الكتاب: عمدة الرعاية بتحشية شرح الوقاية
المؤلف: الإمام محمد عبد الحي اللكنوي (ت1304هـ)
المحقق: الدكتور صلاح محمد أبو الحاج
الناشر: مركز العلماء العالمي للدراسات وتقنية المعلومات
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: 10
[الكتاب مرقم ترقيماً آلياً للموسوعة غير مطابق للمطبوع]
ملاحظة: [هذا الكتاب من كتب المستودع بموقع المكتبة الشاملة]
أبي يوسف - رضي الله عنه -.
(وقُبِلَ قولُ كافرٍ قال: شريتُ اللَّحمَ من مسلم أو كتابيّ فحلَّ، أو مجوسيٍّ فحرم)، فإنَّ قولَ الكافرِ مَقْبولٌ[(1)] في المعاملات؛ للحاجةِ إليه إذا المعاملات كثيرة الوقوع(2).
__________
(1) قوله: مقبول… الخ؛ لا يقال: كان ينبغي أن لا يقبل قوله؛ لأنّه إخبارٌ بأنّ هذا لحمٌ حلال، والحلّ والحرمةُ من الديانات، ولا يقبلُ في الديانات إلا قول العدل، والمجوسيُّ وكذا المشرك ليس بعدل؛ لأنّا نقول: إنّه إخبارٌ بالشراءِ من يهوديّ أو نصرانيّ أو مسلم، وإنّه من المعاملات، وإنّما يثبتُ الحلّ في ضمنه، وكذلك لو قال: اشتريته من غيرهم؛ إثباتُ الحرمةِ فيه ضمنيّ، فلمّا قُبِلَ قولُه في الشراء يثبتُ ما في ضمنه؛ لأنّه كم من شيء يثبتُ ضمناً ولا يثبت قصداً، كوقفِ المنقول ضمناً بغير المنقول، وكبيع الشرب وغيره. كذا في ((الكفاية))(8: 444).
(2) العبارة في ف: كثير في الوقوع.
(10/60)
________________________________________
(وقولُ فردٍ[(1)] كافر، أو أنثى، أو فاسق، أو عبد، أو ضدِّها(2) في المعاملاتِ كشراءِ(3) ذُكِر[(4)]، والتَّوكيلُ(5) )، كما إذا أخبر أنَّي وكيلُ فلانٍ في بيعِ هذا يجوزُ الشِّراءُ منه، (وقولُ العبد، والصَّبيِّ في الهدية، والإذنُ)، كما إذا جاءَ بهديَّة، وقال: أهدى فلانٌ إليك هذه الهديَّة، يحلُّ قَبُولُه منه، أو قال: أنا مأذونٌ في التِّجارة يُقْبَلُ قولُه.
__________
(1) قوله: وقول فرد… الخ؛ أي قبل قول فرد… الخ، والأصلُ أنّ المعاملات يقبل فيها خبرُ كلّ مميزٍ حرّاً كان أو عبداً، مسلماً كان أو كافراً، كبيراً كان أو صغيراً؛ لعموم الضرورة، فإنّ الإنسانَ قلّما يجدُ المستجمع لشرائط العدالة ليعاينه أو يستخدمه ويبعثه إلى وكلائه ونحو ذلك، ولا دليل مع السامع سوى الخبر؛ ولأنَّ المعاملات ليس فيها إلزامُ واشتراطُ العدالةِ الالزام، فلا معنى للاشتراط فيها؛ لأنّ الحال فيه حالُ مسالمة، لا حالُ منازعة؛ ولأنّ المعاملات كثير كما مرّ من الشارح - رضي الله عنه -، فإذا قبلَ فيها قولُ المميّز وكان في ضمن قبوله فيها قبوله في الديانات، يقبل في الديانات ضمناً ضرورة، وكم من شيءٍ لا يصحّ قصداً يصحّ ضمناً؛ ولأنّ كلّ معاملةٍ لا تخلو عن ديانة، فلو لم يثبت فيها في ضمن المعاملات لأدّى إلى الحرج، بخلاف الديانات المقصودة. كذا في شروح ((الهداية))(ص8: 444).
(2) أي ضد هذه الجماعة من مسلم أو ذكر أو عدل أو حر. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق286/ب).
(3) في ق: كشري.
(4) قوله: كشراء ذكر؛ أي قبل هذا، لقوله: اشتريتُ اللّحم في القبول؛ لأنَّ المعاملةَ كثيرٌ بين أجناسِ الناس، فلو شرطَ شرطٌ زائدٌ لأدّى إلى الحرج، فقيل: مطلقاً؛ دفعاً للحرج، فما ذكره بعض شرّاح ((الوقاية))، من ذكية بدل ذكر، ثمّ فسّره بقوله: يعني إذا أخبرَ أنّ هذا اللّحم مذبوحٌ يجوز شراءه، فتصحيفٌ بعيد عن المقام. [ينظر: ((ذخيرة العقبى)(ص577)].
(5) في ص: والتوكل.
(10/61)
________________________________________
(وشُرِطَ العدلُ في الدِّيانات[(1)] كالخَبَر عن نجاسةِ الماء[(2)]، فيتيمَّمُ إن(3) أَخَبَرَ بها مسلمٌ عَدْل ولو عبداً، ويتحرَّى في الفاسقِ والمستور، ثُمَّ يعملُ بغالب رأيه(4)، ولو أراق فتيمَّمَ في غلبةِ صدقِه، و(5)توضَّأ فتيمَّمَ في كذبِه فأحوط.
__________
(1) قوله: وشرط العدل في الديانات… الخ؛ اعلم أنّ الدِّيانات لا يكثر وقوعها حسب وقوع المعاملات، فجاز إن شرطَ فيها زيادةُ شرط، فلا يقبل فيها إلا قول المسلمِ العدل؛ لأنّ الفاسقَ متّهم، والكافرُ لا يلتزم الحكم، فليس له أن يلزمَ المسلم، بخلاف المعاملات؛ لأنّ الكافرَ لا يمكنه المقامُ في ديارنا إلا بالمعاملة، ولا يتهيأ له المعاملة إلا بعد قبول قوله فيها، فكان فيه ضرورة فيقبل، ولا يقبلُ قول المستور في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -: إنّه يقبلُ قوله فيها جرياً على مذهبه، إنّه يجوزُ القضاءُ به، وفي ظاهر الرواية: المستورُ والفاسقُ سواء حتى يعتبر فيهما أكثرُ الرأي. كذا في ((الهداية))(4: 79-80).
(2) قوله: كالخبر عن نجاسة الماء… الخ؛ قال في ((الهداية))(4: 80): ومن الديانات الإخبارُ بنجاسة الماء، حتى إذا أخبره مسلمٌ مرضيّ لم يتوضّأ به ويتيمَّم، ولو كان المخبرُ فاسقاً أو مستوراً تحرَّى، فإن كان أكبرُ رأيه أنّه صادقٌ يتيمَّمُ ولا يتوضَّأ، وإن أراقَ الماء، ثمّ تيمَّمَ كان أحوط، ومع العدالةِ يسقطُ احتمال الكذب، فلا معنى للاحتياطِ بالإراقة، أمّا التحرِّي فمجرَّدُ ظنّ، ولو كان أكبرُ رأيه أنّه كاذبٌ يتوضَّأ به ولا يتيمَّم لترجُّح جانبِ الكذب بالتحرِّي، وهذا جوابُ الحكم، أمّا في الاحتياط يتيمَّمُ بعد الوضوء لما قلنا.
(3) في أ و م: إن.
(4) فإن غلب على ظنّه صدقه تيمم ولم يتوضأ به أو كذبه توضأ به، أما في السعة والاحتياط، فالأفضل أن يتيمم بعد الوضوء. ينظر: ((رد المحتار))(5: 220).
(5) في أ و م: و.
(10/62)
________________________________________
ومقتديٌّ دُعِي إلى وليمةٍ فَوَجَدَ ثَمَّه(1) لعباً أو غناءً لا يَقْدِرُ على منعِهِ يخرجُ البتة، وغيرُهُ إن قعدَ وأكلَ جاز، ولا يحضرُ إن(2) عَلِمَ من قبل(3)، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: ابتليتُ بهذا مرَّةً فصبرت، وذا(4) قبل أن يقتدى به، ودلَّ قولُهُ على حرمةِ كلِّ الملاهي؛ لأنَّ الابتلاءَ بالمحرمِ يكون[(5)]).
__________
(1) في أ و ب: ثمة، وفي ف: ثم.
(2) في ج و ق: من.
(3) سواء كان ممن يقتدى به أو لا؛ لأن حقَّ الدعوة إنما يلزمه بعد الحضور لا قبله. ينظر: ((الدر المختار))(5: 222).
(4) في ف: وهذا.
(5) قوله: لأنّ الابتلاء بالمحرّم يكون… الخ؛ يعني إنّ الابتلاءَ لا يكون إلا بالشرّ، بشهادةِ تقديم الظرف. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص577)].
(10/63)
________________________________________
اعلم أنَّه(1) لا يخلو أنَّه إن عَلِمَ قبل الحضور أنَّ هناك لهواً لا يجوزُ الحضور، وإن لم يعلمْ قبل الحضور لكن هُجِمَ بعده(2)، فإن كان قادراً على المنعِ يمنع، وإن لم يكنْ قادراً، فإن كان الرَّجلُ مقتدىً يخرج؛ لئلاَّ يقتدي النَّاسُ به، وإن لم يكنْ مقتدى، فإن قعد وأكلٌّ جاز[(3)]؛ لأنَّ إجابةَ الدَّعوةِ سنَّةٌ[(4)] فلا تتركُ بسببِ بدعةٍ[(5)] كصلاةِ الجنازةِ تحضرها(6) النيّاحة، قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: ابتليتُ بها مرَّةً فصبرت، قالوا: قولُه: ابتليتُ، يدلُّ على الحرمة[(7)
__________
(1) في ب: أن.
(2) في ب: بعدهم.
(3) قوله: فإن قعد وأكل جاز… الخ؛ هذا إذا كان الغناءُ في ذلك المنْزلُ لا في البيت الذي فيه المائدة، أمّا إذا كان عليها لا ينبغي أن يقعد، وإن لم يكن مقتدى. كذا في ((الهداية))[ينظر: (4: 80)].
(4) قوله: لأنّ إجابةَ الدّعوة سنّة؛ كما أخرجَ مسلمٌ(2: 1055) في (النكاح): عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: إنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((شرّ الطعامِ طعامُ الوليمة، يمنعها مَن يأتيها، ويدعى إليها مَن يأباها، وإن لم يجبْ الدَّعوة فقد عصى الله ورسوله)). كذا قاله الزَّيْلَعِيّ[في ((نصب الراية))(4: 221)].
(5) قوله: فلا تترك بسبب بدعة؛ قيل: عليه إنّ قياسَ السنةِ على الفرض، وهو غير مستقيم، فإنّه لا يلزمُ من تحمّل المحذور لإقامةِ الفرض تحمّله لإقامةِ السنّة، وأجيب: بأنّها سنّة في قوَّة الواجب؛ لورودِ الوعيدِ على تاركها، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لم يجبْ الدَّعوةَ فقد عصى أبا القاسم))[((مسند أبي يعلى))(10: 295)]، ويجوزُ أن يقال: وجه التشبيه اقترانُ العبارةِ بالبدعة، مع قطع النظرِ عن صفةِ تلك العبارة. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص577)].
(6) في أ و ف: يحضرها.
(7) قوله: ابتليت؛ يدلّ على الحرمة… الخ، دلَّت المسألةُ على أنّ الملاهي كلّها حرام؛ لأنَّ محمَّداً - رضي الله عنه - أطلقَ اسمَ اللَّعبَ والغناء بقوله: فوجدَ ثمّة اللّعب والغناء، واللعبُ هو اللهو، وهو حرام، لا يقال: إنّ الحياةَ الدنيا لعب ولهو؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْو}[محمد: 36]، وهي ليست بحرام؛ لأنَّ الحاصلَ من هذا القياس أنّ بعض اللَّهو واللعب ليس بحرام، وهو ما استثناهُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((لهو المؤمن باطلٌ إلا في ثلاث: تأديبه لفرسه، ورميه عن قوس، وملاعبته مع أهله))[النسائي(3: 39)، وأبو داود(3: 13)، والترمذي(4: 174)، وقال حسن صحيح، ولفظه: ((كلّ ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق))]. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص577)].
(10/64)
________________________________________
]، ويمكن أن يقال[(1)]: الصَّبرُ على الحرامِ لإقامةِ السُّنةِ لا يجوز، والصَّبرُ الذي قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - أن يكون جالساً معرضاً عن ذلك اللَّهوِ منكراً له، غيرُ مشتغلٍ ولا متلذِّذاً به(2).
فصل [في اللبس]
__________
(1) قوله: ويمكن أن يقال: هذا اعتراضٌ منه على قولِ المصنّف - رضي الله عنه -: وذا قبل أن يقتديَ به، يعني: ولو سلّمنا أنّ الأعظمَ - رضي الله عنه - كان غيرَ مقتدى به حين الابتلاءِ فلا يجوزُ له أن يصبرَ على الحرام؛ لإقامةِ السنّة، ثمّ أجاب عنه بقوله: والصبرُ الذي قال أبو حنيفةَ - رضي الله عنه -: حاصله إنّ الابتلاءَ بذاتِ المحرَّم من حيث هو، والصبرُ عليه والقبولُ به من غير المقتدى من حيث تجرُّده عمّا نشأ عنه الحرمة من اشتغال النفس، والتذاذها به. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص577)].
(2) مثل هذا التفصيل وغيره في ((المحيط))(ص283-286)، و((شرح ابن ملك على تحفة الفقهاء))(ق116/أ)، وفي ((الملتقط))(ص257): لو دعي إلى وليمة فيها فسق يمتنع من الإجابة إن كان زجراً لهم، وإن كان لا يبالى به فلا ح حرج أن يطعم منكراً للهو غير متلذذ به و لا إليه.
(10/65)
________________________________________
(لا يلبسُ رجلٌ[(1)] حريراً إلا قدرَ أربعةِ أصابع): أي في العرض، أرادَ مقدارَ العلم، ورويَ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((لبسَ جُبَّةً مكفوفةً(2) بالحرير))(3)
__________
(1) قوله: لا يلبس رجل… الخ؛ والأصلُ في لبسِ الحرير ما في ((الهداية)): لا يحلّ للرّجال لبس الحرير؛ لأنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن لبس الحريرِ والديباج، وقال: إنّما يلبسه مَن لا خلاق له في الآخرة))[النسائي(5: 472)، و((مسند أحمد))(2: 51)، و((المعجم الكبير))(23: 216)، وقال الزيلعي وابن حجر: كأنه ملفق من حديثين. ينظر: ((الدراية))(2: 218)، و((نصب الراية))(4: 222)]، وإنّما حلَّ للنساءِ بحديث آخر، وهو ما رواهُ عدّةٌ من الصحابة - رضي الله عنهم -؛ منهم عليّ - رضي الله عنه -: إنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ وبإحدى يديه حريرٌ وبالأخرى ذهب، وقال: ((هذان محرَّمان على ذكور أمّتي، حلالٌ لإناثهم))[((الآثار))(2: 230)، ((معتصر المختصر))(2: 214)] ويروى: ((حلّ لإناثهم))[ابن ماجه(2: 1189)، و((مصنف ابن أبي شيبة))(5: 151)، و((شرح معاني الآثار))(4: 251)، و((سنن البيهقي الكبير))(4: 141)، قال الكناني في ((مصباح الزجاجة))(4: 87): إسناده ضعيف] إلا أنّ القليلَ عفو، وهو مقدارُ ثلاثة أصابع أو أربع كالأعلام، والمكفوف بالحرير، لما روي أنّه - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن لبسِ الحريرِ إلا موضعَ إصبعين أو ثلاث أو أربع))[مسلم(3: 1643)، أراد الأعلام، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: ((إنّه كان يلبسُ جبّة مكفوفةً بالحرير))[مسلم (3: 1641)، وبلفظه في ((السنن الصغرى للبيهقي))(1: 230)، و((شرح معاني الآثار))(4: 245)، و((معتصر المختصر))(2: 287)]، يقال: ثوبٌ مكفّف، لما كفّ جيبه، وأطرافَ كمَّيه بشيءٍ من الديباج. كما صرّحه صاحب ((الذخيرة العقبى))(ص577).
(2) في ص: ملفوفة.
(3) من حديث أسماء في ((السنن الصغرى للبيهقي))(1: 230)، و((شرح معاني الآثار))(4: 245)، و((معتصر المختصر))(2: 287)، وفي مسلم (3: 1641): عن أسماء قالت هذه جبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجت إلي جبة طيالسة كسروانية لها لبنة ديباج وفرجيها مكفوفين بالديباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها.
(10/66)
________________________________________
، وعند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -: لا فرقَ بينَ حالةَ الحربِ وغيره، وعندهما: يحلُّ في الحربِ ضرورة، قلنا: الضَّرورةُ تندفعُ(1) بما لَحْمتُهُ(2) إبريسم(3)، وسَدَاهُ(4)[(5)] غيره، (ويتوسَّدُهُ ويفترشُه)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -؛ لما روي أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((جلسَ على مرفقةٍ من حرير))(6)، وقالا: يكره.
(ويلبسُ ما سَداهُ إبريسم(7) ولَحمتُهُ غيرُه(8)، وعكسُهُ في الحربِ(9) فقط[(10)
__________
(1) في ص و ف: يندفع، وفي ف: نتدفع.
(2) لَحْمة الثوب: بالفتح ما ينسج عرضا، والضم لغة، وقال الكسائي: بالفتح لا غير واقتصر عليه ثعلب. ينظر: ((المصباح))(ص551).
(3) في أ: إيريسم.
(4) السَّدى وزان الحَصَى من الثوب خلاف اللَّحمة وهو ما يمدُّ طولاً في النسج. ينظر: ((المصباح))(ص271).
(5) قوله: بما لُحْمته إبريسم وسَداه… الخ؛ والأوّل بضمّ اللام، وسكون الحاء المهملة، بالفارسية: يود، والثاني: بفتح السين والدال المهملتين، بالفارسية: تار. قاله الجلبي [في ((الذخيرة العقبى))(ص577)].
(6) قال الزيلعي في ((نصب الراية))(4: 227): غريب جداً، وروي أنه كان على بساط ابن عباس - رضي الله عنه - مرفقة حرير.
(7) في أ: إيريسم.
(8) أي غير الإبريسم سواء كان مغلوباً أو غالباً أو مساوياً للحرير كالقطن والكتان والصوف يعني في الحرب وغيره؛ لأن الثوبَ يصير بالنسج، والنسج باللَّحمة فهي معتبرة؛ لكونها علة قريبة، فيضاف الحكم من الحل والحرمة إليها دون السَّدى، فيكون العبرة لما يظهرُ دون ما يخفى، وقيل: لا يلبس إلا إذا غلب اللحمة على الحرير والصحيح الأول وهذا بالإجماع. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 535).
(9) في ب و ج و ص و ق: حرب.
(10) قوله: وعكسه في الحرب فقط؛ اعلم أنّ هذه المسألة على ثلاثة أوجه:
الأوّل: ما يكونُ كلَّه حريراً وهو الديباج، لا يجوز لبسه في الحربِ اتّفاقاً، أمّا في غير الحربِ فعند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - لا يجوز، وعندهما يجوز، ودليلُ الفريقين مذكورٌ في ((الهداية))(4: 81).
والثاني: ما يكون سداهُ حريراً ولحمته غيره، ولا بأس بلبسه في الحرب وغيره؛ لأنّ الحكمَ إذا تعلّق بعلّةٍ ذات وصفين يضافُ إلى آخرهما وجوداً واللحمة كذلك.
والثالث: عكس الثاني، وهو مباحٌ في الحرب، والضرورة وهي إيقاع الهيبة في عينِ العدو لبريقِهِ ولمعانِه، ولا ضرورةَ في غيره، فيكون مكروهاً. كذا في ((الأكمليّة)). قاله الجلبي [في ((الذخيرة العقبى))(ص577)].
(10/67)
________________________________________
])، إنَّما اعتبروا في المخلوطِ اللَّحمةِ حتى لو كانت من الإبريسم لا يحلّ، وإن كانت من غيرِهِ يحلُّ اعتباراً للعلَّةِ القريبة.
(ولا يتحلَّى[(1)] بذهبٍ أو فضَّةٍ إلا بخاتم، ومِنطقة(2)، وحليةِ سيف منها، ومِسمارِ ذهبِ لثقبِ فصّ(3)، وحلَّ للمرأةِ كلُّها.
ولا يتختَّمُ بالحجرِ والحديدِ والصُّفر)، لكن يجوزُ(4) إن كانَ الحلقةُ من الفضَّة، والفصُّ من الحجر، (وتركُهُ لغيرِ الحاكمِ أحبّ): أي تركُ التَّختُّمِ لغيرِ السَّلطانِ والقاضي أحبُّ لكونِهِ زينة، والسُّلطانُ والقاضي يحتاجُ إلى الختم(5).
(ولا يشدُّ سنَّهُ بذهبٍ بل بفضة)(6)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، (وكرهَ إلباسُ الصَّبيِّ ذهباً أو حريراً)، كما إن شُرْبَ الخمرِ حرام[(7)]، فكذا إشرابها حرام.
__________
(1) قوله: ولا يتحلّى… الخ؛ بالحاء المهملة من الحلية. والمنطقة: بكسر الميم معروفة. والمسمار: بكسر الميم وسكون السين المهملة: وتد، ومعنى الثقب فصّ ليجعلَ في ثقبه فصّ الخاتم للإحكام، والمصُّفُر: بضم الصاد المهملة والفاء: ذهبٌ أصابه بردٌ يمنعه عن نضجه. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص578)].
(2) النِّطاق والمَنطق كلُّ ما تشد به وسطك، والمِنطقة اسم خاص، وموضع المِنطقة الزنانير فوق ثيابهم. ينظر: ((المغرب))(ص468).
(3) لأنه تابع كالعلم، ولا يعد لابساً له. ينظر: ((الدر المنتقى))(2: 536).
(4) في ب: لا يجوز.
(5) في ب: التختم، وفي م: ختم.
(6) قال محمد: كان أبو حنيفة يكره شد الأسنان بالذهب ولا يرى بالفضة بأساً. ينظر: ((عيون المسائل))(ص382).
(7) قوله: كما إنّ شربَ الخمرَ حرام… الخ؛ لا يقال: هذه العبارةُ تقتضي الحرمة لا الكراهية؛ لأنّا نقول: معنى كلامَه إن اقتضاءَ كراهيةَ اللُّبسِ كراهيةُ الإلباس، يشبهُ اقتضاءَ حرمةِ الشرب حرمةِ الاشراب، فلا إشكال فيه أصلاً. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص578)].
(10/68)
________________________________________
(لا خرقةً لوضوء[(1)] أو مخاط)(2)، عند البعضِ يكرهُ ذلك؛ لأنَّهُ نوعُ تجبُّرٍ لكنَّ الصَّحيحَ أنَّها إذا كانت للحاجةِ لا يكره، وإن كانت للتَّكبُّرِ يكره، (ولا الرتم): هو الخيطُ الذي يعقدُ على الإصبعِ لتذكُّرِ الشَّيء، فعقدُهُ لا يكره؛ لأنَّهُ ليس بعبث(3)؛ لأنَّ فيه غرضاً صحيحاً وهو التَّذكُّر، إنَّما ذكرَ هذا؛ لأنَّ من عادةِ بعضِ النَّاسِ شدُّ الخيوطِ على بعضِ الأعضاء، وكذا السَّلاسل وغيرها، وذلك مكروهٌ؛ لأنَّهُ محضُ عبث، فقال: إنَّ الرَّتمَ ليس من(4) هذا القبيل.
فصل [في النظر واللمس والوطء]
__________
(1) قوله: لا خرقةَ لوضوء… الخ؛ بفتح الواو: بقيّةُ البللِ من الوضوء على الأعضاء كما مرَّ في أوّل الكتاب، ومُخاط: بضم الميم، وفتح الخاء المعجمة، والطاء المهملة: ما يسيلُ من الأنف، وقد مخطَه من أنفه؛ أي رمى به. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص578)].
(2) لأن المسلمين قد استعملوا في عامة البلدان مناديل الوضوء والخراق للمخاط ومسح العرق، وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، ولو حملها بلا حاجة يكره. ينظر: ((الدرر))(1: 313).
(3) في ب: بعث.
(4) في ب: عن.
(10/69)
________________________________________
(وينظرُ[(1)] الرَّجلُ من الرَّجلِ سوى ما بينَ سرَّتِهِ إلى تحتَ ركبتيه[(2)
__________
(1) قوله: وينظر… الخ؛ اعلم أنّ مسائل [النظر] أربعة: نظرُ الرجل إلى امرأة، ونظرها إليه، ونظرُ الرّجل إلى الرجل، ونظرُ المرأة إلى المرأة، والأوّل على أربعةِ أقسام: نظرُهُ إلى الأجنبيّة الحرّة، ونظرُه إلى مَن تحلُّ له من الزوجِ والأمة، ونظرُه إلى ذوات محارمه، ونظرُهُ إلى أمةِ الغير. كذا في ((العناية)).
(2) قوله: سوى ما بين سرّته إلى تحت ركبيته… الخ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((عورةُ الرجلِ ما بين سرّته إلى ركبته))[في ((سنن البيهقي))(2: 288) بلفظ قريب منه، قال ابن حجر وابن الملقن: رواه الحارث في ((مسند)): بإسناد ضعيف، ينظر: ((التلخيص))(1: 279)، و((الخلاصة))(1: 153)]، ويروى: ((ما دون سرّته حتى تجاوزَ ركبته))، وبهذا ثبتَ أنّ السرّة ليست بعورةٍ خلافاً لما يقوله أبو عصمة - رضي الله عنه - والشافعيّ - رضي الله عنه -، والركبةُ عورةٌ خلافاً لما قالَه الشافعيّ - رضي الله عنه -، والفخذُ عورةٌ خلافاً لأصحاب الظواهر.
وما دونَ السرّة إلى منبتِ الشعرِ عورة، خلافاً لما يقوله الإمام أبو بكرٍ محمّد بن الفضل الكماريّ - رضي الله عنه - معتمداً فيه العادة؛ لأنّه لا عبرةَ بها مع النصّ بخلافه، وقد روى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: ((الركبة من العورة))[((سنن الدراقطني))(1: 231)، وله شواهد ينظر: ((نصب الراية))(1: 296)]، وأبدى الحسنُ بن عليّ لالتماسِ أبي هريرةَ - رضي الله عنهم - سرّته فقبَّلها [ولفظه في ((صحيح ابن حبان))(12: 405): عن عمير بن إسحاق قال كنت مع أبى هريرة - رضي الله عنه - فقال للحسن بن على أرني المكان الذي رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلُه منك قال فكشف عن سرّته فقبَّلَها، فقال شريك: لو كانت السرّة من العورة ما كشفَها]، ثبتَ بها أنّ السرّة ليست بعورة، وقال - صلى الله عليه وسلم - لجرهد وقد انكشف فخذه: ((أما علمتَ أنّ الفخذَ عورة))[أبو داود(4: 40)، والترمذي(5: 110)، وقال: حديث حسن]، هذا نصٌّ على كونِ الفخذِ عورة؛ ولأنّ الركبةَ ملتقى عظمِ الفخذِ والساق فاجتمع المحرّم والمبيح، وفي مثله يغلبُ المحرّم.
وحكمُ العورةِ في الركبةِ أَخفُّ منه في الفخذ، وفي الفخذ أخفُّ منه في السوءة، حتى أنّ كاشفَ الركبةِ ينكرُ عليه برفق، وكاشفُ الفخذِ يعنَّف عليه، وكاشفُ السوءةِ يؤدَّب إن لج، قال التَّفْتازانيُّ - رضي الله عنه - في ((شرح المقاصد)): في (بحث الأمرِ بالمعروف): وفي الفخذ الضرب، وفي السوءةِ يقتلُ إن لج، وكشفُ إزارِه في الموضعِ المعدِّ للغسلِ كالحمامِ للغسل وغيره لا بأس به، ويغضُّ الناظرُ بصرَه، والإثمُ في الناظرِ لا الكاشف للضرورة.
(10/70)
________________________________________
](1) )، السُّرَّةُ ليست بعورةٍ عندنا، والرُّكبةِ عورة، وعند الشَّافعي(2) - رضي الله عنه -: على العكس.
(ومن عرسِهِ وأمتِهِ الحلال[(3)
__________
(1) في ج و ف و ق: ركبته.
(2) في ((الغرر البهية))(1: 347): والسرة والركبة ليستا بعورة يجب ستر بعضهما ليحصل سترهما. وفي ((تحفة المحتاج))(8: 198): ويحل نظر رجل إلى رجل إلا ما بين سرة وركبة ونفسهما.
(3) قوله: ومن عرسه وأمته الحلال… الخ؛ أي ينظرُ الرجلُ من عرسه وأمته الحلال إلى فرجهما، وهذا إطلاقٌ في النظرِ إلى سائرِ بدنها عن شهوةٍ وغير شهوة، والأصلُ فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((غضّ بصرَك إلاَّ عن أمتك وامرأتك))[بلفظ: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو مما ملكت يمينك)) أبو داود(4: 40)، والنسائي(5: 313)، والحاكم(4: 199)، والترمذي(5: 97)، وقال: حديث حسن]؛ ولأنّ ما فوق ذلك من المسيسِ والغشيان مباح، فالنظرُ أولى بالجواز إلا أنّ الأدبَ أن لا ينظرَ كلّ واحدٍ منهما إلى عورةِ صاحبه، لما روى الطبرانيّ في ((معجمه [الكبير]))(10: 196): عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتى أحدُكم أهله فليسترْ ما استطاع، ولا يجرّدان كجرد العيرين)).
قال جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص578)]: احترزَ بقيدِ الحلّ عن المجوسيّة أو المشركة أو أمّه أو أخته من الرضاع، أو أمّ امرأته أو بنتها؛ لأنّ حكمها حكمَ أمة الغير في النظرِ إليها؛ لأنَّ إباحةَ النظرِ إلى جميع البدنِ مبنيّة على حلّ الوطء، فينتفى بانتفائه، وقد عرفتَ بما ذكرنا أنّ الأمةَ التي أنحكت للغير حكمُها في باب النظرِ حكمُ أمةِ الغير؛ لوجود حرمةِ الوطء فيها ما دامت منكوحةً له، كما لا يخفى.
(10/71)
________________________________________
] إلى فرجهما، ومن محرمِهِ إلى الرَّأسِ[(1)] والوجهِ والصَّدرِ والسَّاقِ والعضد إنِ أمنَ شهوته وإلاَّ فلا، ولا إلى الظَّهرِ والبطنِ والفخذ كأمةِ غيره(2) )، فإنَّ حكمَ أمةِ الغيرِ حكمُ المَحْرِمِ لضرورةِ رؤيتها في ثيابِ المهنة.
__________
(1) قوله: ومن محرمه إلى الرأس… الخ؛ والأصلُ فيه قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا...}الخ [النور:31]، والمرادُ واللهُ أعلم مواضعُ الزينة، وهي ما ذكره المصنّف - رضي الله عنه -، ويدخلُ في ذلك الساعدُ والإذن من مواضع الزينة، بخلاف الظهرِ والبطنِ والفخذ؛ لأنّها ليست من مواضع الزينة؛ ولأنَّ بعضَ المحارم يدخلُ على البعض من غير اسئيذان، والمرأةُ في بيتِها في ثيابِ الخدمة عادة، فلو حرمَ النظرُ إلى هذه المواضع أدَّى إلى الحرج.
(2) العبارة في ق: ومن محرمه إلى رأسها و وجهها وصدرها وساقها وعضدها إن أمن شهوته وإلا فلا، لا إلى ظهرها وبطنها و فخذها كأمة غيره.
(10/72)
________________________________________
(وما حلَّ نظراً منهما، حلَّ مسَّاً[(1)]، وله مسُّ ذلك إن أرادَ شراءها[(2)] وإن خافَ شهوتَه، وأمةٌ بلغتْ لا تعرضُ في إزارٍ واحد[(3)]، ومن الأجنبيّةِ إلى وجهها وكفَّيها فقط)، هذا في ظاهرِ الرِّواية، وعن أبي حنيفةِ - رضي الله عنه -: أنَّهُ يحلُّ النَّظرُ إلى قدمها، وقد مرَّ في (كتابِ الصَّلاة)(4): إنَّ القدمَ ليستْ بعورة، قلنا: في الصَّلاةِ ضرورة، وليسَ في نظرِ الأجنبيِّ إلى القدمِ [ضرورةٌ بخلافِ الوجهِ والكفّ، (وكذا السيِّدة[(5)
__________
(1) قوله: حلّ مساً… الخ؛ ومن أدلّه جوازُ مسّ المحارم خاصّة أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقبِّلُ رأسَ فاطمة - رضي الله عنه -، ويقول: ((أجدُ منها ريح الجنة))، وكان لا على شهوةٍ قطعاً، فيجوزُ المسّ. كذا في ((حاشية الجلبي))(ص578).
(2) قوله: إن أرادَ شراءها…الخ؛ قال مشايخنا: يباحُ النظرُ في حالة الشراء، وإن اشتهى للضرورة، ولا يباحُ المسّ إذا اشتهى، أو كان أكبر رأيه ذلك؛ لأنّه نوعُ استمتاع، وفي غير حالة الشراء يباحُ النظرُ والمسُّ لشرط عدم الشهوة. كذا في ((هداية))(4: 87).
(3) قوله: لا تعرضُ في إزار واحد؛ أي لا تعرضُ على البيعِ في إزار: أي في ثوبٍ واحدٍ يسترُ ما بين السرّة والركبة فقط؛ لأنّه إذا كان كذلك لا يسترُ ظهرها، وقد سبقَ من المصنِّف - رضي الله عنه - قبيل هذا: إنّه لا يحلّ النظرُ إليه من أمةِ الغير، بقوله: كأمةِ غيره. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص578)].
(4) ص ).
(5) قوله: وكذا السيدة… الخ؛ فإنّها في النظرِ كالأجنبيّة، وقال مالك رح: المملوكُ كالمحرم، وهو أحدُ قوليّ الشافعيّ رح؛ لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ}[النور:31]؛ ولأنّ الحاجةَ متحقِّقةٌ لدخوله عليها من غير استئذان.
ولنا: إنّه فحلٌ غير محرّم، ولا زوج، والشهوةُ متحقّقة لجوازِ النكاحِ في الجملة، والحاجة قاصرة؛ لأنّه يعملُ عادةً خارجَ البيت، والمرادُ بالنصّ: الإماء، قال سعيد - رضي الله عنه - والحسنُ البصريّ - رضي الله عنه - وغيرهما: لا تغرنّكم سورةُ النور، فإنّها في الإناثِ دون الذكور. كذا في حواشي ((الهداية)).
(10/73)
________________________________________
])، فإنَّها في النَّظرِ إلى قدمَيْها(1)](2) كالأجنبيَّة.
(فإن خاف): أي الشَّهوة(3)، (لا ينظرُ إلى وجهها إلا لحاجةٍ(4) كقاضٍ يحكم، وشاهدٍ يشهدُ عليها، ومن يريدُ(5) نكاحَ امرأةٍ أو شراءَ أَمَة، ورجلٍ يداويها[(6)])، فإنَّ لهؤلاءَ يحلُّ لهم النَّظرُ مع خوفِ الشَّهوةِ للحاجة، (فينظرُ إلى موضعِ مرضِها بقدرِ الضَّرورة.
__________
(1) في ب و ج: قدمها.
(2) سقطت من ف.
(3) في ب: من الشهوة .
(4) في أ و م: بحاجة، وفي ص: الحاجة.
(5) في ق: يرد.
(6) قوله: ورجل يداويها… الخ، بالجرّ عطفٌ على قاض، وإنّما لم يذكره قبل قوله: وإن خيفَ لارتباطه بقوله: فلينظر إلى موضعِ مرضها، كما لا يخفى. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص578)].
(10/74)
________________________________________
[وتنظرُ](1) المرأةُ من المرأةِ كالرَّجلِ[(2)] من الرَّجل، وكذا من الرَّجلِ إن أمنتْ شهوتها، والخصيُّ والمجبوبُ والمخنَّثُ(3)[(4)] في النَّظرِ إلى الأجنبيَّةِ كالفحل.
__________
(1) سقطت من ق، وفي ج و ص:ينظر.
(2) قوله: كالرجل… الخ؛ يعني ما جازَ للرَّجلِ أن ينظرَ إليه من الرجل، جازَ للمرأةِ أن تنظرَ إليه من المرأة بوجوه من جملتها: تحقُّق الضرورة إلى الانكشاف فيما بينهنّ، قال في ((النهاية)): أي في الحمّام، وهذا دليلٌ على أنّهن لا يمنعن عن الدخول في الحمام، خلافاً لما يقوله بعض الناس؛ لأنَّ العرفَ الظاهر في جميع البلدان بناءُ الحمّامات للنساء وتمكينهنّ من دخول الحمامات دليلٌ على صحة ما قلنا، وحاجةُ النساء إلى دخول الحمامات فوق حاجة الرجل إليه؛ لأنّ المقصود تحصيلُ الزينة، والمرأةُ إلى هذا أحوج، ويتمكّنُ الرجلُ من الاغتسال في الأنهارِ والحياض، والمرأة لا تتمكن من ذلك. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص578-579)].
(3) أي الذي يفعل الرديء، يعني يمكِّن من نفسِهِ فحلاً ليجامعه، احترازٌ عن المخنَّث الذي في أعضائه لينٌ وتكسّر بأصلِ الخلقة، ولا يشتهي النساء، فإنّه رخَّص بعض مشايخنا في تركِ مثله مع النساء. ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص579).
(4) قوله: والمخنَّث… الخ؛ أي الذي يفعل الرديء، يعني يمكِّن من نفسِهِ فحلاً ليجامعه، احترازٌ عن المخنَّث الذي في أعضائه لينٌ وتكسّر بأصلِ الخلقة، ولا يشتهي النساء، فإنّه رخَّص بعض مشايخنا في تركِ مثله مع النساء. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص579)].
(10/75)
________________________________________
ويعزلُ[(1)] عن أمتِهِ بلا إذنها، وعن عرسِهِ به)، العزل: أن يطأ فإذا قَرُبَ إلى الإنزالِ أخرجَ(2) [ذكرَه](3)، ولا يُنْزلُ في الفرج(4)
__________
(1) قوله: ويعزل… الخ؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن العزل عن الحُرّة إلا بإذنها، وقال لمولى أمةٍ: ((اعزلْ عنها إن شئت))[مسلم(2: 1064)]؛ ولأنَّ الوطء حقُّ الحرّة قضاءً للشهوة، وتحصيلاً للولد، ولا حقَّ للأمةِ في الوطء.
(2) في ص: خرج.
(3) زيادة من أ.
(4) حكم إسقاط الحمل: قال في ((النهر)): يباح إسقاط الحمل ما لم يتخلق منه شيء ولن يكون ذلك إلا بعد مئة وعشرين يوما، وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق نفخ الروح وإلا فهو غلط؛ لأن التخليق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة. وإطلاقهم يفيد عدم توقف جواز إسقاطها قبل المدة المذكورة على إذن الزوج . وفي (كراهة) ((الخانية)): ولا أقول بالحل إذ المحرم لو كسر بيض الصيد ضمنه؛ لأنه أصل الصيد فلما كان يؤاخذ بالجزاء فلا أقل من أن يلحقَها إثم هنا إذا سقط بغير عذرها. قال ابن وهبان : ومن الأعذار أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه. ونقل عن ((الذخيرة)): لو أرادت الإلقاء قبل مضي زمن ينفخ فيه الروح هل يباح لها ذلك أم لا ؟ اختلفوا فيه: وكان الفقيه علي بن موسى يقول : إنه يكره، فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله الحياة فيكون له حكم الحياة كما في بيضة صيد الحرم ونحوه في ((الظهيرية))، قال ابن وهبان: فإباحة الإسقاط محمولة على حالة العذر، أو أنها لا تأثم إثم القتل. وبما في ((الذخيرة)) تبين أنهم ما أرادوا بالتحقيق إلا نفخ الروح، وأن قاضي خان مسبوق بما مر من التفقه. والله تعالى الموفق انتهى كلام ((النهر)).
أخذ في النهر من هذا ومما قدمه الشارح عن ((الخانية)) والكمال أنه يجوز لها سد فم رحمها كما تفعله النساء مخالفاً لما بحثه في ((البحر)) من أنه ينبغي أن يكون حراماً بغير إذن الزوج قياساً على عزله بغير إذنها . قلت : لكن في البزازية أن له منع امرأته عن العزل .اهـ.
قال ابن عابدين في ((رد المحتار))(3: 176): نعم النظر إلى فساد الزمان يفيد الجواز من الجانبين، فما في ((البحر)) مبنيٌّ على ما هو أصل المذهب، وما في ((النهر)) على ما قاله المشايخ. والله الموفق.
(10/76)
________________________________________
.
[فصل في الاستبراء وغيره]
(ومَن ملكَ أمةً بشراءٍ أو نحوِه): كالوصيَّةِ والإرثِ ونحوهما، (ولو بكراً و(1)مشريَّةً من امرأة(2)، أو عبدٍ[(3)] أو محرمها): أي محرمُ الأَمَة، لكن غيرَ ذي رحمٍ محرَّمِ لها، حتى لا تعتقَ(4) الأمةُ عليه، (أو من مالِ صبيّ): أي(5) [إن](6) كانت الأمَةُ من مالِ صبيّ، (حَرُمَ عليه وطؤها، ودواعيهِ حتى يستبرئ بحيضة فيمن تحيضُ(7)، وبشهرٍ(8) في ذواتِ(9) شهر، وبوضعِ الحملِ في الحامل)، فإنَّ الحكمةَ في الاستبراءِ تعرُّفُ(10) براءةِ الرَّحمَِ صيانةً للماءِ المحترمِ[(11)] [عن الاختلاط، وذلك عندَ [أبي حنيفة - رضي الله عنه -](12): حقيقةَ(13) الشُّغل(14)[بماء محرَّم](15)، أو توهُّم الشُّغلِ بماءِ محترم(16)](17)، لكنَّهُ أمرٌ خفيّ، فأديرَ الحكمُ على(18)
__________
(1) في أ: و.
(2) العبارة في ب: من امرأته أو بعتق عبد و محرمها.
(3) قوله: أو عبد… الخ؛ أمّا من عبدِ غيره فبالاتّفاق، وأمّا من عبدِ المشتري إذا كان مديوناً مستغرقاً، فكذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ لأنه يملكُ المولى حينئذٍ كسبه، وأمّا عندهما: إن حاضت عند العبد لا يلزمُ الاستبراء للمولى؛ لأنّه لا يملك كسبه، ويتصرَّفُ في ماله، فقبضُه كقبضه، وإنّما عدّ العبد من هذا العداد؛ لأنّه ممَّن لا يملكُ شيئاً أصلاً، فضلاً عن الجارية ووطئها. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص579)].
(4) في ص: يتعلق.
(5) في ب: إلى .
(6) زيادة من ب و ف.
(7) في أ: يحيض. وفي ص: تختص.
(8) في ص: ويشهر.
(9) في ص: ذات.
(10) في ص: تعر.
(11) قوله: للماء المحترم… الخ؛ وهو بأن يكون من زنا، وإنّما قيَّدَ بذلك، وإن كان الحكمُ في غير المحترم كذلك، فإنّ الجاريةَ الحاملُ من الزنا لا يحلّ وطؤها حملاً للحال على الصلاح. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص579)].
(12) زيادة من ق.
(13) في ف: خفيفة.
(14) في ف: الشعل.
(15) زيادة من ف.
(16) في ف: محرم.
(17) سقطت من ص.
(18) في ب: عن.
(10/77)
________________________________________
أمرٍ ظاهر، وهو استحداثُ الملك[(1)]، وإن كان عدمُ وطء المولى معلوماً كما في الأمورِ التي عدَّها، وهي قوله: ولو بكراً... إلى آخره.
فإنَّ الحكمةَ(2) تراعى في الجنسِ لا في كلِّ فرد، ولكن يردُّ عليه[(3)
__________
(1) قوله: وهو استحداث الملك… الخ؛ أي تجدّده، وفيه بحث؛ لأنّه أعمُّ من الانتقال من ملكٍ إلى ملك، فيخالفُ قوله في باب خيار الشرط؛ لأنَّ الاستبراءَ إنّما يجبُ بالانتقالِ من ملك إلى ملكٍ بأداة القصر؛ لأنّه يوجبُ انتفاءَ الوجوب في المسبيات، وأخذ الاستحداثِ هنا يصرّح تحقيقَ الوجوب فيها، فليتأمّل. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص579)].
(2) في ب: الحكم.
(3) قوله: ولكن يرد عليه… الخ؛ تلخيصه ما ذكرَ في ((الكافي)): من أنّ عدم وطء المولى إذا كان معلوماً، فكيف يتوهَّمُ شغلُ الرحمِ بالماء؛ ليلزمَ اشتباه الأنساب.
وأجيبَ عنه: بأنّ الشغلَ لا يلزمُ أن يكون من المولى؛ لجوازِ أن يكون من غيره، وكذا التوهُّم ثابتٌ في البكرِ أيضاً؛ لأنَّ الشغلَ يتصوُّرُ بدونِ زوالِ البكارة، يؤيِّدُه قول قاضي خان - رضي الله عنه - في كتاب (الحظر والإباحة): إذا جومعت البكرُ في ما دون الفرج، فدخلَ المنيّ فرجها، فحبلت، وقد دنا أوان ولادتها، ينبغي أن يزالَ بكارتُها ببيضةٍ أو بحرفِ درهم؛ لأنَّ خروجَ الولد دون ذلك لا يكون، قيل: يردُ عليه إذا كان الشغلُ من غير المولى كان من الزنا، ونكاحُ المزنيّة ووطئها جائزٌ بلا استبراءٍ عندهما، خلافاً لمحمَّدٍ - رضي الله عنه -، فكيف يوجبُ توهُّم الشغلِ من الزنا الاستبراء.
ويمكن دفعُه بالشغل إذا كان من غير المولى لا يجبُ كونُه من الزنا؛ لجوازِ أن يكون زوجُها بآخر، كما سيأتي هذا من كلامِ الأستاذ في ((غرره))، وقوله: كما سيأتي إشارةٌ إلى ما سنذكره في بيانِ معنى قول الشارح - رضي الله عنه -: وهو أن يكون الولدُ ثابت النسب، حيث قال: بأن يكون الولدُ ثابتَ النسب من غيره إن زوَّجَ المولى أمتَه ثمّ حبلت منه طلَّقَها، وبعد انقضاءِ عدَّتها باعَها من رجل، فكان ينبغي أن لا يجب الاستبراء على المشتري؛ لأنّ الحملّ ثابتُ النسب فلا يلزمُ اختلاطُ المياه واشتباهُ الأنساب. انتهى كلام ذلك الفاضل. ونحن نقول: ليتَ شعري ما معنى قوله: لأنّ الحملَ ثابتُ النسبِ بعد قوله: وبعد انقضاءِ عدّتها باعها من رجلٍ مع أنّ أولاتِ الأحمالِ أجلهنّ أن يضعنَ حملهنّ. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص579-580)].
(10/78)
________________________________________
] إنَّ الحكمةَ لا تراعى في كلِّ فرد، لكن تراعى في الأنواعِ المضبوطة(1)، فإن كانت الأمةُ بكراً أو مشريَّةً ممَّن(2) لا يثبتُ نسبُ ولدها منه، و[هو أن يكونَ[(3)] الولد ثابتَ النَّسبِ](4) ينبغي أن لا يجب؛ لأنَّ عدمَ الشُّغلِ بالماءِ المحترمِ(5) متيقّنٌ في هذه الأنواع.
__________
(1) في ب : الضبوطة.
(2) في أ: من.
(3) قوله: وهو أن يكون… الخ؛ تردّد أكثرُ الناظرين في هذا المقام في مرجع هذا الضمير، فتعسّفوا فيه ما تعسّفوا، والذي عندي: إنّ مرجعَه عدمُ الثبوت المستفادِ من قوله: لا يثبت، ويقدَّرُ الباءُ في أن يكون، ولفظ: من غير البائع؛ بعد قوله: ثابتُ النسب فالمعنى وهو أي عدمُ ثبوت النسب من البائع بأن يكون الولدُ ثابتَ النسب من غير البائع. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص580)].
(4) سقطت من ب.
(5) في ف: المحرم.
(10/79)
________________________________________
والجوابُ: إنَّهُ إنَّما يثبتُ بالنَّصِ لقولِهِ - صلى الله عليه وسلم - في سباياِ أوطاس: ((ألا لا توطؤوا [الحبالى حتى يضعنَ حملهن، ولا](1) الحيالى حتى يستبرئنَ بحيضة))(2)، فإنَّ السَّبايا[(3)] لا تخلو من أن يكونَ فيها بكراً، ومسبيَّة من امرأةٍ ونحوِ ذلك، ومع هذا(4) حكمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حكماً عامَّا(5)ً فلا يختصُّ(6) بالحكمة، كما أنَّه تعالى بيَّنَ الحكمةَ في حرمةِ الخمرِ بقولِه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ}(7)الآية، فلا يمكنُ أن يقولَ أحدٌ إنَّي أشربُها بحيثُ لا يقعُ العداوة، ولا يصدَّني عن الصَّلاة، فإذا [كانت](8) المصلحةُ غالبةً في تحريمِه، [فالشَّرعُ يحرِّمُ](9) على
__________
(1) سقطت من ف.
(2) من حديث عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال أصبنا سبايا يوم أوطاس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يطأ رجل حاملاً حتى تضع حملها ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة)) في ((سنن أي داود))(4: 112)، واللفظ له، و((سنن الدارمي))(2: 224)، و((المستدرك))(2: 212)، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(3) فإن السبايا… الخ؛ وعن أبي يوسفَ - رضي الله عنه - إنّه لا يجبُ في هذه الصور؛ لتيقُّن فراغ رحمها من ماء البائع، كما أنّ المطلَّقةَ قبل الدخولِ لا تعتدُّ بهذه العلّة بعينها، وقالا: نعم، إنّ الشغلَ غيرُ ثابت هنا، ولكن لا يخلو عن نوعِ توهُّمِ الشغل، وإن كان من غير ذلك أيضاً إن رحمَ الباكرة قد يشغلُ بالمنيّ مع ثبوتِ البكارةِ بأن يخطفه في الحمام. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص580)].
(4) في ف: ذلك.
(5) في أ: عاماً، وفي ب: عاملا.
(6) في ف: تختص.
(7) من سورة المائدة، الآية(91) {بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
(8) سقطت من ص و ف.
(9) سقطت من ص.
(10/80)
________________________________________
العموم؛ لِمَا أنَّ في التَّخصيصِ ما لا يخفى من الخبط(1)، وتجاسرُ النَّاسِ[(2)] بحيثُ ترتفعُ الحكمة، فإذا ثبتَ الحكمُ في السَّبي على العمومِ ثبتَ في سائرِ أسبابِ الملك كذلك قياساً، فإنَّ العلَّة معلومة، ثمَّ تأيَّدَ ذلكَ بالإجماع.
(ولم تكفْ[(3)
__________
(1) في الحظ.
(2) قوله: وتجاسرَ الناس؛ يعني جرأتهم وإقدامهم على الوطء بلا استبراء، وإن كان من مواضع توهّم الشغل، وهذا معنى قوله: بحيث يرتفعُ الحكمة. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص580)].
(3) قوله: ولم تكف... إلى قوله: كذلك؛ هذا عند الأعظم - رضي الله عنه - ومحمّد - رضي الله عنه - خلافاً لأبي يوسفَ - رضي الله عنه -، فإنّ عنده: تكفي تلك الحيضة للتيقُّن بفراغِ الرحم، كما لو طلَّقها قبل الدخولِ لا يجبُ العدّة كذلك.
ولهما: إنّ السببَ استحداثُ الملك واليد، والحكمُ لا يسبق السبب، وكذا لم تكفِ بالاستبراء الحاصل قبل الإجازة في بيع الفضوليّ، وإن كانت في يد المشتري ولا بالحاصلِ بعد القبض في الشراء الفاسد قبل أن يشتريها شراءً صحيحاً لما قلنا.
(10/81)
________________________________________
](1) حيضةٌ ملكها فيها، ولا التي قبلَ القبض): [أي ولا الحيضة التي وجدت بعد سبب من أسباب الملك قبل القبض](2)، (ولا ولادةٌ كذلك، وتجبُ(3) في شراءِ أمةٍ[(4)] إلا شقصاً هو له)(5)؛ لأنَّ الملكَ تمَّ له، والحكمُ يضافُ إلى العلَّةِ القريبة، (لا عند عودِ الآبقة[(6)]، وردِّ المغصوبة، والمستأجرة، وفكِّ المرهونة)؛ لأنَّه لم يوجدْ استحداثُ الملك.
__________
(1) في ص و ف و ق: يكفي.
(2) زيادة من ب.
(3) في ق: يجب.
(4) قوله: وتجب في شراء أمة… الخ؛ لأنّ السببَ محلُّ الوطء، وهو ملك الرقبة، قد تمّ؛ أي بعدما ملكَ جميع رقبتِها، وملكُ بعض الرقبة بمنْزلةِ بعض العلّة، وثبوت الحكم عند كمال العلة، هكذا في بعض حواشي ((الهداية)).
(5) أي الشقص للمشتري، يعني يجب الاستبراء في الجارية للمشتري فيها شقص فاشترى الباقي؛ لأن حدوث ملك الح يثبت ملك الرقبة يعني يكون بعدملك جميع رقبتها وملكبعض الرقبة بمنزلة بعض اللعة وثبوت الحكم يكون عند كمال العلة. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق288/ب).
(6) قوله: لا عند عودِ الآبقة… الخ؛ لانعدامِ السبب، وهو استحداثُ الملك واليد، وهو سببٌ متعيِّن، فأديرَ الحكمُ عليه وجوداً وعدماً، قال في ((العناية)): الآبقةُ التي أبقت في دارِ الإسلام، ثمَّ رجعت إلى مولاها لا يجب الاستبراء، فإن أبقت إلى دارِ الحربِ ثمَّ عادت إليه بوجهٍ من الوجوه فكذلك عند الأعظم - رضي الله عنه -؛ لأنّهم لا يملكونها، فلم يحدثُ الملك، وعندهما: يجبُ الاستبراءِ لأنّهم ملكوها. هكذا في ((ذخيرة العقبى))(ص581) للجلبي.
(10/82)
________________________________________
(ورُخِّصَ حيلةُ إسقاطِ الاستبراءِ عند أبي يوسف - رضي الله عنه - خلافاً لمحمَّدٍ - رضي الله عنه -، وأخذَ بالأوَّلِ إن علمَ عدمُ وطء بائعها في ذلك(1) الطُّهر(2)، وبالثَّاني إن قربها: وهي إن لم تكنْ تحتَهُ حرَّةٌ أن ينكحُها، ثمَّ يشتريها[(3)])، إذ بالنِّكاحِ لا يجبُ الاستبراء[(4)]، ثمَّ إذا اشترى زوجته(5) لا يجبُ أيضاً.
__________
(1) في ص و ق: ذا. وفي ف: ذوات. وفي ج:هذا.
(2) في ف: الظهر.
(3) قوله: أن ينكحَها ثمّ يشتريها؛ وقد عطفَ الزَّيْلَعِيُّ: على يشتريها لفظ: يقبضها، فقال: هكذا ذكره صاحبُ ((الهداية))، ثمّ قال: وهذا لا يفيدُ إذا كان القبض بعد الشراء؛ لأنّه بالشراء ينفسخُ النكاح، فيجبُ الاستبراءُ بالقبض بحكم الشراء، وإنّما يفيد لو كان القبض قبل الشراء، كيلا يوجدُ القبض بحكم الشراء بعد فساد النكاح، قال ظهير الدين: عندي أن يشترطَ الدخولُ قبل الشراء؛ لأنَّ ملكَ النكاح يفسدُ عند الشراء سابقاً على الشراء ضرورةَ أنّ ملكَ النكاح لا يجامعُ ملك اليمين، فلم تكن عند الشراء منكوحةً ولا معتدّةً، بخلاف ما إذا دخلَ بها قبل الشراء؛ لأنّها تبقى معتدةً منه بعد فساد النكاح، فلا يلزمُه الاستبراءُ به ، ذكره قاضي خان - رضي الله عنه -. انتهى كلامه. أقول: لو قال بدل صاحب ((الهداية)): صاحب ((الكافي)) لكان صواباً؛ لأنَّ لفظ: يقبضها؛ لم يقع في ((الهداية))، بل فيه، فليتأمّل. قاله أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص581)].
(4) قوله: أذ بالنكاحِ لا يجب الاستبراء؛ لأنّه به يثبتُ له الفرش عليها، فلمّا اشتراها وهي على فراشه، وقيامُ الفرش له عليها دليلٌ شرعيّ على تعيين فراغُ رحمها من ماءِ الغير، ثم الحلُّ له لم يتجدَّد بملك الرقبة؛ لأنّها كانت حلالاً له قبل ذلك بالنكاح، وهذا معنى قول الشارح - رضي الله عنه -: ثم إذا اشترى زوجتَه لا يجبُ أيضاً. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص581)].
(5) في ب: زوجة.
(10/83)
________________________________________
(وإن كانت أن ينكحَها البائعُ قبل الشِّراء أو المشتري قبلَ قبضِهِ مَن يوثقُ به ثمَّ يشتري ويقبض، فيطلّق الزَّوج): أي إن كانت تحتَهُ حرَّة، فالحيلةُ(1) أن ينكحَها البائعُ قبلَ شراءِ المشتري رجلاً عليه اعتمادٌ أن يطلِّقَها[(2)]، ثمَّ يشتري المشتري، ثمَّ يطلِّقُ الزَّوج، فإنَّهُ لا يجبُ الاستبراء؛ لأنَّهُ اشترى منكوحةَ الغير، ولا يحلُّ وطؤها، فلا استبراء، فإذا طلَّقها الزَّوجُ قبلَ الدُّخولِ حلَّ على المشتري، وحينئذٍ لم يوجدْ حدوثُ الملك فلا استبراء، أو ينكحُها المشتري قبلَ القبضِ[(3)] ذلك الرَّجل، ثم يقبضُها ثمَّ يطلِّقُها الزَّوج[(4)
__________
(1) في ب: لحيلة.
(2) قوله: رجلاً عليه اعتماد أن يطلقها؛ لأنّه إذا لم يكن ثقةً يجوز أن لا يطلقها، فكان احتيالاً عليه لا له، والحيلةُ في تمشيةِ هذه الحيلة أن يزوّجَها المشتري على أن يكون أمرها بيده، يطلّقها متى شاء. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص581)].
(3) قوله: أو ينكحها المشتري قبل القبض… الخ؛ ولو قبضها يبيعُها من آخر، ثم يفعل ما مرّ، فيسقط. كذا في ((التسهيل))، قال قاضي خان - رضي الله عنه -: إلا أنّ في هذا نوع شبهة، فإنّ عند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - وإحدى الروايتين عند محمّد - رضي الله عنه - كما اشتراها يجبُ الاستبراءِ إلا الوجوب، يتأكّد بالقبض، والتزويجُ بعد الشراء لا يسقط، والاستبراءُ وجبَ بنفس العقد إلا أن تحيضَ عند المشتري بحيضةٍ قبل الطلاق، فحينئذٍ لا يجب الاستبراءُ في قولهم، وقيل: في إسقاطِه لا بدّ أن يكاتبَها المولى ثم يأمرها بالعجز على سبيلِ الرفق واللطف، فإذا عجزت نفسها صارت قنّة، ولا استبراء؛ لأنّه سقطَ بالكتابة أوّلاً، والساقطُ لا يعود، وهذا الوجه هو الأليق بالأمراءِ والسلاطين. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص581-582)].
(4) قوله: ثمّ يقضبُها ثمّ يطلِّقُها الزوج… الخ؛ وإنّما اعتبرَ تقديم القبض على الطلاق؛ لأنّه لو طلَّقَها قبله كان على المشتري الاستبراءُ إذا قبضَها في أصحِّ الروايتين عن محمّد - رضي الله عنه -؛ لأنّه إذا طلَّقَها قبل القبض، فإذا قبضَها والقبضُ بحكم العقد؛ أي بمنْزلةِ العقد، صار كأنّه اشتراها في هذه الحالة، وليست في نكاحٍ ولا عدّة، فيلزمه الاستبراء. جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص582)].
(10/84)
________________________________________
]، فإنَّ الاستبراءَ يجبُ بعد(1) القبض، [وحينئذٍ](2) لا يحلُّ الوطؤ[(3)]، وإذا حلَّ بعد طلاقِ الزَّوجِ لم يوجدْ حدوثُ الملك.
__________
(1) في ف: قبل.
(2) سقطت من ب.
(3) قوله: ولا يحلّ الوطء… الخ؛ فلا يجبُ الاستبراء؛ لأنّ القبض إذ ذلك ليس بممكِّنٍ من الوطء، وجزءُ العلّة هو الممكّن منه، ألا ترى أنّ تزويجَ المشتري وإن كان قبضاً حكماً لم يعتبرْ لكونِهِ مزيلاً للتمكُّن. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص582)].
(10/85)
________________________________________
(ومَن فعلَ بشهوةٍ إحدى دواعي الوطء بأمتَيْه، لا تجتمعانِ[(1)] نكاحاً، حَرُمَ عليه وطؤهما بدواعيهِ حتى(2) يحرِّمَ أحديهما)، دواعي الوطء هي القبلة، والمسُّ بشهوة، والنَّظرُ إلى فرجِها بشهوة، فإنَّ لدَّواعي(3) الوطء حكمُ الوطء(4)، وتحريمُ أحدهما يكونُ بإزالةِ الملكِ كلاً أو بعضاً أو بإنكاحها.
__________
(1) قوله: بأمتيه لا يجتمعان… الخ؛ هذه على ثلاثة أوجه: قبَّلهما، أو لم يقبِّل واحدة منهما، أو قبَّل إحداهما، فإن لم يقبِّلهما أصلاً كان له أن يقبلَ وطء أيُّهما شاء، سواء كان اشتراهما معاً أو على التعاقب، وإن كان قبَّلَ إحداهما كان له أن يطأ المقبَّلة دون الأخرى، وأمّا إذا قبَّلهما بشهوةٍ فالحكمُ ما ذكرَه في ((المتن))، وإنّما قيَّدناه بشهوةٍ؛ لأنّه إذا لم يكن قبَّلَهما بها لا يكون معتبراً، وهذا هو مذهبُ عليٍّ - رضي الله عنه -؛ لإطلاقِ قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}[النساء: 23]، والمرادُ الجمعُ بينهما وطءاً وعقداً؛ لأنّه معطوفٌ على المحرّمات كذلك، ولا تتعارضُ هذه الآية بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:3]؛ لأنّ الترجيحَ للمحرّم، وكذا يحرمُ الجمعُ بينهما في الدّواعي؛ لأنّ داعي الوطء بمنْزلة الوطء؛ لأنّ النصَّ مطلقٌ فيتناولهما بشهوة، والنظرُ إلى الفرجِ بشهوةٍ كالتقبيلِ حتى تحرما عليه، إلا حرم فرجُ أحدهما لزوالِ الجمع، لتحريمِ فرجِ إحداهما عليه، وتمليكُ البعضِ كتمليك الكلّ، وإعتاقُ البعضِ كإعتاقِ الكلّ، أمّا عندهما فظاهر؛ لأنّه لا يتجزّأ، وكذا عند الإمام، وإن كان يتجزّأ لكنّه يحرمُ الوطء ورهنُ أحدهما، والإجارةُ والتدبيرٌ لا يحلّ الأخرى؛ لأنّ فرجها لا تحرمُ بهذه الأشياء.
(2) في ب:حتى.
(3) في أ: الدواعي، وفي ف:داعي.
(4) لأن النص مطلق فيتناولها، أو لأن الداعي إلى الوطء بمنزلته في التحريم. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 20).
(10/86)
________________________________________
(وكُرِهَ تقبيلُ الرَّجلِ(1) وعناقُهُ[(2)
__________
(1) في فمه أو شيء منه. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 20).
(2) قوله: وكرهَ تقبيلُ الرجل وعناقه… الخ، وإنّما عدلَ عن صيغةِ المفاعلة المذكورة في ((الهداية))، مع أنّ الجَوْهَريَّ صرَّحَ بأنّ العناقَ بمعنى المعانقة، قصداً للاختصار بإضافتهِ إلى الرجل، يقال: عانقه: إذا جعلَ يدَه في عنقِهِ وضمَّه إلى نفسه.
وقوله: في إزارٍ واحد؛ قيل عليه: إن تعلَّقَ الظرفُ بالعناقِ فقط كما يقتضيه سوقُ الكلامِ لفظاً ومعنىً، ويفصحُ عنه قولُ صاحب ((الهداية)): ولا بأسَ بالتقبيلِ والمعانقة؛ لما روي... إلى آخره.
وقوله: قالوا الخلافُ في المعانقةِ في إزارٍ واحد، حيث ذكرَهما أوّلاً ولم يذكرْ الظرفَ المذكورُ معهما، ثمَّ ذكرَ المعانقةَ بلا تقبيل، وذكرَ معهما الظرف المذكور، فقد يأبى عنه قول الشارح - رضي الله عنه -: لا بأس بهما لضمير التثنيةِ في جميعِ النسخ التي رأيناها، وإن تعلّق بالعناقِ والتقبيل معاً كما هو مقتضى شرح الشارح - رضي الله عنه -، وهو قول صاحب ((الهداية))(4: 90): لا بأسَ بالتقبيلِ والمعانقة، فتوجيه معنى كون التقبيلِ في إزارٍ واحدٍ لا يخلو عن ارتكابِ التكلّفات.
ونحن نقول: لا نسلّم أوّلاً أن ضميرهما في عبارةِ الشارح - رضي الله عنه - راجعٌ إلى التقبيل والعناق، فلم لا يجوز أن يرجعَ إلى المتعانقين الذين أشارَ إليهما المصنّف - رضي الله عنه - بلفظ: وعناقه، فالمعنى: ولا بأس عند أبى يوسف - رضي الله عنه - بالمتعانقين بسببِ عناقهما، وإن كان ذلك في إزارٍ واحد، وسلّم فلا ريبةَ أنّ التقبيلَ في الثوبِ الذي لا يستر إلا من سرَّته إلى تحت الركبةِ أفضى إلى الشهوةِ من الذين يسترُ جميعَ البدن، فاتّضح وجهُ تعلُّق الظرفِ بالتقبيل، كالمعانقة. قاله الجلبي في ((حاشيته))(ص582-583).
(10/87)
________________________________________
] في إزارٍ واحد، وجازَ مع قميصٍ ومصافحته)، عطفٌ على الضَّميرِ في جاز، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمَّدٍ - رضي الله عنه -، وقال أبو يوسف - رضي الله عنه -: لا بأسَ بهما في إزارٍ واحد، وأمَّا مع القميصِ فلا بأسَ بالإجماع، والخلاف فيما يكونً للمحبَّة[(1)]، وأمَّا بالشَّهوةِ فلا شكَّ في الحرمةِ إجماعاً.
[فصل في البيع]
(وكُرِهَ[(2)
__________
(1) قوله: والخلاف فيما يكون للمحبّة؛ والشيخ أبو المنصور - رضي الله عنه - وفَّق بين الأحاديث، فقال: المكروه من المعانقةِ ما كان على وجهِ الشهوة، وعبَّرَ عنه المصنِّفُ - رضي الله عنه - بقوله: في إزارٍ واحد، فإنّه سببٌ يفضي إليها، وأمّا على وجه البرّ والكرامةِ إذا كان عليه قميصٌ أو جبّة فلا بأس، وأمّا تقبيلُ يدِ العالم، والسلطان العادل، أو شخصٌ معروفٌ بالزهدِ والورع للتبرّك، فمرخَّصٌ عند بعض من المتأخِّرين، وسنّةٌ عند بعضهم، وأمّا يدُ غيرهم فلا رخصةَ في تقبيله، ولم يذكر القيامَ تعظيماً للغير، وروى أنس - رضي الله عنه - أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يكره القيام. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص583)].
(2) قوله: وكره… الخ؛ وقال الشافعيّ - رضي الله عنه -: لا يجوزُ بيع السِّرقين أيضاً؛ لأنّه نجسُ العين، فشابَه العذرة، والخالصة، وجلدُ الميتة قبل الدباغ.
ولنا: إنّه منتفعٌ به؛ لأنّه يلقى في الأراضي لاستكثارِ الريع، فكان مالاً؛ لان المالَ ما يتموّل؛ أي يدّخر لوقت الحاجة، وقد يتموّلُ المسلمون السِّرقين، وانتفعوا به من غير نكيرٍ من أحد من السلف، والمالُ محلٌّ البيع بخلافِ العذرة؛ لأنّه منتفعٌ بها مخلوطاً، ويجوزُ بيعُ المخلوط، وهو المرويّ عن محمّد - رضي الله عنه -، وهو الصحيح، وكذا يجوز الانتفاع بالمخلوط لا بغير المخلوط، وفي الصحيح: المخلوطُ بمنْزلةِ زيتٍ خالطته النجاسة، فإنّه يجوزُ بيعُه، ويجوزُ الانتفاعُ به بالاستصباح اتّفاقاً، والعلّة الجامعةُ كونهما منتفعةٌ بهما، وقال في ((الكافي)): وعن أبى حنيفةَ - رضي الله عنه - إنّه لا بأسَ بالانتفاع بالعذرةِ الخالصة، وقال أخى جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص583)]: قال الزَّيْلَعِيُّ - رضي الله عنه -: والصحيحُ عند الأعظمِ - رضي الله عنه - أنّ الانتفاعَ بخالصتها يجوز.
(10/88)
________________________________________
] بيعُ العذرةِ(1) خالصة(2)، وصحَّ في الصَّحيحِ مخلوطةً كبيعِ السِّرقين، والانتفاعِ بمخلوطتها(3) لا بخالصتها)، فإنَّ بيعَ السِّرقينِ جائزٌ عندنا، وعند الشَّافعيّ(4) - رضي الله عنه -: لا يجوز.
(وجازَ أخذُ دينٍ على كافرٍ من ثمنِ خمرٍ(5) باعَهُ بخلافِ المسلم): أي بخلافِ دينٍ على المسلم، فإنَّهُ لا يؤخذُ من ثمنِ خمرٍ باعَهُ المسلم؛ لأنَّ بيعَهُ باطل، فالثَّمنُ(6) الذي أخذَهُ حرام[(7)](8).
__________
(1) العذرة: الغائظ رجيع الإنسان. ينظر: ((الدر المنتقى))(2: 546).
(2) لأن العادة لم تجر بالانتفاع بها وإنما ينتفع بها برماد أو تراب غالب عليها بالالقاء في الأرض فحينئذ يجوز بيعها. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 546).
(3) في ق: بمخلوطها.
(4) ينظر: ((النكت))(ص380)، و
(5) في أ و ب و ص و ف:خمره.
(6) في ب: والثمن.
(7) قوله: حرام… الخ؛ في ((العناية)): وروى عن محمّد - رضي الله عنه - أنّه قال: هذا إذا كان القضاءُ والاقتضاءُ بالتراضي، فإن كان بقضاءِ القاضي بأن قضى عليه بهذا الثمنِ غيرُ عالمٍ بكونه ثمن الخمر، طاب له ذلك بقضائه.
(8) في ب: حراما.
(10/89)
________________________________________
(وتحليةُ(1) المصحف[(2)])، بالرَّفعِ عطفٌ على أخذِ دين، (ودخولُ الذِّمي المسجد)، هذا عندنا، وعند مالكٍ(3) - رضي الله عنه - والشَّافعي(4) - رضي الله عنه -: يكره[(5)]؛ لقولِهِ تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}(6)، قلنا لا يرادُ نهي الكفَّارِ عن هذا؛ لأنَّ قولَه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، لا يوجبُ الحرمةَ بعد عامهم هذا، بل المرادُ بشارةُ المسلمينَ بأنَّ الكفَّارَ لا يتمكَّنونَ من الدُّخولِ بعد عامهم هذا.
__________
(1) في ب: وتخلية.
(2) قوله: وتحليةُ المصحف… اهـ؛ أي جازَ بتحليةِ المصحف، لما فيه من تعظيم القرآن، وصارَ كنقشِ المسجدِ وتزيينه بماء الذهب.
(3) ينظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي(2: 469)، و((بلغة السالك))(1: 178)، وغيرهما.
(4) عند الشافعي - رضي الله عنه - عدم دخول الكافر المسجد خاص بالمسجد الحرام فقط. ينظر: ((الأم))(1: 71)، و((أحكام القرآن)) للشافعي(1: 84)، و((أسنى المطالب))(1: 185)، وغيرها.
(5) قوله: وعند مالك - رضي الله عنه - والشافعيّ - رضي الله عنه - يكره… الخ؛ المتبادرُ من هذه العبارةِ اتّحاد مذهبهما بلا تفاوت، وليس بذلك؛ لأنّ مذهب مالك - رضي الله عنه - حرمةُ دخولُ كلِّ مسجد؛ لأنّه معلّل عنده بالنجاسة، فيعمّ الحكمّ، ومذهبُ الشافعيّ - رضي الله عنه - حرمةُ دخولِ المسجد الحرام؛ لورودِ النهي خاصّة، فلينظر في ((الهداية))(4: 95).
(6) التوبة (28).
(10/90)
________________________________________
(وعيادتُه[(1)]، وخصاءُ البهائم[(2)]، وإنزاءُ الحميرِ على الخيل، والحقنة[(3)]، ورزقُ القاضي): أي من بيتِ المال، فإنَّ القضاءَ وإن كان عبادةً ولا [أجرَ](4)
__________
(1) قوله: وعيادته… الخ؛ أي يجوز عيادته؛ أي عيادةُ الذميِّ اليهوديِّ والنصرانيّ، وفي المجوسيِّ اختلاف، قيل: يجوز؛ لأنّهم من أهلِ الذمّة، وهو مرويٌّ عن محمّد - رضي الله عنه -، وقيل: هم أبعدُ عن الإسلام، ألا ترى أنّه لا يباحُ ذبيحتُهم ولا نكاحُهم، واختلفوا في الفاسقِ أيضاً، والأصحُّ أنّه لا بأسَ به لأنّه مسلمٌ، والعيادةُ من حقوقِ المسلمين. كذا في ((العناية))(10: 63-64).
(2) قوله: وخصاء البهائم… الخ، ولقد أحسن حيثُ غيَّر لفظ: الإخصاء الواقعُ من ابن الساعاتي وغيره إلى الخصاء؛ لأنّه صرَّحَ في ((الجلالية)) بأنّه يقال: أخصاه إذا نزعَ خصيته، يخصيه خصاءً، والإخصاءُ في معناه خطأ، ولكن يمكن أن يقال: إنّ عبارةَ الربّانيّ في مؤلّفاته على صيغةِ الإفعال، ولا ريب أنّه أوثقُ من المُطَرزيّ هو مستندُ صاحب ((النهاية)) و((الجلال))، وأيضاً يجوزُ أن يكون اختيارُ الإخصاءِ هنا لرعايةِ الازدواجِ بينه وبين الإنزاء الذي هو إفعال من النزل، وهو وثبةُ الذكرِ على الأنثى، وروايةُ الازدواجِ عندهم من الأهميّة بحيثُ يخرجون لها الكلمَ عن أوضاعها الأصليّة في المواضعِ العديدة. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص584)].
(3) قوله: والحقنة… الخ؛ يريد التداوي؛ لأنَّ التداوي مباحٌ بالإجماع، وقد وردَ بإباحةِ التداوي أحاديث، ولا فرق بين الرجال والنساء، إلا أنّه لا ينبغي أن يستعملَ المحرَّمُ كالخمرِ ونحوها؛ لأنَّ الاستشفاءَ بالمحرَّم حرام، أمّا إذا عُلِمَ أنّ فيه شفاءً ولا دواءَ سواهُ يجوزُ الاستشفاء به، وأمّا قولُ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -: إنّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم، فيحتمل أنّه قال: فيما كان للمرضِ دواءٌ آخر غير المحرّم. كذا في ((حواشي الهداية)).
(4) سقطت من ف.
(10/91)
________________________________________
على العبادة، فهذا يجوز؛ لأنَّ في المنعَ الامتناعُ عن القضاء[(1)]، (وسفرُ الأمةِ[(2)] وأمِّ الولدِ بلا محرم)، فإنَّ مسَّ أعضائهما في الأركابِ كمسِّ أعضاءِ المحارم.
__________
(1) قوله: فهذا يجوز؛ لأنّ في المنعِ الامتناعُ عن القضاء؛ ولأنّه محبوسٌ لحقّ المسلمين، فتكون نفقتُهُ في مالهم، وهو مالُ بيت المال؛ وهذا لأنَّ الحبسَ من أسبابِ النفقة، كما في الوصيّ والمضارب إذا سافر بمال المضاربة، وهذا الجوازُ فيما يكون كفاية، فإن كان شرطاً فهو حرام؛ لأنّه استئجارٌ على الطاعة، إذ القضاء طاعةٌ بل أفضلُ منها، ثمّ القاضي إذا كان فقيراً فالأفضلُ بل الواجبُ عليه الأخذ؛ لأنّه لا يمكنُهُ إقامةُ فرضِ القضاء إلا به، إذ الاشتغالُ بالكسبِ يقعدُهُ عن إقامته، وإن كان غنيّاً فالأفضلُ الامتناع على ما قيل رفقاً ببيت المال، وقيل: الأخذُ أفضل، وهو الأصحّ صيانةً للقضاء عن الهوان، ونظراً لمَن يعطى بعده من المحتاجين؛ لأنّه إذا انقطعَ زماناً يتعذّر إعادته.
(2) قوله: وسفر الأمة… الخ؛ قال في ((تكملة البحر))(: 237): يعني يجوزُ لهما السفرُ بغير محرم؛ لأنَّ الأمةَ بمنْزلةِ المحرمِ لسائرِ الرجال، فيما يرجعُ إلى النظرِ والمسّ على ما بيَّناه، وأمُّ الولد والمكاتبةِ والمدبَّرة كالأمة؛ لقيامِ الرقّ فيهنّ، وكذا معتقةُ البعض عند الإمام، ولأنّها كالمكاتبةِ عنده، وفي ((الكافي)) قالوا: هذا في زمانهم لغلبةِ أهلِ الصلاح، أمّا في زماننا فلا يجوزِ لغلبةِ أهل الفسقِ والفساد، ومثله في ((النهاية)) معزياً إلى شيخ الإسلام - رضي الله عنه -.
(10/92)
________________________________________
(وشراءُ ما لا بُدَّ للطفلِ منه[(1)]، وبيعُهُ لأخٍ وعمٍّ وأمّ، وملتقطٌ هو في حجرِهِم[(2)]، وإجارتُهُ[(3)](4) لأمِّهِ فقط)، فإنَّ الأمَّ تملكُ إتلافَ منافعِهِ(5) بالاستخدام، ولا كذلكَ غيرها.
__________
(1) قوله: وشراءُ ما لابدّ للطفل… الخ؛ يعني يجوز لهؤلاء الثلاثة أن يشتروا ويبيعوا للصغير ما لا بدّ منه؛ وذلك مثل النفقة والكسوة؛ ولأنّه لو يكن لهم ذلك لتضرَّرَ الصغيرُ، وهو ممنوع، والأصلُ فيه أنّ التصرّفات مع الصغيرِ على ثلاثة أقسام: نفعٌ محض، فيملكُهُ كلّ واحدٍ هو في عياله، وليّاً كان أو أجنبيّاً: كالهبة والصدقة، ويملكُهُ الصبيُّ بنفسه لو كان مميِّزاً وضررٌ محضٌ كالعتاقِ والطلاق، فلا يملكُه عليه أحدٌ، ومتردِّدٌ بين النفعِ والضرر؛ مثل البيعِ والإجارة للاسترباح، فلا يملكُهُ إلاَّ الأب والجد ووصيّهما سواء كان الصغيرُ في أيديهم أو لا؛ لأنّهم يتصرَّفون عليه بحكم الولاية. هكذا في ((الكافي)).
(2) قوله: في حجرهم؛ وهو بفتح الحاء المهملة وكسرها، قالوا: فلان في حجر فلان؛ أي في حضنه، وكنفه، ومنعه، ومنه قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم}[النساء:23]. جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص584)].
(3) قوله: وإجارته… الخ؛ إنّ الصغير لا يؤجِّرُه أحدٌ من هؤلاءِ الثلاثةِ إلا الأمّ، فإنّها تؤجِّرُه إذا كان في حجرِها، ولا يملكُهُ هؤلاء، وهي روايةُ ((الجامع الصغير))، وفي رواية ((القُدُوريّ)): يجوزُ أن يؤجِّرَه الملتقطُ ويسلِّمَه في صناعة، فجعلَه من النوع الأوّل.
(4) في ف: فإجارته.
(5) في ب: متابعة.
(10/93)
________________________________________
( وبيعُ العصيرِ ممَّن يتَّخذُ خمراً)، فإنَّ المعصيةَ لا تقومُ بعينِ[(1)] العصير، بخلافِ بيعِ السِّلاحِ ممَّن يعلمُ أنَّهُ من أهلِ الفتنة، فإنّ المعصيةَ تقومُ بعينِه.
__________
(1) قوله: فإنّ المعصيةَ لا تقوم بعينه… الخ؛ في ((غاية البيان)): فوَّزان بيع العصيرِ ممّن يتّخذُهُ تمراً بيع الحديد من أهل الفتنة، فكلاهما لا يكره، ووزَّان بيع السلاحِ من أهل الفتنةِ بيع الخمر؛ لأنَّ الفسادَ يقعُ بعينِ المبيع، ولكنَّ بيع الخمر بعينه لا يجوز أصلاً؛ لأنّها ليست بمتقوّمةً في حقّ المسلم، وبيعُ السلاحِ منهم يجوز، ويكره لأنَّ السلاحَ مالٌ متقوَّم، والكراهةُ للمعصية المجاورة.
(10/94)
________________________________________
(وحملُ خمرِ ذميٍّ بأجر(1) )، هذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -، وعندهما: لا يجوز، ولا يحلُّ له الأجر[(2)]، (وإجارةُ بيتٍ بالسَّوادِ ليتَّخذَ(3) بيتَ نارِ أو كنيسةٍ أو بيعة، أو يباعُ فيه الخمر)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - لتحلُّلِ فعلِ الفاعلِ المختار، وقالا: لا يجوز[(4)]، وإنَّما قيَّدَ بالسَّواد[(5)
__________
(1) في أ و م: بأجرة.
(2) قوله: ولا يحلّ له الأجر؛ لأنّه إعانةٌ على المعصية، وقد صحّ أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعنَ في الخمر عشراً، حاملها والمحمول إليه [ولفظه: عن ابن عباس قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أتاني جبريل فقال: يا محمد إنّ اللهَ لَعَنَ الخمرَ وعاصرُها ومعتصرُها وشاربُها وحاملُها والمحمولة إليه وبايعها وساقيها ومسقيها))، أبو داود(3: 326)، و((سنن سعيد بن منصور))(4: 90)، و((مسند الربيع))(2: 37)، و((المستدرك))(1: 246)، واللفظ له، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد))]، وله: إنّ المعصيةَ في شربها، وهو فعلُ فاعل مختار، وليس الشربُ من ضروراتِ الحمل، ولا يقصد به، والحديثُ محمولٌ على الحملِ المقرون بقصد المعصية. كذا في ((الهداية))(4: 94).
(3) في ج و ص و ف و ق: يتخذ.
(4) قوله: وقالا: لا يجوز؛ في ((الهداية))(4: 94): وقالا: لا ينبغي أن يكريه لشيءٍ من ذلك؛ لأنّه إعانةٌ على المعصية، وله: إنّ الإجارةَ ترد على منفعةِ البيت؛ ولهذا تجب الأجرةُ بمجرَّدِ التسليم، ولا معصيةَ فيه، وإنّما المعصيةُ بفعلِ المستأجر، وهو مختارٌ فيه، فقطعَ نسبته عنه، قال زَيْلَعِيُّ [في ((نصب الراية))(6: 29)]: فصارَ كبيع الجارية ممّن لا يستبرؤها أو يأتيها من دبرها أو بيعُ الغلامِ من الوطئ، والدليلُ عليه أنّه لو آجره للسكنى جاز، وهو لا بدّ له من عبادته فيه.
(5) قوله: وإنّما قيّد بالسواد… الخ؛ لأنّهم لا يمكَّنون من اتّخاذ البيعِ والكنائس وإظهارِ بيعِ الخمور والخنازير في الأمصار؛ لظهورِ شعائر الإسلامِ فيها بخلاف السواد، قالوا: هذا كان في سوادِ الكوفة؛ لأنَّ غالبَ أهلها أهل الذمّة، فأمّا في سوادنا، فأعلام الإسلام فيها ظاهرة، فلا يمكّنون فيها أيضاً، وهو الأصح.
(10/95)
________________________________________
]؛ لأنَّهُ لا يجوزُ في الأمصارِ اتِّفاقاً، ( وفي سوادِنَا لا يمكَّنونَ منها في الأصحّ)، فإنَّ ما قال أبو حنيفةَ - رضي الله عنه - يختصُّ بسوادِ الكوفة؛ فإنَّ أكثرَ أهلها ذميّ، فأمَّا في سوادنا، فأعلامُ الإسلامِ فيه ظاهرة.
(وبيعُ بناءِ بيوتِ مكَّة[(1)]، وتقييدُ العبد، وقبولُ هديَّتِهِ تاجراً، وإجابةُ دعوتِه، واستعارةُ دابَّتِه)، وفي القياسِ لا يجوز، وجهُ الاستحسان: أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ هديَّةَ(2)
__________
(1) قوله: وبيع بناء بيوت مكّة؛ أي جازَ بيع بناء بيوت مكة، قال في ((الهداية)): ويكره بيعُ أرضها، وهذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -، وقالا: ا بأس ببيع أرضها أيضاً، وهذا روايةٌ عن أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -؛ لأنّها مملوكةٌ لهم؛ لظهور الاختصاصِ الشرعيّ بها، كالتوارثِ في الأرض، وقسمتها في المواريث، فصار كالبناء، ولأبي حنيفةَ - رضي الله عنه - قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إنّ مكّةَ حرامٌ لا تباعُ رباعها، ولا تورث))[((المستدرك))(2: 61)، و((سنن الدارقطني))(3: 58)]؛ ولأنّها حرّةٌ محترمةٌ؛ لأنّها فناء الكعبة، وقد ظهرَ أثرُ التعظيم فيها، فكذا في حقّ البيع بخلاف البناء؛ لأنّه خالصُ ملك الباني، ألا ترى أنّه لو بنى في المستأجر أو في الوقفِ صار البناءُ ملكاً وجاز بيعه.
(2) حديث هدية بريرة رضي الله عنها سبق تخريجه، وأما حديث هدية سلمان - رضي الله عنه -، فهو مذكور ضمن قصة إسلامه الطويلة المشهور، ومنها: ((فوضعته بين يديه أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ فقال: ما هذا قلت: هدية، فقال: بيده باسم الله خذوا فأكل وأكلوا معه، وقمت الى خلفه فوضع رداءه، فإذا خاتم النبوة كأنه بيضة قلت أشهد انك رسول الله)) في ((صحيح ابن حبان))(16: 65)، و((المستدرك))(3: 696)، و((سنن الدارمي))(1: 46)، و((سنن البيهقي الكبير))(7: 39)، و((مصنف ابن أبي شيبة))(7: 441)، و((مسند البزار))(7: 465)، و((مسند أحمد))(5: 442)، وغيرها.
(10/96)
________________________________________
[(1)] سلمانَ(2) - رضي الله عنه - وبريرة(3) - رضي الله عنه -.
__________
(1) قوله: وجه الاستحسان إنّه - صلى الله عليه وسلم - قبل هدية… الخ؛ وأجابَ الصحابة - رضي الله عنهم - دعوة مولى أبي أسيد - رضي الله عنه -، وكان عبداً، ولأنّ في هذه الأشياء ضرورةً لا يجدُ التاجرُ بدّاً منها، ومَن ملكَ شيئاً يملكُ ما هو من ضروراته، ولا ضرورةَ في إهداءِ الدراهم، فبقيَ على أصل القياس. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص584)].
(2) وهو سَلمان الفارسي، كان ببلاد فارس مجوسيّاً، ثمّ صحب الرهبان من النَّصارى، فانتقلَ من راهبٍ إلى راهب، حتى وصلَ إلى بلاد الشام، وسمعَ هناك خبرَ بعثةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فوصل إليه وأسلم، وشهدَ معه غزوةَ الخندق، وما بعدها، سنة (خمسٍ وثلاثين) في آخرِ خلافةِ عثمان، وعمرُه كان (مئتين وخمسين)، وقيل: (ثلاثمئة وخمسين). ينظر: ((الإصابة))(3: 141). ((التقريب))(ص186).
(3) وهي بريرة بنت صفوان مولاة عائشة - رضي الله عنه -، كانت مولاةً لبعضِ بني هلال، فكاتبوها ثمّ باعوها من عائشة، فاشترتها وأعتقتها، وكان اسمُ زوجها مغيثاً، فخيّرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيارِ العتقِ فاختارت فراقه، عاشت إلى خلافة يزيد. ينظر: ((تهذيب الأسماء واللغات))(2: 332). ((التقريب))(662).
(10/97)
________________________________________
(وكُرِهَ كسوتُهُ ثوباً، وإهداؤه النَّقدَيْن(1) ): أي كُرِهَ أن يكسوَ العبدُ غيرَهُ ثوباً، وأن يهديهِ النَّقدين، (واستخدامُ الخصيِّ)، فإنَّهُ حثٌّ على خصاءِ الإنسان، وهو غيرُ جائز، (وإقراضُ بقَّالٍ شيئاً يأخذُ منه ما شاء(2) )، فإنَّه قرضٌ جرَّ نفعاً(3) [(4)].
__________
(1) في ق: بالنقدين.
(2) في ف: يشاء.
(3) وينبغي أن يستودعه دراهم يأخذ منه ماشاء جزءاً فجزءاً، فإنه ليس بقرض حتى لو هلك لا شيء على الآخذ. ينظر: ((درر الحكام))(1: 321).
(4) قوله: فإنّه قرضٌ جرّ نفعاً… الخ؛ هو بقاءُ درهمه، ولو كان في يده لخرج من ساعتِه ولم يبقَ، فيصيرُ في معنى قرضٍ جرّ نفعاً، وهو منهيٌّ عنه، وينبغي أن يودعَه إيّاه، ثمّ يأخذُ ما شاء جزءاً فجزءاً، وإن ضاعَ فلا شيء عليه، والتحقيقُ أنّه إذا وضعَه ولم يشترط شيئاً كان وديعةً أيضاً، ولم يصرّح بها. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص584)].
(10/98)
________________________________________
(واللَّعبُ بالشَّطرنجِ(1) والنَّردِ وكلُّ لهو)، هذا عندنا، وعند الشَّافعيّ(2) - رضي الله عنه -: يباحُ لعبُ الشَّطرنج؛ إذ فيه تشحيذُ الخاطرِ(3) لكن بشرطِ أن لا تفوتَهُ(4) الصَّلاة، ولا يكونُ فيه ميسر[(5)
__________
(1) قال محمد سعيد البرهاني في ((حاشية الدرر المباحة))(ص255): عندنا هو حرام وكبيرة، وفي إباحته إعانة الشيطان على الإسلام والمسلمين.
(2) عند الشافعي - رضي الله عنه - يكره لعب الشطرنج فإذا اقترن به قمار أو فحش أو تأخير الصلاة عن وقتها عمداً أو سهواً، وتكرر فحرام. ينظر: ((روض الطالب))(4: 343)، و((تحفة المحتاج))(10: 216)،
(3) في ف: الخاصر.
(4) في ف: يفوته.
(5) قوله: ولا يكون فيه ميسر؛ وهو اسمٌ لكلِّ قمار، وإن لم يقامر بها، فهو عبث ولهو، وإن أردتَ تفصيلَ المقام فاعلم أنّه قال في ((الجامع الصغير)): أمّا النردُ فهو حرامٌ بالإجماع، لما روى أبو موسى الأشعريّ - رضي الله عنه - أنّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لعبَ النردَ فقد عصى الله ورسوله))[أبو داود))(4: 285)،وابن ماجه(2: 1237)،و((صحيح ابن حبان))(3: 181)]، وسليمان بن بريدة عن أبيه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لعب بالنردشير فكأنما غمسَ يده في لحم الخنْزير ودمه))[أبو داود))(4: 285)، و((مسند أحمد))(5: 352)،و ((صحيح ابن حبان))(3: 181)].
وأمّا الشطرنج؛ فإن قامر به فهو حرامٌ أيضاً بالإجماع؛ لأنّ الله تعالى حرَّمَ القمارَ، وإن لم يقامر به فكذلك عندنا، خلافاً للشافعيّ - رضي الله عنه -، ودليله مع جوابنا عنه مذكورٌ في الشرحِ إجمالاً، وتفصيلُ الجوابِ الذي هو حجّتنا عليه حقيقة أنّه عبثٌ وهو حرام؛ لقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً}[المؤمنون:115]، وأيضاً: إنّه لهوٌ سوى الثلاث التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون حراماً، وممّا يدلُّ على الحرمةِ صريحاً ما روى عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنّه مرّ بقومٍ يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذهِ التماثيل التي أنتم لها عاكفون، وروى مثل هذا عن ابنِ عمر - رضي الله عنه - حين مرّ بقوم يلعبونَ به وقد شبّه عملهم بعملِ عبدةِ الأصنام.
وقال في ((الكشاف)): وعن عليّ - رضي الله عنه -: النردُ والشطرنجُ من الميسر، وأيضاً: إنّه لهوٌ يصدُّ صاحبَه عن الجمعِ والجماعة، وهل رأيت صاحبه يصلي فضلاً عن الجماعة، فمَن أباحَه فقد أعانَ الشيطانَ على الإسلامِ والمسلمين، وقد أوردَ الإمامُ أبو موسى - رضي الله عنه - في ((كتاب الأمالي)) بإسناده إلى حيّة بن مسلم - رضي الله عنه - أنّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ملعونٌ من يلعبُ بالشطرنج، والناظرُ إليها كآكل لحمِ الخنْزير))، ثمّ اللاعبُ به إن قامرَ لم تقبلْ شهادته، وإلا تقبل؛ لأنّه متأوّل، ولا بأس بالسلامِ عليه عند الأعظم - رضي الله عنه - حتى يشغلَه عمّا هو فيه، وكرهَ أبو يوسفَ - رضي الله عنه - ذلك إهانةً له. هذا زبدةُ ما في ((النهاية)). [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص585)].
(10/99)
________________________________________
](1)، قلنا: هو مظنَّةُ فوت الصَّلاة، وتضييعِ العمر، واستيلاءِ الفكرِالباطل، حتى لا يحسَّ بالجوعِ والعطشِ فكيف بغيرهما.
(وجعلُ الغُل[(2)] في عنقِ عبدِه(3)، وبيعُ أرضِ مكَّةَ وإجارتها)، هذا(4) عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ لأنَّ مكةَ حرام، وعندهما: يجوزُ لأنَّ أرضها مملوكة.
__________
(1) في ف: مسير.
(2) قوله: وجعل الغلّ… الخ؛ أي كرهَ أيضاً أن يجعلَ في عنقِ عبده طوقاً مسمراً بسمار عظيمٍ يمنعُهُ عن تحريك رأسه، هو معتاد بين الظلمة، قال في ((النهاية)): الغُلّ: علامةٌ يعلم بها أنّه آبق، ولا بأس به في زماننا بغلبةِ الآبقِ سيّما في اليهود، وكان هذا في زمانهم مكروهاً لقلّته. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص585)].
(3) في ف: العبد.
(4) في ف: وهذا.
(10/100)
________________________________________
(وقولُهُ في دعائه: بمعقدِ(1) العزِّ[(2)] من عرشك، وبحقِّ رسلِكَ وأنبيائك)؛ لأنَّهُ يوهمُ تعلُّقَ عزِّهِ بالعرش، ولا حقِّ لأحدٍ على الله تعالى، وعند أبي يوسف - رضي الله عنه -: يجوزُ الأوَّلُ للدُّعاءِ المأثور(3)
__________
(1) في ج و ف و ق: بمقعد.
(2) قوله: بمعقد العز… الخ؛ بتقديم العين وتأخير القاف، من العقد، وهو المعروف في هذا الدعاء، وفيه الخلاف المذكورُ بينهما، وبين أبي يوسفَ - رضي الله عنه -، ووجه قولهما: إنّه توهّم تعلُّق عزّه بالعرش، وإنّ عزّه حادث، لتعلّقه بالحادث، والله تعالى عزيز، لم يزل ولا يزال، وعزُّه صفةٌ لم تزل، ولا تزالُ موصوفاً به، ووجه قول الثاني، وبه قال أبو اللّيث - رضي الله عنه -: لا بأس به، لما روي أنّه كان من دعائه، والأحوطُ الامتناعُ لكونِه خبرُ واحد، يخالفُ القطع، ولو جعلَ عزّاً صفةً للعرش؛ لأنّ العرش موصوفٌ في القرآن بالمجدِ والكرم، وكذا بالعزّ، وأمّا العكسُ فمكروهٌ بالاتّفاق، لاستقامته، من القعود المنبئ عن المكان؛ لأنّ المرادَ من القعود هو التمكُّن على العرش، وذلك قول المجسِّمة، وهو باطل. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص585)].
(3) عن قيلة بنت مخرمة - رضي الله عنه - كانت إذا أخذت حظها من المضجع بعد العتمة، قالت: بسم الله وأتوكل على الله، وضعت جنبي لربي واستغفره لذنبي، حتى تقولها مراراً، ثم تقول: أعوذ بالله وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شرِّ ما يُنْزل من السماء وما يعرج فيها، وشر ما يُنْزل في الأرض وشرّ ما يخرج منها، وشر فتن النهار وشر طوارق الليل الا طارقا يطرق بخير، آمنت بالله واعتصمت به، الحمد لله الذي استسلم لقدرته كل شيء، والحمد لله الذي ذل لعزّته كل شيء، والحمد لله الذي تواضع لعظمته كل شيء، والحمد لله الذي خشع لملكه كل شيء، اللهم اني أسألك بمعاقد العزّ من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك وجدك الأعلى واسمك الأكبر وكلماتك التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر أن تنظر إلينا نظرة مرحومة، لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا فقراً إلا جبرته ولا عدوا إلا أهلكتَه ولا عرياناً إلا كسوته ولا ديناً إلا قضيته، ولا أمراً لنا فيه صلاح في الدنيا والآخرة إلا أنطيتناه يا أرحم الراحمين آمنت بالله، واعتصمت به ثمّ تقول: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله أربعاً وثلاثين، ثمّ تقول يا بنتي هذه رأس الخاتمة إن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتته تستخدمه، فقال: ألا أدلك على خير من خادم، قالت: بلى فأمرها بهذه المائة عند المضجع بعد العتمة. في ((المعجم الكبير))(25: 12)، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد))(10: 125): إسناده حسن.
(10/101)
________________________________________
.
( وتعشيرُ(1) المصحفِ ونقطُهُ إلا للعجم، فإنَّهُ حسنٌ(2) لهم(3)[(4)]، واحتكارُ(5) قوتِ[(6)] البشرِ والبهائمِ في بلدٍ يضرُّ بأهلِهِ)، التَّخصيصُ بالقوتِ قولُ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: كلُّ ما أضرَّ بالعامَّةِ حبسُهُ فهو احتكار، وعن محمَّدٍ - رضي الله عنه -: لا احتكارَ في الثِّياب[(7)
__________
(1) التعشير: أن يجعل على كل عشر آيات من القرآن العظيم علامة. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 554).
(2) في ق: حبب.
(3) ومشى في ((الكنْز))(ص168)، و((التنوير))(ص214) على عدم الكراهة مطلقاً؛ أي إظهار إعرابه وبه يحصل الرفق جدا خصوصا للعجم فيستحسن، وعلى هذا لا بأس بكتابة أسامي السور وعدّ الآي وعلامات الوقف ونحوها فهي بدعة حسنة. ينظر: ((الدر المختار))(6: 386).
(4) قوله: فإنّه حسن لهم؛ لعجزهم عن التعليم إلا به، وعلى هذا لا بأسَ بكتابة أسامي السور وعدد الآي. قاله جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص586)].
(5) أي شراء شيء مما يحتاج إليه الناس من قوتهم وقوت بهائمهم يتربص به الغلاء. ينظر: ((الدرر المباحة))(ص256).
(6) قوله: واحتكارُ القوت… الخ؛ أي يكرهُ احتكارُ القوت… الخ؛ والأصلُ فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون))، أخرجه ابن ماجه (2: 728) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ [قال الكناني في ((المصباح))(3: 10): إسناده ضعيف، وله شواهد في ((سنن الدرامي))(2: 324)، و((سنن البيهقي الكبير))(6: 30)، و((مسند عبد بن حميد))(1: 42)]؛ ولأنّه تعلّق به حقّ العامّة، وفي الامتناعِ عن البيع إبطالُ حقِّهم، وتضييقُ الأمرِ عليهم، فيكره إذا كان يضرّ بهم ذلك بأن كان المصرُ صغيراً، بخلافِ إذا لم يضرّ؛ لأنّه حابسُ ملكِهِ من غير إضرارٍ بغيره.
(7) قوله: لا احتكار في الثياب؛ فإنّ الحاجةَ اللازمةَ الدائمة في الأقواتِ دون غيرها، والثيابُ لا يقفُ قيام الأبدان، وبقاءُ الحياة عليها، وقوتُ الحيوان ما كان قوامه به من المأكول، وقال القُدُوريّ في ((شرح مختصر الكرخيّ)): وأمّا قول محمّد - رضي الله عنه -: إنّ حبس الأرز ليس باحتكار، فهو محمولٌ على البلادِ التي لا يتقوّتون به، أمّا في الموضع الذي هو قوتهم مثل: طبرستان، فهو احتكار. كذا في ((غاية البيان)).
(10/102)
________________________________________
]، ومدَّةِ الحبسِ[(1)] قيل: مقدَّرةٌ بأربعينَ يوماً، وقيل: بالشَّهر[(2)]، وهذا في حقِّ المعاقبةِ في الدُّنيا، لكن يأثم وإن قلَّتْ المدَّة، ويجبُ أن يأمرَهُ القاضي ببيعِ ما فضلَ عن قوتِهِ و[قوتِ](3) أهلِه، فإن لم يفعلْ(4) عزَّرَه(5)، والصَّحيحُ أنَّ القاضي يبيعُ إن امتنعَ اتِّفاقاً، (لا غلَّة أرضِه، ومجلوبِهِ من بلدٍ آخر)(6)، هذا عندَ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -[(7)]، وعند أبي يوسف - رضي الله عنه -: كلُّ ذلك يكره، وعند محمَّدٍ - رضي الله عنه -: كلُّ ما يجلبُ منهُ إلى المصرِ غالباً، فهو حكمُ المصر.
__________
(1) قوله: ومدّة الحبس… الخ؛ أي مدّة الاحتكارُ التي يمنعُ فيها مقدّرة بأربعين يوماً؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن احتكرَ طعاماً أربعينَ ليلةً فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله منه))، رواه أحمدُ في ((مسنده))(2: 33)[ والحاكم(2: 14)، وعبد بن حميد(2: 14)] عن ابن عمرَ - رضي الله عنه -.
(2) قوله: وقيل: بالشهر؛ لأنّ ما دونه قليل عاجل، والشهرُ وما فوقه كثيرٌ آجل، وقد مرّ في مواضعَ عديدة، قال في ((الهداية))(4: 93): ويقعُ التفاوت في المآثم بين أن يتربّص العدّة، وبين أن يتربّص القحط. والعياذ بالله.
(3) سقطت من ب.
(4) في ب: يقعل.
(5) في ص: عزَّر.
(6) لأنه خالص حقّه ولم يتعلق به حق العامّة. ينظر: ((درر الحكام))(1: 322).
(7) قوله: هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - … الخ؛ أي عدمُ الكراهةِ فيهما عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، أمّا في الأوّل؛ فلأنّه خالصُ حقِّه، لم يتعلَّق حقُّ العامّة به، ألا ترى أنّ له أن لا يزرع، فكذا لأنّ لا بيع، وأمّا في الثاني؛ فلأنّ حقّ العامّة إنّما يتعلَّقُ بما جمع من المصرِ وجلب إلى فنائها.
(10/103)
________________________________________
(ولا يسعِّرُ[(1)] حاكمٌ إلاَّ إذا تعدَّى الأربابُ عن القيمةِ فاحشاً[(2)] فيسعِّرُّ بمشورةِ أهلِ الرَّأي).
__________
(1) قوله: ولا يسعّر… الخ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسعّروا، فإنّ الله هو المسعّر القابضُ الباسط الرزّاق))، أخرجه أبو داود(3: 272)، والتِّرْمِذِيّ(3: 605) في (البيوع) عن أنسٍ - رضي الله عنه -. قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص586)]: والمسعِّر واجدُ أسعارِ الطعام، والتسعير: تقديره.
(2) قوله: فاحشاً؛ وقد قدّروا الفحشَ ببيع ما يبيعُ بضعفِ ما يشتريه.
(10/104)
________________________________________
كتاب إحياء الموات[(1)][(2)]
__________
(1) قوله: كتاب إحياء الموات؛ مناسبة هذا الكتاب بكتاب الكراهة يجوز أن يكون من حيث أنّ مسائلَ هذا الكتاب ما يكره وما لا يكره، وأمّا مشروعيّة إحياءِ الموات فبقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحيى أرضاً ميتة فهي له))[البخاري(2: 823)، والترمذي(3: 663)،وأبو داود(3: 178) والنسائي(3: 404)]، وإحياءُ الأرضِ عبارةٌ عن جعلها بحيث ينتفع به، وسببه تعلُّق البقاء المقدور، وحكمُه تملَّكُ المحيي ما أحياه. كذا في ((العناية))(9: 2).
(2) قوله: إحياء الموات؛ هو حيوانٌ مات، وإنّما سُمِّي بالترجيع به من الأرض مواتاً؛ لبطلانِ الانتفاعِ بها، تشبيهاً بالحيوانِ إذا مات، فيبطلُ الانتفاعُ بها، فالمرادُ بإحياءِ المواتِ تشبيه للحياة النامية، قال الله تعالى: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِك}[فاطر:9]، وفي الشرع ما ذكرَه المصنّف بقوله: وهي الأرض. جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص586)].
(10/105)
________________________________________
(هي أرضٌ بلا نفعٍ لانقطاعِ مائها أو غلبتِهِ عليها أو(1) نحوهما)، كما إذا نزَّت أو صارت سَبِخَة(2)[(3)]، (عاديةً(4)[(5)] أو مملوكةً في الإسلامِ لا يعرفُ مالكها بعيدةً عن العامر(6)[(7)]، لا يسمعُ[(8)
__________
(1) في ب وم: و.
(2) سَبِخة: أي مالحة. ينظر: ((المصباح))(ص263).
(3) قوله: سَبِخة؛ بفتح السين المهملة، وكسر الباء الموحدة، والخاء المعجمة: أرضٌ مالحة لا تنبت شيئاً. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص586)].
(4) عادية؛ ليس المرادُ به ما يقتضيه ظاهرُ لفظِهِ من أن يكون منسوباً إلى عاد؛ لأنَّه لم يملك جميعَ أراضي الموات، بل المرادُ أنّها متقدِّمة الخراب، كأنّها قريبٌ في عهدِ عاد، وفي العادات الظاهرة ما يوصفُ بطولِ مضيِّ الزمان عليه ينسبُ إلى عاد، فمعناه ما تقدَّم خرابه. ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص586).
(5) قوله: عادية؛ ليس المرادُ به ما يقتضيه ظاهرُ لفظِهِ من أن يكون منسوباً إلى عاد؛ لأنَّه لم يملك جميعَ أراضي الموات، بل المرادُ أنّها متقدِّمة الخراب، كأنّها قريبٌ في عهدِ عاد، وفي العادات الظاهرة ما يوصفُ بطولِ مضيِّ الزمان عليه ينسبُ إلى عاد، فمعناه ما تقدَّم خرابه. قاله جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص586)].
(6) أي البلد والقرية، فإن العامر بمعنى المعمور؛ لأن الظاهر أن ما يكون قريباً من القرية لا ينقطع احتياج أهلها إليه كرعى مواشيهم وطرح حصائدهم. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 557).
(7) قوله بعيدة عن العامر… الخ؛ في ((الذخيرة)): الفاصلُ بين القريب والبعيد مروي عن أبي يوسف - رضي الله عنه - قال: يقومُ رجلٌ جهوريّ الصوت من أقصى العمرانات على مكانٍ عالٍ وينادي بأعلى صوته، فأي الموضعُ الذي لا يسمعُ صوته فيه يكون بعيداً. هكذا في ((الكفاية))(9: 2).
(8) قوله: لا يسمع… الخ؛ وإن كان يسمع فلا؛ لأنَّه فناءُ العامر فينتفعون به؛ لأنَّهم يحتاجون إليه لرعي مواشيهم، وطرح حصائدهم، فلم يكن انتفاعهم منقطعاً عنه ظاهراً، فلا يكون مواتاً، قاله الزَّيْلَعِيّ [في ((التبيين))(6: 35)].
(10/106)
________________________________________
] صوتُ من أقصاها(1) ): وعند(2) محمّد - رضي الله عنه - ما كان مملوكاً لمسلمٍ أو ذميٍّ لا يكون مواتاً، فإذا لم يعرفْ مالكُها كان لعامَّةِ المسلمين، ولو ظهرَ مالكُها تُرَدُّ إليه ويضمنُ نقصانَ الأرض، والبعدِ عن العامر، شرطَهُ أبو يوسفَ - رضي الله عنه - خلافاً لمحمّد - رضي الله عنه -.
__________
(1) في النسخ: أقصاه، والمثبت من ج و ق. أي إن قام رجل جهوري الصوت مى أقصى العمرانات على مكان عال وندى بأعلى صوته فكل موضع لا يسمع فيه هذا الصوت فهو بعيد، وكل موضع يسمع فيه فهو قريب. ينظر: ((الحدود والأحكام الفقهية))(ص115).
(2) في ب: عند.
(10/107)
________________________________________
(ومَن أحيا مَلَكَهُ إن أذنَ له(1) الإمامُ ولو ذميَّاً[(2)] وإلا فلا): أي إن لم يأذنْ الإمامُ لا يملكه، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وهما لم يشترطا(3) إذن الإمام، (ولم يجزْ إحياءُ ما عدلَ عنه الماء وجاز عوده(4)، فإن لم يجزْ جاز): أي إن لم يجز(5) عودُ الماءِ[(6)] جازَ إحياؤه.
__________
(1) في أ وب و ج : أذنه.
(2) قوله: ولو ذميَّاً؛ لأنَّ الإحياءَ سبب الملك، إلاَّ أنَّ عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - إذنُ الإمامِ من شرطه، فيستويان فيه كما في سائرِ أسبابِ الملك، حتى الاستيلاء على أصلنا، يعني أنّا نملكُ مال الكافر بالاستيلاء، فكذا الكافرُ يملكُ مال المسلم بالاستيلاء، فكذا هاهنا، وأمّا الشافعيّ - رضي الله عنه - فلا يقولُ بتملَّك الكافرِ أموالنا ولو استولى علينا.
(3) في م: يشرطا.
(4) أي لا يجوز محل عدل عنه ماء الفرات ونحوها واحتمل عوده إليه، فإن لم يحتمل جاز؛ لأنه كالموات إذا لم يكن حريماً لعامر. ينظر: ((الدر المنتقى))(2: 588).
(5) في ج: تجز.
(6) قوله: أي إن لم يجزْ عودُ الماء... الخ؛ لأنَّ شرطَ جوازِ الإحياءِ أن يكون الأرضُ تحت تصرُّف الإمام، فإذا عدلَ عنه الماء ولم يكن عوده، وذهب عليه الماء فصار في تصرُّف الإمام، فيجوز إحياؤه إذا لم يكن حريماً لعامر. قاله جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص586)].
(10/108)
________________________________________
(ومَن حَجَرَ[(1)] أرضاً ولم يعمِّرها ثلاثَ حججٍ دفعَها الإمامُ إلى غيره[(2)])، التحجيرُ في الأصلِ وضعُ الأحجار؛ ليعلمَ الناسُ أنَّه أخذَها، ثمَّ سمَّى [به](3) الإعلام الذي لا يكونُ بوضعِ الأحجار، وقيل: اشتقاقُهُ من الحجْر بالسكون، فإن كربَها وسقاها فهو إحياءٌ عند محمَّد - رضي الله عنه -، وإن فعلَ أحدُهما فهو تحجير[(4)
__________
(1) قوله: ومَن حجر… الخ؛ اعلم أنّ الاحتجارَ هو الصحيح، يقال: حجرتُ الأرضَ إذا ضربت عليها مناراً، وعلَّمت علماً في حدودها للحيازة. كذا في ((المغرب))، وقد ذكرَ الفقهاءُ - رضي الله عنه - معناه التحجير، والتحجير أيضاً معناه الإعلام بأنّه قصدُ إحياءِ المواتِ بوضعِ الحجر ونحوه حوله، واشتقاقه حينئذٍ من الحجر بفتحتين، أو من الحجر بسكون الجيم، فالمعنى: إعلامُ موضع الموات وتحجير الغير عن إحيائه، فإنّ من أعلمَ في موضعٍ من المواتِ علامة، فكأنَّه منعَ الغير من إحياءِ ذلك الموضع. كذا في ((غاية البيان)) و((الكافي)).
(2) قوله: دفعها الإمامُ إلى غيره… الخ؛ لأنَّ الدفعَ إلى الأوّل كان ليعمرها، فتحصُلُ المنفعةُ للمسلمين من حيث العشرُ والخراج، فإذا لم يحصل يدفعه إلى غيرِه تحصيلاً للمقصود؛ ولأنَّ التحجيرَ ليس بإحياءٍ ليملِّكه به؛ لأنَّ الإحياءَ إنّما هو العمارة، والتحجيرُ للإعلامِ سُمِّي به؛ لأنَّهم كانوا يعلِّمون موضعَ الأحجار حوله، أو يعلِّمونه لحجرِ غيرهم عن إحيائه، فبقي غير مملوك كما كان، هو الصحيح، وإنّما شرطَ ثلاث سنين؛ لقول عمر - رضي الله عنه -: ليس لمتحجّر بعد ثلاث سنين حقّ، ولأنّه إذا أعلمه لا بدّ من زمانٍ يرجع فيه إلى وطنه، وزمان يهيء أموره فيه، ثمّ زمانٌ يرجعُ إلى ما يحجره، فقدرناه بثلاث سنين؛ لأنَّ ما دونها من الساعات والأيّام والشهور لا يفي بذلك، وإذا لم يحفرْ بعد انقضائها فالظاهرُ أنّه تركها. كذا في ((الهداية))(4: 99).
(3) زيادة من م.
(4) قوله: فهو تحجير… الخ؛ ولو حفرَ أنهارَها ولم يسقها يكون تحجيراً، وإن كان سقاها مع حفرِ الأنهارِ كان إحياءً؛ لوجودِ الفعلين، ولو حوَّطها؛ أي جعلها حائطاً وسنَّمها؛ أي جعلَ لها السنام، بحيث يعصم الماء تكون إحياءً؛ لأنَّه من جملةِ البناء، وكذا إذا بذرها. كذا في ((الهداية))(4: 100).
(10/109)
________________________________________
].
(ومَن حفرَ بئراً في مواتٍ بالإذن(1) فله حريمُها للعَطَن والناضحِ أربعونَ ذراعاً[(2)] من كلِّ جانبٍ في الأصحّ)، بئرُ العطنِ البئرُ التي يناخُ الأبلُ حولَها ويسقى، وبئرُ الناضح البئرُ التي يُسْتَخْرَجُ ماؤها بسيرِ البعيرِ ونحوه، وعندهما: حريمُها ستِّونَ ذراعا،ً وإنَّما قال في الأصحّ؛ لأنَّه قيل: الحريمُ أربعونَ ذراعاً من كلِّ الجوانب، وذراعُ العامَّةِ[(3)] ستَّةُ قبضات، وعند الحسَّابِ كذلك، فإنّهم قدَّروه بأربعٍ وعشرينَ إصبعاً، كلُّ أصبعٍ[(4)] ستُّ شعيراتٍ مضمومةٍ بطونُ بعضها ببطونِ البعض(5)
__________
(1) في ف: بإذنه.
(2) قوله: أربعون ذراعاً… الخ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حفر بئراً فله ممَّا حولها أربعون ذراعاً عطناً لماشيته))، أخرجَه ابن ماجه(2: 831) عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -، [قال الكناني في ((المصباح))(3: 85): هذا إسناد ضعيف] وروى أحمد في ((مسنده))(2: 494): عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حريمُ البئرِ أربعون ذراعاً من جوانبِها كلِّها))؛ ولهذا قال في ((الهداية))(4: 100): ثم قيل: أربعون من كلّ الجوانب، والصحيحُ أنّه من كلِّ جانب؛ لأنَّ في الأراضي رخوة، ويتحوَّل الماءُ إلى ما حفر دونها.
(3) قوله: وذراع العامَّة: أي المكسر، وهو ستّ قبضات، فكسر منه، قيد الذراع بالعامّة؛ لأنَّ ذراعَ الملك سبع قبضات فكسر منه قبضة.
(4) قوله: كلّ إصبع… الخ؛ وفي بعض النسخ: ثلاث شعيرات، والصحيحُ الستّ، كما صرح به الزَّيْلَعِيّ حيث قال في أوائلِ (باب التيمَّم): وعرضُ الإصبع ستُّ حبَّات شعير، فلصقه ظهر البطن، لكن فيه نوعُ مخالفةٍ لهذا الشرح؛ لأنّه شرطَ انضمامَ البطون، والزَّيْلَعِيّ: انضمامُ الظهر بالبطن، ويؤيِّد صحَّة لفظِ الستِّ تقديرُ أهل الحساب بأربعةَ وعشرين إصبعاً، فليتأمّل. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص586-587)].
(5) وتقديرها كالآتي: الشعيرة: 0.333سم، والأصبع: 6 شعيرات × 0.333سم = 2سم، فالذراع: 24أصبع × 2سم: 48سم. كما مرّ سابقاً، ينظر: ((المقادير الشرعية))(ص208).
(10/110)
________________________________________
.
(وللعين[(1)] خمسمئة كذلك): أيّ من كلِّ جانب.
__________
(1) قوله: وللعين خمسمئة كذلك؛ أي من كلّ جانب؛ لما روينا، ولأنّ العينَ تستخرجُ للزراعة، فلا بدَّ من وطنٍ يستقرُّ فيه الماء ومن موضع تجري فيه إلى الزرع، وقدَّرَ الشارعُ بخمسمئة، ولا مدخلَ للرأي في المقادير، ثمّ قبل الخمسمئة من الجوانب الأربعة من كلِّ جانبٍ: مئة وخمس وعشرون ذراعاً، والأصحّ ما قال المصنّف - رضي الله عنه -: يعني خمسمئة ذراعٍ من كلّ جانب، وفي ((الكافي)) قيل: إنَّ التقديرَ في البئر والعين بما ذكرنا؛ لصورتها، وفي أراضينا يزادُ على ذلك لرخاوة الأرض، كيلا يتحوَّل الماءُ إلى الثانية، فتعطل الأولى، ولو غرسَ شجراً في أرضِ الموات، هل يستحقّ لها حريم؟ لم يذكره محمّد- رضي الله عنه - في ((الأصل))، وقال مشايخُنا: لها حريمٌ بقدرِ خمسة أذرع، حتى لم يكن لغيره أن يغرسَ فيها شجرة، وللأوّل منعه، هكذا في بعض الشروح.
(10/111)
________________________________________
(ومُنِعَ[(1)] غيرُه من الحفرِ فيه لا فيما وراه(2)، وله الحريمُ من ثلاثةِ جوانب[(3)](4) ): أي للذي حفرَ من منتهى حريمِ الأوَّلِ دون الأوَّل(5).
__________
(1) قوله ومنع غيره؛ قال في ((تكملة البحر))(8: 241): يمنعُ منه؛ لأنّه صار ملكاً لصاحب البئر ضرورة؛ لتمكَّنه من الانتفاع، فكان الحافرُ متعدِّياً بالحفرِ في ملك غيره، فإذا حفرَ كان للأوّل أن يمنعه لما ذكرنا، والحفرُ ليس لقيد، قال في ((الخانية)): ولو بنى الثاني في حريمِ الأوّل كان له أن يمنعَه، ولو أرادَ الأوّلُ أن يأخذَ الثاني بيحفرِه كان له ذلك؛ لأنّه أتلف ملكه بالحفر، ثم اختلفوا فيما يؤاخذُ به، قيل: بكسبه؛ لأنّه أزاله بتعدِّيه، كما لو وضع شيئاً في ملك غيره، وقيل: يضمِّنه النقصان، ويكنُسُ الأوّل ما حفرَه بنفسه، كما إذا هدمَ جدارَ غيره كان لصاحبه أن يؤاخذَه بقيمتِه لا ببناء الجدار، وهو الصحيح. وفي ((العناية))(10: 76): طريقُ معرفة النقصان أن يقومَ الأوّل قبل حفر الثاني وبعده، فيضمن نقصان ما بينهما، وما عطب في البئر الأوّل فلا ضمان عليه؛ لأنّه غير معتدٍّ في حفره.
(2) في أ و ج: وراه.
(3) قوله: وله الحريم من ثلاثة جوانب؛ صورته: ولو حفرَ الثاني بئراً في منتهى حريمِ الأوّل بإذنِ الإمامِ فلَهُ الحريمُ من ثلاثة جوانبٍ دون الأوّل، بسبق ملك الأوّل فيه، ولو ذهبَ ماء البئر الأولى، وتحوَّل إلى الثانيةَ فلا شيء عليه؛ لأنّه غير متعدٍّ في ذلك، والماء الذي تحت الأرض غير مملوك لأحد، فلا يكون له المخاصمة بسببه، كمَن بنى حانوتاً في جنبِ حانوت غيره فكسدُ الأوّل بسببه.
(4) في ف: زيادة: دون الأول.
(5) غير موجودة في ف.
(10/112)
________________________________________
(وللقناة[(1)](2) حريمٌ بقدرِ ما يصلحُها)(3) هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقيل: إذا(4) لم يخرجْ الماءُ فهو كالنهر، فلا حريمَ له، وعند(5) ظهورِ الماءِ كالعين، فله الحريمُ خمسمئةِ ذراع.
(ولا حريمَ لنهرٍ(6) في أرضِ غيره إلا بحجَّة[(7)
__________
(1) قوله: وللقناة... الخ؛ وهي مجرى الماء تحت الأرض، ولم يقدّر حريمه بشيء يمكن ضبطه، وعن محمد - رضي الله عنه -: هو بمنْزلة البئر في استحقاق الحريم، وقيل: هذا هذا قولهما، وعند الإمام: لا حريم له ما لم يظهر على الأرض؛ لأنّه نهرٌ في الحقيقة، فتعتبر بالنهر فلا حريم له، وعند ظهور الماء بمنْزلة عين فوارة، فيقدر حريمها بخمسمئة ذراع.
(2) في أ: للقناءة وفي ف: للفناء.
(3) أي القناة مجرى الماء تحت الأرض ولم يقدر حريمه بشيء يمكن ضبطه، وعن محمد أنه بمنْزلة البئر في استحقاق الحريم، وقيل: هذا عندهما، وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - لا حريم له ما لم يظهر على وجه الأرض. ينظر: ((درر الحكام))(1: 307). ((مرآة المجلة))(2: 176).
(4) في ف: إن.
(5) في ف: و.
(6) النهر: مجرى كبير لا يحتاج إلى الكرى في كلّ حين، فصورة المسألة: أن من كان له نهر في أرض غيره فليس له حريم عند الإمام إلا أن يقيم بينة على ثبوت الحريم له. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 560).
(7) قوله: إلا بحجّة؛ أي بإقامة بيّنة على أنّها له، قال في ((غاية البيان)): قال ((شرح الطَّحاويّ)): ولو أنّ نهرَ الرجل وأرضاً على شطِّ النهرِ لرجل آخر، فتنازعا في المُسَنَّاة، فإن كان بين الأرضين وبين النهر حامل كالحائطِ أو نحوه، كان المُسَنَّاة لصاحب النهر بالإجماع، وإن لم يكن بينهما حائل، قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: هي لصاحب الأرض، ولصاحب النهر فيها حقّ تسييل الماءِ حتى أنّ صاحبَ الأرض إذا أراد رفعَها كان لصاحبِ النهر منعه عن ذلك، ولصاحب الأرضِ أن يغرسَ فيها؛ لأنّ الملك له، وليس لصاحب النهر منعه عن ذلك.
وقال صاحباه: المُسَنَّاةُ لصاحب النهر، وقال شيخ الإسلام خُواهرَ زَادَه، في (شرح كتاب الشرب): وإنّما يظهر ثمرة الخلاف في أنّ الغرسَ والزراعةَ لمَن يكون فعلى قول أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - لربّ الأرض، وعلى قولهما لصاحب النهر.
(10/113)
________________________________________
])، هذا عند أبي حنيفةَ[(1)] - رضي الله عنه -، وعندهما[(2)]: له مُسنَّاةُ النهرِ يمشي عليها ويلقي عليها الطين، وكذا في أرضِ موات، (فَمُسَنَّاةٌ(3) بين نهرِ[(4)] رجلٍ وأرضِ الآخر، وليست مع أحدٍ لصاحبِ الأرض[(5)]): أي إن لم يكن لأحدهما عليها غرسٌ أو طينٌ ملقى فهي(6)
__________
(1) قوله: وهذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ دليلُه أنّ استحقاقَ الحريمِ في البئر والعينِ ثبتَ نصَّاً بخلاف القياس، فلا يلحقُ بهما ما ليس في معناهما، ألا ترى أنّ مَن بنى قصراً في الصحراء لا يستحقُّ حريماً، وإن كان محتاجاً إليه لإبقاء الكناسة؛ لأنّه يمكن الانتفاع بالقصر دون الحريم.
(2) قوله: وعندهما… الخ؛ لأنّ استحقاقَ الحريم للحاجة، وصاحب النهر يحتاج إليه كصاحب البئر والعين؛ لأنّه يحتاجُ إلى شيء على حافتي النهرِ ليجريَ الماءُ إذا حبس بشيء وقع فيه إذ لا يمكنه المشيُ في وسط الماء، وكذا يحتاجُ إلى موضعٍ يلقى عليه الطين عند الكرب، وفي ((الكبرى)): الفتوى على قولهما.
(3) في ب: مسناة.
(4) قوله: فمُسَنَّاة بين نهر… الخ؛ صورته ما في ((الجامع الصغير)): نهرٌ لرجل إلى جنبه مُسَنَّاة، والآخر خلف المُسَنَّاة أرض تلزقها، وليست المُسَنَّاة في يد أحد، فهي لصاحب الأرض، وقوله: وليست مع أحد، معناه ليس لأحدِهما عليه غرس ولا طين يلقى، كما بيَّنَه الشارح - رضي الله عنه - فينكشف بها للفظِ موضع الخلاف، وهو أن يكون الحريمُ موازياً للأرض لا فاصلَ بينهما، وأن لا يكون مشغولاً بحقِّ أحدهما. كذا في بعض الحواشي.
(5) قوله: فهي لصاحب الأرض… الخ؛ وهذا تصريحٌ منه بعدمِ لزومِ الحريم للنهر، قيل: هذا الخلاف في نهرٍ كبيرٍ لا يحتاجُ فيه إلى الكري في كلِّ حين، أمّا الأنهارُ الصغارُ التي يحتاج إلى كريها في كلِّ وقتٍ فلها حريمٌ بالاتِّفاق، هكذا ذكرَ في ((النهاية))، وظاهرُ كلام ((الهداية)) و((الوقاية)) ينافيه، قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص587)].
(6) في ف: فهو.
(10/114)
________________________________________
لصاحبِ الأرضِ عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -، وإن كان فصاحبُ الشغلِ هو صاحبُ اليد، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - حريمُهُ مقدارُ نصفِ بطنِ النهرِ من كلِّ جانب، [وعند محمّد - رضي الله عنه - مقدارُ بطنِ النهرِ من كلِّ جانب](1).
فصل [في الشرب]
(الشربُ[(2)]: نصيبُ الماء، والشَفَةُ شربُ بني آدمَ والبهائم، ولكلٍّ(3) حقُّها في(4) كلِّ ماءٍ لم يحرزْ بإناء، وسقي أرضِه من البحرِ ونهرٍ عظيمٍ كدجلة ونحوها، وشقُّ نهرٍ لأرضِهِ منها(5) أو لنصب(6) الرحى إن لم يضرَّ بالعامَّة، [وإن ضرّ فلا] (7).
__________
(1) سقطت من ف و م.
(2) قوله: الشِّرب؛ هو بالكسر: نصيب من الماءِ مطلقاً، سواء استوفى بالسقاة، كشرب بني آدم والبهائم، قال الله تعالى في ناقة صالح - صلى الله عليه وسلم -: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[الشعراء:155]، أو لسقي الأرض والشجر، وقوله: الشفة، أصلها: الشفهة، أسقطت الهاء تخفيفاً، والمرادُ بها هاهنا النصيبُ المخصوص منه؛ لأنّ أهل الشفة الذين لهم حقّ للشرب بشفاهتهم وسقي دوابهم، والاستيفاء بالأواني دون سقي الأرضِ والشجر، وفيهما عموم وخصوص مطلق. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص587)].
(3) أي ولكل واحد من بني آدم والبهائم. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق292/أ-ب).
(4) في ج و ف: من.
(5) أي من البحر والنهر. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق292/ب).
(6) في ب: نصب، وفي ت: لنصيب، وفي ف: لنصب.
(7) زيادة من ت.
(10/115)
________________________________________
لا(1) سقي(2) دوابّه إن خيفَ تخريبَ النهرِ لكثرتها وأرضِه)، بالجرِّ عطفٌ(3) على دوابّه، (وشجرةٍ من نهرِ غيره وقناتِهِ(4) وبئره إلاَّ بإذنه، وله سقي شجرٍ أو خضرٍ(5) في داره[(6)] حملاً بجراره(7) في الأصحّ(8).
وكريُ نهرٍ لم يُمْلَكُ من بيتِ المال، فإن لم يكن فيه شيءٌ فعلى العامَّة): أي يجبرُ الإمامُ الناسَ على كريه، ( وكريُ نهرٍ مُلِكَ(9) على أهلِه[(10)
__________
(1) في ف: ولا.
(2) في ت وج: يسقي.
(3) سقطت من ف.
(4) في ف: فنائه.
(5) في ف: حضر.
(6) قوله: أو خضر في داره… الخ؛ أي سقى خضراً وقعت في داره بحملِ الماء بالجرار، وهي جمعُ جَرَّة: بفتح الجيم والراء المهملة، يقال له بالفارسية: سبود، قوله: في الأصح إشارةٌ إلى قولِ أئمّة بَلْخ - رضي الله عنهم -: ليس له ذلك إلا بإذن صاحب النهر، وقيل له: أن يمنعَ سقي بستانه بالقصاع والروايا، وفي غسل الثياب منه كلام.
(7) في ف: لجواره.
(8) لما قال بعض مشايخ بلخ ليس له ذلك إلا بإذن صاحب الماء كما ليس له سقي شجرة أو خضرة في غير داره، وقال شمس الأئمة السَّرَخْسيّ: إنه لا يمنع من هذا المقدار، واختاره المصنِّف ما قال السرخسي؛ لأن الناس يتوسعون فيه ويعدون المنع من الدناءة. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 563).
(9) في ب و م: يملك.
(10) قوله: وكري نهر ملك على أهله؛ وهو نوعان:
أحدهما: مملوك، ودخلَ ماؤه تحت القسمة إلا أنّه عام.
وثانيهما: مملوكٌ دخلَ ماؤه في القسمة، وهو خاصّ، والفاصلُ بينهما استحقاقُ الشفة وعدمه، يعني كلّ ما يستحقُّ به الشفة خاصّ، وما لا يستحقّ به عام، وتكلَّموا في النهر الخاصّ الذي يستحقّ به إيّاها، قال بعضُهم: إن كان النهر بعشرةٍ فما دونها، وعليه قريةٌ واحدة يقع ماؤه فيها فهو نهر خاص، وإن كان الماءُ فوق المذكور فعام، وقيل: الخاصّ ما لا يجري فيه السفن، وأمّا ما تجري فيه فهو عامّ. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص587)].
(10/116)
________________________________________
] من أعلاه لا على أهلِ الشَّفَة، ومَن جاوزَ من(1) أرضه قد برئ): أي كلُّ شريكٍ جاوزَ الذين يكرونَ النهر عن أرضِهِ لم يكن عليه كريُ باقي النهر، وهذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -[(2)]، وقالا: عليهم كريه من أوَّله إلى آخرِه(3).
(وصحَّ دعوى الشربِ بلا أرض)، هذا استحسان[(4)]؛ لأنَّه قد يملكُ بدون الأرضِ إرثاً، وقد يباعُ الأرضُ ويبقى الشربُ للبائع.
(فإن اختصمَ قومٌ في شربٍ بينهم قُسِمَ بقدرِ أراضيهم[(5)
__________
(1) سقطت من ف.
(2) قوله: وهذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ قال قاضي خان - رضي الله عنه -: والفتوى على قوله، اعلم أن هذا الخلافُ في النهر الخاصّ، وأمّا العام الذي عليها قرى يشربون منها إذا اتَّفقوا على كريه فبلغوا فوهَّته بنهرِ قرية يرفعُ عنهم مؤنة الكري، وعلى هذا الخلاف إذا احتاجوا إلى إصلاح حافتي النهر. كذا في ((حقائق المنظومة)). قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص587)].
(3) صورة المسألة: لو كان الشركاء في النهر عشرة فعلى كلٍّ عشرُ المؤنة، فإذا جاوزوا أرض رجل منهم فهي على التسعة الباقين أتساعاً؛ لعدم نفع الأول فيما بعد أرضه، وهكذا فمَن الآخر أكثرهم غرامة؛ لأنه لا ينتفع إلا إذا وصل الكري إلى أرضه ودونه في الغرامة من قبله إلى الأول، والفتوى على قول الإمام. ينظر: ((رد المحتار))(5: 284).
(4) قوله: هذا استحسان… الخ؛ والقياسُ أن لا يصحّ؛ لأنّ المدَّعي يطلبُ من القاضي أن يقضيَ له بالملك فيما يدَّعيه إذا ثبت دعواه بالبيّنة، والشرب لا يحتمل التمليك بغير أرض، فلا يسمع القاضي فيه الدعوى، كالخمر في حقِّ المسلمين، وأيضاً لأنّ شرطَ صحَّة الدعوى إعلامُ المدّعي كالشهادة، والشرب مجهولٌ جهالةً لا تقبل الإعلام، ودليل الاستحسانُ ما قاله الشارح بقوله: لأنّه…الخ.
(5) قوله: قسم بقدر أراضيهم… الخ؛ لأنّ المقصودَ الانتفاعُ بسقيها، فيتقّدر بقدره.
فإن قيل: إنّهم قد استووا في إثبات اليد على الماء الذي في النهر، والمساواة في اليد توجبُ المساواة في الاستحقاق.
قلنا: إن إثبات اليد على الماء إنّما هو بالانتفاع بالماء، ومن له عشرةُ قطاع لا يكون انتفاعه مثل انتفاع مَن له قطعة واحدة، فلا يتحقّق التساوي في إثباتِ اليد، بخلاف الطريق المشترك بين الجماعة، ولا يعرف كيف أصله بينهم، اختلفوا في ذلك، فإنّه يقسم بينهم على عدد الرؤوس لا على قدر أملاكهم، حتى يعطى لصاحب القليل ما يعطى لصاحب الكثير، وفي الشربِ يعطى لصاحب الكثير أكثر ممّا يعطى لصاحب القليل، وهذا إذا لم يعلم مقدارَ حقِّهم، وإذا علمَ يقسم على ما كان في الأصل.
(10/117)
________________________________________
]، ومُنِعَ الأعلى[(1)] منهم من سكرِ النهر وإن لم يشرب[(2)] بدونه إلا برضاهم(3)[(4)]، وكلٌّ منهم[(5)] من شقِّ نهرٍ منه، ونصبِ رحى[(6)] أو داليةٍ أو جسرٍ عليه بلا أذنِ شريكه، إلاَّ رحى وُضِعَ في ملكه)، بأن يكون بطنُ(7)
__________
(1) قوله: ومنع الأعلى… الخ؛ يعني إن كان الأعلى منهم لا يشربُ حتى يسكر النهر، فإن سكر منعَ من السكر لما فيه من إبطالِ حقّ الباقيين، ولكنه يشرب بحصّته.
(2) قوله: وإن لم يشرب؛ أي لا يمكنه أن يسقيَ أرضه بتمامها إلا بالسكر، فينساق كلّ الماء إليه، ليس له ذلك إلا أن يكون صاحب الأعلى من بقعةٍ لا يصلُ الماء إليها، إلا أن يتَّخذ في النهر سكر أو أربابُ الأرضين مقرونٌ بأنّ مشربها من هذا النهر، فلا بدّ أن يسكرَ النهرَ من أعلاه حتى يرتفعَ الماء إليها، والسكر: حبس الماء من الجريان.
(3) يعني إن كان الأعلى منهم لا يشرب حتى يسكر النهر لم يكن له ذلك؛ لأن فيه إبطال حقّ الباقين فإن تراضوا على أن يسكر الأعلى حتى يشرب بحصته أو اصطلحوا على أن يسكر كل رجل منهم في نوبته جاز؛ لأن الحقّ لهم. ينظر: ((درر الحكام))(1: 308).
(4) قوله: إلا برضاهم؛ يعني تراضوا على أن يسكرَ الأعلى النهرَ حتى يشربَ بحصّته أو اصطلحوا على أن يسكر كلّ رجلٍ منهم في نوبته جاز؛ لأنّ المنعَ كان حقّهم وقد زال بتراضيهم.
(5) قوله: وكلّ منهم… الخ؛ أي منعَ كلّ منهم من شقّ نهرٍ منه، سواء كان يكري من النهر لأرضٍ كان شربها من هذا النهر أو لا؛ لأنّ فيه كسرُ ضفَّة النهر، وهي مشتركة بينه وبين وغيره. كذا في ((الهداية))(4: 106).
(6) قوله: ونصب رحى… الخ؛ أي منع نصب…الخ؛ لأنّ فيه شغل موضع مشترك بالبناء إلا أن يكون نصبَ هذه الأشياء لا يضرّ بالنهر ولا بالماء، أو يكون موضعها في أرض صاحبها؛ لأنّه تصرّف في ملك نفسه، ولا ضرر في حقّ غيره، ومعنى الضرر بالنهر ما بيَّناه من كسر الضفة، وبالماء أن يتغيَّرَ عن سَنَنه الذي كان يجري عليه.
(7) سقطت من ف.
(10/118)
________________________________________
النهر وحافتاه(1) ملكاً له، وللآخرِ حقّ التسييل، (ولا يضرُّ بالنهرِ ولا بالماء، ومن توسيعِ فمِ النهر[(2)]، ومن(3) القسمةِ بالأيَّام وقد كانت بالكِوى)، الكِوى جمعُ الكَوّة، وهي روزنُ(4) البيت، ثم استعيرت للثقبِ التي تثقبُ في الخشب؛ ليجريَ الماءُ فيه إلى المزارعِ أو الجداول، وإنَّما يمنع؛ لأنَّ القديمَ يتركُ على قدمِه(5)، ( ومن سوقِ شربهِ إلى أرضٍ له أخرى ليس لها منه شرب)؛ لأنَّه إذا تقادمَ العهدُ يستدلُّ به على أنّه حقُّ تلكَ الأرض[(6)].
__________
(1) في ف: وجانباه.
(2) قوله: من توسيع فم النهر… الخ؛ أي منع من توسيع فم النهر… الخ؛ لأنه يكسر ضفة
النهر ويزيد على مقدارِ حقِّه في أخذ الماء، وكذا إذا أراد أن يؤخِّرها؛ أي الكوى عن فم النهر؛ لاختيار الماء فيه فيرد، أو دخول الماء بخلاف ما إذا أراد أن يسفل كواه أو يرفعها، حيث يكون جاز له ذلك في الصحيح؛ لأنَّ قسمة الماء في الأصل باعتبارِ سعة الكوة وضيقها من غير اعتبار التسفل والرفع، هو العادة، فلم يكن فيه تغيير موضع القسمة.
(3) في ب: من.
(4) رزون: وهو الكَوَّة، فارسي معرّب. ينظر: ((طلبة الطلبة))(ص136).
(5) بيانها: ليس لواحد منهم أن يقسم بالأيام ولا مناصفةً مع أن القسمة قد كانت من القديم بالكِوى، وكذا لا يجوز أن يقسم بالكوى وقد كانت بالأيام؛ لأن القديمَ يتركُ على قدمه إلاَّ أن يرضى الكلّ. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 566).
(6) قوله: يستدلّ به على أنَّه حقّ تلك الأرض؛ لأنَّهم يتنازعون في الشرب، فيقضي له بشرب الأرضين جميعاً إذا لم يعلم حقيقة الحال؛ لأنّ الشرب على مقدار الأراضي إذا لم يعلم حقيقة الحال. ((غاية البيان)).
(10/119)
________________________________________
( والشربُ يورثُ[(1)] ويوصى بالانتفاع، ولا يباعُ[(2)]، ولا يؤجَّر، ولا يوهب، ولا يتصدَّقُ به، ولا يجعل مهراً، وبدل الصلح[(3)](4).
__________
(1) قوله: والشرب يورث؛ بناء على أنَّ الورثةَ خلف الميِّت، فيقومون مقامَه في أملاكه وحقوقه، وعدم جواز بيعه وهبته وصدقته لا يستلزمُ عدم جواز ذلك، ألا ترى أن القصاص والدين والخمر تملك بالإرث، وإن لم تملك بالبيع ونحوه، والوصيّة أحبّ الميراث. ((عناية)).
(2) قوله: ولا يباع… الخ؛ إمّا للجهالة أو للغرر أو لأنه ليس بمال متقوّم، حتى لا يضمن إذا سقى من شرب غيره. ((هداية))(4: 107).
(3) قوله: أو بدل الصلح؛ أي لا يجعل الشرب بدل الصلح، صورته: إذا ادَّعى رجلٌ قبلَ رجل دعوى في أرضٍ أو دارٍ فصالحه مَن دعواه على شرب بغير أرض، فالصلح باطل؛ لأنّ الصلحَ إذا وقعَ على خلاف جنس الحقِّ كان فيه معنى البيع، وبيع الشرب بلا أرض لا يجوز، فكذا لا يجوزُ الصلح على الشرب من غير أرض. ((غاية البيان)).
(4) في ت و ج وف: صلح.
(10/120)
________________________________________
ولا يضمنُ[(1)] مَن ملأ أرضَه فنزَّت أرضُ جارِه، أو غرقت، ولا مَن سقى من شربِ غيره)، وهو قولُ الإمامِ المعروفِ بخُواهرَ زَادَه(2) - رضي الله عنه -، وفي ((الجامع الصغير)) البَزْدَوِيّ - رضي الله عنه - أنّه يضمن. [والله أعلم] (3).
__________
(1) قوله: ولا يضمن… الخ؛ لأنّه غير متعدٍّ فيه؛ لأنّ كونَ الفعلِ علَّة للشيء إنّما يعرف بالأثرِ اللازم له، والأثرُ اللازمُ لفعله اجتماعُ الماء في أرضه، وإنّما صارت أرضُ جاره ذات نز بالشرب والاجتذاب، وهو أمرّ اتِّفاقي قد يكون وقد لا يكون، فلا يضاف إلى فعله إلاَّ أنّه لولا فعله لما حَصَل هذا الفساد، فصار فعله في حقّ هذا الأثر سبباً محضاً، والمسبّب إنّما يضمن إذا تعدَّى كحافر البئر، وواضع الحجر، وفعله في أرضه مباح، فلم يضمن قالوا: هذا إذا سقى أرضه سقياً معتاداً يتحمّل أرضه عادة، أمّا إذ سقى سقياً لا يتحمّل أرضه فيضمن؛ لأنّه أجرى الماء إلى أرض جاره تقديراً. ((كفاية))(9: 21).
(2) وهو محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين البُخاري القُدَيْدي الحنفي، المعروف ببكر خُوَاهَرْ زَادَه، قال الذهبي: شيخ الطائفة بما وراء النهر، برع في المذهب، وفاق الأقران، وطريقته أبسط طريقة الأصحاب، وكان يحفظها. من مؤلفاته: ((المختصر))، و((التجنيس))، و((المبسوط))، (ت483هـ). ينظر: ((العبر))(3: 302). ((الجواهر المضية))(3: 141). ((الفوائد))(ص270).
(3) زيادة من ب وم.
(10/121)
________________________________________
كتاب الأشربة[(1)][(2)]
(حَرُمَ الخمرُ[(3)]: وهي التي[(4)
__________
(1) قوله: كتاب الأشربة؛ ذكر كتاب الأشربة بعد الشرب لمناسبة بينهما في الاشتقاق، وهي اشتراك اللفظين في المعنى الأصلي والحروف الأصول، ولكن قدَّم الشرب لأنّه حلال، والأشربة فيها حرام كالخمر. كذا في ((غاية البيان)).
(2) قوله: الأشربة؛ وهي جميع شراب، وهو ما يشرب من المائعات، وأريد بها في هذا الكتاب ما حرم منها، وسمِّي هذا الكتاب بها؛ لأنّ فيه بيان أحكامها، كما سمَّى كتاب الحدود لما فيه بيان أحكامها، قيل: الشراب: لغة: اسمٌ لما يشربُ سواء كان حلالاً أو حراماً، أمّا في استعمال أهل الشرع، فاسمُ الشراب يقوم على ما حَرُمَ منه. اعلم أنّ الأصول التي تتَّخذُ منها الأشربة هذه الأشياء: العنب، والزبيب، والتمر، والفواكه، والبرّ، والذرة، والفرصاد، والدخن، والألبان، كلبن الإبل، والرماك، وغير ذلك. كذا في ((الفوائد العارفية)).
(3) قوله: حرم الخمر... إلى قوله: والذرة؛ وإن لم يطبخ، تصريحٌ منه بأنّ الأشربةَ المشهورةَ ثمانيةُ أصناف: أربعةٌ منها محرَّمة، وإن لم يسكر: وهي الخمر والطلاء والنقيعان، وأربعة منها محلَّلة أحدها: المثلث، وثانيها: نبيذ التمر، وثالثها: الخليطان، ورابعها: نبيذ عسل، وما عطف عليه، هذا زبدة ما في ((تبيين الحقائق)).
(4) قوله: وهي التي…الخ؛ شروع لتفاصيل المواضعِ العشرة التي ذكرت في ((الهداية))(4: 108-110) في حقّ الخمر:
الأوّل: في بيان ماهيَّتِها، وقد عبَّر عنه المصنِّفُ - رضي الله عنه - بقوله: وهي التي… إلى آخره.
والثاني: في حدّ ثبوت هذا الاسم، وعبَّرَ عنه بقوله: إلى... الخ.
والثالث: قول الشارح: ثمّ عينها حرام… الخ.
والرابع: كونها نجاسة غليظة، وقد أشارَ إليه المصنِّفُ - رضي الله عنه - بقوله: غلظاً نجاسة.
والخامس: قوله: ثمّ يكفرُ مستحلُّها.
والسادس: قوله: وسقط... الخ.
والسابع: قوله: ويحرم... الخ.
والثامن: قوله: ويحدّ شاربها.
والتاسع: قوله: ولا يؤثّر فيها... الخ.
والعاشر قوله: ويجوز… الخ. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص588)].
(10/122)
________________________________________
] من ماءِ العنبِ [إذا](1) غُلِيَ واشتدَّ وقذفَ بالزبد وإن قَلَّت)،
هذا الاسمُ خصَّ هذا الشراب(2) بإجماعِ أهلِ اللغة(3)، ولا نقول(4): إنّ كلَّ مسكرٍ خمر؛ لاشتقاقِهِ من مخامرةِ العقل، فإنّ اللغةَ لا يجري فيها(5) القياس، فلا يُسمَّى الدنّ قارورة؛ لقرارِ الماء فيه، ورعايةُ الوضعِ الأوَّل ليست لصحَّةِ الإطلاقِ بل لترجيحِ الوضع، وقد حقَّقناه في ((التنقيح))(6)[(7)
__________
(1) زيادة من ب.
(2) في ب و م: بهذا.
(3) ينظر: ((اللسان))(2: 1259).
(4) في ب: تقول.
(5) في ب: فيه.
(6) إذ قال في ((التنقيح))، وشرح ((التوضيح))(1: 134): إن الواضع قد لا يعتبر فيه المناسبة كالجدار والحجر، وقد يعتبر فيه كالقارورة والخمر، واعتبار المعنى الأول في الوضع الثاني لبيان المناسبة والأولوية لا لصحة الإطلاق، وإلا يلزم أن يسمى الدنّ قارورة؛ فلهذا السرّ لا يجري القياس في اللغة فلا يقال : إن سائر الأشربة خمر لمعنى مخامرة العقل، فإن معنى المخامرة ليس مراعى في الخمر لصحة إطلاق الخمر على كلّ ما يوجد فيه المخامرة، بل لأجل المناسبة الأولوية ليضع الواضع لهذا المعنى لفظاً مناسباً له. فاحفظ هذا البحث فإنه بحث شريف بديع لم تزل أقدام من سوغ القياس في اللغة إلا لغفلة عنه.
(7) قوله: وقد حقَّقناه في ((التنقيح))(1: 134)؛ ليس فيه فائدةٌ جليلةٌ زائدة على ما في الكتاب، لكن قال في أواخرِ (فصل حكم المشتركِ) من ((توضيحه)): والمراد بالترجيحِ الأولوية، فعُلِمَ بهذا أنَّ الوضع قد لا يعتبرُ فيه المناسبة، كالجدار والحجر، وقد يعتبر كالقارورةِ والخمر، واعتبارُ المعنى الأوّل في الوضعِ لا الثاني لبيان المناسبة، والأولويّة لا لصحَّة الإطلاق، وإلاَّ يلزم إن سمّى الدنّ قارورة؛ فلهذا السرِّ لا يجري القياسُ في اللغة، فلا يقال: إنَّ سائرَ الأشربةِ بمعنى مخامرة العقل، فإنّ معنى المخامرة ليس مراعى في الخمر؛ لصحةِ إطلاق الخمرِ على كل ما يوجد فيه المخامرة، بل لأجلِ المناسبة والأولوية ليضعَ الواضع بهذا المعنى لفظاً مناسباً. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص588)].
(10/123)
________________________________________
]، وقذفُ الزبدِ قولُ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وعندهما: إذا اشتدَّ(1) ...(2) صار مسكراً، لا يشترطُ قذفُ الزبد، ثمّ عينُها حرام وإن قلَّت.
ومن الناسِ(3) مَن قال: السكرُ منها حرام، وهذا مدفوعٌ[(4)] بأنَّ الله تعالى سمَّاها رجساً، وعليه انعقدَ إجماعُ الأمَّة، ثمَّ يكفرُ مستحلُّها، وسقطَ تقوُّمها[(5)] لا ماليَّتُها عنها، ويحرمُ الانتفاعُ بها، ويحدُّ شاربُها وإن لم يسكر، ولا يؤثِّرُ فيها الطبخ، ويجوز تخليلها خلافاً للشَّافِعِيّ(6) - رضي الله عنه -، هذه عشرةُ أحكام(7)
__________
(1) في ب: اشتدت.
(2) في ص و ف زيادة: أي.
(3) قيل يريد به مالكاً - رضي الله عنه - والشافعي - رضي الله عنه -. ينظر: ((العناية))(10: 90).
(4) قوله: وهذا مدفوع؛ أي كونً الحرام من الخمر، وهو سكرها لا عينها مردودٌ بأنّ الله تعالى سمَّاها رجساً، وهو ما يكون محرَّم العين، وعلى كونِهِ محرَّم العين انعقد الإجماع، قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص588)].
(5) قوله: وسقط تقوّمها… الخ؛ ويدلُّ عليها عدمُ تضمينِ متلفها وغاصبها، وعدمُ جواز بيعها، وحكمُ الله تعالى بكونها رجساً للإهانة، فإنّ التقوَّمَ مشعرٌ بالغرّة.
فإن قيل: عدمُ تضمينِ المتلف هل يدلّ على إباحةِ إتلافها.
قلنا: لا دلالةَ عليها، لكن اختلفَ فيها، قيل: يباح، وقيل: لا يباح إلا بغرضٍ صحيح بأن وجدت عند فاسقٍ خيفَ عليه الفسق، وأمّا إذا كانت في يدِ صالحٍ فلا يباح؛ لأنّه يخلِّلُها. هذا زبدة ما في ((الهداية))(4: 109)، وشروحه.
(6) ينظر: ((النكت))(3: 524)، و
(7) مراده أن الكلام على الخمر في عشرة مواضع، وهي:
الأول: بيان مائيتها وهي النيئ من ماء العنب إذا صار مسكراً.
والثاني: أريد به بيان الحكم؛ إذ هو اللائق بمنصب الرسالة.
والثالث: إن عينها حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه.
والرابع: إنها نجسة نجاسة غليظة كالبول لثبوتها بالدلائل القعطعية.
والخامس: إنه يكفر مستحلّها لانكاره القطعي.
والسادس: لسقوط تقومها في حقِّ المسلم حتى لا يضمن متلفُها وغاصبُها، ولا يجوز بيعُها؛ لأن الله تعالى لما نجَّسها فقد أهانها والتقوم يشعر بعزتها.
والسابع: حرمة الانتفاع بها؛ لأن الانتفاع بالنجس حرام، ولأنه واجب الاجتناب، وفي الانتفاع به اقتراب.
والثامن: أن يحد شاربها وإن لم يسكر منها.
والتاسع: أن الطبخ لا يؤثر فيها؛ لأنه للمنع من ثبوت الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكره منه.
والعاشر: جواز تخليلها. ينظر: ((الهداية))(4: 109-110).
(10/124)
________________________________________
.
(كالطلاءِ وهو ماءُ عنبٍ قد طُبِخَ فذهبَ أقلُّ من ثلثيه[(1)]، وغلظاً نجاسةً(2)، ونقيعِ التمر)[(3)]: [أي السكر[(4)]، (ونقيعِ الزبيب نيين[(5)]، إذا غلت واشتدت](6) )، الضميرُ يرجعُ إلى
__________
(1) قوله: فذهب أقلّ من ثلثيه… الخ؛ وهو مخالفٌ لما ذكرَ في ((المحيط)) من أنّ الطلاءَ اسم للمثلث، وهو ما إذا طُبِخَ من ماءِ العنب، حتى ذهب ثلثاه، وبقي ثلثُه، وصار مسكراً، وهو الصواب لما روي أنّ كبار الصحابة - رضي الله عنهم - كانو يشربون الطلاء، ويؤيِّدُ ما في ((المحيط)) تفسير الجَوْهَريّ إيّاها بما ذهبَ ثلثاه، فلزمَ التوفيق بينهما وبين الشروح و((الهداية)) و((القُدُوريّ))، فيتأمّل. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص589)].
(2) أي الخمر وما ذهب ال من ثلثيه.
(3) قوله: نقيعُ التمر… الخ؛ قال بعض الشرَّاح : النقيعان مجروران معطوفان على الطلاء، ويجوزُ أن يكون مرفوعين معطوفين على الخمر، كما قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص589)].
(4) قوله: أي السَّكَر؛ وهو بفتحتين، فسَّره الجَوْهَريّ: بنبيذ التمر، وفي ((الهداية))(4: 110): السَّكَر هو التي من ماء التمر؛ أي الرّطب في ((العناية)): إنّما فسَّر التمرَ بالرطب؛ لأنَّ المتَّخذ من التمر اسمُهُ نبيذ التمر إلا السكر، وهو حلالٌ على قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - وأبي يوسفَ - رضي الله عنه -، فبين قول الجَوْهَريّ و((الهداية)) نوع مخالفة، فيتأمّل قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص589)].
(5) قوله: نيين؛ حال من النقيعين؛ لبيان الواقعِ لا للاحتراز؛ لأنّ عدمَ الطبخِ معتبرٌ في مفهوم النقيعِ في المشهور، كما أنّ وجودَه معتبرٌ في مفهومِ النبيذ، وإنّما أتى بهذه الحالِ بصيغة التثنية، وحال النبيذين بالمفرد، حيث قال: مطبوخاً مع أنّ كلاً منهما عن الشيئين؛ لأنّ النقيعين كلاهما ملفوظان، ولا يذكرُ من النبيذين إلاَّ أحدهما، قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص589)].
(6) سقطت من ق.
(10/125)
________________________________________
الطلاء ونقيعِ التمرِ ونقيعِ الزبيب، وعند الأَوْزَاعِيّ(1) الطلاءُ: وهو(2) الباذق(3) مباح، وكذا نقيعُ الزبيب، وعند شريك بن عبد الله(4): السكرُ مباح؛ لقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً}(5)[(6)
__________
(1) وهو عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمِد الأَوْزَاعِيّ، أبو عمر، نسبة إلى الأَوْزَع، وهي بطن من ذي الكَلاع من اليمن، وقيل: الأوزع قرية من دمشق على طريق باب الفراديس، ولم يكن منهم، وإنما نزل فيهم فنسب إليهم، وقيل غير ذلك، إمام أهل الشام، وكان يسكن بيروت، ويقدر ما سئل عنه بسبعين ألف مسألة أجاب عليها، وكانت الفتيا بالأندلس تدور على رأيه إلى زمن الحكم بن هشام. (88-157هـ). ينظر: ((وفيات))(3: 127-128). ((مرآة الجنان)) (1: 251). ((الأعلام)) (4: 94).
(2) في ب: وهي.
(3) الباذَق: ما طبخ من عصير العنب أدنى طبخ فصار شديداً، وهو مسكر. ينظر: ((المصباح))(ص41).
(4) وهو شريك بن عبد الله النَّخَعي الكوفي، أبو عبد الله، القاضي بواسط ثم الكوفة، قال ابن المبارك: هو أعلم من حديث بلده من سفيان الثوري، قال ابن حجر: صدوق يخطئ كثيراً تغيَّر حفظه منذ وُلِّي القضاءَ بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً شديداً على أهل البدع، (ت7/178هـ). ينظر: ((العبر))(1: 270). ((التقريب))(ص207).
(5) النحل، الآية(67).
(6) قوله: لقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَنا}[النحل:67]، ولنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الخمرُ من هاتين الشجرتين))[مسلم(3: 1573)، وابن حبان(12: 163)]، وإجماعُ الصحابة، وجواب الآية: إنّها منسوخةٌ على مذهب الحنفيّ وغيره، كما صرَّح به في ((الكشَّاف))، أو نقول: السَّكَرُ النبيذ، وهو عصيرُ العنب والزبيب، والتمر إذا بقي ثلاثة واشتدّ، وهو حلالٌ عند الأعظم - رضي الله عنه - إلى حدّ السكر مجتمعه، بهذه الآية. كذا في ((الكشاف))، ويحمل السكر المذكور في الآيةِ على هذا توفيقاً بين الآية والحديث، وقيل: المراد منه التوبيخ لا الامتنان، يعني: أنتم لسفاهتكم تتَّخذون منه سكراً حراماً، وتتركون رزقاً حسناً، قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص589)].
(10/126)
________________________________________
]، واعلم أنَّ هذه الأشربةَ إنَّما تحرمُ عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - إذا غلت واشتدَّت وقذفتْ بالزبد، وعندهما: يكفي الاشتدادُ كما في الخمر.
(وحرمةُ الخمرِ أقوى، فيكفرُ مستحلُّها فقط.
وحلَّ المُثَلَّثُ العنبيّ[(1)] مشتدّاً): أي بطبخ(2) ماء العنب حتى يذهبَ ثلثاه [وبقي ثلثُه](3)، ثمّ يوضعُ حتى يغلي ويشتدُّ ويقذفُ بالزبد، وكذا إن صبَّ فيه الماءُ حتى يرقّ بعدما ذهبَ ثلثاه[(4)]، ثمّ يطبخُ(5) أدنى طبخة، ثمّ(6) يتركُ(7) إلى أن يغلي ويشتدّ ويقذفَ بالزبد، وإنَّما حلَّ المثلَّث[(8)
__________
(1) قوله: وحلّ المثلث العنبيّ… الخ؛ أي ما لم يبلغْ حدّ السكر؛ لأنّ المقصود، بيان تغيير حكمه، وهو حرمة الفطرة منه بتغيُّر معنى الخمر، وإنّما خصّ بالذكر المثلّث العنبي؛ لأنّ ما عداه صار حلالاً بأدنى طبيخة، وإن لم يذهبْ عشره، كما يفصح منه قوله: ونبيذ التمر… الخ عطفاً على المثلَّث، قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص589-590)].
(2) في أ وب و م: يطبخ، وفي ف: طبخ.
(3) سقطت من ص.
(4) قوله: بعدما ذهب ثلثاه؛ لأنّ صبَّ الماء لا يزيدُ إلا ضعفاً، بخلاف ما إذا صبَّ قبل الطبخ؛ لأنَّ الماءَ يذهبُ أوّلا عنده للطافته، أو يذهب منهما، فلا يكون الذاهب ثلثيّ ماء العنب. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص590)].
(5) في أ: تطبخ.
(6) في ب: أو.
(7) في م: يوضع.
(8) قوله: وإنّما حلّ المثلث عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - … الخ؛ لهما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها))، والسكر من كلِّ شرابٍ خصّ السكر بالتحريم في غير الخمر، إذ العطفُ للمغايرة؛ ولأنَّ المفسد هو القدح المسكر، وهو حرام عندنا، لا يقال: فحينئذٍ ينبغي أن لا يكون الحرامُ من الخمر إلا لقدحِ الأخير؛ لأنَّا نقول: نعم؛ القياس ذلك، ولكن تركناه؛ لأنَّ الخمر لرقَّتِها ولطافتِها تدعو إلى الكثير، فأعطي للقليل حكمُ الكثير، والمثلَّثُ ليس كذلك؛ لأنَّ غلظه لا يدعو إليه، بل هو في نفسه غذاء، فبقى على الإباحة، وأدلَّة الثلاثةِ الأخيرة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مسكر حرام))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام))[((صحيح ابن حبان))(12: 202)، و((المنتقى))(1: 218)]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أسكر الجرة فالجرعة منه حرام))[قال الزيعلي في ((نصب الراية))(4: 305): هذه الرواية غريبة ويشهد لها الرواية السابقة]؛ ولأنَّ المسكرَ تفسدُ العقلَ فيكون حراماً قليلُه وكثيرُه كالخمر، وروى عن محمَّد - رضي الله عنه - مثل قولهما، وعنه أنّه كره ذلك، وعنه أنّه قال: لا أحرّمه ولا أبيحه. والله أعلم.
(10/127)
________________________________________
] عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - وأبي يوسفَ - رضي الله عنه - خلافاً لمحمَّد ومالك(1) والشافعيّ(2) - رضي الله عنهم -، (ونبيذُ التمرِ والزبيبِ](3) مطبوخاً أدنى طبخة وإن أشتدّ إذا شربَ ما لم يسكرْ بلا لهو وطرب[(4)]): أي إنَّما يحلّ هذه الأشربةُ إذا شربَ ما لم يسكر، أمَّا القدحُ الأخيرُ(5)، وهو المسكرُ حرامٌ اتّفاقاً، وشرطُهُ أن يشربَ لا لقصدِ اللهوِ والطرب، بل لقصدِ التقوى.
(والخليطان[(6)
__________
(1) ينظر: ((منح الجليل))(2: 455)، و
(2) ينظر: ((أسنى المطالب))(1: 10)، و((حاشيتا قليوبي وعميرة))(4: 203)،
(3) سقطت من ق.
(4) قوله: بلا لهو وطرب؛ أي لا يقصد اللهو والطرب، هذا بخلافِ فيما إذا قصدَ به التقوى، أمّا إذا قصدَ به التلَّهي والتلَّعب لا يحلّ باتِّفاق الأئمَّةِ كلِّها، وهذا القيدُ لا يختصُّ بهذه الأشربة، بل إذا شربَ الماء وغيره من المباحات بلهوٍ وطربٍ على هيئةِ الفسقة حرّم. كذا في ((الغرر))(2: 87).
(5) أي يحرم القدر المسكر منه، وهو الذي يعلم يقيناً أو بغالب الرأي أنه يسكره، فالحرام : هو القدح الأخير الذي يحصل السكر بشربه. ينظر: ((رد المحتار))(6: 453).
(6) قوله: والخليطان؛ أي يحلّ الخليطان؛ لما روي عن ابن زياد أنّه قال: سقاني ابن عمر - رضي الله عنهم - شربةً ما كدت أهتدي إلى أهلي، فغدوت إليه من الغد فأخبرته بذلك، فقال: ما زدنا على عجوةٍ وزبيب، وهذا من الخليطين، وكان مطبوخاً؛ لأنَّ المرويَّ عنه حرمةُ نقيع الزبيب، وهو المنهيُّ عنه.
فإن قيل: إنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الجمعِ بين التمر والزبيب، وعن الرطبِ والبسر، فكيف يحلّ.
قلنا: النهي محمولٌ على حالةِ العسرِ والقحط، حيث كُرِهَ للأغنياءِ الجمعُ بين النعمتين، بل يستحبُّ أن يأكلَ أحدهما، ويؤثر الآخر على جاره، حتى لا يشبع هو وجاره جائع، وما روينا من الإباحةِ محمولٌ على حالةِ اليسر والسعة بين الناس، حيث أباحَ الجمع بين النعمتين، هكذا مرويّ عن إبراهيم النخعيّ - رضي الله عنه -. كذا في ((مبسوط شيخ الإسلام)).
(10/128)
________________________________________
]): وهو أن يجمعَ بين ماءِ التمرِ والزبيبِ ويطبخَ أدنى طبخة، ويترك إلى أن يغليَ ويشتدّ، يحلُّ(1) بلا لهو وطرب.
( ونبيذُ العسلِ[(2)] والتينِ والبُرِّ والشعيرِ والذرة وإن لم يطبخْ بلا لهوٍ ولا طرب، وخلُّ الخمر(3) ولو بعلاج[(4)]): أي بإلقاءِ شيءٍ فيه، وهذا احترازٌ عن قولِ الشافعيّ(5) - رضي الله عنه -، فإنّ التخليلَ إذا كان بإلقاءِ شيءٍ لا يحلُّ الخلُّ قولاً واحداً، وإن كان بغيرِ إلقاءِ شيء ففيه قولان له.
__________
(1) في ب: ويحل.
(2) قوله: ونبيذ العسل… الخ؛ أي نبيذُ هذه الأشياء حلال، وهو مذهب أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - وأبي يوسف - رضي الله عنه -؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الخمر من هاتين الشجرتين))[مسلم(3: 1573)]، وأشارَ إلى الكرمةِ والنخلة، خصّ التحريم بهما، والمراد بيان الحكم إذ هو اللائقُ بمنصب الرسالة، لا بيان اللغة، كما ذهب إليه مالك - رضي الله عنه - والشافعي - رضي الله عنه -، ثم قيل: يشترطُ فيه الطبخ لإباحته، وقيل: لا يشترط، وتفصيله في شروح ((الهداية)).
(3) أي حل الخل الذي يتحوَّل الخمر إليه. ينظر: ((درر الحكام))(2: 88).
(4) قوله: وخلّ الخمر؛ ولو بعلاج؛ أي خلّ الخمر حلالٌ مطلقاً عندنا، وكذا التخليلُ خلافاً للشافعي - رضي الله عنه -، له: إنَّ في التخليلِ اقتراباً من الخمرِ على وجه التموّل، والأمرُ بالاجتنابِ ينافيه.
ولنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم الإدامُ الخل))[الترمذي(4: 278)، وأبو داود(3: 359)، والنسائي(4: 160)، و((مسند أبي عوانة))(5: 195)، والدارمي(2: 138)]؛ ولأنَّ بالتخليلِ يزولُ الوصفُ المفسد، وتثبت صفة الصلاح من حيث تسكين الصفراء، وكسرِ الشهوة، والتغذّي به، والإصلاح مباح، وكذا الصالحُ للمصالح اعتبار بالمتخلّل بنفسه وبالدباغ.
(5) ينظر: ((روضة الطالب))(1: 18)، و((التنبيه))(ص17)، وغيرهما.
(10/129)
________________________________________
(والانتباذُ(1) في الدباء والحنتم والمزفَّتِ والنقير)، الدباءُ: القرع، والحنتمُ: الجرَّة الخضراء، والمزفت: الظرفُ المطلي بالزفت؛ أي القير، والنقير: الظرفُ الذي يكون من الخشبِ المنقور.
اعلم أنَّ هذه الظروفَ كانت مختصَّةً بالخمر، فإذا حرِّمت الخمرُ حرِّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - استعمالَ هذه الظروف، إمَّا لأنَّ في استعمالها تشبُّهاً بشربِ الخمر، وإمّا لأنَّ هذه الظروفَ كان(2) فيها أثرُ الخمر، فلمَّا مضت مدَّةٌ أباحَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -[(3)] استعمالَ هذه الظروف، فإنّ أثرَ الخمرِ قد زال عنها، وأيضاً في ابتداءِ تحريمِ شيءٍ يبالغُ ويشدَّد ليتركَه الناسَ مرَّة، فإذا تركَ الناسُ واستقرَّ الأمرُ يزولُ ذلك التشديدُ بعد حصولِ المقصود.
__________
(1) في ق زيادة: فيكفر مستحلها.
(2) في ب وف: كانت.
(3) قوله:أباح النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى محمّد - رضي الله عنه - في كتاب ((الآثار)) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: ((نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هجراً، فقد أذن محمد - صلى الله عليه وسلم - في زيارة قبر أمِّه، وعن لحوم الأضاحي لا تمسكوها فوق ثلاثة أيّامٍ فامسكوها ما بدا لكم وتزوَّدوا، فإنّما نهيتُكم ليوسعَ موسعكم على فقيركم، وعن النبيذ في الدباء والحنتم والمزفّت فاشربوا في كلّ ظرف، فإنّ الظرف لا يحلّ شيئاً ولا يحرّمه، ولا تشربوا المسكر))[مسلم(2: 672)، ابن حبان(12: 213)]، وقال ذلك بعد ما أخبر عن النهي عنه، فكان ناسخاً له.
(10/130)
________________________________________
( وكرهَ شربُ[(1)] دُرْدِيّ(2) الخمر، والامتشاطُ به[(3)])، المرادُ بالكراهةِ الحرمة؛ لأنَّ فيه أجزاءَ الخمر، إلا أنَّه ذكرَ لفظَ الكراهةِ لا الحرمة؛ لعدمِ النصِّ القاطعِ فيه، ( ولا يحدُّ شاربُهُ[(4)] بلا سكر)، فإنّ في الخمر إنّما يحدُّ بشربِ القليل؛ لأنَّ قليلَ الخمرِ يدعو إلى الكثير، ولا كذلك في الدُرْدِيّ فاعتبرَ حقيقةُ [السكر](5).
__________
(1) قوله: وكره شرب… الخ؛ لأنَّ فيه أجزاءُ الخمر، والانتفاعُ بالمحرَّم حرام؛ ولهذا لا يجوز التداوي به جرحاً أو دبرة دابة، ولا أن يسقي صبيّاً للتداوي، والوبال على مَن سقاه، وكذا الحال في المحرّمات كلِّها كالبنجِ والأفيون. [ينظر: ((الهداية))(4: 113-114)].
(2) دُرْدِيّ: أي العَكَر. ينظر: ((المصباح))(ص324).
(3) قوله: والامتشاط به؛ أي استعمالُ المشطِ بالدرديّ، وإنّما خصَ الامتشاط؛ لأنَّ له تأثير في تحسينِ الشعر، وذلك شيء يضعُه بعضُ النساء؛ لأنه يزيدُ في بريقِ الشعر. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص590)].
(4) قوله: ولا يحدُّ شاربه؛ أي شاربُ الدرديّ بلا سكر، هذا عندنا: أمّا عند الشافعيّ - رضي الله عنه - فيحدّ؛ لأنَّه شربَ جزء من الخمر، ولنا: إنّ قليلَه لا يدعو إلى كثيره، لما في الطباعِ من النتؤة عنه، فكان ناقصاً فأشبه [غير] الخمر من الأشربة، ولا حدّ فيها إلا بالسكر، ولأنَّ الغالبَ عليه الثفل، فصار كما إذا غلبَ عليه الماءِ بالامتزاج. كذا في ((الهداية))(4: 114).
(5) سقطت من ف.
(10/131)
________________________________________
كتاب الصيد[(1)][(2)
__________
(1) قوله: كتاب الصيد؛ مناسبةُ كتاب الصيد بكتاب الأشربة من حيث أنّ كلَّ واحدٍ من الأشربة والصيد ممَّا يورث السرور إلا أنّه قدَّم الأشربةَ بحرمتها، اعتباراً بالاحتراز منها ومجانبته ومحاسن المكاسب. كذا في ((العناية))(9: 21).
(2) قوله: الصيد؛ هو مصدر بمعنى الاصطياد، ثم سمّي به الصيد تسميةً للمفعول بالمصدر، فصار اسماً لكلّ حيوانٍ متوحِّشٍ ممتنعٍ عن الآدميّ، مأكولاً كان أو غير مأكول، لما فيه من تحصيل المنفعة من جلده أو شعره، أو دفع أذاه من الناس، وهو حلال أو حرام؛ لأنَّ الصائدَ إمَّا أن يكون مُحْرِماً أو لا؛ فإن كان مُحْرِماً فهو حرام.
وإن لم يكن فإمّا أن يصطاد في الحرم أو لا، فالأوّل حرام أيضاً، والثاني فهو حلال إن وجدَ فيه خمسةَ عشرَ شرطاً، خمسةٌ في الكلب:
الاثنان: منها أن يكون معلَّما وأن يقتلَ جرماً؛ لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ}الآية[المائدة:4]، هذا ظاهر الرواية، وعن الأعظم - رضي الله عنه -: إنّه لا يشترط الجرح، وقد عبَّر عنهما المصنّف - رضي الله عنه - بقوله: بشرط علمهما وجرحهما؛ أي علم ذي ناب وذي مخلب وجرحهما.
والثالث: أن لا يشاركه في الأخذ ما لا يحلّ صيده، وقد عبّر عنه بقوله: أن لا يشاركه الكلب… الخ.
والرابع: أن يذهبَ على سنن الإرسال، وقد عبَّر عنه بقوله: ولا يطول وقفته.
والخامس: أن لا يأكل منه، وقد عبّر عنه بقوله: إلا إن أكل الكلب.
وخمسة في الصائد:
أن يوجد منه الإرسال.
وأن يكون من أهل الذبح، بأن يكون مسلماً أو كتابيّاً.
وأن لا يشاركه في الإرسالِ مَن لا يحلّ صيده كالمجوسي.
وأن لا يتركَ التسميةَ عامداً، وقد عبَّر عن هذه الأربعة بقوله: وإرسالُ مسلم إيّاهما مسمّياً.
والخامس: أن لا يشغلَ بين الإرسالِ والأخذ بعملٍ آخر، وقد عبَّر عنه بقوله: وأن لا يقعدَ عن طلبه… الخ.
وخمسةٌ في الصيد:
الأوّل: أن يمنعَ نفسه عن قصده إمّا بقوائمه أو بأجنحته، فيخرج منه الحيوانات الأهلية، وقد عبّر عنه بقوله: على ممتنعٍ متوحّش.
والثاني: أن لا يكون من الحشرات.
والثالث: أن لا يكون من الحيوانات البحرية، إلا السمك.
والرابع: أن لا يكون متعدّيا أو صائداً بأنيابه أو مخلبه، وقد عبَّر عن هذه الثلاثة بقوله: يؤكلُ لأنّه لا يؤكل شيء منها.
والخامس: أن يموت، بهذا قبل أن يصل إلى ذبحه، وما وجدته في ((المتن)) صريحاً، وإن كان بعض عبارته لا يخلو عن الإشارةِ إليه في الجملة.
قال الأكمل بعد نقل هذه الشروطِ من ((نهاية الخلاصة)): وفيه تسامح؛ لأنَّ هذه شرائط الاصطياد للأكلِ بالكلب لا غير،\ على أنّه لو انتفى بعضه لم يحرم، كما لو اشتغلَ بعملٍ لكن أدركه حيَّاً فذبحه، وكذا إذا لم يمت بهذا، لكنّه ذبحه، فإنّه صيد، وهو حلال، هذا خلاصةُ ما قال أخي جلبي في ((حاشيته))(ص590-591) فليتأمّل فيه.
(10/132)
________________________________________
]
(يحلُّ صيدُ كلِّ ذي نابٍ و[ذي] (1) مخلبٍ من كلبٍ أو بازٍ ونحوهما)، قد مرَّ في (الذبائح)(2) معنى ذي النابِ وذي المخلب، ثمَّ اعلم أنَّ الخنْزيرَ مستثنى؛ لأنّه نجسُ العين، وأبو يوسفَ - رضي الله عنه - استثنى الأسد؛ لعلوِّ همَّته، والدُّبّ؛ لخساسته، والبعضُ ألحق الحِدأة(3) به؛ لخساسته، والظاهرُ أنّه لا يحتاجُ إلى الاستثناء؛ فإنّ الأسدَ والدُّبَّ لا يصيران مُعَلَّمين لعلوِّ الهمةِ والخساسة، فلم يوجدُ شرطُ حلّ الصيد.
(بشرطِ: علمِهما[(4)
__________
(1) زيادة من ب و م.
(2) ص ).
(3) حِدأة: بالكسر: وهي طائر من الجوارح، وهو أخس الطير، يغلبه أكثر الطيور، وينقض على الجُرْذان والدواجن، والغراب يسرق بيض الحدأة ويترك مكانه بيضه فالحدأة تحضنها فإذا فرخت فالحدأة الذكر تعجب من ذلك ولا يزال يزعق ويضرب الأنثى حتى يقتلها، ينظر: ((حياة الحيوان))(1: 229)، و((عجائب المخلوقات))(2: 259)، و((المعجم الوسيط))(ص159).
(4) قوله: علّمها؛ أي بشرطِ تعليمها؛ أي ذي ناب وذي مخلب، أمّا تعليمُ ذي ناب من كلب أن يترك الأكل ثلاث مرّات، قال في كتاب ((الأصل)): إذا أخذ الصيدَ ولم يأكل، وأخذَ الآخر ولم يأكل، ثم صاد الثالث ولم يأكل فهو مُعَلَّم، والتعليمُ عندنا أن يرسلَ ثلاث مرّات كلَّ مرَّة بقتلِ الصيدِ ولم يأكل، وأمّا تعليمُ ذي مخلب من بازي أن يرجعَ ويجب إذا دعوته، وهو مأثور عن ابن عباس - رضي الله عنه -؛ ولأنَّ بدن البازيّ لا يحتملُ الضرب، وبدنُ الكلب يحتمله فيضرب؛ ليتركه؛ ولأنَّ آيةَ التعليم تركُ ما هو ألوفةٌ عادةً، والبازيّ متوحِّش مُتَنَفِّرٌ، فكانت الإجابةُ آيةُ تعليمه.
أمّا الكلب فهو مألوفٌ يعتاد الانتهاب، فكان آيةَ تعليمه تركُ مألوفه: وهو الأكلُ والاستلاب، وإنّما شرطَ ثلاثاً؛ لأنَّ فيما دونها مزيدُ الاحتمال، فلعلَّه تركَ مرّة أو مرَّتين شبعاً، فإذا تركَه ثلاثاً دلَّ على أنّه صار عادةً له، وهذا التقديرُ معتبرٌ في مواضع عديدة. [ينظر: ((الهداية))(4: 116)].
(10/133)
________________________________________
](1)، وجرحِهما(2): أيُّ موضعٍ منه)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمَّد - رضي الله عنه -، وعن أبي يوسفَ - رضي الله عنه - أنَّه لا يشترطُ الجرح، (وإرسالِ مسلمٍ[(3)] أو كتابيّ إيَّاهما مسمّياً): أي لا يتركُ التسميةَ عامداً، (على ممتنعٍ متوحِّش يؤكل)، يشترطُ في الصيدِ أن يكون ممتنعاً[(4)] بالقوائمِ أو الجناحين، فالصيدُ الذي استأنسَ ممتنعٌ غير متوحِّش[(5)
__________
(1) في ب: عليهما. أي علم ذي ناب وذي مِخْلَب بأخذ الصيد؛ لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمتُمْ}. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 81).
(2) لتحقق الذكاة الاضطرارية. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 82).
(3) قوله: وإرسال مسلم… الخ؛ قال في ((الهداية))(4: 116): لما روينا من حديث عَدِيّ - رضي الله عنه -؛ ولأنّ الكلب أو البازيّ آلة، والذبحُ لا يحصل بمجرّد الآلة إلا بالاستعمال، وذلك فيهما بالإرسال، فنَزَل منْزلة الرمي، وإمرار السكين، فلا بُدَّ من التسمية عنده، ولو تركه ناسياً حَلَّ أيضاً على ما بيَّناه.
(4) قوله: يشترط في الصيد أن يكون ممتنعاً… الخ؛ أقول مقتضى كلامه إلى قوله: عن حيز الامتناع أن يقول بعد قوله: ممتنعاً ومتوحِّشاً؛ لأنَّه بيَّنَ الحاجةَ لكلّ واحدٍ منهما، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يكتفيَ بذكرِ أحدهما اعتماداً على ظهورِ الآخر منه. كذا في ((حاشية الجلبي))(ص591).
(5) قوله: غير متوحِّش؛ فلا يكون صيداً فيحرم، ولو قتلَه الكلب أو البازيّ أو السهم، لا يقال: يخالفُه قول الأكمل في (جناية الحج) في قوله: المتوحّش؛ أي في أصل الخلقة؛ ليدخلَ فيه الحمامُ المسرول، والظبيّ المستأنس؛ لأنَّ الاستئناس عارضٌ فيهما؛ لأنَّا نقول: يمكن التوفيقُ بينهما بأنّ الأكملَ - رضي الله عنه - عدَّه صيداً في حقّ المحرمِ احتياطاً؛ لدخوله تحت قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُم}[المائدة:95]؛ لأنَّ المتبادرَ منه هو الصيد في أصلِ الخلقة، وكلُّ ما هو كذلك فهو صيدٌ في حقِّه، سواءً كان ممتنعاً أو متوحِّشاً، أو لا؛ ولهذا يلزمُ دمٌ في قتل الحمام والظبيّ وإن كان مستأنسين، لا في البقرِ والبعير وإن كانا فارَّين، بحيث لا يمكنُ فيهما الذكاة الاختيارية.
وأمّا في حقِّ صيدِ غير المحرم، فالمدارُ هو امتناعُ الذكاة الاختياريّة فيما يمتنع ذكاته بالاختيار، يحلُّ له قتلُه صيداً كالبعيرِ والبقرِ الفارّين، مع أنّهما أهليَّان خلقةً، وما يمكن فيه الذكاةُ المذكورةُ يحرمُ له صيدُه، كالحمامِ والظبيِّ المستأنس، وإن كانا وحشيين خلقةً، قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص591).
(10/134)
________________________________________
]، والصّيدُ الواقعُ في الشبكةِ والساقطُ في البئرِ والذي أثخنه متوحِّشٌ غيرُ ممتنعٍ[(1)] لخروجه عن حيزِ الامتناع(2).
(وأن لا يشاركَ الكلبُ المعلَّمُ كلبٌ لا يحلّ صيده)، مثلُ كلبٍ غيرِ مُعَلَّم، أو كلبِ مجوسيٍّ، أو كلبٍ لم يرسلْ للصيد، أو أرسلَ وتركَ التسميةَ عمداً، (ولا يطولُ وقفته بعد إرساله)، فإنّه إن طال[(3)] وقفتُه بعد الإرسالِ لم يكن الاصطياد مضافاً إلى الإرسال، بخلاف ما إذا كَمَنَ الفهد، فإنّ هذا حيلةٌ في الاصطياد، فيكون مضافاً إلى الإرسال.
__________
(1) قوله: متوحّش غير ممتنع؛ فلا يكون صيداً لانتفاءِ شرطه، فلا يحلّ شيءٌ من الثلاثة المذكورة، بقتلِ الكلب أو البازي أو السهم. كذا قيل، وفيه ما فيه. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص592)].
(2) فلا يجري عليه الحكم المذكور من الذبح الاضطراري. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 575).
(3) قوله: فإنّه إن طال… الخ؛ يعني إن امتدَّ زمان توقُّف الكلبِ بين الإرسالِ والأخذِ ساعة للاستراحة، أو الاشتغالِ بأمرٍ آخر، وكذا الحالُ في البازي. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص592)].
(10/135)
________________________________________
(ويُعَلَمُ المُعَلَّمُ بتركِ [أكل الكلب(1)](2) ثلاثَ مرَّات(3)[(4)]، ورجوعُ البازيّ بدعائه، فإن أكلَ منه البازيّ أكلَ، لا إن أكلَ الكلب، ولا ما أكلَ منه بعد تركِهِ ثلاث مرَّات، ولا ما صادَ بعده حتى يَتَعَلَّم، و(5)قبله و(6)بقى(7) في ملكه): أي لا يحلُّ ما صادَ الكلبُ بعدما أكلَ حتى يَتَعَلَّم: أي يتركَ الأكلَ ثلاثَ مرَّات، ولا يحلُّ ما صادَ قبل الأكل إذا بقيَ في ملكه، فإنَّ الكلبَ إذا أكلَ علمَ أنَّه لم يكن كلباً معلَّماً، وكلّ ما صادَ قبل ذلك[(8)
__________
(1) في ب: لكلب.
(2) في أ: الكلبِ الأكل
(3) وإنما قدر بثلاث مرات؛ لأنه ربّما يترك الأكل لشِبَعه، فقدّر له مدّة ضربت للاختبار كما في مدّة الخيار. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 83).
(4) قوله: ثلاث مرَّات؛ هذا عندهما وروايةٌ عنه، وعنده: لا يثبت التعليمُ ما لم يغلبُ على ظنِّ الصائد أنّه مُعَلَّم، ولا يقدَّرُ بالثلاث؛ لأنَّ المقاديرَ لا تعرف اجتهاداً بل نصّاً وسماعاً، ولا سماع، فيفوّض إلى رأي الممبتلى به، كما هو أصل الأعظم - رضي الله عنه - في جنسها، ولم يتعرَّض في أكثرِ المعتبرات لتعيين عددِ إجابةِ البازيّ حتى يصيرُ مُعَلَّماً، فينبغي أن يكون على الاختلاف الذي ذكر في الكلب، ولو قيل: يصيرُ معلَّماً بإجابةٍ واحدةٍ كان له وجه؛ لأنَّ الخوف ينفّره بخلاف الكلب، قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص592)].
(5) في ف: أو.
(6) في م: إذ1.
(7) في ف: أو أبقى.
(8) قوله: وكلّ ما صاد قبل ذلك… الخ؛ أقول: وهو على ما في ((الهداية)) على ثلاثة أقسام: مأكول ومحرز في بيتِ الصيَّاد، وما ليس بمحرز بأن كان في المفازة، بأن لم يظفر صاحبه بعد، فحكمُ الأوّل أن لا يظهر الحرمة فيه؛ لانعدامِ المحليّة؛ لأنَّ الحكمَ بالمحرميَّة لا يتصوَّرُ إلا في محلٍّ قائم، وقد فاتَ المحلِّ بالأكل، وحكم الثاني أنّه محرّم عند الأعظم - رضي الله عنه - خلافاً لهما، وجه قولهما: إنّ الأكلَ لا يدلُّ على الحالِ فيما مضى؛ لأنَّ الحرفةَ تنسى، ووجه قوله: إنّ الأكلَ آيةُ جهلِهِ ابتداءً؛ لأنَّ الحرفةَ لا ينسى أصلها، فإذا تبيَّن أنّه كان تركه للشبعِ لا للعلم، والحاصلُ أنّه على قولهما يحكمُ بجهله مقصوراً على وقتِ الأكل، وعنده مستنداً، وحكمُ الثالث أنّه محرّم إجماعاً؛ لأنَّ معنى الصيدية فيه باقٍ من وجه، وهو أنّه بعدّ في المفازة. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص592)].
(10/136)
________________________________________
] الأكلِ فهو صيدُ كلبٍ جاهل، فيحرمُ إذا بقي في ملكِ الصيَّاد.
( ومن شرطِ الحلِّ بالرمي(1) التسمية[(2)]): أي لا يتركها عامداً، ( والجرح، وأن لا يقعدَ عن طلبه لو(3) غاب متحاملاً سهمه): أي رمي فغابَ عن بصرِهِ متحاملاً سهمه، فأدركه ميتاً، فإن لم يقعدْ عن طلبِهِ حلَّ أكله؛ لأنَّ هذا ليس في وسعه، وإن قعدَ عن طلبه يحرم؛ لأنَّ في وسعه[(4)] أن يطلبَه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعلّ هوامَّ الأرضِ قتلته))(5).
__________
(1) ويدخل تحت الحل بالرمي، حل الصيد بالرصاص؛ لأنه مقتول بالجرح. ينظر: ((فتوى الخواص في حل ما صيد بالرصاص))(ص2-3).
(2) قوله: التسمية؛ لكونِ السهم آلةٌ له، فتشترط التسميةُ عند الرمي، وجميع البدن محلّ ذكاة الاضطرار، ولا بُدّ من الجرح ليتحقَّقَ معنى الذكاة، على ما مرّ.
(3) في ف: إن.
(4) قوله: لأنّ هذا ليس في وسعه… الخ؛ أقول: لفظ هذا إشارةٌ إلى زبدة ما فُهِمَ من قوله: فغابَ... إلى فأدركه ميتاً، يعني عدمُ غيبة صيده عن بصره دائماً غير مقدور لأحد، يؤيِّدُه قول صاحب ((الهداية)): ضرورة أن لا يعرى الاصطياد عنه، أمّا عدمُ الفراغِ عن طلبه الممكن له مقدورٌ لكل أحد. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص592-593)].
(5) من حديث أبي رزين وعائشة في ((المعجم الكبير))(19: 214)، وفي لظف مسلم(3: 1532): عن أبي ثعلبة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكله ما لم ينتن))، وينظر: ((نصب الراية))(4: 314)، و((الدراية))(2: 255).
(10/137)
________________________________________
(فإن أدركَه المرسلُ أو الرامي حيَّاً ذكَّاه)، المرادُ إنّه أدركه حيَّاً، وفيه من الحياةِ فوقَ ما يكون في المذبوحِ يجبُ التذكية، حتى لو تركَ التذكيةَ يحرم، وقد قال في ((المتن)): فإن تركها عمداً المرادُ به: إنَّه تركَ التذكيةَ مع القدرة عليها، أمّا إن(1) لم يتمكّن من التذكيةِ ففي ((المتن)) إشارةٌ إلى حلِّه كما روي عن أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وكذا عن أبي يوسفَ - رضي الله عنه - وهو قولُ الشافعيّ(2) - رضي الله عنه -، وفي ظاهرِ الرواية[(3)]: إنّه يحرمُ وإن كان حياته مثل حياة المذبوح فلا اعتبارَ لها، فلا يجبُ التذكية، أمَّا في المتردِّية وأخواتها، وفي الشاةِ التي مرضت[(4)] فالفتوى على أنَّ الحياة وإن قلَّت معتبرة، حتى لو ذكَّاها وفيها حياةٌ قليلةٌ يحلّ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}(5).
__________
(1) سقطت من ص.
(2) ينظر: ((النكت))(2: 233)، و
(3) قوله: في ظاهر الرواية: إنّه يحرم؛ لأن هذه قدرةٌ اعتباريّة؛ لأنّها تثبتُ يده على المذبح، وهو قائم مقام التمكّن من الذبح، إذ لا يمكن اعتباره؛ لأنّه لا بُدَّ له من مُدّة، والناسُ يتفاوتون فيها على حسب تفاوتهم في الكياسة والهداية في أمر الذبح، فإنّ منهم مَن يتمكَّنُ في ساعة، ومنهم مَن لا يتمكَّن في أكثر، فأديرَ الحكمُ على ثبوت اليد على المذبح. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص593)].
(4) قوله: وفي الشاةِ التي مرضت… الخ؛ قال أبو القاسم - رضي الله عنه -: إذا ذبحَ الشاةَ ولم يسل منه الدم لا تحلّ؛ لأنَّ الدمَ النجس لم يسل، فلا يكون في معنى الذبح، وقال أبو بكر الإسكاف - رضي الله عنه -: تحلّ؛ لوجود الذكاة في محلّها المذكور في الذبائح، والدمُ يحتبس لغلظه أو يضيقُ المنفذ. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص593)].
(5) المائدة، (3).
(10/138)
________________________________________
(فإن تركها[(1)]): أي التذكية، (عمداً فمات أو أرسلَ(2) مجوسيّ كلبَه[(3)]، فزجرَه مسلمٌ فانزجر): أي أغراهُ بالصياح[(4)] فاشتدّ(5)، (أو قتله معراض بعرضه[(6)])، المعراضُ
__________
(1) قوله: وإن تركها… الخ؛ أي تركَ التذكيةَ حتى مات، سواء كان فيه الحياةُ بنيّة أو محضية حرم؛ لأنَّه قدرَ على الأصلِ أي الذكاة الاختياري قبل حصول المقصود بالبدل؛ أي الذكاة الاضطرارية، أو المقصودُ هو إباحةُ الأكل، ولم تثبت قبل موت الصيد، فبطل حكم البدل، هذا إذا تمكَّن من ذبحه، أمّا إذا وقعَ في يده ولم يتمكَّن من ذبحه، وفيه من الحياةِ فوق ما يكون من المذبوح، فعلى الخلاف الذي ذكره الشارح - رضي الله عنه - آنفاً، تحت قول الماتن - رضي الله عنه -: فإن أدركه المرسلُ أو الرامي… الخ.
(2) في ت وج: أرسله.
(3) قوله: أو أرسل مجوسيٌّ كلبَه… الخ؛ أي إن أرسلَ مجوسيٌّ كلبَه فزجرَه مسلم فانزجر حرم الصيد؛ لأنّ الزجرَ دون الإرسال؛ ولهذا لم تثبت به شبهةُ الحرمة، فأولى أن لا تثبت بزجرِ المسلمِ الحلّ، قال في ((الهداية))(4: 120): وكلّ مَن لا تجوزُ ذكاته كالمرتدّ والمحرم، وتارك التسمية عامداً في هذا بمنْزلةِ المجوسيّ.
(4) قوله: أي أغراه بالصياح… الخ؛ الزجرُ في اللغة: السوق، يقال: زجرَ البعير إذا ساقه، لكنَّ المراد هاهنا هو السوقُ المقارن للتخصيص؛ لذا فسَّرَه بالإغراء المرادف له، قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص593)].
(5) إذا المراد بالزجر: الإغراء بالصياخ عليه، وبالإنزجاء يحصل زيادة الطلب للصيد. ينظر: ((تكملة البحر))(8: 255).
(6) قوله: أو قتله معراض بعرضه… الخ؛ أي حرمَ لما أخرجه البُخاريّ في ((صحيحه))(2: 725) مسنداً إلى الشَّعبيّ قال: قال عَدِيّ بن حاتم: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المعراض، فقال: ((إذا أصابَ بحدّه فكل، وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل))، فإنّه قيد، ولأنّه لا بُدَّ من الجرحِ ليتحقَّق معنى الذكاة على ما مرّ.
(10/139)
________________________________________
السهمُ الذي لا ريشَ له، سمّيَ معراضاً؛ لأنَّه يصيبُ الشيءَ بعرضه، فلو كان في رأسه حدَّة فأصابَ بحدته(1) يحلّ، أو بندقةٍ(2) ثقيلةٍ ذات حدّة، إنَّما قال هذا؛ لأنّه يحتملُ أن يكون قد قتلَه بثقله، حتى لو كان خفيفاً به حدَّة يحلّ لتعيَّن أنَّ(3) الموتَ بالجرح، (أو رمى صيداً فوقعَ في ماء)، فإنّه يحتملُ أنَّ الماءَ قتله فيحرم، (أو على سطحٍ أو جبلٍ فتردَّى منه(4) إلى الأرض حرم[(5)])؛ لأنَّ الاحترازَ عن مثلِ هذا ممكن، فإن وقعَ على الأرضِ ابتداءً فإنّ الاحترازَ[(6)] عن مثل هذا غير ممكن، فيحلّ.
__________
(1) في ف: بحدة.
(2) البُنْدُقُ: ما يعمل من الطين ويرمى به الواحدة منها بُنْدُقة، وجمع الجمع البنادق. ينظر: ((المصباح))(ص39).
(3) سقطت من ف.
(4) في ب: منهما.
(5) قوله: حرم؛ جزاء لقوله: فإن تركها مع معطوفاته، والأصلُ في هذه المسائل أنّ الموتَ إذا كان مضافاً إلى الجرحٍ بيقينٍ كان الصيدُ حلالاً، وإذا كان مضافاً إلى الثقل بيقينٍ كان حراماً، وإن وقعَ الشكُّ ولا يدرى ماتَ بالجرح أو بالثقلِ كان حراماً احتياطا، هذا ما في ((الهداية))(4: 123) وشروحه.
(6) قوله: فإنّ الاحتراز… الخ، وفي اعتبارِ الاحترازِ سدّ باب الاصطياد، بخلاف ما تقدَّم وهو ما إذا وقعَ على جبلٍ ونحوه، ثمَّ تردَّى إلى الأرض حرم؛ لأنّه يمكن التحرُّز عنه، فصار الأصلُ أنّ سببَ الحرمة والحلّ إذا اجتمعا وأمكن التحرّز عمّا هو سببُ الحرمةُ ترجّح جهةُ الحرمةِ احتياطاً، وإن كان ممّا لا يمكن التحرّز عنه جرى وجوده مجرى عدمه؛ لأنّ التكليفَ بحسب الوسع. كذا في ((الهداية))(4: 122).
(10/140)
________________________________________
( أو أرسلَ مسلمٌ[(1)] كلبَه فزجرَه مجوسيّ فانزجر، أو لم يرسلْهُ[(2)](3) أحد، فزجرَه مسلمٌ فانزجر)، اعلم أنّه إذا اجتمعَ الإرسالُ والزجرُ: أي السوقُ، فالاعتبارُ للإرسال، فإن كان الإرسالُ من المجوسيِّ والزجرُ من المسلمِ حَرُم، وإن كان على العكسِ حلّ، وإن لم يوجدْ
__________
(1) قوله: أو أرسل مسلم… الخ؛ إن أرسلَ مسلمٌ فزجرَ مجوسيّ فإن زجر حلّ، وأطلق في قوله: فزجره مجوسيّ إلى آخره، فشملَ ما إذا زجره في حال طلبه أو بعد وقوفه فانزجر، والمراد الأوّل لما ذكره شمسُ الأئمّة - رضي الله عنه - في شرح (كتاب الصيد): فيما إذا أرسل مسلمٌ كلبه فزجره مجوسيٌّ إنّما يحلّ إذا زجرُه في ذهابه، أمّا إذا وقفَ الكلب عن سنن الإرسال، ثمّ زجره مجوسيٌّ بعده فإنزجر لا يؤكل.
والفرق بين هذه المسألةِ وبين المسألة السابقة يعني: أرسل مجوسيٌّ كلبه فزجرَه مسلم فإن زجرَ حرم: أنّ إرسالَ المسلم قد صحّ، وصيحةُ المجوسيّ لا تفسده؛ لأنّه تقوية الإرسال، وتحريص للكلب، وليس الإرسالُ منه ابتداءً، فلا ينقطع الإرسال بالزجر فبقي صحيحاً، فأما الإرسال من المجوسيّ فإنّه وقعَ فاسداً، فلا ينقلب صحيحاً بالزجر، وكذا إذا أرسلَ وتركَ التسميةَ عامداً، فزجره مسلمٌ وسمّى لم يحل، ولو وجدت التسمية من المرسل فزجره مَن لم يسمّ حلّ، والأصلُ فيه أنّ أصلَ الفعل متى وقعَ صحيحاً لا ينقلب فاسداً، ومتى وقع فاسداً لا ينقلب صحيحاً، هذا خلاصة ما في ((تكملة البحر))(8: 255-256).
(2) قوله: أو لم يرسله… الخ؛ إلى أن لم يرسله أحد فزجره مسلم فإنزجر أكل، هذا استحسان، والقياس أن لا يؤكل؛ لأنّ الإرسالَ جعل ذكاة عند الاضطرار للضرورة، فإذا لم يوجد انعدمَ الذكاةُ حقيقةً وحكماً فلا يحلّ، والزجرُ بناء عليه فلا يعتبر، ووجه الاستحسان: إنّ الزجر عند عدم الإرسال يجعل إرسالاً؛ لأنَّ انزجاره عقيب زجره دليل طاعته، فيجب اعتباره، فيحلُّ إذ ليس في اعتباره إبطالُ السبب.
(3) في ف: يرسل.
(10/141)
________________________________________
الإرسالُ ووجدَ الزجرُ يعتبرُ الزجر، فإن كان من المسلمِ حلّ، وإن كان من المجوسيّ حرم.
(أو أخذ غيرَ ما أرسلَ عليه أكل[(1)])، هذا عندنا، فإنّه لا يمكنُ التعليمُ بحيث يأخذُ ما عيَّنَه، وعند مالكٍ(2) - رضي الله عنه - لا يؤكل، وإن أرسله فقتلَ صيداً ثمَّ قتلَ صيداً آخرَ أكلا، كما لو رمى سهماً إلى صيدٍ فأصابه وأصاب آخر، وكذا لو أرسلَ على صيودٍ كثيرة، وسمَّى مرَّة واحدة، بخلافِ ذبحِ الشاتين(3) بتسميةٍ واحدة.
__________
(1) قوله: أكل؛ جزاء لقوله: فإن وقع مع معطوفاته؛ أي إن أخذ كلبُه غير ما أُرْسِلَ عليه أكل هذا عندنا، وقال مالك - رضي الله عنه -: لا يؤكل، كما صرَّح به الشارح - رضي الله عنه -، وجه قول مالك - رضي الله عنه - أنّه أخذه بغير إرسال، إذ الإرسالُ يختصُّ بالمشار، والتسميةُ وقعت عليه، فلا تتحوَّلُ إلى غيره، فصارَ كما لو أضجعَ شاةً وسمَّى عليها وخلاَّها، فذبحَ غيرها بتلك التسمية، وقال ابن أبي ليلى - رضي الله عنه -: يتعيّن الصيدُ بالتعيين مثل قول مالك - رضي الله عنه -، حتى لا يحلّ غيره بذلك الإرسال، ولو أرسل من [غير] تعيين يحلّ ما أصابه خلافاً لمالك، وهذا بناءً على أنَّ التعيين شرطٌ عند مالك - رضي الله عنه -، وعنده ليس شرط، ولكن إذا عيَّن تعيّن، ودليلنا ما ذكرَه الشارحُ - رضي الله عنه -، وأيضاً عندنا التعيينُ ليس بشرط، ولا يتعيَّن بالتعيين؛ لأنّ الصيَّادَ لا يُكَلَّفُ بما لا يقدرُ عليه، وفي وسعِهِ إيجادُ الإرسالِ دون التعيين.
(2) ينظر: ((المدونة))(1: 534)، و((مواهب الجليل))(3: 216)، وغيرهما.
(3) في ب و م: شاتين.
(10/142)
________________________________________
(كصيدٍ رمى فقطعَ عضوٌ [أكل](1) منه لا(2) العضو[(3)])، هذا عندنا، وعند الشافعيّ(4) - رضي الله عنه - أكلاً جميعاً[(5)]، لنا(6) قوله - صلى الله عليه وسلم -[(7)]: ((ما أبينُ من الحيّ فهو ميَّت))(8)، (وإن قطع[(9)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ب و ج: إلا.
(3) قوله: أكل منه لا العضو… الخ؛ لما رواه ابن ماجة(2: 172) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما قطع من بهيمة وهي حيّة، فما قطع منها فهو ميّت))، ذكر الحيّ مطلقاً فينصرف إلى الحيِّ حقيقةً وحكماً، والتفصيل مذكور في ((تكملة البحر))(8: 261) فانظر هاهنا.
(4) ينظر: ((النكت))(2: 233)، و
(5) قوله: وعند الشافعيّ - رضي الله عنه - أكلا جميعاً؛ إن مات الصيدُ منه؛ لأنّه مبان بذكاة الاضطرار، فيحلّ المبان والمبان منه، كما إذا انقطعَ الرأسُ بذكاةِ الاختياريّ، أمّا إذا لم يمتْ بالقطعِ الذي حصل به الإبانة، واحتيجَ إلى ذكاةٍ أخرى فلا يحلّ؛ لأنّ هذا المبانِ لم يحصلْ بسببِ الذكاة؛ لأنّه لم يحلّ المبان منه في هذا القطع، حتى يكون الإبانةُ حاصلةً بسبب الذكاة، وما أُبين من الحيّ لا بسبب الذكاة فهو حرام، هذا تفصيل ما في ((الهداية))(4: 124).
(6) سقطت من ف.
(7) قوله: قوله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال في ((الهداية)): إنّ الحديثَ وإن تناولَ السمكَ وما أبين منه فهو ميّت، إلا أن ميتته حلال بالحديثِ الذي رويناه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحلت لها ميتتان والدمان))[ابن ماجه(2: 1073)، و((مسند الشافعي))(ص430)، و((مسند الربيع))(1: 243)، و((سنن الداقطني))(4: 271)، وغيرها].
(8) من حديث أبي وقد الليثي وابن عمر والخدري وتميم الداري في ((جامع الترمذي))(4: 74)، وقال حديث حسن غريب، و((صحيح ابن خزيمة))(4: 300)، و((سنن الدرامي))(2: 28)، ولفظه: ((ما قطع من بهيمة حية فهو ميتة))، وينظر: ((نصب الراية)(4: 317)، و((الدراية))(2: 256).
(9) قوله: وإن قطع… الخ؛ أي أكل كلّه، قال في ((تكملة البحر))(8: 261-262): لأنّ المبانَ منه حيّ صورة لا حكماً، إذ لا يتوهَّمُ سلامتُه وبقاؤه حيّاً بعد هذه الجراحة، فوقعَ ذكاةً في الحال، فحلَّ أكلُه، كما إذا أبين رأسُه في الذكاةِ الاختيارية، أشار إليه الشارحُ بقوله: فلم يتناوله…الخ، بخلاف ما إذا قطعَ يداً أو رجلاً أو فخذاً، أو ثلثه ممّا يلي القوائم، أو أقلّ من نصف الرأس، حيث يحرم المبان، ويحلّ المبان منه؛ لأنّه يتوهّم بقاء الحياة في الباقي، أشارَ إليه بقوله: لإمكانِ الحياة…الخ.
وإن ضرب عنقَ شاةٍ فأبان رأسَها تحلّ؛ لقطعِ الأوداج، ويكره لما فيه من زيادة الألم بإبلاغه النخاع، وإن ضربَها من قبل القفاء إن ماتت قبل قطعِ الأوداجِ لا تحلّ، وإن لم يمت حتى قطعَ الأوداجَ حلَّت كما مرَّ في (كتاب الذبائح)، ولو ضربَ صيداً فقطعَ يدَه أو رجلَه ولم ينفصلْ حتى مات إن كان يتوهّم التئامه واندماله حلّ أكله؛ لأنّه بمنْزلةِ سائر أجزائه، وإن كان لا يتوهّم أن يبقى معلَّقاً بجلده حلّ ما سواه دونه؛ لوجودِ الإبانةِ معنى، والعبرة للمعاني.
(10/143)
________________________________________
] أثلاثاً وأكثره مع عجزه): أي قطعه قطعتين، بحيث يكون الثلثُ في طرفِ الرأس، والثلثان في طرفِ العجز، (أو قطعَ نصفَ رأسه أو أكثره أو قدّ بنصفين أكل كلّه)؛ لأنّ في هذه الصور لا يمكن حياته فوق حياةِ المذبوح، فلم يتناوله قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أبين من الحيّ فهو ميّت))، بخلافِ ما إذا كان الثلثان في طرفِ الرأسِ والثلثُ في طرف العجز لإمكانِ الحياةِ في الثلثين فوقَ حياةِ المذبوح، وبخلاف ما إذا قطعَ أقلَّ من نصفِ الرأس لإمكانِ الحياة(1) [في الثلثين] (2) فوق حياة المذبوح.
(فإن رمى صيداً فرماه آخرُ فقتلَه فهو للأوّل(3) وحرمَ(4)[(5)
__________
(1) في ب: حياته، وفي ت و م: حياة.
(2) زيادة من ف.
(3) في أ: لأقل.
(4) لاحتمال موته بالرمي الثاني، وهو ليس بذكاة له؛ لوجود القدرة على الذكاة الاختيارية. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 88).
(5) قوله: حرم… الخ؛ لاحتمال الموت بالثاني، وهو ليس بذكاة، للقدرة على ذكاة الاختيار، بخلاف المسألة الثانية التي أشار إليها بقوله: وإلا… الخ، وهذا إذا كان الرمي الأوّل بحالٍ ينجو منه الصيد؛ لأنّه حينئذٍ تكون الموت مضافاً إلى الرمي الثاني، أمّا إذا كان الأوّل بحالٍ لا يسلم منه الصيد بأن لا يبقى فيه من الحياة إلا بقدر ما يبقى من المذبوح، كما إذا بان رأسه يحلّ؛ لأنّ الموتَ لا يضاف إلى الرمي الثاني؛ لأنّ وجودَه وعدمَه سواء.
وإن كان الرمي الأوّل بحيث لا يعيشُ منه الصيد إلاَّ أن يبقى فيه من الحياة أكثر ممَّا يكون بعد الذبح، بأن كان يعيش يوماً أو دونه، فعلى قول أبي يوسف - رضي الله عنه -: لا يحرم بالرمي الثاني؛ لأنّ هذا القدر من الحياة لا عبرة بها عنده، وعند محمّد - رضي الله عنه -: يحرم؛ لأنّ هذا القدرَ من الحياة معتبر عنده، فكان الجواب في هذه المسألة عنده كالجوابِ فيما إذا كانت الرميةُ الأولى أثخنته، وكان بحالٍ يتوهّم أن يسلم الصيد منها، فمتى رماه الثاني لا يحلّ، فكذا هذا.
(10/144)
________________________________________
]، وضَمِنَ الثاني[(1)] [له](2) قيمتَه مجروحاً إن كان الأوَّل أثخنَه، وإلا فللثاني وحلّ): أي رمى صيداً فرماهُ آخرُ فقتله، فإن كان الأوَّل أخرجَه عن حيزِ الامتناعِ فهو ملكُ للأوَّل، ويكون حراماً؛ لأن ذكاته ذكاة اختياريّة، فيحرم حيث قتلَه بالرمي، وإذا كان ملكاً للأوَّل وحرّم برمي الثاني فالثاني يضمنُ قيمتَه حال كونِه مجروحاً برمي الأوَّل، وإن لم يكن الأوَّل أخرجَه عن حيِّز الامتناعِ فهو ملكٌ للثاني؛ لأنّه قد صاده، ويكون حلالاً؛ لأنَّ ذكاته اضطرارية.
__________
(1) قوله: وضمن الثاني… الخ؛ لأنّه بالرمي أتلفَ صيداً مملوكاً للأوّل؛ لأنّه ملكه بالرمي المثخن، وهو منقوص بجراحة، وقيمة المتلف تعتبر يوم الإتلاف، قال صاحب ((الهداية))(4: 125) في تأويله: إنّه إذا علمَ أنّ القتلَ حصل بالثاني بأن كان الأوّل بحالٍ يجوزُ أن يسلم الصيدُ منه، والثاني بحالٍ لا يسلمُ الصيدُ منه؛ ليكون القتلُ كلّه مضافاً إلى الثاني، وقد قتل حيواناً مملوكاً للأوّل منقوصاً بالجراحة، فلا يضمنه كملاً، كما إذا قتل عبداً مريضاً وإن علمَ أنّ الموتَ حصل من الجراحتين أو لا يدري.
قال في ((الزيادات)): يضمنُ الثاني ما نقصته جراحته، ثمّ يضمن نصفَ قيمتِه مجروحاً بجراحتين، ثم يضمنُ نصفَ قيمة لحمه، أمَّا الأوّل؛ فلأنّه جرحَ حيواناً مملوكاً للغير، وقد نقصَه، فيضمنُ ما نقصَه أوّلاً، وأمّا الثاني؛ فلأنّ الموتَ حصل بالجراحتين، فيكون هو متلفاً نصفه، وهو مملوكٌ لغيره، فيضمنُ نصفَ قيمته مجروحاً بالجراحتين؛ لأنّ الأولى ما كانت بصنعه، والثانية ضمنها مرَّة فلا يضمنها ثانياً، وأمّا الثالث؛ فلأنّ بالرميّ الأوّل صار بحالٍ يحلّ بذكاةِ الاختيار أولاً رمي الثاني، فهذا بالرمي الثاني أفسدَ عليه نصفَ اللحم، فيضمنُه ولا يضمنُ النصفَ الآخر؛ لأنّه ضَمِنَه مرّة، فدخلَ ضمانُ اللحم فيه.
(2) سقطت من م.
(10/145)
________________________________________
(ويصاد ما يؤكل[(1)] لحمه، وما لا يؤكل)، فما لا يؤكل لحمه فبالاصطياد يطهر لحمه وجلده.
كتاب الرهن[(2)
__________
(1) قوله: ويصاد ما يؤكل… الخ؛ لاطلاقِ قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة:2]، والصيد غير مختصٍّ بمأكولِ اللحم عند أهل اللغة، ولأنَّ الاصطيادَ سببٌ الانتفاعِ بجلده أو شعره أو ريشه، أو لاستدفاع شرّه، وكل ذلك مشروع.
(2) قوله: كتاب الرهن؛ وجه مناسبة كتاب الرهن لكتابِ الصيد من حيث أنّ كلَّ واحدٍ من الرهنِ والصيدِ سببٌ لتحصيلِ المال، والكلامُ في الرهنِ يقعُ في مواضع: الأوّل في معناه اللغوي، والثاني: في دليله، والثالث: في ركنه، والرابع: في شرط لزومه، والخامس: في شرط جوازه، والسادس: في حكمه، والسابع: في سببه، والثامن: في صفته، والتاسع: في معناه عند الفقهاء، والعاشر: في محاسنه.
أمّا معناه اللغويّ فهو عبارةٌ عن الحبس بأي شيء كان قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38]: أي محبوسة بما كسبت من المعاصي، يقال: رهنتُ الشيءَ وارتهنتُه، والجمع رهن ورهون ورهان، والرهن المرهون تسميتُهُ بالمصدر.
وأمّا دليله: فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[البقرة:283]، أمرٌ بأخذِ الرهن وقبضه حالَ المداينة.
وأمّا ركنه فهو الإيجاب: وهو قول الراهن: رهنتُ عندك هذا الشيء بما لك عليّ من الدين، أو خذه، والقبولُ شرطٌ له؛ لأنّ الرهنَ عقدُ تبرّع؛ لأنّه لم يستوجبْ الرهن بذاته شيئاً، والتبرّعُ يتمُّ بالإيجابِ من غير قبول، حتى لو حلفَ لا يرهن فرهن ولم يقبل الآخر يحنث.
وأمّا شرط اللزوم: فهو القبض.
وأمّا شرط الجواز: فكونُه مقسوماً مفرزاً فارغاً عن الشغل بحقِّ الغير، وأن يكون الرهنُ بحيث يمكن الاستيفاءُ منه كالدّين، حتى لا يصحّ الرهنُ بما ليس بمال كالحدودِ والقصاص والعتق.
وأمّا حكمُه فملك المُرْتهنِ المرهونَ في حقّ الحبس، حتى يكون أحقَّ بإمساكه إلى وقت إيفاءِ الدين في حال الحياة، وأمّا إذا مات الراهنُ فهو أحقُّ به من سائر الغرماء، فيستوفي منه دينه، وما فضل فهو للغرماء.
وأمّا سببه فهو الحاجةُ إليه؛ لأنّ الإنسان قد لا يجدُ مَن لا يقرضُه مجّاناً من غير رهن أو يصير عليه بغيرِ رهن.
وأمّا صفته: قال عامّة العلماء بأنّ الرهنَ مضمونٌ على المُرْتَهِن كما سيأتي بيانه.
وأمّا تفسيره شرعاً: فيتكلَّم عليه الماتن.
وأمّا محاسنه: فهو فكُّ عسرةِ الطلب عن الراهن، ووثوق قلب المرتهنِ بما يحصل ماله، ولو ارتهنَ على أنّه إن ضاعَ بغير شيء وأجازَ الراهنُ جازَ الرهن، وبطلَ الشرط؛ لأنّه تغييرٌ لعقدٍ موضوعٍ بحكمٍ مشروع، وتبديلُ المشروعِ لا يجوز، والمقبوضُ بحكم الرهن الفاسد مضمون، وذكر ابن سماعة - رضي الله عنه - عن أبي يوسف - رضي الله عنه -: لو رهنَ نصفَ دارٍ وسلَّم الدارَ إلى المُرْتَهن وهلكت لم يذهبْ من الدَّين شيء، وهكذا ذكر في ((نوادر هشام)) عن محمَّد - رضي الله عنه - أنّه في الرهنِ الفاسد لا يذهبُ بهلاكه الدين، وفي ((الجامع الكبير)): لو اشترى مسلمٌ خمراً ورهن بثمنِهِ رهناً فضاعَ الرهن عنده لا يضمن؛ لأنّه رهنٌ باطلٌ في الأوّل، وينعقدُ فاسداً، والله أعلم، هذا خلاصةُ ما في ((تكملة البحر))(8: 264-265).
(10/146)
________________________________________
]
(هو حبسُ الشيءِ بحقٍّ يمكن أخذُه منه كالدين)، فإنَّ الدينَ يمكنُ أخذُه[(1)] من المرهونِ بأن يباعَ المرهونُ بخلاف العين، فإن الصورةَ مطلوبةٌ فيها ولا يمكن تحصيل[(2)] صورتِها من شيءٍ آخر.
(وينعقدُ بإيجابٍ وقبولٍ[(3)
__________
(1) قوله: يمكن أخذه؛ احتراز عن ارتهان الخمر، وعن الرهن عن الحدود والقصاص والعتاق.
(2) قوله: ولا يمكن تحصيل… الخ؛ فلا يجوز الرهنُ بالعين الغير المضمونة، كالودائع والعواري، والمضمونة بغيرها، كالمبيع في يد البائع والرهن في يد المُرْتَهن، بخلاف الأعيانِ المضمونة بنفسها، كالمغضوبةِ والمهرِ والبدلِ عن الخلع أو الصلحِ عن دم عمد، فإنّ الرهنَ يصحُّ بها كما يصحُّ الدين؛ لأنّ مالها إلى الدين، كما يفهم من قول ((الهداية)): ويمكن أن يقال… إلى آخره، فيجوز أن يكون إيرادُ لفظ الدين على سبيلِ التمثيل دون الحصر، واختيارُ لفظِ الحقّ على الدينِ لا يخلو عن الإشارة إلى هذا التعميم، قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص593)].
(3) قوله: بإيجابٍ وقبول… الخ؛ الإيجابُ هو قولُ الراهن: رهنتُك هذا المال بدينٍ لك عليّ، وما أشبه ذلك، والقبول هو قولُ المرتهن: قبلت، قال شيخ الإسلام خُواهَر زَادَه - رضي الله عنه -: الركنُ الإيجاب بمجرّده؛ لأنّه عقدُ تبرُّع، وكلُّ ما هو كذلك يتمُّ بالتبرُّع، فإنَّ الرهنَ يَتِمُّ بالمتبرِّع، أمّا المقدِّمة الأولى؛ فلأنَّ الراهنَ لا يستوجبُ بإزاءِ ما أثبتَ للمرتهن من اليدِ شيئاً، ولا نعني بالتبرُّع إلاَّ هذا، وأمّا الثانية: أي إنّ ما هو كذلك يتمُّ بالمتبرِّع، وكالهبة والصدقة وغيرهما، والقبضُ شرط اللزوم.
وقال مالك - رضي الله عنه -: يلزمُ بنفس العقد؛ لأنّه يختصُّ بالمال من الجانبين، فصار كالبيع؛ ولأنّه عقدُ وثيقة فأشبه الكفالة، ولنا: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}[البقرة:283]، وصف الرهن بكونها مقبوضة، والنكرة إذا وصفت عمَّت كقوله: والله لا أكلّم إلا رجلاً كوفيّاً، فيقتضي أن يكون كلُّ الرهنِ مشروعاً لهذه الصفة، ولأنّه عقد تبرُّع، لما أنّ الراهنَ لا يستوجبُ بمقابلته على المُرْتهنِ شيئاً؛ ولهذا يجبرُ عليه، فلا بُدَّ من إمضائه كما في الوصيّة، وذلك بالقبض، هذا ما في شروح ((الهداية)).
(10/147)
________________________________________
] غيرَ لازم): أي ينعقدُ حالَ كونِهِ غير لازم، (فللرَّاهنِ تسليمَهُ والرجوعَ عنه)(1): أي تسليمَ الرهنِ بمعنى المرهون[(2)]، والرجوعَ عن الرهنِ بمعنى العقد، (فإذا سلَّمَ فقبضَ(3) محوزاً[(4)][(5)]): أي مقسوماً غير شائع، (مفرغاً): أي غيرَ مشغولٍ بحقِّ الراهن، حتى لا يجوزَ رهنُ الأرضِ بدون النخل، والشجرُ بدون الثمر، ودارٌ فيها متاعُ الراهنِ بدون المتاع، (متميِّزاً(6) لَزِمَ[(7)
__________
(1) أي قبض القبض، لأن القبض شرط لزوم. ينظر: ((الهداية))(4: 126).
(2) قوله: بمعنى المرهون؛ لا يخلو عن الإشارةِ إلى ضمير تسليمه من قبيلِ الاستخدام.
(3) أي بإذن الراهن صريحاً أو ماجرى مجراه في المجلس وبعده بنفسه أو بنائبه كأب ووصي وعدل. ينظر: ((رد المحتار))(5: 308).
(4) قوله: محوزاً؛ أي مقسوماً، كأنّه اعتبرَ فيه معنى قولهم: تحاوز الفريقان في الحرب؛ أي انعزل كلُّ فريقٍ من الآخر، كما يفهم من لفظ الجَوْهَريّ، وأمّا مَن جعله احترازاً عن المفترق كالزاهديّ والأكمل، ومثله: بالثمارِ على رؤوس الأشجار، فقد أخذه من الحوز، بمعنى الجمع، كما هو المشهور. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص594)].
(5) وله: محوزاً؛ قال في ((الكفاية))(8: 69)؛ أي مقسوماً، وهو احترازٌ عن رهنِ المشاع، فإنّه لا يجوزُ عندنا، وقوله: مفرغاً؛ أي عن ملكِ الراهن، وهو احترازٌ عن رهنٍ دارٍ فيها متاعُ الراهن، وقوله: متميّز؛ أي لم يكن الرهنُ متَّصلاً بغيره اتّصال خلقة، كما لو رهنَ الثمر على رأس الشجر دون الشجر، لأنّ المرهونَ متَّصل بغير المرهونِ خلقة، فصار كالشائع.
(6) في ت و ف و ق: مميزاً.
(7) قوله: لزم؛ أي العقد؛ لوجود القبض بكماله، قال في ((الهداية))(4: 126): وما لم يقبضه فالراهنُ بالخيار إن شاء سلَّمَه، وإن شاء رجعَ عن الرهن، لما ذكرنا أنّ اللزومَ بالقبض، إذ المقصودُ لا يحصل قبله، قال في ((الكفاية))(8: 70): لأنَّ الرهنَ استيفاءُ الدينِ حكماً، والاستيفاءُ حقيقةً لا يكون بدون القبض، فكذا الاستيفاءُ حكماً؛ ولأنّ المقصودَ إضجارُ الراهن؛ ليتسارع إلى قضاءِ الدين، وإنّما يحصل هذا المقصود بدوامِ يد المُرْتَهنِ عليه، وذلك إنّما يكون بالقبض.
(10/148)
________________________________________
]): أي إن كان متَّصلاً بحقّ الراهنِ خلقةً كالثمرِ على الشجرِ يجبُ أن يميِّزَ ويفصلَ عنه، فالمفرغُ يتعلَّقُ بالمحلّ، فيجبُ فراغُهُ عمَّا حلّ(1) فيه [كالثمر] (2)، وهو ليس بمرهونٍ سواءً كان اتّصالُهُ به خلقةً أو مجاورة(3)، والمتميّزُ يتعلَّقُ بالحالِ في المحلّ، فيجبُ انفصالُهُ عن محلٍّ غيرِ مرهونٍ إذا كان اتِّصالُهُ به خلقة، حتى لو كان اتِّصالُهُ بالمجاورةِ لا يضرّ كرهن المتاعِ الذي في بيتِ الراهن.
(والتخليةُ قبضٌ فيه كما في البيع)، التخليةُ أن يضعَه الراهنُ في موضعٍ يتمكَّنُ المرتهنُ من أخذه، هذا في ظاهرِ الرواية، وعن أبي يوسفَ - رضي الله عنه - لا يثبتُ في المنقولِ إلا بالنقل؛ لأنَّه قبضٌ موجبٌ للضمان بمنْزلةِ الغصب، وعند مالك(4) - رضي الله عنه - يلزمُ بدون القبض.
__________
(1) في ف: يحل.
(2) زيادة في ب و م.
(3) في ب: بمجاورة.
(4) ينظر: ((الشرح الصغير))، ((حاشية الصاوي)) عليه(3: 313)، وغيرهما.
(10/149)
________________________________________
(وضمنَ[(1)] بأقلَّ من قيمتِهِ ومن الدَّين)، اعلم(2) أنَّ هذا تركيبٌ مشكلٌ[(3)] غفلَ الناس عن إشكاله، وهو أنَّه يتوهَّم أنَّ كلمة: من؛ هي التي تستعملُ مع أفعلِ التفضيل، وليس كذلك؛ لأنّه إن أريدَ أنّه مضمونٌ بأقلّ من كلِّ واحدٍ فهذا غير مراد، وإن أريدَ أنّه مضمونٌ بأقلَّ من المجموعِ أو بأقلَّ من أحدهما إن كان الواو بمعنى: أو؛ فهذا شيءٌ مجهولٌ غيرُ مفيد، بل المرادُ أنّه مضمونٌ بما هو الأقلّ(4)، فإن [كان](5) الدينُ أقلَّ من القيمة فهو مضمون بالدين، وإن كانت القيمةُ أقلَّ من الدين فهو مضمون بالقيمة فيكون: من؛ للبيان، تقديرُه: إنّه مضمونٌ بما هو أقلّ من الآخرِ الذي هو القيمةُ تارةً، والدينُ أخرى، ثمّ إذا عُلِمَ الحكمُ فيما إذا كانت القيمةُ أكثر، وهو أنّه مضمونٌ بالدين، والفضلُ أمانة، فُهِمَ الحكمُ في صورةِ المساواةِ أنَّه يكون مضموناً بالدين.
__________
(1) قوله: وضَمِنَ؛ شروعٌ لبيانِ كيفيَّة الضمان، وكمِّيته بعد بيان دخوله تحت الضمان بقوله: فإذا سلَّمَ وقبضَ… الخ، قال في ((الهداية)(4: 127): فإذا سلَّم إليه وقبضَه دخلَ في ضمانِه، قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص594)].
(2) في م: علم.
(3) قوله: مشكل؛ وقال خواهر زاده: هذا خطأ، واعتبرَ هذا بقولِ الرجل: مررتُ بأعلمَ من زيد وعمر، ويكون الأعلم غيرهما، ولو قال: بالأعلم من زيد وعمرو، يكون الأعلمُ واحداً منهما، وكلمةُ: من؛ للتميز. كذا في ((مشكلات القُدُوريّ)). قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص594)].
(4) في ف: أقل.
(5) سقطت من ف.
(10/150)
________________________________________
(فلو هلكَ وهما سواء[(1)] سقطَ دينُه، وإن كانت قيمتُهُ أكثر، فالفضلُ أمانة، و(2) في أقلّ(3) سقط [من](4) دينه بقدرها، ورجعَ المرتهنُ بالفضل)، فالحاصلُ أنَّ [يدَ](5) المرتهنِ على الرهنِ يدُ استيفاء؛ لأنَّه وثيقةٌ لجانبِ(6) الاستيفاء؛ لتكون موصلةً إليه، فيكونُ استيفاءً من وجه، ويتقرَّب بالهلاك، فإذا كان الدينُ أقلَّ من القيمةِ فقد استوفى الدين، والفضلُ أمانة، وإن كانت القيمةُ أقلّ يكون مستوفياً بقدرِ الماليّة، وهي القيمة، فيرجعُ بالفضل، هذا عندنا، وعند مالك(7) - رضي الله عنه - هو مضمونٌ بالقيمة[(8)][(9)
__________
(1) قوله: فلو هلك وهما سواء… الخ؛ بيانُه: إذا رهنَ ثوباً قيمتُه عشرةً بعشرة، فهلَكَ عند المرتهن يسقطُ دينُه، وإن كان قيمةُ الثوب خمسةً يرجعُ المُرْتَهن على الراهن بخمسةٍ أخرى، وإن كانت قيمتُه خمسةَ عشرةَ فالفضلُ أمانةٌ عندنا.
(2) غير موجودة في ت.
(3) في أ و م: الأقل.
(4) سقطت من ج.
(5) سقطت من ف.
(6) في ف: بجانب.
(7) ينظر: ((المدونة))(4: 151)، و((مختصر خليل))(ص183)، وغيرهما.
(8) قوله: وعند مالك - رضي الله عنه - هو مضمون بالقيمة؛ أي الكاملة، سواء كانت مساويةً للدين أو أكثر منه أو أقلّ، هذا إذا كان الهلاكُ بأمرٍ خفيّ، وأمّا إذا كان بأمرٍ ظاهر؛ كموت وحرق وغرق فهو أمانةٌ عند مالك - رضي الله عنه - أيضاً. كذا في ((العيون)) و((شرح البخاري))، وقد وقع في ((الهداية)) وشروحها، وشروح ((المجمع)): زفر - رضي الله عنه - بدل مالك، فليتأمَّل في التوفيق بينهما. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص594)].
(9) قوله: عند مالك - رضي الله عنه - … الخ، وفي ((الهداية)): وقال زفر - رضي الله عنه -: الرهنُ مضمون بالقيمة، حتى لو هلك الرهن وقيمته يوم رهن ألف وخمسمئة، والدين ألف، رجعَ الراهنُ على المُرْتَهن بخمسمئة، له حديث عليّ - رضي الله عنه - قال: يترادّان الفضل في الرهن، ولأنَّ الزيادة على الدينِ مرهونة؛ لكونها محبوسة به، فيكون مضمونة اعتباراً بقدرِ الدين، ومذهبنا مرويّ عن عمر وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -؛ ولأنّ يدَ المُرْتَهن يدُ الاستيفاء، فلا يوجب الضمانَ إلا بالقدرِ المستوفى كما في حقيقة الاستيفاء، والزيادةُ مرهونةٌ ضرورةَ امتناعَ حبس الأصل بدونها، ولا ضرورةَ في حقِّ الضمان، والمرادُ بالترادّ فيما روى حالة البيع، فإنَّه روى عنه أنّه قال: المُرْتَهِنُ أمينٌ في الفضل.
(10/151)
________________________________________
]، وعند الشَّافِعِيّ(1) - رضي الله عنه - هو غيرُ مضمون، بل هو أمانة.
(وللمرتهنِ طلبُ دينِهِ من راهنِه)، فإنّه لا يسقطُ بالرهنِ طلبُ الدين، (وحبسه به[(2)]): أي حبسُ الرهنِ بالدين، (وحبسُ رهنِهِ بعد فسخِ عقدِه حتى يقبضَ دينَه[(3)] أو يبرئه)، فإنّه لا يبطلُ إلا بالردِّ [على الراهنِ](4) على وجه الفسخ؛ لأنّه يبقى مضموناً ما بقيَ القبضُ والدين.
__________
(1) ينظر: ((النكت))(2: 435)، و
(2) قوله: وحبسه به؛ لأنَّ حقَّه باقٍ بعد الرهن، والرهن لزيادة الصيانة فلا تمتنعُ به المطالبة، والحبس جزاء الظلم، فإذا ظهرَ مطلُهُ عند القاضي يحبسُه، كما تقرَّرَ في (كتاب أدب القاضي) أنّه يترك الحبس إذا ثبتَ الحقُّ بإقراره؛ لأنَّه لم يعرفْ كونه مماطلاً، وأمّا إذا ثبت بالبيِّنة حبسه، كما يثبت لظهور المطل بإنكاره.
(3) قوله: حتى يقبض دينه… الخ؛ أي لو أرادَ الراهنُ أن يبيعَ الرهنَ [لكي يقضي] بثمنِه الدين لا يجبر المرتهنُ أن يمكِّنه من البيع حتى يقبضَ الدين؛ لأنَّ حكمَ الرهنِ الحبسُ الدائم إلى أن يقضي الدينَ لا القضاء من ثمنه، فلو قضاهُ البعض فله أن يحبسَ كلّ الرهنِ حتى يستوفيَ البقيّة كما في حبس المبيع، فإذا قضى الراهن جميع الدينِ سلَّم المرتهنُ الرهنَ إليه لزوالِ المانع من التسليم؛ لوصول حقّ المرتهن إليه.
قال في ((تكملة البحر))(8: 271-272): فلو هلكَ الرهن بعد قضاء الدين قبل تسليمه إلى الراهن، استردّ الراهن ما قضاه من الدين؛ لأنه تبيَّن بالهلاك أنّه صار مستوفياً من وقت القبض السابق، فكان الثاني استيفاء بعد استيفاء، فيجبُ الردّ؛ وهذا لأنّه بإيفاء الدين لا ينفسخ الرهن حتى يردَّه إلى صاحبه، فيكون مضموناً على حاله بعد قضاء الدين ما لم يسلّمه إلى الراهن أو يبرئه المرتهنُ عن الدين.
(4) سقطت من م.
(10/152)
________________________________________
(لا الانتفاعُ[(1)] به باستخدامٍ(2) ولا سكنى ولا لُبْسٍ ولا إجارةٍ ولا إعارةٍ، وهو متعدٍّ لو فعل(3)[(4)]، ولا يبطلُ الرهن به): أي بالتعدِّي.
__________
(1) قوله: لا الانتفاع به… الخ؛ أي لا يجوزُ الانتفاع بالرهن؛ لأنَّ الرهن يقتضي الحبس إلى أن يستوفيَ دينه دون الانتفاع، فلا يجوزُ الانتفاعُ إلا بتسليطِ دين الراهن، وإن فعل كان متعدِّياً، ولا يبطل الرهن بالتعدِّي، قال في ((المبسوط)): وليس للمرتهنِ أن ينتفع بالمرهون إلا بإذن الراهن، فإذا أذنَ له جاز أن يفعلَ ما أذن له فيه، ولو فعلَ من غير إذن صار ضامناً بحكم الرهن، وقابضاً للغصب، وإن تركَ الاستعمالَ عاد لكونه رهناً، ولو استعمل المرتهنُ بإذنِ الراهن فإن هلكَ حالة الانتفاع لم يسقط من الدَّين شيء؛ لأنّه بالإذن صار مقبوضاً بحكم العارية، وإن خالف وهلك في حالِ الاستعمال يضمن ضمان الغصب. [ينظر: ((تكملة البحر))(8: 271)].
(2) في ب: بالاستخدام، وفي م: استخدام.
(3) فلو هلكَ به ضمنه ضمان الغصب بجميع قيمته؛ لأنَّ الزيادة على مقدارِ الدين أمانةٌ كما مرّ والأمانات تضمنُ بالتعدّي. ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص594).
(4) قوله: وهو متعدٍ لو فعل؛ فلو هلكَ به ضمنه ضمان الغصب بجميع قيمته؛ لأنَّ الزيادة على مقدارِ الدين أمانةٌ كما مرّ والأمانات تضمنُ بالتعدّي، كما سيجمله المصنّف - رضي الله عنه - بقوله: وتعديه. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص594)].
(10/153)
________________________________________
(وإذا طلبَ دينَهُ أُمِرَ بإحضارِ رهنِه[(1)]، فإن أحضرَه سَلَّمَ كلَّ دينِهِ أوَّلاً[(2)]، ثمَّ رهنه، وإن(3) طلبَ في غيرِ بلدِ العقدِ إن لم يكن للرَّهنِ مؤنةٌ حُمِل[(4)]، وإن(5) كان سَلَّمَ دينَه بلا إحضارِ رهنه)، إنَّما يُسَلِّمُ الدينَ أوَّلاً لتعيين(6)َ حقِّ المُرْتَهن، كما ذكرنا(7) في البيعِ أنَّ الثمنَ يُسَلَّمُ أوَّلاً لهذا المعنى، وقوله: وإن طلب، متَّصلٌ بما سبق، وهو قوله: أمر بإحضارِ رهنه؛ أي يؤمرُ بإحضارِ الرهن(8)، وإن كان طلبُ الدينِ في غير بلدِ العقد، وهذا الحكمُ وهو الأمرُ بإحضارِ الرهنِ في غير بلدِ العقدِ إنَّما يثبتُ إن لم يكن للرَّهن مؤنةُ الحمل، حتى إن كان للرهنِ مؤنةُ الحملِ سَلَّمَ دينَه بلا إحضارِ الرهن[(9)].
(ولا يكلَّفُ[(10)
__________
(1) قوله: أمر بإحضار رهنه… الخ؛ لأنَّ قبضَ الرهن قبضُ استيفاء، فلا يجوز أن يقبضَ ماله مع قيام يد الاستيفاء؛ لأنّه يتكرَّر الاستيفاءُ على اعتبار الهلاك في يد المرتهن وهو محتمل.
(2) قوله: سلَّم كلّ دينه أولاً؛ أي أمر الراهنُ بتسليم الدين أوّلاً ليتعيَّن حقّه، كما تعيَّنَ [حقّ] الراهن [في الرهن] تحقيقاً للتسوية، كما في تسليم المبيع والثمن، يحضر المبيع ثمّ يسلَّم الثمن أوّلاً.
(3) في م: وإذ.
(4) قوله: حمل… الخ؛ لأن الأماكن كلّها في حقّ التسليم كمكانٍ واحد فيما له حملٌ ومؤنة، ولذا لا يشترط بيانُ مكانِ الإيفاء فيما ليس له حملٌ أو مؤنةٌ في باب السلم إجماعاً.
(5) في أ: فإن.
(6) في النسخ: ليتعيّن.
(7) في ب و ف و م: ذكر.
(8) في ب: رهنه.
(9) قوله: بلا إحضار الرهن؛ لأنَّ هذا نقل، والواجب عليه التسليم بمعنى رفعِ الممانعة، والنقل من مكان إلى مكانٍ ليس بواجب عليه؛ لأنّه يتضرَّر به زيادة الضرر، ولم يلتزمه.
(10) قوله: ولا يكلَّف… الخ؛ ولا يكلَّف مرتهنٌ طلبَ دينه بإحضارِ الرهن؛ لأنّه لم يؤتمن عليه، حيث وُضِعَ على يد غيره، فلم يكن تسليمه في قدرته.
وضع عند عدلٍ؛ مؤتمنٍ يوضع عنده الرهن، يعني بأمرِ الراهن وضع.
ولا إحضار ثمن رهن باعه المرتهن بأمره؛ أي بأمر الراهن، حتى يقبضه لإذنه بالبيع، فصار كأنّهما تفاسخا الرهن، وصار الثمن رهناً، ولم يسلّم إليه، بل وضعَه على يدِ عدل، وتمامه في شروح ((الهداية))(10: 147).
(10/154)
________________________________________
] مرتهنٌ طلبَ دينَه بإحضارٍ رهنٍ وضعَ عند عدل، ولا ثمنَ رهنٍ باعَهُ[(1)] المُرْتهنُ بأمره حتى يقبضَه): أي لأن أمرَ الراهنِ المرتهنَ ببيعِ رهنِهِ فباعَه، فإن لم يقبضْ الثمنَ لا يكلَّفُ بإحضارِ الثمنِ إذا طلبَ دينه، وإن قبضَ الثمنَ يكلّف بإحضاره.
(ولا مرتهنٌ[(2)] معه رهنٌ(3) تمكينه من بيعِه حتى يقضيَ دينه): أي لا يكلَّفُ مرتهنٌ معه رهنٌ أن يمكِّنَ الراهنَ من بيع الرهن، ثمّ هذا الحكمُ وهو عدمُ التكليفِ المذكورِ مغيّاً(4) إلى قضاء الدين.
__________
(1) قوله: باعه… الخ؛ أطلق المصنّف البيع ولم يقيّد بشيء، وقال في ((الهداية))(4: 129): فباعَه بنقد أو نسيئة. فيصار كلامه على ما في ((الهداية))، وعلَّله بقوله: لإطلاق الأمر، وفصَّله صاحبُ ((العناية)) حيث قال: قال القاضي الإمام أبو عليّ النسفي - رضي الله عنه -: إذا تقدَّم من الراهنِ ما يدلّ على النقد بأن قال: إنّ المرتهنَ يطالبني بدينِه ويؤديني، فبعه حتى أنجو منه، فباعه بالنسيئة لا يجوز، بمنْزلةِ ما لو قال لغيره: بع عبدي فإنِّي أحتاجُ إلى النفقة.
(2) قوله: ولا مرتهن… الخ؛ أي لا يكلّف المرتهنُ… الخ؛ كما قال الشارح - رضي الله عنه -؛ لأنّه صار ديناً بالبيع بأمرِ الراهن، فصار كأنّ الراهنَ رهنَه وهو دينٌ؛ لأنَّه لَمَّا باعه بإذنِهِ صار كأنّهما تفاسخا الرهن، وصارَ الثمنُ رهناً بتراضيهما ابتداءً، لا بطريقِ انتقالِ حكم الرهن إلى الثمن، ألا ترى أنّه لو باعَ الرهنُ بأقلَّ من الدينِ لا يسقط شيءٌ من دين المرتهن، فصار كأنّه رهنَه ولم يُسَلِّم، بل وضعَه على يديّ عدل. كذا في ((زيادات قاضي خان))، فإن قيل: لو رهنَ الدين ابتداءً لا يصحّ، قلنا: نعم، ولكن يبقى حكمُ الرهنِ في ثمنِ المرهون؛ لكونِهِ بدلا عن المقبوض، وهو قد كان صالحاً لذلك، ثم يثبتُ هذا الحكم في خلفِه تبعاً لا مقصوداً.
(3) في ت و ج و ص و ف :رهنه، وفي ق: رهنه معه.
(4) في ب و م: معيناً.
(10/155)
________________________________________
(ولا مَن قضى بعضَ دينه[(1)] تسليمَ بعضَ رهنه، حتى يقبضَ البقيّة): أي لا يكلَّفُ مرتهنٌ قضى بعضَ دينِهِ تسليمَ بعضَ رهنه، ثمَّ هذا الحكمُ وهو عدمُ التكليف المذكورِ مغيَّاً(2) إلى قبض بقيّة الدّين.
__________
(1) قوله: ولا مَن قضى بعض دينه… الخ؛ أي لا يكلَّفُ مرتهنٌ قضى بعضَ دينه تسليمَ بعضَ رهنه، حتى يقبضَ البقيَّة من الدينِ اعتباراً بحبسِ المبيعِ عند البائع، فإنّه لا يلزمُهُ تسليم بعض المبيع بقبض بعض الثمن، لكن لو رهن عبدين، وسمَّى لكلِّ واحدٍ شيئاً من الدين، له قبض أحدهما بأداء ما سمّى له بخلاف البيع.
(2) في ب و م: معيناً.
(10/156)
________________________________________
(وله حفظُهُ بنفسِهِ وعياله): كالزوجةِ والولدِ[(1)] والخادم الذين في عياله[(2)]، (وضَمِنَ بحفظِهِ بغيرهم[(3)]، وإيداعِه وتعدِّيه، وجعلِه[(4)] خاتمَ الرهنِ في خنصرِهِ لا بجعله في إصبع آخر[(5)])، فإنَّ جعلَه في الخنصر استعمالٌ، وجعلَهُ في إصبع آخر لا لعدمِ العادة، بل هو من باب الحفظ.
__________
(1) قوله: والولد؛ وفي ((الهداية))(4: 130): قال ـ يعني محمداً - رضي الله عنه - ـ معناه أن يكون الولد في عياله أيضاً، وقال في ((الكفاية))(8: 79): وذكر محمد - رضي الله عنه - من جملةِ مَن في عياله: زوجته وولده وأجيره الخاص الذي استأجره مشاهرة أو مسانهة، ثم قال: والحاصلُ أنّ العبرةَ في هذا للمساكنة، ولا عبرة للنفقة، ألا ترى أنّ المرأةَ إذا ارتهنت فدفعَت الرهنَ إلى زوجها لا تضمن، وإن لم يكن الزوج في نفقتها؛ لأنَّهما يسكنان معا. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص594)].
(2) قوله: في عياله: من عالَ عيلةً: افتقر، وعيالُ الرجل بالكسر: مَن يفتقر إليه. جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص594)].
(3) قوله: وضمن بحفظه لغيرهم… الخ؛ وذلك لأنَّ الأيدي تختلفُ بالحفظِ والأمانة، والمالكُ لم يأذن له في ذلك فيضمن، فالرهن بمنْزلةِ الوديعة في يده، فما لا يجوز للوديعة من التصرّف فإنّه لا يجوزُ في الرهن، وما جاء في الوديعة جازَ في الرهن. كذا في ((غاية البيان)).
(4) قوله: وجعله… الخ؛ أي ضمنَ بجعله خاتم الرهن في خنصره؛ لأنَّه متعدٍّ بالاستعمال، لأنّه غير مأذون فيه، وإنّما الأذن بالحفظ، واليمنى واليسرى في ذلك سواء؛ لأنَّ العادةَ فيه مختلف. كذا في ((الهداية))(4: 130).
(5) قوله: لا بجعله في إصبع آخر؛ لأنّه لا يلبسُ كذلك عادة، فكان من باب الحفظ، وكذا الطيلسان إن لبسَه لبساً معتاداً ضَمِن، وإن وضعَه على عاتقه لم يضمن؛ لأنَّه ليس بلبس، بل هو حفظ.
(10/157)
________________________________________
(وعليه مؤنةُ حفظِهِ وردِّه إلى يدِه، أو ردُّ جزءٍ منه[(1)]، كأجرةِ بيتِ حفظه وحافظِه، فأمّا جعلُ الآبقِ[(2)] ومداواةُ الجرحِ فمنقسمٌ على المضمونِ والأمانة): أي على المُرْتَهِنِ مؤنةُ الحفظِ كأجرةِ بيتِ الحفظ وأجرةِ الحافظ، وكذا مؤنةُ ردِّه إلى يدِ المرتهن إن خرجَ من يده، كجعلِ الآبق، فهو على المرتهنِ إذا كان قيمةُ الرهنِ مثل الدين، وكذا مؤنةُ ردِّ جزءٍ من الرهنِ إلى يدِ المرتهن، كمداواةِ الجرح إذا كان قيمتُهُ مثل الدين.
أمَّا إذا كان قيمتُهُ أكثرَ منه فيقسم(3) على المضمون والأمانة، فما هو مضمونٌ فعلى المرتهن، وما هو أمانةٌ فعلى الراهن، وهذا بخلافِ أجرةِ بيت الحفظ، فإنّ تمامه على المرتهن، وإن كان قيمةُ المرهونِ أكثرُ من الدين؛ لأنَّ وجوبَ ذلك بسببِ الحبس، وحقّ الحبسِ في الكلّ ثابتٌ له.
(وعلى الراهنِ مؤنُ تبقيته وإصلاحِ منافعِهِ كنفقةِ رهنِهِ وكسوته، وأجرِ راعيه، وظئرِ ولدِ الرهن[(4)](5)، وسقي البُستان والقيام بأموره).
__________
(1) قوله: أو ردّ جزء منه… الخ؛ أي من الرهن: كمداواةِ الجروح والقروح؛ بأن ينتقص عين الرهن أو يحدث به مرضٌ آخر، فالمداواةُ على المُرْتهن؛ لأنَّ ردَّ كلَّ الرهنِ واجبٌ عليه، فكذا جزؤه، وفي المداواة فقط الجزءُ المراد. كذا في شروح ((الهداية)). قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص594)].
(2) قوله: كجعل الآبق، ما يجبُ للعاملِ على عمله، ثمَّ غلبَ استعمالُهُ في أجرةِ ردِّ الآبق. جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص594)].
(3) في ب: فتقسم، وفي ص و ف: فمتقسم.
(4) قوله: وظئر ولد الرهن… الخ، وبكسر الظاء المعجمة، وسكون الهمزة وآخره راء مهملة: مَن يقومُ على الولد في تربيته.
(5) في ب و م: الراهن.
(10/158)
________________________________________
باب ما يصحُّ رهنُه[(1)] والرهن به [وما](2) لا يصحّ
(لا يصحُّ رهنُ مشاعٍ[(3)
__________
(1) قوله: بابُ ما يصحّ رهنه؛ لما ذكرَ مقدِّمات مسائل الرهن ذكرَ في هذا الباب تفصيل ما يجوز رهنُه والرهن به، وما لا يجوز، إذ التفصيلُ إنّما يكون بعد الإجمال. كذا في ((تكملة البحر))(8: 275).
(2) في ت و ص و ف: أو لا.
(3) قوله: رهن مشاع؛ أي لا يصحُّ رهن المشاع، فظاهرُه أنّه لا فرقَ بين ما يحتملُ القسمة وما لا يحتمل، قال صاحب ((العناية))(10: 157-158): رهنُ المشاع قابل للقسمة وغيره فاسدٌ يتعلَّق به الضمان إذا قبض، وقيل: باطل لا يتعلّق به الضمان، وليس بصحيح؛ لأنَّ الباطلَ منه فيما إذا لم يكن الرهن مالاً ولم يكن المقابلُ به مضموناً، وما نحن فيه ليس كذلك، بناءً على أنّ القبضَ شرطُ تمامِ العقد لا شرطُ جوازه، وقال الشافعيّ - رضي الله عنه -: يجوز؛ لأنَّ موجبَه عنده بيعه، والمشاعُ لا يمتنعُ بيعه.
ولنا: إنّ موجبَه ثبوتُ يد الاستيفاء، واستحقاقُ الحبسِ الدائم، ولا يتصوَّر الحبسُ الدائم فيه؛ لأنّه يبطلُ بالمُهايأة قبضه، كأنّه رهنَهُ يوماً ويوماً لا؛ ولذا يستوي فيه ما يقبلُ القسمة وما لا يقبلها، بخلافِ الهبة حيث تجوزُ فيما لا يحتمل القسمة؛ لأنَّ موجبَها الملك، ولا يمتنعُ بالشيوع.
ولا يجوز من شريكه أيضاً؛ لأنَّ ثبوتَ اليد في المشاعِ لا يتصوُّر؛ ولأنّه لو جازَ لأمسكَه يوماً بحكم الرهنِ ويوماً بحكم الملك، فيصير كأنّه رهنَهُ يوماً ويوماً لا، بخلاف الإجارةِ حيث تجوز في المشاعِ من الشريك؛ لأنَّ حكمها التمكّن من الانتفاع لا الحبس، والشريك متمكّن من ذلك.
والشيوع الطارئ يمنعُ بقاءَ الرهن في روايةِ الأصل، وعن أبي يوسفَ - رضي الله عنه - لا يمنع؛ لأنَّ حكمَ البقاءِ أسهلُ من الابتداء، فأشبه الهبة، وجه روايةِ ((الأصل)) أنَّ الامتناعَ لعدم المحليّة، وفي مثله يستوي الابتداءُ والبقاء، بخلاف الهبة؛ لأنَّ المشاعَ لا يمنعُ حكمها، وهو الملكُ والمنعُ في الابتداء لنفي الغرامة، ولا حاجةَ إلى اعتبارِهِ في حالة البقاء؛ ولهذا يصحُّ الرجوعُ في بعض الموهوب، ولا يصحُّ الفسخُ في بعض المرهون. ((تكملة البحر))(8: 175-176).
(10/159)
________________________________________
] وثمرٍ على نخل دونه، وزرعِ أرض [ونخل أرض](1) دونها)؛ لعدم كونه متميِّزاً[(2)
__________
(1) سقطت من ف و م
(2) قوله: لعدم كونه متميّزاً؛ والقبض شرطٌ في الرهن على ما مرَّ غير مرّة، ولا يمكن قبض المتّصل وحده، فصار في معنى المشاع، وفي روايةٍ عن أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -: إنّ رهنَ الأرضِ دون الشجر جائز؛ لأنَّ الشجرَ اسمٌ النبات، فيكون استثناءُ الأشجارِ بمواضعها، بخلاف ما إذا رهنَ الدارَ دون البناء؛ لأنَّ البناءَ اسمٌ للمبني، فتكون الأرضُ جميعاً رهناً، وهي مشغولةٌ بملك الراهن.
ولو رهنَ النخلَ بمواضعها جاز؛ لأنَّه رهنَ الأرضَ بما فيها من النخل، وذلك جائز، ومجاورةُ ما ليس برهنٍ لا يمنعُ الصحّة، ويدخل في رهنِ الأرضِ النخل والثمر على النخل، والزرع والرطبة والبناء والغرس؛ لأنّه تابعٌ لاتّصاله، فيدخل تبعاً تصحيحاً للعقد، بخلاف البيع، حيث لا تدخلُ هذه في بيع الأرض سوى النخل؛ لأنَّ بيعَ الأرضِ بدون هذه الأشياء جائز، فلا حاجة إلى إدخالها في البيعِ من غير ذكر. كذا في ((تكملة البحر))(8: 176).
(10/160)
________________________________________
](1)، (وكذا عكسُها): أي لا يصحُّ[(2)] رهنُ نخلٍ بدون ثمر، و(3)أرضٍ بدون زرع أو نخل؛ لعدمِ كونه مفرغاً[(4)]، فلا يتمُّ القبض، وعن أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - أنّ رهنَ الأرضِ بدونِ الشجر جائزٌ؛ لأنَّ الشجرَ اسمٌ للنابت، فيكون استثناءُ الأشجارِ بمواضعها فيجوز؛ لأنَّ الاتِّصالَ حينئذٍ يكون اتَّصالَ مجاورة، ولو رهنَ النخل بمواضعها جاز أيضاً؛ لأنَّ الاتَّصال حينئذٍ اتَّصالُ مجاورة(5)، (ورهنُ الحرِّ[(6)] والمدبَّرِ والمكاتَبِ وأمِّ الولد).
__________
(1) في ف: مميزاً.
(2) قوله: لا يصحّ؛ لأنَّ الاتِّصال بالطرفين، والأصلُ فيه: إنّ المرهونَ إذا كان متَّصلاً بما ليس بمرهون لم يجز؛ لأنَّه لا يمكن قبضَ المرهون وحده، والقبضُ شرطٌ في الرهن.
(3) في ف: أو.
(4) قوله: لعدمِ كونه مفرغاً؛ إشارةٌ إلى تعليلِ جميع هذه المذكورات بالأصلِ الجامع، وهو أنّ اتِّصالَ الرهنِ بغير المرهون يمنعُ جوازَ الرهن؛ لانتفاءِ القبض في المرهون وحده؛ لاختلاطه بغيره.
(5) في ف: مجاوزة.
(6) قوله: ورهن الحر… الخ؛ أي لا يصحّ رهن هؤلاء؛ لأنَّ حكمَه ثبوتُ يد الاستيفاء، ولا يتصوَّرُ استيفاءُ الدينِ من هذه الأعيان؛ لأنّه لا يجوزُ بيعُها، أمَّا الحرُّ فلعدمِ الماليّة، وأمّا الباقون فلقيام المانع فيهم، وهو حقُّ الحريّة؛ ولهذا لو طرأت عليه هذه التصرُّفات أبطلته. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص595)].
(10/161)
________________________________________
ثمَّ لَمَّا ذكرَ ما لا يجوزُ رهنُه أرادَ أن يذكرَ ما لا يجوزُ الرهن به، فقال: (ولا بالأمانات): كالوديعةِ[(1)]، والمستعار، ومالِ المضاربة، والشركة، (ولا بالدَّرَك[(2)])، صورته[(3)]: باعَ زيدٌ من عمرو داراً فرهنَ بكرٌ عند المشتري شيئاً بما يدركُهُ في هذا البيع، وكذا لو رهنَ شيئاً بما ذابَ له على فلان لا يجوز، ولو
__________
(1) قوله: كالوديعة... الخ؛ لأنَّ القبضَ في (بابِ الرهن) قبضٌ مضمون، فلا بدَّ من ضمانٍ ثابت ليقعَ القبضُ مضموناً، ويتحقّقُ استيفاءُ الدين منه، وكذلك لا يصحُّ بالأعيان المضمونة بغيرها، كالمبيع في يد البائع؛ لأنَّ الضمانَ ليس بواجب، فإنّه إذا هلكَ العينُ لم يضمنْ البائعُ شيئاً، لكنَّه يسقط الثمن، وهو حقُّ البائع، فلا يصحّ الرهن، وإنّما سمَّاه مضموناً بغيره باعتبار سقوط الضمان إن لم يقبض وردّه إذا قبض، وإلا فهو ليس بمضمون؛ لأنَّه إذا هلكَ يهلك ملك البائع، فلا يجب عليه شيء، كما إذا هلكت الوديعة، فأمّا الأعيانُ المضمونةُ بعينها، وهي أن يكون مضموناً بالمثلِ أو بالقيمة عند هلاكه مثل: المغصوبة وبدل الخلع والمهر وبدل الصلح عن دم العمد يصحُّ الرهن بها؛ لأنَّ الضمان متقرِّر، فإنَّه وإن كان قائماً وجبَ تسليمُه، وإن كان هالكاً تجبُ قيمتُه، فكان رهناً بما هو مضمون فيصحّ.
(2) قوله: ولا بالدرك؛ أي لا يصحّ الرهنُ بالدرك؛ لأنَّ الرهنَ للاستيفاء، ولا استيفاءَ قبل الوجوب؛ لأنَّ معنى الدركِ ضمانُ الثمنِ عند استحقاقِ المبيع، فما لا يستحقّ لا يجب على البائع ردُّ الثمن، وكذا بعد الاستحقاقِ حتى يحكمَ برد الثمن، ويفسخُ البيع؛ لاحتمالِ أن يجيزَ المستحقُّ البيع.
(3) قوله: صورته… الخ؛ أقول: هذا التصوير لوهم أنّ وضعَ المسألة على أنّ الراهنَ هو الثالث الأجنبي دائماً، وليس كذلك؛ لأنَّ أخذَ الرهنِ من البائع أيضاً باطل، كما صرَّحَ به الأكمل - رضي الله عنه -. كذا في ((حاشية الجلبي))(ص595)].
(10/162)
________________________________________
كَفِلَ[(1)] بهذا يجوز.
(ولا بعينٍ مضمونةٍ بغيرها)، المراد أن لا تكون(2) مضمونةً بالمثل أو بالقيمة: (كمبيعٍ في يدِ البائع[(3)]): أي باعَ شيئاً ولم يسلِّمه فرهنَ به شيئاً لا يجوز؛ لأنَّه إذا هلكَ العينُ لم يضمنْ البائعُ شيئاً، لكنَّه يسقطُ الثمن، وهو حقّ البائع.
(ولا بالكفالةِ بالنفسِ[(4)
__________
(1) قوله: ولو كفل… الخ؛ أي بما ذاب له على فلان، فإنّها عقدُ التزام، والالتزاماتُ ممّا يصحُّ تعليقُها بالأخطار، كإيجابِ الصوم والصلاة والصدقة، فإنّها تحتملُ التعليقَ بالخطر والإضافة.
(2) في ب و ف: يكون.
(3) قوله: كمبيع في يد البائع؛ لأنّه مضمونٌ بغيره، والرهنُ لا يجوزُ إلا بالأعيان المضمونة بنفسها، ولا يجوزُ بالأعيانِ المضمونة بغيرها، فإن هلكَ الرهنُ بالمبيعِ ذهبَ بغير شيء؛ لأنّه اعتبار الباطل، فلا يجب على المشتري شيء.
(4) قوله: ولا بالكفالة بالنفس؛ أي لا يصحُّ الرهنُ بالكفالة بالنفس، قال في ((الكفاية))(9: 89): لا يجوز لمعنيين:
أحدهما: إن استيفاءَ المكفول به، واستيفاء القصاص من الرهن غيرُ ممكن.
والثاني: إنَّ المكفولَ به غيرُ مضمون في نفسه، فإنّه لو هلكَ لم يجب شيء، وإنّما ذكرَ عدم جواز الرهنِ بمقابلة القصاصِ في النفس، وما دونه؛ لأنَّه لو رهنَ ببدلِ الصلح عن دمِ العمد يصحّ؛ لأنَّ البدلَ مضمونٌ بنفسه، وهذا الخلافُ إذا كان القتلُ خطأ فصالحَه على عين، ثمّ رهن به رهناً لم يصحّ؛ لأنّه غيرُ مضمون، فإنّه إذا هلكَ ينفسخُ الصلح، فصار كالمبيع. كذا في ((الإيضاح)) في آخر (ما يجوز به الارتهان).
(10/163)
________________________________________
] وبالقصاصِ بالنفس وما دونها، وبالشفعة): أي كفلَ بنفسِ رجلٍ فرهنَ بها شيئاً ليسلِّمه، وإذا وجبَ عليه القصاصُ فرهنَ شيئاً لئلا يمتنعَ عن القصاصِ لا يجوز، وكذا إذا رهنَ البائعُ أو المشتري شيئاً عند الشفيعَ ليسلِّمَ الدارَ بالشفعةِ لا يجوزِ لعدمِ الدَّين في هذه الصور(1)[(2)].
(وبإجرةِ النائحةِ والمغنِّية(3)، وبالعبد الجاني أو المديون)، فإنَّه غيرُ مضمونٍ على المولى[(4)]، فإنّه لو هلكَ لا يكون على المولى شيء، فإذا لم يصحّ الرهنُ في هذه الصورِ فللرَّاهنِ أن يأخذَ المرهونَ من المرتهن، ولو هلكَ المرهونُ في يدِ المرتهنِ قبل طلب الراهنِ هلكَ بلا شيء؛ لأنَّه لا حكمَ للباطل، فبقيَ القبضُ بإذنِ المالك.
__________
(1) فإنه لا يجوز أخذ الرهن من المشتري الذي وجب عليه تسليم المبيع من أجل الشفعة؛ لأن المبيع غير مضمون عليه. ينظر: ((رد المحتار))(5: 317).
(2) قوله: لعدم الدين في هذه الصور؛ أمّا في الكفالةِ والقصاص فظاهر، وأمّا في الشفعة؛ فلأنّ المبيعَ غيرُ مضمونٍ على المشتري. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص595)].
(3) لبطلان الإجارة فلم يكن الرهن مضموناً إذ لا يقابله شيء مضمون. ينظر: ((رد المحتار))(5: 317).
(4) قوله: فإنّه غيرُ مضمون على المولى؛ تعليلٌ لعدمِ جواز أخذِ الرهن من المولى، فهلكه عليه لا لعبده الجاني ولا لعبده المديون، وأمّا عدمُ جوازِ الرهن بأجرةِ النائحة والمغنيّة؛ فلأنَّه لو استأجرَ أحدهما بأجرٍ معلوم وأعطاها بالأجرِ رهناً، فضاعَ في يدها لم يكن عليها في ذلك الرهن ضمان؛ لأنَّ الإجارةَ على ذلك باطلة، والأجرةُ غير مضمونة، والرهن إذا لم يكن في مقابلته شيء مضمون كان باطلاً. كذا في ((البيانية)). [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص595)].
(10/164)
________________________________________
(ولا رهنَ خمرٍ وارتهانها من مسلمٍ أو ذميٍّ للمسلم): أي لا يجوز[(1)] للمسلم أن يرهنَ خمراً ويرتهنَها من مسلم أو ذميّ، (ولا يضمنُ له مرتهنُها(2) ذميّاً(3)، وفي عكسِهِ الضمان)(4): أي إن رهنَ المسلمُ من ذميٍّ خمراً فهلكت في يدِ الذميّ لا يضمنُ للمسلمِ شيئاً، وإن رهنَ الذميّ من المسلمِ خمراً فهلكت في يدِ المسلمِ للذميّ؛ لأنَّها مالٌ متقوّمٌ في حقِّ الذميّ دون المسلم وصحّ.
__________
(1) قوله: أي لا يجوز… الخ؛ وذلك لأنَّ الرهنَ للاستيفاء والإيفاء، والمسلم لا يملك الإيفاءَ إذا كان هو الراهن، ولا يملكُ الاستيفاء إذا كان هو المرتهن، وكذا الحال في الخِنْزير، وقوله: ولا يضمنُ للمسلمِ شيئاً، كما لا يضمنُ الذميُّ لو غصبَ خمرَ المسلم، وقوله: يضمنُ المسلمُ للذميِّ كما يضمنُها لو غصبَها منه فرهنَها بالنسيئةِ إلى الذميّ غير باطل؛ بناءً على أنّ الرهنَ إذا كان في مقابلتِهِ شيءٌ مضمون لم يكن باطلاً، كما فهم من كلام صاحب ((البيان))، وإن كان ارتهانها باطلاً بالنسيئة إلى المسلمِ بناءً على قولِه المذكور آنفاً. كذا في ((حاشية الجلبي))(ص596).
(2) في م: مرتهنا.
(3) أي ولا يضمن للمسلم مرتهن الخمر ولو المرتهن ذمياً كما لا يضمنها بالغصب منه؛ لأنها ليست بمال في حقّ المسلم. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 594).
(4) أي إذا كان الراهن ذمياً والمرتهنّ مسلم فهلك في يد المرتهن يضمن المسلم الخمر للذمي؛ لأنها مال متقوم في حقّه فتصير الخمر مضمونة على المسلم للذمي بأقل من قيمتها ومن الدين كما يضمنها بالغصب. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 594).
(10/165)
________________________________________
(وصحَّ بعينٍ مضمونةٍ بالمثلِ أو بالقيمة؛ كالمغصوبِ وبدلِ الخلع، والمهر، وبدل الصلح عن دم عمد)، فإنّ هذه الأشياء إذا كانت قائمةً يجبُ عينُها، وإن هلكت يجبُ المثلُ أو(1) القيمة، فيصحُّ الرهنُ بها، (وبالدينِ ولو موعوداً، بأن رهنَ ليقرضَه كذا، فهلكُهُ في يدِ المرتهنِ عليه بما وعدَه[(2)])(3): أي إن هلكَ في يدِ المرتهنِ فللرَّاهن على المرتهنِ المقدارُ الذي وَعَدَ إقراضَه، فهلكُه: بالرفع مبتدأ، وفي يد المرتهن: صفتُه، وعليه: خبره، واعلم أنَّ الرهنَ إنَّما يكونُ مضموناً بالدينِ الموعودِ إذا كان الدينُ مساوياً للقيمةِ أو أقلّ، أمَّا إذا كان أكثر فلا يكون مضموناً بالدين بل بالقيمة، وإنَّما لم يذكرْ هذا القسم؛ لأنَّ الظاهرَ أن لا يكون الدينُ أكثرَ من قيمة الرهن، وإن كان على سبيلِ الندرة فحكمه يعلم ممّا سبق، فاعتمد على ذلك.
__________
(1) في م: و.
(2) قوله: عليه بما وعد؛ يعني بقوله: رهنتك لتقرضني ألفَ درهم، فقبض الرهن فهلك في يد المرتهن قبل أن يقرضَه هلكَ مضموناً على المرتهن، حيث يجب عليه تسليم الألفِ إلى الراهن بعد الهلاك؛ لأنَّ الموعودَ جعل كالموجود باعتبارِ الحاجة، فإنّ الإنسانَ يحتاجُ إلى استقراض شيء، وصاحب المال لا يعطيه قبل قبض الرهن، فيجعل الدين موجوداً احتيالاً للجواز؛ دفعاً للحاجةِ عن المستقرض، فكان الرهن حاصلاً بعد القرض حكماً، إذ الظاهرُ أنّ الخلف لا يجري في الوعد، ويؤدّي إلى الوجود غالباً. هذا زبدة ما في ((العناية))(10: 156). [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص596)].
(3) صورته: رهن ليقرضه ألف ردهم وهلك الرهن في يد المرتهن فهلكه على المرتهن بمقابلة الألف الموعود فيجب عليه تسليم الألف إلى الراهن. ينظر: ((درر الحكام))(2: 252-253).
(10/166)
________________________________________
(وبرأسِ مالِ السَّلَمِ وثمنِ الصرفِ والمسلَّم فيه[(1)]، فإن هلكَ في المجلسِ فقد أخذ[(2)]، وإن افترقا قبل نقدٍ(3)(4) وهَلَكَ بطلا): أي إذا رهنَ برأسِ مالِ السلم أو ثمنِ الصرف، فإن هلكَ الرهنُ قبل الافتراقِ فالمرتهنُ قد استوفى حقَّه، وإن افترقا قبل نقدِ المرهونِ به وقبل هلاكِ المرهون بطل السَّلَم والصرف[(5)]، وهذا التفصيلُ لا يتأتَّى في الرهنِ
__________
(1) قوله: والمسلّم فيه؛ أي يجوزُ الرهنُ بهذه الأشياء، وقال زفر - رضي الله عنه -: لا يجوز؛ لأنَّ حكمَه الاستيفاء، وذلك بالاستبدال، والاستبدالُ حرامٌ في بدل الصرف والسَّلَم، ولنا: إنّه استيثاقٌ من الوجه الذي عنى، وهو المقصودُ بالرهن، وإنّما يصيرُ مستوفياً بالماليَّة لا بالعين؛ ولهذا يكون عينُه أمانةً في يده، حتى نفقته حيَّاً وكفنه ميتاً على الراهن، ولو كان مستوفياً به لوجبَ على المرتهن، وهما من حيث الماليَّة جنسٌ واحد، فيجوز استيفاءً لا مبادلة.
(2) قوله: فقد أخذ… الخ؛ لتحقُّق القبض، واتّحاد الجنسِ من حيث الماليّة، وهو المضمون فيه، هذا إذا هلكَ الرهن قبل الافتراق، وإن افترقا قبل الهلاك بطل الصرف والسلم؛ لفوات القبض حقيقةً وحكماً، هذا إذا كان رهناً ببدل الصرف أو برأس مال السلم، وإن كان رهناً بالمُسَلَّم فيه لا يبطلُ بالافتراق، كما قال الشارح - رضي الله عنه - بقوله: وهذا التفصيل... الخ؛ لأنَّ قبضَه لا يجب في المجلس، ثمّ إن هلكَ قبل الافتراقِ يصيرُ مستوفياً لدينه حكماً، فتمَّ السَّلَم، كما إذا كان رهناً برأسِ المالِ أو بدل الصرف، وهلك قبل الافتراقِ يصيرُ مستوفياً لدينه.
(3) في ف: فقد.
(4) في ب و م زيادة: المرهون.
(5) قوله: بطل السَّلَم والصرف؛ لفواتِ شرط صحّتها الذي هو القبض في المجلس، أمّا الفواتُ حقيقةً فهو ظاهر، وأمّا حكماً؛ فلأنّ المرتهنَ إنّما يصيرُ قابضاً بعد الهلاك، فكان بعد التفرّق. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص596)].
(10/167)
________________________________________
بالمسلَّم فيه، فيصحُّ مطلقاً، فإن هلكَ الرهنُ يصيرُ مستوفياً للمسلَّم فيه، فلا يبقى السلم.
(ورهنُ المُسَلَّم(1) فيه رهنٌ ببدله إذا فسخ): أي إذا كان الشيءُ مرهوناً بالمسلَّم فيه، ثمَّ فسخا عقدَ السَّلَمِ فهو رهنٌ(2) بالبدل[(3)]: أي يكونُ لربِّ السَّلَمِ أن يحبسَ الرهنَ حتى يقبضَ رأسَ المال.
__________
(1) في م: بالمسلم.
(2) في ب وم: مرهون.
(3) قوله: فهو رهن بالبدل؛ استحساناً؛ لأنّه بدله فقامَ مقامه، وصارَ كالمغصوبِ إذا هلك، وبه رهن، يكون رهناً بقيمته، فيكون لربِّ السَّلَمِ أن يحبسَ الرهنَ لاستيفاءِ رأس المال، وإن لم يكن رهناً به؛ لأنَّ في الرهنِ بالمُسَلَّم فيه استيفاءٌ له من وجه، فصار كما لو استوفاه حقيقةً، ولو استوفاه حقيقةً ثمّ تقايلا كان له أن يحبسَه لاستيفاء ما يقابلُهُ تحقيقاً للمساواة في الإقالة التي هو في معنى العقد، فكذا إذا صار مستوفياً من وجه. كذا في شروح ((الهداية)).
(10/168)
________________________________________
([لو](1) هلكَ[(2)] رهنُهُ بعد الفسخِ(3) هلكَ به): أي إذا رهنَ المُسَلَّمُ إليه عند ربِّ السَّلَمِ شيئاً بالمُسَلَّمِ فيه، ثمَّ فسخا عقدَ السَّلَمِ فهَلَكَ الرهنُ في يدِ ربِّ السَّلَمِ فهلكُهُ يكونُ بالمُسَلَّمِ فيه: أي يكون على ربِّ السَّلَمِ أن يؤدِّيَ إلى المُسَلَّمِ إليه مقدارَ الطعامِ المُسَلَّمِ فيه؛ لأنّه إذا هلكَ الرهنُ صار كأنَّ ربَّ السَّلَمِ استوفى [حقَّ](4) المُسَلَّم فيه؛ لأنَّ يدَ المرتهنِ على الرهنِ يدُ استيفاء، فيتقرَّرُ بالهلاك، فصار كأنَّ ربَّ السَّلَمِ استوفى المُسَلَّمُ فيه، ثمَّ فسخا العقد، فعلى ربِّ السَّلَمِ أداءُ المسلَّمِ فيه إلى المُسَلَّمِ إليه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) قوله: هلك به... الخ؛ فعلى المرتهن أن يعطيَ مثل الطعام الذي كان له على المسلَّم إليه، ويأخذَ رأسَ ماله؛ لأنّه بقبضُ المال صارت ماليّته مضمونة بطعام السَّلَم، وقد بقيَ حكم الرهن إلى أن هلك فصارَ بهلاكِ الراهن مستوفياً طعام السَّلَم، وهو استوفاه حقيقةً قبل الإقالة، ثمّ تقايلا يلزمُهُ ردّ المستوفَّى لاستواء رأس المال، فكذلك هنا؛ لأنَّ الإقالةَ في باب السَّلَمَ لا تحتملُ الفسخ بعد ثبوتها، فهلاك الرهنِ لا يبطلُ الإقالة، وإنّما جعلَه هالكاً بالطعام لا برأس المال؛ لأنّه ليس برهنٍ به، لكنّه محبوسٌ به لما قلنا، ويجوز أن يكون الشيء محبوساً بالشيء ولا يكون مضموناً به. كذا في ((غاية البيان)).
(3) في م زيادة: المسلم فيه.
(4) زيادة من أ.
(10/169)
________________________________________
(وبدينٍ عليه [عبدَ](1) طفله[(2)]): [عطف على رأس المال](3): أي صحَّ الرهنُ بدينٍ على الأبِ عبدَ طفله، هذا عندنا، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - وزفرَ - رضي الله عنه - لا يصحّ، وهو القياسُ اعتباراً بحقيقةِ الإيفاء(4)[(5)]، وجه الاستحسان: أنَّ في حقيقةِ الإيفاءِ إزالةُ ملكِ الصغيرِ بلا عوضٍ في الحال، وفي هذا نصبٌ حافظ لماله مع بقاءِ ملكِه(6).
__________
(1) سقطت من ب.
(2) قوله: عبد طفله… الخ؛ أطلقَ المصنّف الطفل، وقيّده صاحبُ ((الهداية))(4: 135) بالصغير، حيث قال: ويجوز للأب أن يرهنَ بدينٍ عليه عبداً لابنه الصغير، ووجَّهه صاحبُ ((العناية))(10: 159) بأنّ الصغيرَ احترازٌ عن الكبير، فإنّه لا يجوز للأب أن يرهنَ عبده بدين نفسه إلاَّ بالإذن، فلعلّ المصنّف - رضي الله عنه - أراد المقيَّدَ بالمطلق، ويؤيّد ذلك قول الشارح - رضي الله عنه - في بيان وجه الاستحسان حيث قال: وجه الاستحسان أنّ في حقيقةِ الإيفاء إزالةُ ملك الصغير بلا عوض... الخ، فليتأمّل.
(3) زيادة من ب و م.
(4) يعني ليس للأب أن يؤدّي دينه من الصغير، فكذا ليس له أن يدفعَ مال الصغير بجهةِ الإيفاء؛ لأنَّ الرهنَ محبوسٌ بجهة الإيفاء. ينظر: ((حسن الدراية))(4: 127).
(5) قوله: بحقيقة الإيفاء؛ يعني ليس للأب أن يؤدّي دينه من الصغير، فكذا ليس له أن يدفعَ مال الصغير بجهةِ الإيفاء؛ لأنَّ الرهنَ محبوسٌ بجهة الإيفاء.
(6) أي إن قيام المرتهن بحفظه أبلغ خوفاً من الغرامة ولو هلك يهلك مضموناً والوديعة تهلك أمانة والوصي كالأب. ينظر: ((درر الحكام))(2: 253).
(10/170)
________________________________________
(وبثمنِ عبدٍ أو خلٍّ أو ذكيَّة إن ظهرَ العبدُ حرّاً، والخلّ خمراً، والذكيَّةُ ميتة): أي اشترى عبداً أو خلاً أو شاةً مذبوحة، ورهنَ بثمنِ المشترى، وهو عشرةُ دراهمٍ مثلاً شيئاً، ثمَّ ظهرَ العبدُ حرَّاً، والخلُّ خمراً، والشاةُ ميتةً فالرهنُ مضمون؛ أي إن هلكَ وقيمتُه عشرةُ دراهمٍ أو أكثر فعلى المرتهنِ عشرةُ دراهم يؤدِّيها إلى الراهن، وإن كانت قيمته أقلَّ فعليه القيمة؛ لأنَّ رهنَه بدينٍ واجبٍ ظاهراً[(1)].
(وببدلِ صلحٍ عن إنكارٍ إن أقرَّ(2) أن لا دين)، صالحَ مع إنكارٍ[(3)] ورهنَ ببدلِ الصلحِ شيئاً، ثمَّ تصادقا على أن لا دين، فالرهنُ مضمونٌ[(4)] كما(5) ذكر(6).
__________
(1) قوله: بدين واجبٍ ظاهراً؛ ألا ترى أنَّ البائعَ والمشتري لو اختصما إلى القاضي قبل ظهورِ الحريّة والاستحقاق فالقاضي يقضي بالثمن، ووجوب الدَّين ظاهراً يكفي لصحَّة الرهن، ويصير وزنه مضموناً. كذا في ((العناية))(10: 159).
(2) في ب: إقرار.
(3) قوله: صالح مع إنكار... الخ؛ توضيح هذه الصورة: أنّ رجلاً ادَّعى ألف درهم فجحدَ المدَّعى عليه، ثمَّ صالحَه من ذلك على خمسمئةٍ على الإنكار، وأعطاه بها رهناً يساوي خمسمئة، فهلك الرهنُ عند المرتهن ثمَّ تصادقا على أن لا دين، فإنّ على المرتهنِ قيمةُ الرهن خمسمئة للراهن في ظاهرِ الرواية. جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص596)].
(4) قوله: فالرهن مضمون؛ وفي ((الهداية))(4: 135): وعن أبي يوسفَ - رضي الله عنه - خلافه... الخ. وفي ((العناية))(10: 159): لأنّهما لمّا تصادقا أن لا دين، فقد تصادقا على عدمِ الضمان، وتصادقهما حجّة في حقِّهما، والاستيفاءُ بدون الدَّين لا يتصوّر.
(5) في ف: لما.
(6) في ب و ف و م: ذكرنا.
(10/171)
________________________________________
(ورهنُ الحجرينِ[(1)] والمكيلِ والموزون، فإن رهنَ بجنسِهِ فهلكُهُ بمثلِهِ قدراً من دينه، ولا عبرةَ للجودة)، قوله: قدراً؛ تميَّزٌ من مثله؛ أي يعتبرُ المماثلةُ[(2)] في القدر، وهو الوزنُ والكيلُ بلا اعتبارِ الجودة، وعندهما: يعتبرُ القيمة فيقوَّمُ بخلافِ الجنس، ويكون رهناً[(3)] مكانه، فإن رهنَ إبريقَ[(4)] فضَّةٍ وزنُهُ عشرةَ دراهمَ بعشرةِ دراهم، فهلكَ فعند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -[(5)] هلكَ بالدين، وعندهما[(6)
__________
(1) قوله: ورهن الحجرين؛ أي يجوز رهن الذهبُ والفضَّة لما عرفت أنّ كلّ ما يمكن الاستيفاء منه جازَ أن يرهنَ بدينٍ مضمون، والذهبُ والفضَّةُ على هذه الصفة، فيجوز رهنهما.
(2) قوله: أي يعتبرُ المماثلة... الخ؛ فلا يعتبرُ بالجودة عند المقابلة بجنسها، وهذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ لأنَّ عنده يصيرُ مستوفياً باعتبار الوزن دون القيمة.
(3) قوله: ويكون رهناً... الخ؛ لأنّه لو صار مستوفياً يتضرَّرُ المرتهن، فالأصلُ عنده أنّ حالة الهلاك حالةُ الاستهلاك، والاستيفاء إنّما يكون بالوزن، وعندهما: حالةُ الهلاكِ حالةُ الاستيفاء إذا لم يفضِ إلى الضرر. ((كفاية))(9: 91).
(4) قوله: إبريق: كوزه بالوله بادسته واين معرب ابريزست، أباريق جمع. كذا في ((منتخب اللغات)).
(5) قوله: فعند أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ دليلُه أنّ الجودةَ ساقطة العبرة في الأموالِ الربويَّة عند المقابلة بجنسها، واستيفاءُ الجيّد بالرديء جائز، كما إذا تجوزُ به في بدل الصرف والسَّلَم، وقد حصل الاستيفاءُ بالإجماع؛ ولهذا يحتاجُ إلى نقضه، ولا يمكنُ نقضُهُ بإيجابِ الضمان؛ لأنَّه لا بُدَّ له من مطالِب ومطالَب، وكذا الإنسان لا يضمنُ ملكَ نفسه، ويتعذَّرُ التضمين بتعذُّر النقض. كذا في ((الهداية))(4: 138).
(6) قوله: وعندهما... الخ؛ دليلُهما أنّه لا وجه إلى الاستيفاءِ بالوزنِ لما فيه من الضرر بالمرتهن، ولا وجهَ إلى اعتبارِ القيمة؛ لأنَّه يؤدِّي إلى الربا، فصرنا إلى التضمين، بخلاف الجنسِ لينتقض القبض، ويجعل مكانه، ثمَّ يتملّكه.
فإن قيل: إنَّ القبضَ قد انتقضَ لفوات المحلّ، وهو فعلٌ حسيّ، فلا يتصوَّر بدونِ المحل.
قلنا: القبضُ لا ينتقضُ إلا بالردّ أو بالاستيفاء، ولم أجدهما، فيكون القبضُ باقياً حكماً، وإن فات المحلّ، فيصارُ إلى التضمين، بخلاف الجنس؛ ليتمَّ القبض صورةً ومعنىً.
(10/172)
________________________________________
] إن كان قيمتُهُ مثلَ وزنه أو أكثرَ فكذا، وإن كان قيمتُهُ أقلَّ وهي ثمانيةٌ مثلاً يشتري بثمانيةَ دراهمٍ ذهب؛ ليكونَ رهناً مكانه.
فإن قيل[(1)
__________
(1) قوله: فإن قيل... الخ؛ بيانُه: إن لا بُدّ من كون لفظة: من؛ في قوله: من دينه؛ للتبعيض؛ لأنَّ الدَّين إذا كان زائداً، ووزنُ الرهنِ الهالك أقلُّ منه، كما إذا كان الدّينُ خمسةَ عشرة والوزن عشرة، فإذا هلك ما وزنه عشرة، فقد هلكَ من الدين ما يوازنُ عشرة دراهم، فيجب على المديون خمسة دراهم، وهذا لا يمكن إلا إذا كان: من؛ للتبعيض، وإذا وجبَ كونها للتبعيض فيرد عليه أنّ في العبارةِ قصوراً؛ فإنّها لا تناول ما إذا كان الوزنُ مساوٍ للدَّين مثلاً يكون الوزن عشرة والدَّين عشرة، فإنّ من الظاهر أنّ التبعيضَ حينئذٍ غير ممكنٍ لمساواتهما، فإن أريد كونها للبيان؛ ليشملَ هذه الصورة.
فيرد عليه: إنّه قد وجبَ حملها على التبعيضِ في صورة، فإن كان للبيانِ في صورةٍ أخرى لزمَ عمومُ المشترك، مع أنّه قد تقرَّر في أصولِ الفقه أنّ المشتركَ لا عمومَ له، ولو ارتكبَ هذا المخطور فلا مخلصَ أيضاً عن الإيراد، فإنّه لا يتناوله حينئذٍ ما إذا كان وزنُهُ زائداً، والدَّين أقلُّ مثلاً يكون الوزنُ خمسةَ عشر، والدَّينُ عشرةً بعدم صحّة التبعيض والبيان كليهما؛ فإنّه يصيرُ حينئذٍ معناه إنّ هلاكَه بمقدارِ خمسةَ عشرَ من جملةِ عشر دراهم، وهو كما ترى.
وتلخيصُ الجواب إنّ: من؛ للتبعيض، وليس للبيان؛ لأنَّ الغرضَ بيانُ كون الهلاك معتبراً بالوزن دون القيمة، وهذا القدرُ ظاهرٌ من العبارة على صورة التبعيض، وأمّا كون العبارةِ غير متناولة لصورة المساواة أو صورة كونِ الوزن زائداً على الدَّين فغير مضرٍّ؛ لأنَّ المقصودَ تصويرُ الغرض لا غير، فتأمّل.
(10/173)
________________________________________
]: في هذا التركيب، وهو قوله: فهلكُهُ بمثلِهِ قدراً من دينِه؛ نظرٌ(1)؛ لأنَّ الدَّينَ إذا كان خمسةَ عشرَ ووزنُهُ عشرةَ وقد هلكَ، فقد هلكَ بعشرة دراهم من الدين، فعلى المديونِ خمسة، فيكون: من؛ للتبعيض، فلا يتناولُ ما إذا كان وزنُهُ عشرةً والدَّينُ عشرة؛ لأنَّ التبعيضَ غيرُ ممكن، ولا يكون للبيان هنا(2)؛ لأنَّه لمَّا أريدَ به التبعيض في صورةٍ لا يكونُ للبيانِ في صورةٍ أخرى؛ لأنَّ المشتركَ لا عمومَ له[(3)]، ولا يتناولُ أيضاً: [ما](4) إذا كان وزنُهُ خمسةَ عشرَ والدَّينُ عشرة؛ لأنَّه يصيرُ معناهُ أنَّ هلاكَهُ بمقدارِ خمسةَ عشرَ من الدين، وهو عشرة، فهذا غيرُ مستقيم.
__________
(1) في ب: نظراً.
(2) في ب: هذا.
(3) قوله: لأنَّ المشترك لا عموم له... الخ؛ اعلم أنّ المشتركَ ما يتناول أفراداً مختلفة الحدود على سبيل البدل، كمَن فيما نحن فيه، فإنّها مشتركةٌ في معنى التبعيض والبيان، ولا عموم له؛ أي للمشترك عندنا؛ لأنَّ الواضع خصص اللفظ للمعنى، بحيث لا يرادُ به غيره، فاعتبارُ وضعه لهذا المعنى يوجبُ إرادته خاصّة، واعتبارُ وضعه لذلك المعنى يوجبُ إرادته خاصّة، فيلزم أن تكون كلٌّ منهما مراداً، وغير مراد، فلا يكون ذلك إلا بأن يرادَ أحد المعنيين على أنّه نفس الموضوع له، والآخر على أنّه يناسبه، فيكون جمعاً بين الحقيقة والمجاز، وهو باطل، وقال الشافعيّ - رضي الله عنه -: يجوز ذلك بشرط أن لا يكون بينهما مضادّة، فإذا كان بينهما مضادّة لا يجوز بالاتّفاق، وكذا لا يجوز إرادةُ المجموع من حيث هو مجموعٌ بالاتّفاق، وزيادةُ التوضيح في ((التلويح))(1: 127-128).
(4) زيادة من ب و ص و ف.
(10/174)
________________________________________
قلنا: ليس غرضُهُ بيانُ أنَّه بأيِّ شيءٍ مضمونٌ في كلِّ صورة، بل الغرضُ أنَّه هالكٌ باعتبارِ الوزنِ لا باعتبارِ القيمة، فتقديرُهُ: أنَّه هالكٌ بمثله وزناً من الدينِ إذا كان الدينُ زائداً، فإذا عُلِمَ الحكمُ في هذهِ الصورةِ يُعْلَمُ في صورةِ المساواة، وفي صورة أن يكون الوزنُ زائداً على الدَّين، لما عرفَ أنَّ الفضلَ أمانة.
(ومَن شرى [شيئاً](1) على أن يرهن شيئاً، أو يعطيَ كفيلاً بعينهما من ثمنِهِ وأبى(2) صحَّ استحساناً)، والقياسُ أن لا يجوز؛ لأنَّه صفقةٌ في صفقة، وجه الاستحسان: إنّه شرطٌ ملائم؛ لأنّ الكفالةَ والرهنَ [للاستيثاق](3)، والإستيثاقُ(4) ملائمٌ للوجوب[(5)
__________
(1) زيادة من أ و ب.
(2) أي المشتري أن يرهن ما سماه أيو يعطي كفيلاً سمَّاه. ينظر: ((الدرر))(2: 253)
(3) زيادة من ص.
(4) في ب و ف: للإستيثاق.
(5) قوله: ملائم للوجوب؛ فإذا كان الرهنُ معيَّناً والكفيلُ حاضراً في المجلس اعتبرنا فيه معنى الشرط، وهو ملائم، فصحَّ العقد، وإذا لم يكن الرهن ولا الكفيل معيَّناً، أو كان الكفيلُ غائباً حتى افتقرقا لم يبقَ معنى الكفالة، والرهنُ للجهالة، فبقي الاعتبار لعينه فيفسد، ولو كان غائباً فحضر في المجلس، وقبل: صحّ.
ولو امتنعَ المشتري عن تسليمِ الرهن لم يجبرْ عليه، وقال زفر - رضي الله عنه -: يجبر؛ لأنَّ الرهنَ إذا شرطَ في البيعِ صارَ حقَّاً من حقوقِهِ كالوكالة المشروطة في الرهن، فيلزمه بلزومه، ونحن نقول: الرهنُ عقدُ تبرُّع من جانب الراهن على ما بيَّنَّاه، ولا جبر على التبرعات، ولكن البائع بالخيار إن شاء رضي بترك الرهن، وإن شاء فسخَ البيع؛ لأنّه وصفٌ مرغوبٌ فيه، وما رضي إلا به، فيتخيَّرُ بفواته إلا أن يدفع المشتري الثمنَ حالاً لحصول المقصود أو يدفعِ قيمة الرهن رهناً؛ لأنَّ يد الاستيفاء تثبت على المعنى وهو القيمة. كذا في ((الهداية))(4: 139).
(10/175)
________________________________________
](1)، وإنَّما قال بعينهما؛ لأنَّه لو لم يكن الرهنُ أو الكفيلُ معيَّناً يفسدُ البيع[(2)]، (ولا يجبرُ على الوفاء)، هذا عندنا؛ لأنَّه لا جبرَ على التبرُّعات، وعند زفرَ - رضي الله عنه -: يجبر؛ لأنَّ الرهنَ إذا شرطَ في البيعِ صارَ حقَّاً من حقوقِهِ كالوكالةِ المشروطةِ في الرهن[(3)]، (وللبائعِ فسخُه[(4)] إلاَّ [إذا] (5) سَلَّمَ ثمنَه حالاً، أو قيمةُ الرهن رهناً)، إذ عندنا لمَّا صحَّ الشرطُ فإنّه وصفٌ مرغوبٌ [فيه](6) فبفواتِهِ يكون للبائعِ حقُّ الفسخ.
__________
(1) في ب و ص و ف: الوجوب.
(2) قوله: يفسد البيع؛ لأنّهما إذا كانا مجهولين أو كان الكفيلُ غائباً فات معناهما، وهو الاستيفاء؛ لأنَّ المشتري رُبَّما يأتي بشيء يساوي عشراً من حقِّه أو يعطي كفيلاً غير غنيّ، وليس في ذلك من التوثّق، فبقي الاعتبارُ بعين الشرط، وهي تفسد العقد. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص596)].
(3) قوله: كالوكالة المشروطة في الرهن... الخ؛ أي الرهنُ يثبتُ في ضمنِ عقدٍ لازم وهو البيع، فيصير الوفاء به مستحقَّاً، كما إذا وكَّل الراهنُ العدلُ أو المرتهنُ ببيع الرهن عند حلول الدين، فالوكالةُ لازمةٌ، ولا يملكُ الراهنُ عزلَه عنها، ولنا: إنّ الرهنَ عقدُ تبرُّع، ولا جبرَ على المتبرِّع كما مرّ، وإنّما صارَ حقَّاً من حقوقه إذا وُجِدَ التسليمُ ولم يوجد بعد؛ ولأنَّ الرهنَ عقدٌ منفردٌ، والعقودُ لا تكون بعضها من حقوق بعض. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص596-597)].
(4) قوله: وللبائع فسخه…الخ؛ أي إن للبائعِ الخيارُ إن شاء رضي بترك الدَّين، وإن شاء فسخَ البيع؛ لأنّه وصفٌ مرغوبٌ فيه؛ لفواته يوجبُ الخيار؛ كسلامةِ المبيع عن العيب في البيع إلا أن يدفع المشتري الثمنَ حالاً؛ لحصول المقصود أو يدفعَ قيمة الرهن رهناً؛ لأنَّ المقصود من الرهن المشروط يحصل بقيمته.
(5) سقطت من ف.
(6) زيادة من ف.
(10/176)
________________________________________
(فإن(1) قال لبائعه: أمسك هذا حتى أعطيَ ثمنك فهو رهن): أي أعطى المشتري البائعَ شيئاً غيرَ مبيعِه، وقال: أمسكْ هذا حتَّى أعطيَ ثمنك يكون رهناً؛ لأنَّه تلفَّظَ بما ينبئُ عن الرهن، والعبرةُ للمعاني، وعند زفرَ - رضي الله عنه -[(2)] لا يكونُ رهناً[(3)].
__________
(1) في ف: وإن.
(2) قوله: وعند زفر - رضي الله عنه -؛ أي قال زفر - رضي الله عنه -: لا يكون رهناً، ومثله عن أبي يوسفَ - رضي الله عنه -؛ لأنَّ قوله: أمسك، يحتمل الرهن والإيداع، والثاني: أقلّهما، فيقضي بثبوته، بخلاف ما إذا قال: أمسكه بدينك أو بمالك عليّ؛ لأنّه لَمَّا قابله بالدين أو بالمال فقد عيَّنَ الرهن، ولنا ما قاله الشارح - رضي الله عنه - بقوله: لأنّه تلفَّظَ بما ينبئ عن الرهن، وهو الحبسُ إلى إيفاء الثمن، والعبرةُ في العقود للمعاني، حتى كانت الكفالة بشرطُ براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءةِ المحيل كفالة، ألا ترى أنّه لو قال: ملَّكتُك هذا بكذا يكون بيعاً؛ للتصريحِ بموجبِ البيع، كأنّه قال له: بعتُك هكذا أو أطلقَ في قوله هذا، فشملَ الثوبَ المبيعَ وغيرَه، إذ لا فرقَ بين أن يكون ذلك الثوب هو المشترى أو لم يكن بعد إن كان بعد القبض؛ لأنَّ البيعَ بعد القبض يصلحُ أن يكون رهناً بثمنه، حتى يثبتَ فيه حكمُ الرهن، بخلاف ما إذا كان قبل القبض؛ لأنّه محبوسٌ بالثمن وضمانه.
(3) قوله: لا يكون رهناً… الخ؛ لأنَّ لفظ: أمسك؛ يحتملُ الرهن والإيداع، والإيداعُ أقلُّهما، فيقضى بثبوته، قلنا: لمَّا والى الإعطاء علم أنّ مرادَه الرهن. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص597)].
(10/177)
________________________________________
(وإن رهنَ عيناً من رجلين بدينٍ لكلٍّ منهما صحّ، وكلُّه رهنٌ من كلٍّ منهما): أي يصيرُ كلُّهُ محبوساً بدينِ كلِّ واحد، لا أنّ(1) نصفَه[(2)
__________
(1) في ب و ف: لأنّ.
(2) قوله: لا أن نصفه... الخ؛ لأنَّ الرهنَ أضيفَ إلى جميع العين في صفقةٍ واحدة، ولا شيوع فيه، قال صاحبُ ((العناية))(10: 171) أخذاً من ((البناية)) قيل: هو منقوض بما إذا باعَ من رجلين أو وهبَ من رجلين على قولِ أبي يوسف - رضي الله عنه - ومحمَّد - رضي الله عنه -، فإنّ العقدَ فيهما أضيفَ إلى جميعِ الدَّين في صفقةٍ واحدة، وفيه الشيوع، حتَّى كان المبيعُ والمرهونُ بينهما نصفين، كما لو نصَّ على المناصفة.
والجواب: إنّ إضافةَ العقدِ إلى اثنين توجبُ الشيوعَ فيما يكون العقدُ مفيداً للملك؛ كالهبة والبيع، فإنّ العينَ الواحدة لا يمكنُ أن تكون مملوكةً لشخصين على الكمال، فتجعل شائعة، فتنقسم عليهما للجواز، والرهن غير مفيد للملك، وإنّما يفيدُ الاحتباس، ويجوز أن تكون العينُ الواحدةُ محتبسةً بحقَّين على الكمال، فيمتنعُ الشيوعُ فيه تحرِّياً للجواز؛ لكونِ القبض لا بدَّ منه في الرهن، والشيوع يمنعُ عنه. إلى هنا كلامه. [الكلام منقول من ((ذخيرة العقبى))(ص597)، ولا يوجد فيه: قال صاحب ((العناية)) أخذاً من ((البناية))، ومعلوم أن صاحب ((البناية)) متأخرٌ عن صاحب ((العناية))، والله أعلم].
أقول: بخلاف الهبة من رجلين، حيث لا يجوز عند الإمام؛ لأنَّ العينَ تنقسمُ عليهما لاستحالةِ ثبوت الملك لكلِّ واحدٍ منهما في الكلّ، فيثبتُ الشيوعُ ضرورة، وقد تقدَّمَ بيانُه في (كتاب الهبة)، وكلّ واحد منهما في نوبته كالعدل في حقّ الآخر، هذا إذا كان ممّا لا يتجزئ ظاهر، وإن كان ممّا يتجزئ وجب أن يحبسَ كلّ واحدٍ منهما النصف، فإن دفعَ أحدُهما كلَّه إلى الآخر، وجبَ أن يضمنَ الدافعُ عند الإمامِ خلافاً لهما.
(10/178)
________________________________________
] يكون رهناً عند هذا، ونصفَه عند ذلك، وهذا بخلافِ الهبةِ من رجلين، حيث لا يصحُّ عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -، فإنّ الأوَّل لا يقبلُ الوصفَ بالتجزئ بخلافِ الهبة.
(وإذا تهايئا فكلٌّ(1) في نوبتِهِ كالعدلِ في حقِّ الآخر(2)، ولو هلكَ ضَمِنَ كلٌّ حصَّتَه)، فإنّ عند الهلاكِ يصيرُ كلٌّ مستوفياً حصَّته، والإستيفاءُ ممَّا يتجزَّئ، (فإن قُضِيَ دينَ أحدهما، فكلُّه رهنٌ للآخر)؛ لما مرَّ أنّ كلَّه رهنٌ[(3)][(4)] عند كلِّ واحد.
(وإن رهنا رجلاً رهناً بدينٍ عليهما صحَّ بكلِّ الدَّين، ويمسكُه إلى قبضِ الكلّ)، وإنَّما صحَّ هذا؛ لأنَّ قبضَ الرهنِ وقعَ في الكلِّ بلا شيوع.
__________
(1) في ب: لكل.
(2) يعني إذا تهايئا رهناً فأمسك هذا يوماً والآخر يوماً، فإن كلَّ واحدٍ منهما في اليوم الذي أمسكَه كالعدل في حق الأخر. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق299/ب).
(3) قوله: لما مرّ أنّ كلَّه رهن؛ يعني أنّ جميعَ العينِ رهنٌ في يدِ كلِّ واحدٍ منهما، من غير تفرُّق، واعترضَ عليه بأنّ المرتهنَ الذي استوفى حقَّه انتهى مقصوده. وهو كونه وسيلة إلى الاستيفاءِ الحقيقيّ بالاستيفاء الحكميّ، فينبغي أن يكون الرهنُ في يدِ الآخر من كلّ وجه من غير نيابةٍ عن صاحبه؛ وذلك يقتضي أن لا يستردّ الراهن ما قضاه إلى الأوّل من الدين عند الهلاك؛ لكنَّه يستردُّه.
وأجيب: بأنّ ارتهانَ كلِّ واحدٍ منهما باقٍ ما لم يَصِلْ الرهنُ إلى الراهن كما ذكرنا، فكان كلُّ واحدٍ منهما مستوفياً دينه من نصف ماليّة الرهن، فإنّ فيه وفاء بدينهما، فتعيَّنَ أنّ القابضَ استوفى حقَّه مرَّتين، فعليه ردُّ ما قبضَه ثانياً. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص597)].
(4) قوله: إنّ كلّه رهن، قال في ((الشامل)): ولو قضى دين أحدهما ليس له أخذ شيءٍ منه، لما عرفَ أنّه رهنٌ عند كلِّ واحد بتمامه، فإن هلكَ عنده بعد ما قضى دينَه يستردُّ ما أعطاه كما لو كان واحداً. كذا في ((غاية البيان)).
(10/179)
________________________________________
(وبطلَ حجَّةُ كلٍّ منهما أنَّه رهنَ هذا منه وقبضَه)، هذه(1) مسألة مبتدأة لا تعلَّق لها بما سبق، وصورتها: إنّ كلَّ واحدٍ من الرَّجلينِ ادَّعى أنَّ زيداً رهنَ هذا العبدَ من هذا المدِّعي(2) وسلَّمه إليه، وأقامَ على ذلك بيِّنة تبطلُ حجَّةُ كلِّ واحد؛ لأنَّه لا يمكنُ القضاءُ لكلِّ واحدٍ منهما[(3)]، ولا لأحدهما؛ لعدمِ أولويَّته، ولا [إلى] (4) القضاء لكلٍّ بالنصفِ[(5)] للشيوع(6).
__________
(1) في ب و ص: هذا.
(2) في ب: لمدعي.
(3) قوله: لكلِّ واحدٍ منهما... الخ؛ لأنَّ الشيءَ الواحدَ يستحيلُ أن يكونَ رهناً لهذا وكلّه رهناً لذلك في حالة واحدة.
(4) سقطت من ب.
(5) قوله: لكلّ بالنصف؛ لأنّه يؤدي إلى الشيوعِ فتعذَّرَ العملُ بهما، وتعيَّنَ التهاتر.
(6) لأنّه يؤدي إلى الشيوعِ فتعذَّرَ العملُ بهما، وتعيَّنَ التهاتر. ينظر: ((الدرر))(2: 254).
(10/180)
________________________________________
(ولو ماتَ راهنُهُ والرهنُ معهما[(1)]، فبرهنِ(2) كلٍّ كذلك(3) كان مع كلٍّ نصفَهُ رهناً بحقِّه)، هذا قولُ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمَّد - رضي الله عنه - وهو إستحسان، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - هذا باطل[(4)]، وهو القياسُ كما في الحياة، وجهُ الاستحسانِ: إنَّ حكمَهُ في الحياةِ[(5)] [هو](6) الحبسُ، والشيوعُ يضرُّه، وبعد المماتِ الاستيفاءُ بالبيعِ في الدَّين والشيوعُ لا يضرُّه(7).
__________
(1) قوله: والرهنُ معهما؛ قيّد بالمعيّة؛ لأنّه إذا كان في يد أحدهما كان صاحبُ اليدِ أسبق لدلالةِ يده عليه، وسبقُ التاريخِ بمنْزلةِ اليد في هذا الحكم، ولا فرقَ بين كونه معهما وكونه خارجاً عن يدِ كلّ واحدٍ منهما. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص597)].
(2) في ب: فرهن.
(3) في ق: لذلك، وفي م: على ذلك.
(4) قوله: هذا باطل، وهو القياس... الخ؛ لأنَّ الحبسَ للاستيفاء حكمٌ أصليٌّ مقصودٌ بعقد الرهن، فيكون القضاءُ به قضاءً بعقد الرهن، وإنّه باطلُ الشيوع كما في حالة الحياة.
(5) قوله: إنّ حكمه في الحياة... الخ؛ أي حالة الحياة هو الحبس، وهو المقصود، والشيوع يضرُّه، وبعد الممات الاستيفاء بالبيع والشيوع لا يضرُّه، وصار كما إذا ادَّعى الرجلان نكاح امرأة، أو ادّعت اختان النكاحَ على رجل، وأقاموا البيّنة، تهاترت في حالةِ الحياة، ويقضي بالميراث بينهم بعد الممات؛ لأنَّ الميراثُ يقبل الانقسام.
(6) زيادة من ب، وفي م: وهو.
(7) إذ بعد الممات ليس له الحكم إلا الاستيفاء بأن يبيعه في الدين شاع أو لم يشع. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 599).
(10/181)
________________________________________
باب الرهن(1) عند عدل[(2)]
(يتمُّ الرهنُ بقبضِ عدلٍ شُرِطَ وضعُه عنده)، هذا عندنا، وقال مالك(3) - رضي الله عنه -: لا يجوز[(4)]؛ لأنَّ يدَه يدُ المالك؛ ولهذا يرجعُ عليه[(5)] عند الاستحقاق، فانعدمَ القبض[(6)]، قلنا: يدُه على الصورةِ(7)
__________
(1) في ت و ج و ق: رهن.
(2) قوله: باب الرهن عند عدل؛ لما ذكرَ حكم الرهن إذا كان في يد المرتهن، ذكر حكمه إذا كان في يد العدل، وهو الذي يثقُ الراهن والمرتهن بكون الرهن في يده، فإنّه نائبٌ عن المرتهن، والنائب يقفو المنوب، قال الحاكم الشهيد - رضي الله عنه -: وليس للعدل بيع الرهن، ما لم يُسَلَّط عليه؛ لأنّه مأمور بالحفظ فحسب. [ينظر: ((حاشية الشلبي))(6: 80)].
(3) ينظر: ((الشرح الصغير))(3: 313)، و((شرح كفاية الطالب))(2: 272)، و((الفواكه الدواني))(2: 165)، وغيرهم.
(4) قوله: لا يجوز؛ قال صاحبُ ((الهداية)) في أوّل الكتاب: وقال مالك - رضي الله عنه -: يلزمُ بنفس العقد، فإذا كان كذلك ينبغي أن لا يشترطَ قبضُ العدل أصلاً، ويجوز أن يكون عن مالكٍ - رضي الله عنه - روايتان في اشتراطِ القبض في الرهن. كذا في ((غاية البيان)).
(5) قوله: ولهذا يرجع عليه... الخ؛ يعني إذا هلكَ الرهنُ في يد العدل، ثمّ استحقَّ وضمن العدل قيمتَه يرجع على الراهنِ بما ضمن، ولو لم يكن يده يد الراهن لم يرجع. كذا في ((العناية))(10: 175).
(6) قوله: فانعدم القبض... الخ؛ مشعرٌ باشتراطِ القبض عند مالك - رضي الله عنه -، وقد ذكرَ صاحبُ ((الهداية)) في أوّل هذا الكتاب: وقال مالك - رضي الله عنه -: يلزمُ بنفس العقد، وهو نصٌّ على عدمِ اشتراطه، فكان له قولين في اشتراطه، وذكر في ((المبسوط))، و((شرح الأقطع)): ابن أبي ليلى مكان مالك - رضي الله عنه -، فإنّه أنسب هاهنا.
(7) يعني أنّ قبضَ العدل كقبض المرتهن، فيتمّ به الرهن، وهذا لأنّ اليدَ في (باب الرهن) على الصورةِ أمانة، وعلى المعنى مضمون. ينظر: ((الكفاية))(9: 101).
(10/182)
________________________________________
[(1)] يدُ المالك، وفي الماليَّةِ يدُ المرتهن؛ لأنَّ يدَه يدُ ضمان، والمضمونُ الماليَّة، فَنُزِّلَ منْزلةَ شخصين، (ولا أخذ(2) لأحدهما منه[(3)]، وضمنَ[(4)] بدفعه إلى أحدهما، وهلكُهُ معه هلكُ رهن، فإنْ وكِّلَ العدلُ أو غيرُه ببيعِهِ إذا حلَّ أجلُهُ صحَّ[(5)]، فإن شرط): أي التوكيل، (في الرهنِ لا ينعزلُ[(6)
__________
(1) قوله: يده على الصورة... الخ؛ يعني أنّ قبضَ العدل كقبض المرتهن، فيتمّ به الرهن، وهذا لأنّ اليدَ في (باب الرهن) على الصورةِ أمانة، وعلى المعنى مضمون، فكانت يده... الخ. ((كفاية))(9: 101).
(2) في م: يأخذ.
(3) قوله: ولا أخذ لأحدهما منه؛ أي من العدل؛ لأنّه تعلَّقَ به حقُّهما لأنّ حقَّ الراهنِ تعلَّقَ بالحفظ في يده وأمانته، وحقُّ المرتهن في الاستيفاء، فلا يملكُ كلُّ واحدٍ منهما إبطالَ حقٍّ آخر، ولو شرطا أن يقبضَه المرتهنُ ثم جعلاه على يدِ عدلٍ جاز؛ لأنَّ ما جازَ للعدل أن يقوم مقام المرتهن في الابتداء، فكذلك في البقاء.
(4) قوله: وضمن… الخ؛ أي وإن دفعَ العدلُ الرهنُ إلى الراهن والمرتهن يضمن؛ لأنّه متى دفع إلى المرتهن فقد دفعَ الأمانة بغير إذنه، كما لو دفع إلى أجنبي، ومتى دفع إلى الراهن فقد أبطل تلك اليد، والحبس على المرتهن؛ فإنّه يثبتُ له ملك اليد والحبس بقبض العدل، وإبطالُ ملك السيّد كإبطالِ ملك العين في إيجابِ الضمان، فإنّ مَن أتلف الرهن يضمن للمرتهن كما يضمن الراهن.
(5) قوله: صحّ؛ لأنَّ الراهن مالك، فله أن يوكِّلَ مَن شاءَ من الأهل ببيع ماله مطلقاً ومنجزاً؛ لأنَّ الوكالةَ يجوز تعليقها بالشرط؛ لكونها من الإسقاطات؛ لأنَّ المانعَ من التصرّف حقّ المالك، وبالتسلط على بيعه أسقطَ حقَّه، والإسقاطات يجوز تعليقها بالشروط.
(6) قوله: لا ينعزل… الخ؛ لأنّها لمّا شرطت في ضمن عقد الرهن صار وصفاً من أوصافه وحقَّاً من حقوقه، ألا ترى أنّه لزيادة الوثيقة، فيلزم بلزوم أصله؛ ولأنّه تعلَّقَ به حقُّ المرتهن، وفي العزل إتواءُ حقّه، وصار كالوكيل بالخصومة بطلب المدعي. ((هداية))(4: 142).
(10/183)
________________________________________
] بالعزل(1)، ولا بموتِ الراهنِ أو المرتهن، بل بموتِ الوكيل[(2)])، سواء كان الوكيلُ المرتهنُ أو العدلُ أو غيرهما، وإذا ماتَ الوكيلُ لا يقومُ وارثُهُ أو وصيُّهُ مقامَه عندنا، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - إنّ وصيَّ الوكيلِ يملكُ بيعَه، (وله بيعُهُ بغيبةِ ورثته): أي للوكيلُ بيعُ المرهونِ بغيبةِ ورثةِ الراهن.
__________
(1) لأنّها لمّا شرطت في ضمن عقد الرهن صار وصفاً من أوصافه وحقَّاً من حقوقه، ألا ترى أنّه لزيادة الوثيقة، فيلزم بلزوم أصله؛ ولأنّه تعلَّقَ به حقُّ المرتهن، وفي العزل إتواءُ حقّه، وصار كالوكيل بالخصومة بطلب المدعي. ينظر: ((الهداية))(4: 142).
(2) قوله: بل بموت الوكيل... الخ؛ لأنَّ الوكالةَ لا يجري فيها الإرث؛ ولأنَّ الموكِّلَ رَضِيَ برأيه لا برأي غيره، وعن أبي يوسف - رضي الله عنه -؛ لأنَّ وصيَّ الوكيل يملكُ بيعَه؛ لأنَّ الوكالةَ لازمةٌ، فيملكُ الوصيُّ كالمضارب إذا مات، والماليّةُ عروض يملك وصيُّ المضارب بيعَها لما أنّه لازم بعدما صار عروضاً.
(10/184)
________________________________________
(ولا يبيعُ[(1)] الراهنُ أو المرتهنُ إلا برضا الآخر): أي لا يكونُ للراهنِ بيعُ الرهنِ إلاَّ برضاءِ المرتهن، وأيضاً لا يكون للمرتهنِ بيعُ الرهن إلاَّ برضاءِ الراهن، بأن وكَّلَه أو باعَه، فأجازَ الراهنُ بيعَه(2).
__________
(1) قوله: ولا يبيع... الخ؛ أي لا يجوزُ أن يبيعَ الراهنُ الرهنَ إلا برضاءِ المرتهن؛ لأنَّ المرتهنَ أحقُّ بماليَّته من الراهن، ولا يقدرُ الراهنُ على تسليمِه بالبيع، وأيضاً لا يجوز للمرتهنِ أن يبيعَه إلا برضاء الراهن؛ لأنّه ملكه وما رضي ببيعه، هذا إذا لم يكن الراهن سلَّطَه على بيعه، أمّا إذا باعَه بغير إذن الراهنِ أو بالعكس توقف [على] إجازة صاحبه فإن أجازه جاز، ويكون الثمن رهناً وإن لم يجزه لا يجوزُ البيع، وله أن يبطله، ولعبده رهناً، هذا ملخّص ما في ((غاية البيان)).
(2) أي يوقف على إجازة الراهن فإن أجازه صح، ويكون الثمن رهناً وإن لم يجز لا يجوز البيع، وله أن يبطله ويعيده رهناً. ينظر: ((الفتاوى الكاملية))(ص244).
(10/185)
________________________________________
(فإن حلَّ أجلُهُ وراهنُهُ غائبٌ أجبرَ الوكيلُ[(1)] على بيعِه، كوكيلٍ[(2)] بالخصومةِ غابَ موكِّله وأباها)، فإنّ الوكيلَ يجبرُ على الخصومة، فالحاصلُ أنَّ الوكيلَ لا يجبرُ على التصرُّف، إلاَّ أنَّ في هذه الصورةِ إذا غابَ الراهنُ وأبى الوكيلُ عن البيع، فإنَّ المرتهنَ يتضرَّر، فيجبرُ الوكيلُ[(3)] على البيع، كما يجبرُ على الخصومةِ إذا غابَ الموكِّل، فإنَّ الموكِّلَ اعتمدَ عليه وغاب، فلو لم يخاصمْ يتضرَّرُ الموكِّلُ ويضيعُ حقّه، فيجبرُ الوكيلُ على الخصومة.
__________
(1) قوله: أجبر الوكيل؛ كيفيّة الإجبار أن يحبسَه القاضي أيّاماً ليبيع، فإن لم يبع بعد الحبس أيّاماً فالقاضي يبيعُ عليه، وهذا على أصلهما ظاهر، وأمّا على أصل أبي حنيفة - رضي الله عنه - فكذلك عند البعض؛ لأنَّه تعيَّن جهة لقضاء الدين هاهنا، وقيل: لا يبيع، كما لا يبيع مال المديون عنده لقضاءِ الدين، ولا يفسدُ البيع بهذا الإجبار؛ لأنّه إجبارٌ لحقّ، فصار كالاختيار. كذا في ((الكفاية))(9: 107).
(2) قوله: كوكيل... الخ؛ صورتُه: إنّ رجلين بينهما خصومةٌ، فوكَّلَ المدّعى عليه رجلاً بخصومةٍ لطلب المدّعي، فغاب الموكل وأبى الوكيل أن يخاصمه؛ فإنّه يجبر؛ لأن فيه إتواءُ الحقّ، بخلاف الوكيل بالبيع؛ فإنّه لا يجبرُ لو امتنع عن البيع؛ لأنَّ الوكيل كالبيع إذا امتنعَ عن البيع لا يتضرّر به الموكل؛ لأنّه يتمكّن من البيع بنفسه.
(3) قوله: فيجبر كالوكيل... الخ؛ أي وإن شرطَ التوكيل بعد عقدِ الرهن؛ لأنَّ الدليلَ جارٍ فيه وهو تعلُّقُ حقِّ المرتهن، وتضييعُ حقِّه لو لم يجبر، وقولُه: لأنَّ عدمَ الدليل، وهو كون الوكالة في ضمن عقدِ الرهن نازلاً منْزلة وصف من أوصافه، وحقٌّ من حقوقه، وقوله: على عدم المدلول، وهو الجبر، وقوله: إذا وجد دليل آخر، يعني تعلُّقُ حقِّ المرتهن وتضييعه لو لم يجبرْ كذا سمع من الأستاذ. فليتأمّل. قاله الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص598)].
(10/186)
________________________________________
(وكذا [يجبر](1) لو(2) شرطَ بعد الرهنِ في الأصحّ)، اعلم أنَّ في الجبرِ قولين:
أحدهما: إنَّ الجبرَ إنّما يثبتُ إذا كانت الوكالةُ لازمة، وهي أن تكونَ(3) في ضمنِ عقدِ الرهن، فإذا(4) كان بعدَه لا يجبر.
والآخر: إنّ الجبرَ بناء على أنَّ حقَّ المرتهنِ يضيع، فيجبرُ كالوكيلِ بالخصومة إذا غابَ الموكِّل، وإنَّما كان هذا القولُ أصحّ؛ لأنَّ عدمَ الدليلِ لا يدلُّ على عدمِ المدلول، خصوصاً إذا وجدَ دليل آخر.
__________
(1) زيادة من ب و ف و م.
(2) سقطت من ص.
(3) في ب: يكون.
(4) في ب و م: فإن.
(10/187)
________________________________________
(فإن باعَهُ العدلُ فالثمنُ رهنٌ[(1)]، فهلكُهُ كهلكِه، فإن أوفى ثمنَهُ المرتهنُ فاستحقّ): أي الرهن، (ففي الهالك): أي إذا هلكَ الرهنُ في يدِ المشتري، (ضمَّنَ المستحقُّ الراهنَ قيمتَه وصحَّ البيعُ والقبض، أو العدلَ ثمَّ هو الراهن وصَحَّا، أو المرتهنَ ثمنَه وهو له ورجعَ المرتهنُ على راهنِهِ بدينه): أي المستحقُّ إمّا أن يضمِّنَ[(2)] الراهنَ قيمةَ الرهن؛ لأنَّه غاصب، وحينئذٍ صحَّ(3) البيعُ وقبض الثمن؛ لأنَّ الراهنَ ملكَهُ بأداءِ الضمان، وإمَّا أن يضمِّنَ العدلَ القيمة؛ لأنَّه متعدٍّ بالبيعِ والتسليم، وحينئذٍ العدلُ بالخيار، إمّا أن يضمِّنَ الراهنَ القيمة، وحينئذٍ صحَّ البيع وقبضَ الثمن، وإمَّا أن يضمِّنَ المرتهنَ الثمنَّ الذي أدَّاه إليه[(4)
__________
(1) قوله: فالثمن رهن... الخ؛ أي كان الثمنُ رهناً؛ لقيامه مقامَ ما كان مقبوضاً، وإذا تَوَى الثمن عند العدل كان مال المرتهن؛ لبقاءِ عقد الرهن في الثمن؛ لقيامه مقامَ الرهن المبيع، فيكون هلاك الثمن كهلاك المرهون، وكذلك إذا قتل العبد المرهون، وغرمَ القاتلُ قيمتَه؛ لأنَّ المالكَ يستحقّ هذا الضمان من حيث الماليّة، وإن كان بدل الدم فأخذ هذا الضمان، حكم ضمان المال في حقّ المستحقّ، فبقي عقد الرهن، وكذلك لو قتله عبدٌ فدفعَ به؛ لأنّه قائمٌ مقامَ الأوّل لحماً ودماً، هذا ما يستفاد من ((الهداية))(4: 143).
(2) قوله: أن يضمن... الخ؛ أي إن شاء المستحقّ يضمنُ الراهن القيمة؛ لأنّه وكيلٌ من جهته، وعامل له، فيرجعُ عليه بما لحقه من العهدة، وصحّ البيع وقبض الثمن، فلا يرجع المرتهن عليه بشيء من دينه.
(3) في أ: يصح.
(4) قوله: أدّاه إليه؛ لأنّه تبيَّنَ أنّه أخذَ الثمنَ بغير حقّ؛ لأنّه ملكَ العبدَ بأداء الضمان، ونفذَ بيعُه عليه، والثمنُ له دائماً أدّاه إليه على حسبان أنّه ملك الراهن، فإذا تبيَّنَ أنّه ملكَه لم يكن راضياً به، فله أن يرجعَ به عليه، وإذا رجعَ بطل الاقتضاء، فيرجعُ المرتهن على الراهن بدينه.
(10/188)
________________________________________
]، وهو له؛ أي ذلك الثمن يكون للعدل، فيرجعُ المرتهنُ على راهنِهِ بدينه.
(وفي القائمِ أخذه): أي المستحقُّ المرهون، (من مشتريه، ورجعَ[(1)] هو على العدلِ بثمنِه، ثمَّ هو على الراهنِ به[(2)](3)، وصحَّ القبض(4) ): أي(5) على المرتهنِ[(6)] بثمنه، (ثمَّ هو على الراهنِ بدينه): أي العدلُ بالخيار، إمَّا أن يرجعً على الراهنِ بالثمن، وحينئذٍ صحَّ قبضُ المرتهنِ الثمن، وإمّا أن يرجعَ على المرتهن، ثمَّ المرتهنُ يرجعُ على الراهنِ بدينه.
__________
(1) قوله: ورجع… الخ؛ أي رجعَ المشتري على العدل بثمنه؛ لأنّه العاقد، فتعلّق به حقوق العقد، وهذا الرجوع من حقوقه حيث وجب بالبيع، وإنما أدى المشتري الثمن إلى العدل ليسلّم للمشتري المبيع، ولم يسلّم.
(2) قوله: على الراهن به؛ أي بالثمن؛ لأنّه هو الذي أدخله في العهدة، فيجب عليه تخصيصه، وإذا رجعَ العدلُ على الراهنِ صحّ قبضُ المرتهن؛ لأنَّ المقبوضَ سَلَّم له.
(3) في ب: بدينه.
(4) في م زيادة عبارة ش: أي قبض المرتهن الثمن.
(5) في ب و ج: أو.
(6) قوله: أو على المرتهن؛ أي إن شاء العدلُ يرجعُ على المرتهن بثمنه؛ لأنّه إذا انتقض العقدُ بطل الثمن، وقد قبضه ثمناً، فيجبُ نقضُ قبضه ضرورة، وإذا رجعَ عليه وانتقضَ قبضه عادَ حقُّه في الدَّين كما كان، فيرجعُ به على الراهن، ولو أنّ المشتري سلَّم الثمنَ إلى المرتهن لم يرجعْ على العدل؛ لأنّه في البيع عامل للراهن، وإنّما يرجعُ عليه إذا قبضَ ولم يقبض، فبقى للضمان على الموكّل.
(10/189)
________________________________________
(وإن لم يشترطْ[(1)] التوكيلَ في الرهنِ رجعَ العدلُ على الراهنِ فقط، قبضَ المرتهنُ ثمنَه أو لا): أي ما ذكرَ من خيارِ العدلِ بين تضمينِ الراهنِ أو المرتهن إنَّما يكونُ[(2)] إذا كانت الوكالةُ مشروطةً في عقدِ الرهن، فإنّه حينئذٍ تعلَّقَ حقُّ المرتهنِ بالوكالة، فللعدلِ تضمينُ المرتهن؛ لأنَّه باعَه لحقِّه، أمَّا إذا لم تكن مشروطةً في الرهنِ
__________
(1) قوله: وإن لم يشترط؛ أي وإن كان التوكيلُ بعد عقد الرهنِ غيرَ مشروط في العقد عما لحق العدل من العهدة، رجعَ به العدل على الراهنِ فقط، قبض الثمن المرتهن أو لا يقبض؛ لأنّه لم يتعلّق بهذا التوكيل حقّ المرتهن، فلا رجوع كما في الوكالة المفردة عن الرهن إذا باع الوكيل ودفع الثمنُ إلى مَن أمرَه الموكِّلُ ثمَّ لحقَه عهدة، لا يرجعُ به على القابض، بخلاف الوكالة المشروطة في العقد؛ لأنَّه تعلَّقَ به حقُّ المرتهن، فيكون البيعُ لحقِّه، وقد سلَّم له ذلك جاز أن يلزمه بالضمان، هكذا يفهم من ((الهداية)) وشروحه.
(2) قوله: إنّما يكون، خبرُ قوله: أي ما ذكر، والمطلب ظاهر، وهذا في التفريق بين الوكالة المشروطة في عقد الرهن، والوكالة الغير المشروطة في الرهن الذي ذكره المصنّفُ - رضي الله عنه - والشارحُ - رضي الله عنه - تبعاً للكرخيّ - رضي الله عنه -، حيث ذكره في ((مختصره))، وهذا يؤيّد قول مَن لا يرى جبر هذا الوكيل على البيع، وقال شمس الأئمّة السَّرَخْسِيُّ - رضي الله عنه -: هو ظاهر الرواية؛ لأنَّ رضاء المرتهن بالرهن بدون التوكيل قد تمّ، فصارَ التوكيلُ مستأنفاً في ضمنِ عقد الرهن، فكان منفصلاً عنه ضرورة، على أنّ فخرَ الإسلام - رضي الله عنه - وشيخَ الإسلام - رضي الله عنه - قالا قول مَن يرى جبر هذا الوكيل أصحّ؛ لإطلاق محمّد - رضي الله عنه - في ((الجامع الصغير)) و((الأصل)) ما بيّناه، فيكون الوكالةُ غيرَ المشروطة في العقدِ كالمشروطة فيه في جميع ما ذكرنا من الأحكام هناك.
(10/190)
________________________________________
تكونُ كالوكالةِ المفردة، فإنّه إذا باعَ الوكيلُ وأدّى الثمنَ إلى آخرَ بأمرِ الموكِّل، ثمّ لحقَه عهدةٌ لا يرجعُ على القابض، فهاهنا لا يرجعُ [إلا](1) على الراهنِ سواءً قبضَ المرتهنُ الثمنَ أو لم يقبض، وصورةُ ما لم يقبضْ أنَّ العدلَ باعَ الرهنَ بأمرِ الراهن، وضاعَ الثمنُ في يدِ العدلِ بلا تعدِّيه، ثمَّ استحقَّ المرهون، فالضمانُ الذي يلحقُ العدلَ يرجعُ به على الراهن.
(فإن هلكَ[(2)] الرهنُ مع المرتهنِ فاستحقَّ وضَمَّنَ[(3)] الراهنُ قيمتَهُ هلكَ بدينه): أي يكون مستوفياً دينه، (وإن ضَمَّنَ المرتهنُ[(4)] رجعَ على الراهنِ بقيمتِهِ وبدينِه): أي المستحقُّ بالخيارِ بين تضمينِ الراهنِ أو(5) المرتهن، فإن ضَمَّنَ الراهنَ ملكَه بأداءِ الضمان، فصحَّ الرهن، وإن ضَمَّنَ المرتهنَ يرجع(6) على
__________
(1) سقطت من ب و م.
(2) قوله: فإن هلك… الخ؛ توضيحُ:ه إن هلكَ الشيءُ المرهونُ مع المرتهن؛ أي في يد المرتهن، فاستحقَّ؛ أي ثمّ استحقّه رجل، فله الخيار إن شاءَ ضمَّنَ الراهن وإن شاءَ ضمَّن المرتهن؛ لأنَّ كلّ واحدٍ منهما متعدٍّ في حقّه، أمّا الراهنُ فبتسليمِ الرهنِ إلى المرتهن، وأمّا المرتهن فبالقبض، فصارَ الراهنُ كالغاصب، والمرتهن كغاصب الغاصب، فللمستحق يضمن أيّهما شاء، أشار الشارحُ - رضي الله عنه - إليه بقوله: الآتي؛ أي المستحقّ بالخيار... الخ. هكذا في ((الهداية))(4: 143).
(3) قوله: وضمن... الخ؛ أي ضمَّن المستحقُّ الراهن، فقد ملكَ بين المرتهن؛ أي يكون مستوفياً بدينه؛ لأنَّ الراهنَ ملك المرهون بأداءِ الضمان فصحّ الإيفاء.
(4) قوله: وإن ضمَّنَ المرتهن... الخ؛ بقيمته أو بدينه، أمّا بالقيمة؛ فلأنّه مغرورٌ من جهة الراهن، والمغرور يرجعُ على الغارّ بما لحقه من الضمان، كما يرجعُ المستأجر على المؤجّر، والمودع على المودع، وإمّا بالدين فلأنّه انتقضَ اقتضاء المرتهن، فيعود حقّه كما كان.
(5) في ب و ف: و.
(6) في أ: رجع.
(10/191)
________________________________________
الراهنِ بالقيمة؛ لأنَّه مغرورٌ[(1)] من جهةِ الراهنِ وبالدين؛ لأنَّه انتقضَ قبضه فيعودُ حقُّه كما كان، قيل[(2)
__________
(1) قوله: لأنّه مغرور؛ أي الراهن غيره حيث رهنَ ملك الغير وصار كأنّه هو الذي أوجب عليه الضمان.
(2) قوله: قيل عليه… الخ؛ قائله أبو خازم القاضي - رضي الله عنه - الذي طعن على الإمام محمّد بن الحسن - رضي الله عنه -، وتقريره: لمّا كان قرارُ الضمانِ على الراهن برجوعِ المرتهن على الراهنِ بضمان القيمة، والملكُ في المضمون يثبتُ لمَن عليه قرارُ الضمان، فتَبَيَّنَ أنّه رهنَ ملكَ نفسه، فصار كما إذا ضَمَّنَ المستحقُّ الراهنَ ابتداء، وينبغي أن يحكمَ هاهنا أيضاً بأنّه مات بالدين، ولا يرجع المرتهن على الراهن بدينه.
والجواب عنه: إنّه إنّ المرتهن يرجعُ على الراهنِ بالضمان بسبب الغرور، والغرور بالتسليم، كما ذكر أنّ كلّ واحدٍ منهما متعدٍّ في حقّه بالتسليم أو بالانتقالِ من المرتهنِ إليه، كأنّه وكيل منه، والملكُ لكلِّ واحدٍ من التسليم، والانتقالُ متأخّر عن عقد الرهن، أمّا بالتسليم فظاهر؛ لأنّ التسليم كان بعد العقد، فتبيَّن له رهن غير ملكه، وأمّا بالانتقال؛ فلأنَّ المرتهن غاصب في حقِّ المستحقّ، فإذا ضمن ملك المضمون، ولكن لمّا كان قرارُ الضمان على الراهنِ انتقلَ ملكه إليه، فيملكه من جهة المرتهن، والمرتهن ملكه من حين القبض؛ لأنّه صار غاصباً به، فيملك الراهن بعد ذلك من جهته، فيكون ملك الراهنَ متأخّراً عن عقد الرهن، فكأنّه رهن غير ملكه، بخلاف الوجه الأوّل؛ لأنّ المستحقَّ يضمِّنُه باعتبار القبض السابق على الرهن، فيستند الملك إليه، فتبيَّن أنّه رهن ملك نفسه. هكذا في شروح ((الهداية))(9: 110).
(10/192)
________________________________________
] عليه(1): لمَّا كان قرارُ الضمانِ على الراهنِ والملكُ في المضمونِ(2) يثبتُ لمَن عليه قرارُ الضمان، فتبيَّن أنَّه رهنَ ملكَ نفسه.
باب التصرُّف والجناية في الرّهن[(3)]
__________
(1) هذا طعن أبي خازم، وحاصله أنه لما رجع بضمان القيمة على الراهن استقر الضمان عليه والملك في المضمون يقع لمن يستقرّ عليه الضمان، فإذا استقرّ الملك للراهن تبيَّن أنه رهن ملك نفسه فصار كما لو ضمَّن المستحق الراهن ابتداءً.
والجواب عنه: إن المرتهن يرجع بالضمان على الراهن بسبب الغرور، والغرور إنما يحصلبالتسليم إلى المرتهن فإنما يملك العين من هذا الوقت وعقد الرهن سابق عليه، فلا يكون راهناً ملك نفسه، فأما المستحق إنما يضمن الراهن باعتبار قبضه السابق لا لتسليمه فيملكه من ذلك الوقت وعقد الرهن كان بعده أو بالانتقال من المرتهن إليه كما في الوكيل بالشراء كأنه اشتراه من المستحقّ ثم باع من الراهن، وهذا لأن المرتهن غاصب في حقّ المستحقّ فإذا ضمَّن يملك المضمون ضرورة ولكن لما كان قرار الضمان على الراهن ينتقل إليه من جهة المرتهن، والمرتهن يملكه من وقت القبض؛ لأنه بالقبض صار غاصباً فيملكه الراهن بعده من جهته فيكون ملك الراهن متأخراً عن عقد الرهن. والله أعلم. ينظر: ((الكفاية))(9: 110).
(2) في ب: للمضمون.
(3) قوله: باب التصرّف... الخ؛ لمّا كان التصرُّف في الرهنِ بعد ثبوت الرهن، وكذلك الجناية على الرهن، وجنايته على غيره عقيب مسائلَ الرهن؛ لأنّ كل ترتيبٍ يجبُ طبعاً يجب وضعاً للمناسبة. كذا في ((غاية البيان)).
(10/193)
________________________________________
(وُقِفَ[(1)] بيعُ الراهنِ رهنَه، فإن أجازَ[(2)] مرتهنُه أو قضى دينَه نفذ(3)، وصارَ ثمنُهُ رهناً وإن لم يجزْ وفسخَ[(4)
__________
(1) قوله: وقف… الخ؛ أي إذا باع الراهن رهنَه بغير إذن المرتهن، فالبيعُ موقوف؛ لتعلُّق حقِّ الغير وهو المرتهن، فيتوقَّفُ على إجازته، وإن كان التصرّف في ملكه كمَن أوصى بجميع ماله، فالوصيّة فيما زادَ على الثلث موقوفٌ على إجازةِ الورثة؛ لتعلُّق حقِّهم به، فلذا هذا.
(2) قوله: فإن أجاز… الخ؛ أي المرتهن نفذ؛ لأنَّ التوقّف كان لحقّه وقدره؛ أي بسقوطه أو قضى دينه؛ أي إن قضى الراهنُ الدَّين نفذَ أيضاً؛ لأنَّ المانعَ من النفوذ قد زال، والمقتضي لنفاذ البيع موجود، وهو التصرّف الصادرُ من الأهل في المحلّ المملوك، وصار ثمنه رهناً؛ أي إذا نفذَ البيعُ بالإجازةِ يكون بدلُ المرهون، وهو الثمن رهناً، إلا في روايةٍ عن أبي يوسف - رضي الله عنه -، وهي أنّه إن شرط عند الإجازة أن يكون الثمنُ رهناً كان رهناً وإلاَّ فلا؛ لأنّه إذا أجازَ بهذا الشرط فما رضي ببطلانِ حقِّه عن العين إلاَّ وأن يكون متعلِّقاً بالبدل، فأمّا إذا لم يشترط سقطَ حقُّه عن المرهون، والثمنُ ليس بمرهون، فلا يتعلَّقُ حقُّه، والصحيحُ ما في ((الكتاب))؛ لأنّ حقّه تعلَّق بالماليّة، والبدلُ له حكمُ المبدل منه، وأيضاً: إنّ خروجَه بالبيعِ والبيع أوجب الزوال إلى بدل، فيتعلّق حقّه بالبدل، سواءً شرط أو لا، كما لو استهلكه إنسان، فإنّه يتعلّق حقّه بالقيمة، فصار كالعبد المديون إذا بيعَ برضاءِ الغرماء، ينتقلُ حقُّهم إلى البدل؛ لأنّهم رضوا بالانتقال دون السقوط رأسا، فكذا هذا.
(3) لأن المانع من النفاذ قد زال بالإجازة. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق301/ب).
(4) قوله: وإن لم يجز، وفسخ... الخ؛ أي وإن لم يجزْ المرتهن البيعَ وفسخ، ففيه روايتان:
في رواية: الفسخ، حتى لو افتك الراهنُ رهنَه لا سبيل للمشتري عليه؛ لأنَّ الحقّ الثابت للمرتهن بمنْزلةِ الملك، فصار كالمالك له أن يجيز وله أن يفسخ.
وفي رواية وهي أصحّ الروايتان لا ينفسخُ بفسخِهِ أشارَ إليه المصنّف - رضي الله عنه - بقوله: لا ينفسخُ في الأصحّ؛ لأنَّه لو ثبتَ حقُّ الفسخِ له ثبت ضرورةَ صيانة حقّه، وحقُّه في الحبس وهو لا يبطل بانعقادِ هذا العقد، فبقيَ موقوفاً، فالمشتري إن شاء صبرَ إلى فكِّ الرهنِ إذا عجزَ البائعُ عن التسليم على شرفِ الزوال، أو رفعَ الأمرَ إلى القاضي، والمقتضى أن يفسخ؛ لفواتِ القدرة على التسليم، وولاية الفسخ للقاضي لا له، وصار كما إذا أبقُ العبدُ المشترى قبل القبض، فإنّ المشتري بالخيارِ إن شاءَ صبرَ حتى يرجعَ الآبق، وإن شاءَ رفعَ الأمرَ إلى القاضي، ينفسخُ بحكمِ العجزِ عن التسليم، وكذلك هذا. [ينظر: ((الهداية))(4: 145)].
(10/194)
________________________________________
] لا ينفسخُ في الأصحّ، وصَبَرَ المشتري إلى فكِّ الرهن، أو رفعَ إلى القاضي ليفسخ(1) )، اعلم أنّ المرتهنَ إذا فسخَ ينفسخُ في رواية(2)، والأصحُّ أنَّه لا ينفسخ؛ لأنَّ حقَّه في الحبسِ لا يبطلُ بانعقادِ هذا العقد، فبقيَ موقوفاً، فالمشتري إن شاءَ صبرَ إلى فكِّ الرهن، أو رفعَ الأمرَ إلى القاضي؛ ليفسخَ البيع.
__________
(1) في ب: لينفسخ.
(2) وهي رواية محمد بن سماعة عن محمد بن الحسن أنه يفسخ، والأصحّ أنه لا يفسخ فبقي موقوفاً. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق301/ب).
(10/195)
________________________________________
(وصحَّ إعتاقُهُ[(1)] وتدبيرُهُ واستيلادُهُ رهنَه، فإن فعلَها غنيَّاً ففي دينه حالاً[(2)] أخذَ دينه(3)، وفي مؤجَّلِهِ[(4)] قيمته للرهن(5)
__________
(1) قوله: صحّ إعتاقه... الخ؛ أي نفذ سواء كان موسراً أو معسراً؛ لصدوره من أهله في محلِّه، وهو ملكُه، فلا يلغو تصرُّفُه بعدم إذن المرتهن، وامتناعُ النفاذِ في البيعِ والهبة؛ لانعدام القدرةِ على التسليم، وتمامه في ((الهداية))(4: 146)، ومثل الاعتاق الوقف، وفي ((الإسعاف)) وغيره: لو وقفَ المرهونُ بعد تسليمه أجبره القاضي على دفعِ ما عليه إن كان موسراً، فإن كان معسراً أبطل الوقفَ وباعَه فيما عليه، هكذا في ((ردِّ المُحتار))(6: 509).
(2) قوله: ففي دينه حالاً... الخ؛ يعني إذا كان الدينُ حالاً طالب المرتهنُ الراهنَ بعد العتق بالدين إذا كان موسراً؛ لأنّه إذا طولبَ بالرَّهن كان له أن يأخذه بدينه إذا كان من جنسِ حقّه، فيكون إيفاءً واستيفاءً، فلا فائدةَ فيه.
(3) يعني إذا كان الدينُ حالاً طالب المرتهنُ الراهنَ بعد العتق بالدين إذا كان موسراً؛ لأنّه إذا طولبَ بالرَّهن كان له أن يأخذه بدينه إذا كان من جنسِ حقّه، فيكون إيفاءً واستيفاءً، فلا فائدةَ فيه. ينظر: ((حسن الدراية))(4: 135).
(4) قوله: وفي مؤجِّله... الخ؛ يعني لو كان الدَّينُ مؤجَّلاً يؤخذُ من المعتق قيمةُ الرهن، وتجعلُ رهناً مكان المرهون إذا كان معسراً؛ لأنَّ سببَ الضمان قد تحقَّق، وفي التضمينِ فائدة، وفي حصول الاستيثاق من الوجهِ الذي ينساه ويحبسُها إلى حلول الأجل، فإذا حلَّ اقتضاه بحقِّه إذا كان بجنسه؛ لأنَّ للغريمِ أن يستوفيَ حقَّه من مال غريمه إذا ظفرَ بجنسِ حقِّه، وإن كان فيه فضلٌ ردَّه لانتهاء حكمِ الرهن بالاستيفاء، وإن كان أقلَّ من جنسِهِ رجعَ بالزيادة؛ لعدمِ ما يسقطُه. كذا في ((تكملة البحر))(8: 300).
(5) في ب: الرهن.
(10/196)
________________________________________
بدله(1) إلى محلِّ أجله): أي أخذَ قيمته لأجلِ أن يكون رهناً عوضاً عن المرهونِ إلى زمانِ حلولِ الأجل، وفائدته تظهرُ إذا كانت القيمةُ من غيرِ جنسِ الدين، كما(2) إذا كانت القيمةُ دراهم، والدين كرُّ برٍّ ولا قدرةَ له على أداءِ الدينِ في الحال، فيكون الدراهمُ رهناً إلى محلّ الأجل.
(وإن فعلَها مُعْسِراً[(3)
__________
(1) في م: بدلاً.
(2) في ب: كأن.
(3) قوله: وإن فعلها معسراً، ففي العتق.. الخ؛ لأنَّ حقَّ المرتهنِ كان متعلِّقاً به، فإذا تعذَّرَ الرجوعُ على المعتق لعسرته رجعَ عليه؛ لأنّه هو المنتفعُ بهذا العتق، وظاهر عبارة المصنِّف أنّه يبقى في الأقلّ من الشيئين المذكورين، والمنقولُ في غيره أنّه يسعى في الأقلّ من ثلاثة أشياء، قال في ((الجامع الصغير)): إذا أعتق الراهنُ المرهون وهو معسرٌ ينظرُ إلى ثلاثة أشياء: إلى قيمة يوم العتق، وإلى ما كان مضموناً بالدين، وإلى ما كان محبوساً به، فإنّه يسعى في الأقلّ من هذه الأشياء.
أمّا القيمة؛ فلأنّه حبسَ بالعتقِ من حقّ المرتهن هذا القدر، فلا تلزمُهُ السعاية إلا في [هذا] القدر، كالعبد المشترك إذا أعتقه أحدهما وهو معسر.
وأمّا المضمونُ بالدَّين إذا كان أقلّ؛ لأنَّ العبدَ مضمونٌ بقدرِ الدين بالعتق، وما يحدثِ بالزيادة المتَّصلة بعد القبض لم تصرْ مضمونة؛ وهذا لأنَّ السعايةَ في حقّ الزيادة، فإن كانت محبوسةً بالدَّين فلا يمكنُ إيجابُ الغاية على العبد في حقِّ الزيادة، وإن كان المحبوسُ أقلَّ من المضمون ومن قيمتِهِ يسعى بقدره، وإن شئت زيادةَ التوضيحِ فليرجع إلى ((تكملة البحر))(8: 301).
(10/197)
________________________________________
] ففي العتقِ سعى العبدُ في أقلِّ من قيمته ومن دينه، ورجعَ على سيِّدِه[(1)] غنيَّاً، وفي أختيه سعى في كلِّ الدينِ ولا(2) رجوع(3) )، فإنّ الراهنَ إذا أعتقَ وهو معسرٌ، فإن كان الدينُ أقلَّ من القيمةِ سعى العبدُ في الدين، وإن كانت القيمةُ أقلَّ سعى في القيمة؛ لأنَّه إنَّما يسعى لأنَّه لمَّا تعذَّرَ للمرتهن(4) استيفاءُ حقِّه من الراهن، يأخذُهُ ممَّن(5) ينتفعُ بالعتقِ والعبدُ إنَّما ينتفعُ بمقدارِ ماليِّته، ثمَّ يرجعُ بما سعى على السيَّد إذا أيسرَ سيِّدُه؛ لأنّه قضى دينَه، وهو مضطرٌ فيه بحكمِ الشرع، فيرجعُ عليه بما تحمَّلَ عنه، وفي التدبيرِ والإستيلادِ سعى في كلِّ الدين؛ لأنَّ كسبَ المدبَّرِ والمستولدةِ ملكُ المولى، فيسعيان في كلِّ دينه، ولا رجوع.
(وإتلافُه رهنَه كإعتاقه غنيّاً): أي إن أتلفَ الراهنُ الرهنَ فكما أعتقه غنيَّاً؛ أي إن كان الدينُ حالاً(6) أخذَ منه الدين، وإن كان مؤجَّلاً أخذَ قيمتَه؛ ليكونَ رهناً إلى زمانِ حلولِ الأجل.
__________
(1) قوله: ورجع على سيّده... الخ؛ حاصلُه أنّه إذا سعى العبدُ المعتق وأدّى يرجعُ العبد بالسعاية على سيِّده إذا أيسر؛ لأنّه قضى دينه وهو مضطرٌ فيه، ولم يكن العبدُ متبرِّعاً، فصار كمعير الرهن، بخلاف العبد المستسعى إذا كان بين الشريكين، وأعتق أحدُهما نصيبَه، والمعتق معسر، والسعي في نصيب الآخر، وأدى بحيث لا يرجع؛ لأنّه يؤدّي ضماناً واجباً عليه؛ لأنّه يسعى في تكميل العتق عندهما، ولتحصيلِ العتق عند الإمام، وهنا يسعى في ضمانٍ على عيره بعد تمام إعتاقه فافترقا. [ينظر: ((تكملة البحر))(ص304)].
(2) في أ: بلا.
(3) العبارة في ق: ولا يرجع على سيده.
(4) في م: على المرتهن.
(5) في ب: مما.
(6) في ب: مالاً.
(10/198)
________________________________________
(وأجنبيّ[(1)] أتلفَه ضمَّنَه مرتهنُهُ وكان): أي الضمان (رهناً معه.
ورهنٌ أعارَهُ[(2)] مرتهنُهُ راهنَه أو أحدُهما بأذنِ صاحبِه(3) آخر سقطَ ضمانه[(4)]، فهلكُهُ مع مستعيرِه هُلْكٌ بلا شيء، ولكلٍّ منهما[(5)] أن يردَّهُ رهناً، فإن ماتَ الراهنُ قبل ردِّهِ فالمرتهنُ أحقُّ به من الغرماء)؛ لأنَّ حكمَ الرهنِ باقٍ فيه؛ لأنَّ يدَ العاريةِ ليست بلازمة، وكونُهُ غيرُ مضمونٍ لا يدلُّ على أنَّه غيرُ مرهون، فإنّ ولدَ الرهنِ مرهونٌ غير مضمون.
(ومرتهنٌ[(6)
__________
(1) قوله: وأجنبيّ أتلف... الخ؛ أي إن أتلفَه أجنبيٌّ فالمرتهنُ يضمِّنَه قيمتَه، ويكونُ الضمانُ رهناً عنده، يعني أنّ المرتهنَ هو الخصمُ في تضمينه قيمته، فيكون رهناً عنده؛ لأنّه أحقُّ بعين الرهنِ حال قيامه، هكذا في استردادِ ما قامَ مقامَه، والواجبُ في هذا المستهلكِ قيمتُهُ يوم هلك باستهلاكه، بخلاف ضمانِ المرتهن، وقد تقدَّم بيانه.
(2) قوله: ورهن إعارة؛ فيه تسامح؛ لأنّ الاعارةَ تمليكُ المنافع بغير عوض، والمرتهنُ لا يملكُها، فكيف يملكُها غيره، ولكن لمَّا عوملَ معاملةَ الإعارةِ من عدمِ الضمان وتمكّن استرداد المعير أطلق الإعارة. هذا ما أفاده أخي جلبي في ((حاشيته))(ص598).
(3) في ب:صاحب.
(4) قوله: سقط ضمانه من المرتهن؛ لأنَّ الضمانَ باعتبارِ القبض فقد زال.
(5) قوله: ولكلٍّ منهما؛ أي الراهنُ والمرتهن أن يردّ المستعار، فإنّ عقدَ الرهنِ باقٍ إلا في حكم الضمان في الحال فكان لهما استرداده، إذ لكلّ واحدٍ منهما حقٌّ محترمٌ فيه، بخلافِ ما إذا أجَّرَه أو وهبَه أحدُهما من أجنبيّ بإذن الآخر، بحيث يخرجُ عن الرهن فلا يعودُ رهناً إلا بعقد مبتدأ. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص598)].
(6) قوله: ومرتهن؛ إلى قوله: لا؛ يشتمل على مسألتين:
الأولى: كونُ المرتهن مأذوناً من الراهن باستعمال الرهن من غيرِ جريان عقد الاستعارة بينهما.
والثانية: كونه مستعيراً للرهن منه؛ لأنّهما متَّحدان في الحكم، وهو كونُ المرتهنِ ضامناً لو هلك قبل العمل وبعده، وغير ضامن لو هلك حال العمل، ويجوز أن يفرَّقَ بينهما بأنّ الإذنَ إباحةٌ، فلا يثبتُ به جوازُ الإعارة، والإذنُ لشخصٍ آخر، بخلاف الإعارة، فإنّها يستلزمُ جوازَ الإعارةِ والإذن لغيره ممَّن لا يتفاوت، فليتأمّل. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص599)].
(10/199)
________________________________________
] أُذِنَ باستعمالِ رهنِهِ أو(1) استعارَهُ [من راهنِهِ لعملٍ، إن(2) هلكَ قبلَ عملِه(3) أو بعدِه(4) ضَمِنَ(5) كالرهن(6)، ولو هلك حالَ عملِهِ لا(7).
__________
(1) في م:و.
(2) في ت: ولو.
(3) في ق: عمله.
(4) في ق: بعدما فرغ منه .
(5) في ب زيادة : عمله.
(6) العبارة في م: ضمن قيمة الرهن.
(7) لأن حكم الرهن باق فيه إذا يد العارية ليست بلازمة وكونه غير مضمون لا يدل على أنه غير مرهون، فإن ولد المرهون مرهون، وليس بمضمون بالهلاك، فظهر منه أن الضمان ليس من لوازم الرهن من كلّ وجه. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 606).
(10/200)
________________________________________
وصحَّ استعارةُ](1) شيءٍ ليرهن، فيرهنُ بما شاء[(2)]، وإن قيَّدَ[(3)] تقيَّدَ بما عيَّنَ من قدرٍ وجنسٍ ومرتهنٍ وبلد، فإن(4) خالفَ[(5)] ضَمَّنَ المعيرُ مستعيرَه، ويتمُّ رهنُهُ بينه وبين مرتهنِه، أو إيَّاه): الضميرُ راجعٌ إلى المرتهن(6)، وهو معطوفٌ على المستعير، (ورجعَ هو بما ضَمَّنَ وبدينِهِ على راهنِه، فإن وافقَ(7)[(8)
__________
(1) سقطت من ص.
(2) قوله: فيرهن بما شاء... الخ؛ أي فيرهنُ المستعيرُ بما شاءَ من قليلٍ أو كثير إذا أطلق؛ لأنَّ الإطلاقَ يجبُ اعتباره سيّما في الإعارة؛ لأنَّ الجهالةَ فيها غير مفسدة. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص599)].
(3) قوله: وإن قيّد؛ أي المعير بنوعٍ بيَّنَه؛ أي بين المستعير الذي هو الراهن. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص599)].
(4) في ت: وإن.
(5) قوله: وإن خالف... الخ؛ أي إن خالفُ المستعيرُ كان ضامناً، ثم إن شاءَ المعيرُ ضَمَّنَ المستعير، وإن شاءَ ضمَّنَ المرتهن، فإن ضَمَّنَ المستعيرُ يتمّ عقدُ الرهن؛ لأنّه ملكه بأداء الضمان، فتبيَّن أنّه رهنَ ملك نفسه، وإن ضمنَ المرتهنُ يرجعُ المرتهنُ بما ضمن، وبالدينِ على الراهن، كما بيَّن في استحقاقِ الرهنِ قبل.
(6) أي ضمَّن المرتهن؛ لأنه أيضاً متعدٍّ فصار الراهن كالغاصب والمرتهن كغاصب الغاصب. ينظر: ((درر الحكام))(ص258).
(7) بأن رهنه بقمدار ما أمره به. ينظر: ((درر الحكام))(ص258).
(8) قوله: فإن وافق... الخ؛ بأن رهنَه بمقدارِ ما أمره به، وهلك عند المرتهن، فإن كانت قيمتُهُ مثل الدين أو أكثر سقطَ دينُ المرتهنِ عن الراهنِ لتمامِ الاستيفاءِ بالهلاك، ووجبَ مثله للمالك على الراهن؛ لأنّه صارَ قاضياً دينَه بماله لهذا القدر، وهو الموجبُ للرجوعِ دون القبض بذاته؛ لأنّه برضاه، وإن كانت قيمتُهُ أقلّ من الرهنِ ذهبَ بقدرِ القيمة، وبقدر دينه على الراهن؛ لأنّه لم يقعْ الاستيفاءُ بالزيادةِ على قيمته، وعلى الراهنِ المستعيرِ للمالك ما صار به موفياً؛ لأنّه صار قاضياً دينه.
(10/201)
________________________________________
] وهلكَ مع مرتهنِهِ فقد أخذَ كلَّ دينِهِ إن كانت قيمتُهُ مثلَ الدَّينِ أو أكثر، وضَمَّنَ مستعيرَهُ قدرَ دينٍ أوفاهُ منهِ لا القيمة، أو بعضَ دينِهِ إن كانتْ أقلّ وباقي دينِهِ على راهنِه): أي إن وافقَ وهَلَكَ الرَّهنُ مع(1) المُرْتَهِنِ، فإن كانت قيمتُهُ عشرةٌ والدَّينُ عشرة، فقد أخذَ المرتهنُ كلَّ الدَّين، ويضمنُ المستعيرُ الدَّينَ الذي أوفاهُ وهو عشرةٌ للمعير، وإن كانت قيمتُهُ خمسةَ عشرَ والدَّينُ عشرة، فقد أخذَ المرتهنُ كلَّ الدَّين، فيضمنُ المستعيرُ الدَّينَ الذي أوفاه: أي العشرة، ولا يضمنُ القيمة؛ لأنَّهُ قد وافقَ فليسَ بمتعدّ، وإن كانت القيمةُ عشرةً والدَّينُ خمسةَ عشرَ فقد أخذَ المرتهنُ بعضَ الدَّينِ وهو عشرة، وباقي الدَّينَ على الرَّاهن، ويضمنُ المستعيرُ قدرَ ما أوفاهُ من الدَّينِ وهو العشرة.
__________
(1) في ف: ومع.
(10/202)
________________________________________
(ولا يمتنعُ[(1)] المرتهنُ إذا قضى المعيرُ دينَه، وفكَّ(2) رهنه)(3): [أي](4) إذ هو يسعى في تخليصِ ملكِه، (ويرجعُ على الرَّاهنِ بما أدَّى)؛ لأنَّهُ غيرُ متبرِّعٍ كما ذكرنا.
__________
(1) قوله: ولا يمتنع... الخ؛ حاصلُه: إن أراد المعيرُ المالك أن يفتكَ المُسْتعارَ بغيرِ رضاء الراهن، فليس للمرتهن أن يمتنعَ إذا قضى المعسر دينه؛ لأنَّه غير متبرّع في انفكاكِه، بل له حقّ وملك في المرهون [حيث] يخلص ملكَه؛ ولهذا يرجع [على الراهن] بما أدّى [المعير]، فأجبر المرتهن على الدفع، بخلاف الأجنبيّ إذا قضى بالدين؛ لأنّه متبرّع، إذ هو لا يسعى في تخليص ملكه، ولا في تفريغ ذمّته، فكان لربّ الدين أن لا يقبله. هكذا في ((الهداية))(4: 149).
(2) في أ: قك.
(3) حاصلُه: إن أراد المعيرُ المالك أن يفتكَ المُسْتعارَ بغيرِ رضاء الراهن، فليس للمرتهن أن يمتنعَ إذا قضى المعسر دينه؛ لأنَّه غير متبرّع في انفكاكِه، بل له حقّ وملك في المرهون حيث يخلص ملكَه؛ ولهذا يرجع على الراهن بما أدّى المعير، فأجبر المرتهن على الدفع، بخلاف الأجنبيّ إذا قضى بالدين؛ لأنّه متبرّع، إذ هو لا يسعى في تخليص ملكه، ولا في تفريغ ذمّته، فكان لربّ الدين أن لا يقبله. ينظر: ((الهداية))(4: 149).
(4) زيادة من ف.
(10/203)
________________________________________
(فلو(1) هلكَ مع الرَّاهنِ قبلَ رهنِهِ أو بعدَ فكِّهِ لا يضمن[(2)]، وإن استخدمَهُ أو ركبَهُ من قبلِ[(3)])؛ لأنَّهُ أمينٌ خالفَ ثمَّ عادَ إلى الوفاقِ فلا يضمن[(4)]، خلافاً للشَّافعيِّ(5) - رضي الله عنه -.
__________
(1) في ج و ق: ولو.
(2) قوله: لا يضمن؛ لأنّه لم يصر قاضياً دينه به.
(3) قوله: وإن استخدمه أو ركبه من قبل... الخ؛ إن وصليّة؛ أي بأن كان المستعار عبداً فاستخدمه، أو دابَّة فركبَها قبل أن يرهنَهما، ثمَّ رهنهما بمالٍ مثل قيمتها، ثمَّ قضى المال فلم يقبضهما حتى هلكا عند المرتهن، فلا ضمانَ على الراهن؛ أي ضمانُ التعدِّي لا ضمانُ قضاءِ الدين؛ لأنَّ الراهنَ بعدما قضى الدينَ يرجعُ بما أدَّى؛ لأنَّ الرهنَ لَمَّا هلكَ في يد المرتهن صار مستوفياً حقَّه من ماليَّة الرهن، فيرجعُ المعيرُ على الراهن بما وقعَ به الإيفاء. هكذا في ((رد المحتار))(6: 515).
(4) قوله: ثمَّ عاد إلى الوفاق فلا يضمن؛ لكن في ((الشربنلالي))(2: 258): عن ((العمادية)): المستأجرُ أو المستعيرُ إذا خالفا ثمَّ عادا إلى الوفاق لا يبرأ عن الضمان على ما عليه الفتوى، قال في ((ردِّ المحتار))(6: 515): هذا في المستأجرِ أو المستعير لشيءٍ ينتفع به، وكلامُنا في مستعير شيء ليرهنه، وهو بمنْزلةِ المودع لا المستعير، كما مرَّ آنفاً، والمودع يبرأ بالعود إلى الوفاق، وفرَّق بينهما في ((الهداية)) وشروحها: بأنّ يد المستعير يد نفسه، فلا يصيرُ بالعود رادَّاً على المالك لا حقيقةً ولا حكماً، بخلاف المودع؛ لأنَّ يده كيد المالك، فبالعود إلى الوفاق يصير رادَّاً عليه حكماً، قلت: وكذا المستأجر يدُه يدُ نفسه؛ لأنّه يمسكُ العين لنفسه لا بصاحبها، فليتأمَّل.
(5) ينظر: ((النكت))(2: 585)، و
(10/204)
________________________________________
(وجنايةُ الرَّاهنِ على الرَّهنِ مضمونةٌ(1)[(2)]، وجنايةُ المرتهنُ عليه تسقطُ من دينِهِ بقدرِها[(3)]، وجنايةُ الرَّهنِ عليهما، وعلى مالهِما هدر)، هذا عندَ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقالا: جنايةُ الرَّهنِ على المرتهنِ معتبرة؛ لأنَّها حصلتْ على غيرِ مالكِه(4)، وفي الاعتبارِ فائدةٌ: وهي(5) الدَّفعُ بالجنايةِ إلى المرتهن، فإن شاءَ الرَّاهنُ والمرتهنُ أبطلا الرَّهنَ ودفعَ بالجنايةِ إلى المرتهن، فإن قال المرتهنُ: لا أطلبُ الجناية، فهو(6) رهنٌ على حالِه، وله[(7)
__________
(1) لأنّه تفويتُ حقٍّ لازمٍ محترم، وتعلُّقُ مثلِهِ بالمال يجعل المالك كالأجنبيّ في حقِّ الضمان، كتعلُّق حقِّ الورثةِ بمال المريض مرض الموت بمنعِ نفاذ تبرُّعه فيما وراء الثلث. ينظر: ((الهداية))(4: 150).
(2) قوله: على الرهن مضمونة؛ لأنّه تفويتُ حقٍّ لازمٍ محترم، وتعلُّقُ مثلِهِ بالمال يجعل المالك كالأجنبيّ في حقِّ الضمان، كتعلُّق حقِّ الورثةِ بمال المريض مرض الموت بمنعِ نفاذ تبرُّعه فيما وراء الثلث، والعبدُ الموصى بخدمته إذا أتلفَه الورثة ضمنوا قيمته؛ ليشتريَ بها عبد يقوم مقامه. هكذا في ((الهداية))(4: 150).
(3) قوله: من دينه بقدرها؛ معناه أن يكون الضمانُ على صفةِ الدين، بأن يكون الدينُ دراهمَ أو دنانير، أمّا إذا كان الدينُ مكيلاً أو موزوناً فلا يسقط، وهذا لأنّ العينَ ملك المالك، وقد تعدَّى عليه المرتهن، فيضمنه لمالكه.
(4) في ب : ملكه.
(5) في ص: وهو.
(6) في ب: وهو.
(7) قوله: وله؛ في ((الهداية))(4: 151): إن هذه الجنايةَ لو اعتبرناها للمرتهن كان عليه التطهير عن الجناية؛ لأنّها حصلت في ضمانه، فلا يفيدُ وجوبَ الضمان له مع وجوبِ التخليص عليه، وجنايتُه على مال المرتهنِ لا تعتبرُ بالاتّفاق إذا كانت قيمتُه والدينُ سواء؛ لأنّه لا فائدةَ في اعتبارها؛ لأنّه لا يتملَّكُ العبد، وهو الفائدة، وإن كانت القيمةُ أكثرَ من الدين فعن أبي حنيفة - رضي الله عنه - إنّه يعتبر بقدر الأمانة؛ لأنّ الفضلَ ليس في ضمانه، فأشبه جنايةَ العبد الوديعة على المستودع، وعنه أنّها لا تعتبر؛ لأنّ حكمَ الرهن وهو الحبس فيه ثابت، فصار كالمضمون، وهذا بخلاف جنايةِ الرهن على رهن الراهن، أو من المرتهن؛ لأنّ الأملاكَ حقيقة متباينة، فصار كالجنايةِ على الأجنبيّ.
(10/205)
________________________________________
](1): إنَّ الجنايةَ حصلتْ في ضَمانِ المرتهِن، فعليه تخليصُهُ(2) فلا يفيدُ وجوبُ الضَّمانِ له مع وجوبِ التَّخليصِ عليه.
(ومَن رهنَ عبداً يعدلُ ألفاً بألفٍ مؤجَّلٍ فصارتْ قيمتُهُ مئةً فقتلَهُ رجل، وغَرِمَ مئة، وحلَّ أجلُهُ قبضَ مرتهنُهُ المئةَ من حقِّهِ وسقطَ باقيه)؛ لأنَّ نقصانَ السِّعرِ[(3)] لا يوجبُ سقوطَ الدَّينِ عندنا، خلافاً لزفرَ[(4)] - رضي الله عنه -، فإذا كان الدَّينُ باقياً، ويدُ المرتهنِ يدُ الاستيفاءِ فيصيرُ مستوفياً للكلِّ من الابتداء.
__________
(1) في ص و ف: له.
(2) في أ: تخليصة.
(3) قوله: لأنّ نقصان السعر... الخ؛ توضيحُه: أنّ نقصان السعر عبارةٌ عن فتور رغبات الناس، وذلك لا يعتبرُ في البيع حتى لا يثبتَ به الخيار، ولا في الغصبِ حتى لا يجبَ الضمان بخلافِ نقصان العين؛ لأنّ بفواتِ جزءٍ منه يتقرَّرُ الاستيفاءُ فيه، إذ يدُ المرتهن يدُ الاستيفاء، وإذا لم يسقط شيءٌ من الدَّين بنقصانِ السعر بقيَ مرهوناً بكلِّ الدين، فإذا قتلَه حرٌّ غَرِمَ قيمتَه مئة؛ لأنّه تعتبرُ قيمته يوم الإتلافِ في ضمان الإتلاف؛ لأنّ الجابرَ بقدر الفائت، وأخذه المرتهن؛ لأنّه بدل الماليَّة في حقّ المستحقّ، وإن كان مقابلاً بالدم على أصلنا حتى لا يزداد على دِيَةِ الحرّ؛ لأنَّ المولى استحقَّه بسبب الماليَّة، وحقّ المرتهن متعلّق بالمالية، فكذا فيما قام مقامه، ثم لا يرجعُ على الراهن بشيء؛ لأنّ يد الرهن يد الاستيفاء من الابتداء.
(4) قوله: خلافاً لزفر - رضي الله عنه -؛ هو يقول: إنّ الماليَّة قد انتقصت، فأشبه انتقاص العين.
(10/206)
________________________________________
(وإن باعَهُ بأمرِه[(1)]، وقبضَ ثمنَهُ رجعَ بما بقيَ): أي إن باعَهُ المرتهنُ بأمرِ الرَّاهنِ بالمئة، بعد أن صارَ قيمتُهُ مئة، وقبضَ ثمنَه، رجعَ بما بقي؛ لأنَّ الدَّينَ لم يسقطْ بنقصانِ السِّعر؛ لأنَّ نقصانَ السِّعرِ ليسَ هلاكاً؛ لاحتمالِ العودِ(2) على ما كان، وإذا كان الدَّينُ باقياً، وقد أمرَ الرَّاهنُ أن يبيعَهُ بمئةٍ يكونُ الباقي في ذمَّتِه.
__________
(1) قوله: وإن باعه بأمره... الخ؛ صورته: إنّ المرتهنَ باعَ العبدَ المرهونَ الذي تراجعَ قيمته إلى النقصان، وقبضَ ثمنَه قضاءً من حقِّه رجعَ بما بقي من الدَّين؛ لأنَّ المرتهنَ إذا باعَه بإذن الراهن صار كأنَّ الراهنَ استردَّه وباعَه بنفسه، ولو كان كذلك يبطل، ويبقى الدينُ إلاَّ بقدر ما استوفى كذا هذا.
(2) في ب: العور.
(10/207)
________________________________________
(وإن قتلَهُ عبدٌ يعدلِ(1) مئةٍ فدفعَ به فكَّ[(2)] بكلِّ دينَه)(3)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - وأبي يوسفَ - رضي الله عنه - ، وعند محمَّدٍ - رضي الله عنه -: هو بالخيارِ إن شاءَ فكَّه، وإن شاءَ سَلَّمَ العبدَ المدفوعَ [إلى](4) المرتهنِ بماله، وعند زفرَ - رضي الله عنه -: يصيرُ رهناً بمئة؛ لأنَّهُ بقيَ الخلفُ بقدرِ العُشر، فيبقى الدَّينُ بقدرِه. قلنا لزفرَ - رضي الله عنه -: إنَّ العبدَ الثَّاني قائمٌ مقامَ الأوَّلِ[(5)] فصارَ كما كان الأوَّلُ قائماً وتراجعَ(6) سعرُهُ.
__________
(1) في أ: بعدل.
(2) قوله: فكّ؛ أي خلَّص الرهن بأداء كلّ دينه.
(3) أي دفع العبد الجاني مقام العبد المقتول بسب بقتله فاتكه الراهن بكل دينه؛ لقيام الثاني مقام الأول لحماً ودماً. ينظر: ((الدر المنتقى))(2: 609).
(4) سقطت من ب.
(5) قوله: قائماً مقامَ الأوّل؛ صورةً ومعنىً، أمّا صورةً فظاهر، وأمّا معنى فلأنّ القاتل كالمقتول في الآدميَّة، والشرعُ اعتبره حرَّاً من حيث الآدميَّة دون الماليَّة، ألا ترى إلى استوائهما في حقّ القصاص، فكذا في حقّ الدفع. كذا في ((العناية))(10: 191).
(6) في ف: فتراجع.
(10/208)
________________________________________
ثمَّ لمحمَّدٍ - رضي الله عنه -: [إنَّ](1) المرهونَ تغيَّرَ في ضمانِ [المرتهن](2)، فيخيَّرُ الرَّاهنُ كالمبيعِ إذا [قُتِلَ](3) قبلَ القبض(4)[(5)]، ولهما: إنَّ التَّغيرُ لم يظهرْ في حقِّ العبدِ لقيامِ الثَّاني مقامَه[(6)].
__________
(1) سقطت من ف.
(2) سقطت من ف.
(3) سقطت من ف. وفي ص: قبل.
(4) أي قتله عبد ودفع مكانه، وإنّما قيّد فيه بالقتل؛ لأنّ سعره لو نقصَ ممَّا كان عليه وقت البيع لا خيار للمشتري ، بل يأخذه من غير خيار، أمّا لو قتله عبد فدفعَ مكانه يتخيَّر المشتري بين أن يأخذ المدفوع بكلِّ الثمن، وبين أن يفسخ البيع؛ لتغيُّر المبيع. ينظر: ((الكفاية))(9: 124-125).
(5) قوله: كالمبيع إذا قتل قبل القبض؛ والمغصوبُ إذا قتلَ في يد الغاصب؛ أي قتلهما عبد ودفع مكانهما، وإنّما قيّد فيهما بالقتل؛ لأنّ سعرهما لو نقصَ ممَّا كان عليه وقت البيع والغصب لا خيار للمشتري والمغصوب منه، بل يأخذهما من غير خيار، أمّا لو قتلهما عبد فدفعَ مكانهما يتخيَّر المشتري بين أن يأخذ المدفوع بكلِّ الثمن، وبين أن يفسخ البيع؛ لتغيُّر المبيع، وفي الغصب يتخيَّرُ المغصوبُ منه بين أن يأخذَ المدفوعَ وبين أن يطالبَ الغاصبَ بقيمة المغصوب. هكذا في ((الكفاية))(9: 124-125).
(6) قوله: لقيام الثاني مقامَه كما ذكرناه آنفاً، وعينُ الرهنِ أمانةٌ عند المرتهن عندنا، فلا يجوز تمليكه منه بغير رضاه؛ ولأنّ جعلَ الرهنِ بالدين حكمٌ جاهليّ، وهو منسوخٌ بخلاف البيع؛ لأنّ الخيار فيه حكمه الفسخ، وهو مشروع، وبخلاف الغصب؛ لأنّ تملّكه بأداء الضمان مشروع.
(10/209)
________________________________________
(فإن جنى الرَّهنُ خطأً فداهُ مرتهنُه[(1)]، ولم يرجع): أي على الرَّاهن؛ لأنَّ الجنايةَ حصلتْ في ضمانِ المرتهن، ولا يملكُ الدَّفع؛ لأنَّ المرتهنَ غيرُ مالك، ( فإن أبى دفعَهُ الرَّاهن أو فداه، وسقطَ الدَّين): أي إن أبى المرتهنُ أن يفديَهُ قيل للرَّاهن[(2)]: ادفعْ(3) العبد، أو افدْ عنه، وأيَّاً فعلَ سقطَ الدَّين. واعلمْ أنَّ الدَّينَ إنَّما يسقطُ بتمامِهِ إذا كانَ الدَّينُ أقلَّ من قيمةِ الرَّهنِ أو مساوياً، أمَّا إذا كان أكثر يسقطُ من الدَّينِ مقدارُ قيمةِ العبد، ولا يسقطُ الباقي، لكن لم يذكرْ في ((المتن)) هذا؛ لأنَّ الظَّاهرَ أن
__________
(1) قوله: فداه مرتهنه؛ لأنّ العبد في ضمانه، فيقال للمرتهن: خذْ العبد من الجناية، هذا إذا كان القيمةُ والدينُ سواء، أمّا إذا كانت القيمةُ أكثرَ يسقطُ من الدين مقدارُ قيمة العبد، ولا يسقط الباقي، ولو فدى طهر المحلّ، فبقى دينُ المرتهن على حاله، ولم يرجع بشيء من الفداء على الراهن؛ لأنّ الجنايةَ حصلت في ضمان المرتهن، فكان عليه إصلاحها، ولا يملك المرتهن الدفع؛ لأنّه غير مالك، فلا يملك التمليك.
(2) قوله: إن أبى؛ أي المرتهن أن يفديه، قيل للراهن... الخ؛ لأنّ الملكَ في الرقبةِ قائمٌ للراهن، وإنّما يحكمُ إلى المرتهنِ بالفداء؛ لقيامِ حقِّه، فإذا أنكرَ عن الفداءِ يطالبُ الراهن بحكم الجناية، ومن حكمها التخييرُ بين الدفعِ والفداء، فإن اختارَ الدفع سقطَ الدين؛ لأنّه استحقَّ بمعنى في ضمان المرتهن، فصار كالهلاك، وكذا إن اختار الفداء؛ لأنَّ العبدَ كالحاصل له بعوض كان على المرتهن، وإذا كان على المرتهن فقد أدَّاه الراهن، فيجب للراهن على المرتهن مثل ما أدّى إلى وليّ الجناية، وللمرتهنِ على الراهنِ دين، فالتقيا قصاصاً، فيسلَّم الرهنُ للراهن، ولا يكون الراهنُ متبرِّعاً في أداء الفداء؛ لأنّه يسعى في تخليصِ ملكه، كمصير الراهن. هكذا في ((الهداية)) وشروحها.
(3) في ب: أو ادفع.
(10/210)
________________________________________
لا يكونَ الدَّينُ أكثرَ من قيمةِ الرَّهن.
(ولو(1) ماتَ الرَّاهنُ باعَ وصيُّهُ [رهنَهُ](2)، وقضى دينه)، هذه مسألةٌ(3) مبتدأة لا تعلُّق لها بمسألةِ الجناية، أي إذا ماتَ الرَّاهنُ فوصيُّ يبيعُ الرَّهنَ بإذنِ المرتهنِ ويقضي دينَه، كما إذا كان الرَّاهنُ حيَّاً فلهُ البيعُ بإذنِ(4) المرتهنِ كذا هاهنا(5)، (فإن لم يكنْ له وصيٌّ نُصِبَ وصيٌّ[(6)] يبيعه).
فصل[(7)] [في المتفرقات](8)
__________
(1) في ب و ف و ق و م: وإن.
(2) سقطت من ف.
(3) في ص: المسألة.
(4) العبارة في ص: حياً فوصيه يبيع الرهن بإذنه.
(5) في ص و م:: هنا.
(6) قوله: نصب وصي... الخ؛ أي نصبَ القاضي له وصيَّاً يبيعُ الرهن؛ لأنّ القاضي نُصِبَ ناظراً لحقوق المسلمين إذا عجزوا عن النظر لأنفسهم، وقد تعيَّنَ النظرُ في نصب الوصي؛ ليؤدّي ما عليه لغيره، ويستوفي حقوقَه من غيره، ولو كان على الميّتِ دينٌ فرهنَ الوصيُّ بعضَ التركة عند غريمٍ له من غرمائه لم يجز، وللآخرين أن يردّوه؛ لأنّه إيثارٌ لبعضِ الغرماء بالإيفاء الحكميّ، فأشبه الإيثارَ بالإيفاء الحقيقيّ، والجامعُ ما في كلّ واحدٍ منهما من إبطال حقّ غيره من الغرماء، ألا ترى أن الميِّتَ بنفسه لا يملكُ ذلك بمرضِ موته، فكذا مَن قامَ مقامه وإن قضى دينهم قبل أن يردّوه جاز؛ لزوال المانع، ووصول حقِّهم، ولو لم يكن للميّت غريمٌ آخر جاز الرهنُ اعتباراً بالإيفاءِ الحقيقيّ، وبيع في دينه ما لا يباعُ فيه قبل الرهن، فكذا بعده وإذا ارتهن الوصيُّ بدين للميِّتِ على رجلٍ جاز؛ لأنه استيفاء، فيملكه وله أن يبيعه. هذا تلخيص ما في ((الهداية))(4: 154).
(7) قوله: فصل؛ هذا الفصل بمنْزلةِ المتفرّقة المذكورة في أواخر الكتب، فلذا أخَّره استداركاً لما فات فيما سبق.
(8) زيادة من ب و م.
(10/211)
________________________________________
(عصيرٌ قيمتُهُ عشرة رُهِنَ بها فتخمَّرَ وتخلَّل، وهو يعدلُها): أي الخلُّ يعدلُ عشرة، (بقي رهناً بها)، فالحاصلُ أنَّ ما هو محلٌّ للبيعِ محلٌّ[(1)
__________
(1) قوله: إنّ ما هو محلّ للبيعِ محلّ... الخ؛ أقول: لقائل أن يقول: لو كان مدارُ المسألة المذكورة على هذا القدر من التعليل لما ظهرَ فائدة قوله: وتخلل في وضعِ مسألة، بل كان يكفي أن يقال: رهن بها فتخمّر بقي رهناً بها؛ لكفايةِ التعليلِ المذكور بعينه في إثبات هذا المعنى العام، فتأمّل.
وقال صاحب ((العناية))(10: 196): ولقائل أن يقول: ما يرجع إلى المحلّ فالابتداء والبقاء فيه سواء، فما بال هذا تخلَّفَ عن ذلك الأصل، وقال: ويمكن أن يجابَ عنه بأنّه كذلك فيما يكون المحلُّ باقياً، وهاهنا يتبدَّلُ المحلُّ حكماً بتبدُّل الوصف، فكذلك تخلَّفَ عن ذلك الأصل.
أقول: قوله: وتخلَّلَ بعد قوله: قيمته عشرة رهن بها... الخ، يشيرُ إلى أنّ المعتبرَ فيه الزيادةُ والنقصان في القيمة وليس كذلك بل المعتبرُ القدر؛ لأنّ العصيرَ والخلَّ من المقدرات؛ لأنّه إمّا مكيل أو موزون، وفيها نقصان القيمة لا يوجبُ لسقوط شيء من ذلك الدين كما في انكسار القلب، وإنّما يوجبُ الخيار على ما ذكرنا؛ لأن الغاية فيه مجرّد الوصف، وفوات كلّ شئ من الوصف في المكيل والموزون لا يوجب سقوط شيء من الدين بالإجماع، فيكون الحكم فيه أنّه إن نقص شيءٌ من القدر سقطَ بقدره شيءٌ من الدّين، وإلاَّ فلا، وأشارَ بقوله: وتخلَّلَ إلى أنّ المرهونَ عند مسلم، والراهن فلو كان ذميّاً.
(10/212)
________________________________________
] للرَّهن، وما ليس محلاً للبيعِ ليس محلاً للرَّهن، والخمرُ ليس محلاً للبيعِ ابتداءً، لكن محلٌّ له بقاءً(1)[(2)]، فكذا الرَّهن.
__________
(1) حتى أنّ مَن اشترى عصيراً فتخمّر قبل القبض يبقى العقد إلا أن يتخيَّر في البيع لتغيُّر وصف المبيع بمنْزلةِ ما إذا تعيَّب، وإنّما قلنا ببقاء العقد؛ لأنَّ الخمرَ مالٌ إلا أنّه ليس بمتقوِّم، فبالنظر إلى جهةِ الماليَّة يقتضي المحليّة، وبالنظر إلى أنّه ليس بمتقوِّم يقتضي انعدام المحليَّة، فعملنا بالشبهين، فقلنا بأنّه ليس بمحلٍّ ابتداء، وأنّه محلّ بقاء، ولم نقل بالعكس؛ لأنّ ما يكون محلاً للابتداءِ فهو محلٌّ للبقاء، فإنّ البقاءَ أسهلُ من الابتداء، فلا يمكن اعتبارُ الشبهين. ينظر: ((الكفاية))(9: 128-129).
(2) قوله: بقاء؛ حتى أنّ مَن اشترى عصيراً فتخمّر قبل القبض يبقى العقد إلا أن يتخيَّر في البيع لتغيُّر وصف المبيع بمنْزلةِ ما إذا تعيَّب، وإنّما قلنا ببقاء العقد؛ لأنَّ الخمرَ مالٌ إلا أنّه ليس بمتقوِّم، فبالنظر إلى جهةِ الماليَّة يقتضي المحليّة، وبالنظر إلى أنّه ليس بمتقوِّم يقتضي انعدام المحليَّة، فعملنا بالشبهين، فقلنا بأنّه ليس بمحلٍّ ابتداء، وأنّه محلّ بقاء، ولم نقل بالعكس؛ لأنّ ما يكون محلاً للابتداءِ فهو محلٌّ للبقاء، فإنّ البقاءَ أسهلُ من الابتداء، فلا يمكن اعتبارُ الشبهين. هذا ملخّص ما في ((الكفاية))(9: 128-129).
(10/213)
________________________________________
(وشاةٌ قيمتُها عشرةٌ رُهِنَتْ بها، فماتتْ فدبغَ جلدُها، فعدلَ درهماً، فهو رهنٌ به[(1)].
__________
(1) قوله: فهو رهن به؛ أي بدرهم؛ لأنّ الرهن يتقرَّر بالهلاك، فإذا حيى بعض المحلّ يعود حكمه بقدره، هذا إذا كانت قيمةُ الجلدِ يوم الرهن درهماً، وأمّا إذا كانت قيمةُ الجلدِ يوم الرهن درهمين كان الجلدُ رهناً بدرهمين، وإنّما يعرفُ هذا فيما إذا نظر إلى قيمةِ الجلد وإلى قيمة اللحم يوم الارتهان، فإن كانت قيمةُ اللحمِ تسعة، وقيمةُ الجلد درهماً كان الجلدُ رهناً بدرهم، وإنّما يعرفُ إذا نظرَ إلى قيمةِ الشاة حيَّة، وإلى قيمتها مسلوخة، فإن كانت قيمتُها حيّةً عشرة وقيمتُها مسلوخةً تسعة عُلِمَ أنَّ قيمة الجلد درهم يوم الرهن؛ لأنّه بإزاءِ كلّ درهمٍ من الشاة درهمٌ من الدين، فيسقط من الدين تسعة، ويبقى الجلد رهناً بدرهم.
وإن كانت قيمتُها حيّةً عشرة، وقيمتُها مسلوخة ثمانية عُلِمَ أنّ قيمةَ الجلدِ درهمان، فيكون الجلدُ رهناً بدرهمين، وإنّما وجبَ النظر إلى قيمة الجلد واللحم يوم الارتهانِ لا يوم الدباغة؛ لأنّ الأصلَ أنَّ قيمة الرهن إنّما تعتبرُ يوم الارتهان، هذا الذي ذكرنا فيما إذا كانت قيمةُ الشاة مثل الدين، وأمَّا إذا كانت قيمةُ الشاةِ أكثرُ من الدين، فتفصيله مذكور في ((الكفاية شرح الهداية))(9: 129-130) فانظر هنا.
(10/214)
________________________________________
ونماءُ الرَّهنِ كولدِهِ ولبنِهِ وصوفِهِ وثمرِهِ لراهنِه[(1)](2)، وهو رهنٌ مع أصلِه، ويهلكُ بلا شيء)، فإنَّهُ لم يدخلْ تحتَ العقدِ مقصوداً، (فإن(3) هلكَ أصلُهُ وبقي هو(4) فُكَّ بقسطِهِ[(5)] [يقسمُ الدَّينُ على قيمتِهِ يومَ فكِّه، وقيمةُ أصلِهِ يومَ قبضِه، وتسقطُ(6) حصّةُ أصلِه، وفُكَّ بقسطِه](7) )، كما إذا كان الدَّينُ عشرة، وقيمةُ الأصلِ يومَ القبضِ عشرة، وقيمةُ النَّماءِ يومَ الفكِّ خمسة، فثلثا العشرةِ حصَّةُ الأصل فيسقط، وثلثُ العشرةِ حصَّةُ النَّماء، فيفكُّ به.
__________
(1) قوله: لراهنه؛ لأنّه متولِّدٌ من ملكه، وهو رهنٌ مع أصله؛ لأنّه تبعٌ له، والرهنُ حقٌّ لازم؛ أي متأكِّد بحيث لا اختيارَ فيه، فيسري إليه، ألا ترى أنّ الراهنَ لاُ يملك البطالة بخلافِ ولد الجارية الجانية، حيث لا يسري حكمُ الجناية إلى الولد، ولا يتبع أمَّه فيه؛ لأنّ الحقَّ فيها غيرُ متأكِّد حتى ينفردَ المالكُ بإبطاله بالفداء.
(2) في ب: الراهنه.
(3) في ج و ق: وإن.
(4) في أ: فهو.
(5) قوله: فكّ بقسطه؛ لأنّ الرهنَ يصيرُ مضموناً بالقبض، والزيادةُ تصيرُ مقصودةً بالفكاك إذا بقيَ إلى وقته، والتبعُ يقابله شيءٌ إذا صار مقصوداً كولدِ المبيع فيما أصاب الأصل يسقط من الدَّين؛ لأنّه يقابله الأصلُ مقصوداً، وما أصاب النماءَ افتكه الراهنُ لما ذكرنا، هكذا في ((الهداية))(4: 155).
(6) في أ و ب و ف و م: يسقط.
(7) سقطت من ج.
(10/215)
________________________________________
(والزيادةُ في الرَّهنِ تصحّ، وفي الدَّينِ لا[(1)])(2)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمَّدٌ - رضي الله عنه -، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: يجوزُ الزُّيادةُ في الدَّينِ أيضاً، فإنَّ الدَّينَ بمَنْزلةِ الثَّمن، والزِّيادةُ في الثَّمنِ تجوز(3)، قلنا: الزِّيادةُ في الدَّينِ توجبُ الشُّيوعَ في الرَّهن، وعند زفرَ - رضي الله عنه - والشَّافعيِّ - رضي الله عنه -: لا تجوزُ(4) في شيءٍ منهما، كما لا تجوزُ(5) في المبيع والثَّمنُ عندهما، وقد مرَّ في ((البيوع))(6).
__________
(1) قوله: وفي الدَّين لا؛ أي لا يجوزُ الزيادةُ في الدَّين، كما إذا رهنَ عبداً بألف، ثمّ حدث للمرتهن دين آخر بالشراء والاستقراض، فيجعل الرهن بالدين القديم رهناً بدون الدين الحادث. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص599)].
(2) أي لا يجوزُ الزيادةُ في الدَّين، كما إذا رهنَ عبداً بألف، ثمّ حدث للمرتهن دين آخر بالشراء والاستقراض، فيجعل الرهن بالدين القديم رهناً بدون الدين الحادث. ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص599).
(3) في أ و م: يجوز.
(4) في أ و ف و م: يجوز.
(5) في أ و ف و م: يجوز.
(6) ص ).
(10/216)
________________________________________
(فإن رهنَ عبداً(1) يعدلُ ألفاً بألف، فدفعَ عبداً كذلك رهناً بدلَ الأوَّلِ فهو رهن): أي الأوَّلُ رهن، (حتى يردَّهُ(2) إلى راهنِه، ومرتهنُهُ أمينٌ في الآخرِ حتى يجعلَهُ مكانَ الأوَّل(3)[(4)] )، بأن يردَّ الأوَّلَ إلى الرَّاهن، فحينئذٍ يصيرُ الثَّاني مضموناً.
__________
(1) في أ: عبد.
(2) في ج و ص وف و ق: يرد.
(3) لأن الأوّلَ إنّما دخل في ضمانه بالقبض والدين وهما باقيان، فلا يخرجُ عن الضمان إلا بنقض القبض، ما دام الدين باقياً، وإذا بقيَ الأوّلُ في ضمانه لا يدخلُ الثاني في ضمانه؛ لأنّهما رضيا بدخولِ أحدهما فيه، لا بدخولهما، فإذا ردّ الأوّل دخلَ الثاني في ضمانه. ينظر: ((الهداية))(4: 157).
(4) قوله: حتى يجعلَه مكان الأوّل... الخ؛ لأنّ الأوّلَ إنّما دخل في ضمانه بالقبض والدين وهما باقيان، فلا يخرجُ عن الضمان إلا بنقض القبض، ما دام الدين باقياً، وإذا بقيَ الأوّلُ في ضمانه لا يدخلُ الثاني في ضمانه؛ لأنّهما رضيا بدخولِ أحدهما فيه، لا بدخولهما، فإذا ردّ الأوّل دخلَ الثاني في ضمانه. كذا في ((الهداية))(4: 157).
(10/217)
________________________________________
(ولو أبرأ المرتهنُ راهنَهُ عن دينِه، أو وهبَهُ منه فهلكَ الرَّهن): أي في يدِ المرتهن، (هلكَ بلا شيء[(1)])، وهذا استحسان(2)، وفي القياسِ هلكَ بالدَّينِ وهو قولُ زفر - رضي الله عنه -[(3)].
(ولو قبضَ المرتهنُ دينَهُ أو بعضَهُ من راهنِهِ أو غيرِهِ أو شرى(4) بالدَّينِ عيناً أو صالحَ عنه على شيء أو أحالَ الرَّاهنُ مرتهنَهُ بدينِهِ على آخر، ثمَّ هلكَ رهنُهُ معه هلكَ بالدَّين[(5)]، وردَّ ما قبض إلى من أدَّى، وبطلتْ الحوالة.
__________
(1) قوله: هلك بلا شيء؛ لأنّ الرهنَ مضمونٌ بالدين أو بجهته عند توهُّم الوجود، كما في الدينِ الموعود، ولم يبقَ الدينُ بالإبراءِ أو الهبة، ولا جهةَ الدين لسقوطه، إلا إذا حدثَ منعاً؛ لأنّه يصيرُ به غاصباً إذ لم تبق له ولاية المنع. كذا في ((الهداية))(4: 157).
(2) وهو إن ضمان الرهن باعتبار القبض والدين؛ لأنه ضمان استيفاء، وذا لا يتحقق إلا باعتبار الدين وبالابراء لم يبق أحدهما وهو الدين ، والحكم الثابت بعلّة ذات وصفين يزول بزوال أحدهما؛ ولهذا لو ردّ الرهن سقط الضمان لعدم القبض وإنبقي الدين فكذا إذا برأ عن الدين سقط الضمان لعدم الدين وإن بقي القبض. ينظر: ((درر الحكام))(2: 261).
(3) قوله: وهو قول زفر - رضي الله عنه -؛ فإنّه قال: يضمنُ المرتهنُ للراهنِ قدر الدين إن كانت قيمةُ الدين قدرَ الدين أو أكثر، فأمّا إذا كانت أقلّ لا يجب عليه إلاَّ قدرَ قيمة الرهن، له إن قبضَ المرتهنُ استيفاءٌ من وجه، فلمَّا هلكَ الرهنُ بعد الإبراء تمَّ ذلك القبض، فصار مستوفياً حقيقةً من حين القبض، فيردُّ مثل ما استوفى. كذا في ((المصفى)).
(4) في ق: اشترى.
(5) قوله: هلك بالدين؛ وجه الفرق أنّ بالإبراءِ يسقطُ الدينُ أصلاً كما ذكرنا آنفاً، وبالاستيفاءِ لا يسقط؛ لقيام الموجب إلا أنّه يتعذَّر الاستيفاء؛ لعدم الفائدة؛ لأنّه يعقبُ مطالبة مثله. هذا ما يستفاد من ((الهداية))(4: 157).
(10/218)
________________________________________
وكذا لو تصادقا على أن لا دينَ ثمَّ هلكَ [هلك](1) بالدَّين)، حكمُ هذه المسائلِ مبنيٌّ على أنَّ يدَ المرتهنِ يدُ استيفاء، يتقرَّرُ ذلك بالهلاك، فإذا(2) هلكَ تبيَّن أنَّ الاستيفاءَ وقعَ مكرَّراً فيردَّ ما قبضَ(3) إلى مَن أدَّى، [فإن أدَّى المديونُ يردُّ إليه، وإن أدَّى غيرَهُ يردٌّ](4) إلى ذلك [الغير](5)، وإن أحالَ تبطلُ الحوالة[(6)]، وفي صورةِ التَّصادقِ[(7)] وجودُ الدَّينَ محتمل(8)
__________
(1) سقطت من ف.
(2) في ف: وإذا.
(3) العبارة في ص: فيرده قبض.
(4) سقطت من ف.
(5) سقطت من أ.
(6) قوله: تبطل الحوالة؛ لأنّه لم يبقَ المطالبةُ بهلاكِ الرهن لتقرّر الاستيفاء، وهلك بالدين؛ لأنّه بالحوالة لا يسقطُ الدين، ولكن ذمَّة المحتالِ عليه تقومُ مقامَ ذمّة المحيل؛ ولهذا يعود إلى ذمَّة المحيلِ إذا مات المحتالُ عليه مفلساً؛ ولأنّه في معنى البراءة بطريق الأداء؛ لأنّه يزول به عن ملك المحيل مثل ما كان له على المحتال عليه أو ما يرجع عليه به إن لم يكن للمحيل على المحتال دين؛ لأنّه بمَنْزلة الوكيل.
(7) قوله: وفي صورة التصادق؛ أي لو تصادقا على أن لا دين ثمَّ هلكَ هلك بالدين، ذكر شمس الأئمّة السَّرَخْسِيّ - رضي الله عنه - في ((المبسوط))(21: 91): إذا تصادقا على أن لا دين بقيَ ضمان الرهن إذا كان تصادقهما بعد هلاك المرهون؛ لأنّ الدَّين كان واجباً ظاهراً حين هلكَ المرهون، ووجوبُ الدين ظاهراً يكفي لضمان الرهن، فصار مستوفياً، فأمّا إذا تصادقا على أن لا دين، والرهن قائم، ثمّ هلك الرهن، فإنّه هناك يهلك أمانة؛ لأنّ بتصادقهما ينتفي الدَّين من الأصل، وضمانُ الرهن لا يبقى بدون الدين.
(8) لتوهُّم وجوبِ الدين بالتصادق على قيامه، يعني بعد التصادق على عدمه؛ لجواز أن يتذكرا وجوبه بعد التصادق على انتفائه، فتكون الجهةُ باقية، وضمان الرهن يتحقّق بتوهُّمِ الوجوب، بخلاف الإبراء، فإنّه لم يبقَ الدينُ فيه ولا جهته. ينظر: ((العناية))(9: 136) و((الكفاية))(9: 136).
(10/219)
________________________________________
[(1)].
إذا عرفت(2) هذا؛ فزفر - رضي الله عنه - قاسَ المسألةَ الخلافيَّة على هذهِ الصُّورة، ووجهُ(3) الاستحسانِ هو الفرقُ بينهما، وهو أنَّ الهلاكَ بالدَّينِ يقتضي وجودَ الدَّين، وبالإبراء(4) والهبةِ لا يبقى الدَّينُ أصلاً، بخلافِ الاستيفاء، فإنَّ بالاستيفاءَ لا ينعدمُ الدَّين، بل يثبتُ لكلٍّ منهما على الآخرِ دين، فيسقطُ الطَّلبُ لعدمِ الفائدة. [والله أعلم بالصواب](5).
__________
(1) قوله: محتمل؛ لتوهُّم وجوبِ الدين بالتصادق على قيامه، يعني بعد التصادق على عدمه؛ لجواز أن يتذكرا وجوبه بعد التصادق على انتفائه، فتكون الجهةُ باقية، وضمان الرهن يتحقّق بتوهُّمِ الوجوب، بخلاف الإبراء، فإنّه لم يبقَ الدينُ فيه ولا جهته، هذا خلاصة ما في ((العناية))(9: 136) و((الكفاية))(9: 136).
(2) في ب: عرقت.
(3) في ب و ف: وجه.
(4) في ص: ولا بالإبراء.
(5) زيادة من ج.
(10/220)
________________________________________
كتاب الجنايات[(1)
__________
(1) قوله: كتاب الجنايات؛ أورد الجنايات بعد الرّهن؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما للوقاية والصيانة، فإنّ الرّهن وثيقةٌ لصيانةِ المال، وحكمُ الجنايةِ لصيانةِ النفس، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَاب}[البقرة:179]، ولَمَّا كان المالُ وسيلةً لبقاءِ النفس، قَدَّمَ الرَّهن على الجنايات، بناءً على تقدُّم الوسائل على المقاصد، كذا في أكثر الشروح، وما قال في ((غاية البيان)): ولكن قَدَّمَ الرّهنَ؛ لأنّه مشروعٌ بالكتاب والسنة بخلاف الجناية؛ لأنّها محظور، فإنّها عبارةٌ عمّا ليس للإنسان فعلُه؛ ليس بشيء؛ لأنّ المقصودَ بالبيان في كتابِ الجنايات إنّما هو أحكامُ الجنايات دون أنفسها، ولا شكّ أنّ أحكامَها أيضاً مشروعةٌ وثابتةٌ بالكتاب والسنة، وأيضاً لا معنى لتأخيرها من هذه الحيثية، ثمّ إنّ الجنايةَ في اللُّغةِ اسمٌ لما تجنيه من شيء؛ أي تكسبُه، وهي في الأصل مصدرُ جنى عليه شرَّ جناية، وهو عامٌّ في كلِّ ما يقبح بسوء إلا أنّه في الشرع خُصَّ بفعلٍ محرم حلَّ بالنفسِ والأطراف، والأوّل يُسَمَّى قتلاً، وهو فعلُ من العباد تزولُ به الحياة، والثاني يسمى قطعاً وجرحاً، وفي الشروح: الكلامُ في الجنايات من أوجه:
الأوَّلُ: في معرفةِ مشروعيَّتِها.
والثاني: في سبب وجوبها.
والثالث: في تفسيرها لغة.
والرابع: في تفسيرها عند الفقهاء.
والخامس: في ركنها.
والسادس: في شرطها.
والسابع: في حكمها.
أمّا الأوّل فهو معرفةُ مشروعيّتها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاص}الآية [البقرة:178]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((العمد قود، والقتلُ عدوان))، [في ((سنن الدارقطني))(3: 94)، و((مصنف ابن أبي شيبة))(5: 260) بلفظ: ((عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العمد قود لا أن يعفو ولي المقتول))].
وسبب مشروعيّة القصاصِ؛ رفعُ الفسادِ من الأرض.
وأما معناه اللُّغويّ فما مرّ آنفاً.
وأمّا في الشرع، فهو اسمٌ لفعلٍ محرّم شرعاً، سواءً كان من مالٍ أو نفس، لكنّه في عرفِ الفقهاء يرادُ به عند إطلاقه اسمُ الجناية الواقعةِ في النَّفسِ والأطرافِ من الآدميّ، والجنايةُ الواقعةُ في المال يسمَّى غصباً، والجنايةُ الواقعةُ من المحرم أو في الحرم على الصيد جنايةُ المحرم.
وأمّا ركنه؛ فهو القتل، وهو فعلٌ مضافٌ إلى العبادِ تزولُ به الحياة بمجرَّد العادة.
فأمّا شرطُهُ؛ فالمماثلة والمعادلة في الاستيفاء؛ لأنّ المماثلة مشروطةٌ في أجزءة السيئات، وضمان العدوانات.
وأما حكمه؛ فهو وجوبُ القصاصِ أو الدِيَة أو الإثم. هذه خلاصة ما في ((تكملة البحر))(8: 327-328).
(10/221)
________________________________________
](1)
اعلمْ أنَّ القتلَ [على](2) خمسةِ أنواع[(3)]: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وجارٍ مجرى الخطأ، والقتلِ بسبب، فبيَّن هذهِ الأنواعَ بأحكامها فقال:
__________
(1) في ج: الجناية.
(2) زيادة من أ.
(3) قوله: القتل على خمسة أنواع؛ المرادُ من المحصورِ عليها ما إذا وجدَ ترتَّب عليه شيء من الأحكامِ المذكورةِ من الإثمِ والقصاصِ ونحوهما، فاندفعَ ما توهِّمَ من أنّ الحصرَ ممنوعٌ لوجود خمسةٍ أنواع أخر مثل: القتل قصاصاً للقتل، ورجماً للزنا، وصلباً؛ لقطع الطريق، وقتل المرتدّ، وقتل الحربي؛ لأنّ شيئاً منها لا يترتّب عليه شيء من تلك الأحكام، وإلى هذه أشار صاحبُ ((الهداية)) بقوله: والمراد بيانُ قتل متعلِّق به الأحكام. هذا ما أفاده أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص600)].
(10/222)
________________________________________
(القتلُ العَمَد: ضربُهُ[(1)](2) قصداً بما يفرِّقُ الأجزاءَ كسلاحٍ ومحدَّدٍ[(3)] من خشبٍ أو(4) حجرٍ أو(5) لِيْطة(6)[(7)] و(8) نار[(9)])، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -[(10)
__________
(1) قوله: ضربة؛ من قبيل ذكرِ السببِ وإرادة المسبِّب؛ أي إرهاق الروحُ بالضربِ القصديّ وإلا فلا شكَّ في أن الضرب ليس عين القتل عمداً. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص600)].
(2) في أ و ص: ضربة.
(3) قوله: كسلاح ومحدد... الخ؛ السلاحُ بكسرِ السينِ المهملة ما أعدَّ للحربِ من آلةِ الحديد، كذا في ((شرح المشارق))، والمحدّد: اسمُ مفعولٍ من حدَّد السيف؛ أي جعلَه حادّاً أو حديداً بمعنى قاطعاً بسرعة. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص600)].
(4) في ص و ف: و.
(5) في أ و ص و ف و م: و.
(6) لِيْطة؛: قشرُ القصب، ويجوزُ الذبح بها. ينظر: ((المغرب))(ص434).
(7) قوله: ولِيْطة؛ بكسر اللام، وسكون الياء المثناة التحتانية، والطاء المهملة: قشرُ القصب، وفي ((المغرب))(ص434): ولهذا يجوزُ الذبح باللِيطة. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص600)].
(8) في ت وج و ق: أو.
(9) قوله: أو نار؛ أقول: الذي يتبادرُ إلى الطباعِ السليمةِ كونه عطفاً على محدَّد؛ لأنّ النار من قبيل المفرّقات، كما صرَّحَ به الإتقاني - رضي الله عنه - بقوله: وما لم يكن من جنسِ الحديدِ إنّ عمل عمله فهو عمد، كما إذا أحرقه بالنار، فإنّه عمدٌ يوجبُ القصاص؛ لأنّها نشقت الجلد، وقال في ((الكفاية على الهداية))(9: 139): ألا ترى أنّها تعملُ عملَ الحديد، حتى إذا وضعت في المذبح فقطعت ما يجب قطعَه في الذكاة، وسال بها الدمُ حلّ، وإنّ انحسمَ ولم يسل لا يحلّ، فعلى هذا لو وقعَ لفظةُ النار بالواو لا ياء، كما في أكثر النسخِ لكان أظهر. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص600)]
(10) قوله: وهذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ أي اشتراطُ الحدّة بمعنى أنّ القتلَ بما ليس له حدّة كشيء يقتل، أو صفحة حديدٍ أو نحاس، لا يوجبُ القصاص عنده، وقد ذكر قاضي خان - رضي الله عنه -: إنّ الجرحَ لا يشترطُ في الحديد وما يشبهه؛ كالنحاس وغيره في ظاهر الرواية. كذا في ((التبيين))(6: 98).
(10/223)
________________________________________
]، وعندهما وعند الشَّافعيَّ(1) - رضي الله عنه -: ضربُهُ(2) قصداً بما لا يطيقه البِنْية(3)، حتى إن ضربَه بحجرٍ عظيمٍ أو خشبٍ عظيم، فهو عمد، (وبهِ يأثم[(4)]، ويجبُ القَوَدُ[(5)] عيناً[(6)] )، هذا عندنا خلافاً للشَّافعيِّ(7) - رضي الله عنه -، فإنَّ القَوَدَ غيرُ متعيِّنٍ[(8)] عنده، بل الوليُّ مخيَّرٌ بينَ القَوَدِ وأخذِ الدَّية.
__________
(1) ينظر: ((النكت))(3: 342)، و
(2) في أ و ص: ضربة.
(3) البِنْية: البَدَن، بنى الطعام بَدَنه: سمنه، ولحمه: أنبته. ينظر: ((القاموس))(4: 307). و((رد المحتار))(6: 528).
(4) قوله: به يأثم؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا}[النساء:93]، وقد نطق به كثيرٌ من السنة، وعليه انعقدَ الإجماع، والآية المذكورة وإن أفادت الإثم في قتلِ المؤمن متعمّداً فقط بعبارةِ النصّ ألا أنّها تفيدُ المأثمَ في قتلِ الذميِّ عمداً أيضاً بدلالةِ النصّ، بناءً على ثبوتِ المساواةِ في العصمةِ بين المسلم والذميّ نظراً إلى التكليف أو الدار.
(5) قوله: ويجب القَوَد؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}[البقرة:178]، والآيةُ بظاهرها لم تفصلْ بين العمدِ والخطأ، لكنَّها تقيِّد بوصفِ العمديّة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((العمد قود))[سبق تخريجه]؛ ولأنّ الجناية بها تتكامل، وحكمةُ الزجرِ تتوفّر، والعقوبة المتناهية لا شرعَ لها دون ذلك القود ـ بفتحتين ـ: القصاص.
(6) قوله: معيَّناً؛ أي ليس حقُّ المولى إلا فيه، وليس له أخذ الدِيَة من الجاني إلاَّ برضاه. هذا خلاصةُ ما في شروح ((الهداية)).
(7) ينظر: ((النكت))(3: 346)، و
(8) قوله: فإنّ القودَ غير متعيِّن؛ يعني الواجبُ أحدهما أي القَوَدُ أو الدِيَة لا بعينِه، ويتعيَّن باختيارِ الوليّ؛ لأنّ حقَّ العبدِ شرعَ جابراً، وفي كلِّ واحدٍ نوع جبر، فيتخيَّر بين القودِ وأخذِ الدِيَة.
(10/224)
________________________________________
لنا: إنَّ المالَ[(1)] إنَّما يجبُ في الخطأ ضرورةَ صيانةِ الدَّمِ عن الهدر، إذ لا مماثلةَ بينه وبين النَّفس، ففي العمدِ لا يجبُ مع احتمالِ المثلِ [صورةً ومعنىً](2)، (لا الكفَّارة)، خلافاً للشَّافعيِّ(3) - رضي الله عنه -، وهو يقول: لَمَّا وجبتْ في الخطأ، فأولى أن تَجِبَ[(4)] في العمد، ونحن نقول: لا يلزمُ من كونِ الكفَّارةِ ساترةً للخطأ كونُها ساترةً للعمد، وهو كبيرةٌ محضة(5)
__________
(1) قوله: ولنا أنّ المال... الخ؛ توضيحُهُ: إنّ المالَ لا يصلحُ موجباً لعدم المماثلة، والقصاصُ يصلحُ للتماثل، وفيه مصلحة الأحياء، زجراً وجبراً، فيتعيّن، وفي الخطأ: وجوبُ المال ضرورةَ صونِ الدَّمِ عن الهدر، ولا يتيقّن بعدمِ قصدِ الولي بعد أخذ المال، فلا يتعيَّن دفعاً للهلاك.
(2) سقطت من ب.
(3) ينظر: ((روض الطالب))، وشرحه ((أسنى المطالب))(4: 3)، وغيرهما.
(4) قوله: فأولى أن تجب... الخ؛ لأنّ الحاجةَ إلى الكفّارة في العمدِ أمسُّ منها إليه في الخطأ، فكان العمدُ أدعى إلى إيجابها، ولنا: إنّ العمدَ كبيرةٌ محضة إلى حرامٍ ليس فيه شبهةُ الحلّ، وفي الكفارة معنى العبادة، فلا تناطُ بمثلها؛ ولأنّ الكفارةَ من مقاديرِ الشرع، وتعيُّنها في الشرعِ لدفع الأدنى، لا بعينها لدفعِ الأعلى، ومن حكمِه حرمانُ الميراثِ وإن لم يصرّح به، ولكن أشارَ بعد بقوله: ولا إرث إلا هاهنا كما سيأتي، ودليلُ الحرمانِ قوله: - صلى الله عليه وسلم -((لا ميراث لقاتل))[في ((القاتل لا يرث)) في ((جامع الترمذي))(4: 425)، و((سنن الدارمي))(2: 479)، و((سنن ابن ماجه))(2: 883)، و((الآثار))(1: 161)، و((سنن الدارقطني))(4: 96)، و((سنن البيقهي الكبير))(6: 220)، قال البيهقي: شواهده تقويه].
(5) بيانه: أن الكفارة فيما كان دائراً بين الحظر والإباحة والقتل كبيرة محضة لا تليق أن تكون الكفارة ساترة له لوجود معنى العبادة فيها. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 616). ((المحيط))(ص127-218).
(10/225)
________________________________________
.
(وشبه العمدِ[(1)]: ضربُهُ(2) قصداً(3) بغيرِ ما ذكر): كالعصا والسَّوط، أو الحجرِ الصَّغير، وأمَّا الضَّربُ بالحجرِ العظيم، والخشبِ العظيمِ فمن شبهِ العمدِ أيضاً عندَ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، خلافاً لغيرِه[(4)]، (وفيه الإثمُ والكفَّارة، ودِيَةٌ مغلَّظةٌ على العاقلة)، سيأتي تفسيرُ الدِّيَةِ المغلَّظة(5)، وتفسيرُ العاقلةِ(6) إن شاءَ اللهُ تعالى، (بلا قَوَد.
__________
(1) قوله: وشبه العمد؛ إنمّا سمِّي هذا شبه العمد؛ لأنّ في الفعلِ معنيين، معنى العمد باعتبار قصدِ الفاعلِ إلى الضرب، ومعنى الخطأ باعتبارِ انعدامِ قصدِ القتلِ بالنظرِ إلى الآلة التي استعملَها، إذ هي آلةُ الضربِ للتأديبِ دون القتل، وإنّما يقصدُ إلى كلِّ فعلٍ بآلته، فكان ذلك خطأ يشبُه العمدَ صورةً، من حيث أنّه كان قاصداً إلى الضرب، وإلى ارتكابِ ما هو محرّم عليه. كذا في ((الكفاية))(9: 144).
(2) في أ و ص: ضربة.
(3) في أ: فصداً.
(4) قوله: خلافاً لغيره؛ قال في ((الهداية))(4: 159): وقال أبو يوسفَ - رضي الله عنه - ومحمّد - رضي الله عنه -، وهو قولُ الشافعيّ - رضي الله عنه -: إذا ضربَه بحجرٍ عظيم أو بخشبةٍ عظيمة فهو عمد، وشبهُ العمد أن يتعمّد ضربَه بما لا يقتلُ به غالباً كالعصا الصغير إذا لم يوالِ في الضربات، أمّا إذا والى فيها فهو عمد، لكن فيه يتقاصرُ معنى العمديّة باستعمالِ آلةٍ صغيرةٍ لا يقتلُ غالباً لما أنّه يقصدُ بها غير القتلِ كالتأديب ونحوه، فكان شبه العمد، ولأبي حنيفةَ - رضي الله عنه - قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إنّ قتيلَ خطأِ العمد ـ أي شبه العمد ـ قتيلُ السوطُ والعصا فيه مئة من الإبل)) رواه ابن شيبة في ((مصنّفه))(5: 348) عن الحسن - رضي الله عنه -[ وفي ((صحيح ابن حبان))(3: 364)]؛ ولأنّ الآلةَ غيرُ موضوعةٍ للقتلِ ولا مستعملة فيه.
(5) ص ).
(6) ص ).
(10/226)
________________________________________
وهو فيما دونَ النَّفس عمد): أي ضربُهُ(1) قصداً بغيرِ ما ذكرَ فيما دونَ النَّفسِ عمدٌ موجبٌ للقصاص، فليسَ فيما دونَ النَّفسِ شبه عمد.
(وفي الخطأ، ولو على عبد)، إنَّما قال هذا لدفعِ(2) توهُّمِ أنِّ العبدَ مال، وضمانُ الأموالِ لا يكونُ على العاقلة، فمع ذلك إذا كانَ قتلُهُ خطأً تكونُ الدِّيَةُ على العاقلة، (قصداً: كرميهِ مسلماً ظنَّهُ صيداً أو حربيَّاً، أو(3) فعلاً: كرميهِ غرضاً(4) فأصابَ آدميَّاً)، الخطأُ ضربان[(5)]: خطأُ في القصد، وخطأُ في الفعل.
فالخطأُ في الفعل: أن يقصدَ فعلاً فصدرَ منه(6) فعلٌ آخر، كما إذا رمىَ الغرضَ[(7)] فأخطأَ فأصابَ(8) غيرَه.
__________
(1) في أ و ص: ضربة.
(2) في أ: الدفع.
(3) في في أ: و.
(4) في ب و ق: عرضاً.
(5) قوله: الخطأ ضربان؛ وإنّما صار الخطأ نوعين؛ لأنّ الإنسانَ يتصرَّف بفعلِ القلبِ والجوارح، فيحملُ الخطأ في كلِّ واحدٍ منهما على الانفراد، كما ذكرَه الشارحُ - رضي الله عنه - أو على الاجتماع، بأن رمى آدميّاً ظنّه صيداً فأصابَ غيره من الناس. كذا في الزَّيْلَعِيّ [في ((التبيين))(6: 101)].
(6) في ب: مثله.
(7) قوله: كما إذا رمى الغَرَض؛ وهو بالغين المعجمة، والراء المهملة المفتوحتين، وآخره ضادٌ معجمة: الهدف الذي يرمي فيه، والرامي يظنّه ذلك، وهو في نفسِ الأمر كذلك، فلا خطأ في هذا القصد، وإنّما الخطأ في فعلِه الذي هو إيصالُ السهمِ إلى غير ما قصده.
(8) في ب و ص و ف: وأصاب.
(10/227)
________________________________________
والخطأُ في القصد: [أن](1) لا يكونَ الخطأُ في الفعل، وإنَّما يكونُ الخطأُ في قصدِه، بأنَّه(2) قصدَ بهذا الفعلَ حربيَّاً، لكن أخطأَ في ذلك القصدِ حيثُ لم يكنْ ما(3) قصدَهُ حربيَّاً، وليس في الخطأ[(4)] إثمُ القتل، بل إثمُ تركِ الاحتياط، فإنَّ شَرْعَ الكفَّارةِ دليلُ الإثم.
(وما جرى مجراهُ: كنائمٍ سقطَ على آخرَ فقتلَه): أي كقتلِ نائمٍ[(5)] سقطَ على آخرَ فتلفَ ذلكَ الشَّخصُ [بسببِ](6) سقوطِهِ عليه، (كفارةٌ ودِيَةٌ على عاقلتِه(7).
__________
(1) سقطت من ب.
(2) في ب و ف و ص: فإنه.
(3) في ب: فا.
(4) قوله: وليس في الخطأ... الخ؛ أي في النوعين منه إثم القتل؛ أي إثمُ قصدِ القتل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رفعَ عن أمَّتي الخطأُ والنسيان))، وأمّا القتلُ في نفسه فلا يعرى عن الإثم من حيثُ تركُ العزيمة كما ذكره الشارح - رضي الله عنه -، قال في ((الكفاية))(9: 148): وهذا الإثمُ إثمُ القتل؛ لأنَّ نفسَ تركِ المبالغةِ في الاحتياط ليس باثم، وإنّما يصيرُ به آثماً إذا اتّصل به القتل فتقصرُ الكفارةُ لذنب القتل، وإن لم يكن فيه إثم قصد القتل. هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص201)].
(5) قوله: كقتل نائم... الخ؛ إشارةٌ إلى مسامحةٍ في قول المصنِّف: كنائم، وإنّما عدّ هذا بما أجري مجرى الخطأ؛ لأنّه كالخطأ في الحكم؛ لأنّ النائمَ لا قصدَ له فلا يوصفُ فعلُه بالعمد، ولا في الخطأ إلاَّ أنّه في حكمِه لحصولِ الموت بفعلِه كالخاطئ. كذا في ((الهداية))(4: 159).
(6) سقطت من ب.
(7) في ق: العاقلة.
(10/228)
________________________________________
وفي القتلِ بسببِ كتلفِه(1) ): أي كإتلافه (بوضعِ حجر، و(2) حفرِ بئرٍ في غيرِ ملكِه دِيَةٌ على العاقلةِ بلا كفارةٍ ولا إرث إلا هنا[(3)])، هذا عندنا، وعندَ الشَّافعيِّ(4) - رضي الله عنه -: تجبُ الكفَّارة، ويثبتُ به حرمانُ الميراثِ إلحاقاً بالخطأ[(5)]، قلنا: القتلُ معدومٌ حقيقة، وألحقَ بالخطأ في حقِّ الضَّمان، ففي غيرِهِ بقيَ على أصله[(6)].
باب ما يوجبُ القودَ[(7)] وما لا يوجب
__________
(1) في أ: كتلقه.
(2) في أ: أو.
(3) قوله: إلا هنا؛ أي لا إرثَ في كلِّ نوعٍ من القتل إلاَّ في القتل بسبب.
(4) ينظر: ((أسنى المطالب))(3: 17)، و((تحفة المحتاج))(6: 417)، وغيرهما.
(5) قوله: إلحاقاً بالخطأ؛ أي يلحقُ بالخطاء في أحكامه؛ لأنّ الشرعَ جعل المسبّب كالمباشر في حقّ الضمان، فكذا في الكفارةِ والحرمان.
(6) قوله: بقي على أصله؛ وهو أي المسبّب إن كان يأثمُ بالحفرِ في غير ملكه لا يأثمُ بالموت على ما قالوا، وكفارةُ القتلِ كفارة ذنبِ القتل، وكذا الحرمانُ بسببه.
فإن قيل: الحافرُ في غير ملكِهِ يأثم [وما فيه إثم] من القتل يصحُّ تعليقُ الحرمان به، كما ذكرتم في الخطأ.
قلنا: هو وإن كان يأثمُ بالحفر في غير ملكه إلا أنَّ حرمانَ الإرثِ إنّما يتعلَّقُ على الإثمِ الحاصلِ بنفس القتل، وما ذكرتم ليس كذلك، فإن إثمه إثم الحفر لا الموت. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص602)].
(7) قوله: بابُ ما يوجبُ القود... الخ؛ لما فرَّغَ عن بيانِ أقسام القتل، وكان من جملتها العمد، وهو قد يوجبُ القصاص، وقد لا يوجبه، احتاج إلى تفصيلِ ذلك في بابٍ على حدة، هكذا في ((العناية))(10: 615).
(10/229)
________________________________________
(هو يجبُ بقتلِ ما(1) حُقِنَ دمُهُ أبداً عمداً[(2)]): أي ما حُفِظَ دمُهُ أبداً، وهو المسلمُ والذِّميُّ، وأبداً: احترازٌ عن المستأمن[(3)]، فإنّ حَقْنَ دمِهِ مؤقَّتٌ إلى رجوعِه.
__________
(1) في ق: من.
(2) قوله: هو يجبُ بقتلِ ما حقن دمه أبداّ عمداً؛ هذه ضابطة كليّة لمعرفةِ ما يجب به القصاص. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص602)].
(3) قوله: أبداً؛ احترازٌ عن المستأمن، فإنّ في دمِهِ شبهةُ الإباحة بالعودِ إلى دارِ الحرب المزيلةِ للمساواة المبنئُ عنها القصاص، أمّا العمدية فلقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً}الآية[النساء:93] ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((العمد قود)) إلى موجبه؛ لأنّ الجنايةَ تتكاملُ بالعمديّة، وفيه بحث من أوجه ذكرت في ((العناية))(10: 215-216) بأجوبتها، فلينظر فيها.
(10/230)
________________________________________
(فيقتلُ الحرُّ بالحرِّ وبالعبد)، هذا عندنا، وعندَ الشَّافعيِّ(1) - رضي الله عنه - لا يقتلُ الحرُّ بالعبد؛ لقولهِ تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْد}(2)[(3)]، ولنا[(4)
__________
(1) ينظر: ((النكت))(3: 329)، و
(2) البقرة، الآية(178).
(3) قوله: لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْد...} الخ [البقرة: 178]، فهذا يقتضي مقابلة الجنس بالجنس، ومن ضرورة المقابلة أن لا يقتلَ الحرّ بالعبد؛ ولأنَّ القصاصَ يقتضي المساواة، ولا مساواة بينهما إذ الحرّ مالك والعبد مملوك، والمالكيّة إمارة القدرة، المملوكية إمارةُ العجز.
(4) قوله: ولنا... الخ؛ تفصيله: ولنا: العمومات، نحو قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45]، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}[البقرة:178]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((العمد قود))، ولا يعارض بما تلى؛ لأنّ فيه مقابلةٌ مقيَّدة، وفيما تلونا مقابلةٌ مطلقاً، فلا يحمل على المقيّد على أنّ مقابلةَ الحرّ بالحرّ لا تنافي الحرّ بالعبد؛ لأنّه ليس فيه إلا ذكرٌ لبعض ما شمله العموم، على موافقة حكمه، وذلك لا يوجب تخصيص ما بقي.
ألا ترى أنّه قابل الأنثى بالأنثى دليلٌ على جريان القصاص بين الحرّة والأمة، وفائدةُ هذه المقابلة في الآية على ما قال ابن عبّاس - رضي الله عنه -: كانت بين النضير وبني قريظة مقابلة، وكانوا بنو قريظة أقلّ منهم عدداً، وكان بنو النضير أشرف عندهم، فتراضوا على أنّ العبدَ من بني النضيرِ بمقابلةِ الحرِّ من بني قريظة، والأنثى منهم بمقابلة الذكر من بني قريظة، فأنزلَ الله تعالى الآية ردّاً عليهم، وبياناً على أنّ الجنسَ يقتلُ بجنسِه على اختلافِ مواضعتهم من القبيلتين جميعاً، فكانت اللام لتعريفِ العهد، لا لتعريف الجنس.
ولأنّها مستويان في العصمة، إذ هي بالدين عنده، وبالدار عندنا، وهي المعتبرة، فيجري القصاص منهما حسماً لمادَّة الفساد، وتحقيقاً لمعنى الزجر، ولو اعتبرت المساواةُ في غير العصمة في النفس لما جرى القصاص بين الذكر والأنثى، والقصاص يجبُ باعتبارِ أنّه آدميٌّ، ولم يدخل في الملك من هذا الوجه، بل هو مبقى على أصل الحريّة من هذا الوجه؛ ولهذا يقتلُ العبدُ بالعبد، وكذا يقتلُ العبدُ بالحرّ، ولو كان مالاً لَما قتل، وكذلك عجزه وموته وبقاءُ أثر كفره حكميّ، فلا يؤثّر ذلك في سقوطِ العصمة، ولا يورث شبهة، ولو أورثَ شبهةً لَمَا جرى القصاصَ بين العبيدِ بعضهم ببعض، ووجوب القصاص في الأطرافِ يعتمدُ المساواة في الجزءِ المبانِ بعد المساواة في العصمة، ولهذا لا تقطعُ الصحيحة بالشلاء، وفي النفس لا يشترط ذلك حتى يقتلَ الصحيحَ بالزَّمِن والمفلوج، ولا مساواة بين أطرافِ الحرّ والعبدِ إلا في العصمة، لِمَّا أنّ العبدَ من حيث النفس آدميّ مكلَّفٌ خلقَ معصوماً. [ينظر: ((التبيين))(6: 103)].
(10/231)
________________________________________
]: [إنَّ](1) النَّفسَ بالنَّفس، وقولُهُ: الحرُّ بالحرِّ؛ لا يدلُّ على النَّفي فيما عداهُ على أصلنا، على أنَّهُ إن دلَّ يجبُ أن لا يقتلَ العبدُ بالحرّ؛ لقولهِ تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْد}، (والمسلمُ بالذِّمي): هذا[(2)] عندنا، خلافاً للشَّافعيِّ(3) - رضي الله عنه -، (لا هما بمستأمنٍ[(4)] بل هو
__________
(1) سقطت من ف.
(2) قوله: هذا؛ أي قتل المسلم بالذميّ عندنا؛ خلافاً للشافعيّ - رضي الله عنه -؛ أي لا يقتلُ المسلم به لما أخرجه عليّ ابن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: ((لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده)) الحديث[في ((صحيح ابن حبان))(3: 341)، و((المستدرك))(2: 153)، و((المنتقى))(1: 269)]، ولنا: ما تلونا من كتاب الله، وما روينا من السنّة، فإنّه بإطلاقه يتناولُه، وقد صحّ عن عبدِ الرَّحمن بن سلمةَ ومحمّد بن المنكدر - رضي الله عنهم - أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أتي برجلٍ من المسلمين قد قتلَ معاهداً من الذمّة، وأمرَ به فضربَ عنقه، فقال: ((أنا أولى مَن وافى بذمّته))[في ((شرح معاني الآثار))(3: 195)، و((سنن البيقهي الكبير))(8: 31)، و((سنن الدارقطني))(3: 135)، و((مسند الشافعي))(ص343)، و((مسند أبي حنيفة))(ص104) بلفظ: ((أنا أحق من وفى بذمته))]، والقصاصُ يعتمدُ العصمة على ما بيّنا في العبد، وقد وجدت نظراً إلى الدار وإلى التكليف، وقد قال عليّ - رضي الله عنه -: إنّما بذلوا الجزيةَ لتكون دمائهم كدمائنا وأموالهم [كأمولنا]، وذلك بأن تكون معصومةً بلا شبهة كالمسلم. والتفصيل المزيد في ((تكملة البحر))(8: 337).
(3) ينظر: ((النكت))(3: 336)، و
(4) قوله: لا هما بمستأمن... الخ؛ أي لا يقتلُ المسلمُ ولا الذميُّ بحربيٍّ دَخَلَ دارنا بأمان، دمه ليس بمحقون على التأبيد كما مرّ، فانعدمت المساواةُ، وكذا كفرُهُ باعثٌ على الحرب لقصده الرجوع إلى داره.
(10/232)
________________________________________
بنِدِّه[(1)](2).): أي يقتلُ المستأمنُ بمثلِه، وهو المستأمن، (والعاقلُ[(3)] بالمجنون، والبالغُ بالصَّبيّ، والصَّحيحُ بالأعمى والزَّمِن[(4)] وناقصِ الأطراف، والرَّجلُ بالمرأة، والفرعُ بأصلٍ لا بعكسِه[(5)
__________
(1) قوله: بل هو بندِّه؛ ويقتل المستأمن بالمستأمن قياساً؛ لوجود المساواة بينهما، قال في ((تكملة البحر))(8: 338): لا يقتلُ المستأمنُ بندِّه استحساناً؛ لوجودِ المبيح، والنِدِّ بكسر النون: المثل والنظير، وقد وقع بعض النسخ: المثل، بدل: الند، والأظهرُ ما كتبناه كما لا يخفى.
(2) في ب: بمثله.
(3) قوله: والعاقل... الخ؛ أي بقتلِ العاقلِ بالمجنون، وأمّا العكسُ فلا، كذا في قاضي خان.
(4) قوله: والزَّمِن: بفتح الزاء المعجمة، وكسر الميم صفة مشبهة من الزمانة: وهي آفة في الحيوانات، وهي وما عطف عليها معطوفات على الأعمى. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص602)]
(5) قوله: لا بعكسه؛ أي لا يقتلُ الأصلُ بفرعه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقادُ الوالد بولده، ولا السيد بعبده))[الشطر الأول منه في((سنن ابن ماجه))(888)، و((سنن الدارقطني))(3: 141)، و((جامع الترمذي))(4: 18)]؛ ولأنّ الوالدَ لا يقتلُ ولدَه غالباً؛ لوفور شفقته، فيكون ذلك شبهة في سقوطِ القصاص؛ ولأنَّ الأبَ لا يستحقُّ العقوبةَ بولده؛ لأنَّه سبب لإحيائه فَمِنَ المحال أن يكون الولدُ سبباً لإفنائه، وبهذا لا يقتله إذا وجدَه في صفِّ المشركين مقاتلاً أو زانياً وهو محصن؛ وهذا لأنَّ القصاصَ يستحقُّه الوارثُ بسبب انعقد للميِّت خلافُه، ولو قتلَ به كان القاتلُ هو الابنُ نيابة.
وطولبَ بالفرق بين هذا وبين مَن زنى بابنتِه وهو محصن، فإنّه يرجم، أجيب بأنّ الرجمَ حقُّ الله تعالى على الخصوص بخلاف القصاص. فإن قيل: فيجبُ أن يحدَّ إذا زنى بجارية ابنه أجيبَ بأنّ له حقُّ الملك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت ومالك لأبيك))[سبق تخريجه]. [ينظر: ((تكملة البحر))(8: 338)].
(10/233)
________________________________________
](1).
ولا سيِّدٌ بعبدِه، ومدبَّرِه، ومكاتَبِه، [وعبدِ ولده](2)، وعبدِ بعضِه له، ولا بعبدِ الرَّهنِ[(3)] حتى يجتمعَ عاقداه)؛ لأنَّ المرتهنَ لا ملكَ له فلا يليه، والرَّاهنُ لو تولاَّهُ لبطلَ حقُّ المرتهنُ في الدَّين، فيشترطُ إجماعهما؛ ليسقطَ حقُّ المُرْتَهنِ برضاه.
(و(4) بمكاتبٍ[(5)
__________
(1) في ب: يعكسه، وفي ق: عكسه.
(2) سقطت من ق.
(3) قوله: ولا بعبد الرهن؛ يعني إذا قتلَ عبدَ الرهن غيرُ العاقدين ليس للراهن قتل قاتله إلا برضاء المرتهن.
(4) زيادة من أ و م: لا.
(5) قوله: ولا بمكاتب... الخ؛ وقد صُوِّرت هذه المسألة بأربع صور:
الأولى: أنّه قتلَ عمداً وتركَ مالاً يفي ببدلِ الكتابة ووراثاً حرّاً وسيِّداً، فحكمُها عدمُ القصاصِ عند الجميع، وإن اتّفقَ الوارثُ والسيّدُ على القصاصِ بناءً على أنّه ممّا يندرءُ بالشبهات.
والثانية: إنّه تركَ وفاء ولم يترك وارثاً سوى سيّده، فحكمها القصاص عندهما، بناءً على تيقُّن حقِّ الاستيفاءِ للمولى، وقال محمّد - رضي الله عنه -: لا أرى فيها قصاصاً؛ لاشتباه سببِ استيفائه، فإنه الولاء إن ماتَ حرّاً والملكُ إن ماتَ عبداً، فاندرء به.
والثالثة: أنّه لم يتركْ وفاءً، وله ورثةٌ أحرار، فحكمُها وجوب القصاص للمولى عندهم جميعاً؛ لأنّه عبدٌ لانفساخ الكتابةِ بالموت لا عن وفاء، وقد أورد المصنّف - رضي الله عنه - هذه الثلاثة على الترتيب، ولم يذكر الرابعة التي هي أنّه ما تركَ وفاءً ولا وارثاً سوى المولى أصلاً، أو ترك ورثةً أرقّاء، فإنّ حكمها يفهمُ بطريقِ الأولويّة من الثالثة، فإنّه لمّا كان مجرَّد عدمِ تركِ الوفاء مع وجودِ وارثٍ آخر سبباً لانفساخِ الكتابةِ ووجوب القصاص للمولى فيها، فعند عدم الوارثِ سواه أولى. كذا فهم من تقرير الأكمل - رضي الله عنه -. هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص602-603)].
(10/234)
________________________________________
](1) قتلَ عمداً عن وفاء ووارثٍ وسيِّدٍ وإن اجتمعا)(2)
__________
(1) في ب: لا و بمكاتب.
(2) صُوِّرت هذه المسألة بأربع صور:
الأولى: أنّه قتلَ عمداً وتركَ مالاً يفي ببدلِ الكتابة ووراثاً حرّاً وسيِّداً، فحكمُها عدمُ القصاصِ عند الجميع، وإن اتّفقَ الوارثُ والسيّدُ على القصاصِ بناءً على أنّه ممّا يندرءُ بالشبهات.
والثانية: إنّه تركَ وفاء ولم يترك وارثاً سوى سيّده، فحكمها القصاص عندهما، بناءً على تيقُّن حقِّ الاستيفاءِ للمولى، وقال محمّد - رضي الله عنه -: لا أرى فيها قصاصاً؛ لاشتباه سببِ استيفائه، فإنه الولاء إن ماتَ حرّاً والملكُ إن ماتَ عبداً، فاندرء به.
والثالثة: أنّه لم يتركْ وفاءً، وله ورثةٌ أحرار، فحكمُها وجوب القصاص للمولى عندهم جميعاً؛ لأنّه عبدٌ لانفساخ الكتابةِ بالموت لا عن وفاء، وقد أورد المصنّف - رضي الله عنه - هذه الثلاثة على الترتيب، ولم يذكر الرابعة التي هي أنّه ما تركَ وفاءً ولا وارثاً سوى المولى أصلاً، أو ترك ورثةً أرقّاء، فإنّ حكمها يفهمُ بطريقِ الأولويّة من الثالثة، فإنّه لمّا كان مجرَّد عدمِ تركِ الوفاء مع وجودِ وارثٍ آخر سبباً لانفساخِ الكتابةِ ووجوب القصاص للمولى فيها، فعند عدم الوارثِ سواه أولى. ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص602-603).
(10/235)
________________________________________
؛ لأنَّهُ ظهرَ الاختلافُ بينَ الصَّحابةِ - رضي الله عنهم - في موتِهِ حرَّاً أو رقيقاً، فإن ماتَ حُرَّاً فالوليُّ هو الوارث، وإن ماتَ رقيقاً فالوليُّ هو المولى، فاشتبه مَن له الحقُّ فلا يقتصُّ قاتلُه، وإن اجتمعَ الوارثُ والمولى، (فإن لم يدعْ وارثاً غير سيِّدِهِ أو تركَهُ(1) ولا وفاءَ أقاد سيِّده)، [هذا](2) عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -[(3)] وأبي يوسفَ - رضي الله عنه - خلافاً لمحمَّدٍ - رضي الله عنه -، وإن لم يتركْ وفاءً قادَ السيِّدُ أيضاً؛ لأنَّهُ متعيِّن.
(ويسقطُ قَوَدٌ ورثَهُ على أبيه): أي إذا قتلَ الأبُ شخصاً(4)[(5)]، وولي القصاصُ ابن القاتلِ يسقطُ القصاصُ لحرمةِ الأبوَّة.
__________
(1) في ص و ف و ق و م: ترك.
(2) سقطت من ب.
(3) قوله: هذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ قيَّدَ بقوله: فإن لم يدع؛ أي ما تركَ الوفاء، وقوله: وإن لم يترك وفاء شرح بقوله: أو تركَ ولاءً ووفاء، والمرادُ من هذا الشرح بيان أنّ الخلاف المذكورَ مختصٌّ بالمسألةِ الأولى كما ذكرناه آنفاً. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص602)].
(4) أي إذا قتلَ الأبُ شخصاً كأمِّ ابنه مثلاً، أقول: لعلّ وجه التخصيص بالأب والابن؛ لورودِ اِّلنص على لفظه، وإلا فالحالُ في الأمّ والأجداد والجدات من الطرفين، وأولاد الأولاد ذكوراً كانوا أو إناثاً كذلك، فإنّ النصّ الواردَ فيهما نصّ فيهم دلالة. ينظر: ((حسن الدراية))(4: 145).
(5) قوله: أي إذا قتلَ الأبُ شخصاً كأمِّ ابنه مثلاً، أقول: لعلّ وجه التخصيص بالأب والابن لورودِ اِّلنص على لفظه، وإلا فالحالُ في الأمّ والأجداد والجدات من الطرفين، وأولاد الأولاد ذكوراً كانوا أو إناثاً كذلك، فإنّ النصّ الواردَ فيهما نصّ فيهم دلالة. كذا فهم من تقرير ((الكافي)) و((التبيين)). [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص602)].
(10/236)
________________________________________
(ولا يقادُ إلا بالسَّيف)، هذا عندنا، وعند الشَّافعيِّ(1) - رضي الله عنه -: يفعلُ به مثلَ ما فعل، فإن ماتَ فيها[(2)]، وإلا تجزُّ(3) رقبتُهُ تحقيقاً للتَّسوية، [و](4) لنا: قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا قودَ إلا بالسَّيف))(5)، وأيضاً يحتملُ أن لا يموتَ فيحتاجُ إلى جزِّ(6) الرَّقبة، فلا تسوية.
__________
(1) ينظر: ((روض الطالب)) وشرحه ((أسنى المطالب))(4: 39)، وغيرهما.
(2) قوله: فإن ماتَ فيها؛ أي إن ماتَ بمثل ما فعلَ فقد تمَّ الأمر، وإن لم يمت تجز رقبته؛ أي يقطع عنقه. كذا ذكره الجَوْهَريّ في (باب الهاء المهملة). [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص603)].
(3) في ب: يجز، وفي م: تحز.
(4) سقطت من ص.
(5) روي مرسلاً عن الحسن - رضي الله عنه -، ومرفوعاً عن أبي هريرة والنعمان بن بشير في ((ابن ماجه))(2: 889)، و((مسند البزار))(9: 115)، و((المعجم الكبير))(10: 89)، و((شرح معاني الآثار))(3: 183)، و((مصنف ابن أبي شيبة))(5: 832)، و((سنن البيهقي الكبير))(8: 62)، و((سنن الدارقطني))(3: 87)، وأسانيده فيها ضعف إلا أن بعضها يعضد بعض. ينظر: ((الدراية))(2: 265)، و((الخلاصة))(2: 265).
(6) في ب: جر، وفي ص و م: حز.
(10/237)
________________________________________
(ويقيدُ أبو المعتوه قاطعُ يده، وقاتلُ قريبِه، ويصالحُ ولا يعفو(1)، وللوصيِّ الصُّلحُ فقط): أي ليس له العفوَ ولا القتل، إذ ليسَ له الولايةَ على نفسِهِ بل على ماله، والقتلُ قصاصٌ(2) من باب الولايةِ على النَّفس، وليسَ له ولايةُ القصاصِ في الأطراف، (والصَّبيِّ كالمعتوه، والقاضي كالأب، هو الصحيح)(3)، حتى يكونَ لأبيهِ ووصيِّهِ ما يكونُ لأبِ المعتوهِ ووصيِّه، والقاضي بمَنْزلةِ الأب.
__________
(1) يعني إذا قطع رجل يدَ المعتوه عمداً أو قتل قريبه كولده فولي أبا المعتوه، يقتص من جانب المعتوه؛ لأنه من الولاية على النفس، شرع لأمر راجع إلى النفس، وهي تشفي الصدر فيليه كالإنكاح، ولأبي المعتوه أن يصالح القاطع على مال قدر الدية أو أكثر؛ لأنه أنظرَ في حقِّ المعتوه، ولو صالح على أقلِّ منه لا يجوز فتجب دية كاملة، وليس له ولايةُ العفو؛ لأنه إبطال لحقِّه بلا عوض. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 620).
(2) في ب: قصاصا.
(3) وهو احتراز عمَّا روي عن محمّد أن القاضي لا يستوفي القصاصَ لا في النفس ولا فيما دون النفس ولا أن يصالح. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 621).
(10/238)
________________________________________
(ويستوفي الكبيرُ قبلَ كِبَرِ الصَّغيرِ قَوَداً لهما)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقالا(1)[(2)]: ليسَ للكبيرِ ولايةُ القصاص حتى يدركَ الصَّغيرُ البلوغ؛ لأنَّهُ حقٌّ مشتركٌ كما إذا كان بين الكبيرَيْن وأحدهما غائب، له: إنَّهُ حقٌّ لا يتجزَّأُ؛ لثبوتِهِ بسببٍ لا يتجزَّأ، وهو القرابةُ فيثبتُ لكلٍّ كملاً كما في ولايةِ الإنكاح، واحتمالُ العفوِ عن الصَّغيرِ منقطعٌ(3) بخلافِ الكبيريْن.
(ويُقْتَصُّ في جرحٍ ثبتَ عياناً[(4)
__________
(1) الخلافُ مختصٌّ بما ليس من أولياءِ القتيل كبير له ولاية للصغير، أما إذا كان الكبيرُ وليّاً للصغير ممَّن له التصرُّفُ في مالهِ كالأب والجدّ يستوفيه الكبيرُ قبل أن يبلغَ الصغيرُ بإجماعِ أصحابنا، سواءٌ كانت الولايةُ لهما بالملك بأن يكون المقتولُ عبداً مشتركاً بين الأب والابن، أو بالقرابة، وإن كان الكبيرُ وليّاً لا يقدرُ على التصرُّف في ماله كالأخ، فعلى الخلاف المذكور، وإن كان أجنبيّاً عن الصغير لا يملكُ الكبير الاستيفاءَ في الكلّ. ينظر: ((التبيين))(6: 109).
(2) قوله: وقالا... الخ؛ الخلافُ مختصٌّ بما ليس من أولياءِ القتيل كبير له ولاية للصغير، أما إذا كان الكبيرُ وليّاً للصغير ممَّن له التصرُّفُ في مالهِ كالأب والجدّ يستوفيه الكبيرُ قبل أن يبلغَ الصغيرُ بإجماعِ أصحابنا، سواءٌ كانت الولايةُ لهما بالملك بأن يكون المقتولُ عبداً مشتركاً بين الأب والابن، أو بالقرابة، وإن كان الكبيرُ وليّاً لا يقدرُ على التصرُّف في ماله كالأخ، فعلى الخلاف المذكور، وإن كان أجنبيّاً عن الصغير لا يملكُ الكبير الاستيفاءَ في الكلّ. كذا في ((التبيين))(6: 109).
(3) في ص: يقطع.
(4) قوله: ثبت عياناً أو بحجّة؛ يعني أنّ طريقَ ثبوتِ القصاصِ سوى الإقرار أمران:
أحدهما: أن يجرحَ رجلٌ رجلاً بمحضرِ جماعة، فمات منها.
والثاني: أن يشهدَ رجلان أنه جعله مجروحاً، وذا فراش حتى مات. كذا في ((الغرر))(2: 92).
(10/239)
________________________________________
] أو بحجِّة، وجُعِلَ المجروحُ ذا فراشٍ حتى مات، وفي قتلٍ بحدٍّ مَرّ(1)[(2)]، لا في قتلٍ بظهرِهِ أو عوده(3)، أو مثقل، أو خَنْق، أو تغريق[(4)]، أو سوط والى في ضربهِ(5) فمات)، المَرُّ بالفارسيِّة كلند، وإن أصابَهُ بظهرِهِ فلا قصاصَ عندَ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه
__________
(1) المَرّ: هو خشبةٌ طويلةٌ في رأسِها حديدةٌ عريضةٌ من فوقِها خشبةٌ عريضه، يضعُ الرجلُ رجلَه عليها ويحفرُ بها الأرض. ينظر: ((الرمز))(2: 303)
(2) قوله: مَرّ؛ في ((الدر المختار))(6: 542): المَرّ بفتح الميم: ما يعمل به في الطين، وقال العَيْنِي [في ((الرمز))(2: 303)]: المَرّ: بفتح الميم، وتشديد الراء المهملة: هو خشبةٌ طويلةٌ في رأسها حديدةٌ عريضة من فوقِها خشبةٌ عريضه، يضعُ الرجل رجله عليها ويحفرُ بها الأرض، كذا في حواشي ((الهداية)).
(3) يعني من ضرب رجلاً بمرّ فقتل فإن أصابه بحدّه وجرحه فعليه القصاص؛ لأن الحديد إذا لم يجرح لم يكن عاملاً بمعناه الموضوع، وهو تفريق الأجزاء فصار كالحجر العظيم وإن أصاب العود أو ظهر الحديد فعليه الدية... وتمامه في ((شرح ابن ملك))(ق305/ب).
(4) قوله: أو تغريق؛ أي لا قصاص لو غرَّقَ رجلاً، ذكر شيخ الإسلام - رضي الله عنه - في شرح (ديّات) ((الأصل)): إن غرَّقَ إنساناً بالماء إن كان الماءُ قليلاً لا يقتل منه غالباً أو يرجى منه النجاة في الغالب، فمات من ذلك فهو خطأُ العمد عندهم جميعاً، فأمّا إذا كان الماءُ عظيماً إن كان بحيث يمكنُهُ النجاةُ منه بالسباحةِ فإن كان غيرَ مشدودٍ ولا مثقل، وهو يحسنُ السباحة، فمات فإنّه يكون خطأ العمد، وإن كان بحيث لا يمكنُهُ النجاةُ فعلى قولِ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - هو خطأ العمد، فلا قصاص، وعلى قولهما: هو عمدٌ محض، ويجب القصاص، وفي ((الخانية)): ولو ألقاه في الماء فغرقَ من ساعته لا قصاصَ فيه في قول أابي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وفي قول صاحبيه يجب القصاص.
(5) في أ: ضربة.
(10/240)
________________________________________
-، وعنه(1) وجوبِ القصاصِ نظراً إلى الآلة[(2)]، وعنه: أنَّهُ يجب إذا جرح[(3)]، وعندهما وعندَ الشَّافعيِّ[(4)] - رضي الله عنه -: يجبُ و[إن](5) أصابَهُ بعودِ المَرّ، فإن كان ممَّا يطيقُهُ الإنسانُ فلا قصاصَ بالاتَّفاق، وإن كان ممَّا لا يطيقُهُ ففيه خلافٌ كما مَرَّ، وفي الخنقِ(6) والتَّغريقِ لا قصاصَ عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - خلافاً لغيره، وفي موالاةِ السَّوطِ لا قصاصَ خلافاً للشَّافعيّ(7) - رضي الله عنه -.
__________
(1) في أ: وعند.
(2) قوله: نظراً إلى الآلة؛ وهو الحديد؛ لأنَّ الحديدَ معدٌّ لذلك في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيد}[الحديد:25]، وهو القتل، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}[الحج:21]. كذا في ((الكفاية))(9: 163-164).
(3) قوله: إنّه يجبُ إذا جرح؛ لأنّ بدونِ الجرحِ لا يتكاملُ إفسادُ الظاهر، فلا يستدعي العقوبة المتناهية.
(4) قوله: خلافاً للشافعيّ - رضي الله عنه -؛ أي قصاصٌ عنده في موالاةِ السوط، له أنّ الموالاةَ في الضربات إلى أن ماتَ دليلُ العمديّة، فيتحقَّقُ الموجبُ للقصاص، ولنا: ما روينا: ((ألا إن قتيلَ خطأِ العمد))، ويروى: ((شبه العمد)) الحديث [سبق تخريجه]؛ ولأنَّ فيه شبهة العمدية؛ لأنَّ الموالاة قد تستعملُ للتأديب، أو لعلَّ غرضَه القصدُ في خلال الضربات فيعرى أوّل الضربُ عنه، وعساه أصابَ المقتل بغير قصد، والشبهةُ دارئة للقود، فوجبت الدِيَة. هكذا في ((الهداية))(4: 163).
(5) سقطت من ص.
(6) في ص: الحنق.
(7) ينظر: ((فتوحات الوهاب))(5: 25)، وغيرها.
(10/241)
________________________________________
(ولا في قتلِ مسلمٍ مسلماً ظنَّهُ مشركاً[(1)] عند التقاءِ الصَّفين، بل يكَفِّرُ ويَدِي): أي يعطي الدِّيَة.
__________
(1) قوله: قوله: ولا في قتل مسلم مسلماً ظنّه مشركاً... الخ؛ يعني إذا التقا صفَّان من المشركين والمسلمين، فقتل مسلمٌ مسلماً بظنِّ أنّه مشرك، فلا قصاص عليه بل الكفَّارة؛ لأنَّ هذا أحد نوعيّ الخطأ، والخطأ بنوعيه لا يوجبُ القَوَد، بل يوجبُ الكفَّارة، وكذا الدِيَة على ما نطق به الكتاب وهو قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَة...}الآية [النساء:92]، ولما اختلفَ سيوفُ المسلمينَ على إيمان أبي حذيفة - رضي الله عنهم - قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدِيَة، هذا إذا كانا مختلطين، أمّا إذا كان المسلمُ في صفِّ المشركين فلا تجبُ الديةُ لسقوطِ عصمتهِ بتكثيرِ سوادهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كثَّرَ سواد قوم فهو منهم))، أخرجه أبو يعلى الموصليّ في ((مسنده)): عن عمر بن الحارث - رضي الله عنه - عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. [ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 622)].
(10/242)
________________________________________
(وفي موتٍ بفعلِ نفسِه وزيد وسَبُع وحيَّةٍ ثلثُ الدِّيةِ على زيد)؛ لأنَّهُ ماتَ بثلاثةِ أفعال، ففعلُ السَّبُعِ والحيَّةِ جنسٌ واحدٌ لكونِهِ هدراً مطلقاً، وفعلُ نفسِهِ جنسٌ آخر، وهو أنَّهُ هدرٌ في الدُّنيا لا في الآخرة[(1)]، وفعلُ زيدٍ جنسٌ آخر، فيجبُ ثلثُ الدِّية. أقول: يجبُ[(2)] أن ينظرَ إلى ما هو مؤثِّرٌ في الموت، وينظرُ إلى(3) اتِّحادِهِ وتعدُّدِه، فالسَّبُعُ(4)
__________
(1) قوله: لا في الآخرة؛ حتى يؤثم عليه، وفي ((النوادر)): إنّ عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمّد - رضي الله عنه - يغسل ويصلّى عليه، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: يغسلُ ولا يصلَّى عليه، قال في ((الكفاية))(9: 166): هذا أثرُ كون فعله غيرُ معتبر؛ لأنّه لَمَّا كان يغسلُ ويصلَّى عليه صارَ كأنَّه ماتَ حتفَ أنفه بمرضِه من غير فعلِه على نفسه عندهما، أمّا عند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - فجنايتُهُ على نفسِهِ معتبرةٌ حتى لا يصلَّى عليه، وصار بمنْزلةِ الباغي، ولو كان فعلُه هدراً أصلاً كنهشِ الحيَّة، ولم يكن جنايةً مع كونِهِ مقتولاً حقيقة، لكان شهيداً، ويسقطُ غسله، فلم يكن فعلُهُ هدراً مطلقاً، فكان جنساً آخر، وفعل السبع والحيّة هدرٌ في الدنيا والآخرة، وفعلُ الأجنبيِّ معتبرٌ في الدنيا والآخرة، فيكون التالفُ بفعلِ كلِّ واحدٍ ثلاثة، فيجب عليه ثلث الدِيَة.
(2) قوله: أقول يجب... الخ؛ اعترض به على قوله: ثلث الدِيَة على زيد، حاصلُهُ: إنّ المؤثِّرَ هاهنا أمورٌ أربعة؛ لكلّ واحدٍ منها تأثيرٌ في القتل، فلا اعتبارَ للاتّحاد في كونها هدراً في الدنيا والآخرة، فلَمَّا كان فعلُ المؤثّرات الثلاث هاهنا هدراً ينبغي أن يجبَ على الرابعِ ربعُ الديةِ لا ثلثُها، فضميرُ اتّحاده وتعدّده راجعٌ إلى ما، واللامُ في لكونهما صلةٌ للاعتبار لا لتعليق عدم الاعتبار، كما لا يخفى، هذا ما أفاده أخي جلبي [في((ذخيرة العقبى))(ص603)].
(3) في ب زيادة: ما.
(4) في ب: والسبع.
(10/243)
________________________________________
والحيَّةُ اثنان، ولا اعتبارَ في ذلكِ لكونهما(1) هدراً.
(ويجبُ قتلُ مَن شَهَر سيفاً[(2)] على المسلمين، ولا شيءَ بقتلِه[(3)])، فإن قلت: لَمَّا قال يجبُ قتلُ مَن شَهَر، فما الاحتياجُ(4) إلى قولِه: لا شيءَ بقتلِه، قلت: يحتملُ أن يجبَ قتلُهُ دفعاً للشرّ، ومع ذلكَ يجبُ بقتلِهِ شيء.
__________
(1) في ب: لكونها.
(2) قوله: ويجب قتل من شهر سيفاً... الخ؛ فيه نوعُ تعسُّف؛ لأنّ الواجبَ دفعُ الشرِّ والضرر على أيِّ طريقٍ كان لا عين القتل، وإنَّما يجب لكونه طريقاً متعيِّناً له، لا من حيث هو شَهَّرَ سيفَه: أي سلَّه وجرَّدَه من غمده. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص604)].
(3) قوله: ولا شيء بقتله؛ أي دمه هدرٌ؛ لما رواه النَّسَائِيّ من حديث ابن أبي الزبير والحاكم في ((المستدرك))(2: 171): عن معمر - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((مَن شهَّرَ سيفه ـ أي على المعلمين ـ فدمه هدر))[قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه]؛ ولأنّه باغٍ فتسقط عصمته ببغيه، ولأنّه تعيَّن طريقاً لدفع القتل عن نفسه فله قتله.
(4) في ب: لاحتياج.
(10/244)
________________________________________
(ولا في مَن شَهَرَ سلاحاً[(1)] على رجلٍ ليلاً أو نهاراً في مصرٍ وغيرِه، أو شَهَرَ عليهِ عصاً ليلاً في مصر أو نهاراً في غيرِهِ فقتلَهُ المشهورُ عليه)، السِّلاحُ إذا شَهَرَهُ فلا شيءَ بقتلِهِ مطلقاً؛ لأنَّهُ غيرُ ملبث[(2)]، والعصا إذا شَهَرَهُ ليلاً في مصرٍ أو نهاراً في غيرِهِ فلا شيءَ بقتلِهِ أيضاً؛ لأنَّهُ وإن كان ملبثاً ففي اللَّيلِ في المصر لا يلحقُهُ الغوث[(3)]، وكذا في النَّهارِ في غيرِ المصر.
__________
(1) قوله: ولا في مَن شهرَ سلاحاً... الخ؛ أي لا شيء على القاتل في هذه الصور لما ذكرنا في المسألة التي قبل هذا، دفعٌ دخلٍ مقدَّر، وهو أنّ من الجائزِ أن يجوز قتله، وعليه الضمان، كما في قتل الجمل الصائل، وأكل مال الغير حالَ المخمصة، فقال في دفعه: ولا في مَن شهَّر سلاحاً... الخ.
(2) قوله: لأنّه غير ملبث؛ فيحتاج إلى دفعه بالقتل، والعصاء الصغيرة وإن كان يلبث ولكن في الليل لا يلحقه الغوث، فيضطرُ إلى دفعه بالقتل، وكذا في النهار في غير المصر، لا يلحقه الغوث، فإذا قتله كان دمهُ هدراً، قال الفقهاء: فإن كان عصاً بسبب عظمه لا تلبث، يحتمل أن يكون مثل السلاح عندهما، فيستوي فيه أن يُشَهِّرَ ليلاً أو نهاراً، وفي مصرٍ أو في غير مصر.
(3) قوله: لا يلحقه الغوث… الخ؛ الغوث: بالغين المعجمة كالنصر والعون وزناً ومعنى.
(10/245)
________________________________________
(ولا على مَن تبعَ سارقَهُ المخرجَ سرقتَهُ ليلاً فقتله)، هذا إذا لم يتمكَّن من الاسترداد إلا بالقتل؛ لقولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((قاتلْ دونَ مالك))(1)، وكذا إذا قتلَهُ قبلَ الأخذ[(2)]، إذا قصدَ أخذَ مالَه، ولا يتمكَّنُ من دفعه إلا بالقتل، وكذا إذا دخلَ رجلٌ دارَ رجلٍ بالسِّلاح، فغلبَ على ظنِّ صاحبِ الدَّارِ أنَّهُ جاءَ لقتلِهِ يحلُّ قتلُه.
(وقُتِلَ بقَتْلِ مَن شَهَرَ عصاً نهاراً في مصر)، فإنَّ العصا ملبث، والظَّاهرُ لحوقِ الغوثِ نهاراً في المصر، فلا يفضي(3) إلى القتلِ غالباً[(4)] خلافاً لهما.
__________
(1) من حديث أبي هريرة والمخارق بهذا اللفظ في ((سنن النسائي الكبرى))(2: 307)، و((المجتبى))(7: 113)، و((المعجم الكبير))(20: 313)، وبلفظ: ((من قتل دون ماله فهو شيهد)) في ((صحيح مسلم))(1: 124)، و((صحيح البخاري))(2: 877)، وينظر: ((نصب الراية))(4: 348) و((الدراية))(2: 268).
(2) قوله: وكذا إذا قتله قبل الأخذ... الخ؛ قال في ((الخانية)): رأى رجلاً يسرقُ ماله فصاح به ولم يهرب، أو رأى رجلاً يثقبُ حائطه أو حائطَ غيره وهو معروفٌ بالسرقة، فصاحَ به ولم يهرب، حلَّ له قتلُه، ولا قصاص عليه، قال في ((الدرِّ المختار))(6: 547): هذا إذا لم يعلمْ أنّه لو صاح عليه طرحَ ماله، وإن عَلِمَ ذلك فقتله مع ذلك، وجب عليه القصاص لقتله بغير حقّ.
(3) في أ و ب: يقضي.
(4) قوله: فلا يفضى إلى القتلِ غالباً... الخ؛ أي فقتلَ نفساً معصومةً متقوّمةً عمداً بغير حقّ، وهو غيرُ مضطرٍ إليه، وقالا: لا قصاصَ عليه؛ لأنّه قتلَه دفعاً مضطراً، فصار كما لو قصدَ قتلَه بالسيفِ نهاراً، أو بالعصا ليلاً، أو في المفازةِ ليلاً أو نهاراً. كذا في ((الكافي)). [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص604)].
(10/246)
________________________________________
(ويقتلُ مَن شهرَ سيفاً فضربَ ولم يقتل فرجعَ فقتلَهُ آخر)، فإنَّهُ إذا ضربَ ولم يقتل ورجعَ، عادتْ عصمتُه، فإذا قتلَهُ آخرَ[(1)] فقد قتلَ معصوماً، فعليه القصاص(2)[(3)].
(ويجبُ الدِّيَةُ[(4)
__________
(1) قوله: فإذا قتله آخر؛ وهو الشخص الذي جرَّد عليه السيف وضرب به. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص604)].
(2) هذا إذا ضربَه الأوّل، وكفَّ عن الضرب على وجهٍ لا يريد ضربَه ثانياً؛ لأنّه لمّا شَهَّرَ حلّ دمُه دفعاً لشرِّه، فلَمَّا لم يقتاد كفَّ عنه، اندفع شرُّه، وعادت عصمته، فإذا قتله فقد قتلَ شخصاً معصوماً من غير دفعِ ضرر، فلزمه القصاص. ينظر: ((الكفاية))(9: 167).
(3) قوله: فعليه القصاص؛ هذا إذا ضربَه الأوّل، وكفَّ عن الضرب على وجهٍ لا يريد ضربَه ثانياً؛ لأنّه لمّا شَهَّرَ حلّ دمُه دفعاً لشرِّه، فلَمَّا لم يقتاد كفَّ عنه، اندفع شرُّه، وعادت عصمته، فإذا قتله فقد قتلَ شخصاً معصوماً من غير دفعِ ضرر، فلزمه القصاص. هكذا في ((الكفاية))(9: 167).
(4) قوله: ويجب الدية... الخ؛ أي وإن شهَّرَ المجنونُ أو الصبيُّ سيفاً على رجلٍ فقتلَه المشهورُ عليه عمداً يجبُ الدِيَة، قال في ((تكملة البحر))(8: 344): وعلى هذا الدابة، وعن أبى يوسفَ - رضي الله عنه -: لا تجبُ الديةُ في الصبيّ المجنون، وقال الشافعيّ - رضي الله عنه -: لا يجب الضمان في الكلّ؛ لأنّه قتلَه دافعاً عن النفس، فصارَ كالبالغِ العاقل، وهذا لأنّه يصيرُ محمولاً على قتلِهِ بفعله، كأن قال له: اقتلني وإلا قتلتك، وكون الدابّةِ مملوكة للغيرِ لا تأثيرَ له في وجوبِ الضمان، كالعبد إذا شَهَّرَ سيفاً على رجلٍ فقتله، فإنّه لا يجبُ الضمان، فكذا هذا، فصار كالعبدِ إذا صالَ على الحرّ فقتله.
ولأبي يوسفَ - رضي الله عنه -: إنّ فعلَ الصبيِّ والمجنون معتبرٌ أصلاً حتى لا يعتبرَ في حقِّ وجوبِ الضمان؛ لأنّ جنايةَ العجماء جبار، وكذا عصمتها لحقِّها، وعصمةُ الدَّابةِ لحقّ المالك، فكان فعلُهما مسقطاً لحقِّهما بعصمتِهما فلا يضمنان، ويضمنُ الدابةُ بخلافِ الصيد إذا صالَ على المحرم أو صيدُ الحرمِ على الحلال؛ لأنّ الشارعَ أذن في قتله، ولم يوجب علينا بحمل أذاه، ألا ترى أنّ الخمسَ الفواسقَ أباح قتلها مطلقاً؛ لتوهّم الأذى منها، فما ظنّك في إذا تحقَّق الأذى ومالكُ الدَّابةِ لم يأذن، فيجبُ الضّمان، وكذا عصمةُ عبدِ الغير لحقّ نفسه، وفعله محظور، فسقط به عصمتُه.
ولنا: إنّ الفعلَ من هذه الأشياءِ غير متّصفٍ بالحرّ، فلم يقع بغياً، فلا تسقط العصمةُ به؛ لعدم الاختيارِ الصحيح؛ ولهذا يجب القصاص على الصبيِّ والمجنون بقتلهما، فإذا لم تسقط كان قضيّته أن يجبَ القصاص؛ لأنّه قتلَ نفساً معصومة، إلا أنّه لا يجب القصاص؛ لوجودِ المبيح وهو دفعُ الشرّ، فتجب الدية.
(10/247)
________________________________________
] بقتلِ مجنونٍ أو صبيٍّ شَهَرَ سيفاً على رجلٍ فقتلَهُ هو): أي المشهورُ عليه، (عمداً في مالِه): أي يجبُ الدِّيَةُ في مالِه؛ لأنَّ العاقلةَ لا تتحمَّلُ(1) العمد[(2)]، (والقيمةُ): أي يجبُ القيمة، (في قتلِ جملِ صالَ[(3)] عليه)، هذا عندنا؛ لأنَّه قتلَ شخصاً معصوماً، وأتلفَ مالاً معصوماً؛ لأنَّ فعلَ الصَّبيِّ والمجنونِ والدَّابةُ لا يسقطُ العصمة، وإنَّما لا يجبُ القصاصُ لوجودِ المبيحِ وهو دفعُ الشَّرّ، وعن أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: أنَّهُ يجبُ الضَّمانِ في الدَّابّةِ لا في الصَّبيِّ والمجنون؛ لأنَّ عصمتُهما لحقِّهما(4)، فتسقطُ بفعلهما، وعصمةُ الدَّابةِ لحقِّ صاحبها فلا يسقطُ بفعلهما(5)، وعندَ الشَّافعيِّ - رضي الله عنه -: لا يجبُ الضَّمانُ في شيءٍ أصلاً؛ لأنَّهُ قتلَ لدفعِ(6) الشَّرِّ كما في العاقلِ البالغ.
باب القودُ فيما دونَ النَّفس[(7)]
__________
(1) في ب و ص: يتحمل.
(2) قوله: لا تتحمّل العمد؛ والأصل فيه: حديث ابن عبّاس - رضي الله عنه -: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يعقل العواقل عمداً)) الحديث، فلينظر في (كتاب المعاقل) من ((الهداية)).
(3) قوله: صال؛ بالصاد المهملة بمعنى: وثب، وعزم: صفة جمل، ومنه: جملٌ صول. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص604)].
(4) في ب: الحقهما.
(5) في ب و ص: بفعلها.
(6) في ب: الدفع.
(7) قوله: باب القود فيما دون النفس؛ لمّا فرغَ من بيان القصاص في النفس، شرع في بيان القصاصِ فيما دون النفس؛ لأنّ الجزءَ يتبعُ الكلّ.
(10/248)
________________________________________
(هو فيما يمكنُ حفظُ المماثلةِ فقط، فيقتصُّ[(1)] قاطعُ اليدِ عمداً من المفصل)، إنَّما قال: من المفصل، احترازاً عمَّا(2) إذا قطعَ من نصفِ السَّاعد[(3)]، أو من نصفِ السَّاقِ إذ لا يمكنُ حفظُ المماثلة[(4)]، (وإن كانتْ يدُهُ أكبرَ ممَّا قطعَ[(5)] كالرِّجل[(6)
__________
(1) قوله: فيقتصّ... الخ؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاص}[المائدة:45]؛ أي ذو قصاص ؛ لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنّ}[المائدة: 45]، والقصاصُ ينبئ على المماثلة، ولذا قال المصنِّف - رضي الله عنه -: هو فيما يمكن حفظُ المماثلة فقط؛ أي فكلّ ما أمكن فيه رعايةُ المماثلةِ يجبُ فيه القصاص، وما لا فلا، وعلى هذه القاعدةُ الكليّة فرّع تفريعات، فقال: فيقتصّ، وقد أمكن المماثلة في هذه الأشياء التي ذكرنها، وإذا قلنا بالمماثلة، وقلنا: لا عبرةَ بكبر العضو؛ لأنّه لا يوجبُ التفاوتَ في المنفعة، فيثبت أنّ المدارَ على التساوي في المنفعة، فينبغي أن لا تقطعُ اليمنى باليسرى، ولا الصحّة بالشلاء، ولا يدُ المرأة بيد الرجل، ولا يدُ الحرِّ بيد العبد، وقيَّدَ قوله: قاطعُ اليد، بقوله: من المفصل؛ لأنّه لو قطعَ ذلك من غير المفصل لا قصاص فيه. كذا في ((تكملة البحر))(8: 345).
(2) في أ: هما ، وفي ب و م: مما.
(3) قوله: من نصف الساعد؛ وهو ما بين المرفقِ والكفّ. كذا في ((المغرب))(ص225).
(4) قوله: إذ لا يمكن حفظ المماثلة؛ لأنّه ليس هناك حدّ ينتهي إليه القطع، فلا يجبُ فيه القصاص، بل حكومةُ عدل. كذا في ((البيانيّة))، وسيفسِّرها المصنّف - رضي الله عنه - في (باب الديات): بأن يقوم المجروحُ بلا هذا الأثر، ثمّ معه، فقدّر التفاوتَ بين القيمتين هو حكومة عدل. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص604)].
(5) قوله: وإن كانت يده أكبر ممّا قطعُ؛ بمعنى لا اعتبارَ بكبر اليد وصغرها؛ لأنّ منفعةَ اليد لا تختلف بذلك، وكذلك الرجل ومارنُ الأنف والأذن؛ لإمكان رعاية المماثلة فيها.
(6) قوله: كالرجل؛ أي كما يقتصُّ قاطعُ الرجل، ومارن الأنف، وهو ما لانَ منه، وفصلَ عن القصبة. هكذا في ((الجلبي))(ص604).
(10/249)
________________________________________
]، ومارنِ الأنف[(1)])، فإنَّ الرِّجلَ إذا قطعتْ من المفصلِ يجبُ القصاص، وفي مارنِ الأنف يجبُ القصاصُ لا في قصبةِ الأنف؛ لأنَّهُ لا يمكنُ فيها حفظُ المماثلة.
__________
(1) قوله: مارن الأنف؛ وفي ((نوادر ابن سماعة)): عن محمّد - رضي الله عنه -: ولو قطعَ المارن، وهو أرنبةُ الأنفِ ففيها القصاص، وإن قطعَ من أصله لا قصاصَ عليه؛ لأنّه عظمٌ وليس بمفصل، ولا قصاصَ في العظم، وقال أبو حنيفةَ - رضي الله عنه -: لو قطعَ ذكرَه من أصله، أو من الحشفةِ اقتصّ منه؛ لأنّه أمكنَ استيفاءه على سبيل المساواة، إذ له حدّ معلوم، فأشبه اليد من الكوع.
(10/250)
________________________________________
(والأذنُ[(1)] والعينُ(2) [إذا](3) ضربتْ فذهبَ ضوؤها، وهي قائمةٌ فيجعلُ على وجهِهِ[(4)] قطنٌ رطب، ويقابلُ عينَهُ بمرآةٍ محمَّاة[(5)
__________
(1) قوله: والأذن؛ أي يقتصُّ قاطعُ الأذن، وفي ((النوادر)): روى الحسنُ - رضي الله عنه - عن أبى حنيفة - رضي الله عنه -: إنّه إذا قطعَ شحمةَ إذنه يقتصّ منه، وإن قطعَ نصفَ إذنه وكان يقدرُ أن يقتصَّ مثل ذلك اقتصّ منه؛ لأنّ شحمةَ الإذن لها حدّ معلوم، وللأذن مفاصل معلومة، فإذا قطع شيءٌ منها يعلمُ أنّ القطعَ من أي المفصلِ أمكن القصاص، وكذلك إذا قطعَ غضروفَ الأذن قطعاً يستطاعُ فيه القصاص، اقتصَّ منه، يعمل ذلك بحديدة أو بغير حديدة، وإن جذبَ أذنه فانتزعَ شحمته لا قصاصَ فيه، وعليه الأرش في ماله، وإن كان إذنُ القاطعُ سَكّا أي صغيرة الخلقة، وإذن المقطوعُ صحيحة كبيرة، كان بالخيار؛ إن شاءَ ضمَّنَه نصف الدِيَة، وإن شاءَ قطعَها على صغرها، وكذلك لو كانت أذنُ القاطعِ مقطوعة أو خرماء أو مشقوقة كان المقطوع بالخيار، وإن كانت الناقصةُ هي المقطوعة كان له حكومة عدل لا قصاص فيه. [ينظر: ((تكملة البحر))(8: 345)].
(2) في ص و ق: عين.
(3) سقطت من ص و ق.
(4) قوله: فيجعل على وجهه؛ وإنّما احتيجَ إليه لحفظ الوجه والعين الأخرى التي ليس فيها قصاص، هذا ما أفاده أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص604)].
(5) قوله: بمرآة محمَّاة؛ تقرّب من عينه حتى يذهبَ ضوئها، وهو مأخوذٌ من أحمى الحديدَ في النار، وهو محمّي؛ أي جعلَه في شدّةِ الحرارة، قال في ((ردّ المحتار))(6: 548): المِرآة: بكسر الميم، ومد الهمزة: آلةُ الرؤية، ورأيتُ بخطِّ بعض العلماء أنّ المراد هاهنا قولاً: صقيل يرى به الوجه، لا المرآةُ المعروفة من الزجاج، وهذا ما ذكره المصنّف - رضي الله عنه - مأثورٌ عن الصحابة - رضي الله عنهم -، كما قال صاحب ((الهداية))(4: 165). وفي الزَّيْلَعِيّ(6: 111): كانت هذه الحادثةُ وقعت في زمن عثمانَ - رضي الله عنه -، فشاوروا الصحابة - رضي الله عنهم -، فقال علي - رضي الله عنه -: يجب القصاص، فبيّن إمكانه بالطريقِ الذي ذكرناه.
(10/251)
________________________________________
]، ولو قلعتْ لا)، إذ في القلعِ لا يمكنُ رعايةُ المماثلة.
(وكلُّ شجَّة[(1)] تراعى(2) فيها المماثلة): كالموضِّحَة: وهي أن يظهرَ العظم.
(ولا قَوَدَ[(3)] في عظمٍ إلاَّ [في](4) السِّنِّ[(5)
__________
(1) قوله: كلّ شجّة؛ عطف على الرجل، اعلم أنّ الصغرَ والكبرَ لا يعتبرُ في المسألة السابقة، حتى أجرى القصاصَ في الكلّ، ويعتبرُ بالشجّة في الرأس إذا كانت استوعبَت رأس المشجوج، وهي لم تستوعب رأس الشاجّ، فأثبتَ للمشجوج الخيار إن اقتصّ وأخذ بقدر شجّته، وإن شاء أخذ إرش ذلك؛ لأنّ ما لحقه من الشين أكثر؛ لأنّ الشجّة المستوعبة لما بيّن قرينته أكثر شيناً من الشجّةِ التي لم تستوعب ما بيّن قرينته، بخلاف قطع العضو، فإنّ الشين فيه لا يختلف، وكذا منفعته لا تختلف، فلم يمكن إلا القصاص؛ لوجود المساواة فيه من كلّ وجه.
(2) ف ج و ق: يراعى.
(3) قوله: ولا قود… الخ؛ قال عمر - رضي الله عنه -: إنّا لا نقيد من العظام، وقال ابن عبّاس - رضي الله عنه -: ليس في العظام قصاص، ونحوه عن الشعبيّ - رضي الله عنه - والحسن - رضي الله عنه -، رواه ابن شيبة في ((مصنّفه))(5: 380). كذا في ((شرح النقاية)).
(4) زيادة من أ و ب و م.
(5) قوله: إلا في السنّ؛ أي إن كان السنُّ عظماً، فاستثناءُ: إلا؛ متّصل، ولا بدّ من فرقٍ بينها وبين غيرها من العظام، وهو إمكانُ القصاصِ فيها، بأنّ بردَ السنّ بالمبرد بقدر ما كسرَ منها، أو إلى أصلها، فإن قلعَها، ولا يقلع لتعذّر المماثلة، فربّما يفسد به الثانية. كذا في ((المبسوط))، وإن كان غيرُ عظمٍ فالاستثناءُ منقطع، وقد اختلفَ الأطباء في ذلك: فمنهم مَن: قال هو طرفُ عصبٍ يابس؛ لأنّه يحدثُ وينمو بعد تمام الخلقة، ومنهم مَن قال: هو طرفُ عظم، ثمّ تحقيقُ المقام على ما في ((تكملة البحر))(8: 346): إنّه إذا قلعَ رجلٌ سنَّ غيره، هل يقلع سنّه قصاصاً أم يبرد بالمبرد إلى أن ينتهيَ إلى اللحم؟
فيه رويتان كما أفصحَ عنه في ((المحيط البرهاني)) حيث قال: إن كانت الجنايةُ بكسرِ بعض السنّ يؤخذُ من سنِ الكاسرِ بالمبرد مقدار ما كسرَ من سنّ الآخر، وهذا بالاتّفاق، وإن كانت الجنايةُ بقطعِ سنٍّ ذَكَرَ القُدُوريّ أنّه لا يقلعُ سنُّ القالع، ولكن يبرد سنُّ القالع بالمبرد إلى أن ينتهيَ إلى اللّحم، ويسقطُ الباقي، وإليه مال شمسُ الأئمّة السَّرَخْسِيُّ - رضي الله عنه -، وذكرَ شيخُ الإسلام - رضي الله عنه - في ((شرحه)): إنّه يقلعُ سنّ القالع، وإليه أشارَ محمّد - رضي الله عنه - في ((الجامع الصغير)) حيث ذكر بلفظ النَّزع، والنّزعُ والقلع واحد، وفي ((الزيادات)) نصّ على القلع، إلى هاهنا لفظ ((المحيط)).
وفي ((الأصل)): ينبغي أن يؤخذ الضرس بالضرس، والثنية بالثنية، والناب بالناب، ولا يؤخذُ الأعلى بالأسفل بل بالأعلى، وفي ((الخلاصة)): الحاصل أنّ النَّزعَ مشروع، والأخذُ بالمبرد احتياط، وفي ((الجامع الصغير)): وإذا كسرَ من السنان، وسنّ الكاسرِ أكبر يقتصّ منه، وكذلك في القلع، ولا قصاصَ في السنّ الزائدة، وإنّما فيها حكومة عدل، وإذا كسرَ سنّ رجل، والسنّ المكسورِ بمثل ربعِ سنّ الكاسر، يقتصّ منه، ولا يكون على قدر الصغر والكبر، بل يكون على قدر ما كسره من السن.
(10/252)
________________________________________
] فيقلعُ(1) إن قلعت[(2)]، وتبردُ إن كسرت[(3)]، ولا بينَ رجلٍ وامرأة(4)، وبينَ حرِّ وعبد، وبين عبدَيْن في الطّرف)، هذا عندنا، وعندَ الشَّافعيِّ(5) - رضي الله عنه -[(6)]: يجبُ القصاصَ إلا إذا قطعَ الحرَّ طرفَ العبد؛ فإنَّهُ لا قصاصَ عندهُ أيضاً، وإنَّما لا يجري القصاصُ عندنا؛ لأنَّ الأطرافَ يسلكُ بها مسلكُ الأموالِ[(7)
__________
(1) في ص و ق: فتقلع.
(2) قوله: فيقلع إن قلعت؛ أقول: ظاهر هذا مخالفٌ لقول صاحب ((النهاية))، وكذلك إن كان قلعَ السنّ فإنّه لا تقلع سنه قصاصاً؛ لتعذّر اعتبارُ المماثلة فيه، فربّما يفسد به شيءٌ من فكِّه، ولكن يبرد بالمبرد إلى موضعِ السنّ. انتهى. فليتأمّل. هكذا قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص604)].
(3) قوله: وتبرد إن كسرت، من: بردت الحديد بالمبرد؛ أي ينقص السنُّ بالآلة المعهودة، بقدر ما كسر منها. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص604)].
(4) في ق كرر: وبين رجل و امراة.
(5) ينظر: ((نهاية المحتاج))(8: 417)، و((اسنى المطالب))(4: 23)، و((تحفة المحتاج))(8: 414)، وغيرها.
(6) قوله: وعند الشافعيّ - رضي الله عنه -: يجب القصاصُ في جميع ذلك الصور؛ لكون الأطرافِ تابعةً للنفوس، فكما يجري القصاص في النفوس من الرجال والنساء فكذلك في الأطراف، قوله: إلا إذا قطعَ الحرّ طرفَ العبد... الخ؛ لعدم المماثلة بينهما.
(7) قوله: يسلكُ بها مسلكَ الأموال؛ لأنَّ الأطرافَ خلقت وقايةً للأنفس، كالمال.
فإن قلت: قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ}[المائدة:45] مطلقٌ يشملُ مواضعَ النِّزاع، فيكون عليكم حجّة.
قلنا: قد خصّ منه الحربيّ والمستأمن بالاتّفاق، والنصُّ المطلقُ إذا خصَّ منه شيءٌ يجوزٌ تخصيص الباقي بخبر الواحد، كما تقرَّرَ في الأصول، فخصصناه بما روينا. هكذا في ((الكفاية))(9: 169-170).
(10/253)
________________________________________
] فتنعدم(1) المماثلةُ[(2)] بالتَّفاوتِ في(3) القيمة.
__________
(1) في أ و ص و م: فينعدم.
(2) قوله: فينعدم المماثلة... الخ؛ الأصلُ في جريانِ القصاص فيما دونِ النفسِ اعتبارُ المماثلةِ في الفعلِ والمحلِّ المأخوذ بالفعل؛ لأنَّ المماثلةَ في ضمانِ العدوان منصوصٌ عليه، فيجب اعتبارها.
فإن قيل: يشكلُ بما إذا قطعَ عبدٌ يدَ عبد، وقيمتُهما سواء، ومع ذلك لا يجري القصاص عندكم.
قلنا: لأنَّ طريقَ معرفة القيمةِ بالحزر والظنّ، والمماثلة المشروطة لا يثبتُ بطريق الظنِّ والحزر.
(3) في ب: وفي.
(10/254)
________________________________________
(ولا في قطعِ يدٍ من نصفِ السَّاعد[(1)]، وجائفةٍ برأت)، فإنَّ الجائفةَ[(2)] إذا برأت لا يجري فيها القصاص؛ لأنَّ البرءَ فيها نادرٌ، فالظَّاهرُ أنَّ الثَّاني يفضي إلى الهلاك، أمَّا إذا لم تبرأ، فإن كانت ساريةَ يجبُ القصاص، فإن لم تسرْ بعدَ لا يقتصُّ إلى أن يظهرَ الحالُ من البرءِ و(3)السِّراية، (واللِّسانِ والذَكَرِ إلا أن يقطعَ الحشفة[(4)])، هذا عندنا؛ لأنَّ الانقباضَ والانبساطُ يجري فيهما فلا تراعى المماثلة، وعن أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: إن كانَ القطعُ من الأصلِ يقتصّ(5).
__________
(1) قوله: ولا في قطعِ يدٍ من الساعد؛ أي لا قصاصَ في قطع... الخ؛ إذ لا يمكن حفظُ المماثلة كما مرّ من أنّه ليس هناك حدٌّ ينتهي إليه القطع، فلا يجب فيه القصاص بل حكومة عدل.
(2) قوله: فإن الجائفة؛ قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص604)]: وهي الطعنة التي تبلغُ الجوف، ويؤيّد هذا التفسير ما في ((الغاية)) حيث قال: وأمّا الجائفةُ وهي التي تصل البطن من الصدر أو الظهر، ولا يكون في الرقبة، ولا في الحلق، ولا في اليدين ولا في الرجلين. انتهى. أقول: لا ضرورةَ بالتائيد؛ لأنّ الشارحَ - رضي الله عنه - فسَّر الجائفةَ بهذا التفسير في (كتاب الصوم) حيث قال: الجائفة الجراحةُ التي بلغت الجوف. فتأمّل.
(3) في ب: أ,.
(4) قوله: إلا أن يقطع الحشفة؛ أي يجب القصاصُ إن قطعَ الحشفة؛ لأنّ موضعَ القطع معلوم كالمفصل، ولو قطع بعض الحشفة أو بعض الذكر فلا قصاص فيه؛ لأنّ البعضَ لا يعلمُ مقداره بخلاف الأذن إذا قطع كلّه أو بعضه؛ لأنّه لا ينقبض ولا ينبسط، وله حدّ معلوم، فيمكن اعتبارُ المساواة، والشفةُ إذا قطعت كلّها يجب القصاص؛ لإمكان اعتبار المساواة بخلاف قطع البعض؛ لأنّه يتعذّر اعتبارها.
(5) في ب: تقتص.
(10/255)
________________________________________
(وطَرْفُ المسلمِ والذِّميِّ سواء[(1)]، وخُيِّر[(2)] المجنيُّ عليه إن كانت يدُ القاطعِ شلاّء، أو ناقصةَ بأصبع، أو الشَّجةُ لا تستوعبُ ما بينَ قرنَيْ الشَّاج، واستوعبَ ما بينَ قرنَي المشجوج): أي شجَّ رجلٌ رجلاً موضحةٌ حتى وجبَ القصاص، والشَّجةُ طولها مقدارُ شبر، والرَّأسُ المشجوجُ[(3)] صغيرٌ استوعبَ الشَّجَّةِ ما بينَ قرنيه، ورأسُ الشَّاجِّ عظيمٌ لا تستوعبُ الشَّجُّة وهي شبرٌ ما بينَ قرنيهِ فالشِّبرُ(4) الذي لحقَ المشجوجَ أكثرَ ممَّا يلحقُ الشَّاج، فالمشجوجُ بالخيارِ إن شاءَ اقتصّ، وإن شاءَ أخذَ الأرش(5).
[فصل]
__________
(1) قوله: سواء؛ فيجبُ القصاصُ في الأطرافِ بين المسلم والكافر؛ للتَّساوي بينهما في الإرث.
(2) قوله خُيِّر؛ على صيغة المجهول؛ أي خُيِّر المجنيُّ عليه إن شاءَ قطعَ اليدَ المعيبة، ولا شيءَ له غير اليد المعيبة، وإن شاءَ أخذَ الأرش كاملاً؛ لأنَّ استيفاءَ الحقِّ كاملاً مُتَعَذِّرٌ، فله أن يعفوَ بدون حقِّه، وله أن يعدلَ إلى العوض، كالمثلى إذا لم يبقَ منه إلا ناقص بالصفة، كان المالك بالخيار إن شاءَ أخذهَ ناقصاً، وإن شاء عدلَ إلى القيمة، كذا هاهنا، فيسقطُ حقُّه كما إذا رضي بالرديء مكان الجيد.
(3) قوله: والرأس المشجوج... الخ؛ قال في ((الهداية))(4: 167): وفي عكسِه يُخَيَّرُ أيضاً؛ لأنّه يَتَعذَّرُ الاستيفاء كملاً للتعدّي إلى غير حقّه، وكذا إذا كانت الشجّة في طول الرأس وهي تأخذُ من جبهتِه إلى قفاه، ولا تبلغُ إلى قفا الشاجّ، فهو بالخيار؛ لأنّ المعنى لا يختلف.
(4) في أ و ص: الشين.
(5) في عكسِه يُخَيَّرُ أيضاً؛ لأنّه يَتَعذَّرُ الاستيفاءُ كملاً للتعدّي إلى غير حقّه، وكذا إذا كانت الشجّة في طول الرأس وهي تأخذُ من جبهتِه إلى قفاه، ولا تبلغُ إلى قفا الشاجّ، فهو بالخيار؛ لأنّ المعنى لا يختلف. ينظر: ((الهداية))(4: 167).
(10/256)
________________________________________
(ويسقطُ القَوَدُ[(1)] بموتِ القاتل، وبعفوِ الأولياء، وبصلحِهم(2) على مالٍ قلَّ أو جلّ، ويجبُ حالاً[(3)])(4): أي إن لم يذكرْ الحلولَ والتَّأجيلَ يجبُ حالاً، ولا يكونُ كالدِّيَةِ مؤجَّلاً، (وبصلحُ(5) أحدهم وبعفوِه(6)، ولمَن بقي حصَتُهُ من الدِّية): أي لمَن بقي من الورثة، فإنَّ القصاصَ والدِّيَةِ حقُّ جميعِ الورثةِ[(7)] عندنا، خلافاً لمالكِ - رضي الله عنه -
__________
(1) : ويسقط القود... الخ؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}الآية[البقرة:178]، على ما قيل: نزلت الآيةُ في الصلح، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قتل له قتيل فأهله بين خِيرَتَين إن شاؤوا أقادوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية))[((جامع الترمذي))(4: 21)، و((سنن البيهقي الكبير))(8: 57)]، والمرادُ الأخذ بالرضا على ما بُيِّنَ في موضعه؛ ولأنّه حقٌّ ثابتٌ للورثةِ يجري فيه الإسقاطُ عفواً وكذا تعويضاً؛ لاشتماله على إحسان الأولياء وأحياء القاتل، فيجوز بالتراضي، والقليل والكثير فيه سواء؛ لأنّه ليس فيه نصٌّ مقدَّر. [ينظر: ((التبيين))(6: 113)].
(2) في ب: ويصلحهم.
(3) قوله: ويجبُ حالاً؛ لأنّه مالٌ واجبٌ بالعقد، والأصل في أمثاله الحلول نحو المهر والثمن، بخلاف الدية؛ لأنّها ما وجبتَ بالعقد.
(4) أما إن ادعى الولي الخطأ وأقر القاتل بالعمد لا تجب الدية، وإذا ادعى الولي العمد وأقر القاتل بالخطأ تجب الدية استحساناً. ينظر: ((المحيط))(ص267).
(5) في أ و ب: يصلح.
(6) لأن كل واحد منهم يتمكن من التصرف في نصيبه استيفاء واسقاطاً بالعفو أو الصلح؛ لأنهتصرف في خالص حقه ومن ضرورة سقوط حقّ البعض في القصاص سقوط حقّ الباقين فيه؛ لأنه لا يتجزئ. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 627).
(7) قوله: حقّ جميعِ الورثة؛ فكلٌّ منهم يتمكَّنُ من الاستيفاء والإسقاط عفواً وصلحاً، ومن ضرورةِ سقوطِ حقِّ البعضِ في القصاصِ سقوطُ حقِّ الباقين فيه؛ لأنّه لا يتجزئ.
(10/257)
________________________________________
والشَّافعيِّ(1)[(2)] - رضي الله عنه - في الزَّوجين.
(فإن صالحَ[(3)] بألف وكيلَ سيِّدِ عبدٍ وحرِّ قتلا فالصُّلحُ عن دمهما بألف(4) بنصف(5) ): أي إن كان القاتلُ حرَّاً وعبداً، فأمرَ الحرُّ ومولى العبدِ رجلاً بأن يصالحَ من دمهما على ألفٍ ففعل، فالألفُ على الحرِّ والمولى نصفان.
__________
(1) في ((أسنى المطالب)) و((حواشيه)) للرملي(4: 35): إن الدية تثبت حقّاً لجميع الورثة، فكذا القصاص.
(2) قوله: خلافا لمالك - رضي الله عنه - والشافعيّ - رضي الله عنه - في الزوجين؛ لأنَّ الوراثةَ خلافة، وهي بالنسب دون السبب؛ لانقطاعه بالموت، قلنا: إنّه فاسدٌ بالنقلِ والعقل؛ أمّا الأوّل فبحديث امرأةِ أشيم، وأمّا الثاني؛ فلأنّهما موروثان كسائر الأموالِ بالاتفاق، فيجب أن يكون في حقّ الزوجين كذلك.
(3) قوله: فإن صالح؛ صورته: قتلَ الحرُّ والعبدُ رجلاً، فأمرَ الحرُّ ومولى العبد شخصاً بأن يصالحَ عن دمٍ عليهما من ورثةِ المقتولِ على ألفِ درهم ففعل، فالألف على الحرِّ ومولى العبد نصفان؛ لأنَّ عقدَ الصلح أضيفَ إليهما؛ لأنَّ الواجب بدل عن القصاص، والقصاص عليهما على السواء، فيقسَمُ البدلُ عليهما على السواء؛ كرجلين اشتريا عبداً كان الثمن عليهما على السواء؛ لأنَّ الثمنَ بدل العبد، وقد ملكاه على السواء، فبدله كذلك.
فإن قيل: يجب أن يكونَ الألف عليهما على قدر قيمتهما؛ لأنّه بالصلحِ اشترى كلُّ واحدٍ منهما دمه المستحقّ بوليّ القتيل، كمَن خالع امرأتيه على ألفِ درهم، يقسمُ الأف عليهما على قدرِ قيمة بضعهما.
قلنا: الألفُ بدلُ دم المقتول، وهما في إتلافه على السواء، والمجامع بدل بضعِهما، فيقسم على قيمة بضعهما. هكذا في ((الكفاية))(9: 175).
(4) في أ و ب و ج و ص: به، و سقطت من م.
(5) في ق: تنصف.
(10/258)
________________________________________
(ويقتلُ جمعٌ[(1)] بفرد، وبالعكسِ اكتفاءً إن حضرَ وليُّهم): أي يقتلُ فردٍ بجمع، ويكتفى بقتلِه، ولا شيءَ لأوليائِهم غيرَ ذلك خلافاً للشَّافِعِيِّ(2) - رضي الله عنه - فإنَّ عندهُ يقتلُ للأوَّلِ ويجبُ للباقينَ المال، وإن لم يدرْ الأوَّلُ قتلَ(3) [لهم جميعاً](4)، وقسمَ الدِّياتُ بينهم، وقيلَ: يقرعُ(5) فيقتلُ لمَن خرجتْ قرعتُه، (وإن حضرَ واحدٌ(6) قتلَ له، وسقطَ حقُّ البقيَّة): أي(7) إن حضرَ وليٌّ واحدٍ قُتِلَ له، وسقطَ حقُّ الباقين عندنا[(8)
__________
(1) قوله: ويقتل جمع... الخ؛ في ((العناية))(10: 243): والقياس لا يقتضيه؛ لانتفاءِ المساواة، لكنّه تركَ بما روي أنّ سبعةً من أهل صنعاءَ قتلوا رجلاً، فقضى عمرُ - رضي الله عنه - بالقصاص عليهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، التمالؤ: التعاون، قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص605)]: قال الزاهدي: إنّما يقتصّ جميعهم إذا وجدَ من كلِّ واحدٍ منهم جرح يصلح لزهوقِ الروح، فأمّا إذا كانوا نظارة مقرنين أو معينين بالإمساك والأخذ لا قصاص عليهم. انتهى.
(2) في ((الغرر البهية شرح البهجة المرضية))(5: 46): لو قتل واحد جماعة فإن كان مرتباً قتل بأولهم وللباقين الديات، أو معاً، أو أشكل الحال قدم بالقرعة، وهي واجبة فلو تمالأ عليه أولياء القتلى وقتلوه جميعاً وقع القتل عن جميعهم موزعاً عليهم، فيرجعُ كلٌّ منهم بقسطه من الديّة فإن كانوا ثلاثة رجعَ كلٌّ منهم بثلثي الدية، وقيل: يقرع بينهم ويجعل القتل واقعاً عمن خرجت له القرعة وللباقين الديات، وقيل: يكتفى بالقتل عن جميعهم ولا رجوع بشيء.
(3) في ص: قيل.
(4) في أ و م: جميعا لهم.
(5) في ب: بقرع.
(6) في ص و ق: لواحد.
(7) في ب: له.
(8) قوله: عندنا؛ وبه قال مالك - رضي الله عنه - خلافاً للشافعيّ - رضي الله عنه -، كما بيَّنَه الشارح - رضي الله عنه - بقوله: فإنّ عنده... الخ؛ هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص605)].
(10/259)
________________________________________
].
(ولا يقطعُ يدانٌ بيد، وإن أمرَّا سكيناً على يدٍ فقطعت، وضمنا ديِّتها[(1)])، هذا عندنا، وعندَ الشَّافعيِّ(2) - رضي الله عنه -: إذا أخذَ رجلانِ سكيناً[(3)] وأمرَّا على يدِ آخرِ تقطعُ يدهما اعتباراً بالنَّفس، ولنا: إنَّ الانقطاعَ وقعَ باعتمادهما، والمحلٌّ متجزئ، فيضافُ إلى كلِّ واحدٍ البعضُ بخلافِ النَّفس، فإنَّ زهوقَ الرُّوحِ غيرُ متجزئ.
__________
(1) قوله: ديتها؛ أي ديةُ اليد، وديةُ اليد نصفُ ديةِ النفس، فهو عليهما، فعلى كلِّ واحدٍ منهما ربعُ ديةِ النفس من مالهما. كذا في ((التبيين)).
(2) ينظر: ((الأم))(7: 191)، وغيرها.
(3) قوله: إذا أخذ رجلان سكيناً؛ أي كلُّ واحدٍ من جانب واحد، وأما إذا أَمَرَّ أحدُهما سكيناً من جانب، والآخرُ سكيناً أخرى من جانبٍ آخر، حتى التقى السكيّنان في الوسط، وبانت اليد فلا يجبُ فيه القصاص على واحدٍ منهما بالاتّفاق؛ لأنّه لم يوجد من كلِّ واحدٍ منهما إمرار السلاح على بعض العضو، وإمرارُهُ شرطُ للقصاص. كذا في ((التبيين))(6: 115)، هذا ما أفاد أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص605)].
(10/260)
________________________________________
(فإن(1) قطعَ رجلٌ يميني رجلَيْن[(2)] فلهما يمينه، وديةُ يدٍ فإن حضرَ أحدهما وقطع، فللآخرِ الدِّية)، هذا عندنا[(3)] سواءُ قطعهما على التَّعاقبِ أو معاً، وعندَ الشَّافعيِّ - رضي الله عنه -: في التَّعاقبِ يقطعُ بالأوَّل، وفي القِرآنِ يقرع[(4)].
__________
(1) في أ و م: وإن.
(2) قوله: وإن قطع رجل يمنى رجلين، قيّد بذلك؛ لأنّه لو قطعَ يمين أحدهما ويسار الآخر قطعت يداه، ولا يقال: ينتفي المماثلة حينئذٍ؛ لأنّه ما فوّت على كلِّ واحدٍ منهما جنسُ المنفعة، وهما فوّتاه عليه؛ لأنَّ المعتبرَ في حقِّ كلٍّ واحد ما استوفاه وليس في ذلك تفويتُ جنسِ المنفعة، ولا زيادة على حقّه. كذا في ((العناية))(10: 246).
(3) قوله: هذا عندنا؛ ولنا: إنّهما استويا في سببِ الاستحقاق، فيستويان في حكمه، كالغريمين في التركة، والقصاص ملك الفعل يثبتُ مع المنافي، فلا يظهرُ إلا في حقّ الاستيفاء، أمّا المحلّ فخالٍ عنه، فلا يمنعُ ثبوتَ الثاني بخلاف الرهن؛ لأنّ الحقّ ثابتٌ في المحل. هكذا في ((الهداية))(4: 169).
(4) قوله: وفي القرآن يقرع؛ لأنّ اليدَ استحقَّها الأوّلُ فلا يثبتُ استحقاقُ القطع فيها للثاني، كالرَّهن بعد الرهن، وفي القرآن: اليدُ الواحدةُ لا تفي بالحقّين، فترجَّح بالقرعة. هكذا في ((الدراية)).
(10/261)
________________________________________
(ويقادُ عبد أقرَّ بقَوَد)، هذا عندنا؛ لأنَّهُ غيرُ متَّهمٍ فيه؛ لأنَّهُ مضرُّ به(1)؛ ولأنَّه مبقىً على أصلِ الحريَّةِ في حقِّ الدَّم[(2)]، وعندَ زفرَ - رضي الله عنه -: لا يصحُّ إقرارُهُ كما في المالِ لملاقاتِهِ حقَّ المولى.
__________
(1) في ص: مضرته.
(2) قوله: في حقِّ الدم؛ عملاً بالآدميّة حتى لا يصحّ إقرارُ المولى عليه بالحدود والقصاص، وبطلانُ حقِّ المولى بطريقِ الضمن فلا يبالي به، وقال صاحب ((العناية))(10: 247): وكلُّ ما لا يصحّ إقرارُ المولى عليه العبدُ فيه بمنْزلةِ الحر؛ ولهذا وقع طلاق زوجته بالإقرار؛ لوقوعه بالإيقاع، وإذا أقرّ بسببِ يوجب الحدَّ يؤخذُ فيه.
(10/262)
________________________________________
(ومَن رمى رجلاً عمداً فنفذَ إلى آخر فماتا، يقتصٌّ للأوَّل، وعلى عاقلتِهِ الدِّيَةُ للثَّاني(1) )؛ لأنَّ الأوَّلَ عمد، والثَّاني خطأ(2)[(3)].
[فصل في الفعلين]
__________
(1) في أ: الثاني.
(2) أي أحدُ نوعي الخطأ، كأنّه رمى إلى صيدٍ فأصابَ آدميّاً والفعل يتعدَّد بتعدّد الأثر؛ لأنّ الرميَ الواحد جاز أن يتعدَّدَ بتعدّد آثاره؛ فإنّ الإنسانَ إذا أرسلَ سهماً يسمّى رمياً، وإذا فرّق جلدَ حيوانٍ ولم يمت يسمى جرحاً، وإذا أصاب ومات يُسَمَّى قتلاً، وإذا أصاب كوزاً وفرَّقَ تركيبه يسمَّى كسراً، وإذا نفذَ السهم إلى غيرِ المرمي إليه صار بمنْزلةِ فعل آخر، ولو فيه مخطئ، فيجب الدية. ينظر: ((الهداية))(4: 169). ((الكفاية))(9: 182).
(3) قوله: والثاني خطأ؛ أي أحد نوعي الخطأ، كأنّه رمى إلى صيدٍ فأصابَ آدميّاً والفعل يتعدّد بتعدّد الأثر؛ لأنّ الرميَ الواحد جاز أن يتعدَّدَ بتعدّد آثاره؛ فإنّ الإنسانَ إذا أرسلَ سهماً يسمّى رمياً، وإذا فرّق جلدَ حيوانٍ ولم يمت يسمى جرحاً، وإذا أصاب ومات يُسَمَّى قتلاً، وإذا أصاب كوزاً وفرَّقَ تركيبه يسمَّى كسراً، وإذا نفذَ السهم إلى غيرِ المرمي إليه صار بمنْزلةِ فعل آخر، ولو فيه مخطئ، فيجب الدية، هذا ما في ((الهداية))(4: 169)، و((الكفاية))(9: 182)، ويندفعُ به ما يقال: إنّه رمى واحداً، فكيف يتعدَّد ويصير فعلين متغايرين.
(10/263)
________________________________________
(ومَن قطعَ يدَ رجلٍ ثمَّ قتلَهُ أخذَ بهما في عمدين، ومختلفين برأ بينهما أو لا، وخطأين بينهما برءٌ، وكفتْ(1) دِيَةٌ(2) إن لم يبرأ بين هذين)، هذه ثمانيةُ مسائل؛ لأنَّ القطعَ إما عمدٌ أو خطأٌ، ثمَّ القتلُ كذلك، صارَ أربعة، ثمِّ إمَّا أن يكونَ بينهما برءٌ أو لا يكون، صارَ ثمانية[(3)].
__________
(1) في ص و ق: كفيت.
(2) في ق: به.
(3) قوله: وصار ثمانية؛ قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص605)] ناقلاً عن ((العناية)): وكل ذلك إما أن يتحقَّقُ من شخصٍ واحدٍ أو شخصين، فذلك ستّة عشرَ وجهاً، فإن كان من شخصين، يؤخذ كل واحد منمها بموجب فعله من القصاص وأخذ الأرش.
(10/264)
________________________________________
فإن كان كلُّ واحدٍ عمداً، فإن كانَ برءٌ(1) بينهما يقتصُّ بالقطعِ(2) ثمَّ بالقتل، وإن لم يبرأ فكذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -؛ لأنَّ القطعَ ثمَّ القتلَ هو المثلُ صورةً ومعنى، وعندهما: يقتلُ ولا يقطع، فدخلَ(3) جزاءُ القطعِ في جزاءِ القتل، وتحقيق هذا في أصولِ الفقهِ(4)[(5)
__________
(1) سقطت من أ.
(2) في أ: القلع.
(3) في ب و ص: فيدخل.
(4) قال الشارح في ((التوضيح))(1: 325-326): والقضاء بمثل معقول، إمّا كامل كالمثلِ صورةً ومعنى، وإمّا قاصرُ كالقيمة إذا انقطعَ المثل، أو لا مثل له؛ لأنّ الحقَّ في الصورة، وقد فات للعجز، فبقي المعنى، فلا يجب القاصر إلا عند العجز عن الكامل، ففي قطعِ اليدِ ثمّ القتلُ خُيِّرَ الوليُّ بين القطع ثمّ القتل، وهو مثل كامل، وبين القتل فقط، وهو قاصر. وعندهما: لا يقطع.
(5) قوله: وتحقيق هذا في أصول الفقه؛ إشارةٌ إلى ما حقّقه في (الفصل الثاني في الإتيان بالمأمورِ به) من (الباب الثاني في إفادة اللفظ الحكمَ الشرعيّ) من (الركن الأول) في الكتاب من ((توضيح تنقيحه))(1: 325-326) بقوله: والقضاء بمثل معقول، إمّا كامل كالمثلِ صورةً ومعنى، وإمّا قاصرُ كالقيمة إذا انقطعَ المثل، أو لا مثل له؛ لأنّ الحقَّ في الصورة، وقد فات للعجز، فبقي المعنى، فلا يجب القاصر إلا عند العجز عن الكامل، ففي قطعِ اليدِ ثمّ القتلُ خُيِّرَ الوليُّ بين القطع ثمّ القتل، وهو مثل كامل، وبين القتل فقط، وهو قاصر. وعندهما: لا يقطع.
قال في ((التلويح))(1: 326): وعندهما ليس للوليِّ أن يقطع، بل له أن يقتلَ؛ لأنّه إنّما يختصُّ بالقطعِ إذا تبيَّنَ أنّه لم يسر إلى القتل بحكمِ النصّ، فإذا أفضى إلى القتل بأن كان قتلُه متعمَّداً، سقطَ حكمُ القطع في نفسه، وصار قتلاً، ودخلَ موجبُه الشرعيُّ وهو القصاصُ في موجبِ القتل؛ لأنَّ القتلَ قد أتمَّ الأثرَ الثابت بالقطع حسّاً وحقيقة، بدليل أنّ حكمَه حكمُ السِّراية، فيكون القطع، ثم القتل جناية واحدة بمنْزلةِ ما إذا قتله متعمِّداً بضربات، فليس للوليِّ فيه إلا القتل، فالحاصلُ أنّه جعلَ الإفضاءَ إلى القتلِ بمنْزلةِ السراية إليه. هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(605-606)].
(10/265)
________________________________________
] في الأداءِ والقضاء.
وإن كان كلٌّ منهما خطأ[(1)]، فإن كان بَرِءَ بينهما أُخِذَ بهما(2): أي يجبُ دِيَةُ القطعِ والقتل، وإن لم يبرأ بينهما كفتْ دِيَةُ القتل؛ لأنَّ ديةَ القطعِ[(3)] إنَّما يجبُ عند استحكامِ أثرِ الفعل، وهو أن يُعْلَمَ(4) عدمُ السِّراية، والفرقُ[(5)] بين هذه الصُّورةِ وبين عمدين لا برء بينهما، أنَّ الدِّيَةَ مِثْلُ غيرُ معقول، فالأصلُ عدمُ وجوبها بخلافِ القصاص؛ فإنَّهُ مِثْلُ معقول.
وإن قطعَ عمداً ثمَّ قتلَ خطأ، سواءٌ بَرِءَ بينهما أو لم يبرأ أخذَ [بالقتلِ والقطع](6): أي يقتصُّ للقطعِ وتؤخذُ دِيَةُ النَّفس.
وإن قطعَ خطأ ثمَّ قتلَ عمداً، سواءٌ برء بينهما أو لا، تؤخذُ الدِّيَةُ للقطع، ويقتصُّ للقتل، لاختلافِ الجنايتَيْن؛ لأنَّ أحدَهما عمد، والآخرَ خطأ.
__________
(1) قوله: وإن كان كلٌّ منهما خطأ؛ وإنّما خالفَ ترتيبَ المصنّف - رضي الله عنه - حيث قدّم شرح الخطأين على المختلفين روماُ للاجتماع بين المتجانسين، وإن كان ترتيبه لا يخلو عن توجيه وجيه. هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص606)].
(2) في ب: يهما.
(3) قوله: لأنّ ديةِ القطع؛ هذا وان كان المرادُ منه تعليل قوله: كفت؛ لكنّه يلزمُ معرفةُ علّة وجوب اقتصاص القطع، ووجوب دية القطع في قطع العمد وقطع الخطأ إذا تخلّل بينهما وبين قتلهما برء. هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص606)].
(4) في ب: يحلم.
(5) قوله: والفرق... الخ؛ يعني أنّ الاشتراكَ في عدمِ تخلّل البرء بين الصورتين إن اقتضى ظاهراً اتِّحاد حكمهما لكن تفرقة المقتوليّة وعدمها بين القصاص والدية يمنع ذلك. هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص606)].
(6) العبارة في ب و ص: القطع و القتل.
(10/266)
________________________________________
(كما في ضربِ مئةِ سوطٍ بَرِأَ من تسعين(1)[(2)] وماتَ من عشرة)، فإنَّهُ يكتفى بدِيَةٍ واحدة[(3)]؛ لأنَّهُ لَمَّا بَرِأَ من تسعين لم يبقَ معتبرةً إلا في حقِّ التَّعزير[(4)]، وكذا كلُّ جراحِهِ(5)[(6)] اندملت، ولم يبقَ لها أثرٌ على أصلِ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وعن أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: في مثلِهِ حكومةُ عدل[(7)]، وعن محمَّدٍ - رضي الله عنه -: أجرةُ الطَّبيب[(8)
__________
(1) يعني ضربه تسعين في موضع، وعشرة في موضع آخر فبرأ موضعُ التسعين وسرى العشرة ومات فيه. ينظر: ((الكفاية))(9: 185).
(2) قوله: برأ من تسعين... الخ؛ يعني ضربه تسعين في موضع، وعشرة في موضع آخر فبرأ موضعُ التسعين وسرى العشرة ومات فيه. هكذا في ((الكفاية))(9: 185).
(3) قوله: بدية واحدة؛ قال في ((الكفاية))(9: 185): قالوا هذا إذا برأ من تسعين ولم يبق لها أثر أصلاً، فإن بقي لها أثر فينبغي أن يحب عليه حكومة عدل للأسواط، ودية للقتل.
(4) قوله: إلا في حقِّ التعزير؛ ألا ترى أنّه لو ضربه أو لطمه فتألَّم ولم يؤثِّر فيه [لا يجب عليه شيء] ويجب عليه التعزير. كذا في ((المعراجية)). [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص606)].
(5) يعني مثل أن كانت شجّةٌ فالتحمت، ونبت الشعر، فإنّها لا تبقى معتبرةً لا في حقِّ الأرش، ولا في حقِّ حكومةِ عدل. ينظر: ((العناية))(9: 185).
(6) قوله: وكذلك كل جراحة... الخ، يعني مثل أن كانت شجّةٌ فالتحمت، ونبت الشعر، فإنّها لا تبقى معتبرةً لا في حقِّ الأرش، ولا في حقِّ حكومةِ عدل. كذا في ((العناية))(10: 251).
(7) قوله: حكومة عدل؛ تفسيرُ حكومة العدل: إنّه لو كان عبداً مجروحاً يقوّم كم قيمته وبدون الجراحة كم قيمته، فيضمن التفاوت الذي منهما في الحرّ من الدية، وفي العبد من القيمة. هكذا في ((الكفاية))(9: 185).
(8) قوله: أجرة الطبيب؛ قال أخي جلبي (ص606)]: أقول لو قال بدلها: ما يحتاج إليه في علاجها لكان جامعاً بينها وبين ثمنِ الأدويةِ التي هي أيضاً معتبرة عند محمد - رضي الله عنه - كما سيصرّح الشارحُ - رضي الله عنه - في أوائل (كتاب الديات).
(10/267)
________________________________________
]، (وتجب(1) حكومةُ عدلٍ[(2)] في مئةِ سوطٍ جرحتْهُ وبقي أثرها): سيأتي في ((كتابِ الدِّيات)) تفسير حكومةُ العدل(3).
(ومَن قطعَ[(4)] [يدَ رجل](5) فعفا عن القطع(6)، فماتَ منه ضَمِنَ له قاطعه دِيْتَه)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقالا: لا يجبُ شيء؛ لأنَّ العفوَ عن القطعِ عفوٌ عن موجبِه، وهو القطعُ إن لم يسر، والقتلُ إن سرى، له: إنَّه عفى عن القطع، فإذا سرى عَلِمَ أنَّهُ كان قتلاً لا(7) قطعاً، وإنَّما لا يجبُ القصاصُ بشبهةِ العفو.
__________
(1) في ق: ويجب.
(2) قوله: تجب حكومة عدلٍ دون الأرش؛ لأنَّ حكومةَ العدل إنّما تكون لبقاءِ الأثر، وهو موجود، والأرشُ إنّما يجبُ باعتبار الأثر في النفس، بأن لم يبرأ وليس بموجود، وهذا يشير إلى أنّه إن لم يكن يجرح في الابتداء لا يجب شيء بالاتّفاق وإن جرحَ واندملَ ولم يبقَ لها أثرٌ فكذلك، كما هو أصلُ أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ لأنّه لم يكن إلاَّ مجرَّدُ الألم وهو لا يوجبُ شيئاً كما لو ضرب ضرباً مؤلماً. هكذا في ((العناية))(10: 251).
(3) ص ).
(4) قوله: ومَن قطع... الخ؛ توضيحُه: ومَن قطعَ يدَ رجلٍ فعفا المقطوع عن القطع، فمات منه إلى ذلك القطع ضمنَ له قاطعه ديته؛ أي يجبُ على القاطع في ماله هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -؛ لأنَّ سببَ الضمان قد تحقَّقَ وهو قتلُ نفسٍ معصومةٍٍ متقوَّمة، والعفو لم يتناوله بصريحه؛ لأنّه عفا عن القطع، وهو غيرُ القتل، وبالسِّراية تبيَّن أنّ الواقعَ قتلٌ، وحقُّه فيه، ونحن نوجب ضمانه، وإن كان ينبغي أن يجب القصاص كما هو القياس؛ لأنّ القصاصَ هو الموجبُ للعمد؛ إلا أنّ في الاستحسان تجب الدية؛ لأنَّ صورةَ العفو أورثت شبهة، وهي مزيلةٌ للقصاص، ولا نُسَلَّمُ أنّ الساري نوع من القطع وإن السرايةَ صفةٌ له، بل الساري قتلٌ من الابتداء، وزيادة التوضيح في ((الهداية))(4: 171) وشروحه.
(5) زيادة من ب.
(6) في ق: قطعه.
(7) في ب: إلا.
(10/268)
________________________________________
(ولو عفا عن الجناية أو عن [القطع وما يحدثُ منه، فهو عفوٌ عن](1) النَّفسِ والخطأ من ثلثِ مالِه، والعمدُ من كلِّه): أي إذا كانت الجنايةُ خطأ، وقد عفا عنها فهو عفوٌ عن الدِّيَة، فيعتبرُ من الثُّلُث[(2)]؛ لأنَّ الدِّيةَ مالٌ فحقُّ(3) الورثةِ يتعلَّقُ بها، فالعفوُ وصيةٌ فيصحُّ(4) من الثُّلث، وأمَّا العمدُ فموجبُهُ القَوَدُ وهو ليسَ بمالٍ فلم يتعلَّقُ به حقُّ الورثةِ[(5)] فيصحُّ العفوُ عنه على الكمال، فإن قلت[(6)
__________
(1) سقطت من ق.
(2) قوله: فيعتبر من الثلث... الخ؛ فإن قيل: القاتلُ واحدٌ من العاقلة، فكيف جوَّز الوصيّة بجميعِ الثلث هاهنا، حتى صحَّ في نصيب القاتل أيضاً مع أن الوصيّة لا تصحّ للقاتل.
قلنا: إنمّا جوّز ذلك؛ لأنَّ المجروحَ لم يقل: أوصيت لك بثلثِ الدية، وإنّما عفا عنه المال بعد سبب الوجوب، فكان تبرُّعاً مبتدأ، وذلك جائز للقاتل، ألا ترى أنّه لو وهبَ له شيئاً وسلَّمَ جاز، وقال بعضُهم: يسقطُ قدرَ نصيب القاتل. هكذا في ((الكفاية))(9: 188-189).
(3) في ب: حق.
(4) في ب: فسح.
(5) قوله: فلم يتعلَّق به حقُّ الورثة؛ لأنّ حقَّ الورثةِ إنّما يثبتُ بطريقِ الخلافة، وحكمُ الخلفِ لا يثبتُ مع وجود الأصل، والقياس في المال أيضاً أن لا يثبتَ فيه تعلُّق حقّهم إلا بعد موتِ المورث، لكن ثبت ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالةً يتكفّفون الناس))[البخاري (1: 435)، ومسلم(3: 1251)]، وتركهم أغنياء إنّما يتحقّق بتعلُّقِ حقِّهم بما يحقِّقُ به الغناء، وهو المال، فلو لم يتعلَّق به لتصرَّفَ به، وتركَهم عالةً يتكفَّفون الناس، والقصاص ليس بمال، فلا يتعلّق به، لكنّه موروث؛ لأنّ الإرثَ خلافة. هكذا في ((العناية))(10: 253-254).
(6) قوله: فإن قلت... الخ؛ حاصلُ السؤال أنّ القودَ حقُّ الأولياء؛ تشفيّاً لصدور الأولياء، فلا يصحُّ عفو المقتول، وحاصل الجوابِ أنَّ السببَ إنّما تحقَّقَ في حياةِ المقتول، وهو حقُّه، فيصحُّ العفو.
(10/269)
________________________________________
]: القودُ إنَّما يجبُ بعد الموتَ تشفيَّاً لصدورِ الأولياء، فينبغي أن لا يصحَّ عفو المقتول، قلت: السَّببُ انعقدَ في حقِّهِ فيعتبرُ، وسيأتي كيفيَّةُ وجوبِ القَوَد(1)، (وكذا الشَّجَّة): أي لو كانتْ مقامَ القطعِ الشَّجة، فهي على الخلافِ المذكور[(2)].
__________
(1) ص ).
(2) قوله: فهي على الخلاف المذكور؛ أي إذا كانت الشبهةُ خطأ وقد عفا عنها، فهو عفوٌ عن الدِيَة، فيعتبرُ من الثلث؛ لأنَّ الديةَ مالٌ، فحقَّ الورثةِ يتعلَّقُ بها، فالعفو وصيَّتُه، فيصحُّ من الثلث، وإن كانت عمداً فموجبُه القود، وهو ليس بمال، فلم يتعلَّق به حقُّ الورثة، فيصحُّ العفو عنه على الكمال. [ينظر: ((درر الحكام))(2: 98)].
(10/270)
________________________________________
(فإن قطعتْ امرأةٌ يدَ رجلٍ فنكحَها على يدِه، ثمَّ ماتَ(1)[(2)] يجبُ مهرِ مثلها، ودِيَةُ يدِه في مالها إن تعمَّدت، وعلى عاقلتِها إن أخطأت): أي [إن](3) قطعتْ امرأةٌ يدَ رجلٍ عمداً فنكحَها على يدِه(4) فهو نكاحٌ:
إمَّا على الموجبِ الأصليِّ للقطعِ العمدِ وهو القصاصُ في الطَّرْف، فهو لا يصلحُ مهراً[(5)
__________
(1) قيّد بالموتِ في وجوب مهرِ المثل؛ لأنّه لو لم يمت فتزوَّجَها على اليدِ صحَّت التسمية، ويصير أرش ذلك، وهو خمسةُ آلاف درهمٍ مهراً لها بالإجماع، سواءً كان القطعُ عمداً أو خطأ تزوَّجها على القطع، أو على القطع وما يحدث عنه أو على الجناية؛ لأنّه لمّا برأ تبيّن أن موجبها الأرش دون القصاص؛ لأنّ القصاصَ لا يجري في الأطراف بين الرجل والمرأة، والأرشُ يصلحُ صداقاً. ينظر: ((الكفاية))(9: 189).
(2) قوله: ثمّ مات؛ قال في ((الكفاية))(9: 189): قيّد بالموتِ في وجوب مهرِ المثل؛ لأنّه لو لم يمت فتزوَّجَها على اليدِ صحَّت التسمية، ويصير أرش ذلك، وهو خمسةُ آلاف درهمٍ مهراً لها بالإجماع، سواءً كان القطعُ عمداً أو خطأ تزوَّجها على القطع، [أو على القطع] وما يحدث عنه أو على الجناية؛ لأنّه لمّا برأ تبيّن أن موجبها الأرش دون القصاص؛ لأنّ القصاصَ لا يجري في الأطراف بين الرجل والمرأة، والأرشُ يصلحُ صداقاً، كذا ذكره الإمامُ قاضي خان - رضي الله عنه -، والمحبوبيّ - رضي الله عنه -.
(3) سقطت من أ.
(4) في ب: يد.
(5) قوله: فهو لا يصلحُ مهراً... الخ؛ قال في ((الكفاية))(9: 189) تعليلاً لعدم الصلاحيّة: لأنه ليس بمال.
فإن قيل: القصاص متقوّم في حقّ مَن عليه؛ ولذا لو صالحَ القاتل في مرضِ موته يصحّ من جميعِ المال، فيصلح مهراً كالمنافع، فإنّها غير متقوّمة في ذاتها، ولكنّها لمّا تقوّمت عند ورودِ العقدِ عليها صلحت مهراً.
قلنا: القصاصُ ليس بمتقوّم في حقّ مَن له، والمهر لا بُدّ أن يتقوّم في حقّ الرجل على الإطلاق، قال الله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}[النساء:24].
(10/271)
________________________________________
][(1)]، فيجبُ مهرُ المثل، وعليها(2) الدِّيَةُ في مالها.
وإمّا على ما هو واجبٌ بهذا(3) القطعِ وهو الدِّيَة، فإنَّهُ لا قصاصَ بينَ الرَّجلِ والمرأةِ في الطَّرْف، ثمَّ إذا سرى، ظهرَ(4) أنَّ اليدَ غيرُ واجبةٍ فيجبُ مهرُ المثل، وإن قطعتْ خطأً يجبُ مهرُ المثلِ أيضاً لهذا، وديةُ النَّفسِ على العاقلةِ فلا مقاصَّةَ هاهنا[(5)] بخلافِ العمد.
__________
(1) قوله: فهو لا يصلحُ مهراً؛ لا سيما على تقدير السقوط، فإنّه إن لم يصلحْ مهراً على تقدير ثبوتِه لا يصلحُ على تقدير سقوطه بالطريق الأولى، والقصاص يسقط هاهنا، إمّا بقبولها التزوّج؛ لأنّ سقوطه متعلّق بالقبول، فلمّا قبلت سقط، وإمّا باعتبارِ تعذُّر الاستيفاء، فإنّه لمّا جعلَ مهراً كأنّه استوفى.
(2) في ص: وعليه.
(3) في ب: لهذا.
(4) في ب: تظهر.
(5) قوله: فلا مقاصّة هاهنا؛ لأنّ الديةَ تجبُ على العاقلة في الخطأ، والمهر لها، ويرد عليه أنّ الصحيحَ أنّ الدِيةَ تجبُ على القاتل، ثمّ يتحمّل العاقلة، فيكون أصلُ الوجوبِ على القاتل، واعتبارُ هذا يوجبُ جوازَ المقاصّة، ويجاب عنه: إنّ عند بعضِ المشايخ تجبُ على العاقلة ابتداءً، وعند بعضِهم يتحمَّل العاقلة عن القاتل بطريقِ الحوالة، والحوالة توجب البراءة، فلا تقع المقاصة.
(10/272)
________________________________________
(فإن نكحَها على اليد وما يحدثُ منها أو على الجنايةِ ثمَّ مات، ففي العمدِ مهرُ المثل، وفي الخطأ رفعٌ عن العاقلةِ مهرُ مثلها، والباقي وصيَّةٌ لهم، فإن خرجَ من(1) الثُّلث سقطَ، وإلا سقطَ ثلثُ المال(2))، إنَّما يجبُ مهرُ المثلِ في العمد؛ لأنَّ هذا تزوَّجٌ على القصاص، وهو لا يصلحُ مهراً فيجبُ مهر المثل[(3)]، ولا شيءَ عليها بسببِ القتل؛ لأنَّ الواجبَ القصاص، وقد أسقطَه.
__________
(1) في ص و ق: عن، وسقطت من ج.
(2) في ق: ثلثه.
(3) قوله: فيجب مهرُ المثل؛ على ما بيّناه من أنّه ليس بمال، وصار كما إذا تزوَّجها على خمر أو خِنْزير، ولا شيءَ عليها؛ أي لا دِيَةَ ولا قصاص؛ لأنّه لَمَّا جعلَ القصاصَ مهراً فقد رضيَ لسقوطهِ بجهة المهر، كما إذا أسقطَ القصاصُ بشرط أن يصيرَ مالاً، فإنّه يسقطُ أصلاً.
(10/273)
________________________________________
وإن كانَ خطأً يرفعُ عن العاقلةِ مهرُ مثلها[(1)]؛ لأنَّ هذا تزوُّجٌ على الدِّيَة، وهي تصلحُ مهراً[(2)]، فإن كان مهرُ المثلِ مساوياً للدِّيَة، ولا مالَ له سوى هذا، فلا شيءَ على العاقلة؛ لأنَّ التَّزوُّجَ من الحوائجِ الأصليَّةِ فيعتبرُ من جميعِ المال، وإن كان مهرُ المثلِ أكثرَ لا يجبُ الزِّيادة؛ لأنَّها رضيتْ بأقلَّ من مهرِ المثل، وإن كان مهرُ المثلِ أقلَّ فالزِّيادةُ وصيَّةٌ للعاقلة، وتصحُّ لأنَّهم ليسوا بقتلة، وتعتبرُ من الثُّلث، فإن خرجتْ(3) من(4) الثُّلث سقطت، وإلا يسقطُ مقدارُ ثلثِ المال، وهذا الفرقُ بينَ التَّزوِّجِ على اليد وبينَ التَّزوُّجِ على الجنايةِ على قولِ أبي حنيفة - رضي الله عنه -، وأمَّا عندهما فالحكمُ في التَّزوُّجِ على اليدِ كما ذكرنا في هذه المسألة، وهي التَّزوُّجُ على الجناية.
__________
(1) قوله: يرفع عن العاقلة مهرُ مثلها؛ قال في ((الهداية))(4: 172): ولهم ثلثُ ما تركَ وصيّةً؛ يعني أنّ للزائدِ على مهرِ مثلها يكون وصيّة في حقِّ العاقلة، فلينظر بعد إسقاط مهرِ المثلِ إن كان للزّوج الميِّت مالٌ سوى الزائد على مهرِ المثل، والزائدُ يخرج من الثلث يكون للعاقلة، وإن لم يكن مال يأخذُ العاقلةُ ثلث الزائدِ على مهرِ المثل، والثلثانِ لورثةِ الزوج. هكذا في ((الحميدية)).
(2) قوله: وهي تصلح مهراً؛ إلا أنّه يعتبرُ بقدر مهر المثل من جميع المال؛ لأنّه مريضٌ مرض الموت، والتزوّج من الحوائجِ الأصليّة، ولا يصحّ في حقّ الزيادة على مهر المثل؛ لأنّه محاباة، فتكون وصية، ويدفع عن العاقلة؛ لأنّهم يتحمَّلون عنها، فمن المحال أن ترجعَ عليهم بموجبِ جنايتها، وهذه الزيادة وصيّة لهم؛ لأنّهم من أهل الوصيّة؛ لِمَا أنّهم ليسوا بقتلة، فإن كانت تخرجُ من الثلث تسقط، وإن لم تخرج يسقطُ ثلثُه. هكذا في ((الهداية))(4: 172).
(3) في ب: خرجته.
(4) في ص: عن.
(10/274)
________________________________________
(فإن ماتَ المقتصُّ له بقطع، قتلَ المقتصُّ منه)[(1)]: أي مَن قطعَ يدَه فاقتصَّ له من اليدِ ثمَّ مات، فإنَّهُ يقتلُ المقتصُّ منه، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: لا يقتل؛ لأنَّهُ لمَّا أقدمَ على القطعِ قصاصاً أبرأه عمَّا وراءه، قلنا: استيفاءُ القطعِ لا يوجبُ سقوطَ القَوَد، كمَن له القَوَدُ إذا قطعَ يدَ مَن عليه القَوَد(2)[(3)].
__________
(1) قوله: يقتل المقتصُّ منه؛ لأنّه تبيّن بالموت أنّ الجنايةَ كانت قتلَ عمد، وحقّ المقتصِّ له القود، واستيفاءُ القطعِ لا يوجبُ سقوطَ القود، كمَن له القود إذا استوفى طرفاً من عليه القصاص.
(2) أي يد القاتل، وإنّما أقدم على القطعِ ظنّاً منه أنّ حقّه فيه، وبعد السرايةِ تبيّن أنّ حقَّه في القَوَد، فلم يكن مبرءاً عنه بدون العلم به. ينظر: ((الهداية))(4: 172).
(3) قوله: إذا قطعَ يد مَن عليه القود؛ أي يد القاتل، وإنّما أقدم على القطعِ ظنّاً منه أنّ حقّه فيه، وبعد السرايةِ تبيّن أنّ حقَّه في القَوَد، فلم يكن مبرءاً عنه بدون العلم به. كذا في ((الهداية))(4: 172).
(10/275)
________________________________________
(وضَمِنَ دِيَةَ النَّفسِ[(1)] مَن قطعَ قَوَداً فسرى): أي مَن له القصاصُ في الطَّرفِ فاستوفاهُ فسرى إلى النَّفسِ يضمنُ دِيَةَ النَّفسِ عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -؛ لأنَّ حقَّهُ في القطع، وقد قتل[(2)]، وعندهما(3) لا يضمنُ شيئاً؛ لأنَّهُ استوفى حقَّهُ وهو القطع، ولا يمكنُهُ التَّقييدُ بوصفِ السَّلامة، لما فيه من سدِّ بابِ القصاص، والاحترازِ عن السِّرايةِ ليسَ في وسعِه[(4)].
__________
(1) قوله: وضمن دية النفس؛ قال الإتقاني: ولكنّ الدية فيه تجبُ على العاقلة؛ لأنّه في معنى الخطأ؛ لأنّه أرادَ بذلك القطع استيفاءَ حقِّه من القطع، ولم يُرِدْ به إتلاف النفس.
(2) قوله: وقد قتل؛ ولهذا لو وقعَ قطعُ اليد ثمّ السِّراية ظلماً كان قتلاً؛ ولأنّه جرحٌ أفضى إلى فوات الحياة في مجرى العادة، والجرحُ المفضي إلى فواتِ الحياة في مجرى العادة يُسَمَّى القتل، إلا أنّ القصاصَ سقطَ للشبهة فوجبَ المال.
(3) في ((البرهان)): وهو الأظهر. ينظر: ((الشرنبلالية))(2: 99).
(4) قوله: ليس في وسعه؛ فصار كالإمام إذا قطعَ يدَ السارق، فسرى فماتَ لا شيء عليه، وكالبزاغ والحجَّام إذا فعلا فعلاً معتاداً، وكالمأمورِ بقطع اليد، كما إذا قال لرجل: اقطعْ يدي، فقطعَ يده فماتَ المقطوعُ من القطعِ لا شيءَ عليه، وهذا لأنَّ السِّرايةَ تبعٌ لابتداء الجناية، فلم يجز أن يكون ابتداءُ الجنابةِ مباحاً، وسرايتها مضمونة.
ونحن نقول: هذا الاستشهادُ غيرُ صحيح؛ لأنَّ الفاعلَ مكلّف فيها بالفعل، إمّا تقلّداً كالإمام، أو عقداً كما في غيره، والواجبات لا تتقيّدُ بوصفِ السلامة، كالرمي إلى الحربيّ، وفيما نحنُ فيه لا التزامِ ولا وجوب إذ هو مندوب إلى العفو، فيكون من باب الإطلاق، فأشبه الاصطيادَ في الإباحة، والإباحةُ تتقيّد بوصفِ السلامة. هكذا في ((الهداية))(4: 173).
(10/276)
________________________________________
(وأرشُ اليد[(1)] من قطعِ يدِ مَن له عليه قودُ نفسٍ فعفا عنه): أي قطعَ وليُّ القتيلِ يدَ القاتل، ثمَّ عفا عن القتلِ ضَمِنَ ديةَ اليدِ عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -؛ لأنَّهُ استوفى غيرَ حقِّهِ[(2)] لكن لا يجبُ القصاصُ للشُّبهة، وعندهما: لا يضمنُ شيئاً؛ لأنَّهُ استحقَّ إتلافُ النَّفسِ بجميعِ أجزائِهِ[(3)
__________
(1) قوله: وأرش اليد؛ نصبَ عطفاً على دِيَةِ النفس، كما يُفْهَمُ من تقرير الشارح - رضي الله عنه -، وهو بوزن العرش: دية الجراحات. كذا في ((الصحاح)).
(2) قوله: غير حقّه فيضمن؛ وهذا لأنّ حقَّه في القتل لا في القطع، وكان القياس أن يجب القصاص، لكن إنّه سقطَ للشبهة إذ كان له أن يتلفَ الطرفَ تبعاً للنفس، وإذا سقطَ القَوَد وجبتِ الدِيَة، وإنّما لم يضمنْ في الحال؛ لاحتمال أن يصيرَ قتلاً بالسِّراية، فيظهرُ أنّه استوفى حقَّه، وحقُّه في الطرف ثبت ضرورةَ ثبوت القتل، وهذه الضرورةُ عندِ الاستيفاء لا قبله، فإذا وجدَ الاستيفاءُ ظهرَ حقُّه في الأطرافِ تبعاً، وإذا لم يستوفِ لم يظهرْ حقّه في الطرفِ لا أصلاً ولا تبعاً، فتبيّن أنّه استوفى غيرَ حقِّه، فأمّا إذا لم يعفُ فإنّما لم يضمنْ لمانع، وهو قيامُ الحقِّ في النفس؛ لاستحالةِ أن يملكَ قتلَه، وتكون أطرافُه مضمونةً عليه، فإن زالَ المانعُ بالعفو ظهر حكمُ السبب، وإذا سرى فهو استيفاءٌ للقتل، فتبيّن أنّ العفو كان بعد الاستيفاء، ولو قطع وما عفا وبرئ فهو على الخلاف في الصحيح. هكذا في ((تكملة البحر))(8: 264).
(3) قوله: بجميع أجزائه؛ إذ الأجزاء تبعٌ للنفس، فبطل حقُّه بالعفو فيما بقيَ لا فيما استوفاه؛ ولهذا لو لم يعفُ لا يجب عليه ضمانِ اليد، وكذا إذا عفا ثمّ سرى لا يضمن، والقطعُ الساري أفحش من المقتصر، أو قَطَعَ وما عفا وما سرى ثمّ جَزَّ رقبتَه قبل البرءِ وبعده، فصار كما لو كان له قصاص في اليد، فقطع أصابعَه ثمّ عفا عن اليد، فإنّه لا يضمنُ أرش الأصابع، والأصابعُ من الكفّ كالأطرافِ في النفس. هكذا في ((تكملة البحر))(8: 364).
(10/277)
________________________________________
] فأتلفَ البعضَ فإذا عفا، فهو عفوٌ عمَّا وراءَ هذا البعضِ فلا يضمن شيئاً.
باب الشَّهادةُ في القتلِ واعتبارِ حالته[(1)]
(القَوَدُ يثبتُ بدأ للورثِةِ [(2)
__________
(1) قوله: باب الشهادة في القتل... الخ؛ لَمَّا كان القتلُ بعد تحقُّقه رُبَّما يجحد فيحتاج مَن له القصاص إلى إثباته بالبيّنة، فبيَّن الشهادةَ فيه في بابِ على حدة، وأشار بقوله: واعتبارُ حاليّته إلى ما سيجيءُ في آخرِ الباب، حيث قال: والعبرةُ بحالة الرمي... الخ.
(2) قوله: يثبت للورثة ابتداءً؛ وإنّما يثبتُ ابتداءً بطريق الخلافة بسبب العقد للميِّت؛ أي يقومونَ مقامَه، فيستحقُّ به ابتداءً غير أن يثبت للميِّت، كالعبد يقبل الهدية يقع الملكُ فيها للمولى ابتداءً بطريق الخلافة عنه، وإنَّما كان كذلك لأنَّ القصاصَ ملكُ الفعل في المحلِّ بعد موتِ المجروح، ولا يتصوَّرُ الفعلُ من الميّت؛ ولهذا صحَّ عفوُ الورثة قبل موت المجروح، وإنّما صحّ عفو المجروح؛ لأنَّ السببَ انعقد له وفي قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}[الاسراء:33]، نصٌّ على أنّ القصاصَ يثبتُ للوارثِ ابتداءً بخلافِ الدِيَةِ والدين؛ لأنَّ الميِّتَ أهلٌ لملك المال؛ ولذا لو نصبَ شبكةً وتعلَّقَ بها صيدٌ بعد موته يملكُه.
وأصلُ الاختلافِ راجعٌ إلى أنّ استيفاءَ القصاصِ حقُّ الورثةِ عنده، وحقُّ الميِّت عندهما، فإذا كان القصاصُ يثبتُ حقَّاً للورثةِ ابتداءً عنده، لا ينتصبُ أحدُهم خصماً عن الآخرينَ في إثباتِ حقِّهم بغير وكالةٍ منه، وبإقامة الحاضر البيّنةَ لا يثبتُ القصاصُ في حقِّ الغائب، فيعيدُها بعد حضوره؛ ليتمكَّن من الاستيفاء، ولا يلزمُه أنّ القصاصَ إذا انقلبَ مالاً يصيرُ حقّاً للميّت؛ لأنّه إذا انقلبَ مالاً صارَ صالحاً لقضاءِ حوائجه، فصار مفيداً بخلاف القصاص.
(10/278)
________________________________________
]لا إرثاً)، اعلمْ أنَّ القصاصَ يثبتُ للورثةِ ابتداءً عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -؛ لأنَّهُ يثبتُ بعد الموت، والميِّتُ ليس أهلاً لأن يملكَ شيئاً إلا ما له إليه حاجةٌ كالمالِ مثلاً، فطريقُ ثبوتِهِ(1) الخلافة، وعندهما: طريقُ ثبوتِهِ الوراثة، والفرقُ بينهما[(2)] أنَّ الوراثةَ تستدعي سبقَ ملكِ المورِّثِ(3)، ثمَّ الانتقالُ منه إلى الوارث، والخلافةُ لا تستدعي(4) ذلك، فالمرادُ بالخلافةِ هنا(5) أن يقومَ شخصٌ مقامَ غيرِهِ في إقامةِ فعلِه، ففي القتلِ إذا اعتدى القاتلُ على المقتولِ فالحقُّ أن يعتدي المقتولُ بمثلِ ما اعتدى عليه، لكنَّهُ عاجزٌ عن إقامتِه، فالورثةُ قاموا مقامَهُ(6) من غيرِ أنَّ المقتولَ ملكَه، ثمَّ انتقلَ منه إلى الورثة.
__________
(1) في ب: ثبوت.
(2) قوله: والفرق بينهما؛ أي الفرقُ بين الخلافةِ والوراثةِ هو أنّ طريقَ الوراثةِ أن يثبتَ الملكُ للمورِّثِ الوليِّ ابتداءً، ثمّ للوارث، وطريقُ الخلافةِ أن يثبتَ الملكَ لِمَن يخلفُ ابتداءً كالعبد إذا اتَّهب، فإنّه يثبتُ للمولى ابتداءً بطريق الخلافة؛ لأنَّ العبدَ ليس بأهلٍ للملك، فالخلافة أعمُّ من الوراثة.
(3) في ب: الموت.
(4) في ص: يستدعي.
(5) في ص: ها هنا.
(6) في ب: مقام.
(10/279)
________________________________________
ثمَّ إذا ثبتَ هذا الأصلُ فرَّعَ عليه قوله: (فلا يصيرُ أحدُهم خصماً عن البقيَّة[(1)])، اعلم أنَّ كلَّ ما يملكُهُ الورثةُ [بطريقِ الوراثة](2)، فأحدُهم خصمٌ عن الباقين: أي قائمٌ مقامَ الباقينَ في الخصومةِ حتى إن ادَّعى أحدُ الورثةِ شيئاً من التَّركةِ على أحد، وأقامَ(3) بيِّنةَ يثبتُ(4) حقُّ الجميع، فلا يحتاجُ الباقونَ إلى تجديدِ الدَّعوى، وكذا إذا ادَّعى أحدٌ على أحدِ الورثةِ شيئاً من التَّركة، وأقامَ البيَّنةَ عليه يثبتُ(5) [على](6) الجميع، حتى لا يحتاجَ المدَّعي إلى أن يدَّعي على كلِّ واحد، وما يملكُهُ الورثةُ لا بطريقِ الوراثةِ لا يصيرُ أحدُهُم خصماً عن الباقين.
ففرَّعَ على هذا قوله: (فلو أقامَ حجَّةً بقتلِ أبيه غائباً أخوه[(7)](8) فحضرَ يعيدها): أي فلو(9) أقامَ أحدُ الورثةِ بيِّنةً وأخوهُ غائبٌ أنَّ فلاناً قتلَ أباهُ عمداً يريدُ القصاص، ثمَّ حضرَ أخوهُ يحتاجُ إلى إعادةِ إِقامةِ البيِّنةِ عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - خلافاً لهما.
__________
(1) قوله: عن البقيَّة؛ في استيفاء القصاص خلافاً لهما، والأصلُ أنّ كلّ ما يملكه الورثة بطريق الوراثةِ فأحدهم خصمٌ عن الباقين، وقائمٌ مقامَ الكلّ في الخصومة، وما يملكه الورثة لا بطريقِ الوراثةِ لا يصيرُ أحدُهم خصماً عن الباقين، كما صرح به الشارح - رضي الله عنه -.
(2) سقطت من ص.
(3) في ص: الإقامة.
(4) في ب: ثبت، وفي ص: تثبت.
(5) في ب: ثبت.
(6) سقطت من ب.
(7) قوله: غائباً أخوه؛ فلا يعيد إجماعاً حتى يحضرَ الغائب، لكنّه يحبس لأنّه صار منهما، وإنّما قلنا: لا يعيد، إشارةً إلى أنّ البيّنة تقبلُ إلا أنّه لا يقضي بالقصاص إجماعاً ما لم يحضرْ الغائب؛ لأنَّ المقصودَ من القضاءِ الاستيفاءُ، والحاضر لا يتمكّن منه بالإجماع. كما في ((الكفاية))(9: 195).
(8) في ج: لحق.
(9) في ص: إن.
(10/280)
________________________________________
(وفي الخطأ[(1)] والدَّينِ لا): أي إذا كان القتلُ خطأ لا يحتاجُ[(2)] إلى إعادةِ البيِّنة؛ لأنَّ موجبُهُ المال، وطريقُ ثبوتِهِ الميراث، وفي الدَّينِ إذا أقامَ أحدُ الورثةِ البيِّنةَ أنَّ لأبيهِ على فلانٍ كذا، فحضرَ أخوهُ لا يحتاجُ إلى إقامةِ البيِّنة.
(فلو بَرْهَنَ القاتلُ على عفوِ الغائب، فالحاضرُ خصمٌ[(3)]، وسقطَ(4) القَوَد[(5)]): أي إذا كانَ بعضُ الورثةِ غائباً، والبعضُ حاضراً، فأقامَ القاتلُ البيِّنةَ على الحاضرِ أنَّ الغائبَ قد عفى، فالحاضرُ خصمٌ؛ لأنَّهُ يدَّعي على الحاضرِ سقوطَ حقِّهِ في القصاص، وانتقالِهِ إلى مال، فيكونُ خصماً.
(وكذا لو قُتِلَ عبدٌ بينَ رجلَيْن أحدهما غائب): أي عبدٌ مشتركٌ بينَ رجلَيْن، أحدُهما غائب، قتلَ عمداً، فادَّعى القاتلُ على الحاضرِ أنَّ الغائبَ قد عفى، فالحاضرُ خصمٌ وسقطَ [عنه](6) القَوَدُ لما ذكرنا(7).
__________
(1) قوله: وفي الخطأ؛ أي في قتلِ أبيه خطأ، وفي الدين لأبيه على آخر، لو أقام الحاضرُ حجّة على ذلك لا يعيدها الغائبُ إذا حضرَ؛ لأّن المال يثبت للورثةِ إرثاً عند الكلّ، وفيه إيماءٌ إلى أنّه اتّحد القاضي للحاضر والغائب، فلو أثبت قدرَ نصيبه منه أو كان القاضي متعدّداً أعاد الحجّة، وإنّما خصّ الدين؛ لأنَّ في إعادةِ الحجّة للعقارِ اختلافاً، وإن كان الأصحّ أنّه لا يعيدها، كما في ((العمادية)).
(2) قوله: لا يحتاج؛ أي إلى إعادة البيّنة بالإجماع؛ لما مرّ من الأصل.
(3) قوله: فالحاضرُ خصمٌ؛ لأنّه ادّعى حقاً على الحاضر، وهو سقوطُ حقّه في القصاص، وانقلابه مالاً، ولا يتمكّن من إثباته إلا بإثباتِ عفوِ الغائب، فانتصب خصماً عنه، فإذا قضى عليه صارَ الغائبُ مقضيّاً تبعاً. كذا في الزَّيْلَعِيّ(6: 122).
(4) في ج: يسقط.
(5) قوله: سقط القود؛ أي وإن جاءَ الغائبُ وأنكر العفو يصيرُ حقّه نصفَ الدية.
(6) سقطت من ص.
(7) أي في المسألة التي سبقتها.
(10/281)
________________________________________
(فإن شَهِدَ وليَّا قَوَدٍ[(1)
__________
(1) قوله: فإن شهدَ وليّا قَوَد... الخ؛ صورةُ المسألة: رجلٌ قتل رجلاً، وللقتيل ثلاثة بنين، فشهدَ اثنان منه على أنّ ثالثَهم عفا عن القتيل، فشهادتُهما باطلةٌ، وتكون هذه الشهادةُ عفواً منهما؛ لأنّهما يجرَّان بشهادتهما إلى أنفسهما مغنماً ومالاً ونفعاً، وهو انقلابُ القودِ مالاً فيكون الشهادةُ باطلة، وأمّا تعليل قوله: وهي عفو؛ فلأنّهما زعما أنّ القودَ قد سقطَ، وزعمهما في حقّهما معتبر؛ فإن صدَّقَ القاتلُ الشاهدين فالدِيَة بينهما ثلاثاً، معناه إذا صدَّقهما وحدَه؛ لأنّه إذا صدّقهما، فقد أقرّ بثلثي الدِيَةِ لهما، فصحَّ إقرارُه، إلا أنّ القاتلَ يدّعي سقوطَ حقِّ المشهود عليه، والحالُ أنّ المشهودَ عليه ينكر، فلا يصدَّقُ دعوى القاتل، ويغرم نصيب المشهود عليه.
وإن كذَّبهما المشهودُ عليه فلا شيءَ لهما، وللآخرِ ثلث معناه إذا كذَّبهما القاتل أيضاً، وهذا لأنّهما أقرّا على أنفسهما بسقوط القصاص فقبل إقرارهما، وادّعيا انقلابَ نصيبهما مالاً، فلا يقبل إلا بالحجّة، وينقلبُ نصيبُ المشهود عليه إلا أنّ دعواهما العفو على المشهودِ عليه، وهو ينكر بمنْزلةِ ابتداء العفو منهما، كأنّهما قالا: عفونا في حقّ المشهودِ عليه؛ لأنَّ سقوطَ القَوَد مضافٌ إليهما، وإن صدَّقَهما المشهودُ عليه وحدَه دون القاتل غرمَ القاتلُ ثلثَ الدِيَةَ للمشهودِ عليه؛ لإقرارِ القاتل له بذلك.
وإنّما قلنا معناه إذا كذَّبَهما القاتل أيضاً؛ لأنّه إذا صدَّقَهما القاتلُ عنه تكذيب المشهود عليه يجب على القاتلِ ديةٌ كاملةٌ بينهم أثلاثاً؛ وذلك لأنّهما بالشهادة أقرّا بسقوط القصاص، وانقلابُ نصيبهما مالاً، وقد أقرَّ القاتلُ بذلك على تقديرِ تصديق القاتل فلزمه ثلثُ الدِيَة لهما، وثلثُ الدِيَةِ للمشهودِ عليه؛ لأنّه ما أقر بسقوطِ القصاص، وإنّما سقطَ القصاص بإقرارِ غيره، والحاصل أنّ الوجوهَ منقسمة على أربعةِ أقسام على القسمة العقليّة، وذلك إمّا يصدِّقَهما المشهود عليه والقاتل جميعاً، أو يكذِّبَهما المشهودُ عليه ويصدّقهما القاتل، أو على العكس، وهاهنا بحثٌ مذكور في الشرح فلا حاجةَ إلى البيان.
(10/282)
________________________________________
] بعفوِ أخيهما بطلت، وهي): أي الشَّهادة، (عفوٌ منهما[(1)]، فإن صدَّقَهُما القاتلُ وحده[(2)]، فلكلِّ منهم ثلثُ الدِّية، وإنَّ كذَّبهما فلا شيءَ لهما، وللآخرِ ثلثُ الدِّيَة، وإن صدَّقهما الأخُ فقطُ فلهُ الثُّلث[(3)])، هكذا ذكرَ في ((الهداية))(4) وفيه نوعُ نظر؛ لأنَّهُ إن أريدَ بالشَّهادةِ(5) حقيقتُهما(6)، فهي(7) لا تكونُ بدونِ الدَّعوى، والمدِّعي هو القاتل، فكيفَ يكونُ تكذيبِ القاتلِ من أقسامِ هذهِ المسألة، وإن أريدَ بالشَّهادةِ مجرَّدُ الإخبارِ(8)
__________
(1) قوله: عفو منهما؛ لأنّهما بالشهادة زعما أنّ القودَ قد سقط، وزعمهما يعتبر في حقِّهما.
(2) قوله: القاتل وحده؛ وكذَّبهما المشهودُ عليه في شهادتِهما بعفوِ الثالث، وإنّما قيَّدَ بهذا؛ لأنّه إذا صدَّقهما القاتلُ والمشهود عليه يضمنُ القاتلُ ثلثي الدِيَةِ للشاهدين لا غير؛ لأنّهما ادَّعيا على القاتل المال، وصدَّقهما القاتلُ فيه، ولا يضمنُ للمشهود عليه شيئاً؛ لأنّه أقرَّ بالعفو، حيث صدَّقَ الشاهدين. هكذا في ((الكفاية))(9: 196-197).
(3) قوله: وإن صدَّقَهما الأخُ فقط فله الثلث؛ قال في ((العناية))(10: 263): هذا استحسان، والقياس أن لا يلزمه شيء؛ لأنّ ما ادّعاه الشاهدان على القاتل لم يثبت؛ لإنكاره وما أقرَّ به القاتلُ للمشهود عليه قد بطلَ بتكذيبه، ووجه الاستحسان: أنّ القاتلَ بتكذيبه للشاهدين أقرَّ للمشهود عليه بثلثِ الدِيَة؛ لزعمه أنّ القصاصَ سقط بدعواهما العفو على الثالث، وانقلبَ نصيبُه مالاً، والثالثُ لمّا صدَّقَ الشاهدين في العفو فقد زعمَ أنّ نصيبَهما انقلبَ مالاً، فصار مقرّاً لهما بما أقرَّ به له القاتل، فيجوز إقرارُه بذلك بمنْزلة ما لو أقرّ رجلٌ بألفِ درهم، وقال المقرُّ له: هذه الألفُ ليست لي، ولكنَّها لفلانٍ جاز، وصارت لفلان، كذا هذا.
(4) الهداية))(4: 174).
(5) في ب: بإشهادة.
(6) في أ و م:: حقيقتها.
(7) في ب: في.
(8) العبارة في ص: مجر الإخبار.
(10/283)
________________________________________
لا يصحُّ الحكمُ بالبطلانِ مطلقاً، إذ هو مخصوصٌ بما إذا كذَّبهما، ومن الأقسامِ ما إذا صدَّقهما الأخ، وحينئذٍ لا يبطلُ الإخبار.
وأيضاً الأقسامُ أربعةٌ ولم يذكرْ إلا الثَّلاثة، فالحقُّ أن يقال: فإن أخبرَ وليَّا قَوَدٍ بعفوِ أخيهما، فهو عفوٌ للقصاصِ منهما:
فإن صدَّقهما القاتلُ والأخُ فلا شيءَ له، ولهما ثُلُثا الدِّيَة.
وإن كذَّباهما فلا شيءَ للمخبرَيْن ولأخيهما ثلثُ الدِّية.
وإن صدَّقهما القاتلُ وحدَهُ فلكلٍّ منهم ثلثُ الدِّية.
وإن صدَّقهما الأخُ فقطْ فله ثلثُ الدَّيَة.
أمَّا الأوَّلُ؛ وهو تصديقهما فظاهر.
وأمَّا الثَّاني: وهو تكذيبُهما؛ فلأنَّ إخبارَهما بعفوِ الأخِ إقرارٌ بأنَّ لا حقَّ لهما في القصاص، فلا قصاصَ لهما[(1)]، ولا مال لتَّكذيبِ(2) القاتلِ والأخ، ثمَّ للأخِ ثلثُ الدِّيَة؛ لأنَّ حقَّ المخبريْن لَمَّا سقطَ في القصاصِ سقطَ حقُّ الأخِ لعدمِ تجزِّيه، وانتقلَ إلى المال، إذ لم يثبتْ عفوُه؛ لأنَّ إخبارَ(3) المخبرينَ بعفوِهِ لم يصحَّ؛ لأنَّهما يجرَّانِ به نفعاً[(4)]، وهو انتقالُ حقِّهما إلى المال.
__________
(1) قوله: فلا قصاص لهما؛ لأنّهما مأخوذان بقولهما في سقوطِ حقِّهما، ولا مال؛ لأنّهما ادّعيا انقلابَ نصيبهما مالاً، فلا تقبل إلا بحجّة. كذا في حواشي ((الهداية)). [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص607)]
(2) في ب: التكذيب.
(3) في ب: إخيار.
(4) قوله: لأنّهما يجرّان به نفعاً؛ وشهادة مَن يجرّ النفعَ أو يدفع الضرر باطلة؛ لكونه متّهماً فيها. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص607)].
(10/284)
________________________________________
وأمَّا الثَّالث؛ وهو تصديقُ القاتلِ فقط، فإنَّ للأخِ ثلثُ الدِّيَةِ لما ذكرنا(1)[(2)]، وكذا لكلِّ من المخبرين، بتصديقِ القاتل؛ لأنَّ حقَّهما انتقلَ إلى المال.
وأمَّا الرَّابع؛ وهو تصديقُ الأخِ فقط فهو الاستحسان، والقياسُ أن لا يكونَ على القاتلِ شيء؛ لأنَّ ما ادَّعاهُ المخبرانِ على القاتلِ لم يثبتْ لإنكارِه، وما(3) أقرَّ به القاتلُ للأخِ يبطلُ بتكذيبِه، وجهُ الاستحسان: إنَّ القاتلَ بتكذيبِهِ المخبرين أقرَّ بأنَّ لأخيهما ثلثُ الدِّيَةِ لزعمِهِ أنَّ القصاصَ سقطَ بدعواهما العفوَ على الأخ، وانقلبَ نصيبُ الأخِ مالاً، والأخُ لَمَّا صدَّقَ المخبريْن في العفوِ فقد زعمَ أنَّ نصيبَهما انقلبَ مالاً، فصارَ مقرِّاً لهما، بما أقرَّ به القاتل، ...(4) ووجهُهما(5) مذكورٌ في ((الهداية))(6).
__________
(1) إشارة إلى قوله: قبيل هذا؛ لأنّ حقَّ المخبرين لَمَّا سقط في القصاصِ سقطَ حقُّ الأخ؛ لعدم تجزئه إلى آخره. ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص607).
(2) قوله: لما ذكرنا؛ إشارة إلى قوله: قبيل هذا؛ لأنّ حقَّ المخبرين لَمَّا سقط في القصاصِ سقطَ حقُّ الأخ؛ لعدم تجزئه إلى آخره. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص607)].
(3) في ص: وأما.
(4) في ب زيادة: ولهم.
(5) في ب: وجهما، وفي ص: وجهها.
(6) الهداية))(4: 174).
(10/285)
________________________________________
(وإن اختلفَ شاهدا القتلِ في زمانِهِ أو مكانِهِ أو آلته، أو قالَ شاهد: قتلَهُ بعصا، وقال الآخر: جهلتُ آلةَ قتله، لغت[(1)]، وإن شهدا بقتلِه، وقالا: جهلنا آلتَهُ تجبُ(2) الدِّيَة)، القياسُ أن لا يجبَ شيء؛ لأنَّ حكمَ القتلِ يختلفُ باختلافِ الآلة[(3)]، ووجهُ الاستحسان: إنَّهم شهدُوا بمطلقِ القتل، والمطلقُ ليسَ بمجمل(4)[(5)
__________
(1) قوله: لغت؛ لأنّ القتلَ لا يعاد ولا يكرّر، والقتلُ في زمانٍ أو في مكان غيرُ القتل في زمانٍ أو مكانٍ آخر، والقتلُ بالسلاح غيرُ القتل بالعصا؛ لأنّ الأوّل عمدٌ والثاني شبه العمد، ويختلفُ أحكامها، فكان على كلِّ قتلٍ شهادةُ فرد، وكذا إذا قال أحدُ الشاهدين: قتلَه بعصا، وقال الآخر: لا أعلمُ بأيٍّ شيءٍ قتله، فهو باطل؛ فإنّ المطلقَ يغايرُ المقيّد، فإنّ المطلقَ يوجب الديةَ في ماله، والمقيدُ بالعصا على العاقلة. كذا في ((الهداية))(4: 174)، وحواشيه.
(2) في ج: يجب.
(3) قوله: لأنّ حكمَ القتلِ يختلفُ باختلافِ الآلة؛ لا يقال: لا تعيينَ للآلة هاهنا، والاختلاف فرعه؛ لأنّا نقول معناه يحتملُ الاختلاف؛ لأنّهما لو فسَّرا احتمل أنّ كلّ واحدٍ منهما فسَّر خلافَ ما فسَّره الآخر؛ بأن يقولَ أحدُهما: قتلَه بالسيف، ويقول الآخرُ: قتلَه بالعصا، فيكون هذا الاحتمالُ بمنْزلةِ حقيقةِ الاختلاف، يؤيِّدُ هذا الجوابَ تقريرُ صاحب ((العناية))، وإلى هذا مال قولُ صاحب ((الكافي))، والقياس أن لا يقبلَ هذه الشهادة؛ لأنّهما شهدا بقتلِ مجهول؛ لأنّه إذا جُهِلَتْ الآلةُ فقد جُهِلَ القتلُ؛ لأنّه يختلفُ حكمُه باختلافِ الآلة. هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص607)].
(4) فإنّ المطلقَ ممكنُ العمل، ألا ترى أنّ اللهَ تعالى أوجبَ الكفّارةَ بتحرير رقبةٍ مطلقة، ووجبَ العملُ به ولو كان مجملاً لَمَا وجبَ العملُ به، كذا ذكره الإمامُ الكسائيّ - رضي الله عنه -. ينظر: ((الكفاية))(9: 198-199).
(5) قوله: والمطلق ليس بمجمل؛ فإنّ المطلقَ ممكنُ العمل، ألا ترى أنّ اللهَ تعالى أوجبَ الكفّارةَ بتحرير رقبةٍ مطلقة، ووجبَ العملُ به ولو كان مجملاً لَمَا وجبَ العملُ به، كذا ذكره الإمامُ الكسائيّ - رضي الله عنه -. هكذا في ((الكفاية))(9: 198-199).
(10/286)
________________________________________
](1) فيثبتُ أقلُّ ...(2) موجبِه(3) وهو الدِّية، وتجبُ في مالِه؛ لأنَّ الأصلَ في القتلِ العمدِ فلا يتحمَّلُهُ العاقلة.
(وإن أقرَّ كلٌّ من رجلَيْن بقتلِ زيد، وقال الوليُّ: قتلتماه[(4)]، فله قتلُهما، ولو قامتْ بيِّنةٌ بقتلِ زيدٍ عمرو، وأخرى بقتلٍ بكرِ إيَّاه، وادَّعى(5) الوليُّ قتلَهما لغتا)؛ لأنَّ في الثَّاني[(6)] تكذيبُ المشهودِ له الشَّاهدَ في بعضِ ما شهدَ له، وهذا يبطلُ شهادَتَه؛ لأنَّ التكذيبَ تفسيق، وفي الأوَّلِ تكذيبُ المُقَرِّ له المُقِرَّ في بعضِ ما أقرَّ بهِ وهو انفرادُهُ في القتل، وهذا لا يبطلُ الإقرار(7)
__________
(1) في ب: بمحل.
(2) في ب و م: من.
(3) في ص: موجبيه.
(4) قوله: وقال الوليّ: قتلتماه... الخ؛ ولو قال الوليّ: صدقتما بدل قوله: قتلتماه، لم يكن له أن يقتلَ واحداً منهما؛ لأنّ معنى قوله: صدقتما، تصديقُ كلِّ واحدٍ منهما بانفراده، وفيه تكذيبُ الآخرِ في الجميع، فهو تكذيبٌ لهما. هكذا في بعض حواشي ((الهداية)).
(5) في أ: دعى.
(6) قوله: لأنّ في الثاني... الخ؛ توضيحُه: إنّ الإقرارَ والشهادةَ يتناولُ كلَّ واحدٍ منهما وجود كلَّ القتل ووجوب القصاص، وقد حصل التكذيب في الإقرارِ من المُقَرِّ له، وهو الوليّ، وفي الشهادةِ من المشهودِ له، وهو الوليًّ أيضاً، غير أنّ تكذيبَ المُقَرّ له المُقِرَّ في بعض ما أقرَّ به لا يبطلُ إقراره في الباقي، وتكذيبُ المشهودِ له الشاهدَ في بعضِ ما شهدَ به يبطلُ شهادته أصلاً؛ لأنّ التكذيبَ تفسيق، وفسقُ الشاهد يمنعُ القبول، وأمّا فسقُ المقرّ لا يمنعُ صحَّة الإقرار. كذا في ((الهداية))(4: 175).
(7) بيانه: إنّ الإقرارَ والشهادةَ يتناولُ كلَّ واحدٍ منهما وجود كلَّ القتل ووجوب القصاص، وقد حصل التكذيب في الإقرارِ من المُقَرِّ له، وهو الوليّ، وفي الشهادةِ من المشهودِ له، وهو الوليًّ أيضاً، غير أنّ تكذيبَ المُقَرّ له المُقِرَّ في بعض ما أقرَّ به لا يبطلُ إقراره في الباقي، وتكذيبُ المشهودِ له الشاهدَ في بعضِ ما شهدَ به يبطلُ شهادته أصلاً؛ لأنّ التكذيبَ تفسيق، وفسقُ الشاهد يمنعُ القبول، وأمّا فسقُ المقرّ لا يمنعُ صحَّة الإقرار. ينظر: ((الهداية))(4: 175).
(10/287)
________________________________________
.
(والعبرةُ لحالةِ الرَّمي لا للوصولِ فتجبُ(1) الدِّيَةُ على مَن رمى مسلماً فارتدَّ فوصل(2) )، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وعندهما: لا يجبُ شيءٌ إذ بالارتدادِ سقطَ تقوُّمُهُ(3) فصارَ مبرَّئاً للرَّامي(4) عن موجبِه، كما إذا أبرأهُ بعدَ الجرحِ قبلَ الموت، له: إنَّ المرميَّ(5) إليه[(6)] حالةَ الرَّمي متقوَّم، (والقيمةُ لسيِّدِ عبدٍ رُمِيَ إليه فأعتقَهُ فوصل)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - وأبي يوسفَ - رضي الله عنه -، وقال محمَّدٌ - رضي الله عنه -: فضلُ ما بينَ قيمتِهِ مرميَّاً[(7)
__________
(1) في أ و جو م: فيجب.
(2) في ب: فوصله.
(3) في ص: يقومه.
(4) فيس ص: الرامي.
(5) في ص: الرمى.
(6) قوله: إنّ المرمي إليه... الخ؛ يعني إنّ الضمانَ يجبُ بفعله، وهو الرمي، إذ لا فعل منه بعده، فيعتبرُ حالة الرمي، والمرمي إليه حالةِ الرمي متقوّم.
فإن قيل: إن كان ما ذكرتم بجميعِ مقدّماته صحيحاً، والفعلُ كان عمداً فينبغي أن يكون القصاص واجباً.
قلنا: الفعلُ وإن كان عمداً فالقودُ يسقطُ بالشبهةِ الناشئة من اعتبارِ حالة الإصابة. كذا في ((الجلبي))(ص607) ناقلاً عن ((العناية))(10: 268).
(7) قوله: فضل ما بين قيمته مرميّاً... الخ؛ يعني لو كان قيمتُه قبل الرمي ألفَ درهم، وبعده ثمانٍ مئة، يلزمه مئتا درهم، ودليل محمّد - رضي الله عنه -: إنّ العتقَ قاطع للسِّراية؛ لاشتباه مَن له الحقّ؛ لأنّ المستحقَّ حالَ ابتداءِ الجناية المولى، وحال الإصابةِ العبد؛ لحريّته، فصار العتقُ بمنْزلةِ البرء، كما إذا قطعَ يدَ عبد أو جرحَه ثمّ أعتقَه المولى ثمّ سرى، فإن العتقَ لقطع السِّراية حتى لا يجبَ بعد العتقِ شيءٌ من الدِيَة والقيمة، وإنّما يضمن النقصان.
ولهما: إنّ الرامي يصيرُ قاتلاً من وقت الرمي؛ لأنّ فعلَه الرمي، والعبدُ مملوكٌ في حالةِ الرمي، فيجبُ قيمتُه؛ لأنّ الفعلَ انعقدَ من الابتداء موجباً للقيمة، فلا يتغيَّر باعتراضِ الحريّة، بخلافِ القطعِ والجرح؛ لأنّه إتلافُ بعضِ المحلّ، وأنّه يوجبُ، وأنّه موجبُ الضمان للمولى؛ لأنّه وردَ على محلٍّ مملوك، وبعد السراية لو وجبَ شيءٌ يوجب للعبد، فتصير النهايةُ مخالفةً للبداية، أمّا الرمي قبل الإصابةِ ليس بإتلافِ شيء؛ لأنّه لا أثرَ للرمي في المحلّ، وإنّما قلَّتْ الرغباتُ في العبد، فلا يجبُ به ضمان، فلا تتخالفُ النهاية والبداية، فيجب قيمتُه للمولى.
قال في ((العناية))(10: 268-269): إن قولنا: إنّ الرامي يصيرُ قاتلاً من وقت الرمي ظاهر على مذهب الأعظم - رضي الله عنه -، فإنّه يعتبرُ وقت الرمي، وأمّا أبو يوسفَ - رضي الله عنه - فيحتاجُ إلى الفرقِ بين هذه وبين ما إذا رمى مسلماً فارتدّ والعياذ بالله قبل الإصابة، حيث اعتبرَ هناكَ حالةَ الإصابة، وهاهنا حالةَ الرمي، وهو أنّ المرمي إليه خرجَ بالارتدادِ عن أن يكون معصوماً، والزمانُ يعتمدُ صفةَ العصمة، فلا يجب الضمان بالمنافي.
وأمّا الإعتاقُ فإنّه لا ينافي العصمة، فيجب عليه قيمتُه للمولى، ومن هذا يعلم أنّ أبا يوسفَ - رضي الله عنه - يعتبرُ وقتَ الرمي إلا في صورة الارتداد، وقال أخي جلبي - رضي الله عنه - في المنهية ناقلاً عن ((البيانيّة)): قد ذكر الفقيه أبو الليث - رضي الله عنه - قول أبى يوسفَ - رضي الله عنه - مع محمّد - رضي الله عنه - في مسألة الإعتاق بعد الرمي، وفخر الإسلام - رضي الله عنه - مع أبى حنيفةَ - رضي الله عنه -. والله أعلم.
(10/288)
________________________________________
] إلى غيرِ مرمي، (والجزاءُ على محرمٍ[(1)] رمى صيداً فَحَلَّ فوصلَ لا على حلالٍ رماه فأحرمَ فوصل(2)، ولا يضمنُ مَن رمى مقضيَّاً عليهِ برجم فرجعَ شاهدُهُ فوصل، وحلَّ صيدٌ رماهُ مسلمٌ[(3)] فتمجَّس ـ [نعوذُ بالله](4) ـ فوصلَ لا ما رماهُ مجوسيُّ فأسلمَ فوصل)؛ لأنَّ المعتبرَ حالةُ الرَّمي .
__________
(1) قوله: والجزاء على محرم... الخ؛ هذه مسألتان صورتُهما: لو رمى المحرمُ صيداً ثمّ خرجَ من الإحرام، فوقعَ الرميُ بالصيد، فعليه الجزاء، ولو رمى حلالٌ صيداً ثمّ أحرمَ فلا شيء عليه؛ لأنّ الضمان إنّما يجب بالتعدِّي وهو رميه في حالة الإحرام، وفي الأوّل هو محرم وقت الرمي، وفي الثاني حلال؛ فلذا افترقا في الحكم. كذا في ((الهداية))(4: 176).
(2) لأن رميه وقع حال كونه حلالاً وإن وصل إليه السنهم بعد إحرامه. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 636).
(3) قوله: وحلّ صيدٌ رماه مسلم... الخ؛ صورتُه: إن رمى مسلمٌ صيداً فتمجَّس؛ أي صار مجوسيّاً العياذ بالله، فوصلَ حلَّ أكلُه، وإن رماه مجوسيٌّ فأسلم لا يؤكل؛ لأنّ المعتبر حال الرمي في حقّ الحلّ والحرمة، إذ الرمي هو الذكاة، فتعتبرُ الأهليّة وانسلابها عند الرمي. كذا في ((الهداية))(4: 176).
(4) زيادة من أ و م.
(10/289)
________________________________________
كتاب الديات[(1)]
(الدِّيَةُ من الذَّهب ألفُ دينار، ومن الورقِ[(2)] عشرةُ آلافِ درهم، ومن الإبلِ مئة، وهذه في شبه العمدِ أرباعِ: من بنتِ مخاض، وبنتِ لبون، وحِقَّة، وجَذَعَة، وهي المغلَّظة[(3)
__________
(1) قوله: كتاب الديات؛ الديةُ في اللُّغة مصدر: ودى القاتل المقتول: أعطى ديتَه، وأعطى لوليِّه المال الذي هو بدلُ النفس، ثمّ قيل لذلك المال: الدِّيَة، تسميةً بالمصدر. كذا في ((المغرب))(ص480)، قال في ((القاموس))(4: 400): الدِّيَة: حقٌّ للقتيل، جمعُها دِيَّات، وفي ((الصحاح))(2: 676): وديت القتيل أدَّيت ديَّتَه: إذا أعطيت ديَّتَه، وأمّا معناها شرعاً فالدِّيَةُ عبارةٌ عمّا يؤدَّى، وقد صار هذا الاسمُ علماً على بدلِ النفوس دون غيرها، وهو الأرش، قال في ((العناية))(10: 270): ذكرُ الدِّيّات بعد الجنايات ظاهرُ المناسبة لما أنّ الديةَ إحدى مُوجبيْ الجناية في الآدميّ؛ صيانةً له عن القصاص، لكنَّ القصاصّ أشدُّ جناية، فلذا قدّمه.
(2) قوله: ومن الورق؛ أي الفضّة عشرة آلاف درهم، يعني وزنُ سبعة، فظهر منه أنّ كلَّ دينارٍ في زمنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشرةٍ درهم من الدراهم التي كلّ عشرةٍ منها سبعة مثاقيل. كما ذكر في (كتاب الزكاة).
(3) قوله: وهي المغلظة؛ اعلم أن عبارات المتون هاهنا مختلفةُ المفهوم، فظاهر عبارة ((الهداية)) و((الاختيار)) و((الكنْز)) و((الملتقى)) و((تنوير الابصار)) أنّ دِيَة شبه العمد لا يكون إلاَّ من الإبل، وعليه فالتغليظ ظاهراً؛ لعدمِ التخيير، وظاهرُ عبارة ((الاصلاح)) و((الغرر)) وغيرها أنّها تكون من غيرِ الإبل أيضاً، وإليه مال المصنِّفُ - رضي الله عنه - وبه صرّح القُدُوريّ حيث قال: ولا يثبتُ التغليظُ إلاَّ في الإبل خاصّة، فإن قضى من غير الإبل لم تُغَلَّظ. انتهى.
وعليه فمعنى التغليظ فيها أنّها إذا وقعت من الإبل تدفع أرباعاً، بخلاف دِيَة الخطأ، فإنّها أخماس، وفي ((المجمع)): تتغلَّظُ دِيَة شبه العمد في الإبل، قال شارحه: حتى لو قضى بالدية من غير الإبل لم تغلّظ، وكذا في ((درر البحار)) وشرحه ((غرر الأفكار))، وفي جنايات ((غاية البيان)): وتغليظُ الدِّيَةِ في شبه العمدِ في الإبل إذا فرضتَ الدية فيها، فأمّا غيرُ الإبل فلا يغلَّظ فيها، وفي ((الجوهر))، حتى أنّه لا يزدادُ في الفضّة على عشرة آلاف ولا في الذهب على ألفِ دينار، وفي ((درر البحار)): اتَّفقَ الأئمّة على أنّ الدِّيَةَ من الذهب في الخطأ وشبه العمد ألف دينار، فهذه العباراتُ صريحةٌ في أنّ دِيَةَ شبه العمد لا يختص بالإبل. كذا قال الطحطاوي [في ((حاشيه على ((الدر المختار))(4: 279)].
(10/290)
________________________________________
]، وفي الخطأ أخماسٌ منهما، ومن ابنِ مخاض)، الدِّيةُ عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - لا تكونُ إلاَّ من هذه الأموالِ الثَّلاثة، وقالا: منها، ومن البقرِ مئتا بقرة[(1)]، ومن الغنمِ ألف شاة، ومن الحِلَل مئتا حلَّة، كلُّ حلَّةٍ ثوبان؛ لأنَّ عمرَ - رضي الله عنه - جعلَ على أهلِ كلِّ مالٍ[(2)] منها. وله: إنَّ هذه الأشياءَ مجهولة[(3)]، فلا يصحُّ بها التَّقدير، ولم يردْ فيها أثرٌ مشهورٌ بخلافِ الإبل، وعندَ الشَّافعيِّ(4)
__________
(1) قوله: بقرة... الخ؛ وقال الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص508)]عن ((العناية))(10: 276): ويكون قيمة كلّ بقرة خمسون درهماً، وقيمةُ كلّ شاةٍ خمسة دراهم، وقيمة كلّ حلّة خمسونَ درهماً، وكلّ حلّة ثوبان: ازار ورداء، وهو المختار، وفي ((النهاية)): قيل في زماننا قميص وسراويل.
(2) قوله: لأنّ عمرَ - رضي الله عنه - جعل على أهل كلِّ مال... الخ؛ قال أبو يوسفَ - رضي الله عنه - حدَّثنا ابنُ أبى ليلى عن الشَّعْبِيِّ عن عبيدة السلافيّ أنه وضع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الديّات على أهل الذهبِ ألف دينار، وعلى أهل الورقِ عشرة آلاف درهم وعلى أهل الإبل مئة من الإبل وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشياه ألفي شاه، وعلى أهل الحلّة مائتي حلة. كذا في ((العناية))(10: 276).
(3) قوله: إنّ هذه الأشياء مجهولة... الخ؛ توضيحه: إنّ التقديرَ إنّما يستقيمُ بشيء معلومِ الماليّة، وهذه الأشياءُ مجهولةُ الماليّة؛ ولذا لا يقيَّد بهذه الأشياء ضمان ولم يرد فيها أثر مشهور، بخلاف الإبل، والجواب عن قضاء عمر - رضي الله عنه - أنّه يحتمل أنّ عمرَ - رضي الله عنه - إنّما قضى بذلك لطريقِ الصلح بعدما قضى بالدراهم أو الدنانير، إذ الصلح من الدِّيَة على مالٍ آخر جائز. كذا في ((الكفاية))(9: 210).
(4) ينظر: ((النكت))(3: 371-374)، وهذا هو قول الشافعي في مذهبه القديم، وأما في الجديد فقال: قيمة الإبل بالغة ما بلغت.
(10/291)
________________________________________
[(1)] - رضي الله عنه -: من الورقِ اثنا عشرَ ألف درهم.
__________
(1) قوله: وعند الشافعيّ - رضي الله عنه -؛ وهو قول مالك لما رويا عن ابن عبّاس - رضي الله عنه - أنّ رجلاً قتلَ فجعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ديتَه اثنا عشرَ ألفاً، رواه أبو داود والتِّرْمِذِيّ؛ ولأنّه لاختلافَ أنّها من الدنانير ألف دينار، وكانت قيمة الدينار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشرَ درهماً.
لنا: وروى عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدِّيَة في قتيل بعشرةِ آلاف درهم، وما قلنا أولى؛ للتيقُّن به؛ لأنّه أقلّ، أو يحملُ ما روياه على وزنِ خمسة وما رويناه على وزن ستّة؛ لأنّ الدراهمَ كانت مختلفة من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عهد عمرَ - رضي الله عنه - على ثلاث مراتب:
الأوّل: وزن عشرة: أي العشرة منه وزن عشرة دنانير وهو قدر الدينار.
والثاني: وزن ستّة؛ أي العشرة منه وزن ستة.
والثالث: وزن خمسة؛ أي كلُّ عشرةٍ منه وزن خمسة من الدنانير.
فوقعَ التنازعُ بين الناسِ في الإيفاء والاستيفاء، فجمعَ عمرُ - رضي الله عنه - بين الثلاثة فخلط فجعله ثلاثة دراهم، فصار ثلثُ المجموعِ درهماً، ولما كان الدينارُ عشرون قيراطاً، فوزنُ العشرةِ يكون مثلُه عشرونَ قيراطاً ضرورةَ استوائهما، ووزن الستّة يكون نصف الدينار وعشرة فيكون اثنى عشر قيراطاً، ووزن الخمسةِ يكون نصفُ الدينار فيكون عشرةَ قراريط، فيكون المجموع اثنين وأربعين قيراطاً؛ فإن جعلتَها أثلاثاً صار كلُّ ثلثٍ أربعةَ عشرةَ قيراطاً، والقيراطُ خمسُ شعيرات، وهو الذي كانت عليه دراهمهم، فإذا حملَ ما رواهُ الشافعي - رضي الله عنه - على وزن خمسة، وما روينا على وزن ستّة استويا.
(10/292)
________________________________________
ثمَّ الدِّيةُ المغلَّظةُ عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - وأبي يوسفَ - رضي الله عنه -: خمسٌ وعشرونَ بنتُ مخاض: وهي التي تمَّت عليها حول، وخمسٌ وعشرون بنتُ لبون: وهي التي تمَّت عليها حولان، وخمسٌ وعشرونَ حِقَّة: وهي التي تمَّت عليها ثلاثُ سنين، وخمسٌ وعشرونَ جَذَعة: وهي التي تمَّتْ عليها أربعُ سنين، وعند محمَّدٍ - رضي الله عنه - والشَّافعيِّ(1) - رضي الله عنه -: ثلاثونَ حِقَّة، وثلاثونَ جَذَعة، وأربعونَ ثنيَّةً كلُّها خَلِفَاتٍ في بطونِها أولادها، الثَّنية: التي تمَّتْ عليها خمسُ سنين، والخَلِفَة: التي في بطنِها(2) ولدٌ مضتْ عليه ستَّةُ أشهر، والتَّغليظُ مختلفٌ فيه بين الصَّحابةِ[(3)] - رضي الله عنهم -، ونحنُ أخذنا بقولِ ابنِ مسعود - رضي الله عنه -.
ودِيَةُ الخطأ عندنا عشرونَ ابنُ مخاض: وهو ذكرٌ تمَّتْ عليه حول، ومن الأصنافِ الأربعةِ المذكورةِ عشرونُ عشرون، وعند الشَّافعيِّ(4) - رضي الله عنه -: عشرونَ ابنُ لبونٍ مكانَ ابنِ مخاض.
__________
(1) ينظر: ((النكت))(3: 370)، و
(2) في ب: بطونها.
(3) قوله: مختلفٌ فيه بين الصحابة - رضي الله عنهم -؛ فإنّ عمرَ وزيداً وغيرهما قالوا مثل ما قال محمّد - رضي الله عنه - والشافعيّ - رضي الله عنه -، وقال عليّ - رضي الله عنه - يجبُ أثلاثاً، ثلاثةٌ وثلاثون حقّة، وثلاثةٌ وثلاثون جذعة، وأربعة وثلاثون خَلِفَة، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - مثل ما قلنا. هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص608)].
(4) ينظر: ((النكت))(3: 371)، و
(10/293)
________________________________________
(وكفارتُهما عتقُ مؤمن[(1)]، فإن عَجِزَ عنهُ صامَ شهرينٍ ولاءً[(2)]، ولا إطعامَ[(3)] فيها)؛ لأنَّه لم يرد به النَّص، (وصحَّ رضيعٌ أحدُ أبويه مسلم)؛ لأنَّه يكونُ مؤمناً بالتَّبعيَّة، (لا الجنين[(4)].
__________
(1) قوله: عتق مؤمن؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}الآية [النساء:92].
(2) قوله: صام شهرين ولاء؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْن} الآية[النساء:92].
(3) قوله: لا إطعام... الخ؛ لأنّه لم يرد به النصّ، والمقادير إنّما تعرفُ بالتوقيف؛ ولأنّ الواقعَ بعد الفاء يجبُ أن يكون كلُّ الواجب، وإلاَّ يقع الالتباس بين كونه كلّ الجزاء أو بقي منه شيء لم يذكر، ألا ترى أنّه لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، وفي نيَّته أن يقول: وعبده حرّ، لكنَّه لم يقل، لا يكون الجزاءُ إلاَّ المذكور؛ لئلا يختلّ الفهم، وأيضاً لو كان المرادُ غيرَ الجزاءِ المذكورِ لذكره؛ لأنّه موضعُ الحاجةِ إلى البيان. كذا في ((العناية))(10: 272).
(4) قوله: لا الجنين؛ أي لا يصحُّ عتقُ الجنين في الكفّارة؛ لأنّه لم تعرف حياتُه ولا سلامتُه، فلا يجوز، ولأنّه عضوٌ من وجه فلا يدخل تحت مطلق النصّ. كذا في الزَّيْلَعِيّ [في ((التبيين))(6: 128)].
(10/294)
________________________________________
وللمرأةِ نصفُ ما للرَّجلِ في دِيَةِ النَّفسِ وما دونها)، هذا عندنا[(1)]، وعندَ الشَّافعيّ(2) - رضي الله عنه -: دونَ الثُّلثِ لا(3) ينَّصف.
__________
(1) قوله: هذا عندنا؛ روى ذلك عن عليٍّ - رضي الله عنهم - موقوفاً ومرفوعاً، وقال الشافعي - رضي الله عنه -: الثلث وما دون الثلث لا يتنصّف، لما روي عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - أنّه السنّة، وقال الشافعي - رضي الله عنه -: السنةُ إذا أطلقت يرادُ بها سُنَّة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، [ولنا]: ما روينا، وما رويَّ أنّ كبارَ الصحابة - رضي الله عنهم - أفتوا بخلافه، ولو كان سُنّةَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَا خالفوه، وقوله: سُنَّةٌ محمولٌ على أنّه سنّة زيدٍ - رضي الله عنه -؛ لأنّه لم يرد إلا عنه موقوفاً.
الثاني: أنّه يؤدّي إلى المحال، وهو ما إذا كان أَلَمُها أشدَّ ومصابُها أكبر أن يقلَّ أرشُها. بيانه: أنّه لو قطعَ أصبع منها يجبُ عشرٌ من الإبل، وإذا قطعَ إصبعان يجبُ عشرون، وإذا قطعَ ثلاثةَ يجب ثلاثون؛ لأنّها تساوي الرِّجْل فيه على زعمه؛ لكونه ما دونَ الثُّلُث، ولو قطع أربعة يجب عشرون؛ للتنصيف فيما هو أكثر من الثلث، فقطع الرابعة لا يوجبُ شيئاً بل يسقط ما وجبَ بقطعِ الثالثة، وحكمة الشارع تنافي ذلك، فلا تجوزُ نسبتُه إليه؛ لأنّ من المحال أن يكون الجناية لا توجبُ شيئاً شرعاً، وأقبح منه أن تسقطَ ما وجبَ لغيرها، وهذا ممّا تحيله العقلاء بالبداهة.
الثالث: إن الشافعيّ - رضي الله عنه - يعتبرُ الأطراف بالأنفس وتركه هاهنا، حيث نصَّف دِيَة النفس، ولم ينصّف دِيَة الأطرافِ إلا إذا زاد على الثلث. [ينظر: ((التبيين))(6: 128)].
(2) في ((الأم))(6: 112)، و((أسنى المطالب))(4: 48)، و((المحلي))(4: 133): دية المرأة نفساً وجرحاً نصف دية الرجل.
(3) في ب: ولا.
(10/295)
________________________________________
(وللذِّميِّ ما للمسلم)، هذا عندنا[(1)]، وعندَ الشَّافعيِّ(2) - رضي الله عنه -](3): ديةُ اليهوديّ والنَّصرانيّ أربعةُ الآفِ درهم، وديةُ المجوسيِّ ثمانِ مئةٍ درهم، وعند مالكٍ(4) - رضي الله عنه -: دِيَةُ اليهوديِّ والنَّصرانيّ نصفُ دِيَة المسلم، وديةُ المسلمِ عنده اثنا عشرَ ألفٍ درهم.
__________
(1) قوله: هذا عندنا؛ لما روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنه - أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى في مستأمن قتلَه عمرو بن أميّة بمئة من الإبل، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((دِيَةُ كلّ ذي عهد في عهده ألف دينار))[له شواهد كثيرة مذكورة في ((الدراية))(2: 275)]، وعن الزهريّ - رضي الله عنه - إنّ أبا بكرٍ وعمر - رضي الله عنه - كانا يجعلان دِيَةَ الذميِّ مثل دِيَة المسلم، وقال علي - رضي الله عنه -: إنّما بذلوا الجزية ليكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا، وفي ظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}[النساء:92]؛ دلالة عليه؛ لأنّ المرادَ منه ظاهر ما هو المراد من قوله تعالى في قتل المؤمن: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه}[النساء:92]؛ لأنّهم معصومون متقوّمون لإحراز أنفسهم بالدار، فوجب أن يكونوا ملحقين بالمسلمين إذ يجب تقبّلهم ما يجب تقبلهم لو كانوا مسلمين، ألا ترى أن أموالهم لمّا كانت معصومةً متقوّمة يجب بإتلافها ما يجبُ بإتلافِ مال المسلم، فإذا كان هذا في أموالهم فما ظنّك في أنفسهم. هكذا في ((تكملة البحر))(8: 375).
(2) ينظر: ((روض الطالب))(4: 48)، و((نهاية المحتاج))(7: 320)، وغيرهما.
(3) سقطت من ص.
(4) ينظر: ((المنتقى))(7: 97)، و((التاج والإكليل))(8: 333)، و((منح الجليل))(9: 96)، وغيرها.
(10/296)
________________________________________
(وفي النَّفس، والأنف[(1)]، والذَّكَر، والحشفة[(2)
__________
(1) قوله: والأنف؛ أي في قطعِ الأنف دِيَةٌ كاملة، وكذلك في قطع مارنه وأرنبته، وقيل: في أرنبته حكومة عدل على الصحيح.
(2) قوله: والذكر والحشفة؛ أطلق المصنّف - رضي الله عنه - في وجوب الدِّيَةِ في الذكر، ولم يُفَرِّق بين شابٍّ وشيخ، ولا بين مريض وصحيح، ولا بين ذكر خصيٍّ وعنين، ولا بُدَّ من بيان ذلك، ولو قال: وبقطع ذكر يفوت به الإيلاج لكان أولى، وفي ((المحيط)): وفي ذكر الخصيّ والعنين حكومةُ عدل، وعن الشافعيّ - رضي الله عنه -: كمالُ الدية.
لنا: ذكرُ الخصيِّ والعنين لا يتصوَّرُ منه الإيلاج بنفسه، فلا تجب الدية، وفي ذكر المريض دِيَةٌ كاملة؛ لأنه بزوال المرض يعود إلى قوَّته الكاملة، وفي ذكر الشيخ الكبير إن كان لا يتحرّك ولا قدرة له على الوطء حكومة عدل، وإن كان يتحرك ويقدر على الوطء دِيَةٌ كاملة، وفي قطع الحشفة دِيَةٌ كاملة، وفي قطع الذكرِ المقطوعِ الحشفة حكومةُ عدل، وكذا في ((التكملة))(8: 377).
(10/297)
________________________________________
]، والعقل، والشمّ، والذَّوق[(1)]، والسَّمع، والبصر، واللَّسان[(2)] إن منعَ النُّطقَ أو أداءَ أكثرِ الحروف، ولحيةٍ حُلِقَتْ فلم تنبت، وشعرِ الرَّأس[(3)
__________
(1) قوله: والعقل والشمّ والذوق والسمع والبصر؛ يعني تجب في كلِّ واحدٍ منها دِيَة كاملة، أمّا العقل فلأنّ بذهابه تذهبُ منافع الأعضاء كلّها؛ لأن أفعال المجنون تجري مجرى أفعال البهائم، وأمّا الشمّ فلأنّ بفواته يفوت إدراك الروائح الطيبة، والتفرّقة بين الرائحة الطيبة والخبيثة، أمّا الذوق؛ فلأنّ لفواته يفوت إدراكُ الحلاوة والمرارة وغيرها، وأمّا السمع؛ فلأنّه لفواته يفوتُ جنسُ المنفعةِ على الكمال، وهو منفعة الاستماع، وهكذا البصر، وقد روى أنّ عمرَ - رضي الله عنه - قضى بأربع ديّات في ضربةٍ واحدةٍ ذهبَ بها العقلُ والكلام والسمع والبصر.
(2) قوله: واللسان... الخ؛ قال محمّد - رضي الله عنه - في ((الأصل)): وفي اللسان الدِّيَة، يريد به حالة الخطأ، وإذا قطعَ بعضَ اللسان إن منعَه عن الكلام ففيه كمال الدِّيَة، وأمّا إذا منعه عن بعضٍ دون البعض، فإنّه تجبُ الديةُ بقدرِ ما فات، ففي النصفِ نصفُ الدية، وفي الربع الربع هكذا، وكيف تعرف مقدار الفائت من الباقي؟ فيه اختلاف المتأخّرين، فصَّله صاحب ((تكملة البحر))(8: 377).
(3) قوله: ولحية حلقت فلم تنبت وشعر الرأس؛ يعني إذا حلقَ اللحيةَ فلم تنبت، أو حلقَ شعرَ الرأس ولم ينبت، ففي كلِّ واحدٍ منهما ديةٌ كاملة؛ لأنّه أزالَ الجمال على الكمال، وقال مالك - رضي الله عنه - والشافعي - رضي الله عنه -: فيهما حكومةُ عدل؛ لأنّ ذلك زيادةٌ في الآدميّ كشعر الصدر وغيره، ولنا: قول عليّ - رضي الله عنه - في الرأس إذا حُلِقَ ولم ينبت الدِّيَةُ كاملة، والموقوفُ فيها كالمرفوع؛ لأنّه من المقادير، فلا يهتدى إليه بالرأي، وهذا كلُّه إذا انْسَدَّ المنبت، فإن نَبَتَ حتى استوى كما كان لا يجبُ شيء؛ لأنّه لم يبقَ بفعلِ الحالق أثرٌ في البدن، ولكنُّه يؤدَّبُ على ذلك. كذا في ((التكملة))(8: 377-378)، ومثل الحلقِ النتفُ صرَّحَ به القُهُسْتَانِيّ.
(10/298)
________________________________________
] الدِّية): أي الدِّيَةُ الكاملة، وعند مالكٍ(1) - رضي الله عنه - والشَّافعيِّ(2) - رضي الله عنه -: يجبُ في اللِّحيةِ وشعرِ الرَّأسِ حكومةُ العدل.
(كما في اثنينِ[(3)] ممَّا في البدنِ اثنان، وفي أحدِهما نصفُها، وكما في أشفارِ(4) العينَيْن[(5)]، وفي أحدِها ربعُها، وفي كلِّ أصبعِ يدٍ أو رجلٍ عشرُها، وفي كلِّ مفصلٍ من إصبعٍ فيها مفاصلُ ثلثُ عشرها، وفيما فيه مفصلانِ نصفُ عشرها، كما في كلِّ سنّ)، فإنَّ فيها نصفُ العشرِ لما كان عددِ الأسنانِ اثنينِ وثلاثين، فينبغي[(6)
__________
(1) ينظر: ((حاشية الصاوي))(4: 352)، ((الشرح الصغير))(4: 353)، و((التاج والإكليل))(8: 316)، وغيرها.
(2) في ((النكت))(3: 379): لا تجب الدية في اتلاف الشعور.
(3) قوله: كما في اثنين... الخ؛ أي يجبُ الدِّيَةُ الكاملةُ في إتلافِ جميعِ العضوين الذين خُلقا في كلِّ شخصٍ اثنين: كاليدين، والعينين، والشفتين، والحاجبين، والرجلين، والأذنين، والأنثيين، وثدئي المرأة. كذا في ((التبيين))(6: 129)، وفي إتلافِ كلِّ واحدٍ من هذه الأشياءِ المزدوجة نصفُ الدِّيَة.
(4) الأشفار: جمع شفر: وهو طرف الجفن الذي ينبتُ عليه الشعر، وهو الهدب. ينظر: ((الصحاح))(1: 674)
(5) قوله: وكما في أشفار العينين... الخ؛ الأشفار: جمع شُفْر: بالضم والفاء ساكنة: وهو طرف الجفن الذي ينبتُ عليه الشعر، وهو الهدب. كذا في ((الصحاح))(1: 674)، وقد أخطأ بعضُهم محمّداً - رضي الله عنه - في إطلاقِ الأشفارِ على الأهداب، وأجاب عنه صاحبُ ((الهداية)) بأنّه يجوزُ أن يكون مرادُه الأهداب مجازاً للمجاروة، والحكم فيه هكذا، إذ لو قطعَها جميعاً فيه ديةٌ واحدة؛ لأنّ الكلَّ كشيء واحد. كذا في ((الأكملية))، وفي واحد منها ربعُ الدية؛ لأنّ الأشفارَ أربعة، وفي اثنين نصف الدية، وفي الثلاثة ثلاثة أرباع. كذا في ((التبيين)). [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص608)].
(6) قوله: فينبغي... الخ؛ يعني إذا كان إتلافُ الأعضاءِ التي خُلِقَت في كلّ شخصٍ آحاداً كالأنفِ موجباً للدِّيَةِ الكاملةِ كدِيَة النفس، والتي خُلِقَت مثاني كاليدين والرجلين يوجبُ في كلِّ واحدٍ منهما نصفُ الدِّيَة، والتي خُلِقَت أرباعاً كالأشفار يوجبُ في كلِّ واحدة منها ربعها، والتي خُلِقَت عشرة كالأصابع يوجبُ في كلِّ واحدةٍ منها عشرها، وهو ألفُ درهمٍ شرعيّ، ففي الأسنان التي خُلِقَت اثنتين وثلاثين ينبغي أن يجبَ في كلِّ واحدة منها ربعُ ثمن الدِّيَة التي هو ثلاثمئة واثنا عشرَ درهماً ونصف دون نصفِ العشر الذي هو خمسمئة درهم، فما الحكمةُ في وجوبِ هذا دون ذاك؟
حاصلُ الجواب: إنّ الأسنانَ لها ثلاثةُ مراتب، فإنّها قد تنبتُ لبعض الناسِ اثنان وثلاثون سنّاً، ولبعضِهم ثلاثون، ولبعضِهم ثمان وعشرون، والوسط ثلاثون، فاعتبرنا الوسط، والديةُ يجب بتفويت المنفعةِ أو الجمال، فإذا سقطَ سنٌّ فاتت منفعته بالكليّة، فينبغي أن يجب عشر ثلث الدِّيَة، وفات نصف منفعة السن الواحدة المقابل لها، فينبغي أن ينصّف دِيَة السن الواحدة، وكذلك الجمال، فإذا جمعناهما بلغ المجموع نصفَ العشر، فهذه حكمةُ وجوبِ نصفِ العشر، هذا كلّه مبنيٌّ على وجوب نصفِ العشرِ في كلِّ حالٍ من الأحوال الثلاث.
وأمّا على قول الأكمل - رضي الله عنه -: إذا ضربَ رجلٌ رجلاً حتى سقطت أسنانه كلُّها كانت عليه دِيَة وثلاثة أخماس الدِّيَة، وهي من الدراهم ستّة عشر ألف درهم، بناءً على كونها اثنين وثلاثين، كما هو المشهور، فلا مخالفةَ أصلاً كما لا يخفى.
فإن قيل: فيزيد على دِيَة كاملة، مع أنّ إتلافها إتلافُ النفس من وجه، فزيادةُ حكمِه على الإتلاف من كلِّ وجهٍ غير معقول.
قلنا: نعم؛ لكن ثبتَ هذا بما روى عن عمرو بن حزم - رضي الله عنه - وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وفي السن خمس من الإبل))[((صحيح ابن حبان))(14: 508)، و((المنتقى))(1: 198)] مخالفاً للقياس فلا إشكال، قال في ((العناية))(10: 283): وليس في البدن جنس عضو يجب بتقويمه أكثر من مقدار الدِّيَة سوى الأسنان.
(10/299)
________________________________________
] أن يجبَ في كلِّ سنِّ ربعُ ثمنِ الدَّية، فما الحكمةُ في وجوبِ نصفِ العشر، فيخطرُ ببالي: أنَّ عددَ الأسنانِ وإن كان اثنينِ وثلاثين، فالأربعةُ الأخيرةُ وهي أسنانُ الحلمِ قد لا تنبتُ(1) لبعضِ النَّاس، وقد تنبتُ(2) لبعضِ النَّاسِ منها بعضها، وللبعضِ كلُّها، فالعددُ المتوسِّطُ للأسنانِ ثلاثون، ثمَّ للأسنانِ منفعتان(3) الزِّينةُ والمضغ، فإذا سقطَ سنٌّ يبطلُ منفعتُها بالكليَّة، ونصفُ منفعةِ السِّنِّ التي تقابُلها، وهو منفعةُ المضغ، وإن كانَ النِّصفُ الآخرُ وهو الزِّينةُ باقية، وإذا كان العددُ المتوسِّطُ ثلاثين، فمنفعةُ السِّنِّ الواحدةِ ثلثُ العشر، ونصفُ المنفعةِ سدسُ العشر، ومجموعُهما[(4)] نصفُ العشر، واللهُ أعلمُ بالحقيقة.
(وكلُّ عضوٍ ذَهَبَ نفعُهُ بضربٍ ففيهِ ديَّته(5) كيدٍ شُلَّت، وعينٍ عميت.
[فصل في أحكام الشجاج]
ولا قَوَدَ في الشِّجاجِ[(6)] إلاَّ في المُوضِحَةِ عمداً)؛ لأنَّهُ لا يمكنُ حفظُ المماثلةِ في غيرِ الموضّحة، وفيها يمكن، وهذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقال محمَّدٌ - رضي الله عنه -: يجبُ القصاصُ فيما قبلَ المُوضِحَة[(7)
__________
(1) في ب: ينبت.
(2) في ب: ينبت.
(3) في ب: المنفعتان.
(4) قوله: ومجموعهما... الخ؛ فعلى هذا ديةُ كلِّ سنٍّ من الإبل خمسة، ومن الدنانير خمسون، ومن الدراهم خمسمئة، ففي الأسنانِ المعتبرة إذا أتلفَ كلَّها مئة وخمسون إبلاً، أو ألف وخمسمئة دينار، أو خمسةَ عشرَ ألف درهم.
(5) في أ و م: دية.
(6) قوله: في الشِّجاج؛ بكسر الشين، جمع الشَّجَّة، بفتحها: ويختصّ الشجّة بما يكون بالوجه والرأس، لغة: وما يكون بغيرهما فهو جراحة. كذا في ((الدر المختار)).
(7) قوله: فيما قبل الموضحة... الخ؛ اعلم أنّ الشجاجَ عشرةٌ، كما سيأتي في ((المتن)):
لحارسة: وهي التي تحرص الجلد: أي تخدشه، ولا تخرج الدم.
والدامعة: وهي التي يظهر الدم ولا تسيله كالدمع في العين.
والدامية: وهي التي تسيلُ الدم، والباضعة وهي التي تقطع الجلد، والمتلاحمة: وهي التي تأخذ في اللحم، والسمحاق: وهي التي تصل إلى السمحاق، وهي جلدةٌ رقيقة بين اللحم وعظم الرأس، والموضحة وهي التي توضح العظم، والهاشمة وهي التي تكسر العظم، والمنقلةُ وهي التي تنقل العظم بعد الكسر أي تحوّله، والامةً بالمد وهي التي تصل الى إم الرأس، وهو الذي فيه الدماغ، وإذا عرفت هذا فمعنى قوله فيما قبل الموضحة ما قبلها ذكر أودونها أثراً وشجّا وهي ستّة من الحارصة إلى السمحاق. كذا في ((النهاية)).
(10/300)
________________________________________
](1)، بأن يسبرَ[(2)](3) غورَها بمسبار، ثمَّ يتَّخذُ حديدةً بقدرِ(4) ذلك، ويقطعُ بها مقدارَ ما قطع، وهي ما يوضحُ العظمَ: أي يظهرُه(5)، (وفيها خطأٌ نصفُ عشرِ الدِّيَة[(6)].
وفي الهاشمة: عشرُها): وهي التي تكسرُ العظم.
(و(7)المنقلةُ: عشرُها صفُ عشرِها](8) ): وهي التي تحوَّلُ العظمَ بعد الكسر.
(والآمةُ[(9)] والجائفةُ ثلثُها): الآمة: التي تصلُ إلى أمُّ الدِّماغ، وهي الجلدةِ التي فيها الدِّماغ، والجائفة: الجراحةُ التي وصلتْ إلى الجوف.
__________
(1) في ب: الوضحة. وهو ظاهر الرواية إذ يجب القصاص فيما دون الموضحة، وهو الأصح كما في ((الدرر))(2: 105)، وما ذكر في ((المتن)) رواية الحسن عن الإمام، وعليه المتون. ينظر: ((الدر المنتقى))(2: 642)،
(2) قوله: بأن يسبر، من سبرت الجرحَ أسبر: إذا نظرت ما غوره، والمسبار: بالكسر ما يقدّر به قدر غورِ الجرح، وهو بالفارسية: فتيله زخم.
(3) من سبرت الجرحَ أسبر: إذا نظرت ما غوره، والمسبار: بالكسر ما يقدّر به قدر غورِ الجرح. ينظر: ((حسن الدراية))(4: 165).
(4) في ص: يقدر.
(5) في ص: لظهره.
(6) قوله: نصف عشر الدية... الخ؛ أخرج عبدُ الرزاق في ((مصنّفه))(9: 307) عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: في الموضحة خمس، وفي الهاشمة عشر، وفي النقلة خمس عشرة، وفي المأمومة ثلث الدية. كذا في ((شرح النقاية)).
(7) في ب زيادة : في.
(8) سقطت من ق.
(9) قوله: والآمة؛ لما روى في كتاب عمرو بن حزم أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((في المأمومة ثلث الدِّيَة، وفي الجائفة ثلث، وفي المنقلة خمس عشرة))[((صحيح ابن حبان))(14: 508)، و((المستدرك))(1: 553)، و((الموطأ))(2: 858)].
(10/301)
________________________________________
(وفي جائفةٍ[(1)] نفذتْ ثلثاها)؛ لأنَّها بمَنْزلةُ الجائفتين.
(والحارصةُ[(2)](3)، والدَّامعة[(4)]، والدَّامية[(5)]، والباضعة[(6)]، والمتلاحمة[(7)] السِمحاقِ[(8)][(9)
__________
(1) قوله: وفي جائفة… الخ؛ لما روى عن أبى بكر - رضي الله عنه - أنّه حكم في جائفة نفذت إلى الجانب الآخر بثلثيْ الدِّيَة؛ ولأنّها إذا نفذت نزلت منْزلة جائفتين، إحداهما من جانب البطن، والأخرى من جانب الظهر، وفي كلِّ جائفةٍ ثلثُ الدِّيَة، فلذا وجب في النافذةِ ثلثا الدية. هكذا في ((الهداية))(4: 183).
(2) قوله: الحارصة؛ بالحاء والراء والصاد الغير المعجمات.
(3) في ب: الحارضة.
(4) الدامعة: بالدال والعين المهملتين.
(5) الدامية: بالدال المهملة والياء المثناة التحتانية.
(6) الباضعة: بالباء الموحدة والضاد المعجمة والعين المهملة.
(7) قوله: والمتلاحمة؛ قال في ((الهداية))(4: 183): وعن محمّد - رضي الله عنه - أنّه جعلَ المتلاحمةَ قبل الباضعة، وقال هي التي يتلاحمُ فيها الدم ويسودّ، وما ذكره الشارح - رضي الله عنه - بقوله: ما يأخذ في اللحم مرويّ عن أبى يوسفَ - رضي الله عنه -، وهذا الاختلافُ اختلافُ عبارة، لا يؤثِّرُ في اختلاف الحكم، فمحمّد - رضي الله عنه - ذهبَ إلى أنّ المتلاحمةَ مشتقّةٌ من التحم الساقان: إذا اتّصل أحدُهما بالآخر، فالمتلاحمةُ ما يُظْهِرُ اللحمَ ولا يقطع، والباضعةُ بعدها؛ لأنّها تقطعه.
(8) السمحاق: بكسر السين والحاء المهملتين، على وزن الحرمان، وقد مر معناها قبل، وفسرّ الشارح - رضي الله عنه - آنفاً.
(9) قوله: والسمحاق؛ إلى هنا بيان الشجاج العشرة، وبعد هذا شجّة أخرى تسمَّى الدامغة بالدال المهملة والغين المعجمة: وهي التي تصلُ إلى الدماغ، وإنّما لم يذكرها؛ لأنّها تقعُ مثلاً في الغالب، لا جنايةً مقتصرةً مفردةً بحكمٍ على حدة، ثمّ هذه الشجاج تختصُّ بالوجه والرأس لغة، وما كان في غير الوجهِ والرأس يسمّى جراحة، والحكمُ مرتَّبٌ على الحقيقة في الصحيح، حتى لو تحقَّقت في غيرهما نحو الساق واليد لا يكون لها أرشٌ مقدَّر، وإنّما تجب حكومةُ العدل؛ لأنّ التقديرَ بالتوصيف، وهو إنّما وردَ فيما اختصّ بهما؛ ولأنّه إنّما وردَ الحكمُ فيها لمعنى الشين الذي يلحقه ببقاء أثر الجراحة، والشين يختصُّ بما يظهر منها في الغالب، وهو العضوان هذان لا سواهما.
أمّا اللحيان فقد قيل: ليسا من الوجه، وهو قولُ مالك - رضي الله عنه - حتى لو وُجِدَ فيهما ما فيه أرش مفسدٌ لا يجب المقدر؛ وهذا لأنّ الوجهَ مشتقٌّ من المواجهة، ولا مواجهةَ للناظر فيهما إلا أنّ عندنا هما من الوجه لاتّصالهما به من غير فاصلة، وقد يتحقَّقُ فيه معنى المواجهة أيضاً. هكذا في ((الهداية))(4: 183).
(10/302)
________________________________________
] حكومةُ عدل(1) ): أي ما يحرصُ[(2)](3) الجلد: أي يخدشُهُ، و](4) يظهرُ الدَّمَ ولا يسيلُهُ(5) كالدَّمعِ من العين(6)، وما يسيلُ الدَّم، وما يبضعُ(7) الجلد: أي يقطعه(8)، وما يأخذُ في اللَّحم[(9)]، وما يصلُ إلى السَّمحاق، أي: جلدةٍ رقيقةٍ بين اللَّحمَ وعظمِ الرَّأس.
__________
(1) في أ و م:: العدل.
(2) قوله: أي ما يحرص… الخ؛ هذا شروعٌ في تفسيرِ ما في المتن من قوله: والحارصة إلى قوله: والسمحاق، ونشر على ترتيب اللف.
(3) في ص: تحرص، وفي ب: يحرض.
(4) سقطت من ص.
(5) في ب و ص: يسيله.
(6) وبعبارة أخرى: الدامعة: هي التي تخرج من الجروح ما يشبه الدمع، يعني تظهر الدمع ولا تسيل بل يجمع في موضع الجراحة كالدمع في العين. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 643).
(7) في ب: تبضع.
(8) في ب: تقطعه، وفي ص: يقطع.
(9) قوله: وما يأخذ في اللحم؛ أي يذهبُ في اللَّحمِ أكثر ممّا يذهبُ الباضعة، هذا ظاهر الرواية، فعلى هذا إطلاقُ المتلاحمة على القاطعة لللحم، إنّما باعتبار ما يؤول إليه أو التفاؤل.
(10/303)
________________________________________
ثمَّ فسَّرَ حكومةَ العدلِ بقوله: (فيقوَّمُ عبداً[(1)] بلا هذا الأثر، ثمَّ معه، فقدرُ التَّفاوتِ بين القيمتينِ من الدِّيَة هو هي)، هو؛ يرجعُ إلى قدرِ التَّفاوت. وهي؛ ترجعُ(2) إلى حكومةِ العدل(3)، فيفرضُ أنَّ هذا الحرَّ عبدٌ، وقيمتُهُ بلا هذا الأثرِ(4) ألفُ درهم، ومع هذا الأثرِ تسعمئةٍ درهم، فالتَّفاوتُ(5) بينهما مئةُ درهم، وهو عشرُ الألف، فيؤخذُ هذا التَّفاوتُ من الدِّيَةِ وهي عشرةُ آلافِ درهم، فعشرُها(6) ألفُ درهم، فهو حكومةُ العدل، (وبهِ يفتى)، احترازٌ عمَّا قال الكَرْخِيُّ - رضي الله عنه -: إنَّهُ ينظرُ[(7)] مقدارُ هذه الشَّجَّةِ من المُوضِحةِ فيجبُ بقدرِ ذلك من نصفِ عشرِ الدَّيَة.
__________
(1) قوله: فيقوم عبداً؛ هذا قولُ الطحاويّ، وبه أخذَ شمسُ الأئمةِ الحلوائي رح، وحاصله أن يقوم مملوكاً بدون هذا الأثر، ويقوم وبه هذا الأثر، ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القيمتين، فإن كان نصفُ عشرِ القيمةِ يجبُ نصفُ عشر الدية، وإن كان ربعُ عشر فربعُ عشرِ الدية. كذا في ((الهداية)).
(2) في أ: يرجع.
(3) في ب: العيدل.
(4) في ب: لأثر.
(5) في ص: والتفاوت.
(6) في ب و ص: فعشره.
(7) قوله: إنّه ينظر… الخ؛ بيان هذا أنّ هذه الشجّة لو كانت باضعة مثلاً، فإنّه ينظر كم مقدار الباضعة من الموضحة، فإن كان مقدارها ثلثُ الموضحة وجبَ ثلثُ أرش الموضحة، وإن كان ربعها يجب ربعُ أرشها، وإن كان ثلاثة أرباعها، يجبُ ثلاثةَ أرباع أرشها؛ لأنّ ما لا نصّ فيه يردُّ إلى المنصوص عليه، قال شيخ الاسلام: هذا هو الأصحّ. كذا في ((الذخيرة)).
(10/304)
________________________________________
(وفي ِّ](1) أصابعِ يدٍ بلا كفٍّ ومعها نصفُ الدِّيَة[(2)]): أي في خمسِ أصابعٍ نصفُ الدِّيَةِ سواءٌ قطعَها مع الكفِّ أو بدونِها، فإنَّ الكفَّ تابعٌ لها، (ومع نصفِ السَّاعدِ[(3)] نصفُ ديَّةٍ وحكومةُ عدل)، فإنَّ الذِّراعَ ليستْ تبعاً، وفي روايةٍ عن أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: إنَّ ما زادَ على(4) أصابعِ اليدِ والرِّجلِ إلى المنكب وإلى الفخذ، فهو تبعٌ؛ لأنَّ الشَّرعَ أوجبَ في اليدِ الواحدةِ نصفُ الدِّيَة، واليدُ اسمُ هذه الجارحةِ إلى المنكب.
__________
(1) سقطت من ج و ص و ق.
(2) قوله: نصف الدية؛ لأنّ في كلّ إصبع عشرُ الدية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((في كل إصبع عشر من الإبل، فإن قطعها مع الكفّ ففيه أيضاً نصفً الدية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((وفي اليدين الدية، وفي إحداهما نصف الدية))؛ ولأنّ الكفّ تبع للأصابع؛ لأنّ البطش بها.
(3) قوله: ومع نصف الساعد… الخ؛ أي إن قطعَ لها مع نصف الساعد، ففي الأصابع والكفّ نصف الدية، وفي الزيادةِ حكومةُ عدل، وهو مختارُ الطرفين، ورواية عن أبي يوسفَ رح، وفي روايةٍ أخرى عنه ما قاله الشارح رح لقوله: إنّ ما زادَ على أصابع اليد… الخ، ولهما أنّ اليد آلة باطشة، والبطشُ يتعلّق بالكفّ والأصابعِ دون الذراع فلم يجعل الذراع تبعاً في حقّ التضمين؛ ولأنّه لا وجهَ إلى أن يكونَ تبعاً للأصابع؛ لأنّ بينهما عضواً كاملاً، ولا وجهَ إلى أن يكونَ تبعاً للكفّ؛ لأنّ الكفَّ تابعٌ للأصابع، ولا تبعَ للتبع؛ لأنّه من حيثُ التبعِ لا يجبُ للكفّ شيء، ومن حيث أنّه أصل الساعد وجب أن يجبَ له شيء فيؤدّي إلى الوجوب وعدمه، ولمّا لم يكن الساعدُ تبعاً لا إلى الأصابع ولا إلى الكفّ وجبَ اعتباره أصلاً؛ إذ لا وجه إلى إهداره، ولم يرد من الشارع، فيه شيء مقدّر فتجبُ فيه حكومة عدل، هكذا في بعض حواشي ((الهداية)).
(4) في ب زيادة: ما.
(10/305)
________________________________________
(وفي كفٍّ فيها أصبعٌ عشرها، وإن كانت أُصبعان فخمسُها، ولا شيءَ في الكفّ)، هذا عندَ أبي حنيفةَ[(1)] - رضي الله عنه -، وقالا: ينظرُ إلى إرشِ الكفِّ[(2)] والأصبعِ فيكون عليه الأكثر، ويدخلُ القليلُ في الكثير، وإن كانتْ ثلاثةُ أصابعٍ يجبُ أرشُ الأصابع، ولا شيءَ في الكفِّ بالإجماع[(3)]؛ لأنَّ للأكثرِ حكمُ الكلّ، فاستتبعتْ الكف.
__________
(1) قوله: هذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ لأنّ الأصابعَ أصل، والكفّ تابعٌ حقيقةً وشرعاً؛ لأنّ البطشَ يقومُ بها، وأوجبَ الشرعُ في إصبعٍ واحدةٍ عشراً من الإبل، والترجيحُ من حيث الذات، والحكمُ أولى من الترجيح من حيث مقدارِ الواجب. كذا في ((الهداية)).
(2) قوله: ينظر إلى أرش الكفّ، وهو حكومة عدل؛ لأنّها إذا قطعت عن المفصل ولم يكن فيها شيء من الأصابع كان فيها حكومة عدل، كما صرّح به في ((البناية)) و((الكافي)). كذا في ((الجلبي)).
(3) قوله: ولا شيء في الكفّ بالإجماع؛ لأنّ الأصابعَ أصولٌ في التقوّم، وللأكثرِ حكمُ الكلّ، فاستتبعت الكفّ، كما إذا كانت الأصابعُ قائمةً بأسرها، فيكون الكفّ تابعة.
(10/306)
________________________________________
(وفي أصبعٍ زائدة، وعينِ صبيّ، وذَكَرِه، ولسانِه، لو لم يعلمْ الصِحّةَ بما دلَّ على نظرِه، وتحرُّكِ ذكرِه، وكلامِهِ حكومةُ عدل[(1)])، هذا عندنا(2)، وعندَ الشَّافعيِّ(3) - رضي الله عنه -: يجبُ دِيَةٌ كاملة؛ لأنَّ الغالبَ الصحّة، أمَّا إن عَلِمَ صحَّةَ هذه الأعضاء، فالواجبُ الدِّيَةُ الكاملةُ اتِّفاقاً.
__________
(1) قوله: حكومة عدل؛ تشريفاً للآدميّ، وهذا عندنا؛ لأنّ المقصودَ من هذا الأعضاء المنفعة، فإذا لم تعلم صحّتها لا يجبُ الأرش الكاملُ بالشك، والظاهرُ لا يصحُّ حجّة للإلزام، بخلاف المارن والأذن الشاخصة؛ لأنّ المقصود هو الجمال، وقد فوّته على الكمال.
(2) لأن المقصودَ من هذه الأعضاء المنفعة، فإذا لم تعلم صحّتها لم يجب الأرض كاملاً؛ لأنه لا يجب بالشكّ، والظاهر لا يصلح حجّة للإلزام بخلاف المارن والأذن الشاخصة من الصبي؛ لأن المقصود منها الجمال، وقد فوّته على الكمال. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 362).
(3) ينظر: ((النكت))(3: 381)، وغيرها.
(10/307)
________________________________________
(ودخلَ أرشُ مُوضِحةٍ أذهبتْ عقلَهُ أو شعرَ رأسِهِ في الدِّيَة[(1)](2)، وإن(3) ذهبَ سمعُه، أو بصرُه، أو نطقُه لا[(4)])، هذا عندنا، وعند زفرَ - رضي الله عنه -: لا يدخلُ في ذهابِ العقلِ والشَّعرِ أيضاً؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ جنايةٌ على حدة، قلنا: الرَّأسُ محلُّ العقلِ والشَّعر، فالجناياتُ كلُّها على الرَّأس، فيدخلُ بعضُ الدِّيَةِ في الكلّ، والرَّأسُ ليس محلاً للسَّمعِ والبصر، فالجنايةُ عليهما لا تستتبعُ(5) المُوضِحة.
__________
(1) قوله: في الدية؛ لأنّ لفوات العقل تبطلُ منفعة جميع الأعضاء، فيدخل الجزء في الكلّ.
(2) يعني إذا شجّ رجلاً موضِحة فذهب عقلُه أو شعرُ رأسه ولم يُنْبِت دخل أرشُ الموضِحة في الدِّيَة؛ لأن فواتَ العقل يبطلُ منفعةَ جميعِ الأعضاء إذ لا ينتفع بدونه، فصار كما إذا أوضحه فمات، وأرشُ الموضِحة يجبُ بفواتِ جزءٍ من الشعرِ حتى لو نبت الشعرُ سقطَ أرشُها، والديةُ وجبت بفوات الشعر، وقد تعلَّقا جميعاً بسبب واحد، وهو فواتُ الشعر، فيدخلُ الجزءُ في الكلِّ كمن قطعَ أصبعَ رجل فشلَّت به يدُه. ينظر: ((درر الحكام))(2: 106).
(3) في ق: فإن.
(4) قوله: لا؛ أي لا يدخل، بل عليه أرش الموضّحة مع الدية؛ لأنّ كلّ واحدٍ جناية فيما دون النفس، والمنفعةُ مختصةٌ به، فأشبه الأعضاء المختلفة، والجناية متى وقعت على الأعضاء المختلفة لا يدخل أرشُ واحدٍ في الآخر.
(5) في ب: تستيع.
(10/308)
________________________________________
(ولا قَوَدَ إن ذهبتْ عيناه، بل الدِّيَةُ فيهما): أي في المُوضِحةِ والعينينِ الدِّيَة، وهذا عندَ أبي حنيفةَ[(1)] - رضي الله عنه -، وقالا: في الموضَّحةِ القصاص، وفي العينَيْن الدِّية، (ولا بقطعِ أصبعٍ شلَّ جارُه)، هذا عند أبي حنيفةَ[(2)
__________
(1) قوله: وهذا عند أبي حنيفة رح؛ ظاهره أنّ مذهب أبي حنيفةَ رح عدم القود عند ذهاب العينين، ووجوب الدية فيه، وفي الشيخ موضحه، وإنّ مذهبَ الصاحبين القصاص في الموضحة، والدية في العينين، والمفهوم من ((الهداية)) أنّ مذهبَ أبي حنيفةَ رح عدم القود فقطن وقول الصاحبين رحك القصاص في الموضحة، أمّا وجوب الدية فيهما فلازم على مذهبِ الإمام رح، وقول المشائخ رح، وكذلك وجوب الدية في العينين لازم على قولهما، وقول المشائخ رح، وعبارة ((الهداية)) هكذا، وفي ((الجامع)): ومن شجّ رجلاً موضحة، فذهبت عيناه فلا قصاصَ في ذلك عند أبي حنيفة رح، قالوا: وينبغي أنَ تجب الدية فيهما، وقالا: في الموضّحة القصاص، قالوا وينبغي ان تجب الديةُ في العينين. انتهى.
(2) قوله: هذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ أي عدمُ القودِ في شيء من هذين الإصبعين مذهبه، لكن على القاطعِ دية الإصبعين عنده، وهي خمسُ الديةِ الكاملة. كذا في ((البيانية)). [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص610)].
له: إنّ الجراحةَ الأولى سارية، والجزاءُ بالمثل، وليس في وسعِهِ السِّراية؛ لأنّ الجراحةَ التي تعملُ قصاصاً، قد تكون سارية، وقد لا تكون سارية، إذ ليس في وسعه فعل ذلك، فلا يكون مثلاً للأولى، ولا قصاص بدون المماثلة فيجب المال.
(10/309)
________________________________________
] (1) - رضي الله عنه -، وعندهما وعند زفر[(2)] - رضي الله عنه -: يقتصُّ من الأوَّل، وفي الثَّاني أَرشُها، (و](3) أصبعٍ قُطِعَ مفصلُهُ الأعلى، وشُلَّ ما بَقِي، بل دِيَةُ المفصل، والحكومةُ فيما بَقِي، ولا بكسرِ[(4)] نصفِ سنٍّ أسودٍ باقيها، بل كلُّ دِيَةِ السِّنِّ.
__________
(1) لأن القصاص غير واجب لعدم المماثلة؛ لأن قطع الثاني على وجه يوجب شل الأخرى غير ممكن. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 646).
(2) قوله: وعندهما وعند زفر - رضي الله عنهم - يقتصُّ من الأوّل وفي الثاني أرشها؛ لأنّ الفعل في محلَّين، فيكون جنايتين مبتداتين، فالشبهةُ في إحداهما لا تتعدّى إلى بالأخرى، كمَن رمى إلى رجلٍ عمداً فأصابته ونفذَ منه إلى آخر فقتله، يجبُ القَوَد في الأوّل.
الجواب عن جانب الإمام: إنّ الفعلَ فيما نحن فيه واحدٌ حقيقة، وهو الحركةُ القائمة، وكذا المحلُّ متَّحدٌ من وجه؛ لاتِّصال أحدِهما بالآخر، فأورثت نهايتُهُ شبهةُ الخطأ، وفي البداية بخلاف النفسين، فإنّ السِّرايةَ إنّما تكون تبعاً، وهو إنّما يتحقّق في شخصٍ واحد، فالفعلُ في النفس الثانية مباشرة على حدة، ليس بسرايةِ الجناية الأولى، إذ لا يتصوّر السِّرايةُ من نفسٍ إلى نفس، فلا بُدَّ أن يجعل ذلك في حكمِ فعلٍ على حدة، وهو خطأ. كذا في بعض حواشي ((الهداية)).
(3) زيادة من أ و ب و م.
(4) قوله: ولا بكسر... الخ؛ أي لا قودَ بكسر... الخ؛ قال في ((التكملة)): وهذا كلّه قول أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقالا: يجب القصاص والدية أو الأرش، والأصلُ عنده أنّ الفعلَ الواحد إذا أوجبَ مالاً في البعضِ سقطَ القصاص، سواءً كانا عضوين أو عضواً واحداً لا يجب لهما.
(10/310)
________________________________________
ويجبُ الأَرشُ على مَن أقادَ سنَّهُ ثمَّ نبتتَ): أي نبت(1) سنُّ مَن أقادَ(2) فعُلِمَ أنَّه أقادَ بغيرِ حقّ، وكانَ واجباً أن يستأنيَ حولاً، ثمَّ يقتصّ، ولمَّا كانَ بغيرِ حقٍّ ينبغي أن يجبَ القصاص، لكن سقطَ للشُّبهةِ فيجبُ الأرش، (أو قلعَها فردَّتْ إلى مكانها، ونبت(3) عليه اللَّحم): أي(4) يجبُ الأرشُ على مَن قلعَ[(5)] سنَّ غيرِهِ فردَّ صاحبُ السِّنِّ سنَّهُ إلى مكانها، فنبتَ عليها اللَّحم، وإنَّما يجبُ الأرش؛ لأنَّ نباتَ اللَّحمَ لا اعتبارَ له؛ لأنَّ العروقَ لا تعود.
(لا إن قُلِعَت(6) فنبتت أخرى)، فإنَّه لا يجبُ الأرشُ على القالعِ عندَ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -؛ لأنَّ الجنايةَ انعدمتْ معنىً، كما إذا قلعَ سنَّ صبيٍّ فنبتتْ أخرى لا يجبُ الأرشُ بالإجماع، وعندهما: يجبُ الأرش؛ لأنَّ الجنايةَ قد تحقَّقت، والحادثةُ نعمةٌ مبتدأةٌ من الله تعالى.
__________
(1) في أ و ج و م: أنبتت.
(2) في ب و ص:أفاد.
(3) في أ و ج: فنبت.
(4) في ب: و.
(5) قوله: يجب الأرش على مَن قلع... الخ؛ في ((الكفاية)): قال شيخ الإسلام - رضي الله عنه -: هذا إذا لم يعد إلى حالها الأولى بعد النبات في المنفعة والجمال، والغالبُ أن لا يعود إلى تلك الحالة؛ لأنَّ المقلوعَ لا يزلقَ بالعصب والعروق في الغالب، فيكون وجودُ هذا النبات والعدمُ بمنْزلةٍ واحدة، وأمّا لو تصوُّر عود الجمال والمنفعةِ بالإنبات لم يكن على القالع شيء، كما لو نبت السنّ المقلوعة كما في ((الذخيرة)).
(6) في ب: لأن أقلعت.
(10/311)
________________________________________
(أو التحمتْ شجَّة أو جُرِحَ بضربٍ ولم يبقَ أثرُه(1) )، فإنَّهُ يسقطُ الأرشُ عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - لزوالِ الشَّينِ الموجب، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: يه](2) أرشُ الألم، وهو حكومةُ العدل[(3)]، قيل: ينظرُ إنَّ الإنسانَ بكم يجرح(4) نفسه مثلَ هذه الجراحة، فإنَّ بعضَ النَّاسِ يخرجُ نفسَه ويأخذُ على ذلك شيئاً، وعند محمَّدٍ - رضي الله عنه -: تجبُ أجرةُ الطَّبيبِ وثمنُ الدَّواء[(5)].
(ولا يقادُ جرحٌ إلاَّ بعد برء[(6)
__________
(1) العبارة في ق: أو التحمت شجة ولم يبق أثر أو جرح بضرب فبرأ بلا أثر.
(2) سقطت من ب.
(3) قوله: وهو حكومة العدل؛ لأنّ الشين إن زالَ فالألم الحاصلُ ما زال، فيجب تقويمُ الفائت بالألم، وهو الصحّة وهو ما زال؛ لأنّ زوالَ الفائت بحصولِ البدل، ولم يحصل، لكن حصل صحّة أخرى في زمانٍ آخر، غير قائمةٍ مقامَ الفائت. كذا في بعض حواشي ((الهداية)).
(4) في أ: يخرج.
(5) قوله: تجب أجرةُ الطبيب، وثمن الدواء؛ لأنّه إنّما لَزِمَه أجرةُ الطبيبِ وثمنُ الدواء بفعله، فصار كأنّ الشاجَّ أخذَ ذلك من ماله، والجواب عن قول أبي يوسف - رضي الله عنه - ومحمّد - رضي الله عنه - أنّ المنافعَ على أصلِنا لا تتقوَّمُ إلاَّ بعقدٍ وبشبهة، ولم يوجد في حقِّ الجاني، فلا يغرم شيئاً. كذا في ((الهداية))(4: 187).
(6) قوله: إلا بعد برء؛ لما روى أنّه عليه - صلى الله عليه وسلم - ((نهى أن يقتصّ من جرح حتى يبرأَ صاحبه))، رواه أحمد والدَّارَقُطْنِيّ؛ ولأنّ الجراحاتَ يعتبرُ فيها مالها؛ لاحتمالِ أن تسري إلى النفس فيظهر أنّه قتل، فلا يعلم أنّه جرح إلا بالبرء، فيستقر به. هكذا في ((ردِّ المحتار))(6: 586) نقلاً عن الزَّيْلَعِيّ [في ((التبيين))(6: 138)].
وله: خطأ لما روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنّه جعل عقل المجنون على عاقله، وقال: عمده وخطؤه سواء؛ ولأنّ الصبيَّ مظنَّة الرحمة، والعاقلُ الخاطئ لَمَّا استحقَّ التخفيف، والصبيّ وهو أعذر أولى بهذا التخفيف، والكفارةُ تكون بالإثم، ولا إثمَ لهما؛ لأنّهما مرفوعا القلم، وحرما الميراث عقوبة، وهما ليس من أهل العقوبة. كذا في ((الهداية))(4: 188-189).
(10/312)
________________________________________
])، هذا عندنا، وعند الشَّافِعِيِّ(1) - رضي الله عنه -: يقتصُّ في الحالِ كما في القصاصِ في النَّفس.
(وعمدُ الصَّبيِّ والمجنونِ خطأٌ، وعلى عاقلتِهِ الدِّيَة، ولا كفارةَ فيه، ولا حرمان إرث.
[فصل في الجنين]
ومَن ضربَ بطنَ امرأةٍ فألقتْ جنيناً تَجِبُ غرَّةٌ[(2)
__________
(1) ينظر: ((الأم))(6: 121)، و((روض الطالب)) وشرحه ((أسنى المطالب))(4: 87)، وغيرها.
(2) قوله: غُرة؛ بضم الغين المعجمة وفتح الراء المهملة المشدّدة: عبارةٌ عن خمسمئة، هاهنا، وإنّما سمّى الغرّة غرّة؛ لأنّها أقلّ المقادير في الديّات، وأقلُّ الشيء أوَّله في الوجود، ويسمَّى غرّةً بمعنى الأولويّة؛ لهذا يُسَمَّى أوّل الشهر غرّة، ويسمّى وجه الإنسان غرّة؛ لأنّه أوّل شيءٍ يظهرُ منه، والقياس أن لا يجب شيء؛ لأنه لم يتيقَّن بحياته.
إن قيل: الظاهرُ أن يكون حيّاً.
قلنا: الظاهرُ لا يصلحُ حجّاً للاستحقاق، ووجه الاستحسان ما روى في ((الصحيحين))[البخاري(6: 2478)، ومسلم(3: 1309)] عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - إنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ((قضى في جنين امرأةٍ من بني لحيان لغرّة عبدٍ أو أمته))، وروى ابنُ أبي شيبة في ((مصنِّفه))(5: 393): عن إسماعيل بن عيّاش، عن زيد بن أسلم: إنّ عمر بن خطاب - رضي الله عنه - ((قوَّمَ الغُرَّةَ خمسينَ ديناراً، وكلُّ دينارٍ بعشرة دراهم))، وأخرجَ البَزَّارُ في ((مسنده)): عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: ((إنّ امرأةً حذفت امرأة فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ولدها بخمسمئة، ونهى عن الحذف))، وأخرج أبو داودَ في ((سننه))(4: 193): عن إبراهيم النخعيّ - رضي الله عنه - قال: الغُرّةُ خمسمئة: يعني درهماً، فتركنا القياس بالأثر، وهو حجّةٌ على مالكٍ - رضي الله عنه - والشافعي - رضي الله عنه - حيث قدَّراها بستِّمئة. هكذا في بعض حواشي ((الهداية)).
(10/313)
________________________________________
]](1) خمسمئةٌ درهمٍ على عاقلتِهِ[(2)] إن ألقتْ ميتاً، ودِيَةٌ إن قت](3) حيَّاً فمات): أي تجبُ الدِّيةُ الكاملةُ إن ألقتْ حيَّاً فمات؛ لأنَّ موتَه بسببِ الضَّرب، واعلمْ أنَّ الغُرَّةَ عندنا تجبُ في سنة، فإنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ الغُرَّةَ على العاقلةِ في سنة(4)، وأيضاً هي بدلُ العضوِ من وجه، وما كانَ بدلَ العضوِ يجبُ في سنةٍ إن كانَ ثلثَ الدِّيَة، أو(5) أقلّ إلى نصفِ العشر، وعند الشَّافعيِّ(6) - رضي الله عنه -: تجبُ الغُرَّةُ في ثلاثِ سنينِ[(7)] كالدِّيَة.
__________
(1) سقطت من ج.
(2) قوله: على عاقلته؛ احترازٌ عن قول مالك - رضي الله عنه - حيث قال: في ماله؛ لأنّه بدل الجزء فصار كقطعِ إصبع من أصابعه، ولنا: ما رواه أبو داود في ((سننه))(4: 193) عن المغيرة بن شعبة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ((قضى بالغرّة على العاقلة))[ولكنه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، والله أعلم]؛ ولأنّه بدلُ النفس؛ ولهذا سمّاه - صلى الله عليه وسلم - دِيَة، حيث قال: ((دوه))، وقالوا: أندى مَن لا صاحَ ولا استهلّ... الحديث، إلاَّ أن العواقلَ لا تعقل ما دون خمسمئة. كذا في ((الهداية))(4: 189).
(3) زيادة من ج.
(4) قال الزيلعي في ((نصب الراية))(4: 383)، وابن حجر في ((الدراية))(2: 282): غريب.
(5) في ب: و.
(6) ينظر: ((الأم))(6: 121)، وغيرها.
(7) قوله: في ثلاث سنين؛ لأنّه بدل النفس؛ ولهذا تكون موروثاً بين ورثته لا بين ورثة المرأة، ولنا: الحديث الذي ذكره الشارح - رضي الله عنه -؛ ولأنّه إن كان بدلَ النفس من حيث أنّه نفس على حدة، فهو بدلُ العضو من حيث الاتّصال بالأمّ، فعلمنا بالشبه الأوّل في حقّ التوريث، وبالشبه الثاني في حقّ التأجيل إلى سنة، بخلاف إجزاء الدِّيَة؛ لأنّ كلَّ جزءٍ منها على مَن وجبَ يجب في ثلاث سنين. هكذا في ((الهداية))(4: 189).
(10/314)
________________________________________
(وغُرَّةٌ ودِيَةٌ[(1)] إن ن](2) ميتاً فماتتْ الأم(3)، ودِيَةُ الأمِّ فقط إن ماتتْ فألقتْ ميتاً)؛ لأنَّهُ لا يمكنُ أن يكونَ موتُهُ بسببِ اختناقِهِ بعد موتها(4)، وعند الشَّافِعِيّ[(5)](6) - رضي الله عنه -: يجبُ الغُرَّةُ أيضاً.
__________
(1) قوله: وغرّة ودية... الخ؛ أي تجب غرّة بإلقائها، ودية بقتلِ الأمّ، قال علي القاري: روى الطبرانيّ في ((معجمه)): إنّه - صلى الله عليه وسلم - قضى في هذه الصورة بالدية والغرة.
(2) سقطت من ق.
(3) أي إن ألقت ميتاً سواء كان الجنين ذكراً أو انثى وماتت الأم فغرّة للجنين، ودية للأم؛ لأنه جنى جنايتين فيجب عليه موجبهما. ينظر: ((مجمع النهر))(2: 649).
(4) لأن موت الأم أحد سببي موته؛ لأنه يختنق بموتها إذ تنفسه بتنفسها فلا يجب الضمان بالشكّ. ينظر: ((الهداية))(4: 190).
(5) قوله: وعند الشافعيّ - رضي الله عنه - يجبُ الغرّة أيضاً في الجنين؛ لأنَّ الظاهرَ موتُه بالضرب، فصار كما إذا ألقته ميتاً وهي حيّة، ولنا: إنّ موتَ الأمِّ أحدُ سببيّ موته، لأنه يختنق بموتها، إذ تنفُّسُه بتنفُّسِها، فلا يجب الضمان بالشكّ.
إن قيل: إن الشكَّ ثابتٌ فيما إذا ألقت جنيناً ميّتاً وهي حيّة.
قلنا: إنّ الغرّةَ في تلك الصورة تثبتُ بالنصِّ على خلاف القياس كما ذكرنا، فيبقى على أصلِ القياس، وهو عدمُ وجوب الضمان.
(6) ينظر: ((الغرر البهية))(5: 23)، وغيره.
(10/315)
________________________________________
(وديَّتان[(1)](2) إن ماتتْ فألقتْ حيَّاً فمات، وما يجبُ في الجنينِ[(3)] لورثتِهِ سوى ضاربِه): أي إن كان الضَّاربُ وارثاً للجنينِ لا يكونُ له شيءٌ ممَّا وجب، إذ لا ميراثَ للقاتل.
(وفي جنينِ الأمَةِ[(4)] نصفُ عشرِ قيمتِهِ[(5)
__________
(1) قوله: وديتان... الخ؛ أي دِيَةُ في الأمّ ودِيَةٌ في الجنين؛ لأنّه قتل شخصين.
(2) في ب: والديتان. أي دية الأم ودية الجنين؛ لأن قتلهما فصار كما إذا ألقته حياً وماتا. ينظر: ((درر الحكام))(2: 108).
(3) قوله: وما يجب في الجنين... الخ؛ لأنّه بدلُ نفسه، فيرثه ورثته، ولا يرثه الضارب، حتى لو ضربَ بطن امرأته فألقت ابنه ميتاً فعلى عاقلةِ الأب غرّة، ولا يرثُ منها؛ لأنّه قاتلٌ بغير حقِّ مباشرة، ولا ميراثَ للقاتل. كذا في ((الهداية))(4: 190).
(4) قوله: وفي جنين الأمة؛ قال في ((الكفاية))(8: 237): أي الذي لا تحمله من مولاها، ولا مَن المغرور؛ لأنّ الحملَ من أحدهما حرّ، فتجبُ الغرّة ذكراً كان أو أنثى.
(5) قوله: نصف عشر قيمته؛ بيانُ هذا أنّه يقوَّمُ الجنينُ بعد انفصالهِ ميتاً على لونه وهيأته لو كان حيّاً، فينظر كم قيمتُه بهذا المكان، فإذا أظهرَ قيمةَ الكلِّ بعد هذا، إن كان ذكراً فوجبَ نصفُ عشرِ قيمته، وإن كان أنثى يجبُ عشرُ قيمتُه، ولو ضاعَ الجنينُ ولم يكن تقويمُهُ باعتبارِ لونه وهيأته على تقديرِ أنّه حيٌّ وقعَ التنازعُ [في قيمته] بين الضارب وبين مولى الأمةِ المضروبة، كان القولُ قولَ الضاربِ لإنكارهِ الزيادة.
إن قيل: رُبَّما لا يمكن الوقوف على ذكورةِ الجنينِ وأنوثته فماذا يجب؟
قلنا: نأخذُ بالمتيقِّن، كمَن قتلَ عبداً خطأ، والمقتولُ خنثى مشكل، فإنّه يجب التيقُّن، كذا هاهنا. كذا في ((الكفاية))(8: 237).
(10/316)
________________________________________
] في الذَّكَر، وعشرِ قيمتِهِ في الأنثى)، اعلمْ أنَّ الجنينَ إذا كانَ حُرَّاً يجبُ فيه خمسمئةِ درهمٍ سواءٌ كان ذكراً أو أُنثى، إذ لا تفاوتَ في الجنينِ بينَ الذَّكرِ والأُنثى، وهي نصفُ عشرٍ من ديَّةِ الذَّكر(1)، وعشرٌ من ديَّةِ الأُنثى[(2)]، فإذا كان رقيقاً يجبُ أن تكونَ نصفَ عشرِ قيمتِهِ على تقديرِ ذكورتِه، وعشرِ قيمتِهِ على تقديرِ أنوثتِه؛ لأنَّ دِيَةَ الرَّقيقِ قيمتُهُ فيما(3) يقدَّرُ من دِيَةِ الحرِّ يقدَّرُ من قيمةِ الرَّقيق.
فإن قلت: يلزمُ أن يكونَ الواجبُ في الأُنثى أكثرُ من الواجبِ في الذَّكر.
__________
(1) في ب:ذكر.
(2) قوله: وعشر في دِيَة الأنثى... الخ؛ وكلٌّ منهما خمسمئة درهم؛ لأنّ نصفَ العشر من عشرة آلاف هو العشرُ من خمسة آلاف. كذا في ((العناية))(10: 300).
(3) في أ و ص و م: فما.
(10/317)
________________________________________
قلت: لا يلزم؛ لأنَّ في العادةِ قيمةُ الغلامِ زائدةٌ على قيمتِهِ الجاريةِ بكثير، حتى إن قوِّمَت جاريةً بألفِ درهمٍ يقوَّمُ الغلامُ الذي مثلُها في الحسنِ بألفي درهم، فنصفُ قيمةِ الجنينِ إن كانَ ذكراً لا يكونَ أقلَّ من قيمتِهِ إن كان أُنثى، وعند أبي يوسفَ[(1)] - رضي الله عنه -: يجبُ النُّقصانُ لو انتقصتْ الأمُّ بإلقائها، كما في البهائم[(2)]، فإنَّ الضَّمانَ في قتلِ الرَّقيقِ ضمانُ مالٍ عنده، وعندَ الشَّافعيِّ(3) - رضي الله عنه -: يجبُ عشرُ قميةِ الأمّ[(4)].
__________
(1) 333333قوله: وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - يجب النقصان، وعنه في رواية: إنّه لا يجب إلاَّ ضمان نقصان الأمِّ إن تمكَّن فيه نقص، فإن لم يتمكَّن لا يجبُ شيء، كما في جنين البهيمة؛ لأنّ الضمانَ في قبل الرقيق عنده ضمانُ مالٍ حتى يجبَ قيمتُه بالغة ما بلغت. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص610).
(2) قوله: كما في البهائم؛ أي يجب في جنين البهيمة ما نقصت الأمّ إن نقصت، وإن لم تنقص الأمّ لا يجب فيه شيء. كذا في ((السراجيّة)).
(3) ينظر: ((أسنى المطالب))(2: 173)، و((فتوحات الوهاب))(5: 101)، غيرهما.
(4) قوله: يجب عشر قيمة الأمّ؛ لأنّه جزءٌ من وجهِ ضمان الأجزاء، يؤخذُ مقدارها من الأصل، ولناك إنّه بدلُ نفسه؛ لأنّ ضمانَ الطرف لا يجب إلا عند ظهور النقصان من الأصل، ولا معتبرَ بظهور النقصان في ضمانِ الجنين، بدليل أنّه يجب ضمان الجنين وإن لم يظهر في الأمّ نقصان، فكان بدل نفسه، فيقدَّر لقيمته نفس الجنين لا لقيمة الأمّ. كذا في ((الهداية))(4: 190)، وحواشيه.
(10/318)
________________________________________
(فإن ضُرِبَتْ فأعتقَ سيِّدُها(1) حملَها فألقتْهُ(2) فماتَ يجبُ قيمتُهُ حيَّاً لا ديته)؛ لأنَّ قتلَهُ بالضَّربِ السَّابق، وقد كانَ في حالةِ الرِّق[(3)](4).
(ولا كفارةَ في الجنين)، هذا عندنا، وعندَ الشَّافعيِّ(5) - رضي الله عنه -: تجب[(6)](7).
(وما استبانَ بعضُ خلَقِهِ كالتَّام فيما ذُكِر[(8)](9).
__________
(1) في ج و ص و ق: سيده.
(2) في ق: فألقت.
(3) قوله: وقد كان في حالة الرقّ؛ فلهذا تجبُ القيمةُ حيّاً دون الدِّيَة؛ لأنّه صار قاتلاً إيّاه وهو حيّ، فنظرنا إلى حالتي السبب والتلف، وقيل: هذا عندهما، وعند محمّد - رضي الله عنه - تجب قيمةُ ما بين كونِهِ مضروباً إلى كونه غير مضروب؛ لأنَّ الإعتاقَ قاطعٌ للسراية. كذا في ((الهداية))(4: 190).
(4) فلهذا تجب القيمة دون الدية وتجب قيمته حيّاً؛ لأنه بالضرب صار قاتلاً إيّاه وهو حي. ينظر: ((الهداية))(4: 190).
(5) ينظر: ((التنبيه))(ص141)، وغيره.
(6) قوله: تجب؛ لأنّه نفسٌ من وجه، فتجب الكفارة احتياطاً، ولنا: إنّ الكفارةَ فيها معنى العقوبة؛ لأنّها شرعت زاجرة، والزجرُ إنّما يكون بشيءٍ فيه عقوبة، حتى أنّها تتأدّى بالمال، والمالُ شقيق الروح، فكان إزالةُ المال منه بمنْزلةِ الروح، وقد عرفت في النفوس المطلقة فلا تتعدّاها؛ ولهذا لم يجبُ كلّ البدل، بل تجب الغرّة، وقال الفقهاء - رضي الله عنه - إلا أن يشاء الضارب ذلك الكفارة؛ لأنّه ارتكبَ مخطوراً، فإذا تقرّب بالكفّارة إلى الله تعالى كان أفضل له، ويستغفر ممّا فعل.
(7) في ب: يجب.
(8) قوله: كالتامّ فيما ذكر؛ لإطلاق ما رويناه قبيل هذا؛ ولأنّه ولد في حقِّ أموميّته وانقضاءِ العدّة والنفاس وغير ذلك، فكذا في حقّ وجوبِ الغرّة؛ ولأنَّ بهذا القدر يتميَّزُ من العلقة والدم، فكان نفساً. كذا في ((الهداية))(4: 190).
(9) أي الجنين الذي استبان بعض خلقه كالجنين التام في جمع ما ذكر من الأحكام. ينظر ((مجمع الأنهر))(2: 650).
(10/319)
________________________________________
وضَمِنَ الغُرَّةَ عاقلةُ امرأةٍ[(1)] أسقطتْ ميتاً عمداً بدواءٍ أو فعلٍ(2) بلا إذن زوجِها فإن أذنَ لا)، اعلمْ أنَّها تجبُ على عاقلةِ المرأةِ في سنةٍ واحدة، وإن لم تكنْ لها عاقلةٌ تجبُ في مالِهَا في سنةٍ أيضاً.
باب ما يحدث في الطريق[(3)]
__________
(1) قوله: وضَمِنَ الغُرَّة عاقلةُ امرأة... الخ؛ أي إن شربتَ المرأةُ دواءً لتطرحه، أو عالجت فرجها حتى أسقطته ضمنَ عاقلتُها إن فعلت بلا إذن زوجها، فإن أذن لا يضمن؛ لأنّها ألقته متعدّية، فيجب عليها ضمانه، وتتحمّل عنها العاقلة، لما تقرّر في مقرّه، ولا ترثُ هي من الغرّة شيئاً؛ لأنّها قاتلةٌ بغير حقّ، والقاتلُ كذلك لا يرث، بخلاف ما إذا فعلت ذلك بإذنِ الزوج، حيث لا تجبُ الغرّة؛ لعدم التعدّي. كذا في ((تكملة البحر))(8: 391).
(2) في ق: بفعل.
(3) قوله: باب ما يحدث في الطريق؛ لَمَّا فرغَ من بيان أحكامِ القتلِ مباشرة، شرعَ في بيان أحكامه تسبّباً، وقدّم الأوّل لكونه أصلاً؛ لأنّه قتلَ بلا واسطة، ولكونه أكثرُ وقوعاً، فكان أمسّ حاجةً إلى معرفةِ أحكامه.
(10/320)
________________________________________
(مَن أحدثَ في طريقِ العامَّة كنيفاً أو ميزاباً أو جُرْصُناً[(1)](2) أو دُكَّاناً وَسِعَه ذلك إن لم يضرَّ بالنَّاس)، الكنيف: المستراح، والميزاب: مجرى الماء، والجُرْصُن: البرج، وقيل: مجرى ماءٍ يركبُ في الحائط، وعن البَزْدَويِّ - رضي الله عنه -: جذعٌ يخرجُ من الحائطِ ليبنى عليه، (ولكلٍّ نقضُه[(3)]): أي في صورةِ لم يضرّ، فالحاصلُ أنَّهُ إن أضرَّ بالنَّاسِ لا يجوزُ له أن يفعل، وإن لم يُضِرَّ بهم يجوز، لكن مع ذلك يكونُ لكلِّ واحدٍ نقضُه؛ لأنَّهُ تصرُّفٌ في الحقِّ المشترك، فلكلٍّ نقضُهُ كما في الملكِ المشتركِ مع أنَّهُ لم يضرّ، (وفي غيرِ نافذٍ[(4)
__________
(1) قوله: جُرصنا؛ بضم الجيم، وسكون الراء، وضم الصاد المهملة، هو ليس بعربيّ أصلي، فقد اختلف فيه، فقيل: البرج، وقيل: مجرى ماء يركب في الحائط، وعن الإمام البَزْدَوِيّ: جذعٌ يخرجُهُ الإنسانُ من الحائط ليبنى عليه. كذا في ((المغرب))(ص80)، وقيل: هو الممرّ على العلو، وهو مثل الرفّ، وقيل: هو الخشبةُ الموضوعةُ على جداري السطحين، ليتمكَّن من المرور، وقيل: هو الذي يعملُ قدّام الطاقة لتوضع عليه كيزان ونحوها. كذا في ((رد المحتار))(6: 592).
(2) جُرْصُناً: ليس بعربيّ أصليّ، واختلف فيه، فذكروا ما ذكر الشارح - رضي الله عنه -، وقيل: هو الممرّ على العلو، وهو مثل الرفّ، وقيل: هو الخشبةُ الموضوعةُ على جداري السطحين، ليتمكَّن من المرور، وقيل: هو الذي يعملُ قدّام الطاقة لتوضع عليه كيزان ونحوها. ينظر: ((المغرب))(ص80). ((رد المحتار))(6: 592).
(3) قوله: ولكلّ نقضه؛ قال إسماعيل الصفّار: إنّما ينتقضُ بخصومتهِ إذا لم يكن له مثل ذلك، فإن كان له مثله لا يلتفت إلى خصومته؛ لأنّه لو أراد به إزالةُ الضرَّر عن الناس بدأ بنفسه، وحيث لم يزل ما في قدرته عُلِمَ أنّه مُتَعَنِّتٌ. كذا في ((التبيين))(6: 142).
(4) قوله: وفي غير نافذ... الخ؛ أي من أحدثَ شيئاً من هذه المذكورات في طريق طائفة مخصوصةٍ لا يجوز له ذلك؛ لأنّها مملوكة لأهلها فلا يجوز التصرّف فيها إلا باذن الكلّ.
(10/321)
________________________________________
] لا يسعُهُ بلا إذنِ الشُّركاء، وإن لم يضرّ.
وضَمِنَ عاقلتُهُ دِيَةُ مَن ماتَ[(1)] بسقوطِها، كما لو(2) وضعَ حجراً، أو حفرَ بئراً في الطَّريق، فتَلِفَ به نفس، فإن تَلِفَ به بهيمةٌ ضَمِنَ هو[(3)] إن لم يأذنْ به الإمام)، فإنَّ الضَّمانَ في جميعِ ما ذُكِرَ بإحداثِ شيءٍ في طريقِ العامَّة إنَّما يكون إذا لم يأذنْ به الإمام، (فإن أَذِنَ[(4)] أو ماتَ واقعٌ في بئرِ طريقٍ جوعاً، أو غمَّاً فلا[(5)])، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وعند أبي يوسف - رضي الله عنه -: إن ماتَ غَمَّاً يجبُ
__________
(1) قوله: وضمن عاقلته دِيَة مَن مات... الخ؛ أي إذا أحدث شيئاً من هذه المذكورات فسقط على إنسانٍ فهلكَ فضمنَ الدِّيَةُ على العاقلة؛ لأنّه مسببٌ لتلفه، متعدّ بشغله هواء الطريق، وهذا من أسباب الضمان، وهو الأصل في هذا الباب. كذا في ((الهداية))(4: 191).
(2) في أ زيادة: يضمن.
(3) قوله: ضمن هو؛ أي الواضع أو الحافر؛ لأنّه متعدٍّ، فيضمن، يتولّد من تعدّيه، غير أنّ العاقلةَ تتحمّل النفسَ دون المال، فكان ضمانُ البهيمةِ في ماله، وإلقاءُ التراب واتّحاد الطين في الطريق بمنْزلة إلقاء الحجر والخشبة لما ذكرنا من أنّه متعدٍّ فيه. كذا في ((الهداية))(4: 193).
(4) قوله: فإن أذن… الخ؛ أي فإن أذنَ الإمامُ فلا يضمن؛ لأنّه غيرُ متعدٍّ، حيث فعلَ ما فعل بأمرِ مَن له الولايةُ في حقوقِ العامّة.
(5) قوله: فلا؛ أي فلا يضمن، قال في ((الهداية))(4: 193): لا ضمانَ على الحافرِ عند أبى حنيفةَ - رضي الله عنه -؛ لأنّه ماتَ لمعنى في نفسه، والضمانُ إنّما يجبُ إذا مات من الوقوع، وقال أبو يوسفَ - رضي الله عنه -: إن ماتَ جوعاً فكذلك، وإن مات غمّاً فالحافرُ ضامن له؛ لأنّه لا سببَ للغمّ سوى الوقوع، أمّا الجوعُ لا يختصّ بالبئر، وقال محمّد - رضي الله عنه -: هو ضامنٌ في الوجوه كلّها؛ لأنّه إنّما حدثَ بسببِ الوقوع إذ لولاه لكانَ الطعامُ قريباً منه.
(10/322)
________________________________________
الضَّمان؛ لأنَّ الغمَّ بسبب الوقوع، المرادُ بالغمِّ هاهنا: الاختناقُ من هواءِ البئر.
(ومَن نحَّى[(1)](2) حجراً وضعَهُ آخر، فعطبَ به رجلُ ضَمِن(3) )؛ لأنَّ فعلَ الأوَّلِ انفسخَ(4) بفعلِ الثَّاني، فالضَّمانُ على الثَّاني، (كمَن حملَ شيئاً في الطَّريقِ فسقطَ منه على آخر[(5)]، أو دخلَ بحصير[(6)
__________
(1) قوله: ومَن نحى... الخ؛ نحى بالنون والحاء المهملة المشدّدة؛ أي أبعد عن الطريق الحجر الذي وضعه غيره. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص610)].
(2) أي أبعد عن الطريق الحجر الذي وضعه غيره. ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص610).
(3) في ب زيادة: أو.
(4) في أ و ص : انتسخ.
(5) قوله: كمَن حملَ شيئاً في الطريق فسقطَ منه على آخر؛ أي على شخصٍ آخر، ضَمِنَ الحامل سواء تلفَ بالوقوعِ أو بالعشرةِ به بعد الوقوع؛ لأنّ حملَ المتاع في الطريق على رأسه أو ظهره مباحٌ له، لكنّه مقيّد بشرطِ السلامةِ بمنْزلة الرمي إلى الهدف والصيد.
(6) قوله: أو دخلَ بحصير... الخ؛ أي يضمن بهذه الأفعال إن كانت في مسجدِ غيره، وإن كانت في مسجدِ حيّه لا يضمن، قالوا: هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقالا: لا يضمن في الوجهين؛ لأنّ هذه الأفعال من القرب، وكلّ أحدٍ مأذونٌ في إقامتها، فلا يتقيَّدُ لشرط السلامة، كما إذا فعلَه مَن هو غير حيّه بإذن واحدٍ من أهل المسجد.
لأبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وهو الفرقُ: إنّ التدبيرَ فيما يتعلَّقُ بالمسجد لأهله دون غيره؛ كنصب الإمام، واختيار المتولّى، وفتح بابه وإغلاقه، فكان فعلُهم مباحاً مطلقاً غير مقيّد بشرطِ السلامة، وفعل غيرهم تعدِّياً أو مباحاً مقيّداً به، وقصدُ القربة لا ينافي الغرامة إذا أخطأ الطريق، ألا ترى إذا تفرَّدَ بالشهادةِ على الزنا، فإنّ شهادته من حيث أنّها شهادةٌ في حقوقِ الله تعالى قربة، ولكن بنقصان عدد شهادة الزنا انقلبت قذفاً، فيجب حدّ القذف على الشاهد، والطريقُ فيما نحن الاستئذان من أهله، وعبارات المتون تدلّ على أنّ الفتوى على قول الإمام - رضي الله عنه -، وفي ((تكملة البحر))(8: 401) و((شرح الزَّيْلَعِي))(6: 146): قال الحَلْوَانِيّ - رضي الله عنه -: أكثر المشايخ - رضي الله عنه - أخذوا بقولهما، وعليه الفتوى، والله أعلم.
(10/323)
________________________________________
]، أو قنديل، أو حصاةٍ في مسجدِ غيرِه، أو جلسَ فيه[(1)](2) غيرُ مصلّ، فعطبَ بهِ أحد)، نحوَ إن سقطَ الحصيرُ أو القنديلُ على أحد، أو سقطَ الظَّرفُ الذي فيه الحصاة[(3)]ِ على أحد، أو كان جالساً غيرَ مصلِّ فسقطَ عليه أعمى[(4)] ضَمِن.
__________
(1) قوله: أو جلسَ فيه... الخ؛ الحاصل أنّ الجالسَ في المسجد عثر به رجل فعطبَ فإن كان الجالسُ في الصلاة لم يضمن، وإلا فيضمن، سواء كان جالساً في مسجد حيّه أو غيره، وهذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -، وأمّا عندهما لا يضمن مطلقاً، سواء كان في الصلاة أو لا.
(2) الحاصل أنّ الجالسَ في المسجد عثر به رجل فعطبَ فإن كان الجالسُ في الصلاة لم يضمن، وإلا فيضمن، سواء كان جالساً في مسجد حيّه أو غيره، وهذا عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -، وأمّا عندهما لا يضمن مطلقاً، سواءً كان في الصلاة أو لا. ينظر: ((حسن الدراية))(4: 173).
(3) قوله: فيه الحصاة؛ وهي ما لا يقبل إن يرمى به لغايةِ صغره، وهي بالفارسية: سنكر يزه. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص610)].
(4) قوله: فسقط عليه أعمى؛ فهلك ذلك الأعمى الساقط.
(10/324)
________________________________________
(لا مَن سقطَ منه رداءُ[(1)] لُبْسِه، أو أدخلَ هذهِ أشياءَ](2) في مسجدِ حيِّهِ أو جلسَ ه](3) مصليَّاً)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وعندهما: لا يضمنُ بإدخالِ هذه الأشياءَ في المسجدِ سواءٌ كان مسجدَ حيِّهِ أو رَ مسجد حيِّه](4)؛ لأنَّ القربةَ لا تتقيَّدُ بشرطِ السَّلامة. له: إنَّ تدبيرَ المسجدِ لأهلِهِ دونَ غيرهم، ففعلُ الغيرِ مباحٌ فيكونُ مقيَّداً بشرطِ السَّلامة، وعندهما: الجالسُ في المسجدِ لا يضمن، سواءٌ جلسَ للصَّلاةِ أو غيرِ الصَّلاة.
فالحاصلُ أنَّ الجالسَ للصَّلاةِ في المسجدِ لا يضمن عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - سواءٌ في مسجدِ حيِّهِ أو غيرِه، والجالسُ لغيرِ الصَّلاةِ يضمن سواءٌ في مسجدِ حيِّهِ أو غيرِه، و](5) سقوطِ الرِّداءِ إنَّما(6) لا يضمنُ عند محمَّدٍ - رضي الله عنه - إذا لَبِسَ ما يلبسُ عادة، أمَّا إن لَبِسَ ما لا يَلْبَسُ عادةً كجوالقِ القلندرين، فسقطَ على إنسانٍ فهلكَ يضمن، فهذا اللُّبْسُ بمَنْزلةِ الحمل، وفي الحملِ يضمن.
فصل في الحائط المائل]
__________
(1) قوله: لا مَن سقطَ منه رداء... الخ؛ أي لا يضمن، والفرق بين المحمولِ والملبوسِ أنّ حاملَ الشيء قاصدٌ لحفظه، فلا حرج في التقييد بوصف السلامة، واللابس لا يقصدُ حفظ ما يلبسه، ففي التقيَّد بما ذكرنا حرج، فجعلناه مباحاً مطلقاً، وعن محمّد - رضي الله عنه -: إنّه إذا لبسَ ما لا يلبس عادة، فهو كالحامل؛ لأنّ الحاجةَ لا تدعو إلى لبسه عادة، فتضمن كما قال الشارح - رضي الله عنه - بقوله: وعند محمّد - رضي الله عنه - ... الخ.
(2) زيادة من أ و م.
(3) سقطت من ق.
(4) في أ و ب و م: غيره.
(5) سقطت من ص.
(6) في ب: وإنما.
(10/325)
________________________________________
(وربُّ حائطٍ مالَ إلى طريقِ العامَّة، وطلبَ نقضَه[(1)] مسلمٌ أو ذميُّ ممَّن يملكُ نقضَهُ كالرَّاهنِ(2) بفكِّ رهنِه)، فإنَّهُ يملكُ[(3)] نقضَهُ بفكِّ رهنِه، (وأب(4) الطِّفل، والوصي[(5)]، والمكاتَب[(6)]، والعبدِ التَّاجر، فلم ينقضْ في مدِّةٍ يمكنُ(7)
__________
(1) قوله: وطلب نقضه... الخ؛ في الاكتفاء على الطلبِ إشارةٌ إلى عدم الاحتياج إلى الإشهاد، وما فعله صاحب ((الهداية)) من ذكر الإشهادِ بعد الطلبِ فلا يتمكّن بإثباته عند الإنكار، كما سيصرّح به الشارح.
(2) أي للحائط فإنه يملكنه بفكّ الرهن وارجعا المرهون إلى يده. ينظر: ((درر الحكام))(2: 110).
(3) قوله: فإنه يملك؛ لا المرتهن؛ أي الراهن قادر على الهدم، بأن ينفكّ العين، وأعادها إلى يده فيهدم.
(4) في ج و ق: أبي.
(5) قوله: وأب الطفل والوصيّ... الخ؛ أي كأبِ الطفل والوصيِّ فإنّهما يقدران على نقض حائطِ اليتيمِ بالولاية، لكن الضمان في مالِ اليتيم؛ لأنَّ فعلَهما كفعله، فالتقدّم إليهما كالتقدّم إليه، وهذا أولى من قول ((الهداية)): والى أب اليتيم؛ لأنّه لا يتيتم مع وجود الأب. كذا قال الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص611)].
(6) قوله: والمكاتب؛ أي وكالمكاتب، فإنّه ممَّن يملكُ نقضَ حائطِهِ المائل، فلو لم ينقض بعد الطلبِ منه فسقط فأتلفَ إنساناً، فعليه الأقلّ من قيمتِه، ومن دِيَةِ المقتول، وكذا العبد التاجر، فإنّه أيضاً ممّن يملكُ نقضَ حائطه المائلة، فإن أتلفَ إنساناً وعليه دينٌ أو لا، فعلى عاقلةِ مولاه دِيَةُ الإنسان، وإن أتلفَ متاعاً ففي عتقِ العبد، هذا خلاصة ما في ((العناية))، ففي ((المنح)) في صورةِ المكاتب، وهذا لو أتلف حال بقاءِ الكتابة، فلو بعد عتقِهِ فعلى عاقلةِ المولى، ولو بعدَ العجزِ لا يجب شيءٌ على أحد، ويهدر الدم؛ لعدم قدرة المكاتب، وعدم الإشهاد على الوليّ، وفي ((البِرْجَنْدِيّ)) عن قاضي خان: إن أشهدَ على الوليِّ صحَّ الإشهاد أيضاً.
(7) في أ و م: تمكن.
(10/326)
________________________________________
نقضُهُ[(1)] ضَمِنَ مالاً تلفَ به، وعاقلتُهُ النَّفس[(2)
__________
(1) قوله: في مدّة تمكّن نقضه؛ أي في مدَّة يقدر على نقضه فيها، فلو ذهبَ بعد الطلب لطلب مَن يهدمه، وكان في ذلك حتى سقطَ الحائط لم يضمن؛ لأنّ مدّةَ التمكُّن من إحضار الإجراء مستثنىً في الشرع. كذا في ((ردِّ المحتار))(6: 600).
(2) قوله: ضمن مالاً تلفَ به وعاقلته النفس؛ وهذا استحسان، والقياس أن لا يضمن، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه -؛ لأنّه لم يوجد منه صنع هو فعل، ولا مباشرةَ علَّة، ولا مباشرة شرط أو سبب، والضمان باعتبار ذلك، فصار كما إذا لم يشهد عليه، وبطل نقضه منه، ووجه الاستحسان ما روي عن شريح - رضي الله عنه - والنخعي - رضي الله عنه - وغيرهم من أئمّة التابعين ما قلناه؛ ولأنّ الحائطَ لَمَّا مالَ فقد أشغلَ هواءَ الطريقِ بملكه، ورفعِهِ في قدرته، فإذا طولبَ برفعه لزمه ذلك، فإذا امتنعَ مع التمكّن منه صار متعدّياً، فيلزمه موجبه؛ ولأنّ الضرّر الخاصّ يجبُ تحملُّه لدفعِ الضررِ العام، كالكفّار إذا تترّسوا بالمسلمين، ثم ما تلفَ به من النفوس تحمله العاقلة؛ لئلا يؤدّي إلى الإجحاف.
قال محمّد: لا تتحمّل العاقلة حتى يشهد الشهود على ثلاثةِ أشياء:
على التقدّم في النقض.
وعلى أنّه ماتَ بالسقوطِ عليه.
وعلى أنّ الدارَ لفلان.
وما تلفَ من الأموالِ فضمانُه عليه؛ لأنّ العاقلةَ لا تتحمَّل المال، والشرط الطلب للنقض منه دون الإشهاد، ويصحُّ الطلبُ بكلِّ لفظٍ يفهمُ منه طلب النقض، من أن يقول: حائطُك هذه مخوف أو مائل، فاهدمه حتى لا يسقط، وكذلك لو قال: اشهدوا أنّي تقدّمت إلى هذا الرجل في هدمِ حائطه هذا يصحّ أيضاً، ولو قال ينبغي لك أن تهدمه، فليس هذا بطلب، ولا إشهاد، ويشترط أن يكونَ طلبُ التفريغ إلى مَن له ولايةُ النقض، كالمالكِ والأب والجدّ والوصيّ إلى آخر ما قال الماتن - رضي الله عنه -. كذا في ((تكملة البحر))(8: 402-403).
(10/327)
________________________________________
](1) )، وصورةُ الطَّلبِ أن يقول: إن حائطَكَ هذا مائلٌ فاهدمْه، وصورةُ الإشهادِ أن يقول: اشهدوا أنِّي تقدمتُ إلى هذا الرَّجلِ لهدمِ حائطِه، واعلمَ أنَّهُ ذكرَ في الكتبِ(2) الطَّلبُ والإشهاد، لكن الاشهاد ليس بشرط، وإنَّما ذكرَ ليتمكَّنَ من إثباتِهِ عند الإنكار، فكان من بابِ الاحتياط.
(لا مَن أشهدَ[(3)] عليه فباعَ وقبضَهُ المشتري فسقطَ أو طلبَ ممَّن لا يملكُ نقضَهُ كالمُرْتَهِن، والمستأجر، والمودع، وساكنِ الدَّار[(4)].
__________
(1) لأن امتناعَه من تفريغ الطريق المشتغل هواؤه بملكه مع تمكّنه من التفريغ بعد طلبه، كمن وقع في يده ثوب إنسان فإنه لا يكون متعدياً في الإمساك، ولكن لو طولب بالردّ فلم يردّ صار متعدياً، فكذا هنا بخلاف ما قبل الإشهاد؛ لأنه يمنْزلة هلاك الثوب قبل الطلب؛ ولأن الضمان لو لم يجب عليه لامتنع عن التفريغ فينقطع المارّة خوفاً على أنفسهم فيتضرّرون. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 371).
(2) كـ((الهداية))(4: 195).
(3) قوله: لا من أشهد... الخ؛ حائط رجل مالَ فأشهدَ عليه فباعَ الحائط فقبضَه المشتري فسقط، فلا ضمانَ على المشتري؛ لأنّه لم يُشْهِدْ عليه في الهدم، فإذا أشهدَ عليه بعد شرائه فهو ضامن. هكذا في ((التكملة))(8: 404).
(4) قوله: كالمُرتهن والمستأجر والمودع وساكن الدار؛ لعدمِ قدرتهم على التصرُّف، وحينئذٍ لو سقطَ بعد الطلب من هؤلاء وأتلفَ شيئاً فلا ضمانَ أصلاً لا على ساكنٍ ولا على مالكٍ، كما لو خرجَ الحائطُ عن ولايته ببيعٍ أو هبة أو جنونٍ مطبق أو ارتدادٍ نعوذ بالله، بعد الإشهاد، ولو كان قبل القبض لزوال ولايته. هكذا في ((الدر المختار))(8: 600).
(10/328)
________________________________________
فإن مالَ[(1)] إلى دارِ رجلٍ فله الطَّلب، فيصحُّ تأجيلُهُ وإبراؤهُ منها(2)، لا[(3)] إن مالَ إلى الطَّريقِ فأجَّلَهُ القاضي أو مَن طلب)؛ لأنَّه حقُّ العامَّةِ فلا يكونُ لهما إبطالُه.
__________
(1) قوله: فإن مال... الخ؛ أي إن مالَ إلى دارِ رجلٍ من مالك أو ساكنٍ بإجارة أو غيرها، والإضافة لأدنى تعلّق وارتباط فله الطلب؛ لأنّ الحقّ له، فيصحُّ تأجيلُه وإبراؤه منها؛ أي من الجناية.
(2) أي يصح تأجيل كل من مالك الدار وابراؤه حتى لو سقط بعد مدّة الأجل، وبعد الإبراء، وتلف به شيء لا يضمن؛ لأن الحقَّ له فيصحّ وإسقاطه. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 659).
(3) قوله: لا؛ أي لا يصحّ التأجيل والإبراءُ إن مالَ إلى الطريق، فأجَّله القاضي أو من طلب؛ لأنّه حقُّ العامة، وتصرّف القاضي في حقِّ العامةِ يؤخذُ فيما ينفعُهم، لا فيما يضرّهم بخلاف تأجيل مَن بالدار، ولو مالَ بعضه للطريقِ وبعضُه للدار، فأيّ طلبٍ صحّ الطلب؛ لأنّه إذا صحَّ الإشهادُ في البعض صحّ في الكلّ. كذا في البِرْجَنْدِي.
(10/329)
________________________________________
(فإن بنى مائلاً ابتداءً ضَمِنَ بلا طلبٍ[(1)] كما في إشراعِ الجناحِ ونحوه)، إشراعُ الجناح: إخراجُ الجذوعُ(2) من الجدارِ إلى الطَّريقِ والبناءِ عليها، وأمَّا نحوه: فالكنيفُ والميزاب.
__________
(1) قوله: ضمنَ بلا طلب؛ لأنّه تعدّى بالبناء، فصار كإشراعِ الجناح، ووضعِ الحجر، وحفر البئر في الطريق، أطلقَ المصنِّفُ في الميلان، ولم يفرّق بين يسيره وفاحشه، وفي ((المنتقى)): إن كان يسيراً وقت البناء لا يضمن؛ لأنّ الجدارَ لا يخلو عن يسير الميلان، وإن كان فاحشاً يضمن، وإن كان لم يتقدّم أحد يطلب منه النقض، ولو شغل الطريقَ بأن أخرجَ جذعاً فيها، فهو على التفصيل، ومن المشايخ - رضي الله عنه - من لا يفصِّلُ في الجذع، ولا في الميلان، وفي ((المنتقى)): قال محمّد - رضي الله عنه - حائطٌ مائلٌ تقدَّمَ إلى صاحبه فيه، فلم يهدمه حتى ألقته الريحُ فهو ضامن، وليس هذا كحجرٍ وضعَه إنسانٌ على الطريق، وقلبه الريحُ من موضعٍ إلى موضع، فعثرَ به إنسانٌ فإنّه لا يضمن. كذا في ((تكملة البحر))(8: 404).
(2) في ب: الجزوع.
(10/330)
________________________________________
(حائطُ خمسةٍ طُلِبَ نقضُهُ من أحدهم، وسقطَ على رجلٍ ضَمِنَ العاقلةُ خمسَ الدِّيَة[(1)]، كما ضمنُوا ثلثيها إن حفرَ أحدُ ثلاثةٍ(2) في دارهم بئراً، أو بنى حائطاً، قط فقتل رجلا](3) ): أي ضمنَ عاقلةُ مَن طلبَ منه النَّقضَ خمسَ الدِّيَة؛ لأنَّ الطَّلبَ صحَّ في الخمس، وضَمِنَ عاقلةُ حافرِ البئر، وباني الحائطِ ثُلُثَي الدِّيَة؛ لأنَّ الحافرَ والباني في الثُّلثين متعدّ، وهذا عند أبي حنيفةَ[(4)] - رضي الله عنه -، وقالا: ضمنُوا النَّصفِ في الحائط، والحفرِ(5) والبناء، أمَّا في الحائط؛ فلأنَّ التَّلفَ بنصيبِ مَن طُلِبَ منه معتبر، وفي نصيبِ غيرِهِ لا، فكان قسمَيْن كما في عقرِ الأسد، ونهشِ(6) الحيَّة، وجرحِ الإنسان، وفي مسألةِ الحفرِ والبناءِ التَّلَفُ بنصيبِ المالكِ لا يوجبُ الضَّمان، و بنصيبِ الغاصب يوجب، فيقسمُ قسمَيْن. لله أعلم](7).
__________
(1) قوله: ضَمَّن العاقلة خمس الدِّيَة؛ ألا ترى أنّه لو أشهدَ عليهم جميعاً ثمَّ سقطَ على إنسانٍ كان على كلِّ واحدٍ منهم خمسُ الدِّيَة، فتركَ الإشهاد، وفي حقّ الباقين لا يزداد الواجبُ على مَن أشهد عليه. كذا في ((العناية))(10: 324).
(2) وكان الحفر بغير رضا الشريكين الآخرين. ينظر: ((الهداية))(4: 197).
(3) زيادة من ق.
(4) قوله: وهذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -؛ وله: إنّ الموتَ حصلَ بعلَّةٍ واحدة، وهو الثقلُ المقدَّرُ في الحائط، والعمقُ المقدَّرُ في البئر؛ لأنّ أصلَ الثقلِ والعمقِ ليس بعلّة، وهو القليلُ حتى يعتبرَ كلُّ جزءٍ علّة، فتجتمعُ العلل، وإذا ثبتَ أنّ العلّة واحدة يضافُ الموت إلى العلّة الواحدة، ثمَّ تقسّم على أربابها بقدّر الملكُ بخلافِ الجراحات، فإن كل جراحةٍ علّة التلف بنفسها صغيرةً أو كبيرةً على ما عرف، إلا أنّ عند المزاحمة أضيف إلى الكلّ؛ لعدم الأولويّة. كذا في ((الهداية))(4: 197).
(5) في ب: الحقر.
(6) في ب: نهس.
(7) زيادة من أ و ب و م.
(10/331)
________________________________________
باب جناية البهيمة[(1)] وعليها
(ضَمِنَ الرَّاكبُ[(2)][(3)
__________
(1) قوله: باب جناية البهيمة... الخ؛ لَمَّا فرغَ من بيانِ أحكامِ جناية الإنسانِ شرعَ في بيان جنايةِ البهيمة، ولا شكّ في تقدّم جنايةِ الإنسان على البهيمة. كذا في ((النهاية))، ولكن يَرِدُ عليه أنّه لم يفرغْ من بيانِ جناية الإنسانِ مطلقاً، بل بَقِيَ منها جنايةُ الرقيق، ولا شكَّ أنّه من الإنسان، فيقدَّمُ على البهيمة، وكان من حقِّه أن يقدَّمَ على جناية البهيمة، فليتأمّل فيه.
(2) قوله: ضمن الراكب لما وطئت؛ وطئ بالفتح: بائمال كردن.
الكدم: العضّ بمقدّم الإنسان، كما يكدم الحمار.
الخبط بالخاء المعجمة: الضرب باليد.
الصدم: هو أن تضربَ الشيء بجسدك، ومنه اصطدم الفارسان: إذا ضرب أحدهما الآخر بنفسه.
يقال، نفحت الدابة بشيء: إذا ضربته بحدّ حافرها، كذا في ((الصحاح)) و((المغرب)).
(3) قوله: ضَمِنَ الراكب إلى قوله: صدمت، يرادُ به إذا كان الراكبُ يسيرُ في طريق المسلمين؛ لأنّه إذا كان يسير في ملكه إن وطأت بيدها أو رجلها يضمن، وإن كدمت او نفحت بيدها أو برجلها، أو ضربت بيدها فلا ضمان؛ لأنّ في الوجه الأوّل صاحب البداية مباشر للإتلاف؛ لأنّ ثقله وثقلُ الدابّة تصلُ بالمتلف، فكأنّهما وطأه جميعاً؛ ولهذا يجب على الراكبِ الكفارةُ إذا وطأت الدابّة برجلِها أو بيدها، ويحرم عن الميراث، والمباشر ضامنٌ سواء كان متعدّياً أو لا. كذا في ((الكفاية))(9: 257).
والأصلُ فيه أنّ المرورَ في طريق المسلمين مباحٌ مقيَّدٌ بشرطِ السلامة لا يتصرّف في حقّه من وجه، وفي حقِّ غيره من وجه؛ لكونه مشتركاً بين كل الناس، فقلنا: بالإباحةِ مقيّداً بشرطِ السلامة؛ ليعتدلَ النظرُ من الجانبين، ثم إنّما يتقيَّدُ بشرطِ السلامةِ فيما يمكن التحرُّز عنه، ولا يتقيَّدُها فيما لا يمكن لما فيه من المنع عن التصرُّفِ وسدِّ بابه وهو مفتوح، والاحترازُ عن الوطء وما يضاهيه ممكن، فإنّه ليس من ضروراتِ التسيير، فقيّدناه بشرطِ السلامة عنه، والنفحة بالرجل والذنب ليس يمكنه الاحترازُ مع السير على الدابّة فلم يتقيَّد به. كذا في ((الهداية))(4: 197-198).
(10/332)
________________________________________
] ما وطئتْ دابَّتُهُ وما أصابتْ بيدِها، أو رجلِها، أو رأسِها، أو كدمَت، أو خبطَت، أو صدمَت، لا ما نفحَتْ(1) برجلها، أو ذنبها)، فإنَّ الاحترازَ عن الوطء وما يشابهُهُ ممكنٌ بخلافِ النَّفحةِ بالرِّجلِ والذَّنب، هذا عندنا، وعند الشَّافعيِّ(2) - رضي الله عنه -: يضمنُ بالنفحةِ أيضاً؛ لأنَّ فعلَها يضافُ إلى الرَّاكب، (أو عطبَ إنسانٌ بما راثتْ أو بالتْ في الطَّريقِ سائرة، أو أوقفها لذلك، فإن أوقفَها لغيرِهِ ضمن)، فإنَّها إن راثتْ أو بالتْ في الطَّريقِ حالةَ السَّيرِ لا يضمن، أمَّا إذا أوقفها لتروثَ أو تبولَ لا يضمنُ أيضاً؛ لأنَّ بعضَ الدَّوابِّ لا يفعلُ ذلكَ إلا بعدَ الوقوف، وإن أوقفَها لغيرِ ذلكَ يضمنُ لأنَّهُ متعدٍّ(3) بالإيقاف.
(فإن أصابتْ بيدِها، أو رجلِها حصاةٌ أو نواةٌ[(4)]، أو أثارتْ غباراً أو حجراً صغيراً، ففقأ عيناً أو أفسدَ ثوباً لا يضمن، وضمنَ بالكبير)؛ لأنَّ الاحترازَ عن الأوَّلِ متعذِّرٌ بخلافِ الثَّاني.
__________
(1) نفحت برجلها أو يدها هو ضربُها. ينظر: ((طلبة الطلبة))(ص168).
(2) ينظر: ((الأم))(7: 158)، وغيره.
(3) في ب: متعذ.
(4) قوله: أو نواة... الخ؛ النواة: حبُّ التمر، بالفارسية: وانه خر ما، قوله: حجراً صغيراً؛ يعني الذي يقبلُ أن يرمي به، فهو أكبرُ من الحصاة وأصغر من الحجر الكبير الذي لا يحمل ولا يرمى به إلا بالمشقّة. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص611)].
(10/333)
________________________________________
(وضمنَ السَّائقُ والقائدُ ما ضمنَهُ الرَّاكب، وعليه الكفَّارةُ لا عليهما): أي إن كانَ مكانَ الرَّاكبِ سائقٌ أو قائدٌ يضمنُ كلُّ منهما[(1)] ما ضمَنَهُ الرَّاكب، ويجبُ على الرَّاكبِ الكفارة، لا على السَّائقِ والقائد، والرَّاكبُ يحرمُ عن الميرث، لا القائدُ والسَّائق.
__________
(1) قوله: يضمن كلّ منهما... الخ؛ لأنهما سببان؛ لمباشرتهما شرطُ التلف، وهو تقريبُ الدابّة إلى مكانِ الجناية، فيتقيَّدُ بشرط السلامةِ فيما يمكنُ الاحترازُ عنه كالراكب إلا أنّ على الراكبِ الكفارةُ فيما أوطأتُه الدابةُ بيدها أو برجلها؛ ولا كفارةَ عليهما، ولا على الراكبِ فيما وراءَ الإيطاء؛ لأنّ الراكبَ مباشرٌ فيه؛ لأنّ التلفَ بثقلِه، وثقلُ الدابة تبعٌ له؛ لأنّ سيرَ الدابةِ مضافٌ إليه، وهي آلة له، وهما سببان؛ لأنّه لا يتَّصلُ منهما إلى المحلّ شيء، وكذا الراكبُ في غير الإيطاء، والكفارةُ حكمُ المباشرةِ لا حكمُ التسبب، وكذا يتعلّق بالإيطاء في حقِّ الراكبِ حرمانُ الميراثِ والوصيّة دون السائقِ القائد؛ لأنّه يختصّ بالمباشرة. كذا في ((الهداية))(4: 199).
(10/334)
________________________________________
(وضمنَ عاقلةُ كلِّ فارسٍ[(1)] ديةَ الآخرِ إن اصطدما وماتا): هذا عندنا، وعندَ الشَّافعيِّ رحمهُ الله: يضمنُ كلُّ نصفَ ديةِ الآخر؛ لأنَّ هلاكَهُ بفعلَيْن، فعلُ نفسِه، وفعلُ صاحبه، فيهدرُ نصفَهُ ويعتبرُ فُ صاحبِه](2)، قلنا: فعلُ كلِّ منهما مباح، والمباحُ في حقِّ نفسِهِ لا يضافُ إليهِ الهلاك[(3)]، وفي حقِّ غيرِهِ يضافُ.
__________
(1) قوله: كلّ فارس؛ وكذا الماشيين، لكن لمّا كان موتُ المصطدمين غالباً في الفارسين خصّهما بالذكر، كما ذكرَ في ((الأكمليّة)) كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص611)].
(2) في ب و ص: نصفه.
(3) قوله: لا يضافُ إليه الهلاك، فلا يصلحُ مستنداً للإضافةِ في حقّ الضمان: كالماشي إذا لم يعلم بالبئر ووقعَ فيها لا يهدر شيء من دمه، وفعلُ صاحبه، وإن كان مباحاً لكنَّ الفعلَ المباح في غيرِهِ سببٌ للضمان، كالنائم إذا انقلبَ على غيره. كذا في ((الهداية))(4: 199).
(10/335)
________________________________________
(وسائقُ دابَّةٍ[(1)] وقعَ أداتُها[(2)] على رجلٍ فمات، وقائدٌ قطارٍ وَطِئ بعيرٌ منه[(3)] رجلاً، مِنَ](4) الدِّيَةَ وإن كان معه[(5)] سائقٌ ضمنا، فإن قتلَ بعيرٌ ربطَ على قطارٍ بلا علمِ قائدِه رجلاً ضَمِنَ عاقلةُ القائدِ الدِّية[(6)]، ورجعُوا بها على عاقلةِ
__________
(1) قوله: وسائق دابّة؛ معطوف عليه، وقائدُ قطار معطوف؛ مبتدأ، وضمن؛ خبره؛ أي سائق دابّة وقعَ أداتها إلى رجلٍ فمات، يضمنُ الدية؛ لأنّه متعدٍّ في هذا التسبيب؛ لأنَّ الوقوع بتقصيرٍ من السائق، وهو تركُ الشدادِ والإحكامُ فيه، بخلاف الرداء، يعني إذا كان لابساً رداءً فسقطً عنه وعطب به إنسانٌ أو غيره لا يضمن؛ لأنَّ الإنسانَ لا يقصدُ حفظ اللباس عادة، ولا يمكنه أن يمشي عرياناً، وما لا يستطاعُ الامتناعُ عنه يجعلُ عفواً.
(2) قوله: أداتها؛ أي آلاتها؛ كالإكافِ والسرج واللجام.
(3) قوله: وقائدُ قطارٍ وطئ بعير منه؛ أي من القطارِ رجلاً ضمنَ الدِّيَة؛ لأنَّ القائدَ عليه حفظُ القطار، كالسائق، وقد أمكنَ ذلك، فقد صار متعدّياً بالتقصيرِ فيه، والتسبيب بوصفِ التعدِّي سببُ الضمان، إلا أنّ ضمانَ النفسِ في التسبيبِ على العاقلة، وضمان المال في ماله. كذا في ((الهداية))(4: 200).
(4) سقطت من ق.
(5) قوله: وإن كان معه؛ أي مع القائد سائق، ضمنا؛ أي القائد والسائق؛ لأنَّ قائدَ الواحد قائدٌ للكل، وكذا سائقه؛ لاتّصالِ الأزمة، قال في ((الهداية))(4: 200): هذا إذا كان السائقُ في جانبٍ من الإبل، أمّا إذا كان السائقُ في وسطِ القطار، وأخذَ زمامَ واحدٍ ضمنَ ما هلك بما هو خلفه، ويضمنان ما تلفَ بما بين يدي السائق؛ لأنَّ القائدَ لا يقودُ ما خلفَ السائق، والسائق يسوق ما يكون قدّامه.
(6) قوله: ضمنُ عاقلة القائد الدِّيَة؛ لأنَّ يمكن للقائد صيانة القطار عن ربط غيره، فإذا تركَ الصيانةَ صارَ متعدّياً، وفي التسبيب الدِّيَةُ على العاقلة كما مرّ مراراً. كذا في ((الهداية))(4: 200).
(10/336)
________________________________________
الرَّابط)؛ لأنَّ الرَّابطَ أوقعَهم في هذهِ العهدة[(1)].
أقول: ينبغي أن تكونَ في مالِ(2) الرَّابط؛ لأنَّ الرَّابطَ أوقعَهُم في خسرانِ المال، وهذا(3) ممَّا لا يتحمَّلُهُ العاقلة(4).
قالوا: هذا إذا ربط، والقطارُ في السَّير؛ لأنَّه أمرَ بالقَوَدِ دلالة، أمَّا إذا ربطَ في غيرِ حالةِ السَّير فالضَّمانُ على عاقلةِ القائد؛ لأنَّهُ قادَ بعيرَ غيرِهِ بغيرِ أمرِه لا صريحاً ولا دلالةً فلا يرجعُ بما لحقَهُ من الضَّمان.
__________
(1) قوله: أوقعهم في هذه العهدة؛ فإن قيل: ينبغي أن يجبَ الضمانُ عليهما في الابتداء؛ لأنَّ كلاً منهما سبب، قلنا: لا؛ لأنَّ الربطَ من القَوَدِ بمنْزلةِ التسبيبِ من المباشرة؛ لاتّصال التلفِ بالقَوَد دون الربط.
(2) في يب: لامال.
(3) في ص: وهذه.
(4) أجاب عمَّا قاله الشارح - رضي الله عنه - الحصكفي في ((الدر المنتقى))(2: 662)، فقال: لانه دية لا خسران كما توهمه صدر الشريعة فلو ربط والقطار واقف ثم قاد ضمن القائد قلا رجوع لقوده بغيره أمره، وأجاب شيخ زاده في ((مجمع الأنهر))(2: 662): إن الرابط لما كان متعدياً فيما صنع صار في التقدير هو الجاني وإذا كان كذلك وجبت الدية على عاقلته.
(10/337)
________________________________________
(ومَن أرسلَ كلباً أو طيراً أو ساقَهُ(1) فأصابَ[(2)] في فورِهِ[(3)] ضَمِنَ في الكلبِ لا في الطَّير، ولا في كلبٍ لم يسقْه)، الحاصلُ أنَّهُ لا يضمنُ في الطَّيرِ ساقَ أو لم يسق، ويضمنُ في الكلبِ إن ساقَ وإن لم يسقْ لا، ففي الكلبِ ينتقلُ الفعلُ إليه بسببِ السَّوق، وإن لم يسقْ لا ينتقلُ إليه؛ لأنَّه فاعلٌ مختار، ولا يضمنُ في الطَّيرِ إذا لم يسق، وكذا إن ساق؛ لأنَّ بدنَهُ لا يطيقُ السَّوق[(4)]، فوجودُهُ كعدمِه[(5)].
__________
(1) أي مشى خلفه معه وإن لم يمش خلفه فما دام في فوره سائق له في الحكم فيلحق بالسوق وإن تراخى انقطع السوق. ينظر: ((الدرر))(2: 113).
(2) قوله: فأصابَ؛ أي قتلَ طيراً مملوكاً كالبطّ الأهلي، أو أشلى [أي أغرى وحرض الكلب] على رجلٍ فعضّه أو مزّق ثوبه. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص611)].
(3) قوله: في فوره؛ أي فورِ الإرسال، وهو بفتح الفاء، وسكون الواو في الإرسال أن لا يميل يميناً وشمالاً. كذا في ((الأكمليّة)). ظر: ((ذخيرة العقبى))(ص611)].
(4) قوله: لأنّ بدنه لا يطيق السوق، ولو قال بدله أنّ مَن في الأرض لا يقدرُ على ما في الهواء، كصاحب التوفيق لكان أظهرُ وأسلم من اعتراضِ الشارح - رضي الله عنه -. هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص611)].
(5) قوله: فوجوده كعدمه، ومن ثمة قالوا: لو أرسلَ بازياً في الحرم، فقتلَ صيدَ الحرم لا يضمنُ المرسل. كذا في الزَّيْلَعِيّ [في ((التبيين))(6: 152)].
(10/338)
________________________________________
أقول: نعم؛ لا يطيقُ الضَّرب، أمَّا سوقُهُ فبالزجرِ والصَّياحِ بخلافِ الصَّيد[(1)]، فإنِّه يُحِلُّ الصَّيدَ بمجردِ الإرسالِ للضَّرورة، وعن أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: إنَّهُ أوجبَ الضَّمانَ في هذا كلِّهِ احتياطاً، والمشايخُ - رضي الله عنهم - أخذوا بقوله.
(ولا في دابَّةٍ منفلتةٍ[(2)][(3)] أصابتْ نفساً، أو مالاً ليلاً أو نهاراً.
ومَن ضَرَبَ دابَّةً عليها راكب، أو نَخَسَها فنفحت، أو ضربتْ بيدِها آخر، أو نفَرَتْ فصدمتْهُ وقتلتْهُ ضمنَ لا](4) الرَّاكب[(5)
__________
(1) قوله: بخلافِ الصيد؛ يعني إذا أرسلَ الكلبُ إلى صيد حيث يأكل ما أصابه، وإن لم يكن سائقاً له لا حقيقةً ولا حكماً؛ لأنَّ الحاجةَ مسَّت إلى الاحتياط به، فأضيفَ إلى المرسلِ ما دامَ الكلبُ في تلك الجهة، ولم يقرّ عنها إذ لا طريقَ للاصطياد سواه. كذا في ((التبيين))(6: 152) هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص611-612)].
(2) قوله: ولا في دابّةٍ منفلتة... الخ؛ أي لا ضمانَ فيٍ دابّة منفلتةٍ أصابت نفساً أو مالاً ليلاً أو نهاراً، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((جرح العجماء جبار)) رواه البخاريّ(5: 545) عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، وقال محمّد - رضي الله عنه -: أي المنفلتة؛ ولأنّ الفعلَ غير مضاف إليه؛ لعدم الإرسال وأخواته.
(3) قوله: منفلتة؛ مأخوذ من انفلتَ الشيءُ إذ خالص من قيده من غير اختيار صاحبه.
(4) في ب و ص: هؤلاء.
(5) قوله: لا الراكب؛ أي لا يضمنُ الراكب، فإن قيل: القياسُ يقتضي أن يكونَ الضمانُ على الراكب؛ لكونِهِ مباشراً وإن لم يكن متعدّياً؛ لأنَّ التعدّي ليس من شرطه، فإن لم يختصّ فلا أقلّ من الشركة.
الجواب: إنّ القياسَ يترك بالأثر، وفيه أثرُ عمرو بن مسعود - رضي الله عنه -، وأيضاً: إنّ الراكبَ والمركوبَ مدفوعان بدفعِ الناخس، والمدفوعُ إلى الشيء وإن كان مباشراً لا يعتبرُ مباشراً، كما في الإكراهِ الكامل، فلا يجب عليه جزاء المباشرةِ إن فرضَ مباشراً ولا التسبيب أيضاً؛ لأنّه يعتمد التعدّي وهو مفقود. كذا في ((العناية))(10: 334).
(10/339)
________________________________________
](1) )، هذا عندنا[(2)]، وعندَ أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: إنَّ الضَّمانَ على الرَّاكب، والنَّاخسِ نصفَيْن[(3)]، وهذا إذا نَخَسَها بلا إذنِ الرَّاكب، أمَّا إذا نَخَسَها بإذنِهِ فلا يضمن؛ لأنَّهُ أمرَهُ بما يملكه، إذا النَّخسُ في معنى السَّوق، فانتقلَ إلى الرَّاكبِ فلا يضمنُ بالنَّفحةِ(4) كما إذا نَخَسَ الرَّاكبُ الدَّابةَ فنفحت(5).
__________
(1) في ص: الركب.
(2) قوله: هذا عندنا؛ وهو المرويّ عن عمرو بن مسعود - رضي الله عنه -؛ ولأنّ الراكبَ والمركبَ مدفوعان بدفعِ الفاحش، فأضيفَ فعلُ الدابةِ إلى الناخس، كأنّه فعلَه بيده.
(3) قوله: نصفين؛ لأنَّ التلفَ حصلَ بثقل الراكب، ووطئ الدابة، والوطءُ مضافٌ إلى الناخس، فيجب الضمان عليهما.
(4) في ب و ص: النفخة.
(5) في ب و ص: نفحت.
(10/340)
________________________________________
(وفي فَقْءِ عينِ شاةِ القصَّابِ ما نقصَها[(1)][(2)](3)، وفي عينِ بقرةِ الجزَّار[(4)](5)، وجَزُورِه، والحمار، والبغل، والفرسِ ربعُ القيمة)؛ لأنَّهُ يمكنُ إقامةَ العملِ بها بأربعِ أعين: عينَيْها(6) وعينَيْ(7) المستعمل، وعندَ الشَّافعيِّ[(8)] - رضي الله عنه - يجبُ النُّقصانِ كما في شاةِ القصَّاب، قلنا: في شاةِ القصَّابِ المقصودُ اللَّحمُ فقط .
__________
(1) قوله: ما نقصها؛ فتقوَّمُ صحيحة العين ومفقودة العين، فيضمن الفضل والنقصان شامل للحاصل بالهزال من فقود العين. كذا في ((رد المحتار))(6: 609).
(2) قوله: ما نقصها؛ لأنّها للحم، وفي عينيها يخيَّر ربُّها إن شاءَ تركها على الفاقئ، وضمَّنَه قيمتَها، أو أمسكَها وضمَّنَه النقصان. كذا في ((الدر المختار))(6: 610) ناقلاً عن الزَّيْلَعِيّ.
(3) لأن المقصودَ من الشاة اللحم فلا يعتبر فيها إلا النقصان. ينظر: ((التبيين))(6: 152).
(4) قوله: في عين بقرةِ الجزّار؛ أي القصّاب، والجزرُ القطع، وجزرُ الجزورِ نحرها، وهو ما أعدّ من الإبلِ للنحر، وإنّما وضعَ المسألةَ في بقرةِ الجزَّارِ وجزوره؛ لئلا يتوهّم أنّهما لكونها معدَّين للحم يكون حكمها حكمُ الشاة، بل سواء كان معدّين له أو للحرث والركوب، ففيه ربع الدية، كما في الذي لا يؤكلُ لحمه كالبغل والحمار. كذا في شروح ((الهداية))، هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص612)].
(5) في ق: جزار.
(6) في ب و ص: عينها.
(7) في ب: عين.
(8) قوله: وعند الشافعيّ - رضي الله عنه - يجب النقصان كما في شاةِ القصَّاب، والفرق ما قدّمناه، لكن يرد عليه أنّه لو فقأ عينيّ حمارٍ مثلاً أنّه يضمنُ نصفَ قيمته، وليس كذلك كما مرّ، فالأولى التمسّك؛ لما روى أنّه - صلى الله عليه وسلم - قضى في عينِ الدَّابةِ بربعِ القيمة، والتقييدُ بالعين؛ لأنّه لو قطعَ إذنها أو ذنبها يضمنُ نقصانها. كذا لسان الثور والحمار. كذا في ((الدر المختار))(6: 610).
(10/341)
________________________________________
باب جناية الرقيق وعليه[(1)](2)
__________
(1) قوله: باب جناية الرقيق وعليه؛ لما فرغَ من بيانِ جناية الحرّ على الحرّ، شرعَ في بيان جنايةِ المملوك، والجناية عليه، ولمّا كان فيه تعلَّقٌ الملكِ بالمملوكِ البتة من جانب أخّره؛ لانحطاطِ رتبةِ المملوكِ عن المالك، ويردُ عليه أنّ العبدَ لا يكون أدنى منْزلة من البهيمة، فكيف أخّر باب جنايته عن بابِ جنايةِ البهيمة، ويجاب عنه؛ إنَّ جناية البهيمة كانت باعتبارِ الراكب والسائق وغيرهما، وهم هلاك، وفيه ما فيه فليتأمّل.
(2) في ج: وما عليها.
(10/342)
________________________________________
(فإن جنى[(1)] عبدٌ خطأً[(2)] دفعَهُ سيِّدُهُ بها): أي بالجناية، (ويملكُهُ وليُّها أو فداهُ بأرشها[(3)] حالاً[(4)
__________
(1) قوله: فإن جنى... الخ؛ أي إن جنى العبدُ جنايةً خطأً فالمولى إمّا يدفعُه بالجناية، أو يفدِ به، فإن دفعَه يملكُهُ وَلِيُّ الجناية، وإن فداهُ فداه بأرشِ الجنايةِ مالاً، وكلُّ ذلك يلزمُهُ حالاً، أمّا الدفعُ؛ فلأنّ التأجيلَ في الأعيان باطل، وعند اختيارِ المولى الدفعَ الواجبَ عين، وأمّا الفداءُ؛ فلأنّه جعلَ بدلاً عن العبدِ في الشرع، وإن كان مقدَّراً بالمتلف،؛ ولهذا سُمِّي فداءً، فيقومُ مقامَ العبد، ويأخذ حكمَه؛ فلذا وجبَ حالاً كالمبدل. كذا في ((الهداية))(4: 204).
(2) قوله: خطأ؛ التقييدُ بالخطأ هاهنا إنّما يفيدُ في النفس؛ لأنّ بعمده يقتصّ، وأمّا فيما دون النفسِ فلا يفيد؛ لاستواءِ خطئه وعمده فيما دونها، ثمّ إنّما يثبتُ الخطأ بالبيّنة أو إقرار مولاه أو علمَ القاضي لا بإقراره أصلاً، قلت: لكن قوله: أو علم القاضي غير المفتى به؛ لأنّه لا يعملُ بعلم القاضي في زماننا. كذا في ((الدر المختار))(6: 613).
(3) قوله: أو فداه بأرشها... الخ؛ فداءُ الشيء بالكسر، هو الذي عوَّض عنه، وقائمٌ مقامَه، والأرش وإن كان اسماً لما وجبَ دون النفس، لكنَّ المرادَ هاهنا ما يقابلُ الجناية، ويكون عوضاً عنها، سواءً كانت في النفس أو فيما دونها، واستعماله في هذا المعنى الأعمّ في إطلاقات الفقهاء - رضي الله عنه - غير عديد. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص612)].
(4) قوله: حالاً؛ قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص612)]: هذا قيدٌ للدفعِ والفداءِ معاً، كأن هذا دفع لتوهُّم أنّ الفداءَ لَمَّا وجبَ بمقابلةِ الجنايةِ في النفسِ أو العضو أشبه الدِّيَةَ والأرش، وهما يثبتان مؤجَّلاً، وذلك يقتضي ثبوتَ الفداءِ مؤجَّلاً سنةً أو ثلاثَ سنين، لكن لَمَّا اختارَه المولى صارَ في ذمّتِهِ ديناً حالاً، كسائر ديونه؛ لأنَّ الأجلَ في الديون عارض؛ ولذا لا يثبتُ إلا بالشرط، هكذا فُهِمَ من تقرير الأكمل - رضي الله عنه -.
(10/343)
________________________________________
])، هذا عندنا، وعند الشَّافِعِيِّ[(1)](2) - رضي الله عنه -: الجنايةُ في رقبتِه، يباعُ(3) فيها إلا أن يقضيَ المولى الأرش، وثمرةُ الخلافِ تظهرُ(4) في اتِّباعِ الجاني بعد العتق، فإنَّ المجنيَّ عليه يتَّبعُ الجاني إذا عتقَ عند الشَّافِعِيِّ - رضي الله عنه -.
(فإن فداهُ فجنى، فهي كالأولى)، فإنَّهُ إذا فدى طَهُرَ عن الأولى، فصارتْ الأولى كأن لم تكن، فيجبُ بالثَّانيةِ الدَّفعُ أو الفداء[(5)]، (فإن جنى[(6)] جنايتَيْن دفعَهُ بهما إلى وليِّهما يقسمانِهِ ى قدرِ حقيهِما أو فداهُ(7) بأرشِهما](8).
__________
(1) قوله: وعند الشافعيّ... الخ؛ يعني أنّ عنده الوجوب على العبد، فيطالب هذا المجني عليه بعد عتقه، وعندنا الوجوب على المولى دون العبد، فلا يستسعيه بعد العتق؛ لأنّه بالإعتاق صارَ مختاراً للفداء، قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص612)]: هذا زبدة ما في ((العناية)).
(2) ينظر: ((الأم))(6: 91)، وغيره.
(3) في ب و ص: ساع.
(4) في ب: يظهر، وسقطت من ص.
(5) قوله: فيجب بالثانية الدفع أو الفداء؛ كأنّه دفعٌ لتوهُّم أنّ المولى لا يخاطبَ ثانياً بأحدِ هذين الأمرين؛ لأنَّ الجنايةَ إمّا في رقبةِ العبد يباعُ فيها أو غير ذلك. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص612)].
(6) قوله: فإن جنى... الخ؛ أي فإن جنى العبدُ جنايتين، فللمولى إمّا يدفعُهُ بالجنايتين إلى وليّهما يقسّمانه على قدرِ حقَّيهما، أو يفديه بأرشهما؛ لأنَّ تعلُّقَ الأولى برقبته لا يمنعُ تعلُّقَ الثانية بهما، كالديون المتلاحقة، ألا ترى أنّ ملكَ المولى يمنعُ تعلُّقَ الجنايةِ لحقِّ المجني عليه الأوّل أولى أن لا يمنع، ومعنى قوله: على قدر حقَّيهما على قدرِ إرش جنايتهما؛ لأنَّ المستحقَّ إنّما يستحقُّه عوضاً عمَّا فات عليه، فلا بدّ من أن يقسم على قدر العوض. كذا في ((الكفاية)).
(7) في م: فداء.
(8) العبارة في ب و ص و ق: بنسبة حقهما أو بأرشهما.
(10/344)
________________________________________
فإن وهبَه[(1)]، أو باعَه، أو اعتقَه، أو دبَّرَه، أو استولدَها): أي الأمةُ الجانية، (ولم يعلمْ بها، ضَمِنَ الأقلَّ من قيمتِهِ[(2)] ومنَ الأرش، ن(3) عَلِمَ بها غَرِمَ(4) الأرش[(5)]](6) )، فإنَّ المولى قبل(7) هذه التَّصرُّفاتِ كان مختاراً بين الدَّفعِ والفداء، و(8) لمَّا لم يبقَ محلاً للدَّفعِ بلا علمِ المولى بالجنايةِ لم يصرْ مختاراً للأرشِ فصارتْ القيمةُ مقامَ العبد، ولا فائدةَ في التَّخييرِ[(9)
__________
(1) قوله: فإن وهبه... الخ؛ الأصلُ أنّه متى أحدثَ فيه تصرُّفاً يعجزُهُ عن الدفعِ عالماً بالجناية، يصيرُ مختاراً للفداء وإلا فلا، فمثالُ الأوّل ما ذكرّه المصنّف - رضي الله عنه -، ومثال الثاني: وطء الثيب بلا إعلاق؛ لأنّه لا ينقص، وكذا التزويج والاستخدام، وكذا الإجارةُ والرهنُ على الأظهر؛ لأنَّ الإجارةَ تنقضُ بالأعذار، وقيامُ حقِّ وليِّ الجنايةِ فيه عذر، ولتمكّن الراهن من قضاء الدين، فلم يعجز، والإذنُ بالتجارة، وإن ركبه دين؛ لأنَّ الإذنَ لا يفوِّت الدفع، ولا ينقصُ الرقبة، إلا أن مولى الجنايةِ أن يمتنعَ من قبوله؛ لأنَّ الدَّينَ حقُّه من جهةِ المولى، فيلزمُ المولى قيمته. كذا في ((ردّ المحتار))(6: 614).
(2) قوله: ضمن الأقلّ من قيمته، ومن الأرش؛ لأنّه فوّت حقّه، فيضمنه، وحقّه في أقلِّهما؛ لأنّه ليس له المطالبةُ بالأكثر، ولا يصيرُ مختاراً للفداء؛ لأنّه لا اختيارَ بدون العلم.
(3) في ص: وإن.
(4) في ص: غر، وفي ج: ضمن.
(5) قوله: غرم الأرش؛ لأنَّ هذه الأمور تمنعُهُ عن الدفع، فالإقدامُ عليهما اختيارٌ منه للآخر. كذا في ((الهداية))(4: 205).
(6) سقطت من ب.
(7) في ب: قيل.
(8) في ب: أو.
(9) قوله: ولا فائدة في التخيير... الخ؛ قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص162)]: لأنَّ كلاً من القيمةِ والأرشِ جنسٌ واحد، وهو المال، فلا جرمَ أنّ المحتارَ فيه الأقلّ، بخلاف التخيير بين دفعِ عينِ العبد والأرش، فإنّه مقيَّد؛ لأنّهما جنسان مختلفان، فيجوز أن يتيسّر أحدهما دون الآخر. كذا فهمَ من تقرير الزَّيْلَعِيّ.
(10/345)
________________________________________
] بين الأقلِّ والأكثر، فيجبُ الأقلِّ بخلافِ ما إذا عَلِم، فإنَّهُ يصيرُ مختاراً للأرش.
(كما لو علَّقَ عتقَهُ بقتلِ زيدٍ أو رميهِ أو شجِّهِ ففعل): أي قال: إن قتلتَ زيداً فأنتَ حرٌّ، فقتل، أو قال: إن رميتَ زيداً فأنتَ حرّ، فرمى، أو قال: إن شججتَ رأسَه، فأنتَ حرّ، فشجَّه، غَرِمَ الأرش؛ لأنَّهُ يصيرُ مختاراً للفداء، حيث أعتقَهُ على تقديرِ وجودِ الجناية، كما لو قال: إذا مرضتُ فأنت طالقٌ ثلاثاً، فإذا مرضَ يصيرٌ فارًّاً، وعند زفرَ - رضي الله عنه -: لا يصيرُ مختاراً للفداءِ إذ لا جنايةَ وقتَ تكلُّمِه، ولا عِلْمَ بوجودها[(1)].
__________
(1) قوله: ولا علم بوجودها، وبعد الجناية لم يوجد منه فعلٌ يصير به مختاراً، ألا ترى لو علّق الطلاقَ أو العتاقَ بالشرط ثمّ حلفَ أن لا يطلق أو لا يعتق لا يحنث عند وجد الشرط وثبت الطلاقِ أو العتاق، كذا هذا، ولنا: ما قاله الشارحُ - رضي الله عنه - بخلافِ ما أورد؛ لأنَّ غرضَ الحالفِ طلاقُ وعتق [يمكنه] المتناعه عنه، إذ اليمين [للمنع] فلا يدخلُ تحتَ الحلف ما لا يمكنها الامتناع عنه. كذا في ((الهداية))(4: 205-206).
(10/346)
________________________________________
(فإن قطعَ عبدٌ يدَ حرٍّ عمداً ودفعَ إليه فأعتقَهُ فسرى، فالعبدُ صُلْحٌ بها، وإن لم يعتقْهُ يردُّ على سيِّدِه، فيقتلُ أو يعفي)، فإنَّهُ إذا أعتقَ دلَّ على َّ](1) قصدَهُ تصحيحُ الصُّلح، إذ لا صحَّةَ لهُ إلا أن(2) يكونَ صلحاً عن الجناية[(3)]، وما يحدثُ منها، أمَّا إذا لم يعتقْ، وقد سرى تبيَّنَ أنَّ المالَ غيرُ واجب، وأنَّ الواجبَ هو القَوَد، فكانَ(4) الصُّلحُ باطلاً(5)، فيردّ، ويقال للأولياء: اقتلُوه أو اعفوه.
__________
(1) زيادة من أ و م.
(2) في ب و ص: وإن.
(3) قوله: إلا أن يكون صلحاً عن الجناية، وما يحدث [منها؛ ولهذا لو نصّ عليه حين دفع العبد ورضيَ المولى به يصحّ، وقد رضيَ المولى به؛ لأنّه لمّا رضيَ بكون العبد عوضاً عن القليل يكون أرضى بكونِهِ عوضاً عن الكثير، فإذا أعتقَ صحّ. كذا في ((الهداية))(4: 206).
(4) في ص: وكان.
(5) لأن الصلحَ كان عن المال؛ لأن أطراف العبد لا يجري القصاص بينها وبين اطراف الحرّ. ينظر: ((الهداية))(4: 206).
(10/347)
________________________________________
(فإن جنى مأذونٌ مديونٌ خطأً فأعتقَهُ سيِّدُهُ بلا علمٍ بها، غَرِمَ لربِّ الدَّينِ الأقلَّ من قيمتِهِ ومن دينِه، ولوليِّها الأقلَّ منها ومن الأرش)، فإنَّ السيِّدَ إذا أعتقَ المأذونَ المديونَ فعليه لربِّ الدَّينِ الأقلَّ من قيمتِه ومن دينِه(1)،وليِّها الأقلَّ منها ومن الأرش](2)، وإذا أعتقَ العبدَ الجاني جنايةً خطأً، فعليه الأقلُّ من قيمتِهِ ومن الأرش، فكذا عند الاجتماعِ إذ لا يزاحمُ أحدهما الآخر؛ لأنَّهُ لولا الاعتاقُ يدفعُ إلى وليِّ الجناية[(3)]، ثمَّ يباعُ للدَّين.
__________
(1) في ب و ص: الدين.
(2) زيادة من ص.
(3) قوله: يدفعُ إلى وليّ الجناية... الخ؛ قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص613): يوضِّحُه قولُ صاحبِ ((العناية))(10: 348): والأصلُ أنّ العبدَ إذا جنى وعليه دينٌ يخيَّرُ المولى بين الدفعِ والفداء، فإن دفعَ بيع في دين الغرماء، فإن فضلَ شيءٌ كان لأصحابِ الجناية، وإنّما بدأنا بالدفع؛ لأنَّ به توفير الحقَّين؛ لأنّ حقّ وليّ الجناية يصيرُ موفىً بالدفع، ثمّ يباعُ لأربابِ الديون، ومتى بدأنا ببيعه في الدَّينِ تعذَّر الدفعُ بالجناية؛ لأنّه تجدّد للمشتري الملك، ولم توجد في يده جناية.
إن قيل: ما فائدةُ الدفعِ إذا كان البيعُ بالدينِ بعده واجباً.
أجيب: بأنّها إثباتُ حقِّ الاستخلاصِ لوليِّ الجناية بالفداء بالدين، فإن للنّاس في الأعيانِ أغراضاً، وإنّما لم يبطل الدَّينُ بحدوثِ الجناية؛ لأنّ موجبَها صيرورته جزاءَ جنايته، فإذا كان مشغولاً وجبَ دفعُه مشغولاً، ثمّ إذا بيعَ وفضلَ من ثمنِهِ شيءٌ صرف إلى أولياء الجناية؛ لأنّه بيع على ملكهم، وإن لم يفِ تأخّر إلى حالِ الحريّة، كما لو بيعَ على ملكِ المولى الأوّل. انتهى.
(10/348)
________________________________________
(فإن ولدتْ مأذونةٌ (1) مديونةٌ ولداً يباعُ معها لدينِها، ولا يدفعُ معها لجنايتِها(2))، فإنَّ الدَّينَ في ذمَّةِ الأمَةِ متعلِّقٌ برقبتِها[(3)] فيسري إلى الولد، وفي الجنايةِ الدفعُ في ذمَّةِ المولى لا في ذمَّتِها[(4)]، وإنَّما يلاقيها أثرُ الفعلِ الحقيقيِّ وهو الدَّفع، والسِّرايةُ في الأمورِ الشَّرعيَّةِ لا الحقيقيَّة[(5)].
(فإن قتلَ[(6)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ق: بجنايتها.
(3) قوله: متعلِّقٌ برقبتها؛ حتى صار المولى ممنوعاً من التصرّف في رقبتها ببيعٍ أو هبة أو غيرهما. كذا في ((العناية))(10: 348).
(4) قوله: لا في ذمّتها؛ حتى لا يصيرَ المولى ممنوعاً من التصرّف في رقبتها ببيعٍ أو هبةٍ أو غيرهما.
(5) قوله: لا الحقيقية؛ أي دون الأوصاف الحقيقيّة بناءً على أنّ الوصفَ الحقيقيّ في محلٍّ لا يمكن أن ينتقلَ إلى غيره، وأمّا الوصفُ الشرعيُّ فهو اعتباريُّ يتحوَّل بتحوُّله.
(6) قوله: فإن قتل... الخ؛ قال في ((تكملة البحر))(8: 426-427): وفي الأصلِ جعلَ المسألة على ثلاثة أوجه: أما إن أقرّ وليُّ الجنايةِ أنّ العبدَ حرُّ الأصل، أو أقرّ أنّه حرّ، أو أقرّ أنّ مولاه أعتقه.
إن أقرّ أنّه حرّ الأصلِ فلا ضمانَ لوليِّ الجناية، لا على العبدِ ولا على المولى، وكذلك الجواب إذا أقرّ أنّه حرّ، أو أقرّ أنّ مولاه أعتقَه.
فأمّا إذا أقرّ أنّه أعتقه، فإن أقرّ به قبل الجناية فالجوابُ كالجواب فيما إذا أقرّ أنّه حرّ الأصل، وإن أقرّ أنّه أعتقه بعد الجناية فقد أقرّ ببراءة العبد وادّعى على المولى الفداء إن ادَّعى أنّه أعتقه وهو عالم بالجناية.
وإن ادّعى أنّه لم يكن عالماً ادّعى على المولى ضمانَ القيمة، وأنكرَ المولى ما ادّعى عليه من ضمان الفداء أو القيمة، فيكون القولُ قولَ المولى مع يمينه، وعلى وليِّ الجناية إقامةُ البيّنة.
وفي المسألتين الأوليين لا يدَّعِ على المولى ضماناً، فلا يكون بين وليّ الجناية وبين المولى خصومة، ويكون العبدُ على حاله، هذا إذا كان الإقرارُ من وليِّ الجناية [قبل الدفع، فأما إذا كان الإقرار من ولي الجناية] بين الولى خصومة، ويكون المولى بعد الدفع إليه أقرّ أنّه حرّ الأصل، أو أقرّ أنّه حرّ لم يكن على المولى سبيل، ولا على العبد إلا أنّ العبدَ يعتقُ ولا يكون لأحدٍ على العبد ولاء، وإن أقرّ أنّه كان أعتقه قبل الجناية فإنّه يحكمُ بحريّة العبد؛ لأنّه أقرّ بحريّته، والعبد في ملكه، ويكون ولاؤه موقوفاً؛ لأنّه لمولى العبد، ومولى العبد يبرأُ من ذلك، وأقرّ بأنّه لوليّ الجناية، فإن زعمَ أنّه أعتقَ من جهته فيكون ولاؤه موقوفاً. انتهى.
(10/349)
________________________________________
] عبدٌ خطأً وليَّ حرٍّ زَعَمَ أنَّ سيِّدَهُ أعتقَهُ فلا شيءَ للحرِّ عليه): أي قال رجل: هذا العبدُ قد أعتقَهُ مولاه، فقتلَ ذلكَ العبدُ شخصاً خطأ، وذلكَ الرَّجلُ وليُّ جنايتِهِ[(1)](2) فلا شيء له؛ لأنَّهُ لمَّا قال أنَّ مولاهُ أعتقَهُ فادَّعى الدِّيةَ على العاقلة[(3)]، وأبرأ العبدَ[(4)] والمولى عن موجبِ الجناية(5).
__________
(1) قوله: وليّ جنايته؛ أراد الشارحُ - رضي الله عنه - بالوليّ الحرّ الذي أضافَ المصنّف - رضي الله عنه - إليه الولي الذي أريد به المقتول؛ لأنّ هذه الولاية من قبيل التضايف كما لا يخفى، هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص613)].
(2) في ب: الجناية.
(3) قوله: فادَّعى الدِّيَة على العاقلة؛ أي عاقلة العبد لكن نظراً إلى كونه معتقاً عند ولي الجناية؛ لأن العاقلةَ حينئذٍ حيّ سيّده فيصحّ قوله: وإبراءُ العبدِ والمولى لا بالنظرِ إلى كونِهِ عبداً؛ لأنّه لا عاقلةَ له إلا مولاه. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص613)].
(4) قوله: وأبرأ العبد؛ أيّ من كلِّ الدِّيَة، لا من قسطِهِ في الدِّيَة، والمولى لأنّه لم يدَّع على المولى بعد الجناية إعتاقاً، حتى يصيرَ المولى به مختاراً للفداء، مستهلكاً حقّ المجني عليه بالإعتاق. كذا في ((الكفاية))(9: 281).
(5) لأنه لا يصدق على العاقلة بغير حجّة. ينظر: ((الهداية))(4: 207).
(10/350)
________________________________________
(فإن قال: قتلتُ أخا زيدٍ قبل عتقي خطأً، وقال زيد: بل بعدَه، صُدِّقَ الأوَّل)، فإنَّهُ أسندَ قتلَهُ إلى حالةٍ منافيةٍ(1) للضَّمان، فكان منكراً[(2)]، فالقولُ قولُه[(3)]، كما إذا قال بالغ](4): طلَّقتُ امرأتي، وبعتُ داري، وأنا صبيّ، أو أنا مجنون، وكان جنونُهُ معروفاً، فالقولُ قولُه.
فإن قلت: ينبغي أن لا يكونَ لقولِ(5) العبدِ اعتبار؛ لأنَّ معنى قولِ الأخ: َّ](6) دِيَةَ القتلِ على عاقلتِك، ومعنى قولِ القاتل: إن الواجبَ على مولاي الأقلَّ من قيمتي، ومن الدِّيَةِ إن لم يعلمْ بالجناية، والدِّيةُ إن كان عالماً بها، فلا(7) اعتبارَ لقولِ العبدِ في حقِّ المولى.
قلت: الأخُ يدَّعي على القاتلِ قتلَ](8) الخطأَ بعد العتق، ولا بيِّنةَ له، فالقاتلُ إن أقرَّ بذلكِ تلزمُهُ الدِّيَة؛ لأنَّ ما يثبتُ بالإقرارِ لا يتحمَّلُهُ العاقلة، فهو منكرٌ ذلك، بل يقول: قتلُهُ قبلَ العتقِ فيعتبرُ قولُهُ في نفي قتلِهِ بعد العتق، لا في أنَّهُ يثبتُ على المولى شيء؛ لأنَّ قولَهُ لا يكونُ حجَّةً على المولى.
__________
(1) في ب: متافية.
(2) قوله: فكان منكراً؛ أي للضمان؛ لأنّه أسندَه إلى حالةٍ معهودةٍ منافية للضمان أو الكلام، فيما إذا عُرِفَ رقُّهُ، فصار كما إذا قال البالغُ العاقل: طلَّقت امرأتي وأنا صبيٌّ أو مجنون، وكان جنونه معروفاً كان القول له. ((الهداية)). كذا في ((رد المحتار))(616).
(3) قوله: فالقول قوله؛ فإن قلت: إنّ العبدَ قد ادّعى تاريخاً سابقاً في إقراره، والمُقَرُّ له منكرٌ لذلك التاريخ، فينبغي أن يكون القولَ قول المقرّ له، أجيبُ بأنّ اعتبارَ التاريخ للترجيح بعد وجود أصل إقراره، وهاهنا هو منكرُ الأصل، فصارَ كمن يقول العبد: أعتقك قبل أن تخلق أو أخلق. كذا في ((العناية))(10: 349).
(4) زيادة من ب و م.
(5) في ب: القول.
(6) سقطت من ص.
(7) في ب و ص: ولا.
(8) زيادة من أ و م.
(10/351)
________________________________________
(إن قال[(1)]: قطعتُ يدَها قبل إعتاقِها، وقالت: بل بعدَه، صُدِّقَت، وكذا في أخذِ المالِ منها، لا في الجماعِ والغلَّة[(2)] ): أي أعتقَ أمَةً ثمَّ قال لها: قَطَعْتُ يدَك، أو أخذتُ منكِ هذا المالَ قبلَما أعتقتُك، وقالت: بل بعدَه، فالقولُ قولُها عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - وأبي يوسفَ - رضي الله عنه -، وعند محمَّدٍ - رضي الله عنه -: القولُ قولُه، وهو القياس؛ لأنَّهُ ينكرُ الضَّمانَ بإسنادِ الفعلِ إلى حالةٍ معهودةٍ منافيةٍ للضَّمان، قلنا: لم يسندْهُ إلى حالةٍ منافيةٍ له؛ لأنَّه يضمنُ لو فعل وهي مديونةٌ، على أنَّ الأصلَ في هذهِ الأمورِ الضَّمان، فقد أقرَّ بسببِ الضَّمان، ثمَّ ادَّعى البراءةَ عنه[(3)] بخلافِ ما إذا قال[(4)
__________
(1) قوله: فإن قال... الخ؛ هذه المسألة أيضاً بناؤها على إسنادِ الإقرار إلى حالةٍ منافيةٍ للضمان. كذا في ((الكفاية)).
(2) قوله: لا في الجماع والغلة، بأن قال: جامعتُك وأنت أمتى، أو أخذتُ منك غلّة وأنت أمتي، فقالت: بل كان ذلك بعد العتق، فالقول قولُ المولى، في ((المغرب))(ص344): الغلة: كلُّ ما يحصلُ من ربحِ أرضٍ أو كرائها أو أجرة غلامٍ أو نحو ذلك، وفي ((المنتخب)): الغلة: بالفتح درآمد هر جيزي از حبوب ونقود وجزء آن وآمد كرائيه مكان ومرد غلام.
(3) قوله: ثمّ ادّعى البراءة عنه؛ فلا يكون القول قوله كما إذا قال لغيره: فقأت عينك اليمنى، وعيني اليمنى صحيحة، ثم فقئت، يريد بذلك برآته عن ضمان العين قصاصاً وأرشاً، فقال المقر: بل فقأتها وعينك اليمنى مفقوءة، يريد به وجوبُ نصفِ الدِّيَةِ عليه، وهذا بناءً على أنّ جنسَ العضوِ المتلف إذا كان صحيحاً حالَ الإتلاف، ثم تلفَ سقطَ القصاصُ بناءً على أصلِ أصحابنا إنّ موجبَ العمد القَوَد على سبيل التعيين، وله العدولُ إلى المال، فقبلَ العدولِ إذا فاتَ المحلّ بطلَ الحقّ، فإنّ القولَ منا قول المقرّ له. كذا في ((العناية))(10: 350).
(4) قوله: بخلاف ما إذا قال... الخ؛ الحاصل أنّ هذه المسألة على ثلاثة أوجه:
في وجه يكون القولُ قولَ المولى: وهو ما إذا أخذَ الغلة أو وطئها.
وفي وجه يكون القولُ قول الجارية: وهو ما إذا أقرَّ المولى أنّه أخذَ منها مالاً وهو قائم في يده.
وفي وجهٍ اختلفوا: وهو ما إذا استهلكَ مالها أو قطعَ يدها. وقد اتّفقوا على أصلين:
أحدُهما: إنّ الإسنادَ إلى حالةٍ معهودةٍ منافية للضمان يوجبُ سقوطَ المقرّ به.
والآخر: إنّ مَن أقرّ بسببِ الضمان، ثمّ ادّعى ما يبرئه لا يسمعُ منه إلاَّ بحجّة.
فالوجه الأوّل: مخرجٌ على الأصلِ الأوّل، والوجه الثاني مخرج على الأصل الثاني بالاتّفاق، والوجه الثالث أخرجه محمّد - رضي الله عنه - على الأوّل، وهما على الثاني. كذا في ((العناية))(10: 351).
(10/352)
________________________________________
]: جامعتُها قبلَ الاعتاق، أو أخذتُ الغلَّةَ(1) قبلَ الاعتاق، فإنَّ تلكَ الحالةِ منافيةٌ للضَّمانِ بسببِ الجماعِ وأخذِ الغلَّة، وأيضاً الظُّاهرُ(2) كونهما في حالةِ الرِّق.
(فإن أمرَ عبدٌ محجور[(3)]، أو صبيٌّ صبياً[(4)] بقتلِ رجلٍ فقتلَه، فالدِّيةُ على عاقلةِ القاتل[(5)]، ورجعوا على العبدِ بعد عتقِهِ لا على الصَّبي الآمر)؛ لأنَّ المباشرَ هو الصبيُّ المأمور، فتضمنُ عاقلتُهُ ثمَّ يرجعونَ على العبدِ إذا أعتق؛ لأنَّهُ أوقعَ الصَّبيَّ في هذهِ الورطة، لكنَّ قولُهُ غيرَ معتبرٍ لحقِّ المولى، فيضمنُ بعدَ العتق، ولا يرجعونَ على الصَّبيِّ الآمرِ لقصورِ
__________
(1) إلا فيما كان قائماً بعينه في يد المقرّ؛ لأنه متى أقر أنه أخذه منها فقد أقر بيدها، ثم ادَّعى التمليك عليها، وهي تنكر، فكان القول للمنكر؛ فلذا أمر بالرد. ينظر: ((الشرنبلالية))(2: 116).
(2) في ب: لظاهر.
(3) قوله: فإن أمر عبد محجور... الخ؛ قيّد المصنِّف - رضي الله عنه - بالعبد؛ لأنّه لو كان الآمر حرّاً بالغاً، يرجعُ عاقلةُ الصبيّ على عاقلةِ الآمر، وقيَّدَ بالمحجور عليه؛ لأنّه لو كان مكاتباً بالغاً يرجعُ عاقلةُ الصبيِّ عليه بأقلّ من قيمته، ومن الدية، بخلاف ما إذا كان الآمرُ عبداً مأذوناً حيث لا يرجعونَ عليه إلاَّ بعد العتق. كذا في ((الكفاية))(9: 283).
(4) قوله: صبيّاً؛ أي حرّاً، وإنّما قيّدنا بالحرّ؛ لأنّه لو كان عبداً لا يجب الدِّيَة، بل يدفع أو يفي به. كذا في ((الكفاية))(9: 283).
(5) قوله: على عاقلةِ القاتل؛ وهو الصبيّ؛ لأنّه هو القاتلُ حقيقةً، وعمده وخطاؤه سواء كما تقرَّرَ في محلِّه، ثمّ يرجعون على العبدِ الآمرِ بعد الإعتاق؛ لأنَّ عدمَ اعتبارِ قوله كان لحقِّ المولى، وقد زال بالعتقِ لا لنقصان أهليَّة العبد، بخلاف الصبيّ؛ لأنّه قاصرُ الأهليّة؛ ولذا قال: لا على الصبيِّ الآمر؛ أي لا رجوعَ لعاقلةِ الصبيِّ على الصبيِّ الآمر أبداً.
(10/353)
________________________________________
أهليَّتِه.
(فإن كان مأمورُ العبدِ مثلَهُ[(1)] دفعَ السيِّدُ القاتل، أو فداهُ في الخطأ بلا رجوعٍ في الحال، ويجبُ أن يرجعَ بعد عتقِهِ بأقلَّ من قيمتِه ومن الفداء): أي إن أمرَ عبدٌ محجورٌ عبداً محجوراً بقتلِ رجلٍ(2) ففي الخطأ دفعَ السيِّدُ القاتل أو فداه، ولا رجوعَ على العبدِ الآمرِ في الحال، وإنَّما قال[(3)]: ويجبُ أن يرجعَ بعدَ العتقِ إذ لا روايةَ لذلك، فينبغي أن يرجعَ بأقلَّ من قيمتِه ومن الفداء؛ لأنَّ
__________
(1) قوله: فإن كان مأمور العبد مثله... الخ؛ أي إن كان الآمر عبداً والمأمورُ عبداً محجوراً عليهما دفعَ العيد القاتل أو فداه؛ أي يخاطب مولى القاتل بالدفع أو الفداء في الخطأ؛ أي لا في العمد مطلقاً كما سيأتي، بلا رجوع في الحال؛ أي لا رجوعَ له على الأوّل في الحال... الخ، قال في ((الكفاية))(9: 283): هذا الحكمُ لا يقتضي أن يكونَ الآمرُ والمأمورُ كلاهما محجوراً عليهما لا محالة، بل يكتفي بأن يكونَ الآمرُ محجوراً عليه؛ لأنّه إذا أمرَ العبدُ المحجورُ العبدَ المأذون، وباقي المسألة بحالها، فالحكمُ كذلك، أمّا لو كان الآمرُ عبداً مأذوناً، والمأمورُ عبداً محجوراً أو مأذوناً يرجعُ مولى العبد القاتل بعد الدفع أو الفداءِ على رقبة العبد الآمر في الحال بقيمة عبده؛ لأنّ الآمرَ بأمره صار غاصباً للمأمور، فصار كإقراره بالغصب، والعبدُ المأذونُ لو أقرّ بالغصب يؤاخذُ به في حال رقّه بخلاف المحجور على ما ذكرنا. انتهى كلامه.
(2) في ا: الرجل.
(3) قوله: وإنّما قال: ويجب... الخ؛ يعني إنّما غيَّر الأسلوب السابق حيث لم يقل: ورجع بعد عتقه، عطفاً على فداه؛ لأنّه لو فعل ذلك لأوهمَ كون الرجوع بعد العتق مروياً كالدفع أو الفداء، وليس كذلك، فأشارَ بقوله: ويجب... الخ؛ إلى أنّه تصرَّفٌ واجتهادٌ من المصنّف - رضي الله عنه - ومن صاحب ((الهداية)) غير مرويّ عن أحدٍ من المجتهدين. هكذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص613)].
(10/354)
________________________________________
القيمةَ إذا كانت أقلَّ من الفداءِ فالمولى غيرُ مضطرٌ[(1)] إلى إعطاءِ الزِّيادةِ على القيمة، بل يدفعُ العبد، أقول: ينبغي أن لا يرجعَ بشيءٍ لأنَّ الأمرَ لم يصحّ، والآمرُ لم يوقعْهُ في هذهِ الورطةِ لكمالِ عقلِ المأمور، بخلافِ ما إذا كان المأمورُ صبيَّاً(2).
(وكذا في العمدِ إن كان العبدُ القاتلُ صغيراً، وإن(3) كان كبيراً اقتصّ): أي في العمدِ دفعَ السيُّدُ القاتلَ أو فداهُ ثمَّ رجعَ على العبدِ الآمرِ بأقلَّ من قيمتِه ومن الفداءِ إن كان العبدُ القاتلُ صغيراً، فإنَّ عمدَ الصَّغيرِ كالخطأ، وإن كان كبيراً يجبُ القصاص.
__________
(1) قوله: فالمولى غير مضطر؛ أي لا ضرورة له في إعطاءِ الزيادة؛ لأنّه يتخلَّص عن عهدة الضمان باعطاء الأقلّ من الفداء وقيمة العبد. كذا في ((العناية))(10: 351).
(2) نقل صاحب ((مجمع الأنهر))(2: 270) كلام صدر الشريعة دون اعتراض عليه، ولكن صاحب ((الإيضاح))(ق169/ب)، قال: عبارة ((الجامع الصغير)): وليس على الأمر ولا على عاقلته شيء، وقال الفقيه أبو الليث في ((شرحه)): يعني لا شيء عليه في الحال، ولكن يجب عليه بعد العتق ثم قال: وهكذا ذكر في ((الزيادات))، فمن وهم أنه إنما قال: ويجب أن يرجع بعد العتق إذ لا رواية لذلك فقد وهم، وإنما يجب الرجوع عليه بعد العتقح لأنه لما أمر بالقتل حتى صار غاصباً ومرجع هذا الغصب إلى القول فصار كالإقرار منه بالغصب فلا يؤخذ به إلا بعد العتق، هكذا نقل الفقيه أبو الليث عن ((الزيادات)).
(3) في أ و ب و ص و م: فإن.
(10/355)
________________________________________
(فإن قتلَ قنُّ عمداً حرَّيْن لكلِّ حد](1) وليَّان، فعفا أحدُ وليِّي كلٍّ منهما، دفعَ نصفَه إلى الآخرين، أو فدا بدِيَة)، وسقطَ حقُّ مَن عفا الدِّيَة](2)، وانقلبَ حصّةُ مَن لم يعفُ مالاً[(3)]، فإمَّا أن يدفعَ نصفَه أو الدِّيَةِ الواحدة.
(فإن قتلَ أحدَهما عمداً والآخرَ خطأً، وعفا أحدُ وليَّيْ العمد، فدى بدِيَةِ لوليِّ الخطأ، وبنصفِها لأحدِ وليَّيْ العمد، أو دفعَ إليهم، وقُسِمَ أثلاثاً عولاً عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وأرباعاً[(4)
__________
(1) زيادة من أ و م.
(2) فالدية.
(3) قوله: وانقلبَ حصّة مَن لم يعفُ مالاً؛ فصار كما لو وجبَ المالُ من الابتداء؛ وهذا لأنَّ حقَّهم في الرقبة أو في عشرين ألفاً، وقد سقطَ نصيبُ العافين، وهو النصف، وبقي النصف، فإمّا أن يدفعَ نصفَه أو الدَّيَة الواحدة.
(4) قوله: وأرباعاً منازعة عندهما؛ يعني إنّ القسمةَ عندهما بطريق المنازعة أصل، هذا ما اتّفقوا عليه أنّ قسمةَ العين إذا وجبت بسببِ دينٍ في الذمّة كالغريمين في التركة ونحوها، كانت القسمةُ بطريقِ العول، والمضاربةُ لعدمِ التضايقِ في الذمّة، فيثبتُ حقُّ كلِّ واحدٍ منهما على وجهِ الكمال، فيضربُ بجميع حقِّه، أمّا إذا وجبت قسمةُ العينِ ابتداءً لا بسبب دينٍ في الذمّة؛ كمسئلةِ بيع الفضوليّ، وهي أنّ فضوليّاً لو باعَ عبدَ إنسان كلّه، وفضوليّاً آخرَ باع نصفَه، وأجازَ المولى البيعين، كان العبدين المشتريين أرباعاً، فكانت القسمةُ بطريقِ المنازعة؛ لأنَّ حقّ الثابتِ في العينِ ابتداءً لا يثبتُ بصفة الكمال.
إذا ثبت هذا، قال أبو يوسفَ [ومحمد] - رضي الله عنه -: في هذه المسألة ثلاثة أرباعِ العبدِ المدفوع لوليّ الخطأ، وربعُه للساكت من وليّ العمد؛ لأنّ حقَّ وليِّ العمد كان في جميع الرقبة، فإذا عفى أحدُهما بطلَ حقُّه، وفرغَ النصفُ، فيتعلّق حقّ وليِّ الخطأ بهذا النصف بلا منازعة، وبقي النصف الآخر، واستوت منازعةُ وليِّ الخطأ، والساكت من وليِّ العمدِ في هذا النصف، فصار هذا النصفُ بينهما نصفين، وكانت القسمةُ بينهما بطريقِ المنازعة أرباعاً، كما في مسألة الفضوليين.
ولأبي حنيفةَ - رضي الله عنه - أنّ أصلَ حقِّهما ليس في عين العبد، بل في الأرشِ الذي هو بدل التلف، والقسمةُ بينهما في غير العين يكون بطريقِ العول والمضاربة؛ وهذا لأنّ حقَّ وليِّ الخطأ في عشرةِ آلاف، وحقَّ شريك العافي في خمسةٍ، فيُضْرَبُ كلُّ واحدٍ منهما بحصَّتِه كرجلٍ عليه ثلاثة آلاف درهم، ألفان لرجلٍ، وألف لآخر، مات وتركَ ألفَ درهم، كانت التركةُ بين صاحبيّ الدَّين أثلاثاً بطريق العول والمضاربة، ثلثاها لصاحبِ الألفين، وثلاثة لصاحبِ الألف، كذا هذا، بخلاف بيع الفضوليّ؛ لأنَّ الملكَ يثبتُ للمشتري ابتداء. كذا في ((العناية))(10: 352).
(10/356)
________________________________________
] منازعةً عندهما)، أمَّا طريقُ العول[(1)] فإنَّ وليَّي(2) الخطأِ يدَّعيانِ الكلّ، وأحدُ وليَّي(3) العمدِ يدَّعي النِّصفَ[(4)] ضربُ هذانِ بالكلّ، وذلك بالنِّصف، أصلُهُ التَّركةُ المستغرقة لدَّين](5)، وهذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقالا: يدفعُهُ أرباعاً، ثلاثةُ أرباعِهِ لوليِّ الخطأ، (6) ربعُهُ لوليِّ العمدِ بطريقِ المنازعة، فيسلِّمُ النِّصفَ لوليِّ الخطأ بلا منازعة، وبقى منازعةُ الفريقَيْن في النَّصفِ الآخر، فينصَّف؛ فلهذا يقسمُ أرباعاً](7).
__________
(1) قوله: أمّا طريقُ العول... الخ؛ أصلُ العول هو زيادةُ سهامِ الورثةِ إذا كثرت الفروض على مخرجِ السهام المفروضة الذي يقال له أصل المسألة.
(2) في ب و ص: ولي.
(3) في ب و ص: ولي.
(4) قوله: يدّعي النصف؛ ففي المسألة كلٌّ ونصفٌ فالمسألة من اثنين، ويعول إلى ثلاثة.
(5) زيادة من ب و م.
(6) سقطت من ب.
(7) العبارة في ص: فيضربان هما بالكل ويضرب هو بالنصف فيعول وأما طريق المنازعة فيسلم النصف لولي الخطأ بلا منازعة واستوت منازعة الفريقين في النصف الآخر، فيقسم أرباعا أصله أصل الشركة المستغرقة بالديون.
(10/357)
________________________________________
(فإن قتلَ عبدُهما قريبَهما، وعفا أحدُهُما، بطلَ كلُّه[(1)]): أي عبداً لرجليْن قتلَ ذلك العبدُ قريباً لهما، فعفا أحدُهما بطلَ الكلُّ عند أبي حنيفةَ(2) - رضي الله عنه -، وقالا: يدفعُ الذي عفا نصفَ نصيبهِ إلى الآخر، أو يفديهِ بربعِ الدِّيَة.
[فصل[(3)] الجناية على العبد]
__________
(1) قوله: بطلَ كلُّه؛ أي بطلَ الدمُ كلُّه عند الأعظم - رضي الله عنه -؛ لأنَّ القصاصَ واجبٌ لكلِّ واحدٍ منهما في النصف من غيرِ تعيين، فإذا انقلبَ مالاً بعفو أحدهما احتملَ الوجوب من كلِّ وجه، بأن يعتبرَ متعلّقاً بنصيب صاحبه، واحتملَ السقوطَ من كلِّ وجهٍ بأن يعتبرَ متعلِّقاً بنصيبِ نفسه، واحتمل التنصيف بأن يعتبرَ متعلِّقاً بهما شائعاً، فلا يجبُ المالُ بالشكِّ والاحتمال، ووجه قولهما أنّ نصيبَ مَن لم يعفُ لَمَّا انقلبَ مالاً لعفوِ صاحبه صارَ نصفُه في ملكه ونصفُه في ملك صاحبه، فما أصابَ في ملكِ صاحبه لم يسقط وهو الربع، وما أصابَ ملك نفسه سقط؛ لأنّ المولى لا يستوجب على عبده مالاً قال الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص613-614). كذا في ((شرح الوافي)).
(2) لأن القصاص واجب لكل منهما في النصف من غير تعيين فإذا انقلب مالاً احتمل الوجوب من كل وجه بأن يعتبر متعلقاً بنصيب صاحبه واحتمل السقوط من كل وجه بأن يعتبر متعلقاً بصيب نفسه، واحتمل التنصيف بأن يعتبر متعلقاً بهما شائعاً فلا يجب المال بالشكّ. ينظر: ((رد المحتار))(5: 396).
(3) قوله: فصل؛ لَمَّا فرغَ عن بيان أحكام الجناية على العبد، شرعَ في بيان أحكام الجنايةِ على العبد، فقدَّمَ الأوّل لترجيح جانب الفاعليّة. كذا في ((العناية)).
(10/358)
________________________________________
(ديةُ العبدِ قيمتُهُ فإن بلغتْ هي دِيَةُ الحرّ، وقيمةُ الأمةِ دِيَةُ الحرَّة، نقصَ من كلٍّ[(1)] عشرة[(2)])، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمَّدٍ - رضي الله عنه - إظهاراً لانحطاطِ رتبةِ(3) العبدِ عن الحرِّ، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - والشَّافعيِّ(4) - رضي الله عنه -: يجبُ قيمتُهُ بالغةً ما بلغت[(5)
__________
(1) قوله: نقص من كلّ؛ أي كلّ من قيمةِ العبدِ التي بلغت عشرةَ آلاف، وقيمة الأمة التي بلغت خمسة آلاف. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص614)].
(2) قوله: عشرة؛ أي عشرة دراهم، فاتّضح عنه أنّه لا يزادُ ديّتها على ديَة الحرِّ والحرّة، وإن كان قيمتُهما ضعفَ ديَّتهما؛ لأنَّ ديةَ العبدِ عشرةَ آلاف إلا عشرة، وديةُ الأمة خمسةُ آلاف إلاَّ عشرة، وروى الحسن - رضي الله عنه - عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنّه ينقص من قيمة الأمة خمسة، وقال أبو الليث - رضي الله عنه - رواية الحسن هي القياس. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص614)] ناقلاً عن ((البيانية)).
(3) في ب:دية.
(4) ينظر: ((النكت))(3: 376)، و
(5) قوله: بالغةً ما بلغت؛ لهما: إنّ الضمانَ بدلَ الماليّة؛ ولذا يجب للمولى، وهو لا يملك العبد إلا من حيث الماليّة، ولو قتلَ العبدُ المبيعُ قبل القبض يبقى العقد، وبقاء العقد ببقاء المالية أصلاً أو بدلاً، وصار كقليلِ القيمة وكالغصب.
لأبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمّد - رضي الله عنه -: قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه}[النساء:92]، أوجبَ الديَةَ مطلقاً، وهي اسمٌ للواجبِ بمقابلة الآدميّة؛ ولأنّ في العبد معنى الآدميّة، حتى كان مكلّفاً، وفيه معنى الماليّة حتى وردَ عليه الملك بلا خلاف، والآدميّة أعلاها، فيجب اعتبارها بإهدار الأدنى عند تعذّر الجمع بينهما، وضمانُ الغصبِ بمقابلة الماليّة، إذ الغصبُ لا يردُ إلاَّ على المال، وليس القتلُ بمنْزلة استهلاكِ سائر الأموال؛ لأنَّ ضمانَ المال يشبُه ضمانَ التجارة، وبقاءُ العقد يتَّبعُ الفائدة حتى يبقى بعد قتله عمداً، وإن لم يكن القصاصُ بدلاً عن الماليّة، فكذلك أمرُ الديَة.
وفي قليل القيمة الواجب بمقابلةِ الآدميّة إلا أنّه لا يسمع فيه، فقدرناه بقيمته رأياً بخلاف كثير القيمة؛ لأنّ قيمةَ الحرِّ مقدّرة بعشرة آلاف، كما مرّ ، نقصنا منها في العبد إظهاراً لانحطاط رتبته، وأمّا تعيينُ العشرةِ فبأثر عبد الله بن عبّاس - رضي الله عنه -، وهذا كالمرويّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ المقاديرَ لا تعرفُ بالقياس، وليس طريق معرفته إلا بالسماعِ عن صاحب الوحي. هكذا في ((الهداية)) حواشيه.
(10/359)
________________________________________
].
(وفي الغصبِ[(1)] قيمتُهُ ما كانت)(2)، هذا بالإجماع، فإنَّ المعتبرَ في الغصبِ الماليَّةُ لا الآدميَّة.
(وما قُدِّرَ من دِيَةِ الحرِّ قُدِّرَ من قيمتِه): أي قيمةِ العبد، (ففي يدِه نصفُ قيمتِه[(3)]): أي إن كانت قيمتُهُ عشرةَ آلافٍ أو أكثر، يجبُ في يدِه خمسةُ آلاف إلا خمسةَ دراهم.
__________
(1) قوله: وفي الغصب... الخ؛ صورتُه رجلٌ غصبَ عبداً قيمتُه عشرون ألفاً، فهلكَ في يده تجب قيمتُه بالغةً ما بلغت، هذا بلا خلاف، فإنّ المعتبرَ في الغصبِ الماليّة لا الآدميّة؛ لأنَّ الغصب لا يردُ إلا على المال كما لا يخفى.
(2) صورته رجلٌ غصبَ عبداً قيمته عشرونُ ألفاً، فهلك في يده تجب قيمته بالغة ما بلغت، هذا بلا خلاف، فإنّ المعتبرَ في الغصبِ الماليّة لا الآدميّة؛ لأنَّ الغصب لا يردّ إلا على المال كما لا يخفى. ينظر: ((حسن الدراية))(4: 182).
(3) قوله: نصف قيمته؛ أي نصفُ قيمةِ العبد، وفي ((المبسوط))(27: 29): يجب نصف قيمته بالغةً ما بلغت في الصحيح من الجواب، إلا في روايةٍ عن محمّد - رضي الله عنه -: إنّه يجب في قطعِ يدِه خمسةَ آلافَ إلا خمسة، واختارَ هذه الرواية صاحبُ ((الهداية))(4: 210) حيث قال: لا يزادُ على خمسةِ آلاف إلا خمسة، وتوجيهٌ الشارح - رضي الله عنه - أيضاً دالٌّ على ما ذهب إليه صاحب ((الهداية)) حيث قال: أي إن كانت قيمتُهُ عشرةُ آلاف أو أكثر يجب في هذه خمسة آلاف إلا خمسة دراهم، فليتأمّل فيه.
(10/360)
________________________________________
(عبدٌ قُطِعَ[(1)] يَدُهُ عمداً، فأعتقَ فسرى، أُقيد إن(2) ورثَه سيِّدُهُ فقط، وإلا لا(3) ): أي إن كان وارثُ المعتقِ السيِّدُ فقط، استوفى القَوَدَ عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - وأبي يوسفَ - رضي الله عنه -، وعندَ محمَّدٍ - رضي الله عنه - لا؛ لأنَّ القصاصَ[(4)] يجبُ بالموتِ مستنداً إلى وقتِ الجرح، فإن اعتبرَ حالةَ الجرح، فسببُ الولايةِ الملك، وإن(5) اعتبرَ حالةَ الموتِ فالسَّببُ الوراثةُ بالولاء، فجهالةُ سببُ الاستحقاقِ تمنعُ كجهالةِ المستحقّ، قلنا[(6)]: لا اعتبارَ لجهالةِ السَّببِ عند تيقُّنِ مَن له الحقّ، وإن لم يكنْ الوارثُ السيِّدُ فقط: أي بقي له وارثٌ غيرُ السَّيِّدِ لا يقادُ بالاتِّفاق؛ لأنَّهُ إن اعتبرَ حالةَ الجرحُ فالمستحقُّ السيِّدُ فقط، وإن اعتبرَ حالةَ الموتِ فذلكَ الوارث، أو هو مع السَّيِّد، فجهالةُ المقضي(7) لهُ تمنعُ الحكم.
__________
(1) قوله: عبدٌ قطع... الخ؛ صورةُ المسألة: رجلٌ قطعَ يدَ عبدٍ فأعتقَه المولى، فسرى فمات العبدُ من ذلك، اقتصّ منه إن ورثَهَ سيّده فقط، وكان له ورثة غيرُ المولى، فلا يقتصّ فيه.
(2) في م: قيدان.
(3) في ق: فلا.
(4) قوله: لأنَّ القصاصَ... الخ؛ محصِّله أنّ سببَ الولايةِ قد اختلف؛ لأنَّ السبب على اعتبار حالة الجرح قبل العتق الملك، وعلى اعتبار حالة الموت بعد العتق، الوراثة بالولاء، فنَزل هذا الاختلافُ منْزلةَ اختلافِ المستحقّ فيما لا يثبتُ بالشبهات.
(5) في ب: فإن.
(6) قوله: قلنا… الخ؛ توضيحه: أنّا تيقّنا بثبوت الولاية للمولى فيستوفي القصاص؛ لأنّ المفضي له معلوم، وهو المولى، والحكم وهو استيفاء القصاص متّحد، فوجب القولُ بالاستيفاء، بخلاف الصورةِ الثانية، يعني إذا كان له ورثة سوى المولى؛ لأنَّ المفضي له فيها مجهول، واختلافُ السبب ليس بمعتبر هاهنا؛ لأنَّ الحكمَ لا يختلف.
(7) في ب: المقتضى.
(10/361)
________________________________________
(فإن أعتقَ أحدَ عبديهِ فشُجَّا، فعيَّن أحدهما(1)، فأرشُهُما للسيِّد، فإن قتلَهُما رجلٌ تجبُ[(2)] ديةُ حرّ، وقيمةُ عبد، وإن قتلَ كلاًّ رجلٌ فقيمةُ العبدَيْن[(3)]): أي قال لعبديه: أحدكُما حرُّ ثمَّ شُجَّا فبيَّن(4) السيِّدُ أنَّ المرادَ بأحدهما هذا المعيَّن، فأرشهما للسيِّدِ[(5)] لما عرفَ أنَّ البيانَ إظهارٌ من وجه، وإنشاءٌ من وجه، عدَ الشَّجةِ يبقى محلاً للإنشاء، فاعتبرَ
__________
(1) في ق و ص : أحدا.
(2) قوله: تجب... الخ؛ أي تجبُ ديةُ حرّ للورثة، وقيمة عبد للمولى.
(3) قوله: فقيمة العبدين... الخ؛ أي إن قتلَ كلُّ واحدٍ منهما معاً رجل، فقيمةً العبدين واجب؛ لأنّا لم يتيقّن بقتلِ واحدٍ منهما حرّاً، وكلُّ منهما ينكر ذلك، قال في ((الكفاية))(9: 292): هذا إذا قتلهما معاً ولا يدرى أيّهما قتلَ أوّلاً، أمّا إذا قتلهما رجلان فإن كان قتلُهما على التعاقبِ فعلى القاتل الأوّل قيمةُ الأوّل لمولاه، وعلى القاتلِ بالثاني ديةُ لورثته؛ لأنَّ العتقَ تعيّن، وأمّا لو قتلاهما معاً فعلى كلّ واحدٍ منهما قيمةُ عبد؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من القاتلين إنّما قتلَ أحدهما بعينه، والعتق في حقِّ المعيّن كأنّه غير نازل، فكان كلُّ واحدٍ منهما مملوكاً عيناً، وإنّما نزلَ العتقُ في المنكر، ولا نتيقّن أنّ كلَّ واحدٍ منهما قاتلٌ لذلك المنكر، وإنّما يجبُ على كلّ واحدٍ منهما القدرُ المتيقّن به وهو القيمة.
(4) في ص: فتبين.
(5) قوله: فأرشهما للسيد... الخ؛ والفرقُ أنّ البيانَ إنشاءٌ من وجه، وإظهارٌ من وجه على ما عرفَ في أصولِ الفقه، وبعد الشجّة بقيَ محلّ للبيان، فاعتبرُ إنشاء في حقّهما، وبعد الموت لم يبقَ محلاً للبيان، فاعتبرناه إظهاراً محضاً، وأحدهما حرّ بيقين، فتجبُ قيمةُ عبدٍ وديَةُ حرّ، بخلافِ المسألة الثالثة، حيث تجبُ قيمةُ العبدين؛ لأنّا لم نتيقّن بقتل كلِّ واحدٍ منهما حرّاً، وكلّ منهما ينكر ذلك. كذا في ((الهداية))(4: 211).
(10/362)
________________________________________
إنشاء(1)](2)، فكأنَّهُ أعتقَ وقتَ البيان(3).
(وفي فقء عينَيْ عبدٍ دَفَعَه سيِّدُهُ وأخذَ قيمتَه، أو أمسكَهُ بلا أخذِ النُّقصان): أي إن شاءَ السيِّدُ دفعَ العبدَ إلى الجاني، وأخذَ القيمة، وإن شاءَ أمسكَهُ بلا أخذِ النُّقصان، وهذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقالا: يخيَّرُ بينَ الدَّفعِ والإمساكِ مع أخذِ النُّقصان، وقال الشَّافعيُّ(4) - رضي الله عنه -: ضمَّنَهُ القيمةَ وأمسكَ الجثَّةَ العمياء، فإنَّهُ يجعلُ الضَّمانَ في مقابلةِ الفائتِ(5) فبقي الباقي على ملكِهِ، كما إذا فقأَ إحدى عينيه، وقالا: الماليَّةُ معتبرةٌ في حقِّ الأطراف، وإنَّما سقطتْ في حقِّ الذَّاتِ فقط، وحكمُ الأموالِ ما ذكرنا[(6)]، كما في الخرقِ الفاحش[(7)](8)
__________
(1) أي في حقهما، وبعد الموت لم يبق محلاً للبيان، فاعتبرناه إظهاراً محضاً وأحدهما حرّ بيقين فتجب قيمة عبد ودية حرّ، بخلاف ما إذا قتل كل واحد منهما رجل حيث تجب قيمة المملوكين؛ لأنا لم نتيقن بقتل كل واحد منهما حراً وكل مهما ينكر ذلك. وتمامه في ((الهداية))(4: 211).
(2) سقطت من ص.
(3) العبارة في ص: فكأنه أعتق و قت الإنشاء، فاعتبر إنشاء.
(4) في ((الأم))(6: 52) مسألة قريبة منها، وهي: لو كانت الجناية فقء عيني العبد أو إحداهما، وكانت قيمةُ العبد مئتين من الإبل أو ألفي دينار تساوي مئتين من الإبل لم يكن فيه إلا دية حر؛ لأن الجنايةَ تتمُّ بموته منها إذا مات حرّاً لا مملوكاً.
(5) في ب: الغائب.
(6) قوله: ما ذكرنا… الخ؛ إي إن شاءَ أمسكَ المال وأخذَ ما نقصه، وإن شاءَ دفع المال وأخذَ قيمته.
(7) قوله: كما في الخرق الفاحش؛ أي مَن خرقَ ثوبَ غيره خرقاً فاحشاً: إن شاء المالكُ دفعَ ثوبَه إليه وضمَّنَه قيمته، وإن شاءَ أمسكَ الثوبَ وضمَّنه النقصان.
(8) أي من خرقَ ثوبَ غيره خرقاً فاحشاً: إن شاء المالكُ دفع ثوبه إليه وضمنه قيمته، وإن شاءَ أمسكَ الثوب وضمنه النقصان. ينظر: ((حسن الدراية))(4: 184).
(10/363)
________________________________________
، وقال(1) أبو حنيفةَ - رضي الله عنه -: الماليَّةُ إن كانتْ معتبرةً فالآدميَّةُ[(2)] غيرُ مهدرة، فالعملُ بالشَّبهينِ أوجبَ ما(3) ذكرنا.
__________
(1) في ب و ص: فقال.
(2) قوله: فالآدميّة غيرُ مهدرة؛ أي في الذات، وفي الأطرافِ أيضاً، ألا ترى أنّ عبداً لو قطعَ يدَ عبدٍ آخر يؤمرُ المولى بالدَّفعِ أو الفداء، وهذا من أحكامِ الآدميّة؛ لأنَّ موجبَ الجنايةِ على المالِ أن يباعَ رقبته فيها، ثمَّ من أحكامِ الآدميّة أن لا تنقسمَ على الأجزاء، ولا يتملّك الجثّة، ومن أحكامِ الماليّة أن ينقسمَ ويتملَّكَ ألفاً في الجثّة، فالعملُ بالشبهين أوجب ما ذكرناه، يعني بالنظر إلى الآدميّة ينبغي أن لا يجبَ الضمانُ متوزِّعاً، بل بإزاءِ الفائت لا غير، وبالنظر إلى الماليّة ليس له أن يأخذَ كلَّ بدلِ العينِ من إمساك الجثّة، كما أنّه ليسَ له ذلك في المال، وفيما قال إلغاء لجانبِ الآدميّة، حيث جعلاه كالثوب المخروق، وفيما قاله الشافعي - رضي الله عنه - إلغاءٌ لجانبِ الماليّة أصلاً، حيث جعله كحرّ، فقئ عيناه، فوفَّرنا على الشبهين حظَّهما وقلنا: إن شاء المولى رفع عبده وأخذ قيمته نظراً إلى الماليّة، وإن شاءَ أمسكَه ولا شيءَ له نظراً الى الآدميّة. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص614)] ناقلاً عن ((العناية))(10: 363).
(3) في ب: أو.
(10/364)
________________________________________
[فصل[(1)] جناية المُدَبَّر وأمّ الولد]
(فإن جنى مُدَبَّرٌ أو أمُّ ولد، ضمنَ السيِّدُ الأقلَّ من القيمة ومن الأرش[(2)])، إذ لا حقَّ لوليِّ الجنايةِ[(3)] في أكثرَ من الأرش، ولا منعَ من المولى في أكثرَ من القيمة.
__________
(1) قوله: فصل؛ أي فصلَ في جناية المدبر وأمّ الولد كما يفهمُ من مسائله، لَمَّا ذكر باب جناية المملوك والجناية عليه قدّم مَن هو أكملُ في استحقاقِ اسم المملوكية وهو العبد ثم ذكر من هو أحطّ رتبةً في اسم المملوكيّة، وهو المدبَّر وأمّ الولد، غير أنّ أمّ الولدِ أحطُّ رتبةً أيضاً من المدبَّر في ذلك الاسم؛ حتى أنَّ القاضي [لو] قضى بجوازِ بيعها لا ينفذ بخلافِ المدبَّر، وهي أنثى أيضاً؛ فالأنوثةُ والانحطاطُ في اسم، أوجبا تأخير ذكرها عن المدبَّر. كذا في ((العناية))(10: 363).
(2) قوله: الأقلُ من القيمةِ ومن الأرش؛ وإنّما يجبُ الأقلّ؛ لأنّه لا حقَّ لوليِّ الجناية في أكثر من الأرش، ولا منعَ من المولى في أكثرَ من القيمة، ولا يتخيَّر بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّه لا يفيدُ في جنسٍ واحد؛ لاختياره الأقلّ لا محالة، بخلاف القنّ؛ لأنَّ الرغبات كاملة في الأعيان، فيفيد التخيّر بين الدفع والفداء. كذا في ((الهداية))(4: 212).
(3) قوله: إذ لا حقّ لوليّ الجناية... الخ؛ حتى أنّ الإرشَ إن كان أقلَّ قيمةً فلا حقِِّ لوليِّ الجناية فيما زاد عليه، وإن كان أكثرَ من قيمته لم يتلف المولى بالتدبير أو الاستيلاء إلا الرقبة وقيمتها تقوم مقامَها. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص614)].
(10/365)
________________________________________
(فإن جنى أخرى، شاركَ وليُّ الثَّانيةِ وليُّ الأولى في قيمةٍ دفعتْ إليهِ[(1)] بقضاءٍ إذ ليس في جناياته(2) إلا قيمة واحدة، واتَّبعَ السيِّدَ[(3)] أو وليَّ الأولى إن دفعتْ بلا قضاء)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وعندهما: لا يتَّبعُ السيِّد؛ لأنَّ الجنايةَ الثَّانيةَ لم تكنْ موجودةً عند دفعِ القيمةِ إلى وليِّ الأولى، فقد دفعَ كلَّ الواجبِ إلى مستحقِّه، له: إنَّ الثَّانيةَ مقارنةٌ للأولى من وجه؛ ولهذا يشاركُ وليُّ الأولى، فإن(4) دفعَ إلى وليِّ الأولى طوعاً (5) كان ضامناً بخلافِ ما إذا دفعَ غيرَ طائعٍ بحكمِ القاضي.
ب غصب العبد والصبي والمدبر والجناية في ذلك]
__________
(1) قوله:دفعت إليه؛ أي إلى وليّ الأولى، فيقسمانها على قدرِ حقَّيهما ولا شيء على المولى.
(2) في ق: جناية.
(3) قوله: واتبعَ السيّد... الخ؛ صورة المسألة أنه إن كان المولى دفع قيمة المدبَّر الجاني بغير قضاء، فولى الجناية الثانية بالخيار إن شاءَ اتَّبع المولى، وإن شاء اتّبع وليّ الجناية.
(4) في ص: فإذا.
(5) زيادة من ص.
(10/366)
________________________________________
(ومَن غصبَ عبداً قطعَ سيِّدُهُ يدُه[(1)] فسرى، ضمنَ قيمتَهُ أقطع[(2)]، فإن قطعَهُ سيِّدُه في يدِ غاصبِهِ فسرى في يدِه): أي في يدِ الغاصب، (لم يضمن)، فإنَّ الغاصبَ إذا غصبَ مقطوعَ اليدِ يجبُ ردُّهُ كذلك، فإذا امتنعَ فعليهِ قيمتُهُ أقطع، وإن(3) قطعَ المولى في يدِ الغاصبِ استولى عليه، فصارَ مستردِّاً، فيبرأ الغاصبُ عن الضَّمان مع أنَّهُ ماتَ في يدِه.
(وضمنَ عبدٌ محجورٌ غصبَ مثلَهُ فماتَ معه)، فإنَّ المحجورَ مواخذٌ بأفعالِه، فإن كان الغصبُ ظاهراً يباعُ فيه، وإن لم يكنْ ظاهراً بل أقرَّ به لا يباعُ فيه، بل يؤاخذُ به إذا أعتق.
__________
(1) قوله: قطع سيّده يده... الخ؛ في ((ردّ المحتار))(6: 622): فلو القاطعُ أجنبيّاً، فإن اقتصّ منه، وإن شاءَ ضمَّنَ الغاصب، وقيمته مقطوعاً، ولو خطأ فإن شاءَ أخذَ قيمتَه صحيحاً من عاقلةِ القاطع، ورجعت العاقلة على الغاصب بقيمتِهِ مقطوعاً أو ضمَّنَ الغاصبُ قيمتَه مقطوعاً، واتبع غيره في الباقي.
(2) قوله: ضمَّن قيمتَه أقطع؛ أي ضمَّنَ الغاصب قيمته أقطع؛ لاستيلاءِ يده وبرئ الغاصبُ من ضمانه؛ لوصولِ ملكِهِ إلى يده. كذا في الزَّيْلَعِيّ. [ينظر: ((البحر))(8: 441)]
(3) في ب و ص: وإذا.
(10/367)
________________________________________
(فإن جنى مُدبَّرٌ عند غاصبِه، ثمَّ عند سيِّدِه أو عكس، ضَمِنَ قيمتَهُ لهما[(1)]، ورجعَ بنصفِها على الغاصب، ودفعَ إلى الأوَّل، ثمَّ في الأولى رجعَ به على الغاصب، وفي الثَّانيةِ لا): أي غصبَ رجلٌ مدبِّراً فجنى عندَه خطأ، ثمَّ ردَّهُ على المولى، فجنى عنده خطأ، أو كان الأمرُ بالعكس: أي جنى عندَ المولى خطأ، ثمَّ غصبَه رجلٌ فجنى عنده خطأ، ففى الصُّورتَيْن يضمنُ المولى قيمتَهُ لأجلِ الجنايتيْن، ثمَّ يرجعُ[(2)] بنصفِها على الغاصب، ثمَّ يدفعُ[(3)] هذا النِّصفَ إلى وليِّ الجنايةِ الأولى، نَ ي الجناية](4) الثَّانية، لأنَّ حقَّهُ لم يجبْ[(5)
__________
(1) قوله: ضمنَ قيمته لهما؛ أي ضمَّنَ السيد؛ لأنَّ موجبَ جناية المدبَّر وان كثرت قيمة واحدة فيجب ذلك على المولى؛ لأنّه هو الذي أعجز نفسه عن الدفع بالتدبير السابق من غير أن يصير مختاراً للفداء. كذا في الزَّيْلَعِيّ، وفي الاتقاني: وينبغي أن يكون وجوب القيمة فيما إذا كانت أقلّ من الأرش؛ لأنّ حكم جناية المدبر أن يلزم الأقل منهما على المولى. كذا في ((ردّ المحتار)).
(2) قوله: ثم يرجع...الخ؛ أي المولى بنصف قيمته على الغاصب؛ لأنه ضمن القيمة بالجنايتين نصفها بسبب كان عند الغاصب، والنصف الآخر بسبب وجوده عنده، فيرجع عليه بسبب لحقه من جهة الغاصب فصار كأنه لم يرد نصف العبد. كذا في ((ردّ المحتار))(6: 622) ناقلاً عن الزَّيْلَعِيّ.
(3) قوله: ثم يدفع...الخ؛ أي المولى هذا النصف أي النصف المأخوذ من الغاصب، وهذا الدفع الثاني عندهما خلافاً لمحمّد - رضي الله عنه -. كذا في ((ردّ المحتار))(6: 622).
(4) زيادة من ب.
(5) قوله: لأنّ حقّه لم يجب… الخ؛ قال في ((ردّ المحتار))(6: 622): أي حقُّ وليّ الجناية الثاني، قال في ((العناية))(10: 368): ولهما: إنّ حقَّ الأوّل في جميع القيمة؛ لأنّه حين جنى في حقِّه لا يزاحمُه أحد، وإنّما انتقصَ حقَّه بمزاحمةِ الثاني، فإذا وجدَ شيئاً من بدلِ العبد في يدِ المالكِ فارغاً أخذَه إتماماً لحقِّه… آه، وأوردَ أنّ هذا يناقض ما تقدَّم أنَّ جنايةَ المدبَّر لا توجب إلا قيمةً واحدة، وهنا أوجبت قيمةً ونصفاً، وأجيب: إنّ ذاك فيما إذا تعدَّدت الجنايةُ في يدِ شخصٍ واحدٍ بخلافه هنا تأمّل.
(10/368)
________________________________________
] إلا والمزاحمُ قائم، فلم يجب](1)، فإذا دفعَ هل يرجعُ[(2)] به على الغاصبِ أم لا؟
ففي الصُّورةِ الأولى: يرجع.
وفي صورةِ العكس: لا[(3)]، وهذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - وأبي يوسفَ - رضي الله عنه -، وقال محمَّد - رضي الله عنه -: نصفُ القيمةِ التي رجعَ به على الغاصبِ يُسَلَّمُ(4) للمولى(5) ولا يدفعُ إلى وليِّ الجنايةِ الأولى؛ لأنَّهُ عوَّضَ ما أخذَ وليُّ الجنايةِ الأولى، فلا يدفعُ إليه كيلا(6) يجتمعَ البدلُ والمبدلُ في ملكِ شخصٍ واحد.
لهما: إنَّ حقَّ الأوَّلِ في جميعِ القيمة؛ لأنَّهُ حين جنى في ِّهِ](7) لا(8) يزاحمُهُ أحد، وإنَّما ينتقصُ باعتبارِ مزاحمةِ الثَّاني فإذا وجدَ شيئاً من بدلِ العبدِ في يدِ المالكِ فارغاً يأخذُهُ منهُ ليتمَّ حقَّه، فإذا أخذَ منه يرجعُ به المولى على الغاصب؛ لأنَّهُ أخذَهُ منه بسببٍ كان عند الغاصب، ولا يرجعُ به في صورةِ العكس؛ لأنَّ الجنايةَ الأولى كانت في يدِ المالك.
__________
(1) سقطت من ص.
(2) قوله: يرجع؛ أي رجعَ المولى بنصفِ القيمة ولا يدفعه إلى أحد؛ لأنّه وصلَ إلى الوليّين تمامُ حقِّهما. كذا في ((رد المحتار))(6: 622) ناقلاً عن الإتقاني.
(3) قوله: وفي صورة العكس لا يرجعُ المولى على الغاصبِ به ثانياً؛ لأنَّ الجنايةَ الأولى كانت في يد مالكه: أي وما يدفعُه المالك ثانياً إنّما كان بسببها، فلا يرجعُ به على أحد، بخلاف المسألة الأولى؛ لأنّه كان بسببٍ عند الغاصب، فيرجعُ عليه كما مرّ. هذا ما أفاده الزَّيْلَعِيّ.
(4) في ب: سلم.
(5) في أ: المولى.
(6) في ص: ليلا.
(7) سقطت من ص.
(8) في ص: إلا.
(10/369)
________________________________________
(والقنُّ في الفصليْن كالمدبَّر، لكنَّ السيِّدَ يدفعُ القنَّ[(1)] وقيمةَ المدبَّر): أي إذا كانَ مقامَ المدبَّرِ قنٌّ في الفصليْن يدفعُ القنَّ، ثمَّ يرجعُ بنصفِ قيمتِهِ على الغاصب، ويسلِّمُ للمالكِ عندَ محمَّدٍ - رضي الله عنه -، وعندهما: لا يسلَّمُ له، بل يدفعُهُ إلى الأوَّل، فإذا دفعَهُ إلى الأوَّلِ يرجعُ في الفصلِ الأوَّلِ على الغاصب، وفي الثَّاني لا.
__________
(1) قوله: يدفع القنّ... الخ؛ لإمكانِ نقله من ملكٍ إلى ملك بخلاف المدبَّر، والظاهرُ أنّ المرادَ أنّه يخيَّر بين الفداء والدفع إلى الوليين، ثم إذا دفعَه يرجعُ بنصف قيمته على الغاصب الى آخر ما مرّ آنفاً.
(10/370)
________________________________________
(مدبِّرٌ غُصِبَ مرَّتيْن، فجنى في كلِّ مرَّة، ضَمِنَ سيِّدُه قيمةً لهما، ورجعَ بقيمتِهِ على الغاصب، ودفعَ نصفَها إلى الأوَّل، ورجعَ به على الغاصب): أي مُدبَّرٌ غصبَه زيدٌ مرَّةً فجنى عنده، ثمَّ ردَّهُ على المالك، ثمَّ غصبَهُ فجنى عنده، فعلى المالكِ قيمتُهُ بينهما نصفَيْنن؛ لأنَّه منعَ رقبةً واحدةً بالتَّدبيرِ فيجبُ عليه قيمتُه، ثمَّ يرجعُ بتلكَ القيمةِ على الغاصب؛ لأنَّ الجنايتيْن كانتا عندَه، فيدفعُ نصفها إلى الأوَّل، ويرجعُ بهِ على الغاصبِ قبلَ دفعِ النِّصفِ إلى الأوَّل، وهذا متَّفقٌ عليه، وقيل: فيه خلافُ محمَّدٍ[(1)] - رضي الله عنه - كما في تلكَ المسألة.
__________
(1) قوله: وقيل فيه خلاف محمد - رضي الله عنه -؛ يعني قال بعض المشائخ في هذه المسألة خلافُ محمد - رضي الله عنه - أيضاً كما في المسألة الأولى، حتى يسلّم للمولى ما رجعَ به من القيمة على الغاصب، ولا يأخذ وليّ الجنايةِ الأولى ما بقيَ من حقّه، وقيل: على الاتّفاق، ويأخذُ وليّ الجناية الأولى تمام حقّه وهو نصف القيمة من المولى إذا رجعَ على الغاصب قيل: هذا هو الصحيح؛ لأنَّ محمّداً - رضي الله عنه - ذكر هذه المسألة في ((الجامع الصغير)) بلا خلاف. كذا ذكره فخر الإسلام - رضي الله عنه - في شرحه فعلى هذا يحتاج محمد - رضي الله عنه - إلى الفرق بين المسئلتين، وقد ذكره صاحب ((الهداية))(4: 215).
(10/371)
________________________________________
(ومَن غصبَ صبيَّا حرَّاً فماتَ معه فجأة أو بحمَّى، لم يضمن، وإن ماتَ بصاعقةٍ أو نهشِ(1) حيَّةٍ ضمنَ عاقلتُهُ الدِّية)، والقياسُ أن لا يضمنَ بالغصب، وهو قولُ زفرَ - رضي الله عنه - والشَّافعيِّ(2) - رضي الله عنه -؛ لأنَّ الغصبَ في الحرِّ لا يتحقُّق، وجهُ الاستحسانِ: إنَّهُ لا يضمنُ بالغصب، بل بالاتلافِ تسبيباً بنقلِهِ إلى مكانٍ فيه الصَّواعقُ أو(3) الحيّات[(4)].
(كما في صبيِّ[(5)
__________
(1) في ج و ق: نهس.
(2) ينظر: ((النكت))(3: 385)، و
(3) في أ: و.
(4) قوله: إلى مكان فيه للصواعق أو الحيات؛ وهذا لأنَّ الصواعقَ والحياتَ والسباعَ لا تكون في كلِّ مكان، فأمكن حفظه عنه، فإذا نقله إليه وهو متعدٍّ في ذلك النقل، وقد أزالَ حفظَ الولي فيضاف إليه؛ لأنَّ شرطَ العلّة [ينْزل] منْزلةَ العلّة إذا كان تعدّياً كالحفر في الطريق، بخلاف الموتِ فجأة، أو بحمىً؛ لأنّ ذلك لا يختلف باختلاف الأمكنة، حتى لو نقله إلى موضعٍ يغلبُ فيه الحمى والأمراض، نقول بأنّه يضمن فتجبُ الدِّيَة على عاقلةِ الغاصب؛ لكونه قتلاً تسبيباً. هكذا في ((الهداية))(4: 215).
(5) قوله: كما في صبي... الخ؛ أي يضمنُ عاقلةُ الغاصب كما يضمنُ عاقلةُ الصبيِّ إذا قتل العبد المودع عنده، ولا يضمن إن أتلفَ الصبيُّ المال المودع عنده، وهاهنا احتمالات أربعة؛ لأنّ الشيءَ المتلفَ إمّا مودعٌ عند الصبيّ أو غير مودع، وهذا الشيء إما عبد أو غيره، ولم يذكر المصنّف - رضي الله عنه - حكمَ العبد الغير المودع لظهوره وهو الضمان، والفرق بين العبد المودع والمال المودع عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمّد - رضي الله عنه -.
قال أبو يوسفَ - رضي الله عنه - والشافعيّ - رضي الله عنه -: يضمنُ الصبيُّ المودع في الوجهين، وعلى هذا لو أودع العبدُ المحجورُ عليه مالاً فاستهلكه الصبيّ، لا يؤخذُ بالضمانِ في الحال عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، ويؤخذُ به بعد العتق، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - والشافعيّ - رضي الله عنه - يؤخذُ في الحال، وعلى هذا الخلافِ الإقرارُ في العبدِ والصبيّ، وكذا الإعادةُ فيهما، ثمّ إنّ محمّداً - رضي الله عنه - شرطَ في ((الجامع الصغير)) أن يكون الصبيُّ عاقلاً، وفي ((الجامع الكبير)) وضعَ المسألةَ في الصبيِّ الذي عمرُه اثني عشرَ سنة، وذلك دليلٌ على أنّ غير العاقلِ يضمن بالاتّفاق؛ ولأنّ التسليطَ غيرُ معتبرٍ فيه، وفعلُهُ معتبر. كذا في ((التكملة))(8: 445).
(10/372)
________________________________________
] أُودعَ عبداً فقتلَه، فإن أتلفَ مالاً بلا إيداعٍ ضَمِن، وإن أتلفَ(1) بعده لا)، الإيداعُ يتعدَّى إلى المفعوليْن، يقال: أودعتُ زيداً درهماً، فالفعلُ المجهولُ وهو أودع، أسندَ إلى المفعولِ الأوَّلِ وهو الصَّبيّ، فالوديعةُ عنده إن كان عبداً ضمنَهُ بالقتل[(2)]، وإن كان مالاً غيَّرَهُ لا يضمنُهُ(3) عندَ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمَّدٍ - رضي الله عنه -، ويضمنُ عند أبي يوسفَ - رضي الله عنه - والشَّافعيِّ - رضي الله عنه -؛ لأنَّه أتلفَ مالاً[(4)] معصوماً، قلنا[(5)
__________
(1) في أ: تلف.
(2) قوله: ضمَّنه بالقتل؛ أي صارت دية على عاقلة الصبي بالإجماع. كذا في ((الجلبي))(ص615).
(3) في ب: يضمن.
(4) قوله: لأنّه أتلفَ مالاً؛ أي متقوّماً معصوماً حقّاً للمالك، فيجبُ عليه ضمانه، كما إذا كانت الوديعةُ عبداً، أو كان الصبيُّ مأذوناً له في التجارةِ أو في الحفظِ من جهةِ الوليّ، وكذا إذا أتلفَ غير ما في يده، ولم يكن معصوماً؛ لثبوتِ ولايةِ الاستهلاك فيه.
(5) قوله: قلنا: توضيحه: إنّ الصبيَّ أتلفَ مالاً غير معصوم، فلا يؤاخذ بضمانه، كما لو أتلفه بإذنه ورضاه؛ وهذا لأنّ العصمةَ تثبتُ حقّاً له، وقد فوَّتها على نفسه، حيث وضعَه في يدِ غير مانعة، فلا يبقى معصوماً إلاَّ إذا أقامَ غيرَه مقام نفسه في الحفظ، ولا إقامة هاهنا؛ لأنّه لا ولايةَ له على الصبيّ حتى يلزمه، ولا ولايةَ للصبيِّ على نفسه، حتى يلتزمَ بخلافِ المأذون له؛ لأنّ له ولايةٌ على نفسِهِ كالبالغ، وبخلافِ ما إذا كانت الوديعةُ عبداً؛ لأنّ عصمتَه لحقِّ نفسه، أو هو مبقىً على أصلِ الحريّة في حقّ الأمّ، فكانت عصمتُه لحقِّ نفسه لا للمالك؛ لأنّ عصمةَ المالك إنّما تعتبرُ فيما له ولايةُ استهلاك، حتى يمكِّن غيره من الاستهلاكِ بالتسليط، وليس للمولى ولايةُ استهلاكِ عبده، فلا يقدر أن يمكِّن غيره من ذلك، فلا يعتبرُ تسليطه، فيضمن الصبيُّ باستهلاكِهِ بخلاف سائرِ الأموال.
قال في ((العناية))(10: 327): وإذا استهلكَ الصبيُّ ينظرُ إن كان مأذوناً له في التجارة، وإن كان محجوراً عليه، لكنّه قبل الوديعة بإذنِ وليّه، ضَمِنَ بالإجماعِ إن كان محجوراً عليه، وقبلها بغير أمرِ وليّه، فلا ضمانَ عليه عند الإمام ومحمّد - رضي الله عنه - في الحال ولا بعد الإنزال، وقال أبو يوسف - رضي الله عنه -: يضمنُ في الحال، وأجمعوا على أنّه لو استهلكَ مال الغيرِ من غير أن يكونَ عنده وديعة، يضمنُ في الحال، وهو تقسيمُ حسن، هكذا في ((التكملة))(6: 445).
(10/373)
________________________________________
]: غيرُ العبدِ معصومٌ لحقِّ السيِّد، وقد فوَّتَهُ حيثُ وضعَهُ(1) في يدِ الصَّبيّ، وأمَّا العبدُ فعصمتُهُ لحقِّهِ إذ هو مبقي(2) على أصلِ الحريَّةِ في حقِّ الدَّم.
باب القسامة(3)[(4)]
__________
(1) في ص: وما وضع.
(2) في ب: متبقي.
(3) القسامة: وهي أيمان تقسم على أهل المحلة التي وجد القتيل فيها. ينظر: ((زجاجة المصابيح))(3: 39).
(4) قوله: باب القسامة؛ لَمَّا كان أمرُ القتيلِ في بعض الأحوالِ يؤولُ إلى القسامةِ ذكرَه في آخرِ الدِّيَات في بابٍ على حدة، اعلم أنَّ القسامةَ في اللغةِ اسمٌ وضعَ موضع الإقسام، كذا في ((المغرب))(ص383-384)، وقال في ((معراج الدراية)): القسامة لغة: مصدراً قسم كما لا يخفى عن مَن [له] درايةٌ بعلم الأدب.
أمّا في الشريعة: فهي أيمانُ يقسمُ بها أهلُ محلّة أو دارٍ وغير ذلك وجدَ فيها قتيل به جراحةٌ أو أثرُ ضربٍ أو خنق، ولا يعلم مَن قتله، يقسم خمسون رجلاً من أهلِ المحلّة، يقول كل واحدٍ منهم: بالله ما قتلته، ولا علمتُ له قاتلاً.
وسببُها: وجودُ القتل كما ذكرنا.
وركنُها: إجراءُ اليمينِ على لسانِ كلّ واحدٍ من الخمسين: بالله ما قتلته ولا علمتُ له قاتلاً كما سيجيء.
وشرطُها: بلوغُ القسم وعقلُه وحريّته، وأن يكون الميّت الموجود على الكيفيّة المذكورة، وتكميلُ اليمين خمسين، فإن لم تبلغ المقسمون هذا العدد، تكرّر عليهم اليمين، حتى يبلغَ الخمسين.
وحكمها: القضاءُ بوجوبِ الدِّيَةِ بعد الحلف، والحبسُ إلى الحلف إن أبوا إذا ادّعى الوليُّ العمد، والحكمُ بالدِّيَة عند النكول إن ادّعى الولي الخطأ.
ومن محاسنها: خطر الدماء وصيانتها عن الإهدار، وخلاص مَن يتّهم بالقتل عن القصاص، وتعيين الخمسين ثبت بالأحاديث المشهورة. كذا في ((مجمع الأنهر))(2: 677).
(10/374)
________________________________________
(ميِّتٌ به جرحٌ أو أثرُ ضربٍ أو خنقٍ أو خروجُ دمٍ من إذنِهِ أو عينِهِ وجدَ في محلَّةٍ أو بدنُهُ[(1)] بلا رأس، أو أكثرُه، أو نصفُهُ مع رأسِهِ لا يعلمُ قاتلُه، وادَّعى وليُّهُ القتلَ على أهلِها أو بعضِهم حُلِّفَ خمسونَ رجلاً منهم، يختارُهم الوليّ: باللهِ ما قتلنا، ولا علمنا له قاتلاً[(2)]، لا الولي(3)، ثمَّ قُضِيَ على أهلِها بالدِّيَة): أي بديتِهِ فالألفُ واللاّمِ يقومُ مقامَ ضميرٍ يعودُ إلى المبتدأ، وهو ميِّتٌ، هذا عندنا.
__________
(1) قوله: أو بدنه؛ قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص615)]: عطف على ميّت، يعني ميِّت وجدَ بجميع أجزائه مكملّة، أو وجدَ بدنُه بلا رأس، أو وجدَ أكثرُه من أيّ جانب كان، أو نصفه مشقوقاً بالطول، وأما إن وجد أقلّ من نصفه ومع الرأس لا؛ لأنّ هذا حكمٌ عرف بالنصّ، وقد ورد به في البدن، ولكن للأكثر حكمُ الكلّ، فأجرينا عليه أحكامَه تعظيماً للآدميّ. كذا في ((الهداية))(4: 219).
(2) قوله: ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً؛ قال في ((الكفاية))(9: 304-305): هذا على طريق الحكايةِ عن الجمع، وأمّا عند الحلفِ، فيحلفُ كلُّ واحدٍ منهم بالله ما قتلنا؛ لجواز أن يكون قاتلاً وحده، وينفي بلفظ الجمع أن يكون قاتلاً مع الجماعة.
إن قيل: يجوزُ أنّه قتل مع غيره، فيجري على يمينه: بالله ما قتلتُ كما في عكسه.
قلنا: لا كذلك؛ لأنّه إذا حلف: بالله ما قتلت، وكان قتلَ مع غيره كان كاذباً في يمينه، فإنَّ الجماعةَ متى قتلوا واحداً يكون كلُّ واحد منهم قاتلاً؛ ولهذا يجبُ القصاصُ على كلِّ واحدٍ منهم في العمد والكفارة في الخطأ.
(3) أي لا يحلف الوليّ، ولو مع وجود الورثة عندنا. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 388).
(10/375)
________________________________________
وقال الشَّافعيُّ(1) - رضي الله عنه -: إن كانَ هناكَ لوث[(2)]: أي علامةُ القتلِ على واحدٍ بعينِه[(3)]، أو ظاهرٌ يشهدُ[(4)] للمدَّعي من عداوةٍ ظاهرة، أو شهادةِ واحدٍ عدل، أو جماعةٍ غيرِ عدول(5)، بأنَّ(6) أهلَ المحلَّةِ قتلوه استحلفَ الأولياءُ خمسينَ يميناً أنَّ أهلَ المحلَّةِ قتلُوه، ثمَّ يقضي بالدِّيَةِ على المدَّعى عليه سواءٌ كانَ الدَّعوى بالعمدِ أو بالخطأ.
__________
(1) ينظر: ((الأم))(6: 97)، و((النكت))(3: 408)، ((أسنى المطالب))(7: 98)، وغيرها.
(2) قوله: لوث؛ يقال: بينهم لوث؛ أي سراً وحقد، مأخوذ من قولهم: لوّثَ الماء: إذا كدَّره، ولوّث ثيابه بالطين؛ أي لطّخه، فيلوث. كذا في ((العناية)).
(3) قوله: على واحدٍ بعينه؛ مثل أن يوجدَ لقربه رجلٌ معه سيف، أو في يدِه شيء من آلةِ القتل، وعليه آثارُ القتل، فذلك لوث يوجب القسامةِ لولائه. كذا في ((الجلبي))(ص615) ناقلاً عن ((العناية)).
(4) قوله: أو ظاهر يشهد؛ أي ظاهر الحال، يشهد المدّعي بأنّ العداوةَ بين المقتول وأهل محلّة ظاهرة.
(5) في أ: عدل.
(6) في أ: وأن، وفي ص و م: أن.
(10/376)
________________________________________
وقال مالكٌ(1) - رضي الله عنه -: يقضي بالقَوَدِ إن كان الدَّعوى بالعمد، وهو أحدُ قولَيْ الشَّافِعِيِّ(2) - رضي الله عنه -، وإن لم يكنْ به لوثٌ فمذهبُهُ مثلُ مذهبنا[(3)]، إلا أنَّه لا يكرَّرُ اليمين، بل يردُّها على الوليّ، وإن حلفوا لا دِيَة عليهم[(4)
__________
(1) ينظر: ((المدونة))(4: 649)، و((حاشية العدوي))(2: 290)، وغيرهما.
(2) ينظر: ((النكت))(3: 411)، و((حاشيتا قليوبي وعميرة))(4: 168)، وغيرهما.
(3) قوله: مثل مذهبنا... الخ؛ أي في بدايةِ يمين المدّعي عليه غير أنّه إن لم يكمل أهلُ المحلّة خمسين لا تكرَّر اليمينُ عليهم، وفيه نظر؛ لأنّ مذهبَ مالكٍ - رضي الله عنه - والشافعيّ - رضي الله عنه - ليس كذلك، بل يردّ على الأولياء كما في النكول عنده، فالاختلافُ في موضعين في تحليف المدّعي أوَّلاً، وفي براءةِ أهلِ المحلَّة باليمين، فالحاصلُ أنّه إذا وجدَ ظاهرٌ [يشهد] للمدَّعي عند الشافعيّ - رضي الله عنه - يحلف المدّعي، فإن حلفَ أنّهم قتلوه خطأ، فله الدِّيَة، وإن حلفَ أنّهم قتلوه عمداُ فعليهم القصاص في قول، والدِّيَة في قول، فإن نكلَ المدَّعي عن اليمين حلفَ المدَّعي عليهم، فإن حلفوا برئوا، ولا شيء عليهم، وإن نكلوا فعليهم القصاص في قول، والدية في قول، وإن لم يكن الظاهرُ شاهداً للمدَّعي، حلفَ أهلُ المحلَّة على ما قلنا. كذا في ((الكفاية))(9: 305).
(4) قوله: لا ديةَ عليهم؛ إلى هاهنا قول الشافعيّ - رضي الله عنه - ودليلُهُ في البداية بيمين المدّعي قوله - صلى الله عليه وسلم -: للأولياء: ((فيقسمُ منكم خمسون أنّهم قتلوه))؛ ولأنّ اليمينَ تجبُ على مَن يشهدُ له الظاهر؛ ولهذا تجبُ على صاحبِ اليد، فإذا كان الظاهرُ شاهداً للوليِّ يبدأُ بيمينه، وردّ اليمين على المدّعي أصل له، كما في النكول، غير أنّ هذه دلاليّة فيها نوعُ شبهة، والقصاصُ لا يجامعها، والمال يجب معها؛ فلهذا وجبت الدِّيَة. كذا في ((الهداية))(4: 216).
(10/377)
________________________________________
].
لنا: إنَّ البيِّنةَ على المدَّعي، واليمينَ على مَن أنكر، فاليمينُ عندنا ليظهرَ القتل، بتحرُّزِهِم عن اليمينِ الكاذبة فيقرُّوا، فيجبُ القصاص، فإذا حلفُوا حصلتْ البراءةُ عن القصاص، وإنَّما تجبُ(1) الدِّيَةُ لوجودِ القتيلِ بين أظهرِهم، وإنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - جمعَ(2) بين الدِّيَةِ والقَسَامة، حديثٍ رواهُ(3) سهل(4)](5)، وحديثٍ رواهُ
__________
(1) في ب و ص: يجب.
(2) في ب: جميع.
(3) من حديث سهل بن أبي سلمة أخبره ((أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قيل وطرح في عين فأتى يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه، فقالوا: والله ما قتلناه، ثم أقبل من قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، ثم أقبل هو وحويصة، وهو أخوه أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلَّم، وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيِّر كبِّر وتكلم حويصة، ثم تكلَّم محيصة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إما أن تدوا صاحبكم أو تؤذنوا بحرب، وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فكتبوا أما والله ما قتلناه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن تحلفون وتستحقون دم صاحبكم، قالوا: لا قال فتحلف لكم يهود قالوا: ليسوا مسلمين فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده فبعث إليهم بمئة ناقة حتى دخلت عليهم الدار، قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء)) في ((موطأ مالك))(2: 877)، و((سنن النسائي))(3: 483)، واللفظ له، وأصله في ((صحيح البخاري))(3: 1158).
(4) وهو سهل بن أبي حَثَمة عبد الله بن ساعدة بن عامر بن عَدي بن مجدة الأوسيّ الأنصاريّ، توفِّي في خلافة معاوية، وكانت ولادتُه سنة ثلاث من الهجرة، شهدَ المشاهد: أحداً فما بعدها. ينظر: ((التقريب))(ص197-198). ((إسعاف المبطئ برجال الموطأ))(ص18).
(5) سقطت من أ.
(10/378)
________________________________________
... (1) زياد(2) بن مريم[(3)](4)، وكذا جمعَ عمرُ - رضي الله عنه -.
(فإن ادَّعى على واحدٍ من غيرِهم(5) سقطَ القسامةُ عنهم.
__________
(1) في النسخ: ابن، وغير موجودة في أ.
(2) قال الإمام اللكنوي في ((مقدمة عمدة الرعاية))(1: 47): لم أعرف إلى الآن المرادُ من زياد ومن ابن زياد. أقول: المترجم له في كتب الرجال هو زياد بن أبي مريم الجَزَري، قال العجلي: ثقة تابعي، وذكره ابن حبان في ((الثقات))، قال الذهبي: فيه جهالة وقد وثق، قال ابن حجر: من السادسة. ينظر: ((تهذيب الكمال))(9: 510-514). ((الميزان))(3: 136). ((التقريب))(ص161).
(3) قوله: وحديث رواه زياد بن مريم... الخ؛ فحديثُ سهيل ما ذكر، وأمّا حديثُ زياد بن مريم فما روى خصيفُ عن زياد بن أبي مريم أنّه قال: جاء رجل إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنّي وجدتُ أخي قتيلاً في بني فلان، فقال: اخترْ من شيوخهم خمسينَ رجلاً فيحلفونَ باللهِ ما علمنا له قاتلاً ولا قتلنا، فقال الرجل: وليس لي من أخي إلا هذا، قال: نعم ومئة من الإبل)). كذا في ((الكفاية))(9: 308).
(4) ذكر صاحب ((الكفاية))(9: 308) أن حديث زياد بن مريم: ما روى خصيفُ عن زياد بن أبي مريم أنّه قال: جاء رجل إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنّي وجدتُ أخي قتيلاً في بني فلان، فقال: اخترْ من شيوخهم خمسينَ رجلاً فيحلفونَ باللهِ ما علمنا له قاتلاً ولا قتلنا، فقال الرجل: وليس لي من أخي إلا هذا، قال: نعم ومئة من الإبل)). ولكن لم أقف عليه في كتب الحديث. والله أعلم.
(5) أي إن ادعى الولي القتل على واحد من غير أهل المحلة. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 390).
(10/379)
________________________________________
فإن لم يكنْ فيها): أي الخمسونَ في المحلَّة، (كرَّرَ الحلفُ عليهم[(1)] إلى أن يتمّ، ومَن نكلَ منهم[(2)] حُبِسَ حتى يحلف، ولا قِسامة على صبيٍّ[(3)] ومجنون وامرأة، وعبد(4)
__________
(1) قوله: كرّر الحلف عليهم... الخ؛ لما روي أنّ عمرَ - رضي الله عنه - لَمَّا قضى في القسامة وأتى إليه تسعةُ وأربعونَ رجلاً فكرَّر اليمينَ على رجل منهم، حتى تمَّت خمسين، ثمّ قضى بالدِّيَة، وعن شريح - رضي الله عنه - والنخعيّ - رضي الله عنه - مثل ذلك؛ ولأنَّ الخمسين واجبٌ بالسُنّة، فيجبُ إتمامُها ما أمكن، ولا يطلب فيه الوقوف على الفائدة لثبوتها بالسنيّة، ثمّ فيه استعظامُ أمر الدم. هكذا في ((الهداية))(4: 218).
(2) قوله: ومَن نكلَ منهم… الخ؛ لأنَّ اليمينَ فيه مستحقَّةٌ لذاتِها؛ تعظيماً لأمرِ الدم؛ ولهذا يجمعُ بينه وبين الدِّيَة، بخلاف النكول في الأموال؛ لأنَّ اليمينَ بدلٌ عن أصلِ حقِّه؛ ولهذا يسقطُ ببدل المدَّعي، وفيما نحن فيه لا يسقطُ ببدلِ الدِّيَة، وهذا الذي ذكرناه إذا ادّعى الوليُّ القتلَ على جميع أهل المحلّة، وكذا إذا ادّعى على البعض لا بأعيانهم، والدّعوى في العمد أو الخطأ؛ لأنّهم لا يتميّزون عن الباقي، ولو ادّعى على البعضِ بأعيانهم، بأنّه قتلَ وليّه عمداً أو خطأ، فكذلك الجواب، يدلُّ عليه إطلاقُ الجواب في ((القُدُوريّ))، وهكذا الجواب في ((المبسوط))، وعن أبي يوسفَ - رضي الله عنه - في غير رواية الأصول: إنّ في القياس تسقطُ القسامة والدِّيَة عن الباقين من أهل المحلّة، وتمامه في ((الهداية))(4: 217).
(3) قوله: ولا قسامةَ على صبيّ... الخ؛ أمّا الصبيّ والمجنون فليسا من أهل القول الصحيح، واليمينُ قول صحيح، وأمّا الامرأةُ والعبدُ فليسا من أهل النصرة، واليمين على أهلها.
(4) أما الصبي والمجنون فلأنهما ليسا من أهل القول الصحيح، واليمين قول صحيح، وأما المرأة والعبد فلأنهما ليسا من أهل النصرة واليمين على أهلها. ينظر: ((الهداية))(4: 218).
(10/380)
________________________________________
.
ولا قسامةَ ولا دِيَةَ في ميِّتٍ[(1)] لا أثرَ به، أو خرجَ دمٌ من فمِهِ أو دبرِهِ أو ذكرِه)، فإنَّ الدَّمَ يخرجُ من هذه الأعضاءَ بلا فعلٍ من أحدٍ بخلافِ الأذنِ والعين.
(وما تمَّ خلقُهُ كالكبير): أي وجدَ سقطٌ تامُّ الخلقِ به أثرُ الضَّربِ فهو كالكبير.
(وفي قتيلٍ وجدَ على دابَّةٍ يسوقُهُا رجل، ضمنَ عاقلتُهُ ديَّتُهُ لا أهلَ المحلَّة، وكذا لو قادَها أو ركبَها، فإن اجتمعوا ضَمِنوا): أي السَّائقُ والقائدُ والرَّاكب.
(وفي دابَّةٍ بين قريتَيْن عليها قتيلٌ على أقربهما[(2)].
__________
(1) قوله: في ميّت... الخ؛ لأنّه ليس بقتيل، إذ القتيلُ في العرفِ مَن فاتت حياته بسبب يباشره أحدٌ حي، فهذا ميِّتٌ حتفَ أنفه؛ لأنَّ الدمَ يخرجُ من هذه الأعضاء… الخ.
(2) قوله: على أقربهما؛ لما روى أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتى بقتيل وجدَ بين قريتين فأمرَ أن يذرعَ، وعن عمرَ - رضي الله عنه - مثل هذا، وقيل: هذا محمولٌ على ما إذا كان بحيث يبلغُ أهلَه الصوت إذا كان لا يبلغُهم الصوت فلا شيءَ عليهم؛ لأنّه إذا كان بحيث يبلغُهُ الصوت يلحقُهُ الغوث، فيمكنهم النصرة، وقد قصّروا، وإذا كان في موضعٍ لا يسمعون صوته لا يلزمهم النصرة، فلا ينسبونَ إلى التقصير، فلا يجعلون قاتلين تقديراً. كذا في ((الهداية))(4: 219).
(10/381)
________________________________________
فإن وجدَ في دارِ رجلٍ فعليهِ القَسَامة، وَتَدي(1) عاقلتُهُ إن ثبتَ أنَّها لهُ بالحجَّة(2)، وعاقلةُ(3) ورثتِهِ إن وجدَ في دارِ نفسِه)(4)، هذا عندَ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، فإنَّ الدَّارَ حالَ ظهورِ القتلِ للورثة، فالدِّيَةُ على عاقلتِهم، وعندهما وعندَ زفرَ - رضي الله عنهم -: لا شيءَ فيه، والحقُّ هذا(5)؛ لأنَّ الدَّارَ في يدِهِ حالَ ظهورِ القتل، فيجعلُ كأنَّهُ قتلَ نفسَهُ فكانَ هدراً، وإن كانتْ الدَّارُ للورثةِ[(6)]، فالعاقلةُ إنَّما يتحمَّلونَ ما يجبُ عليهم تخفيفاً(7) لهم، ولا يمكنُ الإيجابُ على الورثةِ للورثة.
__________
(1) في ج: وفدى، وفي ق: ويدي.
(2) يعنى إن وجد القتيل في دار كان في يد رجل فأنكرت العاقلة أن يكون الدار له، وقالوا: هي وديعة في يده لم يعقله العاقلة حتى يشهدوا أنها له، فلا بُدّ من الملك لصاحب اليد حتى يعقل العواقل عنه، واليد وإن كان دليلاً على الملك، ولكنها محتملة فلا يكفي لإيجاب الدية على العاقلة. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق521/ب).
(3) العبارة في أ و ب: وعاقلته. أي وتدي عاقلة القتيل لورثته إن وجد في دار نفسه. ينظر: ((شرح ابن ملك))(ق521/ب).
(4) لأ نصاحب الدار في داره بمنْزلة أهل المحلة ف يالمحلة، ولو وجدت في المحلة قتيل وجبت القسامة على أهل المحلة والدية على عاقلتهم. ينظر: ((المحيط))(ص171).
(5) وفي ((درر الحكام))(2: 122): وبه يفتى.
(6) قوله: وإن كانت الدارُ للورثة... الخ؛ قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص615-616)] جوابٌ عن قولِ الأعظم - رضي الله عنه -: فإنّ الدارَ حال ظهورِ القتل فيها للورثة، وتلخيصه أنّ الديةَ لو وجبت على مالك الدارِ التي وجدَ القتيل فيها وهو الوارث في زعمِ الأعظم، ولا يستحقّ دية المورث إلا وارثه، فيلزم أن يجب على الوارث للوارث، وهو ممتنع، وإن انتقلت إلى العاقلة أوّلاً. كذا فهم من تقرير ((العناية)).
(7) في ب: تحقيقا.
(10/382)
________________________________________
(والقسامةُ على أهلِ الخطَّةِ[(1)]): ملاك الأرض](2)، (دونَ السَّكانِ[(3)] والمشترين، فإن باعَ كلُّهم فعلى(4) المشترين)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمَّدٍ - رضي الله عنه -، فإنَّ نصرةَ البقعةِ على أهلِ الخطّة[(5)]، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: هي عليهم جميعاً؛ لأنَّ ولايةَ التَّدبيرِ كما يكونُ بالملكِ يكونُ بالسُّكنى، والمشتري وأهلُ الخطَّةِ سواءٌ في التَّدبير، وقيل: أبو حنيفةَ - رضي الله عنه - بنى هذا على ما شاهدَ بالكوفة[(6)].
__________
(1) قوله: على أهل الخطة؛ وهي بكسر الخاء المعجمة: المكان المختط لبناء دار أو غيرها من العمارات والمغارات على أصحاب الأملاك القديمة التي كانوا يملكونها قبل فتح الإمام البلدة، وقسمها بين الغانمين، فإنه يخط خطّة التمييز لأنصبائه. كذا في ((النهاية)).
(2) زيادة من ب
(3) قوله: دون السكان: أراد بهم من يسكن الدار بالإجارة أو الإعارة. كذا في ((العناية)).
(4) في أ: فعل.
(5) قوله: فإن نصرة الخطة على أهل البقعة متعارف؛ فإن قلت ما الفرق لما بين المحلة والدار لو كان مشترياً وصاحب خطة، ووجد القتيل فيها، لهما متساويان في القسامة والدية، ولا فرق بينهما بالاجماع، وفي حقّ المحلة فرق بينهما.
قلت: الفارق بينهما العرف، فإن في العرف أن المشتريين قلَّ ما يزاحمون أصحاب الخطة في التدبير بحفظ المحلّة، وليس حق الدار كذلك.
(6) قوله: على ما شاهد بالكوفة؛ أي شاهد من عادة أهل الكوفة في زمانه، وهو أن أصحاب الخطة في كلّ محلة هم الذين يقومون بتدير المحلّة ولا يشاركهم المشترون في ذلك، فبنى الجواب على ما شاهد. كذا في ((النهاية)).
(10/383)
________________________________________
(فإن وجدَ في دارَيْن قومٍ لبعضٍ أكثر، فهي على الرُّؤوس[(1)])؛ لأنَّ صاحبَ القليلِ والكثيرِ سواءٌ(2) في الحفظِ والتَّقصير.
(فإن(3) بيعتْ[(4)
__________
(1) قوله: فهي على الرؤوس؛ لأن صاحب القليل يزاحم صاحب الكثير في التدبّر فكانوا سواء في الحفظ والتقصير، فيكون على عدد الرؤوس بمنزلة الشفعة، فإنها على عدد الرؤوس لا قدر الأنصباء عندنا كذا في ((الكفاية)).
(2) في ب: اسو.
(3) في ق: وإن.
(4) قوله: فإن بيعت... الخ؛ صورته: اشترى رجلٌ داراً ولم يقبضها حتى وجدَ فيها قتيل، فالدِّيَةُ على عاقلةِ البائع، وإن كان في البيع خيارٌ لأحدهما فالديةُ على عاقلة من في يده، وهذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقالا: إن لم يكن فيه خيار، فهي على عاقلة المشتري، وإن كان فيه خيار فهي على عاقلةِ مَن تصيرُ له؛ لأنّه إنّما أنزلَ قاتلاً باعتبارِ التفصيرِ في الحفظ، ولا يجب الحفظ إلا على مَن له ولاية الحفظ، والولاية تثبت بالملك، ولكون ولاية الحفظ مستفادةٌ بالملك، كانت الدية على عاقلةِ صاحب الدار دون المودع؛ لعدم ملكه، وإن كان له يد، والملك هنا للمشتري قبل القبض في البيع الباتّ، وفي البيع الذي فيه الخيار يعتبر قرارُ الملك.
له: إنّ القدرةَ على الحفظ باليد بملك اليد لا بالملك، ألا ترى أنّه يقتدر على الحفظ باليد بدون الملك ولا يقتدر بالملك بدون اليد، وفي الباتّ: اليد للبائع قبل القبض، وكذا فيما فيه الخيار لأحدهما قبل القبض؛ لأنّه دون الباتّ، ولو كان البيع في يد المشتري والخيار له فهو أخصّ الناس به تصرّفاً، ولو كان الخيار للبائع فهو في يده مضمون عليه بالقيمة، كالمغصوب، فتعتبر يده إذ بها يقدر على الحفظ. كذا في ((الهداية))(4: 220-221).
(10/384)
________________________________________
] ولم تقبضْ فعلى عاقلةِ البائعِ، وفي البيعِ بخيارٍ على عاقلةِ ذي اليد)، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقالا: إن لم يكنْ فيه خيارٌ فعلى عاقلةِ المشتري، وإن كان فعلى عاقلةِ مَن تصيرُ له سواءٌ كانَ الخيارُ للبائعِ أو للمشتري(1).
(وفي الفلكِ على مَن فيه[(2)]، وفي مسجدِ محلِّةٍ على أهلها، وبينَ القريتَيْن على أقربِهِما، وفي سوقٍ مملوكٍ على المالك[(3)])، هذا عند أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمَّدٍ - رضي الله عنه -، وعندَ أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: على السُّكان، (وفي غيرِ مملوكٍ والشَّارعِ[(4)
__________
(1) في بو ص: المشتري.
(2) قوله: على مَن فيه من الرّكاب والملاحين؛ لأنَّ الفلكَ في أيديهم، ولفظ فيه يشمل أربابها، حتى تجبَ على الأرباب الذين فيها، وعلى السكان، قال في ((الكفاية))(9: 317): ذكرَ شيخ الإسلام - رضي الله عنه -: قال بعض المشايخ: إنّما تجب على الركّاب إذا لم يكن للسفينة مالك معروف، فإن كان فالقسامةُ عليه. انتهى. وكذا على مَن يمدّها المالك وغيره في ذلك سواء، كما في الدابة، بخلافِ المحلّة والدار؛ لأنّهما لا تنتقلان. كذا في ((الهداية))(4: 221).
(3) قوله: وفي سوق مملوك على المالك؛ قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص616): إنّه قيل: إذا وجدَ قتيل في صفّ من السوق فإن كان أهل ذلك الصفّ يبيتون في حوانيتهم فالديةُ عليهم، وإلا فعلى ملاّكها. كذا في ((التبيين))(6: 176).
(4) قوله: والشارع؛ أي وجدَ قتيلٌ في الشارع، وهو الطريق الأعظم فلا قسامة، والديةُ على بيت المال؛ لأنّه للعامّة لا يختصّ به واحدٌ منهم في النهاية، وإنّما أرادَ به أن يكون نائياً عن المحال، أمّا الأسواق التي تكون في المحال فهي محفوظة بحفظِ أهل المحلّة، فيكون القسامة والدية على أهل المحلّة، وكذا في السوق اتّفاقي إذا كان مَن يسكنها في الليالي، أو كان لأحد منهما دارٌ مملوكةٌ تكون القسامةُ والديةُ عليه، إذ يلزمه صيانةُ ذلك الموضع، فيوصف بالتقصير، فيجب عليه بموجب التقصير.
(10/385)
________________________________________
] والسِّجنِ والجامعِ لا قسامة، والدِّيَةُ على بيتِ المال)، أمَّا(1) عندَ أبي يوسفَ - رضي الله عنه - فالقسامةُ على أهلِ السِّجن؛ لأنَّهم سكان.
(وفي قومٍ التقَوا بالسُّيوفِ وأجلوا عن قتيل): أي انكشفُوا عنه، (على أهلِ المحلَّةِ[(2)](3) إلا أن يدَّعي الوليُّ[(4)] على القومِ أو على معيَّنٍ منهم.
__________
(1) في ب: وأما.بيسب
(2) قوله: على أهل المحلّة؛ لأنّ القتيل بينهم والحفظ عليهم، فإنّ قيل: إنّ الظاهرَ أنّ قاتلَه غير أهل المحلّة، فإنّه من خصمائه.
أجيب عنه: بأنّه قد تعذَّر الوقوفُ على قاتله حقيقة، فيتعلَّقُ بالسبب الظاهر، وهو وجود قتيلٍ في محلّهم. كذا في ((العناية))(10: 388).
(3) لأنّ القتيل بينهم والحفظ عليهم، وقد تعذَّر الوقوفُ على قاتله حقيقة، فيتعلَّقُ بالسبب الظاهر، وهو وجود قتيلٍ في محلّهم. كذا في ((العناية))(10: 388).
(4) قوله: إلاَّ أن يدّعي الولي... الخ؛ فلم يكن على أهل المحلّة شيء؛ لأنَّ هذه تضمنت براءةَ أهل المحلّة على القسامة، ولا على أؤلئك صحتى يقيمَ البيّنة؛ لأنَّه بمجرّد الدعوى لا يثبتُ الحق؛ للحديث الذي رواه الترمذيّ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى قومٌ دماءَ قومٍ وأموالهم، لكنّ البيّنة على المدّعي، واليمين على مَن أنكر))[((سنن البيهقي الكبير))(1: 252)، و((مسند أبي يعلى))(4: 55)، قال النووي: حديث حسن]، إمّا يسقطُ به الحقّ عن أهلِ المحلّة؛ لأنّ قولَه حجّةٌ على نفسِهِ لا على غيره.
(10/386)
________________________________________
فإن وُجِدَ في بريَّةِ لا عمارةَ بقربها[(1)]، أو ماءٍ [يمرُّ](2) به فهدر[(3)].
ومستحلفٌ[(4)] قال: قتلَهُ زيد، حُلِّف: بالله ما قتلتُ ولا عرفتُ لهُ قاتلاً غيرَ زيد.
وبطلَ شهادةُ بعضِ](5) أهلِ المحلَّةِ[(6)
__________
(1) قوله: بقربها؛ وتفسير القرب على ما ذكر استماعُ الصوت؛ لأنّه إذا كان بهذه الحالة لا يلحقه الغوث من غيره فلا يوصف أحد بالتقصير، وهذا الحكمُ إذا لم تكن البرية مملوكة، أمّا إذا كانت مملوكة، فالديةُ والقسامةُ على عاقلةِ المالك. هكذا في ((الهداية))(4: 221-222).
(2) سقطت من ق.
(3) قوله: فهدر؛ لأنّ كلّ واحدٍ ليس في يدِ أحد، ولا في ملك أحدٍ حتى يجب عليه القسامة.
(4) قوله: ومستحلف؛ أي رجلٌ من أهلِ المحلّة أو الدار، ممّن يطلبُ منه الحلف على صيغة المفعول، أي إذا قال المستحلف: قتلَه زيد، استحلفَ بالله ما قتلت ولا عرفت له قاتلاً غير زيد، يعني لا يسقط اليمين عنه بقوله: قتله زيد؛ لأنّه يريدُ إسقاطَ الخصومة عن نفسه بذلك القول، فلا يقبل، فيحلف على ما ذكرنا؛ لأنّه لمّا أقرّ بالقتلِ على أحدٍ صار مستثنىُ عن اليمين، فبقي حكم مَن سواه فيحلفُ عليه.
(5) سقطت من ق.
(6) قوله: وبطلَ شهادةُ بعض أهل المحلّة... الخ؛ أي لا يقبل: أي إذا ادّعى المولى على رجلٍ من غير أهلِ المحلّة، وشهدَ اثنان منهم عليه، لم تقبل عنده، وقالا: تقبل؛ لأنّهم كانوا بعرضيّة أن يصيروا خصماء، وقد بطلَ ذلك بدعواه على غيرهم: كالوكيل بالخصومة إذا عزلَ قبلها؛ وله أنّهم جعلوا خصماءَ تقديراً؛ لإنزالهم قائلين للتقصير الصادر منهم، فإن خرجوا من جملةِ الخصومِ فلا تقبل؛ كالوصيّ إذا خرج من الوصاية ببلوغِ الغلام أو بالعزل، وتمامُه في ((العناية))(10: 390)، وغيرها.
أمّا لو ادّعى الوليُّ على واحدٍ منهم بعينه لم تقبلْ شهادتُهما عليه إجماعاً، كما في ((الملتقى))؛ لأنّ الخصومة قائمةٌ مع الكلّ؛ لأنّ القسامةَ لم تسقط عنهم، قال في ((الخيرية)): إلاَّ في روايةٍ ضعيفةٍ عن أبي يوسفَ - رضي الله عنه - لا يعمل بها، نقل الحَمَويّ عن المقدسيّ أنّه قال: توقّفت عن الفتوى لقول الإمام - رضي الله عنه -، ومنعتُ من إشاعته لما يترتّب عليه من الضرر العام، فإنّ مَن عرفَه من المتمرّدين يتجاسرُ على قتلِ الأنفسُ في المحلات الخاليّة عن غير أهلها معتمداً على عدمِ قبول شهادتهم عليه، حتى قلت: ينبغي الفتوى على قولهما، لا سيّما والأحكامُ تختلف باختلافِ الأيام، وقد خيّر المفتي إذا كان الصاحبان متّفقين، وتمامُه في ((حاشية الرحمتي))، لكن في ((تصحيحِ العلامة قاسم)): إنّ الصحيحَ قولُ الإمام على أنّ الضررَ المذكور موجودٌ في المسألة الثانية أيضاً، وقد علمت الاتّفاق فيها إلا في روايةٍ ضعيفة، نعم القلب يميل إلى ما ذكر، ولكن اتّباع النقل أسلم. كذا في ((رد المحتار))(6: 636).
(10/387)
________________________________________
] بقتلِ غيرهم، أو واحدٍ منهم(1).
ومَن جُرحَ في حيِّ فنُقلَ فبقي ذا فراشٍ[(2)] حتى ماتَ فالقَسَامةُ والدِّيَةُ على الحيّ[(3)].
وفي رجلَيْن في بيتٍ بلا ثالث، وجدَ أحدُهما قتيلاً ضَمِنَ الآخرُ ديَّتَهُ عندَ أبي يوسفَ - رضي الله عنه -، خلافاً لمحمَّدٍ - رضي الله عنه -)، فإنَّهُ لا يضمن عندَهُ لاحتمالِ أنَّه قتلَ نفسَه[(4)]، ولأبي يوسفَ - رضي الله عنه -: إنَّ الظَّاهرَ أنَّ الإنسانَ لا يقتلُ نفسَه[(5)].
__________
(1) صورته المسألة: وجد قتيل في محلّة وادّعى الوليُّ قتله على غيرهم، فشهد اثنان من أهل المحلّة، لم تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة وتقبل عندهما. ينظر: ((فتح باب العناية))(3: 393).
(2) قوله: فبقي ذا فراش؛ إنّما قيّدَ به؛ لأنّه لو كان صحيحاً يحيى أو يذهب حين جرح ثمّ ماتَ في أهله، لا شيءَ فيه. كذا في ((المبسوط))(26: 119). هكذا في ((الكفاية))(9: 322-323).
(3) قوله: على الحيّ؛ هذا قول أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وقال أبو يوسفَ - رضي الله عنه -: لا قسامة ولا ديَة فيه، وتمامه في ((الهداية)).
(4) قوله: لاحتمال أنّه قتلَ نفسَه أو قتلَه غيرُه، فلا يضمنُ الآخر بالشكّ.
(5) قوله: لا يقتلُ نفسه؛ فكان التوهّم ساقطاً، وصار كما إذا وجدَ قتيلَ في محلّة.
(10/388)
________________________________________
(وفي قتيلٍ قريةٍ امرأةٍ[(1)] كُرِّرَ الحلفُ عليها، وَتَدي عاقلتُها[(2)])، هذا عندَ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - ومحمَّدٍ - رضي الله عنه -، وعند أبي يوسفَ - رضي الله عنه -: القسامةُ على العاقلةِ أيضاً؛ لأنَّ القسامةَ على أهلِ النُّصرةِ والمرأةُ ليستْ من أهلها[(3)]. [والله أعلم بالصواب](4).
__________
(1) قوله: قرية امرأة؛ أي قرية هي في ملك المرأة. [ينظر: ((ذخيرة العقبى))(ص616)]
(2) قوله: وتدى عاقلتها؛ أي أقرب القبائل إليها نسباً لا جواراً، قال المتأخّرون: والمرأة تدخلُ في التحمّل مع العاقلة في هذه المسألة. كذا في ((الملتقى))، وهو الأصحّ. ذكره الزَّيْلَعِيّ[في ((التبيين))(6: 176)]، وإنّما قيّد بقوله في هذه المسألة؛ لأنَّ المرأةَ لا تدخلُ في العواقلِ في تحمّل الدِّيَةِ في صورةِ من الصور على ما يجيءُ في المعاقل، وتدخلُ في هذه المسألة؛ لأنّا جعلناها قاتلة، والقاتلةُ تشارك العاقلة؛ لأنّها لمّا وجبت على غيرِ المباشر فعلى المباشر أولى، وموضوعُ المسألة فيما إذا وجدَ قتيلٌ في دارِ امرأةْ في مصرٍ ليس فيه من عشيرتها أحد، أمّا إذا كانت عشيرتها تدخلُ معها في القسامة.اهـ. ((كفاية))(9: 325). كذا في ((رد المحتار))(6: 637-638).
(3) قوله: والمرأةُ ليست من أهلها؛ لضعف [بنيتها]؛ ولهذا لا يلزمها القسامة فيما يوجدُ في المحلّة، ولهما: إنّ الاستخلافَ لتهمةِ القتل، وهي متحقّقةٌ في حقّ المرأة، لا في حقِّ العاقلة؛ لأنّهم لم يكونوا في القربة فيلزمها القسامة. كذا في ((الجلبي))(ص616)] ناقلاً عن ((العناية)).
(4) زيادة من أ و ب و ج و ف و ق و م.
(10/389)
________________________________________
كتاب المعاقل[(1)]
(العاقلةُ: أهلُ الدِّيوانِ(2)[(3)] لمَن هو منهم): أي الجيشُ الذي كُتِبَ(4) أساميهم في الدِّيوان، وهذا عندنا، وعندَ الشَّافعيِّ(5) - رضي الله عنه -: [هم](6) أهلُ العشيرة؛ لأنَّه كان كذلك على عهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا نسخَ بعدَه(7)، ولنا(8): إنَّ عمرَ - رضي الله عنه - لمَّا دوَّنَ الدَّواوينَ جعلَ العقلَ على أهلِ الدِّيوان، بمحضرٍ(9) من الصَّحابةِ - رضي الله عنهم -، فهذا لا يكونُ نسخاً(10)[(11)
__________
(1) قوله: كتاب المعاقل... الخ؛ قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص616)]: وهو بفتح الميم على وزن المكارم، جمع معقلة: بفتح الميم، وسكون العين، وضم القاف، وهي العقل، وهي الدِّيَة، وإنّما سُمِّيت بها؛ لأنَّ إبل الدِّيَاتِ كانت تعقلُ: أي تقيّد بفناءِ وليّ المقتول، ثمّ عمّم هذا الاسم فسمّيت الدِّيَةُ معقلة، وإن كانت دراهم أو دنانير. كذا في ((الغاية)).
(2) الدِّيوان: مجتمع الصحف، والكتاب يكتب فيه أهل العطيّة والجيش. ينظر: ((القاموس))(4: 226).
(3) قوله: الدِّيوان: بالكسر، مجتمع الصحف، والكتاب يكتب فيه أهل العطيّة والجيش. كذا في ((القاموس))(4: 226).
(4) في ص: كتبت.
(5) ينظر: ((النكت))(3: 395)، و
(6) زيادة من أ و م.
(7) في ب: هذا.
(8) في ب: قلنا.
(9) في ص: لمحضر.
(10) جوابٌ عن قولّ الشافعيّ - رضي الله عنه -، حاصله: إنّ قضيّة عمرَ - رضي الله عنه - ليس بنسخ، بل هو تقريرٌ معنى؛ لأنَّ العقل كان على أهل النصرة، وقد كانت النصرةُ بأنواعٍ بالقرابةِ والحلفِ والولاء والعد، وفي عهدِ عمرَ - رضي الله عنه -، قد صارت بالديوان، فجعلها على أهلِهِ اتّباعاً للمعنى؛ ولهذا قالوا: لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف، فعاقلتهم أهل الحرفة، وإن كان بالحلفِ فأهله. ينظر: ((الهداية))(4: 225).
(11) قوله: فهذا لا يكون نسخاً... الخ؛ جوابٌ عن قولّ الشافعيّ - رضي الله عنه -، حاصله: إنّ قضيّة عمرَ - رضي الله عنه - ليس بنسخ، بل هو تقريرٌ معنى؛ لأنَّ العقل كان على أهل النصرة، وقد كانت النصرةُ بأنواعٍ بالقرابةِ والحلفِ والولاء والعد، وفي عهدِ عمرَ - رضي الله عنه -، قد صارت بالديوان، فجعلها على أهلِهِ اتّباعاً للمعنى؛ ولهذا قالوا: لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف، فعاقلتهم أهل الحرفة، وإن كان بالحلفِ فأهله. كذا في ((الهداية))(4: 225).
(10/390)
________________________________________
]، بل يكونُ تقريرُ المعنى أنَّ العقلَ على أهلِ النُّصرة، وقد كانتْ بالأنواعِ بالقرابةِ ونحوها، فصارتْ في عهدِ عمرَ - رضي الله عنه - بالدِّيوان[(1)]، وكذا لو كانت بالحِرَف، فالعاقلةُ على أهلِ الحِرْفة[(2)].
([و](3)تؤخذُ(4) من عطاياهُم[(5)] في ثلاثِ سنين)، وكذا ما يجبُ في مالِ القاتلِ بأن قتلَ الأبُ ابنَهُ تؤخذُ في ثلاثِ سنينَ عندنا، وعند الشَّافعيِّ(6) - رضي الله عنه -: تجبُ حالاً، (فإن خرجتْ لأكثرَ منها أو أقلَّ أخذَ منه): أي إن أعطيتَ عطاياهم(7) ثلاثَ سنينَ بعد القضاءِ بالدِّيةِ في سنةٍ واحدةٍ مثلاً، أو(8) في أربعَ سنينَ يؤخذُ في سنةٍ واحدة، أو أربعِ سنين.
__________
(1) قوله: فصارت في عهد عمر - رضي الله عنه - بالديون، وإن لم يتَّسع أهلِ الدِّيَةِ ضمّ إليهم أهلُ رايةٍ أخرى الأقربَ فالأقرب في النصرة.
(2) قوله: فالعاقلة أهلُ الحرفة؛ قال أخي جلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص616)]: أقول: في العبارة نوع مسامحة، فالظاهرُ من العبارةِ أمّا فالعاقلة هي على أهل الحرفة، أو فالعاقلة على أهل الحرفة.
(3) سقطت من أ و ق.
(4) في أ و ج و ص و ق: يؤخذ.
(5) قوله: من عطاياهم؛ العطاء: اسم ما يعطى، والجمع عطية، والعطايا جمع عطية، وهي بمعنى العطا. كذا في الجلبي [في ((ذخيرة العقبى))(ص616)].
(6) في ((النكت))(3: 397): قال الشافعي: تحمل الدية في ثلاث سنين من يوم القتل. وقال أبو حنيفة: ثلاث سنين من يوم الحكم.
(7) في ب و ص: عطايا.
(8) في ب: و.
(10/391)
________________________________________
(وحيُّهُ(1) لمَن ليسَ منهم): أي من [أهلِ](2) الدِّيوان، (تؤخذُ(3) من كلٍّ في ثلاثِ سنين ثلاثةُ دراهمٍ أو أربعةٌ فقط، في كلِّ سنةٍ درهمٌ أو مع ثُلُثٍ هو الأصحّ)، إنَّما قال: هو الأصحّ؛ لأنَّ روايةَ القُدُورِيِّ أنَّهُ لا يزادُ الواحدُ على أربعةِ دراهمَ في كلِّ سنة(4)، لكنَّ الأصحَّ أنَّهُ لا يُزادُ على أربعةِ دراهمَ في ثلاثِ سنين، هكذا نصَّ محمَّدٌ - رضي الله عنه -، وعندَ الشَّافعيِّ(5) - رضي الله عنه -: يجبُ على كلِّ واحدٍ نصف دينار[(6)].
__________
(1) عطف على أهل الديوان: أي العاقلة القبيلة؛ لأن نصرته بهم، وهي المعتبرة في هذا الباب. ينظر: ((درر الحكام))(2: 125). ((مجمع الأنهر))(688).
(2) سقطت من ص.
(3) في ب: وتؤخذ، وفي ج: يؤخذ.
(4) انتهى كلام القدوري في ((مختصره))(ص93).
(5) ينظر: ((الأم))(6: 125)، و((أسنى المطالب))(4: 84)، و((المحلي))(4: 155)، وغيرها.
(6) قوله: نصف دينار أو خمسة دراهم؛ لأنّها صلة واجبة شرعاً، فيعتبرُ بالزكاة، وأدنى ما يجبُ في الزكاةِ نصفُ دينار أو خمسة دراهم. كذا في ((الكفاية))(9: 330).
(10/392)
________________________________________
(وإن لم يتَّسعْ(1) الحيُّ ضمَّ إليهِ أقربُ الأحياءِ نسباً، الأقربُ فالأقربُ كما في العصبات، والقاتلُ كأحدِهم[(2)])، هذا عندنا، وعندَ الشَّافعيِّ (3)- رضي الله عنه -: لا يجبُ على القاتلِ شيء[(4)].
__________
(1) في ب: يتبع.
(2) قوله: كأحدهم؛ لأنّه هو الجاني؛ فلا معنى لإخراجه حال مؤاخذةِ الغيرِ به، قال في ((الكافي)): إذا لم يكن للقاتلِ عاقلة، بأن كان لفظاً أو نحوه فالدِّيَةُ في بيت المال، وعن الأعظم - رضي الله عنه - إنّ الدِّيَةَ في ماله، وابنُ الملاعنةِ يعقلُ عنه عاقلةُ أمّه. كذا في ((الجلبي))(ص617).
(3) ينظر: ((النكت))(3: 394)، و
(4) قوله: لا يجب على القاتلِ شيء من الدية؛ اعتبار للجزء بالكلِّ في النفي عن القاتل، والجامع كونه معذوراً، قلنا: إيجابُ الكلّ إجحاف، ولا كذلك إيجاب الجزء، ولو كان الخاطئ معذوراً فالبرئ عنه أولى، قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164]. كذا في ((الهداية))(4: 227).
(10/393)
________________________________________
(وللمعتَقِ حيُّ سيِّدِه[(1)]، ولمولى الموالاةِ[(2)] مولاهُ وحيُّه[(3)](4)، وتتحمَّلُ(5) العاقلةُ ما يجبُ بنفسِ القتل(6)[(7)
__________
(1) قوله: حيّ سيّده؛ لأنّ النصرةَ لهم، ويؤيّد ذلك ما رواهُ أبو داود(2: 123) والترمذيّ(3: 46) والنَّسَائيّ(2: 58) [والبخاري بوب به بهذا اللفظ في ((صحيحه))(6: 2484)] عن ابن أبى رافع - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مولى القوم من أنفسهم)). كذا في ((الهداية)) وبعض حواشيه.
(2) قوله: ولوليّ الموالاة؛ هو الحليف فيعقلُ عنه مولاه الذي عاقده وعاقلته وهو المرادُ بقوله: وحيّه؛ أي حيّ مولاه الذي عاقدَه؛ لأنّ العربَ يتناصر به، فأشبهَ ولاء العتاقة. كذا في الزَّيْلَعِيّ.
(3) قوله: مولاه وحيّه؛ فيه خلاف الشافعيّ - رضي الله عنه -، وقد مرّ في الولاء من أنّ الشافعيّ - رضي الله عنه - يقول: إن الموالاةَ ليس بشيء؛ لأنّ فيه إبطالُ حقّ بيت المال. كذا في بعض حواشي ((الهداية)).
(4) في أ: حية.
(5) في أ و ب و ج و ص و م: يتحمل.
(6) وهو ما يجب بالخطأ أو شبه العمد أو التسبب. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 689).
(7) قوله: ويتحمّل العاقلة ما يجب بنفس القتل، وقدر أرش الموضحة، وهو نصف العشر فصاعداً، والأصلُ فيه حديثُ ابن عبّاس - رضي الله عنه - موقوفاً عليه، ومرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تعقل العواقل عمداً، ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً ولا ما دون أرشِ الموضحة))[((سنن البيهقي الكبير))(8: 104) موقوفاً، بدون زيادة ((ولا ما دون أرش الموضحة)) ومثله في ((سننن الدارقطني))(3: 178)، و((مصنف ابن أبي شيبة))(5: 405)]، وأرش الموضحةِ نصف عشر بدل النفس؛ ولأنّ التحمّل للتعرّض عن الإجحاف، ولا إجحافَ في القليل، وإنّما هو في الكثير، والتقدير الفاصل عرفَ بالسمع، فلا تعقل أقلّ من نصفِ عشر الدية.
قيل: فيه إشكال، وهو أنّ مَن قتلَ عبد غيره خطأ، وقيمتُهُ أقلّ من أرشِ الموضحة [فإن العاقلة تتحمل].
والجوابُ عن هذا الإشكالِ: إنّ المرادَ منه فيما دونَ النفس، فأمّا في النفس فالنصُّ وردَ بوجوب الدِّيَةِ على العاقلة، وهذا دِيَةٌ؛ لأنّ القيمةَ في العبد قائمةٌ مقامَ الدِّيَةِ في الحرّ. كذا في ((الكفاية))(9: 336).
(10/394)
________________________________________
]، ...(1)، وقَدْرَ أرشِ الموضَّحةِ(2) فصاعداً.
لا[(3)] ما يجبُ بصلحٍ، أو إقرارٍ لم تصدِّقْهُ[(4)](5) العاقلة، أو عمدٍ[(6)] سقطَ قَوَدُهُ بشبهة، أو قتلِهِ[(7)
__________
(1) في ق زيادة: وإن قتلَ حرٌّ عبداً خطأ.
(2) وأرض الموضَّحة نصف عشر بدل النفس، ولأن الإيجاب على العاقلة لدفع الاجحاف على الجاني، وذلك في القليل دون الكثير؛ فلهذا أوجبنا الكثير على العاقلة، والفاصل بينهما أرش الموضحة، وما دون ذلك يكون في مال الجاني. ينظر: ((مجمع الأنهر))(2: 690).
(3) قوله: لا؛ أي لا يحتملُ العاقلةُ ما يجبُ بصلحٍ أو إقرار؛ لأنّ الصلحَ والإقرارِ لا يلزمان العاقلة؛ لقصور الولايةِ عنهم، إلا أنّ في الإقرارِ يجبُ الدِّيَة في ثلاث سنين، وفي الصلحِ عن العمدِ يجب المالُ حالاُ إلاَّ إذا شرطَ الأجلَ في الصلح، فيكون مؤجّلاً. كذا في ((العناية))(10: 407).
(4) قوله: لم تصدّقه؛ إنّما قيَّدَ به لأنّه لو تصدِّقه لتحمّله؛ لأنّه ثبتَ بتصادقهم، والامتناع كان لحقّهم، ولهم ولايةٌ على أنفسهم. كذا في ((الهداية))(4: 230).
(5) في ب و ج و ص و ق: يصدقه. ولو صدق العاقلة الجاني لزمتهم الدية؛ لأنها تثبت بتصادقهم والامتناع كان لحقّهم، ولهم ولاية على أنفسهم فتجب عليهم. ينظر: ((درر الحكام))(2: 126).
(6) قوله: أو عمد... الخ؛ أي في النفسِ أو الطرف، فإنّ العمدَ لا يوجبُ التخفيف بتحمّل العاقلة، فوجبَ القود به، قال في ((الأشباه)): لا تعقلُ العاقلةُ العمدَ إلاَّ في مسألةِ ما إذا عفا بعض الأولياء أو صالح، فإنّ نصيبَ الباقين ينقلبُ مالاً، ويتحمَّله العاقلة. أقول: وقد قدّمناه في باب القود فيما دون النفس عن العلامةِ قاسم - رضي الله عنه -: إنّه خلاف الرواية، ولم يقل به أحدٌ، والذي في سائر الكتب أنّه في مالِ القاتل، فتنبّه. كذا في ((ردِّ المحتار))(6: 643).
(7) قوله: أو قتله... الخ؛ أي لو قتلَ الأبُ ابنَه عمداً فلا يتحمّل العاقلة، وإن قال كقتله لكان أولى؛ ليكون تمثيلاً للشبهة، ومنها ما إذا قتلا رجلاً وأحدهما صبيٌّ أو معتوه، والآخرُ عاقل بالغ، أو أحدهما بحديدٍ والآخر بعصا، هذا ما أفاده صاحب ((ردّ المحتار))(6: 643).
(10/395)
________________________________________
] ابنهِ عمداً، ولا بجنايةِ[(1)] عبدٍ أو عمد، وما دونَ أرشٍ موضَّحة، بل الجاني[(2)]).
كتاب الوصايا[(3)]
(هي[(4)
__________
(1) قوله: ولا جناية... الخ؛ أي لا يتحمّل العاقلةُ جنايةَ عبد أو عمد، وما دونَ أرش موضّحة لما روينا آنفاً عن ابنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنه - موقوفاً عليه، ومرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تعقل العواقل...)) الخ
(2) قوله: بل الجاني... الخ؛ أي بل يكون في مالِ الجاني، والقياسُ فيه التسويةُ بين ما دون الأرش: وهو القليل، وغيره: وهو الكثير فيجبُ الكلُّ على العاقلة كما ذهب إليه الشافعيّ - رضي الله عنه -، أو التسوية في أن لا يجبَ على العاقلة شيءٌ إلاَّ [أنا] تركنا القياس لما رويناه، وبما رُوِيَ أنّه - صلى الله عليه وسلم - أوجبَ أرشَ الجنين على العاقلة، فهو نصفُ عشر بدل الرجل على ما مرّ في الدِّيَات، فما دونه يسلك به مسلك الأموال؛ لأنّه يجب تحكيم العدل، كما يجب ضمان المال بالتقويم؛ فلهذا كان في مالِ الجاني أخذاً بالقياس. كذا في ((الهداية))(4: 229).
(3) قوله: كتاب الوصايا؛ لا يخفى مناسبةُ إيرادِ كتاب الوصايا في آخرِ الكتاب؛ لأنّ آخر أحوالِ الآدميّ في الدنيا الموت، والوصيةُ معاملة وقت الموت، وله اختصاص بكتاب الجنايات والدِّيَات إذا الجناية قد تفضي إلى الموت الذي وقته وقت الوصيّة، ثم اعلم أنّ الوصايا جمعُ وصيّة، والوصية: اسم بمعنى المصدر، لما سمّى الموصي به وصية، وهي في الشرعِ تمليكُ مضافٍ إلى ما بعد الموتِ بطريق التبرع. كذا في ((العناية))(10: 411).
(4) قوله: هي... الخ؛ الوصية أربعة أقسام:
الأوّل واجبة: كالوصيّة بالزكاة وفدية الصلاة وفديةُ الصومِ التي فرّط فيها.
والثاني: مباحة كالوصية للغني.
والثالث: مكروهة؛ كالوصية لأهل الفسوق.
والرابع: مستحبّة. ابتدأ المصنّف بالقسمِ الرابع حيث قال: وندبت… الخ.
(10/396)
________________________________________
] إيجابٌ بعد الموت، وندبتْ[(1)
__________
(1) قوله: وندبت... الخ؛ أي ندبت الوصيّةُ بأقلّ من الثلث، ولو عند غناء ورثته لما قال في ((الهداية))(4: 233): ويستحبّ أن يوصي بدونِ الثلثِ سواءً كانت الورثةُ أغنياء أو فقراء؛ لأنّ في التنقيص صلةُ القريب بترك ماله عليهم، بخلاف استكماله الثلث؛ لأنّه استيفاءُ تمامُ حقِّه، فلا صلة، ثمّ هل الوصيّة بأقلّ من الثلث أولى أم تركها؟ قالوا: إن كانت الورثةُ فقراء ولا يستغنونَ بما يرثون، فالتركُ أولى لما فيه من الصدقةِ على القريب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضلُ الصدقةِ على ذي الرحم الكاشح))[((صحيح ابن خزيمة))(4: 77)، و((المستدرك))(1: 564)، ((سنن الدارمي))(1: 487)، وغيرها]. وإن كانوا أغنياء أو يستغنونَ بنصيبهم فالوصيّة أولى؛ لأنّه يكون صدقةٌ على الأجنبيّ، والترك هبة من القريب، والأوّلى أولى؛ لأنّه مَن يبتغي بها وجه الله تعالى، وقيل في هذا الوجه يخير لاشتمال كلّ على فضيلة، وهو الصدقة أو الصلة. اهـ. كلام ((الهداية)).
وحاصله أنّه لا ينبغي الوصيّة بتمامِ الثلث، بل المستحبّ التنقيصُ عنه مطلقاً؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - قد استكثرَ الثلث بقوله: ((والثلثُ كثير))[البخاري (3: 1006)، مسلم(3: 1250)]، لكنّ التنقيصُ عنه فقرُ الورثة، وإن كان مستحبّاً إلاَّ أنّ ثمّة ما هو أولى منه، وهو التركُ أصلاً؛ فإنّ المستحبَّ تتفاوت درجاته، وكذا المسنون والمكروه وغيرهما، وفي القُهُسْتَانِيّ: إذا كان المالُ قليلاً لا ينبغي أن يوصيَ على ما قال أبو حنيفةَ - رضي الله عنه -، وهذا إذا كان الأولادُ كباراً، فلو صغاراً فالترك أفضلُ مطلقاً على ما روى عن الشيخين، كما في قاضي خان: قال في ((الحاوي القُدُسيّ)): مَن لا وارثَ له ولا دينَ عليه فالأولى أن يوصيَ بجميع ماله بعد التصدّق بيده. هذا خلاصةُ ما في ((ردّ المحتار))(6: 652).
(10/397)
________________________________________
] بأقلَّ من الثُّلثِ(1) عند غنى ورثتِه، أو استغنائهم[(2)] بحصَّتهم(3) كتركها بلا أحدهما): أي إن لم تكنْ الورثةُ أغنياءَ ولا يصيرونَ أغنياءَ(4) بحصَّتهم من التَّركة، فتركُ الوصيَّةِ أفضل.
__________
(1) لأن فيها صلة الوارث من جهته، فإن الصلة الوراث من جهة إنما تكون إذا ترك لهم ما يملك صرفه غلى غيره إلا إذا ترك لهم ما لا يملك صرفه إلى غيره. ينظر: ((المحيط))(ص41).
(2) قوله: أو استغنائهم لحصّتهم؛ أي بصيرورتهم أغنياء بأن يرثَ كلٌّ منهم أربعةَ الآف درهم على ما روي عن الإمامِ، أو يرثَ عشرة الآف درهم على ما روى عن الفَضْليّ. قُهُسْتَانِيّ عن ((الظَّهيريّة))، واقتصر الأتقاني - رضي الله عنه - على الأوّل. كذا قال الشامي [في ((رد المحتار))(6: 652)].
(3) أي بصيرورتهم أغنياء بأن يرثَ كلٌّ منهم أربعةَ الآف درهم على ما روي عن الإمامِ، أو يرثَ عشرة الآف درهم على ما روي عن الفَضْليّ. ينظر: ((رد المحتار))(6: 652).
(4) في أ: الأغنياء.
(10/398)
________________________________________
(وصحَّتْ للحملِ[(1)] وبه(2)[(3)] إن ولدتْ لأقلَّ من مدَّتِهِ من وقتها): أي إنَّما تصحُّ الوصيَّةُ إن ولدتْ لأقلَّ من ستَّةِ أشهرٍ من الوصيَّة، والفرقُ بين أقلِّ مدَّةِ الحمل وبين أقلَّ من مدَّةِ من الحملِ دقيقٌ، والأوَّلُ ستَّةُ أشهرٍ من وقتِ الوصيَّة، والثَّاني أقلَّ من ستَّةِ أشهر.
(وهي والاستثناء[(4)]): أي إنَّما تصحُّ الوصيَّةُ والاستثناء، (في(5) وصيَّةِ بأمةِ إلاَّ حملُها(6) )، فإنَّ كلَّ ما يصحُّ إفرادُهُ(7) بالعقدِ يصحُّ(8) استثناؤهُ من العقد، فإذا صحَّ الوصيَّةُ بالحمل، صحَّ استثناءُ الحملِ من الوصيَّة.
__________
(1) قوله: وصحّت للحمل؛ لأنّها استخلافٌ من وجه؛ لأنّه يجعلُهُ خليفةً في بعضِ ماله، والجنينُ يصلح خليفةً في الإرث؛ فكذا في الوصيّة لا يقال: شرطُها القبول، والجنينُ ليس من أهله؛ لأنّها تشبهُ الهبةَ والميراث، فلشبهها بالهبةِ يشترطُ القبول إذا أمكن، وشبهها بالميراث يسقطُ إذا لم يمكن عملاً بالشبهين؛ ولهذا يسقطُ بموتِ الموصى له قبل القبول. كذا في الشامي [في ((رد المحتار))(6: 652)].
(2) أي بالحمل؛ لأنّه يجري فيه الإرث، فيجري فيه الوصيّة أيضاً؛ لأنّها أخته. ينظر: ((التبيين))(6: 186).
(3) قوله: وبه؛ أي بالحمل؛ لأنّه يجري فيه الإرث، فيجري فيه الوصيّة أيضاً؛ لأنّها أخته. كذا في الزَّيْلَعِيّ [في ((التبيين))(6: 186)].
(4) قوله: وهي والاستثناء؛ أي تصحّ الوصيّة بالأمة، واستثناءُ الحمل، كما لو قال: هذه الأمة لفلان إلا حملها، لما تقرَّر في الأصول: كلّ ما يصحّ إفراده بالعقد... الخ.
(5) في ب: وفي .
(6) في ب:عملها.
(7) في ب و ف: إقراره.
(8) في ب و ص: صح.
(10/399)
________________________________________
(ومن المسلمِ للذَّميِّ وعكسُه[(1)](2) )، قيَّدَ بالذِّميّ؛ لأنَّ الوصيَّةَ للحربيِّ[(3)] لا تجوز.
__________
(1) قوله: ومن المسلم للذميّ وعكسه؛ أي من الذميّ للمسلم؛ يعني تصحّ الوصيّة من الجانبين، أمّا الأوّل؛ لقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين...} الآية [الممتحنة:8]، وأمّا الثاني؛ فلأنّهم بعقدِ الذمّة ساووا المسلمين في المعاملات؛ ولذا جازَ التورّع من الجانبين في حالةِ الحياة، فكذا بعد الممّات. كذا في ((الهداية))(4: 233).
(2) في ب و ق: بعكسه.
(3) قوله: للحربيّ؛ أي في داره لا تجوز، إنّما قيّدنا بداره؛ لأنّ المستأمنَ كالذميّ كما أفادَه الملا خسرو، قلت: وبه صرّح الحَدّاديّ والزَّيْلَعِيّ وغيرهما، هكذا في ((الدر المختار))(6: 655).
(10/400)
________________________________________
(وبالثُّلثِ للأجنبيِّ[(1)] لا في أكثرَ منه(2)، ولا لوارثِهِ(3)[(4)] وقاتلِهِ[(5)] مباشرةً إلا بإجازةِ ورثتِه)، قولُه: مباشرة؛ احترازٌ عن القتلِ تسبيباً: كحفرِ البئر، وعندَ الشَّافعيِّ(6) - رضي الله عنه - تجوزُ
__________
(1) قوله: وبالثلث للأجنبيّ... الخ؛ أي يصحّ الوصيّة بالثلث، لا في أكثرَ من الثلث لما مرَّ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الثلث كثير...)) الخ؛ ولأنّه حقّ الورثة، وتمامه في ((الهداية))(4: 232).
(2) لأن الوصية إذا زادت على الثلث ترد. ينظر: ((النور اللامع في أصول الجامع))(ص13).
(3) وكذا إقرار المريض مرض الموت لأحد ورثته بدين أو بيعه منه بدون تصديق الورثة على الدين وإجازتهم للبيع باطل. ينظر: ((مختصر الفتاوى المهدية))(ص166).
(4) قوله: ولا لوارثه؛ أي لا تصحّ الوصيّةُ لوارثه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنّ اللهَ تعالى أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ألا لا وصيَّة للوارث))[الترمذي4: 434، وقال: حسن صحيح، وأبو داود(3: 214)، والنسائي(4: 107)] ؛ ولأنّه يتأذّى البعضُ ما يثار البعض، ففي تجويزه قطعية الرحم، ويعتبرُ كونه وارثاً أو غير وارثٍ وقت الموت لا وقتَ الوصيّة؛ لأنّه تمليكٌ مضافٌ إلى ما بعد الموت، وحكمه يثبتُ بعد الموت. كذا في ((الهداية))(4: 233).
(5) قوله: وقاتله؛ عطف على: وارثه؛ أي لا تصحّ الوصيّة للقاتلِ عامداً كان أو خاطئاً بعد أن كان مباشراً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وصيةَ للقاتل))؛ ولأنّه استعجلَ ما آجره الله تعالى فيحرمُ الوصيَّة كما تحرمُ الميراث إلا بإجازةِ ورثته؛ أي لو أجازتها الورثة جاز عند الطرفين رح، وقال أبو يوسف رح: لا تجوز؛ لأنّ جنايته باقية، والامتناعُ لأجلها، ولهما أنّ الامتناعَ بحقّ الورثة؛ لأنّ نفع بطلانها يعودُ إليهم كنفع بطلانِ الميراث؛ ولأنّهم لا يرضونها للقاتل، كما لا يرضونها لأحدهم، كما في ((الهداية))(4: 233).
(6) ينظر: ((النكت))(2: 684)، و
(10/401)
________________________________________
الوصيَّةُ للقاتل، وعلى هذا الخلافِ إذا أوصى لرجلٍ ثمَّ إنَّهُ قتلَ الموصي(1).
(ولا من صبيٍّ[(2)])، هذا عندنا، وعند الشَّافعيِّ(3) - رضي الله عنه - تجوز، (ومكاتبٍ(4)[(5)] وإن تركَ وفاءً وقدَّمَ الدَّين عليها[(6)].
__________
(1) في ب: للوصي.
(2) قوله: ولا من صبيّ؛ لأنّها تبرُّع، والصبيُّ ليس من أهله؛ ولأن قولَه غيرُ ملزم، وفي تصحيحِ وصيّته قول بإلزام قوله.
(3) ينظر: ((النكت))(2: 683)، و
(4) أي لا تصحّ وصيّة المكاتب، وإن تركَ وفاء؛ لأنّ مالَه لا يقبل التبرّع، والوصيّة تبرُّع. ينظر: ((الهداية))(4: 234).
(5) قوله: ومكاتب... الخ؛ أي لا تصحّ وصيّة المكاتب، وإن تركَ وفاء؛ لأنّ مالَه لا يقبل التبرّع، والوصيّة تبرُّع، وقيل: هذا قول أبي حنيفةَ - رضي الله عنه -، وعندهما: تصحّ؛ وتمامه في ((الهداية))(4: 234).
(6) قوله: وقدّم الدَّين عليها؛ أي على الوصيّة؛ لأنّه أهمّ الحاجتين، فلأنّه فرضٌ والوصيةُ تبرّع، وأبداً يبدأُ بالأهمّ فالأهمّ إلا أنّ يبرِّئة الغرماءُ؛ لأنّه لم يبقَ الدينُ فتنفذُ الوصيةُ على الحدِّ المشروع، وهذا في الدين المحيط بماله، أمّا إذا لم يكن محيط فالوصيّةُ تجري في ثلث بقيّة ماله.
(10/402)
________________________________________
وتقبلُ(1)[(2)] بعد موتِه، وبطلَ قبولُها[(3)] وردُّها في حياتِه، وبه): أي بالقبولِ[(4)] [بعد الموت](5)، (تملكُ[(6)](7) إلاَّ إذا[(8)
__________
(1) أي قبول الوصية لا يعتبر إلا بعد موت الموضي؛ لأن أوان ثبوت حكمها بعد الموت. ينظر: ((درر الحكام))(2: 430).
(2) قوله: وتقبل... الخ؛ لأنّ آوانَ ثبوتِ حكمِهِ بعد الموتِ لتعلُّقه به، فلا يعتبر قبله، كما لا يعتبرُ قبل العقد.
(3) قوله: وبطل قبولها وردّها... الخ؛ حتى لو ردَّها في حياته ثمّ قبلَها بعد مماته تصحّ؛ لأنّ الوصيّةَ تمليكٌ متعلِّقٌ بالموت، ألا ترى أنّه لو أوصى بثلثِ [غنمه] استحقَّ الموصى له بثلثِ ما يوجدُ في ملكِ الموصي عند موته لا بثلثِ ما يوجدُ عند الوصيّة. كذا في ((الجلبي))(ص617) ناقلاً عن ((المعراجيّة)).
(4) قوله: بالقبول؛ أي لا يملك الوصيّة بلا قبول صريح، إلا في مسألة واحدة، وهي ما إذا ماتَ... الخ، فإنّها تملّك فيه القبول ضمني؛ لأنّ موتَ الموصى له بلا ردّ كقبوله دلالة. كذا في ((الجلبي))(ص617) ناقلاً عن ((البيانية)).
(5) زيادة من ب.
(6) قوله: يملك؛ أي الموصي به يملكُ القبولُ خلافاً لزفرَ - رضي الله عنه -، وهو يقيس الوصيّة على الميراث، وحكمُ الوراثة تثبت من غير قبول، فكذا هذا، ولنا: إنّ الوصيّةَ إثباتُ ملكٍ جديدٍ لغيرِه، وإثباتُ الملكِ لغيره لا يكونُ إلاَّ بالقبول، والميراثُ ليس كذلك، بل هي خلافه فافترقا كما لا يخفى على المتأمّل.
(7) ف يأ و م: يملك.
(8) قوله: إلا إذا… الخ؛ يعني الموصي به يملكُ بلا قبول في مسألة واحدةٍ: وهي أن يموتَ الوصيّ ثمّ الموصى له قبل القبول، فيدخلُ الموصي به في ملكِ ورثةِ الموصى له استحساناً، والقياسُ أن تبطلَ الوصيّة، لما بيَّنا من أنّ الوصيّة إثباتُ ملكِ جديد... الخ، وجه الاستحسان: إنّ الوصيّة من جانبِ الموصي به قد تمت بموته تماماً لا يلحقه الفسخُ من جانبه، وإنّما توقّفت من جانبِ الموصى له، إن شاء ردّه، وإن شاءَ أجاز، فإذا ماتَ دخل في ملكه كما في البيعِ المشروط بالخيار للمشتري إذا مات. هذا خلاصةُ ما في ((الهداية))(4: 234).
(10/403)
________________________________________