتاة تكون زوجة وأماً لأولاده وعرض على قحطان مرافقته، لكن الأخير اعتذر فهذا الدور لا يناسب رجل مجدلون، (رجل مجدلون) عبارة قالها بما يشبه الهمس ولو أن قحطان أعلنها على رؤوس الأشهاد لذكره أحمد بأنهما رجلا مجدلون، وقد يصبح عما قريب وحده رجل مجدلون.
كان أحمد مصيباً في نظرته تلك، فما يصح عليه هو وهاجر بدأ يعطي إشارات على أنه سيصحو يوماً مع قحطان، فمجدلون الآن تتسع لرجلين، أحدهما يصيح والثاني يملي على الذي يصيح ما يريد، أو أحدهما يخطط والثاني ينفذ.
إلى متى؟ سؤال طرحه أحمد على نفسه أكثر من مرة وكان الجواب إلى حين، وحين طرق باب بيته ليحدثه عن العار الذي لحق به، قال: كلا، بل حتى الموت، حتى الموت سيظل قحطان يملي عليَّ ما يريد، يأمرني وأنفذ.
وبعد عودة قحطان من حماة دبت الحيرة في رأس أحمد، قحطان رفض استقباله، وباب السور الخارجي أغلق في وجه كل زائر.
لكنني أحمد صالح، أبو زهوة.
أجابته جوهرة: إنه مكدر ومهموم، إنه لا يقوى على الجلوس.
ثم سألها عن زهوة، فأجابته برفع كتفيها وزم شفتيها، ولكي يثبت لهاجر أن الأمور تمت كما يريد، دخل إلى دكانٍ واشترى علبة حلوى كبيرة وادعى أنها هدية قحطان لهما.
بعد أسبوعين استعاد قحطان عافيته، وتتالت الأحداث متسارعة، هرب يونس، دبت الحياة في تماثيله... واختفت عليا، بعد كل هذا كان على قحطان وضع النقاط على الحروف، فالنار التي أشعلها يونس لم تطفئها إلا الحقيقة التي ستخرج من فم سيد مجدلون، وذكَّرَت الحقيقةُ التي تحدث بها سكان مجدلون بالحقيقة التي تحدثت فيها هاجر عن طيران زهوة وكيف أن صياداً ظنها إوزة فأطلق عليها رصاص بندقيته ورماها.
قال قحطان بعد أن جمع حكماء مجدلون ومعهم أحمد صالح: هذه المعجزة منعت كارثة من الوقوع، ولولاها لزالت عن سلالة شيخ مجدلون الأكبر اسم السلالة المعصومة.
كنت أنا وزهوة قد ودعنا أحمد، وانطلقنا من حيالين إلى مصياف، كان الوقت فجراً والصقيع ما زال يغطي حتى رؤوس الأشجار وقمم الجبال، دون أن يستثني الوديان والمنحدرات، حقاً كان كل شيء أبيض ويدعو للفرح والتفاؤل، وبينما السيارة تخوض في الطريق الوعرة كنت أقول بيني وبين نفسي: بعد ساعة نصل إلى مصياف نتناول طعام الإفطار ثم نتابع طريقنا إلى حماة، نذهب إلى منزل نضال، وقدرت أن وصولنا سيكون قبل ذهابه إلى المدرسة، هناك أعقد زواجهما وأباركه وأعود إلى حيالين، أقضي الليل بين أهلها الكرماء وأخرج منها فجراً باتجاه مجدلون وكنت بين الفينة والأخرى أطمئن على ابنتي زهوة وأحذر السائق من السرعة الزائدة خاصة عند المنعطفات، فجأة اهتزت السيارة وأرسلت صوتاً ذكرني بصوت طاحون القرية، ثم اتخذت اليسار مساراً لها وتوقفت، نظرت إلى السائق فرأيت الخوف يتوسد وجهه، والذعر يجعله يحرك لسانه في حلقه دون أن يستطيع الكلام، ترجلت من السيارة علني أعرف سبب اهتزازها المفاجئ وتوقفها، أغلقت باب المقعد الأمامي، نظرت إلى مقعد السائق فما وجدت أحداً، صرخت: عبدو، عبدو.... لا أحد سوى صوت اصطدام قوي تبعه هدوء، قدرت أنه سقط في الوادي، أسرعت لأنقذه، نظرت إلى السفح، إلى القاع، لا أحد، عدت إلى السيارة، فتحت باب المقعد الأمامي، شعرت بشيء يلطم وجهي ويغرز مخالبه في عنقي فيوقعني أرضاً جمعت نفسي ووقفت أبحث عن هوية ذلك الشيء الذي أوقعني، بحثت عن زهوة لأحميها مما يحدث، نظرت إلى مقعدها فوجدت سروالاً وثوباً أبيض مع منديل وجزمة سوداء، لا شيء آخر، أصابني الذعر، قفزت في الهواء، صرخت: زهوة ابنتي أين أنتِ؟ سمعت ضحكتها، نظرت حولي، لم أرها، شعرت بريح تهب حولي، رفعت رأسي ورأيتها، هي زهوة، أخيراً يتحقق حلمها، يتحول شعرها إلى جناحين كبيرين وساقاها تصبحان ذيلاً وأصابعها تصبح مخالب تدميني، قلت لها: زهوة، ابنتي، عودي. وعادت ضحكتها تملأ المكان، دارت ثلاث دورات فوق رأسي ثم رمت ورقة وارتفَعَتْ، صرَخْتُ بها لا ترتفعي عودي لنذهب إلى نضال، عودي يا زهوة، زهوة لا تكوني السبب في هلاكي، ماذا سأقول لنضال وأحمد وهاجر؟ ماذا سأقول لمجدلون؟ حلمكِ قتلك في جيل سابق، وهو الآن إن لم تعودي سيقتلني، زهوة ارحميني، ماذا فعلتُ لكِ؟ هل أستحقُّ منكِ كل هذا العذاب؟.
أنا أتوسل إليها، أتذلل، أبكي، وهي تشاكسني، تعلو وتنخفض، تدنو وتبتعد، ثم تختفي. يوم كان نهاره بكاءً وكان ليله نوماً أيقظني منه جد مجدلون، جدي، قال لي طريقهما مختلف، أنتم سلالة جد مجدلون عليكم واجبات دينية ومهام دنيوية، فلا تدع امرأة تلهيكم عما كلفتم به، هيا دعها وشأنها، أخبرهم أنني المسؤول عن كل ما حدث.
وبينما الجميع خاشعون ينتظرون ما ستمطره شفتا رجل مجدلون على أسماعهم نقلاً عن جده، انتقلت الأنظار إلى جيب سترته ثم إلى ورقة فرشها أمامهم وبدأ بقراءتها، في الحقيقة كانت هذه الورقة أهم من الورقة التي برأت قحطان من دم زهوة، هذه الورقة تتحدث عن امرأة تعترف بأنها فقدت انتماءها لجيلين متتاليين، فلا هي شعرت بأنها امرأة أرضية ولا استطاعت أن تفعل ما تريد، وعزت حالة ضياعها هذه إلى هاجر: إنها هي، صديقتي وأمي، صديقتي التي كانت تحدثني عن أهمية أن تكون المرأة ذات شأن، صانعة سلال وأطباق ومزهريات، مثلاً، يأتي إليها الجميع يأخذون ما تغزله يداها، ولأنني فشلت في تعلم مهنتها فقد صارحتها برغبتي بأن أموت وأولد عندها لأرث أصابعها الجميلة، وأغزل مئات السلال والأطباق والمزهريات، وحين تحققت أمنيتي لم أرث أصابعها بل ورثت رأسها المليء بالأحلام والطموحات فأرسلتني إلى المدرسة، وليتها لم تفعل، لأنني وحين كبرت عرفت أن الأحلام غير الممكنة تضع الإنسان أمام خيارين: إما الإحباط أو الطيران، واخترت الأخير فهو الأقرب إلى نفسي، فإن تكن بندقية صيد أصابتني في المرة الأولى فهي لن تطلق باتجاهي في هذا المكان حيث لا صيادين ولا إطلاق رصاص وداعاً هاجر. حين تمر أسراب الإوز في فضاء مجدلون فاعلمي أنني الإوزة التي تطير بعيدة عن السرب.
حديث قحطان عن تحقق حلم زهوة بالطيران تبعه صمت اقتحمه صوت أحمد صالح قائلاً: حسناً سأراقب أسراب الطيور، إن رأيت إوزة تطير بعيداً عن سربها سأبرئ ساحتك وإلا....
وعاد الصمت تخلله همهمات وأصوات حفيف معاطف الحكماء، ومن ثم انصرافهم الواحد تلو الآخر دون أي تعليق. هذا الصمت الذي ينبئ بعاصفة أخاف قحطان ووجد نفسه أمام أمرين، إما الإقرار بأنه كاذب، وهذا يلزمه قول الحقيقة المقنعة، أو التظاهر بأن لعنة أصابته وحولته إلى رجل مهزوز يلغو بثرثرات تبرئه وكان عليه اختيار الأمر الثاني، وسمعه الناس يقول: طارت، بل هربت أو ماتت،
وأحياناً يشير إلى المغارة ويقول راجفاً: إنها مع تماثيل يونس، تخطف، تسرق، تقتل، نعم ليلة أمس رأيتها، وقفت أمام القصر وصرخت مهددة بقتلي.
لم يترك قحطان طريقاً أو شارعاً في مجدلون إلا وردد فيه عباراته السابقة، واستمر الوضع على هذه الحال حتى ملت مجدلون لغوه وثرثرته، واكتفت هاجر بهذا الانتقام الذي قام به جد مجدلون، وفي كل مرة يطرق باب منزلها تستمع إليه وتهز رأسها قائلة: والله تستحق أكثر، ثم تذرف الدموع على وحيدتها، أما أحمد فقد قضى حزيران جالساً على التلة الباكية يراقب أسراب الطيور العائدة، انتظر حتى رأى إوزة بعيدة عن سربها، اطمأن وخرج إلى مجدلون يعلن الخبر، وبعد اطمئنانه على زهوة تفرغ للعناية بنفسه وبمكانته الجديدة، سيداً أرضياً لمجدلون، تدعمه تماثيل يونس، فهو كما أعلن، لا يحتاج لأجل تثبيت سيادته أشباح السماء، إنه رجل علماني، لأنه وبعد أن تأكد أن زهوة بخير وبأن العقم أصاب هاجر، بدأ يبحث عن امرأة أخرى، امرأة تنجب لـه الذكور.
حين وصل إلى قرية الخربة حدثه قريب لـه عن امرأة توفي زوجها بعد أن أنجبت ذكرين، وقصد الاثنان، أحمد وقريبه، منزل الأرملة الجميلة، وعلما أن قحطان سبقهما ورفضته. كان هذا إشارة من الأرملة إلى أنها لا ترغب بالزواج من أحدهما لكن أحمد لم ييئس، فعاد وبصوت هامس يحلف أنه يحبها، ولا يريد حواكير زوجها ولا بساتينه، وهو على استعداد لأن يساعدها في تربية ولديها، وكان سيغدق عليها الكثير من الوعود، لولا أنها ذكَّرته بأنها أرملة، وفي حال زيارة تالية ستضطر إلى طرده، وقد تلجأ إلى أقارب زوجها لتلقينه درساً لن ينساه، هذه المحاولة تلتها محاولة أخرى، بدأت في عيد الرابع من نيسان، حين رآها حلف أنه يعرفها، لحق بها، خيل إليه أنه يعرف المكان، الساحة ذاتها، أشجار البلوط صارت أكبر، لكنها هي، هي التي كانت تظللهما أفنانها، كل شيء أمامه بدا لـه مألوفاً، الأزهار البرية، أعشاش الديدان الأرضية، ألوان الفراشات، الحجارة، صوت النهر القريب، نقيق الضفادع، يا الله، كيف؟ تساءل، وأضاف: هذه هي المرة الأولى التي أقصد فيها هذا المكان.
شيء ما عبر ذاكرته، وهو يشبه ومضة، صوت يهتز على أثره الرأس الصغير ثانية، بل هي جزء من الثانية ويختفي كل شيء، وتعود الومضة، والصوت يهزه من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، كان بعيداً عن الصمت، ووحيداً يفتش في أوراق ذاكرته، في نبضات جسده، في دقات قلبه، يفتش عن شيء يذكِّره بالمرأة، أين رآها؟ ما علاقته بها، فكر بالعودة والتحدث إليها وسؤالها إن كان وجهه يذكرها بشيء، لكن ثمة عائق، هذه المرأة متزوجة، وهذا العيد لعشتار، تخصصه لشبان وفتيات يجتمعون في مكان ما ليلتقوا ويتعارفوا، والمتزوجون يأتون إليه ليستعيدوا ذكريات حريتهم المفقودة،
كل عام تأتي عشتار، تفرش الأرض ألواناً وخضرة وتملأ تلك الجبال خصباً وفرحاً، ويأتي بعدها كيوبيد يتجول بين أفراد الجمع المزخرف، يطلق سهامه في كل الإتجاهات، فهل أطلق سهمه على أحمد صالح؟ لا، أحمد متأكد أن كيوبيد يعرف أنه متزوج من هاجر، ولن يخسر سهماً لأجله، وإحساسه تجاه هذه المرأة لا علاقة لـه بما يفعله كيوبيد. لامست أصابعه شجرة صغيرة فتساقطت منها زهور صفراء تذكر أن لهذه الشجرة أغنية حين تسمعها تهتز وتلقي بزهورها الصفراء على الأرض، حاول تذكر كلمات الأغنية، ربط بين الأغنية والمرأة، إن تذكر الأولى سيتعرف على الثانية، أغمض عينيه، حاول استحضار ماض مغرقٍ في قدمه، استعان بما يراه حوله، الأشجار، روائح الزهور، نقيق الضفادع، ألوان الفراشات، رائحة النار ممزوجة بالطعام، لكن عبثاً، لم يتذكر الأغنية ولم يتعرف على المرأة، عاد، دخل منزله الذي أصبح في مجدلون الجنوبية، خطرت في رأسه فكرة فقرر تنفيذها، لكنه عاد مكسور الخاطر، تساءل، لماذا أفشل في حين ينجح قحطان؟.
لكن ما حدث بعد ذلك جعله لا يحسد قحطان، فثمة نبوءة تخص رجل مجدلون بدأت علائمها الأولى بالظهور، ففي عصر ذلك اليوم أفاء قحطان ظل شجرة التوت، نقل نظره على ظلال حبت باتجاه الشرق، بعضها تسلق الجدار الحجري، فنقل سريره الخشبي على أكثفها المسترخي على المصطبة، استلقى على السرير، نزَّه نظراته على أصص الحبق والسرايا، هبت نسمة في المكان فحملت إليه رائحة منعشة، جلس على السرير، نزع الكوفية والعقال عن رأسه، علقهما على غصن مقطوع، نضَّ عن جسده القمباز، علقه فوقهما، تمدد بعد أن أصبح حاسر الرأس، يستر جسده، فقط، قميص قطني وشروال، همس: هذا يكفي.
دارت نسمة حول السرير، تحسس الجدار، قال: لولاه، لولاه.
شرد قحطان وعاد يفكر بطريقة يزيل بها الجدار، ثمة طرق، قال في سره، لكن، ستجرف الأمطار تربة الحواكير، تدك الجدار، تطمر القصر والمصطبة، جوهرة امتلكتها وأصبحت في قصري، أما الحواكير فإن امتلاكها لم يجعلها مكملة للقصر، كما جوهرة.
شرد قحطان بحلم طالما أرَّقه، القصر على تلة تحيط به حواكير جوهرة وحواكير ورثها عن والده صالح، تخيَّل القصر قبة بيضاء ومن حولها بساتين تثمر بكل ما لذَّ وطاب، تخيل القصر جزيرة والأراضي من حوله أنهار من عسل وخمور، هذه التخيلات اجترها كثيراً فراح يبحث عن تخيلات جديدة، وقبل أن يمسك بطرف تخيل جديد هبت زوبعة من حوله رمت أصص الحبق والسرايا وذرت عليه الغبار، انتفض جالساً على السرير، نظر أمامه فرأى رجلاً من غبار، رآه يتماوج أمامه وسمع صوتاً يقول: (لن تلحق). ثم طار الرجل الزوبعة بين الأغصان واختفى.
لم تصدق جوهرة ما رأت وما سمعت، قحطان يرتجف ومن حوله أوراق صفر، قحطان يهذي ويتحدث عن رجل كان هنا أمامه على المصطبة، رجل طار بين الأغصان ثم. .. أشار قحطان إلى السرير الخشبي ثم إلى المصطبة، هزت جوهرة رأسها وعرفت سبب صراخ قحطان، سارت خطوتين باتجاه الغصن المقطوع، نزعت عنه القمباز والكوفية والعقال وقالت تطمئنه: لا تنسَ أن هذا المكان هو في درب التنين، يعبره كل عام مرة أو مرتين في حزيران. كانت جوهرة ستذكِّر قحطان بما فعله التنين في عبوراته السابقة، لولا أن زوبعة خطفتها مع ثياب قحطان وبعد ما يقارب الساعة وقف رجل أمام قحطان، رجل يغطي رأسه بكوفية قحطان وعقاله، ويدثر جسده بقمباز قحطان المخطط باللونين الأسود والأبيض.
نظر قحطان إلى الرجل الذي أمامه فرأى قحطاناً آخر بشعره الأسود، بعينيه الخضراوين وبوجهه الحنطي، بكتفيه الواسعتين وبقامته المنتصبة، سأله:
كيف تجرؤ. ..؟
أجرؤ على ماذا؟
كيف تجرؤ على انتحال شخصيتي؟
لا، أنت من ينتحل شخصيتي.
إنني الأصل وأنت المزيف.
أين جوهرة؟
جوهرة؟ ماذا تريد منها؟
جوهرة زوجتي.
أعرف، وهي الوفية أبداً، لا تقلق، إنها بخير، لكن دع النساء جانباً، ثمة أمر جئت أذكرك به.
تذكرني؟ ومن أنت حتى تذكرني؟
نعم سأذكرك، إنني الموكل بتذكيرك، أنا قحطان الحقيقي الذي لم ينسَ النبوءة، جئت أذكرك بأن تتهيأ لموتك الأول.
موتي الأول؟
نعم، وسيكون مساء هذا اليوم.
مساء هذا اليوم؟
نعم، انظر إلى هذه الشجرة، لقد اصفرت أوراقها، غريب ! ألم تسأل نفسك عن سبب اصفرار أوراقها في حزيران، نحن في حزيران، أم تراني على خطأ؟
لا، نحن في حزيران، هذا صحيح، صحيح تماماً.
والصحيح كذلك أنك لن تنسى نبوءة جدك: ( حين تصفر أوراق شجرتك ستكون على موعد مع موتك الأول. ) أم تراك نسيت، أعذرك، الجميع رغم كل شيء يحبون الحياة، وأنت رغم كل ما حدث ما زلت متعلقاً بها، لا أريد أن أذكرك بأحزانك وإحباطاتك، لكن الحياة حلوة، وأنت شغلت نفسك بأشياء مهمة، وهذا طبيعي، أمثالك لا يشغلون أنفسهم بتوافه الأمور، حسن، هذه الليلة ستكون ميتتك الأولى، وغداً ستمشي وراء نفسك وسيردم أعلاك أسفلك ،وبعد ذلك بعام واحد، أي في حزيران القادم وفي مثل هذا اليوم سيبدأ أسفلك بالتهام كامل جسدك، انظر إلى هذه الشجرة، أوراقها بدأت بالتساقط لكن جذعها وأعضاءها ما زالت خضراء، حين يبدأ اليباس بالتهام نسغها يبدأ المرض من أسفل فخذك ثم يلتهم كامل جسدك، أحسدك يا صديقي، بين الموتين حياة مختلفة، لا تشغل نفسك بالتخطيط للهروب من الموت الثاني، أنصحك استغلالها. دارت زوبعة في المكان اختفى على أثرها قحطان الآخر أو الرجل الزوبعة.
أغمض قحطان عينيه، شرد يستعيد نبوءة راوغها كثيراً، فكر بطريقة لتغييرها أو تأجيلها، قرر الاستغناء عن أفضل أراضيه ليمنحها وقفاً لضريح جد مجدلون، إن قبل جد مجدلون سيبني فيها غرفاً يأوي إليها الفقراء وأبناء السبيل، نعم. استراح قحطان لقراره هذا، قام، دخل القصر، بحث عن جوهرة، لم يجدها، عاد إلى السرير الخشبي، تجولت نظراته على الجدار الحجري، ارتعش، خاف أن تكون ميتته الأولى من ثقوب الجدار، ثمة أفاعٍ، جرَّ السرير بعيداً عن الجدار، نظر إلى الشجرة، دفعه الخوف مرة أخرى إلى جر السرير بعيداً عن الشجرة، استلقى على السرير، أغمض عينيه يفكر بأفضل أرضٍ يملكها، وحين أعياه الاختيار قرر منح أقرب أرضٍ للضريح لتكون وقفاً لـه، استراح لقراره وكاد يغفو لولا أن الزوبعة عادت، ورأى أمامه قحطان الآخر يخبره بمكان جوهرة: هي في منزل هاجر. ثم يناوله العقال والكوفية وينض عن جسده القمباز ويرميه على السرير الخشبي ويختفي.
اختفى الرجل الزوبعة، ارتدى قحطان ثيابه وجلس ينتظر حركة أو إشارة تعلن عن عودة جوهرة، انتظر ساعتين وربما أكثر، في ذلك الوقت كان سعيداً للقرار الذي اتخذه وكان يتمنى أن تأتي جوهرة ليحدثها عن قراره، سيقول لها: بعد اليوم لن يمر التنين من مصطبة القصر، وتهيئي، لقد عرفت سبب عقمك، ستحبلين وستلدين الذكور والإناث... قرر قحطان الذهاب إلى منزل هاجر ليأتي بجوهرة فلقد تأخرت كثيراً.
قام قحطان وسار باتجاه الباب الرئيسي للقصر، وقف، نظر إلى الطريق الرمادية، لم يرَ خيال جوهرة النحيل، عاد إلى سريره الخشبي، الخوف أعاده إليه، استلقى وظل يصيخ السمع إلى صوت يقترب، ويدقق النظر في أية حركة، لكن لا صوت ولا حركة، بل هو خاف من عودة الرجل الزوبعة لذلك قرر الذهاب إلى بيت هاجر
حين وصل، نظر من ثقوب النافذة فرأى هاجر بين أطباقها وسلالها ومزهرياتها، ورأى وجهها الحزين على ضوء قنديل وضعته أمامها، طرق الباب وراح يهذي بعبارات لم تفهم منها إلا سؤاله عن جوهرة، هزت رأسها وأغلقت الباب في وجهه،
لم يفاجأ قحطان بما فعلته هاجر فقد اعتاد منها هذا السلوك مذ أشاع في مجدلون أن زهوة طارت وأنها، أي هاجر، السبب في طيرانها واختفائها.
في طريق عودته كان قحطان خالي البال مرتاحاً، الرجل الزوبعة كاذب، فجوهرة في مكان آخر، وعلى الأغلب ستكون في القصر، حث خطاه رغم الظلمة الشديدة، وكان على بعد خطوات من القصر حين سمع دوياً لإطلاق نارٍ، ثم سقط وجر نفسه إلى القصر ليرى جوهرة بانتظاره، وبدلاً من أن تحدثه عن القيلولة التي قضتها على سطح القصر وجدت نفسها تجمع قطع القماش لتوقف بها نزيف فخذ قحطان، ثم تخرج من القصر لتحضر من اعتادت مجدلون تسميته بالطبيب.
حين رفع الطبيب السكين المسنونة فوق أعلى الركبة رفع قحطان يده ليمنع الطبيب من قطعها فرد الأخير قائلاً: أمامك أحد أمرين: إما قطعها أو جرها.
ألا يمكن إعادتها إلى الفخذ؟.
طبعاً هذا مستحيل!. يرضخ قحطان لقرار الطبيب وتفصل الساق عن الفخذ فصلاً كاملاً، ويسير قحطان وراء نعشه وتردم يداه ساقه المقطوعة، ويستسلم قحطان لقدره، حتى إذا بدأ اليباس بالتهام جذع شجرة التوت يراقب فخذه ويرى بأم عينيه العفن والقيح يلتهم الفخذ ويسري في كامل الجسد، وقبل أن يغمض عينيه الإغماضة الأخيرة يردد:
وسيلتهم أسفلك كامل جسدك.
ـــ 8 ـــ
عاد بعد أن فقد كل أمل في إيجاد رجل اسمه غطفان الهواش، عاد ليقول ليونس بأن حساباته كانت في مكانها، هو ليس ابن غطفان الهواش، ابن من إذاً؟ هاجر أو شبح هاجر حدثه عن والده، واسمه نضال معروف، شبح هاجر حدثه عن قحطان الذي يزور قصره وما حوله، كل يوم وبعد منتصف الليل يخرج من قبته، تمسح قدماه أرض مجدلون: رأيته يطير، كان ذلك منذ شهور، خرجت لأمر ضروري وخاص جداً، وبينما كنت أقضي حاجتي، شعرت بشيء يكاد يوقعني أرضاً، ريح أو تنين أو شيء من هذا القبيل، هذا الشيء منعني من الوقوع، وحين أعاد إلي توازني وقف أمامي بساق واحدة وقال: هاجر أيتها المرأة التعيسة، أنت وساقي كنتما أضحية نبوءة عشت حياتي أتجنبها وتحققت فبترت ساقي، ساقي بترتها تماثيل يونس، وأنتِ من قتلك، تعالي إليَّ تعالي لنعيش معاً ضمن جدران القبة، هاجر أيتها الفنانة الرائعة، الفنانة التي ملأت الجبل أطباقاً وسلالاً ومزهريات، هلا أقمتِ معي؟ أيتها المرأة التي أحبت حتى قتلت، من حقك الآن أن نكون معاً، هاجر، يا امرأة كدَّت حتى غدَت ملكة على عرش من أطباق ومزهريات وسلال، أما آن لكِ أن تتركي العرش وتأتي معي؟ تعالي حيث أنا لا عمل ولا تعب، هيا الحقي بي، أشعر برغبة كبيرة لنفعل ما كنا نفعله، جوهرة تزورني، كل يوم تأتي إلى قبتي تقبلها وتحمدني لأنها تظن أني أعدتُ إليها أرضها وحواكيرها، الخائنة تزوجت أحمد وأنجبت، الجبان اتهمني بخيانته، وأرسل إلينا تماثيل يونس، الخونة، بعد ما كانوا تحت أمرتي، أصبحوا تحت أمرة أحمد، قتلوك يا هاجر، وعلى عرشكِ أسالوا دمك؟، فتخضبت سلالكِ ومزهرياتكِ وأطباقك بحمرة دمك، وأنا كانوا سيحرقونني لولا أن طبيب مجدلون منعهم إذ قال لهم: كلا لن أسمح لكم، فهذا العفن الذي أكل جسده لن ينتقل إلى أجسادكم، الأغبياء وكأنهم لا يعرفون أن السيادة في الحياة ناقصة، في حياتي كنت سيد الأحياء، بقتلهم لي أكرموني فأصبحت سيد الأموات والأحياء، قد تتساءلين عن سبب سعادتي وأسمعكِ تقولين ما جدوى سيادتي هذه؟ حين تأتين سأسقيكِ من خمرتي، ستشربين حتى تسكري من دماء الأضحيات التي تهرق على مذبحي، سأملأ كل يوم عشرات الأقداح، وسنشرب حتى نسكر، يا لها من خمرة !.
حين تأتين ستعرفين متعة السيادة بعد الموت، هنا لا أحد يتأفف من سيادتي، الجميع يأتون إلي طائعين، يطلبون مني الغفران والشفاعة، فأقول لهم: حسناً أيها الضعفاء، هلا أهرقتم على مذبحي الأضحيات؟ وينصاعون لرغبتي، وحين تتدفق الدماء أملأ البراميل والأباريق، وحتى الكؤوس، أشرب منها حتى أسكر، ثم أعود إلى ضريحي، أجلس داخله وأبكي عليهم، أتوسل الشفاعة لأجلهم، وأظل أبكي وأتوسل حتى إذا أتى الليل، أخرج، أرى أحوالهم، أشاكسهم، أضحكهم، أبكيهم، أسعدهم، أشقيهم، وإذا ناموا أحدثهم بما أتوا لأجله، أطمئن من أتاني منهم بأضحياته، وأدخل الرعب في قلوب أولئك الذين اكتفوا بأضحيات صغيرة، أو مريضة، والذين لم تعجبني سحنتهم أقبض عليهم بيدي هاتين، وأضع المحراث في أعناقهم وأسوقهم لحراثة أراضي زهوة وحواكير جوهرة، ولا أستثني منهم أولئك الذين تمردوا عليَّ، وامتنعوا عن تقديم الطاعة، بعد أيام تكون أرضي حرثت وزرعت، وأظل ألاحقهم حتى يتم الحصاد، فأحدد حصتي، وتأتي إليَّ الأضحيات سمينة يفر الدم منها، فألعقه (هم. .. ) ، يا لطعمه الشهي، حين تأتين معي وتشربين الدم، ستصابين بالإدمان وتطلبين المزيد، وسيكون ما نشتهي بين أيدينا، فخوف سكان مجدلون من غضبي سيجعلهم يستمرون في تقديم الأضاحي، وفي حالة أي تقصير أقتحم بيوتهم، أشاركهم أسرَّتهم، أهددهم بأولادهم، بأرزاقهم بعافيتهم، لا، لا أحد يتمرد على شريعتي، سيأتون دائماً، سنشاركهم أفراحهم، ونفرح لأحزانهم، لا تقلقي يا هاجر، هم يفعلون أي شيء لإرضائي، يجوعون أطفالهم، يقتلون بعضهم، يذلون نساءهم، يهينون أنفسهم، يكدون ويعملون ليلاً ونهاراً، هيا تعالي وتذوقي معي طعم السيادة، تعالي لا تخافي.
هذا هو جدك يا يوسف، جدك كان سيد مجدلون في حياته وشفيعاً لأهلها بعد مماته جدك أخلص لمجدلون، فاستولى على أرضها، وأحبَّ نساء مجدلون فحاول امتلاكهن، والشبح أعجبه طعم دم أهالي مجدلون فسكر بها.
وأخبر شبح هاجر يوسف بأن قحطان اعترف لها بكل شيء، إذ قال: سامحيني يا هاجر، لقد اختلطت عليّ الأمور وكان عليّ فعل شيء، أنا لست شريراً بطبعي، لكنها الغيرة وحب التملك، والرغبة بالانتقام، الانتقام وحش أعمى، والأبوة مشجب نعلق عليه طموحاتنا الدنيئة ورغباتنا المكبوتة، حين رأيتهما معاً، فتى وفتاة، كل منهما يمسك بيد الآخر، بكيت، بكيت يا هاجر، وتذكرت زهوة العباس زوجتي، إنها هي، فكرت بأخذها وإبعاد نضال عنها، انتابني حقد عليه، نضال يأخذ مني زوجتي ! ابني فلذة كبدي يخدعني، وقررت الانفراد به وإبعاده عنها، وإقناعه بالعمل على بناء مستقبله، فالحياة أمامه طويلة، والفرص أمامه كثيرة، أما أنا فكدت أنفجر، وأنا أرى ثوبها الأحمر تخرج منه يدان رشيقتان، وساقان مليئتان، بكيت على شبابي الذي قضيته في البحث عن نساءٍ يملكن أراضيَ وحواكيرَ، وأسفت على كل لحظة ضاعت من حياتي، وقررت استعادة زهوة، ولو كلفني ذلك أراضي الآغا وحواكير جوهرة، وكنتِ أنتِ بيني وبينها، ماذا أفعل؟ لو كنت أعرف أن زهوة ستكون لك ابنة لما كنتِ يوماً خليلتي، وبحثت عن طريقة تصبح بها زهوة زوجتي، فلم أجد، عندها قررت ذبح ثور على ضريح الجد الأكبر، ومن ثم إقناعكِ بتزويجي زهوة، ووجدت في هذا الزواج صك براءة لنا نحن الاثنين نبدد به شكوك أحمد وثرثرات مجدلون.
كان الإقدام على هذه الخطوة أمراً صعباً، فكيف؟ كيف أقنعك بأن علاقتنا كانت جزءاً من الماضي؟ كيف أقنعكِ بأن ترضخي لعامل الزمن؟ كيف؟ وبرقت فكرة في رأسي، وبدأت بالتلميح لكِ بأن علاقتنا ستصبح أقوى إن استعدتُ زهوة زوجتي إلى قصري، ورأيتُ الألم يكسر وجنتيكِ ويدمع عينيكِ، وراحت عيناي تقارن بين الوجه المكسر ووجه زهوة الفتي، ندمتُ على علاقتنا، فلولاها لكان أمر استعادة زهوة إلى قصري سهلاً، بل ما كنتُ أحتاجُ لموافقة أحد، حتى زهوة نفسها لم يكن لها الحق في رفضي، وانتظرتُ الجواب، أنا أتعجل المستقبل وأنتِ تتوقفين في المحطات الماضية، وأنا أحلم بالمحطات الآتية، أنتِ تودعين وأنا أتهيأ للاستقبال.
لم تتكلمي، لم تعترضي، رأيتُ الندم يتوسد وجهكِ، ندم على ما فعلته لأجلي، وشردتِ حتى نسيتِ وجودي، تركتكِ بعد أن طلبت منكِ تجهيز زهوة، وأكدتُ أن ذلك سيكون فقط بعد أسبوع، بعد أربعة أيام كان أحمد في قصري، ينقل إليَّ خبر حبل زهوة، غابت الدنيا عن عيني، انتابني الإحباط، ارتميت على مسند قريب من الكانون ، تمنيت أن أحترق بالجمر الذي يلتهب أمامي، أو أتلاشى، شعرت بالكهولة تلتهم الشباب الذي دب في عروقي مذ رأيتها، تجمدت وتحولت إلى كتلة عفنة، قلبي ما عاد الذي كان.
على مدار أربعة أيام انتابني خوف شديد من أن أصبح مثلكِ أتحسر على قحطان الماضي، نظرت إلى أحمد شعرت برغبة كبيرة في تحطيمه بل وتمزيقه لكن يديَّ اللتين رفعتهما سقطتا على ركبتي، افتعلت الهدوء وأبديت قبولاً لما أخبرني به وكأنني كنتُ أنتظره، ثم طلبت منه تجهيز زهوة لأخذها فجراً إلى نضال لعقد زواجهما. لم يصدق ما سمع، فتح الباب واختفى، أضمرت في سري بأنني سأضربها على بطنها حتى تجهض ثم أدق عنقها وأعيدها إلى المغارة أشلاء ممزقة.
الخائنة!.. كنت أود تنظيف ماضيها مما علق به فإذا هي تخونني مرة أخرى مع ابني نضال، وأخيراً قررت بيعها مع جنينها في سوق حماة، بعتها مرتين، في المرة الأولى بعتها على أنها بنت بكر، ثم أعادها القواد بعد أن كشف كذبي، وأخذ النقود. وفي المرة الثانية والأخيرة بعتها على أنها أرملة، أرملة ولم تتجاوز الخامسة عشرة، لم يكن السعر مشجعاً لكن كان عليَّ التخلص منها، وقلت: حسنٌ، حزمة صغيرة من النقود أفضل من قتلها مرة ثانية، ولو فعلت لكانت صدمة ثالثة بانتظاري صدمة قد تقضي عليَّ، فقتلها وعودتها مرة ثانية إلى الحياة لن يغير في الأمر شيئاً، فهذه المرأة مجبولة بخميرة الخيانة، وعقاباً على طبعها هذا فضلت بيعها لتهان وتذل ويبصق عليها ولتعلم أن من يخونني عقابه شديد ونهايته وخيمة.
حسابات قحطان أخطأت، فالقوى اللامرئية التي ادعى أنها تسانده خانته كما خانته زهوة، وتركته كما تركته تماثيل يونس، انحازت وبعدما كانت لـه صارت عليه. بعدما كانت سوطاً يجلد به من يشاء صارت السوط الذي يجلده، هذه القوة كانت تنتقم من أعدائه الذين يتربصون به، تعاقبهم من حيث لا يعلمون، تقتص من أموالهم رغم حرصهم الشديد، تلاحق أولادهم رغم حمايتهم الشديدة لهم، تحرمهم عافيتهم رغم اهتمامهم المفرط بصحتهم، هذه القوة خذلته يوم باع زهوة، الانتقام الذي كان يريده لم يتم، القواد الذي اشتراها لم يضرب أحشاءها، ولم يقتل جنينها، ولم يعتدِ عليها، ولم يرمِها في وادٍ سحيق، ولم تؤجر ولم تستبح، بل تدخلت هذه القوة وأنقذتها ليكون مصيرٌ آخر بانتظارها، هذه القوة لم تحمها من رصاص تماثيل يونس ولم تمنع العفن من التهام كامل جسده.
حين أخبر قحطان هاجر بما سيحدث لها، بكت وارتمت على قدميه، وقبلت يديه تتوسل إليه أن يسامحها ويشفع لها ويطلب من جده شيخ مجدلون الأكبر أن يغفر لها، لكن قحطان لم يستجب، تعلل بالقوة التي تبطش بكل من يخون سلالة شيخ مجدلون الأكبر، قوة موجهة إلى هدف واحد، قوة موكلة بأمر واحد، مزودة بأسلحة بدائية
لا تفل، تسوط بها كل من يقترب من هذه السلالة.
ـــ 9 ـــ
كانوا ثلاثة، شبح يمسك بمقود القدر، ويجلس إلى جانبه شبح اسمه الحَذِر المتنكر باسم قحطان، وكانت زهوة وراءهما، داعب الشبح المقود فانحرفت السيارة شمالاً ثم جنوباً، ثم شرقاً، وأخيراً غرباً، كان يحركه باتجاهين متعاكسين لتتجه السيارة باتجاه الشرق.....
كانوا ثلاثة، ذاك الذي يمسك بمقود القدر اعتاد أن يسلم مقوده لطريق منحدرة مرتفعة منعطفة، لكنه في النهاية يصل، وذاك الذي إلى جانبه اعتاد دائماً على المفاجآت، ولذلك فهو يقف دائماً على حافة الحذر، يوجه الشبح وينبهه عند كل منعطف وعند كل صعود وانحدار، فيتراخى المقود وتهرب من أمامهم بنات آوى وأبناء الجبال والمنحدرات، يرتجف الحذر فيطمئنه الشبح قائلاً: لا شيء أكثر وحشة من الإنسان، قطاع الطرق يكمنون للعابرين في تعرجات الأودية وفي داخل المغارات، ينظر إلى الحذر ويقول: اقرأ مما تحفظ كي لا يفاجئنا أحدهم.
وتخرج الأدعية من فم الرجل الحذر، تتعوذ من الكفرة أمثال قطاع الطرق الجشعين الذين يسطون على الأبرياء والمساكين ويكثر من ذكر الله وحمده، فيطمئن قلب الشبح وتسير السيارة ببطء شديد، فتحتج زهوة بتحريك ساقيها لتحث السيارة على السرعة، لكن السيارة لا تستجيب لحركة الساقين، وكان الحلم مرة أخرى، الحلم بالطيران، فيتحول عرفها إلى جناحين وساقاها إلى ذيل، وينبت الريش على ثوبها، ريشاً أبيض كالثلج الذي كان يضرب الواجهة الزجاجية، تفتح زهوة الباب العتيق، تفرد جناحيها وتفرش ذيلها لتطير وترتفع في الفضاء الرمادي، تنفض عن نفسها نثرات الثلج، تحلق، رأسها باتجاه الشرق وذيلها وجناحاها يجدفان في الفضاء بلا مقود باتجاه الهدف، يرتفع جفناها وينخفضان تبعاً لشدة الريح ولضربات حبات الثلج الصغيرة، لا وقت عندها للنظر إلى الأرض لترى بياض الجبال وعمق الوديان يتدرج عليها اللونان الأبيض والأخضر مع اللون البني، لم تفكر بملء عينيها من نهر مجدلون وهو يحول بياض الثلج إلى سيل أخضر يتلوى كأفعى بين مساحات بكر هذا الجمال ستلامسه يوماً برفقة نضال، سيصعدان الجبال وستهز أغصان الأشجار وترمي كتل الثلج على رأس نضال، سيقفان على ذروة جبل ( المشهد علي )، يجمعان الأعواد اليابسة ويستدفئان بنارها، سيركضان في الوديان يتزحلقان على جليدها، يقطعان أغصان الأشجار ويصنعان قارباً يوصلهما إلى مجدلون، معه سيكون العالم كله بين يديها. متى سأصل؟ سؤال طرحته على نفسها أكثر من مرة.
كان قحطان يراقب الطريق الرمادية، يتحفز عند المنعطفات، ينبه الشبح فيعيد الأخير عبارته: في حياتي كلها لم أر مخلوقاً أكثر توحشاً من الإنسان.
ويعاود النوم على صوت تردد الأدعية والتسابيح.
وصلنا. قالها الشبح، وكأن حملاً ثقيلاً انزاح عن صدره.
وصلنا؟ سأل قحطان، وحمد الله.
نظرت زهوة حولها فرأت ظلمة شديدة تحيط بها.
وصلنا ! وتساءلت: هل استغرق الطيران نهاراً كاملاً؟ حين بدأت الطيران كان الفضاء رمادياً، والآن أراه مظلماً. شعرت بيد تساعدها على النزول من السيارة، إنها يد قحطان، سارت بضع خطوات، اطمأنت إلى أن الطريق التي تسير عليها ليست طريق مجدلون، (أتكون الطريق التي ستوصلني إلى نضال؟) سحبت نفساً عميقاً، شعرت بشيء يلتصق على وجهها، قالت: هذا الهواء لا يشبه هواء مجدلون أيكون الهواء الذي يستنشقه نضال؟ وهذه الظلمة أيكون بعدها قنديل نضال؟
قادتها يد قحطان إلى مكان جديد وعرفت أن شبحاً آخر ومقوداً أسمته مقود اللقاء سيوصلانها إلى نضال، وعرفت أن الوجهة اختلفت، هذه الوجهة لا تحتاج إلى أدعية أو تسابيح، فقط ثرثرات وهمهمات لا تتحدث عن نضال، ولا تأتي على ذكر مجدلون وهاجر، هنا كل شيء مختلف، لكن الحلم بالطيران باقٍ، تذكرت أنها طارت لكنها لم تصل، الشبح الأول قال: وصلنا.
إلى أين؟
عاودها حلم الطيران، لامست ثوبها وعرفت أنها الآن بثوب آخر، هو ليس ثوباً، ما هو إذن؟ كيف ستتحول إلى إوزة؟ كيف والعتمة تحيط بها من كل جانب؟ وقحطان يلاصقها، يمسك بها، يمنعها من الطيران والهروب، إلى أين ولماذا؟ قحطان سيوصلني إلى منزل نضال، كم تشبه أصابعه أصابع نضال ! طويلة طرية ممتلئة.
أبعدت القلق عن رأسها واسترخت، كل شيء على ما يرام، فقط شبح آخر ومقود جديد، ما هذا التأرجح في السير؟ ما هذه البلادة؟ ثمة إشارة إلى أن اللقاء قريب، وهذا الفضاء يعني أن الطريق الذي تخوض فيه الحافلة هو طريق لا تتوزع على جانبيه الأكواخ، ولا تتبوأ تلاله بيوت أو قصور، إنه صحراء لا أبناء لها ولا بنات يعبرون الطريق. استمرت الظلمة طويلاً، وحين أمسكتها يد قحطان وساعدتها مرة أخرى في النزول من الحافلة لم ترَ ضوءاً، لو ثمة ضوء ! فتبحث عن ثوبها الأبيض لتعاود الطيران، الطيران إلى أين؟ وقحطان قادها من يدها إلى مكان مظلم وطلب منها الانتظار حتى عودته مع نضال. الطيران؟ كيف تطير وثمة معطف أسود غطى ثوبها الأبيض وأغطية حجبت عنها
كل شيء.
وبعد طول انتظار أمسكتها يد، هي ليست يد نضال ولا يد قحطان، يد ضخمة ضغطت على يدها وجرتها، دفعتها إلى عربة يجرها بغل.
جلس صاحب اليد الرخوة إلى جانبها، وسمعت صوت شبح آخر يحث البغل على السير، واندفعت العربة تقرقع وراء البغل في زقاق مظلم، ثم إلى آخر لا يقل عتمة عن الذي قبله، هذه المرحلة مختلفة، اليد الناعمة استبدلت يداً رخوة وشبحاً لا تعرفه مع مقود جديد يسير على طريق موحلة على جانبيها تشمخ عيدان القصب وأشجار الزيزفون.
لطم الحوذي البغل بجزمته السوداء فانطلق يعدو بسرعة أدت إلى تطاير الأغطية الثلاثة عن وجه زهوة، هتفت: وصلنا، وتقافزت من العجلات وحوافر البغل مياه موحلة فلطخت معطفها الأسود ووجهها. فجأة يشد الحوذي الرسن لينعطف الحيوان باتجاه الغرب، في منتصف الطريق يتوقف البغل، يتقدم حافراه خطوتين إلى الأمام، وتعيدهما العجلات المغروسة في الوحل إلى مكانهما، التفت الحوذي إلى الرجل وطلب المساعدة، تمسكت زهوة بالرجل، أبعد يدها عنه، ونزل من العربة فارتج الخدان المنفوخان، نظرت حولها فرأت الظلمة تفضح أنواراً خافتة غير بعيدة قدرت أن نضال ينتظرها على توهج أحدها، وراحت تحصي الأنوار التي تبدو كيراعات متجمدة، اختارت أشدها توهجاً وهتفت: إنه لنضال. في تلك الأثناء كان الرجل يدفع العربة والحوذي يلطم جذع البغل بجزمته الطويلة، فيشخر الحيوان وتدور العجلات في مكانها، يغذي الشوق حماسة زهوة، فتقفز من العربة وتساعد الرجل في دفعها، لكن العجلات تحفر لنفسها خندقاً، فيعلن الحوذي بأن إخراج العربة بات أمراً مستحيلاً، وقبل أن تدب الحيرة في قلب زهوة، يعرض الحوذي على الرجل نقل الفتاة على ظهر البغل، ليعاد فوراً إلى صاحبه، لم يكن هناك خيار آخر، امتطى الرجل البغل وقفزت زهوة وراءه تمسك به، لكز الرجل الحيوان، ولطمته زهوة تستعجل الوصول إلى ذلك الفانوس الأكثر توهجاً في حارة التنك.
على الطريق سألته إن كان منزل نضال بعيداً، ثم أخبرته أنهما زوجان منذ ستة أشهر تقريباً وهو لابد ينتظرها، فقحطان أرسل من يعلمه أنها آتية إليه، ثم شكرته على المعطف الذي أدفأ جسدها المقرور وكذلك المنديل مع منديل هاجر حمى رأسها من البرد والمطر. لم يعر الرجل ثرثرات زهوة أدنى اهتمام، فهو تعود على كذب أولئك الذين يبيعون نساءً صغيرات وفتيات، وهي حين أخبرته بقصتها كانت تهدف إلى تعجيل الرجل ليوصل الأمانة التي استلمها من قحطان إلى نضال.
علم الرجل أن كذبة قحطان كبيرة فهذه الفتاة ليست أرملة ولا خادمة، إنها امرأة تنتظر مولوداً، وأسر في نفسه بأن ثمة حلاً سيكون بيد صبيحة.
حين أصبحت الأنوار قريبة فرحت زهوة، ونسيت الإحساس بالبرد والجوع، بعد دقائق تكون مع نضال، حين تصل إليه لا تريد دفئاً، وحده يدفئها، لا تريد طعاماً رؤياه تشبعها.
أوقف الرجل البغل، دفع زهوة بكوعه فقفزت وهبط وراءها، رجته أن يوصلها أولاً إلى نضال ثم يعيد البغل إلى صاحبه، جر البغل وقيده إلى جذع يابس ثم سار باتجاه بيوت التنك ولحقت به، تسربت إليها رائحة بول وعفونة وطين، شعرت بالغثيان، قاومت وقدرت أن منزل نضال على بعد خطوتين، دخلا بين البيوت المعدنية، صارت الرائحة قوية، شعرت بدوار سيوقعها أرضاً، همست تنبِّه الرجل وسقطت في مستنقع من الوحل والأوساخ، تنبَّه الرجل إلى اختفاء خطوات كانت تلاحقه، ثم أتى من يجرها إلى سرير حديدي في غرفة نصف مظلمة.
صباح اليوم التالي، حين فتحت عينيها رأت أمامها امرأة ضخمة، نظرت إليها ثم عادت إلى غفوة قصيرة، استيقظت بعدها لترى أمامها وجهاً ملطخاً بالأصباغ الفاقعة، أشاحت بوجهها إلى جهة أخرى، ولما لم تجد أحداً سألت صاحبة الوجه المنفوخ عن نضال، زمت المرأة عينيها الصغيرتين وهزت كتفيها، عادت زهوة إلى غفوتها لتستيقظ على صوت يشبه الزعيق ويد تضغط على كتفيها، فتحت عينيها لترى أمامها امرأة ضئيلة تحذر أحداً من الدخول، تزيل الملاءة عن الرأس والجبين وتعيد زهوة سؤالها عن نضال فتجيبها المرأة الضئيلة: هنا ديب المخنث وسعدة المدربة. أصلحت زهوة جلستها، بكت، أمسكت بكتف صبيحة فدفعتها الأخيرة بعيداً عنها وأمطرتها بسيل من السب والشتم، ثم خرجت مكفهرة الوجه غاضبة، تسب وتشتم الرجل الذي باعها، وتصرخ بديب المخنث (ولك صرصور ألا تخجل من نفسك؟ تريد أن تدخل رجالاً على امرأة حبلى، ألا تخاف الله؟ تفو الرجل كله وسخ، إذا رمى بذوره في المراحيض يتأسف على المرأة، وإذا رمى بذوره في المرأة يعذبها أو يرميها للقوادين) أسدلت المرأة الملاءة على وجهها النحيل وصعدت إلى عربة كانت تنتظرها، سألت صاحبها إن كان ديب المخنث دفع لـه أجره، ثم صرخت:
(يا ديب تعال، تعال ادفع للسائق أجره، الحق عليَّ، كل مرة أقول لن أدخل قبل أن تدفع فأنسى وتماطل،) ترجلت عن العربة ودفعته بجذعه إلى الحوذي وطلبت منه أن يدفع، تململ واحتج قائلاً: هل كتب عليَّ أن أعيش حياتي كلها أدفع؟
هزت رأسها وطمأنته أنه بعد ثلاثة أشهر على الأكثر سيقبض الكثير فالبنت صغيرة وحلوة، فتح فمه فاختفت عيناه الصغيرتان وتأفف من المدة الطويلة التي سيضطر خلالها لإطعام زهوة، وذكرته صبيحة بأنه بدل البنت سيصبح عنده بنتان، أجابها: وماذا لو أنجبت صبياً؟ يكون عمرها ستة عشر عاماً، فلا يدفعون كما يدفع لبنات أصغر منها، قرصت صبيحة ديب المخنث في جذعه وسألته عما يريد الوصول إليه فأجابها وهو يرتجف: (طلعي الولد من بطنها ولكِ خمسمائة ليرة)
ارتمت يد صبيحة وسألتهأطلع الولد؟ ألا تخاف أن تموت المرأة؟ إذا ماتت تخسر كثيراً، ثم أنا لا أقتل أحداً)، سألها إن كان هناك طريقة تخلصها من الجنين، وتبقيها حية لتبدأ العمل بعد أسبوع على الأكثر. عادت تجره إلى العربة، طلبت منه أن يدفع ويترك الباقي عليها، ثم تبرعت بالإشراف على زهوة حتى تتم ولادتها وتعهدت بتبني المولود وتربيته، كانت الموافقة التي أبداها ديب المخنث حذرة، فالخسارة التي ألمت به كبيرة، وثمة خوف من صبيحة لم يصرح به، لأنها لن تقبل بأن ترمى امرأة بريئة بهذه القذارة، وكأنها قرأت ما يجول في خاطره فسألته: كم تريد ضمانة لكلامي؟ تلكأ ديب في الإجابة: لا، لا أريد شيئاً، فقط اهتمي بها، وحين ألتقي بالرجل الذي اشتريتها منه سأعيدها إليه وأسترد نقودي.
ثم أشارت إلى الحوذي أن يتوقف لتنقل زهوة، فالحوذي يعرف بيتها جيداً ويعرف ديب وهذا يطمئن الأخير، لكن الشك عاد يؤرقه فسألها: وماذا لو هربتِ بها إلى مكان آخر، أجابته: أعذركَ يا ديب، عملك علَّمك الشك في كل الناس، وكأنك نسيت صبيحة، صبيحة التي يعرفها الجميع ويشهد لها الأعداء والأصدقاء بالأمانة والوفاء، الحق عليَّ أردت أن أساعدك فإذا أنت حذر مني، شكاك بكل ما أقول.
أجابها: أنا موافق، على شرط أن ترافقكما سعدة.
موافقة، موافقة.
نقل الحوذي النساء الثلاث إلى بيت صبيحة وظلت سعدة ثلاثة أشهر وأسبوعين الرفيقة اللصيقة لزهوة، حتى إذا حان موعد الولادة جلست في نفس الغرفة تستمع إلى صراخ زهوة وبكائها، وحين طلبت منها صبيحة أن تذهب إلى الغرفة المجاورة لتأتي لها بثياب الصغير رفضت وقالت لها: أظنكِ ستهربين بها.
كانت الأمور ستسير كما خطط لها ديب وسعدة لولا ولولة خرجت من فم صبيحة، ولولة أرعبت سعدة فسألتها: ما بها؟.
إنها تحتضر.
واختلطت الأصوات الثلاثة، فسألت سعدة: ما الذي عليّ فعله؟.
اذهبي وأحضري لها الدواء، يا ربي إنها تنزف، سيقتلكِ ديب ويقتلني، سنلحق بها إذا لم نسعفها، هيا يا سعدة أرواح ثلاث نساء بين يديكِ، ثم ناولتها ثمن الدواء، وخرجت سعدة تتدحرج في الشوارع، وكانت صبيحة قد أعدت العدة للهروب، وحمل سائق السيارة زهوة إلى المقعد الخلفي، وحملت صبيحة الصغير وجلست بجانب السائق.
بعد ساعة عادت سعدة إلى بيت صبيحة ووجدته فارغاً، فاعتقدت أن صبيحة نقلت زهوة إلى المشفى، إذ من غير المعقول أن تهرب بها وهي تحتضر. مر يومان وسعدة لا تعرف شيئاً عن المرأتين وقدرت أن ما كانت تخشاه حدث، أرغى ديب وأزبد وقال: أستحق كل ما حدث، لو أنني تبعت حدسي ما خسرت هذه الصفقة، لا عليكِ سأبحث عنهما، لا أحد يستطيع خداع ديب، ثلاثة خدعوني وسأنتقم منهم، صبيحة وزهوة والرجل الذي باعها، أنا غبي لو أنني أخذت منها ضمانة، ألف، ألفان، ثلاثة آلاف، يا للصفقة الخاسرة!.
ـــ 10 ـــ
حلب، كانت المدينة التي وصلها الثلاثة قبل طلوع الفجر، والثيريب المكان الذي لن تصل إليه يد ديب المخنث، الثيريب هي المكان الأكثر أماناً، حتى للصرة القماشية المليئة بالنقود.
استقرت صبيحة مع زهوة وطفلها في كوخ طيني لم تمنع جدرانه القلق والخوف من الضجيج بين أضلع صبيحة، أما زهوة فقد فقدت القدرة على الخوف والقلق، والتعب هدها والوهن تعاظم عليها حتى استولى على كل قوة لديها، فسقطت على لبادة كانت مطوية في زاوية الكوخ الطيني. وحين أصبحت داخل الكوخ ناشدتها صبيحة أن تتحامل على نفسها وتسند جسدها على أي شيء ريثما تنفض اللبادة وتفرشها، وكان الجدار مسند زهوة واللبادة المنفوضة فراشاً احتضنها بمساعدة صبيحة، وحين غطتها توقفت نظراتها على الصفرة الشاحبة التي توسدت الوجه المتعب، خافت أن يؤدي بها التعب والخوف إلى ما لا يحمد عقباه، نزيف حاد أو حمى النفاس، لكنها استدركت قائلة: هذه القدرة على النوم إنما تعني أن زهوة بخير ولا ينقصها إلا قليل من الراحة، وزاد اطمئنانها حين بكى الصغير فلم يستطع بكاؤه أن يوقظ أمه، فحملته صبيحة وراحت تدور في الكوخ الطيني تبحث فيه عن موقد كاز وإبريق تضع فيه كأس ماء وملعقة سكر، نهرت الصغير قائلة: اسكت أيها الفرخ، دع أمك تنام. وتابعت بحثها بين الأشياء المبعثرة فوق بعضها، همست: وضعت كل شيء بلا ترتيب، آه لو كنت أعرف أن مصيراً كهذا ينتظرني. ..، والآن أنت أيها الفرخ الجائع، نظرت حولها، سحبت جلد خروف، وضعته عليه، وتابعت بحثها.
كان الموقد والإبريق تحت أكياس المؤونة، سحبتهما وجلست تعالج الموقد البارد، أشعلت عود ثقاب، رمته على الوقود الذي نضح على رأس الموقد، التهمت النار الوقود وانطفأت، قالت تتوسل الموقد: هذه المرة فقط لأجل هذا الجائع كأس ماء واحدة، حين تسخن انطفئ ولا تشتعل بعدها، أرجوك أيها البابور لا تخذلني، انظر إليه، ألا تسمع بكاءه، يا للفرخ الجائع!.
توسل صبيحة لم يجدِ، فالموقد ظل صامتاً كزهوة، وبكاء الصغير لم يضرم النار فيه، لطمته صبيحة فتدحرج على الأرض الطينية، سبته، شتمته وخرجت إلى الحديقة اليابسة تبحث في يباسها عن أعواد تسخن على نارها الماء للصغير الجائع، حملت حزمة حطب ومعها باقة قش يابسة، سخنت الماء على احتراقها وسقت السائل الحلو للصغير الباكي، ثم خرجت تبحث في يباس الحديقة عن عيدان جافة تدفئ بها الكوخ البارد، دارت حول الكوخ عدة دورات، جمعت من حوله حزمة صغيرة، نظرت إلى الأكواخ المحيطة بكوخها، توقفت نظراتها على كوخ دحام، تساءلت: أين تراه يكون؟ هل منعه البرد من الخروج بالقطيع؟ تجوَّلت نظراتها على جدران الكوخ، انتظرت حركة ما حوله، أن يفتح باب، أن يخرج أحد منه أو يدخل إليه، انتظارها لم يجدِ، فحملت حصادها من الحطب ودخلت إلى الكوخ، بعد مرور دقائق قليلة كان الكانون شمساً ترسل لهيباً يدفئ الكوخ ويضيء وجه صبيحة الوسنان، كانت تقاوم النوم، تقاوم تواطؤ الحزن والتعب والدفء ضد يقظتها، وهي تريد أن تظل مستيقظة لتستعيد ما حدث بكل تفاصيله، أحياناً تغمض عينيها وتستسلم لغفوة تستيقظ منها فتبدو وكأنها خرجت من كابوس ترك على وجهها الخيبة والذهول، فتتساءل: من أين أبدأ؟ كلا، لم يحدث شيء، تفرك وجهها وتقول: كلا، بل حدث الكثير، أنا لم أعد صبيحة الداية، صبيحة التي يسعى إليها الجميع، صبيحة التي تدخل إلى بيتها الهدايا المختلفة، أنا الآن صبيحة الهاربة، ثم تكبو، تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال، إلى الأمام، فتعيدها الحرارة الشديدة إلى صوابها، تترك الكرسي القريبة من الكانون وتستلقي إلى جانب زهوة على اللبادة، لكن زهوة الفتية المتعبة انتصر عندها النوم على كل شيء، أما صبيحة فانتصر عندها الخوف والقلق على النوم والراحة فقامت تعمر الكانون الذي بدأت ناره تترمد، ثم تذكرت أن أكياس المؤونة على كثرتها ووفرة ما فيها غير كافية لإعداد وجبة طعام لها ولامرأة ضعيفة فتحت كيس النقود وأغلقته، عادت إلى موقد الكاز وتركته، تساءلت: ماذا أفعل، لا خبز، لا خضار، لا زيت، ولا نار، وزهوة المسكينة ! ثم حملت صرة النقود واتجهت إلى كوخ دحام، طرقت بابه الصغير، وقبل أن يجيب فتحته، فرأت دحام مستلقياً على فراشه، وقف مرحباً بصبيحة، وقبل أن يسألها عن غيبتها الطويلة، ناولته ورقة نقدية وطلبت منه أن يذهب إلى المدينة ويشتري بها طعاماً، أمسك دحام الورقة النقدية، فتحها، فرشها أمام عينيه، سألها: بكل هذه؟ ثم دس الورقة النقدية في جيبه وقال: خالتي صبيحة بهذه الورقة أشتري الكثير، ثم أطلق ساقيه للريح، غير آبهٍ بالبرد والثلج.
عادت صبيحة إلى الكوخ لتجد كل شيء كما تركته، زهوة نائمة مع صغيرها، والجمر يتوهج في الموقد، هزت رأسها وعادت تلقمه عيدان الثقاب، وأذناها تنتظران صوتاً آخر، صوت قدمي دحام تقتربان من الكوخ، وحين لا تسمع شيئاً تقول: لم العجلة؟ ما زالت زهوة نائمة، آه، صحيح ماذا تراه يقول حين يراها؟.
كبر دحام، دحام ما عاد طفلاً، دحام صار رجلاً، لكن لماذا لم يتزوج؟ هل ينتظرني لأختار لـه العروس؟ هه، يتزوج؟ ومن يزوج ابنته ليتيم؟ صحيح من؟ دحام هو الآخر مسكين يعمل بزاده، وقد لا ينال الزاد، وأنا، أنا قضيت حياتي أعمل بزادي والهدايا التي كانت تأتيني أعيد إهداءها إلى مواليد جدد، على الإنسان أن يكون أكثر حرصاً، ترى أي مصير كان ينتظرني لولا زهوة؟.
فتحت صبيحة الصرة القماشية وتساءلت إن كانت زهوة مكافأة على أعمالها السابقة؟ عبثاً كانت محاولات صبيحة في نسيان الماضي، وعبثاً كانت محاولاتها في قتل الخوف من الأيام القادمة، نسيان الماضي مستحيل، والهروب من الأيام القادمة مستحيل، ولذلك اختارت أن تستشرف أياماً جميلة من الآتي، فتقول: زهوة هي مكافأة أرسلها الله إلي ' زهوة ابنة، زهوة أمان من شيخوخة قادمة، زهوة فراشي وغطائي.
ثم تستحضر الماضي فتنتقي منه ما يمنحها الأمان وتستبعد منه ما يخلخل الراحة المطلقة التي كانت تتوسلها من الأمس لأجل غدٍ هادئ، غدٍ لا تكون فيه تحت تهديد جشع ديب المخنث، غد تعيش فيه مع زهوة وصغيرها، (تعبتُ) قالتها ولو استطاعت لأخرجت من صدرها أعواماً من التعب والخوف والقلق. إن كانت السعادة طبق صبيحة في يومها هذا فقد كان في انتظارها وجبة حزن يقدمها لها القدر على طبق من موت، وحين يفعل القدر فعلته تبكي صبيحة وتجد نفسها متورطة في لعبة القدر، فيختفي الوجه الآخر، الوجه الذي يذكر النساء بالولادة والحياة، ويحل مكانه وجه يذكر النساء الولودات بالفجيعة والموت، هذا الوجه يخيفها فتجاهد بكل ما تملك لتتخلص من وجه فرضه القدر عليها، فتسمع النساء دعاءها ينسل ناعماً رقيقاً بين مفردات التشجيع والصبر، وحين يتم كل شيء كما تتمنى يقلن حقاً هي صبيحة، وليس كما يشاع ميتمة الأولاد ومرملة الرجال، وتسألها الولود: ماذا فعلتِ يا صبيحة؟ فتجيب: لا شيء، فقط ابتسمتُ ومددتُ يدي وقلتُ: تعال أيها الصغير، تعال إلى هذا العالم الجميل، إلى هذا الفضاء الواسع، تعال وانظر إلى أمك الشقية. التعبير الأخير كانت تطلقه على جميع الولودات، ولولاه، لولا أنها تعنيه لكانت صبيحة زوجاً وأماً لأولاد خرجوا من رحمها، وإن كانت تجيب كل سائل عن سبب امتناعها عن الزواج بقولها: المرأة تنجب كل عام وأنا أنجب كل يوم. ولم يكن أحد ليعترض على جوابها، فهي وأثناء تجوالها ترى شباباً وصبايا، أولاداً صغاراً وفتيات صغيرات، تستوقف بعضهم وتسألهم عن أمهاتهم وآبائهم، وينقل هؤلاء ثرثرة امرأة ضئيلة الجثة، فيجيب الأهالي: يا للمرأة الذكية ! إنها تعرف كل مولود رأى النور على يديها، وتقول الأم في فرح: آهٍ يا ولدي إنها صبيحة أمك الثانية. وفي الحالة الأخرى، أي حين لا يعرف الأبوان امرأة تدعي أنها أول من استقبل فتاهم أو فتاتهم يوم خرج إلى الحياة، فعدم معرفتهم برأي صبيحة عائد إلى ذاكرة الأبوين وليس لأن ابنتهم أو ابنهم رأيا النور في المستشفى أو على يد قابلة أخرى، فصبيحة على قناعة بأن جميع الأولاد رأوا النور على يديها، وإلا لماذا امتنعت عن الزواج؟ أليس لأجل هؤلاء، لأجل أن تكون أماً لهم جميعاً؟. هذه الأمومة كانت عزاء صبيحة، هذه المرأة التي عايشت آلام النساء رفضت أن تعاني الآلام ذاتها واختارت أن تكون المخلصة والمساعدة، وما أشيع عنها حول علاقات حميمة مع رجال عرفتهم كانت ترد عليها: هذا طبيعي، مثلي يحتاجها الرجال والنساء. ثم تتساءل قائلة: ماذا لو كنت رجلاً؟ هل كان سيقال عني ما يقال؟. ويبدو أن ما يشاع حولها لا يشغلها كثيراً، فبابها الذي كان يطرق في أوقات مختلفة من الليل كان ينتظرها أمامه كثير من الرجال، وحين تعود يقسم لها المنتظرون أن ثمة امرأة تعاني آلاماً فظيعة وتنتظر يديها المباركتين لتخليصها، وتقف صبيحة حائرة تتساءل بينها وبين نفسها: ترى أيهم أكثر صدقاً؟ ثم تختار الذهاب مع من تعتقد أنه سيأخذها إلى أكثر الولودات حاجة إليها.
تستعيد صبيحة تلك الأيام، تستعيدها وأذناها تنتظران قدمين تقتربان من الباب، تستعيدها ويداها انتهتا من إصلاح موقد الكاز، تستعيدها ووجهها تضرج بحمرة الدفء، ولو كانت زهوة مستيقظة لسمعتها تقول: العرش الذي اعتليته تهاوى ولست آسفة ليلة هربت بزهوة وصغيرها.
شردت صبيحة وأذناها تنتظران وقع قدمين أو طرق باب، أما نظراتها فكانت تتجول على الدثار الذي يغطي جسد زهوة وفرخها، كما كانت تسميه، في داخلها كانت تترقب حدوث شيء، ما هو؟ طمأنت نفسها أكثر من مرة قائلة: الأمور ليست بهذه الدرجة من السوء، ثم تعلن خوفها من الآتي، الثيريب وجوارها لن يقبلوها المخلصة والمساعدة، ولن يرضى أحدهم بتسميتها (الداية صبيحة)، فما زالت ذاكرة نساء الثيريب مليئة بالخوف من امرأة كانت السبب في موت أكثر من عشر نساء، من بينهن هند أم دحام.
دحام! تساءلت صبيحة عن سبب تأخره، أيكون هرب بالعشر ليرات؟ ربما، لو أنه يأتي ! ويأخذ منها عشرات، لو يطرق باب الكوخ الطيني، يقول لها أنا حاميكِ يا خالة صبيحة، سأظل معكِ ولن أسمح لأحد بالاقتراب منكِ أو التعرض لكِ، كم تحتاج رجلاً، صبيحة التي وقف الرجال أمامها يتوسلون إليها لتذهب معهم وتنقذ ولوداً، تتمنى أن يكون دحام إلى جانبها ينقذها، يحميها، انتظرته كثيراً، انتظرته حتى خيل إليها أنه هرب ولن يعود أبداً، هرب الرجل، بل الفتى الذي تمنت أن يكون إلى جانبها، هرب ! بكت صبيحة، بكت كثيراً، بكت عجزها، بكت وحدتها وخوفها، وأثناء بكائها كانت تقول: إن عاد سأعطيه هذا الكوخ، وحين لا تسمع ما ينبئ بقرب قدومه تقول: وسأعطيه الأرض المحيطة بالكوخ. وطال انتظارها فأقسمت أنه في حال عودته ستعطيه كيس النقود وزهوة، وانهمرت دموع العجز من عينيها، قامت تشعل موقد الكاز، وضعت عليه قدراً فيه ماء وقمح وعادت تسامر الكانون، تضع يديها فوق جمره، تنظر إلى المرأة النائمة ثم إلى باب الكوخ يدفع أو يزاح، رفعت رأسها وقالت: لا داعي للخوف، حين تتعافى زهوة نهرب من هنا، نقصد مكاناً آخر، مكاناً لا يعرفه أحد من الثيريب ولا تصل إليه يدا ديب المخنث، هذا القرار لم يشفها من الخوف، فهاهي تردد: فقط لو يأتي دحام. هل غدا دحام مخلصها؟ فتى لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره هل يستطيع أن يمنحها الراحة والأمان؟ تمنت صبيحة لو تستطيع النوم لتتخلص من الانتظار، حاولت الاسترخاء أغمضت عينيها، أبعدت الخوف من رأسها، لكن ابتعاده كان مؤقتاً، فهاهو يطرق باب ذاكرتها ينبش منها ما يؤجج خوفها، تترك مقعدها تبحث عن مكان تختبئ به، ماذا لو كان الطارق ديب المخنث؟ الباب يدفع ويأتيها صوت دحام: خالتي أين أنتِ؟ تخرج من مخبئها تطلب منه أن يخفض صوته، تشير إلى زهوة النائمة، تأمره أن يجلس على مقعد حجري بجانب الكانون، بينما كانت تخرج أرغفة الخبز قالت: الحمد لله، ثم نظرت إليه وتابعت: كنت أعرف أن المعروف لا يضيع بفتى مثلك، نظرت إلى زهوة وقالت: لا يليق أن تستيقظ زهوة وترى رجلاً هنا، ثم طلبت منه أن يعود إلى كوخه ولا يخرج حتى تأتي هي إليه.
حين أصبح في الخارج لحقت به وأوصته بألا يتحدث بما رأى لأحد، ثم غمزته ضاحكة ثمة مكافأة تنتظرك فتهيأ لها، غداً صباحاً أو هذه الليلة تصلك.
في المساء وبعد أن اطمأنت على زهوة حملت صرة النقود واتجهت إلى كوخ دحام تطرق بابه المشرع رغم البرد، قبل أن تصل كانت قد أثنت على نفسها كثيراً، تارة تصف نفسها بالذكية وتارة بالصيادة الماهرة، ثم تقول: وكأن الله رتب كل شيء لأجلي، لأجل شيخوخة آمنة بيعت زهوة للقواد، والقواد أرسل في طلبي و... شردت صبيحة وتساءلت: بماذا سأجيبه حين يسألني عن زهوة وفرخها؟ هه أقول لـه الحقيقة، كلا، لا يجوز أن تسلم المرأة سراً كهذا لأي رجل، قد لا يقبلها زوجة، وإذا قبلها فلن يتردد في طعنها بالحقيقة كلما طاب لـه، نعم امرأة مثلي لا يجوز أن ترتكب خطيئة كهذه، إذن ماذا
سأقول لـه؟.
لم تستغرق صبيحة وقتاً طويلاً في ترتيب قصة قصيرة أو كذبة بيضاء تحمي بها زهوة من لسان دحام، ثم هتفت:
نعم هو الله فعل كل هذا من أجلي ومن أجل دحام اليتيم، وحثت صبيحة خطاها، ودحام كان ينتظرها تحمل إليه مكافأة على ما فعل لأجلها ولأجل زهوة، لأجلهما ذهب إلى السوق واشترى الخبز واللحم والسكر، نعم ستكافئه بقطعة لحم وبرغيفين من الخبز الافرنجي، هذا الخبز لا يأكله إلا أثرياء الثيريب، أما هو، هو الراعي الذي يتخذه أثرياء الثيريب راعياً لقطعانهم، فمن أين لـه هذا الخبز؟ من أين؟ إذا لم تطعمه صبيحة منه فلن يطعمه أحد، صبيحة، يا للمرأة الكريمة، قال في سره وأضاف: ليس صحيحاً أبداً ما تقوله نساء الثيريب بأنها وراء يتمي، حسناً، إذا كانت هي من قتل أمي فمن قتل أبي؟ لكن... لو أنني خبأت في جيبي قطعة لحم ورغيف خبز، كلا، الأفضل تناول قطعة اللحم مطهوة بيد صبيحة.
في ذلك اليوم لم يتناول دحام الطعام، نفسه عفت عن تناول كسرات الخبز اليابسة مع قطعة جبن وكأس حليب، قضى نهاره منتظراً هبة صبيحة، تارة يقف على الباب ليرى إن كانت آتية إليه، ثم يعود إلى فراشه يطلب من الله أن يدفع صبيحة باتجاه كوخه حاملة اللحم والخبز، وحين رآها قادمة وبيدها شيء يتأرجح اندس في فراشه، تدثر بلحافه وقلبه يدق بين أضلعه بشدة، ما خطر في باله أن الشيء الذي كان يتأرجح هو صرة ستخرجه من الكوخ إلى غرفتين من الإسمنت تشاركه العيش فيهما امرأة جميلة، امرأة ستحدثه عنها صبيحة قائلة: إنها عروسك، كانت زوجة لرجل مات، مات وتركها وحيدة لا أهل لها ولا أقارب، وهي كما رأيت عندي في الكوخ،
ثم فرشت أمامه الصرة القماشية وحدثته عن طفل سيكبر يوماً ليجلس على عرش ينتظره. دحام الذي كان ينظر بنهم إلى الصرة وتمنى لو أن الصرة مع النقود وضعت معها قطعة لحم كبيرة وأرغفة خبز إفرنجي، سأل صبيحة إن كان يستطيع أخذ ورقة نقدية ليشتري بها خبزاً ولحماً، أجابته صبيحة: بل ستتناول الخبز واللحم معنا في الكوخ. انتعش دحام وقال: قطعة لحم مع رغيفي خبز وصرة نقود، ثم سأل صبيحة عن اسم المرأة التي تنتظرهما في الكوخ، فأجابته: زهوة.
أجل، تذكرت، زهوة. وعاد يفكر، قطعة لحم كبيرة مع رغيف خبز إفرنجي وربما رغيفين وصرة نقود وزهوة وعرش سيجلس عليه يوماً فتى يناديه (يا بوي).
سألها: ومتى سنذهب إلى كوخكِ؟ صححت صبيحة: بل هو كوخك أنت وزهوة ويوسف. ثم أغلق كوخه القديم وتناول الطعام مع زهوة وصبيحة، وفي اليوم التالي كانا زوجين، استعانا بنقود الصرة القماشية فبنيا بها غرفتين وزريبة، واشتريا ست نعاج وفحلاً، وصبيحة بجانبهما في الكوخ الطيني تساعد زهوة وتحدث دحام عنها، وعن نظرتها في النساء، همست في أذنه قائلة: أمثال هؤلاء لا ينجبن إلا الذكور، اسألني أنا، أعرف، أعرف الكثير.
وريثما يأتي الذكر كانت زهوة تعمل جنباً إلى جنب مع دحام، تطعم الأغنام، تحلبها، وعند كل فجر يحمل دحام الحليب والجبن إلى سوق حلب، ويعود بقطع حلوى يابسة وخضار ذابلة وفواكه اهترأ بعضها، وتسعد زهوة بما يحمله دحام، تأخذها عنه، وتلاحقها صبيحة في كل خطوة، تعلمها، تنصحها، تدربها، أحياناً كانت تضيق زهوة بتعاليم صبيحة ونصائحها، وحين تتذكر ما فعلته لها هذه المرأة الغريبة تسكت وتطيعها طاعة عمياء، فتحدث دحام عن جودة الخضار التي حملها، وتشيد بنضارة الفواكه التي انتقاها، وتتلمظ مع يوسف حلاوة قطع الحلوى، وتصفها بالطرية، وينادي الصغير دحام:؟
(يا بوي). وفي أوقات الفراغ القليلة يندس الطفل في حضن دحام، فيستجيب الأخير لـه، يداعبه، ويحكي لـه قصصاً من خياله حتى يغفو على زنده فيحمله ويأخذه إلى الكوخ، يضعه على الفراش الذي يتقاسمه مع جدته صبيحة.
استطاعت زهوة بمساعدة صبيحة أن تخلق عالماً منفصلاً، عالماً يبعدها عن كل ما حدث لها، بنت بينها وبين مجدلون جداراً عالياً، جداراً لم يمح من ذاكرتها هاجر وسلالها وأطباقها ومزهرياتها، هذا الجدار لم يحجب عنها نضال وخلواتهما، ولم يحجب عنها يونس ومنحوتاته، ولم يمح من ذاكرتها التلة والنهر والغابة، هذا الجدار غسل من ذاكرتها فقط ما حدث لها في تلك الليلة الشتائية الباردة، وتساءلت كثيراً: لماذا غدر القواد بقحطان ولم يوصلها إلى نضال؟ والأمل في بزوغ فجر تأتي فيه هاجر ونضال وأحمد وقحطان للبحث عنها تلاشى.
حين رأتها صبيحة تبكي، هزتها من كتفها وقالت: تبكين؟ قحطان باعكِ لكي لا تكوني حجر عثرة أمام ابنه، فتبعديه عن طموحاته، والقواد مسكين خُدِعَ كما خُدِعتِ ، ودحام قبلكِ زوجة، فاغفري لهم جميعاً، وكوني لدحام
زوجة وفية.
لم تسأل زهوة كيف يكون الغفران، فهي وحتى يوم دخولها السجن، كانت تعتقد أن أحداً لم يخطئ معها، حتى القواد الذي رفض توصيلها إلى نضال، هو ضحية خطأ أو سوء تفاهم، فاستسلمت لقدرها، ونضجت قبل الأوان واختارت لنفسها عالماً خاصاً يضم دحام ويوسف وصبيحة والطفل الذي تنتظره.
كل فجر تخرج مع أغنامها، تراقبها، تنتظر أن تضع حملانها. الطقس يتكرر كل فجرٍ وكل ظهرٍ وكل مساء، وإذا تناهى إلى مسمعها صوت ثغاء تقفز من مكانها، تغوص بين القطيع الصغير، يتلون وجهها بالفرح، كان أكثر ما يدهشها الولادة، الولادة التي تتحفها بحملان ونعاج بيضاء كثلج مجدلون، حملان ونعاج بيضاء منقطة بمساحات سوداء صغيرة. الولادة ! عدا أنها كانت تمنحها شعوراً بالتجدد، فإنها القشة التي كانت تتمسك بها كي لا تعوم في بحر الماضي.
عند زهوة كان نضال وهاجر هما مجدلون بكل ما فيها، هاجر لم تحدثها عن حياة سابقة كانت فيها زوجة لقحطان ولم تقل لها شيئاً عن رغبة قحطان، رجل مجدلون، باستعادتها، حتى لو حدثتها فالأمر لن يتغير هي لنضال ونضال لها، وتجاهل رجل مجدلون لهذه الحقيقة لا يغير في الأمر شيئاً (نضال سيبحث عني، وسنلتقي)
أجابتها صبيحة: إن الجدوى من لقاء نضال كالجدوى من الوقوف في وجه عاصفة، توقعكِ أرضاً، تدميكِ، تمزق ثيابكِ ثم ترحل، وتنشغلين بجمع نفسكِ، هذا إذا لم يعرف دحام، أما إذا عرف، فلن تلحقي نفض الغبار عنكِ ولا جمع أشلائكِ.
وانقسمت زهوة بين العمل والولادة، وأنجبت مصطفى، همست صبيحة في أذن دحام: إنه يشبهكَ. وكبر يوسف، حين رأى شقيقه، كبر ونضج، وسأل دحام: بوي متى سيصبح عندنا قطيع كقطيع عساف السمسار؟ داعب دحام رأس الصغير وقال: الله كريم، وكان الله كريماً مع دحام، فأكثر عدد أغنامه، وصار يوسف يرافقها، فيبدو بشعره الأشقر خروفاً مشاكساً يركض وراء الحملان يداعبها، يقلبها على الأرض، يعذبها، فتثغو الحملان مستنجدة بأمهاتها، وحين يعترض مشاكسته فحل يمسك بقرنيه ويمتطيه فيصيح وكأنه في حلبة مصارعة، لتخرج زهوة مستطلعة، تهز رأسها وتعود إلى عملها الذي تضاعف بسبب زيادة عدد القطيع، واشتكى دحام من العبء الذي تضاعف بسبب هذه الزيادة، فقررت زهوة الخروج إلى السوق، وبيع الحليب والجبن. ولو كانت صبيحة أكثر قوة لنابت عنها في هذا العمل الجديد، فثمة قلق انتابها بسبب هذا الخروج، فعدا شباب زهوة وجمالها خافت صبيحة عليها من القواد أو واحد من أهالي مجدلون. ولتجنب ما تخشاه أملت عليها شروطاً تجنبها نظرات الآخرين وتحميها من أعين الفضوليين.
كان لتوزيع العمل أثر إيجابي على الجميع، دحام وزهوة وصبيحة، والصغيرين يوسف ومصطفى، ففي كل فجر يخرج دحام بالقطيع إلى المرعى، ويعود ظهراً ليخرج به عصراً، ويعود مساءً. هو مع زهوة وصبيحة يتقاسمون إفراغ الضروع المليئة، ويباع ما تدره الضروع عند الفجر حليباً وتحمل زهوة بما ينوء جسدها بحمله تدور في الأسواق، حتى إذا فرغت عادت تحمل ما تبقى، وتطرق لتسويقه الأبواب، ثم تعود محملة بخضار طازجة وحلوى طرية وفواكه شهية تفرشها أمام دحام وصبيحة والولدين، وحين حملت زهوة للمرة الثالثة ابتاع لها دحام بغلة تحملها مع الجبن والحليب إلى الأسواق والبيوت، تبيع بعضاً من حملها لزبائنها في السوق، ثم تمر على البيوت تبيع ما بقي معها، وتزودها النساء المترفات بثياب لها ولولديها، وحين تنجب حسين يعود دحام إلى الأسواق والبيوت يطرح فيها الجبن والحليب، ولم يستطع المولود الثاني تغيير طبع دحام، فظل يحمل إلى البيت الخضار الذابلة والفواكه المهترئة، ولم تبخل زهوة كما علمتها صبيحة ترديد كلمات الثناء والإطراء رغم أنها كانت تعف، وهي الضعيفة، عن تناول شيء مما كان يحضره.
بعد شهرين عاد دحام إلى المرعى، وعادت زهوة إلى ظهر بغلتها، تتجول في الأسواق وتطرق الأبواب، واستمرت صبيحة برعاية طفلي دحام، أما يوسف فصار رفيق (يا بوي)، في ذهابه وإيابه، وببراءة طفل قال لـه: (رح يصير عنا غنم لا يلاقي مكان ينام فيه)، احتضن دحام ابن السادسة، شرد في وجهه وقال: (معك حق، ما عادت الأرض تتسع للغنم كله)، وتوقف دحام عن إكثار الغنم ببيع بعضه وشراء أراضٍ مجاورة.
القطيع ينمو ويباع قسم منه، وزهوة تعود كل يوم بغلةٍ وفيرة، ونمت النقود وتوالدت بيد زهوة وجيب دحام واشتريا الأراضي المحيطة بالمنزل الصغير، ثم امتدت إلى مساحات أخرى، فالأراضي التي ابتيعت كانت ساحة كبيرة للقطيع، وبيدراً لغلال تزين المساحة التي صارت دونمات تحيط بالمنزل الذي بدا كجزيرة صغيرة وسط بحيرة واسعة، هذه المساحة كانت ستتسع لتضم دونمات جديدة، لولا تأخر زهوة، فدحام استأجر صبياً يخرج بالقطيع ويعود به في أوقات محددة، وتفرغ هو للتجارة، حيث صار يشتري أغناماً وخرافاً، ويذهب بها إلى السوق ليعود بربح يومي يغطي أجر الراعي الشهري.
تأخر زهوة أجفله، صفعه، وقف يسترد وعيه، يتساءل: إن كان ما حدث حلماً أم حقيقة، تساءل: كيف؟ لماذا لم يحمها، لماذا تركها تدخل بيوت الغرباء؟ لماذا سمح لها أن تتعامل مع التجار؟ المال، الجشع...؟...
وتذكر، تذكر أشياء كثيرة غابت عن رأسه، البحث عن طريقة يثبت بها وجوده في قرية لا تعترف كثيراً بالغرباء، كم يكلفنا إثبات الوجود، كم تكلفنا المعارك التي نربح فيها!.
في ذلك اليوم وقف دحام مصعوقاً، وأجاب على سؤال الشرطي (نعم أنا زوجها)، كان ما زال يلهث، وما زال البرد الشديد يراقص شفتيه، ويداه ما زالتا في جيب معطفه العسلي، خرج يبحث عنها، صبيحة أرسلته، وحين عاد رآها واقفة تنتظر قدومه لتخبره بأن شرطياً ينتظره، وحين سألها الشرطي إن كان هذا منزل زهوة صالح أجابت: وأنا أمها. كانت شفتا صبيحة ترتجفان حين همست في أذن دحام: (الشرطي يسأل عن زهوة)، لكن صبيحة لم تقل إن زهوة قاتلة.
أخيراً تجرؤ على القتل والرفض، لو أنها قتلت ورفضت منذ البداية، لو أنها قالت: لا، لنضال، لهاجر، لأحمد، لقحطان، للقواد،.....
الآن وبعد ثلاثة أولاد، وخمسة عشر عاماً أذاقتها الحلاوة والمرارة، تقول لا، وتضرب رجلاً، أقسمت أنها لم تكن تعلم أن وعاء النحاس سيقتله، الوعاء الذي أفرغت حليبه كانت لاؤه قاتلة، الحليب الذي غسل رأس الضحية وأغرق ثيابها فضح زهوة، وكان الدليل القاطع على أنها قاتلة.
في ذلك اليوم وبعد أن انتصف النهار دب القلق في قلب صبيحة، همست في سرهاكذبت زهوة، كيف أقسمت أنها لن تتأخر؟ هل نسيت أن دحام بدوي، ولن يحتمل تأخرها؟.
منذ يومين تأخرت وعزت تأخرها إلى كساد السوق، ووعدت صبيحة بأن هذه المرة ستكون الأخيرة كما كانت الأولى، لن تتكرر ولو اضطرت لإعادة ما تريد بيعه إلى البيت، رددت صبيحة مرة أخرى: كذبت زهوة، تنهدت وخرجت رغم البرد، وقفت طويلاً، ارتجفت، أقسمت أنها ستضربها، دخلت الغرفة، طمأنت الأولاد قائلة: زهوة قادمة.
وقفت تملأ يديها من دفء الجمر ثم خرجت لترى الطريق خالية إلا من نثرات ثلج تتطاير في الفضاء البارد، خافت صبيحة أن تكون التقت أحداً من مجدلون، أو أن يكون القواد رآها وقتلها، خافت صبيحة من أن تكون ماتت تحت عجلات سيارة مسرعة، بدوية تموت ! وماذا في ذلك؟ ومن يهتم لموتها؟
تخيلت صبيحة أن العالم كله يترصد ابنتها زهوة، أو لا يبالي بها، لكنها، أي صبيحة، لم تتخيل أن تكون ابنتها قاتلة، ابنتها هذه وضعت بينها وبين العالم حجاباً، فلا ترى أحداً ولا أحد يراها، فقط الطريق التي تعبرها كل يوم، ووجوه التجار، ووجوه النساء القابعات خلف الأبواب، لا أحد يعنيها، إلا دحام وصبيحة والأولاد،
هذه المرأة التي استبدلت بنضال دحاماً، وبهاجر صبيحة، وبمجدلون الثيريب، وأولادها بالعالم، هذه المرأة ما الذي أخرها؟ ما الذي حدث معها؟ هل من أحد اقتحم عالمها؟ هل من أحد؟
الجسد الضئيل كاد أكثر من مرة أن يقع، أكثر من مرة رفعت طرف منديلها تمسح به عينيها الواقعتين في محجرين عميقين. بدأ الفضاء الأبيض يفقد نصاعته، والنهار يجمع نفسه ويسير نحو الغياب، كان على صبيحة تغطية غياب زهوة.
حط الليل رحاله وزهوة لم تأتِ، الأغنام واقفة تنتظر سيدة البيت، تقود رجلها إلى الضروع يتقاسمانها مع الحملان والنعاج، وخيَّم الرعب على كل شيء، المنزل الصغير بدا كمن ينتظر سقوط أعمدته، صبيحة جالسة، فاغرة فمها، تبحث عن طريقة تخفف بها من قلق دحام، الأولاد يرتجفون، دحام حائر، أخيراً صرخت صبيحة: إن لم تخرج أنت أخرج أنا.
إلى أين؟
إلى السوق. اسأل التجار عنها، اسأل.... اسأل...،
وغصت، ماذا سيقول الناس حين يسألهم عنها؟ ماذا؟.
كان البرد شديداً والثلج يتطاير في الفضاء، ترجل عن دابته، ربطها في أول السوق وسار على الرصيف، توقف عند أول دكان تدخله، كان الدكان مغلقاً والشارع خالياً، وكأن البرد أصدر مرسوماً بمنع التجول، وصل إلى آخر الشارع وعاد، وحمد الله أنه لم ير أحداً يسأله، فأية فضيحة كانت تنتظره لو أنه سأل؟ أية فضيحة؟.
طمأن نفسه قائلاً: أظنها في البيت تحلب الأغنام، تجبن مع صبيحة الحليب، وقرر العودة إلى البيت ليكون بانتظاره الشرطي يسأله عن زهوة، فيجيب: إنها زوجتي.
ـــ 11 ـــ
كانت على بضع خطوات من الباب حين تذكرته، ضحكت في سرها، تساءلت
لماذا يسرف هذا المراهق باحترامها، حين تدخل يقول: كنت أعرف أنكِ أتيتِ.
يأخذ عنها سطل الحليب ويخطف عن رأسها قدر الجبن ثم يقسم أنه ينتظرها مع أمه لتشرب معهما قهوة الصباح، وقبل أن تأخذ السيدة هدى حاجتها من الجبن والحليب تكون دولة مع ثلاثة فناجين أمامها، تتركهم السيدة هدى لتغسل الوعاءين وتضع ما ابتاعته من زهوة في المطبخ، في تلك الأثناء يمطر صفوان زهوة بما حفظه من كلمات الغزل والإعجاب، يحدثها عن رفيقاته المراهقات، وبأنهن رغم صغر سنهن فإن جمالهن لا يقارن بجمالها وصباها.
والله لم أر أجمل منك، لو كنتِ عازبة لتزوجتكِ، اسمحي لي أن أقول لكِ أن زوجكِ لا يعرف قيمتكِ، لو كنتِ زوجتي لمنعتكِ من الخروج إلا إلى المسارح والسهرات والحفلات وبثيابٍ أنيقة، لو كنتِ زوجتي لحوَّلتكِ من بائعة حليب إلى سيدة مجتمع، لو... لو....
تتظاهر زهوة بأنها لم تسمع أمنياته، وتطلب من السيدة هدى الإسراع قليلاً لأنها تأخرت، ثم تحمل السطل والقدر وتخرج لتستعيد كل كلمة قالها، تعيش معها حتى تصل إلى بيتها، ثم تشعر بالندم وتتساءل: ما الذي سيفعله دحام لو علم بما يقوله هذا الفتى؟.
أكثر من مرة أسرت بينها وبين نفسها أنها لن تدخل المنزل حتى تتأكد من خروجه، ولما لم يكن التأكد متاحاً دائماً فإنها كانت أحياناً تفاجأ به يفتح لها الباب ويعيد العبارات ذاتها، وشيئاً فشيئاً اعتادت الأمر واعتقدت أن ذلك لا يتعدى كلمات الإعجاب والإطراء، وربما كانت تتعطش لهذه الكلمات، فدحام لا يرى فيها إلا يداً تمده بالنقود ورحماً ينجب الذكور، أما هذه الكلمات فكانت على ثقة بأنه لم يسمع بها فالحياة عنده ( غنم، حليب، جبن، أرض، أولاد )، بهذه الأشياء يثبت وجوده في الثيريب التي ما زالت تسميه، رغم ما وصل إليه، دحام الراعي أو دحام اليتيم، وتبلغ ببعضهم الجرأة أن ينعتوه بدحام الجبان، وأن تجرأ أحد وعاتبهم على التسمية.
الأخيرة، يرددون: لو لم يكن جباناً لانتقم من قاتلي أبيه.
ضحكت زهوة مرة أخرى وهزت رأسها الذي يضغطه قدر الجبن: لا بأس ببعض الكلام الجميل. هذا الكلام الذي كانت تتظاهر برفضه، كانت لأجل أن تسمعه تقوم بحركات تجعله يتمادى في ترديده، وأحياناً يبالغ، مرة دخلت وسألته عن السيدة هدى فقال: لا تخافي، والله العظيم هي في المطبخ. ثم خطف عن رأسها قدر الجبن وأخذ من يدها سطل الحليب، عندها استغلت وجودهما معاً فرفعت طرف عباءتها الطويلة وظهرت ساقها، فأرسل صفوان صفيراً خفيفاً وقال: ما هذا؟ أنتِ أجمل امرأة رأيتها في حياتي. وكان سيقول أكثر لولا صوت السيدة هدى التي ظهرت مرحبة بزهوة.
كانت زهوة تستمع وتقول في سرها: كلام جميل ولا شيء أكثر.
وأكثر من مرة وبعد دخولها، تتأفف من الحرارة الشديدة فتحل أزرار عباءتها حتى يظهر الوادي الذي يفصل الهرمين عن بعضهما، ثم تعجل في إعادة زر العباءة بحيث يصبح كل زر في عروته.
تمادت زهوة، تمادت وغاب عن رأسها أن هذا التمادي سيحوِّلها إلى قاتلة، وسيكون الفتى الذي تحب كلامه هو الضحية.
ووجدت نفسها أمام الضابط المسؤول تستمع إلى جملة الاتهامات الموجهة ضدها: اقتحام حرمة بيت، إغواء مراهق، الاعتداء، السرقة، القتل.
كان عقل زهوة عاجزاً عن استيعاب هذا الكم الكبير من الاتهامات، نظرت إلى دحام، كان الآخر يبدو غير مصدق ما يسمع، انتظر أن تدافع عن نفسها، أن تقول: كلا، أنا طرقت الباب وفتح، كلا أنا لم أغوِ المراهق، ولم أعتدِ عليه، أنا لم أسرق لكنني قتلت، قتلته عن غير قصد، قتلته لأنه حاول الاعتداء عليَّ.
لو أن صبيحة هنا، لوقفت أمام الضابط وحلفت أن زهوة نقية كنثرات الثلج التي تطوف في سماء هذه الليلة الباردة، لو أن صبيحة هنا لقالت: زهوة في حياتها كلها لم تسرق، لم تعتدِ، لم تغوِ، لم تقتحم حرمة بيت.
استسلمت زهوة لقدرها، وسجنت وراء القضبان، في غرفة مصلوب على جدارها ذبالة زيت، ورائحة خانقة لا تجد منفذاً تخرج منه، سجنت زهوة، وما أرادوا لها السجن، القاضي خفف العقوبة لخمسة عشر عاماً. احتج ذوو المقتول وأقسموا على الثأر. بعد أيام من الحكم همست زهوة في أذن يوسف: عد إلى مجدلون، وناولته صورة لها، هذه الصورة أعطها لصانعة سلال اسمها هاجر، هاجر ستدلك على والدك. هرب يوسف بمساعدة صبيحة، أما دحام الذي كان ينتظر أن يعتلي يوسف عرشاً بنته صبيحة من بنات أحلامها، ثم وفي خطوة منه لإرضاء ذوي المقتول طلق زهوة، وتزوج عائشة ابنة الثيريب ثم باع قطيعه ليجنب عائشة مصيراً مشابهاً لمصير زهوة، واستعاض عن تربية الأغنام بالتجارة، يدور الثيريب وجوارها، ليشتري منها ما يناسب السوق ويخرج به فجراً ليعود بربح بسيط، مهنته هذه أعجبت رجال الثيريب فامتهنوها وصارت فرصة دحام بالبيع والشراء ضعيفة، وعللت صبيحة مرضها وسوء حال دحام إلى أن ثمة وجوهاً حين تهل يهل الخير وحين تختفي يحل النحس والفقر، وأسرت بينها وبين نفسها بأن ثمة وجوهاً أينما تكون يكون النحس والفقر.
رأي صبيحة هذا أسمعته لدحام حين دخل ليطمئن عليها ثم طلبت منه نقوداً لتشتري بها كفناً وأشياء ستحتاجها للموت، وبدل من أن يناولها ما تريد، سألها: وأنا ماذا أفعل؟ ألست ابنكِ؟ هزت رأسها وقالت: كنتَ. أما هذه، وأشارت إلى حيث عائشة هذه كلا لن أقول شيئاً، فقط أعطني ما يكفي، أيامي صارت معدودة، الموت يأتي ساعة نشاء، وأنا لم أعد أرغب بالحياة.
حك دحام رأسه ووعدها بأن ما تريده سيكون غداً بين يديها، أما الآن، وشرد..
ـ أعرف، جميعنا ظلمنا زهوة، أنت طلقتها، لماذا؟ هل صدقتَ أنها سارقة وقاتلة؟ آهٍ يا ابنتي المسكينة ! زهوة زرعت وعائشة حصدت، لن تجد الخير بعد الذي فعلتَهُ، ترى أي مصير ينتظرها؟ هل تعدني بمساعدتها؟ حين تخرج سأكون في عداد الأموات.
ماتت صبيحة بعد شهر، ماتت بعد أن جهزت نفسها للرحيل الأخير، كفن وبخور ونفقة كانت قد وزعتها على فقراء الثيريب، حتى القبر أشرفت على حفره بنفسها، وكان منظرها مضحكاً وهي مستلقية على الأرض وحفار القبور يحدد المساحة التي تحتاجها، ثم يبدأ الحفر، وأثناء ذلك تحدثه عن زهوة التي تحتاجها الآن لتبكيها وتترحم عليها، فإذا بالقدر يلعب لعبته ويحرمها من نائحة تترحم عليها وتبكيها، وتقول: لو أن القدر تأخر قليلاً، أحياناً تتوقف عن التحسر، وتلفت نظر الحفار إلى نتوء سيزعجها إن لم يشذبه، وحين انتهى من حفره، طلبت منه مساعدتها في النزول إليه، اضطجعت فيه، وعاد الحفار يخرجها منه لتعود إليه بعد أربعة أيام، عرفت زهوة بوفاة صبيحة، ولم تنفع توسلاتها للسماح لها بالخروج ولو لساعة، لزيارة قبر عجوز كانت تحتاجها يوماً، وربما ساعة، حين أخبرها مصطفى بوفاة جدته، سألته: كيف؟ أجابها: كنت نائماً عندها، وسمعت صوت حشرجة، خرجت أحضر أبي، فأخبرني أنها ماتت.
ـــ 12 ـــ
حين تمكن مرض الموت من جسد حامد توقف عن الذهاب إلى التلة الباكية، وكان على يونس الإنصات طويلاً إلى نصائح العجوز:
أحجار الجهة الشمالية هشة لا تصلح لصناعة الجرون أوالطواحين، لا تصعد التلة أحجار أسفلها صلدة، إحذر الأحجار الكلسية، لا تعبث بالصخور المحيطة بالينابيع).
وينصاع يونس للاءات حامد، لكن إلى حين، فالجهة الشمالية يستفزه تحريمها، وصعود التلة يغريه ليرى عالماً لا حدود لامتداده، والصخور المحيطة بالينابيع توقظ فيه رغبة البحث، أما الأحجار الملحية فكانت تبهجه ببريقها، لماذا حرمه والده كل هذه المتع؟ هو وحيد، وكذلك زهوة وحيدة، لكنه لم يسمع هاجر، ولو مرة واحدة، تحذر زهوة مما حولها، فهي تصعد التلة، تنفلت على أطرافها، تقطف الزهور، تلاحق الفراشات، تدحرج الأحجار الصغيرة.
بعد وفاة حامد أعادت عليا على مسمع يونس قائمة الممنوعات التي سمعتها من حامد ونتيجة لتكرار التحذيرات فإن يونس احتاج لعام وربما أكثر لتجاوزها، بدأ بالصخور المحيطة بالنبع الشرقي، حاول زحزحتها بيديه، حاول تحريكها بفأسه، وحين فشل عرف أن نصيحة حامد حول الصخرة تعني:
(لا تدع المستحيل يستهلكك، فما عجزت عنه الطبيعة لن تستطيع فعله).
وحمل مرة صخرة ملحية إلى منحته، وحين ضربها بالشاقوف تحولت إلى حصى ونثرات براقة، فقال: حامد على حق، ما يبرق هش ولا يصلح لصنع شيء ذي قيمة.
اقتنع يونس أن حامد على حق، ورغم ذلك صعد إلى أعلى التلة يبحث في قمتها عن أحجار تصلح لأن تكون جروناً أو طواحين، ومن خلال معاينته تأكد أن تحذير والده من صخور القمة ليس دقيقاً فشاقوفه أثبت أنها جيدة، بل هي أفضل من صخور القاعدة، حمل إحداها واتجه بها منحدراً إلى الأسفل، انحداره البطيء بدأ يتسارع حتى سقط وتدحرج، وتدحرجت من يده الصخرة الكبيرة وعاثت فساداً بكل ما اعترض طريقها، طحنت الزنابق والزهور، أخافت الحيوانات، قتلت الحشرات، وخاف يونس، وهو منبطح مدمَّى، من أن تصيب الصخرة اللعينة أحداً في طريقها راعياً أو ظمآن أو عابر سبيل، وانتظر أن يسمع صراخاً أو صوت استغاثة يأتيه.
قلقه دام حتى وصل إلى قاعدة التلة ووجد الحجرة اللعينة كما وصفها معلقة في شرك من الأغصان المكدسة، جلس عليها وحلف أنه لن ينصاع لاستفزاز الجهة الشمالية،
أيمانه هذه دامت حتى صباح اليوم التالي، حيث حمل فأسه وشاقوفه وجر دابته وسار باتجاه الجهة الشمالية، عقل الدابة إلى جذع سنديانة وسار بفأسه إلى الأحجار التي وصفها حامد بالهشة، توقف، نظر حوله، رأى أحجاراً كثيرة تغطيها أعشابٌ، وأشجار حراجية صغيرة وكبيرة، استقرت نظراته على صخرة سوداء مكشوفة تحيط بها زنابق وأعشابٌ صغيرة، صعد إلى الصخرة، لامسها، تساءل: صخر أسود في التلة الباكية؟! لولا الينابيع لكان اسمها التلة البيضاء، ما الذي أتى بهذه الصخرة إلى هنا؟ وضع الفأس على طرفها فتزحزحت، حاول تحريكها فاقتلعها رغم ضخامتها التي تتجاوز ضخامة الصخور البيضاء التي اعتاد حملها إلى منحته، وضع الفأس جانباً ودفعها بيديه فتدحرجت حتى استقرت على مساحة منبسطة، قال: حامد لم يحذرني من الأحجار السوداء، بل على العكس كان يرفض تحويلها إلى جرون وطواحين. وعاد يونس يتساءل: صخرة سوداء في التلة البيضاء أو التلة الباكية !، جلس بجانبها وراح ينقل نظراته بينها وبين الأحجار البيضاء: هذه خشنة تتوزع المسامات على سطحها، البيضاء! البيضاء ملساء ناعمة، الأولى أكثر صلابة من الثانية، وأظنها تصلح أكثر لنحت الطواحين والجرون. ترك يونس الصخرة السوداء وعاد إلى المكان الذي أخرجها منه عله يجد أخرى، بل ثمة أمل تدفق في ذاته، أمل بأن يجد عشرات من أمثالها بل مئات وألوف، حمل يونس فأسه ضربها في المكان فتساقطت أحجار صغيرة وانهال التراب على المكان، أزاح بفأسه الأحجار والتراب، حفر فارتطم الفأس بصخرة، حين رفعها بطرفها قدَّر أنها كبيرة، أزاح التراب الذي يحجب عنه الصخرة وعاد يسحبها، كان الأمر يحتاج إلى جهد يفوق الجهد الذي بذله في إخراج الصخرة السوداء، أعاد المحاولة مرات كثيرة، أعادها حتى استطاع أخيراً إخراج صخرة بيضاء مقعرة، نصف دائرية، دفعها حتى أصبحت بجانب الصخرة السوداء، أخذ نفساً عميقاً، مسح العرق المتصبب على وجهه وعنقه، أعجبه تقعر الصخرة من أعلى واستدارتها من الجهة المقابلة، ذكره تقعرها واستدارتها بالهلال المكتنز، جلس عليها، تساءل: عما إذا كانت الطبيعة في سعيها لقولبة الأشياء وراء تقعرها وتحدبها، أم ثمة بشر عاشوا هنا وحوَّلوا الصخور إلى مقاعد تريحهم من التعب الذي يكدهم؟، ولكي يصل إلى جواب، خطر في رأسه خاطر عجيب: إن كانت الصخرة المقعد من صنع البشر فلا بد أن هناك مقاعد صخرية كثيرة مدفونة في جوف التلة الباكية. حمل يونس فأسه واتجه إلى الحفرة، سار ثلاث خطوات، ثم توقف، ارتجف وراح يتصبب عرقاً، تذكَّر حكايا مخيفة عن التلة الباكية، دارت الأسئلة في رأسه، عاد يستظل بأغصان شجرة سنديان كبيرة، تذكر تحذيرات والده، جميعها أصابت، فهل يخالف تحذيره من الجهة الشمالية تحذيراته الأخرى، في تحذيره السابق كاد يموت ويميت، وما قبلها.
حامد على حق، قد تكون نهايتي في هذه الحفرة. نظر حوله، تخيلها وحشاً يمد مخالبه نحوه ليخطفه ويبتلعه، وقف، لم يجرؤ النظر إليها مرة أخرى، الهروب أفضل، بحث عن الشاقوف ثم تخلى عنه، ليذهب الشاقوف والدابة والفأس ولينجو بنفسه. ما كان يونس ليهرب قبل أن تقع نظراته على الحفرة، وما رآه جعله يترك كل شيء ويجري إلى عليا، صرخ منادياً مستغيثاً، لكن لا أحد، فكر باللجوء إلى هاجر، إنها المرأة التي ستهدئ من روعه، قفز عن المصطبة، صرخ منادياً: هاجر. ..، لكن لا هاجر ولا زهوة ولا أحمد صالح. قفز إلى المصطبة، دخل إلى المنحت، جلس على سريره الحديدي يستعيد أنفاسه ويهدئ من خوفه، قام إلى الجرة الفخارية، شرب من مائها، وجلس يفكر بما رأى: صخرة سوداء خشنة، مقعد صخري أبيض ناعم،؟. .. كلا، إنه الخوف، كلا ليس الخوف، إنها أصابع ورأس و....، حامد على حق هذه المرة كما في المرات السابقة، لكن ثمة اختلاف: أحجار الجهة الشمالية ليست هشة كما قال، ربما اختلطت عليَّ الأشياء، صخرة على شكل هلال مكتنز وصخرة سوداء وأصابع ورأس ووجه أبيض.
احتاج يونس لست ساعات حتى جزم بأن ما رآه كان جذرين لشجرة كانت تعلو المكان، أما الوجه فهو حجرة مستديرة ارتفعت فوق جذرين متشابهين، ورغم ارتياحه لهذه النتيجة فإن الشك لن يغدو يقيناً حتى يرى ما يؤكد النتيجة التي وصل إليها.
كان الوقت عصراً وصار لزاماً عليه إعادة دابته والفأس مع الشاقوف إلى البيت، قال لعليا: إن تأخرت فلا تقلقي، وكان يريد أن يضيف: إن تأخرت فأرسلي أحمد صالح ورائي، ولكنه اكتفى بطمأنتها واتجه إلى هدفه، وفي رأسه شك مما تظاهر بأنه متأكد منه، في طريقه إلى هدفه كان يتوقف ويضع يده على قلبه، يريد أن يهدئ من ضجيجه، كأن يقول: في أسوأ الأحوال أمتطي دابتي وأعود مسرعاً إلى عليا، وإن حاول اعتراض طريقي ضربته بالفأس والشاقوف، بدل السلاح أحمل سلاحين إن خذلني الفأس قطعته بالشاقوف، الأرض أرضنا والتلة تلتنا،؟... رغم ذلك ظل يونس خائفاً، فالشيء الذي نجهله رغم ضعفه وهشاشته نحذره ونخافه، وهاهو يونس يصل، ينسى دابته، ينسى سلاحه ويتسلق شجرة السنديان، يجلس على غصن كثيف الأوراق، يمسك به، ولو كان معه حبل لربط نفسه إلى جذعه، نظر إلى الحفرة، حرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال، إلى أعلى إلى أسفل، إلى الشرق إلى الغرب، أمسك ثمرة سنديان ورماها باتجاه الحفرة، تلاها بثانية وثالثة ورابعة، إنه رأس ويدان وأصابع ووجه وعنق، لكنها من الحجر، ما هذا؟ صخرة سوداء مستديرة وصخرة بيضاء على شكل هلال مكتنز، وأخيراً رأس ويدان وأصابع ! تساءل: ما هذا؟ ثم قفز من شجرة السنديان، حمل الفأس وسار حذراً باتجاه الحفرة، حين وصل لامس الأصابع النحيلة، حركها فانهال قليل من التراب على الرأس، حرك فأسه حول الحفرة فتساقط التراب والحصى فأزاله وظل يحفر ويجرف حتى برزت أمامه منحوتة كاملة، منحوتة لجسد أنثوي رشيق، حمل المنحوتة ووضعها بجانب الصخرة المستديرة والأخرى الهلالية، تنهد بعمق، تساءل: من هو خالقها؟ أيوجد إنسان يبدع جسداً كهذا؟ هل هو حامد؟ هل...
هل يستطيع رجل عاش بين الأحجار والجرون والطواحين أن يبدع منحوتة كهذه؟.
لماذا يخبئها، لماذا؟
بعد أن حجبت العتمة كل شيء حوله، حمل المنحوتة إلى الحفرة وغطاها بأغصان الأشجار ليكون فجر اليوم التالي عندها، يتلمسها، تتوقف يداه على انثناءات الجسد الناعم، وتتوالد الأسئلة كما تتوالد المنحوتات على يده، توالدها لم يكن سهلاً ونجاحه في نحت مثيل لها كان بعد مخاضٍ استمر عاماً كاملاً، عاماً من النحت، عاماً من تكسير الأحجار، عاماً من التساؤلات حول حامد والمرأة التي كانت وراء هذا الإبداع، وسبب منعه من نحت وجوه بشرية.
عام من المعاناة عرف خلاله أن لا شيء من فراغ، حامد أحبَّ امرأة لم يمتلكها فنحتها، وهو أحب زهوة ولم يفارقه الحلم بامتلاكها فخرجت من يده منحوتة أوحت لـه بمنحوتات عوقب بسببها وطرد من مجدلون، وعرف أن الحلم ممنوع وقد يقتل الإنسان بسببه أو يطرد. ألهذا أخفى حامد حلمه، حبيبته، في الجدار الشمالي لتلة مجدلون؟ ألهذا طرد يونس، طردت أحلامه، منحوتاته التي لم تطمر؟ هل الحلم الذي يعلن يلد أحلاماً، والأحلام... آهٍ من الأحلام !قال يونس ليوسف: أخطائي كثيرة وكانت ستغفر لولا أنني نحتُّ جسد المرأة أولاً ثم جسد الرجل، ترى هل كنت سأعاقب لو لم أخالف القاعدة: الرجل أولاً ثم المرأة؟.
ـــ 13 ـــ
حين وصلت السيارة إلى شارع النواعير، توقفت على الجسر، قفز من بين الأغنام تزحلق، سمع تكسر قطع الجليد تحت جسده، وقف، سار في المدينة النائمة ذات الشوارع الرمادية، لمح عن بعد أدخنة تنوء تحت ثقل صقيع الفجر، صارت الأدخنة هدفه، تلفع بمعطفه العسلي، شد عمامته، قفز إلى الرصيف، وحث الخطى، لم يكن الهدف بعيداً، سحب نفساً عميقاً، تحرك الجوع في داخله، صارت الرائحة دليله، خبز طازج، تذكر خبز زهوة، تساءل إذا كان الطعم يشبه الرائحة التي حملتها أنسام الفجر البليدة، حين وصل كان أمام الكوة أربعة رجال، وداخلها شاب لطيف الطلعة، حمل الأربعة أرغفتهم الساخنة وبقي يوسف صامتاً يداه تختبئان في معطفه، ظنه الشاب متسولاً، فأعطاه ثلاثة أرغفة، ثم غاب ليعود وبيده صحن مليء بمربى المشمش، أخذه يوسف، دس إصبعه في الحلوى العسلية اللون، وبعد دقائق كان الصحن نظيفاً، أعاده مع الرغيفين للشاب، لكن الأخير اكتفى بالصحن، وأشار إليه أن يبقي الرغيفين معه، لف يوسف الرغيفين ودسهما في جيب معطفه، ثم سأل الشاب إن كان بحاجة إلى عامل للمخبز، أخرج الشاب رأسه من الكوة ليتأكد مما سمعه، أعاد يوسف السؤال، هز الآخر رأسه وطلب منه أن يعود بعد العاشرة، ليراه صاحب المخبز، عاد يوسف يتمشى في الشوارع الفضية، توقف على الجسر، رأى أربعة إوزات تحشر نفسها عند حائط الجسر، أخرج رغيفاً من معطفه ورماها قريباً منها، رفرفت الطيور الأربعة واقتسمت الرغيف، رمى الثاني ففعلت به ما فعلت بالأول، وبينما هو يراقب الطيور المرقشة تناهى إلى مسمعه ضجيج دكاكين تفتح، صوت الضجيج تكرر، عاد يدور في الشارع المقابل للنواعير، توقف أمام عبارة كتبت باللون البرتقالي (في القبو فرصة عمل)، راقب السهم الذي يفضي إلى سلم حجري ينزلق نحو الأسفل، توقف طويلاً أمام الإعلان يقرأه، نظر إلى السلم الحجري المغطى بالطحالب، كان الإعلان فرصة أرسلتها المصادفة، والسؤال عن عمل فرضه إحسان بائع الخبز، والدفء الذي تسلل من الكوة، تذكر كلام زهوة: ( من يطعمك، افعل أي شيء تقابل به إحسانه )، كان أمام خيارين، إما العودة إلى الفرن، حيث مقابلة الإحسان والدفء، أو الانزلاق باتجاه الفرصة التي تعرض نفسها على الملأ، تساءل عن الفرق بين العمل الذي تطلبه، والعمل الذي يطلبك، قال: القبو أكثر أماناً، والفرن أكثر دفئاً، عاد يزرع الشارع جيئة وذهاباً، يراقب الدكاكين التي فتحت أفواهها، نظر ملياً إلى واجهاتها وعاد يهجي العبارة (في القبو فرصة عمل)، وأخيراً وبعد أن أصبح الشارع ذهبياً، راح يهبط درجات السلم الحجري، كان صوت تكسر الجليد تحت قدميه أكثر حضوراً على الدرج منه على الرصيف، أكثر من مرة تزحلقت قدماه وأمسك بالجدار الحجري الرطب، حين وصل إلى الدرجة الثالثة انعطف إلى الرابعة، واستمر في الهبوط حتى وجد أمامه باباً خشبياً عتيقاً كتب عليه وباللون البرتقالي ذاته الذي تهجاه على الشارع، عبارة: (لا أهلاً ولا سهلاً بالقادم)، وعبارة ثانية تحتها تماما؟: (إذا كنت قررت العمل عندي أنا يونس المجنون، فاطرق الباب)، كانت خطوات يوسف في صعود الدرج أكثر حذراً، كانت هروباً من مصير مجهول يتربص لـه وقد يلحق به، حين وصل إلى الشارع ركض، توقف، نظر وراءه، اطمأن إلى أن أحداً لم ينتبه إليه، اتجه إلى شارع المخبز، رطوبة الدرج وبرودته ذكَّرته بدفء كوة الفرن، عبارات يونس المنفرة ذكرته بابتسامة الخباز وكرمه، اختار الدفء والابتسامة على البرودة والأمان، لكن الزحمة أمام الفرن أعادته إلى الإعلان، تهجى المفردات البرتقالية، وعاد يتسكع على الرصيف، تسكعه استمر حتى اعتلت الشمس قبة السماء، قدَّر أن الزحمة صارت أقل أمام المخبز، فعاد يولِّي وجهه شطر المخبز، لكن الفتحة مغلقة وكذلك المخبز، لا رائحة خبز تفوح منه ولا أدخنة تتطاير فوقه، عاد وقد أدرك أن البرودة والأمان هما خياره، فلا الدفء يتطاير من الكوة، ولا ابتسامة تتراقص بين جدرانها، انزلق ينقل خطواته بتكاسل على الدرجات الزلقة، طرق الباب فسمع صوتاً يأمره بالدخول، دفع الباب بهدوء ،اصطدمت نظراته بحجاب رمادي، حجاب بدأ يكشف شيئاً فشيئاً عن خباياه، تدافع إلى الخارج مزيج مقرف من رائحة التبغ ورائحة الدهان، ورائحة عفونة، لم تثنه رائحة هذا المزيج عن الدخول، ليجد نفسه وسط غرفة كبيرة تظهر فيها لوحات تخفي معالمها العتمة الرمادية، وهياكل منحوتات مختلفة، عاد يتفحص الأشياء من حوله، فبدت الأشياء أقل غموضاً، رأى جدراناً ملطخة بالأصباغ ، ووجوهاً مختلفة تتكئ على جدران، طاولة تنوء بحملها، عليها منحوتة لم تتضح بعد تضاريسها، وجه يستريح على لحية، شاحوطة، شاقوف، مشحف، إزميل، قدح وقارورة فارغة، هذه الأشياء كانت ترسم خيالات من حولها، يفرضها ضوء خجول تحيط به خيوط عنكبوت، نظر إلى الجهة الشمالية فرأى فراغاً نقياً يسكب شعاعاته على ظهر صاحب اللحية الصهباء، شعاعات تحتضن ظهراً محنياً، ووجه تعانق نظراته المنحوتة الأحادية الهرم، خيل إلى يوسف بأن صاحب اللحية إنما هو عبد لتلك المنحوتة، تحركت يد صاحب اللحية باتجاه التمثال وراحت تنحت في تقاسيم الوجه البيضاوي، سار يوسف باتجاه الرجل، سأله إن كان صاحب الإعلان؟ فأشار الأخير إلى غرفة صغيرة، رفع رأسه وطلب منه إحضار زجاجة خمر وقدح واحد، ثم أضاف: (هي لا تحب الخمر)، لم يتحرك يوسف من مكانه، انتظر أن يقول لـه الرجل شيئاً، أو أن يسأله إن كان يرغب بالعمل عنده، أن يسأله من يكون وماذا يريد؟، لكن لا سؤال، أصلح الرجل نظارته، داعب هرمي منحوتته بإزميله، ثم وضعه جانباً وسألها: هل تعدينني أن تقولي لا، أنتِ رائعة لكنك غبية ' كيف؟ كيف تقبلين؟ كيف تستسلمين؟ لو أنه يحبكِ لأتى بنفسه إليكِ، سأغفر لكِ، بشرط أن تقبليني عشيقاً؟ يحق لكِ أن ترفضي، وأحبكِ أن تعترضي. وعاد الإزميل يشافه جسد المنحوتة، يقسو عليه أحياناً، وأحياناً يسيل عليها كما يسيل مشط على شعر حريري، فكر يوسف بالعودة إلى الشارع، عاد خطوتين إلى الوراء وركض خارج الغرفة ثم عاد، الفضاء الأسود أعاده إلى الغرفة الباردة، نظر حوله يبحث عن مكان يلقي عليه بتعبه؟ مكان يدفئه، تبلغ الغربة ذروتها في لحظة اللقاء الأول، ثم تتلاشى، أو تظل غربة، لكن إحساس يوسف يتصاعد في هذا المكان الموحش ومع ذلك الشخص الغامض، وهاهو الإزميل يبحث عن مكان يفترع منه المنحوتة الأنثى، عيناه تتقدان بألق الرغبة، أتكون برودة الأنثى وراء هيجان النحات المفاجئ، هل أشعلت اللامبالاة عند الأنثى نيران الرغبة عند النحات؟ إلى أين سيصلان؟ النحات والمنحوتة؟ كان الإزميل ينحت الصدر، يشذبه، تعلو على جهته اليسرى تلة هرمية شهق يوسف أكثر من مرة وهو يرى الإزميل يدور حول التلة الهرمية الشكل، صرخ: احذر ستقتلع الهرم رمى الرجل إزميله، وقف فانسدلت اللحية الصهباء على صدره، صرخ: جبانة، خائنة، لو أنكِ اعترضتِ، وبنبرة واثقة يقول: وأنا.. أنا قواد، أنا متواطئ، كان عليَّ فعل شيء لأجلكِ، فلتغفري لي حبيبتي! هل غفرتِ؟
عاد الملتحي إلى الكرسي، استسلم لنوبة بكاء قصيرة، مسح عينيه بكم قميصه، وبهدوء دخل غرفة صغيرة ثم خرج وبيده دولة قهوة وفنجان، وضعهما على الطاولة، أشعل لفافة تبغ، لمست يده المنحوتة بحنو، داعب هرميها، سألها عن حالها، وأجاب: أراكِ بخير، لا تحزني، ستكونين جميلة، أجمل من كل النساء وسيكون الخيار لكِ، أنا معكِ، أنا رجل حضاري، لهذا تركتكِ ترحلين معهم إلى قدركِ، تزوجي شاباً، كهلاً، غنياً، فقيراً، ضاجعي أي رجل، انظري، توقفت نظرات الرجل على يوسف، سأله من يكون؟ وماذا يريد؟ ثم أشار إليه أن يقترب،
أمسكه بيده حتى صار وجهاً لوجه أمام المنحوتة، لامسها وقال: هذا الشاب الجميل أتى لأجلكِ، انظري، إنه من لحم ودم، ألا تعرفين ما معنى ذلك؟، أيتها الغبية لو كنتِ تعرفين، لما قبلتِ أن تساقي إلى قدر مجهول، لو كنتِ تعرفين لاخترتِ نحاتاً أحبك حتى كنتِ السبب في طرده من مجدلون، لو كنتِ تعرفين. ..، هذا الشاب يشبه النحات الذي أحبكِ يوماً، يحب، يغضب، يكره، يفرح، إنه يريدكِ، كم أنتِ محظوظة ! شاب جميل يطلب يدكِ، ما اسمك أيها الشاب؟ هل أنت مستعجل؟ لا عليك، أسبوع أو أكثر، وتكون فتاتك جاهزة، اجلس هنا، لا، انتظر، خذ هذه كرسي، ركض الرجل باتجاه الغرفة الصغيرة، وعاد منها بفنجان قهوة، ناوله ليوسف، نظر إليه، دقق في ملامحه، رفع حاجبيه عن عينيه، قال: أظنك أخوها أو ابنها، ومن يدري، قد تكون. ..، كلا، أنت تشبهها كثيراً، ثلاثة أيام وتكونان زوجين جميلين.
عاد النحات إلى مكانه، وعادت لحيته تكنس عن الطاولة غبار منحوتته.
لا تتذمري، عليكِ الصبر، من أجل هرمين جميلين ستتألمين كثيراً، قيمة المرأة بهرميها، إن صبرتِ وتحملتِ الألم فسيكون لك هرمان جميلان وردف شهي، وإني لأرى الرجال من حولكِ معجبين أفواجاً، وكذلك النساء حاسدات يتوسلن إليَّ لأشذب لهن الردف والهرمين، على شاكلة هرميك، وردفكِ، أنتِ التي ستصبحين المعشوقة الحلم.
عاد يوسف يسأل النحات إن كان هو صاحب الإعلان، ثم أعلن عن تخوفه من ليلٍ ما اعتاد أن يقضيه في شوارع المدن، ضحك النحات وربت على كتف يوسف مطمئناً بأن الظلمة في هذا القبر لا تعني ظلمة هناك في الخارج، وعاد إلى إزميله ينحر به المنحوتة الصماء، يزيل به نثرات تشوه استدارة الهرمين، يصعد الإزميل إلى العنق، إلى الكتفين، إلى الوجه، وفي صعوده ونزوله يزيل ما يسميه البثور، ثم يضع الإزميل جانباً ويمسك الشاحوطة يدعك بها المنحوتة، يدعكها بقسوة، فتتناثر ذرات الغبار على لحيته وقميصه، ويسيل العرق على جبينه ووجنتيه، يلهث، يتوقف عن العمل، ينظر إلى يوسف، يسحب نفساً عميقاً ويرتمي على الكرسي.
كان التعب الذي توسد وجه النحات يفوق الجهد الذي بذله، حتى إن يوسف عرض عليه المساعدة، تجاهل النحات العرض وقال: ما زال أمامي أيام لأحول هذه الكتلة الصماء إلى امرأة جميلة، ثم ماذا؟ يأتي أحدهم ويأخذها مقابل أوراق أشتري بها خمراً وصخراً، أليس هذا مؤلماً؟ شرد النحات، نظر إلى يوسف، سأله من أنت؟ هل أنت من مجدلون؟ كم تشبههم !، لا تصدقهم فيما يقولون، الملثمون الذين يسيطرون على ليل مجدلون ليسوا منحوتاتي، منحوتاتي من صخور التلة الباكية، أنا حملتها على كتفي ونحتتها يدي، ثم ماذا؟ ماذا كانت النتيجة؟ قد تظن أن الأمر مختلف، كلا، النتيجة ذاتها، سرق الرجال وخطفت النساء، وانقضوا علي يلاحقونني حتى في أحلامي، ثم هربت أو طردت بسبب منحوتاتي، الجميع في مجدلون يؤكد أنها مخلوقات شريرة، تخطف، تقتل، وسمعت أنها قطعت ساق رجل مجدلون، وبات الجميع مقتنعاً بأنني اللعنة التي حلت على مجدلون وأهلها، أحياناً وحين أستعيد ما حدث أشاركهم هذه القناعة، ماذا يفعل الناس بالمنحوتات البشرية؟ ما حاجتهم إليها؟ الناس في حاجة إلى ما كان ينحته أبي، جروناً وطواحين، جروناً يفرغون بها غضبهم واحتجاجهم، وطواحين يطحنون بها حبوبهم وآلامهم، أما المنحوتات لو أنك رأيتها. تلك المنحوتات الحجرية كانت تذكرهم ببلادتهم وخنوعهم، حقاً أنا أستحق كل ما حدث، لو أني كفرت عن خطيئتي، مجدلون تغيرت، منذ عام أتاني رجل من الذين أعرفهم، ذاك الرجل عرض عليَّ عودة مشروطة إلى مجدلون، وحين سألته عن شروطه أخرج من جيبه صورة لثلاث فتيات، للوهلة الأولى صدمتني الصورة، من هؤلاء؟ سألته، وأجابني: هن بنات نضال معروف.
عرفت منه أنه يريدني أن أعود لأجلهن، لأجل أن أحول الصور إلى منحوتات تزين ساحة مجدلون، لا أنكر أن الحنين إلى الساحة والتلة والنهر جعلني أطلب منه أن يدع الصورة معي لأفكر في الأمر، وجلست مع نفسي التي تنازعتها رغبتان: رغبة العودة إلى مجدلون مقابل تحويل الوجوه الثلاثة إلى منحوتات تزين ساحة مجدلون والرغبة الثانية كانت أقوى، رغبة تمزيق الصور، وثمن هذه الرغبة الحرمان من العودة. الحنين كان ينتصر حين أبعد الصورة عن ناظري، ويحترق حين أدقق بالصورة، ثلاث فتيات بوجوه منفوخة، وعيون صغيرة، وصدور ممسوخة، وشفاه غليظة، وشعور خشنة، أين هن من زهوة؟ أين هن من نضال؟ زهوة، هل تعرفها؟ نضال أظنه ما زال بين رجال مجدلون أوسمهم، وتذكرت جملة أحمد صالح (إن حولت صورة الفتيات الثلاث إلى منحوتات تزين ساحة مجدلون، تكون قد كفرت عن خطيئتك الأولى). أغرتني وعوده، لكن وبدلاً من أن أعود إلى مجدلون وأبدأ عملي، مزقت الصورة ورميتها بين أشيائي المهملة، واكتفيت بنحت نساء على شاكلة زهوة، أعرف أنني أخطأت، ورغم ذلك فضلت الاستمرار في الخطيئة على تحويل نساء مجدلون إلى نسخ مشابهة لبنات نضال معروف، صحيح. ما اسمك أيها الفتى؟ أظنك تعبت من ثرثرتي، هل عرفت عملك؟ عملك هو الإصغاء لا تستغرب، الإعلان البرتقالي لأجل أن أجد أحداً يسمعني، كما ترى. أنا وحيد، أتى قبلك الكثير وهربوا بعد يومين وعلى الأكثر أربعة أيام، بعدها أعود وحيداً مع منحوتتي أحدثها عن مجدلون، عن التلة الباكية، عن النهر والغابة، أسألها إن كانت تعرف شيئاً عن زهوة، كل منحوتة صنعتها يداي بعد طردي من مجدلون أسميتها زهوة، جميعها سألتها عن زهوة، فتاتي، لكن مصيرها ما زال مجهولاً وعرفت أنها ليست زوجة نضال، بناته الثلاث لا يحملن شيئاً منها، أين الغزالة من الدبة؟ اغفر لي يا...، صحيح ما اسمك؟ عرف يوسف بنفسه ثم سأله عن اسمه. فأمسك يونس ضيفه وقاده إلى الحديقة، وتوسل إليه أن يناديه يونس مجدلون، فهو رغم مرور ما يقارب عقداً ونصفاً على وجوده في هذا القبر لم يستطع أن ينسى لا مجدلون ولا المرأة التي أحب، ثم أشار إلى الحديقة وقال: (غابة مجدلون)، سأله إن كان يشرب الخمرة وقبل أن يجيب قال: لا أظنك تحتاجها، أما أنا فلا أستطيع النوم بدونها، إنها تؤججني، فأرى المنحوتة امرأة عارية ترقص لي، تقاسمني الفراش، تمتعني إلى أقصى درجات الإمتاع، ليس أشهى إلى الرجل من المرأة، حين يحرم منها يلجأ إلى الخمرة، لو سألت مخموراً متى ستكف عن كرع الخمرة؟ لأجابك: حين ألتقي المرأة التي أحب، وأنا، أنا خائن، في أحلامي أضاجع منحوتتي وأبيعها لأول عابر.
الإعلان البرتقالي يقذف إلي بزبائن ينصتون إلي حتى أنتهي من نحتها، ثم، صدقني يا يوسف، أنا أبيعها لكي لا تحل لعنتها علي، يكفيني لعنة حرماني من مجدلون وزهوة وعليا.
ترك يونس ضيفه، دخل إلى غرفة صغيرة، عاد وبيده زجاجة خمر وقدح، ملأ القدح وكرعه حتى آخره، وملأ ثانياً وكرعه، وثالثاً حتى فرغت الزجاجة، وصار يترنح في مكانه، ربت على كتف يوسف، تركه، وقف على باب الغرفة وأشار بيده قائلاً: لا تزعجني، بعد دقائق كان شخيره وحفيف الأوراق يقتحمان سكون المكان، سرت رجفة في جسد يوسف، نظر في أرجاء الحديقة فرأى ثلاث منحوتات تتكئ على الجدارالشمالي، خيِّل إلى يوسف أن وجوه المنحوتات تتجه إليه، عيونها تراقب تحركاته، ورأى شفاهها تتحرك وسمع غمغمة مخيفة. ترك الحديقة، دخل الغرفة القبر، كما أسماها يونس، أدرك مذ سمع ألفاظاً تتكرر على مسمعه، أن الأمان الذي بحث عنه أصبح زوبعة، تذكر الفرن والكوة ووجهاً طيباً يطل منها، ندم كثيراً لأنه تأخر في العودة إليه، تساءل: أيمكن أن تسكن القبور زوابع؟ كم تخاتلنا الأشياء.!
زهوة، مجدلون، تلتها الباكية وسفحها ونهرها، هاجر وأسماء جديدة، أحمد صالح، نضال معروف، ورجل مجدلون، لماذا امتنعت زهوة عن ذكر الأسماء الثلاثة؟ هل ثمة زهوة أخرى ومجدلون؟. .. وهذه المنحوتات المرعبة...
دخل يوسف إلى غرفة تضم سريراً حديدياً عتيقاً ومشجباً عليه ثياب تفوح منها رائحة عرق ودهان، جلس على طرف السرير، أراد أن يوقظ يونس، وضع يده على صدره، همس: يونس، يونس ثم تركه وعاد يذرع الغرفة الطويلة جيئة وذهاباً الخيوط السوداء المحيطة بالضوء الزجاجي تكاد تخفي النور الخجول، وكان جسده في ذهابه وإيابه يرسم أشكالاً مختلفة على أرض الغرفة المغبرة، وأخيراً هد التعب جسد يوسف، فرمى بنفسه على لبادة قريبة من سرير يونس، وحين أفاق رأى يونس على كرسيه، وأمامه فتاته يحدثها عن فتى حين فتح عينيه رآه ممدداً على لبادة متسخة، وأضاف: هذا الفتى يشبهكِ ويشبه نضال، ثمة اختلاف يظهر في سحنة وجهه الغامقة)، ثم وعدها بأنه سيبيعها لهذا الفتى، ولن يرميها لآخر، حتى لو دفع لـه الكثير، ظل يونس يثرثر، فسألها إن كانت تعرف شيئاً عن مصير زهوة، وأتاه صوت يوسف: (أنا أعرف مصير زهوة).
عشرات الرجال دخلوا إلى تلك الغرفة القبر، لكن أحداً من أولئك الرجال لم يستطع الإجابة عن هذا السؤال، أخيراً أتاه الجواب، أخيراً أصبح شكه يقيناً، تلك الكلمة التي أطلقها ذات شكٍ باتت حقيقة، يحدثه يوسف عن زهوة، عن دحام، عن صبيحة، عن إخوته، وتظل حقيقة لا يعرفانها، وإن كان يونس تخيل حالة فرضتها معرفته بقحطان، حالة تتعلق ببيع زهوة، هذا التخيل لم يكن دقيقاً، هذا التخيل يتماهى مع طبيعة يونس الشفيفة، ولا يلتقي مع ما فعله قحطان بتفاصيله، هز يونس رأسه وسأل يوسف: إذاً فأنت الولد العائد يبحث عن أبيه، وأمك أرسلتك إلى هاجر، أنت على حق، هاجر تعرف كل شيء وأظنها ستدلك عليه، فهي مذ رحلت زهوة فقدت عقلها وصارت تقول الحقيقة، اطمئن ستعثر عليه، هذا إذا وجدتها حية، فتماثيلي خطفت عليا، وأظنها لم توفر هاجر، ترك يونس منحوتته وخرج إلى الحديقة، فرأى شعاعات سربتها ظلال الأشجار، دعا يوسف إلى الجلوس في الحديقة حيث الشمس طفلة تحبو على مدارج النهار، وأوراق الأشجار نفضت عن نفسها آخر قطرة ماء متجمدة، واستسلمت لمشاكسة النسيم البارد، واستدفأت بالشعاعات الوليدة.
جلس الفتى، والنحات قريباً منه، يكاد يلاصقه، أخذ الأخير أصابع يوسف، احتضنها ثم تركها ورفع وجهه إلى الأعلى، فتوسدت الشعاعاتُ الوجهَ الشاحبَ، حك لحيته الصهباء وأعاد خصلة شعر أخرجتها النسيمات عن طورها، عاد يسأل: تريد والدك؟ هاها، لا حاجة للبحث، والدك هو دحام، الرجل الذي رباك، ثم ضحك وقال: أنت محظوظ أيها الفتى، نعم محظوظ، أب ترك ملامحه على وجهك وجسدك وتخلى عنك ، وأب رباك، ورجل أمامك أحب أمك وسيعلمك كيف تكون نحاتاً، لا تستغرب، هاجر أورثتك أصابعها.
لم يكن يونس مخطئاً، حين قدر بأن يوسف سيكون نحاتاً ماهراً، لكنه أخطأ حين قدر بأن تعليم طرائق النحت سينسيه المهمة التي أرسلته زهوة لأجلها (البحث عن والده)، محاولات يونس في جعل يوسف ينسى مهمته، باءت جميعها بالفشل، فهاهو، وبعد أربعة أشهر من اختبائه في الغرفة القبر، يفتح الباب ذات فجر حزيراني، ويهرب إلى مجدلون متلفعاً بعمامة ومعطف، يكادان يخفيان هويته،
حين وصل إلى مجدلون ورآها تغط في عالم من الأحلام، ورأى طيف هاجر يهوم فوق أطباق القش، وسمع صوت قحطان، وخاف من تماثيل لم يرها، عرف أن والده نضال معروف، لماذا كذب عليه دحام؟ أين هو؟ حين عجز عن الإمساك بطرف الخيط عاد إلى المنزل القبو، أو الغرفة القبر، طرق الباب، دخل، مسحت نظراته المكان، داعبت أصابعه الطاولة الملونة بالأصباغ، نفخ الغبار فتطايرت أمامه ذرات بيضاء، رفع صوته، ولج الغرفة المسماة مطبخ، دخل الغرفة المطلة على الحديقة، ليس في السرير، قدر أنه مع منحوتة يعالجها بإزميله في مكان ما، دخل إلى الحديقة، تجول فيها، ناداه سبع مرات: أبي، أين أنت؟ أنا يوسف، أين أنت؟
أيقن أنه وراء المنزل، في تلك الفرجة المشمسة، التي يقضي فيها قيلولته، داعبت أصابعه أصص الحبق، امتزجت رائحة الحبق برائحة أزهار الياسمين الوليدة، ورآه على اللبادة، قدر أنه غفا لتوه، تركه وعاد إلى صخرة بدأ يعالجها بمطرقته، شعر برغبة كبيرة للتحدث إليه والاعتذار منه، عاد يوقظه: يونس، أبي، أنا عدت، أبي، أبي. لا مجيب، أخرج من الغرفة غطاء وفرشه على جسده، كان متعباً فدخل الغرفة واضطجع على سريره، لم يستطع النوم، هو يحتاج إلى يونس أكثر من العمل والنوم، يريد أن يعتذر منه ويحدثه عن رحلته وخيبته، يريد أن يسأله، أسئلة كثيرة تدور في رأسه، خرج إليه، داعب لحيته المضطجعة على صدره، رفعها، لامس جسده، كل شيء فيه بارد، لامس قلبه، لا نبض فيه ولا رعشة، إنه ميت، ميت ! كيف؟ لماذا؟.
لم يشأ تقبل الحقيقة، هز جسده، رفع رأسه، لا حياة، ارتجف، صرخ: أبي، أبي
لم يكن ثمة رائحة تشي لـه بخبر الموت، وكأن الموت أتاه لحظة فتح الباب، أو قبل ذلك بساعات قليلة، أيكون مات حزناً على يوسف؟ أقسم أكثر من مرة أنه سينسى مجدلون ولن يعود إليها، يوسف صدق يونس حين قال لـه أن لا فائدة ترجى من البحث، فوالده لن يعترف به، غطى يوسف الوجه الساخر، توسد الجسد البارد واستسلم لنشيج صامت، تذكر حديث يونس عن الموت، تذكر أنه حكم على نفسه بالموت مذ طرد من مجدلون (طردتني تماثيلي، مع أنني هجرت العالم لأجلها، نحتُّها، غرست على شفاهها نبض الحياة، زرعت في عينيها التوقد، منحت جسدها إيماءات الرفض والتمرد، كنت وفياً لها ولمجدلون ولزهوة، لكنهم جميعاً خذلوني)
تساءل يوسف عن قاتل يونس، مسح الدموع عن عينيه، نظر حوله فرأى تماثيل مضطجعة على الجدار، تساءل إن كان ثمة تماثيل تقرر مصير البشر، تخطف، تقتل، تخنق، تذكر اللعنة التي تلاحق يونس، تذكر أن الباب لم يكن مقفلاً، أتكون منحوتات مجدلون قاتلته؟ تذكر كلامه: (بدأ معي الخوف وأنا في السادسة، نظرت حولي فرأيت التلة، تساءلت: ماذا وراءها، تسلقتها فرأيت عالماً تسوِّره دائرة شفافة، قلت: حين أكبر سأزيل الجبال، وأدك الوديان، ثم أركض على أرض منبسطة، حتى ألمس هذا الخط المختلف الألوان، (الفضي، الأزرق، البرتقالي، الرمادي)، حين عدت سمعني أبي أسأل أمي عما وراء الخط الدائري، وقبل أن تجيبني جرني من يدي، وقيدني على الساموك، وانهال عليَّ يضربني بحزامه الجلدي، ضربني حتى وصل صراخي إلى هاجر فأتت تقفز، وحين رأتني رمت جسدها فوقي ثم دفعتني بعيداً لكي أهرب، اقتربت من أبي، سألته لماذا تضربه؟ نهرها وشتمها، فواجهته بشجاعة وأعلنت تبنيها لي، حينها أخبرها أنني تسلقت التلة، فسألته: وماذا كنت ستفعل لو دخل المغارة؟ أجابها: إذا دخل المغارة أشنقه بهذا الحبل، ثم نظر إلى هاجر وقال: أنتِ امرأة، والمرأة لا تفكر بعواقب الأمور، اليوم تسلق التلة، وسأل ما وراءها؟ غداً يدعوه السهل للركض، ثم يدعوه النهر إليه، وربما دخل غابة الصنوبر وسرق منها الثمار، أرأيتِ؟ إن تساهلت معه سيظل وجعي يتجدد، أما إذا ظل معي في هذه الغرفة ينحت الجرون والطواحين، فلا وجع رأس ولا خوف من موت يقهرني، أو سرقة تذلني.
في اليوم التالي كنا معاً أمامها أنا وزهوة، أخذتنا إلى التلة الباكية، زحفنا حتى اعتلينا قمتها الرئيسية، ومنها قطفنا الزنابق، وهي قطفت أعواد الريحان، وضعتها فوق بعضها ودارت معنا الجهات الأربع، وقفت على الطرف الشمالي للتلة وأشارت إلى النهر، ثم إلى الطرف الشرقي، فرأينا تلالاً وبيوتاً تتناثر على قممها وأطرافها، ثم إلى الطرف الجنوبي الذي يقابله سهل على امتداده غابات وضباب يكاد يحجب الخضرة الكثيفة عنا، وحين وصلنا إلى الطرف الغربي حيث ترقد مجدلون، هتفت هاجر قائلة: ليس في العالم قرية أجمل من مجدلون، انظر إلى بيوتها الصغيرة وغابتها، انظر إلى الشعاعات كيف تتقافز من بين أغصان الأشجار وكأنها نقود جديدة. كانت هاجر على حق، فمجدلون كانت أغنية فريدة كالشمس والقمر، لكن في ذلك اليوم حملت هاجر حزم الريحان وانزلقتُ أنا وزهوة وراءها، تارة نتزحلق وتارة نقفز، وحين وصلنا إلى النبع الغربي توقفنا أنا وزهوة وهاجر أمامنا كمنحوتة لا طول في قامتها ولا قصر، لا سمنة في جسدها ولا نحول، شعرها ينداح على كتفيها، يستسلم لمشاكسة الريح، حين توقفنا نظرت إلينا، كنت أنا وزهوة نشرب من النبع الغربي، ولما ارتوينا قالت: حسن أيها الصغيران، الآن أصبحتما أخوين، كنت حينها في التاسعة وزهوة ربما كانت في السادسة، في ذلك الوقت ظننت أن كلمة أخوين تعني أننا سنكون معاً كما كانت هاجر مع أحمد، وجوهرة مع قحطان، هذه الرحلة كانت الأخيرة، بعدها صرت ألازم أبي، وأراقب زهوة كلما أتيحت لي الفرصة، كنتُ أتحين فرصة وجودها بعيداً عن نضال لأتحدث إليها، وأحياناً أتوسل إليها أن تأتي إلى منحت أبي لترى الأشكال التي أنحتها، يكون ذلك حين أكون وحيداً، وأبي يقتلع صخرة من التلة الباكية، وحين يعود تهرب منه وأظل معه أساعده في إدخالها إلى الغرفة، ثم نجلس معاً، هو يرسم وأنا أنحت، وحين ننتهي يحمل أحدنا الإزميل والآخر يحمل المطرقة، أنا أحدث حفرة في الصخرة وهو يخضع الحفرة للقياس بهاون يقضي ساعات في تشذيبه، وأستمر في معالجة الحفرة حتى تصبح ملساء ومناسبة للهاون، أعلن مرة عن سعادته حين قرأ اسم زهوة على رحى كنت نحتها، إذ قال: هذا جيد، ما رأيك لو ننحت أسماء على الرحى؟ شعرت بارتياح، فأنا ما توقعت أن يلقى هذا الابتكار ثناءً منه، وبدأت أحفر على منحوتاتي أسماء مختلفة، وشهدت أعمالنا سوقاً رائجة، كأن يأتي أحدهم ويطلب مني أن أكتب لـه عبارة معينة على رحى أو هاون، وانتقلت الفكرة إلى أطباق هاجر ومزهرياتها، كان تطبيقها أسهل في حزم القش وأعواد الريحان، لك أن تتخيل أصابع هاجر وهي تسحب خيوط القش البراقة ترسم بها اسم عاشقين داخل قلب توسط طبقاً أو مزهرية، أحبت هاجر عملها وأخلصت لـه، حتى شاع في مجدلون وجوارها أن الاسمين اللذين تنسجهما أصابع هاجر في الأطباق والمزهريات إنما هما زوجان حتى الموت، وتقاطرت الفتيات إليها، كل واحدة تريد أن تطبع قلبها على طبق أو مزهرية وتكتب لهاجر اسمين وتقول لها: أريد القلب أخضر، والاسمين بلون أحمر، صارت هدايا الأعراس أطباق قش، وهدايا الخطبة مزهريات، تجرأت مرة وطلبت منها أن تكتب اسمي واسم زهوة على مزهرية أو طبق قش، انتظرت أسبوعاً، شهراً. ..، وبعد عام رأيت مزهرية زهوة، وهي مزهرية عجيبة، لها ست تويجات رسمت عليها اسم زهوة ونضال، حينها عرفت أن الأخوين لا يعيشان معاً تحت سقف واحد، وفي فراش واحد، وعرفت أن الينبوع قال كلمته، وهاجر أعلنتها وزهوة صدقتها،
ما الفائدة يا يوسف؟ الهموم تبدأ كبيرة ثم تصغر، إلا همي، كان كأطباق هاجر، بدأ صغيراً وكبر، كل يوم كنت أستيقظ باكراً أراقبها وهي ذاهبة إلى المدرسة، أجلس في الغرفة المنحت، أستمع إلى ثرثرة أمي مع هاجر:
عين الله عليها، اثنا عشر عاماً لكنها تبدو في العشرين.
صلي على النبي يا عليا، البنت لم تبلغ بعد.
ما شاء الله، تشبهكِ يا هاجر، بقامتها وشعرها وعيونها، الله يحميها.
لا والله يا عليا، تشبه زهوة أم نضال، الله يرحمها، كانت زينة نساء مجدلون.
يقولون: قحطان لن يخطب زهوة لنضال، لأنه لا يجوز أن يتزوج أمه في الجيل السابق.
أنا سألت قحطان إن كان يجوز لنضال أن يتزوج زهوة، فطمأنني أنه يجوز، لأن الدم لا ينتقل من جيل إلى جيل، نضال من دم زهوة عباس، وزهوة من دمي، فهمتِ يا عليا،؟ ثم أنتِ تعرفين أن كل شيء قسمة ونصيب، ولا تزعلي مني إذا قلت لك أنك من يقول ولا أحد غيركِ، أنا أعرفكِ.
دخلتْ أمي إليَّ وآثار الخيبة تتوسد وجهها، ربتتْ على كتفي وطمأنتني بأن زهوة ستكون لي، فأحمد لن يسمح لها بالذهاب إلى المدينة، فهو يعرف أن الفتاة التي تخرج من مجدلون تفقد عفتها وشرفها، تفقد صفات بنات مجدلون، ونضال لن يتزوج زهوة، وستجري الأمور في صالحي.
تمسكت بنبوءة أمي، وأسميتها حلماً، وكبر الحلم وتضاءل اليأس، كل يوم يكبر الأول على حساب الثاني، وحين يحتل الحلم مساحة الوعي تغلق نافذة الواقع،
(شح الينبوع الغربي، برز قحطان أمامي شيخاً يصنع من كهنوته فتوى تحرم زواج نضال وزهوة، رأيت أحمد صالح رجلاً عملاقاً، شارباه يصلان إلى أذنيه، كتفاه يسدان الباب ويمنعان زهوة من الذهاب إلى المدينة، ورأيت هاجر امرأة ضعيفة، لا حول لها ولا قوة، تجلس في الزاوية، تصنع طبقاً في وسطه قلب أحمر، داخله اسما (زهوة، يونس )، ورأيت أصابعها تمزق مزهرية ( زهوة، نضال)، ذات التويجات الست، وشعرت بيد زهوة تأخذني إلى التلة، تشدني إلى النبع الشرقي، تملأ كفيها وتسقيني، فهاجر قالت: النبع الشرقي للعشق، والغربي للأخوة.
بعد أن سقتني زهوة من النبع الشرقي، جلسنا بجانبه وتوسدت صدري، داعبت شعرها، وغفونا حتى المغيب، ثم عدنا بعد أن أصبحنا زوجين، وهكذا أنتَ ابني في الحلم وفي الرغبة).
كان يوسف ما يزال يتوسد الجدار البارد حين غمغم بحرقة: ما أسوأ هذا، حين أحتاج إليك ترحل !، ترحل دون وداع أو حتى وصية، أبي! ألا يلزمك واجب الأبوة أن تؤجل الرحيل لحين عودتي؟ رفع يوسف رأسه، نظر حوله فرأى طيور الظلام ترقص في فضاء الحديقة، سمعها تهزج، سمعها تصفر، حمل مكنسة وراح يهوِّم بها في كل الاتجاهات، إلى أعلى، إلى أسفل، شرقاً، غرباً، شمالاً جنوباً، رمى المكنسة وعاد ينتحب، غمغم: ما الفائدة؟ وجسد يونس مازال بارداً، لماذا قاتلت؟ لكن لو لم أفعل لهاجمت جسده والتهمته، وبعدها يأتي دوري، لو أنني تركتها تهزج وتغني، وتصفر حتى يهدها التعب.
استند يوسف على جذع السنديانة، قال بما يشبه الهذيان: هي تستحق ما حدث لها وحده يستحق الشفقة، وأنا ماذا أفعل؟ نقل نظره في الحديقة، راعه شموخ أشجارها، رآها مجموعة قتلة، جلس على الأرض، جمع ساقيه إلى صدره، خبأ رأسه بين فخذيه، ارتجف، تذكر حديث يونس عنها: ( كنت أحلّق فرحاً وأنا أغرس أشجار مجدلون في هذه الحديقة، كنت أشعر بماء التلة الباكية تسري في جسدي فتروي ظمأ قلبي وتدب الحياة بين أضلعي، كل يوم أستيقظ باكراً أبحث عن ورقة ولدت وبرعم شق لنفسه مكاناً بين الأوراق، وحين أرى التجدد أمامي أقول:
هاهي مجدلون أمامي بسنديانها، بزيتونها، بتفاحها وبرتقالها، ولم يخذلني تراب الحديقة، ولا شمس المدينة بخلت عليَّ بشعاعاتها، وكذلك الأشجار تناغمت مع أنشودة الطبيعة، فتغلغلت جذورها في التربة وسمقت أغصانها تبحث عن النور، لكن لم تستطع الحديقة أن تطفئ جذوة الحنين، بل على العكس فأنا أحياناً أقول: لولا الحديقة لنسيت مجدلون وزهوة والتلة الباكية، لقد اكتشفت أن الحديقة هي الشعاع الذي يذكرني بشمس مجدلون وخضرتها وهي الجمرة التي تلسعني بنارها فأحنُّ إلى الكانون، وهي قطرة الماء العذبة التي هربت من التلة الباكية فأشرب ولا ارتواء.
قام يوسف، سار بين الأشجار، تساءل: أتكون الحديقة قاتلة يونس؟.
دخل إلى الغرفة القبر، عاد وبيده شاقوف، قطع شجرة السنديان الوحيدة فتهالكت على الجثة الباردة وأرسلت أغصانها صرختها الأخيرة، أزاحها جانباً وانتقل إلى أشجار الزيتون، قطعها، ولم تثنه استغاثة شجرة السنديان وأشجار الزيتون عن قطع أشجار التفاح والليمون، وقبل أن ينتصف الليل كانت الحديقة مفروشة بجثث باردة، سنديانة واحدة وست أشجار زيتون وعشرة أشجار ليمون، وثلاثة من التفاح، تنفس الصعداء، جلس أمام جثة يونس، همس: والآن نم بسلام، لقد قطعت رقاب قاتليك انظر، لم أرحم أحداً، أنا بدوي والثأر في دمي.
كلا، لم يكن يوسف بدوياً طالباً للثأر، بل كان فتى يتخبط في خيباته المتتالية، أم سجينة، وأب يجهل هويته، ورجل يرحل بعد أن تبناه.
تساءل عن جدوى قطعه لأشجار غابة مجدلون، أيكون الانتقام من الموت بموت آخر؟ إني لأسمع يونس يقول: اخرج من هنا، أسفي على أيامٍ قضيتها معك ! أنت مجرم وسفاح. انتفض يوسف قائلاً: كلا، إنها قاتلته، ألم يقل: حين أرى أشجار غابتي أحن إلى مجدلون؟ أيكون الحنين سيافاً سيقطع رأسي يوماً؟ صرخ يوسف: كلا، ثمة قاتل آخر، سأل الجثة التي أمامه: من هو قاتلك؟.
سرح نظره بين الجثث المتداخلة فيما بينها، غطى وجهه بكفيه، ثم قام، حمل الشاقوف ورماه بكل ما أوتي من قوة على التلة الترابية، لكن ! هل التخلص من أداة الجريمة يلغيها؟.
عاد يوسف يبحث عن القاتل، توقفت نظراته على تمثال جد مجدلون الأكبر، ثم على تمثال الشيخ سلمان، ثم على تمثال رجل مجدلون (قحطان)، حمل فأساً وضرب بها رأس التمثال الأول ثم رأس التمثال الثاني، ثم الأخير، وخرجت من الرؤوس الثلاثة طيور الظلام لتغطي فضاء الحديقة، وتحجب الشمس التي بدأت شعاعاتها ترصع أرض الحديقة. ارتجف يوسف ووقع
مغشياً عليه.
حين أفاق، نظر إلى أعلى فرأى الشعاعات الوليدة تملأ الفضاء بنورها، لامست يده الأرض فارتعشت، نظر من حوله فرأى طيور الظلام مكدسة فوق بعضها، قام، حفر قبراً وضع فيه يونس، وأهال التراب عليه، ثم زرع فوق القبر فسائل الحبق، وبدأ ينظف الحديقة من الجثث المكدسة فوق بعضها، وراح يسقي الحديقة وكله ثقة بأن ثمة نوى خبأها يونس في رحم الحديقة، نوى تنتظر الماء والدفء.
ـــ 14 ـــ
كان على عجلة من أمره، وكانت تتفحصه، تحصي التغيرات التي طرأت عليه
امتلأ قليلاً، غزا الشيب فوديه، تجاعيد خفيفة تحاصر عينيه، عاد يذكِّرها بأن الدقائق القليلة انتهت، أزاحت المنديل عن رأسها، رمته على الأريكة، لم تعجبه طريقتها في إزالة المنديل، إنها طريقة بدوية لا تمت إلى الإغواء بصلة، سألته إن كان يذكرها؟ اختلطت الأمور في رأسه، حين دخلت ارتجف قلبه، قال في سره: إنها المرأة الهدية، والآن تسأله إن كان يذكرها!.
صوتها جعله يتلعثم، هي تشبه المرأة الهدية، لكن الصوت مختلف، صوت المرأة الهدية كان موسيقى، بل كان همساً يطفح شهوة وإغراءً ، أما هذا الصوت. ..!، لو أنها لم تتكلم، أيمكن أنها تختبره؟ تفحص الوجه، الوجه مختلف، وجه المرأة الهدية لا يشبه هذا الوجه، وحتى الرائحة، هذه لم تتسرب منها رائحة الطيب ولا رائحة الرغبة.
بعد أن تأكد بأن ضيفته ليست المرأة الهدية، كان عليه أن يحفر ذاكرته ويعتصرها ليستحلب اسم المرأة التي أمامه، لم تحد نظراته عن الوجه، فأطلق يمينه تدله على كرسيه، حتى إذا لامستها سحب جسده وارتمى عليها.
مضى عقدان على فراقهما، عقدان كان لكل منهما مشاغله وأحزانه وطموحاته، عقدان كان لكل منهما عالمه الخاص، عالمان لا يلتقيان بشيء، لكنهما الآن في غرفة واحدة، زهوة صالح ونضال معروف، عقدان انشغل خلالهما بدراسته، ثم في سعيه الدؤوب للوصول إلى الكرسي الذي ارتمى عليه قبل قليل، عقدان تزوج في أولهما وأنجب ثلاث فتيات لا تملك إحداهن مسحة جمال، عقدان هجر خلالهما مجدلون، ولم العودة؟ وقحطان أخبره بزواج زهوة من تاجر كان يشتري مزهريات هاجر وسلالها، قال لـه قحطان: زهوة خائنة وعليك نسيانها.
وخجل نضال من نفسه، وشعر بذل كبير حين أخبره أن زهوة عباس خانت قحطان وزهوة صالح خانت نضال، ثم لعنها لأجيال قادمة ستعيشها، لو أنه لم يخبره بخيانة زهوة عباس، أمه التي لا يذكرها، أمه التي حولتها حكايا هاجر إلى أسطورة، وإذا بقحطان يحطم الأسطورة، قحطان المجروح يبوح بألمه لوحيده:
المرأة، وحدها المرأة تحطم الرجل وتذله (المأساة تتكرر، لكنها كانت أشد وقعاً عليّ)، وكان على نضال أن يطرح سؤالاً على نفسه: أنا ابن من؟.
هذا السؤال عذبه كثيراً، وكان سبباً لعلاقة حذرة بالمرأة ودافعاً للشفقة
على قحطان.
بعد عقد وعامين ماتت هاجر ومات قحطان وتكشفت الحقيقة، ما أشيع كان صحيحاً، قحطان باع زهوة وجنينها، أحمد صالح أكد الخبر، تأكيده جاء بعد موت هاجر وقحطان، بعد تأكيده الخبر هجر أحمد سهرات مجدلون واختفى من طرقاتها، وأعلن زواجه من أرملة قحطان، ليصبح المسؤول عن التركة بمباركة نضال وتشجيعه. وراقبت مجدلون ما يجري في قصر قحطان، فرأوا امرأة تدب الحياة في جسدها، وتساءلوا: كيف؟ ألم يقل قحطان قبل أن يموت أن جوهرة تحتضر؟ أما أشيع منذ عامين أنها مصابة بمرض خبيث بدأ بالتهام وجهها؟ ألم يذبح خروفاً عند قبة جد مجدلون الأكبر لأجل أن يسهل عليها موتها؟.
وصدقت جوهرة أنها ستموت قريباً، وحزنت لأن قحطان سبقها، أما أحمد فقد رأى في زواجه منها فرصة للانتقام من قحطان والاستيلاء على حاكورة أو أرض، لكن جوهرة رفضت، فاستعان أحمد بنضال الذي رأى بزوج خالته المقبل حامياً لأملاكه ومدبراً جيداً. واقتنعت جوهرة بنصيحة نضال وأسرت في نفسها أن أحمد سيكون ممرضاً جيداً يعتني بها إلى أن يأخذ الله أمانته، لكن ما حدث لم يتوقعه أحد، فذلك الجسد الناحل امتلأ وذلك الوجه المتقشف اكتسى سمنة أطاحت بالتجاعيد الخفيفة التي كانت تحتل الجبين والوجنتين.
بعد عام وثلاثة اشهر وضعت جوهرة طفلاً منحته اسم والدها (علي)، علي أحمد صالح، كانت فرحة جوهرة كبيرة، لكنها لا تقارن بفرحة أحمد، الذي اشتكى من أن مشاغله لن تسمح لـه بالعودة إلى سهرات مجدلون، والحديث عن جوهرة والطفل، وعن الأراضي التي سيتنازل عنها نضال لابن خالته الصغير، وكان سيخبرهم بأنه رغم مشاغل نضال الكثيرة فإنه أتى محملاً بالهدايا والنقود، لكن، كلا، لا وقت لديه، فعدا أن نضال كلفه بالإشراف على أملاكه فثمة مسؤولية جديدة تتعلق بعلي، سليل الآغا، الذي ولد في قصر قحطان معروف.
في الحقيقة، لم تكن مشاغل أحمد وراء امتناعه عن العودة إلى سهرات مجدلون، ثمة سبب آخر يتعلق بزهوة، فهو يخشى أن يذكره أحدهم بسهراته السابقة وأحاديثه عن زهوة ونضال، وهذا أمر يخشاه، فالحقيقة كالشمس حين تشرق، لا أحد يستطيع منعها من الظهور، وسهراته السابقة لم تكن تخلو من السخرية، فما إن يخرج حتى يهزؤون منه قائلين: ( الغبي، هل يصدق نفسه؟ أم أن حبه لقحطان أعماه عن الحقيقة؟ )، أو(المسكين، إنه رجل القضية الخاسرة).
لعقدين تحدث الناس كثيراً عن فتاة جميلة باعها رجلان، وانتظروا أن تعود وتسأل عن أمها وأبيها، عن قحطان ونضال، لكن انتظارهم لم يجدِ، الفتاة ضاعت ونسيها الجميع، إلا أولئك الحالمون الذين ينتظرون أول حزيران من كل عام، يراقبون أسراب الإوز، وحين يرون إوزة تطير وحيدة يقولون: انظروا إنها زهوة.تذكر نضال زهوة، تذكر الجسد الذي امتلأ قليلاً، تذكر العينين الجميلتين والشعر الأسود، تذكر الثغر الذي ما زال يتحدث بعذوبة، تذكر الحب الأول والقبلة الأولى، واللقاء الأخير، الحب الأول لا ينسى، يقبع في تلافيف الذاكرة، ولا حاجة لاستحلابه منها، إنه يفرض نفسه، يقفز أمامنا عارياً جميلاً، هو يشبه فتى المصباح السحري، يقف، يقول:
أنا طوع بنانك.
هكذا كان نضال أمام زهوة، وهكذا كانت زهوة أمام نضال، كل منهما كان رابضاً في ذاكرة الآخر، متحفزاً ينتظر لحظة اللقاء، والآن هما فتيان عبر جسديهما ووجهيهما، عقدان، وتجارب وسجون، هما، دعوني أشبههما كبحارين غرق قاربهما ذات عاصفة وسبح كل بطريقته حتى وصلا إلى الشاطئ.
لكن الإطالة في اللقاء ممنوعة ،زوجها دحام، وبهية زوجة نضال، كل منهما في حالة انتظار، تذكرت دحام وأبعدت من رأسها جميع تعاليمه لتحويل اللقاء إلى صفقة وهو تذكر بهية زوجه، ولم يغب عن رأسه قحطان الميت، نظر حوله فرأى الستائر تغطي الجدران، والأبواب مغلقة حد الإقفال، اطمأن إلى أن أحداً لن يسأله من تكون هذه المرأة.
مسحت نظراته زوايا المكتب، هي تسترخي على أريكة فخمة، نبض في عروقه دم زهوة ومروءة هاجر، وانتفض قحطان أمامه، بقامته المتلفعة بعقال وقمباز.
مذ ترك مجدلون والمرأتان تناوشانه، يسكتهما وتعودان إليه، فينتصر، ويظل قحطان الأرضي والسماوي يحكمانه، ويحكم من خلالهما كل من حوله،
لكن دون أن تتركه هاتان المرأتان لشأنه.
كان يستسلم لهما في قيلولة يستعيد من خلالها ذكريات إقامته القصيرة في مجدلون ويتجاوزهما حين يتعلق الأمر بمستقبله، (الحياة سلم، ولبلوغ الذروة عليه أن يستعيد نصائح قحطان، الرجل الطموح لا يخطو خطوة لا تدفعه إلى الأمام، حتى زواجه خضع لهذه النظرية).
ورأى قحطان أمامه يقول: هذه المرأة خائنة، اطردها، أنسيت ما فعلته بك وبوالدك؟ لا تجعل نزوة المراهقة تلتهم طموحاتك، أنتما وحيدان، أنت قوي وهي ضعيفة، تنكر لها ولولد ستدعي أنه لك، احذر الولد، سيكون وصمة عار تطيح بمستقبلك، مستقبلك هو الأهم، لا تقامر به من أجل هذه الخائنة، احذر ! طريق السقوط يبدأ بخطوة، لا تقدم عليها.
كاد نضال يرفع صوته ليذكرها بأن وقت الزيارة انتهى، وكاد يشعر بالندم لصرفه نجيب، لولا أنه رأى هاجر أمامه تقول لـه: لا، هذا كثير، بدل أن تطردها، اذهب إليها، اجلس بجانبها، اعتذر لها، اسألها عما تريد، أعطها ما تشاء، مد لها يد العون، وإذا أرادت أن تحدثك عن ماضيها أنصت إليها، أنت قوي وهي ضعيفة، فلتكن قوتك لإسعادها وإسعاد أسرتها.
وقبل أن تكمل هاجر، جاءه صوت أمه يقول: الحب، لا شيء آخر، إذا كنت تحبها فاركع أمامها، كما كان فارس يركع أمامي، احتضنها، قبلها، المال والكرسي والألقاب كلها هراء، والساعون إليها مجموعة أغبياء، أنصت إلى صوت قلبك. وحده يدلك على الطريق الصحيح، لا تشاكسه حتى لو قذفك إلى الموت، استسلم لـه وتذوق طعم السعادة الحقيقية.
الدوام المسائي من كل يوم يبدأ في السابعة، قبل السابعة يكون نجيب في مكتب الانتظار يأمر المستخدم بترتيب مكتب المحافظ وتنظيفه، فيقوم الأخير بفتح النوافذ، وإفراغ سلة المهملات من الأوراق وأعقاب السجائر، تنظيف الطاولة والكراسي والأرائك. في السابعة يكون المحافظ على كرسيه الدوار.
هذه الدقائق التي سبقت السابعة لم تشهد الروتين اليومي، أمر نجيب المستخدم بتنظيف أماكن أخرى من المبنى، فالمحافظ في اجتماع استثنائي، هذا الاجتماع أوحى لنجيب بأن يغادر مكتبه.
على الطريق رسم نجيب تخيلات عما يدور بين المحافظ والمرأة التي ادعت أنها قريبته، هز رأسه وقال: وللناس فيما يعشقون مذاهب، من يصدق أن تلك البدوية عشيقة المحافظ؟ ثم أضاف: في الأمر سر، سيادته لا يحتمل المرأة، أياً كانت، زمناً يتجاوز النصف ساعة، ترى ما الذي يدور بينهما؟. ....